موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) المجلد 1

اشارة

سرشناسه:قرشی، باقرشریف، 1926 - م.

Qarashi, Baqir Sharif

عنوان و نام پديدآور: موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام/ مولف باقر شریف القرشی

مشخصات نشر:قم: مجمع جهانی شیعه شناسی

مشخصات ظاهری:11ج.

شابک:دوره: 978-600-6164-72-4 ؛ 90000 ریال: ج. 1: 978-600-6164-65-6 ؛ ج.2و3 978-600-94930-7-4 : ؛ ج. 4 978-622-962924-6:

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:ناشر جلد دوم و سوم و چهارم انتشارات دارالتهذیب است .

مندرجات:ج. 1. زندگانی و فضایل امام علی علیه السلام در قرآن و سنت.- ج.2 و 3. امام علی (ع) در عهد پیامبر و دوران خلافت

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40 ق.

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- سرگذشتنامه

شناسه افزوده:مجمع جهانی شیعه شناسی

شناسه افزوده:The World Center for Shite Studies

رده بندی کنگره:BP37/ق36م8041 1393

رده بندی دیویی:297/951

شماره کتابشناسی ملی:3726762

ص :1

اشارة

موسوعة الامام امیرالمومنین علی بن ابی طالب علیه السلام

مولف باقر شریف القرشی

ص :2

مقدمة التحقيق

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ المائدة: 55 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ التوبة: 119 وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الزّمر: 33 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ البيّنة: 7

ص:3

الإهداء

إلى.. رائد النهضة الفكرية إلى.. صانع الحضارة الإنسانية إلى... المنقذ، و المحرّر لإرادة الإنسان و سلوكه إلى... سيّد الأنبياء و خاتم المرسلين النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله أرفع إلى سموّ مقامه الرفيع هذه الدراسة عن وصيّه و باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام راجيا التلطّف عليّ بالرضا و القبول ليكون ذخرا لي يوم ألقى اللّه تعالى.

ص:4

كلمة النّاشر

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم » إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ إذا أراد إنسان كامل الحجى متتامّ النّهية كالنبي صلّى اللّه عليه و آله، بيان ما يتمتّع به شخص من المنزلة لديه، و المكانة عنده، فقد يستخدم لأداء ذلك تعابير شتّى، فإذا أراد بلوغ الغاية في الإطراء و المديح، فليس أقصى من أن يقرنه بنفسه، و لا أبلغ في بيان مكانته عنده، من أن يقول: هو نفسي، او بمنزلتي، و ما شاكل ذلك من التعابير.

و لشدّ ما نتساءل هل كان بإمكانه صلّى اللّه عليه و آله في بيانه لمكانة أمير المؤمنين و سيّد العابدين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من نفسه، أن يزيد على ما قاله ممّا اتّفقت عليه كلمة أهل الإسلام، من أمثال قوله:

«عليّ أخي، وصيّي، حربك حربي، سلمك سلمي، أنا المنذر و عليّ الهادي، لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو عليّ، رفيقي في الجنّة، من أطاع عليّا فقد أطاعني، من عصى عليّا فقد عصاني، عليّ منّي بمنزلتي من ربّي، بمنزلة رأسي من بدني، خير من أترك بعدي، خير أمّتي، وزيري، عيبة علمي، باب علمي، من أحبّه أحبّني، من أبغضه أبغضني، وارثي، إنّ عليّا منّي و أنا منه، وليّ كلّ مؤمن بعدي، اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاده، من كنت مولاه فهذا وليّه، خير البريّة، و غير ذلك

ص:5

ممّا يضيق عن ذكره المجال.

هذا بعد قوله تعالى في آية المباهلة مع نصارى نجران: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ يعني عليّا، فلعمر الحقّ، ما هذا بجزاف من القول، بل فيه آيات بيّنات.

و أمّا هذا السّفر الذي بين يديك، الجليل بجلالة موضوعه، و الكريم بكريم محتواه، فهو ممّا حبّرته يراعة الكاتب الفذّ، و العالم الملهم، صاحب التآليف القيّمة، و القلم السمح بسهولة اللفظ، و جودة البيان، و حسن التنسيق، الذي أثرى مكتبة التراث بمؤلّفاته المعطاءة، سماحة الشيخ باقر شريف القرشي حفظه اللّه و أطال عمره المبارك في خدمة معارف الإسلام.

و إنّه لمن دواعي السرور لدى مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلامية التي تعنى بفرائد الكتب، أن تتصدّى لطبع و نشر هذا السّفر الشريف.

مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة الخامس من ذي القعدة 1422 ه

ص:6

كلمة شكر

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم » عند ما يسعى المرء في إبراز فضائل سيّد الأوصياء عليه السّلام و تتظافر اهتماماته على رصف الكلم، و تحرير الصفحات للتعريف بمناقب الآية الكبرى و النبأ العظيم، فإنّ ذلك من دواعي الشرف الوفير، و الافتخار و الاعتزاز، حين يوفّق المرء لهذا العمل، لما فيه من التقرّب إلى اللّه تعالى، و إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله، الذي شرّف الدنيا بوجوده و بآله الطيّبين الطاهرين، و في طليعتهم أمير المؤمنين عليه السّلام الذي كان هو نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بنصّ القرآن، و باب مدينة علمه.

و هذه الموسوعة تبحث عن تلك الصورة المشرقة من سيرة مولى الموحّدين و الآفاق المضيئة من حياته المباركة التي تعبق منها المثل الكريمة، و الخصال الجميلة، و الأبعاد الإنسانية بما للكلمة من معنى.

و نحن نحمد اللّه عزّ و جلّ على ما وفّقنا إليه من المتابعة و الإشراف و تقويم النصوص لهذه الموسوعة لتخرج بحلّتها القشيبة و لتكون بين يدي القارئ الكريم، الذي كان ينتظرها بشوق ليتعرّف على تلك السيرة العطرة.

و لا يسعني و أنا اشاهد هذا الأثر النافع يرى النور، إلاّ أن أتقدّم

ص:7

بالشكر و التقدير للإخوة الذين ساهموا في مساعدتي في إخراج هذه الموسوعة.

و كذلك أرفع آيات الشكر و التقدير لمؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة لتحمّلها مسئولية نشر هذا التراث الكبير.

و أخيرا نسأله تعالى أن يتقبّل منّا هذا الجهد، إنّه سميع مجيب.

و الحمد للّه أوّلا و آخرا مهدي باقر القرشي 11 ذي الحجّة 1422 ه

ص:8

تقديم

1 من جهاد الرسول الأعظم محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و كفاح أخيه و وصيّه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام انطلقت أشعة النور التي أضاء سناها في سماء الجزيرة العربية، و امتدّت موجاتها المشرقة إلى امم العالم و شعوب الأرض، و هي تحمل التحرير الكامل لفكر الإنسان و إرادته و سلوكه، و تقدّم له منهجا متطوّرا و إصلاحا شاملا لجميع مناحي حياته، التي منها إشاعة العلم و إقصاء الجهل و تنمية العقل و رفع مستوى الإنسان من مساوئ الحياة إلى حياة تزدهر بالوعي و النور.

من فم الرسول صلّى اللّه عليه و آله ارتفعت أسمى كلمة في دنيا الوجود إنّها كلمة التوحيد التي تحمل جميع ألوان التحرّر للإنسان، و تحسم جميع ألوان العبودية لغير اللّه تعالى خالق الكون و واهب الحياة. و تبنّى الرسول صلّى اللّه عليه و آله بصورة إيجابية كلمة التوحيد و أعلنها في مكّة، و حمل لواءها وصيّه و باب مدينة علمه، و هو يلوّح بها في فضاء مكّة التي كانت موئلا للأصنام و الأوثان، و مركزا لجهل الإنسان و خرافاته.

و هبّت في وجه الرسول صلّى اللّه عليه و آله الاسر العاتية من قريش مجمعة على إخماد نور الرسالة، و لفّ لواء القرآن، و إعادة الجاهلية إلى مجتمعها، فانبرى إليهم بطل الإسلام الخالد الإمام أمير المؤمنين بشجاعته النادرة محاميا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مدافعا عنه فكان

ص:9

القوّة الضاربة التي وقفت إلى جانب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و حمته من شرّ اولئك الوحوش.

2 و ليس في دنيا الإسلام و غيره شخصية تضارع شخصية أبي الحسن في مواهبه و عبقرياته و سائر ملكاته التي استوعبت - بشرف و فخر - جميع لغات الأرض، و تحدّث عنها العلماء بإكبار و إعجاب، و كان من جملة مواهبه إحاطته الكاملة بأسرار الشريعة و أحكام الدين فكان فيها العلم البارز. و لم تقتصر مواهبه و طاقاته العلمية على فقه الشريعة و أحكام الدين و إنّما كانت شاملة لجميع شئون الكون في فضائه و كواكبه و مجرّاته، و هو القائل: «سلوني عن طرق السماء فإنّي أعلم بها من طرق الأرض...».

إنّ هذا العملاق العظيم قد بهر العالم بعلومه و مواهبه التي لا تخضع للحصر...

و قد أراد أن يقيم في هذا الشرق العربي صروحا للعلم بجميع صوره و أنواعه، و يؤسّس مراكز للتطوّر و التقدّم التكنولوجي، و يشيع العلم و المعرفة في العالم الإسلامي، و لكنّ العتاة الظلمة وقفوا أمام تطلّعاته و رغباته كما وقفوا من قبل أمام أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فسعوا مجمعين جاهدين إلى إفشال مخطّطاته و وضعوا أمامه الحواجز و السدود.

3 و كان من أهمّ ما يتطلّع إليه الإمام و يصبو إليه أن يؤسّس في دنيا الإسلام حكومة قائمة على العدل الخالص و الحقّ المحض، و يوزّع خيرات اللّه تعالى على عباده، فلا يختصّ بها فريق دون فريق و لا قوم دون آخرين، و أن ينعم الإنسان في ظلّ حكومته، و لا يبقى في البلاد أي شبح للبؤس و الحرمان، فالكفر و الفقر في شريعة الإمام سواء، فكما يجب مكافحة الكفر كذلك يجب مكافحة الفقر.

ص:10

إنّ الإمام أخو الفقراء و أبو البؤساء و أمل المحرومين و المعذّبين في الأرض، و قد جهد على إسعادهم و إشاعة الرفاهية و السعة بينهم، و لكنّ القوى الباغية التي يمثّلها الأمويّون قد خاصموه و حاربوه و صدّوه عن سياسته و أهدافه، و لو أنّ الامور استقامت له لرأى الناس من صنوف العدل في ميادين الحكم و الإدارة ما لم يروه في جميع فترات التاريخ.

4 إنّ هذا الإمام الملهم العظيم أوّل مظلوم في دنيا الإسلام، فقد طافت به المحن و الأزمات يتبع بعضها بعضا بعد وفاة أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و راحت القوى الحاقدة عليه تهتف بقوى محمومة: «لا تجتمع النبوّة و الخلافة في بيت واحد...».

و اقصي الإمام عن الخلافة و قيادة الامّة، و قبع في أرباض بيته يسامر الهموم و يبارح الأحزان و يصعّد آهات آلامه، فقد عامله القوم كمواطن عادي، و الغيت في حقّه جميع وصايا الرسول.

و لمّا آلت إليه الخلافة بعد مقتل عثمان عميد الاسرة الأموية قامت قيامة القرشيّين و ورمت آنافهم، فقد خافوا على مصالحهم و على امتيازاتهم و ما نهبوه من الثراء العريض في أيام حكومة عثمان، فجنّدوا جميع ما يملكونه من طاقات مادية و سياسية للاطاحة بحكومته. لقد أبغضوه و نقموا عليه لأنّه لم يتجاوب مع مصالحهم، لقد أخلص للحقّ و جهد في إقامة العدل، و تبنّى قضايا المحرومين و البائسين، و آثر رضا اللّه تعالى على كلّ شيء.

إنّ القوى الحاقدة على الإمام كانت على يقين لا يخامره شكّ أنّ الإمام لا يقيم أي وزن لمصالحهم و رغباتهم التي هي أبعد ما تكون عن منهج الإسلام و مصلحة المسلمين، فقد صحبوه طفلا و شابا و كهلا، و عرفوا شدّة وطأته و تنمّره في ذات اللّه تعالى، و شاهدوا ضرباته القاصمة في فجر الدعوة الإسلامية حينما حصد رءوس

ص:11

أعلامهم، و ما أشاعه في بيوتهم من الثكل و الحزن و الحداد. فإذا هم خصومه و أعداؤه قبل أن يكون خليفة، و بعد أن صار حاكما و خليفة عليهم.

5 إنّ الأحداث الجسام التي ألمّت بالإمام عليه السّلام بعد وفاة أخيه الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله يجب أن تدرس بعمق و شمول و ينظر في محتوياتها و أبعادها حسب الدراسات العلمية البعيدة عن الأهواء و العواطف، فقد تركت تلك الأحداث بصماتها على مجريات الأحداث في العالم الإسلامي و أغرقته بالمحن و الخطوب.

من المؤسف أنّ التاريخ الإسلامي في عصوره الاولى لم يكتب له أن يدرس دراسة واعية مستوعبة، بعيدة عن التيارات المذهبية، و إنّ من الحقّ أن ينظر إلى تلك الحقبة الخاصّة من الزمن التي أعقبت وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله فتدرس دراسة ملمّة بشئونها و ملابساتها، فقد احيطت بالقيود و الأغلال و ظلّت قابعة بالتعتيم و الغموض و الإبهام.

إنّ كلّ شيء في عصر النهضة الفكرية خاضع للدراسة العلمية، فقد خضع الفضاء و المجرّات للدراسة سوى التاريخ الإسلامي الذي ظلّ مكبّلا بقيود الطائفية و رواسب التقاليد الموروثة، و ابتعد عن التحقيق و التدقيق.

6 إنّ من أهمّ الأحداث التي جرت في العصر الإسلامي الأوّل مؤتمر السقيفة و الشورى، فلم يقرّر فيهما مصير الامّة الإسلامية و قضاياها المصيرية، فقد قدّمت فيهما المصالح الشخصية و الرغبات الخاصّة و استهدفت فيها إقصاء الإمام عن الحكم و إبعاده عن كلّ ما يتعلّق بالدولة الإسلامية، و ما يرتبط بشئونها السياسية و العسكرية... و قد تمّ ذلك بوضوح فقد عزل الإمام و ابعد، و حرمت الامّة من مواهبه و عبقرياته، و ما أراده لها من

ص:12

التطوّر و التقدّم و السيادة العامّة على جميع امم العالم و شعوب الأرض.

7 و مني العالم الإسلامي بأحداث رهيبة من جرّاء إقصاء الإمام عليه السّلام عن قيادة الامّة، كان من أفجعها محنة و أقساها بلاء أن آلت الخلافة الإسلامية التي هي ظلّ اللّه تعالى في الأرض إلى بني اميّة الذين هم من ألدّ أعداء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و من أكثرهم حقدا عليه و من أشدّ الناقمين على قيمه و مبادئه، فأنزلوا الضربات القاصمة على آله الذين هم وديعته و خزنة علومه، و طاردوا شيعتهم، و أشاعوا المنكر و الفساد في الأرض.

و بعد أن طويت حكومة الأمويّين و استولى العباسيّون على الحكم نشروا الجور و الظلم، و سخّروا اقتصاد الامّة صوب شهواتهم و لياليهم الحمراء، و صبّوا جام غضبهم على السادة العلويّين دعاة الاصلاح الاجتماعي، و على شيعتهم بصورة أكثر بشاعة، و أقسى عنفا ممّا اقترفه الأمويّون تجاههم.

و على أي حال فإنّ جميع ما عاناه المسلمون من الكوارث و الأزمات أيام الحكم الأموي و العباسي كان ناجما - من دون شكّ - من مؤتمر السقيفة و الشورى، و سندلل على ذلك في بحوث هذا الكتاب.

8 أمّا الإمام عليه السّلام فهو من مغارس النبوّة، و من مشارق أضوائها، إنّه من الشجرة المباركة التي أصلها ثابت و فرعها في السماء، تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها.

إنّ تاريخ الإمام يرتبط ارتباطا وثيقا بسيرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله فهو جزء لا يتجزّأ من سيرته و نضاله، فهو المثل الأعلى له، و القوّة الضاربة التي وقفت إلى جانبه أيام محنة الإسلام و غربته، فقد جاهد معه كأعظم ما يكون الجهاد حتى قام الإسلام على سوقه

ص:13

عبل الذراع ينشر الوعي، و يفتح آفاق الفكر و يضيء جوانب الحياة و يدمّر الجهل، و يحطّم الشرك.

9 و استوعبت شخصية هذا الإمام الملهم العظيم أفكار العلماء و روّاد الفكر من مسلمين و غيرهم في جميع الأعصار و الأمصار، فقد أذهلهم ما أثر عنه من العلوم و المعارف التي لم يعرفها الشرق العربي و غيره، و تحدّثوا - بإعجاب - عن روعة قضائه، و سموّ بلاغته، و إعجاز فصاحته و ما خلّفه من ثروات تعدّ من مناجم الأدب و ذخائر الفكر و البيان، يقول ابن أبي الحديد: «ما أقول في رجل تعزى إليه كلّ فضيلة، و تنتهي إليه كلّ فرقة، و تتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل و ينبوعها، و سابق مضمارها، و مجلّي حلبتها».

و قد تناول العلماء و الادباء البحث عن شخصيّته، و كتبوا عشرات الكتب عن سيرته، و مئات المقالات عن حياته و مآثره، و من المؤكّد أنّهم لم يلمّوا بجميع مناحي شخصيّته و إنمّا ألقوا الأضواء عليها.

إنّ معالم شخصية الإمام و ما خلّفه من الثروات الفكرية و العلمية قد حفل بها الكثير من المخطوطات العربية التي ضمّتها خزائن المخطوطات في مكتبات العالم.

و على أي حال فإنّي على يقين لا يخامرني شكّ أنّه لا يستطيع أي عالم مهما بذل من جهد شاق أن يلمّ بشخصية هذا العملاق العظيم و يحيط بمكوّناته النفسية و العلمية فإنّ الإحاطة بذلك أمر بعيد المنال.

10 لا أعتقد أنّ شخصية في التاريخ الإنساني اختلفت فيها آراء الناس كشخصية

ص:14

الإمام عليه السّلام، فقد تباينت فيها آراء محبّيه و مبغضيه و اختلفوا فيه كأشدّ ما يكون الاختلاف، فقد غالى فيه بعض محبّيه غلوّا فاحشا، و أسرفوا إسرافا مقيتا، فزعموا أنّه المدبّر لهذا الكون و الموجد للحياة دفعهم - فيما أحسب - إلى هذا الغلوّ الفاحش ما رأوه من سموّ ذاته وسعة علومه و شجاعته النادرة و بسالته في الحروب و اندفاعه نحو الحقّ، فاعتقدوا جازمين بإلهيّته.

و أفرط آخرون في بغضه و كراهته، فذهبوا إلى كفره و مروقه من الدين لأنّ الإمام قد وترهم و أباد آباءهم في سبيل الإسلام، و هؤلاء هم النواصب... و تبعهم الخوارج في بغض الإمام و هم الذين أرغموه على قبول التحكيم حينما أحرزت جيوشه النصر الحاسم على معاوية و صار في متناول أيديهم، فرفع أصحابه المصاحف ففتنوا بها، و دعوه إلى تحكيمها، فيما شجر بينه و بين معاوية من خلاف، و عرّفهم الإمام أنّهم إنّما رفعوا المصاحف غيلة و مكرا، و أنّهم لا يؤمنون بالقرآن و لا يدينون بأحكامه فلم يستجيبوا له، و شهروا سيوفهم و رماحهم في وجهه، و أرغموه على التحكيم، و لمّا استبان لهم ضلال ما ذهبوا إليه حكموا بكفره لأنّه استجاب لهم أوّلا، و قد امتحن الإمام عليه السّلام بهم كأشدّ ما يكون الامتحان، فقد جرّعوه نغب التهمام - على حدّ تعبيره -، و منذ ذلك الوقت أيقن بافول دولة الحقّ و استعلاء كلمة الباطل لأنّه لم تكن له قوّة يركن إليها. و بقي في أرباض الكوفة يصعّد آهاته و أحزانه حتى وافته المنيّة على يد مجرم باغ أثيم من الخوارج.

و على أي حال فالغلاة و النواصب و الخوارج خارجون عن هدي الإسلام و مارقون من الدين و لا نصيب لهم من هدي القرآن.

11 و ليس من الوفاء، و لا من الانصاف في شيء أن لا اشيد بإجلال و تعظيم ما أسداه عليّ من الطاف سماحة المغفور له حجّة الإسلام و المسلمين أخي الشيخ هادي شريف

ص:15

القرشي نضّر اللّه مثواه، فقد تتابعت عليّ أياديه منذ فجر صباي حتى بلغت سن الشيخوخة، و واساني في السرّاء و الضرّاء، و لم يبق أي لون من ألوان البرّ و الإحسان إلاّ تكرّم به عليّ، ففي ذرى عطفه واصلت مسيرتي في الدراسة و التأليف، و إنّي أتضرّع إلى اللّه تعالى أن يجازيه عنّي خير ما يجازي عباده الصالحين، و أن يجزل له المزيد من الرحمة و الغفران.

و من الحقّ عليّ أن أذكر بكل خير سماحة استاذنا المعظّم حجّة الإسلام و المسلمين الشيخ حسين الخليفة على ألطافه المتواصلة و تشجيعه لي في خدمة أهل البيت عليهم السّلام، شكر اللّه مساعيه و أعزّ به الدين.

كما أنّ من الواجب أن اشيد بألطاف أخي في اللّه سماحة حجّة الإسلام و المسلمين سيّدنا المعظّم السيّد الجواد الوداعي دامت بركاته، فقد كان له الفضل الوافر على مكتبة الإمام الحسن عليه السّلام، فقد أمدّها بالكثير من شئونها، و إنّي أسأل من اللّه تعالى أن يجزل له المزيد من الأجر و يحفظه ذخرا لأهل العلم و التوفيق بيد اللّه تعالى يهبه للصالحين من عباده.

إنّه ولي التوفيق النّجف الأشرف باقر شريف القريشى 18 /محرّم الحرام/ 1418 ه

ص:16

النّسب الوضّاح

اشارة

ص:17

ص:18

ليس في دنيا الأنساب نسب وضّاح التقت به جميع عناصر الشرف و الكرامة كنسب الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فهو من صميم الاسرة الهاشمية التي عرفت بالنبل و الشهامة و قراية الضيف و نجدة الضعيف و حماية الجار و غير ذلك من الصفات الكريمة التي جعلتها في طليعة الاسر العربية سموّا و إشراقا و شرفا، و نشير - بإيجاز - إلى بعض مآثرها الرفيعة و إلى كوكبة من أعمدتها و ساداتها الذين سجّلوا الفخر و الاعتزاز لا لاسرتهم فحسب و إنّما لجميع أبناء العالم العربي.

المآثر الكريمة:

اشارة

نقل المؤرّخون بعض المآثر الكريمة التي تميّزت بها الاسرة الهاشمية منذ فجر تأريخها، و قد شاعت مآثرهم في مجتمع بعيد كلّ البعد عن الفضائل النفسية التي يسمو بها الإنسان، فقد كانت السمت البارز لأخلاق قبائل مكّة الغلظة و التكبّر و الأنانية و القسوة و الحسد و وأد البنات و عبادة الأوثان و الأصنام، و غير ذلك من صنوف الانحطاط.

و من المؤكّد أنّه لم تكن في مكّة اسرة عرفت بالنبل و الشهامة سوى الاسرة الهاشمية، و من بين مآثرها:

1 - عبادة اللّه:

و كانت عبادة الأصنام هي السائدة في قبائل مكّة، فقد كانت أصنامهم معلّقة

ص:19

على ظهر الكعبة، فلكلّ قبيلة صنم يعبدونه من دون اللّه سوى الاسرة الهاشمية فانّها وحدها تعبد اللّه وحده، و تدين بدين إبراهيم شيخ الأنبياء. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:

«و اللّه! ما عبد أبي و لا جدّي عبد المطّلب و لا عبد مناف و لا هاشم صنما، و إنّما كانوا يعبدون اللّه، و يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسّكين به...» (1).

و تلك كرامة للاسرة الهاشمية دلّت على نضوجهم الفكري و إيمانهم العميق باللّه و نبذهم التامّ لخرافات الجاهلية و أوثانها، فقد سخروا من الأصنام و الأوثان، و اعتنقوا ملّة جدّهم إبراهيم عليه السّلام الذي حارب الأوثان و أعلن الإيمان باللّه.

2 - حلف الفضول:

و كان أهمّ حدث اجتماعي ظهر في مكّة هو حلف الفضول الذي كان من أبرز بنوده القيام بنجدة المظلوم و الأخذ بحقّه، سواء أ كان من قريش أم من غيرهم، و كان هذا الحلف يتّفق مع طباع الهاشميّين الذين يمثّلون المروءة و النجدة و الشهامة و النبل، و قد

شهده الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اعتزّ به، و قال: شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا ما احبّ أنّ لي به حمر النعم، و لو ادعى به في الإسلام لأجبت[2].

و تخلّف الأمويّون عن هذا الحلف الذي يتجافى مع ميولهم التي طبعت عليها الاثرة و الأنانية، و هم على نقيض تامّ من طباع السادة الهاشميّين الذين تبنّوا هذا الحلف بصورة إيجابية. و من الجدير بالذكر أنّه حدثت مشادّة بين الإمام الحسين عليه السّلام و بين الوليد بن عتبة حاكم المدينة، فغضب الإمام عليه السّلام و نادى بحلف

ص:20


1- إكمال الدين _ الصدوق : ١٠٤.

الفضول فاستجاب له عيون القرشيّين، فخاف الوليد و ردّ على الإمام ظلامته(1).

و على أي حال فإنّ حلف الفضول من أروع الحركات الإصلاحية التي ساهم الهاشميّون في دعمها و تأسيسها.

3 - إخراج ماء زمزم:

من المآثر الكريمة التي نسبت للهاشميّين، و التي هي من مواضع الاعتزاز و الفخر، إخراج عين ماء زمزم التي خفيت حقبة من الزمن على القرشيّين و لم يهتدوا لموضعها، و قد أنفقوا على ذلك جهدا شاقّا و عسيرا فلم يظفروا بها.

و انبرى زعيم الهاشميّين عبد المطّلب للبحث عنها فأصاب موضعها، و في أثناء حفره عنها أصاب كنزا فيه غزالان من ذهب و سيوف و دروع، فرفع صوته بالتكبير، فأسرع القرشيّون إليه و بهروا بما رأوه من الكنز، و تنازعوا فيه، فقال هشام ابن المغيرة: إنّه لقريش لأنّه وجد في البيت الحرام، و كلّ ما وجد فيه فهو لعامّة قريش، و أنكر عليه حرب بن اميّة، فردّ عليه بعنف قائلا: إنّما هو لعبد مناف خاصّة فهم الذين حفروا البئر و ظفروا به، و ما ينبغي لقريش أن تشاركهم فيه، و اشتدّ النزاع بين القوم، و كان عبد المطّلب ساكتا يسمع مقالة قريش، فانبرى إليه حرب فقال له:

ما لك لا تتكلّم و أنت الذي عثرت عليه؟ فقال عبد المطّلب بأناة غير حافل بصيرورة الكنز إليه: «ما ينبغي أن يكون الكنز لأحد منّا حتى نضرب بالقداح فنجعل للكعبة قد حين ولي قد حين و لكم قد حين»، فاستجابوا له، فضرب بين قريش و الكعبة فخرج للكعبة ثلاثة أقداح، فصاح بهم عبد المطّلب قائلا: «تفرّقوا يا معشر قريش، و يا بني عبد مناف ليس لأحد منكم في هذا الكنز نصيب... أمّا هذا الذهب فسيصاغ

ص:21


1- السيرة النبوية ١ : ١٢٧.

صفائح و يوضع على باب الكعبة...».

و أكبرته قريش على هذا النبل و السموّ، و بعثوا بالذهب إلى الصاغة فصاغوه صفائح و وضعوه على الكعبة(1). و أكبر الظنّ أنّ أوّل ما كسيت به الكعبة المشرّفة بالذهب على يد عبد المطّلب سيّد قريش.

و عمّت الأفراح و المسرّات جميع أهالي مكّة بماء زمزم الذي أخرجه لهم عبد المطّلب، فقد وفّر لهم أعظم نعمة و أعزّ ما في الحياة و هو الماء.

4 - سقاية الحاج:

من مكارم الهاشميّين و أريحيّتهم و اندفاعهم نحو الخير سقايتهم للحجّاج و بذل الماء لهم بسخاء، و كان عزيز الوجود، و أوّل من بادر منهم إلى هذه الفضيلة هاشم فكان - فيما يقول الرواة - إذا وفد الحجّاج إلى بيت اللّه الحرام قام خطيبا في قريش رافعا عقيرته قائلا: «يا معشر قريش، إنّكم جيران اللّه و أهل بيته، و إنّكم يأتيكم في هذا الموسم زوّار اللّه و حجّاج بيته، و هم ضيف اللّه و أحقّ بالكرامة ضيفه، فاجمعوا له ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بدّ لهم من الإقامة بها...»(2).

و هذه الدعوة دعوة نبل و شهامة و شرف، و يقوم القرشيّون بدورهم بالتبرّع بجمع المال و شراء الماء و الطعام.

5 - إطعام الطعام:

و ثمّة مكرمة اخرى للهاشميّين و هي إطعامهم الطعام و بذلهم بسخاء للغرباء

ص:22


1- السيرة النبوية _ ابن هشام ١ : ١٣٦.
2- المصدر السابق : ١٤٣.

و البؤساء، و أوّل من عرف بهذه المكرمة منهم زعيم الاسرة الهاشميّة، و هو هاشم فقد كان يهشم الثريد و يبذله بطيب نفسه لقومه، و من أجل ذلك لقّب بهاشم، و فيه يقول الشاعر:

عمرو العلى هشم الثّريد لقومه و رجال مكّة مسنتون عجاف

و ورث هذه الظاهرة معظم أبنائه و أحفاده، و كان من أبرزهم ريحانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الإمام الحسن عليه السّلام، فقد كان أجود أهل زمانه، و مضرب المثل في سخائه حتى لقّب بكريم أهل البيت مع أنّهم معدن الكرم و الجود، و كان يضارعه في كرمه أخوه سيّد شباب أهل الجنّة و أبو الأحرار الإمام الحسين عليه السّلام، فقد كان من أروع و أسمى أمثلة السخاء في دنيا الإسلام، و كان عبد اللّه بن جعفر من ألمع الأسخياء في العالم العربي... و هكذا كان الهاشميّون اصولا و فروعا من أندى الناس كفّا، و من أكثرهم برّا و سخاء حتى عدّ الكرم من عناصرهم و ذاتياتهم.

أعمدة الشرف من الهاشميّين:

اشارة

و حظيت الاسرة الهاشمية بأفذاذ الرجال و عيونهم كان منهم السادة التالية أسماؤهم:

1 - هاشم:

أمّا هاشم فهو أشرف من في مكّة، و كان مضرب المثل في جوده، و هو الذي كان يطعم الحجّاج بمكّة و منى و عرفة(1)، و هو أوّل من سنّ الرحلتين لقريش الرحلة إلى اليمن و الرحلة إلى الشام(2)، و فيه يقول الشاعر:

ص:23


1- السيرة النبوية ٣ : ٤٥٨.
2- تاريخ الطبري ٢ : ١٨٠.

سنّت إليه الرّحلتان كلاهما سفر الشّتاء و رحلة الأصياف(1)

2 - عبد المطّلب:

من سادات بني هاشم و من عيونهم و من مفاخر قريش السيّد الجليل عبد المطّلب، فقد كان في شبابه من أنبل فتيان قريش، و في شيخوخته كان من أوقر و أجلّ شيوخ عصره حتى لقّب بشيبة الحمد، و ذلك لكثرة حمد الناس و ثنائهم عليه(2)، و قد اسندت إليه رفادة الحجّاج و سقايتهم بعد وفاة عمّه، و قد لاقى جهدا شاقّا و عسيرا في جمع الماء، فكان يجمعه من المطر و غيره في أحواض من الأدم و يقدّمه لحجّاج بيت اللّه الحرام، و هو الذي أخرج ماء زمزم بعد أن جهل القرشيّون موضعه، و لمّا توفّي كان له صدى حزن و أسى في جميع أوساط القرشيّين و رثاه مطرود بن كعب الخزاعي بقوله:

يا أيّها الرجل المحوّل رحله ألاّ نزلت بآل عبد مناف

هبلتك امّك لو نزلت عليهم ضمنوك من جوع و من إقراف

الآخذون العهد من آفاقها و الرّاحلون لرحلة الإيلاف

و المطعمون إذا الرياح تناوحت و رجال مكّة مسنتون عجاف

و المفصلون إذا المحول ترادفت و القائلون هلمّ للأضياف

و الخالطون غنيّهم بفقيرهم حتى يكون فقيرهم كالكافي

كانت قريش بيضة فتفلّقت فالمخّ خالصة لعبد مناف(3)

ص:24


1- تاريخ الطبري ٢ : ١٨٠.
2- قيل : إنّما لقّب بشيبة الحمد لأنّه كان في ذؤابته شعرة بيضاء حين ولد ، جاء ذلك في معرفة الصحابة ١ : ٢٧٦.
3- أمالي المرتضى ٢ : ٢٦٨ ، وذكرت هذه الأبيات باختلاف في أمالي القالي ١ : ٢٤١.

و حكى هذا الشعر كرم الاسرة الهاشميّة و قريها للضيف و سخاءها اللامحدود، و من الجدير بالذكر أنّ النبيّ كان عمره بعد وفاة عبد المطّلب ثمان سنين(1).

3 - أبو طالب:

اشارة

أمّا أبو طالب فهو حامي الإسلام، و الرصيد الأعظم للدعوة الإسلامية منذ بزوغ نورها، فهو القوّة الضاربة التي حمت الإسلام حينما هبّت طغاة قريش و عتاتهم لإطفاء نور اللّه و إخماد شعلة التوحيد، و من المؤكّد أنّه لو لا حماية أبي طالب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لما استطاع أن يبلّغ رسالة ربّه، و يقف بعزم و شموخ أمام تلك الوحوش الكاسرة مستهينا بها محتقرا لأصنامها ساخرا من تقاليدها و عاداتها، و نعرض - بإيجاز - إلى بعض مواقفه البطولية في نصرة الإسلام، و الذبّ عن حمى الرسول صلّى اللّه عليه و آله التي سجّلت له بمداد من النور و الفخر، و فيما يلي ذلك:

رعايته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

و عنى أبو طالب عناية بالغة بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قام بجميع خدماته و شئونه، و تولّى رعايته منذ نعومة أظفاره، فكان المربّي و الحارس له، فقد علم بما سيكون في مستقبل حياته من السمو و العظمة، و أنّه سيملأ الدنيا نورا و وعيا، و أنّه رسول ربّ العالمين، و خاتم المرسلين، و سيّد النبيّين، و قد أحاطه الكهّان علما بذلك، و حذّروه من فتك اليهود و اغتيالهم له، يقول الرواة: إنّ أبا طالب سافر للتجارة إلى الشام مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسارع إليه الراهب فقال له: إنّي أنصحك أن ترجع بابن أخيك من مكانك هذا و إن أدّى ذلك إلى ذهاب أموالك و خسارتك في تجارتك، فإنّي لا آمن

ص:25


1- الامتاع والمؤانسة ٢ : ٨١.

عليه من دسائس الشرك و مكائد اليهود؛ فإنّهم إن عرفوا الذي عرفته فلا يولّوا حتّى يلحقوا به الأذى، بل يغتالونه بكلّ نشاط و قوّة(1)، و قفل أبو طالب راجعا إلى مكّة، و لم يمض في تجارته إلى الشام حفظا لابن أخيه، و بلغ من رعايته له أنّه كان يصحبه معه في فراشه خوفا عليه(2)، كما كان ينقله في غلس الليل من مكان إلى مكان، و يمضي ليله ساهرا على حراسته لئلا يغتاله أحد.

حمايته للإسلام:

و لمّا أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعوته الخالدة الهادفة لتحرير الإنسان و إنقاذه من ظلمات الجهل و عبادة الأوثان هبّت قريش عن بكرة أبيها فزعة كأشدّ ما يكون الفزع له لإطفاء شعلة التوحيد.

لقد أوجدت الدعوة الإسلامية في المجتمع الجاهلي انقلابا فكريا و تحوّلا اجتماعيا مهيبا، فقد خافت قريش على مصالحها و تقاليدها، و خافت على نسائها و أبنائها من الانجراف بالشعارات و المبادئ التي أعلنها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لقد خافوا على آلهتهم و أصنامهم التي سخر منها النبيّ و دعا إلى تحطيمها و تدميرها، فورمت آنافهم، و انتفخ سحرهم، و أجمعوا اكتعين على مناجزته و إطفاء نور رسالته، إلاّ أنّ أبا طالب، بطل الإسلام وقف سدّا منيعا لحمايته، و كان يبعث النشاط و الحماس في نفس ابن أخيه لإشاعة مبادئه، و قد خاطبه بهذه الأبيات:

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة و ابشر بذاك و قرّ منك عيونا

و دعوتني و علمت أنّك ناصحي و لقد صدقت و كنت ثمّ أمينا

و لقد علمت بأنّ دين محمّد من خير أديان البريّة دينا

ص:26


1- سيرة ابن هشام ١ : ٩٠.
2- السيرة الحلبية ١ : ١٤٠.

و اللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتّى أوسّد في التّراب دفينا(1)

و حكت هذه الأبيات إيمانه العميق بالإسلام و وقوفه إلى جانب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حمايته لدعوته، و أنّ القوى المعادية له مهما بذلت من جهد فإنّها لن تستطيع أن تصدّه عن إشاعة مبادئه و تبليغ رسالة ربّه.

و قد صمّم أبو طالب على حماية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الذبّ عنه بجميع طاقاته، و قد خاطب القرشيّين قائلا:

كذبتم و بيت اللّه نخلي محمّدا و لمّا نطاعن دونه و نناضل

و ننصره حتّى نصرّع حوله و نذهل عن أبنائنا و الحلائل(2)

و معنى ذلك أنّه لا يخلي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا يترك قريشا تعتدي عليه، و سيدافع عنه حتّى يصرع هو و أهل بيته دونه.

لقد هام أبو طالب في ولائه للنبيّ، و ملك عواطفه و مشاعره، و هو القائل فيه:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

و قد وقع هذا البيت في نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله موقعا عظيما، و يقول الرواة: إنّ أهل المدينة أصابهم قحط شديد فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فصعد المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر ما خشي منه أهل المدينة من الغرق، فشكوا ذلك إلى

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: «اللّهمّ حوالينا و لا علينا»، فانجاب السحاب عن

ص:27


1- أسنى المطالب في نجاة أبي طالب : ٢٥.
2- المغازي _ الواقدي ١ : ٧٠.

المدينة و صار حواليها،

فقال النبيّ: «لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسرّه»، فالتفت الإمام عليه السّلام إلى النبيّ فقال له: «كأنّك أردت قوله:

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل»(1)

كما كان لهذا البيت وقع خاصّ عند الاسرة النبوية، فقد

أنشدته سيّدة نساء العالمين عليها السّلام في الساعات الأخيرة من حياة أبيها فقال لها أبوها بلطف: «هذا قول عمّي أبي طالب»، و تلا قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... الآية(2).

و على أي حال فقد خفّ جماعة من رؤساء قريش إلى أبي طالب و عرضوا عليه أن يسلّم لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لتصفيته جسديا و يعطوه عوض ذلك عمارة و هو من أنبل فتيان قريش، و من أصبحهم وجها، فسخر منهم أبو طالب و صاح بهم: «و اللّه ما أنصفتموني أيّها الحمقى، تبّا لكم و سحقا! أ تريدون منّي أن اعطيكم روحي و ولدي لتقتلوه، و تعطوني ابنكم اربّيه لكم! ما لكم كيف تحكمون، أ ترجون منّي أن أستبدل محمّدا بعمارة بن الوليد، فو الذي نفسي بيده لو أعطيتموني العالم كلّه لما استبدلته بظفر من رجل محمّد، فإليكم عنّي، لا تكلّموني، و إلاّ علوت رءوسكم بالسيف».

و انصرفوا خائبين خاسرين، قد خيّب آمالهم و سخر منهم أبو طالب و وقف بصلابة لحماية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. لقد وقف أبو طالب منافحا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لو لا حمايته له لما أبقى القرشيّون للنبيّ و لا لدعوته أيّ ظلّ.

ص:28


1- خزانة الأدب ٢ : ٦٩.
2- آل عمران : ١٤٤.
مع النبيّ في الشعب:

و ضاق القرشيّون ذرعا من دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و اشتدّ فزعهم منها، و زادهم أسى و حزنا إيمان بعض أبنائهم و غلمانهم و نسائهم و عبيدهم، و هم يسخرون بآلهتهم و يعيبون عليهم تقاليدهم و عاداتهم، و يحكمون بنجاستهم فأجمع رأي الطغاة و الرؤساء منهم على اعتقال النبيّ، و سائر بني هاشم و بني المطّلب، و حبسهم في شعب أبي طالب خارج مكّة، و كتبوا فيهم صحيفة سجّلوا فيها بنودا قاسية و علّقوها في جوف الكعبة، و هذه بعض موادها:

1 - حرمانهم من المواد الغذائية.

2 - منع الدخول عليهم.

3 - عدم الزواج منهم.

4 - منع ايصال الماء لهم.

5 - منع ايصال الفراش لهم.

6 - عدم فكّ الحصار عنهم، إلاّ أن يسلّموا لهم النبيّ.

7 - إقامة حرس على باب الشعب لمنع كلّ من يحاول الهرب منهم(1).

و وقّع على الصحيفة أبو سفيان، و أبو جهل، و العاص بن وائل، و أبو البختري، و أبو لهب، و عمرو بن العاص و غيرهم من طغاة القرشيّين، و علّقوا الصحيفة في جوف الكعبة.

و حاول مردة القرشيّين اغتيال النبيّ في الشعب، فخاف عليه أبو طالب فكان يقيم ولده الإمام أمير المؤمنين في مكانه، و استمر الحصار الظالم ثلاث سنين

ص:29


1- السيرة الحلبية ١ : ٣٧٤ _ ٣٧٥ وغيرها.

عجاف، و كانت السيّدة الزكية أمّ المؤمنين خديجة هي التي تمدّهم بما يحتاجونه من الطعام و الشراب و غير ذلك من النفقات حتى أنفقت عليهم جميع ما عندها من الثراء العريض حتى فرّج اللّه عنهم.

و بعث اللّه تعالى الأرضة على صحيفتهم فأتت عليها، و لم تترك منها كلمة سوى لفظ الجلالة، و أحاط النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عمّه أبا طالب علما بذلك فخرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع القرشيّون فقال لهم:

إنّ ابن أخي أخبرني أنّ اللّه أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحم و ظلم، و تركت اسم اللّه تعالى فأحضروها فإن كان صادقا علمتم أنّكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، و إن كان كاذبا علمنا أنّكم على حقّ و إنّا على باطل.

فانبروا مسرعين إلى الصحيفة فوجودها كما أخبر عنها أبو طالب و اشتدّت صولته، و خاطب قريش قائلا:

إنّكم أولى بالظلم و القطيعة، و قال في ذلك:

و قد كان في أمر الصّحيفة عبرة متى ما يخبّر غائب القوم يعجب

محا اللّه ذكراهم و أفنى عقوقهم و ما نقموا من ناطق الحقّ معرب

فأصبح ما قالوا من الأمر باطلا و من يختلق ما ليس بالحقّ يكذب(1)

و أفرج اللّه تعالى عن نبيّه و سائر من كان معه من الهاشميّين، فقد انبرى ابن اميّة إلى قريش فخطب فيهم خطابا بليغا، و طلب منهم فكّ الحصار عن الهاشميّين فردّه أبو جهل ردّا عنيفا إلاّ أنّ كوكبة من قريش انضمّوا إلى زهير و دعموا مقالته فاستجابت قريش لهم و رفعوا الحصار عن النبيّ و سائر من معه.

ص:30


1- الكامل في التاريخ _ ابن الأثير ٢ : ٣٣.
تبنّي أبي طالب الدعوة الإسلامية:

و قام أبو طالب بدور إيجابي و متميّز في الدعوة إلى الإسلام، و قد دعا ملك الحبشة إلى اعتناق الإسلام، و كتب له رسالة بذلك، و ختمها بهذه الأبيات:

أتعلم ملك الحبش أنّ محمّدا نبيّ كموسى و المسيح بن مريم

أتى بالهدى مثل الّذي في هداهما فكلّ بأمر اللّه يهدي و يعصم

و أنّكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث لا حديث التّراجم

فلا تجعلوا للّه ندّا و أسلموا فإنّ طريق الحقّ ليس بمظلم(1)

لقد كان أبو طالب داعية الإسلام و حاميه و الذابّ عنه، و كان يذيع فضائل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ينشر مناقبه و مآثره، و ممّا قال فيه:

ظهرت دلائل نوره فتزلزلت منها البسيطة و ازدهت أيّام

و هوت عروش الكفر عند ظهوره و بسيفه قد شيّد الإسلام

و أتاهم أمر عظيم فادح و تساقطت من حوله الأصنام

صلّى عليه اللّه خلاّق الورى ما أعقب الصّبح المضيء ظلام

و قال أيضا:

ألا يا بني فهر أفيقوا و لا تقم نوائح قتلاكم لتدعى بالتّندّم

على ما مضى من بغيكم و عقوقكم و إتيانكم في أمركم كلّ مأثم

و ظلم نبيّ جاء يدعو إلى الهدى و أمر أتى من عند ذي العرش قيّم

فلا تحسبونا مسلميه و مثله إذا كان في قوم فليس بمسلم

فهذي معاذير و تقدمة لكم لئلاّ تكون الحرب قبل التّقدّم(2)

ص:31


1- سيرة ابن هشام ١ : ٣٥٧. شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٣ : ٢٢٤.
2- إيمان أبي طالب : ١٨٩.

لقد كانت مواقف أبي طالب متميّزة بروح الإيمان، فقد اعتنق الإسلام و جاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد، و لو لاه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع شامخ الكيان، فما أعظم عائدته على الإسلام و المسلمين.

وصيّته الخالدة:

و أوصى أبو طالب عملاق الإسلام أبناءه و سائر أفراد اسرته بهذه الوصية التي حفلت بمكارم الأخلاق، و محاسن الآداب، و الولاء العارم لابن أخيه سيّد الكائنات صلّى اللّه عليه و آله، و هذه بعض بنودها:

«اوصيكم بتعظيم هذه البنية - يعني الكعبة المقدّسة - فإنّ فيها مرضاة الربّ، و قواما للمعاش، و ثباتا للوطأة، صلوا أرحامكم و لا تقطعوها؛ فإنّ صلة الرحم منسأة للأجل، و زيادة في العدد و اتركوا البغي و أعطوا السائل، و عليكم بصدق الحديث و أداء الأمانة، فإنّ فيها محبّة في الخاص و مكرمة في العام...».

و حكى هذا المقطع كلّ فضيلة يسمو بها الإنسان، و التي هي من صميم القيم الكريمة التي أعلنها الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و من بنود هذه الوصية حثّه للاسرة الهاشميّة و غيرها على الولاء و الاخلاص للرسول صلّى اللّه عليه و آله و مناصرته و الذبّ عنه قال: «و إنّي اوصيكم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله فإنّه الأمين في قريش، و الصديق في العرب، و هو الجامع لكلّ ما أوصيتكم به، و لقد جاءنا بأمر قبله الجنان و وعاه القلب. و أيم اللّه كأنّي أنظر إلى صعاليك العرب و أهل الأطراف، و المستضعفين من الناس، و قد أجابوا دعوته و صدّقوا كلمته، و عظّموا أمره، فخاض بهم غمار الموت، و صارت رؤساء قريش و صناديدها أذنابا، و دورها خرابا، و إذا بأعظمهم عليه أحوجهم إليه، و أبعدهم عنه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، و أعطته قيادتها، دونكم يا معشر قريش، دونكم

ص:32

ابن أخيكم كونوا له ولاة و لحزبه حماة، فو اللّه! لا يسلك أحد سبيل محمّد إلاّ رشد، و لا يأخذ به إلاّ سعد و لو كان لنفسي مدّة، و في أجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز، و لدفعت عنه الدواهي، غير أنّي أشهد بشهادته و اعظّم مقالته»(1).

حكت هذه الوصية إيمان أبي طالب بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اعتناقه للإسلام و تفانيه في الدفاع عنه.

لقد استشفّ هذا العملاق العظيم المستقبل الزاهر للإسلام، و أنّه سيؤمن به المستضعفون في الأرض، و أنّهم سيشكّلون قوّة ضاربة للدفاع عنه، و ستكون صناديد قريش و ساداتها أذلاّء صاغرين يستعطفون النبيّ و أصحابه، و يطلبون ودّهم، و لم تمض الأيام حتى تحقّق ذلك على مسرح الحياة، و إذا بجبابرة قريش أذلاّء صاغرون، و يقول الرواة: إنّ امرأة من المسلمين خطبها معاوية فجاءت إلى النبيّ و طلبت رأيه في ذلك، فنهاها عن الزواج به و قال لها: «إنّه صعلوك»(2).

و على أي حال فإنّ وصيّة أبي طالب حافلة بالقيم الكريمة و المثل العليا و الإيمان العميق بالإسلام.

في ذمّة الخلود:

و لاقى أبو طالب جهدا شاقّا و عسيرا في حمايته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و نصرته للإسلام، و كفاحه للقوى المعادية لابن أخيه، و قد تعرّض لأقسى ألوان المحن و الخطوب من طغاة القرشيّين و عتاتهم، و قد ألمّت به العلل و الأمراض و دنا منه الموت، و كان أهمّ ما يعانيه مصير الرسول صلّى اللّه عليه و آله من بعده، و ما ذا سيلاقيه من ذئاب قومه الذين تنكّروا لجميع القيم و الأعراف، فأخذ و هو على حافة الموت يوصي أبناءه و أفراد اسرته

ص:33


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٢ : ٢١٣. الدرجات الرفيعة : ٦١. أسنى المطالب : ٢٠. ثمرات الأوراق : ٢٩٤ ، وغيرها.
2- حياة الإمام الحسن ٢ : ١٥٠.

بنصرة الرسول و الوقوف إلى جانبه، و حمايته من كيد القرشيّين و بطشهم و أخذ المرض يزداد فيه حتى وافته المنيّة في شهر شوّال أو في ذي القعدة، و ذلك بعد خروج النبيّ من الشعب(1).

لقد انتقل هذا العملاق إلى حضيرة القدس بعد ما أدّى ما عليه من جهد في نصرة الإسلام و الذبّ عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا اذيع نبأ وفاته اهتزّت مكّة من هول الفاجعة، فتصدّعت القلوب، و غامت العيون كما فرح الطغاة و الجبابرة بموته.

و سارع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام فغسّل جسد أبيه الطاهر و أدرجه في أكفانه، و قد ذابت نفسه عليه حزنا و أسى، و هرعت الجماهير إلى دار أبي طالب فحملوا الجثمان المقدّس بمزيد من الحفاوة و التكريم، و واروه في مقرّه الأخير، و قد واروا معه الشرف و الإيمان.

لقد انطوت حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته للّه تعالى، فنصر الإسلام، و قاوم الشرك، و قارع الباطل، فسلام اللّه عليه، فما أعظم عائدته على الإسلام و المسلمين!

تأبين النبيّ له:

و وقف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على حافّة قبر عمّه، و هو واجم حزين، قد روى ثرى قبره بدموعه، و أخذ يصوغ من حزنه كلمات في تأبينه قائلا:

«وصلتك رحم يا عمّ، جزيت خيرا، فلقد ربّيت و كفلت صغيرا، و آزرت و نصرت كبيرا، أما و اللّه يا عمّ لأستغفرنّ لك، و أشفعنّ فيك شفاعة يعجب منها الثّقلان...»(2).

ص:34


1- الكامل في التاريخ _ ابن الأثير ٢ : ٣٤.
2- أبو طالب وبنوه : ١٠٣.

و بلغ من تأثّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و شدّة حزنه على عمّه أنّه سمّى العام الذي توفّي فيه «عام الحزن».

و قد فقد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المحامي و الناصر، و الركن الشديد الذي كان يأوي إليه، فقد استوحدته قريش و أجمعت على التنكيل به و قال: «ما نالت قريش شيئا أكرهه حتّى مات أبو طالب»(1). و قد بالغت قريش في إيذائه، فجعلوا ينثرون التراب على رأسه، و طرح بعضهم عليه رحم الشاة و هو يصلّي... إلى غير ذلك من صنوف الاعتداء عليه(2)، و قد أجمعوا على قتله، فخرج في غليس الليل البهيم بعد ما أحاطوا بداره ميمّما وجهه تجاه يثرب، و ترك أخاه و وصيّه الإمام في فراشه كما سنعرض لذلك في البحوث الآتية.

و على أي حال فأبو طالب حامي الإسلام و ناصره، و المساهم الأوّل في إقامة دعائمه، فله اليد البيضاء على كلّ مسلم و مسلمة، فما أعظم عائدته على الإسلام! و من سخف القول إنّ هذا المجاهد العظيم مات كافرا و لم يكن يدين بدين الإسلام، فإنّ هذا البهتان من صنع الأمويّين و العبّاسيّين الحاقدين على الاسرة النبوية، و ممّا يدعم زيف ذلك شدّة حزن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليه بعد وفاته و تسميته لعام موته بعام الحزن، فإنّه إذا كان كافرا كيف يحزن عليه؟ و كيف يترحّم عليه و يذكره بمزيد من التكريم و التعظيم؟ و كيف يأكل و يشرب في داره؟ و حكم الإسلام صريح واضح في نجاسة الكافر؟ و كيف يكون هذا المؤمن المجاهد في النار و ابنه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قسيم الجنّة و النار؟ إنّ من المآثر و الفضائل و الأوسمة الشريفة التي يتحلّى بها الإمام عليه السّلام أنّه نجل هذا المجاهد العظيم الذي حمى الإسلام في أيام محنته و غربته فجزاه اللّه عن

ص:35


1- الكامل ٢ : ٣٤.
2- الكامل ٢ : ٣٤.

الإسلام و أجزل له الأجر، و حشره مع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و حسن اولئك رفيقا.

و بهذا العرض الموجز عن جهاد أبي طالب في نصرة الإسلام و حمايته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله نطوي الحديث عنه، لنلتقي بالسيّدة الزكية فاطمة بنت أسد أمّ الإمام عليه السّلام.

4 - فاطمة بنت أسد أمّ الإمام عليه السّلام:

اشارة

أمّا أمّ الإمام عليه السّلام فهي السيّدة الزكية فاطمة بنت أسد، و هي من سيّدات عصرها في عفّتها و طهارتها و سموّ ذاتها، و هذا عرض لبعض شئونها:

سبقها إلى الإسلام:

كانت هذه السيّدة المعظّمة من السابقات لاعتناق الإسلام و بذلك فقد نالت الشرف العظيم، فقد أسلمت بعد عشرة أشخاص(1).

مبايعتها للنبيّ:

و هذه السيّدة الزكية أوّل امرأة بايعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله(2) حينما أخذ العهد على السيّدات بالعفّة و الطهارة و اجتناب المنكر.

رعايتها للنبيّ:

و قامت هذه السيّدة الطاهرة بدور مهمّ في خدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كانت تفضّله في الرعاية و الحنان على أولادها، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يكرمها و يعظّمها و يدعوها امّه(3).

روايتها للحديث:

و عدّها علماء الحديث من رواة الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقد رووا عنها

ص:36


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ١٤.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

(46) حديثا، و قد أخرج لها في الصحيحين حديث واحد متّفق عليه(1).

إقامتها في بيت الإمام:

و لازمت هذه السيّدة الطاهرة ولدها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و لم تقم مع بقيّة أبنائها، و لمّا تزوّج الإمام عليه السّلام بسيّدة نساء العالمين زهراء الرسول صلّى اللّه عليه و آله قال الإمام لامّه:

«اكفي فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سقاية الماء و الذّهاب في الحاجة، و تكفيك في داخل البيت الطّحن و العجين».

وفاتها:

ألمّت الأمراض بهذه السيّدة المعظّمة فكانت زهراء الرسول تقوم برعايتها و شئونها حتى انتقلت إلى حضيرة القدس، فقام ولدها الإمام عليه السّلام بتجهيزها، و أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بوفاتها فحزن عليها حزنا عميقا، و أمر عليّا بتكفينها في قميصه، و لمّا انتهى تجهيزها شيّعها النبيّ و حفروا لها قبرا فاضطجع فيه، و جزّاها الخير و دعا لها بالرحمة و الرضوان، و ذلك لما أسدت عليه من البرّ و الإحسان،

و قيل للنبيّ: ما رأيناك صنعت بأحد كما صنعت بهذه؟ فقال:

«لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنّة، و اضطجعت في قبرها ليهوّن عليها»(2).

ص:37


1- أعلام النساء ٣ : ١١٣.
2- اسد الغابة ٥ : ٥١٠. الاستيعاب ( المطبوع على هامش الإصابة ) ٤ : ٢٦٩. شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ١٤. معرفة الصحابة ١ : ٢٧٩.

أ رأيتم كيف قابل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذه السيّدة المعظّمة بمزيد من التكريم و التعظيم! لقد آمنت هذه الفاضلة باللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و بذلت قصارى جهودها في خدمته، و حسبها فخرا و شرفا و سموّا أنّها أمّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و ممّا لا ريب في أنّ الإمام ورث فضائلها و سجاياها، كما ورث فضائل آبائه الذين سادوا العرب بمكارمهم و مآثرهم، و بهذا نطوي الحديث عن نسبه الوضّاح.

ص:38

وليد الكعبة

اشارة

ص:39

ص:40

الشيء المحقّق الذي اتّفق عليه المؤرّخون و الرواة هو أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قد ولد في الكعبة المقدّسة(1) و لم يولد بها أحد سواه، و كان ذلك من آيات سموّه و عظيم مكانته عند اللّه تعالى، فقد اختار لولادته أفضل مكان في الأرض و هو البيت المعظّم. قال شهاب الدين السيّد محمود الآلوسي في شرحه لقول عبد الباقي العمري:

أنت العليّ الّذي فوق العلى رفعا ببطن مكّة عند البيت إذ وضعا

قال: و كون الأمير كرّم اللّه وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا، و ذكر في كتب الفريقين: السنّة و الشيعة... و لم يشتهر وضع غيره كرّم اللّه وجهه به كما اشتهر وضعه، بل لم تتّفق الكلمة إلاّ عليه، و ما أحرى بإمام الامّة أن يكون وضعه فيما هو

ص:41


1- مستدرك الحاكم ٣ : ٤٨٣ ، قال الحاكم : « وتواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في الكعبة ». وذكر ذلك كلّ من المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٢. ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمّة : ١٤. محمّد بن طلحة الشافعي في مطالب السئول : ١١. السبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ٧. والشنقيطي في كفاية الطالب : ٣٧. الشبلنجي في نور الأبصار : ٧٦. عبد الرحمن الصفوري الشافعي في نزهة المجالس ٢ : ٢٠٤. الشيخ علي القاوي الحنفي في شرح الشفاء ١ : ١٥١. علي الحلبي الشافعي في السيرة النبوية ١ : ١٥٠. والبردواني في روائح المصطفى : ١٠. علاء الدين الكتواري في محاضرة الأوائل : ١٢٠. عبد الحقّ الدهلوي في غاية الاختصار : ٩٧. العقّاد في عبقرية الإمام : ٣٨.

قبلة للمؤمنين، و سبحان من يضع الأشياء في موضعها و هو أحكم الحاكمين»(1).

كيفيّة ولادته:

وصف الرواة كيفيّة ولادة إمام المتّقين فقالوا: إنّ والدته السيّدة الزكية فاطمة لمّا أحسّت بالطلق نهضت و هي مبهورة الأنفاس، فاتّجهت صوب الكعبة المقدّسة، و هي على يقين لا يخامره شكّ أن لحملها شأنا كبيرا عند اللّه تعالى، و لمّا مثلت أمام الكعبة اتّجهت بعواطفها نحو اللّه تعالى، و أخذت تناجيه و تدعوه أن ييسّر لها ولادتها، و تعلّقت بأستار الكعبة قائلة:

«ربّ إنّي مؤمنة بك و بما جاء من عندك من رسل و كتب، و إنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل... و انّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت و بحقّ المولود الذي في بطني لمّا يسّرت عليّ ولادتي...»(2).

و حكت هذه الكلمات إيمانها العميق باللّه تعالى و برسله و كتبه و بما جاء من عنده، و أنّها لم تؤمن بالأوثان و الأصنام التي لوّثت جدران الكعبة التي أقامها القرشيّون يعبدونها من دون اللّه تعالى، و قد اتّجهت بعواطفها نحو اللّه تعالى ليسهّل لها ولادة مولودها العظيم.

و ما انتهت السيّدة فاطمة من دعائها حتى انشقّ لها جدار البيت المعظّم فدخلت فيه و قلبها مطمئن بذكر اللّه تعالى و بعظمة وليدها الذي ستضيء الدنيا به.

مشرق النور:

و لم تمكث السيّدة فاطمة في حرم البيت المعظّم إلاّ زمنا قليلا حتى وضعت

ص:42


1- شرح الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية : ١٥.
2- بحار الأنوار ٣٥ : ٨.

وليدها المبارك حجّة اللّه في أرضه الذي طوّق الدنيا بمواهبه و عبقرياته.

وليدها المبارك حجّة اللّه في أرضه الذي طوّق الدنيا بمواهبه و عبقرياته.

لقد ولد هذا العملاق العظيم في أقدس بيت من بيوت اللّه ليضيء رحابه و يرفع فيه شعلة التوحيد و الإيمان.

لقد ولد أخو النبيّ المصطفى، و باب مدينة علمه، و ناصر دينه، و حامي رسالته.

لقد ولد أبو الغرباء، و أخو الفقراء، و ملاذ المنكوبين، و صديق المحرومين.

لقد ولد هذا الإمام العظيم الذي غيّر بكفاحه و نضال ابن عمّه مجرى التأريخ و أقاما كلمة العدل و الحقّ في الأرض.

مع الشعراء:

اشارة

و انبرت كوكبة من الشعراء من قدامى و محدّثين إلى نظم ولادة الإمام في بيت اللّه الحرام، كان منهم:

1 - السيّد الحميري:

أمّا السيّد الحميري فهو من أعلام الفكر الشيعي الذي هام بحبّ أهل البيت عليهم السّلام و نظم ببليغ نظمه مآثرهم و مناقبهم، قال في ولادة الإمام عليه السّلام في الكعبة:

ولدته في حرم الإله و أمنه و البيت حيث فناؤه و المسجد

بيضاء طاهرة الثّياب كريمة طابت و طاب وليدها و المولد

في ليلة غابت نحوس نجومها و بدت مع القمر المنير الأسعد

و السيّد الحميري قريب من عصر الإمام عليه السّلام فقد نظم هذه المأثرة التي شاعت في عصره، و قد حكت هذه الأبيات الثناء العاطر على أمّ الإمام و أنّها كريمة الأصل طاهرة الذيل، و أنّها ولدت الإمام في ليلة لا نحس فيها.

ص:43

2 - بولس سلامة:

عرض الشاعر الملهم المسيحي بولس سلامة في ملحمته الرائعة في أهل البيت إلى ولادة الإمام في أعزّ بيت من بيوت اللّه تعالى، قائلا:

صبرت فاطم على الضّيم حتّى لهث اللّيل لهثة المكدود

و إذا نجمة من الافق خفّت تطعن اللّيل بالشّعاع الجديد

و تدانت من الحطيم و قرّت و تدلّت تدلّي العنقود

تسكب الضّوء في الأثير دفيقا فعلى الأرض وابل من سعود

و استفاق الحمام يسجع سجعا فتهشّ الأركان للتّغريد

بسم المسجد الحرام حبورا و تنادت حجاره للنّشيد

كان فجران: ذلك اليوم فجر لنهار و آخر للوليد(1)

3 - منعم الفرطوسي:

أمّا شاعر أهل البيت العلاّمة الزكي الشيخ عبد المنعم الفرطوسي فقد كان من أعلام الشعراء، و قد وهب حياته و فكره للأئمّة الطاهرين، و قد نظم في ملحمته الكثير من مناقبهم و فضائلهم، و هي أهمّ موسوعة شعرية في الأئمّة عليهم السّلام، قال فيما يخصّ ولادة الإمام بالبيت الحرام:

قبسات من الهداية شقّت ظلمات العمى بصبح مضاء

و لواء التّوحيد رفّ فلفّت عذبات الإلحاد و الكبرياء

و يقين أهاب بالشّكّ حتّى أذهب الرّيب من ضمير الرّياء

نفحات من الإمامة أوحت بشذاها شمائل الأنبياء

حملتها أمانة و رعتها حين أدّت ما عندها بوفاء

ص:44


1- ديوان بولس سلامة : ٤٨.

خير أمّ عذراء قدسا و طهرا هي أسمى قدرا من العذراء

وضعتها في حيث أزكى مكان فتجلّت كالدّرّة البيضاء

حين شقّ البيت الحرام جلالا يوم ميلاد سيّد الأوصياء

فأقامت فيه ثلاثا بأمن و ثمار الجنان خير غذاء

و قريش في حيرة تتقرّى غامض السّرّ في ضمير الخفاء

و إذا بالفضاء يزهو بهاء من محيّا مبارك وضّاء

و عليّ كالبدر يشرق نورا و هي بشر تضيء كالجوزاء

حملته كالذّكر بين يديها حين وافت لسيّد البطحاء

فتجلّى و الحقّ فجر مبين دامغا كلّ باطل و افتراء

و يقينا يمحو الظّنون و تمحو آية النّور آية الظّلماء(1)

تسمية امّه له:

و بهرت السيّدة فاطمة بمنظر وليدها العظيم، فقد رأت الفروسية بادية عليه، و الشجاعة ماثلة فيه، و رأت سلامة جسده فسمّته حيدرة، و هو من أسماء الأسد، و كان الإمام كما سمّته امّه بالأسد، فقد كان أسد اللّه و أسد رسوله، و هو الذي حصد بسيفه رءوس شجعان العرب في سبيل الإسلام، و كان عليه السّلام يعتزّ بهذه التسمية، و خاطب فارس العرب عمرو بن عبد ودّ حين نازله في ميدان الحرب فقال له:

«أنا الّذي سمّتني امّي حيدره كليث غابات شديد قسوره»

و لم يلبث أن أطاح برأس عمرو، و كان ذلك من الانتصارات الباهرة التي أحرزها الإسلام.

و يقول الشاعر الملهم بولس سلامة:

ص:45


1- ملحمة الفرطوسي ٢ : ٧ _ ٨.

هالت الامّ صرخة جال فيها بعض شيء من همهمات الاسود

دعت الشّبل حيدرا و تمنّت و أكبّت على الرّجاء المديد

أسدا سمّت ابنها كأبيها لبدة الجدّ اهديت للحفيد(1)

تسمية أبي طالب له:

أمّا أبوه شيخ البطحاء و مؤمن قريش فإنّه دخل الكعبة المقدّسة و ناجى اللّه تعالى بإخلاص أن يلهمه تسمية وليده المبارك قائلا:

يا ربّ هذا الغسق الدّجى و القمر المنبلج المضيّ

بيّن لنا من أمرك الخفيّ ما ذا ترى في اسم ذا الصّبيّ

فألهمه اللّه تعالى أن يسمّيه عليّا، فخرج من البيت الحرام و هو ينشد أمام قريش:

سمّيته بعليّ كي يدوم له عزّ العلوّ و فخر العزّ أدومه

لقد كان هذا الاسم المبارك الذي سمّته به السماء من أحسن الأسماء و أجملها، فقد كان الإمام عاليا في مواهبه و عبقرياته، و عاليا في إيمانه و سموّ أخلاقه، و عاليا فيما وهبه اللّه من طاقات الفضل و الأدب و الكمال. يقول عبد الباقي العمري:

أنت العليّ الّذي فوق العلى رفعا ببطن مكّة عند البيت إذ وضعا

سمّتك امّك بنت اللّيث حيدرة أكرم بلبوة ليث أنجبت سبعا(2)

ص:46


1- ديوان بولس سلامة : ٤٨.
2- ديوان عبد الباقي العمري : ٩٦.

سنة ولادته:

ولد أمير البيان و رائد العدالة الإسلامية الإمام عليه السّلام في يوم الجمعة الثالث عشر من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة(1) و بالحساب الميلادي كانت ولادته سنة (600 م)، و قد ولد قبل البعثة النبوية باثنتي عشرة سنة، و قيل أقلّ من ذلك.

ألقابه:

اشارة

أمّا الألقاب التي تضفى على الشخص فإنّها تحكي صفاته و نزعاته. يقول الشاعر:

و قلّما أبصرت عيناك من رجل إلاّ و معناه إن فكّرت في لقبه

و ألقاب الإمام عليه السّلام تشير إلى بعض محاسن صفاته، و هي:

1 - الصدّيق:

لقّبه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك(2)، و إنّما لقّب به لأنّه صدّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و آمن بجميع ما جاء به من عند اللّه تعالى، و قد أسلم قبل أن يسلم غيره، قال عليه السّلام:

«أنا الصّدّيق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، و أسلمت قبل أن يسلم»(3). و قد اشتهر هذا اللقب في عصره و عرف به. يقول الصحابي الكبير مالك الأشتر مخاطبا الإمام عليه السّلام: «أنت الصدّيق الأكبر». أجل و اللّه إنّه الصدّيق الأكبر الذي لا يضارعه أحد من المسلمين في ذلك.

2 - الوصي:

اشارة

من الألقاب الكريمة التي عرف بها الإمام عليه السّلام «الوصي» أي وصي

ص:47


1- مناقب آل أبي طالب ٣ : ٩٠ ، وفي تاريخ الخميس أنّه ولد بعد عام الفيل بسبع سنين.
2- تأريخ الخميس ٢ : ٢٧٥.
3- المعارف : ٧٣. الذخائر : ٥٨. الرياض ٢ : ٢٥٧.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد أضفاه عليه الرسول، فقد منحه ذلك في كوكبة من الأحاديث كان منها: -

قال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: «هذا وصيّي، و موضع سرّي، و خير من أترك بعدي»(1).

-

قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ وصيّي، و موضع سرّي، و خير من أترك بعدي، و ينجز عدتي، و يقضي ديني، عليّ بن أبي طالب»(2).

-

سأل سلمان الفارسي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: من وصيّك؟ فقال له:

«يا سلمان، من كان وصيّ موسى؟»، قال: يوشع بن نون، قال: «فإنّ وصيّي و وارثي، يقضي ديني، و ينجز موعدي، عليّ بن أبي طالب»(3).

لقد شاع هذا اللقب للإمام بين العامّة و الخاصّة، و استمدّوا ذلك من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

مع الشعراء:
اشارة

و انتشر هذا اللقب في جميع العصور الإسلامية، و نظمه الشعراء من قدامى و محدثين، و لنستمع إليهم:

1 - خزيمة بن ثابت:

أمّا خزيمة فهو من ألمع أصحاب الإمام و أكثرهم ولاء له، و كان من قادة جيشه في حرب الجمل، خاطب الإمام بقوله:

يا وصيّ النّبيّ قد أجلت الحر ب لنا و سادت الأضغان

ص:48


1- تهذيب التهذيب ٣ : ١٠٦.
2- كنز العمّال ٦ : ١٥٤.
3- الرياض النضرة ٢ : ١٧٨.

و قد نقم على عائشة و أنكر عليها خروجها لحرب الإمام قائلا لها:

أ عائش خلّي عن عليّ و عيبه بما ليس فيه إنّما أنت والده

وصيّ رسول اللّه من دون أهله و أنت على ما كان من ذاك شاهده

إنّ خزيمة بن ثابت من أوثق الصحابة، و من أكثرهم تحرّجا في دينه، و أنّه على بيّنة أنّ الإمام عليه السّلام وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خليفته من بعده على امّته.

2 - عبد الرحمن الجمحي:

و لمّا بويع الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بالخلافة انبرى عبد الرحمن يهنّئ المسلمين ببيعته قائلا:

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة على الدّين معروف العفاف موفّقا

عليّ وصيّ المصطفى و وزيره و أوّل من صلّى لذي العرش و اتّقى

لقد كان لقب الوصيّ من أشهر ألقاب الإمام و أكثرها ذيوعا بين الناس.

3 - جرير بن عبد اللّه البجليّ:

أمّا جرير بن عبد اللّه البجليّ فهو من أفذاذ أصحاب الإمام عليه السّلام، و قد أنكر على شرحبيل بن السمط الكنديّ انضمامه إلى معاوية و مناجزته للإمام، و قد أرسل له أبياتا من الشعر عاب فيها حربه للإمام كان منها هذا البيت الذي نظم فيه «الوصاية»:

وصيّ رسول اللّه من دون أهله و فارسه الحامي به يضرب المثل

4 - سعيد بن قيس:

و سعيد بن قيس من طلائع أصحاب الإمام، و من أكثرهم ولاء له، و كان معه في حرب الجمل الذي قادته عائشة بنت أبي بكر لإسقاط حكومة الإمام عليه السّلام، و قال سعيد في وصف الحرب و ضراوتها، و قد نظم لفظ الوصيّ قال:

ص:49

أيّة حرب أضرمت نيرانها و كسّرت يوم الوغى مرّانها؟(1)

قل للوصيّ أقبلت قحطانها فادع بها تكفيكهم همدانها

هم بنو هاشم و هم إخوانها

5 - حجر بن عدي:

كان حجر بن عدي من خيار صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و من أكثرهم ولاء لوصيّه و باب مدينة علمه الإمام عليه السّلام و قد استشهد في سبيل ولائه له، قتله معاوية بن هند، و كانت شهادته من الأحداث الجسام في ذلك العصر.

و كان حجر من قادة جيش الإمام في حرب الجمل، و هو القائل:

يا ربّنا سلّم لنا عليّا سلّم لنا المبارك المضيّا

المؤمن الموحّد التّقيّا لا خطل الرّأي و لا غويّا

بل هاديا موفّقا مهديا و احفظه ربّي و احفظ النّبيّا

فيه فقد كان له وليّا ثمّ ارتضاه بعده وصيّا

6 - النعمان بن عجلان:

كان النعمان بن عجلان مع الإمام في معركة صفّين، فقال محرّضا لجيش الإمام على حرب معاوية:

كيف التّفرّق و الوصيّ إمامنا لا كيف إلاّ حيرة و تخاذلا

فذروا معاوية الغويّ و تابعوا دين الوصيّ لتحمدوه آجلا

7 - أبو الأسود الدؤلي:

و نظم العالم الكبير أبو الأسود الدؤلي تلميذ الإمام لفظة الوصيّ بهذا البيت:

ص:50


1- مرّانها : رماحها.

احبّ محمّدا حبّا شديدا و عبّاسا و حمزة و الوصيّا

8 - الفضل بن العباس:

قال الفضل بن العباس في مدحه للإمام عليه السّلام:

إلا إنّ خير النّاس بعد محمّد وصيّ النّبيّ المصطفى عند ذي الذّكر

و أوّل من صلّى و صنو نبيّه و أوّل من أردى الغواة لدى بدر

9 - حسّان بن ثابت:

نظم حسّان بن ثابت أبياتا في مدح الإمام عليه السّلام ذكر فيها لفظ الوصيّ:

حفظت رسول اللّه فينا و عهده إليك و من أولى به منك من و من؟

أ لست أخاه في الهدى و وصيّه و أعلم فهر بالكتاب و بالسّنن؟

10 - الكميت:

أمّا الكميت الأسدي فهو من طلائع الفكر الإسلامي، و تعدّ هاشميّاته من ذخائر الأدب العربي، و قد صوّر فيها - بصدق - حقيقة أهل البيت عليهم السّلام و ما عانى شيعتهم من المحن و الخطوب. قال في مدح الإمام:

و الوصيّ الّذي أمال التّجوبي به عرش أمّة لانهدام

كان أهل العفاف و المجد و الخي ر و نقض الامور و الإبرام

11 - المتنبّي:

أمّا المتنبّي فهو شاعر الحياة على امتداد التأريخ، و لم يؤثر عنه - فيما نعلم - مدح للإمام سوى هذين البيتين، و قد ذكر فيهما لفظ الوصيّ:

و تركت مدحي للوصيّ تعمّدا إذ كان نورا مستطيلا شاملا

و إذا استطال الشّيء قام بذاته و صفات ضوء الشّمس تذهب باطلا

12 - أبو تمام الطائي:

أمّا أبو تمام الطائي فهو من ألمع شعراء العربية في العصر العبّاسي، قال في

ص:51

مدحه للإمام، و قد ذكر لفظ الوصيّ:

و من قبله أحلفتم لوصيّه بداهية دهياء ليس لها قدر

فجئتم بها بكرا عوانا و لم يكن لها قبلها مثلا عوان و لا بكر

أخوه إذا عدّ الفخار و صهره فلا مثله أخ، و لا مثله صهر

و شدّ به أزر النّبيّ محمّد كما شدّ من موسى بهارونه الأزر

13 - دعبل الخزاعي:

أمّا دعبل الخزاعي فقد وهب حياته لآل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ناضل في سبيلهم كأشدّ و أقسى ما يكون النضال، لقد نشر مآثرهم في العصر العباسي الذي تنكّر للسادة العلويّين و طاردهم تحت كلّ حجر و مدر، و كان من نظمه في الإمام عليه السّلام مع ذكر الوصيّ بهذه الأبيات:

سلام بالغداة و بالعشيّ على جدث بأكناف الغريّ

و لا زالت عزالي النّوء تزجي إليه صبابة المزن الرّويّ(1)

ألا يا حبّذا ترب بنجد و قبر ضمّ أوصال الوصيّ

وصيّ محمّد بأبي و امّي و أكرم من مشى بعد النّبيّ

و قال في رثاء أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السّلام و قد ذكر لفظ الوصيّ:

رأس ابن بنت محمّد و وصيّه يا للرّجال على قناة يرفع!

هذه شذرات ممّا نظمه أعلام الشعر العربي في مدح الإمام عليه السّلام، و قد حفلت بذكر الوصيّ الذي هو من أكثر ألقابه شيوعا و انتشارا.

3 - الفاروق:

لقّب الإمام عليه السّلام بالفاروق لأنّه يفرق بين الحقّ و الباطل، و قد اقتبس هذا اللقب

ص:52


1- عزالي النوء : الغيوم الممطرة.

من الأحاديث النبوية التي أضفت عليه ذلك، و هذه بعضها:

-

روى أبو ذرّ و سلمان أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخذ بيد عليّ عليه السّلام و قال: «إنّ هذا أوّل من آمن بي، و هذا أوّل من يصافحني يوم القيامة، و هذا الصّدّيق الأكبر، و هذا فاروق هذه الامّة يفرق بين الحقّ و الباطل»(1).

-

روى الصحابي الجليل أبو ذرّ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعليّ: «أنت الصّدّيق الأكبر، و أنت الفاروق الّذي تفرق بين الحقّ و الباطل»(2).

-

روى أبو ليلى الغفاري قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فألزموا عليّ بن أبي طالب فإنّه أوّل من آمن بي، و أوّل من يصافحني يوم القيامة، و هو الصّدّيق الأكبر، و هو فاروق هذه الامّة»(3).

4 - يعسوب الدين:

اليعسوب في اللغة فحل النحل، ثمّ اطلق على السيّد الشريف في قومه، و هو من ألقاب الإمام عليه السّلام،

لقّبه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، فقد قال له: «هذا - و أشار إلى الإمام - يعسوب المؤمنين، و المال يعسوب الظّالمين»(4).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «عليّ يعسوب المؤمنين». و روى أبو سعد قال: دخلت على عليّ عليه السّلام و بين يديه ذهب فقال: «أنا يعسوب المؤمنين، و هذا - أي الذهب - يعسوب المنافقين»، ثمّ قال: «بي يلوذ المؤمنون، و بهذا يلوذ المنافقون»(5).

ص:53


1- مجمع الزوائد ٩ : ١٠٢. فيض القدير ٤ : ٣٥٨. كنز العمّال ٦ : ١٥٦. فضائل الصحابة ١ : ٢٩٦.
2- الرياض النضرة ٢ : ٦٥٥.
3- الاصابة ٧ : ١٦٧. اسد الغابة ٥ : ٢٨٧. الاستيعاب ٢ : ٦٥٧.
4- مجمع الزوائد ٩ : ١٠٢.
5- كنز العمّال ٦ : ٣٩٤. الصواعق المحرقة : ٧٥. وفي تأريخ الخميس ٢ : ٣٧٥ : « أنّ الإمام كان يلقّب بيعسوب الأئمّة ».

5 - الوليّ:

من الألقاب الرفيعة التي تقلّدها الإمام عليه السّلام (الوليّ)، و قد منحته السماء هذا الوسام العظيم، قال تعالى:

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ(1).

نزلت الآية الكريمة في حقّ الإمام عليه السّلام حينما تصدّق بخاتمه على المسكين، و قد حصرت الآية الولاية العامّة على الناس في اللّه تعالى و رسوله و الإمام، و عبّرت عنه بصيغة الجمع، و هي: وَ الَّذِينَ آمَنُوا دون المفرد؛ تعظيما لشأنه و إكبارا لسموّ منزلته.

و ممّا يزيد في أهمّية هذا الحصر و تأكيده اسمية الجملة و هي أبلغ في التأكيد من الجملة الفعلية، بالإضافة إلى حصرها بكلمة «إنّما» التي هي من أدوات الحصر، و قد أضفى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا اللقب بكوكبة من الأحاديث و هذه بعضها:

-

روى ابن عبّاس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي»(2).

-

روى الخطيب البغدادي بسنده عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «سألت اللّه فيك خمسا فأعطاني أربعا و منعني واحدة؛ سألته فأعطاني فيك أوّل من تنشق الأرض عنه يوم القيامة، و أنت معي، معك لواء الحمد و أنت تحمله، و أعطاني أنّك وليّ المؤمنين بعدي...» الحديث(3).

-

روى النسائي بسنده أنّ قوما شكوا عليّا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فتألّم، و الغضب

ص:54


1- المائدة : ٥٥.
2- سنن أبي داود ١ : ٣٦٠.
3- تاريخ بغداد ٤ : ٣٣٩.

يبصر في وجهه، و قال: «ما تريدون من عليّ؟ إنّ عليّا منّي و أنا منه، و هو وليّ كلّ مؤمن من بعدي»(1).

و المتأمّل في هذه الأحاديث يتجلّى له الأمر بوضوح أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أقام الإمام من بعده خليفة و وليّا على امّته، فإنّ معنى الوليّ هو: مالك الأمر و المتصرّف في شئون من يتولّى عليه.

6 - أمير المؤمنين:

من الألقاب الشائعة للإمام عليه السّلام (أمير المؤمنين) حتّى أنّه إذا اطلق فلا ينصرف إلى سوى الإمام، يقول الدكتور زكي مبارك:

«أمير المؤمنين هو اللقب الاصطلاحي لعليّ بن أبي طالب، فإن رأى القارئ في كتاب قديم من غير نصّ على اسم فليعرف أنّ المراد هو عليّ بن أبي طالب»(2)، و قد أفضى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا اللقب عليه.

روى أبو نعيم بسنده عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا أنس، اسكب لي و ضوءا»، ثمّ قام فصلّى ركعتين، ثمّ قال: «يا أنس، أوّل من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين، و سيّد المسلمين، و قائد الغرّ المحجّلين، و خاتم الوصيّين»، قال أنس: قلت: اللّهمّ اجعله رجلا من الأنصار و كتمته، إذ جاء عليّ عليه السّلام، فقال:

«من هذا يا أنس؟» فقلت: عليّ، فقام مستبشرا فاعتنقه ثمّ جعل عرق وجهه بوجهه و يمسح عرق عليّ بوجهه، قال علي: «يا رسول اللّه، لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعت بي من قبل»، قال: «و ما يمنعني و أنت تؤدّي عنّي؟ و تسمعهم

ص:55


1- خصائص النسائي : ١٩. الرياض النضرة ٢ : ١٧١. كنز العمّال ٦ : ١٩٤. معرفة الصحابة ١ : ٢٩٦.
2- عبقرية الشريف الرضي ٢ : ٢٢٨.

صوتي، و تبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي»(1).

حكت هذه الرواية سموّ منزلة الإمام عليه السّلام و عظيم شأنه عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنّه لم يحظ بمثل ذلك أحد سواه.

7 - الأمين:

من ألقاب الإمام عليه السّلام (الأمين) لقّب بذلك لأنّه كان أمينا على امور الدين و أسرار خاتم المرسلين،

و قد منحه هذا اللقب الرسول صلّى اللّه عليه و آله فقد قال له:

«يا عليّ، أنت صفيّي و أميني»(2).

8 - الهادي:

من ألقاب الإمام عليه السّلام (الهادي)، فقد كان هاديا للمسلمين و مرشدا للمتّقين و وليّا للمؤمنين، و قد اقتبس هذا اللقب من

قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«أنا المنذر و عليّ الهادي، و بك يهتدي المهتدون»(3).

9 - الاذن الواعية:

من الألقاب الكريمة للإمام عليه السّلام (الاذن الواعية)، فقد كان عليه السّلام اذنا واعية لجميع ما انزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قد

قال له النبيّ حينما نزلت عليه الآية وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ :

«سألت ربّي أن يجعلها اذنك يا عليّ»، فقال عليّ: «فما نسيت شيئا بعد،

ص:56


1- حلية الأولياء ١ : ٦٣.
2- ذخائر العقبى : ٥٧. تأريخ الخميس ٢ : ٣٧٥.
3- مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٩. كنز العمّال ٦ : ١٥٧. وجاء هذا المعنى في ذيل تفسير الآية : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) من سورة الرعد. تفسير الطبري ١٣ : ٧٢. تفسير الحقائق : ٤٢ ، وكذلك ذكره الفخر الرازي.

و ما كان لي أن أنسى»(1).

10 - المرتضى:

من ألقابه الكريمة (المرتضى) لقّب بذلك لأنّ اللّه ارتضاه وصيّا للنبيّ و خليفة له من بعده، أو لأنّ اللّه تعالى ارتضاه لسيّدة النساء زهراء الرسول زوجا(2).

11 - الأنزع البطين:

لقّب الإمام بذلك لأنّه كان ذا صلعة ليس في رأسه شعر إلاّ من خلفه، و كان عظيم البطن و لكن بلا بطنة. يقول الجواهري في جوهرته التي رثى بها أبا الأحرار الإمام الحسين عليه السّلام:

فيا بن البطين بلا بطنة و يا ابن الفتى الحاسر الأنزع(3)

سأل رجل عبد اللّه بن عباس حبر الامّة، فقال له: اخبرني عن الأنزع البطين فقد اختلف الناس فيه؟ فأجابه ابن عبّاس: أيّها الرجل، و اللّه لقد سألت عن رجل ما وطئ الحصى بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل منه، و إنّه لأخو رسول اللّه، و ابن عمّه و وصيّه و خليفته على امّته، و انّه الأنزع من الشرك، بطين من العلم، و لقد سمعت رسول اللّه يقول: «من أراد النّجاة غدا فليأخذ بحجزة هذا الأنزع - يعني الإمام»(4).

12 - الشريف:

أمّا الإمام فهو من أشرف الناس بحسبه و مثله و ورعه و تقواه، و قد آمن بذلك

ص:57


1- تفسير الطبري ٢٩ : ٣٥. الكشّاف ٤ : ٦٠٠ في تفسير الآية ١٣ من سورة الحاقّة. كنز العمّال ٦ : ١٠٨. الدرّ المنثور ٨ : ٢٦٧.
2- ذخائر العقبى : ٣٢. كنز العمال ٦ : ١٥٢.
3- ديوان الجواهري ٣ : ٢٣٥.
4- حياة أمير المؤمنين : ٤٥.

أعداؤه و خصومه، فقد روى المؤرّخون أنّ الجيش العباسي لمّا أحاط بمروان آخر ملوك الأمويّين قال لبعض وزرائه: إنّ هذا الجيش - أي الجيش العباسي - بحاجة لعليّ، فأنكر عليه ذلك، و قال له: إنّ عليّا جيش بذاته، فقال له مروان: لقد عزب عنك ما أردته، إنّ هذا الجيش بحاجة لعليّ في شرفه و نبله، فإنّه إذا استولى علينا يستأصل نساءنا و أطفالنا و شيوخنا، و لا يتركون منّا نافخ رماد، و إذا كان عليّ قائدا للجيش فإنّه لا يعمل ذلك معنا يصدّه شرفه و نبله عن اقتراف ذلك. و صدق مروان في تفرّسه فإنّ العبّاسيّين حينما استولوا على الحكم استأصلوا شأفة الأمويّين، و مثّلوا حتّى بأمواتهم(1).

13 - بيضة البلد:

من ألقابه الكريمة (بيضة البلد) كما كان أبوه بيضة مكّة و مصدر عزّها و شرفها(2).

14 - خير البشر:

لقّبه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله (خير البشر)، و قد ورد ذلك في كوكبة من الأحاديث هذه بعضها:

-

روى الخطيب البغدادي بسنده عن جابر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«عليّ خير البشر فمن امترى(3) فقد كفر»(4).

-

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «عليّ خير البشر من شكّ فيه كفر»(5).

ص:58


1- حياة الإمام موسى بن جعفر ١ : ٣٣٦.
2- تاريخ الخميس ٥ : ٣٧٥. معرفة الصحابة ١ : ٢٩٧. حياة الحيوان _ الجاحظ ٢ : ٣٣٦.
3- امترى : أي شكّ.
4- تاريخ بغداد ٧ : ٤٢١.
5- كنوز الحقائق : ٩٢.

-

روى الخطيب البغدادي عن عليّ عليه السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من لم يقل عليّ خير البشر فقد كفر»(1).

و أثرت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بهذا المضمون كوكبة اخرى من الأحاديث.

15 - سيّد العرب:

من الألقاب الكريمة للإمام عليه السّلام (سيّد العرب) أضفاه عليه

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال:

«أنا سيّد ولد آدم و عليّ سيّد العرب»(2).

و روت عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «ادعوا لي سيّد العرب»، فقلت:

يا رسول اللّه، أ لست سيّد العرب؟ قال: «أنا سيّد ولد آدم و عليّ سيّد العرب»(3).

و روى سلمة بن كهيل قال: مرّ عليّ بن أبي طالب على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عنده عائشة فقال لها: «إذا سرّك أن تنظري إلى سيّد العرب فانظري إلى عليّ بن أبي طالب»، فقالت: يا نبيّ اللّه، أ لست سيّد العرب؟ فقال: «أنا إمام المسلمين، و سيّد المتّقين، و إذا سرّك أن تنظري إلى سيّد العرب فانظري إلى عليّ بن أبي طالب»(4).

16 - حجّة اللّه:

من ألقابه العظيمة (حجّة اللّه) فقد كان حجّة من اللّه على عباده يهديهم للتي هي أقوم و ينير لهم طرق الهداية، منحه هذا اللقب

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أنا و عليّ حجّة اللّه على عباده»(5)،

و روى أنس بن مالك قال: كنت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فرأى عليّا مقبلا

ص:59


1- مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤. كنز العمّال ٦ : ١٥٧. حلية الأولياء ١ : ٦٣.
2- كنز العمّال ٦ : ١٥٧. حلية الأولياء ١ : ٦٣.
3- مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤.
4- تاريخ بغداد ١١ : ٨٩.
5- كنوز الحقائق _ المناوي : ٤٣.

فقال: «يا أنس»، قلت: لبّيك، قال: «هذا المقبل حجّتي على أمّتي يوم القيامة»(1).

هذه بعض الألقاب التي أضيفت على الإمام عليه السّلام، و هي تحكي سموّ ذاته و عظيم شأنه و معالي أخلاقه.

كناه:

اشارة

كنّي الإمام عليه السّلام بكوكبة من الكنى الشريفة، و هذه بعضها:

1 - أبو الريحانتين:

و هما الإمامان الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة،

كنّاه بذلك الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقد قال له:

«يا أبا الرّيحانتين، فعمّا قليل يذهب ركناك، و اللّه خليفتي عليك»، فلمّا قبض رسول اللّه قال عليّ: «هذا أحد الرّكنين»، فلمّا توفّيت سيّدة نساء العالمين زهراء الرسول عليها السّلام قال: «هذا الرّكن الآخر»(2).

2 - أبو السبطين:

كنّي بولديه سبطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الإمامين الحسن و الحسين عليها السّلام(3)، و قد شاعت هذه الكنية.

3 - أبو الحسن:

كنّي الإمام عليه السّلام بابنه الأكبر الإمام الحسن السبط الأوّل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أحبّ ذرّيّته إليه(4).

ص:60


1- الرياض النضرة ٢ : ١٩٣.
2- ذخائر العقبى : ٥٦. تأريخ الخميس ٢ : ٣٧٥.
3- إعلام الورى : ١٩٤.
4- إعلام الورى : ١٩٤.

4 - أبو الحسين:

و شاعت هذه الكنية(1) في الأوساط الإسلامية، فقد كنّي بولده مفخرة الإسلام و المجدّد الأعظم لدين الإسلام الإمام الحسين عليه السّلام الذي استشهد من أجل أن يقيم في الشرق دولة القرآن و يحطّم الدولة الأموية التي استهدفت القضاء على الإسلام.

5 - أبو تراب:

اشارة

إنّ هذه الكنية من أحبّ الكنى عند الإمام عليه السّلام، فقد كنّاه بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عدّة مناسبات كان من بينها ما يلي:

1 - روى ابن عبّاس حبر الامّة، قال: لمّا آخى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بين أصحابه من المهاجرين و الأنصار و لم يواخ بين الإمام و بين أحد منهم خرج عليّ مغضبا حتّى أتى جدولا فتوسّد ذراعه فسفت عليه الريح، فطلبه النبيّ حتى ظفر به فوكزه برجله، فقال له:

«قم فما صلحت أن تكون إلاّ أبا تراب، غضبت عليّ حين آخيت بين المهاجرين و الأنصار و لم اواخ بينك و بين أحد منهم، أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، ألا من أحبّك حفّ بالأمن و الإيمان، و من أبغضك أماته اللّه ميتة جاهليّة و حوسب بعمله في الإسلام»(2).

حكت الرواية ما يلي:

أوّلا: أنّ النبيّ كنّى الإمام بأبي تراب.

ثانيا: أنّ النبيّ صرّح أنّ الإمام منه بمنزلة هارون من موسى، فكما أنّ هارون

ص:61


1- معرفة الصحابة ١ : ٢٧٩.
2- مجمع الزوائد ٩ : ١١١. الفصول المهمّة _ ابن الصبّاغ : ٢٢.

خليفة موسى و وصيّه كذلك الإمام خليفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه من بعده.

ثالثا: أنّ الرواية بشّرت محبّي الإمام بالرحمة و المغفرة و الرضوان، كما أنذرت مبغضيه بسوء العاقبة و الخلود في النار.

2 - روى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

«طلبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجدني نائما في جدول، فقال: ما النّوم؟ النّاس يسمّونك أبا تراب، فرآني كأنّي وجدت في نفسي من ذلك، فقال: قم و اللّه لارضينّك، أنت أخي و أبو ولدي تقاتل على سنّتي و تبرئ ذمّتي، من مات في عهدي فهو كبّر اللّه، و من مات في عهدك فقد قضى نحبه، و من مات يحبّك بعد موتك ختم اللّه له بالأمن و الإيمان ما طلعت شمس أو غربت، و من مات يبغضك مات ميتة جاهليّة»(1).

3 - روى الحاكم بسنده أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجد عليّا و عمّارا في دقعاء(2) من التراب فأيقظهما، و حرّك عليّا فقال: «قم يا أبا تراب أ لا اخبرك بأشقى النّاس؟ رجلين: احيمر ثمود عاقر النّاقة، و الّذي يضربك على هذه - أي على هامة رأسك - فيخضب هذه - أي لحيته - منها»(3).

4 - روى أبو الفضل الطفيل، قال: جاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و عليّ نائم في التراب، فقال: «إنّ أحقّ أسمائك أبو تراب، أنت أبو تراب»(4).

5 - روى عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه قال: قلت لسهل بن سعد: إنّ بعض امراء المدينة يريد أن يبعث إليك أن تسبّ عليّا فوق المنبر، قال: أقول:

ص:62


1- الجامع الكبير _ السيوطي ٦ : ٤٠٤.
2- الدقعاء : التراب اللين.
3- مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٤. تأريخ الطبري ٢ : ٢٦١. إمتاع الأسماع ١ : ٥٠.
4- مجمع الزوائد ٩ : ١٠٠.

ما ذا؟ قال: تقول: لعن اللّه أبا تراب، قال: و اللّه ما سمّاه بذلك إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قلت: و كيف ذلك يا أبا العبّاس؟ قال: دخل عليّ على فاطمة ثمّ خرج من عندها فاضطجع في فيء المسجد ثمّ دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على فاطمة فقال لها: أين ابن عمّك؟ فقالت: هو ذاك مضطجعا في المسجد، فجاءه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوجده قد سقط رداؤه على ظهره، و خلص التراب إلى ظهره فجعل يمسح التراب عن ظهره و يقول: «اجلس أبا تراب»، فو اللّه ما سمّاه به إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و و اللّه ما كان له اسم أحبّ إليه منه(1).

و شاع هذا اللقب بين المسلمين و نظمه الشعراء، و كان فيما نظمه بعضهم:

و جاء رسول اللّه مرتضيا له و ما كان عن زهرائه في تشرّد

فمسّح عنه التّرب إذ مسّ جلده و قد قام منها آلفا للتّفرّد

و قال له قول التّلطّف: قم أبا تراب كلام المخلص المتودّد

و ما أبدع ما قاله عبد الباقي العمري:

أنت ثاني الآباء في منتهى الدّو ر و آباؤه تعدّ بنوه

خلق اللّه آدما من تراب فهو ابن له و أنت أبوه(2)

إنّ اللّه تعالى خلق آدما من تراب، و الإمام أبوه تكريما و تعظيما من اللّه الذي ميّز الابن على أبيه...

و قال العلاّمة الشيخ حسن طرّاد العاملي:

نور الحقيقة و الصّواب متمثّل بأبي تراب

ص:63


1- تأريخ الطبري ٢ : ٣٦٣. تاريخ الخميس ٢ : ٣٧٥.
2- ديوان عبد الباقي العمري : ١٢٦.

عنوان مجد شامخ متنزّه عن كلّ عاب

قد أبدعته يد السّما ليجيء بالعجب العجاب

و يكون نفس محمّد في حفظ أحكام الكتاب

فعلومه من علمه و بيانه فصل الخطاب

إنّ كنية أبي تراب و سام فخر و شرف أضفاه الرسول صلّى اللّه عليه و آله على وصيّه و باب مدينة علمه للتدليل على زهده في الدنيا و رفضه لجميع متعها و زينتها، و إنّها عنده كالتراب.

مع الأمويّين:

و اتّخذ الأمويّون لقب أبي تراب وسيلة لانتقاص الإمام و التشهير به، قال الحاكم النيسابوري:

كان بنو اميّة ينقصون عليّا بهذا الاسم الذي سمّاه به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يلعنونه على المنبر بعد الخطبة مدّة ولايتهم، و كانوا يستهزءون به، و إنّما استهزءوا بالذي سمّاه، و قد قال اللّه تعالى: قُلْ أَ بِاللّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ(1).

و كان الذئب الجاهلي (معاوية في آخر خطبة الجمعة يقول:

اللّهمّ إنّ أبا تراب ألحد في دينك و صدّ عن سبيلك فالعنه لعنا وبيلا و عذّبه عذابا أليما... و كتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات الفاجرة يشاد بها و تتلى على منابر المسلمين (2) التي أنشئت ليشاد عليها الحقّ و العدل و تكون مدرسة لتهذيب الأخلاق و إشاعة الفضيلة بين الناس، و لكنّ معاوية بوحي من جاهليّته

ص:64


1- الغدير ٦ : ٣٣. التوبة : ٦٥.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٤ : ٣٠٦.

حوّلها إلى سبّ العترة الطاهرة التي أذهب اللّه عنها الرجس و طهّرها تطهيرا، و قد اقتدى به ملوك الأمويّين فجعلوا سبّ أهل البيت واجبا إسلاميا يحاسبون العامّة و الخاصّة على تركه، و كانت هذه السياسة النكراء من المآسي القاسية التي عاناها الأخيار و المصلحون من المسلمين.

و من طريف ما ينقل أنّ رجلا من أهل السنّة أهدى إلى صديق له شيعي برّا من الحنطة كانت رديئة فردّها عليه، فأرسل إليه عوضها حنطة جيّدة إلاّ أنّها كانت مخلوطة بالتراب فكتب إليه:

بعثت لنا بدال البرّ برّا رجاء للجزيل من الثّواب

رفضناه عتيقا و ارتضينا به إذ جاء و هو أبو تراب(1)

ملامحه و صفاته:

اشارة

كان الإمام عليه السّلام من أجمل الناس وجها و أحسنهم أخلاقا، و كانت أسارير النور على وجهه الشريف، و قد وصفت ملامحه بصفات كثيرة كان منها ما يلي:

1 - وصف النبيّ له:

و وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخاه و وصيّه بهذه الأوصاف الرفيعة، قال: «من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، و إلى نوح في حكمه، و إلى يوسف في جماله، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب»(2).

حكت هذه الكلمات عظيم صفات الإمام، فقد ضارع أنبياء اللّه الممجّدين في أجلّ صفاتهم و معالي حكمهم و أخلاقهم.

ص:65


1- نفحة اليمن : ١٢.
2- ذخائر العقبى : ٢٤.

2 - وصف ضرار للإمام:

طلب معاوية من ضرار أن يصف له الإمام لأنّه كان من أخلص أحبّائه، فامتنع ضرار خوفا من معاوية إلاّ أنّه أصرّ عليه، فقال له:

كان و اللّه! بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، و يحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، و تنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا و زخرفها، و يستأنس بالليل و وحشته، و كان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، و من الطعام ما جشب، و كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، و ينبئنا إذا استنبأناه، و نحن - و اللّه! - مع تقرّبه لنا و قربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين، و يقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، و لا ييأس الضعيف من عدله، و إنّي أشهد باللّه لقد رأيته في بعض مواقفه - و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه - قابضا على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و هو يقول:

«يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثا(1) لا رجعة فيها، فعمرك قصير، و خطرك كبير، و عيشك حقير، آه! من قلّة الزّاد، و بعد السّفر، و وحشة الطّريق».

و أثرت هذه الكلمات في نفس معاوية، فقال: رحم اللّه أبا الحسن كان و اللّه كذلك... (2).

و حكت هذه الكلمات بعض الصفات الروحية التي تميّز بها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و التي هي مبعث إعجاب و إكبار حتى عند ألدّ أعدائه و خصومه.

ص:66


1- باينتك : أي طلّقتك طلاقا بائنا.
2- الاستيعاب ٣ : ١٠٧. حلية الأولياء ١ : ٨٤. الرياض النضرة ٢ : ٢١٢.

3 - وصف ابنه محمّد له:

و وصف ابنه محمّد بن الحنفية ملامحه فقال:

كان ربع القامة، أزجّ الحاجبين(1)، أنجل(2) كأنّ وجهه القمر ليلة البدر حسنا و هو إلى السّمرة، أصلع، له حفاف(3) من خلفه كأنّه إكليل، و كأنّ عنقه ابريق فضّة، و هو أرقب(4) ضخم البطن، أقرأ الظّهر(5)، عريض الصدر، محض المتن(6)، ضخم الكسور، لا يبين عضده من ساعده، تدامجت إدماجا، عبل الذراعين(7)، عريض المنكبين، عظيم المشاشين(8) كمشاش السبع الضاري، له لحية قد زانت صدره، غليظ العضلات، حمش الساقين(9). و ألمّ هذا الوصف ببعض ملامحه و شكله.

4 - وصف المغيرة له:

و وصفه المغيرة و هو من أعدائه فقال: كان على هيئة الأسد، غليظا منه ما استغلظ، دقيقا منه ما استدقّ(10).

حكى هذا الوصف القوّة البدنية للإمام عليه السّلام و شجاعته النادرة.

ص:67


1- الأزج : دقّة الحاجب وطوله.
2- الأنجل : سعة العين وجمالها.
3- الحفاف : الطرّة من الشعر تكون حول رأس الأصلع.
4- الأرقب : غليظ الرقبة.
5- أقرأ الظهر : طويله.
6- المحض : كناية عن استواء الجسم.
7- عبل الذراعين : أي ضخم الذراعين.
8- المشاش : رءوس العظام الليّنة.
9- مناقب آل أبي طالب ٣ : ٩١.
10- مناقب آل أبي طالب ٣ : ٩١.

5 - وصف بعض المعاصرين له:

و وصف بعض المعاصرين للإمام بعض صفاته الجسدية قال: كان ربعة من الرجال، أدعج العينين(1) عظيمهما، حسن الوجه كأنّه قمر ليلة البدر، عظيم البدن، عريض ما بين المنكبين، لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضاري، لا يبين عضده من ساعده قد ادمج إدماجا، شثن الكفّين، عظيم الكراديس(2)، أغيد(3) كأنّ عنقه إبريق فضّة، أصلع ليس في رأسه شعر إلاّ من خلفه، كثير شعر اللحية، و كان لا يخضب، و كان إذا مشى تكفّأ، شديد الساعد و اليد، و إذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان، قويا، ما صارع أحدا إلاّ صرعه، شجاعا، منصورا عند من لاقاه(4).

و هذه الصفات التي أدلى بها الرواة متّفقة على أنّ الإمام عليه السّلام أبرز بطل في العالم الإسلامي و غيره، و أنّه يملك قوّة البدن، و قوّة البأس و الشجاعة التي لا يملكها أحد سواه بالاضافة إلى صفاته النفسية التي هي انشودة المتّقين في كلّ زمان و مكان.

ص:68


1- الأدعج : شدّة السواد في العين مع سعتها.
2- الكراديس : كلّ عظم تكردس ، أي اجتمع اللحم فيه.
3- الأغيد : ميل العنق.
4- ذخائر العقبى : ٥٧. ألمح إلى بعض صفاته ابن حجر في تهذيب التهذيب ٧ : ٣٣٨ ، وابن سعد في طبقاته ٢ : ٢٦.

نشأته

اشارة

ص:69

ص:70

نشأ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في عهد طفولته في كنف أبيه أبي طالب مؤمن قريش و شيخ البطحاء، الذي كان مثالا لكلّ فضيلة و عنوانا لكلّ كرامة، فربّى ولده الإمام على الشهامة و النبل، و غذّاه بالإيمان باللّه، كما قامت بتربيته امّه الزكية السيّدة فاطمة سيّدة نساء عصرها في عفّتها و طهارتها، فغذّته بالأخلاق الكريمة و العادات الحسنة، و غرست في نفسه النزعات الشريفة.

احتضان النبيّ للإمام:

و حينما كان الإمام في فجر الصبا أصابت قريشا أزمة مادية و ضائقة اقتصادية تأثّر منها أبو طالب، فانبرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عمّيه حمزة و العباس و طلب منهما أن يتحمّلا ثقل عمّه، فاتّجهوا صوبه و عرضوا عليه الأمر، فقال لهم: دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم، و كان شديد الحبّ لابنه عقيل فأخذ العباس طالبا، و أخذ حمزة جعفرا، و أخذ الرسول عليّا، و قال لهما: اخترت من اختاره اللّه عليكما - يعني عليّا -، فكان الإمام في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في ذرى مودّته و عطفه.

و من المؤكّد أنّ النبيّ إنّما أخذ الإمام من عمّه ليربّيه و يغذّيه بطباعه و هديه، و قد وجد في كنفه من الحبّ و المودّة و العطف و الإيثار ما لم يجده في بيت أبيه، و قد غرس النبيّ في دخائل نفس الإمام و أعماق ذاته جميع مقوّمات الإسلام و مبادئه و قيمه، فكان في المرحلة الاولى من حياته قد وعى الإسلام و آمن به و فهم جوهره.

ص:71

إنّ الإمام عليه السّلام كان من ألصق الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من أكثرهم تطبّعا بأخلاقه و فهما لرسالته، و لمّا أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثورته الكبرى على الأفكار الجاهلية و عاداتها، كان الإمام في فجر الصبا يذبّ عنه، و يحميه من صبيان قريش الذين كانوا يحاربونه بالحجارة و يقذفونه بالتراب، و يصيحون وراءه ساحر و مجنون، و كان الإمام عليه السّلام يوقع بهم الضرب و اللكم فينهزمون إلى امّهاتهم و آبائهم و كان ذلك أوّل جهاد له في سبيل الإسلام.

و قد تحدّث الإمام عليه السّلام عن تلك الفترة الذهبية التي عاشها في رعاية النبيّ و ما لاقاه من صنوف الحفاوة و التكريم فقال:

«و قد علمتم موضعي من رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة. وضعني في حجره و أنا وليد، يضمّني إلى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسّني جسده، و يشمّني عرفه. و كان يمضغ الشّيء ثمّ يلقمنيه، و ما وجد لي كذبة في قول، و لا خطلة في فعل. و كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر امّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما، و يأمرني بالاقتداء به»(1).

أ رأيتم كيف أخلص له النبيّ في الحبّ و المودّة و الرعاية؟ فقد أغدق عليه بعطفه و حنانه، و غذّاه بسموّ أخلاقه و آدابه ليكون صورة عنه و ممثّلا له في حياته و بعد وفاته.

التربية النبوية للإمام:

اشارة

عنى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عناية بالغة بتربية أخيه و ابن عمّه الإمام عليه السّلام فغرس في أعماق ذاته صفاته الكريمة و نزعاته الشريفة حتى يحكي طباعه و اتّجاهاته و يقيمه من بعده

ص:72


1- نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢.

علما لامّته و رائدا لتبليغ رسالته.

لقد حفلت تربية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بجميع مقوّمات الارتقاء و سموّ الذات، و كان من برامجها هذه الصور الرائعة.

1 - نكران الذات:

ربّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخاه على الواقعية و نبذ الأنانية و نكران الذات، و كان من بين ذلك أنّ الإمام عليه السّلام طرق باب النبيّ، فقال الرسول:

«من هذا؟».

«أنا يا رسول اللّه».

و كره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلمة «أنا» من الإمام و التي تخلو من التعظيم لقائلها، فجعل يقول له: «أنا، أنا» و فهم الإمام كراهة النبيّ لهذه الكلمة، فلم يفه بها بعد ذلك(1).

و تكشف هذه البادرة عن سموّ التربية الإسلامية التي أمدّت الحياة بالاشراق و النهوض، و ظلّ الإمام متأثّرا بهذه التربية الرفيعة طيلة حياته، ففي أيام حكومته و قيادته للامّة نبذ نبذا تامّا جميع مظاهر الحكم و السلطان التي تلازمها الابّهة و الاستعلاء على الناس، و عامل نفسه كبقيّة أفراد الشعب لا ميزة له عليهم، و قد روى المؤرّخون أنّه اجتاز على أهل المدائن فأقاموا له مهرجانا شعبيا و ذبحوا له الذبائح فنفر من ذلك و خاطبهم أنّه كأحدهم، و منع جيشه من أكل لحوم الذبائح حتى يعطي أهلها ثمنها(2)، و هكذا كان عليّ صورة لا ثاني لها في تاريخ البشرية على الإطلاق سوى الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

ص:73


1- حياة الحيوان _ الجاحظ ١ : ٣٣٧.
2- بحار الانوار ٧٧ : ٤٥.
2 - التحلّي بالصفات الكريمة:

من ألوان التربية الإسلامية المشرقة التي غذّى بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام هذه الكوكبة من الأحاديث التربوية، و هي:

أ - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«يا عليّ، ثلاث من مكارم الأخلاق: تصل من قطعك، و تعطي من حرمك، و تعفو عمّن ظلمك»(1).

إنّ هذه الخصال الكريمة تسمو بالإنسان و ترفع مستواه إلى أرقى ما يصل إليه من كمال النفس.

ب - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«يا عليّ، سيّد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك النّاس من نفسك، و مساواة الأخ في اللّه عزّ و جلّ، و ذكر اللّه تبارك و تعالى على كلّ حال»(2).

إنّ هذه الصفات الرفيعة هي اسس الفضائل التي ينبغي للمسلم أن يتحلّى بها.

ج - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ، ثلاث خصال من حقائق الإيمان: الإنفاق في الإقتار، و إنصاف النّاس من نفسك، و بذل العلم للمتعلّم»(3).

بهذه الصفات الكريمة ربّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخاه و ابن عمّه و باب مدينة علمه ليكون انموذجا للإسلام.

د - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ، اوصيك بوصيّة فاحفظها فلا تزال بخير ما حفظت وصيّتي. يا عليّ، من كظم غيظا و هو يقدر على إمضائه أعقبه اللّه يوم

ص:74


1- بحار الأنوار ٧٧ : ٤٤.
2- المصدر السابق : ٤٥.
3- المصدر السابق : ٤٥.

القيامة أمنا و إيمانا يجد طعمه»(1).

أ رأيتم هذه التعاليم التربوية التي تجعل الإنسان في اطار من الفضيلة و السلامة من كثير من الأزمات و المصاعب؟

ه - قال صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ، ثلاث من لقي اللّه عزّ و جلّ فهو من أفضل النّاس: من أتى اللّه بما افترض عليه فهو من أعبد النّاس، و من ورع عن محارم اللّه فهو من أورع النّاس، و من قنع بما رزقه اللّه فهو من أغنى النّاس»(2).

إن من يطبّق على حياته هذه الخصال الكريمة فهو من أفضل الناس و من أكثرهم طاعة للّه تعالى و قربا منه.

و - قال صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ، إنّ اللّه تبارك و تعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهليّة و تفاخرهم بآبائهم، ألا و إنّ النّاس من آدم، و آدم من تراب، و أكرمهم عند اللّه أتقاهم»(3).

إنّ هذه الوصية من أرقى تعاليم الإسلام، فقد هدمت الحواجز بين الناس، و ألغت الفوارق و التفاضل بالأنساب، و جعلت التفاوت بينهم بالتقوى و العمل الصالح الذي هو أعظم رصيد للإنسان يميّزه عن غيره و يشرّفه عليه.

ز - من الوصايا الرفيعة التي عهد به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قوله:

«يا عليّ، ثلاثة تحت ظلّ العرش يوم القيامة: رجل أحبّ لأخيه ما أحبّ لنفسه، و رجل بلغه أمر فلم يتقدّم فيه و لم يتأخّر حتّى يعلم أنّ ذلك الأمر للّه رضى

ص:75


1- الخصال _ الصدوق ٢ : ٣٢. بحار الأنوار ٧٧ : ٤٦.
2- بحار الأنوار ٧٧ : ٥١.
3- المصدر السابق : ٥٣

أو سخط، و رجل لم يعب أخاه بعيب حتّى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنّه كلّما أصلح من نفسه عيبا بدا له منها آخر؛ و كفى بالمرء في نفسه شغلا»(1).

ما أروع هذه الصفات! التي يسمو بها الإنسان إلى أرقى مستويات الرشد و الكمال... و قد تغذّى بها الإمام عليه السّلام فكانت من برامج حياته.

هذه بعض الخصال الكريمة التي أوصى بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخاه و ابن عمّه لتكون له منهجا في سلوكه مع غيره، و هي أحد برامج التربية النبوية للإمام، و قد ذكرنا الكثير منها في مسند الإمام.

3 - الاجتناب عن الصفات المذمومة:

حذّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإمام من بعض الصفات و الخصال التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق، و هذه بعضها:

أ - قال صلّى اللّه عليه و آله:

«يا عليّ، أنهاك عن ثلاث خصال: الحسد، و الحرص، و الكبر»(2).

إنّ هذه الخصال من مآثم الحياة، و لا يتّصف بها الشريف.

ب - قال صلّى اللّه عليه و آله:

«يا عليّ، من تعلّم علما ليماري به السّفهاء، أو يجادل به العلماء، أو ليدعو النّاس إلى نفسه فهو من أهل النّار»(3).

إنّ طلب العلم ينبغي أن يكون خالصا لوجه اللّه تعالى غير مشوب بالأغراض الدنيئة، أمّا إذا كان مشفوعا بأغراض لا تمّت إلى الواقع بصلة فإنّه يكون نقمة عليه

ص:76


1- بحار الأنوار ٧٧ : ٦٦.
2- المصدر السابق : ٥٢.
3- المصدر السابق : ٥٤.

عند اللّه تعالى، و قد ألمح إليها الحديث و هي:

- طلب العلم لمماراة السفهاء و التغلّب عليهم و إبراز قابليات الشخص، فإنّ ذلك ينمّ عن مرض النفس و بعدها عن اللّه تعالى.

- طلب العلم لمجادلة العلماء و إظهار الشخص أمام المجتمع بأنّه من مصاف العلماء، أمّا دوافع هذه الجهة فهو حبّ الدنيا، و من المؤكّد أنّها ممّا تبعده عن اللّه تعالى.

- طلب العلم لدعوة الناس إليه، و الالتفاف حوله أعاذنا اللّه بلطفه و فضله من ذلك.

ج - من بنود التربية النبوية للإمام

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ، أ لا أنبّئك بشرّ النّاس؟ قال عليّ: بلى يا رسول اللّه، قال: من لا يغفر الذّنب، و لا يقيل العثرة. أ لا أنبّئك بشرّ من ذلك؟ قال عليّ: بلى، قال: من لا يؤمن شرّه، و لا يرجى خيره»(1).

إنّ هذه الخصال الذميمة لا يتّصف بها إلاّ أشرار الناس و سفله المجتمع.

د - من الوصايا التربوية التي غذّى بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخاه و ولي عهده الإمام عليه السّلام قوله: «يا عليّ، إنّه لا فقر أشدّ من الجهل، و لا مال أعود من العقل، و لا وحدة أوحش من العجب، و لا عمل كالتّدبير، و لا ورع كالكفّ - أي عن محارم اللّه -، و لا حسب كحسن الخلق؛ إنّ الكذب آفة الحديث، و آفة العلم النّسيان، و آفة السّماحة المنّ»(2).

على ضوء هذه الحكم المشرقة التي تمثّل معالي الآداب و محاسن الأخلاق

ص:77


1- بحار الأنوار ٧٧ : ٦٦.
2- المصدر السابق : ٦٤.

ربّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وصيّه و باب مدينة علمه ليكون مثالا له في حياته و بعد وفاته.

ه - من معالي التربية النبوية للإمام عليه السّلام قوله: «يا عليّ، إيّاك و الكذب، فإنّ الكذب يسوّد الوجه، ثمّ يكتب عند اللّه كذّابا، و إنّ الصّدق يبيّض الوجه و يكتب عند اللّه صادقا؛ و اعلم أنّ الصّدق مبارك، و الكذب مشئوم»(1).

إنّ الكذب مفتاح الشرّ، و به فساد الدنيا و هلاك العباد، و يباينه الصدق فإنّه مصدر لكلّ فضيلة و سبب للنجاة من كلّ شرّ.

و - من روائع التربية الإسلامية التي غذّى بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإمام عليه السّلام قوله:

«يا عليّ، احذر الغيبة و النّميمة»(2).

إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حذّر من الغيبة لأنّها توجب نشر الأحقاد و الضغائن بين الناس بالإضافة إلى الحطّ من شخصيّة المغتاب في المجتمع، و الإسلام يحرص كلّ الحرص على كرامة المسلم، و أن لا ينال بسوء، و قد ذكر الفقهاء تعريف الغيبة و تحريمها المشدّد في الإسلام، و استثنوا من ذلك ما إذا كان المغتاب متجاهرا بالفسق و الفجور فتجوز غيبته بالجهة المتجاهر بها و لا يجوز قذفه بغيرها من المعاصي. و نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن النميمة، و هي من موجبات نشر الكراهية بين المجتمع، و قد تظافرت الأخبار عن الأئمّة عليهم السّلام أنّ النمّام من شرار خلق اللّه تعالى.

ز - من الوصايا التربوية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله قوله: «يا عليّ، لا تغضب، فإذا غضبت فاقعد، و تفكّر في قدرة الرّبّ على العباد، و حلمه عنهم، و إذا قيل لك: اتّق اللّه فانبذ غضبك، و راجع حلمك»[3].

ص:78


1- تحف العقول : ١٤.
2- بحار الأنوار ٧٧ : ٦٧.

الغضب مفتاح كلّ شرّ و سبب لكلّ جريمة، و قد حذّر منه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنّه يؤدّي إلى دمار الشخص و هلاكه، و قد ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كيفيّة علاجه و الوقاية من شرّه، و هو أن يتفكّر الإنسان في حالة غضبه بقدرة اللّه تعالى عليه، و ما يعقبه الغضب من الأضرار و المفاسد.

ح - من غرر الوصايا التربوية التي عهد بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للإمام قوله:

«يا عليّ، أنهاك أن تخفر عهدا - أي تنقض عهدا - و تعين عليه، و أنهاك عن المكر فإنّه لا يحيق المكر السّيّئ إلاّ بأهله، و أنهاك عن البغي، فإنّه من بغي عليه لينصرنّه اللّه»(1).

إنّ هذه الخصال التي نهى النبيّ عنها من موجبات سقوط الإنسان و هلاكه.

ط - من معالم التربية للإمام عليه السّلام هذه الوصية: «يا عليّ، إنّ من اليقين أن لا ترضي أحدا بسخط اللّه، و لا تحمد أحدا بما آتاك اللّه، و لا تذمّ أحدا على ما لم يؤتك اللّه؛ فإنّ الرّزق لا يجرّه حرص حريص، و لا يصرفه كراهة كاره، إنّ اللّه بحكمه و فضله جعل الرّوح و الفرج في اليقين و الرّضا، و جعل الهمّ و الحزن في الشّكّ»(2).

و بهذه الوصية الثمينة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لوصيّه و باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام نطوي الحديث عن بعض معالم التربية النبوية للإمام و التي استهدفت أن يكون ممثّلا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأهدافه و قيمه التي تنشد صالح الإنسان و تطوّر حياته.

و قد ذكرنا عرضا مفصّلا لوصايا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للإمام في مسنده لذا أوجزنا الحديث في هذا الموضوع.

ص:79


1- الأمالي _ الصدوق ٢ : ٢١٠. بحار الأنوار ٧٧ : ٦٩.
2- المحاسن : ١٦ _ ١٧. بحار الأنوار ٥٧ : ٦٨.

سبقه للإسلام:

و الشيء الذي اتّفق عليه المؤرّخون و الرواة أنّ الإمام عليه السّلام أوّل من آمن بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و استجاب لدعوته عن وعي و إيمان، و قد قال عليه السّلام: «لقد عبدت اللّه تعالى قبل أن يعبده أحد من هذه الامّة»(1).

و قال عليه السّلام: «كنت أسمع الصّوت، و ابصر الضّوء سنين سبعا، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صامت ما اذن له في الإنذار و التّبليغ»(2). و معنى هذا الحديث أنّه سلام اللّه عليه في سنّه المبكّر كان يسمع صوت جبرئيل، و يبصر ضوءه قبل أن يبلّغ النبيّ رسالته و يشيعها بين الناس.

و قد أجمع الرواة أنّ الإمام عليه السّلام لم تدنّسه الجاهلية بأوثانها، و لم تلبسه من مدلهمّات ثيابها، فلم يسجد لصنم قطّ كما سجد غيره(3) يقول المقريزي: أمّا عليّ ابن أبي طالب الهاشمي فلم يشرك باللّه قطّ، و ذلك أنّ اللّه تعالى أراد به الخير فجعله في كفالة ابن عمّه سيّد المرسلين(4).

و قد أسلم الإمام و أسلمت معه أمّ المؤمنين الصدّيقة الطاهرة خديجة، فقد احتضنت الإسلام و آمنت بقيمه و أهدافه، و قدّمت في سبيله جميع ما تملكه من الثراء العريض. و قد تحدّث الإمام عليه السّلام عن إيمانه و إيمان خديجة بالإسلام بقوله:

«و لم يجمع بيت يومئذ واحد في الإسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خديجة و أنا ثالثهما». و قال ابن عباس: كان عليّ أوّل من آمن من الناس بعد خديجة(5)، و قال

ص:80


1- صفة الصفوة ١ : ١٦٢.
2- بحار الأنوار ٣٤ : ٢٥٥.
3- تاريخ ابن عساكر ١ : ٣٣.
4- إمتاع الأسماع ١ : ١٦.
5- نهج البلاغة ٤ : ١١٦.

ابن إسحاق: كان عليّ أوّل من آمن باللّه و بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(1).

إنّ سبق الإمام إلى اعتناق الإسلام ممّا اتّفق عليه الرواة و المؤرّخون(2)، و قد كان عمره الشريف حينما أسلم سبع سنين، و قيل: تسع سنين(3)، إلاّ أنّ التأمّل في تربية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له يقضي بأنّه أسلم في وقت مبكّر من حياته.

و على أي حال فقد أعلن - باعتزاز و فخر - سبقه إلى الإسلام قائلا:

«أنا الصّدّيق الأكبر، و الفاروق الأوّل، أسلمت قبل إسلام أبي بكر، و صلّيت قبل صلاته»(4).

و نسب إليه من الشعر بذلك قوله:

«سبقتكم إلى الإسلام طرّا غلاما ما بلغت أوان حلمي»

و شاعت هذه الكرامة للإمام في جميع الأوساط الإسلامية، و افتخر بها خيار صحابة الإمام، يقول هاشم المرقال في صفّين:

مع ابن عمّ أحمد المعلّى فيه الرّسول بالهدى استهلاّ

أوّل من صدّقه و صلّى فجاهد الكفّار حتّى أبلى(5)

و قال سعيد بن قيس و هو من أفاضل أصحاب الإمام:

ص:81


1- نهج البلاغة ٤ : ١١٦.
2- صحيح الترمذي ٢ : ٣٠١. طبقات ابن سعد ٣ : ١٤ ( الفصل الأوّل ). كنز العمّال ٦ : ٤٠٠. تاريخ الطبري ٢ : ٥٠.
3- لطائف المعارف _ الثعالبي : ١٢.
4- المعارف : ٧٣. الذخائر : ٥٨. الرياض ٢ : ٢٥٧.
5- الكامل _ ابن الأثير ٣ : ١٣٥.

هذا عليّ و ابن عمّ المصطفى أوّل من أجاب لمّا أن دعا

و أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ الإمام عليه السّلام هو أوّل من آمن به، فقد قال لأصحابه:

«أوّلكم واردا عليّ الحوض أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب»(1).

و على أي حال فسبق الإمام إلى الإسلام قد اتّفق عليه المسلمون، و هو وسام شرف و فخر للإمام عليه السّلام.

حبّه للنبيّ:

كان الإمام عليه السّلام يحبّ النبيّ حبّا استوعب نفسه، و أخلص له في الودّ كأعظم ما يكون الودّ، و قد سأله شخص عن مدى حبّه له قائلا: كيف كان حبّكم لرسول اللّه؟ فأجابه الإمام:

«كان و اللّه أحبّ إلينا من أموالنا و أولادنا و امّهاتنا و من الماء البارد على الظّمأ...»(2).

و من المؤكّد أنّه ليس في الاسرة النبوية و لا في الصحابة من يضارع الإمام في حبّه و إخلاصه للرسول؟ و كان من مودّته له أنّه أتى حائطا فقال له صاحبه: هل لك أن تسقيه و لك بكلّ دلو تمرة، و سارع إلى سقيه فأعطاه صاحب البستان تمرا حتى ملأ كفّه منه، فبادر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأطعمه به(3).

قيامه بخدمة النبيّ:

كان الإمام عليه السّلام يتولّى رعاية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و القيام بخدماته حتّى أنّه إذا أراد القيام

ص:82


1- الغدير ٣ : ٢١.
2- خزانة الأدب ٣ : ٢١٣.
3- مسند أحمد ٢ : ١٠٢.

بادر فأخذ بيده، و إذا أراد أن يجلس اتّكأ عليه(1).

و من طرائف ما ينقل أنّ شخصا وفد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يستميحه و يطلب رفده فقال للإمام: «يا عليّ، اقطع لسانه عنّي»، و لم يفهم الشخص المراد من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسار مع عليّ و قد استولى عليه الفزع و الخوف، فقال للإمام: أقاطع لساني أنت يا أبا الحسن؟ فقال الإمام له: «إنّي ماض لما امرت به».

و سار الإمام حتى انتهى به إلى إبل الصدقة فقال له: «خذ ما أحببت»، فسكن روع الرجل و فهم ما أراده النبيّ، و علّق الإمام على كلمة النبيّ بقوله:

«أحسن مواربة سمعتها في كلام العرب»(2).

و تولّى الإمام بإخلاص القيام بقضاء حوائج النبيّ، و كان يعتلي بغلة النبيّ الشهباء، و يسير في شعب الأنصار لتنفيذ ما عهد إليه(3).

نماذج من أدعيته للنبيّ:

و الشيء المحقّق أنّه لم يعرف أحد من الصحابة و غيرهم مكانة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سموّ منزلته سوى أخيه و باب مدينة علمه الإمام عليه السّلام، فقد خصّه بكثير من الأدعية الحافلة بالتمجيد و التعظيم له و الإشادة بفضله و عظيم شأنه، و هذه بعضها:

1 - قال عليه السّلام:

الحمد للّه ربّ العالمين، و صلّى اللّه على أطيب المرسلين محمّد بن

ص:83


1- إعلام الورى : ١٨٧.
2- خزانة الأدب ١ : ١٥٤.
3- رسائل الجاحظ ٢ : ٢٢٢.

عبد اللّه المنتجب الفاتق الرّاتق.

اللّهمّ فخصّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالذّكر المحمود، و الحوض المورود.

اللّهمّ آت محمّدا صلواتك عليه و آله الوسيلة، و الرّفعة و الفضيلة و اجعل في المصطفين محبّته، و في العلّيّين درجته، و في المقرّبين كرامته.

اللّهمّ أعط محمّدا صلواتك عليه و آله من كلّ كرامة أفضل تلك الكرامة، و من كلّ نعيم أوسع ذلك النّعيم، و من كلّ عطاء أجزل ذلك العطاء، و من كلّ يسر أنضر ذلك اليسر، و من كلّ قسم أوفر ذلك القسم حتّى لا يكون أحد من خلقك أقرب منه مجلسا، و لا أرفع منه عندك ذكرا و منزلة، و لا أعظم عليك حقّا، و لا أقرب وسيلة من محمّد صلواتك عليه و آله، إمام الخير و قائده، و الدّاعي إليه، و البركة على جميع العباد و البلاد و رحمة للعالمين.

اللّهمّ اجمع بيننا و بين محمّد صلواتك عليه و آله في برد العيش، و تروّح الرّوح، و قرار النّعمة، و شهوة الأنفس، و منى الشّهوات، و نعم اللذّات، و رجاء الفضيلة، و شهود الطّمأنينة، و سؤدد الكرامة، و قرّة العين، و نضرة النّعيم، و بهجة لا تشبه بهجات الدّنيا. نشهد أنّه قد بلّغ الرّسالة، و أدّى النّصيحة، و اجتهد للأمّة، و أوذي في جنبك، و جاهد في سبيلك، و عبدك حتّى أتاه اليقين، فصلّى اللّه عليه و آله الطّيّبين.

اللّهمّ ربّ البلد الحرام، و ربّ الرّكن و المقام، و ربّ المشعر الحرام، و ربّ الحلّ و الحرام بلّغ روح محمّد صلّى اللّه عليه و آله عنّا

ص:84

السّلام. اللّهمّ صلّ على ملائكتك المقرّبين، و على أنبيائك، و رسلك أجمعين، و صلّ اللّهمّ على الحفظة الكرام الكاتبين، و على أهل طاعتك من أهل السّماوات السّبع و أهل الأرضين السّبع من المؤمنين أجمعين»(1).

و أنت ترى في هذا الدعاء جميع صنوف التكريم و التعظيم قد رفعها الإمام إلى سموّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و دعا له أن يبوّئه اللّه أسمى مكانة و أعلى درجة في حضيرة القدس.

2 - و كان من مظاهر تعظيم الإمام للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا الدعاء، قال عليه السّلام:

اللّهمّ داحي المدحوّات، و داعم المسموكات، و جابل القلوب(2) على فطرتها، شقيّها و سعيدها، اجعل شرائف صلواتك، و نوامي بركاتك على محمّد عبدك و رسولك الخاتم لما سبق، و الفاتح لما انغلق، و المعلن الحقّ بالحقّ، و الدّامغ خبيثات الأباطيل، و الدّامغ صولات الأضاليل، كما حمّلته فاضطلع بأمرك، مستوفرا في مرضاتك، غير ناكل عن قدم، و لا واه في عزم، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك، حتّى أورى قبس القابس، و أضاء الطّريق للخابط، و هديت به القلوب بعد خوضات الفتن و الآثام، و أقام بموضحات الأعلام، و نيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، و خازن علمك المخزون، و شهيدك يوم الدّين، و بعيثك بالحقّ، و رسولك إلى الخلق.

اللّهمّ افسح له مفسحا في ظلّك، و اجزه مضاعفات الخير من فضلك.

ص:85


1- تهذيب الأحكام ٣ : ٨٣. بحار الأنوار ٢٠ : ٢٦٣.
2- جابل القلوب : أي خالقها.

اللّهمّ و أعل على بناء البانين بناءه، و أكرم لديك منزلته، و أتمم له نوره، و اجعله من انبعاثك مقبول الشّهادة، مرضيّ المقالة، ذا منطق عدل، و خطبة فصل.

اللّهمّ اجمع بيننا و بينه في برد العيش، و إقرار النّعمة، و رخاء الدّعة، و منتهى الطّمأنينة، و تحف الكرامة»(1).

و حفل هذا الدعاء بإحاطة الإمام و معرفته الكاملة بالرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فقد أضفى عليه جميع ألوان الحفاوة و التكريم، و دعا له بالمنزلة الكريمة التي يتبوّؤها في الفردوس الأعلى.

تمجيده للنبيّ:

و كان الإمام على يقين لا يخامره شكّ بنبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و رسالته، و كان يثني عليه عاطر الثناء، و ممّا قال فيه:

1 - قال عليه السّلام:

«مستقرّه - أي النبيّ - خير مستقرّ، و منبته أشرف منبت، في معادن الكرامة، و مماهد السّلامة؛ قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، و ثنيت إليه أزمّة الأبصار، دفن اللّه به الضّغائن، و أطفأ به الثّوائر ألّف به إخوانا، و فرّق به أقرانا، أعزّ به الذّلّة، و أذلّ به العزّة. كلامه بيان، و صمته لسان»(2).

و نرى في هذه الكلمات جميع ألوان التعظيم و التمجيد لشخصيّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله الذي ما عرفه سوى باب مدينة علمه.

ص:86


1- نهج البلاغة ١ : ١٨٦.
2- نهج البلاغة ١ : ١٨٦.

2 - قال عليه السّلام:

«ابتعثه - أي النبيّ - بالنّور المضيء، و البرهان الجليّ، و المنهاج البادي و الكتاب الهادي. أسرته خير أسرة، و شجرته خير شجرة؛ أغصانها معتدلة، و ثمارها متهدّلة. مولده بمكّة، و هجرته بطيبة علا بها ذكره و امتدّ منها صوته. أرسله بحجّة كافية، و موعظة شافية، و دعوة متلافية. أظهر به الشّرائع المجهولة، و قمع به البدع المدخولة، و بيّن به الأحكام المفصولة(1). فمن يبتغ غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته، و تنفصم عروته، و تعظم كبوته، و يكن مآبه إلى الحزن الطّويل و العذاب الوبيل»(2).

و حكت هذه الكلمات ما يحمله الإمام من صنوف التعظيم و الاكبار للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و من المقطوع به أنّه ليس في اسرة النبيّ و لا في أصحابه من فهم حقيقته و أحاط به علما سوى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام... هذه بعض كلماته في حقّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

كتابته للوحي:

و تظافرت الأخبار أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كان يكتب الوحي المنزل على عبد اللّه و رسوله محمّد صلّى اللّه عليه و آله(3)، فقد كتب الكثير من الوحي و سور القرآن الكريم، كما أنّه أوّل من نقّط المصاحف(4)، و من الجدير بالذكر أنّه تعلّم الكتابة

ص:87


1- المفصولة : أي المفصّلة.
2- نهج البلاغة ٢ : ٢٢٩.
3- الاستيعاب ( المطبوع على هامش الاصابة ) ١ : ٣٠.
4- مفتاح السعادة ١ : ٨٩.

و هو في دور الصبا(1).

كتابته لعهود الرسول:

كان الإمام عليه السّلام يكتب عهود الرسول و صلحه، فقد كتب لأهل نجران و غيرهم ما سجّله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لهم(2)، و لمّا صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أهل الحديبية كتب الإمام بينهم كتابا جاء فيه: «محمّد رسول اللّه» فقال المشركون: لا تكتب محمّدا رسول اللّه، لو كنت رسولا لم نقاتلك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: «امحه»، فقال: «ما أنا بالّذي أمحوه»، فمحاه النّبي بيده. قال: و كان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكّة فيقيموا بها ثلاثا. و لا يدخلها بسلاح إلاّ جلبّان السّلاح، فسألوه: و ما جلبّان السّلاح؟ قال:

القراب و ما فيه(3).

و من الجدير بالذكر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يتفقّد مقاطع الكلام التي كان يكتبها الإمام كتفقّد المصرم صريمته(4).

تحطيمه للأصنام:

و ظاهرة اخرى من سيرة الإمام و اتّجاهاته كراهته البالغة للأصنام و بغضه الشديد لها، و كان يسعى إلى تدميرها قبل أن يشرق نور الإسلام، كما فعل جدّه شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السّلام بأصنام الجاهلية و أوثانها، و كان عليه السّلام و معه اسامة يجمعان القمامة و أوساخ البيوت و قاذوراتها و يلقونها على أصنام قريش في غلس الليل، فإذا أصبحت قريش و رأت أصنامها ملوّثة رفعت أصواتها بألم و عنف قائلة: من فعل هذا

ص:88


1- الفصول المختارة ٢ : ٦٦.
2- صبح الأعشى ١ : ٦٥.
3- صحيح البخاري _ كتاب الصلح ٣ : ١٦٨. صحيح مسلم _ كتاب الجهاد : ٣ : ١٤١٠.
4- الصناعتين : ٤٣١. إيضاح الوقف والابتداء : ٢٣١.

بآلهتنا، و أنفقوا نهارهم على غسلها بالماء(1). و قد شاركه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في تحطيم بعض الأصنام، فقد تحدّث الإمام عن ذلك قائلا:

«انطلقت أنا و النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى أتينا الكعبة فقال لي رسول اللّه: اجلس، و صعد على منكبيّ فذهبت لأنهض به فرأى منّي ضعفا، فجلس و ارتقيت على منكبه فنهض بي و يخيّل لي أن لو شئت لنلت افق السّماء حتّى صعدت على البيت و عليه تمثال صفر فجعلت ازاوله عن يمينه و عن شماله و من بين يديه حتّى تمكّنت منه، فقال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اقذف به، فقذفت به فتكسّر كما تتكسّر القوارير، ثمّ نزلت، فانطلقت أنا و رسول اللّه نستبق حتّى توارينا خشية أن يلقانا أحد من النّاس»(2).

و من بين الأصنام التي حطّمها الإمام ما يلي:

1 - مناة: أقامت العرب صنم مناة و كانت تعظّمه و تعزّه، فانبرى إليه الإمام فهدّمه(3).

2 - صنم طيّ: كان لطيّ بجبلي طي فمضى إليه الإمام فحطّمه و أزاله و وجد في مكانه سيفين: اسم أحدهما الرسوب، و اسم الآخر المخذم فحملهما الإمام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فوهبهما له(4).

3 - أصنام مكّة: و لمّا فتح اللّه تعالى لعبده و رسوله محمّد صلّى اللّه عليه و آله الفتح المبين و احتلّ مكّة، و كان قد علّق على الكعبة المقدّسة ثلاثمائة صنم أو يزيد عليها اتّخذتها القبائل آلهة يعبدونها من دون اللّه تعالى، كان منها نائلة و أساف و مناف و ذو

ص:89


1- جواهر المطالب ١ : ٢٦٧.
2- صفة الصفوة ١ : ١٦٣. مسند أحمد ١ : ٨٤.
3- خزانة الأدب ٧ : ٢٢٤.
4- الروض المعطار : ٤٦٧. المفصّل في تأريخ العرب قبل الإسلام ٤ : ٤٥٤.

الخلصة و ذو الكنى و ذو الشرى و الأقيصر و نهم و سمير و غيرها(1)، و كان زعيم تلك الأصنام (هبل) و هو إله أبي سفيان أبو معاوية و جدّ يزيد، و كان من نحاس، و قد اوتد بأوتاد من حديد، فصعد الإمام على منكبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعالجه حتى تمكّن من قلعه و رمى به إلى الأرض و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتلو قوله تعالى:

قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً(2).

ثمّ قذف الإمام ببقيّة الأصنام و بذلك تطهّر البيت الحرام من أصنام قريش و أوثانها، فقد حطّمها بطل الإسلام و قائد المسيرة الإسلامية نحو التحرّر، و قد تفتّحت آفاق الفكر العربي و انتبه الناس إلى ضلالها. يقول زيد بن نوفل:

تركت اللاّت و العزّى جميعا كذلك يفعل الجلد الصّبور

فلا العزّى ادين و لا ابنتيها و لا صنمي بني غنم أزور

و لا هبلا أزور و كان ربّا لنا في الدّهر إذ حلمي صغير(3)

نقش خاتم الإمام:

و لشدّة تعلّق الإمام عليه السّلام باللّه تعالى فقد كتب على خاتمه «اللّه الملك»(4).

اجتنابه للخضاب:

و لم يخضب الإمام عليه السّلام كريمته الشريفة لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له: «إنّها تخضّب من دم رأسه»(5)، لقد آثر الخضاب بدم رأسه الشريف في سبيل اللّه تعالى.

ص:90


1- مستدرك الحاكم ٢ : ٣٦٦.
2- مستدرك الحاكم ٢ : ٣٦٦ ، الإسراء : ٨١.
3- القاموس الإسلامى ٤ : ٣٤٧.
4- جواهر المطالب : ٢٩٥.
5- وسائل الشيعة ١ : ٤٩٩.

دار سكناه:

و لمّا كان الإمام عليه السّلام في مكّة، كان مقيما مع أبيه أبي طالب في بيته، و محلّه معروف في الأوساط المكّية، و لمّا هاجر الإمام إلى يثرب بنى له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بيتا مجاورا للجامع النبوي الشريف و فتح له بابا عليه، و لمّا أمر النبيّ بإغلاق الأبواب المتّصلة بالجامع استثنى منها باب بيت الإمام تكريما و تعظيما له، و لمّا انتقل الإمام إلى الكوفة و اتّخذها عاصمة له لم يسكن في قصر الإمارة الذي بني مقرّا لرئيس الدولة أيام عمر، فقد امتنع من سكناه و قال: «قصر الخبالى لا أسكن فيه»، و جلس في بيت ابن اخته، ثمّ رحل عنه، و بنى له بيتا من الطين في الكوفة، و أحاطه بغرف من القصب... و بهذا العرض ينتهي بنا الحديث عن نشأته، و سنذكر المزيد من شئونه في البحوث الآتية.

ص:91

ص:92

عناصره النّفسيّة

اشارة

ص:93

ص:94

ما من صفة كريمة أو نزعة شريفة يمتاز بها الإنسان و يسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ و هي من ذاتيات الإمام أمير المؤمنين، و من عناصره الفذّة التي لا يضارعه فيها أحد سوى أخيه و ابن عمّه الرسول محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

لقد كان هذا الإمام الملهم العظيم بمكوّناته النفسية و الفكرية دنيا من الكمال و الفضائل التي لا حدّ لأبعادها... إنّه هبة اللّه تعالى لهذه الامّة مرشدا و هاديا بعد أخيه الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فقد وهبه اللّه تعالى من الامتيازات و الخصائص، و فضّله على كثير من خلقه تفضيلا، و ليس في ذلك أيّ غلوّ، فإنّ كلّ من يقرأ سيرته و يلمّ ببعض أحواله و شئونه يؤمن بما ذكرناه.

و على أيّ حال فإنّا نلمح - بإيجاز - بعض خصائصه و مكوّناته النفسية و هي:

إيمانه الوثيق باللّه:

و الظاهرة الفذّة التي تميّز بها الإمام عليه السّلام أنّه كان من أعظم المسلمين إيمانا باللّه تعالى، و من أكثرهم معرفة به، و هو القائل:

«لو كشف الغطاء لي ما ازددت يقينا...».

و معنى ذلك أنّه لو تجلّى له اللّه تعالى بعظمته و رآه لما زاده ذلك يقينا بمعرفته و الإيمان به، و قد ناجى اللّه تعالى بإيمان قائلا:

«إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك، و لا طمعا في ثوابك، و لكن وجدتك أهلا

ص:95

للعبادة فعبدتك»(1).

إنّ هذا هو منتهى الإيمان، فقد كانت عبادته للّه تعالى عبادة المنيبين و العارفين لا عبادة تقليدية، و قد اثرت عنه من الخطب و الكلمات القصار في توحيد اللّه تعالى و تعظيمه و تنزيهه عن الشريك و غيره ما لم يؤثر عن غيره من ملوك المسلمين و زهّادهم و علمائهم... إنّه داعية اللّه تعالى الأكبر بعد أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقد وهب حياته للّه تعالى، و جاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد، و كانت جميع أعماله خالصة لوجه اللّه تعالى لا يشوبها أيّة شائبة من أغراض الدنيا و متعها التي يؤول أمرها إلى التراب، و حدّثنا المؤرّخون عنه حينما صرع عمرو بن عبد ودّ العامري فارس العرب، فإنّه لم يجهز عليه لأنّه قد سبّه و أغلظ في شتمه، فغضب من ذلك، و لمّا سكن غضبه أجهز عليه، و قد سئل عن السبب في تأخيره لقتله، فأجاب:

«إنّي ما أحببت قتله انتقاما لسبّه لي فيفوت منّي الأجر و الثّواب، فلمّا سكن غضبي أجهزت عليه في سبيل اللّه تعالى». و هكذا كانت جميع أعماله و صنوف جهاده خالصة لوجه اللّه تعالى، لم يبتغ فيها إلاّ رضا اللّه تعالى، و قد ولج في أعنف الحروب و أشدّها محنة و أقساها بلاء دفاعا عن دين اللّه و نصرة لنبيّ اللّه.

إنابته للّه تعالى:

كان الإمام عليه السّلام من أعظم المنيبين للّه تعالى، و من أكثرهم خوفا منه، و قد حدّث أبو الدرداء عن شدّة إنابته للّه تعالى قال:

شهدت عليّ بن أبي طالب بشويحطات النجّار و قد اعتزل عن مواليه و اختفى ممّن يليه و استتر بمغيلات النخل، فافتقدته، و بعد عليّ مكانه، فقلت: لحق

ص:96


1- بحار الأنوار ٤١ : ١٤.

بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين و نغمة شجيّة، و هو يقول:

«إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، و كم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري، و عظم في الصّحف ذنبي، فما أنا بمؤمّل غير غفرانك، و لا أنا براج غير رضوانك...».

و ذهل أبو الدرداء، و هام في تيارات من خشية اللّه، و راح يفتّش عن صاحب هذا الصوت، و لم يلبث حتى عرفه، و إذا به إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب، فاستتر أبو الدرداء ليسمع بقيّة مناجاة الإمام، و راح الإمام يصلّي، فلمّا فرغ من صلاته توجّه بقلب منيب إلى الدعاء و البكاء من خشية اللّه تعالى، و كان ممّا ناجى به اللّه تعالى قوله:

«إلهي افكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي...».

ثمّ قال: «آه إن أنا قرأت في الصّحف سيّئة أنا ناسيها و أنت محصيها، فتقول:

خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، و لا تنفعه قبيلته! يرحمه الملأ إذا اذن فيه بالنّداء... آه من نار تنضج الأكباد و الكلى، آه من نار نزّاعة للشّوى! آه من غمرة من ملهبات لظى...».

يقول أبو الدرداء: ثمّ انفجر الإمام عليه السّلام باكيا و خمد صوته، فسارعت إليه فوجدته كالخشبة الملقاة فحرّكته فلم يتحرّك، فقلت: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، مات و اللّه عليّ بن أبي طالب، فبادرت مسرعا إلى بيته أنعاه إلى أهله، فقالت زهراء الرسول سلام اللّه عليها:

«يا أبا الدّرداء، ما كان من شأنه؟...».

فأخبرتها بما رأيته، فقالت سيّدة النساء:

ص:97

«هي و اللّه يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية اللّه...».

ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق، و نظر إليّ و أنا أبكي فقال لي:

«ممّ بكاؤك يا أبا الدّرداء؟».

- ممّا أراه تنزله بنفسك.

فأجابه الإمام و هو غارق بالخشية من اللّه قائلا:

«يا أبا الدّرداء، كيف لو رأيتني و قد دعي بي إلى الحساب، و أيقن أهل الجرائم بالعذاب، و احتوشتني ملائكة غلاظ، و زبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار، قد أسلمني الأحياء، و رحمني أهل الدّنيا، لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية...».

و بهر أبو الدرداء ممّا رآه من إنابة الإمام و خشيته من اللّه تعالى و راح يقول: و اللّه ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله(1).

أ رأيتم هذا الإيمان الذي يمثّل التقوى و الخشية من اللّه تعالى؟ لقد كان هذا الإمام العظيم في جميع فترات حياته قد تعلّق قلبه و فكره باللّه تعالى، و سعى لكلّ ما يقرّبه إليه زلفى. و ممّا قاله ضرار لمعاوية في وصفه للإمام:

و لو رأيته في محرابه، و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه و هو قابض على لحيته يتململ تململ السليم(2) و يبكي بكاء الحزين، و هو يقول: «يا دنيا، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات، لا حاجة لي فيك، أبنتك ثلاثا(3) لا رجعة

ص:98


1- أمالي الصدوق ٤٨ _ ٤٩. بحار الأنوار ٤١ : ١١ _ ١٢.
2- السليم : من لدغته الحيّة.
3- باينتك : أي طلّقتك طلاقا بائنا.

لي عليك». ثمّ يقول: «آه آه لبعد السّفر، و قلّة الزّاد، و خشونة الطّريق» و تأثّر معاوية و قال: حسبك يا ضرار، كذلك و اللّه كان عليّ (1).

و روى نوف شدّة خشيته من اللّه تعالى، قال: بتّ ليلة عند أمير المؤمنين عليه السّلام فكان يصلّي الليل كلّه، و يخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء، و يتلو القرآن، قال: فمرّ بي بعد هدء من الليل فقال:

«يا نوف، أ راقد أنت أم رامق؟».

بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.

فالتفت إليه الإمام و هو يقول بصوت خافت:

«يا نوف، طوبى للزّاهدين في الدّنيا، الرّاغبين في الآخرة، اولئك الّذين اتّخذوا الأرض بساطا، و ترابها فراشا، و ماءها طيبا، و القرآن دثارا، و الدّعاء شعارا، و قرضوا من الدّنيا تقريضا، على منهاج عيسى بن مريم. إنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى عيسى بن مريم: قل للملإ من بني إسرائيل: لا يدخلوا بيتا من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة، و أبصار خاشعة، و أكفّ نقيّة، و قل لهم: اعلموا إنّي غير مستجيب لأحد منكم دعوة من خلقي في قلبه مظلمة...»(2).

إنّ هذه الإنابة تبهر العقول، إنّها إنابة العارفين باللّه تعالى الذين ملئت نفوسهم إيمانا و خشية و إخلاصا للّه تعالى، و لا شكّ في أنّ الإمام عليه السّلام هو إمام المتّقين و سيّد العارفين الذي غذّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بإيمانه و تقواه، فصار صورة صادقة عنه.

و قد روى المؤرّخون صورا مذهلة عن خشية الإمام و إنابته إلى اللّه تعالى، فقد

ص:99


1- بحار الأنوار ٤١ : ١٥. أمالي الصدوق : ٣٧١.
2- بحار الأنوار ٤١ : ١٦. الخصال ١ : ١٦٤.

رووا أنّه حينما كان في أشدّ الأهوال و أعنفها في صفّين كان يقيم الصلاة في وسط المعركة و سهام الأعداء تأخذه يمينا و شمالا، و هو غير حافل بها لأنّ مشاعره و عواطفه قد تعلّقت باللّه تعالى(1). و كان الإمام زين العابدين و سيّد الساجدين عليّ ابن الحسين عليه السّلام إذا أخذ كتاب عليّ و نظر ما فيه من عبادته قال: من يطيق هذا، خصوصا في حال صلاته فإنّه يتغيّر لونه. و ما أطاق أحد أن يعمل مثل عبادته إلاّ عليّ بن الحسين عليه السّلام(2).

و قد روى أبو جعفر، قال: دخلت على أبي عليّ بن الحسين فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، قد اصفرّ لونه من السهر، و رمضت عيناه من البكاء، و دبرت جبهته، و انخرم أنفه من السجود، و ورمت ساقاه و قدماه من الصلاة، قال أبو جعفر: فلم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحالة و هو يبكي فبكيت رحمة له، فالتفت إليّ فقال: أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب فأعطيته فقرأ فيها شيئا يسيرا، ثمّ تركها من يده تضجّرا، و قال: من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب(3).

العصمة من الذنوب:

و ظاهرة اخرى من نزعات الإمام عليه السّلام و ذاتياته العصمة من كلّ إثم و رجس، فلم يقترف - بإجماع المؤرّخين - أي ذنب أو خطيئة، و لم يشذّ عن سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هديه و سلوكه، و قد حاول ابن عوف بعد اغتيال عمر أن يقلّده الخلافة و شرط عليه أن يسير بسيرة الشيخين في حكومته فأبى و امتنع، و أصرّ على متابعة الكتاب و السنّة، و لو كان من عشّاق الملك و هواة السلطان لأجاب إلى ذلك، و لمّا أصر عليه الخوارج أن يعلن التوبة لينضمّوا تحت لوائه فأبى لأنّهم هم الذين اقترفوا

ص:100


1- وقعة صفّين : ١٣٣.
2- روضة الكافي : ١٩٥. الوسائل ١ : ٦٣.
3- الإرشاد : ٢٧١. بحار الأنوار ٣٧ : ١٧. وسائل الشيعة ١ : ٦٨.

الإثم و أرغموا الإمام على قبول التحكيم، و لو كان يروم السلطة لأجابهم إلى ذلك.

و على أي حال فقد صدرت منه مجموعة من الكلمات تدلّ - بوضوح - على عصمته، كان منها ما يلي:

1 - قال عليه السّلام:

«و اللّه لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي اللّه جلب شعيرة أسلبها من فم نملة ما فعلت».

و هذه هي العصمة التي تقول بها الشيعة، و تضفيها على أئمّتهم.

2 - قال عليه السّلام:

«و اللّه لأن أبيت على حسك السّعدان(1) مسهّدا، أو أجرّ في الأغلال مصفّدا، أحبّ إليّ من أن ألقى اللّه و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، و غاصبا لشيء من الحطام»(2).

أ ليست هذه هي العصمة؟ أ ليست هذه هي الطهارة من الرجس و آثام الحياة؟ أ ليست هذه هي ملكة العدالة التي تبلغ بالإنسان إلى قمّة الإيمان و التقوى؟ 3 - قال عليه السّلام:

«و إنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، و تثبت على جوانب المزلق(3). و لو شئت لاهتديت الطّريق، إلى مصفّى هذا

ص:101


1- الحسك : الشوك. السعدان : نبت له شوك ترعاه الإبل.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٣ : ٨٠.
3- المزلق : الصراط.

العسل، و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القزّ. و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة - و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، و لا عهد له بالشّبع - أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:

و حسبك داء أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ

أ أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، و لا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش!»(1).

أ ليس هذا هو نكران الذات الذي هو عين العصمة من كلّ إثم من مآثم الحياة.

4 - قال عليه السّلام:

«و اللّه لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم».

فإذا كانت الدنيا عنده بهذه الحقارة و الضعة كيف يقترف الذنوب للظفر بملاذها و خيراتها.

5 - قال عليه السّلام:

«و إنّي لعلى بيّنة من ربّي، و منهاج من نبيّي، و إنّي لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا».

لقد كان على الطريق الواضح الذي لا التواء و لا منعطفات فيه، و هو عين العصمة التي من ذاتيات الإمام عليه السّلام.

6 - قال عليه السّلام:

«ما كذبت و لا كذّبت، و لا ضللت و لا ضلّ بي».

ص:102


1- نهج البلاغة ٣ : ٣.

7 - قال عليه السّلام:

«إنّي لم أردّ على اللّه و لا على رسوله ساعة قطّ».

8 - قال عليه السّلام:

«فو الّذي لا إله إلاّ هو إنّي لعلى جادّة الحقّ، و إنّهم لعلى مزلّة الباطل».

و تجسّدت العصمة بجميع صورها و مفاهيمها في أقوال الإمام و سلوكه و نزعاته.

زهده:

اشارة

من ذاتيات إمام المتّقين، و من أبرز عناصره الزهد التامّ في الدنيا، و الرفض الكامل لجميع مباهجها و زينتها، لقد سيطر على نفسه و عوّدها البؤس و الحرمان، و حمّلها من أمره رهقا، فلم يستجب لأي متعة من متع الحياة، و لم ينعم بأي نعمة من نعيمها، فكان أزهد الناس كما يقول عمر بن عبد العزيز(1).

و لمّا آلت إليه الخلافة و أشرقت الدنيا بحكومته التي هي امتداد لحكومة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، طلّق الدنيا ثلاثا و عاش في أرباض يثرب و الكوفة عيشة البؤساء و الفقراء، فلم يبن له دارا، و لم يلبس من أطائب الثياب و إنّما كان يلبس لباس الفقراء، و يأكل أكلهم، و قد قيل له في ذلك فأجاب: «لئلا يتبيّغ بالفقير فقره!» و هكذا انصرف عن الدنيا، و لم يعد لملاذها و منافعها أي ظلّ عليه.

صور مذهلة من زهده:
اشارة

و ذكر المؤرّخون و الرواة صورا رائعة و مذهلة من زهد الإمام عليه السّلام كان منها ما يلي:

ص:103


1- تاريخ دمشق ٣ : ٢٥٢. جواهر المطالب ١ : ٢٧٦.
1 - لباسه:

و لم يعن الإمام عليه السّلام بلباسه، و إنّما كان يلبس أخشن الثياب، و هذه بعض البوادر التي حكيت عنه:

أ - روى عمر بن قيس قال: رئي عليّ و عليه إزار مرقوع فعوتب عليه، فقال:

«يقتدي به المؤمن، و يخشع له القلب»(1).

ب - روى أبو إسحاق السبيعي، قال: كنت على عنق أبي و أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب يخطب، و هو يتروّح بكمّه، فقلت: يا أبه، أمير المؤمنين يجد الحرّ؟ فقال: لا يجد حرّا و لا بردا، و لكنّه غسل قميصه و هو رطب، و لا له غيره فهو يتروّح به»(2).

ج - روى أبو حيّان التميمي عن أبيه، قال: رأيت عليّا على المنبر يقول:

«من يشتري منّي سيفي هذا؟ فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته».

فقام إليه رجل فقال له: أنا اسلفك ثمن إزار... و علّق على ذلك عبد الرزاق فقال: لقد فعل الإمام ذلك و كانت الدنيا إذ ذاك بيده إلاّ الشّام(3)

د - روى عليّ بن الأقمر قال: رأيت عليّا و هو يبيع سيفا له في السوق و يقول:

«من يشتري منّي هذا السّيف، فو الّذي فلق الحبّة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لو كان عندي ثمن إزار ما بعته»(4).

ص:104


1- صفة الصفوة ١ : ١٦٨. المناقب ١ : ٣٦٦ ، وفيه زيادة : « وتذلّ به النفس ».
2- الغارات ١ : ٩٩.
3- الاستيعاب ( المطبوع على هامش الإصابة ) ٢ : ٤٩. جواهر المطالب : ٢٨٤.
4- صفة الصفوة ١ : ١٦٨.

ه - ذكر الرواة: أنّه لم يكن للإمام إلاّ قميص واحد لا يجد غيره في وقت الغسل(1).

و - أتى الإمام عليه السّلام سوق البزّازين ليشتري ثوبا له فوقف على تاجر فعرفه، فأراد مسامحته ليتقرّب إليه، فانصرف عنه و لم يشتر منه، و وقف على غلام لم يعرفه فاشترى منه ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم، و الآخر بدرهمين، فقال لقنبر:

«خذ الّذي بثلاثة دراهم».

فقال له قنبر: أنت أولى به، إنّك تصعد المنبر و تخطب الناس، فردّ عليه الإمام و قال له:

«أنت شابّ، و لك شرخ الشّباب، و أنا أستحي من ربّي أن أتفضّل عليك»(2).

ز - اشترى الإمام عليه السّلام قميصا بثلاثة دراهم، و قال: «الحمد للّه هذا من رياشه»، أي من ستره(3).

ح - روى هارون بن عنترة قال: دخلت على عليّ في الخورنق، و هو يرعد من البرد، و عليه سمل قطيفة، فقلت:

يا أمير المؤمنين، إنّ اللّه قد جعل لك و لأهل بيتك نصيبا في هذا المال، و أنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال:

«و اللّه! ما أرزؤكم شيئا من مالكم، و إنّها لقطيفتي الّتي خرجت بها من منزلي بالمدينة»(4).

ص:105


1- المناقب ١ : ٣٦٦.
2- الغارات ١ : ١٠٦.
3- أمالي المرتضى ١ : ٣٥٣. النجوم الزاهرة ١ : ٣٥٣.
4- حلية الأولياء ٣ : ٢٣٦.

ط - اشترى الإمام عليه السّلام ثوبا فأعجبه فكره أن يلبسه، و بادر فتصدّق به(1).

ي - خطب الإمام عليه السّلام على أهل الكوفة، فقال لهم: «دخلت بلادكم بإسمالي هذه و راحلتي هذه، فإذا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنّي من الخائنين» (2)! ك - ذكر الرواة أنّ الإمام في أيام خلافته لم يكن عنده قيمة ثلاثة دراهم ليشتري بها إزارا أو ما يحتاج إليه، ثمّ يدخل بيت المال فيقسّم كلّ ما فيه على الناس، ثمّ يصلّي فيه، و يقول: «الحمد للّه الّذي أخرجني منه كما دخلته»(3).

هذه بعض البوادر من زهده في لباسه، و قد توفّي و ليس عنده من الثياب غير الثوب الذي عليه... و من الجدير بالذكر أن نلقي نظرة على ما تركه ملوك بني العباس، فقد توفّي هارون الرشيد و خلّف أربعة آلاف عمامة مطرّزة ما عدا الثياب التي خلّفها، فضلا عن الأموال التي خلّفها في خزائنه، و هكذا غيره من ملوك الأمويّين و العبّاسيّين، الّذين لا يمثّلون إلاّ جانب الترف و النهب لأموال المسلمين، و من المؤكّد أنّهم لا علاقة لهم بالسياسة الاقتصادية التي تبنّاها الإسلام.

2 - طعامه:

و امتنع الإمام عليه السّلام من تناول ألوان الأطعمة، و اقتصر على ما يسدّ الرمق من الأطعمة البسيطة كالخبز و الملح، و ربّما تعدّاه إلى اللبن أو الخلّ، و كان في أيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يربط الحجر على بطنه من الجوع(4)، و كان قليل التناول للحم، و قد قال: «لا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوانات»، و يقول ابن أبي الحديد: إنّه ما شبع

ص:106


1- المناقب ١ : ٣٦٦.
2- المصدر السابق : ٣٦٧.
3- المصدر السابق : ٣٦٤.
4- مسند أحمد ٢ : ٣٥١ ، رقم الحديث ١٣٦٧.

من طعام قطّ، و قد اتي له بفالوذج(1)، فلمّا وضع بين يديه، قال: «إنّه طيّب الرّيح، حسن اللّون، طيّب الطّعم، و لكن أكره أن أعوّد نفسي ما لم تعتد»(2). و قد روى الإمام أبو جعفر عليه السّلام قال: «أكل عليّ من تمر دقل(3) ثمّ شرب عليه الماء، و ضرب يده على بطنه و قال: من أدخله بطنه النار فأبعده اللّه»، ثمّ تمثّل:

«فإنّك مهما تعط بطنك سؤله و فرجك نالا منتهى الذّمّ أجمعا»(4)

و روى عبد الملك بن عمير قال: حدّثني رجل من ثقيف أنّ عليّا عليه السّلام استعمله على عكبرا، قال: و لم يكن السواد يسكنه المصلّون، و قال لي: «إذا كان عند الظّهر فرح إليّ»، فرحت إليه فلم أجد عنده حاجبا يحبسني عنه دونه، فوجدته جالسا و عنده قدح و كوز من ماء فدعا بظبية(5) فقلت في نفسي: لقد أمنني حتى يخرج إليّ جواهرا - و لا أدري ما فيها - فإذا عليها خاتم فكسر الخاتم فإذا فيها سويق، فأخرج منها فصبّ في القدح فصبّ عليه ماء فشرب و سقاني، فلم أصبر فقلت:

يا أمير المؤمنين، أتصنع هذا بالعراق، و طعام العراق أكثر من ذلك؟ قال: «أما و اللّه! ما أختم عليه بخلا، و لكنّي ابتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن يفنى فيصنع من غيره، و إنّما حفظي لذلك، و أكره أن ادخل بطني إلاّ طيّبا»(6).

و هكذا كان رائد العدالة الإسلامية متحرّجا في طعامه كأشدّ ما يكون التحرّج، و قد تحدّث الإمام عليه السّلام عن زهده و إعراضه عن الدنيا بقوله:

ص:107


1- الفالوذج : حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل ، والكلمة فارسية.
2- حلية الأولياء ١ : ٨١. كنز العمّال ١٥ : ١٦٤.
3- الدقل : أردأ التمر.
4- كنز العمّال ٢ : ٢٦١.
5- الظبية : جراب صغير.
6- حلية الأولياء ١ : ٨٢. الرياض النضرة ٢ : ٢٣٥.

«فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا، و لا ادّخرت من غنائمها وفرا، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا، و لا حزت من أرضها شبرا، و لا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة».

و من المؤكّد أنّ الإمام عليه السّلام لم ينل من أطائب الطعام حتى وافاه الأجل المحتوم، فقد أفطر في آخر يوم من حياته في شهر رمضان على خبز و جريش ملح، و أمر برفع اللبن الذي قدّمته له بنته الزكية أمّ كلثوم(1)، و هو في نفس الوقت كان يدعو اليتامى فيطعمهم العسل حتى قال بعض أصحابه: وددت أنّي كنت يتيما(2)، و روى عبد اللّه بن رزين قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب يوم الأضحى فقرّب إلينا حريرة فقلت: أصلحك اللّه، لو قرّبت إلينا من هذا البطّ - يعني الوزّ - فإنّ اللّه عزّ و جلّ قد أكثر الخير، فقال:

«يا ابن رزين، إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا يحلّ للخليفة من مال اللّه إلاّ قصعتان، قصعة يأكلها هو و أهله، و قصعة يضعها بين يدي النّاس»(3). و قد سار على هذا المنهج المشرق لأنّه إمام المسلمين و له خطته الخاصّة في الزهد، لا يشاركه فيها أحد من أبناء الشعب، و من أمثلة ذلك أنّه شكا إليه الربيع بن زياد الحارثي أخاه قائلا: اعدني على أخي عاصم.

«ما باله؟».

لبس العباءة يريد النسك... فأمر الإمام بإحضاره، فلمّا مثل بين يديه رآه الإمام مؤتزرا بعباءة مرتديا باخرى، شعث الرأس و اللحية، فعبس الإمام بوجهه و قال له بعنف:

«أ ما استحييت من أهلك؟ أ ما رحمت ولدك؟ أ ترى أنّ اللّه أباح لك الطّيّبات،

ص:108


1- منتهى الآمال ١ : ٣٣٤.
2- بحار الأنوار ٤١ : ٢٩.
3- مسند أحمد بن حنبل ١ : ٧٨.

و هو يكره أن تنال منها شيئا، بل أنت أهون على اللّه، أ ما سمعت اللّه يقول في كتابه:

وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ. فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ. وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ. وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (1) أ فترى أنّ اللّه أباح هذه لعباده إلاّ ليبتذلوه، و يحمدوا اللّه تعالى عليه فيثيبهم، و إنّ ابتذالك نعم اللّه بالفعل خير منه بالمقال...».

و بادر عاصم قائلا: فما بالك في خشونة مأكلك، و خشونة ملبسك، فإنّما تزيّنت بزينتك؟ فردّ عليه الإمام قائلا:

«ويحك إنّ اللّه فرض على أئمّة الحقّ أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس»(2).

لقد زهد الإمام عليه السّلام في الدنيا في جميع فترات حياته خصوصا لمّا تولّى السلطة العامّة للمسلمين، فقد تجرّد تجرّدا تامّا من جميع رغباتها، و من أمثلة زهده ما رواه صالح بن الأسود قال: رأيت عليّا قد ركب حمارا و أدلى رجليه إلى موضع واحد، و هو يقول: «أنا الّذي أهنت الدّنيا»(3)، أجل و اللّه يا رائد العدل لقد أهنت الدنيا، و احتقرت جميع مباهجها و زينتها، فقد أتتك الدنيا و تقلّدت أسمى مركز فيها، فلم تحفل بها، و لم تعر لسلطتها أي بال، فسلام اللّه عليك يا إمام المتّقين.

بطولته النادرة:

من مظاهر شخصيّة الإمام عليه السّلام بطولته النادرة التي استوعبت - بفخر و شرف -

ص:109


1- الرحمن : ١٠ _ ٢٢.
2- ربيع الأبرار ٤ : ٨٥ _ ٨٦.
3- تاريخ دمشق ٣ : ٢٣٦. جواهر المطالب : ٢٧٦.

جميع لغات الأرض، و صارت مضرب الأمثال و انشودة الأبطال في كلّ زمان و مكان، فهو بطل الإسلام دون منازع، لا يعرف المسلمون سيفا كسيف عليّ في إطاحته لرؤوس المشركين و أعلام الملحدين، و هو الذي أذلّ طغاة القرشيّين، و سحق كبرياءهم، و دمّر غلواءهم، و مواقفه المشرّفة في واقعة بدر و احد و الأحزاب و غيرها تدلّل - بوضوح - على أنّ الإسلام قام بجهوده و جهاده، و لو لا مواقفه الحاسمة لما أبقت القوى القرشية الضالّة أثرا للإسلام.

و على أي حال لقد كان الإمام حتف المشركين، و عدوّهم الألدّ بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و لو لا جهاده و قوّة بأسه و صلابة موقفه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع، و لقضت عليه قريش في أوّل بزوغ نوره، و قد شاعت في جميع الأوساط شجاعته، و راح الناس يتحدّثون عنها بإعجاب، و قد قيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّ أفرس الناس عمرو بن معدي كرب، فردّ عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أفرس النّاس عليّ بن أبي طالب»(1).

و قد شبّه السيّد الحميري بطولة الإمام و شجاعته بالريح العاتية التي أخذت قوم عاد بقوله:

إذا أتى معشرا يوما أنامهم إنامة الرّيح في تدميرها عادا(2)

يقول ابن أبي الحديد: و أمّا الشجاعة فإنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، و محا اسم من يأتي بعده، و مقاماته في الحرب مشهورة تضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة. و هو الشجاع الذي ما فرّ قطّ، و لا ارتاع من كتيبة، و لا بارز أحدا إلاّ قتله، و لا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الاولى إلى الثانية.

ص:110


1- رسائل الجاحظ ٢ : ٢٢٢.
2- أعيان الشيعة ٢ : ١٣٦.

و في الحديث: «كانت ضرباته وترا»(1). و لمّا دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ صحبتني إلاّ اليوم، أ تأمرني بمبارزة أبي الحسن و أنت تعلم أنّه الشجاع المطرق، أراك طمعت في امارة الشام بعدي.. و كانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأمّا قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه عليه السّلام قتلهم أظهر و أكثر.

قالت اخت عمرو بن عبد ودّ ترثيه:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته ما أقام الرّوح في جسدي

لكنّ قاتله من لا نظير له و كان يدعى أبوه بيضة البلد(2)

و جملة الأمر أنّه احتلّ الصدارة في شجعان العالم، و أنّ شجاعته النادرة كانت في نصرة الإسلام، و نصرة المظلومين، و المعذّبين في الأرض.

و من مظاهر شجاعته أنّه كان يخرج في أيام صفّين وحده بغير حماية فقيل له:

تقتل أهل الشام بالغداة و تظهر بالعشي في إزار و رداء؟ فقال عليه السّلام: «بالموت تخوّفوني؟ فو اللّه ما ابالي سقطت على الموت أم سقط عليّ!»(3) إنّه كان على بيّنة من دينه، فقد سخر من الموت و هزأ بالحياة؛ لأنّه عاش مجاهدا طيلة حياته.

قوّته الهائلة:

وهب اللّه تعالى للإمام عليه السّلام قوّة هائلة، و قوّة نفسية مذهلة، استطاع بهما أن

ص:111


1- وفي المثل المعروف أنّ ضربة عليّ تفرد المثنى وتثنّى المفرد ، قال الشعبي : عليّ أشجع الناس تقرّ له بذلك العرب ، جاء ذلك في نور القبس المختصر من المقتبس للميرزباني : ٢٤٥.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٢٠.
3- العقد الفريد ١ : ١٠٢.

يلحق العار و الهزيمة بالقرشيّين، و يهزم اليهود الذين كانوا يمدّون القرشيّين بالمال و السلاح لإخماد نور الإسلام، و من قوّته أنّه إذا أمسك بذراع رجل كأنّما أمسك نفسه، و لم يستطع أن يتنفّس(1)، و كان في صباه يصارع كبار اخوته و صغارهم و كبار بني عمّه و صغارهم فيصرعهم، و كان أبوه يقول: ظهر عليّ فسمّاه ظهيرا، فلمّا ترعرع كان يصارع الرجل الشديد فيصرعه و يعلو بالجبار بيده و يجذبه و يقتله، و ربّما قبض على مراق بطنه و رفعه في الهواء، و ربّما يلحق الحصان الجاري فيصدمه و يردّه على عقبيه(2)، و هو الذي قلع باب خيبر و جعلها جسرا على الخندق فعبر عليها الجيش الإسلامي، ثمّ رماها مسافة أذهلت العسكر و صارت احدوثة الناس في جميع مراحل تاريخهم، و هي من الأسباب التي دعت أن يذهب فريق من محبّي الإمام عليه السّلام إلى القول بإلهيّته.

حلمه:

اشارة

كان الإمام عليه السّلام من أحلم الناس، و من أكثرهم كظما لغيظه، فلم يثأر من أي أحد اعتدى عليه أو أساءه، و إنّما كان يقابلهم بالصفح و الإحسان كشأن أخيه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، الذي قابل المعتدين عليه بالصفح، و قد قال لأهل مكّة و هم من ألدّ أعدائه، الذين ما تركوا لونا من ألوان الاعتداء إلاّ صبّوه عليه: «اذهبوا فقد عفوت عنكم فأنتم الطّلقاء»، على هذا المنهج سار وصيّه و باب مدينة علمه، فقابل أعداءه و خصومه بالصفح و الإحسان الجميل.

بوادر من حلمه:

و هذه لمحات من بوادر حلمه تنمّ عن نفسه العظيمة التي خلقها اللّه لتكون

ص:112


1- بحار الأنوار ٤١ : ٢٧٦.
2- بحار الأنوار ٤١ : ٢٧٥. مناقب آل أبي طالب ١ : ٤٣٩.

مشكاة نور لعباده تهديهم للتي هي أقوم، و هي كما يلي:

1 - دعا الإمام عليه السّلام غلاما له فلم يجبه، ثمّ دعاه مرّة ثانية و ثالثة فلم يجبه، فقام إليه و قال له:

«ما حملك على ترك إجابتي؟».

فردّ عليه الغلام:

- كسلت عن إجابتك، و أمنت عقوبتك..

و امتلأ قلب الإمام سرورا، و قال عليه السّلام: «الحمد للّه الّذي جعلني ممّن يأمنه خلقه، امض فأنت حرّ لوجه اللّه تعالى»(1).

2 - قصده أبو هريرة، و كان معروفا بانحرافه عنه، و متجاهرا ببغضه، فسأله حاجة فقضاها له، فعاتبه بعض أصحابه على ذلك فقال عليه السّلام:

«إنّي لأستحي أن يغلب جهله حلمي، و ذنبه عفوي، و مسألته جودي»(2).

3 - كان ابن الكوّاء الخارجي، و هو من الممسوخين يجاهر بشتم الإمام و يعلن سبّه أمامه، فلم يقابله بالمثل، و لا تعرّض لنقمته، و قد تلا عليه الآية أمام الناس:

وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ(3)، و أعاد عليه الآية، فأجابه الإمام فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ(4)، و لم يتّخذ معه الإجراءات الصارمة فيوعز إلى الشرطة باعتقاله و تأديبه.

ص:113


1- المناقب ١ : ٣٨٠. أمالي المرتضى ١ : ٥٢٥.
2- المناقب ٦ : ٣٨٠.
3- الزمر : ٦٥.
4- الروم : ٦٠.

4 - و كان من عظيم حلمه أنّه ظفر بعائشة بعد فشلها في حرب الجمل، و هي من ألدّ أعدائه، و معها مروان بن الحكم، و عبد اللّه بن الزبير، و غيرهما من الحاقدين عليه، الذين أشعلوا نار الحرب، و أعلنوا التمرّد و العصيان المسلّح على حكومته، فعفا عنهم جميعا، و سرّح عائشة سراحا جميلا، و جهّزها جهازا حسنا.

و هكذا كانت سيرته الصفح و الإحسان ليقلع نزعات الحقد و الشرّ من نفوسهم.

يقول ابن أبي الحديد عن حلم الإمام:

و أمّا الحلم و الصفح فكان أحلم الناس عن مذنب، و أصفحهم عن مسيء، و قد ظهر حجّة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم و كان من أعدى الناس، و أشدّهم بغضا له، فصفح عنه.

و كان عبد اللّه بن الزبير يشتمه على رءوس الأشهاد، و خطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد اللئيم عليّ بن أبي طالب، و كان عليّ يقول:

«ما زال الزّبير رجلا منّا أهل البيت حتّى شبّ عبد اللّه»، فلمّا ظفر به يوم الجمل صفح عنه، و قال له: «اذهب فلا أرينّك» و لم يزد على ذلك.

و ظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكّة، و كان له عدوّا فأعرض عنه، و لم يقل له شيئا(1).

و من عظيم حلمه و صفحه أنّ معاوية لمّا زحف لحرب الإمام و استولى على الماء اعتبر ذلك أوّل الظفر، فلمّا جاء الإمام مع جيشه وجد حوض الفرات قد احتلّته جيوش معاوية، فطلب منهم أن يسمحوا لجيشه بالتزوّد من الماء، فقالوا له:

لا و اللّه و لا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفّان، فلمّا رأى ذلك أمر جيشه باحتلال الفرات، فاحتلّته قوّاته و ملكوا الماء، و سار أصحاب معاوية في البيداء

ص:114


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٢٣.

لا ماء لهم، فقال أصحاب الإمام له: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، و لا تسقهم منه قطرة واحدة، و اقتلهم بسيوف العطش، و خذهم قبضا بالأيدي، فلا حاجة لك في الحرب، فقال:

«لا و اللّه لا اكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن الشّريعة ففي حدّ السّيف ما يغني عن ذلك»(1).

6 - و من عظيم عفوه أنّه في يوم من أيام صفّين ظفر بأعدى أعدائه و هو عمرو ابن العاص العقل المدبّر في حكومة معاوية، فلمّا رأى هذا الجبان الماكر أنّ الإمام قد أقبل عليه بسيفه أخرج عورته، فخجل الإمام و أشاح بوجهه عنه ترفّعا.

صبره:

من أبرز صفات الإمام عليه السّلام الخلود إلى الصبر، و عدم الجزع على ما ألمّ به من محن الدنيا، و كوارث الأيام، و كان من أشدّها هولا، و أعظمها محنة فقده لأخيه و ابن عمّه الذي عاش في ذرى عطفه سيّد الكائنات الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، لقد فقد بموته كلّ أمل له في الحياة، و طافت به الأزمات يتبع بعضها بعضا، و كان من أفجعها و أقساها و أشدّها بلاء هجوم القوم عليه في عقر داره، و إخراجه ملبّبا بحمائل سيفه ليبايع أبا بكر، و قوبل بمنتهى الصرامة و القسوة، و تنكّر القوم لمركزه الرفيع، و عظيم جهاده في الإسلام، و أنّه أخو نبيّهم، و أبو سبطيه، و باب مدينة علمه، فأقصوه عن مقامه، و استعملوا معه جميع ألوان الشدّة التي سنذكرها في فصول هذا الكتاب.

و من المحن الشاقّة التي عاناها الإمام فقده لسيّدة نساء العالمين زهراء

ص:115


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٢٤.

الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فلم تمض أيام معدودة حتى فجع بفقدها، و هي في فجر الصبا و روعة الشباب، و قد التاع و حزن على فقدها كأشدّ ما يكون الحزن، و بقي في أرباض بيته صابرا محتسبا يسامر الهموم و الأحزان بمعزل تامّ عن الامّة سياسيا و اجتماعيا، قد خمدت طاقاته و مواهبه و حرمت الامّة من علومه، لم يشارك الخلفاء في أي أمر من امور الدولة اللّهمّ إلاّ إذا ألمّت بهم مسألة لا يهتدون لحلّها فزعوا إليه ليكشف لهم ما جهلوه، حتى شاعت كلمة عمر: لو لا عليّ لهلك عمر.

و لمّا آلت الخلافة إلى عثمان بن عفّان عميد الاسرة الاموية استبدّ بامور المسلمين، و ارتكب الأحداث الجسام لذا عمد المسلمون إلى قتله، و هرعوا إلى الإمام عليه السّلام ليتولّى قيادة الامّة و يعيد حكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سياسته المشرقة بين المسلمين، فامتنع الإمام من إجابتهم لعلمه بفساد الأوضاع الاجتماعية، و ما سيعانيه من الأزمات و المصاعب، فأصرّوا عليه و هدّدوه إن لم يستجب لهم، فأجابهم على كره، فقام بالأمر باسطا للعدل ناشرا للحقّ، و بايعته الجماهير، و عمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط إلاّ الاسر القرشيّة، فقد فزعت كأشدّ ما يكون الفزع، فقد خافت عل مصالحها و نفوذها الذي ظفرت به في أيام الخلفاء، فهبّت للإطاحة بحكومة الإمام، فكانت واقعة الجمل و صفّين، ثمّ تتابعت عليه الرزايا و الخطوب، و هو صابر يحتسب حتى لاقى ربّه شهيدا محتسبا في بيت من بيوت اللّه، فأي صبر و أي بلاء مثل هذا الصبر و البلاء؟

تواضعه:

اشارة

من ذاتيات الإمام عليه السّلام و نزعاته التواضع، و لكن لا للأغنياء و المتكبّرين، و إنّما للفقراء و المستضعفين، فكان يخفض لهم جناح البرّ و المودّة، و قد ضارع بذلك أخاه و ابن عمّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فقد كان للمؤمنين أبا و للفقراء أخا..

و نعرض فيما يلي لبعض ما اثر عن الإمام عليه السّلام.

ص:116

شذرات من تواضعه:

و هذه شذرات معطّرة بهدي الإمام عليه السّلام من تواضعه:

1 - وفد عليه رجل مع ابنه فرحّب بهما و أجلسهما في صدر المجلس، ثمّ أمر لهما بطعام، و بعد الفراغ منه بادر الإمام فأخذ الإبريق ليغسل يد الأب ففزع الرجل، و قال:

كيف يراني اللّه و أنت تصبّ الماء على يدي؟ فأجابه الإمام عليه السّلام برفق و لطف:

«إنّ اللّه يراني أخاك الّذي لا يتميّز منك، و لا يتفضّل عنك، و يزيدني بذلك منزلة في الجنّة».

أيّ روح ملائكية هذه الروح؟ و أيّ سموّ في الذات هذا السموّ؟ و انصاع الرجل إلى كلام الإمام عليه السّلام، فصبّ الماء على يده، و لمّا فرغ ناول الإبريق إلى ولده محمّد بن الحنفية، و قال له:

«يا بنيّ، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت الماء على يده، و لكنّ اللّه يأبى أن يسوّي بين الابن و أبيه».

و قام محمّد فغسل يد الولد(1)، و هذه الأخلاق العلوية مقتبسة من أخلاق الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله الذي امتاز على سائر النبيّين بمكارم أخلاقه.

2 - اجتاز الإمام في رجوعه من صفّين على دهّاقين الأنبار فقابلوه بمزيد من التعظيم و التكريم، و صنعوا له كما يصنعون للملوك و الامراء، فأنكر الإمام عليهم

ص:117


1- المناقب ١ : ٣٧٣.

ذلك و قال لهم: «و اللّه! ما ينتفع بهذا امراؤكم، و إنّكم لتشقّون به على أنفسكم، و تشقّون به على آخرتكم. و ما أخسر المشقّة وراءها العقاب، و ما أربح الرّاحة معها الأمان من النّار»(1).

3 - من تواضعه أنّه خرج راكبا فسار معه أصحابه، فالتفت إليهم:

«أ لكم حاجة؟».

- لا، و لكن نحبّ أن نمشي معك.

فنهاهم عن ذلك، و أمرهم بالانصراف إلى منازلهم قائلا:

«ارجعوا... النّعال خلف أعقاب الرّجال مفسدة لقلوب النّوكى(2)»(3).

حقّا إنّ هذه الأخلاق أخلاق الأنبياء العظام و أوصياءهم، و قد مثّلها بسيرته و سلوكه سيّد الأوصياء و إمام المتّقين و الأخيار، و ذكر الرواة صورا مشرقة بالشرف و الكرامة من تواضعه أيام خلافته نعرض لها عند البحث عن حكومته.

عيادته المرضى:

من معالي أخلاق الإمام عليه السّلام عيادته للمرضى، و كان يحفّز أصحابه على ذلك، و يحثّهم على هذه الظاهرة، فقد قال لهم: «من أتى أخاه المسلم يعوده مشى في خرافة الجنّة(4)، فإذا جلس غمرته الرّحمة»(5).

ص:118


1- المناقب ١ : ٣٧٢.
2- النوكى : الحمقى.
3- ربيع الأبرار ٤ : ١٣١.
4- خرافة الجنّة : ثمارها.
5- ربيع الأبرار ٤ : ١٢٧.

و كان عليه السّلام إذا علم أنّ أحدا من أصحابه مريض بادر لعيادته، و هذه بعض زياراته لهم:

1 - عاد شخصا من أصحابه، و لمّا استقرّ به المجلس قال له:

«جعل اللّه ما كان من شكواك حطّا لسيّئاتك، فإنّ المرض لا أجر فيه، و لكنّه يحطّ السّيّئات، و يحتّها حتّ الأوراق. و إنّما الاجر في القول باللّسان، و العمل بالأيدي و الأقدام»(1).

2 - عاد الإمام عليه السّلام صاحبه و صديقه صعصعة بن صوحان، فقال له الإمام:

«و اللّه ما علمتك إلاّ خفيف المئونة، حسن المعونة».

فأجابه صعصعة:

- و أنت يا أمير المؤمنين، إنّ اللّه في عينك لعظيم، و إنّك بالمؤمنين لرحيم، و إنّك بكتاب اللّه لعليم.

و لمّا أراد الإمام عليه السّلام الخروج قال لصعصعة:

«يا صعصعة، لا تجعل عيادتي فخرا على قومك، فإنّ اللّه تعالى لا يحبّ كلّ مختال فخور»(2).

إنّ جميع ألوان الفخر و المظاهر الزائفة التي يعنى بها الناس قد سحقها الإمام عليه السّلام و لم يحفل بأي شيء منها.

كراهته للمدح:

كان الإمام عليه السّلام يسأم المدح و الإطراء، و كان يقول لمن أطراه: «أنا دون ما تقول، و فوق ما في نفسك»، و إذا أطرى عليه رجل قال: «اللّهمّ إنّك أعلم بي منه،

ص:119


1- ربيع الأبرار ٤ : ١٣١.
2- المصدر السابق : ١٣٢.

و أنا أعلم منه بنفسي، فاغفر لي ما لا يعلم»(1).

إجابته لدعوة من دعاه لتناول الطعام:

و من معالي أخلاق الإمام عليه السّلام أنّه إذا دعي لتناول الطعام أجاب إلى ذلك خصوصا إذا دعاه فقير، و قد دعاه شخص لذلك فقال له:

«نأتيك على أن لا تتكلّف لنا ما ليس عندك، و لا تدّخر عنّا ما عندك»(2).

و هذا من محاسن الآداب، و من أروع صور الشرف، و سموّ الذات.

سخاؤه:

اشارة

كان الإمام عليه السّلام من أندى الناس كفّا، و من أكثرهم برّا و إحسانا إلى المحتاجين، و كان لا يرى للمال قيمة سوى أن يردّ به جوع جائع أو يكسو به عريان، و كان يؤثر الفقراء على نفسه و لو كانت به خصاصة و هو و أهل بيته الذين أطعموا المسكين و اليتيم و الأسير قوتهم، و طووا ثلاثة أيام صياما لم يذوقوا سوى الماء القراح، فأنزل اللّه تعالى فيهم سورة (هل أتى) فكانت و سام فخر و شرف لهم على امتداد التاريخ تشيد بفضلهم و سموّ مكانتهم عند اللّه تعالى حتى يرث اللّه الأرض و من عليها.

و الإمام عليه السّلام هو الذي تصدّق بخاتمه على المسكين في أثناء صلاته فأنزل اللّه تعالى في حقّه الآية الكريمة: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ(3).

ص:120


1- أمالي المرتضى ١ : ٢٧٤.
2- البيان والتبيين ٢ : ١٩٧.
3- المائدة : ٥٥.

شذرات من جوده:

هذه شذرات من برّ الإمام عليه السّلام وجوده على الفقراء، لم يبغ بما قدّمه لهم من إحسان إلاّ وجه اللّه تعالى و الدار الآخرة:

1 - روى الأصبغ بن نباتة قال: جاء رجل إلى الإمام فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّ لي إليك حاجة قد رفعتها إلى اللّه تعالى قبل أن أرفعها إليك، فإن قضيتها حمدت اللّه تعالى و شكرتك، و إن لم تقضها حمدت اللّه تعالى و عذرتك.

فقال له الإمام عليه السّلام: «اكتب حاجتك على الأرض، فإنّي أكره أن أرى ذلّ السّؤال على وجهك».

فكتب الرجل إنّي محتاج، فأمر الإمام بإحضار حلّة فاتي بها إليه فأخذها الرجل فلبسها، و قال:

كسوتني حلّة تبلى محاسنها فسوف أكسوك من حسن الثّنا حللا

إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمة و لست تبغي بما قد قلته بدلا

إنّ الثّناء ليحيي ذكر صاحبه كالغيث يحيي نداه السّهل و الجبلا

لا تزهد الدّهر في خير تواقعه فكلّ شخص سيجزى بالّذي عملا

و أمر الإمام بمائة دينار، فلمّا حضرت دفعها له، و بادر الأصبغ قائلا:

أمير المؤمنين، و مائة دينار؟!

فأجابه الإمام:

«سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أنزلوا النّاس منازلهم، و هذه منزلة الرّجل عندي»(1).

ص:121


1- جواهر المطالب ٢ : ١٢٩.

2 - من بوادر جوده أنّه لمّا قسّم بيت مال البصرة على جيشه لحق كلّ واحد منهم خمسمائة درهم، و أخذ هو مثل ذلك، فجاءه شخص لم يحضر الواقعة فقال له:

كنت شاهدا معك بقلبي، و إن غاب عنك جسمي، فاعطني من الفيء شيئا؟ فدفع إليه ما أخذه لنفسه، و رجع و لم يصب من الفيء شيئا(1).

3 - روى المعلّى بن خنيس عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ عليّا عليه السّلام أتى ظلّة بني ساعدة، و كانت السماء قد أمطرت، و هو يحمل جرابا فيه الخبز، فمرّ على قوم نيام - و هم من الفقراء - فجعل يدسّ الرغيف و الرغيفين تحت فراشهم، حتى أتى على آخرهم ثمّ انصرف(2).

4 - خرج الإمام عليه السّلام و هو يحمل على ظهره قربة، و في يده صحفة، و هو يقول: «اللّهمّ وليّ المؤمنين، و إله المؤمنين، و جار المؤمنين، اقبل قرباتي اللّيلة، فما أمسيت أملك سوى ما في صحفتي و غير ما يواريني، فإنّك تعلم أنّي منعته نفسي مع شدّة سغبي في طلب القربة إليك غنما، اللّهمّ فلا تخلق وجهي، و لا تردّ دعوتي»، و اخذ يطعم الفقراء(3).

5 - كان الإمام عليه السّلام يملك أربعة دراهم تصدّق بواحد ليلا، و بالثاني نهارا، و بثالث سرّا و بالرابع علانية، فنزلت فيه الآية الكريمة: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ(4).

ص:122


1- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٢٠٥.
2- المناقب ٤ : ٣٤٩.
3- بحار الأنوار ٤١ : ٢٩.
4- كشف الغمّة : ٥٠. البقرة : ٢٧٤.

6 - كان رجل مؤمن فقير في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ساكنا في دار ضيّقة و بجوارها حديقة لشخص موسر و فيها نخل يتساقط تمرها على دار الفقير، فيبادر من حرصه إلى أخذ التمر من أفواه الأطفال، و شكا الفقير ذلك إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فبادر إلى صاحب الحديقة و طلب منه أن يبيعها عليه، و يأخذ مكانها بستانا في الفردوس الأعلى، فأبى و قال: لا أبيعك عاجلا بآجل، فانصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله متأثّرا فرأى الإمام، فأخبره بالأمر، فتوجّه الإمام صوب ذلك الرجل و طلب منه أن يبيعه بستانه، فقال له: أبيعك بحائطك الحسن، فرضي الإمام، و باعه عليه، و سارع الإمام إلى الرجل الفقير فوهب له تلك البستان(1).

هذه بعض البوادر من سخائه وجوده على الضعفاء و الفقراء، يقول الشعبي:

كان عليّ أسخى الناس، كان على الخلق الذي يحبّه اللّه و هو السخاء و الجود، ما قال «لا» لسائل قطّ(2).

و قد أجمع المؤرّخون و المترجمون له أنّه لم يكن يبغي فيما أنفقه أي غرض من أغراض الدنيا كالجاه و السمعة و ذيوع الاسم، فإنّ ذلك لم يفكّر به، و إنّما كان يبغي وجه اللّه تعالى، و ما يقرّبه إليه زلفى.

الرأفة بالفقراء:

من عناصر الإمام عليه السّلام و ذاتياته الرأفة الكاملة بالفقراء، فكان لهم أبا، و عليهم عطوفا، و قد واساهم في مكاره الدهر و جشوبة العيش و خشونة اللباس، و هو القائل أيام خلافته:

أ أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى؟ أو أكون كما قال القائل:

ص:123


1- تفسير فرات : ٢١٣. بحار الأنوار ٤١ : ٣٧.
2- شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ١ : ٢٢.

و حسبك داء أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ

لقد كان أبو الحسن عليه السّلام ملاذا للفقراء و صديقا حميما للبؤساء، و قد تبنّى قضاياهم في جميع مراحل حياته خصوصا في أيام خلافته، و قد ثارت عليه الرأسمالية القرشية التي ناهضت الإسلام، و كفرت بقيمه و مبادئه، و بجميع ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من هدى و رحمة إلى الناس.

إنّ من أوّليات المبادئ التي آمن بها و اعتنقها هي القضاء على البؤس و الحرمان، و توزيع خيرات اللّه تعالى على عباده، فلا يختصّ بها فريق دون فريق، و لا قوم دون آخرين، و كانت مواساته للفقراء و مساواتهم للأغنياء من الأسباب الهامّة في بغض القرشيّين له، و اندفاعهم إلى مناجزته، و وضعهم العراقيل و السدود أمام مخطّطاته و متطلّباته الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في الأرض.

و على أي حال فالإمام أوّل حاكم في الشرق العربي و اسى الفقراء في آلامهم و مكارههم، و من ذلك أنّه نظر إلى امرأة على كتفها قربة ماء، و كانت مجهدة لا تقوى على حملها، فبادر إليها الإمام فأخذ القربة منها، و حملها إلى منزلها، و سألها عن حالها، فقالت له: إنّ عليّا بعث زوجي إلى بعض الثغور فاستشهد فيها، و ترك صبيانا يتامى، و ليس عندي شيء أقوتهم به، فألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس، فانصرف الإمام عنها و هو مثقل بالأحزان، و بات ليلته قلقا مضطربا، فلمّا أصبح حمل زنبيلا فيه طعام للأيتام، فرآه بعض شيعته فطلب منه أن يساعده في حمل الزنبيل عنه، فامتنع من إجابته، و قال له:

«من يحمل عنّي وزري يوم القيامة»؟ و مضى نحو بيت اليتامى فقرع الباب، فخرجت له المرأة فقالت له:

- من أنت؟

ص:124

«أنا العبد الّذي حمل معك القربة، افتحي الباب فإنّ معي شيئا للصّبيان».

فدعت له المرأة و قالت له:

- رضي اللّه عنك، و حكم بيني و بين عليّ بن أبي طالب.

و أجابها الإمام:

«إنّي أحببت اكتساب الثّواب، فاختاري بين أن تعجني و تخبزي، و بين أن تعلّلي الصّبيان و أنا أخبز».

و أجابته المرأة:

- أنا بالخبز أبصر، و عليه أقدر، و لكن شأنك و الصبيان، فعلّلهم حتى أفرغ من الخبز.

و عمدت المرأة إلى الدقيق فخبزته، و انبرى الإمام إلى اللحم فطبخه، و جعل يلقم الصبيان اللحم و التمر و غيره، و كلّما ناول صبيّا من ذلك شيئا قال له:

«يا بنيّ، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا مرّ عليك».

و لمّا اختمر العجين، قالت المرأة له:

- قم يا عبد اللّه، قم فاسجر التنّور، فبادر الإمام لسجره، و لفحت النار في وجهه، فجعل يقول:

«يا عليّ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل و اليتامى».

و دخلت امرأة من الجيران على المرأة، و كانت تعرف الإمام فصاحت بها:

ويحك هذا أمير المؤمنين».

و ذهلت المرأة و ودّت أن تسيخ بها الأرض، و قالت للإمام:

- و احيائي منك يا أمير المؤمنين!

ص:125

و سارع الإمام قائلا:

«و احيائي منك يا أمّة اللّه فيما قصّرت من أمرك»(1).

تدول الدول، و تفنى الحضارات أو تبقى، و هذا الشرف العلوي أحقّ بالبقاء من كلّ كائن حيّ.

عدله:

اشارة

من عناصر الإمام الذاتية إقامة العدل، و إيثاره على كلّ شيء، خصوصا في أيام خلافته، فقد تجرّد عن جميع المحسوبيات، و آثر رضا اللّه تعالى و مصلحة الامّة على كلّ شيء، فهو بحقّ صوت العدالة الإنسانية، و رائد نهضتها الاصلاحية في جميع الأحقاب و الآباد.

بوادر من عدله:

و روى المؤرّخون صورا رائعة من عدله تبهر العقول، و تجعله طغراء شرف للعالم العربي و الإسلامي، و كان من ضروب عدله ما يلي:

1 - وفد عقيل على الإمام في الكوفة، فرحّب به الإمام و قال لولده الإمام الحسن عليه السّلام: «اكس عمّك»، فكساه قميصا و رداء من ملكه، و لمّا حضر العشاء قدّم له خبزا و ملحا، فأنكر عقيل ذلك و قال:

- ليس ما أرى؟ لقد أراد عقيل أن تقدّم له مائدة شهيّة حافلة بألوان الطعام، فأجابه الإمام بلطف و هدوء:

«أ و ليس هذا من نعمة اللّه؟ فله الحمد كثيرا».

ص:126


1- المناقب ١ : ٣٨٢.

و فقد عقيل إهابه، و ضاقت عليه الأرض، فقال للإمام:

- اعطني ما أقضي به ديني، و عجّل سراحي حتى أرحل عنك.

«كم دينك يا أبا يزيد؟».

- مائة ألف درهم.

«و اللّه ما هي عندي، و لا أملكها، و لكن اصبر حتّى يخرج عطاي فاواسيكه، و لو لا أنّه لا بدّ للعيال من شيء لأعطيتك كلّه».

و خاطب عقيل الإمام بعنف قائلا:

- بيت المال بيدك، و أنت تسوّفني إلى عطائك، و كم عطاؤك؟ و ما عسى أن يكون؟ و لو أعطيتنيه كلّه.

و ضاق الإمام ذرعا من عقيل، فطرح أمامه حكم الإسلام قائلا:

«و ما أنا و أنت فيه - أي في العطاء من بيت المال - إلاّ بمنزلة رجل من المسلمين».

و كان الإمام مطلاّ على صناديق التجّار في السوق، فقال لعقيل:

«إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصّناديق فاكسر أقفاله و خذ ما فيه».

و توهّم عقيل أنّها من أموال الدولة، فقال للإمام:

- ما في هذه الصناديق؟ «فيها أموال التّجار».

فأنكر عقيل، و راح يقول بألم و مرارة:

- أ تأمرني أن أكسر صناديق قوم توكّلوا على اللّه و جعلوا فيها أموالهم؟

ص:127

فردّ عليه الإمام قائلا:

«أ تأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فاعطيك أموالهم، و قد توكّلوا على اللّه، و أقفلوا عليها، و إن شئت أخذت سيفك و أخذت سيفي و خرجنا جميعا إلى الحيرة، فإنّ فيها تجّارا مياسير، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله».

و التاع عقيل، و راح يقول بألم:

- أ و سارقا جئت؟ فأجابه رائد العدالة الإسلامية قائلا:

«تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعا».

و لم يجد عقيل منفذا يسلك فيه، فقد سدّ عليه الإمام جميع النوافذ، و صيّره أمام العدل الصارم، الذي لا يستجيب لأي عاطفة، و لا ينصاع إلاّ إلى الحقّ، و راح عقيل يقول بحرارة اليأس:

- أ تأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟ «أذنت لك».

- أعنّي على سفري.

فأمر الإمام ولده الزكي الإمام الحسن عليه السّلام بإعطائه أربعمائة درهم نفقة له، فخرج عقيل و هو يقول:

سيغنيني الّذي أغناك عنّي و يقضي ديننا ربّ قريب(1)

لقد تجرّد الإمام من جميع المحسوبيات فلم يقم لها أي وزن و أخلص للحقّ و العدل كأعظم ما يكون الإخلاص، فالقريب و البعيد سواء في ميزانه... لقد احتاط

ص:128


1- المناقب ١ : ٣٧٩ ، وقريب منه في الصواعق المحرقة : ٧٩.

كأشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة، فلم يؤثر بشيء منها نفسه و أهل بيته، و حمّل نفسه رهقا و شدّة.

2 - و من صنوف عدله الباهر أنّه نزل ضيف عند الإمام الحسن عليه السّلام، فاستقرض رطلا من العسل من قنبر خازن بيت المال، فلمّا قام الإمام بتقسيم العسل على المسلمين وجد زقّا منها ناقصا، فسأل قنبر عن ذلك، فأخبره بالأمر، فاستدعى ولده الإمام الحسن و قال له بنبرات تقطر غيظا:

«ما حملك على أن تأخذ منه قبل القسمة؟».

«أ ليس لنا فيه حقّ، فإذا أخذناه رددناه إليه».

و سكن غضب الإمام، فقال لولده الزكي بلطف:

«فداك أبوك، و إن كان لك فيه حقّ، فليس لك أن تنتفع بحقّك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم».

ثمّ دفع إلى قنبر درهما، و قال له: اشتر به أجود عسل تقدر عليه، فاشترى قنبر العسل، و وضعه الإمام في الزقّ و شدّه»(1).

هذا هو العدل الذي جعله الإمام عليه السّلام أساسا لدولته ليسير عليها حكّام المسلمين من بعده إلاّ أنّهم شذّوا و ابتعدوا عن سيرته، و ناقضوه، فأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم و ملذّاتهم، و أسرفوا في ذلك إلى حدّ بعيد.

3 - جيء له بمال من أصفهان فقسّمه أسباعا على أهل الكوفة، و وجد فيها رغيفا فكسره سبعة كسر، و قسّمه على أهل الأسباع(2).

ص:129


1- المناقب ٢ : ١٠٧.
2- بحار الأنوار ٤١ : ١١٨.

إنّ العدل بجميع رحابه و مفاهيمه من العناصر الذاتية للإمام عليه السّلام.

4 - روى هارون بن عنترة عن أبيه، قال: رأيت عليّا في يوم مورود - أو نوروز - فجاء قنبر فأخذ بيده و قال: يا أمير المؤمنين، إنّك رجل لا تبقي شيئا لنفسك، و لا لأهل بيتك، و إنّ لأهل بيتك في هذا المال نصيبا، و قد خبّأت لك خبيئة. قال الإمام: «و ما هي؟» قال: انطلق و انظر ما هي؟ فأدخله بيتا مملوءا آنية من ذهب و فضّة مموّهة بالذهب، فلمّا رآها تميّز غيظا و غضبا، و قال بشدّة و صراحة لقنبر:

«ثكلتك امّك، لقد أردت أن تدخل بيتي نارا عظيمة»، ثمّ جعل يزنها و يعطي كلّ عريف حصّته، ثمّ قال:

هذا جناي و خياره فيه و كلّ جان يده إلى فيه(1)

أ رأيتم هذا العدل الذي مثّله الإمام في أيام خلافته؟ أ رأيتم هذا التجرّد عن الدنيا و التنكّر لمنافعها؟ أ رأيتم كيف احتاط إمام المتّقين بأموال الدولة و لم يستأثر بأيّ شيء منها؟ إنّ الإنسانية على ما جرّبت من تجارب في ميادين الحاكمين فإنّها لم تشاهد مثل الإمام عليه السّلام في عدله و نكرانه للذات، و تبنّيه للعدل بجميع رحابه و مفاهيمه.

سعة علومه:

و أجمع الرواة على اختلاف ميولهم و أهوائهم على أنّ الإمام عليه السّلام أوسع المسلمين علما، و أكثرهم فقها، و أنّه لا يماثله أحد من الصحابة و غيرهم في قدراته العلمية، فقد غذّاه سيّد الكائنات صلّى اللّه عليه و آله بملكاته و مواهبه، فهو باب مدينة علمه،

ص:130


1- جواهر المطالب ١ : ٢٧٣. كتاب الأموال : ٣٤٤.

و قد تحدّث الإمام عليه السّلام عن سعة علومه فقال:

1 - «بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية(1) في الطّويّ البعيدة(2)!».

2 - و قال عليه السّلام: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي نفسي! بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم و بين السّاعة، و لا عن فئة تهدي مائة و تضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها و قائدها و سائقها، و مناخ ركابها، و محطّ رحالها، و من يقتل من أهلها قتلا، و من يموت منهم موتا»(3).

3 - قال عليه السّلام: «لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه و مولجه و جميع شأنه لفعلت».

و أعربت هذه الكلمات الثلاث عن طاقاته العلمية، و ما منحه اللّه تعالى من الفضل و العلم الأمر الذي جعله في قمّة العلم، و قد تحدّثنا في بعض هذا الكتاب عن العلوم التي فتق أبوابها و أسّسها.

سرعة الجواب:

من خصائص الإمام عليه السّلام أنّه كان سريع البديهة، و قد عرضت عليه أهمّ المسائل المعقّدة في المواريث فأجاب عنها بالوقت، حتى سمّيت بعضها بالمسائل المنبرية، و روى الحارث الأعور الهمداني - و هو من خلّص أصحاب الإمام عليه السّلام - أنّه سأل عن مسألة فبادر و دخل الدار ثمّ خرج في حذاء و رداء، و هو متبسّم، فبادر بعض الحاضرين، فقال: يا أمير المؤمنين، كنت إذا سئلت عن

ص:131


1- الأرشية : الحبال.
2- الطوى البعيدة : الآبار العميقة.
3- شرح الأخبار ١ : ١٣٩.

المسألة تكون فيها كالسّكّة المحمّاة، فقال عليه السّلام:

«كنت حاقنا(1) و لا رأي لحاقن»، ثمّ أنشأ يقول:

إذا المشكلات تصدّين لي كشفت حقائقها بالنّظر

و إن برقت في مخيل الصّوا ب عمياء لا يجتليها البصر

مقنّعة بغيوب الامور وضعت عليها صحيح الفكر

لسانا كشقشقة الأرحبيّ(2) أو كالحسام اليماني الذّكر

و قلبا إذا استنطقته الفنون أبرّ عليها بواه درر(3)

و لست بإمّعة(4) في الرجال يسائل هذا و ذا ما الخبر

و لكنّني مذرب الأصغرين(5) أبيّن ممّا مضى ما غبر(6)

و بهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض صفاته و عناصره النفسية. و من المؤكّد أنّه لا يضارعه أحد فيما وهبه اللّه تعالى من الكمالات و معالي الآداب و الأخلاق.

ص:132


1- الحاقن : الذي اجتمع بوله كثيرا.
2- الأرحبي : نسبة إلى أرحب بطن من همدان ، تنسب لهم النجائب الأرحبيّة.
3- أبر : زاد على ما استنطقه.
4- الأمّعة : الأحمق الذي لا يثبت على رأي.
5- المذرب : الحادّ. الأصغرين : القلب واللسان.
6- الأمالي ٢ : ١٠١.

الإمام عليه السّلام

اشارة

في رحاب القرآن الكريم

ص:133

ص:134

أشاد القرآن الكريم في كثير من الآيات البيّنات بفضل أمير المؤمنين عليه السّلام، و إبرازه كأسمى شخصية إسلامية بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و أنّه له الأهمّية البالغة عند اللّه تعالى، و قد أعلنت كثير من المصادر أنّه نزلت في حقّه ثلاثمائة آية(1)، و هي تشيد بفضله و إيمانه.

و من الجدير بالذكر أنّه لم ينزل مثل هذا العدد الضخم في حقّ أي أحد من أعلام الإسلام، أمّا الآيات فهي طوائف، و هي:

الطائفة الاولى: نزلت في حقّه خاصّة.

الطائفة الثانية: نزلت في حقّه و حقّ الممجّدين من أهل البيت عليهم السّلام.

الطائفة الثالثة: نزلت في حقّه، و حقّ جماعة من خيار الصحابة.

الطائفة الرابعة: نزلت في حقّه، و ذمّ خصومه و مناوئيه.

و فيما يلي بعض تلك الآيات:

الآيات النازلة في حقّه

أمّا الآيات النازلة في فضله، و سموّ شأنه، و عظيم منزلته فهذه بعضها:

ص:135


1- تاريخ بغداد ٦ : ٢٢١. الصواعق المحرقة : ٧٦. نور الأبصار : ٧٦ ، وغيرها.

1 - قال تعالى:

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (1).

روى الطبري بسنده عن ابن عباس قال: لمّا نزلت هذه الآية وضع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يده على صدره و قال: «أنا المنذر، و لكلّ قوم هاد» و أومأ إلى منكب عليّ فقال:

«أنت الهادي، بك يهتدي المهتدون بعدي»(2).

2 - قال تعالى:

وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (3).

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير هذه الآية:

«قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سألت ربّي أن يجعلها اذنك يا عليّ، فما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شيئا فنسيته»(4).

3 - قال تعالى:

اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (5).

كانت عند الإمام عليه السّلام أربعة دراهم، فأنفق في الليل درهما، و في النهار درهما، و في السرّ درهما، و في العلانية درهما، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ص:136


1- الرعد : ٧.
2- تفسير الطبري : ١٣ : ٧٢ ، وقريب منه في تفسير الرازي. كنز العمّال ٦ : ١٥٧. تفسير الحقائق : ٤٢. مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٩.
3- الحاقّة : ١٢.
4- كنز العمّال ٦ : ١٠٨. أسباب النزول _ الواحدي : ٣٢٩. تفسير الطبري ٢٩ : ٣٥. تفسير الكشّاف ٤ : ٦٠٠. الدرّ المنثور ٨ : ٢٦٧.
5- البقرة : ٢٧٤.

«ما حملك على هذا؟ فقال: أستوجب على اللّه ما وعدني» فنزلت فيه هذه الآية(1).

4 - قال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(2).

روى ابن عساكر بسنده عن جابر بن عبد اللّه قال: كنّا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأقبل عليّ عليه السّلام فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و الّذي نفسي بيده إنّ هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة». و نزلت فيه الآية الكريمة، فكان أصحاب النبيّ إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة(3).

5 - قال تعالى:

فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (4).

روى الطبري بسنده عن جابر الجعفي قال: لمّا نزلت هذه الآية قال عليّ عليه السّلام:

«نحن أهل الذّكر»(5).

6 - قال تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ(6).

قال السيوطي: أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ قول اللّه تعالى: وَ كُونُوا

ص:137


1- اسد الغابة ٤ : ٢٥. الصواعق المحرقة : ٧٨. أسباب النزول _ الواحدي : ٦٤.
2- البيّنة : ٧.
3- الدرّ المنثور ( في تفسير هذه الآية ) ٨ : ٥٨٩. تفسير الطبري ٣٠ : ١٧. الصواعق المحرقة : ٩٦.
4- النحل : ٤٣.
5- تفسير الطبري ٨ : ١٤٥.
6- التوبة : ١١٩.

مَعَ الصّادِقِينَ ، أى مع عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و مثل ذلك روي عن الإمام أبي جعفر عليه السّلام(1).

7 - قال تعالى:

وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(2).

أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أنّ الذي جاء بالصدق هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الذي صدّق به هو عليّ بن أبي طالب(3).

8 - قال تعالى:

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ(4).

نزلت هذه الآية على الرسول صلّى اللّه عليه و آله في غدير خم لمّا قفل راجعا من حجّة الوداع، و قد أمر فيها بنصب الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام خليفة من بعده، فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فنصب الإمام خليفة و قائدا لامّته من بعده، و قال مقالته المشهورة: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله»، فقام عمر و قال له: هنيئا لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة(5).

و قد انبرى الشعراء إلى نظم هذه الحادثة المشرقة التي توّج فيها رائد العدالة

ص:138


1- الدرّ المنثور ٤ : ٣١٦.
2- الزمر : ٣٣.
3- الدرّ المنثور ٧ : ٢٢٨.
4- المائدة : ٦٧.
5- أسباب النزول : ١٥٠. تاريخ بغداد ٨ : ٢٩٠. تفسير الرازي ٤ : ٤٠١. الدرّ المنثور ٦ : ١١٧.

الكبرى بالإمامة و الخلافة يقول حسّان بن ثابت:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم بخمّ و أسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم و نبيّكم فقالوا و لم يبدوا هناك التّعاميا

إلهك مولانا و أنت نبيّنا و لم تلق منّا في الولاية عاصيا

فقال له: قم يا عليّ فإنّني رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللّهمّ وال وليّه و كن للّذي عادى عليّا معاديا(1)

و لمّا تليت هذه الأبيات على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لحسّان: «لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا أو نافحت عنّا بلسانك».

و قال قيس بن سعد بن عبادة:

قلت لمّا بغى العدوّ علينا حسبنا ربّنا و نعم الوكيل

حسبنا ربّنا الّذي فتح البص رة بالأمس و الحديث طويل

و عليّ إمامنا و إمام لسوانا أتى به التّنزيل

يوم قال النّبيّ من كنت مولا ه فهذا مولاه خطب جليل

إنّ ما قاله النّبيّ على الامّة حتم ما فيه قال و قيل(2)

و قد تلا قيس هذه الأبيات على الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

و قال شاعر أهل البيت الكميت:

و يوم الدّوح دوح غدير خمّ أبان له الولاية لو اطيعا

ص:139


1- دلائل الصدق ٢ : ١٥ _ ١٦ ، نقله عن تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي.
2- الغدير ٢ : ٨٧.

و لكنّ الرّجال تبايعوها فلم أر مثلها خطرا مبيعا(1)

و قد ألمّ المحقّق الكبير الشيخ الأميني نضّر اللّه مثواه بالغدير فبحث عنه بحثا موضوعيا في الكتاب و السنّة، و صحب معه كوكبة من الشعراء من قدامى و محدثين، و هم ينشدون فضل الإمام و مناقبه و غديره.

9 - قال تعالى:

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً(2).

نزلت الآية الكريمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة بعد ما نصب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الإمام عليه السّلام خليفة من بعده(3)، و قال عليه السّلام بعد نزول الآية عليه: «اللّه أكبر على إكمال الدّين، و إتمام النّعمة، و رضى الرّبّ برسالتي، و الولاية لعليّ بن أبي طالب»(4).

10 - قال تعالى:

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (5).

روى الصحابي الجليل أبو ذرّ قال: صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء و قال: اللّهمّ

ص:140


1- دلائل الصدق ٢ : ١٦.
2- المائدة : ٣.
3- تاريخ بغداد ٨ : ١٩. الدرّ المنثور ٦ : ١٩.
4- دلائل الصدق ٢ : ١٥٢.
5- المائدة : ٥٥.

اشهد أنّي سألت في مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و آله فما أعطاني أحد شيئا، و عليّ كان راكعا، فأومأ إليه بخنصره اليمنى، و كان فيها خاتم، فأقبل السائل فأخذ الخاتم بمرأى من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال:

«اللّهمّ إنّ أخي موسى عليه السّلام سألك فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(1)، فأنزلت قرآنا ناطقا: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً(2)، اللّهمّ و أنا محمّد نبيّك و صفيّك فاشرح لي صدري، و يسّر لي أمري، و اجعل لي وزيرا من أهلي، عليّا اشدد به ظهري»، قال أبو ذرّ: فو اللّه ما أتمّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله هذه الكلمة حتى نزل جبرئيل، فقال: «يا محمّد، اقرأ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ... »(3).

حصرت هذه الآية الولاية العامّة في اللّه تعالى و في رسوله العظيم، و في الإمام أمير المؤمنين، و قد عبّرت عنه بصيغة الجمع تعظيما لشأنه، و تكريما لمقامه، بالإضافة إلى اسميّة الجملة، و حصرها بكلمة «إنّما»، و قد أكّدت له الولاية العامّة، و قد نظّم حسّان بن ثابت نزول الآية في الإمام بقوله:

من ذا بخاتمه تصدّق راكعا و أسرّها في نفسه إسرارا(4)

11 - قال تعالى:

وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(5).

ص:141


1- طه : ٢٥ _ ٣٢.
2- القصص : ٣٥.
3- تفسير الرازي ١٢ : ٢٦. نور الأبصار : ١٧٠. الطبري في تفسيره ٦ : ١٨٦.
4- الدرّ المنثور ٣ : ١٠٦. الكشّاف ١ : ٦٩٢. ذخائر العقبى : ١٠٢. مجمع الزوائد ٧ : ١٧. - كنز العمّال ٧ : ٣٠٥.
5- الواقعة : ١٠ و ١١.

روى الجمهور عن ابن عباس أنّ سابق هذه الامّة هو عليّ بن أبي طالب(1).

12 - قال تعالى:

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ(2).

نزلت الآية الكريمة في مبيت الإمام عليه السّلام على فراش النبيّ حينما أجمعت قريش على قتله، فخرج في غلس الليل من مكّة، و أناب عنه الإمام، فكان عليه السّلام الفدائي الأوّل في الإسلام، ففدى النبيّ بروحه، فأنزل اللّه تعالى فيه هذه الآية(3).

13 - قال تعالى:

هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ(4).

نزلت الآية الكريمة في الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و أنّه هو المراد بالمؤمنين، قال السيوطي: أخرج ابن عساكر عن أبي هريرة: مكتوب على العرش لا إله إلاّ أنا وحدي لا شريك لي، محمّد عبدي و رسولي، أيّدته بعليّ(5)، هذه بعض الآيات النازلة في حقّ الإمام عليه السّلام خاصّة.

الآيات النازلة في أهل البيت عليهم السّلام

اشارة

حفل الكتاب العظيم بآيات في حقّ أهل البيت عليهم السّلام الشاملة لسيّدهم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و هذه بعضها:

ص:142


1- دلائل الصدق ٢ : ١٠١.
2- البقرة : ٢٠٧.
3- مستدرك الحاكم ٣ : ٤.
4- الأنفال : ٦٢.
5- الدرّ المنثور ٤ : ١٠٠. كنز العمّال ٦ : ١٥٨.

1 - قال تعالى:

قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (1).

ذهب جمهور المفسّرين و الرواة أنّ المراد بالقربى الذين فرض اللّه مودّتهم على عباده هم عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين سلام اللّه عليهم، و المراد من اقتراف الحسنة - في الآية - هي مودّتهم و ولائهم، و هذه طائفة اخرى من الأخبار علّلت ذلك:

أ - روى ابن عباس قال: لمّا نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول اللّه، من قرابتك هؤلاء الذين أوجبت علينا مودّتهم؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «عليّ و فاطمة و ابناهما»(2).

ب - روى جابر بن عبد اللّه قال: جاء اعرابي إلى النبيّ فقال له: اعرض عليّ الإسلام، فقال صلّى اللّه عليه و آله: «تشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أنّ محمّدا عبده و رسوله».

فانبرى الاعرابي قائلا:

- تسألني عليه أجرا؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: «إلاّ المودّة في القربى».

و طفق الاعرابي قائلا:

- قرباي أم قرباك؟ «بل قرباي».

و راح الاعرابي يقول:

ص:143


1- الشورى : ٢٣.
2- مجمع الزوائد ٧ : ١٠٣. ذخائر العقبى : ٢٥. نور الأبصار : ١٠١. الدرّ المنثور ٧ : ٣٤٨.

- هات ابايعك، فعلى من لا يحبّك و لا يحبّ قرابتك، لعنة اللّه...

و أسرع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قائلا: «آمين»(1).

ج - روى ابن عبّاس قال: لمّا نزلت آية المودّة قال قوم في نفوسهم - يعني الحسد لأهل البيت -: ما يريد إلاّ أن يحثّنا على قرابته من بعده، فنزل جبرئيل على النبيّ و أخبره بأنّ القوم اتّهموه، و معه هذه الآية: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً ، و أخبر النبيّ القوم فقالوا له: إنّك صادق، فنزل قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ(2).

احتجاج العترة بالآية:

اشارة

احتجّت العترة الطاهرة بالآية الكريمة على لزوم مودّتهم و ولائهم، و هذا عرض لبعض ما أثر عنهم:

الإمام أمير المؤمنين:

احتجّ الإمام عليه السّلام بالآية الكريمة على خصومه، قال عليه السّلام: «فينا ال حم، آية لا يحفظ مودّتنا إلاّ كلّ مؤمن»، ثمّ تلا الآية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى(3).

الإمام الحسن عليه السّلام:

خطب سبط رسول اللّه و ريحانته الإمام الحسن عليه السّلام خطابا بليغا عرض فيه إلى مكانة أهل البيت، و سموّ منزلتهم، ثمّ استشهد بالآية الكريمة، قال عليه السّلام:

ص:144


1- حلية الأولياء ٣ : ١٠٢.
2- الصواعق المحرقة : ١٠٢. الآيتان ٢٤ و ٢٥ من سورة الشورى.
3- كنز العمّال ١ : ٢١٨. الصواعق المحرقة : ١٠١.

«و أنا من أهل البيت الّذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم، قال تبارك و تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى »(1).

الإمام زين العابدين عليه السّلام:

احتجّ الإمام زين العابدين عليه السّلام بالآية الكريمة لمّا جيء به أسيرا إلى فاجر بني اميّة يزيد بن معاوية، و اقيم على درج دمشق و معه حرائر الوحي سبايا، انبرى إليه رجل من أهل الشام قد ضلّلته الدعاية الاموية بأنّ أهل البيت من الخوارج، فقال للإمام بعنف:

- الحمد للّه الذي قتلكم و استأصلكم و قطع قرني الفتنة.

فنظر إليه الإمام فرآه مخدوعا مغفّلا، فقال له بلطف:

«أقرأت القرآن؟».

- نعم.

«أقرأت ال حم؟».

قرأت القرآن و لم أقرأ ال حم! «ما قرأت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ؟».

- فذهل الرجل و مشت الرعدة بأوصاله، و سارع قائلا:

- إنّكم لأنتم؟ «نعم»(2).

ص:145


1- حياة الإمام الحسن 7 ١ : ٦٨.
2- تفسير الطبري ٢٥ : ١٦.

و ودّ الرجل أنّ الأرض قد ساخت به، و لم يقابل الإمام بتلك الكلمات القاسية، و تقدّم إلى الإمام طالبا منه العفو، فمنحه الرضا و العفو.

إنّ الولاء لأهل البيت فريضة دينية يسأل عنها المسلم يوم يلقى اللّه تعالى.

يقول محمّد بن إدريس الشافعي:

يا أهل بيت رسول اللّه حبّكم فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم من لم يصلّ عليكم لا صلاة له(1).

و يقول شاعر الإسلام الأكبر الكميت الأسدي:

وجدنا لكم في آل حاميم آية تأوّلها منّا تقيّ و معرب

إنّ في مودّة العترة الطاهرة التي أذهب اللّه عنها الرجس و طهّرها تطهيرا أداء لأجر الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله على ما عاناه من جهد و عناء في سبيل إنقاذ البشرية من الشرك و الإلحاد، و تطوير الحياة العامّة من حياة الصحراء الحافلة بالبؤس و الشقاء إلى حياة متطوّرة تعمّها الرفاهية و الأمن و الرخاء، و قد جعل اللّه تعالى عوض أتعاب رسوله المودّة و الولاء لعترته.

2 - قال تعالى:

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَن ا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ(2).

و أجمع المفسّرون و رواة الحديث أنّ الآية الكريمة نزلت في أهل بيت

ص:146


1- نور الأبصار : ١٠٤.
2- آل عمران : ٦١.

النبوة عليهم السّلام، و قد عبّرت الآية عن الأبناء بالحسن و الحسين سبطي الرحمة و إمامي الهدى، و عبّرت عن النساء بزهراء الرسول سيّدة نساء العالمين، و عن سيّد العترة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بأنفسنا(1).

نزلت الآية الكريمة في حادثة تاريخيّة بالغة الخطورة جرت بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و زعماء النصارى الروحيّين، و موجزها أنّ وفدا من النصارى ضمّ الزعماء الدينيّين منهم قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليناظروه في الإسلام، و بعد حديث دار بينهما اتّفقوا على الابتهال أمام اللّه تعالى ليحلّ عذابه و لعنته على الكاذبين، و عيّنوا وقتا خاصّا للمباهلة، و لمّا حان الوقت الموعود بينهم اختار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للمباهلة أفضل الخلق و أكرمهم عند اللّه تعالى، و هم:

- باب مدينة علمه و أبو سبطيه أمير المؤمنين عليه السّلام.

- بضعته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام.

- سبطه الأوّل الزكي الإمام الحسن عليه السّلام.

- سيّد شباب أهل الجنّة ريحانة الرسول الإمام الحسين عليه السّلام.

و أقبل بهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى ساحة الابتهال، و خرج وفد النصارى يتقدّمهم السيّد و العاقب، و معهم فرسان بني الحرث على خيولهم على أحسن هيئة و استعداد.

و لمّا رأت النصارى أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله قدّم للمباهلة أهل بيته و هم بهيئة تملأ

ص:147


1- تفسير الرازي ٢ : ٦٩٩. تفسير البيضاوي : ٧٦. تفسير الكشّاف ١ : ٤٩. تفسير روح البيان ١ : ٤٥٧. تفسير الجلالين ١ : ٣٥. صحيح مسلم ٢ : ٤٧. صحيح الترمذي ٢ : ١٦٦. سنن البيهقي ٧ : ٦٣. مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٨٥. مصابيح السنّة _ البغوي ٢ : ٢٠١. سير أعلام النبلاء ٣ : ١٩٣.

العيون، و تعنوا لها الجباه، امتلأت نفوسهم رعبا، و جثا النبيّ على الأرض مع أهل بيته فتقدّم إليه السيّد و العاقب قائلين:

يا أبا القاسم، بمن تباهلنا؟ فأجابهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«اباهلكم بخير أهل الأرض، و أكرمهم عند اللّه - و أشار إلى أهل بيته -».

و غمرتهما موجة من الفزع و الدهشة، و انبريا يقولان:

- لم لا تباهلنا بأهل الكرامة و أهل الشارة و الكبر ممّن آمن بك و اتّبعك؟ فانطلق الرسول يؤكّد لهم أنّ أهل بيته أفضل الخلق عند اللّه تعالى قائلا:

«أجل، اباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض و أفضل الخلق».

و أيقنوا أنّ الرسول على حقّ، و فزعوا مسرعين مذهولين إلى الاسقف زعيمهم، فعرضوا عليه ما رأوه فأجابهم بدهشة قائلا:

- أرى وجوها لو سأل اللّه بها أحد أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله.

و خاف الاسقف على النصارى من الهلاك و الدمار إن باهل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و سارع قائلا و هو يرتعد:

- أ فلا تنظرون محمّدا رافعا يديه ينظر ما تجيئان به، و حقّ المسيح إن نطق فوه بكلمة لا نرجع إلى أهل، و لا إلى مال.

و ملء قلبه رعبا و خوفا، و هتف بقومه ثانيا قائلا:

أ لا ترون الشمس قد تغيّر لونها، و الافق تنجع فيه السحب الداكنة، و الريح تهب هائجة سوداء حمراء، و هذه الجبال يتصاعد منها الدخان، لقد أطلّ علينا العذاب، انظروا إلى الطير و هي تقيئ حواصلها، و إلى الشجر كيف تتساقط

ص:148

أوراقها، و إلى هذه الأرض كيف ترجف تحت أقدامنا.

لقد أيقن الاسقف بنزول الرزء القاصم، و هلاك النصارى، فمنع قومه من المباهلة، و بادر الوفد نحو الرسول صلّى اللّه عليه و آله طالبين منه أن يعفيهم من المباهلة قائلين:

- يا أبا القاسم، أقلنا أقالك اللّه.

و خضعوا للشروط التي أملاها عليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و التفت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أصحابه و إلى النصارى قائلا:

«و الذي نفسي بيده! أنّ العذاب تدلّى على أهل نجران، و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم عليهم الوادي نارا، و لاستأصل اللّه نجران و أهله، حتى الطير على الشجر، و ما حال الحول على النصارى كلّهم»(1).

و أوضحت هذه الحادثة مدى الأهميّة البالغة لأهل البيت عليهم السّلام عند اللّه تعالى، و من المؤكّد أنّه لو كان في الاسرة النبوية، و سائر الصحابة من يضارعهم و يساويهم في الفضل لاختارهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله للمباهلة، يقول الإمام شرف الدين نضّر اللّه مثواه:

و أنت تعلم أنّ مباهلته صلّى اللّه عليه و آله بهم، و التماسه منهم التأمين على دعائه بمجرّده لفضل عظيم، و انتخابه إيّاهم لهذه المهمّة العظيمة، و اختصاصهم بهذا الشأن الكبير، و إيثارهم فيه على من سواهم من أهل السوابق فضل على فضل، لم يسبقهم إليه سابق، و لن يلحقهم به لا حق، و نزول القرآن العزيز آمرا بالمباهلة بهم بالخصوص فضل ثالث يزيد فضل المباهلة ظهورا، و يضيف إلى شرف اختصاصهم بها شرفا، و إلى نوره نورا...»(2).

ص:149


1- نور الأبصار : ١٠٠.
2- الكلمة الغرّاء : ١٨٤.

كما دلّت الآية - بوضوح - على أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام هو نفس رسول اللّه، و هو - من دون شكّ - أفضل و أكمل من جميع خلق اللّه تعالى، فعليّ كذلك بمقتضى المساواة بينهما(1).

و قد أدلى بهذا الفخر الرازي قال: كان في الريّ رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، و كان معلّم الاثني عشرية - يعني الإمامية - و كان يزعم أنّ عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و استدلّ على ذلك بقوله تعالى:

وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ؛ إذ ليس المراد بقوله تعالى: وَ أَنْفُسَنا نفس محمّد؛ لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد غيرها، و أجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب، فدلّت الآية على أنّ نفس عليّ هي نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و لا يمكن أن يكون المراد أنّ هذه النفس عين تلك، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، و ذلك يقتضي المساواة بينهما في جميع الوجوه تركنا العمل بهذا العموم في حقّ النبوّة، و في حقّ الفضل بقيام الدلائل على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله أفضل من عليّ، فبقي ما وراء ذلك معمولا به، ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله كان أفضل من سائر الأنبياء فيلزم أن يكون عليّ أفضل من سائر الأنبياء(2).

و هذا الرأي وثيق للغاية ليس فيه أي غلوّ بعد إقامة الدليل الحاسم عليه.

3 - قال تعالى:

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ... السورة.

و ذهب جمهور المفسّرين و الرواة أنّ هذه السورة نزلت في أهل بيت النبوّة(3)،

ص:150


1- حياة الإمام الحسين ١ : ٧٤.
2- تفسير الرازي ٢ : ٤٨٨.
3- تفسير الرازي ١٠ : ٢٤٣. أسباب النزول _ الواحدي : ١٣٣. روح البيان ٦ : ٥٤٦. ينابيع المودّة ١ : ٩٣. الرياض النضرة ٢ : ٢٢٧. امتاع الاسماع : ٥٠٢.

أمّا السبب في نزولها فهو أنّ السبطين سلام اللّه عليهما مرضا، فعادهما جدّهما مع كوكبة من الصحابة، و طلبوا من الإمام عليه السّلام أن ينذر للّه صوما إن عافا ولديه، فنذر الإمام صوم ثلاثة أيام، و تابعته الصدّيقة و جاريتها فضّة في هذا النذر، و لمّا أبل الحسنان من المرض صاموا جميعا، و لم يكن عند الإمام عليه السّلام شيء من الطعام ليجعله إفطارا لهم، فاستقرض ثلاثة أصواع من الشعير، و عمدت سيّدة نساء العالمين الصدّيقة سلام اللّه عليها في اليوم الأوّل إلى صاع فطحنته و خبزته، فلمّا آن وقت الافطار و إذا بمسكين طرق الباب يستميحهم شيئا من الطعام، فعمدوا جميعا إلى هبة قوتهم للمسكين، و استمرّوا على صيامهم لم يتناولوا شيئا سوى ماء القراح، و في اليوم الثاني عمدت بضعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى الصاع الثاني فطحنته و خبزته، فلمّا حان وقت الافطار، و إذا بيتيم يشكو الجوع فتبرّعوا جميعا بقوتهم، و لم يتناولوا شيئا سوى الماء، و في اليوم الثالث قامت سيّدة النساء فطحنت ما بقي من الشعير و خبزته، فلمّا حان وقت الغروب، و إذا بأسير قد طرق الباب قد ألمّ به الجوع فسحبوا أيديهم من الطعام و منحوه له.

سبحانك اللّهمّ أي إيثار أعظم من هذا الايثار؟ إنّه لم يقصد به إلاّ وجه اللّه تعالى و ابتغاء أجره.

و وفد عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في اليوم الرابع فرأى أجساما مرتعشة قد ذابت من الجوع، فتغيّر حاله، و طفق يقول: «وا غوثاه أهل بيت محمّد يموتون جياعا».

و لم ينه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلامه حتى هبط عليه أمين الوحي و هو يحمل لهم المكافأة العظمى و هي سورة هل أتى، إنّها مغفرة و رحمة و رضوان من اللّه تعالى، و خلود في الفردوس الأعلى، و وسام شرف في الدنيا باق حتى يرث اللّه تعالى الأرض و من عليها، إنّه يحمل هذه الآيات العظام.

وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً. مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ

ص:151

فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً. وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً. وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً. وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً(1).

إنّه عطاء سمح لا نهاية له من اللّه تعالى على هذا الايثار الذي تجاوز حدود الزمان و المكان، و لا يوصف بكيف و لا يقدّر بكم.

4 - قال تعالى:

إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(2).

أجمع المفسّرون و الرواة على أنّ الآية المباركة نزلت في الخمسة أصحاب الكساء(3)، و هم سيّد الكائنات الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و صنوه الجاري مجرى نفسه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و بضعته الطاهرة سيّدة نساء العالمين التي يرضى اللّه لرضاها و يغضب لغضبها، و ريحانتاه الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، و لم يشاركهم أحد من اسرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لا من غيرهم من أعلام الصحابة في هذه الفضيلة، و يؤيّد ذلك كوكبة من الأخبار الصحاح و هي:

أ - إنّ السيّدة الزكية أمّ المؤمنين أمّ سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، و فيه كانت فاطمة و الحسن و الحسين و عليّ فجلّلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكساء كان

ص:152


1- الإنسان : ١٢ _ ١٧.
2- الأحزاب : ٣٣.
3- تفسير الرازي ٦ : ٧٨٣. صحيح مسلم ٢ : ٣٣١. الخصائص الكبرى ٢ : ٢٦٤. الرياض النضرة ٢ : ١٨٨. تفسير ابن جرير ٢٢ : ٥. مسند أحمد بن حنبل ٤ : ١٠٧. سنن البيهقي ٢ : ١٥٠. مشكل الآثار ١ : ٣٣٤. ومن الجدير بالذكر أنّ ابن جرير أورد في تفسيره خمس عشرة رواية بأسانيد مختلفة باختصاص الآية في أهل البيت.

عليه، ثمّ قال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا»، يكرّر ذلك، و أمّ سلمة تسمع و ترى، فقالت: و أنا معكم يا رسول اللّه؟ و رفعت الكساء لتدخل فجذبه منها، و قال: «إنّك على خير»(1).

ب - روى ابن عبّاس قال: شهدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعة أشهر يأتي كلّ يوم باب عليّ بن أبي طالب عند وقت كلّ صلاة فيقول: «السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته أهل البيت: إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ، الصّلاة يرحمكم اللّه» كلّ يوم خمس مرّات(2).

ج - روى أبو برزة قال: صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سبعة أشهر، فإذا خرج من بيته أتى باب فاطمة عليها السّلام، فقال: «السّلام عليكم إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً »(3).

إنّ قيام الرسول صلّى اللّه عليه و آله بذلك إرشاد للامّة و إلزام لها باتّباع أهل بيته الذين هم الأدلاّء على كلّ ما ينفع الامّة في مسيرتها نحو التقدّم و التطوّر في حياتهم الدنيوية و الاخروية.

د - احتجّ الإمام الحسن عليه السّلام بالآية الكريمة على اختصاصها بهم، فقد قال في بعض خطبه: «و أنا من أهل البيت الّذي كان جبرئيل ينزل إلينا و يصعد من عندنا، و أنا من أهل البيت الّذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا» (4).

لقد تظافرت الأخبار من طرق العترة الطاهرة و غيرها على اختصاص الآية

ص:153


1- مستدرك الحاكم ٢ : ٤١٦. اسد الغابة ٥ : ٥٢١.
2- الدرّ المنثور ٥ : ١٩٩.
3- ذخائر العقبى : ٢٤.
4- مستدرك الحاكم ٣ : ١٧٢.

بأهل البيت، و شاع ذلك في الأوساط الإسلامية، يقول السيّد الحميري:

إنّ يوم التّطهير يوم عظيم خصّ بالفضل فيه أهل الكساء(1)

و قد حقّقنا بصورة موضوعيّة و دقيقة خروج نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الآية في كتابنا «حياة الإمام الحسين عليه السّلام».

هذه بعض الآيات النازلة في أهل بيت النبوّة سلام اللّه عليهم، و في طليعتهم سيّد العترة و إمام المتّقين الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

الآيات النازلة في الإمام و خيار الصحابة

نزلت طائفة من آيات الذكر الحكيم في حقّ الإمام عليه السّلام، و معه كوكبة من أعلام الإسلام و خيار الصحابة، و هذه بعضها:

1 - قال تعالى:

وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ(2).

روى ابن عباس قال: الأعراف موضع عال من الصراط عليه العباس و حمزة و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و جعفر ذو الجناحين يعرفون محبّيهم ببياض وجوههم، و مبغضيهم بسواد الوجوه(3).

2 - قال تعالى:

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ

ص:154


1- الأغاني ٧ : ٢٣٩.
2- الأعراف : ٤٦.
3- الصواعق المحرقة : ١٠١.

يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (1).

سئل - أي الإمام أمير المؤمنين - عن هذه الآية، و هو على المنبر فقال:

«اللّهمّ غفرا نزلت فيّ و في عمّي حمزة، و في ابن عمّي عبيدة بن الحارث، فأمّا عبيدة فقضى نحبه شهيدا يوم بدر، و حمزة قضى شهيدا يوم أحد، و أمّا أنا فانتظر أشقاها يخضّب هذه من هذا»، و أشار بيده إلى لحيته و رأسه(2).

الآيات النازلة في حقّه و ذمّ مخالفيه

هذه كوكبة من آيات الذكر الحكيم نزلت في حقّه و ذمّ مخالفيه، الذين جاهدوا على الغضّ من مآثره و فضائله:

1 - قال تعالى:

أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ(3).

نزلت هذه الآية في الإمام أمير المؤمنين و العباس و طلحة بن شيبة لمّا افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه و إليّ ثياب بيته، و قال العباس: أنا صاحب السقاية و القائم عليها، و قال الإمام:

«ما أدري ما تقولون؟ لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل النّاس، و أنا صاحب الجهاد»، فنزلت الآية(4).

ص:155


1- الأحزاب : ٢٣.
2- الصواعق المحرقة : ٨٠. نور الأبصار : ٨٠.
3- براءة : ١٩.
4- تفسير الطبري ١٠ : ٦٨. تفسير الرازي ١٦ : ١١. الدرّ المنثور ٤ : ١٤٦. أسباب النزول : ١٨٢.

2 - قال تعالى:

أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ(1).

نزلت الآية في الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فقد افتخر على الإمام قائلا له: أنا أبسط منك لسانا، و أحدّ منك سنانا، و أردّ منك للكتيبة، فقال له الإمام: «اسكت، فإنّك فاسق»، فأنزل اللّه فيهما الآية(2).

3 - قال تعالى:

أَ فَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(3).

نزلت الآية في الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و حمزة و أبي لهب و أولاده، فالإمام و حمزة شرح اللّه صدريهما بالإيمان و التقوى، و أبو لهب و أولاده قست قلوبهم و في ضلال مبين(4).

4 - قال تعالى:

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ(5).

نزلت الآية الكريمة في الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و في عمّه الشهيد حمزة،

ص:156


1- السجدة : ١٨.
2- تفسير الطبري ٢١ : ٦٨. أسباب النزول _ الواحدي : ٢٦٣. تاريخ بغداد ١٣ : ٣٢١.- الرياض النضرة ٢ : ٢٠٦.
3- الزمر : ٢٢.
4- الرياض النضرة ٢ : ٣٠٧.
5- الجاثية : ٢١.

و عبيدة، و في ثلاثة من المشركين، و هم: عتبة و شيبة و الوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: و اللّه! ما أنتم على شيء، و لو كان ما تقولون حقّا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنّا أفضل حالا منكم في الدنيا، فأنكر اللّه تعالى هذا الكلام و بيّن في كتابه أنّه لا يمكن بأي حال أن يكون المؤمن المطيع للّه و لرسوله كالكافر العاصي في درجات الثواب، و منازل المتّقين(1).

5 - قال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(2).

مرّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و معه جماعة من المسلمين فسخر منهم المنافقون، و ضحكوا و تغامزوا استهزاء و سخرية بهم، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم، و قالوا لهم: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه، فنزلت الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يصل إليه الإمام و أخبره بذلك(3).

و بهذا نطوي الحديث عن بعض آيات الذكر الحكيم التي أشادت بفضل إمام المتّقين و سيّد الموحّدين، و أعلنت سموّ مكانته و عظيم شأنه عند اللّه تعالى.

ص:157


1- تفسير الرازي ٩ : ٦٧٦.
2- المطفّفين : ٢٩.
3- الكشّاف ٤ : ٧٢٤.

ص:158

الإمام عليه السّلام في ظلال السّنّة

اشارة

ص:159

ص:160

حفلت مصادر الحديث من صحاح و سنن بكوكبة مشرقة من الأحاديث النبوية، و هي تشيد بفضل رائد العدالة الإسلامية الإمام عليه السّلام و رفعته إلى قمّة المجتمع الإسلامي.

و المتأمّل في كثرة الأحاديث و شهرتها و إشاعتها بين الرواة يطلّ على الغاية المنشودة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هي تركيز الإمام و ترشيحه للخلافة من بعده، ليكون امتدادا لذلك و مرجعا لامّته يقيم أودها، و يصلح شأنها، و يسير بها سيرا سجحا لا يكلم خشاشه، لتكون أمّة الإسلام قائدة لشعوب العالم و امم الأرض.

و على كلّ حال فإنّا إذا نظرنا إلى الأخبار النبوية في فضل الإمام عليه السّلام نجد كوكبة خاصّة به، و كوكبة اخرى في فضل أهل البيت عليهم السّلام و هي شاملة - بالضرورة - لأنّه سيّد العترة، و علمهم الشامخ، و فيما يلي عرض لذلك:

الكوكبة الاولى

اشارة

و تحتوي على صور متعدّدة من التعظيم و التكريم، و الإشادة بفضل الإمام عليه السّلام... و هذه بعضها:

مكانته عند النبيّ:

اشارة

كان الإمام عليه السّلام من ألصق الناس برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و من أشدّهم قربا و اتّصالا به، فهو أبو سبطيه، و باب مدينة علمه، و قد أخلص له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأعظم ما يكون

ص:161

الإخلاص، و قد أثرت عنه طائفة من الأحاديث دلّت على عمق محبّته و مودّته له، و فيما يلي ذلك:

1 - الإمام نفس النبيّ:

عرضت آية المباهلة - بوضوح - إلى أنّ الإمام نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و قد ألمحنا إلى ذلك في البحوث السابقة، و قد أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ الإمام نفسه في جملة من الأخبار هذه بعضها:

أ - أخبر الوليد بن عقبة أخو عثمان لامّه، النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ بني وليعة ارتدّوا عن الإسلام، فغضب النبيّ و قال: «لينتهينّ بنو وليعة أو لأبعثنّ إليهم رجلا كنفسي، يقتل مقاتلهم و يسبي ذراريهم، و هو هذا»، ثمّ ضرب على كتف الإمام عليه السّلام(1).

ب - روى عمرو بن العاص قال: لمّا قدمت من غزوة ذات السلاسل و كنت أظنّ أن ليس أحد أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منّي فقلت: يا رسول اللّه، أي الناس أحبّ إليك، فذكر اناسا، قلت: يا رسول اللّه، فأين عليّ؟ فالتفت النبيّ إلى أصحابه، فقال: «إنّ هذا يسألني عن النّفس»(2).

2 - الإمام أخو النبيّ:

أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمام الصحابة أنّ الإمام أخوه، و قد أثرت عنه في ذلك جمهرة من الأخبار هذه بعضها:

أ - روى الترمذي بسنده عن ابن عمر قال: آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين أصحابه،

ص:162


1- مجمع الزوائد ٧ : ١١٠ ، وكان الوليد كاذبا في إخباره بارتداد بني وليعة ، فنزلت الآية : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ... ) الحجرات : ٦.
2- كنز العمّال ٦ : ٤٠٠.

فجاء عليّ تدمع عيناه، فقال: «يا رسول اللّه، آخيت بين أصحابك، و لم تواخ بيني و بين أحد؟». فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أنت أخي في الدّنيا و الآخرة»(1).

إنّ اخوّة النبيّ للإمام ليست في هذه الدنيا فحسب، و إنّما هي ممتدّة إلى دار الآخرة التي لا نهاية لها.

ب - روت أسماء بنت عميس قالت: كنت في زفاف فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلمّا أصبحنا جاء النبيّ إلى الباب فقال: «يا أمّ أيمن، ادعي لي أخي»، فقلت: هو أخوك و تنكحه ابنتك؟ قال: «نعم، يا أمّ أيمن»(2).

ج - روى أنس بن مالك قال: صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المنبر و بعد انتهاء خطابه قال: «أين عليّ بن أبي طالب؟»، فوثب إليه عليّ قائلا: ها أنا ذا يا رسول اللّه، فضمّه إلى صدره، و قبّل بين عينيه، و قال بأعلى صوته: «معاشر المسلمين، هذا أخي و ابن عمّي و ختني، هذا لحمي و دمي و شعري، هذا أبو السّبطين الحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنّة»(3).

د - روى ابن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حجّة الوداع، و هو على ناقته، فضرب على منكب عليّ، و هو يقول: «اللّهمّ اشهد... اللّهمّ قد بلّغت هذا أخي، و ابن عمّي، و صهري، و أبو ولديّ. اللّهمّ كبّ من عاداه في النّار»(4).

ه - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لمّا اسري بي إلى السّماء السّابعة قال لي جبرئيل: تقدّم يا محمّد فو اللّه ما نال هذه الكرامة ملك مقرّب، و لا نبيّ مرسل، فأوحى لي

ص:163


1- صحيح الترمذي ٢ : ٢٩٩. مستدرك الحاكم ٣ : ١٤.
2- مستدرك الحاكم ٣ : ٢١٠. خصائص النسائي : ١٧٤ ، ح ١٢٤.
3- ذخائر العقبى : ٩٢.
4- كنز العمّال ٣ : ٦١.

ربّي شيئا، فلمّا أن رجعت نادى مناد من وراء الحاجب: نعم الأب أبوك إبراهيم، و نعم الأخ أخوك عليّ، فاستوص به خيرا»(1).

و - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة نوديت من بطنان العرش:

يا محمّد، نعم الأب أبوك إبراهيم، و نعم الأخ أخوك عليّ»(2).

ز - روى أبو الطفيل عامر بن وائلة قال: كنت على الباب يوم الشورى، فارتفعت الأصوات بينهم، فسمعت عليّا يقول: «بايع النّاس أبا بكر و أنا و اللّه أولى بالأمر منه، و أحقّ به منه، فسمعت و أطعت، مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف، ثمّ بايع النّاس عمر و أنا و اللّه أولى منه، و أحقّ به منه، فسمعت و أطعت مخافة أن يرجع النّاس كفّارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسّيف، ثمّ أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذن أسمع و اطيع، إنّ عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم، لا يعرف لي فضلا عليهم في الصّلاح، و لا يعرفونه لي، كلّنا فيه شرع سواء، و أيم اللّه لو أشاء أتكلّم ثمّ لا يستطيع عربيّهم و لا عجميّهم، و لا المعاهد منهم و لا المشرك، ردّ خصلة منها، لفعلت».

ثمّ قال: «نشدتكم اللّه أيّها النّفر جميعا، أ فيكم أحد أخو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غيري؟»، قالوا: اللّهمّ لا(3).

و حكى هذا الحديث أمرا بالغ الأهمّية، و هو إقدام الشيخين على الاستيلاء على الخلافة، و تجاهلهما لمقامه عليه السّلام مع علمهما أنّه أحقّ بالأمر و أولى بها منهما، خصوصا عمر، فقد تجاهل فضله بالمرّة فقرنه بأعضاء الشورى الذين لم يكن فيهم أحد يساوي مركزه، فهو أخو النبيّ، و صاحب المواقف المشهودة يوم بدر و احد

ص:164


1- كنز العمّال ٣ : ١٦١.
2- المصدر السابق : ١٦٢.
3- المصدر السابق ٥ : ٧٢٥.

و الأحزاب... أمّا السبب في إحجامه عن منازعة القوم بالقوّة فهو خوفه على ارتداد المسلمين و رجوعهم إلى الجاهلية الاولى، فأطاع و سمع، و لكن في الحلق شجى و في العين قذى على حدّ تعبيره في خطبته الشقشقية.

ح - قال الإمام عليه السّلام: «أنا عبد اللّه، و أخو رسوله، و أنا الصّدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلاّ كذّاب، صلّيت قبل النّاس بسبع سنين»(1).

ط - قال الإمام أبو جعفر عليه السّلام: «لمّا نزلت الآية وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي.

هارُونَ أَخِي. اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(2)،

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على جبل فدعا ربّه، و قال:

اللّهمّ اشدد أزري بأخي عليّ»(3).

3 - النبيّ و الإمام من شجرة واحدة:

أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه و الإمام من شجرة واحدة، و قد أثر عنه ذلك في طائفة من الأخبار، و هذه بعضها:

أ - روى جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول لعليّ: «يا عليّ، النّاس من شجر شتّى، و أنا و أنت من شجرة واحدة»، ثمّ قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ(4).

ب - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أنا و عليّ من شجرة واحدة، و النّاس من أشجار شتّى»(5).

ص:165


1- سنن ابن ماجة ١ : ١٢. مستدرك الحاكم ٣ : ١١١. تاريخ الطبري ٢ : ٥٦.
2- طه : ٢٩ _ ٣١.
3- كنز العمّال ٧ : ١١٣. مستدرك الحاكم ٣ : ٢١٠.
4- الرعد : ٤. كنوز الحقائق : ١٥٥.
5- كنز العمّال ٦ : ١٥٤.

ما أجلّ و أسمى تلك الشجرة التي تفرّع منها سيّد الكائنات و رائد الحضارة الإنسانية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام... إنّها الشجرة المباركة التي أصلها ثابت و فرعها في السماء و التي أنتجت في جميع الأجيال ما ينفع الناس.

4 - الإمام وزير النبيّ:

أكّد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كثير من الأحاديث أنّ الإمام عليه السّلام وزيره، و هذه بعضها:

أ - روت أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «اللّهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى: اللّهمّ اجعل لي وزيرا من أهلي، أخي عليّا، اشدد به أزري، و أشركه في أمري، كي نسبّحك كثيرا، و نذكرك كثيرا، إنّك كنت بنا بصيرا»(1).

ب - روى الصحابي الجليل أبو ذرّ الغفاري قال: صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوما من الأيام الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يديه إلى السماء و قال: اللّهمّ اشهد إنّي سألت في مسجد نبيّك محمّد صلّى اللّه عليه و آله فلم يعطني أحد شيئا، و كان عليّ في الصلاة راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى، و فيها خاتم، و ذلك بمرأى النبيّ و هو في المسجد، فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طرفه إلى السماء و قال:

«اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال:

رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي.

وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(2)، فأنزلت عليه قرآنا: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما 1

ص:166


1- الرياض النضرة ٢ : ١٦٣.
2- طه : ٢٥ _ ٣٢.

سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما(1)، اللّهمّ و إنّي محمّد نبيّك و صفيّك، اللّهمّ فاشرح لي صدري، و يسّر لي أمري، و اجعل لي وزيرا من أهلي، عليّا اشدد به ظهري».

قال أبو ذرّ: فما استتمّ دعاؤه حتى نزل عليه جبرئيل من عند اللّه بهذه الآية:

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ(2)»(3).

5 - الإمام خليفة النبيّ:

أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلافة الإمام من بعده في بداية الدعوة الإسلامية، و ذلك حينما دعا الاسر القرشية إلى اعتناق الإسلام، و في ختام دعوته قال للقرشيّين:

«إذا هذا - يعني عليّا - أخي، و وصيّي، و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا»(4).

لقد قرن الرسول صلّى اللّه عليه و آله خلافة الإمام من بعده بالدعوة إلى الإسلام، و نبذ الوثنية و الشرك، و بالإضافة لذلك فإنّ هناك جمهرة من الأخبار أعلن فيها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلافة الإمام من بعده، و هذه بعضها:

أ - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا عليّ، أنت خليفتي على أمّتي»(5).

ب - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «عليّ بن أبي طالب أقدمهم سلما، و أكثرهم علما،

ص:167


1- القصص : ٣٥.
2- المائدة : ٥٥.
3- نور الأبصار : ٧٠. تفسير الرازي ١٢ : ٢٦.
4- تاريخ الطبري ٢ : ١٢٧. تاريخ ابن الأثير ٢ : ٢٢. تاريخ أبي الفداء ١ : ١١٦. مسند أحمد ١ : ٣٣١. كنز العمّال ٦ : ٣٩٩.
5- المراجعات : ٢٠٨.

و هو الإمام و الخليفة بعدي»(1).

ج - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«معاشر النّاس، من أحسن من اللّه قيلا؟ إنّ ربّكم جلّ جلاله أمرني أن اقيم لكم عليّا علما و إماما و خليفة و وصيّا»(2).

د - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«عليّ منّي، و أنا من عليّ، قاتل اللّه من قاتل عليّا، عليّ إمام الخليقة بعدي»(3).

ه - قال صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ اللّه أوحى إليّ أنّه جاعل لي من أمّتي أخا، و وارثا، و خليفة، و وصيّا، فقلت: يا ربّ من هو؟ فقال: ذاك من احبّه و يحبّني، و هو عليّ بن أبي طالب»(4).

و كثير من أمثال هذه الأحاديث رويت بأسانيد صحيحة عن أئمّة الهدى عليهم السّلام و غيرهم، و هي صريحة الدلالة واضحة البيان، لا لبس و لا اجمال و لا غموض فيها، في أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد نصب الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام خليفة من بعده على امّته و قائدا لمسيرتها نحو الأفضل،

فقد أكّد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ضرورة الخلافة من بعده فقد قال لعليّ: «لا ينبغي أن أذهب إلاّ و أنت خليفتي»(5).

6 - الإمام من النبيّ كهارون من موسى:
اشارة

و أثرت عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جمهرة من الأحاديث ذات مضمون و مفاد واحد،

أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى...» و هذا عرض لبعضها:

ص:168


1- المراجعات : ٢٠٩.
2- المراجعات : ٢٠٩.
3- المصدر السابق : ١١٠.
4- المصدر السابق : ١١٠.
5- فضائل الخمسة من الصحاح الستّة ٢ : ٢١.

أ - قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: «أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبيّ بعدي»(1).

ب - روى سعيد بن المسيّب، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه سعد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»، قال سعيد: فأحببت أن اشافه بها سعدا، فلقيت سعدا فحدّثته بما حدّثني به عامر، فقال: أنا سمعته، فقلت: أنت سمعته؟! فوضع اصبعه على اذنيه فقال:

نعم، و إلاّ فاستكّتا(2).

ج - روى جابر بن عبد اللّه أنّ النبيّ قال لعليّ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»(3).

د - لمّا آخى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بين أصحابه قال عليّ عليه السّلام للنبيّ: «لقد ذهب روحي، و انقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت، غيري، فإن كان هذا من سخط عليّ فلك العتبى و الكرامة»، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «و الّذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلاّ لنفسي، و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي، و أنت أخي، و وارثي»، قال عليّ: «و ما أرث منك يا رسول اللّه؟»، قال: «ما ورّث الأنبياء من قبلي»، قال: «و ما ورّث الأنبياء من قبلك؟»، قال: «كتاب ربّهم، و سنّة نبيّهم، و أنت معي في قصري في الجنّة مع فاطمة ابنتي، و أنت أخي و رفيقي»(4).

ص:169


1- مسند أبي داود ١ : ٢٩. حلية الأولياء ٧ : ١٩٥. مشكل الآثار ٢ : ٣٠٩. مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٨٢. تاريخ بغداد ١١ : ٤٣٢. خصائص النسائي : ١٦.
2- اسد الغابة ٤ : ٢٦. خصائص النسائي : ١٥. صحيح مسلم _ كتاب فضائل الأصحاب ٧ : ١٢٠.
3- صحيح الترمذي ٢ : ٣٠١. تاريخ بغداد ٣ : ٢٨٨. مسند أحمد ٣ : ٢٣٨.
4- كنز العمّال ١٣ : ١٠٥.

ه - قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعقيل: «يا عقيل، و اللّه إنّي لأحبّك لخصلتين: لقرابتك، و لحبّ أبي طالب إيّاك، و أمّا أنت يا جعفر فإنّ خلقك يشبه خلقي، و أمّا أنت يا عليّ، فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي»(1).

و - قال عمر بن الخطّاب: كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «في عليّ ثلاث خصال»، لأن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس: كنت أنا و أبو بكر و أبو عبيدة الجرّاح و نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و النبيّ متّكئ على عليّ بن أبي طالب، حتى ضرب بيده على منكبه، ثمّ قال: «أنت يا عليّ، أنت أوّل المؤمنين إيمانا، و أوّلهم إسلاما»، ثمّ قال: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(2).

ز - قال سعد بن أبي وقّاص: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لعليّ ثلاث خصال، لأن يكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من الدنيا و ما فيها، سمعته يقول:

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»،

و سمعته يقول: «لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله ليس بفرّار»،

و سمعته يقول:

«من كنت مولاه فعليّ مولاه...»(3).

و قد شاع هذا الحديث، و قد نظمه الشهيد الخالد زيد بن عليّ بن الحسين عليه السّلام بقوله:

و من فضل الأقوام يوما برأيه فإنّ عليّا فضّلته المناقب

و قول رسول اللّه و الحقّ قوله و إن رغمت منه الانوف الكواذب

بأنّك منّي يا عليّ معالنا كهارون من موسى أخ لي و صاحب

ص:170


1- كنز العمّال ٦ : ١٨٨.
2- المصدر السابق : ٣٩٥. الرياض النضرة ٢ : ١٦٣.
3- المصدر السابق : ٤٠٥.

دعاه ببدر فاستجاب لأمره فبادر في ذات الإله يضارب(1)

أمّا دلالة الحديث فواضحة في أنّ الإمام وزير النبيّ و خليفته كهارون من موسى، فهو وزيره و خليفته من بعده على امّته:

احتجاج الإمام بالحديث:

و احتجّ الإمام عليه السّلام بحديث المنزلة حينما بويع عثمان بن عفّان، فقد قال للمهاجرين و الأنصار: «فهل تعلمون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى».. ثمّ قال: «فهل لخلق مثل هذه المنزلة؟ نحن صابرون ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا»(2).

إنّ القوم سمعوا هذا الحديث من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و سمعوا ما هو أعظم من ذلك صراحة، و هو حديث الغدير، و لكنّ الأطماع اترعت بها نفوسهم و صدّتهم عن الطريق القويم.

7 - الإمام باب مدينة علم النبيّ:

و كان ممّا أشاد به النبيّ بسموّ الإمام و عظيم منزلته أن جعله بابا لمدينة علمه، و قد روي هذا الحديث بعدّة طرق، و نال الدرجة القطعية في سنده، و قد أثر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في عدّة مناسبات منها:

أ - روى جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم الحديبية، و هو آخذ بيد عليّ عليه السّلام، و هو يقول: «هذا أمير البررة، و قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله»، يمدّ بها صوته: «أنا مدينة العلم و عليّ بابها، فمن أراد البيت

ص:171


1- فوات الوفيات ٢ : ٣٨.
2- كنز العمّال ٣ : ١٥٤.

فليأت الباب»(1).

ب - روى ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أنا مدينة العلم و عليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها»(2).

ج - قال صلّى اللّه عليه و آله: «عليّ باب علمي، و مبيّن لامّتي ما أرسلت به من بعدي، حبّه إيمان، و بغضه نفاق، و النّظر إليه رأفة»(3).

إنّ الإمام عليه السّلام باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فما يؤثر عنه من معالم الدين، و أحكام الشريعة، و محاسن الأخلاق، و قواعد الآداب، فإنّها مستمدّة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و مأخوذة عنه، و لازم ذلك وجوب التعبّد و الأخذ بها.

إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلّف ينبوعا من العلم يمدّ الحياة بالحكمة و الازدهار، و قد أودعه عند الإمام عليه السّلام لتنتهل منه امّته، و لكن من المؤسف أنّ القوى الحاقدة على الإمام من قريش قد سدّت نوافذ ذلك النور، و حرمت الامّة من الاستفادة منه، و تركتها تتخبّط في مجاهيل هذه الحياة.

8 - الإمام باب حكمة النبيّ:

أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ الإمام عليه السّلام باب دار حكمته، و قد أثرت في ذلك جمهرة من الأحاديث كان منها:

أ - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أنا دار الحكمة و عليّ بابها»(4).

ص:172


1- تاريخ بغداد ٢ : ٣٧٧.
2- كنز العمّال ٦ : ٤٠١.
3- كنز العمّال ٦ : ١٥٦. الصواعق المحرقة : ٧٣.
4- صحيح الترمذي ٢ : ٢٩٩. حلية الأولياء ١ : ٦٤. كنز العمّال ٦ : ٤٠١.

ب - قال صلّى اللّه عليه و آله: «أنا مدينة الحكمة و عليّ بابها، فمن أراد الحكمة فليأت الباب»(1).

ج - و قريب من هاتين الروايتين قوله صلّى اللّه عليه و آله: «قسّمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي عليّ تسعة أجزاء و النّاس جزءا واحدا»(2).

لقد كان الإمام عليه السّلام رائد الحكمة، و دليلها الهادي الذي فتق أبواب الحكمة الإلهية و وضع اسسها، و فلاسفة المسلمين عليه عيال في هذا الباب.

9 - الإمام أحبّ الناس إلى النبيّ:

و الشيء المؤكّد أنّ الإمام عليه السّلام أحبّ الناس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقد سئلت عائشة عن أحبّ النّاس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قالت: فاطمة عليها السّلام، قيل لها: و من الرّجال؟ قالت: زوجها إن كان ما علمت صوّاما قوّاما(3).

و روى معاوية بن ثعلبة قال: جاء رجل إلى أبي ذرّ، و هو بمسجد رسول اللّه، فقال له: أ لا تخبرني عن أحبّ الناس إليك؟ فإنّي أعرف أنّ أحبّ الناس إليك أحبّهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال أبو ذرّ: إي و ربّ الكعبة، أحبّهم إليّ أحبّهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، هو ذلك الشيخ، و أشار إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام(4).

10 - الإمام شبيه الأنبياء:

كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في مجتمع من أصحابه، فقال لهم: «إن تنظروا إلى آدم في علمه، و نوح في همّه، و إبراهيم في خلقه، و موسى في مناجاته، و عيسى في

ص:173


1- تاريخ بغداد ١١ : ٢٠٤.
2- حلية الأولياء ١ : ٦٤. وقريب منه في كنز العمّال ٦ : ١٥٤.
3- صحيح الترمذي ٥ : ٧٠١ ، رقم الحديث ٣٨٧٤. سنن الترمذي ٥ : ٣٦٠.
4- جواهر المطالب ١ : ٥٥.

سنّه، و محمّد في هديه و حلمه، فانظروا إلى هذا المقبل»، فتطاولت الأنظار إليه فإذا هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد نظم ذلك الشاعر الكبير أبي عبد اللّه المفجّع في قصيدته العصماء التي نظم فيها الكثير من مآثره و مناقبه يقول:

أيّها اللاّئمي لحبّي عليّا قم ذميما إلى الجحيم خزيّا

أ بخير الأنام عرّضت لا زل ت مذودا عن الهدى مزويّا

أشبه الأنبياء طفلا و زولا(1) و فطيما و راضعا و غذيّا

كان في علمه كآدم إذ ع لم شرح الأسماء و المكنيّا

و كنوح من الهلاك نجا في مسير و إذ علا الجوديّا(2)

11 - الإمام سيّد العرب:

روى الإمام الحسين عليه السّلام عن جدّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال لأنس: «يا أنس، إنّ عليّا سيّد العرب» فبادرت عائشة قائلة: أ لست سيّد العرب؟ فقال: «أنا سيّد ولد آدم، و عليّ سيّد العرب»(3).

12 - الإمام أحبّ الخلق إلى اللّه:

روى أنس قال: قدّمت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طيرا، فسمّى رسول اللّه و أكل لقمة، و قال: «اللّهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك»، فضرب الباب، فقلت: من أنت؟ قال:

عليّ، قلت: إنّ رسول اللّه لعلى حاجة، ثمّ أكل لقمة اخرى، و قال مثل الاولى، فضرب عليّ الباب، فقلت: من أنت؟ قال: عليّ، قلت: إنّ رسول اللّه على حاجة، ثمّ أكل النبيّ لقمة اخرى و قال مثل ذلك، و ضرب عليّ الباب و رفع صوته،

ص:174


1- الزّول : الفتى ، الفطن.
2- معجم الأدباء ١٧ : ٢٠٠.
3- حلية الأولياء ٥ : ٣٨.

فقال النبيّ: «يا أنس، افتح له الباب»، ففتحت الباب فدخل، فلمّا رآه تبسّم ثمّ قال: «الحمد للّه الّذي جاء بك فإنّي أدعو في كلّ لقمة أن يأتيني اللّه بأحبّ الخلق إليه و إليّ، فكنت أنت»، فقال: «و الّذي بعثك بالحقّ إنّي لأضرب الباب ثلاثا و يردّني أنس»، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنس: «لم رددته؟» قلت: كنت أحبّ أن يكون رجلا من الأنصار، فتبسّم النبيّ، و قال: «ما يلام الرّجل على حبّ قومه»(1).

إنّ حديث الطائر المشوي من أوثق الأحاديث النبوية، و قد تمسّكت به الشيعة في الاستدلال على أحقّية الإمام للخلافة؛ لأنّ أحبّ الناس إلى اللّه تعالى إنّما هو أفضلهم و أتقاهم و أعلمهم، فلا بدّ أن يكون أحقّ الناس بالخلافة(2)، و ذلك لتوفّر هذه الصفات فيه.

13 - إطاعة الإمام إطاعة للرسول:

و أكّد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كثير من أحاديثه أنّ طاعة الإمام إطاعة للّه تعالى و لرسوله كان منها هذا الحديث:

قال صلّى اللّه عليه و آله: «من أطاعني فقد أطاع اللّه، و من عصاني فقد عصى اللّه، و من أطاع عليّا فقد أطاعني، و من عصى عليّا فقد عصاني»(3).

14 - من أحبّ عليّا فقد أحبّ اللّه:

و تظافرت الأخبار عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أنّ من أحبّ الإمام عليه السّلام فقد أحبّ اللّه تعالى، و هذه طائفة من الأخبار متقاربة المعنى و هي:

ص:175


1- ذخائر العقبى : ٦١ ، وقريب منه في : تاريخ بغداد ٣ : ١٧١. اسد الغابة ٤ : ٣٠. كنز العمّال ٦ : ٤٠٦. صحيح الترمذي ٢ : ٢٩٩.
2- دلائل الصدق ٢ : ٤٣.
3- مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤.

أ - قال صلّى اللّه عليه و آله:

«أوصي من آمن بي و صدّقني بولاية عليّ بن أبي طالب، فمن تولاّه فقد تولاّني، و من تولاّني فقد تولّى اللّه، و من أحبّه فقد أحبّني، و من أحبّني فقد أحبّ اللّه، و من أبغضه فقد أبغضني، و من أبغضني فقد أبغض اللّه عزّ و جلّ»(1).

ب - قال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام لمّا اختاره لقراءة سورة براءة على أهل مكّة:

«من أحبّك أحبّني، و من أحبّني أحبّ اللّه، و من أحبّ اللّه أدخله الجنّة»(2).

ج - روى ابن عبّاس قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قابضا على يد عليّ عليه السّلام ذات يوم فقال:

«ألا من أبغض هذا فقد أبغض اللّه و رسوله، و من أحبّ هذا فقد أحبّ اللّه و رسوله»(3).

د - روى أبو رافع قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا أميرا على اليمن، و خرج معه رجل من أسلم يقال له عمرو بن شاس، فرجع و هو يذمّ عليّا و يشكوه، فبعث إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له: «اخسأ يا عمرو، هل رأيت من عليّ جورا في حكمه، أو أثرة في قسمة؟»، قال: اللّهمّ لا.

قال: «فعلام تقول الّذي بلغني؟» قال: أبغضه، و لا أملك نفسي، فغضب رسول اللّه حتى عرف ذلك في وجهه ثمّ قال:

«من أبغضه فقد أبغضني، و من أبغضني فقد أبغض اللّه، و من أحبّه فقد أحبّني، و من أحبّني فقد أحبّ اللّه تعالى»(4).

ص:176


1- الرياض النضرة ٢ : ١٦٦. مجمع الزوائد ٩ : ١٠٨. كنز العمّال ٦ : ١٥٤.
2- كنز العمّال ٦ : ٣٩١.
3- كنز العمّال ٦ : ٣٩١.
4- مجمع الهيثمي ٩ : ١٢٩.

حكت هذه الأحاديث أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ ما يرضي عليّا فهو يرضيه، و ما يسخطه فهو يسخطه، و بذلك فقد نال الإمام عليه السّلام منزلة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم ينالها أحد غيره.

15 - حبّ عليّ إيمان، و بغضه نفاق:

أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ حبّ الإمام إيمان و تقوى، و بغضه نفاق و معصية، و هذه بعض ما أثر عنه:

أ - قال عليّ عليه السّلام:

«و الّذي فلق الحبّة و برأ النّسمة إنّه لعهد النّبيّ الامّي إليّ أن لا يحبّني إلاّ مؤمن، و لا يبغضني إلاّ منافق»(1).

ب - روى المساور الحميري عن امّه قالت: دخلت على أمّ سلمة فسمعتها تقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:

«لا يحبّ عليّا منافق، و لا يبغضه مؤمن»(2).

ج - روى ابن عبّاس قال: نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عليّ عليه السّلام فقال: «لا يحبّك إلاّ مؤمن، و لا يبغضك إلاّ منافق، من أحبّك فقد أحبّني، و من أبغضك فقد أبغضني، و حبيبي حبيب اللّه، و بغيضي بغيض اللّه، ويل لمن أبغضك بعدي»(3).

د - روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «حبّك إيمان،

ص:177


1- صحيح الترمذي ٢ : ٣٠١. صحيح ابن ماجة : ١٢. تاريخ بغداد ٢ : ٢٥٥. حلية الأولياء ٤ : ١٨٥.
2- صحيح الترمذي ٢ : ٢٩٩.
3- مجمع الزوائد ٩ : ١٣٣.

و بغضك نفاق، و أوّل من يدخل الجنّة محبّك، و أوّل من يدخل النّار مبغضك»(1).

و شاعت هذه الأحاديث عند الصحابة، و صاروا يطبّقونها على من أحبّ الإمام فوصفوه بالإيمان، و على من أبغضه بالنفاق، يقول الصحابي الجليل أبو ذرّ الغفاري: ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ بتكذيبهم اللّه و رسوله، و التخلّف عن الصلوات، و البغض لعليّ بن أبي طالب(2).

و قال الصحابي الكبير جابر بن عبد اللّه الأنصاري: ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغض عليّ بن أبي طالب عليه السّلام(3).

16 - عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ:

إنّ الصحيفة المشرقة للمؤمنين يوم يلقون اللّه تعالى هي الولاء و المحبّة للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام. و روي ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله،

يقول أنس بن مالك: و اللّه الذي لا إله إلاّ هو سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:

«عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ بن أبي طالب»(4).

17 - إخبار النبيّ بما يجري على الإمام من بعده:

استشفّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من وراء الغيب ما يعانيه الإمام من بعده، و ما يجري عليه من صنوف المحن و الخطوب فقال له:

«أما إنّك ستلقى بعدي جهدا».

فانبرى الإمام قائلا:

ص:178


1- نور الأبصار _ الشبلنجي : ٧٢.
2- مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٩.
3- الاستيعاب ٢ : ٤٦٤.
4- تاريخ بغداد ٤ : ٤١٠.

«أ في سلامة من ديني؟».

و سارع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قائلا:

«في سلامة من دينك»(1).

و لم يحفل الإمام بما يواجهه من الأزمات و المصاعب ما دام على ثقة من دينه.

18 - النبيّ يخبر الإمام بغدر الامّة به:

و أحاط النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وصيّه و باب مدينة علمه الإمام عليه السّلام بغدر الامّة به من بعده، و قد أخبر الإمام عليه السّلام بذلك، فقال:

«و اللّه إنّه لعهد النّبيّ الامّي إليّ أنّ الامّة ستغدر بي»(2).

و روى حيّان الأسدي قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول:

«قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الامّة ستغدر بك بعدي، و أنت تعيش على ملّتي، و تقتل على سنّتي، من أحبّك أحبّني، و من أبغضك أبغضني و إنّ هذه - و أشار إلى كريمته - ستخضب من هذا، و أشار إلى رأسه»(3).

لقد غدرت الامّة برائد العدالة الإسلامية الممثّل الأوّل لهدي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سيرته فأقصته عن مركزه، و أبعدته عن مقامه، و تركته في أرباض بيته يسامر الهموم، و يعالج البرحاء، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.. و بهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض الأحاديث النبوية التي رواها أصحاب الصحاح و السنن عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في سموّ منزلة الإمام و عظيم مكانته عنده.

1

ص:179


1- مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٠.
2- مجمع الزوائد ٩ : ١٣٧.
3- مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٢. كنز العمّال ٦ : ١٥٧.

الكوكبة الثانية

اشارة

و ننتقل إلى عرض بعض الأخبار التي أثرت عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في شأن الإمام عند اللّه تعالى، و ما أعدّ له من الكرامة.

منزلة الإمام في الدار الآخرة:

اشارة

و تحدّثت كوكبة من الأخبار التي أثرت عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيما أعدّ اللّه تعالى من الكرامة للإمام في الدار الآخرة، و هذه بعضها:

1 - الإمام حامل لواء الحمد:

و تظافرت الأخبار الصحاح عن النبيّ أنّ الإمام في يوم القيامة يمنحه اللّه تعالى شرف حمل لواء الحمد، و هو وسام لم يمنح لغيره، و هذه بعض الأخبار:

أ - قال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «أنت أمامي يوم القيامة، فيدفع لي لواء الحمد فأدفعه إليك، و أنت تذود النّاس عن حوضي»(1).

ب - روى ابن عبّاس قال: سمعت عمر بن الخطّاب يقول: كفّوا عن ذكر عليّ ابن أبي طالب، فلقد رأيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيه خصالا لأن تكون لي واحدة منهنّ في آل الخطّاب أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس، كنت أنا و أبو بكر و أبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فانتهينا إلى باب أمّ سلمة، و عليّ قائم على الباب، فقلنا: أردنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: «يخرج إليكم»، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسرنا إليه، فاتّكأ على عليّ بن أبي طالب، ثمّ ضرب بيده على منكبه، و قال له:

«إنّك مخاصم تخاصم... أنت أوّل المؤمنين إيمانا، و أعلمهم بأيّام اللّه، و أوفاهم بعهده، و أقسمهم بالسّويّة، و أرأفهم بالرّعيّة، و أعظمهم رزيّة، و أنت

ص:180


1- كنز العمّال ٦ : ٤٠٠.

عاضدي، و غاسلي، و دافني، و المتقدّم إلى كلّ شدّة و كريهة، و لن ترجع بعدي كافرا، و أنت تتقدّمني بلواء الحمد، و تذود عن حوضي»(1).

حكى هذا الحديث بعض الصفات الماثلة في الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و التي منها:

- إنّ الإمام أوّل الناس إسلاما، و أقدمهم إيمانا.

- إنّه أعلم المسلمين و أكثرهم إحاطة بأيام اللّه تعالى، بل و في أحكامه.

- إنّه أوفى الناس بالعهد.

- إنّه أسمى و أجلّ حاكم في دنيا الإسلام، فهو الذي يقسّم بالسوية و لا يخضع لأيّة عاطفة أو هوى سوى مرضاة اللّه تعالى.

- إنّه أرأف حاكم بالرعية.

- إنّه من أعظم المسلمين رزية و بلاء، فقد أحاطت به الرزايا بعد وفاة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و التي سنتحدّث عنها في بعض فصول الكتاب.

- إنّه عضد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و القائم بجميع شئونه، و التي منها قيامه بغسل النبيّ و دفنه بعد وفاته.

- إنّه السابق لكلّ شدّة و كريهة تحلّ بالنبيّ فيكشفها عنه.

- إنّه يتقدّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الحشر بحمل لواء الحمد.

2 - الإمام صاحب حوض النبيّ:

و تواترت الأخبار عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ الإمام عليه السّلام هو صاحب حوض النبيّ الذي

ص:181


1- كنز العمّال ٦ : ١١٧.

هو من أعظم أنهار الجنّة في عذوبة مائه و حلاوته، و جمال منظره، و لا يفوز بالشرب منه إلاّ من كان مواليا و محبّا للإمام عليه السّلام، و لننظر إلى بعض الأخبار التي وردت فيه:

أ - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «عليّ بن أبي طالب صاحب حوضي يوم القيامة، فيه أكواب كعدد نجوم السّماء، وسعة حوضي ما بين الجابية و صنعاء»(1).

و وصف السيّد الحميري هذا الحوض و قد حانه الذي يمنحه اللّه تعالى للإمام بقوله:

حوض له ما بين صنعا إلى أيلة أرض الشّام أو أوسع

ينصب فيه علم للهدى و حوض من ماء له مترع

فيه أباريق و قد حانه يذبّ عنها الأنزع الأصلع

يذبّ عنه ابن أبي طالب ذبّك جربى إبل تشرع(2)

ب - روى أنس بن مالك قال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أبي برزة الأسلمي، فلمّا حضر عنده قال له و أنا أسمعه:

«يا أبا برزة، إنّ ربّ العالمين تعالى عهد إليّ في عليّ بن أبي طالب، فقال - أي اللّه تعالى -: عليّ راية الهدى، و منار الإيمان، و إمام أوليائي، و نور جميع من أطاعني.

يا أبا برزة، عليّ بن أبي طالب معي غدا يوم القيامة على حوضي، و صاحب لوائي، و معي غدا على مفاتيح خزائن جنّة ربّي»(3).

ج - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «أنت أمامي يوم القيامة، فيدفع إليّ لواء

ص:182


1- مجمع الزوائد ١ : ٣٦٧.
2- ديوان الحميري : ٢٦٤.
3- تاريخ بغداد ١٤ : ٩٨.

الحمد فأدفعه إليك، و أنت تذود النّاس عن حوضي»(1).

د - روى أبو هريرة أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا رسول اللّه، أيّما أحبّ إليك أنا أم فاطمة؟».

قال صلّى اللّه عليه و آله: «فاطمة أحبّ إليّ منك، و أنت أعزّ عليّ منها، و كأنّي بك و أنت على حوضي تذود عنه النّاس، و أنّ عليه لأباريق مثل عدد نجوم السّماء»(2).

و هذه الكرامة لم يظفر بها أي أحد من الاسرة النبويّة و لا غيرها من بقيّة الصحابة.

3 - الإمام قسيم الجنّة و النار:

من الأوسمة الشريفة التي قلّدها الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى باب مدينة علمه الإمام عليه السّلام أنّه قسيم الجنّة و النار،

فقد روى ابن حجر أنّ الإمام عليه السّلام قال لأعضاء الشورى الذين انتخبهم عمر: «انشدكم باللّه، هل فيكم أحد قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، أنت قسيم الجنّة و النّار يوم القيامة غيري؟»، فقالوا: اللّهمّ لا. و علّق ابن حجر على هذا الحديث بقوله: معناه ما روي عن الإمام الرضا عليه السّلام أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال له - أي للإمام -: أنت قسيم الجنّة و النار في يوم القيامة، تقول للنار هذا لي، و هذا لك(3).

و من المؤكّد أنّه لم ينل أحد من أولياء اللّه، قبل الإسلام و بعده، مثل ما ناله الإمام من هذه الكرامة التي لا حدود لأبعادها، لقد حباه اللّه تعالى بذلك تقديرا لجهوده و جهاده في سبيل الإسلام، و نكرانه لذاته، و تفانيه في خدمة الحقّ.

4 - الاجتياز على الصراط بإجازة من الإمام:

و ثمّة مكرمة اخرى حباها اللّه تعالى لسيّد الوصيّين و إمام المتّقين الإمام أمير

ص:183


1- كنز العمّال ٦ : ٤٠٠.
2- مجمع الزوائد ٩ : ١٧٣.
3- الصواعق المحرقة : ٧٥.

المؤمنين عليه السّلام، و هي أنّه لا يجتاز أحد على الصراط إلاّ بإجازة و توقيع منه، و قد تظافرت الأخبار بذلك، كان منها:

أ - قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا جمع اللّه الأوّلين و الآخرين يوم القيامة، و نصب الصّراط على جسر جهنّم، ما جازها أحد حتّى كانت معه براءة(1) بولاية عليّ بن أبي طالب»(2).

ب - روى أنس بن مالك قال: لمّا حضرت وفاة أبي بكر، قال أبو بكر: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إنّ على الصّراط لعقبة لا يجوزها أحد إلاّ بجواز من عليّ بن أبي طالب»(3).

ج - روى قيس بن حازم قال: التقى أبو بكر و عليّ بن أبي طالب فتبسّم أبو بكر في وجه عليّ، فقال له: «ما لك تبسّمت؟»، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:

«لا يجوز أحد على الصّراط إلاّ من كتب له عليّ الجواز»(4).

5 - الإمام مع النبيّ في الجنّة:

و خصّ اللّه تعالى الإمام بمكرمة و هي أنّه يكون مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قصره في الجنّة، و قد أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك حينما آخى بين أصحابه، و لم يؤاخ بين عليّ و أحد من أصحابه، فتأثّر الإمام عليه السّلام،

فقال له النبيّ: «و الّذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلاّ لنفسي، و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، غير أنّه لا نبيّ بعدي، و أنت أخي و وارثي»، فقال له الإمام: «و ما أرث منك يا رسول اللّه؟» قال:

ص:184


1- البراءة : المنشور.
2- الرياض النضرة ٢ : ١٧٢.
3- تاريخ بغداد ١٠ : ٣٥٦.
4- الرياض النضرة ٢ : ٢٠٩.

«ما ورّثت الأنبياء من قبلي»، قال: «و ما ورّث الأنبياء من قبلك؟»، قال: «كتاب ربّهم، و سنّة نبيّهم، و أنت معي في قصري في الجنّة مع فاطمة ابنتي، و أنت أخي و رفيقي»(1).

قال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ: «أ ما ترضى أنّك معي في الجنّة و الحسن و الحسين، و ذرّيّتنا خلف ظهورنا، و أزواجنا خلف ذرّيّتنا، و شيعتنا عن أيماننا و شمائلنا»(2).

و أكّد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك في حديث آخر له فقال للإمام:

«يا عليّ، أنت أخي و صاحبي و رفيقي في الجنّة»(3).

و بهذا نطوي الحديث عن بعض ما أثر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيما أعدّ اللّه تعالى من المنزلة الكريمة لوصيّه و باب مدينة علمه و سيّد عترته سلام اللّه عليه.

الأخبار النبوية في فضل العترة

اشارة

و تواترت الأخبار عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في فضل عترته الطاهرة و لزوم مودّتهم و التمسّك بهم، و هذه بعضها:

حديث الثقلين:

إنّ حديث الثقلين من أروع الأحاديث النبوية، و من أصحّها سندا، و من أكثرها شيوعا و انتشارا بين المسلمين، فقد دوّنته الصحاح و السنن، و تلقّاه العلماء بالقبول، و من الجدير بالذكر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد أدلى بهذا الحديث في مواضع متعدّدة كان منها:

ص:185


1- كنز العمّال ٥ : ٤٠.
2- الصواعق المحرقة : ٩٦. الرياض النضرة ٢ : ٢٠٩.
3- تاريخ بغداد ١٢ : ٢٦٨.

1 - روى زيد بن أرقم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّي تارك فيكم الثّقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه، حبل ممدود من السّماء إلى الأرض؛ و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(1).

2 - أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا الحديث و هو في حجّه يوم عرفة، و قد

رواه جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو في حجّه يوم عرفة، و هو على ناقته القصوى يخطب، فسمعته يقول: «يا أيّها النّاس، إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي»(2).

3 - روى زيد بن أرقم قال: نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الجحفة، ثمّ أقبل على الناس فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: «إنّي لا أجد لنبيّ إلاّ نصف عمر الّذي قبله، و إنّي اوشك أن ادعى، فما أنتم قائلون؟».

فهتفوا جميعا: نصحت.

ثمّ وجّه إليهم هذه الكلمات:

«أ ليس تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، و أنّ الجنّة حقّ، و النّار حقّ؟».

سارعوا قائلين: نشهد.

و رفع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يده فوضعها على صدره الشريف و قال:

«أ لا تسمعون؟».

نعم.

ص:186


1- صحيح الترمذي ٢ : ٣٠٨.
2- صحيح الترمذي ٢ : ٣٠٨. كنز العمّال ١ : ٨٤.

«فإنّي فرط(1) على الحوض، و أنتم واردون على الحوض، و أنّ عرضه ما بين صنعاء و بصرى، فيه أقداح عدد النّجوم من فضّة فانظروا كيف تخلفوني في الثّقلين؟».

فناداه من بهو المجلس مناد: و ما الثقلان يا رسول اللّه؟ «كتاب اللّه طرف بيد اللّه عزّ و جلّ، و طرف بأيديكم فتمسّكوا به، و الآخر عشيرتي(2)، و إنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، و لا تقصّروا عنهما، و لا تعلّموهم فهم أعلم منكم...».

ثمّ أخذ بيد أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و قال:

«من كنت أولى به من نفسه فعليّ وليّه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه»(3).

4 - خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أصحابه و هو على فراش الموت فقال لهم:

«أيّها النّاس، يوشك أن اقبض قبضا سريعا، فينطلق بي، و قد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب ربّي عزّ و جلّ، و عترتي أهل بيتي».

ثمّ أخذ بيد عليّ عليه السّلام و قال:

«و هذا عليّ مع القرآن، و القرآن مع عليّ، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض»(4).

ص:187


1- فرط : المتقدّم قومه إلى الماء.
2- في كنز العمّال ١ : ٤٨ : بدل « عشيرتي » لفظ « عترتي ».
3- مجمع الهيثمي ٩ : ١٦٣.
4- الصواعق المحرقة : ٧٥.

و لا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتأمّل و النظر في هذا الحديث سندا و دلالة:

سند الحديث: أمّا هذا الحديث فهو من أوثق الأحاديث النبوية في سنده، و قد نقل المناوي عن السمهودي أنّه قال: و في الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة كلّهم قد رووا هذا الحديث(1).

و قال ابن حجر: و لهذا الحديث طرق كثيرة عن بعض و عشرين صحابيا(2)، و لا يخامر أي باحث شكّ في صحّة الحديث و سلامته من الوضع و الضعف.

دلالة الحديث: أمّا دلالة الحديث و مفاده فهي عصمة أهل البيت من كلّ إثم و رجس، فقد قرنهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالكتاب العزيز، فكما أنّ الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فكذلك العترة، و إلاّ لما صحّت المقارنة بينهما، فالحديث يدلّ - بوضوح - على عصمة أهل البيت عليهم السّلام، و من الطبيعي أنّ أي انحراف في سلوك أهل البيت يعدّ افتراقا عن الكتاب العزيز، و قد صرّح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعدم افتراقهما حتى يردا عليه الحوض.

إنّ البحث عن معطيات هذا الحديث الشريف يستدعي وضع كتاب خاصّ فيه، و قد عرض جماعة من العلماء إلى البحث عنه بصورة موضوعيّة و شاملة(3).

حديث السفينة:

روى أبو سعيد الخدري قال: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إنّما مثل أهل بيتي

ص:188


1- فيض القدير ٣ : ١٤.
2- الصواعق المحرقة : ٣٦.
3- عرض لذلك الإمام شرف الدين في المراجعات : ٤٩. الحجّة السيّد الحكيم في الاصول العامّة : ١٦٤ ، وألّفت دار التقريب في القاهرة رسالة خاصّة في هذا الحديث عرضت فيه لرواته وسنده.

فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق، و إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل، من دخله غفر له»(1).

حكى هذا الحديث الشريف لزوم التمسّك بالعترة الطاهرة فإنّ فيه نجاة للامّة و سلامة من الغرق في متاهات هذه الحياة، فأهل البيت عليهم السّلام سفن النجاة و أمن العباد، يقول الإمام شرف الدين نضّر اللّه مثواه:

و أنت تعلم أنّ المراد من تشبيههم عليهم السّلام بسفينة نوح أنّ من لجأ إليهم في الدارين فأخذ فروعه و اصوله عن أئمّتهم نجا من عذاب النار، و من تخلّف عنهم كان كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه غير أنّ ذاك غرق في الماء، و هذا في الحميم، و العياذ باللّه.

و الوجه في تشبيههم عليهم السّلام بباب حطّة هو أنّ اللّه تعالى جعل ذلك الباب مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله، و البخوع لحكمه، و بهذا كان سببا للمغفرة. هذا وجه الشبه، و قد حاول ابن حجر إذ قال - بعد أن أورد هذه الأحاديث و غيرها من أمثالها -:

و وجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم، و عظّمهم شكرا لنعمة شرفهم، و أخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، و من تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، و هلك في مفاوز الطغيان - إلى أن قال -: «و باب حطّة» يعني وجه تشبيههم بباب حطّة، أنّ اللّه تعالى جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدّس مع التواضع و الاستغفار سببا للمغفرة، و جعل لهذه الامّة مودّة أهل البيت سببا لها(2).

ص:189


1- مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨. المستدرك ٢ : ٤٣. تاريخ بغداد ٢ : ١٢٠. الحلية ٤ : ٣٠٦. الذخائر : ٢٠.
2- مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٩. كنز العمّال ٦ : ١١٦. وفي فيض القدير ٦ : ٢٩٧. ومجمع الزوائد ٩ : ١٧٤ : إنّ النبيّ قال : « النجوم أمان لأهل الأرض ، وأهل بيتي أمان لأمّتي ».

أهل البيت أمان للامّة:

و فرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مودّة أهل بيته على امّته، و جعل التمسّك بهم أمان لها من الهلاك،

قال صلّى اللّه عليه و آله:

«النّجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان لامّتي من الاختلاف، فإذا خالفتهم قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»(1).

النبيّ سلم لمن سالم أهل بيته:

و أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كثير من أحاديثه أنّه صلّى اللّه عليه و آله سلم لمن سالم أهل بيته، و حرب لمن حاربهم،

قال صلّى اللّه عليه و آله لعليّ و فاطمة و الحسن و الحسين: «أنا حرب لمن حاربتم، و سلم لمن سالمتم»(2).

و روى أبو بكر قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو متّكئ على قوس عربية و في الخيمة عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، فقال: «معاشر المسلمين، أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، و حرب لمن حاربهم، و وليّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ، و لا يبغضهم إلاّ شقيّ الجدّ رديء الولادة»(3).

و معنى الحديثين أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جعل أهل بيته بمنزلة نفسه، فهو سلم لمن سالمهم و حرب لمن حاربهم.

ص:190


1- الرياض النضرة ٢ : ٢٥٢ ، وقريب منه في صحيح الترمذي ٢ : ٣١٩. سنن ابن ماجة ١ : ٥٢.
2- مسند أحمد ١ : ٧٧. صحيح الترمذي ٢ : ٣٠١ ، حدّث بهذا الحديث نصر بن عليّ في أيام المتوكّل فنقل : فأمر بضربه ألف سوط فكلّمه فيه جعفر بن عبد ، وقال له : إنّه من أهل السنّة حتى عفا عنه _ تهذيب التهذيب ١٠ : ٤٣.
3- فرائد السمطين ٢ : ٤٠ ، ح ٣٧٣. شرح الأخبار ٣ : ٥١٥.

من أحبّ أهل البيت كان مع النبيّ:

أعلن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ من أحبّ أهل بيته حشر معه في الفردوس الأعلى،

قال صلّى اللّه عليه و آله و قد أخذ بيد الحسن و الحسين: «من أحبّني و أحبّ هذين و أباهما كان معي في درجتي يوم القيامة»(1).

معرفة أهل البيت أمان من العذاب:

قال صلّى اللّه عليه و آله: «معرفة آل محمّد براءة من النّار، و حبّ آل محمّد جواز على الصّراط، و الولاية لآل محمّد أمان من العذاب»(2).

السؤال عن محبّة أهل البيت:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تزول قدما عبد - يوم القيامة - حتّى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، و عن جسده فيم أبلاه، و عن ماله فيم أنفقه و من أين اكتسبه، و عن محبّتنا أهل البيت»(3).

الاقتداء بأهل البيت:

قال صلّى اللّه عليه و آله: «اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، و مكان العينين من الرّأس، و لا يهتدي الرّأس إلاّ بالعينين»(4).

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «من سرّه أن يحيا حياتي، و يموت مماتي، و يسكن جنّة عدن غرسها ربّي فليوال عليّا من بعدي، و ليوال وليّه، و ليقتد بأهل بيتي من بعدي، فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، و رزقوا من فهمي و علمي، فويل للمكذّبين بفضلهم

ص:191


1- مسند أحمد ١ : ٧٧. كنز العمّال ١٢ : ٩٧ و ١٣ : ٣٩.
2- المراجعات _ الإمام الأعظم شرف الدين : ٥٤.
3- المراجعات : ١٥٨.
4- المراجعات : ٥٨ ، نقلا عن الشرف المؤبّد.

من أمّتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم شفاعتي»(1).

الممات على حبّ أهل البيت:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ألا من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا، ألا من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له، ألا من مات على حبّ آل محمّد مات تائبا، ألا من مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكملا للإيمان، ألا من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير، ألا من مات على حبّ آل محمّد يزفّ الى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا من مات على حبّ آل محمّد فتح له فى قبره بابان إلى الجنّة، ألا من مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرّحمن، ألا من مات على حبّ آل محمّد مات على السّنّة و الجماعة، ألا من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه «آيس من رحمة اللّه»(2).

هذه بعض الأحاديث التي روتها الثقات و دوّنتها الصحاح و السنن عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و هي تشيد بفضل عترته الطيّبين دعاة العدل و الأدلاّء على مرضاة اللّه.

و المتأمّل في هذه الأحاديث يطلّ على الغاية المنشودة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ غرضه ترشيحهم للخلافة العظمى من بعده حتى لا تزيغ امّته في مسيرتها، و لا تنحرف في سلوكها عمّا أراده اللّه لها من السيادة العامّة على جميع امم العالم و شعوب الأرض.

و على أي حال فهذه الأخبار التي وردت في فضل عترة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شاملة لسيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام رائد العدالة الاجتماعية في دنيا الإسلام، و بهذا ينتهي بنا المطاف في هذا البحث.

1

ص:192


1- المراجعات : ٥٨ ، نقلا عن الشرف المؤبّد.
2- المراجعات : ٥٩ ، نقلا عن الثعلبي في تفسير آية المودّة.

مع الثّورة الإسلاميّة

اشارة

ص:193

ص:194

إنّ الثورة الإسلامية الكبرى أعظم ثورة إصلاحية عرفتها الإنسانية في جميع مراحل تأريخها... إنّها ثورة الفكر، و ثورة القيم الكريمة على التخلّف و الانحطاط، إنّها ثورة العلم على الجهل، و ثورة الفقراء و المستضعفين على أسيادهم المستعبدين.. إنّها الثورة العظمى التي أقامت هيكلا رفيعا للتطوّر و الابداع في جميع مراحل هذه الحياة.

إنّ الثورة الإسلامية العظمى التي فجرّها الرسول صلّى اللّه عليه و آله في مكّة قد أوجدت زلزالا مدمّرا للحياة الفكرية و الاجتماعية و الاقتصادية في ذلك المجتمع الذي كان فيه، و كانت أشدّ هولا، و أعظم محنة على طغاة القرشيّين، فقد استهدفت تدمير معتقداتهم، و إقصاء عاداتهم و تقاليدهم التي كانوا يؤمنون بها، و دعتهم إلى نظام مشرق جديد يفتح لهم آفاقا من العزّة و الكرامة لم يألفوها، و لم يحلموا بها من قبل، و هذه صور مشرقة من بنود الثورة الإسلامية.

1 - تحطيم الأصنام:

أمّا الأصنام فكانت مسرحا للحياة الفكرية و العقائدية في مكّة و ما جاورها، فقد اتّخذها المجتمع آلهة يعبدونها من دون اللّه تعالى، و قد علّقت على جدران الكعبة ما يزيد على ثلاثمائة صنم، و كان أعظمها مكانة و أعزّها شأنا عندهم الأصنام التالية:

- هبل.

ص:195

- اللاّت.

- عزّى.

- مناة.

و كانت هذه الأصنام آلهة لمعظم أهالي مكّة، فقد نشئوا على عبادتها، و فطروا على الإيمان بها، و اعتقدوا اعتقادا جازما أنّها خالقة الكون و واهبة الحياة، و قد تفانوا في عبادتها مقلّدين لآبائهم الذين هم كالأنعام بل أضلّ سبيلا.

و كان أوّل ما أعلنه الرسول صلّى اللّه عليه و آله في دعوته الخلاّقة الدعوة إلى عبادة اللّه تعالى خالق الكون و واهب الحياة، و تدمير الأصنام التي لا تعي و لا تعقل، و التي تمثّل الانحطاط الفكري، و تلحق الإنسان بقافلة الحيوان الأعجم.

و كان من أشدّ المؤمنين بالأصنام، و المتفانين في الولاء لها الجاهلي أبو سفيان عميد الاسرة الامويّة، و شيخ القرشيّين، و هو الذي فزع كأشدّ ما يكون الفزع حينما رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يطوف حول الكعبة، و يقرأ نشيد الإسلام:

«لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك، إنّ الحمد و النعمة لك و الملك، لا شريك لك لبّيك».

فقد إهابه، و صاح بأعلى صوته:

اعل هبل.

فردّ عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعنف:

«يا أبا سفيان، اللّه أعلى و أجلّ».

و كان من شدّة إيمان القرشيّين بالأصنام أن خفّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عصابة منهم

ص:196

فعرضوا عليه أن يعبد أصنامهم سنة، و يعبدون اللّه تعالى معه سنة اخرى، فنزلت على الرسول سورة: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ...(1).

لقد فزعت قريش و ضاقت بها الأرض حينما أعلن الرسول صلّى اللّه عليه و آله دعوته لسحق الأصنام و تدميرها و تطهير البيت الحرام منها، و اعتبروا ذلك تحطيما لكيانهم العقائدي فهبّوا جميعا لمناجزة الرسول و مقاومته، و حاربوه بجميع طاقاتهم، و ما يملكونه من وسائل القوّة.

2 - تحرير العبيد و المستضعفين:

أمّا العبيد في العصر الجاهلي فهم المعذّبون في الأرض، قد نبذهم المجتمع و احتقرهم، و لم ير لهم أي كيان، و قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ممّا عانوه من صنوف الذلّ و العبودية، و تبنّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قضاياهم، و دعى إلى تحريرهم و مساواتهم لبقيّة أبناء المجتمع، و قد بشّرهم بأنّهم سيكونون مع المستضعفين أسياد المجتمع، و كان من بينهم بلال الحبشي، و عمّار بن ياسر و أبوه ياسر، و امّه سميّة، و عبد اللّه بن مسعود، و غيرهم من المؤمنين الذين ألهبت أجسامهم سياط القرشيّين.

لقد دوى صوت الرسول صلّى اللّه عليه و آله في آفاق مكّة إنه «لا فضل لأبيض على أسود إلاّ بالتّقوى».

و قد ورمت آناف سادات العبيد من القرشيّين و انتفخ سحرهم من دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ عبيدهم سينعمون بالحرية الكاملة، و أنّهم سيكونون سادة لهم فهبّوا متضامنين أجمعين اكتعين لمناجزته، و الاجهاز على دعوته.

ص:197


1- الكافرون : ١ _ ٣.

3 - تحرير المرأة:

اشارة

أمّا المرأة في العصر الجاهلي فقد عانت من القسوة و الظلم ما لا يوصف لمرارته و شدّته، فقد استهان بها العرب، و حمّلوها من أمرها رهقا، و كان من مظاهر ظلمها ما يلي:

أ - وأد البنات:

و كان من الظلم الفاحش للمرأة في العصر الجاهلي أنّه إذا ولد لشخص بنت ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم، كما حكى القرآن ذلك بقوله: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ(1)، و الأدهى من ذلك و أشدّ بلاء أنّ بعضهم كان يسارع إلى وأد ابنته و هي حيّة، و قد نعى القرآن عليهم ذلك بقوله تعالى: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(2)، و كانت هذه البادرة القاسية شائعة عند بعض القبائل كربيعة و كندة و تميم و غيرهم، و من الأمثال الشائعة: دفن البنات من المكرمات.

ب - حرمانها من الميراث:

أمّا المرأة في العصر الجاهلي فلا ترث زوجها و أباها و سائر أقربائها، و لا حظّ لها من الميراث مطلقا.. و قد انتصر لها الإسلام، و فتح لها آفاقا كريمة من الحياة الرفيعة، و شرّع لها من الحقوق بما لم يقنّنه أي نظام قديما و لا حديثا، فقد ساوى بينها و بين الرجل مساواة كاملة في جميع الحقوق و الواجبات، و جعلها مسئولة عن حماية الجيل، و صيانته من التلوّث بالجرائم و الموبقات، و أوجب على الزوج القيام بالإنفاق عليها، و جعلها ترث و تورّث، و فرض عليها التفقّه في الدين،

ص:198


1- النحل : ٥٨.
2- التكوير : ٨ _ ٩.

و طلب العلم، كما جعل لها الحرية في اختيار الزوج، و لكن بمشاركة أبيها إذا كانت باكرا - كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء -؛ لأنّه أدرى منها بمعرفة الرجال خوفا أن يكون ما اختارته شاذّا في سلوكه و منحرفا في شخصيّته و هي لا تعلم ذلك، إلى غير ذلك من الحقوق الكاملة التي قنّنها الإسلام لها، و كانت معاملة الإسلام للمرأة بهذه الصورة من الاحتفاء و التكريم غريبة على العرف الجاهلي، لم يألفوها، فقد جافت تقاليدهم و عاداتهم.

ج - الزواج بأرملة الأب:

من عادات الجاهلية التي حرّمها الإسلام أنّ الرجل منهم إذا توفّي قام أكبر أولاده فألقى ثوبه على امرأة أبيه، و ورث بذلك نكاحها، فإذا لم يكن له إرب فيها زوّجها من بعض اخوته أو غيرهم، و أخذ مهرها، و قد حرّم الإسلام زواج ولد الميّت بها قال تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ(1).

و كانوا يتوارثون النساء كما يتوارثون الأموال، و كان زواجهنّ بيد آبائهنّ و اخوانهنّ، فإن شاءوا زوّجوهنّ و أخذوا صداقهنّ، و إن شاءوا تركوهنّ عوانس أو يفدين أنفسهن بالمال، و قد حرّرهن الإسلام من هذه القيود و الأغلال، و بنى لهنّ اطارا من العزّة و الكرامة ما لم يحلمن به.

4 - المساواة بين الناس:

من المبادئ العليا التي تبنّاها الإسلام المساواة العادلة بين جميع أبناء البشر على اختلاف جنسياتهم و قوميّاتهم، فلا فرق بين حاكم و محكوم، و لا بين غني و فقير، فالناس كلّهم متساوون أمام القانون و في الحقوق و الواجبات و المسئوليات، لا امتياز لقوم على آخرين، و كانت هذه المساواة لذيذة و مقدّسة عند المستضعفين

ص:199


1- النساء : ٢٢.

و البؤساء، فآمنوا بالإسلام إيمانا مطلقا،

يقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لا فضل لعربيّ على عجميّ، و لا لأبيض على أسود إلاّ بالتّقوى».

و قد نفرت جبابرة قريش و ساداتها من هذه المساواة، فكانوا يرون أنّهم سادة المجتمع و أشرف من بقيّة القوميّات، فلذا هبّوا لمناجزة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تعذيب من آمن به من عبيدهم و أبنائهم و نسائهم.

5 - حماية الحقوق:

من القيم الخلاّقة التي رفع شعارها الإسلام حماية حقوق الناس و الأخذ بظلامة الضعيف من القويّ، و ليس لأي أحد سلطان على أحد، و إنّما الجميع سواسية أمام القانون، و فزعت قريش من ذلك، و جنّدت جميع طاقاتها لمحاربة الإسلام.

6 - تحريم الربا:

و اصطدمت دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بمصالح الرأسماليّين من قريش الذين كانوا يعتمدون في معاملاتهم و تجارتهم على الربا، و قد انتشر بصورة هائلة في مكّة، و كان ممّن يتعاطاه العباس بن عبد المطّلب، و قد حرّمه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله تحريما باتّا؛ لأنّه يوجب تكدّس الثراء العريض عند فئة من الناس و شيوع الفقر و الحاجة عند الأكثرية الساحقة، و قد ذعر أصحاب رءوس الأموال من دعوة الرسول و ناجزوه بجميع ما يملكون من قوّة.

7 - تحريم الخمر:

أمّا الخمر فكان شائعا في العصر الجاهلي، و منتشرا عند جميع الأوساط، و لمّا حرّمه الإسلام أوجد ضجّة و اصطدم مع ملذّاتهم و عاداتهم، و أضمروا في نفوسهم الحقد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

ص:200

8 - تحريم الاستغلال:

و حرّم الإسلام استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، و الاستيلاء على جهوده و أتعابه مجّانا و بلا عوض، فإنّ ذلك ممّا يؤدّي إلى إشاعة الفقر و الحاجة في المجتمع.

9 - إقصاء الفقر:

من المبادئ التي رفع شعارها الرسول صلّى اللّه عليه و آله إقصاء الفقر و إزالته عن المجتمع، و اعتبره كالكافر في وجوب مكافحته، و أنّه كارثة مدمرة و مصدر لكلّ جريمة و موبقة تقع في البلاد، ففرض الضرائب في أموال الأغنياء و التي من أهمّها الزكاة، و جعل الدولة مسئولة عن جبايتها و توزيعها على الفقراء، كما فرض لهم التكافل الاجتماعي، و التضامن الاجتماعي و غيرهما من مبيد الفقر.

10 - إشاعة العلم:

من المبادئ التي تبنّاها الرسول صلّى اللّه عليه و آله إشاعة العلم و نشره بين الناس، و إقصاء الجهل، و قد جعل طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، و أهاب بالمسلمين أن يرفعوا عنهم كابوس الجهل، و ينمّوا عقولهم بالعلم؛ لأنّه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم لهم قائمة و هم يرسفون في قيود الجهل، و قد عرضنا إلى بحوث مهمّة في هذا الموضوع في كتابنا «النظام التربوي في الإسلام».

هذه بعض المثل الكريمة و المبادئ الرفيعة التي رفع شعارها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لم يفهمها المجتمع القرشي في مكّة، فكانت غريبة عليه، فاندفع بجميع قواه إلى مناهضتها و إطفاء نورها.

الإمام يصف الإسلام:

اشارة

و وصف الإمام الإسلام وصفا رائعا و ملمّا بواقعه في كثير من خطبه و كلماته

ص:201

كان منها ما يلي:

1 - قال عليه السّلام:

ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الّذي اصطفاه لنفسه، و اصطنعه على عينه، و أصفاه خيرة خلقه، و أقام دعائمه على محبّته.

أذلّ الأديان بعزّته، و وضع الملل برفعه، و أهان أعداءه بكرامته، و خذل محادّيه(1) بنصره، و هدم أركان الضّلالة بركنه(2).

أ رأيتم هذا الوصف الكامل الدقيق للإسلام! فهو دين اللّه تعالى الذي اصطفاه و وهبه لعباده يقيم أودهم و يصلح شئونهم و يهديهم للتي هي أقوم.

2 - قال عليه السّلام:

الحمد للّه الّذي شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده، و أعزّ أركانه على من غالبه، فجعله أمنا لمن علقه(3)، و سلما لمن دخله، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم عنه، و نورا لمن استضاء به، و فهما لمن عقل، و لبّا لمن تدبّر، و آية لمن توسّم، و تبصرة لمن عزم، و عبرة لمن اتّعظ، و نجاة لمن صدّق، و ثقة لمن توكّل، و راحة لمن فوّض، و جنّة لمن صبر.

فهو أبلج المناهج، و أوضح الولائج؛ مشرف المنار، مشرق الجوادّ، مضيء المصابيح، كريم المضمار، رفيع الغاية، جامع الحلبة، متنافس

ص:202


1- المحادي : الشديد المخالفة.
2- نهج البلاغة _ محمّد عبده ٢ : ١٧٤.
3- علقه : أي من تعلّق به.

السّبقة، شريف الفرسان. التّصديق منهاجه، و الصّالحات مناره، و الموت غايته، و الدّنيا مضماره، و القيامة حلبته، و الجنّة سبقته(1).

و لقد وعى الإمام عليه السّلام الإسلام، و آمن بقيمه و أهدافه، فوصفه هذا الوصف الرائع الذي أحاط بمقوّماته و مكوّناته.

الإمام أوّل من صلّى مع النبيّ:

و الشيء المحقّق عند الرواة و المحقّقين هو أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام هو أوّل من آمن و صلّى مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في البيت الحرام(2)، و قد نقل المؤرّخون بعض من شاهد صلاته مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هم:

1 - عفيف الكندي:

روى عفيف الكندي قال:

جئت في الجاهلية إلى مكّة، و أنا اريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها و عطرها، فأتيت العبّاس بن عبد المطلب، و كان تاجرا، فأنا عنده جالس انظر إلى الكعبة، و قد حلّقت الشمس في السماء فارتفعت و ذهبت إذ جاء شاب فرمى ببصره إلى السماء ثمّ قام مستقبلا الكعبة، ثمّ لم يلبث إلاّ يسيرا حتّى جاء غلام فقام على يمينه، ثمّ جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع معه الغلام و المرأة، ثمّ رفع الشاب رأسه فتابعه الغلام و المرأة، و سجد الشاب فسجد معه الغلام و المرأة، فقلت متعجّبا:

ص:203


1- نهج البلاغة ١ : ٢٣١.
2- صحيح الترمذي ٢ : ٣٠٠. تاريخ الطبري ٢ : ٥٥. البداية والنهاية ٣ : ٢٧. مستدرك الحاكم ٣ : ١١٢. شرح نهج البلاغة _ ابن أبي الحديد ٤ : ١٦٩.

يا عبّاس، أمر عظيم!! و طفق العباس قائلا:

نعم، أمر عظيم!! أ تدري من هذا الشاب؟ لا.

هذا محمّد بن عبد اللّه ابن أخي، أ تدري من هذا الغلام؟ هذا عليّ ابن أخي، أ تدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته. إنّ ابن أخي هذا - و أشار إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله - أخبرني أنّ ربّه ربّ السماء و الأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، لا و اللّه ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة(1).

2 - عبد اللّه بن مسعود:

روى عبد اللّه بن مسعود قال: إنّ أوّل شيء علمته من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قدمت مكّة مع عمومة لي فأرشدونا إلى العبّاس بن عبد المطّلب، فانتهينا إليه و هو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة، له وفرة جعدة إلى أنصاف اذنيه، أقنى الأنف، برّاق الثنايا، أدعج العينين، كثّ اللحية، دقيق المسربة، شثن الكفّين و القدمين، عليه ثوبان أبيضان، كأنّه القمر ليلة البدر، يمشي عن يمينه غلام أمرد حسن الوجه، مراهق أو محتلم، تقفوه امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه، ثمّ استلمه الغلام، ثمّ استلمته المرأة، ثمّ طاف بالبيت سبعا، و الغلام و المرأة يطوفان معه.

قلنا: يا أبا الفضل، إنّ هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم، أو شيء حدث؟

ص:204


1- خصائص النسائي : ٣. مسند أحمد ١ : ٣٠٩. طبقات ابن سعد ٨ : ١٠.

فقال العبّاس: هذا ابن أخي محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الغلام عليّ بن أبي طالب، و المرأة خديجة، و تابع ابن مسعود حديثه قائلا:

أما و اللّه! ما على وجه الأرض من أحد نعلمه يعبد اللّه بهذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة(1).

و هذه الفضيلة للإمام عليه السّلام لم يفز بها أحد غيره من الصحابة و غيرهم، و قد اعترف بها سعد بن أبي وقّاص مع انحرافه عن الإمام، فقد اجتاز على قوم مجتمعين على فارس و هو يسبّ الإمام فبادر إليه سعد قائلا:

يا هذا، على ما تشتم عليّ بن أبي طالب؟ أ لم يكن أوّل من أسلم؟ أ لم يكن أوّل من صلّى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ أ لم يكن أزهد الناس؟ أ لم يكن أعلم الناس؟ أ لم يكن ختن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ابنته؟ أ لم يكن صاحب راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزواته؟ و استقبل سعد القبلة، و رفع يديه بالدعاء، و قال: اللّهمّ إنّ هذا يشتم وليّا من أوليائك فلا تفرّق هذا الجمع حتى تريهم قدرتك، و لم يلبثوا يسيرا حتى نفرت به دابته فرمته على هامته في تلك الأحجار فانفلق دماغه(2).

الإمام مع النبيّ في بداية دعوته:

و واكب الإمام عليه السّلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله في بداية دعوته، و كان في فجر الصبا و روعة الشباب، و قد آمن بوعي و فكر برسالة الإسلام، و انطبعت في دخائل نفسه، و أعماق ذاته، و حينما أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بتبليغ رسالة ربّه إلى عشيرته بهذه الآية:

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(3) دعا الإمام و أخبره بما امر به من تبليغ الدعوة

ص:205


1- مجمع الهيثمي ٩ : ٢٢٤. كنز العمّال ٧ : ٥٦.
2- مستدرك الحاكم ٣ : ٤٩٩.
3- الشعراء : ٢١٤.

المباركة إلى عشيرته الأقربين، و أحاطه علما أنّهم لا يستجيبون له، و لا يؤمنون برسالته، و لكنّه مأمور بذلك لإقامة الحجّة عليهم، فأعدّ لهم وليمة و شرابا من لبن، و سارع الإمام إلى دعوتهم فاستجابوا له، و كان فيهم من أعمامه مؤمن قريش أبو طالب و حمزة و العبّاس و أبو لهب، و لمّا حضروا قدّم لهم الإمام الطعام، فتناول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قطعة من اللحم فشقّها بأسنانه، و ألقاها في نواحي الصفحة، و قال لهم:

«خذوا بسم اللّه»، فأكلوا جميعا، و الطعام باق على حاله، و كان الرجل يأكل مقدار ما في الصفحة إلاّ أنّها ببركة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم ينقص منها شيء، و بادر الإمام فسقاهم اللبن حتى ارتووا.

و قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فدعاهم إلى اعتناق الإسلام و نبذ الأصنام، فقطع الأثيم أبو لهب كلامه، و خاطب المجتمعين قائلا:

لقد سحركم.

فتفرّقوا بين مستهزء و ساخر، و لم يحدّثهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شيئا، فقد قطع أبو لهب عليه كلامه، و في اليوم الثاني دعاهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى تناول الطعام فأكلوا و شربوا

و انبرى النبيّ خطيبا فقال:

«يا بني عبد المطّلب، إنّي و اللّه ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدّنيا و الآخرة، و قد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟».

فأحجم القوم كلّهم و لم ينبس أحد منهم ببنت شفة كأنّ على رءوسهم الطير، و لم يجبه أحد منهم، فانبرى إليه الإمام أمير المؤمنين فقال له بحماس:

«أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه».

فأخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله برقبته، و خاطب القوم قائلا:

ص:206

«إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا».

و تعالت أصوات اولئك الأقزام بالسخرية و الاستهزاء قائلين لأبي طالب:

قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع(1).

و هذا الحديث من أوضح الأدلّة، و من أكثرها بيانا و عطاء على إمامة الإمام أمير المؤمنين، و أنّه وزير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و خليفته الشرعي من بعده على امّته.

لقد قرن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دعوته إلى التوحيد بالدعوة إلى الخلافة و الوزارة و الإمامة من بعده، و قلّدها إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فهو أوّل من آمن بالرسول صلّى اللّه عليه و آله، و أجاب دعوته، و صدّق برسالته، و الذي ينكر ذلك فليس برشيد.

و وصف الشاعر الملهم السيّد الحميري دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله اسرته إلى الإسلام، و نكوصهم عن إجابته، و إيمان الإمام بها بقوله:

و يوم قال له جبريل قد علموا أنذر عشيرتك الأدنين إن بصروا

فقال يا قوم إنّ اللّه أرسلني إليكم فأجيبوا اللّه و ادّكروا

فأيّكم يجتبي قولي و يؤمن بي أنّي نبيّ رسول فانبروا غدر

فقال تبّا أ تدعونا لتلفتنا عن ديننا ثمّ قام القوم فاشتمروا

من الذي قال منهم و هو أحدثهم سنّا و خيرهم في الذّكر إذ سطروا

آمنت باللّه قد اعطيت نافلة لم يعطها أحد جنّ و لا بشر(2)

ص:207


1- تاريخ الطبري ٢ : ٦٣. تاريخ ابن الأثير ٢ : ٢٤. مسند أحمد ١ : ٦٣. ومن الغريب أنّ ابن كثير في تفسيره ذكر الحادثة ، وكتب على كلام النبيّ : « أيّكم يوازرني ليكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم » كتب يقول : أيّكم يوازرني على أن يكون كذا وكذا ، وكذلك كتب على قول : النبيّ : « هذا أخي ووصيّي ... إلخ » أيّكم يوازرني على أن يكون كذا وكذا ، قاتل الله هذه العصبية التي تنمّ عن نفس لا علاقة لها بالواقع ولا صلة لها بالتعبّد بقول النبيّ.
2- ديوان الحميري : ٢٠٣.

و قال الحميري في قصيدة اخرى منها هذه الأبيات:

فقال لهم إنّي رسول إليكم و لست أراني عندكم بكذوب

فأيّكم يقفو مقالي؟ فأمسكوا فقال: ألا من ناطق فمجيبي؟

ففاز بها منهم عليّ و سادهم و ما ذاك من عاداته بغريب(1)

و على أي حال فقد انفضّ القوم، و لم يفلح أي أحد منهم بإجابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تصديقه سوى أخيه و ابن عمّه الإمام عليه السّلام.

فزع القرشيّين:

و فزعت قريش كأشدّ ما يكون الفزع من دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اضطربت حياتهم الاجتماعية و الفردية، و انتشرت الكراهة و البغضاء في أوساطهم، فقد صبا إلى الإسلام فريق من شبابهم، و بعض السيّدات من نسائهم، و الأرقّاء من عبيدهم، و المستضعفون في ديارهم أمثال عمّار و ياسر و سميّة، فكان الولد ينفر من أبويه، و أمّا المرأة فقد خلعت طاعة زوجها، و احتقرته و لا تقرب منه، و أمّا الأرقّاء و المستضعفون فقد فتح لهم الإسلام آفاقا كريمة من العزّة و الكرامة و بشّرهم بمستقبل كريم، إنّهم سيكونون سادة المجتمع، و ستكون جبابرة قريش و طغاتها أذلاّء صاغرين.

لقد عمّت الاضطرابات معظم بيوت مكّة، و حدث زلزال عنيف في ذلك المجتمع، و استحكم العداء بين الولد و أبويه، و الأخ مع أخيه و السادة مع أرقّائهم.

إجراءات قاسية:

اشارة

و أجمعت قريش على مناجزة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و مناهضته بجميع ما تملك من

ص:208


1- ديوان الحميري : ١١٨.

وسائل القوّة، كما أجمعت على تعذيب من آمن به من شبابهم و نسائهم و أرقّائهم و المستضعفين منهم، و قد اتّخذوا من الاجراءات القاسية ضدّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه ما يلي:

1 - إغراء صبيانهم بمحاربة النبيّ:

و أوعزت قريش إلى صبيانهم بمحاربة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إلقاء الحجارة و التراب و الرماد عليه، و إنّما عمدت لذلك لتعتذر من أبي طالب حامي النبيّ، و المدافع عنه، و تنفي عنها المسئولية و تلقيها على أطفالهم و صبيانهم الذين لا يعقلون، و لا يؤاخذون بشيء من أعمالهم، و قد تصدّى لأولئك الصبيان الإمام عليه السّلام، و كان في سنّه المبكّر قويّ الساعدين، يحمل عليهم بعنف و قسوة فيوجعهم لكما و ضربا، فإذا خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سار الإمام خلفه، فإذا رأوه فرّوا منهزمين إلى آبائهم و امّهاتهم يسايرهم الرعب و الخوف من الإمام.

2 - اتّهام النبيّ بالجنون:

من الوسائل التي لجأت إليها قريش في محاربة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رميه بالجنون لأنّه جاءهم بشريعة مجافية لعقولهم التي ران عليها الجهل و خيّم عليها الشرك.

لقد اتّهموه بالجنون، و هو العقل المدبّر للإنسانية، و الدماغ المفكّر الذي استوعب بوعي جميع قضايا الإنسان و وضع لها الحلول الحاسمة، لقد اتّهموه بذلك لإفشال دعوته، و صدّ الجماهير من اعتناقها، و قد باءوا بالفشل و الخزي، و سارت دعوة الرسول كالضوء، فقد آمنت كوكبة من الشباب بالدعوة المباركة، و وقفوا قوّة ضاربة لحمايتها.

3 - اتّهامه بالسحر:

و أشاعت قريش أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ساحر و أنّه غير مرسل من السماء.. و قد

ص:209

اتّهموه بذلك حينما كان يتلو عليهم كتاب اللّه تعالى البالغ حد الاعجاز في بلاغته و فصاحته، و ما كان يلقيه عليهم من روائع الحكم و الآداب التي تأخذ بمجامع العقول و النفوس، بالاضافة إلى ما كان يريهم من آيات معجزاته التي أمدّه اللّه تعالى بها لتصديقه، و إيمان الناس به، و قد باءت هذه التهمة بالفشل، و لم تلق أي اذن صاغية لها.

4 - تعذيب المؤمنين:

و صبّ القرشيّون جام غضبهم على من آمن بالرسول صلّى اللّه عليه و آله من أبنائهم و نسائهم و أرقّائهم و المستضعفين منهم، فقد نكّلوا بهم كأقسى و أفظع ما يكون التنكيل، فقد عذّبوا ياسرا و سميّة و عمّارا عذابا منكرا و أليما، و كان النبيّ يجتاز عليهم فيراهم يئنّون تحت وطأة التعذيب فتتقطّع أنياط قلبه عليهم ألما، فقال فيهم كلمته الخالدة التي كانت و سام شرف و فخر لهذه الاسرة الكريمة في جميع الأحقاب و الآباد:

«صبرا آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة». و استشهد ياسر، و استشهدت معه سميّة بأيدي جبابرة قريش، و نجا الصحابي العظيم عمّار بعد ما عذّب.

و قد عانى المؤمنون من الرجال و النساء جميع صنوف التعذيب و الاضطهاد و التنكيل ممّا اضطرّهم إلى الهجرة من وطنهم مكّة إلى الحبشة، و كان فيهم جعفر الطيّار، و قد لاحقتهم قريش لإرجاعهم إلى مكّة لتصفيتهم جسديا إلاّ أنّ ملك الحبشة لم يستجب لهم و أبقاهم في بلده و لم يعرض لهم أحد بمكروه.

5 - تعاهد سادات قريش على حبس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته في شعب أبي طالب:
اشارة

و أجمع رأي وجوه القرشيّين و ساداتهم على حبس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته في شعب أبي طالب، و فرض الإقامة الجبرية عليهم حتى لا يختلطوا بالناس فيغيّروا

ص:210

عقائدهم و يغسلوا أدمغتهم من براثن الجاهلية، و قد اتّخذوا من القرارات ما يلي:

1 - أن لا يزوّجوا هاشميّا بامرأة منهم.

2 - لا يتزوّج أحد منهم بهاشمية.

3 - لا يبايعون هاشميا و لا يشترون شيئا منهم.

و كتبوا في ذلك وثيقة علّقوها في جوف الكعبة، و أقام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و من آمن به من الهاشميّين في شعب أبي طالب، و هم يعانون أشقّ و أقسى ألوان الاضطهاد و الضيق، و قد أمدّتهم بجميع ما يحتاجون إليه أمّ المؤمنين خديجة الكبرى رضي اللّه عنها حتى نفد ما عندها من الثراء العريض، فما أعظم عائدتها على الإسلام و المسلمين!

الافراج عن النبيّ و آله:

و بقي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله معتقلا في السجن سنتين أو ما يزيد عليهما، و قد سلّط اللّه تعالى الأرضة على صحيفة قريش فأتت عليها، فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عمّه أبا طالب بذلك فهرع إليهم و أخبرهم بالأمر فخفّوا مسرعين إلى الصحيفة فوجدوها كما أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فذهلوا و وجموا، و انبرى جماعة من قريش فطالبوا قومهم برفع الحصار عن الهاشميّين فعارضهم أبو جهل، إلاّ أنّ معارضته لم تجد شيئا، فقد أطلقوا سراح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع من آمن به، و خرجوا من الشعب و هم في أقصى ما يتصوّر من الجهد و العناء.

و خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الشعب و هو يدعو الناس إلى الإيمان بالإسلام و نبذ الجاهلية، و لم يحفل بتهديد القرشيّين و إجماعهم على مناهضته، فقد احتمى بعمّه أبي طالب شيخ البطحاء و مؤمن قريش، فكان مع أبنائه سدّا حصينا و قوّة ضاربة يحتمي بها، و قد شجّعه على أداء رسالته و مقاومة المدّ الجاهلي قائلا له:

ص:211

اذهب بنيّ فما عليك غضاضة اذهب و قرّ بذاك منك عيونا

و اللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتّى اوسّد في التّراب دفينا

و دعوتني و علمت أنّك ناصحي و لقد صدقت و كنت قبل أمينا(1)

و لقد علمت بأنّ دين محمّد من خير أديان البريّة دينا(2)

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة و ابشر بذاك و قرّ منك عيونا(3)

و دلّ هذا الشعر على إيمان أبي طالب و تفانيه في الولاء لابن أخيه و تصديقه لرسالته.

و على أي حال فقد ورمت قلوب القرشيّين غيظا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حسدا له، و ممّا زاد في بغضهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما يعلنه من التنديد بالأصنام التي اتّخذوها آلهة يعبدونها من دون اللّه تعالى، و قد ازداد حسد الطغاة من قريش للنبيّ حينما كانت الأندية تتحدّث عن سموّ أخلاقه و عظيم ما جاء به من هدى و رحمة و خير إلى الناس و إيمان بعض الناس برسالته.

وفاة أبي طالب و خديجة:

و رزء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بكارثة كبرى، و هي وفاة عمّه أبي طالب حامي الإسلامي و أقوى مدافع عنه، كما و رزئ بوفاة زوجته أمّ المؤمنين خديجة التي كانت من أقوى المناصرين له، فقد وهبت جميع ما تملكه من الثراء العريض في سبيل الإسلام، و كانت وفاتها بعد وفاة عمّه أبي طالب بثلاثة أيام(4)، و بلغ الحزن من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

ص:212


1- إيمان أبي طالب : ٢٥٧.
2- تاريخ أبي الفداء ١ : ١٢٠.
3- أسنى المطالب : ١٨.
4- إيمان أبي طالب : ٢٦١ ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥ أنّ أمّ المؤمنين توفّيت في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين ، وتوفّي أبو طالب بعدها بثلاثة أيام.

أقصاه، فقد فقد عمّه و زوجته الرءوم، و قد سمّي ذلك العامّ عام الحزن، فلم يجد بعد عمّه ركنا شديدا يأوي إليه، و بقي في أرباض مكّة تسايره الهموم و الأحزان خوفا من بطش القرشيّين و كيدهم.

إجماع القرشيّين على قتل النبيّ:

و بعد ما نكب الرسول صلّى اللّه عليه و آله بفقد عمّه حامي الإسلام صمّم على مغادرة مكّة و الهجرة إلى يثرب؛ لأنّه وجد فيها ركنا شديدا يأوي إليه، و هم الذين آمنوا بدعوته من الأوس و الخزرج، فقد كانوا قوّة ضاربة تحمي دعوته.

و حينما اشيع عزم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على الهجرة إلى المدينة اضطرب القرشيّون و تعاظم سخطهم، و ورمت آنافهم، فاجتمعوا بدار الندوة، و عرضوا فيها الأخطار الهائلة التي منوا بها من دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله التي صبا إليها شبابهم و نساؤهم و رقيقهم و المستضعفون في ديارهم، فصمّموا على قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مهما كلّفهم الأمر، و كان فيما يروي بعض المؤرّخين قد حضر إبليس في ندوتهم فأشار عليهم بإسناد تنفيذ الجريمة إلى عدد يربو على أربعين شخصا ينتمي كلّ واحد منهم إلى قبيلة معيّنة حتى من الاسرة الهاشمية، و بذلك يتّخذ قتله صفة عامّة لجميع القبائل فلا تكون قبيلة معيّنة مسئولة عن دمه حتى لا يستطيع أنصاره و المؤمنون به التأثر منهم جميعا، و قد عيّنوا يوما لذلك سمّوه يوم الزحمة، و أخبر اللّه تعالى نبيّه العظيم بما عزمت عليه قريش في قتله(1).

هجرة النبيّ إلى يثرب:

و لمّا حان اليوم الذي عيّنته قريش لقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أحاطوا ليلا بداره من جميع الجهات شاهرين سيوفهم يترقّبون بفارغ الصبر طلوع الفجر لتمزّق سيوفهم جسم

ص:213


1- امتاع الأسماع _ المقريزي ١ : ٣٨.

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يطفئوا ذلك النور الذي أراد أن يحرّرهم من ظلمات الجاهلية و مآثم الحياة. لقد أرادت قريش أن تنصر أصنامها و أوثانها و تعيد ما فقدته من الهيبة في أوساط العرب.

مبيت الإمام على فراش النبيّ:

و أوعز النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى أخيه و ابن عمّه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أن يبيت في فراشه، و يتّشح ببردته الخضراء(1)؛ ليوهم على اولئك الأقزام أنّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى يسلم من شرّهم، و تلقّى الإمام عليه السّلام أمر النبيّ بمزيد من السرور و الابتهاج و شعر بالسعادة التي لم يحلم بها من قبل ليكون فداء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و خرج النبيّ من الدار، و رماهم بحفنة من التراب أتت على وجوههم الكريهة قائلا:

«شاهت الوجوه ذلاّ».

و أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يتلو قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (2).

إنّ مبيت الإمام عليه السّلام على فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و وقايته له بنفسه صفحة مشرقة من جهاده، و منقبة لا تعدّ لها أيّة منقبة، و قد أنزل اللّه تعالى آية من كتابه، قال تعالى:

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ(3)، و يقول الرواة: إنّ اللّه تعالى باهى ملائكته بالإمام، فقد أوحى إلى جبرئيل و ميكائيل أنّي آخيت بينكما، و جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة،

ص:214


1- امتاع الأسماع _ المقريزي ١ : ٣٩.
2- يس : ٩.
3- البقرة : ٢٠٧.

فاختار كلاهما الحياة على صاحبه، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليهما: أ فلا كنتما مثل عليّ ابن أبي طالب آخيت بينه و بين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه و يؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس عليّ، و ميكائيل عند رجليه، و جبرئيل يقول للإمام:

«بخّ بخّ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي اللّه عزّ و جلّ به الملائكة»، فأنزل اللّه على رسوله و هو متوجّه إلى المدينة في شأن علي:

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ(1).

إنّ مبيت الإمام في فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوحي أنّه الشخصية الثانية في رسالة الإسلام الذي يخلف النبيّ و يمثّل شخصيّته و يقوم مقامه، و لهذه الكرامة دور مهم في دعوة الإسلام لم ينلها أحد من اسرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه.

و يقول الشاعر الملهم الكبير الشيخ هاشم الكعبي في رائعته:

و مواقف لك دون أحمد جاوزت بمقامك التّعريف و التّحديدا

فعلى الفراش مبيت ليلك و العدى تهدي إليك بوارقا و رعودا

فرقدت مثلوج الفؤاد كأنّما يهدي القراع لسمعك التّغريدا

فكفيت ليلته و قمت معارضا بالنّفس لا فشلا و لا رعديدا

و استصبحوا فرأوا دوين مرادهم جبلا أشمّ و فارسا صنديدا

رصدوا الصّباح لينفقوا كنز الهدى أ و ما دروا كنز الهدى مرصودا

ص:215


1- اسد الغابة ٤ : ٢٥. نور الأبصار : ٧٧. تفسير الرازي ٥ : ٢٢٣ في تفسير هذه الآية. مسند أحمد ١ : ٣٤٨. تاريخ بغداد ١٣ : ١٩١. طبقات ابن سعد ٨ : ٣٥ ، وغيرها. ذكرت مبيت الإمام في فراش النبيّ ووقايته له بنفسه.

دعاء الإمام:

و أنفق الإمام عليه السّلام ليله ساهرا يدعو اللّه تعالى لينقذه و أخاه من هذه المحنة الحازبة، و هذا دعاؤه:

يا من ليس له ربّ يدعى، يا من ليس فوقه خالق يخشى، يا من ليس دونه إله يتّقى، يا من ليس له وزير يرشى، يا من ليس له نديم يغشى، يا من ليس له حاجب ينادى، يا من لا يزداد على كثرة السّؤال إلاّ كرما وجودا، يا من لا يزداد على عظيم ذنوب عباده إلاّ رحمة و عفوا(1).

و أثر عنه أنّه دعا في تلك الليلة الحازبة بهذا الدعاء أيضا و هو:

أمسيت اللّهمّ معتصما بذمامك المنيع الّذي لا يحاول و لا يطاول، من شرّ كلّ غاشم و طارق من سائر من خلقت، و ما خلقت من خلقك الصّامت و النّاطق، في جنّة من كلّ مخوف، بلباس سابغة بولاء أهل بيت نبيّك محمّد صلواتك عليه و عليهم، محتجبا من كلّ قاصد لي بأذيّة، بجدار حصين الإخلاص في الاعتراف بحقّهم، و التّمسّك بحبلهم، موقنا أنّ الحقّ لهم و معهم و فيهم، و بهم و منهم و إليهم، اوالي من والوا، و أعادي من عادوا، و اجانب من جانبوا.

فصلّ على محمّد و آل محمّد و أعذني اللّهمّ بهم اتّقي من شرّ كلّ ما اتّقيه يا عظيم، حجزت عنّي الأعادي ببديع السّماوات و الأرض و جعلنا من بين ايديهم سدّا و من خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون يا أرحم الرّاحمين(2).

ص:216


1- الصحيفة العلوية الثانية : ١١٧.
2- البلد الأمين : ٢٧ _ ٢٨.

و ظلّ الإمام راقدا في فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لمّا اندلع نور الصبح هجم الطغاة شاهرين سيوفهم على سرير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فطلع منه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كالأسد الضاري شاهرا سيفه، فلمّا رأوه ذهلوا و جبنوا، و صاحوا به:

أين محمّد؟ فقابلهم الإمام بعنف قائلا:

«جعلتموني حارسا عليه؟».

و نكصوا على أعقابهم يجرّون رداء الخيبة و الخسران، فقد فلت من قبضتهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله الذي جاء ليحرّرهم من ويلات الجاهلية و خرافاتها.

و حقدت قريش على الإمام كأشدّ ما يكون الحقد، و رمته بنظرات حادّة، فقد أفلت منها بسببه محمّد، و صفعها الإمام بتلك الصفعة المذلّة، و تحدّاها و استخفّ بها، و جعل يغدو و يروح أمامها ساخرا و مستهزئا بها.

مرافقة أبي بكر للرسول:

و غادر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مكّة ميمّما وجهه صوب يثرب، و قد أنجاه اللّه من شرّ اولئك الوحوش الكاسرة الذين اترعت نفوسهم بالآثام و الرذائل، و صادفه في الطريق أبو بكر فصحبه، و سار معه حتى انتهيا إلى جبل ثور(1)، و في أعلاه غار فدخلا فيه، و أقاما فيه ثلاثة أيام، و أرسل اللّه تعالى زوجا من الحمام فباضا في مدخله، و أوحى اللّه تعالى إلى العنكبوت فنسجت بيتا لها فيه، و خفّت قريش مسرعة في طلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، يتقدّمهم سراقة بن مالك، و كان عالما بصيرا بمعرفة الأثر، فانتهى إلى باب الغار فرأى البيض و بيت العنكبوت، فقال: لو دخله أحد

ص:217


1- جبل ثور : يقع في يمين مكّة على مسيرة ساعة _ الكشّاف ٢ : ٢١٣.

لانكسر البيض،

و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يراهم و هو يدعو:

«اللّهمّ أعم أبصارهم».

و أعمى اللّه أبصارهم، و سلب لبّهم، و قال أبو بكر للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا.. و بلغ به الخوف أقصاه،

فقال له النبيّ:

«لا تخف إنّ اللّه معنا».

و نزلت الآية الكريمة على النبيّ العظيم: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1)، و نزل رجل من قريش فبال على باب الغار ففزع أبو بكر، و قال: يا رسول اللّه، قد أبصرونا، فنهره النبيّ و قال له: «لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم»(2).

و لمّا أمن النبيّ و أبو بكر من الطلب خرجا من الغار متّجهين نحو المدينة المنوّرة.

استقبال المدينة للرسول:

و لمّا علم أهالي يثرب بتشريف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هرعوا جميعا لاستقباله، و قد علت زغاريد النساء و هن ينشدن:

طلع الفجر علينا من ثنيّات الوداع

وجب الشّكر علينا ما دعا للّه داع(3)

ص:218


1- التوبة : ٤٠.
2- مجمع البيان ٥ : ٣٠.
3- البداية والنهاية ٣ : ٢٤١.

و كان ذلك اليوم مشهودا لم يمرّ على يثرب مثله، و حينما استقرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيها أخذ يؤسّس معالم دولته الكبرى دولة التوحيد التي تبنّت القضايا المصيرية لجميع شعوب العالم و امم الأرض، و أعلنت حقوق الإنسان، و ما يسمو به من الآداب و الفضائل.

و قد وجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من ولاء أهل المدينة له و تباشيرهم بقدومه ما ملأ قلبه فرحا و سرورا، و أيقن أنه سيجد منهم أنصارا لدعوته و بناة لدولته.

هجرة الإمام إلى يثرب:

و لمّا نزح الرسول صلّى اللّه عليه و آله من مكّة إلى يثرب قام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بأداء الأمانات التي عند النبيّ، و ردّ الودائع، و قضاء ديونه صلّى اللّه عليه و آله، و أمر مناديا ينادي بالأبطح من كانت له عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمانة فليأت و يستلم أمانته، و بعد ما أدّى ذلك حمل السيّدات الزاكيات من الفواطم و هاجر بهنّ إلى يثرب، فلحقه سبعة من عتاة قريش لصدّه عن السفر، فانبرى إليهم الإمام ببسالة و عزم، فقتل واحدا منهم، و هرب الباقون(1).

و سار الإمام يطوي البيداء لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى يثرب، و قيل إلى قبا قبل أن يدخل النبيّ إلى المدينة(2).

و لمّا بلغ النبيّ قدوم عليّ أمر بإحضاره فقيل له إنّه لا يقدر على المشي، فأتاه النبيّ فلمّا رآه اعتنقه و بكى رحمة لما بقدميه من الورم من كثرة المشي فأخذ النبيّ من ريقه و مسح به رجليه فبرئتا، و لم يشك بعد ذلك منهما شيئا(3).

ص:219


1- أعيان الشيعة ٣ : ٩٢.
2- طبقات ابن سعد ٣ : ٢٢.
3- اسد الغابة ٤ : ٩٢.

الاخوّة بين المسلمين:

و أوّل عمل قام به الرسول صلّى اللّه عليه و آله أنّه آخى بين المهاجرين و الأنصار، و ربط بينهم برباط الاخوة الصادقة فشارك كلّ واحد منهم أخاه في مكاره الدهر و لينه، و آخى بينه و بين الإمام عليه السّلام(1)، كما قام صلّى اللّه عليه و آله بالإصلاح و إشاعة المودّة بين الأوس و الخزرج اللذين كانا يشكّلان الأكثرية الساحقة من سكّان المدينة المنوّرة، و كانت البغضاء سائدة بينهما فأطفأها النبيّ.

تأسيس الجامع النبوي:

و حينما استقرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في يثرب قام بتأسيس مسجده المعظّم ليكون مقرّا لحكومته، و مركزا لعبادته، و معهدا لتعاليمه، و كان عرضه (60) ذراعا، و طوله كذلك، و قد انبرى المسلمون من المهاجرين و الأنصار إلى العمل فيه، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من جملة العمّال، و قد انبرى أحد المسلمين محرّضا لهم على العمل قائلا:

لئن قعدنا و النّبيّ يعمل لذاك منّا العمل المضلّل

و ردّد المسلمون في أثناء عملهم قائلين:

لا عيش إلاّ عيش الآخرة... اللّهمّ ارحم الأنصار و المهاجرة

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يردّد:

«لا عيش إلاّ عيش الآخرة... اللّهمّ ارحم المهاجرين و الأنصار» و كان من جملة العاملين الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر،

ص:220


1- الطبقات ٣ : ٢٢ ، وجاء فيه : أنّ النبيّ 9 قال للإمام : « أنت أخي ترثني وأرثك ».

و قد أثقله بعض الحاقدين عليه بحمل الكثير من اللبن، فجاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قد أعياه التعب قائلا:

يا رسول اللّه، قتلوني، يحمّلون عليّ ما لا يحملون.

قالت أمّ سلمة: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينفض وفرة عمّار بيده و يقول له:

«ويح ابن سميّة، ليسوا بالّذين يقتلونك، إنّما تقتلك الفئة الباغية».

و كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام من جملة العاملين في تأسيس الجامع النبوي و هو يرتجز:

لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيه قائما و قاعدا

و من يرى عن الغبار حائدا(1) و تمّ بناء الجامع النبوي و مساكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أهله، و سرعان ما انتشر الإسلام في يثرب و نواحيها، و بذلك تشكّلت الدولة الإسلامية العظمى، و بهذا ينتهي بنا الحديث عن الحلقة الاولى من هذه الموسوعة.

ص:221


1- السيرة النبوية ١ : ٤٩٦ _ ٤٩٧.

ص:222

المحتويات

الإهداء... 4

كلمة النّاشر... 5

كلمة شكر... 7

تقديم... 9

النّسب الوضّاح 17-38

المآثر الكريمة... 19

1 - عبادة اللّه... 19

2 - حلف الفضول... 20

3 - إخراج ماء زمزم... 21

4 - سقاية الحاج... 22

5 - إطعام الطعام... 22

أعمدة الشرف من الهاشميّين... 23

1 - هاشم... 23

2 - عبد المطّلب... 24

3 - أبو طالب... 25

رعايته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 25

ص:223

حمايته للإسلام... 26

مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الشعب... 29

تبنّي أبي طالب الدعوة الإسلامية... 31

وصيّته الخالدة... 32

في ذمّة الخلود... 33

تأبين النبي له... 34

4 - فاطمة بنت أسد أمّ الإمام... 36

سبقها إلى الإسلام... 36

مبايعتها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 36

رعايتها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 36

روايتها للحديث... 36

إقامتها في بيت الإمام... 37

وفاتها... 37

وليد الكعبة 39-68

كيفيّة ولادته... 42

مشرق النور... 42

مع الشعراء... 43

1 - السيّد الحميري... 43

2 - بولس سلامة... 44

3 - منعم الفرطوسي... 44

تسمية امّه له... 45

تسمية أبي طالب له... 46

سنة ولادته... 47

ص:224

ألقابه... 47

1 - الصدّيق... 47

2 - الوصي... 47

مع الشعراء... 48

1 - خزيمة بن ثابت... 48

2 - عبد الرحمن الجمحي... 49

3 - جرير بن عبد اللّه البجلي... 49

4 - سعيد بن قيس... 49

5 - حجر بن عدي... 50

6 - النعمان بن عجلان... 50

7 - أبو الأسود الدؤلي... 50

8 - الفضل بن العباس... 51

9 - حسّان بن ثابت... 51

10 - الكميت... 51

11 - المتنبّي... 51

12 - أبو تمام الطائي... 51

13 - دعبل الخزاعي... 52

3 - الفاروق... 52

4 - يعسوب الدين... 53

5 - الوليّ... 54

6 - أمير المؤمنين... 55

7 - الأمين... 56

8 - الهادي... 56

9 - الأذن الواعية... 56

10 - المرتضى... 57

ص:225

11 - الأنزع البطين... 57

12 - الشريف... 57

13 - بيضة البلد... 58

14 - خير البشر... 58

15 - سيّد العرب... 59

16 - حجّة اللّه... 59

كناه... 60 1 - أبو الريحانتين... 60

2 - أبو السبطين... 60

3 - أبو الحسن... 60

4 - أبو الحسين... 61

5 - أبو تراب... 61

مع الأمويّين... 64

ملامحه و صفاته... 65

1 - وصف النبيّ له... 65

2 - وصف ضرار للإمام... 66

3 - وصف ابنه محمّد له... 67

4 - وصف المغيرة له... 67

5 - وصف بعض المعاصرين له... 68

نشأته 69-91

احتضان النبيّ للإمام... 71

التربية النبوية للإمام... 72

1 - نكران الذات... 73

ص:226

2 - التحلّي بالصفات الكريمة... 74

3 - الاجتناب عن الصفات المذمومة... 76

سبقه للإسلام... 80

حبّه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 82

قيامه بخدمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 82

نماذج من أدعيته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 83

تمجيده للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 86

كتابته للوحي... 87

كتابته لعهود الرسول صلّى اللّه عليه و آله... 88

تحطيمه للأصنام... 88

1 - مناة... 89

2 - صنم طيّ... 89

3 - أصنام مكّة... 89

نقش خاتم الإمام... 90

اجتنابه للخضاب... 90

دار سكناه... 91

عناصره النّفسيّة 93-132

إيمانه الوثيق باللّه... 95

إنابته للّه تعالى... 96

العصمة من الذنوب... 100

زهده... 103

صور مذهلة من زهده... 103

1 - لباسه... 104

ص:227

2 - طعامه... 106

بطولته النادرة... 109

قوّته الهائلة... 111

حلمه... 112

بوادر من حلمه... 112

صبره... 115

تواضعه... 116

شذرات من تواضعه... 117

عيادته المرضى... 118

كراهته للمدح... 119

إجابته لدعوة من دعاه لتناول الطعام... 120

سخاؤه... 120

شذرات من جوده... 121

الرأفة بالفقراء... 123

عدله... 126

بوادر من عدله... 126

سعة علومه... 130

سرعة الجواب... 131

الإمام في رحاب القرآن الكريم 133-157

الآيات النازلة في حقّه... 135

الآيات النازلة في أهل البيت عليهم السّلام... 142

احتجاج العترة بالآية... 144

1 - الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام... 144

ص:228

2 - الإمام الحسين عليه السّلام... 144

3 - الإمام زين العابدين عليه السّلام... 145

الآيات النازلة في الإمام و خيار الصحابة... 154

الآيات النازلة في حقّه و ذمّ مخالفيه... 155

الإمام في ظلال السّنّة 159-192

الكوكبة الاولى... 161

مكانته عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 161

1 - الإمام نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 162

2 - الإمام أخو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 162

3 - النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام من شجرة واحدة... 165

4 - الإمام عليه السّلام وزير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 166

5 - الإمام عليه السّلام خليفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 167

6 - الإمام عليه السّلام من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كهارون من موسى... 168

احتجاج الإمام عليه السّلام بالحديث... 171

7 - الإمام عليه السّلام باب مدينة علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 171

8 - الإمام عليه السّلام باب حكمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 172

9 - الإمام عليه السّلام أحبّ الناس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 173

10 - الإمام عليه السّلام شبيه الأنبياء... 173

11 - الإمام عليه السّلام سيّد العرب... 174

12 - الإمام عليه السّلام أحبّ الخلق إلى اللّه... 174

13 - إطاعة الإمام عليه السّلام إطاعة للرسول صلّى اللّه عليه و آله... 175

14 - من أحبّ عليّا عليه السّلام فقد أحبّ اللّه... 175

15 - حبّ عليّ عليه السّلام إيمان، و بغضه نفاق... 177

ص:229

16 - عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ عليه السّلام... 178

17 - إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بما يجري على الإمام عليه السّلام من بعده 178

18 - النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يخبر الإمام عليه السّلام بغدر الامّة به... 179

الكوكبة الثانية... 180

منزلة الإمام عليه السّلام في الدار الآخرة... 180

1 - الإمام عليه السّلام حامل لواء الحمد... 180

2 - الإمام عليه السّلام صاحب حوض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 181

3 - الإمام عليه السّلام قسيم الجنّة و النار... 183

4 - الاجتياز على الصراط بإجازة من الإمام عليه السّلام... 183

5 - الإمام عليه السّلام مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الجنّة... 184

الأخبار النبوية في فضل العترة... 185

حديث الثقلين... 185

سند الحديث... 188

دلالة الحديث... 188

حديث السفينة... 188

أهل البيت عليهم السّلام أمان للامّة... 190

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سلم لمن سالم أهل بيته... 190

من أحبّ أهل البيت عليهم السّلام كان مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 191

معرفة أهل البيت عليهم السّلام أمان من العذاب... 191

السؤال عن محبّة أهل البيت عليهم السّلام... 191

الاقتداء بأهل البيت عليهم السّلام... 191

الممات على حبّ أهل البيت عليهم السّلام... 192

ص:230

مع الثّورة الإسلاميّة 193-221

1 - تحطيم الأصنام... 195

2 - تحرير العبيد و المستضعفين... 197

3 - تحرير المرأة... 198

أ - وأد البنات... 198

ب - حرمانها من الميراث... 198

ج - الزواج بأرملة الأب... 199

4 - المساواة بين الناس... 199

5 - حماية الحقوق... 200

6 - تحريم الربا... 200

7 - تحريم الخمر... 200

8 - تحريم الاستغلال... 201

9 - إقصاء الفقر... 201

10 - إشاعة العلم... 201

الإمام يصف الإسلام... 201

الإمام أوّل من صلّى مع النبيّ... 203

1 - عفيف الكندي... 203

2 - عبد اللّه بن مسعود... 204

الإمام مع النبيّ في بداية دعوته... 205

فزع القرشيّين... 208

إجراءات قاسية... 208

1 - إغراء صبيانهم بمحاربة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 209

ص:231

2 - اتّهام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالجنون... 209

3 - اتّهامه بالسحر... 209

4 - تعذيب المؤمنين... 210

5 - في شعب أبي طالب... 210

الافراج عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و آله... 211

وفاة أبي طالب و خديجة... 212

إجماع القرشيّين على قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 213

هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى يثرب... 213

مبيت الإمام عليه السّلام على فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله... 214

دعاء الإمام عليه السّلام... 216

مرافقة أبي بكر للرسول صلّى اللّه عليه و آله... 217

استقبال المدينة للرسول صلّى اللّه عليه و آله... 218

هجرة الإمام عليه السّلام إلى يثرب... 219

الأخوّة بين المسلمين... 220

تأسيس الجامع النبوي... 220

المحتويات 223-232

ص:232

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.