موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) المجلد 2

اشارة

سرشناسه:قرشی، باقرشریف، 1926 - م.

Qarashi, Baqir Sharif

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام/ مولف باقر شریف القرشی

مشخصات نشر:قم: مجمع جهانی شیعه شناسی

مشخصات ظاهری:11ج.

شابک:دوره: 978-600-6164-72-4 ؛ 90000 ریال: ج. 1: 978-600-6164-65-6 ؛ ج.2و3 978-600-94930-7-4 : ؛ ج. 4 978-622-962924-6:

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:ناشر جلد دوم و سوم و چهارم انتشارات دارالتهذیب است .

مندرجات:ج. 1. زندگانی و فضایل امام علی علیه السلام در قرآن و سنت.- ج.2 و 3. امام علی (ع) در عهد پیامبر و دوران خلافت

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40 ق.

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:مجمع جهانی شیعه شناسی

شناسه افزوده:The World Center for Shite Studies

رده بندی کنگره:BP37/ق36م8041 1393

رده بندی دیویی:297/951

شماره کتابشناسی ملی:3726762

ص :1

اشارة

موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام

مولف باقر شریف القرشی

ص :2

مقدمة التحقيق

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ آل عمران: 123 وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ البقرة: 190 إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الفتح: 1 وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ آل عمران: 144

ص:3

ص:4

تقديم

1 نضال و كفاح و إيمان تسلّح به الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بطل الإسلام و قائد مسيرته الظافرة في كفاحه المسلّح ضدّ الجاهلية الرعناء التي لا تحمل أي طابع من التوازن و لا بصيص من الوعي و الفكر، فكان الإمام القوّة الضاربة التي حمت الثورة الإسلامية من ذئاب الجاهلية و مردة أهل الكتاب.

لقد أحدثت الثورة الإسلامية بشعاراتها و مبادئها زلزالا مدمّرا للحياة الفكرية و العقائدية التي عاشتها الجاهلية فدمّرت جميع معالم الحياة فيها من عبادة الأوثان و الأصنام و وأد البنات و غزو الأقوياء للضعفاء، و أقامت الثورة الإسلامية نظاما متطوّرا خلاقا يضيء الطريق و يوضّح القصد، و يجمع و لا يشتّت، و يوحّد و لا يفرّق، و يقضي على الغبن و الجريمة.

و قد تبنّى الإمام بصورة إيجابية و إيمان لا حدود له جميع قضايا الإسلام، فخاض في سبيله أعنف المعارك ساخرا من الموت هازئا من الحياة، فردّ العتاة من جبابرة قريش الذين جهدوا على لفّ لواء الإسلام و إخماد نوره، فحصد الإمام رءوسهم، و ألحق بهم الهزيمة و العار. و يعرض هذا الكتاب إلى صور مشرقة من جهاده و كفاحه.

ص:5

2 من بحوث هذا الكتاب أنّه عرض بصورة أمينة لأقسى كارثة مني بها العالم الإسلامي على امتداد التاريخ، و هي انتقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى حضيرة القدس، فقد انطوت ألوية العدل، و مادت أركان الحقّ ، و ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي غيّر مجرى التاريخ إلى واقع مشرق تتلاشى فيه آهات المظلومين و المعذّبين، و لا يكون فيه ظلّ للحاجة و الحرمان.

فقد أخلدت للمسلمين الخطوب و الكوارث و ألقتهم في شرّ عظيم، و قد أعلن القرآن الكريم هول تلك الأحداث و مدى خطورتها بقوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ، و أي مصيبة أعظم من الانقلاب، و أي مأساة أقسى من المروق من الدين.

و كان من أفجع ألوان الخطوب السود بعد وفاة المنقذ العظيم هي إبعاد العترة الطاهرة عن الشؤون السياسية في البلاد، و جعلها في معزل عن واقع الحياة الاجتماعية، في حين انّ الامّة لم تكن بأي حال في غنى عن ثرواتها الفكرية و العلمية المستمدّة من الرسول الأعظم.

كما أنّ الهزّات العنيفة التي منيت بها الامّة، إنّما جاءت نتيجة حتمية لفصل الخلافة عن أهل البيت عليهم السّلام، فقد انتشرت الأطماع السياسية بشكل سافر عند كثير من الصحابة، ممّا أدّى إلى تشكيلهم للأحزاب النفعية التي لم تكن تنشد في مخطّطاتها السياسية سوى الوصول إلى الحكم و التنعّم بخيرات البلاد.

و من المآسي ما عانته الاسرة النبوية من صنوف القتل و التنكيل، فقد طافت بها المحن و الأزمات يتبع بعضها بعضا، لم يراع فيها حرمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله التي هي أولى و أحقّ بالرعاية و التكريم من كلّ شيء.

ص:6

3 من بنود هذا الكتاب عرض موجز لحكومة الخلفاء الذين تقلّدوا الخلافة بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقد عرض لشؤون حكمهم و ما رافق ذلك من أحداث بعيدة كلّ البعد عن التيارات المذهبية و مستند لأوثق المصادر التأريخية، آملا أن أكون قد ساهمت في إبراز التأريخ الإسلامي على واقعه من دون تحيّز أو تقليد..

و اللّه وليّ التوفيق النّجف الأشرف باقر شريف القريشى 20 /ربيع الأوّل/ 1418 ه

ص:7

ص:8

مع النبيّ

اشارة

في جهاده و غزواته

ص:9

ص:10

تبنّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بصورة إيجابية الدعوة إلى السلم و تحرير الإنسان من ويلات الحروب و مآثم الحياة، و قد انطلقت دعوته المشرقة من مكّة التي كانت مركزا للقوى الجاهلية المتمثّلة في القرشيّين الذين انطوت أفكارهم على الجهل و الغطرسة و الأنانية فورمت آنافهم و انتفخ سحرهم و هبّوا لمناجزة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تعذيب من آمن به من المستضعفين حتى اضطرّوا إلى الهجرة للحبشة للتخلّص من عنف القرشيّين و اضطهادهم، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله محتميا بعمّه شيخ البطحاء و مؤمن قريش أبي طالب، و لمّا انتقل إلى حضيرة القدس لم يجد النبيّ ركنا يأوي إليه، فاجتمعت قريش على قتله - كما تحدّثنا عن ذلك في البحوث السابقة -، فهاجر إلى يثرب فوجد في أهلها الحماية و الإيمان بدعوته و الاستجابة لنصرته، و قامت قيامة القرشيّين و فزعوا كأشدّ ما يكون الفزع، فأجمع رأيهم على شنّ الحرب عليه بلا هوادة، و تسخير جميع إمكانياتهم الاقتصادية لمناجزته و إطفاء نور رسالته.

و وقف الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إلى جانب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يحميه و يذبّ عنه في جميع الحروب التي شنّتها عليه قريش، و قد أسند إليه قيادة جيشه، و جعله رافعا للوائه، و قد لازمه الإمام في غزواته التي كان الغرض منها رفع كلمة اللّه و تحرير إرادة الإنسان و فكره من عبادة الأوثان و الأصنام التي هي من الأوبئة على الفكر، و من الأمراض الخطرة التي تلحق الإنسان بقافلة الحيوان السائم، و تصدّه عن الطريق القويم.

و على أي حال فإنّا نعرض للحروب و بعض الغزوات التي خاضها الإمام مع

ص:11

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دفاعا عن كلمة الإسلام و رافعا لراية التوحيد، و فيما يلي ذلك:

واقعة بدر:

اشارة

سجّلت واقعة بدر (1) نصرا مبينا للإسلام، و فتحا عظيما للمسلمين، و ضربة حاسمة لأئمّة الكفر و الضلال من الطغاة القرشيّين و جبابرتهم، لقد أعزّ اللّه عبده و رسوله محمّد صلّى اللّه عليه و آله بواقعة بدر، و أذلّ أعداءه، و أظهر دينه، و دفع كلمته، و كان البطل البارز في تلك المعركة هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد كان سيفه منجل الموت الذي حصد رءوس المشركين، و عتاة الملحدين من القرشيّين... و نتحدّث - بإيجاز - عن بعض فصول هذه المعركة:

استنجاد أبي سفيان بقريش:

كان أبو سفيان - العدوّ الأوّل للإسلام - قد خرج إلى الشام في تجارة له و معه سبعون شخصا من قريش، و لمّا فضت تجارتهم و اشتروا من البضائع ما يريدون قفلوا راجعين إلى مكّة، و علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقدومهم فندب إليهم أصحابه لمصادرة بضائعهم و أموالهم، و ذلك لإضعافهم اقتصاديا حتى لا يتمكّنوا من مناجزته، و علم أبو سفيان ذلك فاستنجد بالقبائل القرشية و طلب منها حمايتهم و حماية بضائعهم و أموالهم، فهبّت قريش لنجدته، و سلك أبو سفيان طريقا غير الطريق العامّ فنجا من قبضة المسلمين، و زحف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمن معه من المسلمين لإلقاء القبض على أبي سفيان، و عسكر بجيشه ببدر.

رؤيا عاتكة:

رأت السيّدة عاتكة بنت عبد المطّلب في منامها رؤيا أفزعتها فسارعت إلى

ص:12


1- بدر : موضع يقع بين مكّة والمدينة ، سمّي بهذا الاسم لأنّ فيه ماء لرجل يسمّى بدرا ، فسمّي الموضع به _ مجمع البحرين ١ : ٤٩٨.

أخيها العبّاس بن عبد المطّلب فقصّتها عليه قائلة:

إنّي رأيت الليلة رؤيا أفزعتني..

و سارع العبّاس قائلا:

ما رأيت ؟ و أخذت تقصّ عليه رؤياها بفزع و خوف قائلة:

إنّي أتخوّف أن يدخل على قومك منها شرّ عظيم فاكتم منّي ما أحدّثك به.

أفعل ذلك و لا أحدّث به.

و لمّا ضمن لها أن لا يذيع رؤيتها بين قريش أخذت تحدّثه بها قائلة:

رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثمّ صرخ بأعلى صوته:

ألا انفروا يا آل نجد لمصارعكم، فأرى الناس اجتمعوا إليه.. ثمّ أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكّة و لا دار إلاّ دخلتها منها فلقة..

و فزع العبّاس من هذه الرؤيا التي تنبئ بالخطر العظيم على أهالي مكّة، و لم يستطع كتمانها، فقد ضاق صدره منها و راح يشيعها و يتحدّث بها إلى الناس، و وصل خبرها إلى أبي جهل، فانطلق إلى العباس و قال ساخرا: يا بني عبد المطّلب، أ ما رضيتم أن يتنبّأ رجالكم حتى تتنبّأ نساؤكم.. (1).

و صدقت رؤيا عاتكة، فقد حلّ بالقرشيّين الدمار الشامل، فقد كانت واقعة بدر التي نشرت في بيوتهم الثكل و الحزن و الحداد، و خيّم عليها الذلّ و الهوان.

نصيحة عتبة بن ربيعة:

و قبل أن تندلع نار الحرب أشار عتبة بن ربيعة على قومه القرشيّين بعدم

ص:13


1- السيرة النبوية _ ابن هشام ١ : ٦٠٣. تاريخ الطبري ٢ : ١٣٦.

مناجزة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و نهاهم عن فتح باب الحرب مع المسلمين قائلا:

إنّي أرى قوما مستميتين لا تصلون إليهم.. يا قوم، اعصبوها اليوم برأسي و قولوا: جبن عتبة بن ربيعة، و لقد علمتم أنّي لست بأجبنكم..

و سمع أبو جهل نصيحة عتبة فاستشاط غضبا و غيظا و صاح به:

أنت تقول هذا؟ و اللّه! لو غيرك يقول هذا لعضضته، لقد ملئت رئتك و جوفك رعبا..

و يردّ عليه عتبة بعنف قائلا:

إيّاي تعيّر يا مصفرا استه(1) ستعلم اليوم أيّنا أجبن ؟ (2)

و نظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى عتبة، و كان على جمل أحمر، فرأى في وجهه الرشد و الخير، فقال لأصحابه: «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا...»(3).

و لم تصغ قريش لنصيحة عتبة، و مضت سادرة في غيّها و جهلها، و صمّمت على مناجزة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و نظر أبو جهل إلى قلّة أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فاستضعفهم و استهان بهم و قال: إنّ محمّدا و أصحابه أكلة جزور...(4).

سقاية الإمام للجيش:

و أصاب الجيش الإسلامي ظمأ في بدر فانبرى الإمام عليه السّلام إلى القليب و جاء

ص:14


1- كان أبو جهل مصابا بشذوذ جنسي ، وكان يحني استه ليرغب فيه فسّاق قومه ، فلذا عيّره عتبة.
2- تاريخ الطبري ٢ : ١٣٢.
3- السيرة النبوية _ ابن هشام ١ : ٩٢٠.
4- المصدر السابق : ٦٢٣.

بالماء حتى أروى المسلمين (1).

دعاء النبيّ للأنصار:

و نظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الأنصار و هم يتعاقبون في الحمل على النوق التي لم تكن تكفيهم، فدعا لهم

و قال:

«اللّهمّ إنّهم حفاة فاحملهم، و عراة فاكسهم، و جياع فأشبعهم، و عالة فأغنهم من فضلك».

و استجاب اللّه تعالى دعاء نبيّه العظيم، فما انتهت معركة بدر إلاّ وجد كلّ واحد منهم بعيرا معتليه، و اكتسى منهم كلّ عار، و أصابوا الطعام من متاع قريش، و أصابوا فداء الأسرى فاغتنى به كلّ عائل منهم (2).

دعاء النبيّ على قريش:

و أنفق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليله ساهرا يصلّي إلى جانب شجرة، و قد نام جميع المسلمين إلاّ هو، كما حدّث بذلك الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام،

و كان يدعو اللّه تعالى بهذا الدعاء:

«اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها و فخرها تحاربك و تكذّب رسولك، اللّهمّ فنصرك الّذي وعدتني، اللّهمّ أحفّهم (3)الغداة...»(4).

النبي مع أصحابه:

و أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يلهم أصحابه القوّة و النشاط قائلا لهم:

ص:15


1- مناقب آل أبي طالب ١ : ٤٠٦.
2- إمتاع الأسماع ١ : ٦٤.
3- أحفّهم : أي أهلكهم.
4- السيرة النبوية _ ابن هشام ١ : ٩٢٣.

«و الّذي نفس محمّد بيده! لا يقاتلهم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلاّ أدخله اللّه الجنّة». و بعثت هذه الكلمات في نفوسهم العزم، فاندفعوا كالأسود لمناجزة أعداء اللّه.

المعركة:

بدأت المعركة صباح يوم الجمعة في اليوم السابع عشر من رمضان المبارك سنة (2 ه )، المصادف 15 كانون الثاني سنة 624 م، و قد فتح القرشيّون باب الحرب، فبرز منهم عتبة بن ربيعة و شيبة و الوليد، و هم أبطال قريش و طليعة فرسانهم، و برز إليهم فتيان من الأنصار فاحتقرهم عتبة و أخذته العزّة بالإثم فقال لهم: لا نريد هؤلاء، و لكن نريد أن يبارزنا بنو أعمامنا من بني عبد المطّلب، فندب الرسول صلّى اللّه عليه و آله لمبارزتهم عبيدة و عليّا و حمزة، و برز حمزة لعتبة، و عبيدة لشيبة، و عليّ للوليد (1).

أمّا الإمام عليّ و حمزة فكلّ منهما قتل صاحبه، و أمّا عبيدة و عتبة بن ربيعة فقد اختلفا بضربتين، و أثبت كلّ منهما سيفه في رأس صاحبه، فكرّ عليه الإمام و حمزة بأسيافهما و تركاه جثة هامدة (2)، و اشتدّت الحرب، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من أشدّ الناس بأسا و من أقرب جيشه إلى العدو، و كان المسلمون يلوذون به كما حدّث بذلك الإمام عليه السّلام (3)، و بان الانكسار في صفوف القرشيّين و انهارت معنوياتهم و انهزموا شرّ هزيمة.

بسالة الإمام:

و أبدى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام من البسالة و الصمود ما لا يوصف، فكان

ص:16


1- سنن البيهقي ٣ : ٢٧٩.
2- تاريخ الطبري ٢ : ٣٢٥.
3- مسند أحمد بن حنبل ٢ : ٦٤ ، رقم الحديث ٦٥٤.

القوّة الضاربة في جيش الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقد غاص في أوساط القرشيّين يحصد رءوسهم و يشيع فيهم القتل و الدمار، و قد بهرت ملائكة السماء من بسالته، و

نادى جبرئيل: «لا سيف إلاّ ذو الفقار (1)، و لا فتى إلاّ عليّ »(2).

و كتب اللّه النصر المبين للإسلام على يد الإمام القائد الملهم العظيم الذي أذلّ القرشيّين و أخزاهم و ألحق بهم الهزيمة و العار.

أسماء من قتلهم الإمام:

من المؤكّد أنّه لم يكن بيت من بيوت القرشيّين لم ينله سيف الإمام عليه السّلام في تلك المعركة، و هذه أسماء من حصد رءوسهم و هم:

1 - الوليد بن عتبة، كان جريئا فتّاكا تهابه الرجال، و هو أخو هند أمّ معاوية و زوجة أبي سفيان.

2 - حنظلة بن أبي سفيان.

3 - العاص بن سعيد، و كان هولا تهابه الأبطال.

4 - نوفل بن خويلد، و كان من أشدّ المشركين عداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانت قريش تقدّمه و تعظّمه و تطيعه، و هو من بني نوفل بن عبد مناف.

5 - زمعة بن الأسود.

6 - النضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار.

7 - طعيمة بن عدي بن نوفل، كان من رءوس أهل الضلال.

8 - عمير بن عثمان بن كعب بن تيم عمّ طلحة بن عبيد اللّه.

ص:17


1- سمّي هذا السيف بذي الفقار لأنّه كانت له فقرات كفقرات الظهر.
2- كنز العمّال ٣ : ١٥٤. السيرة النبوية _ ابن هشام ٣ : ٥٣. وفي ذخائر العقبى (٧٤) : « نادى ملك من السماء يوم بدر : « لا سيف إلاّ ذو الفقار ، ولا فتى إلاّ عليّ ».

9 - عثمان بن عبيد اللّه.

10 - مالك بن عبيد اللّه أخو عثمان.

11 - مسعود بن أميّة بن المغيرة من بني مخزوم.

12 - حذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة.

13 - قيس بن الفاكه بن المغيرة.

14 - أبو قيس بن الوليد بن المغيرة.

15 - عمر بن مخزوم.

16 - الحارث بن زمعة.

17 - أبو المنذر بن أبي رفاعة.

18 - منبه بن الحجّاج السهمي.

19 - العاص بن منبه من بني سهم.

20 - علقمة بن كلدة.

21 - أبو العاص بن قيس بن عدي.

22 - معاوية بن المغيرة بن أبي العاص.

23 - لوذان بن ربيعة.

24 - عبد اللّه بن المنذر بن أبي رفاعة.

25 - حاجب بن السائب بن عويم.

26 - أوس بن المغيرة بن لوذان.

27 - زيد بن مليص.

28 - غانم بن أبي عويف.

29 - سعيد بن وهب حليف بني عامر.

30 - معاوية بن عامر بن عبد القيس.

ص:18

31 - السائب بن مالك.

32 - عبد اللّه بن جميل بن زهير الحارث بن أسد.

33 - أبو الحكم بن الأخنس.

34 - هشام بن أبي أميّة بن المغيرة (1).

هؤلاء الذين حصد رءوسهم الإمام عليه السّلام بسيفه في سبيل الإسلام.

وقوف النبيّ على قتلى بدر:

وقف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على قتلى بدر فتأمّلهم، و تذكّر ما عاناه منهم من صنوف التنكيل و الارهاق، و خاطبهم بقوله:

«يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة، و يا شيبة بن ربيعة! و يا أميّة بن خلف! و يا أبا جهل بن هشام...».

و عدّد عصابة من الذين بالغوا في التنكيل به،

ثمّ قال لهم: «هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا».

و بهر أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من خطابه للقتلى فقالوا له:

يا رسول اللّه، أ تنادي قوما قد جيفوا؟ فأجابهم الرسول:

«و ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، و لكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني»(2). إنّ الأرواح لا تفنى، و إنّما الأجسام تبلى، و تعود إلى عنصرها الذي تكوّنت منه، هذا ما أعلنه الرسول.

ص:19


1- أعيان الشيعة ٣ : ٩٨ _ ٩٩.
2- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٤٤٩ _ ٤٥٠.

الأسرى من قريش:

و وقع سبعون أسيرا من قريش (1) بأيدي القوات المسلّحة من جيش الرسول، فأخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من بعضهم الجزية و أطلق سراحهم، و من لم يتمكّن من دفع الجزية و كان يحسن القراءة و الكتابة أمره أن يعلّم أبناء المسلمين بدل الجزية، و بذلك أقام النبيّ أوّل صرح في عاصمته لمحو الاميّة.

حزن القرشيّين على قتلاهم:

و حزن القرشيّون كأشدّ ما يكون الحزن على قتلاهم، و كان حزنهم كامنا في نفوسهم، فقد نذر أبو سفيان أن لا يمسّ رأسه ماء من جنابة، و أمّا زوجه هند فقد هامت في تيارات من الحزن و كتمت حزنها على أهل بيتها، و قالت: كيف أبكيهم فيبلغ محمّدا و أصحابه فيشمتوا بنا، لا و اللّه! حتى أثأر من محمّد و أصحابه، و الدهن عليّ حرام حتى نغزو محمّدا...

لقد ترك قتلى بدر لوعة في نفوس القرشيّين، و قد رثاهم بعض شعرائهم بقوله:

فما ذا بالقليب قليب بدر من الفتيان و القوم الكرام

و ما ذا بالقليب قليب بدر من الشيري (2) ثكل بالسنام (3)

و ظلّت قريش حاقدة على الإمام حتى بعد ما أعلنت الإسلام و بويع الإمام بالخلافة، فقد نظم أسيد بن إياس هذه الأبيات يحرّض قريشا على مناهضة الإمام و نكث بيعته قائلا:

ص:20


1- تاريخ أبي الفداء ١ : ١٣٦. تاريخ الطبري ٢ : ١٣٥.
2- الشيري : شجرة يتّخذ منها الجفان.
3- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ١١٨.

في كلّ مجمع غاية أخزاكم جذع أبرّ على المذاكي القرح (1)

للّه درّكم ألما تنكروا قد يذكر الحرّ الكريم و يستحي

هذا ابن فاطمة (2)الذي أفناكم ذبحا و بقتلة بعضه لم يذبح

أعطوه خرجا و اتّقوا تضريبه فعل الذليل و بيعة لم تربح

أين الكهول و أين كلّ دعامة في المعضلات و أين زين الأبطح

أفناهم قصعا (3)و ضربا يفتري بالسيف يعمل حدّه لم يصفح

لقد سقا الإمام بطل الإسلام القرشيّين أخزاهم اللّه كأسا مصبرة، و أشاع في بيوتهم الثكل و الحزن و الحداد، و أورثهم الذلّ و العار لأنّهم أعداء الإسلام و خصومه الذين جهدوا على لفّ لواء الإسلام و إطفاء كلمة التوحيد.

انتصار الإسلام:

و انتصر الإسلام انتصارا رائعا في واقعة بدر و قويت شوكة المسلمين و أكسبتهم قوّة هائلة، فهي أمّ الفتوح، كما شجّعتهم على الخوض في المعارك التي يشنّها عليهم أعداء الإسلام..

لقد انتهت معركة بدر و كان البطل البارز فيها أسد اللّه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد كان سيفه منجل الموت الذي أرهفه على رقاب القرشيّين الذين ما آمنوا باللّه طرفة عين حتى بعد إعلانهم المزيّف للإسلام، فقد أخذوا يكيدون له في وضح النهار و في غلس الليل، و جميع ما عاناه المسلمون و ابتلوا به من الأزمات كانت من صنع القرشيّين و تدبيرهم، و من الجدير بالذكر أنّ اقتران الإمام عليه السّلام بسيّدة نساء

ص:21


1- الجذع : الشاب الحدث ، يعني به الإمام ، فقد حصد رءوس القرشيّين وهو في روعة الشباب. الابر : الغالب والمنتصر. المذاكي : الخيل.
2- فاطمة : هي السيّدة الجليلة أمّ الإمام أمير المؤمنين.
3- القصع : الدفع والكسر ، والقصعة المرّة منه.

العالمين زهراء الرسول عليها السّلام كانت بعد واقعة بدر المجيدة، و قد عرضنا لها فصلا خاصّا.

واقعة أحد:

اشارة

و استقبلت قريش نبأ هزيمتهم المنكرة و خسائرهم الفادحة في معركة بدر بمزيد من الأسى و اللوعة، و ساد في أوساطهم حزن عميق و أسى مرير، و قد حرّمت هند أمّ معاوية على القرشيّين نساء و رجالا البكاء على قتلاهم حتى يظلّ الحزن كامنا في نفوسهم لا يطفئه إلاّ طلب الثأر لقتلاهم و الانتقام من المسلمين.

و كان أبو سفيان قائد قريش في واقعة أحد و الزعيم الأوّل في هذه المعركة، إنّ أبا سفيان جاهلي بجميع معاني هذه الكلمة، لا يحمل في أعماق نفسه أي معنى من القيم الإنسانية و لم يؤمن باللّه طرفة عين، فأخذ يؤلّب الجماهير و يحرّض القبائل على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يجمع الأموال فيشتري بها السلاح و العتاد لحرب المسلمين، و قد استجابت له جماهير القرشيّين الذين أترعت نفوسهم بالحقد و العداء للرسول، فقد خرجوا بحدّهم و جدّهم و حديدهم و أحابيشهم و من تابعهم لحرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صحبوا معهم نساءهم حتى يخلصوا في الحرب، و قد قادت النساء هند أمّ معاوية، و كنّ يضربن بالدفوف و يبعثن الحماس في نفوس أزواجهنّ و أبنائهن و هن ينشدن:

ويها بني عبد الدار ويها حماة الأديار

ضربا بكل بتّار

و كان صوت هند يعلو أصواتهن، و أخذت تخاطب قومها:

إن تقبلوا نعانق و نفرش النمارق

أو تدبروا نفارق فراق غير وامق

ص:22

لقد قادت أمّ معاوية النساء و قاد زوجها الرجال لحرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هما يحملان أرجاس المردة و الطغاة و الممسوخين من القبائل القرشية التي جهدت على إطفاء نور اللّه و إقصاء الخير عن الناس.

الحرب:

و كانت جيوش المشركين ثلاثة آلاف، و جيوش المسلمين سبعمائة مقاتل، و يتقدّم جيوش المشركين طلحة بن أبي طلحة و بيده اللواء، و قد رفع عقيرته قائلا:

يا أصحاب محمّد، تزعمون أنّ اللّه يعجّلنا بأسيافكم إلى النار، و يعجّلكم بأسيافنا إلى الجنّة، فأيّكم يبرز لي ؟ فبرز إليه بطل الإسلام و أسد اللّه الإمام

أمير المؤمنين عليه السّلام قائلا:

«و اللّه! لا افارقك حتّى اعجّلك بسيفي إلى النّار».

و بادره الإمام بضربة فبرى بها رجله، فسقط إلى الأرض يتخبّط بدمه، و أراد الإمام أن يجهز عليه، فناشده اللّه و الرحم أن يتركه، فتركه، و لم يلبث إلاّ ساعة حتى هلك، و فرح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهلاكه، كما عمّت الفرحة جميع المسلمين(1)، فقد كان من أبطال القرشيّين، و كان يسمّى كبش الكتيبة لشجاعته، و قد انخذل المشركون و وهنوا لقتله و بانت الهزيمة في صفوفهم، و أخذ اللواء من بعده أبطال القرشيّين فأرداهم الإمام قتلى، و كانت هند في وسط المعسكر و هي تلهب في نفوس الجيش العزيمة لمحاربة المسلمين، و إذا انهزم رجل من قريش دفعت له ميلا و مكحلة و قالت له:

إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا... (2) و من صور تلك المعركة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منح أبا دجانة، و هو من خيار الصحابة

ص:23


1- نور الأبصار : ٧٨.
2- الميزان في تفسير القرآن ٤ : ١٢.

سيفا و لم يعطه للزبير، و قد ضاق الزبير ذرعا من ذلك، و راح ينظر ما يصنع به أبو دجانة، فقد أخرج عصابة حمراء فتعصّب بها، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت و برز إلى ميدان الحرب و هو يقول:

أنا الذي عاهدني خليلي و نحن بالسفح لدى النخيل

ألاّ أقوم الدهر في الكسول أفرّ بسيف اللّه و الرسول (1)

و أعرب بهذا الشعر عن بسالته و صلابة عزمه في الذبّ عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و جعل أبو دجانة ينشر الموت بين صفوف القرشيّين، و حمل على هند أمّ معاوية حتى بلغ سيفه مفرق رأسها إلاّ أنّه عدل عن ذلك ترفّعا منه، و لمّا نظر الزبير إلى شجاعة أبي دجانة استصوب رأي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

هزيمة المسلمين:

من المؤسف حقّا أنّ المسلمين منوا بهزيمة ساحقة و خسائر فادحة كادت تلفّ لواء الإسلام، و ذلك من جرّاء مخالفة فرقة في الجيش الإسلامي للمخطّطات الحربية التي وضعها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ألزمهم بتنفيذها، فقد وضع كتيبة من الرماة على جبل بقيادة عبد اللّه بن جبير(2)لتحمي المسلمين من خلفهم، و شدّد عليها أن لا تتخلّف عن مواقعها، و قد وجّه الرماة سهامهم و نبالهم صوب معسكر قريش فأنزلوا بها خسائر فادحة في الأرواح، و انهزمت قريش تاركة وراءها أمتعتها و سلاحها، و أقبل المسلمون على نهبها، فلمّا رأى الرماة ذلك ترك بعضهم مكانه و انسابوا ينهبون الأمتعة مخالفين الأوامر المشدّدة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في لزوم الإقامة بمواضعهم.

و بصر خالد بن الوليد ذلك فحمل على من بقي في الجبل من الرماة فقتلهم

ص:24


1- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٦٨.
2- عيون الأثر ٢ : ٥. الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٥.

و حمل على أصحاب النبيّ من خلفهم فهزمهم و قتل جماعة منهم.. و أباد جيش المشركين معظم قادة الجيش الإسلامي، و استهدف المشركون بصورة خاصّة حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقد أصيب بجروح بالغة، فكسرت رباعيّته و شقّت شفته، و جعل الدم يسيل على وجه الشريف و هو يمسحه

و يقول:

«كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم و هو يدعوهم إلى اللّه» (1)! و أحاط اللئام الحقراء من القرشيّين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله يريدون الإجهاز عليه، و كان على رأسهم أبو سفيان و هو يحرّضهم على قتل الرسول، و أمر شخصا فنادى أنّ محمّدا قد قتل، ففرّ المسلمون، و حاول بعض كبار الصحابة من الفارّين أن يكتب لأبي سفيان طالبين منه الأمان.

مصرع الشهيد حمزة:

و أبدى الشهيد الخالد حمزة بن عبد المطّلب من البسالة ما لا يوصف، فقد وقف كالجبل الأشمّ محاميا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو يجندل الأبطال و يروي الأرض من دماء الكفرة الملحدين، قد سخر من الموت و وهب حياته للّه ربّ العالمين.

و نظر إليه الوغد الأثيم وحشي و هو يهدّ الناس بسيفه فهزّ حربته و وجّهها صوبه فأصابته في لبته و خرجت من بين رجليه، و وقع البطل العظيم على الأرض صريعا يتخبّط بدمه، و لم يلبث قليلا حتى فارق الحياة (2)، و خسر المسلمون ألمع قائد لهم، و كانت شهادته من أفدح النكبات التي واجهها الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فسلام اللّه عليه من شهيد محتسب، و سلام عليه يوم ولد و يوم استشهد و يوم يبعث حيّا.

1

ص:25


1- الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٨.
2- تاريخ الطبري ٢ : ١٩٩.

مصرع الشهيد مصعب:

و كان مصعب فتى قريش آمن بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله إيمانا نفذ إلى أعماق قلبه و دخائل نفسه، و تعرّض إلى أعنف ألوان التعذيب، و قد بعثه النبيّ إلى يثرب مبشّرا بالدين الإسلامي و داعيا إلى اللّه، و قد أسلم الكثيرون من المدنيّين على يده.. و كان أحد القادة في جيش الرسول صلّى اللّه عليه و آله في معركة أحد، و قد قتله ابن قمنة ظانّا أنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد رفع عقيرته قائلا: قتلت محمّدا، و قد خسرت القيادة الإسلامية في جيش الرسول أنبل قائد فيها، رحمه اللّه و أجزل له المزيد من الأجر، فما أعظم عائدته على الإسلام (1)!

حماية الإمام للنبيّ :

و توالت الهزائم المنكرة في جيش المسلمين، و فرّ معظمهم يطاردهم الفزع و الخوف، و زاد في رعبهم نداء أبي سفيان أنّ محمّدا قد قتل.. و تركوا النبيّ و قد أحاط به أعداء اللّه، و قد اصيب بجروح بالغة و قد وقع في حفرة عملها أبو عامر و أخفاها ليسقط فيها المسلمون من حيث لا يعلمون، و كان الإمام إلى جانبه فأخذ بيده و رفعه طلحة بن عبيد اللّه حتى استوى قائما (2)، و لم يبق مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلاّ نفر قليل في طليعتهم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فالتفت إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال له:

«يا عليّ ، ما فعل النّاس ؟».

فأجابه بأسى و مرارة:

«نقضوا العهد و ولّوا الدّبر...».

و حملت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عصابة مجرمة من القرشيّين، فضاق منهم ذرعا فقال

ص:26


1- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٧٣.
2- أعيان الشيعة ٣ : ١١١.

لعلي: «اكفني هؤلاء»، فحمل عليهم الإمام فكشفهم عنه، و حملت عليه كتيبة اخرى تقارب خمسين فارسا، فقال لعليّ : «اكفني هؤلاء» فحمل عليهم الإمام و كان راجلا فقتل أربعة من أبناء سفيان بن عويف، و ستّة من تلك الكتيبة، و قد ذادها عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد جهد شاق.

و حملت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كتيبة فيها هشام بن أميّة، فقتله الإمام، ففرت كتيبته، و حملت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كتيبة فيها بشر بن مالك، فقتله الإمام، و ولّت كتيبته منهزمة...

و بهر جبرائيل من مواساة الإمام و جهاده و صبره فقال للنبيّ : «إنّ هذه المواساة قد عجبت منها الملائكة»، فقال له النبيّ : «و ما يمنعه و هو منّي و أنا منه»؟ فقال جبرائيل: «و أنا منكما»(1).

و ظلّ الإمام صامدا في تلك المعركة الرهيبة مدافعا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فاديا له بنفسه، و قد اصيب بست عشرة ضربة كلّ ضربة تلزمه الأرض، و ما كان يرفعه إلاّ جبرائيل (2)... ففي ذمّة الإسلام ما لا قاه إمام المتّقين و سيّد الموحّدين من المصاعب و الأهوال في سبيل نشر دعوة الإسلام، و لو لاه لما قام الإسلام على سوقه و لا ارتفعت له كلمة، و من المؤسف أنّ هذا العملاق العظيم و المجاهد الأوّل قد دفع عن مقامه و قرن بينه و بين أعضاء الشورى الذين ليس لهم سابقة الجهاد مثله.

تشفّي هند:

و شفت هند غليلها و انطفأت جمرة حقدها حينما علمت بمصرع الشهيد حمزة، فسارعت تفتّش عن جثّته و هي مثلوجة الفؤاد ناعمة البال، فلمّا أبصرتها أقبلت عليها كالكلبة فمثّلت بها شرّ تمثيل، فاستخرجت كبده فلاكته ثمّ لفظته،

ص:27


1- أعيان الشيعة ٣ : ١١١.
2- أسد الغابة ٤ : ٢٠.

و جدعت أنفه و اذنيه و جعلتهم قلادة لها، و اثر عنها من الشعر قد سجّلت فيه شكرها لوحشي قاتل حمزة و هو:

نحن جزيناكم بيوم بدر و الحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر و لا أخي و عمّه و بكر

شفيت نفسي و قضيت نذري شفيت يا وحشي غليل صدري

فشكر وحشي على عمري حتى ترم أعظمي في قبري

و حكى هذا الشعر خساسة طبعها و لؤم عنصرها، و قد مثّلت هند بجثّة حمزة عمّ النبي شرّ تمثيل.

تشفّي أبي سفيان:

و سارع الجاهلي أبو سفيان نحو ساحة المعركة يتفرّس في وجوه شهداء المسلمين ليروي غليله، فرأى جثّة الشهيد حمزة التي مزّقتها هند، فطار سرورا و فرحا و قال بصوت تفيض منه الشماتة و الأحقاد:

يا أبا عمارة، دار الدهر، و حال الأمر، و اشتفت منكم نفسي.

ثمّ هزّ رمحه و طعن به شدق جثّة حمزة، و هو يردّد: ذق عقق... ذق عقق (1).

و ولّى و هو ناعم البال قرير العين قد روى قلبه المترع بالشرك و الرذائل من زعيم الهاشميّين و بطل الإسلام.

حزن النبيّ :

و وقف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على جثمان عمّه الذي مثّلت به هند أقسى ألوان التمثيل فذابت نفسه أسى و حزنا كأشدّ ما يكون الحزن، و راح يقول مخاطبا عمّه:

ص:28


1- الإمام عليّ بن أبي طالب _ عبد الفتّاح عبد المقصود ١ : ٨٢.

«لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا، لو لا أن تحزن صفيّة و يكون سنّة من بعدي لتركته حتّى يكون في بطون السّباع و حواصل الطّيور، و لئن أظهرني اللّه على قريش في موطن من المواطن لامثّلنّ بثلاثين رجلا منهم».

و انبرى المسلمون بلوعة و أسى قائلين:

و اللّه! لئن أظفرنا اللّه بهم يوما من الدهر لنمثّلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب...

و نزل جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يرشده إلى ما ينبغي له مع قريش، و كره له التمثيل بهم بهذه السعة، فقد رفع له هذه الآية: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ . وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ(1).

فعفا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صبر و نهى عن المثلة، و قال:

«إنّ المثلة حرام و لو بالكلب العقور».

لقد كانت معركة أحد المعركة الوحيدة التي هزم فيها المسلمون شرّ هزيمة، و قد قال ابن إسحاق: إنّ يوم أحد يوم بلاء و مصيبة و تمحيص اختبر اللّه به المؤمنين و محقّ به المنافقين ممّن كان يظهر الإيمان بلسانه و هو مستخف بالكفر في قلبه، و يوما أكرم اللّه فيه من أراد كرامته بالشهادة (2).

و قد أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بعد انتهاء المعركة أنّه لا يصيب المشركون من المسلمين مثل هذه المعركة حتى يفتح اللّه تعالى على المسلمين (3).

ص:29


1- النحل : ١٢٦ و ١٢٧.
2- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ١٠٥.
3- البداية والنهاية ٤ : ٤٧.

ملاحقة النبيّ للقرشيّين:

و لم يمكث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في يثرب إلاّ زمنا يسيرا بعد رجوعه من معركة أحد حتى أمر أصحابه أن ينفروا لحرب قريش، و خصّ طلبه بالذين اشتركوا معه في الحرب بما فيهم الجرحى، و السبب في ذلك أن يوهم على قريش أنّه محتفظ بقوّته حتى لا يكرّوا الرجعة إليه، و كانوا قد عزموا على ذلك، فلمّا وافتهم الأنباء بزحف النبيّ إليهم تثاقلوا و تراجعوا عمّا صمّموا عليه، و كانت هذه الخطة من أروع الخطط السياسية و الحربية.

سرور القرشيّين:

و رجعت قريش إلى مكّة و هي تعزف أبواق النصر بما حقّقته من نصر على المسلمين و ما أوقعته فيهم من الخسائر الفادحة في النفوس و الأموال، و كان من أعظم المسرورين أبو سفيان و زوجته هند و سائر بني أميّة، فقد أخذوا ثأرهم من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذلك بما سفكوه من دم عمّه حمزة و سائر الأبطال من المسلمين.

واقعة الخندق:

اشارة

أمّا واقعة الخندق فهي واقعة الأحزاب، سمّيت بذلك لتحزّب القبائل على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد ضاق منها المسلمون ذرعا و ساد فيهم الرعب و الخوف، و ذلك لقوّة المشركين و انضمام اليهود إليهم، فقد كان عددهم عشرة آلاف مقاتل و عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل، و قد حكى القرآن الكريم مدى الفزع الذي أصاب المسلمين من أعدائهم قال تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (1)، و قد كتب اللّه تعالى النصر للإسلام

ص:30


1- الأحزاب : ١٠.

على يد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فهو الذي أحرز الفتح المبين... و نقدّم عرضا موجزا لهذه الواقعة التي خاضها الإمام عليه السّلام.

دور اليهود في المعركة:

أمّا اليهود فكانوا العنصر الفعّال في هذه المعركة، فقد خفّت منهم عصابة إلى القرشيّين يحرّضونهم على حرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يطلبون منهم الانضمام إليهم قائلين لهم:

إنّا سنكون معكم عليه حتى نستأصله...

و هتف القرشيّون قائلين:

يا معشر اليهود، إنّكم أهل الكتاب الأوّل و العلم بما أصبحنا نختلف فيه، هو محمّد أ فديننا خير أم دينه ؟ و أسرع اليهود قائلين:

بل دينكم - و هو عبادة الأوثان و الأصنام - خير من دينه، و أنتم أولى بالحقّ منه...

و حكى القرآن الكريم هذه المحاورة، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً(1).

إنّ اليهود في جميع فترات تأريخهم أعداء الفكر و الحق و مصدر الفتنة في

ص:31


1- النساء : ٥٠ _ ٥٥.

الأرض، و قد استجابت القوى الكافرة من القرشيّين لحرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما استجابت قبائل غطفان و تجهّزوا لحرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

النبيّ مع نعيم:

أسلم نعيم على يد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تلك الفترة الرهيبة، و كان من زعماء غطفان، فقال للنبيّ : يا رسول اللّه، إنّي قد أسلمت و إنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فأمرني بما شئت... فأمره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتخذيل القبائل عنه و خداعهم، فإنّ الحرب خدعة، و قام نعيم بن مسعود بدور إيجابي و فعّال في تفتيت القوى المحاربة للنبيّ من اليهود و القرشيّين، فقد انطلق إلى بني قريظة، و كان نديما لهم في الجاهلية فقال لهم:

يا بني قريظة، قد عرفتم ودّي إيّاكم و الخاصّة التي بيني و بينكم...

و هتفوا قائلين:

صدقت لست عندنا بمتّهم.

و أشار عليهم بنصيحة قائلا:

إنّ قريشا و غطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم، لا تقدرون على تحوّل منه إلى غيره، و إنّ قريشا و غطفان جاءوا لحرب محمّد و أصحابه، و قد ظاهرتموهم عليه، و بلدهم و أموالهم و نساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها (1)، و إن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم و خلّوا بينكم و بين الرجل ببلدكم و لا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمّدا حتى تناجزوه...

و هتفوا جميعا:

ص:32


1- النهزة : انتهاز الشيء واختلاسه

أشرت بالرأي...

و مضى إلى قريش فقال لأبي سفيان و من معه من زعماء قريش: قد عرفتم ودّي لكم و فراقي محمّدا، و إنّه بلغني أمر قد رأيت عليّ حقّا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عنّي.

و طفقوا قائلين:

نفعل ذلك.

إنّ اليهود قد ندموا على ما صنعوه مع محمّد، و أرسلوا إليه أنّهم قد ندموا على ما فعلوه، و إنّه إذا يرضيه أن يأخذوا من أشراف قريش و غطفان جماعة و يسلّموهم إليه ليضرب أعناقهم، ثمّ يكونوا معه... فإن بعثت لكم اليهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا...

و أرسل أبو سفيان و رؤساء بني غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل مع جماعة من قريش و غطفان فطلبوا منهم الالتحاق بهم لمحاربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت بنو قريظة: لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا حتى نناجز محمّدا... و رجعت الرسل إلى قريش و غطفان فأخبروهم بمقالة بني قريظة، فصدّقوا مقالة نعيم بن مسعود، و قالوا: لا نعطيهم أي واحد منّا، و بذلك فقد تخلّص المسلمون من يهود بني قريظة، فلم ينضمّوا إلى قريش و لم يشتركوا معهم في حرب رسول اللّه(1)

حفر الخندق:

و لمّا علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خروج القرشيّين و قبائل غطفان لحربه جمع أصحابه

ص:33


1- .السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٢٢٩ _ ٢٣٠.

و أحاطهم علما بالأمر، و طلب منهم اتّخاذ أهمّ وسيلة لصدّ العدوان عن المسلمين، فأشار عليه الصحابي الجليل سلمان المحمّدي بحفر الخندق حول المدينة ليمنع من وصول العدو لهم، و استصوب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا الرأي، و قام مع أصحابه بحفر الخندق، و كانت خطّة حكيمة وقت المسلمين من شرّ أعدائهم، و وقفت قريش مذهولة لا حيلة لها، فلم تقدر على اجتيازه و الوصول إلى محاربة المسلمين، و استخدمت النبال في حربها، و كان المسلمون يردّون عليهم بالمثل، و بقي التراشق بين الفريقين من دون أن تقع حرب عامّة.

مبارزة الإمام لعمرو:

و ضاقت القبائل القرشية ذرعا من هذه المناوشات التي لم يحرزوا فيها نصرا، و التمسوا منهم مكانا ضيّقا، فأقحموا خيولهم فيه و عبروا الخندق، كان منهم عمرو ابن عبد ودّ فارس قريش في الجاهلية و فارس كنانة، و هو مدجّج بالسلاح كأنّه القلعة فوق جواده، و اهتزّت الأرض من تيهه و زهوه و قوّة بدنه، و ساد الوجوم بين المسلمين و عمّ فيهم الرعب و تهيّبوه، و جعل يصول و يجول أمامهم محتقرا لهم و قد رفع صوته قائلا:

يا رجال محمّد، هل من مبارز؟ و خلعت قلوب المسلمين، فكان كالصاعقة عليهم.

و هتف ثانيا:

أ لا رجل يبارز؟ و لبّى نداءه حامي الإسلام و بطل المسلمين الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قائلا:

«أنا له يا رسول اللّه...»! و كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله ضنينا على ابن عمّه، فقال للإمام:

ص:34

«إنّه عمرو».

و جلس الإمام عليه السّلام ممتثلا لأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و عاد عمرو ساخرا من المسلمين قائلا لهم:

يا أصحاب محمّد، أين جنّتكم التي زعمتم أنّكم داخلوها إذا قتلتم ؟ أ لا يريدها رجل منكم ؟ و لم يستجب أحد من المسلمين لنداء عمرو سوى الإمام، فأخذ يلحّ على النبيّ أن يأذن له، فأذن له النبيّ بعد إصراره و إلحاحه.

و قلّده الرسول و ساما من أعظم الأوسمة التي تقلّدها الإمام حين

قال صلّى اللّه عليه و آله:

«برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه».

يا لها من كلمة خالدة، فقد حدّدت الإمام بالإيمان بجميع رحابه و مفاهيمه، فهو الذي يحكيه.

و رفع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يديه بالدعاء مبتهلا إلى اللّه تعالى قائلا:

«اللّهمّ إنّك أخذت منّي حمزة يوم أحد، و عبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليّا...

ربّ لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين...».

و برز الإمام مزهوا لم يخالجه رعب و لا خوف من عمرو بن عبد ودّ، و عجب عمرو من جرأة هذا الفتى و إقدامه على مناجزته، فقال له:

من أنت ؟ فأجابه الإمام ساخرا منه:

«أنا عليّ بن أبي طالب».

فأشفق عليه عمرو و قال له:

قد كان أبوك صديقا لي.

و لم يحفل الإمام بصداقة عمرو لأبيه و راح يقول له:

ص:35

«يا عمرو، إنّك عاهدت قومك ألاّ يدعوك رجل من قريش إلى خلال ثلاث إلاّ أجبته ؟...».

نعم، هذا عهدي.

«إنّي أدعوك إلى الإسلام...».

و ضحك عمرو و قال للإمام بسخرية:

أ أترك دين آبائي، دع هذا عنك..

«أكفّ يدي عنك فلا أقتلك و ترجع ؟».

و غضب عمرو و عجب من جرأة هذا الفتى عليه و قال له:

إذن تتحدّث العرب عن فراري..

و عرض الإمام عليه الأمر الثالث فقال له:

«إنّي أدعوك إلى النّزال ؟» (1).

و عجب عمرو من جرأة الفتى و بسالته، فنزل عن فرسه و استلّ سيفه و ضرب رأس الإمام، فاستقبلها بدرقته فقدّها و نفذ السيف إلى رأس الإمام فشجّه، و أيقن المسلمون أنّ الإمام قد لاقى مصيره، و لكن اللّه تعالى نصره و حماه، فقد ضرب عمروا ضربة هدّته و سقط إلى الأرض يخور بدمه كما يخور الثور عند ذبحه.. و كبّر الإمام، و كبّر المسلمون، فقد انقصم ظهر الشرك و تفلّلت قواه، و أحرز الإسلام النصر الحاسم على يد إمام المتّقين و بطل الإيمان،

و راح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقلّده و ساما مشرقا باقيا على امتداد التاريخ قائلا: «لمبارزة عليّ بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة»(2).

ص:36


1- مستدرك الحاكم ٣ : ٣٢.
2- تاريخ بغداد ١٣ : ١٩. مستدرك الحاكم ٣ : ٣٢.

و قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان: لو قسّمت فضيلة عليّ بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين أجمعهم لوسعتهم (1).

و قال عبد اللّه بن عباس في تفسير قوله تعالى: وَ كَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (2) قال: كفاهم بعليّ بن أبي طالب. و بكت قريش عمرو بن عبد ودّ لأنّ قتله كان هزيمة لهم، و قد رثاه سافح بن عبد مناف بن زهرة بقوله:

عمرو بن عبد كان أوّل فارس جزع المزار و كان فارس يليل

سمح الخلائق ماجد ذو مرّة يبغي القتال بشكة لم ينكل

و اعتزّت اخت عمرو بالإمام قاتل أخيها لأنّه البطل الأوّل قي الجزيرة، و لو كان قاتله غير الإمام لحزنت عليه كأشدّ ما يكون الحزن قالت:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله لكنت أبكى عليه آخر الأبد

لكن قاتله من لا يعاب به من كان يدعى قديما بيضة البلد (3)

و قتل الإمام عليه السّلام بطلا آخر من قريش و هو نوفل بن عبد اللّه، و سبّب ذلك هزيمة كبرى لقريش، و راح

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول له:

«الآن نغزوهم و لا يغزوننا»(4).

و ولّت قريش منهزمة على أعقابها تجرّ رداء الخيبة و الخسران، قد منيت بهزيمة ساحقة و لم تربح أي شيء في هذه المعركة و لم يخسر المسلمون فيها شيئا.

ص:37


1- رسائل الجاحظ : ٦٠.
2- الأحزاب : ٢٥.
3- أمالي المرتضى ٢ : ٧ _ ٨.
4- أعيان الشيعة ٣ : ١١٣.

فتح خيبر

اشارة

*فتح خيبر (1):

و بعد ما شاعت الهزائم الساحقة في صفوف القرشيّين و أخزاهم اللّه و أذلّهم رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بفكره الثاقب و رأيه الأصيل أنّه لا يستقيم للمسلمين أمر و لا تسلم لهم دولة و لا تسود كلمة الإسلام في الأرض مع وجود قوّة اليهود، و هم من ألدّ أعداء الإسلام، و تلك القوة هي حصون خيبر التي كانت مصنعا للأسلحة على اختلاف أنواعها من السيوف و الرماح و الدروع و الدبابات التي كانت تقذف بالماء الحار و الرصاص بعد إذابته، و هي من أخطر الأسلحة في ذلك العصر، و كانت اليهود هي التي تمدّ القوى المحاربة للإسلام بالأسلحة... و زحف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بجيشه لاحتلال حصون خيبر، و أسند قيادة جيشه لأبي بكر، فمضى، و لمّا أشرف على الحصون قوبل بالقذائف فرجع منهزما خائبا، و في اليوم الثاني أسند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قيادة الجيش إلى عمر بن الخطّاب، فكان كصاحبه أبي بكر، فقفل راجعا منهزما، و ظلّت الحصون مغلقة لم يمسّها أحد بسوء...

و بعد ما عجز الجيش من اقتحام الحصن أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه سيعيّن القائد الذي يفتح اللّه على يده قائلا:

«لأدفعنّ الرّاية غدا إلى رجل يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، لا يرجع حتّى يفتح اللّه له»(2).

و استشرف الجيش بفارغ الصبر ينتظرون القائد الملهم الذي يفتح اللّه على يده، و لم يظنّوا أنّه الإمام؛ لأنّه كان مصابا برمد، و لمّا اندلع نور الصباح دعاه

ص:38


1- خيبر : اسم ولاية مشتملة على حصون ومزارع ونخل كثير تبعد عن المدينة ثلاثة أيام ، سمّيت باسم أوّل من نزلها وهو خيبر أخو يثرب من أبناء عاد ، وكانت غزوة خيبر في آخر السنّة السادسة من الهجرة ، جاء ذلك في خزانة الأدب ٦ : ٦٩.
2- حلية الأولياء ١ : ٦٢. صفة الصفوة ١ : ١٦٣. مسند أحمد ١ : ١٨٥ ، رقم الحديث ٧٧٨.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان معصبا على عينيه فأزاح العصابة عنه و سقا عينيه بريقه فبرئتا بالوقت،

و قال له: «خذ هذه الرّاية حتّى يفتح اللّه عليك...».

و وصف حسّان بن ثابت رمد الإمام و شفاءه من ريق النبيّ بقوله:

و كان عليّ أرمد العين يبتغي دواء فلم يحسس طبيبا مداويا

شفاه رسول اللّه منه بتفلة فبورك مرقيا و بورك راقيا

و قال: سأعطي الراية اليوم صارما كميّا محبّا للرسول مواليا

يحبّ إلهي و الإله يحبّه به يفتح اللّه الحصون الأوابيا

فأصفى بها دون البريّة كلّها عليّا و سمّاه الوزير المؤاخيا (1)

و وصف الشاعر الموهوب الأزري الحادثة بقوله:

و له يوم خيبر فتكات كبرت منظرا على من رآها

يوم قال النبيّ إنّي لأعطي رايتي ليثها و حامي حماها

فاستطالت أعناق كلّ فريق ليروا أيّ ماجد يعطاها

فدعا أين وارث العلم و الحلم مجير الأيام من بأساها؟

أين ذو النجدة الذي لو دعته في الثرايا مروعة لبّاها؟

فأتاه الوصي أرمد عين فسقاه من ريقه فشفاها

و مضى يطلب الصفوف فولّت عنه علما بأنّه أمضاها (2)

و استلم الإمام عليه السّلام الراية من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال له:

«يا رسول اللّه، اقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟»، فقال له النبيّ : «انفذ على

ص:39


1- إعلام الورى : ١٨٥ _ ١٨٦.
2- شرح الأزرية : ١٤١ _ ١٤٢.

رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام، و أخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه، فو اللّه! لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النّعم»(1).

و أسرع القائد العظيم مزهوّا لم يختلج في قلبه رعب، و هو يلوّح بلواء النصر متّجها نحو الحصن، فقلع بابه و تترّس بها (2) و وقته من ضربات اليهود و قذائفهم، و ذعر اليهود و أصابتهم أوبئة الخوف و فزعوا من هذا البطل الذي قلع باب حصنهم و تترّس بها.

مبارزة الإمام لمرحب:

و برز مرحب - و هو من أبطال اليهود و شجعانهم - صوب الإمام و عليه مغفر يماني و حجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، و هو يرتجز:

قد علمت خيبر أنّي مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب

إذا الليوث أقبلت تلتهب و استقبله حامي الإسلام و عليه جبّة حمراء فأجابه:

«أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره ضرغام آجام و ليث قسوره»(3)

ص:40


1- صفوة الصفوة ١ : ١٦٤. صحيح البخاري ٧ : ١٢١. وفي وسائل الشيعة ( ٦ : ٣٠ ) : « يا عليّ ، لا تقاتلنّ أحدا حتّى تدعوه إلى الإسلام ».
2- إنّ قلع الإمام لباب خيبر كان من المعاجز ، فقد كانت الباب لا يقلعها إلاّ أربعون رجلا ، كما نصّت عليه المصادر التالية : تاريخ بغداد ١١ : ٣٢٤. ميزان الاعتدال ٢ : ٢١٨. كنز العمّال ٦ : ٣٦٨. وفي الرياض النضرة ( ٢ : ١٨٨ ) : « إنّه اجتمع سبعون رجلا فأعادوا الباب بعد جهد ».
3- الآجام : جمع أجمة ، وهي الشجر الكثير الملتفّ أو القصب يكونان مأوى للأسود ، وهو إشارة إلى فرط قوّته ومنعة جانبه ، فإنّه لم يكتف بحماية أجمة ، وإنّما حمى آجاما. القسورة : أوّل الليل ، وتأتي بمعنى الأسد ، وهو من القسر لأنّه يأخذ فريسته قسرا وقهرا.

عبل الذّراعين شديد القسورة كليث غابات كريه المنظرة (1)

أضرب بالسّيف رقاب الكفرة أكيلهم بالسّيف كيل السّندره» (2)

و لم يختلف الرواة في أنّ هذا الشعر للإمام (3)، و قد حكى هذا الشعر قوّة بأس الإمام عليه السّلام و شجاعته، و تقدّم إليه الإمام فبادره بضربة قدّت البيضة و المغفر و رأسه، و سقط إلى الأرض صريعا يتخبّط بدمه، فأجهز عليه و تركه جثّة هامدة، و بذلك فقد كتب اللّه النصر للإسلام، و فتحت حصون خيبر، و أذلّ اليهود و لقّنهم درسا قاسيا يذكرونه بأسى و لوعة على امتداد التاريخ.

و سرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سرورا بالغا بهذا النصر المبين الذي أعزّ اللّه به المسلمين و قهر أعداءهم اليهود، و صادف في ذلك اليوم رجوع جعفر بن أبي طالب من الحبشة،

فقال صلّى اللّه عليه و آله: «ما أدري بأيّهما أنا أسرّ أ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر» (4)؟

غزوة بني قريظة:

اشارة

و بنو قريظة من شرائح اليهود الذين يشكّلون خطرا على المسلمين و يكيدونهم في وضح النهار و غلس الليل، و قد هبط جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأمر من اللّه تعالى أن ينازلهم الحرب و يستأصل شأفتهم (5)، و خفّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لحربهم، و قدّم الإمام أمير المؤمنين أمامه و هو يحمل رايته، فسار لهم، فلمّا دنا من

ص:41


1- العبل : الضخم.
2- السندرة : اختلف في معناها ، فقال ابن الاعرابي : هي المكيال ، والمعنى : أنّي أقتلكم قتلا واسعا كثيرا ، وقال غيره : هي امرأة كانت توفي الكيل ، أي أقتلكم قتلا وافيا.
3- خزانة الأدب ٦ : ٦٥.
4- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٤ : ١٢٨.
5- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٣٣٣.

حصونهم سمع منهم مقالة قبيحة في النبيّ ، فرجع حتى التقى به و قال له: «يا رسول اللّه، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث»، فقال له: «لم أظنّك سمعت منهم لي أذى ؟»، قال: «نعم»، فقال النبي:

«لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا»... و حاصرهم النبيّ خمسا و عشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، و قذف اللّه في قلوبهم الرعب.

نصيحة كعب لبني قريظة:

و أيقنت بنو قريظة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غير منصرف عنهم حتى يناجزهم الحرب فتقدّم إليهم كعب بن أسد بنصيحة لهم قائلا:

يا معشر اليهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، و إنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيّها شئتم ؟ و هتفوا جميعا ما هي ؟ عرض عليهم نصيحته قائلا:

نتابع هذا الرجل و نصدّقه، فو اللّه! لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل، و أنّه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم و أموالكم و أبنائكم و نسائكم.

و أشار عليهم بنجاتهم و سلامتهم، إلاّ أنّهم لم يستجيبوا له و ردّوا عليه قائلين:

لا نفارق حكم التوراة أبدا، و لا نستبدل به غيره..

و أشار عليهم ثانيا:

فإذا أبيتم عليّ هذه فلنقتل أبناءنا و نساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد و أصحابه مصلتين السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم اللّه بيننا و بين محمّد، فإن نهلك فهلك و لم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، و إن نظهر فلعمري لنجدن النساء و الأبناء...

ص:42

و رفضوا هذا المقترح قائلين:

و نقتل هؤلاء المساكين فما خير للعيش بعدهم..

و اقترح عليهم ثالثا: فإن أبيتم عليّ هذه فإنّ الليلة ليلة السبت، و أنّه عسى أن يكون محمّد و أصحابه قد امنونا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمّد و أصحابه غرّة..

و رفضوا ذلك و قالوا: نفسد سبتنا علينا، و نحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلاّ من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.

و لم ينصاعوا لرأيه و أصرّوا على جهلهم (1).

نزولهم على حكم الرسول:

اشارة

و ضاق بنو قريظة ذرعا و سدّت عليهم جميع النوافذ فنزلوا على حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما يراه فيهم.

تحكيم سعد:

و أوكل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمرهم إلى سعد بن معاذ، و كان من أجلاّء الصحابة، لا تأخذه في اللّه لومة لائم و كان جريحا، فحمل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقام إليه و سائر الصحابة تكريما و قالوا له:

يا أبا عمرو، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد أمر مواليك لتحكم فيهم..

فقال سعد: عليكم بذلك عهد اللّه و ميثاقه، إنّ الحكم فيهم لما حكمت...

نعم.

و حكم سعد فيهم بقتل رجالهم و تقسيم أموالهم و سبي نسائهم و ذراريهم.

و هو حكم عادل في هؤلاء اليهود الذين هم مصدر فتنة و فساد في الأرض.

ص:43


1- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٢٣٥ _ ٢٣٦.

و أقرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حكم سعد، و قال له:

«لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرفعة...»(1).

و نفّذ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام حكم الاعدام في هؤلاء الأشرار، فقد حصد رءوسهم بسيفه.

غزوة بني النضير:

و بنو النضير من فصائل اليهود الذين أترعت نفوسهم بالبغض و العداء إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قد سار إليهم في جماعة من أصحابه، في طليعتهم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و ذلك لأخذ دية منهم كانت قد اتّفق معهم عليها، و جلس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى جانب جدار من بيوتهم، فخلا بعضهم ببعض و تآمروا على أن يلقي بعضهم صخرة من السطح على رأس النبيّ ، و استجاب عمرو بن جحاش لذلك، و أخذ معه الصخرة، فنزل الوحي من السماء على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يخبره بذلك، فسارع قائما و ترك أصحابه في مجالسهم و قفل راجعا إلى المدينة، و في ذلك يقول السبكي:

و جاءك الوحي بالذي أضمرت بنو النضيرة و قد همّوا بإلقاء صخرة (2)

و سارع الإمام عليه السّلام إلى اليهودي الذي حاول اغتيال الرسول صلّى اللّه عليه و آله فقتله، و هربت العصابة التي معه، فطلب الامام من الرسول ملاحقتهم فأذن له، و زوّده بكوكبة من جيشه فلحقوهم قبل دخول حصنهم و قتلوهم، و كان ذلك السبب في فتح حصونهم، و انبرى جماعة من الشعراء كان منهم حسّان بن ثابت فنظّموا في

ص:44


1- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٢٣٩ _ ٢٤٠.
2- إنسان العين ٢ : ١٧٦.

شعرهم الحادثة، و أثنوا على الإمام عليه السّلام على ما بذله من جهد شاقّ في فتح حصون بني النضير.

غزوة وادي القرى:

و لمّا فتح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حصون خيبر أتى وادي القرى، و قد سكنه اليهود، فعرض عليهم الإسلام فأبوا... و اختاروا قتاله، فقاتلهم المسلمون، و قتل منهم أحد عشر رجلا قد قتل الإمام بعضهم، و فتح اللّه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ديارهم، و غنم المسلمون أموالهم، و ترك لهم ما في أيديهم من الأرض و النخيل، و عاملهم بها مثل معاملته لأهل الخيبر (1).

الإمام و فتح اليمن:

اشارة

و أرسل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإمام عليه السّلام مع كتيبة عسكرية إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام أو الحرب، و أخذ الإمام يجدّ في السير لا يلوي على شيء لينفّذ رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

دعاء الإمام:

و كان الإمام عليه السّلام قد دعا بهذا الدعاء الشريف حين توجّهه إلى اليمن، و هذا نصّه:

«اللّهمّ إنّي أتوجّه إليك بلا ثقة منّي بغيرك، و لا رجاء يأوي بي إلاّ إليك، و لا قوّة أتّكل عليها، و لا حيلة ألجأ إليها إلاّ طلب فضلك، و التّعرّض لرحمتك، و السّكون إلى أحسن عادتك، و أنت أعلم بما سبق لي في وجهي هذا ممّا أحبّ و أكره، فأيّما أوقعت عليّ فيه قدرتك، فمحمود فيه بلاؤك متّضح فيه قضاؤك، و أنت تمحو ما

ص:45


1- إنسان العين ٣ : ٦٨ _ ٦٩.

تشاء و تثبت و عندك أمّ الكتاب.

اللّهمّ فاصرف عنّي مقادير كلّ بلاء، و مقاصر كلّ لأواء، و أبسط عليّ كنفا من رحمتك وسعة من فضلك، و لطفا من عفوك حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت و لا تأخير ما عجّلت، و ذلك مع ما أسألك أن تخلفني في أهلي و ولدي، و صروف حزانتي بأحسن ما خلفت به غائبا من المؤمنين في تحصين كلّ عورة و ستر كلّ سيّئة، و حطّ كلّ معصية، و كفاية كلّ مكروه، و ارزقني على ذلك شكرك و ذكرك، و حسن عبادتك، و الرّضا بقضائك، يا وليّ المؤمنين، و اجعلني و ما خوّلتني و ولدي، و رزقتني من المؤمنين و المؤمنات في حماك الّذي لا يستباح، و ذمّتك التي لا تخفر، و جوارك الّذي لا يرام، و أمانك الّذي لا ينقض، و سترك الّذي لا يهتك، فإنّه من كان في حماك و ذمّتك و جوارك و أمانك و سترك كان آمنا محفوظا، و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ » (1).

و حكى هذا الدعاء مدى اعتصام الإمام عليه السّلام باللّه تعالى و التجائه إليه و انقطاعه الكامل لإرادته و مشيئته.

إسلام همدان:

و انتهى الإمام مع الوفد العسكري إلى اليمن و التقى بزعماء اليمانيّين و وجوههم، و عرض عليهم دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و شرح لهم محاسن الإسلام و ما تنشده مبادئه من القيم الكريمة و المثل العليا، و قد بهر اليمانيّون بكمال الإمام و فضله و أدبه فاستجابوا لدعوته، و أعلنت همدان بأسرها الإسلام و التمسّك بقيمه، و بذلك فقد كان الإمام رسول السلام الذي نجح في فتح اليمن بلا حرب (2).

ص:46


1- مهج الدعوات : ٩٤.
2- أمالي المرتضى ١ : ٢٩٢.

فتح مكّة:

اشارة

و كتب اللّه تعالى النصر المبين لعبده و رسوله محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فقد أذلّ القوى المعادية من القرشيّين و اليهود، و امتدّت دولته على كثير من مناطق الجزيرة العربية، فقد سادت فيها كلمة الإسلام و رفعت عليها راية التوحيد.

و قد رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه لا يتحقّق له النصر الحاسم و الفتح المبين إلاّ بفتح مكّة التي هي قلعة الشرك و الإلحاد و التي حاربته حينما كان فيها و حينما نزح عليها.

و سار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بجيش مكثّف قوامه عشرة آلاف جندي مسلّح أو يزيد على ذلك، و هو مزوّد بجميع آلات الحرب، و قد أحاط اتّجاهه إلى مكّة بكثير من الكتمان، فلم تعلم القطعات من جيشه اتّجاهها، فقد خاف النبيّ أن تستعد قريش لمحاربته إن علمت بمسيرة جيوشه لاحتلال بلدهم فتراق الدماء في البلد الحرام، فأخفى ذلك عليهم حتى يفاجئهم بجيشه فلا يتمكّنوا على مناهضته.

رسالة حاطب لقريش:

و كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم فيه بتوجّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لاحتلال بلدهم، و أعطى الكتاب إلى امرأة و أوصاها بالكتمان الشديد، و جعل لها جعلا إن هي أوصلت الرسالة إلى القرشيّين، فجعلت الكتاب في شعر رأسها و أخفته حتى لا يعلم به أحد، و نزل الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أحاطه علما بالكتاب، فاستدعى أخاه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و الزبير بن العوّام و أمرهما بالقبض على المرأة و أخذ الكتاب منها، و سارع الإمام مع الزبير في السير حتى أدركا المرأة، فسألاها عن الكتاب، فأنكرت ذلك،

فصاح بها الإمام و زجرها قائلا:

«إنّي أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا كذّبنا، لتخرجنّ الكتاب أو لنكشفنّك»، فاستولى عليها الرعب و خافت فأخرجت الكتاب من شعر رأسها

ص:47

و أعطته للإمام، و خفّ الإمام مع الزبير مسرعين إلى النبيّ فسلّماه الكتاب، فدعا بحاطب، فلمّا مثل عنده قال له:

«ما حملك على هذا؟».

و أبدى حاطب معاذيره للرسول صلّى اللّه عليه و آله قائلا: يا رسول اللّه، إنّي مؤمن باللّه و رسوله، ما غيّرت و لا بدّلت، و لكن ليس لي في قريش أصل و لا عشيرة، فصانعتهم عليه».

و قبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معاذيره، و نزلت الآية الكريمة في حقّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ الآية (1)» (2).

في رحاب مكّة:

و سارعت الجيوش الإسلامية لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى مشارف مكّة و أهلها غافلون لا يعلمون شيئا، فقد أحاط النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسيرته بكثير من التعتيم حفظا على السلام و عدم إراقة الدماء، و أمر النبيّ جيشه بجمع الحطب، فجمعت كميات هائلة، فلمّا اختلط الظلام أمر بإشعال النار فيه، فكان لهبها يرى في مكّة، و فزع أبو سفيان و أوجس في نفسه خيفة منها، فقال لبديل بن ورقاء - و كان إلى جانبه -:

ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ؟ و بادر بديل قائلا:

و هذه و اللّه! خزاعة حمشتها الحرب..

و سخر أبو سفيان منه و راح يقول له:

ص:48


1- التحريم : ١.
2- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٣٩٨.

خزاعة أذلّ و أقلّ من أن تكون هذه نيرانها و عسكرها.. و استولى عليه الفزع و الخوف، و اطمأنت نفسه أنّها جيوش المسلمين جاءت لاحتلال مكّة.

العباس و أبو سفيان:

و لمّا علم العباس بقدوم الجيوش الإسلامية لاحتلال مكّة، أوجس في نفسه خيفة على قومه القرشيّين، و أخذ يحدّث نفسه قائلا: و اصباح قريش، و اللّه! لئن دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه أنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.. و جهد على أن يجد شخصا فيأتي إلى مكّة فيخبر أهلها بمكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيخفّوا إليه ليطلبوا منه الأمن، و بينما هو غارق في تيار من الهواجس و الخوف على قومه إذ بصر بأبي سفيان فهتف به:

يا أبا حنظلة...

و عرفه أبو سفيان فسارع قائلا:

أبو الفضل..

نعم..

فداك أبي و أمّي.

ويحك يا أبا سفيان هذا رسول اللّه في الناس و اصباح قريش...

و ذعر أبو سفيان و جمد دمه، و خاف على نفسه و قومه فبادر قائلا:

ما الحيلة فداك أبي و أمّي ؟ و سارع العباس يدلّه على الطريق الذي يحافظ به على دمه قائلا له: و اللّه! لئن ظفر بك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليضربنّ عنقك، فاركب على عجز هذه البغلة حتى آتي بك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأستأمنه لك.

فأردفه خلفه، فكان كلّما مرّ على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا

ص:49

رأوا بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قالوا: عمّ رسول اللّه، و بصر به عمر بن الخطّاب فعرفه، فصاح:

هذا أبو سفيان عدوّ اللّه...

ثمّ صاح ثانيا:

الحمد للّه الذي أمكن منك بغير عقد و لا عهد...، و وجم أبو سفيان و اضطربت خلجات قلبه و هام في تيارات من الهواجس، و خاف على نفسه و قومه الذين لم يبقوا في قاموس الإساءة و المكروه شيئا إلاّ صبّوه على النبيّ و أصحابه.

و جرت مناوشات كلامية بين العباس و عمر في شأن أبي سفيان، و بادر العباس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأحاطه علما بأسر أبي سفيان، فأمره النبيّ أن يذهب به إلى رحله و يأتي به عند الصباح، و بات أبو سفيان ليلته مع العباس و هو وجل مضطرب قد أنفق ليله ساهرا.

أبو سفيان بين يدي النبيّ :

و لمّا اندلع نور الصبح أقبل العباس و معه أبو سفيان، فلمّا مثلا أمام

النبيّ التفت إلى أبي سفيان فقال له:

«ويحك يا أبا سفيان، أ لم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه...؟».

و لم يعرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى ما عاناه من صنوف التنكيل و الاضطهاد من أبي سفيان و قومه، فقد أسدل الستار على ذلك لنشر الوئام و إفهامه بروح الإسلام التي لا تعرف الانتقام من الأعداء... و راح أبو سفيان يتضرّع إلى النبيّ و يطلب منه العفو قائلا:

بأبي أنت و أمّي، ما أحلمك و أكرمك و أوصلك، و اللّه! لقد ظننت أنّه لو كان مع اللّه إله غيره لأغنى عنّي..

ص:50

و التفت إليه النبيّ بلطف و رفق قائلا:

«ويحك يا أبا سفيان، أ لم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه ؟».

و لم يستطع أن يقرّ أبو سفيان بذلك، فقد أترعت نفسه بالكفر و الالحاد و النفاق، فلم يستطع أن يخفي ما انطوى عليه ضميره و راح يقول:

بأبي أنت و أمّي، ما أحلمك و أكرمك و أوصلك، أمّا هذه فإنّ في النفس منها شيئا حتى الآن...

و انبرى العباس لأبي سفيان ينذره و يتهدّده إن لم يستجب لدعوة الرسول قائلا: ويحك أسلم و اشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه قبل أن تضرب عنقك..

و لم يجد الخبيث بدّا فأعلن الإسلام بلسانه على كره خوفا من حدّ السيف، و انطوى قلبه على الكفر و النفاق.

ألطاف النبيّ على أبي سفيان:

و وسعت رحمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أبا سفيان الذي هو ألدّ أعدائه و خصومه، و الذي أثار عليه الأحزاب و قاد الجيوش لحربه، فقبل إسلامه المزيّف، و لم يقابله بالمثل، و قد أعطى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك مثلا لرحمة الإسلام و إيثاره للسلم.

و التفت العباس إلى النبيّ فطلب منه أن يسدي يدا على أبي سفيان قائلا:

يا رسول اللّه، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر فاجعل له شيئا؟

و استجاب الرسول لدعوة العبّاس، و قال:

«نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن، و من دخل المسجد فهو آمن...».

ص:51

و ربح أبو سفيان هذه الكرامة كما ربح لقومه العفو العامّ الذي لم يحدث له مثيل في جميع فترات التاريخ، فقد غمرهم الرسول بألطافه و هم الذين جرّعوه ألوانا قاسية من المحن و الخطوب.

أبو سفيان في مضيق الوادي:

و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله العباس بحبس أبي سفيان في مضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمرّ عليه جنود اللّه فيراها حتى يحذّر قريشا من مناهضة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و حبسه العباس في المضيق، و اجتازت عليه الكتائب و هي تحمل رايات النصر، و كلّما مرّت عليه كتيبة سأل عنها فيعرّفه العباس بها، و اجتازت عليه كتيبة مدجّجة بالسلاح فقال للعباس:

يا عباس، من هذه ؟ سليم..

ما لي و لسليم.

و اجتازت عليه كتيبة أخرى فقال للعباس:

يا عباس، ما هذه ؟ مزينة..

ما لي و لمزينة..

و لمّا انتهت الكتائب مرّ عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كتيبة خضراء، و هي في منتهى القوّة، فقد شهرت السيوف على رأس الرسول، و أحاطت به صناديد أصحابه، فبهر أبو سفيان و قال للعباس:

من هذه الكتيبة ؟ هذا رسول اللّه في المهاجرين و الأنصار...

ص:52

و لم يملك أبو سفيان إعجابه و راح يقول للعباس:

ما لأحد بهؤلاء قبل و لا طاقة... لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما...

فردّ عليه العبّاس قائلا:

يا أبا سفيان، إنّها النبوّة...

فهزّ أبو سفيان رأسه العفن و قال بسخرية:

نعم إذن (1).

و ما كان هذا الجاهلي ليفقه الإسلام، و إنّما كان يفقه الملك و السلطان، ثمّ أمر النبيّ بإطلاق سراح أبي سفيان، فأطلق، و ولّى إلى مكّة.

نداء أبي سفيان:

و انطلق أبو سفيان مسرعا يسبق الجيش إلى مكّة و هو رافع عقيرته ينادي بأعلى صوته:

يا معشر قريش، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن..

فهبّت قريش قائلة:

و ما تغني عنّا دارك ؟ و هتف فيهم ثانيا:

من أغلق عليه بابه فهو آمن، و من دخل المسجد فهو آمن..

فسكن روع القرشيّين و سارعوا إلى دورهم و إلى المسجد.

معارضة هند:

و انبرت هند زوج أبي سفيان و هي مذعورة قد ملأت نفسها بالألم و الحزن،

ص:53


1- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٤٠٣ _ ٤٠٤.

فجعلت تثير عواطف القرشيّين و تستهين بزوجها قائلة: اقتلوا الحميت(1)الدنس قبّح من طليعة قوم.

و راح أبو سفيان يحذّر قريشا من مغبّة عصيانه و يحذّرهم من بطش المسلمين.

دخول النبي مكّة:

و سارعت جيوش المسلمين لدخول مكّة و هي فرحة مستبشرة بهذا النصر، فإنّها لم تلق أيّة مقاومة من قريش، و قد حمل الراية سعد بن عبادة، و هو يلوّح بها في الفضاء و يهتف: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة..

فسمعها عمر بن الخطّاب - كما يقول ابن هشام - فسارع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قائلا:

يا رسول اللّه، اسمع ما قال سعد؟ فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأخذ اللواء من سعد و إعطائه إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فأخذه و أدخله إدخالا رقيقا، و رفع صوته قائلا:

«اليوم يوم المرحمة، اليوم تصان الحرمة...».

و عمّت الفرحة الكبرى جميع أوساط القرشيّين، و أيقنوا أنّ النبيّ لا يؤاخذهم بما اقترفوه تجاهه من التنكيل و الاعتداء.

النبي في الكعبة:

و سارع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد دخوله مكّة إلى بيت اللّه الحرام، فأغلق بوجهه عثمان ابن طلحة باب الكعبة و صعد على سطحها، و أبى أن يدفع إليه المفتاح، و بادر إليه الإمام عليه السّلام فلوى يده و أخذ المفتاح منه و فتحها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فصلّى فيها ركعتين (2) ثمّ

ص:54


1- الحميت : الشديد الدناسة.
2- صبح الأعشى ٤ : ٢٦٩.

سلّم المفتاح له،

و قال له: «يا عثمان، اليوم يوم برّ و وفاء»(1).

تطهير البيت من الأصنام:

و لمّا دخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله البيت الحرام كان أوّل عمل قام به تحطيمه و إزالته للأصنام و الأوثان التي اتّخذها القرشيّون آلهة يعبدونها من دون اللّه تعالى، و التي تنمّ عن جهلهم و انحطاطهم الفكري، و قد كانت الأصنام المعلّقة على الكعبة ثلاثمائة و ستين صنما، و لكلّ حيّ من العرب صنم خاصّ بهم.

و كان على جهة باب البيت المعظّم الصنم الأعلى لقريش و هو هبل، فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يطعن بقوسه في عينه، و هو يقول: «جاء الحقّ و زهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقا» ثمّ أمر بتحطيمه و تطهير البيت منه، و قد شقّ ذلك على أبي سفيان و غيره من عتاة القرشيّين، ثمّ اعتلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على منكب الإمام عليه السّلام لتكسير الأصنام، فعجز الإمام عن النهوض به،

فقال له الرسول:

«إنّك لا تستطيع حمل ثقل النّبوّة، فاصعد أنت»، فاعتلى الإمام على كاهل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و قال الإمام: «لو شئت لنلت افق السّماء»، و أقبل على الأصنام فجعل يقلعها و يرمي بها إلى الأرض، و لم يبق إلاّ صنم خزاعة و كان موتدا بأوتاد من حديد، فقال له الرسول: «عالجه»، فعالجه الإمام و هو يقول:

«جاء الحقّ و زهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقا»، فعالجه حتى تمكّن منه فقذفه حتى تكسّر (2)، و بذلك فقد تطهّر البيت الحرام من أصنام قريش على يد بطل الإسلام و قائد مسيرته الظافرة... لقد حطّم الإمام الأصنام كما حطّمها جدّه إبراهيم خليل اللّه، و قد نظم الشاعر الملهم محمّد بن أحمد الكتاب المعروف ب «المفجع»

ص:55


1- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٤١٢.
2- إنسان العين ٣ : ٩٩ _ ١٠٠.

هذه المأثرة للإمام عليه السّلام بقوله:

و له من أبيه ذي الأيد اسما عيل شبه ما كان عنّي خفيّا

إنّه عاون الخليل على الكعب ة إذ شاد ركنها المبنيّا

و لقد عاون الوصيّ حبيب الل ه إذ يغسلان منها الصفيّا

رام حمل النبيّ كي يقطع الأصنا م من سطحها المثول الحبيّا (1)

فحناه ثقل النبوّة حتّى كاد يناد تحته منئيّا (2)

فارتقى منكب النبيّ علي صنوه ما أجلّ ذا المرتقيّا

فأماط الأوثان عن ظاهر الكعب ة ينفي الأرجاس عنها نفيّا

و لو أنّ الوصيّ حاول مسّ النجم بالكفّ لم تجده قصيّا (3)

إنّ تحطيم الأصنام و تطهير الكعبة منها أقسى ضربة موجعة للقرشيّين الذين تفانوا في عبادة الأوثان، كما كان أعظم انتصار رائع للإسلام الذي جاء لتحرير العقول و نشر الوعي بين الناس، فقد باءت بالفشل و الخزي جميع المقاومات و الاعتداءات على الإسلام، و ها هو يرفع رايته و ينشر مبادئه العملاقة في ديارهم.

خطاب النبيّ :

و أحاطت جماهير أهالي مكّة بالرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و هي تنتظر بفارغ الصبر ما يواجهونه منه، فهل ينزل بهم العقاب الصارم و يقابلهم بالانتقام من جرّاء ما صبّوه عليه و على أتباعه المستضعفين من صنوف الخطوب و الكوارث، أو إنّه سيعفو عنهم و يقابلهم بالصفح الجميل ؟ و اعتلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله منصّة الخطابة و استمال الجمع إلى

ص:56


1- المثول : جمع ماثل ، أي المنتصب. الحبي : جمع حاب ، أي المرتفع.
2- منئيا : أي مثقلا.
3- معجم الأدباء ١٧ : ٢٠٢.

أذن صاغية، فعرض صلّى اللّه عليه و آله في خطابه إلى توحيد اللّه و الثناء عليه و إلى نصره لدينه و هزيمته للمشركين ثمّ قال:

«يا معشر قريش، إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة و تعظيمها بالآباء.

النّاس من آدم، و آدم من تراب»، ثمّ تلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ (1).

«يا معشر قريش، ما ترون أنّي فاعل بكم ؟».

فهتفوا جميعا بلسان واحد:

خيرا، أخ كريم، و ابن أخ كريم...

فأصدر رسول الرحمة العفو عنهم قائلا: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء...»(2).

و تمثّلت الرحمة و الشرف و الكرامة بجميع ما تحمل هذه الألفاظ من معنى في هذا العفو، فلم يقابل أولئك الجفاة الجناة بالمثل و أعرض عمّا لاقاه منهم من صنوف الإساءة و الأذى، و لم يؤاخذهم بجرائمهم و آثامهم التي تقتضي أن يعدم رجالهم و يستصفي أموالهم، و لا يترك لهم أي أثر أو وجود على الأرض.

غزوة حنين:

اشارة

و فزعت هوازن كأشدّ ما يكون الفزع حينما وافتهم الأنباء بفتح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مكّة، و خضوع القبائل القرشية لحكم الإسلام، فانبرى مالك بن عوف و هو زعيم هوازن فجمع قبيلته، و استنجد ببعض القبائل العربية الاخرى و في طليعتها ثقيف،

ص:57


1- الحجرات : ١٣.
2- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٤١٢.

فعرض عليهم الأخطار الهائلة التي ستواجههم من اتّساع الإسلام، و أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سيزحف بجيوشه لاحتلالهم، فآمن الجميع بدعوته و استجابوا لقوله، و زحفت هوازن و من تابعهم من القبائل لحرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أوصاهم مالك بن عوف و هو القائد العامّ لجيوشهم فقال لهم: إذا رأيتموهم - أي المسلمين - فاكسروا جفون سيوفكم، ثمّ شدّوا شدّة رجل واحد (1).

و لمّا انتهت أنباؤهم إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أوفد للقياهم عبد اللّه الأسلمي، و أمره بالتعرّف على أنبائهم، فمضى، و علم أنّهم مصمّمون على حرب النبيّ ، فقفل راجعا إلى مكّة، و أخبر النبيّ بذلك، فزحف بجيشه البالغ عدده اثني عشر ألفا، و كان فيهم من لم يخاط الإسلام قلبه كأبي سفيان بن حرب و أمثاله من المنافقين و الطامعين في الغنائم و الأسلاب.

و تحرّك جيش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من مكّة و قد وزّع الرايات على قادة جيشه، و أعطى لواء المهاجرين إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و سارعت جيوش المسلمين تطوي البيداء لا تلوي على شيء، فانتهت إلى وادي حنين (2).

فرار المسلمين:

و كانت هوازن قد أعدّت خطّة رهيبة و محكمة للايقاع بالمسلمين، فقد احتلّت وادي حنين و كمنت في شعابه و مضايقه، فلمّا اجتازت عليهم جيوش المسلمين، و لم يكونوا على علم بما دبّر لهم، و ثبت عليهم هوازن من كلّ زاوية في الوادي، فجفل المسلمون و انهزموا هزيمة منكرة لا يلوي أحد منهم على أحد،

ص:58


1- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ٤٣٩.
2- وادي حنين : موضع قريب من مكّة ، وقيل : هو واد قبل الطائف بجنب ذي المجاز ، وقال الواقدي : بينه وبين مكّة ثلاث ليالي ، جاء ذلك في معجم البلدان ٢ : ٣١٣.

و انحاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات اليمين، و جعل يدعو المسلمين إلى الثبات و الصبر على الجهاد و عدم الفرار قائلا:

«أيّها النّاس، إليّ أنا رسول اللّه محمّد بن عبد اللّه» (1).

بسالة الإمام:

و أبدى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام من البسالة ما لا يوصف، فقد أخذ يجول في الميدان يجندل الأبطال، و ينزل بهم أفدح الخسائر، و قد أجمع الرواة أنّه كان من أصلب المدافعين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (2)، و ناول الإمام عليه السّلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبضة من التراب، فرمى بها وجوه المشركين من هوازن و غيرهم (3)، و التحم الإمام مع المشركين التحاما شديدا، و قد التحق به مائة رجل من فرسان المسلمين فقاتلوا قتالا أهونه الشديد،

و لمّا رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك قال:

«أنا النّبي لا كذب أنا ابن عبد المطّلب»

الآن حمى الوطيس (4)، و اشتدّ الحرب، فسقطت الرءوس و الأيدي.

شماتة أبي سفيان و صفوان:

و سرّ المنافقون بهزيمة المسلمين و طاروا فرحا، و أبدى أبو سفيان رأس المنافقين شماتته بذلك فقال: لا تنتهي هزيمتهم - أي هزيمة المسلمين - دون البحر.

كما أبدى المنافق صفوان بن أميّة شماتته بانهيار جيش المسلمين قائلا:

ص:59


1- الكامل في التاريخ ٢ : ١٧٨.
2- مجمع الزوائد ٦ : ١٨٠.
3- تاريخ بغداد ٤ : ٣٣٤. مجمع الزوائد ٦ : ١٨٢.
4- الوطيس : هو التنّور ، وقيل : هي الحجارة التي يوقد عليها النار ، وهو كناية عن اشتداد الحرب.

الآن بطل السحر..(1).

هزيمة المشركين:

و لمّا بلغت قلوب المسلمين الحناجر و زلزلوا زلزالا شديدا و ساد عليهم الجزع و الخوف نصر اللّه تعالى رسوله الكريم فقتل من المشركين سبعون رجلا من أبطالهم و انهزم الباقون شرّ هزيمة، و لاحقتهم جيوش المسلمين فأشاعت فيهم القتل و أسرت جماعة منهم (2)، و كان النصر المؤزّر على يد بطل الإسلام و حامي حوزته الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و بذلك فقد انتهت هذه المعركة التي كانت من أعنف المعارك و من أشدّها هولا و قسوة، و بها قد انتصر الإسلام انتصارا حاسما و هابته جميع قبائل الشرك.

الغنائم:

و بعد ما وضعت الحرب أوزارها ارتحل الرسول صلّى اللّه عليه و آله من أرض المعركة إلى الجعرانة، فأتته و فود هوازن طالبين منه أن يردّ عليهم ما أخذ منهم، فخيّرهم بين أبنائهم و نسائهم و بين أموالهم، فاختاروا أبناءهم و نساءهم، و انبرى زهير أبو حرد من بني سعد فقال: يا رسول اللّه، إنّما في الحظائر عمّاتك و خالاتك، و حواضنك اللاّتي كنّ يكفلنك، و لو أنّا أرضعنا الحارث بن أبي شمر الغسّاني أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه، و أنت خير المكفولين، ثمّ قال:

امنن علينا رسول اللّه في كرم فإنّك المرء نرجوه و ندّخر

امنن على نسوة قد عاقها قدر ممزّق شملها في دهرها غير (3)

ص:60


1- الكامل في التاريخ ٢ : ١٧٨.
2- السيرة النبوية _ ابن هشام ٤ : ٦٦.
3- الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٢.

يا خير طفل و مولود و منتخب في العالمين إذا ما حصل البشر

إن لم تداركها نعماء و تنشرها يا أرجح الناس حلما حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر

إذ كنت طفلا صغيرا كنت ترضعها و إذ يزينك ما تأتي و ما تذر (1)

و وهبهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما كان له و لبني عبد المطّلب، و استجاب المهاجرون و الأنصار و بنو سليم لرغبة النبيّ فوهبوا حصّتهم، و لم يستجب غيرهم لذلك، ثمّ

قسّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإبل و الغنم، و ازدحموا عليه حتى اختطفت رداؤه، ثمّ قال: «ردّوا عليّ ردائي أيّها النّاس، فو اللّه! لو كان لي عدد شجر تهامة نعم لقسّمتها عليكم، ثمّ لا تجدوني بخيلا و لا جبانا».

و لم يعط النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الأنصار شيئا، فوجدوا في أنفسهم و ضاقوا ذرعا،

و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سعد بن عبادة بجمع الأنصار، فلمّا مثلوا عنده قال لهم: «ما حديث بلغني عنكم ؟! أ لم آتكم ضلاّلا فهداكم اللّه بي ؟ و فقراء فأغناكم اللّه بي ؟ و أعداء فألّف بين قلوبكم...»؟ فانبروا جميعا قائلين:

بلى و اللّه! يا رسول اللّه، للّه و رسوله المنّ و الفضل...

و خاطبهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بلطف و حنان قائلا:

«أ لا تجيبوني ؟..».

بما ذا نجيبك ؟ و نظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لهم بولاء و إخلاص قائلا:

«و اللّه! لو شئتم لقلتم، فصدقتم: أتيتنا مكذّبا فصدّقناك، و مخذولا فنصرناك،

ص:61


1- الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٢.

و طريدا فآويناك، و عائلا فواسيناك، أو جدتم، يا معشر الأنصار أنفسكم في لعاعة (1)من الدّنيا فألفت بها قوما ليسلموا و وكلتكم إلى إسلامكم ؟ أ فلا ترضون أن يذهب النّاس بالشّاة و البعير و ترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم ؟ و الّذي نفسي بيده! لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، و لو سلك النّاس شعبا لسلكت شعب الأنصار...

اللّهمّ ارحم الأنصار، و أبناء الأنصار، و أبناء أبناء الأنصار».

و غرق الأنصار بالبكاء و اخضلّت لحاهم من دموعهم و راحوا يهتفون:

رضينا برسول اللّه قسما و حظّا.. (2).

إنّ الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أعظم قائد عرفته الإنسانية في جميع أدوارها، فقد غيّر مجرى تاريخ العالم و ألّف بين قلوب أتباعه، و عقد أواصر المحبّة و الألفة بينهم، و كانت أخلاقه البلسم الذي داوى به النفوس المريضة و القلوب المنحرفة.

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن غزوة حنين التي هي من أعظم غزوات الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و كان البطل البارز فيها هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

الإمام و سورة البراءة:

و عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي بكر أن يمثّله في أهالي مكّة ليقرأ عليهم بنودا من سورة البراءة و ما قنّنه الإسلام من أحكام لمن طاف في بيت اللّه الحرام، و هذه بعضها:

أوّلا: لا يطوف في البيت عريان، و كانت العادة المتّبعة أن يطوف الرجل عريان.

ثانيا: لا يدخل الجنّة إلاّ من آمن باللّه و رسوله.

ص:62


1- اللعاعة : نبت ناعم قليل البقاء.
2- الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٤ _ ١٨٥.

ثالثا: من كان بينه و بين رسول اللّه مدّة فأجله إلى مدّته.

رابعا: إنّ اللّه و رسوله بريئان من المشركين (1).

و سار أبو بكر حاملا رسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فهبط الوحي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يأمره بإسناد هذه المهمّة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و إقصاء أبي بكر، و بادر الإمام مسرعا فأدرك أبا بكر في الطريق فأخذ الرسالة منه (2)، و قرأها على أهالي مكّة، و قفل أبو بكر راجعا و ملء إهابه ألم ممضّ ، فلمّا رأى النبيّ بكى و قال: يا رسول اللّه، حدث فيّ شيء؟..

فهدّأ النبي روعه و قال له:

«ما حدث فيك إلاّ خير، و لكن امرت أن لا يبلّغها إلاّ أنا أو رجل منّي...»(3).

و هذه البادرة من الأدلّة التي تمسّكت بها الشيعة على إمامة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد قالوا: إنّه لو كانت لأبي بكر مرشّحات للخلافة لما عزلته السماء عن أداء هذه الرسالة التي هي من أبسط المسئوليات و أقلّها أهمّية.

غزوة تبوك:

و واكب الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في جميع حروبه و غزواته إلاّ في غزوة تبوك، فقد أبقاه ممثّلا عنه في يثرب، و أرجف المنافقون و أشاعوا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّما أبقاه في المدينة لكراهته له، و بلغ ذلك الإمام عليه السّلام فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

ص:63


1- التنبيه والأشرف : ١٨٦.
2- مسند أحمد بن حنبل ١ : ٣. خصائص النسائي : ٢٠. كنز العمّال ٤ : ٢٤٦. تفسير الطبري ١٠ : ٤٦. مستدرك الحاكم ٣ : ٥١. صحيح الترمذي ٢ : ١٨٣. تذكرة الخواص : ٣٧.
3- أمالي المرتضى ١ : ٢٩٢.

بمقالتهم، فردّ عليهم مزاعمهم و قلّد الإمام عليه السّلام أسمى الأوسمة قائلا:

«كذبوا، و إنّما خلّفتك لما ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك، أ ما ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي...»(1).

و رجع الإمام قرير العين مثلوج القلب، فقد قلّده الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سام الخلافة و الوصاية من بعده، و جعله منه بمنزلة هارون من موسى، و باء حسّاده بالفشل و الخيبة...

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن جهاد الإمام عليه السّلام و دفاعه عن قيم الإسلام و بمبادئه، فقد اشترك مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في جميع حروبه و غزواته، و ناضل كأشدّ ما يكون النضال لرفع راية الإسلام و إعلاء كلمة التوحيد، فما أعظم عائدته على الإسلام و المسلمين!

الإمام يصف جهاده:

و قبل أن نطوي الحديث عن جهاد الإمام و مناجزته للمشركين نذكر ما أدلى به في وصف جهاده

قال عليه السّلام:

و لقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أعمامنا؛ ما يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا و تسليما، و مضيّا على اللّقم (2)، و صبرا على مضض الألم، و جدّا في جهاد العدوّ؛ و لقد كان الرّجل منّا و الآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما؛ أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا،

ص:64


1- الكامل في التاريخ ٢ : ١٩٠.
2- اللقم : الجادة الواضحة.

و مرّة لعدوّنا منّا، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت، و أنزل علينا النّصر، حتّى استقرّ الإسلام ملقيا جرانه، و متبوّئا أوطانه. و لعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدّين عمود، و لا اخضرّ للإيمان عود(1).

لقد جاهد الإمام كأعظم ما يكون الجهاد في سبيل الإسلام فحارب الأقارب و ناهض الأرحام.

1

ص:65


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٤ : ٣٣.

ص:66

طلائع الرّحيل

اشارة

ص:67

ص:68

و أدّى نبي الرحمة صلّى اللّه عليه و آله رسالة ربّه إلى عباده كاملة مشرقة، فأنقذهم بعد اللّتيّا و التي من مآثم هذه الحياة فحرّر العقول، و أيقظ النفوس، و فتح لها آفاقا كريمة من الوعي و التطوّر، و أمدّها بجميع وسائل النهوض و النمو في جميع مناحي حياتها الاجتماعية و الاقتصادية، فما أعظم عائدته على الإنسانية جمعاء..

و قد عانى صلّى اللّه عليه و آله في أداء رسالة ربّه جميع صنوف المحن و ألوان الخطوب من فراعنة قريش، اتّهموه بأنّه ساحر و مجنون و كذّاب، و أغروا صبيانهم بإلقاء الحجارة عليه، و عذّبوا من آمن به بأقسى ألوان العذاب، و قد استشهد من تعذيبهم ياسر و سميّة، و اضطرّت طلائع المؤمنين به إلى الهجرة من ديارهم إلى الحبشة..

و بعد موت حاميه و ناصره أبي طالب أحاطوا بداره شاهرين سيوفهم ليمزّقوا جسده الطاهر، ففرّ منهم بعد أن ترك أخاه و ابن عمّه الإمام أمير المؤمنين في فراشه، و قد نجا منهم بلطف اللّه تعالى و تسديده، فهاجر إلى يثرب و اتّخذها عاصمة له، فقامت قيامة القرشيّين و ورمت آنافهم و امتلأت قلوبهم غيظا، فجهّزوا الجيوش لإطفاء نور الإسلام، فكانت واقعة بدر و أحد و غيرهما، و لكنّ اللّه تعالى ردّ كيدهم، و نصر نبيّه نصرا عزيزا، و فتح له فتحا مبينا، فخضعوا صاغرين له و دخلوا في دين الإسلام مكرهين مرغمين لا عن إيمان و بصيرة بما يحمله هذا الدين من القيم الكريمة، و المبادئ الرفيعة، فقد اترعت نفوسهم بآثام الجاهلية و فسوقها.

ص:69

و على أي حال فإنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله بعد أن أدّى رسالته الخالدة بدت عليه امارات الرحيل من هذه الدنيا إلى الفردوس الأعلى، و كانت تتكرّر عليه مؤذنة له بالسفر إلى اللّه تعالى، و كان منها ما يلي:

أوّلا: إنّ القرآن الكريم نزل عليه مرّتين بعد أن كان ينزل عليه مرّة واحدة، فاستشعر من ذلك حضور الأجل المحتوم منه (1)، و أخذ ينعي نفسه، و يشيع ذلك بين المسلمين،

و قد أحاط بضعته الطاهرة سيّدة نساء العالمين بانتقاله إلى حضيرة الخلد قائلا:

«إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة، و إنّه عارضني به في هذا العام مرّتين، و ما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي...»(2).

و ذابت نفسها شعاعا، و ودّت مفارقة الحياة و لم تسمع هذه الكلمات من أبيها.

ثانيا: نزل الوحي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله بهذه الآية: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ .

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (3)، و كانت هذه الآية إنذارا له بمفارقة الحياة، و أثارت في نفسه كوامن الألم،

و سمعه المسلمون يقول:

«ليتني أعلم متى يكون ذلك ؟».

ثالثا: نزلت عليه سورة النصر، فشعر منها بدنو أجله، و كان يسكت بين التكبير و القراءة

و يقول:

«سبحان اللّه و بحمده، أستغفر اللّه و أتوب إليه»، و ذهل المسلمون من ذلك،

ص:70


1- الخصائص الكبرى ٢ : ٣٦٨.
2- البداية والنهاية ٥ : ٥٢٣.
3- الزمر : ٣٠ و ٣١.

و راحوا يسألونه عن هذه الحالة الغريبة فأجابهم:

«إنّ نفسي قد نعيت إليّ ...»(1).

و هام المسلمون في تيارات من الهواجس، فقد كان نعي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لنفسه كالصاعقة عليهم، فلا يدرون ما سيجري عليهم إن خلت الدنيا من محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

حجّة الوداع:

و لما أيقن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقرب انتقاله إلى دار القدس رأى لزاما عليه أن يحجّ البيت الحرام، و يضع الخطوط السليمة لنجاة امّته من الفتن، و تطوير حياتها و سيادتها على بقيّة الامم، و إنّ أضمن مكان لذلك هو البيت الحرام، فحجّ لهذا الغرض حجّته الأخيرة الشهيرة بحجّة الوداع، و ذلك في السنة العاشرة من الهجرة. و أعلن بين الوافدين للحجّ أنّ التقاءه بهم في عامهم هذا هو آخر عهدهم به قائلا:

«إنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا...».

و فزع الحجّاج و ذهلوا، فقد طاقت بهم موجات من الهموم، و راحوا يقولون:

النبيّ ينعي نفسه،

و مضى النبيّ يضع المناهج السليمة التي تضمن سعادتهم في الدارين قائلا:

«أيّها النّاس! إنّي تركت فيكم الثّقلين، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي...».

التمسّك بكتاب اللّه و العمل بما فيه، و الولاء للعترة الطاهرة و الأخذ بما أثر عنهم هما الضمان لنجاة هذه الامّة و سلامتها من الزيغ و الانحراف.

ص:71


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ٢ : ٣٠٨.

و لمّا أنهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مراسيم الحجّ وقف عند بئر زمزم، و أمر ربيعة بن خلف فوقف تحت راحلته، و أمره أن يبلّغ الحجّاج ما يقوله،

فقال: «يا ربيعة قل:

أيّها النّاس، إنّ رسول اللّه يقول لكم: لعلّكم لا تلقوني على مثل حالي هذه، أ تدرون أيّ بلد هذا؟ أ تدرون أيّ شهر هذا؟ أ تدرون أيّ يوم هذا؟».

فهتفوا جميعا:

نعم، هذا البلد الحرام، و الشهر الحرام، و اليوم الحرام..

و أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتلو عليهم المبادئ الكريمة و المثل القيّمة قائلا:

«إنّ اللّه حرّم عليكم دماءكم و أموالكم كحرمة بلدكم هذا، و كحرمة شهركم هذا، و كحرمة يومكم هذا... ألا هل بلّغت ؟...».

فأجابوا جميعا:

نعم..

ثمّ أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يعرض على الحجّاج الأحكام التي يلزمون برعايتها و تنفيذها قائلا:

«اللّهمّ اشهد، و اتّقوا اللّه، و لا تبخسوا النّاس أشياءهم، و لا تعثوا في الأرض مفسدين، فمن كان عنده أمانة فليؤدّها...

النّاس في الإسلام سواء طفّ الصّاع لآدم و حوّاء، لا فضل لعربيّ على أعجميّ ، و لا لأعجميّ على عربيّ إلاّ بتقوى اللّه... ألا هل بلّغت ؟».

و انبروا جميعا قائلين:

ص:72

نعم...

و أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتلو عليهم معالم دينه القويم قائلا:

«اللّهمّ اشهد، لا تأتوني بأنسابكم و اتوني بأعمالكم، فأقول للنّاس: هكذا، و لكم هكذا، ألا هل بلّغت ؟».

نعم..

ثمّ واصل الرسول صلّى اللّه عليه و آله بيان الأحكام التي يجب الأخذ بها قائلا:

«اللّهمّ اشهد، كلّ دم كان في الجاهليّة موضوع تحت قدمي، و أوّل دم أضعه دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب (1)، ألا هل بلّغت ؟».

نعم..

«اللّهمّ اشهد، و كلّ ربا كان في الجاهليّة موضوع تحت قدمي، و أوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطّلب، ألا هل بلّغت ؟».

نعم..

اللّهمّ اشهد.. أيّها النّاس، إنّما النّسىء زيادة في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاما و يحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه.

أوصيكم بالنّساء خيرا فإنّما هنّ عوار عندكم، لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، و إنّما أخذتموهنّ بأمانة اللّه، و استحللتم فروجهنّ بكتاب اللّه، و لكم عليهنّ حقّ ، و لهنّ عليكم حقّ : كسوتهنّ و رزقهنّ بالمعروف، و لكم عليهنّ أن لا يوطئن فراشكم أحدا، و لا يأذنّ في بيوتكم إلاّ بعلمكم و إذنكم...، ألا هل بلّغت ؟».

نعم...

«اللّهمّ اشهد، فأوصيكم بمن ملكت أيمانكم فأطعموهم ممّا تأكلون...،

ص:73


1- آدم بن ربيعة كان مسترضعا في هذيل فقتله بنو سعد بن بكر.

ألا هل بلّغت ؟».

نعم...

«اللّهمّ اشهد.. إنّ المسلم أخو المسلم لا يغشّه، و لا يخونه، و لا يغتابه، و لا يحلّ له دمه، و لا شيء من ماله إلاّ بطيب منه، ألا هل بلّغت ؟».

نعم...

و يستمرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تأسيس المناهج التربوية و الأخلاقية و الاجتماعية، و ما يسعد به الإنسان في دنياه و آخرته، ثمّ يختتم خطابه الرائع بقوله:

«لا ترجعوا بعدي كفّارا مضلّلين يملك بعضكم رقاب بعض، إنّي خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي، ألا هل بلّغت ؟».

نعم..

اللّهمّ اشهد.. إنّكم مسئولون فليبلّغ الشّاهد منكم الغائب...»(1).

و انتهى هذا الخطاب الحافل بجميع القيم الاجتماعية و السياسية التي تسمو بها امّته، و تتحقّق لها السيادة على شعوب العالم و امم الأرض... و قد ختم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأهمّ وصيّة له، و هي لزوم التمسّك بكتاب اللّه العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و التمسّك بالعترة الطاهرة لتكون لها القيادة العامّة لامّته على مسرح حياتها السياسية و الاجتماعية.

مؤتمر غدير خم:

و بعد ما أدّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الحجّ إلى بيت اللّه الحرام و وضع الخطط السليمة لصيانة امّته من الزيغ قفل راجعا إلى يثرب، و حينما اجتاز موكبه في غدير خمّ هبط

ص:74


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ١٩٥ _ ١٩٨ ، نقلا عن تاريخ اليعقوبي ٢ : ٩٠ _ ٩٢.

عليه جبرئيل و هو يحمل رسالة من اللّه تعالى بالغة الخطورة تتعلّق بمصير الامّة الإسلامية و مستقبلها الحضاري، فقد أمره اللّه تعالى أن يحطّ رحله في ذلك المكان لينصّب الإمام عليّا عليه السّلام خليفة من بعده و يقلّده المرجعية العامّة، و لم يرخّصه في التأخير قيد لحظة واحدة، و كان أمر السماء بهذه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ...(1).

و نصّ الرواة على أنّها نزلت في غدير خمّ (2)، و طابع هذه الآية الإنذار الشديد، فالنبيّ إن لم يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه في تقليد الإمام لمنصب الخلافة فقد ضاعت جهوده و تبدّدت أتعابه.

و تلقّى الرسول صلّى اللّه عليه و آله الأمر بأهمّية بالغة، فانبرى بعزم ثابت و إرادة صلبة لتنفيذ أمر اللّه تعالى، فوضع أعباء المسير، و حطّ رحله في رمضاء الهجير و أمر قوافل الحجّ أن تحطّ رحالها، و كان الوقت قاسيا في حرارته، فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتّقي به من الحرّ.

و اجتمع الحجّاج فصلّى بهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بعد ما فرغ من الصلاة أمر بوضع حدائج الإبل لتكون منبرا له، فصنعوا له ذلك، فاعتلى عليها، و كان عدد الحاضرين مائة ألف أو يزيدون، و أقبلت الجماهير بقلوبها نحو النبيّ ، فخطب فيهم معلنا ما عاناه من الجهود الشاقّة في سبيل الإسلام، و ما كانوا فيه من الضلال و الحياة البائسة فأنقذهم منها، ثمّ ذكر كوكبة من أحكام الإسلام و تعاليمه،

ثمّ التفت إليهم قائلا:

«انظروا كيف تخلفوني في الثّقلين ؟».

ص:75


1- المائدة : ٦٧.
2- أسباب النزول _ الواحدي : ١٥٠. تفسير الرازي ٣ : ٦٣٦. مجمع البيان _ الطبرسي ٤ : ٣٤٤ ، وغيرها.

فناده مناد من القوم:

ما الثقلان يا رسول اللّه ؟ و عرض عليهم أمر الثقلين قائلا:

«الثّقل الأكبر: كتاب اللّه طرف بيد اللّه عزّ و جلّ ، و طرف بأيديكم فتمسّكوا به و لا تضلّوا، و الآخر الأصغر: عترتي، و إنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك ربّي لهما، فلا تقدّموهما فتهلكوا، و لا تقصروا عنهما فتهلكوا...».

و وضع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك المناهج السليمة لسلامة امّته من الضلال و الانحراف عن طريق الحقّ ،

ثمّ أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بيد وصيّه و سيّد عترته و باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام ففرض ولايته على المسلمين، و أقامه علما لهدايتهم، فرفعها حتى بان بياض إبطيهما، و رفع صوته عاليا قائلا:

«أيّها النّاس، من أولى النّاس بالمؤمنين من أنفسهم ؟».

فأجابوا جميعا:

اللّه و رسوله أعلم..

فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ اللّه مولاي، و أنا مولى المؤمنين، و أنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه»، قال ذلك ثلاث مرّات، ثمّ قال:

«اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و أحبّ من أحبّه، و أبغض من أبغضه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشّاهد الغائب...».

و بذلك أنهى خطابه الشريف الذي أدّى فيه رسالة ربّه، فنصب الإمام أمير

ص:76

المؤمنين عليه السّلام خليفة من بعده، و أثبت له الولاية الكبرى على عموم المسلمين كما كانت له صلّى اللّه عليه و آله الولاية العامّة على جميع المسلمين.

البيعة العامّة للإمام:

و أقبل المسلمون يبايعون الإمام بولاية العهد و يهنّئونه بإمرة المسلمين، و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّهات المؤمنين بمبايعته(1)، و أقبل عمر بن الخطّاب فهنّأ الإمام و صافحه و قال له مقالته المشهورة:

هنيئا يا ابن أبي طالب، أصبحت و أمسيت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة (2).

و انبرى حسان بن ثابت فنظم هذه الحادثة الخالدة بقوله:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ و أسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم و نبيّكم فقالوا و لم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا و أنت نبيّنا و لم تلق منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللّهمّ وال وليّه و كن للذي عادى عليّا معاديا (3)

و قال الشاعر الملهم السيّد الحميري:

و قام محمّد بغدير خمّ فنادى معلنا صوتا نديّا

لمن وافاه من عرب و عجم و حفّوا حول دوحته جثيّا

ألا من كنت مولاه فهذا له مولى و كان به حفيّا

ص:77


1- الغدير ٢ : ٣٤.
2- مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٢٨١.
3- الغدير ١ : ٢٧١.

و قال شاعر الإسلام الكميت الأسدي:

و يوم الدوح دوح غدير خمّ أبان له الولاية لو أطيعا

و لكنّ الرجال تبايعوها فلم أر مثلها حقّا أضيعا

و سجّل المحقّق الأميني في الغدير كوكبة من الشعراء الذين نظموا حادثة الغدير من عصر النبوّة حتى يوم الناس هذا.

نزول آية إكمال الدين:

و في ذلك اليوم الخالد في دنيا الإسلام نزلت هذه الآية الكريمة: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً(1).

لقد كمل الدين، و تمّت نعمة اللّه الكبرى على المسلمين بولاية إمام المتّقين و سيّد الموحّدين، و بقيادته الروحية و الزمنية على جميع المؤمنين.

لقد وضع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المنهج السليم لصيانة امّته و جمع كلمتها و توحيد صفوفها، و لم يترك الأمر من بعده فوضى يتلاعب فيه الطامعون و عشاق الملك و السلطان، فقد سدّ الباب و لم يترك أي منفذ يسلك منه، فقد عيّن القائد و الموجّه لأمّته في جميع شئونها و لم يهمل هذا الأمر الحسّاس - كما يقولون -.

و على أي حال فموضوع الغدير جزء من رسالة الإسلام و ركن من أركان الدين، فمن أنكره فقد أنكر الإسلام كما يقول الشيخ العلائلي.

1

ص:78


1- المائدة : ٣ ، ونصّ على نزول الآية في يوم الغدير : الخطيب البغدادي في تاريخه ٨ : ٢٩٠. السيوطي في الدرّ المنثور ٢ : ٢٥٩. الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٢٤٦.

المأساة الخالدة

اشارة

ص:79

ص:80

و بعد ما أقام الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام خليفة على امّته في غدير خمّ و نصّبه إماما من بعده قفل راجعا إلى يثرب، و قد بدت صحّته تنهار يوما بعد يوم، فقد ألمّ به المرض و أصابته حمى مبرحة، حتى كأن به لهبا منها، و قد لازمته و لم تنقطع عنه، و كانت عليه قطيفة، فإذا وضع أزواجه و عوّاده أيديهم عليها شعروا بحرّها (1)، و قد وضعوا إلى جواره إناء فيه ماء بارد، فكان يضع يده فيه و يمسح بها وجهه الشريف لتخفّ حرارة الحمى منه.

و تذهب بعض المصادر إلى أنّ وفاته تستند إلى طعام مسموم قدّمته إحدى اليهوديات له، فكان يقول:

«ما أزال أجد ألم الطّعام الّذي أكلته بخيبر، فهذا أوان، وجدت انقطاع أبهري من ذلك السّمّ »(2).

و لمّا اشيع مرضه هرع المسلمون لعيادته و هم ما بين باك و واجم، قد طافت بهم موجات من الألم و الذهول، و استقبلهم الرسول بأسى بالغ فنعى إليهم نفسه الشريفة،

و أوصاهم بما يضمن لهم الاستقامة و التوازن في حياتهم قائلا:

«أيّها النّاس، يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي، و قدّمت إليكم القول

ص:81


1- البداية والنهاية ٥ : ٢٢٦.
2- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٠٢.

معذرة إليكم، ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب اللّه عزّ و جلّ و عترتي أهل بيتي...».

و كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إلى جانبه، فأخذ بيده و قال لعوّاده:

«هذا عليّ مع القرآن، و القرآن مع عليّ ، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض»(1).

و قد وضع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أهمّ المخطّطات التي تضمن لامّته النجاح و تقيها من الأزمات، و هي:

أوّلا: التمسّك بكتاب اللّه و العمل بما فيه، فإنّه يهدي للتي هي أقوم.

ثانيا: التمسّك بالعترة الطاهرة و على رأسها سيّدها الإمام أمير المؤمنين، فإنّها لا تألوا جهدا في إسعادها و بلوغ أهدافها.

إعطاء القصاص من نفسه:

و لمّا علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّ لقاءه بربّه قريب، دعا الفضل بن عباس، فأمره أن يأخذ بيده و يجلسه على المنبر، كما أمره أن ينادي بالناس الصلاة جامعة، فنادى الفضل بذلك، فاجتمع الناس،

فخطب فيهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله قائلا:

«أيّها النّاس، إنّه قد دنا منّي خلوف من بين أظهركم، و لن تروني في هذا المقام فيكم، و قد كنت أرى أنّ غيره غير مغن عنّي حتّى أقوّمه فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد، و من كنت أخذت منه مالا فهذا مالي فليأخذ منه، و من كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد... و لا يقولنّ قائل: أخاف الشّحناء من قبل رسول اللّه، ألا و إنّ الشّحناء ليست من شأني و لا من خلقي، و إنّ أحبّكم إليّ من أخذ

ص:82


1- الصواعق المحرقة ٢ : ٣٦١.

حقّا كان له عليّ ، أو حلّلني فلقيت اللّه عزّ و جلّ و ليس لأحد عندي مظلمة...».

يا لروعة العدل!! يا لروعة الخلق النبوي!! لقد أسّس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جميع صنوف العدل التي لم يؤسّسها أي مصلح اجتماعي.

لقد أعطى رسول الإنسانية القصاص من نفسه و هو في الساعات الأخيرة من حياته، ليخرج من هذه الدنيا و ليس لأي أحد أي تبعة عليه، و قد انبرى رجل من القوم فقال للرسول:

يا رسول اللّه، لي عندك ثلاثة دراهم..

فقابله الرسول بلطف قائلا:

«أمّا أنا فلا اكذّب قائلا، و لا مستحلفه على يمين، فبم كانت لك عندي ؟».

فسارع الرجل قائلا: أ ما تذكر أنّه مرّ بك سائل فأمرتني أن اعطيه، فأعطيته ثلاثة دراهم...

و أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفضل بإعطائه الدراهم،

ثمّ عاد النبيّ إلى خطابه فقال:

«من عنده من الغلول شيء فليردّه...».

فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه، عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل اللّه، فقال له النبيّ :

«لم غللتها؟».

كنت محتاجا إليها...

فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفضل أن يأخذها منه فأخذها،

و عاد النبيّ في خطابه، فقال:

«أيّها النّاس، من أحسّ في نفسه شيئا فليقم أدع اللّه له...».

ص:83

فقام إليه رجل فقال:

يا رسول اللّه، إنّي لمنافق، و إنّي لكذوب، و إنّي لشؤوم..

فزجره عمر و صاح به، و قال له:

لقد سترك اللّه، لو سترت على نفسك.

و التفت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى عمر فقال له:

«صه يا ابن الخطّاب! فضوح الدّنيا أهون من فضوح الآخرة».

و دعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للرجل فقال: «اللّهمّ ارزقه صدقا و إيمانا، و أذهب عنه الشّؤم»(1)، و انبرى رجل من أقصى القوم يسمّى سوادة بن قيس فقال:

يا رسول اللّه، إنّك ضربتني بالسوط على بطني، و أنا اريد القصاص منك...

فاستجاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله لطلبه و أمر بلالا بإحضار السوط ليقتصّ منه سوادة، و ذهل الحاضرون، و ساد عليهم صمت رهيب من هذا العدل، و انطلق بلال رافعا عقيرته قائلا:

أيّها الناس، اعطوا القصاص من أنفسكم في دار الدنيا، فهذا رسول اللّه قد أعطى القصاص من نفسه..

و مضى بلال إلى بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاء بالسوط و ناوله إلى سوادة، فأخذه و أقبل رافعا له صوب النبيّ الذي ألمّت به الأمراض، و هو في الساعات الأخيرة من حياته، و اتّجه المسلمون بقلوبهم و أبصارهم نحو سوادة فقال للنبيّ :

يا رسول اللّه، اكشف عن بطنك...

فكشف الرسول عن بطنه، فقال سوادة و هو غارق في البكاء:

ص:84


1- البداية والنهاية ٥ : ٢٣١.

يا رسول اللّه، أ تأذن لي أن أضع فمّي على بطنك ؟ «نعم».

و وضع سوادة وجهه على بطن الرسول و دموعه تتبلور على خدّيه و هو يقول بصوت حزين النبرات: أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار يوم القيامة.

و التفت إليه النبيّ قائلا:

«أ تعفو يا سوادة أم تقتصّ ؟».

بل أعفو يا رسول...

فرفع النبيّ يديه بالدعاء قائلا:

«اللّهمّ اعف عن سوادة كما عفا عن نبيّك...».

إنّ هذا الخلق النبوي أحقّ بالبقاء و أجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه، فقد تجسّدت فيه جميع القيم و المبادئ الكريمة التي سما بها النبيّ على سائر الأنبياء.

سرية اسامة:

و استبانت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله التيارات الحزبية من صحابته الذين صمّموا على صرف الخلافة عن أهل بيت النبوة، فرأى خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يبعث بجميع أصحابه لغزو الروم حتى تخلو عاصمته منهم إذا انتقل إلى حضيرة القدس، و بذلك يتمّ ما أراده من تسلّم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام مقاليد الحكم من دون منازع له، و قد أمر أعلام المهاجرين و الأنصار بالالتحاق بالجيش، كان من بينهم أبو بكر و عمر و أبو عبيدة الجرّاح و بشير بن سعد(1)، و هم من أقطاب الحزب المعارض للإمام،

ص:85


1- كنز العمّال ٥ : ٣١٢. الطبقات الكبرى _ ابن سعد ٤ : ٤٦. تاريخ الخميس ٢ : ٤٦.

و عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بإمارة الجيش إلى اسامة بن زيد، و كان في شرخ الشباب، و لم يعهد بها إلى شيوخ أصحابه، و كان في ذلك إشعار منه بأنّ القيادة العامّة لا تخضع لكبر السنّ و التقدّم في العمر، و إنّما تخضع للمؤهّلات و القابليات التي يتمتّع بها القائد.

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لاسامة: «سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش فاغز صباحا على أهل أبنى (1) و حرّق عليهم، و أسرع السّير لتسبق الأخبار، فإن أظهرك اللّه عليهم فأقلل اللّبث فيهم، و خذ معك الأدلاّء، و قدّم العيون و الطّلائع معك...».

و حفلت هذه الوصية بالمناهج العسكرية الرائعة التي دلّت على أصالة التعاليم العسكرية في الإسلام.

و في اليوم التاسع و العشرين من صفر رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جيشه قد مني بالتمرّد، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم العسكرية، فساءه ذلك و خرج مع ما به من المرض فحثّهم على المسير،

و عقد بنفسه اللواء لاسامة و قال له:

«اغز بسم اللّه، و في سبيل اللّه، و قاتل من كفر باللّه»، و خرج اسامة معقودا لواؤه، فدفعه إلى بريدة و عسكر بالجرف (2)، و تثاقل الصحابة من الالتحاق بالمعسكر، و أظهروا العصيان و الطعن بقيادة اسامة، يقول له عمر:

مات رسول اللّه، و أنت عليّ أمير؟ و نقلت هذه الكلمات إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كانت قد ازدادت به الحمى فغضب، و خرج و هو معصب الرأس قد دثّر بقطيفته، فصعد المنبر و هو متبرّم، فأعلن سخطه

ص:86


1- أبنى : ناحية بالبلقاء من أرض سوريا ، تقع بين عسقلان والرملة بالقرب من مؤتة التي استشهد فيها الشهيد الخالد جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة.
2- الجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو جهة الشام ، كانت به أموال لعمر بن الخطّاب ولأهل المدينة ، وفيه بعض الآبار ، جاء ذلك في معجم البلدان ٢ : ١٢٨.

على من لم يلتحق بجيش اسامة.

«أيّها النّاس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة ؟ و لقد طعنتم في تأميري أباه، و أيم اللّه إنّه كان لخليقا بالإمارة و إنّ ابنه من بعده لخليق بها...» (1).

ثمّ نزل عن المنبر و هو متألّم كأشدّ ما يكون الألم، و جعل يؤكّد على الالتحاق بجيش اسامة، و يلعن من تخلّف عنه قائلا:

«جهّزوا جيش اسامة..».

«نفّذوا جيش اسامة...».

«لعن اللّه من تخلّف عن جيش اسامة..».

و لم تثر هذه الأوامر المشدّدة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حفائظ نفوسهم، و لم تدفعهم إلى الالتحاق بجيش اسامة، فقد تثاقلوا و اعتذروا للرسول بشتّى المعاذير الواهية، و هو سلام اللّه عليه لم يمنحهم العذر، و إنّما أظهر السخط و عدم الرضا.. و هناك بحوث مهمّة عرضنا لها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن عليه السّلام)

رزية يوم الخميس:

و استبان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله بصورة مكشوفة ما عليه بعض الصحابة من تصميمهم على صرف الخلافة عن وصيّه و باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فرأى أن يكتب كتابا خاصّا بالنصّ عليه، و يعزّز بيعة يوم الغدير، و يسدّ بذلك أبواب المتآمرين عليه،

فقال:

«ائتوني بالكتف و الدّواة لأكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا...».

يا لها من نعمة كبرى على المسلمين أنّه التزام من سيّد الكائنات بأن لا تضلّ

ص:87


1- السيرة الحلبية ٣ : ٣٤.

امّته على امتداد التاريخ إن كتب لها الكتاب، إنّه الكتاب الذي أراد الرسول به أن يصون امّته من الزيغ و الانحراف، و لا تصاب بأيّة نكسة في جميع الأحقاب و الآباد.

و علم بعض الصحابة ما يريده النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من نصب الإمام عليه السّلام خليفة من بعده و قائدا لمسيرة امّته، فقال:

حسبنا كتاب اللّه...

و المتأمّل في هذا الكلام يطلّ على الغاية المنشودة لهذا القائل و هو صرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الكتابة في حقّ الإمام عليه السّلام، فلو كان يعتقد أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يريد أن يوصي بحماية الثغور أو بجهاد الكفّار أو بالمحافظة على الطقوس الدينية لما ردّ على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قابله بهذه الجرأة و وقف بصلابة دون تنفيذ رغبته.

و على أي حال، فقد كثر الجدل بين القوم، فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و طائفة أخرى أصرّت على معارضتها و الحيلولة بينه و بين ما طلبه من الكتابة؛ و ذلك خوفا على فوات مصالحها و أطماعها، و انطلقت بعض السيّدات من وراء الستر فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبيّ و هو في ساعاته الأخيرة، فقلن لهم:

أ لا تسمعون ما يقول رسول اللّه ؟ أ لا تنفّذون ما يريد رسول اللّه ؟ فثار عمر و هو بطل الموقف، و زعيم المعارضة فصاح بالنساء قائلا:

إنّكنّ صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكن، و إذا صحّ ركبتن عنقه...

فرمقه الرسول بطرفه و صاح به:

«دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم».

و بدا صراع رهيب بين القوم و كادت تفوز الجبهة التي أرادت أن يكتب النبيّ ،

ص:88

فانبرى بعض الحاضرين فسدّد سهما لما رامه النبيّ ، فقال - و يا لهول ما قال! -:

إنّ النبيّ ليهجر(1)! ما أعظم هذه الجرأة على النبي! ما أقسى هذا الاعتداء على مركز النبوّة! يا لها من كلمة تحمل جميع ألوان الشرور! أ لم يسمع هذا القائل كلام اللّه تعالى في حقّ نبيّه العظيم: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى . وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى . إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (2)؟ أ لم تمرّ عليه هذه الآية في سموّ مكانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (3)؟ بلى و اللّه! لقد سمع هذا القائل ما أنزل اللّه من الآيات في كتابه المجيد في شأن رسوله الكريم، و لكن الأطماع السياسية دفعته إلى هذا الموقف الذي يحزّ في نفس كلّ مسلم.. و كان ابن عباس حبر الامّة إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يذوب لوعة و يبكي حتى تسيل دموعه على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ و هو يقول:

يوم الخميس، و ما يوم الخميس ؟

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ائتوني بالكتف و الدّواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا»، فقالوا: إنّ رسول اللّه يهجر(4).

حقّا لأن يجزع ابن عبّاس و يبكي بأمرّ ألوان البكاء، فقد دهمت المسلمين

ص:89


1- نصّ على هذه الحادثة المؤلمة جميع المؤرّخين في الإسلام ، ذكرها البخاري في صحيحه عدّة مرّات في ٤ : ٦٨ _ ٦٩ و ٦ : ٨ ، وقد كتم اسم القائل ، وفي نهاية ابن الأثير ٤ : ١٣٠ ، وشرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٣ : ١١٤ وغيرهما تصريح باسمه.
2- النجم : ٢ _ ٥.
3- التكوير : ١٩ و ٢٠.
4- مسند أحمد بن حنبل ١ : ٣٥٥.

كارثة مدمّرة ألقتهم في شرّ عظيم، فقد حيل بينهم و بين ما أراده الرسول من تطوير حياتهم و سيادتهم في جميع الأحقاب و الآباد.

و أكبر الظنّ أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لو كتب في حقّ عليّ و نصّ على خلافته لما أجدت كتابته شيئا، فقد اتّهموه بالهجر و عدم الوعي، و في ذلك طعن صريح في مركز النبوّة و قداسة الرسول، فرأى صلوات اللّه عليه بالاعراض عن الكتابة.

فجيعة الزهراء:

و منيت زهراء الرسول عليها السّلام بكارثة مدمّرة حينما علمت أنّ أباها سيفارق الحياة، فقد نخب الحزن قلبها الرقيق، و هامت في تيارات من الأسى و اللوعة، و قد لازمت أباها و هي مذهولة كأنّها جثمان فارقته الحياة، و قد أحدقت بوجهه فسمعته يقول:

«وا كرباه!».

و امتلأ قلبها الطاهر حزنا، فأسرعت قائلة:

«وا كربي! لكربّك يا أبت»، و أشفق عليها أبوها و راح يسلّيها قائلا:

«لا كرب على أبيك بعد اليوم» (1).

و كانت هذه الكلمات أشدّ على نفسها من الموت، و رآها النبيّ و هي و لهى مذهولة قد خطف الحزن لونها كأنّما تعاني آلام الاحتضار فأمرها بالدنوّ منه، فأسرّ إليها بحديث فغامت عيناها بالدموع، ثمّ أسرّ إليها ثانيا، فقابلته ببسمات فيّاضة بالبشر و الرضا، و كانت عائشة إلى جنبها فبهرت من ذلك، و راحت تقول:

ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن!

ص:90


1- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهما السلام ١ : ١١٢.

و سألتها عمّا أسرّ إليها أبوها، فأشاحت بوجهها عنها و أبت أن تخبرها، و لمّا انصرفت أخبرت سلام اللّه عليها بعض السيّدات عن ذلك

فقالت:

«أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة، و إنّه عارضني به في هذا العام مرّتين، و لا أراه إلاّ قد حضر أجلي».

و كان هذا هو السبب في لوعتها و بكائها، و أمّا سبب سرورها و ابتهاجها

فتقول:

«أخبرني أنّك أوّل أهل بيتي لحوقا بي، و نعم السّلف أنا لك، أ لا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الامّة» (1)؟ و غرقت سيّدة النساء في البكاء، فأخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يخفّف عنها آلامها قائلا:

«يا بنيّة، لا تبكي، و إذا متّ فقولي: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، فإنّ فيها من كلّ ميّت معوضة».

و ذابت نفسها شعاعا، و غامت عيناها بالدموع، فقالت له بصوت متقطّع بالبكاء:

«و منك يا رسول اللّه ؟».

«نعم، و منّي» (2).

و اشتدّ الوجع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فنظرت إليه سيّدة النساء فقالت له:

«أنت و اللّه! كما قال القائل:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل»

فقال لها أبوها:

«هذا قول عمّك أبي طالب»، و قرأ قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ 1

ص:91


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٥١.
2- أنساب الأشراف ١ : ١٣٣.

خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ(1).(2)

النبيّ يوصي بأهل بيته:

روى أنس بن مالك قال: جاءت فاطمة و معها الحسنان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مرضه الذي توفّي فيه فانكبّت عليه و ألصقت صدرها بصدره و هي غارقة في البكاء، ثمّ انطلقت إلى بيتها، و النبيّ تسبقه دموعه و هو يقول:

«اللّهمّ أهل بيتي، و أنا مستودعهم كلّ مؤمن...».

و جعل يردّد ذلك ثلاث مرّات (3)و هو مثقل بالألم و الحزن، فقد استشفّ من وراء الغيب ما يجري عليهم من المحن و الخطوب.

وصيّة النبيّ بسبطيه:

و قبل أن ينتقل النبيّ إلى حضيرة القدس بثلاثة أيام أوصى الإمام عليه السّلام برعاية سبطيه قائلا:

«يا أبا الرّيحانتين، اوصيك بريحانتيّ من الدّنيا، فعن قليل ينهدّ ركناك، و اللّه خليفتي عليك...».

و لمّا قبض النبيّ قال الإمام:

«هذا أحد ركنيّ الّذي قال فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»،

و لمّا ماتت فاطمة قال: «هذا الرّكن الثّاني الّذي قال لي رسول اللّه»(4).

إلى الفردوس الأعلى:

و آن لسيّد الكائنات أن يلتحق بالفردوس الأعلى مقرّ الأنبياء و الأوصياء، فقد

ص:92


1- آل عمران : ١٤٤.
2- أنساب الأشراف ١ : ١٣٣.
3- أنساب الأشراف ١ : ١٣٣.
4- أمالي الصدوق : ١١٩.

وفد عليه ملك الموت فاستأذن بالدخول عليه، فأخبرته زهراء الرسول بأنّه مشغول بنفسه عنه، فانصرف، و بعد قليل عاد طالبا الإذن، فأفاق النبيّ و قال لبضعته:

«أ تعرفينه ؟».

«لا، يا رسول اللّه».

«إنّه معمّر القبور، و مخرّب الدّور، و مفرّق الجماعات»، و ذهلت حبيبة الرسول، و قدّ قلبها، و اندفعت تقول:

«وا أبتاه! لموت خاتم الأنبياء، وا مصيبتاه! لممات خير الأتقياء، و لانقطاع سيّد الأصفياء، وا حسرتاه! لانقطاع الوحي من السّماء، فقد حرمت اليوم كلامك».

و تصدّع قلب الرسول و ذابت نفسه، و راح يسلّي زهراء قائلا:

«لا تبكي فإنّك أوّل أهلي لحوقا بي...»(1).

و أذن النبيّ لملك الموت بالدخول عليه، و لمّا مثل أمامه قال له:

«يا رسول اللّه، إنّ اللّه أمرني أن أطيعك في كلّ ما تأمرني به، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، و إن تأمرني أن أتركها تركتها».

و بهر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قال له:

«أ تفعل يا ملك الموت ذلك ؟».

«بذلك امرت أن اطيعك في كلّ ما أمرتني...».

و لم يحظ أحد من أنبياء اللّه و رسله بمثل ما حظي به خاتم الأنبياء، فقد أمر اللّه تعالى ملك الموت بإطاعته، و الاستئذان بالدخول عليه.

و هبط جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له:

ص:93


1- درّة الناصحين : ٦٦.

«يا أحمد، إنّ اللّه اشتاق إليك»، و اختار النبيّ جوار ربّه، فإنّ الآخرة خير له و أبقى، و أذن لملك الموت باستلام روحه المقدّسة، و دعا وصيّه و باب مدينة علمه الامام عليه السّلام

فقال له:

«ضع رأسي في حجرك، فقد جاء أمر اللّه، فإذا فاضت نفسي فتناولها، و امسح بها وجهك، ثمّ وجّهني إلى القبلة، و تولّ أمري، و صلّ عليّ أوّل النّاس، و لا تفارقني حتّى تواريني في رمسي و استعن باللّه عزّ و جلّ ».

و أخذ الإمام رأس النبيّ فوضعه في حجره، و مدّ يده اليمنى تحت حنكه، و أخذ النبي يعاني آلام الموت و قسوته حتى فاضت روحه العظيمة، فمسح بها الإمام وجهه (1). لقد مادت الأرض، و خبا نور العدل، و انطفأت تلك الشعلة المشرقة التي أضاءت سماء الدنيا بالعلم و الإيمان... يا لمدينة الرسول و آل الرسول، يا لهم من يوم خالد في دنيا الأحزان، يوم ليس كمثله في الأيام الحالكات، و وجم المسلمون، و طاشت أحلامهم، و هرعت السيّدات صوب دار الرسول و هن يلد من الوجوه، قد علت أصواتهنّ بالبكاء، أمّا امّهات المؤمنين فقد وضعن الجلابيب عن رءوسهنّ ، و هن يلد من صدورهنّ ، و أمّا نساء الأنصار فقد ذبحت حلوقهنّ من الصياح (2).

و كان أعظم أهل البيت حزنا بضعة الرسول و ريحانته، فقد وقعت على الجثمان المقدّس و هي تبكي أمرّ البكاء و تقول بذوب روحها:

«و أبتاه»!

ص:94


1- مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٩ ، وتواترت الأخبار أنّ النبيّ توفّي ورأسه في حجر عليّ ، جاء ذلك في : الطبقات الكبرى ٢ : ٥١. مجمع الزوائد ١ : ٢٩٣. كنز العمّال ٤ : ٥٥. ذخائر العقبى : ٩٤. الرياض النضرة ٢ : ٢١٩.
2- أنساب الأشراف ١ : ٥٧٤.

«وا نبيّ رحمتاه».

«الآن لا يأتي الوحي. الآن ينقطع عنّا جبرئيل، اللّهمّ ألحق روحي بروحه، و اشفعني بالنّظر إلى وجهه، و لا تحرمني أجره و شفاعته يوم القيامة»(1).

و أخذت تجول حول الجثمان العظيم و هي ولهى قد أخرسها الخطب قائلة:

«وا أبتاه! إلى جبرئيل أنعاه».

«وا أبتاه! جنّة الفردوس مأواه».

«وا أبتاه! أجاب ربّا دعاه» (2).

و مادت الأرض بالمسلمين و ذهلوا حتى عن نفوسهم لعظم الكارثة.

تجهيز الجثمان العظيم:

و تولّى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام تجهيز جثمان أخيه و ابن عمّه، و ذلك بأمر منه، و هو يذرف الدموع، فغسّل الجسد، و هو يقول:

بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النّبوّة و الإنباء و أخبار السّماء. خصّصت حتّى صرت مسلّيا عمّن سواك، و عمّمت حتّى صار النّاس فيك سواء. و لو لا أنّك أمرت بالصّبر، و نهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماء الشّؤون و لكان الدّاء مماطلا، و الكمد محالفا (3).

قال عليه السّلام: «و لقد وليت غسله - صلّى اللّه عليه و آله - و الملائكة أعواني، فضجّت الدّار و الأفنية،

ص:95


1- تاريخ الخميس ٢ : ١٩٢.
2- سير أعلام النبلاء ٢ : ٨٨. سنن ابن ماجة ١ : ٥١١ ، وجاء فيه : أنّ حمّاد بن زيد قال : رأيت ثابت راوي الحديث حينما يحدّث به يبكي حتى رأيت أضلاعه تختلف.
3- نهج البلاغة ٢ : ٢٥٥.

ملأ يهبط و ملأ يعرج، و ما فارقت سمعي هينمة منهم (1) يصلّون عليه...».

و كان العباس عمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اسامة يناولان الإمام الماء من وراء الستر (2).

و كان الطيب في أثناء الغسل يخرج من الجسد الطاهر،

و الإمام يقول:

«بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه، طبت حيّا و ميّتا»(3)، أمّا الماء الذي غسّل فيه الرسول فهو من بئر يقال لها الغرس، و كان يشرب منها (4)، و بعد الفراغ من الغسل أدرجه الإمام في أكفانه، و وضعه على السرير.

الصلاة على الجثمان العظيم:

و أوّل من صلّى على الجثمان المقدّس هو اللّه تعالى من فوق عرشه، ثمّ جبرئيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ الملائكة زمرا زمرا (5)، و هرع المسلمون للصلاة على جثمان نبيّهم،

فقال لهم الإمام:

«لا يقوم عليه إمام منكم، هو إمامكم حيّا و ميّتا»، فكانوا يدخلون عليه رسلا رسلا فيصلّون عليه صفّا ليس لهم إمام، و أمير المؤمنين واقف إلى جانب الجثمان و هو يقول:

«السّلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللّه و بركاته.. اللّهمّ إنّا نشهد أنّه قد بلّغ ما أنزل إليه، و نصح لامّته، و جاهد في سبيل اللّه حتّى أعزّ اللّه دينه و تمّت كلمته، اللّهمّ فاجعلنا ممّن يتّبع ما أنزل إليه، و ثبّتنا بعده، و اجمع بيننا و بينه».

ص:96


1- الهينمة : الصوت الخفي.
2- البداية والنهاية ٥ : ٢٦٣.
3- الطبقات الكبرى ٢ : ٦٣.
4- البداية والنهاية ٥ : ٢٦١.
5- حلية الأولياء ٤ : ٧٧.

و كان المصلّون يقولون: آمين (1)، و كانت جموع المسلمين تمرّ على الجثمان العظيم فتلقي عليه نظرة الوداع و هي مذهولة، قد هامت في تيارات من الهواجس، فقد مات المنقذ، و مات المعلّم، و مات من أسّس لهم دولة تدعو إلى تطوّرهم و سعادتهم.

مواراة الجثمان المقدّس:

و بعد ما فرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم قام الإمام بحفر القبر، و بعد الانتهاء منه وارى جثمان أخيه، و قد وارى أعظم شخصية خلقها اللّه في الأرض، و أفضل هبة من اللّه لعباده... و قد انهارت قوى الإمام، و وقف على حافّة القبر، و هو يروي ترابه من ماء عينيه قائلا:

إنّ الصّبر لجميل إلاّ عنك، و إنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك، و إنّ المصاب بك لجليل، و إنّه قبلك و بعدك لجلل(2).

و انطوت في ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان ألوية العدل، و غاب ذلك النور الذي أضاء سماء الكون و غيّر مجرى حياة الإنسان من واقع مظلم ليس فيه بصيص من النور إلى حياة آمنة مزدهرة بالعدل، تتلاشى فيها آهات المظلومين و أنين المحرومين و تنبسط فيها خيرات اللّه على عباده.

فزع أهل البيت:

و فزع أهل البيت عليهم السّلام كأشدّ ما يكون الفزع و داخلهم خوف رهيب من الاسر القرشيّة الذين و ترهم الإمام بسيفه و روى الأرض من دمائهم، و كانت تتربّص بهم الدوائر، و تبغي لهم الغوائل، و قد بات أهل البيت بأطول ليلة، قد حاطت بهم

ص:97


1- كنز العمّال ٤ : ٥٤.
2- نهج البلاغة ٣ : ٢٢٤.

الهواجس و الآلام...

و حكى الإمام الصادق عليه السّلام مدى ذعرهم و فزعهم بقوله:

«لمّا مات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بات أهل بيته كأن لا سماء تظلّهم، و لا أرض تقلّهم؛ لأنّه و تر الأقرب و الأبعد...».

و قد انصبّت المحن و الكوارث على العترة الطاهرة بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقد انتقمت منهم قريش، و أبعدتهم عن مراكزهم، و حالت بينهم و بين ما أراده اللّه و رسوله لهم، و لم تمض على انتقاله إلى حضيرة القدس خمسون عاما و إذا هم بموكب جهير يجوب الأقطار حاملين رءوس أبنائه على أطراف الرماح، و بناته سبايا يتصفّح وجوههنّ القريب و البعيد.

تأبين الإمام للرسول:

و وقف الإمام عليه السّلام على منبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و هو يصوغ من حزنه كلمات و قال:

بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه، و اللّه! إنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك، و إنّ الصّبر لجميل إلاّ عنك، و إنّ المصيبة بك لأجلّ ، و إنّ ما بعدك و ما قبلك لجلل، ثمّ قال:

«ما فاض دمعي عند نازلة إلاّ جعلتك للبكا سببا

فإذا ذكرتك سامحتك به مقل الجفون ففاض و انسكبا

إنّي أجلّ ثرى حللت به من أن أرى بسواه مكتئبا» (1)

ص:98


1- ربيع الأبرار ٤ : ١٩٢.

مؤتمر السّقيفة

اشارة

و حكومة أبي بكر

ص:99

ص:100

ليس في دنيا الإسلام كارثة مدمّرة امتحن بها المسلمون امتحانا عسيرا كحادثة السقيفة، فقد أولدت الأحقاد، و أجّجت نار الفتن بين المسلمين، و فتحت أبواب الطمع و التهالك على السلطة بين الزعماء.

إنّ جميع ما عاناه السادة المعظّمون من أهل البيت عليهم السّلام يستند أوّلا و بالذات إلى مؤتمر السقيفة التي تعمّد أعضاؤها على الغضّ من شأنهم، و معاملتهم معاملة عادية تتّسم بالكراهة و الحقد عليهم، متناسين ما ألزمه اللّه تعالى بمودّتهم قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (1)، و ما حثّ عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في لزوم مودّتهم، و تعظيم شأنهم، فلم يرعوا لاهتمام النبي بهم، فأقصوهم عن مركز الحكم و عن جميع ما يتعلّق بالدولة الإسلامية التي أنشأها جدّهم الرسول، و قامت على أكتاف أخيه و باب مدينة علمه، لقد آلت الخلافة الإسلامية - مع الأسى و الأسف - إلى بني أميّة فأمعنوا في ظلم العترة الطاهرة و إبادتها، و ما كارثة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان إلاّ من تبعات السقيفة، و رحم اللّه الإمام كاشف الغطاء إذ يقول:

تالله ما كربلا لو لا سقيفتهم و مثل هذا الفرع ذاك الأصل أنتجه

إنّ الأحداث الجسام التي فزع منها المسلمون كإباحة مدينة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و حرق الكعبة، و تسلّط الأشرار المارقين عن الدين على رقاب المسلمين أمثال بسر بن أرطاة، و المغيرة بن شعبة، و زياد بن أبيه، و عبيد اللّه بن زياد و أمثالهم من الخونة

ص:101


1- الشورى : ٢٣.

المجرمين الذين أمعنوا في ظلم المسلمين، و أغرقوهم في المآسي و الخطوب كلّها قد نجمت من السقيفة، و ما يرتبط بها من أحداث.

و لسنا في البحث عن السقيفة خاضعين للمؤثّرات المذهبية، نعوذ باللّه أن نخضع لغير الحقّ ، و أن نكتب ما تمليه علينا العواطف التقليدية، و إنّما نكتب هذه البحوث على ضوء الدراسة العلمية التي اقتبسناها من الوثائق التاريخية، و حلّلنا أبعادها بأمانة و إخلاص، و فيما اعتقد أنّ كلّ من يتأمّل في أحداث السقيفة يؤمن بأنّها غير طبيعة و أنّها دبّرت لصرف الخلافة عن أهل البيت.

و على أي حال فلا بدّ لنا من وقفة قصيرة للبحث عن هذا الحادث المروع الذي ابتلي فيه المسلمون كأشدّ و أقسى ما يكون الابتلاء، و فيما يلي ذلك:

البواعث المؤتمر السقيفة

و عقد الأنصار في اليوم الذي توفّي فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مؤتمرا في سقيفة بني ساعدة، ضمّ الجناحين منهم الأوس و الخزرج، تداولوا فيه شئون الخلافة، و أن لا تخرج من حوزتهم، و لا يكونوا تبعا لزعامة المهاجرين من قريش و تحت نفوذهم.

و الشيء الذي يدعو إلى التساؤل لما ذا سارعوا إلى عقد مؤتمرهم بهذه السرعة الخاطفة، و الرسول لم يغيبه عن عيون القوم مثواه، و أكبر الظنّ أنّ أسباب ذلك تتلخّص بما يلي:

أوّلا: إنّ الأنصار قد استبان لهم بصورة مكشوفة لا خفاء فيها على تصميم المهاجرين من قريش للاستيلاء على الحكم بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و صرفه عن الإمام أمير المؤمنين، و يدعم ذلك:

1 - إنّ المهاجرين من قريش أعلنوا رفضهم الكامل لبيعة الإمام يوم غدير خمّ ، فقد قالوا: لقد حسب محمّد أنّ هذا الأمر قد تمّ لابن عمّه و هيهات أن يتمّ ، و تناقلت

ص:102

حديثهم معظم الأوساط في يثرب.

2 - امتناع قادة المهاجرين من الالتحاق بجيش اسامة خوفا أن يتمّ الأمر للإمام بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يفلت الزمام منهم، و لم يكن يخفى على الأنصار ذلك.

3 - قيام بعض المهاجرين بالحيلولة بين النبيّ و بين ما رآه من الكتابة التي تضمن لامّته السعادة في جميع الأحقاب و الآباد - على حدّ تعبيره - فقد رموه بالهجر، و هو طعن مؤسف في شخصية الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فامتنع بأبي و أمّي من الكتابة التي تهدف إلى النصّ الصريح على خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

ثانيا: إنّ الأنصار كانوا على يقين لا يخامره شكّ أنّ المهاجرين من قريش كانوا حاقدين على الإمام؛ لأنّه قد وترهم، و حصد رءوس أعلامهم، و قد أعلن ذلك عثمان بن عفّان، فقد قال للإمام:

ما أصنع إن كانت قريش لا تحبّكم و قد قتلتم منهم يوم بدر سبعين رجلا كأنّ وجوههم شنوف الذهب تصرع آنافهم قبل شفاههم... (1).

أ رأيتم كيف صوّر عثمان لوعة القرشيّين على فتيانهم و فرسانهم الذين أبادهم الإمام في يوم بدر و أبادتهم القوّات المسلّحة في الجيش الإسلامي.. و كانت قريش ترى أنّ الإمام عليه السّلام هو الذي وترها، فهي تطالبه بذحلها... و يقول الكناني من شعراء قريش محرّضا لها على الوقيعة بالإمام:

في كلّ مجمع غاية أخزاكم جذع أبرّ على المذاكي القرّح

للّه درّكم ألما تذكروا قد يذكر الحرّ الكريم و يستحي

هذا ابن فاطمة (2)الذي أفناكم ذبحا بقتلة بعضه لم يذبح

ص:103


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٩ : ٢٢.
2- فاطمة بنت أسد أمّ الإمام أمير المؤمنين علیه السلام.

أين الكهول و أين كلّ دعامة في المعضلات و أين زين الأبطح (1)؟

و روى ابن طاوس عن أبيه أنّه قال للإمام زين العابدين:

ما بال قريش لا تحبّ عليّا؟ فأجابهم الإمام:

لأنّه أورد أوّلهم النار، و ألزم آخرهم العار (2).

لقد كان بغض القرشيّين للإمام عليه السّلام مكشوفا و غير خفي على أحد، و خاف الأنصار من استيلاء المهاجرين على دست الحكم فينزلون بهم الضربات القاصمة لولائهم للإمام عليه السّلام و مودّتهم له.

ثالثا: إنّ الأنصار كانوا العمود الفقري للقوّات الإسلامية، و قد أشاعوا الحزن و الحداد في بيوت القرشيّين، و من المؤكّد أنّ القرشيّين كانوا يحقدون أشدّ الحقد على الأنصار، و أنّهم لا يألون جهدا في الانتقام منهم، فلذا سارعوا في عقد مؤتمرهم خشية من المهاجرين، يقول الحبّاب بن المنذر و هو من مفكّري الأنصار:

لكنّنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم و آباءهم و اخوانهم (3).

و تحقّق ما تنبأ به الحبّاب، فإنّه لم يكد ينتهى حكم الخلفاء القصير الأمد حتى آل الحكم إلى الأمويّين فسعوا جاهدين في إذلالهم و التنكيل بهم. و قد أمعن معاوية في قهرهم و ظلمهم، و لمّا ولي الأمر بعده يزيد جهد على الوقيعة بهم فأباح دماءهم و أموالهم و أعراضهم في واقعة الحرّة المحزنة التي لم يشاهد التاريخ لها نظيرا في فظاعتها و قسوتها.

رابعا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله استشفّ من وراء الغيب ما تعانيه الأنصار من بعده من

ص:104


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٣٥.
2- معجم الشيوخ _ ابن الاعرابي ٤ : ١٦.
3- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٣٥.

جهد و بلاء،

فقال لهم: «ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض...» فخافوا كأشدّ ما يكون الخوف، فلذا بادروا إلى عقد مؤتمرهم ليكونوا بمأمن من الاثرة و الجهد.

و فيما أحسب أنّ هذه العوامل بعض الأسباب التي أدّت إلى عقد الأنصار مؤتمرهم في سقيفة بني ساعدة.

خطاب سعد:

و لمّا عقد الأنصار مؤتمرهم في السقيفة انبرى سعد بن عبادة زعيم الخزرج إلى افتتاح مؤتمرهم، و كان مريضا لا يتمكّن أن يجهر بكلامه، و إنّما كان يقول: فيبلغ بعض أقربائه مقالته، و هذا نصّ كلامه:

يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين، و فضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب، إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن و خلع الأنداد و الأوثان، فما آمن به إلاّ قليل، ما كانوا يقدرون على منعه، و لا على إعزاز دينه، و لا على دفع ضيم حتى إذا أراد اللّه بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة و خصّكم بالنعمة، و رزقكم الإيمان به و برسوله، و المنع له و لأصحابه، و الاعزاز له و لدينه، و الجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على عدوّه، حتى استقامت العرب لأمر اللّه طوعا و كرها، و أعطى البعيد المقادة صاغرا، فدانت لرسوله بأسيافكم العرب، و توفّاه اللّه و هو عنكم راض، و بكم قرير العين.. استبدّوا بهذا الأمر دون الناس فإنّه لكم دونهم...(1).

و حفل خطاب سعد بالاشادة بإيمان الأنصار و بسالتهم و حمايتهم للإسلام، و أنّه قام على سوقه عبل الذراع مفتول الساعد بفضل جهادهم و نصرتهم له، فهم

ص:105


1- الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٢. تاريخ الطبري ٣ : ٣٠٧.

الذين حموه أيام غربته و محنته.. فإذن هم أولى بالنبيّ ، و أحقّ بمركزه و مقامه، فإنّ من كان عليه العزم فهو أولى بالغنم.

و كان من بنود هذا الخطاب التنديد بالقرشيّين الذين ناهضوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ناجزوه الحرب، حتى اضطرّ إلى الهجرة إلى يثرب، و ما آمن به من قومه إلاّ فئة قليلة لم تتمكّن من حمايته و الذبّ عنه... و بذلك فلا حقّ للقرشيّين في الخلافة و لا نصيب لهم بها.

المؤاخذة على سعد:

و تناسى سعد في خطابه المصيبة العظمى التي دهمت المسلمين و هي موت سيّد الكائنات، فلم يشر إليها بقليل و لا بكثير، و لم يعزّ الأنصار بهذا الخطب المروع، كما تناسى في خطابه العترة الطاهرة التي هي وديعة النبيّ في امّته، و عديلة القرآن الكريم، و لم يتعرّض لسيّد المسلمين و إمام المتّقين الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام الذي هو باب مدينة علم النبيّ ، و من كان منه بمنزلة هارون من موسى، فقد تجاهله سعد بالمرّة، و نسى البيعة له يوم غدير خمّ ، فدعا لنفسه و قومه.

لقد أخطأ سعد إلى حدّ بعيد، و لا مبرّر له في عقد مؤتمره، فقد أخلد للامّة الفتن و المصاعب، و ألقاها في شرّ عظيم، و من ذلك اليوم عانت العترة الطاهرة ألوانا قاسية من الكوارث و الخطوب، و آلت الخلافة إلى الطلقاء و أبنائهم فاتّخذوها مغنما و وسيلة لنيل شهواتهم و رغباتهم، و لم يعد للامّة أي ظلّ لمصالحها طيلة الحكم الأموي و العباسي.

و على أي حال فقد لاقى سعد جزاء عمله، فإنّه لم يكد يستقرّ الحكم القصير الأمد إلى أبي بكر حتى جهد في ملاحقته، و فرض الرقابة عليه حتى اضطرّ إلى الهجرة إلى الشام، فتبعه خالد بن الوليد مع صاحب له، فكمنا له ليلا و طعناه و ألقياه في البئر، و تحدّثوا أنّ الجنّ هي التي قتلته و أوردا على لسانها شعرا تفتخر فيه بقتله و هو:

ص:106

نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عباده و رميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده

و من الغريب أنّ دبلوماسية الحكم في ذلك العصر استخدمت الجنّ في أغراضها السياسية، و قد آمن بذلك البسطاء و السذّخ من غير وعي للأهداف السياسية.

ضعف نفسية الأنصار:

و لم تكن للأنصار إرادة صلبة و لا عزم ثابت، فقد منوا بالضعف و الوهن و التخاذل، فكانوا بعد خطاب زعيمهم سعد متخاذلين، فقد أخذ بعضهم يقول لبعض: فإنّ أبى المهاجرون من قريش، و قالوا: نحن المهاجرون و أصحابه الأوّلون و عشيرته و أولياؤه فعلام تنازعون هذا الأمر بعده..

و انبرت طائفة منهم فقالوا:

فإنّا نقول: منّا أمير و منكم أمير، و لن نرضى بدون هذا أبدا..

و أظهرت هذه المحاورة ضعفهم و انهيار عزائمهم و خوفهم من المهاجرين من قريش، و ثار سعد حينما رأى منهم هذه الروح الانهزامية فقال لهم:

هذا أوّل الوهن(1).

أجل إنّ هذا أوّل الوهن و آخره، فقد تنازلوا للقرشيّين و شاركوهم في الأمر في حين أنّ الساحة قد خلت من كلّ قرشي، و قد دلّ هذا على عدم نضوجهم السياسي و عدم عمقهم، فإنّهم قد أحاطوا مؤتمرهم بكثير من الكتمان ليسبقوا الأحداث و يظفروا بالحكم قبل أن يعلم المهاجرون من قريش، فقد ظلّوا قابعين في هذا الصراع الفارغ فأضاعوا عليهم الفرصة، فقد دهمهم المهاجرون و سيطروا على

ص:107


1- الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٢.

الوضع، و استلموا الحكم بمهارة فائقة كما سنبيّن ذلك.

اختلاف الأنصار:

و شيء بالغ الأهميّة في انهزام الأنصار و عدم سيطرتهم على الموقف هو ما منوا به من الصراع القبلي بين الأوس و الخزرج، فقد كانت بينهما أحقاد و ضغائن منذ عهد بعيد، و شاعت بينهما الفتن و الحروب، و كان آخر أيام حروبهم هو (يوم بغاث) و كان ذلك قبل أن يهاجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إليهم، و لمّا حلّ في ديارهم جهد على نشر المحبّة و الوئام فيما بينهم، و لكن لم تزل الأحقاد كامنة في نفوسهم، و قد ظهرت بشكل سافر يوم السقيفة، فإنّه حينما عزموا على مبايعة سعد حقد عليه خضير بن أسيد زعيم الأوس، فقال لقومه:

لئن ولّيتموها - أي الخلافة - سعدا عليكم مرّة واحدة لا زالت لهم بذلك الفضيلة، و لا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر(1).

و حكى ذلك مدى الحقد المستحكم في نفوس الأوس للخزرج، فإنّ سعدا إذا ولي الحكم مرّة واحدة تكون له فضيلة على الأوس و تفوّق عليهم، و فعلا فقد انبرى مع قومه فبايع أبا بكر و لولاه لما تمّ الأمر له.

و مضافا إلى الأحقاد بين الأوس و الخزرج إنّ بعض أبناء الخزرج الذين هم من أسرة سعد كانوا يحقدون عليه، فهذا بشير بن سعد الخزرجي انبرى فبايع أبا بكر.

فذلكة عمر:

و شيء خطير بالغ الأهمّية قام به عمر لتجميد الأوضاع و إيقاف أيّة عملية تؤدّي إلى انتخاب خليفة على المسلمين، فإنّ صاحبه أبا بكر لم يكن في يثرب عند

ص:108


1- الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٢.

وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إنّما كان في السنح (1)، فبعث خلفه من يأتي به على وجه السرعة، و انطلق عمر و هو يجوب في شوارع المدينة، و قد شهر السيف و يلوّح به و ينادي بصوت عال:

إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد مات، و اللّه! ما مات و لكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران... و اللّه ليرجعنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيقطعن أيدي رجال و أرجلهم ممّن أرجفوا بموته...

و جعل لا يمرّ بأحد يقول مات رسول اللّه إلاّ خبطه بسيفه و تهدّده و توعّده.. (2).

و ذهل الناس و ساورتهم موجات من الشكوك و الأوهام، فلا يدرون أ يصدّقون مزاعم عمر بحياة النبيّ و أنّه لم يمت و هي من أعزّ أمانيهم، و من أروع أحلامهم، أم يصدّقون ما عاينوه من جثمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو مسجّى بين أهله لا حراك فيه.

و يستمرّ عمر يجول في الأزقّة و الشوارع و هو يبرق و يرعد حتى أزبد شدقاه، و هو يتهدّد بقتل من أرجف بموت النبيّ و بقطع يده، و لم يمض قليل من الوقت حتى أقبل أبو بكر فانطلق معه إلى بيت النبيّ فكشف الرداء عن وجهه فتحقّق من وفاته، فخرج إلى الناس و أخذ يفنّد مزاعم عمر، و خاطب الجماهير التي أخرسها الخطب و ذهلها المصاب قائلا:

من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، و من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لا يموت، و تلا قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ

ص:109


1- السنح : محل يبعد عن المدينة بميل ، وقيل : هو أحد عواليها ، ويبعد عنها بأربعة أميال.
2- حياة الإمام الحسين بن علي علیهماالسلام ١ : ٢٤١ ، نقلا عن شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد.

ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ (1)و صدق عمر بسرعة مقالته، و راح يقول: فو اللّه ما هو إلاّ إذا سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، و قد علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد مات..(2).

نظرة و تأمّل:

اشارة

و لم تكن الحادثة بسيطة و ساذجة، فقد حفّت بالغموض و يواجهها عدّة من التساؤلات و هي:

1 - إنّ القرآن الكريم أعلن بصراحة و وضوح أنّ كلّ إنسان لا بدّ أن يسقى كأس المنية، سواء أ كان نبيّا أم غيره، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (3)، و قال تعالى في خصوص نبيّه: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .. .

و هذه الآيات الكريمة تتلى في وضح النهار و في غلس الليل، فهل خفيت على أبي حفص و لم يسمعها، و هو يصاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يماسيه، و يسمع منه ما يتلوه من كتاب اللّه.

2 - إنّ عمر بالذات كان متفائلا بموت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقد قال لاسامة بن زيد

ص:110


1- آل عمران : ١٤٤.
2- الكامل في التاريخ ٢ : ٢١٩.
3- العنكبوت : ٥٧.

حينما ولاّه النبيّ على الجيش الذي فيه عمر و أبو بكر: مات رسول اللّه و أنت عليّ أمير، و هذا يدلّ بوضوح على أنّه كان مطمئنّا بوفاته، مضافا إلى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أيامه الأخيرة قبل مرضه و بعده قد نعى نفسه إلى المسلمين.

3 - إنّ عمر هو الذي حال بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بين ما رامه من الكتابة التي ضمن فيها أن لا تضلّ امّته في جميع الأحقاب و الآباد، فقال له: حسبنا كتاب اللّه، و قال:

إنّ النبيّ يهجر، و من المؤكّد انّه إنّما قال ذلك بعد الاعتقاد بوفاته، و لو كان يحتمل أنّ النبيّ لا يموت في مرضه لما قال ذلك.

4 - إنّ سكوت عمر و هدوء ثورته الجامحة حينما جاء أبو بكر و أعلن وفاة النبيّ ، فصدّقه و لم يناقشه، فإنّه يقضي على اتّفاق مسبق بينهما في ذلك.

5 - إنّ حكم عمر بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سوف يرجع إلى الأرض و يقطع أيدي رجال و أرجلهم ممّن ارجفوا بموته لا يخلو من مناقشة، فإنّ تقطيع الأيدي و الأرجل و الحكم بالاعدام إنّما هو على الذين يخرجون عن دين اللّه أو يسمعون في الأرض فسادا، و الذهاب إلى موت الرسول لا يوجب ذلك قطعا.

6 - إنّ حكم أبي بكر بأنّ من كان يعبد محمّدا فإنّه قد مات، و من كان يعبد اللّه فإنّ اللّه حيّ لا يموت لا يخلو من النظر؛ لأنّه لم يؤثر عن أي أحد من المسلمين أنّه كان يعبد محمّدا و اتّخذه ربّا يعبده من دون اللّه، و إنّما أجمع المسلمون على أنّه عبد اللّه و رسوله اختاره اللّه لوحيه، و اصطفاه لرسالته..

هذه بعض الملاحظات التي تحوم حول هذه الحادثة، و قد ذكرناها في كتابنا (حياة الإمام الحسين عليه السّلام)

مداهمة الأنصار:

و بينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم و يتداولون الرأي في شئون

ص:111

الخلافة و يحدّدون موقفهم من المهاجرين من قريش إذ خرج من مؤتمرهم - و هم لا يشعرون - عويم بن ساعدة الأوسي، و معن بن عدي حليف الأنصار، و كانا من أولياء أبي بكر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من أعضاء حزبه، كما كانا من ألدّ أعداء سعد، فانطلقا مسرعين صوب أبي بكر، و أحاطاه علما بما جرى، و فزع أبو بكر و عمر و سارعا نحو السقيفة، و معهما أبو عبيدة بن الجرّاح، و سالم مولى أبي حذيفة، و جماعة من المهاجرين، فكسبوا الأنصار في ندوتهم، و ذعر الأنصار و أسقط ما بأيديهم، و غاض لون سعد و خاف من خروج الأمر منهم، و ذلك لعلمه بضعف الأنصار و تصدّع وحدتهم، و فعلا فقد فشل سعد و انهارت جميع مخطّطاته.

خطاب أبي بكر:

و بعد أن داهم المهاجرون ندوة الأنصار أراد عمر أن يفتح الحديث معهم فنهره أبو بكر، و ذلك لعلمه بشدّته، و هي لا تنجح في مثل هذا الموقف الملبّد بالضغائن و الأحقاد، الأمر الذي يستدعي الكلمات الناعمة لكسب الموقف، فانبرى أبو بكر فخاطب الأنصار و قابلهم ببسمات فيّاضة بالبشر قائلا:

نحن المهاجرين أوّل الناس إسلاما، و أكرمهم أحسابا، و أوسطهم دارا، و أحسنهم وجوها، و أمسّهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و أنتم اخواننا في الإسلام، و شركاؤنا في الدين، نصرتم و واسيتم فجزاكم اللّه خيرا، فنحن الأمراء و أنتم الوزراء، لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش، فلا تنفسوا على اخوانكم المهاجرين ما فضّلهم اللّه به، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين - يعنى عمر بن الخطّاب و أبا عبيدة بن الجرّاح (1) -.

ص:112


1- تاريخ الطبري ٣ : ٦٢.

دراسة و تحليل:

و مني خطاب أبي بكر بكثير من التساؤلات، كان منها ما يلي:

1 - إنّه لم يعن بصورة مطلقة بوفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله التي هي أعظم كارثة مدمّرة فجع بها المسلمون، فكان الأجدر به - فيما يقول المحقّقون - أن يعزّي الحاضرين بوفاة المنقذ العظيم الذي برّ بدين العرب و دنياهم، و يدعوهم إلى الالتفاف حول جثمانه حتى يواروه في مقرّه الأخير، و يعودوا بعد ذلك إلى عقد مؤتمر عامّ يضمّ المسلمين لينتخبوا عن إرادتهم و حرّيتهم من يرضونه خليفة لهم - على فرض أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يعهد إلى الإمام عليه السّلام بولاية العهد -.

2 - إنّ هذا الخطاب قد حفل أوّلا و أخيرا بطلب الامرة و السلطان، و قد عرض أبو بكر على الأنصار التنازل عن الخلافة و منحها للمهاجرين و منّاهم عوض ذلك أن تكون لهم الوزارة، إلاّ أنّه من المؤسف لمّا تمّ له الأمر لم يقلّدهم أي منصب من مناصب الدولة و أقصاهم عن جميع مراتب الحكم.

3 - و تجاهل خطاب أبي بكر بالمرّة حقّ الاسرة النبوية التي هي عديلة القرآن، أو كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق و هوى، حسبما تواترت الأخبار بذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و كان الأجدر بأبي بكر التريث بالأمر حتى يتمّ تجهيز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و يؤخذ رأي عترته الطاهرة في الخلافة حتى تحمل طابعا شرعيا، و لا يحدث انقسام بين صفوف المسلمين، و لا توصم بيعته بأنّها فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها - كما يقول عمر -، و علّق الإمام شرف الدين على إهمال العترة الطاهرة و عدم أخذ رأيّها في بيعة أبي بكر بقوله:

لو فرض أنّ لا نصّ بالخلافة على أحد من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و فرض كونهم غير

ص:113

مبرزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم و عمل أو ايمان أو إخلاص، و لم يكن لهم السبق في مضامير كلّ فضل، بل كانوا كسائر الصحابة، فهل كان مانع شرعي أو عقلي أو عرفي يمنع من تأجيل عقد البيعة إلى فراغهم من تجهيز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لو بأن يوكل حفظ الأمن إلى القيادة العسكرية مؤقّتا حتى يستتبّ أمر الخلافة.

أ ليس هذا المقدار من التريث كان أرفق بأولئك المفجوعين و هم وديعة النبيّ لديهم، و بقيّته فيهم، و قد قال اللّه تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (1)؟ أ ليس من حقّ هذا الرسول الذي يعزّ عليه عنت الامّة، و يحرص على سعادتها و هو الرءوف بها الرحيم لها أن لا تعنت عترته فلا تفاجأ بمثل ما فوجئت به، و الجرح لمّا يندمل و الرسول لما يقبر (2).

4 - إنّ الحجّة التي استند إليها أبو بكر في أحقّية المهاجرين للخلافة هي أنّهم أمسّ الناس رحما برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أقربهم إليه، و بهذه الحجّة تغلّب على الأنصار، و ممّا لا ريب فيه أنّ هذا الملاك متوفّر في أهل البيت فهم ألصق الناس به، و أمسّهم رحما به،

و قد عرض لذلك الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله:

احتجّوا بالشّجرة، و أضاعوا الثّمرة.

و أثر عنه أنّه خاطب أبا بكر بقوله:

فإن كنت بالشّورى ملكت أمورهم فكيف بهذا و المشيرون غيّب

و إن كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبيّ و أقرب

1

ص:114


1- التوبة : ١٢٨.
2- النصّ والاجتهاد : ٧.

و قال الإمام عليه السّلام في حديث له:

«و اللّه! إنّي لأخوه - أي أخو النبيّ -، و وليّه، و ابن عمّه، و وارث علمه، فمن هو أحقّ به منّي...؟».

و التفت المتكلّمون من الشيعة إلى هذه الجهة، يقول الكميت في إحدى روائعه:

بحقّكم أمست قريش تقودنا و بالقذّ منها و الرديفين نركب

و قالوا ورثناها أبانا و أمّنا و ما ورثتهم ذاك أمّ و لا أب

يرون لهم فضلا على الناس واجبا سفاها و حقّ الهاشميّين أوجب (1)

و على أي حال فقد أعرض القوم عن أهل البيت عامدين أو غير عامدين، فواجهت الامّة منذ ذلك اليوم إلى أن يرث اللّه الأرض و ما عليها أعنف المشاكل و أقسى ألوان الخطوب.

5 - إنّ أبا بكر في خطابه رشّح لقيادة الامّة عمر و أبا عبيدة بن الجراح، و كان ذلك منه التفاتة بارعة، فقد جرّد نفسه من الأطماع السياسية، و غزا نفوس الأنصار، و ملك عواطفهم و مشاعرهم، و قد أجابه عمر بلباقة:

لا يكون هذا و أنت حيّ ، ما كان أحد ليؤخّرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله...

و علّق بعض المحقّقين على مقالة عمر بقوله: لا نعلم متى أقامه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، أو دلّل عليه، و قد كان مع بقيّة المهاجرين جنودا في سرية أسامة، و لو كان قد رشّحه للخلافة لأقامه معه في يثرب، و ما أخرجه إلى ساحات الجهاد.

ص:115


1- الهاشميات : ٣١ _ ٣٣.

هذه بعض الملاحظات التي تواجه خطاب أبي بكر.

فوز أبي بكر بالحكم:

و كسب الموقف أبو بكر في خطابه السالف الذي أثنى فيه على الأنصار، فقد منّاهم بالوزارة، و أزال ما في نفوسهم ما كانوا يحذرونه من استبداد المهاجرين بالحكم، إلاّ أنّ بعض الأنصار شجب البيعة لأبي بكر، فردّ عليه عمر بعنف قائلا:

هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، و اللّه! لا ترضى العرب أن يؤمّروكم و نبيّها من غيركم، و لكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم، و ولي امورهم منهم، و لنا بذلك على من أبى الحجّة الظاهرة و السلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمّد و امارته و نحن أولياؤه و عشيرته ؟ إلاّ مدل بباطل أو متجانف لاثم أو متورّط في هلكة..

و ليس في هذا الكلام شيء جديد سوى أنّ المهاجرين من قريش أولى بالرسول لأنّهم من أسرته القرشية، و إذا أخذوا الحكم بهذه الحجّة و سيطروا على الموقف بها فإنّ عليّا أولى لأنّه من صميم الاسرة النبوية بالاضافة إلى جهاده و جهوده في سبيل الإسلام، يقول الأستاد محمّد الكيلاني:

إنّه احتجّ عليهم - أي على آل النبيّ - بقرابة المهاجرين للرسول، و مع ذلك فقد كان واجب العدل يقضي بأن تكون الخلافة لعليّ بن أبي طالب ما دامت القرابة اتّخذت سندا بحيازة ميراث الرسول، لقد كان العبّاس أقرب الناس إلى النبيّ ، و كان أحقّ الناس بالخلافة، و لكنّه تنازل بحقّه هذا لعليّ ، فمن هنا صار لعليّ الحقّ وحده في هذا المنصب (1).

و على أي حال فإنّ عمر لم ينته من كلامه حتى ردّ عليه الحبّاب بقوله:

ص:116


1- أثر التشيّع في الأدب العربيّ : ٥.

يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فاجلوهم عن هذه البلاد، و تولّوا عليهم هذه الامور، فأنتم - و اللّه! - أحقّ بهذا الأمر منهم؛ فإنّه بأسيافكم، دان الناس لهذا الدين من دان ممّن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحك، و عذيقها المرجب، أنا شبل في عرينة الأسد و اللّه! لو شئتم لنعيدنها جذعة، و اللّه! لا يرد أحد عليّ ما أقول إلاّ حطّمت أنفه بالسيف..».

و حفل هذا الخطاب بالعنف و التهديد، و الدعوة إلى الحرب، و إجلاء المهاجرين - الذين لا يتجاوز عددهم الأصابع - عن يثرب، كما حفل بالاعتزاز بنفس المتكلّم و الافتخار بشجاعته، و ردّ عليه عمر بغيظ قائلا:

إذا يقتلك اللّه...

فردّ عليه الحبّاب:

بل إيّاك يقتل..

و خاف أبو بكر من تطوّر الأحداث فهدأ الموقف و بادر أعضاء حزبه بسرعة خاطفة فبايعوه، و كان أوّل من بايعه عمر و بشير و أسيد بن خضير و عويم بن ساعدة و معن بن عدي و أبو عبيدة بن الجرّاح و سالم مولى أبي حذيفة، و كان من أشدّهم حماسا و اندفاعا لبيعته عمر و خالد بن الوليد، و اشتدّ هؤلاء في حمل الناس و إرغامهم على مبايعة أبي بكر، و جعل عمر يجول و يصول و يدفع الناس دفعا إلى البيعة، و من أبى علاه بدرته، و سمع الأنصار يقولون:

قتلتم سعدا...

فاندفع يقول بعنف:

اقتلوه قتله اللّه، فإنّه صاحب فتنة..

ص:117

و كادوا يقتلون سعدا، و هو مزمن وجع، و حمل إلى داره و هو وجع قد انهارت آماله و تبدّدت أحلامه و ضاعت أمانيه.

و انتهت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة، فأقبل به حزبه يزفّونه إلى مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله زفاف العروس إلى بيت زوجها(1)، و قد علا منهم التكبير و التهليل، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسجّى في فراش الموت لم يغيبه عن عيون القوم مثواه، و قد انشغل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بتجهيزه، و لمّا علم بيعة أبي بكر تمثّل بقول القائل:

و أصبح أقوام يقولون ما اشتهوا و يطغون لما غال زبد غوائل (2)

و على أي حال لقد تمّت البيعة لأبي بكر بهذه الكيفيّة التي اهمل فيها رأي الاسرة النبوية و رأي خيار الصحابة أمثال الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر و أبي ذرّ و سلمان الفارسي و غيرهم من أعلام الإسلام.

هزيمة الأنصار:

و أفل نجم الأنصار و انهارت قواهم، و عراهم الذلّ و الهوان، و قد حكى حسّان ابن ثابت خيبة آمالهم بقوله:

نصرنا و آوينا النبيّ و لم نخف صروف الليالي و البلاء على وجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا كقسمة أبسار الجزور من الفضل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم جهالتهم حمقا و ما ذاك بالعدل(3)

و تعرّضت الأنصار للمحن و الخطوب في كثير من عهود الخلفاء و الملوك،

ص:118


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٨.
2- المصدر السابق : ٥.
3- المصدر السابق ٦ : ١٠ _ ١١.

و كان ذلك جزاء ما اقترفوه في حقّ العترة الطاهرة، فهم الذين فتحوا الباب لظلمهم و الاعتداء عليهم.

ابتهاج القرشيّين:

و ابتهجت الاسر القرشية بحكومة أبي بكر و اعتبرته فوزا ساحقا لهم، و قد عبّر عن مدى فرحها و سرورها أبو عبرة القرشي بقوله:

شكرا لمن هو للثّناء حقيق ذهب اللجاج و بويع الصدّيق

من بعد ما زلّت بسعد نعله و رجا رجاء دونه العيّوق

إنّ الخلافة في قريش ما لكم فيها و ربّ محمّد معروق (1)

و حكى هذا الشعر سرور القرشيّين البالغ بحرمان الأنصار من الخلافة، كما أظهر عمرو بن العاص سروره و فرحه ببيعة أبي بكر، و لم يكن في يثرب و إنّما كان في سفر له، فلمّا قدم و سمع بالبيعة قال:

قل لأوس إذا جئتها و قل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب فأنزلت القدر لم تنضج(2)

لقد عمّت الفرحة الكبرى جميع القرشيّين ببيعة أبي بكر، فقد تخلّصوا من حكومة الأنصار و حكومة الاسرة النبوية.

موقف أبي سفيان:

و أعلن أبو سفيان معارضته لحكومة أبي بكر، و مضى إلى الإمام عليه السّلام يحفّزه على فتح باب الحرب على أبي بكر، و يعده بنصره إن نهض لاسترداد حقّه يقول له:

ص:119


1- الموفّقيات : ٨٠. شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٦ : ٨.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٦ : ٨.

إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من اموركم.

أين المستضعفان ؟ أين الأذلاّن عليّ و العبّاس ؟..

ما بال الأمر في أقلّ حيّ من قريش ؟ ثمّ قال للإمام:

ابسط يدك ابايعك، فو اللّه! لئن شئت لأملأنّها عليه خيلا و رجالا، و تمثّل بشعر المتلمّس:

و لن يقيم على خسف يراد به إلاّ الأذلاّن عير الحيّ و الوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته و ذا يشجّ فلا يبكي له أحد

و قال أبو سفيان:

و أضحت قريش بعد عزّ و منعة خضوعا لتيم لا بضرب القواضب

فيا لهف نفسي للذي ظفرت به و ما زال منها فائزا بالرغائب(1)

و لم يكن موقف أبي سفيان متّسما بالإخلاص و الولاء للإمام، فهو العدوّ الأوّل للإسلام و للمسلمين، و لم تكن تخفى على الإمام دوافعه، فلم يستجب له و نهره و أغلظ له في القول قائلا:

«و اللّه! ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، و إنّك و اللّه! طالما بغيت للإسلام شرّا، لا حاجة لنا في نصيحتك»(2).

و راح أبو سفيان يشتدّ لإثارة الفتنة بين المسلمين، و يدعو الإمام إلى إعلان الثورة على حكومة أبي بكر، و كان ينشد هذه الأبيات:

ص:120


1- الأغاني ٦ : ٣٥٦.
2- الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٠.

بني هاشم لا تطمعوا النّاس فيكم و لا سيّما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمر إلاّ فيكم و إليكم و ليس لها إلاّ أبو حسن علي

أبا حسن فاشدد بها كفّ حازم فإنّك بالأمر الذي يرتجى علي(1)

و من المؤكّد أنّه لم تكن معارضة أبي سفيان ناشئة عن إيمان بحقّ الإمام و إخلاص له، فإنّه بعيد عن ذلك كلّ البعد، و إنّما كانت عواطف كاذبة أراد بها الكيد للإسلام و البغي عليه، و تمزيق صفوف المسلمين، و لذا أعرض الإمام عنه و لم يعر لكلامه أي اهتمام.

لقد كانت علاقة أبي سفيان بأبي بكر وثيقة للغاية، فقد روى البخاري أنّ أبا سفيان اجتاز على جماعة من المسلمين فيهم أبو بكر و سلمان و صهيب و بلال فقال بعضهم:

أ ما أخذت سيوف اللّه من عنق عدوّ اللّه مأخذها؟ فزجرهم أبو بكر قائلا:

أ تقولون هذا لشيخ قريش و سيّدهم ؟ و مضى

أبو بكر مسرعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبره بمقالة القوم في أبي سفيان، فردّ عليه النبي قائلا: «يا أبا بكر، لعلّك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت اللّه...»(2).

و دلّت هذه البادرة على الصلة الوثيقة بينهما، كما كانت الصلة وثيقة للغاية بين أبي سفيان و عمر، فقد أفرد عمر غرفة في داره فرشها بأحسن فرش، و لم يسمح

ص:121


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٦ : ٧.
2- صحيح البخاري ٢ : ٣٦٢.

لأحد بالدخول إليها إلاّ لأبي سفيان، و قد سئل عن ذلك فقال: هذا شيخ قريش (1).

و على أي حال فقد جهد أبو بكر في استمالة أبي سفيان و كسب عواطفه، فقد استعمله عاملا على ما بين آخر الحجاز و آخر حدّ من نجران (2)، كما عيّن ولده يزيد واليا على الشام، و لم يعيّن أحدا من أعلام المسلمين واليا في هذا المكان الحسّاس، و يقول المحلّلون للأخبار إنّ نجم بني أميّة قد علا في أيام حكومة أبي بكر.

موقف الإمام من بيعة أبي بكر:

و أجمع المؤرّخون و الرواة على أنّ موقف الإمام تجاه بيعة أبي بكر كان متّسما بالكراهية و عدم الرضا، فهو أحقّ بالخلافة و أولى بها من غيره؛ لأنّه ألصق الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بالاضافة إلى ما يتمتّع به من القابليات الفذّة و المواهب العظيمة التي لم تتوفّر بعضها في غيره، و ما كان يظنّ أنّ القوم يزعجون هذا الأمر و يخرجونه عنه، فقد بادره عمّه العبّاس قائلا:

يا ابن أخي، امداد يدك ابايعك فيقول الناس عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بايع ابن عمّ رسول اللّه فلا يختلف عليك اثنان..

فردّ عليه الإمام: «من يطلب هذا الأمر غيرنا...»(3).

و علّق الدكتور طه حسين عميد الأدب العربيّ على ذلك بقوله:

نظر العباس في الأمر فرأى ابن أخيه أحقّ منه بوراثة السلطان؛ لأنّه ربيب النبيّ ، و صاحب السابقة في الإسلام، و صاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد

ص:122


1- سير أعلام النبلاء ٣ : ٣٤١.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٦ : ١٠ _ ١١. حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٥٣.
3- الإمامة والسياسة ١ : ٤.

كلّها؛ و لأنّ النبيّ كان يدعوه أخاه حتى قالت له أمّ أيمن ذات يوم مداعبة: تدعوه أخاك و تزوّجه ابنتك ؟ و لأنّ

النبي قال له: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»،

و قال للمسلمين يوما آخر: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»، من أجل ذلك أقبل العبّاس بعد وفاة النبيّ على ابن أخيه و قال له: ابسط يدك ابايعك..(1).

و على أي حال فإنّ الإمام امتنع عن بيعة أبي بكر، و أعلن سخطه البالغ على ذلك في كثير من خطبه و كلماته.

امتناع الإمام من البيعة:

و أجمع رأي الجهاز الحاكم على ارغام الإمام و قسره على البيعة لأبي بكر، فأرسلوا حفنة من الشرطة فأحاطت بداره، و أمامهم عمر بن الخطّاب و هو يرعد و يبرق و يتهدّد و يتوعّد، و بيده قبس من نار يريد أن يحرق بيت الوحي، فخرجت إليه حبيبة الرسول و بضعته الصدّيقة الطاهرة الزهراء فصاحت به:

«ما الّذي جئت به يا ابن الخطّاب ؟».

فأجابها بعنف: الذي جئت به أقوى ممّا جاء به أبوك (2).

ص:123


1- علي وبنوه : ١٩.
2- أنساب الأشراف للبلاذري ٢ : ١٠ ، وقد أجمع المؤرّخون والرواة على تهديد عمر للإمام بإحراق داره ، يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم : وقولة لعليّ قالها عمر أكرم بسامعها أعظم بملقيها حرقت دارك لا أبقي عليك بها إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها ما كان غير أبي حفص بقائلها أمام فارس عدنان وحاميها وقد نصّت على ذلك هذه المصادر : الإمامة والسياسة ١ : ١٢. شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٣٤. تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢. تاريخ أبي الفداء ١ : ١٥٦. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٠٥. الأموال _ أبو عبيد : ١٣١. مروج الذهب ١ : ٤١٤. الإمام عليّ بن أبي طالب _ عبد الفتّاح عبد المقصود ١ : ٢١٣. أعلام النساء ٣ : ٢٠٥.

و أخرج الإمام بعنف، و جيء به إلى أبي بكر، فصاح به حزبه:

بايع أبا بكر.

فأجابهم الإمام بحجّته الدامغة - و هو غير و جل من جبروتهم - قائلا:

«أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، لا ابايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، و احتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و تأخذونه منّا أهل البيت غصبا، أ لستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله منكم فأعطوكم المقادة و سلّموا إليكم الإمارة ؟ و أنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول اللّه حيّا و ميّتا فانصفونا إن كنتم تؤمنون و إلاّ فبوءوا بالظّلم و أنتم تعلمون»(1).

و حكى هذا الخطاب الحجّة التي تغلّب بها المهاجرون من قريش على الأنصار، و هي قربهم من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فإنّها متوفّرة فيه على أكمل الصور و الوجوه، فهو ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أبو سبطيه، و ختنه على ابنته، و لم يجد هذا المنطق الفيّاض مع القوم، فاندفع عمر بعنف قائلا:

بايع.

«و إن لم أفعل ؟».

و اللّه! الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك.

و نظر الإمام فإذا ليس له معين و لم يكن يأوي إلى ركن شديد، فقال بصوت حزين النبرات:

«إذن تقتلون عبد اللّه و أخا رسوله».

ص:124


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام١ : ٢٥٦.

و اندفع ابن الخطّاب بثورة قائلا:

أمّا عبد اللّه فنعم، و أمّا أخو رسوله فلا.

و نسى عمر أنّ الإمام أخو النبيّ و باب مدينة علمه، و التفت إلى أبي بكر يحثّه على الوقيعة به قائلا:

أ لا تأمر فيه بأمرك ؟...

و خاف أبو بكر من الفتنة فقال:

لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جانبه...

و انبرى أبو عبيدة بن الجرّاح، و هو من أبرز أنصار أبي بكر فخاطب الإمام قائلا: يا ابن عمّ ، إنّك حدث السنّ و هؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم و معرفتهم بالامور، و لا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك و أشدّ احتمالا و اضطلاعا به، فسلّم الأمر لأبي بكر، فإنّك إن تعش و يطل بك بقاء، فأنت لهذا الأمر خليق، و به حقيق في فضلك و دينك و علمك و سابقتك و نسبك و صهرك....

و أثارت هذه المخادعة كوا من الألم و الأسى في نفس الإمام فاندفع يخاطب المهاجرين و يعظهم قائلا:

«اللّه اللّه يا معشر المهاجرين! لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره، و قعر بيته إلى دوركم و قعور بيوتكم، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في النّاس و حقّه..

فو اللّه يا معشر المهاجرين! لنحن أحقّ النّاس به - لأنّا أهل البيت -، و نحن أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فينا إلاّ القارى لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، المضطلع بأمر الرّعيّة، الدّافع عنهم الأمور السّيّئة، القاسم بينهم بالسّويّة، و اللّه! إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحقّ بعدا»(1).

ص:125


1- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ١٥٧ ، نقلا عن الإمامة والسياسة ١ : ١١.

و حفل كلام الإمام عليه السّلام بما يتمتّع به أهل البيت من الصفات القيادية من الفقه بدين اللّه و العلم بسنن رسول اللّه، و الاضطلاع بامور الرعية، و غير ذلك من الصفات التي يعتبرها الإسلام فيمن يتولّى شئون الحكم، و هي لم تتوفّر إلاّ في أهل البيت عليهم السّلام.

احتجاجات صارمة:

اشارة

و تخلّفت الاسرة النبوية و من يتّصل بها من أعلام الإسلام عن بيعة أبي بكر، و احتجّت عليه بحجج دامغة بأنّ آل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أولى بمقامه، و أحقّ بمركزه منه، و نعرض لها فيما يلي:

1 - احتجاج الإمام أمير المؤمنين:

و احتجّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بكوكبة من الاحتجاجات الصارمة على أبي بكر، و قد ذكرنا احتجاجاته عليه و على غيره في جزء خاصّ من هذه الموسوعة.

2 - الزهراء:

اشارة

احتجّت سيّدة نساء العالمين على أبي بكر و غيره بحجج بالغة على أحقّية الإمام للخلافة، و ندّدت بما اقترفه القوم من إقصاء الإمام عنها، و أنّ الامّة من جرّاء ذلك ستواجه أعنف المشاكل و أقسى ألوان الخطوب،

قالت سلام اللّه عليها:

ويحهم أنّى زحزحوها - أي الخلافة - عن رواسي الرّسالة، و قواعد النّبوّة، و مهبط الرّوح الأمين! و الطّبن (1) بأمور الدّنيا و الدّين، ألا ذلك هو الخسران المبين،

ص:126


1- الطبن : الخيبر.

و ما الّذي نقموا من أبي الحسن ؟ نقموا و اللّه! منه نكير سيفه، و قلّة مبالاته لحتفه، و شدّة وطأته، و نكال وقعته، و تنمّره في ذات اللّه.

و تاللّه لو مالوا عن المحجّة اللاّئحة، و زالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لردّهم إليها، و حملهم عليها، و لسار بهم سيرا سجحا (1)، لا يكلم خشاشه(2)، و لا يكلّ سائره، و لا يملّ راكبه، و لأوردهم منهلا نميرا صافيا رويّا، تطفح ضفّتاه (3)، و لا يترنّق جانباه، و لأصدرهم بطانا (4)، و نصح لهم سرّا و إعلانا.

ألا هلمّ فاسمع، و ما عشت أراك الدّهر عجبا! أما لعمري، لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثمّ احتلبوا ملء القعب دما عبيطا، و ذعافا(5)مبيدا، هنالك يخسر المبطلون، و يعرف التّالون غبّ ما أسّس الأوّلون. ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفسا، و اطمئنّوا للفتنة جأشا، و أبشروا بسيف صارم، و سطوة معتد غاشم، و بهرج شامل، و استبداد من الظّالمين، يدع فيئكم زهيدا، و جمعكم حصيدا.

فيا حسرة لكم، و أنّى بكم، و قد عمّيت عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ(6).

استبدلوا و اللّه! الذّنابي بالقوادم، و العجز بالكاهل (7)، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. ألا إنّهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون، ويحهم

ص:127


1- أي سهلا.
2- الخشاش : عود يجعل في أنف البعير يشدّ به الزمام.
3- تطفح ضفّتاه : أى يمتلئ ويفيض منه الماء.
4- أصدرهم بطانا : أي أشبعهم وأفاض عليهم بالخير.
5- الذعاف : الطعام الذي يجعل فيه السم.
6- هود : ٢٨.
7- الكاهل : سند القوم ومعتمدهم.

أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (1)؟(2).

محتويات الاحتجاج:

و شجبت بضعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله في خطابها على نساء الأنصار و المهاجرين بيعة أبي بكر، و أنّهم قد جافوا بها عترة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قد حفل خطابها الذائع البليغ بما يلي:

أوّلا: أنّها أدلت بالأسباب التي من أجلها أعرض القوم عن بيعة الامام، و هي:

1 - نكير سيف الإمام الذي حصد به رءوس المشركين من قريش، ذلك السيف الذي كان معجزة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قد أولد في نفوس القوم حقدا على الإمام و كراهية له.

2 - شدّة وطأة الإمام، فإنّه لم يصانع طيلة حياته، و لم يهب أحدا، و لم تأخذه في اللّه تعالى لومة لائم، الأمر الذي ملأ قلوب أعداء اللّه عليه غيظا و حنقا.

3 - تنمّره في ذات اللّه، فقد وهب حياته للّه تعالى، و تنكّر للقريب و البعيد إرضاء للّه و تفانيا في طاعته... هذه هي الأسباب التي أدّت إلى إعراض القوم عن بيعة الإمام عليه السّلام.

ثانيا: إنّ الامّة لو تابعت الإمام و أخذت بهديه لظفرت بما يلي:

1 - أن يسير فيهم بسيرة العدل الخالص، و الحقّ المحض، و يحكم فيهم بما أنزل اللّه.

2 - أنّه يوردهم منهلا عذبا و يقودهم إلى شاطئ الأمن و السلام.

ص:128


1- يونس : ٣٥.
2- بلاغات النساء : ٢٣. أعلام النساء ٣ : ٢١٩ و ٢٢٠.

3 - أنّه ينصح لهم في السرّ و العلانية، و يهديهم إلى سواء السبيل.

4 - أنّ الإمام لو تقلّد زمام الحكم لما تحلّى من دنياهم بطائل، و ما استأثر من أموالهم بشيء من متع الحياة، و حينما صارت إليه الخلافة اكتفى من دنياه بطمريه، و من طعامه بقرصيه، و ما وضع لبنة على لبنة، و عاش عيشة الفقراء البائسين، و هو القائل:

أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، و لا أشاركهم في مكاره الدّهر و جشوبة العيش! 5 - أنّ الإمام لو تقلّد الحكم بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لانتشرت خيرات اللّه و بركاته و عمّت جميع أنحاء الأرض، و لأكل الناس من فوق رءوسهم و من تحت أرجلهم، و لكن المسلمين حرموا أنفسهم و حرموا الأجيال الآتية من بعدهم، فقد استبدلوا الذنابى بالقوادم، و العجز بالكاهل، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

ثالثا: إنّ بضعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله استشفّت من وراء الغيب ما تعانيه الامّة من الأزمات و الخطوب من جرّاء ما اقترفه القوم من إقصاء الإمام عليه السّلام عن الحكم و هي:

1 - انتشارات الفتن بين المسلمين و تفلّل وحدتهم.

2 - تنكيل السلطات الحاكمة بهم.

3 - استبداد الظالمين بشئونهم.

و قد تحقّق كلّ ذلك على مسرح الحياة الإسلامية حينما ولي معاوية على المسلمين فأمعن في ظلمهم و إرهاقهم، و سلّط عليهم جلاوزته الجلاّدين أمثال سمرة بن جندب و المغيرة بن شعبة و زياد بن أبيه، و بسر بن أرطاة و أمثالهم من الجناة الذين لا يرجون للّه و قارا، فنشروا الخوف و أخذوا الناس بالظنّة و التهمة، خصوصا في عهد زياد؛ فقد سمل الأعين، و استخرج قلوب المسلمين، و صلب على جذوع

ص:129

النخل، أبعده اللّه عن رحمته.

و ولّى معاوية من بعده ابنه يزيد صاحب الاحداث و الموبقات، فاقترف من الجرائم ما لا توصف لمرارتها و قسوتها، و أخلد للمسلمين الفتن و المصائب و ذلك بإبادته لعترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في صعيد كربلاء، مضافا إلى ما اقترفه في المدينة المنوّرة من الآثام، فقد أباحها لجنده و حمل أهلها على البيعة له على أنّهم عبيد له، كما هدم الكعبة و أحرقها بالنار.

استنجاد الزهراء ببني قيلة:

و استنجدت بضعة الرسول و ريحانته ببني قيلة، و هم القوّة الضاربة من الأنصار في الجيش الإسلامي فقالت لهم:

«أيها بني قيلة، أ أهضم تراث أبي و أنتم بمرأى منّي و مسمع و منتدى و مجمع، تلبسكم الدّعوة، و تشملكم الخبرة، و أنتم ذوو العدد و العدّة و الأداة و القوّة، و عندكم السّلاح و الجنّة، توافيكم الدّعوة فلا تجيبون، و تأتيكم الصّرخة فلا تغيثون، و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير و الصّلاح، و النّخبة التي انتخبت، و الخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت.

قاتلتم العرب، و تحمّلتم الكدّ و التّعب، و ناطحتم الامم، و كافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام، و درّ حلب الأيّام، و خضعت نعرة الشّرك، و سكنت فورة الإفك، و خمدت نيران الكفر، و هدأت دعوة الهرج، و استوسق نظام الدّين، فأنّى حزتم بعد البيان، و أسررتم بعد الإعلان، و نكصتم بعد الإقدام، و أشركتم بعد الإيمان ؟(1).

و أثارت حفائظ النفوس، و ألهبت نار الثورة في النفوس، إلاّ إنّ أبا بكر استقبلها

ص:130


1- أعلام النساء ٣ : ٢١٤.

باحترام بالغ، فأخمد الثورة و شلّ حركتها.

3 - الإمام الحسن:

كان الإمام الحسن عليه السّلام لا يتجاوز عمره سبع سنين حينما ولّي أبو بكر، فقد انطلق إلى مسجد جدّه فرأى أبا بكر على المنبر، فوجّه إليه لاذع القول قائلا:

«انزل عن منبر أبي و اذهب إلى منبر أبيك...».

فبهت أبو بكر و أخذته الحيرة و الدهشة، و استردّ خاطره فقال له بناعم القول:

صدقت، و اللّه! إنّه لمنبر أبيك لا منبر أبي (1).

إنّ احتجاج الإمام الحسن عليه السّلام و هو في غضون الصبا انبعث عن طموح و عبقرية و ذكاء، كان يرى المنبر يرقاه جدّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هو لا يجد أحدا خليقا بأن يرقاه سوى أبيه سيّد الأوصياء.

4 - سلمان الفارسي:

و هو من أكثر الصحابة و عيا للإسلام و إحاطة بأحكامه و مبادئه، و قد عنى به الرسول فألحقه بأسرته، فقال:

«سلمان منّا أهل البيت»،

«لا تقولوا سلمان الفارسيّ و لكن قولوا سلمان المحمّدي»، و حرّم عليه الصدقة كما حرّمها على أهل بيته،

فقال:

«الصّدقة حرام على سلمان»، و لمّا رأى هذا الصحابي العظيم الخلافة قد انتزعت من العترة الطاهرة اندفع إلى الانكار على أبي بكر فقال له:

ص:131


1- الرياض النضرة ١ : ١٣٩. شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ١٧. مقتل الحسين _ الخوارزمي ١ : ٩٣. مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٧٢. وفي الاصابة ( ٢ : ١٥ ) : « إنّ هذا الاحتجاج كان من الإمام الحسين » ، وجاء في الصواعق المحرقة : ١٠٥ وفي الصبيان المطبوع على هامش نور الأبصار : ١٢٥ : « أنّ الحسن قال ذلك لأبي بكر ، ووقع للحسين مثل ذلك مع عمر بن الخطّاب ».

يا أبا بكر، إلى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه، و إلى من تفزع إذا سئلت عمّا لا تعلمه، و ما عذرك في تقدّمك على من هو أعلم منك، و أقرب إلى رسول اللّه، و أعلم بتأويل كتاب اللّه عزّ و جلّ و سنّة نبيّه، و من قدّمه النبيّ في حياته و أوصاكم به عند وفاته، فنبذتم قوله، و تناسيتم وصيّته، و أخلفتم الوعد، و نقضتم العهد، و حللتم العقد الذي كان عقده عليكم من النفوذ تحت راية اسامة (1).

و في هذا الاحتجاج دعوة إلى الحقّ ، و دعوة إلى جمع الكلمة، و وحدة الصفّ ، و تسليم الأمر إلى أعلم من في الامّة و هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

5 - عمّار بن ياسر:

و عمّار بن ياسر من المساهمين في بناء صرح الإسلام، و من المعذّبين في سبيل اللّه، و كان أثيرا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و من خلّص أصحابه، و لمّا آلت الخلافة إلى أبي بكر اندفع إلى الانكار عليه و على القرشيّين قائلا:

يا معاشر قريش، و يا معاشر المسلمين، إن كنتم علمتم و إلاّ فاعلموا أنّ أهل بيت نبيّكم أولى به، و أحقّ بإرثه، و أقوم بامور الدين، و آمن على المؤمنين، و أحفظ لملّته، و أنصح لامّته، فمروا صاحبكم فليردّ الحقّ إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم، و يضعف أمركم، و يظهر شقاقكم، و تعظم الفتنة بكم، و تختلفون فيما بينكم، و يطمع فيكم عدوّكم، فقد علمتم أنّ بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم، و عليّ أقرب منكم إلى نبيّكم، و هو من بينهم وليّكم بعهد اللّه و رسوله، و فرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند ما سدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أبوابكم التي كانت إلى المسجد كلّها غير بابه، و إيثاره إيّاه بكريمته فاطمة، دون سائر من خطبها إليه منكم، و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنا مدينة الحكمة و عليّ بابها، فمن أراد الحكمة فليأت الباب»، و أنّكم جميعا مضطرّون

ص:132


1- الاحتجاج _ الطبرسي ١ : ٤٢.

فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه، و هو مستغن عن كلّ أحد منكم، إلى ما له من السوابق التي ليست لأفضلكم عند نفسه، فما بالكم تحيدون عنه، و تبتزّون عليّا على حقّه، و تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، بئس للظالمين بدلا، أعطوه ما جعله اللّه له، و لا تولّوا عنه مدبرين، و لا ترتدّوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (1).

و حفل احتجاج عمّار بالدعوة إلى صالح الامّة و إبعادها من مظانّ الفتن و الأهواء، كما دعاها إلى تسليم القيادة العامّة للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام الذي هو باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و العالم بما تحتاج إليه الامّة في جميع مجالاتها.

6 - أبو ذرّ:

أمّا أبو ذرّ فهو صوت العدل و الحقّ في الإسلام الذي استوعب فكره تعاليم الدين و أحكامه الهادفة إلى بسط العدالة الاجتماعية في الأرض؛ و هو في طليعة الثائرين و الناقمين على الحكم الأموي الذي اتّخذ مال اللّه دولا و عباده خولا، و قد نقم هذا الصحابي الجليل على القوم لإقصائهم الإمام عن الخلافة، فقال مخاطبا القرشيّين و الأنصار:

أمّا بعد يا معشر المهاجرين و الأنصار، لقد علمتم و علم خياركم

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «الأمر لعليّ بعدي ثمّ للحسن و الحسين، ثمّ في أهل بيتي من ولد الحسين»، فطرحتم قول نبيّكم و تناسيتم ما أوعز إليكم، و اتّبعتم الدنيا، و تركتم نعيم الآخرة الباقية التي لا يهدم بنيانها، و لا يزول نعيمها، و لا يحزن أهلها، و لا يموت سكانها، و كذلك الامم التي كفرت بعد أنبيائها بدّلت و غيّرت، حذو القذة بالقذّة، و النعل بالنعل، فعمّا قليل تذوقون وبال أمركم، و ما اللّه بظلاّم للعبيد... (2).

ص:133


1- الاحتجاج _ الطبرسي ١ : ٤٣.
2- الخصال : ٤٣٢.

و حكى خطاب الثائر العظيم ما ستعانيه الامّة في مستقبلها من الويلات من جرّاء فصل الخلافة عن بيت النبوّة و مركز الدعوة الإسلامية، و تحقّق ذلك على مسرح الحياة الإسلامية، فقد سفكت الدماء، و تهالك الأشرار من بني أميّة على الحكم، فعاثوا فسادا في الأرض حينما استولوا عليه، فأنفقوا أموال المسلمين على رغباتهم و شهواتهم، و نكلوا أشد التنكيل و أقساه بعترة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

7 - المقداد:

أمّا المقداد فهو من أعلام الإسلام، و من خلّص أصحاب الإمام عليه السّلام، و من عيون أصحابه، و قد نقم على أبو بكر و خاطبه بعنف قائلا:

يا أبا بكر، ارجع عن ظلمك، و تب إلى ربّك، و سلّم الأمر إلى صاحبه الذي هو أولى به منك، فقد علمت ما عقده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عنقك من بيعته... (1)، و ألزمك بالنفوذ تحت راية اسامة بن زيد، و هو مولاه، و نبّه على بطلان وجوب هذا الأمر لك و لمن عضدك عليه، بضمّه لكما إلى علم النفاق و معدن الشنآن و الشقاق عمرو بن العاص الذي أنزل اللّه فيه على نبيّه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (2).

و أضاف بعد ذلك قائلا:

اتّق اللّه، و بادر بالاستقالة قبل فوتها، فإنّ ذلك أسلم لك في حياتك و بعد وفاتك، و لا تركن إلى دنياك، و لا تغرّنك قريش و غيرها، فعن قليل تضمحلّ عنك دنياك، ثمّ تصير إلى ربّك فيجزيك بعملك، و قد علمت و تيقّنت أنّ عليّ بن أبي طالب هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فسلّمه إليه ما جعله اللّه له، فإنّه أتمّ

ص:134


1- يشير بذلك إلى حديث الغدير الذي بايع فيه المسلمون الإمام بالإمرة والخلافة ، والحديث مجمع عليه.
2- الكوثر : ٣.

لسترك، و أخف لوزرك، فقد و اللّه! نصحت لك إن قبلت نصيحتي و إلى اللّه ترجع الامور (1).

و لو أنّ القوم استجابوا لنصحه، و سلّموا الأمر للإمام لما ابتلي المسلمون بالأزمات و الكوارث.

8 - عتبة بن أبي لهب:

و من الناقمين على إقصاء الإمام عن الخلافة عتبة بن أبي لهب، و قد عبّر عن شعوره بهذه الأبيات:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف عن هاشم ثمّ منهم عن أبي حسن

عن أوّل الناس إيمانا و سابقة و اعلم الناس بالقرآن و السّنن

و آخر النّاس عهدا بالنبيّ و من جبريل عون له في الغسل و الكفن

من فيه ما فيهم لا يتمرون به و ليس في القوم ما فيه من الحسن (2)

و حكت هذه الأبيات عن أساه و لوعته عن عدم تقلّد الإمام للخلافة الذي هو أوّل الناس إيمانا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أعلمهم بالكتاب و السنّة، و آخرهم عهدا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ الصفات الكريمة المتوفّرة فيه لا توجد عند غيره، فكيف أقصي هذا العملاق العظيم عن الخلافة.

9 - أبو أيوب الأنصاري:

أمّا أبو أيّوب الأنصاري فهو من ألمع أصحاب الإمام عليه السّلام، و قد شهد معه مشاهده كلّها، و قد آمن بحقّه، و أنّه أولى بالخلافة من غيره (3)، و قد أنبرى للإنكار

ص:135


1- الاحتجاج ١ : ١٠١.
2- تاريخ أبي الفداء ١ : ١٥٩.
3- الكنى والألقاب ١ : ١٣.

على أبي بكر فقال له:

اتّقوا اللّه عباد اللّه في أهل بيت نبيّكم، و ردّوا إليهم حقّهم الذي جعله اللّه لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع اخواننا في مقام بعد مقام لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، و مجلس بعد مجلس

يقول: «أهل بيتي أئمّتكم بعدي» و يومئ إلى عليّ ، و يقول:

«و هذا أمير البررة، و قاتل الكفرة، مخذول من خذله، منصور من نصره، فتوبوا إلى اللّه من ظلمكم إيّاه، إنّ اللّه توّاب رحيم، و لا تتولّوا عنه معرضين»(1).

و في هذا الخطاب دعوة إلى الحقّ ، و وئام المسلمين، و جمع كلمتهم، و وحدة صفّهم إلاّ أنّ القوم أعاروا خطابه أذنا صمّاء.

10 - أبيّ بن كعب:

و أبيّ بن كعب الأنصاري سيّد القرّاء، و من أصحاب العقبة الثانية، شهد مع النبي صلّى اللّه عليه و آله المشاهد كلّها، و كان عمر يسمّيه سيّد المسلمين (2)، و قد أنكر على أبي بكر تقمّصه للخلافة، و قال له:

يا أبا بكر، لا تجحد حقّا جعله اللّه لغيرك، و لا تكن أوّل من عصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وصيّه و صفيّه، و صدف عنه أمره، اردد الحقّ إلى أهله تسلم، و لا تتماد في غيّك فتندم، و بادر الإنابة يخفّ وزرك، و لا تختصّ بهذا الأمر الذي لم يجعله اللّه لك، فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت فيه، و تصير إلى ربّك فيسألك عمّا جنيت، و ما ربّك بظلاّم للعبيد (3).

و في هذا الخطاب الإشادة بمركز الإمام عليه السّلام، و أنّه أحقّ بالخلافة من غيره.

ص:136


1- الكنى والألقاب ١ : ١٣.
2- الاصابة ١ : ٣١.
3- هذه هي الشيعة : ٩٦.

11 - النعمان بن عجلان:

و النعمان بن عجلان لسان الأنصار و شاعرهم، و هو من الناقمين على أبي بكر، و قد خاطب القوم بهذه الأبيات:

و قلتم حرام نصب سعد و نصبكم عتيق بن عثمان حلال أبا بكر؟

و أهل أبو بكر لها خير قائم و أنّ عليّا كان أخلق بالأمر

و أنّ هوانا في عليّ و أنّه لأهل لها من حيث يدري و لا يدري (1)

و معنى هذا الشعر أنّ المهاجرين أنكروا على سعد تصدّيه للخلافة و حرّموها عليه؛ لأنّه ليس من الاسر القرشية و أخذوها منه؛ لأنّهم يمتّون إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بصلة النسب، فهلاّ أرجعوها إلى الإمام الذي هو ألصق الناس برسول اللّه و أقربهم إليه.

12 - عثمان بن حنيف:

و كان عثمان بن حنيف من خيار الصحابة، و قد انضمّ إلى الجماعة التي أنكرت على أبي بكر، فقد قال له:

سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «أهل بيتي نجوم الأرض، فلا تتقدّموهم، فهم الولاة من بعدي»، فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه، و أي أهل بيتك ؟ فقال: «عليّ و الطّاهرون من ولده»(2).

و حكى هذا الاحتجاج النصّ الوارد من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في شأن أهل بيته، و هو صريح واضح في تعيينهم خلفاء لامّته.

13 - سهل بن حنيف:

أمّا سهل بن حنيف فهو من خيار الصحابة، و قد أعلن تأييده للإمام عليه السّلام، فقد

ص:137


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٩ : ١٧٤.
2- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ١٦٨.

قال بعد حمد اللّه و الثناء عليه و الصلاة على النبيّ :

يا معشر قريش، اشهدوا عليّ ، إنّي أشهد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد رأيته في هذا المكان - يعني جامعه - و قد أخذ بيد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو يقول:

«أيّها النّاس، هذا عليّ إمامكم من بعدي، و وصيّي في حياتي و بعد وفاتي، و قاضي ديني، و منجز وعدي، و أوّل من يصافحني على حوضي، و طوبى لمن تبعه و نصره، و الويل لمن تخلّف عنه و خذله»(1).

لقد أدلى سهل بشهادته أمام القوم بأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله قد نصّ على إمامة الإمام أمير المؤمنين و على سمو منزلته، و عظيم مكانته عند اللّه تعالى و عند رسوله.

14 - خزيمة بن ثابت:

أمّا خزيمة بن ثابت فهو من ألمع الصحابة و من أوثقهم و آثرهم عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قد كانت شهادته عند النبيّ تعادل شهادة شاهدين، و ذلك لما عرف به من الصدق، و قد أعلن تأييده الكامل للإمام عليه السّلام قال:

أيّها الناس، أ لستم تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل شهادتي وحدي، و لم يرد معي غيري ؟ فقالوا: بلى، قال: فأشهد أنّي

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:

«أهل بيتي يفرّقون بين الحقّ و الباطل، و هم الأئمّة الّذين يقتدى بهم»، و قد قلت ما علمت، و ما على الرسول إلاّ البلاغ المبين(2).

و حكى خزيمة في احتجاجه ما سمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شأن عترته، و هم الأئمّة الذين يقتدى بهم، و هي شهادة صدق و حقّ .

ص:138


1- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ١٩٧.
2- الاحتجاج ١ : ١٠٢.

15 - أبو الهيثم بن التيهان:

و أبو الهيثم بن التيهان ممّن عرف الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد أدلى بشهادته على أنّه أولى بالخلافة من غيره فقال:

أنا أشهد على نبينا صلّى اللّه عليه و آله أنّه أقام عليّا يوم غدير خمّ ، فقالت الأنصار: ما أقامه إلاّ للخلافة، و قال بعضهم: ما أقامه إلاّ ليعلم الناس أنّه مولى من كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مولى له، و كثر الخوض في ذلك، فبعثنا رجالا منّا إلى رسول اللّه فسألوه عن ذلك ؟

فقال: «قولوا لهم: عليّ وليّ المؤمنين بعدي، و أنصح النّاس لامّتي»، و قد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن، و من شاء فليكفر، إنّ يوم الفصل كان ميقاتا (1).

و حكمت شهادة أبي الهيثم أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله أقام الإمام عليه السّلام خليفة على امّته، و قلّده منصب الإمامة من بعده، و على هذا الأساس بنت الشيعة اطارها العقائدي في إمامة الإمام عليه السّلام.

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن الاحتجاجات الصارمة التي اثرت عن أعلام الإسلام المتحرّجين في دينهم على أحقّية الإمام بالخلافة و الولاية العامّة لامور المسلمين.

و على أي حال فإنّ أحداث السقيفة هي التي أدّت إلى انشقاق المسلمين و تفرّق كلمتهم، فهي مصدر الفتنة الكبرى التي مني بها المسلمون على امتداد التاريخ، و لم تنشأ الفتنة في أيام عثمان و عليّ ، كما يذهب إلى ذلك عميد الأدب العربيّ الدكتور طه حسين.

لقد نظرت الشيعة بعمق و شمول إلى ما اثر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الأخبار في فضل الإمام و الإشادة بشخصيّته، و لم يرد بعضها في غيره من أعلام الصحابة، الأمر

ص:139


1- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ١٦٧.

الذي يدلّ بوضوح على أنّه صلّى اللّه عليه و آله قد نصّ عليه بالخلافة، و لو لم تكن النصوص في حقّه موجودة لكان هو المتعيّن لهذا المنصب و ذلك لمواهبه و عبقرياته و جهاده في سبيل الإسلام، و قد ألمحنا في فصول هذا الكتاب إلى ذلك.

إجراءات مؤسفة:

اشارة

و اتّخذت حكومة أبي بكر مع أهل البيت عليهم السّلام إجراءات مؤسفة اتّسمت بالقسوة و الشّدة، كان منها ما يلي:

كبس دار الإمام:

و لمّا أعلن الإمام عليه السّلام رفضه الكامل لبيعة أبي بكر، و احتجّ عليه بأنّه أولى بالخلافة منه لأنّه أخو النبيّ و أبو سبطيه و ختنه على بضعته، و المجاهد الأوّل في الإسلام، و انضمّ إليه كبار الصحابة، و كانوا يعقدون الاجتماع في داره، فضاق أبو بكر من ذلك ذرعا، فاقتضت سياسته أن يكبس دار الإمام و يتّخذ معه جميع وسائل العنف، فأصدر أوامره إلى عمر بكبس داره و إخراجه قسرا إلى الجامع ليبايع، و راح عمر يشتدّ و معه شرطته و جنوده، و حمل معه قبسا من النار، و حمل جنوده الحطب و راحوا مسرعين يعلوهم الغضب ليحرقوا بيت الوحي و التنزيل، البيت الذي أذهب اللّه عن أهله الرجس و طهّرهم تطهيرا، و هجم عمر على دار الإمام و هو مغيظ محنق رافعا صوته:

و الذي نفس عمر بيده ليخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها.

فعذلته طائفة، و حذّرته من عقوبة اللّه قائلة:

إنّ فيها فاطمة.

ص:140

و قد ذكرته بحفاوة رسول اللّه بها و قوله فيها:

«إنّ اللّه يرضى لرضاك، و يغضب لغضبك»(1)، فلم يحفل ابن الخطّاب بذلك و صاح بهم غير مكترث و لا مبال:

و إن، و إن...

معناه و إن كانت فاطمة فيها لأحرقنّها غير حافل و معتن بها، و خرجت بضعة الرسول و ريحانته قائلة:

«لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جنازة بين أيدينا، و قطّعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا و لم تردّوا لنا حقّا...».

و تبدّد جبروت القوم و ذاب عنفهم، و أسرع عمر و هو بطل الموقف نحو أبو بكر طالبا منه حمل الإمام بالقوّة للبيعة قائلا:

أ لا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة ؟ و استجاب أبو بكر له، فأرسل معه قنفذا، و كان شريرا معروفا بالغلظة و الشدّة و معه جماعة من الشرطة، فاقتحموا دار الإمام و أخرجوه ملببا بحمائل سيفه، و انطلقت خلفه زهراء الرسول، و هي تهتف بأبيها و تستغيث به قائلة:

«يا أبت.. يا رسول اللّه! ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب و ابن أبي قحافة..».

و ازدحمت الجماهير على باب الإمام و علاها الذهول، و أغرق بعضهم في البكاء، إلاّ أنّ ابن الخطّاب و حزبه لم يجد معهم موقف بضعة الرسول و هي ولهى مستغيثة بأبيها، فلم تلن قلوبهم و عواطفهم، فأخرجوا الإمام و انطلقوا به يهرول نحو أبي بكر، فقال له:

بايع... بايع.

ص:141


1- الحديث متواتر أخرجته الصحاح والسنن.

فردّ عليه الإمام:

«و إن لم أفعل ؟».

فأسرع القوم و قد أضلّهم الهوى و أعماهم حبّ الدنيا قائلين:

و اللّه! الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك..

و سكت الإمام برهة فنظر إلى القوم، فإذا ليس له ركن شديد يفزع إليه، فقال بصوت حزين النبرات:

«إذا تقتلون عبد اللّه و أخا لرسوله..».

فاندفع ابن الخطّاب بشراسته قائلا:

أمّا عبد اللّه فنعم، و أمّا أخو رسوله فلا..

و نسي عمر ما أعلنه النبيّ أنّ الإمام أخوه و باب مدينة علمه، و من كان منه بمنزلة هارون من موسى، كلّ ذلك تنكّر له ابن الخطّاب، و التفت إلى أبي بكر يحثّه على التنكيل به قائلا:

أ لا تأمر فيه بأمرك ؟ و خاف أبو بكر من تطوّر الأحداث و تبلور الرأي العامّ ، فقال لابن الخطّاب:

لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جانبه.

و أطلقوا سراح الإمام، و مضى يهرول نحو مثوى أخيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يشكو إليه ما ألمّ به من المحن و الخطوب، و هو يبكي أمرّ البكاء قائلا:

«يا ابن أمّ ، إنّ القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني...».

لقد استضعفه القوم و تنكّروا له، و أعرضوا عمّا أوصاهم به النبيّ ، و قفل الإمام راجعا إلى بيته و هو كئيب حزين، و قد استبان له ما يحمله القوم من الحقد و الكراهية.

ص:142

تأميم فدك:

و روى المؤرّخون أنّ الجيوش الإسلامية لمّا فتحت حصون خيبر قذف اللّه الرعب و الفزع في قلوب أهالي فدك فهرعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نازلين على حكمه، فصالحهم على نصف أراضيهم، فكانت ملكا خاصّا له؛ لأنّ المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل و لا ركاب، و لمّا أنزل اللّه تعالى على نبيّه الآية: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ بادر فأنحل فاطمة فدكا، فاستولت عليها و تصرّفت فيها تصرّف الملاّك في أملاكهم.

و لمّا استولى أبو بكر على الحكم اقتضت سياسته بمصادرة فدك، و انتزاعها من سيّدة النساء، و ذلك لئلا تقوى شوكة الإمام على منازعته، و هو إجراء اقتصادي باعثه إضعاف الجبهة المعارضة و شلّ فعاليّتها، و هذا ما عليه الدول قديما و حديثا، و قد مال إلى هذا الرأي عليّ بن مهنّا العلوي قال:

ما قصد أبو بكر و عمر بمنع فاطمة عنها - أي عن فدك - ألاّ أن يقوى عليّ بحاصلها و غلّتها عن المنازعة في الخلافة (1).

مطالبة الزهراء بفدك:

و بعد ما استولى أبو بكر بالقوّة على فدك، و أخرج منها عامل الزهراء عليها السّلام طالبته بردّها، فامتنع من إجابتها، و طلب منها إقامة البيّنة على صدقها، و يقول المعنيّون بالبحوث الفقهية من علماء الشيعة إنّ كلام أبي بكر لا يتّفق مع القواعد الفقهية، و ذلك لما يلي:

1 - إنّ صاحب اليد لا يطالب بالبيّنة، و الزهراء قد وضعت يدها على فدك، فليس عليها إلاّ اليمين و عليه البيّنة، و بذلك فقد شذّت دعوى أبي بكر عن

ص:143


1- أعلام النساء ٣ : ٢١٥.

المقرّرات الفقهية.

2 - إنّ السيّدة فاطمة الزهراء صلوات اللّه عليها سيّدة نساء هذه الامّة، و خيرة نساء العالمين - على حدّ تعبير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله -، و قد نزلت في حقها و حقّ زوجها و ولديها آية التطهير و هي صريحة في عصمتها من الزيغ و الكذب، و هي أصدق الناس لهجة - حسب قول عائشة (1) -، أ فلا يكفي ذلك في تصديقها.

3 - إنّ ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقامت البيّنة على ما ادّعت، مضافا إلى اليد، أمّا بيّنتها فقد تألّفت من الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و السيّدة الفاضلة أمّ أيمن، فشهدا عنده أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنحلها فدكا، فردّ شهادتهما معتذرا أنّ البيّنة لم تتمّ ، و هذا لا يخلو من المؤاخذات و هي:

1 - إنّ القواعد الفقهية قضت أنّ الدعوى إذا كانت على مال، أو كان المقصود منها المال، فإنّها تثبت بشاهد و يمين، فالمدّعي إذا أقام شاهدا واحدا فعلى الحاكم أن يحلفه بدلا من الشّاهد الثاني، فإن حلف أعطاه المال، و لم يعن أبو بكر بذلك فردّ الشهادة و ألغى الدعوى.

2 - إنّه ردّ شهادة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد صرّح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه مع القرآن، و القرآن معه لا يفترقان.. (2).

3 - إنّه قدح في شهادة السيّدة أمّ أيمن، و قد خرجت زهراء الرسول بعد ردّ أبي بكر لدعواها، و هي تتعثّر بأذيالها من الخيبة، و قد ألمّ بها الحزن و الأسى، يقول الإمام شرف الدين نضّر اللّه مثواه:

فليته - أي أبا بكر - اتّقى فشل الزهراء في موقفها بكلّ ما لديه من سبل

ص:144


1- حلية الأولياء ٢ : ٤١. مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٠.
2- مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤. الصواعق المحرقة : ٧٥.

الحكمة، و لو فعل ذلك لكان أحمد في العقبى، و أبعد عن مظانّ الندم، و أنأى عن مواقف اللوم، و أجمع لشمل الامّة، و أصلح له بالخصوص..

و قد كان في وسعه أن يربأ بوديعة رسول اللّه و وحيدته عن الخيبة و يحفظها عن أن تنقلب عنه، و هي تتعثّر بأذيالها، و ما ذا عليه إذا احتلّ محلّ أبيها لو سلّمها فدكا من غير محاكمة، فإنّ للإمام أن يفعل ذلك بولايته العامّة، و ما قيمة فدك في سبيل هذه المصلحة، و دفع هذه المفسدة (1).

لقد كان أبو بكر باستطاعته و صلاحيّته أن يقرّ يد بضعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وديعته على فدك و يصنع معها الجميل و المعروف، و لا يقابلها بمثل تلك القسوة، و لكنّ الأمر كما حكاه علي بن الفاروق أحد أعلام الفكر العلمي في بغداد، و أحد أساتذة المدرسة الغربية، و أستاذ العلاّمة ابن أبي الحديد، فقد سأله ابن أبي الحديد:

أ كانت فاطمة صادقة في دعواها النحلة ؟ نعم...

فلم لم يدفع لها أبو بكر فدكا، و هي عنده صادقة، يقول ابن أبي الحديد:

فتبسّم، ثمّ قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه و قلّة دعابته قال:

لو أعطاها اليوم فدكا بمجرّد دعواها لجاءت إليه غدا و ادّعت لزوجها الخلافة، و زحزحته عن مقامه، و لم يكن يمكن حينئذ الاعتذار بشيء؛ لأنّه يكون قد سجّل على نفسه بأنّها صادقة فيما تدّعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة و شهود... (2).

نعم، لهذه الجهة و لغيرها من الأحقاد و الضغائن أجمع القوم على هضمها

ص:145


1- النصّ والاجتهاد : ٣٧.
2- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ١٧٧.

و سلب تراثها، و قد تركوا بذلك عترة النبيّ و وديعته يتقطّعون حسرات، قد نخب الحزن قلوبهم، و هاموا في تيارات من الأسى و الشجون.

إلغاء الخمس:

من الإجراءات المؤسفة التي اتّخذها أبو بكر ضدّ العترة النبوية إلغاء الخمس، الذي هو حقّ مفروض لها نصّ عليه القرآن قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1).

أجمع الرواة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يختصّ بسهم من الخمس و يخصّ أقاربه بسهم آخر منه، و كانت هذه سيرته إلى أنّ اختاره اللّه تعالى إلى جواره.

و لمّا ولي أبو بكر أسقط سهم النبيّ و سهم ذوي القربى، و منع بني هاشم من الخمس، و جعلهم كبقيّة المسلمين (2)، و قد أرسلت زهراء الرسول و بضعته فاطمة الزهراء صلوات اللّه عليها إلى أبي بكر أن يدفع إليها ما بقي من خمس خيبر، فأبى أن يدفع إليها شيئا منه (3)، فقد ترك شبح الفقر مخيّما على آل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حجب عنهم ما فرضه اللّه لهم.

مصادرة تركة النبيّ :

و استولى أبو بكر على جميع ما تركه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من بلغة العيش، فحازه إلى بيت المال، و قد سدّ بذلك كلّ نافذة اقتصادية على آل البيت، و كانت حجّته في

ص:146


1- الأنفال : ٤١.
2- تفسير الكشّاف _ في تفسير آية الخمس ٢ : ٥٨٣.
3- صحيح البخاري ٣ : ٣٦. صحيح مسلم ٢ : ٧٢.

ذلك ما رواه

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا نورث ما تركناه صدقة(1).

و هو اعتذار مهلهل حسب ما يقوله المحقّقون من علماء الشيعة، و ذلك لما يلي:

1 - إنّ الحديث لو كان صحيحا لاطّلعت عليه سيّدة نساء العالمين، و ما دخلت مع أبي بكر ميدان المحاججة و المخاصمة، و كيف تطالبه و هي سليلة النبوّة و أوثق سيّدة في دنيا الإسلام بأمر لم يكن مشروعا.

2 - إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كيف يحجب عن بضعته حكما يرجع إلى تكليفها الشرعي، و قد غذّاها بروح التقوى و الإيمان، و أحاطها علما بجميع الأحكام الشرعية، إنّ حجب ذلك عنها تعريض لها و للامّة لامور غير مشروعة.

3 - إنّ من الممتنع أن يحجب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا الحديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و هو حافظ سرّه، و باب مدينة علمه، و باب دار حكمته، و أقضى امّته؛ فإنّ من المقطوع به أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لو كان لا يورّث لعرفه الإمام عليه السّلام، و ما كتمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنه.

4 - إنّ الحديث لو كان صحيحا لعرفه الهاشميّون و هم أهل النبيّ ، و ألصق الناس به، فلما ذا لم يبلّغهم به.

5 - إنّ الحديث لو كان صحيحا لما خفي عن أمّهات المؤمنين، و الحال أنهنّ أرسلن إلى عثمان بن عفان يطلبن منه ميراثهنّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

6 - إنّ بعض أهل العلم يرى أنّ «ما» التي في الحديث

«لا نورّث ما تركناه صدقة» موصولة، و المعنى أنّ ما تركناه من الصدقات ليس خاضعا للمواريث، و إنّما

ص:147


1- بلاغات النساء : ١٦. أعلام النساء ٣ : ٢٠٧.

هو للفقراء، و على هذا فيكون الحديث أجنبيا عن الاستدلال به من عدم توريث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما تركه من الأموال.

الخطاب الخالد للزهراء:

و ضاقت الدنيا على زهراء الرسول و وديعته في امّته من الإجراءات الصارمة التي اتّخذها أبو بكر ضدّها، فرأت أن تلقي الحجّة عليه، و تحفّز المسلمين للإطاحة بحكومته، و يتحدّث الرواة أنّها سلام اللّه عليها استقلّت غضبا، فلاثت خمارها، و اشتملت بجلبابها، و أقبلت في لمّة من حفدتها و نساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتى دخلت على أبي بكر و هو في الجامع الأعظم، و قد احتفّ بها المهاجرون و الأنصار و غيرهم، و قد أنيطت دونها ملاءة (1) تكريما لها، فأنّت أنّة حسرة و ألم و بكاء، فأجهش القوم لها بالبكاء و ارتجّ المجلس، و ذلك لأنّهم رأوا في شخصيّتها العظيمة شخصيّة أبيها العظيم الذي لم يعقب غيرها؛ و لأنّهم قصّروا في حقّها و حقّ زوجها، و لمّا سكن نشيجهم و هدأت فورتهم افتتحت خطابها الخالد بحمد اللّه و الثناء عليه، و انحدرت في خطابها كالسيل، فلم يسمع قبلها و لا بعدها من هو أخطب منها، و حسبها أنّها ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفصح من نطق بالضاد، و قد ورثت بلاغته و فصاحته..

و تحدّثت في خطابها الخالد عن معارف الإسلام و فلسفة تشريعاته و علل أحكامه، و عرضت إلى ما كانت عليه حالة الامم قبل أن يشرق عليها نور الإسلام من الجهل و الانحطاط و وهن العقول و ضحالة الفكر، خصوصا الجزيرة العربية، فقد كانت على شفا حفرة من النار مذقة الشارب، و نهزة الطامع، و قبسة العجلان، و موطئ الأقدام، و كانت حياتها الاقتصادية بالغة السوء، فالأكثرية الساحقة كانت

ص:148


1- الملاءة : الحجاب والستر.

تقتاد القدّ، و تشرب الطرق، و ظلّت على هذا الحال من الذلّ و الفقر و الهوان حتى أنقذها اللّه سبحانه و تعالى برسوله العظيم، فدفعها إلى واحات الحضارة و التطوّر، و جعلها في الطليعة الواعية من امم العالم، فما أعظم عائدته على العرب و على الناس أجمعين، كما عرضت سيّدة نساء العالم إلى فضل ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و جهاده المشرق في نصرة الإسلام و الذبّ عن حياضه، فالجاهلية الرعناء من قريش و غيرهم كلّما أوقدوا نارا للحرب تقدّم إليها الإمام فوطئ صماخها بأخمصه و خمد لهبها بسيفه، في حين كان المهاجرون من قريش في رفاهية وادعين آمنين، لم يكن لهم أي ضلع يذكر في نصرة الإسلام و الدفاع عنه، و إنّما كانوا ينكصون عند النزال و يفرّون من القتال.

و كانوا يتربّصون بأهل بيت النبيّ الدوائر، و يتوقّعون فيهم نزول القواصم، كما أعربت سيّدة نساء العالمين عن أسفها البالغ على ما مني به المسلمون من الزيغ و الانحراف، و الاستجابة الكاملة لدواعي الهوى و حبّ الدنيا، و تنبّأت صلوات اللّه عليها ما سيواجهه المسلمون من الأحداث المروعة و الكوارث المؤلمة نتيجة ما اقترفوه من الأخطاء و الانحراف عمّا أمره اللّه و رسوله من التمسّك بالعترة الطاهرة التي هي مصابيح الهدى و طرق النجاة.

و بعد ما أدلت حبيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذه المواد عرضت إلى حرمانها المؤسف من إرث أبيها فقالت:

«و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أ فحكم الجاهليّة تبغون و من أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون.

أ فلا تعلمون - بلى قد تجلّى لكم كالشّمس الضّاحية - أنّي ابنته.

أيّها المسلمون، أ أغلب على تراث أبي ؟

ص:149

يا ابن أبي قحافة، أ في كتاب اللّه ترث أباك و لا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريّا، أ فعلي عمد تركتم كتاب اللّه و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ (1)، و قال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال:

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ (2)، و قال: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (3)، و قال: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (4)، و قال: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (5).

و زعمتم أن لا حظوة لي، و لا أرث من أبي، و لا رحم بيننا، أ فخصّكم اللّه بآية أخرج منها أبي ؟ أم تقولون: أهل ملّتين لا يتوارثان ؟ أو لست أنا و أبي من أهل ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن و عمومه من أبي و ابن عمّي ؟ و حكى هذا المقطع من خطابها الخالد أوثق الأدلّة و أروعها على استحقاقها لميراث أبيها كان منها ما يلي:

1 - احتجّت على أنّ الأنبياء عليهم السّلام كبقيّة الناس خاضعون للمواريث، و قد استندت في ذلك إلى آيتي داود و زكريا، و هما صريحتان بتوريث الأنبياء، و منهم أبوها سيّد المرسلين.

ص:150


1- النمل : ١٦
2- مريم : ٦.
3- الأحزاب : ٦.
4- النساء : ١١.
5- البقرة : ١٨٠.

2 - استدلت بعموم آيات المواريث، و عموم آية الوصيّة، و هي بالطبع شاملة لأبيها، و خروجه منها من باب التخصيص بلا مخصّص، و هو ممتنع كما صرح علماء الاصول.

3 - إنّ ما يوجب تخصيص آية المواريث و عموم آية الوصية أن يختلف المورّث و وارثه في الدين بأن يكون المورّث مسلما و وارثه كافرا، فإنّه لا ميراث بينهما، و هذه الجهة منتفية انتفاء قطعيّا، فسيّدة النساء أبوها مؤسّس الإسلام و خاتم الأنبياء، و هي بضعته و ريحانته و سيّدة نساء العالمين، فكيف تمنع عن إرثها؟ و بعد هذه الحجج البالغة وجّهت خطابها لأبي بكر قائلة له:

«فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك و نشرك، فنعم الحكم اللّه، و الزّعيم محمّد، و الموعد القيامة، و عند السّاعة يخسر المبطلون، و لا ينفعكم إذ تندمون، و لكلّ نبأ مستقرّ، و لسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحلّ عليه عذاب مقيم».

يا له من تقريع أمضى و أوجع من كلّ ألم ممضّ ! يا له من عتاب أقسى من ضرب السيوف! ثمّ اتّجهت حبية الرسول إلى المسلمين تستنهض عزائمهم و تحثّهم على الاطاحة بحكومة أبي بكر قائلة:

«يا معشر النّقيبة و أعضاد الملّة و حضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقّي، و السّنّة عن ظلامتي ؟ أ ما كان رسول اللّه أبي يقول: المرء يحفظ في ولده، سرعان ما أحدثتم و عجلان ذا إهالة، و لكم طاقة بما أحاول، و قوّة على ما أطلب و أزاول ؟ أ تقولون: مات محمّد فخطب جليل استوسع وهنه، و استنهر فتقه، و انفتق رتقه، و أظلمت الأرض لغيبته، و كسفت الشّمس و القمر، و انتثرت النّجوم لمصيبته،

ص:151

و أكدت الآمال، و خشعت الجبال، و اضيع الحريم، و ازيلت الحرمة عند مماته، فتلك و اللّه! النّازلة الكبرى، و المصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، و لا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب اللّه جلّ ثناؤه في أفنيتكم، و في ممساكم و مصبحكم، يهتف في أفنيتكم هتافا و صراخا و تلاوة و ألحانا، و لقبله ما حلّ بأنبياء اللّه و رسله حكم فصل، و قضاء حتم، وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ، وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ .

و أخذت زهراء الرسول تحفّز الأنصار على الثورة، و تذكّرهم ماضيهم المشرق في نصرة الإسلام و حماية مبادئه، و تطلب منهم القيام بقلب الحكم القائم، و إرجاع الخلافة إلى الإمام عليه السّلام، و إرجاع حقوقها لها قائلة:

«أيها بني قيلة (1)، أ أهضم تراث أبي و أنتم بمرأى منّي و مسمع و منتدى و مجمع، تلبسكم الدّعوة، و تشملكم الخبرة، و أنتم ذوو العدد و العدّة و الأداة و القوّة، و عندكم السّلاح و الجنّة (2)، توافيكم الدّعوة فلا تجيبون، و تأتيكم الصّرخة فلا تغيثون، و أنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير و الصّلاح، و النّخبة التي انتخبت، و الخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت. قاتلتم العرب، و تحمّلتم الكدّ و التّعب، و ناطحتم الامم، و كافحتم البهم، فلا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام، و درّ حلب الأيّام، و خضعت نعرة الشّرك، و سكنت فورة الإفك، و خمدت نيران الكفر، و هدأت دعوة الهرج، و استوسق نظام الدّين، فأنّى جرتم (3) بعد البيان، و أسررتم بعد الإعلان، و نكصتم بعد الإقدام، و أشركتم بعد الإيمان ؟

ص:152


1- بنو قيلة : هم الأوس والخزرج من الأنصار.
2- الجنّة : بالضمّ ما يستتر به من السلاح.
3- جرتم : أي ملتم.

و لمّا رأت سيّدة نساء العالمين وهن الأنصار و تخاذلهم و عدم استجابتهم لنداء الحقّ ، وجّهت إليهم أعنف اللوم و أشدّ العتب قائلة:

«ألا و قد قلت ما قلت هذا على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم و الغدرة التي استشعرتها قلوبكم، و لكنّها فيضة النّفس، و نفثة الغيظ ، و حوز القناة، و بثّة الصّدر، و تقدمة الحجّة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظّهر، نقبة الخفّ ، باقية العار، موسومة بغضب اللّه، و شنار الأبد، موصومة بنار اللّه الموقدة اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ . إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فبعين اللّه ما تفعلون، و سيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، و أنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنّا عاملون، و انتظروا إنّا منتظرون»(1).

و انتهى هذا الخطاب الثوري الذي حوى جميع مقوّمات الثورة على النظام القائم، و لا أكاد أعرف خطابا أبلغ و لا آثر منه إلاّ إنّ القوم قد تخدّرت أعصابهم فصدوا عن الطريق القويم. و على أي حال فقد لمس أبو بكر مدى تأثير خطاب الزهراء عليه السّلام في نفوس الحاضرين و خاف من اندلاع الثورة فاستطاع بلباقته و قابليّاته الدبلوماسية أن يسيطر على الموقف، و ينقذ حكومته من الانقلاب فقابل بضعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بكلّ حفاوة و تكريم، و أظهر لها أمام الملأ أنّه يخلص لها، و يكنّ لها التقدير و الاحترام أكثر ممّا يكنّه لعائشة ابنته كما أظهر لها حزنه العميق على وفاة أبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و عرض لها أنّه لم يتقلّد منصب الحكم، و لم يتّخذ معها الاجراءات الصارمة عن رأيه الخاص، و إنّما كان عن رأي المسلمين فهم الذين قلّدوه ما تقلّد و باتّفاق منهم أخذ ما أخذ، و بذلك فقد شارك المسلمين في إجراءاته و حمّلهم المسئولية،

ص:153


1- أعلام النساء ٣ : ٢٠٨. بلاغات النساء : ١٢ _ ١٩.

و الحال أنّا ذكرنا كيفيّة بيعته، و أنّها كانت فلتة على حدّ تعبير ابن الخطّاب.

ندم أبي بكر:

و ندم أبو بكر كأشدّ ما يكون الندم على ما فرّط تجاه بضعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كبس دارها و حرمانها من مواريثها، فقال: وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة، و لو أنّهم أغلقوه على الحرب (1).

لقد أنّبه ضميره على الإجراءات القاسية التي ارتكبها مع زهراء الرسول صلّى اللّه عليه و آله التي هي وديعته في امّته.

محاولة فاشلة لإرضاء الزهراء:

و حاول أبو بكر و صاحبه على إرضاء حبيبة رسول اللّه و الفوز بعفوها عنهما، و ذلك لتكتسب حكومتهما الشرعية، و يتّخذا وسيلة لإرضاء المسلمين عنهما فانطلقا إلى بيتها، و طلبا منها السماح بمقابلتها، فأبت أن تأذن لهما، و استأذنا ثانيا، فامتنعت من إجابتهما، و خفّا نحو الإمام عليه السّلام فطلبا منه أن يمنحهما الإذن لمقابلة وديعة النبيّ ، فانطلق إلى الدار و التمس من سيّدة النساء أن تأذن لهما، فأجابته إلى ذلك، فأذن لهما، و دخلا فسلّما عليها، فلم تجبهما، و تقدّما فجلسا أمامها، فأزاحت بوجهها عنهما، و راحا يلحّان عليها أن تسمع مقالتهما، فأذنت لهما في ذلك، فقال لها أبو بكر: يا حبيبة رسول اللّه، و اللّه! إنّ قرابة رسول اللّه أحبّ إليّ من قرابتي، و إنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي، و لوددت يوم مات أبوك أنّي مت و لا أبقى بعده..

أ فتراني أعرفك، و أعرف فضلك و شرفك و أمنعك حقّك، و ميراثك من رسول اللّه ؟ ألا إنّي

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:

«لا نورث ما تركناه فهو صدقة...».

ص:154


1- كنز العمّال ٣ : ١٣٥. تاريخ الطبري ٤ : ٥٢.

و فنّدت بضعة الرسول هذه الرواية في خطابها التأريخي الخالد، فلم تر حاجة إلى تفنيدها مرّة أخرى، و التفت إليه و قد شاركت معه عمر قائلة:

«نشدتكما اللّه أ لم تسمعا رسول اللّه يقول: رضا فاطمة من رضاي، و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، و من أرضى فاطمة فقد أرضاني، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟...».

فأجابا بالتصديق قائلين: أجل سمعناه يقول ذلك..

فرفعت وجهها و كفّيها إلى السماء، و راحت تقول بحزن و فؤاد مكلوم..

«فإنّي اشهد اللّه و ملائكته أنّكما أسخطتماني و ما أرضيتماني، و لئن لقيت رسول اللّه لأشكونّكما إليه..».

و انطلق أبو بكر يبكي، فقالت له:

«و اللّه! لأدعونّ عليك في كلّ صلاة اصلّيها»(1)، فما كان أشدّها كلمات أخفّ من وقعها ضربات السيف!... مادت الأرض تحتهما، و دارت كالرحى حتى سارا من هول ما لقيا يترنّحان، و غادرا الدار و قد خبا أملهما في رضا زهراء الرسول، و علما مدى الغضب الذي أثارته عليهما و مدى السخط الذي باءا به (2).

و حقّ لأبي بكر أن يحزن و يبكي بعد ما فاته رضا زهراء الرسول التي يرضى اللّه لرضاها و يغضب لغضبها كما حدّث بذلك أبوها (3).

ص:155


1- الإمامة والسياسة ١ : ١٤. أعلام النساء ٣ : ١٢١٤. الإمام عليّ بن أبي طالب _ عبد الفتاح عبد المقصود ١ : ٢١٧.
2- الإمام عليّ بن أبي طالب ١ : ٢١٧.
3- مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٣. اسد الغابة ٥ : ٥٢٢. تهذيب التهذيب ١٢ : ٢٤١. ميزان الاعتدال ٢ : ٧٢. كنز العمّال ٦ : ٢١٩. ذخائر العقبى : ٣٩. مقتل الخوارزمي ١ : ٥٢.

أضواء على موقف الإمام:

اشارة

و وقف الإمام مع حكومة أبي بكر موقفا سلبيا اتّسم بالعزلة التامّة عن الناس و عدم الاشتراك مع الجهاز الحاكم بأي لون من ألوان الاجتماع، فقد انصرف إلى تدوين الأحكام الشرعية و تفسير القرآن الكريم، فقد أعرض عن القوم و أعرضوا عنه لا يراجعهم و لا يراجعونه، اللّهمّ إلاّ إذا حلّت في ناديهم مشكلة فقهية لا يعرفون حلّها فزعوا إليه ليجيبهم عنها.

و يتساءل الكثيرون: لما ذا لم يقف الإمام عليه السّلام مع أبي بكر موقفا سلبيا، و يفتح معه باب الحرب، و يأخذ حقّه منه بالقوّة، فقد أعرض عن ذلك، و خلد إلى الاعتزال، و قد أدلى الإمام عليه السّلام ببعض الأسباب التي دعته لإلقاء الستار على حقّه و هي:

1 - فقده للقوّة العسكرية:

لم تتوفّر عند الإمام عليه السّلام أيّة قوّة عسكرية يستطيع أن يتغلّب بها على الأحداث، و يستلم مقاليد الحكم، و قد صرّح بذلك في كثير من المناسبات، و هذه بعضها:

أ -

قال عليه السّلام في خطبته الشقشقية:

«و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء (1)، يهرم فيها الكبير، و يشيب فيها الصّغير، و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه! فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى، فصبرت و في العين قذى. و في الحلق شجا (2)، أرى تراثي نهبا...»(3).

ص:156


1- الطخية : الظلمة.
2- الشجى : ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه.
3- نهج البلاغة ١ : ٣١.

و قد حكى هذا المقطع من خطابه ما ألمّ به من الأسى من فقدان الناصر أيام حكومة أبي بكر، فإنّه لم تكن عنده قوّة تحميه و لم يكن يأوي إلى ركن شديد لإرجاع حقّه، فصبر على ما في الصبر من قذى في العين و شجى في الحلق.

ب -

قال عليه السّلام:

«فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، و أغضيت على القذى، و شربت على الشّجا، و صبرت على أحر الكظم، و على أمرّ من طعم العلقم»(1).

و حكى هذا المقطع أنّه لم يكن مع الإمام عليه السّلام سوى أسرته الماثلة في أبنائه و أبناء أخيه، و من المؤكّد أنّه لو فتح باب الحرب مع أبي بكر لقضي على الاسرة الهاشمية، بالاضافة إلى ما تواجهه الامّة من أخطار هائلة.

ج - و بايعت الأكثرية الساحقة أبا بكر تحت ضغط عمر، و قد أراد الإمام عليه السّلام أن يقيم عليهم الحجّة فطاف بزهراء الرسول على بيوت المهاجرين و الأنصار يسألهم النجدة و مناهضة الحكم القائم، فكانوا يقولون لبضعة الرسول:

يا بنت رسول اللّه، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، فتردّ عليهم حبيبة رسول اللّه:

«أ فتدعون تراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخرج من داره إلى غير داره ؟...».

و راحوا يعتذرون إليها قائلين:

يا بنت رسول اللّه، لو أنّ زوجك سبق إلينا قبل أبي بكر لما عدلنا به..

و يجيبهم الإمام عليه السّلام:

«أ فكنت أدع رسول اللّه في بيته لم أدفنه، ثمّ أخرج أنازع النّاس سلطانه ؟!...».

ص:157


1- نهج البلاغة ١ : ٦٧.

و تدعم سيّدة النساء مقالة الإمام عليه السّلام قائلة:

«ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له... و قد صنعوا ما اللّه حسيبهم عليه»(1).

إنّ موقف الإمام عليه السّلام مع حكومة أبي بكر متّسم بعدم الرضا إلاّ أنّه لم يستطع القيام بأيّ عمل عسكري للاطاحة بها.

2 - المحافظة على وحدة المسلمين:

من الأحداث التي دعت الإمام إلى المسالمة مع القوم حرصه على وحدة المسلمين، و قد أعلن ذلك حينما عزم القوم على البيعة لعثمان،

فقال عليه السّلام:

«لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها - أي الخلافة - من غيري؛ و و اللّه! لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين؛ و لم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة، التماسا لأجر ذلك و فضله، و زهدا فيما تنافستموه من زخرفه و زبرجه»(2).

من أجل الحفاظ على وحدة المسلمين و جمع كلمتهم سالم الإمام و أعرض عمّا يكنّه في نفسه من الألم و الأسى على ضياع حقّه.

لوعة الزهراء و شجونها:

و أعظم المآسي التي طاقت بالإمام هو ما حلّ بابنة الرسول و بضعته من الآلام القاسية التي احتلّت قلبها الرقيق المعذّب على فقد أبيها الذي كان عندها أعزّ من الحياة، فكانت تزور جدثه الطاهر و هي حيرى قد أخرسها الخطب، و تأخذ حفنة من ترابه فتضعه على عينيها و وجهها و تطيل من شمّه، و تقبيله، و تجد في ذلك راحة،

ص:158


1- الإمامة والسياسة ١ : ١٢.
2- نهج البلاغة ١ : ١٢٤.

و هي تبكي أمرّ البكاء و أشجاه، و تقول:

ما ذا على من شمّ تربة أحمد أن لا يشمّ مدى الزّمان غواليا

صبّت علىّ مصائب لو أنّها صبّت على الأيّام صرن لياليا

قل للمغيّب تحت أطباق الثّرى إن كنت تسمع صرختي و ندائيا

قد كنت ذات حمى بظلّ محمّد لا أخش من ضيم و كان جماليا

فاليوم أخضع للذّليل و اتّقي ضيمي و أدفع ظالمي بردائيا

فاذا بكت قمريّة في ليلها شجنا على غصن بكيت صباحيا

فلأجعلنّ الحزن بعدك مونسي و لأجعلنّ الدّمع فيك وشاحيا (1)

و صوّرت هذه الأبيات مدى حزن زهراء الرسول و لوعتها على فقد أبيها الذي أخلصت له في الحبّ كأعظم ما يكون الإخلاص، كما أخلص لها، و إنّ مصابها القاسي عليه لو صبّ على الأيام لخفت ضياؤها و عادت قاتمة مظلمة.

و صوّرت هذه الأبيات الحزينة مدى منعتها و عزّتها أيام أبيها، و بعد فقدها له صارت بأقصى مكان من الهوان، فقد تنكّر لها القوم، و أجمعوا على هضمها، و الغضّ من شأنها حتّى صارت تخضع للذليل و تتّقي من ظلمها بردائها.

و خلدت وديعة الرسول إلى البكاء و الأسى حتى عدّت من البكائين الخمسة الذين مثلوا الحزن على امتداد التاريخ.

و بلغ من عظيم وجدها على أبيها أنّ أنس بن مالك استأذن عليها ليعزّيها بمصابها الأليم، و كان ممّن وسّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مثواه الأخير، فقالت له:

ص:159


1- مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٣١.

«أنس بن مالك هذا؟...».

نعم، يا بنت رسول اللّه..

فقالت له بلوعة و بكاء:

«كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التّراب على رسول اللّه»(1)، و قطع أنس كلامه، و هو يذرف أحرّ الدموع، و قد هام في تيارات من الأسى و الشجون.

و بلغ من عظيم وجد زهراء الرسول أنّها ألحّت على الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أن يريها القميص الذي غسّل فيه أباها، فجاء به إليها، فأخذته بلهفة و هي توسعه تقبيلا و شمّا؛ لأنّها وجدت فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه.

و خلدت بضعة الرسول إلى البكاء في وضح النهار و في غلس الليل، و ثقل ذلك على القوم، فشكوها إلى الإمام و طلبوا منه أن تجعل لبكائها وقتا خاصّا لأنّهم لا يهجعون و لا يستريحون، و عرض الإمام عليها ذلك، فأجابته إلى ما أراد، فكانت في النهار تخرج خارج المدينة و تصحب معها ولديها الحسن و الحسين و بنتها زينب، فتجلس تحت شجرة من الاراك و تبكي أباها طيلة النهار، فإذا أو شكت الشمس أن تغرب قفلت راجعة مع أولادها إلى البيت الذي خيّم عليه الحزن و البكاء، و عمد القوم إلى تلك الشجرة فقطعوها فصارت تبكي في حرّ الشمس، فقام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فبنى لها بيتا أسماه «بيت الأحزان» فاتّخذته مقرّا لبكائها، و نسب إلى

مهدي آل محمّد (عجّل اللّه فرجه) أنّه قال فيه:

«أم تراني اتّخذت - لا، و علاها - بعد بيت الأحزان بيت سرور».

و أثّر الحزن المرهق بوديعة النبيّ حتى فتكت بها الأمراض و ذوت كما تذوي

ص:160


1- سنن ابن ماجة : ١٨. المواهب اللدنية _ القسطلاني ٢ : ٢٨١.

الأزهار.. و بادرت السيّدات من نساء المسلمين إلى عيادتها

فقلن لها:

كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول اللّه ؟..

فرمقتهنّ بطرفها، و أجابتهنّ بصوت خافت مشفوع بالأسى و الحسرات:

«أجدني كارهة لدنياكم، مسرورة لفراقكنّ ، ألقى اللّه و رسوله بحسراتكنّ فما حفظ لي الحقّ ، و لا رعيت منّي الذّمّة، و لا قبلت الوصيّة، و لا عرفت الحرمة...»(1).

و حكت هذه الكلمات مدى آلامها و شجونها من تقصير القوم بحقّها، فما حفظوا حقّها و لا رعوا وصيّة النبي فيها.

و بلغ من كراهتها لنساء القوم أنّهنّ طلبن حضورهنّ عند وفاتها فقلن لها:

يا بنت رسول اللّه، صيّري لنا في حضور غسلك حظّا؟ فأبت و قالت بمرارة:

«أ تردن أن تقلن فيّ كما قلتنّ في أمّي، لا حاجة لي في حضوركنّ ...» (2).

الزهراء في ذمّة الخلود:

اشارة

و طافت بزهراء الرسول موجات عاتية من الآلام على فقد أبيها و غصب حقّها، فقد برح بها المرض و أضرّ الأسى بقلبها الرقيق المعذّب، و قد فتكت بها الآلام، و مشى إليها الموت سريعا و هي في فجر الصبا و روعة الشباب.. فقد حان موعد اللقاء بينها و بين أبيها الذي طلبت لقياه بفارغ الصبر.

وصيّتها:

ودعت زهراء الرسول الإمام، فلمّا مثل عندها أوصته بأمور كان منها:

ص:161


1- تاريخ اليعقوبي ٢ : ٩٥.
2- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ١٨٢.

1 - أن يواري جثمانها المقدّس في غلس الليل البهيم.

2 - أن لا يحضر جنازتها أحد من الذين ظلموها و جحدوا حقّها فإنّهم أعداؤها و أعداء أبيها.

3 - أن يعفي موضع قبرها ليكون رمزا لاستيائها على امتداد التاريخ.

4 - أن يصنع لها نعشا يواري جثمانها المقدّس؛ لأنّ الناس كانوا يضعون أمواتهم على سرير تبدو فيه الجثّة، فكرهت ذلك، و ما أحبّت أن ينظر أحد إلى جثمانها.

و تعهّد الإمام لها بتنفيذ ذلك، و انصرف عنها و هو غارق في البكاء، قد استجاب لأحاسيس نفسه الولهى التي استوعبتها الهموم و الآلام.

و في اليوم الأخير من حياتها ظهرت عليها المسرّات، فقد علمت أنّها ستلتحق بأبيها الذي كرهت الحياة من بعده، و قد عمدت إلى ولديها السبطين فغسلتهما و صنعت لهما من الطعام ما يكفيهم يومهم، و أمرتهما بالخروج لزيارة مرقد جدّهما، و ألقت عليهما نظرة الوداع الأخير، و هي تذرف أحرّ الدموع و ذاب قلبها من اللوعة و الوجد عليهما.

و خرج الحسنان و قد هاما في تيارات مذهلة من الهواجس، و أحسّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالأسى و الشجون.

و التفتت وديعة النبي إلى أسماء بنت عميس، و كانت هي التي تتولّى تمريضها و خدمتها فقالت لها:

«يا أمّاه».

نعم، يا حبيبة رسول اللّه.

«اسكبي لي غسلا».

ص:162

فانبرت أسماء، و هيّأت لها الماء فاغتسلت فيه ثمّ قالت لها:

«ايتيني بثيابي الجدد».

فناولتها ثيابها، و هتفت بها ثانية:

«اجعلي فراشي في وسط البيت...».

و ذعرت أسماء و مشت الرعدة بأوصالها، فقد أحسّت أنّ وديعة النبيّ لا حقة بأبيها، و وضعت أسماء الفراش لها فاضطجعت عليه، و استقبلت القبلة،

و التفتت إلى أسماء فقالت لها بصوت خافت:

«يا أمّاه، إنّي مقبوضة الآن، و قد تطهّرت، فلا يكشفني أحد...» (1).

و أخذت سيّدة النساء تتلو آيات من القرآن الكريم حتى فارقت الحياة و لسانها يلهج بذكر اللّه تعالى.

لقد سمت روحها العظيمة إلى اللّه تعالى شاكية إليه ما لاقته من الخطوب و الكوارث، لقد ارتفعت تلك الروح العظيمة إلى جنان اللّه و رضوانه تحفّها ملائكة اللّه، و يستقبلها أنبياء اللّه. فما أظلّت سماء الدنيا في جميع مراحل الحياة مثل بضعة الرسول في قداستها و إيمانها، لقد انقطع بموتها آخر من كان في دنيا الوجود من نسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قفل الحسنان إلى الدار بلهفة يسألان عن أمّهما فأخبرتهما أسماء بوفاتها، و هي غارقة في العويل و البكاء، فكان ذلك كالصاعقة عليهما فهرعا مسرعين إلى جثمانها فوقع عليها

الحسن و هو يقول:

«يا أمّاه، كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني».

و ألقى الحسين نفسه عليها و هو يقول بذوب روحه:

ص:163


1- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ١٨٢ _ ١٨٥.

«يا أمّاه، أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن ينصدع قلبي».

و أخذت أسماء توسعهما تقبيلا و تعزّيهما، و طلبت منهما أن يخبرا أباهما بوفاة أمّهما، فانطلقا إلى مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هما غارقان في البكاء، فاستقبلهما المسلمون بفزع قائلين لهما:

ما يبكيكما يا ابني رسول اللّه ؟ لعلّكما نظرتما موقف جدّكما فبكيتما شوقا إليه ؟..

فأجابا بلوعة:

«أو ليس قد ماتت أمّنا فاطمة ؟..».

و اضطرب الإمام حينما سمع النبأ المؤلم و راح يقول:

«بمن العزاء يا بنت محمّد؟ كنت بك أتعزّى ففيم العزاء بعدك ؟..».

و خفّ مسرعا إلى الدار و هو يذرف أحرّ الدموع، فلمّا انتهى إليها ألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و طافت به الآلام و الهموم، و أخذ ينشد:

«لكلّ اجتماع من خليلين فرقة و كلّ الّذي دون الفراق قليل

و إنّ افتقادي فاطما بعد أحم د دليل على أن لا يدوم خليل»

و ارتفعت الصيحة في المدينة، و هرع الناس من كلّ صوب نحو بيت الإمام ليفوزوا بتشييع جثمان وديعة نبيّهم الذين ما رعوا حقّها.

و عهد الإمام إلى سلمان المحمّدي أن يصرف الناس و يعرّفهم بتأجيل تشييع جنازتها، فأخبرهم بذلك، فانصرفوا، و أقبلت عائشة نحو بيت الإمام لتلقي نظرة على الجثمان المقدّس فحجبتها أسماء و قالت لها:

لقد عهدت إليّ أن لا يدخل أحد عليها... (1)، و لمّا مضى من الليل شطره،

ص:164


1- مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٦٥.

قام الإمام فغسّل الجسد الطاهر و معه الحسنان و زينب و أسماء، و قد أخذت اللوعة بمجامع قلوبهم، و بعد أن أدرج جسدها في أكفانها دعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان أمّهم ليلقوا عليها نظرة الوداع، و مادت الأرض من كثرة صراخهم و بكائهم، ثمّ عقد الرداء عليها. و لمّا حلّ الهزيع الأخير من الليل قام فصلّى عليها و معه النخبة من أصحابه بحمل الجثمان المعظّم إلى مثواه الأخير و لم يخبر أحدا سواهم، ثمّ أودع الجثمان في قبرها و أخفاه امتثالا لوصيّتها، و وقف على حافّة القبر و هو يروي ثراه بدموع عينيه، و اندفع يؤبّنها بهذه الكلمات:

السّلام عليك يا رسول اللّه عنّي، و عن ابنتك النّازلة في جوارك، و السّريعة اللّحاق بك! قلّ يا رسول اللّه، عن صفيّتك صبري، و رقّ عنها تجلّدي، إلاّ أنّ في التّأسّي لي بعظيم فرقتك، و فادح مصيبتك، موضع تعزّ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، و فاضت بين نحري و صدري نفسك «فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون». فلقد استرجعت الوديعة، و أخذت الرّهينة! أمّا حزني فسرمد، و أمّا ليلي فمسهّد، إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم. و ستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها، فأحفها السّؤال، و استخبرها الحال؛ هذا و لم يطل العهد، و لم يخل منك الذّكر، و السّلام عليكما سلام مودّع، لا قال و لا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، و إن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد اللّه الصّابرين(1).

و حكت هذه الكلمات حزنه العميق و ألمه الممضّ على فقده لوديعة رسول اللّه، كما حكت ما تقدّم به من الشكوى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ما ألّم ببضعته من الكوارث التي تجرّعتها من القوم، و يطلب منه أن يلحّ عليها في السؤال لتخبره بما جرى عليها تفصيلا من الظلم و الضيم في تلك الفترة القصيرة التي عاشتها من بعده.

ص:165


1- نهج البلاغة ٢ : ١٨٢.

و عاد الإمام إلى داره و قد طافت به الأزمات يتبع بعضها بعضا، فهو ينظر إلى أطفاله و هم غارقون في البكاء على أمّهم الرءوم التي اختطفتها يد المنون و هي في روعة الشباب و نضارة العمر..

و ينظر إلى إعراض القوم عنه ناسين جهاده في سبيل الإسلام و قربه من الرسول، و قد أضافت إليه هموما قاسية و أحزانا مريرة.

و على أي حال فقد اعتزل الإمام القوم و أعرض عنهم، و أعرضوا عنه، و قد صمّموا على إبعاده عن الحياة السياسية و عدم مشاركته بأي شأن من شئون الدولة.

و من الجدير بالذكر أنّ حكومة أبي بكر لم ترشّح أحدا لمناصب الدولة و له ميول مع الإمام، فقد روى المؤرّخون أنّ أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي بعثه لفتح الشام، و لم يكن هناك موجب لعزله إلاّ ميله لعليّ يوم السقيفة، و قد نبّهه لذلك عمر (1)، كما أنّ أبا بكر لم يعهد لأي أحد من الهاشميّين بأي منصب من مناصب الدولة، و قد تحدّث عمر مع ابن عبّاس عن سبب حرمانهم من أنّه يخشى إذا مات و أحد الهاشميّين وال على قطر من الأقطار الإسلامية أن يحدث في شأن الخلافة ما لا يحبّ (2).

و كان معظم ولاة أبي بكر من الأسرة الأموية، و كان منهم ما يلي:

1 - يزيد بن أبي سفيان، استعمله واليا على الشام (3)، و خرج مودّعا له إلى خارج يثرب، و بعد وفاته أسندت ولاية الشام إلى أخيه معاوية.

2 - عتاب بن اسيد بن أبي العاص، استعمله واليا على مكّة (4).

ص:166


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٣٥٢.
2- مروج الذهب ٥ : ١٣٥.
3- الكامل في التاريخ ٢ : ٢٨٩.
4- الاصابة ٢ : ٤٤٤.

3 - عثمان بن أبي العاص، استعمله واليا على الطائف (1).

4 - أبو سفيان، جعله عاملا على ما بين آخر حدّ الحجاز و آخر مكان من نجران (2).

و في هذا الاجراء الذي اتّخذه قد برز نجم الأمويّين، و احتلّوا مكانة مرموقة في الدولة الإسلامية، و قد أبدى المراقبون لسياسة أبي بكر دهشتهم من هذه السياسة، يقول العلائلي:

فلم يفز بنو تيم بفوز أبي بكر بل فاز الأمويّون وحدهم لذلك صبغوا الدولة بصبغتهم، و أثروا في سياستها و هم بعيدون عن الحكم كما يحدّثنا المقريزي في رسالته «النزاع و التخاصم» (3).

و كان الأولى بأبي بكر أن يعهد بأمور المسلمين إلى السادة من الاسرة النبوية و إلى الأخيار المتحرّجين في دينهم من الأوس و الخزرج، و إبعاد الأمويّين عن كلّ منصب من مناصب الدولة، و أن يعاملهم بالازدراء كما عاملهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و كما قابلهم المسلمون، فقد كانوا ينظرون إليهم نظرة احتقار و امتهان لأنّهم خصوم الإسلام، و إسلامهم لم يكن واقعيا و إنّما كان صوريا.

وفاة أبي بكر و عهده لعمر:

و قبل أن نطوي الحديث عن مؤتمر السقيفة و ما رافقه من الأحداث الجسام نعرض إلى وفاة أبي بكر و عهده لعمر بن الخطّاب وليّا و خليفة من بعده.

و لم يطل سلطان أبي بكر، فقد ألّمت به الأمراض بعد مضي سنتين من

ص:167


1- الكامل في التاريخ ٢ : ٢٨٩.
2- الإمام الحسين علیه السلام : ١٩١. فتوح البلدان _ البلاذري : ١٠٣.
3- ] الإمام الحسين علیه السلام : ١٩١.

حكمه، و قد صمّم و هو في الساعات الأخيرة من حياته على تقليد زميله عمر بن الخطّاب شئون الخلافة؛ لأنّه هو الذي أقامه في منصبه.

و يقول المؤرّخون: أنّه لاقى معارضة كثيرة في ترشيحه لعمر خليفة من بعده، فقد انبرى إليه طلحة بعنف قائلا:

ما ذا تقول لربّك و قد ولّيت علينا فظّا غليظا، تفرق منه النفوس، و تنفر منه القلوب.. (1).

و وجم أبو بكر فلم يجبه إلاّ أنّ طلحة كرّر عليه إنكاره قائلا:

يا خليفة رسول اللّه، إنّا كنّا لا نتحمّل شراسته و أنت حيّ تأخذ على يديه، فكيف يكون حالنا معه و أنت ميّت و هو الخليفة ؟.. (2).

و لم يعن أبو بكر لإنكار طلحة، و لم يقم له أي وزن، كما أنّ أكثر المهاجرين اندفعوا إلى الانكار عليه قائلين:

نراك استخلفت علينا عمرا و قد عرفته و علمت بوائقه فينا و أنت بين أظهرنا، فكيف إذا ولّيت عنا، و أنت لاق اللّه عزّ و جلّ فسألك فما أنت قائل ؟..

فأجابهم أبو بكر:

لئن سألني اللّه لأقولنّ : استخلفت عليهم خيرهم في نفسي (3).

و يذهب الكثيرون إلى أنّ الأجدر بأبي بكر أن يستجيب لعواطف و آراء الأكثرية من المسلمين، فلا يولّي عليهم أحدا إلاّ بعد رضاهم و إجراء عملية انتخابية أو يستشير أهل الحلّ و العقد إلاّ أنّه استجاب لعواطفه المترعة بالولاء و الحبّ لابن

ص:168


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٥٥.
2- المصدر السابق ٩ : ٣٤٣.
3- الإمامة والسياسة ١ : ١٩.

الخطّاب، و قد طلب أبو بكر من بعض خواصه أن يخبره عن رأي المسلمين في ذلك فقال له:

ما يقول الناس في استخلافي عمر؟ كرهه قوم و رضيه آخرون..

الذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه ؟..

بل الذين كرهوه.. (1).

و إذا كانت الأكثرية الساحقة ناقمة على ولاية عمر من بعده، فكيف فرضه عليهم، و لم يمنح المسلمين الحرية في انتخاب من شاءوا لرئاسة الحكم.

و مهما يكن الأمر فإنّ عمر لازم أبا بكر في مرضه خوفا من التأثير عليه في العدول عن رأيه و كان يعزّز مقالته في انتخابه له قائلا:

أيّها الناس، اسمعوا و أطيعوا قول خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.. (2).

و طلب أبو بكر من عثمان بن عفّان أن يكتب للناس عهده في تولية عمر من بعده، و جعل أبو بكر يملي عليه و هو يكتب، و هذا نصّه:

هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة، آخر عهده في الدنيا نازحا عنها، و أوّل عهده بالآخرة داخلا فيها إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب، فإن تروه عدل فيكم فذلك ظنّي به، و رجائي فيه، و إن بدّل و غير فالخير أردت و لا أعلم الغيب، و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.. (3).

و لم يقل أحد أنّ أبا بكر يهجر، و ما حالوا بينه و بين كتابته في النصّ على عمر،

ص:169


1- الآداب الشرعية والمنح المرعية ١ : ٤٩.
2- تاريخ الطبري ٤ : ٥٢.
3- الإمامة والسياسة ١ : ١٩.

كما حالوا بين النبيّ و بين ما رامه في الكتابة في حقّ الإمام عليه السّلام و قالوا إنّه يهجر.

و على أيّ حال فقد وقع أبو بكر الكتاب فتناوله عمر، و انطلق به يهرول إلى الجامع ليقرأه على الناس فاستقبله رجل، و قد أنكر حالته فقال له:

ما في الكتاب يا أبا حفص ؟..

فنفى عمر درايته بما فيه إلاّ أنّه أذعن لما يحتويه قائلا:

لا أدري، و لكنّي أوّل من سمع و أطاع..

فرمقه الرجل بطرفه، و عرف واقع الحال، فقال له:

و لكنّي و اللّه! أدري بما فيه، أمّرته عام أول، و أمّرك العام (1).

و انطلق عمر و هو يلوّح بالكتاب و يدعو الناس إلى استماع ما فيه، فقرأه على الناس و بذلك تمّ له الأمر بسهولة من دون أن ينازعه أحد في ذلك.

موقف الإمام:

و التاع الإمام عليه السّلام كأشدّ ما تكون اللوعة و أعرب عن أساه بعد حين من الزمن، و ذلك

في خطبته الشقشقية، قال عليه السّلام:

فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى، فصبرت و في العين قذى. و في الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان - يعني عمر - بعده. ثمّ تمثّل بقول الأعشى:

شتّان ما يومي على كورها و يوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشدّ ما

ص:170


1- الإمامة والسياسة ١ : ٢٠.

تشطّرا ضرعيها!(1) و حكت هذه الكلمات آلامه و أساه على ضياع حقّه و إزالته عن مركزه و مقامه، فقد تناهبته الرجال فوضعوه في تيم مرّة و أخرى في عدي، و تناسوا مكانته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جهاده المشرق في نصرة الإسلام.

و على أي حال فلم يلبث أبو بكر إلاّ زمانا قصيرا حتى وافاه الأجل المحتوم، و انبرى صاحبه و خليله عمر إلى القيام بشئون جنازته فغسّله و أدرجه في أكفانه، و صلّى عليه، و واراه في بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ألصق لحده بلحده (2)، و يذهب المتكلّمون من الشيعة إلى أنّ البيت الذي دفن فيه إن كان من تركة النبيّ فهو لوارثته سيّدة نساء العالمين، و من بعده انتقل إلى زوجها و أولادها، و لم يؤثر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه وهبه لعائشة، و على هذا فلا يحلّ دفنه فيه إلاّ بعد الإذن من ورثة النبيّ ، أمّا اذن عائشة فلا موضوعية له لأنّها لا ترث من الأرض و إنّما ترث من البناء، حسبما ذكره الفقهاء في ميراث الزوجة.

و إن كان البيت النبوي خاضعا لعملية التأميم حسبما يرويه أبو بكر عن النبيّ أنّ الأنبياء لا يورّثون شيئا من متاع الدنيا و إنّما يورّثون الكتاب و الحكمة، و ما تركوه فهو صدقة لعموم المسلمين، و على هذا فلا بدّ من ارضاء الجماعة الإسلامية في دفنه في البيت و لم يتحقّق أي شيء من ذلك.

ص:171


1- نهج البلاغة ١ : ٣١ _ ٣٢.
2- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٨٢.

ص:172

خلافة عمر

اشارة

و مبدأ الشّورى

ص:173

ص:174

و تولّى عمر الخلافة بسهولة و سرور و لم يلق أي جهد أو عناء، و قد قبض على الحكم بيد من حديد، و ساس الامّة بشدّة و عنف حتّى تحامى لقاءه أكابر الصحابة، فقد كانت درّته - كما يقولون - أرهب من سيف الحجّاج، حتى أنّ حبر الامّة عبد اللّه بن عباس لم يستطع أن يجهر برأيه في حلية المتعة إلاّ بعد وفاته، و قد خافه و هابه و وصفه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته الشقشقية بالحوزة الخشناء التي يغلظ كلمها و يخشن مسّها.

و على أي حال فإنّا نعرض بصورة موجزة إلى بعض معالم سياسته الداخلية و الخارجية حسب ما صرّحت به مصادر التاريخ و غيرها.

سياسته الداخلية:

اشارة

و اتّسمت سياسة عمر الداخلية بالعنف و الشدّة، و قد سيطر سيطرة تامّة على البلاد، و قابل كلّ من كان يعتدّ بنفسه بالصرامة، كان منهم من يلي:

سعد بن أبي وقّاص:

كان سعد بن أبي وقّاص شخصية مرموقة، و بلاؤه في فتح فارس معروف، و قد أقبل على عمر و كان يقسّم مالا بين المسلمين، فزاحم الناس حتى خلص إلى عمر، فلمّا رأى اعتداده بنفسه علاه بالدرة، و قال: لم لم تهب سلطان اللّه في

ص:175

الأرض، فأردت أن اعلمك أنّ سلطان اللّه لا يهابك (1)، و قد كسر شوكته و ملأ أنفه ذلاّ و خنوعا.

جبلة بن الأيهم:

و جبلة من الشخصيات المرموقة في العالم العربيّ ، و قد أسلم هو و قومه، و فرح المسلمون بإسلامه، و حضر جبلة الموسم، و بينما هو يطوف حول الكعبة إذ وطأ إزاره رجل من فزارة فحلّه، فغضب جبلة و سارع إلى الفزاري فلطمه، فبلغ عمر ذلك، فاستدعى الفزاري، و أمر جبلة أن يقيّده من نفسه أو يرضيه، و ضيّق عليه غاية التضييق، فارتدّ جبلة و رفض الإسلام، و ولّى إلى هرقل فاحتفى به و أنزله منزلا كريما، إلاّ أن جبلة أسف أشدّ الأسف على ما فاته من شرف الإسلام و قد نظم أساه و حزنه بهذه الأبيات:

تنصّرت الأشراف من أجل لطمة و ما كان فيها لو صبرت لها ضرر

فيا ليت أمّي لم تلدني و ليتني رجعت إلى القول الذي قاله عمر

و قد أراد عمر أن يقوده بأوّل بادرة تبدو منه ببرة (2) محاولا بذلك إذلاله و إهانته (3).

و لم تكن شدّة عمر مقتصرة على رعيّته، و إنّما كانت شاملة لأهله، و يقول المؤرّخون إنّه إذا غضب على أحد من أهله لا يسكن غضبه حتى يعضّ على يده عضّا شديدا فيدميها (4).

ص:176


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٨٨.
2- البرة : حلقة من صفر توضع في أنف الجمل الشرود ، ويربط بها حبل.
3- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٨٩.
4- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٦ : ٣٤٢.

و وصف عثمان بن عفّان شدّة عمر حينما نقم عليه المسلمون بقوله:

لقد وطئكم ابن الخطّاب برجله، و ضربكم بيده، و قمعكم بلسانه، فخفتموه و رضيتم به... (1).

و يقول المعنيّون في البحوث الإسلامية: إنّ هذه السياسة تجافي سيرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله التي بنيت على الرفق و اللين و اجتناب جميع مظاهر العنف و الشدّة، و قد روى المؤرّخون صورا كثيرة من تواضعه كان منها أنّ رجلا جاءه فأخذته الرهبة منه و بدى عليه الرعب، فنهره الرسول صلّى اللّه عليه و آله و قال له: «إنّما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» (2)، و سار مع أصحابه سيرة الأخ مع أخيه، و كره أن يتميّز على أحد منهم و قد شاركهم في العمل في بناء مسجده الأعظم، و قد مدحه اللّه تعالى على سموّ أخلاقه قال تعالى: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (3).

و على أي حال فإنّ الغلظة لا تتّفق بأي حال من الأحوال مع ما اثر عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله من سموّ الأخلاق و محاسن الآداب.

فرض الإقامة الجبرية على الصحابة:

و من بنود السياسة العمرية فرض الإقامة الجبرية على الصحابة، فلم يسمح عمر لهم بمغادرة يثرب إلاّ بعد أن يأذن لهم بذلك، و يرى الباحثون في الشؤون الإسلامية أنّ هذا الإجراء يتنافى مع ما شرّعه الإسلام من منهج الحريات العامّة للناس جميعا، فهم أحرار فيما يعملون و يقولون شريطة أن لا تكون مجافية للتعاليم الإسلامية، و ليس للسلطة أن تقف منهم موقفا سلبيا، اللّهمّ إلاّ إذا أحدثت الحرية أضرارا بالغير أو فسادا في الأرض.

ص:177


1- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ١٧٥.
2- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٩٠.
3- القلم : ٤.

رأي طه حسين:

و برّر الدكتور طه حسين ما اتّخذه عمر من فرض الحصار على الصحابة بقوله:

و لكنّه - أي عمر - خاف عليهم - أي على الصحابة - الفتنة، فأمسكهم في المدينة لا يخرجون منها إلاّ بإذنه، و حبسهم عن الأقطار المفتوحة، لا يذهبون إليها إلاّ بأمر منه خاف أن يفتتن الناس بهم، و خاف عليهم أن يغرهم افتتان الناس بهم، و خاف على الدولة عواقب هذا الافتتان (1).

و فيما أرى أنّ هذا التوجيه لا يحمل أي طابع من التحقيق فإنّ الصحابة الذين راموا السفر من يثرب إلى الأقطار و الأقاليم التي فتحها الإسلام إن كانوا من الأخيار و المتحرّجين في دينهم فإنّهم بكلّ تأكيد يكونون مصدر هداية و مصدر خير و تهذيب إلى الشعوب المتطلّعة لهدي الإسلام و معرفة أحكامه، و هم - من دون شكّ - يشيعون الفضيلة و يعملون على تهذيب السلوك و نشر محاسن الأخلاق. و إنّ كانوا من الذين فتنتهم الدنيا، و خدعتهم مظاهر الفتوحات الإسلامية فلعمر الحقّ في منعهم من السفر رسما لا شرعا حفظ لصالح الدولة و وقاية للناس من الفتنة بهم، و لكن لم يؤثر عنه أنّه فرض الحصار على فريق من الصحابة دون فريق و إنّما فرضه على جميع الصحابة، و بذلك فقد حال بينهم و بين حرياتهم.

ولاته و عمّاله:

و الشيء البارز في سياسة عمر مع الولاة و العمّال أنّه لم يعهد بأي منصب من مناصب الدولة إلى أحد من الاسرة النبوية، و إنّما أقرّ من ولاّهم أبو بكر في مناصبهم، كما لم يعيّن أحدا من الصحابة البارزين أمثال طلحة و الزبير، و قيل له:

إنّك استعملت يزيد بن أبي سفيان و سعيد بن العاص و فلانا و فلانا من المؤلّفة

ص:178


1- الفتنة الكبرى ١ : ١٧.

قلوبهم من الطلقاء و أبناء الطلقاء و تركت أن تستعمل عليّا و العبّاس و الزبير و طلحة ؟ فقال: أمّا عليّ فأنبه من ذلك، و أمّا هؤلاء النفر من قريش فإنّي أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها بالفساد...

و علّق ابن أبي الحديد على هذا الكلام بقوله:

فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك، و يدّعيه كلّ واحد منهم لنفسه، كيف لم يخف من جعلهم ستّة متساويين في الشورى مرشّحين للخلافة، و هل شيء أقرب إلى الفساد من هذا... (1).

لقد رشّح طلحة و الزبير و جعلهما من أعضاء الشورى، و شهد بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله توفّي و هو راض عنهما، كيف يكونان ممّن ينشران الفساد في الأرض إذا أسند إليهما بعض مناصب الدولة.

مراقبة الولاة و العمال:

و كان عمر شديد المراقبة لعمّاله و ولاته، فلم يولّ عاملا إلاّ أحصى عليه حاله، فإذا عزله أحصى عليه ما عنده من أموال، فإن وجد عنده فرقا قاسمه ذلك الفرق، فترك له شطرا و ضمّ الشطر الآخر إلى بيت المال (2)، و استعمل أبا هريرة الدوسي واليا على البحرين، و قد وافته الأنباء بأنّه استأثر بأموال المسلمين، فدعاه، فلمّا مثل عنده قال له: علمت أنّي استعملتك على البحرين و أنت بلا نعلين، ثمّ بلغني أنّك ابتعت أفراسا بألف و ستمائة دينار...؟ فاعتذر أبو هريرة و قال له:

كانت لنا أفراس تناتجت و عطايا تلاحقت.

ص:179


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٩ : ٢٩ _ ٣٠.
2- الفتنة الكبرى ١ : ٢٠.

فلم يحفل أبو حفص باعتذاره فزجره و صاح به:

قد حسبت لك رزقك و مؤونتك، و هذا فضل فأدّه...

و راوغ أبو هريرة قائلا:

ليس لك ذلك..

و ورم أنف عمر و صاح به:

بلى و اللّه! و أوجع ظهرك..

ثمّ علاه بالدّرة فضربه حتى أدماه، و لم يجد أبو هريرة ملجأ أمام صرامة عمر و شدّته، فأحضر الأموال التي انتهبها فردّها على عمر و قال له:

احتسبتها عند اللّه..

فردّ عليه عمر قائلا:

ذلك لو أخذتها من حلال، و أدّيتها طائعا، أجئت بها من أقصى حجر البحرين يجبى الناس لك، لا للّه و لا للمسلمين ما رجعت بك أميمة (1) إلاّ لرعية الحمر (2)، ثمّ شاطره جميع أمواله التي اختلسها من بيت المال، و كان الأجدر به أن يصادرها أجمع، أمّا العمال الذين شاطرهم فهم:

1 - سمرة بن جندب.

2 - عاصم بن قيس.

3 - مجاشع بن مسعود.

4 - جزء بن معاوية.

5 - الحجّاج بن عتيك.

6 - بشير بن المحتفز.

ص:180


1- أميمة : أمّ أبي هريرة.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٣ : ١٦٣.

7 - أبو مريم بن محرش.

8 - نافع بن الحرث.

هؤلاء بعض عمّاله و ولاته الذين شاطرهم أموالهم، و يقول المؤرّخون: إنّ السبب في اتّخاذه هذا الإجراء هو يزيد بن قيس، فقد حفّزه إلى ذلك و دعاه إليه بهذه الأبيات:

أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمين اللّه في النهي و الأمر

و أنت أمين اللّه فينا و من يكن أمينا لربّ العرش يسلم له صدري

فلا تدعن أهل الرّساتيق و القرى يسيغون مال اللّه في الادم و الوفر

فارسل إلى الحجّاج فاعرف حسابه و أرسل إلى جزء و أرسل إلى بشر

و لا تنسينّ النافعين كليهما و لا ابن غلاب من سراة بني نصر

و ما عاصم منها بصفر عيابه و ذاك الذي في السوق مولى بني بدر

و أرسل إلى النعمان و اعرف حسابه و صهر بني غزوان إنّي لذو خبر

و شبلا فسله المال و ابن محرّش فقد كان في أهل الرساتيق ذا ذكر

فقاسمهم أهلي فداؤك إنّهم سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر

و لا تدعوني للشّهادة إنّني أغيب و لكنّي أرى عجب الدهر

نئوب إذا آبوا و نغزوا إذا غزوا فأنّى لهم و فرّ و لسنا أولي وفر

إذا التاجر الداري جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري

و على أثر ذلك قام عمر فشاطر عمّاله نعلا بنعل (1)، و معنى هذا الشعر أنّ هؤلاء الولاة قد اقترفوا جريمة السرقة و خانوا مال المسلمين، و الواجب يقضي بأن تصادر جميع أموالهم و ضمّها إلى بيت مال المسلمين، و إذا ثبتت خيانتهم فيقصون

ص:181


1- الغدير ٦ : ٢٧٥ _ ٢٧٦.

عن وظائفهم، و لا تشاطر أموالهم كما فعل عمر.

و على أي حال فإنّ شدّة عمر و مراقبته لولاته لم تجد، فقد كانت هناك شكاوى متّصلة منهم، فقد أرسل إليه بعض المسلمين يشتكون من القائمين على الخراج، و فيها هذان البيتان:

نئوب إذا آبوا و نغزوا إذا غزوا فأنّى لهم وفر و لسنا أولي وفر

إذا التاجر الداري جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري (1)

بقي هنا شيء يدعو إلى التساؤل، و هو أنّ عمر قد استعمل الشدّة و الصرامة مع عمّاله و ولاته سوى معاوية بن أبي سفيان فإنّه كان يحدب عليه و يشفق، فلم يفتح معه أي لون من التحقيق و لم يحاسبه على بذخه و إسرافه، و تكدّس الأموال عنده حيث تتواتر إليه الأخبار باختلاسه لبيت المال و إنفاقه الأموال الهائلة على رغباته و توطيد ملكه فيعتذر عنه و يشيد به قائلا:

تذكرون كسرى و قيصر و دهاءهما و عندكم معاوية (2)، و هذا مجاف لما في

الحديث النبوي: «هلك كسرى ثمّ لا يكون كسرى بعده، و قيصر ليهلكنّ ثمّ لا يكون قيصر بعده، و الّذي نفسي بيده! لتنفقنّ كنوزهما في سبيل اللّه...».

لقد بالغ في تسديد معاوية و الإشادة به و لم يحفل بجرحه، فقد أخبره جماعة من الصحابة أنّ معاوية قد جافى سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهو يلبس الحرير و الديباج و يستعمل أواني الذهب و الفضة و لا يتحرّج في أعماله و سلوكه عمّا خالف السنّة، فأنكر عليهم عمر و قال لهم:

دعونا من ذمّ فتى من قريش من يضحك في الغضب و لا ينال ما عنده من

ص:182


1- فتوح البلدان : ٣٨٤.
2- تاريخ الطبري ٦ : ١١٤.

الرضاء و لا يؤخذ من فوق رأسه إلاّ من تحت قدمه.. (1).

و قد ذهب في تسديده إلى أبعد من ذلك، فقد نفخ فيه روح الطموح و هدّد به أعضاء الشورى الذين انتخبهم من بعده قائلا: إنّكم إن تحاسدتم و تدابرتم، و تباغضتم غلبكم على هذا معاوية بن أبي سفيان (2).

و لمّا أمن معاوية جانب عمر أخذ يعمل في الشام عمل من يريد الملك و السلطان (3).

سياسته المالية:

اشارة

أمّا سياسة عمر و منهجه المالي فقد كان مخالفا لسياسة أبي بكر المالية، فقد كان أبو بكر يساوي في العطاء، و قد أشار عليه عمر بالعدول عن ذلك قائلا:

إنّ اللّه لم يفضّل أحدا على أحد، و لكنّه قال: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ ، و لم يخصّ قوما دون آخرين.. (4).

و لمّا أفضت إليه الخلافة عدل عن سياسة أبي بكر و فضّل بعض المسلمين على بعض في العطاء، و قال: إنّ أبا بكر رأى في هذا الحال رأيا، ولي فيه رأي آخر، لا أجعل من قاتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كمن قاتل معه (5). و قد فرض للمهاجرين و الأنصار ممّن شهد بدرا خمسة آلاف خمسة آلاف، و فرض لمن كان إسلامه كإسلام أهل بدر

ص:183


1- الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ٣ : ٣٧٧.
2- نهج البلاغة ١ : ١٨٧.
3- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٩٦.
4- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٨ : ١١١.
5- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٨٤.

و لم يشهد بدرا أربعة آلاف أربعة آلاف، و فرض لأزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اثني عشر ألفا إلاّ صفية و جويرية ففرض لهما ستّة آلاف فرفضتا ذلك، كما فرض للعبّاس عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اثني عشر ألفا، و فرض لاسامة بن زيد أربعة آلاف، و فرض لابنه عبد اللّه ثلاثة آلاف فأنكر عليه ذلك، و قال له:

يا أبت، لم زدته عليّ ألفا؟ ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي، و كان له ما لم يكن لي ؟ فقال له عمر: إنّ أبا اسامة كان أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أبيك، و كان اسامة أحبّ إلى رسول اللّه منك (1).

و قد فضّل عمر العرب على العجم، و الصريح على الموالي (2).

و أدّت هذه السياسة إلى إيجاد الطبقيّة بين المسلمين، كما أدّت إلى تصنيف الناس بحسب قبائلهم و اصولهم، فنشط النسّابون لتدوين الأنساب، و تصنيف القبائل بحسب اصولها (3).

و كان هذا الإجراء قد أوجد تحوّلا في الجماعة الإسلامية، فقد أدّى إلى حنق الموالي على العرب، و ظهور النعرات الشعوبية و القومية، في حين إنّ الإسلام قد ساوى بين جميع المسلمين و جعل رابطة الدين أقوى من رابطة النسب و الدم.

ناقدون:

اشارة

و أثارت هذه السياسة المالية التي انتهجها عمر موجة من النقد و السخط من المحقّقين، و هؤلاء بعضهم:

ص:184


1- الخراج : ٢٤٤.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٨ : ٤١١
3- العصبية القبلية : ١٩٠.
1 - الدكتور محمّد مصطفى:

و أنكر الدكتور محمّد مصطفى هذه السياسة قال: و فرض العطاء على هذه الصورة قد أثّر تأثيرا خطيرا في الحياة الاقتصادية للجماعة الإسلامية؛ إذ خلق شيئا فشيئا طبقة ارستقراطية غنيّة يأتيها رزقها رغدا دون أن تنهض بعمل ما مقابل ما يدخل إليها من أموال.. ذلك أنّ فرض العطاء كان يرتكز على ناحيتين: القرابة من رسول اللّه، و السابقة في الإسلام، و لهذه القرابة و لتلك السابقة درجات و درجات، و بهذا لم يرع عمر فرض العطاء ذلك للمقابل الذي لا بدّ من أن تأخذه الدولة في صورة عمل و جهاد (1).

2 - العلاّمة العلائلي:

قال العلاّمة العلائلي: هذا التنظيم المالي أوجد تمايزا كبيرا، و أقام المجتمع العربيّ على قاعدة الطبقات بعد أن كانوا سواء في نظر القانون (الشريعة)، فقد أوجد ارستقراطية و شعبا و عامّة (2).

3 - الدكتور عبد اللّه سلام:

و أنكر الدكتور عبد اللّه سلام هذه السياسة التي انتهجها عمر في سياسته المالية، قال: لست أدري كيف اتّخذ عمر هذا الاجراء و لما ذا اتّخذه ؟ إنّه إجراء أوجد تفاوتا اجتماعيا و اقتصاديا، إجراء أوجد بذور التنافس و التفاضل بين المسلمين (3).

إنّ السياسة التي جرى عليها عمر في الميدان الاقتصادي لا تحمل أي طابع

ص:185


1- اتّجاهات الشعر العربيّ : ١٠٨.
2- الإمام الحسين علیه السلام : ٢٣٢.
3- الغلوّ والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية : ٢٥١.

من التوازن، فقد خلقت الرأسمالية عند عدد من الصحابة، فقد تكدّست عندهم الأموال، و قد خلّف بعضهم بعد موته من الذهب ما يكسّر بالفؤوس، و بذلك فقد سيطرت الرأسمالية على شئون الدولة، و قد سخّرت أجهزتها لمصالحها الخاصّة، و قد ازداد نفوذها و ثراؤها أيام حكومة عثمان بن عفّان عميد الاسرة الأموية و بعد قتله، و لمّا تسلّم الإمام عليه السّلام قيادة الحكم جهدت في معارضته؛ لأنّ سياسته العادلة كانت تهدف إلى منعهم من الامتيازات الخاصّة و مصادرة أموالهم التي ابتزوها بغير حقّ ، كما سنوضّح ذلك عند التحدّث عن حكومة الإمام.

ندم عمر:

و ندم عمر في آخر أيام حكومته لما تفشّى الثراء العريض عند بعض الصحابة و راح يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرته أخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.

و فيما أحسب أنّ هذا الإجراء الذي أراد عمر أن يتّخذه لا يخلو من تأمّل؛ فإنّ فضول أموال الأغنياء إن كانت مختلسة من أموال الدولة فيجب مصادرتها و تأميمها، و إن كانت من أموال التجارة فليس له من سبيل عليها، و الواجب أخذ ما عليها من الضرائب المالية إن كانت خاضعة لها، و مهما يكن الأمر فإنّ أموال الأغنياء إن كانت من الفيء و من جباية الجزية و الخراج فهي ملك للمسلمين فلا يجوز أن يستأثر بها فريق دون فريق.

اعتزال الإمام:

و اعتزل الإمام أيام حكومة عمر، و لم يشترك بأي عمل من أعمال الدولة، كما اعتزل في أيام حكومة أبي بكر، يقول محمّد بن سليمان في أجوبته على أسئلة

ص:186

جعفر بن مكّي عمّا دار بين علي و عثمان: إنّ عليّا دحضه الأوّلان - يعني أبا بكر و عمر - و أسقطاه، و كسرا ناموسه بين الناس فصار نسيا منسيا.. (1).

و يعزو الإمام عليه السّلام جميع ما لاقاه في حياته من النكبات و الأزمات إلى عمر، و ذلك في حديث خاصّ له مع عبد اللّه بن عمر (2).

و على أي حال فقد اعتزل الإمام عليه السّلام الناس اعتزالا تامّا، و انصرف إلى تفسير القرآن الكريم، و لم يتّصل بأحد سوى الصفوة من أصحابه أمثال الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر، و الثائر على الحكم الأموي أبو ذرّ، و سلمان الفارسي و غيرهم من خيار أصحاب الرسول.

و كان عمر يرجع إلى الإمام في المسائل الفقهية؛ لأنّ بضاعته كانت قليلة فيها، و قد شاع عنه قوله:

لو لا علي لهلك عمر.. (3).

و قد نزلت في عمر نازلة فحار في التخلّص منها، و عرض ذلك على أصحابه فقال لهم:

ما تقولون في هذا الأمر؟ فأجابوه: أنت المفزع و المنزع...

فلم يرضه قولهم و تلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (4).

ثمّ قال لهم:

ص:187


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٩ : ٩٨.
2- المصدر السابق : ٥٤.
3- الغدير ٦ : ٨٣ ، وفيه عرض شامل لذلك
4- الأحزاب : ٧٠.

أما و اللّه! إنّي و إيّاكم لنعلم ابن بجدتها و الخبير بها.

فقالوا:

كأنّك أردت ابن أبي طالب ؟ و أنّى يعدل بي عنه، و هل طفحت حرّة بمثله..

لو دعوته يا أمير المؤمنين.

فامتنع من إجابتهم و قال:

إنّ هناك شمخا من هاشم، و اثرة من علم، و لحمة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يؤتى و لا يأتي فامضوا بنا إليه..

و خفّوا جميعا إليه فوجدوه في حائط له يعمل فيه و عليه تبان، و هو يقرأ قوله تعالى: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً إلى آخر السورة و دموعه تنهمر على خدّيه، فلمّا رآه القوم اجهشوا في البكاء، و لمّا سكتوا سأله عمر عمّا ألمّ به، فأجابه عنه، و التفت عمر إلى الإمام فقال له:

أما و اللّه! لقد أرادك الحقّ ، و لكن أبى قومك...

فأجابه الإمام:

«يا أبا حفص، خفّض عليك من هنا و هنا»، و قرأ قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً .

و ذهل عمر فوضع إحدى يديه على الاخرى، و خرج كأنّما ينظر في رماد (1).

و على أي حال فإنّ الإمام في خلافة عمر قد كان جليسا في بيته يساور الهموم، و يسامر النجوم، و يتوسّد الأرق، و يتجرّع الغصص، قد كظم غيظه، و أوكل أمره إلى اللّه تعالى.

ص:188


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٢ : ٧٩ _ ٨٠.

نصيحته لعمر:

اشارة

و نصح الإمام عليه السّلام عمر في موضعين، و أسدل عمّا يكنّه من الموجدة من ضياع حقّه، و ذلك حفظا لكلمة الإسلام و هما:

1 - غزو الروم:

و رام عمر أن يمضي لغزو الروم، فنهاه الإمام عن ذلك و قال له:

«إنّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة (1) دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلا محربا، و احفز معه أهل البلاء و النّصيحة، فإن أظهر اللّه فذاك ما تحبّ ، و إن تكن الأخرى، كنت ردءا للنّاس و مثابة للمسلمين..».

2 - غزو الفرس:

و استشار عمر الإمام في الخروج بنفسه لغزو الفرس، فأشار عليه بعدم خروجه قائلا:

«إنّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلّة. و هو دين اللّه الّذي أظهره، و جنده الّذي أعدّه و أمدّه، حتّى بلغ ما بلغ، و طلع حيث طلع؛ و نحن على موعود من اللّه، و اللّه منجز وعده، و ناصر جنده. و مكان القيّم بالأمر مكان النّظام من الخرز يجمعه و يضمّه: فإن انقطع النّظام تفرّق الخرز و ذهب، ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا.

و العرب اليوم، و إن كانوا قليلا، فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع! فكن قطبا، و استدر الرّحا بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها، حتّى يكون ما تدع وراءك من

ص:189


1- الكانفة : هي العاصمة التي يلجئون إليها.

العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك.

إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك، و طمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإنّ اللّه سبحانه هو أكره لمسيرهم منك. و هو أقدر على تغيير ما يكره.

و أمّا ما ذكرت من عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، و إنّما كنّا نقاتل بالنّصر و المعونة!».

و كان رأي الإمام هو الرأي المشرق، فإنّ خروج عمر مع الجيش تكون له مضاعفاته السيّئة على المسلمين، و التي منها أنّه لو اندحر الجيش الإسلامي و فيهم عمر لانطوت بذلك راية الإسلام.

3 - حليّ الكعبة:

و في أيام عمر كثرت الحليّ على الكعبة، فأشار عليه القوم ببيعها و إرصاد ثمنها للجيوش الإسلامية لأنّ الكعبة ما تصنع بالحليّ ، و أراد عمر تنفيذ ذلك، فاستشار الإمام عليه السّلام فقال له الإمام:

إنّ هذا القرآن أنزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الأموال أربعة: أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفرائض؛ و الفيء فقسّمه على مستحقّيه؛ و الخمس فوضعه اللّه حيث وضعه؛ و الصّدقات فجعلها اللّه حيث جعلها. و كان حلي الكعبة فيها يومئذ، فتركه اللّه على حاله، و لم يتركه نسيانا، و لم يخف عليه مكانا، فأقرّه حيث أقرّه اللّه و رسوله.

فاستحسن عمر رأي الإمام، و أبدى إعجابه قائلا: لولاك لافتضحنا، و ترك الحليّ بحاله...

ص:190

اغتيال عمر:

و آثرنا الايجاز في خلافة عمر و لم نعرض إلى الأحداث التي رافقت حكومته، خصوصا ما صدر منه من الفتاوى التي كانت من الاجتهاد قبال النصّ كتحريم المتعة و غيرها، فقد عرض لها علماء الشيعة و فقهاؤهم، و في طليعتهم الإمام الأعظم شرف الدين في كتابه الذائع الصيت (النصّ و الاجتهاد)، و المحقّق الكبير الإمام الشيخ عبد الحسين الأميني في كتابه الخالد (الغدير) و على أي حال فإنّ الذي يعنينا اغتيال عمر، و وضعه لنظام الشورى قبل وفاته، أمّا اغتيال عمر فيعزوه بعض الكتّاب المحدثين إلى بني أميّة، فقد أرادوا التخلّص من حكمه و فرض سلطانهم على المسلمين (1)، و قد استدلّوا على ذلك بأنّ أبا لؤلؤة الذي اغتال عمر كان مولى للمغيرة بن شعبة الذي له صلة وثيقة بالأمويّين...

و هذا الرأي لا يحمل أي طابع من التحقيق؛ لأنّ علاقة عمر بالأمويّين كانت وثيقة للغاية، و لم تقع بينهما أيّة منافسة، و كانوا من أعداء الإمام و هو المنافس الوحيد له.

و استعمل عمر وجوه الأمويّين ولاة على الأقطار الإسلامية أمثال يزيد بن أبي سفيان، و سعيد بن العاص و معاوية، و لم يشاطر أي واحد منهم أمواله كما شاطر بقيّة عمّاله، و كان معنيّا بشئون نسائهم، فقد أقرض هند بنت عتبة أمّ معاوية أربعة آلاف من بيت المال تتّجر فيها (2)، و قد أعدّ في بيته مكانا خاصّا فرشه بأحسن الفرش و لم يسمح لأي أحد بالدخول فيه سوى أبي سفيان، و عوتب على ذلك فقال: هذا شيخ قريش (3)، فكيف يقومون باغتياله.

ص:191


1- من أنصار هذا الرأي العلاّمة المغفور له العلائلي ، ذهب إلى ذلك في كتابه ( سموّ المعنى في سموّ الذات ) : ص ٣١.
2- الكامل في التاريخ ٣ : ٣٣.
3- سير أعلام النبلاء ٣ : ٣٤١.

و مهما يكن الأمر فإنّ من المقطوع به أنّ أبا لؤلؤة إنّما اندفع لاغتيال عمر بوحي من نفسه، لا بدافع أموي، و يعود السبب في ذلك أنّه كان شابا متحمّسا لشعبه و وطنه، فقد رأى بلاده فتحت عنوة، و قد انطوى مجد الفرس و ذهب عزّهم، و رأى عمر قد بالغ في احتقار الفرس، و تمنّى أن يحول بينهم و بينه جبل من حديد، كما حضر عليهم دخول يثرب إلاّ من كان سنّه دون البلوغ (1)، و أصدر فتواه بعدم إرثهم إلاّ من ولد في بلاد العرب (2)، كما كان يعبّر عنهم بالعلوج، و هو بالذات قد خفّ إلى عمر شاكيا ضيقه و جهده من جراء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج فلم يعن به عمر و صاح به.

و ما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها...

و أوجد ذلك حنقا و حقدا عليه، فأضمر له في نفسه الشرّ، و قد اجتاز عليه فسخر منه، و قال له:

بلغني أنّك تقول: لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت..

فلذعته هذه السخرية و قال له:

لأصنعنّ لك رحى يتحدّث بها الناس.

و في اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال (3)، فطعنه ثلاث طعنات إحداهنّ تحت السرّة فخرقت الصفاق (4).

ثمّ حمل على أهل المسجد فطعن أحد عشر رجلا، و عمد إلى نفسه فانتحر، و حمل عمر إلى داره و جراحاته تنزف دما، فقال لمن حوله:

ص:192


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٨٥.
2- الموطأ ٢ : ١٢.
3- مروج الذهب ٢ : ٢١٢.
4- الصفاق : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد.

من طعنني ؟ غلام المغيرة..

أ لم أقل لكم لا تجلبوا لنا من العلوج أحدا فغلبتموني (1).

و أحضر له أهله طبيبا فقال له: أي الشراب أحبّ إليك ؟ النبيذ..

فسقوه منه، فخرج من بعض طعناته، فقال الناس: خرج صديدا، ثمّ سقوه لبنا فخرج من بعض طعناته، فيئس منه الطبيب، و قال له: لا أرى أن تمسي (2).

وصيّته:

و لمّا أيقن عمر بدنو الأجل المحتوم أوصى ولده عبد اللّه، و قال له: انظر ما عليّ من الدّين، فنظروا فيه فإذا به مدين لبيت المال ستين ألفا لا نعلم أنّها من الدنانير أو من الدراهم.

و قال لولده بعد أن بيّن مقدار دينه: إنّ وفى به مال آل عمر فأدّه من أموالهم، و إلاّ فسل فيّ بني عدي بن كعب، فإن لم تف به أموالهم، فسل فيّ قريش، و لا تعدهم إلى غيرهم (3)..

و يواجه هذه الوصية عدّة من المؤاخذات ذكرناها بالتفصيل في الجزء الأوّل من كتابنا (حياة الإمام الحسين عليه السّلام)

عمر مع ابنه عبد اللّه:

و طلب عبد اللّه من أبيه عمر أن ينصّ على أحد من المسلمين و يجعله خليفة

ص:193


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٨٧.
2- الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ٢ : ٤٦١. الإمامة والسياسة ١ : ٢١.
3- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٨٨.

عليهم من بعده قائلا له:

يا أبتي، استخلف على أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه لو جاء راعي إبلك أو غنمك و ترك إبله أو غنمه لا راعي لها، و قلت له: كيف تركت أمانتك ضائعة فكيف بامّة محمّد، فاستخلف عليهم..

و رمقه عمر بطرفه، و أجابه:

إن استخلف عليهم فقد استخلف أبو بكر، و إن أتركهم فقد تركهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.. (1).

و لعلّ «الوجع» قد غلب عمر فنسي قيام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنصب عليّ خليفة من بعده في يوم «غدير خمّ »، و إلزام المسلمين بمبايعته، و عمر بالذات ممّن بايعه، و قال له: بخ بخ لك يا عليّ ، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة.

و هل أبو بكر أشفق على المسلمين من النبيّ فأوصى من بعده بالخلافة إلى عمر و أهمل ذلك النبيّ و لم يوص لأحد من بعده ؟ و على أي حال فإنّ عمر قد فتكت به جراحاته، و أحاطت به الآلام، فجزع جزعا شديدا، و جعل يقول:

لو أنّ لي ما في الأرض ذهبا لا فتديت به من عذاب اللّه قبل أن أراه.. (2).

و التفت لولده عبد اللّه و قال له: ضع خدّي على الأرض..

فلم يحفل به ولده، و ظنّ أنّه قد اختلس عقله، و أمره ثانيا بذلك فلم يجبه، فصاح به:

ضع خدّي على الأرض لا أمّ لك..

ص:194


1- مروج الذهب ٢ : ٢١٧.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٩٢.

و بادر عبد اللّه فوضع خدّ أبيه على الأرض، و أخذ يجهش بالبكاء و يقول:

يا ويل عمر!! و ويل أمّ عمر!! إن لم يتجاوز اللّه عنه (1)، و لعلّه قد لاحت له في تلك اللحظات الأخيرة من حياته ما أنزله بالاسرة النبوية من النكبات و الأزمات.

و على أي حال فإنّ عمر بعث ولده إلى عائشة يستأذن منها أن يدفن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبي بكر فسمحت بذلك (2)، و علّقت الشيعة على ذلك فقالت: إنّ ما تركه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من متع الحياة إن كان لا يرثه أهله، و إنّما هي لولي الأمر من بعده حسب ما يرويه أبو بكر، فلا وجه للاستئذان من عائشة، و إن كان يرجع إلى ورثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما يقول بذلك أهل البيت عليهم السّلام فليس لعائشة فيه أي نصيب؛ لأنّ الزوجة لا ترث من الأرض، و إنّما ترث من البناء، حسبما قرّره فقهاء المسلمين، و لا بدّ حينئذ أن يكون الإذن في دفنه من ورثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يتحقّق ذلك.

نظام الشورى:

اشارة

و نظام الشورى الذي وضعه عمر كنظام السقيفة، قد أخلد للمسلمين المصاعب و ألقتهم في شرّ عظيم، و هو نظام مفضوح لا غبار عليه في أنّ القصد منه إقصاء الإمام عليه السّلام عن قيادة الامّة و تسليمها لبني أميّة إرضاء لعواطف القرشيّين المترعة بالحقد و الكراهية للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

و نحن نعرض إلى الشورى العمرية بدراسة و تحليل بعيدة عن العواطف التقليدية، لم نقصد بذلك إلاّ إبراز الواقع التأريخي على ما هو عليه.

و على أي حال، فإنّ عمر لمّا أحسّ بدنو الأجل المحتوم منه أخذ يمعن فيمن

ص:195


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٩٣.
2- المصدر السابق : ١٩٠.

يتولّى شئون الحكم من بعده، و قد راح يتذكّر أقطاب حزبه الذين استعان بهم على البيعة لأبي بكر، و صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين، فجعل يصعّد حسراته و يبدي أساه عليهم قائلا:

«لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته؛ لأنّه أمين هذه الامّة، فلو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته؛ لأنّه شديد الحبّ للّه تعالى...» و ليس لأبي عبيدة أي نصيب في خدمة الامّة الإسلامية و جهاد يذكر.

كما أنّه ليس لسالم مولى أبي حذيفة أية شخصية إسلامية معروفة، و إنّما كان من سواد المسلمين، إلاّ أنّه ساهم مساهمة إيجابية في مؤتمر السقيفة، و كان كقوة ضاربة في حماية أعضائها.

و على أي حال فقد طلب منه أصحابه أن يرشّح أحدا من بعده ليتولّى شئون المسلمين، فأبى و قال:

أكره أن أتحمّلها حيّا و ميّتا..

و لكنّه لم يلبث أن عدل عن رأيه فانتخب أعضاء الشورى الستّة، و فوّض إليهم انتخاب أحدهم ليكون واليا على المسلمين، و بذلك فقد تحمّل الخلافة حيّا و ميّتا، و علّق ابن أبي الحديد على كلامه، قائلا:

أي شيء يكون من التحمّل أكثر من هذا؟ و أي فرق بين أن يتحمّلها، بأن ينصّ على واحد بعينه، و بين أن يفعل ما فعله من الحصر و الترتيب.. (1).

صلاة صهيب:

و أوعز عمر إلى صهيب أن يصلّي بالناس حينما اغتاله أبو لؤلؤة، فصلّى بهم، و في ذلك يقول الفرزدق:

ص:196


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٢ : ٢٦٠.

صلّى صهيب ثلاثا ثمّ أرسلها إلى ابن عفّان ملكا غير مقصود (1)

انتخاب عمر لأعضاء الشورى:

و انتخب عمر ستّة أشخاص، و جعلهم أعضاء للشورى و ألزمهم بانتخاب واحد منهم ليتولّى قيادة الامّة، و هم:

1 - الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

2 - سعد بن أبي وقّاص.

3 - الزبير بن العوّام.

4 - طلحة.

5 - عثمان بن عفّان.

6 - عبد الرحمن بن عوف.

و الشيء البارز في هذا الانتخاب أنّه لم يجعل أي نصيب فيه للأنصار الذين نصروا النبيّ ، و احتضنوا مبادئه، و لعلّ السبب في ذلك هو ميولهم للإمام عليه السّلام، و قد اقتصر أعضاء الشورى على الجناح القرشي، و ليس لغيرهم فيه أي نصيب.

عمر مع أعضاء الشورى:

اشارة

و طلب عمر حضور أعضاء الشورى الذين انتخبهم، فلمّا مثلوا أمامه وجّه إليهم أعنف القول و أقساه و رماهم بالصفات الذميمة التي توجب القدح في ترشيحهم لمنصب الإمامة، و قد روى المؤرّخون صورا لحديثه معهم، و هذه بعضها:

الرواية الاولى:
اشارة

إنّ أعضاء الشورى لمّا حضروا عنده قال لهم: أ كلّكم يطمع بالخلافة بعدي ؟..

ص:197


1- إنّ أعضاء الشورى لمّا حضروا عنده قال لهم : أكلّكم يطمع بالخلافة بعدي؟ ..

و وجموا عن الكلام، فأعاد عليهم القول ثانيا، فأجابه الزبير: و ما الذي يبعدنا منها، وليتها - أي الخلافة - أنت فقمت بها، و لسنا دونك في قريش، و لا في السابقة، و لا في القرابة..، و لم يسعه الردّ عليه لأنّه ليس في كلامه فجوة يسلك فيها لإبطال كلامه، و التفت عمر إلى الجماعة فقال لهم:

أ فلا أخبركم عن أنفسكم ؟..

فأجابوا مجمعين:

قل، فإنّا لو استعفيناك لم تعفنا..

و أخذ يحدّثهم عن نفسيّاتهم و ميولهم، فوجّه كلامه لكلّ واحد منهم:

مع الزبير:

«أمّا أنت يا زبير! فوعق لقس (1)، مؤمن الرّضا، كافر الغضب، يوما إنسان و يوما شيطان، و لعلّها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مدّ من شعير..

أ فرأيت إن أفضت إليك، فليت شعري من يكون للنّاس يوم تكون شيطانا؟ و من يكون يوم تغضب!! و ما كان اللّه ليجمع لك أمر هذه الأمّة و أنت على هذه الصّفة...».

إنّ الزبير حسب هذا التحليل النفسي لشخصيّته مبتلى بآفات شريرة و هي:

1 - الضجر و التبرّم.

2 - الغضب الشديد الذي يفقده الرشد.

3 - عدم الاستقامة في السلوك.

4 - الحرص و البخل.

و هذه النزعات من مساوئ الصفات، و من اتّصف ببعضها لا يصلح لأن يكون إماما للمسلمين... و مع هذه الصفات الماثلة فيه كيف رشّحه للخلافة ؟

ص:198


1- الوعق : الضجر والتبرّم. اللقس : من لا يستقيم على أمر.
مع طلحة:

و أقبل عمر على طلحة، و أخذ يحدّثه بنزعاته فقال له:

أقول أم أسكت ؟..

فزجره طلحة و قال له:

إنّك لا تقول من الخير شيئا..

و أخذ عمر يقول:

أما إنّي أعرفك منذ أصيبت اصبعك يوم أحد وائيا بالذي حدث لك، و لقد مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب...

و إذا كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ساخطا على طلحة كيف يرشّحه للخلافة، كما أنّه مناقض لما قاله في أعضاء الشورى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مات و هو راض عنهم.

و علّق الجاحظ على مقاله بقوله:

لو قال لعمر قائل: أنت قلت: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مات و هو راض عن الستّة، فكيف تقول الآن لطلحة: إنّه مات صلّى اللّه عليه و آله ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها، لكان قد رماه بمشاقصه (1)، و لكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له: ما دون هذا فكيف هذا؟..

مع سعد بن أبي وقّاص:

و اتّجه صوب سعد بن أبي وقّاص، فقال له: إنّما أنت صاحب مقنب (2) من هذه المقانب تقاتل به، و صاحب قنص و قوس و سهم، و ما زهرة و الخلافة و امور الناس ؟ و حكى كلام عمر اتّجاهات سعد و أنّه رجل عسكري لا يفقه إلاّ عمليات

ص:199


1- المشاقص : جمع مشقص ، وهو نصل السهم.
2- المقنب : جماعة الخيل.

الحروب، و لا خبرة له بالشؤون الإدارية و السياسية، و إذا كانت هذه اتّجاهاته كيف جعله من أعضاء الشورى ؟

مع عبد الرحمن بن عوف:

و أقبل عمر على عبد الرحمن بن عوف، فقال له: أمّا أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف ايمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك عليهم، و لكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك، و ما زهرة و هذا الأمر؟..

إنّ عبد الرحمن - حسب رأي عمر - مثال للإيمان و التقوى، و إنّ إيمانه يساوي نصف إيمان المسلمين، و من إيمانه المزعوم أنّه عدل عن انتخابه سيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و سلّم الخلافة إلى بني أميّة، فاتّخذوا مال اللّه دولا و عباد اللّه خولا.

و إذا لم تكن لعبد الرحمن شخصية صلبة و قوية - حسب رأي عمر - كيف رشّحه للخلافة ؟

مع الإمام أمير المؤمنين:

و التفت عمر إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له: للّه أنت لو لا دعابة فيك...

أمّا و اللّه! لئن ولّيتهم لتحملنّهم على الحقّ الواضح و المحجّة البيضاء..

و متى كانت للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام الدعابة ؟ و هو الذي ما ألف في حياته غير الجدّ و الحزم.

إنّ الدعابة تنمّ عن ضعف الشخصية، و قد اعترف عمر أنّ الإمام لو ولي امور المسلمين لحملهم على الحقّ الواضع و المحجّة البيضاء، و من المؤكّد أنّ من يقوم بذلك لا بدّ أن يكون شخصية قوية ذا إرادة صلبة.

و على أي حال فإنّ عمر اعترف بأنّ الإمام لو تقلّد الحكم لسار بين المسلمين

ص:200

على الحقّ الواضح، و حملهم على الصراط المستقيم، فكيف جعله من أعضاء الشورى و لم يسند إليه الحكم مباشرة ؟

مع عثمان:

و أقبل عمر على عثمان عميد الاسرة الأموية، و هو الذي كتب العهد بولايته من أبي بكر، و هو المرشّح الوحيد عنده للخلافة فقال له:

هيها إليك، كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك، فحملت بني اميّة و بني أبي معيط على رقاب الناس، و آثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا، و اللّه! لئن فعلوا لتفعلن، و لئن فعلت ليفعلن، ثمّ أخذ بناصيته فقال له: فإذا كان ذلك فاذكر قولي (1).

و الشيء المؤكّد أنّ عثمان لم تقلّده قريش منصب الخلافة، و إنّما عمر هو الذي قلّده بها، و لم يكن ترشيحه له في أيام مرضه و إنّما كان قبل ذلك بزمان، فقد روى الحسن بن نصر قال: حججت مع عمر، و كان الحادي يحدو أنّ الأمير بعد عمر عثمان.. (2).

إنّ نظام الشورى الذي وضعه عمر يؤدّي حتما إلى فوز عثمان بالخلافة، فقد جعله من أعضاء الشورى، و كان معظهم ممّن لهم ميول و اتّصال وثيق بالأمويّين، و هم لا يعدلون عن انتخابه كما سنعرض لذلك.

الرواية الثانية:

رواها ابن قتيبة أنّ أعضاء الشورى التقوا بعمر فقالوا له:

قل فينا يا أمير المؤمنين! مقالة نستدلّ فيها برأيك و نقتدي بها...

ص:201


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ١٨٥ _ ١٨٦.
2- جواهر المطالب : ٢٩٠.

فقال مخاطبا لسعد: و اللّه! ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلاّ شدّتك و غلظتك مع أنّك رجل حرب..

و قال لعبد الرحمن: و ما يمنعني منك يا عبد الرحمن! إلاّ أنّك فرعون هذه الامّة.

و قال مخاطبا للزبير: و ما يمنعني منك يا زبير! إلاّ أنّك مؤمن الرضا، كافر الغضب.

و قال لطلحة: و ما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته و كبره، و لو وليها وضع خاتمه في اصبع امرأته.

و قال لعثمان: و ما يمنعني منك يا عثمان! إلاّ عصبيّتك و حبّك لقومك و أهلك.

و قال للإمام أمير المؤمنين: و ما يمنعني منك يا عليّ ! إلاّ حرصك عليها، و أنّك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ المبين و الصراط المستقيم (1).

و قد اتّهم عمر أعضاء الشورى بمساوئ الصفات، فوصف عبد الرحمن أنّه فرعون هذه الامّة، و إذا كان ذلك فكيف جعله من أعضاء الشورى ؟ و الغريب أنّه في الفصل الأخير من وصاياه أناط برأيه شئون الخلافة، و جعل قوله في انتخاب أحد المرشّحين منطق الفصل و فصل الخطاب.

و وصف الإمام بالحرص على الخلافة، و هو اتّهام مردود، فإنّ سيرة الإمام مشرقة كالشمس بعيدة عن الحرص كلّ البعد، فإنّه لم يكن بأيّ حال من عشّاق الملك و السلطان، و إنّما نازع الخلفاء و أقام عليهم الحجّة بأنّه أولى بالخلافة و أحقّ بها منهم من أجل أن يقيم في هذا الشرق و في غيره حكم القرآن و عدالة الإسلام، و قد صرّح عليه السّلام بذلك بقوله:

ص:202


1- الإمامة والسياسة ١ : ٢٤.

«اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان، و لا التماس شيء من فضول الحطام، و لكن لنرد المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك».

و أدلى عليه السّلام في حديثه مع ابن عبّاس عن زهده للسلطة و احتقاره للحكم، و كان عليه السّلام يخصف بيده نعله الذي كان من ليف،

فقال لابن عبّاس:

«يا ابن عبّاس، ما قيمة هذا النّعل ؟».

يا أمير المؤمنين، لا قيمة له..

«إنّه خير من خلافتكم إلاّ أن اقيم حقّا و أدفع باطلا...».

من أجل إقامة الحقّ و تطبيق العدالة الاجتماعية كان الإمام يبغي الحكم وسيلة لتحقيق مثله العليا.

الرواية الثالثة:

رواها ابن أبي الحديد المعتزلي قال:

نظر إلى أعضاء الشورى، فقال لهم: قد جاءني كلّ واحد منكم يهزّ عفريته يرجو أن يكون خليفة.

ثمّ التفت إلى طلحة فقال له:

أمّا أنت يا طلحة! أ فلست القائل: إن قبض النبيّ أنكح أزواجه من بعده ؟ فما جعل اللّه محمّدا أحقّ ببنات أعمامنا منّا، فأنزل اللّه فيك: وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (1).

ثمّ التفت إلى الزبير فقال له:

ص:203


1- الأحزاب : ٥٣.

و أمّا أنت يا زبير! فو اللّه! ما لان قلبك يوما و لا ليلة، و ما زلت جلفا جافيا...

و وجّه خطابه إلى عثمان فقال له:

و أمّا أنت يا عثمان! لروثة خير منك..

ثمّ التفت إلى عبد الرحمن بن عوف فقال له:

و أمّا أنت يا عبد الرحمن! فإنّك رجل عاجز، تحبّ قومك...

ثمّ وجه خطابه إلى سعد بن أبي وقّاص فقال له:

و أمّا أنت يا سعد! فصاحب عصبية و فتنة..

ثمّ التفت إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له:

و أمّا أنت يا عليّ ! لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم..

و انصرف الإمام عنه، فالتفت عمر إلى حضّار مجلسه فقال لهم:

و اللّه! إنّي لأعلم مكان الرجل لو ولّيتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء.

و بادروا قائلين:

من هو؟ هذا المولى بينكم - و أشار إلى الإمام.

ما يمنعك من ذلك ؟ ليس إلى ذلك من سبيل (1).

و لم لا سبيل إلى ترشيح الإمام بعد ما رشّحه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلّده منصب الخلافة في يوم غدير خمّ ، فهل هناك عيب في الإمام و عدم توفّر قابليات القيادة فيه ؟ نعم، إنّها الأضغان و الأحقاد التي أترعت بها نفوس القوم ضدّ وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب

ص:204


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٥٩.

مدينة علمه، و اللّه هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.

الهيئة المشرفة على الانتخاب:

و أقام عمر هيئة مشرفة على عملية الانتخاب، و ليس لها رأي سوى الأشراف، فقد قال لأعضاء الشورى: احضروا معكم من شيوخ الأنصار، و ليس لهم من أمركم شيء، و أحضروا معكم الحسن بن عليّ و عبد اللّه بن عبّاس، فإنّهما لهما قرابة، و أرجو لكم البركة في حضورهما، و ليس لهما من أمركم شيء...

و الملاحظ في هذه الهيئة التي أقامها عمر هو أنّه أقصى الأنصار عن الانتخاب و الاختيار لمن يرغبون فيه للحكم، و جعل لهم الإشراف المجرّد الذي يعني حرمانهم من الحكم، و بذلك فقد نقض العهد الذي قطعه على نفسه أبو بكر للأنصار حيث قال لهم: نحن الامراء و أنتم الوزراء... فلم يجعل لهم عمر أي دور في شئون الدولة، و إنّما جعلهم شرطة و جنودا لحكومته... ثمّ إنّا لا نعلم ما هي البركة التي ينعم بها أعضاء الشورى في حضور الإمام الحسن و عبد اللّه بن عبّاس، و هما لا يملكان من الأمر شيئا؟

عمر مع أبي طلحة و المقداد:

و أراد عمر أن يحكّم الشورى و يتقن بنودها، و يفرضها على المسلمين فالتفت إلى أبي طلحة الأنصاري، و هو فيما أظنّ مدير لشرطته، فقال له:

يا أبا طلحة! إنّ اللّه أعزّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلا من الأنصار فالزم هؤلاء النفر بإمضاء الأمر و تعجيله...

ثمّ التفت إلى المقداد و عهد إليه بما يلي:

إذا اتّفق خمسة و أبى واحد منهم فاضربوا عنقه، و إن اتّفق أربعة و أبى اثنان فاضربوا عنقيهما، و إنّ اتّفق ثلاثة منهم على رجل و رضي ثلاثة منهم برجل آخر

ص:205

فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف و اقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس...

و هذا الكلام حافل بالمؤاخذات، سنعرض له عند البحث عن آفات الشورى.

إنذار عمر للصحابة:

و شيء خطير بالغ الأهميّة هو أنّ عمر أنذر أعضاء الشورى و هدّدهم بعمرو بن العاص واليه على مصر و بمعاوية واليه على الشام، فقد قال لهم:

يا أصحاب محمّد، تناصحوا، فإن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان.

و علّق شيخ الإمامية الشيخ المفيد على هذا الكلام بقوله:

و إنّما أراد عمر بهذا القول: إغراء معاوية و عمرو بن العاص بطلب الخلافة، و إطماعهما فيها لأنّ معاوية كان عامله و أميره على الشام و عمرو بن العاص عامله و أميره على مصر، و خاف أن يضعف عثمان و تصير الخلافة إلى عليّ فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما و هما بمصر و الشام، فيتغلّبا على هذين الاقليمين إن أفضت إلى عليّ ... (1).

و هو تحليل وثيق للغاية، فقد أراد أن يظهر ابن العاص و معاوية التمرّد على الإمام إن آلت الخلافة إليه، و تحقّق ذلك، فإنّه بعد أن آلت الخلافة إلى الإمام كان معاوية و ابن العاص في طليعة القوى الباغية على الإمام و المناهضة لحكمه.

رأي الإمام:

و كان الإمام على يقين لا يخامره شكّ في موقف عمر تجاهه، و أنّه لا يرغب

ص:206


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٣ : ٩٩.

بأي حال من الأحوال أن يتولّى شئون المسلمين، و لم يضع نظام الشورى إلاّ لأجل ذلك، و إنّ ما يبغيه إيصال الحكم إلى عثمان عميد الاسرة الأموية،

فقد التقى الإمام بعمّه العبّاس و قال له:

«يا عمّ ، لقد عدلت - أي الخلافة - عنّا».

من أعلمك بذلك ؟ «لقد قرن بي عثمان و قال: كونوا مع الأكثر، ثمّ قال: كونوا مع عبد الرّحمن، و سعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرّحمن، و عبد الرّحمن صهر لعثمان، و هم لا يختلفون، فإمّا أن يولّيها عبد الرّحمن لعثمان، أو يولّيها عثمان لعبد الرّحمن...»(1).

و صدق تفرّس الإمام، فقد ولاّها عبد الرحمن لعثمان إيثارا لمصالحه و ابتغاء لرجوعها إليه.

لقد كانت الشورى باسلوبها مؤامرة مفضوحة لا ستار عليها في إبعاد الإمام عن الخلافة، يقول الإمام كاشف الغطاء:

الشورى بجوهرها و حقيقتها مؤامرة واقعية و شورى صورية، و هي مهارة بارعة لفرض عثمان خليفة على المسلمين رغما عليهم بتدبير بارع عاد على الإسلام و المسلمين بشرّ ما له دافع (2).

و راح الإمام بعد سنين - يتحدّث بأسى - عن الشورى العمرية التي صمّمت لإقصائه عن مركز الحكم

يقول عليه السّلام:

حتّى إذا مضى لسبيله - يعني عمر - جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم، فيا للّه و للشّورى! متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل - يعني به أبا بكر - منهم، حتّى صرت أقرن

ص:207


1- تاريخ الطبري ٥ : ٣٥.
2- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٣١٧.

إلى هذه النّظائر! - يعني أعضاء الشورى.

أجل و اللّه! - يا أمير المؤمنين -! أنّه متى اعترض الريب لأي أحد من المسلمين و غيرهم أنّك أفضل الناس علما و جهادا و ورعا، و لكن الأحقاد القرشية هي التي أخّرتك عن مقامك و حرمت الامّة من مواهبك و عبقرياتك.

آفات الشورى:

و لم تكن الشورى العمرية سليمة، فقد احتفّت بها المؤاخذات و المناقضات من جميع جهاتها، و خلقت الكثير من المصاعب و الفتن كان منها ما يلي:

1 - إنّ هذا النظام الذي صمّمه عمر لا يحمل أي طابع من حقيقة الشورى التي لا بدّ من أن تتوفّر فيها الامور التالية:

أ - أن تشترك الامّة بجميع شرائحها في الانتخاب.

ب - أن لا تتدخّل الحكومة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في شئون الانتخاب.

ج - أن تتوفّر الحريات العامّة لجميع الناخبين.

و فقدت الشورى العمرية هذه العناصر، و لم يعدّ لها أي وجود فيها، فقد حظر عمر على الامّة و على الشخصيات البارزة من التدخّل في الانتخاب أمثال المجاهد الكبير عمّار بن ياسر و الصحابي العظيم أبي ذرّ، و مالك الأشتر الزعيم الكبير، و لم يجعل الأنصار حماة الإسلام أي نصيب في ذلك، و إنّما فوّض عمر الأمر إلى ستّة أشخاص، و جعل آراءهم منطق الفصل، و هذا لون من ألوان التزكية تفرضه بعض الحكومات التي لا تعنى بأي حال بإرادة شعوبها، و مضافا إلى ذلك فقد أو عز إلى الشرطة بالتدخّل في عمليات الانتخاب، و عهد إليهم بقتل كلّ شخص من أعضاء الشورى لا يتّفق مع البقيّة منهم.

ص:208

كما أنّ عمر قد حدّد مدّة الانتخاب لأعضاء الشورى بثلاثة أيام، و قد ضيّق بذلك الوقت على الناخبين خوفا أن تتبلور الأوضاع و تتدخّل القطعات الشعبية لانتخاب من يشاؤون فيفوت غرضه.

2 - إنّ هذه الشورى قد ضمّت بعض العناصر المعادية للإمام عليه السّلام و الحاقدة عليه، ففيها عثمان بن عفّان عميد الاسرة الأموية، و موقف الأمويّين من الإمام معروف و عداؤهم له ظاهر، و فيها عبد الرحمن بن عوف و هو صهر لعثمان، و فيها سعد بن أبي وقّاص، و هو من الحاقدين على الإمام لأنّ أخواله الأمويّون الذين و ترهم الإمام، فإنّ امّه حمنة بنت أبي سفيان، و سعد حينما بويع الإمام بعد مقتل عثمان تخلّف عن بيعته، و قد اختار عمر هذه العناصر المنافسة للإمام حتى لا يؤول الأمر إليه..

و قد تحدّث الإمام عن المؤثّرات التي لعبت في ميدان الانتخاب

قال عليه السّلام:

«لكنّي أسففت إذ أسفّوا، و طرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، و مال الآخر لصهره، مع هن و هن».

إنّ هذه الشورى لم يكن المقصود منها - حسب ما يراه المحقّقون - إلاّ إقصاء الإمام عن الحكم و منحه للأمويّين. يقول العلائلي:

إنّ تعيين الترشيح في ستّة، مهّد السبيل لدى الأمويّين لاستغلال الموقف، و تشييد صرح مجدهم على أكتاف المسلمين.

و قد وصل إلى هذه النتيجة السيّد مير علي الهندي قال:

إنّ عدم حرص عمر على مصلحة المسلمين دفعه إلى اختيار هؤلاء الستّة من أهل المدينة من دون أن يتبع سياسة سلفه، و كان للأمويّين حزب قوي في المدينة، و من هنا مهّد اختياره - أي عمر - السبيل لمكايد الأمويّين و دسائسهم هؤلاء الذين ناصبوا الإسلام العداء، ثمّ دخلوا فيه وسيلة لسدّ مطامعهم و تشييد صروح مجدهم

ص:209

على أكتاف المسلمين (1).

إنّ أدنى تأمّل في أمر هذه الشورى يوحي بأنّ المقصود منها إبعاد الإمام عن الحكم و تسليمه للأمويّين.

3 - إنّ عمر عمد في هذه الشورى إلى إبعاد الأنصار، فلم يجعل لأي أحد منهم نصيبا فيها، و هم آووا النبيّ و نصروا الإسلام في أيام محنته و غربته، و قدّموا أبناءهم قرابين للدعوة الإسلامية، و قد أوصى بهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خيرا، كما لم يجعل عمر فيها لعمّار و أبي ذرّ و مالك الأشتر و غيرهم من أعلام الإسلام أي نصيب فيها، و أكبر الظنّ أنّه إنّما أبعدهم لأنّ لهم هوى مع الإمام، و لهذه الجهة أقصاهم و قصر أعضاء الشورى على العناصر الحاقدة على الإمام.

4 - إنّ عمر قد شهد في حقّ أعضاء الشورى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مات و هو عنهم راض أو انّه شهد لهم بالجنّة، فكيف عهد إلى الشرطة بضرب أعناقهم إن تخلّفوا عن انتخاب أحدهم، و يقول الناقدون لهذه الشورى إنّه كيف ساغ لعمر الأمر بقتلهم إن تخلّفوا عن الانتخاب مع العلم أنّ الإسلام بصورة جازمة حرّم إراقة الدماء و أوجب التحرّج فيها إلاّ في مواضع مخصوصة ذكرها الفقهاء و هذا ليس منها.

5 - إنّ عمر إنّما قصر أعضاء الشورى على ستّة بحجّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مات و هو عنهم راض، و ذلك لا يصلح دليلا على حصر أعضاء الشورى فيهم؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مات و هو راض عن كثير من صحابته، فتقديم هؤلاء عليهم إنّما هو من باب الترجيح بلا مرجّح و هو ممّا يتّسم بالقبح - كما يقول علماء الاصول.

6 - إنّ عمر جعل الترجيح في الانتخاب إلى الجهة التي تضمّ عبد الرحمن بن عوف، و قدّمها على الجهة التي تضمّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و هو تحيّز ظاهر

ص:210


1- الإمام الحسين علیه السلام ١ : ٢٦٧.

لا خفاء فيه إلى القوى القرشية الحاقدة على الإمام عليه السّلام.

كما أنّا لا نعلم أنّ أي ميزة اختصّ بها عبد الرحمن حتّى يستحقّ هذا التكريم و التبجيل، و هو و طلحة و الزبير قد استأثروا بأموال المسلمين و فيئهم، و ملكوا من الثراء العريض ما لا يحصى، حتى تحيّروا في صرفه و إنفاقه، و قد ترك ابن عوف من الذهب ما يكسّر بالفؤوس لكثرته و ضخامته، و من المعلوم أنّ هذا الثراء العريض قد اختلسه هو و أمثاله من الرأسماليّين من فيء المسلمين.

و على أي حال أمثل عبد الرحمن يقدّم على الإمام أمير المؤمنين، و هو صاحب المواقف المشهودة في نصرة الإسلام، مضافا إلى مواهبه و عبقرياته و تنكّره للمحسوبيات و المصالح الخاصّة و شدّة تحرّجه في الدين، و اللّه تعالى يقول: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ؟ 7 - إنّ هذه الشورى أوجدت التنافس بين أعضائها و أشاعت الاختلاف و الفرقة بينهم، فعبد الرحمن بن عوف هو الذي قلّد عثمان الخلافة إلاّ أنّه لمّا ضاعت آماله و لم يحقّق أي شيء من مصالحه في حكومة عثمان أخذ يؤلّب عليه، و دعا الإمام أمير المؤمنين ليحمل كلّ منهما سيفه ليناجزه، و أوصى أولياءه بعد موته أن لا يصلّي عليه عثمان، و كذلك كان الزبير شيعة للإمام عليه السّلام، و هو الذي وقف إلى جانبه يوم السقيفة، و قد قال في أيام عمر: و اللّه! لو مات عمر بايعت عليّا، و لكن الشورى قد نفخت فيه روح الطموح، فرأى نفسه ندّا للإمام ففارقه بعد أن صارت الخلافة إليه، و خرج عليه يوم الجمل.

و قد أدّى التنازع و التخاصم بين أعضاء الشورى و غيرهم إلى تصديع كلمة المسلمين و تشتيت شملهم، و قد التفت إلى ذلك معاوية بن أبي سفيان، فقد قال لأبي الحصين الذي أوفده زياد لمقابلته:

بلغني أنّ عندك ذهنا و عقلا، فاخبرني عن شيء أسألك عنه.

ص:211

سلني عمّا بدا لك.

أخبرني ما الذي شتّت شمل أمر المسلمين و ملئهم و خالف بينهم ؟ قتل الناس عثمان.

ما صنعت شيئا...

مسير عليّ إليك و قتاله إيّاك...

ما صنعت شيئا.

مسير طلحة و الزبير و عائشة و قتال عليّ إيّاهم...

ما صنعت شيئا...

ما عندي غير هذا...

أنا اخبرك، إنّه لم يشتّت بين المسلمين و لا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستّة نفر، و ذلك أنّ اللّه بعث محمّدا بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون، فعمل بما أمره اللّه به، ثمّ قبضه اللّه إليه، و قدّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمر دينهم، فعمل بسنّة رسول اللّه و سار بسيرته حتى قبضه اللّه و استخلف عمر، فعمل بمثل سيرته، ثمّ جعلها شورى بين ستّة نفر، فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه، و رجاها له قومه، و تطلّعت إلى ذلك نفسه، و لو أنّ عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك خلاف (1).

إنّ عمر مهّد الطريق لعثمان و استخلفه على المسلمين بأسلوب بارع و سافر، و الشورى إنّما هي طريق لهذه الغاية، و لكنّها أشاعت الأطماع و الأهواء السياسية، و ألقت المسلمين في شرّ عظيم.

ص:212


1- العقد الفريد ٣ : ٧٣ _ ٧٤.

هذه بعض آفات الشورى و هي - بصورة جازمة غير خاضعة للأهواء و العواطف المذهبية - هي التي مهّدت الطريق للطلقاء و أبنائهم للاستيلاء على السلطة و القبض على زمام الحكم، و إبعاد القوى الإسلامية عن الحياة السياسية، الأمر الذي نجم منه نهب ثروات الامّة و إذلال الأخيار و التنكيل بعترة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

عملية الانتخاب:

و لمّا مضى عمر لربّه، و واروه في مقرّه الأخير أحاط الشرطة بأعضاء الشورى، و ألزموهم بالاجتماع و اختيار شخص منهم ليتولّى شئون المسلمين تنفيذا لوصية عمر.

و اجتمع أعضاء الشورى في بيت المال، و قيل في بيت مسرور بن مخرمة، و أشرف على عملية الانتخاب الإمام الحسن و عبد اللّه بن عبّاس، و بادر المغيرة بن شعبة و عمرو بن العاص فجلسا في عتبة الباب فنهرهما سعد بن أبي وقّاص و قال لهما: تريدان أن تقولا حضرنا و كنّا في أهل الشورى.

و تداول الأعضاء فيما بينهم الحديث عمّن هو أحقّ بالخلافة و ولاية أمر المسلمين، و انبرى الإمام أمير المؤمنين فحذّرهم مغبة ما يحدث من الفتن و الفساد إن استجابوا لعواطفهم و لم يؤثروا مصلحة الامّة... قائلا:

لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ ، وصلة رحم، و عائدة كرم. فاسمعوا قولي، وعوا منطقي؛ عسى أن تروا هذا الأمر - أي الخلافة - من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السّيوف، و تخان فيه العهود، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة، و شيعة لأهل الجهالة.

و لم يستجيبوا لدعوة الإمام و لم يعوا منطقه، و انسابوا وراء رغباتهم تسيّرهم القوى القرشية المحيطة بهم، و التي تريد انتخاب من يضمن مصالحها و يحقّق نفوذها غير حافلين بمصلحة الامّة.

ص:213

و على أي حال فقد عمّ الجدل بين أعضاء الشورى، و لم ينتهوا إلى غاية مريحة، و جماهير الشعب كانت تنتظر بفارغ الصبر النتيجة الحاسمة... و عقد الاجتماع مرّة أخرى إلاّ أنّه باء بالفشل، و أشرف على أعضاء الشورى أبو طلحة الأنصاري، فأخذ يتهدّدهم و يتوعّدهم قائلا: لا و الّذي نفس عمر بيده لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي امرتم...

و اقترب اليوم الثالث الذي عيّنه عمر، فانعقد الاجتماع، فانبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان، و إنّما فعل ذلك لأنّه كان حاقدا على الإمام بسبب منافسته لابن عمّه أبي بكر على الخلافة، و اندفع الزبير فوهب صوته للإمام عليه السّلام، و انطلق سعد فوهب حقّه لعبد الرحمن بن عوف...

و كان رأي عبد الرحمن هو الفيصل و الحاسم لأنّ عمر قد وضع ثقته به و أناط به أمر الشورى، إلاّ أنّه كان ضعيف الإرادة لا قدرة له على إرادة شئون الحكم، فأجمع رأيه على ترشيح غيره للخلافة، و كان له هوى مع عثمان لأنّه صهره، و قد أشار عليه عامّة القرشيّين في انتخابه، و زهّدوه في الإمام عليه السّلام لأنّه الوحيد الذي و ترهم في سبيل الإسلام.

و حلّت الساعة الرهيبة التي لم يخضع فيها ابن عوف لمصلحة المسلمين، و اتّبع هوى القرشيّين الذين ناهضوا الإسلام في جميع مراحله.

و التفت ابن عوف إلى ابن اخته مسوّر فقال له:

يا مسوّر، اذهب فادع عليّا و عثمان.

بأيّهما أبدأ؟ بأيّهما شئت.

و مضى مسوّر مسرعا فدعا عليّا و عثمان، و ازدحم المهاجرون من قريش و الأنصار و سائر الناس، فعرض عليهم الأمر و قال لهم:

ص:214

أيّها الناس، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، فأشيروا عليّ ؟ و تقدّم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فأشار عليه بما يرضي اللّه و رسوله، و يضمن للامّة سلامتها فقال له:

إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّا..

و انبرى المقداد فأيّد مقالة عمّار قائلا:

صدق عمّار، إن بايعت عليّا سمعنا و أطعنا...

و اندفعت القوى القرشية الحاقدة على الإسلام فشجبت مقالة عمّار و المقداد و دعت إلى ترشيح عثمان عميد الاسرة الأموية المعادية للإسلام، و قد رفع عبد اللّه بن أبي سرح صوته مخاطبا بن عوف:

إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان..

و أيّده عبد اللّه بن أبي ربيعة قائلا:

إن بايعت عثمان سمعنا و أطعنا...

و ردّ عليهم الصحابي العظيم عمّار بن ياسر قائلا:

متى كنت تنصح للمسلمين ؟ و صدق عمّار، متى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين و هو الذي كفر بجميع قيم الإسلام و كان جاهليّا بجميع مراحل حياته، و هو من أشدّ الأعداء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد أمر بقتله، و لو كان متعلّقا بأستار الكعبة (1).

انّه لو كان هناك أي منطق سائدا لأقصي هذا الدعي و سائر القبائل القرشية من التدخّل في شئون المسلمين؛ لأنّها هي التي ناجزت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حرّضت عليه

ص:215


1- الاستيعاب ٢ : ٣٧٥.

القبائل و صمّمت على قتله، ففر منهم في غلس الليل تاركا وصيّه و ابن عمّه في فراشه، و بعد ما هاجر منهم إلى يثرب خفّوا بجيوشهم إلى قتاله، فكيف يسمح لهم بالتدخل في شئون المسلمين ؟ إنّ الحكم و الرأي يجب أن يكون بيد أمثال عمّار و أبي ذرّ و مالك الأشتر و الأنصار، و غيرهم يكونون في ذيل القافلة.

و على أي حال فقد احتدم الجدال بين الهاشميّين و أنصارهم، و بين الأمويّين و أتباعهم، فانبرى عمّار بن ياسر يدعوهم إلى الصالح العامّ قائلا:

أيّها الناس، إنّ اللّه أكرمنا بنبيّه، و أعزّنا بدينه، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم ؟...

فانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلا:

لقد عدوت طورك يا ابن سميّة، و ما أنت و تأمير قريش لأنفسها؟...

إنّ هذا الجاهلي يرى عمّارا قد تعدّى طوره؛ لأنّه تدخّل في شئون قريش التي أناطت بهم الشورى العمرية شئون المسلمين.

إنّ عمّارا و أباه ياسرا و امّه سميّة ممّن يعتزّ بهم الإسلام و يفخر بنضالهم و جهادهم، فهم الطليعة الاولى التي ساهمت في بناء الإسلام و أقامت صروحه... إنّ أمر الخلافة يجب أن يكون بيد عمار و غيره من الضعفاء الذين أعزّهم اللّه بدينه، و ليس للقرشيّين و غيرهم من الطغاة أي حقّ في التدخّل في شئون المسلمين لو كان هناك منطق أو حساب.

و على أيّ حال فقد احتدم النزاع بين المسلمين و القرشيّين، فخاف سعد أن يفوت الأمر و تفوز الجبهة الموالية للإمام، فالتفت إلى ابن عمّه عبد الرحمن فقال له:

يا عبد الرحمن، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس.

و التفت ابن عوف إلى الإمام قائلا:

هل أنت مبايعي على كتاب اللّه، و سنّة نبيّه، و فعل أبي بكر و عمر؟

ص:216

و رمقه الإمام بطرفه فأجابه بمنطق الإسلام و منطق الأحرار:

«بل على كتاب اللّه، و سنّة نبيّه، و اجتهاد رأيي».

إنّ مصدر التشريع في الإسلام إنّما هو كتاب اللّه و سنّة نبيّه، و عليهما يجب أن تسير الدولة، و ليس فعل أبي بكر و عمر من مصادر التشريع، بالاضافة إلى أنّ عمر قد خالف أبا بكر في سياسته المالية، و أوجد نظام الطبقية، فقدّم بعض المسلمين على بعض في العطاء، و حرّم المتعتين؛ متعة الحجّ و متعة النساء، و كانتا مشروعتين في عهد الرسول و في عهد أبي بكر، فعلى أيّ المنهجين يسير ابن أبي طالب ؟ إنّ ابن عوف إنّما شرط عليه ذلك لعلمه أنّ الإمام لا يستجيب له، و أنّه لو تقلّد الخلافة لساس المسلمين سياسة قوامها العدل الخالص و الحقّ المحض، و لم يمنح الاسر القرشية أي امتياز، و ساوى بينهم و بين المسلمين.

إنّ امتناع الإمام من إجابة عبد الرحمن تدلّ على مدى واقعيّته؛ فإنّه لو كان من هواة الملك و عشّاق السلطان لأجابه إلى ذلك، ثمّ يسلك في سياسته حسب ما يراه، فإن عارضه ابن عوف بعد ذلك فيلقيه في السجون.

و على أيّ حال، فإنّ عبد الرحمن لمّا يئس من الإمام التفت إلى عثمان زعيم الأمويّين فشرط عليه ذلك فأجابه بلا تردّد، و فيما أحسب أنّ هناك اتّفاقا سرّيا على ذلك لحرمان الامّة من حكم الإمام... و يرى بعض المؤرّخين من الافرنج أنّ عبد الرحمن استعمل طريقة الانتهازية و الخداع و لم يترك الانتخاب يجري حرّا.

و بادر ابن عوف بعد أن استجاب له عثمان فصفق بكفّه على يديه، و قال له:

اللّهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان....

و وقعت بيعة عثمان كصاعقة على القوى الخيّرة التي جهدت على أن تسود كلمة اللّه في الأرض،

و راح الإمام يندّد بابن عوف قائلا:

«و اللّه! ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبكما - لعلّه يعني أبا بكر

ص:217

و عمر - من صاحبه دقّ اللّه بينكما عطر منشم (1)....».

إنّ عبد الرحمن إنّما انتخب عثمان من أجل أطماعه السياسة راجيا أن يكون خليفة من بعده،

و وجّه الإمام خطابه للقرشيّين قائلا:

«ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، و اللّه المستعان على ما تصفون...».

و لذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده قائلا:

يا عليّ ، لا تجعل على نفسك سبيلا...

و غادر الإمام المظلوم قاعة الاجتماع و هو يقول:

«سيبلغ الكتاب أجله...».

و التاع عمّار فخاطب ابن عوف قائلا:

يا عبد الرحمن! أما و اللّه! لقد تركته، و إنّه من الذين يقضون بالحقّ و به كانوا يعدلون.

و ذابت نفس المقداد أسى و حزنا و راح يقول:

تاللّه! ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، و اعجبا لقريش، لقد تركت رجلا ما أقول و لا أعلم أنّ أحدا أقضى بالعدل و لا أعلم و لا أتقى منه، أما لو أجد أعوانا...

و قطع عليه عبد الرحمن كلامه، و راح يحذّره من الفتنة قائلا:

ص:218


1- منشم : اسم امرأة بمكّة كانت عطّارة ، وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا من طيبها ، فإذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم فكان يقال : اشأم من عطر منشم ، جاء ذلك في صحاح الجوهري ٢٥ : ٢٠٤١. وقد استجاب الله دعاء الإمام فكانت بين عبد الرحمن وعثمان أشدّ المنافرة والخصومة ، وقد أوصى أن لا يصلّي عليه عثمان بعد موته.

اتّق اللّه يا مقداد! فإنّي أخاف عليك الفتنة... (1).

و هكذا تغلّبت قريش على سائر القوى الخيّرة التي أرادت إرجاع الحقّ إلى أهله و معدنه، و هم أهل بيت النبوّة و معدن الحكمة، الذين ساهموا في بناء الإسلام، و قام على أكتافهم، و استشهد أعلامهم أمثال الشهيد الخالد جعفر الطيّار و حمزة و عبيدة و غيرهم، كما قام بجهود الإمام أمير المؤمنين و جهاده.

و على أيّ حال فقد انتهت مأساة الشورى التي صمّمت لإقصاء الإمام عن الحكم، و قد أخلدت للمسلمين الفتن و ألقتهم في شرّ عظيم.

ص:219


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ١٩٤.

ص:220

حكومة عثمان

اشارة

ص:221

ص:222

و استقبلت القوى الخيّرة خلافة عثمان بكثير من القلق و الوجوم و الاضطراب، فقد اعتبرت فوزه في الحكم فوزا لاسرة الأمويّين الذين لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام و الكيد للمسلمين، و يرى «دوزي» أنّ انتصار الأمويّين إنّما هو انتصار للجماعة التي كانت تضمر العداء للإسلام (1).

لقد خاف المسلمون على دينهم، و خافوا على دولتهم من الأمويّين، و تحقّق ما خافوا منه، فإنّه لم يمض قليل من الوقت حتى استولى الأمويّون على جميع أجهزة الدولة، و سخّروا الاقتصاد العامّ لمصالحهم حتى عمّ الفقر و سادت الفوضى في جميع أنحاء البلاد.

إنّ عثمان حينما فرضه ابن عوف خليفة على المسلمين احتفّ به الأمويّون و اخوانهم القرشيّون، و جاءوا به يزفّونه إلى مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قد علت أصواتهم بالدعم الكامل لحكومته، و الهتاف بحياته، و اعتلى عثمان المنبر فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لم يجلس في المكان الذي كان يجلس فيه أبو بكر و عمر، و ارتاب بعض الحاضرين، فقالوا: اليوم ولد الشرّ (2).

و اتّجه المجتمع ليسمع ما يدلي به عثمان، و ما يفتح به مناهجه السياسية، فارتجّ عليه و لم يدر ما يقول، و جهد نفسه فألقى هذه الكلمات المتقطّعة المضطربة.

ص:223


1- تاريخ الشعر العربيّ : ٢٦.
2- تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠. البداية والنهاية ٧ : ١٤٨.

«أمّا بعد، فإن أوّل مركب صعب، و ما كنّا خطباء، و سيعلم اللّه، و أنّ امراء ليس بينه و بين آدم إلاّ أب ميّت، لموعوظ »، ثمّ نزل عن المنبر و هو وجل (1)، و أنت ترى أنّه ليس بين هذه الكلمات أي ربط أو اتّصال، و إنّما كانت متنافرة في اسلوبها الأمر الذي دعا الحاضرين ليهزءوا به و يسخروا منه، و كان ذلك من آفات الشورى التي امتحن بها المسلمون، فقد أقصت أمير البيان و رائد الحكمة و العدالة في دنيا الإسلام و فرضت عثمان حاكما على المسلمين.

مظاهر شخصيّته:

اشارة

و لا بدّ لنا من التحدّث عن مظاهر شخصيّة عثمان التي هي المقياس في نجاح أي حاكم أو فشله في الميادين السياسية و الاجتماعية و هذه بعضها:

أوّلا - ضعف الإرادة:

كان عثمان - فيما أجمع عليه المؤرّخون - ضعيف الإرادة، خائر العزيمة، و لم تكن له أيّة قدرة على مواجهة الأحداث و التغلّب عليها، فقد استولى عليه الأمويّون و سيطروا على جميع شئونه، و لم يستطع أن يقف موقفا إيجابيا ضدّ رغباتهم و أهوائهم، و وصفه بعض الكتّاب المحدثين بأنّه كالميّت في يد الغاسل لا حول له و لا قوّة.

و كان الذي يدير شئون دولته مروان بن الحكم، فهو الذي يعطي و يمنع و يتصرّف حسب ما يشاء، و لا رأي لعثمان و لا اختيار له، و قد قبض على الدولة بيد من حديد، يقول ابن أبي الحديد:

إنّ الخليفة في الحقيقة و الواقع إنّما كان مروان، و عثمان له اسم الخلافة.

ص:224


1- الموفّقيات : ٢٠٢.

و أراد بعض المؤرّخين أن يدافع عن عثمان فقال: إنّه كان شديد الرأفة و الرقّة و اللين و التسامح. نعم، إنّه كذلك، و لكن مع أرحامه و أسرته، أمّا مع الجبهة المعارضة لسياسته فقد اتّسم بالشدّة و الغلظة معهم، فقد نفى المصلح العظيم أبا ذرّ إلى الشام، ثمّ إلى الربذة، و فرض عليه الإقامة الجبرية فيها، و قد انعدمت في هذه البقعة جميع وسائل الحياة حتى مات جائعا غريبا و في يد عثمان ذهب الأرض ينفقه بسخاء على بني أميّة و آل أبي معيط . كما نكل بالطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأمر بضربه حتى أصابه فتق، و ألقته شرطته في الطريق مغمى عليه، كما نكّل بعبد اللّه بن مسعود القارئ الكبير فقد ألهبت جسمه سياط شرطته و هشّموا أضلاعه و حرّم عليه العطاء، و هكذا كانت معاملته مع الناقمين لسياسته، أمّا المؤيّدون له فقد وهبهم الثراء العريض و أسند لهم المناصب الحسّاسة في الدولة و حملهم على رقاب الناس.

ثانيا - حبّه العارم للأمويّين:

من النزعات التي اشتهر بها عثمان هو أنّه كان عظيم الحبّ و الولاء لاسرته، حتى تمنّى أن تكون مفاتيح الجنّة بيده ليهبها لبني أميّة، و لمّا تقلّد زمام الدولة آثرهم بالفيء، و وهبهم الملايين، و جعلهم ولاة على الأقطار و الأمصار الإسلامية، و كانت تتواتر إليه الأخبار أنّهم جانبوا الحقّ و أشاعوا الفساد في الأرض فلم يحفل بذلك، و لم يجر معهم أي لون من التحقيق الأمر الذي أدّى إلى النقمة عليه، و سنتعرّف على ذلك في البحوث الآتية.

ثالثا - ميله إلى الترف:

و كان عثمان شديد الميل إلى الترف و البذخ، فاتّخذ القصور، و اصطفى لنفسه ما شاء من بيت المال، و أحاط نفسه بالثراء العريض، و وصفه الإمام عليه السّلام بقوله:

ص:225

«نافجا حضنيه بين نثيله و معتلفه»، و كان ذلك من موجبات النقمة عليه.

رابعا - مصانعة الوجوه:

و من نزعاته مصانعة الوجوه و الأشراف، و إن أدّى ذلك إلى إهمال الأحكام الشرعية، و كان من ذلك ما ذكره المؤرّخون أنّ أبا لؤلؤة لمّا اغتال عمر قام ولده عبيد اللّه فقتل الهرمزان صديق أبي لؤلؤة، و قتل جفينة و ابنة أبي لؤلؤة، و هو قتل متعمّد بغير حقّ ، فأقفل عثمان سير التحقيق مع عبيد اللّه و أصدر عفوا عنه ممالأة لاسرة عمر، و قد قوبل هذا الإجراء بمزيد من الانكار، فقد أنكر عليه الإمام و طالبه بالقود من ابن عمر، و كذلك طالبه المقداد فلم يعن عثمان بذلك، و كان زياد بن لبيد إذ لقي عبيد اللّه بن عمر خاطبه بهذه الأبيات:

ألا يا عبيد اللّه! مالك مهرب و لا ملجأ من ابن أروى و لا خفر

أصبت دما و اللّه! في غير حلّه حراما و قتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل أ تتّهمون الهرمزان على عمر؟

فقال سفيه - و الحوادث جمّة -: نعم اتّهمه قد أشار و قد أمر!

و كان سلاح العبد في جوف بيته يقلّبها و الأمر بالأمر يعتبر

و شكا عبيد اللّه إلى عثمان ما قاله زياد فيه، فدعاه عثمان و نهاه عن ذلك إلاّ أنّه لم ينته، و تناول عثمان بالنقد فقال فيه:

أبا عمرو عبيد اللّه رهن - فلا تشكك - بقتل الهرمزان

فإنّك إن غفرت الجرم عنه و أسباب الخطا فرسا رهان

أ تعفو إذ عفوت بغير حقّ فما لك بالذي تحكى يدان

و غضب عثمان من زياد و حذّره العقوبة حتى انتهى (1).

ص:226


1- تاريخ الطبري ٥ : ٤١.

و أمر عثمان بإخراج عبيد اللّه إلى الكوفة، و أقطعه بها أرضا واسعة، فنسبت إليه، و قيل (كوفية ابن عمر)، و كانت هذه الحادثة من الأسباب التي أدّت إلى نقمة المسلمين عليه.

ولاته و عمّاله:

اشارة

و فرض عثمان اسرته و ذوي قرباه من بني أميّة و آل أبي معيط ولاة و حكّاما على المسلمين، يقول المقريزي:

«و جعل عثمان بني أميّة أوتاد خلافته»، مع العلم أنّه لم تتوفّر في أي واحد القابلية لتحمّل المسئولية و إدارة دفّة الحكم، مع أنّ الكثيرين منهم ليس لهم معرفة بأحكام الإسلام، كما لم تكن لهم حريجة في الدين، فكيف يجعلون ولاة و حكّاما على المسلمين ؟ و يرى السيّد مير علي أنّ المسلمين تذمّروا من استبداد الحكّام و اغتصابهم الأموال (1)، و كان من ولاته أبو موسى الأشعري، فسمح لأحد عمّاله بالتجارة في أقوات أهل العراق (2).

و على أي حال فإنّا نعرض إلى بعض عمّاله الذين عانى منهم المسلمون الجهد و البلاء، و فيما يلي ذلك:

1 - عبد اللّه بن عامر:

عبد اللّه بن عامر بن كريز هو ابن خال عثمان، و قد ولاّه إمارة البصرة بعد أن عزل منها أبا موسى الأشعري، و كان ولاجا خرّاجا (3)، و هو أوّل من لبس الخزّ

ص:227


1- مختصر تاريخ العرب : ٤٣.
2- تاريخ الطبري ٤ : ٢٦٢.
3- الكامل في التاريخ ٣ : ٣٨.

في البصرة، و قد لبس جبّة دكناء، فقال الناس: لبس الأمير جلد دبّ ، فغيّر لباسه و لبس جبّة حمراء (1).

و قد نقم الناس من سياسته و سوء تصرّفاته، و عابوا على عثمان ولايته له، و خفّ إلى يثرب عامر بن عبد اللّه موفدا من قبل أهل البصرة يطالب عثمان بالاستقامة في سلوكه فقال له:

إنّ اناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت امورا عظاما، فاتّق اللّه عزّ و جلّ و تب إليه و انزع عنها...

فاحتقره عثمان و أعرض عنه، و قال لمن حوله:

انظروا إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون انّه قارىء، ثمّ هو يجيء فيكلّمني في المحقّرات، فو اللّه! ما يدري أين اللّه ؟...

و لم يكلّمه عامر إلاّ بتقوى اللّه و طاعته، و إيثار مصلحة المسلمين، فهل هذه الامور من المحقّرات ؟ و التفت إليه عامر فقال له:

أنا لا أدرى أين اللّه...

نعم.

إنّي لأدري انّ اللّه بالمرصاد...

و غضب عثمان، فعقد مؤتمرا من مستشاريه، و عرض عليهم انتقاد المعارضين لسياسته، فأشار عليه ابن خاله عبد اللّه بن عامر أن يتّخذ معهم الاجراءات الصارمة قائلا:

ص:228


1- اسد الغابة ٣ : ١٩٢.

رأي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، و أن تجمهرهم في المغازي حتى يذلّوا لك، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه، و ما هو فيه من دبر دابته و قمل فروته..

و أشار عليه آخرون بخلاف ذلك، إلاّ أنّه استجاب لرأي ابن خاله، و أو عز إلى عمّاله بالتضييق على الجبهة المعارضة، و مقابلتهم بالشدّة و العنف، فاستجاب له، و طبّق ما أشار عليه، فقد أمر عمّاله بتجمير الناس في البعوث، و عزم على حرمانهم من العطاء حتى يشيع الفقر فيهم و البؤس، فيضطروا إلى طاعته (1).

و لمّا قفل عبد اللّه بن عامر إلى البصرة عمد إلى التنكيل بعامر بن عبد اللّه، و أوعز إلى عملائه أن يشهدوا عليه شهادة زور بأنّه خالف المسلمين في امور قد أحلّها اللّه كان منها:

1 - أنّه لا يأكل اللحم.

2 - لا يشهد الجمعة.

3 - لا يرى مشروعية الزواج (2).

و دوّنت شهادتهم، و رفعها إلى عثمان، فأمره بنفيه إلى الشام، و حمله على قتب حتى يشق عليه السفر، و لمّا انتهى إلى الشام أنزله معاوية (الخضراء)، و بعث إليه بجارية تكون عينا عليه، و أشرفت عليه الجارية فرأته يقوم في الليل متعبّدا، و يخرج من السحر فلا يعود إلاّ بعد العتمة، و لا يتناول من طعام معاوية شيئا، و كان يتناول كسرا من الخبز و يجعلها في الماء تحرّجا من أن يدخل جوفه شيء من الحرام، و انبرت الجارية فأخبرت معاوية بشأنه، فكتب إلى عثمان بأمره (3)، و قد

ص:229


1- تاريخ الطبري ٥ : ٩٤. تاريخ ابن خلدون ٢ : ٣٩.
2- الفتنة الكبرى ١ : ١١٦.
3- الاصابة ٣ : ٨٥.

نقم الأخيار و المتحرّجون في دينهم على عثمان لما اقترفه في شأن هذا العبد الصالح.

و على أي حال فقد ظلّ عبد اللّه بن عامر واليا على البصرة لم يتحرّج من إثم و بغي، و لمّا قتل عثمان نهب ما في بيت المال و سار إلى مكّة، فوافى بها طلحة و الزبير و عائشة فانضمّ إليهم، و أمدّهم بالأموال التي نهبها ليستعينوا بها على حرب الإمام أمير المؤمنين، و هو الذي أشار عليهم بالنزوح إلى البصرة (1).

إنّ هذا الذئب الجاهلي من ولاة عثمان و من المقرّبين إليه، و قد أسند إليه ولاية هذا القطر المهمّ .

2 - الوليد بن عقبة:

و كان على الكوفة واليا سعد بن أبي وقّاص الزهري، فعزله عثمان و ولّى عليها الوليد بن عقبة، و هو - فيما أجمع عليه المؤرّخون - من فسّاق بني أميّة، و من أكثرهم مجونا، و قد أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه من أهل النار (2)، و كان أبوه عقبة من ألدّ أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فكان يأتي بالروث و يطرحه على بابه (3)، و هو الذي بصق بوجه النبيّ ، فهدّده بأنّه إن وجده خارجا من جبال مكّة يأمر بضرب عنقه، و لمّا كانت واقعة بدر امتنع من الخروج، فأصرّ عليه أصحابه فأخبرهم بخوفه من النبيّ ، فأغروه و خدعوه و قالوا له: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه، فاستجاب لهم، و خرج لحرب النبيّ ، فلمّا هزم اللّه المشركين حمل به جمله في جدود من الأرض، فأخذه المسلمون و جاءوا به أسيرا، فأمر النبيّ عليّا بضرب عنقه، فقام إليه و قتله (4)،

ص:230


1- اسد الغاية ٣ : ١٩٢.
2- مروج الذهب ٢ : ٢٢٣.
3- الطبقات الكبرى ١ : ١٨٦.
4- الغدير ٨ : ٢٧٣.

و قد أترعت نفس الوليد بالحقد و العداء للنبيّ و للإمام لأنّهما قد و تراه بأبيه، و قد أسلم الوليد مع من أسلم من كفّار قريش خوفا من حدّ السيف.

و قد انزلت في ذمّه آيتان في فسقه و ذمّه و هما:

الاولى: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (1)، و كان سبب نزول هذه الآية أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أرسله إلى بني المصطلق لأخذ الصدقة منهم، فعاد إليه و أخبره بأنّهم منعوه منها، فخرج إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فتبيّن له كذبه، و نزلت الآية في فسقه.

الثانية: قوله تعالى: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (2)، و كان السبب في نزولها أنّه جرت بين الوليد و بين الإمام مشادّة، فقال الوليد للإمام:

اسكت فإنّك صبي و أنا شيخ، و اللّه! إنّي أبسط منك لسانا، و أحدّ منك سنانا، و أشجع منك جنانا، و أملأ منك حشوا في الكتيبة.

فردّ عليه الإمام قائلا:

«اسكت فإنّك فاسق..».

فأنزل اللّه تعالى فيهما هذه الآية، و نظم هذه الحادثة حسّان بن ثابت بقوله:

أنزل اللّه و الكتاب عزيز في عليّ و في الوليد قرانا

فتبوّا الوليد من ذاك فسقا و عليّ مبوّأ إيمانا

ليس من كان مؤمنا عرف اللّه كمن كان فاسقا خوّانا

فعليّ يلقى لدى اللّه عزّا و وليد يلقى هناك هوانا

سوف يجزى الوليد خزيا و نارا و عليّ لا شكّ يجزى جنانا (3)

ص:231


1- الحجرات : ٦.
2- السجدة : ١٨.
3- تذكرة الخواص : ١١٥.

و لمّا ولاّه عثمان ولاية الكوفة كان يشرب الخمر جهارا، و قد دخل القصر و هو ثمل يتمثّل بأبيات تأبط شرّا:

و لست بعيدا عن مدام و قينة و لا بصفا صلد عن الخير معزل

و لكن أروى من الخمر هامتي و أمشي الملا بالساحب المتسلسل (1)

و من مجونه أنّه كان يفيق لياليه سكران مع المغنّين حتى الصباح، و كان نديمه أبو زيد الطائي من نصارى تغلب، و قد أنزله دارا له على باب المسجد، ثمّ وهبها له، و كان الطائي يشقّ صفوف المصلّين في الجامع حتى ينتهي إليه و هو سكران (2).

و كان من إدمانه على الخمر أنّه شربها فصلّى بالناس صلاة الصبح و هو ثمل أربع ركعات، و صار يقول في ركوعه و سجوده: اشرب و اسقني، ثمّ قاء الخمر في المحراب و سلّم، و التفت إلى المصلّين خلفه و قال: هل أزيدكم ؟ فقال له ابن مسعود: لا زادك اللّه خيرا و لا من بعثك إلينا، و أخذ فروة نعله و ضرب بها وجهه، و حصبه الناس، فدخل القصر و الحصباء تأخذه و هو ثمل (3) مترنّح، و في فضائحه و مخازيه يقول الحطيئة جرول بن أوس العبسي:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه أنّ الوليد أحقّ بالغدر

نادى و قد تمّت صلاتهم أ أزيدكم ثملا و لا يدري

ليزيدهم خيرا و لو قبلوا منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهب و لو فعلوا لقرنت بين الشفع و الوتر

حبسوا عنانك إذ جريت و لو خلوا عنانك لم تزل تجري (4)

ص:232


1- الأخبار الطوال : ١٥٦.
2- الأغاني ٥ : ١٢٢. العقد الفريد ٦ : ٣٤٨.
3- السيرة الحلبية ٢ : ٣١٤.
4- الأغاني ٤ : ١٧٨.

أ رأيتم هذه السخرية اللاذعة و الاستهزاء السافر بأحد ولاة عثمان ؟ و قال الحطيئة في ذمّه و هجائه مرّة أخرى:

تكلّم في الصلاة و زاد فيها علانية و جاهر بالنفاق

و مجّ الخمر عن سنن المصلّي و نادى و الجميع إلى افتراق

أ أزيدكم على أن تحمدوني فما لكم و مالي من خلاق (1)

و أسرع جماعة من خيار الكوفة إلى يثرب يشكون الوليد إلى عثمان، و قد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره، و قابلوا عثمان، و عرضوا عليه أنّ الوليد شرب الخمر فزجرهم عثمان و قال لهم بعنف:

ما يدريكم انّه شرب الخمر؟ هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية.

و أعطوه خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره لتأييد شهادتهم، فغضب عثمان، و دفع في صدورهم و قابلهم بأخبث القول و أقساه، و خرجوا منه و هم يتميّزون من الغيظ ، و اتّجهوا صوب الإمام و أخبروه بما جرى لهم مع عثمان،

فانبرى إلى عثمان و قال له:

«دفعت الشّهود و أبطلت الحدود».

و خاف عثمان من عواقب الامور، فقال للإمام:

ما ترى ؟ «أرى أن تبعث إلى صاحبك، فإن أقاما الشّهادة في وجهه و لم يدل بحجّة أقمت عليه الحدّ..».

و لم يجد عثمان بدّا من امتثال أمر الإمام، فكتب إلى الوليد يأمره بالحضور

ص:233


1- الأغاني ٤ : ١٧٨.

إلى يثرب، و لمّا انتهت إليه رسالة عثمان نزح من الكوفة إلى يثرب.. و لمّا مثل أمام عثمان دعا بالشهود، فأقاموا عليه الشهادة، و لم يدل الوليد بأيّة حجّة، و قد خضع بذلك لإقامة الحدّ، و لم ينبر أحد لإقامة الحدّ عليه خوفا من عثمان، فقام الإمام عليه السّلام و دنا منه فسبّه الوليد و قال له: يا صاحب مكس (1)، و قام إليه عقيل فردّ عليه سبّه، و ضرب الإمام به الأرض و علاه بالسوط ، و عثمان يتميّز غيظا، فصاح بالإمام:

ليس لك أن تفعل به هذا.

فأجابه الإمام بمنطق الشرع:

«بلى، و شرّ من هذا إذا فسق، و منع حقّ اللّه أن يؤخذ منه»(2).

و علّق العلاّمة العلا يلي على هذه البادرة بقوله:

هذه القصة تضع بين أيدينا شيئا جديرا غير العطاء الذي يرجع إلى مكان العاطفة، تضع بين أيدينا صورة عن الاغضاء عن مجاوزة السلطة للقانون، و الاغضاء في واقعة دينية، بحيث يجب على الخليفة أن يكون أوّل من يغار عليها، و إلاّ هدّد مكانه و افسح المجال للناس للنقد و التجريح، و بالأخصّ حين جاءت حكومته عقيب حكومة عمر التي عرفت بالشدّة فيما يتعلّق بالحدود الدينية حتى لو كان من أقرب ذوي القربى.

إذن، فهذه المبالغة في الاغضاء و الصفح و المجاوزة لا ترجع إلى مكان العاطفة وحدها - إن كانت - بل إلى الحزبية حتى تتناحر مجتمعة (3).

إنّ الوليد بفسقه و فجوره ترك الدعارة و اللهو و المجون في الكوفة، و قد أسّست فيها دور للغناء و الطرب، و انتشر فيها المغنّون، فكان فيها عبد اللّه بن هلال

ص:234


1- المكس : النقص والظلم.
2- مروج الذهب ٢ : ٢٢٥.
3- الإمام الحسين علیه السلام : ٣٣.

الذي لقّب بصاحب إبليس (1)، و حنين الشاعر النصراني (2) و غيرهما من أعلام الغناء.

3 - عبد اللّه بن سعد:

و من ولاة عثمان أخوه من الرضاعة عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح فجعله واليا على مصر، و أسند إليه إقامة الصلاة و الولاية على الخراج، و هو فيما أجمع عليه المؤرّخون من أكثر زنادقة قريش عداء للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كان يقول مستهزئا به: إنّي أصرفه حيث اريد، و أحلّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دمه و إن كان متعلّقا بأستار الكعبة، و قد هرب بعد فتح مكّة فاستجار بعثمان فغيّبه، و بعد ما اطمأن أهل مكّة أتى به عثمان إلى النبيّ ، فلمّا رآه صمت طويلا، ثمّ آمنه و عفا عنه، فلمّا انصرف عثمان

التفت النبيّ إلى أصحابه و قال لهم:

«ما صمت إلاّ ليقوم إليه بعضكم ليضرب عنقه».

فقال له رجل من الأنصار: هلا أومأت إليّ يا رسول اللّه ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ النبيّ لا ينبغي له خائنة الأعين»(3).

و لمّا ولي عبد اللّه مصر ساس المصريّين سياسة عنف و كلّفهم فوق ما يطيقون، و أظهر الكبرياء و الجبروت، فضجروا منه، فذهب خيارهم إلى عثمان يشكون إليه، فاستجاب لهم عثمان و أرسل إليه رسالة يستنكر فيها سياسته في القطر، فلم يستجب لعثمان، و راح مصرّا على غيّه، و عمد إلى من شكاه لعثمان فقتله، و شاع التذمّر و عمّ السخط من جميع الأوساط في مصر، فتشكّل منهم وفد كبير بلغ عدد أعضائه سبعمائة شخص فخفّوا إلى عثمان، و لمّا انتهوا إلى يثرب نزلوا في الجامع و شكوا

ص:235


1- الأغاني ٢ : ٣٥١.
2- المصدر السابق : ٣٤٩.
3- تفسير القرطبي ٧ : ٤٠. سنن أبي داود ٢ : ٢٢٠.

أميرهم إلى الصحابة، فانبرى طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام قاسي، و أرسلت إليه عائشة تطالبه بإنصاف القوم، و كلّمه

الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في شأنه قائلا:

«إنّما يسألك القوم رجلا مكان رجل، و قد ادّعوا قبله دما، فاعزله و اقض بينهم، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه...».

و استجاب عثمان - على كره - لنصيحة الإمام، و قال للقوم: اختاروا رجلا اولّيه عليكم مكانه، فأشاروا عليه بمحمّد بن أبي بكر، فكتب إليه عهده، و بعث معه عدّة من المهاجرين و الأنصار ينظرون فيما بينهم و بين ابن أبي سرح (1)، و نزح القوم من المدينة، فلمّا انتهوا إلى الموضع المعروف ب (حمس) و إذا بقادم من المدينة، تأمّلوه و إذا هو ورش غلام عثمان، ففتّشوه و إذا به يحمل رسالة من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيها بالتنكيل بالمصريّين، و تأمّلوا الكتاب و إذا به بخطّ مروان، فقفلوا راجعين إلى المدينة و قد صمّموا على قتل عثمان أو خلعه (2).

4 - معاوية بن أبي سفيان:

و أقرّ عثمان معاوية على الشام، فقد ولاّه عمر عليه، و زاد عثمان في رقعة سلطانه، و زاد في نفوذه، و قد مهّد له الطريق لنقل الخلافة إليه.

يقول الدكتور طه حسين:

و ليس من شكّ في أنّ عثمان هو الذي مهّد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان، و تثبيتها في بني أميّة، فعثمان هو الذي وسّع على معاوية في الولاية فضمّ إليه فلسطين و حمص، و أنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء، و جمع له قيادة الأجناد الأربعة، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين، ثمّ مدّ له في الولاية أثناء خلافته كلّها كما فعل عمر، و أطلق يده في امور الشام أكثر ممّا أطلقها

ص:236


1- أنساب الأشراف ٥ : ٢٦.
2- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٥٠.

عمر، فلمّا كانت الفتنة فإذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا و أقواهم جندا و أملكهم لقلب رعيّته... (1).

و حكى حديث الدكتور الواقع، فإنّ عثمان هو الذي أمدّ في سلطان معاوية، و بسط له النفوذ و السعة حتى صار من أقوى الولاة، و أصبح قطره من أهمّ الأقطار الإسلامية و من أكثرها ولاء له.

5 - سعيد بن العاص:

و أسند عثمان ولاية الكوفة إلى سعيد بن العاص، فولاّه هذا القطر العظيم الذي كان حامية للجيوش الإسلامية بعد أن عزل عنه الوليد الذي شرب الخمر و أقام الإمام عليه السّلام عليه الحدّ.

و قد استقبل الكوفيّون ولاية سعيد بكثير من الكراهية؛ لأنّه كان شابا مترفا متهوّرا لا يتحرّج من اقتراف الإثم و المنكر، و قد روى المؤرّخون صورا من استهتاره بالقيم الإسلامية و الاجتماعية كان منها ما يلي: إنّه طلب من الحاضرين رؤية عيد شهر رمضان المبارك، فقام إليه الصحابي الجليل هاشم بن عتبة المرقال فقال له:

أنا رأيته..

فوجّه إليه كلاما جافيا لا يصدر من إنسان شريف قائلا له: بعينك هذه العوراء رأيته ؟..

فالتاع هاشم و انبرى يقول:

تعيّرني بعيني، و إنّما فقئت في سبيل اللّه، و كانت عينه قد اصيبت يوم اليرموك.

لقد فقئت عين هذا المجاهد الكبير في واقعة اليرموك، و قد عيّره بها هذا

ص:237


1- الفتنة الكبرى ١ : ١٢٠.

الجاهلي الذي لم يتربّ إلاّ على الرذائل و الموبقات.

و على أي حال فقد أصبح هاشم مفطرا؛ لأنّه قد رأى الهلال، و قد جاء

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله «صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته»، و قد فطر الناس لإفطاره، فانتهى الخبر إلى سعيد فأرسل خلفه و ضربه ضربا موجعا و أمر بإحراق داره، و قد أثار ذلك حفائظ النفوس و نقم عليه الأخيار و المتحرّجون في دينهم، فقد كان اعتداؤه على علم من أعلام الإسلام بغير حقّ و وجه مشروع إلاّ إرضاء لعواطفه المترعة بالجهل و الحقد على رجال الإسلام (1).

2 - أعلن سعيد أمام الجماهير القول: إنّما السواد - يعني سواد الكوفة - بستان لقريش و أثار ذلك حفائظ النفوس، فالسواد ملك للمسلمين و ليس للقرشيّين الذين هم خصوم الإسلام و أعداء الرسول أي حقّ فيه... و قد اندفع الزعيم الكبير مالك الأشتر إلى الانكار عليه قائلا:

أ تجعل مراكز رماحنا، و ما أفاء اللّه علينا بستانا لك و لقومك ؟... و اللّه! لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه...

لقد اتّخذ الحكم الأموي الذي فرض على الامّة بقوّة السيف خيرات الامّة بستانا لقريش التي ناجزت الإسلام و كفرت بجميع قيمه.

و انضمّ قرّاء المصر و فقهاؤهم إلى الزعيم مالك الأشتر فردّوا على الوالي طيشه و غروره، و جابهوه بالنقد لمقالته، و غضب مدير شرطته فردّ عليهم ردّا غليظا، فبادروا إليه و ضربوه ضربا عنيفا حتى اغمي عليه، و أخذوا يذيعون مساوئ قريش و جرائم بني أميّة و ذكر مثالب عثمان، و رفع سعيد من فوره رسالة إلى عثمان أخبره فيها بما جرى عليه، فأمره بنفيهم إلى الشام، و كتب رسالة إلى معاوية يأمره فيها

ص:238


1- حياة الإمام الحسن بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٤٠.

باستصلاحهم. و لم يرتكب هؤلاء الأخيار إثما أو يحدثوا فسادا في الأرض حتى يستحقّوا النفي من وطنهم، و إنّما نقدوا أميرهم لأنّه قال غير الحقّ ، و شذّ عن الطريق القويم. و من المؤكّد أنّ الإسلام قد منح الحرية التامّة للمواطنين، فلهم أن ينقدوا الحكّام و المسئولين إذا شذّوا في سلوكهم و ابتعدوا عن الحقّ .

و على أي حال فقد قامت السلطة بإخراج القوم بالعنف عن أوطانهم، و أرسلتهم مخفورين إلى الشام، فتلقّاهم معاوية و أنزلهم في كنيسة، و أجرى عليهم بعض الرزق، و جعل يناظرهم، و يحبّذ لهم الغضّ عمّا تقترفه السلطة من أعمال إلاّ أنّهم لم يستجيبوا له و أنكروا عليه و على سعيد الذي قال: إنّما السواد بستان قريش.

و لمّا يئس معاوية منهم كتب إلى عثمان يستعفيه من بقائهم في الشام خوفا من أن يفسدوا أهلها عليه، فأعفاه عثمان و أمره بردّهم إلى الكوفة، فلمّا عادوا إليها انطلقت ألسنتهم بنقد أمير الكوفة و ذكر مثالب الأمويّين، و رفع سعيد ثانيا أمرهم إلى عثمان، فأمره بنفيهم إلى حمص و الجزيرة، فأخرجهم سعيد بعنف، فلمّا انتهوا إلى حمص قابلهم و إليها بشدّة و عنف، و سامهم سوء العذاب، و يقول الرواة: إنّه إذا ركب أمر بهم بالسير حول ركابه مبالغة في إذلالهم و الاستهانة بهم، و لمّا رأوا ذلك أظهروا له الطاعة و الاذعان لسلطانه، و كتب لعثمان بذلك، فأمره بردّهم إلى الكوفة، و أخرجهم من حمص، و مضوا يجدّون في سيرهم، و جعلوا طريقهم إلى يثرب لمقابلة عثمان، و عرض ما عانوه من عمّاله من صنوف التعذيب و الارهاق، و توجّهوا صوب المدينة، فلمّا انتهوا إليها رأوا سعيدا قد أقبل من الكوفة في مهمّة رسمية، و قابلوا عثمان، و عرضوا عليه ما لا لاقوه من سعيد، و سألوه عزله، و فاجأهم سعيد فرآهم عند عثمان و هم يشكونه، فأعرض عنهم عثمان و ألزمهم بطاعته و الانصياع لأوامره.

و قفل القوم راجعين إلى الكوفة، و أقسموا أن لا يدخلها سعيد، و قاموا

ص:239

باحتلال مركزه، و خرجوا في جماعة مسلّحين بقيادة الزعيم مالك الأشتر حتى انتهوا إلى (الجرعة)، فرابطوا فيها ليحولوا بين سعيد و بين دخوله إلى الكوفة، و أقبل سعيد فقاموا بوجهه و عنّفوه أشدّ العنف و منعوه من الدخول إلى مصرهم، فولّى منهزما إلى عثمان يشكوهم إليه، و لم يجد عثمان بدّا في عزله و تولية غيره مكانه.. (1).

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض ولاة عثمان من الأمويّين، و قد منحهم هذه المناصب العليا تقوية لنفوذهم، و بسطا لسلطانهم، و حملهم على رقاب المسلمين، يقول السيّد مير علي الهندي:

و كان هؤلاء هم رجال الخليفة المفضّلين، و قد تعلّقوا بالولايات كالثعبان الجائعة، فجعلوا ينهشونها و يكدّسون الثروات منها بوسائل الإرهاق التي لا ترحم (2).

و على أي حال فإنّ من الأسباب المهمّة التي أدّت إلى قتل عثمان سيرة ولاته و عمّاله الأمويّين الذين لم يألوا جهدا في ظلم الناس و إرغامهم على ما يكرهون.

سياسته الاقتصادية:

اشارة

و لم تكن لعثمان سياسة اقتصادية واضحة المعالم، و إنّما انتهج سياسة عمر و سار عليها (3)، و هي ممالأة الأشراف و الوجوه، و تقديمهم في العطاء على غيرهم، و قد شذّت هذه السياسة عمّا قنّنه الإسلام من لزوم المساواة بين المسلمين في العطاء، و إيجاد التوازن الاقتصادي في الحياة العامّة، و ليس لولاة الامور أن

ص:240


1- تاريخ الطبري ٥ : ٨٥. تاريخ أبي الفداء ١ : ٦٨.
2- روح الإسلام : ٩٠.
3- تاريخ العراق في ظلّ الحكم الأموي : ٩٠.

يصطفوا من أموال الدولة أي شيء لنفوسهم و لغيرهم،

يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ رجالا يتخوّضون في مال اللّه بغير حقّ فلهم النّار يوم القيامة»(1).

و أوضح الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام النهج الكامل على للسياسة الاقتصادية في الإسلام و ذلك

فيما كتبه إلى قثم بن العبّاس قال عليه السّلام:

و انظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال و المجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة و الخلاّت و ما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا(2).

هذا هو نظر الإسلام في أموال الدولة: إنفاق على الفقراء، و رفع لغائلة الجوع، و بسط للرخاء العامّ بين المسلمين.. أمّا عثمان فلم يعن بذلك، و إنّما أنفق الأموال بسخاء على بني أميّة و آل أبي معيط و سائر الوجوه و الأشراف المؤيّدين لسياسته.

لقد أصبحت الأموال الهائلة التي تتدفّق على الخزينة المركزية تمنح للأمويّين، و ادّعوا أنّ المال إنّما هو ملكهم لا مال الدولة، و أنّها ملك لبني أميّة، فقد منحوا نفوسهم جميع الامتيازات (3)، و نعرض فيما يلي لذلك:

هباته للأمويّين:

و منح عثمان بني أميّة الأموال الهائلة و وهبهم الثراء العريض، و هذه قائمة ببعض أسماء الذين أغدق عليهم الأموال و هم:

1 - الحارث بن الحكم:

وهب عثمان الحارث بن الحكم صهره من عائشة ما يلي:

ص:241


1- صحيح البخاري ٥ : ١٧.
2- نهج البلاغة _ محمّد عبده ٢ : ١٢٨.
3- العقيدة والشريعة في الإسلام : ٢٣.

أ - ثلاثمائة ألف درهم (1).

ب - وهبه إبل الصدقة التي وردت إلى المدينة (2).

ج - أقطعه سوقا في المدينة يعرف بتهروز بعد أن تصدّق به النبيّ على جميع المسلمين (3).

2 - أبو سفيان:

وهب عثمان عميد اسرته أبا سفيان مائتي ألف درهم من بيت المال (4).

3 - سعيد بن العاص:

منحه مائة ألف درهم من بيت المال (5).

4 - عبد اللّه بن خالد:

تزوّج عبد اللّه بن خالد بنت عثمان، فأمر له بستمائة ألف درهم، و كتب إلى عبد اللّه بن عامر واليه على البصرة أن يدفعها إليه من بيت المال(6).

5 - الوليد بن عقبة:

أمّا الوليد بن عقبة فهو أخو عثمان من امّه، استقرض من عبد اللّه بن مسعود أموالا طائلة من بيت المال، فطالبه بها، فأبى أن يدفعها، و رفع الوليد رسالة إلى عثمان يشكو فيها ابن مسعود لمطالبته بالمال، فكتب إليه عثمان: إنّما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال، و غضب ابن مسعود، و طرح مفاتيح بيت المال، و قال: كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين، فأمّا إذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي

ص:242


1- أنساب الأشراف ٥ : ٥٢.
2- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٣٥٥.
3- و (٥) أنساب الأشراف ٥ : ٢٨.
4- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٦٧.
5- أنساب الأشراف ٥ : ٢٨.
6- تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٥.

في ذلك، و أقام في الكوفة بعد أن استقال من منصبه (1).

إنّ بيت المال في عرف عثمان ملك لبني أميّة الذين ناهضوا الإسلام، و ليس ملكا للمسلمين، و نترك الحكم في ذلك إلى القرّاء.

6 - الحكم بن أبي العاص: أمّا الحكم فهو رجس من أرجاس الجاهلية، و من ألدّ أعداء الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و نفاه إلى الطائف بعد فتح مكّة، و قال: لا يساكنني، و لم يزل منفيا هو و أولاده، و بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أقرّ الشيخان نفيه، و لمّا انتهى الحكم إلى عثمان أصدر عنه العفو، فقدم إلى يثرب و هو بأقصى مكان من الذلّ و البؤس، و كان يسوق تيسا و عليه ثياب رثة، فلمّا رآه عثمان تألّم و كساه جبة خز و طيلسان (2)، و وهبه من الأموال ما يلي:

- وصله بمائة ألف درهم.

- ولاّه على صدقات قضاعة، فبلغت ثلاثمائة ألف درهم، فوهبها له (3).

و أدّت هباته للحكم التذمّر و النقمة عليه من جميع الأوساط الإسلامية.

7 - مروان بن الحكم: أمّا مروان بن الحكم فهو خيط باطل - كما اشتهر بذلك - و كان و غدا خبيثا، و كانت شئون الدولة العثمانية بيده و لا شأن لعثمان بها، و قد وهبه من الأموال ما يلي:

أ - أعطاه خمس افريقية، و قد بلغت خمسمائة ألف دينار، و قد عيب على عثمان في ذلك و انتقصه المسلمون، و هجاه الشاعر عبد الرحمن بن حنبل بهذه الأبيات:

ص:243


1- أنساب الأشراف ٥ : ٣٠.
2- تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١.
3- أنساب الأشراف ٥ : ٢٨.

سأحلف باللّه جهد اليمي ن ما ترك اللّه أمرا سدى

و لكن خلقت لنا فتنة لكي نبتلى بك أو تبتلى

فإنّ الأمينين قد بينا منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة و ما جعلا درهما في الهوى

دعوت اللعين فأدنيته خلافا لسنّة من قد مضى

و أعطيت مروان خمس العبا د ظلما لهم و حميت الحمى (1)

ب - أعطاه ألف و خمسين اوقية، لا نعلم أنّها من الذهب أو الفضة... و هذا ممّا سبّت عليه النقمة العامّة في البلاد (2).

ج - أعطاه مائة ألف من بيت المال، فسارع زيد بن أرقم خازن بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يديه، و جعل يبكي فنهره عثمان و قال له: أ تبكي أن وصلت رحمي ؟ و لكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت المال عوضا عمّا كنت أنفقته في سبيل اللّه في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا.

و زجره عثمان و صاح به:

ألق المفاتيح يا ابن أرقم! فإنّا سنجد غيرك (3).

د - أقطعه فدكا (4)، و هي التي صادرها أبو بكر من سيّدة نساء العالمين زهراء

ص:244


1- تاريخ أبي الفداء ١ : ١٦٨ ، وفي العقد المفصّل ( ٩ : ٨٩١ ) : إنّ اسم الشاعر عبد الرحمن ابن حسل.
2- السيرة الحلبية ٢ : ٨٧
3- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٦٧.
4- لطائف المعارف : ٨٤. تاريخ أبي الفداء ١ : ١٦٨.

الرسول بحجّة أنّها لجميع المسلمين، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

ه - كتب له بخمس مصر (1).

هذه بعض ممالأة عثمان لاسرته التي حاربت اللّه و رسوله و ليس من العدل و لا من الإنصاف أن تمنح هذه الأموال إلى هؤلاء الأوغاد الذين لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام و الكيد للمسلمين.

هباته للأعيان:

و وهب عثمان الثراء العريض و الأموال الهائلة إلى بعض الوجوه و الأشراف من ذوي النفوذ، و هم:

1 - طلحة: و أعطى عثمان طلحة مائتي ألف دينار (2)، و كانت عليه خمسون ألفا فأحضرها طلحة فوهبها له و قال: هي لك على مروءتك (3)، أ ليس هذا هو التلاعب في بيت مال المسلمين ؟ 2 - الزبير: منح الزبير بن العوّام ستمائة ألف، و لمّا قبضها حار في صرفها، فجعل يسأل عن خير مال يستغلّ صلته و ينمّي ثراءه، فأرشد إلى اتّخاذ الدور في الأقاليم و الأمصار (4)، فبنى إحدى عشرة دارا بالمدينة و دارين بالبصرة و دارا بالكوفة، و دارا بمصر (5).

3 - زيد بن ثابت: و وهب عثمان أموالا هائلة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء العريض أنّه لمّا توفّي خلّف من الذهب و الفضّة ما يكسّر بالفؤوس عدا ما ترك من

ص:245


1- الطبقات الكبرى ٣ : ٢٤.
2- تاريخ الطبري ٥ : ١٣٩.
3- تاريخ الطبري ٥ : ١٣٩.
4- الطبقات الكبرى ٣ : ٧٩.
5- صحيح البخاري ٥ : ٢١.

الأموال و الضياع ما قيمته مائة ألف (1)، و منح أموالا طائلة للمؤيّدين لسياسته أمثال حسّان بن ثابت، و قد تكدّست ثروة البلاد في طائفة من الرأسماليّين الذين جهدوا على حصر الثروة عندهم و حرمان المجتمع الإسلامي منها، و قد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى إشاعة الفساد، و انتشار الترف و البذخ عند طائفة من الناس.

و قد خاف بعض المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي ظفر به من هبات عثمان، يقول خباب بن الارت: لقد رأيتني مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما أملك دينارا و لا درهما، و إنّ في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف (2)، و لقد خشيت أن تكون عجلت طيّباتنا في حياتنا الدنيا.. (3).

و هكذا تمثّلت الحيرة و الذهول عند الصحابة المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي اختصّ بقوم و حرمت الأكثرية الساحقة في البلاد الإسلامية من التمتّع بالعيش الرغيد.

إقطاعه للأراضي:

و من مناهج السياسة المالية عند عثمان أنّه أقطع بعض الأراضي الواسعة لجمهرة من المؤيّدين لسياسته، فقد أقطع أراضي في داخل الكوفة و خارجها...

و هذه الأراضي من المفتوحة عنوة، و هي ملك للمسلمين، فمن أحيى أرضا فهي له، و عليه الخراج يؤدّيه للدولة.

و على أي حال فقد أقطع عثمان أراضي في الكوفة لجماعة، و هي:

1 - طلحة: أقطعه أرضا سمّيت دار الطلحيّين، و كانت في الكناسة.

ص:246


1- مروج الذهب ١ : ٣٣٤.
2- الوافي : درهم وأربعة دوانق.
3- الطبقات الكبرى ٦ : ٨.

2 - عبيد اللّه بن عمر: أقطعه أرضا سمّيت (كوفيّة ابن عمر).

3 - اسامة بن زيد.

4 - سعد و ابن أخيه هاشم بن عتبة.

5 - أبو موسى الأشعري.

6 - حذيفة العبسي.

7 - عبد اللّه بن مسعود.

8 - سلمان الباهلي.

9 - المسيّب الفزاري.

10 - عمرو بن حريث المخزومي.

11 - جبير بن مطعم الثقفي.

12 - عتبة بن عمر الخزرجي.

13 - أبو جبير الأنصاري.

14 - عدي بن حاتم الطائي.

15 - جرير البجلي.

16 - الأشعث الكندي.

17 - الفرات بن حيّان العجلي.

18 - الوليد بن عقبة.

19 - جابر بن عبد اللّه الأنصاري.

20 - أمّ هاني بنت أبي طالب.

هؤلاء بعض من منحهم الأراضي، و لا نعلم مقدار مساحتها.

ص:247

قائمة بأسماء الممنوحين أراضي واسعة:

و أقطع عثمان أراضي واسعة تدرّ بالربح الكثير لجماعة و هم:

1 - طلحة بن عبد اللّه: أقطعه (النشاستج).

2 - عدي بن حاتم: منحه (البردجاء).

3 - وائل بن حجر الحضرمي: منحه ضيعة (زادر).

4 - خباب بن الارت: منحه (مسعبنا).

5 - خالد بن عرفطة: أقطعه أرضا عند (حمام أعين).

6 - الأشعث الكندي: أعطاه (ظيزناباد).

7 - جرير بن عبد اللّه البجلي: أعطاه أرضا على شاطئ الفرات (الجرفين).

8 - عبد اللّه بن مسعود: أقطعه أرضا بالنهرين.

9 - الزبير بن العوّام: أقطعه أرضا.

10 - اسامة بين زيد: أقطعه أرضا ثمّ باعها (1).

هذه بعض الأراضي الزراعية التي منحها عثمان لبعض الشخصيات.

و من الجدير بالذكر أنّه اندفع جماعة من الطبقة الارستقراطية إلى شراء أراض خصبة في العراق، فقد اشترى طلحة و مروان بن الحكم و الأشعث بن قيس (2) و رجال من قبائل العراق أراضي واسعة حتى انتشر الاقطاع، و عمّ البؤس و الحرمان في أوساط الفلاحين، و بذلك فقد وجد النظام الطبقي الذي يخلق الصراع بين أبناء الامّة.

ص:248


1- الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة : ١٤٦ _ ١٤٧.
2- خطط الكوفة : ٢١. الحضارة الإسلامية ١ : ١٢٣.

استقطاع عثمان للأموال:

و اصطفى عثمان من بيت المال ما شاء لنفسه و عياله، فقد روى المؤرّخون انّه كانت في بيوت الأموال جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها، فأخذها و حلّى بها بناته و نساءه (1)، كما بالغ في الترف و السرف إلى حدّ لم يألفه المسلمون، فقد أشاد له دارا في المدينة بناها بالحجر و الكلس، و جعل أبوابها من الساج و العرعر، و اقتنى أموالا و جنانا و عيونا بالمدينة (2)، و كان ينضّد أسنانه بالذهب، و يتلبّس بأثواب الملوك، و أنفق الكثير من بيت المال في عمارة ضياعه و دوره (3)، و لمّا قتل وجد عند خازنه ثلاثون ألف ألف درهم، و خمسون و مائة ألف دينار، و ترك ألف بعير و صدقات ببراديس و خيبر و وادي القرى ما قيمتها مائتا ألف دينار (4).

و علّق محمّد كرد علي على هذه السياسة التي انتهجها عثمان بقوله:

لقد أوجدت هذه السياسة المالية طبقتين من الناس؛ الاولى: الطبقة الفاحشة في الثراء التي لا عمل لها إلاّ اللهو و التبطّل، و الاخرى: الطبقة الكادحة التي تزرع الأرض، و تعمل في الصناعة، و تشقى في سبيل اولئك السادة من أجل الحصول على فتات موائدهم، و ترتّب على فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية، انعدام الاستقرار في الحياة السياسية و الاجتماعية على السواء، و قد سارت الدولة الأموية في أيام حكمها على هذه السياسة فأخضعت المال للتيارات السياسية و جعلوه سلاحا ضدّ أعدائهم و نعيما مباحا لأنصارهم (5).

ص:249


1- أنساب الأشراف ٥ : ٣٦.
2- مروج الذهب ١ : ٣٣٤.
3- السيرة الحلبية ٢ : ٨٧.
4- الطبقات الكبرى ٣ : ٥٣
5- الإدارة الإسلامية : ٨٢.

هذه بعض المؤاخذات على السياسة المالية التي انتهجها عثمان، و قد ابتعدت كلّ البعد عمّا قنّنه الإسلام من وجوب إنفاق أموال الدولة على ما يسعد به المجتمع من مكافحة الفقر، و تطوير الحياة الاقتصادية بشكل عامّ .

مع الجبهة المعارضة:

اشارة

و كان من الطبيعي أن ينقم خيار المسلمين و صلحاؤهم على عثمان و ولاته بما اقترفوه من مساوئ الأعمال التي لا تتّفق بصلة مع الواقع الديني، و قد شنّوا عليه حملة شعواء نقدوه بلاذع النقد.. و من الجدير بالذكر أنّ المعارضة كانت مختلفة الاتّجاه بين اليمين و اليسار، فطلحة و الزبير و عائشة و من انضمّ إليهم كانوا مدفوعين لرغباتهم الخاصّة و مصالحهم الضيّقة، أمّا الطائفة الثانية فكانت تضمّ أعلام الإسلام و حماته أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب و أمثال المجاهد الكبير أبي ذرّ، و الصحابي القارئ عبد اللّه بن مسعود و نظرائهم من الذين أبلوا في اللّه بلاء حسنا، فرأوا أنّ السنّة قد اميتت، و البدعة احييت، و رأوا صادقا يكذّب، و أثرة بغير حقّ ، فهبّوا في وجه عثمان مطالبين بتغيير سلوكه و اتّباع الهدى، و لم تكن لهم أيّة مصلحة ينشدونها سوى خدمة الإسلام، و لو أنّه استجاب لهم لجنّب الامّة الكثير من المشاكل.

التنكيل بالمعارضين:

اشارة

و أمعن عثمان بالتنكيل بالمعارضين لسياسته، فصبّ عليهم جام غضبه و قابلهم بمزيد من القسوة و البطش و التنكيل، و هذه قائمة بأسماء بعضهم و ما عانوه منه:

1 - عمّار بن ياسر:

أمّا عمّار بن ياسر فهو أجلّ صحابي، و مكانته في الإسلام معلومة، فهو و أبواه

ص:250

قد عانوا في سبيل الإسلام أعنف المصاعب و أقسى ألوان التعذيب، و قد استشهد أبواه في سبيل الإسلام على يد القساة الطغاة من قريش.

و قد أشاد القرآن الكريم بفضل عمّار، فمن الآيات النازلة في حقّه قوله تعالى:

أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ (1)، و قال تعالى في حقّه أيضا: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ (2).

و كانت له المنزلة الكريمة عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقد سمع شخصا ينال من عمّار، فتأثّر، و قال: «ما لهم و لعمّار، يدعوهم إلى الجنّة و يدعونه إلى النار، إنّ عمّارا جلدة ما بين عيني و أنفي، فإذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه» (3)، و كان عمّار من ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد آمن بحقّه، و أنّه أولى بمقام النبيّ من غيره، و قد وقف إلى جانبه أيام الفتنة الكبرى، و أعلن تأييده للإمام عليه السّلام، و بعد ما فرض عمر عثمان خليفة على المسلمين في وضعه للشورى التي أدّت إلى فوزه في الحكم... كان عمّار من أشدّ الناقمين على عثمان، و قد أظهر نقمته عليه في المواضع التالية:

1 - إنّ عثمان لمّا استأثر بالسفط الذي يضمّ جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها بثمن، فأخذها ليحلّي بها نساءه و بناته، فأنكر عليه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و أيّده عمّار، فقال له عثمان: يا ابن المتكاء (4)، أ عليّ تجترئ ؟ ثمّ أوعز إلى شرطته بأخذه، فقبضوا عليه و أدخلوه عليه، فضربه ضربا مبرحا حتى غشي عليه، و حملوه إلى منزل أمّ المؤمنين السيّدة أمّ سلمة و لم يفق من شدّة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين

ص:251


1- الزمر : ٩ ، نصّ على ذلك ابن سعد في طبقاته ٣ : ١٧٨. القرطبي في تفسيره ٥ : ٢٣٩.
2- الأنعام : ١٢٢ ، نصّ على ذلك السيوطي في تفسيره ١ : ٢٣٩ ، وغيره.
3- السيرة النبوية _ ابن هشام ٢ : ١١٤.
4- المتكاء : العظيمة البطن التي لا تمسك بولها.

و المغرب، فلمّا أفاق قام و توضّأ و صلّى صلاة العشاء و قال:

الحمد للّه ليس هذا أوّل يوم اوذينا فيه في اللّه.

يا للّه! يا للمسلمين! أمثل عمّار الذي هو في طليعة المؤسّسين في بناء الإسلام يضرب و يهان لأنّه رأى أثرة بغير تقىّ و نهبا لأموال المسلمين بغير وجه مشروع.

و كان من الطبيعي أن يثير ذلك غضب المسلمين و نقمتهم على عثمان عميد الأمويّين، فقد غضبت عائشة، و أخرجت شعرا من شعر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ثوبا من ثيابه، و نعلا من نعاله، و قالت:

ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم! و هذا شعره و ثوبه و نعله لم يبل بعد..

و غضب عثمان من عائشة، و لم يدر كيف يعتذر ممّا اقترفه تجاه عمّار (1).

2 - أنّ أعلام الصحابة رفعوا مذكّرة لعثمان ذكروا فيها أحداثه و مخالفاته للسنّة، و طالبوه بالكفّ عنها، فأخذها عمّار و دفعها إليه، فقال له عثمان بعنف:

أ عليّ تقدم من بينهم ؟...

إنّي أنصحهم لك...

كذبت يا ابن سميّة.

أنا و اللّه! ابن سميّة، و ابن ياسر..

و أوعز عثمان إلى جلاوزته لمدّ يديه و رجليه و ضربه عثمان بنفسه برجليه على مذاكيره فأصابه فتق، و كان ضعيفا فاغمي عليه...

لقد لاقى هذا الصحابي من صنوف العذاب و التنكيل في عهد عثمان ما لا يوصف لمرارته، و الحاكم هو اللّه الذي يقضي بين عباده.

ص:252


1- أنساب الأشراف ٥ : ٤٨.

3 - لمّا نكّل عثمان بالصحابي الثائر على السياسة الأموية أبي ذرّ فنفاه إلى الربذة، و مات فيها جائعا غريبا مظلوما مضطهدا، فحزن عليه المسلمون فقال عثمان أمام جماعة من الصحابة:

رحمه اللّه...

فاندفع عمّار و الأسى باد عليه فقال:

رحمه اللّه من كلّ أنفسنا...

فغضب عثمان و قال لعمّار بأفحش القول و أقساه قائلا:

يا عاضّ أير أبيه! أ تراني ندمت على تسييره...؟ أ يليق هذا الفحش بالرجل العادي فضلا عمّن يدّعي أنّه خليفة المسلمين و أنّ الملائكة تستحي منه.

ثمّ أمر عثمان غلمانه فدفعوا عمّارا و أرهقوه، و أمر بنفيه إلى الربذة، فلمّا تهيّأ للخروج أقبلت بنو مخزوم إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فسألوه أن يكلّم عثمان في شأن عمّار و أن يلغي قراره في اعتقاله في الربذة،

و كلّم الإمام عثمان بذلك قائلا:

«اتّق اللّه، فإنّك سيّرت رجلا صالحا من المسلمين، فهلك في تسييرك، ثمّ أنت الآن تريد أن تنفي نظيره..؟».

فثار عثمان و صاح بالإمام:

أنت أحقّ بالنّفي منه...

«رم إن شئت ذلك..».

و اجتمع المهاجرون فعذلوه عن ذلك، فاستجاب لهم و عفا عن عمّار (1).

ص:253


1- تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠. أنساب الأشراف ٥ : ٥٤.

و هكذا لقي هذا الصحابي العظيم صنوف الاضطهاد و الارهاق من عثمان، و لم يلحظ مكانته في الإسلام و عظيم جهاده في إقامة صروح الدين، فإنا للّه و إنّا إليه راجعون.

2 - مع أبي ذرّ:
اشارة

أمّا أبو ذرّ فهو صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خليله، و هو من الأسبقين للإسلام، و كان من أزهد الناس في الدنيا، و من أقلّهم احتفالا بمنافعها، و كان من ألصق الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا من الصحابة، و يسرّ إليه حين لا يسرّ أحدا من أصحابه (1)، و هو أحد الثلاثة الذين أحبّهم اللّه، و أمر نبيّه بحبّهم، كما أنّه أحد الثلاثة (2) الذين تشتاق إليهم الجنّة (3).

و لمّا آل الحكم إلى عثمان و استأثرت بنو أميّة بمنافع الدولة و خيرات المسلمين، هبّ أبو ذرّ إلى الانكار عليه، و قد نهاه عثمان من نقده و الانكار عليه، فلم يمتنع و رأى أنّ ذلك ضرورة إسلامية و واجب عليه، و كان أبو ذرّ يقف أمام الذين وهبهم عثمان الثراء العريض و يتلو عليهم قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ، و غاظ ذلك مروان بن الحكم المنتفع الأوّل من حكومة عثمان، فشكاه إليه، فأرسل خلفه، فنهاه فقال أبو ذرّ:

أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه ؟... فو اللّه! لأن أرضي اللّه بسخط عثمان أحبّ إليّ و خير لي من أن أسخط اللّه برضاه...

ص:254


1- كنز العمّال ٨ : ١٥.
2- الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنّة : الإمام عليّ ، أبو ذرّ وعمّار بن ياسر.
3- مجمع الزوائد ٩ : ٣٣٠.

لقد أبى أبو ذرّ الذي تربّى بتعاليم الإسلام و أحكام القرآن أن يصانع عثمان، و يقرّه على سياسته الملتوية التي اتّخذت مال اللّه دولا.

و ضاق عثمان ذرعا من أبي ذرّ الثائر العظيم الذي وعى الإسلام و آمن بقيمه و تعاليمه، و راح عثمان يفتّش عن الوسائل التي يتخلّص بها من خصمه العنيد، فاتّخذ القرار التالي:

اعتقال أبي ذرّ في الشام:

أبى أبو ذرّ أن يصانع عثمان و يساير خطواته و مخطّطاته و يجاريه بأي عمل من أعماله التي لا يقرّها الإسلام، و كان من ذلك أنّ عثمان سأل حضّار مجلسه فقال لهم:

أ يجوز لأحد أن يأخذ من بيت المال فإذا أيسر قضاه ؟ فانبرى كعب الأحبار فأفتاه بالجواز، و صعب على أبي ذرّ أن يتدخّل كعب في شئون الإسلام و هو يهودي النزعة، و قد شكّ في إسلامه، فصاح به:

يا ابن اليهوديّين، أ تعلّمنا ديننا؟...

فثار عثمان و صاح بأبي ذرّ:

ما أكثر أذاك لي! و ولعك بأصحابي! الحق بمكتبك في الشام...

و سيّره إلى الشام، فلمّا انتهى إليها أفزعه ما رأى من منكرات معاوية و بدعه، فقد رآه قد أطلق يديه في بيت المال يهبه لعملائه و ينفقه على شهواته و ملاذّه فأخذ ينكر عليه ذلك، و يذيع مساوئ عثمان و بدعه، و قد قال لمعاوية حينما قال:

المال مال اللّه..

فردّ عليه أبو ذرّ:

المال مال المسلمين..

ص:255

إنّ أموال الخزينة العامّة للمسلمين و ليست لمعاوية حتى ينفقها على ملاذه و تدعيم سلطانه، و لمّا بنى معاوية داره الخضراء أنكر عليه أبو ذرّ و قال له:

يا معاوية، إن كانت هذه الدار من مال اللّه فهي الخيانة، و إن كانت من مالك فهذا الإسراف..

و أخذ الثائر العظيم يدعو المسلمين إلى الحذر و اليقظة من السياسة الأموية التي أمعنت في اقتراف المنكر، فكان يقول لأهل الشام:

و اللّه! لقد حدثت أعمال ما أعرفها، و اللّه! ما هي في كتاب اللّه و لا في سنّة نبيّه، و اللّه! لأرى حقّا يطفأ، و باطلا يحيى، و صادقا يكذّب، و أثرة بغير تقى، و صالحا مستأثرا عليه... (1).

و أخذ الوعي ينتشر بين أهل الشام، فقد أوجدت دعوته هدى في النفوس، و استطابتها العامّة.. لقد كانت دعوته إلى إنصاف المحرومين، و تحريض الفقراء على استرجاع حقوقهم من الطغمة الحاكمة.. و خاف الطاغية معاوية أن تندلع عليه نار الثورة فنهى الناس عن مخالطته و الاجتماع به، و قال بعنف لأبي ذرّ:

يا عدو اللّه! تؤلّب الناس علينا، و تصنع ما تصنع!! فلو كنت قاتلا رجلا من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين - يعني عثمان - لقتلتك..

فردّ عليه البطل العظيم غير حافل بسلطانه قائلا:

ما أنا بعدوّ اللّه و لا رسوله، بل أنت و أبوك عدوّان للّه و رسوله أظهرتما الإسلام و أبطنتما الكفر..

لقد صدق أبو ذرّ بمقالته، فإنّ معاوية و أباه أبو سفيان لم يؤمنا باللّه طرفة عين،

ص:256


1- أنساب الأشراف ٥ : ٥٢.

أظهرا الإسلام خوفا من السيف و أبطنا الكفر و الكيد للإسلام.

و على أي حال، فقد ظلّ أبو ذرّ يواصل نشاطه الديني و السياسي للتشهير بالحكم الأموي حتى فزع منه معاوية و خاف على سلطانه.

إخراج أبي ذرّ من الشام:

و كتب معاوية إلى عثمان يخبره بخطر أبي ذرّ على الشام و يطلب منه إخراجه إلى بلد آخر، فأجابه عثمان، و أمره بحمله على أغلظ مركب و أوعره حتى يلقى الجهد و العناء، فأرسله معاوية مع جلاوزة نزعت من نفوسهم الرأفة و الرحمة و الشرف و الكرامة، فساروا به سيرا مزعجا و لم يسمحوا له أن يستريح من الجهد و العناء، و مضوا في سيرهم لا يلوون على شيء حتى تسلّخت بواطن فخذه و كاد أن يموت.

و لمّا انتهى إلى يثرب دخل على عثمان و هو منهوك القوى، فاستقبله عثمان بالجفوة و مرارة القول قائلا:

أنت الذي فعلت... و فعلت ؟...

فأجابه أبو ذرّ بمنطق الحقّ قائلا:

نصحتك فاستغششتني، و نصحت صاحبك - يعني معاوية - فاستغشني..

فصاح عثمان به:

كذبت، و لكنّك تريد الفتنة و تحبّها، و قد أنغلت الشام علينا...

فوجّه إليه أبو ذر نصيحته قائلا:

اتّبع سنّة صاحبيك - يعني أبا بكر و عمر - لم يكن لأحد كلام.

فصاح به عثمان:

ما لك لا أمّ لك...

ص:257

فقال له أبو ذرّ بهدوء:

و اللّه! ما وجدت لي عذرا إلاّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر..

و ثار عثمان فقال لمن حوله:

أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله، فإنّه فرّق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام...

فثار الإمام عليه السّلام من هذه الاستهانة التي قابل بها عثمان أبا ذرّ، فقال له:

«يا عثمان، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ما أظلّت الخضراء، و لا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ..».

و لم يحفل هذا الثائر العظيم بعثمان، و إنّما راح ينكر عليه بوحي من دينه، و يندّد بسياسته الملتوية قائلا له:

تستعمل الصبيان، و تحمي الحمى، و تقرّب أولاد الطلقاء؟ و أخذ يذيع بين المسلمين ما سمعه من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ذمّ الأمويّين، و مدى خطرهم على الإسلام قائلا:

قال رسول اللّه: «إنّ بني العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلا جعلوا كتاب اللّه دخلا، و عباد اللّه خولا، و مال اللّه دولا»(1).

و أصدر عثمان أمرا بمنع مجالسة أبي ذرّ و حرّم مخالطته و الكلام معه، لأنّه يقول الحقّ و يأمر بالعدل و ينهى عن المنكر.

اعتقاله في الربذة:

و استمرّ أبو ذرّ في جهاده ينشر مساوئ الأمويّين و يذيع منكراتهم و يوقظ الجماهير، فضاق عثمان به ذرعا فصمّم على أن ينفيه عن الأمصار الإسلامية

ص:258


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٣٦٨ _ ٣٧٠.

و يعتقله في أرض جرداء لا سكن فيها، فأرسل شرطته خلفه، فلمّا حضر عنده بادره أبو ذرّ منكرا و ناقما على سياسته قائلا:

و يحك يا عثمان، أ ما رأيت رسول اللّه و رأيت أبا بكر و عمر، هل رأيت هذا هديهم، إنّك لتبطش بي بطش الجبّارين..

فقطع عليه عثمان كلامه و صاح به:

اخرج عنّا من بلادنا..

أ تخرجني من حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟..

نعم، و أنفك راغم.

اخرج إلى مكّة.

لا..

الكوفة ؟ لا..

إلى الربذة حتى تموت فيها..

و أوعز شيخ الأمويّين عثمان إلى وزيره و مستشاره مروان بن الحكم بإخراج هذا الصحابي العظيم من مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ليقيم في أرض جرداء قد انعدمت فيها جميع وسائل الحياة، فأخرجه الوزغ ابن الوزغ مهان الجانب، محطّم الكيان، و حرّم على المسلمين مشايعته و توديعه، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

توديع الاسرة النبوية لأبي ذرّ:

و لم تذعن الاسرة النبوية لأوامر عثمان بتحريم توديع أبي ذرّ، فقد خرجت و معها الصحابي الجليل عمّار بن ياسر لتوديع هذا الصحابي المضطهد، و تلقي عليه نظرة الوداع.

ص:259

و لمّا رآهم مروان وجّه خطابه و إنذاره إلى الإمام الحسن عليه السّلام فقال له:

ايه يا حسن! أ لا تعلم أنّ عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك...

و لم يجبه الإمام بكلمة احتقارا له،

و ثار الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و حمل على مروان و ضرب أذني دابته، و صاح به:

«تنحّ نحّاك اللّه إلى النّار»، و ولّى مروان منهزما فزعا إلى سيّده و ابن عمّه عثمان يخبره بعصيان أهل البيت عليهم السّلام أمره، فاستشاط عثمان غيظا و ورم أنفه.

كلمة الإمام:

و ألقى الإمام عليه السّلام على أبي ذرّ نظرة مشفوعة بالأسى و الحزن، و خاطبه بهذه الكلمات التي حدّدت أبعاد شخصيّة أبي ذرّ، و ألقت الأضواء على ثورته ضدّ الحكم الأموي قائلا:

يا أبا ذرّ، إنّك غضبت للّه فارج من غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم، و خفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه و اهرب منهم بما خفتهم عليه؛ فما أحوجهم إلى ما منعتهم، و ما أغناك عمّا منعوك! و ستعلم من الرّابح غدا، و الأكثر حسّدا. و لو أنّ السّماوات و الأرضين كانتا على عبد رتقا، ثمّ اتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا! لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، و لا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك، و لو قرضت منها لأمّنوك.

يا لها من كلمات ذهبية ألمّت بواقع أبي ذرّ الذي ثار في وجه الطغيان و الاستبداد! فقد كانت ثورته إصلاحية استهدفت القضاء على الاستغلال و نهب ثروات الامّة.

و قد مجّد الإمام ثورة أبي ذرّ التي خشيها الأمويّون و طلب منه أن يهرب بدينه

ص:260

ليكون بمنجاة من شرور الأمويّين.

كلمة الإمام الحسن:

و بادر ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

الإمام الحسن عليه السّلام فصافح عمّه أبا ذرّ و ألقى عليه هذه الكلمات:

«يا عمّاه، لو لا أنّه ينبغي للمودّع أن يسكت، و للمشيّع أن ينصرف لقصر الكلام و إن طال الأسف، و قد أتى القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدّنيا بتذكّر فراغها، و شدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها، و اصبر حتّى تلقى نبيّك و هو عنك راض..».

و ألمّت هذه الكلمات بما يحمل الإمام الحسن من أسى بالغ على ما حلّ بعمّه أبي ذرّ من الخطوب التي كانت من أجل إحقاق الحقّ و رفع كلمة الإسلام.

كلمة الإمام الحسين:

و ألقى الإمام الحسين عليه السّلام نظرة الوداع على أبي ذرّ و خاطبه بهذه الكلمات:

«يا عمّاه، إنّ اللّه تبارك و تعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى، إنّ اللّه كلّ يوم هو في شأن، و قد منعك القوم دنياهم، و منعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، و أحوجهم إلى ما منعتهم، فاسأل اللّه الصّبر، و استعذ به من الجشع و الجزع، فإنّ الصّبر من الدّين و الكرم، و إنّ الجشع لا يقدّم رزقا، و الجزع لا يؤخّر أجلا..».

و ألقت هذه الكلمات الأضواء على ثورة أبي ذرّ التي كانت من أجل الصالح العامّ ، و حكت خوف الأمويّين منه، فقد خافوه على مناصبهم، و خافوه على الأموال التي اختلسوها من المسلمين.

كلمة عمّار:

و تقدّم الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر و عيناه تفيض من الدموع، فخاطب صاحبه و خليله أبا ذرّ بهذه الكلمات:

ص:261

«لا آنس اللّه من أوحشك، و لا آمن من أخافك، أما و اللّه! لو أردت دنياهم لآمنوك، و لو رضيت أعمالهم لأحبّوك.. و ما منع الناس أن يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا و الجزع من الموت، و مالوا إلى سلطان جماعتهم عليه، و الملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم، و منحهم القوم دنياهم فخسروا الدنيا و الآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين...».

كلمة أبي ذرّ:

و قابل أبو ذرّ الاسرة النبوية و عيناه تفيضان دموعا، و خاطبهم بهذه الكلمات قائلا:

«رحمكم اللّه يا أهل بيت الرحمة! إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ما لي بالمدينة سكن و لا شجن غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، و كره أن اجاور أخاه و ابن خاله بالمصرين - الكوفة و البصرة - فأفسد الناس عليهما، فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر و لا دافع إلاّ اللّه، و اللّه! ما اريد إلاّ اللّه صاحبا و ما أخشى مع اللّه وحشة...».

و تحرّكت راحلة أبي ذرّ تطوي البيداء حتى انتهت إلى الربذة ليموت فيها جوعا و في يد عثمان ذهب المسلمين يصرفه على بني أميّة و آل أبي معيط ، و يحرمه على أبي ذرّ المصلح العظيم، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

غضب عثمان على الإمام:

و لمّا قفل الإمام عليه السّلام راجعا من توديع أبي ذرّ استقبلته جماعة من الناس فأخبروه بغضب عثمان لأنّه خالف أوامره التي حرّم فيها توديع أبي ذرّ،

فأجابهم الإمام: «غضب الخيل على اللّجم»(1)،

و بادر عثمان فصاح بالإمام:

ص:262


1- يضرب مثلا لمن يغضب غضبا لا ينتفع به.

ما حملك على ردّ رسولي ؟..

«أمّا مروان فإنّه استقبلني يردّني فرددته عن ردّي، و أمّا أمرك فلم أردّه..».

أولم يبلغك أنّي قد نهيت الناس عن تشييع أبي ذرّ؟ «أو كلّ ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة اللّه و الحقّ في خلافه اتّبعنا فيه أمرك ؟!!».

أقد مروان..

«و ما أقيده ؟..».

ضربت بين اذني راحلته..

«أمّا راحلتي فهي تلك، فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل، و أمّا أنا فو اللّه! لئن شتمني لأشتمنّك أنت بمثلها، لا أكذب فيه و لا أقول إلاّ حقّا..».

و لم لا يشتمنّك إذ شتمته، فو اللّه! ما أنت عندي بأفضل منه..

و تألّم الإمام من عثمان الذي ساوى بينه و بين الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم، و نسي جهاد الإمام و منزلته من النبيّ و أنّه منه بمنزلة هارون من موسى، و ردّ الإمام على عثمان بأعنف القول قائلا له:

«إليّ تقول هذا القول، و بمروان تعدلني ؟.. فأنا و اللّه! أفضل منك، و أبي أفضل من أبيك، و أمّي أفضل من امّك، و هذه نبلي قد نثلتها..»(1).

و سكت عثمان و لم يطق جوابا، و تركه الإمام يموج في تيارات من الغضب، قد ورم أنفه و انتفخت أوداجه.

3 - عبد اللّه بن مسعود:

و عبد اللّه بن مسعود القارئ من ألمع الصحابة و من خيارهم، و هو من الناقمين

ص:263


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٣٧٥ _ ٣٧٧.

على عثمان لمّا استقرض الوليد من بيت المال فطالبه ابن مسعود بردّ ما استقرضه، فأبى الوليد و كتب إلى عثمان يخبره بذلك، فغضب عثمان و كتب إلى ابن مسعود إنّما أنت خازن لنا، و غاظ ذلك ابن مسعود و ألقى المفاتيح و قفل راجعا إلى يثرب، فلمّا انتهى إليها وجد عثمان على المنبر يخطب، فلمّا رأى ابن مسعود قال يخاطب الحاضرين:

قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء و يسلح..

و ردّ عليه ابن مسعود قائلا:

لست كذلك، و لكنّي صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر و يوم بيعة الرضوان..

و اندفعت عائشة منكرة على عثمان قائلة له:

أي عثمان، أ تقول هذا لصاحب رسول اللّه ؟..

و أمر عثمان جلاوزته بإخراج ابن مسعود من الجامع إخراجا عنيفا، و انبرى إليه أبو عبد اللّه بن زمعة فضرب به الأرض، و قيل بل احتمله (يحموم) غلام عثمان فاحتمله و رجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فانكسر ضلعه،

و ثار الإمام عليه السّلام فخاطب عثمان بعنف قائلا:

«يا عثمان، أ تفعل هذا بصاحب رسول اللّه بقول الوليد بن عقبة ؟..».

فقال عثمان:

ما بقول الوليد فعلت هذا، و لكنّي وجّهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة، فقال له ابن مسعود: إن دم عثمان حلال..

و أنكر عليه الإمام أن يأخذ بقول زبيد قائلا:

«أحلت عن زبيد على غير ثقة..»(1).

ص:264


1- أنساب الأشراف ٥ : ٣٦.

و حمل الإمام ابن مسعود إلى منزله، و قام برعايته حتى أبل من مرضه، و قاطعه عثمان و هجره، و فرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب، و قطع عنه عطاءه..

و مرض ابن مسعود مرضه الّذي توفّي فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له:

ما تشتكي ؟ ذنوبي ؟ ما تشتهي ؟ رحمة ربّي.

أدعو لك طبيبا؟ الطبيب أمرضني.

آمر لك بعطائك ؟ منعتني عنه و أنا محتاج إليه، و تعطينيه و أنا مستغني عنه! يكون لولدك.

رزقهم على اللّه! استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.

اسأل اللّه أن يأخذ لي منك بحقّي.. (1).

و انصرف عثمان و لم يفز برضا ابن مسعود.. و لمّا ثقل حاله أوصى أن لا يصلّي عليه عثمان، و أن يصلّي عليه صاحبه و خليله عمّار بن ياسر.. و لمّا توفّي قامت الصفوة من صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بتجهيزه و دفنه، و لم يعلموا عثمان بذلك، فلمّا علم غضب، و قال: سبقتموني ؟ فردّ عليه عمّار:

إنّه أوصى أن لا تصلّي عليه..

ص:265


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٢٥٣ _ ٢٥٤.

و قال ابن الزبير:

لأعرفنك بعد الموت تندبني و في حياتي ما زوّدتني زادي (1)

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض المعارضين لعثمان و الناقمين عليه.. و كان من أهمّ ما نقموا عليه من أعماله ما يلي:

1 - استبداده بأموال الدولة و إنفاقها على اسرته و ذويه في حين أنّ المجاعة و الحرمان قد عمّتا البلاد.

2 - منحه المناصب العالية في الدولة لبني أميّة و آل أبي معيط .

3 - تنكيله بخيار الصحابة الذين طالبوه بالعدل و الكفّ عن سياسته الملتوية، و لم يستجب لهم و إنّما نكّل بهم أفظع التنكيل و أقساه، كما ذكرنا ذلك.

الثورة على عثمان:

اشارة

و كان من الطبيعي أن تندلع الثورة على عثمان بعد ما اقترفه من الأحداث الجسام، و لم تكن عفوية، و إنّما كانت نتيجة للنضج الاجتماعي و كانت إصلاحية إلى حدّ كبير - كما يقول العلاّمة العلائلي -:

لقد شاع التنافر في جميع الأوساط و أخذت الأندية و المجالس تتحدّث عن مظالم عثمان، و سوء سياسته (2).

مذكرة المهاجرين لأهل مصر:

و رفع المهاجرون و خيار الصحابة مذكّرة لأهل مصر يستنجدون بهم للقيام بتغيير نظام الحكم القائم، و هذا نصّ مذكّرتهم:

ص:266


1- مستدرك الحاكم ٧ : ١٦٣. البداية والنهاية ٣ : ١٣.
2- الإمام الحسين علیه السلام : ٦٦.

من المهاجرين الأوّلين و بقيّة الشورى إلى من بمصر من الصحابة و التابعين.

أمّا بعد، أن تعالوا إلينا و تداركوا خلافة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يسلبها أهلها، فإنّ كتاب اللّه قد بدّل، و سنّة رسوله قد غيّرت، و أحكام الخليفتين قد بدّلت، فننشد اللّه من قرأ كتابنا من بقيّة أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التابعين بإحسان إلاّ أقبل إلينا، و أخذ الحقّ لنا و أعطاناه، فاقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون باللّه و اليوم الآخر، و أقيموا الحقّ على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيّكم، و فارقكم عليه الخلفاء، غلبنا على حقّنا، و استولى على فيئنا، و حيل بيننا و بين أمرنا، و كانت الخلافة بعد نبيّنا خلافة نبوة و رحمة، و هي اليوم ملك عضوض، من غلب على شيء أكله.. (1).

و حفلت هذه المذكرة بالأخطاء التي ارتكبها عثمان و هي:

1 - تبديل كتاب اللّه و إلغاء أحكامه و نبذ نصوصه.

2 - تغيير سنّة الرسول.

3 - تبديل أحكام الخليفتين.

4 - استئثار السلطة بالفيء.

5 - صرف الخلافة الإسلامية عن مفاهيمها الخيرة إلى ملك عضوض (2).

و تحفّز المصلحون حينما انتهت إليهم هذه المذكّرة إلى إرسال وفد للاطّلاع على أوضاع الخليفة و التعرف عليها.

مذكرة أخرى لأهل الثغور:

و أرسل صحابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله مذكّرة أخرى لأهل الثغور جاء فيها:

إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل اللّه عزّ و جلّ تطلبون دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله،

ص:267


1- الإمامة والسياسة ١ : ٣٥.
2- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٣٧٨ _ ٣٨٠.

فإنّ دين محمّد قد أفسده خليفتكم فأقيموه.. (1).

كما أوفدت الجبهة المعارضة مذكّرة أخرى لأهل الأمصار، و قد أشاعت النقمة و السخط على حكومة عثمان.

وفود الأمصار:

اشارة

و استجابت الأمصار الإسلامية لنداء الصحابة، فأرسلت وفودها إلى المدينة للاطّلاع على حال عثمان، أمّا الوفود فهي:

1 - الوفد المصري:

و أرسلت مصر وفدا كبيرا قدّر بأربعمائة شخص، و قيل بأكثر، بقيادة المؤمن محمّد بن أبي بكر و عبد الرحمن بن عديس البلوي.

2 - الوفد الكوفي:

و أرسلت الكوفة وفدا بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر، و زيد بن صوحان العبدي، و زياد بن النضر الحارثي، و عبد اللّه بن الأصمّ العامري، و عمرو بن الأهثم.

3 - الوفد البصري:

و أوفدت البصرة مائة رجل بقيادة حكيم بن جبلة، ثمّ أوفدت خمسين رجلا و فيهم ذريح بن عباد العبدي و بشر بن شريح القيسي و غيرهم من الوجوه و الأعيان (2).

و استقبلت الصحابة الوفود بمزيد من الحفاوة و التكريم و حرّضتها على استقالة عثمان و الاطاحة بحكومته.

ص:268


1- تاريخ الطبري ٥ : ١١٥. الكامل في التاريخ ٥ : ٧٠.
2- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٣٨١ _ ٣٨٢.

مذكّرة المصريّين لعثمان:

و رفع الوفد المصري مذكّرة لعثمان يدعوه فيها إلى الاستقامة في سلوكه و التوازن في سياسته، و هذا نصّها:

أمّا بعد، فاعلم أنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، فاللّه اللّه، ثمّ اللّه اللّه، فإنّك على دنيا زائلة فاستقم معها، و لا تنس نصيبك من الآخرة، فلا تسوّغ لك الدنيا، و أعلم أنّا للّه، و للّه نغضب، و في اللّه نرضى، و أنّا لا نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة أو ضلالة مجلحة مبلجة (1)، فهذه مقالتنا لك، و قضيتنا إليك، و اللّه عذيرنا منك و السلام..» (2).

و حوت هذه المذكّرة الدعوة إلى الاصلاح و الاستقامة، و قد قرأها عثمان بإمعان، و حوله المصريّون قد أحاطوا به، فبادر المغيرة بن شعبة فطلب منه أن يتكلّم مع المصريّين، فأذن له، و لمّا أراد أن يفتح معهم صاحوا جميعا:

يا أعور وراءك.

يا فاجر وراءك.

يا فاسق وراءك.

و رجع المغيرة خائبا لم تفلح وساطته، و دعا عثمان عمرو بن العاص و طلب منه أن يكلّم القوم، فبادر تجاههم و سلّم عليهم، فلم يردّ أحد منهم عليه السلام لعلمهم بفسقه و صاحوا به:

ارجع يا عدوّ اللّه..

ارجع يا ابن النابغة، لست عندنا بأمين و لا مأمون..

ص:269


1- مجلحة : هي الإقدام على الشيء. مبلجة : واضحة بيّنة.
2- متاريخ الطبري ٥ : ١١١. أنساب الأشراف ٥ : ٦٤ _ ٦٥.

و رجع ابن العاص خائبا في وفادته، فقد قوبل بمزيد من الاستهانة.

استجارته بالإمام:

و سدّت على عثمان جميع الوسائل، فلم ير هناك طريقا مفتوحا ليتخلّص به ممّا هو فيه من المحنة، و رأى أنّه لا ملجأ له إلاّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فاستغاث به، فأجابه الإمام بعد أن شرط عليه أن يدعو القوم و يلتزم لهم بالسير على كتاب اللّه و سنّة نبيّه، فأجابه إلى ذلك، و انطلق الإمام صوب الثوّار و هو يحمل لهم الضمان و الالتزام بجميع ما طلبوه، فلمّا رأوا الإمام قالوا له:

وراءك ؟ فأجابهم الإمام بالالتزام الكامل بجميع مطالبهم قائلا:

«تعطون كتاب اللّه، و تعتبون من كلّ ما سخطتم عليه...».

أتضمن ذلك ؟..

«نعم..».

رضينا.

و أقبل وجوه الوفد و أشرافهم مع الإمام فدخلوا على عثمان و عاتبوه على سياسته، و طلبوا منه أن يغيّر سلوكه و يسير بين المسلمين بسياسة قوامها العدل الخالص و الحقّ المحض، فأجابهم إلى ذلك.

كتاب عثمان:

و كتب عثمان إلى الوفود التي أحاطت به هذا الكتاب و التزم بتنفيذ ما فيه، و هذا نصّه: هذا كتاب من عبد اللّه عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين و المسلمين، إنّ لكم أن أعمل فيكم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه، يعطى المحروم، و يؤمن الخائف، و يردّ المنفي، و لا يجمر في البعوث، و يوفّر الفيء، و عليّ بن أبي طالب

ص:270

ضمين للمؤمنين، و على عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب.

و شهد فيه كلّ من الزبير بن العوّام، و طلحة بن عبيد اللّه، و عبد اللّه بن عمر، و زيد بن ثابت، و سهل بن حنيف، و أبو أيّوب خالد بن زيد، و كان توقيعه و الشهادة عليه سنة (35 ه ) (1).

و استلم الثوّار الكتاب، و انصرفوا إلى جماعتهم، و طلب الإمام من عثمان أن يخرج إلى الناس و يعلن لهم تنفيذ ما أرادوا، ففعل عثمان ذلك، و قد أعطاهم عهد اللّه و ميثاقه أن يسير فيهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه، و يوفّر لهم الفيء و لا يؤثر به أحدا من بني أميّة، و قفل المصريون راجعين إلى بلادهم.

نقضه للعهد:

و من المؤسف أنّ عثمان نقض ما قطعه على نفسه و لم يف للمسلمين بما عاهدهم عليه، أمّا سبب ذلك فتعزوه مصادر التاريخ إلى مروان الذي كان وزيرا و مستشارا له، فقد لامه على ما أعطاه للمصريّين من العهد و طلب منه نقض ذلك، فامتنع من إجابته إلاّ أنّه أصر عليه، فاستجاب له، فخرج إلى الناس و اعتلى المنبر و قال: أمّا بعد، إنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر، فلمّا تيقّنوا أنّه باطل ما بلغهم رجعوا إلى بلادهم.. و قطع عليه ابن العاص كلامه و قال له:

اتّق اللّه يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير (2) و ركبناها معك، فتب إلى اللّه نتب معك.

فصاح به عثمان:

و إنّك هناك يا ابن النابغة! قملت و اللّه! جبّتك منذ تركتك من العمل..

ص:271


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام ١ : ٣٨٣ _ ٣٨٤.
2- النهابير : المهالك.

و ارتفعت أصوات الانكار من جميع جنبات المسجد و هي ذات لهجة واحدة:

اتّق اللّه يا عثمان! اتّق اللّه يا عثمان! (1).

و انهار أمام هذا الحشد الهائل من الانكار و لم يدر ما يقول، و لم يجد بدّا من إعلان التوبة مرّة ثانية، فتاب و ندم على ما فرّط في أمر نفسه.

استنجاده بمعاوية:

و أحاط الثوّار بعثمان لأنّه لم يقلع عن سياسته، و لا يغيّر و لا يبدّل أي شيء منها، و طالبوه بالاستقالة من منصبه فأبى، و رأى أنّ خير وسيلة له أن يستنجد بابن عمّه معاوية ليبعث له قوّة عسكرية من أهل الشام تحميه من الثوّار، فكتب إليه:

أمّا بعد، فإنّ أهل المدينة قد كفروا، و خلعوا الطاعة و نكثوا البيعة، فابعث إليّ من قبلك مقاتلة أهل الشام على صعب و ذلول.. (2).

و حمل الكتاب مسوّر بن مخرمة، و أخذ يجدّ في السير حتى انتهى إلى معاوية، فناوله الكتاب و قال له:

يا معاوية، انّ عثمان مقتول، فانظر فيما كتب به إليك.

و سخر منه معاوية و أجابه:

يا مسوّر، إنّي مصرّح أنّ عثمان بدأ فعمل بما يحب اللّه و رسوله و يرضاه، ثمّ غيّر فغيّر اللّه عليه، أ فيتهيّأ لي أن أردّ ما غيّر اللّه عزّ و جلّ .. (3)؟

ص:272


1- تاريخ الطبري ٥ : ١١٠. أنساب الأشراف ٥ : ٧٤.
2- الكامل في التاريخ ٥ : ٦٧. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠.
3- فتوح البلدان ٢ : ٢١٨.

و لم يبد معاوية أي اهتمام بشأن عثمان، و كان يترقّب قتله ليتّخذ من دمه ورقة رابحة يطلب بها المطالبة بدمه.

و قد تنكّر معاوية لعثمان، و لم يستجب له في وقت محنته.

يقول الدكتور محمّد طاهر دروش:

و إذا كان هناك وزر في قتل عثمان فوزره على معاوية و دمه في عنقه، و مسئوليّته عن ذلك لا تدفع، فهو أولى الناس به، و أعظم الرجال شأنا في دولته، و قد دعاه فيمن دعا، يستشيره في هذا الأمر، و هو داهية الدهاة، فما نهض إليه برأيه، و لا دافع عنه بجنده، و كأنّه قد استطال - كما استطال غيره - حياته، فترك الأيام ترسم بيدها مصيره، و تحدّد نهايته، فإذا جاز لأحد أن يظنّ بعلي أو بطلحة و الزبير تقصيرا في حقّ عثمان فمعاوية هو المقصّر، و إذا جاز أن يلام أحد غير عثمان فيما جرى فمعاوية هو الملوم (1).

و كتب عثمان رسائل أخرى إلى أهل الأمصار يستنجد بهم و يطلب منهم المعونة لرفع الحصار عنه، إلاّ أنّه لم يستجب أي أحد منهم لعلمهم بالأحداث الجسام التي اقترفها..

الحصار على عثمان:

و فرض الثوّار الحصار على عثمان، و أحاطوا بداره و هم يهتفون بسقوطه، و يطالبونه بالاستقالة من منصبه، و في أثناء تلك المحنة الحازية التي أحاطت بعثمان انبرى مروان إلى الثوّار فأشعل نار الثورة في نفوسهم و دفعهم إلى الاطاحة بحكم عثمان قائلا لهم:

ما شأنكم ؟ كأنّكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه تريدون أن تنزعوا ملكنا

ص:273


1- الخطابة في صدر الإسلام ٢ : ٢٣.

من أيدينا أخرجوا عنّا..

و كانت هذه الكلمات الطائشة قد أشعلت فتيل الحرب على عثمان، و نقلت إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فخفّ مسرعا إلى عثمان و قال له:

«أ ما رضيت من مروان، و لا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك و عن عقلك، مثل جمل الظّعينة يقاد حيث يشاء ربّه، و اللّه! ما مروان بذي رأي في دينه و لا في نفسه، و أيم اللّه لأراه يوردك و لا يصدرك، و ما أنا عائذ بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، و غلبت على أمرك..».

و تركه الإمام و انصرف عنه، و الثوّار قد أحاطوا به، و التفتت نائلة زوج عثمان إلى مروان و بني أميّة فقالت لهم:

أنتم و اللّه! قاتلوه و ميتّموا أطفاله..

و التفتت إلى زوجها تحذّره من مروان قائلة له:

إنّك متى أطعت مروان قتلك..

لقد كان مروان من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى قتل عثمان، فقد أطاعه عثمان إطاعة عمياء، و هو يدفع به إلى مهالك من دون أن يحسّ عثمان بذلك.

يوم الدار:

و اندلعت نيران الثورة فقد نفد صبر الثوّار، فلم يستقل عثمان من منصبه، و قد أحاطوا بداره، و قد شهروا سيوفهم، فخرج إليهم مروان مدافعا عنه، فبرز إليه عروة بن شيم الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخر لوجهه صريعا، و قام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي، فأراد أن يقطع رأسه فعذلته فاطمة الثقيفة و قالت له:

إن كنت تريد قتله، فقد قتلته، فما تصنع بلحمه أن تبضعه، فاستحى منها و تركه.

ص:274

و تسلّق الثوّار عليه الدار، و لم يكن عنده أحد يدافع عنه، فقد ورمت منه القلوب، و مجّته النفوس، و رماه الناس بالحجار و نادوه:

لسنا نرميك، بل اللّه يرميك..

و احتفّ به بعض الأمويّين يدافعون عنه.. و قد نشب بينهم و بين الثوّار قتال عنيف، و قد فرّ و انهزم خالد بن عقبة بن أبي معيط من ساحة القتال، و إليه يشير عبد الرحمن بن سيحان بقوله:

يلومونني في الدار إن غبت عنهم و قد فرّ عنهم خالد و هو دارع

و قتل من أصحاب عثمان زياد بن نعيم الفهري، و المغيرة بن الأخنس، و نيار بن عبد اللّه الأسلمي و جماعة.

مصرع عثمان:

و انهزم بنو أميّة و آل أبي معيط و تركوا عثمان وحده، فأجهز عليه جماعة من المسلمين في مقدّمتهم محمّد بن أبي بكر، فقد قبض على لحيته و قال له:

أخزاك اللّه يا نعثل (1).

فردّ عليه عثمان:

لست بنعثل، و لكنّي عبد اللّه و أمير المؤمنين.

فقال له محمّد بعنف:

ما أغنى عنك معاوية و فلان و فلان، و أخذ يعدّد بني أميّة..

ص:275


1- نعثل : هو طويل اللحية ، وقيل : هو رجل من أهل الكتاب كان طويل اللحية ، وكان يشبه عثمان ، ولذلك سمّي به ، جاء ذلك في حاشية لطائف المعارف : ٣٥.

و تضرّع عثمان إلى محمّد قائلا له:

يا ابن أخي، دع عنك لحيتي، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه..

فأجابه محمّد بعنف:

ما أريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك..

و طعن محمّد جبينه بمشقص كان في يده، و رفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل اذنه حتى دخلت في حلقه، ثمّ علاه بالسيف، و وثب عليه عمرو بن الحمق الخزاعي، فجلس على صدره و به رمق فطعنه تسع طعنات، و كسر عمير بن ضابئ ضلعين من أضلاعه، و حاولوا حزّ رأسه، فألقت زوجتاه نائلة و ابنة شبيبة بن ربيعة بأنفسهما عليه، فأمر ابن عديس بتركه لهما.. (1).

و ألقيت جثّة عثمان ملطّخة بدمه على الأرض لم يفزع إليه أحد من الأمويّين و آل أبي معيط لمواراته في مقرّه الأخير، و قد بالغ الثوّار في إهانته، فقد ألقوا جثمانه على المزيلة ثلاثة أيام (2) مبالغة في توهينه و تحقيره، و كلّم بعض خواصه الإمام عليه السّلام أن يتوسّط إلى الثوّار فيواروه، فكلّمهم الإمام فأذنوا له في دفنه، و وصف جولد تسهير كيفيّة دفنه بقوله:

و بسط جثمانه دون أن يغسّل على باب، فكان رأسه يقرع قرعا، يقابل بخطوات سريعة من حامليه، و هم يسرعون في ظلام الليل، و الأحجار ترشفه، و اللعنات تتبعه، و دفنوه في حش كوكب (3)، و لم يسمح الأنصار بمواراته في مقابر المسلمين (4)، و أمّا غلاماه اللذان قتلا معه فقد سحبوهما و ألقوهما على التلّة

ص:276


1- حياة الإمام الحسين بن عليّ علیهماالسلام١ : ٣٩٠.
2- تمام المتون _ الصفدي : ٧٩.
3- حش كوكب : اسم بستان لليهود كانوا يدفنون موتاهم فيه.
4- العقيدة والشريعة في الإسلام : ٤٥.

فأكلتهما الكلاب (1).

و بذلك فقد انتهت حياة عثمان بهذه الصورة المروّعة، و قد امتحن بها المسلمون كأشدّ و أقسى ما يكون الامتحان، و أخلدت لهم الفتن و المصاعب، و ألقتهم في شرّ عظيم، فقد ربح الأمويّون بقتله، فقد طالبوا بدمه، كما تذرّعت بالمطالبة بدمه القوى النفعية أمثال: طلحة و الزبير و عائشة، فقد رفعوه شعارا لهم، و هم الذين أجهزوا عليه.

و على أي حال، فقد مني العالم الإسلامي بحكومة عثمان و بمصرعه بمصاعب و فتن، و قد تحدّثنا عنها في كتابنا (حياة الإمام الحسين عليه السّلام) فلا نرى حاجة لإعادتها، و قد اقتبسنا معظم هذه الفصول منه، و ذلك لأنّها ترتبط ببحثنا ارتباطا موضوعيا لا غنى عنها، فإنّها و إن ذكرت في كتاب (حياة الإمام الحسن عليه السّلام) و كتاب (الإمام الحسين عليه السّلام) فهي على سبيل الاستطراد لأنّها تمثّل الحياة الاجتماعية و السياسية في عصر الإمامين عليهما السّلام، أمّا ذكرها هنا فإنّها من صميم الموضوع.

1

ص:277


1- تاريخ الطبري ٣ : ٢٤١. البداية والنهاية ٧ : ٢١٤.

ص:278

المحتويات

التقديم 7

مع النبيّ في جهاده و غزواته 9-65

واقعة بدر 12

استنجاد أبي سفيان بقريش 12

رؤيا عاتكة 12

نصيحة عتبة بن ربيعة 13

سقاية الإمام عليه السّلام للجيش 14

دعاء النبي صلّى اللّه عليه و آله للأنصار 15

دعاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على قريش 15

النبي صلّى اللّه عليه و آله مع أصحابه 15

المعركة 16

بسالة الإمام عليه السّلام 16

أسماء من قتلهم الإمام عليه السّلام 17

وقوف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على قتلى بدر 19

الأسرى من قريش 20

حزن القرشيّين على قتلاهم 20

ص:279

انتصار الإسلام 21

واقعة أحد 22

الحرب 23

هزيمة المسلمين 24

مصرع الشهيد حمزة 25

مصرع الشهيد مصعب 26

حماية الإمام عليه السّلام للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله 26

تشفّي هند 27

تشفّي أبي سفيان 28

حزن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله 28

ملاحقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للقرشيّين 30

سرور القرشيّين 30

واقعة الخندق 30

دور اليهود في المعركة 31

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع نعيم 32

حفر الخندق 33

مبارزة الإمام عليه السّلام لعمرو 34

فتح خيبر 38

مبارزة الإمام عليه السّلام لمرحب 40

غزوة بني قريظة 41

نصيحة كعب لبني قريظة 42

نزولهم على حكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله 43

تحكيم سعد 43

غزوة بني النضير 44

غزوة وادي القرى 45

ص:280

الإمام و فتح اليمن 45

دعاء الإمام عليه السّلام 45

إسلام همدان 46

فتح مكّة 47

رسالة حاطب لقريش 47

في رحاب مكّة 48

العباس و أبو سفيان 49

أبو سفيان بين يدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله 50

ألطاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على أبي سفيان 51

أبو سفيان في مضيق الوادي 52

نداء أبي سفيان 53

معارضة هند 53

دخول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مكّة 54

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الكعبة 54

تطهير البيت من الأصنام 55

خطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله 56

غزوة حنين 57

فرار المسلمين 58

بسالة الإمام عليه السّلام 59

شماتة أبي سفيان و صفوان 59

هزيمة المشركين 60

الغنائم 60

الإمام عليه السّلام و سورة البراءة 62

غزوة تبوك 63

الإمام عليه السّلام يصف جهاده 64

ص:281

طلائع الرّحيل 67-78

حجّة الوداع 71

مؤتمر غدير خمّ 74

البيعة العامّة للإمام 77

نزول آية إكمال الدين 78

المأساة الخالدة 79-98

إعطاء القصاص من نفسه 82

سرية اسامة 85

رزية يوم الخميس 87

فجيعة الزهراء عليها السّلام 90

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوصي بأهل بيته 92

وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بسبطيه 92

إلى الفردوس الأعلى 92

تجهيز الجثمان العظيم 95

الصلاة على الجثمان العظيم 96

مواراة الجثمان المقدّس 97

فزع أهل البيت عليهم السّلام 97

تأبين الإمام عليه السّلام للرسول صلّى اللّه عليه و آله 98

مؤتمر السّقيفة و حكومة أبي بكر 99-171

البواعث لمؤتمر السقيفة 102

ص:282

خطاب سعد 105

المؤاخذة على سعد 106

ضعف نفسية الأنصار 107

اختلاف الأنصار 108

فذلكة عمر 108

نظرة و تأمّل 110

مداهمة الأنصار 111

خطاب أبي بكر 112

دراسة و تحليل 113

فوز أبي بكر بالحكم 116

هزيمة الأنصار 118

ابتهاج القرشيّين 119

موقف أبي سفيان 119

موقف الإمام عليه السّلام من بيعة أبي بكر 122

امتناع الإمام عليه السّلام من البيعة 123

احتجاجات صارمة 126

1 - احتجاج الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام 126

2 - الزهراء عليها السّلام 126

محتويات الاحتجاج 128

استنجاد الزهراء عليها السّلام ببني قيلة 130

3 - الإمام الحسن عليه السّلام 131

4 - سلمان الفارسي رضي اللّه عنه 131

5 - عمّار بن ياسر رضي اللّه عنه 132

6 - أبو ذرّ رضي اللّه عنه 133

7 - المقداد رضي اللّه عنه 134

ص:283

8 - عتبة بن أبي لهب 135

9 - أبو أيوب الأنصاري 135

10 - أبيّ بن كعب 136

11 - النعمان بن عجلان 137

12 - عثمان بن حنيف 137

13 - سهل بن حنيف 137

14 - خزيمة بن ثابت 138

15 - أبو الهيثم بن التيهان 139

إجراءات مؤسفة 140

كبس دار الإمام 140

تأميم فدك 143

مطالبة الزهراء عليها السّلام بفدك 143

إلغاء الخمس 146

مصادرة تركة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله 146

الخطاب الخالد للزهراء عليها السّلام 148

ندم أبي بكر 154

محاولة فاشلة لإرضاء الزهراء 154

أضواء على موقف الإمام 156

1 - فقده للقوّة العسكرية 156

2 - المحافظة على وحدة المسلمين 158

3 - الحفاظ على الإسلام من التصدّع و الانهيار 158

لوعة الزهراء عليها السّلام و شجونها 158

الزهراء عليها السّلام في ذمّة الخلود 161

وصيّتها عليها السّلام 161

وفاة أبي بكر و عهده لعمر 167

ص:284

موقف الإمام عليه السّلام 170

خلافة عمر و مبدأ الشّورى 173-219

سياسته الداخلية 175

سعد بن أبي وقّاص 175

جبلة 176

فرض الإقامة الجبرية على الصحابة 177

رأي طه حسين 178

ولاته و عمّاله 178

مراقبة الولاة و العمال 179

سياسته المالية 183

ناقدون 184

1 - الدكتور محمّد مصطفى 185

2 - العلاّمة العلائلي 185

3 - الدكتور عبد اللّه سلام 185

ندم عمر 186

اعتزال الإمام 186

نصيحته لعمر 189

1 - غزو الروم 189

2 - غزو الفرس 189

3 - حليّ الكعبة 190

اغتيال عمر 191

وصيّته 193

عمر مع ابنه عبد اللّه 193

ص:285

نظام الشورى 195

صلاة صهيب 196

انتخاب عمر لأعضاء الشورى 197

عمر مع أعضاء الشورى 197

الرواية الاولى 197

مع الزبير 198

مع طلحة 199

مع سعد بن أبي وقّاص 199

مع عبد الرحمن بن عوف 200

مع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام 200

مع عثمان 201

الرواية الثانية 201

الرواية الثالثة 203

الهيئة المشرفة على الانتخاب 205

عمر مع أبي طلحة و المقداد 205

إنذار عمر للصحابة 206

رأي الإمام عليه السّلام 206

آفات الشورى 208

عملية الانتخاب 213

حكومة عثمان 221-277

مظاهر شخصيّته 224

أوّلا - ضعف الإرادة 224

ثانيا - حبّه العارم للأمويّين 225

ص:286

ثالثا - ميله إلى الترف 225

رابعا - مصانعة الوجوه 226

ولاته و عمّاله 227

1 - عبد اللّه بن عامر 227

2 - الوليد بن عقبة 230

3 - عبد اللّه بن سعد 235

4 - معاوية بن أبي سفيان 236

5 - سعيد بن العاص 237

سياسته الاقتصادية 240

هباته للأمويّين 241

هباته للأعيان 245

إقطاعه للأراضي 246

قائمة بأسماء الممنوحين أراض واسعة 248

استقطاع عثمان للأموال 249

مع الجبهة المعارضة 250

التنكيل بالمعارضين 250

1 - عمّار بن ياسر 250

2 - مع أبي ذرّ 254

اعتقال أبي ذرّ في الشام 255

إخراج أبي ذرّ من الشام 257

اعتقاله في الربذة 258

توديع الاسرة النبوية لأبي ذرّ 259

كلمة الإمام عليه السّلام 260

كلمة الإمام الحسن عليه السّلام 261

كلمة الإمام الحسين عليه السّلام 261

ص:287

كلمة عمّار 261

كلمة أبي ذرّ 262

غضب عثمان على الإمام 262

3 - عبد اللّه بن مسعود 263

الثورة على عثمان 266

مذكّرة المهاجرين لأهل مصر 266

مذكرة أخرى لأهل الثغور 267

وفود الأمصار 268

1 - الوفد المصري 268

2 - الوفد الكوفي 268

3 - الوفد البصري 268

مذكّرة المصريّين لعثمان 269

استجارته بالإمام 270

كتاب عثمان 270

نقضه للعهد 271

استنجاده بمعاوية 272

الحصار على عثمان 273

يوم الدار 274

مصرع عثمان 275

المحتويات 279-288

ص:288

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.