مصباح السعادة في شرح النهج البلاغة المجلد 6

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:الموسوي آل طيب، السيد محمدكاظم، 1331-

عنوان العقد:نهج البلاغة. وصف

Nhjol-Balaghah. Commantries

عنوان واسم المؤلف: مصباح السعادة في شرح النهج البلاغة المجلد 6 [علي بن أبي طالب (علیه السلام)]/ مولف السيد محمدكاظم الموسوي آل طيب.

تفاصيل المنشور: قم: دارالتفسیر، 1440ق.= 1397.

مواصفات المظهر:8ج

ISBN:ج.6 978-964-535-716-8 :

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: عربي.

ملاحظة:ج.6 (چاپ اول: 1442 ق = 1399) (فیپا).

عنوان:علي بن أبي طالب (علیه السلام)، أول إمام، 23 قبل الهجرة - 40ق -- خطب

عنوان:Ali ibn Abi-talib, Imam I, 600-661 -- *Public speaking

عنوان:علي بن أبي طالب (علیه السلام)، أول إمام، 23 قبل الهجرة - 40ق. -- کلمات قصار

عنوان:Ali ibn Abi-talib, Imam I, 600-661 -- Quotations

عنوان:علي بن أبي طالب (علیه السلام)، أول إمام، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغة -- النقد والتعليق

عنوان:Ali ibn Abi-talib, Imam I. Nahjol - Balaghah -- Criticism and interpretation

المعرف المضاف: علي بن أبي طالب (علیه السلام)، أول إمام، 23 قبل الهجرة - 40ق . نهج البلاغة. وصف

المعرف المضاف:Ali ibn Abi-talib, Imam I Commantries.. Nahjol - Balaghah

ترتيب الكونجرس: BP38/02/م83 1397

تصنيف ديوي: 297/9515

رقم الببليوغرافيا الوطنية:5402095

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: FIPA

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

مصباح السعادة في شرح نهج البلاغة

الجزء السادس

السيّد محمّد كاظم الموسوي آل طيّب

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة(51) - ومن كلام له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم الماء:

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ بَدَؤُوكُمْ بِالظُّلْمِ، وَفَاتَحُوكُمْ بِالْبَغْيِ، وَاسْتَقْبَلُوكُمْ بِالْعُدْوَان(1).

قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ.

فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ. أَلا وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ، وَعَمَسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ.

ومن كلام له عليه السلام: لمّا غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات

اشارة

قال الدينوري: أقبل معاوية بالخيل نحو صفين، وعلى مقدّمته سفيان بن عمرو ومعه أبو الأعور السلمي، وعلى ساقته بسر بن أبي أرطأة العامري. وصفين قرية خراب من بناء الروم، منها إلى الفرات غلوة، وعلى شط الفرات ممّا يليها غيضة(2) متلفة، فيها نزوز، طولها نحو من فرسخين، وليس في ذينك الفرسخين طريق إلى الفرات، إلّا طريق واحد مفروش بالحجارة، وسائر ذلك خلاف وغرب ملتف لا يسلك، وجميع الغيضة نزوز ووحل، إلّا ذلك الطريق الذي يأخذ من القريه إلى الفرات - فأقبلا حتى سبقا الى موضع القرية، فنزلا هناك من ذلك الطريق، ووافاهما معاوية بجميع الفيلق حتى نزل معهما، وأمر معاوية أبا الأعور أن يقف في عشرة آلاف من أهل الشام على طريق الشريعة، فيمنع من أراد السلوك الى الماء من أهل العراق، وأقبل علي عليه السلام حتى وافى المكان، فصادف أهل الشام احتووا على القرية والطريق، فأمر الناس فنزلوا بالقرب من عسكر معاوية، وانطلق السقاءون والغلمان إلى طريق الماء، فحال أبو الأعور بينهم وبينه، فأخبر علي عليه السلام بذلك، فقال لصعصعة: إيت معاوية فقل له: إنّا سرنا اليكم لنعذر قبل القتال، فإن قبلتم كان العافية أحبّ إلينا، وأراك قد حلت بيننا وبين الماء، فإن كان أعجب إليك أن ندع ما جئنا له، ونذر الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا. فأتاه فقال له ما قاله عليه السلام، فقال الوليد بن عقبة لمعاوية: امنعهم الماء كما منعوه عثمان. اقتلهم عطشا، قتلهم اللَّه. فقال معاوية لعمرو بن العاص: ما ترى قال: أرى أن تخلي عن الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا وأنت ريّان. فقال عبداللَّه بن أبي سرح: امنعهم الماء إلى الليل لعلّهم أن ينصرفوا الى طرف الغيضة، فيكون انصرافهم هزيمة.

فقال صعصعة لمعاوية: ما الذي ترى؟ قال ارجع فسيأتيكم رأيي. فانصرف؛ وظلّ أهل العراق يومهم ذلك وليلتهم بلا ماء، إلّا من كان ينصرف من الغلمان الى طرف الغيضة، فيمشي مقدار فرسخين فيستقي، فغمّ عليّاعليه السلام أمر الناس غمّا شديدا، فأتاه الأشعث فقال: أيمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا سيوفنا ولّني الزحف إليه، فواللَّه لا أرجع أو أموت، ومر الأشتر فلينضم إليّ في خيله.

فقال له علي عليه السلام: إيت في ذلك ما رأيت. فلمّا أصبح زاحف أبا الأعور فاقتتلوا، وصدقهم الاشتر والأشعث حتى نفيا أبا الأعور عن الشريعة، وصارت في

ص: 5


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/325؛ بحار الأنوار: 32/442، ش 393.
2- الغيضة بالفتح: الأجمة، ومجتمع الشجر في مغيض ماء.

أيديهما، فقال عمرو لمعاوية: ما ظنّك بالقوم اليوم ان منعوك من الماء كما منعتهم امس؟ فقال معاوية: دع ما مضى، ما ظنّك بعليّ قال: ظنّي أنّه لا يستحلّ منك ما استحللت منه، لأنّه أتاك في غير أمر الماء. ثم توادع الناس...(1)

ونروى كيفيّة الغلبة من كتاب صفين مع تلخيص: قال نصر: كان أبو الأعور السلمى على مقدمة معاوية واسمه سفيان بن عمرو وكان قد ناوش مقدمة علي وعليه الأشتر النخعي مناوشة ليست ما بعظيمة، فلما انصرف أبو الأعور عن الحرب راجعا سبق إلى الماء فغلب عليه في الموضع المعروف بقنصرين إلى جانب صفين قد نزلوا منزلا اختاروه مستويا بساطا واسعا وأخذوا الشريعة، فهي في أيديهم.

وساق الأشتر يتبعه فوجده غالبا على الماء وكان في أربعة آلاف من مستبصري أهل العراق فصدموا أبا الأعور وأزالوه عن الماء، فأقبل معاوية في جميع الفيلق(2) بقضه وقضيضه، فلما رآهم الاشتر انحاز إلى علي، وغلب معاوية وأهل الشام على الماء وحالوا بين أهل العراق وبينه وأقبل علي عليه السلام في جموعه، فطلب موضعاً لعسكره وأمر الناس أن يضعوا أثقالهم وهم أكثر من مأتة ألف فارس فلما نزلوا تسرع فوارس من فوارس علي عليه السلام على خيولهم إلى معاوية يطعنون ويرمون بالسهام ومعاوية بعد لم ينزل، فناوشهم أهل الشام القتال فاقتتلوا هويا(3).

قال نصر: فحدثني عمر بن سعد، عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال فكتب معاوية إلى علي عليه السلام عافانا اللَّه وإياك.

ص: 6


1- الأخبار الطوال لابن قتيبة الدينوري: 167.
2- الفيلق الجيش والقض الحصاء الصغار والفيض الحصاء الكباراى جاء في جميع جيشه بالصغير والكبير، قاموس.
3- أي قطعة من الزمان، شرح.

ما أحسن العدل والانصاف من عمل

وأقبح الطيس ثم النفش(1) في الرجل

وكتب بعده شعرا يحثه فيه بأن يروع بجيشه من التسرع والعجلة عند الحرب، فأمر علي عليه السلام أن يوزع الناس عن القتال(2) حتى أخذ أهل الشام مصافهم، ثم قال: أيها الناس إن هذا موقف من نطف(3) فيه نطف يوم القيامة ومن فلح فيه فلح يوم القيامة(4).

قال فتراجع الناس كل من الفريقين إلى معسكره وذهب شباب من الناس إلى الماء ليستسقوا فمنعهم أهل الشام وقد أجمعوا أن يمنعوا الماء وعن عبداللَّه بن عوف قال: فتسرعنا إلى أميرالمؤمنين فأخبرناه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان فقال: ائت معاوية فقل إنا سرنا إليك مسيرنا هذا وأنا أكره قتالكم قبل الاعذار إليكم وأنك قدمت خيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدئتنا بالحرب ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها قد حلتم بين الناس وبين الماء فخل بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم له، وإن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له وندع الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا، فلما مضى صعصعة برسالته إلى معاوية قال معاوية لأصحابه : ما ترون؟ فقال الوليد بن عقبة: أمنعهم الماء كما منعوه ابن عفان، حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء ولين الطعام، اقتلهم عطشا قتلهم اللَّه، وقال

ص: 7


1- النفش كثرة الكلام والدعاوي.
2- يوزع الناس: يكفون.
3- أي من تلطخ فيه بعيب من فرار أو نكول عن العدو؛ يقال نطف فلان بالكسر اذا تدنس بعيب ونطف ايضاً افسد؛ يقول من افسدت إذا حاله اليوم في هذا الحرب فسدت حاله غدا عنداللَّه، شرح معتزلي.
4- وقعة صفّين: 156؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/312؛ بحار الأنوار: 32/434.

عمرو بن العاص: خل بين القوم وبين الماء فإنّهم لن يعطشوا وأنت ريان، ولكن لغير الماء، فانظر فيما بينك وبينهم فأعاد الوليد مقالته.

وقال عبداللَّه بن أبي سرح وكان أخا عثمان من الرضاعة امنعهم الماء إلى الليل فإنّهم إن لم يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمتهم، امنعهم الماء منعهم اللَّه يوم القيامة فقال صعصعة انما يمنع اللَّه الماء يوم القيامة الفجرة الكفرة شربة الخمر ضربك وضرب هذا الفاسق يعني الوليد بن عقبة فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه، فقال معاوية: كفوا عن الرجل فانما هو رسول قال عبداللَّه بن عوف: إن صعصعة لما رجع إلينا فحدثنا بما قال معاوية وما كان منه وما رده عليه، قلنا: وما الذي رده عليك؟ فقال: لما أردت الانصراف من عنده قلت ما ترد علي؟ قال سيأتيكم رائي، قال: فواللَّه ما راعنا إلّا تسوية الرجال والصفوف والخيل فأرسل إلى أبي الأعور امنعهم الماء فازدلفنا واللَّه إليهم فارتمينا واطعنا بالرماح واضطربنا بالسيوف، فقال: ذلك بيننا وبينهم حتى صار الماء بأيدينا فقلنا: لا واللَّه لا نسقيهم: فأرسل إلينا علي عليه السلام أن خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى معسكركم وخلوا بينهم وبين الماء فان اللَّه قد نصركم عليهم ببغيهم وظلمهم(1).

وقال نصر: قال عمرو بن العاص: خل بينهم وبين الماء فان عليا لم يكن ليظمأ وأنت ريان وفي يده أعنة الخيل وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق، وقد سمعته أنا وأنت مرارا وهو يقول لو أن معي أربعين رجلا يوم فتش البيت يعني بيت فاطمة ويقول لو استمسكت من أربعين رجلا يعني من أمر الأول.

ص: 8


1- وقعة صفّين: 160؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/318؛ بحار الأنوار: 32/439.

قال: ولما غلب أهل الشام على الفرات فرجعوا بالغلبة قال معاوية: يا أهل الشام هذا واللَّه أول الظفر لاسقاني اللَّه ولا أبا سفيان إن شربوا منه أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه وتباشر أهل الشام فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني ناسك يتأله ويكثر العبادة يقال له المعرى بن الأقبل، وكان صديقا لعمرو بن العاص مواخيا له، فقال: يا معاوية سبحان اللَّه سبقتم القوم إلى الفرات تمنعونهم الماء؟ أما واللَّه لو سبقوكم إليه لسقوكم منه أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات فينزلون على فرضة(1) اخرى فيجازونكم بما صنعتم، أما تعلمون أن فيهم العبد والامة والاجير والضعيف ومن لا ذنب له، هذا واللَّه أول الجهل (الجور) فأغلظ له معاوية وقال لعمرو: اكفني صديقك فأتاه عمرو فأغلظ له فقال الهمداني في ذلك شعرا:

لعمرو أبي معاوية بن حرب * وعمرو ما لدائهما دواء

سوى طعن يحار العقل فيه * وضرب حين يختلط الدماء

ولست بتابع دين ابن هند * طول الدهر ما ارسي حراء

لقد ذهب العتاب فلا عتاب * وقد ذهب الولاء فلا ولاء

وقولي في حوادث كل حرب * على عمرو وصاحبه العفاء

ألا للَّه درك يا ابن هند * لقد برح الخفاء فلا خفاء(2)

أتحمون الفرات على رجال * وفي أيديهم الأسل الظماء

وفي الأعناق أسياف حداد * كأن القوم عندهم نساء

أترجو أن يجاوركم علي * بلا ماء وللأحزاب ماء

ص: 9


1- الفرضة بالضم ثلمة من النهر يستسقى منها.
2- برح الخفاء بكسر الراء وفتحها، أي ظهر ما كان خافيا.

دعاهم دعوة فأجاب قوم * كجرب الابل خالطها الهناء

قال ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي عليه السلام ومكث أصحاب علي يوما وليلة بغير ماء واغتم عليه السلام بما فيه أهل العراق من العطش(1).

وعن سهل بن حنيف: أنه لما أخذ معاوية مورد الفرات أمر أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر أن يقول لمن على جانب الفرات يقول لكم علي اعدلوا عن الماء فلما قال ذلك عدلوا عنه فورد قوم أميرالمؤمنين الماء وأخذوا منه فبلغ ذلك معاوية فأحضرهم وقال لهم في ذلك فقالوا إن عمرو بن العاص جاء وقال إن معاوية يأمركم أن تفرجوا عن الماء فقال معاوية لعمرو إنك لتأتي أمرا ثم تقول ما فعلته فلما كان من غد وكل معاوية حجل بن عتاب النخعي في خمسة آلاف فأنفذ أميرالمؤمنين عليه السلام مالكا فنادى مثل الأول فمال حجل عن الشريعة فأورد أصحاب علي وأخذوا منه فبلغ ذلك معاوية فأحضر حجلا وقال له في ذلك فقال له إن ابنك يزيد أتاني فقال إنك أمرت بالتنحي عنه فقال ليزيد في ذلك فأنكر فقال معاوية فإذا كان غدا فلا تقبل من أحد ولو أتيتك حتى تأخذ خاتمي فلما كان يوم الثالث أمر أميرالمؤمنين لمالك مثل ذلك فرأى حجل معاوية وأخذ منه خاتمه وانصرف عن الماء وبلغ معاوية فدعاه وقال له في ذلك فأراه خاتمه فضرب معاوية يده على يده فقال نعم وإن هذا من دواهي علي(2).

رجعنا إلى رواية نصر بن مزاحم قال: فاتى الأشعث عليا فقال يا أميرالمؤمنين أ يمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا والسيوف في أيدينا؟ خل عنا وعن القوم فواللَّه لا نرجع حتى نرده أو نموت ومر الأشتر يعلو بخيله ويقف حيث تأمره علي عليه السلام

ص: 10


1- وقعة صفّين: 163؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/329؛ بحار الأنوار: 32/340.
2- مناقب آل أبي طالب عليه السلام: 2/332؛ بحار الأنوار: 42/35.

فقال علي: ذلك إليكم فرجع الأشعث فنادى في الناس من يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا فاني ناهض فأتاه إثني عشر ألفا من كندة وأفناء قحطان واضعي سيوفهم على عواتقهم فشد عليه سلاحه ونهض بهم حتى كاد يخالط أهل الشام وجعل يلقي رمحه ويقول لأصحابه: بأبي أنتم وأمي تقدموا إليهم قاب رمحي هذا فلم يزل ذلك دأبه حتى خلط القوم وحسر عن رأسه ونادى أنا الأشعث بن قيس خلوا عن الماء فنادى أبو الأعور أما حتى لا تأخذنا وإياكم السيوف فلا، فقال الأشعث قد واللَّه أظنها دنت منا ومنكم، وكان الأشتر قد تعالى بخيلة حيث أمره علي فبعث إليه الأشعث أقحم الخيل، فأقحمها حتى وضعت بسنابكها في الفرات وأخذت أهل الشام السيوف فولوا مدبرين.

وقال: وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر وزيد بن الحسن قالا: فنادى الأشعث(1) عمرو بن العاص فقال: ويحك يابن العاص خل بيننا وبين الماء فواللَّه لئن لم تفعل لتأخذنا وإياكم السيوف: فقال عمرو: واللَّه لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف وإياكم فيعلم ربنا سبحانه اينا أصبر اليوم، فترجل الأشعث والأشتر وذووا البصاير من أصحاب علي وترجل معهما اثنى عشر ألفا فحملوا على عمرو وأبي الأعور ومن معهما من أهل الشام، فأزالوهم عن الماء حتى غمست خيل علي عليه السلام سنابكها في الماء؛

وقال: روى عمر بن سعيد أن عليا قال ذلك اليوم: هذا يوم نصرتم فيه بالحمية(2).

ص: 11


1- وفي روضة الصفا لما اخبر معاوية بضعف أبي الأعور وانحيازه بعث عمرو بن العاص وضم اليه ثلاثة الاف ليكونوا مددا لأبي الأعور وعونا. منهاج البراعة للخوئي: 4/309.
2- وقعة صفّين: 166؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/323؛ بحار الأنوار: 32/441، ش 392 و393.

وحدثنا عمر بن شمر عن جابر عن الشعبي عن الحرث بن أدهم وعن صعصعة قال أقبل الأشتر يوم الماء فضرب بسيفه جمهور أهل الشام حتى كشفهم عن الماء وكان لواء الأشعث بن قيس مع معاوية بن الحرث، فقال الأشعث: للَّه أبوك ليست النخع بخير من كندة قدم لواءك فان الحظ لمن سبق، فتقدم لواء الأشعث وحملت الرجال بعضها على بعض فما زالوا كذلك حتى انكشف أهل الشام عن الماء، وملك أهل العراق المشرعة(1) هذا.

وفي رواية أبي مخنف عن عبداللَّه بن قيس قال قال أميرالمؤمنين يوم صفين وقد أخذ أبو الأعور السلمي الماء على الناس ولم يقدر عليه أحد فبعث إليه الحسين عليه السلام في خمسمائة فارس فكشفه عن الماء، فلما رأى ذلك أميرالمؤمنين قال: ولدي هذا يقتل بكربلا عطشانا وينفر فرسه ويحمحم ويقول في حمحمته: الظليمة الظليمة من امة قتلت ابن بنت نبيها وهم يقرءون القرآن الذي جاء به إليهم ثم إن أميرالمؤمنين عليه السلام أنشأ يقول:

أرى الحسين قتيلا قبل مصرعه * علما يقينا بأن يبلى بأشرار

وكل ذي نفس أو غير ذي نفس * يجري إلى أجل يأتي باقدار(2)

قال وقال عمرو بن العاص لمعاوية لما ملك أهل العراق الماء: ما ظنك يا معاوية بالقوم إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم أمس أتراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه؟ ما أغنى عنك أن تكشف لهم السورة، فقال له معاوية: دع عنك ما مضى فما ظنك بعلي بن أبي طالب؟ قال ظني أنه لا يستحل منك ما استحللت منه

ص: 12


1- وقعة صفّين: 179؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/330؛ بحار الأنوار: 32/443.
2- بحار الأنوار: 44/266؛ ناسخ التواريخ: 3/5؛ موسوعة أهل البيت عليهم السلام: 9/91.

وإن الذي جاء له غير الماء(1).

قال نصر: فقال أصحاب علي له: امنعهم الماء يا أميرالمؤمنين كما منعوك، فقال: لا، خلوا بينهم وبينه لا أفعل ما فعله الجاهلون سنعرض عليهم كتاب اللَّه وندعوهم إلى الهدى فان أجابوا وإلّا ففي حد السيف ما يغني إنشاء اللَّه قال: فو اللَّه ما أمسى الناس حتى رأوا سقاتهم وسقاة أهل الشام وروايا أهل الشام يزدحمون على الماء ما يؤذي إنسان إنسانا(2).

ثمّ إنّ معاوية كما تصرّف الماء في أوّل وروده، ومنع أصحابه عليه السلام الماء، كذلك تصرفها بحيلة بعد ذلك، ففي (صفين نصر): كتب معاوية في سهم: من عبداللَّه الناصح، فإني أخبركم أنّ معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم، فخذوا حذركم. ثمّ رمى بالسهم في عسكر علي عليه السلام، فوقع السهم في يدي رجل من أهل الكوفة. فقرأه ثم أقرأه صاحبه، فلما قرأه وأقرأه الناس قالوا: هذا أخ لنا ناصح، كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية. فلم يزل السهم يقرأ حتى دفع إلى أميرالمؤمنين عليه السلام، وقد بعث معاوية مائتي رجل من الفعلة الى عاقول من النهر، بأيديهم المرود والزنبيل يحفرون فيها بحيال عسكر علي عليه السلام، فقال علي عليه السلام: ويحكم إنّ الذي يعالج معاوية لا يستقيم له، وإنّما يريد أن يزيلكم عن مكانكم، فالهوا عن ذلك. فقالوا له: هم واللَّه يحفرون الساعة. فقال: ويحكم لا تغلبوني على رأيي. فقالوا: واللَّه لنرتحلن، فإن شئت فارتحل وإن شئت فأقم. فارتحلوا،

ص: 13


1- وقعة صفّين: 185 - 186؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/320؛ بحار الأنوار: 32/443.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/331؛ بحار الأنوار: 32/442.

وارتحل علي عليه السلام في اخريات الناس، وهو يقول:

ولو أني اطعت عصبت قومي * الى ركن اليمامة أو شام

ولكنّي اذا أبرمت أمرا * منيت بخلف آراء الطّغام

وارتحل معاوية حتى نزل على معسكر علي عليه السلام الذي كان فيه.

فدعا علي عليه السلام الاشتر فقال: ألم تغلبني على رأيي، أنت والأشعث فقال الأشعث: أنا اكفيك، سأداوي ما أفسدت. فجمع بني كندة فقال: يا معشر كندة، لا تفضحوني اليوم ولا تخزوني، إنّما اقارع بكم أهل الشام. فخرجوا معه رجالا يمشون. وبيد الأشعث رمح له يلقيه على الأرض، ويقول: امشوا قيس رمحي فلم يزل يقيس لهم على الأرض برمحه ذلك، ويمشون معه رجّالة قد كسروا جفون سيوفهم، حتى لقوا معاوية وسط بني سليم واقفا على الماء وقد جاءه أدنى عسكره، فاقتتلوا على الماء ساعة، وانتهى أوائل أهل العراق فنزلوا، وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق فحمل على معاوية، والأشعث يحارب في ناحية، فردوا وجوه إبل معاوية قدر ثلاثة فراسخ، ثم نزل ووضع أهل الشام أثقالهم، والأشعث يهدر ويقول: أرضيتك يا أميرالمؤمنين ولما غلب علي عليه السلام على الماء فطرد عنه أهل الشام، بعث إلى معاوية: انّا لا نكافيك بصنعك، هلمّ الى الماء، فنحن وأنتم سواء، فأخذ كلّ واحد منهم بالشريعة مما يليه، وقال عليه السلام لأصحابه: إنّ الخطب أعظم من منع الماء(1).

هذا ونظير حيلة معاوية هذه مع أصحابه عليه السلام حيلة أبي مسلم في قتاله لعبد اللَّه بن علي عمّ المنصور، فأقبل أبو مسلم الى عبداللَّه ونزل ناحية لم يعرض له، وأخذ

ص: 14


1- وقعة صفّين: 190.

طريق الشام وكتب الى عبداللَّه: إنّي لم اؤمر بقتالك إنّما ولّاني المنصور الشام، وإنما اريدها. فقال من كان مع عبداللَّه من أهل الشام: كيف نقيم معك، وهذا يأتي بلادنا وفيها حرمنا، فيقتل من قدر عليه من رجالنا، ويسبي ذرارينا ولكنّا نخرج الى بلادنا، فنمنعه حرمنا وذرارينا، ونقاتله إن قاتلنا. فقال لهم عبداللَّه: إنّه واللَّه ما يريد الشام وما وجّه إلّا لقتالكم، ولئن أقمتم ليأتينكم. فأبوا إلّا المسير إلى الشام، فأقبل أبو مسلم فعسكر قريبا منهم، وارتحل عبداللَّه من معسكره نحو الشام، فتحوّل أبو مسلم حتى نزل في موضعه، وعور ما كان حوله من المياه، وألقى فيها الجيف، فقال عبداللَّه لأصحابه من أهل الشام: ألم أقل لكم...(1) هذا، وبليل - كزبير - شريعة صفين(2).

بصفين

بالس، وبولس، وقاصرين، وعابدين، وصفين: قرى منسوبة الى الروم(3).

وفي (مصباح الفيومي): صفين، موضع على الفرات من الجانب الغربي بطرف الشام، مقابل قلعة نجم، وهو فعلين من الصف، أو فعيل من الصفون(4).

قال المحقق التستري: وحيث إنّها كانت من بناء الروم - كما عرفته من الدينوري والبلاذري - فلا وجه لكونه من الصف(5).

ص: 15


1- تاريخ الطبري: 6/125.
2- تاج العروس من جواهر القاموس: 14/67.
3- فتوح البلدان للبلاذري: 1/178.
4- مصباح المنير: 2/343.
5- بهج الصباغة: 10/218.

و منعوهم من الماء

قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ

جعله عليه السلام منعهم عن شرب الماء كاستطعام للقتال أحسن كناية.

و: قال الأشعث لعمرو: واللَّه إن كنت لأظنّ لك رأيا، فاذا أنت لا عقل لك، أترانا نخليك والماء فقال له عمرو: كنت مقهورا على ذلك الرأي فكايدتك بالتهدد(1).

فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ

بالرضا بأن تبقى الشريعة في أيديهم.

ولمّا قتل عبداللَّه بن معديكرب أراد أخوه عمرو بن معديكرب أخذ ديته وترك ثأره، فقالت اخته كبشة:

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم

فمشوا بآذان النعام المصلّم

ودع عنك عمرا إنّ عمرا مسالم

وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم(2)

ولمّا كان أسماء بن خارجة ذهب بهاني بن عروة الى عبيداللَّه بن زياد فقتله، قال عبداللَّه بن الزبير الأسدي مخاطبا لمذحج قوم هاني:

فإن أنتم لما تثأروا بأخيكم * فكونوا بغايا ارضيت بقليل(3)

اوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ

انّ الأشتر روّى سيفه من دماء سبعة من فرسانهم: صالح بن فيروز العكي، وكان مشهورا بشدة البأس، شد عليه بالرمح وفلق ظهره، ثم مالك بن أدهم السلماني وكان من فرسانهم، ثم رماح بن عتيك الغساني، ثم إبراهيم بن وضاح الجمحي، ثم أزمل عتيك الحزامي وكان من أصحاب ألويتهم، ثم أجلح بن منصور الكندي وكان من أعلام العرب وفرسانها وماتت اخته حبلة حزنا عليه، ثم محمد بن روضة الجمحي، خرج وهو يقول:

يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن * أضربكم ولا أرى أباحسن

فشدّ عليه الأشتر وهو يقول:

لا يبعد اللَّه سوى عثمانا * مخالف قد خالف الرحمانا

نصرتموه عابدا شيطانا

فقتله. وقال أيضاً - وقد كان قتل من آل ذي يزن رجلا، ومن آل ذي لقوه فارس الأردن - :

اليوم يوم الحفاظ * بين الكماة الغلاظ

نحفزها والمظاظ(4)

هذا، وذكر أعرابي قوما تحاربوا، فقال: أقبلت الفحول تمشي مشي الوعول، فلما تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها(5).

وقال صخر أخو خنساء في أخذه ثار أخيه معاوية من بني مرّة:

ومرّة قد صبحناها المنايا * فروّينا الأسنة غير فخر(6)

ص: 16


1- وقعة صفّين: 169.
2- الأغاني: 15/149 و152.
3- الإرشاد: 2/64؛ مقاتل الطالبيين: 72؛ بحار الأنوار: 44/359.
4- وقعة صفّين: 171 و174 و178؛ بحار الأنوار: 32/443.
5- عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري: 1/266.
6- الأغاني: 15/71.

ولما صرف أهل مزّة الماء عن أهل دمشق ووجهوه إلى الصحاري كتب إليهم أبوالهندام: إلى بني استها - أهل مزّة - ليمسّيني الماء أو لتصبّحنكم الخيل. فوافاهم الماء قبل أن يعتموا فقال أبو الهندام: «الصدق ينبي عنك لا الوعيد»(1).

فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ

هو في جمع المعنى ورفع المغزى، كقوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ»(2).

وقال ولده الحسين عليه السلام: لا واللَّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد(3) ونقل: لا واللَّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد(4).

في مسير الكربلاء حين المواجة له عليه السلام قال الحر: يا حسين إني أذكرك اللَّه في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن.

فقال له الحسين عليه السلام أفبالموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فخوفه ابن عمه وقال أين تذهب فإنك مقتول فقال.

سأمضي فما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبورا(5) وباعد (خالف خ ل) مجرما

ص: 17


1- عيون الأخبار لابن قتيبة: 1/294.
2- البقرة: 179.
3- عيون الأخبار لابن قتيبة: 1/294.
4- بحار الأنوار: 45/7.
5- المثبور: المخسور والملعون المطرود.

فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم * كفى بك ذلا أن تعيش وترغما(1)

قال تعالى: قل هو تربصون بنا إلّا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللَّه بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون(2).

وقال الحسين عليه السلام: موت في عز خير من حياة في ذل(3).

وقال الحسين عليه السلام: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز (ركزني خ ل) بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى اللَّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام(4).

قال ابن أبي الحديد: سيد أهل الإباء الذي علم الناس الحمية والموت تحت ظلال السيوف اختيارا له على الدنية أبوعبداللَّه الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام عرض عليه الأمان وأصحابه فأنف من الذل(5).

وقال ابن أبي الحديد: سمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري يقول: كان أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت إلّا في الحسين عليه السلام.

وقد كان فوت الموت سهلا فرده * إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

ونفس تعاف الضيم حتى كأنه * هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

ص: 18


1- الإرشاد: 2/81؛ بحار الأنوار: 44/378.
2- التوبة: 52.
3- مناقب آل أبي طالب عليه السلام: 4/68؛ بحار الأنوار: 44/192.
4- اللهوف (ترجمه فهري): 98؛ بحار الأنوار: 45/83.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/249.

فأثبت في مستنقع الموت رجله * وقال لها من تحت أخمصك الحشر

تردى ثياب الموت حمرا فما أتى * لها الليل إلّا وهي من سندس خضر(1)

وقال محمد بن أبي طالب وذكر أبو علي السلامي في تاريخه أنّ هذه الأبيات للحسين عليه السلام من إنشائه وقال ليس لأحد مثلها:

فَإنّ تَكُنِ الدُّنيَا تُعَدَّ نَفِيسَةً * فدار ثَوَابِ اللَّهِ أَعلْى وَأَنْبَلُ

وإنْ تَكُنِ الْأَبدَانٌ لِلْمَوْتِ أُنْشِئَتْ * فَقَتْلُ امرئٍ بِالسّيْفِ في اللَّهِ أَفْضَلُ

وَاِنْ تكُنِ الْأَرْزاقُ قِسما مقدرا * فقِلةُ سَعْي الْمَرْءِ فِي الْكَسْبِ أَجْمَلُ

وَإِنْ تَكُنِ الْأَمْوَالُ لِلتَّرْكِ جَمْعُهَا * فَمَا بَالُ مَتْرُوكٍ بِهِ المَرْءُ يَبْخَلُ(2)

وتمثل عليه السلام يوم الطف:

فان نهزم فهزامون قدما * وان نغلب فغير مغلبينا

وما إن طبنا جبن ولكن * منايانا ودولة آخرينا

اذا ما الموت رفع عن أناس * كلاكله (منازله) أناخ بآخرينا

فأفنى ذلكم سروات قومي * كما أفتى القرون الأولينا

فلو خلد الملوك اذا خلدنا * ولو بقي الكرام إذا بقينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا(3)

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إن اللَّه تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن كل شي ء إلّا إذلال نفسه(4).

ص: 19


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/249.
2- مناقب آل أبي طالب عليه السلام: 4/95 واللهوف: 74؛ بحار الأنوار: 45/49.
3- اللهوف: 98؛ مثير الأحزان: 55.
4- الكافي: 5/63، ح 3؛ وسائل الشيعة: 16/157، ح 21236 - 3.

كان عمليق الطسمي قضى على جديس: أن يذهبوا ببناتهم ليلة زفافهم قبل أزواجهم إليه فيفترعهن هو، فذهبوا بعفيرة بنت عباد الجديسي إليه فافترعها، فخرجت الى قومها شاقة درعها من قبل ومن دبر في أقبح منظر، قائلة:

لا أحد أذلّ من جديس * أ هكذا يفعل بالعروس

وقالت في تحريض قومها:

فموتوا كراما أو أميتوا عدوّكم * ودبوا الخطب بالحطب الجزل

فللبين خير من مقام على أذى * وللموت خير من مقام على الذّل

وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه * فكونوا نساء لا تعاب من الكحل

ودونكم طيب العروس فإنّما * خلقتم لأثواب العروس وللنسل

فصار تحريضها سببا لقتل العمليق(1).

وقال صخر أخو خنساء لمّا طال مرضه، وسئلت امرأته عنه فقالت: لاحي فيرجي ولا ميت فينعى - :

وللموت خير من حياة كأنّها * محلة يعسوب برأس سنان(2)

وتمثّل زيد بن علي يوم قتل بقول القائل:

اذل الحياة وعز الممات * وكلّا أراه طعاما وبيلا

فإن كان لابدّ من واحد * فسيروا إلى الموت سيرا جميلا(3)

وذكروا: أنّ عبد الجبار الأزدي خرج على المنصور، فانهزم، فحمل إليه فقال للمنصور: قتلة كريمة. قال تركتها وراءك يابن اللخناء(4).

ص: 20


1- الأغاني: 11/112.
2- الأغاني: 15/56 و57.
3- عيون الأخبار (لابن قتيبة): 1/288.
4- أنساب الأشراف: 4/229.

وقال البحتري في بني حميد، وقد قتلوا في الحرب، لأبيهم:

أبا غانم أردى بنيك اعتقادهم * بأن الردى في الحرب أكبر مغنم

مضوا يستلذّون المنايا حفيظة * وحفظا لذاك السؤدد المتقدّم

ولمّا رأوا بعض الحياة مذلّة * عليهم وعز الموت غير محرم

أبوا أن يذوقوا العيش والذم واقع * عليه وماتوا ميتة لم تذمم(1)

أَلا وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ، وَعَمَسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ

انّ معاوية لما أتاه كتاب علي عليه السلام بعزله عن الشام بعد عثمان صعد المنبر وقال: يا أهل الشام، قد علمتم أني خليفة أميرالمؤمين عمر وخليفة عثمان وقتل مظلوما. وتعلمون أني وليّه. واللَّه يقول:... وَمَنْ قُتِلَ مَظلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً...(2) الخ(3). ووضع من يقوم في الناس ويروي لهم أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إنّ عثمان كان على الحق(4)، وبث فيهم أنّ عليّا لا يصلّي(5).

وذكروا أنّه لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة، فقال معاوية لهم: يا أهل الشام هذا واللَّه أوّل الظفر، لا سقاني اللَّه ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه، حتى

ص: 21


1- ديوان البحتري: 56.
2- الإسراء: 33.
3- وقعة صفّين: 81؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/93.
4- بهج الصباغة: 10/223.
5- مكاتيب الرسول (الأحمدي الميانجي): 1/615؛ تدوين السنة الشريفة (السيد محمد رضا الجلالي): 539؛ معالم الفتن (سعيد أيّوب): 2/79.

يقتلوا بأجمعهم عليه(1).

وخرج رجل من أهل الشام، فقال: من يبارز فخرج إليه رجل من أصحاب علي عليه السلام فاقتتلا ساعة، ثم إنّ العراقي ضرب رجل الشامي فقطعها، فقاتل ولم يسقط إلى الأرض، ثم ضرب يده فقطعها، فرمى الشامي سيفه بيده اليسرى الى أهل الشام وقال لهم: دونكم سيفي هذا، فاستعينوا به على عدوّكم. فأخذوه، فاشترى معاوية ذلك السيف من أولياء المقتول بعشرة آلاف(2).

ص: 22


1- وقعة صفّين: 163؛ بحار الأنوار: 32/440.
2- وقعة صفّين: 388؛ بحار الأنوار: 32/505، ش 433.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (52) - ومن خطبة له عليه السلام [وقد تقدّم مختارها برواية ونذكرها هنا برواية أخرى لتغاير الروايتين]:

اشارة

أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَآذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ وَتَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا وَأَدْبَرَتْ حَذَّاءَ فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا وَتَحْدُو بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا وَقَدْ أَمَرَّ مِنْهَا مَا كَانَ حُلْواً وَكَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلّا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الإِدَاوَةِ أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ فَأَزْمِعُوا عِبَادَ اللَّهِ الرَّحِيلَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ وَلا يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الْأَمَلُ وَلا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الْأَمَدُ.

فَوَاللَّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ وَدَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ وَخَرَجْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ وَحَفِظَتْهَا رُسُلُهُ لَكَانَ قَلِيلاً فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ وَأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ.

وَتَاللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِيَاثاً وَسَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ عَنْكُمْ وَلَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ وَهُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلْإِيمَانِ.

ص: 23

ومنها في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية

ومن تمام الأضحية استشراف أذنها وسلامة عينها فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية وتمت ولو كانت عضباء القرن تجر رجلها إلى المنسك

قال الرضي رحمه الله: والمنسك هاهنا المذبح.

ومن خطبة له عليه السلام: أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَآذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ

قال أبوتمام:

عمري لقد نصح الزمان وإنه

لمن العجائب ناصح لا يشفق(1)

وَتَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا وَأَدْبَرَتْ حَذَّاءَ

قال تعالى حكاية عن زكريا: «وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً»(2).

تولى الشباب كأن لم يكن * وحل المشيب كأن لم يزل

كأن المشيب كصبح بدا * وأما الشباب كبدر أفل(3)

فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا

قول بعضهم:

هي الدنيا تقول بمل ء فيها * حذار حذار من بطشي وفتكى

ص: 24


1- أعيان الشيعة (السيد محسن الأمين): 4/425.
2- سورة مريم: 4.
3- ديوان أميرالمؤمنين عليه السلام: 330.

فلا يغرركم حسن ابتسامي * فقولي مضحك والفعل مبكى(1)

وَتَحْدُو بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا

الحدو: سوق الإبل، والغناء لها. وفي (الديوان):

قد رأيت القرون كيف تفانت * درست ثمّ قيل كان وكانت

هي دنيا كحيّة تنفث السّمّ * وان كانت المجسّة لانت(2)

الموت لا والدا يبقي ولا ولدا * هذا السبيل إلى أن لا ترى أحدا(3)

ولنعم ما قيل:

باتوا على قلل الجبال تحرسهم * غلب الرجال فلم ينفعهم القلل

واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * إلى مقابرهم يابئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا * أين الأسرة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت محجبة * من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين سائلهم * تلك الوجوه عليها الدود تنتقل

قد طال ما أكلوا فيها وهم شربوا * فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

وطال ما كثروا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا

وطال ما شيدوا دورا لتحصنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

أضحت مساكنهم وحشا معطلة * وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا(4)

ص: 25


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/335.
2- ديوان أمير المؤمنين عليه السلام: 116.
3- ديوان أمير المؤمنين عليه السلام: 152؛ بحار الأنوار: 22/523.
4- ديوان أميرالمؤمنين عليه السلام: 321؛ مروج الذهب: 4/11؛ منهاج البراعة للخوئي: 4/313.

سل الخليقة إذ وافت منيته * أين الجنود وأين الخيل والخول

أين الكنوز التي كانت مفاتحها * تنوء بالعصبة المقوين لو حملوا

أين العبيد التي أرصدتهم عددا * أين الحديد وأين البيض والأسل

أين الفوارس والغلمان ما صنعوا * أين الصوارم والخطية الذبل

أين الكفاة أ لم يكفوا خليفتهم * لما رأوه صريعا وهو يبتهل

أين الكماة التي ماجوا لما غضبوا * أين الحماة التي تحمى به الدول

أين الرماة ألم تمنع بأسهمهم * لما أتتك سهام الموت تنتصل

هيهات ما منعوا ضيما ولا دفعوا * عنك المنية إذ وافى بك الأجل

ولا الرشا دفعتها عنك لو بذلوا * ولا الرقى نفعت فيها ولا الخيل

ما ساعدوك ولا واساك أقربهم * بل سلموك لها يا قبح ما فعلوا(1)

وَقَدْ أَمَرَّ مِنْهَا مَا كَانَ حُلْواً

في الديوان:

دنيا عدمتك ما أمرك * للمكثرين فما أضرك

ما ذاق خيرك ذائق * إلا صببت عليه شرك(2)

وَكَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً

في الديوان:

ص: 26


1- ديوان أميرالمؤمنين عليه السلام: 321 و324؛ منهاج البراعة للخوئي: 4/314.
2- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 196.

أرى الدنيا ستؤذن بانطلاق * مشمّرة على قدم وساق

فلا الدنيا بباقية لحيّ * ولا حيّ على الدنيا بباق(1)

فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلّا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الإِدَاوَةِ

قال النبي صلى الله عليه وآله: ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع(2).

وعنه صلى الله عليه وآله: مثل الدنيا في الآخرة كمثل ثوب شقّ من أوّله إلى آخره فتعلّق بخيط منها، فما لبث ذلك الخيط أن ينقطع(3).

اوْ جُرْعَةٌ

(الجرعة) من الماء كاللقمة من الطعام وهو ما يجرع مرة واحدة(4).

كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ

في حديث علي عليه السلام «لم يبق منها إلّا جرعة كجرعة المقلة» هي بالفتح: حصاة يقتسم بها الماء القليل في السفر، ليعرف قدر ما يسقى كل واحد منهم(5).

ص: 27


1- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 294.
2- مشكاة الأنوار: 268؛ بحار الأنوار: 70/119، ذ ح 111.
3- حلية الأولياء: 8/131.
4- المصباح المنير: 97.
5- النهاية في غريب الحديث: 4/348.

لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ فَأَزْمِعُوا عِبَادَ اللَّهِ الرَّحِيلَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ

طلق الدنيا ثلاثا * واطلبن زوجا سواها

إنها زوجة سوء * لا تبالي من أتاها

وإذا نالت مناها * منه ولته قفاها(1)

الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ

تحرز من الدنيا فإن فناءها * محل فناء لا محل بقاء

فصفوتها ممزوجة بكدورة * وراحتها مقرونة بعناء(2)

أفلا تنظر إلى الأمم الماضية والقرون الفانية وإلى من عاشرتهم من صنوف الناس وشيعتهم إلى الارماس كيف اخترمتهم أيدى المنون من قرون بعد قرون، أو لا تعتبر ممن مضى من أسلافك ومن وارته الأرض من الافك، ومن فجعت به من اخوانك ونقلت إلى دار البلا من أقرانك.

فهم في بطون الأرض بعد ظهورها * محاسنهم فيها بوال دواثر

خلت دورهم منهم واقوت عراصهم * وساقتهم نحو المنايا المقادر

وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها * وضمتهم تحت التراب الحفائر(3)

وَلا يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الْأَمَلُ وَلا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الْأَمَدُ

قال تعالى : «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ

ص: 28


1- ديوان أمير المؤمنين عليه السلام: 32؛ بحار الأنوار: 40/328.
2- ديوان أمير المؤمنين عليه السلام: 36.
3- البلد الأمين: 320؛ منهاج البراعة للخوئي: 4/315.

الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ»(1).

فَوَاللَّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ

أي: الآبال التي فقدت ولدها فصارت والهة متحيّرة.

وَدَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ

وهديله: صوته، وممّا اشتهر عند العرب: أنّ الهديل كان فرخا على عهد نوح عليه السلام فصاده أحد جوارح الطيور فليسمن حمامة إلّا وتبكي عليه في هديلها، قال شاعر:

وما من تهتفين به لنصر

بأسرع جابة لك من هديل(2)

وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ وَخَرَجْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ

قال تعالى: «وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(3).

وَحَفِظَتْهَا رُسُلُهُ

قال تعالى: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ»(4).

ص: 29


1- سورة الحديد: 16.
2- ادب الكاتب (ابن قتيبه): 189.
3- سورة الكهف: 49.
4- سورة الانفطار: 10 - 12.

لَكَانَ قَلِيلاً فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ وَأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ

عن طاوس اليماني قال كان علي بن الحسين سيد العابدين عليه السلام يدعو بهذا الدعاء: إلهي وعزتك وجلالك وعظمتك لو أني منذ بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك بكل شعرة في كل طرفة عين سرمد الأبد بحمد الخلائق وشكرهم أجمعين لكنت مقصرا في بلوغ أداء شكر أخفى نعمة من نعمك علي ولو أني كربيت [كربت] معادن حديد الدنيا بأنيابي وحرثت أرضها بأشفار عيني وبكيت من خشيتك مثل بحور السماوات والأرضين دما وصديدا لكان ذلك قليلا في كثير ما يجب من حقك علي ولو أنك إلهي عذبتني بعد ذلك بعذاب الخلائق أجمعين وعظمت للنار خلقي وجسمي ملأت جهنم وأطباقها مني حتى لا يكون في النار معذب غيري ولا يكون لجهنم حطب سواي لكان ذلك بعدلك علي قليلا في كثير استوجبته من عقوبتك(1).

وفي دعاء الصحيفة في استقالته عليه السلام من الذنوب: إلهي لو بكيت إليك حتى تسقط أشفار عيني، وانتحبت حتى ينقطع صوتي، وقمت لك حتى تتنشّر (تنثر) قدماي، وركعت لك حتى ينخلع صلبي، وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلت تراب الأرض طول عمري، وشربت ماء الرماد آخر دهري، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي، وإن كنت تغفر لي حين أستوجبت مغفرتك، وتعفو عني حين أستحق عفوك فإن ذلك غير واجب لي باستحقاق، ولا أنا أهل له باستيجاب، إذ كان جزائي منك في أول ما عصيتك النار، فإن تعذبني

ص: 30


1- الأمالي للصدوق: 299 ،م 49، ح 15؛ بحار الأنوار: 91/90، ح 2.

فأنت غير ظالم لي(1).

وَتَاللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِيَاثاً...

وَتَاللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِيَاثاً وَسَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ عَنْكُمْ وَلَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُم

عن الزهري قال: دخلت مع علي بن الحسين عليهما السلام على عبدالملك بن مروان قال فاستعظم عبدالملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين عليه السلام فقال يا أبامحمد لقد بين عليك الاجتهاد ولقد سبق لك من اللَّه الحسنى وأنت بضعة من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قريب النسب وكيد السبب وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك إلا من مضى من سلفك وأقبل يثني عليه ويطريه قال فقال علي بن الحسين عليه السلام كل ما ذكرته ووصفته من فضل اللَّه سبحانه وتأييده وتوفيقه فأين شكره على ما أنعم، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقف في الصلاة حتى ترم قدماه ويظمأ في الصيام حتى يعصب فوه فقيل له يا رسول اللَّه ألم يغفر لك اللَّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول صلى الله عليه وآله: «أفلا أكون عبداً شكوراً» الحمد للَّه على ما أولى وأبلى وله الحمد في الآخرة والأولى واللَّه لو تقطعت أعضاني وسألت مقلتاي على صدري لن أقوم للَّه جل جلاله بشكر عشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون ولا يبلغ حد نعمة منها علي جميع حمد الحامدين - لا واللَّه أو يراني اللَّه لا يشغلني (لا واللَّه لا يراني اللَّه يشغلني) شي ء عن شكره وذكره في ليل ولا نهار ولا

ص: 31


1- الصحيفة السجادية: 82، د16، ش 30 و31.

سر ولا علانية ولو لا أن لأهلي علي حقا ولسائر الناس من خاصهم وعامهم علي حقوقا - لا يسعني إلّا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤدّيها إليهم لرميت بطرفي إلى السماء وبقلبي إلى اللَّه ثم لم أرددهما حتى يقضي اللَّه على نفسي وهو خير الحاكمين وبكى عليه السلام وبكى عبدالملك وقال شتان بين عبد طلب الآخرة وسعى لها سعيها وبين من طلب الدنيا من أين جاءته وما له في الآخرة من خلاق(1).

وفي هذا المعنى يقول محمود الوراق(2):

شكر الإله نعمة موجبة لشكره * وكيف شكري بره وشكره من بره(3)

وَمِنْ تَمَامِ الأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَسَلامَةُ عَيْنِهَا فَإِذَا سَلِمَتِ الأُذُنُ وَالْعَيْنُ سَلِمَتِ الأُضْحِيَّةُ وَتَمَّتْ وَلَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ

اشارة

قال علي عليه السلام: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: استشرفوا العين والأذن(4).

وعن علي عليه السلام قال: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في الأضاحي أن تستشرف العين والأذن ونهانا عن الخرقاء والشرقاء والمقابلة والمدابرة(5).

الخرقاء أن يكون في الأذن ثقب مستدير والشرقاء في الغنم المشقوقة الأذن باثنين حتى ينفذ إلى الطرف(6) والمقابلة أن يقطع من مقدم أذنها شي ء يترك معلقا لا يبين كأنه زنمة(7) ويقال مثل ذلك من الإبل المزنم ويسمى ذلك المعلق الرعل والمدابرة أن يفعل ذلك بمؤخر أذن الشاة(8).

وفي (النهاية) - بعد ذكر تفسير (الصحاح) للاستشراف - ومنه حديث الأضاحي «أمرنا أن نستشرف العين والأذن - أي: نتأمل سلامتهما من آفة تكون بهما(9).

وعنه عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال: لا يضحى بالجداء ولا بالجرباء والجداء المقطوعة الأطباء وهي حلمات الضرع والجرباء التي بها الجرب(10).

وعن جعفر بن محمد صلوات اللَّه عليه أنه كره المقابلة والمدابرة والشرقاء والخرقاء فالمقابلة المقطوع من أذنها شي ء من مقدمها يترك فيها معلقا والمدابرة

ص: 32


1- فتح الأبواب: 170؛ بحار الأنوار: 46/57، ح 10.
2- هو أبو عبداللَّه تاج الدين محمود بن محمد بن صفي بن محمد الورقا الذهلي، فقيه، بياني، منطقي، نحوي، من تصانيفه تحفة السلاطين في الجهاد، والمقصد في النحو، كان حيا سنة 798 هجرية. بغية الوعاة: ص 389.
3- رياض السالكين: 1/320 ومنهاج البراعة للخوئي: 4/317.
4- دعائم الإسلام: 1/326؛ بحار الأنوار: 96/282، ح 20.
5- معاني الأخبار: 222، ح 1؛ بحار الأنوار: /96/298، ح 24.
6- بأن يشق اذنها طولا بحيث تصير شقين الى طرفها من الرأس. (م).
7- أي لا ينقطع. والزنمة: ما يقطع من اذن البعير أو الشاة فيترك معلقا وذلك يفعل بكرام الإبل فقط.
8- معاني الأخبار: 222؛ بحار الأنوار: 96/298.
9- النهاية: 2/462 ماده (شرف).
10- بحار الأنوار: 96/282، ح 22.

تكون كذلك من مؤخر أذنها والشرقاء المشقوقة الأذن باثنين والخرقاء التي في أذنها ثقب مستدير(1).

ومنها: في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله استفرهوا ضحاياكم(2) فإنها مطاياكم على الصراط(3).

ص: 33


1- دعائم الإسلام: 1/327؛ بحار الأنوار: 96/282، ح 24.
2- أي اختاروا الفارهة الجيدة منها غير المعيوبة، ورواه المؤلف في العلل ص 438 بسند قوي عن موسى بن جعفرعليه السلام رفعه عن النبي صلى الله عليه وآله.
3- من لا يحضره الفقيه: 2/213/2190؛ بحار الأنوار: 96/296، ح 18.

وجاءت أم سلمة رضي اللَّه عنها إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت يا رسول اللَّه يحضر الأضحى وليس عندي ثمن الأضحية فأستقرض وأضحي فقال استقرضي وضحي فإنه دين مقضي ويغفر لصاحب الأضحية عند أول قطرة تقطر من دمها(1).

عن أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال قلت له ما علة الأضحيه فقال إنه يغفر لصاحبها عند أول قطرة تقطر من دمها إلى الأرض وليعلم اللَّه تعالى من يتقيه بالغيب قال اللَّه تعالى: «لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ»(2) ثم قال انظر كيف قبل اللَّه قربان هابيل ورد قربان قابيل(3).

وروي عن النبيّ صلى الله عليه وآله قال: ما من عمل يوم النحر أحبّ إلى اللَّه عزّوجلّ من إراقة دم وأنّها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وأنّ الدم ليقع من اللَّه بمكان قبل أن يقع الأرض فطيبوا بها نفسا(4).

وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً أنّ لكم بكلّ صوفة من جلدها حسنة، وبكلّ قطرة من دمها حسنة، وأنّها لتوضع في الميزان فأبشروا(5).

فميا أوصي به النبي صلى الله عليه وآله علياعليه السلام: يا علي لا تماكس في أربعة أشياء في شراء الأضحية والكراء إلى مكة...(6).

ص: 34


1- من لا يحضره الققيه: 2/213، ح 2191 و2192.
2- الحج: 37.
3- علل الشرايع: 2/438، ح 2؛ بحار الأنوار: 96/296، ح 17.
4- تفسير القرطبي: 15/108.
5- المحجة البيضاء: 2/195: سنن ابن ماجة 2، ش 3127.
6- خصال: 1/245، ح 103؛ بحار الأنوار: 96/294، ح 7.

وَمِنْ تَمَامِ الأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَسَلامَةُ عَيْنِهَا

قال علي عليه السلام: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: استشرفوا العين والأذن(1).

وعن علي عليه السلام قال: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في الأضاحي أن تستشرف العين والأذن ونهانا عن الخرقاء والشرقاء والمقابلة والمدابرة(2).

الخرقاء أن يكون في الأذن ثقب مستدير والشرقاء في الغنم المشقوقة الأذن باثنين حتى ينفذ إلى الطرف(3) والمقابلة أن يقطع من مقدم أذنها شي ء يترك معلقا لا يبين كأنه زنمة(4) ويقال مثل ذلك من الإبل المزنم ويسمى ذلك المعلق الرعل والمدابرة أن يفعل ذلك بمؤخر أذن الشاة(5).

وفي (النهاية) - بعد ذكر تفسير (الصحاح) للاستشراف - ومنه حديث الأضاحي «أمرنا أن نستشرف العين والأذن - أي: نتأمل سلامتهما من آفة تكون بهما(6).

وعنه عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنه قال: لا يضحى بالجداء ولا بالجرباء والجداء المقطوعة الأطباء وهي حلمات الضرع والجرباء التي بها الجرب(7).

وعن جعفر بن محمد صلوات اللَّه عليه أنه كره المقابلة والمدابرة والشرقاء والخرقاء فالمقابلة المقطوع من أذنها شي ء من مقدمها يترك فيها معلقا والمدابرة

ص: 35


1- 1 دعائم الإسلام: 1/326؛ بحار الأنوار: 96/282، ح 20.
2- 2 معاني الأخبار: 222، ح 1؛ بحار الأنوار: /96/298، ح 24.
3- 3 بأن يشق اذنها طولا بحيث تصير شقين الى طرفها من الرأس. (م).
4- 4 أي لا ينقطع. والزنمة: ما يقطع من اذن البعير أو الشاة فيترك معلقا وذلك يفعل بكرام الإبل فقط.
5- 5 معاني الأخبار: 222؛ بحار الأنوار: 96/298.
6- 6 النهاية: 2/462 ماده (شرف).
7- 7 بحار الأنوار: 96/282، ح 22.

تكون كذلك من مؤخر أذنها والشرقاء المشقوقة الأذن باثنين والخرقاء التي في أذنها ثقب مستدير(1).

فَإِذَا سَلِمَتِ الأُذُنُ وَالْعَيْنُ سَلِمَتِ الأُضْحِيَّةُ

عن علي عليه السلام أنه نهى عن الجدعاء والهرمة فالجدعاء المجدوعة الأذن أي مقطوعتها(2).

عن الحلبي قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن الضحية تكون الأذن مشقوقة فقال إن كان شقها وسما فلا بأس وإن كان شقا فلا يصلح(3).

وسأل علي بن جعفر أخاه موسى بن جعفرعليه السلام عن الرجل يشتري الضحية عوراء فلا يعلم إلّا بعد شرائها هل تجزي عنه قال نعم إلّا أن يكون هديا فإنه لا يجوز أن يكون ناقصا(4).

عن أحدهماعليه السلام قال: سئل عن الأضاحي إذا كانت الأذن مشقوقة أو مثقوبة بسمة فقال ما لم يكن منها مقطوعا فلا بأس(5).

قال أبو زيد - كما في الصحاح - العضباء: الشاة المكسوره القرن الداخل، وهو المشاش(6).

ص: 36


1- 1 دعائم الإسلام: 1/327؛ بحار الأنوار: 96/282، ح 24.
2- بحار الأنوار: 96/282، ح 23.
3- الكافي: 4/491، ح 11: وسائل الشيعة: 14/129، ح 18789 - 2.
4- من لا يحضره الفقيه: 2/496، ح 3059: تهذيب الأحكام: 5/213، ح 58.
5- تهذيب الأحكام: 5/213، ح 57: وسائل الشيعة: 14/129، ح 18788 - 1.
6- الصحاح للجوهري: 1/183 مادة (عضب).

وفي (الصحاح) ناقة عضباء أي: مشقوقة الاذن(1)، وأمّا ناقة النبي صلى الله عليه وآله التي كانت تسمى العضباء فإنما كان ذلك لقبا لها ولم تكن مشقوقة الأذن(2).

وفيه أيضاً: كانت للنبي صلى الله عليه وآله ناقة تسمى قصواء ولم تكن مقطوعة الاذن(3).

ومثله (القاموس): وقال في (جدع): لم تكن ناقة النبي صلى الله عليه وآله جدعاء ولا عضباء ولا قصواء وإنّما هن ألقاب(4) مع أنّهما وهما، فإنّ ابن دريد إنّما قال: كان اسمها العضباء ولم يقل لم يكن بها عيب(5)، وكذلك الطبري إنّما روى عن محمّد بن إبراهيم التيمي «ان اسم ناقة النبي صلى الله عليه وآله كان القصواء والجدعاء والعضباء» ولم يقل لم يكن بها عيب(6).

ومما يوضح أنّ الاسم لم يكن مجردا ما رواه الطبري عن سعيد بن المسيب قال: كان اسم ناقة النبي صلى الله عليه وآله العضباء وكان في طرف اذنها جدع(7).

روى المشايخ الثلاثة عن السكوني عن جعفر عن آبائه عليهما السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله: لا يضحي بالعرجاء بين عرجها، ولا بالعوراء بين عورها، ولا بالعجفاء ولا بالخرقاء، ولا بالجذعاء ولا بالعضباء.

وزاد الأوّل ولا الجرباء». وقال الأخيران العضباء مسكورة القرن(8).

وروى الأوّلان صحيحا عن جميل عن الصادق عليه السلام في الأضحية يكسر قرنها.

ص: 37


1- الصحاح للجوهري: 1/184 مادة (عضب).
2- الصحاح للجوهري: 1/184.
3- الصحاح للجوهري: 6/2463 مادة (قصا).
4- القاموس المحيط للفيروزآبادي: 3/15 مادة (جدع).
5- جمهرة اللغة: 1/354 مادة (عضب).
6- تاريخ الأمم والملوك للطبري: 2/422.
7- تاريخ الطبري: 2/422.
8- الكافي: 4/491، ح 12: معاني الأخبار: 221، ح 1: من لايحضره الفقيه: 2/490، ح 3048 وتهذيب الأحكام: 5/213، ح 55.

قال: إذا كان القرن الداخل صحيحا فهو يجزي(1).

ورواه الأخير هكذا: في المقطوع القرن أو المكسور القرن إذا كان القرن الداخل صحيحا فلا بأس وإن كان القرن الظاهر الخارج مقطوعا(2).

وقال ابن بابويه: قال الصفار إذا ذهب من القرن الداخل ثلثاه وبقي ثلثه فلا بأس بأن يضحى به(3).

هذا، قالوا: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلّى وخطب اتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بيده بالمدية ثم يقول: «اللهم هذا عن امتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ» ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بيده ثم يقول: «هذا عن محمد وآل محمد» فيأكل هو وأهله منها ويطعم المساكين(4).

وضحى النبي صلى الله عليه وآله في سنة (2) من الهجرة أول اضحى رآه المسلمون وامر بذلك، وخرج إلى المصلى وذبح به شاتين(5).

وفي (تذكرة سبط ابن الجوزي)(6): قال: أحمد بن حنبل في (فضائله): بإسناده عن عليّ عليه السلام قال: أمرني النبي صلى الله عليه وآله أن اضحي عنه، فأنا اضحي عنه أبدا. فكان عليه السلام يضحي عنه صلى الله عليه وآله إلى أن استشهد، بكبشين أملحين(7).

قال محمّد بن شهاب الزهري: إنّما خص النبيّ صلى الله عليه وآله علياعليه السلام بذلك دون أقاربه

ص: 38


1- الكافي: 4/1491، ح 13 ومن لايحضره الفقيه: 2/496، ح 3062.
2- تهذيب الأحكام: 5/213، ح 56.
3- من لا يحضره الفقيه: 2/496/ذ ح 3062.
4- الطبقات الكبرى: 1/249.
5- التنبيه والأشراف للمسعودي: 207.
6- تذكرة الخواص: (ط - الجديدة): 1/280.
7- مناقب آل أبي طالب عليه السلام: 3/121؛ بحار الأنوار: 38/72.

وأهله لقربة منه، فكأنه فعل ذلك بنفسه(1).

خطب إبراهيم بن هشام المخزومي - خال هشام بن عبدالملك - بمنى فقال: سلوني فأنا ابن الوحيد لا تسألون أحدا أعلم مني. فقام إليه رجل من أهل العراق فسأله عن الأضحية أهي واجبة ام لا؟ فما درى أي شي ء يقول له، فنزل(2).

وفي الطبري أيضاً: ضحى أهل سامراء في سنة (246) يوم الاثنين على الرؤية وأهل مكة يوم الثلاثاء، وقدم في سنة (240) محمّد بن عبداللَّه بن طاهر بغداد منصرفاً من مكة في صفر فشكا ما ناله من الغم بما وقع من الخلاف في يوم النحر، فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة وأن يسار بها كما يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم(3).

وكان بالبصرة ثلاثة إخوة من ولد عتاب بن أسيد، كان أحدهم يحج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن يحج. وكان الآخر يفطر عن عائشة أيام التشريق ويقول: غلطت في صومها أيام العيد فمن صام عن أبيه وامه فأنا أفطر عن أمي عائشة. وكان الآخر يضحى عن أبي بكر وعمر ويقول: أخطا السنة في ترك الأضحية(4). ونقل (بيان الجاحظ) عن الخليل: أنّ الثلاثة كانوا إخوة أبي قطبة البخيل(5).

وقال الأصمعي: ولي رجل قضاء الأهواز فأبطأت عليه أرزاقه وليس عنده ما يضحي به، فشكا ذلك الى امرأته وأخبرها بما هو فيه من الضيق وأنّه لا يقدر على أضحية، فقالت له: لا تغتم فإنّ عندي ديكا عظيما قد سمنته، فإذا كان يوم الأضحى

ص: 39


1- تذكرة الخواص (ط - الجديدة): 1/281.
2- تاريخ الطبري: 5/397.
3- تاريخ الطبري: 7/400.
4- عيون الاخبار لابن قتيبة: 2/65 والبخلاء للجاحظ: 153.
5- بهج الصباغة: 14/141.

ذبحناه. فبلغ جيرانه الخبر فأهدوا له ثلاثين كبشا وهو في المصلى لا يعلم فلما صار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي قال لامرأته من أين هذا قالت: أهدى لنا فلان وفلان وفلان. حتى سمت له جماعة. فقال لها: يا هذه تحفظي بديكنا هذا فلهو أكرم على اللَّه من إسحاق بن إبراهيم، إنّه فدى ذلك بكبش واحد وفدى ديكنا هذا بثلاثين كبشا(1).

وخطب عبداللَّه بن عامر بالبصرة في يوم أضحى، فأرتج عليه فمكث ساعة ثم قال: واللَّه لا أجمع عليكم عيا ولؤما من اخذ شاة من السوق فهي له وثمنها علي(2).

وفي (كنايات الجرجاني): حكي أن المفضل الضبي بعث بأضحية هزيلة إلى شاعر، ثم لقيه فسأله عنها فقال: كانت قليلة الدم، فضحك المفضل: وقال مهلا أردت قوله:

ولو ذبح الضبي بالسيف لم تجد * من اللؤم للضبي لحما ولا دما(3)

هذا، وعن النفيلي عن زهير عن أبي اسحاق عن شريح ابن النعمان - وكان رجل صدق - عن علي عليه السلام قال: أمرنا النبيّ صلى الله عليه وآله ان نستشرف العين والاذنين وألّا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء. قال زهير: فقلت لأبي إسحاق أذكر عضباء فقال: لا، قلت: فما المقابلة. قال: قطع طرف الاذن. قلت: فالمدابرة قال: قطع من مؤخر الاذن. قلت: فالشرقاء قال: شق الاذن. قلت: فالخرقاء قال: خرق اذنها للسمة(4).

وعن عبدالرحمن بن محمّد بن حبيب الجرمي صاحب الانماط عن أبيه عن

ص: 40


1- العقد الفريد: 8/140.
2- العقد الفريد: 4/233.
3- المنتخب من كنايات الأدباء: 100.
4- سنن أبي داود: 1/641، ح 2804.

جدّه أنّه شهد خالدا ضحى بالجعد بن درهم(1).

قلت: مراده بخالد بن عبداللَّه القسري وبالجعد الذي ينسب مروان ابن محمّد بن مروان آخر خلفاء بني امية إليه، فكان معروفا بمروان الجعدي كما كان معروفا بمروان الحمار، كان جعد زنديقا قالوا زعم أنّ اللَّه لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى، وكان مروان على مذهبه فكانت أهل الموصل يقولون لمروان: يا جعدي يا معطل، قتل جعدا خالد القسري بالعراق يوم النحر وجعله عوض أضحية(2).

وَتَمَّتْ وَلَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ

اشارة

عن علي عليه السلام أنه قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن يضحى بالأعضب والأعضب المكسور القرن كله داخله وخارجه وإن انكسر الخارج وحده فهو أقصم(3).

وعن علي عليه السلام أنه نهى عن الأضحية المكسورة القرن والعرجاء البين عرجها والمهزولة البين هزالها والمقطوعة الأذن أو المصطلمة(4).

وأسباب الوجوب أربعة: 1 - حج التمتع قال تعالى: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ ِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا»(5).

2 - إذا حلق المحرم رأسه لضرورة فعليه كفارة مخيرا بين صيام ثلاثة أيام، أو

ص: 41


1- ميزان الاعتدال: 2/585، ش 4950.
2- السنن الكبرى للبيهقى: 10/205: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 57/328: ميزان الاعتدال: 1/399، ش 1482 (الجعد بن درهم).
3- دعائم الإسلام: 1/326؛ بحار الأنوار: 96/281، ح 19.
4- دعائم الإسلام: 2/184، ح 668: مستدرك الوسائل: 10/97، ح 11565.
5- البقرة: 196.

إطعام ستة مساكين، أو التضحية، قال تعالى: «فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ»(1) والمراد بالنسك هنا الأضحية.

3 - اذا اصطاد فعليه مثل ما قتل من النعم، قال تعالى: «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ»(2).

4 - هدي الحصر قال سبحانه: «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ»(3). والمراد بالإحصار هنا الحبس أي إذا أحرمتم للحج أو العمرة، ثم منعكم مانع من إكمال العبادة على وجهها الشرعي من مرض أو عدو وما اليه فعليكم أن تذبحوا ما تيسر.

ولا يشترط في الأضحية المستحبة ما يشترط في الواجبة، وأيام الأضحية المستحبة أربعة لمن كان في منى: يوم العيد، والأيام الثلاثة التي تليه، وتسمى بأيام التشريق، ولمن كان في غير منى يوم العيد، والحادي عشر والثاني عشر، وأفضل ساعات الأضحية من يوم الأضحى بعد طلوع الشمس.

وتمام الكلام عن الأضحية في كتب الفقه، والظاهر ان كلام الإمام عليه السلام هنا يختص بالأضحية المستحبة.

تكملة

روى الصدوق هذه الخطبة مرسلة قال: وخطب أميرالمؤمنين عليه السلام في عيد الأضحى فقال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلّا اللَّه واللَّه أكبر اللَّه أكبر وللَّه الحمد اللَّه أكبر

ص: 42


1- البقرة: 196.
2- المائدة: 95.
3- البقرة: 196.

على ما هدانا وله الشكر فيما أولانا(1) والحمد للَّه على ما رزقنا من بهيمة الأنعام(2) وكان علي عليه السلام يبدأ بالتكبير إذا صلى الظهر من يوم النحر وكان يقطع التكبير آخر أيام التشريق عند الغداة(3) وكان يكبر في دبر كل صلاة فيقول اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلّا اللَّه واللَّه أكبر اللَّه أكبر وللَّه الحمد فإذا انتهى إلى المصلى تقدم فصلى بالناس بغير أذان ولا إقامة فإذا فرغ من الصلاة صعد المنبر ثم بدأ فقال اللَّه أكبر اللَّه أكبر اللَّه أكبر زنة عرشه ورضا نفسه وعدد قطر سمائه (سماواته خ ل) وبحاره له الأسماء الحسنى والحمد للَّه حتى يرضى وهو العزيز الغفور اللَّه أكبر كبيرا متكبرا وإلها متعززا ورحيما متحننا(4) يعفو بعد القدرة ولا يقنط من رحمته إلّا الضالون اللَّه أكبر كبير ولا إله إلّا اللَّه كثيرا وسبحان اللَّه حنانا قديرا والحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونشهد أن لا إله إلّا هو وأن محمدا عبده ورسوله من يطع اللَّه ورسوله فقد اهتدى وفاز فوزاً عظيما ومن يعص اللَّه ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا أوصيكم عباداللَّه بتقوى اللَّه وكثره ذكر الموت والزهد في الدنيا التي لم يتمتع بها من كان فيها قبلكم ولن تبقى لأحد من بعدكم وسبيلكم فيها سبيل الماضين ألا ترون أنها قد تصرمت وآذنت بانقضاء وتنكر معروفها وأدبرت حذاء فهي(5) تخبر (تحفز خ ل) بالفناء وساكنها يحدى

ص: 43


1- فى بعض النسخ «على ما أبلانا» وفى الصحاح بلاه اللَّه بلاء وأبلاه ابلاء حسنا وابتلاه أي اختبره.
2- من لا يحضره الفقيه : 1/517/ح 1483 .
3- كان عليه السلام يكبر عقيب خمس عشرة صلوات ان كان بمنى أولها عقيب الظهر يوم العيد وآخرها الصبح فى اليوم الثالث من أيام التشريق، وفي غير منى يكبر عقيب عشر صلوات يكون آخرها صبح ثانى أيام التشريق. (م ت).
4- أي ذو الرحمة أو وصف ذاته بها. (م ت).
5- الصرام: القطع وتصرمت الدنيا أي خربت، وآذنت أي أعلمت عن حالها بانقضاء وتنكر أي صار منكرا وهو ضد المعروف الذي يعرفه الناس ويحسنونه، أو تغير معروفها وما يأنس به كل أحد. وأدبرت حذاء بالحاء المهملة والذال المعجمة. أى أدبرت سريعة. وفى بعض النسخ بالجيم وهو تصحيف، وفى نهج البلاغة «فهى تحفز بالفناء سكانها، وتحدو بالموت جيرانها» والحفز بالرمح: الطعن به.

بالموت(1) فقد أمر منها ما كان حلوا وكدر منها ما كان صفوا فلم يبق منها إلا سملة كسملة الإداوة(2) وجرعة كجرعة الإناء(3) يتمززها الصديان لم تنفع غلته فأزمعوا عباداللَّه بالرحيل من هذه الدار(4) المقدور على أهلها الزوال الممنوع أهلها من الحياة المذللة أنفسهم بالموت فلا حي يطمع في البقاء ولا نفس إلّا مذعنة بالمنون فلا يغلبنكم الأمل ولا يطل عليكم الأمد ولا تغتروا فيها بالآمال وتعبدوا اللَّه أيام الحياة فواللَّه لو حننتم حنين الواله العجلان(5) ودعوتم بمثل دعاء الأنام وجأرتم جوّار متبتل الرهبان(6) وخرجتم إلى اللَّه من الأموال والأولاد التماس القربة إليه

ص: 44


1- يحدى» على صيغة المجهول، ولعل الباء بمعنى «الى» أو لفظة «الى» مقدرة فى نظم الكلام (مراد) وفى الصحاح الحدو - كفلس - : سوق الإبل والغناء لها، وقد حدوت الإبل حدوا وحداء. بضم الأخير.
2- السملة . محركة - : القليل من الماء يبقى فى الاناه . والادواة - بكسر الهمزة - : المطهرة واناء صغير من جلد يتطهر به ويشرب .
3- فى النهج «كجرعة المقلة» - بفتح الميم - وهي حصاة القسم توضع فى الاناء إذا عدموا الماء في السفر ثم يصب الماء عليه حتى يغمر الحصاة فيعطى كل أحد سهمه.
4- التمزز: تمصمص الماء قليلا قليلا، والمزة: المصة، والصدى: العطش، وقد صدى يصدى صدى فهو صد، وصاد، وصديان، ونقع الماء العطش نقعا ونقوعا أي سكته - بشد الكاف - والغلة والغل شدة العطش وحرارته. وأزمعوا أي أجمعوا، وفي بعض النسخ «فاجمعوا».
5- كذا في جميع النسخ ولعل الصواب «الوله العجال» بضم الواو وكسر العين - كما فى النهج. والعجال: كل انثى فقدت ولدها فهي واله ووالهة والعجول من الإبل التي فقدت ولدها.
6- جأر - كمنع - جأرا وجؤارا - كصراخ - : تضرع واستغاث رافعا صوته بالدعاء . والمتبتل : المنقطع للعبادة أو عن النساء أو عن الدنيا ، أي لو تضرعتم إلى اللَّه كهؤلاء بأرفع أصواتكم كما يفعل الراهب المتبتل لكان كذا وكذا .

في ارتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصتها كتبته وحفظتها رسله(1) لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه وأتخوف عليكم من أليم عقابه وباللَّه لو انماثت(2) قلوبكم انمياثا وسالت عيونكم من رغبة إليه ورهبة منه دما ثم عمرتم فى الدنيا ما كان الدنيا باقية ما جزت أعمالكم ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم لنعمه العظام عليكم وهداه إياكم إلى الإيمان ما كنتم لتستحقوا أبد الدهر ما الدهر قائم بأعمالكم جنته ولا رحمته(3) ولكن برحمته ترحمون وبهداه تهتدون وبهما إلى جنته تصبرون جعلنا اللَّه وإياكم من التائبين العابدين وإن هذا يوم حرمته عظيمة وبركته مأمولة والمغفرة فيه مرجوة فأكثروا ذكر اللَّه تعالى واستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم ومن ضحى منكم بجذع من المعز(4) فإنه لا يجزي عنه والجذع من الضأن

ص: 45


1- المراد بالرسل هنا الملائكة الموكلون باعمال العباد.
2- انماث الملح فى الماء انمياثا أي ذاب.
3- ما جزت أعمالكم» بالرفع على الفاعلية أي التي ذكرت من أعمالكم لا تجزى لما عليكم من النعم العظام حذف المجزى بقرينة ذكره عن قريب. وقوله «لنعمه العظام - الخ» أي لجزاء تلك النعم، وقوله عليه السلام «ما كنتم لتستحقوا» جزاء «لو لم تبقوا» فليست «لو» هذه وصلية. وقوله «بأعمالكم» متعلق بقوله «لتستحقوا» و«ما» فى قوله «ما الدهر قائم» مثلها فى ما دام. (مراد).
4- الجذع قبل الثنى والجمع جذعان وجذاع والأنثى جذعة والجمع جذعات، تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقر والحافر فى السنة الثالثة، وللابل فى السنة الخامسة أجذع وقد قيل فى ولد النعجة انه يجذع فى ستة أشهر أو تسعة أشهر وذلك جائز في الاضحية (كذا فى الصحاح) واما الذى ذهب اليه الفقهاء فالمشهور أن المعز يجزى إذا دخل فى الثالثة والضأن إذا دخل فى الثانية، يعنى تم له سنة كاملة.

يجزي ومن تمام الأضحيه استشراف عينها وأذنها وإذا سلمت العين والأذن تمت الأضحية وإن كانت عضباء القرن أو تجر برجليها إلى المنسك فلا تجزي وإذا ضحيتم فكلوا وأطعموا وأهدوا واحمدوا اللَّه على ما رزقكم من بهيمة الأنعام وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأحسنوا العبادة وأقيموا الشهاده وارغبوا فيما كتب عليكم وفرض من الجهاد والحج والصيام فإن ثواب ذلك عظيم لا ينفد وتركه وبال لا يبيد(1) وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وأخيفوا الظالم وانصروا المظلوم وخذوا على يد المريب وأحسنوا إلى النساء وما ملكت أيمانكم واصدقوا الحديث وأدوا الأمانة وكونوا قوامين بالحق ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم باللَّه الغرور...(2).

ص: 46


1- قال الجوهرى : نفد الشي ء - بكسر الفاء - : نفادا : فنى ، وباد الشي ء يبيد بيدا وبيودا : هلك .
2- من لا يحضره الفقيه: 1/518، ح 1484.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (53) - ومن كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة

فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الإِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا وَقَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ وَقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلّا قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌصلى الله عليه وآله فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الْآخِرَةِ

ومن كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة

الأصل فيه رواية أبي مخنف عن زيد بن صوحان، قال: شهدت عليّاعليه السلام بذي قار(1) وهو معتمّ بعمامة سوداء، فقال في خطبة: الحمد للَّه على كلّ أمر وحال في الغدوّ والآصال - إلى أن قال - ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني، فقلت: لا حاجة لي في ذلك، ودخلت منزلي فاستخرجتموني، فقبضت يدي فبسطتموها، وتداككتم(2) عليّ حتّى ظننت أنكم قاتلي، وأنّ بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل إلخ(3).

ص: 47


1- ذوقار: موضع قريب من البصرة: وهو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب والفرس.
2- تداككتم تزاحمتم.
3- الإرشاد: 1/244 - 245؛ الإحتجاج: 1/161؛ العقد الفريد: 4/162 و5/67؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/309.

وَقَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا...

وَقَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ وَقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلّا قِتَالُهُمْ أَوِ

ذكر أبو مخنف في كتاب (الجمل): أنّ الأنصار والمهاجرين أجتمعوا في مسجد النبي صلى الله عليه وآله لينظروا من يولّونه أمرهم حتّى غص المسجد بأهله، فاتفق رأي عمار وأبي الهيثم بن التهيان ورفاعة بن رافع ومالك بن عجلان وأبي أيوب على إقعاد أميرالمؤمنين عليه السلام في الخلافة، وكان أشدهم تهالكا عليه عمّار فقال لهم: «أيّها الأنصار قد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه، وأنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم، وإنّ عليّاعليه السلام أولى الناس بهذا الأمر لفضله وسابقته» فقالوا حينئذ بأجمعهم لبقيّة الناس من الأنصار والمهاجرين: «إنّا لن نألوكم خيرا وأنفسنا إن شاء اللَّه، وإنّ عليّاعليه السلام من قد علمتم، وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه، ولا أولى به».

فقال الناس بأجمعهم: قد رضينا وهو عندنا على ما ذكرتم وأفضل وقاموا كلّهم فأتوا عليّاعليه السلام فاستخرجوه من داره وسألوه بسط يده فقبضها، فتداكوا عليه تداك الإبل الهيم على وردها حتى كاد بعضهم يقتل بعضا، فلمّا رأى منهم ما رأى سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس، وقال عليه السلام: إن كرهني رجل واحد لم أدخل في هذا الأمر.

فنهض الناس معه حتّى دخل المسجد، فكان أوّل من بايعه طلحة، فقال قبيضة بن ذؤيب الأسدي: تخوفت ألّا يتم له أمره لأنّ أوّل يد بايعته شلاء، ثم بايعه الزبير

ص: 48

وبايعه المسلمون بالمدينة، إلّا محمد بن مسلمة وعبداللَّه بن عمر واسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وعبداللَّه بن سلام، فأمر بإحضار عبداللَّه بن عمر فقال له: بايع. قال: لا ابايع حتّى يبايع جميع الناس. فقال له علي عليه السلام: فأعطني حميلا أن لا تبرح. قال: لا اعطيك.

فقال الأشتر له عليه السلام: إنّ هذا قد أمن سوطك وسيفك، فدعني أضرب عنقه.

فقال عليه السلام: لست أريد ذلك منه على كره، خلوا سبيله، لقد كان صغيرا وهو سيي ء الخلق، وهو في كبره أسوأ خلقا. ثم اتي بسعد بن أبي وقاص، فقال له عليه السلام: بايع، فقال له: خلّني فاذا لم يبق غيري بايعتك، فواللَّه لا يأتيك من قبلي أمر تكرهه أبدا. فقال عليه السلام: صدق، خلوا سبيله. ثم بعث إلى محمّد بن مسلمة، فلمّا أتاه قال له: بايع. قال: إنّ النبيّ أمرني اذا اختلف الناس وصاروا هكذا - وشبّك بين أصابعه - أن أخرج بسيفي فأضرب عرض أحد، فإذا تقطع أتيت منزلي فكنت فيه، لا أبرحه حتّى تأتيني يد خاطفة أو منيّة قاضية. فقال عليه السلام له: فانطلق اذن فكن كما امرت به. ثم بعث إلى اسامة بن زيد، فلمّا جاء قال له: بايع.

فقال له: إني مولاك ولا خلاف منّي عليك، وستأتيك بيعتي إذا سكن الناس.

فأمره بالانصراف، ولم يبعث إلى أحد غيرهم.

وقيل له: ألا تبعث إلى حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبداللَّه بن سلام فقال عليه السلام: لا حاجة لنا في من لا حاجة له فينا(1).

ثم قال ابن أبي الحديد: فأمّا أصحابنا - أي المعتزلة - فإنّهم يذكرون في كتبهم أنّ هؤلاء الرهط إنّما اعتذروا بما اعتذروا به لمّا ندبهم إلى الشخوص معه في

ص: 49


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/8.

حرب الجمل، وإنّهم لم يتخلفوا عن البيعة، وإنّما تخلّفوا عن الحرب(1).

ثم نقل ابن أبي الحديد خبرا شاهدا لقولهم(2).

وروى ذلك (جمل المفيد) عن (جمل أبي مخنف) وعن غيره. وفي آخر خبره: أنّه عليه السلام قال لسعد وابن عمر وأسامة: ألستم على بيعتي قالوا: بلى. قال: انصرفوا فسيغني اللَّه عنكم(3).

وروى أبو مخنف عن ابن عباس، قال: لمّا دخل عليّ المسجد وجاء الناس ليبايعوه، خفت أن يتكلّم بعض أهل الشنآن لعلي عليه السلام ممّن قتل أباه أو أخاه، أو ذا قرابته في حياة النبي صلى الله عليه وآله، فيزهد علي عليه السلام في الأمر ويتركه. فكنت أرصد ذلك وأتخوفه، فلم يتكلّم أحد حتّى بايعه الناس كلهم راضين مسلّمين غير مكرهين(4).

فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الإِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا

الاصل فيه قوله تعالى: «فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ»(5).

وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الْآخِرَةِ

قال نصر: خرج رجل من أهل الشام ينادي بين الصفين: يا أبا الحسن يا علي ابرز إلي قال: فخرج إليه علي عليه السلام حتى إذا اختلف أعناق دابتيهما بين الصفين فقال: يا علي إن لك قدما في الاسلام وهجرة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه

ص: 50


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/9.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/10.
3- الجمل للمفيد: 95 - 96.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/10.
5- سورة الواقعة: 55.

حقن هذه الدماء وتأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك؟ فقال له علي عليه السلام: وما ذاك؟ قال: ترجع إلى عراقك فنخلي بينك وبين العراق ونرجع إلى شامنا فتخلي بيننا وبين شامنا فقال له علي عليه السلام: «لقد عرفت إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينيه فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل اللَّه على محمدصلى الله عليه وآله إن اللَّه تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم، فرجع الشامي وهو يسترجع(1).

ص: 51


1- وقعة صفّين: 475؛ بحار الأنوار: 32/526، ش 442.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (54) - ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين

اشارة

أَمَّا قَوْلُكُمْ أَ كُلَّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيَّ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ شَكّاً فِي أَهْلِ الشَّامِ فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلّا وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وَتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا

ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين

لما ملك أميرالمؤمنين عليه السلام الماء بصفين، ثم سمح لأهل الشام بالمشاركة فيه، استمالة لهم واظهارا للمعدلة وحسن السيرة فيهم، مكث أيّاما لا يرسل إلى معاوية ولا يأتيه من عنده أحد، فاستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال وقالوا له عليه السلام: خلّفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة وجئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا ائذن لنا في القتال - فإنّ الناس قد قالوا - فقال عليه السلام: ما قالوا فقيل: إنّ الناس يظنّون أنّك تكره الحرب كراهية للموت، وإنّ من الناس من يظن أنّك في شكّ من قتال أهل الشام. فقال عليه السلام: ومتى كنت كارها للحرب قط إنّ من العجب حبي لها غلاما ويافعا، وكراهتي لها شيخا بعد نفاد العمر وقرب الموت، وأمّا شكي في القوم فلو شككت فيهم، لشككت

ص: 52

في أهل البصرة، واللَّه لقد ضربت هذا الأمر ظهرا وبطنا، فما وجدت يسعني إلّا القتال، أو أن أعصي اللَّه ورسوله، ولكنّي استأني بالقوم عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة فإنّ النبي صلى الله عليه وآله قال لي يوم خيبر لئن يهدي اللَّه بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس(1). ثم نقل ابن أبي الحديد رواية نصر بن مزاحم في (صفينه): بعثه عليه السلام جمعا إلى معاوية ومشى القراء بينهما - إلى أن قال - فقال القراء له عليه السلام: إنّ معاوية يقول لك: إن كنت صادقا في عدم قتلك عثمان وعدم أمرك بقتله، فأقدنا من قتلته، فإنّهم في عسكرك وجندك وعضدك. فقال عليه السلام لهم: إنّ القوم تأولوا عليه القرآن ووقعت الفرقة، فقتلوه في سلطانه، وليس على ضربهم قود(2). ثم قال ابن أبي الحديد: ولا أدري لم عدل عليه السلام عن الحجّة بما هو أوضح من هذا الكلام وهو أن يقول: إنّ الذين باشروا قتل عثمان بأيديهم كانا اثنين، وهما قتر بن وهب وسودان بن حمران، وكلاهما قتل يوم الدار، قتلهما عبيد عثمان، والباقون الذين جندي وعضدي - كما تزعمون - لم يقتلوا بأيديهم وإنّما اغروا به وحصروه، وأجلبوا عليه وهمجوا على داره، كمحمّد بن أبي بكر والأشتر وعمرو بن الحمق وغيرهم، وليس على هؤلاء قود. وقوله عليه السلام: وليس على ضربهم قود: أي: على مثلهم(3).

قال التستري رحمه الله: هل هو أعلم بالقضية وبقضائها منه عليه السلام وكيف أنكر تصدّي اولئك وقد طعنه عمرو بن الحمق تسع طعنات وكون عمّار من قتلته مسلم، فقال

ص: 53


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/13؛ بحار الأنوار: 32/447، ش 394.
2- وقعة صفّين: 187 - 189: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/14/؛ بحار الأنوار: 32/448.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/16.

معاوية لجمع أرسلهم عليه السلام إليه: ألستم تعلمون أنّ قتلة صاحبنا أصحاب صاحبكم فليدفعهم إلينا فنقتلهم به، ثم نجيبكم إلى الطاعة. فقال له شبث: أيسرك باللَّه إن امكنت من عمّار فقتلته فقال: واللَّه لو أمكنني صاحبكم من ابن سميّة ما قتلته بعثمان، ولكنّي أقتله بنائل مولاه. فقال له شبث: وإله السماء ما عدلت معدلا(1).

كما أنّ كون محمّد بن أبي بكر من قتلته أيضاً مسلّم، ففي (الطبري): كتب معاوية إليه: سعيت عليه في الساعين وسفكت دمه في السافكين - إلى أن قال - وعدوك على عثمان يوم تطعن بمشاقصك بين أحشائه وأوداجه(2). وما ينفعه تأويله لفظ «ضربهم» وكون عثمان عنده عليه السلام مباح الدم أمر واضح، فلما جاء شرحبيل ومعن من قبل معاوية إليه عليه السلام قالا له عليه السلام: أتشهد أنّ عثمان قتل مظلوما؟ فقال لهما: إنّي لا أقول ذلك. قالا: فمن لم يشهد أنّ عثمان قتل مظلوما فنحن منه براء. ثمّ قاما فانصرفا، فقال علي عليه السلام «فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ»(3).(4)

أَمَّا قَوْلُكُمْ أَ كُلَّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيَ

فإنّه عليه السلام كان يقول - لما كانوا يقولون: سكت عن طلب الملك جزعا من الموت - : واللَّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امه(5).

ص: 54


1- بهج الصباغة: 10/267.
2- تاريخ الطبري: 4/76.
3- سورة الروم: 52.
4- وقعة صفّين: 201 - 202: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/24.
5- نهج البلاغة: خطبة 5.

وقال عليه السلام: والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش في غير طاعة اللَّه(1).

وقال عليه السلام: لقد كنت وما أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب وإني لَعَلى يقين من ربي وغير شبهة من ديني(2).

وروى عن زيد بن وهب قال مر علي عليه السلام يومئذ ومعه بنوه نحو الميسرة، وإنّي لأرى النبل يمرّ بين عاتقه ومنكبيه، ثم إنّ أهل الشام دنوا منه، واللَّه ما يزيده قربهم منه ودنوهم إليه سرعة في مشيه، فقال له الحسن عليه السلام: ما ضرّك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين صبروا لعدوّك من أصحابك فقال: يا بني ان لأبيك يوما لن يعدوه، ولا يبطي به عنه السعي، ولا يعجل به إليه المشي - إنّ أباك واللَّه ما يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه(3).

وعن عبدالرحمن بن حاطب: كان علي عليه السلام اذا أراد القتال هلّل وكبّر، ثمّ قال:

من أي يوميّ من الموت أفر

أيوم ما قدر أم يوم قدر(4)

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ شَكّاً فِي أَهْلِ الشَّامِ فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلّا وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي

ممّن لحق به عليه السلام ابن عمّ لعمرو بن العاص، قال نصر: أنّ ابن عمّ لعمرو قال له: إنّك ان لم ترد معاوية، لم يردك، ولكنك تريد دنياه ويريد دينك. فبلغ معاوية قوله،

ص: 55


1- نهج البلاغة (فيض الإسلام): خطبة 122.
2- نهج البلاغة (فيض الإسلام): خطبة 22.
3- وقعة صفّين: 249؛ بحار الأنوار: 32/469، ش 407.
4- وقعة صفّين: 359؛ بحار الأنوار: 32/508، ش 345.

فطلبه فلحق بعلي عليه السلام، فحدّثه بأمر عمرو ومعاوية، فسرّ ذلك عليّاعليه السلام وقرّبه(1).

ولحق به عليه السلام ابن اخت لشرحبيل بن السمط، قال نصر: لمّا كتب جرير إلى شرحبيل ينصحه، ذعر وفكر فلفف له معاوية الرجال يعظّمون عنده قتل عثمان، ويرمون به علياعليه السلام، ويقيمون الشهاده الباطلة، والكتب المختلقة، حتى أعادوا رأيه. فقال ابن اخت له من بارق - وكان لحق أهل الشام - :

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى * شرحبيل بالسهم الذي هو قاتله

فقال شرحبيل: واللَّه لأسيرن إلى صاحب هذا الشعر، أو ليفوتني. فهرب الفتى إلى الكوفة وكان أصله منها. وكاد أهل الشام أن يرتابوا...(2).

ولحق به عليه السلام صديق لعمرو بن العاص، ذكروا أنّه لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة، وقال معاوية: هذا أول الظفر. فقام إليه رجل يقال له ابن الأقبل - وكان ناسكا - وكان له في ما يذكر همدان لسان، وكان صديقا لعمرو - فقال له: أما تعلم ان فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف، ومن لا ذنب له هذا واللَّه أوّل الجور، لقد شجّعت الجبان، وبصّرت المرتاب، وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك. فأغلظ له، فقال الرجل أبياتا: ولحق في سواد الليل بعلي عليه السلام(3).

ولحق به عليه السلام شامي سمع قول النبي صلى الله عليه وآله في معاوية، لمّا رأى بيعة أهل الشام معه، عن أبي حرب بن الأسود عن رجل من أهل الشام عن أبيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: «شرّ خلق للَّه خمسة: إبليس، وابن آدم الذي قتل أخاه، وفرعون ذو الأوتاد، ورجل من بني إسرائيل ردّهم عن دينهم، ورجل من هذه الامّة يبايع على كفره

ص: 56


1- وقعة صفّين: 43؛ بحار الأنوار: 32/375، ش 345.
2- وقعة صفّين: 49 - 50.
3- وقعة صفّين: 163؛ بحار الأنوار: 32/440.

عند باب لد(1). قال الرجل: فلمّا رأيت معاوية يبايع عند باب لد ذكرت قول النبي صلى الله عليه وآله، فلحقت بعلي عليه السلام فكنت معه(2).

ولحق به شمر بن أبرهة الحميري، وجمع من القرّاء، عن الزهري قال: خرج في اليوم الخامس من صفر شمر بن ابرهة الحميري في ناس من قرّاء أهل الشام، فلحق بعلي عليه السلام، ففت ذلك في عضد معاوية وعمرو بن العاص، فقال عمرو لمعاوية: إنّك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا له من محمد قرابة قريبة، ورحم ماسة، وقدم في الإسلام لا يعتد أحد بمثله، ونجدة في الحرب(3) لم تكن لأحد من أصحاب محمّدصلى الله عليه وآله، وإنّه قد سار إليك بأصحاب محمّد المعدودين، وفرسانهم وقرّائهم، وأشرافهم وقدمائهم في الاسلام، ولهم في النفوس مهابة، فبادر بأهل الشام محاش الوعر، ومضائق الغيض، وآتهم من باب الطمع قبل أن ترفههم، فيحدث عندهم طول المقام مللا، فيظهر فيهم كآبة الخذلان، ومهما نسيت فلا تنس أنّك على باطل وأنّه على الحق(4).

ولحق به عليه السلام عبداللَّه بن عمر العنسي لسماع ذي الكلاع حديث: (قتل الفئة الباغية لعمّار) في أيام عمر من عمرو بن العاص، روى عن الإفريقي بن أنعم قال: قال أبو نوح الحميري: كنت في خيل علي عليه السلام، إذا أنا برجل من أهل الشام يقول: من دل على الحميري قلت: أيّهم تريد قال: أبو نوح. قلت: قد وجدته، فمن أنت قال: أنا ذوالكلاع، سر إليّ. فقلت: معاذ اللَّه أن أسير إليك إلّا في كتيبة. قال: سر فلك

ص: 57


1- لد، بالضم والتشديد: قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين.
2- وقعة صفّين: 217: خصال: 1/319، ح 104؛ بحار الأنوار: 23/167، ح 104.
3- النجدة: الشجاعة وشدة البأس.
4- وقعة صفّين: 222؛ بحار الأنوار: 32/463.

ذمّة اللَّه وذمّة رسوله وذمّة ذي الكلاع، حتى ترجع إلى خيلك، فإنّما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه. فسارا حتى التقيا، فقال له ذوالكلاع: إنّما دعوتك أحدّثك حديثا حدّثنا به عمرو بن العاص أيام إمارة عمر: أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال: «يلتقي أهل الشام وأهل العراق، وفي احدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمّار بن ياسر». فقال له: إنّ عمّارا واللَّه لفينا. قال: أجادّ هو في قتالنا قال: نعم وربّ الكعبة، هو أشد على قتالكم منّي، ولوددت أنّكم خلق واحد فذبحته، وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي. قال: ويلك علام تتمنى ذلك منّي واللَّه ما قطعتك في ما بيني وبينك، وإنّ رحمك لقريبة، وما يسّرني أنّي أقتلك. قال أبو نوح: إنّ اللَّه قد قطع بالإسلام أرحاما قريبة، ووصل به أرحاما متباعدة، وأنّى يكون بيننا وصل ونحن على الحق، وأنتم على الباطل مقيمون مع أئمة الكفر ورؤوس الأحزاب فقال ذو الكلاع هل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام، فأنا جار لك منهم، حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بجدّ عمّار في قتالنا - إلى أن قال - ثم سار أبو نوح حتى أتى عمرا، وهو عند معاوية، فقال ذوالكلاع لعمرو: هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمّار لا يكذبك قال عمرو: ومن هو؟ قال: ابن عمي هذا، وهو من أهل الكوفة. فقال عمرو لأبي نوح: إنّي لأرى عليك سيماء، أبي تراب. قال أبو نوح: علي عليه السلام على سيماء محمّدصلى الله عليه وآله وأصحابه، وعليك سيماء أبي جهل وسيماء فرعون - إلى أن قال بين ذكر جمعه بين عمّار وعمرو - فقال عمّار لعمرو: ألست تعلم - أيها الأبتر - أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال لعليّ عليه السلام: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه - إلى أن قال - فقال عمرو: فما ترى في قتل عثمان قال عمّار: فتح لكم باب كلّ سوء.

ص: 58

قال عمرو: فعليّ قتله؟ قال عمّار: بل اللَّه ربّ علي قتله، وعلي معه. قال عمرو: أكنت في من قتله؟ قال: كنت مع من قتله وأنا اليوم أقاتل معهم. قال عمرو: فلم قتلتموه؟ قال عمّار: أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه(1) - إلى أن قال - ومشى عبداللَّه بن سويد سيد جرش إلى ذي الكلاع فقال له: لم جمعت بين الرجلين قال: لحديث سمعته من عمرو، ذكر أنّه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله، وهو يقول لعمّار: «تقتلك الفئة الباغية» فخرج عبداللَّه بن عمر العنسي - وكان من عبّاد أهل زمانه - ليلا فأصبح في عسكر علي عليه السلام وقال لذي الكلاع:

والراقصات بركب عامدين له * إنّ الذي جاء من عمرو لمأثور

قد كنت اسمع - والأنباء شائعة * هذا الحديث فقلت الكذب والزور

حتى تلقيته من أهل عيبته * فاليوم أرجع والمغرور مغرور

واليوم أبرأ من عمرو وشيعته * ومن معاوية المحدو به العير

لا، لا أقاتل عمّار على طمع * بعد الرواية حتى ينفخ الصور

تركت عمرا وأشياعا له نكدا* إنّي بتركهم يا صاح معذور

يا ذا الكلاع فدع له معشرا كفروا * أو لا فدينك عين فيه تغرير

ما في مقال رسول اللَّه في رجل * شكّ ولا في مقال الرسل تحيير

فلمّا سمع معاوية بهذا الشعر بعث إلى عمرو: أن أفسدت عليّ أهل الشام، أكلّ ما سمعته من النبي صلى الله عليه وآله تقوله؟ فقال عمرو: قلتها ولست أعلم الغيب، ولا أدري أنّ صفين تكون، وقد رويت أنت في عمّار مثل الذي رويت(2).

ص: 59


1- وقعة صفّين: 333؛ بحار الأنوار: 33/27.
2- وقعة صفّين: 343؛ بحار الأنوار: 33/33.

كما أنّ جمعا من أصحابه عليه السلام الذين كانوا حريصين على الدنيا لحقوا بمعاوية لغلبة الشقاوة عليهم، منهم بشر بن عصمة المزني، وقيس بن قرّة التميمي(1)؛ وذو نواس بن هذيم العبدي، وقيس بن زيد الكندي(2).

وَتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي

إنما قال عليه السلام ذلك، لأنّ معاوية لبس الأمر على أهل الشام، قال نصر: مضى هاشم المرقال في عصابة من القرّاء، إذ خرج عليهم فتى شاب يقول:

انا ابن أرباب الملوك غسان * والدائن اليوم بدين عثمان

أنبانا أقوامنا بما كان * ان عليّا قتل ابن عفان

ثمّ شدّ، فلا ينثني يضرب بسيفه، ثمّ يلعن ويشتم ويكثر الكلام، فقال له المرقال: انّ هذا الكلام بعده الخصام، وإنّ هذا القتال بعده الحساب، فاتّق اللَّه فانّك راجع إلى ربّك فسائلك عن هذا الموقف. قال: فإنّي اقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلّي كما ذكر لي، وأنّكم لا تصلّون، واقاتلكم لأنّ صاحبكم قتل خليفتنا، وأنتم وازرتموه على قتله. فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان إنّما قتله أصحاب محمدصلى الله عليه وآله، وقرّاء الناس حين أحدث أحداثا وخالف حكم الكتاب، وإنّ أصحاب محمّدصلى الله عليه وآله هم أصحاب الدين وأولى بالنظر في أمور المسلمين.

وأمّا قولك: إنّ صاحبنا لا يصلّي، فهو أوّل الناس من صلّى للَّه مع النبي صلى الله عليه وآله، وأفقه الناس في دين اللَّه، وأولاهم برسوله، وأمّا من ترى معه فكلّهم قارئ لكتاب اللَّه لا ينامون الليل تهجّدا، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون.

ص: 60


1- تاريخ الطبري: 4/20 و21.
2- وقعة صفّين: 270 285.

فقال الفتى لهاشم: إنّي لأظنّك امرأ صالحا، هل تجد لي من توبة قال: نعم، تب إلى اللَّه إنّه يتوب عليك، فانّه «يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ»(1) و«يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»(2) فذهب الفتى راجعا، فقال له رجل من أهل الشام: خدعك العراقي. قال: لا، ولكن نصحني(3).

وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا

اذ «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»(4) «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(5).

روى الطبري: مكث الناس في صفين حتى اذا دنا انسلاخ المحرم، أمر علي عليه السلام مرثد بن الحارث الجشمي، فنادى أهل الشام عند غروب الشمس: ألا انّ أميرالمؤمنين يقول لكم: انّي قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب اللَّه عزوجل فدعوتكم إليه، فلم تناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إلى حق. وإنّي قد نبذت إليكم «عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ»(6)؛(7).

وروى الطبري: أنّه ابتدئ بالقتال في أوّل يوم من صفر، وكان يوم الأربعاء فخرج الأشتر من أصحابه عليه السلام، وخرج في مقابله أبوالأعور، وخرج اليوم الثالث عمّار، وخرج في مقابله عمرو بن العاص، وخرج اليوم الرابع محمد بن الحنفية، وخرج في مقابله عبيد اللَّه بن عمرو، وخرج في اليوم الخامس ابن عباس، وخرج في مقابله الوليد بن عقبة، وخرج في اليوم السادس قيس بن سعد ابن عبادة،

ص: 61


1- سورة الشورى: 25.
2- سورة البقرة: 222.
3- وقعة صفّين: 354 و355؛ بحار الأنوار: 33/36.
4- سورة المدثر: 38.
5- سورة الزمر: 7.
6- سورة الأنفال: 58.
7- تاريخ الطبري: 4/6.

وخرج في مقابله ابن ذي الكلاع، وخرج في اليوم السابع أيضاً الأشتر وحبيب بن مسلمة(1). فخطب عليه السلام عشية الثلاثاء بعد العصر فقال: حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا وقال: الحمد للَّه الذي لا يبرم ما نقض، وما أبرم لا ينقضه الناقضون، ولو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمّة في شي ء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله. وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فلفّت بيننا في هذا المكان، نحن من ربّنا بمرأى ومسمع، فلو شاء عجّل النقمة وكان منه التغيير، ولكن جعل الدينا دار الأعمال، وجعل دار الآخرة عنده هي دار القرار، «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى»(2). ألا إنّكم ملاقوا القوم غدا فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا اللَّه الصبر والنصر، والقوهم بالجدّ والحزم، وكونوا صادقين(3). وعبّأعليه السلام الناس ليلته كلّها، وخرج إليهم غداة الأربعاء فاستقبلهم، وقال: اللّهم ربّ السقف المرفوع المحفوظ المكفوف، الذي جعلته مغيضا لليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت سكانه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة، وربّ هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما يرى وما لا يرى من خلقك العظيم، وربّ الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وربّ السحاب المسخّر بين السماء والأرض، وربّ البحر المسجور المحيط بالعالم، وربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا، وللخلق متاعا، إن أظهرتنا على عدوّنا فجنبنا البغي، وسدّدنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة، واعصم بقية أصحابي من الفتنة.

ص: 62


1- تاريخ الطبري: 4/7.
2- النجم: 31.
3- تاريخ الطبري: 4/9.

وازدلف الناس يوم الأربعاء، واقتتلوا أشدّ قتال حتى الليل، لا ينصرف أحد إلّا للصلاة وكثرت القتلى، فأصبحوا من الغد فصلّى عليه السلام بهم غداة الخميس، فغلس بالصلاة أشدّ التغليس، وأقبل - وعلى ميمنته ابن بديل، وعلى ميسرته ابن عباس، وهوعليه السلام في القلب - في أهل المدينة. بين أهل الكوفة وأهل البصرة، ورفع معاوية قبّة عظيمة قد ألقى عليها الكرابيس. وبايعه معظمهم على الموت، وأحاطت خيل دمشق بقبّته، فزحف ابن بديل في ميمنته عليه السلام، وقال: قد قاتلناهم مع النبي صلى الله عليه وآله مرّة، وهذه ثانية. واللَّه ما هم في هذه بأتقى ولا أزكى ولا أرشد. فلم يزل يكشف خيل حبيب بن مسلمة من الميسرة، حتى اضطرّهم إلى قبّة معاوية(1).

ص: 63


1- تاريخ الطبري: 4/9 - 10 - 11.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (55) - ومن كلام له عليه السلام:

اشارة

وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ وَجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ وَايْمُ اللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً

الخطبة (55)

روى في البحار ملخصا من كتاب الغارات، لإبراهيم بن محمد الثقفي: أن معاوية لما أصاب محمد بن أبي بكر بمصر، بعث عبداللَّه بن عامر الحضرمي إلى أهل البصرة ليدعوهم إلى نفسه، وإلى الطلب بدم عثمان، فلما أتاهم وقرأ عليهم كتاب معاوية اختلفوا، فبعضهم ردوا، وأكثرهم قبلوا وأطاعوا. وكان الأمير يومئذ بالبصرة، زياد بن عبيد، قد استخلفه عبداللَّه بن العباس، وذهب إلى علي عليه السلام يعزيه عن محمد بن أبي بكر، فلما رأى زياد إقبال الناس على ابن الحضرمي، استجار من الأزد ونزل فيهم، وكتب إلى ابن عباس وأخبره بما جرى؛ فرفع ابن عباس ذلك

ص: 64

إلى علي عليه السلام، وشاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك، واختلف أصحابه عليه السلام فيمن يبعثه إليهم حمية فقال عليه السلام(1):

تناهوا أيها الناس، وليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاوي، ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين اللَّه الذي لا يقبل من أحد غيره، وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين، وحجة اللَّه على الكافرين، واذكروا إذ كنتم قليلا مشركين متباغضين متفرقين فألف بينكم بالإسلام، فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم، فلا تتفرقوا بعد إذ اجتمعتم، ولا تباغضوا بعد إذ تحاببتم، وإذا رأيتم الناس وبينهم النائرة وقد تداعوا(2) إلى العشائر والقبائل فاقصدوا لهامهم ووجوههم بسيوفكم، حتى يفزعوا إلى اللَّه وكتابه وسنة نبيه، فأما تلك الحمية فإنها من خطوات الشياطين فانتهوا عنها لا أبا لكم(3).

ثم قال ابن أبي الحديد: وروى الواقدي أن علياعليه السلام استنفر بني تميم أيّاماً، لينهض منهم إلى البصرة من يكفيه أمر ابن الحضرمي، ويرد عادية بني تميم الذين أجاروه بها، فلم يجبه أحد فخطبهم وقال: ليس من العجب أن ينصرني الأزد ويخذلني مضر. وأعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بي، وخلاف تميم البصرة علي، وأن أستنجد بطائفة منهم ما يشخص إلي أحد منها فيدعوهم إلى الرشاد، فإن أجابت وإلّا فالمنابذة والحرب.

فكأني أخاطب صما بكما لا يفقهون حوارا، ولا يجيبون نداء، كل ذلك جنبا

ص: 65


1- بحار الأنوار: 36/36، ش 906 والغارات (ط - الحديثة): 2/373.
2- فى الاصل: فاذا انفصل الناس وكانت بينهم الثائرة فتداعوا.
3- الغارات: (ط - الحديثة): 2/395؛ بحار الأنوار: 34/26، ش 906.

عن البأس وحبا للحياة.

ولقد كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، نقتل آباءنا وأبناءنا إلى آخر ما في المتن.

قال: فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي، فقال: أنا إن شاء اللَّه أكفيك يا أميرالمؤمنين هذا الخطب، فأتكفل لك بقتل ابن الحضرمي، أو إخراجه عن البصرة. فأمره بالتهيؤ للشخوص، فشخص حتى قدم البصرة(1).

قال الثقفي في كتاب الغارات: فلما قدمها دخل على زياد وهو بالأزد مقيم، فرحب به وأجلسه إلى جانبه، فأخبره بما قال له علي عليه السلام، وإنه ليكلمه إذ جاءه كتاب من علي فيه:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبداللَّه أميرالمؤمنين علي؛ إلى زياد بن عبيد: سلام عليك، أما بعد، فإني قد بعثت أعين بن ضبيعة ليفرق قومه عن ابن الحضرمي، فارقب ما يكون منه، فإن فعل وبلغ من ذلك ما يظن به، وكان في ذلك تفريق تلك الأوباش، فهو ما نحب، وإن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان، فانهض بمن أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم، فإن ظفرت فهو ما ظننت، وإلا فطاولهم وماطلهم، فكأن كتائب المسلمين قد أظلت عليك، فقتل اللَّه الظالمين المفسدين، ونصر المؤمنين المحقين والسلام.

فلما قرأه زياد، أقراه أعين بن ضبيعة فقال له: إني لأرجو أن تكفي هذا الأمر إن شاء اللَّه.

ثم خرج من عنده فأتى رحله، فجمع إليه رجالا من قومه، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: يا قوم على ما ذا تقتلون أنفسكم وتهريقون دماءكم؛ على الباطل مع

ص: 66


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 46/4؛ بحار الأنوار: 34/37.

السفهاء والأشرار؟ وإني واللَّه ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود، فإن تنيبوا إلى الحق نقبل منكم، ونكف عنكم، وإن أبيتم فهو واللَّه استيصالكم وبواركم.

فقالوا: بل نسمع ونطيع فقال: انهضوا اليوم على بركة اللَّه، فنهض بهم على جماعة ابن الحضرمي، فخرجوا إليه فصافوه، وواقفهم عامة يومه يناشدهم اللَّه ويقول: يا قوم لا تنكثوا بيعتكم، ولا تخالفوا إمامكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فقد رأيتم وجريتم كيف صنع اللَّه بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم، فكفوا عنه، وهم في ذلك يشتمونه.

فانصرف عنهم وهو منهم منتصف فلما آوى إلى رحله، تبعه عشرة نفر يظن الناس أنهم خوارج، فضربوه بأسيافهم وهو على فراشه، لا يظن أن الذى كان يكون، فخرج يشتد عريانا فلحقوه في الطريق فقتلوه.

فكتب زياد إلى علي عليه السلام ما وقع. وكتب: إني أرى أن تبعث إليهم جارية بن قدامة، فإنه نافذ البصيرة، ومطاع العشيرة، شديد على عدو أميرالمؤمنين عليه السلام، فلما قرأعليه السلام الكتاب، دعا جارية فقال: يا ابن قدامة تمنع الأزد عن عاملي وبيت مالي وتشاقني مضر وتنابذني، وبنا ابتدأها اللَّه بالكرامة، وعرفها الهدى، وتدعو إلى المعشر الذين حادوا اللَّه ورسوله وأرادوا إطفاء نور اللَّه سبحانه حتى علت كلمته عليهم وأهلك الكافرين(1).

عن كعب بن قعين قال: خرجت مع جارية من الكوفة في خمسين رجلا من بني تميم، وما كان فيهم يماني غيري، وكنت شديد التشيع، فقلت لجارية: إن شئت كنت معك، وإن شئت ملت إلى قومي. فقال:

ص: 67


1- الغارات (ط - الجديدة): 2/397؛ بحار الأنوار: 34/37.

بل سر معي، فواللَّه لوددت أن الطير والبهائم تنصرني عليهم فضلا عن الإنس.

فلما دخلنا البصرة، بدأ بزياد فرحب به وأجلسه إلى جانبه، وناجاه ساعة وساءله ثم خرج فقام في الأزد فقال: جزاكم اللَّه من حي خيرا، ثم قرأ عليهم وعلى غيرهم كتاب أميرالمؤمنين فإذا فيه:

من عبداللَّه أميرالمؤمنين، إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، أما بعد، فإن اللَّه حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البينة، ولا يأخذ المذنب عند أول وهلة، ولكنه يقبل التوبة، ويستديم الأناة، ويرضى بالإنابة، ليكون أعظم للحجة، وأبلغ في المعذرة. وقد كان من شقاق جلكم أيها الناس، ما استحققتم أن تعاقبوا عليه، فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم وقبلت من مقبلكم، وأخذت بيعتكم، فإن تفوا ببيعتي وتقبلوا نصيحتي وتستقيموا على طاعتي، أعمل فيكم بالكتاب وقصد الحق، وأقيم فيكم سبيل الهدى؛ فواللَّه ما أعلم أن واليا بعد محمدصلى الله عليه وآله أعلم بذلك مني، ولا أعمل. أقول قولي هذا صادقا غير ذام لمن مضى، ولا منتقصا لأعمالهم.

وإن خطت بكم الأهواء المرديه، وسفه الرأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي، فها أنا ذا قربت جيادي، ورحلت ركابي، وايم اللَّه لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم، لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل عندها إلا كلعقة لاعق، وإني لظان إن شاء اللَّه أن لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.

وقد قدمت هذا الكتاب حجة عليكم، وليس أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغششتم نصيحتي، ونابذتم رسولى ، حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شأ اللَّه والسلام.

ص: 68

فلما قرئ الكتاب على الناس، قام صبرة بن شيمان فقال: سمعنا وأطعنا ونحن لمن حارب أميرالمؤمنين حرب، ولمن سالم سلم. إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك، وإن أحببت أن ننصرك نصرناك.

وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك، فلم يأذن [جارية] لأحد أن يسير معه ومضى نحو بني تميم وكلمهم فلم يجيبوه، وخرج منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه، فأرسل إلى زياد والأزد يستصرخهم [و] يأمرهم أن يسيروا إليه فسارت الأزد بزياد.

وخرج إليهم ابن الحضرمي فاقتتلوا ساعة، واقتتل شريك بن الأعور الحارثي، وكان من شيعة علي عليه السلام وصديقا لجارية [فقال له: ألا أقاتل معك عدوك؟ فقال: بلي. فقاتلهم.] فما لبث بنو تميم أن هزموهم واضطروهم إلى دار سنبل السعدي، فحصروا ابن الحضرمي فيها، وأحاط جارية وزياد بالدار وقال جارية: علي بالنار. فقالت الأزد: لسنا من الحريق في شي ء، وهم قومك.

وأنت أعلم. فحرق جارية الدار عليهم، فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا أحدهم عبد الرحمن بن عثمان القرشي. وسارت الأزد بزياد حتى أوطئوا (اوطنوه) قصر الإمارة ومعه بيت المال، وقالت له: هل بقي علينا من جوارك شي ء. قال: لا. فانصرفوا عنه(1).

وكتب زياد إلى أميرالمؤمنين عليه السلام: أما بعد، فإن جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره، وأعانه من الأزد ففضه واضطره إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه فلم يخرج حتى حكم اللَّه بينهما، فقتل ابن الحضرمي وأصحابه، منهم من أحرق، ومنهم من ألقي عليه

ص: 69


1- الغارت (ط - الحديثة): 2/402؛ بحار الأنوار: 34/39.

جدار، ومنهم من هدم عليه البيت من أعلاه، ومنهم من قتل بالسيف، وسلم منهم نفر ثابوا وتابوا فصفح عنهم وبعدا لمن عصى وغوى، والسلام على أميرالمؤمنين ورحمة اللَّه وبركاته.

فلما وصل الكتاب قرأه عليه السلام على الناس فسر بذلك وسر أصحابه وأثنى على جاريه وعلى الأزد وذم البصرة فقال: إنها أول القرى خرابا، إما غرقا وإما حرقا، حتى يبقى مسجدها كجؤجؤة سفينة(1).

وقال ابن ميثم: المنقول أنّ هذا الكلام صدر عنه عليه السلام يوم صفّين حين أقرّ الناس بالصلح، وأوّله: «إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحقّ، ولا يجيبوا إلى كلمة سواء حتّى يرموا بالمناشر تتبعها العساكر، وحتّى يرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب، وحتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتّى تدعق الخيول في نواحي أراضيهم وبأعناء مشاربهم، ومسارحهم، حتّى تشنّ عليهم الغارات من كلّ فجّ عميق، وحتّى يلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم، وموتاهم في سبيل اللَّه إلّا جدّا في طاعة اللَّه، وحرصا على لقاء اللَّه، ولقد كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله...»(2).

قلت: روى ما قاله ابن ميثم نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد عن إسحاق بن يزيد عن الشعبي أنّ عليّاعليه السلام قال يوم صفّين حين أقرّ الناس بالصلح: إنّ هؤلاء القوم...(3) وكذلك سليم بن قيس في كتابه(4)، ويمكن الجمع بين رواية الواقدي ورواية الشعبي والهلالي بأنّه عليه السلام قال ذلك في كلا الموفقين يوم صفّين، وفي قضيّة

ص: 70


1- الغارت (ط - الحديثة): 2/409؛ بحار الأنوار: 34/41.
2- شرح نهج البلاغة (ابن ميثم): 2/146.
3- وقعة صفّين: 520.
4- كتاب سليم بن قيس الهلالي: 2/696.

ابن الحضرمي. فإنّ نقله عليه السلام جديّة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه الواهنين كان مناسبا في كلّ من المقامين.

ثمّ المفهوم من رواية سليم بن قيس الآتية أنّه عليه السلام خاطب بالكلام الأشعث بن قيس.

وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى اللَّه عليه وآله

أي في غزواته وسراياه .

نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا

لما كانوا لا يسلمون. قال عليه السلام ذلك بلفظ العموم، لكنّ المراد نفسه عليه السلام وأشخاص مخصوصون.

اشارعليه السلام الى الآية الشريفة: «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ»(1).

قال السروي: رأى أميرالمؤمنين علي عليه السلام يوم بدر عقيلا في فدفد(2) فصدّ عنه، فصاح به: يابن أمّ عليّ، أما واللَّه لقد رأيت مكاني، ولكن عمدا تصدّ عنّي(3).

وقال: قصدعليه السلام دار أمّ هاني (أخته) متقنعا بالحديد يوم الفتح، وقد بلغه أنّها آوت الحارث بن هشام، وقيس بن السائب، وناسا من بني مخزوم (قلت: وكانوا

ص: 71


1- سورة التوبة: 24.
2- الفدفد: المكان المرتفع، الفلاة.
3- مناقب آل أبي طالب عليه السلام: 2/146؛ بحار الأنوار: 41/10، ح 3.

أحماءها) فنادى: أخرجوا من آويتم. فجعلوا يذرقون كما تذرق الحباري خوفا منه عليه السلام. وخرجت إليه أمّ هاني، وهي لا تعرفه، فقالت: يا عبداللَّه أنا أمّ هاني بنت عمّ النبي وأخت أميرالمؤمنين، انصرف عن داري.

فقال عليه السلام: أخرجوهم. فقالت: واللَّه لأشكونّك إلى النّبي صلى الله عليه وآله...(1).

وقال الجزريّ - بعد ذكر قصّة كعب بن الأشرف اليهودي وقتله وأمر النبيّ صلى الله عليه وآله بقتل من ظهروا عليه من رجال اليهود - : فوثب محيّصة بن مسعود على ابن سنينة اليهودي، وهو من تجّار يهود فقتله، وكان يبايعهم. فقال له أخوه حويّصة وهو مشرك: يا عدوّ اللَّه قتلته أما واللَّه لرب شحم في بطنك من ماله. وضربه. فقال محيّصة: لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك. قال: فو اللَّه إن كان لأوّل إسلام حؤيصة. فقال: إنّ دينا بلغ بك ما أرى لعجب. ثمّ أسلم(2).

وصرّح عليه السلام بما ذكرنا من إرادة الخصوص في كلامه في رواية سليم بن قيس فزادت: ولست أقول: إن كل من كان مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كذلك ولكن أعظمهم وجلهم وعامتهم كانوا كذلك ولقد كانت معنا بطانة لا تألونا خبالا قال اللَّه عز وجل: «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ»(3) ولقد كان منهم بعض من تفضله أنت وأصحابك يا ابن قيس فارين فلا رمى بسهم ولا ضرب بسيف ولا طعن برمح إذا كان الموت والنزال لاذ وتوارى واعتل ولاذ كما تلوذ النعجة العوراء لا تدفع يد لامس وإذا لقي العدو فر ومنح العدو دبره جبنا ولؤما وإذا كان

ص: 72


1- مناقب آل أبي طالب عليه السلام: 3/196؛ بحار الأنوار: 41/10، ح 3.
2- الكامل لابن الاثير: 2/144/سنة 3: تاريخ الطبري: 2/180 سنة 3.
3- آل عمران: 118.

عند الرخاء والغنيمة تكلم كما قال اللَّه: «سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ»(1) فلا يزال قد استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في ضرب عنق الرجل الذي ليس يريد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قتله فأبى عليه ولقد نظر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يوما وعليه السلاح تام فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ثم قال يكنيه أبا فلان اليوم يومك فقال الأشعث ما أعلمني بمن تعني إن ذلك يفر منه الشيطان قال عليه السلام يا ابن قيس لا آمن اللَّه روعة الشيطان إذ قال(2).

قال المحقّق التستري: كان الأشعث ذكر أنّ الثلاثة كانوا ممّن جاهدوا مع النبيّ صلى الله عليه وآله في غزواته، وصاروا بذلك أفضل من غيرهم، فأجابه عليه السلام بما مرّ، وأجمل الكلام تقيّة، وذكر مجملاً أوصافاً تنطبق على فاروقهم بالخصوص من استيذانه النبيّ صلى الله عليه وآله عند الرخاء والفتح ضرب عنق العبّاس وعقيل وأبي حذيفة، وغيرهم، وقوله عليه السلام: (يكنّيه أبا فلان) أي: قال له «أبا حفص» هزلا، وقول الأشعث: ما أعلمني من تعني، أي: إنّك وإن أجملت إلّا أنّ أعلم أنّ مرادك عمر، وأراد نقض كلامه عليه السلام بما وضعوه له من أنّ الشيطان كان لا يزال هائباً منه، فأجابه عليه السلام بما أجابه(3).

كما أنّ خصوصيّته عليه السلام في ذلك من بين جميعهم أمر معلوم، ففي تلك الرواية أيضاً: وقد علموا يقينا أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي ولا يبارز الأبطال ولا يفتح الحصون غيري ولا نزلت برسول اللَّه صلى الله عليه وآله شديدة قط ولا كربه أمر ولا ضيق ولا مستصعب من الأمر إلا قال أين أخي علي أين سيفي أين رمحي أين المفرج

ص: 73


1- الأحزاب: 19.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي : 2/697؛ بحار الأنوار : 30/321 .
3- بهج الصباغة: 2/387.

غمي عن وجهي فيقدمني فأتقدم فأفديه بنفسي ويكشف اللَّه بيدي الكرب عن وجهه وللَّه عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول حيث خصني بذلك ووفقني له(1).

ولقد ادّعوا لأبي بكر أنّه قاتل ابنه عبدالرحمن، ولعمر أنّه قاتل خاله العاص بن هاشم. أمّا الأوّل فقال الجاحظ في (عثمانيّته): ولأبي بكر في يوم أُحد مقام مشهور، خرج ابنه عبدالرحمن فارساً مكفّراً في الحديد يسأل المبارزة ويقول: أنا عبدالرحمن بن عتيق. فنهض إليه أبو بكر يسعى بسيفه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله: شم سيفك وارجع إلى مكانك، ومتّعنا بنفسك(2).

ولقد كفانا الإسكافي أحد شيوخهم عن الجواب، فقال للجاحظ: ما كان أغناك يا أبا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر فإنه لو تسمعه الإمامية لأضافته إلى ما عندها من المثالب لأن قول النبي صلى الله عليه وآله «ارجع» دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه وأنت تعلم حنو الابن علي الأب وتبجيله له وإشفاقه عليه وكفه عنه لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي. وقوله له ومتعنا بنفسك إيذان له بأنه كان يقتل لو خرج ورسول اللَّه كان أعرف به من الجاحظ فأين حال هذا الرجل من حال الرجل الذي صلى بالحرب ومشى إلى السيف بالسيف فقتل السادة والقادة والفرسان والرجالة(3).

وأمّا الثاني، فقال ابن أبي الحديد: قتل عمر يوم بدر خاله العاص بن هشام بن المغيرة(4).

ص: 74


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي : 2/700 ؛ بحار الأنوار : 30/323 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 13/294 .
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 13/294 .
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4/34 .

وأيّ فخر في قتل مثله، فقد كان خاله هذا عبدا لبني هاشم، وكان رجلا أحمق، قال ابن قتيبة: ومن حمقى قريش العاص بن هشام أخو أبي جهل، وكان أبولهب قامره فقمره ماله، ثمّ داره، ثمّ قليله وكثيره، وأهله ونفسه، فاتّخذه عبدا وأسلمه قينا، فلمّا كان يوم بدر بعث به عن نفسه فقتل ببدر كافرا، قتله عمر بن الخطاب، وكان خال عمر(1).

مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ وَجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ

عن أبي السائب عن رجل من بني عبد الأشهل قال: شهدت أحدا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلمّا أذّن مؤذّن النبيّ صلى الله عليه وآله بالخروج في طلب العدوّ (لئلّا يظنّوا إنّ الذي أصابهم أوهنهم) قلت لأخي، أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع النبي صلى الله عليه وآله، واللَّه مالنا من دابّة نركبها، وما منّا إلّا جريح ثقيل فخرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وكنت أيسر جرحا، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة حتّى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. قال ابن اسحاق: فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال. ثم نقل عن ابن إسحاق: إنّه أقام النبيّ صلى الله عليه وآله بها ثلاثة أيّام ثمّ رجع بعد ذهاب المشركين إلى مكّة(2).

وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلانِ

أي: يصول هذا على ذلك وذاك على هذا، قال الفرزدق:

ص: 75


1- عيون الاخبار لابن قتيبة: 2/50: أنساب الأشراف: 4/76، ش 563.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 3/615.

قبيلان دون المحصنات تصاولا * تصاول أعناق المصاعب من عل(1)

تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ

أي: الإبلين الفحلين، وقالوا: وكان شدقم وجديل فحلين فحيلين(2).

يَتَخَالَسَانِ

أي: يأخذ بالسرعة هذا لذاك وذاك لهذا، قال أبو ذؤيب:

فتخالسا نفسيهما بنوافذ * كنوافذ العبط الّتي لا ترقع(3)

أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ

أي: المنيّة، قال المنصور لمّا قتل أبا مسلم صبرا - وكان أبومسلم قتل ستمائة ألف نفر صبرا - :

زعمت أنت الدين لا يقتضي * فاستوف بالكيل أبا مجرم

سقيت كأسا كنت تسقى بها * أمرّ في الحلق من العلقم(4)

قالت أخت عمرو بن عبدودّ في أميرالمؤمنين عليه السلام وفي أخيها يوم الخندق:

ص: 76


1- اساس البلاغة: 165 مادة (صول).
2- اساس البلاغة: 465 مادة (فحل).
3- اساس البلاغة: 172 مادة (خلس) ولسان العرب: 6/65 مادة (خلس).
4- تاريخ الطبري: 6/137/سنة 137 ومروج الذهب للمسعودى: 3/292 والكامل لابن الاثير: 5/476/سنة 137.

أسدان في ضيق المكرّ تصاولا(1) * وكلاهما كفو كريم باسل

فتخالسا مهج النفوس كلاهما * وسط المدار مخاتل ومقاتل

وكلاهما حضر القراع حفيظة * لم يثنه عن ذاك شغل شاغل(2)؛(3)

وقالوا: لمّا عزمت قريش في بدر على الحرب بإصرار أبي جهل، خرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي منهم، وقال: لأشربنّ من حوض محمّد وأصحابه، ولأهدمنّه أو لأموتنّ دونه. فخرج إليه حمزة فضربه فأطنّ قدمه بنصف ساقه، فوقع إلى الأرض ثمّ حبا إلى الحوض ليبرّ يمينه، وتبعه حمزة فضربه حتّى قتله في الحوض(4).

وقالوا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: جعلت يوم بدر أبا جهل من شأني، وقريش محيطة به يقولون: لا يخلص إلى أبي الحكم. فلمّا أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة فطري يدي من عاتقي، وفتعلّقت بجلدة من جثّتي، فقاتلت عامّه يومي وإني لأسحبها خلفي، فلمّا آذتني جعلت عليها رجلي، ثمّ تمطيت حتّى طرحتها(5).

ص: 77


1- المكر بتشديد الراء: المعركة - وتصاولا: اي تواثبا - والباسل: الشجاع وهما يتخالسان: اي يروم كل منهما قتل صاحبه. - والمخاتلة: المخادعة.
2- وفي نسخة حضرا بدل حفظا - والقراع: ان يقرع الإبطال بعضهم بعضا - ولم يثنه: اي لم يرده ولم يكفه.
3- الإرشاد: 1/108: مناقب آل أبي طالب عليه السلام: 1/199.
4- المغازي للواقدي: 1/68 والسيرة النبوية لابن هشام: 2/455: تاريخ الطبري: 2/147/سنة 2.
5- المغازي للواقدي: 1/87: السيرة النبوية لابن هشام: 2/463: تاريخ الطبري: 2/154/سنة 2.

فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا

كما في بدر، فقتلوا من المشركين سبعين، منهم: أبوجهل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، ومنيّه ونبيه ابنا الحجاج، ونوفل بن خويلد، وأسروا منهم سبعين، منهم: سهيل بن عمرو، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، ولم يقتل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله سوى سبعة(1).

روى المورّخون انّ عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد ابن عتبة خرجوا في غزوة البدر الى المبارزة وهم من أكابر قريش واعيانهم فخرج اليهم من المسلمين عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبداللَّه ابن رواحة كلّهم من الأنصار فقالوا من أنتم قالوا من الانصار فقالوا كفاء كرام وما لنا بكم من حاجة ليخرج الينا اكفاؤنا من قومنا.

فقال النبي صلى الله عليه وآله قم يا حمزة قم يا عبيدة ابن الحرث قم يا عليّ فقاموا ودنا بعضهم من بعض فبارز عبيدة بن الحرث عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز عليّ الوليد فقالوا من أنتم فقال حمزة انا حمزة ابن عبدالمطّلب أسد اللَّه واسد رسوله فقال عتبة كفو كريم وانا اسد الخلفاء، وقال عليه السلام انا عليّ بن أبي طالب وهكذا قال عبيده انا عبيدة ابن الحرث فقالا أنتما كفوان كريمان.

امّا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب فبارز وليدا وامّا حمزة فبارز شيبة وعبيدة بارز عتبة(2).

فقال علي عليه السلام:

انا ابن ذى الحوضين عبدالمطّلب * وهاشم المطعم فى العام السّغب

اوفى بميثاقي واحمى عن حسب

ص: 78


1- تاريخ الطبري: 2/169/سنة 2 والطبقات لابن سعد: 2 ق 1: 11.
2- تاريخ الطبري: 2/148/ سنة 2 وسعد السعود: 103؛ بحار الأنوار: 19/253.

ثمّ انّه عليه السلام لم يهمل وليدا وارسله الى جهنّم والوليد هذا كان من اشجع النّاس في خيل المشركين ولاجل هذا وقع الرّعب في قلوبهم بعد قتله وكبّر المسلمون لمّا قتل الوليد بسيف عليّ عليه السلام وقال عليه السلام بعد قتله مخاطبا للكفّار من قريش وغيرها(1).

قد عرف الحرب العوان أنّي * باذل عامين حديث سن

سنجنح الليل كأنّي جني * أستقبل الحرب بكل فن

معي سلاحي ومعي مجني * وصارم يذهب كل ضغن

أقصى به كل عدو عني * لمثل هذا ولدتني أمي(2)

وامّا حمزة وشيبة فاقتتلا حتّى كسر سيفها ورمحهها ولم يبق في - أيديها شي ء فتصاولا وتصارعا تصاول الفحلين يتخالسان انفسها ايّها يسقى صاحبه كأس المنون.

فنادى المسلمون با على صوتهم عليّا وقالوا يا عليّ! ما ترى كيف غلب شيبة على عمّك فأدركه فجاء علي وقتل شيبه ايضاً.

وامّا عبيدة بن الحرث وعتبة ابن ربيعة فاقتتلا فقطع عتبة رجلا عبيدة من السّاق فوقع عبيدة على الارض وقال:

فان قطعوا رجلى فانّي مسلم * وارجو به عيشا من اللَّه عاليا

فالبسنى الرّحمن من فضل منّ * لباسا من الاسلام غطّى المساويا(3)

فوضعه علىّ على عاتقه وحمل به إلى الرّسول صلى الله عليه وآله فلمّا رآه صلى الله عليه وآله بكى حتّى بلتّ دموعه ففتح عبيدة عينيه في حجر الرسول وقال اما واللَّه لو كان أبوطالب حيّا يعلم

ص: 79


1- سعد السعود: 103؛ بحار الأنوار: 19/314.
2- ديوان أمير المؤمنين عليه السلام: 467.
3- شجرة طوبى: 2/275.

أنى احقّ بما قال حين يقول:

كذبتم وبيت اللَّه نخلي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل(1)

ولمّا كان في هذا القول تعريض منه عَلَى أبي طالب فنهاه الرّسول صلى الله عليه وآله عن التّقول به واستغفرصلى الله عليه وآله لها وترحّم عليها وإلى هذا المعنى أعني مقاتلة الاقرباء والاكفاء أشار حسّان ابن ثابت حيث يقول:

كذبتم وبيت اللَّه لم تقتلوننا * ولكن بسيف الهاشمييّن فافخروا

بسيف ابن عبداللَّه احمد في الوغا * بكفّ علي نلتم ذاك فاقصروا

ولم تقتلوا عمرو ابن ودّ ولا ابنه * ولكنّه الكفو الكريم الغضنفر

علي الذي في الفخر طال ثنائه * فلا تكثروا الدّعوى عليه فتفخروا

ببدر خرجتم للبراز فردّكم * شيوخ قريش جهرة فتأخّروا

فلمّا اتاهم حمزة وعبيدة * وجاء عليّ بالمهنّد مخطر

فقالو نعم اكفاء صدق فاقبلوا * إليهم سراعا اذ بغوا وتجبّروا

فجال عليّ جولة هاشميّة * فدمّرهم لمّا عتو وتكبّروا

فليس لكم فخر علينا بغيرنا * وليس لكم فخر يعدّ ويذكر(2)

وبالجملة في هذه الوقعة كان عليّ في جند المسلمين وطالب ابن أبي طالب في المشركين وهو اخوه(3):

ص: 80


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/130.
2- مفتاح السعادة: 7/188 والفصول المختارة 294؛ بحار الأنوار: 20/259.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/121.

وأبوبكر في المسلمين وابنه عبدالرّحمن أبي بكر في المشركين وهو الّذي قال له أبوبكر اين لى يا خبيث وعبدالرّحمن اجابه وقال:

لم يبق غير شكّه ويعبوب * وصارم يقتل ضلال الشّيب(1)

وعتبة في المشركين وابنه ابو حذيفة في المسلمين(2) ورسول اللَّه وأميرالمؤمنين وحمزة وعبيدة في المسلمين وعبّاس ابن عبدالمطّلب في الكفّار وهو عمّ الرّسول واميرالمؤمنين وعبيدة وأخو حمزة ابن عبدالمطّلب وهكذا وانت اذا تأملت واحطت خبرا بالحروب الواقعة في صدر الاسلام لعلمت انّهم كانوا كما ذكره عليه السلام في هذه الخطبة وغيرها فانّ القرابة كانت موجودة بين الكفّار والمسلمين امّا سببا أو نسبا وكفاك في اثبات المدّعى ما قاله عتبة وهو من كبار القوم وقد ذكرنا انّه وشيبة والوليد قد قتلوا جميعا.

قال عتبة مخاطبا لاصحابه قبل الحرب وهو ينصحهم: يا معشر قريش اطيعوني اليوم واعصوني الدّهر انّ محمّدا له آل وذمّة وهو ابن عمّكم فخلّوه والعرب فان يك صادقا فانتم اعلى عينا به وان يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب امره، انتهى(3).

وقد نقلوا انّ العبّاس عمّ النبيّ خرج عن مكّة في المشركين ومعه طالب وعقيل ابن أبي طالب ونوفل ابن الحرث ابن عبدالمطّلب ولاجل هذه - القرابات الواقعة بين الطّرفين قال عتبة فى كلامه الّذي نقلناه (هو ابن عمّكم)(4).

ص: 81


1- السيرة النبوية لابن هشام: 2/466.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/132.
3- بحار الأنوار: 19/224.
4- تفسير القمي: 1/257: أنساب الأشراف: 3/42؛ الكافي: 8/375، ش 563؛ بحار الأنوار: 19/294 - 295.

وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا

كما في أحد، فقتل الكفّار من المسلمين سبعين، فقال المسلمون للنبيّ صلى الله عليه وآله: ما هذا الّذي أصابنا، وقد كنت تعدنا بالنصر فأنزل تعالى: «أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا»(1) يعني ببدر، حيث قتلتم منهم سبعين، وأسرتم منهم سبعين... «قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ»(2) حيث طلبوا في بدر من النبيّ صلى الله عليه وآله إطلاق الأسارى بالفداء، فشرط عليهم أنّه يقتل منهم في عام قابل بعدد من يأخذون منهم الفداء، فرضوا بذلك(3).

فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا

«فلمّا رأى اللَّه صدقنا» وجدّنا في غزوات حصلت بعد أحد، كما في الأحزاب وغيرها، قال تعالى: «وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ...»(4).

وفي (السير): أصاب المسلمون امرأة من الكفّار في غزوة ذات الرقاع، وكان زوجها غائبا، فلمّا أتى أهله وأخبر حلف لا ينتهي حتّى يهريق في أصحابه صلى الله عليه وآله دما، وخرج يتّبع أثره صلى الله عليه وآله حتّى نزل. فقال صلى الله عليه وآله: من يحرسنا الليلة فانتدب رجل من

ص: 82


1- سورة آل عمران: 165.
2- سورة آل عمران: 165.
3- تفسير القمي: 1/270: المغازي للواقدي: 1/325 والدر المنثور: 2/93.
4- سورة الأحزاب: 22 - 24.

المهاجرين ورجل من الأنصار، فأقام بفم شعب نزله النبيّ صلى الله عليه وآله واضطجع المهاجري وحرس الأنصاري أوّل الليل، وقام يصلّي فجاء زوج المرأة قرأى شخصه، فعرف أنّه ربيئة القوم، فرماه بسهم فوضعه فيه فانتزعه، وثبت قائما يصلّي، ثمّ رماه بسهم آخر فنزعه، وثبت قائما يصلّي، ثمّ رماه بالثالث فوضعه فيه، فانتزعه ثمّ ركع وسجد ثمّ أيقظ صاحبه فوثب، فلمّا رأهما الرجل علم أنّهما علما به، ولمّا رأى المهاجري ما بالأنصاري قال: سبحان اللَّه ألا أيقظتني أوّل ما رماك قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحبّ أن أقطعها فلمّا تابع عليّ الرمي أعلمتك، وايم اللَّه لو لا خوفي أن أضيع ثغرا أمرني النبيّ صلى الله عليه وآله بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها(1).

وفي (الطبقات) في سريّة غالب الليثي الّذي بعثه النبيّ صلى الله عليه وآله إلى بني الملوّح بالكديد بشنّ الغارة عليهم: قال جندب الجهني: فكمنّا في ناحية الوادي، وبعثني أصحابي ربيئة لهم، فخرجت حتّى أتيت تلّا مشرفا على الحاضر يطلعني عليهم، حتّى إذا أسندت عليهم فيه علوت على رأسه، ثمّ اضطجعت عليه. قال: فإنّي لأنظر إذ خرج رجل منهم من خباء له فقال لامرأته: إنّي أرى على هذا الجبل سوادا ما رأيته أوّل من يومي هذا، فانظري إلى أوعيتك لا تكون الكلاب جرّت منها شيئا. فنظرت فقالت: واللَّه ما أفقد من أوعيتي شيئا. قال: فناوليني قوسي ونبلي. فناولته قوسه وسهمين معها، فأرسل سهما فواللَّه ما أخطأ بين عينيّ. قال: فانتزعه وثبتّ مكاني، ثمّ أرسل آخر، فوضعه في منكبي، فانتزعه فوضعته وثبّت مكاني، فقال

ص: 83


1- المغازي للواقدي: 1/397 والسيرة النبوية لابن هشام: 3/695: تاريخ الطبري: 2/228/سنة 4.

لأمراته: واللَّه لو كانت ربيئة لقد تحركت بعد، واللَّه لقد خالطها سهماي. ثمّ دخل وراحت الماشية من إبلهم وأغنامهم، فلمّا احتلبوا وعطنوا واطمأنّوا فناموا، شننّا عليهم الغارة واستقنا النعم(1).

أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ

أي: المذلّة، أوقع اللَّه في الأحزاب الاختلاف بين قريش وغطفان وبين قريظة، وساء ظنّ كلّ منهم بالآخر، وبعث عليهم ريحا في ليال شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فلمّا ارتحلوا قال النبيّ صلى الله عليه وآله: الآن نغزوهم ولا يغزونا. فكان كذلك حتّى فتح تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله مكّة، وقال تعالى: «وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرًا»(2)؛(3).

وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ

قال تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ *

ص: 84


1- الطبقات لابن سعد: 2/124.
2- سورة الأحزاب: 25 - 27.
3- المغازي للواقدي: 1/480: السيرة النبوية لابن هشام: 3/712: تاريخ الطبري: 2/242/سنة 5 والكامل لابن الأثير: 2/182.

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ»(1).

وقال تعالى: «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ»(2).

روى انّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لمّا رأى قلّه اعوانه واصحابه يوم بدر رفع يده الى السّماء وقال: اللّهمّ انجز ما وعدتني، اللّهمّ انجز ما وعدتني ان تهلك هذه العصابة من الاسلام لا تعبد في الأرض ابدا(3).

وخرج صلى الله عليه وآله وهو يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ»(4)،(5).

ص: 85


1- سورة آل عمران: 123 - 127.
2- سورة الانفال: 7 - 12.
3- مجمع البيان: 4/807؛ بحار الأنوار: 19/221.
4- القمر: 45.
5- الكامل لابن الأثير: 2/126.

ثمّ قال صلى الله عليه وآله في تحريصه اصحابه على القتال من قتل كافرا فله سلبه والّذي نفس محمّد بيده من قاتل هؤلاء ولا يدبر ثمّ قتل دخل الجنّة فلمّا سمع هذا الكلام منه صلى الله عليه وآله عمير ابن الحمام وكان مشغولا بأكل الرّطب فالقاه من يده وقال لن يحول بيني وبين الجنّة شي ء فقاتل المشركين وقال:

ركضا الى اللَّه بغير زاد * الّا التّقى والعمل المعاد

والصّبر في اللَّه على الجهاد * وكلّ زاد عرضه النّقاد

غير التّقى والبرّ والرّشاد(1)

فحمل عليّ عليه السلام على المشركين فقتل منهم جمعا كثيراً ثمّ رجع الى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فراه في السّجدة وهو يقول يا حىّ يا قيّوم برحمتك استغيث فحمل عليهم ثانيا ثمّ رجع اليه صلى الله عليه وآله فراى رسول اللَّه في السّجدة وهو يقول ايضاً يا حىّ يا قيّوم برحتمك استغيث ثمّ حمل عليهم ثالثا وقتل منهم كثيراً من الأبطال(2) بين الثّلاثين والأربعين ولمّا هدّدوه بالوليد فقال عليه السلام في جوابهم:

يهدّدني بالعظيم الوليد * فقلت أنا ابن أبي طالب

انا ابن المبجّل بالأبطحين * وبالبيت من سلفى غالب

فلا تسحبنّي اخاف الوليد * ولا انّني منه بالهائب

فيا ابن المغيرة انّي امروء * سموح الأنامل بالقاضب

طويل اللّسان على الشّانئين * قصير اللّسان على الصّاحب

خسرتم بتكذيبكم للّرسول * تعيبون ما ليس بالعائب

ص: 86


1- تاريخ الطبري: 2/150: الاغاني: 4/390.
2- الطبقات الكبرى: 2/19.

وكذّبتموه لوحي السّماء * الا لعنة اللَّه على الكاذب(1)

وقال حسّان ابن ثابت في هجو الوليد:

متى تنسب قريش أو تحصّل *فمالك من ارومتها نصاب

نفتك بنو هحصيص عن أبيها * لشجع حيث تسترق العياب

وانت ابن المغيرة عبد شول * قد اندب حبل عاتقك الرّطاب

اذا عدّ الأطائب من قريش * تلاقت دون نسبتكم كلاب

وعمران ابن مخزوم فدعها * هناك السّر والحسب اللّباب(2)

وايضاً في هجو عمرو بن العاص السّهي قال:

زعم ابن نابغة اللّئيم بأنّنا * لا نجعل الاحساب دون محمّد

اموالنا ونفوسنا من دونه * من يصطنع خيرا يثب ويحمد

فتيان صدق كالليّوث مساعر * من يلقهم يوم الهياج يعّرد

قوم ابن نابغة اللئام اذلّة * لا يقبلون على صفير المرعد

وبنى لهم بيتا ابوك مقصّرا * كفرا ولؤما بئس بيت المحتد(3)

فجاء جبرئيل مع الف من الملائكة وميكائيل كذلك واسرافيل ايضاً كذلك(4) كما أشارت الى هذا المعنى الآية الشّريفة الّتي مر ذكرها وهي قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا»(5) الآية.

وقال تعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ

ص: 87


1- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 89؛ بحار الأنوار: 34/397.
2- ديوان حسان بن ثابت: 1/342.
3- ديوان حسان بن ثابت: 1/159.
4- تفسير العياشي: 2/65، ح 70: بحار الأنوار: 39/103، ح 11.
5- سورة الأنفال: 12.

فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ»(1).

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الآْنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(2).

وقال تعالى: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ...»(3) وقالوا: لمّا دخل النبيّ صلى الله عليه وآله المدينة منصرفه من الأحزاب واللواء معقود، أراد أن يغتسل من الغبار، فناداه جبرئيل: عذيرك من محارب، واللَّه ما وضعت الملائكة لأمتها فكيف تضع لأمتك، إنّ اللَّه تعالى يأمرك الا تصلّي العصر إلّا ببني قريظة، فإنّي متقدّمك ومزلزل حصنهم(4).

حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ

اشارعليه السلام الى عدم تقاعدهم عن القتال مع الأشرار وصبرهم على مضض الألم حتّى وصلوا إلى غاياتهم المطلوبة من ظهور كلمة لا اله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه كما نسب إليه عليه السلام انّه قال:

ص: 88


1- سورة الأنفال: 12.
2- سورة التوبة: 25 - 26.
3- سورة النصر: 1 - 3.
4- تفسير القمي: 2/189: المغازي للواقدي: 1/497: الطبقات لابن سعد: 2/74.

ضربنا غواة الناس عنه تكرما * ولما رأوا قصد السبيل ولا الهدى

ولما أتانا بالهدى كان كلنا * على طاعة الرحمن والحق والتقى

نصرنا رسول اللَّه لما تدابروا * وتاب إليه المسلمون ذوو الحجى(1)

وقال حسّان:

لقد لعن الرّحمن جمعا يقودهم * دعىّ بنى شجع لحرب محمّد

مشوم لعين كان قدما مبغّضا * يبيّن فيه اللّوم من كان يهتدى

فدلّاهم في الغيّ حتّى تهافتوا * وكان مضّلا امره غير مرشد

فأنزل ربّي للنّبي جنوده * وايّده بالنّصر في كل مشهد(2)

وايضاً قال:

الا ليت شعري هل اتى مكّه الّذي * قتلنا من الكفّار في ساعة العسر

قتلنا سراه القوم عند رحالهم * فلم يرجعوا الّا بقاصمة الظّهر

قتلنا ابا جهل وعتبة قبله * وشيبة ايضاً عند نائرة الصبر

وكم قد قتلنا من كريم مرزّء * له حسب في قومه نابه الذّكر

تركناهم للخامعات تنوبهم * ويصلون نارا ثمّ نائية القعر

بكفرهم باللَّه والدّين قائم * وما طلبوا فينا بطائلة الوتر

لعمري لقد قلّت كتائب غالب * وما ظفرت يوم التقينا على بدر(3)

وبالجملة في يوم بدر قتل من الأعداء سبعون نفر(4) قتل علي عليه السلام وحدة ستّ

ص: 89


1- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 43؛ بحار الأنوار: 34/396.
2- ديوان حسان بن ثابت: 1/144.
3- ديوان حسان بن ثابت: 1/142.
4- الإرشاد: 1/69؛ بحار الأنوار: 19/257.

وثلثون نفر(1) وقتل الباقي اعني أربع وثلثين نفر الملائكة والانصار فعليّ عليه السلام وحده قتل أكثر من الجميع واسر منهم أيضاً سبعون(2) ومن جملة الأسارى في بدر عبّاس ابن عبدالمطّلب(3) ومكث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هناك ثلاثة أيّام.

روى انّ الأسارى لمّا قيّدوا بالحديد في الليل وهم يقرب الرسول صلى الله عليه وآله فكان الرّسول صلى الله عليه وآله يتأذّى من ضجّتهم ولا سيّما ضجّة العبّاس عمّه قال صلى الله عليه وآله لعبد اللَّه ابن كعب وهو كان حارسا عليهم يا عبداللَّه انا ما نمت البارحة من ضجيج عمّى فقال يا رسول اللَّه اتأذن لي انّ اخفّف القيد عن العبّاس فاذن له تخفّف عنه فلمّا سكت العبّاس قال صلى الله عليه وآله يا عبداللَّه ما لى أرى عمّي قد سكت قال خفّفت عنه القيد قال عليه السلام خفّف القيود عن الأسارى كلّهم ففعل(4).

ثمّ انّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله امر بالقتلى ان تلقى الى البئر(5) فلمّا رأى أبو حذيفة ابن عتبة جسد أبيه عتبة وهم يجرّونه الى البئر اغتمّ لذلك فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله اتكره هذا يا أبا حذيفة فقال يا رسول اللَّه اقسم باللَّه انّ هذا لا يوجب الوهن والتّزلزل في ايمان بل يزيده ويقوّيه الّا أنّى صرت محزونا من حيث انّ أبي كان رجلا له من مكارم الأخلاق وأصابه الرّأي ومحاسن الصّفات ما لا يخفى على احد وكنت أرجو اسلامه فلم يرجع عن غيّه وضلالته حتّى قتل فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لأبي حذيفة بخير دعاء(6) وامّا العامّة فقد ذهبوا الى انّ جميع القتلى من المشركين يوم

ص: 90


1- كشف الغمة (ط - القديمة): 1/184.
2- تفسير القمي: 1/110؛ بحار الأنوار: 19/257.
3- تفسير القمي: 1/268؛ بحار الأنوار: 19/258.
4- الطبقات الكبرى لابن سعد: 4/13.
5- بحار الأنوار: 19/346.
6- المغازي: 1/111 - 112: شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد: 14/178.

بدر سبع وستّين رجلاً قتل عليّ منهم أربع وعشرين والباقي للباقي والامر سهل.

ولمّا رجع الرّسول واصحابه من بدر نظرصلى الله عليه وآله الى البئر الّذي وقع فيه اجساد قريش فخاطبهم وقال هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا فانّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ثمّ عدّهم واحدا بعد واحد وقال كنتم بئس الأقرباء، اذ كذّبتم الرسول وصدّقه غيركم فمن غير ذوى الأرحام فقال له عمر بن الخطّاب يا رسول اللَّه اتتكلّم الموتى، قال صلى الله عليه وآله انّهم اسمع منكم لقولي وفي رواية لستم باسمع منهم(1) والى هذا أعني مخاطبة النّبي صلى الله عليه وآله أشار حسّان حيث يقول:

عرفت ديار زينب بالكثيب * كخطّ الوحى في الورق القشيب

تداولها الرّياح وكلّ جون * من الوسميّ(2) منهمر سكوب

فامسى رسمها خلقا وامست * ببابا بعد ساكنها الحبيب

فدعى عنك التذكر كلّ يوم * وردّ حرارة الصّدر الكئيب

وخبّر بالّذي لا عيب فيه * بصدق غير احبار الكذوب

بما صنع المليك غداة بدر * لنا في المشركين من النّصيب

غداة كانّ جمعهم حراء * بدت اركانه جنح الغروب

فلا قيناهم منّا بجمع * كاسد الغاب من مرد وشيب

امام محمّد قد وازروه * على الأعداء في رهج الحروب

بايديهم صوارم مرهفات * وكلّ مجرّب خاطى الكعوب

بنو الأوس الغطارف وازرتها * بنو النّجار في الدّين الصّليب

ص: 91


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14/178: بحار الأنوار: 19/346: الرد على الآلوسي: 11.
2- الوسمي: مطر الخريف.

فغادرنا ابا جهل صريعا * وعتبة قد تركنا بالجبوب(1)

وشيبة قد تركنا في رجال * ذوى حسب اذا انتسبوا حسيب

يناديهم رسول اللَّه لمّا * قذفناهم كباكب القليب

الم تجدو كلامي كان حقّا * وامر اللَّه يأخذ بالقلوب

فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا * صدقت وكنت ذا رأى مصيب(2)

قال الجزري: إن المسلمين لمّا كانوا في حفر الخندق خرجت عليهم صخرة كسرت المعول، فأعلموا النبيّ صلى الله عليه وآله فهبط إليها ومعه سلمان، فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة، فكبّر النبيّ صلى الله عليه وآله والمسلمون، ثمّ الثانية كذلك ثمّ الثالثة كذلك ثمّ خرج وقد صدعها، فسأله سلمان عمّا رأى من البرق، فقال النبي صلى الله عليه وآله: أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى، وأخبرني جبرئيل أنّ أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أنّ أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أنّ أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا فاستبشر المسلمون(3).

وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ

إلى هذا المعنى أعني نصره المسلمين للدّين وحمايتهم عن الرّسول والذّب

ص: 92


1- الجبوب: وجه الأرض.
2- السيرة النبوية لابن هشام: 2/467: السيرة النبوية لابن كثير: 2/452.
3- الكامل لابن الأثير: 2/179/ سنة 5: تاريخ الطبري: 2/235/ سنة 5.

عنه صلى الله عليه وآله بانفسهم اشار حسّان حيث قال:

مستشعر حلق الماذيّ يقدمهم * جلد النّحيزة ماض غير رعد يد

أعني الرّسول فانّ اللَّه فضّله * على البريّة بالتّقوى وبالجودي

وقد زعمتم بان تحموا ذماركم * وماء بدر زعمتم غير مورود

ثم وردنا ولم نهدد لقولكم * حتّى شربنا رواه غير تصريد

فينا الرّسول وفينا الحقّ نتبعه * حتّى الممات ونصر غير محدود

ماض على الهول ركاّب لماقطعوا * اذا الكماة تحاموا في الصّناديد

واف وماض شهاب يستضاء به * بدر انار على كلّ الأماجيد

مبارك كضياء البدر صورته * ما قال كان قضاء غير مردود

مستعصمين بحبل غير منجذم * مستحكم من حبال اللَّه ممدود(1)

«ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم» من الخذلان والخور.

«ما قام للدين عمود» بل كان كخباء مطروح على الأرض.

«ولا اخضرّ للإيمان عود» بل كان كشجرة يابسة، روى الطبري في مولد النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه لما انخرقت دجلة وانفصم طاق كسرى، قال كسرى لمنجّميه وكاهنيه: انظروا ما هذا. وكان فيهم رجل يعتاف اعتياف العرب(2) بعثه إليه باذان من اليمن قلّما يخطي ء يقال له: السائب فخرجوا فأخذ عليهم بأقطار السماء، وبات السائب في ليلة ظلّ فيها على ربوة، فرمق برقا نشأ من الحجاز ثمّ استطار حتّى بلغ المشرق، فلمّا أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه، فإذا روضة خضراء، فقال في

ص: 93


1- ديوان حسان بن ثابت: 1/128.
2- الاعتياف: عمل العيافة أي زجر الطير، والتشأم أو التفؤل بطيرانها.

ما يعتاف: لئن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق تخصب منه الأرض كأفضل ما خصبت من ملك قبله(1).

قال عليه السلام لهم ما قال، لأنّه إنّما كان أهل بصيرة أصحابه - لتقدّم الثلاثة عليه، وإفسادهم لعقائدهم وأخلاقهم - قليلين، فمنهم جمع صاروا خوارج عليه عليه السلام، ومنهم جمع صاروا من قتلة الحسين عليه السلام كشبث بن ربعي، وشمر بن ذي الجوشن وغيرهما، ومنهم جمع كانوا من المنافقين كالأشعث بن قيس، وعمرو بن حريث ونظرائهما، ومنهم جمع - وهم جمهورهم - كانوا من الحشوية الذين صاروا عد أتباع معاوية، وهم الّذين كانوا يقولون أيّام ابن الزبير وقيام عبدالملك عليه: ابن الزبير وليّ اللَّه. وعبدالملك عدوّ اللَّه. ولمّا قتل ابن الزبير وصار الأمر إلى عبدالملك قالوا بالعكس، كان المستبصرون في حقّه عليه السلام - مثل مؤمني أصحاب النبي صلى الله عليه وآله الذين يقتلون أرحامهم للدين - فيهم قليلا.

فخرج في صفّين عراقي يقال له: أثال بن حجل، وخرج إليه من أهل الشام ابنه، ولم يعرف واحد منهما الآخر، فطاعنا ثم انتميا فنزلا واعتنقا وبكيا، وانصرف كلّ منهما إلى أصحابه(2).

وكذلك خرج أخوان أحدهما عراقي، والآخر شامي، وغلبه العراقي، فلمّا جلس على صدره، وكشف المغفر عنه رأى أنّه أخوه تركه(3).

وكذلك خرج ابنا عمّين: قيس الأرحبي وسويد الأرحبي. فلمّا تقاربا وتعارفا، انصرفا(4).

ص: 94


1- تاريخ الطبري: 1/597: فرج المهموم في معرفة نهج الحلال من علم النجوم (تاريخ علماء النجوم): 32؛ بحار الأنوار: 15/277/ ش 24.
2- وقعة صفّين: 443.
3- وقعة صفّين: 271.
4- وقعة صفّين: 268.

بل كان فيهم من يقتل قاتل قريبه من أصحابه، فكان حابس بن سعد الطائي - خال زيد بن عدي بن حاتم الطائي - مع معاوية، فقتله بكري من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، فطعنه زيد فقتله ولحق بمعاوية، وقال في ذلك:

من مبلغ أبناء طي بأنّني

ثأرت بخالي ثمّ لم أتأثّم(1)

وَايْمُ اللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً

«ولتتبعنّها ندما» بعد مشاهدة وبال أعمالكم وعاقبة أفعالكم، في ترككم لأهل بيت نبيّكم واتّباع الأجانب.

ولمّا دخلت نسوة المدينة على سيّدة النساء فاطمة - صلوات اللَّه عليها - في علّتها، قالت لهنّ: إلى أيّ لجأ لجؤوا وأسندوا، وبأيّ عروة تمسّكوا.. أما لعمر الهكن لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج، ثمّ احتلبوا طلاع القعب دما عبيطا، وزعافا ممقرا، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ ما أسّس الأوّلون، ثمّ أطيبوا عن أنفسكم نفسا، وطامنوا للفتنة جأشا، وأبشروا بسيف صارم، وبقرح شامل، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا وجمعكم حصيدا، فيا حسرة لكم، وأنّي بكم وقد عميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون(2).

ص: 95


1- وقعة صفّين: 522.
2- بلاغات النساء: 32: معاني الأخبار: 355، ح 1؛ بحار الأنوار: 43/158، ح 8.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (56) - ومن كلام له عليه السلام لأصحابه:

اشارة

أَمَّا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ يَأْكُلُ مَا يَجِدُ وَيَطْلُبُ مَا لا يَجِدُ فَاقْتُلُوهُ وَلَنْ تَقْتُلُوهُ أَلا وَإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنِّي فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ وَلَكُمْ نَجَاةٌ وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَسَبَقْتُ إِلَى الإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ

و من كلام له عليه السلام لأصحابه: أَمَّا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ

وذلك عقوبة تركهم له واتّباعهم معاوية أخيرا كتركهم له واتّباعهم أبابكر أوّلا.

اختلف الشراح في الرجل الذي أخبرعليه السلام بظهوره على أهل الكوفة فقيل: هو زياد بن أبيه، وقيل: الحجاج بن يوسف، وقيل المغيرة بن شعبة، والأكثرون على أن المراد به معاوية بن أبي سفيان، لاتصاله بما وصفه عليه السلام به من النهم وكثرة الأكل، وكان بطينا يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه، وكان جوادا بالمال والصلات وبخيلا على الأكل والطعام.

يقال: إنه مازح أعرابيا على طعامه وقد قدم بين يديه خروف، فأمعن الأعرابي في أكله فقال له ما ذنبه إليك انطحك أبوه؟ فقال الأعرابي: وما حنوك عليه أرضعتك أمه(1)؟

ص: 96


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/54.

روى نصر بن مزاحم عن أبي سنان الأسلمي قال: خطب عليّ عليه السلام أصحابه - إلى أن قال - وأيم اللَّه ما اختلفت امّة قط بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها. قال أبو سنان: أشهد لقد سمعت عمّار بن ياسر يقول للناس: أمّا أميرالمؤمنين عليه السلام فقد أعلمكم أنّ الامّة لم تستقم عليه أوّلا، وانّها لن تستقيم عليه آخرا. ثمّ تفرّق الناس وقد نفذت أبصارهم في قتال عدوّهم(1).

عن الشعبي: خطب معاوية حين بويع له. فقال: «ما اختلفت امّة بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها» ثمّ إنّه انتبه فندم.

فقال: إلّا هذه الامّة فإنّها وإنّها(2).

وروى قيس بن الربيع عن يحيى بن هاني المرادي عن زياد بن فلان المرادي قال: كنّا في بيت علي عليه السلام نحن وشيعته وخواصّه، فالتفت فلم ينكر منّا أحدا. فقال: إنّ هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون أيديكم، ويسملون أعينكم. فقال رجل منّا: وأنت حيّ يا أميرالمؤمنين قال: أعاذني اللَّه من ذلك، فالتفت فإذا واحد يبكي. فقال له: يا ابن الحمقاء أتريد اللذات في الدنيا والدرجات في الآخرة إنّما وعد اللَّه الصابرين(3).

رَحْبُ الْبُلْعُومِ

أي: واسع الحلق. قال: الوليد بن عقبة معرضا بمعاوية:

ص: 97


1- وقعة صفّين: 223 - 224؛ بحار الأنوار: 32/463 - 464.
2- مقاتل الطالبيين: 45.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/108؛ بحار الأنوار: 41/132.

إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد * بها أبدا ما دام فيها الجراضم(1)

بصير بما في الطبل بالبقل عالم * جروز لما التفّت عليه اللهازم(2)

مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ

ناقة داحق وهي الّتي يخرج رحمها بعد الولادة(3).

قالوا: كان معاوية إذا جلس يقعد بطنه على فخذيه(4).

وقال معاوية يوما وعنده صعصعة. وكان قدم عليه بكتاب عليّ عليه السلام وعنده وجوه الناس - : الأرض للَّه، وأنا خليفة اللَّه. فما آخذ من مال اللَّه فهو لي، وما تركت منه كان جائزاً لي. فقال صعصعة:

تمنّيك نفسك ما لا يكو * ن جهلا معاوي لا تأثم

فقال معاوية: يا صعصعة: تعلّمت الكلام. قال: العلم بالتعلّم، ومن لا يعلم يجهل، قال معاوية: ما أحوجك إلى أن اذيقك وبال أمرك. قال: ليس ذلك بيدك بل بيد الّذيى لا يؤخّر نفسا إذا جاء أجلها. قال: ومن يحول بيني وبينك قال: الّذي يحول بين المرء وقلبه. قال معاوية: اتسع بطنك للكلام كما اتّسع بطن البعير للشعير. قال: اتسع بطن من لا يشبع، ودعا عليه من لا يمنع (لا يجمع)(5).

ص: 98


1- أي الاكول الواسع البطن.
2- شرح شواهد المغنى: 2/632.
3- جمهرة اللغة: 2/643: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/54.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/54.
5- مروج الذهب: 3/43.

يَأْكُلُ مَا يَجِدُ

عن بليد بن سليمان، عن الأعمش، عن عليّ بن الأقمر قال: وفدنا على معاوية وقضينا حوائجنا ثمّ قلنا لو مررنا برجل قد شهد النبيّ صلى الله عليه وآله وعاينه. فأتينا عبداللَّه بن عمر. فقلنا يا صاحب النبي صلى الله عليه وآله حدّثنا ما شهدت: قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله أرسل إلى هذا - يعني معاوية - يدعوه وكان يكتب بين يديه - فجاء الرسول. فقال: هو يأكل. فقال: لا أشبع اللَّه بطنه. فهل ترونه يشبع...(1). وضرب به المثل في ذلك. قال الشاعر:

وصاحب لي بطنه كالهاوية * كأنّ في أحشائه معاوية(2)

هذا، ومن الأكولين: ميسرة الرأس، والفيل. استدعاهما المهدي العباسي وجعل يرمي لكلّ واحد منهما رغيقا. فامتنع الفيل من تمام المئة، وأكل ميسرة تما المئة وزاد عليها(3).

ومنهم أبو السرايا فكان يؤتى بمكوكي شعير فيطرح أحدهما بين يديه، والاخرى بين يدي فرسه، فيستوفي الشعير قبل فرسه(4).

ومنهم العلّاف أبو أبي بكر العلّاف. ركب الى الوزير المهلبي على حمار. فأمر الوزير أن يؤخذ حماره، ويذبح فيطبخ بماء وملح. ثمّ قدّم له على مائدة الوزير فأكل وهو لا يظنّه، ويستطيبه حتّى أتى عليه. فلمّا خرج ليركب طلب الحمار. فقيل له: حمارك في جوفك(5).

ص: 99


1- وقعة صفّين: 220؛ بحار الأنوار: 33/190، ش 472.
2- مجمع الأمثال (للميداني): 1/90.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 18/401.
4- مقاتل الطالبيين: 368.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 18/401 - 402.

وَيَطْلُبُ مَا لا يَجِدُ

قالوا كان معاوية يأكل فيكثر. ثمّ يقول ارفعوا فواللَّه ما شبعت، ولكن مللت(1).

وفي (سفيانية الجاحظ) قال معاوية لأبي ذر: يا عدّو اللَّه وعدوّ رسوله تأتينا في كلّ يوم فتصنع ما تصنع - وكان أبو ذر يأتي كلّ يوم باب دار معاوية ويصرخ «أتتكم القطار. تحمل النار. اللّهمّ العن الآمرين بالمعروف التاركين له. اللّهمّ العن الناهين عن المنكر المرتكبين له». فقال أبو ذر: ما أنا بعدّو اللَّه ولرسوله بل أنت وأبوك عدوان للَّه ولرسوله أظهرتما الإسلام. وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك النبيّ صلى الله عليه وآله ودعا عليك مرّات أن لا تشبع. سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله يقول: «إذا ولي الامة الأعين الواسع البلعوم الّذي يأكل ولا يشبع فلتأخذ الأمّة حذرها منه»:

فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسمعته يقول: وقد مررت به - «اللّهمّ العنه ولا تشبعه إلّا بالتراب» وسمعته صلى الله عليه وآله يقول: «است معاوية في النار» فضحك معاوية وأمر بحبسه(2).

وعن سفيان بن أبي ليلى قال: أتيت الحسن بن علي عليه السلام حين بايع معاوية فوجدته بفناء داره وعنده رهط. فقلت: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين. فقال: عليك السلام يا سفيان. انزل. فنزلت.

فعقلت راحلتي ثمّ أتيته فجلست إليه. فقال: كيف قلت يا سفيان فقلت: السلام عليك يا مذلّ رقاب المؤمنين. فقال: ما جرّ هذا منك إلينا فقلت: «أنت واللَّه بأبي أنت وامّي أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة، وسلّمت الأمر إلى اللعين ابن اللعين

ص: 100


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/55 وشجرة طوبى: 1/94.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8/257/شرح خطبة 130.

ابن آكلة الأكباد. ومعك مائة ألف كلّهم يموت دونك، وقد جمع اللَّه لك أمر الناس».

فقال: يا سفيان إنّا أهل بيت إذا علمنا الحقّ تمسّكنا به، وإنّي سمعت عليّاعليه السلام يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله يقول: «لا تذهب الليالي والأيّام حتّى يجتمع أمر هذه الأمّة على رجل واسع السرم، ضخم البلعوم، يأكل ولا يشبع، ولا ينظر اللَّه إليه، ولا يموت حتّى لا يكون له في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر، وانّه لمعاوية، وإنّي عرفت أنّ اللَّه بالغ أمره»(1).

الظاهر وقوع تحريف، وأنّ الأصل «في السماء ناصر ولا في الأرض عاذر».

وروى نصر بن عاصم الليثي عن أبيه قال: أتيت مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله والناس يقولون: نعوذ باللَّه من غضب اللَّه، وغضب رسوله، فقلت: ما هذا؟ قالوا: معاوية قام الساعة فأخذ بيد أبي سفيان فخرجا من المسجد. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله: لعن اللَّه التابع والمتبوع، ربّ يوم لامتي من معاوية ذي الاستاه قالوا: يعني العجز الكبير(2).

ومن الخبرين يظهر وصف معاوية بذى الاستاه، وواسع السرم كوصفه برحب البلعوم وضخمه.

فَاقْتُلُوهُ وَلَنْ تَقْتُلُوهُ

وكيف كانوا يقتلونه بأمره عليه السلام، وقد جحدوا إمامته علانية، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله أمرهم بقتله قبله عليه السلام: ولم يمتثلوه مع إقرارهم بنبوّته ظاهرا.

ص: 101


1- مقاتل الطالبيين: 44.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/79/شرح خطبة 56.

وروى نصر بن مزاحم عن ابن مسعود قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه. قال الحسن: فما فعلوا، ولا أفلحوا.

وعن الحسن قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه. قال أبوسعيد الخدري: فلم نفعل، ولم نفلح(1).

ثمّ الغريب أنّهم لم يقتصروا على عدم امتثال أمر نبيّهم صلى الله عليه وآله بل حرّفوا كلامه وجعلوه مدحا له، فنقله الخطيب الناصبي في عنوانه محمّد بن إسحاق بن مهران هكذا: إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فإنّه أمين مأمون(2) فتراه حرّف وزاد تصحيحا لتحريفه.

وروى (الثقفي في غاراته) عن الأعمش عن أنس بن مالك قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله يقول: «سيظهر على الناس رجل من امّتي عظيم السرم، واسع البلعوم يأكل ولا يشبع، يحمل وزر الثقلين يطلب الامارة يوما فإذا أدركتموه فابقروا بطنه» وكان في يد النبيّ صلى الله عليه وآله قضيب قد وضع طرفه في بطن معاوية(3).

أَلا وَإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنِّي

عن ابن عباس: إنه مرّ من بعد ما كف بصره على قوم يسبون عليا فقال لقائده: ما سمعت هؤلاء يقولون؟! قال: سبوا عليا. قال: ردني إليهم. فرده فقال: أيكم الساب اللَّه عزوجل؟! قالوا: سبحان اللَّه من سب اللَّه فقد أشرك. قال: فأيكم الساب

ص: 102


1- وقعة صفّين: 216؛ بحار الأنوار: 33/186، ح 461 و462.
2- تاريخ بغداد: 1/274.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/108؛ بحار الأنوار: 33/217.

لرسول اللَّه؟! قالوا: سبحان اللَّه ومن سب رسول اللَّه فقد كفر. قال: أيكم الساب علي بن أبي طالب؟! قالوا: أما هذا فقد كان. قال: فأنا أشهد باللَّه وأشهد أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول: من سب عليا فقد سبني. ومن سبني فقد سب اللَّه عزوجل ومن سب اللَّه كبه اللَّه على منخريه في النار. ثم ولى عنهم فقال لقائده:

ما سمعتهم يقولون؟! قال: ما قالوا شيئا. قال: فكيف رأيت وجوههم إذ قلت ما قلت؟! قال:

نظروا إليك بأعين محمرة * نظر التيوس إلى شفار الجازر

قال: زدني فداك أبوك. قال:

خزر العيون نواكس أبصارهم * نظر الذليل إلى العزيز القاهر

قال: زدني فداك أبوك. قال: ما عندي غير هذا قال: لكن عندي:

أحياؤهم عار على أمواتهم * والميتون فضيحة للغابر(1)

حج معاوية فدخل المدينة وأراد أن يلعن علياعليه السلام على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، فقيل له: إن ههنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا، فابعث إليه وخذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك، فقال: إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثم لا أعود إليه! فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد(2).

قال ابن أبي الحديد: إن معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسب علي عليه السلام والبراءة منه.

وخطب بذلك على منابر الإسلام وصار ذلك سنة في أيام بني أمية إلى أن قام

ص: 103


1- مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام لابن المغازلي: 261؛ الفصول المهمة (ابن صباغ المالكي): 1/590؛ الغدير: 2/300.
2- العقد الفريد: 5/114.

عمر بن عبدالعزيز فأزاله ثم قال:

ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ أن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة: اللّهمّ إنّ أبا تراب ألحد في دينك، وصدّ عن سبيلك. فالعنه لعنا وبيلا، وعذّبه به عذابا أليما. وكتب بذلك الى الآفاق. فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبدالعزيز(1).

قال: وروى أنّ قوماً من بني أُميّة قالوا لمعاوية: إنّك قد بلغت ما أمّلت فلو كففت عن لعن هذا الرجل. فقال: لا واللَّه حتى يربو عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلا(2).

وأمر المغيرة - وكان أمير الكوفة من قبل معاوية - حجر بن عدي أن يقوم في الناس. فيلعن عليّاعليه السلام فأبي ذلك. فتوعده فقال: أيّها النّاس إنّ أميركم أمرني أن ألعن عليّا. فالعنوه. فقال أهل الكوفة: لعنه اللَّه. فأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد(3).

وأراد زياد أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من علي عليه السلام ولعنه وأن يقتل كل من امتنع من ذلك ويخرب منزله فضربه اللَّه ذلك اليوم بالطاعون فمات بعد ثلاثة أيام وذلك في خلافة معاوية(4).

روى الزبير بن بكار في الموفقيات وهو غير متهم على معاوية ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي عليه السلام والانحراف عنه قال

ص: 104


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/56؛ بحار الأنوار: 33/214.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/57؛ بحار الأنوار: 33/214.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/58.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/58.

المطرف بن المغيرة بن شعبة دخلت مع أبي على معاوية وكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ورأيته مغتما فانتظرته ساعة وظننت أنه لأمر حدث فينا فقلت: ما لي أراك مغتما منذ الليلة فقال يا بني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم قلت وما ذاك قال قلت له وقد خلوت به إنك قد بلغت سنا يا أميرالمؤمنين فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فواللَّه ما عندهم اليوم شي ء تخافه وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه فقال هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلّا أن يقول قائل أبوبكر ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلّا أن يقول قائل عمر وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول اللَّه فأي عملي يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا واللَّه إلّا دفنا دفنا(1).

قال ابن أبي الحديد: وأما أفعاله المجانبة للعدالة الظاهرة من لبسه الحرير وشربه في آنية الذهب والفضة حتى أنكر عليه ذلك أبوالدرداء فقال له إنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول إن الشارب فيها ليجرجر في جوفه نار جهنم وقال معاوية اما أنا فلا أرى بذلك بأسا فقال أبو الدرداء من عذيري من معاويه أنا أخبره عن الرسول صلى الله عليه وآله وهو يخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا وهذا الخبر يقدح في عدالته كما يقدح أيضاً في عقيدته لأن من قال في مقابلة خبر قد روى عن رسول

ص: 105


1- مروج الذهب: 3/454: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/129؛ بحار الأنوار: ش 33/169/ ش 443.

اللَّه صلى الله عليه وآله أما أنا فلا أرى بأسا فيما حرمه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ليس بصحيح العقيدة ومن المعلوم أيضاً من حالة استئثاره بمال الفي ء وضربه من لاحد عليه وإسقاط الحد عمن يستحق إقامة الحد عليه وحكمه برأيه في الرعية وفي دين اللَّه واستلحاقه زيادا وهو يعلم قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الولد للفراش وللعاهر الحجر وقتله حجر بن عدي وأصحابه ولم يجب عليهم القتل ومهانته لأبي ذر الغفاري وجبهه وشتمه وإشخاصه إلى المدينة على قتب بعير وطاء لإنكاره عليه ولعنه عليا وحسنا وحسينا وعبداللَّه بن عباس على منابر الإسلام وعهده بالخلافة إلى ابنه يزيد مع ظهور فسقه وشربه المسكر جهارا...(1).

وفي (تاريخ الطبري): في مقتل حجر بن عدي في سنة (51) لمّا ولى معاوية المغيرة الكوفة قال له: أردت إيصاءك بأشياء كثيرة وأنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني، ويسعد سلطاني، ولست تاركا إيصاءك بخصلة. لا تتحمّ عن شتم عليّ وذمّه، والترحّم على عثمان والعيب على أصحاب عليّ وإقصائهم واطراء شيعة عثمان وإدنائهم. فقال المغيره: قد جربت وجرّبت وعملت قبلك لغيرك فلم يذمم بي دفع، ولا رفع، ولا وضع فستبلو - إلى أن قال - : وأقام على الكوفة سبع سنين وأشهرا وهو من أحسن شي ء سيرة غير أنّه لا يدع ذمّ عليّ عليه السلام والوقوع فيه والدعاء لعثمان والتزكيه لأصحابه. فكان حجر إذا سمع ذلك قال: بل إيّاكم فذمّم اللَّه ولعن. ثمّ يقوم ويقول: إنّ اللَّه تعالى يقول: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ ِ»(2) وأنا أشهد أنّ من تذمّون لأحق بالفضل، ومن تزكّون أولى بالذم - إلى أن قال - :

ص: 106


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/130.
2- النساء: 125.

حتّى كان في آخر امارته فقام وقال في عليّ وعثمان كما كان يقول: فقام حجر فنعر نعرة سمعها من كان خارجا وقال: إنّك لا تدري بمن تولع من هرمك - إلى أن قال - : فقالوا للمغيرة: علام تترك هذا الرجل يقول هذه المقالة فإنّ ذلك إن بلغ معاوية كان أسخط له. فقال لهم المغيرة: انّي قد قتلته إنّه سيأتي أمير بعدي فيحبسه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه يصنع بي فيأخذه عند أوّل وهلة فيقتله شرّ قتلة. إنّه قد اقترب أجلي ولا أحبّ أن أبتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم، وسفك دمائهم. فيسعدوا بذلك وأشقى، ويعزّ في الدنيا معاوية، ويذلّ يوم القيامة المغيرة...(1).

وسبّ معاوية عليّاعليه السلام على المنبر، وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر. ففعلوا فكتبت امّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله إلى معاوية: إنّكم تسبّون اللَّه ورسوله على منابركم وذلك أنّكم تسبون عليّا ومن أحبّه وأنا أشهد أن اللَّه تعالى أحبّه ورسوله(2).

وتبع المروانيون غير عمر بن عبدالعزيز منهم معاوية في الأمر بسبّه عليه السلام والبراءة منه لتشييد ملكهم.

قال ابن أبي الحديد: وروى أهل السيرة أنّ الوليد بن عبدالملك في خلافته ذكر عليّاعليه السلام فقال: «لعنه اللَّه - بالجر - كان لص ابن لصّ. فعجب الناس من لحنه في ما لا يلحن فيه أحد ومن نسبته عليّاعليه السلام إلى اللصوصية وقالوا ما ندري أيهما أعجب وكان الوليد لحانا(3).

قال: وذكر (المبرد في الكامل): أنّ خالد القسري لمّا كان أميرالعراق في خلافة هشام كان يقول على المنبر «اللّهمّ العن عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن

ص: 107


1- تاريخ الطبري: 4/188/سنة 51.
2- العقد الفريد: 5/115.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/58.

هاشم صهر النبيّ على ابنته، وأبا الحسن والحسين» ثمّ يقبل على الناس فيقول: هل كنيت(1).

قال: وذكر الجاحظ أنّ هشاماً لمّا حجّ خطب بالموسم. فقام إليه إنسان فقال: إنّ هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب. فقال: اكفف فما لهذا جئنا(2).

وقال أيضاً وما كان عبدالملك مع فضله وأناته وسداده ورجحانه ممن يخفى عليه فضل علي عليه السلام وأن لعنه على رؤوس الأشهاد وفي أعطاف الخطب وعلى صهوات المنابر مما يعود عليه نقصه ويرجع إليه وهنه لأنهما جميعا من بني عبد مناف والأصل واحد والجرثومة منبت لهما وشرف علي عليه السلام وفضله عائد عليه ومحسوب له ولكنه أراد تشييد الملك وتأكيد ما فعله الأسلاف وأن يقرر في أنفس الناس أن بني هاشم لا حظ لهم في هذا الأمر وأن سيدهم الذي به يصولون وبفخره يفخرون هذا حاله وهذا مقداره فيكون من ينتمي إليه ويدلي به عن الأمر أبعد وعن الوصول إليه أشحط وأنزح(3).

عن المدائني قال: أمر المأمون أحمد بن يوسف بإدخالي عليه. فلمّا دخلت ذكر عليّاعليه السلام فحدّثته فيه بأحاديث إلى أن ذكر لعن بني اميّة له. فقلت: حدّثني أبو سلمة المثنى الأنصاري قال قال لي رجل: كنت بالشام فجعلت لا أسمع أحدا يسمّى عليّا ولا حسنا ولا حسينا. وإنّما أسمع معاوية، ويزيد والوليد. فمررت برجل جالس على باب داره وقد عطشت فاستسقيته. فقال: يا حسن اسقه. فقلت له: أسميت

ص: 108


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/57.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/57.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/57.

حسنا. فقال: أي واللَّه إنّ لي أولادا أسماؤهم حسن وحسين، وجعفر. فإنّ أهل الشام يسمّون أولادهم بأسماء خلفاء اللَّه. ولا يزال أحدنا يلعن ولده ويشتمه وإنّما سمّيت أولادي، بأسماء أعداء اللَّه. فإذا لعنت إنّما ألعن أعداء اللَّه. فقلت له: ظننتك خير أهل الشام وإذا جهنّم ليس فيها شرّ منك. فقال المأمون: لا جرم قد ابتعث اللَّه عليهم من يلعن أحياءهم وأمواتهم، ويلعن من في أصلاب الرجال وأرحام النساء منهم يعني الشيعة(1).

وفي (نقض الاسكافي): كان دعيّ لبني اميّة يقال له: خالد بن عبداللَّه لا يزال يشتم عليّاًعليه السلام فلمّا كان يوم جمعة وهو يخطب الناس قال: واللَّه إن كان النبيّ صلى الله عليه وآله ليستعمله وانّه ليعلم ما هو، ولكنّه كان ختنه، وقد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه ثمّ قال: ويحكم ما قال هذا الخبيث رأيت القبر انصدع والنبيّ صلى الله عليه وآله يقول: كذبت يا عدوّ اللَّه(2).

وفيه: أقبل بالمدينة رجل على بعير فوقف فسبّ عليّاعليه السلام فحفّ به الناس ينظرون إليه فبينا هو كذلك إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فقال: اللّهمّ إن كان سبّ عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه، فما لبث أن نفر به بعيره فسقط فاندقّ عنقه(3).

دخل فراس بن جعدة بن هيبرة على خالد القسري وبين يديه نبق. فقال له: العن عليّا ولك بكلّ نبقة دينار، ورأى يوما عكرمة مولى ابن عباس، وعلى رأسه عمامة سوداء. فقال: إنّه بلغني أنّ هذا العبد يشبه عليّا وإنّي لأرجو أن يسوّد اللَّه

ص: 109


1- معجم الأدباء: 14/128.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/221.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/222.

وجهه كما سوّد وجه ذاك، وقال ابن شهاب: قال لي خالد القسري اكتب لي السيرة فقلت له: فإنّه يمرّ بي الشي ء من سير عليّ فأذكره فقال: لا. إلّا أن تراه في قعر الجحيم. قال: لعن اللَّه خالدا، ومن ولّاه وقبّحهم، وصلوات اللَّه على أميرالمؤمنين(1).

وروى ابن الكلبي عن أبيه عن عبدالرحمن بن السائب قال قال الحجاج يوما لعبد اللَّه بن هانئ وهو رجل من بني أود حي من قحطان وكان شريفا في قومه قد شهد مع الحجاج مشاهده كلها وكان من أنصاره وشيعته واللَّه ما كافأتك بعد ثم أرسل إلى أسماء بن خارجه سيد بني قزارة أن زوج عبداللَّه بن هانئ بابنتك فقال لا واللَّه ولا كرامة فدعا بالسياط فلما رأى الشر قال نعم أزوجه ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية زوج ابنتك من عبداللَّه بن أود فقال ومن أود لا واللَّه لا أزوجه ولا كرامة فقال علي بالسيف فقال دعني حتى أشاور أهلي فشاورهم فقالوا زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق فزوجه فقال الحجاج لعبد اللَّه قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان وعظيم كهلان وما أود هناك فقال لا تقل أصلح اللَّه الأمير ذاك فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب قال وما هي؟ قال ما سب أميرالمؤمنين عبدالملك في ناد لنا قط قال: منقبة واللَّه قال وشهد منا صفين مع أميرالمؤمنين معاوية سبعون رجلا ما شهد منا مع أبي تراب إلّا رجل واحد وكان واللَّه ما علمته امرأ سوء قال منقبة واللَّه قال ومنا نسوة نذرن إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص ففعلن قال منقبة واللَّه قال وما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلّا فعل وزاد ابنيه حسنا وحسينا وأمهما فاطمة قال منقبة واللَّه قال وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة ما

ص: 110


1- الاغاني: 22/282 و283 و281.

لنا، فضحك الحجاج وقال أما هذه يا أبا هانئ فدعها وكان عبداللَّه دميما شديد الأدمة مجدورا في رأسه عجر مائل الشدق أحول قبيح الوجه شديد الحول(1).

وكان الحجاج لعنه اللَّه يلعن علياعليه السلام ويأمر بلعنه وقال له متعرض به يوما وهو راكب أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا فغير اسمي وصلني بما أتبلغ به فإني فقير فقال للطف ما توصلت به قد سميتك كذا ووليتك العمل الفلاني فاشخص إليه(2).

وكان عبداللَّه ابن الزبير يبعض عليّا وينتقصه وينال من عرضه وروى أهل السّير انّه مكث ايّام ادعائه الخلافة أربعين (صباحا) جمعة لا يصلّي فيها على النّبي وقال لا يمنعني من ذكره الّا ان تشمخ رجال بآنافها.

وروى سعيد ابن جبير انّ عبداللَّه ابن زبير قال لعبد اللَّه ابن عبّاس ما حديث اسمعه عنك قال وما هو؟ قال تأنيبي وذمّي، فقال انّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره فقال ابن الزبير انّي لاكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة وذكر تمام الحديث.

وروى أيضاً عن سعيد بن جبير قال خطب عبداللَّه ابن الزبير فنال من عليّ فبلغ ذلك محمّد ابن الحنفيّة فجاء إليه وهو يخطب فوضع له كرّسي فقطع عليه خطبته وقال يا مشعر العرب شاهت الوجوه! ينتقص عليّ وأنتم حضور انّ عليّا كان يد اللَّه على اعداء اللَّه وصاعقة من امره ارسله على الكافرين، والجاحدين لحقّه فقتلهم بكفرهم فشنئوه وابغضوه واضمروا له السّيف والحسد وابن عمّه حيّ بعد لم يمت؛

ص: 111


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/61.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/58.

فلمّا نقله اللَّه الى جواره واحبّ له ما عنده اظهرت له رجال احقادها وشفت اضغانها فمنهم من ابتز حقّه ومنهم من ائتمر به ليقتله ومنهم من شتمه وقذفه بالأباطيل فان يكن لذرّيته وناصري دعوته دولة تنشر عظامهم وتحفر على اجسادهم والابدان منهم يومئذ بالية بعد ان تقتل الاحياء منهم وتذلّ رقابهم فيكون اللَّه عزّ اسمه قد عذّبهم بايدينا، واخزاهم ونصرنا عليهم وشفا صدورنا منهم انه واللَّه ما يشتم عليّا الّا كافر يسر شتم رسول اللَّه ويخاف ان يبوح به فيكنّي بشتم علي عليه السلام عنه اما انّه قد تخطّت المنيّة منكم من امتد عمره وسمع قول رسول اللَّه فيه عليه السلام لا يحبّك الّا مؤمن ولا يبغضك الّا منافق «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(1).

فعاد ابن الزّبير الى خطبته وقال عذرت بني الفواطم يتكلّمون فما بال ابن امّ الحنفيّة فقال محمّد يابن امّ رؤمان وما لي لا اتكلّم وهل فاتني من الفواطم الّا واحده ولم يفتني فخرها لأنّها ام اخوى، انا ابن فاطمة بنت عمران ابن عائذ ابن مخزوم جدّة رسول اللَّه، وانا ابن فاطمة بنت أسد ابن هاشم كافلة رسول اللَّه والقائمة مقام امّه امّا واللَّه لو لا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد ابن عبد العزّى عظما الّا هشمته ثمّ قام فانصرف(2).

ونقل الشّارح المعتزلي عن شيخه أبي جعفر الاسكافي انّ معاوية وضع قوما من الصّحابة وقوماً من التّابعين على رواية اخبار قبيحة في على تقتضي الطّعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبوهريرة وعمرو بن العاص والمغيرة ابن شعبة ومن التّابعين عروة ابن الزّبير ثمّ

ص: 112


1- الشعراء: 227.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/62.

قال الاسكافي على ما نقل عنه:

روى الزّهري أنّ عروة ابن الزّبير حدّثه قال حدّثتني عايشه قال كنت عند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله اذ أقبل العبّاس وعلىّ فقال صلى الله عليه وآله يا عايشة انّ هذين يموتان على غير ملّتي أو قال ديني.

وروى عبد الرّزاق عن معمّر قال كان عند الزّهري حديثان عن عروة عن عايشة في عليّ فسألته عنها يوما فقال ما تصنع بهما وبحديثهما اللَّه اعلم بهما انّي لأتهمهما في بني هاشم قال فأمّا الحديث الأوّل فقد دكرناه.

وأمّا الحديث الثّاني فهو انّ عروة زعم أنّ عايشة حدّثته قالت كنت عند النّبي اذ أقبل العبّاس وعليّ فقال يا عايشة ان سرّك ان تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا فنظرت فاذا العبّاس وعليّ عليه السلام.

وامّا عمرو بن العاص فروى عنه الحديث الّذي اخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما مسندا متّصلا بعمرو ابن العاص قال سمعت رسول اللَّه يقول انّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء انّما وليّي اللَّه وصالح المؤمنين.

وامّا أبوهريرة فروى عنه الحديث الّذي معناه انّ عليّا خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فاسخطه فخطب على المنبر قال لاها اللَّه لا تجتمع ابنة وليّ اللَّه وابنة عدوّ اللَّه أبي جهل انّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها فان كان عليّ يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يريد أو كلاما هذا معناه والحديث مشهور من رواية الكرابيسي قال الشّارح المعتزلي بعد نقله ما نقلناه ما هذا لفظه: قلت: هذا الحديث أيضاً مخرج من صحيحي مسلم والبخاري عن المسوّر ابن مخزّمة الزّهري وقد ذكره المرتضى رحمه الله في كتابه المسمّى تنزيه الأنبياء والأئمّة وقال انّه

ص: 113

رواية حسين الكرابيسي وانّه مشهور بالانحراف عن أهل البيت عليهم السلام وعداوتهم والمناصبة لهم فلا تقبل روايته(1).

قال أبوجعفر: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية ضربه عمر بالدرة وقال قد أكثرت من الرواية وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(2).

وأمّا السبب في منع عمر بن عبدالعزيز عن ذلك فهو على ما روى عنه أنّه قال: نكت غلاما أقرء القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود، فمر بي يوما وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن عليّاً، فكره ذلك ودخل المسجد فتركت الصبيان وجئت إليه لادرس عليه وردي، فلما رءاني قام وصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني حتى أحسست منه بذلك فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي، فقلت له: ما بال الشيخ، فقال لي: يا بني أنت اللاعن عليا منذ اليوم؟ قلت: نعم، قال: فمتى علمت أن اللَّه سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ فقلت: يا أبه وهل كان علي من أهل بدر؟ فقال: ويحك وهل كان بدر كلها إلّا له، فقلت: لا أعود، فقال: اللَّه انك لا تعود، قلت: نعم، فلم العنه بعدها ثم كنت أحضر تحت منبر المدينه وأبي يخطب يوم الجمعة وهو حينئذ أميرالمدينة فكنت أسمع يمر في خطبه تهدر شقاشقة حتى يأتي إلى لعن علي فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما اللَّه عالم به، فكنت أعجب من ذلك فقلت له يوما: أنت أفصح الناس وأخطبهم فما بالى أراك أفصح خطيب يوم حفلك وإذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عييا فقال: يا بني إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم

ص: 114


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/63 - 65.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/67.

يتبعنا منهم أحد، فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلمي ايام صغري، فأعطيت اللَّه عهدا لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لا غيرنه، فلما من اللَّه على بالخلافة أسقطت ذلك وجعلت مكانه:

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1).

وكتبت به إلى الآفاق فصار سنة(2).

وعن مروج الذهب جعل مكانه:

«رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(3).(4)

وفي هذا المعنى قال السيد الرضي رحمة اللَّه عليه:

يابن عبد العزيز لو بكت العين * فتى من أمية لبكيتك

غير اني أقول إنك قد طبت * وإن لم يطب ولم يزك بيتك

أنت نزهتنا عن السب والقذف * فلو أمكن الجزاء جزيتك

ولو إني رأيت قبرك لاستحييت * من أن أرى وما حييتك

وقليل أن لو بذلت دماء البدن * صرفا على الذراو سقيتك

دير سمعان(5) فيك نادى أبي حفص * يؤدي لو انني اوتيتك

دير سمعان لا أعبك(6) غيث * خير ميت من آل مروان ميتك

ص: 115


1- سورة النحل: 90.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/58.
3- سورة الحشر: 10.
4- مروج الذهب: 3/184.
5- دير سمعان موضع بحمص به دفن عمر بن عبدالعزيز قاموس.
6- اعب القوم جاءهم يوماً وترك يوماً، ق.

أنت بالذكر بين عيني وقلبي * إن تدا نيت منك أو إن نأيتك(1)

وعجبت إني قليت بني مروان * كلا وأنتي ما قليتك

قرب العدل منك لما نأى الجور * منهم فأحتويتهم واجتبيتك

فلو اني ملكت دفعا لما نابك * من طارق الردى لفديتك(2)

ص: 116


1- نأى منه أي بعد.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/60.

فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ وَلَكُمْ نَجَاةٌ

ورد في الحديث: ذكر المؤمن بسوء هو زكوة له وذمّه بما ليس فيه زيادة في حسابه (في جاهه وشرفه)(1).

قال ابن أبي الحديد: الزكاة النماء، والزيادة، ومعنى كون السبّ زكاة له عليه السلام إمّا ما ورد في الخبر أنّ سبّ المؤمن زكاة له وزيادة في حسناته، وإمّا أنّ سبّهم لي لا ينقص قدري بل أزيد به شرفا وعلوّّ قدر وشياع ذكر، وهكذا كان. فإنّ اللَّه تعالى جعل الأسباب الّتي حاولت أعداؤه بها الغضّ منه عللا لانتشار صيته في مشارق الأرض ومغاربها(2).

ومن آيات أميرالمؤمنين صلوات اللَّه عليه وبيناته التي انفرد بها ممّن عداه، ظهور مناقبه في الخاصة والعامة، وتسخير الجمهور لنقل فضائله، وما خصّه اللَّه به من كرائمه وتسليم العدّو من ذلك بما فيه الحجّة عليه. هذا مع كثرة المنحرفين عنه والأعداء له، وتوفر أسباب دواعيهم إلى كتمان فضله، وجحد حقّه، وكون الدنيا في

ص: 117


1- تنبيه الغافلين وتذكرة العارفين: 1/291.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/111؛ بحار الأنوار: 39/326.

يد خصومه، وانحرافها عن أوليائه، وما اتّفق لأضداده من سلطان الدنيا، وحمل الجمهور على إطفاء نوره ودحض أمره. فخرق اللَّه العادة بنشر فضائله، وظهور مناقبه، وبتسخير الكلّ للاعتراف بذلك، والإقرار بصحته، واندحاض ما احتال به اعداؤه في كتمان مناقبه، وجحد حقوقه، حتّى تمّت الحجّة، وظهر البرهان بحقّه.

ولمّا كانت العادة جارية بخلاف ما ذكرناه في من اتّفق له من أسباب خمول أمره ما اتّفق لأميرالمؤمنين عليه السلام فانخرقت العادة فيه، دلّ ذلك على بينونته من الكافة بباهر الآية على ما وصفناه.

وقد شاع الخبر عن الشعبي أنّه كان يقول: لقد كنت أسمع خطباء بني اميّة يسبّون عليّاعليه السلام على منابرهم وكأنّما يشال بضبعه إلى السماء، وكنت أسمعهم يمدحون أسلافهم على منابرهم، وكأنّما يكشفون عن جيفة.

وقال الوليد بن عبدالملك لبنيه يوما: عليكم بالدين فإنّي لم أر الدين بنى شيئا فهدمته الدنيا، ورأيت الدنيا قد بنت بنيانا، فهدمه الدين. ما زلت أسمع أهلنا يسبّون عليّا، ويدفنون فضائله، ويحملون الناس على شنآنه. فلا يزيده ذلك من القلوب إلّا قربا، ويجتهدون في تقريبهم من نفوس الخلق. فلا يزيدهم من القلوب إلّا بعدا - إلى أن قال - : وكانت الولاة الجورة تضرب بالسياط من ذكره بخير، بل تضرب الرقاب على ذلك وتعرض الناس على البراءة منه، والعادة جارية في من اتّفق له ذلك ألّا يذكر على وجه بخير، فضلا عن أن تذكر له فضائل، وإذا كان ظهور فضائله على ما قدّمنا ذكره من شياع ذلك في الخاصة والعامة، وتسخير العدوّ، والولي لنقله، ثبت خرق العادة فيه، وبان وجه البرهان في معناه بالآية الباهرة(1).

ص: 118


1- الإرشاد 1/309؛ بحار الأنوار: 42/18، ش 6.

ثم أمره عليه السلام أصحابه بسبّه عند أمر الجبابرة لهم بذلك لكونه زكاة له عليه السلام ونجاة لهم أمر إباحة لاستثنائه من الحظر. لا أمر إيجاب، وكان يجوز لهم الاستسلام للهلكة وتركه بل هو أحسن وكونه أرفع درجة.

عن الباقرعليه السلام أنّ الحجّاج قال ليحيى ابن أمّ الطويل: العن أبا تراب. فأبي. فأمر بقطع يديه ورجليه وقتله(1).

وروى أنّ الحجاج كتب إلى محمّد بن القاسم الثقفي، أن ادع عطية فإن لعن عليّا وإلّا فاضربه(2).

وروى الطبري في صيفي بن فسيل - من رؤوس أصحاب حجر بن عدي - أنّ زيادا قال له: يا عدوّ اللَّه ما تقول في أبي تراب قال: ما أعرف أبا تراب. قال: ما أعرفك به قال: ما أعرفه. قال: أما تعرف علي بن أبي طالب قال: بلى. قال: فذاك أبوتراب . قال: كلّا ذاك أبوالحسن وأبوالحسين عليه السلام. فقال له صاحب الشرطة: يقول لك الأمير هو أبوتراب وتقول أنت لا. قال له: ان كذب الأمير أ تريد أن أكذب، وأشهد له على باطل كما شهد. قال زياد: علي بالعصا. فاتى بها قال: ما قولك فيه قال: أحسن قول أنا قائله في عبد من عباداللَّه المؤمنين. قال: اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض. فضرب حتّى لزم الأرض. ثمّ قال: أقلعوا عنه. إيه ما قولك في عليّ قال: واللَّه لو شرحتني بالمواسي والمدى ما قلت إلّا ما سمعت منّي. قال: لتلعننّه أو لأضربن عنقك. قال: اذن تضربها واللَّه قبل ذلك...(3).

ثمّ مع جوازه يجب عليه التورية إن أمكنه ذلك، روى الكشي أنّ معاوية قال

ص: 119


1- رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال: 123، ح 195؛ بحار الأنوار: 71/220.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: 6/304.
3- تاريخ الطبري: 4/198.

لصعصعة بن صوحان: اصعد المنبر والعن عليّا. فصعده وقال: أيّها الناس إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليّ بن أبي طالب. فالعنوا من لعن علي بن أبي طالب فضجّوا بآمين. فلمّا خبّر معاوية قال: لا واللَّه ما عنى غيري؛ أخرجوه لا يساكنني في بلد. فأخرجوه(1).

وعن الأعمش قال: رأيت عبدالرحمن بن أبي ليلى ضربه الحجّاج وأوقفه على باب المسجد، فجعلوا يقولون له: العن الكاذبين عليّ بن أبي طالب، وعبداللَّه بن الزبير، والمختار بن أبي عبيد. فقال: لعن اللَّه الكاذبين - ثمّ قال - : عليّ بن أبي طالب - إلى أن قال - فعرفت حين سكت ثمّ ابتدأ فرفع أنّه ليس يريدهم(2).

هذا، وروى أنّ أباالصباح الكناني قال للصادق عليه السلام: إنّ لنا جارا يجلس الينا، فنذكر فضل عليّ عليه السلام فيقع فيه. أفتاذن لي فيه. فقال عليه السلام: دعه فستكفي. فلّما رجعت إلى الكوفة قيل لي بعد ثمانية عشر يوماً انّ الرجل ايقظ فإذن هو مثل الزق المنفوخ ميّتا فذهبوا يحملونه. فإذا لحمه يسقط عن عظمه. فجمعوه في نطع فإذا تحته أسود(3).

وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي

قال ابن أبي الحديد: لا فرق عند أصحابنا بين السبّ والتبرّي في جواز فعلهما مع التقية، وتركهما إعزازا للدين، وإنما استفحش عليه السلام البراءة لأنّ هذه اللفظة ما

ص: 120


1- رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال: 69/ ش 123.
2- تنبيه الغافلين وتذكرة العارفين: 1/291.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/111؛ بحار الأنوار: 39/326.

وردت في القرآن إلّا عن المشركين مثل قوله تعالى: «بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»(1) فصارت الكلمة بالعرف الشرعي مطلقة على المشركين خاصة، وأما الإمامية فتروي عنه عليه السلام أنّه قال: إذا عرضتم على البراءه منّا فمدّوا الأعناق. ويقولون: لا يجوز التبرّي منه إن كان الحالف صادقا وإنّ عليه الكفاره ويقولون: إنّ حكم البراءة من اللَّه تعالى ومن الرسول صلى الله عليه وآله ومن أحد الأئمةعليه السلام واحد، ويقولون: إنّ الإكراه على السبّ يبيج إظهاره، ولا يجوز الاستسلام للقتل معه، وأمّا الإكراه على البراءة فإنّه يجوز معه الاستسلام للقتل، ويجوز إظهار التبري، والأولى الاستسلام(2).

قال المحقق التستري قدس سره: كلامه كلّه خلط وخبط. أما قوله صارت كلمة البراءة بالعرف الشرعي مطلقة على المشركين خاصة فجزاف، فأيّ دلالة للآية على ما قال بعد التصريح فيها بأنّ اللَّه ورسوله بري ء من المشركين.

وأما قوله فتروي الإمامية عنه عليه السلام «إذا عرضتم على البراءة منّا فمدوا الأعناق» فبهتان. فالأصل في الرواية العامة وتبعهم المصنّف وقبله شيخه المفيد غفلة فقال في (ارشاده) ما استفاض عنه عليه السلام من قوله: «إنّكم ستعرضون من بعدي على سبّي فسبّوني فإن عرض عليكم البراءة منّي فلا تبرأوا منّي فإنّي ولدت على الاسلام فمن عرض عليه البراءة منّي فليمدد عنقه.

فمن تبرأ منّي فلا دنيا له ولا آخرة»(3) وأمّا الإماميّة فرووا تكذيب ما نسبوا إليه من أنّه عليه السلام قال لا تتبرءوا منّي(4).

ص: 121


1- سورة التوبة: 1.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/113.
3- الإرشاد: 1/322.
4- بهج الصباغة: 5/580.

عن مسعدة بن صدقة أنّه قيل لجعفر بن محمّدعليه السلام: إنّ الناس يروون أنّ عليّاعليه السلام قال على منبر الكوفة: «أيّها الناس أنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثمّ تدعون إلى البراءة منّي فلا تتبرّأوا منّي». فقال، ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ عليه السلام. إنّما قال: «إنّكم ستدعون الى سبّي فسبّوني ثم ستدعون إلى البراءة منّي وإنّي لعلى دين محمّد» ولم يقل «ولا تتبرءوا منّي». فقال له السائل: أرأيت إن اختار القتل دون البراءة. فقال: واللَّه ما ذلك عليه، وماله إلّا ما مضى عليه عمّار حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان. فأنزل اللَّه فيه إلّا «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»(1) فقال له النبي صلى الله عليه وآله عندها: يا عمّار ان عادوا فعد فقد أنزل اللَّه تعالى عذرك(2).

وروى إبراهيم الثقفي في (غاراته) - وقد نقله ابن أبي الحديد نفسه - عن يوسف بن كليب المسعودي، عن يحيى بن سليمان العبدي، عن أبي مريم الأنصاري عن محمّد بن علي الباقرعليه السلام قال: خطب عليّ عليه السلام على منبر الكوفة.

فقال «سيعرض عليكم سبّي وستذبحون عليه فإن عرض عليكم سبّي فسبّوني، وإن عرض عليكم البراءة منّي فإنّي على دين محمّدصلى الله عليه وآله» ولم يقل فلا تبرأوا منّي(3).

وعن أحمد بن المفضل عن الحسن بن صالح عن جعفر بن محمّدعليه السلام قال: قال عليّ عليه السلام: واللَّه لتذبحنّ على سبّي - وأشار بيده إلى حلقه - ثمّ قال «فإن أمروكم

ص: 122


1- سورة النحل: 106.
2- الكافي: 2/219، ح 1؛ تفسير الصافي: 3/157؛ بحار الأنوار: 39/316، ح 14.
3- الغارات: 1، المقدمة 85؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/106.

بسبّي فسبّوني، وإن أمروكم أن تبرأوا منّي فإنّي على دين محمّدصلى الله عليه وآله ولم ينههم عن إظهار البراءة(1). فهذه ثلاثة أخبار: خبران عن الصادق عليه السلام وخبر عن الباقرعليه السلام أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام لم ينههم عن إظهار البراءة، وإن نسبة النهي إليه عليه السلام من العامة.

وبالجملة، المحقّق من الفرق بين السبّ والبراءةعليه السلام في السب قال «فسبّوني»، وأمّا في البراءة فلم يقل «فتبرءوا منّي» وإنّما اقتصر على قوله عليه السلام «فإنّي على دين محمّدصلى الله عليه وآله فتوهّموا انّه نهى فدفع عترته عليه السلام التوهّم بأنّه اقتصر على ذاك، وهو أعم من النهي وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله قال له «الإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي»(2).

ووجه تفريقه عليه السلام أنّ من يأمرهم بالسبّ يأمرهم لهوى نفسه فلا يقبل جوابه، وأمّا من يأمرهم بالتبرّي فإنّما يأمرهم بالتبرّي منه عليه السلام أي من دينه.

فعلّمهم عليه السلام كيف يجيبونهم بأنّ دين علي عليه السلام دين محمّدصلى الله عليه وآله وهم كانوا في الظاهر مقرّين به ولا يمكنهم انكاره.

روى أنّ شرطة معاوية لمّا قتلوا حجرا مع خمسة من أصحابه لعدم قبولهم التبرّي قال عبدالرحمن بن حسان العنزي، وكريم بن عفيف الخثعمي: إبعثوا بنا إلى معاوية فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته. فبعثوا بهما إليه فقال الخثعمي له: اللَّه اللَّه يا معاوية فإنّك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة ثمّ مسئول عمّا أردت بقتلنا، وفيم سفكت دماءنا. فقال له معاوية: ما تقول في عليّ قال: أقول

ص: 123


1- الغارات: مقدمة 84: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/106؛ بحار الأنوار: 72/420.
2- كنز الفوائد: 2/179: غرر الأخبار: 65؛ بحار الأنوار: 37/272.

فيه قولك أتبرأ من دين عليّ الّذي كان يدين اللَّه به(1).

وروى أصحاب السيرة من طرق مختلفة أنّ الحجاج قال لقنبر: إبرأ من دين عليّ. قال. فإذا برئت من دينه تدلّني على دين أفضل من دينه. قال: إنّي قاتلك. فقال له: إنّه عليه السلام أخبرني أن منيتي تكون ذبحا ظلما بغير حقّ. فأمر به فذبح(2).

ومن شعر علي عليه السلام الّذيى لا اختلاف فيه أنّه قاله وكان يردّده:

يا شاهد اللَّه علي فاشهد * أنّي على دين النبيّ أحمد

من شك في اللَّه فإنّي مهتدي(3)

وفي كتاب الحسين عليه السلام إلى معاوية: أو لست صاحب الحضرميّين الّذين كتب فيهم ابن سميّة انّهم كانوا على دين عليّ فكتبت إليه أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ. فقتلهم ، ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ واللَّه الّذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الّذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك، وشرف أبيك الرحلتين(4).

وحجر بن عدي مع أصحابه كانوا أربعة عشر تبرّأ نصفهم وهم كريم بن عفيف، وعبداللَّه بن حوية، وعاصم بن عوف، وورقاء بن سمي، والأرقم بن عبداللَّه، وعتبة بن الأخنس، وسعد بن نمران، فنجوا، وأبى نصفهم فقتلوا، وهم حجر، وعبدالرحمن العنزي، وشريك بن شدّاد، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز بن شهاب، وكدام بن حيان.

ص: 124


1- تاريخ الطبري: 4/206/سنة 51.
2- الإرشاد: 1/328؛ بحار الأنوار: 42/126.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/278؛ بحار الأنوار: 33/352.
4- رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال - : 50: الامامة والسياسة (تحقيق الزيني): 1/156؛بحار الأنوار: 44/213.

وروى النسوي أنّ عليّاعليه السلام قال: يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء مثلهم كمثل أصحاب الاخدود(1).

ولمّا صار حجر وأصحابه إلى مرج عذراء. على اثني عشر ميلا من دمشق - تقدّم البريد بخبرهم إلى معاوية. فبعث برجل أعور. فلمّا أشرف عليهم قال رجل من أصحاب حجر: إن صدق الزجر فإنّه يقتل منّا النصف. وينجو الباقون فقيل له وكيف ذلك قال: أما ترون الرجل المقيل مصابا بإحدى عينيه. فلمّا وصل إليهم قال لحجر إنّ الخليفة أمرني بقتلك يا رأس الضلال، ومعدن الكفر والطغيان، والمتولي لأبي تراب وقتل اصحابك إلّا أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم، وتبرأوا منه. فقال حجر وجماعة من أصحابه إنّ الصبر على حدّ السيف لأيسر علينا ممّا تدعونا إليه، وأجاب نصفهم إلى البراءة منه عليه السلام. فلمّا قدّم حجر ليقتل قال دعوني اصلّي ركعتين. فجعل يطول في صلاته. فقيل له: أجزعا من الموت. فقال: لا ولكنّي ما تطهرت للصلاة قط إلّا صليت وما صلّيت قطّ أخفّ من هذه، وكيف لا أجزع، وإنّي لأرى قبرا محفورا وسيفا مشهورا، وكفنا منشورا، ثمّ قدّم فنحر، والحق به من وافقه منهم(2).

ولمّا أرادوا قتل حجر قال لمن حضره، من أهله: لا تطلقوا عنّي حديدا، ولا تغسلوا عنّي دما. فإنّي الاقي معاوية غدا على الجادة فكان محمّد بن سيرين إذا سئل عن الشهيد هل يغسّل حدّثهم حديث حجر، وقال بلغنا أنّ معاوية لمّا حضرته الوفاة جعل يغرغر بالصوت، ويقول يومي منك يا حجر طويل(3).

ص: 125


1- مناقب آل أبي طالب عليهم السلام: 2/272؛ بحار الأنوار: 41/316.
2- مروج الذهب: 3/4.
3- تاريخ الطبري: 4/190/ سنة 51.

وقال معاوية لعبد الرحمن العنزي: ما قولك في عليّ قال: لا تسألني خير لك قال: لا أدعك حتّى تخبرني. قال: أشهد أنّه كان من الذاكرين اللَّه كثيرا، ومن الآمرين بالحقّ، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس. قال: فما قولك في عثمان قال: هو أوّل من فتح باب الظلم، وأرتج أبواب الحقّ. فبعث معاوية به إلى زياد، وكتب إليه اقتله شرّ قتلة. فبعث به زياد إلى قسّ الناطف فدفن به حيّا(1).

وممّن عرض عليه البراءة فأبى وقتل رشيد الهجري، وميثم التمّار.

عن قنواء بنت رشيد عن أبيها قال: قال لي أميرالمؤمنين عليه السلام كيف صبرك إذا أرسل اليك دعيّ بني أميّة. فقطع يديك ورجليك ولسانك قالت: فواللَّه ما ذهبت الأيّام حتّى أرسل إليه عبيداللَّه بن زياد الدعيّ فدعاه إلى البراءة منه عليه السلام فأبى أن يبرأ...(2).

وعن ميثم قال: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعيّ بني اميّة ابن دعيّها عبيداللَّه بن زياد إلى البراءة منّي فقلت: يا أميرالمؤمنين أنا واللَّه لا أبرأ منك. قال: إذن واللَّه يقتلك ويصلبك. قلت: أصبر فذاك في اللَّه قليل...(3).

وتفصيل جريانهما: عن زياد بن النصر الحارثي قال كنت عند زياد وقد أتى برشيد الهجري وكان من خواص أصحاب علي عليه السلام فقال له زياد: ما قال لك خليلك إنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني! فقال زياد: أما واللَّه لأكذبن حديثه خلوا سبيله، فلما أراد أن يخرج قال: ردوه لا نجد شيئا أصلح

ص: 126


1- تاريخ الطبري: 4/206.
2- رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال - : 75، ش 131؛ بحار الأنوار: 72/433.
3- رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال - : 83، ش 139؛ بحار الأنوار: 43/130، ح 13.

مما قال لك صاحبك، إنك لا تزال تبغي لنا سوء إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه، فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم، فقال اصلبوه خنقا في عنقه، فقال رشيد: قد بقي لي عندكم شي ء ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه. فلما أخرجوا لسانه ليقطع قال: نفسوا عني أتكلم كلمة واحدة، فنفسوا عنه، فقال: هذا واللَّه تصديق خبر أميرالمؤمنين أخبرني بقطع لساني، فقطعوا لسانه وصلبوه(1).

وعن أحمد بن الحسن الميثمي قال: كان ميثم التمار مولى علي بن أبي طالب عبدا لا مرئة من بني أسد، فاشتراه علي منها وأعتقه، وقال له ما اسمك؟ فقال: سالم فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: أخبرني أن اسمك الذي سماك به أبوك في العجم ميثم، فقال: صدق اللَّه وصدق رسوله وصدقت يا أميرالمؤمنين فهو واللَّه اسمي قال: فارجع إلى اسمك ودع سالما فنحن نكنيك به فكناه أبا سالم.

قال وقد كان قد أطلعه علي عليه السلام على علم كثير وأسرار خفية من أسرار الوصية، فكان ميثم يحدث ببعض ذلك فيشك فيه قوم من أهل الكوفة وينسبون عليا في ذلك إلى المخرفة والايهام والتدليس.

حتى قال له يوما بمحضر من خلق كثير من أصحابه وفيهم الشاك والمخلص:

يا ميثم إنك تؤخذ بعدي وتصلب، فاذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دما حتى يخضب لحيتك، فاذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضى عليك، فانتظر ذلك، والموضع الذي تصلب فيه نخلة على باب دار عمرو بن حريث، إنك لعاشر عشرة أنت أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة يعني الأرض، ولارينك النخلة التي تصلب على جذعها، ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين.

ص: 127


1- الغارات (ط - الحديثة) 2/799؛ بحار الأنوار: 41/345.

وكان ميثم يأتيها فيصلي عندها ويقول: بوركت من نخلة، لك خلقت، ولي نبت، فلم يزل يتعاهدها بعد قتل علي عليه السلام حتى قطعت، فكان يرصد جذعها ويتعاهده ويتردد إليه ويبصره، وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له: إني مجاورك فأحسن جواري، فلا يعلم ما يريد فيقول له: أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أم دار ابن حكيم؟

قال: وحج في السنة التي قتل فيها، فدخل على أم سلمة رضي اللَّه عنها، فقالت له: من أنت؟ قال: عراقي فاستنسبته فذكر لها أنه مولى علي بن أبي طالب، فقالت: وأنت ميثم؟ قال: أنا ميثم، فقال: سبحان اللَّه واللَّه لربما سمعت رسول اللَّه يوصي بك عليا في جوف الليل فسألها عن الحسين بن علي عليه السلام فقالت: هو في حايط له.

قال: أخبريه أني قد أحببت السلام عليه ونحن ملتقون عند رب العالمين إنشاء اللَّه ولا أقدر اليوم على لقائه وأريد الرجوع.

فدعت بطيب فطيبت لحيته فقال لها: أما أنها ستخضب بدم فقالت: من أنباك هذا؟ قال أنبأني سيدي فبكت أم سلمة وقالت له: إنه ليس بسيدك وحدك وهو سيدي وسيد المسلمين اجمعين؛ ثم ودعته.

فقدم الكوفة فاخذ وادخل على عبيداللَّه بن زياد، وقيل له: هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب، قال: ويحكم هذا الأعجمي؟ قالوا: نعم، فقال له عبيداللَّه: أين ربك؟ قال: بالمرصاد، قال: قد بلغني اختصاص أبي تراب لك، قال: قد كان بعض ذلك فما تريد؟ قال: وانه ليقال إنه قد أخبرك بما سيلقاك، قال نعم: أخبرني.

قال: ما الذي أخبرك أني صانع بك؟ قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة وأنا أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، قال: لأُخالفنّه، قال: ويحك كيف تخالفه؟ إنما

ص: 128

أخبر عن رسول اللَّه، وأخبر رسول اللَّه عن جبرئيل، وأخبر جبرئيل عن اللَّه، فكيف تخالف هؤلاء أما واللَّه لقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه أين هو من الكوفة، وإني لأول خلق اللَّه الجم في الاسلام بلجام كما يلجم الخيل، فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة الثقفي، فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد: إنك تفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين عليه السلام فتقتل هذا الجبار الذي نحن في حبسه وتطاء بقدمك هذا على جبهته وخديه، فلما دعا عبيداللَّه بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيداللَّه بن زياد أمره بتخلية سبيله وذاك أن اخته كانت تحت عبداللَّه بن عمر بن الخطاب، فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد فشفع فأمضي شفاعته وكتب بتخلية سبيل المختار على البريد فوافى البريد وقد اخرج ليضرب عنقه فاطلق.

وأما ميثم فاخرج بعده ليصلب وقال عبيداللَّه لأمضين حكم أبي تراب فيك فلقاه رجل فقال له: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم؟ فتبسم فقال وهو يؤمي إلى النخلة لها خلقت ولي غذيت، فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو ابن حريث، فقال عمرو: ولقد كان يقول لي إني مجاورك فكان يأمر جاريته كل عشية أن تكنس تحت خشبته وترشه وتجمر بالمجمر تحته.

فجعل ميثم يحدث بفضايل بني هاشم ومخازي بني أمية وهو مصلوب على الخشبة فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألجموه، فالجم فكان أول خلق اللَّه ألجم في الإسلام، فلما كان اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دما، فلما كان اليوم الثالث طعن بحربة فمات، وكان قتله قبل قدوم الحسين عليه السلام العراق بعشرة أيام(1).

ص: 129


1- الغارت (ط - الحديثة): 2/797؛ بحار الأنوار: 41/343.

وكيف يصحّ ما قاله من أنّ الإماميّة تروي أنّه لا يجوز التبرّي منه وروى عبداللَّه بن عطاء قال: قلت لأبي جعفرعليه السلام رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما ابرأا مِنْ أميرالمؤمنين فبرئ واحد منهما وأبي الآخر فخلي سبيل الذي برئ وقتل الآخر فقال أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة(1).

وعن الصادق عليه السلام ما منع ميثم رحمه الله من التقية فو اللَّه لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمّار وأصحابه «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»(2)،(3). ومرّ أنّ ميثما دعي إلى البراءة.

هذا، وروى (ذيل الطبري)، أنّ الحجاج قال للحسن البصري: ما تقول في أبي تراب قال: وما عسى أن أقول إلّا ما قال اللَّه تعالى. قال: وما قال؟ قال: قال: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ»(4) وكان عليّ ممّن هدى اللَّه. فغضب ثمّ أكبّ ينكت الأرض، وخرجت لم يعرض لي أحد، فتواريت تسع سنين حتّى مات(5).

وأمّا قوله: «ويقولون لا يجوز التبرّي منه إن كان الحالف صادقا وانّ عليه الكفّارة...» فخلط منه، فإنّ كلامنا في الإكراه على التبرّي منه عليه السلام، وما ذكره أمر آخر، وهو عدم جواز الحلف بالبراءة لمن كان صادقا، وهو لا يناسب هنا بل كلامه عليه السلام في احلاف الظالم والمبطل بالبراءة من اللَّه تعالى حتّى يعجل تعالى منه الانتقام.

ص: 130


1- الكافي: 2/221، ح ح 21؛ بحار الأنوار: 72/436، ح 101.
2- سورة النحل: 106.
3- الكافي: 2/220، ح 15؛ بحار الأنوار: 72/432، ح 95.
4- سورة البقرة: 143.
5- أنساب الأشراف: 13/365 والمنتخب من ذيل المذيل للطبري: 126.

روى إنّ مسيلمة الكذّاب أخذ رجلين من المسلمين فقال لاحدهما ما تقول في محمّدصلى الله عليه وآله؟ قال: رسول اللَّه، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أيضاً فخلّاه وقال للآخر: ما تقول في محمّدصلى الله عليه وآله؟ قال: رسول اللَّه قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصمّ فاعاد عليه ثلاثا فاعاد جوابه الأوّل فقتله فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال أما الأوّل فقد أخذ برخصة اللَّه وأمّا الثّاني فقد صدع بالحقّ فهنيئاً له(1).

فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ

قال ابن أبي الحديد: ولدعليه السلام لثلاثين من عام الفيل والنبيّ صلى الله عليه وآله بعث لأربعين منه، وقال النبيّ صلى الله عليه وآله ليلة ولادته عليه السلام: «لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح اللَّه علينا به أبوابا كثيرة من النعمة والرحمة».

ويمكن أن يكون مراده عليه السلام بالفطرة العصمة، وأنّه عليه السلام منذ ولد لم يواقع قبيحا، ولا كان كافرا طرفة عين، ولا مخطئا، ولا غالطا في شي ء من الأشياء المتعلقة بالدين، وهذا تفسير الإمامية(2) ورواه العامة أيضاً.

ففي (مسند أحمد بن حنبل) عن سليمان قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله: كنت أنا وعليّ نورا بين يدي اللَّه قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام. فلمّا خلق اللَّه آدم قسّم ذلك النور جزأين: فجزء أنا وجزء عليّ(3).

ورواه ابن المغازلي، وفي آخره بعد قوله: «جزأين» «جزء في صلب عبداللَّه،

ص: 131


1- زهر الربيع: 184.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/114 - 116؛ بحار الأنوار: 39/327 - 329.
3- تذكرة الخواص (ط جديد): 1/320.

وجزء في صلب أبي طالب، فأخرجني نبيّا وأخرج عليّا وصيّا»(1).

وعن ابن مسعود قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله: أوحى اللَّه تعالى إلى إبراهيم «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا»(2) - إلى أن قال - قال: قال «ومن ذرّيتي» - إلى أن قال - قال تعالى لا أعطيك لظالم من ذريّتك. قال إبراهيم عندها «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ»(3) قال النبيّ صلى الله عليه وآله: فانتهت الدعوة إليّ وإلى عليّ لم يسجد أحدنا لصنم قط. فاتخذني اللَّه نبيّا واتّخذ عليّا وصيّا(4).

وَسَبَقْتُ إِلَى الإِيمَانِ

قال ابن أبي الحديد: أن أكثر أهل الحديث وأكثر المحققين من أهل السيرة رووا أنه عليه السلام أول من أسلم ونحن نذكر كلام أبي عمر يوسف بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف بالإستيعاب.

قال أبو عمر في ترجمة علي عليه السلام المروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وأبي سعيد الخدري وزيد بن أسلم أن علياعليه السلام أول من أسلم وفضله هؤلاء على غيره.

قال أبو عمرو قال ابن إسحاق أول من آمن باللَّه وبمحمد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام وهو قول ابن شهاب إلّا أنه قال من الرجال بعد خديجة.

قال أبوعمر وحدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا

ص: 132


1- مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام لابن المغازلي: 95، ح 116.
2- سورة البقرة: 124.
3- سورة ابراهيم : 35 .
4- مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام لابن المغازلي: 224، ح 291.

محمد بن جرير قال حدثنا علي بن عبداللَّه الدهقان قال حدثنا محمد بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال لعلي عليه السلام أربع خصال ليست لأحد غيره هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وهو الذي كان معه لواؤه في كل زحف وهو الذي صبر معه يوم فرعنه غيره وهو الذي غسله وأدخله قبره.

قال أبوعمرو روي عن سلمان الفارسي أنه قال أول هذه الأمة ورودا على نبيهاصلى الله عليه وآله الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب.

قال أبوعمر فأما إسناده المرفوع.

فإن أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن الحارث بن أبي أسامه قال حدثني يحيى بن هاشم قال حدثنا سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن حنش بن المعتمر عن عليم (عكيم) الكندي عن سلمان الفارسي قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أولكم واردا علي الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب.

قال أبو عمرو روى أبو داود الطيالسي قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس أنه قال أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله بعد خديجة علي بن أبي طالب قال أبو عمرو حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا الحسن بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال كان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة.

قال أبوعمر هذا الإسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقلته.

ص: 133

قال أبوعمر اتفق ابن شهاب وعبداللَّه بن محمد بن عقيل وقتادة وابن إسحاق على أن أول من أسلم (آمن) من الرجال علي واتفقوا على أن خديجة أول من آمن باللَّه ورسوله وصدقه فيما جاء به ثم علي بعد.

ذكر عبدالرزاق في جامعه عن معمر عن قتادة عن الحسن وغيره قالوا أول من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب عليه السلام.

وروى معمر عن عثمان الجزري عن مقسم عن ابن عباس قال أول من أسلم علي بن أبي طالب.

قال أبوعمرو روى ابن فضيل عن الأجلح عن حبة بن جوين العربي قال سمعت علياعليه السلام يقول لقد عبدت اللَّه قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين.

قال أبوعمرو روى شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبة العربي قال سمعت عليا يقول أنا أول من صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله.

قال أبو عمرو قد روى سالم بن أبي الجعد قال قلت لابن الحنفية أبوبكر كان أولهما إسلاما قال لا.

قال أبوعمرو روى مسلم الملائي عن أنس بن مالك قال استنبئ النبي صلى الله عليه وآله يوم الإثنين وصلى علي يوم الثلاثاء.

قال أبو عمرو قال زيد بن أرقم أول من آمن باللَّه بعد رسوله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب(1).

ثمّ إنّ ما ذكره الشّارح المعتزلي وان كان كافيا لاثبات الموضوع الّا انّا أردنا تعقيبه بذكر روايات اخر وردت في هذا الموضوع من طرق العامّة - المذكورة في

ص: 134


1- الاستيعاب: 3/1090 - 1095؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/116.

كتبهم المعتبرة عندهم فنقول: فمنها: عبداللَّه بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبو الفضل الخراساني قال: حدثنا أبو غسان عن إسرائيل عن جابر عن عبداللَّه ابن نجي عن علي عليه السلام قال: «صلّيت مع النبيّ صلى الله عليه وآله ثلاث سنين قبل أن يصلي معه أحد»(1).

ومنها: ما رواه باسناده عن جابر الجعفي عن عبداللَّه بن نجي قال: سمعت علياعليه السلام يقول: «لقد صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ثلاث سنين قبل أن يصلي معه أحد من الناس»(2).

ومنها: ما رواه باسناده عن حبة العرني قال رأيت علياعليه السلام يضحك يوما [ضحك] لم أره ضحك أكثر منه حتى بدت نواجده قال: «بينا أنا مع رسول اللَّه» وذكر الحديث ثم قال: «اللهم إني لا أعرف أن عبدا لك من هذه الأمّة عبدك قبلي غير نبيك صلى الله عليه وآله قال ذلك ثلاث مرات ثم قال: «لقد صليت قبل أن يصلي أحد سبعا»(3).

ومنها: ابن المغازلي الشافعي الفقيه الواسطي في قوله «(السابقون السابقون)» قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عبدالوهاب وساق الحديث باسناده عن ابن عباس في قوله تعالى: ««وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ»(4) قال سبق يوشع بن نون إلى موسى وسبق صاحب يس إلى عيسى وسبق على إلى محمدصلى الله عليه وآله(5).

ومنها: ابن المغازلي أيضاً باسناده عن عبدالرحمن بن سعد مولى أبي أيوب عن

ص: 135


1- فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل: 2/681، ح 1165.
2- فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل: 2/682، ح 1166.
3- فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل: 2/681، ح 1164.
4- الواقعة: 10.
5- المناقب لابن المغازلي: 1/385، ح 365.

أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي أحد غيره(1).

ومنها: ابن المغازلي أيضاً باسناده عن أنس بن مالك يقول قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: «صلت الملائكة علي وعلى علي سبعا وذلك أنه لم يرفعه إلى السماء شهادة أن لا إله إلّا اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله إلّا مني أو منه»(2).

ومنها: ابن المغازلي ايضاً باسناده عن سلمان الفارسي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: «أول الناس ورودا علي الحوض أولهم إسلاما علي بن أبي طالب»(3).

وامّا علماء الشيعة فلا شكّ عندهم في كونه عليه السلام أوّل النّاس اسلاما، واسبقهم ايمانا قولا واحدا ولم يخالف فيه احد ومع ذلك نشير إلى بعض الرّوايات الواردة فيه من طرقنا تيمنّا وتبركا وتتميما وتكميلا للبحث.

فمنها - عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأصحهم دينا وأفضلهم يقينا وأحلمهم حلما...(4).

ومنها: عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري قال قال النبي صلى الله عليه وآله: إن اللَّه تبارك وتعالى اصطفاني واختارني وجعلني رسولا وأنزل علي سيد الكتب فقلت إلهي وسيدي إنك أرسلت موسى إلى فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هرون وزيرا تشد به عضده وتصدق به قوله وإني أسألك يا سيدي وإلهي أن تجعل لي من أهلي وزيرا تشد به عضدي فجعل اللَّه لي عليا وزيرا وأخا وجعل الشجاعة في قلبه وألبسه

ص: 136


1- المناقب لابن المغازلي: 1/38، ح 17.
2- المناقب لابن المغازلي: 1/40، ح 19.
3- المناقب لابن المغازلي: 1/42، ح 22.
4- الأمالي للصدوق: 8 ،م 2، ح 6؛ بحار الأنوار: 38/90، ح 1.

الهيبة على عدوه وهو أول من آمن بي وصدقني وأول من وحد اللَّه معي...(1).

ومنها: عن مقاتل بن سليمان عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لعلي بن أبي طالب عليه السلام يا علي أنت مني بمنزلة هبة اللَّه من آدم وبمنزلة سام من نوح وبمنزلة إسحاق من إبراهيم وبمنزلة هارون من موسى وبمنزلة شمعون من عيسى إلّا أنه لا نبي بعدي يا علي أنت وصيي وخليفتي فمن جحد وصيتك وخلافتك فليس مني ولست منه وأنا خصمه يوم القيامة يا علي أنت أفضل أمتي فضلا وأقدمهم سلما وأكثرهم علما...(2).

ومنها: عن أبي سخيلة، قال: حججت أنا وسلمان الفارسي رحمه الله، فمررنا بالربذة، وجلسنا إلى أبي ذر الغفاري رحمه الله، فقال لنا: إنه ستكون بعدي فتنة، ولا بد منها، فعلكيم بكتاب اللَّه والشيخ علي بن أبي طالب فالزموهما، فأشهد على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أني سمعته وهو يقول: علي أول من آمن بي، وأول من صدقني، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين(3).

ومنها: عن أبي ذر وسلمان (رضي اللَّه عنهما)، قالا: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بيد علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: هذا أول من آمن بي» وهو أول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وفاروق هذه الأمّة، ويعسوب المؤمنين(4).

ومنها: عن أسيد بن صفوان صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال: لما كان اليوم الذي

ص: 137


1- الأمالي للصدوق: 22 ،م 6، ح 5؛ بحار الأنوار: 38/92، ح 6.
2- الأمالي للصدوق: 46 ،م 11 ح 4؛ بحار الأنوار: 37/254، ح 1.
3- الأمالي للطوسي: 148 ،م 5، ح 242 - 55؛ بحار الأنوار: 22/424، ح 34.
4- الأمالي للصدوق: 46 ،م 11 ح 4؛ بحار الأنوار: 37/254، ح 1.

قبض فيه أمير المؤمنين ارتج الموضع بالبكاء ودهش الناس كيوم قبض فيه النبي صلى الله عليه وآله وجاء رجل باك وهو متسرع مسترجع وهو يقول اليوم انقطعت خلافة النبوة حتى وقف على باب البيت الذي فيه أميرالمؤمنين عليه السلام فقال رحمك اللَّه يا أباالحسن كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأشدهم يقيناً وأخوفهم للَّه عزوجل وأعظمهم عناء وأحوطهم على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الحديث(1).

قال المأمون لإسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد في ما حاجّه في إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام: هل علمت أحدا سبق عليّاعليه السلام إلى الإسلام قال إسحاق: إنّ عليّا أسلم وهو حديث السنّ لا يجوز عليه الحكم» وأبوبكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.

قال له المأمون: أخبرني أيّهما أسلم قبل ثمّ أناظرك بعد في الحداثة. قال إسحاق: عليّ أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة. قال له المأمون: أخبرني عن إسلام عليّ عليه السلام حين أسلم لا يخلو من أن يكون النبي صلى الله عليه وآله دعاه إلى الاسلام، أو يكون إلهاما من اللَّه تعالى. فأطرق.

فقال له المأمون: لا تقل إلهاما فتقدّمه على النبيّ صلى الله عليه وآله لأن النبيّ صلى الله عليه وآله لم يعرف الإسلام حتّى أتاه جبرئيل عليه السلام عن اللَّه تعالى - قال إسحاق: بل دعاه النبيّ صلى الله عليه وآله.

قال المأمون: فهل يخلو النبيّ صلى الله عليه وآله حين دعاه من أن يكون دعاه بأمر اللَّه أو تكلّف ذلك من نفسه. فأطرق.

قال له المأمون: لا تنسب النبيّ صلى الله عليه وآله إلى التكلّف فإنّ اللَّه تعالى يقول «وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ»(2) قال إسحاق: أجل بل دعاه بأمر اللَّه تعالى.

ص: 138


1- الأمالي للصدوق: 341 ،م 43، ح 11؛ بحار الأنوار: 42/303، ح 4.
2- ص: 86.

قال له المأمون هل من صفة الجبّار جلّ ذكره أن يكلّف رسله دعاء من لا يجوز عليه الحكم وفي قياس قولك «أسلم عليّ وهو صبي لا يجوز عليه حكم» قد كلّف النبيّ صلى الله عليه وآله من دعاء الصبيان ما لا يطيقون، فهل يدعوهم الساعة، ويرتدّون بعد ساعة. فلا يجب عليهم في ارتدادهم شي ء، ولا يجوز عليهم حكم النبيّ صلى الله عليه وآله أترى عندك جائزا أن تنسب هذا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله قال إسحاق: أعوذ باللَّه.

قال له المأمون: فأراك يا إسحاق إنّما قصدت لفضيلة فضّل بها النبيّ صلى الله عليه وآله عليّاعليه السلام على هذا الخلق ابانه بها منهم ليعرفوا فضله، ولو كان اللَّه أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليّا...(1)

وَالْهِجْرَةِ

قال ابن أبي الحديد: يمكن ان يريدعليه السلام بسبقه في هجرته غير هجرة المدينة فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله هاجر عن مكّة مرارا يطوف على أحياء العرب، وينتقل من أرض قوم إلى غيرها، وكان عليّ عليه السلام معه دون غيره - إلى أن قال - وأما هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله إلى بني عامر بن صعصعة وإخوانهم من قيس عيلان. فإنّه لم يكن معه إلّا عليّ عليه السلام وحده، وذلك عقيب وفاة أبي طالب أوحى تعالى إليه أخرج منها فقد مات ناصرك، فخرج إلى بني عامر، ومعه عليّ عليه السلام وحده. فعرض نفسه عليهم، وسألهم النصر، وتلا عليهم القرآن فلم يجيبوه.

فعاد إلى مكّة وكانت مدّة غيبته في هذه الهجرة عشرة أيّام، وهي أوّل هجرة هاجرها النبيّ صلى الله عليه وآله بنفسه(2).

ص: 139


1- العقد الفريد: 5/352.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/125 - 128.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (57) - ومن كلام له عليه السلام كلّم به الخوارج

اشاره

أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ وَلا بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ أَ بَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ؟ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وَارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الْأَعْقَابِ أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلّاً شَامِلاً وَسَيْفاً قَاطِعاً وَأَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً

قال الشريف قوله عليه السلام : «ولا بقي منكم آبر» يروى على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون كما ذكرناه آبر بالراء من قولهم للذي يأبر النخل أي يصلحه. ويروى آثر بالثاء بثلاث نقط وهو الذي يأثر الحديث ويرويه أي يحكيه وهو أصح الوجوه عندي كأنه ع قال لا بقي منكم مخبر. ويروى آبز بالزاي المعجمة وهو الواثب والهالك أيضا يقال له آبز

و من كلام له عليه السلام كلم به الخوارج

اعلم أن المروي في عدة من شروح الكتاب وفي البحار هو أن الخوارج لما اعتزلوا منه وتنادوا من كل ناحية لا حكم إلّا اللَّه الحكم للَّه يا على لا لك، وقالوا: بأن لنا خطائنا فرجعنا وتبنا فارجع إليه أنت وتب، وقال بعضهم: اشهد على نفسك

ص: 140

بالكفر ثم تب منه، حتى نطيعك(1) أجابهم بهذا الكلام فقال:

اصَابَكُمْ حَاصِبٌ

قال الجزري أي: عذاب من اللَّه وأصله رميتم بالحصباء من السماء»(2) وفي (الجمهرة): «ريح حاصب: تقشر الحصى عن وجه الأرض»(3).

وَلا بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ

ان الطبري رواه «وابر»(4) وهو الصحيح.

فإنّه الأنسب قال الجوهري: وما بها وابر: أي أحد. قال الشاعر:

فابت إلى الحي الّذين وراءهم

جريضا ولم يفلت من الجيش وابر(5)

وفي (الجمهرة): ولا يستعمل وابر إلّا في النفي(6).

وهو دعاء عليهم بانقطاع نسلهم كما قال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجرا كفارا(7).

استجيب دعاؤه عليه السلام عليهم كما وقع اخباره عليه السلام فيهم.

قال ابن أبي الحديد: روى أبو عبيدة معمر بن المثنى قال: أستنطقهم عليّ عليه السلام بقتل عبداللَّه بن خباب فأقرّوا به. فقال: انفردوا كتائب لأسمع قولكم كتيبة كتيبة، فتكتّبوا كتائب وأقرّت كلّ كتيبة بمثل ما أقرّت به الاخرى من قتل ابن خباب

ص: 141


1- بحار الأنوار: 33/361.
2- النهاية: 1/394.
3- جمهرة اللغة: 1/279.
4- تاريخ الطبري: 4/63.
5- صحاح اللغة: 2/842.
6- جمهرة اللغة: 2/1020.
7- نوح: 26 - 27.

وقالوا: ولنقتلنّك كما قتلناه. فقال علي عليه السلام: «واللَّه لو أقرّ أهل الدنيا كلّهم بقتله هكذا، وأنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم» ثمّ التفت إلى أصحابه. فقال لهم: «شدّوا عليهم فأنا أوّل من يشد عليهم»، وحمل بذي الفقار حملة منكره ثلاث مرّات كلّ حملة يضرب به حتّى يعوج متنه ثمّ يخرج فيسوّيه بركبته ثمّ يحمل به حتّى أفناهم(1).

وروى الطبري: أنه ما لبثوا عبداللَّه بن وهب وألفين وثماني مئة معه أن أناموهم وروى عن حكيم بن سعد قال: ما هو إلّا أن لقينا أهل البصرة. فما لبثناهم فكأنّما قيل لهم موتوا فماتوا قبل أن تشتدّ شوكتهم(2).

وروى عن عون بن أبي جحيفة أنّ عليّاعليه السلام لمّا أراد أن يبعث أبا موسى لحكومة أتاه رجلان من الخوارج، زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي فدخلا فقالا له: لا حكم إلّا للَّه. فقال علي عليه السلام: لا حكم إلّا للَّه.

فقال له حرقوص: تب من خطيئتك، وارجع عن قضيّتك، واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتّى نلقى ربنا.

فقال لهم علي عليه السلام: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبينهم كتابا، وشرطنا شروطا، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا، وقد قال اللَّه عزّوجلّ: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ»(3).

فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.

فقال عليّ عليه السلام: ما هو ذنب، ولكنّه عجز من الرأي وضعف من الفعل، وقد تقدّمت

ص: 142


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/282؛ بحار الأنوار: 33/255.
2- تاريخ الطبري: 4/64/ سنة 37.
3- سورة النحل: 91.

إليكم في ما كان منه، ونهيتكم عنه.

فقال له زرعة: أما واللَّه لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب اللَّه، قاتلتك أطلب بذلك وجه اللَّه ورضوانه.

فقال له علي عليه السلام: بؤسا لك ما اشقاك كأنّي بك قتيلا تسفي عليك الريح.

قال: وددت أن قد كان ذلك.

فقال له عليّ عليه السلام: «لو كنت محقا كان في الموت على الحقب تعزية عن الدنيا إنّ الشيطان قد استهواكم...»(1).

أَ بَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى اللَّه عليه وآله أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ

قال ابن أبي الحديد: قال المبرد في (كامله): ومن شعر عليّ عليه السلام الّذي لااختلاف فيه أنّه قاله وأنه كان يردده أنهم (أي: الخوارج) لمّا ساموه أن يقرّ لهم بالكفر ويتوب حتّى يسيروا معه إلى الشام. فقال «أبعد صحبة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والتفقّه في الدين أرجع كافرا» ثمّ قال:

يا شاهد اللَّه عليّ فاشهد * أنّي على دين النبيّ أحمد

من شك في اللَّه فإنّي مهتدي

وفي (كامل المبرد) أيضاً: أنّ عليّاًعليه السلام في أوّل خروج القوم عليه دعا صعصعة ابن صوحان العبدي - وقد كان وجّهه وزياد بن النضر مع ابن عباس إليهم - فقال له: بأيّ القوم رأيتهم أشدّ إطافة. قال: يزيد بن قيس الأرحبي. فركب عليه السلام إلى

ص: 143


1- تاريخ الطبري: 4/52/ سنة 37.

حروراء. فجعل يتخلّلهم حتّى صار إلى مضرب يزيد.

فصلّى فيه ركعتين ثمّ خرج فاتّكأ على قوسه، وأقبل على الناس. فقال: هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة، ثمّ كلّمهم وناشدهم. فقالوا: إنّا أذنبنا ذنبا عظيما بالتحكيم، وقد تبنا فتب إلى اللَّه كما تبنا بعد ذلك. فقال عليّ عليه السلام انا أستغفر اللَّه من كلّ ذنب. فرجعوا معه وهم ستّة آلاف. فلمّا استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ علياعليه السلام رجع عن التحكيم ورآه ضلالا وقالوا: إنّما ينتظر أن يسمن الكراع، ويجبي الأموال ثمّ ينهض بنا إلى الشام. فأتى الأشعث عليّاعليه السلام فقال: إنّ الناس قد تحدّثوا أنك رأيت الحكومة ضلالا والإقامة عليهما كفرا. فقام علي عليه السلام فخطب فقال: «من زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رءاها ضلالا فقد ضلّ» فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكمت(1).

قال المحقق التستري رحمه الله: العجب من الخوارج يجعلون نصب من يحكم من القرآن - لا من نفسه - كفرا ولا يجعلون نصب إمام يحكم لهم من نفسه على خلاف حكم اللَّه كفرا والأغرب منه أنّهم جعلوا تحكيمه عليه السلام على وفق القرآن ضلالا، ولم يجعلوا تحكيم عمر في ستّة الشورى ضلالا(2).

ولمّا خرج حوثرة الأسدي على معاوية في عام الجماعة بعث معاوية إليه جيشا من أهل الكوفة. فلمّا نظر حوثرة إليهم قال لهم: «يا أعداء اللَّه أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدّوا سلطانه، وأنتم اليوم تقاتلون معه لتشدّوا سلطانه»(3) فيقال له: لازم قولكم بصحة إمامة أبي بكر وعمر أن يكون الأمر كذلك، فهل سبب

ص: 144


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/278.
2- بهج الصباغة: 5/450.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/134.

إمامتهما إلّا بيعة جمع كرها وطوعا يوم السقيفة ومعاوية في عام الجماعة صار كذلك، وقد كان كتب إلى الحسن عليه السلام أنّه في ذاك اليوم بمنزلة أبي بكر بعينه بعد النبي صلى الله عليه وآله ولعمري لقد صدق. فإن كان أهل الكوفة أعداء اللَّه فهم أيضاً أعداء اللَّه(1).

وكذلك القول في عبدالملك قبل فتحه الكوفة وبعده ، فسأل الخوارج جند العراق عن عبدالملك - وقد كان فتح الكوفة، ولم يعلموا به - فقالوا: عدوّ اللَّه، واخبروا غدا بفتحه، فسألهم الخوارج عنه فقالوا: وليّ اللَّه: فقالوا لهم: يا أعداء اللَّه كيف صار عدوّ اللَّه بالأمس وليّ اللَّه اليوم(2) فيقال لهم: هو لازم قولكم أيضاً بإمامة الرجلين، وإنّما أنتم جئتم بالتضادّ والتفرقة بين الملزوم واللازم(3).

وسأل عبيدة بن هلال اليشكري أبا حزابة التميمي من جند المهلّب عن سيرة أئمّتهم صدقا وحقّا. فقال: يبيحون الدم الحرام، ويجبون المال من غير حلّه، وينفقونه في غير وجهه، ويظلمون اليتيم ماله، وينيكون امّه، فقال له عبيدة: أمثل هؤلاء يتّبع(4) فيقال له: أنت تقول بإمامة عمر وهو نصب عثمان الّذي كان نصبه نصب السفيانية والمروانية مع علمه بصدور جميع ذلك مع مناكر أكبر، وكبائر أكثر منه ومنهم.

هذا، ولمّا غلب الحجاج في دير الجماجم على أهل العراق أخذ يبايع الناس، وكان لا يبايع أحداً إلّا قال له: أشهد أنّك كفرت. فإنْ قال نعم بايعه، وإلّا قتله. فأتاه رجل من خثعم كان معتزلا للناس جميعا. فسأله عن حاله. فأخبره باعتزاله. فقال

ص: 145


1- بهج الصباغة: 5/451.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/169.
3- بهج الصباغة: 5/451.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/169؛ بهج الصباغة: 5/451.

له: أنت متربّص. اشهد أنّك كافر. قال بئس الرجل إذن أنا. أعبداللَّه ثمانين سنة ثمّ أشهد على نفسي بالكفر قال: إذن أقتلك. قال: وإن قتلتني؛ فقتله؛ فلم يبق أحد من أهل العراق والشام إلّا رحمه(1).

فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ

أي ارجعوا شرّ مرجع، وهو الكفر بعد الإيمان.

وَارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الْأَعْقَابِ

«وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا»(2).

قيل هو أمر لهم بالرجوع والاياب إلى الحق من حيث خرجوا منه قهرا كأنَّ القاهر يضرب في وجوههم بردهم على أعقابهم والرجوع هكذا شر الأنواع، وقيل هو دعاء عليهم بالذل وانعكاس الحال؛ اقول: ويحتمل أن يكون الأمر على التهديد كقوله تعالى:

«قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ»(3).(4)

أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلّاً شَامِلاً وَسَيْفاً قَاطِعاً

قال زياد: ألا ينهى كلّ قوم سفهاءهم. لو لا أنّكم اطفأتم هذه النار لقلت إنّكم ارثتموها. فكانت القبائل إذا أحسّت بخارجية فيهم شدّتهم، وأتت بهم زيادا فكان

ص: 146


1- الكامل لابن الأثير: 4/481.
2- سورة آل عمران: 144.
3- سورة التوبة: 105.
4- بحار الأنوار: 33/361.

هذا أحد ما يذكر من تدبير زياد، وله تدبير آخر أخرجوا معهم امرأة فظفر زياد بها فقتلها ثمّ عرّاها. فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكنّ إذا دعين إلى الخروج قلن: لو لا التعرية لسارعنا(1). وكانت الخوارج أيّام ابن عامر أخرجوا معهم امرأتين يقال لإحداهما كحيلة، والاخرى قطام، فجعل أصحاب ابن عامر يعيّرونهم ويصيحون بهم: يا أصحاب كحيلة وقطام يعرّضون لهم بالفجور(2).

وبعث عبيداللَّه بن زياد إلى البلجاء - وكانت من مجتهداتهم. فاتى بها فقطع يديها ورجليها ورمى بها في السوق(3).

وَأَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً

لما رأى أبو هلال مرداس - وكان من قعدي الخوارج - جدّ ابن زياد في طلب الخوارج عزم على الخروج. فقال لأصحابه: واللَّه ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين. يجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل، مفارقين للفصل، واللَّه إنّ الصبر على هذا لعظيم، وإنّ تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنّا ننتبذ عنهم، ولا نجرّد سيفا، ولا نقاتل إلّا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا منهم حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي. فلمّا مضى بأصحابه، لقيه عبداللَّه بن رياح النصارى - وكان له صديقا - فقال له: أين تريد قال: أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. فقال له: أعلم بكم أحد قال لا.

قال: فارجع. قال: أو تخاف عليّ مكروها قال: نعم وأن يؤتى بك. قال: فلا

ص: 147


1- الكامل في اللغة والادب: 2/199.
2- نفس المصدر: 200.
3- نفس المصدر: 201.

تخف فإنّي لا اجردّ سيفا ولا أخيف أحدا، ولا أقاتل إلّا من قاتلني ثمّ مضى حتّى نزل آسك - بين رامهرمز وارّجان - فمرّ به مال يحمل لابن زياد، وقد قارب أصحابه الأربعين فحطّ ذلك المال. فأخذ منه عطاءه واعطيات أصحابه، وردّ الباقي على الرسل وقال قولوا لصاحبكم: إنّما قبضنا اعطياتنا(1).

وروي أنّ رجلا من أصحاب ابن زياد قال: خرجنا في جيش نريد خراسان. فمررنا بآسك فإذا نحن بهم ستّة وثلاثين رجلا فصاح بنا أبو بلال: أقاصدون لقتالنا.

فقلنا: إنّما نريد خراسان. فقال: أبلغوا من لقيكم أنّا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا نروّع أحدا ولكن هربا من الظلم، ولسنا نقاتل إلّا من يقاتلنا، ولا نأخذ من الفي ء إلّا أعطياتنا. ثم قال: أندب إلينا أحد قلنا: نعم. أسلم بن زرعة الكلابي.

قال: فمتى ترونه يصل إلينا قلنا يوم كذا وكذا. فقال: حسبنا اللَّه - وكان ابن زياد وجّه أسلم في ألفين، وقد تتامّ أصحاب مرداس - فلمّا صار إليهم أسلم، صاح به أبو بلال: ما الّذي تريد قال: أن أردّكم إلى ابن زياد. قال: إذن يقتلنا.

قال: وإن. قال: تشركه في دمائنا. قال: إنّي أدين أنّه محقّ وأنّكم مبطلون.

فصاح به حريث بن حجل، أهو محقّ وهو يطيع الفجرة، ويقتل بالظنّة، ويخص بالفي ء، ويجور بالحكم أما علمت أنّه قتل بابن سعاد أربعة برئاء وأنا أحد قتلته، ولقد وضعت في بطنه دراهم كانت معه ثمّ حملوا عليه حملة رجل واحد. فانهزم هو وأصحابه من غير قتال. فلمّا ورد علي ابن زياد غضب غضبا شديدا، وقال له: ويلك أتمضي في ألفين. فتنهزم لحملة أربعين وكان أسلم يقول: لئن يذمّني ابن

ص: 148


1- نفس المصدر: 2/202.

زياد وأنا حي أحبّ إليّ من أن يمدحني ميّتا وكان إذا خرج إلى السوق أو مرّ بصبيان صاحوا به: «أبو بلال وراءك» وربّما صاحوا به: يا معبد خذه. حتّى شكا ذلك إلى ابن زياد. فأمر الشرط أن يكفّوا الناس عنه. فقال أحد الخوارج في هزيمته:

أألفا مؤمن في ما زعمتم * ويهزمهم بآسك أربعونا

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم * ولكنّ الخوارج مؤمنونا(1)

ثمّ ندّب لهم ابن زياد عباد بن أخضر فالتقوا في يوم جمعة - وذكر قتل عباد لهم في الصلاة بعد إعطائهم الأمان(2).

وكتب ابن زياد من الكوفة إلى عبيداللَّه بن أبي بكرة خليفته على البصرة بالجدّ في طلب الخوارج. فكان يأخذهم ويحبسهم فإذا شفع في أحد كفّله إلى أن يقدم ابن زياد. فلمّا قدم أخذ من في السجن فقتلهم وطلب الكفلاء. فمن لم يأت بمن كفل له قتله، وكان ابن أبي بكرة أتى بعروة بن ادية في من أتى به منهم فأطلقه، وقال أنا كفيلك. فقال له: إيت بعروة. قال لا أقدر عليه. قال: إذن أقتلك. فطلبه ابن أبي بكرة حتّى دلّ عليه في سرب العلاء المنقري. فقرأ عليه الكاتب في شرب العلاء، فقال للكاتب: صحّفت، وددت أنّه كان ممّن يشرب. فأتى به فأمر ابن زياد بقطع يديه ورجليه وصلبه على باب داره(3) - إلى أن قال - .

وكان زياد ولّى شيبان الأشعري طلب الخوارج فجد في طلبهم وأخافهم فأتاه ليلة - وهو متّكئ بباب داره - رجلان منهم فضرباه بأسيافهم وقتلاه ثمّ أتى زياد

ص: 149


1- نفس المصدر: 203.
2- نفس المصدر: 205.
3- نفس المصدر: 208.

برجل من الخوارج. فقال: اقتلوه متّكئا كما قتل شيبان متّكئا فصاح الخارجي يا عدلاه - يهزأ به -(1).

قال الشريف قوله عليه السلام : «ولا بقي منكم آبر»...

قال الشريف قوله عليه السلام : «ولا بقي منكم آبر» يروى على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون كما ذكرناه آبر بالراء من قولهم للذي يأبر النخل أي يصلحه. ويروى آثر وهو الذي يأثر الحديث ويرويه أي يحكيه وهو أصح الوجوه عندي كأنه عليه السلام قال لا بقي منكم مخبر. ويروى آبز بالزاي المعجمة وهو الواثب والهالك أيضا يقال له آبز

وفي السير لمّا جي ء بكتاب زياد إلى معاوية في ألّا يردّ حجرا وأصحابه. قال ابن امّ الحكم لمعاوية: «جذاذها جذاذها» فقال معاوية: «لأتعّنّ آبرا» فلم يفهم أهل الشام معنى كلامهما. فأتوا النعمان بن بشير. فقال لهم: قتل القوم(2).

ص: 150


1- نفس المصدر: 211.
2- تاريخ الطبري: 4/203.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (58) قال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج وقيل له إن القوم قد عبروا جسر النهروان:

اشارة

مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ وَاللَّهِ لا يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ وَلا يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ.

قال الشريف يعني بالنطفة ماء النهر وهي أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيرا جما وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم عند مضي ما أشبهه.

يعني بالنطفة ماء النهر وهو أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيراً جماً.

يعني انّ النطفة تكون كناية عن الماء وإن لم يكن قليلا كما يوهمه كون أصل النطفة ماء قليلا.

لما عزم على حرب الخوارج

اشارة

قيل لعليّ عليه السلام إنّهم يريدون الجسر. فقال: «لن يبلغوا النطفة» وجعل الناس يقولون له في ذلك حتّى كادوا يشكّون. ثمّ قالوا: قد رجعوا يا أميرالمؤمنين. فقال: «واللَّه ما كذبت ولا كذبت» ثمّ خرج إليهم في أصحابه وقال: انّه واللَّه ما يقتل منكم عشرة ولا يفلت منهم عشرة فقتل من أصحابه تسعة، وأفلت منهم ثمانية - وكان مقدار من أصاب علي عليه السلام منهم بالنهروان ألفين وثماني مئة على أصحّ الأقاويل -

ص: 151

وكان عددهم ستّة آلاف، وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يستر أمره، ولم يشهد الحرب، وإنّ رجلا منهم قتل ثلاثة من أصحابه عليه السلام وقال:

أقتلهم ولا أرى عليّا * ولو بدا أو جرته الخطيّا

فخرج إليه عليّ عليه السلام فلمّا خالطه السيف قال: حبّذا الروحة إلى الجنّة.

فقال عبداللَّه بن وهب: ما أدري إلى الجنّة أم إلى النار فقال رجل من سعد: إنّما حضرت اغترارا بهذا، وأراه قد شك. فانخزل بجماعة من أصحابه، ومال ألف إلى ناحية أبي أيوب الأنصاري - وكان على ميمنة علي عليه السلام - وجعل الناس يتسلّلون(1).

روى الخطيب - في عنوان عبداللَّه بن خباب - : قال أبو الأحوص كنّا مع عليّ عليه السلام يوم النهروان. فجاءت الحرورية فكانت من وراء النهر قال: «واللَّه لا يقتل اليوم رجل من وراء النهر» ثمّ نزلوا: فقالوا لعليّ عليه السلام قد نزلوا قال: «واللَّه لا يقتل اليوم رجل من وراء النهر»، فأعادوا عليه هذه المقالة ثلاثا كلّ ذلك يقول لهم على مثل قوله الأوّل. فقالت الحرورية بعضهم لبعض يرى على أنّا نخافه.

فأجازوا. فقال علي عليه السلام لأصحابه: «لا تحرّكوهم حتّى يحدثوا حدثا» فذهبوا إلى منزل عبداللَّه بن خباب - وكان منزله على شاطئ النهر - فأخرجوه وقدّموه إلى الماء. فذبحوه كما تذبح الشاة. فسأل دمه مثل الشراك ما امذقرّ واخرجوا امّ ولده فتشقّوا عمّا في بطنها. فاخبر علي عليه السلام بما صنعوا.

فقال علي عليه السلام: اللَّه أكبر نادوهم أخرجوا لنا قاتل عبداللَّه. قالوا: كلّنا قتله فناداهم ثلاثا، كلّ ذلك يقولون هذا القول. فقال علي عليه السلام: دونكم القوم فما لبثوا أن قتلوهم. فقال علي عليه السلام: اطلبوا في القوم رجلا يده كثدي المرأة....(2).

ص: 152


1- الكامل في اللغة: 2/159.
2- تاريخ بغداد (الخطيب البغدادي): 1/219.

وفي (المروج): بعث الخوارج إلى عليّ عليه السلام كلّنا قتلة أصحابك، وكلّنا مستحلّ لدمائهم وأخبره الرسول - وكان من يهود السواد - أنّ القوم قد عبروا نهر طبرستان في هذا الوقت - وهذا النهر عليه قنطرة تعرف بقنطرة طبرستان بين حلوان وبغداد من بلاد خراسان.

فقال عليّ عليه السلام «واللَّه ما عبروه ولا يقطعونه حتّى نقتلهم بالرميلة دونه».

ثمّ تواترت عليه الأخبار بقطعهم لهذا النهر وعبورهم هذا الجسر وهو يأبى ذلك ويحلف أنّهم لم يعبروه وأنّ مصارعهم دونه، ثمّ قال: «سيروا إلى القوم فو اللَّه لا يفلت منهم إلّا عشرة، ولا يقتل منكم عشرة» ثمّ سارعليه السلام فأشرف عليهم وقد عسكروا بالموضع المعروف بالرميلة على ما قال لأصحابه. فلمّا أشرف عليهم قال: اللَّه أكبر صدق رسول اللَّه صلى الله عليه وآله - إلى أن قال: فأمرعليه السلام بطلب المخدج فطلبوه فلم يقدروا عليه. فقام عليه السلام وعليه أثر الحزن لفقد المخدج. فانتهى إلى قتلى بعضهم فوق بعض. فقال: أفرجوا ففرجوا يمينا وشمالا واستخرجوه. فقال عليه السلام: اللَّه أكبر ما كذبت على محمّدصلى الله عليه وآله وإنّه لناقص اليد ليس فيها عظم طرفها حلمة ثدي المرأة عليها خمس شعرات أو سبع، رؤوسها معقفة.

ثمّ قال: إيتوني به، فنظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة عليه شعرات سود إذا مدّت اللحمة امتدت حتّى تحاذي بطن يده الأخرى ثمّ تترك فتعود إلى منكبه. فثنى رجله ونزل وخرّ للَّه ساجدا(1).

وروى أصحاب السيرة في حديثهم عن جندب بن عبداللَّه الأزدي قال: شهدت مع عليّ عليه السلام الجمل وصفين لا أشكّ في قتال من قاتله، حتّى نزلت النهروان.

ص: 153


1- مروج الذهب: 2/405 - 406.

فدخلني شكّ في قتال القوم وقلت: قراؤنا وخيارنا نقتلهم، إنّ هذا الأمر عظيم فخرجت غدوة أمشي، ومعي إداوة ماه حتّى برزت من الصفوف. فركزت رمحي ووضعت ترسي عليه، واستترت من الشمس. فإنّي لجالس حتّى ورد عليّ أميرالمؤمنين عليه السلام. فقال لي: يا أخا الأزد أمعك طهور قلت: نعم فناولته الإداوة. فمضى حتّى لم أره ثمّ أقبل، وقد تطهر فجلس في ظلّ الترس، وإذا فارس يسأل عنه. فقلت: يا أميرالمؤمنين هذا فارس يريدك. قال: فأشر إليه، فأشرت إليه فجاء فقال: يا أميرالمؤمنين قد عبر القوم، وقد قطعوا النهر فقال: كلّا ما عبروا.

فقال: بلى واللَّه لقد فعلوا، وانّه لكذلك إذا جاء آخر فقال: يا أميرالمؤمنين قد عبر القوم. قال: كلّا ما عبروا. قال: واللَّه ما جئتك حتّى رأيت الرايات في ذلك الجانب والأثقال. قال: واللَّه ما فعلوا وإنّه لمصرعهم ومهراق دمائهم ثمّ نهض ونهضت معه.

فقلت في نفسي: الحمد للَّه الّذيى بصّرني هذا الرجل، وعرّفني أمره هذا أحد رجلين إمّا رجل كذاّب جريّ أو على بيّنة من ربّه وعهد من نبيّه، اللهمّ إنّي اعطيك عهدا تسألني عنه يوم القيامة إن أنا وجدت القوم قد عبروا أن أكون أوّل من يقاتله، وأوّل من يطعن بالرمح في عينه، وإن كان القوم لم يعبروا أن اقيم على المناجزة والقتال، فدفعنا إلى الصفوف فوجدنا الرايات والأثقال كما هي. فأخذ بقفائي ودفعني ثمّ قال: يا أخا الأزد أتبيّن لك الأمر قلت: أجل يا أميرالمؤمنين. فقال: شأنك بعدوّك. فقتلت رجلا من القوم ثمّ قتلت آخر ثمّ اختلفت أنا ورجل أضربه ويضربني. فوقعنا جميعا فاحتملني أصحابي وأفقت حين أفقت وقد فرغ من

ص: 154

القوم(1) - وهذا حديث مشهور شائع بين نقلة الآثار - وفي الخبر زيادة دلالة إخباره عليه السلام بشكّ الرجل.

روينا بإسناد متصل إلى الأصبغ بن نباتة قال لما رحل أميرالمؤمنين صلوات اللَّه عليه من نهر براثا إلى النهروان وقد قطع جسرها وسمّرت سفنها فنزل وقد سرح الجيش إلى جسر بوران ومعه رجل من أصحابه قد شك في قتال الخوارج فإذا رجل يركض فلما رأى أميرالمؤمنين عليه السلام قال البشرى يا أميرالمؤمنين قال وما بشراك؟ قال لما بلغ الخوارج نزولك البارحة نهر براثا ولوا هاربين فقال له علي عليه السلام: أنت رأيتهم حين ولوا؟ قال: نعم؛ قال: كذبت لا واللَّه ما عبروا النهروان ولا تجازوا الأثيلات ولا النخيلات حتى يقتلهم اللَّه عزوجل على يدي؛ عهد معهود وقدر مقدور لا ينجو منهم عشرة ولا يقتل منا عشرة - الخبر -(2).

قال ابن ميثم في شرحه: في الخبر أنّه عليه السلام لمّا خرج إلى أصحاب النهر جاءه رجل من أصحابه فقال: البشرى يا أميرالمؤمنين إنّ القوم عبروا النهر لمّا بلغهم وصولك فابشر فقد منحك اللَّه اكتافهم. فقال: اللَّه أنت رأيتهم قد عبروا. فقال: نعم. فقال عليه السلام: واللَّه ما عبروه ولن يعبروه وإنّ مصارعهم دون النطفة والّذي فلق الجنّة وبرء النسمة لم يبلغوا إلّا ثلاث ولا قصر توران حتّى يقتلهم اللَّه وقد خاب من افترى. قال: ثمّ جاءه جماعة من أصحابه واحدا بعد آخر كلّهم يخبره بما أخبره الأوّل فركب عليه السلام وسار حتّى انتهى إلى النهر فوجد القوم بأسرهم قد كسروا سيوفهم وعرقبوا خيولهم وجثوا على الركب وحكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له

ص: 155


1- الإرشاد: 1/317؛ بحار الأنوار: 41/284، ح 3.
2- فرج المهموم: 105؛ بحار الأنوار: 55/232، ح 14.

زجل، وروى أنّ شابّا من أصحابه قال في نفسه حين حكم عليه السلام بما حكم من أمرهم وسار إلى النهر لبيان صدق حكمه: واللَّه لأكوننّ قريبا منه فإن كانوا عبروا النهر لأجعلنّ سنان رمحى في عينه أيدّعي علم الغيب، فلمّا وجدهم لم يعبروا نزل عن فرسه وأخبره بما روّى في نفسه، وطلب منه أن يغفر له. فقال عليه السلام: إنّ اللَّه هو الّذي يغفر الذنوب جميعا فاستغفره. فأمّا حكمه بأنّه لا يفلت منهم عشرة ولا يقتل من أصحابه عشرة. فروى أنّه قال لأبي أيّوب الأنصاري وكان على ميمنته: لما بدأت الخوارج بالقتال احملوا عليهم فواللَّه لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة فلمّا قتلهم وجد المفلت منهم تسعة والمقتول من أصحابه ثمانية(1).

وقال ابن أبي الحديد: هذا الخبر من الأخبار الّتي تكاد تكون متواترة للاشتهاره. ونقل الناس كافة له، وهو من معجزاته وأخباره المفصّلة عن الغيوب. والأخبار على قسمين أحدهما الأخبار المجملة ولا إعجاز فيها نحو أن يقول الرجل لأصحابه إنكم ستنصرون على هذه الفئة التي تلقونها غدا فإن نصر جعل ذلك حجة له عند أصحابه وسماها معجزة وإن لم ينصر قال لهم تغيرت نياتكم وشككتم في قولي فمنعكم اللَّه نصره ونحو ذلك من القول ولأنه قد جرت العادة أن الملوك والرؤساء يعدون أصحابهم بالظفر والنصر ويمنونهم الدول فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمن إعجاز.

والقسم الثاني في الأخبار المفصّلة عن الغيوب مثل هذا الخبر فإنّه لا يحتمل التلبيس لتقييده بالعدد المعين في أصحابه، وفي الخوارج، ووقوع الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك أمر إلهي عرفه من جهة النبيّ صلى الله عليه وآله،

ص: 156


1- شرح ابن ميثم: 2/153.

وعرفه النبيّ صلى الله عليه وآله من جهة اللَّه سبحانه، والقوّة البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره، وبمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته وأحواله المنافية لقوى البشر غلا فيه من غلا حتّى نسب إلى أنّ الجوهر الإلهي حلّ في بدنه كما قالت النصارى في عيسى عليه السلام.

وقد أخبره النبيّ صلى الله عليه وآله بذلك فقال له: «يهلك فيك محبّ غال ومبغض قال» وقال له تارة أخرى: «والّذي نفسي بيده لولا أنّي أشفق أن يقول فيك طوائف من امّتي ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالا لا تمرّ بملأ من الناس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة(1). ويأتي كلام في معنى الغلو والتفويض.

قال الشارح: ولمعترض أن يقول قد يقع الاخبار عن الغيوب من طريق النجوم.

فإنّ المنجّمين قد اتّفقوا على أنّ شكلا من أشكال الطائع إذا وقع لمولود اقتضى أن يكون صاحبه متمكّنا من الإخبار عن الغيوب، وقد يقع الإخبار عن الغيوب لأصحاب زجر الطير والبهائم كما يحكي عن بني لهب في الجاهلية(2).

وقد يقع الأخبار عن الغيوب للقيافة كما يحكي عن بني مدلج(3) أو قد يخبر به

ص: 157


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/3؛ بحار الأنوار: 41/348.
2- الزجر: الاستدلال بأصوات الحيوانات وحركاتها وسائر أحوالها على الحوادث واستعلام ما غاب عنهم وبنو لهب: حى في الأزد؛ كانوا أزجر العرب.
3- القيافة قسمان: قيافة الأثر؛ ويقال لها العيافة؛ وقيافة البشر؛ أما العيافة فهو علم باحث عن تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر في المقابلة للأثر؛ حتى لقد روى أن بعضهم كان يفرق بين أثر قدم الشاب والشيخ وقدم الرجل والمرأة، والبكر والثيب. أما قيافة البشر فهي الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب والولادة وسائر أحوالهما وأخلاقهما وكان بنو مدلج، وهم بطن في كنانة، من أعلم العرب في قيافة البشر.

أرباب التسخيرات، وأرباب السحر والطلسمات. وقد يقع الإخبار عن الغيوب لأرباب النفس الناطقة القوية الصافية الّتي تتّصل مادّتها الروحانية على ما تقوله الفلاسفة. وقد يقع الإخبار عن الغيوب بطريق المنامات الصادقة على ما رآه أكثر الناس، وقد وردت الشريعة نصّا به.

قال: وقد يقع الإخبار عن الغيوب بأمر صناعي يشبه الطبيعي كما رأيناه عن أبي البيان وابنه، وقد يقع الإخبار عن الغيوب بواسطة إعلام ذلك إنسانا آخر، لنفسه بنفس ذلك المخبر اتحادا أو كالاتحاد، وذلك كما يحكي أبو البركات بن ملكا الطبيب في كتاب المعتبر(1)، قال: والمرأة العمياء الّتي رأيناها ببغداد وتكررت مشاهدتنا لها مدّة مديدة قدرها ما يقارب ثلاثين سنة وهي على ذلك إلى الآن تعرض عليها الخبايا. فتدلّ عليها بأنواعها وأشكالها ومقاديرها وأعدادها غريبها ومألوفها، دقيقها وجليلها، تجيب على أثر السؤال من غير توقف ولا استعانة بشي ء من الأشياء إلّا أنّها كانت تلتمس أن يرى الّذي يسأل عنه أبوها أو يسمعه في بعض الأوقات دون بعض، وعند قوم دون قوم. فيتصوّر في أمرها أنّ الّذي تقوله بإشارة من أبيها. وكان الّذي تقوله يبلغ من الكثرة إلى ما يزيد على عشرين كلمة إذا قيل بصريح الكلام الّذي هو الطريق الأخصر وإنّما كان أبوها يقول إذا رأى ما يراه من أشياء كثيرة مختلفة الأنواع والأشكال في مدّة كلمة واحدة واقصاه كلمتان، وهي الّتي يكرّرها في كلّ قول، ومع كلّ ما يسمع ويرى «سلها وسلها تخيرك» أو «قولي له» أو «قولي يا صغيرة».

ص: 158


1- هو كتاب المعتبر في المنطق؛ لأبي البركات هبة اللَّه بن ملكا البغدادي، المتوفى سنة 547 ذكره صاحب كشف الظنون.

قال أبوالبركات: ولقد عاندته يوما وحاققته في أن لا يتكلّم وأريته عدّة أشياء. فقال: لفظة واحدة فقلت له: «الشرط أملك»(1) فاغتاظ واحتدّ طيشه عن أن يملك نفسه. فباح بخبيئته. قال: ومثلك يظنّ أشرت إلى هذا كله بهذه اللفظة فاسمع الآن ثمّ التفت إليها وأخذ يشير باصبعه إلى شي ء وهو يقول تلك الكلمة وهي تقول: «هذا كذا وهذا كذا» على الاتّصال من غير توقف وهو يقول تلك الكلمة لا زيادة عليها، وهي لفظة واحدة بلحن واحد، وهيئة واحدة حتّى ضجرنا، واشتدّ تعجّبنا، ورأينا أنّ هذه الاشارة لو كانت تتضمّن هذه الأشياء لكانت أعجب من كلّ ما تقوله العمياء.

ومن عجيب ما شاهدناه من أمرها أنّ أباها كان يغلط في شي ء يعتقده على خلاف ما هو به. فتخبر هي عنه على معتقد أبيها كأنّ نفسها هي نفسه، ورأيناها تقول ما لم يعلم أبوها من خبيئة في الخبيئة الّتي اطلع عليها أبوها، فكانت تطّلع على ما قد علمه أبوها، وعلى ما لا يعلمه أبوها، وهذا أعجب، وحكاياتها أكثر من أن تعدّ، وعند كلّ أحد من الناس من حديثها ما ليس عند الآخر، لأنّها كانت تقول من ذلك على الاتّصال لشخص شخص جوابا بحسب السؤال، وما زلت أقول: إنّ من يأتي بعدنا لا يصدّق ما رأيناه منها. فان قلت لي: اريد أن تفيدني العلّة في معرفة هذه. فقلت لك: العلّة الّتي تصلح في جواب لم في نسبة المحمول إلى الموضوع تكون الحدّ الأوسط في القياس، وهذه فالعلّة الفاعلة الموجبة لذلك فيها هي نفسها بقوّتها وخاصتها. فما الّذي أقوله في هذا وهل لي أن أجعل ما ليس بعلّة

ص: 159


1- من المثل: الشرط أملك: عليك أم لك؛ أي أن الشرط يملك صاحبه في إلزامه إياه المشروط: إن كان له أو عليه.

علّة قال ابن أبي الحديد: واعلم أنّنا لا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب، ولكن كلّ ذلك مستند إلى الباري سبحانه بإقداره، وتمكينه، وتهيئة أسبابه. فإن كان المخبر عن الغيوب ممّن يدّعى النبوّة لم يجز أن يكون ذلك إلّا بإذن اللَّه، وأن يريد تعالى به استدلال المكلّفين على صدق مدّعي النبوّة لأنّه لو كان كاذبا لكان تمكين اللَّه تعالى ذلك إضلالا للمكلّفين، وكذلك لا يجوز أن يمكّن اللَّه سبحانه الكاذب في ادّعاه النبوّة من الإخبار عن الغيب بطريق السحر وتسخير الكواكب والطلسمات، ولا بالزجر والقيافة، ولا بغير ذلك من الطرق المذكورة، لما فيه من استفساد البشر وإغوائهم، وأمّا إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدّعيا للنبوّة، نظر في حاله فإن كان من الصالحين نسب ذلك إلى أنّه كرامة أظهرها اللَّه تعالى على يده إبانة له وتمييزا من غيره كما في حق علي عليه السلام، وإن لم يكن كذلك، أمكن أن يكون ساحرا أو كاهنا أو نحو ذلك(1).

اعلم ان ما ذكره الشارح المعتزلي أخيرا مغالطة. فكما كان إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله عن الغيوب تصديق نبوّته، كذلك إخبار أميرالمؤمنين عليه السلام عن الغيوب تصديق إمامته من اللَّه تعالى بواسطة النبيّ صلى الله عليه وآله. لأنه كان مدّعيا ذلك بالتواتر، وكونه تصديقا له من فطريات العقول وضرورياتها

تكملة في معنى الغلو والتفويض

قال ابن أبي الحديد: أول من جهر بالغلو في أيامه عليه السلام عبداللَّه بن سبأ(2) قام إليه

ص: 160


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/9 - 13.
2- عبداللَّه بن سبأ: رأس الطائفة السبئية: نقل ابن حجر عن ابن عساكر في تاريخه: «كان أصله من اليمن؛ وكان يهوديا فأظهر الإسلام؛ وطاف بالمسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة؛ ويدخل بينهم الشر؛ ودخل دمشق لذلك». وانظر لسان الميزان 3: 289 - 290.

وهوعليه السلام يخطب فقال له أنت أنت وجعل يكررها فقال له ويلك من أنا فقال أنت اللَّه فأمر بأخذه وأخذ قوم كانوا معه على رأيه.

وروى أبو العباس أحمد بن عبيداللَّه عن عمار الثقفي عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه وعن غيره من مشيخته أن علياعليه السلام قال يهلك في رجلان محب مطر يضعني غير موضعي ويمدحني بما ليس في ومبغض مفتر يرميني بما أنا منه بري ء. وقال أبوالعباس وهذا تأويل الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله فيه وهو قوله إن فيك مثلا من عيسى بن مريم أحبته النصارى فرفعته فوق قدره وأبغضته اليهود حتى بهتت أمه.

قال أبوالعباس وقد كان علي عثر على قوم خرجوا من محبته باستحواذ الشيطان عليهم إلى أن كفروا بربّهم وجحدوا ما جاء به نبيهم واتخذوه ربا وإلها وقالوا أنت خالقنا ورازقنا فاستتابهم وتوعدهم فأقاموا على قولهم فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها طمعا في رجوعهم فأبوا فحرقهم بالنار(1).

قال ابن أبي الحديد: وروى أصحابنا في كتب المقالات أنه لما حرقهم صاحوا إليه الآن ظهر لنا ظهورا بينا أنك أنت الإله لأن ابن عمك الذي أرسلته قال لا يعذب بالنار إلّا رب النار.

وروى أبو العباس عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي(2) عن علي بن

ص: 161


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/5.
2- المصيصي: بكسر الميم والصاد المشددة وسكون الياء: منسوب إلى المصيصة: مدينة على ساحل البحر.

محمد النوفلي عن أبيه ومشيخته أن عليا مر بهم وهم يأكلون في شهر رمضان نهارا فقال أسفر أم مرضى قالوا ولا واحدة منهما قال أفمن أهل الكتاب أنتم قالوا لا قال فما بال الأكل في شهر رمضان نهارا قالوا أنت أنت لم يزيدوه على ذلك ففهم مرادهم فنزل عن فرسه فألصق خده بالتراب ثم قال ويلكم إنما أنا عبد من عبيداللَّه فاتقوا اللَّه وارجعوا إلى الإسلام فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على أمرهم فنهض عنهم ثم قال شدوهم وثاقا وعلي بالفعلة والنار والحطب ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا فجعل إحداهما سربا(1) والأخرى مكشوفة وألقى الحطب في المشكوفة وفتح بينهما فتحا وألقى النار في الحطب فدخن عليهم وجعل يهتف بهم ويناشدهم ارجعوا إلى الإسلام فأبوا فأمر بالحطب والنار وألقى عليهم فاحترقوا فقال الشاعر:

لترم بي المنية حيث شاءت * إذا لم ترم بي في الحفرتين

إذا ما حشتا حطبا بنار(2) * فذاك الموت نقدا غير دين

قال أبو العباس ثم إن جماعة من أصحاب علي منهم عبداللَّه بن عباس شفعوا في عبداللَّه بن سبأ خاصة وقالوا يا أميرالمؤمنين إنه قد تاب فاعف عنه فأطلقه بعد أن اشترط عليه ألا يقيم بالكوفة فقال أين أذهب؟ قال المدائن فنفاه إلى المدائن؛ فلما قتل أميرالمؤمنين عليه السلام أظهر مقالته وصارت له طائفة وفرقة يصدقونه ويتبعونه وقال لما بلغه قتل علي عليه السلام واللَّه لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة لعلمنا أنه لم يمت ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه فلما بلغ ابن عباس ذلك قال: لو علمنا أنه يرجع لما تزوجنا نساءه ولا قسمنا ميراثه.

ص: 162


1- السرب، بفتحتين: الحفير تحت الأرض.
2- حش النار؛ أي أوقدها.

قال أصحاب المقالات واجتمع إلى عبداللَّه بن سبأ بالمدائن جماعة على هذا القول وتفاقم أمرهم وصار لهم دعوة يدعون إليها وشبهة يرجعون إليها وهي ما ظهر وشاع بين الناس من إخباره بالمغيبات حالا بعد حال؛ فقالوا: إن ذلك لا يمكن أن يكون إلّا من اللَّه تعالى أو ممن حلت ذات الإله في جسده ولعمري إنه لا يقدر على ذلك إلّا بإقدار اللَّه تعالى إياه عليه ولكن لا يلزم من إقداره إياه عليه أن يكون هو الإله أو تكون ذات الإله حالة فيه(1).

قال الصدوق في اعتقاداته: اعتقادنا في الغلاة والمفوضة أنهم كفار باللَّه جل جلاله وأنهم شر من اليهود والنصارى والمجوس والقدرية والحرورية ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلة، وأنه ما صغر اللَّه جل جلاله تصغيرهم شي ء وقال اللَّه جل جلاله:

«مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(2) وقال اللَّه عزوجل: «لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ»(3) واعتقادنا في النبي والأئمة أن بعضهم قتلوا بالسيف وبعضهم بالسم وأن ذلك جرى عليهم على الحقيقة وأنه ما شبه أمرهم كما يزعمه من يتجاوز الحد فيهم «إلى أن قال» وكان الرضاعليه السلام يقول في دعائه:

اللهمّ إني أبرئ اليك من الحول والقوة، ولا حول ولا قوة إلّا بك، اللهم إني أعوذ

ص: 163


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/6.
2- آل عمران: 79 - 80.
3- النساء: 171.

بك وأبرء إليك من الذين ادعوا لنا ما ليس لنا بحق، اللهم إني أبرء إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا، اللهم لك الحق ومنك الرزق وإياك نعبد وإياك نستعين، اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين، اللهم لا تليق الربوبية إلّا بك، ولا تصلح الالهية إلّا لك، فالعن النصارى الذين صغروا عظمتك، والعن المضاهئين لقولهم من بريتك.

اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك، لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشوراً، اللهم من زعم أننا أرباب فنحن منه براء، ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق، فنحن منه براء كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما يدعون، «رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا»(1).(2)

وروى عن زرارة أنه قال: قلت للصادق عليه السلام إن رجلا من ولد عبداللَّه بن سبا يقول بالتفويض، فقال: وما التفويض؟ قلت: يقول إن اللَّه خلق محمدا وعليا صلوات اللَّه عليهما ففوض الأمر إليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا، فقال: كذب عدو اللَّه إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية التي في سورة الرعد «أَمْ جَعَلُوا للَّهِ ِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(3).

ص: 164


1- نوح: 26 - 27.
2- اعتقادات الصدوق: 99؛ بحار الأنوار: 25/343.
3- الرعد: 16.

فانصرفت إلى الرجل فأخبرته بما قال الصادق عليه السلام فكأني ألقمته حجرا أو قال فكانما خرس وقد فوض اللَّه عزوجل إلى نبيه أمر دينه فقال عزوجل: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1) وقد فوض ذلك إلى الأئمةعليهم السلام(2).

وعن المفيد في شرح هذا الكلام: الغلو في اللغة هو تجاوز الحد والخروج عن القصد قال اللَّه تعالى: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ»(3) الآية فنهي عن تجاوز الحد في المسيح وحذر من الخروج عن القصد في القول وجعل ما ادعته النصارى فيه غلوا لتعدية الحد على ما بيناه، والغلاة من المتظاهرين بالاسلام هم الذين نسبوا أميرالمؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام إلى الالهية والنبوة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد وهم ضلال كفار حكم فيهم أميرالمؤمنين بالقتل والتحريق بالنار وقضت الأئمةعليهم السلام عليهم بالاكفار والخروج عن الاسلام(4).

والمفوضة صنف من الغلاة وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة وخلقهم، ونفى القدم عنهم وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم، ودعواهم أن اللَّه تفرد بخلقهم خاصة وأنه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال انتهى كلامه رفع مقامه(5).

وقال المحدّث العلامة المجلسي طاب ثراه: اعلم أن الغلو في النبي والائمة

ص: 165


1- الحشر: 7.
2- اعتقادات الصدوق: 100؛ بحار الأنوار: 25/343.
3- النساء: 171.
4- اعتقادات الصدوق: 131؛ بحار الأنوار: 25/344.
5- اعتقادات الصدوق: 133؛ بحار الأنوار: 25/345.

عليهم الصلاة والسلام إنما يكون بالقول بالوهيتهم، أو بكونهم شركاء اللَّه تعالى في المعبودية أو في الخلق والرزق. أو أن اللَّه تعالى، حل فيهم، أو اتحد بهم، أو أنهم يعلمون الغيب بغير وحى أو إلهام من اللَّه تعالى، أو بالقول في الأئمه أنهم كانوا أنبيأ أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي، والقول بكل منها الحاد وكفر وخروج عن الدين كما دلت عليه الأدلة العقلية والآيات والأخبار وقد عرفت أن الائمةعليهم السلام تبرؤوا منهم وحكموا بكفرهم وأمروا بقتلهم وإن قرع سمعك شي ء عن الأخبار الموهمة لشي ء من ذلك فهي إما مأولة أو هي من مفتريات الغلاة، ولكن أفرط بعض المتكلمين والمحدثين في الغلو لقصورهم عن معرفة الأئمةعليهم السلام وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شئوناتهم فقدحوا في كثير من الروات الثقاة لنقلهم بعض غرائب المعجزات حتى قال بعضهم من الغلو نفى السهو عنهم أو القول بأنهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك؛

مع أنه قد ورد في أخبار كثيرة: لا تقولوا فينا ربا وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا وورد أن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللَّه قلبه للايمان، وورد لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله وغير ذلك فلابد للمؤمن المتدين أن لا يبادر برد ما ورد عنهم من فضايلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم إلّا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة، انتهى كلامه رفع مقامه(1).

وهو كاف في تحقيق المقام وتوضيح المرام وما ذكره رحمه الله هي الجادة الوسطى

ص: 166


1- بحار الأنوار: 25/346.

والنمط الأوسط والصراط المستقيم الذي ينبغي سلوكه والمذهب الحق الواجب أخذه ولزومه، فالراغب عنه مارق واللازم له لاحق والمقصر فيه زاهق.

وأمّا التفويض

قال الخوئي رحمه الله: إن التفويض عبارة عن تسليم الأمر إلى الخلق ورده إليه، وهو على وجهين:

أحدهما تفويض أمور الخلق إلى أنفسهم، وهو الذي قال به القدرية ويقال لها المفوضة أيضاً ومحصل ما ذهبوا إليه أن اللَّه أوجد العباد وأقدرهم على أفعالهم وفوض إليهم الاختيار فهم مستقلون بايجادها على وفق مشيتهم وارادتهم وطبق قدرتهم من دون أن يكون له سبحانه تأثير فيها بوجه من الوجوه، وبإزاء هؤلاء الجماعة جماعة أخرى ذهبت إلى أن لا مؤثر في الوجود إلّا اللَّه فيفعل ما يشأ ويحكم ما يريد لا علة لفعله ولا راد لقضائه وهذان الفريقان واقعان في طرفي التضاد، أحدهما يسمى بالقدرية والآخر بالجبرية، وزعم الفرقة الأولى أن بالقول بالتفويض يظهر فايدة التكليف بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وبه يحصل استحقاق الثواب والعقاب، وبه ينزه اللَّه سبحانه عن ايجاد الشرور والقبايح التي هي أنواع الكفر والمعاصي، وزعم الفرقة الاخرى أن بالقول بالجبر يحصل سلطنة مالك الملوك في ملكوته وملكه وأن فيه تعظيما لقدرة اللَّه تعالى وتقديسا له عن شوائب النقصان والافتقار في التأثير إلى شي ء آخر وأنت خبير بأن القول الأول مستلزم للشرك، والثاني مستلزم للكفر، وقد ورد في الأخبار الكثيرة المنع منهما والرد عليهما صريحا بقولهم: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، وتحقيق

ص: 167

الأمر بين الأمرين وتوضيح الرد على الفريقين موكول إلى محله.

الوجه الثاني تفويض أمور الخلق إلى النبي والأئمة الطاهرين سلام اللَّه عليهم وردها إلى اختيارهم وهو يتصور على أنحاء بعضها صحيح وبعضها باطل.

الأول: التفويض في الخلق والايجاد والتربية والرزق والاماتة والاحياء وغيرها من الأفعال وهذا كفر صريح دلت الادلة على امتناعه ويدل عليه ما عن الرضاعليه السلام أنه قال: من زعم أن اللَّه يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ومن زعم أن اللَّه عزوجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليه السلام فقد قال بالتفويض والقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك(1).

وفيه أيضاً عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أباالحسن الرضاعليه السلام عن الغلاة والمفوضة فقال: الغلاة كفار والمفوضة مشركون من جالسهم أو خالطهم أو واكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوجهم أو تزوج إليهم أو امنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة، خرج من ولاية اللَّه عزوجل وولاية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وولايتنا أهل البيت(2).

عن عبداللَّه بن شريك عن أبيه، قال، بينا علي عليه السلام عند امرأة من عنزة وهي أم عمرو إذ أتاه قنبر، فقال، إن عشرة نفر بالباب يزعمون أنك ربهم، قال أدخلهم! قال، فدخلوا عليه، فقال: ما تقولون فقالوا إنك ربنا وأنت الذي خلقتنا وأنت الذي ترزقنا، فقال لهم: ويلكم لا تفعلوا إنما أنا مخلوق مثلكم، فأبوا أن يقلعوا (ان يفعلوا خ ل) فقال لهم ويلكم ربي وربكم اللَّه ويلكم توبوا وارجعوا، فقالوا لا ترجع عن

ص: 168


1- عيون أخبار الرضاعليه السلام: 1/124، ح 17؛ بحار الأنوار: 5/12، ح 18.
2- عيون أخبار الرضاعليه السلام: 2/203، ح 4؛ بحار الأنوار: 25/273، ح 19.

مقالتنا أنت ربنا وترزقنا وانت خلقتنا، فقال: يا قنبر آتني بالفعلة، فخرج قنبر فأتاه بعشرة رجال مع الزبل والمرور(1) فأمرهم أن يحفروا لهم في الأرض، فلما حفروا خدا أمر بالحطب والنار فطرح فيه حتى صار نارا تتوقد قال لهم ويلكم توبوا وارجعوا فأبوا وقالوا لا نرجع، فقذف علي عليه السلام بعضهم ثم قذف بقيتهم في النار، ثم قال علي عليه السلام:

إني إذا أبصرت شيئا منكرا

أوقدت ناري (نارا خ ل) ودعوت قنبرا(2)

وفي بعض الروايات بعد هذا البيت هكذا:

ثم احتفرت حفرا فحفرا * وقنبر يحطم حطما منكرا(3)

عن محمد بن علي ما جيلويه عن علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن ياسر الخادم قال: قلت للرضاعليه السلام ما تقول في التفويض؟ فقال إن اللَّه تبارك وتعالى فوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله أمر دينه فقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(4) فأما الخلق والرزق فلا، ثم قال عليه السلام إن اللَّه عزوجل يقول: «اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ»(5) وهو يقول: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(6).(7)

ص: 169


1- الزبيل: كامير القفه أو الجراب أو الوعاء والجمع الزبل كتب. والمر: بالفتح المسحاة. والخد: الحفرة المستطيلة في الأرض.
2- رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال - : 307، ح 556؛ بحار الأنوار: 25/299، ح 63.
3- بحار الأنوار: 25/285.
4- الحشر: 7.
5- الرعد: 16 والزمر: 62.
6- الروم: 40.
7- عيون اخبار الرضاعليه السلام: 2/202، ح 3؛ بحار الأنوار: 25/328، ح 1.

عن أبي الحسن علي بن أحمد الدلال القمي قال: اختلف جماعة من الشيعة في أن اللَّه عزوجل فوض إلى الأئمةعليهم السلام أن يخلقوا ويرزقوا فقال قوم: هذا محال لا يجوز على اللَّه عزوجل لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير اللَّه عزوجل وقال آخرون: بل اللَّه عزوجل أقدر الائمة على ذلك وفوض إليهم فخلقوا ورزقوا وتنازعوا في ذلك نزاعا شديدا فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان فتسألونه عن ذلك ليوضح لكم الحق فيه فإنه الطريق إلى صاحب الأمر؛ فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلمت وأجابت إلى قوله فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه؛ فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته: إن اللَّه تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسم الأرزاق لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم ليس «كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(1) فأما الأئمةعليهم السلام فإنهم يسألون اللَّه تعالى فيخلق ويسأله [يسألونه] فيرزق إيجابا لمسألتهم وإعظاما لحقهم(2).

إلى غير هذه من الأخبار الواردة في رد هذه المقاله الفاسدة وطعن القائلين به.

الثاني

التفويض في أمر الدين في الجملة

والتفويض بذلك المعنى حق ثابت بالأخبار المستفيضة

فمما يدل على ذلك رواية ياسر الخادم التي أسلفناها وما روى عن فضيل بن يسار قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إن اللَّه

ص: 170


1- الشورى: 11.
2- الإحتجاج: 2/471؛ بحار الأنوار: 25/329، ح 4.

عزوجل أدب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل لك الأدب قال: «إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(1) ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده فقال عزوجل: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(2) وفي إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كان مسددا موفقا مؤيدا بروح القدس لا يزل ولا يخطئ في شي ء مما يسوس به الخلق فتأدب بأداب اللَّه ثم إن اللَّه عزوجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات فأضاف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة - لا يجوز تركهن إلّا في سفر وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز اللَّه عزوجل له ذلك كله فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ثم سن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله النوافل أربعا وثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز اللَّه عزّ وجلّ له ذلك والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعد بركعة مكان الوتر وفرض اللَّه في السنة صوم شهر رمضان وسن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة فأجاز اللَّه عزوجل له ذلك وحرم اللَّه عزوجل الخمر بعينها وحرم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله المسكر من كل شراب فأجاز اللَّه له ذلك كله وعاف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصة واجبا على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ولم يرخص لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخص فيه لأحد ولم يرخص رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض اللَّه عزوجل بل ألزمهم ذلك إلزاما واجبا لم يرخص لأحد في

ص: 171


1- القلم: 4.
2- الحشر: 7.

شي ء من ذلك إلّا للمسافر وليس لأحد أن يرخص شيئا ما لم يرخصه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فوافق أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أمر اللَّه عزوجل ونهيه نهي اللَّه عزوجل ووجب على العباد التسليم له كالتسليم للَّه تبارك وتعالى(1)

وفيه أيضاً عن عبداللَّه بن سليمان العامري عن أبي جعفرعليه السلام قال: لما عرج برسول اللَّه صلى الله عليه وآله نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين، فلما ولد الحسن والحسين زاد رسول اللَّه سبع ركعات شكرا للَّه(2) فأجاز اللَّه له ذلك وترك الفجر لم يزد فيها لضيق وقتها، لأنه يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، فلما أمره اللَّه تعالى بالتقصير في السفر وضع عن امته ست ركعات وترك المغرب لم ينقص منها شيئا(3).

وعن جابر بن يزيد قال تلوت على أبي جفعرعليه السلام هذه الآية من قول اللَّه: «ليس لك من الأمر شي ء»(4) فقال إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حرص أن يكون عليٌّ وليَّ الأمر من بعده فذلك الذي عني اللَّه «ليس لك من الأمر شي ء»(5) وكيف لا يكون له من الأمر شي ء وقد فرض اللَّه إليه فقال: ما أحل النبي فهو حلال وما حرم النبي فهو حرام(6).

ص: 172


1- الكافي: 1/266، ح 4؛ بحار الأنوار: 17/4، ح 2.
2- فان قيل: زيادته صلى الله عليه وآله ان كانت بغير أمر اللَّه واذنه يكون منافيا لقوله تعالى «و ما ينطق عن الهوى» وان كانت بامره تعالى وارادته فلا فرق بين الاولتين والآخرتين قلنا: نختار الشق الأخير والفرق بينهما باعتبار ان الركعتين الاولتين مأمور بهما حتما والأخيرتين مفوضان فوضهما إلى النبي صلى الله عليه وآله فله ان يزيدهما وان لا يزيدهما فلما اختار الزيادة نسبت إليه وقد ذكرت توجيهات (كذا في هامش المطبوع).
3- الكافي: 3/487، ح 2 ووسائل الشيعة 4/50، ح 4486 - 14.
4- آل عمران: 128.
5- آل عمران: 128.
6- الاختصاص: 332؛ بحار الأنوار: 25/340، ح 22.

وعن محمد بن الحسن الميثمي عن أبيه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: إنّ اللَّه أدب رسوله حتى قومه على ما أراد ثم فوض إليه فقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1) فما فوض اللَّه إلى رسوله فقد فوض إلينا(2).

وعن أديم بن الحسن [الحر] قال أديم سأله موسى بن أشيم يعني أباعبداللَّه عليه السلام عن آية من كتاب اللَّه فخبره بها فلم يبرح حتى دخل رجل فسأله عن تلك الآية بعينها فأخبره بخلاف ما أخبره قال ابن أشيم فدخلني من ذلك ما شاء اللَّه حتى كنت كاد قلبي يشرح بالسكاكين وقلت تركت أبا قتادة بالشام لا يخطي في الحرف الواحد الواو وشبهها وجئت إلى من يخطي هذا الخطاء كله فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه رجل آخر فسأله عن تلك الآية بعينها فأخبره بخلاف ما أخبرني والذي سأله بعدي فتجلى عني وعلمت أن ذلك تعمد منه فحدثت بشي ء في نفسي فالتفت إلى أبو عبداللَّه عليه السلام فقال يا ابن أشيم لا تفعل كذا وكذا فحدثني عن الأمر الذي حدثت به نفسي ثم قال يا ابن أشيم إن اللَّه فوض إلى سليمان بن داوودعليه السلام فقال «هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(3) وفوض إلى نبيه فقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(4) فما فوض إلى نبيه فقد فوض إلينا(5).

ص: 173


1- سورة الحشر: 7.
2- بصائر الدرجات: 1/285، ح 6؛ الكافي: 1/268، ح 9؛ بحار الأنوار: 25/332، ح 9.
3- سورة ص: 39.
4- سورة الحشر: 7.
5- بصائر الدرجات: 1/386، ح 11؛ الكافي: 1/265، ح 2؛ بحار الأنوار: 25/332، ح 10.

الثالث

تفويض أمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم وأمر الخلق بإطاعتهم فيما أحبوا وكرهوا وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما لم يعلموا وهو المراد بهذا الخبر، وهذا المعنى حق دلت عليه الآيات والأخبار وأدلة العقل(1).

اما الآيات:

قال تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(2).

وقال تعالى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ»(3).

واما الأخبار:

عن أبي إسحاق النحوي قال دخلت على أبي عبداللَّه عليه السلام فسمعته يقول إن اللَّه عزوجل أدب نبيه على محبته(4) فقال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(5) ثم فوض إليه فقال عزوجل: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(6) وقال عزوجل: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ»(7) قال ثم قال وإن نبي اللَّه فوض إلى علي وائتمنه فسلمتم وجحد الناس فو اللَّه لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين اللَّه عزوجل ما جعل اللَّه لأحد خيرا في خلاف أمرنا(8).

ص: 174


1- مرآة العقول في شرح اخبار الرسول صلى الله عليه وآله: 3/145.
2- سورة النساء: 59.
3- سورة النساء: 80.
4- أي على ما أحب وأراد من التأديب (بحار الأنوار: 25/335).
5- سورة القلم: 4.
6- سورة الحشر: 7.
7- سورة النساء: 80.
8- الكافي: 1/265، ح 1؛ بحار الأنوار: 17/3، ح 1.

وعن زرارة قال سمعت أبا جعفر وأبا عبداللَّه عليه السلام يقولان: إن اللَّه فوض إلى نبيه أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثم تلا هذه الآية «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1).(2)

وعن زرارة أيضاً عن أبي جعفرعليه السلام قال: وضع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله دية العين ودية النفس ودية الأنف، وحرم النبيذ وكل مسكر فقال له رجل: فوضع هذا رسول اللَّه من غير أن يكون جاء فيه شي ء؟ قال: نعم ليعلم من يطع الرسول ممن يعصيه(3).

الرابع

تفويض بيان العلوم والأحكام إليهم بما أرادوا ورأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقولهم وإفهامهم، أو بسبب التقية فيفتون بعض الناس بالأحكام الواقعية، وبعضهم بالتقية، ويسكنون عن جواب بعضهم للمصلحة، ويجيبون في تفسير الآيات وتأويلها وبيان الحكم والمعارف بحسب ما يحتمله عقل كل سائل، ولهم أن يجيبوا ولهم أن يسكتوا بحسب ما يريهم اللَّه من مصالح الوقت(4).

ويشهد بذلك رواية ابن أشيم السالفة:

وما روى عن الوشا عن الرضاعليه السلام قال: قلت له: حقا علينا أن نسألكم قال: نعم، قلت: حقا عليكم أن تجيبونا، قال: لا(5) ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وان شئنا لم نفعل أما

ص: 175


1- سورة الحشر: 7.
2- بصائر الدرجات: 1/379، ح 7؛ بحارالأنوار: 25/332، ح 7.
3- بصائر الدرجات: 1/381، ح 14؛ بحارالأنوار: 25/332، ح 8.
4- مرآة العقول: 3/145.
5- ذلك لان كل سؤال ليس بمستحق للجواب ولا كل سائل بالحرى أن يجاب ورب جوهر علم ينبغي أن يكون مكتوباً ورب حكم ينبغي أن يكون مكتوما. (فى).

تسمع قول اللَّه: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب(1)،(2).

وعن زرارة بن أعين عن أبي جعفرعليه السلام قال سألته عن مسألة فأجابني ثم جاءه رجل آخر فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ثم جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي فلما خرج الرجلان قلت له: يابن رسول اللَّه رجلان من أهل العراق من شيعتكم قَدِما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه، فقال: يا زرارة إن هذا خير لنا ولكم وأبقى لنا ولكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لما صدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا ولبقائكم(3).

وعن حماد بن عثمان قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام إن الأحاديث تختلف عنكم قال فقال إن القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه ثم قال هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب(4)،(5).

وعن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر فقال إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان(6).

قال العلامة المجلسي: ولعل تخصيص هذا النحو من التفويض بالنبي والأئمه عليهم السلام لعدم تيسر هذه التوسعة لساير الأنبياء والأوصياءعليهم السلام، بل كانوا مكلفين بعدم التقية في بعض الموارد وإن أصابهم الضرر(7).

ص: 176


1- ص: 39.
2- الكافي: 1/210، ح 3.
3- الكافي: 1/65، ح 5.
4- ص: 39.
5- الخصال: 2/358، ح 43؛ بحار الأنوار: 89/49، ح 10.
6- الكافي: 1/65، ح 3؛ بحار الأنوار 2/228، ح 10.
7- بحار الأنوار: 25/349.

الخامس

التفويض في قطع الخصومات ومقام القضاء، فلهم أن يحكموا بظاهر الشريعة ولهم أن يحكموا بعلمهم وبما يلهمهم اللَّه من الواقع ومخ الحق في كل واقعة(1).

ويدل عليه ما رواه محمد بن سنان قال: قال أبوعبداللَّه عليه السلام لا واللَّه ما فوض اللَّه إلى أحد من خلقه إلّا إلى الرسول وإلى الأئمة عليه وعليهم السلام فقال: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ»(2) وهي جارية في الأوصياء(3) فان الظاهر أن المراد بالارائة هو الالهام وما يلقى في القلب فتدل على التفويض بالمعنى المذكور.

السادس

التفويض في العطاء والمنع، فان اللَّه تعالى خلق لهم الأرض وما فيها وجعل لهم الأنفال والخمس والصفايا فلهم أن يعطوا من شاءوا وأن يمنعوا من شاءوا(4).

ويدل عليه ما روى عن محمد بن خالد الطيالسي عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي عن رفيد مولى ابن هبيرة قال: قال أبوعبداللَّه عليه السلام إذا رأيت القائم اعطي رجلا مأئة ألف وأعطى آخر درهما فلا يكبر في صدرك، وفي رواية أخرى فلا يكبر ذلك في صدرك فان الأمر مفوض إليه(5) وفي هذا المعنى أخبار كثيرة

ص: 177


1- بحار الأنوار: 25/349.
2- النساء: 105.
3- بصائر الدرجات : 1/386/ح 12؛ بحار الأنوار : 25/334، ح 11 .
4- بحار الأنوار: 25/350.
5- بصائر الدرجات: 1/386، ح 10؛ بحار الأنوار: 25/336، ح 15.

أوردها الأصحاب بعضها في أبواب الخمس وبعضها في أبواب الجهاد(1).

و قيل له إن القوم عبروا جسر النهروان

قد عرفت من رواية المسعودي أنّه يقال لجسر النهروان(2) قنطرة طبرستان.

مَصَارِعُهُمْ

اي محل هلاكتهم.

دُونَ النُّطْفَةِ

قد عرفت من رواية المسعودي أنه عليه السلام قال نقتلهم بالرميلة دونه.

وَاللَّهِ لا يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ

روى أنه لما قتل الخوارج وجدوا المفلت منهم تسعة تفرقوا في البلاد، فانهزم اثنان منهم إلى عمان(3) واثنان إلى كرمان(4) واثنان إلى سجستان(5) واثنان إلى

ص: 178


1- منهاج البراعة: 4/374.
2- في القاموس: «النهروان بفتح النون وتثليث الراء وبضمهما ثلاث قرى أعلى وأوسط وأسفل؛ هن بين واسط وبغداد».
3- عمان: بضم أوله، وتخفيف ثانيه، وآخره نون اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن والهند (معجم البلدان: 4/150).
4- كرمان: ولاية بين فارس ومكران وسجستان وخراسان (معجم البلدان: 4/454).
5- ولاية جنوبي هراة (معجم البلدان: 3/190).

الجزيرة(1) وواحد إلى تل مورون باليمن(2)،(3).

وَلا يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ

قد عرفت من رواية ابن ميثم أنّ المخاطب له بذلك أبو أيوب الأنصاري الّذي كان على ميمنته عليه السلام، ثمّ قد عرفت من رواية المبرّد أنّ المفلت من الخوارج ثمانية، والمقتول من أصحابه عليه السلام تسعة وابن ميثم قال بالعكس.

وروى الطبري عن أبي مخنف أنّ المقتول من أصحابه عليه السلام سبعة(4)، وبه قال سبط ابن الجوزي(5) والجزري، وزاد الأخير وكان في من قتل من أصحابه عليه السلام يزيد بن نويرة الأنصاري وله صحبة وسابقة، وشهد له النبيّ صلى الله عليه وآله بالجنّة وكان أوّل من قتل(6).

وفي (تاريخ الطبري): كان أحد الثمانية الّذين هربوا من الخوارج يوم النهر عليّ بن أبي شمر التيمي، وكان من فرسان العرب ونسّاكهم(7).

وروى الخطيب في أبي برزة كون المقتولين من أصحابه عليه السلام تسعة(8).

انّا قد ذكرنا قصّة الخوارج مفصّلا وانّ منشائهم كان من وقعة صفّين وقصّة الحكمين وفي المقام نشير إلى أمور لم نذكره هناك.

الأوّل - انّه كان مأمورا من اللَّه ورسوله بقتل الخوارج كما كان مأمورا بقتل

ص: 179


1- هي التي بين دجلة والفرات (المعارف لابن قتيبة: 566).
2- هو بلد قديم بين رأس عين وسروج، وبينه وبين رأس عين نحو عشرة أميال، وهو بلد قديم يزعم أن جالينوس كان به (معجم البلدان: 2/45).
3- الملل والنحل (الشهرستاني): 1/117.
4- تاريخ الطبري: 4/67/سنة 37.
5- تذكرة الخواص (سبط بن الجوزي): 101.
6- الكامل لابن الأثير: 3/348/سنة 37.
7- تاريخ الطبري: 4/139/سنة 43.
8- تاريخ بغداد: 1/195.

النّاكثين والقاسطين ويدلّ عليه ما رواه غير واحد من العامّة والخاصّة في اخبار الرّسول صلى الله عليه وآله ايّاه بقتالهم.

فمنها - عن زيد بن علي، عن أبيه، عن الحسين بن علي، عن أميرالمؤمنين عليهم السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: يا علي، إن اللَّه (تعالى) أمرني أن أتخذك أخا ووصيا، فأنت أخي ووصيي، وخليفتي على أهلي في حياتي وبعد موتي، من تبعك فقد تبعني، ومن تخلف عنك فقد تخلف عني، ومن كفر بك فقد كفر بي، ومن ظلمك فقد ظلمني، يا علي، أنت مني وأنا منك، يا علي، لولا أنت لما قوتل أهل النهر.

قال: فقلت يا رسول اللَّه، ومن أهل النهر قال: قوم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية(1).

ومنها: ما رواه أبوسعيد الخدري أن النبيّ صلى الله عليه وآله قسم يوما قسما فقال رجل من تميم اعدل فقال ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل.

قيل نضرب عنقه قال لا إن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية آيتهم (رئسهم خ ل) رجل أدعج أحد ثدييه مثل ثدي المرأة.

قال أبوسعيد وإنّي كنت مع علي عليه السلام حين قتلهم فالتمس في القتلى بالنهروان فأتي به على النعت الذي نعته رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(2).

ومنها - ما عن مسند أبي داود وهو من أعيان العامّة وكتابه من اصحّ كتبهم عن أبي سعيد الخدري وانس بن مالك انّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال سيكون في امّتي اختلاف

ص: 180


1- الأمالي للطوسي: 200/7م، ح 341 - 43؛ بحار الأنوار: 33/325، ح 570.
2- الخرائج والجرائح: 1/68، ح 127؛ بحار الأنوار: 33/336، ح 572.

وفرقه قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّمية هم شرّ الخلق طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب اللَّه وليس منه في شي ء من قاتلهم كان اولى باللَّه منهم(1).

ومنها - ما عن صحيح مسلم ووافقه ابو داود بسندهما عن زيد ابن وهب انّه كان في الجيش الّذي كانوا مع عليّ قال عليّ ايّها النّاس انّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول يخرج قوم من امّتي يقرؤن القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشي ء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشي ء ولا صيامكم إلى صيامهم بشي ء يقرؤون القرآن ويحسبون انّه لهم وهو عليهم لا يجاوز قراءتهم تراقيهم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّمية ولو يعلم الجيش الّذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيّهم لنكلوا عن العمل وآيه ذلك انّ فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على عضده مثل حلمة الثّدى عليه شعرات بيض - فتذهبون إلى معاوية وأهل الشّام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم واموالكم واللَّه انّي لارجو ان يكونوا هؤلاء القوم فانّهم قد سفكوا الدّم الحرام واغاروا على سرح النّاس فسيروا قال سلمة بن كهيل فنزلني زيد ابن وهب منزلاً حتّى قال مررنا على قنطرة فلمّا التقينا وعلى الخوارج يومئذٍ عبداللَّه بن وهب الرّاسبي - فقال لهم القوا الرّماح وسلّوا السّيوف من جفونها فانّي أخاف ان يناشدوكم كما ناشدوكم ايّام حروراء فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلّوا السّيوف وشجرهم النّاس بالرّماح قال وقتل بعضهم على بعض ما اصيب يومئذ من النّاس الّا رجلان فقال علي عليه السلام التمسوا فيهم المخدج وهو النّاقص فلم

ص: 181


1- سنن أبي داود: 2/428، ح 4765 ومسند أحمد: 3/224. (در مسند أحمد جمله: «لا يرجعون حتى يرتدوا على فوقه» هم شر الخلق... را اضافه دارد).

يجدوه فقام عليّ بنفسه حتّى اتى ناسا وقد قتل بعضهم على بعض قال اخرجوهم فوجدوه ممّا يلي الأرض فكبّر ثمّ قال صدق اللَّه وبلغ رسوله قال فقام اليه عبيدة السّلماني وقال يا أميرالمؤمنين اللَّه الّذي لا اله الّا هو اسمعت هذا الحديث من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال اي واللَّه الّذي لا اله الّا هو حتّى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له(1).

الثاني - انّ ما أخبر به عليه السلام في المقام فانّما اخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وهو عن اللَّه تعالى وذلك لما روى انّ عليّاعليه السلام لمّا سار الى النّهروان شكّ رجل يقال له جندب فقال له عليّ الزمني ولا تفارقني فلزمه فلمّا دنو من قنطرة النّهروان نظر عليّ عليه السلام قبل زوال الشمس الى قنبر يؤذن بالصّلاة فنزل فقال ايتني بماء فقعد يتوضّأ فاقبل فارس وقال قد عبر القوم فقال أميرالمؤمنين عليه السلام ما عبروا ولا يعبرونها ولا يفلت منهم الّا دون العشرة ولا يقتل منكم الّا دون العشرة واللَّه ما كذبت ولا كذبت فتعجّب النّاس فقال جندب ان صحّ ما قال عليّ فلا احتاج إلى دليل غيره فبينما هم كذلك اذ اقبل فارس فقال يا أميرالمؤمنين عليه السلام القوم على ما ذكرت لم يعبروا القنطرة فصلّى بالنّاس الظهر وامرهم بالمسير اليهم قال جندب قلت لا يصل إلى القنطرة قبلى احد فركضت فرسى فاذا هم دون القنطرة وقوف فكنت اوّل من رمى فقتلوا كلّهم الّا تسعة وقتل من أصحابنا تسعة، ثمّ قال عليّ اطلبوا ذا الثّدية.

فطلبوه فلم يجدوه فقال اطلبوه فواللَّه ما كذبت ولا كذبت ثمّ قام فركب البغلة نحو قتلى كثير فقال اقلبوها فاستخرجوا ذا الثّدية فقال الحمد للَّه عجّلك إلى النّار وقد كان الخوارج خرجوا عليه قبل ذلك بجانب الكوفة في حروراء وكانوا اذ ذاك اثنى عشر الفا قال فخرج اليهم اميرالمؤمنين في ازاره وردائه راكبا البغلة فقيل

ص: 182


1- صحيح مسلم: 3/115 وسنن أبي داود: 2/429، ح 4768.

القوم شاكّون في السّلاح اتخرج اليهم كذلك قال انّه ليس بيوم قتالهم وصار إليهم بحروراء وقال لهم ليس اليوم اوان قتالكم وستفترقون حتّى تصيروا أربعة آلاف فتخرجون عليّ مثل هذا اليوم في مثل هذا الشّهر فأخرج اليكم بأصحابي فأقاتلكم حتّى لا يبقى منكم الّا دون العشرة ويقتل من أصحابي يومئذ دون عشرة هكذا أخبرني رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فلم يبرح من مكانه حتّى تبّرأ بعضهم من بعض وتفرّقوا الى ان صاروا أربعة آلاف بالنّهروان(1).

وروى أيضاً عن جندب ابن زهير الازدي قال: لما فارقت الخوارج عليا خرج عليه السلام إليهم وخرجنا معه فانتهينا إلى عسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل في قراءة القرآن وفيهم أصحاب البرانس وذوو الثفنات فلما رأيت ذلك دخلني شك فتنحيت ونزلت عن فرسي وركزت رمحي ووضعت ترسي ونثرت عليه درعي وقمت أصلي وأنا أقول في دعائي اللهم إن كان قتال هؤلاء رضا لك فأرني من ذلك ما أعرف به أنه الحق وإن كان لك سخطا فانصرف عني إذ أقبل علي عليه السلام فنزل عن بغلة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقام يصلي إذ جاءه رجل فقال قطعوا النهر ثم جاء آخر يشتد به دابته فقال قطعوه وذهبوا فقال أميرالمؤمنين عليه السلام ما قطعوه ولا يقطعونه وليقتلن دون النطفة، عهد من اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله وقال لي يا جندب ترى التل قلت نعم قال إن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حدثني أنهم يقتلون عنده ثم قال إنا نبعث إليهم رسولا يدعوهم إلى كتاب اللَّه وسنة نبيه فيرشقون وجهه بالنبل وهو مقتول قال فانتهينا إلى القوم فاذا هم في معسكرهم لم يبرحوا ولم يتراحلوا فنادى الناس وضمهم ثم أتى الصف وهو يقول من يأخذ هذا المصحف فيمشي به إلى هؤلاء القوم فيدعوهم

ص: 183


1- الخرائج والجرائح: 1/226، ح 71؛ بحار الأنوار: 33/385، ح 615.

إلى كتاب اللَّه وسنة نبيه وهو مقتول وله الجنة فما أجابه أحد إلّا شاب من بني عامر بن صعصعة فلما رأى حداثة سنة قال له ارجع إلى موقفك ثم أعاد فما أجابه أحد إلّا ذلك الشاب قال خذه أما إنك مقتول فمشى به حتى إذا دنا من القوم حيث يسمعهم ناداهم إذ رموا وجهه بالنبل فأقبل علينا ووجهه كالقنفذ فقال علي عليه السلام دونكم القوم فحملنا عليهم قال جندب ذهب الشك عني وقتلت بكفي ثمانية ولما قتل الحرورية(1) قال علي عليه السلام التمسوا في قتلاهم رجلا مخدوجا حدى [إحدى يديه مثل ثدي المرأة فطلبوه فلم يجدوه فقام أمر بهم فقلب بعضهم على بعض فإذا حبشي إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، عليه شعرات كسبال الستور.

فكبر وكبر الناس معه وقال هذا شيطان لو لا أن تتكلوا لحدثتكم بما أعد اللَّه على لسان نبيكم لمن قاتل هؤلاء القوم(2).

والى هذين الحديثين اشارعليه السلام بقوله مصارعهم دون النّطفة إلى آخر الخطبة فقد علمت انّ رسول اللَّه اخبره به.

ص: 184


1- ]. والحرورية: جماعة من الخوارج النواصب، والنسبة لبلد قرب الكوفة. على ميلين منها - تسمى حروراء، نزل بها هؤلاء بعد خروجهم على أميرالمؤمنين علي عليه السلام. (مجمع الفرق الإسلامية: 94).
2- الخرائج والجرائح: 2/755، ح 74؛ بحار الأنوار: 33/385، ح 616.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (59) وقال عليه السلام لما قتل الخوارج فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم:

اشارة

كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلابِ الرِّجَالِ وَقَرَارَاتِ النِّسَاءِ كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلّابِينَ

قال عليه السلام لما قتل الخوارج فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم

مرّ علي عليه السلام بالخوارج وهم صَرْعى، فقال: «لقد صرعكم من غركم» قيل: ومن غرهم؟ قال: الشيطان وأنفُسُ السوء، فقال أصحابه: قد قطع اللَّه دابرهم إلى آخر الدهر، فقال: كلا والذي نفسي بيده، وإنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، لا تخرج خارجة إلّا خرجت بعدها مثلها حتى تخرج خارجة بين الفرات ودجلة مع رجل يقال له الأشمط يخرج إليه رجل منا أهل البيت فيقتله، ولا تخرج بعدها خارجة إلى يوم القيامة(1).

عن حبة العرني قال: لما فرغنا من النهروان قال رجل: واللَّه لا يخرج بعد اليوم حروري أبدا، فقال علي: مه، لا تقل هذا. فوالذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إنهم لفي

ص: 185


1- مروج الذهب: 2/407.

أصلاب الرجال، وأرحام النساء، ولا يزالون يخرجون حتى تخرج طائفة منهم بين نهرين، حتى يخرج إليهم رجل من ولدي فيقتلهم فلا يعودون أبدا(1).

كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلابِ الرِّجَالِ

قال تعالى: «يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ»(2).

وَقَرَارَاتِ النِّسَاءِ

مأخوذ من قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ»(3).

قال الحجاج لامرأة من الخوارج: لأحصدنّكم حصيدا. فقالت أنت تحصد، واللَّه يزرع. فأين قدرتك من قدرة اللَّه(4).

كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ

عن أبي سعيد الخدري قال بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقسم قسما وقال ابن عباس كانت غنائم هوازن يوم حنين إذ جاءه ابن أبي ذي الخويصرة التميمي هو حرقوص بن زهير أصل الخوارج فقال اعدل يا رسول اللَّه فقال ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فقال عمر يا رسول اللَّه ائذن لي فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وآله دعه فإن له أصحاباً يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين

ص: 186


1- تاريخ بغداد: 8/269.
2- الطارق: 7.
3- المؤمنون: 13.
4- البيان والتبيين للجاحظ: 370 وبلاغات النساء: 156.

كما يمرق السهم من الرمية... وفي حديث آخر فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم فنزلت «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ»(1)،(2).

رأى ابن عباس منهم جباها قرحة لطول السجود وايديا كثفنات الابل وعليهم قمص مرحضة(3) وهم مشمرون(4).

وفي مسند أحمد بن حنبل عن مسروق قال قالت لي عائشة إنك من ولدي ومن أحبهم إلي فهل عندك علم من المخدج فقلت نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تامرا(5) ولأسفله النهروان بين لخاقيق وطرفاء(6) قالت ابغني على ذلك بينة فأقمت رجالا شهدوا عندها بذلك قال فقلت لها سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فيهم فقالت نعم سمعته يقول إنهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند اللَّه وسيلة(7).

غلب الضحاك الشيباني في أيام مروان الحمار على العراق، ولم يغلب قبله، ولا بعده أحد من الخوارج على العراق، وسار للقاء مروان في جيوش عظيمة، ومعه سليمان بن هشام بن عبدالملك في جميع مواليه ورجاله مؤتمّا بالضحاك تابعا، وفي ذلك قال بعض شعراء الخوارج مفتخراً:

ص: 187


1- التوبة: 58.
2- مجمع البيان: 5/62؛ بحار الأنوار: 22/37.
3- قمص مرحضة مغسولة من ارحض الثوب؛ غسله.
4- الكامل للمبرد: 3/155.
5- تامرا: ضبطه ياقوت: «بفتح الميم وتشديد الراء والقصر»، وقال: «نهر واسع يخرج من جبال شهرزور والجبال المجاورة لها».
6- لخاقيق: جمع لخقوق؛ وهو ضيق في الأرض، والطرفاء: شجر من الحمض، واحدته طرفاء.
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/267؛ بحار الأنوار: 33/339.

ألم تر أنّ اللَّه أنزل نصره * وصلّت قريش خلف بكر بن وائل

فالتقيا بكفر توثا، وأقاموا يقتتلون أيّاما إلى أن قتل الضحاك وخليفته الخيبري، وسارت الأباضية من اليمن من قبل عبداللَّه بن يحيى الكندي الملقّب طالب الحق، عليهم أبو حمزة الأزدي، وبلج بن عقبة. فنزلوا مكّة يوم عرفة في سنه (129) ووادعهم عبدالملك بن سليمان بن عبدالملك عامل مكّة إلى انقضاء الحج ثمّ هرب إلى المدينة. فجهزّ عبدالواحد للقائهم جيشا أمّر عليهم عبدالعزيز بن عبداللَّه بن عمرو بن عثمان فالتقوا بقديد في سنة (130) فقتل عبدالعزيز في جمع كثير أكثرهم من قريش، فقالت نائحتهم:

ما للزمان وماليه * أفنت قديد رجاليه

فلأبكين سريرة * ولأبكين علانية

ودخلت الخوارج المدينة. فغلبوا عليها ثلاثة أشهر، فوجّه مروان إليهم عبدالملك السعدي، فالتقوا بوادي القرى. فقتل بلج، وأكثر الخوارج، ونجا أبوحمزة إلى مكّة. فلحقه بها فقتله، وسار إلى اليمن. فلقيه عبداللَّه بن يحيى بنواحي صنعاء. فقتل عبداللَّه، وأكثر من معه، ولحق بقيّتهم بعد قتل طالب الحق أيّام مروان إلى حضرموت، فأكثرها أباضيه إلى هذا الوقت سنة (332)(1).

وفي (المروج)، وقد أتى الهيثم بن عدي، والمدائني، وأبو البختري القاضي وغيرهم على اخبار الخوارج وأصنافهم في ما أفردوه من كتبهم، وذكرنا في كتابنا المقالات من خرج منهم من وقت التحكيم في عصر عصر إلى آخر من خرج، منهم بديار ربيعة على بني حمدان في سنة (318) الرجل المعروف بعرون وخرج

ص: 188


1- التنبيه والاشراف للمسعودي: 282 - 283 وبهج الصباغة: 5/470.

ببلاد كفرتوثي، وورد إلى نصيبين. فكانت له مع أهلها حرب اسر فيها، وقتل منهم خلق عظيم. والمعروف بأبي شعيب خرج في بني مالك وغيرهم من ربيعة، وقد كان أدخل على المقتدر. وكان للأباضية بعد (320) ببلاد عمان حروب وتحكيم وإمام نصبوه، فقتل وقتل من كان معه(1).

وفيه: وفي سنة (77) كانت للحجاج حروب مع شبيب الخارجي وولّى عنه الحجاج بعد قتل ذريع كان في أصحابه حتى أحصى عددهم بالقضيب.

فدخل الكوفة، وتحصّن في دار الأمارة ودخل شبيب وامّه وزوجته غزالة، الكوفة عند الصباح وقد كانت غزالة نذرت أن تدخل مسجد الكوفة فتصّلي فيه ركعتين تقرأ فيهما سورة البقرة وآل عمران فأتوا الجامع في سبعين رجلا فصلّوا به الغداة، وخرجت غزالة ممّا كانت أوجبته على نفسها. فقال الناس بالكوفة في تلك السنة:

وفت الغزالة نذرها * يا ربّ لا تغفر لها

وكانت الغزالة من الشجاعة والفروسية بالموضع العظيم، وكذلك أمّ شبيب ولمّا بلغ عبد الملك تحصين الحجاج في دار الأمارة من شبيب بعث من الشام بعساكر كثيرة عليها سفيان بن الأبرد الكلبي لقتال شبيب. فخرجوا إلى شبيب فانهزم وقتلت الغزالة وامّه ومضى شبيب في فوارس واتّبعه سفيان فلحقه بالأهواز فولّى. فلمّا حصل على جسر دجيل نفر به فرسه وعليه الحديد الثقيل من درع ومغفر. فألقاه في الماء. فقال له بعض أصحابه: أغرقا؟ قال: ذلك تقدير العزيز العليم. فألقاه دجيل ميتا بشاطئه. فحمل على البريد إلى الحجاج فأمر بشق بطنه. فاستخرج قلبه

ص: 189


1- مروج الذهب: 3/138.

فإذا هو كالحجر إذا ضربت بها نباعنها، فشق فإذا في داخله قلب صغير كالكرة فشقّ فاصيب علقة الدم في داخله(1).

حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلّابِينَ

اشارة

قال ابن أبي الحديد: ممن انتهى أمره إلى ذلك، الوليد بن طريف الشيباني في أيّام هارون، وعمرو الخثعمي في أيّام المتوكّل، وخرج بعدهما جمع بكرمان، وجمع بعمان ممن قصده الفساد ذكرهم أبوإسحاق الصابي في كتابه(2).

تكملة

روى أن طائفة من الخوارج لم يحضروا القتال ولم يظفر بهم أميرالمؤمنين عليه السلام وقد عرفت في شرح الكلام السابق أن المفلتين من القتل كانوا تسعة نفر، فتفرقوا في البلاد وشاعت بدعهم فيها وصاروا نحوا من عشرين فرقة وكبارها ست وقيل سبع.

احداها: المحكمة

وهم الذين خرجوا على أميرالمؤمنين عليه السلام عند التحكيم وكفروه، وهم اثنا عشر ألف رجل كانوا أهل صلاة وصيام، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وآله يحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم، وصوم أحدكم في جنب صومهم، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم،

ص: 190


1- مروج الذهب: 3/139.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/73 - 76.

قالوا: من نصب من قريش وغيرهم وعدل فيما بين الناس فهو امام، وإن غير السيرة وجار وجب أن يعزل أو يقتل ولم يوجبوا نصب الإمام، وجوزوا أن لا يكون في العالم إمام وكفروا عثمان وأكثر الصحابة ومرتكب الكبيرة(1).

الثانية: البيهسية

أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر وكان بالحجاز وقتل في زمن الوليد(2) قالوا: الايمان هو الاقرار والعلم باللَّه وبما جاء به الرسول فمن وقع فيما لا يعرف أحلال هو أم حرام فهو كافر، لوجوب الفحص عليه حتى يعلم الحق، وقيل لا يكفر حتى يرجع أمره إلى الامام فيحده وكلما ليس فيه حد فمغفور، وقيل لا حرام إلّا ما في قوله: «قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية»(3).

وقالوا: إذا كفر الامام كفرت الرعية حاضراً أو غايبا، وقال بعضهم السكر من شراب حلال لا يؤاخذ صاحبه(4).

الثالثة: الازارقة

أصحاب نافع بن الازرق وكانوا أكبر الفرق غلبوا على الأهواز وبعض بلاد فارس وكرمان في أيام عبداللَّه بن زبير(5)، وهم في ثلاثين ألف فارس فأنفذ إليهم المهلب ولم يزل في حربهم (هو وأولاده) تسع عشرة سنة إلى أن فرغ من أمرهم

ص: 191


1- الملل والنحل (الشهرستاني): 1/115 - 116 ومنهاج البراعة: 4/375.
2- بحار الأنوار: 33/434.
3- الانعام: 145.
4- الملل والنحل (الشهرستاني): 126 - 127.
5- بحار الأنوار: 33/434.

في أيام الحجاج ومذهبهم أنهم قالوا: كفر على بالتحكيم، وهو الذي أنزل اللَّه في شأنه: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ»(1) وابن ملجم محق في قتله، وهو الذي انزل في شأنه: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ»(2).

وفيه قال شاعرهم:

يا ضربة من تقى ما أراد بها * إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه * أو في البرية عنداللَّه ميزانا(3)

عليه وعليهم ألف ألف لعنة من اللَّه والملائكة والناس أجمعين، وقالوا: أيضاً بكفر عثمان وطلحة والزبير وعايشة وعبداللَّه بن العباس وساير المسلمين معهم وقضوا بتخليدهم في النار، وكفروا الذين قعدوا عن القتال وإن كانوا موافقين لهم في الدين، وقالوا بتحريم التقية في القول والعمل وبجواز قتل المخالفين ونسائهم وأنه لا رجم على الزاني المحصن إذ هو غير مذكور في القرآن، والمرأة إذا قذفت أحدا لا تحد، لأن المذكور في القرآن هو صيغة الذين وهي للمذكر، وجوزوا أن يكون النبي كافرا وإن كان بعد النبوة، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر(4).

الرابعه: النجدات

نسبتهم إلى نجدة بن عامر النخعي وكان معه أميران يقال: لأحدهما عطية وللآخر أبو فديك، ففارقاه بشبهة ثم قتله أبو فديك وصار لكل منهما جمع عظيم،

ص: 192


1- البقرة: 204.
2- البقرة: 207.
3- البيت لعمران بن الخطان الخارجي لعنه اللَّه بمدح ابن ملجم.
4- الملل والنحل (الشهرستاني): 1/120 و121 و122 ومنهاج البراعة: 4/376.

وقتلا في زمن عبد الملك، وهم افترقوا من حيث المذهب إلى فرق عديدة:

منها: العاذرية وهم الذين عذروا الناس في الجهالات بالفروع وذلك أن نجدة وجه لعنه اللَّه بجيش إلى أهل القطيف فقتلوهم وأسروا نسائهم ونكحوهن قبل القسمة وأكلوا من الغنيمة قبلها أيضاً فلما رجعو إلى نجدة وأخبروه بما فعلوا قال: لم يسعكم ما فعلتم، فقالوا: لم نعلم أنه لا يسعنا فعذروهم بجهالتهم وقال النجدات كلهم: لا حاجة للناس إلى الامام بل الواجب عليهم رعاية النصفه فيما بينهم ويجوز لهم نصبه إذا توقفت عليه الأمور وخالفوا الأزارقه في غير التكفير(1).

ومنها الأصفرية أصحاب زياد بن الأصفر يخالفون الأزارقة في تكفير من قعد عن القتال إذ كانوا موافقين لهم في الدين وفي إسقاط الرجم فإنّهم لم يسقطوه وجوزوا التقية في القول دون العمل ، وقالوا المعصية الموجبة للحد لا يسمى صاحبها إلّا بها فيقال سارق مثلاً ولا يقال كافر وما لاحد فيه لعظمته كترك الصلاة والصوم يقال لصاحبه كافر(2).

الخامسة: الاباضية

نسبتهم إلى عبداللَّه بن أباض كان في أيام مروان بن محمد فوجه إليه عبداللَّه محمد بن عطية فقاتله وقتله، وهؤلاء ذهبوا إلى أن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين يجوز مناكحتهم وغنيمة أموالهم حلال عند الحرب دون غيره، ودارهم دار الاسلام إلّا معسكر سلطانهم، ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن بناء على أن الأعمال داخلة في الإيمان، وفعل العبد مخلوق اللَّه تعالى ومرتكب الكبيرة كافر

ص: 193


1- الملل والنحل (الشهرستاني): 1/123 و124.
2- الملل والنحل (الشهرستاني): 1/137.

كفر نعمة لا كفر ملة، وتوقفوا في النفاق أهو شرك أم لا وكفروا عليا وأكثر الصحابة وتحت هذه الفرقة أيضاً فرق عديدة.

منهم الحفصية نسبتهم إلى أبي حفص بن أبي المقدام وزادوا على الاباضية أن بين الايمان والشرك معرفة اللَّه تعالى فانها خصلة متوسطة بينهما، فمن عرف اللَّه تعالى وكفر بما سواه من رسول أو جنة أو نار أو بارتكاب كبيرة فكافر لا مشرك.

ومنهم اليزيدية وهم أصحاب يزيد بن أنيسة زادوا على الاباضية بقولهم: إنه سيبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء وينزل جملة واحدة ويترك شريعة محمد إلى ملة الصابية المذكورة في القرآن، وقالوا أصحاب الحدود مشركون، وكل ذنب شرك صغيرة كانت أو كبيرة.

ومنهم الحارثية وهم أصحاب أبي الحارث الأباضي، خالفوا الأباضية في القدر أي كون أفعال العباد مخلوقة منه تعالى، وفي كون الاستطاعة قبل الفعل(1).

السادسة: العجاردة

أصحاب عبدالكريم بن عجر، زعموا أن العبد إذا أتى بما امر به ولم يقصد اللَّه كان ذلك طاعة، وقالوا أيضاً بوجوب التبرى عن الطفل حتى يدعي الاسلام بعد البلوغ، ويجب دعاؤه إلى الاسلام إذا بلغ، وهذه الفرقة افترقوا فرقا كثيرة:

منهم: الميمونية نسبتهم إلى ميمون بن عمران قالوا: باسناد الأفعال إلى قدر العباد، ويكون الاستطاعة قبل الفعل وأن اللَّه يريد الخير دون الشر ولا يريد المعاصي كما هو مذهب المعتزلة، قالوا: وأطفال الكفار في الجنة، ويروي منهم

ص: 194


1- الملل والنحل (الشهرستاني): 1/134 و135 و136.

تجويز نكاح البنات للبنين والبنين للبنات، وجوزوا أيضاً نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات أولاد الاخوة والأخوات، ونقل عنهم إنكار سورة يوسف فإنّهم زعموا أنها قصة من القصص، ولا يجوز أن تكون قصة العشق قرآنا.

ومنهم: الحمزية نسبتهم إلى حمزة بن أدرك وافقوا الميمونية إلّا أنهم قالوا أطفال الكفار في النار.

ومنهم: الشعيبية نسبتهم إلى شعيب بن محمد وهم كالميمونية في بدعتهم إلّا في القدر.

ومنهم: الحازمية نسبتهم إلى حازم بن عاصم وافقوا الشعيبية ويحكى عنهم أنهم يتوفقون في أمر علي ولا يصرحون بالبرائة منه كما يصرحون بالبرائة من غيره.

ومنهم: الخلفية أصحاب خلف الخارجي وهم خوارج كرمان أضافوا القدر خيره وشره إلى اللَّه وحكموا بأن أطفال المشركين في النار بلا عمل وشرك.

ومنهم: الاطرافية وهم على مذهب حمزة ورئيسهم رجل من سجستان يقال له: غالب إلّا أنهم قالوا بمعذورية أهل الأطراف فيما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من جهة العقل، ووافقوا أهل السنة في أصولهم.

ومنهم: المعلومية هم كالحازمية إلّا أنهم قالوا يكفي المعرفة ببعض أسمائه، فمن علمه كذلك فهو عارف به وفعل العبد مخلوق له.

ومنهم: الصلتية نسبتهم إلى عثمان بن أبي الصلت، وهم كالعجارة لكن قالوا من أسلم واستجار بنا تولينا وتبرأنا من أطفاله حتى يبلغوا فيدعوا إلى الاسلام فيقبلوا(1).

ص: 195


1- الملل والنحل (الشهرستاني): 1/128 و129 و130 و131 و133.

ومنهم: المجهولية ومذهبهم كمذهب الحازمية ايضاً الا انهم قالوا يكفي المعرفة ببعض اسمائه: فمن علمه كذلك فهو عارف به وفعل العبد مخلوق له تعالى(1).

السابعة: الثعالبة

وربما عدت هذه من فرق العجاردة فيكون الفرق الكبار ستا، وبعضهم جعلها ستا باسقاط المحكمة، وكيف كان فهم أصحاب ثعلبة بن عامر(2)، قالوا بولاية الأطفال صغارا كانوا أو كبارا حتى يظهر منهم إنكار الحق بعد البلوغ، ونقل عنهم أنهم يرون أخذ الزكاة من العبيد إذا استغنوا وإعطائها لهم إذا افتقروا، وتفرقوا إلى أربع فرق:

الاولى: الأخنسية أصحاب الأخنس بن قيس، وامتازوا عن الثعالبة بأن توقفوا فيمن هو في دار التقية من أهل القبلة فلم يحكموا عليه بايمان ولا كفر، ونقل عنهم تجويز نكاح المسلمات من مشركي قومهن.

الثانية: المعبدية نسبتهم إلى معبد بن عبدالرحمن، خالفوا الأخنسية في تزويج المسلمات من المشركين وخالفوا الثعالبة في زكاة العبيد أي أخذها منهم ودفعها إليهم.

الثالثة: الشيبانية نسبتهم إلى شيبان بن سلمة قالوا بالجبر ونفي القدرة الحادثة.

الرابعة: المكرمية نسبتهم إلى مكرم البجلي (العجلي) قالوا تارك الصلاة كافر لا لترك الصلاة بل لجهلهم باللَّه، فان من علم أنه مطلع على سره وعلنه ومجازيه على

ص: 196


1- الملل والنحل (الشهرستاني): 1/ذيل 134.
2- بحار الأنوار: 33/434.

طاعته ومعصيته لا يتصور منه الاقدام على ترك الصلاة، وكذا كل كبيرة فان مرتكبها كافر بجهله باللَّه(1).

وحيث انجرّ الكلام إلى البحث عن الخوارج فلابدّ لنا ايضاً من التّحقيق فيهم بحسب القدرة والاستطاعة وانّهم اين وجدوا وكيف نشاؤا ومن كان اولهم وسائر ما يتعلّق بهم فنقول قال الشّهرستاني في الملل والنّحل: اعلم انّ اوّل من خرج على أميرالمؤمنين عليه السلام عليّ بن أبي طالب جماعة ممّن كان معه في حرب صفّين واشدّهم خروجا عليه ومروقا من الدّين الاشعث ابن قيس الكندي ومسعر ابن مدكى التّميمي وزيد ابن حصن الطائي حين قالوا لقوم يدعوننا إلى كتاب اللَّه وانت تدعونا الى السّيف حتّى قال انا اعلم بما في كتاب اللَّه انفروا إلى بقيّة الاحزاب انفروا إلى من يقول كذب اللَّه ورسوله وأنتم تقولون صدق اللَّه ورسوله قالوا لترجعنّ الاشتر عن قتال المسلمين والّا لنفعلنّ بكل فعلنا بعثمان فاضطرّ إلى ردّ الأشتر بعد أن هزم الجمع وولّوا مدبرين وما بقي منهم إلّا شرذمة قليلة فيهم حشاشة قوة فامتثل الأشتر أمره(2) وكان من امر الحكمين انّ الخوارج حملوه على التّحكيم اوّلا وكان يريد ان يبعث عبداللَّه ابن عبّاس فما رضي الخوارج بذلك وقالوا هو منك فحملوه على بعث ابي موسى الاشعري على ان يحكم بكتاب اللَّه فجرى الامر على خلاف ما رضي به فلمّا لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه وقالوا لم حكمت الرّجال؟ لا حكم الّا للَّه وهم المارقة الّذين اجتمعوا بالنّهروان وكبار فرق الخوارج: المحكمة. والازارقة. والنّجدات - والبيهسية - والصّفرية -

ص: 197


1- الملل والنحل (الشهرستاني): 1/131 و132 و133.
2- الملل والنحل: 1/114.

والعجاردة والاباضية - والثّعالبة والباقون فروعهم ويجمعهم القول بالتّبرى من عثمان وعلي ويقدّمون ذلك على كلّ طاعة ولا يصحّحون المناكحات الّا على ذلك ويكفّرون اصحاب الكبائر ويرون الخروج على الامام اذا خالف السّنة حقّا واجبا(1)، ثمّ عدّ الشهرستاني الفرق على ما نقلناها الّا انّ ما ذكره صاحب الملل والنّحل ابسط واكمل ولمزيد الفائدة ننقل ما ذكره حتّى تعلم الفرق تفصيلا وتحيط بعقائدهم واوهامهم الباطلة السّخيفة على التّفصيل ولا تحتاج في الموضوع إلى كتاب آخر وذلك لأنّ البلوغ إلى الغاية في كلّ مبحث من المباحث من اهمّ الامور فنقول: قال صاحب الكتاب: المحكمة الاولى - هم الّذين خرجوا على أميرالمؤمنين عليه السلام حين جرى امر الحكمين واجتمعوا بحروراء(2) من ناحية الكوفة ورئيسهم عبداللَّه ابن الكوّاء وعتاب ابن الاعور، وعبداللَّه ابن وهب الرأسي، وعروة ابن جرير ويزيد ابن عاصم المحاربي، وحرقوص ابن زهير المعروف بذي الثّدية وكانوا يومئذ في اثنى عشر الف رجل اهل صيام وصلاة اعني يوم النّهروان وفيهم قال النبيّ صلى الله عليه وآله تحقر صلاة احدكم في جنب صلاته وصوم أحدكم في جنب صيامهم ولكن لا يجاوز ايمانهم تراقيهم وهم المارقة الّذين قال فيهم سيخرج من ضئضئ(3) هذا الرّجل قوم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّمية وهم الّذين اوّلهم ذو الخويصره وآخرهم ذو الثّدية وانّما خروجهم في الزّمن الاوّل على امرين: احدهما - بدعتهم في الامامة إذ جوّزوا ان تكون الامامة في غير قريش وكلّ من نصبوه برأيهم وعاشر النّاس على ما مثّلوا له من العدل واجتناب الجور

ص: 198


1- الملل والنحل: 1/115.
2- حروراء: قرية من قرى الكوفة.
3- ضئضئ: الاصل.

كان اماما ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه وان غيّر السّيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله وهم اشدّ النّاس قولا بالقياس وجوّزوا ان لا يكون في العالم امام اصلا وان احتيج اليه فيجوز ان يكون عبدا او حرّا أو نبطيّا أو قرشيّا.

والبدعة الثّانية - أنّهم قالوا اخطأ عليّ في التحكيم اذ حكّم الرّجال ولا حكم الّا للَّه تعالى وقد كذبوا على عليّ من وجهين: احدهما - في التّحكيم انّه حكّم الرّجال وليس ذلك صدقا لأنّهم هم الّذين حملوه على التّحكيم.

والثّاني - انّ تحكيم الرّ جال جائز فانّ القوم هم الحاكمون في هذه المسألة وهم رجال ولذا قال عليّ عليه السلام كلمة حق اريد بها الباطل، وتخطّوا عن التّخطئة الى التّكفير ولعنوا عليّاعليه السلام فيما قاتل النّاكثين والقاسطين والمارقين فقاتل الناكثين واغتنم أموالهم وما سبي ذراريهم ونسائهم وقتل مقاتلة من القاسطين وما اغتنم اموالهم ولا سبيّ ثمّ رضي بالتّحكيم وقاتل مقاتلة المارقين واغتنم اموالهم وسبي ذراريهم وطعنوا في عثمان للأحداث التّي عدّوها عليه وطعنوا في أصحاب الجمل واصحاب صفّين فقاتلهم عليه السلام بالنّهروان مقاتلة شديدة فما انفلت منهم الّا اقل من عشرة وما قتل من المسلمين الّا اقلّ من عشرة فانهزم اثنان منهم إلى عمّان واثنان الى كرمان واثنان إلى سجستان واثنان إلى الجزيرة واحد إلى تلّ موزون وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم وبقيت إلى اليوم(1).

واوّل من بويع بالإمامة من الخوارج عبداللَّه ابن وهب الرّاسبي في منزل زيد ابن حصن بايعه عبداللَّه ابن الكوّا وعروة ابن جرير ويزيد ابن عاصم المحاربي وجماعة معهم وكان يمتنع عليهم تحرّجا ويستقبلهم ويومي الى غيرهم تحرّزا فلم

ص: 199


1- الملل والنحل: 1/115.

يقنعوا الّا به وكان يوصف برأى ونجدة فتبرّء من الحكمين وممّن رضي بقولهما وصوّب امرهما وكفّروا اميرالمؤمنين وقالوا انّه ترك حكم اللَّه وحكّم الرّجال.

وقبل اوّل من تلفّظ بهذا رجل من بني سعد ابن زيد ابن مناه ابن تميم يقال له الحجّاج بن عبيداللَّه يلقّب بالبرك وهو الّذي ضرب معاوية على اليتيه لما سمع بذكر الحكمين وقال اتحكم في دين اللَّه؟ لا حكم الّا للَّه فلنحكم بما حكم اللَّه في القرآن به فسمعها رجل فقال طعن واللَّه فانفذ فسمّوا - المحكمّه بذلك ولمّا سمع أميرالمؤمنين عليه السلام هذه الكلمة قال كلمة عدل أريد بها جور انّما يقولون لا امارة ولابدّ من امارة برّة أو فاجرة.

ويقال انّ اوّل سيف سلّ من سيوف الخوارج سيف عروة ابن ادية وذلك انّه اقبل على الأشعث وقال ما هذه الدّنية يا اشعث؟ وما هذا التّحكيم؟ أشرط احدكم اوثق من شرط اللَّه تعالى ثمّ شهر السّيف والأشعث مولّى فضرب به عجز البغلة فثبت البغلة فنفرت اليمانيّة فلمّا رأى ذلك الاحنف مشى هو واصحابه إلى الاشعث فسألوه الصّفح ففعل وعروة ابن ادية نجا بعد ذلك من حرب النّهروان وبقي إلى أيّام معاوية ثمّ اتى الى زياد ابن ابيه ومعه مولى له فسأله زياد عن ابي بكر وعمر فقال فيهما خيرا فسأله عن عثمان فقال كنت اتولّى عثمان على احواله في خلافته ستّ سنين ثمّ تبرّأت منه بعد ذلك للاحداث التّي احدثها فشهد عليه بالكفر فسأله عن أميرالمؤمنين - فقال اتولّاه الى ان حكّم ثمّ تبرأت منه بعد ذلك وشهد عليه بالكفر فسأله عن معاوية فسبّة سبّا قبيحا، ثمّ سأله عن نفسه فقال اوّلك لزينة وآخرك لدعوة وانت فيما بينهما بعد عاص ربّك فأمر زياد بضرب عنقه ثمّ دعا مولاه فقال لي صف امره واصدق فقال اطنب ام اختصر فقال بل اختصر فقال ما اتيته بطعام

ص: 200

في نهار قطّ ولا فرشت له فراشا بليل قطّ هذه معاملته واجتهاده وذلك خبثه واعتقاده(1).

الازارقة - اصحاب ابي راشد نافع ابن الازرق خرجوا مع نافع من البصرة إلى الاهواز فغلبوا عليها وعلى كورها وما ورائها من بلدان فارس وكرمان في أيّام عبداللَّه بن زبير وقتلوا عمّاله بهذه النّواحي وكان مع نافع من امراء الخوارج عطيّة ابن الاسود الحنفي وعبداللَّه بن الماحوز واخواه عثمان والزبير وعمر ابن عمير العنبري وقطري ابن الفجاءة المازني وعبيدة ابن هلال اليشكري وصخر ابن حبيب التّميمي وصالح ابن مخراق العبدي وعبد ربّه الكبير وعبد ربّه الصّغير في زهاء ثلاثين الف فارس ممّن يرى رأيهم في سلكهم فانفذ إليه عبداللَّه ابن الحرث ابن نوفل النّوفلي بصاحب جيشه مسلم ابن عبيس ابن كريز ابن ربيعة ابن حبيب فقتله الخوارج وهزموا اصحابه - فاخرج اليهم ايضاً عثمان ابن عبداللَّه ابن معمّر التّميمي فهزموه فاخرج اليهم حارثة ابن بدر العتابي في جيش كثير فهزموه وخشى اهل البصرة على انفسهم وبلدهم من الخوارج فاخرج اليهم المهلب ابن ابي صفرة فبقي في حرب الازارقة تسع عشرة سنة الى ان فرغ من امرهم في ايّام الحجّاج ومات نافع قبل وقايع المهلب مع الازارقة وبايعوا بعده قطرى ابن الفجأة وسمّوه أمير المؤمنين(2).

ثمّ ذكر صاحب الملل والنّحل بدع ازارقة وهي ثمانية وقد ذكرناها، ثمّ اردفه بذكر بقية الفرق على ما نقلناها وانّما ذكرنا ما ذكرناه عن الملل والنّحل إلى هذا المقام لما فيه من الفوائد ومن اراد الاطّلاع على فرق الخوارج مفصّلا فعليه بكتب

ص: 201


1- الملل والنحل: 1/117.
2- الملل والنحل: 1/118.

الموضوعة لهذا الفّن فهذا هو الّذي اشار اليه بقوله عليه السلام: كلّا واللَّه انّهم نطف في اصلاب الرّجال الى ما قال عليه السلام؛ ففيما قاله اشارة الى ان نسلهم لم ينقطع بعد من صفحة العالم وهو كذلك والحمد للَّه ربّ العالمين.

ص: 202

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (60): وقال عليه السلام في الخوارج

اشارة

لا تُقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ (يعني معاوية وأصحابه)

وقال عليه السلام في الخوارج: لا تُقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ (يعني معاوية وأصحابه)

انّ المستورد الخارجي لمّا أراد الخروج في سنة (43) أو سنة (42) في أمارة المغيرة على الكوفة قام المغيرة خطيبا. فقال: أيم اللَّه لا يخرجون في حيّ من أحياء العرب في هذا المصر إلّا أبدتهم وجعلتهم نكالا لمن بعدهم - إلى أن قال - فبعث المغيرة إلى الرؤساء فقال لهم: ليكفني كلّ امرئ منهم قومه - إلى أن قال - فقام صعصعة وذكر خطبته لقومه عبد القيس - إلى أن قال في ما قال لهم - حتّى أهلك اللَّه بكم، وبمن كان على مثل هديكم ورأيكم، الناكثين يوم الجمل، والمارقين يومن النهر وسكت، عن ذكر أهل الشام لأنّه كان حينئذ سلطانهم - ولا قوم أعدى للَّه ولكم، ولأهل بيت نبيّكم ولجماعة المسلمين من هذه المارقة الخاطئة الّذين فارقوا إمامنا، واستحلّوا دماءنا، وشهدوا علينا بالكفر. فإيّاكم أن تؤوهم في دوركم فانّه ليس ينبغي لحيّ من أحياء العرب أن يكونوا أعدى لهذه

ص: 203

المارقة منكم، وقد واللَّه ذكر لي أنّ بعضهم في جانب من الحيّ، وأنا باحث عن ذلك، فإن كان حقّا تقربت إلى اللَّه تعالى بدمائهم. فإنّ دمائهم حلال. يا معشر عبدالقيس إنّ ولاتنا هؤلاء هم أعرف شي ء بكم وبرأيكم - يعني تشيّعهم - فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلا. فإنّهم أسرع شي ء إليكم وإلى أمثالكم(1) - إلى أن قال - فقال المغيرة للرؤساء: من ترون أبعث إليهم فقام إليه عدي بن حاتم. فقال: كلّنا لهم عدو، ولرأيهم مسفّه، فأينا شئت سار إليهم.

فقام معقل بن قيس، وقال له: لا أرى أن تبعث إليهم أحدا من الناس أعدي لهم ولا أشدّ عليهم منّي، فابعثني إليهم، فإنّي أكفيكهم بإذن اللَّه تعالى.

فقال: اخرج على اسم اللَّه، وجهّز معه ثلاثة آلاف رجل، وقال المغيرة لقبيصة بن الدمون: الصق لي بشيعة عليّ. فأخرجهم مع معقل فإنّه كان من رؤساء أصحابه. فإذا بعث بشيعته الّذين كانوا يعرفون فاجتمعوا جميعا استأنس بعضهم ببعض، وتناصحوا، وهم أشدّ استحلالا لدماء هذه المارقة، وأجرأ عليهم من غيرهم، وقد قاتلوا قبل هذه المرّة - إلى أن قال - ولم يلبث قبيصة أن أخرج الجيش معه ثلاثة آلاف نقاوة الشيعة وفرسانهم(2) - إلى أن قال - قال المستورد لأصحابه إنّ هذا الخرف معقل بن قيس قد وجّه اليكم وهو من السبائية المفترين الكاذبين(3) - إلى أن قال - سأل عبداللَّه بن عامر أمير البصرة عن المغيرة كيف صنع فقيل له: إنّه نظر إلى رجل شريف رئيس قد كان قاتل الخوارج مع عليّ، وكان من أصحابه فبعثه وبعث معه شيعة عليّ لعداوتهم لهم. فقال: أصاب الرأي.

ص: 204


1- تاريخ الطبري: 4/140.
2- تاريخ الطبري: 4/143.
3- تاريخ الطبري: 4/147.

فبعث عبداللَّه بن عامر إلى شريك بن الأعور الحارثي - وكان يرى رأي عليّ عليه السلام - فقال له: اخرج إلى هذه المارقة فانتخب ثلاثة آلاف رجل من الناس ثمّ اتبعهم حتّى تخرجهم من أرض البصرة أو تقتله، وقال له بينه وبينه: اخرج إلى أعداء اللَّه بمن يستحلّ قتالهم من أهل البصرة - فظنّ شريك به أنّه يعني شيعة عليّ عليه السلام ولكنّه يكره ان يسمّيهم - فانتخب شريك الناس وألحّ على فرسان ربيعة الّذين كان رأيهم في الشيعة، وتجيبه العظماء منهم. ثمّ إنّه خرج فيهم مقبلا إلى المستورد(1) - إلى أن قال - فأخبر من قدم على المغيرة بالفتح أنّ معقلا والمستورد مشى كلّ واحد منهما إلى صاحبه، وبيد المستورد الرمح وبيد معقل السيف. فالتقيا فأشرع المستورد الرمح في صدر معقل حتّى خرج السنان من ظهره. فضربه معقل بالسيف على رأسه حتّى خالط السيف امّ الدماغ فخرّا ميّتين(2).

ففي (تاريخ الطبري): رفع علي عليه السلام يوم النهروان راية أمان مع أبي أيوب - إلى أن قال - فقال فروة بن نوفل الأشجعي: واللَّه ما أدري على أيّ شي ء نقاتل عليّا لا أدري إلّا أن أنصرف حتّى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتباعه، وانصرف في خمسمائة فارس حتّى نزل البند نيجين(3) والدسكرة(4).

وفيه: خرجت الخوارج الّذين اعتزلت أيّام علي عليه السلام بشهر زور في سنة (41) على معاوية. قال عوانة: قدم معاوية الكوفة قبل أن يبرح الحسن حتّى نزل النخيلة. فقالت الخمسائة من الحرورية الّتي كانت اعتزلت بشهر زور مع فروة بن نوفل الأشجعي: قد جاء الآن مالا شك فيه، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه فأقبلوا

ص: 205


1- تاريخ الطبري: 4/148.
2- تاريخ الطبري: 4/158.
3- بلد طرف النهروان من اعمال بغداد.
4- تاريخ الطبري: 4/64.

وعليهم فروة حتّى دخلوا الكوفة، فأرسل إليهم معاوية خيلا من أهل الشام فكشفوا اهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: لا أمان لكم واللَّه عندي حتّى تكفّوا بوائقكم. فخرج اهل الكوفة الى الخوارج فقاتلوهم، فقالت الخوارج لهم: ويلكم ما تبغون منّا أليس معاوية عدوّنا وعدوّكم دعونا حتّى نقاتله وإن أصبناه كنّا قد كفيناكم عدوّكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا. قالوا: لا واللَّه حتّى نقاتلكم(1).

وفي (تاريخ الطبري) - بعد ذكر قصة المستورد المتقدّم، وندب المغيرة بن شعبة والي الكوفة من قبل معاوية الناس إليهم، وقيام معقل بن قيس من رؤساء الشيعة للتصدي لحربهم - ثمّ قام صعصعة بن صوحان وقال: إبعثني إليهم أيّها الأمير فأنا واللَّه لدمائهم مستحلّ، وبحملها مستقلّ.

فقال له المغيرة: اجلس فإنّما أنت خطيب - فأحفظه ذلك - وإنّما قال ذلك لأنّه بلغه أنّه يعيب عثمان، ويكثر ذكر علي عليه السلام ويفضّله - وقد كان دعاه فقال: إيّاك أن يبلغني أنّك تعيب عثمان عند أحد من الناس، وإيّاك أن يبلغني أنّك تظهر شيئا من فضل علي علانية. فإنّك لست بذاكر من فضل عليّ شيئا أجهله بل أنا أعلم بذلك، ولكن هذا السلطان قد ظهر، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس.

فنحن ندع كثيرا ممّا أمرنا به، ونذكر الشي ء الّذي لا نجد بدّا منه ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية. فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك، وفي منازلكم سرّا، وأمّا علانية في المسجد فإنّ هذا لا يحتمله الخليفة لنا، ولا يعذرنا فيه. فكان يقول له نعم. أفعل. ثمّ يبلغه أنّه قد عاد إلى ما نهاه عنه(2).

والتحقيق في الجواب ما ذكره المجلسي رحمه الله قال: لعل المراد لا تقتلوا الخوارج

ص: 206


1- تاريخ الطبري: 4/126.
2- تاريخ الطبري: 4/144.

بعدي ما دام ملك معاوية وأضرابه كما يظهر من التعليل، وقد كان يسبه عليه السلام ويبره منه في الجمع والأعياد ولم يكن إنكاره للحق عن شبهة كالخوارج، ولم يظهر منهم من الفسوق ما ظهر منه ولم يكن مجتهدا في العبادة وحفظ قوانين الشرع مثلهم، فكان أولى بالجهاد، انتهى(1).

ويدل على ذلك ما رواه أبوالعباس المبرد قال: وخرج من الخوارج على معاوية بعد قتل علي حوثرة الأسدي وحابس الطائي خرجا في جمعهما فصارا إلى موضع أصحاب النخيلة ومعاوية يومئذ بالكوفة وقد دخلها في عام الجماعة، ووفد الحسن بن علي وخرج يريد المدينة فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربة الخوارج فكان جواب الحسن: واللَّه لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين وذاك يسعني، أفا قاتل عنك قوما أنت واللَّه أولى بالقتل منهم.

وهذا الجواب مطابق لكلام أبيه عليه السلام، والمقصود منهما أن الخوارج أعذر من معاوية وأقل ضلالا ومعاوية أولى بالمحاربة منهم(2).

عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال ذكرت الحرورية عند علي بن أبي طالب عليه السلام فقال إن خرجوا مع جماعة أو على إمام عادل فقاتلوهم وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم فإن لهم في ذلك مقالا(3).

ص: 207


1- بحار الأنوار: 33/434.
2- الكامل للمبرد: 3/157؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/98؛ بحار الأنوار: 44/106؛ منهاج البراعة للخوئي: 4/283.
3- علل الشرايع: 2/603، ح 71؛ بحار الأنوار: 33/429، ح 636.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (61): ومن كلام له عليه السلام لمّا خوّف من الغيلة

اشارة

وَإِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ جُنَّةً حَصِينَةً فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَأَسْلَمَتْنِي فَحِينَئِذٍ لا يَطِيشُ السَّهْمُ وَلا يَبْرَأُ الْكَلْمُ

ومن كلام له عليه السلام لمّا خوّف من الغيلة

أي: القتل بغتة؛ عن جعفر بن محمّدعليه السلام: حدّثتني امرأة منّا قالت: رأيت الأشعث بن قيس دخل على أميرالمؤمنين عليه السلام فأغلظعليه السلام له، فعرض له الأشعث بأن يفتك به، فقال عليه السلام له: أ بالموت تهددني فو اللَّه ما ابالي وقعت على الموت أو وقع الموت عليّ(1).

وعن (جمل أبي مخنف) - بعد ذكر خروجه عليه السلام إلى الزبير في الجمل، وانكاره خبر النبي صلى الله عليه وآله ورجوعه - : قال له أصحابه: تبرز إلى الزبير حاسرا وهو شاك في السلاح قال عليه السلام: إنّه ليس بقاتلي، إنّما يقتلني رجل خامل الذكر ضئيل النسب غيلة في غير مأقط حرب ولا معركة رجال، ويلمّه أشقى البشر ليودّن أنّ امّه هبلت به، أما إنّه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن(2).

ص: 208


1- مقاتل الطالبيين: 21.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/235 وبهج الصباغة: 11/3.

روى أنه عليه السلام خوف من غيلة ابن ملجم لعنه اللَّه مرارا وأن الأشعث لقاه متقلدا سيفه فقال له، ما يقلدك السيف وليس بأوان حرب؟ فقال لعنه اللَّه: أردت أن أنحربه جزور القرية، فأتى الأشعث إليه عليه السلام فأخبره وقال قد عرفت ابن ملجم وفتكه فقال ما قتلني بعد.

وروى أنه عليه السلام: كان يخطب مرة ويذكر أصحابه وابن ملجم تلقاء المنبر فسمعه يقول: واللَّه لاريحنهم منك، فلما انصرف عليه السلام أتوابه ملبيا فأشرف عليهم، وقال ما تريدون، فخبروه بما سمعوا عنه، فقال فما قتلني بعد خلوا عنه(1).

قوله عليه السلام: «وإنّ عليّ من اللَّه جنّة حصينة» تقيه من الهلكة، وهي المدّة التي قدر تعالى لكلّ بشر أن يعيش في الدنيا.

«فإذا جاء يومي» وانقضى أجلي.

«انفرجت عني» تلك الجنة.

«وأسلمتني» إلى المهالك.

«فحينئذ لا يطيش» أي: لا يعدل.

«السّهم» بل يصيب الغرض.

كما قال في الديوان المنسوب إليه.

للموت فينا سهام غير خاطئة * إن فاته اليوم سهم لم يفته غدا(2)

«ولا يبرأ الكلم» أي: الجرح فيهلك.

وفي معنى هذا الكلام قال عليه الصلاة والسلام في الديوان:

ص: 209


1- الكامل للمبرد: 2/166.
2- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 152 ومناقب آل أبي طالب عليه السلام: 1/238.

أي يومى من الموت أفر * يوم ما قدر أو يوم قدر

يوم ما قدر لم أخش الردى * وإذا قدر لا يغنى الحذر(1)

وفي هذا الكلام إشعار بأن للانسان أجلا موقوتا وأمدا ممدودا إذا أدركه يبطل حياته، وإلى ذلك ذهب جماعة، واستدلوا عليه بقوله سبحانه:

«وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلًا»(2).

وبقوله تعالى أيضاً: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ»(3).

وبأن المقدرات في الأزل والمكتوبات في اللوح المحفوظ لا تتغير بالزيادة والنقصان وذهب آخرون إلى قبوله الزيادة والنقصان مستدلين بقوله تعالى: «وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ»(4) وبالأخبار الكثيرة الدالة على أن صلة الرحم توجب الزيادة في العمر والقطيعة توجب النقصان، وكذلك البر والعقوق هذا.

والتحقيق في المقام هو التفصيل بما يجمع به بين الأدلتين، وهو أن المستفاد من بعض الآيات والأخبار هو أن الأجل على قسمين محتوم، وموقوف، قال سبحانه في سورة نوح:

«أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ»(5).

ص: 210


1- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 193؛ بحار الأنوار: 42/58.
2- آل عمران: 145.
3- الأعراف: 34.
4- فاطر: 11.
5- نوح: 3 - 4.

قال المفسرون: الأجل المسمى هو الأمد الأقصى الذي قدر اللَّه لهم بشرط الايمان والطاعة وراء ما قدره لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان، فان وصف الأجل بالمسمى وتعليق تأخيرهم إليه بالايمان صريح في أن لهم أجلا آخر لا يجاوزونه إن لم يؤمنوا، وهو المراد بقوله: «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ»(1) أي ما قدر لكم على تقدير بقائكم على الكفر إذا جاء وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر والعصيان لا يؤخر، فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه الذي هو البقاء على الكفر، فلا يجي ء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى فتؤخروا إليه(2).

وعن حمران عن أبي جعفرعليه السلام قال سألته عن قول اللَّه عزوجل: قضى أجلا وأجل مسمى عنده(3) قال هما أجلان: أجل محتوم، وأجل موقوف(4).

وعن علي بن إبراهيم باسناده عن أبي عبداللَّه عليه السلام في تفسير هذه الآيه، قال: الأجل المقضيّ هو المحتوم الذي قضاه اللَّه وحتمه، والمسمى هو الذي فيه البداء، ويقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير(5).

عن البصري قال سهر أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الليلة التي قتل في صبيحتها ولم يخرج إلى المسجد لصلاة الليل على عادته فقالت له ابنته أم كلثوم رحمة اللَّه عليها ما هذا الذي قد أسهرك فقال إني مقتول لو قد أصبحت وأتاه ابن النباح فآذنه بالصلاة فمشي غير بعيد ثم رجع فقالت له ابنته أم كلثوم مر جعدة

ص: 211


1- نوح : 4 .
2- رياض السالكين: 1/285.
3- الانعام: 2.
4- الكافي: 1/147، ح 4 وتفسير البرهان: 2/400، ح 3406.
5- تفسير القمي: 1/194؛ بحار الأنوار: 4/99، ح 7.

فليصل بالناس قال نعم مروا جعدة فليصل ثم قال لا مفر من الأجل فخرج إلى المسجد وإذا هو بالرجل قد سهر ليلته كلها يرصده فلما برد السحر نام فحركه أميرالمؤمنين عليه السلام برجله وقال له الصلاة فقام إليه فضربه(1).

هذا، وفي السير: قال كاهن لصريم بن معشر: إنّك تموت بثنية يقال لها: الاهة. فخرج مع ركب فضلّوا الطريق ليلا، فلمّا أصبحوا سألوا عن المكان هم فيه، فقيل لهم: هذه الاهة. فنزل أصحابه وأبي أن ينزل، وخلّى ناقته ترعى فعلقت بمشقرها أفعى، فأمالت الناقة رأسها فنهشته فألقى بنفسه، وأنشأ يقول:

لعمري ما يدري امرؤ كيف يتّقي * إذا هو لم يجعل له اللَّه واقيا

فطأ معرضا إنّ الحتوف كثيرة * وإنّك لا تبقي لنفسك باقيا

كفى حزنا أن يرحل الركب غاديا * واترك في أعلى الاهة ثاويا

ومات مكانه فقبر هناك(2).

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله بشهادته عليه السلام: فروى الصدوق عنه عليه السلام: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله لمّا خطب بخطبته في فضائل شهر رمضان فقلت يا رسول اللَّه ما أفضل الأعمال في هذا الشهر فقال يا أبا الحسن:

أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم اللَّه ثم بكى فقلت يا رسول اللَّه ما يبكيك فقال يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود فضربك ضربةعليه السلام على فرقك فخضب منها لحيتك قال أميرالمؤمنين عليه السلام فقلت يا رسول اللَّه وذلك في

ص: 212


1- الإرشاد: 1/16؛ بحار الأنوار: 42/226، ح 38.
2- الشعر والشعراء لابن قتيبة: 1/408.

سلامة من ديني فقال في سلامة من دينك ثم قال عليه السلام يا علي من قتلك فقد قتلني ومن أبغضك فقد أبغضني ومن سبك فقد سبني لأنك مني كنفسي روحك من روحي وطينتك من طينتي...(1).

وروى أنّه عليه السلام خطب في أوّل يوم من الشهر وقال: أيّها النّاس، إنّ هذا الشهر شهر فضّله اللَّه على ساير الشهور، كفضلنا أهل البيت على ساير الناس - إلى أن قال - فقام إليه رجل من همدان فقال: زدنا ممّا حدّثك به حبيبك في شهر رمضان. فقال: سمعت سيّد المرسلين والملائكة المقرّبين يقول: إنّ سيّد الوصيين يقتل في سيّد الشهور. فقلت: وما سيّد الشهور، ومن سيّد الوصيين؟ قال: أمّا سيد الشهور فشهر رمضان، وأمّا سيّد الوصيين فأنت. فقلت: إنّ ذلك لكائن: قال: أي وربي إنّه ينبعث أشقى أمّتي، شقيق عاقر ناقة ثمود، ثم يضربك ضربة على فرقك يخضّب منها لحيتك. فأخذ الناس بالبكاء والنحيب، فقطع عليه السلام خطبته ونزل(2).

عن ابن نباتة قال: قلت لأميرالمؤمنين عليه السلام ما منعك من الخضاب وقد اختضب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال أنتظر أشقاها أن يخضب لحيتي من دم رأسي بعهد معهود أخبرني به حبيبي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله(3).

ورووا أنّه لمّا وقعت الضربة عليه قال عليه السلام: هذا ما وعدنا اللَّه ورسوله، وصدق اللَّه ورسوله(4).

ص: 213


1- فضائل الاشهر الثلاثة: 78؛ عيون أخبار الرضاعليه السلام: 1/297، ح 53؛ بحار الأنوار: 42/190، ح 53.
2- فضائل الاشهر الثلاثة: 108 و109 و110.
3- علل الشرايع: 1/173، ح 1؛ بحار الأنوار: 41/164، ح 1.
4- الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم: 417.

وَإِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ جُنَّةً حَصِينَةً

قال تعالى «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»(1).

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه السلام في قوله له معقبات من بين يديه ومن خلفه. يحفظونه من أمر اللَّه يقول: بأمر اللَّه من أن يقع في ركي - أو يقع عيه حائط - أو يصيبه شي ء حتى إذا جاء القدر - خلوا بينه وبينهم يدفعونه إلى المقادير - وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان بالنهار يتعاقبانه(2).

وقال تعالى: «قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»(3).

وقال تعالى: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ»(4).

وقال تعالى: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ»(5).

وقال تعالى: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً»(6).

وقال تعالى: «إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ»(7).

وقال تعالى: «وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ»(8) وامثال ذلك من الآيات الدّالة على كونه تعالى حافظ لكلّ شي ء.

ص: 214


1- الرعد: 11.
2- تفسير القمي: 1/360؛ بحار الأنوار: 56/179، ح 16.
3- يوسف: 64.
4- الطارق: 4.
5- الانفطار: 10.
6- الانعام: 61.
7- هود: 57.
8- سبأ: 21.

فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَأَسْلَمَتْنِي فَحِينَئِذٍ لا يَطِيشُ السَّهْمُ وَلا يَبْرَأُ الْكَلْمُ

اشاره

قال تعالى: «قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ» الآية(1).

وقال تعالى: «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ» الآية(2).

وقال تعالى: «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» الآية(3).

وقال تعالى: «مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ»(4).

وقال تعالى: «وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ»(5)

وقال تعالى: «مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى»(6).

وقال تعالى: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ»(7).

وقال تعالى: «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا» الآية(8).

وقال تعالى: «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ»(9).

وقال تعالى: «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» الآية(10).

وقال تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ»(11).

ص: 215


1- الأحزاب: 16.
2- الجمعة: 8.
3- النساء: 78.
4- المؤمنون: 43.
5- هود: 104.
6- فاطر: 45.
7- الشورى: 14.
8- المنافقون: 11.
9- نوح: 4.
10- الأعراف: 185.
11- يونس: 49.

والآيات فيه كثيرة جدّا.

وحيث انجرّ الكلام الى هنا.

فلابدّ لنا من الاشارة إلى كيفيّة شهادته عليه السلام وانّه كيف انفرجت الجنّة عنه واسلمته إلى الموت إلى آخر ما قال عليه السلام بعد حلول اجله وانقضاء ايّامه ولنذكر في ذلك ما رواه المجلسي قدس سره فنقول قال قدس سره ما هذا لفظه:

تذييل

رأينا في بعض الكتب القديمة رواية في كيفية شهادته عليه السلام أوردنا منه شيئا مما يناسب كتابنا هذا على وجه الاختصار قال روى أبوالحسن علي بن عبداللَّه بن محمد البكري عن لوط بن يحيى عن أشياخه وأسلافه قالوا لما توفي عثمان وبايع الناس أميرالمؤمنين عليه السلام - كان رجل يقال له حبيب بن المنتجب واليا على بعض أطراف اليمن من قبل عثمان فأقره علي عليه السلام على عمله وكتب إليه كتابا يقول فيه بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبداللَّه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب إلى حبيب بن المنتجب سلام عليك أما بعد فإني أحمد اللَّه الذي لا إله إلّا هو وأصلي على محمد عبده ورسوله وبعد فإني وليتك ما كنت عليه لمن كان من قبل فأمسك على عملك وإني أوصيك بالعدل في رعيتك والإحسان إلى أهل مملكتك واعلم أن من ولي على رقاب عشرة من المسلمين ولم يعدل بينهم حشره اللَّه يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه لا يفكها إلّا عدله في دار الدنيا فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقرأه على من قبلك من أهل اليمن وخذ لي البيعة على من حضرك من المسلمين فإذا بايع القوم مثل بيعة الرضوان فامكث في عملك وأنفذ إلي منهم عشرة يكونون من

ص: 216

عقلائهم وفصائحهم وثقاتهم ممن يكون أشدهم عونا من أهل الفهم والشجاعة عارفين باللَّه عالمين بأديانهم وما لهم وما عليهم وأجودهم رأيا وعليك وعليهم السلام وطوى الكتاب وختمه وأرسله مع أعرابي فلما وصل إليه قبله ووضعه على عينيه ورأسه فلما قرأه صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلى على محمد وآله ثم قال أيها الناس اعلموا أن عثمان قد قضى نحبه وقد بايع الناس من بعده العبد الصالح والإمام الناصح أخا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وخليفته وهو أحق بالخلافة وهو أخو رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وابن عمه وكاشف الكرب عن وجهه وزوج ابنته ووصيه وأبو سبطيه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: فما تقولون في بيعته والدخول في طاعته؟ قال فضج الناس بالبكاء والنحيب وقالوا سمعا وطاعة وحبا وكرامة للَّه ولرسوله ولأخي رسوله فأخذ له البيعة عليهم عامة فلما بايعوا قال لهم أريد منكم عشره من رؤسائكم وشجعانكم أنفذهم إليه كما أمرني به فقالوا سمعا وطاعة فاختار منهم مائة ثم من المائة سبعين ثم من السبعين ثلاثين ثم من الثلاثين عشره فيهم عبدالرحمن بن ملجم المرادي لعنه اللَّه وخرجوا من ساعتهم فلما أتوه عليه السلام سلموا عليه وهنئوه بالخلافة فردعليهم السلام ورحب بهم فتقدم ابن ملجم وقام بين يديه وقال السلام عليك أيه الإمام العادل والبدر التمام والليث الهمام والبطل الضرغام والفارس القمقام ومن فضله اللَّه على سائر الأنام صلى اللَّه عليك وعلى آلك الكرام أشهد أنك أميرالمؤمنين صدقا وحقا وأنك وصي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والخليفة من بعده ووارث علمه لعن اللَّه من جحد حقك ومقامك أصبحت أميرها وعميدها لقد اشتهر بين البرية عدلك وهطلت شآبيب(1) فضلك وسحائب رحمتك ورأفتك عليهم ولقد

ص: 217


1- هطل أي نزل متتابعا. والشآبيب جمع الشؤبوب: الدفعة من المطر واول ما يظهر من الحسن.

أنهضنا الأمير إليك فسررنا بالقدوم عليك فبوركت بهذه الطلعة المرضية وهنئت بالخلافة في الرعية.

ففتح أميرالمؤمنين عليه السلام عينيه في وجهه ونظر إلى الوفد فقربهم وأدناهم فلما جلسوا دفعوا إليه الكتاب ففضه وقرأه وسر بما فيه فأمر لكل واحد منهم بحلة يمانيه ورداء عدنية وفرس عربية وأمر أن يفتقدوا ويكرموا فلما نهضوا قام ابن ملجم ووقف بين يده وأنشد:

أنت المهيمن والمهذب ذو الندى * وابن الضراغم في الطراز الأول

اللَّه خصك يا وصي محمد * وحباك فضلا في الكتاب المنزل

وحباك بالزهراء بنت محمد * حورية بنت النبي المرسل

ثم قال يا أميرالمؤمنين ارم بنا حيث شئت لترى منا ما يسرك فواللَّه ما فينا إلّاكل بطل أهيس وحازم أكيس وشجاع أشوس(1) ورثنا ذلك عن الآباء والأجداد وكذلك نورثه صالح الأولاد قال فاستحسن أميرالمؤمنين عليه السلام كلامه من بين الوفد فقال له ما اسمك يا غلام؟ قال اسمي عبدالرحمن: قال ابن من؟ قال ابن ملجم المرادي قال له أمراديّ أنت؟ قال نعم يا أميرالمؤمنين: فقال عليه السلام إنا للَّه وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه العلي العظيم قال وجعل أميرالمؤمنين عليه السلام يكرر النظر إليه ويضرب إحدى يديه على الأخرى ويسترجع ثم قال ويحك أمرادي أنت؟ قال نعم فعندها تمثل عليه السلام يقول:

أنا أنصحك مني بالوداد * مكاشفة وأنت من الأعادي

أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد(2)

ص: 218


1- الاهيس: الشجاع الاشوس: الشديد الجري ء في القتال.
2- بحار الأنوار: 42/259.

قال الأصبغ بن نباتة لما دخل الوفد إلى أميرالمؤمنين عليه السلام بايعوه وبايعه ابن ملجم فلما أدبر عنه دعاه أميرالمؤمنين عليه السلام ثانيا فتوثق منه بالعهود والمواثيق أن لا يغدر ولا ينكث ففعل ثم سار عنه ثم استدعاه ثالثا ثم توثق منه فقال ابن ملجم يا أميرالمؤمنين ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري فقال امض لشأنك فما أراك تفي بما بايعت عليه فقال له ابن ملجم كأنك تكره وفودي عليك لما سمعته من اسمي وإني واللَّه لأحب الإقامة معك والجهاد بين يديك وإن قلبي محب لك وإني واللَّه أوالي وليك وأعادي عدوك قال فتبسم عليه السلام وقال له باللَّه يا أخا مراد إن سألتك عن شي ء تصدقني فيه قال إي وعيشك يا أميرالمؤمنين فقال له هل كان لك داية يهودية فكانت إذا بكيت تضربك وتلطم جبينك وتقول لك اسكت فإنك أشقى من عاقر ناقة صالح وإنك ستجني في كبرك جناية عظيمة يغضب اللَّه بها عليك ويكون مصيرك إلى النار فقال قد كان ذلك ولكنك واللَّه يا أميرالمؤمنين أحب إلي من كل أحد.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام واللَّه ما كذبت ولا كذبت ولقد نطقت حقا وقلت صدقا وأنت واللَّه قاتلي لا محالة وستخضب هذه من هذه وأشار إلى لحيته ورأسه ولقد قرب وقتك وحان زمانك فقال ابن ملجم واللَّه يا أميرالمؤمنين إنك أحب إلي من كل ما طلعت عليه الشمس ولكن إذا عرفت ذلك مني فسيرني إلى مكان تكون ديارك من دياري بعيدة فقال عليه السلام كن مع أصحابك حتى أذن لكم بالرجوع إلى بلادكم ثم أمرهم بالنزول في بني تميم فأقاموا ثلاثة أيام ثم أمرهم بالرجوع إلى اليمن فلما عزموا على الخروج مرض ابن ملجم مرضا شديدا فذهبوا وتركوه فلما برأ أتى أميرالمؤمنين عليه السلام وكان لا يفارقه ليلا ولا نهارا ويسارع في قضاء حوائجه

ص: 219

وكان عليه السلام يكرمه ويدعوه إلى منزله ويقربه وكان مع ذلك يقول له أنت قاتلي ويكرر عليه الشعر.

أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد

فيقول له يا أميرالمؤمنين إذا عرفت ذلك مني فاقتلني فيقول إنه لا يحل ذلك أن أقتل رجلاً قبل أن يفعل بي شيئا(1).

وفي خبر آخر قال إذا قتلتك فمن يقتلني قال فسمعت الشيعة ذلك فوثب مالك الأشتر والحارث بن الأعور وغيرهما من الشيعة فجردوا سيوفهم وقالوا يا أميرالمؤمنين من هذا الكلب الذي تخاطبه بمثل هذا الخطاب مرارا وأنت إمامنا وولينا وابن عم نبينا فمرنا بقتله فقال لهم اغمدوا سيوفكم بارك اللَّه فيكم ولا تشقوا عصا هذه الأمة أترون أني أقتل رجلا لم يصنع بي شيئا؟

فلما انصرف عليه السلام إلى منزله اجتمعت الشيعة وأخبر بعضهم بعضا بما سمعوا وقالوا إن أميرالمؤمنين عليه السلام يغلس إلى الجامع وقد سمعتم خطابه لهذا المرادي وهو ما يقول إلّا حقا وقد علمتم عدله وإشفاقه علينا ونخاف أن يغتاله هذا المرادي فتعالوا نفترع على أن تحوطه كل ليلة منا قبيلة فوقعت القرعة في الليلة الأولى والثانية والثالثة على أهل الكناس فتقلدوا سيوفهم وأقبلوا في ليلتهم إلى الجامع فلما خرج عليه السلام رآهم على تلك الحالة فقال ما شأنكم؟ فأخبروه فدعا لهم وتبسم ضاحكا وقال جئتم تحفظوني من أهل السماء أم من أهل الأرض قالوا من أهل الأرض قال ما يكون شي ء في السماء إلّا هو في الأرض وما يكون شي ء في الأرض إلّا هو في السماء ثم تلا «قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا»(2) ثم أمرهم أن

ص: 220


1- بحار الأنوار: 42/261.
2- التوبة: 51.

يأتوا منازلهم ولا يعودوا لمثلها ثم إنه صعد المأذنة وكان إذا تنحنح يقول السامع ما أشبهه بصوت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فتأهب الناس لصلاة الفجر وكان إذا أذن يصل صوته إلى نواحي الكوفة كلها ثم نزل فصلى وكانت هذه عادته(1).

قال وأقام ابن ملجم بالكوفة إلى أن خرج أميرالمؤمنين عليه السلام إلى غزاة النهروان فخرج ابن ملجم معه وقاتل بين يديه قتالا شديدا فلما رجع إلى الكوفة وقد فتح اللَّه على يديه قال ابن ملجم لعنه اللَّه يا أميرالمؤمنين أتأذن لي أن اتقدمك إلى المصر لأبشر أهله بما فتح اللَّه عليك من النصر فقال له ما ترجو بذلك قال الثواب من اللَّه والشكر من الناس وأفرح الأولياء وأكمد الأعداء فقال له شأنك ثم أمر له بخلعة سنية وعمامتين وفرسين وسيفين ورمحين فسار ابن ملجم ودخل الكوفة وجعل يخترق أزقتها وشوارعها وهو يبشر الناس بما فتح اللَّه على أميرالمؤمنين عليه السلام وقد دخله العجب في نفسه فانتهى به الطريق إلى محلة بني تميم فمر على دار تعرف بالقبيلة وهي أعلى دار بها وكانت لقطام بنت سخينة بن عوف بن تيم اللات وكانت موصوفة بالحسن والجمال والبهاء والكمال فلما سمعت كلامه بعثت إليه وسألته النزول عندها ساعة لتسأله عن أهلها فلما قرب من منزلها وأراد النزول عن فرسه خرجت إليه ثم كشفت له عن وجهها وأظهرت له محاسنها فلما رآها أعجبته وهواها من وقته فنزل عن فرسه ودخل إليها وجلس في دهليز الدار وقد أخذت بمجامع قلبه فبسطت له بساطا ووضعت له متكأ وأمرت خادمها أن تنزع أخفافه وأمرت له بماء فغسل وجهه ويديه وقدمت إليه طعاما فأكل وشرب وأقبلت عليه تروحه من الحر فجعل لا يمل من النظر إليها وهي مع ذلك

ص: 221


1- بحار الأنوار: 42/262.

متبسمة في وجهه سافرة له عن نقابها بارزة له عن جميع محاسنها ما ظهر منها وما بطن فقال لها أيتها الكريمة لقد فعلت اليوم بي ما وجب به بل ببعضه على مدحك وشكرك دهري كله فهل من حاجة أتشرف بها وأسعى في قضائها قال فسألته عن الحرب ومن قتل فيه فجعل يخبرها ويقول فلان قتله الحسن وفلان قتله الحسين إلى أن بلغ قومها وعشيرتها وكانت قطام لعنها اللَّه على رأي الخوارج وقد قتل أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا الحرب من قومها جماعة كثيرة منهم أبوها وأخوها وعمها فلما سمعت منه ذلك صرخت باكية ثم لطمت خدها وقامت من عنده ودخلت البيت وهي تندبهم طويلا قال فندم ابن ملجم فلما خرجت إليه قالت يعز علي فراقهم من لي بعدهم أفلا ناصر ينصرني ويأخذ لي بثأري ويكشف عن عاري فكنت أهب له نفسي وأمكنه منها ومن مالي وجمالي فرق لها ابن ملجم وقال لها غضي صوتك وارفقي بنفسك فإنك تعطين مرادك قال فسكنت من بكائها وطمعت في قوله ثم أقبلت عليه بكلامها وهي كاشفة عن صدرها ومسبلة شعرها فلما تمكن هواها من قلبه مال إليها بكليته ثم جذبها إليه وقال لها كان أبوك صديقا لي وقد خطبتك منه فأنعم لي بذلك فسبق إليه الموت فزوجيني نفسك لآخذ لك بثأرك قال ففرحت بكلامه وقالت قد خطبني الأشراف من قومي وسادات عشيرتي فما أنعمت إلّا لمن يأخذ لي بثأري ولما سمعت عنك أنك تقاوم الأقران وتقتل الشجعان فأحببت أن تكون لي بعلا وأكون لك أهلا فقال لها فأنا واللَّه كفو كريم فاقترحي علي ما شئت من مال وفعال فقالت له إن قدمت علي العطية والشرط فها أنا بين يديك فتحكم كيف شئت فقال لها وما العطية والشرط فقالت له

ص: 222

أما العطية فثلاثة آلاف دينار وعبد وقينة(1) فقال هذا أنا ملي به فما الشرط المذكور قالت نم على فراشك حتى أعود إليك(2).

ثم إنها دخلت خدرها فلبست أفخر ثيابها ولبست قميصا رقيقا يري صدرها وحليها وزادت في الحلي والطيب وخرجت في معصفرها فجعلت تباشرة بمحاسنها ليرى حسنها وجمالها وأرخت عشرة ذوائب من شعرها منظومة بالدر والجوهر فلما وصلت إليه أرخت لثامها عن وجهها ورفعت معصفرها وكشفت عن صدرها(3) وأعكانها وقال إن قدمت علي الشرط المشروط ظفرت بها جميعها وأنت مسرور مغبوط قال فمد ابن ملجم عينيه إليه فحار عقله وهوى لحينه مغشيا عليه ساعة فلما أفاق قال يا منية النفس ما شرطك فاذكريه لي فإني سأفعله ولو كان دونه قطع القفار وخوض البحار وقطع الرؤوس واختلاس النفوس قالت له الملعونة شرطي عليك أن تقتل علي بن أبي طالب عليه السلام بضربة واحدة بهذا السيف في مفرق رأسه يأخذ منه ما يأخذ ويبقى ما يبقى فلما سمع ابن ملجم كلامها استرجع ورجع إلى عقله وأغاظه وأقلقه ثم صاح بأعلى صوته ويحك ما هذا الذي واجهتني به بئس ما حدثتك به نفسك من المحال ثم طأطأ رأسه يسيل عرقا وهو متفكر في أمره ثم رفع رأسه إليها وقال لها ويلك من يقدر على قتل أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب المجاب الدعاء المنصور من السماء والأرض ترجف من هيبته والملائكة تسرع إلى خدمته يا ويلك ومن يقدر كان في أيام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا قاتل يكون جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وملك الموت بين يديه فمن

ص: 223


1- القينة: الأمة المغنية الماشطة.
2- بحار الأنوار: 42/263.
3- الاعكان جمع العكنة: ما انطوى وتثنى من لحم البطن.

هو هكذا لا طاقة لأحد بقتله ولا سبيل لمخلوق على اغتياله ومع ذلك أنه قد أعزني وأكرمني وأحبني ورفعني وآثرني على غيري فلا يكون ذلك جزاؤه مني أبدا فإن كان غيره قتلته لك شر قتلة ولو كان أفرس أهل زمانه وأما أميرالمؤمنين فلا سبيل لي عليه.

قال فصبرت عنه حتى سكن غيظه ودخلت معه في الملاعبة والملاطفة وعلمت أنه قد نسي ذلك القول ثم قالت يا هذا ما يمنعك من قتل علي بن أبي طالب وترغب في هذا المال وتتنعم بهذا الجمال وما أنت بأعف وأزهد من الذين قاتلوه وقتلهم وكانوا من الصوامين والقوامين فلما نظروا إليه وقد قتل المسلمين ظلماً وعدوانا اعتزلوه وحاربوه ومع ذلك فإنه قد قتل المسلمين وحكم بغير حكم اللَّه وخلع نفسه من الخلافة وإمرة المؤمنين فلما رأوه قومي على ذلك اعتزلوه فقتلهم بغير حجة له عليهم فقال لها ابن ملجم يا هذه كفي عني فقد أفسدت علي ديني وأدخلت الشك في قلبي وما أدري ما أقول لك وقد عزمت على رأي ثم أنشد:

ثلاثة آلاف وعبد وقينة * وضرب علي بالحسام المصمم

فلا مهر أغلى من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم

فأقسمت بالبيت الحرام ومن أتى * إليه جهارا من محل ومحرم

لقد أفسدت عقلي قطام وإنني * لمنها على شك عظيم مذمم

لقتل علي خير من وطئ الثرى * أخي العلم الهادي النبي المكرم

ثم أمسك ساعة وقال:

فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة * كمهر قطام من فصيح وأعجم

ثلاثة آلاف وعبد وقينة * وضرب علي بالحسام المصمم

ص: 224

فلا مهر أغلى من علي وإن غلا * ولا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم

فأقسم بالبيت الحرام ومن أتى * إليه جهارا من محل ومحرم

لقد خاب من يسعى بقتل إمامه * وويل له من حر نار جهنم

إلى آخر ما أنشد من الأبيات ثم قال لها أجليني ليلتي هذه حتى أنظر في أمري وآتيك غدا بما يقوى عليه عزمي فلما هم بالخروج أقبلت عليه وضمته إلى صدرها وقبلت ما بين عينيه وأمرته بالاستعجال في أمرها وسايرته إلى باب الدار وهي تشجعه وأنشدت له أبياتا فخرج الملعون من عندها وقد سلبت فؤاده وأذهبت رقاده ورشاده فبات ليلته قلقا متفكرا فمرة يعاتب نفسه ومرة يفكر في دنياه وآخرته(1).

فلما كان وقت السحر أتاه طارق فطرق الباب فلما فتحه إذا برجل من بني عمه على نجيب وإذا هو رسول من إخوته إليه يعزونه في أبيه وعمه ويعرفونه أنه خلف مالا جزيلا وأنهم دعوه سريعا ليحوز ذلك المال فلما سمع ذلك بقي متحيرا في أمره إذ جاءه ما يشغله عما عظم عليه من أمر قطام فلم يزل مفكرا في أمره حتى عزم على الخروج وكان له أخوان لأبيه وأمه كانت من زبيد يقال لها عدنية وهي ابنة أبي علي بن ماشوج وكان أبوه مراديا وكانوا يسكنون عجران صنعاء فلما وصل إلى النجف ذكر قطام ومنزلتها في قلبه ورجع إليها فلما طرق الباب اطلعت عليه وقالت من الطارق فعرفته على حالة السفر فنزلت إليه وسلمت عليه وسألته عن حاله فأخبرها بخبره ووعدها بقضاء حاجتها إذا رجع من سفره وتملكها جميع ما يجي ء به من المال فعدلت عنه مغضبة فدنا منها وقبلها وودعها وحلف لها

ص: 225


1- بحار الأنوار: 42/265.

أنه يبلغها مأمولها في جميع ما سألته فخرج وجاء إلى أميرالمؤمنين عليه السلام وأخبره بما جاءوا إليه لأجله وسأله أن يكتب إلى ابن المنتجب كتابا ليعينه على استخلاص حقه فأمر كاتبه فكتب له ما أراد ثم أعطاه فرسا من جياد خيله فخرج وسار سيرا حثيثا حتى وصل إلى بعض أودية اليمن فأظلم عليه الليل فبات في بعضها فلما مضى من الليل نصفه وإذا هو بزعقة عظيمة من صدر الوادي ودخان يفور ونار مضرمة فانزعج لذلك وتغير لونه ونظر إلى صدر الوادي وإذا بالدخان قد أقبل كالجبل العظيم وهو واقع عليه والنار تخرج من جوانبه فخر مغشيا عليه فلما أفاق وإذا بهاتف يسمع صوته ولا يرى شخصه وهو يقول:

اسمع وع القول يا ابن ملجم * إنك في أمر مهول معظم

تضمر قتل الفارس المكرم * أكرم من طاف ولبى وأحرم

ذاك علي ذواالتقاء الأقدم * فارجع إلى اللَّه لكيلا تندم

فلما سمع توهم أنه من طوارق الجن وإذا بالهاتف يقول يا شقي بن الشقي أما ما أضمرت من قتل الزاهد العابد العادل الراكع الساجد إمام الهدى وعلم التقى والعروة الوثقى فإنا علمنا بما تريد أن تفعله بأميرالمؤمنين ونحن من الجن الذين أسلمنا على يديه ونحن نازلون بهذا الوادي فإنا لا ندعك تبيت فيه فإنك ميشوم على نفسك ثم جعلوا يرمونه بقطع الجنادل فصعد فوق شاهق فبات بقية ليله فلما أصبح سار ليلا ونهارا حتى وصل اليمن وأقام عندهم شهرين وقلبه على حر الجمر من أجل قطام ثم إنه أخذ الذي أصابه من المال والمتاع والأثاث والجواهر وخرج فبينا هو في بعض الطريق إذ خرجت عليه حرامية فسايرهم وسايروه فلما قربوا من الكوفة حاربوه وأخذوا جميع ما كان معه ونجا بنفسه وفرسه وقليل من الذهب

ص: 226

على وسطه وما كان تحته فهرب على وجهه حتى كاد أن يهلك عطشا وأقبل سائرا في الفلاة مهموما جائعا عطشانا فلاح له شبح فقصده فإذا بيوت من أبيات الحرب فقصد منها بيتا فنزل عندهم واستسقاهم شربة ماء فسقوه وطلب لبنا فأتوه به فنام ساعة فلما استيقظ أتاه رجلان وقدما إليه طعاما فأكل وأكلا معه وجعلا يسألانه عن الطريق فأخبرهما ثم قالا له: ممّن الرجل؟ قال: من بني مراد قالا: أين تقصد؟ قال: الكوفة، فقالا له: كأنك من أصحاب أبي تراب؟ قال نعم، فاحمرت أعينهما غيظا وعزما على قتله ليلا وأسرا ذلك ونهضا فتبين له ما عزما عليه وندم على كلامه فبينما هو متحير إذ أقبل كلبهم ونام قريبا منهم فأقبل اللعين يمسح بيده على الكلب ويشفق عليه ويقول مرحبا بكلب قوم أكرموني فاستحسنا ذلك وسألاه ما اسمك قال عبدالرحمن بن ملجم فقالا له ما أردت بصنعك هذا في كلبنا فقال أكرمته لأجلكم حيث أكرمتموني فوجب علي شكركم وكان هذا منه خديعة ومكرا فقالا اللَّه أكبر الآن واللَّه وجب حقك علينا ونحن نكشف لك عما في ضمائرنا نحن قوم نرى رأي الخوارج وقد قتل أعمامنا وأخوالنا وأهالينا كما علمت فلما أخبرتنا أنك من أصحابه عزمنا على قتلك في هذه الليلة فلما رأينا صنعك هذا بكلبنا صفحنا عنك ونحن الآن نطلعك على ما قد عزمنا عليه فسألهما عن أسمائهما فقال أحدهما أنا البرك بن عبداللَّه التميمي وهذا عبداللَّه بن عثمان العنبري صهري وقد نظرنا إلى ما نحن عليه في مذهبنا فرأينا أن فساد الأرض والأمة كلها من ثلاثة نفر أبو تراب ومعاوية وعمرو بن العاص فأما أبو تراب فإنه قتل رجالنا كما رأيت وافتكرنا أيضاً في الرجلين معاوية وابن العاص وقد وليا علينا هذا الظالم الغشوم بسر بن أرطاة يطرقنا في كل وقت ويأخذ أموالنا وقد عزمنا على قتل هؤلاء

ص: 227

الثلاثة فإذا قتلناهم توطأت الأرض وأقعد الناس لهم إماما يرضونه فلما سمع ابن ملجم كلامهما صفق بإحدى يديه على الأخرى وقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة إلى لثالثكما وإني مرافقكما على رأيكما وإني أكفيكما أمر علي بن أبي طالب فنظرا إليه متعجبين من كلامه قال واللَّه ما أقول لكما إلّا حقا ثم ذكر لهما قصته فلما سمعا كلامه عرفا صحته وقالا إن قطام من قومنا وأهلها كانوا من عشيرتنا فنحن نحمد اللَّه على اتفاقنا فهذا لا يتم إلّا بالأيمان المغلظة(1).

فتركب الآن مطايانا ونأتي الكعبة ونتعاقد عندها على الوفاء فلما أصبحوا وركبوا حضر عندهم بعض قومهم فأشاروا عليهم وقالوا لا تفعلوا ذلك فما منكم أحد إلّا ويندم ندامة عظيمة فلم يقبلوا وساروا جميعا حتى أتوا البيت وتعاهدوا عنده فقال البرك أنا لعمرو بن العاص وقال العنبري أنا لمعاوية وقال ابن ملجم لعنه اللَّه أنا لعلي فتحالفوا على ذلك بالأيمان المغلظة ودخلوا المدينه وحلفوا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله على ذلك ثم افترقوا وقد عينوا يوما معلوما يقتلون فيه الجميع ثم سار كل منهم على طريقة فأما البرك فأتى مصر ودخل الجامع وأقام فيه أياما فخرج عمرو بن العاص ذات يوم إلى الجامع وجلس فيه بعد صلاته فجاء البرك إليه وسلم عليه ثم حادثة في فنون الأخبار وطرف الكلام والأشعار فشعف فجاء البرك إليه وسلم عليه ثم حادثه في فنون الأخبار وطرف الكلام والأشعار فشعف به عمرو بن العاص وقربه وأدناه وصار يأكل معه على مائدة واحدة فأقام إلى الليلة التي تواعدوا فيها... فلما كان عند طلوع الفجر أقبل المؤذن واعتذر عمرو بن العاص عن الخروج الى المسجد بعذر حدث له وقال قدموا خارجة بن تميم القاضي

ص: 228


1- بحار الأنوار: 42/267.

يصلي بالناس فأتى القاضي ودخل المحراب في غلس فجاء البرك فوقف خلفه وسيفه تحت ثيابه وهو لا يشك أنه عمرو فأمهله حتى سجد وجلس من سجوده فسل سيفه ونادى لا حكم إلّا للَّه ولا طاعة لمن عصى اللَّه ثم ضربه بالسيف على أم رأسه فقضى نحبه لوقته فاحاطوا به من كل جانب واخذوا سيفه من يده واوجعوه ضربا شديداً ثم اتوا به إلى عمرو وقالوا انه قد قتل خارجة فدهش عمرو لذلك وقال يا هذا لما فعلت ما فعلت فقص عليه القصة فامر به وحبسه حتى امره معاوية بقتله فقتله.

وأما عبداللَّه العنبري فقصد دمشق كان يتردد إلى معاوية إلى ليلة تسع عشرة وكان قد عرف المكان الذي يصلي فيه معاوية فلما أذن المؤذن للفجر وأتى معاوية المسجد ودخل محرابه ثار إليه بالسيف وضربه فراغ عنه فأراد ضرب عنقه فانصاع عنه فوقع السيف في أليته إلى آخر القصة والحاصل انه لم يمت أيضاً(1).

وأما ابن ملجم لعنه اللَّه فإنه سار حتى دخل الكوفة واجتاز على الجامع وكان أميرالمؤمنين عليه السلام جالسا على باب كندة فلم يدخله ولم يسلم عليه وكان إلى جانبه الحسن والحسين عليه السلام ومعه جماعة من أصحابه فلما نظروا إلى ابن ملجم وعبوره قالوا ألا ترى إلى ابن ملجم عبر ولم يسلم عليك قال دعوه فإن له شأنا من الشأن واللَّه ليخضبن هذه من هذه وأشار إلى لحيته وهامته ثم قال:

ما من الموت لإنسان نجاء * كل امرئ لابد يأتيه الفناء

تبارك اللَّه وسبحانه * لكل شي ء مدة وانتهاء

يقدر الإنسان في نفسه * أمرا ويأتيه عليه القضاء

ص: 229


1- بحار الأنوار: 42/270.

لا تأمنن الدهر في أهله

لكل عيش آخر وانقضاء

بينا ترى الإنسان في غبطة

يمسي وقد حل عليه القضاء

ثم جعل يطيل النظر إليه حتى غاب عن عينه وأطرق إلى الأرض يقول إنا للَّه وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلّا باللَّه العلي العظيم.

قال وسار ابن ملجم حتى وصل إلى دار قطام وساق الحديث بطوله إلى أن قال:

فقال لها يا قطام في هذه الليلة أقتل لك علي بن أبي طالب وأخذ سيفه ومضى به إلى الصيقل فأجاد صقاله وجاء به إليها فقالت إني أريد أن أعمل فيه سما قال وما تصنع بالسم لو وقع على جبل لهده فقالت دعني أعمل فيه السم فإنك لو رأيت عليا لطاش عقلك وارتعشت يداك وربما ضربته ضربة لا تعمل فيه شيئا فإذا كان مسموماً فإن لم تعمل الضربة عمل السم فقال لها يا ويلك أتخوفيني من عملي فواللَّه لا أرهب عليا ولا غيره إلى أن قال الراوي: وكان ابن ملجم قد خرج في ذلك اليوم يمشي في أزقة الكوفة فلقيه صديق له وهو عبداللَّه بن جابر الحارثي فسلم عليه وهنأه بزواج قطام ثم تحادثا ساعة فحدثه بحديثه من أوله إلى آخره فسر بذلك سرورا عظيما فقال له أنا أعاونك فقال ابن ملجم دعني من هذا الحديث فإن عليا أروغ من الثعلب وأشد من الأسد.

ثم مضى ابن ملجم لعنه اللَّه يدور في شوارع الكوفة فاجتاز على أميرالمؤمنين عليه السلام وهو جالس عند ميثم التمار فخطف عنه كيلا يراه ففطن به فبعث خلفه رسولا فلما أتاه وقف بين يديه وسلم عليه وتضرع لديه فقال عليه السلام له ما تعمل هاهنا؟ قال أطوف في أسواق الكوفة وأنظر إليها فقال عليه السلام عليك بالمساجد فإنها خير لك من البقاع كلها وشرها الأسواق ما لم يذكر اسم اللَّه فيها ثم حادثه ساعة

ص: 230

وانصرف فلما ولى جعل أميرالمؤمنين عليه السلام يطيل النظر إليه ويقول يا لك من عدو لي من مراد ثم قال عليه السلام:

أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد

ويأبى اللَّه إلّا أن يشاء ثم قال عليه السلام يا ميثم هذا واللَّه قاتلي لا محالة أخبرني به حبيبي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال ميثم يا أميرالمؤمنين فلم لا تقتله أنت قبل ذلك فقال يا ميثم لا يحل القصاص قبل الفعل فقال ميثم يا مولاي إذا لم تقتله فاطرده فقال يا ميثم لولا آية في كتاب اللَّه «يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(1)، وأيضاً أنه بعد ما جنى جناية فيؤخذ بها ولا يجوز أن يعاقب قبل الفعل فقال ميثم جعل اللَّه يومنا قبل يومك ولا أرانا اللَّه فيك سوءا أبدا ومتى يكون ذلك يا أميرالمؤمنين فقال عليه السلام إن اللَّه تفرد بخمسة أشياء لا يطلع عليها نبي مرسل ولا ملك مقرب فقال عز من قائل: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ»(2) الآية.

يا ميثم هذه خمسة لا يطلع عليها إلّا اللَّه تعالى وما اطلع عليها نبيّ ولا وصيّ ولا ملك مقرّب. يا ميثم لا حذر من قدر. يا ميثم إذا جاء القضاء فلا مفرّ(3).

ثمّ ساق الحديث بطوله إلى أن قال: أمّا ابن ملجم فبات في تلك الليلة وهي الليلة التاسعة عشر يفكّر في نفسه ولا يدري ما يصنع فتارة يعاتب نفسه ويوبخها ويخاف من عقبى فعله وتارة يذكر قطام لعنها اللَّه وحسنها وجمالها وكثرة مالها وكان على هذا المنوال إلى أن غلبت الشقاوة عليه وقال هلمي إليّ بالسيف ثمّ إنّه اتّزر بمئزر واتشح بإزار وجعل السيف تحت الإزار مع بطنه وقال افتحي لي الباب

ص: 231


1- الرعد: 39.
2- لقمان: 34.
3- بحار الأنوار: 42/272.

ففي هذه الساعة أقتل لك عليّاً إلى أن قال: فخرج من الباب وهي خلفه تحرضه بهذه الأبيات:

أقول إذا ما حية أعيت الرقا * وكان ذعاف الموت منه شرابها(1)

رسسنا(2) إليها في الظلام ابن ملجم * همام إذا ما الحرب شب لها بها

فخذها على فوق رأسك ضربة * بكف سعيد سوف يلقى ثوابها

قال الراوي فالتفت إليها وقال لها أفسدت واللَّه الشعر في هذا البيت الآخر قالت ولِمَ ذلك؟ قال لها: هلا قلت:

بكف شقي سوف يلقى عقابها(3)

قال مصنّف هذا الكتاب قدّس روحه: هذا الخبر غير صحيح بل إنّا كتبناه كما وجدناه والرواية الصحيحة أنّه بات في المسجد ومعه رجلان أحدهما شبيب بن بحيرة [بجرة] والآخر وردان بن مجالد يساعدانه على قتل عليّ عليه السلام فلمّا أذّن عليه السلام ونزل من المأذنة وجعل يسبّح اللَّه ويقدّسه ويكبّره ويكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله(4).

ثم انّ الرّاوي ذكر الحديث بطوله واعرضنا عن ذكر بقيّة الحديث وما وقع بعد قتله عليه السلام حذرا من الاطناب إلى أن قال ونادى جبرئيل بين السّماء والأرض بصوت يسمعه كلّ مستيقظ تهدّمت واللَّه أركان الهدى وانطمست واللَّه نجوم السّماء واعلام التّقى وانفصمت واللَّه العروة الوثقى قتل ابن عمّ المصطفى قتل الوصّي المجتبى قتل عليّ المرتضى قتل واللَّه سيّد الأوصياء قتله أشقى الأشقياء.

واتّفقوا على انّ الضّربة وقعت منه على رأسه عليه السلام بعد رفع رأسه عليه السلام عن السّجدة

ص: 232


1- الذعاف: السم الذي يقتل من ساعته.
2- دسسنا.
3- بحار الأنوار: 42/280.
4- بحار الأنوار: 42/280.

الأولى من الرّكعة الاولى ووقعت الضّربة على الضّربة التّي ضربه عمرو ابن عبدودّ العامري إلى آخر ما ذكره من التفصيل انتهى ما اردنا ذكره(1).

فقوله: فحينئذٍ لا يطيش السّهم ولا يبرء الكلم، هو اشارة إلى هذا المعنى فانّ ضربة عمرو بن عبدودّ لم تقتله وضربة ابن ملجم قتلته وليس هذا الّا من جهة قوله عليه السلام فاذا جاء يومي هذا انفرجت عنّي إلخ ونسب إليه هذه الاشعار.

اشدد حيازيمك للموت * فانّ الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت * اذا حلّ بواديكا

فانّ الدّرع والبيضة * يوم الرّوع يكفيكا

كما اضحكك الدّهر * كذلك الدّهر يبكيكا

فقد اعرف اقواما * وان كانوا صعاليكا

مساريع الى النّجدة * للغّي متاريكا(2)

ص: 233


1- بحار الأنوار: 42/281 و282.
2- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 308.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (62): ومن خطبة له عليه السلام

اشاره

أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلّا فِيهَا وَلا يُنْجَى بِشَيْ ءٍ كَانَ لَهَا ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ وَحُوسِبُوا عَلَيْهِ وَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْ ءِ الظِّلِّ بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَزَائِداً حَتَّى نَقَصَ

أَلا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلّا فِيهَا

دخل داود عليه الصلاة والسلام غاراً فوجد فيه رجلا ميتاً وعند رأسه لوح مكتوب فيه أنا فلان ابن فلان الملك عشت ألف عام وبنيت ألف مدينه وافتضضت ألف بكر وهزمت ألف جيش ثم صار أمري إلى أن بعثت زنبيلا من الدراهم في رغيف فلم يوجد ثم بعثت زنبيلا من الجواهر فلم يوجد فدققت الجواهر واستفيتها فمت مكاني فمن أصبح وله رغيف وهو يحسب أن على وجه الأرض أغني منه أماته اللَّه كما أماتني(1).

وقال هيثم بن خالد الطويل: دخلت على صالح مولى منارة في يوم شات وهو جالس في قبة مغشاة بالسمور وجميع فروشها سمور وبين يديه كانون فضة يبخر

ص: 234


1- المستطرف في كل فن مستطرف: 2/512.

فيه بالعود. ثمّ رأيته بعد ذلك في رأس الجسر وهو يسأل الناس.

ولما قتل عامر بن إسماعيل مروان بن محمد ونزل في داره وقعد على فرشه، دخلت عليه عبدة بنت مروان فقالت: يا عامر: إن دهراً أنزل مروان عن فرشه وأقعدت عليه لقد أبلغ في عظتك. وقال مالك بن دينار: مررت بقصر تضرب فيه الجواري بالدفوف ويقلن:

ألا يا دار لا يدخلك حزن * ولا يغدر بصاحبك الزمان

فنعم الدار تاوي كل ضيف * إذا ما ضاق بالضيف المكان

ثم مررت عليه بعد حين وهو خراب وبه عجوز فسألتها عما كنت رأيت وسمعت فقالت: يا عبداللَّه إن اللَّه يغير ولا يتغير والموت غالب كل مخلوق قد واللَّه دخل بها الحزن وذهب بأهلها الزمان. وقال أبو العتاهية:

لئن كنت في الدنيا بصيراً فإنما * بلاغك منها مثل زاد المسافر

إذا أبقت الدنيا على المرء دينه * فما فاته منها فليس بضائر(1).

قال تعالى: «وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآْيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(2).

وقال تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(3).

وقال تعالى: «وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا

ص: 235


1- المستطرف في كل فن مستطرف: 2/512.
2- الانعام: 126 و127.
3- النحل: 32.

صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»(1).

وإلى ذلك الاشارة في حديث الهيثم بن واقد الحريري «الجزري ظ» عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: من زهد في الدنيا أثبت اللَّه الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه وبصره عيوب الدنيا دائها ودوائها، وأخرجه من الدنيا سالما إلى دار السلام(2).

وَلا يُنْجَى بِشَيْ ءٍ كَانَ لَهَا

عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِ عليه السلام قَالَ فِي مُنَاجَاةِ مُوسَى عليه السلام يَا مُوسَى إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ عُقُوبَةٍ عَاقَبْتُ فِيهَا آدَمَ عِنْدَ خَطِيئَتِهِ وَجَعَلْتُهَا مَلْعُونَةً مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلّا مَا كَانَ فِيهَا لِي يَا مُوسَى إِنَّ عِبَادِيَ الصَّالِحِينَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا بِقَدْرِ عِلْمِهِمْ وَسَائِرَ الْخَلْقِ رَغِبُوا فِيهَا بِقَدْرِ جَهْلِهِمْ وَمَا مِنْ أَحَدٍ عَظَّمَهَا فَقَرَّتْ عَيْنَاهُ فِيهَا وَلَمْ يُحَقِّرْهَا أَحَدٌ إِلّا انْتَفَعَ بِهَا(3).

وعن أبي عبداللَّه عليه السلام قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله إِنَّ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا إِضْرَاراً بِالآْخِرَةِ وَفِي طَلَبِ الآْخِرَةِ إِضْرَاراً بِالدُّنْيَا فَأَضِرُّوا بِالدُّنْيَا فَإِنَّهَا أَوْلَى بِالْإِضْرَارِ(4).

وقال اللَّه سبحانه: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا»(5).

ص: 236


1- الرعد: 23 و24.
2- الكافي: 2/128، ح 1؛ بحار الأنوار: 70/48، ح 19.
3- الكافي: 2/317، ح 9؛ بحار الأنوار: 70/21، ح 10.
4- الكافي 2/131، ح 12؛ بحار الأنوار: 70/61، ح 30.
5- الكهف: 46.

ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً

قال تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(1).

قال الشاعر:

ألا انما الدنيا بلاء وفتنة

على كل حال أقبلت أو تولت(2)

قال تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»(3).

قال الطبرسي: اي نعاملكم معاملة المختبر بالفقر والغنا وبالضراء والسراء وبالشدة والرخاء، وقيل بما تكرهون وما تحبون ليظهر صبركم على ما تكرهون وشكركم فيما تحبون، وقيل: الشر غلبة الهوى على النفس والخير العصمة عن المعاصي(4).

قال تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ»(5) الآية.

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِاللَّهِ عليه السلام الْبَلاءُ وَمَا يَخُصُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْمُؤْمِنَ فَقَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ وَيُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بَعْدُ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ وَحُسْنِ أَعْمَالِهِ فَمَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وَمَنْ سَخُفَ إِيمَانُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلاؤُهُ(6).

عن هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الَّذِينَ

ص: 237


1- العنكبوت: 2 و3.
2- منهاج البراعة للخوئي: 4/391.
3- الانبياء: 35.
4- مجمع البيان: 7/74.
5- البقرة: 155.
6- الكافي: 252و2، ح 2؛ بحار الأنوار: 64/207، ح 6.

يَلُونَهُمْ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ(1).

فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ

قال تعالى: «وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ»(2).

قال الصادق عليه السلام: إن كان الحساب حقّاً فجمع المال لماذا انتهى(3).

وعن الفضل بن أبي قرّة السمندي قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَجَاعَةٌ حَتَّى نَبَشُوا الْمَوْتَى فَأَكَلُوهُمْ فَنَبَشُوا قَبْراً فَوَجَدُوا فِيهِ لَوْحاً فِيهِ مَكْتُوبٌ أَنَا فُلانٌ النَّبِيُّ يَنْبُشُ قَبْرِي حَبَشِيٌّ مَا قَدَّمْنَا وَجَدْنَاهُ وَمَا أَكَلْنَا رَبِحْنَاهُ وَمَا خَلَّفْنَا خَسِرْنَاهُ(4).

وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ قَالُوا مَا فِينَا أَحَدٌ يُحِبُّ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ بَلْ كُلُّكُمْ يُحِبُّ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ(5).

وعن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: إِنَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ(6).

ص: 238


1- الكافي: 2/252، ح 1؛ بحار الأنوار: 64/200، ح 3.
2- الأنعام: 94.
3- الخصال: 2/450، ح 55؛ بحار الأنوار: 70/137، ح 1.
4- الأمالي للصدوق: 607، م 88، ح 13؛ بحار الأنوار: 70/137، ح 2.
5- الأمالي للطوسي: 519، م 18، ح 48؛ بحار الأنوار: 70/138، ح 6.
6- الكافي: 2/316، ح 6؛ بحار الأنوار: 70/23، ح 12.

وعن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه: «كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ(1) قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَدَعُ الْمَالَ لا يُنْفِقُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ بُخْلاً ثُمَّ يَمُوتُ فَيَدَعُهُ لِمَنْ يَعْمَلُ بِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ فِي مَعْصِيَتِهِ فَإِنْ عَمِلَ بِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ رَآهُ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ فَزَادَ حَسْرَةً وَقَدْ كَانَ الْمَالُ لَهُ أَوْ مَنْ عَمِلَ بِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ قَوَّاهُ بِذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى عَمِلَ بِهِ فِي مَعَاصِي اللَّهِ(2).

وَسُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَسْرَةً؟ قَالَ: مَنْ رَأَى مَالَهُ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ وَأَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِ النَّارَ وَأَدْخَلَ وَارِثَهُ بِهِ الْجَنَّةَ(3).

وَحُوسِبُوا عَلَيْهِ

قال تعالى: «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»(4).

وقال تعالى: «أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(5).

وقال تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»(6).

وقال تعالى: «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ»(7).

وقال تعالى: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا»(8).

ص: 239


1- البقرة: 167.
2- تفسير العيّاشي: 1/72، ح 144؛ بحار الأنوار: 70/142، ح 20.
3- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام: 40، ح 16؛ بحار الأنوار: 70/142، ح 21.
4- التكاثر: 8.
5- البقرة: 202.
6- البقرة: 281.
7- الغاشية: 25 و26.
8- الانشقاق: 7 و8.

وأمّا الأخبار الواردة في الباب:

فمنها قوله عليه السلام : ثَلاثَةٌ لا يُسْأَلُ عَنْهَا الْعَبْدُ خِرْقَةٌ يُوَارِي بِهَا عَوْرَتَهُ أَوْ كِسْرَةٌ يَسُدُّ بِهَا جَوْعَتَهُ أَوْ بَيْتٌ يَكُنُّهُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ(1).

ومفهوم الرواية يدلّ على انّ العبد يسئل عن غير الثلاثة كائنا ما كان.

ومنها: ما روى عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَشَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاه وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ حُبِّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ(2).

ومنها: عن الصادق جعفر بن محمّدعليه السلام قال: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وُقِفَ عَبْدَانِ مُؤْمِنَانِ لِلْحِسَابِ كِلاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقِيرٌ فِي الدُّنْيَا وَغَنِيٌّ فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُ الْفَقِيرُ يَا رَبِّ عَلَى مَا أُوقَفُ فَوَ عِزَّتِكَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّكَ لَمْ تُوَلِّنِي وِلايَةً فَأَعْدِلَ فِيهَا أَوْ أَجُورَ وَلَمْ تَرْزُقْنِي مَالاً فَأُؤَدِّيَ مِنْهُ حَقّاً أَوْ أَمْنَعَ وَلا كَانَ رِزْقِي يَأْتِينِي مِنْهَا إِلّا كَفَافاً عَلَى مَا عَلِمْتَ وَقَدَّرْتَ لِي فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلالُهُ صَدَقَ عَبْدِي خَلُّوا عَنْهُ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ وَيُبْقَى الآْخَرُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْهُ مِنَ الْعَرَقِ مَا لَوْ شَرِبَهُ أَرْبَعُونَ بَعِيراً لَكَفَاهَا ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ لَهُ الْفَقِيرُ مَا حَبَسَكَ فَيَقُولُ طُولُ الْحِسَابِ مَا زَالَ الشَّيْ ءُ يَجِيئُنِي بَعْدَ الشَّيْ ءِ يُغْفَرُ لِي ثُمَّ أُسْأَلُ عَنْ شَيْ ءٍ آخَرَ حَتَّى تَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَأَلْحَقَنِي بِالتَّائِبِينَ فَمَنْ أَنْتَ فَيَقُولُ أَنَا الْفَقِيرُ الَّذِي كُنْتُ مَعَكَ آنِفاً فَيَقُولُ لَقَدْ غَيَّرَكَ النَّعِيمُ بَعْدِي(3).

ص: 240


1- بحار الأنوار : 63/315 .
2- الأمالي للصدوق : 39، م 10، ح 9؛ بحار الأنوار : 68/180، ح 33 .
3- الأمالي للصدوق : 360، م 57، ح 11؛ بحار الأنوار : 7/259، ح 4 .

ومنها: عن سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلّا وَللَّهِ ِ عَلَيْهِ حُجَّةٌ إِمَّا فِي ذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ وَإِمَّا فِي نِعْمَةٍ قَصَّرَ عَنْ شُكْرِهَا(1).

ومنها: عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: ثَلاثَةُ أَشْيَاءَ لا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهِنَّ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ وَثَوْبٌ يَلْبَسُهُ وَزَوْجَةٌ صَالِحَةٌ تُعَاوِنُهُ وَيُحْصِنُ بِهَا فَرْجَهُ(2).

لعلّ المراد إذا كانت من الحلال كما هو ظاهر وإلّا فيحاسب عليها.

ومنها: عن قبيصة عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله عزّ وجلّ: «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ»(3). قَالَ: فِينَا التَّنْزِيلُ قُلْتُ: إِنَّمَا أَسْأَلُكَ عَنِ التَّفْسِيرِ قَالَ: نَعَمْ يَا قَبِيصَةُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ حِسَابَ شِيعَتِنَا عَلَيْنَا فَمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ اسْتَوْهَبَهُ مُحَمَّدٌصلى الله عليه وآله مِنَ اللَّهِ وَمَا كَانَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْمَظَالِمِ أَدَّاهُ مُحَمَّدٌصلى الله عليه وآله عَنْهُمْ وَمَا كَانَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَهَبْنَاهُ لَهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ(4).

ومنها: عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: كُنْتُ قَاعِداً مَعَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَوَّلِ عليه السلام وَالنَّاسُ فِي الطَّوَافِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَقَالَ يَا سَمَاعَةُ إِلَيْنَا إِيَابُ هَذَا الْخَلْقِ وَعَلَيْنَا حِسَابُهُم(5).

وَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ»(6).

ص: 241


1- الأمالي للطوسي : 211، م 8، ح 16؛ بحار الأنوار : 7/262، ح 13 .
2- المحاسن : 2/399 ح 80؛ بحار الأنوار : 7/265، ح 23 .
3- الغاشية : 25 و26 .
4- تفسير فرات الكوفي : 552، ح 707؛ بحار الأنوار : 7/274، ح 48 .
5- الكافي : 8/162، ح 167؛ بحار الأنوار : 8/57، ح 71 .
6- الحشر: 18.

وقال تعالى: «وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا»(1).

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: كَانَ فِيمَا وَعَظَ بِهِ لُقْمَانُ ابْنَهُ يَا بُنَيَّ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا قَبْلَكَ لِأَوْلادِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ مَا جَمَعُوا وَلَمْ يَبْقَ مَنْ جَمَعُوا لَهُ وَإِنَّمَا أَنْتَ عَبْدٌ مُسْتَأْجَرٌ قَدْ أُمِرْتَ بِعَمَلٍ وَوُعِدْتَ عَلَيْهِ أَجْراً فَأَوْفِ عَمَلَكَ وَاسْتَوْفِ أَجْرَكَ وَلا تَكُنْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ شَاةٍ وَقَعَتْ فِي زَرْعٍ أَخْضَرَ فَأَكَلَتْ حَتَّى سَمِنَتْ فَكَانَ حَتْفُهَا(2) عِنْدَ سِمَنِهَا وَلَكِنِ اجْعَلِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ قَنْطَرَةٍ عَلَى نَهَرٍ جُزْتَ عَلَيْهَا وَتَرَكْتَهَا وَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهَا آخِرَ الدَّهْرِ أَخْرِبْهَا(3) وَلا تَعْمُرْهَا فَإِنَّكَ لَمْ تُؤْمَرْ بِعِمَارَتِهَا وَاعْلَمْ أَنَّكَ سَتُسْأَلُ غَداً إِذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَرْبَعٍ شَبَابِكَ فِيمَا أَبْلَيْتَهُ وَعُمُرِكَ فِيمَا أَفْنَيْتَهُ وَمَالِكَ مِمَّا اكْتَسَبْتَهُ وَفِيمَا أَنْفَقْتَهُ فَتَأَهَّبْ لِذَلِكَ وَأَعِدَّ لَهُ جَوَاباً وَلا تَأْسَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّ قَلِيلَ الدُّنْيَا لا يَدُومُ بَقَاؤُهُ وَكَثِيرَهَا لا يُؤْمَنُ بَلاؤُهُ فَخُذْ حِذْرَكَ وَجِدَّ فِي أَمْرِكَ وَاكْشِفِ الْغِطَاءَ عَنْ وَجْهِكَ وَتَعَرَّضْ لِمَعْرُوفِ رَبِّكَ وَجَدِّدِ التَّوْبَةَ فِي قَلْبِكَ وَاكْمُشْ فِي فَرَاقِكَ(4) قَبْلَ أَنْ يُقْصَدَ قَصْدُكَ وَيُقْضَى قَضَاؤُكَ وَيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيدُ(5).

عن عليّ بن الحسين عليه السلام حيث قال: اعْلَمْ يَا ابْنَ آدَمَ أَنَّ مِنْ وَرَاءِ هَذَا أَعْظَمَ وَأَفْظَعَ وَأَوْجَعَ لِلْقُلُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يَجْمَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ ذَلِكَ يَوْمٌ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَتُبَعْثَرُ فِيهِ

ص: 242


1- المزمل: 20.
2- الحتف: الموت.
3- أخربها أي اتركها خرابا ولا تصرف همك في عمارتها ، أو كناية عن قطع علاقة القلب منها ، وعدم الحرص عليها .
4- كمش في السير وغيره : أسرع .
5- الكافي : 2/134، ح 20؛ بحار الأنوار : 13/425، ح 19 .

الْقُبُورُ(1) وَذَلِكَ يَوْمُ الآْزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ وَذَلِكَ يَوْمٌ لا تُقَالُ فِيهِ عَثْرَةٌ(2) وَلا يُؤْخَذُ مِنْ أَحَدٍ فِدْيَةٌ وَلا تُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ مَعْذِرَةٌ وَلا لِأَحَدٍ فِيهِ مُسْتَقْبَلُ تَوْبَةٍ لَيْسَ إِلّا الْجَزَاءُ بِالْحَسَنَاتِ وَالْجَزَاءُ بِالسَّيِّئَاتِ فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمِلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَجَدَهُ وَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمِلَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ شَرٍّ وَجَدَهُ(3) الخبر.

فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْ ءِ الظِّلالِ

كلّ في ء ظلّ، وليس كلّ ظلّ فيئا، قال روبة: كلّ ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو في ء وظلّ، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظلّ(4) ولكون الظلّ أعمّ صحّ إضافة الفي ء إليه.

عن جابر الجعفي عن الباقرعليه السلام قال: يَا جَابِرُ أَنْزِلِ الدُّنْيَا مِنْكَ كَمَنْزِلٍ نَزَلْتَهُ تُرِيدُ التَّحَوُّلَ عَنْهُ وَهَلِ الدُّنْيَا إِلّا دَابَّةٌ رَكِبْتَهَا فِي مَنَامِكَ فَاسْتَيْقَظْتَ وَأَنْتَ عَلَى فِرَاشِكَ غَيْرَ رَاكِبٍ وَلا أَحَدٌ يَعْبَأُ بِهَا أَوْ كَثَوْبٍ لَبِسْتَهُ أَوْ كَجَارِيَةٍ وَطِئْتَهَا يَا جَابِرُ الدُّنْيَا عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ كَفَيْ ءِ الظِّلالِ(5).

ص: 243


1- بعثرت الشي ء إذا استخرجته وكشفته وبعثرت حوضي أي هدمته وجعلت أسفله أعلاه وسميت القيامة بالآزفة لازوفتها أي لقربها إذا القلوب لدى الحناجر فانها ترتفع عن أماكنها فتلتصق بحلوقهم فلا تعود ، فيتروحوا فلا تخرج فيستريحوا . ( آت )
2- من الإقالة وهي نقض البيع . والعثرة : الزلة .
3- الكافي : 8/74، ح 29؛ بحار الأنوار : 75/144، ح 6 .
4- المصباح المنير : 2/386 .
5- الأمالي للطوسي : 296، م 11، ح 582 - 29؛ بحار الأنوار : 70/99، ح 84 .

بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَزَائِداً حَتَّى نَقَصَ

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَبَّادٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ سَمِعْتُ الرِّضَاعليه السلام يَوْماً يُنْشِدُ شِعْراً وَقَلِيلاً مَا كَانَ يُنْشِدُ شِعْراً

كُلُّنَا نَأْمُلُ مَدّاً فِي الْأَجَلِ * وَالْمَنَايَا هُنَّ آفَاتُ الْأَمَلِ

لا تَغُرَّنْكَ أَبَاطِيلُ الْمُنَى * وَالْزَمِ الْقَصْدَ وَدَعْ عَنْكَ الْعِلَلَ

إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلٍ * حَلَّ فِيهِ رَاكِبٌ ثُمَّ رَحَل(1)

قال ابن أبي الحديد: قال الشاعر:

ألا إنما الدنيا كظل غمامة * أظلت يسيرا ثم خفت فولت

ظل الغمام وأحلام المنام فما * تدوم يوما لمخلوق على حال(2)

وفي (شعراء ابن قتيبة) قال لبيد:

وما النّاس إلّا كالدّيار وأهلها * بها يوم حلوّها وغدوا بلاقع

ومنا المرء إلّا كالشّهاب وضوئه * يحور رمادا بعد اذ هو ساطع(3)

وقول آخر:

ألا إنما الدنيا كظل سحابة * أظلتك يوما ثم عنك اضمحلت

فلا تك فرحانا بها حين أقبلت * ولا تك جزعانا بها حين ولت(4)

ولنعم ما قيل فيه:

ما انعم اللَّه على عبده * بنعمة اوفى من العافية

ص: 244


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2/177، ح 7؛ بحار الأنوار : 49/107، ح 1 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 5/144 .
3- الشعر والشعراء لابن قتيبة: 1/270.
4- منهاج البراعة للخوئي: 4/393 و324.

وكلّ من عوفي في جمعه * فانّه في عيشة راضية

والمال حلو حسن جيّد * على الفتى لكنّه عارية

ما احسن الدّنيا ولكنّها

مع حسنها غدّارة فانية(1)

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (63): ومن خطبة له عليه السلام

اشارة

فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ وَتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ وَكُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا وَعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى وَمَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ وَإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ وَإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تُحْرزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ نَفْسَهُ وَقَدَّمَ تَوْبَتَهُ وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ وَالشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا حتّى تهجم (إِذَا هَجَمَتْ) مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى شقْوَةِ نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ لا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ وَلا تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ وَلا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَلا كَآبَةٌ

ص: 245


1- معجم الادباء: 12/14.

فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ

ذكر عباد اللَّه لبيان وجوب اتّقائه تعالى، فانّ العبد يجب عليه اتّقاء مولاه والأمر باتّقائه تعالى في الكتاب العزيز كثير:

منها: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ»(1).

ومنها: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ»(2).

ومنها: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(3).

ومنها: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(4).

ومنها: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(5).

ومنها: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(6).

ومنها: «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(7).

«وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(8).

وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ

قال تعالى: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(9).

ص: 246


1- المائدة: 96.
2- المائدة: 88.
3- المائدة: 57.
4- المائدة: 8.
5- المائدة: 4.
6- المائدة: 2.
7- الحجرات: 10.
8- آل عمران: 200.
9- المنافقون: 10 - 11.

وقال تعالى: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ»(1).

وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ

قال تعالى: «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ»(2).

وقال تعالى: «وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ»(3).

وقال تعالى: «وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا»(4).

وقال تعالى: «وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(5).

وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(6).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ

ص: 247


1- الزمر: 55 - 59.
2- النحل: 96.
3- الانعام: 94.
4- الكهف: 46.
5- الشورى: 36.
6- التوبة: 111.

خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1).

وَتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ

قال عليه السلام في الديوان المنسوب إليه:

تزود من الدنيا فإنك راحل * وبادر فإن الموت لا شك نازل

ألا إنما الدنيا كمنزل راكب * أناخ عشيا وهو في الصبح راحل(2)

وقال عليه السلام:

إنما الدنيا كظل زائل * أو كضيف بات ليلا فارتحل

أو كنوم قد يراه نائم * أو كبرق لاح في أفق الأمل(3)

وقال الشاعر:

انّما الدنيا كرؤيا افرحت * من رأها ساعة ثمّ انقضت(4)

وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ

بالاسناد عن أبي محمد العسكري عن آبائه عليهم السلام قال: قيل لأميرالمؤمنين عليه السلام ما الاستعداد للموت قال أداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال على المكارم ثم لا يبالي أن وقع على الموت أو وقع الموت عليه واللَّه ما يبالي ابن أبي طالب أن

ص: 248


1- الصف: 10 و11 و12.
2- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 315.
3- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 312.
4- معارج نهج البلاغة (علي بن زيد البيهقي): 324.

وقع على الموت أو وقع الموت عليه(1).

سأل رجل من الأنصار رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال من أكيس الناس وأكرم الناس؟ فقال صلى الله عليه وآله أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة(2).

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: كان عيسى ابن مريم عليه السلام يقول هول لا تدري متى يلقاك ما يمنعك أن تستعد له قبل أن يفجأك(3).

قال النبيّ صلى الله عليه وآله لأبي ذر الغفاري جدّد السّفينة فانّ البحر عميق، وخذ الزّاد كاملا فإنّ السّفر بعيد، وخفّف الحمل فانّ العقبة شديد، واخلص العمل فانّ النّاقد بصير(4).

في الديوان المنسوب إليه عليه السلام:

إلى م تجر أذيال التصابي * وشيبك قد نضا برد الشباب

بلال الشيب في فوديك نادى * بأعلى الصوت حي على الذهاب

خلقت من التراب وعن قريب * تغيب تحت أطباق التراب

طمعت إقامة في دار ظعن * فلا تطمع فرجلك في الركاب

وأرخيت الحجاب وسوف يأتي * رسول ليس يحجب بالحجاب

أ عامر قصرك المرفوع اقصر * فإنك ساكن القبر الخراب(5)

وللأخطل:

ص: 249


1- عيون أخبار الرضاعليه السلام: 1/297، ح 54؛ بحار الأنوار: 41/7، ح 9.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بمجموعة ورام: 269.
3- الزهد: 81، ح 218؛ بحار الأنوار: 68/267، ح 15.
4- المواعظ العددية: 269 الباب الرابع الفصل الثاني.
5- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 83.

ونفس المرء ترصدها المنايا * وتحدّ رحوله حتى يصابا

إذا أمرت به التفت عليه * أحدّ سلاحها ظفرا ونابا

وَكُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا

قال تعالى: ولا تكونوا كالّذين قال تعالى فيهم: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا...»(1).

إن للَّه سبحانه ملك ينادي في كل يوم يا أهل الدنيا لدوا للموت وابنوا للخراب(2).

روى انّ عيسى عليه السلام مرّ بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق فقال لهم يا معشر الحواريين إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا فقالوا يا روح اللَّه وددنا لو علمنا خبرهم فسأل ربه فأوحى اللَّه إليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى يا أهل القرية فأجابه مجيب لبيك يا روح اللَّه فقال ما حالكم وما قصتكم قال بتنا في عافية وأصبحنا في الهاوية قال وكيف ذلك قال لحبنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصي قال وكيف كان حبكم الدنيا قال حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرحنا وإذا أدبرت حزنا وبكينا قال فما بال أصحابك لم يجيبوني قال لأنهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال كيف أجبتني من بينهم قال لأني كنت فيهم ولم أكن منهم فلما نزل العذاب أصابني معهم فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أنجو منها أم أكبكب فيها فقال المسيح عليه السلام للحواريين أكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم

ص: 250


1- الانعام: 111.
2- غرر الحكم: 234/ ش 185.

على المزابل خير كثير مع عافية الدنيا والآخرة(1).

وَعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا

قال مؤمن آل فرعون لقومه: «يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآْخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ»(2)، وقال صالح عليه السلام لقومه: «أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ»(3).

قيل أوحي اللَّه تعالى إلى موسى عليه السلام يا موسى ما لك ولدار الظالمين إنها ليست لك بدار أخرج منها همك وفارقها بعقلك وبئست الدار هي إلّا للعامل فيها فنعمت الدار هي يا موسى إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم(4).

وقال لقمان لابنه يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها ناس كثير فلتكن سفينتك منها تقوى اللَّه عزوجل وحشوها الإيمان باللَّه عزوجل وشراعها التوكل على اللَّه لعلك ناج وما أراك ناجيا(5).

وقال لقمان لابنه يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعا(6).

وقال رجل لأميرالمؤمنين عليه السلام صف لنا الدنيا فقال وما أصف لك من

ص: 251


1- مجموعة ورام : 1/133 .
2- المؤمن: 39.
3- الشعراء: 146 - 152.
4- مجموعة ورام: 1/132.
5- مجموعة ورام: 1/135؛ بحار الأنوار: 75/299.
6- مجموعة ورام: 1/137؛ بحار الأنوار: 13/422.

دار من صح فيها أمن ومن سقم فيها ندم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن في حلالها الحساب وفي حرامها العقاب(1) اعاذنا اللَّه من حبها بحق محمد وآله.

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى

قال تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»(2).

وقال تعالى: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى»(3).

وفي الحديث القدسي من منتخب التوراة: يابن آدم اني لم أخلقكم عبثا ولا جعلتكم سدى ولا أنا بغافل عما تعملون، وإنكم لن تنالوا ما عندي إلّا بالصبر على ما تكرهون في طلب رضائي، والصبر على طاعتي أيسر عليكم من حر النار، وعذاب الدنيا أيسر عليكم من عذاب الآخرة(4).

وَمَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إن للقبر كلاما في كل يوم يقول أنا بيت الغربة... أنا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار(5).

قال تعالى بعد ذكر نزول الموت بالإنسان: «فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ

ص: 252


1- مجموعة ورام: 1/137.
2- المؤمنون: 115.
3- القيامة: 36 - 40.
4- منهاج البراعة: 4/401.
5- الكافي: 3/242، ح 2؛ بحار الأنوار: 6/267، ح 115.

وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ»(1).

وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ

في تفسير «إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا»(2) المراد: انّه تعالى يعدّ أنفاسهم الباقية في الدّنيا فلا يجاوزون نفسا ممّا قدّرت لهم(3).

وقال البحتري:

وما لبث من يغدو وفي كلّ لحظة * له أجل في مدّة العمر قاتل(4)

وقيل في وصفها:

أحلام نوم أو كظل زائل * إن اللبيب بمثلها لا يخدع(5)

وكان الحسن بن علي عليه السلام يتمثل:

يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها * إن اغترارا بظل زائل حمق(6)

وَإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ

قال ابن أبي الحديد: الغائب المشار إليه هو الموت وقيل: هو الإنسان يسوقه الجديدان إلى الدار التي هي داره الحقيقية وهي الآخرة، وهو في الدّنيا غائب على

ص: 253


1- الواقعة: 88 - 95.
2- مريم: 84.
3- البرهان في تفسير القرآن: 3/730، ح 6933.
4- ديوان البحتري: 2/85.
5- معجم الأدباء: 10/114.
6- اعلام الدين في صفات المؤمنين: 241.

الحقيقة عن داره التي خلق لها(1)، وقال ابن ميثم: المراد به الإنسان، وأمّا الموت فلا يحتمله لفظ الأوبة لأنّه لم يكن، حتّى يرجع(2)، وقال (الخوئي): لمّا كان الإنسان مسبوقا بالعدم، سمّى حلول الموت بالأوبة، إلّا أنّ توصيفه بكون الليل والنهار حاديين له لا يخلوا عن بعد(3) وقال (التستري) التحقيق أنّ الإنسان لمّا كان خلق للموت، فالموت من أوّل وجوده كان مقارنا له، إلّا أنّ الأجل أي: مدّة قدّر له فيها العيش في الدّنيا حال بينه وبينه، فكأنّه غاب بالأجل عنه، فاذا حدا الجديدان الأجل يصدق سرعة أوبة الموت من غيبته. وبالجملة كما أنّه عليه السلام شبّه في الفقرة السابقة مدّة بقاء الإنسان في الدنيا بغاية قصيرة جدا شبّه عليه السلام هنا الموت بمن غاب عنك من أعداءك ثم يرجع إليك سريعا بحدو الجديدين له، وفي عنوان وصيّته عليه السلام لابنه: واعلم، أنّ من كانت مطيّته الليل والنهار، فانّه يسار به، وإن كان واقفا، ويقطع المسافة وإن كان مقيما وادعا(4)، (5).

وَإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ

قال تعالى: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى»(6).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ

ص: 254


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/146.
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم: 2/165.
3- منهاج البراعة للخوئي: 4/403.
4- تحف العقول: 77.
5- بهج الصباغة: 11/129.
6- الليل: 5 - 11.

أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا»(1).

فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً

قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ»(2).

وقال اللَّه تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى»(3).

عن أميرالمؤمنين عليه السلام: ألتقوى حرز لمن عمل بها(4).

وقال عليه السلام: ألتقوى حصن حصين لمن لجأ إليه(5).

وقال عليه السلام: إلجأوا إلى التقوى فإنه جنة منيعة(6).

فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ

تفريع تبييني لتزوّد في اليوم يكون محرزا به النفس في الغد، قال تعالى: «وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ»(7).

وقال تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ»(8).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(9).

ص: 255


1- الانشقاق: 6 - 12.
2- الانعام: 83.
3- البقرة: 197.
4- غرر الحكم: 60، ح 1171
5- غرر الحكم: 83، ح 1594.
6- غرر الحكم: 156، ح 75.
7- الحشر: 18.
8- البقرة: 197.
9- آل عمران: 102.

وقال تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا»(1).

وقال تعالى: «لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ»(2).

وقال تعالى: «لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ»(3).

وقال تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ للَّهِ ِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ»(4).

واعلم انّ جميع خيرات الدّنيا والآخرة جمعت تحت كلمة واحدة وهي التّقوى ولنذكر عدّة من خصالها وآثارها الواردة فيها:

الأولى - المدحة والثّناء قال اللَّه تعالى: في كتابه: «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»(5).

الثّانية - الحفظ والحراسة قال اللَّه تعالى في كتابه: «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا»(6).

ص: 256


1- مريم: 71 - 72.
2- آل عمران: 198.
3- الزمر: 20.
4- الزمر: 73 - 74.
5- آل عمران: 186.
6- آل عمران: 120.

الثّالثة - التأييد والنّصر قال اللَّه تعالى في كتابه: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا»(1) وقوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»(2).

الرّابعة: النّجاة من الشّدائد والرِّزق الحلال قال اللَّه تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ»(3).

الخامسة - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ» الآية(4).

السادسة - غفران الذّنوب قال اللَّه تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ» الآية(5).

السّابعة - محبّة اللَّه تعالى: قال اللَّه تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ»(6).

الثّامنة - قبول الأعمال قال اللَّه تعالى: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»(7).

التّاسعة - الاكرام والاعزار قال اللَّه تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(8).

العاشرة - البشارة عند الموت قال اللَّه تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآْخِرَةِ» الآية(9).

الحادية عشرة - النّجاة من النّار قال اللَّه تعالى: «وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ» الآية(10).

الثّانيه عشرة - الخلود فى الجنّة قال اللَّه تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ

ص: 257


1- النحل : 128 .
2- البقرة: 194.
3- الطلاق: 2 و3.
4- الأحزاب: 70.
5- الأنفال: 29.
6- التوبة: 4.
7- المائدة: 27.
8- الحجرات: 13.
9- يونس: 63 و64.
10- الزمر: 61.

وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(1).(2)

نَصَحَ نَفْسَهُ

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»(3).

وَقَدَّمَ تَوْبَتَهُ

اشارة

قال تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ...»(4).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...»(5) .

قال النبيّ صلى الله عليه وآله: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَغِلُوا وَصِلُوا الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ بِكَثْرَةِ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ(6).

عن أبي عبداللَّه الصادق جعفر بن محمّدعليه السلام قال: مَرَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام عَلَى قَوْمٍ يَبْكُونَ فَقَالَ عَلَى مَا يَبْكِي هَؤُلاءِ فَقِيلَ يَبْكُونَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ قَالَ فَلْيَدَعُوهَا يُغْفَرْ لَهُمْ(7).

ص: 258


1- آل عمران: 133.
2- عدة الداعي: 304.
3- التحريم: 6.
4- النساء: 18.
5- التحريم: 8.
6- الدعوات للراوندي : 237، ح 659؛ بحار الأنوار : 6/19، ح 5 .
7- الأمالي للصدوق : 496، م 75، ح 1؛ بحار الأنوار : 6/20، ح 7 .

عن أبي الحسن عليه السلام في قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» قَالَ عليه السلام: يَتُوبُ الْعَبْدُ ثُمَّ لا يَرْجِعُ فِيهِ وَأَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَّقِي التَّائِبُ(1).

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قَالَ النَّبِيُ صلى الله عليه وآله: يَلْزَمُ الْحَقُّ لِأُمَّتِي فِي أَرْبَعٍ يُحِبُّونَ التَّائِبَ وَيَرْحَمُونَ الضَّعِيفَ وَيُعِينُونَ الْمُحْسِنَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُذْنِبِ(2).

وقت التوبة

انّ التوبة وقتها من أوّل التكليف إلى حين الموت إلّا انّها كلّما كانت أقرب وأسرع إلى العمل الّذي يتوب عنه فهي أولى فيجب عليه التوبة آناً فآناً ويدلّ عليه:

ما روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: مَا زَالَتِ الْأَرْضُ إِلّا وَللَّهِ ِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيهَا حُجَّةٌ يُعَرِّفُ الْحَلالَ وَالْحَرَامَ وَيَدْعُو إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا تَنْقَطِعُ الْحُجَّةُ مِنَ الْأَرْضِ إِلّا أَرْبَعِينَ يَوْماً قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِذَا رُفِعَتِ الْحُجَّةُ أُغْلِقَتْ أَبْوَابُ التَّوْبَةِ وَلَمْ يَنْفَعْ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُرْفَعَ الْحُجَّةُ أُولَئِكَ شِرَارُ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ وَهُمُ الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ الْقِيَامَةُ(3)

وما روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام أو عن أبي جعفرعليه السلام قال: إِنَّ آدَمَ عليه السلام قَالَ: يَا رَبِّ سَلَّطْتَ عَلَيَّ الشَّيْطَانَ وَأَجْرَيْتَهُ مِنِّي مَجْرَى الدَّمِ فَاجْعَلْ لِي شَيْئاً فَقَالَ يَا آدَمُ جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ هَمَّ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَمَنْ هَمَّ مِنْهُمْ بِحَسَنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ هُوَ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْراً قَالَ يَا رَبِّ

ص: 259


1- تفسير القمي : 2/377؛ بحار الأنوار : 6/20، ح 8 .
2- الخصال : 1/239، ح 88؛ بحار الأنوار : 6/20، ح 10 .
3- المحاسن : 1/236، ح 202؛ بحار الأنوار : 6/18، ح 1 .

زِدْنِي قَالَ جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ سَيِّئَةً ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ غَفَرْتُ لَهُ قَالَ يَا رَبِّ زِدْنِي قَالَ جَعَلْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ أَوْ قَالَ بَسَطْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ حَتَّى تَبْلُغَ النَّفْسُ هَذِهِ قَالَ يَا رَبِّ حَسْبِي(1).

صحّة التوبة

صحّة التّوبة عن كلّ ذنب وان عظم الّا الشّرك باللَّه تعالى على ما نطق به القرآن حيث قال اللَّه تعالى فيه: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ»(2) ويدلّ على الاوّل قوله تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ»(3).

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الدَّوْسِيِّ قَالَ: دَخَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله بَاكِياً فَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا مُعَاذُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بِالْبَابِ شَابّاً طَرِيَّ الْجَسَدِ نَقِيَّ اللَّوْنِ حَسَنَ الصُّورَةِ يَبْكِي عَلَى شَبَابِهِ بُكَاءَ الثَّكْلَى عَلَى وَلَدِهَا يُرِيدُ الدُّخُولَ عَلَيْكَ فَقَالَ النَّبِيُ صلى الله عليه وآله: أَدْخِلْ عَلَيَّ الشَّابَّ يَا مُعَاذُ فَأَدْخَلَهُ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا شَابُّ؟ قَالَ: كَيْفَ لا أَبْكِي وَقَدْ رَكِبْتُ ذُنُوباً إِنْ أَخَذَنِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَعْضِهَا أَدْخَلَنِي نَارَ جَهَنَّمَ وَلا أَرَانِي إِلّا سَيَأْخُذُنِي بِهَا وَلا يَغْفِرُ لِي أَبَداً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: هَلْ أَشْرَكْتَ بِاللَّهِ شَيْئاً؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أُشْرِكَ بِرَبِّي شَيْئاً قَالَ: أَ قَتَلْتَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ؟ قَالَ لا: فَقَالَ النَّبِيُ صلى الله عليه وآله: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ ذُنُوبَكَ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي فَقَالَ الشَّابُّ: فَإِنَّهَا

ص: 260


1- روضة المتقين ( ط - القديمة ) : 12/101؛ بحار الأنوار : 6/18، ح 2 .
2- النساء: 48.
3- الزمر: 53.

أَعْظَمُ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي فَقَالَ النَّبِيُ صلى الله عليه وآله: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ ذُنُوبَكَ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ َبِحَارِهَا؛ وَرِمَالِهَا وَأَشْجَارِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَلْقِ قَالَ: فَإِنَّهَا أَعْظَمُ مِنَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَبِحَارِهَا وَرِمَالِهَا وَأَشْجَارِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَلْقِ فَقَالَ النَّبِيُ صلى الله عليه وآله: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ ذُنُوبَكَ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ السَّمَاوَاتِ وَنُجُومِهَا وَمِثْلَ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ قَالَ: فَإِنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَنَظَرَ النَّبِيُ صلى الله عليه وآله إِلَيْهِ كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا شَابُّ ذُنُوبُكَ أَعْظَمُ أَمْ رَبُّكَ فَخَرَّ الشَّابُّ لِوَجْهِهِ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي مَا شَيْ ءٌ أَعْظَمَ مِنْ رَبِّي رَبِّي أَعْظَمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ فَقَالَ النَّبِيُ صلى الله عليه وآله: فَهَلْ يَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ إِلّا الرَّبُّ الْعَظِيمُ؟ قَالَ الشَّابُّ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ سَكَتَ الشَّابُّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُ صلى الله عليه وآله: وَيْحَكَ يَا شَابُّ أَلا تُخْبِرُنِي بِذَنْبٍ وَاحِدٍ مِنْ ذُنُوبِكَ؟ قَالَ: بَلَى أُخْبِرُكَ إِنِّي كُنْتُ أَنْبُشُ الْقُبُورَ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرِجُ الْأَمْوَاتَ وَأَنْزِعُ الْأَكْفَانَ فَمَاتَتْ جَارِيَةٌ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا حُمِلَتْ إِلَى قَبْرِهَا وَدُفِنَتْ وَانْصَرَفَ عَنْهَا أَهْلُهَا وَجَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ أَتَيْتُ قَبْرَهَا فَنَبَشْتُهَا ثُمَّ اسْتَخْرَجْتُهَا وَنَزَعْتُ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنْ أَكْفَانِهَا وَتَرَكْتُهَا مُتَجَرِّدَةً عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهَا وَمَضَيْتُ مُنْصَرِفاً فَأَتَانِي الشَّيْطَانُ فَأَقْبَلَ يُزَيِّنُهَا لِي وَيَقُولُ أَ مَا تَرَى بَطْنَهَا وَبَيَاضَهَا أَ مَا تَرَى وَرِكَيْهَا فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ لِي هَذَا حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهَا وَلَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي حَتَّى جَامَعْتُهَا وَتَرَكْتُهَا مَكَانَهَا فَإِذَا أَنَا بِصَوْتٍ مِنْ وَرَائِي يَقُولُ يَا شَابُّ وَيْلٌ لَكَ مِنْ دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ يَوْمَ يَقِفُنِي وَإِيَّاكَ كَمَا تَرَكْتَنِي عُرْيَانَةً فِي عَسَاكِرِ الْمَوْتَى وَنَزَعْتَنِي مِنْ حُفْرَتِي وَسَلَبْتَنِي أَكْفَانِي وَتَرَكْتَنِي أَقُومُ جُنُبَةً إِلَى حِسَابِي فَوَيْلٌ لِشَبَابِكَ مِنَ النَّارِ فَمَا أَظُنُّ أَنِّي أَشَمُّ رِيحَ الْجَنَّةِ أَبَداً فَمَا تَرَى لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُ صلى الله عليه وآله تَنَحَّ عَنِّي يَا فَاسِقُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَحْتَرِقَ بِنَارِكَ فَمَا أَقْرَبَكَ مِنَ النَّارِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عليه السلام يَقُولُ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَتَّى أَمْعَنَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَذَهَبَ

ص: 261

فَأَتَى الْمَدِينَةَ فَتَزَوَّدَ مِنْهَا ثُمَّ أَتَى بَعْضَ جِبَالِهَا فَتَعَبَّدَ فِيهَا وَلَبِسَ مِسْحاً وَغَلَّ يَدَيْهِ جَمِيعاً إِلَى عُنُقِهِ وَنَادَى يَا رَبِّ هَذَا عَبْدُكَ بُهْلُولٌ بَيْنَ يَدَيْكَ مَغْلُولٌ يَا رَبِّ أَنْتَ الَّذِي تَعْرِفُنِي وَزَلَّ مِنِّي مَا تَعْلَمُ سَيِّدِي يَا رَبِّ أَصْبَحْتُ مِنَ النَّادِمِينَ وَأَتَيْتُ نَبِيَّكَ تَائِباً فَطَرَدَنِي وَزَادَنِي خَوْفاً فَأَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ وَجَلالِكَ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِكَ أَنْ لا تُخَيِّبَ رَجَائِي سَيِّدِي وَلا تُبْطِلْ دُعَائِي وَلا تُقَنِّطْنِي مِنْ رَحْمَتِكَ فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَلَيْلَةً تَبْكِي لَهُ السِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ فَلَمَّا تَمَّتْ لَهُ أَرْبَعُونَ يَوْماً وَلَيْلَةً رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللَّهُمَّ مَا فَعَلْتَ فِي حَاجَتِي إِنْ كُنْتَ اسْتَجَبْتَ دُعَائِي وَغَفَرْتَ خَطِيئَتِي فَأَوْحِ إِلَى نَبِيِّكَ وَإِنْ لَمْ تَسْتَجِبْ لِي دُعَائِي وَلَمْ تَغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَأَرَدْتَ عُقُوبَتِي فَعَجِّلْ بِنَارٍ تُحْرِقُنِي أَوْ عُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا تُهْلِكُنِي وَخَلِّصْنِي مِنْ فَضِيحَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» يَعْنِي الزِّنَا «أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»(1) يَعْنِي بِارْتِكَابِ ذَنْبٍ أَعْظَمَ مِنَ الزِّنَا وَنَبْشِ الْقُبُورِ وَأَخْذِ الْأَكْفَانِ «ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» يَقُولُ خَافُوا اللَّهَ فَعَجَّلُوا التَّوْبَةَ «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلّا اللَّهُ» يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ أَتَاكَ عَبْدِي يَا مُحَمَّدُ تَائِباً فَطَرَدْتَهُ فَأَيْنَ يَذْهَبُ وَإِلَى مَنْ يَقْصِدُ وَمَنْ يَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ ذَنْباً غَيْرِي ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» يَقُولُ لَمْ يُقِيمُوا عَلَى الزِّنَا وَنَبْشِ الْقُبُورِ وَأَخْذِ الْأَكْفَانِ «أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ»(2) فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله خَرَجَ وَهُوَ يَتْلُوهَا وَيَتَبَسَّمُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى ذَلِكَ الشَّابِّ التَّائِبِ فَقَالَ مُعَاذٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنَا أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله بِأَصْحَابِهِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى ذَلِكَ

ص: 262


1- آل عمران : 135 .
2- آل عمران : 136 .

الْجَبَلِ فَصَعِدُوا إِلَيْهِ يَطْلُبُونَ الشَّابَّ فَإِذَا هُمْ بِالشَّابِّ قَائِمٌ بَيْنَ صَخْرَتَيْنِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ وَتَسَاقَطَتْ أَشْفَارُ عَيْنَيْهِ مِنَ الْبُكَاءِ وَهُوَ يَقُولُ سَيِّدِي قَدْ أَحْسَنْتَ خَلْقِي وَأَحْسَنْتَ صُورَتِي فَلَيْتَ شِعْرِي مَا ذَا تُرِيدُ بِي أَ فِي النَّارِ تُحْرِقُنِي أَوْ فِي جِوَارِكَ تُسْكِنُنِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ الْإِحْسَانَ إِلَيَّ وَأَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَيْتَ شِعْرِي مَا ذَا يَكُونُ آخِرُ أَمْرِي إِلَى الْجَنَّةِ تَزِفُّنِي أَمْ إِلَى النَّارِ تَسُوقُنِي اللَّهُمَّ إِنَّ خَطِيئَتِي أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمِنْ كُرْسِيِّكَ الْوَاسِعِ وَعَرْشِكَ الْعَظِيمِ فَلَيْتَ شِعْرِي تَغْفِرُ خَطِيئَتِي أَمْ تَفْضَحُنِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ نَحْوَ هَذَا وَهُوَ يَبْكِي وَيَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ السِّبَاعُ وَصَفَّتْ فَوْقَهُ الطَّيْرُ وَهُمْ يَبْكُونَ لِبُكَائِهِ فَدَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله فَأَطْلَقَ يَدَيْهِ مِنْ عُنُقِهِ وَنَفَضَ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ وَقَالَ يَا بُهْلُولُ أَبْشِرْ فَإِنَّكَ عَتِيقُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ ثُمَّ قَالَ عليه السلام: لِأَصْحَابِهِ هَكَذَا تَدَارَكُوا الذُّنُوبَ كَمَا تَدَارَكَهَا بُهْلُولٌ ثُمَّ تَلا عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ وَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ(1).

عدم رجوع العبد إلى العمل الذي تاب عنه ثانياً لأنّه يكون كالمستهزئ باللَّه

عن جابر عن أبي جعفرعليه السلام قال: سمعته يقول: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ وَالْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ وَهُوَ مُسْتَغْفِرٌ مِنْهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ(2).

ص: 263


1- الأمالي للصدوق : 42، م 11، ح 3؛ بحار الأنوار : 6/23، ح 26 .
2- الكافي: 2/435، ح 10؛ بحار الأنوار: 6/41، ح 75.

وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ

اشارة

قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(1).

للقوّة الشهويّة (لهذه القوّة) مصاديق كثيرة

منها - شهوة البطن والفرج وشدّة الحرص على الاكل والجماع ولا ريب في انّ الافراط فيها مذموم مطرود.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من وقي شر قبقبه ولقلقه ذبذبه فقد وقي الشر كله والقبقب البطن واللقلق اللسان والذبذب الفرج(2).

وقال النبيّ صلى الله عليه وآله: وَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنَ الْقَبْقَبَيْنِ فَقِيلَ وَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَلْقُ وَالْفَرْجُ(3).

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: أَكْثَرُ مَا تَلِجُ بِهِ أُمَّتِي النَّارَ الْأَجْوَفَانِ الْبَطْنُ وَالْفَرْجُ(4).

وقال صلى الله عليه وآله: ثلاث أخافهنّ على أُمّتي من بعدي، الضلالة بعد المعرفة ومضلّات الفتن وشهوة البطن والفرج(5).

وقال صلى الله عليه وآله: مَا مَلَأَ الآْدَمِيُّ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ فَإِنْ كَانَ وَلا بُدَّ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ

ص: 264


1- النازعات: 40 - 41.
2- ارشاد القلوب للديلمي: 1/103.
3- مصباح الشريعة : 78؛ بحار الأنوار : 63/337، ح 33 .
4- الكافي : 2/79، ح 5؛ بحار الأنوار : 68/269، ح 5 .
5- الكافي : 2/79، ح 6؛ بحار الأنوار : 68/272، ح 16 .

لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ(1).

وقال صلى الله عليه وآله: لا تُمِيتُوا الْقُلُوبَ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَمُوتُ كَالزَّرْعِ إِذَا أَكْثَرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ(2).

وقال صلى الله عليه وآله: أفضلكم منزلة عند اللَّه تعالى أطولكم جوعا وتفكرا وأبغضكم إلى اللَّه تعالى كل نئوم. وأكول وشروب(3).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعَاءٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُنَافِقُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ(4).

وقال صلى الله عليه وآله: إن أبغض الناس إلى اللَّه المتخمون(5) الملاء وما ترك العبد أكلة يشتهيها إلا كانت له درجة في الجنة(6).

وعن أبي عبداللَّه عليه السلام: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: أَطْوَلُ النَّاسِ جُوعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ شِبَعاً فِي الدُّنْيَا(7).

وقال صلى الله عليه وآله: لا يدخل ملكوت السماوات والأرض من ملأ بطنه(8).

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: بِئْسَ الْعَوْنُ عَلَى الدِّينِ قَلْبٌ نَخِيبٌ

ص: 265


1- مجموعة ورام : 1/100؛ بحار الأنوار : 1/226، ح 17 .
2- مكارم الأخلاق : 150؛ بحار الأنوار : 63/331، ح 7 .
3- مجموعة ورام : 1/100 .
4- مصباح الشريعة : 78 ومستدرك الوسائل : 16/211، ح 19627 - 12 .
5- التخمة ثقل الأكل وفي بعض النسخ المتجشمون : من جشأ وهو ريح يخرج من الفم مع صوت عند الشبع .
6- مجموعة ورام : 1/102 .
7- المحاسن : 2/447؛ بحار الأنوار : 63/239، ح 14 .
8- مجموعة ورام : 1/100 .

وَبَطْنٌ رَغِيبٌ وَنَعْظٌ شَدِيدٌ(1).

وقال الباقرعليه السلام: إِذَا شَبِعَ الْبَطْنُ طَغَى(2).

وقال أبوجعفرعليه السلام: ما من شي ء أبغض إلى اللَّه من بطن مملو(3).

والرّوايات في ذمّ الافراط في شهوة الفرج ايضاً كثيره نشير إلى بعض منها.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: في بعض دعواته اللّهمّ انّي أعوذ بك من شرّ سمعي وبصري وقلبي وشرّ منيّي(4).

وقال صلى الله عليه وآله: اذا قام ذكر الرّجل ذهب ثلثا عقله(5).

وقال صلى الله عليه وآله: النّساء حبائل الشّيطان(6) وامثال ذلك من الاخبار.

ومنها - شهوة الدّنيا وحبّها وقد جمعها اللَّه تعالى في قوله: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» الآية(7).

ومنها - حبّ المال وهو من شعب حبّ الدّنيا اذ حبّ الدّنيا يتناول حبّ كل حظّ عاجل والمال بعض اجزاء الدّنيا كما انّ الجاه بعضها واتباع شهوة البطن والفرج بعضها وتشفّى الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها والكبر وطلب العلوّ بعضها وبالجملة لها ابعاض كثيرة ولكن أعظم آفاتها المتعلّقة بالقوة الشّهوية هو المال اذ

ص: 266


1- الكافي : 6/269، ح 3؛ بحار الأنوار : 63/335، ح 20 .
2- الكافي : 6/270، ح 10 ووسال الشيعة : 24/243، ح 30444 - 1 .
3- الفصول المهمة في اصول الأئمة: 2/437، ح 2218؛ بحار الأنوار: 63/331، ح 5.
4- احياء العلوم: 4/109 وجامع السعادات: 2/7.
5- احياء العلوم: 4/109 وجامع السعادات: 2/8.
6- جامع السعادات: 2/8.
7- آل عمران: 14.

كلّ ذي روح محتاج إليه ولا غناء له عنه فان فقد حصل الفقر الّذي يكاد أن يكون كفرا وان وجد حصل منه الطغيان الّذي لا تكون عاقبة امره الّا خسرا فهو لا يخلو من فوائد وآفات وفوائده من المنجيات وآفاته من المهلكات وتمييز خيرها وشرّها من المشكلات(1).

قال اللَّه سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(2).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل(3).

وقال صلى الله عليه وآله: «ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادا من حب المال والجاه في دين الرجل المسلم(4).

وعن أميرالمؤمنين عليه السلام قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إن الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم(5).

قال صلى الله عليه وآله: لكلّ امّة عجل وعجل هذه الامّة الدّينار والدّرهم(6).

والرّوايات في ذمّة كثيرة كما انّ الأخبار الواردة في مدحة أيضاً كثيرة والجمع بينهما هو انّ اخبار الذّم تحمل على حبّه لأجل نفسه واخبار المدح تحمل على مدحه باعتبار حبّه لاجل الآخرة.

ومنها - الغني وهو وجود كلّ ما يحتاج إليه من الأموال وهذا اقلّ مراتبه وفوق

ص: 267


1- جامع السعادات: 2/35.
2- المنافقون: 9.
3- مجموعة ورام: 1/655.
4- جامع السعادات: 2/36.
5- الكافي: 2/316، ح 6؛ بحار الأنوار: 70/23، ح 12.
6- جامع السعادات: 2/36.

ذلك مراتب لا تحصى حتّى ينتهى إلى جمع اكثر اموال الدّنيا كما اتّفق لبعض الملوك(1) وهو ايضاً يرجع إلى حبّ المال بعينه فالكلام فيه هو الكلام فيه.

ومنها - الحرص وهو معنى راتب في النفس، باعث على جميع ما لا يحتاج إليه ولا يفيده من الأموال، من دون أن ينتهي إلى حد يكتفي به، وهو أقوى شعب حب الدنيا وأشهر أنواعه. ولا ريب في كونه ملكة مهلكة وصفة مضلة(2).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى وراءهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب على من تاب(3).

عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال(4).

وقال صلى الله عليه وآله: «يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص، وطول الأمل(5).

ومنها - الطّمع وهو التّوقع من النّاس في أموالهم وهو أيضاً من شعب حبّ الدنيا ومن انواعه ومن الرّذائل المهلكة(6).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: ايّاك والطّمع فانّه الفقر الحاضر(7).

وقال الباقرعليه السلام بئس العبد عبد له طمع يقوده وبئس العبد عبد له رغبة تذلّه(8).

وعن سعدان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له ما الذي يثبت الإيمان في العبد قال الورع والذي يخرجه منه قال الطمع(9).

ص: 268


1- جامع السعادات: 2/59.
2- جامع السعادات: 2/77.
3- مجموعة ورام: 1/163.
4- شرح اصول الكافي (صدرا): 1/388.
5- جامع السعادات: 2/78.
6- جامع السعادات: 2/82.
7- المحاسن: 1/16، ح 46؛ بحار الأنوار: 74/129، ح 36.
8- الكافي: 2/320، ح 2؛ بحار الأنوار: 70/170، ح 9.
9- الكافي: 2/320، ح 4؛ بحار الأنوار: 70/171، ح 12.

ومنها - البخل وهو الامساك حيث ينبغي البذل وهو أيضاً من الصّفات المذمومة ومن ثمرات حبّ الدّنيا ونتائجه وهو من خبائث الصّفات ورذائل الاخلاق والآيات والأخبار في ذمّه أيضاً كثيرة(1).

قال اللَّه تعالى: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» الآية(2).

وقال تعالى: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الآية(3).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم(4).

وقال صلى الله عليه وآله: لا يدخل الجنّة بخيل ولا خبّ ولا خائن ولا سي ء الملكة(5).

وقال صلى الله عليه وآله: البخيل بعيد من اللَّه بعيد من النّاس بعيد من الجنّة قريب من النّار(6).

وقال صلى الله عليه وآله: جاهل سخىّ أحبّ إلى اللَّه من عابد بخيل وادوى الدّاء البخل(7) والأحاديث في ذمّه أيضاً كثيرة.

ومنها: طلب الحرام وعدم الاجتناب عنه وهو من اعظم المهلكات وبه هلك اكثر من هلك وقد وردت الآيات والأخبار في ذمّه أيضاً(8).

عن سليمان بن خالد قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام - عن قول اللَّه عزوجل -

ص: 269


1- جامع السعادات: 2/84 - 85.
2- النساء: 37.
3- آل عمران: 180.
4- مجموعة ورام: 1/171.
5- مجموعة ورام: 1/171.
6- مجموعة ورام: 1/171؛ بحار الأنوار: 68/355، ح 17.
7- جامع السعادات : 2/85 .
8- جامع السعادات: 2/127.

«وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا»(1) قال أما واللَّه إن كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي(2) ولكن كانوا إذا عرض لهم الحرام لم يدعوه(3).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: «إن للَّه ملكا على بيت المقدس، ينادي كل ليلة: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل» أي لا نافلة ولا فريضة(4).

وقال صلى الله عليه وآله: «من لم يبال من أين اكتسب المال، لم يبال اللَّه من أين أدخله النار»(5).

وقال صلى الله عليه وآله: «كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به»(6).

وقال صلى الله عليه وآله: «من أصاب مالا من مأثم، فوصل به رحما أو تصدق به أو أنفقه في سبيل اللَّه، جمع اللَّه ذلك جمعا، ثم أدخله في النار(7).

وقال صلى الله عليه وآله «إن أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي هذه المكاسب الحرام، والشهوة الخفية والربا»(8).

وقال صلى الله عليه وآله: «من اكتسب مالا من الحرام، فإن تصدق به لم يقبل منه، وإن تركه وراءه كان زاده إلى النار»(9).

ومنها - الغدر والخيانة في المال أو العرض أو الجاه وفسادهما أيضاً ممّا لا يخفى(10).

ص: 270


1- الفرقان: 23.
2- القباطي: جمع قبطية وهي ثياب مصرية رقيقة بيضاء (النهاية 4/6).
3- الكافي: 2/81، ح 5؛ بحار الأنوار: 68/196، ح 6.
4- إحياء العلوم: 5/22 وجامع السعادات: 2/127.
5- جامع السعادات: 2/127.
6- نفس المصدر.
7- جامع السعادات: 2/128.
8- نفس المصدر.
9- نفس المصدر.
10- جامع السعادات: 2/139.

ومنها - أنواع الفجور من الزّنا واللّواط وشرب الخمر وامثال ذلك وقد وردت في ذمّ كلّ واحد منها بخصوصه اخبار كثيره لا حاجة إلى ذكرها(1).

ومنها - الخوض في الباطل وهو التّكلم في المعاصي والفجور(2).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: اعظم النّاس خطايا (أكثر النّاس خطايا) يوم القيامة اكثرهم خوضا في الباطل(3).

واليه الاشارة بقوله تعالى: «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ»(4).

وقوله تعالى: «فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»(5).

ومنها - التّكلم بما لا يعني أو بالفضول وهو أيضاً مذموم(6).

روي: «أنه استشهد يوم أحد غلام من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، ووجد على بطنه حجر مربوط من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه، وقالت: هنيئا لك الجنة يا بني! فقال النبي صلى الله عليه وآله: وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره؟»(7).

وورد أيضاً: «أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال لبعض أصحابه - وهو مريض - : أبشر. فقالت أمه: هنيئا لك الجنة! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: وما يدريك؟ لعله قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يعنيه؟»: يعني إنّما تتهنأ الجنة لمن لا يحاسب، ومن يتكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه، وإن كان كلامه مباحا، فلا تتهنأ له الجنة مع المناقشة في الحساب،

ص: 271


1- جامع السعادات: 2/140.
2- جامع السعادات: 2/140.
3- جامع السعادات: 2/141.
4- المدثر: 45.
5- النساء: 139.
6- جامع السعادات: 2/142.
7- بحار الأنوار: 105/105 وجامع السعادات: 2/142.

فإنه نوع من العذاب(1).

وروي: «أنه تكلّم رجل عند النبي صلى الله عليه وآله فأكثر، فقال له النبي: كم دون لسانك من حجاب؟ فقال: شفتاي وأسناني. فقال: أفما كان في ذلك ما يرد كلامك؟»(2).

وفي رواية أخرى: «إنه قال ذلك في رجل أثنى عليه، فاستهتر في الكلام، ثم قال: ما أوتي رجل شرا من فضل في لسانه»(3).

فهذه هي الأمور التّي لا بدّ للانسان الاجتناب منها في حياته.

فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ

قال تعالى: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ»(4).

وقال تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا»(5).

وقال تعالى: «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ»(6).

قال الصادق عليه السلام: يا مفضل ما سُتِرَ عن الإنسان علمُهُ من مدة حياته فإنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف

ص: 272


1- احياء العلوم: 8/207 وجامع السعادات: 2/142.
2- احياء العلوم: 8/211 وجامع السعادات: 2/142.
3- احياء العلوم: 8/211 وجامع السعادات: 2/143.
4- الانعام: 2.
5- آل عمران: 145.
6- لقمان: 34.

منه فيسكن إلى ذلك ومن أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس وإن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء وانهمك في اللذات والمعاصي وعمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره وهذا مذهب لا يرضاه اللَّه من عباده ولا يقبله(1).

لمّا احتضر المعتصم جعل يقول: إنّي اخذت من بين هذا الخلق(2).

وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ

قال تعالى: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ»(3).

قال أميرالمؤمنين عليه السلام: ما اطال عبد الامل الّا اساء العمل(4).

وقال عليه السلام لو رأى العبد اجله وسرعته إليه لأبغض الامل وطلب الدّنيا(5).

وقال عليه السلام: كم من أكلة تمنع اكلات(6) وقال لو رأى العبد الاجل ومسيره لأبغض الامل وغروره(7).

قال المعتصم: لو علمت أنّ عمري هكذا قصير ما فعلت ما فعلت، وكان عمره ستّا وأربعين أو سبعا وأربعين أو ثمانيا وأربعين، قال هو ثامن الخلفاء والثّامن من ولد العبّاس ومات عن ثمانية بنين وثماني بنات وملك ثمان سنين وثمانية أشهر(8).

ص: 273


1- توحيد المفضل: 82؛ بحار الأنوار: 3/83.
2- تاريخ الطبري: 7/314.
3- الحجر: 3.
4- الزهد: 81، ح 217؛ بحار الأنوار: 70/166، ح 28.
5- نفس المصدر.
6- نهج البلاغة (فيض الاسلام): الرقم 162 من الحكم.
7- نفس المصدر: الرقم 328 من الحكم.
8- تاريخ الطبري: 7/314.

وَالشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ» الآية(1).

وقال تعالى: «وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا»(2).

وقال تعالى: «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ» الآية(3).

وقال تعالى: «وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا»(4).

وقال تعالى: «إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا»(5) وكثير من الآيات.

أمّا الأخبار:

منها: عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: مَا مِنْ قَلْبٍ إِلّا وَلَهُ أُذُنَانِ عَلَى إِحْدَاهُمَا مَلَكٌ مُرْشِدٌ وَعَلَى الْأُخْرَى شَيْطَانٌ مُفْتِنٌ هَذَا يَأْمُرُهُ وَهَذَا يَزْجُرُهُ الشَّيْطَانُ يَأْمُرُهُ بِالْمَعَاصِي وَالْمَلَكُ يَزْجُرُهُ عَنْهَا وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(6).

ومنها: عن أبي عبداللَّه عن أبيه عليهما السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله إِنَّ عَلَى ذِرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَاناً فَامْتَهِنُوهَا لِأَنْفُسِكُمْ وَذَلِّلُوهَا وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ(7).

ومنها: عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ فَحَّاشٍ بَذِيٍّ قَلِيلِ الْحَيَاءِ لا يُبَالِي مَا قَالَ وَلا مَا قِيلَ لَهُ فَإِنَّكَ إِنْ فَتَّشْتَهُ لَمْ تَجِدْهُ إِلّا لِغَيَّةٍ أَوْ شِرْكِ شَيْطَانٍ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي النَّاسِ شِرْكُ شَيْطَانٍ فَقَالَ صلى الله عليه وآله أَ مَا تَقْرَأُ

ص: 274


1- توحيد المفضل: 82؛ بحار الأنوار: 3/83.
2- النساء: 60.
3- البقرة: 268.
4- النساء: 38.
5- الإسراء: 53.
6- الكافي : 2/266، ح 1؛ بحار الأنوار : 60/205، ح 34 .
7- المحاسن : 2/636، ح 137؛ بحار الأنوار : 60/206، ح 36 .

قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ»(1) الْخَبَرَ(2).

ومنها: عن أبي عبداللَّه عن آبائه عليهم السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله قال لأصحابه: أَ لا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَبَاعَدَ الشَّيْطَانُ مِنْكُمْ كَمَا تَبَاعَدَ الْمَشْرِقُ مِنَ الْمَغْرِبِ قَالُوا بَلَى قَالَ الصَّوْمُ يُسَوِّدُ وَجْهَهُ وَالصَّدَقَةُ تَكْسِرُ ظَهْرَهُ وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْمُوَازَرَةُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَقْطَعُ دَابِرَهُ وَالاسْتِغْفَارُ يَقْطَعُ وَتِينَهُ(3).

ومنها: عن المفضّل بن عمر، قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ عليه السلام: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا لإِبْلِيسَ مِنَ السُّلْطَانِ قَالَ مَا يُوَسْوِسُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ قُلْتُ فَمَا لِمَلَكِ الْمَوْتِ قَالَ يَقْبِضُ أَرْوَاحَ النَّاسِ قُلْتُ وَهُمَا مُسَلَّطَانِ عَلَى مَنْ فِي الْمَشْرِقِ وَمَنْ فِي الْمَغْرِبِ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَمَا لَكَ أَنْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ مِنَ السُّلْطَانِ قَالَ أَعْلَمُ مَا فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَعَدَدَ مَا فِيهِنَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ لإِبْلِيسَ وَلا لِمَلَكِ الْمَوْتِ(4).

قال ابن ميثم: قال النبيّ صلى الله عليه وآله: ما من مولود يولد إلّا ويولد معه قرين من الشيطان(5).

وروى القمي في قوله تعالى: «الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ»(6)، يريد الشيطان لعنه اللَّه على قلب ابن آدم له خرطوم مثل خرطوم الخنزير، يوسوس لابن آدم إذا أقبل على الدّنيا وما لا يحبّ اللَّه، فاذا ذكر اللَّه تعالى

ص: 275


1- الإسراء : 64 .
2- كتاب سليم بن قيس : 2/955، ح 89؛ بحار الأنوار : 60/206، ح 39 .
3- الكافي : 4/62، ح 2؛ بحار الأنوار : 60/261، ح 140 .
4- دلائل الامامة ( ط - الحديثة ) : 268، ح 201/37؛ بحار الأنوار : 60/275، ح 163 .
5- شرح نهج البلاغة لابن ميثم : 2/166 .
6- الناس: 4 - 5.

انخنس، يريد رجع ثم أخبر أنّه من الجنّ والإنس فقال عزوجل: «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ»(1) قال: وقال الصادق عليه السلام: ما من قلب إلّا وله اذنان على إحداهما ملك مرشد، وعلى الأخرى شيطان مفتّن، هذا يأمره، وهذا يزجره، وكذلك من النّاس شيطان يحمل النّاس على المعاصي كما يحمل الشّيطان من الجنّ(2).

عَنْ حَفْصٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: جَاءَ إِبْلِيسُ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَقَالَ لَهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ مَا تَرْجُو مِنْهُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ يُنَاجِي رَبَّهُ فَقَالَ أَرْجُو مِنْهُ مَا رَجَوْتُ مِنْ أَبِيهِ آدَمَ وَهُوَ فِي الْجَنَّة(3).

وفي الخبر: إنّ إبليس تراءى لموسى عليه السلام في الطّور حين أراد مناجاة اللَّه تعالى فقال له: أتطمع فيّ وأنا في هذا المقام قال: نعم كما طمعت في أبيك آدم وهو في الجنّة(4).

يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا

قال عزّوجلّ: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(5).

وقال تعالى: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ»(6).

وقوله تعالى: «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ *

ص: 276


1- الناس : 6 .
2- تفسير القمي: 2/450.
3- الأمالي للصدوق : 666، م 95، ح 2؛ بحار الأنوار : 13/338، ح 14 .
4- بهج الصباغة: 11/134.
5- الانعام: 43.
6- الانفال: 48.

لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ»(1).

عَنِ عليّ بن موسى الرِّضَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ يَأْتِي الْأَنْبِيَاءَعليهم السلام مِنْ لَدُنْ آدَمَ عليه السلام إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ عليه السلام يَتَحَدَّثُ عِنْدَهُمْ وَيُسَائِلُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَشَدَّ أُنْساً مِنْهُ بِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاعليه السلام فَقَالَ لَهُ يَحْيَى يَا أَبَا مُرَّةَ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ لَهُ أَنْتَ أَعْظَمُ قَدْراً مِنْ أَنْ أَرُدَّكَ بِمَسْأَلَةٍ فَاسْأَلْنِي مَا شِئْتَ فَإِنِّي غَيْرُ مُخَالِفِكَ فِي أَمْرٍ تُرِيدُهُ فَقَالَ يَحْيَى يَا أَبَا مُرَّةَ أُحِبُّ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيَّ مَصَايِدَكَ وَفُخُوخَكَ الَّتِي تَصْطَادُ بِهَا بَنِي آدَمَ فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ حُبّاً وَكَرَامَةً وَوَاعَدَهُ لِغَدٍ.

فَلَمَّا أَصْبَحَ يَحْيَى عليه السلام قَعَدَ فِي بَيْتِهِ يَنْتَظِرُ الْمَوْعِدَ وَأَجَافَ(2) عَلَيْهِ الْبَابَ إِغْلاقاً فَمَا شَعَرَ حَتَّى سَاوَاهُ مِنْ خَوْخَةٍ(3) كَانَتْ فِي بَيْتِهِ فَإِذَا وَجْهُهُ صُورَةُ وَجْهِ الْقِرْدِ وَجَسَدُهُ عَلَى صُورَةِ الْخِنْزِيرِ وَإِذَا عَيْنَاهُ مَشْقُوقَتَانِ طُولاً وَإِذَا أَسْنَانُهُ وَفَمُهُ مَشْقُوقاً طُولاً عَظْماً وَاحِداً بِلا ذَقَنٍ وَلا لِحْيَةٍ وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَيْدٍ يَدَانِ فِي صَدْرِهِ وَيَدَانِ فِي مَنْكِبِهِ وَإِذَا عَرَاقِيبُهُ قَوَادِمُهُ وَأَصَابِعُهُ خَلْفَهُ وَعَلَيْهِ قِبَاءٌ قَدْ شَدَّ وَسَطَهُ بِمِنْطَقَةٍ فِيهَا خُيُوطٌ مُعَلَّقَةٌ بَيْنَ أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ وَأَخْضَرَ وَجَمِيع الْأَلْوَانِ وَإِذَا بِيَدِهِ جَرَسٌ عَظِيمٌ وَعَلَى رَأْسِهِ بَيْضَةٌ وَإِذَا فِي الْبَيْضَةِ حَدِيدَةٌ مُعَلَّقَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْكُلّابِ.

فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ يَحْيَى عليه السلام قَالَ لَهُ مَا هَذِهِ الْمِنْطَقَةُ الَّتِي فِي وَسَطِكَ فَقَالَ هَذِهِ الْمَجُوسِيَّةُ أَنَا الَّذِي سَنَنْتُهَا وَزَيَّنْتُهَا لَهُمْ فَقَالَ لَهُ مَا هَذِهِ الْخُيُوطُ الْأَلْوَانُ قَالَ لَهُ هَذِهِ جَمِيعُ أَصْنَاعِ النِّسَاءِ لا تَزَالُ الْمَرْأَةُ تَصْنَعُ الصَّنِيعَ حَتَّى يَقَعَ مَعَ لَوْنِهَا فَأَفْتَتِنَ النَّاسَ بِهَا.

ص: 277


1- الحجر: 39 - 44.
2- أجاف الباب : رده .
3- الخوخة : كوة تؤدي الضوء إلى البيت .

فَقَالَ لَهُ فَمَا هَذَا الْجَرَسُ الَّذِي بِيَدِكَ قَالَ هَذَا مَجْمَعُ كُلِّ لَذَّةٍ مِنْ طُنْبُورٍ وَبَرْبَطٍ(1) وَمِعْزَفَةٍ وَطَبْلٍ وَنَايٍ وَصُرْنَايٍ وَإِنَّ الْقَوْمَ لَيَجْلِسُونَ عَلَى شَرَابِهِمْ فَلا يَسْتَلِذُّونَهُ فَأُحَرِّكُ الْجَرَسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِذَا سَمِعُوهُ اسْتَخَفَّهُمُ الطَّرَبُ فَمِنْ بَيْنِ مَنْ يَرْقُصُ وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يَشُقُّ ثِيَابَهُ.

فَقَالَ لَهُ: وَأَيُّ الْأَشْيَاءِ أَقَرُّ لِعَيْنِكَ قَالَ النِّسَاءُ هُنَّ فُخُوخِي وَمَصَايِدِي فَإِنِّي إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيَّ دَعَوَاتُ الصَّالِحِينَ وَلَعَنَاتُهُمْ صِرْتُ إِلَى النِّسَاءِ فَطَابَتْ نَفْسِي بِهِنَّ.

فَقَالَ لَهُ يَحْيَى عليه السلام: فَمَا هَذِهِ الْبَيْضَةُ الَّتِي عَلَى رَأْسِكَ قَالَ بِهَا أَتَوَقَّى دَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْحَدِيدَةُ الَّتِي أَرَى فِيهَا قَالَ بِهَذِهِ أُقَلِّبُ قُلُوبَ الصَّالِحِينَ.

قَالَ يَحْيَى عليه السلام فَهَلْ ظَفِرْتَ بِي سَاعَةً قَطُّ قَالَ لا وَلَكِنْ فِيكَ خَصْلَةٌ تُعْجِبُنِي قَالَ يَحْيَى عليه السلام فَمَا هِيَ قَالَ أَنْتَ رَجُلٌ أَكُولٌ فَإِذَا أَفْطَرْتَ أَكَلْتَ وَبَشِمْتَ فَيَمْنَعُكَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ صَلاتِكَ وَقِيَامِكَ بِاللَّيْلِ قَالَ يَحْيَى عليه السلام فَإِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْداً أَنِّي لا أَشْبَعُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى أَلْقَاهُ قَالَ لَهُ إِبْلِيسُ وَأَنَا أُعْطِي اللَّهَ عَهْداً أَنِّي لا أَنْصَحُ مُسْلِماً حَتَّى أَلْقَاهُ ثُمَّ خَرَجَ فَمَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ(2).

عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا مَضَى لِعِيسَى عليه السلام ثَلاثُونَ سَنَةً بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَقِيَهُ إِبْلِيسُ عَلَى عَقَبَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ عَقَبَةُ أَفِيقٍ فَقَالَ لَهُ يَا عِيسَى أَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنْ تَكَوَّنْتَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ قَالَ عِيسَى بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي كَوَّنَنِي وَكَذَلِكَ كَوَّنَ آدَمَ وَحَوَّاءَ قَالَ إِبْلِيسُ يَا عِيسَى فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ

ص: 278


1- البربط : العود .
2- الأمالي للطوسي : 339، م 12/ج 692 - 32؛ بحار الأنوار : 14/172، ح 12 .

مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً؟ قَالَ عِيسَى يَا إِبْلِيسُ بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي أَنْطَقَنِي فِي صِغَرِي وَلَوْ شَاءَ لَأَبْكَمَنِي قَالَ إِبْلِيسُ فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَتَنْفُخُ فِيهِ فَيَصِيرُ طَيْراً؟ قَالَ عِيسَى بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَ مَا سَخَّرَ لِي قَالَ إِبْلِيسُ فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَشْفِي الْمَرْضَى؟ قَالَ عِيسَى بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي بِإِذْنِهِ أَشْفِيهِمْ وَإِذَا شَاءَ أَمْرَضَنِي قَالَ إِبْلِيسُ فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى؟ قَالَ عِيسَى بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي بِإِذْنِهِ أُحْيِيهِمْ وَلا بُدَّ مِنْ أَنْ يُمِيتَ مَا أَحْيَيْتُ وَيُمِيتَنِي قَالَ إِبْلِيسُ يَا عِيسَى فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَعْبُرُ الْبَحْرَ فَلا تَبْتَلُّ قَدَمَاكَ وَلا تَرْسُخُ فِيهِ؟ قَالَ عِيسَى بَلِ الْعَظَمَةُ لِلَّذِي ذَلَّلَهُ لِي وَلَوْ شَاءَ أَغْرَقَنِي قَالَ إِبْلِيسُ يَا عِيسَى فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكَ يَوْمٌ تَكُونُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ دُونَكَ وَأَنْتَ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ تُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَتُقَسِّمُ الْأَرْزَاقَ؟ فَأَعْظَمَ عِيسَى عليه السلام ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ إِبْلِيسَ الْكَافِرِ اللَّعِينِ فَقَالَ عِيسَى سُبْحَانَ اللَّهِ مِلْ ءَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَرِضَى نَفْسِهِ قَالَ فَلَمَّا سَمِعَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ لا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً حَتَّى وَقَعَ فِي اللُّجَّةِ الْخَضْرَاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْجِنِّ تَمْشِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ فَإِذَا هِيَ بِإِبْلِيسَ سَاجِداً عَلَى صَخْرَةٍ صَمَّاءَ تَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدَّيْهِ فَقَامَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ تَعَجُّباً ثُمَّ قَالَتْ لَهُ وَيْحَكَ يَا إِبْلِيسُ مَا تَرْجُو بِطُولِ السُّجُودِ فَقَالَ لَهَا أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ابْنَةُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَرْجُو إِذْ أَبَرَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَسَمَهُ وَأَدْخَلَنِي نَارَ جَهَنَّمَ أَنْ يُخْرِجَنِي مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِهِ(1).

ص: 279


1- الامالي للصدوق : 205، م 37، ح 1؛ بحار الأنوار : 14/270، ح 1 .

وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا

قال تعالى: «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً»(1).

عن الصادق عليه السلام قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ»(2) صَعِدَ إِبْلِيسُ جَبَلاً بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ بِعَفَارِيتِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فَمَنْ لَهَا فَقَامَ عِفْرِيتٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَقَالَ أَنَا لَهَا بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَسْتَ لَهَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لَسْتَ لَهَا فَقَالَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ أَنَا لَهَا قَالَ بِمَا ذَا قَالَ أَعِدُهُمْ وَأُمَنِّيهِمْ حَتَّى يُوَاقِعُوا الْخَطِيئَةَ فَإِذَا وَاقَعُوا الْخَطِيئَةَ أَنْسَيْتُهُمُ الاسْتِغْفَارَ فَقَالَ أَنْتَ لَهَا فَوَكَّلَهُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ(3).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لأبي ذر رضى الله عنه: يَا أَبَا ذَرٍّ اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ.

يَا أَبَا ذَرٍّ إِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ بِأَمَلِكَ فَإِنَّكَ بِيَوْمِكَ وَلَسْتَ بِمَا بَعْدَهُ فَإِنْ يَكُنْ غَدٌ لَكَ فَكُنْ فِي الْغَدِ كَمَا كُنْتَ فِي الْيَوْمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَدٌ لَكَ لَمْ تَنْدَمْ عَلَى مَا فَرَّطْتَ فِي الْيَوْمِ.

يَا أَبَا ذَرٍّ كَمْ مِنْ مُسْتَقْبِلٍ يَوْماً لا يَسْتَكْمِلُهُ وَمُنْتَظِرٍ غَداً لا يَبْلُغُهُ.

يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ نَظَرْتَ إِلَى الْأَجَلِ وَمَصِيرِهِ لَأَبْغَضْتَ الْأَمَلَ وَغُرُورَهُ.

يَا أَبَا ذَرٍّ كُنْ كَأَنَّكَ فِي الدُّنْيَا غَرِيبٌ أَوْ كَعَابِرِ سَبِيلٍ وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ.

ص: 280


1- النساء : 120 .
2- آل عمران : 135 .
3- الأمالي للصدوق : 465، م 71، ح 5؛ بحار الأنوار : 60/197، ح 6 .

يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سُقْمِكَ وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ فَإِنَّكَ لا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَدا(1).

ولذلك قال لقمان لابنه: (يابني لا تؤخر التوبة فان الموت يأتي بغتة)، ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين.

أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو.

الثاني أن يعالجه المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو ولذلك أيضاً ورد في الخبر أن أكثر صياح أهل النار من التسويف، فما هلك من هلك إلّا بالتسويف(2) فيكون تسويده القلب نقدا وجلاؤه بالطاعة نسية إلى أن يختطفه الموت فيأتي اللَّه بقلب سقيم ولا ينجو إلّا من أتى اللَّه بقلب سليم، وإلى ما ذكرنا ينظر قوله سبحانه:

«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآْنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا»(3).

ص: 281


1- الأمالي للطوسي : 526، م 19، ح 1؛ بحار الأنوار: 74/75، ح 3 .
2- جامع السعادات: 3/46.
3- النساء: 17 - 18.

إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا

قال تعالى: «وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ»(1).

وقال تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(2).

وقال تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ»(3).

وقال تعالى: «أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(4).

وقال تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآْخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»(5)

وقال تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ»(6).

وقال تعالى: «فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ»(7).

وقال تعالى: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ»(8).

وقال تعالى: «وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ»(9).

ص: 282


1- الكهف: 28.
2- الأعراف: 179.
3- يونس: 7 و8.
4- النحل: 108.
5- الروم: 7.
6- يس: 6.
7- الأعراف: 136.
8- الأعراف: 146.
9- الزمر: 54 - 56.

فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً

قال تعالى: «بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ»(1).

وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ

قال تعالى: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ»(2).

نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ لا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ

قال تعالى: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى»(3).

وقال تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ»(4).

وقال تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ»(5).

عن أميرالمؤمنين عليه السلام: ينبغي للعاقل أن يحترس من سكر المال وسكر القدرة وسكر العلم وسكر المدح وسكر الشباب فإن لكل ذلك رياح خبيثة تسلب العقل وتستخف الوقار(6).

ص: 283


1- الأنبياء: 44.
2- فاطر: 37.
3- العلق: 6 و7.
4- القصص: 58.
5- الانفال: 47.
6- غرر الحكم: 797، ح 27.

وَلا تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ

الغاية وان كانت بمعنى النهاية، إلّا أنّ المراد بها هاهنا المقاصد والثمرات، لإنّها نهايات الأفعال والأعمال، «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ...»(1).

وَلا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَلا كَآبَةٌ

قال تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(2).

وقال تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآْخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ»(3).

هذا وروى (الإرشاد) عنه عليه السلام خطبة أخرى وفي ذيلها جعلنا اللَّه وإيّاكم ممّن لا تبطره نعمة ولا تحلّ به بعد الموت نقمة فإنّما نحن به وله وبيده الخير وَهُوَ عَلى كُلِّ شَي ءٍ قَدِير(4).

ولنعم ما قيل فيه:

ص: 284


1- التوبة: 24.
2- الانعام: 27.
3- الانعام: 30 - 32.
4- الإرشاد: 1/234.

من كان يعلم أنّ الموت يدركه * والقبر مسكنه والبعث يخرجه

وانّه بين جنّات مزخرفه * يوم القيامة أو نارستنضحه

فكلّ شي ء سوى التّقوى به سمج * ومن اقام عليه منه اسمجه

ترى الّذي اتّخذ الدّنيا له وطنا * لم يدر انّ المنايا سوف تزعجه(1)

ص: 285


1- المستطرف في كل فن مستظرف: 2/873.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (64): ومن خطبة له عليه السلام

اشارة

الْحَمْدُ للَّهِ ِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالاً فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرُهُ قَلِيلٌ وَكُلُّ عَزِيزٍ غَيْرُهُ ذَلِيلٌ وَكُلُّ قَوِيٍّ غَيْرُهُ ضَعِيفٌ وَكُلُّ مَالِكٍ غَيْرُهُ مَمْلُوكٌ وَكُلُّ عَالِمٍ غَيْرُهُ مُتَعَلِّمٌ وَكُلُّ قَادِرٍ غَيْرُهُ يَقْدِرُ وَيَعْجَزُ وَكُلُّ سَمِيعٍ غَيْرُهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ وَيُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَكُلُّ بَصِيرٍ غَيْرُهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَلَطِيفِ الْأَجْسَامِ وَكُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرُهُ غَير بَاطِنٌ وَكُلُّ بَاطِنٍ غَيْرُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَلا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ وَلا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ وَلا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ وَلا ضِدٍّ مُنَافِرٍ وَلَكِنْ خَلائِقُ مَرْبُوبُونَ وَعِبَادٌ دَاخِرُونَ لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ فيها كَائِنٌ وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ وَلا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَلا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ وَلا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَقَدَّرَ بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ وَأَمْرٌ مُبْرَمٌ الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ

الْحَمْدُ للَّهِ ِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالاً فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً

عَنْ مَيْمُونٍ الْبَانِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ عليه السلام وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْأَوَّلِ وَالآْخِرِ فَقَالَ

ص: 286

الْأَوَّلُ لا عَنْ أَوَّلٍ قَبْلَهُ وَلا عَنْ بَدْءٍ سَبَقَهُ وَالآْخِرُ لا عَنْ نِهَايَةٍ كَمَا يُعْقَلُ مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَكِنْ قَدِيمٌ أَوَّلٌ آخِرٌ لَمْ يَزَلْ وَلا يَزُولُ بِلا بَدْءٍ وَلا نِهَايَة(1).

قال تعالى: «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ»(2).

وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً

قال تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالآْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»(3).

واختلف في معنى هذه الصفات فقال الصدوق في التوحيد: هو الأوّل بغير ابتدأ، والآخر بغير انتهاء، والظاهر بآياته التي أظهرها من شواهد قدرته وآثار حكمته وبينات حجته التي عجز الخلق جميعا عن إبداع أصغرها وإنشاء أيسرها وأحقرها عندهم كما قال عزوجلّ:

«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ»(4) فليس شي ء من خلقه إلّا وهو شاهد له على وحدانيته من جميع جهاته وأعرض تبارك وتعالى عن وصف ذاته وهو ظاهر بآياته وشواهد قدرته محتجب بذاته.

ومعنى ثان أنه ظاهر غالب قادر على ما يشاء ومنه قوله عزوجل: «فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ»(5)، أي غالبين لهم والباطن معناه أنه قد بطن عن الأوهام وهو باطن لا يحيط به محيط لأنه قدم أي تقدم الفكر فجنب عنه، وسبق العلوم فلم يحط به، وفات الأوهام فلم تكتنهه، وحارت عنه الأبصار فلم تدركه، فهو باطن كل باطن،

ص: 287


1- الكافي : 1/116، ح 6؛ بحار الأنوار : 3/284، ح 2 .
2- القصص: 88.
3- الحديد: 3.
4- الحج: 73.
5- الصف: 14.

ومحتجب كل محتجب، بطن بالذات وظهر وعلا بالآيات، فهو الباطن بلا حجاب والظاهر بلا اقتراب.

ومعنى ثان أنه باطن كل شي ء أي خبير بصير بما يسرون وما يعلنون وبكل ما ذرء وبرأ، وبطانة الرجل ولتجته من القوم الذين يداخلهم ويداخلونه في دخيلة أمره، والمعنى أنه عالم بسرائرهم لا أنه عزوجل يبطن في شي ء يواريه(1).

وفي مجمع البيان: هو الأول أي أول الموجودات، وتحقيقه أنه سابق لجميع الموجودات بما لا يتناهي من تقدير الأوقات، لأنه قديم وما عداه محدث والقديم يسبق المحدث بما لا يتناهي من تقدير الاوقات، والآخر بعد فناء كل شي ء لأنه يفنى الأجسام كلها وما فيها من الأعراض ويبقى وحده.

وقبل الأول قبل كل شي ء بلا ابتداء، والآخر بعد كل شي ء بلا انتهاء، والظاهر هو العالي الغالب على كل شي ء، فكل شي ء دونه، والباطن العالم بما بطن فلا أحد أعلم منه عن ابن عباس وقيل: الظاهر بالأدلة والشواهد، والباطن الخبير العالم بكل شي ء وقيل: معنى الظاهر والباطن إنه العالم بما ظهر، والعالم بما بطن وقيل: الظاهر بأدلته والباطن من احساس خلقه وقيل الأول بلا ابتدأ، والآخر بلا انتهاء، والظاهر بلا اقتراب، والباطن بلا احتجاب وقيل الأول ببره اذ هداك، والآخر بعفوه إذ قبل توبتك، والظاهر باحسانه وتوفيقه إذا أطعته، والباطن بستره إذا عصيته عن السدى وقيل الأول بالخلق، والآخر بالرزق، والظاهر بالاحياء، والباطن بالأماتة عن ابن عمر وقيل: هو الذي أول الأول وأخر الآخر وأظهر الظاهر وأبطن الباطن عن الضحاك وقيل الأول بالأزلية، والآخر بالأبدية، والظاهر بالأحدية والباطن

ص: 288


1- التوحيد للصدوق: 200.

بالصمدية عن أبي بكر الوراق وقيل إن الواوات مقحمة والمعنى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، لأن كل من كان منا أولا لا يكون آخرا، ومن كان منا ظاهرا لا يكون باطنا، عن عبدالعزيز بن يحيى وقيل هو الأول القديم، والآخر الرحيم والظاهر الحكيم، والباطن العليم عن يمان(1).

قال الرضاعليه السلام في أسمائه تعالى: وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَلا الْأَشْيَاءَ بِرُكُوبٍ فَوْقَهَا وَقُعُودٍ عَلَيْهَا وَتَسَنُّمٍ لِذُرَاهَا وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِقَهْرِهِ وَلِغَلَبَتِهِ الْأَشْيَاءَ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا كَقَوْلِ الرَّجُلِ ظَهَرْتُ عَلَى أَعْدَائِي وَأَظْهَرَنِيَ اللَّهُ عَلَى خَصْمِي يُخْبِرُ عَنِ الْفَلْجِ وَالْغَلَبَةِ فَهَكَذَا ظُهُورُ اللَّهِ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ الظَّاهِرُ لِمَنْ أَرَادَهُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ وَأَنَّهُ مُدَبِّرٌ لِكُلِّ مَا يَرَى فَأَيُّ ظَاهِرٍ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ أَمْراً مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّكَ لا تَعْدَمُ صَنْعَتَهُ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ وَفِيكَ مِنْ آثَارِهِ مَا يُغْنِيكَ وَالظَّاهِرُ مِنَّا الْبَارِزُ بِنَفْسِهِ وَالْمَعْلُومُ بِحَدِّهِ فَقَدْ جَمَعَنَا الاسْمُ وَاخْتَلَفَ الْمَعْنَى وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى الاسْتِبْطَانِ لِلْأَشْيَاءِ بِأَنْ يَغُورَ فِيهَا وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى اسْتِبْطَانِهِ لِلْأَشْيَاءِ عِلْماً وَحِفْظاً وَتَدْبِيراً كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَبْطَنْتُهُ يَعْنِي خَبَّرْتُهُ وَعَلِمْتُ مَكْتُومَ سِرِّهِ وَالْبَاطِنُ(2) مِنَّا بِمَعْنَى الْغَائِرِ فِي الشَّيْ ءِ الْمُسْتَتِرِ فَقَدْ جَمَعَنَا الاسْمُ وَاخْتَلَفَ الْمَعْنَى(3).

كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرُهُ قَلِيلٌ

فَالْإِنْسَانُ وَاحِدٌ فِي الاسْمِ وَلا وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى وَاللَّهُ جَلَّ جَلالُهُ هُوَ وَاحِدٌ لا

ص: 289


1- تفسير مجمع البيان: 9/346.
2- في التوحيد والعيون : « والباطن منا بمعنى الغائر في الشي ء » .
3- الكافي : 1/122، ح 2؛ بحار الأنوار : 4/178، ح 5 .

وَاحِدَ غَيْرُهُ لا اخْتِلافَ فِيهِ وَلا تَفَاوُتَ وَلا زِيَادَةَ وَلا نُقْصَانَ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ الْمَخْلُوقُ الْمَصْنُوعُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ وَجَوَاهِرَ شَتَّى غَيْر أَنَّهُ بِالاجْتِمَاعِ شَيْ ء واحِد(1).

وفي خبر عن الجوادعليه السلام: فَلا يُقَالُ اللَّهُ مُؤْتَلِفٌ وَلا اللَّهُ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ وَلَكِنَّهُ الْقَدِيمُ فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ مُتَجَزِّئٌ وَاللَّهُ وَاحِدٌ لا مُتَجَزِّئٌ وَلا مُتَوَهَّمٌ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَكُلُّ مُتَجَزِّئٍ أَوْ مُتَوَهَّمٍ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ دَالُّ عَلَى خَالِقٍ لَه(2).

عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ هَانِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنَّ أَعْرَابِيّاً قَامَ يَوْمَ الْجَمَلِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَ تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ قَالَ فَحَمَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَقَالُوا يَا أَعْرَابِيُّ أَ مَا تَرَى مَا فِيهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تَقَسُّمِ الْقَلْبِ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام دَعُوهُ فَإِنَّ الَّذِي يُرِيدُهُ الْأَعْرَابِيُّ هُوَ الَّذِي نُرِيدُهُ مِنَ الْقَوْمِ ثُمَّ قَالَ يَا أَعْرَابِيُّ إِنَّ الْقَوْلَ فِي أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ فَوَجْهَانِ مِنْهَا لا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوَجْهَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ فَأَمَّا اللَّذَانِ لا يَجُوزَانِ عَلَيْهِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ وَاحِدٌ يَقْصِدُ بِهِ بَابَ الْأَعْدَادِ فَهَذَا مَا لا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا لا ثَانِيَ لَهُ لا يَدْخُلُ فِي بَابِ الْأَعْدَادِ أَ مَا تَرَى أَنَّهُ كَفَرَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَقَوْلُ الْقَائِلِ هُوَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ بِهِ النَّوْعَ مِنَ الْجِنْسِ فَهَذَا مَا لا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ وَجَلَّ رَبُّنَا عَنْ ذلِكَ وَتَعَالَى(3) وَأَمَّا الْوَجْهَانِ

ص: 290


1- الكافي : 1/119، ح 1 .
2- الكافي : 1/116، ح 7؛ بحار الأنوار : 4/153، ح 1 .
3- الجنس في اللغة يأتي بمعنى التشابه والتماثل ، وقوله عليه السلام : «يريد به النوع من الجنس» أي يريد القائل بالواحد هكذا الوحدة النوعية التي تنتزع من الافراد المتجانسة المتماثلة كافراد الإنسان مثلاً ، والفرق بين القسمين اللذين لا يجوز ان عليه تعالى أن الأول يثبت له وقوعا أو امكانا فردا آخر مثله في الالوهية أو صفة غيرها وان لم يكن مجانسا له في حقيقته والثاني يثبت له فردا آخر من حقيقته ، فالمعنى أولا الوحدة العددية وثانياً النوعية .

اللَّذَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ فِي الْأَشْيَاءِ شِبْهٌ كَذَلِكَ رَبُّنَا وَقَوْلُ الْقَائِلِ إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدِيُّ الْمَعْنَى يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لا يَنْقَسِمُ فِي وُجُودٍ وَلا عَقْلٍ وَلا وَهْمٍ(1) كَذَلِكَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ(2).

وَكُلُّ عَزِيزٍ غَيْرُهُ ذَلِيلٌ

قال تعالى: «الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ ِ جَمِيعًا»(3).

وقال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا»(4).

وقال تعالى: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(5).

وقال تعالى: «وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ ِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(6).

والعزّة في غيره تعالى - وإن كان مجازيا - إلّا أنّها أيضاً بيده، فلا ينالها إلّا من يشاء تعالى: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(7).

كما أنّه تعالى جعلها بمعنى آخر للمنسوبين إليه... «وَللَّهِ ِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ

ص: 291


1- أي لا في الخارج كانقسام الإنسان الى بدن وروح ، ولا في عقل كانقسام الماهية الى أجزائها الحدية ، ولا في وهم كانقسام قطعة خشب الى النصفين في التصور .
2- التوحيد للصدوق : 84؛ بحار الأنوار : 3/206، ح 1 .
3- النساء: 139.
4- فاطر: 10.
5- البقرة: 209.
6- يونس: 65.
7- آل عمران: 26.

وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(1) وكلتاهما وإن كانت غير حقيقية، إلّا أنّ الأولى ظاهريه والثانية باطنيّة.

قال في التوحيد: العزيز معناه أنه لا يعجزه شي ء ولا يمتنع عليه شي ء أراده فهو ظاهر للأشياء غالب غير مغلوب وقد يقال في المثل من عز بز أي من غلب سلب وقوله عزوجل حكاية عن الخصمين - وعزني في الخطاب(2) أي غلبني في مجاوبة الكلام (محاورة الكلام خ ل) ومعنى ثان أنه الملك ويقال للملك عزيز كما قال إخوة يوسف ليوسف عليه السلام «يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ»(3) والمراد به يا أيها الملك(4).

وَكُلُّ قَوِيٍّ غَيْرُهُ ضَعِيفٌ

قال تعالى: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ»(5).

وقال تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(6).

وقال تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»(7).

وقال تعالى: «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»(8).

ص: 292


1- المنافقون: 8.
2- ص: 23.
3- يوسف: 78.
4- التوحيد للصدوق: 206.
5- هود: 66.
6- الانفال: 52.
7- الحج: 40.
8- الحج: 74.

وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ»(1).

وقال تعالى: «أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ ِ جَمِيعًا»(2).

عن أبي جعفر الثاني عليه السلام: وَكَذَا سَمَّيْنَا رَبَّنَا قَوِيّاً لا بِقُوَّةِ الْبَطْشِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِ وَلَوْ كَانَتْ قُوَّتُهُ قُوَّةَ الْبَطْشِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِ لَوَقَعَ التَّشْبِيهُ وَلاحْتَمَلَ الزِّيَادَةَ وَمَا احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ احْتَمَلَ النُّقْصَانَ وَمَا كَانَ نَاقِصاً كَانَ غَيْرَ قَدِيمٍ وَمَا كَانَ غَيْرَ قَدِيمٍ كَانَ عَاجِزاً(3).

كيف لا يكون غيره ضعيفا والإنسان الّذي سخّر له ما في السموات والأرض، وقال تعالى فيه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(4) في غاية الضعف، فقال تعالى: «...وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا»(5) وقال تعالى: «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ»(6)، وقال عليه السلام: «مسكين ابن آدم مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقة وتقتله الشرقة، وتنته العرقة»(7).

وَكُلُّ مَالِكٍ غَيْرُهُ مَمْلُوكٌ

هو تعالى«...لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...»(8)، وغيره «...وَلَا يَمْلِكُونَ

ص: 293


1- الذاريات: 58.
2- البقرة: 165.
3- الكافي : 1/117، ح 7؛ بحار الأنوار : 4/154، ح 1 .
4- الإسراء: 70.
5- النساء: 28.
6- الحج: 73.
7- نهج البلاغة (فيض الاسلام): 1282/الحكمة 411.
8- الفرقان: 2.

لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا»(1) «... مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ»(2).

قال الجوهري: القطمير الفوفة التي في النواة، وهي القشرة الرقيقة، ويقال: هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة، تنبت منها النخلة(3).

وقال تعالى: «قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ»(4).

وقال تعالى: «قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا»(5).

وقد ورد في الدعاء المعروف بالجوشن الكبير: يا خالق كل مخلوق يا رازق كل مرزوق يا مالك كل مملوك(6).

وَكُلُّ عَالِمٍ غَيْرُهُ مُتَعَلِّمٌ

واما هو تعالى فعلمه من صفات ذاته.

قال تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» الآية(7).

وقال تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ»(8).

وقال تعالى: «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ»(9).

ص: 294


1- الفرقان: 3.
2- فاطر: 13.
3- صحاح اللغة للجوهري: 2/797 مادة (قمطر).
4- الاعراف: 188.
5- الجن: 21.
6- المصباح للكفعمي: 248؛ بحار الأنوار: 91/385.
7- الانعام: 59.
8- التوبة: 78.
9- غافر: 19.

وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(1).

وقال تعالى: «قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(2).

وقال تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»(3).

وقال تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»(4).

وقال تعالى: «ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»(5).

وممّا ورد في كون غيره تعالى لا يعلم الّا قليلاً وانّه اخذ ما أخذه على سبيل التّعلم من غيره:

قوله تعالى: «تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ»(6).

وقوله تعالى: «تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا» الآية(7).

وقوله تعالى: «وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ»(8).

وقوله تعالى: «وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ»(9).

وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا»(10).

ص: 295


1- الحجرات: 18.
2- الانبياء: 4.
3- البقرة: 231.
4- البقرة: 282.
5- المائدة: 97.
6- المائدة: 116.
7- هود: 49.
8- الانعام: 91.
9- البقرة: 151.
10- النحل: 78.

وقوله تعالى: «عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(1).

وقوله تعالى: «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا» الآية(2).

وقوله تعالى: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»(3).

وقوله تعالى: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ»(4).

وقوله تعالى: «آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا»(5).

وقوله: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»(6).

وقوله تعالى: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا»(7).

وَكُلُّ قَادِرٍ غَيْرُهُ يَقْدِرُ وَيَعْجَزُ

قال تعالى: «يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(8).

وقال تعالى: «وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(9).

وقال تعالى: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(10).

وقال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(11).

ص: 296


1- العلق: 5.
2- البقرة: 32.
3- النساء: 113.
4- البقرة: 239.
5- الكهف: 65.
6- المجادلة: 11.
7- الإسراء: 85.
8- البقرة: 20.
9- البقرة: 148.
10- آل عمران: 26.
11- النور: 45.

وقال تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(1).

وقال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ»(2).

وقال تعالى: «لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(3).

والآيات في عموم القدرة كثيرة جدّاً.

«وكل قادر غيره يقدر» على أشياء معدودة «ويعجز» عن أشياء غير محصورة، وأمّا هو تعالى فقادر على كلّ أمر غير مستحيل، وأمّا المستحيل كإدخال الدنيا في بيضة مع ابقائهما على حالهما، كما اقترحه جاهل معاند، فخارج عن موضوع القدرة، مع أنّه تعالى فعل نظيره.

قال الديصاني لهشام بن الحكم: ألك ربّ فقال: بلي. قال: أقادر هو؟ قال: نعم، قادر قاهر. قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تكبر البيضة، ولا تصغر الدنيا قال هشام: النظرة. فقال له: قد أنظرتك حولا. ثمّ خرج عنه، فركب هشام إلى الصادق عليه السلام فاستأذن عليه، فأذن له، فقال له: يا بن رسول اللَّه أتاني عبداللَّه الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلّا على اللَّه وعليك، فقال له أبوعبداللَّه عليه السلام: عن

ص: 297


1- الأحقاف: 33.
2- الشورى: 29.
3- الحديد: 2.

ما ذا سألك فقال: قال لي: كيت وكيت. فقال أبوعبداللَّه عليه السلام: يا هشام كم حواسّك قال: خمس. قال: أيّها أصغر قال: النّاظر. قال: وكم قدر الناظر قال: مثل العدسة أو أقل منها. فقال عليه السلام له: يا هشام فانظر أمامك وفوقك واخبرني بما ترى. فقال: أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا. فقال له أبوعبداللَّه عليه السلام: إنّ الّذي قدر أن يدخل الّذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة، لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة. فأكبّ هشام عليه، وقبّل يديه ورأسه ورجليه وقال: حسبي يابن رسول اللَّه، ورجع إلى الدّيصاني فأجابه. فقال: ليس هذا من عندك(1).

ورواه الصدوق باسناده عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قيل لأميرالمؤمنين عليه السلام: هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ فقال عليه السلام: إن اللَّه تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز والذي سالتني لا يكون(2).

فانّ مقصوده عليه السلام إن ما سأله الرجل أمر ممتنع بالذات محال والمحال خارج عن موضوع القدرة وأن اللَّه على كل شي ء قدير.

ومثله ما رواه أيضاً مسندا عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنه جاء رجل إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال: أيقدر اللَّه أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغر الأرض ولا يكبر البيضة؟ فقال: ويلك إن اللَّه لا يوصف بالعجز ومن أقدر ممن يلطف الأرض ويعظم البيضة(3).

ص: 298


1- الكافي: 1/79، ح 4؛ بحار الأنوار: 4/140، ح 7.
2- التوحيد للصدوق: 130، ح 9.
3- التوحيد للصدوق: 130، ح 10.

وَكُلُّ سَمِيعٍ غَيْرُهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ وَيُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا

قال تعالى: «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ»(1).

وقال تعالى: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ»(2).

وقال تعالى: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ» الآية(3).

وقال تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(4).

وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا»(5).

وقال تعالى: «فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا»(6).

روى عن الكاظم عليه السلام: مَا الَّذِي لا يُجْتَزَأُ فِي مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ بِدُونِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ لَمْ يَزَلْ عَالِماً وَسَامِعاً وَبَصِيراً وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيد(7).

سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍعليه السلام عَنِ الَّذِي لا يُجْتَزَأُ بِدُونِ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَقَالَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَلا يُشْبِهُهُ شَيْ ءٌ لَمْ يَزَلْ عَالِماً سَمِيعاً بَصِيراً(8).

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍعليه السلام أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْقَدِيمِ إِنَّهُ وَاحِدٌ صَمَدٌ أَحَدِيُّ الْمَعْنَى لَيْسَ بِمَعَانِي كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ يَزْعُمُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ

ص: 299


1- آل عمران: 181.
2- المجادلة: 1.
3- الزخرف: 80.
4- الشورى: 11.
5- النساء: 58.
6- النساء: 134.
7- الكافي : 1/86، ح 2 وتفسير نور الثقلين : 4/561، ح 26 .
8- الكافي : 1/86، ح 2 .

الْعِرَاقِ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِغَيْرِ الَّذِي يُبْصِرُ وَيُبْصِرُ بِغَيْرِ الَّذِي يَسْمَعُ قَالَ فَقَالَ كَذَبُوا وَأَلْحَدُوا وَشَبَّهُوا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَسْمَعُ بِمَا يُبْصِرُ وَيُبْصِرُ بِمَا يَسْمَعُ قَالَ قُلْتُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بَصِيرٌ عَلَى مَا يَعْقِلُونَهُ قَالَ فَقَالَ تَعَالَى اللَّهُ إِنَّمَا يَعْقِلُ مَا كَانَ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ وَلَيْسَ اللَّهُ كَذَلِكَ(1)

عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ فِي حَدِيثِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي سَأَلَ أَبَا عَبْدِاللَّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَ تَقُولُ إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فَقَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ سَمِيعٌ بِغَيْرِ جَارِحَةٍ وَبَصِيرٌ بِغَيْرِ آلَةٍ بَلْ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ وَيُبْصِرُ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ قَوْلِي إِنَّهُ سَمِيعٌ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْ ءٌ وَالنَّفْسُ شَيْ ءٌ آخَرُ وَلَكِنِّي أَرَدْتُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِي إِذْ كُنْتُ مَسْئُولاً وَإِفْهَاماً لَكَ إِذْ كُنْتَ سَائِلاً فَأَقُولُ يَسْمَعُ بِكُلِّهِ لا أَنَّ كُلَّهُ لَهُ بَعْضٌ لِأَنَّ الْكُلَّ لَنَا لَهُ بَعْضٌ وَلَكِنْ أَرَدْتُ إِفْهَامَكَ وَالتَّعْبِيرُ عَنْ نَفْسِي وَلَيْسَ مَرْجِعِي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلّا أَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ بِلا اخْتِلافِ الذَّاتِ وَلا اخْتِلافِ مَعْنًى(2).

وَكُلُّ بَصِيرٍ غَيْرُهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَلَطِيفِ الْأَجْسَامِ

قال تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(3).

عن محمد بن أبي عبداللَّه، رفعه إلى أبي هاشم الجعفري، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فسأله رجل فقال: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه إلى أن قال: فقال الرجل: فكيف سمينا ربنا سميعا؟ فقال: لأنه لا

ص: 300


1- الكافي : 1/108، ح 1 واحتجاج : 2/222؛ بحار الأنوار : 4/69، ح 14 .
2- الكافي : 1/108، ح 2؛ بحار الأنوار : 4/69، ح 15 .
3- الشورى: 11.

يخفى عليه ما يدرك بالاسماع ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس، وكذلك سميناه بصيرا لانه لا يخفى عليه ما يدرك بالابصار من لون أو شخص أو غير ذلك ولم نصفه ببصر لحظة العين، وكذلك سميناه لطيفا لعلمه بالشي ء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك وموضع النشو منها والعقل والشهوة للسفاد والجدب على نسلها(1) واقام بعضها على بعض ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والمفاوز(2).

قال بعض شارحي الحديث يعني أنه يعلم أعضاء البعوضة كالجناح والرجل والعين، وقواها كالسمع والبصر، وأحوالها كالادراك والارادة والشهوه والمحبة والشفقة والالفة والغضب والنفرة والعداوة، وأفعالها كالحركة والسكون والسفاد ونقل الطعام والشراب إلى الاولاد وغير ذلك من أمورها كموتها وحياتها ونفعها وضرّها وأجالها ومقادير أعمارها، وأرزاقها وغيرها من لطايف خلقه ودقائق صنعه، فهو تعالى لطيف لعلمه بلطايف الامور(3).

وَكُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرُهُ بَاطِنٌ وَكُلُّ بَاطِنٍ غَيْرُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ

قال تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالآْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ»(4).

ص: 301


1- أي لعلمه بموضع النشوء منها من نشأ ينشأ بمعنى النماء؛ والسفاد بكسر السين نزو الذكر على الأنثى والحدب باهمال الحاء والدال وبالتحريك العطف والشفقة، وإقام بعضها بكسر الهمزة أي: كونه مقيما قواما قويا عليه قائما بأموره حافظاً لا حواله. (في).
2- الكافي: 1/117، ح 7؛ بحار الأنوار: 4/154، ح 1.
3- شرح اصول الكافي (صدرا): 3/273.
4- الحديد: 3.

لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ

قال تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ»(1).

وَلا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ

كالملوك في افعالهم

انّ المنصور بني الهاشمية قبالة مدينة ابن هبيرة التي كانت إلى جانب الكوفة، وبني أيضاً الرّصافة بظهر الكوفة، فلمّا ثارت الراونديّة في هاشميته كره سكناها، لاضطراب من اضطرب أمره عليه من الراونديّة مع قرب جواره من الكوفة، ولم يأمن أهلها على نفسه، فأراد أن يبعدهم من جوارهم، فذكر أنّه خرج بنفسه يرتاد موضعا يتخذه مسكنا لنفسه وجنده، فبدأ فانحدر إلى جرجرايا، ثمّ صار إلى بغداد، ثمّ مضى الى الموصل، ثمّ عاد إلى بغداد، فقال: هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شي ء، يأتينا فيها كلّ ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك. وهذا الفرات يجي ء فيه كلّ شي ء من الشام.

والرّقة وما حول ذلك، فنزل وضرب عسكره على الصّراط وخطّ المدينة، ووكّل بكلّ ربع قائدا(2).

وَلا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ

قال تعالى: «فَلَا تَجْعَلُوا للَّهِ ِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»(3).

ص: 302


1- الذاريات: 56 و57.
2- تاريخ الطبري: 6/234/ سنة 145.
3- البقرة: 22.

وقال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا»(1).

وقال تعالى: «وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(2).

وَلا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ

كأهل الدنيا قال تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ...»(3).

كتب ملك الصين إلى أنو شيروان: من فغفور ملك الصين صاحب قصر الدرّ والجوهر الّذي يجري في قصره نهران يسقيان العود والكافور الّذي توجد رائحته على فرسخين، والّذي تخدمه بنات ألف ملك، والّذي في مربطه ألف فيل أبيض إلى أخيه كسرى أنوشيروان(4).

وكتب إليه ملك الهند: من ملك الهند وعظيم أراكنة المشرق، وصاحب قصر الذهب، وأبواب الياقوت والدّر إلى أخيه ملك فارس صاحب التاج والراية كسرى أنوشيروان(5).

وَلا ضِدٍّ مُنَافِرٍ

كالسلاطين في استحكاماتهم.

قيل للمنصور في ما قيل له في محاسن موضع بغداد ليتّخذه حصنا: وأنت بين

ص: 303


1- البقرة: 165.
2- فصلت: 9.
3- الحديد: 20.
4- مروج الذهب: 1/292.
5- مروج الذهب: 1/293.

أنهار لا يصل إليك عدوّك إلّا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخرجت القناطر لم يصل إليك عدوّك... والتّدبير في المدن أن تتّخذ لها الأسوار والخنادق والحصون، ودجلة والفرات خنادق لمدينتك(1).

وَلَكِنْ خَلائِقُ مَرْبُوبُونَ وَعِبَادٌ دَاخِرُونَ

قال تعالى: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ»(2).

لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ كَائِنٌ وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ

قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ»(3).

وقال تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(4).

وقال تعالى: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»(5).

وقال تعالى: «وَللَّهِ ِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(6).

لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ

قال تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(7).

ص: 304


1- تاريخ الطبري: 6/236/ سنة 145.
2- ابراهيم: 19.
3- الزخرف: 84.
4- الحديد: 4.
5- ق: 16.
6- البقرة: 115.
7- الاحقاف: 33.

وقال تعالى: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ»(1).

وَلا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ

قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ...»(2).

وقال تعالى: «فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ»(3).

وقال تعالى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» الآية(4).

وقال تعالى: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» الآية(5).

وقال تعالى: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ» الآية(6).

وقال تعالى: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآْيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» الآية(7).

ص: 305


1- البقرة: 255.
2- فاطر: 41.
3- فصلت: 11 و12.
4- يونس: 3.
5- السجدة: 5.
6- يونس: 31.
7- الرعد: 2.

وَلا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ

قال تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» الآية(1).

وقال تعالى: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» الآية(2).

وقال تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ»(3).

وقال تعالى: «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(4).

وقوله تعالى: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ»(5).

وقال تعالى: «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ»(6).

وقال تعالى: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(7).

وَلا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَقَدَّرَ بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ وَأَمْرٌ مُبْرَمٌ

وفي (التوحيد): لا بالتفكّر ولا بعلم حادث أصاب ما خلق، ولا شبهة دخلت عليه في ما لم يخلق، لكن قضاء مبرم...(8).

قال تعالى: «قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * ... فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ

ص: 306


1- الإسراء: 99.
2- يس: 81.
3- القصص: 68.
4- الاعراف: 54.
5- ابراهيم: 19.
6- الانبياء: 104.
7- فاطر: 1.
8- التوحيد للصدوق: 43.

أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ»(1).

الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ

(والمرهوب مع النّعم) كما في (ابن ميثم، وغيره).

يدلّ على كونه تعالى مأمولا مع النقم، ومرهوبا مع النّعم ما ورد أنّه تعالى قال لداودعليه السلام: بَشّر المذنبين، وانذر الصدّيقين.

قال داود: كَيْفَ أُبَشِّرُ الْمُذْنِبِينَ وَأُنْذِرُ الصِّدِّيقِينَ قَالَ يَا دَاوُدُ بَشِّرِ الْمُذْنِبِينَ أَنِّي أَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَأَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ وَأَنْذِرِ الصِّدِّيقِينَ أَلّا يُعْجَبُوا بِأَعْمَالِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَنْصِبُهُ لِلْحِسَابِ إِلّا هَلَكَ(2).

قال تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»(3).

وقال تعالى: «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ»(4).

ص: 307


1- البقرة: 30 - 33.
2- الكافي : 2/314، ح 8؛ بحار الأنوار : 14/40، ح 22 .
3- الشرح: 5 - 6.
4- الاعراف: 97 - 98.

بسم الله الرحمن الرحیم

الخطبة (65) : ومن كلام له عليه السلام كان يقوله لأصحابه في بعض أيّام صفين

اشارة

الخطبة (65): ومن كلام له عليه السلام كان يقوله لأصحابه في بعض أيّام صفين

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ وَتَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ وَعَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وَأَكْمِلُوا اللّأْمَةَ وَقَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا وَالْحَظُوا الْخَزْرَ وَاطْعُنُوا الشَّزْرَ وَنَافِحُوا بِالظُّبَى وَصِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطَا وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله فَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَاسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ وَنَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ وَطِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً وَامْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً وَعَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَالرِّوَاقِ الْمُطَنَّبِ فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَأَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رِجْلاً فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ

ذكر ابن عباس علياعليه السلام فقال: ما رأيت رئيسا يوزن به، لرأيته يوم صفّين وكأنّ عينيه سراجا سليط وهو يحمّس أصحابه إلى أن انتهى إليّ وأنا في كثف(1) فقال: معشر المسلمين، إستشعروا الخشية وعنّوا(2) الأصوات وتجلببوا السكينة وأكملوا

ص: 308


1- الكثف: الحشد والجماعة.
2- عنّوا الأصوات: من التعنية أي الحبس والأسر أي احبسوا أصواتكم ولا ترفعوها.

اللَّؤم وأخفّوا الخوذ(1) وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل السّلَّة والحظوا الشّزر واطعنوا(2) النّبر ونافحوا بالظَّبا وصلوا السيوف بالخطا والرماح بالنّبل وامشوا إلى الموت مشيا سجحا. وعليكم بهذا السواد الأعظم والرّواق المطنّب فاضربوا ثبجه(3) فإن الشيطان راكد في كسره نافج خصييه مفترش ذراعيه قد قدّم للوثبة يدا وأخّر للنّكوص رجلا(4).

قال المسعودي: وخرج علي عليه السلام بنفسه في البدريين والمهاجرين والأنصار وربيعة وهمدان في اليوم الثامن وهو يوم الأربعاء.

قال ابن عبّاس: رأيت في هذا اليوم عليّاًعليه السلام وعليه عمامة بيضاء وكأنّ عينيه سراجاً سليط وهو يقف على طوائف الناس في مراتبهم يحثّهم ويحرّضهم حتّى انتهى إليّ وأنا في كثيف من الناس، فقال: يا معشر المسلمين غموا الأصوات واكملوا الملامة واستشعروا الخشية وأقلقوا السيوف في الأجفان قبل السلة والحظوا الشزر واطعنوا الهبر...(5)

وحكي أنّ معاوية بن أبي سفيان سأل عبداللَّه بن العبّاس عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام فقال ابن عبّاس: هيهات عقم النساء أن يأتين بمثله واللَّه ما رأيت رئيسا مجربا يوزن به ولقد رأيته في بعض أيام صفين وعلى رأسه عمامة بيضاء تبرق وقد أرخى طرفيها على صدره وظهره وكأنما عيناه سراجا سليط وهو يقف على كتيبة

ص: 309


1- الخوذ: ج خوذة، وهي المغفر، فارسي معرّب. وأخفّوا الخوذ: إجعلوها خفيفة حتى لا تثقلكم في الحرب.
2- واطعنوا النّبر: أي اطعنوا بسرعة؛ يقال: طعن نبر: مختلس كأنه ينبر الرمح إي يرفعه بسرعة.
3- الثّبج : معظم الشي ء .
4- عيون الأخبار لابن قتيبة: 1/189.
5- مروج الذهب : 2/397 .

كتيبة حتى انتهى إلي وأنا في كنف من القوم وهو يقول معاشر المسلمين استشعروا الخشية وتجلببوا بالسكينة وعضوا على النواجذ فإنه أنبى للسيوف عن ألهام وأكملوا اللامة وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها والحظوا الخزر واطعنوا الشزر ونافحوا بالظبى وصلوا السيوف بالخطى واعلموا أنكم بعين اللَّه ومع ابن عم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فعاودوا الكرة واستحيوا من الفر فإنه عار من الأعقاب ونار يوم الحساب وطيبوا عن أنفسكم نفسا وامشوا إلى الموت مشيا سجحا وعليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنب فاضربوا ثبجه فإن الشيطان كامن في كسره قد قدم للوثبة يدا وأخر للنكوص رجلا فصمدا صمدا حتى ينجلي لكم عمود الحق وأنتم الأعلون واللَّه معكم ولن يتركم أعمالكم وأنشأ يقول:

إذا المشكلات تصدين لي * كشفت غوامضها بالنظر

و إن برقت في مخيل الظنون * عمياء لا تجتليها الفكر

مقنعة بغيوب الأمور * وضعت عليها حسام العبر

معي أصمع كظبى المرهفات * أفري به عن بنات الستر

لسان كشقشقة الأرحبي * أو كالحسام اليماني الذكر

و لكنني مدره الأصغرين * أقيس بما قد مضى ما غبر

و لست بإمعة في الرجال * أسائل هذا وذا ما الخبر

ثم غاب عني عليه السلام ثم رأيته قد أقبل وسيفه ينطف دما وهو يقرأ «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ»(1) (2).

عَنْ ضَرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْخَوَارِجِ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ

ص: 310


1- التوبة : 12 .
2- خصائص الأئمة عليهم السلام : 75 .

أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ الزَّاهِرَ وَالْأَسَدَ الْخَادِرَ وَالْفُرَاتَ الزَّاخِرَ وَالرَّبِيعَ الْبَاكِرَ فَأَشْبَهَ مِنَ الْقَمَرِ ضَوْءَهُ وَبَهَاءَهُ وَمِنَ الْأَسَدِ شَجَاعَتَهُ وَمَضَاءَهُ وَمِنَ الْفُرَاتِ جُودَهُ وَسَخَاءَهُ وَمِنَ الرَّبِيعِ خَصْبَهُ وَحَبَاءَهُ عَقِمَتِ النِّسَاءُ أَنْ يَأْتِينَ بِمِثْلِ عَلِيٍّ بَعْدَ النَّبِيِّ وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ وَلا رَأَيْتُ إِنْسَاناً مُحَارِباً مِثْلَهُ وَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ صِفِّينَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ بَيْضَاءُ وَكَأَنَّ عَيْنَيْهِ سِرَاجَانِ وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى شِرْذِمَةٍ شِرْذِمَةٍ يَحُضُّهُمْ وَيَحُثُّهُمْ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَيَّ وَأَنَا فِي كَنَفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ مَعَاشِرَ النَّاسِ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ وَأَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ وَتَجَلْبَبُوا بِالسَّكِينَةِ وَأَكْمِلُوا اللّأْمَةَ وَقَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي الْغِمْدِ قَبْلَ السَّلَّةِ وَالْحَظُوا الشَّزْرَ وَاطْعُنُوا الْخَزْرَ وَنَافِجُوا بِالظُّبَى وَصِلُوا السُّيُوفَ بِالخُطَى وَالرِّمَاحَ بِالنِّبَالِ فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَمَعَ ابْنِ عَمِّ نَبِيِّكُمْ وَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَاسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ فَإِنَّهُ عَارٌ بَاقٍ فِي الْأَعْقَابِ وَنَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ فَطِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ أَنْفُساً وَاطْوُوا عَنِ الْحَيَاةِ كَشْحاً وَامْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً وَعَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَالرِّوَاقِ الْمُطَنَّبِ فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ رَاكِدٌ فِي كَسْرِهِ نَافِجٌ حِضْنَيْهِ وَمُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَأَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رِجْلاً فَصَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.

قَالَ: وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ فِي الْكَتِيبَةِ الشَّهْبَاءِ وَهِيَ زُهَاءُ عَشَرَةِ آلافٍ بِجَيْشٍ شَاكِّينَ فِي الْحَدِيدِ لا يُرَى مِنْهُمْ إِلّا الْحَدَقُ تَحْتَ الْمَغَافِرِ فَقَالَ عليه السلام: مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ بِمَا تَعْجَبُونَ إِنَّمَا هُمْ جُثَثٌ مَاثِلَةٌ فِيهَا قُلُوبٌ طَائِرَةٌ مُزَخْرَفَةٌ بِتَمْوِيهِ الْخَاسِرِينَ وَرِجْلُ جَرَادٍ زَفَّتْ بِهِ رِيحُ صَبَا وَلَفِيفٌ سَدَاهُ وَلَحْمَتُهُ الضَّلالَةُ وَصَرَخَ بِهِمْ نَاعِقُ الْبِدْعَةِ وَفِيهِمْ خَوَرُ الْبَاطِلِ وَضَحْضَحَةُ الْمُكَاثِرِ فَلَوْ قَدْ مَسَّهَا سُيُوفُ أَهْلِ الْحَقِّ لَتَهَافَتَتْ

ص: 311

تَهَافُتَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ أَلا فَسَوُّوا بَيْنَ الرُّكَبِ وَعَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ وَاضْرِبُوا القوانص (الْقَوَابِضَ) بِالصَّوَارِمِ وَأَشْرِعُوا الرِّمَاحَ فِي الْجَوَانِحِ وَشُدُّوا فَإِنِّي شَادٌّ حم لا يُنْصَرُونَ فَحَمَلُوا حَمْلَةَ ذِي لِبَدٍ فَأَزَالُوهُمْ عَنْ مَصَافِّهِمْ وَدَفَعُوهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَرَفَعُوهُمْ عَنْ مَرَاكِبِهِمْ وَارْتَفَعَ الرَّهَجُ وَخَمَدَتِ الْأَصْوَاتُ فَلا يُسْمَعُ إِلّا صَلْصَلَةُ الْحَدِيدِ وَغَمْغَمَةُ الْأَبْطَالِ وَلا يُرَى إِلّا رَأْسٌ نَادِرٌ وَيَدٌ طَائِحَةٌ وَأَنَا كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام مِنْ مَوْضِعٍ يُرِيدُ أَنْ يَنْجَلِيَ مِنَ الْغُبَارِ وَيُنْفِذَ الْعَلَقَ مِنْ ذِرَاعَيْهِ سَيْفُهُ يَقْطُرُ الدِّمَاءَ وَقَدِ انْحَنَى كَقَوْسِ النَّازِعِ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الآْيَةَ: «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ»(1) (2).

وروى عن عكرمة عن ابن عباس قال: عقم النساء أن يأتين بمثل أميرالمؤمنين، وما كشفت النساء ذيولهن عن مثله، لا واللَّه ما رأيت فارسا مجرّبا يوزن به، لرأيته يوما ونحن معه بصفين وعلى رأسه عمامة سوداء وكأن عينيه سراجا سليط يتوقدان من تحتها يقف على شرذمه يحضهم حتى انتهى إلى نفر أنا فيهم، وطلعت خيل لمعاوية تدعى بالكتيبة الشهباء عشرة آلاف دراع على عشرة آلاف أشهب، فاقشعر الناس لها لما رأوها وانحاز بعضهم إلى بعض، فقال عليه السلام: فيم النخع والنخع يا أهل العراق، هل هي إلّا أشخاص ماثلة فيها قلوب طائرة، لو مسّتها سيوف أهل الحق لرأيتموها كجراد بقيعة سفته الريح في يوم عاصف، ألا فاستشعروا الخشية وتجلببوا السكينة وادرعوا الصبر وخفضوا الأصوات وقلقلوا

ص: 312


1- الحجرات : 9 .
2- تفسير فرات الكوفي : 431، ح 569؛ بحار الأنوار : 32/605، ح 478 .

الأسياف في الأغماد قبل السلة، وانظروا الشرّر واطعنوا الوجر وكافحوا بالظبي وصلوا السيوف بالخطى والنبال بالرماح وعاودوا الكر واستحيوا من الفر، فانّه عار في الأعقاب ونار يوم الحساب، وطيبوا عن أنفسكم نفسا وامشوا إلى الموت مشيا سجحا، فانّكم بعين اللَّه ومع أخي رسول اللَّه، وعليكم بهذا السرادق الأدلم والرواق المظلم فاضربوا ثبجه، فان الشيطان راقد في كسره ناقش حضنيه مفترش ذراعيه قد قدّم للوثبة يدا وأخّر للنكوص رجلا، فصمدا صمدا حتى ينجلي لكم عمود الحق وأنتم الأعلون واللَّه معكم ولن يتركم أعمالكم ها أنا شاد فشدّوا بسم اللَّه الرحمن الرحيم حم لا ينصرون.

ثم حمل عليه السلام عليهم وتبعته خويلة لم تبلغ المائة فارس، فأجالهم فيها جولان الرحى المسرحة بثقالها، فارتفعت عجاجة منعتني النظر، ثم انجلت فأثبت النظر فلم نر إلّا رأسا نادرا ويدا طائحة، فما كان بأسرع أن ولّوا مدبرين كأنّهم حمر مستنفرة فرّت من قسورة، فإذا أميرالمؤمنين عليه السلام قد أقبل وسيفه ينطف ووجهه كشقّة القمر وهو يقول: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ»(1).(2)

نصر عمرو بن شمر عن جابر عن تميم قال: كان علي إذا سار إلى القتال ذكر اسم اللَّه حين يركب ثم يقول: «الحمد للَّه على نعمه علينا وفضله العظيم - سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم يستقبل القبلة ويرفع يديه إلى اللَّه ثم يقول: «اللهم إليك نقلت الأقدام وأتعبت الأبدان وأفضت القلوب

ص: 313


1- التوبة 12.
2- بشارة المصطفى (ط - القديمة): 141؛ بحار الأنوار: 32/601، ح 476.

ورفعت الأيدي وشخصت الأبصار - ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين سيروا على بركة اللَّه» ثم يقول: «اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلّا اللَّه واللَّه أكبر يا اللَّه يا أحد يا صمد يا رب محمد - بسم اللَّه الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلّا باللَّه العلي العظيم - الحمد للَّه رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اللهم كف عنا بأس الظالمين» فكان هذا شعاره بصفين(1).

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ

قالوا: أي اجعلوا خشية اللَّه تعالى وتقواه بمنزلة شعار لكم، والشعار من الثياب ما يلصق بالجسد، والدثار ما فوق الشعار.

قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ»(2).

وقال تعالى: «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ»(3).

وقال تعالى: «إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ»(4).

وقال تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(5).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من كان باللَّه أعرف كان من اللَّه أخوف وقال صلى الله عليه وآله يا ابن مسعود اخش اللَّه بالغيب كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك.

يقول اللَّه تعالى: «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ»(6).(7)

ص: 314


1- وقعة صفين: 230؛ بحار الأنوار: 32/460، ش 397.
2- المؤمنون: 57.
3- ق: 33.
4- يس: 11.
5- فاطر: 28.
6- ق: 33 و34.
7- بحار الأنوار: 67/394، ح 64.

وروي أن النبي صلى الله عليه وآله كان يصلي وقلبه كالمرجل يغلي من خشية اللَّه تعالى وقال اللَّه تعالى: «الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ»(1).(2)

قال أبوعبداللَّه عليه السلام من عرف اللَّه خاف اللَّه ومن خاف اللَّه سخت نفسه عن الدنيا(3).

وقال النبي صلى الله عليه وآله إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية اللَّه تحاتت عنه خطاياه كما تتحات من الشجر ورقها(4).

عن الهيثم بن واقد قال سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول من خاف اللَّه أخاف اللَّه منه كل شي ء ومن لم يخف اللَّه أخافه اللَّه من كل شي ء(5).

عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كل عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاث أعين عين بكت من خشية اللَّه وعين غضت عن محارم اللَّه وعين باتت ساهرة في سبيل اللَّه...(6).

قال أبوعبداللَّه عليه السلام إن من العبادة شدة الخوف من اللَّه عزوجل يقول اللَّه: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» وقال جل ثناؤه - «فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ» وقال تبارك وتعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا» وقال أبوعبداللَّه عليه السلام إن حب الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب(7).

ص: 315


1- الانفال: 2.
2- جامع الأخبار للشعيري: 96.
3- الكافي: 2/68، ح 4؛ بحار الأنوار: 67/357، ح 3.
4- جامع الأخبار للشعيري: 98؛ بحار الأنوار: 67/394، ح 64.
5- الكافي: 2/68، ح 3 وتفسير نور الثقلين: 1/413، ح 443.
6- الخصال: 1/98، ح 46؛ بحار الأنوار: 90/329، ح 8.
7- الكافي: 2/69، ح 7؛ بحار الأنوار: 67/359، ح 5.

قال علي بن الحسين عليه السلام: يا ابن آدم إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظا من نفسك وما كان الخوف شعارك والحزن دثارك ابن آدم إنك ميت ومحاسب فأعد الجواب(1).

وَتَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ

قال تعالى: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا»(2).

وقال تعالى: «فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا»(3).

وقال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ»(4).

وقال تعالى: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ»(5).

وقال تعالى: «ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ»(6).

عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه عزوجل - «أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ»(7) قال هو الإيمان قال وسألته عن قول اللَّه عزوجل - «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(8) قال هو الإيمان(9).

عن جميل قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام - عن قوله عزوجل - «أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» قال هو الإيمان قال - «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» قال هو الإيمان

ص: 316


1- ارشاد القلوب للديلمي: 1/105.
2- التوبة: 40.
3- الفتح: 18.
4- الفتح: 18.
5- الفتح: 26.
6- التوبة: 26.
7- الفتح: 4.
8- المجادلة: 22.
9- الكافي: 2/15، ح 1؛ بحار الأنوار: 66/199، ح 18.

وعن قوله - «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى»(1) قال هو الإيمان(2).

وَعَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ

قالوا: للإنسان أربعة نواجذ، وهي أقصى الأضراس.

فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ

كان الأشتر يحرّض أصحابه ويقول: فدتكم نفسي، شدّوا شدّة المحرج الراجي الفرج فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها، وإذا عضتكم السيوف فليعضّ الرجل على نواجذه فإنّه أشد لشئون الرأس(3).

وَأَكْمِلُوا اللّأْمَةَ

بالهمز، أي: الدرع لتحول بين البدن وضرب العدو وطعنه وسهمه، قال تعالى في داود: «وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ»(4).

وكان على النبيّ صلى الله عليه وآله يوم احد درعان(5).

واشترى يزيد بن حاتم أدرعا وقال: إني لم أشتر أدرعا انّما اشتريت أعمارا(6).

وَالْحَظُوا الْخَزْرَ

ص: 317


1- الفتح: 26.
2- الكافي: 2/15، ح 5؛ بحار الأنوار: 66/200، ح 21.
3- وقعة صفين: 173.
4- الانبياء: 80.
5- انساب الاشراف: 1/220، ش 692.
6- عيون الأخبار لابن قتيبة: 1/212.

قال عمرو بن العاص: ما رأيت معاوية متكئا قط واضعا إحدى رجليه على الأخرى كاسرا عينه يقول لرجل تكلّم إلّا رحمته(1).

وَاطْعُنُوا الشَّزْرَ

الشزر: ما طعنت عن يمينك وشمالك(2).

خرج رجل من عك الشام يسأل المبارزة فخرج إليه قيس بن فهدان الكناني البدني من أهل العراق فحمل عليه العكي فضربه واحتمله أصحابه فقال قيس بن فهدان:

لقد علمت عك بصفين أننا * إذا التقت الخيلان نطعنها شزرا

ونحمل رايات الطعان بحقها * فنوردها بيضا ونصدرها حمرا(3)

وَصِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطَا

قال ابن أبي الحديد روي ان رجلا من الأزد رفع إلى المهلب سيفا له، فقال له: يا عم كيف ترى سيفي هذا فقال: انّه لجيّد لولا انّه قصير. قال: يا عم اطوله بخطوتي. فقال: واللَّه بابن أخي ان المشي إلى الصين أو آذربيجان على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة. ثم نقل أبياتا في وصل السيوف بالخطى(4).

وفي صفين نصر: كانت طلائع أهل الشام وأهل العراق يلتقون ويتناشدون الأشعار ويفخر بعضهم على بعض ويحدث بعضهم بعضا على أمان فالتقوا يوما

ص: 318


1- تاريخ الطبري: 4/247/سنة 60.
2- الصحاح للجوهري: 2/697.
3- تاريخ الطبري: 4/21/ سنة 37.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/171.

وفيهم النجاشي فتذاكر القوم رجراجة علي وخضرية معاوية فافتخر كل بكتيبتهم فقال أهل الشام: إن الخضرية مثل الرجراجة وكان مع علي أربعة آلاف مجفف(1) من همدان مع سعيد بن قيس رجراجة وكان عليهم البيض والسلاح والدروع وكان الخضرية مع عبيداللَّه بن عمر بن الخطاب أربعة آلاف عليهم الخضرة فقال فتى من جذام من أهل الشام ممن كان في طليعة معاوية:

ألا قل لفجار أهل العراق * ولين الكلام لهم سيّة(2)

متى ما تجيئوا برجراجة * نجتكم بجأواء(3) خضريه

فوارسها كأسود الضراب * طوال الرماح يمانيه

قصار السيوف بأيديهم * يطولها الخطو والنيه

يقول ابن هند إذا أقبلت * جزى اللَّه خيرا جذاميه

فقال القوم للنجاشي: أنت شاعر أهل العراق وفارسهم فأجب الرجل فتنحى ساعة ثم أقبل يهدر مزبداً يقول:

معاوي إن تأتنا مزبدا * بخضرية تلق رجراجه

أسنتها من دماء الرجال * إذا جالت الخيل مجاجه

فوارسها كأسود الضراب * إلى اللَّه في القتل محتاجه

وليست لدى الموت وقافة * وليست لدى الخوف فجفاجه(4)

ص: 319


1- المجفف : لابس التجفاف ، وأصله ما يوضع على الخيل من حديد وغيره . وفي الأصل : « مجفجف » تحريف .
2- السية هي مخفف السيئة، ثم سهلت همزتها وقلبت ياء وأدغمت في أختها، كما أن السي مخفف السي ء، ومنه قول أفنون التغلبي (انظر اللسان 1: 91 والقصيدة 66 من المفضليات).
3- الجأواء: الكتيبة التي علاها الصدأ.
4- الفجفاج: الكثير الصياح والجلبة. وفي الأصل: «فجاجة» تحريف.

وليس بهم غير جد اللقاء * إلى طول أسيافهم حاجه

خطاهم مقدم أسيافهم * وأذرعهم غير خداجه

وعندك من وقعهم مصدق * وقد أخرجت أمس إخراجه

فشنت عليهم ببيض السيوف * بها فقع لجاجه

فقال أهل الشام: يا أخا بني الحارث أروناها فإنها جيدة فأعادها عليهم حتى رووها وكانت الطلائع تلتقي يستأمن بعضهم بعضا فيتحدثون(1).

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّه عَلَيه وَآلِه

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: الحق مع علي وعلي مع الحق(2).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: يا علي حربك حربي وحربي حرب اللَّه(3).

وقال صلى الله عليه وآله: يا علي سلمك سلمى وسلمى سلم اللَّه(4).

وقال صلى الله عليه وآله: اللهم انصر من نصره واخذل من خذله(5).

قال قيس بن سعد بن عبادة لأصحابه في خطبته في صفين: أنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب(6).

وفي (العقد): في وفود ام سنان المذحجية أنّها قالت في صفين:

ص: 320


1- وقعة صفين: 453.
2- مناقب لابن شهر آشوب: 3/62؛ بحار الأنوار: 38/28.
3- كفاية الأثر: 184؛ بحار الأنوار: 36/348، ح 216.
4- الانصاف في النص على الأئمة الاثنى عشرعليهم السلام: 61.
5- بحار الأنوار: 37/149.
6- وقعة صفين: 446؛ بحار الأنوار: 32/516.

يا آل مذحج لا مقام فشمّروا * ان العدو لآل أحمد يقصد

هذا عليّ كالهلال تحفّه * وسط السماء من الكواكب أسعد

خير الخلائق وابن عم محمد * ان يهدكم بالنور منه تهتدوا

ما زال مذ شهد الحروب مظفّرا * والنصر فوق لوائه ما يفقد(1)

فَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَاسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ

قال تعالى: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»(2).

في (العقد) في وفود ام الخير بنت حريش على معاوية، التفت معاوية إلى جلسائه فقال: أيّكم يحفظ كلامها يوم صفين لما قتل عمار فقال رجل: أنا أحفظ بعض كلامها. قال: هات. قال: كأني بها بين بردين زئبرين كثيفي النسيج، وهي على جمل أرمك وبيدها سوط منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول: أيّها الناس اتقوا ربّكم - إلى أن قال - فأين تريدون، أفرارا عن أميرالمؤمنين أم رغبة عن الاسلام، هلموا إلى الإمام العادل والوصي التقي والصديق الأكبر، انّها إحن بدرية وأحقاد جاهلية، فإلى أين تريدون عن ابن عم رسول اللَّه وصهره وأبي سبطية الذي خلق من طينته وتفرّع من نبعته وجعله باب دينه وأبان ببغضه المنافقين، وها هو ذا مفلق الهام ومكسّر الأصنام صلّى والنّاس مشركون وأطاع والناس كارهون، فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزي بدر وأفنى أهل أحد وهزم الأحزاب وقتل اللَّه به أهل خيبر وفرّق به جمع هوازن؛ فيالها من وقائع زرعت في

ص: 321


1- العقد الفريد: 1/349.
2- الانفال: 16.

قلوب نفاقا وردة وشقاقا وزادت المؤمنين ايمانا(1).

فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ

عن مغيرة قال: أرسل معاوية إلى ابنة الأشعث إني مزوجك بيزيد ابني على أن تسمي الحسن بن علي وبعث إليها بمائة ألف درهم.

فقبلت وسمت الحسن فسوغها المال ولم يزوجها منه فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم وقالوا: يا بني مسمة الأزواج(2).

قال هشام بن عمرو التغلبي للمنصور: انصرفت إلى منزلي فلقيتني اختي فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها للخليفة فجئت لأعرضها عليه، فأطرق المنصور وجعل ينكت الأرض بخيزرانة في يده وقال: اخرج يأتك أمري. فلما ولى قال: يا ربيع لولا بيت قاله جرير في بني تغلب لتزوّجت أخته، وهو قول جرير:

لاتطلبن خؤولة في تغلب * فالزنج أكرم منهم أخوالا

فأخاف أن تلد لي ولدا فيعيّر بهذا البيت(3).

ولمّا رأى أبو بلال مرداس - وكان لا يرى الخروج - جد ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج، فقال لأصحابه: انّه واللَّه ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفصل واللَّه ان الصبر

ص: 322


1- العقد الفريد: 1/354.
2- مقاتل الطالبيين: 48.
3- تاريخ الطبري: 6/290/سنة 151.

على هذا لعظيم وان تجريد السيف واخافة السبيل لعظيم، ولكنّا ننتبذ عنهم ولا نجرّد سيفا ولا نقاتل إلّا من قاتلنا.

ثم مضى حتى نزل آسك - بين رامهرمز وارجان - فجهّز ابن زياد اسلم بن زرعة في ألفين وجّهه إليه وقد تتام أصحاب مرداس أربعين رجلا، فلما صار إليهم صاح به أبوبلال: انّا لا نريد قتالا ولا نحتجن فيئا، فما الذي تريد قال: اريد أن أردكم إلى ابن زياد. قال مرداس: اذن يقتلنا. قال: وان. ثم حملوا على أسلم حملة رجل واحد، فانهزم هو وأصحابه من غير قتال، فلما ورد أسلم على ابن زياد غضب عليه غضبا شديدا وقال: ويلك تمضي في ألفين فتنهزم لحملة أربعين وكان أسلم يقول: لأن يذمّني ابن زياد حيّا أحبّ إليّ من أن يمدحني ميّتا. وكان إذا خرج إلى السوق أو مرّ بصبيان صاحوا به: أبوبلال وراك، وربما صاحوا به: يا معبد خذه. كان معبد أحد أصحاب أبي بلال كاد أن يأخذه لما انهزم مبرّد فشكا ذلك إلى ابن زياد فأمر الشرط أن يكفّوا الناس عنه، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك من الشراة:

أألفا مؤمن فيما زعمتم * ويهزمهم بآسك أربعونا

كذبتم ليس كما زعمتم * ولكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة غير شك * على الفئة الكثيرة ينصرونا(1)

وَنَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ

قال ابن أبي الحديد والجهاد مع الإمام كالجهاد مع النبيّ صلى الله عليه وآله(2)، وقال تعالى في

ص: 323


1- الكامل للمبرد: 3/183.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/174.

الفرار عن الجهاد مع النبي «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ...»(1).

قال المحقق التستري: وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله مأمورا بجهاد الكفّار والمنافقين في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ...»(2) وتصدّى للجهاد مع الكفّار بنفسه، وفوّض جهاد المنافقين إلى أميرالمؤمنين عليه السلام لكونه كنفسه(3).

وَطِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً

قال تعالى: «وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ»(4).

وقال تعالى: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ»(5).

وقال تعالى: «وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(6).

وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(7).

وقال تعالى: «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ»(8).

ص: 324


1- الانفال: 16.
2- التوبة: 73.
3- بهج الصباغة: 13/537.
4- آل عمران: 157 و158.
5- الحج: 58.
6- النساء: 74.
7- التوبة: 111.
8- البقرة: 154.

وقال تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1).

لما خطب الحسين عليه السلام أصحابه بذي حسم بعد ورود الحر قام زهير بن القين وقال: واللَّه لو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلدين الا ان فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك(2).

وَامْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً

بتقديم الجيم على الحاء: أي سهلا.

قال عتبة بن جويرية يوم صفين: ألا ان مرعى الدنيا قد أصبح شجرها هشيما وأصبح زرعها حصيدا وجديدها سملا وحلوها مرّ المذاق، ألا وإني انبئكم نبأ امرئ صادق. اني سئمت الدنيا وعزفت نفسي عنها وقد كنت أتمني الشهادة وأتعرّض لها في كلّ حين فأبى اللَّه إلّا أن يبلغني في هذا اليوم، ألا وإني متعرّض ساعتي هذه لها وقد طمعت ان لا احرمها، فما تنتظرون عباد اللَّه من جهاد أعداء اللَّه، أخوف الموت القادم عليكم الذاهب بأنفسكم لا محالة أو من ضربة كف أو جبين بالسيف، أتستبدلون الدنيا بالنظر إلى وجه اللَّه عزوجل أو مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار القرار، ما هذا بالرأي السديد، يا إخوتاه اني قد بعت هذه الدار بالتي امامها، وهذا وجهي إليه لا يبرح اللَّه وجوهكم ولا يقطع اللَّه أرحامكم.

فتبعه أخواه عبيداللَّه وعوف وقالا: لانطلب رزق الدنيا بعدك، قبّح اللَّه العيش

ص: 325


1- آل عمران: 169.
2- تاريخ الطبري: 4/305.

بعدك، اللّهمّ انّا نحتسب أنفسنا عندك. فاستقدموا فقاتلوا حتى قتلوا(1).

وفي خطبة الأشتر في صفين: ان هؤلاء القوم واللَّه لن يقاتلوكم إلّا عن دينكم ليطفئوا السنّة ويحيوا البدعة، ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم اللَّه منه بحسن البصيرة، فطيبوا عباد اللَّه نفسا بدمائكم دون دينكم...(2).

وَعَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ

وكان الأشتر أيضاً يحرّض ويقول: عليكم بهذا السواد الأعظم، فان اللَّه عزوجل لو قد فضّه تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدّمه(3).

وَالرِّوَاقِ الْمُطَنَّبِ

نصب لمعاوية منبر، فقعد عليه في قبّة ضربها ألقي عليها الثياب والأرائك وأحاط به أهل يمن وقال: لا يقربن أحد هذا المنبر لا تعرفونه إلّا قتلتموه كائنا من كان(4) وكان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهّب يستره من الشمس(5).

ولقد قصد رواق معاوية جمع من أصحابه عليه السلام كما أمرهم لكن لم يكن طيه مقدرا، فممن قصده أبو شداد قيس بن المكشوح، قالت بجيلة له: خذ رأيتنا. فقال: غيري خير لكم مني. قالوا: لا نريد غيرك. قال: فواللَّه لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب. فقالوا: اصنع ما شئت. فأخذها ثم زحف بها وهم

ص: 326


1- وقعة صفين: 263.
2- وقعة صفين: 251.
3- وقعة صفين: 252.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/182.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/206.

حوله يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب الترس فاقتتلوا هنا لك قتالا شديدا وشدّ بسيفه نحو صاحب الترس، فعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدم أبي شدّاد فقطعها، وضرب أبوشداد ذلك الرومي فقتله، وأسرعت الى أبي شداد الأسنّة فقتل.

فأخذ الراية بعده عبداللَّه بن قلع الأحمسي وقال:

لا يبعد اللَّه أبا شداد * حيث أصاب دعوة المنادي

وشدّ بالسيف على الأعادي * نعم الفتى كان له الطراد

وفي طعان الخيل والجلاد

ثم قاتل حتى قتل، فأخذها بعده أخوه عبدالرحمن بن قلع، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس الأحمسي، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس(1).

ومنهم عكبر بن جدير الأسدي - وكان فارس أهل الكوفة الذي لا ينازع - فلما نادى عوف بن مجزأة المرادي - الذي كان فارس أهل الشام لا ينازع - هل من مبارز خرج إليه عكبر فطعن عوفا فصرعه ومعاوية على التل في أناس من قريش وغيرهم، فوجّه عكبر فرسه فملا فروجه ركضا يضربه بالسوط مسرعا نحو التل، فنظر إليه معاوية فقال: ان هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن فاسألوه. فناداه رجل فلم يجبه حتى انتهى إلى معاوية وجعل يطعن في أعراض الخيل ورجا أن يفردوا له معاوية، فقتل رجالا وقام القوم دون معاوية بالسيوف والرماح، فلما لم يصل إلى معاوية نادى:

أولى لك يابن هند * أنا الغلام الأسدي

ص: 327


1- وقعة صفين: 258؛ بحار الأنوار: 32/473، ش 412.

فرجع إلى علي فقال عليه السلام: ما ذا دعاك يا عكبر إلى ما صنعت قال: أردت غرة ابن هند - وانكسر أهل الشام لقتل المرادي - وهدر معاوية دم عكبر فقال عكبر: يداللَّه فوق يد معاوية(1).

ومنهم عبداللَّه بن بديل الخزاعي، قال الشعبي: كان عَلَى ابن بديل سيفان ودرعان، فجعل يضرب الناس بسيفه قدما وهو يقول:

لم يبق إلّا الصبر والتوكل * وأخذك الترس وسيفا مصقل

ثم التمشي في الرعيل الأول * مشي الجمال في حياض المنهل

واللَّه يقضي ما يشا ويفعل

ولم يزل يضرب بسيفه حتى انتهى إلى معاوية، فأزاله عن موقفه وجعل ينادي: يا آل ثارات عثمان - يعني أخا له كان قتل - فظن معاوية وأصحابه انّه يعني عثمان بن عفان - حتى أزال معاوية عن موقفه، فأقبل أصحابه على ابن بديل يرضخونه بالصخر حتى أثخنوه وقتل، وأقبل إليه معاوية ومعه عبداللَّه بن عامر - وكان لابن بديل أخا وصديقا فألقى ابن عامر عمامته على وجهه وترحّم عليه، فقال له معاوية: اكشف عن وجهه. فقال له ابن عامر: واللَّه لا يمثل به وفيّ الروح. فقال له معاوية: اكشف عن وجهه قد وهبته لك، فكشف فلما رآه معاوية قال: هذا كبش القوم وربّ الكعبة، وما مثله إلّا كما قال الشاعر:

أخو الحرب ان عضّت به عضّها * وان شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

ويحمي إذا ما الموت كان لقاءه * لدى الشتر يحمي الأنف ان يتأخرا

كليث هزبر كان يحمى ذماره * رمته المنايا قصدها فتفطرا

ص: 328


1- وقعة صفين: 450؛ بحار الأنوار: 32/518، ش 438.

لو قدرت نساء خزاعة أن يقاتلنني لفعلن فضلا عن رجالها(1).

ومنهم أخوان من الأنصار، حمل غلامان من الأنصار أخوان حتى انتهيا إلى سرادق معاوية فقتلا عنده(2).

ومنهم رجل آخر، ففيه قال رجل من أصحاب علي عليه السلام: أما واللَّه لأحملن على معاوية حتى أقتله، فركب فرسا ثم ضربه حتى قام على سنابكه ثم دفعه فلم ينهنهه شي ء عن الوقوف على رأس معاوية، فهرب معاوية ودخل خباء، فنزل الرجل عن فرسه ودخل عليه، فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر، فخرج الرجل في أثره فاستصرخ معاوية بالناس، فأحاطوا به وحالوا بينهما، فقال معاوية: ويحكم ان السيوف لم يؤذن لها في هذا ولو لا ذلك لم يصل إليكم فعليكم بالحجارة، فرضخوه حتى همد. فعاد معاوية إلى مجلسه(3).

ومنهم سبعة آلاف من ربيعة التي كان عليه السلام يمدحها ويقول فيهم «ربيعة السامعة المطيعة»(4) الّا أنّهم لم يظفروا لغدر أميرهم خالد بن المعمر، أطعمه معاوية وخيّب اللَّه رجاءه. ففي (صفين نصر): تبايع سبعة آلاف من ربيعة وتحالفت بالأيمان العظيمة على ألا ينظر رجل منهم خلفه حتى يردوا سرادق معاوية، فأقبلوا نحوه فلما نظر إليهم معاوية قال:

إذا قلت قد ولّت ربيعة أقبلت * كتائب منها كالجبال تجالد

وقال لعمرو: ما ترى قال: ان تخلّي سرادقك اليوم. فقام معاوية وخلّى لهم

ص: 329


1- وقعة صفين: 245؛ بحار الأنوار: 32/467، ش 406.
2- وقعة صفين: 373؛ بحار الأنوار: 32/503، ش 433.
3- وقعة صفين: 270؛ بحار الأنوار: 32/475، ش 413.
4- ديوان امير المؤمنين عليه السلام: 278؛ بحار الأنوار: 34/424.

سرادقه ورحله. وخرج فارا عنه ببعض مضارب أهل الشام في أخريات الناس، فانتهت ربيعة إلى سرادقه ورحله وبعث معاوية إلى خالد بن المعمر انّك قد ظفرت ولك إمرة خراسان ان لم تتمّ، فقطع خالد القتال ولم يتمّه وقال لربيعة قد برّت أيمانكم فحسبكم، فلما كان عام الجماعة أمّره معاوية على خراسان فمات قبل أن يبلغها(1).

فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ

بالفتح اي واسطه.

فَإِنَّ الشَّيْطَانَ

والمراد به معاوية

كَامِنٌ

اى مختف

فِي كِسْرِهِ

بكسره أي أسفل شقة البيت التي تلي الأرض من حيث يكسر جانباه من عن يمينك ويسارك(2).

ص: 330


1- وقعة صفين: 306؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/242؛ بحار الأنوار: 32/482.
2- لسان العرب: 5/141.

وَقَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَأَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رِجْلاً

قال تعالى: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(1).

فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ

اشارة

قوله عليه السلام: «وأنتم الأعلون واللَّه معكم ولن يتركم أعمالكم» لفظ القرآن، قال تعالى: «فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ»(2).

في (صفين نصر): ركب علي عليه السلام بغلة النبيّ صلى الله عليه وآله الشهباء، ثم تعصّب بعمامة النبي السوداء، ثم نادى: أيها الناس من يشري نفسه للَّه يربح، هذا يوم له ما بعده، ان عدوّكم قد قرح كما قرحتم.

فانتدب له ما بين العشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا وضعوا سيوفهم على عواتقهم. وتقدّمهم علي عليه السلام منقطعا على بغلة النبي وهو يقول:

دبّوا دبيب النمل لا تقوتوا * وأصبحوا بحربكم وبيتوا

حتى تنالوا الثأر أو تموتوا * أولا فإنّي طالما عصيت

قد قلتم لو جئتنا فجيب * ليس لكم ما شئتم وشيت

بل ما يريد المحيي المميت

ص: 331


1- الانفال: 48.
2- محمد: 35.

فتبعه عدي بن حاتم بلوائه وهو يقول:

أبعد عمار وبعد هاشم * وابن بديل فارس الملاحم

نرجو البقاء مثل حلم الحالم * وقد عضضنا أمس بالأباهم

فاليوم لا نقرع سن نادم * ليس امرؤ من يومه بسالم

وتقدّم الأشتر وهو يقول:

حرب بأسباب الردى تأجج * يهلك فيها البطل المدجّج

يكفيك همدانها ومذحج * قوم إذا ما أحمشوها أنضجوا

روحوا إلى اللَّه ولا تعرجوا * دين قويم وسبيل منهج

وحمل الناس حملة واحدة فلم يبق لأهل الشام صف إلّا انتقض واهمدوا ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية، وعلي عليه السلام يضربهم بسيفه وهو يقول:

أضربهم ولا أرى معاوية * الأخزر العين العظيم الحاوية

هوت به في النار ام هاوية

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب تمثّل بأبيات عمرو بن الأطنابة:

أبت لي عفّتي وأبي بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح

واعظامي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلّما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي

فثنى رجله من الركاب ونزل واستصرخ بعك والأشعريين، فجالدوا عنه... وانتهى إلى مكيدة عمرو في رفع المصاحف(1).

ص: 332


1- وقعة صفين: 403؛ بحار الأنوار: 32/510.

تذييل

قد مضى طرف من وقايع صفين في شرح بعض الخطب السابقة، فذكرنا في شرح الخطبة السادسة والعشرين كيفية ارسال أميرالمؤمنين جرير بن عبداللَّه البجلي إلى معاوية بالرسالة وكيفية بيعة عمرو بن العاص لمعاوية، وفي شرح كلامه الثالث والأربعين تفصيل قصة جرير ومكالماته مع معاوية ويأسه من بيعته حتى رجع إلى العراق وانجر الأمر إلى حرب صفين، وفي شرح الخطبة الثامنة والأربعين كيفية خروج أميرالمؤمنين عليه السلام من كوفة متوجها إلى صفين، وفي شرح الخطبة الاحدى والخمسين نزوله عليه السلام بصفين وغلبة أصحاب معاوية على الشريعة وفتح الفرات، وفي شرح الخطبة الخامسة والثلاثين قصة ليلة الهرير وكيفية التحكيم إلى آخر الحرب.

فأوردت هنا بقية تلك الواقعة وهي من فتح الشريعة إلى ليلة الهرير لاقتضاء المقام ذلك وليكون شرحنا ذلك مشتملا على تمام تلك الوقعة ولو اجمالا ويستغني الناظر به عن الرجوع الى غيره ولا يشذ عنه جمل تلك الوقعة.

في (صفين نصر) أنه وصل أميرالمؤمنين عليه السلام إلى صفين لثمان بقين من المحرم من سنة سبع وثلاثين(1).

قال نصر: ولما ملك أميرالمؤمنين الماء بصفين ثم سمح لأهل الشام بالمشاركة فيه والمساهمة رجاء أن يعطفوا إليه واستمالة لقلوبهم وإظهارا للمعدلة وحسن السيرة فيهم، مكث أيّاماً لا يرسل إلى معاوية ولا يأتيه من عند معاوية أحد واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال وقالوا: يا أميرالمؤمنين خلفنا ذرارينا

ص: 333


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3/215؛ بحار الأنوار: 32/434.

ونسائنا بالكوفة وجئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا، ائذن لنا في القتال فان الناس قد قالوا قال عليه السلام ما قالوا؟ فقال قائل منهم إن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية للموت وأن من الناس من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام(1).

فأجابهم عليه السلام بجواب مر ذكره فيما سبق وهو الكلام الرابع والخمسون.

قال نصر: فقال عليه السلام ومتى كنت كارها للحرب قط إن من العجب حبى لها غلاما ويفعا وكراهتي لها شيخا بعد نفاد العمر وقرب الوقت وأما شكي في القوم فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة فو اللَّه لقد ضربت هذا الامر ظهرا وبطنا فما وجدت أن يسعني إلا القتال أو أن أعصى اللَّه ورسوله ولكني استأني(2) بالقوم عسى أن يهتدوا أو يهتدى فيهم طايفة فان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال لي يوم خيبر: لأن يهدي اللَّه بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس(3).

فبعث علي إلى معاوية بشر بن عمرو وسعيد بن قيس وشبث بن ربعي فقال ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة وإلى اتباع أمر اللَّه سبحانه، فقال شبث يا أميرالمؤمنين ألا نطمعه في سلطان توليه اياه ومنزلة يكون له بها اثرة عندك إن هو بايعك؟ قال ائتوه الآن والقوه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه في هذا، فدخلوا عليه فابتدأ بشر بن عمرو بن محصن فحمد اللَّه وأثنى عليه وقال:

أما بعد يا معاوية فانّ الدنيا عنك زايلة وانك راجع إلى الآخرة وأن اللَّه مجازيك بعملك ومحاسبك بما قدمت يداك، وإنني انشدك باللَّه أن تفرق جماعة

ص: 334


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/13؛ بحار الأنوار: 32/477، ش 394.
2- أي اطلب التاني.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4/13؛ بحار الأنوار: 32/447، ش 394.

هذه الامة وأن تسفك دمائها بينها.

فقطع معاوية عليه الكلام فقال: فهلا أوصيت صاحبك؟ فقال: سبحان اللَّه إن صاحبي ليس مثلك صاحبي أحق البرية في هذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الاسلام والقرابة من الرسول، قال معاوية فتقول ما ذا؟ قال: أدعوك إلى تقوى ربك وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فانه أسلم لك في دينك وخير لك في عاقبة أمرك قال وبطل دم عثمان لا والرحمن لا أفعل ذلك ابدا.

فذهب سعيد بن قيس ليتكلم فبدره شبث بن ربعي فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال:

يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن انه لا يخفى علينا ما تطلب إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس ولا شيئا تستميل به أهوائهم إلّا أن قلت لهم قتل امامكم مظلوما فهلموا تطلب بدمه فاستجاب لك سفلة طغام رذال، وقد علمنا أنك بطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي تطلب، ورب مبتغ أمرا وطالب له يحول اللَّه دونه وربما أوتي المتمنى امنيته وربما لم يؤتها، وواللَّه مالك في واحدة منهما خير، واللَّه إن أخطاك ما ترجو انك لشر العرب حالا ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار، فاتق اللَّه يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله.

قال معاوية: أما بعد، فان أول ما عرفت به سفهك وخفة علمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقة ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به، ولقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت، انصرفوا من عندي فانه ليس بيني وبينكم إلّا السيف وغضب.

ص: 335

فخرج القوم وشبث يقول: أعلينا تهول بالسيف أما واللَّه لنعجلنّه إليك(1).

وخرج قراء أهل العراق وقراء أهل الشام فعسكروا في ناحية صفين في ثلاثين ألفا.

وعسكر علي عليه السلام على الماء وعسكر معاوية فوقه على الماء ومشت القراء بين علي ومعاوية، منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي، وعبداللَّه بن عتبة، وعمار بن عبد القيس فدخلوا على معاوية فقالوا: يا معاوية ما الذي تطلب؟ قال: اطلب بدم عثمان، قالوا: ممن تطلب بدم عثمان؟ قال: أطلبه من علي، قالوا أو علي قتله؟ قال: نعم هو قتله وآوى قتلته، فانصرفوا من عنده فدخلوا على علي عليه السلام وقالوا: إن معاوية زعم أنك قتلت عثمان، قال: اللهم لكذب علم لم أقتله.

فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال: إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالأ، فرجعوا إليه وقالوا: بزعم أنك إن لم تكن قتلت بيدك فقد أمرت وما لئت على قتل عثمان فقال: اللهم لكذب فيما قال، فرجعوا إلى معاوية فقالوا: إن عليا يزعم أنه لم يفعل، فقال معاوية: إن كان صادقا فليمكنا (فليقدنا) من قتلة عثمان فإنّهم في عسكره وجنده وأصحابه وعضده فرجعوا إلى علي فقالوا: إن معاوية يقول لك إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو مكنا منهم، فقال لهم: إن القوم تأولوا عليه القرآن ووقعت الفرقة وقتلوه في سلطانه وليس على ضربهم قود فخصم عليٌّ معاوية.

فقال لهم معاوية: إن كان الأمر كما تزعمون فلم ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا وممن ههنا معنا؟ فقال: علي عليه السلام انما الناس تبع المهاجرين والأنصار وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وامراء دينهم، فرضوا بي وبايعوني

ص: 336


1- وقعة صفين: 187؛ بحار الأنوار: 32/448/ ش 394.

ولست استحل أن أدع ضرب معاوية يحكم على هذه الامة ويركبهم ويشق عصاهم، فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك فقال: ليس كما يقول فما بال من هو منا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر، فانصرفوا إليه عليه السلام فأخبروه بقوله، فقال: ويحكم هذا للبدريين دون الصحابة وليس في الأرض بدري إلا وقد بايعني وهو معي أو قد أقام ورضى فلا يغرّنكم من أنفسكم ودينكم فراسلوا بذلك ثلاثة أشهر ربيع الآخر وجماديين وهم مع ذلك يفزعون الفزعة فيما بينهم ويرجف بعضهم إلى بعض ويحجز القراء بينهم.

ففزعوا في ثلاثة أشهر خمسا وثمانين فزعة كل فزعة يرجف بعضهم إلى بعض ويحجز القراء بينهم لا يكون بينهم قتال(1)، وخرج أبو امامة الباهلي وأبو الدرداء فدخلا على معاوية فقالا: يا معاوية على م نقاتل هذا الرجل فو اللَّه لهو أقدم منك سلما وأحق منك بهذا الأمر وأقرب من رسول اللَّه فعلى م تقاتله؟ فقال: اقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته فقولوا له فليقدنا من قتلته وأنا أول من بايعه من أهل الشام.

فانطلقوا إلى علي فأخبروه بقول معاوية فقال عليه السلام: إنما يطلب الذين ترون فخرج عشرون ألفا وأكثر متسربلين الحديد لا يرى منهم إلّا الحدق فقالوا: كلنا قتله فان شاءوا فليروموا ذلك منا، فرجع أبو امامة وأبو الدرداء فلم يشهدا شيئا من القتال حتى إذا كان رجب وخشى معاوية أن يبايع القراء عليا أخذ في المكر وأخذ يحتال للقراء.

فكتب معاوية في سهم من عبداللَّه الناصح أني أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر

ص: 337


1- وقعة صفين: 188؛ بحار الأنوار: 32/449.

عليكم الفرات فيغرقكم فخذوا حذركم، ثم رمى بالسهم في عسكر علي فوقع السهم في يد رجل فقرأه ثم أقرئه صاحبه فلما قرأه وقرأه الناس وأقرأه من أقبل وأدبر قالوا: هذا أخ لنا ناصح كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية فلم يزل السهم يقرأ ويرتفع حتى رفع إلى علي عليه السلام.

وقد بعث معاوية مأتي رجل من العملة إلى عاقول من النهر بأيديهم المرور والزبل يحفرون فيها بحيال عسكر علي، فقال علي عليه السلام: ويحكم إن الذي يعالج معاوية لا يستقيم له ولا يقوم (يقوى) عليه إنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم فانتهوا عن ذلك ودعوه، فقالوا له واللَّه يحفرون واللَّه لترتحلن وإن شئت فأقم، فارتحلوا وصعدوا بعسكرهم مليا وارتحل علي في اخريات الناس وهو يقول:

فلو أني أطعت عصمت(1) قومي * إلى ركن اليمامة(2) أو شآم

ولكنى متى ابرمت امرا * منيت بخلف آراء الطغام(3)

فارتحل معاوية ونزل بمعسكر على الذي كان فيه، فدعا علي عليه السلام الأشتر فقال: ألم تغلبني على رأيي أنت والأشعث برأيكما، فقال الأشعث أنا أكفيك يا أميرالمؤمنين سأداوي ما افسدت اليوم من ذلك، فجمع كندة فقال لهم: يا معشر كنده لا تفضحوني اليوم ولا تخزوني فانما أنا قارع بكم أهل الشام، فخرجوا معه رجالة يمشون وبيده رمح له يلقيه على الأرض ويقول: امشوا قيس رمحي هذا، فيمشون فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه ويمشون معه حتى أتى معاوية وسط

ص: 338


1- وروى عصبت بدله منه.
2- اليمامة ناحية من الحجاز واليمن والشام على فعال الشامي كاليمان، بحار الأنوار.
3- الطغام بالغين المعجمة. اوغاد الناس.

بني سليم واقفا على الماء، وقد جاءه أداني عسكره.

فاقتتلوا قتالا شديدا على الماء ساعة وانتهى أوائل أهل العراق فنزلوا، وأقبل الأشتر في جنده من أهل العراق فحمل إلى معاوية والأشعث يحارب في ناحية اخرى فانحاز معاوية في بني سليم فردوا وجوه إبله قدر ثلاث فراسخ، ثم نزل ووضع أهل الشام أثقالهم والأشعث يهدر ويقول ارضيتك يا أميرالمؤمنين وقال الأشتر يا أميرالمؤمنين قد غلب اللَّه لك على الماء(1).

قال نصر: وكان كل واحد من علي ومعاوية يخرج الرجل الشريف في جماعة ويقاتل مثله وكانوا يكرهون أن يزاحفوا بجميع الفيلق مخافة الاستيصال والهلاك، فاقتتل الناس ذالحجة كله فلما انقضى تداعوا إلى أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم لعل اللَّه أن يجري صلحا أو اجتماعا، فكف الناس في المحرم بعضهم عن بعض(2).

قال نصر: حدثنا عمر بن سعد عن أبي المجاهد عن المحل بن خليفة، قال: لما توادعوا في المحرم اختلفت الرسل فيما بين الرجلين رجاء الصلح، فأرسل علي إلى معاوية عدي بن حاتم، وشبث بن ربعي، ويزيد بن قيس، وزياد بن حفصة فلما دخلوا عليه حمد اللَّه تعالى عدي بن حاتم وأثنى عليه وقال أما بعد:

فقد اتيناك لندعوك إلى أمر يجمع اللَّه به كلمتنا وامتنا ويحقن دماء المسلمين ندعوك إلى أفضل الناس سابقة وأحسنهم في الاسلام آثارا، وقد اجتمع له الناس وقد أرشدهم اللَّه بالذي رأوا واتوا فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا

ص: 339


1- وقعة صفين: 190؛ بحار الأنوار: 32/451.
2- وقعة صفين: 195 - 196؛ بحار الأنوار: 32/453.

معاوية من قبل أن يصيبك اللَّه وأصحابك بمثل يوم الجمل.

فقال له معاوية: كأنك إنما جئت متهددا ولم تأت مصلحا هيهات يا عدي اني لابن حرب ما يقعقع(1) لي بالشنئآن، أما واللَّه إنك من المجلبين على عثمان وإنك لمن قتلته وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله اللَّه فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة وتنازعا كلاما واحدا: أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال، دع ما لا ينفع من القول والفعل وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه.

وتكلم يزيد بن قيس فقال: إنا لم نأتك إلّا لنبلغك الذي بعثنا به إليك ولنؤدي عنك ما سمعناه منك ولم ندع أن ننصح لك وأن نذكر ما ظننا ان لنا فيه عليك حجة أو أنه راجع بك إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله ولا أظنه يخفى عليك أن أهل الدين والفضل لا يعدلونك بعلي ولا يساوون بينك وبينه، فاتق اللَّه يا معاوية ولا تخالف عليا فإنا واللَّه ما رأينا رجلا قط أعلم بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها منه فحمد اللَّه معاوية وأثنى عليه وقال: أما بعد فانكم دعوتم إلى الجماعة والطاعة فأما التي دعوتم إليها فنعما هي وأما الطاعة لصاحبكم فانا لا نرضى به إن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثارنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد ذلك عليه أرأيتم قتلة صاحبنا ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة فقال له شبث: ايسرك باللَّه يا معاوية إن

ص: 340


1- القعقعة تحريك الشي ء الشي ء اليابس الصلب مع صوت مثل السلاح وغيره والشنان جمع الشن وهي القربة اليابسة وهم يحركونها اذا ارادوا حث الابل على السير لتفزع فتسرع، بحار الأنوار.

أمكنت من عمار بن ياسر فقتلته؟ قال: وما يمنعني من ذلك، واللَّه لو أمكنني صاحبكم من ابن سمية ما أقتله بعثمان، ولكن كنت أقتله بنائلة مولى عثمان، فقال شبث: وإله السماء ما عدلت معدلا ولا والذي لا إله إلّا هو لا يصل إليك قتل ابن ياسر حتى تندر الهام عن كواهل الرجال، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها (بما رحبت).

فقال معاوية: إذا كان ذلك كانت عليك أضيق ثم رجع القوم عن معاوية فبعث معاوية إلى زياد بن خصفة من بينهم فأدخله عليه فحمد معاوية اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أخا ربيعة فان عليا قطع أرحامنا وقتل إمامنا وآوى قتلته وإني أسألك النصرة عليه بأسرتك وعشيرتك، ولك على عهد اللَّه وميثاقه إذا ظهرت أن أوليك أي المصرين أحببت.

قال زياد: فلما قضى معاوية كلامه حمدت اللَّه وأثنيت عليه ثم قلت: أما بعد فإنّي لَعَلَى بيّنة من ربّي وبما أنعم اللَّه على فلن أكون ظهيرا للمجرمين، ثم قمت فقال معاوية لعمرو بن العاص وكان إلى جانبه: مالهم غضبهم اللَّه ما في قلوبهم ما قلبهم إلا قلب رجل واحد(1).

وبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري إلى علي عليه السلام وشرجيل بن السمط ومعن بن يزيد فدخلوا عليه، فتكلم حبيب وحمد اللَّه وأثنى عليه وقال أما بعد فان عثمان بن عفان كان خليفة مهديا يعمل بكتاب اللَّه وينيب إلى أمر اللَّه فاستثقلتم حياته واستبطأتهم وفاته. فعدوتم عليه فقتلتموه. فادفع إلينا قتلة عثمان لنقتلهم به، فان قلت إنك لم تقتله فاعتزل أمر الناس فيكون أمرهم هذا شورى بينهم يول الناس

ص: 341


1- وقعة صفين: 197؛ بحار الأنوار: 32/452.

أمرهم من أجمع رأيهم عليه.

فقال علي عليه السلام: ومن أنت لا ام لك والولاية والعزل والدخول في هذا الأمر اسكت فانك لست هناك ولا بأهل لذاك، فقام حبيب بن مسلمة وقال واللَّه لتراني حيث تكره، فقال علي عليه السلام: وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك؟ اذهب فصوب وصعد ما بدا لك فلا أبقى اللَّه لك إن أبقيت، فقال شرجيل بن السمط إن كلمتك فلعمري ما كلامي لك إلا نحو كلام صاحبي فهل عندك جواب غير الذي أجبته؟ قال: نعم، قال فقله، فحمد اللَّه على عليه السلام وأثنى عليه ثم قال أما بعد فان اللَّه سبحانه بعث محمداصلى الله عليه وآله فانقذ به من الضلالة ونعش به من الهلكة وجمع به بعد الفرقة، ثم قبضه اللَّه إليه وقد أدى ما عليه فاستخلف الناس ابابكر ثم استخلف أبوبكر عمر، فأحسنا السيرة وعدلا في الامة وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا ونحن آل الرسول وأحق بالأمر فغفرنا ذلك لهما، ثم ولى أمر الناس عثمان فعمل بأشياء عابها الناس عليه فساء إليه ناس فقتلوه ثم أتانى الناس وأنا معتزل أمرهم فقالوا لي: بايع فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع فان الامة لن ترضى إلا بك وإنا نخاف إن لم تفعل تفرق الناس، فبايعتهم فلم يرعنى إلا شقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية إياى الذي لم يجعل اللَّه له سابقة فى الدين ولا سلف صدق في الاسلام، طليق بن طليق، وحزب من الأحزاب، لم يزل اللَّه ولرسوله عدوا هو وأبوه حتى دخلا في الاسلام كارهين مكرهين فيا عجبا لكم ولانقيادكم له تدعون آل نبيكم الذين لا ينبغي شقاقهم ولا خلافهم ولا أن تعدلوا بهم أحدا من الناس إني أدعوكم إلى كتاب اللَّه عزوجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وآله وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا وأستغفر اللَّه لنا ولكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة.

ص: 342

فقال له شرحبيل ومعن بن يزيد: أتشهد أن عثمان قتل مظلوما فقال لهما: اني لا أقول ذلك، قالا: فمن لا يشهد أن عثمان قتل مظلوما فنحن منه براء، ثم قاما فانصرفا فقال علي عليه السلام: «إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلّا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون»(1).

ثم أقبل على أصحابه فقال: لا يكن هؤلاء في ضلالتهم بأولى بالجد منكم في حقكم وطاعة إمامكم ثم مكث الناس إلى انسلاخ المحرم فلما انسلخ واستقبل الناس صفرا من سنة سبع وثلاثين بعث علي نفرا من أصحابه حتى إذا كانوا في عسكر معاوية بحيث يسمعونهم الصوت قام مرثد بن الحرث (يزيد بن الحارث خ) الجشمي فنادى عند غروب الشمس: يا أهل الشام إن أميرالمؤمنين علياعليه السلام وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقولون لكم: إنا واللَّه لم نكف عنكم شكافي أمركم ولا إبقاء عليكم وإنّما كففنا عنكم لخروج المحرم، وقد انسلخ، وإنا قد نبذنا إليكم على سواء فان اللَّه لا يحب الخائنين، قال فسار الناس إلى رؤسائهم وامرائهم(2).

وأما رواية عمرو بن شمر، عن جابر عن أبي الزبير أن نداء ابن مرثد الجشمي كانت صورته: يا أهل الشام ألا إن أميرالمؤمنين يقول لكم. إني قد استأنيت لكم لتراجعوا إلى الحق وتنيبوا إليه واحتججت عليكم بكتاب اللَّه ودعوتكم إليه، فلم تتناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إلى حق، فاني قد نبذت إليكم على سواء إن اللَّه لا يحب الخائنين قال: فسار الناس إلى رؤسائهم وخرج معاوية وعمرو بن العاص يكتبان الكتائب ويعبأن العساكر، وأوقدوا النيران وجاءوا بالشموع وبات علي عليه السلام

ص: 343


1- النمل: 80 - 81.
2- وقعة صفين: 200؛ بحار الأنوار: 32/455.

ليلته تلك كلها يعبي الناس ويكتب الكتائب ويدور في الناس ويحرضهم قال نصر: فخرجوا أول يوم من صفر سنة سبع وثلاثين وهو يوم الأربعاء فاقتتلوا، وعلى من خرج يومئذ من أهل الكوفة الاشتر، وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة فاقتتلوا قتالا شديدا جل النهار، ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسن عددها وعدتها، فخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السلمي، فاقتتلوا يومهم ذلك، تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال ثم انصرفوا وقد صبر القوم بعضهم لبعض وخرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر وخرج إليه عمرو بن العاص فاقتتل الناس كأشد قتال كان، وجعل عمار يقول: يا أهل الاسلام أتريدون أن تنظروا إلى من عاد اللَّه ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين فلما أراد اللَّه أن يظهر دينه وينصر رسوله أتى إلى النبي فأسلم وهو واللَّه فيما يرى راهب غير راغب، ثم قبض اللَّه رسوله، وإنا واللَّه لنعرفه بعداوة المسلم ومودة المجرم، ألا وإنه معاوية فقاتلوه والعنوه، فانه ممن يطفى نور اللَّه ويظاهر أعداء اللَّه.

قال: وكان مع عمار زياد بن النضر على الخيل فأمره أن يحمل في الخيل فحمل فصبروا له، وشد عمار في الرجالة فأزال عمرو بن العاص عن موقفه ورجع الناس يومهم ذلك(1).

وعن المسعودي، عن يونس الأرقم، عمن حدثه من شيوخ بكر بن وائل، قال: كنا مع علي بصفين فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول اللَّه، فلم يزالوا يتحدثون حتى وصل ذلك إلى

ص: 344


1- وقعة صفين: 203؛ بحار الأنوار: 32/457.

علي عليه السلام فقال: أتدرون ما هذا اللواء إن عمرا أخرج له رسول اللَّه هذه الشقة فقال: من يأخذها بما فيها، فقال عمرو ما فيها يا رسول اللَّه؟ فقال: لا تقاتل بها مسلما ولا تقربها من كافر، فأخذها فقد واللَّه قربها من المشركين وقاتل بها اليوم المسلمين، والذي فلق الحبة وبرء النسمة ما أسلموا ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر، فلما وجدوا أعوانا أظهروه(1).

واما اليوم الرابع فان محمد بن الحنفية خرج في جمع من أهل العراق فاخرج إليه معاوية عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب في جمع من أهل الشام، فاقتتلوا، ثم إن عبيداللَّه بن عمر أرسل إلى محمد بن الحنفية أن اخرج إلى ابارزك، فقال: نعم ثم خرج إليه فبصر بهما علي عليه السلام فقال: من هذان المتبارزان؟ قيل: محمد بن الحنفية وعبيداللَّه بن عمر فحرك دابته ثم دعا محمدا إليه فجاءه فقال عليه السلام: أمسك دابّتي فأمسكها فمشى عليه السلام راجلا بيده سيفه نحو عبيداللَّه وقال له: ابارزك فهلم إلي قال: لا ابارزك، ثم رجع إلى صفه فرجع علي عليه السلام فقال ابن الحنفية: يا أبت لم تمنعني من مبارزته فو اللَّه لو تركتني لرجوت أن أقتله، قال: يا بني لو بارزته أنا لقتلته ولو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله وما كنت آمن أن يقتلك، فقال: يا أبت أتبرز بنفسك إلى هذا الفاسق اللئيم عدو اللَّه، واللَّه لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه(2).

وأما اليوم الخامس فانه خرج فيه عبيداللَّه بن العباس فخرج إليه الوليد بن عقبة فأكثر من سب بني عبدالمطلب وقال: يابن عباس قطعتم أرحامكم وقتلتم إمامكم فكيف رأيتم صنع اللَّه بكم لا تعطوا ما طلبتم ولم تدركوا ما أملتم، فأرسل إليه ابن

ص: 345


1- وقعة صفين: 215؛ بحار الأنوار: 32/459، ش 396.
2- وقعة صفين: 221؛ بحار الأنوار: 32/462.

عباس ابرز إلى فأبى أن يفعل، وقاتل ابن عباس ذلك اليوم قتالا شديدا ثم انصرفوا وكل غير غالب وخرج ذلك اليوم سمرة بن أبرهه بن الصباح الحميري فلحق بعلي عليه السلام في ناس من قراء أهل الشام ففت(1) ذلك في عضد معاوية وعمرو بن العاص وقال عمرو: يا معاوية إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا له من محمدصلى الله عليه وآله قرابة قريبة ورحم ماسة وقدم في الاسلام ليس لأحد مثله وقد سار إليك بأصحاب محمدصلى الله عليه وآله المعدودين وفرسانهم وقرائهم وأشرافهم وقدمائهم في الاسلام، ولهم في النفوس مهابة ومهما نسيت فلا تنس فانك على الباطل وإن عليا على الحق فبادر الأمر قبل اضطرابه عليك، فقام معاوية في أهل الشام خطيبا وحثهم على القتال.

فخطب علي عليه السلام أصحابه(2) قال أبو (ابن خ) سنان الأسلمي كأني أنظر إليه متكئا على قوسه وقد جمع أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وهم يلونه كانه أحب أن يعلم الناس أن الصحابة متوافرون معه فقال بعد حمد اللَّه والثناء عليه أما بعد:

فان الخيلاء من التجبر وإن النخوة من التكبر وإن الشيطان عدو حاضر يعدكم الباطل، الا إن المسلم أخ المسلم فلا تنابذوا ولا تجادلوا ألا إن شرايع الدين واحدة وسبله قاصدة، من أخذ بها لحق ومن فارقها محق ومن تركها مرق، ليس المسلم بالخائن إذا أو من، ولا بالمخلف إذا وعد، ولا الكاذب إذا نطق، نحن أهل بيت الرحمة، وقولنا الصدق، وفعلنا القصد، ومنّا خاتم النبيين، وفينا قادة الاسلام، وفينا حملة الكتاب، أدعوكم إلى اللَّه وإلى رسوله وإلى جهاد عدوه والشدة في أمره وابتغاء مرضاته وإقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وحج البيت وصيام شهر رمضان،

ص: 346


1- يقال فت ذلك في عضده اضعفه، ق.
2- صفين: 221؛ بحار الأنوار: 32/462.

وتوفير الفي ء على أهله.

ألا وإن من أعجب العجايب أن معاوية بن أبي سفيان الاموي وعمرو بن العاص السهمي أصبحا يحرضان على طلب الدين بزعمهما، ولقد علمتم أنى لم أخالف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قط، ولم أعصه في أمر قط، أقيه بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وترعد منها الفرائص بنجدة أكرمني اللَّه سبحانه بها وله الحمد.

ولقد قبض رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وإن رأسه لفى حجري، ولقد وليت غسله بيدي وحدي تقلّبه الملائكة المقربون معي، وأيم اللَّه ما اختلف أمة بعد نبيها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلّا ما شاء اللَّه.

قال أبو سنان فاشهد لقد سمعت عمار بن ياسر يقول: أما أميرالمؤمنين فقد أعلمكم إن الأمة لم تستقم عليه أولا، وانها لن تستقيم عليه آخرا(1).

وعن زيد بن وهب: إن علياًعليه السلام قال في هذه الليلة: حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا، فقام في الناس عشية الثلثاء بعد العصر فقال:

الحمد للَّه الذي لا يبرم ما نقض، ولا ينقض ما أبرم، ولو شاء ما اختلف اثنان من هذه الامة، ولا من خلقه، ولا تنازع البشر في شي ء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، ولقد ساقتنا وهولاء القوم الأقدار حتى لفت بيننا في هذا الموضع ونحن من ربنا بمرئي ومسمع، ولو شاء لعجل النقمة ولكان منه التغيير حتى يكذب اللَّه الظالم ويعلم الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة دار الجزاء والقرار، ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

ص: 347


1- وقعة صفين: 223؛ بحار الأنوار: 32/463.

ألا إنكم لاقوا العدو غدا إنشاء اللَّه فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وأسألوا اللَّه الصبر والنصر، والقوهم بالجد والحزم، وكونوا صادقين.

قال: فوثب الناس إلى رماحهم وسيوفهم ونبالهم يصلحونها، وخرج عليه السلام فعبّأ الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح، وعقد الألوية وأمر الأمراء وبعث إلى أهل الشام منادياً ينادي فيهم اغدوا على مصافكم، فضج أهل الشام في معسكرهم واجتمعوا إلى معاوية فعبى خيله وعقد ألويته وأمر امرائه وكتب كتائبه، وكان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف، ونصب لمعاوية منبر فقعد عليه في قبة ضربها ألقى عليها الثياب والدرانك وأحاط به أهل اليمن، وقال لا تقربن هذا المنبر أحد لا تعرفونه إلّا قتلتموه كائنا من كان.

ثم تناهض القوم سادس صفروا واقتتلوا إلى آخر نهارهم وانصرفوا عند المساء وكل غير غالب، فأما اليوم السابع فكان القتال فيه شديدا والخطب عظيما، وكان عبداللَّه بن بديل الخزاعي على ميمنة العراق، فزحف نحو حبيب بن مسلمة وهو على ميسرة أهل الشام حتى اضطرهم إلى قبة معاوية وقت الظهر(1).

قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد عن عبد الرحمن بن أبي عمرو عن أبيه أن عليا خطب هذا اليوم فقال: معاشر الناس استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة إلى آخر ما مر في المتن(2).

وروى نصر باسناده المذكور أيضاً أنه خطب ذا اليوم وقال: أيها الناس إن اللَّه تعالى ذكره قد دلكم على تجارة تنجيكم من العذاب، وتشفى بكم على الخير،

ص: 348


1- وقعة صفين: 225؛ بحار الأنوار: 32/464، ش 403.
2- بحار الأنوار: 32/466، ش 406.

ايمان باللَّه ورسوله وجهاد في سبيله، وجعل ثوابه مغفرة الذنوب ومساكن طيبه في جنات ورضوان من اللَّه أكبر وأخبركم بالذي يحب فقال: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ»(1) فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدموا الدراع وأخروا الحاسر(2) وعضوا على الأضراس فانه أنبا للسيوف عن الهام، وأربط للجاش وأسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فانه أطرد للفشل وأولى بالوقار والتووا في أطراف الرماح فانه امور للاسنة ورايتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم المانعي الذمار(3) والصبر عند نزول الحقائق أهل الحفاظ الذين يحفون برايتكم ويكتنفونها، يضربون خلفها وأمامها ولا تضيعونا.

وهلا أجزء كل أمرء مسلم منكم قرنه وواسا أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه فيكتسب بذلك اللائمة ويأتي به دنائة أنى هذا وكيف يكن هكذا، يقاتل اثنين، وهذا ممسك يده قد خلى قرنه إلى أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه من يفعل هذا مقته اللَّه فلا تعرضوا لمقت اللَّه فانما مردكم إلى اللَّه قال اللَّه تعالى لقوم عابهم:

«لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا»(4).

وأيم اللَّه إن فررتم من سيف «اللَّه خ ل» العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة فاستعينوا بالصدق والصبر فانه بعد الصبر ينزل النصر(5).

ص: 349


1- الصف: 4.
2- الحاسر من لا مغفر له ولا درع له ولا جنة له، ق.
3- الذمار بالكسر ما يلزمك حفظه وحمايته، ق.
4- الاحزاب: 16.
5- وقعة صفين: 235؛ بحار الأنوار: 32/566، ش 471.

قال نصر: ثم قام قيس بن سعد وخطب خطبة بليغة حث الناس فيها على الجهاد، ثم قام الاشتر رضي اللَّه عنه بمثل ذلك، وكذا يزيد بن قيس الأرحبي وغيرهم(1).

وروى عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفرعليه السلام، وزيد بن الحسن قالا طلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يسوي صفوف أهل الشام، فقال: يا معشر أهل الشام سووا صفوفكم قص الشارب، وأعيرونا جماجمكم ساعة، فانه قد بلغ الحق مقطعه فلم يبق إلا ظالم أو مظلوم(2).

وأقبل أبو الهثيم بن التيهان وكان من أصحاب محمدصلى الله عليه وآله بدريا عقبيا يسوى صفوف أهل العراق وهو يقول: يا معشر أهل العراق إنه ليس بينكم وبين الفتح العاجل أو الجنة في الآجل إلا ساعة من النهار، فارسوا أقدامكم وسووا صفوفكم وأعيروا ربكم جماجمكم واستعينوا باللَّه ربكم، واصبروا إن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين(3).

وعن عمرو بن شمر، عن جابر، عن الشعبي أن أول فارسين التقيا في هذا اليوم وهو اليوم السابع وكان من الأيام العظيمة ذا أهوال شديدة حجر بن عدي من أصحاب علي عليه السلام وابن عم حجر المسمى بحجر أيضاً من أصحاب معاوية كلاهما من كندة، فأطعنا برمحيهما، وخرج خزيمة الأسدي من عسكر معاوية فضرب حجر ابن عدي ضربة برمحه فحمل أصحاب علي عليه السلام فقتلوا خزيمة ونجى ابن عم

ص: 350


1- بحار الأنوار: 32/466، ش 404.
2- وقعة صفين: 237؛ بحار الأنوار: 32/466، ش 405.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/190؛ بحار الأنوار: 32/467، ش 405.

حجر هاربا فالتحق بصف معاوية، ثم برز ثانية فبرز إليه الحكم بن أزهر من أهل العراق فقتله.

ثم إن علياً دعا أصحابه إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في يده إلى أهل الشام، فقال عليه السلام: من يذهب إليهم فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف؟ فسكت الناس وأقبل فتى اسمه سعيد فقال: أنا صاحبه، وقال ثانيا: فلم يجبه إلّا الفتى، فسلمه إليه، ثم أتاهم وناشدهم ودعاهم إلى ما فيه فقتلوه.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام لعبد اللَّه بن بديل: احمل عليهم الآن فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة وعليه يومئذ سيفان ودرعان، فجعل يضرب قدما ويرتجز فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية والذين بايعوه على الموت فأمرهم أن يصمدوا لعبد اللَّه بن بديل، وبعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع أصحابه واختلط الناس واصطدم(1) الصفان ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام.

وأقبل ابن بديل يضرب الناس بسيفه حتى أزال معاوية عن موقفه، وجعل ينادي يا ثارات عثمان وإنما يعني اخا له قتل وظن معاوية وأصحابه أنه يعني عثمان بن عفان وتراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيرا وأشفق على نفسه وأرسل إلى حبيب بن مسلمة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه ويحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على ميمنة عراق، فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل إلّا نحو مائة انسان من القراء فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم.

ولجج ابن بديل في الناس وصمم على قتل معاوية وجعل يطلب موقفه حتى

ص: 351


1- الصدم ضرب الصلب بمثله واصطدم الصفان وتصادموا تزاحموا، ق.

انتهى إليه فنادى معاوية في الناس ويلكم الصخرة والحجارة إذا عجزتم عن السلاح، فرضخه الناس بالحجارة حتى أثخنوه، فسقط فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه.

فجاء معاوية وعبداللَّه بن عامر حتى وقفا عليه فالقى عبداللَّه عمامته على وجهه وترحم عليه وكان له أخا وصديقا من قبل، فقال معاوية: اكشف عن وجهه فقال: لا واللَّه لا يمثل به وفي روح، فقال معاوية: قد وهبناه لك فكشف عن وجهة فقال معاوية:

هذا كبش القويم ورب الكعبة اللهم أظفرني بالاشتر النخعي والأشعث الكندي(1).

قال: فاستعلا أهل الشام عند قتل ابن بديل على أهل العراق يومئذ وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة واجفلوا اجفالا(2) شديدا فأمر علي عليه السلام سهل بن حنيف فاستقدم ممن كان معه ليرفد الميمنة ويعضدها، فاستقبلهم جمع أهل الشام في خيل عظيمة فحملت عليهم فالحقتهم بالميمنة، وكانت ميمنة أهل العراق متصلة بموقف علي في القلب في أهل اليمن، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي فانصرف يمشي نحو الميسرة(3).

وعن زيد بن وهب قال: لقد مر علي عليه السلام يومئذ ومعه بنوه وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبه وما من بنيه إلّا من يقيه بنفسه فيكره علي ذلك فيتقدم عليه

ص: 352


1- وقعة صفين: 243؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/195؛ بحار الأنوار: 32/467، ش 406.
2- أي اسرعوا، ق.
3- وقعة صفين: 248؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/197؛ بحار الأنوار: 32/268.

ويحول بينه وبين أهل الشام ويأخذ بيده إذا فعل ذلك فيلقيه من ورائه، وبصر به أحمر مولى بني أمية وكان شجاعا، فقال علي «لعلي ظ) ورب الكعبة قتلني اللَّه إن لم اقتلك، فاقبل نحوه فخرج إليه كيسان مولى علي فاختلفا ضربتين فقتله أحمر وخالط علياًعليه السلام ليضربه بالسيف فمد يده عليه السلام إلى جيب درعه فجذبه عن فرسه، وحمله على عاتقه واللَّه لكأني أنظر إلى رجلي أحمر يختلفان على عنق علي عليه السلام ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه وشد ابنا علي عليه السلام حسين ومحمد، فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى علي عليه السلام قائما وشبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه أقبلا على أبيهما والحسن قائم معه فقال له علي: يا بني ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك فقال كفياني يا أميرالمؤمنين قال: ثم ان أهل الشام دنوا منه يريدونه واللَّه ما يزيده قربهم منه ودنوهم سرعة في مشيه، فقال له الحسن: ما أضرك لو أسرعت حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك، قال يعني ربيعة الميسرة فقال علي: يا بني إن لأبيك يوما لا يبطى ء به عنه السعي ولا يقربه إليه الوقوف إن أباك لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه(1).

وروى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي إسحاق قال: خرج علي يوما من أيام صفين وفي يده عنزة، فمر على سعيد بن قيس الهمداني فقال له سعيد: أما تخشى يا أميرالمؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قريب عدوك، فقال علي عليه السلام إنه ليس من أحد إلّا وعليه حفظة من اللَّه يحفظونه من أن يتردى في قليب أو يخرب عليه حايط أو تصيبه آفة، فاذا جاء القدر خلوا بينه وبينه(2).

ص: 353


1- وقعة صفين: 249؛ بحار الأنوار: 32/469، ش 407.
2- وقعة صفين: 250؛ بحار الأنوار: 32/470، ش 408.

وروى عمرو، عن فضيل بن خديج عن مولى الاشتر قال لما انهزمت ميمنة العراق يومئذ أقبل علي نحو الميسرة يركض يستثيب الناس ويستوقفهم ويأمرهم بالرجوع نحو الفزع، فمر بالأشتر فقال: يا مالك قال: لبيك يا أميرالمؤمنين، قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم أين فراركم عن الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقي لكم، فمتى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين فقال لهم: الكلمات فناداهم أيها الناس أنا مالك بن الحرث، فلم يلتفت أحد منهم إليه فقال: أيها الناس أنا الأشتر، فأقبلت إليه طائفة وذهبت عنه طائفة فقال عضضتم بهن أبيكم، ما أقبح ما قاتلتم اليوم.

أيها الناس غضوا الأبصار وعضوا على النواجذ، فاستقبلوا الناس بهامكم وشدوا عليهم شدة قوم موتورين بآبائهم وأبنائهم وإخوانهم حنفاء على عدوهم، قد وطنوا على الموت أنفسهم كيلا يسبقوا بثأر إن هؤلاء القوم واللَّه لن يقاتلوكم إلّا عن دينكم ليطفؤوا السنة ويحيوا البدعة ويدخلوكم في أمركم قد أخرجكم اللَّه منه بحسن البصيرة، فطيبوا عباد اللَّه نفسا بدمائكم دون دينكم، فان الفرار فيه سلب العز والغلبة على الفي ء، وذل المحيا والممات وعار الدنيا والآخرة وسخط اللَّه وأليم عقابه ثم قال:

أيها الناس اخلصوا إلى مذحجا فاجتمعت إليه مذحج فقال عضضتم بصم(1) الجندل واللَّه ما أرضيتم اليوم ربكم ولا نصحتم له في عدوه وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات وفرسان الطراد وحتوف الأقران، ومذحج الطعان الذين لم يكونوا سبقوا بثارهم، ولم تطل دماؤهم ولم يعرفوا في موطن من

ص: 354


1- حجر أصم وصخرة صماء .

المواطن لحين وأنتم سادة مصركم واعز حى في قومكم، وما تفعلوا في هذا اليوم فهو مأثور بعد اليوم فاتقوا مأثور الحديث في غد، واصدقوا عدوكم اللقاء فان اللَّه مع الصابرين.

والذي نفسي بيده ما من هؤلاء وأشار بيده إلى أهل الشام رجل في مثل جناح البعوضة من دين اللَّه أنتم ما أحسنتم اليوم القراع أجلوا سواد وجهي يرجع في وجهي دمي «أحبسوا سواد وجهي رجع فيه دمي خ ل) عليكم بهذا السواد الأعظم فان اللَّه لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع السيل مقدمه، فقالوا: خذ بنا حيث احببت فصمد بهم نحو عظمهم واستقبله سنام من همدان وهم نحو ثمانمائة مقاتل قد انهزموا آخر الناس وكانوا قد صبروا في ميمنة علي حتى قتل مأئة وثمانون رجلا واصيب منهم أحد عشر رئيسا كلما قتل منهم رئيس أخذ الراية آخروهم بنو شريح الهمدانيون وغيرهم من رؤساء العشيرة.

فقال لهم الأشتر إني أخالفكم واعاقدكم على أن لا نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك، فوقفوا معه على هذه النية والعزيمة وزحف نحو الميمنة وناب إليه اناس تراجعوا من أهل الصبر والوفاء والحياء فأخذ لا يصمد لكتيبة إلّا كشفها، ولا بجمع الا جازه ورده(1).

وعن عمرو عن الحارث بن الصباح (الحر بن الصباح) قال كان بيد الأشتر يومئذ صفيحة له يمانية إذا طأطاها خلت فيها ماء ينصب وإذا رفعها يكاد يعشي البصر شعاعها ومر يضرب الناس بها قدما ويقول: الغمرات ثم ينجلينا(2).

ص: 355


1- وقعة صفين: 250؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/199؛ بحار الأنوار: 32/470، ش 409.
2- هو مثل؛ رواه العسكري في الأمثال 150، وقال: الغمرات: الشدائد؛ يقول: اصبر في الشدائد فإنها تنجلى وتذهب، ويبقى حسن أثرك في الصبر عليها.

قال فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر مقنع في الحديد فلم يعرفه فدنا منه وقال له جزاك اللَّه منذ اليوم عن أميرالمؤمنين وعن جماعة المسلمين خيرا فعرفه الأشتر فقال يا ابن جمهان أمثلك يتخلف اليوم عن مثل موطني هذا؟ فتأمله ابن جمهان فعرفه وكان الأشتر من أعظم الرجال وأطولهم إلّا أن في لحمه خفة قليله فقال له جعلت فداك لا واللَّه ما علمت مكانك حتى الساعة ولا واللَّه لا أفارقك حتى أموت.

قال نصر وحدثنا عمرو عن فضيل بن خديج عن مولى الأشتر قال لما اجتمع مع الأشتر عظم من كان انهزم من الميمنة حرضهم فقال لهم عضوا على النواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم فإن الفرار من الزحف فيه ذهاب العز والغلبة على الفي ء وذل المحيا والممات وعار الدنيا والآخرة؛ ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم فألحقهم بمضارب معاوية وذلك بين العصر والمغرب(1).

وعن زيد بن وهب أن علياعليه السلام لما رأى ميمنته قد عادت إلى موقفها ومصافها وكشفت من بإزائها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم أقبل حتى انتهى إليهم فقال إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم من صفوفكم يحوزكم(2) الجفاة الطغاة (الطغام) وأعراب أهل الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكرّكم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره وكنتم فيما أرى من الهالكين ولقد هون علي بعض وجدي وشفى بعض أحَاح (لاعج)(3)

ص: 356


1- وقعة صفين: 254؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 254.
2- يحوزكم: ينحيكم عن مراكزكم.
3- صفين: «أحاح نفسي»، والأحاح. اشتداد الحزن والغيظ.

نفسي إني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم تحشونهم بالسيوف(1) يركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة الهيم(2) فالآن فاصبروا نزلت عليكم السكينة وثبتكم اللَّه باليقين وليعلم المنهزم أنه يسخط ربه ويوبق نفسه وفي الفرار موجدة اللَّه عليه والذل اللازم له وفساد العيش وأن الفار لا يزيد الفرار في عمره ولا يرضي ربه فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها والإصرار عليها.

قال: فحمل أبوالكعب الخثعمي رأس خثعم العراق على خثعم الشام واقتتلوا أشد قتال فجعل أبو كعب يقول لأصحابه يا معشر خثعم خدموا أي اضربوا موضع الخدمة وهي الخلخال يعني أضربوهم في سوقهم فناداه عبداللَّه بن حنش رأس خثعم الشام: يا أبا كعب الكل قومك فأنصف قال إي واللَّه وأعظم واشتد قتالهم فحمل شمر بن عبداللَّه الخثعمي من خثعم الشام على أبي كعب فطعنه فقتله ثم انصرف يبكي ويقول يرحمك اللَّه أبا كعب لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحما منهم وأحب إلي منهم نفسا ولكني واللَّه لا أدري ما أقول ولا أرى الشيطان إلّا قد فتننا ولا أرى قريشا إلّا وقد لعبت بنا قال ووثب كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه فأخذها ففقئت عينه وصرع ثم أخذها شريح بن مالك الخثعمي فقاتل القوم تحتها حتى صرع منهم حول رايتهم نحو ثمانين رجلا وأصيب من خثعم الشام مثلهم ثم ردها شريح بن مالك بعد ذلك إلى كعب بن أبي كعب(3).

ص: 357


1- صفين: «تحوزونهم».
2- الهيم: العطاش.
3- وقعة صفين: 256؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/204؛ بحار الأنوار: 32/472، ش 411.

وروى عمرو عن عبدالسلام بن عبداللَّه بن جابر: إن راية بجيلة في صفين مع أهل العراق كانت في أحمس مع أبي شداد فقالت له بجيلة خذ رايتنا قال غيري خير لكم مني قالوا لا نريد غيرك قال فواللَّه لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب الذي هو قائم على رأس معاوية يستره من الشمس فقالوا اصنع ما شئت فأخذها ثم زحف بها وهم حوله يضربون الناس بأسيافهم حتى انتهى إلى صاحب الترس المذهب وهو في خيل عظيمة من أصحاب معاوية وكان عبدالرحمن بن خالد بن الوليد؛ فاقتتل الناس هناك قتالا شديدا وشد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس فتعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها وضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله فأسرعت إليه الأسنة فقتل فأخذ الراية عبداللَّه بن قلع الأحمسي وقاتل حتى قتل فأخذها بعده أخوه عبدالرحمن فقاتل حتى قتل ثم أخذها عفيف بن إياس فلم يزل بيده حتى تحاجز الناس(1).

قال نصر: وقال رجل من أصحاب على أما واللَّه لأحملن على معاوية حتى أقتله. فركب فرسا ثم ضربه حتى قام على سنابكه، ثم دفعه فلم ينهنهه شي ء عن الوقوف حتى وقف على رأس معاوية ، فهرب معاوية ودخل خبائه فنزل الرجل عن فرسه ودخل عليه فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر فخرج الرجل في أثره فاستصرخ معاوية بالناس فأحاطوا به وحالوا بينهما فقال معاوية ويحكم ان السيوف لم يؤذن لها في هذا ولولا ذلك لم يصل إليكم فعليكم بالحجارة فرضخوه بالحجارة حتى همد(2) ثم عاد معاوية إلى مجلسه(3).

ص: 358


1- وقعة صفين: 258؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/205؛ بحار الأنوار: 32/473، ش 412.
2- الهمود الموت ق.
3- وقعة صفين: 270؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/214؛ بحار الأنوار: 32/475.

قال: وحمل رجل من أصحاب علي عليه السلام يدعى أبا أيوب، وليس بأبي أيوب الأنصاري على صف أهل الشام، ثم رجع فوافق رجلا من أهل الشام صادرا قد حمل على أهل العراق، ثم رجع فاختلفا ضربتين فنفحه أبو أيوب بالسيف فأبان عنقه فثبت رأسه على جسده كما هو، وكذب الناس أن يكون هو ضربه فارى بهم ذلك حتى إذا أدخلته فرسه في صف أهل الشام ندر رأسه فوقع ميتا.

فقال علي عليه السلام واللَّه لأنا من ثبات رأس الرجل أشد تعجبا من الضربة وان كان إليها ينتهي وصف الواصفين، وجاء أبو أيوب فوقف بين يدي علي عليه السلام فقال عليه السلام له أنت واللَّه كما قال الشاعر:

وعلمنا الضرب آباؤنا * ونحن نعلم أيضاً بنينا(1)

قال نصر: فلما انقضى هذا اليوم بما فيه أصبحوا في اليوم الثامن من صفر والفيلقان متقابلان، فخرج رجل من أهل الشام فسأل المبارزة فخرج إليه رجل من أهل العراق فاقتتلا بين الصفين قتالا شديدا، ثم إن العراقي اعتنقه فوقعا جميعا وغار (عاد خ ل) الفرسان ثم إن العراقي قهره فجلس على صدره وكشف المغفر عنه يريد ذبحه فاذا هو أخوه لابيه وامه، فصاح به أصحاب على ويحك اجهز عليه، قال انه أخي، قالوا: فاتركه، قال: لا واللَّه حتى يأذن أميرالمؤمنين، فأخبر علي بذلك فأرسل إليه أن دعه فتركه فقام فعاد إلى صف معاوية.

وعن محمد بن عبيداللَّه عن الجرجاني قال: كان فارس معاوية الذي يعده لكل مبارز ولكل عظيم حريث مولاه، وكان يلبس سلاح معاوية متشبها به فاذا قاتل

ص: 359


1- وقعة صفين: 271؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/214.

قال الناس ذاك معاوية وإن معاوية دعاه فقال له: يا حريث اتق عليا وضع رمحك حيث شئت، فأتاه عمرو بن العاص فقال: يا حريث واللَّه لو كنت قرشيا لأحب لك معاوية أن تقتل عليا، ولكن كره أن يكون لك حظها فان رأيت فرصة فاقتحم وخرج علي في هذا اليوم أمام الخيل فحمل عليه حريث.

وعن عمرو بن شمر عن جابر قال: بل برز حريث هذا اليوم وكان شديدا ايدا ذا بأس لا يرام فصاح يا علي هل لك في المبارزة فاقدم أبا حسن ان شئت، فأقبل علي عليه السلام وهو يقول:

أنا علي وابن عبدالمطلب * نحن لعمر اللَّه اولى بالكتب

منا النبي المصطفى غير كذب * أهل اللواء والمقام والحجب

نحن نصرنا على كل العرب

ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة واحدة فقطعه نصفين فجزع معاوية عليه جزعا شديدا وعاتب عمرا في إغرائه إياه بعلي عليه السلام وقال في ذلك شعرا:

حريث ألم تعلم و جهلك ضاير * بأن عليا للفوارس قاهر

وان عليا لم يبارزه فارس * من الناس الا أقصدته الأظافر

أمرتك أمرا حازما فعصيتني * فحدك اذ لم تقبل النصح حائر

وولاك عمرو والحوادث جمة * غرورا وما جرت عليك المقادر

وظن حريث أن عمرا نصيحه * وقد يهلك الانسان من لا يحاذر

فلما قتل حريث برز عمرو بن الحصين السكسكي فنادى يا أبا حسن هلم إلى المبارزة فأومأ علي إلى سعيد بن قيس الهمداني فبارزه فضربه بالسيف فقتله(1).

ص: 360


1- وقعة صفين: 271؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/214؛ بحار الأنوار: 32/275.

عن ابي اراكة: وكان لهمدان بلاء عظيم في نصرة علي عليه السلام في صفين ومن الشعر الذي لا يشك انه عليه السلام قاله لكثرة الرواة له:

دعوت فلباني من القوم عصبة * فوارس من همدان غير لئام

فوارس من همدان ليسوا بمعزل * غداة الوغا من يشكر وشبام(1)

بكل رويني(2) وعضب تخاله * اذا اختلف الاقوام شعل ضرام

لهمدان اخلاق كرام تزينهم * وباس اذا لاقوا وحد خضام(3)

وجد وصدق في الحروب ونجدة * وقول اذا قالوا بغير اثام

متى تاتهم في دارهم تستضيفهم * تبت ناعما في خدمة وطعام

جزى اللَّه همدان الجنان فانها * سمام العدى في كل يوم زحام

ولو كنت بوابا على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلوا بسلام(4)

وعن عمرو بن شمر: ثم قام علي بين الصفين ونادى يا معاوية يكررها، فقال معاوية اسألوه ما شأنه، قال: أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة، فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو وقال لمعاوية: ويحك على م تقتل الناس بيني وبينك ويضرب بعضهم ابرز إلي فأينا قتل صاحبه فالأمر له فالتفت معاوية إلى عمرو فقال: ما ترى يا أباعبداللَّه؟ قال: قد أنصفك الرجل واعلم أنك إن نكلت عنه لم تزل سبته عليك وعلى عقبك ما بقى على ظهر الأرض عربي فقال معاوية: يا بن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه واللَّه ما بارز ابن أبي طالب

ص: 361


1- بطنان من همدان.
2- الروينى الرمح المنسوب الى روينة اسم امرأة والعضب الضرب والطعن.
3- السيف القاطع.
4- وقعة صفين: 274؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/217؛ بحار الأنوار: 32/476.

شجاع قط إلا وسقى الأرض من دمه، ثم انصرف معاوية راجعا حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه، فلما رأى علي ذلك ضحك وأعاد إلى موقفه قال نصر: وفي حديث الجرجاني ان معاوية قال لعمرو: ويحك ما أحمقك تدعوني إلى مبارزته ودوني عك وخدام والأشعرون، قال: وحقدها معاوية على عمرو باطنا وقال له ظاهرا ما أظنك يا أباعبداللَّه قلت ما قلته إلّا مازحا، فلما جلس معاوية عليه اللعنة والعذاب مجلسه أقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه، فقال معاوية:

ولقد ظننتك قلت مزحة مازح * والهزل يحمله مقال الهازي

فاذا الذي منتك نفسك خاليا * قتلي جزاك بما نوبت الجازي

فقال: عمرو: ايها أيها الرجل أتجبن عن خصمك وتتهم نصيحك وقال مجيبا له:

معاوى ما اجترمت عليك ذنبا * ولا أنا في الذي حدثت خازي

وما ذنبي بأن نادى على * وكبش القوم يدعى للبراز

ولو بارزته بارزت ليثا * حديد الناب يخطب كل بازي

وتزعم أنني أضمرت غشا * جزاني بالذي أضمرت جازي(1)

وعن أبي الأعز التميمي قال: بينا أنا واقف بصفين إذ مر بي العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبدالمطلب شاك في السلاح على رأسه مغفر وبيده صفيحة يمانية يقلبها وهو على فرس له أدهم وكان عينيه عينا أفعي، فبينا هو يروض فرسه ويلين عريكته إذ هتف به هاتف من أهل الشام يقال له عرار بن أدهم: يا عباس هلم إلى

ص: 362


1- وقعة صفين: 274؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/217؛ بحار الأنوار: 32/477، ش 415.

البراز، قال: فالنزول اذن فانه اياس من الغفول، قال فنزل الشامي ووجد وهو يقول:

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا * أو تنزلون فانا معشر نزل

قال وثنى عباس رجله وهو يقول:

ويصد عنك مخيلة(1) الرجل * العريض موضحة عن العظم

بحسام سيفك أو لسانك * والكلم الاصيل كارغب الكلم

ثم عصب(2) فضلات درعه في حجزته ودفع فرسه إلى غلام له اسلم كاني أنظر إلى قلاقل(3) شعره ودلف(4) كل واحد منهما إلى صاحبه قال فذكرت قول أبي ذويب:

فتنازلا وتوافقت خيلاهما * وكلاهما بطل اللقاء مجدع

قال ثم تكافحا(5) بسيفهما مليا(6) من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لامته إلى أن لحظ العباس وهنا في درع الشامي فأهوى إليه بالسيف فانتظم في درع الشامي فاهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته(7) ثم عاد لمجادلته وقد اصحر له(8) مفتق الدرع فضربه العباس ضربة انتظم به جوانح صدره وخر الشامي صريعا بخده وسمى العباس في الناس وكبر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض فسمعت

ص: 363


1- المخيله الظن والكبر والعريض كسكيت من يتعرض للناس بالشراي يمنع عنك ظن المتعرض للشر وكبره وخيلاءه ضربة أو شجة موضحة عن العظم او كلام بلسانك فان الكلام الاصيل في التأثير كارغب الكلم اى الجرح، بحار الأنوار.
2- العصب الطى الشديد.
3- القلاقل بالضم السريع التحرك.
4- الدلف المشى بتثاقل.
5- التكافح هو الاستقبال في الحرب بالوجه ليس دونه ترس.
6- أي ساعة طويلة.
7- الثندوة كسنبلة لحم الثدى.
8- أي اتسع.

قائلا يقول من ورائي:

قاتلوهم يعذبهم اللَّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللَّه على من يشاء(1) فالتفت فاذا هو أميرالمؤمنين علي فقال: يا أبا الأعز من المبارز لعدونا؟ قلت:

هذا ابن (شيخكم خ ل) العباس بن ربيعة فقال وإنه لهو يا عباس، قال: لبيك قال: ألم انهك وحسنا وحسينا وعبداللَّه بن جعفر أن تخلوا بمركز أو تباشروا حدثا؟

قال: إن ذلك لكذلك قال: فما عدا مما بدأ، قال: فأدعى إلى البراز يا أميرالمؤمنين فلا أجيب جعلت فداك؟ قال: نعم طاعة إمامك أولى من اجابة عدوك، ود معاوية أنه ما بقى من بني هاشم نافخ ضرمة(2) إلا طعن في نيطته(3) إطفاء لنور اللَّه «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(4).

أما واللَّه ليهلكنهم منا رجال ورجال يسومونهم الخسف(5) حتى يكففوا(6) بأيديهم ويحفروا الا بار إن عادوا لك فعد لي، قال: ونمي الخير إلى معاوية فقال: اللَّه دم عرار ألا رجل يطلب بدم العرار؟ قال: فانتدب له رجلان من لخم فقالا نحن له قال: اذهبا فايكما قتل العباس برازا فله كذا وكذا، فأتياه فدعواه إلى البراز فقال: إن لي سيدا اوامره قال: فأتى أميرالمؤمنين عليه السلام فأخبره فقال: ناقلني سلاحك

ص: 364


1- التوبة: 14 - 15.
2- الضرمة بالتحريك النار وهذا يقال عند المبالغة في الهلاك لان النار ينفخها الصغير والكبير والذكر والانثى أي ما بقي احد منهم.
3- النيطة نياط القلب وهو العرق الذي بالقلب متعلق به، بحار الأنوار.
4- التوبة: 32.
5- الخسف أي الذل منه.
6- استكف وتكفف بمعنى وهو أن يمد كفه يسأل الناس.

بسلاحي، فناقله قال: وركب أميرالمؤمنين عليه السلام على فرس العباس، ودفع فرسه إلى العباس وبرز إلى الشامين فلم يشكا أنه العباس، فقالا له: أذن لك سيدك فتحرج أن يقول نعم فقال «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ»(1). قال: فبرز إليه أحدهما فكانما اختطفه، ثم برز إليه الثاني فألحقه بالأول وانصرف وهو يقول:

«الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(2).

ثم قال: يا عباس خذ سلاحك وهات سلاحي قال: ونمى الخبر إلى معاوية فقال: قبح اللَّه اللجاج إنه لقعود ما ركبته قط إلّا خذلت، فقال عمرو بن العاص، المخذول واللَّه اللخميان لا أنت. قال: اسكت أيها الشيخ فليس هذه من ساعاتك قال: فان لم يكن فرحم اللَّه اللخميين وما أراه يفعل قال: ذلك(3) واللَّه أضيق لحجرك وأخسر لصفقتك قال: أجل ولو لا مصر لقد كانت المنجاة منها، فقال: هي واللَّه أعمتك لولاها لا لفيت بصيراً (لا الفيت نصيراً)(4).

قال نصر: ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالا شديدا وحاربت طى مع أميرالمؤمنين حربا عظيما وتداعت وارتجرت فقتل منها أبطال كثيرون، وقاتلت النخع معه أيضاً ذلك اليوم قتالا شديدا وقطعت رجل علقمة بن قيس النخعي وقتل اخوه ابي بن قيس فكان علقمة يقول بعد ما أحب ان رجلي أصح ما كانت لما أرجو بها من

ص: 365


1- الحج: 39.
2- البقرة: 194.
3- أي اقرارك ببطلان أمرنا يضيق الامر عليك ويجعل صفقتك خاسرة باثرة، بحار الأنوار.
4- عيون الأخبار لابن قتيبة: 1/274 وتفسير العياشي: 2/79، ح 30؛ بحار الأنوار: 32/591، ح 473.

حسن الثواب وكان يقول أحب أن أبصر أخي في نومي فقلت له: يا أخي ما الذي قدمتم عليه؟ فقال التقينا وأهل الشام بين يدي اللَّه سبحانه فاحتججنا عنده فحججناهم، فما سررت بشي ء منذ عقلت سروري بتلك الرؤيا(1).

وروى عن الحصين بن المنذر الرقاشي قال: لما تصاف الناس في هذا اليوم وحمل بعضهم على بعض تضعضعت ميمنة أهل العراق فجاءنا علي ومعه بنوه حتى انتهى الينا، فنادى بصوت عال جهير لمن هذه الرايات؟ فقلنا: رايات ربيعة، وقال: بل هي رايات اللَّه عصم اللَّه أهلها وصبرهم وثبت أقدامهم، ثم قال لي وأنا حامل راية ربيعة يومئذ: يافتى ألا تدني رايتك هذه ذراعا؟ فقلت: بلى واللَّه وعشرة أذرع فأدنيتها فقال لي: حسبك مكانك(2).

وعن عمرو بن شمر قال: لما أقبل الحصين بن المنذر يومئذ وهو غلام يزحف براية ربيعة وكانت حمراء فأعجب عليا زحفه وثباته فقال:

لمن رأية حمراء يخفق ظلها * إذا قيل قدمها حضين تقدما

ويدنو بها في الصف حتى يديرها * جمام المنايا تقطر الموت والدما

تراه إذا ما كان يوم عظيمة * أبي فيه إلّا عزة وتكرما

جزى اللَّه قوما صابروا في لقائهم * لدى الناس حرا ما أعز وأكرما

وأحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغا * اذا كان أصوات الكماة تغمغما

ربيعة أعني أنهم أهل نجدة * وبأس اذا لا قوا خميسا عرمرما

ص: 366


1- وقعة صفين: 286؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/224؛ بحار الأنوار: 32/477، ش 415.
2- وقعة صفين: 288؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/226؛ بحار الأنوار: 32/478، ش 416.

وقد صبرت عك ولخم وحمير * لمذحج حتى لم يفارق دم دما

ونادت جذام يا لمذحج ويحكم * جزى اللَّه شرا أينا كان أظلما

أما تتقون اللَّه في حرماتكم * وما قرب الرحمن منها وعظما

أذقنا ابن حرب طعننا وضرابنا * بأسيافنا حتى تولى وأحجما

وفر ينادى الزبرقان وظالما * ونادى كلاعا والكريب وانعما

وعمرا وسفيانا وجهما ومالكا * وحوشب والغاوى شريحا واظلما

وكرز بن تيهان وعمرو بن جحدر * وصباحا القيني يدعو وأسلما(1)

ص: 367


1- وقعة صفين: 289؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/226؛ بحار الأنوار: 32/478، ش 416.

قال: وأقبل ذوالكلاع في حمير ومن لف لفها ومعهم عبيداللَّه بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف من قراء أهل الشام ذو الكلاع في حمير في الميمنة، وعبيداللَّه في القراء في الميسرة، فحملوا على ربيعة وهم في ميسرة أهل العراق وفيهم عبداللَّه ابن العباس حملة شديدة فتضعضعت رايات ربيعة ثم إن أهل الشام انصرفوا فلم يمكثوا إلّا قليلا حتى كروا ثانية وعبيداللَّه بن عمر في أوائلهم يقول: يا أهل الشام هذا الحى من العراق قتلة عثمان وأنصار علي فان هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثاركم في عثمان فشدوا على الناس شدة عظيمة فثبتت لهم ربيعة وصبرت صبرا حسنا الا قليلا من الضعفاء واشتد القتال بين ربيعة وحمير وعبيداللَّه بن عمرو كثرت القتلى(1).

ثم خرج خمسمائة فارس، أو أكثر من أصحاب علي على رؤوسهم البيض،

ص: 368


1- وقعة صفين: 290؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/227؛ بحار الأنوار: 32/479.

وهم غائصون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، وخرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدة فاقتتلوا بين الصفين والناس وقوف تحت راياتهم، فلم يرجع من هؤلاء مخبر لا عراقي ولا شامي قتلوا جميعا بين الصفين، وكان بصفين تل يلقى عليه الجماجم من الرجال فكان يدعى تل الجماجم(1).

وقال: ثم ذهب هذا اليوم بما فيه فأصبحوا في اليوم التاسع من صفر وقد خطب معاوية أهل الشام وحرضهم فقال إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وحضركم ما حضركم فإذا نهدتم إليهم إن شاء اللَّه فقدموا الدارع وأخروا الحاسر وصفوا الخيل وأجنبوها وكونوا كقص الشارب وأعيرونا جماجمكم ساعة فإنما هو ظالم أو مظلوم وقد بلغ الحق مقطعة(2).

قال: وكانت التعبية في هذا اليوم كالتعبية في الذي قبله، فحمل عبيداللَّه بن عمر في قراء أهل الشام ومعه ذوالكلاع في حمير على ربيعة وهي في ميسرة علي عليه السلام فقاتلوا قتالا شديدا فاتى زياد بن حفصة الى عبدالقيس فقال لهم: لا بكر بن وائل بعد اليوم ان ذا الكلاع وعبيداللَّه أبادا ربيعة فانهضوا لهم والا هلكوا، فركبت عبد القيس وجاءت كانها غمامة سوداء فشدت ازار الميسرة فعظم القتال فقتل ذو الكلاع الحميري قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف، وتضعضعت أركان حمير وثبتت بعد قتل ذي الكلاع تحارب مع عبيداللَّه بن عمر وأرسل عبيداللَّه إلى الحسن بن علي عليه السلام أن لي إليك حاجة فألقنى فلقاه الحسن عليه السلام فقال عبيداللَّه: إن أباك قد وتر قريشا أولا وآخرا وقد شنئه الناس فهل لك في خلعه وان تتولى أنت

ص: 369


1- وقعة صفين: 293؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/230؛ بحار الأنوار: 32/479.
2- وقعة صفين: 295؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/231.

هذا الأمر: فقال: كلا واللَّه لا يكون ذلك، ثم قال: يابن الخطاب واللَّه لكاني أنظر إليك مقتولا في يومك أو غدك أما إن الشيطان قد زين لك وخدعك حتى أخرجك مخلقا بالخلوق ترى نساء أهل الشام موقفك وسيصرعك اللَّه ويبطحك لوجهك قتيلا.

قال نصر: فو اللَّه ما كان إلا بياض ذلك اليوم حتى قتل عبيداللَّه وهو في كتيبة رقطاء(1) وكانت تدعى الخضرية وكانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر، فمر الحسن فاذا رجل متوسد برجل قتيل قد ركز رمحه في عينه وربط فرسه برجله فقال الحسن لمن معه: انظروا من هذا؟ فاذا هو برجل من همدان وإذا القتيل عبيداللَّه بن عمر قد قتله الهمداني في أول الليل وبات عليه حتى أصبح.

قال نصر: وقد اختلفت الرواة في قاتل عبيداللَّه فقالت الهمدان: نحن قتلناه قتله هاني بن الخظاب الهمداني، وقالت حضر موت: نحن قتلناه قتله مالك بن عمرو الحضرمي وقالت بكر بن وائل نحن قتلناه قتله محرز بن الصحصح، وروي أن قاتله حريث بن جابر الحنفي وكان رئيس بنى حنيفة يوم صفين(2).

وقال: أما ذو الكلاع فقد ذكرنا مقتله وأن قاتله خندف البكرى، وروى عمرو بن شمر عن جابر قال حمل ذو الكلاع ذلك اليوم بالفيلق العظيم من حمير على صفوف العراق، ناداهم أبو شجاع الحميري وكان من ذوي البصاير مع علي عليه السلام فقال: يا معشر حمير تبت أيديكم أترون معاوية خيرا من علي أضل اللَّه سعيكم، ثم أنت يا ذا الكلاع قد كنا نرى لان لك نية فى الدين فقال ذو الكلاع ايها يا أبا شجاع

ص: 370


1- الرقطة سواد يشوبه بياض أو بالعكس.
2- وقعة صفين: 297؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/233.

واللَّه إني لأعلم ما معاوية بأفضل من علي، ولكني اقاتل على دم عثمان، قال فاصيب ذو الكلاع حينئذ قتله خندف في المعركة. قال معاوية لما قتل ذوالكلاع: لانا أشد فرحا بقتل ذى الكلاع مني بفتح مصر لو فتحها، لأن ذا الكلاع كان يحجز على معاوية في أشياء كان يأمر بها(1).

وقال: فلما قتل ذوالكلاع اشتدت الحرب وشدعك ولخم وخدام «جذام» والأشعريون من أهل الشام على مذحج من أهل العراق جعلهم معاوية بازائهم فنادى منادى مذحج بالمذحج خدموا أي اضربوا مواضع الخدمة(2) وهي السوق فاعترضت مذحج سوق القوم فكان فيه بوار عامتهم(3).

وقال: حدثني عمرو بن الزبير قال: سمعت الحضين المنذر يقول أعطاني على ذلك اليوم رايه ربيعة وقال: بسم اللَّه سر يا حضين واعلم أنك لا تخفق على رأسك راية مثلها أبدا، هذه راية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فجاء أبو عرفاء جبلة بن عطية الذهلي إلى الحضين وقال: هل لك أن تعطيني الرايه أحملها لك ذكرها ولي أجرها؟ فقال الحضين: وما غناي يا عم مع ذكرها عن أجرها قال: إنه لا غنى بك عن ذلك ولكن أعرها ساعة فما أسرع ما ترجع إليك. قال الحضين: فقلت انه قد استقتل وانه يريد أن يموت مجاهدا فقلت له: خذها فأخذها ثم قال لأصحابه:

إن عمل الجنة كره كله وثقيل، وإن عمل النار خف كله وخبيث إن الجنة لا يدخلها إلا الصابرون الذين صبروا أنفسهم على فرائض اللَّه وأوامره وليس شي ء

ص: 371


1- وقعة صفين: 302؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/237؛ بحار الأنوار: 32/481، ش 417.
2- أي الخلخال.
3- وقعة صفين: 301؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/238؛ بحار الأنوار: 32/481.

مما فرض اللَّه على العباد أشد من الجهاد هو أفضل الأعمال ثوابا عنداللَّه، فاذا رأيتموني قد شددت فشدوا ويحكم أما تشتاقون إلى الجنة أما تحبون أن يغفر اللَّه لكم فشد وشدوا معه وقاتلوا قتالا شديدا فقتل أبو عرفاء وشدت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضتها(1).

وقال: فاضطرب الناس يومئذ بالسيوف حتى تقطعت وتكسرت وصارت كالمناجل وتطاعنوا بالرماح حتى تقصفت وتناثرت أنابيبها، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب يحثو بعضه التراب في وجه بعض ثم تعانقوا وتكاوموا بالأفواه ثم تراموا بالصخر والحجارة ثم تحاجزوا فكان الرجل من أهل العراق يمر على أهل الشام فيقول كيف اجز إلى رايات بنى فلان فيقولون ههنا لاهداك اللَّه ويمر الرجل من أهل الشام على أهل العراق فيقول كيف أمضى إلى رايات بنى فلان فيقولون ههنا لاهداك اللَّه ولا عافاك.

وقال: وقال معاوية لعمرو بن العاص أماترى يا أباعبداللَّه إلى ما قد وقعنا كيف ترى أهل الشام غدا صانعين إنا لبمعرض خطر عظيم فقال له إن أصبحت غدا ربيعة وهم متعطفون حول علي تعطف الابل حول فحلها لقيت منه جلادا صادقا وباسا شديدا وكانت التي لا سوى لها فقال معاوية أيجوز إنك تخوفنا يا أبا عبداللَّه، قال: إنك سألتني فأجبتك فلما أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا وربيعة محدقة بعلي إحداق بياض العين بسوادها(2).

ص: 372


1- وقعة صفين: 300؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/239؛ بحار الأنوار: 32/481، ش 418.
2- وقعة صفين: 304؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/241؛ بحار الأنوار: 32/482.

وعن عمرو بن شمر قال لما أصبح عليّ هذا اليوم جاء فوقف بين رايات ربيعة فقال عتاب بن لقيط البكري من بني قيس بن ثعلبة: يا معشر ربيعة حاموا من علي عليه السلام منذ اليوم فان اصيب فيكم افتضحتم ألا ترونه قائما تحت راياتكم وقال لهم شقيق بن ثور: يا معشر ربيعة ليس لكم عذر عند العرب إن وصل إلى علي عليه السلام وفيكم رجل حي، فامنعوه اليوم واصدقوا عدوكم اللقاء فانه حمد الحياة تكسبونه فتعاهدت ربيعة وتحالفت بالايمان العظيمة وتبايع منهم سبعة آلاف على أن لا ينظر رجل خلفه حتى يردوا سرادق معاوية، فقاتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا لم يكن قبله مثله وأقبلوا نحو سرادق معاوية فلما نظر إليهم قد اقبلوا قال:

اذا قلت قد ولت ربيعة اقبلت * كتائب منها كالجبال تجالد

ثم قال لعمرو: يا عمرو ما ترى؟ قال: أرى أن لا تحنث اخوالي اليوم، فقام معاوية وخلا لهم سرادقه ورحله وخرج فارا عنه لائذا ببعض مضارب العسكر في اخريات الناس فدخله، وانتهبت ربيعة سرادقه ورحله وبعث إلى خالد بن المعمر أنك قد ظفرت ولك أمارة خراسان إن لم تتم، فقطع خالد القتال، ولم يتمه، وقال لربيعة: قد برت أيمانكم فحسبكم، فلما كان عام الجماعة وبايع الناس معاوية أمره معاوية على خراسان وبعثه اليها فمات قبل أن يبلغها(1).

وعن عمر بن سعد: إن عليا صلى بهم يومئذ صلاة الغداة ثم زحف بهم، فلما بصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب علي عليه السلام ألف رجل أو أكثر، فأحاطوا بهم وحالوا بينهم وبين أصحابهم فلم يروهم، فنادى علي عليه السلام ألا رجل

ص: 373


1- وقعة صفين: 306؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/242؛ بحار الأنوار: 32/482.

يشري نفسه للَّه ويبيع دنياه بآخرته فأتاه رجل من جعف يقال له عبدالعزيز بن الحارث على فرس أدهم كانه غراب مقنع في الحديد لا يرى منه إلّا عيناه فقال: يا أميرالمؤمنين مرني بأمرك فو اللَّه لا تأمرني بشي ء إلّا صنعته فقال علي عليه السلام:

سمحت بأمر لا يطاق حفيظة * وصدقا واخوان الوفاء قليل

جزاك إله الناس خيرا فانه * لعمرك فضل ما هناك جزيل

يا أبا الحارث شد اللَّه ركنك احمل على أهل الشام حتى تأتي أصحابك فتقول لهم إن أميرالمؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم هللوا وكبروا من ناحيتكم، ونهلل نحن ونكبر من ههنا واحملوا من جانبكم وتحمل من جانبنا على أهل الشام فضرب الجعفي فرسه حتى اذا أقامه على أطراف سنابكه حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي عليه السلام فطاعنهم ساعة وقاتلهم فافرجوا له حتى خلص إلى أصحابه.

فلما رأوه استبشروا به وفرحوا وقالوا: ما فعل أميرالمؤمنين عليه السلام قال صالح يقرئكم السلام ويقول لكم: هللوا وكبروا واحملوا حملة رجل واحد من جانبكم ونهلل نحن من جانبنا ففعلوا ما أمرهم به وهللوا وكبروا وهلل علي عليه السلام وكبر هو وأصحابه وحمل على أهل الشام وحملوهم من وسط أهل الشام فانفرج عنهم وخرجوا وما أصيب منهم رجل واحد، ولقد قتل من فرسان الشام يومئذ زهاء سبعمائة إنسان وقال علي عليه السلام من أعظم الناس اليوم عناء؟ فقالوا: أنت يا أميرالمؤمنين فقال: كلا ولكنه الجعفي(1).

ص: 374


1- وقعة صفين: 307؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/242؛ بحار الأنوار: 32/482، ش 419.

قال نصر: وكان علي عليه السلام لا يعدل بربيعة أحدا من الناس، فشق ذلك على مضر وأظهروا لهم «له خ ل» القبيح وأبدوا ذات أنفسهم، فقام أبوالطفيل عامر بن وائلة الكناني وعمير بن عطارد التميمي وقبيصة بن جابر الأسدي وعبداللَّه بن الطفيل العامري في وجوه قبائلهم، فأتوا علياعليه السلام فتكلم أبوالطفيل فقال: يا أميرالمؤمنين انا واللَّه ما نحسد قوما خصهم اللَّه منك بخير وإن هذا الحى من ربيعة قد ظنوا أنهم أولى بك منا فاعفهم عن القتال أياما واجعل لكل امرء منا يوما نقاتل فيه فانا إذا اجتمعنا اشتبه عليك بلاؤنا، فقال علي عليه السلام: نعم اعطيكم ما طلبتم، وأمر ربيعة أن تكف عن القتال وكانت بازاء اليمن من صفوف أهل الشام.

فغدا أبو الطفيل عامر بن وائلة في قومه من كنانة وهم جماعة عظيمة فتقدم أمام الخيل واقتتلوا قتالا شديدا ثم انصرف إلى علي فأثني عليه السلام عليه خيرا.

ثم غدا في اليوم الثاني عمير بن عطارد بجماعة من بنى تميم وهو يومئذ سيد مضر الكوفة فقال: يا قوم إني اتبع آثار أبي الطفيل فاتبعوا آثار كنانة وقاتل أصحابه قتالا شديدا حتى امسوا وانصرف عمير إلى علي عليه السلام وعليه سلاحه.

ثم غدا في اليوم الثالث قبيصة بن جابر الأسدي في بني أسد وقال لأصحابه:

يا بني أسد اما أنا فلا أقصر دون صاحبي وأما أنتم فذاك اليكم، ثم تقدم فقاتل القوم إلى أن دخل الليل.

ثم غدا في اليوم الرابع عبداللَّه بن الطفيل العامري في جماعة هوازن فحارب بهم حتى الليل ثم انصرفوا(1).

عن الاشعث بن سويد عن كردوس: كتب عقبة بن مسعود عامل علي عليه السلام على

ص: 375


1- وقعة صفّين: 308؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/244؛ بحار الأنوار: 32/484.

الكوفة إلى سليمان بن صرد الخزاعي وهو مع علي عليه السلام بصفين: أما بعد فإنّهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا(1)، فعليك بالجهاد والصبر مع أميرالمؤمنين والسلام(2).

عن عمر بن سعد وعمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفرعليه السلام قال: قام علي عليه السلام فخطب الناس بصفين فقال:

الحمد للَّه على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البر والفاجر، وعلى حججه البالغة على خلقه من أطاعه فيهم ومن عصاه، إن يرحم فبفضله ومنّه، وإن عذب فبما كسبت أيديهم وأن اللَّه ليس بظلام للعبيد، أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء، وأستعينه على ما نابنا من أمر الدنيا والآخرة، وأتوكل عليه وكفى باللَّه وكيلا.

ثم إني اشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ارسله بالهدى ودين الحق وارتضاه لذلك، وكان أهله واصطفاه لتبليغ رسالته وجعله رحمة منه على خلقه، فكان علمه فيه، «كعلمه فيه خ ل»، رءوفا رحيما أكرم خلق اللَّه حسبا واجملهم منظرا واسخاهم نفسا وابرهم لوالد وأوصلهم لرحم وأفضلهم علما وأثقلهم حلما وأوفاهم بعهد وآمنهم على عقد، لم يتعلق عليه مسلم ولا كافر بمظلمة قط، بل كان يظلم فيغفر ويقدر فيصفح حتى مضى مطيعا للَّه صابرا على ما أصابه مجاهدا في اللَّه حق جهاده حتى أتاه اليقين، فكان ذهابه أعظم المصيبة على أهل الأرض البر والفاجر.

ص: 376


1- الكهف: 20.
2- وقعة صفّين: 303؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/247؛ بحار الأنوار: 32/485.

ثم ترك فيكم كتاب اللَّه يأمركم بطاعة اللَّه وينهاكم عن معصيته، وقد عهد إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عهدا فلست أحيد عنه وقد حضرتم عدوكم وعلمتم أن رئيسهم منافق ابن منافق يدعوهم إلى النار، وابن عم نبيكم معكم وبين أظهركم ويدعوكم إلى الجنة وإلى طاعة ربكم والعمل بسنة نبيكم، ولا سواء من صلى قبل كل ذكر لا يسبقني بصلاة مع رسول اللَّه أحد وأنا من أهل بدر ومعاوية طليق ابن طليق، واللَّه إنا على الحق وإنهم على الباطل فلا يجتمعن عليه وتتفرقوا عن حقكم حتى يغلب باطلهم على حقكم، قاتلوهم يعذبهم اللَّه بأيديكم، فان لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم.

فقام أصحابه فقالوا: يا أميرالمؤمنين انهض بنا إلى عدونا وعدوك إذا شئت فواللَّه لا نريد بك بدلا بل نموت معك ونحيا معك، فقال لهم:

والذي نفسي بيده لنظر إلي النبي صلى الله عليه وآله أضرب بين يديه بسيفي هذا فقال: لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي، وقال لي: يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي وموتك وحياتك يا علي معي، واللَّه ما كذب ولا كذبت ولا ضل ولا ضللت ولا نسيت ما عهد إلي وإني على بينة من ربي وعلى الطريق الواضح ألفظه لفظا ثم نهض إلى القوم فاقتتلوا من حين طلعت الشمس حتى غاب الشفق الأحمر وما كانت صلاة القوم في ذلك اليوم إلّا تكبيرا(1).

عن عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان قال برز في أيام صفين رجل اشتهر بالبأس والنجدة اسمه كريب بن الوضاح، فنادى من يبارز،

ص: 377


1- وقعة صفين: 313؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/247؛ بحار الأنوار: 32/485، ش 420.

فخرج إليه المرتفع بن وضاح الزبيدي فقتله، ثم - نادى من يبارز فخرج إليه الحارث بن الحلاج فقتله، ثم نادى من يبارز فخرج إليه عائذ بن مسروق الهمداني فقتله، ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض ونادى من يبارز.

فخرج إليه علي عليه السلام وناداه ويحك يا كريب إني احذرك اللَّه وبأسه ونقمته وأدعوك إلى سنة اللَّه وسنة رسوله ويحك لا يدخلنك معاوية النار، فكان جوابه أن قال: ما أكثر ما قد سمعت منك هذه المقالة ولا حاجة لنا فيها، اقدم إذا شئت من يشتري سيفي وهذا أثره فقال علي عليه السلام لا حول ولا قوة إلّا باللَّه، ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خر منها يشحط في دمه ثم نادى من يبرز فبرز إليه الحرث بن وداعة (الحارث بن وادعة خ ل) الحميري فقتله، ثم نادى من يبرز فبرز إليه المطاع بن المطلب القيني فقتل مطاعا، ثم نادى من يبرز فلم يبرز إليه أحد فنادى «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»(1) ويحك يا معاوية هلم إلى فبارزني ولا يقتلن الناس فيما بيننا، فقال عمرو بن العاص اغتنمه منتهزاً قد قتل ثلاثة أبطال العرب وإني أطمع أن يظفرك اللَّه به، فقال معاوية واللَّه لن تريد إلّا أن اقتل فتصيب الخلافة بعدي اذهب إليك عني فليس مثلي يخدع(2).

قال نصر: وخطب عبداللَّه بن العباس يومئذ فقال: الحمد للَّه رب العالمين الذي دحى تحتنا سبعا وسمك(3) فوقنا سبعا وخلق فيما بينهن خلقا وأنزل لنا منهن رزقا، ثم جعل كل شي ء يبلى ويفنى غير وجهه الحى القيوم الذي يحيى ويبقى، إن اللَّه

ص: 378


1- البقرة: 194.
2- وقعة صفين: 315؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/249؛ بحار الأنوار: 32/487، ش 421.
3- سمك: رفع.

تعالى بعث أنبياء ورسلا فجعلهم حججا على عباده عذرا أو نذرا لا يطاع إلّا بعلمه واذنه يمن بالطاعة على من يشاء من عباده، ثم يثيب عليها ويعصى فيعفو ويغفر بحلمه لا يقدر قدره ولا يبلغ شي ء مكانه، أحصى كل شي ء عددا وأحاط بكل شي ء علما.

وأشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله امام الهدى والنبي المصطفى، وقد ساقنا قدر اللَّه إلى ما ترون حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة وانتشر من امرها ان معاوية بن أبي سفيان وجد من طغام الناس أعوانا عَلى إبن عم رسول اللَّه وصهره وأول ذكر صلى معه بدري، قد شهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كل مشاهده التي فيها الفضل ومعاوية مشرك يعبد الاصنام والذي ملك الملك وحده وبان به وكان اهله لقد قاتل علي بن أبي طالب عليه السلام مع رسول اللَّه وهو يقول: صدق اللَّه ورسوله ومعاوية يقول كذب اللَّه ورسوله، فعليكم بتقوى اللَّه والجد والحزم والصبر واللَّه إنكم لعلى حق، وإن القوم لعلي باطل، فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم، وإنا لنعلم أن اللَّه سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم، اللهم أعنا ولا تخذلنا وانصرنا على عدونا ولا تحل عنا، وافتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين(1).

وعن عمرو بن عبدالرحمن بن جندب عن جندب بن عبداللَّه قال: قام عمار يوم صفين فقال: انهضوا معي عباداللَّه إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد اللَّه بغير ما في كتاب اللَّه إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالعدل والاحسان، فقالوا هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم

ص: 379


1- وقعة صفين: 317؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/251؛ بحار الأنوار: 32/488.

دنياهم لو درس هذا الدين: لم قتلتموه؟ فقلنا: لاحداثه، فقالوا: إنه لم يحدث شيئا وذلك لانه مكنهم من الدنيا فهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدمت الجبال، واللَّه ما أظنهم يطلبون بدم إنهم ليعلمون أنه لظالم ولكن القوم ذاقوا للدنيا فاستحبوها واستمروها وعلموا أن صاحب الحق لو ولاهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون منها إن القوم لم تكن لهم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة والولاية فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: قتل امامنا مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة وملوكا، تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون، ولولاها ما بايعهم من الناس رجل اللهم ان تنصرنا فطال ما نصرت وان تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الاليم ثم مضى ومضى معه أصحابه، فدنا من عمرو بن العاص فقال: يا عمرو بعت دينك بمصر فتبالك فطال ما بغيت للاسلام عوجا، ثم نادى عبيداللَّه بن عمر وذلك قبل مقتله وقال: يا بن عمر صرعك اللَّه بعت دينك بالدنيا من عدو اللَّه وعدو الاسلام، قال: كلا ولكني اطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم، قال: كلا اشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشي ء من فعلك وجه اللَّه وأنك ان لم تقتل اليوم فتموت غدا فانظر اذا أعطى اللَّه العباد على نياتهم ما نيتك ثم قال:

اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في ان اقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبية سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت، اللهم إني أعلم مما علمتني أني لا أعمل عملا اليوم هذا هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم اليوم عملا هو أرضى لك منه لفعلته(1).

ص: 380


1- وقعة صفّين: 319؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5/252؛ بحار الأنوار: 32/489، ش 422.

عن عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد الجهني ان عمار بن ياسر نادى يومئذ أين من يبغى رضوان ربه ولا يؤب إلى مال ولا ولد؟ قال: فأتته عصابة من الناس فقال: يا أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوما، واللَّه إن كان إلّا ظالما لنفسه الحاكم بغير ما أنزل اللَّه.

فدفع علي عليه السلام الراية إلى هاشم بن عتبة وكان عليه درعان فقال له علي كهيئة المازح: أيا هاشم أما تخشى على نفسك أن تكون أعورا جبانا؟ قال: ستعلم يا أميرالمؤمنين واللَّه لا لفن بين جماجم القوم لف رجل ينوى الآخرة، فأخذ رُمْحا فهزه فانكسر، ثم أخذ آخر فوجده جاسيا فألقاه، ثم دعا برمح لين فشد به لوائه ولما دفع علي عليه السلام الراية إلى هاشم قال له رجل من بكر بن وائل من أصحاب هاشم: اقدم هاشم يكرّرها ثمّ قال: ما لَكَ يا هاشم قد انتفخ سحرك أعوراً وجبناً؟ قال: من هذا؟ قالوا: فلان قال: أهلها وخير منها إذا رأيتني صرعت فخذها ثم قال لأصحابه شدوا شسوع نعالكم وشدوا ازركم فاذا رأيتموني قد هزرت الراية ثلاثا فاعلموا أن أحدا منكم لا يسبقني إلى الحملة.

ثم نظر هاشم إلى عسكر معاوية فرأى جمعا عظيما، فقال: من أولئك؟ قالوا أصحاب ذي الكلاع ثم نظر فرأى جندا آخر فقال: من أولئك؟ قالوا: جند أهل المدينة قريش، قال: قومي لا حاجة لي في قتالهم، قال من عند هذه القبة البيضاء؟ قيل معاوية وجنده، فحمل حينئذ يرقل ارقالا(1)؛ (2).

وعن عبدالعزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال: لما كان قتال صفين

ص: 381


1- يرق ارقالا: يسرع.
2- وقعة صفين: 326؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8/10؛ بحار الأنوار: 32/26.

والرايه مع هاشم بن عتبة جعل عمار بن ياسر يتناوله بالرمح ويقول: اقدم يا أعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع قال: فجعل يستحيي من عمار وكان عالما بالحرب فيتقدم فيركز الراية فاذا سامت إليه الصفوف قال عمار: اقدم يا اعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع فجعل عمرو بن العاص يقول: إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملا لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم، فاقتتلوا قتالا شديدا وجعل عمار يقول صبرا عباداللَّه، الجنة في ظلال البيض قال: وكانت علامة أهل العراق بصفين الصوف الأبيض قد جعلوه في رؤوسهم وعلى اكتافهم، وشعارهم يا اللَّه يا أحد يا صمد يا رحيم، وكانت علامة أهل الشام خرقا بيضا قد جعلوه على رؤوسهم واكتافهم، وكان شعارهم نحن عباداللَّه حقا يا لثارات عثمان.

قال: فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد، فما تحاجزنا حتى حجز بيننا سواد الليل ولا يرى رجل منا ولا منهم موليا، فلما أصبحوا وذلك يوم الثلثاء خرج الناس إلى مصافهم.

فقال أبو نوح، فكنت في خيل علي عليه السلام فاذا أنا برجل من أهل الشام يقول من يدلني على الحميري أبي نوح، قال: قلت فقد وجدته فمن أنت؟ قال: أنا ذوالكلاع سر إلي، فقال أبو نوح: معاذ اللَّه أن أسير إليك إلّا في كتيبه، قال ذوالكلاع سر فلك ذمة اللَّه وذمة رسوله وذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك فانما اريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه فسارا حتى التقيا، فقال ذوالكلاع إنما دعوتك احدثك حديثا حدثنا عمرو بن العاص في أمارة عمر بن الخطاب قال أبو نوح: وما هو؟ قال: حدثنا عمرو بن العاص أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال: يلتقى أهل الشام وأهل العراق وفي إحدى الكتيبتين الحق وامام الهدى ومعه عمار بن ياسر، قال أبو نوح: لعمرو

ص: 382

واللَّه إنه لفينا، قال: أجاد هو على قتالنا؟ قال أبو نوح: نعم ورب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني.

فقال ذوالكلاع: هل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام فأنالك جار منهم حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره عن عمار وعن جده في قتالنا لعله يكون صلحا بين هذين الجندين، فقال له أبو نوح إنك رجل غادر وأنت في قوم غدور وإن لم تكن تريد الغدر أغدروك وإني ان أموت أحب إلى من أن أدخل مع معاوية وأدخل في دينه وأمره.

فقال ذوالكلاع: أنا جار لك من ذلك أن لا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعة ولا تحبس عن جندك، وإنما هي كلمة تبلغها عمرا لعل اللَّه ان يصلح بين هذين الجندين ويضع عنهم الحرب والسلاح، فسار معه حتى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس وعبيداللَّه بن عمر يحرض الناس فلما وقفا على القوم قال ذوالكلاع لعمرو: يا ابا عبداللَّه هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمار بن ياسر ولا يكذبك؟ قال عمرو: ومن هذا معك؟ قال هذا ابن عمي وهو من أهل الكوفة، فقال له عمرو: إني لأرى عليك سيما أبي تراب قال ابو نوح: عليّ سيماء محمدصلى الله عليه وآله وأصحابه، وعليك سيماء أبي جهل وسيماء فرعون.

فقام أبوالاعور فسل سيفه ثم قال: أرى هذا الكذاب يشاتمنا بين أظهرنا وعليه سيماء أبي تراب فقال ذوالكلاع اقسم باللَّه لئن بسطت يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف ابن عمي وجاري عقدت له ذمتي وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه.

فقال له عمرو: اذكرك باللَّه يا أبا نوح إلّا ما صدقت أفيكم عمار بن ياسر؟

ص: 383

فقال له أبو نوح: ما أنا بمخبرك عنه حتى تخبرني لم تسأل عنه فان معنا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله غيره وكلهم جاد على قتالكم.

قال عمرو: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول: إن عمارا تقتله الفئة الباغية، وإنه ليس ينبغي لعمار أن يفارق الحق ولن تأكل النار منه شيئا، فقال أبو نوح: لا إله إلّا اللَّه واللَّه أكبر إنه لفينا جاد على قتالكم.

فقال عمرو: واللَّه إنّه لجاد على قتالنا؟ قال: نعم واللَّه الذي لا إله إلّا هو لقد حدثني يوم الجمل إنا سنظهر عليهم ولقد حدثني أمس أن لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر(1) لعلمنا أنا على الحق وأنهم على باطل، ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار فقال له عمرو: هل تستطيع أن تجمع بيني وبينه؟ قال: نعم.

فلما أراد أن يبلغه أصحابه ركب عمرو بن العاص وابناه وعتبة بن أبي سفيان وذوالكلاع وأبو الأعور السلمى وحوشب والوليد بن أبي معيط فانطلقوا حتى أتوا خيولهم وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع حتى انتهى إلى أصحابه فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعدا مع أصحابه مع ابني بديل والهاشم والأشتر وجارية بن المثنى وخالد بن المعمر وعبداللَّه بن حجل وعبداللَّه بن العباس.

فقال أبو نوح: إنه دعاني ذوالكلاع وهو ذو رحم فذكر ما جرى بينه وبينهم وقال: أخبرني عمرو بن العاص أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول: عمار تقتله الفئة الباغية، فقال عمار صدق وليضر به ما سمع ولا ينفعه، فقال أبو نوح: إنه يريد أن يلقاك فقال عمار لأصحابه: اركبوا.

قال ونحن اثنا عشر رجلا بعمار فسرنا حتى لقيناهم ثم بعثنا إليهم فارسا من

ص: 384


1- هجر بالتحريك بلد ببحرين كثير النخل، لغة.

عبدالقيس يسمى عوف بن بشر، فذهب حتى كان قريبا من القوم، ثم نادى أين عمرو بن العاص؟ قالوا: ههنا فأخبرهم بمكان عمار وخيله، فقال عمرو فليسر إلينا: فقال له عوف: إني أخاف غدرانك، ثم جرى بينهما كلمات تركتها إلى أن قال:

أقبل عمار مع أصحابه وعمرو مع أصحابه فتوافقا فقال عمرو: يا أبا اليقظان اذكرك اللَّه إلّا كففت سلاح أهل هذا العسكر وحقنت دمائهم فعلى م تقاتلنا؟ أو لسنا نعبد إلها واحدا ونصلي قبلتكم وندعو دعوتكم ونقرأ كتابكم ونؤمن برسولكم؟

فقال عمار: الحمد للَّه الذي أخرجها من فيك، إنها لي ولأصحابي القبلة والدين وعبادة الرحمن والنبي والكتاب من دونك ودون أصحابك وجعلك ضالا مضلا ولا تعلم هاد أنت أم ضال، وجعلك أعمى وسأخبرك على ما قاتلتك عليه أنت وأصحابك أمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أن أقاتل الناكثين ففعلت، وأمرني أن أقاتل القاسطين فأنتم هم وأما المارقون فما أرى أدركهم أم لا.

أيها الابتر ألست تعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنا مولا اللَّه ورسوله وعلي بعده وليس لك مولى.

فقال له عمرو: فما ترى في قتل عثمان؟ قال: فتح لكم باب سوء، قال عمرو فعلي قتله؟ قال عمار: بل اللَّه رب على قتله وعلي معه، قال عمرو: أكنت فيمن قتله؟

قال: أنا مع من قتله وأنا اليوم أقاتل معه، قال: فلم قتلتموه؟ قال أراد أن يغير ديننا فقتلناه، قال عمرو: ألا تسمعون قد اعترف بقتل إمامكم قال عمار: وقد قالها فرعون قبلك: ألا تسمعون.

ص: 385

فقام أهل الشام ولهم زجل فركبوا خيولهم ورجعوا فبلغ معاوية ما كان بينهم فقال له: هلكت العرب إن أخذتهم خفة العبد الأسود يعني عمارا، وخرج عمار إلى القتال وصفت الخيول بعضها لبعض وزحف الناس، وعلى عمار درع وهو يقول أيها الناس الرواح إلى الجنة، فاقتتل الناس قتالا شديدا لم يسمع الناس بمثله، وكثرت القتلى حتى أن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله.

فقال الأشعث: لقد رأيت أخبية صفين وأروقتهم وما منها خباء ولا رواق ولا بناء ولا فسطاط إلّا مربوطا بيد رجل أو رجله وجعل أبو سماك الأسدي يأخذ اداوة من ماء وشفرة حديد فيطوف في القتلى فاذا رأى رجلا جريحا وبه رمق اقعده وسأله من أميرالمؤمنين عليه السلام؟ فان قال: علي غسل عنه الدم وسقاه من الماء وإن سكت وَجَأه بسكين حتى يموت، قال: فكان يسمى المخضخض(1)؛ (2).

وعن عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن الأحنف بن قيس قال: واللَّه إني إلى جانب عمار فتقدمنا حتى إذا دنونا من هاشم بن عتبة قال له عمار: احمل فداك أبي وأمي ونظر عمار إلى رقة في الميمنة فقال له هاشم، رحمك اللَّه يا عمار إنك رجل تأخذك خفة في الحرب وإني إنما أزحف باللواء زحفا وأرجو أن أنال بذلك حاجتي، وإني إن خففت لم آمن الهلكة.

وقد قال معاوية لعمرو ويحك يا عمرو إن اللواء مع هاشم كانه يرقل به إرقالا وإنه إن زحف به زحفا إنه ليوم أطول لأهل الشام، فلم يزل به عمار حتى حمل فبصر به معاوية فوجه إليه جملة أصحابه ومن برز بالناس منهم في ناحيته وكان

ص: 386


1- مأخوذ من الخضخضة وهو تحريك الماء والسويق ونحوهما.
2- وقعة صفّين: 328؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8/12؛ بحار الأنوار: 32/26.

في ذلك الجمع عبداللَّه بن عمرو ومعه سيفان قد تقلد بواحد وهو يضرب بالآخر وأطافت به خيل علي عليه السلام فقال عمرو: يا اللَّه يا رحمن ابني ابني، وكان يقول معاوية: اصبر اصبر فانه لا بأس عليه قال عمرو لو كان يزيد اذا لصبرت؟

ولم يزل حماة أهل الشام يذبون عنه حتى نجا هاربا على فرسه واصيب هاشم في المعركة(1)، قال وقال عمار حين نظر إلى راية عمرو بن العاص: إن هذه الراية قد قاتلتها ثلاث عركات(2) وما هي بأرشدهن ثم حمل وهو يقول:

نحن ضربناكم على تنزيله * فاليوم نضربكم عى تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق الى سبيله * يا رب اني مؤمن بقيله(3)

ثم استسقى واشتد ظماؤه، فأتته امرئة طويلة اليدين ما ادري اعس(4) معها أم اداوة فيها ضياح(5) من لبن وقال الجنة تحت الاسنة اليوم ألقى الأحبة محمداصلى الله عليه وآله وحزبه، واللَّه لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل.

وحمل عليه ابن جوين السكسكي وابو العادية الفزاري، فأما أبو العادية قطعنه وأما ابن جوين فاجتز رأسه عليهما لعنة اللَّه(6).

فقال ذو الكلاع لعمرو: ويحك ما هذا؟ قال عمرو: إنه سيرجع إلينا وذلك قبل أن

ص: 387


1- وقعة صفّين: 340؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8/23؛ بحار الأنوار: 32/31.
2- أي مرات.
3- بمعنى القول.
4- العس بضم العين القدح العظيم الجمع عساس ككتاب قاموس.
5- هو بالفتح كالضيح اللبن الممزوج بالماء، ق.
6- الاختصاص: 14؛ بحار الأنوار: 33/21.

يصاب عمار، فاصيب عمار مع علي واصيب ذو الكلاع مع معاوية فقال عمرو: واللَّه يا معاوية ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا، واللَّه لو بقى ذوالكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه ولأفسد علينا جندنا.

قال: فكان لا يزال رجل يجي ء فيقول: أنا قتلت عمارا فيقول عمرو فما سمعتموه يقول فيخلطون حتى أقبل ابن جوين فقال: أنا قتلت عمارا فقال له عمرو: فما كان آخر منطقه؟ قال: سمعته يقول اليوم ألقى الأحبه محمدا وحزبه، قال عمرو: صدقت أنت أما واللَّه ما ظفرت بذلك ولكن اسخطت ربك(1).

وروى عن الصادق عليه السلام أنه لما قتل عمار ارتعدت فرايص خلق كثير وقالوا: قد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عمار تقتله الفئة الباغية، فدخل عمرو بن العاص على معاوية فقال: قد هاج الناس واضطربوا، قال معاوية: لما ذا؟ قال: قتل عمار، قال: فما ذا؟ قال: أليس قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله تقتله الفئة الباغية؟ فقال له معاوية دحضت في قولك أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي بن أبي طالب لما ألقاه بين رماحنا، فاتصل ذلك بعلي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: فاذن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله هو الذي قتل حمزة لما ألقاه بين رماح المشركين(2).

وعن إسماعيل بن أبي خالد قال سمعت قيس بن أبي حازم قال قال عمار بن ياسر ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم(3).

وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: شهد خزيمة بن ثابت الأنصاري الجمل

ص: 388


1- وقعة صفّين: 341؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8/24؛ بحار الأنوار: 33/31.
2- الإحتجاج: 1/181؛ بحار الأنوار: 33/6، ش 364.
3- رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال: 33، ش 63؛ بحار الأنوار: 33/11، ش 372.

وهو لا يسل سيفا وشهد صفين وقال: لا اصلى ابدا خلف إمام حتى يقتل عمار فأنظر من يقتله فاني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول: تقتله الفئة الباغية، فلما قتل عمار قال خزيمة: قد جازت (حانت) لي الصلاة ثم اقترب وقاتل حتى قتل.

وكان الذي قتل عمارا أبو عادية المرني طعنه برمح فسقط وكان يومئذ يقاتل وهو ابن أربع وتسعين سنة، فلما وقع أكب عليه رجل آخر فاجتز رأسه فأقبلا يختصمان كلاهما يقول أنا قتلته.

فقال عمرو بن العاص: واللَّه ان يختصمان إلّا في النار، فسمعها منه معاوية فقال لعمرو، ما رأيت مثل ما صنعت؛ قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما لتختصمان في النار، فقال عمرو: هو واللَّه ذلك وأنك لتعلمه ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة(1).

وبالاسناد عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نعمر مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وكنا نحمل لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وآله فجعل ينفض التراب عن رأس عمار ويقول: يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد الأجر من اللَّه تعالى، قال: فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويحك تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار، قال عمار: أعوذ بالرحمن أظنه قال من الفتن(2).

وعن أبي المفضل الشيباني في حديث طويل مسندا عن النبي صلى الله عليه وآله قال: يا عمار ستكون بعدي فتنة فاذا كان ذلك فاتبع عليا وحزبه فانه مع الحق والحق معه، يا

ص: 389


1- المناقب للخوارزمي: 191، ش 229 وكشف الغمة (ط - القديمة): 1/260؛ بحار الأنوار: 33/15.
2- المناقب للخوارزمي: 192، ش 230 وكشف الغمة (ط - القديمة): 1/260؛ بحار الأنوار: 33/15.

عمار إنك ستقاتل بعدي مع علي صنفين: الناكثين والقاسطين، ثم يقتلك الفئة الباغية، قلت: يا رسول اللَّه أليس ذلك على رضا اللَّه ورضاك؟ قال: نعم، على رضا اللَّه ورضاى ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه.

فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقال له: يا أخا رسول اللَّه أتأن لي في القتال؟ قال: مهلا رحمك اللَّه، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله، فأعاد ثالثا فبكى أميرالمؤمنين عليه السلام فنظر إليه عمار.

فقال: يا أميرالمؤمنين إنه ليوم الذي وصفه لي رسول اللَّه.

فنزل أميرالمؤمنين عليه السلام عن بغلته وعانق عمارا وودعه ثم قال: يا أبا اليقظان جزاك اللَّه عن اللَّه وعن نبيك خيرا فنعم الأخ كنت ونعم الصاحب كنت ثم بكى عليه السلام وبكى عمار ثم قال: واللَّه يا أميرالمؤمنين ما تبعتك إلّا ببصيرة فاني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول: يا عمار ستكون بعدي فتنه فاذا كان ذلك فاتبع عليا وحزبه فانه مع الحق والحق معه، وستقاتل بعدى الناكثين والقاسطين، فجزاك اللَّه يا أميرالمؤمنين عن الاسلام أفضل الجزاء، فلقد أديت وبلغت ونصحت ثم ركب وركب أميرالمؤمنين عليه السلام، ثم برز إلى القتال ثم دعا بشربة من ماء فقيل ما معنا ماء فقام إليه رجل من الأنصار فاسقاه شربة من لبن فشربه، ثم قال: هكذا عهد إليّ رسول اللَّه أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من اللبن.

ثم حمل على القوم فقتل ثمانية عشر نفسا فخرج إليه رجلان من أهل الشام فطعناه فقتل رحمه اللَّه، فلما كان الليل طاف أميرالمؤمنين عليه السلام في القتلى فوجد عمارا ملقى بين القتلى، فجعل رأسه على فخذه ثم بكى عليه السلام وأنشأ يقول:

ص: 390

ايا موت كم هذا التفرق عنوة * فلست تبقى للخليل خليل

اراك بصيرا بالذين احبهم * كأنك تمضي نحوهم بدليل

قال المجلسي: في الديوان هكذا:

ألا أيها الموت الذي ليست تاركي * أرحنى فقد أفنيت كل خليل

أراك بصيرا بالذين أحبهم * كأنك تأتي نحوهم بدليل(1)

قال نصر بن مزاحم: لما حدث عمرو بن العاص في عمار ما قاله النبي صلى الله عليه وآله خرج عبداللَّه عمر العبسى وكان من عباد أهل زمانه ليلا فأصبح في عسكر علي عليه السلام فحدث الناس بقول عمرو في عمار فلما سمع معاوية هذا القول بعث إلى عمرو وقال: أفسدت على أهل الشام، أكل ما سمعته من رسول اللَّه تقوله؟ فقال عمرو: قلتها ولست واللَّه أعلم الغيب ولا أدري أن صفين يكون عمار خصمنا، وقد رويت أنت فيه مثل الذي رويت فأسأل أهل الشام فغضب معاوية وتنمر(2) لعمرو ومنعه خيره، فقال عمرو لا خير لي في جوار معاوية إن تجلت هذه الحرب عنا وكان عمرو حمى الانف فقال في ذلك:

تعاتبني ان قلت شيئا سمعته * وقد قلت لو أنصفتني مثله قبلى

وما كان لي علم بصفين انها * تكون وعمار يحث على قتلى

فلو كان لي بالغيب علم كتمتها * وكايدت أقواما مراجلهم تغلى

إلى آخر الأبيات ثم أجابه معاوية بأبيات تشتمل على الاعتذار، فأتاه عمرو

ص: 391


1- كفاية الأثر: 121؛ بحار الأنوار: 33/18، ش 376.
2- تنمر تشدد في الصوت عند الوعيد وتشبه النمر وهو السبع ق.

وأعتبه وصار أمرهما واحدا ثم إن عليا دعا هاشم بن عتبه ومعه لواؤه، وكان أعور، وقال عليه السلام: حتى متى تأكل الخبز وتشرب الماء، فقال هاشم: لأجهّزنّ (لاجهدن) ان لا أرجع إليك أبدا(1).

عن عمر بن سعد عن رجل عن أبي سلمة: ان هاشم ابن عتبة دعا في الناس عند المساء «يعني مساء اليوم التاسع» ألا من كان يريد اللَّه والدار الآخرة فليقبل، فاقبل إليه ناس فشد في عصابة من أصحابه على أهل الشام مرارا فليس من وجه يحمل عليهم الاصبروا له وقوتل فيه قتالا شديدا فقال لأصحابه لا يهولنكم ما ترون من صبرهم فو اللَّه ما ترون منهم إلّا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها وانهم لعلى الضلال وانكم لعلى الحق يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا وامشوا بنا إلى عدونا على تؤدة رويدا ثم تاسوا وتصابروا واذكروا اللَّه ولا يسلم رجل اخاه ولا تكثروا الالتفات واصمدوا صمدهم وجالدوهم محتسبين حتى يحكم اللَّه بيننا وهو خير الحاكمين.

فقال أبو سلمة فمضى في عصابة من القراء فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه حتى رأى بعض ما يسرون به إذ خرج عليهم فتى شاب وشد يضرب بسيفه ويلعن ويشتم ويكثر الكلام فقال له هاشم إن هذا الكلام بعده الخصام وإن هذا القتال بعده الحساب فاتق اللَّه فإنك راجع إلى ربك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به قال فإني أقاتلكم لأن

ص: 392


1- وقعة صفّين: 345 - 343؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8/27؛ بحار الأنوار: 33/33.

صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي وأنكم لا تصلون وأقاتلكم لأن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله فقال له هاشم وما أنت وابن عفان إنما قتله أصحاب محمد وقراء الناس حين أحدث أحداثا وخالف حكم الكتاب، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين وأولى بالنظر في أمور المسلمين وما أظن أن أمر هذه الأمة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قط قال الفتي أجل واللَّه لا أكذب فإن الكذب يضر ولا ينفع ويشين ولا يزين فقال له هاشم إن هذا الأمر لا علم لك به فخله وأهل العلم به قال أظنك واللَّه قد نصحتني فقال له هاشم: وأما قولك فإن صاحبنا لا يصلي فهو أول من صلى للَّه مع رسوله صلى الله عليه وآله وأفقهه في الدين اللَّه وأولاه برسول اللَّه وأما من ترى معه فكلهم قارئ الكتاب لا ينام الليل تهجدا فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون قال الفتى: يا عبداللَّه إنّي لأظنك امرأ صالحا أخبرني هل تجد لي من توبة؟ قال: نعم تب إلى اللَّه يتب عليك قال: فذهب الفتى راجعا فقال رجل من أهل الشام: خدعك العراقي قال: لا ولكن نصحني وقاتل هاشم هو وأصحابه قتالا شديدا حتى قتل تسعة نفر أو عشرة وحمل عليه الحارث بن المنذر فطعنه فسقط وبعث إليه علي عليه السلام أن قدم لواءك فقال للرسول انظر إلى بطني فإذا هو قد انشق فأخذ الراية رجل من بكر بن وائل ورفع هاشم رأسه فإذا هو بعبداللَّه بن عمر بن الخطاب قتيلا إلى جانبه فجثا حتى دنا منه فعض على ثديه حتى تبينت فيه أنيابه ثم مات هاشم وهو على صدر عبيداللَّه وضرب البكري فوقع فأبصر عبيداللَّه فعض على ثديه الآخر ومات أيضاً فوجدا جميعا ماتا على صدر عبيداللَّه ولما قتل هاشم جزع الناس عليه جزعا شديدا وأصيب معه عصابة مِن أَسْلم مِن القراء فمر عليهم علي عليه السلام وهم قتلى حوله فقال:

ص: 393

جزى اللَّه خيرا عصبة أسلمية * صباح الوجوه صرعوا حول هاشم

يزيد وعبداللَّه بشر ومعبد * وسفيان وابنا هاشم ذي المكارم

وعروة لا يبعد ثناه وذكره * إذا اخترط البيض الخفاف الصوارم

ثم قام عبداللَّه بن هاشم وأخذ الراية(1).

عمرو بن شمر قال: لما انقضى أمر صفين وسلم الأمر الحسن عليه السلام إلى معاوية ووفدت عليه الوفود أشخص عبداللَّه بن هاشم إليه أسيرا فلما أدخل عليه مثل بين يديه وعنده عمرو بن العاص فقال: يا أميرالمؤمنين هذا المختال(2) (المحتال خ ل) ابن المرقال فدونك الضب المضب(3) المغتر المفتون فإن العصا من العصية وإنما تلد الحية حية وجزاء السيئة سيئة مثلها فقال له ابن هاشم: ما أنا بأول رجل خذله قومه وأدركه يومه (واسلمه يومه) فقال معاوية: تلك ضغائن صفين وما جنى عليك أبوك فقال عمرو: أمكني منه فأشخب أوداجه على أثباجه(4) فقال له ابن هاشم: فهلا كانت هذه الشجاعة منك يا ابن العاص أيام صفين حين ندعوك إلى النزال وقد ابتلت أقدام الرجال من نقيع الجريال(5) وقد تضايقت بك المسالك وأشرفت فيها على المهالك وايم اللَّه لولا مكانك منه لنشبت لك مني خافية أرميك من خلالها أَحدّ من وقع الأشافي (الأثاقي) فإنك لا تزال تكثر في هوسك وتخبط في دهشك وتنشب في مرسك تخبط العشواء في الليلة الحندس الظلماء قال فأعجب معاوية

ص: 394


1- وقعة صفّين: 253؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8/35؛ بحار الأنوار: 33/35.
2- المختال: المتكبر المعجب بنفسه.
3- المضب : الذي يلزم الشي ء لا يفارقه ، وأصل الضب اللصوق بالأرض .
4- الثبج: ما بين الكاهل إلى الظهر.
5- الجريال: صبغ أحمر، ويريد به هنا الدم.

ما سمع من كلام ابن هاشم فأمر به إلى السجن وكف عن قتله(1)، هذا.

ويأتي طرف آخر من بقية الوقعة في شرح بعض الكلمات الآتية إن شاء اللَّه.

إلى هنا انتهى الجزء السادس وأسأل اللَّه ان يوفقني بمنه لاتمام هذا الشرح انه سميع الدعاء قريب مجيب.

ص: 395


1- وقعة صفّين: 348؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8/20؛ بحار الأنوار: 33/34.

مصادر الكتاب

القرآن الکریم

1 - الاحتجاج على اهل اللجاج: ابو منصور احمد بن على بن ابى طالب طبرسى، 2 مجلد، مترجم: بهراد جعفرى، دار الكتب الاسلامية، طهران 1387 ش.

2 - احياء العلوم: أبو حامد محمّد الغزالي، (المتوفى 505ق)، دار المعرفة، بيروت، 4 مجلد.

3 - الأخبار الطوال: ابن قتيبة الدينوري، (المتوفى 276ق)، القاهرة، الأولى 1960م.

4 - الاختصاص: محمد بن محمد المفيد، (المتوفى 413ق)، مصحح: على اكبر غفارى ومحمود حرمى زرندى، المؤتمر العالمى للالفية الشيخ المفيد، قم، الأولى 1413ق.

5 - ادب الكاتب: أبوبكر محمّد بن يحيى الصولي، (المتوفّى 335 ه)، مصحّح: محمّد بهجة الأثرى، 1 مجلّد، المكتبة العربيّة، بغداد، 1341.

6 - الارشاد في معرفة حجج اللَّه على العباد: محمّد بن محمّد المفيد، (المتوفّى 413ق)، المصحّح: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، المؤتمر للشيخ المفيد، قم، الأولى 1413ق.

7 - ارشاد القلوب الى الصواب للديلمى: حسن بن محمد ديلمى، (المتوفى 841ق)، 2 مجلد، الشريف الرضى، قم، الأولى 1412ق.

ص: 396

8 - اساس البلاغة: محمود بن عمر زمخشرى، (المتوفى 583ق)، 1 مجلد، دار صادر، يروت، الأولى 1979م.

9 - الاستيعاب: ابن عبدالبر، القرن الخامس، تحقيق: علي محمّد البجاوى، بيروت، دار الجيل، الأولى 1412ق، 1992م.

10 - اعتقادات الامامية (للصدوق) محمد بن على بن بابويه، (المتوفى 381ق)، مؤتمر الشيخ المفيد، قم، الثانية 1414ق.

11 - اعلام الدين فى صفات المؤمنين: حسن بن محمد ديلمى، (المتوفى 841ق)، 1 مجلد، الناشر والمصحح: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، الأولى 1408ق.

12 - اعيان الشيعة: السيّد محسن الأمين، (المتوفى 1371ق)، 10 مجلد، تحقيق: حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان.

13 - الأغاني: ابن الفرج الاصفهاني، (المتوفّى 356)، 25 جلد، دار إحياء التراث العربي.

14 - الأمالي (للصدوق): محمد بن على بن بابويه، (المتوفى 381ق)، الأعلمى بيروت، الخامسة 1400ق - 1362ش.

15 - الأمالي (للطوسي): محمد بن الحسن طوسى، (المتوفى 460ق)، 1 مجلد، دار الثقافه، قم، الأولى 1414ق.

16 - الامامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري، (المتوفّى 276ق)، تحقيق: الزيني، مؤسّسة الحلبى وشركاه للنشر والتوزيع.

17 - الامامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء: ابن قتيبة دينورى، القرن الثالث، تحقيق: على شيرى، دار الأضواء، بيروت، الأولى 1410ق - 1990م.

ص: 397

18 - انساب الأشراف: أحمد بن يحيى بن جابر البلاذرى، (المتوفى 279ق)، تحقيق: سهيل زكار، رياض، زركلى، 13 مجلد، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الأولى.

19 - الأنصاف في النص على الأئمّة الاثنى عشرعليهم السلام: البحراني، سيّد هاشم بن سليمان، (المتوفى 1107ق)، 1 مجلد، دفتر نشر فرهنگ اسلامي.

20 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: محمّد باقر بن محمّد تقى مجلسى، (المتوفى 1110ق)، 111 مجلد، دار احياء التراث العربي، الثانية 1403ق.

21 - البرهان فى تفسير القرآن: سيد هاشم بن سليمان بحراني، (المتوفى 1107ق)، 5 مجلد، مصحح: قسم الدراسات الاسلامية لمؤسسة البعثة، مؤسسة البعثة، قم، الأولى 1374 ش.

22 - بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: عماد الدين أبي جعفر محمد بن أبي القاسم الطبرى الآملي، (المتوفى 553ق)، 1 مجلد، المكتبة الحيدرية، نجف الأشرف، الثانية 1383ق.

23 - بصائر الدرجات في فضائل آل محمدعليهم السلام: محمد بن حسن صفار، (المتوفى 290ق)، مصحح: محسن بن عباسعلي كوچه باغي، مكتبة آية اللَّه المرعشي النجفي، قم، الثانية 1404ق.

24 - بلاغات النساء: ابن طيفور، (المتوفى 380ق)، مكتبة بصيرتي، قمّ المقدّسة.

25 - بلاغة الامام على بن الحسين عليه السلام: جعفر عباس الحائرى، دار الحديث للطباعة والنشر، قم، الأولى 1425ق 1383ش.

ص: 398

26 - البلد الأمين والدرع الحصين: الكفعمي، إبراهيم بن علي العاملي، (المتوفى 905ق)، 1 مجلد، مؤسسّة الأعلمي للمطبوعات، بيروت 1418ق.

27 - بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: محمّد تقي الشيخ الشوشتري، (المتوفى 1415ق - 1374ش)، مؤسّسة نشر أمير كبير، الأولى 1376 شمسى.

28 - البيان والتبيين: الجاحظ، (المتوفى 255ق)، المكتبة التجاريّة الكبرى لصاحبها مصطفى محمّد، مصر، الأولى 1345ق 1926م.

29 - تاج العروس من جواهر القاموس: محمّد مرتضى حسينى زبيدى، (المتوى 1205ق)، تحقيق: على هلالى وسيرى على، 20 مجلد، دار الفكر، بيروت، الأولى 1414ق.

30 - تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي، (المتوفى 463ق)، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1417ق - 1997 م.

31 - تاريخ الطبرى: محمد بن جرير الطبري، 6 مجلد، (المتوفى 310ق)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

32- تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر، (المتوفى 571ق)، 70 مجلد، تحقيق: علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، مطبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، چاپ 1415ق.

33 - تحف العقول: حسن بن علي، ابن شعبة الحرّاني، (المتوفى قرن 4)، 1 مجلد، مصحح: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الثانية 1404ق - 1363ش.

34 - تذكرة الخواص: سبط ابن جوزى، (المتوفى 654ق)، 1 مجلد، منشورات الشريف الرضى، قم، 1418ق 1376ش.

ص: 399

35 - تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي، (المتوفى 911ق)، 6 مجلد، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.

36 - تفسير الصافي: محمّد بن شاه مرتضى فيض كاشاني، (المتوفى 1091ق)، مكتبة الصدر، طهران، الثانية 1415ق.

37 - تفسير العياشي: محمّد بن مسعود العياشي، (المتوفى 320ق)، 2 مجلد، مصحح: السيّد هاشم رسولى المحلّاتى، المطبعة العلمية، طهران، الأولى 1380 ق.

38 - تفسير القمي: علي بن ابراهيم القمي، (المتوفى القرن 3 الهجري)، مصحح: السيّد طيّب موسوى الجزائري، 2 مجلد، دار الكتاب، قم، الثالثة 1404ق.

39 - التفسير المنسوب الى الامام الحسن العسكري عليه السلام: الشهادة 260 ق)، 1 مجلد، مصحح: مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، قم، الأولى 1409ق.

40 - تفسير فرات الكوفي: فرات بن ابراهيم كوفي، (المتوفى 307ق)، 1 مجلد، مصحح: محمد كاظم، مؤسسة الطبع والنشر في وزارة الارشاد الاسلامي، طهران، الأولى 1410ق.

41 - تفسير نور الثقلين عبد علي بن جمعة الحويزي، (المتوفى 1112ق)، 5 مجلدات، اسماعيليان، قم، الرابعة 1415ق.

42 - تنبيه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بمجموعة ورّام: ورام بن أبي فراس، مسعود بن عيسى، (المتوفى 605ق)، 2 مجلد، مكتبة الفقيه، قم، الأولى 1410ق.

43 - تنبيه الغافلين وتذكرة العارفين: شريف الرضي، محمّد بن حسين، 2 مجلد، نشر پيام حق، طهران 1378ش.

44 - التنبيه والاشراف: المسعودي، (المتوفى 346ق)، دار صعب، بيروت، لبنان.

ص: 400

45 - التوحيد المفضل: مفضل بن عمر، (المتوفى 148ق)، 1 مجلد، داورى، ايران، قم، بى تا.

46 - تهذيب الأحكام: محمد بن الحسن، طوسى، (المتوفى 460ق)، 10 مجلد، مصحح: حسن الموسوى خرسان، دار الكتب الاسلامية، تهران، الرابعة 1407ق.

47 - جامع الأخبار (للشعيرى): محمد بن محمد شعيرى، (المتوفى القرن 6)، مطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، الأولى.

48 - جامع السعادات: ملا محمد مهدي النراقي، (المتوفى 1209ق)، 3 مجلد، دار النعمان للطباعة والنشر، النجف الأشرف.

49 - الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبى): القرطبى، (المتوفى 671ق)، تحقيق: مصطفى السقا، 20 مجلّد، دار احياء التراث العربى، بيروت، 1405ق 1985م.

50 - الجمل والنصرة لسيّد العترة في حرب البصرة: محمّد بن محمّد المفيد، (المتوفى 413ق)، تحقيق: على مير شريفى، المؤتمر للشيخ المفيد، قم، الأولى 1413ق.

51 - جمهرة اللغة: أبوكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي، (المتوفى 321ق)، 3 مجلد، دار العلم للملايين، بيروت، الأولى 1987م.

52 - حلية الأولياء: أبو نعيم أحمد بن عبداللَّه الاصبهاني، (المتوفى 430ق)، 10 مجلد، السعادة، بجوار محافظة مصر، 1394ق 1974م.

53 - الخرائج والجرائح: سعيد بن هبة اللَّه، قطب الدين الراوندي، (المتوفى 573ق)، المصحح والناشر: مؤسسة الامام المهدي عليه السلام، 3 مجلد، قم، الأولى 1409ق.

54 - خصائص الأئمّةعليهم السلام (خصائص أميرالمؤمنين عليه السلام): محمد بن حسين، الشريف الرضي، (المتوفى 406ق)، 1 مجلد، مصحح: محمد هادي الأميني، منشورات العتبة الرضويّة، مشهد، الأولى 1406ق.

ص: 401

55 - الخصال: محمّد بن علي بن بابويه، (المتوفى 381ق)، مصحّح: على اكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الأولى 1362ش.

56 - الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم: يوسف بن حاتم شامي، (المتوفى قرن 7)، 1 مجلد، جامعة المدرّسين، قم، الأولى 1420ق.

57 - دعائم الاسلام وذكر الحلال والحرام: نعمان بن محمد مغربى، ابن حيون، (المتوفى 363ق)، 2 مجلد، مصحح: الفيضي، آصف، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، الثانية 1385ق.

58 - الدعوات للراوندي، سلوة الحزين: سعيد بن هبة اللَّه، قطب الدين الراوندي، (المتوفى 573ق)، 1 مجلد، انتشارات مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، قم، الأولى 1407ق.

59- دلائل الامامة (ط - الحديثة): الطبري الآملي، محمد بن جرير بن رستم، (المتوفى قرن 5)، 1 مجلد، بعثت، ايران، قم 1413ق.

60 - ديوان البحتري: وليد بن عبيد، (206 - 284ق)، بيروت، دار صادر، 1381.

61 - ديوان حسان بن ثابت: حسان بن ثابت، (المتوفى 54ق)، 2 مجلد، دار صادر، بيروت 1974م.

62 - ديوان المنسوب إلى أميرالمؤمنين عليه السلام: حسين بن معين الدين ميبدى، (المتوفى 911ق)، 1 مجلد، دار نداء الاسلام للنشر، قم، الأولى 1411ق.

63 - رجال الكشي - اختيار معرفة الرجال: محمّد بن عمر الكشي، (المتوفى النصف الأوّل من القرن 4ق)، 1 مجلد، مصحح: محمّد حسن الطوسي، حسن المصطفوي، مؤسسه النشر لجامعة مشهد، الأولى 1409ق.

ص: 402

64 - رجال الكشى (مع تعليقات ميرداماد الاسترآبادى): محمّد بن عمر كشى، (المتوفى النصف الأوّل من القرن الرابع)، 2 مجلد، مصحّح: رجائى، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، الأولى 1363ش.

65 - روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمّد تقى بن مقصود على، المجلسي، (المتوفى 1070ق)، 14 مجلد، مصحح: حسين الموسوي الكرماني وعلى پناه الاشتهاردي، مؤسسة الثقافة الإسلاميّة كوشانبور، قم، الثانية 1406ق.

66 - رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام: سيد عليخان بن احمد، الكبير المدني، (المتوفى 1120ق)، 7 مجلد، مصحح: محسن الحسيني الأميني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الأولى 1409ق.

67 - الزهد: حسين بن سعيد، كوفى اهوازى، (المتوفى القرن الثالث)، مصحّح: غلامرضا عرفانيان يزدى، 1 مجلد، المطبعة العلميّة، قم، الثانية 1402ق.

68 - زهر الربيع: السيّد نعمة اللَّه بن عبداللَّه الجزائرى، (المتوفى 1112ق)، 1 مجلد، مؤسسة العالميّة للتجليد، بيروت، الأولى 1421ق.

69 - سعد السعود للنفوس منضود: علي بن موسى ابن طاووس، (المتوفى 664ق)، دار الذخائر، قم، الأولى.

70 - السقيفة وفدك: الجوهرى، (المتوفى 323ق)، شركة الكتبى للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الثانية 1413ق 1993م.

71 - سنن ابن ماجة: محمد بن يزيد القزوينى، (المتوفى 273)، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقى، 2 مجلد، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

ص: 403

72 - سنن ابي داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، (المتوفى 275ق)، 2 مجلد، تحقيق: سعيد محمد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الأولى 1410ق - 1990م.

73 - السنن الكبرى: احمد بن الحسين البيهقى، (المتوفى 458ق)، 10 مجلد.

74 - السيرة النبوية: ابن كثير، (المتوفى 774ق)، 4 مجلد، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1396ق / 1976م.

75 - السيرة النبوية: ابن هشام الحميري، (المتوفى 218ق)، 1 مجلد، تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد، مكتبة محمّد علي صبيح وأولاده، القاهرة، 1383ق - 1963م.

76 - شرح اصول الكافي (صدرا): محمّد بن ابراهيم، صدرالدين الشيرازي، 4 مجلد (المتوفى 1050ق)، مصحح: محمد الخواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگى طهران، الأولى 1383ش.

77 - شرح نهج البلاغة (ابن ميثم): ميثم بن علي بن ميثم البحراني، (قرن 7)، 5 مجلد، مكتبة نشر الكتاب، الثانية 1362 ش.

78 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: عبدالحميد بن هبة اللَّه، ابن أبي الحديد، (المتوفى 656ق)، مصحح: محمد ابوالفضل، ابراهيم، مكتبة آية اللَّه المرعشي النجفي، قم، الأولى 1404ق.

79 - الشعر والشعراء: ابن قتيبة الدينوري، (المتوفى 276ق)، دار الحديث، القاهرة، 2 مجلد، 1427ق - 2006م.

ص: 404

80 - الصحاح: الجوهري، (المتوفى 393ق)، 6 مجلد، تحقيق: احمد عبدالغفور العطار، دار العلم للملايين، بيروت، الرابعة 1407ق - 1987م.

81 - صحيح مسلم: مسلم النيسابوري، (المتوفى 261ق)، 1 مجلد، دار الفكر، بيروت.

82 - الصحيفة السجادية: امام علي بن الحسين عليه السلام، (الشهادة 94 يا 95ق)، مكتبة نشر الهادي، قم، الأولى 1376ق.

83 - الطبقات الكبرى: ابن سعد، (المتوفى 230)، 8 مجلد، دار صادر، بيروت.

84 - عدّة الداعي ونجاح الساعي: احمد بن محمد، ابن فهد حلي، (المتوفى 841ق)، مصحّح: احمد الموحدي القمي، 1 مجلد، دار الكتب الاسلاميّة، الأولى 1407ق.

85 - العقد الفريد: شهاب الدين احمد المعروف بابن عبد ربه الأندلسى، (المتوفى 328ق)، 8 مجلد، دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى 1404ق.

86 - علل الشرايع: محمّد بن علي بن بابويه، (المتوفى 381ق)، 2 مجلّد مكتبة الداوري، قم الأولى 1385ش.

87 - عيون الأخبار: ابن قتيبة الدينوري، (المتوفى 276ق)، 3 مجلد، منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية، بيروت، الثالثة 1414ق - 2003م.

88 - عيون اخبار الرضاعليه السلام: محمّد بن علي بن بابويه، (المتوفى 381ق)، مصحّح: مهدي اللاجوردي، 2 مجلّد، جهان، طهران، الأولى 1378ق.

89 - الغارات: ابراهيم ثقفى، (المتوفى 283ق)، تحقيق: جلال الدين حسينى ارموى، طهران، انجمن آثار ملى، 1353ش.

90 - الغدير: الشيخ الأمينى، (المتوفى 1392ق)، 11 مجلد، دار الكتاب العربى، بيروت، الثالثة 1387ق 1967م.

ص: 405

91 - غرر الأخبار: الديلمي، حسن بن محمد، (المتوفى 841ق)، 1 مجلد، دليل ما، ايران، قم 1427ق.

92 - غرر الحكم ودرر الكلم: عبدالواحد بن محمد تميمي آمدي، (المتوفى 550ق)، 1 مجلد، دار الكتاب الاسلامي، قم، الثانية 1410ق.

93 - فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب: علي بن موسى، ابن طاووس، (المتوفى 664ق)، 1 مجلد، مصحح: حامد خفاف، مؤسسه آل البيت عليهم السلام، قم، الأولى 1409ق.

94 - فتوح البلدان: احمد بن يحيى بن جابر (البلاذرى)، (المتوفى 279)، تحقيق: صلاح الدين المنجد، مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة، 1956م.

95 - فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم: ابن طاووس، علي بن موسى، (المتوفى 664ق)، 1 مجلد، دار الذخائر، قم 1368ق.

96 - الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: ابن صباغ المالكي، (المتوفى 855ق)، 2 مجلد، دار الحديث للطباعة والنشر، قم، شارع معلم، الأولى 1422ق.

97 - فضائل الأشهر الثلاثة: ابن بابويه، محمد بن علي، (المتوفى 381ق)، 1 مجلد، كتاب فروشى داورى، قم 1396ق.

98 - فضائل الصحابة: احمد بن محمد بن حنبل الشيبانى، (المتوفى 241ق)، 2 مجلد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الاولى 1403ق 1983م.

99 - القاموس المحيط: الفيروزآبادي، (المتوفى 817ق)، 4مجلد.

100 - الكامل في التاريخ: ابن الأثير، (المتوفى 630ق)، 12 مجلد، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، 1386ق - 1966م.

ص: 406

101 - الكامل فى اللغة والأدب: محمد بن يزيد المبرد، (المتوفى 285ق)، محقق: محمد ابوالفضل ابراهيم، 4 مجلد، دار الفكر العربى، قاهرة، الثالثة 1417ق.

102 - كتاب سليم بن قيس: سليم بن قيس الهلالى، (المتوفى 76ق)، مصحح: انصارى زنجانى، محمد خوئينى، 2 مجلد، الهادى، قم، الاولى 1405ق.

103 - كشف الغمّة في معرفة الأئمّة (ط. القديمة)، يوسف: على بن عيسى الاربلي، (المتوفى: 692ق)، مصحّح: سيّد هاشم الرسولي المحلاتي، بني هاشمي، 2 مجلد، تبريز، الأولى 1381ق.

104 - كفاية الأثر في النص على الأئمّة الاثنى عشرعليهم السلام: علي بن محمد، الخزاز الرازي، (المتوفى قرن 4، 1 مجلد، مصحح: عبداللطيف الحسيني الكوهكمري، بيدار، قم، 1401ق.

105 - كنز الفوائد: محمد بن علي الكراجكى، (المتوفى 449ق)، 2 مجلد، مصحح: عبداللَّه نعمه، دار الذخائر، قم، الأولى 1410ق.

106 - لسان العرب: محمّد بن المكرّم، ابن منظور، (المتوفى 711ق)، 15 مجلد، مصحح: جمال الدين، الميردامادي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الثالثة 1414ق.

107 - اللهوف على قتلى الطفوف: ابن طاووس، علي بن موسى، (المتوفى 664ق)، (ترجمه فهرى) 1 مجلد، نشر جهان، طهران.

108 - مثير الأحزان: ابن نما حلي، جعفر بن محمد، (المتوفى 645ق)، 1 مجلد، مدرسة الإمام مهدي عليه السلام، ايران، قم 1406ق.

ص: 407

109 - مجمع الأمثال: الميدانى، (المتوفى 518ق)، 2 مجلد، المعاونية الثقافية للآستانة الرضوية المقدسة، آذر 1366ش.

110 - مجمع البيان فى تفسير القرآن: فضل بن حسن الطبرسى، (المتوفى 548ق)، 10 مجلد، ناصر خسرو، طهران، الثالثة 1372.

111 - المحاسن: احمد بن محمد بن خالد البرقي، (المتوفى 274ق يا 280ق)، 2 مجلد، مصحح: جلال الدين، المحدث، دار الكتب الاسلامية، قم، الثانية 1371ق.

112 - المحجة البيضاء في تهذيب الاحياء: الفيض الكاشاني، (المتوفى 1091ق)، 8 مجلد، تحقيق: علي اكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الثالثة.

113 - مرآة العقول في شرح اخبار آل الرسول: محمّد باقر بن محمد تقى المجلسي، (المتوفى 1110ق)، 26 مجلد، مصحح: السيّد هاشم الرسولي المحلاتي، دار الكتب الاسلامية، طهران، الثانية 1404ق.

114 - مروج الذهب ومعادن الجوهر: المسعودي، (المتوفى 346ق)، منشورات دار الهجره، قم 1404ق - 1363ش - 1984م.

115 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: حسين بن محمد تقي، النوري، (المتوفى 1320ق)، 28 مجلد، مصحح و مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، الأولى 1408ق.

116 - المستطرف في كلّ فن مستظرف: الابشيهي، (المتوفى 850ق)، 2 مجلد، دار ومكتبة الهلال، بيروت.

117 - مسند احمد: أحمد بن حنبل، (المتوفى 241ق)، 6 مجلد، دار صادر، بيروت.

118 - مشكاة الأنوار في غرر الأخبار: على بن حسن طبرسى، (المتوفى 600ق)، 1 مجلد، المكتبة الحيدريّة، النجف الأشرف، الثانية 1385ق - 1344ش.

ص: 408

119 - مصباح الشريعة: منسوب به امام صادق عليه السلام (م 148ق)، الأعلمى، بيروت، الأولى 1400ق.

120 - مصباح الكفعمي (جنة الأمان الواقية): الكفعمي، ابراهيم بن علي العاملي، (المتوفى 905ق)، 1 مجلد، دار الرضي (زاهدي)، قم 1405ق.

121- المصباح المنير: أحمد بن محمّد الفيومي، (المتوفى 770ق)، 2 مجلد، مؤسسة دار الهجرة، قم، الثانية 1414ق.

122 - معارج نهج البلاغة: علي بن زيد البيهقي، (قرن 6)، 1 مجلد، نشر كتابخانه عمومى آية اللَّه مرعشي نجفي، قم، اول 1367ش.

123 - معانى الأخبار: محمّد بن علي بن بابويه، (المتوفى 381ق)، مصحّح: على اكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي، الأولى، قم 1403ق.

124 - معجم الأدباء: ياقوت الحموى، (المتوفى 626ق)، 20 مجلد، دار الغرب الاسلامى، بيروت، الأولى 1414 ق 1993م.

125 - المغازي: الواقدي، (المتوفى 207ق)، 2 مجلد، نشر دانش اسلامى، رمضان 1405ق.

126 - مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة: السيّد محمّد تقي النقوي القايني الخراساني، معاصر، 7 مجلد، مكتبة المصطفوى، طهران.

127 - مقاتل الطالبيين: ابو الفرج الاصفهانى، (المتوفى 356ق)، تحقيق: سيد أحمد صقر، بيروت، دار المعرفة، بى تا.

128 - الملل والنحل: الشهرستانى، (المتوفى 548)، تحقيق: محمد سيد كيلانى، 2 مجلد، دار المعرفة، بيروت، لبنان.

ص: 409

129 - المناقب: الموفق الخوارزمى، (المتوفى 568ق)، تحقيق: الشيخ مالك محمودى، مؤسسة سيّد الشهداءعليه السلام، مؤسسة النشر الاسلامى التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، ربيع الثانى 1414ق.

130 - مناقب آل أبي طالب عليهم السلام: محمّد بن على بن شهر آشوب المازندراني، (المتوفى 588ق)، 4 مجلد، العلّامة، قم، الأولى 1379ش.

131 - مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام: ابن المغازلي، (المتوفى 483ق)، 1 مجلد، دار الآثار، صنعا، الطبعة الأولى 1424ق / 2003م.

132 - المنتخب في كنايات الأدباء: أحمد بن محمّد الجرجاني، (المتوفى 482ق)، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان.

133 - المنتخب من ذيل المذيل: محمّد بن جرير الطبري، (المتوفى 310ق)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان.

134 - من لا يحضره الفقيه: محمّد بن علي بن بابويه، (المتوفى 381ق)، مصحّح: علي اكبر الغفارى، 4 مجلد، مؤسسة النشر الإسلامي، الثانية، قم 1413ق.

135 - منهاج البراعة: الميرزا حبيب اللَّه الهاشمي الخوئي، (المتوفى 1324ق)، 22 مجلد، مصحح: علي العاشور، دار احياء التراث العربى للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الأولى 1429ق - 2008 م.

136 - المواعظ العديدة: السيد محمد بن محمد الحسيني العاملي، (قرن 11)، نشر طليعه نور، ايران، قم 1384.

137 - موسوعة اهل البيت عليهم السلام: عاشور علي، نشر دار نظير عبود، بيروت، لبنان.

ص: 410

138 - ميزان الاعتدال: الذهبى، (المتوفى 748ق)، 4 مجلد، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.

139 - ناسخ التواريخ: محمد تقي سپهر (لسان الملك)، (المتوفى 1297ق / 1259ش).

140 - النهاية في غريب الحديث والأثر: مبارك بن محمد، ابن الأثير الجزري، (المتوفى 606ق)، 5 مجلد، مصحح: محمود محمد الطناحي، اسماعيليان، قم، الرابعة 1367 ش.

141 - نهج البلاغة (فيض الإسلام): حاج سيد علينقى فيض الاسلام، انتشارات فيض الاسلام، چاپ مكرر، چاپخانه احمدى.

142 - وسائل الشيعة: محمد بن حسن، شيخ حر العاملي، (المتوفى 1104ق)، مصحح: مؤسسه آل البيت عليهم السلام، 30 مجلد، الأولى 1409ق.

143 - وقعة صفين: نصر بن مزاحم المنقري، (المتوفى 212ق)، 1 مجلد: مصحح: عبدالسلام محمد، هارون، مكتبة آية اللَّه المرعشى النجفى، الأولى 1404ق.

ص: 411

المحتويات

الخطبة 51 - ومن كلام له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم الماء

( 5 - 24 )

ومن كلام له عليه السلام: لمّا غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات 5

بصفين 16

و منعوهم من الماء 17

قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ 17

فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ 17

أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ 17

فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ 19

أَلا وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ، وَعَمَسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا 23

نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ 23

الخطبة (52) - ومن خطبة له عليه السلام [وقد تقدّم مختارها برواية ونذكرها هنا برواية أخرى لتغاير الروايتين]

( 25 - 47 )

ومنها في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية 26

ص: 412

ومن تمام الأضحية استشراف أذنها وسلامة عينها فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية وتمت ولو كانت عضباء القرن تجر رجلها إلى المنسك 26

ومن خطبة له عليه السلام: أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَآذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ وَتَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا وَأَدْبَرَتْ حَذَّاءَ فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا 26

وَتَحْدُو بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا 27

وَقَدْ أَمَرَّ مِنْهَا مَا كَانَ حُلْواً 28

وَكَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً 28

فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلّا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الإِدَاوَةِ أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ 29

لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ فَأَزْمِعُوا عِبَادَ اللَّهِ الرَّحِيلَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ وَلا يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الْأَمَلُ وَلا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الْأَمَدُ 30

فَوَاللَّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ 31

وَدَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ 31

وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ وَخَرَجْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ وَحَفِظَتْهَا رُسُلُهُ 31

لَكَانَ قَلِيلاً فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ وَأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ 32

وَتَاللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِيَاثاً وَسَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ عَنْكُمْ وَلَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ وَهُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلْإِيمَانِ 33

وَمِنْ تَمَامِ الأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَسَلامَةُ عَيْنِهَا فَإِذَا سَلِمَتِ الأُذُنُ 34

وَالْعَيْنُ سَلِمَتِ الأُضْحِيَّةُ وَتَمَّتْ وَلَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ 34

ص: 413

ومنها: في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية 34

وَمِنْ تَمَامِ الأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَسَلامَةُ عَيْنِهَا 36

فَإِذَا سَلِمَتِ الأُذُنُ وَالْعَيْنُ سَلِمَتِ الأُضْحِيَّةُ 37

وَتَمَّتْ وَلَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ 42

تكملة 43

الخطبة (53) - ومن كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة

( 48 - 52 )

ومن كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة 48

وَقَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ وَقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلّا قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ9 فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ 49

فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الإِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الْآخِرَةِ 51

الخطبة (54) - ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين

( 53 - 64 )

ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين 53

أَمَّا قَوْلُكُمْ أَ كُلَّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ 55

الْمَوْتُ إِلَيَّ 55

ص: 414

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ شَكّاً فِي أَهْلِ الشَّامِ فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلّا وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي 56

وَتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي 61

وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا 62

الخطبة (55) - ومن كلام له عليه السلام

( 65 96 )

وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى اللَّه عليه وآله نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا 72

مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ وَجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلانِ 76

تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ 77

يَتَخَالَسَانِ 77

أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ 77

فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا 79

وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا 83

فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا 83

أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ 85

وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ 85

حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ 89

وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ 93

ص: 415

وَايْمُ اللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً 96

الخطبة (56) - ومن كلام له عليه السلام لأصحابه

( 97 - 139 )

و من كلام له عليه السلام لأصحابه: أَمَّا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ 97

رَحْبُ الْبُلْعُومِ 98

مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ 99

يَأْكُلُ مَا يَجِدُ 100

وَيَطْلُبُ مَا لا يَجِدُ 101

فَاقْتُلُوهُ وَلَنْ تَقْتُلُوهُ 102

أَلا وَإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنِّي 103

فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ وَلَكُمْ نَجَاةٌ 117

وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي 120

فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ 131

وَسَبَقْتُ إِلَى الإِيمَانِ 132

وَالْهِجْرَةِ 139

الخطبة (57) - ومن كلام له عليه السلام كلّم به الخوارج

( 140 - 150 )

و من كلام له عليه السلام كلم به الخوارج 140

ص: 416

أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ 141

وَلا بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ 141

أَ بَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّىّ اللَّه عليه وآله أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ 143

فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ 146

وَارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الْأَعْقَابِ 146

أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلّاً شَامِلاً وَسَيْفاً قَاطِعاً 146

وَأَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً 147

قال الشريف قوله عليه السلام : «ولا بقي منكم آبر» يروى على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون كما ذكرناه آبر بالراء من قولهم للذي يأبر النخل أي يصلحه. ويروى آثر وهو الذي يأثر الحديث ويرويه أي يحكيه وهو أصح الوجوه عندي كأنه عليه السلام قال لا بقي منكم مخبر. ويروى آبز بالزاي المعجمة وهو الواثب والهالك أيضا يقال له آبز 150

الخطبة (58) قال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج وقيل له

( 151 - 184 )

إن القوم قد عبروا جسر النهروان 151

لما عزم على حرب الخوارج 151

تكملة في معنى الغلو والتفويض 160

وأمّا التفويض 167

الثاني 170

ص: 417

الثالث 174

الرابع 175

الخامس 177

السادس 177

و قيل له إن القوم عبروا جسر النهروان 178

مَصَارِعُهُمْ 178

دُونَ النُّطْفَةِ 178

وَاللَّهِ لا يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ 178

وَلا يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ 179

الخطبة (59) وقال عليه السلام لما قتل الخوارج فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم

( 185 - 202 )

قال عليه السلام لما قتل الخوارج فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم 185

كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلابِ الرِّجَالِ 186

وَقَرَارَاتِ النِّسَاءِ 186

كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ 186

حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلّابِينَ 190

تكملة 190

احداها: المحكمة 190

ص: 418

الثانية: البيهسية 191

الثالثة: الازارقة 191

الرابعه: النجدات 192

الخامسة: الاباضية 193

السادسة: العجاردة 194

السابعة: الثعالبة 196

الخطبة (60): وقال عليه السلام في الخوارج

( 203 - 207 )

وقال عليه السلام في الخوارج: لا تُقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ (يعني معاوية وأصحابه) 203

الخطبة (61): ومن كلام له عليه السلام لمّا خوّف من الغيلة

( 208 - 233 )

ومن كلام له عليه السلام لمّا خوّف من الغيلة 208

وَإِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ جُنَّةً حَصِينَةً 214

فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَأَسْلَمَتْنِي فَحِينَئِذٍ لا يَطِيشُ السَّهْمُ وَلا يَبْرَأُ الْكَلْمُ 215

تذييل 216

ص: 419

الخطبة (62): ومن خطبة له عليه السلام

( 234 - 245 )

أَلا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلّا فِيهَا 234

وَلا يُنْجَى بِشَيْ ءٍ كَانَ لَهَا 236

ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً 237

فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ 238

وَحُوسِبُوا عَلَيْهِ 239

وَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ 241

فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْ ءِ الظِّلالِ 243

بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَزَائِداً حَتَّى نَقَصَ 244

الخطبة (63): ومن خطبة له عليه السلام

( 246 - 286 )

فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ 247

وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ 247

وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ 248

وَتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ 249

وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ 249

وَكُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا 251

وَعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا 252

ص: 420

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى وَمَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ 253

وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ وَإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ 254

وَإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ 255

فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ 256

نَصَحَ نَفْسَهُ 259

وَقَدَّمَ تَوْبَتَهُ 259

وقت التوبة 260

صحّة التوبة 261

عدم رجوع العبد إلى العمل الذي تاب عنه ثانياً لأنّه يكون كالمستهزئ باللَّه 264

وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ 265

للقوّة الشهويّة (لهذه القوّة) مصاديق كثيرة 265

فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ 273

وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ 274

وَالشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ 275

يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا 277

وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا 281

إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا 283

فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً 284

ص: 421

وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ 284

نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ لا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ 284

وَلا تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ 285

وَلا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَلا كَآبَةٌ 285

الخطبة (64): ومن خطبة له عليه السلام

( 287 - 308 )

الْحَمْدُ للَّهِ ِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالاً فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً 287

وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً 288

كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرُهُ قَلِيلٌ 290

وَكُلُّ عَزِيزٍ غَيْرُهُ ذَلِيلٌ 292

وَكُلُّ قَوِيٍّ غَيْرُهُ ضَعِيفٌ 293

وَكُلُّ مَالِكٍ غَيْرُهُ مَمْلُوكٌ 294

وَكُلُّ عَالِمٍ غَيْرُهُ مُتَعَلِّمٌ 295

وَكُلُّ قَادِرٍ غَيْرُهُ يَقْدِرُ وَيَعْجَزُ 297

وَكُلُّ سَمِيعٍ غَيْرُهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ وَيُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا 300

بَعُدَ مِنْهَا 300

وَكُلُّ بَصِيرٍ غَيْرُهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَلَطِيفِ الْأَجْسَامِ 301

وَكُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرُهُ بَاطِنٌ وَكُلُّ بَاطِنٍ غَيْرُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ 302

لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ 303

وَلا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ 303

ص: 422

وَلا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ 303

وَلا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ 304

وَلا ضِدٍّ مُنَافِرٍ 304

وَلَكِنْ خَلائِقُ مَرْبُوبُونَ وَعِبَادٌ دَاخِرُونَ 305

لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ كَائِنٌ وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ 305

لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ 305

وَلا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ 306

وَلا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ 307

وَلا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَقَدَّرَ بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ وَأَمْرٌ 307

مُبْرَمٌ 307

الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ 308

الخطبة (65): ومن كلام له عليه السلام كان يقوله لأصحابه في بعض أيّام صفين

( 309 - 395 )

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ 315

وَتَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ 317

وَعَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ 318

فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ 318

وَأَكْمِلُوا اللّأْمَةَ 318

وَالْحَظُوا الْخَزْرَ 318

وَاطْعُنُوا الشَّزْرَ 319

ص: 423

وَصِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطَا 319

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّه عَلَيه وَآلِه 321

فَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَاسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ 322

فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ 323

وَنَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ 324

وَطِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً 325

وَامْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً 326

وَعَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ 327

وَالرِّوَاقِ الْمُطَنَّبِ 327

فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ 331

فَإِنَّ الشَّيْطَانَ 331

كَامِنٌ 331

فِي كِسْرِهِ 331

وَقَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَأَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رِجْلاً 332

فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ 332

تذييل 334

المصادر 396

المحتويات 412

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.