كشف حجب الغواية في توضيح الكفاية المجلد 1

اشارة

كشف حجب الغواية في توضيح الكفاية

الجزء الاوّل

مؤلّف آيت اللَّه العظمى السيّد محمّد مهدي الموسوي آل طيّب رحمه الله

إعداد السيّد محمّد كاظم الموسوى آل طيّب

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحیم

المقدّمة

نبذة مختصرة عن حياة المؤلف المفعمة بالعظمة

ولد المؤلف المكرم الفقيه المحقق، آية اللَّه العظمى السيد محمد مهدي آل طيب، نجل السيد محمد تقي وأحد أحفاد العلامة الكبير والمحدث الشهير السيد نعمة اللَّه الجزائري - رضوان اللَّه تعالى عليهم - عام 1311 ه . ق (الموافق لعام 1271 ه . ش) في مدينة شوشتر المشتهرة بدار المؤمنين.

لقد تعلم الدروس المقدماتية على يد والده الماجد وأكمل المستويات النهائية عند عمّه الراحل المعظم العلامة النحرير آية اللَّه العظمى السيد محمد حسين (السيد آقا بزرگ) آل طيب والمرحوم آية اللَّه الحاج الشيخ محمد كاظم حفيد آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ جعفر الشوشتري. ثم هاجر إلى مدينة دزفول وتتلمذ هناك عند المغفور له آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد رضا المعزي الدزفولي ونال درجة الاجتهاد وحصل منه على إجازة الاجتهاد.

ثمّ تولى زعامة الحوزة الجزائرية العلمية بشوشتر وذلك خلال الفترة الصعبة والمرهقة في عهد النظام الملكي البهلوي الأول والذي كانت تهان فيه مظاهر

ص: 5

الدين وخاصة رجال الدين كانوا يتعرضون لإهانات وهجمات مختلفه، بحيث ما كان يرغب أحد في أن يصبح من طلبة العلوم الدينية وأحياناً كان يترك بعضهم الحوزة بسبب الصعوبات في ذلك الوقت.

وقد ظهرت عظمة مكانته العلمية في العقد الرابع من حياته الشريفة للجميع كالشمس في رابعة النهار، حيث إن آية اللَّه العظمى المغفور له الحاج الشيخ محمد رضا المعزي الدزفولي - المرجع الديني آنذاك لأهالي محافظة خوزستان - أثناء سفرته إلى شوشتر، أقام صلاة الظهر بالجماعة لكنه اقتدى في صلاة العصر بالمؤلف المكرم وأرجع مقلديه إليه صراحة.

نُشرت رسالته العملية تحت عنوان «الوسيلة الكبرى» وبالتالي تولى سماحته الزعامة الدينية للناس وهذا ما لقي استقبالا واسعا ومرحّبا من قبل الناس مما تسبّب في إعادة طباعة رسالته العملية وذلك في فترة قصيرة.

توفي هذا العالم الفريد الذي كان طود التقى وبحر النهى وعلم الهدى، عن عمر يناهز واحداً وخمسين عاماً ودفن في مسقط رأسه مدينة شوشتر.

وكانت وفاته ثلمة في الإسلام لا يسدّها شي ء، وإن بقيت آثاره خالدة، فلن تتمكن من محوها أيدي الأيام والأزمان.

وفي الآونة الأخيرة، تمت إعادة بناء مرقده الشريف حيث تُعقد تجمعات دينية ودعائية للإخوة والأخوات بشكل منفصل أو مستمر.

استشهد نجله الوحيد، سماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد محمد رضا آل طيب، ظهر اليوم الثاني والعشرين من شهر بهمن سنة ألف وثلاثمائة وخمس وستّين الهجريّة الشمسيّة، وذلك بعد الحضور في المظاهرات الشعبية

ص: 6

السنوية لذكرى الثورة الإسلامية في إيران وحين الصلاة إثر قصف طائرات النظام البعثي العراقي.

السلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا ورحمة اللَّه وبركاته.

الآثار العلمية

له مؤلفات قيمة منها:

1 - شرح العروة الوثقي.

2 - الوسيلة الكبرى (الرسالة العملية للمؤلف المحترم).

3 - كشف حجب الغواية في شرح الكفاية - الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم - .

4 - شرح معالم الأصول.

5 - رسالة في مناسك الحج.

6 - معالي الأخلاق (منابر ثمينة خاصة لرمضان المبارك).

7. شرح وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) والذي تم طبعه.

8 - رسالة في الرد على الوهابية.

9 - ترجمة الرسالة العملية لأستاذه آية اللَّه العظمى الحاج الشيخ محمد رضا المعزي من اللغة العربية إلى الفارسية بأمر من الأستاذ.

10 - مسيل العبرات فيما ينجي عن العقبات (خاص للعشرة الأولى من محرم)، تم طبعه مؤخرا.

11 - رسالة فى تقليد الميت، ستنشر بشكل مستقل قريباً إن شاء اللَّه.

ص: 7

تلامذته

لقد استفاد من محضره العلمي كثير من الكبار والفحول ووصلوا إلى مكانات عالية بمن فيهم الآيات العظام:

1 - السيد عبد السلام آل طيب، شقيق المؤلف المحترم.

2 - الحاج السيد محمد حسن آل طيب.

3 - الحاج السيد محمد الموسوي الجزائري.

4 - الحاج الشيخ محمد تقي الشيخ التستري.

سماته الشخصية

كان المؤلف المترجَم له من روّاد القمم الذين يركبون خيول الشمس ويحلّقون في سماء السموّ والعظمة. اكتسب العلم والفقاهة إثر التوكل على اللَّه العظيم والتوسل بالمعصومين - عليهم أفضل صلوات المصلّين - بالإضافة إلى الجهد الوافر والجدّ العظيم وكثرة العمل العديمة النظير.

كان عالماً مفكّراً شحيذ الذهن قوي الذاكرة، ينام قليلاً ويأكل يسيراً، يتدبّر في آي الذكر الحكيم ويغوص في بحار التحقيق والتعليم. كان حاضر الذهن لجميع المسائل الفقهية والأخبار المروية عن أئمة أهل البيت - عليهم السلام - على باله وقلبه.

إنّ من أهم سمات الزهد في آحاد البشر هو الشعور بالمسؤولية والجد في القيام بالواجبات الشرعية والعرفية، وكان سماحته تمثالاً للجدية والجهد العلمي والعملي، إذ لم يقضِ لحظةً إلا في اكتساب السعادات وابتغاء الخيرات من اللَّه -

ص: 8

سبحانه وتعالى - حتى نهاية عمره الشريف، لذلك كان - منذ نعومة أظفاره حتى أن وافته المنيّة - يستغرق جميعَ أوقاته في تأدّي الفرائض الدينية والحاجات الضرورية الدنيوية، ثمّ القيام بالأمور الحسنة كالدراسة والتدريس وإصدار الفتوى وتأليف الكتب والإصلاح بين الناس وما شابه ذلك، وكان مداراً لكلّ هذه الشؤون حتى لحق بالرفيق الأعلى.

كانت الفضائل فيه متجلية؛ جوده وكرمه كالسحاب، وطبعه اللطيف وإقراءه الضيف ممزوج بالتواضع، وحسن خلقه وطينته متحلّى بالوقار. كان عارفاً بأمور المجتمع ويتعامل بحسن المعاشرة حتى أصبح أملَ كلّ آمل. كان يعفو عمّن يسي ء إليه بحلمه وصبره، بل كان يُخجلهم بالعفو عنهم والجود عليهم. أقبلت عليه الدنيا، لكنه أدبر عنها ورفضها وصار أكبرُ همّه مراقبةَ النفس والحذر من وساوس الشيطان.

في أيام المجاعة الناتجة عن الحرب العالمية الثانية، كان يقسم كلّ وجبة من طعامه اليومي وينفقه للبؤساء والمحرومين. كان يسعى - بنفسه أو عبر وسائط - لقضاء حوائج المساكين والمقعَدين والفيض عليهم من أخلاقه الكريمة، خاصة الوجهاء والأشراف منهم. وكان بهذه الإشفاقات والسلوك الطيّب يحظى شيئا فشيئا باحترام شديد وحبّ عميق من كافة شرائح المجتمع.

إضافةً إلى كل هذه المواصفات، كان يُكنّ ولاءً فائقا وحبّا شديدا لآل البيت - عليهم السلام - خاصة سيد الشهداء أبي عبد اللَّه الحسين - عليه السلام -. كان في فنون الوعظ والخطابة والبيان وحيدَ دهره، بل قلّ نظيرُه في سائر الدهور، إذ يملك كلاماً مؤثراً وكلمات متلألئة ومداعبة للقلوب والآذان كالطير تحلّق في سماء العلم

ص: 9

والمعرفة فوق ما يتصوره أبناء دهره وتنوّر القلوب المستعدّة وما زالت مستمرة.

مع كل هذا التواضع والخشوع الكامن في شخصيته الفذّة كان من الهيبة والعظمة بمكان لا يقدر الجميع النظر إلى عينيه. كان مثالاً للأخلاق الفاضلة والآداب الحسنة والشرافة المحضة. كان مشعلاً يضي ء الطريق للتائهين ويجعل العارفين وأولي الألباب متواضعين. كان دُرّةً وحيدة لا تُدرك ولا تُوصف.

وقد شوهدت منه كرامات عديدة خلال حياته والتي قد اشتهرت في نفس الوقت ولا تزال تتناقل على الألسن، وكذلك شوهدت منه بعد وفاته كرامات أخرى.

نبذة عن الكتاب

عزيزي القارئ هذا الكتاب الذي بين يديك عبارة عن شرح لكتاب «كفاية الأصول» والذي يدرّس في الحوزات العلمية منذ تأليفه. لقد شرح المؤلف المعظم عبارات كفاية الأصول بتعابير سلسة وطلقة وغير معقدة، ثم قام بنقد ودراستها. طرح سماحته آراء الفحول منهم المحقق الكاظميني التستري صاحب كتاب «الهداية فى شرح الكفاية» وغيره ثم حكم بين المحقق الخراساني وغيره وأخيرا ذكر رأيه على التحقيق.

مسك الختام

وأخيراً أرى من واجبي أن أشكر اللَّه العزيز المنان على توفيقي في إعداد وتحقيق ونشر هذا الكتاب القيم. عسى الرحمن أن يتقبله بقبول حسن. وأسأل اللَّه

ص: 10

- عز وجل - أن يوفقني في إعداد ونشر سائر أعمال عمي المعظم، إنه هو السميع الدعاء قريب مجيب.

ونأمل أن يغمض العلماء والأساتذة الأفاضل عن الأخطاء إذ إن العصمة لأهلها، كما يرجى أن لا يضنّوا علينا ب آراءهم ونقاطهم القيّمة لتصحيح الأخطاء إن كانت.

السيد محمد كاظم الموسوى آل طيب

رجب الاصب 1442

ص: 11

الصورة

الصفحة الأولى من الكتاب بخط السيّد المؤلّف قدس سره

ص: 12

الصورة

الصفحة الأخيرة من الكتاب بخط السيّد المؤلّف قدس سره

ص: 13

ص: 14

الصورة

آيت اللَّه العظمى السيّد محمّد مهدي الموسوي آل طيّب رحمه الله

ص: 15

ص: 16

بسم اللّه الرحمن الرحیم

الحمد للَّه ربّ العالمين والصلوة والسلام على محمّد أفضل الأنبياء والمرسلين وعلى آله الغر البررة المنتجبين.

وبعد ؛ فيقول العبد المحتاج إلى عفو ربّه الغني ابن محمّد تقي محمّد مهدي الموسوي الجزايري الشوشتري عفى عنهما إن شاء اللَّه، انّه لما كان كتاب كفاية الأصول في كتبه وسائر المؤلّفات بمنزلة النتيجة من المقدّمات وافية بلباب المطالب قاضية مطلب كل طالب ولم يكن فيها اطناب ممل ولا ايجاز مخل حرية ببسط الكلام في بيان نكاتها والتعرض لتوضيح اشاراتها كتبت عليها ما كان تذكرة لنفسي في مقام الحاجة مع اختلال البال وتشتّت الأحوال حين الاشتغال والأمر إلى القديم المتعال وهو حسبي ونعم الوكيل وسمّيته ب : « كشف حجب الغواية في توضيح الكفاية ».

ص: 17

الامر الاول

بسم اللّه الرحمن الرحیم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللَّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد فقد رتبته على مقدمة، ومقاصد وخاتمة.

أما المقدمة ففي بيان أمور: الأوّل إن موضوع كل علم، وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية - أي بلا واسطة في العروض - هو نفس موضوعات مسائله عينا، وما يتحد معها خارجا، وإن كان يغايرها مفهوما، تغاير الكلي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده، «والمسائل» عبارة عن جملة من قضايا متشتتة، جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لاجله دون هذا العلم، فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل، مما كان له دخل في مهمين، لاجل كل منهما دون علم على حدة، فيصير من مسائل العلمين.

لا يقال: على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا، لا يكاد انفكاكهما.

فإنه يقال: مضافا إلى بعد ذلك، بل امتناعه عادة، لا يكاد يصح لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد، يبحث فيه تارة لكلا المهمين، واخرى لاحدهما، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل، فان حسن تدوين

ص: 18

علمين - كانا مشتركين في مسألة، أو أزيد - في جملة مسائلهما المختلفة، لاجل مهمين، مما لا يخفى.

وقد انقدح بما ذكرنا[1] أن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الاغراض الداعية

_______________________________

[1] أقول: اتّفق العلماء العظام قدّس اللَّه أسرارهم ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ولما رأوا تداخل بعض العلوم مع بعض عند الاتّكال إلى هذا المناط لوحدة أعيان الموضوعات في بعض العلوم المختلفة اعتبروا قيد الحيثيّة في عنوان الموضوعيّة فقالوا: انّ الكلمة مثلاً موضوع النحو من حيث البحث فيه عن اعرابها، وموضوع الصرف من حيث البحث فيه من بنيتها لئلّا يتداخل النحو والصرف ويتمايزا، وذهب المصنّف طاب رمسه إلى أن تمايز العلوم بتمايز أغراضها الداعية إلى التدوين، والانصاف انه أحسن وأتقن في ذلك وأهدى به إلى الحق كلّ سالك، وبيانه يحتاج إلى تقديم مقدّمات:

الأولى: ان تمايز العلوم ليس كتمايز الموجودات الخارجيّة والحقائق المتأصلة التي تمايز كلّ واحد منها عن الآخر بما يكون داخلاً في ذاته وحقيقته الذي يعبّر عنه في اصطلاح أهل المعقول بالفصل كتمايز الانسان والجماد مثلاً إذ المراد من العلوم في محلّ البحث نفس مسائلها والمسائل كلّ واحدة منها متميّزة عن الأخرى موضوعاً ومحمولاً وذاتاً، وبعد اعتبار جهة الوحدة فيها وتدوينها منضمّة وتسميتها باسم واحد لا يكون تمايز قدر منها مع الاجتماع والانضمام عن جملة أخرى إلّا بالاعتبار، ومؤسس هذا الاعتبار والسابق فيه المدون للعلم والجامع لمسائله المتشتّتة والداعي لتدوينها مستقلّة وتفريد الفن المخصوص عن

ص: 19

.............................................

______________________________

سائر الفنون إنّما هو هذا الاعتبار الذي اعتبره المدوّن.

الثانية: إذا راجعنا وجداننا نرى في أنفسنا انّه إذا نتصدّى لتدوين فن لا يخطر في خطورنا موضوع لذلك الفن عند التدوين أصلاً فضلاً عن ان نتوجه إلى تعيينها وتصورها تفصيلاً وتميزها عن سائر موضوعات العلوم، بل لا نرى في نفسنا إلّا غرضاً واحداً تجمع من المسائل المختلفة كمال الاختلاف ما يوصل إليه ويحصله مثل أن تجمع في فن الموعظة من الآيات والروايات والتمثيلات والحكايات والتشبيهات والمتشتّتات ما لا ربط بواحد لاخر منها أصلاً من غير أن نلتفت إلى أنّ لموضوع تلك الحكاية مناسبة مع موضوع تلك الرواية أم لا، نعم الغرض الداعي إلى التدوين دائماً يكون في نظرنا ومحفوظاً عندنا ولا نغفل عنه أبداً ولا نخرج منه في ذكر مسئلة من المسائل المختلفة أصلاً.

الثالثة: انه لا شبهة لمن انصف انّ موضوعات العلم إنّما اعتبر موضوعات بعد جعلها واختراعها وتدوينها، ويدلّ عليه انه يقع الاختلاف غالباً في تعيين موضوع العلم ويكثر النقض والابرام عن العلماء الأعلام في هذا المقام ولا يسلم شي ء غالباً ممّا يجعل موضوعاً لعلم عن ورود نقض عليه يهدم أساسه ويخرب بنيانه.

الرابعة: ان تعيين موضوع العلم وعنوانه الخاص واسمه المخصوص في كمال الصعوبة وكلّما نفرض موضوع العلم ورجوع أبحاثه إليه يرد النقض عليه، مثلاً لا طريق لتعيين موضوع النحو أتقن وأحكم من أن يقال انّه الكلمة من حيث اعرابها وهذا هو الذي اتّفق عليه الكل مع انّ الأبحاث التي لا ربط لها باعراب

ص: 20

..........................................

____________________________

الكلمة في النحو أكثر بمراتب من الأبحاث التي ترجع إلى البحث عن اعرابها وإن كنت في شكّ ممّا ذكرنا فارجع إلى الكتب المؤلّفة فيه ترى صدق ما ادّعيناه كالنار على المنار بل كالشمس في وسط النهار وقس عليه سائر الموضوعات لسائر الفنون فكلّما كان أتم صحيح البنيان لا يخلو عن خلل ونقصان.

اذا عرفت تلك المقدّمات وأخذت بطريق الانصاف واجتنبت جانب الاعتساف يظهر لك أن تمايز العلوم التي استقلالها وجهة وحدتها بحسب الاعتبار بتمايز الأغراض الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات التي لم يكن المدون المميّز للعلم متوجّهاً إليها أصلاً عند التدوين بل اعتبارات متأخّرة عن وضع العلوم وجعلها وتدوينها اعتبرها اللاحقون وكثر اختلافهم فيها وأوردوا من النقض والابرام ما لم يردوا في مقام ومع ذلك لم يحصل بعد ما لا يكون معرضاً للبحث والكلام ولا يسلم ما ذهب إليه آخرون إلّا إذا جعل كلّ مسئلة علماً عليحدّة أو عمّم في عنوان الموضوع بحيث لا يخرج منه شي ء من المسائل بأن يقال: هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة كما تفطن به المصنّف قدّس سره، وتقرير المطلب بوجه أخصر: إذا كان تمايز مسائل العلوم باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين فلابدّ من أن يكون تمايز العلوم بعضها عن بعض أيضاً بذلك لأن العلوم ليست إلّا المسائل والمسائل ليست إلّا العلوم وبهذا أشار المصنّف قدس سره حيث قال بعد تحقيق ما يتميّز المسائل به بعضها عن بعض ومنه قد انقدح الخ.

ثمّ اعلم انّ المناطات والموازين التي تذكر في العلوم في كلّ باب ومقام تكون

ص: 21

............................................

_____________________________

غالباً بل دائماً غالبيّة لا دائميّة وبهذا الوجه يجاب عن الاشكال الوارد على المصنّف حيث جعل تمايز العلوم بتمايز الأغراض من انه قد يتعدّد الغرض ويتّحد العلم كما إذا اتّحد المسائل وقد يتّحد الغرض ويختلف العلم كما إذا اختلف المسائل وقد تفطّن هو قدس سره لهذا الاشكال وان أورده في مقام بيان الوجه في تمايز المسائل ولكنّه جاد في بيان المناط في تمايز العلوم أيضاً وأجاب عنه بأن تعدّد الغرض واتّحاد المسائل مجرّد فرض يبعد وقوعه بل يمتنع عادة وكذلك نقول في عكسه بأن اتّحد الغرض واختلف المسائل ثمّ قال: لو سلّمنا وقوعه فالعلم حينئذٍ علم واحد ويدوّن في محل واحد ويسمّى باسم كذلك لعدم حسن تدوين علمين وتسميتها باسمين في هذه الصورة، ومرجع مراده إلى أن تعدّد الغرض ليس علّة تامّة لتعدّد العلم بل إنّما هو مقتض له حامل يمنع عنه مانع اذ وحدة العلم وتعدّدها وجواز تدوينها في محل واحد أو محلّين واعتباره متّحداً أو متعدّداً أمر راجع إلى تحسين الطبع وتقبيحه، وتعدّد الغرض غالباً يوجب حسن تدوين علمين مثلاً طبعاً إلّا فيما شذ وندر كما اذا اتّحد المسائل فرضاً، وكذلك وحدة الغرض غالباً يوجب حسن تدوين علم واحد الا فيما شذ وندر كما إذا اختلف المسائل فرضاً، ولئن سلّمنا ورود الاشكال المزبور على ما حقّقه المصنّف وأغمضنا عن دفعه بما بينّاه فهو سهل بالنسبة إلى ما يرد على ما عليه اخرون من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات من أن ذلك ليس كذلك واقعاً كما عرفت بيانه أوّلاً وبعد فرض الغض عمّا بينّاه في مقام الاستكشاف لحقيقة الأمر عدم سلامته بوجه من الوجوه ثانياً كما عرفته مفصّلاً.

ص: 22

إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلا كان كل باب، بل كل مسألة من كل علم، علما على حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا للتعدد، كما لا يكون وحدتهما سببا لان يكون من الواحد.ثم إنه ربما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل - عنوان خاص واسم مخصوص، فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل عليه، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته أصلا.

وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الاصول، هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة، لا خصوص الادلة الاربعة بما هي أدلة، بل ولا بما هي هي، ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها، وهو واضح لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره، كما هو المصطلح فيها، لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمة، كعمدة مباحث التعادل والترجيح، بل ومسألة حجية خبر الواحد، لا عنها ولا عن سائر الادلة، ورجوع البحث فيهما - في الحقيقة - إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد، في مسألة حجية الخبر - كما افيد - وبأي الخبرين في باب التعارض، فإنه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر[1 ]

_______________________________

[1] أقول: لا حاجة في ارجاع بحث التعادل والتراجيح إلى البحث عن حجيّة الخبر إلى كون البحث فيه بحثاً عن عوارض السنة اذ كون ذلك البحث بحثاً عن

ص: 23

ورجوع البحث فيهما[1] في هذا الحال غير مفيد فان البحث عن ثبوت الموضوع وما هو مفاد كان التامّة ليس بحثاً عن عوارضه فانّها مفاد كان الناقصة.

لا يقال : هذا في الثبوت الواقعي وأمّا الثبوت التعبّدي كما هو المهمّ في هذه المباحث فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.

فانّه يقال : نعم لكنّه ممّا لا يعرض السنّة بل الخبر الحاكي لها فان الثبوت التعبّدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكيّة به، وهذا من عوارضه لا عوارضها كما لا يخفى.

________________________________

عوارضها يتم بأن يقال هل السنة تثبت بأيّ الخبرين من المتعارضين بل لا وجه لارجاعه إليه لأن البحث عن ثبوت السنة بأيّهما متأخر عن البحث عن ثبوتها بخبر الواحد ولا يجري بعد الفراغ عن ثبوتها بنفس الخبر مع قطع النظر عن كونه معارضاً أم لا.

[1] أقول: ذلك الوجه مفيد غاية الافادة ولا وجه للاشكال عليه من المصنّف بأن الثبوت الواقعي الذي هو مفاد كان التامة ليس من العوارض لأن ذلك كذلك لو لم يكن المراد من الثبوت مجرّد الاستكشاف بل وجود السنّة بوجود الخبر وعليّة وجوده لوجوده وادعاء مثل هذا لا يصدر عن فاضل فضلاً عن أفضل الفضلاء وأستادهم قدّس سرّه، بل المراد من البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد البحث عن استكشاف ثبوته به بان يقرّر البحث هكذا: هل خبر زرارة بحرمة العصير العنبي المغلي قبل ذهاب ثلثيه يكشف عن قول الصادق بها كالخبر المتواتر أم لا ؟ ومعلوم ان انكشاف السنّة الواقعية بأيّ نوع من الكواشف من عوارضه فأنه قد

ص: 24

...............................................

_______________________________

يكون محلاً لذلك العرض ويعرضه الانكشاف وقد لا يكون ولا يعرضه، وان أبيت إلّا عن كون البحث عن حجيّة الخبر بحثاً عن ثبوت السنّة تعبداً بخبر الواحد لا بحثاً عن الانكشاف والثبوت في الواقع وعدمه وان البحث عن حجيّة الخبر راجع إلى البحث عن انّه هل تعبدنا الشارع بثبوت السنة بخبر زرارة مثلاً وأوجب العمل علينا على طبقه أم لا؟ فنقول أيضاً تعبّد الشارع بوجوب العمل بالأدلّة يتصوّر على وجهين: تارة بعنوان الموضوعيّة بأن يجعل الشارع حكماً على طبق الخبر ويكون وجود الخبر علّة لوجود الحكم ولو لم يكن في الواقع حكم وأخرى على وجه الطريقيّة الى قول المعصوم أو فعله أو تقريره الدالّة على الحكم الواقعي الأولى بأن كان تعبّد الشارع بالعمل بالأدلّة لكونها دائمة الاصابة أو غالبة الاصابة إليه وجعل الكاشف الناقص وهو الظن كالكاشف التام وهو العلم، فان كان على وجه الموضوعيّة يثبت الحكم الثانوي بالخبر ويكون الخبر علّة لثبوته الذي يكون مفاد كان التامّة وليس حينئذٍ عن العوارض أصلاً لا للخبر ولا للسنة، وعلى الوجه الثاني فواضح أن ثبوت السنّة بالخبر من جهة الاستكشاف والانكشاف الذي هو مفاد كان الناقصة لا التامّة وحيث ان الحق المحقق في محله حجيّة الأدلّة من باب الطريقيّة إلى الحكم الصادر عن المعصوم بقوله أو فعله أو تقريره فلا اشكال على القول برجوع البحث عن حجيّة الخبر إلى البحث عن ثبوت السنّة تعبداً بالخبر ولا وجه لما أورده المصنّف من ان الثبوت التعبدي من العوارض ولكن من عوارض الخبر لا السنّة، لعدم جواز كونه من العوارض بقول مطلق كما بينّاه بل إنّما يكون

ص: 25

وبالجملة الثبوت الواقعي ليس من العوارض، والتعبّدي وإن كان منها إلّا أنّه ليس للسنّة بل للخبر . فتأمّل جيّدا.

وأمّا إذا كان المراد من السنّة ما يعمّ حكايتها فانّ البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السنّة بهذا المعنى إلّا أنّ البحث في غير واحد من مسائلها كمباحث الألفاظ وجملة من غيرها[1]، لا يخص الادلة، بل يعم غيرها، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى.

______________________________

منها إذا كان حجيّة الأدلّة من باب الطريقيّة وحينئذٍ لا ضير في أن يكون من عوارض السنّة كما يكون من عوارض الخبر بأن يقال في تحرير محل البحث هل حكم الشارع باستكشاف السسنّة أي قول المعصوم أو فعله أو تقريره الدالّة على الحكم الواقع الأولى بخبر زرارة مثلاً تعبّداً وجعل الظن الذي من الكواشف الناقصة في حكم العلم الذي يكون كاشفاً تامّاً أم لا ؟

[1] أقول: لا وجه لخروج مباحث الألفاظ عن الأصول بعد ان كان البحث عن مطلق الأمر بحثاً عن الأوامر الشرعيّة أيضاً لأنّ البحث عن الكلّي بحث عن افراده والبحث عن عوارض الموضوع الذي هو المناط في كون البحث من أبحاث العلم لا يختص بما إذا كان البحث عنها بلا واسطة أصلاً بل يشمل البحث بالواسطة عنها أيضاً سيّما في مثل المورد الذي يكون أصل المقصود بالبحث عن العام البحث عن الخاص وإنّما يبحث عن العام مقدّمة للبحث عنه وبالجملة قولهم موضوع العلم ما يبحث فيه عن عوارضه بمعنى انّ الغرض من أبحاث العلم فهم أحوالها وأحكامها وكلّ بحث يكون نتيجته معرفة أحوال الموضوع وأحكامه يكون البتة من أبحاث

ص: 26

............................................

_____________________________

العلم الذي وضع طريقاً إلى معرفه أحواله وأمّا قوله: وجملة من غيرها، الظاهر انّ مراده منها أبحاث الأصول العمليّة ونقول لا ضير في خروجها عن أبحاث الأصول لعدم كون البحث منها بحثاً عن أحوال الأدلّة لأن فن الأصول في أوّل الأمر كان منحصراً في مباحث الألفاظ وبحث حجيّة الخبر والتعادل والتراجيح وقد بينّا رجوع تلك الأبحاث جميعاً إلى البحث عن أحوال الأدلّة ولم يكن في كتب للمتقدّمين من الأُصول العمليّة اسم ولا رسم فلا إشكال في كون الأدلّة الأربعة موضوعاً لفنّ الأُصول الذي دوّنوه وعرفت أبحاثه، وأمّا المتأخّرون فلمّا تفطّنوا بأبحاث الأُصول العمليّة من البرائة والاستصحاب وغيرهما ودوّنوا أبحاثها في الأُصول في غاية الاختصار والاجمال لا مانع من أن يكون تلك الأبحاث أبحاثاً استطراديّة لا أصليّة حينئذٍ لعدم كونها مهمّة بالنسبة إلى الأبحاث الآخر ولا إشكال أيضاً في كون موضوع الأُصول الأصلي الأولى لا ما الحق به استطراداً خصوص الأدلّة الأربعة، وأمّا متأخّر والمتأخّرين فلمّا أطالوا في البحث عن الأصول العمليّة واستكشفوا لها مباحث مهمّة واستحكموا دخالتها في الفقه فلابدّ لهم من تعميم الموضوع والتجاوز عن الأدلّة الأربعة إذ لا وجه حينئذٍ لجعل تلك المباحث المهمّة استطراديّة ولا يكاد يفرض موضوع لفنّ الأُصول حينئذٍ يسلم من النقوض والإشكال إلّا بأن يقال انّه الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة كما أفاده المصنّف قدس سره ولكنّه غير مفيد لأنّه إن أريد من هذا الكلّي ما هو الجامع لافراد موضوعات المسائل المتميّز عن سائر الكليّات الاخر التي تكون جامعة لأفراد

ص: 27

ويؤيد[1] ذلك تعريف الاصول، بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الاحكام

_______________________________

موضوعات مسائل العلوم الاخر غير الأصول فلا نسلم وجوده في الواقع، لا انّه موجود وليس له عنوان خاص واسم مخصوص كما زعم قدس سره، بل المفقود المعنون والعنوان جميعاً لا ان ذات المعنون موجود والعنوان فقط مفقود إذ لو كان موجوداً لكان متميّزاً البتّة عن العناوين الاخر ومتشخّصاً ومتخصّصاً بالمشخّصات والخصوصيّات ولعرفناه وميزناه بمميّزاته ومشخّصاته وبعبارة أخرى: الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة صرف مفهوم ذهني ولا وجود له في ضمن موجود من الموجودات الخارجيّة أصلاً كالعنقاء فلا وجود للمعنون كالعنوان أيضاً، وإن أريد من ذلك الكلّي عنوان من العناوين العامّة الغير المتميّز عن سائر العناوين كالشي ء والموجود مثلاً فلا وجه لجعله موضوعاً لخصوص الأصول بل يشمل جميع موضوعات المسائل لكلّ علم ولا يتميّز حينئذٍ علم الأصول بذلك الموضوع عن سائر العلوم كما لا يخفى إلّا أن ما يسهل الخطب هو ما حقّقه قدس سره من ان تمايز العلوم بتمايز الأغراض الداعية إلى التدوين لا الموضوعات فلا بأس باتّحاد الموضوع واختلاف العلم.

[1] قال ويؤيّد أي عدم كون موضوع الأصول خصوص الأدلّة الأربعة بل ذلك الكلّي المنطبق على موضوعات المسائل وإن لم يكن له عنوان ولا اسم اعتراف الأصوليّين في تعريف العلم بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الدال على انّ الموضوع هو الكلّي الجامع لموضوعات تلك القواعد لا خصوص الأدلّة الأربعة وإلّا فلِم لَم يعرفوه بأنّه العلم بأحوال الأدلّة الأربعة كما عرّف علم النحو بأنّه علم يعرف به حال أواخر الكلم اعراباً وبناء مثلاً.

ص: 28

الشرعية، وإن كان الاولى تعريفه[1] بأنّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل بناءً على أن مسألة حجية الظن على الحكومة، ومسائل الاصول العملية في الشبهات الحكمية من الاصول، كما هو كذلك، ضرورة أنه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات.

______________________________

[1] قال: والأولى تعريفه أقول: بل هذا لتعريف متغيّر للأصول الذي دونه المتأخّرون منهم المصنّف قدس سره لكيلا يخرج مباحث الأصول العمليّة وغيرها التي تكون من مهمّات المباحث عن الأصول وغير جائز بالنسبة إلى الأصول الذي دونه المتقدّمون كما عرفت بيانه مفصّلاً ويرد على تعريفهم انّ المراد من العلم الذي يعرف في أوّل الفن ليكون الشارع فيه على بصيرة مقدّمة هو نفس المسائل والقواعد لا العلم الحاصل للعالم الذي هو كيفيّة نفسانيّة ولذا عرفه المصنّف بأنّه صناعة الخ وبيانه انّ العلوم من الصناعات الذهنيّة الصرفة التي لا دخل لعمل الجوارح فيها أصلاً كما انّ سائر الفنون كفنّ الصياغة مثلاً من الصناعات الذهنيّة الصرفة التي تكون الجارحة دخيلة في اعمالها وبعبارة أخرى كما انّ القواعد التي يحتاج في العمل بها إلى الجوارح والمعروضات الخارجيّة تعرضها وقت اعمالها كقواعد الصياغة مثلاً تسمّى بالصناعة فكذلك القواعد التي ليست كذلك فلا عجب في كون فنّ الأصول من الصنايع بل جميع العلوم أيضاً كلّها صناعات ذهنيّة صرفة.

ص: 29

الأمر الثاني

الأمر الثاني: الوضع هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى، وارتباط خاص بينهما، ناش من تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعماله فيه أخرى، وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيني، كما لا يخفى.[1]

ثم إن الملحوظ حال الوضع إما يكون معنى عاما، فيوضع اللفظ له تارة، ولافراده ومصاديقه أخرى، وإما يكون معنى خاصا، لا يكاد يصح إلا وضع اللفظ له دون العام، فتكون الاقسام ثلاثة، وذلك لان العام يصلح لان يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك، فإنه من وجوهها، ومعرفة وجه الشي ء معرفته بوجه، بخلاف الخاص، فإنه بما هو خاص، لا يكون وجها للعام، ولا لسائر الافراد، فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له، ولا لها - أصلا - ولو بوجه.

نعم ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه، فيوضع له اللفظ، فيكون الوضع عاما، كما كان الموضوع له عاما، وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاص، فإن الموضوع له - وهي الافراد - لا يكون متصورا إلا بوجهه وعنوانه،

_______________________________

[1] قال: الوضع، مصدر مبني للمفعول أي الموضوعيّة في مقابل المهمليّة اللذين من صفات اللفظ نحو اختصاص بين اللفظ والمعنى يحصل تارة من تعيين الواضع وعن قصد وأخرى من كثرة الاستعمال وبلا قصد، وبهذا المعنى يصح تقسيمه الى التعييني والتعيني بمعنى انّ الاختصاص المذكور قد ينشأ من الأوّل وقد ينشأ من الثاني وامّا بمعنى المبنى للفاعل فهو عمل صادر من الواضع المعبّر عنه بالتعيين ولا وجه لجريان التعين فيه.

ص: 30

وهو العام، وفرق واضح بين تصور الشي ء بوجهه، وتصوره بنفسه، ولو كان بسبب تصور أمر آخر.

ولعل خفاء ذلك على بعض الاعلام، وعدم تميزه بينهما، كان موجبا لتوهم امكان ثبوت قسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصا، مع كون الموضوع له عاما، مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمل.[1]

_______________________________

[1] أقول: لا مانع من تصوير الوضع الخاص والموضوع له العام كما ذهب إليه بعض الأعلام ولا يرد ما أورد المصنّف من انّه إن تصوّر الواضع الخاص بما هو خاص ويضع له اللفظ فتصوّره مباين لتصوّر العام، ومع خلعه عن الخصوصيّات وتصوّره يكون تصوّره عين تصوّر العام فعلى الفرض الأوّل يكون الوضع خاصّاً والموضوع له كذلك وعلى الثاني يكون الوضع عامّاً والموضوع له كذلك، لأنّا نقول: لا ضير في أن يكون تصوّر الواضع في الوضع الخاص نفس الخاص بعنوان اللابشرطيّة لا بما هو خاص وبشرط شي ء كي يباين مع العام ولا بتجرّده عن الخصوصيّات وبشرط لا كي يكون نفس العام كما انّ في الوضع العام والموضوع له الخاص لابدّ أن يكون متصوّر الواضع أيضاً نفس العام لا بعمومه وإلّا فلا يتّحد مع الأفراد ولا يكون مراتاً لها بل مبايناً لها، ولا بانضمام الخصوصيّات الخارجيّة وإلّا فيكون عين الأفراد وما أفاده الشيخ الأجل دام ظلّه في كتابه الدرر في بيان تصوير الوضع الخاص والموضوع له العام من انّه يتصوّر فيما إذا تصوّر الواضع شخصاً خارجياً لا يعلم ما هو الجامع بينه وبين أمثاله تفصيلاً ولكن يعلمه اجمالاً

ص: 31

............................................

_____________________________

وبما هو قدر مشترك بين هذا الشخص وأمثاله ووضع اللفظ لذلك الجامع المعلوم اجمالاً والمجهول تفصيلاً كما إذا رأى من بعيد شخصاً لا يعلم انّه حيوان أو جماد فيضع له اللفظ لما هو الجامع بينه وبين أمثاله والمشترك بينه وبينها، قال وإنّما لا يتصوّر هذا القسم من الوضع فيما إذا علم الواضع الجامع تفصيلاً ويتصوّره كذلك إذ حينئذٍ يكون من الوضع العام والموضوع له العام في غاية المتانة إذ كما انّ في الوضع العام والموضوع له الخاص يكون العام عند الواضع معلوماً بالتفصيل بخلاف الأفراد الخاصّة الخارجيّة فانّها غير متصوّرة له إلّا بوجه العام وبعنوان انّها مشمولة له وواقعة تحته فكذلك في الوضع الخاص والموضوع له العام المفروض اذ لا يتصوّر الواضع العام حال الوضع بعنوان خاص واسم مخصوص وإنّما يتصوّره على نحو الاجمال والابهام وبوجه وجوده في ضمن الخاص وانّه ما به الاشتراك بين هذا الفرد وأمثاله، وأمّا ما أفاده الشيخ الشارح الكاظميني الشيخ عبدالحسين آل الشيخ أسد اللَّه الشوشتري قدّس سرّهما في مقام توضيح ما أفاده المصنّف من انّه إذا اتّحد الوضع ووصف بكونه خاصّاً لخصوصيّة المعنى المقصود ووحدته وعدم لحاظ غيره من المعاني لا كلّاً ولا بعضاً ولا شمولاً ولابدلاً فكيف يعقل أن يكون الموضوع له مع هذه الملاحظة عامّاً وكيف يعقل أن يكون الواحد بما هو واحد اثنين أو أكثر ؟

أقول: سلّمنا ان ما قرّره غير معقول ولكن كيف يعقل نسبة اثبات مثل هذا الأمر الغير المعقول إلى عاقل فضلاً عن الفاضل فلابدّ أن يكون المراد ما ذكرناه من كون

ص: 32

..........................................

____________________________

المراد من وضع الخاص والموضوع له العام تصوّر الواضع الخاص بنفسه لا بخصوصيّته وتشخّصه والوضع لما يشتمل عليه من العام وإنّما اشتبه الأمر من جهة التعبير بالوضع الخاص الظاهر في كونه عبارة عن تصوّر الخاص بعنوان الخصوصيّة وليس كذلك، إذ لا حاجة إلى تصوّره كذلك فضلاً عن مانعيّته عن أصل المقصود وهو تصوّر العام على الفرض فكما انّ المراد من الوضع العام ليس تصوّره بعمومه كما عرفت فكذلك في الوضع الخاص، والحاصل ان ما بيّنه المصنّف من حصر متصوّر الواضع في الوضع الخاص والموضوع له العام في انّه اما الخاص بما هو خاص واما ما هو المجرّد عن الخصوصيّات غير تمام، بل لهما وجه ثالث وهو تصوّره بنفسه مجرّداً عن القيد لا مع الاقتران بالخصوصيّات ولا مع التجرّد عنها ونزيد في توضيح المطلب بعبارة أخرى لا يرى الواضع فيما فرضنا من القسم الرابع العام إلّا بوجه وجوده في ضمن الخاص لا بنفسه وهويّته وتمامه وحقيقته، وفرق واضح بين أن يتصوّر الواضع حال الوضع نفس حقيقة الانسانيّة بتمامها وهو الحيوانيّة والناطقيّة مثلاً ويضع لفظ الانسان له وبين تصوّره بصرف وجوده في ضمن وجود زيد وعمرو وبكر مثلاً ويضع له اللفظ، فكما ان تعريف الانسان بأنّه ضاحك تعريفه بوجهه وبالاجمال بخلاف تعريفه بأنّه حيوان ناطق فانّه تعريفه بحقيقته وماهيّته فكذلك تصوّر الانسان بحيوانيّته وناطقيّته تصوّره بالكنه وتفصيلاً وتصوّره بأنّه ما وجد في ضمن وجود زيد وعمرو تصوّره بوجهه لا بحقيقته وكما ان تصوّر الواضع في الوضع العام والموضوع له الخاص للأفراد تصوّرها بوجهها لا بتمامها ومشخّصاتها ويبقى المشخّصات والمخصّصات

ص: 33

ثم إنه لا ريب في ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الاعلام،[1] وكذا الوضع العام والموضوع له العام، كوضع أسماء الاجناس.

_______________________________

لها إلى آخر الأمر غير متصوّر للواضع بالنسبة إلى هذا الوضع منه فكذلك في الوضع الخاص والموضوع له العام يبقى حقيقة العام وكنهها للواضع غير متصوّر بالنسبة إلى ذلك الوضع مع تصوّره بوجوده في ضمن الأفراد.

والحاصل ان تصوّر الشي ء بالنفس وبالكنه عبارة عن تصوّره بما لا يكون فوقه وما ورائه أمر آخر كتصوّر الانسان بأنّه حيوان ناطق وتصوّره بالوجه عبارة عن تصوّره بما يكون فوقه وما ورائه معرفات أخرى أجلى وأعلى ومعلوم ان تصوّر العام بوجه وجوده في ضمن الأفراد من التصوّرات النازلة الاجماليّة التي فيما فوقه معرفات اخر أجلى وأعلى وبالجملة لا أظنّ انّه يبقى شكّ بعد هذه البيانات لمن أنصف عن نفسه في غاصية ما أوردناه وجوّزناه واللَّه العالم.

[1] أقول: المراد بها الأعلام الشخصيّة فانّ العلم حقيقة في العلم الشخصي الذي لا اشتراك في معناه أصلاً فان لفظ العلم مأخوذ من العلامة، والعلامة تجعل لأن يتعيّن ويعرف بها ذوها من دون أن يكون جهة اشتراك ولا ابهام فيه، وتسمية العلم الجنسي بالعلم أمر اصطلح عليه النحاة والتعريف فيها تعريف لفظي كتأنيث المؤنثات السماعيّة وإلّا فمن حيث المعنى لا فرق بينها وبين أسماء الأجناس فان اسامة وأسد بمعنى واحد ولكن العرب لما جروا أحكام المعرفة على الأوّل في استعمالاتهم دون الثاني اشتهر انّها علم جنس بخلاف الثاني والنحاة وان أطالوا الكلام في اثبات الفرق بينهما ولكن ما أفادوه فيه لا يرجع إلى محصّل ومن ذلك يعلم انّ مراد المصنّف بأسماء الأجناس أعمّ من أعلامها وأسمائها.

ص: 34

وأما الوضع العام والموضوع له الخاص، فقد توهم[1] أنه وضع الحروف، وما ألحق بها من الاسماء، كما توهم أيضا ان المستعمل فيه فيها خاص مع كون الموضوع له كالوضع عاما.

والتحقيق - حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق - أن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الاسماء، وذلك لان الخصوصية المتوهمة، إن كانت هي الموجبة

______________________________

[1] أقول: ليس ذلك توهّماً بل الحق ان كلّ من قال بخلافه كالمصنّف فقد توهّم، وما أفاد في بطلانه غير مفيد فانّه قد تردّد في موجب جزئيّة الموضوع له فيها بين ما يوجب الجزئيّة الخارجيّة وما يوجب الجزئيّة الذهنيّة وأبطل كلّاً منهما بوجه.

أقول: بل المراد والمتعيّن الجزئيّة الخارجيّة، والاشكال بأن كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كليا لا وجه له، بل المستعمل فيه فيها دائماً يكون جزئيّاً ولا يكون كليّاً قطّ، بيان ذلك انّ الحروف ليست دوالاً مستقلّةً متاصلة دالّة على المعاني التامّة المستقلّة كالأسماء بل إنّما هي روابط وضعت ليربط بعض الدوال المتاصلة ببعض اخر في البيانات المركبة من كلمات مفردة متشتّتة وحالها في الدلالة حال الهيئات العارضة للمواد المركّبة من كلمات كذلك، ووضعها ووضع الحروف من واد واحد، فكما ان هيئة القضية العارضة لمواد الكلمات المتفرّقة إنّما تدلّ على اسناد بعضها إلى بعض وارتباطه به بعد عروضها لمادّتها وكذا هيئة المضاف والمضاف إليه مثلاً فكذلك الحروف، مثلاً لفظة «من» من الحروف الجارّة لم يوضع من حيث هو هو من دون توسّطها بين مجروره ومتعلّقه لمعنى ولا يدلّ في هذا الحال على مدلول أصلاً بخلاف لفظة انسان منفردة مثلاً، فانّها تدلّ على

ص: 35

.............................................

______________________________

الحقيقة المخصوصة بالدلالة التصوريّة وحينئذٍ فلا دلالة للفظ « من » الاربط ما بعده بما قبله وما قبله بما بعده، نعم الربط الذي يدلّ عليه في تلك الحال ربط خاص يعبّر عنه بالابتدائيّة كما انّه يعبّر عن ربط المحمول بالموضوع بالحمل والاسناد، وكذلك المضاف والمضاف إليه، فمرادهم من تشخص معانيها انّ الواضع تصوّر حين الوضع ارتباطاً مخصوصاً كليّاً وهو الذي يعبّر عنه بالابتدائيّة حين وضع لفظ «من» مثلاً ووضعه لأفراده المخصوصة الخارجة الواقعة الموجودة بين لفظ سِرْ أوْ سِرْتُ والبصرة أو غيرها فانّ الربط الموجود الواقع بين لفظين لا يكون إلّا جزئيّاً لأنّ الشي ء ما لم يتشخّص لم يوجد وخارجيّاً لأنّ الفرض وجوده في الخارج بين المربوط والمربوط به لأنّ المربوط والمربوط به وهما اللفظان الصادران عن المتكلّم الموجودان في الخارج فلابدّ أن يكون الرابط بينهما أيضاً موجوداً في الخارج، والحاصل انّ معاني الحروف روابط كلاميّة توجد بوجود الكلام وبعبارة أخرى كما انّ هيئة القضيّة المشتملة على الموضوع والمحمول لا تدلّ إلّا على الاسناد الخاص الخارجي الذي واقع في خصوص تلك القضيّة لا المفهوم الكلّي من لفظ الاسناد وهو مفهوم اسمي استقلالي فكذلك لفظ « من » لا يدلّ إلّا على الابتداء الربطي الالي الواقع بين مجروره ومتعلّقه في قوله سرت من البصرة إلى الكوفة مثلاً.

ثمّ ما أورد من الاشكال بأنّ الجزئيّة الخارجيّة تنافي ما نراه من جواز استعمال لفظة « من » في الكلي من الابتداء في مثل سر من البصرة إلى الكوفة غير وارد، لأن معنى « من » دائماً الربط الخاص الواقع بين متعلّقه ومجروره الذي يكون

ص: 36

............................................

_____________________________

دائماً جزئيّاً البتة غاية الأمر يعبّر عنه في مقام الاشارة إليه بالابتداء لأنّه أقرب دال عليه، فاذا كان مجروره شخصاً خاصّاً كما في قولك سر من هذا المكان المعيّن لابدّ له من التعبير بالابتداء الخاص وإذا كان عامّاً لابدّ من التعبير عنه بالابتداء العام وليست لكليّة الابتداء دخالة في معنى « من » كما ان خصوصيّته أيضاً كذلك لأنّ الجزئيّة والكليّة في الابتداء ناش من لفظ مجروره بنحو تعدّد الدال والمدلول فلذا يفهم من قوله سر من هذا المكان المعيّن الجزئيّة ومن قوله سر من أيّ موضع شئت من أطراف هذا المكان الكليّة فالكليّة الناشئة في قوله سر من البصرة ناشئة من تعدّد ابتداءات البصرة لا دخل لها في معنى « من » وإن شئت توضيحه كاملاً فقس عليه مدلول الابتداء الاسمي الذي لا شبهة في كونه مدلولاً مستقلّاً عامّاً وضع له ذلك اللفظ فان في قولك ابتداء سيري المعين الماضي المكان الفلاني لم يستعمل إلّا في الابتداء الجزئي الخارجي ولا مجاز، لأنّه مستفاد من القيد الذي تقيد به لفظ الابتداء ومن المحقّق في محلّه ان تقييد المطلق لا يوجب استعمال لفظه في غير معناه فكما انّ الجزئيّة المستفادة في الاستعمال المزبور خارجة عن مدلول لفظ الابتداء الذي هو موضوع للمعنى الكلّي فكذلك الكليّة المستفادة في قوله سر من البصرة خارجة عن معنى « من » ودلّ عليها بدال اخر.

ثمّ انّه بناء على مبنى المصنّف يرد اشكالان: أحدهما كون لفظة « من » والابتداء مترادفين صحّ استعمال كلّ منهما مقام الآخر مع انّه واضح البطلان.

الثاني عدم جواز دخول « من » على لفظ الابتداء مع انّه جائز بلا شبهة، مثلاً استعمال مثل قولك سرت من ابتداء البصرة إلى انتهاء الكوفة استعمال صحيح

ص: 37

............................................

_____________________________

لا ريب فيه اما الاشكال الأوّل فقد تفطّن به وأجاب عنه بأن طور الاستعمال في اللفظين مختلف فانّ الواضع وضع لفظ الابتداء ليستعمل في معناها بما هو هو وفي نفسه ولفظة « من » ليستعمل في معناه بما هوالة وحالة لغيره فلذا لا يجوز استعمال كلّ منهما في مقام الآخر.

أقول: هذا مكابرة محضة اذ بعد فرض ترادف اللفظين وعدم الفرق بين ما وضعا له أصلاً لا يمتنع المستعملون بمنع الواضع البتة في مقام الاستعمال بل إنّما امتنعوا من الاستعمال المزبور لا بمنع الواضع بل لفهم أنفسهم فرقاً بين معنى اللفظين وتبادر أذهانهم عند ذكر لفظ « من » بمعنى والابتداء بمعنى اخر وليس الفرق عندهم وفي نظرهم الا الحاليّة والالية والتماميّة والاستقلاليّة وهذا التبادر بنفسه دليل على انّ الواضع لم يضع اللفظين لمعنى بل لمعنيين.

وأمّا الاشكال الثاني فباق ولم يتعرّض لايراده والجواب عنه، هذا كلّه في الحروف وأمّا المبهمات كأسماء الاشارة فالحق أيضاً انّ الواضع تصوّر حين الوضع كلي مفهوم الاشارة إلى الشي ء الذي هو مفهوم عام وعنوان تام استقلالي ووضع ألفاظها للاشارات الخاصّة الجزئيّة في الموارد المخصوصة، مثلاً تصوّر الواضع حين وضع لفظ هذا مفهوم الاشارة إلى المفرد المذكر الذي هو مفهوم عام تام مستقل ووضع لفظه للاشارات الخاصّة الواقعة من المستعملين التي توجد في استعمالاتهم الجزئيّة الخارجيّة إلى المشار إليه المعيّن المندرجة تحت العام المزبور، وادعاء ترادف المفرد المذكر مع لفظ هذا باطل بحكم التبادر كما هو واضح.

ص: 38

لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا، فمن الواضح أن كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كليا، ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا إضافيا، وهو كما ترى.

وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا، حيث أنه لا يكاد يكون المعنى حرفيا، إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر، ومن خصوصياته القائمة به، ويكون حاله كحال العرض، فكما لا يكون في الخارج إلا في الموضوع، كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر، ولذا قيل في تعريفه: بأنه ما دل على معنى في غيره، فالمعنى، وإن كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ، بحيث يباينه إذا لوحظ ثانيا، كما لوحظ أولا، ولو كان اللاحظ واحدا، إلا أن هذا اللحاظ لا يكاد مأخوذا في المستعمل فيه، وإلا فلابد من لحاظ آخر متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة أن تصور المستعمل فيه مما لابد منه في استعمال الالفاظ، وهو كما ترى.

مع أنه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، لامتناع صدق الكلي العقلي عليها، حيث لا موطن له إلا الذهن، فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلا بالتجريد وإلغاء الخصوصية، هذا مع أنه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلا كلحاظه في نفسه في الاسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى.

وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ الابتداء - مثلا - إلا الابتداء، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلا، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة، وكما لا يكون لحاظه فيه موجبا لجزئيته، فليكن كذلك فيها.

إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ الابتداء مترادفين، صح استعمال كل منهما في موضع الآخر،

ص: 39

وهكذا سائر الحروف مع الاسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة، كما هو واضح.

قلت: الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع، حيث أنه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرت الاشارة إليه غير مرة، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع، يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر، وإن اتفقا فيما له الوضع، وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - أن نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته.

ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والانشاء أيضا كذلك، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والانشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته، وإن اتفقا فيما استعملا فيه، فتأمل.

ثم إنه قد انقدح مما حققناه، أنه يمكن أن يقال: إن المستعمل فيه في مثل أسماء الاشارة والضمائر أيضا عام، وأن تشخصه إنما نشأ من قبل طور استعمالها حيث ان أسماء الاشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، وكذا بعض الضمائر، وبعضها ليخاطب به المعنى، والاشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى، فدعوى أن المستعمل فيه في مثل (هذا) أو (هو) أو (إياك) إنما هو المفرد المذكر، وتشخصه إنما جاء من قبل الاشارة، أو التخاطب بهذه الالفاظ إليه، فإن الاشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلا إلى الشخص أو معه، غير مجازفة.

فتلخص مما حققناه: ان التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات، لا يوجب تشخص المستعمل فيه، سواء كان تشخصا خارجيا - كما في مثل أسماء الاشارة - أو ذهنيا - كما في أسماء الاجناس والحروف ونحوهما - من غير فرق في ذلك

ص: 40

أصلا بين الحروف وأسماء الاجناس، ولعمري هذا واضح.

ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصا في الحرف عين ولا أثر، وإنما ذهب إليه بعض من تأخر، ولعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره، من خصوصيات الموضوع له، أو المستعمل فيه، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه، لا يكاد يكون من شؤونه وأطواره، وإلا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك، فتأمل في المقام فإنه دقيق، وقد زل فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق.

الامر الثالث

الثالث صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع، أو بالطبع؟[1] وجهان، بل قولان، أظهرهما أنها بالطبع بشهادة الوجدان بحسن

______________________________

[1] أقول: من البعيد في الغاية أن ينسب إلى العلماء المتفطّنين لدقائق النكات العجيبة والاشارات والرموز الغريبة مثل هذا الأمر الذي من البطلان بمكان لا يحتاج إلى البيان وهو ان الواضع بعد وضع الألفاظ للمعاني الأصليّة الأوليّة بالوضع الشخصي تعرض للمجازات ووضع تلك الألفاظ دفعة أخرى ومستقلّاً للمعاني المجازيّة المناسبة للمعاني الأوليّة ولو نوعاً لأنّ الواضع حكيم لا يصدر عنه ما ينافي الحكمة البتة ومن المعلوم انّه كلّما وضع لفظ لمعنى وحصل الانس بينه وبين ذلك المعنى وصار ذلك اللفظ علامة ومعرفاً له يحصل الانس بين ذلك اللفظ والمعاني المناسبة الموضوع له أولا بالمناسبة التامة حصولاً قهرياً لأن المعاني من متعلّقات المعنى الأوّل وتوابعه كما انه يسري المحبّة والعداوة من المحبوب والعدو إلى متعلقيه والمنسوبين إليه فانك اذا تحب شخصاً تحب أولاده وأهل بيته بل داره وثيابه وكذلك في العداوة، فان علقة اللفظ مع المعنى كسائر

ص: 41

..........................................

____________________________

العلائق فكما انّ للعلائق الاخر آثاراً ولوازم قهريّة فكذلك لعلقة اللفظ مع المعنى الأولى اثار ولوازم تحصل بحصولها وبسبب حصول ذلك الأثر يجوز استعمال اللفظ في المعاني المناسبة للمعنى الأولى ولو مع منع الواضع، ولا يجوز استعماله في المعاني الغير المناسبة لعدم حصول العلقة ولو مع تجويز الواضع، فاذا كان كذلك كيف يعقل أن ينسب إلى الواضع الحكيم تأسيس وضع جديد نوعي بالنسبة إلى المعاني المجازيّة في عرض الأوضاع الحقيقيّة مع انّه لغو وهدر وهل هذا إلّا نسبة الجهل إليه لأنّه تحصيل الحاصل مع انّه حكيم لا يصدر منه أمثال ذلك اللغويات البتة فلا محيص عن ان يراد من تعبيراتهم بأن وضع المجازات وضع نوعي ما ذكرنا من الوضع التبعي القهري الحاصل من الأوضاع الحقيقيّة الواقعة في طولها لا عرضها، وحصر العلائق في المجاز بعدد مخصوص لا يدلّ على انّهم أرادوا غير ما ذكر فانّ المقصود من تعدادها واستقصائها بيان ما اعتبره العرف وأهل اللسان من العلائق وما قبل طباع المستعملين في ذلك المقام وليس مرادهم استكشاف وضع جديد من الواضع للمجازات من ذلك الاستقصاء البتة.

ولقد أجاز صاحب الفصول فيما أفاد في هذا المقام حيث قال: ثمّ اعلم انّ الأكثر لم يبالغوا في حصر أنواع العلاقة وضبطها كما يشهد به تصفّح كتبهم وكان ذلك تنبيهاً منهم على انّ المعتبر في العلاقة إنّما هو تحقّق المناسبة التي يقبل بها الطبع اطلاق اللفظ الموضوع لأحدهما على الآخر وانّ الوجوه المذكورة من مظانّها وهذا هو التحقيق الذي ينبغي تنزيل كلماتهم عليه وأمّا ما سبق إلى بعض الأوهام من انّ الواضع قد اعتبر هذه الأنواع من حيث الخصوص وان أهل اللغة قد

ص: 42

............................................

_____________________________

نقلوها فليس لنا التعدّي عمّا نقلوه ففي غاية السقوط للقطع بان ليس هناك نقل ينتهي إلى الواضع ولا ادّعاه أحد وإنّما القوم تصفّحوا كلمات العرب فوجدوهم يطلقون بعض الألفاظ على ما يناسب معانيها الأصليّة فعمدوا إلى تلك المناسبة. انتهى(1).

وأمّا ما حكى من نسبة التفتازاني إليهم انّ الواضع اعتبر العلاقات بخصوصها وادّعائه وفاقهم عليه مع انا لم نظفر به في كتابه المطوّل فهو غير معلوم ولعلّ النسبة المذكورة منه على فرض ثبوته مستندة بما يترائى من ظاهر بعض كلماتهم في تعداد العلائق مع انّ التحقيق تنزيله على ما ذكره صاحب الفصول.

والحاصل ان ما أفاده المصنّف في غاية الوضوح ولا أظنّ أحداً ينكره وإنّما المراد ممّا اشتهر من انّ اللغات توقيفيّات اللغات الأصليّة الأوليّة لا مطلقاً إن كان المراد بالتوقّف تصريح الواضع بالوضع وافادته بالدلالة المطابقيّة وإلّا فان كان المراد أعم منها ومن دلالة الاشارة فالترخيص من الواضع حاصل في المجازات أيضاً ولو ضمناً وتبعاً وإن كان الطبع دخيلاً فيها أيضاً كما هو واضح، وممّا ذكرنا ظهر انّ المسئلة ذات وجه واحد والوجه الآخر وهو التصريح من الواضع بالترخيص والاجازة والوضع في المجازات ولو نوعاً ثانياً ومستقلّاً بعد تحقّق الأوضاع الشخصيّة في غاية السخافة بل مقطوع العدم للوجه الذي عرفت ولا يمكن أن يلتزم به ذو مسكة فضلاً عن العلماء المحقّقين ونسبة ذلك إليهم توهّم فاسد.

ص: 43


1- الفصول الغرويّة في الأُصول الفقهيّة: 25. نشر: دار احياء العلوم الإسلاميّة.

الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه و لو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته إلا حسنه،[1] والظاهر أن صحة الاستعمال اللفظ في نوعه أو مثله من قبيله، كما يأتي الاشارة إلى تفصيله.[2]

______________________________

[1] أقول: بل لا وجه لجعل صحّة الاستعمال بمعنى حسنه قطعاً، إذ صحّة كلّ شي ء بحسبه، فان صحّة العبادة شرعاً موافقتها لأمر الشارع وصحّة المعجون عند الطبيب كونه مؤثّراً في دفع المرض وصحّة الأمور العقليّة كونها حسنة عند العقل والأمور الطبعيّة كذلك ومعلوم انّ استعمال اللفظ في المعنى أمر عرفي محاوري صحّته عند أهل اللسان والمحاورة مطابقته لاستعمالاتهم ومحاوراتهم وفساده خلافه ولذا اشتهر انّ رُبّ غلط مشهور خير من صحيح مهجور فصحّة الاستعمالات المجازيّة عبارة عن مطابقتها لمحاورة أهل اللسان وتعارفها عندهم، غاية الأمر ان منشأ تلك المطابقة الحسن الطبعي لوجود المناسبة بين المعنى المستعمل فيه والموضوع له الأولى فالحسن الطبعي منشأ الصحّة لأنفسها كما انّ منشأ صحّة الاستعمالات الحقيقيّة وضع الواضع وجعلها للأوضاع الحقيقيّة لا انّها عبارة من نفس الوضع كما هو ظاهر.

[2] أقول: بل من المحقّق ان المجوز لذلك طباع المستعلمين ولا دخل له بوضع الواضع أصلاً لأنّ الغرض من الوضع ايجاد العلقة بين ذات الدال والمدلول ليحصل عنوان الدلالة، والعلقة فيها حاصلة لا يحتاج إلى الجعل والاثبات، إنّما الكلام في ان تلك الاستعمالات حقائق أو مجازات ؟ الحق انّها واسطة بينهما.

اما عدم كونها حقائق فلعدم الاستعمال فيها في المعنى الموضوع له وعدم

ص: 44

.............................................

______________________________

استكشاف تلك المعاني بحاق تلك الألفاظ بل يحتاج إلى القرينة فانّ لفظ ضرب مثلاً لو كان مجرّداً عن القرينة لا يفهم منه إلّا معناه الموضوع له في لغة العرب وان زده است در لغت فارسى وارادة نوعه منه أو مثله يحتاج إلى القرينة.

وأمّا عدم كونها مجازات فلأنّ المجاز عبارة عن استعمال اللفظ الموضوع فيما يناسب المعنى الأصلي الأولي الذي يتبادر منه بلا قرينة ومن المعلوم انّه لا مناسبة بين المعنى المتبادر من ضَرَبَ الذي هو زده است بالفارسيّة ونوعه أو مثله أصلاً، فلا ضير في أن يقال ان تلك الاستعمالات استعمالات مرسومة بين أهل المحاورات لا يلاحظون فيها ما وضع له اللفظ أصلاً بل يجوّزونها بحكم طبعهم ولمناسبة الفرد مع نوعه أو صنفه والشي ء مع مثله وشبهه ويشهد له جواز مثل تلك الاستعمالات في المهملات التي لا وجه للالتزام بكونها بالنسبة إليها حقائق أو مجازات.

فان قلت: ما خرج من الاستعمال الحقيقي والمجازي غلط البتة فما وجه صحّتها.

قلت: الوجه في صحّتها هو تعارف الاستعمال وكون تلك الاستعمالات مرضيّة عند أهل اللسان وهذا هو تمام المناط في صحّة الاستعمال وفساده، غاية الأمر إذا لم يكن بين الدال والمدلول علاقة من جهة من الجهات يستكشف بدليل الان انّه لابدّ من حصول علقة جعليّة من جاعل معيّن وهو الذي يعبّر عنه بالواضع أيّاً من كان إمّا شخصاً وإمّا نوعاً وأمّا إذا كانت العلقة حاصلة ولم يكن حاجة إلى جعلها فالاستعمال صحيح بعد تعارفه وكونه مرضيّاً عند أهل اللسان.

ص: 45

الامر الرابع

الرابع:[1] لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ، وإرادة نوعه به، كما إذا قيل: ضرب - مثلا - فعل ماض، أو صنفه كما إذا قيل: (زيد) في (ضرب زيد) فاعل، إذا لم يقصد به شخص القول أو مثله ك (ضرب) في المثال فيما إذا قصد.

وقد أشرنا إلى أن صحة الاطلاق كذلك وحسنه، إنما كان بالطبع لا بالوضع، وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك، لصحة الاطلاق كذلك فيها، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى.

_______________________________

[1] أقول: أمّا استعمال اللفظ وارادة نوعه فكما إذا قيل مثلاً « ضرب » فعل ماض وأريد به نوع ذلك اللفظ الذي هو ضاد وراء وباء بثلث فتحات متوالية الشامل لكلّ فرد منها واقع في الخارج من كلّ متكلّم بتلك الكلمة إلّا ما صدر من ذلك المتكلّم الذي تكلّم به في تلك القضيّة لأنّه اللفظ والنوع معناه على الفرض والمحمول في القضيّة إنّما هو محمول على معنى الموضوع لا لفظه أيضاً فلا يرد عليه ما أورده بعض المعاصرين في حاشيته على الكتاب من انّه إن كان المراد الطبيعة السارية يشمل لفظ الموضوع أيضاً مع انّه ليس بفعل بل اسم قطعاً لأنّه ليس مراده الطبيعة السارية بحيث يشمل لفظ الموضوع أيضاً وإلّا يبطل عنوان اللفظ والمعنى والدال والمدلول كما أشار إليه المصنّف في آخر البحث من انّ المراد من استعمال اللفظ وارادة النوع ما يكون عنوان الدالية والمدلوليّة واللفظيّة والمعنائيّة فيه محفوظاً وانّه لا يمكن دخول الفرد الصادر من المتكلّم في موضوع الحكم في المثال المذكور فلعلّ المحشّي غفل عمّا أفاده المصنّف أخيراً وإلّا فلم يكن مجال لايراد الاشكال المذكور عليه كما لا يخفى.

ص: 46

وأما إطلاقه وإرادة شخصه، كما إذا قيل: (زيد لفظ) وأريد منه شخص نفسه، ففي صحته بدون تأويل نظر[1]، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول، أو تركب القضية من جزء ين كما في الفصول.

______________________________

وأمّا استعماله وارادة صنفه فكما إذا قيل « زيد » في ضرب زيد فاعل إذا لم يقصد منه خصوص شخص القول الذي صدر منه وإلّا فمن استعماله وارادة شخصه، بل قصد منه صنفه المتّحد يعني كلّ فرد من أفراد لفظ زيد الواقع في ضرب زيد الصادر من كلّ متكلّم فلا يشمل جميع أفراد لفظ زيد كما في المثال السابق أو المتعدّد يعني كلّ فرد من أفراد الاسم المرفوع الذي قبله فعل سواء كان زيداً أو عمراً أو بكراً فلا يشمل جميع أفراد الاسم المرفوع كي يدخل تحت عنوان استعمال اللفظ وارادة نوعه.

وأمّا استعماله وارادة مثله ففيما اذا اريد من لفظ « ضرب » في قوله ضرب فعل ماض كلّ لفظ مثل ذلك اللفظ الصادر من أي لافظ دون شخص ما صدر منه في تلك القضيّة.

وأمّا استعمال اللفظ وارادة شخصه فكما إذا قيل زيد لفظ واريد منه شخص نفسه.

[1] أقول: الانصاف انّه كذلك ولابدّ من تأويل تلك القضيّة بقول ما صدر منّي مثلا لفظ، بيان ذلك ان للشي ء الواحد يتصوّر وجودات مختلفة: الوجود العيني والخارجي والذهني والعقلي والوجود اللفظي والكلامي، والقضيّة تنقسم أيضاً بتلك الأقسام فان كان أجزائها موجودة بالوجود الخارجي فخارجية وإن كانت

ص: 47

..............................................

_______________________________

موجودة بالوجود الذهني فالقضيّة معقولة وإن كانت موجودة بالوجود اللفظي فلفظيّة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّه إن اعتبر في المثال المذكور اللفظيّة والمعنائيّة والداليّة والمدلوليّة فيما خرج من فم المتكلّم وهو زاء وياء ودال كي يتم أجزاء القضيّة الملفوظة وكانت كلّها موجودة في عالم اللفظ وبالوجود اللفظي من المحمول والموضوع جميعاً يلزم اتّحاد الدال والمدلول واللفظ والمعنى وهو باطل قطعاً كما سيجي ء بيانه وإن لم يعتبر ذلك الاعتبار بل يجعل الموضوع عين ما صدر من المتكلّم، الموجود بالوجود العيني والخارجي دون الوجود اللفظي فيلزم تركب القضيّة من جزئين وهما المحمول والنسبة وقد يترائى في النظر ان اللازم على هذا تركب القضيّة من جزء واحد وهو المحمول فقط لأن مع عدم الموضوع في القضيّة اللفظيّة لا يعقل وجود النسبيّة بين المحمول وبينه، ولكن فيه انّ الوجود العيني الخارجي للموضوع ثابت والمتكلّم أسند المحمول اللفظي إلى ما أوجده من عين الموضوع ووجوده الخارجي وقال زيد لفظ غاية الأمر وجود الموضوع ليس وجوداً لفظيّاً وأمّا أصل وجوده الخارجي فحاصل قطعاً والنسبة بينه وبين المحمول ثابتة وحيث انّ الوجود العيني للموضوع في المثال أيضاً وجود لفظي ومن سنخ الألفاظ لا مانع من اسناد المحمول اللفظي اليه، نعم لو كان من غير سنخ اللفظ من الجواهر والاعراض كالحيوان المعين الموجود في الخارج لم يصح اسناد المحمول اللفظي إليه بأن يقال في حقّه غزال مثلاً اذ لا سنخيّة حينئذٍ بين

ص: 48

.............................................

______________________________

المنسوب والمنسوب إليه والمربوط والمربوط به فلذا لا يجوّزون المثال المزبور إلّا بتقدير موضوع لفظي بأن يقال أصله هو غزال ولا معنى لثبوت النسبة بين لفظ الغزال وذلك الموجود الخارجي لان المتباينان لا يرتبطان معاً أصلاً.

وأمّا المثال المزبور فقضيّته صحيحة تامّة المعنى غاية الأمر نحتاج فيها إلى التأويل لإتمام القضيّة اللفظيّة وتصحيحها لا تصحيح أصلها هذا تمام البيان لما أفاده في الفصول(1).

وأمّا ما أفاده المصنّف في بيان مراده بأنّه لابدّ من كون الأجزاء القضيّة الثلاثة تامّة ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين.

ففيه انّه ليس مراده ان الموضوع بناء على عدم اعتبار الدال والمدلول لا يكون موجوداً أصلاً وإلّا لكان اللازم أن يجعل اللازم من عدم اعتباره كون القضيّة جزء واحداً، بل مراده انّه لا يكون موجوداً بالوجود اللفظي وأمّا أصل وجوده الخارجي والعيني فممّا لا يكاد ينكر، وبهذه الملاحظة يكون النسبة ثابتة والقضيّة مركّبة من جزئين فالتعليل باستحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين عليل في الغاية وركيك في النهاية.

وأمّا ما أجاب به عن الاشكال والوجه الذي وجّه به المثال من دون تأويل فلا يتمّ أيضاً.

أمّا الوجه الأوّل من وجهي الجواب وهو كفاية تغائر الاعتبار في الدال

ص: 49


1- الفصول الغرويّة في الأصول الفقهيّة: 22.

...............................................

_______________________________

والمدلول ففساده واضح اذ عنوان الداليّة والمدلوليّة عنوانان متباينان متضادّان لا يمكن اجتماعهما في محل واحد خارجيّاً اذ معنى الدلالة انتقال الذهن من الدال إلى المدلول ولا معنى لانتقال الذهن من الشي ء إلى نفسه والداليّة والمدلوليّة عبارة عن المعرفيّة والمعرفيّة والعلاميّة وذوالعلاميّة والمرآتية والمرئيّة وكيف يعقل أن يكون الشي ء معرفاً لنفسه وعلامة ومراتاً له وليس اعتبار الداليّة والمدلوليّة في الشي ء الواحد إلّا من قبيل أن يحضر أحد شيئاً عند الناظر ويقول له لاتره إلّا بالنظرة الثانية فانّه يريه البتّة بالنظرة الأولى ولا يبقى موقع للرؤية الأوليّة بالنظرة الثانية منه ولا يكون للقول المذكور أثر أصلاً بل لغو وهذر.

وأمّا ما بيّنه الشيخ الكاظميني قدس سره شارح الكتاب في توجيه ما أفاده المصنّف بأن اتّحاد الخارجي في الوجود للدال والمدلول لا يمكن فيما إذا كان الدال والمدلول من سنخين كان يكون الدال لفظاً والجوهر أو العرض مدلولاً وأمّا إن كانا من سنخ واحد كما في المقام فلا ضير في اتّحادهما في الوجود الخارجي مع تغايرهما وتباينهما مفهوماً فان ما صدر من المتكلّم من زاء وياء ودال في المثال يجوز أن يكون دالّاً على نفسه كما انّ صفتا الشجاعة والكرم متغايران مفهوماً وقد يتّحدان خارجاً وأوصاف الباري تعالى كذلك فانّه بعين انّه عالم قادر وبعين انّه قادر متكلّم لا وجه له أصلاً فان لزوم التغاير الخارجي بين الدال والمدلول وعدم اتّحادهما واجتماعهما في محلّ واحد أوضح بمراتب من تغايرهما المفهومي لما عرفت من انّه لا معنى لارائة الشي ء واحضاره عند الناظر ووقوع نظره عليه أوّلاً

ص: 50

...............................................

_______________________________

وعدم رؤيته إلّا بالنظرة الثانية ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدال والمدلول من سنخ واحد أو سنخين والبيان المذكور يجري فيهما كما لا يخفى ولعلّه لذا قال رحمه اللَّه بعد هذا البيان: بأن في النفس من كون هاتين الصفتين يعني الداليّة والمدلوليّة من القسم الثاني يعني من الصفات المتغايرة مفهوماً مع جواز اتّحادهما خارجاً شي ء والمطلب يحتاج إلى مزيد التأمّل(1).

أقول: بل فيه شي ء عظيم بل لا وجه لصحّته كما عرفت.

وأمّا الجواب الثاني للمصنّف بأن حديث تركّب القضيّة من جزئين الخ فلا وجه له أيضاً إذ كان المصنّف لم يتحقّق مراد صاحب الفصول لأنّه يفهم من صريح كلامه تسليم وجود الموضوع عيناً وخارجاً وإنّما كلامه في عدم وجوده في عالم اللفظ ولذا جعل اللازم الباطل تركّب القضيّة من جزئين ولو لا تسليم وجود الموضوع وان مراده عدم الموضوع أصلاً لم يقل بلزوم تركيب القضيّة من جزئين بل جزء واحد لاستحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين والحاصل ان ما أفاده المصنّف من الشق الثاني من الجواب مسلم عند صاحب الفصول وإنّما اشكاله في لزوم تركب القضيّة اللفظيّة من جزئين وان الموضوع ليس موجوداً في القضيّة بالوجود اللفظي فاللازم رفع تلك الغائلة وما أفاده في رفعه لا يسمن ولا يغني من جوع بل أجنبي عن المقصود.

ص: 51


1- الهداية في شرح الكفاية: 26.

بيان ذلك: أنه إن اعتبر دلالته على نفسه - حينئذ - لزم الاتحاد، وإلا لزم تركبها من جزء ين، لان القضية اللفظية - على هذا - إنما تكون حاكية عن المحمول والنسبة، لا الموضوع، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزء ين، مع امتناع التركب إلا من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين.

_______________________________

نعم تعرّض لدفعه الفاضل المعاصر المشكيني دام بقاه في حاشيته على الكتاب بأن عين الموضوع ووجوده الخارجي هنا لفظ فالموضوع في القضيّة موجود بالوجود اللفظي وأجزاء القضيّة اللفظيّة تامّة وإنّما يلزم بيان الموضوع باللفظ اذا لم يكن هو من سنخ اللفظ بل من الجواهر والاعراض الاخر وهنا ليس كذلك(1).

أقول: الفرض في المقام انّ اللفظ الموجود في القضيّة هو العيني الخارجي للموضوع واللازم في القضيّة اللفظيّة التعبير عنه بلفظ آخر كقولك ما صدر منّي لفظ مثلاً وهو مراد صاحب الفصول من التأويل وكون العين الخارجي للموضوع هنا لفظاً لا يفيد في كون القضيّة بتمام أجزائها لفظيّة فانّ الوجود الخارجي غير الوجود اللفظي غاية الأمر انّه يكون وجود الخارجي للموضوع هنا لفظا لا انّ الموضوع وجد بالوجود اللفظي فانّ الوجود اللفظي لهذا الموضوع هو لفظ ما صدر منّي مثلا زاء وياء ودال وجوده العيني والخارجي واللازم في القضيّة اللفظيّة وجود الموضوع في عالم اللفظ لا كونه لفظاً كيف ما كان، ومعلوم ان في تلك القضيّة لم يأت المتكلّم بالوجود اللفظي له بل أتى بعينه ووجوده الخارجي كما لا يخفى.

ص: 52


1- كفاية الاُصول ( مع حواشي المشكيني ): 1/110. نشر لقمان، قم.

قلت: يمكن أن يقال: إنه يكفي تعدد الدال والمدلول اعتبارا، وإن اتحدا ذاتا، فمن حيث أنه لفظ صادر عن لافظه كان دالا، ومن حيث أن نفسه وشخصه مراده كان مدلولا، مع أن حديث تركب القضية من جزءين - لو لا اعتبار الدلالة في البين - إنما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلا كان أجزاؤها الثلاثة تامة، وكان المحمول فيها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه، غاية الامر أنه نفس الموضوع، لا الحاكي عنه، فافهم، فانه لا يخلو عن دقة.

وعلى هذا، ليس من باب استعمال اللفظ بشي ء، بل يمكن أن يقال: إنه ليس أيضا من هذا الباب، ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه، فإنه فرده ومصداقه حقيقة، لا لفظه وذاك معناه، كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا، قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاك، وقد حكم عليه ابتداء، بدون واسطة أصلا، لا لفظه، كما لا يخفى، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى، بل فرد قد حكم في القضية عليه - بما هو مصداق لكلي اللفظ، لا بما هو خصوص جزئيه.

نعم فيما إذا أريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى، اللهم إلا أن يقال: إن لفظ (ضرب) وإن كان فردا له إلا أنه إذا قصد به حكايته، وجعل عنوانا له ومرآته كان لفظه المستعمل فيه، وكان - حينئذ - كما إذا قصد به فرد مثله.

وبالجملة: فإذا أطلق وأريد به نوعه، كما إذا أريد به فرد مثله كان من باب استعمال اللفظ في المعنى، وإن كان فردا منه، وقد حكم في القضية بما يعمه، وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كلية ومصداقه، لا بما هو لفظه وبه حكايته، فليس من

ص: 53

هذا الباب، لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهرا ليست كذلك، كما لا يخفى، وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك، مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل: (ضرب فعل ماض).

الامر الخامس

الخامس: لا ريب في كون الالفاظ موضوعة بإزاء معانيها[1] من حيث هي، لا من حيث هي مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزيد عليه، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.

_______________________________

[1] أقول: لا ينبغي أن ينسب إلى أحد من أهل الفضل إن يلتزم بوضع الألفاظ لمعانيها مع قيد الارادة بأن يكون نفس الارادة الشخصيّة من المريد مطلقاً جزء للموضوع له أو خصوص ارادة المعنى من اللفظ في استعماله فيه أيضاً لما ذكره المصنّف من اللوازم الباطلة الثلاثة من ان قصد المعنى على أنحائه من مقوّمات الاستعمال فلا يمكن أن يكون من قيود المستعمل فيه، وصحّة الحمل والاسناد بلا تصرّف في ألفاظ الأطراف، ولزوم كون وضع عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً، اذ الأوّل إنّما يلزم إذا كان المراد أخذ قيد ارادة المعنى من اللفظ في استعماله في الموضوع له والمستعمل فيه لا ارادته وقصده مطلقاً والثاني راجع إلى ادّعاء تبادر نفس المعنى مجرّداً من اللفظ لا مع قيد الارادة من غير فرق في ذلك في مورد الحمل والاسناد وعدمه، بل لو لم يلاحظ الألفاظ إلّا مفرداً مفرداً من دون اسناد بعضها إلى بعض لا يتبادر منها إلّا نفس المعنى، والبيان المذكور ليس إلّا مِنْ قبيل الأكل من القفا وأمّا الثالث فلا يكون إلّا مجرّد استبعاده وليس مثبتاً

ص: 54

...............................................

_______________________________

للمطلب على وجه الجزم الذي هو بصدد اثباته على هذا الوجه بل لتبادر نفس المعنى وعدم تبادر خلافه كما عرفت، وهذا واضح لا يحتاج إلى اثباته إلى الوجوه التي ذكرها المصنّف بل كلّها مستدركة ومستغنية عنها.

وحيث عرفت عدم جواز نسبة مثل هذا إلى أحد من أهل العلم فلنبين مراد من اوهم بيانه ذلك.

أقول: من المقطوع الذي لا ريب فيه ان مقصوده من وضع الألفاظ للمعاني المرادة هو انّه لم يكن غرض الواضع من وضع الألفاظ لمعانيها إلّا جعل طريق للافادة والاستفادة والكشف عمّا في الضمير بتوسّط الألفاظ كالكتابة التي هو طريق اخر مجعول فلم يضع الألفاظ لمعانيها إلّا لأن تكون واسطة في اظهار ما أراده المتكلّم في نفسه من المعنى، فقال مثلاً كلّما وقع في قلبك الماهيّة المعينة الفلانيّة وأردت الاظهار عنها والقاء ما في نفسك إلى مخاطبك فاظهر منها بلفظ الانسان واكشف عنه بها وأمّا حصول الاخطار مطلقاً كلّما سمع اللفظ المذكور بالنسبة إلى الماهيّة المعينة فأمر خارج عن ما قصده الواضع في وضع الألفاظ، بل فائدة تترتّب قهراً على وضعها لمعانيها خارجة عمّا هو المقصود من الوضع، وبعبارة أخرى إنّما وضع الواضع الألفاظ لمعانيها لأن يدلّ المتكلّم بها مخاطبه إلى مراده ومقصوده بتوسّطها، وفهم المعنى قهراً عند سماع اللفظ لا يكون فيه دلالة من المتكلّم أصلاً وإلى هذا المعنى يرجع ما أفاده العلمان من ان الدلالة تتبع الارادة فانّ الدلالة في عبارتهما بمعناها المصدري يعني دلالة المتكلّم بوساطة اللفظ

ص: 55

هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل، بلا تصرف في ألفاظ الاطراف، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة، لما صح بدونه، بداهة أن المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) - مثلا - هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان، مع أنه يلزم كون وضع عامة الالفاظ عاما والموضوع له خاصا، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الارادة فيه، كما لا يخفى، وهكذا الحال في طرف الموضوع.

وأما ما حكي عن العلمين (الشيخ الرئيس، والمحقق الطوسي) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الارادة، فليس ناظرا إلى كون الالفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، كما توهمه بعض الافاضل، بل ناظر إلى أن دلالة الالفاظ على معانيها

_______________________________

مخاطبه إلى ما في ضميره لا بمعنى الاسم المصدري كما فهمه المصنّف وجعلها مقابلاً للجهالة والضلالة ولا ريب ان مرادهما بيان غرض الواضع من الوضع كما فهمه بعض الأفاضل فانّ النائم إذا تلفّظ بلفظ لم يدلّ أحداً بما في ضميره ووقع التلفّظ بذلك اللفظ في غير المورد الذي كان المقصود التلفّظ به فيه، وأمّا حصول الاخطار بمجرّد سماع اللفظ فليس دلالة بالمعنى الذي ذكرنا كما لا يخفى وحمل عبارتهما على ما أفاده المصنّف بعيد في الغاية إذ محصّله يرجع إلى توقّف مقام الاثبات على الثبوت والكشف على وجود المنكشف كما أفاده هو قدس سره وكيف يمكن أن ينسب إلى هذين العلمين بيان ذلك المعنى مع انّه من توضيح الواضحات ومن الظهور بمكان لا يحتاج إلى البيان واللَّه العالم.

ص: 56

بالدلالة التصديقية، أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها، ويتفرع عليها تبعية مقام الاثبات للثبوت، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف، فإنه لولا الثبوت في الواقع، لما كان للاثبات والكشف والدلالة مجال، ولذا لا بد من إحراز كون المتكلم بصدد الافادة في إثبات إرادة ماهو ظاهر كلامه ودلالته على الارادة، وإلا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، وإن كانت له الدلالة التصورية، أي كون سماعه موجبا لاخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.

إن قلت: على هذا، يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ، والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شي ء، ولم يكن له من اللفظ مراد.

قلت: نعم لا يكون حينئذ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالة، ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية - على ما بيناه - واضح لا محيص عنه، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظرا إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل، فضلا عمن هو علم في التحقيق والتدقيق.

الامر السادس

السادس: لا وجه لتوهم وضع للمركبات، غير وضع المفردات، ضرورة عدم الحاجة إليه، بعد وضعها بموادها، في مثل (زيد قائم) و(ضرب عمرو بكرا) شخصيا، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والاضافات، بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا، بداهة أن وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها، كما لا يخفى من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدلالة على المعنى: تارة بملاحظة وضع نفسها، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها،

ص: 57

ولعل[1] المراد من العبارات الموهمة لذلك، هو وضع الهيئات على حدة، غير وضع المواد، لا وضعها بجملتها، علاوة على وضع كل منهما.

الامر السابع

السابع: لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه - وبلا قرينة - علامة كونه حقيقة فيه، بداهة أنه لولا وضعه له، لما تبادر.

ولا يقال: كيف يكون علامة؟ مع توقفه على العلم بأنه موضوع له، كما هو واضح، فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار.

فإنه يقال: الموقوف عليه[2] غير الموقوف عليه ، فإنّ العلم التفصيلي - بكونه

_______________________________

[1] أقول: بل من المقطوع انّ المراد من تلك العبائر وضع المركّبات من حيث الهيئة المركبيّة لا مجموع المفردات والهيئات والا لالتزموا بوضع الهيئات أيضاً عليحدّة وضعاً ثالثاً لأن دلالة الهيئات الصرفة على النسبة والاضافات مضافاً إلى دلالة المفردات من البديهيّات مع ان من قال بوضع المركّبات لم يتعرّض لوضع الهيئات أصلاً ولم يلتزم بوضع ثالث لها غير وضع المفردات والمركّبات فيعلم من ذلك علماً قطعيا ان مراده من وضع المركّبات وضع الهيئات التركيبيّة ولا وجه لاسناد ذلك إليهم على سبيل الاحتمال والترديد، والمناقشة في العبارة بعد وضوح المقصود لا طائل تحتها سيّما في مثل الكتاب الذي وضع لافادة المهمّات وسمّى بالكفاية عن سائر المصنّفات.

[2] أقول: لا وجه لدفع الدور بهذا الوجه مع كون التبادر علامة للحقيقة بيان ذلك انّ العلم الاجمالي الارتكازي لابدّ من أن يكون مسبوقاً بالتفصيليّة ولا يحصل العلم على وجه التفصيل إلّا من تبادر العالم، غاية الأمر يعرضه الاجمال

ص: 58

موضوعاً له - موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به ، لا التفصيلي ، فلا دور . هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم ، وأمّا إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة ، فالتغاير أوضح من أن يخفى .

ثم إن هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، وأما فيما احتمل استناده إلى قرينة، فلا يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه، لا إليها - كما قيل - لعدم الدليل على اعتبارها إلا في إحراز المراد، لا الاستناد.

_______________________________

بطرو الغفلة فاذا أراد تحصيل تفصيله ثانياً بالتبادر لابدّ أن يتوجّه إلى العلم الاجمالي أولا فاذا توجّه إليه وحصل التبادر يكشف عن ان ذلك العلم الاجمالي كان تفصيلاً سابقاً ولا يكون التبادر علامة له فان كاشفيّة شي ء عن شي ء غير دلالته عليه والفرق بينهما انّ الدلالة عبارة عن اكتساب حادث لم يكن ضرائر وتحصيل مجهول من معلوم والكشف عبارة عن ظهور الشي ء الموجود بعد ان كان مخفيّاً ومستوراً وبعبارة أخرى أصل الدلالة إنّما كانت لتبادر العالم ولما حصل منه العلم للجاهل المستعلم كان علماً تفصيليّاً أوّلاً ثمّ بواسطة عروض الغفلة صار مكنوناً غير ملتفت إليه ثمّ بعد ذلك ينقلب العلم الاجمالي الذي كان تفصيليّاً أوّلاً بالتبادر المسبوق بالتوجّه إليه أوّلاً تفصليّاً فالمستكشف وهو العلم أمر واحد موجود يعرضه الحالات المختلفة بواسطة عروض العوارض وليس في البين دلالة شي ء على شي ء أصلاً فظهر ان علامية التبادر للحقيقة وكونه دالّاً على ثبوت الوضع إنّما هو لتبادر الجاهل المستعلم ومن ذلك يعلم انّ الحال في العلامة الآتية وهي صحّه السلب أيضاً كذلك.

ص: 59

ثم إن عدم صحة سلب اللفظ - بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالا كذلك - عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه، كما أن صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة.[1]

والتفصيل: إن عدم صحة السلب[2] عنه، وصحة الحمل عليه بالحمل الاولي الذاتي، الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما، علامة كونه نفس المعنى، وبالحمل الشائع الصناعي، الذي ملاكه الاتحاد وجودا، بنحو من أنحاء الاتحاد، علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية.

_______________________________

[1] أقول: يظهر من بيانه بعد ذلك انّ مراده منه المجازيّة ولو عقلاً لا في اللفظ المستعمل كما ذهب إليه السكاكي والوجه الآخر الذي يمكن أن يكون منظوراً من القيد هو ان سلب المشترك بمعنى معيّن من معانيه يصحّ سلبه عن المعنى الآخر مع انه ليس مجازاً فيه مثلاً سلب العين بمعنى الذهب يصحّ عن الفضّة مع ان استعماله في الفضّة حقيقة كاستعماله في الذهب فيتحصّل ان صحّة السلب قد يكون علامة للمجاز وقد لا يكون بخلاف، فانّه كلّما لم يصح سلب اللفظ عن معنى يكون استعماله فيه حقيقة البتة ويَرِد عليه انّه كان اللازم أن يقيّد صحّة السلب في علامة المجاز بالحقيقي وإلّا فسلب معنى الانسانيّة عن البليد يصح ادعاء مع ان استعمال لفظ الانسان فيه حقيقة لا مجاز.

[2] أقول: لم يذكر في التبادر ان تبادر الغير علامة المجاز وهنا جعل صحّة السلب علامة للمجاز ولعلّ السرّ فيه أن تبادر الغير أعم من المجازيّة اذ قد يحصل تبادر الغير بواسطة انصراف اللفظ الموضوع للكلّي إلى الفرد الذي كثر استعمال

ص: 60

كما أن صحة سلبه كذلك علامة أنه ليس منهما، وإن لم نقل بأن إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وإن التصرف فيه في أمر عقلي، كما صار إليه السكاكي، واستعلام حال اللفظ، وأنه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما، ليس على وجه دائر، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه، بالاجمال والتفصيل أو الاضافة إلى المستعلم والعالم، فتأمل جيدا.

ثم إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها، وإلا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال، فالمجاز مطرد كالحقيقة، وزيادة قيد (من غير تأويل) أو (على وجه الحقيقة)، وإن كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة، إلا أنه - حينئذ - لا يكون علامة لها إلا على وجه دائر، ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا، ضرورة أنه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة، لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد، أو بغيره.

_______________________________

اللفظ فيه مع انّه في الفرد الذي قلّ استعماله وغير المتبادر من اللفظ حقيقة أيضاً ويتحقّق إلى المعنى الغير الموضوع له الذي لا علاقة بينه وبين المعنى الموضوع له مع ان استعمال اللفظ فيه لا يكون مجازاً بل غلطاً.

أقول: وهذا الوجه بعينه جار في المقام فان صحّة السلب متحقّق بالنسبة إلى المعنى الغير الموضوع له الذي لا علاقة بينه وبين المعنى الموضوع له فجعلها علامة للمجازيّة هنا أيضاً في غير محلّه وإن أريد من جعله علامة لها العلاميّة في

ص: 61

الامر الثامن

الثامن: انه للفظ أحوال خمسة[1] وهي: التجوز، والاشتراك، والتخصيص، والنقل، والاضمار، لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي، إلا بقرينة صارفة عنه إليه.

وأما إذا دار الامر بينها، فالاصوليون، وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها، إلا أنها استحسانية، لا اعتبار بها، إلا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك، كما لا يخفى.

_______________________________

الجملة ومع وجود الفرد كقولك رأيت انساناً وارادة زيد منه على قسمين أحدهما ارادة الفرد منه لا مع الخصوصيّات الخارجيّة ولا بشرط، والثاني ارادته منه مع الخصوصيّات الخارجيّة وبشرط شي ء، وما يكون منه حقيقة إنّما هو القسم الأوّل وأمّا الثاني فمجاز بلا كلام فلا وجه لجعل صدق الكلّي على الموجود الخارجي وصحّة حمله عليه بالحمل الشايع الصناعي علامة للحقيقة بقول مطلق كما لا يخفى.

[1] أقول: يظهر ممّا أفاده قدس سره ان المنظور من البحث في باب تعارض الأحوال تعيين ما أراده المتكلّم من اللفظ في استعماله لا تعيين عنوان الاستعمال بعد معلوميّة ما أراده من ذات المعنى اذ تقدّم الحقيقة على غيرها وكون مراد المتكلّم الموضوع له الأولى لللفظ دون غيره إنّما هو في حال الشكّ في مراد المتكلّم وإنّما يجري اصالة الحقيقة في خصوص هذا المقام، والقول بتعيين الحقيقة وتقدّمها على غيرها في المقام الثاني وهو ما إذا كان الشكّ في عنوان الاستعمال يرجع إلى ما ذهب إليه السيّد المرتضى حيث يتمسّك باصالة الحقيقة فيما إذا كان الشكّ في

ص: 62

الامر التاسع

التاسع: إنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال، وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال، وهو: أن الوضع التعييني، كما يحصل بالتصريح بإنشائه، كذلك يحصل بإستعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما إذا وضع له، بأن يقصد الحكاية عنه، والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة، وإن كان لابد - حينئذ - من نصب قرينة، إلا أنه للدلالة على ذلك، لا على إرادة المعنى، كما في المجاز، فافهم.

وكون إستعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له، بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز، غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره، وقد عرفت سابقا، أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز.

_______________________________

عنوان الاستعمال مع معلوميّة مراد المتكلّم وذات ما أراده من اللفظ مع انّ الحق خلافه، وكذا يظهر ممّا أفاده أخيراً من انّ المناط في المقام ظهور اللفظ في المعنى في الوجوه الاعتباريّة التي ذكرها الأصوليّون ان مراده ما ذكر من تعيين مراد المتكلّم وحينئذٍ نقول ان كان مرادهم من التمسّك بتلك الوجوه تعيين مراد المتكلّم وما استعمل فيه اللفظ بها فلا وجه له البتة كما أفاده، ولكن من الواضح ان ما يظهر من استدلالاتهم من اصالة عدم النقل في ترجيح غيره عليه وأنّ المجاز خير من الاشتراك إذ الاشتراك ينافي ما هو المقصود من الوضع وأمثال ذلك ان مرادهم في هذا البحث بيان ما هو المعين لعنوان الاستعمال فيما إذا تعارض الاحتمالات في عنوانه مع كون ذات المراد في الاستعمالات معيناً فراجع كتبهم تراها ضادية بما ذكرنا.

ص: 63

إذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التعييني في الالفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته، ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية، فأي علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء، ومجرد إشتمال الصلاة على الدعاء لايوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما، كما لا يخفى.

هذا كله[1] بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.

_______________________________

[1] أقول: فيه أوّلاً انّه إذا اختلف عبادة في شرعنا في الأجزاء والشرائط مع تلك العبادة في الشرائع السابقة كمال الاختلاف يشكل ثبوت جامع بين أفرادها كي يقال بوضع اللفظ له الا ما يكون وضع اللفظ له بعيداً غاية البعد كالتعظيم مثلاً بالنسبة إلى الصلوة، ومجرّد الامساك بالنسبة إلى الصوم، نعم اذا لم يكن الاختلاف الكثير في أفرادها في الشريعتين لا يبعد القول بوضع اللفظ للجامع بينهما وكون الاختلاف في مصاديقه ومحقّقاته، واثبات ذلك مشكل جداً.

وثانياً ان مجرّد ثبوت حقيقة العبادة في الشرائع السابقة لا يثبت كون اللفظ الموضوع له في تلك الشرائع ما يكون موضوعاً له في شرعنا بل من المعلوم خلافه اذ لطوايف الناس لغات مختلفات وما أرسل رسول إلّا بلسان قومه فعلى تقدير ثبوتها في تلك الشرائع فهي بلغات اخر من سنخ لغة النبي صلى الله عليه وآله وقوم المبعوث إليهم في ذلك الوقت كما لا يخفى.

ص: 64

وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة، كما هو قضية غير واحد من الآيات، مثل قوله تعالى: «كتب عليكم الصيام كماكتب على الذين من

قبلكم» وقوله تعالى: «وأذن في الناس بالحج» وقوله تعالى: «وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا» إلى غير ذلك، فألفاظها حقائق لغوية، لا شرعية، واختلاف الشرائع فيها جزء ا وشرطا، لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال، لا مجال لدعوى الوثوق - فضلا عن القطع - بكونها حقائق شرعية، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها، لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه، ومنه قد إنقدح حال دعوى الوضع التعيني معه، ومع الغض عنه، فالانصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة، نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع، فتأمل.

وأما الثمرة بين القولين، فتظهر في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت، فيما إذا علم تأخر الاستعمال، وفيما إذا جهل التاريخ، ففيه إشكال، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع، لا دليل على اعتبارها تعبدا، إلا على القول بالاصل المثبت، ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك، وأصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل، لا في تأخره، فتأمل.

الامر العاشر

العاشر: أنه وقع الخلاف في أن الفاظ العبادات، أسام لخصوص الصحيحة أو للاعم منها؟ وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين، يذكر أمور: منها: إنه لا شبهة في

ص: 65

تأتي الخلاف، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال.

وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره[1] إن النزاع وقع - على هذا - في أن الاصل في هذه الالفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الاعم، بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء، وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته، كي ينزل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية، وعدم قرينة أخرى معينة للآخر.

وأنت خبير بأنه لا يكاد يصح هذا، إلا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك، وأن بناء الشارع في محاوراته، استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته، بحيث كان هذا قرينة عليه، من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى، وأنى لهم بإثبات ذلك.

وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع - على مانسب إلى الباقلاني وذلك بأن يكون النزاع، في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها إلا بالاخرى

_______________________________

[1] أقول: تصوير جعل المجاز الأصلي خصوص الاستعمال في الصحيح وكون الاستعمال في الفاسد تبعاً له ومتفرعاً عليه صحيح، وأمّا إذا جعل المجاز الأصلي الاستعمال في الأعم فلا يكون الاستعمال في الصحيح تبعاً له بل يكون الاستعمال فيه قسماً من الاستعمال في الأعم ولا تبعيّة في البين كما هو ظاهر وأمّا جعل المجاز الأصلي الاستعمال في خصوص الفاسد وكون الاستعمال في الصحيح تبعاً له لا وجه له بل من المقطوع عدمه اذ جعل الاستعمال في الصحيح تبعاً للاستعمال في الفاسد ممّا لا يصحّ أن ينسب إلى جاعل لقبحه وركاكته كما لا يخفى.

ص: 66

- الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه - هو تمام الاجزاء والشرائط، أو هما في الجملة، فلا تغفل.

ومنها: أن الظاهر أن الصحة عند الكل بمعنى واحد،[1] وهو التمامية، وتفسيرها

_______________________________

[1] أقول: ادّعاء بقاء لفظ الصحّة بمعناه اللغوي وانحصار الاختلاف في لوازمه فقط بعيد غاية البعد اذ لكلّ أهل علم وصناعة اصطلاح خاص ومعلوم انّ بعض الألفاظ منقول عن معناه اللغوي إلى معان اخر عند أهل الاصطلاح مثل النحويّين والصرفيّين مثلاً ولم يدع أحد ان تلك الألفاظ باق على معانيها الأصليّة وانّ الاختلاف في لوازمها المهمّة والالتزام بذلك مستلزم لسد باب النقل وعدم وجود المنقول أصلاً، مع انّه من البطلان بمكان لا يحتاج إلى البيان، ونسبة تلك الأمر إلى أهل الاصطلاح نسبة يتبرّئون عنها البتّة، فكما ان لفظ الفقه مثلاً الذي في اللغة بمعنى مطلق الفهم نقل عند الفقهاء إلى الفهم المخصوص وكذلك سائر الألفاظ التي اصطلحوا فيها اصطلاحاً خاصّاً، فكذلك لفظ الصحّة نقل في اصطلاحهم عن المعنى اللغوي والعرفي العام وهو مفهوم تام الأجزاء و الشرائط إلى معنى يلازم اسقاط القضاء، وحيث لم يكن جامع معلوم معين بين الأفراد المختلفة للمعنى المنقول إليه يصح ان يعبّر عنه اضطرّوا إلى الكشف عنه بلازمه المهم في نظرهم وهو اسقاط القضاء، فانّ التماميّة المطلقة غير التماميّة المقيّدة، والتماميّة المقيّدة بقيد مخصوص غير التماميّة المقيّدة بقيد آخر فالمعنى الاصطلاحي عند الفقهاء غير المعنى اللغوي والعرفي، وكذلك المعنى الاصطلاحي عندهم غيره عند المتكلّمين، ومجرّد التصوير والاحتمال لا يثبت المتصور والمحتمل مع عدم الدليل، بل الدليل موجود على العدم كما لا يخفى.

ص: 67

بإسقاط القضاء - كما عن الفقهاء - أو بموافقة الشريعة - كما عن المتكلمين - أو غير ذلك، إنما هو بالمهم من لوازمها، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الانظار، وهذا لا يوجب تعدد المعنى، كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر، والحضر، والاختيار، والاضطرار إلى غير ذلك، كما لا يخفى.

ومنه ينقدح أن الصحة والفساد أمران إضافيان، فيختلف شي ء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات، فيكون تاما بحسب حالة، وفاسدا بحسب أخرى، فتدبر جيدا.

ومنها: أنه لابد - على كلا القولين - من قدر جامع في البين، كان هو المسمى بلفظ كذا، ولا إشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة، وإمكان الاشارة إليه بخواصه وآثاره، فإن الاشتراك في الاثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد، يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا: بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما.

والاشكال فيه - بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا، إذ كل ما فرض جامعا، يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا، لما عرفت، ولا أمرا بسيطا، لانه لا يخلو: أما أن يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوما مساويا له، والاول غير معقول، لبداهة

ص: 68

استحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الطلب في متعلقه،[1] مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة والمطلوب، وعدم جريان البراء ة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الاجمال - حينئذ - في المأمور به فيها، وإنما الاجمال فيما يتحقق به، وفي مثله لامجال لها، كما حقق في محله، مع أن المشهور القائلين بالصحيح، قائلون بها في الشك فيها، وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضا - مدفوع، بأن الجامع إنما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب إختلاف الحالات، متحد معها نحو إتحاد، وفي مثله تجري البراء ة، وإنما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيا، مسببا عن مركب مردد بين الاقل والاكثر، كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما إذا شك في أجزائهما، هذا على الصحيح.

وأما على الاعم، فتصوير الجامع في غاية الاشكال، فما قيل في تصويره

_______________________________

[1] أقول: ذلك كذلك اذا أريد من المطلوب، المطلوب الفعلي الذي نشاء عنوان مطلوبيته من الطلب الذي تعلّق بالمأمور به فعلاً، وأمّا إذا كان المراد منه المطلوب الانشائي الذي كان عنوان المطلوبيّة فيه حاصلاً قبل تعلّق الطلب الفعلي وسابقاً عليه فلا استحالة فيه أصلاً وبعبارة اخرى إن كان المراد من قوله تعالى: أقيموا الصلاة مثلاً الكشف عن وصول المطلوب الانشائي إلى المرتبة الفعليّة وانّه يجب الاتيان فعلاً بما تعلّق به الطلب الانشائي قبل هذا الايجاب الفعلي فلا محذور أصلاً ولا يلزم أخذ ما لا يتاتى إلّا من قبل الطلب فی متعلقه الغیر المعقول و المستحیل.

ص: 69

أو يقال: وجوه: أحدها: أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة، كالاركان في الصلاة مثلا،[1] وكان الزائد عليها معتبرا في المأمور به لا في المسمى.

وفيه ما لا يخفى، فإن التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الاخلال ببعض الاركان، بل وعدم الصدق عليها مع الاخلال بسائر الاجزاء والشرائط عند الاعمي، مع أنه يلزم أن يكون الاستعمال فيما هو المأمور به - بأجزائه وشرائطه - مجازا عنده، وكان من باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، لا من باب إطلاق الكلي على الفرد والجزئي، كما هو واضح، ولا يلتزم به القائل بالاعم، فافهم.

_______________________________

[1] أقول: هذا ما أفاده المحقّق القمّي طاب ثراه في تصوير الجامع على القول الأعمى وردّه المصنّف بأنّ التسمية حقيقة لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلوة مع الاخلال ببعض الأركان بل وعدم الصدق عليها مع الاخلال بسائر الأجزاء والشرائط.

أقول: وجه الترقي أظهريّة الصدق مع الاخلال بالأركان من عدم الصدق مع الاخلال بغيرها، وقوله عند الأعمى اشارة إلى وضوح عدم الصدق، لأنّه كان المناسب لمسلك الأعمى - القائل بكون الألفاظ موضوعة للفاسدة كالصحيح - أن يلتزم بالصدق مع انّها لا يلتزم به، لأنّه لا يقول بالوضع للفاسد مطلقاً ولو كان بعيداً عن الصحيح غاية البعد، بل مدّعاه الوضع للفاسد الذي يشابه الصحيح ويقرب منه، ومع الاخلال بجميع الأجزاء والشرائط غير الأركان لا يبقى وجه مشابهة بينه

ص: 70

...............................................

_______________________________

وبين الصحيح أصلاً بحيث يخرج من مسمى اللفظ حتّى عند الأعمى فكيف يصدق. وكيف كان فكان حقّ العبارة أن يقول حتّى عند الأعمى.

وبالجملة فقال الشارح الكاظميني قدس سره في رد ما أفاده المصنّف في ردّ القمّي ان ما نسب المصنّف الى القمي وردّه لا ينبغي أن ينسب إلى أصاغر الطلبة فضلاً عن أن ينسب إليه ثمّ قال وتحقيق مراده هو انه لمّا تتبع الأخبار الواردة في بيان الأجزاء والشرائط ورأى ان مناط الصدق عند الشارع والتسمية هو الأركان اذ قد صحّح الحاوي لها وان فقد جميع الباقي وأفسد الفاقد واحداً منها وان حوى جميع الباقي وراى أيضاً انّ الباقي في صورة العلم مطلوب ولا تجزى الأركان أصلاً منفردة، جمع بين ذلك بأن المطلوب ومتعلّق الأمر في الصلوة أوّلاً وبالذات الذي لابدّ منه على جميع الأحوال هو القدر المشترك الذي هو مناط التسمية والصدق عند الشارع الذي يتّبعه اللفظ وجوداً وعدما وان تعلّق بباقي الأجزاء من باب تعدّد المطلوب والطلب، فالصلوة ذات الأجزاء مطلوبة بنفسها وأن تكون بجميع أجزائها فاذا نسي الباقي سقط طلبه وأمره المتعلّق به ويبقى ممتثلاً بالنسبة الى الآخر، وهذا معنى اعتباره في المأمور به لا في المسمّى، فكيف يحمله المصنّف على ذلك ثمّ يتّبعه بذلك الرد، ومتى استند القمّي إلى الصدق العرفي فيها وكيف يمكن أن يستند إلى ذلك مع انّهم ليسوا المرجع في ذلك، وان أراد الرجوع إليهم بما هو متشرّعة عالمون بحقيقة الصلوة عند الشارع فمن أين ينسب إليهم صدق الصلوة على الفاقد ركناً مع اطّلاعهم على افساد الشارع لها وعدم الصدق على الحاوي للأركان

ص: 71

...............................................

_______________________________

الفاقد للباقي مع اطّلاعهم على قول الشارع تمت صلوته انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه(1).

أقول: بل ما أفاده المصنّف في شرح مراد القمّي طاب ثراه وأورد عليه بما أورد أظهر وأقرب، اذ استفادة ما وضع له لفظ العبادة من تتبّع الأخبار المبيّنة للصحيح منها والفاسد لا وجه له، لأنّه ليس في الادلة والمدارك ما يعين ذلك بل لا يستفاد منها إلّا تعيين ما يعنون بالصحّة والفساد من العمل وان الصلوة مثلاً متى يصحّ ومتى يفسد وتعيين ما به يتحقّق عنوان الصحّة والفساد غير تعيين ما وضع له اللفظ ومناط التسمية، بل إنّما مراده المراجعة إلى العرف المتشرّعة بما هم متشرّعة لا بما هم أهل المحاورة بالألفاظ العربيّة مثلاً، فكما انّ أوضاع اللغة العربيّة تستفاد من الصدق العرفي عند عرف العرب المطّلعون على أوضاع اللغة العربيّة إجمالاً واطّلاعاً ارتكازيّاً فكذلك الأوضاع الشرعيّة من الصدق المتشرعي عند المتشرّعة العالمين بالأوضاع الشرعيّة علماً اجماليّاً ارتكازيّاً.

والاشكال بأنّه كيف يمكن الرجوع إلى العرف بما هم متشرّعة في تعيين مسمّى لفظ العبادة مع كمال البينونة بين الصدق العرفي والشرعي في المقام، فانّ العرف لا يرتابون في صدق لفظ الصلوة مثلاً على الفاقد ركناً واحداً مع انّ الشارع أفسده وجعل وجوده كالعدم وكذلك لا يرتابون في عدم صدق اللفظ على الأركان فقط مع عدم سائر الأجزاء والشرائط مع انّ الشارع جعلها صلوة تامّة حيث قال تمّت

ص: 72


1- الهداية في شرح الكفاية: 50.

...............................................

_______________________________

صلوته غير وارد، إذ تلك الشبهة إنّما هي ناشئة عن توهّم ان افساد الشارع في الصورة الأولى وتصحيحه في الثانية راجعة إلى تعيين مسمّى اللفظ وليس كذلك كما عرفت، بل الشارع لم يتصرف في التصرّفات العرفيّة في الاطلاقات وكيفيّات المحاورات بل هو أيضاً من هذه الجهة يكون واحداً منهم ومتّبعاً لهم، والمراد من الرجوع إلى العرف بما هم متشرّعة ومن أهل الشرع الرجوع إليهم في استكشاف أصل الموضوع له لألفاظ العبادات فانّه يعلم بالمراجعة إليهم ان لفظ الصلوة مثلاً موضوعة في الأصل لتمام الأجزاء والشرائط المعهودة المعينة من الأركان وغيرها، ثمّ بعد ذلك يرجع إليهم في تنقيح ما هو المناط في الموضوع له وأنّ المقدار المحقّق للموضوع له أي مقدار من الأجزاء وانّه وإن كان الوضع الأصلي الأولى الصادر من الشارع لتمام المقدار ولكن يمكن أن يكون قدراً منها خارجاً عن الموضوع له حقيقة وحيث انّ الأجزاء الركنيّة للمركّب هي المحقّق له حقيقة وما سواها لا دخالة لها في حقيقتها وانّ المسلم عند العرف انّ التسمية دائرة مدار الأجزاء الركنيّة التي هي حقيقة الشي ء وتمامه ولو كانت الركنيّة مجعولة ومخترعة بجعل جاعل وانّه متى وجدت الأركان يتحقّق المسمّى فيصدق الاسم ومتى لم توجد لا يتحقّق المسمّى فَلا يَصْدق، يستكشف انّ لفظ الصلوة مثلاً موضوعة في الشريعة لخصوص الأركان سواء كانت منضمة مع غيرها أو مجرّدة، هذا تمام البيان لما أفاده القمّي.

ص: 73

...............................................

_______________________________

ولكنّه يرد عليه انّ الجهة الركنيّة قد تتعارض بجهة أخرى وهي الكثرة مثلاً في الأجزاء الغير الركنيّة فانّ الأجزاء الغير الركنيّة في الصلوة مثلاً أكثر بمراتب من الركنيّة فكيف يساعد العرف على صدقها على خصوصها مع فقدان غيرها التي يكون الأركان بالنسبة إليها أقل قليل أو عدم الصدق على الفاقد ركناً واحداً مع وجود غيرها وكثرتها.

ثمّ أورد المصنّف هنا إشكالاً آخر على القمّي طاب ثراه وهو انّه يلزم على هذا المبنى أن يكون استعمال اللفظ في الأركان وغيرها من سائر الأجزاء مجازاً ومن باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ولا الموضوع الكلّي في الفرد الجزئي وانّه لا يلتزم به القائل بالأعم.

أقول: قد أشرنا إلى عدم ورود هذا الاشكال، اذ مفروضه وضع الصلوة للأركان لا بشرط، وهو لا ينافي كونه حقيقة فيها مع انضمامها مع غيرها فان عنوان اللابشرطيّة لا ينافي اثبات الف شرط. وبعبارة أخرى اذا فرض وضع الصلوة للأركان أعم من أن يكون معها أجزاء آخر أم لا فَلِمَ يكون استعمالها فيها وفي غيرها مجازاً مع انّه من باب اطلاق الكلّي على الفرد الذي لا شبهة في كونه حقيقة.

ص: 74

ثانيها: أن تكون موضوعة لمعظم الاجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا،[1 ]فصدق الاسم عليه كذلك يكشف عن وجود المسمى، وعدم صدقه عن عدمه.

وفيه - مضافا إلى ما أورد على الاول أخيرا - أنه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى، فكان شي ء واحد داخلا فيه تارة، وخارجا عنه أخرى، بل مرددا بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند إجتماع تمام الاجزاء، وهو كما ترى، سيما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

_______________________________

[1] أقول: إن كان المراد من المعظم، المعظم شأناً كالأركان مثلاً فهو عين الوجه السابق وقد مضى البحث فيه، وإن كان المراد منه القدر الأكثر كما فهمه المصنّف فلا يرد عليه ما أورده من لزوم كون استعمال اللفظ في تمام الأجزاء مجازاً كما أورده على الوجه الأوّل، اذ يجاب عنه بعين الجواب السابق فانّ المراد من المعظم، المعظم بعنوان اللابشرطيّة والأعم من انضمام الغير معه أم لا، فلا يلزم كون الاستعمال المذكور مجازاً ومن باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل بل يكون حقيقة ومن باب اطلاق الكلّي على الفرد.

وأمّا اشكال لزوم تبادل الأجزاء بل التردّد في أن يكون الخارج هو أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء فمجرّد استبعاد لا يَضُرُّ في تصوير الجامع أصلاً.

ص: 75

ثالثها:[1] أن يكون وضعها كوضع الاعلام الشخصية ك (زيد) فكما لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر، ونقص بعض الاجزاء وزيادته، كذلك فيها.

وفيه: أن الاعلام إنما تكون موضوعة للاشخاص، والتشخص إنما يكون بالوجود الخاص، ويكون الشخص حقيقة باقيا مادام وجوده باقيا، وإن تغيرت عوارضه من الزيادة والنقصان، وغيرهما من الحالات والكيفيات، فكما لا يضر اختلافها في التشخص، لا يضر اختلافها في التسمية، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما كانت موضوعة للمركبات والمقيدات، ولا يكاد يكون موضوعا له، إلا ما كان جامعا لشتاتها وحاويا لمتفرقاتها، كما عرفت في الصحيح منها.

_______________________________

[1] أقول: حاصل ما أجاب المصنّف به عن هذا الوجه هو ان « زيد » مثلاً حيث وضع للموجود الجزئي الخارجي فمادام الشخص موجوداً يكون الموضوع له باقياً ولا يتفاوت فيه عروض الحالات المختلفة من الصغر والكبر والصحّة والمرض مثلاً، بخلاف ما نحن فيه اذ المدّعى فيه وضع اللفظ للطبيعة الكليّة الأعم الشامل لجميع الأفراد الخارجيّة من الصحيح والفاسد للمركّب فيلزم أن يكون عنوان عام محفوظ جامعاً لشتّات الأفراد وحاوياً لمتفرّقاتها بحيث لا يخرج منه فرد أصلاً، وبعبارة أخرى الكليّة في المقام دخيلة في الموضوع له ومقومة له بخلاف الخصوصيّات في المثال السابق فانّها لا دخل لها بما وضع له اللفظ وإنّما الموضوع له الشخص الخارجي المعروض للعوارض المختلفة، فالقياس مع الفارق كما لا يخفى.

ص: 76

رابعها: إن ما وضعت له الالفاظ إبتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الاجزاء والشرائط،[1] إلا أن العرف يتسامحون - كما هو ديدنهم - ويطلقون تلك الالفاظ على الفاقد للبعض، تنزيلا له منزلة الواجد، فلا يكون مجازا في الكلمة - على ما ذهب إليه السكاكي في الاستعارة - بل يمكن دعوى صيرورته حقيقة فيه، بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات، من دون حاجة إلى الكثرة والشهرة، للانس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة، أو المشاركة في التأثير، كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لخصوص مركبات واجدة لاجزاء خاصة، حيث يصح إطلاقها على الفاقد لبعض الاجزاء المشابه له صورة، والمشارك في المهم أثرا تنزيلا أو حقيقة.

وفيه: إنه إنما يتم في مثل أسامي المعاجين، وسائر المركبات الخارجية مما يكون الموضوع له فيها ابتداء مركبا، خاصا، ولا يكاد يتم في مثل العبادات، التي عرفت أن الصحيح منها يختلف حسب إختلاف الحالات، وكون الصحيح بحسب حالة فاسدا بحسب حالة أخرى، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.

_______________________________

[1] أقول: يرد عليه أوّلاً ان هذا أجنبي عن تصوير الجامع بل اعتراف بالوضع لخصوص الفرد المخصوص وإنّما المصحّح للاستعمال في الأفراد الاخر المسامحات العرفيّة فالوجه المذكور وجه لصحّة الاستعمال في الفاسد لا لتصوير الجامع،

وثانياً ما أورده المصنّف عليه بأنّه لا يكاد يتمّ في مثل العبادات التي قد عرفت انّ الصحيح منها تختلف بحسب اختلاف الحالات وكون الصحيح بحسب حالة فاسداً بحسب حالة أخرى.

ص: 77

خامسها: أن يكون حالها حال أسامي المقادير والاوزان،[1] مثل المثقال، والحقة، والوزنة إلى غير ذلك، مما لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة، فإن الواضع وإن لاحظ مقدارا خاصا، إلا أنه لم يضع له بخصوصه، بل للاعم منه ومن الزائد والناقص، أو أنه وإن خص به أولا، إلا أنه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية أنهما منه، قد صار حقيقة في الاعم ثانيا.

وفيه: إن الصحيح - كما عرفت في الوجه السابق - يختلف زيادة ونقيصة، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه، كي يوضع اللفظ لما هو الاعم، فتدبر جيدا.

_______________________________

وليكن فيه انّ مراده من الصحيح قطعاً المركّب التام الواجد لجميع الأجزاء والشرائط وهو صلوة المختار والباقي من الأفراد الصادرة من غير المختار فاسد بملاحظة هذا المعنى وإن كان مأموراً به وموافقاً لغرض المولى ويحصل الامتثال بها، وليس المراد من الصحيح موافقة المأتي به للمأمور به كي يرد عليه اختلاف الصحّة بحسب اختلاف الحالات مع انّه يمكن أن يكون مراده من الصحيح والفاسد ما هو صحيح بالنسبة إلى فاسده وفاسد بالنسبة إلى صحيحه فحينئذٍ لا يثبت أيضاً اختلاف ومع ذلك كلّه فالعجب من المصنّف كيف غفل عن الإشكال الأوّل المبين لخروج الوجه عن موضوع الكلام مع انّه أولى بالتعرّض في مقام النقض والابرام كما لا يخفى.

[1] أقول: يرد عليه انّه خارج عن محلّ البحث بناء على الشقّ الثاني من الترديد كما عرفت وجهه في الوجه السابق وثانياً انّ المسامحات الواقعة في

ص: 78

ومنها: ان الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له - في ألفاظ العبادات - عامين،[1] واحتمال كون الموضوع له خاصا بعيد جدا، لاستلزامه كون استعمالها في الجامع، في مثل: (الصلاة تنهى عن الفحشاء) و(الصلاة معراج المؤمن) و(عمود الدين) و(الصوم جنة من النار) مجازا، أو منع استعمالها فيه في مثلها، وكل منهما بعيد إلى الغاية، كما لا يخفى على أولي النهاية.

_______________________________

الأوزان والمقادير إنّما تكون باطلاق اسمها على ما يقرب منها لا ما يكون بعيداً عن الموضوع له الأولى غاية البعد كما يكون الأمر في الصلوة ومثلها من ألفاظ العبادات كذلك، فانّ المن إنّما يطلق مسامحة على ما يكون أقل منه بمثاقيل قليلة لا انّه يطلق على المثاقيل القليلة كما انّ المدّعى في المقام جواز اطلاق لفظ الصلوة حقيقة على ما لا يشتمل إلّا على أجزاء يسيرة منها وثالثاً من المعلوم بحكم الوجدان المستغني عن اقامة البيّنة والبرهان ان من يخترع مركباً ذا أجزاء كما نرى من حالنا لا يضع اللفظ إلّا لتمام الأجزاء لا الأعم منه ومن الزائد والناقص ومعلوم ان تلك الدعوى مكابرة محضة ومجازفة بينه وقد أورد المصنّف عليه بما أورد على الوجه السابق وفيه ما فيه كما عرفته.

[1] أقول: بيان وجه البعد في اللازمين على وجه ينكشف استار الظلام ويرتفع الشكوك والأوهام في المقام يتم بأن يقال انّ مصاغ مثل قوله تعالى: « الصلوة تَنهى عَنِ الفَحشاء »(1) و«الصوم جنّة من النار»(2) مثلاً ظاهر في انّه من الاستعمالات الحقيقيّة وانّه ليس فيه تأوّل وعناية وتجوز عن الحدود الأصليّة

ص: 79


1- العنكبوت: 45.
2- الكافي: 2/19 ح 5؛ بحار الأنوار: 65/335، ح 10.

...............................................

_______________________________

الأوليّة، لا لأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة بالمعنى الذي التزم به السيّد المرتضى طاب ثراه كي يقال بأنّه أصل بلا أصل وسهم بلا نصل، بل لادّعاء ظهور حال القضيّة في انّها لا تشتمل على تجوز وتأويل، لا في ما هو المراد من هيئتها وصورة تأليفها، ولا في أطرافها من الموضوع والمحمول، وكذلك ليس المقصود استكشاف المراد بمجرّد الاستبعاد الاعتباري كي يقال بعدم اعتباره بل المراد استبعاد التجوز لظهور اللفظ في خلافه وانّه من الاطلاقات الحقيقيّة، وأمّا وجه البعد في التزام التجوّز فيها في ارادة الأفراد من لفظ الموضوع فيها هو ان المعهود في مثل هذا التركيب والمنصرف إليه في مثل تلك الجملة ارادة الطبيعة الكليّة في الموضوع مثلاً قوله البطيخ يرطب البدن أو المعجون النوشدارو يقوّي المعدة أو التوش اهن يجفّف الرطوبة ظاهر في ان تلك الطبيعة في أي فرد وجد يؤثر ذلك الأثر، لأنّ في اثبات الآثار للمؤثّرات لا وجه لملاحظة أفرادها مع أنّ الأثر أثر الطبيعة ولا دخل للمشخّصات الفرديّة فيه أصلاً فالمتكلّم الحكيم الذي كلامه جامع لجميع مالَهُ دَخْل في المقصود ومنزّه عن اللغو والهذر كيف يمكن أن يصدر منه كلام مشتمل على ما هو مناقض لعنوان المزية والخصوصيّة وافادة المراد وبعبارة اخرى حكمة المتكلّم مقتضية لأن يكون المراد من الموضوع في مثل هذه التراكيب كلى الطبيعة وأن لا يكون المراد أفرادها الموجودة في الخارج كما لا يخفى ولعمري انّ المصنّف قدس سره قد أجاد فيما أفاد في هذا المضمار كما هو واضح لأولى الأبصار.

ولا يرد عليه ما أورده الشارح الكاظميني قدس سره من شمول لفظ الصلوة فيه لكلّ

ص: 80

...............................................

_______________________________

فرد لأحد وجهين إمّا لأنّ المفرد المعرف يفيد العموم أو الاطلاق وقرينة الحكمة اذ الأصل في اللام أن يكون للجنس، واستعماله في استغراق الأفراد يحتاج إلى القرينة وليست موجودة، بل القرينة على خلافه موجودة، فاذا كان اللام للجنس بحكم الأصل فلا يثبت الاطلاق والشمول لكلّ فرد إلّا إذا لم يكن مانع عنه والمانع وهو البيان الذي عرفته موجود ولا وجه لقوله ولا مانع عن كون المذكورات أوصافاً لكلّ فرد، إذ ليس في الفرد جزء خارج عن الماهيّة ليحصل الفرق بين كونه وصفاً للماهيّة أو للفرد، اذ المانع كما عرفت وهو لزوم الخروج عن مقتضى الحكمة في البيان الذي مبناه على الافادة والخلوص عن الزوائد التي لا دخل لها فيما هو المقصود موجود، وكذلك قوله « ولأن ارادة الفرد من حيث تحقّق الماهيّة فيه عين ارادة الماهية فلا تكون هذه الروايات شاهدة على استعمالها في الجامع »(1) غير سديد إذ لا وجه لارادة الفرد من حيث اشتماله على الماهيّة بعد امكان ارادة الماهيّة بالارادة الأوليّة، نعم إذا أشار المتكلّم إلى فرد خاص من الطبيعة وجعله موضوعاً للآثار وحملها عليه لابدّ من أن يراد من ذلك الفرد الماهية التي يتحقّق في ضمنه وأمّا إذا لم يكن كذلك ولم يعلم انّه أشار في موضوع القضيّة إلى أفراد خاصّة من الطبيعة الكليّة لا وجه للالتزام بارادة الأفراد من حيث تحقّق الماهيّة في ضمنها مع جواز ارادة الطبيعة أوّلاً من دون مانع، وليس سوق الكلام بذلك المساق إلّا أشبه شي ء بالأكل من القفا لا يرتكبه المتكلّم الحكيم الذي مبناه على افادة الاشارات والرموز الخفيّة في البيانات والافادات.

ص: 81


1- الهداية في شرح الكفاية: 55.

ومنها: أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول الصحيحي، وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه، في رفع ما إذا شك في جزئية شي ء للمأمور به أو شرطيته أصلا، لاحتمال دخوله في المسمى، كما لا يخفى، وجواز الرجوع إليه في ذلك على القول الاعمي،[1] في غير ما إحتمل دخوله فيه، مما شك في جزئيته أو شرطيته، نعم لا بد في الرجوع إليه فيما ذكر من كونه واردا مورد البيان، كما لا بد منه في الرجوع إلى سائر المطلقات، وبدونه لا مرجع أيضا إلا البراء ة أو الاشتغال، على الخلاف في مسألة دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين.

وقد إنقدح بذلك: إن الرجوع إلى البراء ة أو الاشتغال في موارد إجمال الخطاب أو إهماله على القولين، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراء ة على الاعم، والاشتغال على الصحيح، ولذا ذهب المشهور إلى البراء ة، مع ذهابهم إلى الصحيح.

_______________________________

[1] أقول: شرحه على وجه يتّضح الحال يقتضي أن يقال انّ المطلوب للمولى في أوامره ما يسمّى باسم ما أمر به والخطابات الشرعيّة كالعرفيّة في حجيّة ظواهرها وكون المراد من ألفاظها مسمّيات الأسماء، مثلاً مطلوبه في قوله أقيموا الصلوة إنّما هو ما يسمّى بذلك الاسم، فعلى القول بوضع ألفاظ العبادات لخصوص الصحيحة يصير القول المذكور في قوّة أن يقال اطلب منك المركب التام الواجد لجميع الأجزاء والشروط المسمّى بذلك الاسم المخصوص، فاذا كان أجزاء الصلوة غير معلومة على التفصيل وشكّ في مقدارها زيادة ونقصاناً يصير الخطاب مجملاً لا اطلاق فيه أصلاً، فلا يجوز الحكم بعدم الجزئيّة أو الشرطيّة فيما إذا شكّ في جزئيّة شي ء أو شرطيّة لها، بل لابدّ من الانتقال إلى الأصل العملي الذي مرتبته

ص: 82

...............................................

_______________________________

متأخّرة عن الأصول اللفظيّة من البرائة أو الاشتغال.

وأمّا إذا كان الألفاظ موضوعاً للأعم فيصير الخطاب المذكور في قوّة أن يقال اطلب منكم ما هو الأعم من المركب التام والزائد والناقص التي وسمت بهذا الاسم المخصوص، فاذا شكّ في جزئيّة شي ء أو شرطيّته يستكشف من ذلك الخطاب ان ذلك الجزء المشكوك فيه وإن كان جزءاً واقعاً فلا ينافي جزئيته كذلك مع مطلوبيّة الناقص لعدم دخالة في المسمّى وانّه كما يكون المستجمع لجميع الأجزاء والشرائط مطلوباً فكذلك الزائد والناقص أيضاً، غاية الأمر القسم التام من المركّب يكون مطلوباً واقعاً وظاهراً، والزائد والناقص مطلوبان في الظاهر فقط وليس هذا من باب التمسّك باصالة الاطلاق في شي ء، لأنّ المراد من الاطلاق سكوت المتكلّم عن البيان، وبتوسّط مقدّمات الحكمة يصير اللابيان في حكم البيان وعلى التقرير المذكور يكون الخطاب بياناً تامّاً شاملاً لجميع أقسام المأمور به ولا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة أصلاً كما لا يخفى.

فان قلت: ما يكون تلو الأمر من ألفاظ العبادات لابدّ أن يكون المراد منها خصوص الصحيحة وإن كان الاسم إسماً للأعمّ لأنّه لا يطلب المولى من العبد إلّا الصحيح من المركّبات العباديّة فما معنى للثمرة المذكورة ؟

قلت: للصحّة معنيان: أحدهما تماميّة أجزاء المركّب وشرائطها وثانيها موافقة أمر المولى والمأتي به للمأمور به، فان كان المراد من الصحّة التي لابدّ منها في المأمور به المعنى الأوّل فهو أوّل الكلام بل لا مانع من أن يأمر المولى بما يسمّى بالاسم المخصوص كالصلوة مثلاً ولو كان زائداً على المركّب المخترع الواقعي أو

ص: 83

...............................................

_______________________________

ناقصاً عنه، وإن كان المراد المعنى الثاني فلا معنى لأخذه في المأمور به مع انّه لا يأتي إلّا من ناحية الأمر فكيف يعقل أن يكون مأخوذاً في المأمور به، وبعبارة اُخرى ما لا يوجد إلّا بوجود الأمر لا يمكن أخذه في المأمور به عقلاً.

وأورد هنا الشارح ايراداً لا بأس بالتعرّض لها ودفعها وهو انّه لا بأس بالتمسّك باطلاق الأدلّة ولو على القول الصحيحي في غير الأجزاء التي جعلها الشارع مناط الصدق وحكم بتبعيّة الاسم لها وجوداً وعدماً وهي الأركان من سائر الأجزاء الباقية لصدق الجامع على المركّب الخالي منها إذا أمكن قصد القربة فيه كما في حال السهو، وأمّا في حال العمد فالفساد يستند إلى عدم هذا القصد لا إلى نقص ذلك الجزء أو إليهما معاً كما انّ الصحّة حال العمد أيضاً مستندها وجودهما معاً، إلّا أنّ الفرق ان نقص الأجزاء وحدها قد لا يضرّ ونقص القصد وحده مضر دائماً(1).

أقول: قد سبق منّا الخدشة فيما أفاده بأن قوله تمّت صلوته فيما إذا سهى المصلّي عن الأجزاء الغير الركنيّة لا دلالة له إلّا على بدليّة المأتي به عن المأمور به والمركب الذي طلب أوّلاً من المكلّف، لا ان أصل المركّب المخترع خصوص الأجزاء الركنيّة فقط، والعجب انّه كيف رضى بكون بطلان ما لا يشتمل على الأجزاء الغير الركنيّة حال العمد مستنداً إلى عدم قصد القربة فقط أو إليه أو إلى نقص الجزء مع انّه كالبديهي من الشرع انّ البطلان مستندٌ إلى نقص الجزء وأعجب منه التزامه باستكشاف ذلك من الأدلّة والأخبار ولا يخفى بعده عن نظر أولى النظر.

ص: 84


1- الهداية في شرح الكفاية: 56.

وربما قيل بظهور الثمرة في النذر أيضا.[1]

قلت: وإن كان تظهر فيما لو نذر لمن صلى إعطاء درهم في البرء فيما لو أعطاه لمن صلى، ولو علم بفساد صلاته، لاخلاله بما لا يعتبر في الاسم على الاعم، وعدم البرء على الصحيح، إلا أنه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة، لما عرفت من أن ثمرة المسألة الاصولية، هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الاحكام الفرعية، فافهم.

_______________________________

[1] أقول: ربما يستشكل في ظهور الثمرة في النذر بأنّ النذر تابع لقصد الناذر ولا أثر في اختلاف مسمّيات الأسماء وما وضع له الألفاظ في ذلك، فانّ الناذر إذا نذر وقصد في نذره اعطاء درهم لمن صلّى الصلوة الصحيحة لا يبر النذر إلّا بالاعطاء لمن يصلّي كذلك ولو كان اسم الصلوة موضوعة للأعم، وإن نذر اعطائه لمن صلّى مطلقاً صحيحاً أو فاسداً يبره باعطائه لمن يصلّي الصلوة الفاسدة ولو كان الاسم موضوعاً لخصوص الصحيحة، ولكن يدفعه انّه قد يقصد الناذر بالاعطاء لمن يقع منه مسمى اسم الصلوة فاذا كان التسمية لخصوص الصحيحة لا يبر حينئذٍ إلّا بالاعطاء لمن يصلّي صحيحاً بخلاف ما إذا كان التسمية للاعم الا انّ تعيين المسمّى لتعيين ما على الناذر تشخيص لموضوع الحكم صرفاً ولا دخل له في استنباط الحكم الكلي الالهي، وتعيين الموضوع إنّما هو دخيل في تعيين الحكم لا استنباطه فان تعيين خمريّة المايع لتعيين محل الحرمة الكليّة الّتي تعلّقت بالخمر الكلّي وتعيين تلك الحرمة الكليّة المتعلّقة بالخمر الكلّي إنّما يكون من طرق الاستنباط المعهودة لا دخل لتعيين الموضوع فيه أصلاً، وفي مسئلة النذر أيضاً تعيين حال الناذر وحكمه وحكم نذره وانّه هل يكون ممّن يجب عليه

ص: 85

وكيف كان، فقد استدل للصحيحي بوجوده: أحدها: التبادر،[1] ودعوى أن المنسبق إلى الاذهان منها هو الصحيح، ولا منافاة بين دعوى ذلك، وبين كون الالفاظ على هذا القول مجملات، فإن المنافاة إنما تكون فيما إذا لم تكن معانيها على هذا الوجه مبينة بوجه، وقد عرفت كونها مبينة بغير وجه.

_______________________________

الاعطاء لخصوص من يصلّي الصلوة الصحيحة أو انّه لا يجب عليه الاعطاء إلّا بمن يصلّي أعم من أن يكون صحيحاً أو فاسداً تشخيص لموضوع الحكم الكلّي الالهي للنذر والناذر وقد مرّ انّ المناط في أصوليّة المسئلة وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط فيعلم ان ترتب تلك الثمرة لا يوجب كون المسئلة أصوليّة كما لا يخفى.

[1] أقول: استدلّ الصحيحيّون بوجوه، منها تبادر الصحيح إلى الأذهان وحيث سبق من المصنّف بأنّه على القول الصحيحي يكون الخطابات مجملات وهو بظاهره ينافي ادّعاء تبادر الصحيح من الأسماء لأنّ الاجمال في اللفظ عبارة عن عدم انسباق معنى من المعاني من اللفظ ومعنى التبادر انسباقه فكيف يجتمعان أشار إلى دفعه بأن حصول المنافات فيما إذا لم تكن المعنى مبنيّة وأمّا إذا بيّن بوجه فضلاً عن كونه مبنيّاً بغير وجه فلا ينافي اجمال اللفظ بالنسبة إلى نفس المعنى وحاقه مع انسباقه من اللفظ بأحد الوجوه التي بنيت بها، فان لفظ الصلوة مثلاً على القول الصحيحي وإن كان مجملاً حيث لا يعلم كميّة أجزاء معناها وشرائطها بنحو التفصيل ولكنّة اما بين المعنى بأوصافه وآثاره مثل الناهية والقربانيّة مثلاً فلا مانع من تبادر ما يوصف بذلك الوصف أيّاً ما كان منه ولا حاجة في التبادر إلى مزيد معرفة للمعنى من ذلك.

وأورد الشارح قدس سره على المصنّف بأنّ الذي يتوهّم انّه يتبادر إلى مدلول

ص: 86

...............................................

_______________________________

الأوصاف بالدلالة الالتزاميّة البيّنة ولكن لا يعقل تبادر المعنى المجمل بصفة واضحة كالصحّة بل هو من اجتماع المتناقضين نعم وصفها بالآثار التي لا تكون إلّا إذا صحّت يدلّ على انّها المعنى الصحيح الا ان ذلك ليس من التبادر في شي ء بل هو عين الدليل الثالث كما لا يخفى(1).

أقول: كأنّ مراده ان تبادر المعنى الملازم لأحد اللوازم البينة كالناهي عن الفحشاء من لفظ الصلوة مثلاً لا مانع منه ولكنّه غير المدعى فان المدعى تبادر الموصوف بوصف الصحّة ولا اجمال في ذلك فيتناقض ولكنه يجاب عنه بأنّ المقصود من تبادر الصحيح أعم من تبادر الموصوف بعين وصف الصحّة على التفصيل ومعلوميّة جميع الأجزاء والشروط أو بما هو لازمه فان تبادر ما هو ملازم لوصف الصحّة يثبت الوضع الصحيح أيضاً كتبادر نفس الموصوف بتلك الصفة فلا تناقض بين ادّعاء الاجمال بناء على القول الصحيحي وتبادر ما هو ملازم لوصف الصحّة من الأوصاف كما لا يخفى.

نعم يرد عليه ان تبادر الصحيح وانصرافه تبادر اطلاقي لا حاقى، وبدوي لا استمراري، بل يمكن أن يدّعي ان تبادر الصحيح غالباً للقرائن الخارجيّة فان قول الآمر صل والمخبر صليت مثلاً منصرف إلى الصحيح بقرينة إن كلّ آمر يطلب الصحيح من المركّب المأمور به إذ حصول الغرض الذي صار منشأ للطلب والأمر إنّما يكون بالاتيان بالفرد الصحيح والموجد للمركّب في الخارج إنّما يوجد المركّب الصحيح التام للأجزاء غالباً.

ص: 87


1- الهداية في شرح الكفاية: 58.

ثانيها: صحة السلب عن الفاسد،[1] بسبب الاخلال ببعض أجزائه، أو شرائطه بالمداقة، وإن صح الاطلاق عليه بالعناية.

ثالثها: الاخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات مثل (الصلاة عمود الدين)(1) أو (معراج المؤمن)(2) و(الصوم جنة من النار)(3) إلى

_______________________________

[1 ]أقول: هذا الادّعاء مناف مع حملهم للقضايا الظاهرة في نفي الحقيقة مثل قوله «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(4) على نفي الصفة مثل الصحّة مثلاً ولَوْ لا عدم جواز صحّة السلب عن الفاسد لم يكن داعياً إلى هذا الحمل واخراج لفظ القضيّة عن ظاهره وحمله على خلاف الظاهر وما سيجي ء منه قدس سره في الدليل الثالث من انّ الحق في أمثال هذه التراكيب نفي الحقيقة لتحقيق المبالغة المقصودة حتّى في مثل «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد»(5) على خلاف مقصوده أدل لاعترافه بأنّ الحمل على نفي الحقيقة من باب المسامحة لا الحقيقة ولو كان اللفظ موضوعاً لخصوص الصحيح لتعين الحمل على نفي الحقيقة حقيقة لا ادّعاء كما لا يخفى.

ص: 88


1- المحاسن: 1/44، ح 60؛ بحار الأنوار: 79/218، ح 36.
2- سفينة البحار: 2/268.
3- المحاسن: 1/287، ح 430.
4- مستدرك الوسائل: 4/158، ح 4365 - 5.
5- دعائم الإسلام: 1/148؛ بحار الأنوار: 80/379، ح 47.

غير ذلك، أو نفي ماهيتها وطبائعها، مثل (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)(1)[1 ونحوه، مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة، بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو شرطا، وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الاولى، ونفي الصحة من الثانية، لشيوع إستعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال خلاف الظاهر، لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه، واستعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع، حتى في مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) مما يعلم أن المراد نفي الكمال، بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضا بنحو من العناية، لا على الحقيقة، وإلا لما دل على المبالغة، فافهم.

_______________________________

[1] أقول: لا يخفى انّ اثبات الخاصيّة والأثر في الطائفة الأولى قرينة على ارادة الصحيح فانّ المؤثّر من جميع الحقائق لابدّ أن يكون القسم الصحيح وقد أشرنا سابقاً إلى انّ الغالب في الاستعمالات وجود القرينة على ارادة الصحيح وهذا المورد من جملتها وأمّا الطائفة الثانية فالقرينة على ارادة نفي الصحّة فيها الشهرة التي لا يكاد تنكر بالنسبة إلى أمثال ذلك التركيب، وأمّا قوله واستعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع فقد أشرنا إلى انّه على خلاف مقصوده أدل فلا وجه لتأييد ما ادّعاه من نفي الحقيقة به كما لا يخفى.

ص: 89


1- ] - روضة المتّقين (ط - القديمة): 2/304؛ هداية الأمة إلى أحكام الأئمّةعليهم السلام: 3/31، ح 120.

رابعها: دعوى القطع بأن طريقة الواضعين[1] وديدنهم، وضع الالفاظ للمركبات التامة، كما هو قضية الحكمة الداعية إليه، والحاجة وإن دعت أحيانا إلى إستعمالها في الناقص أيضا، إلا أنه لا يقتضي أن يكون بنحو الحقيقة، بل ولو كان مسامحة، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد.

والظاهر أن الشارع غير متخط عن هذه الطريقة.

ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدة، إلا أنها قابلة للمنع، فتأمل.

وقد إستدل للاعمي أيضا، بوجوه:[2] منها: تبادر الاعم، وفيه: أنه قد عرفت الاشكال في تصوير الجامع الذي لا بد منه، فكيف يصح معه دعوى التبادر.

_______________________________

[1] أقول: هذا الوجه من الوجوه التي أقيمت للصحيحي وهو أحسن الوجوه وأمتنها وأوجهها والعجب من المصنّف كيف صحّح الوجوه السابقة مع كونها قابلة للمنع.

[2] منها: تبادر الأعم وجوابه انّ من جملة الاشكالات الواردة على القول الأعمى عدم امكان تصوير الجامع الذي لابدّ منه فكيف يدّعى تبادر ما يشكل تصويره مع لزوم وجود المتبادر قبل التبادر كما لا يخفى.

ص: 90

ومنها: عدم صحة السلب عن الفاسد، وفيه منع، لما عرفت[1].

ومنها: صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم.

وفيه أنه إنما يشهد على أنها للاعم، لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح، وقد عرفتها، فلا بد أن يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ، ولو بالعناية[2].

ومنها: استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الاخبار في الفاسدة،

_______________________________

[1] ومنها عدم صحّة السلب عن الفاسد ومنعه المصنّف لما سبق منه من أنّه يصحّ السلب في مقام المداقّة وصحّة الاطلاق إنّما هو في مقام المسامحة والعناية وقد سبق منّا ما يوهن ذلك، إذ لو تمّ ذلك لتعيين حمل مثل قوله لا صلوة إلّا بفاتحة الكتاب على نفي الحقيقة مع انّه لم يقل به أحد إلّا المصنّف حيث جعله لنفي الحقيقة ادّعاء لا حقيقة وهو أيضاً في المعنى عين ما ذهب إليه آخرون غاية الأمر انّهم جعلوه من باب المجاز في الكلمة والمصنّف جعل التجوّز في الأمر العقلي.

[2] أقول: أجاب عنه المصنّف بأنّ الاستعمال أعم من الحقيقة، وفيه انّ الظاهر ان مقصود المستدلّ ليس اثبات كونها حقيقة باصالة الاستعمال كي يجاب عنه بأنّ الاستعمال أعم من الحقيقة بل مراده الاثبات باستعمال اللفظ في الفاسدة من غير عناية وتأويل، وإلّا فبطلان كون الأصل في الاستعمال الحقيقة كأنّه من المسلّمات إلّا عند السيّد قدس سره.

ص: 91

...............................................

_______________________________

وأمّا قوله «دع الصلوة أيّام اقرائك»(1) فالانصاف ان معناه كما أفاده المصنّف وليس لفظ الصلوة فيه مستعملاً في الفاسدة أصلاً.

ثمّ انّ الشارح قدس سره أفاد هنا ما لا حاجة إليه أصلاً لأنّه من العيان بحيث لا يحتاج إلى البيان والعجب انّه جعله من الافادات الرشيقة والنكات الدقيقة حيث قال: لا يقال «قوله عليه الصلوة والسلام الصلاة عمود الدين(2) إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها»(3)، فيه دلالة تامّة للأعم إذ المذكور في ذيله لا يعقل أن يكون تفصيلاً في الصحيحة إلى أن قال: نعم يحتمل أن يكون ذلك تفصيلاً في الصلوة الصحيحة وبيان انّ الصلوة الصحيحة هي عمود الدين فاذا أقيمت بحدودها وشرائطها قبلت في الآخرة وترتّب عليها آثار العموديّة وإن لم تقم كذلك لم تقبل ولم يترتّب عليها الأثر وهذه مرتبة أخرى غير صحّتها المسقطة للتكليف إلى أن قال ولم أجد أحداً تعرّض لهذه الرواية في المقام وإنّما تعرّضنا لها مخافة أن يظفر بها بعض القاصرين بحسب الأفهام فيصول على الصحيحي لعمودها ولا يدري انّه لا يملك أضعف عودها(4).

أقول: والعجب من هذا المحقّق كيف جعل ذلك المذكور من الاشكالات التي

ص: 92


1- الكافي (ط - الإسلاميّة): 3/85، ح 1؛ وسائل الشيعة (مؤسّسة آل البيت عليهم السلام): 2/277، ح 2135 - 4.
2- الأمالي للطوسي: 529، م 19، ح 1162 - 1.
3- الأمالي للصدوق: 641، م 93.
4- الهداية في شرح الكفاية: 61.

كقوله عليه الصلاة والسلام (بني الاسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية، ولم يناد أحد بشي ء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع، وتركوا هذه، فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله، ومات بغير ولاية، لم يقبل له صوم ولا صلاة)، فإن الاخذ بالاربع، لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي الولاية، إلا إذا كانت أسامي للاعم.

وقوله عليه السلام: (دعي الصلاة أيام اقرائك) ضرورة أنه لو لم يكن المراد منها الفاسدة، لزم عدم صحة النهي عنها، لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.

وفيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة، مع أن المراد في الرواية الاولى، هو خصوص الصحيح بقرينة أنها مما بني عليها الاسلام، ولا ينافي ذلك بطلان عبادة منكري الولاية، إذ لعل أخذهم بها إنما كان بحسب اعتقادهم لا حقيقة، وذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الاعم، والاستعمال في قوله: (فلو أن أحدا صام نهاره) إلى آخره كان كذلك - أي بحسب اعتقادهم - أو للمشابهة والمشاكلة.

_______________________________

تحتاج إلى الجواب مع انّ كلّ من لم يكن أحداً أقصر منه في الادراك لا يعرض فهمه ذلك التشكيك الذي فساده من الواضحات وكيف جعل ما ذكره أخيراً في الجواب عنه وعرفته بعين العبارة من الاحتمالات في معنى الرواية مع انّه لا يحتمل في معناه غيره إذ من الواضح انّ الرواية مسوقة لبيان مرتبة المقبوليّة من الصلوة الصحيحة وعدمها وإن كان المراد منه الأعم من الصحيحة وغيرها فلا معنى للقبوليّة وعدمها بالنسبة إلى خصوص الفاسدة التي تكون فرداً من أفراد المعنى الجامع الكلّي.

ص: 93

وفي الرواية الثانية، النهي للارشاد إلى عدم القدرة على الصلاة، وإلا كان الاتيان بالاركان، وسائر ما يعتبر في الصلاة، بل بما يسمى في العرف بها، ولو أخل بمالا يضر الاخلال به بالتسمية عرفا. محرما على الحائض ذاتا، وإن لم تقصد به القربة. ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية، فتأمل جيدا.

ومنها: أنه لا شبهة[1] في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه وحصول الحنث بفعلها، ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة، لا يكاد يحصل به الحنث أصلا، لفساد الصلاة المأتي بها لحرمتها، كما لا يخفى، بل يلزم المحال، فإن النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحيح منها، ولا تكاد تكون معه صحيحة، وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال.

قلت: لا يخفى أنه لو صح ذلك، لا يقتضي إلا عدم صحة تعلق النذر بالصحيح، لا عدم وضع اللفظ له شرعا، مع أن الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقة، فلا يلزم من فرض وجودها عدمها.

ومن هنا إنقدح أن حصول الحنث إنما يكون لاجل الصحة، لولا تعلقه، نعم لو فرض تعلقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل، لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الامكان.

_______________________________

[1] أقول: العجب من المصنّف كيف عدّ هذا الوجه في عداد أدلّة الأعمى مع انّه من المغالطات ولا ينبغي أن يحسب في زمرة الاستدلالات مع انّ وضع الكتاب لافادة المهمّات والكفاية عن بيان زبدة المطالب وتنقيح المشتبهات.

ص: 94

بقي أمور: الاول: إن أسامي المعاملات،[1] إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للاعم، لعدم إتصافها بهما، كما لا يخفى، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى، وأما إن كانت موضوعة للاسباب، فللنزاع فيه مجال، لكنه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضا، وان الموضوع له هو العقد المؤثر لاثر كذا شرعا وعرفا.

_______________________________

[1] أقول: الحق عدم جريان النزاع فيما إذا كان ألفاظ المعاملات موضوعة للمسبّبات سواء الشرعيّة أو العرفيّة فانّ الملكيّة والزوجيّة مثلاً شرعيّة كانت أم عرفيّة أم بسيط وحداني لا يقبل الاتّصاف بالصحّة والفساد بل إنّما هو متّصف إمّا بالوجود أو العدم فلا يرد عليه ما أورده الشارح من جريان النزاع بناء على كونها موضوعة للمسبّبات العرفيّة ببيان انّه على هذا تارة تكون صحيحة وممضاة عند الشارع فتترتّب عليها الآثار شرعاً من سائر التصرّفات واخرى غير ممضاة فلا يترتّب عليها أثر وإن رتّب العرف عليها جميع الآثار(1) لأنّ مرجع هذا البيان إلى جريان النزاع في انّ البيع الموجود بنظر العرف موجودٌ أيضاً في نظر الشرع أم لا، وإلّا فلا معنى لأن يقال هل الملكيّة الموجودة عرفاً صحيح تام عند الشارع أم لا بمعنى انّه كما يترتّب عليه جميع الآثار عند العرف كذلك يترتّب عليه عند الشرع أم لا مع قطع النظر عن وجودها وعدمها شرعاً لأنّه إن كانت الملكيّة مثلاً ممضاة عند الشارع وموجودة عنده كما عند العرف فيترتّب عليه جميع الآثار وإلّا فلا يترتّب عليه أثر أصلاً وليس هذا إلّا معنى وجودها وعدمها.

ص: 95


1- الهداية في شرح الكفاية: 66.

والاختلاف بين الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد، لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل الاختلاف في المحققات والمصاديق، وتخطئة الشرع العرف في تخيل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره، محققا لما هو المؤثر، كما لا يخفى فافهم.

الثاني: إن كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة، لا يوجب إجمالها،[1 ]كألفاظ العبادات، كي لا يصح التمسك بإطلاقها عند الشك في اعتبار شي ء في تأثيرها شرعا، وذلك لان إطلاقها - لو كان مسوقا في مقام البيان - ينزل على أن

_______________________________

[1] أقول: وجه ثبوت الاجمال على القول الصحيحي في ألفاظ العبادات عدم المتفاهم للفظ حينئذٍ لا عرفاً ولا شرعاً أمّا عرفاً فمعلوم وأمّا شرعاً فللشكّ في الأجزاء وشرائط العبادة غالباً وعدم تعيين الأجزاء وشرائطها عند المكلّفين والمخاطبين وهذا معنى الاجمال، ووجه عدم الاجمال على القول الصحيحي في ألفاظ المعاملات وجود المتفاهم للفظ عرفاً، وحيث ان حقيقة المعاملة في العرف والشرع شي ء واحد ولو كان اختلاف بينهما في باب المعاملات إنّما هو في ما هو خارج عن حقيقتها وماهيّتها، فيحمل لفظها فيما إذا شكّ في دخالة شي ء في المعاملة شرعاً لا عُرْفاً على المتفاهم العرفي، ويحكم بأن ما هو ناقل في العرف ناقل في الشرع أيضاً إذ لو كان شي ء داخلاً فيها شرعاً للزم البيان ولم يبيّن، والشارع يعلم انّه لا توقّف في حمل اللفظ على ما يفهم منه لو كان له متفاهم كما في المقام فالاطلاق هنا بالنسبة إلى ما شكّ في دخالته شرعاً في المعاملة وعدم دخالته محكم ولا مانع من التمسّك به أصلاً.

ص: 96

المؤثر عند الشارع، هو المؤثر عند أهل العرف، ولم يعتبر في تأثيره عنده غير ما اعتبر فيه عندهم، كما ينزل عليه إطلاق كلام غيره، حيث أنه منهم، ولو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره، كان عليه البيان ونصب القرينة عليه، وحيث لم ينصب، بان عدم اعتباره عنده أيضا.

ولذا يتمسكون بالاطلاق في أبواب المعاملات، مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعة للصحيح.

نعم لو شك في اعتبار شي ء فيها عرفا، فلا مجال للتمسك بإطلاقها في عدم اعتباره، بل لابد من اعتباره، لاصالة عدم الاثر بدونه، فتأمل جيدا.

الثالث: إن دخل شي ء وجودي أو عدمي في المأمور به،[1] تارة: بأن

_______________________________

[1] أقول: شرحه على وجه يتّضح المرام يقتضي أن يقال: ان دخالة شي ء في شي ء من المركّبات المجعولة المخترعة تارةً بدخل وجوده وأخرى بدخل عدمه، وعلى التقديرين إمّا أن يكون دخالته في حقيقة الشي ء وماهيّته، وإمّا أن يكون دخالة الشي ء الوجودي في تشخّصه ووجوده الخارجي، وعلى التقديرين إمّا أن يكون الدخل بنحو الشطريّة أو الشرطيّة، والدخالة بنحو الشرطيّة تارة بالمسبوقيّة وأخرى بالملحوقيّة وثالثة بالمقارنة، اما دخل وجود الشي ء في ماهيّة المركّب شطراً كدخالة القرائة في الصلوة مثلاً وعدمه كدخالة ترك التأمين فيها، ودخالة وجود الشي ء شرطاً كدخالة الطهارة فيها مثلاً، وعدمه كدخالة ترك الاستقبال فيها مثلاً، ودخالة وجود الشي ء في التشخص والوجود الخارجي شطراً كدخالة القنوت فيها مثلاً، وشرطاً كدخالة ترك الكون في الحمام حال الصلوة، وقد يكون

ص: 97

...............................................

_______________________________

دخالة ما له الدخل دخالة الظرفيّة والمظروفيّة كما انّه قد يكون مطلوباً قبله أو بعده بدون دخل له في الماهيّة والحقيقة ولا في التشخص والوجود الخارجي كما إذا ندب إلى عمل بشرط وقوعه في أثناء عمل آخر مثل تأكّد استحباب قرائة القرآن في حال الصوم مثلاً فانّ القرائة لا دخل لها بحقيقة الصوم وماهيّته ولا في تشخصه ووجوده لا شطراً ولا شرطاً بل عمل مستقل ندب الشارع إلى ايقاعه في أثناء عمل آخر، وبالجملة هذا البحث بتمامه شرح لتحقيق القول الصحيحي وإن ما يدخل في تسمية المركّبات العباديّة كم هو ممّا له الدخل فيها، بيانه ان من المعلوم عدم دخل ما ندب إليه فيها أو قبلها أو بعدها في تسميتها أصلاً وكذلك الشطور والشروط الداخلة في التشخص والوجود الخارجي الخارجة عن أصل الماهيّة وحقيقتها، إذ المعلوم انّ الاسم اسم للحقيقة والماهيّة لا الأفراد الخارجيّة وأمّا الشطور والشروط الداخلة في الماهيّة هي التي وقعت محلاً للخلاف بين الأعمى والصحيحي فالأوّل ذهب إلى عدم دخالة واحد منها في التسمية، والثاني إلى دخالة كلّ منها بأجمعه فيها، وهو الحق كما ذهب إليه المصنّف لبعض الوجوه التي تقدّمت سابقاً، عمدتها الوجه الرابع، ولا يرد على المصنّف ما أورده الشارح عليه هنا من انّه عبّر من الشروط بالمقدّمات ونفي المقوميّة منها مع ذهابه إلى الصحيح ودخالتها بأجمعها في الماهيّة والتسمية أيضاً، إذ مقصوده من المقوّم حيث قال من مقدّماته لا مقوّماته صرف الأجزاء والقيود الدخيلة في الماهيّة والتسمية بأعيانها، ومراده من المقدّميّة المعنى المقابل له وهو خروج عين القيد ولكن مع دخالة

ص: 98

يكون داخلا فيما يأتلف منه ومن غيره، وجعل جملته متعلقا للامر، فيكون جزءاً له وداخلا في قوامه، وأخرى: بأن يكون خارجا عنه، لكنه كان مما لا يحصل الخصوصية المأخوذه فيه بدونه، كما إذا أخذ شي ء مسبوقا أو ملحوقا به أو مقارنا له، متعلقا للامر، فيكون من مقدماته لا مقوماته، وثالثة: بأن يكون مما يتشخص به المأمور به، بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه، وربما يحصل له بسببه مزية أو نقيصة، ودخل هذا فيه أيضا، طورا بنحو الشطرية وآخر بنحو الشرطية، فيكون الاخلال بما له دخل بأحد النحوين في حقيقة المأمور به وماهيته، موجبا لفساده لا محالة، بخلاف ماله الدخل في تشخصه وتحققه مطلقا، شطرا كان أو شرطا، حيث لا يكون الاخلال به إلا إخلالا بتلك الخصوصية، مع تحقق الماهية بخصوصية أخرى، غير موجبة لتلك المزية، بل كانت موجبة لنقصانها، كما أشرنا إليه، كالصلاة في الحمام.

ثم إنه ربما يكون الشي ء مما يندب إليه فيه، بلا دخل له أصلا - لا شطرا ولا شرطا - في حقيقته، ولا في خصوصيته وتشخصه، بل له دخل ظرفا في مطلوبيته،

_______________________________

التقييد به في التسمية والماهيّة، لا انّه أراد بالمقدّميّة خروجها بمعنى عدم الدخالة في الماهيّة والتسمية رأساً كي ينافي مع ذهابه إلى الصحيح.

وقوله بالدخالة في التسمية كدخالتها في الماهيّة كيف ذلك ومعلوم انّ الشرط داخل في المشروط والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه والمناقشة في العبارة بعد وضوح المقصود ليست من دأب المحصّلين واللَّه العالم.

ص: 99

بحيث لايكون مطلوبا إلا إذا وقع في أثنائه، فيكون مطلوبا نفسيا في واجب أو مستحب، كما إذا كان مطلوبا كذلك، قبل أحدهما أو بعده، فلا يكون الاخلال به موجبا للاخلال به ماهية ولا تشخصا وخصوصية أصلا.

إذا عرفت هذا كله، فلا شبهة في عدم دخل ما ندب إليه في العبادات نفسيا في التسمية بأساميها، وكذا فيما له دخل في تشخصها مطلقا، وأما ماله الدخل شرطا في أصل ماهيتها، فيمكن الذهاب أيضا إلى عدم دخله في التسمية بها، مع الذهاب إلى دخل ما له الدخل جزء ا فيها، فيكون الاخلال بالجزء مخلا بها، دون الاخلال بالشرط، لكنك عرفت أن الصحيح اعتبارهما فيها.

الامر الحادي عشر

الحادي عشر: الحق وقوع الاشتراك، للنقل والتبادر، وعدم صحة السلب، بالنسبة إلى معنيين أو أكثر للفظ واحد، وان أحاله بعض، لاخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن، لمنع الاخلال أولا، لامكان الاتكال على القرائن الواضحة، ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا، لتعلق الغرض بالاجمال أحيانا، كما أن استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال[1] كما توهم، لاجل لزوم التطويل

_______________________________

[1] أقول: استدلّ القائل بالاستحالة بأنّ الوقوع مستلزم لأحد لازمين كلاهما فاسد، وهما إمّا التطويل بلا طائل إذا كان مع الاتّكال بالقرائن، وإمّا الاجمال في المقال وهو غير لائق بكلامه تعالى، وأجاب عنه المصنّف بأنّ الغرض قد يتعلّق بالاجمال في الكلام وحينئذٍ لا ينافي الحكمة ولا مانع من وقوعه في كلام الباري تعالى مع انّه صرّح في الكتاب المجيد بأن: « فِيهِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ »(1).

ص: 100


1- آل عمران: 7.

............................................

_______________________________

واستشكل عليه الشارح بأنّ الردّ عليه بالآية الشريفة لا وجه له إذ لا يخفى على أحد وقوع المتشابه في القرآن وهب انّ المستدل لم يقرء تلك الآية فلا أقل من أنّه يرى نصب عينيه الم كهيعص مع انّ حسن الاجمال فيما إذا تعلّق الغرض به من الواضحات التي لا يكاد ينكر، فغرضه من الاجمال الغير اللائق، الاجمال في مقام الافهام والبيان ثمّ قال: نعم يرد عليه انّه إن أريد بالاجمال اللازم من استعمال المشترك في القرآن الاجمال الدائمي الذي لا ينفك أبداً فالملازمة ممنوعة بمعنى ان استعمال المشترك في القرآن لا يستلزم خصوص ذلك الاجمال إذ من الممكن بيان ما أجمل أولاً وعدم بقائه بحال الاجمال للتالي، وإن أريد بالاجمال الاجمال وقتاً ما فالملازمة ثابتة بمعنى ان استعمال المشترك مستلزم لخصوص هذا الاجمال ولكن اللازم غير باطل إذ قد يتعلّق الغرض بمثل هذا الاجمال في مقام الافهام قبل حضور وقت الحاجة وإن على ذلك جميع العقلاء في محاوراتهم(1).

أقول: كلام المستدل ينادي بأعلى صوته انّ مراده ما فهمه المصنّف من كلامه من الاجمال الموقتي ولا وجه لما أفاده الشارح من الترديد بين الاجمال الدائمي فتمنع الملازمة وان استعمال المشترك في الكلام المجيد لا يستلزم وقوع الاجمال الدائمي والا فكان اللازم أن يستدل المستدلّ به على استحالة وقوع المجمل في كلام العاقل لا خصوص الباري تعالى إذ الاجمال الدائمي في مقام الافهام لا يصدر من مطلق العاقل.

ص: 101


1- الهداية في شرح الكفاية: 73.

بلا طائل، مع الاتكال على القرائن والاجمال في المقال لو لا الاتكال عليها.

وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى جل شأنه، كما لا يخفى، وذلك لعدم لزوم التطويل، فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض آخر، ومنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى، مع كونه مما يتعلق به الغرض، وإلا لما وقع المشتبه في كلامه، وقد أخبر في كتابه الكريم، بوقوعه فيه قال اللَّه تعالى: «فيه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات».

_______________________________

وقوله: لا قبح فيه إذا كان قبل حضور وقت الحاجة واللازم حينئذٍ غير باطل(1).

أقول: لا شبهة في انّ مراد المستدل خصوص ذلك الشق من الترديد لما عرفت وجوابه بعدم بطلان اللازم عين جواب المصنّف بأنّه قد يتعلّق الغرض بمثل ذلك الاجمال فلا ينافي الحكمة مع انّه قال تعالى: « فِيهِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ »(2) ولا محصّل لهذا الجواب إلّا ما أفاده المصنّف ومازاد عليه الشارح تطويل بلا طائل.

وأمّا الجواب عن الشبهة التي أوردها بأنّه لا أقل من انه يرى نصب عينيه الم وكهيعص فبان المستدل يلتزم بأنّ المخاطب بهذه الرموز ليست عامّة الناس بل خصوص أصحاب السر والأئمّة الطاهرين صلوات اللَّه عليهم أجمعين وهم عالمون بالمراد منها وليس بالنسبة إليهم اجمال فيها أصلاً، نعم ما أورده المصنّف عليه من تصريح الآية الشريفة بوقوع المجمل فيه اشكال لا مخلص عنه بوجه.

ص: 102


1- الهداية في شرح الكفاية : 73 .
2- آل عمران: 7.

وربما توهم وجوب وقوع الاشتراك في اللغات، لاجل عدم تناهي المعاني، وتناهي الالفاظ المركبات، فلابد من الاشتراك فيها، وهو فاسد لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني، لاستدعائه الاوضاع الغير المتناهية،[1]

ولو سلم لم يكد يجدي إلا في مقدار متناه، مضافا إلى تناهي المعاني الكلية، وجزئياتها وإن كانت غير متناهية، إلا أن وضع الالفاظ بإزاء كلياتها، يغنى عن وضع لفظ بإزائها، كما لا يخفى، مع أن المجاز باب واسع، فافهم.

_______________________________

[1] أقول: أورد الشارح على المستدل والمصنّف هنا إشكالات أمّا على المستدل فلادّعاء تناهي الألفاظ بزعم انّه لازم لتناهي الحروف حيث قال تناهى المواد لا يلزمه تناهي الهيئات المركّبة لا في الألفاظ ولا في المركّبات الخارجية ألا ترى إلى كثرة اللغات بما فيها من الألفاظ المركّبة ولم نر أهل لغة وقفوا على حدّ لتناهى صور التركيب وبالجملة فمقدار الألفاظ بمقدار المعاني(1).

وجوابه: ان مقصود المستدل تناهى الألفاظ الموضوعة الفعليّة الموجودة المستعملة فانّها متناهية قطعاً لا لتناهى الحروف التي هي تكون مواداً لها كى يقال تناهى المواد لا يستلزم تناهي الهيئات المركّبة بل لأن لكلّ لغة ألفاظاً محصورة معيّنة وتراكيب مخصوصة للحروف لا يتجاوز أهلها في استعمالاتهم عنها فان لغة العرب مع كمال سعتها وكثرة مستعملاتها لا شبهة في حصر ألفاظها الموضوعة ودوالها وامكان التركيب الغير المتناهي من المواد المتناهية لا يستلزم وقوعه.

وأمّا على المصنّف فتارة بالعجب عن اغناء الوضع لكليّات المعاني عن الوضع .

ص: 103


1- الهداية في شرح الكفاية: 74.

...............................................

_______________________________

لجزئيّاتها حيث قال هل أغناك وضع لفظ الانسان عن وضع ما لا يحصى من الأسماء لأفراد هذا النوع الخاص(1).

أقول: وأعجب من ذلك احتماله في حقّ المصنّف ارادة اغناء وضع مثل لفظ الانسان للطبيعة الكليّة عن وضع مثل لفظ زيد وعمرو وبكر الموضوعة لخصوص مسمياتها المقرونة بالتشخّصات الخارجيّة مع ان من المعلوم انّ مراده من الاغناء اغناء الوضع للكليّات دفعة واحدة عن الوضع لجزئياتها تفصيلاً وعليحدة باعتبار ذلك العنوان الكلي والمعنى العام لأشخاصها لا الوضع لخصوص الأشخاص الملحوظ فيها التشخص والخصوصيّة الخارجيّة الذي يقع من غير واضع اللغة كوضع لفظ زيد لمسمّاه مثلاً وبعبارة أخرى مقصود المصنّف اغناء الوضع العام والموضوع له العام في مثل لفظ الانسان مثلاً عن الوضع الخاص والموضوع له الخاص فيه بالنسبة إلى الأشخاص والمقصود من البحث في المقام الأوضاع الأوليّة التي تصدر من الواضعين للغات لا التدريجيّة التي توجد من أشخاص متفرّقين ليسوا بواضعين في الاصطلاح إذ المقصود من لفظ الواضع كلّما أطلق واضع اللغة كما لا يخفى، وأخرى بالاستغراب من انّ المجاز باب واسع حيث قال انّ الوضع الجديد للمعنى أقل مؤنة من استعماله مجازاً، وفيه انّ الوضع الجديد مجرّد فرض ومن المعلوم ان بعد حصول الأوضاع الأصليّة من واضعي اللغات لم يتصدّ أحد من غيرهم لوضع جديد عمومي ويدلّ عليه انّ المجازات في الاستعمالات كلّها حقائق ولم يكن من المجاز أثر أصلاً.

ص: 104


1- الهداية في شرح الكفاية: 74 - 75.

الامر الثاني عشر

الثاني عشر: إنه قد اختلفو في جواز استعمال اللفظ، في أكثر من معنى على سبيل الانفراد والاستقلال، بأن يراد منه كل واحد، كماإذا لم يستعمل إلا فيه، على أقوال:

أظهرها عدم جواز الاستعمال في الاكثر عقلا.[1]

وبيانه: إن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى، بل جعله وجها وعنوانا له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلا لمعنى واحد، ضرورة أن لحاظه

_______________________________

[1] أقول: الانصاف ان ما أفاده من ثبوت الاستحالة العقليّة في المقام كذلك ولا شبهة فيه لمن دقّ النظر وتأمّل فاستبصر وإنّما يجوز طريان الشبهة للقاصرين الذين عجزوا عن تحقيق الحق المبين فان من ينظر في المرآت لملاحظة دقائق خلقة وجهه وحسن منظره او قباحته يغفل بالمرّة عن ملاحظة المرآت حينئذٍ بحيث لا يراه بعين البصيرةأصلاً وإن كان ناظراً إليه ببصره وكذلك لو نظر فيه لملاحظتها لا ملاحظة وجهه يكون غافلاً بالمرّة عن حسن منظره أو قبحه في تلك الحال وكذلك من ينظر إلى طول الصحيفة مثلاً ويلاحظه لا يتوجه إلى عرضه أصلاً وبالعكس اذ صدور اللحاظين من ملاحظة واحد في آن واحد يحتاج إلى قلبين « مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ »(1) وقس على ما ذكر استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد فان الاستعمال جعل اللفظ مرآتاً للمعنى وعنواناً له والقائه إلى المخاطب بتوسطه وهذا محتاج إلى لحاظ من المستعمل فانّ

ص: 105


1- الأحزاب: 4.

هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث أن لحاظه كذلك، لا يكاد يكون إلا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه، فناء الوجه في ذي الوجه، والعنوان في المعنون، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد، ومع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.

وبالجملة: لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد، لحاظه وجها لمعنيين وفانيا في الاثنين، إلا أن يكون اللاحظ أحول العينين.

فانقدح بذلك امتناع استعمال اللفظ مطلقا - مفردا كان أو غيره - في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز، ولو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه فإن اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع، وكون الوضع في حال وحدة المعنى، وتوقيفيته لا يقتضي عدم الجواز، بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع، ولا للموضوع له، كما لا يخفى.

_______________________________

المستعمل حين الاستعمال لابدّ من أن يتصوّر المعنى واللفظ وإن يريد الأوّل من الثاني بمعنى جعل الثاني مرآتاً للأوّل وعنواناً له وكيف يمكن أن يجعل عنواناً لمعنى من المعاني في ان جعله عنواناً لمعنى آخر مع ان نظر العنوانيّة ولحاظها لخصوص معنى غير لحاظها كذلك لمعنى آخر ولا يجتمع هذان اللحاظان في استعمال واحد وفي آن واحد إذ الاستعمال الواحد من الأمور الانية وليس فيه جهة تعدّد أصلاً بل الدفعة الواحدة منها دفعي لا تدريجي ولا يمكن أن يحصل عند حصول هذا الأمر الدفعي الالي من المستعمل لحاظان متعدّدان متدرّجان في الوجود.

والحاصل ان حصول الأمر التدريجي مقارناً مع الأمر الدفعي غير معقول.

ص: 106

ثم لو تنزلنا[1] عن ذلك، فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع، وعلى نحو المجاز في المفرد، مستدلا على كونه بنحو الحقيقة فيهما، لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ، وبنحو المجاز فيه لكونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة، فاذا استعمل في الاكثر لزم إلغاء قيد الوحدة، فيكون مستعملا في جزء المعنى، بعلاقة الكل والجزء، فيكون مجازا، وذلك لوضوح أن الالفاظ لا تكون

_______________________________

[1] أقول: استشكل الشارح على المصنّف 0 هنا اشكالان أوّلهما ان ما أنكره أوّلاً في صدر الاستدلال إنّما هو اعتبار الوحدة حال الاستعمال الذي هو مقالة القمي ثمّ بعد التنزّل وتسليم ما أنكر تعرّض لمقالة من اعتبر الوحدة قيداً للموضوع له مثل صاحب المعالم مع انّ بينهما بون بعيد ولا مناسبة بين تلك المقالتين فلا وجه لجعل الثاني تنزّلاً عن الأوّل(1).

أقول: الظاهر انّه اشتبه عليه فهم المراد من العبارة ولا إشكال أصلاً إذ قوله ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك اشارة إلى تسليم المقالتين والغض عن عدم الجواز أصلاً كما قال به أوّلاً ويدلّ عليه انّه أشار إلى القولين في آخر قضيّة التسليم بقوله لا للوضع ولا للموضوع له وبالتأمّل في العبارة يفهم ان رد المقالة الأولى لم يتم عند قوله واضح المنع كما فهمه الشارح وقوله باعتبار حال الوحدة ليست جملة مستأنفة مقولة بعد الفراغ من ابطال القول الآخر فحينئذٍ تمام مقصوده بعد التنزّل والتسليم ابطال خصوص القول بالتفصيل وهو قول صاحب المعالم وانّه لا وجه للقول به بعد اعتبار قيد الوحدة في الموضوع له بأنّه على وجه الحقيقة في التثنية والجمع

ص: 107


1- الهداية في شرح الكفاية: 77.

موضوعة إلا لنفس المعاني، بلا ملاحظة قيد الوحدة، وإلا لما جاز الاستعمال في الاكثر، لان الاكثر ليس جزء المقيد بالوحدة، بل يباينه مباينة الشي ء بشرط شي ء، والشي ء بشرط لا، كما لا يخفى.

والتثنية والجمع وإن كانا بمنزلة التكرار في اللفظ، إلا أن الظاهر أن اللفظ فيهما كأنه كرر وأريد من كل لفظ فرد من أفراد معناه، لا أنه أريد منه معنى من معانيه، فاذا قيل مثلا: (جئني بعينين) أريد فردان من العين الجارية، لا العين الجارية

_______________________________

والتجوّز في المفرد بل الحق حينئذٍ القول بالمنع مطلقاً كما ذهب إليه القمّي بعد ان اعتبر قيد الوحدة في الوضع وهذا لا غبار عليه أصلاً لا ان المقصود تسليم قول القمّي ثمّ الردّ عليه بما أورده كي يقال بمبانية قول القمي مع ما ذهب إليه صاحب المعالم، وثانيهما ان مبانية المعنى مقيّداً بقيد الوحدة والأكثر من معنى واحد ممنوعة اذ المراد من الوحدة عدم الكثرة لا انّها قيد وجودي اعتبر في الموضوع له على قول من اعتبرها فيه، والفرق بين الكثرة وعدمها الذي هو المراد من الوحدة فرق عنوان اللابشرطيّة وبشرط اللائية لا بشرط اللائية وبشرط الشيئيّة، والكثرة حال من أحوال المعنى كالوحدة على مختاره لا قيد مأخوذ في المستعمل فيه كي ينطبق عنوان بشرط الشيئيّة على الأكثر، فعدم جواز استعمال اللفظ في الأكثر على فرض اخذ قيد الوحدة في الموضوع له وهذا ليس مضاراً مع شرط الوجود وبعبارة أخرى إنّما التضاد ثابت بين شرط الوجود وشرط العدم لا عدم الشرط وشرط العدم ولعمري انّ الشارح المستشكل قدس سره أصاب هنا في تخطئته ووصل في المقام إلى حقيقته فتأمّل تعرف إن شاء اللَّه.

ص: 108

والعين الباكية، والتثنية والجمع في الاعلام، إنما هو بتأويل المفرد إلى المسمى بها، مع أنه لو قيل بعدم التأويل،[1] وكفاية الاتحاد في اللفظ، في استعمالهما

_______________________________

[1] أقول: حاصله ان استعمال التثنية والجمع في المعنيين أو المعاني من معاني المشترك ليس من استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى لأن هيئتهما إنّما تدلّ على ارادة المتعدّد ممّا يراد من مفردهما والفرض ان مفرد المشترك يراد منه المعاني المتعدّدة مثلاً يستعمل لفظ العين ويراد منه المعاني المختلفة مثل الذهب والفضّة وغيرهما فاذا استعمل تثنيته وهو لفظ العينان وأريد منه معنيان من تلك المعاني فقد استعمل في واحد من أفراد المعنى الذي وضع له وهو الدلالة على اثنين من المعاني الذي يراد من مفرده كما إذا استعمل في فردين من معنى واحد فكما ان لفظ التثنية إذا استعمل في فردين من معنى واحد كالجارية مثلاً لم يستعمل إلّا في معنى واحد فكذلك إذا أريد منه معنيان من المعاني التي يستعمل مفرده فيها بلا فرق بينهما أصلاً، فالقول بأنّ التثنية والجمع إذا اطلق وأريد منه معنيان أو المعاني من معاني المشترك مستعمل في الأكثر من معنى واحد اشتباه محض، وإلّا فيلزم أن يكون المستعمل في الفردين أو الأفراد من معنى واحد أيضاً مستعملاً في الأكثر واللازم باطل فالملزوم مثله، نعم استعمال التثنية مثلاً في فردين من معنى وفردين من معنى آخر من معاني المشترك داخل في استعمال اللفظ في الأكثر من معنى، الا انّه لا يمكن لمن قال بالمنع في المفرد للزوم الغاء قيد الوحدة الالتزام بجواز ذلك لأن فيه الغاء لذلك القيد أيضاً مع انّه لم يقل أحد بجواز ذلك في التثنية أو الجمع ولم يستدل أحد على جوازه بالتكرار الذي زعمه المجوز مجوزاً.

ص: 109

حقيقة، بحيث جاز إرادة عين جارية وعين باكية من تثنية العين حقيقة، لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الاكثر، لان هيئتهما إنما تدل على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما، فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانيه، استعمالاً لهما في معنى واحد، كما إذا استعملا وأريد المتعدد من معنى واحد منهما، كما لا يخفى.

نعم لو أريد مثلا من عينين، فردان من الجارية، وفردان من الباكية، كان من استعمال العينين في المعنيين، إلا أن حديث التكرار لا يكاد يجدي في ذلك أصلا، فإن فيه إلغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضا، ضرورة أن التثنية عنده إنما تكون لمعنيين، أو لفردين بقيد الوحدة، والفرق بينهما وبين المفرد إنما يكون في أنه موضوع للطبيعة، وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين، كما هوأوضح من أن يخفى.

وهم ودفع: لعلك تتوهم أن الاخبار الدالة على أن للقرآن بطونا - سبعة أو سبعين - تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فضلا عن جوازه، ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها أصلا على أن إرادتها كان من باب إرادة المعنى من اللفظ، فلعله كان بارادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى، لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها.

الامر الثالث عشر

الثالث عشر: إنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة[1] في خصوص ما تلبس

_______________________________

[1] أقول: الظاهر انّ الظرف في العبارة متعلّق بلفظ الحقيقة وإن المراد من

ص: 110

بالمبدأ في الحال، أو فيما يعمه وما انقضى عنه على أقوال، بعد الاتفاق على كونه مجازا فيما يتلبس به في الاستقبال، وقبل الخوض في المسألة، وتفصيل الاقوال فيها، وبيان الاستدلال عليها، ينبغي تقديم أمور: أحدها: إن المراد بالمشتق[1 ]هاهنا ليس مطلق المشتقات، بل خصوص ما يجري منها على الذوات،

_______________________________

الحال حال التلبّس وإن حاصل المراد هو انّ الاختلاف وقع بينهم في كون المشتق حقيقة فيما تلبس بالمبدء إن أطلق عليه في خصوص حال التلبّس أو انّه حقيقة فيما يتلبّس أعم من أن يكون الاطلاق في خصوص ذلك الحال أو في وقت انقضى عنه التلبّس وليس المراد من الحال في العبارة حال الجرى والاطلاق كما فهمه الشيخ الشارح العراقي حيث قال: لا يخفى انّ المراد بالحال في العنوان حال الجري والاطلاق المتقوّم باللحاظ من حيث التقدّم والتأخّر والتقارن في زمان النطق إذ النسبة الكلاميّة التي هي عبارة عن نسبة الشي ء إلى شي ء أو نسبة شي ء آخر إليه، وذلك لأنّه زعم انّ الظرف متعلّق بقوله تلبس، ولو كان كذلك لكان المراد منه حال الجرى والاطلاق البتة ولكنك عرفت انّه متعلّق بلفظ الحقيقة بقرينة قوله أو فيما يعمّه وما انقضى عنه لأنّه إن كان المراد من الحال حال الجري والاطلاق لا معنى لتلك القضيّة، إذ المراد من الانقضاء انقضاء التلبّس ولا معنى لملاحظة انقضاء حال الجري والاطلاق فمساق عبارة المتن مساق ما عبّر به في الفصول من انّ اطلاق المشتق بلحاظ الحال حقيقة أو لا كما نقله الشارح المشار إليه واعترف بأن مراده من الحال حال التلبّس.

[1] أقول: قد يطلق المشتق ويراد منه كلّ ما ليس بجامد فيعم جميع الأفعال من

ص: 111

...............................................

_______________________________

الماضي والمضارع والأمر وكذلك الأسماء المشتقّة ممّا يكون منها جارياً على الذات كاسم الفاعل والمفعول وما لا يكون جارياً عليها كالمصدر ولكن المراد هنا خصوص ما يجري منها على الذوات لأن مناط البحث موجود في خصوص تلك المشتقّات، ثمّ ما كان منها جارياً على الذات ومفهومه منتزعاً عنها تارة يتّحد معها خارجاً بنحو الاتّحاد الحلولي كالسخاوة و الشجاعة مثلاً وأخرى بنحو الانتزاع والاعتبار مع عدم تحقّق شي ء في الخارج إلّا المنتزع عنه كالملكيّة والفوقيّة والتحتيّة والأبوّة والبنوّة وغيرها من الاضافات والاعتبارات وثالثة بنحو الصدور والايجاد كالضاربيّة مثلاً وغير ذلك من أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهات بل وضع أسماء المبالغة وأسماء الأزمنة والأمكنة والالات كما هو ظاهر العنوانات من اطلاق لفظ المشتق بل تصريح بعضهم وليس ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض إلّا التمثيل به ومن المعلوم انّ التمثيل غير مخصّص للممثل له، فقول صاحب الفصول بالاختصاص باسم الفاعل وما هو بمعناه وخروج سائر الصفات لا وجه له، ولعلّ منشأ توهّم الاختصاص عنده توهّم كون معاني تلك الصفات كاسم الالة والزمان والمكان ممّا لا خلاف فيه وأجمع الكلّ على ان ليس لها معنى إلّا ما اتّفقوا عليه وهو كما ترى لا يصلح لأن يكون باعثاً لخروجها عن محلّ النزاع مع انّ مناط البحث فيها موجود كغيرها مثل انه لا يجوز اطلاق لفظ الكافر والملحد على من انقضى عنه المبدء بالاتفاق مع ان المتّفق بينهم انّه من محلّ النزاع ولذا أجابوا عن ذلك بأن عدم الجواز شرعي لاوضعي فتعين

ص: 112

...............................................

_______________________________

المستعمل فيه وما يطلق عليه اللفظ في بعض الأوصاف لا يوجب خروجها عن محلّ النزاع كما ان اختلاف أنحاء التلبّسات حسب تفاوت مبادى المشتقّات بحسب الفعليّة كالضرب مثلاً والشأنيّة كالمسهليّة للسنا والصناعة كالحدادة والنجارة والملكة كالعلم حسبما يشير إليه بعض الأجلّة في كتابه من ثبوت التفاوت بينهما لا يوجب على التحقيق تفاوتاً في المهم من محلّ النزاع ثمّ عمّم المصنّف في محلّ البحث بأنّه لا فرق فيه بين أنواع ما كان مفهومه ومعناه جارياً على الذات ومنتزعاً عنها بملاحظة اتّصافها بعرض وهو ما يكون بحذائه شي ء في الخارج كالأبيض والأسود أو عرضى وهو ما لا يكون بحذائه شي ء في الخارج كالفوق والتحت والأب والابن من الجوامد والمشتقّات وذلك ليس ببعيد لأن مناط البحث موجود فيهما وان ابيت الا عن ان الظاهر من البحث عن المشتق البحث عنه بعنوانه الخاص فنقول انّ الجوامد بنفسها أيضاً محلّ النزاع كما يشهد به «ما عن الايضاح في باب الرضاع في مسئلة من كان له زوجتان كبيرتان ارضعتا زوجته الصغيرة حيث قال بحرمة المرضعة الاولى عليه لأنّها تصير أمّ زوجته والصغيرة أيضاً مع الدخول بالكبيرتين وقال في حرمة المرضعة الاخرة خلاف واختار والدي وابن ادريس حرمتها أيضاً لأنّها يصدق عليها أيضاً أمّ زوجته لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المشتق منه»(1)، بيانه ان بارتضاع الصغيرة عن الكبيرة الأولى يثبت الحرمة الأبديّة للصغيرة لصيرورتها ربيبة إن كان اللبن لغير

ص: 113


1- ايضاح الفوائد: 3/52.

مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات، بملاحظة اتصافها بالمبدأ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد، كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والايجاد، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهات، بل وصيغ المبالغة،

_______________________________

الزوج أو بنتاً إن كان اللبن من الزوج وإن كان فرض الايضاح كون اللبن من غير الزوج وصيرورة الصغيرة ربيبة بقرينة القيد بالدخول فاذا ارتضعت من الكبيرة الأخرى كيف يصدق على الكبيرة أمّ الزوجة مع انّ الصغيرة في تلك الحال لم تكن زوجته وجوابه انّ الزوجة تصدق على من تلبس بالزوجيّة سابقاً وإن لم يتلبّس بها في الحال والفرض انّ الصغيرة كانت زوجة سابقاً وقبل ارتضاعها من الكبيرة الأولى فحينئذٍ يصدق على الكبيرة الاخرة انّها أمّ الزوجة فتحرم.

ثمّ لا يخفى توقف حرمة الصغيرة المرتضعة على الدخول باحدى الكبيرتين المرضعتين الاولى أم الثانية ولكن الخلاف في حرمة المرضعة الاخرة وعدمها مبتن على الدخول باولى الكبيرتين لا الثانية لأنّه بالدخول بالاولى يخرج الصغيرة عن الزوجة فيقع الاشكال حينئذٍ في تأثير ارضاع الاخرة لها وجعلها أمّ الزوجة حال خروجها عن الزوجة ولعلّ ما في الايضاح من توقف حرمة الصغيرة على الدخول بالكبيرتين معناه الاشارة إلى انّ حرمة الصغيرة بسبب ارضاع الكبيرة لا يثبت إلّا مع الدخول بالكبيرة والدخول بالكبيرة الثانية أيضاً شرط لها في ثبوت الحرمة لو لا حصولها بالدخول بالاولى وإلّا فمن الواضح ثبوت الحرمة بالنسبة إلى الصغيرة في الواقع بالدخول باحدى الكبيرتين الاولى أم الثانية وجريان الخلاف في المسئلة بمجرّد الدخول بالكبيرة الأولى المرضعة فقط.

ص: 114

وأسماء الازمنة والامكنة والآلات، كما هو ظاهر العنوانات، وصريح بعض المحققين، مع عدم صلاحية ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض إلّا التمثيل به وهو غير صالح كما هو واضح. فلا وجه لما زعمه بعض الاجلة، من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وما يلحق بها، وخروج سائر الصفات، ولعل منشأه توهم كون ما ذكره لكل منها من المعنى، مما اتفق عليه الكل، وهو كما ترى، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادي المشتقات، بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة - حسبما يشير إليه - لا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع ها هنا، كما لا يخفى.

ثم إنه لا يبعد أن يراد بالمشتق في محل النزاع، مطلق ما كان مفهومه ومعناه جاريا على الذات ومنتزعا عنها، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضي ولو كان جامدا، كالزوج والزوجة والرق والحر، وإن ابيت إلا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق، كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه، فهذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع، كما يشهد به ما عن الايضاح في باب الرضاع، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان، أرضعتا زوجته الصغيرة، ما هذا لفظه: (تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين، وأما المرضعة الاخرى، ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنف رحمه الله وابن ادريس تحريمها لان هذه يصدق عليها أم زوجته، لانه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه هكذا هاهنا)، وما عن المسالك في هذه المسألة، من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق.

فعليه كلما كان مفهومه منتزعا من الذات، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات - كانت عرضا أو عرضيا - كالزوجية والرقية والحرية وغيرها من

ص: 115

الاعتبارات والاضافات، كان محل النزاع وإن كان جامدا، وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات والذاتيات، فإنه لا نزاع في كونه حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتياتها.

ثانيها: قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات، إلا أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان، لان الذات فيه وهي الزمان بنفسه ينقضي وينصرم، فكيف يمكن أن يقع النزاع في أن الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال، أو فيما يعم المتلبس به في المضي؟ ويمكن حل الاشكال[1] بأن انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام -

_______________________________

[1] أقول: بيان الاشكال أوّلاً يقتضي أن يقال انّ الزمان في اسم الزمان كمضرب مثلاً وهو الذات المتلبّسة بالمبدء كالضرب مثلاً من الموجودات الغير القارة وممّا ينقضي وينصرم آناً فآناً فلذا لا يمكن أن يجري النزاع فيما إذا كان الذات من الأمور القارة وإنّما وقع التغير فيها من حيث الحالات والصفات وتلبّسها بالمبدء وعدم تلبّسها به وانقضائه عنه، وقد تصدّى المصنّف لحلّ الاشكال بأن انحصار مفهوم عام بفرد لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بازاء الفرد دون العام فانّه يمكن أن يكون مفهوم لفظ مضرب مثلاً أعم من الزمان الذي متلبس بالضرب في الحال أو انقضى عنه المبدء بحسب الوضع، غاية الأمر لا يوجد في الخارج من هذا المفهوم العام إلّا فرد واحد وهو المتلبّس في الحال دون ما انقضى عنه إذ الانقضاء لا يصدق إلّا على شي ء فعلي سبق اتّصافه بالمبدء كما انّ لفظ الواجب موضوع لمفهوم كلّي يصدق على الكثير وإن لم يوجد منه في

ص: 116

...............................................

_______________________________

الخارج إلّا فرد واحد والمقصود في المقام البحث عن مفاهيم المشتقّات الموضوع لها اللفظ لا تعيين المصاديق الخارجيّة لها وانّ المشتق الجاري على الذات هل معناه المفهوم الأعم من الذات المتلبّس بالمبدء في الحال وما انقضى عنه أو خصوص المتلبّس في الحال وانقضاء أجزاء الزمان وانصرامها إنّما يمنع عن وجود جزء من الزمان في الخارج منقض عنه المبدء لا عن كون مفهوم اسم الزمان والموضوع له بحسب اللغة عاماً بحيث يشمل المنقضي عنه المبدء كما يشمل المتلبّس في الحال، هكذا ينبغي أن يشرح عبارة المتن في المقام لا كما فهمه الشارح الكاظميني بأن خروج فرد خاص كاسم الزمان في المقام من العنوان العام وهو انّه هل المشتق حقيقة في خصوص المتلبس في الحال أو الأعم منه وممّا انقضى عنه المبدء لا يوجب تخصّصاً في محلّ النزاع ولذا استشكل عليه بعد قوله وفيه ما لا يخفى بأنّه يلزم على هذا تعميم جميع العناوين الخاصّة بذلك الاعتبار إذ لاخصوصيّة للمقام في اقتضاء هذه الجهة عموم البحث فيه والعجب منه كيف رضي باعتقاد أن يلتزم المصنّف بمثل هذا الحل السخيف الذي لا ينبغي لأحد من الفضلاء أن يلتزم به فضلاً عمّن هو علم في التحقيق والتدقيق ثمّ بعد إبطال هذا الوجه أخذ في بيان وجه آخر للحل وقال من المعلوم ان اطلاق ما هو في حال التلبّس على ما انقضى عنه المبدء لوحظ ذلك الجزء السابق مع كلّ جزء لاحق ممّا يساويه وقتها كأنّه جزء واحد مستمر الوجود فاطلق عليه بعد الانقضاء ومن ذلك اطلاق

ص: 117

...............................................

_______________________________

مقتل على كلّ عاشر من شهر محرم وليلة المبيت على الفراش ويوم مرد الرأس الشريف وهكذا على ما يساويها وقتاً.

الحق انّ حلّ الاشكال لا يتمّ إلّا بما قاله المصنّف لأنّ العرف يتّبع في تعيين المفاهيم لا في تطبيق المفاهيم على المصاديق ولا وَجْهَ لجريان المسامحات العرفيّة في تطبيقها عليها مع انّه ليس من الأمور العرفيّة بل الوجدانيّة والملحوظ فيها كمال الدقّة وحيث ذكرنا انّ مفهوم الاقتضاء لا ينطبق إلّا على شي ء فعلي سبق اتّصافه بالمبدء دون ما لم يكن كذلك فلا فائدة في المسامحة التي ذكرها لاثبات جواز كون المفهوم في اسم الزمان أعم من المتلبّس في الحال وما انقضى عنه التلبّس، واطلاق مقتل ومبيت ومرد على غير ما وقع فيه الفعل من الزمان عرفاً ليس باعتبار دلالة اسم الزمان على ما انقضى عنه المبدء، واتّحاد أجزاء الزمان عرفاً إنّما هو بملاحظة علاقة المشابهة بين الزمانين وتطابق الوقت الذي لم يقع الفعل فيه مع الوقت الذي وقع فيه من بعض الجهات وإلّا فان كان اطلاق المشتق على ما انقضى عنه التلبّس بملاحظة مجرّد التلبّس المنقضى ولو في أسماء الزمان لأن كلّ الدهر عند العرف كأنّه يوم واحد فلم لا يجوّزون الاطلاق على الأجزاء المتأخّرة عن زمان التلبّس مطلقاً ولو لم يشاهد وقت التلبّس كيوم الحادي عشر والثاني عشر من شهر محرّم أيضاً.

وما أفاده الشارح في مقدّمة بيان حلّه لدفع هذا الاشكال من انّه لا يطلق المشتق على ما انقضى عنه المبدء مطلقاً في اسم الزمان وغيره إلّا حيث توجد

ص: 118

............................................

_____________________________

المناسبة ولذا حسن هذا الاطلاق في مقامات وقبح في آخر مع انّ الجميع من واد واحد من حيث انقضاء المبدء فيحسن في مثل محسن ويقبح في مثل حسن(1) غير تمام، لأنّه لو سلّم عدم جواز التجوّز في مثل حسن مثلاً لعدم قبول الذوق السليم له وعدم اطراد علاقة ما كان ولكن وجه عدم القول فيه غير معلوم مفصّلاً ولكن قبح اطلاق العاشور على الحادي عشر من محرم فمعلوم انّه من جهة عدم المشابهة المجوّزة، وكلّ من أنصف عن نفسه لا يبقى له شبهة في ان اطلاق غير العاشور من الأيّام على العاشور تجوزاً إنّما هو لعلاقة المشابهة ولا يلاحظ في ذلك الاطلاق علاقة ما كان بوجه وإن تلك الأيّام موجودات مختلفة عند العرف كما هو كذلك حقيقة ولا يلاحظ فيها عندهم جهة وحدة واتّحاد كي يصدق الانقضاء عليها فيها أصلاً وليس نسبة ذلك إلى العرف إلّا مكابرة محضة، نعم القدر المسلّم منه الذي يقبله المنصف هو اعتبار اتّحاد منهم في الأجزاء المتجدّدة المتّصلة القريبة بعضها ببعض من الزمان مثل الدقيقة الأولى والثانية مثلاً، والحاصل انّ العلاقة في المقام خصوص المشابهة قطعاً ولا دخل لعنوان الانقضاء في جوازه أصلاً، نعم وقوع المبدء في اليوم المشبه به لازم لأن ثبوت المجاز فرع ثبوت الحقيقة ووجود المتفرّع يتوقّف على وجود المتفرّع عليه البتّة.

ص: 119


1- الهداية في شرح الكفاية : 83 .

لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام، مع انحصاره فيه تبارك وتعالى.

ثالثها: إنه من الواضح خروج الافعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع، لكونها غير جارية على الذوات، ضرورة أن المصادر المزيد فيها كالمجردة، في الدلالة على ما يتصف به الذوات ويقوم بها - كما لا يخفى - وإن الافعال إنما تدل على قيام المبادي بها قيام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو تركها منها، على اختلافها.

إزاحة شبهة: قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان، حتى أخذوا الاقتران بها في تعريفه، وهو اشتباه،[1] ضرورة عدم دلالة الامر ولا النهي عليه، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الامر نفس الانشاء بهما في الحال، كما هو الحال في الاخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما، كما لا يخفى، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الافعال على الزمان إلا بالاطلاق والاسناد إلى الزمانيات، وإلا لزم القول بالمجاز والتجريد، عند الاسناد إلى غيرها من نفس الزمان والمجردات.

_____________________________

[1] أقول: لا يخفى انّ البحث عن معاني الأفعال في طي مباحث المشتق استطرادي وإلّا فقد مرّ من المصنّف انّ هذا البحث مختصّ بالبحث عن خصوص المشتقّات الجارية على الذوات وسيشير المصنّف إلى استطراديته عند الحاق البحث عن معنى الحروف أيضاً ثمّ الظاهر ان نسبة الاشتباه إلى النحات في المقام

ص: 120

............................................

_____________________________

اشتباه إذ لفظ الاقتران في عبائرهم في تعريف الفعل إنّما هو ظاهر في المعنى الذي أفاده لا أزيد منه كما زعم، ولو كان مرادهم دلالة الفعل على الزمان بالمطابقة أو التضمّن لما عبّروا في تعريفه بما دلّ على معنى في نفسه مقترن بأحد اللأزمنة الثلاثة بل بما دلّ على الحدث والزمان مثلاً فانّ لفظ الاقتران ظاهر في انّه خارج لازم وشرحه مختصراً انّ المصدر واسمه يدلّان على نفس الفعل صرفاً بدون الدلالة على وقوعه وعدم وقوعه في الخارج والهيئة العارضة عليه في الماضي والمضارع مثل هيئة فعل ويفعل تدلّ على وقوع ذلك الفعل في الخارج ولابدّ في وقوع الفعل خارجاً من زمان اما الماضي أو الحال أو الاستقبال ولما كان الزمان من اللوازم البيّنة للوقوع عبّروا عن معنى الوقوع ومرادهم من دلالة هيئة الفعل على الزمان دلالته على الوقوع الملازم للزمان وهذا بخلاف الأسماء الخاصّة الدالّة على الأعيان الخارجيّة فانّها لا دلالة لها على الزمان بوجه وإلّا فان كان مرادهم دلالة الفعل على الزمان أوّلاً وبدون الواسطة كما فهمه المصنّف يكون معنى ضرب زيد مثلاً زمان ضرب زيد ماضي وهو واضح الفساد ولا يلتزم به أحد بل معناه وقوع الضرب من زيد غاية الأمر الوقوع ملازم للزمان فعبّروا عن الملزوم بلازمه، ثمّ ليعلم انّ الوقوع إمّا حقيقي وإمّا نسبي والمراد من الوقوع المأخوذ في معنى الفعل الوقوع النسبي وهو في الفعل الماضي مختص بالزمان الماضي بملاحظة نسبته إلى الفاعل وإن كان الوقوع الحقيقي حاصلاً في المستقبل كقولك يجيئني زيد بعد عام وقد ضرب قبله بأيّام وكذلك معنى المضارع وقوع

ص: 121

نعم لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع - بحسب المعنى - خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة، في الزمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع فيما كان الفاعل من الزمانيات، ويؤيده أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال، ولامعنى له إلا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، لا أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما، كما أن الجملة الاسمية ك (زيد ضارب) يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الازمنة، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا، فكانت الجملة الفعلية مثلها.

_____________________________

الفعل مختصّاً بالحال أو الاستقبال بملاحظة نسبته إلى الفاعل وإن كان الوقوع الحقيقي ماضياً كقولك جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت ومثل الماضي والمضارع فعل الأمر والنهي أيضاً ولا وجه لانكار المصنّف دلالتهما على الزمان مطلقاً بل فعل الأمر مثلاً يدلّ على طلب الايقاع، والوقوع أثر للايقاع وهو ملازم لزمان مشترك بين الماضي والحال والاستقبال بملاحظة نسبته إلى الفاعل ومثال الماضي قولك: قلت لزيد أمس اضرب وحيث توسط في الأمر والنهي بين الهيئة الدالّة على الوقوع ونفس الوقوع الايقاع كانت الدلالة العقليّة الالتزاميّة أخفى للواسطة المذكورة ولذا اشتبه الأمر على المصنّف وجزم بعدم دلالتهما على الزمان أصلاً.

ص: 122

وربما يؤيد ذلك أن الزمان الماضي في فعله، وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع، لايكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة، بل ربما يكون في الماضي مستقبلا حقيقة، وفي المضارع ماضيا كذلك، وإنما يكون ماضيا أو مستقبلا في فعلهما بالاضافة، كما يظهر من مثل قوله: يجيئني زيد بعد عام، وقد ضرب قبله بأيام، وقوله: جاء زيد في شهر كذا، وهو يضرب في ذلك الوقت، أو فيما بعده مما مضى، فتأمل جيدا.

ثم لا باس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه، بما يناسب المقام، لاجل الاطراد في الاستطراد في تمام الاقسام.

فاعلم أنه وإن اشتهر بين الاعلام، أن الحرف ما دل على معنى في غيره، وقد بيناه في الفوائد بما لا مزيد عليه، إلا أنك عرفت فيما تقدم، عدم الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى، وأنه فيهما ما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهومية، ولا عدم الاستقلال بها، وإنما الفرق هو أنه وضع ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير، ووضع غيره ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو.

وعليه يكون كل من الاستقلال بالمفهومية، وعدم الاستقلال بها، إنما اعتبر في جانب الاستعمال، لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى، فلفظ (الابتداء) لو استعمل في المعنى الآلي، ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي، لما كان مجازا واستعمالا له في غير ما وضع له، وإن كان بغير ما وضع له، فالمعنى في كليهما في نفسه كلي طبيعي يصدق على كثيرين، ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي، وإن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا، فإن الشي ء ما لم يتشخص لم يوجد، وإن كان بالوجود الذهني، فافهم وتأمل فيما وقع

ص: 123

في المقام من الاعلام، من الخلط والاشتباه وتوهم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصا، بخلاف ما عداه فإنه عام.

وليت شعري إن كان قصد الآلية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا، فلم لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجبا له؟ وهل يكون ذلك إلا لكون هذا القصد، ليس مما يعتبر في الموضوع له، ولا المستعمل فيه بل في الاستعمال، فلم لا يكون فيها كذلك؟ كيف، وإلا لزم أن يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية، لكونها على هذا كليات عقلية، والكلي العقلي لا موطن له إلا الذهن، فالسير والبصرة والكوفة، في (سرت من البصرة إلى الكوفة) لا يكاد يصدق على السير والبصرة والكوفة)، لتقيدها بما اعتبر فيه القصد فتصير عقلية، فيستحيل انطباقها على الامور الخارجية.

وبما حققناه يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي، والصدق على الكثيرين، وإن الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آليا أو استقلاليا، وكليته بلحاظ نفس المعنى، ومنه ظهر عدم اختصاص الاشكال والدفع بالحرف، بل يعم غيره، فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الاقدام للاعلام، وقد سبق في بعض الامور بعض الكلام، والاعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والافادة، فافهم.

رابعها: إن اختلاف المشتقات في المبادئ، وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة، وفي بعضها قوة وملكة، وفي بعضها فعليا، لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا، ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى، غاية الامر إنه يختلف التلبس به في المضي أو الحال، فيكون التلبس به فعلا، لو أخذ حرفة أو

ص: 124

ملكة ولو لم يتلبس به إلى الحال أو انقضى عنه، ويكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعليّاً، فلا يتفاوت فيها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات، كما أشرنا إليه.

خامسها: إن المراد بالحال في عنوان المسألة، هو حال التلبس لا حال النطق[1 ]

_____________________________

[1] أقول: يعني انّه ليس المراد بالحال في عنوان البحث زمان الحال في مقابل الماضي والاستقبال المعبّر عنه بزمان النطق بل المراد حالة تلبّس المبدء بالذات سواء كان حالاً أو ماضياً أو مستقبلاً بالنسبة إلى زمان النطق لوضوح عدم التجوّز في إطلاق ضارب مثلاً على من يتلبّس بالضرب في المستقبل أو كان متلبّساً به في الماضي بلحاظ تلك الحال كقولك كان ضارباً أمس أو سيصير ضارباً غداً نعم التجوز ثابت في المثال الثاني لو كان المراد اجراء الصفة حال النطق باعتبار التلبّس في المستقبل ومحتمل في المثال الأوّل لو كان المراد اجرائها على الذات حال النطق باعتبار التلبّس في الماضي ويؤيّد عدم ارادة زمان الحال من لفظه في العنوان اتّفاق أهل العربيّة على عدم دلالة الأسماء على الزمان ومنها المشتقات ولا ينافيه ما شرطوا في اعمال بعضها عدم كونه بمعنى المضي وكونه بمعنى الحال أو الاستقبال كما قال ابن مالك في الخلاصة الألفيّة:

كفعله اسم فاعل في العمل * إن كان عن مضيه بمعزل

إذ المراد دلالته عليها على سبيل التجوز وبواسطة القرينة والمراد في العنوان تعيين ما وضع له لفظ المشتق ويكون حقيقة فيه لا ما يراد منه بالقرينة وعلى سبيل التجوّز.

ص: 125

ضرورة أن مثل (كان زيد ضاربا أمس) أو (سيكون غدا ضاربا) حقيقة إذا كان متلبسا بالضرب في الامس في المثال الاول، ومتلبسا به في الغد في الثاني، فجري المشتق حيث كان بلحاط حال التلبس، وإن مضى زمانه في أحدهما، ولم يأت بعد في آخر، كان حقيقة بلا خلاف، ولا ينافيه الاتفاق على أن مثل (زيد ضارب غدا) مجاز، فإن الظاهر أنه فيما إذا كان الجري في الحال، كما هو قضية الاطلاق، والغد إنما يكون لبيان زمان التلبس، فيكون الجري والاتصاف في الحال، والتلبس في الاستقبال.

ومن هنا ظهر الحال في مثل (زيد ضارب أمس) وأنه داخل في محل الخلاف والاشكال.

ولو كانت لفظة (أمس) أو (غد) قرينة على تعيين زمان النسبة والجري أيضا كان المثالان حقيقة.

وبالجملة: لاينبغي الاشكال في كون المشتق حقيقة، فيما إذا جرى على الذات، بلحاظ حال التلبس، ولو كان في المضي أو الاستقبال، وإنما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه، أو فيما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى عليها فعلا بلحاظ التلبس في الاستقبال، ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، ومنه الصفات الجارية على الذوات، ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى الحال، أو الاستقبال، ضرورة أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة، كيف لا؟ وقد اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال.

لايقال: يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو الظاهر منه عند

ص: 126

إطلاقه، وادعي أنه الظاهر في المشتقات، إما لدعوى الانسباق من الاطلاق، أو بمعونة قرينة الحكمة.

لانا نقول: هذا الانسباق، وإن كان مما لا ينكر، إلا أنهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.

سادسها: إنه لا أصل في نفس هذه المسألة[1] يعول عليه عند الشك، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له، وأما ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز، إذا دار الامر بينهما لاجل الغلبة، فممنوع، لمنع الغلبة أولا، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها ثانيا.

_____________________________

[1] أقول: من تمسّك باصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة مراده انّ من المقطوع وضع المشتق للمتلبّس بالمبدء الذي هو شامل للمتلبّس في الحال وما انقضى عنه التلبّس وحيث ان دوران أمر الوضع بين الوضع للأخص والأعم دورانه بين الأقل والأكثر فالأعم وهو عنوان المتلبّس داخل في ملحوظ الواضع قطعاً ونشكّ في انّه لاحظ الأكثر وهو الخصوصيّة وعنوان التلبّس في الحال فقط في الوضع أم لا فالأصل عدمه ويثبت وضعه للأعم، وجوابه وتقرير المصنّف هكذا بأن ما هو المقطوع في وضع المشتق ليس إلّا المتلبّس بالمبدء في الجملة الذي هو مفاد القضيّة المهملة والخصوص والعموم كلاهما مشكوكان فكما انّ الأصل عدم ملاحظة الخصوصيّة فكذلك الأصل عدم ملاحظة العموم أيضاً فالأصلان متعارضان متساقطان وأمّا الأصل العملي الجاري للشاك في الحكم الشرعي فيختلف تارة يكون براءة وأخرى استصحابها.

ص: 127

وأما الاصل العملي فيختلف في الموارد، فأصالة البراء ة في مثل (أكرم كل عالم) يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الايجاب، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه لو كان الايجاب قبل الانقضاء.

فإذا عرفت ما تلونا عليك، فاعلم أن الاقوال في المسألة وإن كثرت، إلا أنها حدثت بين المتأخرين، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين، لاجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى، أو بتفاوت ما يعتريه من الاحوال، وقد مرت الاشارة إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار، وهو اعتبار التلبس في الحال، وفاقا لمتأخري الاصحاب والاشاعرة، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة، ويدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال، وصحة السلب مطلقا عما انقضى عنه، كالمتلبس به في الاستقبال، وذلك لوضوح أن مثل: القائم والضارب والعالم، وما يرادفها من سائر اللغات، لا يصدق على من لم يكن متلبسا بالمبادئ، وإن كان متلبسا بها قبل الجري والانتساب، ويصح سلبها عنه، كيف؟ وما يضادها بحسب ما ارتكز من معناها في الاذهان يصدق عليه، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبسه بالقعود، بعد انقضاء تلبسه بالقيام، مع وضوح التضاد بين القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى.

وقد يقرر هذا وجها على حدة، ويقال: لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة، على ما ارتكز لها من المعاني، فلو كان المشتق حقيقة في الاعم، لما كان بينها مضادة بل مخالفة، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.

ص: 128

ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الاجلة من المعاصرين، من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط، لما عرفت من ارتكازه بينها، كما في مبادئها.

إن قلت: لعل ارتكازها لاجل الانسباق من الاطلاق، لا الاشتراط.

قلت: لا يكاد يكون لذلك، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء، لو لم يكن بأكثر.

إن قلت: على هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الاغلب مجازا، وهذا بعيد، ربما لا يلائمه حكمة الوضع.

لا يقال: كيف؟ وقد قيل: بأن أكثر المحاورات مجازات، فإن ذلك لو سلم، فإنما هو لاجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد.

نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه.

لكن أين هذا مما إذا كان دائما كذلك؟ فافهم.

قلت: مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد[1] غير ضائر بالمراد، بعد مساعدة الوجوه

_____________________________

[1] أقول: هذا هو الجواب الأخير عمّا أورد على القول بالوضع للأخص وحاصله تسليم لزوم كثرة المجازات بمعنى كثرة استعمال اللفظ في معنى واحد مجازي لا كثرة المعاني المجازيّة وإلاّ فهو لا محذور فيه أصلاً ودوام ذلك التجوّز في كلّ لغة وعصر على لسان جميع المستعملين لا مثل الأمر الذي كثر استعماله في الندب مجازاً في خصوص لسان الشارع مثلاً لا غير، فجوابه ان مجرّد استبعاد ذلك لكونه غير ملائم لحكمة الوضع غير ضائر بعد قيام الدليل على المدعى مع انّ تسليم ما ذكر كلّه إنّما هو فيما إذا استعمل المشتق فيما انقضى عنه المبدء لا بلحاظ حال التلبّس، واستعماله فيه بلحاظه ممكن بلا إشكال.

ص: 129

............................................

_____________________________

قال: وبالجملة، رجوع إلى أصل المطلب وأوّله يعني إذا أثبتنا كثرة استعمال المشتق فيما انقضى ثبت بطلان دعوى ان انسباق خصوص حال التلبّس من جهة الاطلاق لا الحاق وإن تبادره منه ليس علامة كونه حقيقة فيه إذ تبادر معنى من اللفظ مع عدم كثرة استعماله في ذلك المعنى علامة وضعه له كما لا يخفى.

أقول: ولكن فيما أفاده في دفع لزوم كثرة المجاز من إمكان كون الاستعمال فيما انقضى بلحاظ حال التلبّس نظر إذ مجرّد الامكان لا يدفع المحذور وتعينه بسبب دوران الأمر بين الحقيقة والمجاز لكون الجرى والاطلاق بلحاظ حال التلبّس حقيقة وبلحاظ حال الانقضاء مجازاً ووجوب تقديم الحقيقة على المجاز مهما أمكن مخدوش، بأن من المعلوم انّ الواقع من الاستعمالات فيما انقضى إنّما هو بلحاظ حال الانقضاء لا التلبّس إذ الظاهر من قولك جاء الضارب أو الشارب مثلاً اتّحاد زمان الجري والنسبة الكلاميّة وإنّ المعنى جاء من يكون ضارباً الان وفي زمان النطق مع انقضاء الضرب عنه في الأمس، والمقدّمات التي ذكرها من اثبات تبادر خصوص المتلبّس في الحال من المشتق وصحّة سلب غيره عنه ولزوم كثرة المجازات لو كان فيما انقضى مجازاً وإنّ المستعمل لابدّ له من تقديم الاستعمال الحقيقي على المجازي لا يفيد، بعد تبادر اتّحاد زمان الجري والاطلاق مع النسبة الكلاميّة من القول المذكور وعدم التفات المستعمل حال الاستعمال إلى ذلك المقدّمات بوجه وانسباق ذهنه إلى المعنى المنسبق إلى ذهن السامع من القضيّة فقط في ذلك الحال فيبقى المحذور وهو كثرة المجازات ولا مخلص عنه كما لا يخفى.

ص: 130

المتقدمة عليه، إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس، مع أنه بمكان من الامكان فيراد من جاء الضارب أو الشارب - وقد انقضى عنه الضرب والشرب - جاء الذي كان ضاربا وشاربا قبل مجيئه حال التلبس بالمبدأ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال، وجعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه، ضرورة أنه لو كان للاعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين.

وبالجملة: كثرة الاستعمال في حال الانقضاء يمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الاطلاق، إذ مع عموم المعنى وقابلية كونه حقيقة في المورد - ولو بالانطباق - لا وجه لملاحظة حالة أخرى، كما لا يخفى، بخلاف ما إذا لم يكن له العموم، فإن استعماله - حينئذ - مجازا بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكنا، إلا أنه لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الامكان فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية وملاحظة العلاقة، وهذا غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة، كما لا يخفى، فافهم.

ثم إنه ربما أورد[1] على الاستدلال بصحة السلب، بما حاصله: إنه إن أريد

ص: 131

[1] أقول: شرح الايراد ملخّصاً انّ سلب المشتق عن الذات المنقضي عنه المبدء مطلقاً ولو في الزمان الماضي غلط لأنّ المفروض تلبّس الذات به في الماضي وسلبها عنه مقيّداً بزمان الحال لا يفيد لأن علامة المجاز هي صحّة سلب المطلق وجواز سلب المشتق من الذات مطلقاً، وعدم دخول ما نحن بصدد شرح حاله وهو المتلبّس بالمبدء فيما انقضى فيما يصدق عليه الاسم كذلك، لأنّ البحث في معنى المشتق مثل القائم والقاعد مجرّداً عن القيد وانّه هل يصدق على المتلبّس بالمبدء

ص: 132

............................................

_____________________________

فيما انقضى أم لا، فحصل انّ السلب على وجه يكون علامة ليس بصحيح وعلى وجه يكون صحيحاً ليس بعلامة.

وشرح الجواب انا نختار السلب المقيّد، قولكم انّه صحيح وليس بعلامة، غير صحيح لأنّه إن أريد بالتقييد تقييد المسلوب بأن يكون المراد من سلب الضرب الان عن زيد الذي هو أعم من سلب المطلق وليس مطابقاً معه فان نفى الأخص أعم من نفي الأعم مثلاً نفي وجود الانسان أعم من نفي وجود الحيوان لا سلب الضرب مطلقاً الذي هو عبارة عن السلب المطلق فالمسلم انّه لا يكون علامة ولا دخل له ببحثنا الذي هو في المشتق المجرّد عن القيد، ولكن المقصود من التقييد تقييد السلب لا المسلوب ولا إشكال في كونه علامة للمجازيّة إذ لو كان شي ء من مصاديق العام داخلاً تحته لا يصح سلبه عنه بوجه ولو مقيّداً إذ يصدق المطلق على أفراده على كلّ حال، مثلاً إن كان من ليس بضارب الان وانقضى عنه الضرب داخلاً تحت مفهوم الضارب لم يصح سلب الضاربيّة عنه اصلا ولو في الحال مع انه صحيح فيعلم انّه ليس من افراد الضارب وممّا استعماله فيه حقيقة، ثمّ زاد المصنّف في الجواب بأنّه يمكن منع التقييد مطلقاً وتصوير صحّة السلب بقول مطلق بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق فاذا لوحظ فيه تلك الحال يصحّ السلب مطلقاً، لأن انقضاء المبدء عبارة عن عدمه وسلب المعدوم مطلقاً وبلا قيد لا مانع عنه أصلاً، كما انّه إذا لوحظ حال التلبّس لا يصح السلب بوجه لأنّ التلبّس عبارة عن الثبوت وسلب الثابت لا يصح أيضاً بوجه، وفيه انّ الانقضاء الخارجي الذي هو عبارة أخرى عن عدم الشي ء لا دخل له بمفهوم

ص: 133

بصحة السلب صحته مطلقا، فغير سديد، وإن أريد مقيدا، فغير مفيد، لان علامة المجاز هي صحة السلب المطلق.

وفيه: إنه إن أريد بالتقييد، تقييد المسلوب الذي يكون سلبه أعم من سلب المطلق - كما هو واضح - فصحة سلبه وإن لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه، إلا أن تقييده ممنوع، وإن أريد تقييد السلب، فغير ضائر بكونها علامة، ضرورة صدق المطلق على أفراده على كل حال، مع إمكان منع تقييده أيضا، بأن

_____________________________

اللفظ، لأن تعيين مفاهيم الألفاظ أمر موكول إلى العرف فانّه يمكن صدق الضارب عرفاً على الذات المنقضي عنه الضرب ومن لا يتلبّس من الخارج والقول بعدم الصدق من باب المصادرة وجعل المدعى دليلاً مع انّ المقصود في البحث تعيين مفهوم المشتق من دون ملاحظة انقضاء المبدء أو تلبّس الذات به، فانّهما خارجان عن مفهومه قطعاً بل إنّما مفهومه الذات المتلبّس بالمبدء، والبحث في انّه هل هو المتلبّس مطلقاً أو خصوص ما هو المتلبّس في الحال ولا وجه لدخالة اللحاظين المذكورين في المقام، والحاصل ان ملاحظة الانقضاء وعدمه لا يؤثّر فيما هو المقصود في المقام فانّه إن كان سلب اسم الضارب مثلاً عمّن انقضى عنه الضرب صحيحاً عرفاً يثبت المجازيّة وإن لم يكن اللحاظ المذكور حاصلاً من ملاحظ أصلاً، وإن لم يكن صحيحاً عرفاً بل كان اسم الضارب صادقاً عليه ولو في حال الانقضاء يكون حقيقة فيه ولو كان اللحاظ المذكور حاصلاً كما لا يخفى.

ص: 134

يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق، فيصح سلبه مطلقا بلحاظ هذا الحال، كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس، فتدبر جدا.

ثم لا يخفى أنه لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ، بين كون المشتق لازما وكونه متعديا، لصحة سلب الضارب عمن يكون فعلا غير متلبس

بالضرب، وكان متلبسا به سابقا، وأما إطلاقه عليه في الحال، فان كان بلحاظ حال التلبس، فلا إشكال كما عرفت، وإن كان بلحاظ الحال، فهو وإن كان صحيحا[1] إلا أنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة، لكون الاستعمال أعم منها

_____________________________

[1] أقول: أورد الشيخ الخالصي في تعليقته على المتن هنا إشكالاً وهو ان تسليم صحّة استعمال المشتق بلحاظ حال النطق هنا من المصنّف مناف لما أفاده سابقاً عن عدم جواز استعماله كذلك مهما أمكن استعماله بلحاظ حال التلبّس لتقدّم الحقيقة على المجاز بقوله ولو كان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ كلا الحالين.

ولكن فيه انّ المراد بالصحّة هنا ما يقابل الغلط فانّ الاستعمال المجازي صحيح في نفسه وإن عرض ما يمنع عن ارتكابه مثل جواز الكشف عن المراد بالاستعمال الحقيقي، فالمراد من الصحّة هنا الصحّة الشأنيّة لا الفعليّة ودوران الأمر بين الاستعمال الحقيقي والمجازي دورانه بين الاستعمالين الصحيحين غاية الأمر الحقيقة مقدم على المجاز بخلاف استعمال اللفظ فيما ليس موضوعاً له ولا علاقة أيضاً بينه وبين ما وضع له فانّه غلط صرفاً وليس بصحيح لا شأنا ولا فعلاً فلا منافاة بين البيانين لاختلاف المراد من لفظ الصحّة في المقامين ومن شرائط ثبوت التناقض وحدة الموضوع والمحمول جميعاً كما لا يخفى.

ص: 135

كما لا يخفى، كما لا يتفاوت في صحة السلب عنه، بين تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس - أيضا - وإن كان معه أوضح، ومما ذكرنا ظهر حال كثير من التفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التفصيل.

حجة القول بعدم الاشتراط وجوه: الاول: التبادر، وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.

الثاني: عدم صحة السلب في مضروب ومقتول، عمن انقضى عنه المبدأ.

وفيه: إن عدم صحته في مثلهما، إنما هو لاجل أنه أريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا في الحال، ولو مجازا.

وقد انقدح من بعض المقدمات أنه لا يتفاوت الحال فيما هو المهم في محل البحث والكلام ومورد النقض والابرام، اختلاف ما يراد من المبدأ في كونه حقيقة أو مجازا، وأما لو أريد منه نفس ما وقع على الذات، مما صدر عن الفاعل، فإنما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس والوقوع - كما عرفت - لا بلحاظ الحال أيضا، لوضوح صحة أن يقال: إنه ليس بمضروب الآن بل كان.

الثالث: استدلال الامام - عليه السلام - تأسيا بالنبي - صلوات اللَّه عليه - كما عن غير واحد من الاخبار بقوله «لا ينال عهدي الظالمين» على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الامامة والخلافة، تعريضا بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مديدة، ومن الواضح توقف ذلك على كون المشتق موضوعا للاعم، وإلا لما صح التعريض، لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدي

ص: 136

للخلافة، والجواب منع التوقف على ذلك، بل يتم الاستدلال ولو كان موضوعا لخصوص المتلبس.

وتوضيح ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة، وهي: إن الاوصاف العنوانية التي تؤخذ في موضوعات الاحكام، تكون على أقسام:

أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرد الاشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعا للحكم، لمعهوديته بهذا العنوان، من دون دخل لاتصافه به في الحكم أصلا.

ثانيها: أن يكون لاجل الاشارة إلى علية المبدأ للحكم، مع كفاية مجرد صحة جري المشتق عليه، ولو فيما مضى.

ثالثها: أن يكون لذلك مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائرا مدار صحة الجري عليه، واتصافه به حدوثا وبقاء.

إذا عرفت هذا فنقول: إن الاستدلال بهذا الوجه إنما يتم، لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الاخير، ضرورة أنه لو لم يكن المشتق للاعم، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهرا حين التصدي، فلابد أن يكون للاعم، ليكون حين التصدي حقيقة من الظالمين، ولو انقضى عنهم التلبس بالظلم.

وأما إذا كان على النحو الثاني، فلا، كما لا يخفى، ولا قرينة على أنه على النحو الاول، لو لم نقل بنهوضها على النحو الثاني، فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الامامة والخلافة وعظم خطرها، ورفعة محلها، وإن لها خصوصية من بين المناصب الالهية، ومن المعلوم أن المناسب لذلك، هو أن لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا، كما لا يخفى.

ص: 137

إن قلت: نعم، ولكن الظاهر أن الامام - عليه السلام - إنما استدل بما هو قضية ظاهر العنوان وضعا، لا بقرينة المقام مجازا، فلا بد أن يكون للاعم، وإلا لماتم.

قلت: لو سلم،[1] لم يكن يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه مجازاً،

_____________________________

[1] أقول: قد مرّ انّ استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدء بلحاظ حال التلبّس خلاف الظاهر المتفاهم من الكلام فان هيئة القضيّة ظاهرة في اتّحاد زمان الجري والنسبة الكلاميّة والاستعمالات المتعارفة واقعة على هذا النهج كما لا يخفى، وعمدة مبنى المستدل بقول الامام عليه السلام حفظ ظهور الكلام في كون ظرف الجري هو ظرف اسناد الحكم إليه لعدم نيل عهده، نعم يمكن أن يقال في ابطال الاستدلال انّ المناسب لشرافة الخلافة هو أن يكون المراد من المبدء حيث صدوره منه كما مرّ من المصنّف في مثل ضارب وقاتل من جواز ارادة صدور الضرب والقتل منها ولو مجازاً فاذن لا يبقى ظهور هيئة الكلام بحاله مع انّ الظاهر ارادة الاستقبال في لا ينال على الاستقبال بالنسبة إلى زمان الجري والتلبّس لا زمان النطق وفي مثله يستحيل اتّحاد ظرف الجري مع ظرف النسبة الكلاميّة وإذا كان المراد من الفعل صدوره فالمشتق مستعمل في المتلبّس في الحال لا فيما انقضى عنه المبدء بلحاظ حال التلبّس كما التزم به المصنّف أخيراً فلا تجوز ولا عناية ويهدم أساس الاستدلال ولا نحتاج حينئذٍ إلى التكلفات التي تحملها المصنّف بحال كما لا يخفى.

ص: 138

بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبس - كما عرفت - فيكون معنى الآية، واللَّه العالم: من كان ظالما ولو آنا في زمان سابق لا ينال عهدي أبدا، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال، لا بلحاظ حال التلبس.

ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به، باختيار عدم الاشتراط في الاول، ب آية حد السارق والسارقة، والزاني والزانية، وذلك حيث ظهر أنه لا ينافي إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقا، ولو بعد انقضاء المبدأ، مضافا إلى وضوح بطلان تعدد الوضع، حسب وقوعه محكوما عليه أو به، كما لا يخفى.

ومن مطاوي ما ذكرنا - ها هنا وفي المقدمات - ظهر حال سائر الاقوال، وماذكر لها من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات.

بقي أمور: الاول: إن مفهوم المشتق[1] - على ما حققه المحقق الشريف

_____________________________

[1] أقول: المعروف ان معنى المشتق مركّب من الذات والمبدء وإن مادّته موضوعة للمبدء وهيئة موضوعة للذات المتلبّسة به مثلاً لفظ ضارب موضوع بمادّته وهيئته لذات زيد والضرب الذي تلبّس به وقد حقّق المحقّق الشريف بأن معناه بسيط منتزع عن الذات باعتبار تلبّسها بالمبدء واتّصافها به يعني ان معناه ليس إلّا المبدء منفرداً لا منضماً إلى الذات واستدلّ عليه بأن دخل الذات في مفهوم المشتق مستلزم لأحد محذورين على أيّ تقديرين لا ثالث لهما لأنّه إمّا أن يكون الذات بعنوان من عناوينها العامّة مثل الشيئيّة مثلاً داخلاً في مفهومه فيلزم دخول

ص: 139

............................................

_____________________________

العرض في الذاتي مثلاً إذا كان مفهوم الناطق الشي ء الذي له النطق يلزم أن لا يكون الناطق فصلاً للانسان ومن ذاتياته الداخلة في الذات فقط لأنّ الشيئيّة من الأعراض العامّة للانسان مع انّ المنطقيين جعلوا الناطق فصلاً للانسان ومن ذاتياته صرفاً، وإن كان الذات بعنوانها الخاص مثل الانسانيّة مثلاً داخلاً في مفهوم يلزم انقلاب الممكنة مثل قولنا الانسان ضاحك إلى الضروريّة لأنّه حينئذٍ يصير في معنى الانسان انسان ضاحك وثبوت الشي ء لنفسه ضروري ولو قال بأنّه على الثاني يلزم انقلاب القضيّة الصحيحة إلى قضيتين احديهما فاسدة اذ يعتبر في صحّة الحمل تغاير الموضوع والمحمول ولو اعتباراً لكان له وجه.

وأجاب الشارح الكاظميني بما هو تحقيق عنده حيث قال: والتحقيق في جواب الشريف أن يقال أولا انّه على تقدير كون المشتق مركباً لا بسيطاً لا نسلم ان معناه شي ء له المبدء لعدم اطراد تحليله إلى ذلك في جميع الموارد وإنّما معناه ذوالمبدء إلى أن قال ألا ترى انّ قولهم الانسان حيوان ناطق لا يصح أن نقول مكانه الانسان حيوان شي ء له النطق لأنّ الناطق صفة للحيوان وليست خبراً بعد خبر وأمّا على ما ذكرنا فالمعنى الانسان حيوان ذو نطق ومن المعلوم انّ ذواشارة إلى الحيوان الذي هو الجنس ولا معنى لهما سواه فلم يلزم دخول الشي ء الذي هو عرض عام في الفصل(1).

أقول: كأنّه لم يتحقّق مراد الشريف فانّ المقصود ممّا ذكره من التالي الفاسد

ص: 140


1- الهداية في شرح الكفاية: 106.

............................................

_____________________________

دخول ما ليس بفصل للانسان مثلاً في فصله وذلك الغير تارة يكون عرضاً عاماً إن كان المأخوذ في مفهومه مفهوم الشي ء وعرف المعرف بالحدّ الناقص مثل الانسان ناطق وأخرى يكون جنساً للمعرّف إن عرف بالحدّ التام وذكره للعرض العام ومفهوم الشي ء من باب المثال وإنّما مثّل به بخصوصه لأن فساده أعظم من فساد أخذ الجنس في الفصل لأنّه من دخول الذاتي في العرضي وليس مقصوده حصر الفساد فيما ذكره كما فهمه الشارح واستشكل عليه بما هو غير وارد.

والحاصل انّه لا فرق فيما يورد على القائل بالتركيب بين أن يفسّر المشتق بشي ء له المبدء أو ذوالمبدء فكما انّه على التقدير الأوّل يلزم اما دخول غير الفصل في الفصل واما انقلاب الممكنة إلى الضروريّة فكذلك على الثاني فانّه إن عرف الذات بالحدّ التام كقولنا الانسان حيوان ناطق يدخل الجنس في الفصل لأن ذواشارة إلى الحيوان وإن عرف بالحدّ الناقص كقولنا الانسان ناطق يلزم الانقلاب لأن ذوالمأخوذ في معنى الناطق اشارة إلى الانسان، ثمّ قال في ردّ الشريف وثانياً لو سلّمنا تفسير المشتق بشي ء له المبدء لا ذوالمبدء نقول انّ المنطقيين لم يجعلوا الأجناس والفصول مفاهيم الألفاظ بما هي كذلك، كلا بل إنّما نظرهم إلى حاق الحقايق الواقعيّة لكن لما كان التعبير عن تلك المعاني منحصراً بهذه الألفاظ عبّروا بها قاصدين بها الكشف عن تلك المعاني الواقعيّة فلا يضرّ في ذلك كون مفهومها الوضعي أوسع دائرة من المراد مع القرينة العقليّة الدالّة عليه.

ص: 141

............................................

_____________________________

أقول: هذا مناف لما سيجي ء منه في ردّ المصنّف من انّ المنطقيّين قد رتّبوا على مثل الناطق جميع اثار الذاتيات حتّى جعلوا التعريف به حَدّاً وبالخاصّة رسماً فكما ان ترتيب تلك الاثار على ما جعلوه فصلاً وجنساً يدلّ على كونه جنساً وفصلاً حقيقيّاً لا اللوازم الخارجيّة للماهيّة عنده فكذلك يدلّ على انّه بتمام معناه يكون جنساً وفصلاً بلا فرق، إلى هنا شرح ما أفاده الشارح في ردّ الشريف وما فيه من الاشكال والاشتباه.

وأمّا صاحب الفصول فقد رفعه بأن كون الناطق مثلاً فصلاً مبني على عرف المنطقيّين حيث اعتبروه مجرّداً عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك(1) وأجاب عنه المصنّف بانا نقطع ان مثل الناطق مثلاً قد اعتبر فصلاً بلا تصرّف في معناه أصلاً.

وأمّا المصنّف فقد أجاب عن الشريف بما ذكره من التحقيق والحق انّه بالتصديق حقيق من ان ما هو الفصل والجنس في اصطلاح المنطقيّين ليس فصلاً ولا جنساً حقيقيّاً بل لازم ما هو الفصل والجنس بل لا يكاد يعلم الفصل والجنس الحقيقي لأنّه لا يعلم حقائق الأشياء إلّا خالقها ويدلّ على ما ذكر انّه قد لا يعيّن في اصطلاحهم فصل للماهيّة بل يجعل لازِمانِ مكانه كالحساس والمتحرّك بالارادة للحيوان المعلوم انّهما لا زمان خارجان عن ماهيته ولم يعهد في لسانهم ما يكون فصلاً يعني مميّزاً ذاتيّاً له فيعلم ان ما ذكروه فصلاً للماهيّات الاخر لا يكون فصلاً

ص: 142


1- الفصول الغرويّة في الاُصول الفقهيّة: 61.

في بعض حواشيه -: بسيط منتزع عن الذات - باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به - غير مركب.

وقد أفاد في وجه ذلك: أن مفهوم الشي ء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا، وإلا لكان العرض العام داخلا في الفصل، ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشي ء، انقلبت مادة الامكان الخاص ضرورة، فإن الشي ء الذي له الضحك هو الانسان، وثبوت الشي ء لنفسه ضروري.

_____________________________

حقيقيّاً عندهم أيضاً بل لازم ما هو الفصل في الواقع ويؤيّده انّ المنطقيّين لم يذكروا الاجناس والفصول للماهيّات إلّا في مقام التمثيل وانّهم ليسوا بصدد بيان ذاتيّات الماهيّات وإنّما محل ذلك فن الحكمة فاذن لا يبعد أن يكون مرادهم من الأمثلة التي ذكروها للجنس والفصل ما يكون جنساً وفصلاً من باب المسامحة لا التحقيق ولا يرد عليه ما أورده الشارح هنا وأشرنا إليه من انّ المنطقيّين قد رتّبوا على مثل الناطق مثلاً جميع آثار الذاتيّات حتّى جعلوا التعريف به حداً وبالخاصّة مثل الضاحك رسماً ولو كان كما أفاد المصنّف لكان كلّ تعريف رسماً وهو خلاف ما صرّحوا به لأنّه يجاب بأنّ المنطقيّين أقاموا الأمثلة المذكورة في كتبهم مقام الذاتيّات ولذا رتّبوا عليه آثار الذاتيّات وذلك غير مناف لدخول ما لادخل له بالفصل في الفصل وإنّما منافاته فيما إذا كانت تلك الأمثلة أجناساً وفصولاً حقيقيّة فالانصاف ان ما أفاده المصنّف في ردّ الشريف من المتانة بمكان لا مزيد عليه في هذا الميدان.

ص: 143

هذا ملخص ما أفاده الشريف، على مالخصه بعض الاعاظم.

وقد أورد عليه في الفصول، بأنه يمكن أن يختار الشق الاول، ويدفع الاشكال بأن كون الناطق - مثلا - فصلا، مبني على عرف المنطقيين، حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات، وذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك.

وفيه: إنه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا، بل بماله من المعنى، كما لا يخفى.

والتحقيق أن يقال إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه، وإنما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه، بل لا يكاد يعلم، كما حقق في محله، ولذا ربما يجعل لازمان مكانه إذا كانا متساوي النسبة إليه، كالحساس والمتحرك بالارادة في الحيوان، وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشي ء في مثل الناطق، فإنه وإن كان عرضا عام، لا فصلا مقوما للانسان، إلا أنه بعد تقييده بالنطق واتصافه به كان من أظهر خواصه.

وبالجملة لا يلزم من أخذ مفهوم الشي ء في معنى المشتق، إلا دخول العرض في الخاصة التي هي من العرضي، لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي، فتدبر جيدا.

ثم قال: إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا، ويجاب[1] بأن المحمول

_____________________________

[1] أقول: شرح الجواب بناء على اختيار الوجه الثاني هو انّه بعد ما كان المحمول الذي ثبوته للموضوع ضروري مقيّداً بالوصف الذي ثبوته للمحمول بالامكان كالضحك مثلاً وكان حمله على الموضوع بضميمة ذلك القيد كيف ينقلب

ص: 144

............................................

_____________________________

الممكنة إلى الضروريّة مع انّ النتيجة تتّبع أخس المقدّمات وإنّما تحصل الانقلاب إذا لم يكن المحمول مقيّداً بوصف غير ضروري واستشكل عليه المصنّف بأن جواز عدم كون القيد ضروريّاً وكونه مثل الضحك مثلاً للانسان لا يضرّ بدعوى الانقلاب إذ لو كان المحمول ذات المقيّد والقيد خارجاً عنه ولو كان التقييد بما هو معنى حرفي وغير مستقل داخلاً فالقضيّة تكون ضروريّة البتّة لأنّ المفروض ان ثبوت المحمول مجرّداً عن القيد ضروري لأنّه من ثبوت الشي ء لنفسه وهو ضروري، وإن كان القيد داخلاً في الموضوع وكان المقيّد بما هو مقيّد محمولاً فقضية الانسان ضاحك مثلاً ينحل حينئذٍ إلى قضيّتين يكون المحمول في أحدهما المقيّد وفي أخرى القيد مثلاً قولنا الانسان ناطق ينحل إلى قولنا الانسان انسان وقولنا الانسان له النطق وهي ممكنة ويدلّ عليه عند المصنّف انّ الأوصاف قبل العلم بها اخبار كما انّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف إلى هنا شرح ما أفاده في المتن.

ويرد على ظاهر عبارته أوّلاً بأنّ الفرق بين الحملين بالبيان الذي ذكره ولزوم الانقلاب على الوجه الأوّل وانحلال القضيّة إلى قضيّتين احديهما ممكنة على الوجه الثاني غير صحيح لأنّ التعبير عن الوجه الثاني بحمل المقيّد بما هو مقيّد ليس إلّا عبارة أخرى عن كون القيد خارجاً والتقييد داخلاً فيتّحد مع الوجه الأوّل فلابدّ أن يكون مراده من التعبير المذكور بقرينة المقابلة حمل كلّ واحد من المقيّد والقيد على الموضوع مستقلاً ليحصل الفرق بين الحملين وينحل القضيّة على الوجه الثاني إلى قضيّتين.

ص: 145

ليس مصداق الشي ء والذات مطلقا، بل مقيدا بالوصف، وليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا، انتهى.

ويمكن أن يقال: إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب، فإن المحمول إن كان ذات المقيد وكان القيد خارجا، وإن كان التقييد (التقيد) داخلا بما هو معنى حرفي، فالقضية لا محالة تكون ضرورية، ضرورة ضرورية ثبوت الانسان الذي يكون مقيدا بالنطق للانسان وان كان المقيد به بما هو مقيد على أن يكون القيد داخلا، فقضية (الانسان ناطق) تنحل في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما

_____________________________

وفيه ان من المعلوم ان ليس مراد القائل بجملة الانسان ناطق حمل محمولين مستقلّاً على الموضوع أبداً بل يجوز أن يكون مراده حمل مجموع الذات المأخوذ في مفهوم المشتق والصفة على الموضوع والاستدلال على تعدّد الحمل بأنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار غير تمام، اذ خبريّة الوصف قبل العلم به يتوقّف على ان يقصد المتكلّم الخبريّة به مستقلاً، ومجرد عدم العلم به غير كاف في الخبريّة الاستقلاليّة بعد عدم قصد المتكلّم، والحاصل انّ الجملة المذكورة مع فرض أخذ الذات في مفهوم المشتق ليس إلّا كقولنا الرمان حلو حامض واخرى بأنّ التمثيل بقولنا الانسان ناطق لا وجه له بعد كون الكلام في القضيّة التي ثبوت الوصف فيه للموضوع بالامكان، وإنّما مثال ذلك الانسان ضاحك إلّا أن يقال انّ التمثيل به مبني على مبناه من كون الفصول المنطقي كلّها أعراضاً خاصّة سمّيت بالفصل عندهم وليست فصولاً حقيقيّة.

ص: 146

قضية (الانسان إنسان) وهي ضرورية، والاخرى قضية (الانسان له النطق) وهي ممكنة، وذلك لان الاوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الاخبار بعد العلم تكون أوصافا، فعقد الحمل ينحل إلى القضية، كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ، وقضية ممكنة عند الفارابي، فتأمل.

لكنه قدس سره تنظر فيما أفاده بقوله: وفيه نظر[1] لان الذات الماخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا، إن كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة وإلا صدق السلب بالضرورة، مثلا: لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد

_____________________________

[1] أقول: يعني تنظر صاحب الفصول فيما أفاده بقوله ويمكن أن يختار الوجه الثاني ويجاب بأنّ المحمول ليس مصداق الشي ء مطلقاً(1) الخ واستشكل على نفسه فيما أفاد في بيان عدم لزوم الانقلاب من جهة تقييد المحمول بالوصف الامكاني بأنّه إن كانت مقيّدة به واقعاً صدق الايجاب بالضرورة والا صدق السلب بالضرورة وأجاب عنه المصنّف بأن فرض الثبوت واقعاً أو السلب كذلك لا يصحّح دعوى الانقلاب وإلّا فيصدق الضرورة ايجاباً أو سلباً بشرط المحمول في كلّ قضيّة ولو كانت ممكنة والمناط في الجهات ومواد القضايا نسبة نفس المحمول إلى الموضوع مع قطع النظر عن ثبوته واقعاً أو سلبه كذلك وإلّا كان الجهة في كلّ قضيّة ضرورة وكانت جهة القضايا ومادّتها منحصرة بها وحاصل الجواب انّ المدعى انقلاب الممكنة إلى الضروريّة في القضيّة التي يكون جهتها واقعاً وفي نفسه غير الامكان وما ذكره لا يلازم ذلك.

ص: 147


1- الفصول الغرويّة في الاُصول الفقهيّة: 61.

الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة. انتهى.

ولا يذهب عليك أن صدق الايجاب بالضرورة، بشرط كونه مقيدا به واقعا لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية، ضرورة صدق الايجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية ولو كانت ممكنة، كما لا يكاد يضر بها صدق السلب كذلك، بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا، لضرورة السلب بهذا الشرط، وذلك لوضوح أن المناط في الجهات ومواد القضايا، إنما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجهة بأي جهة منها، ومع أية منها في نفسها صادقة، لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له كذلك، وإلا كانت الجهة منحصرة بالضرورة، ضرورة صيرورة الايجاب أو السلب - بلحاظ الثبوت وعدمه - واقعا ضروريا، ويكون من باب الضرورة بشرط المحمول.

وبالجملة: الدعوى هو انقلاب مادة الامكان بالضرورة، فيما ليست مادته واقعا في نفسه وبلا شرط غير الامكان.

وقد انقدح بذلك[1] عدم نهوض ما أفاده رحمه الله بإبطال الوجه الاول، كما

_____________________________

[1] أقول: يعني قد ظهر بما بينّا في ردّ الفصول عدم نهوض ما أفاده لتصحصح انقلاب الامكان إلى الضرورة بابطال الوجه الأوّل من الوجهين الذين أفادهما الشريف وهو أخذ مفهوم الشي ء في مفهوم المشتق وعدم احتياج التمسّك في ابطاله بلزوم دخول العرضي في الذاتي كما زعمه صاحب الفصول ببيان انّ دخول مفهوم الشي ء في مفهوم المشتق يوجب انقلاب الممكنة إلى الضروريّة لأن صدق المفهوم على المصداق ضروري فان ثبوت مفهوم الشيئيّة للموضوع وهو الانسان

ص: 148

زعمه قدس سره، فإن لحوق مفهوم الشي ء والذات لمصاديقهما، إنما يكون ضروريا مع إطلاقهما، لا مطلقا، ولو مع التقيد إلا بشرط تقيد المصاديق به أيضا، وقد عرفت حال الشرط، فافهم.

ثم إنه لو جعل التالي في الشرطية الثانية[1] لزوم أخذ النوع في الفصل،

_____________________________

مثلاً ضروري، وجه عدم النهوض انّ ثبوت المفهوم للمصداق ضروري إذا لم يكن مقيّداً بقيد غير ضروري كالضحك للانسان مثلاً، نعم ان شرط في الحمل تقييد المصاديق بالقيد الغير الضروري وفرض ثبوت ذلك القيد لها واقعاً ينقلب القضيّة الممكنة ضروريّة وقد عرفت انّ الالتزام بهذا الشرط خروج عمّا هو المقصود من انقلاب الامكان بالضرورة فيما ليست مادّته واقعاً وبلا شرط غير الامكان.

[1] يعني انّه لو جعل الشريف التالي الفاسد اللازم من أخذ مصداق الشي ء في مفهوم المشتق في الشرطيّة الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل كالانسان الذي هو مصداق الشي ء الذي له النطق كان اليق وأنسب بالشرطيّة الأولى التي تاليها لزوم أخذ العرضي في الفصل الذي هو الذاتي بل كان أولى لفساد ذلك اللازم مطلقاً يعني ولو بناء على التحقيق الذي ذكرنا من انّ الفصول الصناعيّة ليست فصولاً حقيقيّة بل لوازم وخواص للماهيّة، ضرورة بطلان أخذ الشي ء في لازمه وخاصّته.

وأورد عليه الشيخ المحقّق العراقي دام بقاه بأن مصداق الشي ء الواجد للوصف الزائد عنه ليست عبارة عن النوع فلو يدلّ النوع بالجنس لكان أولى مثلاً في قولنا الانسان ناطق مصداق الشي ء الذي له النطق هو الحيوان الذي هو الجنس للانسان(1).

ص: 149


1- نهاية الأفكار: 1/150.

ضرورة أن مصداق الشي ء الذي له النطق هو الانسان، كان أليق بالشرطية الاولى، بل كان أولى لفساده مطلقا، ولو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي، ضرورة بطلان أخذ الشي ء في لازمه وخاصته، فتأمل جيدا.

ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة،[1] بضرورة عدم تكرار الموصوف

_____________________________

وفيه انّه إنّما يصحّ التعبير بالجنس لو فرض القيد خارجاً عن المحمول والتقييد داخلاً فيه فقط، أمّا لو كان القيد داخلاً فيه كالتقييد فيعين التعبير بالنوع لأن مصداق الشي ء الذي له النطق هو الحيوان في المثال وأمّا الانسان فعين ما له النطق ومرادفه لا مصداقه فالاشكال من الشيخ المشار إليه على المصنّف بقول مطلق لا وجه له لأنّ الشي ء المجرّد عن القيد كما يصدق على الجنس قريباً كان أو بعيداً كذلك يصدق على النوع الواقع تحته والمقصود من المصداق في المقام ما يكون أخص المصاديق وليس هو الامثل الانسان في قولنا الانسان ناطق مثلاً الذي يكون نوعاً لا جنساً، والظاهر ممّا أفاده الشريف من استلزام أخذ مصداق الشي ء في مفهوم المشتق لانقلاب الممكنة إلى الضروريّة لأن ثبوت الشي ء لنفسه ضروري هو كون القيد داخلاً في المحمول كالتقييد ولذا قال في بيان المثال انّ الشي ء الذي له الضحك هو الانسان وثبوت الشي ء لنفسه ضروريٌّ.

[1] أقول: إن كان مراده من التكرّر، التكرّر الصريح وتعدّد الموصوف بحسب صناعة اللفظ فعدمه مسلم ولكنه لا ينفع فيما هو المقصود فان أخذ مفهوم الشي ء أو مصداقه في مفهوم المشتق غير التصريح به في عالم اللفظ وصناعته، وإن أريد التكرّر في المعنى والتكرّر الحكمي فانكاره أوّل الكلام وليست في المقام ضرورة

ص: 150

في مثل زيد الكاتب، ولزومه من التركب، وأخذ الشي ء مصداقا أو مفهوما في مفهومه.

إرشاد: لا يخفى أن معنى البساطة[1] - بحسب المفهوم - وحدته إدراكا

_____________________________

تنفيه أصلاً إلّا ان يشرح الاستدلال ببيان انّ التكرر المعنوي منتف بحسب ارتكاز الذهن فان ما ينسبق إلى الأذهان من معنى زيد الكاتب إنّما هو توصيف الموصوف الغير المكرّر بوصف ولو كان في معنى المشتق أمر زائد على الصفة سواء كان عين الموصوف أو غيره من عناوينه لا نسبق إلى الاذهان البتّة، وفيه ان صحّة ادّعاء هذا الارتكاز محل التأمل فضلاً عن كونه واضحاً وبالغاً حدّ الضرورة كما لا يخفى.

[1] أقول: حاصل مراده أنّ المقصود من البساطة المدّعاة في مهفوم المشتق ليست بساطة حقيقيّة بحيث لا يقبل التركّب أصلاً ولو بالتعمل العقلي وإلّا فمثل تلك البساطة غير حاصلة في مفهوم الجوامد التي اتّفق الكل على بساطة مفاهيمها كالشجر والحجر مثلاً بل المراد البساطة في مقام التصوّر والادراك الذهني بمعنى انّ الذهن لا يدرك غير ادراك معنى المشتق إلّا أمراً واحداً وشيئاً فارداً وان كان التركّب بالتعمّل العقلي وتحليله إلى الذات والمبدء حاصلاً فيه أيضاً كما انّ الأمر في مفهوم الشجر والحجر مثلاً حيث لم يؤخذ في مفهومهما قيد الانقطاع عن الذات أيضاً كذلك.

أقول: هذا البيان من المصنّف مقدّمة لبيان الأمر الثاني من الأمور المذكورة في الكتاب وهو انّ الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوماً انّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل

ص: 151

وتصورا، بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شي ء واحد لا شيئان، وإن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين، كانحلال مفهوم الحجر والشجر إلى شي ء له الحجرية أو الشجرية، مع وضوح بساطة مفهومهما.

وبالجملة: لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية - بالتعمل العقلي - وحدة المعنى وبساطة المفهوم كما لا يخفى، وإلى ذلك يرجع الاجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا، فالعقل بالتعمل يحلل النوع، ويفصله إلى جنس وفصل، بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا، وشيئا فاردا تصورا، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق.

_____________________________

على ما تلبّس بالمبدء بخلاف المبدء فانّه بمعناه يأبى عن ذلك بل اذا قيس ونسب إليه كان غيره لا هو هو، قال وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من انّ المشتق يكون لا بشرط والمبدء يكون بشرط لا أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل ومفهوم المبدء يكون آبيا عنه والوجه فيهما هو انّ معنى المشتق ينحل إلى الذات الموصوفة بالمبدء وإن كان في مقام التصوّر الأولى أمراً واحداً وشيئاً فارداً بخلاف المبدء فان قيد الانقطاع عن الذات مأخوذ في مفهومه فالبساطة في معناه ثابتة حقيقة وتصوراً معاً ولكن صاحب الفصول لما توهّم ان مراد أهل المعقول من الفرق بين المعنيين بالعنوانين إنّما هو الفرق الاعتباري مع اتّحادهما ذاتاً وحقيقة أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك لأجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات وان اعتبر اللابشرط ولم يتفطّن ان مرادهم اثبات الفرق بينهما حقيقة وانّ المقصود من قيد اللابشرط جواز التركّب الذي ملازم لصحّة الحمل وبشرط لا البساطة الحقيقيّة التي تمنع عن الحمل مطلقاً.

ص: 152

الثاني: الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما، أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ، ولا يعصي عن الجري عليه، لما هما عليه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ، فإنه بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره، لا هو هو، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد والهوهوية، وإلى هذايرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما، من أن المشتق يكون لا بشرط والمبدأ يكون بشرط لا، أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه، وصاحب الفصول رحمه الله - حيث توهم أن مرادهم إنما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين، بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد - أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك، لاجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات، وإن اعتبرا لا بشرط، وغفل عن أن المراد ما ذكرنا، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس والفصل، وبين المادة والصورة، فراجع.[1]

_____________________________

[1] أقول: يعني كما ان أهل المعقول جعلوا الفرق بين الجنس الذي هو الجزء الذهني للشي ء والمادّة التي هي الجزء الخارجي وبين الفصل الذي هو الجزء الذهني والصورة التي هو الجزء الخارجي بالاعتبارين المذكورين وهما اللابشرطيّة وبشرط اللائيّة ومن المعلوم ان ليس مقصودهم ان الفرق بينهما بصرف الاعتبار مع اتّحادهما عيناً وذاتاً بل مرادهم من اعتبار اللابشرطيّة في الجنس أو الفصل عدم أخذ اعتبار الانقطاع عن الجزء الآخر في حقيقة الجنس والفصل وجواز انضمامه معه فيتّحد مع المركّب خارجاً ويقبل الحمل عليه ومن اعتبار بشرط اللائية اعتبار قيد انقطاع الجزء عن الجزء الآخر وعدم انضمامه معه

ص: 153

الثالث: ملاك الحمل[1] - كما أشرنا إليه - هو الهوهوية والاتحاد من وجه،

_____________________________

فيتباين مع المركب ولا يقبل الحمل عليه ومعلوم ان اعتبار القيدين في الجزئين يوجب التغاير الحقيقي بينهما فكذلك الحال في الفرق بين المشتق والمبدء وبعبارة أخرى تغاير الأجزاء الذهنيّة والخارجيّة حقيقة أوضح من أن يخفى مع انّهم عبّروا عن التغاير بينهما بالاعتبار المذكورين، فكما انّ تعبيرهم بالتغاير بينهما اعتباراً لا يدلّ على كون التغاير بينهما بصرف الاعتبار المختلف بتصرّف المعتبر بل مرادهم ان الأجزاء الذهنيّة بذاتها وحقيقتها غير آبية عن الحمل لعدم اعتبار قيد الانقطاع عن سائر الأجزاء في حقيقتها فكذلك الحال في المشتق والمبدء فان الأوّل بمفهومه لا يأبي عن الحمل والثاني بمفهومه يكون آبياً عنه، والحاصل ان ما أورده صاحب الفصول من عدم استقامة الفرق بين المشتق والمبدء بالاعتبار المذكور لأجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات وان اعتبر اللابشرط غير وارد لأنّه ليس مرادهم بيان التفرقة بصرف الاعتبار بلحاظ العوارض الخارجيّة مع حفظ مفهوم واحد كما لا يخفى.

[1] أقول: هذا رد على صاحب الفصول حيث اعتبر في صحّة الحمل ملاحظة التركيب بين المتغايرين واعتبار انضمامهما وكونهما شيئاً واحداً فذهب المصنّف إلى عدم الاعتبار وانّه يكفي في صحّة الحمل الاتّحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر ولو بالاعتبار ولا تتوقّف على ملاحظة التركيب بل يكون لحاظ التركيب والانضمام بين المتغايرين مخلاً بصحّة الحمل لاستلزام المغايرة بين المجموع والجزء بالكليّة والجزئيّة ومعلوم انّ حمل الجزء على الكل غير جائز بوجه مع

ص: 154

.............................................

_____________________________

وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات كقولنا الانسان حيوان ناطق لأنّها تصدر ممّن يكون بصدد تحليل الأجزاء وتفكيك البعض عن البعض الآخر فكيف يعتبر فيها عنوان اجتماع وانضمام وكذلك في سائر القضايا فانه لا يعتبر في موضوعاتها حيثيّة اجتماع وانضمام أصلاً بل لا يلاحظ الا نفس معانيها كما في طرف المحمولات.

وفيه ان مقصود صاحب الفصول بيان ما يجوز بسببه حمل أحد المتغايرين الذين لا يكون جهة اتّحاد بينهما في الخارج على الآخر وعلى المجموع منه ومن الآخر لا مطلقاً ولو كان بينهما نحو اتّحاد ليرد عليه كفاية نحو من الاتّحاد ولو اعتباراً وعدم الحاجة إلى ملاحظة التركيب فانّ الموجودات المتباينة في الخارج لا يصحّ حمل واحد منها على الآخر ولا على المجموع منه ومن الآخر الا بهذا لاعتبار كما يظهر من تمثيله بالانسان والنفس والبدن الذين مفادهما الجزء المعتبر بشرط لا والجسم والناطق الذين مفادهما الجزء المعتبر لا بشرط للانسان فان صحّة حمل الجسم والناطق على الانسان باعتبار أمور ثلاثة أخذ المجموع من حيث المجموع المعبّر عنه بالانسان وأخذ الأجزاء لا بشرط واعتبار الحمل بالنسبة إلى المجموع من حيث المجموع، ولا يرد عليه ما أورده المصنّف من استلزام ما ذكره للمغايرة بالكليّة والجزئيّة لأنّ الجزء اذا فرض بشرط لا يباين الكل ولا يجوز حمله عليه واذا فرض بشرط شي ء يصير عين الكل ولا يصح حمله عليه أيضاً لاعتبار المغايرة من وجه في صحّة الحمل وأمّا إذا فرض

ص: 155

والمغايرة من وجه آخر، كما يكون بين المشتقات والذوات، ولا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين المتغايرين، واعتبار كون مجموعهما - بما هو كذلك - واحدا، بل يكون لحاظ ذلك مخلا، لاستلزامه المغايرة بالجزئية والكلية.

ومن الواضح أن ملاك الحمل لحاظ نحو اتحاد بين الموضوع والمحمول، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات، بل لا يلحظ في طرفها إلا نفس معانيها، كما هو الحال في طرف المحمولات، ولا يكون حملها عليها إلا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد، مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار. فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول تحقيقا للمقام.

وفي كلامه موارد للنظر، تظهر بالتأمل وإمعان النظر.

الرابع: لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما، وإن اتحدا عينا وخارجا، فصدق الصفات - مثل: العالم، والقادر، والرحيم، والكريم،

_____________________________

لا بشرط يكون متّحداً مع الكلّ من وجه ومغايراً من وجه آخر فيصح الحمل، نعم يرد عليه انّه لا يكفي الاعتبار المذكور في صحّة حمل هو هو الذي مفاده الاتّحاد الخارجي اذ لازمه كون ظرف الحمل ذهناً لا خارجاً نظراً إلى تبعية ظرف الحمل لظرف الاتّحاد فبعد ما يكون اتّحاده اعتباريّاً لا ظرف له إلّا الذهن وبعبارة أخرى الوحدة الاعتباريّة التي لا ظرف لها إلّا الذهن لا تؤثّر في صحّة حمل أحد المتغايرين في الوجود الخارجي على الآخر أو المجموع منه ومن الآخر بحمل هو هو الذي مفاده الاتّحاد الخارجي.

ص: 156

إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال - عليه تعالى، على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته، يكون على الحقيقة، فإن المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجا، إلا أنه غير ذاته تعالى مفهوما.

ومنه قد انقدح ما في الفصول، من الالتزام بالنقل أو التجوز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى، بناء على الحق من العينية، لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق، وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما، ولا اتفاق على اعتبار غيرها، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره، كمالا يخفى، وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلك بين الذات ومبادئ الصفات.

الخامس: إنه وقع الخلاف[1] بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة - كما عرفت -

_____________________________

[1] أقول: هذا رد على من زعم انّه لا يعتبر في صدق المشتق على الذات قيام المبدء به لعدم الالتفات إلى اختلاف أنحاء القيام واعتقاد انحصاره في بعض أقسامه الخاصّة واستدلّ عليه بأنّه يصدق الضارب والمولم على فاعليهما مع قيام الضرب والالم بالمضروب والمولم ولا قيام لهما بمن صدر منه الضرب والتأليم، ويردّه انّه له أقساماً عديدة يجمعها عنوان التعلّق والتلبّس الذي يشمل كون المبدء عين الذات كما في صفات الباري تعالى أو فيها أو بها أو عنها أو لها أو معها كمصحوب مثلاً بل اتم أنحائه هو الأوّل ولذا حقّق المصنّف من انّه لا وجه لما التزم في الفصول من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عمّا هي عليها من المعنى وانّها لو كانت بغير معانيها العامّة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظاً بلا معنى لأن غير ما يفهم من المعاني العامّة ليس إلّا ما يقابلها مثلاً غير معنى العلم

ص: 157

بين المبدأ وما يجري عليه المشتق، في اعتبار قيام المبدأ به، في صدقه على نحو الحقيقة، وقد استدل من قال بعدم الاعتبار، بصدق الضارب والمؤلم، مع قيام الضرب والالم بالمضروب والمؤلم - بالفتح - .

والتحقيق: إنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولى الالباب، في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة، واختلاف الهيئات أخرى، من القيام صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه، أو انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا، كما في صفاته تعالى، على ما أشرنا إليه آنفا، أو مع عدم تحقق إلا للمنتزع عنه، كما في الاضافات والاعتبارات التي لا تحقق لها، ولا يكون بحذائها في الخارج شي ء، وتكون من الخارج المحمول، لا المحمول بالضميمة، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما، وقائما به عينا، لكنه بنحو من القيام، لا بأن يكون هناك اثنينية، وكان ما بحذائه غير الذات، بل

_____________________________

الذي معناه حضور صورة الشي ء لدى الشخص ما يقابل الحضور الذي هو عدم الحضور المعبّر عنه بالجهل فان اطلق لفظ العالم على الباري تعالى إمّا أن يراد منه انكشاف الشي ء لديه وهو المعنى العام الذي يطلق على غيره بذلك المعنى وإمّا أن يراد منه غير ذلك المعنى الغير الذي يعنون بعنوان ما يقابله وهو عدم الانكشاف ويصير المعنى حينئذٍ انّه مصداق لما يقابل ذلك المعنى المعبّر عنه بالجهل تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً وإمّا أن لا يراد شي ء منهما فيلزم أن يكون صرف لقلقة اللسان ولفظاً بلا معنى.

ص: 158

بنحو الاتحاد والعينية، وكان ما بحذائه عين الذات، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الامور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة، إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة، ولو بتأمل وتعمل من العقل.

والعرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها.

وبالجملة: يكون مثل العالم، والعادل، وغيرهما - من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره - جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد، وإن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد، وكيفية التلبس بالمبدأ، حيث أنه بنحو العينية فيه تعالى، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره، فلا وجه لما التزم به في الفصول، من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى، كما لا يخفى، كيف؟ ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلا بما يقابلها، ففي مثل ما إذا قلنا: إنه تعالى عالم، إما أن نعني أنه من ينكشف لديه الشي ء فهو ذاك المعنى العام، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك المعنى، فتعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا، وإما أن لا نعني شيئا، فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة، وكونها بلا معنى، كما لا يخفى.

والعجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره، وهو كما ترى، وبالتأمل فيما ذكرنا، ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين والمحاكمة بين الطرفين، فتأمل.

السادس: الظاهر[1] أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة،

_____________________________

[1] أقول: مراده بيان عدم الملازمة بين مجازيّة اسناد المشتق إلى ما اسند إليه

ص: 159

التلبس بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض، كما في الماء الجاري، بل يكفي التلبس به ولو مجازا ومع هذه الواسطة، كما في الميزاب الجاري، فاسناد الجريان إلى الميزاب، وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز، إلا أنه في الاسناد، لا في الكلمة، فالمشتق في مثل المثال، بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي، وإن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالاسناد المجازي، ولا منافاة بينهما أصلا، كما لا يخفى، ولكن ظاهر الفصول بل صريحه، اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق

_____________________________

ونفس المشتق المستعمل في معناه فان اسناد الجريان إلى الميزاب الجاري وإن كان اسناداً مجازياً لكنّه لا يلازم مجازيّة لفظ الجاري لأنّه مستعمل في معناه الحقيقي بمادّته وهيئته.

أقول: كان هذا البحث مع صاحب الفصول بحثاً لفظيّاً فان ما أفاده من استلزام مجازية الاسناد لمجازيّة كلمة المشتق ناظر إلى أنّ التجوّز في معنى الاسناد والنسبة إلى الفاعل المأخوذة في مدلول المشتق كالفعل مستلزم للتجوّز في المشتق وهذا سديد لا غبار عليه وما أفاده المصنّف ناظر إلى انّ التجوّز في المعنى النسبي لا يلازم التجوّز في معنى مادة المشتق وهيئته، والكلمة في الاصطلاح ليس إلّا عبارة عن مادّتها وهيئتها فقط والمعنى النسبي إنّما يحدث في الكلمة المستعملة لا فيها ولو مجرّداً عن الاستعمال فمقصود المصنّف من المشتق هو بنفسه مع قطع النظر عن استعماله ومقصود صاحب الفصول منه المشتق المستعمل الذي يحدث فيه المعنى النسبي فلا منافاة بين الافادتين ويرتفع الخلاف بما ذكرنا من البين.

ص: 160

حقيقة، وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الاسناد والمجاز في الكلمة، وهذا - هاهنا - محل الكلام بين الاعلام، والحمد للَّه، وهو خير ختام.

المقصد الاول: في الاوامر، وفيه فصول: الفصل الاول: فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات

وهي عديدة: الاولى: إنه قد ذكر للفظ الامر معان متعددة، منها الطلب، كما يقال، أمره بكذا.

المقصد الاول: فى الاوامر

الفصل الاول: فى مايتعلق بمادّة الأمر من الجهات

ومنها الشأن، كما يقال: شغله أمر كذا.

ومنها الفعل، كما في قوله تعالى: «وما أمر فرعون برشيد».

ومنها الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: «فلما جاء أمرنا».

ومنها الشي ء، كما تقول: رأيت اليوم أمرا عجيبا.

ومنها الحادثة، ومنها الغرض، كما تقول: جاء زيد لامر كذا.

ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم،[1] ضرورة

_____________________________

[1] أقول: الموجب لتوهّم كون المراد في الموارد المذكورة مصاديق المفاهيم لا نفسها يوجبه أيضاً فيما إذا كان المستعمل نفس تلك الألفاظ كلفظ الشان والفعل والفعل العجيب فانّ الموهم ليس إلّا القيود المقارنة الموجبة لتقييد المطلق من المفهوم مثلاً لفظ الشأن بقولٍ مطلق يراد منه المفهوم العام الذي ينطبق على كلّ فرد فرد فاذا اضيف إلى قيد التجارة أو النجارة أو الصياغة مثلاً يراد منه خصوص ذلك الصنف منه وكلّما زيد في القيود زيد في تضييق دائرة المفهوم فارادة خصوص

ص: 161

............................................

_____________________________

المقيّد والمصداق من باب تعدّد الدال والمدلول وإلّا فلو كان الأمر كما أفاده المصنّف للزم أن يكون لفظ ضرب في ضرب زيد مستعملاً في خصوص الضرب الخارجي الخصوص الذي صدر من زيد لا مطلق مفهوم الضرب وكذا لو جي ء بلفظ الفعل مكان لفظ الأمر في قوله تعالى: « وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ »(1) مع انّه باطل قطعاً فان من الواضح انّ الضرب والفعل في المثالين لم يستعمل إلّا في مفهومهما العام فكذلك لفظ الأمر وادّعاء الضرورة في ان لفظ الأمر لم يستعمل في مفهوم الغرض في جملة جاء زيد لأمر كذا لا وجه له بعد ظهور اتّحاد مفاده مع مفاد قولنا جاء زيد للغرض الفلاني فانّه لا شبهة في انّ المراد من اللفظة في المثال مفهوم الغرض لا مصداقه بالبيان الذي ذكرناه وعرفته وافادة اللام لمعنى الغرض وكونه للغاية لا ينافي ارادة مفهوم الغرض من مدخوله نعم الغالب في استعماله أن يكون مدخوله مصداقه.

وبذلك ظهر ما في دعوى صاحب الفصول يعني لما كان عدّ بعض المعاني لمادّة الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم ومن ذلك المعاني الشأن فان المراد من الأمر في قوله شغله أمر كذا مصداقه لا مفهومه،، ظهر ما في دعوى صاحب الفصول من كون لفظ الأمر حقيقة في المعنيين الأولين، إذ على ما أفاده لا يكون المراد من الأمر في المثال المذكور إلّا ما هو مصداق الشأن والشغل كالتجارة والزراعة والصياغة مثلاً لا مفهومه.

ص: 162


1- هود: 98.

أن الامر في (جاء زيد لامر كذا) ما إستعمل في معنى الغرض، بل اللام قد دل على الغرض، نعم يكون مدخوله مصداقه، فافهم، وهكذا الحال في قوله تعالى: «فلماجاء أمرنا» يكون مصداقا للتعجب، لا مستعملا في مفهومه، وكذا في الحادثة والشأن.

قال: وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول[1]، من كون لفظ الامر حقيقة في المعنيين الاولين، ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشي ء، هذا بحسب العرف واللغة.

وأما بحسب الاصطلاح، فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص، ومجاز في غيره، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه الاشتقاق، فإن معناه - حينئذ - لا يكون معنى حدثيا، مع أن الاشتقاقات منه - ظاهرا - تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الاخر، فتدبر.

ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل عليه، نعم القول المخصوص - أي صيغة الامر - إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الامر، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

_____________________________

[1] يعني لما كان عد بعض المعاني لمادة الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم ومن ذلك المعاني الشأن فان المراد في قوله شغله أمر كذا مصداقه لا مفهومه ظهر ما في دعوى صاحب الفصول من كون لفظ الأمر حقيقة في المعنيين الاولين إذ على ما أفاده لا يكون المراد من الأمر في المثال المذكور إلّا ما هو مصداق الشأن والشغل كالتجارة والزراعة والصياغة مثلاً لا مفهومه.

ص: 163

وكيف كان، فالامر سهل لو ثبت النقل، ولا مشاحة في الاصطلاح، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة، ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز.

وما ذكر في الترجيح، عند تعارض هذه الاحوال، لو سلم، ولم يعارض بمثله، فلا دليل على الترجيح به، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الاصل في مقام العمل، نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه، ولو إحتمل أنه كان للانسباق من الاطلاق، فليحمل عليه، وإن لم يعلم أنه حقيقة فيه بالخصوص، أو فيما يعمه، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الاول.

الجهة الثانية: الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر،[1] فلا يكون الطلب من

_____________________________

[1] أقول: بل الظاهر اعتبار الاستعلاء في تحقّق حقيقة الأمر ولو كان من العالي كما ذهب إليه المحقّق القمّي قدس سره وكفايته في تحقّقه ولو كان من السافل أو المساوي كما ذهب إليه غيره.

أمّا الأوّل فلأنّه لا ريب في عدم صدق عنوان الأمر على الطلب الشديد الصادر من المولى بالنسبة إلى العبد إذا كان في مقام خفض الجناح والاستعطاف والسؤال من عبده.

ويدلّ عليه انّه قد يعبّر في هذا المقام بخصوص لفظ السؤال بأن يقول انّي أسئلك أن تفعل كذا فان هذا التعبير ليس منه أمراً حقيقة ولا تأول ولا عناية فيه أيضاً، نعم سؤال لا يجوز ردّه.

ص: 164

............................................

_____________________________

وبعبارة أخرى قد يكون الداعي إلى السؤال من المولى الأمر والطلب الالزامي وذلك إذا كان في مقام التأكيد وتشديد الطلب فانّه حينئذٍ يسئل من العبد كي يكون اقدامه إلى الامتثال أقرب والحال في ذلك كما في الجملة الخبريّة التي تستعمل في مقام الأمر والطلب بداعي الأمر الأكيد والطلب الشديد، فكما ان من تحقيقات المصنّف هنا ان تلك الجملة الخبريّة ليست خارجة عن معناها الأصلي بل تكون مستعملة في معناها الأولى وهو صرف الأخبار غاية الأمر بداعي الطلب الشديد كما في الانشاءات التي تستعمل بدواع مختلفة من غير سنخ المنشأ فكذلك الحق هنا أيضاً ان ذلك السؤال الذي يصدر من المولى مستعمل في معناها الحقيقي غاية الأمر بداعي الطلب الشديد والأمر الأكيد كما لا يخفى.

وأمّا الثاني فلأنّ المنصرف من لفظ الأمر الطلب الشديد الأكيد الانشائي الذي يصدر من الطالب المستعلى سواء كان عالياً أو سافلاً أو مساوياً للمطلوب منه فانّ الأمر والايجاب والالزام بمعنى واحد فكما انّه يصدق على الطلب الشديد الصادر من العبد بالنسبة إلى المولى انّه ألزمه وأوجب عليه، كذلك يصدق عليه انّه أمره، غاية الأمر لما لم يكن ذلك الأمر الايجابي صادراً من أهله ووقع في غير موقعه لا يترتّب عليه الأثر الخارجي وما هو لازم للطلب الشديد من أهله، وكما ان عدم وجوب اطاعة الأمر قد يكون لنقص في جانب المكلّف بالفتح فكذلك قد يكون النقص في جانب المكلّف بالكسر، وكما انّه يصدق الأمر على الطلب الصادر في الصورة الأولى فكذلك في الصورة الثانية، ويدلّ عليه انّ العبد يستحقّ اللوم

ص: 165

السافل أو المساوي أمرا، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية، كما أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه.

وأما إحتمال اعتبار أحدهما فضعيف، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه، وتوبيخه بمثل: إنك لم تأمره، إنما هو على استعلائه، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه، وإنما يكون إطلاق الامر على طلبه بحسب ما هو قضية

_____________________________

والتوبيخ بمثل انّك لم تأمره.

والجواب عن ذلك انّه إنّما هو على استعلائه، واعتقاد كونه أمراً وجعله من مصاديقه لا على أمره حقيقة بعد استعلائه غير صحيح إذ لو كان العبد المستعلى في طلبه شديداً من المولى في مقام المزاح وجعل ما ليس بأمر في صورة الأمر واظهار الاعتقاد بالأمريّة في غير المورد لم يستحق اللوم والتوبيخ وإنّما يستحقّ لهما بصدور الايجاب الحقيقي والالزام الجدّي الملازم لاسائة الأدب في حقّ المولى منه، فيعلم من ذلك انّ التوبيخ واقع على عنوان الأمر الصادر من العبد لا مجرّد الاستعلاء.

وبعبارة أخرى إذا كان العبد الطالب من المولى في مقام الطغيان وادّعاء العلو عليه حقيقة لا مزاحاً أو سفهاً مثلاً لا ريب في صدق الأمر على طلبه، ولذا يعبّر العبد في ذلك المقام باني آمرك بكذا مثلاً وليس في تعبيره كذلك تاول ولا عناية كما لا يخفى، غاية الأمر هذا الأمر أمر لا يجب طاعته ويجوز مخالفته من جهة النقص في الآمر.

ص: 166

استعلائه، وكيف كان، ففي صحة سلب الامر عن طلب السافل، ولو كان مستعليا كفاية.

الجهة الثالثة: لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب، لانسباقه عنه عند إطلاقه، ويؤيد قوله تعالى: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره» وقوله صلى الله عليه وآله: (لو لا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) وقوله صلى الله عليه وآله لبريرة بعد قولها: أتأمرني يا رسول اللَّه؟ -: (لا، بل إنما أنا شافع) إلى غير ذلك، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرد مخالفته، كما في قوله تعالى: «ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك».

وتقسيمه إلى الايجاب والاستحباب، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الاعم منه في مقام تقسيمه، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى، وأما ما أفيد من أن الاستعمال فيهما ثابت، فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز، فهو غير مفيد، لما مرت الاشارة إليه في الجهة الاولى، وفي تعارض الاحوال، فراجع.

والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة،[1] وكل طاعة فهو فعل المأمور به،

_____________________________

[1] أقول: شرحه انّ الاتيان بالمستحب داخل في عنوان الطاعة إذ من أتى بمستحب من مستحبّات المولى فقد أطاعه بلا شبهة ومعنى الطاعة فعل المأمور به والاتيان به فينتج انّ الاتيان بالمستحب اتيان بالمأمور به فيثبت انطباق عنوان المأمور به على المستحب وانه لا ينحصر بالواجب وهو المدّعى.

وجوابه انّه لو أريد من المأمور به خصوص معناه الحقيقي وهو ما صار مطلوباً

ص: 167

فيه ما لا يخفى من منع الكبرى، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي، وإلا لا يفيد المدعى.

الجهة الرابعة: الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الامر، ليس هو الطلب الحقيقي[1] الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي، بل الطلب الانشائي

_____________________________

بالطلب الوجوبي فكليّة الكبرى ممنوعة يعني ان كلّ طاعة ليست مأموراً به حينئذٍ فانّ الاتيان بالمستحب طاعة وليس مأموراً به بمعناه الحقيقي.

وإن أريد منه الأعم من المعنى الحقيقي والمجازي فكليّة الكبرى مسلمة ولكن لا يثمر في اثبات المدعى لأن اتّحاد عنوانها مع فعل المأمور به في الجملة وبالمعنى الأعم مسلم ولكن هذا غير اتّحاده معه بالمعنى الذي حقيقة فيه بخصوصه الذي هو مثبت للمدّعى ويمكن أن يجاب عنه أيضاً بأن خصوص لفظ المأمور به لما استعمل كثيراً في كلّ ما ندب إليه من المولى سواء بالطلب الوجوبي أو الاستحبابي صار ظاهراً في هذا المعنى ولم يكن مختصّاً بما أمر به بالطلب الوجوبي فقط وهذا لا يثبت كون مادّة لفظ الأمر وسائر مشتقّاته أيضاً منصرفاً إلى ذلك وحقيقة فيه بل لا يبعد كون مثل أمرتك ظاهراً في انشاء الوجوب فقط ولفظ المأمور به فيما رغب إليه مطلقاً بترغيب الايجابي أو الاستحبابي، فالقياس المذكور إنّما يثبت كون خصوص لفظ المأمور به حقيقة في المعنى الأعم لا كلّ ما اشتقّ من لفظ الأمر منه ومن غيره.

[1] أقول: حاصل مراده اثبات اتّحاد حقيقتي الطلب والارادة غاية الأمر ينصرف كلّ واحد من اللفظين إلى فرد مغاير للفرد الذي ينصرف إليه الآخر في

ص: 168

............................................

_____________________________

مقابل من قال باختلاف حقيقتهما وما وضع لفظهما له والكشف عن ان هذا الانصراف صار سبباً لاشتباه الأمر على القائلين بالاختلاف.

بيانه انّ لفظ الطلب والارادة كليهما موضوعان لمطلق الطلب الأعم من الحقيقي الجدي والانشائي الاعتباري الذي يوجد بانشاء الطالب والمريد، غاية الأمر انّ الأوّل منصرف إلى خصوص الانشائي الجعلي الصادر من المنشئ لكثرة استعمال لفظه فيه بخلاف الثاني فانّه منصرف إلى الحقيقي الجدي الذي هو حقيقة أخرى مغاير للحقيقة الأولى لكثرة استعماله فيه أيضاً.

فالقول باتّحادهما واتّحاد ما وضع لهما حق لا محيص عنه فانّ الطلب الانشائي عين الارادة الانشائيّة كما انّ الطلب الجدّي عين الارادة الجديّة وليس في نفس الطالب سوى ما هو حقيقة الطلب شيئاً آخر يسمّى بالارادة كما انّ الأمر في سائر الانشائات كالتمني والترجي أيضاً كذلك فانّه ليس وراء الصفات المعروفة القائمة بالنفس من التمنّي والترجّي والعلم إلى غير ذلك صفة أخرى كانت قائمة بالنفس كان اللفظ دالّا عليها.

فظهر من هذا التحقيق فساد استدلال الأشاعرة على مغايرتهما بما إذا أمر المولى مع عدم ارادة الاتيان بالمأمور به من العبد بل لمجرّد الامتحان والاختبار حيث انّه لا ارادة في هذه الصورة مع وجود الطلب إذ كما انّه لا ارادة في المثال المزبور لا طلب جدياً أيضاً نعم الموجود من الطلب هو الطلب الانشائي الايقاعي الذي هو مدلول الصيغة ومغايرته مع الارادة الجديّة أوضح من أن يخفى كما

ص: 169

الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا، بل طلبا إنشائيا، سواء أنشئ بصيغة إفعل، أو بمادة الطلب، أو بمادة الامر، أو بغيرها، ولو أبيت إلا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الانشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الانشائي، كما أن الامر في لفظ الارادة على عكس لفظ الطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الارادة الحقيقية واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الاشاعرة، من المغايرة بين الطلب والارادة، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة، من اتحادهما، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام، وإن حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لما تكن عن المحذور خالية، والاعادة ليست بلا فائدة ولا إفادة، كان المناسب هو التعرض ها هنا أيضا.

فاعلم، أن الحق كما عليه أهله - وفاقا للمعتزلة وخلافا للاشاعرة - هو اتحاد الطلب والارادة، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الارادة

_____________________________

لا يخفى وعلى كلّ حال فلا أرى مزيد فائدة في هذا البحث مع انّه بحث حكمي إنّما فائدته الكشف عن أصل الحقيقتين نعم الفائدة اللفظيّة المترتّبة عليه هي انّه على الاتّحاد يثبت كون « الأمر » موضوعاً للارادة كما يكون موضوعاً للطلب بخلافه على اختلافهما ولكن هذا غير مهم بعد وضوح ان معنى الأمر الطلب سواء صدق عليه الارادة أم لا بل كانت الارادة أمراً آخر وراء الطلب.

ص: 170

الانشائية، وبالجملة هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا، لا أن الطلب الانشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه - كما عرفت - متحد مع الارادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الامس.

فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شي ء والامر به حقيقة كفاية، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، فإن الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها، يكون هو الطلب (غيرها)(1) سوى ما هو مقدمة تحققها، عند خطور الشي ء والميل وهيجان الرغبة إليه، والتصديق لفائدته، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لاجلها.

وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والارادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب، فلا محيص عن إتحاد الارادة والطلب، وأن يكون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لامر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك، مسمى بالطلب والارادة كما يعبر به تارة وبها أخرى، كما لا يخفى.

وكذا الحال في سائر الصيغ الانشائية، والجمل الخبرية، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس، من الترجي والتمني والعلم إلى غيرذلك، صفة أخرى كانت قائمة بالنفس، وقد دل اللفظ عليها، كما قيل: «إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا» وقد انقدح بما حققناه، ما في استدلال الاشاعرة على المغايرة بالامر مع عدم الارادة، كما في صورتي الاختبار

ص: 171


1- الظاهر انّه من سهو الناسخ، للاستغناء عنه بقوله: «غير الارادة». منتهى الدراية 1/385، ش 8.

والاعتذار من الخلل، فإنه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين، لا طلب كذلك فيهما، والذي يكون فيهما إنما هو الطلب الانشائي الايقاعي، الذي هو مدلول الصيغة أو المادة، ولم يكن بينا ولا مبينا في الاستدلال مغايرته مع الارادة الانشائية.

وبالجملة: الذي يتكفله الدليل، ليس إلا الانفكاك بين الارادة الحقيقية، والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما.

وهو مما لا محيص عن الالتزام به، كما عرفت، ولكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا، لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والانشائي، كما لا يخفي.

ثم إنه يمكن - مما حققناه - أن يقع الصلح بين الطرفين، ولم يكن نزاع في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الانشائي من الطلب، كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه، وا لحقيقي من الارادة، كما هو المراد غالبا منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظيا، فافهم.

دفع وهم:[1]

_____________________________

[1] أقول: حاصله انّ الأشاعرة قائلون بوجود أمر في نفس المريد الآمر غير الارادة التي يعبّر عنه بالطلب كما انّه يعبّر عنه في الأخبار بالخبر وهو الكلام النفسي الذي يدلّ عليه الكلام اللفظي عندهم والأصل فيه كما قيل ما انشائه الشاعر:

انّ الكلام لفى الفؤاد وإنّما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا

ص: 172

لا يخفى أنه ليس غرض الاصحاب والمعتزلة، من نفي غير الصفات المشهورة، وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي، كما يقول به الاشاعرة، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام.

إن قلت: فماذا يكون مدلولا عليه عند الاصحاب والمعتزلة؟ قلت: أما الجمل الخبرية، فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها، أو نفيها في نفس الامر من ذهن أو خارج، كالانسان نوع أو كاتب.

_____________________________

وأصحابنا والمعتزلة ينكرون ذلك ويقولون انّه ليس في نفس المريد إلّا الارادة التي هو عين الطلب الجدّي ولكن ليس تلك الطلب الجدي المنقدح في نفس الطالب مدلول الأمر بل إنّما مدلوله الطلب الانشائي الايقاعي الذي أوجده المتكلّم بذلك الكلام وكذلك مدلول الجملة الخبريّة ثبوت النسبة بين طرفيها أو نفيها في عالم الذهن أو الخارج وليس أمراً آخر منقدحاً في نفس المخبر وبعبارة أخرى، مقصود الأصحاب والمعتزلة من نفي ما وراء الصفات المشهورة القائمة بالنفس كي تكون كلاماً نفسيّاً مدلولاً للكلام اللفظي كما يقول به الأشاعرة ليس كون تلك الصفات مدلولات للكلام بل إنّما مدلوله ما ذكر من الانشاء والاخبار غاية الأمر لا يبعد ادعاء دلالة الكلام اللفظي على ثبوت تلك الصفات في النفس بالدلالة الالتزاميّة كما مرّت الاشارة إليه سابقاً من انه لا يبعد وضع دوال الانشائات لايقاع المنشآت فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت تلك الصفات أو انصراف اطلاقها إلى هذه الصورة لكثرة استعمالها في مورد ثبوتها في نفس المنشئ فافهم واستقم.

ص: 173

وأما الصيغ الانشائية، فهي - على ما حققناه في بعض فوائدنا - موجدة لمعانيها في نفس الامر، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها، وهذا نحو من الوجود، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا وعرفا آثار، كما هو الحال في صيغ العقود والايقاعات.

نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني - بالدلالة الالتزامية - على ثبوت هذه الصفات حقيقة، إما لاجل وضعها لايقاعها، فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة، فلو لم تكن هناك قرينة، كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها، لاجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس، وضعا أو إطلاقا.

إشكال ودفع:[1]

_____________________________

[1] أقول: أمثال هذه المباحث وإن كانت خارجة عن الفن ولا دخل لها بما هو المقصود من علم الأصول من معرفة استنباط الأحكام الفرعيّة إلّا انّه يقع البحث فيها استطرادا وتتميماً للبحث الذي لا يكون غنى عنه، وشرح الاشكال هو انّه بناء على اتّحاد الطلب والارادة ولو بالمعنى الذي بيناه والتفصيل الذي اسبقناه بأن يكون الطلب الحقيقي الجدي متّحداً مع الارادة الحقيقية الجديّة والطلب الانشائي الايقاعي المنشأ بواحد من أدوات الطلب متّحداً مع الارادة الانشائيّة الصوريّة يلزم أحد محذورين: إمّا أن لا يكون في تكليف الكفّار بالايمان وأهل الايمان بالاطاعة بالجوارح والأركان تكليف حقيقي جدّي بل يكون صرف طلب صوري وارادة صوريّة كما يكون كذلك في الأوامر الامتحانيّة كأمر الخليل بذبح ولده ص:10

............................................

_____________________________

اسمعيل مثلاً، وبعبارة أخرى يلزم إما أن يكون جميع الأوامر والنواهي من الشارع امتحانيّة صوريّة من دون استثناء وهو باطل بالضرورة وإمّا يتخلّف مراد الباري عن ارادته إذا كان ما صدر منه الطلب الحقيقي ويكون أوامره أو نواهيه تعالى كاشفة عن انّه طالب حقيقة للفعل أو الترك والفرض انّ الطلب الحقيقي متّحد مع الارادة الجديّة فيكون مطلوباتها مرادة له جدّاً وحقيقة إذ من المعلوم كثرة المخالفين والعاصين قال تعالى: « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ »(1) فاذن أراد اللَّه تعالى شيئاً ولم يكن، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً بل إذا أراد اللَّه شيئاً وقال له كن فيكون.

وأمّا الدفع فهو ان من الواضح انّ الارادة التي من الباري تعالى لا يتخلّف عن المراد ويمتنع التخلّف فيها عقلاً هو الارادة التكوينيّة وهو علم الباري تعالى بلزوم أن يكون الأمر الفلاني حاصلاً لحصول تماميّة النظام وكونه على النحو الكامل التام فاذا علم اللَّه بهذا الأمر لابدّ أن يقع في الخارج بمجرّد علمه تعالى شأنه، لا الارداة التشريعيّة الذي هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف أو تركه، والعلم بالمصلحة في الفعل لا يستلزم وقوعه وحصوله من الفاعل بل يتوقّف على ارادة من شخص الفاعل فاذا أراده وقصده يصدر منه ويكون وإلّا فلا، والارادة التي تتعلّق من الباري بفعل الواجب أو ترك الحرام مثلاً من المكلّف هي تلك الارادة لا الارادة التكوينيّة، نعم اذا توافقنا واجتمعا معاً بالنسبة إلى فعل لابدّ أن يقع

ص: 174


1- سبأ: 13.

............................................

_____________________________

ويكون بمعنى انّه اذا أراد اللَّه تعالى الصلاة مثلاً من المكلّف الفلاني بالارادة التشريعيّة يعني انّه أمره بها وكشف عن ثبوت المصلحة في فعلها وعلم بتوقّف كمال النظام على كون ذلك المكلّف مطيعاً لا عاصياً وسعيداً لا شقيّاً لابدّ وان يحصل الاطاعة والايمان منه بأن يخلق السعيد ويوجده ويبعث النبي صلى الله عليه وآله وينصب الولي لارائة طريق الحق والكشف عمّا به يحصل رضاء اللَّه من العبد، وأمّا إذا تخالفاً بأن أراد فعل الطاعة منه بالارادة التشريعيّة بأن أمره ونهاه وكشف له عن المصالح والمفاسد بوسيلة السفراء وارسال الرسل وانزال الكتب ولكن علم بتوقّف النظام على كونه عاصياً أو كافراً لا مناص عن ان يحصل منه الكفر والطغيان اذ حينئذ يخلق الشقي ويوجده لدخل وجوده في النظام والشقي لا يصدر منه إلّا الشقاوة بمقتضى ذاته وطبعه كما سيجي ء شرح هذا المطلب إن شاء اللَّه.

إذا عرفت هذا فاعلم انّه يحصل من هذا الدفع عويصة يشكل حلّها غاية الاشكال وهي انّه إذا كان اختيار الاطاعة والايمان أو الكفر والطغيان بارادة اللَّه تعالى وعلمه بالنظام فكيف يصحّ التكليف مع انّ العقل يحكم بقبح التكليف بما يكون خارجاً عن الاختيار اذ فعل الاطاعة والمعصية من السعيد والشقي صادر من اللَّه تعالى شأنه في الحقيقة، وهو السبب لهما واشتراط الاختيار في جواز التكليف من المسلّمات التي لا شبهة فيه أصلاً.

ويندفع بأنّه إذا كان الفعل صادراً عن المكلّف بالارادة يكون اختياريّاً البتّة وفرق واضح بين حركة يد المرتعش التي لا اختيار فيه أصلاً ولا يقدر على

ص: 175

............................................

_____________________________

التسكين أصلاً وحركة يد من يحرّكها بالقصد والاختيار فانّ الحركة في الثاني تستند إلى الفاعل ويكون فعله الصادر منه ويصحّ ترتّب الثواب عليه لفاعله فيما إذا كان اطاعة للمولى والعقاب على تركه فيما إذا كان مخالفاً لما طلبه المولى بخلافه في الأوّل فانّه لا يستند حركة اليد فيها إلى المرتعش ولا يكون فاعله بوجه ولا يمكن أن يستحق ثواباً من المولى ولا عقاباً عليه عند العقلاء وأهل الادراك، والمقصود من الارادة التكوينيّة من الباري علمه تعالى بدخالته في النظام وما علم اللَّه تعالى حصوله لابد وأن يحصل ولكن ليس ذلك العلم منه تعالى علّة تامّة لحصول الفعل بأن لا يكون للفاعل وارادته مدخليّة في الحصول بل علمه تعالى سبب لأن يريد الفاعل ايجاد الفعل وان يصدر عنه بالقصد والاختيار ومعنى سببيّة علمه تعالى لارادة العبد سيجي ء مفصّلاً ومشروحاً.

و در اين مقام عمر خيام كه جبرى مذهب است گفته:

من مى خورم و هر كه چو من اهل بود * مى خوردن من بنزد او سهل بود

مى خوردن من حق زازل مى دانست * گر مى نخورم علم خدا جهل بود

و خواجه طوسى در جوابش فرموده:

گفتى كه گنه بنزد من سهل بود * اين كى گويد كسى كه او اهل بود

علم ازلى علت عصيان كردن * نزد عقلا زغايت جهل بود

فان قلت: مسبوقيّة فعل المكلّف بالارادة والقصد لا يكفي في كونه اختياريّاً مع مسبوقيّة تلك الارادة من الفاعل بالارادة الأزليّة والمشيّة الالهيّة فلا يكون

ص: 176

............................................

_____________________________

اختياريّاً اذ النتيجة تابعة لاخس المقدّمات والاختياريّة بمعنى كونه مسبوقاً بالارادة لا أثر لها في صحّة المؤاخذة بعد أن يكون الفعل بالاخرة غير اختياري، فانه إذا اجبر زيد عمروا بأن يريد الفعل الفلاني فاراده وفعله لم يصدر الفعل عن عمرو باختيار بل واضح انّه مجبور على الارادة والفعل معاً، نعم ليس حاله في هذا الفعل كحركة يد المرتعش التي ليس فيها قصد واختيار أصلاً وقبح المؤاخذة على فعل المضطر لا يختصّ بما إذا كان اضطراره كاضطرار المرتعش بل أعم من ذلك ويثبت في الصورة الأولى أيضاً.

قلت: العقاب يكون مترتّباً على الكفر والطغيان الصادران من العبد باختياره، ومقدمات اختياره وارادته ناشئة من الشقاوة الذاتيّة اللازمة للذات وعلم الباري تعالى لمّا تعلّق بدخالة وجود الأشقياء والسعداء في النظام وكماليّته وتماميّته اوجد الشقي والسعيد، ولم يجعل الشقاوة في الشقي ولا السعادة في السعيد بأن يخلق ويوجد أولا ما هو قابل للسعادة والشقاوة فيوجد في واحد الشقاوة وفي آخر السعادة ليلزم الجور والحيف ويكون الشقاوة والسعادة والاطاعة والمعصية بالاخرة من اللَّه تعالى شأنه.

قال شيخ الرئيس أبو على سينا: انّ اللَّه خلق المشمش مشمشاً لا انّه خلق المشمش والمشمشيّة فانّ المجعول والمخلوق للَّه تعالى المشمش فقط والمشمشيّة داخلة في ذات المشمش فكيف يكون من اللَّه تعالى، وما يكون من الذات ويحصل بتبعيّته جعل ذات الشي ء ليس قابلاً للتعليل وإنّما يعلّل الاعراض

ص: 177

أما الاشكال، فهو إنه يلزم بناء على اتحاد الطلب والارادة، في تكليف الكفار بالايمان، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالاركان، إما أن لا يكون هناك تكليف جدي، إن لم يكن هناك إرادة، حيث أنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي، وإعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي، وإن كان هناك إرادة، فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا تكاد تتخلف، إذا أراد اللَّه شيئا يقول له: كن فيكون.

وأما الدفع، فهو إن إستحاله التخلف إنما تكون في الارادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام، دون الارادة التشريعية، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف.

وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الارادة التشريعية لا التكوينية، فإذا توافقتا فلابد من الاطاعة والايمان، وإذا تخالفتا، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان.

إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا.

_____________________________

الخارجة عن الذات مثل انه يعلّل ضاحكيّة الانسان بأنّه متعجّب وأمّا انسانيّة الانسان وحيوانيّة الحيوان فلا يستند إلى علّة أصلاً(1).

بيش از اين كشف اين مقام نشايد * فهم قاصر از آن چه كار برآيد

ولبعض الفضلاء أيضاً قدس سره في المقام:

چون قلم اينجا رسيدى سر شكست * طائر ادراك از جولان نشست

ص: 178


1- شوارق الالهام في شرح تجريد الكلام: 1/539.

قلت: إنمايخرج بذلك عن الاختيار، لو لم يكن تعلق الارادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار، وإلا لزم تخلف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

إن قلت: إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف؟ وقد سبقهما الارادة الازلية والمشية الالهية، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالاخرة بلا اختيار؟ قلت: العقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه) و(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)، كما في الخبر، والذاتي لا يعلل، فانقطع سؤال: إنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك، وإنما أوجدهما اللَّه تعالى (قلم اينجا رسيد سر بشكست)، قد إنتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام، ومن اللَّه الرشد والهداية وبه الاعتصام.

وهم ودفع:[1] لعلك تقول: إذا كانت الارادة التشريعية منه تعالى عين علمه

_____________________________

[1] أقول: أمّا الوهم فهو انّه إذا كانت الارادة التشريعيّة منه تعالى عين علمه بصلاح وقوع الفعل من الفاعل كما مرّ في دفع الاشكال السابق وكان الطلب متّحداً مع الارادة، يلزم كون المنشأ بالصيغة التي قد مرّ انّه الطلب الانشائي وقد مرّ أيضاً انّه عين الارادة الانشائيّة هو العلم وهو واضح البطلان لأن علم اللَّه تعالى بالصلاح ليس أمراً انشائيّاً منشأ بصيغة الأمر بل أمراً خارجيّاً حقيقيّاً من صفاته تعالى شأنه.

ص: 179

بصلاح الفعل، لزم - بناء على أن تكون عين الطلب - كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الالهية هو العلم، وهو بمكان من البطلان.

_____________________________

وجوابه انّ المراد من اتّحاد الارادة مع العلم بالصلاح اتّحادهما خارجاً ومصداقاً لا مفهوماً وتصوّراً ومعلوم ان مفهومهما متغايران متباينان لكنّه في الخارج يتّحدان اذ ارادة اللَّه للفعل في الخارج ليس إلاّ علمه بصلاح وقوعه من الفاعل وقد مرّ انّ المنشأ بالصيغة إنّما مفهوم الارادة التي يعبّر عنها بالفارسيّة «خواستن» لا الارادة الخارجيّة التي تكون أمراً قائماً بذات المريد ولا ضير أصلاً في اتّحاد العلم من اللَّه بصلاح وقوع الفعل وارادته تعالى شأنه للفعل عيناً وخارجاً بل لا محيص عنه في جميع صفاته المختلفة المفاهيم فانّها متّحدة خارجاً اتّحاداً حقيقيّاً لرجوع جميعها إلى ذاته المقدّسة فذاته علم وفي حال كونها علماً ارادة وفي حال كونها ارادة قدرة وفي حال كونها قدرة اختيارٌ وهلمّ جرا في جميع الصفات لكون وجوده تقدّس وتعالى بسيطاً وحدانياً من جميع الجهات وهو الواحد الأحد الفرد الذي لا تركب في وجوده أصلاً واثبات صفة زائدة على ذاته مناف لتوحيده، قال أميرالمؤمنين صلوات اللَّه عليه: « وكمال توحيده الاخلاص له وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة بأنّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة» فتحصّل بها اثنينيّة فلا توحيد ولذا قال صلوات اللَّه عليه بعد ذلك فمن وصفه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه(1).

ص: 180


1- نهج البلاغة (فيض الإسلام): 23 ، خ اول؛ بحار الأنوار: 4/247.

لكنك غفلت عن أن اتحاد الارادة مع العلم بالصلاح، إنما يكون خارجا لا مفهوما، وقد عرفت أن المنشأ ليس إلا المفهوم، لا الطلب الخارجي، ولا غرو أصلا في اتحاد الارادة والعلم عينا وخارجا، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة، قال أمير المؤمنين صلوات اللَّه وسلامه عليه: (وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه).

الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث :

الاول : إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها وقد عد منها:

الترجي، والتمني،[1] والتهديد، والانذار، والاهانة، والاحتقار، والتعجيز، والتسخير، إلى غير ذلك، وهذا كما ترى، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في

_____________________________

[1] أقول: قد أنكر المصنّف استعمال صيغة الأمر في تلك المعاني المذكورة في المتن حتّى الطلب الخارجي الحقيقي فضلاً عن وضعها لها وذهب إلى انّ الصيغة دائماً مستعملة في الطلب الانشائي الذي هو أمر اعتباري منتزع من الصيغة غاية الأمر قد يكون بداعي الطلب الحقيقي الخارجي وقد يكون بداعي الترجّي أو التمنّي مثلاً وقال ان غاية ما يمكن تسليمه ادّعاء كون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب إذا كان بداعي البعث والتحريك فقط لابداع آخر منها، وأمّا ادّعاء كونها مستعملة في الطلب الخارجي فباطل كما انّ ادّعاء كونها مستعملة في غيره من التهديد والتمنّي مثلاً أيضاً باطل.

واستشكل الشارح الكاظميني عليه بأنّه لا وجه لنسبة مثل هذا الرأي الفاسد الذي يكون فساده في غاية الوضوح من استعمال صيغة الأمر في التهديد والتمنّي

ص: 181

............................................

_____________________________

إلى أحد، بل مقصود القائلين به كون الصيغة مستعملة في الطلب التهديدي أو التعجيزي أو الاحتقاري مثلاً كما انّها مستعملة في الطلب الحقيقي فانّ للطلب أقسام الحقيقي والتهديدي أو التعجيزي فانّ التهديد والتعجيز مثلاً منوع لمطلق الطلب ولا يلتزم أحد بكون الصيغة مستعملة في التهديد والتعجيز في مقابل استعمالها في الطلب(1)، والحق خلاف ما أفاده المصنّف وحقّقه الشارح أيضاً، بل مراد الجماعة كون الصيغة مستعملة في نفس التهديد والتعجيز مجازاً كاستعمالها في الطلب حقيقة ومرادهم من الطلب المستعمل فيه الطلب الحقيقي الخارجي أيضاً لا الطلب الانشائي الذي زعم المصنّف انّ بيان ذلك بأنّ استعمال اللفظ في المعنى عبارة عن القاء المعنى إلى المخاطب بتوسّط اللفظ والطالب الحقيقي للشي ء إنّما يظهر من طلبه الجدّي القائم بنفسه ويكشف عنه بصيغة الأمر فالصيغة مستعملة فيه كما انّ الألفاظ الموضوعة للأعيان الخارجيّة المستعملة فيها يكشف عنها وعن انّها مرادة في نفس المستعمل كالدار والجدار في قوله دخلت الدار وابنيت الجدار، فكما انّه ليس المراد من لفظ الدار والجدار في ذلك الاستعمال أمر سوى العين الخارجي فكذلك ليس المراد من صيغة الأمر إلّا الطلب الخارجي القائم بنفس الطالب، وكما انّ المراد من المستعملة في الطلب الطلب الجدّي الحقيقي حقيقة فكذلك المراد من المستعملة في التهديد والتعجيز مثلاً أيضاً نفس أحد المعنيين مجازاً، والتوجيه

ص: 182


1- الهداية في شرح الكفاية: 145 - 146.

............................................

_____________________________

الذي مرّ من الشارح المشار إليه ليس إلّا توجيه ما لا يرضى صاحبه به كما انّ التحقيق الذي مرّ من المصنّف مخالف لما اتّفق عليه الكلّ قديماً وحديثاً وهو ممّا يدلّ بنفسه على بطلانه وفساده فضلاً عن الأدلّة الاخر التي قائمة على بطلانه، قال ابن هشام في بحث همزة الاستفهام في أوائل كتاب مغني اللبيب: وقد يخرج همزة الاستفهام عن معناه الحقيقي ويستعمل في غيره فان من الواضح ان عبارته ابية عن حملها على ما أفاده الشارح، وارساله من المسلّمات يدلّ على ان ما أفاده المصنّف لم يقل به أحد.

فان قلت ما العلاقة بين الطلب الحقيقي الموضوع له اللفظ والتهديد أو التعجيز مثلاً.

قلت: يكفي في جواز استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له استحسان الطبع له ولا يلزم وجود العلاقة التي يمكن التعبير عنها على التفصيل ولذا من قال بحصر العلائق وزعم انّها امور معيّنة معلومة بالتفصيل اختلف في عددها فبعضهم حصروها في خمسة وعشرين وبعضهم زادوا حتّى نهوها إلى سبعين أو أزيد وكلّ ذلك لما زعموا انّها أمور محصورة معيّنة يمكن التعبير منها على التفصيل وليس كذلك ومن المعلوم أيضاً انّ صيغة الأمر ليست مشتركاً معنوياً بين المعاني المتباينة ولا مشتركاً لفظيّاً اذ لم يثبت من اللغة وضعها لكلّ واحد من المعاني عليحدة ولم يدع الاشتراك اللفظي أحد فبقي أن تكون حقيقة في الطلب الحقيقي فقط ومجازاً في الباقي.

ص: 183

واحد منها، بل لم يستعمل إلا في إنشاء الطلب، إلا أن الداعي إلى ذلك، كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون أخرى أحد هذه الامور، كما لا يخفى.

وقصارى ما يمكن أن يدعى، أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب، فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك، لا بداع آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره، فلا تغفل.

إيقاظ: لا يخفى[1] أن ما ذكرناه في صيغة الامر، جار في سائر الصيغ الانشائية، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام بصيغها، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة، يكون الداعي غيرها أخرى، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها، واستعمالها في غيرها، إذا وقعت في كلامه تعالى، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى، مما لازمه العجز أو الجهل، وأنه لا وجه له، فإن المستحيل إنما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة، كما عرفت، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضا، لا لاظهار ثبوتها حقيقة، بل لامر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك، ومنه ظهر أن ما ذكر

_____________________________

[1] أقول: قد مرّ ما في تحقيقه في مدلول صيغة الأمر وعرفت تحقّق خلافه فكذلك الأمر في سائر الصيغ الانشائيّة ولا حاجة إلى الاعادة.

ص: 184

من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا.

المبحث الثاني: في أن الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب،[1 ]

_____________________________

[1] أقول: الحق انّ صيغة الأمر موضوعة لمطلق الطلب إذ هو المتبادر من حاق اللفظ وإن سلّمنا تبادر الوجوب منها عند اطلاقها وحيث ان ذلك التبادر اطلاقي لا حاقى لا يدلّ على الوضع، فما ذهب إليه المصنّف من كونها حقيقة في الوجوب لتبادره منها ضعيف وإن قال به الأكثر، ولكنّه اشتبه عليهم الأمر من جهتين، الأولى قوّة الوجوب وأكمليته من بين أفراد الطلب فانّه كلّي مشكّك بالنسبة إلى أفراده واستحسان وضعها للفرد الأقوى صار داعياً لهم على القول بوضعها له.

الثانية التبادر الذي قد عرفت انّه مستند إلى الاطلاق وإلّا فكلّ من له فهم سليم وذوق مستقيم لا يفهم من حاق الصيغة إلّا الطلب الذي يعبّر عنه بالفارسيّة به « خواستن » وأمّا اينكه خواستن طالب به چه نحو است و چه قسم از آن است آيا راضى به ترك هست يا نه از لفظ صيغه مفهوم نمى شود كما انّه لا يتبادر من لفظ الانسان إلّا الطبيعة المطلقة الانسانيّة وأمّا حصول تلك الطبيعة في أيّ فرد من الأفراد زيد أو عمرو مثلاً فلا يفهم منه أصلاً بل لفظ الانسان ساكت عن حصول الطبيعة ووجودها بالمرّة فضلاً عن وجودها في ضمن فرد معيّن فكذلك صيغة الأمر إنّما يفهم منه مجرّد الطلب الأعم من ان كان موجوداً في ضمن فرد معين أو لم يكن، وبعبارة اخرى صيغة الأمر مرادفة للطلب فكما انّ عنوان الطلب أعم من الطلب الوجوبي والندبي فكذلك الصيغة المرادفة له، فاذا جاز التزام أحد بأن

ص: 185

أو فيهما، أو في المشترك بينهما

وجوه بل أقوال، لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال، وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه، لكثرة استعماله في الوجوب أيضا، مع أن الاستعمال وإن كثر فيه، إلا أنه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجب صيرورته مشهورا فيه، ليرجح أو يتوقف، على الخلاف في المجاز المشهور، كيف؟ وقد كثر إستعمال العام في الخاص، حتى قيل: (ما من عام إلا وقد خص) ولم ينثلم به ظهوره في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

المبحث الثالث: هل الجمل الخبرية[1] التي تستعمل في مقام الطلب والبعث

_____________________________

يكون قضيّة اطلب منك مفيدة للوجوب وظاهرة فيه يصحّ أن يلتزم به في الصيغة أيضاً ومن المعلوم انّه لا يقول بذلك أحد في القضيّة المزبورة فكذلك في الصيغة أيضاً.

[1] أقول: قد اختار المصنّف انّ الجملة الخبريّة التي تستعمل في مقام الطلب مثل يغتسل ويعيد ويتوضّأ مثلاً ظاهرة في الوجوب وإنّها مستعملة في معناها الخبري بداعي البعث بنحو آكد من دلالة الجملة الطلبيّة كما يكون الأمر كذلك عنده في الصيغ الانشائيّة حيث ذهب إلى انّها مستعملة في معانيها الايقاعية والانشائية دائماً لكن بدواع اخر وقد مرّ ما فيه وان التحقيق انها مستعملة في نفس

ص: 186

- مثل: يغتسل، ويتوضأ، ويعيد - ظاهرة في الوجوب أو لا؟ لتعدد المجازات فيها، وليس الوجوب بأقواها، بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها.

الظاهر الاول، بل تكون أظهر من الصيغة، ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام - أي الطلب - مستعملة في غير معناها، بل تكون مستعملة فيه، إلا أنه ليس بداعي الاعلام، بل بداعي البعث بنحو آكد، حيث أنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه، إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه، فيكون آكد

_____________________________

تلك المعاني، وكذلك التحقيق هنا انّ الجملة الخبريّة التي يقصد بها الطلب مستعملة في معنى الطلب مجازاً وبالعلاقة أو حقيقة إن كان الفعلان الماضي والمضارع مشتركين بين الانشاء والاخبار كما ذهب إليه الشارح الكاظميني ولكنّه بعيد، نعم في مثل لفظ بعت وقلت مثلاً حيث كثر استعمالهما في الانشاء لا يبعد ادّعاء صيرورتهما حقيقة فيه، وبالجملة إن تمّ ما أفاده المصنّف في الجملة الخبريّة التي يراد بها الطلب بأنّها مستعملة في الإخبار ولكنّه يقصد منه الانشاء لباً مثل انّه يراد بقوله زيد مهزول الفصيل انه سخى للنكتة التي ذكرها وهي انّ البعث الحاصل من الإخبار بالوقوع آكد وأشد من البعث الحاصل من الطلب يستلزم كون الأمر في تمام الصيغ الانشائيّة كذلك فان بعت مثلاً إذا استعمل بقصد الإخبار أقوى في الدلالة على الوقوع منه إذا استعمله بقصد الانشاء مع انّه لا محيص عن استعمالها في الانشاء، وبطلان الايجاب والقبول في البيع اذا لم يقع الصيغتان من البايع والمشتري بقصد الانشاء من المسلّمات عند الكلّ كما لا يخفى.

ص: 187

في البعث من الصيغة، كما هو الحال في الصيغ الانشائية، على ما عرفت من أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية لكن بدواعي أخر، كما مر.

لا يقال: كيف؟ ويلزم الكذب كثيرا، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج، تعالى اللَّه وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.

فإنه يقال: إنمايلزم الكذب، إذا أتي بها بداعي الاخبار والاعلام، لا لداعي البعث، كيف؟ وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل (زيد كثير الرماد) أو (مهزول الفصيل) لا يكون كذبا، إذا قيل كناية عن جوده، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ، فإنه مقال بمقتضى الحال.

هذا. مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده، فإن شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب، موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره، فافهم.

المبحث الرابع:[1] إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب هل

ص: 188

[1] أقول: استشكل المصنّف في الوجوه التي جعلها موجبة لظهور الصيغة في الوجوب بعد تسليم عدم كونها حقيقة فيه، وهي ثلاثة، غلبة استعمالها في الوجوب، وغلبة الوجود في الوجوب، واكمليته بالنسبة إلى سائر الأفراد، بأن بعضها غير واقع مثل كثرة استعمالها فيه فان استعمالها في الندب ليس بأقل لو لم ص:10

............................................

_____________________________

يكن بأكثر، وكذلك غلبة الوجود فانّه مردود بعدم ثبوتها أوّلاً كغلبة الاستعمال وعدم تأثيرها في ظهور اللفظ في المعنى ثانياً فانّه ناش عن كمال الانس بين اللفظ والمعنى وغلبة الوجود لا أثر له في ذلك، وبعضها واقع ولكن لا نفع فيها لأن الأكمليّة وأولويّة صدق الكلّي على الفرد لا يوجب ظهور اللفظ في المعنى إذ مرّ انّه غير ناش إلّا من تماميّة الانس بينهما، واستسلم الظهور لوجه آخر غيرها وهو ان اطلاق الصيغة المفيدة للطلب من دون تقييد بعدم المنع من الترك يوجب ظهورها في الوجوب فانّ الندب كأنّه يحتاج إلى مؤنة بيان ومزيد برهان بخلاف الوجوب فانّه وإن كان أيضاً فرداً خاصّاً من مطلق الطلب لكنّه في مقام الاثبات ودلالة اللفظ يساوي مع مطلق الطلب ولذا لا يصحّ الاعتذار عن المخالفة باحتمال ارادة الندب مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال وعبّر بقوله كأنّه المفيد للشكّ والترديد لأن الوجوب والندب في الحقيقة بسيطتان ومرتبتان من مطلق الطلب القوى والضعيف وليس فيها تركّب في الحقيقة إلّا ان بعد التحليل ينحل الندب إلى الطلب وعدم المنع من الترك وكذلك الوجوب إلى الطلب والمنع من الترك ولكن تقيد الطلب الندبي وتركبه أوضح من تقيد الطلب الذي في ضمن الوجوب لما سيأتي من البيان.

وأورد الشارح على المصنّف بأنّ الأمر في الوجوب والندب من أفراد الطلب بعكس ذلك اذ الوجوب لا يفهم إلّا مع التقييد بالمنع من الترك لأنّه قيد زائد مع الطلب لا يفهم منه الّا بدالٍ مستقل بخلاف الندب فانّه طلب ضعيف لا يحتاج في

ص: 189

............................................

_____________________________

افادته إلى مزيد تقييد سوى ما يدلّ على أصل المطلب(1).

أقول: ويدفعه ان ما يطلب على وجه الاطلاق لا سبيل إلى جواز تركه ولابدّ للعبد من اتيانه، والارادة المتوجّهة إلى الفعل من المولى تقتضي وجوده ليس إلّا، واذا ترك العبد ولم يأت بما طلب منه لا شبهة في استحقاقه الذم للمخالفة وعدّه من العاصين والمخالفين، وليس المطلوب الذي حاله كذلك إلّا الواجب فانّ الواجب يوازي مع المطلوب المطلق، فما أفاده المصنّف من ظهور مطلق الطلب في الوجوب في غاية المتانة، ولكن انكاره لسائر وجوه الانصراف الذي ادّعاه آخرون في صيغة الأمر بالنسبة إلى الوجوب غير تمام، اذ كما انّه تحصل انصراف اللفظ بسبب تماميّة انس اللفظ بالمعنى كذلك يحصل بسبب الغلبة الوجودي في بعض الأفراد فانّه لا شبهة في انصراف لفظ الانسان إلى الفرد الذي منه له رأس واحد وينصرف عن الفرد الذي له رأسان وإن لم يكن غلبة استعمالى له في ذلك الفرد، وكذلك الأكمليّة والاقوائيّة توجب الانصراف فان لفظ الانسان منصرف إلى الفرد العاقل الكامل التام كما ان لفظ الماء منصرف إلى الماء البارد الصافي العذب، غاية الأمر يمكن ادّعاء كون هذا الانصراف انصرافاً بدويّاً زائلاً بالتأمّل فلا يؤثّر أثراً بخلاف الانصراف المسبّب عن غلبة الاستعمال فانّه استمرارى ثابت لا يزول فلذا يؤثّر أثره.

ص: 190


1- الهداية في شرح الكفاية: 151.

لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون؟ قيل بظهورها فيه، إما لغبة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده أو أكمليته، والكل كما ترى، ضرورة أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر.

وأما الاكملية فغير موجبة للظهور، إذ الظهور لا يكاد يكون إلا لشدة أنس اللفظ بالمعنى، بحيث يصير وجها له، ومجرد الاكملية لا يوجبه، كما لا يخفى، نعم فيما كان الآمر بصدد البيان، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مؤونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد، فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان، كاف في بيانه، فافهم.

المبحث الخامس:[1] إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا

_____________________________

[1] أقول: مراده انّه إذا شكّ في توصليّة الواجب وتعبديته هل يكون أصل لفظي يرجع إليه للتعيين وهل الاطلاق اللفظي الذي يكون من الأصول اللفظيّة يقتضي توصليّة الواجب بأن لا يكون قصد القربة معتبراً فيه أم لا ؟ بل يكون المرجع للشاكّ في التوصليّة والتعبديّة الأصل العملي حيث ان مورد الرجوع إلى الأصل العملي فقدان الأصل اللفظي اذ الأصول اللفظيّة مقدّمة على الأصول العمليّة إذ هي كاشفة عن مراد المتكلّم والأصول العمليّة مقرّرة لمن لم يستكشف مراده في مقام العمل، قال: بيان ذلك - وانّه لا أصل لفظيّاً يرجع اليه عند الشك - يحتاج إلى تمهيد مقدّمات ثلاث:

ص: 191

............................................

_____________________________

أحديها: تتكفّل بيان معنى التوصليّة والتعبديّة، فانّ الواجب التوصّلي ما يكون المقصود منه حاصلاً بحصوله في الخارج ولو من غير المكلّف مثل تطهير الثوب إذا حصل باطارة الريح والقائه في الماء مثلاً أو من المكلّف من غير قصد الامتثال واطاعة أمر المولى، نعم اذا أتى به بقصد الامتثال يستحقّ الثواب كما انّه إذا لم يأت به ولم يحصل في الخارج بسبب آخر يستحقّ العقاب من المولى، بخلاف التعبّدي فانّ الغرض منه لا يستقط بذلك بل لابدّ في سقوطه وحصول الغرض منه اتيانه بقصد التقرّب والامتثال واطاعة المولى ولأنّه أمر به وطلبه لا لغرض آخر.

الثانية: تتكفّل بيان معنى قصد التقرّب المعتبر في العبادة وكيفيّة اعتباره في الواجب التعبّدي هل هو بالشرع أو العقل وايراد الأسئلة الواردة في المقام ودفعها، وفي الحقيقة هذه المقدّمة مقدّمة للمقدّمة الثالثة الآتية، أمّا المعنى المراد منه، فهو إمّا أن يكون قصد امتثال الأمر الذي تعلّق بالعبادة وموافقته، واما تحصيل المصلحة الكامنة في الفعل والاتيان به لحسنه، واما للَّه تعالى خالصاً ومخلصاً لوجهه، اما الأوّل فلا يعقل أن يكون دخيلاً في المأمور به شرعاً لا بنحو الشرطيّة ولا الشطريّة، اما الأوّل فلأن ما يحصل من قبل الشي ء لا يعقل أن يكون شرطاً فيه فان قصد امتثال الأمر لا يمكن أن يحصل من العبد إلّا بعد صدور الأمر وحصوله، ففي الموقع الذي لا يمكن حصول المأمور به كيف يجوز صدور الأمر من المولى وطلب غير الممكن منه ؟ فانّ الأمر بغير المقدور لا يصدر من الحكيم لأنّه قبيح.

فان قلت: الأمر كذلك في حال الأمر لا حال الامتثال فانّه إذا أمر المولى بقوله

ص: 192

............................................

_____________________________

أقيموا الصلوة بداعي أمر أقيموا لا يعقل جواز الاتيان بالمأموريّة به قبل صدور الأمر اما في حال الامتثال الذي هو متأخّر من الأمر لا مانع من موافقة أمره والاتيان بالصلاة بالقصد المعتبر فيه فلا مانع من اعتبار القصد المزبور في المأمور به شرعاً.

قلت: بل لا يمكن الامتثال بالنحو المزبور والاتيان بالصلوة بداعي أمره حينئذٍ أيضاً اذ الفرض انّه لم يأمر بالصلوة على هذا كي يأتي بها العبد بالداعي المزبور ويوافق أمره، بل إنّما أمره صدر منه مقيّداً والأمر بالمقيّد لا يكون أمراً بالمطلق.

فان قلت: الأمر بالصلوة مقيّداً بها أمر أيضاً لتحليل الأمر الواحد إلى أمرين فانّ الأمر وإن تعلّق بشي ء واحد وهو المقيّد ولكن في الحقيقة متعلّق بذات المأمور به وقيده معاً.

قلت: الجزء التحليلي العقلي لا يكون متعلقاً للأمر أصلاً فانّه ليس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي.

فان قلت: هذا كلّه كذلك اذا أخذ قصد امتثال الأمر في المأمور به على نحو الشرطيّة، وأمّا إذا أخذ شطراً فالأمر المتعلّق بالمركب متعلّق بأجزائه فنفس المأمور به مثل الصلوة مثلاً ممّا تعلّق به الأمر حينئذٍ ويرفع جميع الاشكالات الواردة.

قلت: اعتبار قصد الامتثال في المأمور به على نحو الشطريّة ممتنع، لأنّه على هذا يتعلّق الأمر بالارادة والقصد الغير الاختياري اذ عليه ينحل أمر أقيموا الصلوة بقصد الامتثال مثلاً إلى الأمر بالصلوة والأمر بالقصد والارادة، ونفس الفعل

ص: 193

............................................

_____________________________

المأمور به كالصلوة مثلاً وإن كان اختياريّاً بسبب ارادته، إلّا ان ارادته ليس باختياري وإلّا لتسلسلت واحتاج كلّ ارادة إلى ارادة أخرى، مع انّه لا يمكن الاتيان بجزء الواجب حينئذٍ وهو داعي الوجوب وامتثال الأمر بداعي وجوبه في ضمن اتيان تمام الواجب بهذا الداعي، اذ يرجع محصله إلى الاتيان بشي ء مركّب من قصد الامتثال وغيره بداعي امتثال الأمر بهذا المركب.

قلت: ذلك كذلك إذا كان الأمر المتعلّق بنفس العبادة وقصد امتثال الأمر بها أمراً واحداً، أمّا إذا كان بأمرين أحدهما تعلّق بذات الفعل وثانيهما باتيانه بداعي أمره فلا محذور أصلاً، فللآمر أن يتوسّل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده، بأن يطلب ذات الفعل بأمر واتيانه بداعي امتثال الأمر الأوّل بأمر آخر.

قلت: أوّلاً انّه من المقطوع بأنّه ليس في العبادات الا امر واحد كغيرها من الواجبات والمستحبّات التوصليّة، وغاية الفرق بين العبادات وغيرها هو انّ الثواب والعقاب في العبادات دائران مدار قصد الامتثال وجوداً وعدماً يعني انّ الاتيان بالفعل بقصد الامتثال سبب لاستحقاق الثواب، وعدم قصد الامتثال واطاعة المولى بأن لا يأتي بالفعل أصلاً أو يأتي بها لا بقصد الطاعة يوجب استحقاق العقاب بخلاف غير العبادات من الواجبات والمستحبّات فان استحقاق الثواب فيها دائر مدار قصد الامتثال فقط وأمّا استحقاق العقوبة فلا يتحقّق إلّا بترك الموافقة وعدم الاتيان بالفعل المأمور به وأمّا إذا أتى به لا بقصد الامتثال بل لغرض آخر فلا يستحقّ عقوبة.

ص: 194

............................................

_____________________________

وثانياً ان مع فرض تعدّد الأمر إن كان الأمر الأوّل يسقط بمجرّد الموافقة والاتيان بالفعل المأمور به ولو لا بقصد الامتثال فلا يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني مع موافقة الأمر الأوّل، اذ الأمر الثاني لا يدلّ إلّا على وجوب موافقة الأوّل بقصد امتثاله فاذا حصل موافقة الأمر الأوّل بمجرّد الموافقة والاتيان بالفعل المأمور به مطلقاً ولو لا بقصد الامتثال فلا يمكن أن يكون له وجه، إلّا عدم حصول غرض المولى وإلّا فان حصل غرضه بمجرّد الموافقة لا وجه لعدم سقوط الأمر، وإذا كان عدم سقوط الأمر الأوّل لعدم حصول غرض المولى بمجرّد الموافقة لا حاجة بأن يتوسّل في الوصلة إلى غرضه بتعدّد الأمر بل العقل مستقل بوجوب موافقة أمر المولى على نحو يحصل به غرضه فالعقل حاكم بلزوم قصد الامتثال في اطاعة الأمر المتعلّق بذات الفعل ليحصل به غرض المولى، فصار المحصّل انّه لا يجوز أن يكون قصد الامتثال المعتبر في العبادات مأموراً به بالأمر الشرعي بل ممّا يستقل به العقل كوجوب أصل الاطاعة أيضاً.

واستشكل الشارح الكاظميني قدس سره على المصنّف بأن قصد الاطاعة من قيود المأمور بحكم العقل لا المأمور به وان اشتراط قصد الاطاعة في الصلوة مثلاً بحكم العقل يرجع لباً إلى وجوب الصلوة على المكلّف قاصداً للاطاعة بفعله ويصير أمر المولى بالصلوة مثلاً في قوّة قوله صلّ مثلاً مطيعاً بأن يكون الوصف حالاً من ضمير المخاطب ولا يلزم أن يكون الاتيان بها مطيعاً ممكناً قبل تعلّق الأمر اذ متعلّق الأمر هو الصلوة فقط والقيد خارج عنها فهو كاضرب قائماً في انه قد أخذ

ص: 195

فيجزي إتيانه مطلقا، ولو بدون قصد القربة، أو لا؟

فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته إلى الاصل.

لابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات: إحداها: الوجوب التوصلي، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب، ويسقط بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لابد - في سقوطه وحصول غرضه - من الاتيان به متقربا به منه تعالى.

ثانيتها: إن التقرب المعتبر في التعبدي، إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي أمره، كان مما يعتبر في الطاعة عقلا، لا مما أخذ في نفس العبادة

_____________________________

القيد على نحو لا يتحقّق إلّا مسبوقاً بالأمر لا سابقاً فيمكن امتثاله بلا ريب(1).

أقول: من المعلوم انّ العقل لا يحكم بأزيد من وجوب العلم بتفريغ الذمّة من تكليف المولى وحيث لا سبيل إلى العلم بذلك إلّا اتيان المأمور به بقصد الامتثال بحكم قاعدة الاشتغال يجب أن يأتي بذلك القصد من دون أن يكون ذلك القصد قيداً للمأمور به أو المأمور، بل حكمه حكم مستقل لا دخل له بأمر المولى أصلاً فما أفاده تطويل بلا طائل كما لا يخفى، هذا كلّه إذا كان المعتبر في التعبديّات قصد امتثال الأمر واطاعة المولى، فالتقرب الذي اعتبروه في العبادات اما بمعنى ما لا يمكن أخذه في المأمور به وجعله متعلّقاً للأمر واما بمعنى ما لا يعتبر في العبادة قطعاً.

ص: 196


1- الهداية في شرح الكفاية: 153.

شرعا، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الامر بشي ء في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا أو شطرا، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للامر، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.

وتوهم إمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر، وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي، ضرورة إمكان تصور الامر لها مقيدة، والتمكن من إتيانها كذلك، بعد تعلق الامر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر، واضح الفساد، ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان، إلا أنه لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها، لعدم الامر بها، فإن الامر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الامر، ولا يكاد يدعو الامر إلا إلى ما تعلق به، لا إلى غيره.

إن قلت: نعم، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالامر بها مقيدة.

قلت: كلا، لان ذات المقيد لا يكون مأمورا بها، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة.

إن قلت: نعم، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا، وأما إذا أخذ شطرا، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد، يكون متعلقا للوجوب، إذ المركب ليس إلا نفس الاجزاء بالاسر، ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحة الاتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.

قلت: مع امتناع اعتباره كذلك، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري،

ص: 197

فإن الفعل وإن كان بالارادة اختياريا، إلا أن إرادته - حيث لا تكون بإرادة أخرى، وإلا لتسلسلت - ليست باختيارية، كما لا يخفى.

إنما يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي، ولا يكاد يمكن الاتيان بالمركب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

إن قلت: نعم، لكن هذا كله إذا كان إعتباره في المأمور به بأمر واحد، وأما إذا كان بأمرين: تعلق أحدهما بذات الفعل، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره، فلا محذور أصلا، كما لا يخفى.

فللآمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده، بلا منعة.

قلت: - مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد، كغيرها من الواجبات والمستحبات، غاية الامر يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها المثوبات والعقوبات، بخلاف ما عداها، فيدور فيه خصوص المثوبات، وأما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة - أن الامر الاول إن كان يسقط بمجرد موافقته، ولو لم يقصد به الامتثال، كما هو قضية الامر الثاني، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الاول بدون قصد امتثاله، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة، وإن لم يكد يسقط بذلك، فلا يكاد يكون له وجه، إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله، وإلا لما كان موجبا لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الامر، لاستقلال العقل، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الامر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه، فيسقط أمره.

هذا كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.

ص: 198

وأما إذا كان بمعنى الاتيان بالفعل بداعي حسنه، أو كونه ذا مصلحة أو له تعالى فاعتباره في متعلق الامر وإن كان بمكان من الامكان، إلا أنه غير معتبر فيه قطعا، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال، الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بديهة.

تأمل فيما ذكرناه في المقام، تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الاعلام.

ثالثتها: إنه إذا عرفت[1] بما لا مزيد عليه، عدم إمكان أخذ قصد الامتثال

_____________________________

[1] أقول: بيانه انّه إذا ثبت عدم امكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به شرعاً فلا مجال لاثبات توصليّة الواجب باطلاق الأمر وعدم أخذ القيد المزبور في متعلّقه ولو كان الآمر بصدد تمام البيان، اذ ما لا يمكن تقييده لا يمكن اطلاقه وحيث لا تقييد فلا اطلاق، ولا يكاد يصحّ الاستناد إلى الاطلاق والتمسّك به إلّا فيما يمكن اعتبار ما فيه من القيود، فاطلاق الصيغة بمادّتها كما إذا قيل صلّ مثلاً من دون أن يقيّد مادّة الصيغة بقيد قصد الامتثال لا يدلّ على حصول غرض المولى من الأمر المذكور بمجرّد الموافقة والاتيان بذات الفعل المأمور به ولو لا بقصد الامتثال ولا وجه كذلك، لما عرفت من استظهار عدم اعتبار مثل قصد الوجه كالوجوب وغيره أيضاً في العبادة لاطلاق مادّة الأمر، نعم قد كشف المصنّف عن وجه آخر لجواز التمسّك بالاطلاق في اثبات التعبديّة وهو انّه إذا كان الآمر بصدد بيان تمام ماله دخل في غرضه وإن لم يكن له دخل في متعلّق أمره وكان خارجاً عمّا أمر به ومعه سكت عن بيانه ولم ينصب دليلاً على دخل قصد الامتثال في حصوله يكون سكوته حينئذٍ قرينة على عدم دخله في غرضه وإلّا لكان نقضاً له وخلاف الحكمة.

ص: 199

في المأمور به أصلا، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه - ولو كان مسوقا في مقام البيان - على عدم اعتباره، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصح التمسك به إلا فيما يمكن اعتباره فيه.

فانقدح بذلك أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل الآمر، من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها، نعم إذا كان الآمر في مقام بصددبيان تمام ماله دخل في حصول غرضه، وإن لم يكن له دخل في متعلق أمره، ومعه سكت في

_____________________________

واستشكل الشارح الكاظميني عليه بأنّه بعد ما عرفت من تقيد المأمور بقصده للاطاعة بحكم العقل وإن معنى قوله صلّ مثلاً ايت بالصلوة مطيعاً لا مجال لاستكشاف عدم دخل ذلك القصد في غرض المولى بالوجه المزبور بل يجب اتيانه كلّما أمر بمطلوبه مطلقاً وإن كان بصدد بيان تمام ما له الدخل في غرضه ومع ذلك سكت عن بيان دخالة ذلك القصد فيه أيضاً(1).

وفيه: ان قاعدة الاشتغال وحكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني لا يحكم إلّا بوجوب الاتيان بقصد الامتثال في اطاعة أمر المولى إلّا فيما إذا لم يكن بيان من المولى بعدم دخل ذلك القصد في غرضه وأمّا إذا ورد منه بيان لعدم الدخل فلا، وسكوته في مقام بيان تمام ما له الدخل في غرضه وعدم نصب دلالة على دخالة القصد المزبور بيان لعدم الدخل فلا مجرى لقاعدة الاشتغال بعد هذا البيان ولعمري ان ما أفاده المصنّف في غاية المتانة ولا غبار عليه أصلاً.

ص: 200


1- الهداية في شرح الكفاية: 158.

المقام، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه، وإلا لكان سكوته نقصا له وخلاف الحكمة، فلا بد عند الشك وعدم إحراز هذا المقام،[1] من الرجوع إلى ما يقتضيه الاصل ويستقل به العقل.

_____________________________

[1] أقول: يعني انّه إذا ثبت عدم ثبوت اطلاق في المقام يجوز التمسّك به إلّا بالوجه المزبور، فلابدّ عند الشكّ في كون الآمر في مقام تمام البيان حتّى ما لم يكن له دخل في متعلّق أمره أم لا من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل العملي المقرّر للشاكّ، والأصل العملي في هذا المقام ليس إلّا اصالة الاشتغال لا البرائة ولو قيل باصالة البرائة فيما إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وذلك لأنّ الشكّ في الأقل والأكثر شكّ في التكليف والمرجع فيه البرائة وإن أمكن الاشكال وارجاعه إلى الشكّ في المكلّف به مع العلم بالتكليف أيضاً، ولكنّ الشكّ في المقام شكّ في المكلّف به بلا كلام فيستقل العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ولا يكون العقاب مع الشكّ وعدم احراز الخروج عقاباً بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان، ومن الضروري انّه بعد العلم بالتكليف يصحّ المؤاخذة على المخالفة إن كان قصد القربة دخيلاً في المأمور به واقعاً ولم يأت به المأمور، وهكذا الأمر في كلّ ما شكّ في دخله في الطاعة والخروج به عن العهدة ولا يمكن اعتباره شرعاً في المأمور به غير قصد القربة كقصد الوجه والتميز، نعم يمكن أن يكون سكوت الشارع عنهما مع كونهما ممّا يغفل عنه العامّة غالباً وإن احتمل اعتبارهما بعض الخاصّة بياناً لعدم دخلهما في غرضه فيحكم بعدم دخلهما في

ص: 201

فاعلم: أنه لا مجال - ها هنا - إلا لاصالة الاشتغال، ولو قيل بأصالة البراء ة فيما إذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين، وذلك لان الشك ها هنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب - مع الشك وعدم إحراز الخروج - عقابا بلا بيان، والمؤاخذه عليه بلا برهان، ضرورة أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة، وعدم الخروج عن العهدة، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة، وهكذا الحال في كل ما شك في دخله في الطاعة، والخروج به عن العهدة، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتمييز.

نعم: يمكن أن يقال: إن كل ما يحتمل بدوا دخله في الامتثال، وكان مما يغفل عنه غالبا العامة، كان على الآمر بيانه، ونصب قرينة على دخله واقعا، وإلا لاخل بما هو همه وغرضه، أما إذا لم ينصب دلالة على دخله، كشف عن عدم دخله، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة، حيث ليس

_____________________________

الطاعة والعبادة، وسبباً لأن لايبقى شكّ للمكلّف في اتيان المكلّف به بعد الاتيان بذات الفعل المأمور به، بخلاف قصد القربة فانّه لما كان ملتفتاً إليه عند العامّة والخاصّة وغير مغفول عنه عندهما واحتمل دخله في الغرض عند أغلب المكلّفين فكلّما كان الآمر ساكتاً عنه ولم يحرز كونه بصدد بيان تمام ما له الدخل في غرضه ولو لم يكن متعلّق أمره لابدّ من جريان الاشتغال والاتيان به للعلم بالخروج عن عهدة تكليفه وفراغ ذمّته.

ص: 202

منهما عين ولا أثر في الاخبار والآثار، وكانا مما يغفل عنه العامة، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة، فتدبر جيدا.

ثم إنه[1] لا أظنك أن تتوهم وتقول: إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم

_____________________________

[1] بيانه انّه لا وجه لتوهّم أن يقال حال المقام حال الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين فكما انّ هناك مجرى قاعدة الاشتغال عقلاً ولكن يجري البرائة الشرعيّة فكذلك هنا وإن كان العقل يقتضي الاشتغال ولكن البرائة الشرعيّة تقتضي عدم اعتبار قصد القربة، لأنّ الفرق بينهما حاصل اذ مجرى البرائة الشرعيّة ما إذا كان الشي ء قابلاً للوضع والرفع شرعاً وكان أمر وضع المشكوك ورفعه بيد الشارع وجعله، وههنا ليس كذلك اذ اعتبار قصد القربة واقعي لا شرعي اذ هو من كيفيّات الاطاعة التي مرجعها العقل ومن المستقلّات العقليّة كأصل الطاعة أيضاً، ودخالة الجزء والشرط في غرض المولى وعنوان الجزئيّة والشرطيّة وإن كان أيضاً واقعيّاً لا شرعيّاً ولا تناله يد الجعل من الشارع إلّا انّ نفس الجزء والشرط منشأ انتزاع العنوانين قابلان للوضع والرفع شرعاً بأن يجعل شيئاً جزء للمركب او شرطاً للمشروط أو لم يجعله كذلك وإن كان بعد الجعل لم يمكن رفع دخالة ما هو الجزء أو الشرط أو وضعه في المركّب والمشروط، وإذا كان جعل نفس الجزء أو الشرط ورفعه بيد الشارع فبدليل الرفع ولو كان أصل عدم الجزئيّة أو الشرطيّة يستكشف انّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر في الغرض المشكوك اعتباره كي يجب الخروج عن عهدته عقلاً بخلاف المقام فانّه علم المكلّف بثبوت الأمر الفعلي بالمكلّف به وشاكّ في الخروج عن عهدته إن لم يقصد القربة في اتيانه.

واستشكل الشارح على المصنّف بجواز اجراء البرائة الشرعيّة هنا أيضاً كما هو الحال في الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيين، لأن وجوب الطاعة وما به يتحقّق

ص: 203

............................................

_____________________________

مفهومها وإن كان من المستقلّات العقليّة التي ليس للشرع مدخل فيها لكنّه إذا ورد من الشرع اعتبار شي ء فيها تعبدا كشف ذلك عن وجود خصوصيّة في الأمر والمأمور به على نحو لا يمكن تحصيلها إلّا بهذا النحو من الاطاعة ويكون اعتبار شي ء فيها حينئذٍ عبارة عن اعتبار جزء أو شرط في المأمور به أو خصوصية في الأمر، وعلى هذا فالمقامان من واد واحد ويعود الشكّ في اعتبار الأمر المشكوك فيه في الطاعة شرعاً إلى الشكّ في أصل التكليف كما هو الحال في الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين، نعم المقام الذي لا يجوز الرجوع فيه إلى البرائة مطلقاً هو ما إذا علم الأمر ومتعلّقه تامّاً من جانب الشارع وكان الشكّ في المحصّل ومرجعه إلى حكم العقل مستقلّاً حينئذٍ، فالطاعة عقليّة فيما إذا علم جهات الأمر وشكّ في كيفيّة الخروج عن عهدته، وشرعية فيما إذا احتمل دخل شي ء في الغرض يكون اطاعة على وجه لا يستقل العقل بحكمه(1) هذا ملخص ما أفاده ببيان أوضح وفيه ان ما أورده عين ما أفاده المصنف وسبق بيانه من انه إذا كان الآمر بصدد بيان تمام ما له الدخل في غرضه وإن لم يكن له دخل في متعلّق أمره ومع ذلك سكت عن بيان ما شكّ فيه كان ذلك قرينةً على عدم دخله في غرضه وبياناً لعدم الدخل ولا حاجة حينئذٍ إلى اصالة البرائة التي موردها عدم البيان، وإنّما الكلام فيما إذا أفاد المولى ما أراده كملا وتاماً ونحن شككنا في الخروج عن عهدة ذلك التكليف وما هو المحصّل له الذي اعترف الشارح بأنّ الطاعة في تلك الصورة عقليّة والمرجع للشاكّ حينئذٍ قاعدة الاشتغال والاحتياط.

ص: 204


1- الهداية في شرح الكفاية: 160.

الاعتبار، وإن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار، لوضوح أنه لابد في عمومها من شي ء قابل للرفع والوضع شرعا، وليس ها هنا، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي.

ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك، إلا أنهما قابلان للوضع والرفع شرعا، فبدليل الرفع - ولو كان أصلا - يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك، يجب الخروج عن عهدته عقلا، بخلاف المقام، فإنه علم بثبوت الامر الفعلي، كما عرفت، فافهم.

المبحث السادس: قضية إطلاق الصيغة،[1] كون الوجوب نفسيا تعينيا عينيا

_____________________________

[1] أقول: بيانه ان مقتضى اطلاق الصيغة بهيئتها التي مفادّها الطلب وضعاً والوجوب اطلاقاً كون الوجوب المستفاد منها نفسيّاً لا مقدّميّاً، عينيّاً لا كفائيّاً، تعيينيّاً لا تخييريّاً، مطلقاً لا مشروطاً، مجرّداً عن معنى الفور والتراخي كما ان قضيّة اطلاق المادّة منضمّاً إلى إطلاق الهيئة كون الوجوب تنجيزيّاً لا تعليقيّاً، وما لم ينصب قرينة عليه فالحكمة تقتضي كونه مطلقاً غير مقيّد بشي ء وجب هناك شي ء آخر أو لا وهو النفسي، وما كان وجوبه بسبب وجوب أمر آخر غيري، اتى بشي ء آخر أم لا وهو التعييني، والساقط بسبب الاتيان بشي ء آخر هو التخييري، أتى به مكلّف آخر أم لا وهو العيني، والساقط باتيان المكلّف الآخر هو الكفائي، أراد المكلّف حصول مقدّماته أم لا وهو المطلق، وما كان مقدّماته بارادة المكلّف هو المشروط، بادر المكلّف إلى امتثاله أم لا وهو ما لم يؤخذ فيه الفوريّة أو التراخي، والذي لابدّ فيه من المبادرة هو الفوري، أو أخذ فيه التراخي فهو

ص: 205

لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضيق دائرته، فإذا كان في مقام البيان، ولم ينصب قرينة عليه، فالحكمة تقتضي كونه مطلقا، وجب هناك شي ء آخر أو لا، أتى بشي ء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا، كما هو واضح لا يخفى.

المبحث السابع:[1] إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الامر في الوجوب

_____________________________

المتراخى، شاء امتثاله المكلّف فعلاً أم لا وهو التنجزي، وما لا يقدر المكلّف على امتثاله فعلاً وهو التعليقي، جاء المكلّف به دفعة في ضمن فرد واحد أو في ضمن أفراد وهو ما لم يؤخذ فيه المرة ولا التكرار والذي لا يصحّ إلّا الاتيان به دفعة أو في فرد واحد وهو ما دلّ على المرّة، والذي لا يصحّ الاتيان به دفعة أو دفعات أو في ضمن أفراد على اختلاف الأقوال في معنى المرّة والتكرار هو ما دلّ على التكرار.

[1] بيانه انّه اختلف في مفاد الأمر الواقع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه كقوله تعالى: « وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا »(1) فانّ الاصطياد بعد ما كان منهيّاً عنه للمحرم صار مأموراً به بعد الاحلال هل هو الاباحة أو الوجوب، وذهب بعضهم إلى تبعيته لما قبل النهي ان علّق الأمر بزوال علّة النهي، وظهورها في الاباحة قول المشهور، ونظرهم في ذلك كونها مقابلة للمنع المدلول بالنهي ولكن لا يثبت بهذا الوجه إلّا الاباحة العامّة التي يجتمع مع الوجوب والاستحباب والكراهة لا الخاصّة التي

ص: 206


1- المائدة: 2.

وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال:

نسب إلى المشهور ظهورها في الاباحة.

وإلى بعض العامة ظهورها في الوجوب.

وإلى بعض تبعيته لما قبل النهي، إن علق الامر بزوال علة النهي، إلى غير ذلك.

_____________________________

مقابلة لها وواحد من الأحكام الخمسة المتضادّة بل يحتاج في تعيينها من بين المحتملات المذكورة من الأحكام إلى قرينة معينة، ووقوعه بعد الحظر لا يعين الاباحة الخاصّة أصلاً، بل يمكن أن يكون سبق الحكم السابق معيّنة لعودها بعد النهي مطلقاً.

والتحقيق انّ القائلين بالأقوال المزبورة اشتبه عليهم الأمر من جهة موارد الاستعمال وزعموا انّ انفهام واحد من تلك المعاني منها بحسب ظهور اللفظ مع انّه لا يكون إلّا بسبب القرينة، إذ قلّما يكون مورد الاستعمال خالياً عن القرينة فلا وجه لجعلها دالّاً على ثبوت واحد منها، ومع قطع النظر عن القرائن وفرض تجريد مورد الاستعمال عن القرينة لم يظهر ولم يعلم بعد فرض التجريد كون الوقوع عقيب الحظر والنهي موجباً لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه في ما إذا لم يقع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه وهو الوجوب، نعم وقوعه عقيب الحظر سبب لاجمالها وعدم ظهورها في واحد من الاباحة والوجوب وما كان قبل النهي إلّا بقرينة أخرى، فوقوع الصيغة عقيب الحظر يوجب الاجمال وطرو الاحتمال ولا يوجب ظهوراً لها في معنى من المعاني أصلاً.

ص: 207

والتحقيق: إنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال، فإنه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب، أو الاباحة، أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه.

غاية الامر يكون موجبا لاجمالها، غير ظاهرة في واحد منها إلا بقرينة أخرى، كما أشرنا.

المبحث الثامن: الحق أن صيغة الامر مطلقا، لا دلالة لها على المرة ولا التكرار.[1]

_____________________________

[1] أقول: الحق انّ صيغة الأمر مطلقاً يعني بحسب المادّة والهيئة أيضاً لا دلالة لها على المرّة والتكرار، والمعنى المنصرف إليه منها ليس إلّا طلب ايجاد الطبيعة المأمور بها والانصراف والتبادر علامة الوضع فيعلم منه انها لم توضع إلّا لطلب ايجاد الطبيعة مجرّداً عن معنى المرّة والتكرار، واكتفاء المولى بالاتيان من العبد مرّة ليس إلّا لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة فانّ الطبيعة كما توجد في ضمن ايجاد الأفراد المتعدّدة كذلك توجد في ضمن فرد واحد أيضاً فيحصل المأمور به فيسقط الأمر.

ثمّ اعلم انّ النزاع في دلالة الصيغة على المرّة أو التكرار وعدم الدلالة على واحد منهما في المقام جار في مادّة الصيغة وهيئتها كليهما ولا يختصّ بالهيئة فقط كما زعم صاحب الفصول فان ما أفاده ناش عن الغفلة والذهول حيث ذهب إلى أنّ الاتّفاق على انّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلّا على الماهيّة على ما حكاه السكاكي دليل على انّ النزاع الواقع في هذا البحث ليس إلّا في هيئة الصيغة

ص: 208

............................................

_____________________________

لا في مادّتها، اذ اتّفاقهم على ذلك صغرى القياس فقط وهو يحتاج إلى الكبرى وهو ان مادّة الصيغة في الأمر وكذا في ساير الصيغ والمشتقّات عين المصدر وهو باطل، بل المصدر مشتق من المشتقّات وواقع في عرضها وصيغة مثلها، وقد سبق في بحث المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى فلا يكون مادّة لها، فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّتها أيضاً كهيئتها.

إن قلت: فما المراد ممّا اشتهر بين علماء الأدب وغيرهم من كون المصدر أصلاً في الكلام وبالنسبة إلى سائر المشتقّات.

قلت: أوّلاً انّه وقع الخلاف في انّه هل هو الأصل للفعل أو الفعل أصل له.

وثانياً ليس مرادهم من الأصليّة لسائر المشتقّات إلّا ان ما وضع أوّلاً بالوضع الشخصي لمعناه ثمّ بملاحظته وبالقياس عليه وضع نوعيّاً أو شخصيّاً سائر الصيغ التي تناسبه ممّا جمعه معه أي من الصيغ المختلفة التي جمع تلك الصيغ مع ما وضع أولا مادة لفظ كالضاد والراء والباء مثلاً الجامع بين الماضي والمصدر وسائر الصيغ بحسب اللفظ، فان تلك الحروف دائرة في جميع الصيغ المختلفة من الضرب والضارب والمضروب وغيرهما مصوّرة أي مادّة ذلك اللفظ وهي الحروف المذكورة مصوّرة في كلّ واحد منها يعني من الصيغ المختلفة ومنه أي ما وضع أو لا وهو الفعل أو المصدر بصورة معيّنة وهي وزن فعل بفتحات متوالية أو يفعل مثلاً، ومعنى كذلك يعني انّ الجامع بين الصيغ وما وضع أوّلاً كما يكون مادّة لفظ مصوّرة في كلّ منها بصورة، كذلك يكون معنى مثل ذلك اللفظ يعني مصوّراً في كلّ واحد

ص: 209

............................................

_____________________________

من الصيغ بصورة، مثل زدن وزده است و مى زند المصدر والماضي والمضارع، « هو الفعل أو المصدر » يعني ان ذلك الموضوع أوّلاً بالوضع الشخصي الذي بينّا نسبته مع سائر الصيغ هو الفعل أو المصدر، فاذا كان المراد من الأصليّة هذا المعنى فكيف يدلّ قولهم انّ المصدر المجرّد عن التنوين واللام لا يدلّ إلّا على الماهيّة، على انّ النزاع في المقام مختصّ بالهيئة ولا يشمل المادّة.

مع انّه بناء على هذا التحقيق لا يكون المصدر مادّة للصيغة وتوضيح المقام ان حال المصدر أو الفعل بالنسبة إلى سائر الصيغ المختلفة كحال اسم الجنس بالنسبة إلى الأسماء الاخر التي لحقها اللواحق، فكما انّه جعل اسم الجنس أصلاً ومعناه مطلق الماهيّة فاذا لحقه التنوين دلّ على فرد منها والألف والنون فعلى فردين وهكذا في جميع اللواحق مع انّ في صحيح الاستعمال من ابتداء الوضع إلى الان لم يستعمل إلّا الملحق به أحد هذه الأمور ما خلا نادر من النوادر فكذلك المصدر فانّه كاسم الجنس فاذا لحقه هيئة الماضي دال على شي ء أو هيئة المستقبل دلّ على شي ء آخر وهكذا، فتكون الهيئات المختلفة كلواحق اسم الجنس المختلفة، وإن كان وضع الجميع في عرض واحد إلّا ان ذلك يستكشف في المقامين من النظر إلى ان هناك معنى واحد تعتور عليه أمور مختلفة فيسمّى ذلك أصلاً والباقي فرعاً، فالمصدر وإن أخذ بمعناه مادّة لسائر الصيغ بالمعنى المزبور إلّا انّه لا يصحّح ما في الفصول لجواز ان يراد حين كونه مادّة غير ما يراد حين كونه وحده كما في اسم الجنس، والاتّفاق المذكور لا يدلّ حينئذٍ على شي ء لاختصاصه بصورة خلوه

ص: 210

فإن المنصرف عنها، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة، فإنما هو لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك: أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين، لا يدل إلا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ها هنا في الهيئة - كما في الفصول - فإنه غفلة وذهول عن انّ كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات، بل هو صيغة مثلها، كيف؟ وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادة لها؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها، كما لا يخفى.

إن قلت: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام.

قلت: مع أنه محل الخلاف، معناه أن الذي وضع أولا بالوضع الشخصي، ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا سائر الصيغ التي تناسبه، مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه، بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل، فافهم.

_____________________________

من كلّ شي ء فلا دخل له بصورة لحوق الهيئات له، ولاينافي ذلك كون معنى الهيئة من حيث هي لا ربط له بالمرّة والتكرار ضرورة ان لحاظ المركّب مادّة وهيئة غير لحاظ كلّ من حيث هو كما هو واضح، فعلى هذا يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّتها كما لا يخفى.

ص: 211

ثم المراد بالمرة والتكرار، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والافراد؟[1]

_____________________________

[1] بيانه انّ المرّة والتكرار في محلّ النزاع محتملان للمعنيين الدفعة والدفعات والفرد والأفراد والمراد من الفرد والأفراد الوجود الواحد والوجودات ومن الدفعة والدفعات عدد الطبيعة المأتي بها وبعبارة اخرى الدفعة والدفعات من عوارض الطبيعة مع قطع النظر عن الأفراد حيث هي أفراد، وعنوان الفرديّة التي عبارة عن الوجود الخارجي مقابل للطبيعة وليس من عوارضها، والنسبة بين الفرد والدفعة العموم والخصوص المطلق اذ كلّ ما صدق عليه الفرد الواحد يصدق عليه الدفعة البتة وبعض ما يصدق عليه الدفعة لا يصدق عليه الفرد، إذ يجوز أن يأتي بالافراد المتكثّرة دفعة واحدة وكذلك النسبة بين الأفراد والدفعات عموم وخصوص مطلق إذ كلّ ما أتى بالدفعات أتى بالافراد ولكن يمكن أن يأتي بالافراد لا بالدفعات بل دفعة واحدة كما عرفت، ولكن الظاهر منهما الأوّل ويجريى النزاع بالنسبة إلى كلّ منهما.

وقال بعض: انّ المراد الدفعة والدفعات معيّناً فقط لأنّه لو كان المراد منهما الفرد والأفراد لما جعل بحث المرّة والتكرار بحثاً عليحدّة بل جعله تتمّة لبحث تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد بأن يقال في ذيل ذلك البحث انّه على تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التعلّق بالفرد الواحد أو الأفراد المتعدّدة أو لا يقتضي شيئاً منهما ولم يحتج إلى إفراد كلّ من بحث المرّة والتكرار وبحث تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد كما فعله الأصوليّون وجعلوا للعنوانين بحثين، اما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسئلتين، وهو فاسد على ما أفاده المصنّف من انّ المراد من الفرد في البحثين ليس معنى

ص: 212

............................................

_____________________________

واحد فانّ الفرد في ذلك البحث بمعنى ما يقابل الطبيعة والماهيّة وهو الموجود الشخصي الخارجي المتشخّص بالمشخّصات الخارجيّة، وفي هذا البحث المراد من الفرد يقابل الطبيعة من الأشخاص الخارجيّة بل الوجود الواحد والوجودات المتعدّدة، وإنّما عبّر عنه بالفرد لأن وجود الطبيعة في الخارج إنّما هو الفرد، ولا يجوز أن يكون المراد في البحث الآتي من الفرد المعنى الذي في مقابل الطبيعة الصرفة وهو الوجود، فانّ الطبيعة الصرفة ومن حيث هي ليست إلّا هي فكيف يمكن أن يكون متعلّقاً للأمر ؟ فالمراد من الطبيعة في البحث الآتي الطبيعة الموجودة في ضمن الفرد، ومن الفرد، الموجود الخارجي المتشخّص بالخصوصيّات الخارجيّة، والمراد من الفرد والأفراد في هذا البحث الوجود الواحد والوجودات المتعدّدة، فاذا كان المراد من الفرد في البحثين معنيين متغايرين لا علقة بينهما فليس اللازم بل غير جائز أن يجعل هذا البحث بناء على كون المراد من المرّة والتكرار الفرد والافراد تتمّة للبحث الآتي، فقول المصنّف فانّ الطلب على القول بالطبيعة إنّما يتعلّق بها باعتبار وجودها في الخارج الخ توطئة لبيان الفرق بين الفرد في البحثين وانّ المراد منه في أحدهما غير المراد منه في البحث الآخر، ويمكن أن يقال أيضاً في ردّ ما أورده المستشكل بأنّه إن كان المراد من المرّة والتكرار خصوص الفرد والأفراد فقط لا مع الدفعة والدفعات فالأنسب جعل هذا البحث تتمّة للبحث الآتي وأمّا إذا كان النزاع جارياً فيما إذا كان المراد منهما الدفعة والدفعات أيضاً فالحاق حال كونها بمعنى الفرد والأفراد

ص: 213

............................................

_____________________________

بهذا البحث والعنوان أنسب من فصله وادراجه في عنوان تلك المسئلة كما هو واضح.

ويمكن أن يورد على المصنّف بأن ما حقّقه من انّ المراد من الفرد في البحثين معنيان متغايران لا يرفع العلقة بين المسئلتين على تقدير تعلّق الأمر بالطبيعة، اذ يتفرّع عليه حينئذٍ انّ التعلّق بها من حيث الوجود هل هو باعتبار الفرد أو الأفراد، فيكون الأنسب جعل هذا البحث بناء على كون المراد من المرّة الفرد تتمّة للبحث الآتي.

وصاحب الفصول حيث أثبت العلقة بين المسئلتين بناء على كون المرّة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد لم يخصّها بالقول الثاني وهو القول بتعلّق الأمر بالأفراد فقط، بل قال انّه بناء على كون المرّة بمعنى الفرد في هذا البحث يحصل العلقة بينه وبين بحث تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد مطلقاً، نعم خصّه بالذكر حيث قال بناء على تعلّق الأمر بالفرد يحصل العلقة بين هذا البحث وذلك، لأنّه لم يسبق له ذكر ولدفع توهّم الحاجبي حيث توهّم التلازم بين التعلّق بالفرد ووحدة الفرد فلذا قال بأنّه بناء على التعلّق بالفرد يجري البحث في دلالة الأمر على المرّة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد لَرُدَّ توهّم التلازم بين الفرد ووحدته(1)، فالجواب الصحيح حينئذٍ ينحصر بما ذكر من انّه على تطرّق الاحتمالين المزبورين في لفظ المرّة والتكرار فادراج البحث في وحدة الفرد وتعدّده في هذا البحث أولى من الحاقه بذلك فافهم واستقم.

ص: 214


1- الفصول الغرويّة في الاُصول الفقهيّة: 71.

والتحقيق: أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع، وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول، وتوهم أنه لو أريد بالمرة الفرد، لكان الانسب، بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتي، من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلقه بالفرد، هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد؟ أو لا يقتضي شيئا منهما؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه، وأما لو أريد بها الدفعة، فلا علقة بين المسألتين، كما لا يخفى، فاسد، لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج، ضرورة أن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين، فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها.

أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد، غاية الامر خصوصيته وتشخصه على القول بتعلق الامر بالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالافراد، فإنه مما يقومه.

تنبيه: لا إشكال بناء على القول بالمرة[1] في الامتثال، وأنه لا مجال للاتيان

_____________________________

[1] بيانه ان حصول الامتثال باتيان المأمور به مرّة واحدة لا شبهة فيها بناء على دلالة الأمر على المرّة، وأيضاً لا شبهة في عدم جواز الاتيان بالمأمور به بناء على ذلك ثانياً بعنوان الامتثال، إذ لا وجه للامتثال عقيب الامتثال فانّه من تحصيل الحاصل وهو محال، أمّا بناء على دلالة الصيغة على طلب الطبيعة فقط

ص: 215

............................................

_____________________________

مجرّداً عن قيد المرّة أو التكرار كما هو المختار ففي حصول الامتثال بالمرّة وعدمه وجواز الاتيان بالمأمور به ثانياً بعد المرّة الأولى وعدم جوازه تفصيل، وشرح المقامين يقتضي أن يقال إنّه إمّا أن يكون اطلاق الصيغة وطلب المولى في مقام البيان أو الاهمال والاجمال.

أمّا على الأوّل فلا إشكال في الاكتفاء بالمرّة في الامتثال وإنّما الاشكال في جواز عدم الاقتصار بالمرّة والاتيان به ثانياً بعنوان الامتثال وعدمه والتحقيق عدم جواز الاتيان به دفعة بعد دفعة بهذا العنوان إذ لا وجه للامتثال بعد الامتثال نعم إنّما يجوز الاتيان بالافراد المتعدّدة دفعة واحدة لأنّه امتثال واحد ولا تعدّد فيه فانه نحو من الامتثال أيضاً كالاتيان بفرد واحد، فانّ الطبيعة كما يوجد بايجاد فرد واحد كذلك بافراد متعدّدة فالاتيان بالأفراد المتعدّدة دفعة واحدة لا مانع منه، وإنّما الممنوع الاتيان بالأفراد المتعدّدة دفعة بعد دفعة، ولكن هذا إذا كان الامتثال والاتيان بالمأمور به علّة تامّة لحصول غرض المولى إذ بعد تحصيل غرضه أولا لا مجال لتحصيله ثانياً فانّه من تحصيل الحاصل كما مرّ على القول الآخر، وأمّا إذا لم يكن علّة تامّة لحصول غرض المولى كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضّأ ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلاً فلا مانع من تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أفضل منه بل المساوى كما جاز ذلك للعبد قبل الاتيان بأن قصد الاتيان بفرد ثمّ بَدا لَهُ فبدله بفرد أفضل أو المساوي، هذا كلّه إذا كان المطلق بالكسر في مقام البيان.

ص: 216

بالمأمور به ثانيا، على أن يكون أيضا به الامتثال، فإنه من الامتثال بعد الامتثال.

وأما على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار، فلا يخلو الحال: إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان، بل في مقام الاهمال أو الاجمال، فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز أن لا يقتصر عليها، فإن لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها، هو الاتيان بها مرة أو مرارا، لا لزوم الاقتصار على المرة، كما لا يخفى.

والتحقيق: إن قضية الاطلاق إنما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو أفراد، فيكون إيجادها في ضمنها نحوا من الامتثال، كإيجادها في ضمن الواحد، لا جواز الاتيان بها مرة ومرات، فإنه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر، فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى، بحيث يحصل بمجرده، فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر، أو

______________________________

وأمّا إذا كان في مقام الاجمال فالدليل يدلّ على عدم جواز الاتيان بالمأمور به دفعة بعد دفعة لما مرّ من عدم جواز الامتثال بعد الامتثال فيما إذا كان الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض، وأمّا فيما لم يكن كذلك فلا مانع من تبديل الامتثال، وأمّا جواز الاتيان بالأفراد المتعدّدة من المأمور به دفعة واحدة في هذه الصورة وعدم جوازه فلا وجه لاثبات أحدهما، فيكون المرجع سقوط الأمر بالاتيان بالمأمور به في ضمن الأفراد المتعدّدة للشكّ في جواز ذلك اذ الأصل عدم جواز الاتيان بالأكثر من فرد واحد ووجوب الاقتصار على القدر المتيقّن.

ص: 217

بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها، وسقوط الغرض معها، وسقوط الامر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتي به، ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه، بل مطلقا، كما كان له ذلك قبله، على ما يأتي بيانه في الاجزاء.

المبحث التاسع: الحق أنه لا دلالة للصيغة، لا على الفور ولا على التراخي.[1 ]

_____________________________

[1] أقول: الحق انّه لا يدلّ صيغة الأمر على وجوب الفور ولا على جواز التراخي لتبادر طلب ايجاد الطبيعة منها فقط بلا دلالة على أحدهما، والتبادر من علائم الحقيقة فاذا ثبت بدليل التبادر عرفاً كونه حقيقة في الطلب المجرّد عن القيدين يثبت باصالة عدم النقل وعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة انّه لغة وشرعاً كذلك أيضاً، فالأوامر الشرعيّة كلّها خالية عن المعنى المذكور، نعم قضيّة اطلاقها وعدم تقييدها بقيد الفوريّة جواز التراخي وعدم وجوب الفور.

وأورد الشارح الكاظميني على المصنّف بأن قضيّة الاطلاق جوازهما معاً لاالتراخي فقط وإن كان الثمرة لا تظهر إلّا بجواز التراخي(1)، ولا ثمرة في جواز الفور كي نحتاج إلى اثباته باطلاق الصيغة اذ جوازه مستلزم لجوازه ومن يجوز التراخي يجوز الفور أيضاً وإنّما لا يوجبه من يجوزه.

ص: 218


1- الهداية في شرح الكفاية: 166.

.............................................

______________________________

وجوابه: انّ مراد المصنّف من جواز خصوص التراخي جوازه وجواز الفور أيضاً بسبب البيان المزبور والتصريح بافادة الاطلاق جواز خصوصه لا جوازه أيضاً لاختيار الاختصار والمقصود واضح فليس مخلاً، والاشكال على العبارة مع وضوح المقصود ليس من دأب العلماء والمحصّلين.

وادّعى جماعة انّ الصيغة بنفسها وإن لم يكن دالّاً على أحد القيدين ولكن الدليل الخارجي قائم على وجوب الفور في الأوامر الشرعيّة كقوله تعالى: « وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ »(1) وقوله تعالى: « فَاسْتَبِقُوا الخَيرات »(2).

وأجاب عنه المصنّف: بأن الآيتين لا تدلّان إلّا على استحباب المسارعة والاستباق وليس الأمر منهما للوجوب، إذ لو كان كذلك وكان ترك الامتثال لهما مستتبعاً للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب وأجدر، اذ البعث بنحو التحذير والترهيب إلى الشي ء أصرح في الدلالة على الوجوب، وورودهما في مقام التأكيد يقتضي التعبير بالانص والأصرح، والوجه الآخر الذي أفاده المصنّف في اثبات كون الأمر فيهما للاستحباب هو انّه لو كان للوجوب لزم كثرة تخصيصه في جميع المستحبّات وكثير من الواجبات بل أكثرها، إذ المسارعة إلى ما أصله مستحب لا يجب وغالب الواجبات مضيقة لا سعة في وقتها فلا يتصوّر مسارعة .

ص: 219


1- آل عمران: 133.
2- مائدة: 48.

...............................................

_______________________________

إليها، فلابدّ اذن من حمل الأمر فيهما على الندب ومطلق الطلب.

ثمّ أفاد قدس سره وجها ثالثاً إذا تمّ لا مساس لهما باثبات الفوريّة في الأوامر الشرعيّة وهو انّ العقل يستقلّ بحسن المسارعة والاستباق إلى ما أمر به المولى ولا يبعد أن يكون الأمر بهما في الآيتين ارشاداً إلى ما يستقلّ به كالآيات والروايات الواردة في البعث على أصل الطاعة كقوله تعالى: « أطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرسول »(1) ولا جهة مولويّة فيهما أصلاً، بل يكون الأمر بهما لما يترتّب على أصل المادّة بنفسها ولو لم يكن أمر بها، كما هو الشأن في جميع الأوامر الارشاديّة كأوامر الطبيب للمريض فانّه لا يترتّب على أمره إلّا ما يترتّب على أصل استعمال الدواء من اصلاح المزاج ودفع الداء كما انّ مخالفتها لا تستتبع إلّا خراب المزاج واستيلاء المرض، ولا يترتّب على موافقتها ومخالفتها من حيث انّها أوامر صدرت من الآمر أثر ولا استحقاق مثوبة ولا عقوبة أصلاً، بخلاف الأمر المولوي فانّه يؤثر في تحصيل المنفعة والوقوع في المضرّة بسبب الموافقة والمخالفة من حيث انّه أمر صدر من المولى، فضلاً عمّا يترتّب على نفس ايجاد الفعل المأمور به من المنفعة وتركه من الوقوع في المضرّة.

وأورد الشارح الكاظميني على ما أفاده المصنّف في الوجه الأوّل من الوجهين الذين استدلّ بهما على كون الأمر في الايتين للندب أو مطلق الطلب بأنّ البعث إلى الواجبات كما ورد بنحو الترهيب والتوعيد ورد أيضاً بنحو الترغيب والوعد كما .

ص: 220


1- النساء: 59.

..........................................

____________________________

هو الحال في كلّ واجب في الشريعة كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار والآثار، فلا دلالة فيما ذكر على ما ادّعى(1).

وجوابه: ان ورود البعث إلى الواجبات بالنحوين المزبورين ممّا لا يكاد ينكر وكيف يظنّ بمثل المصنف انكار مثل ذلك الأمر الواضح الا ان مراده انّه لما كان المراد من الأمر في الآيتين التأكيد للأوامر الاخر الأوليّة والترغيب في امتثالها كان الأنسب أن يكون بنحو الترهيب والوعيد، لأنّ التأكيد كلّما كان آكد وأقوى يكون أنسب وأولى، لأن مقتضيات مقام الكلام لابدّ أن يلحظ في البيان ويراعى في التعبير، وهذا بخلاف الأوامر الأوليّة فانّه لا تفاوت في ايرادها بأحد النحوين والمقام فيها لا يقتضي أمراً زائداً على الكشف عن وجوب المأمور به، ثمّ قال الشارح المؤمى إليه نعم في مادّة المسارعة والاستباق دلالة تامّة على الندب، إذ لا يصدقان إلّا فيما اتّسع وقته، ولذا ترى من أقبح الكلام القول بأن زيداً سارع إلى الصوم أوّل الفجر أو استبق إليه ومن أحسنه قول سارع إلى الصلوة أوّل الوقت واستبق إليها وهذا في غاية الوضوح. انتهى.

أقول: الانصاف انّ هذا الوجه الذي استدلّ به على كون الأمر للندب أضعف بمراتب ممّا استدلّ به المصنّف، اذ ما أفاده المصنّف وقد عرفت شرحه وجه وجيه لاثبات المطلوب وإن لم يوجب الاطمينان التام بثبوته، ولكن ما أفاده إنّما يتمّ إذا لم يكن الامر في الآيتين تأكيداً للأوامر الأوليّة ومزيد ترغيب في امتثالها فان

ص: 221


1- الهداية في شرح الكفاية: 167.

نعم قضية إطلاقها جواز التراخي، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها، بلا دلالة على تقييدها بأحدهما، فلا بد في التقييد من دلالة أخرى، كما ادعي دلالة غير واحدة من الآيات على الفورية.

وفيه منع، ضرورة أن سياق آية «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم»(1) وكذا آية «فاستبقوا الخيرات»(2) إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى

_____________________________

مساق الآيتين مساق قوله: أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول ولا دلالة فيهما أزيد من دلالتهما، وعنوان المسارعة والاستباق بما هو مسارعة واستباق ليس ملحوظاً ومنظوراً فيهما قطعاً كي تدور المراد مدارهما وينحصر الدلالة في خصوص ما اتّسع وقته، بل لب المراد منهما انّه لا تتركوا امتثال الأوامر ووسائل مغفرة ربكم ولا تسامحوا في أداء ما طلب اللَّه منكم، كما انّ الشخص الواعظ يقول على المنبر بالفارسيّة مثلاً: تعجيل كنيد در اداء واجبات خدا وامتثال أوامر الهيه ومسامحه نكنيد در اصلاح أمر آخرت، و دنيا را بر دين مقدم نداريد و آخرت را به دنيا نفروشيد، فكما انّه ليس في لفظ التعجيل الذي يقوله الواعظ ما أفاده من الاختصاص بما يتّسع وقته فكذلك الحال في الآيتين إذ سياقه سياق قوله ولا تفاوت بين القولين أصلاً.

ولا يخفى ان ما أورده على الشارح يرد على ما أفاده المصنّف أيضاً في الوجه الثاني من استلزام كون الأمر فيهما للوجوب لتخصيصها بالنسبة إلى كثير من الواجبات فتذكر.

ص: 222


1- سورة آل عمران: 133.
2- سورة البقرة: 148، المائدة: 48.

الخير، من دون استتباع تركهما للغضب والشر، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب، كما لا يخفى، فافهم.

مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات، وكثير من الواجبات بل أكثرها، فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب، ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك، كالآيات والروايات الواردة في الحث على أصل الاطاعة، فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها، ولو لم يكن هناك أمر بها، كما هو الشأن في الاوامر الارشادية، فافهم.

تتمة: بناء على القول بالفور،[1] فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث

_____________________________

[1] أقول: ويتفرّع على القول بكون صيغة الأمر للفور انّه هل قضيّة الصيغة جريان التراخي في الفوريّة بمعنى الاتيان بالمأمور به فوراً ففوراً ولا تراخى فيها بل بانتفاء الفوريّة في الزمان الأوّل ينتفي الطلب رأساً، وجهان مبنيّان على ان مفاد الصيغة على القول بوجوب الفور هو وحدة المطلوب أو تعدده بمعنى ان قوله افعل كذا مثلاً يجب عليك الاتيان بالمأمور به في الزمان الثاني من الأمر فان عصيت ففي الثالث وإلّا ففى الرابع وهكذا، إذ المراد انّه يجب عليك الاتيان به في الزمان الثاني فقط ولا دلالة على الحكم فيما بعده، فعلى الأوّل يجب الاتيان به فوراً ففوراً وعلى الثاني لا يجب، ولا يخفى انّه لو قيل بدلالتها على الفوريّة لما كان لها دلالة على وحدة المطلوب وتعدّده إذ لو كان لها دلالة لكان باحدى الدلالات الثلاث وكلّها منتفية كما لا يخفى.

ص: 223

بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا أيضا، في الزمان الثاني، أو لا؟ وجهان: مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول، هو وحدة المطلوب أو تعدده، ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية، لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده، فتدبر جيدا.

الفصل الثالث : الاتيان بالمأمور به على وجهه[1] يقتضي الاجزاءفي الجملة بلا شبهة.

_____________________________

[1] أقول: قدم المصنّف على البحث في المسئلة أموراً أربعة لابدّ من العلم بها قبل الشروع في المقصود إذ هي من المبادي التصوريّة للبحث فيها.

أحدها انّ المراد من الوجه المأخوذ في عنوان البحث الكيفيّة التي معتبرة في المأمور به عقلاً وشرعاً كقصد التقرّب بالاتيان بالعمل الذي أمر به، لا خصوص الكيفيّة المعتبرة فيه شرعاً فقط مثل رعاية الشروط الشرعيّة التي اعتبرها الشارع في العمل كستر العورة للمصلّى وشروط الساتر والكون إلى جهة القبلة وقت الصلوة مثلاً، إذ لو كان المراد من لفظ الوجه ما ذكر يكون القيد حينئذٍ قيداً توضيحيّاً إذ لفظ المأمور به في العنوان دالّ على الكيفيّات الشرعيّة، لأن ما يكون خالياً عنها لا يكون مأموراً به، والأصل في القيود أن يكون تأسيسيّاً لا توضيحيّاً، بخلاف القيود المعتبرة عقلاً كقصد الاطاعة والتقرّب، فانّها لا تدخل في لفظ المأمور به، لأنّ المفروض عدم جواز أخذها فيما أمر الشارع به، وكذلك ليس المراد من لفظ الوجه المأخوذ في العنوان الأمر المعتبر قصده عند بعض الأصحاب من الوجوب والاستحباب، فانّه وإن كثر استعمال لفظ الوجه في هذا المعنى واعتبره بعض في المأمور به، الا ان المعظم على عدم اعتباره، وإنّما اعتبره من

ص: 224

وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام، ينبغي تقديم أمور:

أحدها: الظاهر أن المراد من (وجهه) - في العنوان - هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا، فإنه عليه يكون (على وجهه) قيدا توضيحيا، وهو بعيد، مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع، بناء على المختار، كما تقدم من أن قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا، لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب، فإنه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره، إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات - لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار، فلا بد من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، وهو ما ذكرناه، كما لا يخفى.

ثانيها: الظاهر أن المراد من الاقتضاء[1] - ها هنا - الاقتضاء بنحو العلية

_____________________________

اعتبره في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ولو التوصليّات، ومع ذلك لا وجه لاختصاصه بالذكر من بين سائر الأمور المعتبرة في مطلق الواجبات على تقدير الاعتبار، فلابدّ أن يكون المراد منه المعنى الأعم من ذلك والمندرج ذلك المعنى تحته.

[1] أقول: حاصل ما أفاده هو انّ البحث في مسئلة الاجزاء عقلي لا لفظي مطلقاً، اذ مرجعه إلى أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الاختياري أو الظاهري والاضطراري هل يكون علّة لسقوط الأمر وفراغ ذمّة المكلّف أم لا، ولا يكون في مدلول الصيغة والأمر في هذا البحث بحث أصلاً.

ص: 225

............................................

_____________________________

ثمّ استشكل على نفسه بأن هذا في الأمر الواقعي الاختياري صحيح فانّ المراد من الاقتضاء الاقتضاء الذاتي بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة فلا مساس له بدلالة الأمر والصيغة، والنزاع فيه إنّما يكون كبرويّاً وكلياً وإلّا فدلالة الصيغة على الاجزاء وسقوط الأمر بعد حصول المأمور به بحسب دلالة اللفظ مسلّمة، وإنّما الاشكال في انّ العمل الخارجي الواقع من المأمور والاتيان بالمأمور به هل يؤثر في الاجزاء وفراغ ذمّة المكلّف ويكون علّة لذلك مع قطع النظر عن دلالة الأمر أم لا ؟ ولكن الأمر في الأوامر الظاهريّة والاضطراريّة ليس كذلك، بل النزاع فيهما إنّما يكون لفظيّاً، اذ مرجعه فيها إلى النزاع في دلالة لفظ الدليل بأنّه هل يدلّ في الأمر الظاهري والاضطراري على البدليّة مطلقاً أو مادام لم يكشف الخلاف ولم يرفع الاضطرار فقط.

وأجاب عنه بأن جريان النزاع بالنسبة إليها في المدلول اللفظي بالبيان المذكور لا ينافي جريانه في الاقتضاء بالمعنى الذي ذكر بالنسبة إلى الأمر الواقعي الاختياري أيضاً، غاية الأمر ان منشأ الاختلاف في ذلك بالنسبة إليهما هو الخلاف في دلالة دليلهما بأن يقال هكذا: هل دلالة دليلهما على نحو يستقلّ العقل بأنّ الاتيان به موجب للأجزاء ويؤثّر فيه أم لا ؟ فيجري النزاع صغروياً أيضاً كما يكون كبرويّاً، بخلافه في الأجزاء بالاضافة إلى الأمر الواقعي الاختياري فانّه لا يكون إلّا كبرويا لو كان نزاع كما نقل عن البعض وجوده.

ص: 226

............................................

_____________________________

واستشكل عليه الشارح الكاظميني قدس سره بأن حقيقة الأمر على خلاف ما أفاده المصنّف وانّ النزاع في المقامين يكون صغرويّاً وفي دلالة الدليل واللفظ، إذ غرض القائل انّه بنحو العليّة وإن كان ان نفس الاتيان علّة ولكن المحقّق لعلية الاتيان الدليل عنده أيضاً، وغرض القائل انّه بنحو الكشف والدلالة انّ السبب الأولى الحقيقي وهو دلالة الدليل هو المحقّق لعلية الاتيان، وإلّا فليس في ذات الاتيان من دون دلالة الدليل عليّة للأجزاء وحصول الامتثال، فانقدح بنظره من البيان المذكور ان النزاع بالنسبة إلى الأمر الواقعي يكون صغرويّاً أيضاً كما هو كذلك بالنسبة إلى الأمر الظاهري والاضطراري لو كان معنويّاً، إذ لا فرق بين أمره والأمر الآخر في ان المحقق لعليّة الاتيان للاقتضاء هو الدليل الدال على كيفيّة التعلّق وانّه هل هو بنحو يستقل العقل بأنّ الاتيان علّة للاقتضاء أو لا يستقل(1).

والانصاف انّ النزاع الواقع منهم في الخارج إنّما يكون في العليّة والاقتضاء مطلقاً وعبائرهم في مطاوي البحث شاهد عليه وانّهم بعد فرض تعيين مدلول الدليل بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة والظاهريّة والاضطراريّة وفرضه أمراً محقّقاً لا اجمال فيه، يبحثون عن انّ الأمر المعلوم اذا ورد من المولى هل اتيان المأمور به من العبد دفعة واحدة يوجب سقوطه وحصول امتثاله عقلاً أم لا، لا انّهم يشكون في كيفيّة دلالة الدليل، غاية الأمر يمكن ارجاع البحث في العليّة والاقتضاء إلى البحث عن دلالة الدليل بالبيان الذي ذكره الشارح مطلقاً في الأوامر الواقعيّة

ص: 227


1- الهداية في شرح الكفاية: 170.

............................................

_____________________________

والظاهريّة والاضطراريّة، وفي خصوص الأخيرين بالبيان الذي أفاده المصنّف أيضاً، ولكنّه لا يؤثّر في نظر الباحثين بأن يبدل منظورهم بالوجه الذي ذكروه، فان نظرهم في بحث الاجزاء محصور على الحكم العقلي من العليّة والاقتضاء كما يشهد عباراتهم وبياناتهم عليه، وإلّا ففي غالب المباحث يجري ما أفاده من امكان ارجاع البحث إلى غير ما هو منظور الباحثين ولا اختصاص له بذلك البحث، وممّا يوجب القطع بأنّ البحث هنا عقلي لا لفظي هو انّه إذا كان كذلك فيلزم أن لا يبقى فرق بين هذا البحث وبحث المرة والتكرار وكذا بينه وبين مسئلة تبعية القضاء للأداء وعدمها، ويلزم أن يكون تلك الأبحاث تكراراً منهم ثلاث مرّات، فيثبت انّ المنظور لهم في ذلك البحث البحث عن العليّة والاقتضاء ولا مساس له بدلالة الصيغة أصلاً، وسيأتي تفصيل ما أشرنا إليه في المقدّمة الرابعة منه قدس سره وبالجملة فما أفاده المصنّف من كون البحث عقليّاً لا لفظيّاً مطلقاً في غاية المتانة.

قال حضرت المقرّر في كتاب مطارح الأنظار ناقلاً عن الأستاذ الشيخ المؤسّس الأنصاري طاب رمسه انّ هذا البحث إنّما هو في اقتضاء الاتيان بالمأمور به عقلاً الاجزاء، وليس البحث من الأبحاث اللغوية التي تطلب فيها تشخيص مدلول اللفظ وضعاً أو غيره فيعمّ البحث ما إذا كان الأمر مستفاداً من الاجماع ونحوه من الأدلّة الغير اللفظيّة، ويشهد لذلك ملاحظة أدلّة الطرفين انتهى كلامه رفع مقامه(1).

ص: 228


1- مطارح الأنظار: 18 (ط - قديم).

والتأثير، لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة.

إن قلت: هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، وأما بالنسبة إلى أمر آخر، كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره، بنحو يفيد الاجزاء، أو بنحو آخر لا يفيده.

قلت: نعم، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما، كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم، غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما، إنماهو الخلاف في دلالة دليلهما، هل أنه على نحو يستقل العقل بأن الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه، وعدم دلالته؟ ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا، بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره، فإنه لا يكون إلا كبرويا، لو كان هناك نزاع، كما نقل عن بعض، فافهم.

ثالثها: الظاهر أن الاجزاء - ها هنا - بمعناه لغة، وهو الكفاية،[1 ]

_____________________________

[1] أقول: مراده انّه لم يثبت من الفقهاء والأصوليّين جعل اصطلاح خاص في لفظة الأجزاء بل هو باق في لسانهم ومحاورتهم على معناه اللغوي وهو الكفاية، غاية الأمر إنّما الاختلاف فيما يكفي عنه، فعندهم يكون اسقاط التعبّد ثانياً بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة والقضاء بالنسبة إلى الأوامر الظاهريّة والاضطراريّة، وعند غيرهم غير ذلك، ممّا يختلف باختلاف مقصد القائل بالاجزاء في المقامات المختلفة، فيثبت بذلك ان مقصود الأصوليّين من تفسيره بسقوط التعبد والقضاء بيان مقصودهم من الاجزاء في المقام لا ثبوت اصطلاح خاص منهم في لفظة فان ثبوته بعيد جدّاً، إذ لا داعي إلى ذلك الجعل مع حصول منظورهم بدونه.

ص: 229

............................................

_____________________________

ووافق في ذلك الشيخ المؤسّس الأنصاري طابت ترتبه حيث قال في تقريراته الظاهر انّه لم يثبت لأهل الأصول في لفظ الاجزاء اصطلاح جديد، وتفسيرهم له باسقاط القضاء إنّما هو من باب بيان محصّل المراد، لا انّه يراد من لفظ الاجزاء خصوص اسقاط القضاء المترتّب عليه كون العلاقة مشابهة أو الفرديّة كما لا يخفى(1).

أقول: الانصاف انّه لا يصحّ انكار الاصطلاح الخاص في اللفظة المذكورة وأمثالها بعد كثرة استعمالها في المعنى المخصوص وتبادره منها اذا وقعت في مقالاتهم ومحاوراتهم، فانه ليس في حصول الوضع التعييني في مثلها بُعد اصلاً، نعم لا وجه لادعاء الوضع التعييني من أهل العلم في أمثال تلك اللفظة، اما ادّعاء حصول التعيني بسبب كثرة الاستعمال فيها ليس بذلك البعيد، وإلّا فما أفادوه في حق تلك اللفظة جار في سائر الألفاظ المتداولة في لسان أهل العلم، فيلزم أن لا يكون اصطلاح خاص من أهل العلوم في واحد من الألفاظ المتداولة في ألسنتهم أصلاً وأن يكون حال جميعها كما ادّعوه في خصوص تلك اللفظة، مع انّه لم يقع من واحد منهم الالتزام بذلك، فكما انّهم يسلمون ثبوت الاصطلاح الخاص في كثير من الألفاظ المتداولة في ألسنتهم فلابدّ أن يثبت في تلك اللفظة أيضاً، وإلّا فالفرق بينها وبين غيرها فرق من دون فارق.

ص: 230


1- مطارح الأنظار: 1/112 (ط - جديد).

وإن كان يختلف ما يكفي عنه، فإن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفي، فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهري الجعلي، فيسقط به القضاء، لا أنه يكون - ها هنا - اصطلاحا، بمعنى إسقاط التعبد أو القضاء، فإنه بعيد جدا.

رابعها: الفرق بين هذه المسألة، ومسألة المرة والتكرار،[1] لا يكاد يخفى،

_____________________________

[1] أقول: مراده انّ الفرق بين ذلك البحث وبحث المرّة والتكرار وبينه وبين مسئلة تبعيّة القضاء للأداء هو انّ البحث في المقام عقلي ولذا يستدلّ القائلون بالاجزاء بما لا مساس له بمدلول اللفظ أصلاً من ان عدم الاجزاء مستلزم لتحصيل الحاصل وهو قبيح، بخلاف المسئلتين الأخيرتين فان البحث فيهما في دلالة الصيغة، غاية الأمر يكون التكرار عملاً موافقاً لعدم الاجزاء، ولكن الاختلاف بينهما مفهوماً ثابت، اذ ملاكه غير ملاكه، وكذلك الحال في مسئلة التبعية، ولم يتعرّض المصنّف لكون المرّة موافقاً للأجزاء عملاً لأن توافقهما عملاً لا مفهوماً كما في التكرار.

وعدم الاجزاء متوقّف على ثبوت دلالة اللفظ على نفي الزائد على المرّة وهو غير ثابت، أمّا بناء على القول بالماهيّة واستفادة كفاية المرّة من جهة حصول الماهيّة بها فواضح، وأمّا بناء على القول بدلالة الصيغة على المرّة بحسب اللفظ فلابتنائه على حجيّة مفهوم العدد وهو ليس بحجّة عنده، فيثبت انّهما توافقان مفهوماً كما يتوافقان عملاً، ولعلّه لذا سكت المصنّف عن بيان النسبة بينهما، بخلاف القول بالتكرار وعدم الاجزاء، ولعلّه تركه للاقتصار ووضوحه بالقياس إلى النسبة بينه والقول بالتكرار، ويؤيّده انّه لم يتعرّض أيضاً لبيان توافق تبعية القضاء للأداء مع القول بالتكرار والقول بعدم التبعية مع القول بالمرّة أصلاً.

ص: 231

فإن البحث - ها هنا - في أن الاتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا، بخلافه في تلك المسألة، فإنه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها، أو بدلالة أخرى.

نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها، بخلاف هذه المسألة، فإنه - كما عرفت - في أن الاتيان بالمأمور به بجزي عقلا عن إتيانه ثانيا أداء أو قضاء، أو لا يجزي، فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلا.

إذا عرفت هذه الامور، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين: الاول: إن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي - بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا[1] - يجزي عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بأنه لا مجال مع موافقة الأمر

_____________________________

[1] أقول: شرح ما أفاده هو انّه إذا أتى العبد بما أمره المولى بجميع ما اعتبر فيه شرطاً وشطراً يحكم العقل المستقل بأنّه لا مجال لاقتضاء الأمر بوجوب التعبّد بذلك الأمر والاتيان بفرد آخر غير الفرد السابق، اذ الفرض ان مفاد الأمر وجوب الاتيان بالمهية والطبيعة في ضمن فرد ما من أفرادها، وقد حصل ذلك المقصود بالاتيان بالفرد الأوّل، فلا وجه لوجوب الاتيان به بذلك الأمر ثانياً، وبعبارة أخرى يسقط الأمر بايجاد متعلّقه بالنسبة إلى الأداء والقضاء، ضرورة انّه لو كان باقياً بعد الايجاد لزم طلب الحاصل وهو محال، نعم يجتمع مع عدم وجوب الاتيان بسبب ذلك الأمر ثانياً جواز الاتيان وتبديل العبد الفرد المأتي به بفرد آخر

ص: 232

............................................

_____________________________

بعنوان بدليته عن الفرد الأوّل لا منضمّاً إليه، ولكن جواز ذلك إنّما يكون فيما إذا علم العبد بعدم حصول غرض المولى بسبب الاتيان بالفرد الأوّل وإن كان وافياً بحصوله لو اكتفى به، مثل ما لو أمر المولى باتيان الماء ليشربه فأتى به ولم يشربه المولى بعدُ فانّ الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد الاتيان، ولذا لو اهرق الماء واطّلع عليه العبد وجب اتيانه به ثانياً كما إذا لم يأت به أوّلاً، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه، وإلّا لما أوجب حدوثه، فان علّة الحدوث عين علّة البقاء، فكما انّ التوجّه نحو الغرض الغير الحاصل أوجب حدوث الأمر من قبل المولى نحو العبد فكذلك الغرض الذي لم يحصل بَعْدُ يكون موجباً لبقاء ذلك الأمر والطلب منه بعد الاتيان بما لا يمكن تحصيل الغرض منه له أيضاً، فان في تلك الصورة التي غرضه باق يكون له الاتيان بماء آخر موافق للأمر كما كان له قبل اتيانه الأوّل بدلاً عنه.

نعم لو كان الاتيان الأوّل علّة تامّة لحصول غرض المولى لا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، فان في تلك الصورة لا يجوز الاتيان الثاني كما لا يجب عليه أيضاً لأنّه لغو وعبث، بل لو لم يعلم انّ ذلك الأمر المخصوص من أيّ القبيل، أمن القسم الأوّل أم الثاني، يجوز له التبديل أيضاً، ولا اختصاص بجواز التبديل بصورة العلم بأنّه من القبيل الأوّل.

ويؤيّد التفصيل المزبور بل يدلّ عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلّى فرادى جماعة وان اللَّه يختار أحبهما إليه، فانّها تكشف عن صحّة التفصيل .

ص: 233

............................................

_____________________________

المذكور، وإنّ المورد من القبيل الثاني، والغرض لم يحصل بالصلوة فرادى، فلذا يجوز للمكلّف تبديله بالفرد الأفضل، وإلّا لا ينطبق ما ورد فيها من جواز الاعادة على القاعدة أصلاً.

أقول: الظاهر بطلان التفصيل الذي ذكره المصنّف، إذ من المسلّم عنده ان مع تحصيل الغرض لا مجال للاتيان الثاني، ومن المعلوم حصول غرض المولى في الصورة الأولى كما في الصورة الثانية، فان غرض المولى من طلب الماء من العبد ايجاد الفعل الذي يمكن معه تحصيل رفع العطش، والفرض ان اتيان الماء واف بذلك الغرض، فالاتيان بفرد آخر مساو للأوّل بل ولو كان أفضل لغو لا فائدة فيه أصلاً، اذ هو فعل ما أريد منه فعله ولا أثر له غير ما في الاتيان الأوّل.

نعم فرقه مع الصورة الثانية هو ان في الثانية يحصل تمام الغرض بفعل العبد، وفي الصورة الأولى إنّما يحصل الغرض الذي يكون منظوراً من الطلب منه وهو الاتيان بمقدّمة يمكن معها رفع العطش فقط، وهذا المقدار يكفي في عدم جواز الفعل ثانياً للغويّته وهدريّته، فكما انّه لا يجب الاتيان ثانياً لعدم الموقع فكذلك لا يجوز أيضاً لذلك، وكما انّ وجوبه من قبل المولى بذلك الأمر طلب الحاصل فكذلك الاتيان من العبد أيضاً تحصيل الحاصل، وكلاهما باطلان، وكما انّ طلبه من المولى ثانياً سفهي فكذلك الاتيان من العبد ثانياً أيضاً سفهي، فكما يدلّ على عدم الوجوب يدلّ على عدم الجواز أيضاً.

وما ورد في الروايات من مشروعيّة اعادة الصلوة يكشف اجمالاً عن بقاء

ص: 234

............................................

_____________________________

المحل للامتثال الثاني في خصوص المورد، وإلّا فلا يكشف عن قاعدة كليّة تجري في سائر الموارد وهو تعبّد محض لا نعلم وجهه تفصيلاً، ولو صحّ التفصيل المزبور بما أفاده ودلالة الرواية للزم جواز التبديل في كلّ مورد شكّ في انّه من أيّ القبيل، والتزام المصنّف بالجواز حتّى في تلك الصورة أيضاً عجيب، فانّه لا يظنّ بأحد أن يلتزم فيما إذا شكّ في المورد انّه من القبيل الأوّل أم الثاني بجواز الاعادة مادام لم يدلّ دليل خاص على الجواز، فانّ الالتزام بمثل ذلك في التعبديّات المحضة بارد ركيك.

وقياس الصورة التي لم يشرب الماء في المثال بالصورة التي علم العبد باهراقه قياس مع الفارق فان في صورة الاهراق يبطل الغرض الذي كان منظوراً من الطلب من العبد فيجب عليه تحصيله ثانياً البتة، وفي الصورة التي لم يشرب المولى الماء مثلاً ولم يحصل هو غرضه من المقدّمة التي أتت به العبد لم يحصل خلل فيما كان الغرض من الطلب من العبد بل هو باق بحاله، غاية الأمر انّ المولى لم يحصل تمام غرضه من طلب الماء بعدُ، وهذا لا دخل له بفعل العبد ولا يؤثّر في نقصان ما أتى به أصلاً، بل ما كان راجعاً إلى العبد، وكان عليه أن يصلحه كائن على ما كان عليه من أوّل الأمر.

ويرد عليه أيضاً إن ما أفاده في تقريب جواز تبديل الامتثال، مستلزم لجوازه ولو بالاتيان بالفرد المساوي للأوّل وإن لم يكن هو أفضل، وما ورد في الروايات لو كان دالّاً على الجواز فانّما يدلّ عليه إذا كان الفرد الثاني أفضل من الأوّل، لا مطلقاً، فلا يدلّ الرواية على صحّة ما أفاده، بل ولا يؤيّده أيضاً.

ص: 235

بإتيان المأمور به على وجهه، لاقتضائه التعبد به ثانيا.

نعم لا يبعد أن يقال: بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا، بدلا عن التعبد به أولا، لا منضما إليه، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض، وإن كان وافيا به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه، فلم يشربه بعد، فإن الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو أهريق الماء واطلع عليه العبد، وجب عليه إتيانه ثانيا، كما إذا لم يأت به أولا، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلا لما أوجب حدوثه، فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر، كما كان له قبل إتيانه الاول بدلا عنه.

نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض، فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة، فله إليه سبيل، ويؤيد ذلك - بل يدل عليه - ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة، وأن اللَّه تعالى يختار أحبهما إليه.

الموضع الثاني: وفيه مقامان:

المقام الاول: في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري، هل يجزي[1 ]

_____________________________

[1] أقول: حاصل مراده انّ المأمور به بالأمر الاضطراري ينقسم بحسب التقسيم العقلي إلى أربعة أقسام، وكلّ منها يقتضي الاجزاء بالنسبة إلى أمره بعين ما ذكر في اقتضاء الأمر الواقعي الاختياري للأجزاء، وإنّما البحث والكلام في

ص: 236

............................................

_____________________________

اقتضاء الأمر الاضطراري للأجزاء بالنسبة إلى المأمور به بالأمر الواقعي الاختياري، وتحقيق الحق في ذلك يتوقّف على بيان الأقسام، وإن ما وقع منها في الشريعة من أيّ قسم منها.

الأوّل أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافياً بتمام المصلحة.

الثاني ما لا يكون وافياً بتمام الغرض وما يبقى منه صالحاً للاستيفاء وكان الواجب اسيتفائه.

الثالث أن يكون استيفاء الباقي مستحبّاً.

الرابع أن يكون الباقي غير صالح للاستيفاء أصلاً.

والحكم في الأوّل الاجزاء بعين ما ذكر في اقتضاء الأمر الواقعي الاختياري للأجزاء، إذ بعد فرض كون المأمور به الذي أتى به المكلّف وافياً بتمام الغرض لا يبقى مجال للتدراك أصلاً لا قضاء، ولا اعادة، وكذلك لا يجب الاعادة والقضاء في القسم الأخير، اذ الفرض انّ الباقي والفائت من المصلحة لا يكون قابلاً للتدارك أصلاً، ومن خواص هذا القسم الأخير انّه لا يسوغ للمكلّف البدار في هذه الصورة واتيان المكلّف به في أوّل الوقت، لأنّه مستلزم لتفويت الغرض ومقدار من المصلحة الغير القابلة للتدارك بالاعادة أو القضاء إلّا لمصلحة كانت في البدار ومراعات ما هو الأهم.

ص: 237

............................................

_____________________________

فان قلت لا يجوز التكليف في الوقت ولو بشرط الانتظار بما يكون القدر الباقي من المصلحة بعد اتيانه في الوقت غير قابل للتدارك أصلاً، إذ الفرض انّه يمكن استفادة تمام المصلحة بالقضاء في خارج الوقت.

فيقال هذا كذلك لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت، هذا حكم البدار والانتظار في القسم الأخير.

وأمّا جواز البدار في القسم الأوّل ووجوب الانتظار في الصورة الأولى التي يكون المأمور به وافياً بتمام الغرض فدائر مدار كون العمل بمجرّد الاضطرار مطلقاً ولو مع البدار أو بشرط الانتظار ومع اليأس عن طرو الاختيار ذا مصلحة ووافياً بتمام الغرض، ففي الصورة الأولى يجوز البدار ولا يجب الانتظار، وفي الصورة الثانية يجب الانتظار ولا يجوز البدار.

وأمّا القسم الثاني والثالث فالحكم فيهما انّه يجب الاعادة أو القضاء في الأوّل ويستحب في الثاني، ولا مانع عن البدار في كلا الصورتين، إنّما الفرق انّه يتخيّر في الصورة الأولى بين البدار والاتيان بعملين الاضطراري في حال الاضطرار والاختياري بعد رفعه، وبين الانتظار والاقتصار بما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية التي هي الثالثة باعتبار ذكرها في أوّل البحث تعين عليه استحباب البدار، لكون أوّل الأوقات أفضلها، واعادته بعد طرو الاختيار.

هذا كلّه فيما يمكن أن يقع عليه التكليف الاضطراري من الانحاء وحكم كلّ منها بالنسبة إلى الاعادة والقضاء وجواز البدار وعدم جوازه.

ص: 238

............................................

_____________________________

وأمّا ما وقع من تلك الأقسام في الشريعة فظاهر الأدلّة ان الواقع فيها كلّها من القسم الأوّل، ولابدّ في ايجاب الاتيان ثانياً من دلالة دليل بالخصوص، وبالجملة فالمتبع هو الاطلاق لو كان، وإلّا فالمرجع الأصل العملي وهو يقتضي البرائة من وجوب الاعادة، لكونه شكّاً في أصل التكليف، وكذا عن القضاء بطريق أولى.

نعم لو دلّ دليل على ان سبب القضاء فوت الواقع مثل اقض ما فات كما فات مثلاً ولو لم يكن هو فريضة، ولم يجب فعلاً على المكلّف، يكون القضاء واجباً، لتحقّق سببه وإن أتى بالغرض، لكنّه مجرّد الفرض إذ لا دليل يدلّ على ذلك كما لا يخفى، هذا شرح ما أفاده المصنّف.

واستشكل عليه الشارح الكاظميني بأنّ الواقع في الشريعة تمام الأقسام الأربعة ولا وجه لحصره في القسم الأوّل، ومثل للقسم الثاني وهو الذي لا يمكن تدارك الفائت من المصلحة فيه بصلوة الجاهل المقصّر بالقصر والاتمام والجهر والاخفات، قال: فانّها صحيحة شرعيّة ويعاقب على أصل إعراضه من التعلّم والسؤال، وللثالث بفاقد الطهورين في تمام الوقت ومن تعمّد الجنابة وخاف من استعمال الماء فانّه يجب عليه الأداء مع التيمّم والاعادة مع التمكّن وللرابع بمن تعمّد الجنابة أيضاً وخاف من استعمال الماء بناء على استحباب الاعادة كما نسب إلى بعض(1).

ص: 239


1- الهداية في شرح الكفاية: 175.

............................................

_____________________________

أقول: الظاهر ان ما أفاده المصنّف من حصر الواقع في الشريعة من الأقسام في القسم الأوّل في غاية المتانة، وما ذكره الشارح من الأقسام الاخر، فيه انّه لا يبعد أن يكون مثاله للقسم الثاني من القسم الأوّل، وأن يكون صلوة الجاهل ولو عن تقصير بالاتمام مقام القصر وبالجهر مقام الاخفات وبالعكس وافياً بتمام الغرض في ذلك الحال ولو لم يكن وافياً به في حال العلم، وان يكون حاله كحال الطهارة الترابيّة حالة الاضطرار في كونه كافياً وافياً بالغرض، وما ثبت من الشرع من معذوريّة الجاهل بالقصر والاتمام والجهر والاخفات إنّما يثبت صحّة صلوته واجزاؤها بالنسبة إلى المأمور به بالأمر الاختياري، واما ان صحّتها واجزاؤها عنه وعدم وجوب الاعادة والقضاء لكون الباقي من المصلحة غير قابل للتدراك فلم يثبت له مثبت.

وأمّا ما مثل به للقسم الثالث، ففيه ان من قال بوجوب الاعادة أو القضاء بالنسبة إلى فاقد الطهورين ومن تعمّد الجنابة فانّما هو لاشتباه الحكم عليه ومن باب الاحتياط، وإلّا فلو ثبت عنده وجوب الأداء عليهما مع التيمّم لا يقول بالاعادة مع التمكّن من الماء في الوقت ولا بالقضاء في خارجه.

وما مثل به للرابع من استحباب الاعادة على قول بعض بالنسبة إلى من تعمّد الجنابة، ففيه انّه إنّما يقول القائل به من باب الاحتياط أيضاً استحباباً، لا انّه يستحب عنده الاعادة مع التمكّن بالاستحباب الشرعي النفسي، وما ذكرناه واضح لمن انصف ولم يكن ممّن تكلّف واعتسف.

ص: 240

عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا، بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة، وفي خارجه قضاء، أو لا يجزي؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء، وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه، وأخرى في تعيين ما وقع عليه.

فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار، كالتكليف الاختياري في حال الاختيار، وافيا بتمام المصلحة، وكافيا فيما هو المهم والغرض، ويمكن أن لا يكون وافيا به كذلك، بل يبقى منه شي ء أمكن استيقاؤه أو لا يمكن.

وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى أنه إن كان وافيا به يجزي، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك، لا قضاء ولا إعادة، وكذا لو لم يكن وافيا، ولكن لا يمكن تداركه، ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة إلا لمصلحة كانت فيه، لما فيه من نقض الغرض، وتفويت مقدار من المصلحة، لو لا مراعاة ماهو فيه من الاهم، فافهم.

لا يقال: عليه، فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار، لا مكان استيفاء الغرض بالقضاء.

فإنه يقال: هذا كذلك، لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الاولى، فيدور مدار كون العمل - بمجرد الاضطرار مطلقا، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طرو الاختيار - ذا مصلحة ووافيا بالغرض.

وإن لم يكن وافيا، وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت، أو مطلقا ولو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي، فلابد من إيجاب الاعادة أو القضاء، وإلا فيجزي، ولا مانع عن البدار في الصورتين، غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين: العمل الاضطراري في هذا الحال،

ص: 241

والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار، والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه البدار ويستحب الاعادة بعد طرو الاختيار.

هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله، مثل قوله تعالى: «فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا»(1) وقوله عليه السلام: (التراب أحد الطهورين) و(يكفيك عشر سنين) هو الاجزاء، وعدم وجوب الاعادة أو القضاء، ولا بد في إيجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص.

وبالجملة: فالمتبع هو الاطلاق لو كان، وإلا فالاصل، وهو يقتضي البراء ة من إيجاب الاعادة، لكونه شكا في أصل التكليف، وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى، نعم لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع، ولو لم يكن هو فريضة، كان القضاء واجبا عليه، لتحقق سببه، وإن أتى بالغرض لكنه مجرد الفرض.

المقام الثاني: في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري وعدمه.

والتحقيق:[1] إن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق

_____________________________

[1] أقول: تحقيق المقام يقتضي بيان مقدمة وهي ان مدرك الحكم الظاهري على أنحاء.

الأوّل ما كان مقرراً للجاهل بالواقع ومتعلّقاً بموضوع التكليف ومبنيّاً لمقدار سعة ما جعل موضوعاً له، وان الشرط والشطر في موضوع التكليف ليس الواقع بما هو واقع كما هو لسان الأصول.

والثاني أن يكون متعلّقاً بالموضوع ومبنيّاً له وان الشرط والشطر في التكليف

ص: 242


1- سورة النساء: 43، المائدة: 6.

............................................

_____________________________

إنّما هو الواقع بما هو واقع عكس الأوّل كما هو لسان الامارات، وينشعب من هذه الصورة أيضاً صورتان، اذ حجيّة الامارات وما هو ناظر إلى بيان الواقع بما هو واقع امّا أن يكون من باب الطريقيّة أو الموضوعيّة والسببيّة.

الثالث: أن يكون مدرك الحكم الظاهري متعلّقاً باثبات أصل التكليف ولم يكن له دخل في موضوعه أصلاً، وهو أيضاً اما أصل مقرّر للجاهل والشاكّ في الواقع، وإمّا طريق ناظر إلى بيان الواقع، ولكلّ واحد من الأقسام حكم مخصوص من حيث الاجزاء وعدمه.

أمّا ما كان من القسم الأوّل فانّ الأمر فيه مقتض للأجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء، وانّ المأمور به بالأمر الظاهري المشروط بالشرط الفلاني الذي أتى به المكلّف مسقط للأمر، واتيانه محقّق للامتثال، مثلاً قاعدة الطهارة والحلية في كلّ ما شكّ في طهارته وحليته إذا لوحظ مع دليل اشتراط طهارة البدن ولباس المصلّى وحليته يدلّ على انّ المقصود من الطهارة والحلية التي جعلت شرطاً للمشروط المذكور ليس خصوص ما كان منهما واقعيّاً في ظاهر الشرع وإن انكشف الخلاف بعد العمل وانّه كان في الواقع نجساً وحراماً، وانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاع الشرط من حين ارتفاع الجهل بعد ان كان إلى هذا الحين واجداً، ولذا لا يجوز له الدخول في مثل العمل الأوّل المشروط بذلك الشرط من حين الكشف، إلّا أن يدلّ دليل خاص على عدم الاجزاء كما لو توضّأ بماء طاهر بالقاعدة أو الاستصحاب ثمّ انكشف نجاسته، فانّه يعيد الوضوء والصلوة التي صلّاها بذلك الوضوء، للدليل.

ص: 243

............................................

_____________________________

وأمّا إذا كان مدرك الحكم الظاهري من القسم الثاني وبلسان انّه ما هو الشرط واقعاً كما هو لسان الامارات في الموضوعات فلا يجزى، لأن دليل حجيّة تلك الامارة حيث كان بلسان انّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف انّه لم يكن كذلك بل كان فاقداً للشرط، وهذا إذا كان حجيّة الطرق والأمارات من باب الطريقيّة، لا السببيّة، كما هو الأظهر، ولكن في خصوص ما إذا لم يمكن التدارك أجزء ووقع بدلاً عن الواقع البتّة.

وأمّا بناء على السببيّة فالتفصيل فيه كما في الأمر الاضطراري في انّه إذا كان وافياً بتمام الغرض فيجزى، ولا يجزى لو لم يكن كذلك ويجب الاتيان بالواجد لاستيفاء الباقي ان وجب، وإلّا لاستحبّ، هذا مع امكان الاستيفاء، وإلّا فلا مجال للاتيان بالواجد، ولا وجه للقول بالاجزاء مطلقاً بناء على السببيّة.

نعم كما انّ قضيّة اطلاق الأمر في الأمر الاضطراري هو الاجزاء كما عرفت، فكذلك قضيّة اطلاق دليل حجيّة تلك الامارة هنا أيضاً الاجتزاء بموافقته، وإن ما أتى به معتقداً انّه الواجد للشرط واف بالغرض ومسقط للامر، هذا إذا احرز ان حجّة الامارات من باب الطريقيّة أو الموضوعيّة والسببيّة.

وأمّا إذا لم يحرز وشكّ في انّها على أيّ الوجهين فاصالة عدم الاتيان بما تسقط معه التكليف مقتضية للاعادة في الوقت ومثبتة لعدم الاجزاء، واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليّاً لا يجدي ولا يثبت كون ما أتى به مسقطاً إلّا على القول بالأصل المثبت، فان مسقطيّة المأتي به من اللوازم الخارجيّة لعدم كون التكليف فعليّاً لا الشرعيّة المترتّبة على المستصحب، مضافاً إلى ان ظاهر اطلاق

ص: 244

............................................

_____________________________

« والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين(1) وحتّى تعلم انّه قذر(2) وحتّى تعلم انّه حرام »(3) يثبت بلوغ التكليف إلى المرتبة الفعليّة بعد كشف الخلاف إلّا إذا حصل المسقط ولم يعلم حصوله، والفرض انّه قد علم اشتغال ذمّته بما يشكّ في فراغها عنه بذلك المأتي، فلابدّ له من تحصيل العلم بالفراغ بعد العلم بالاشتغال وهو معنى عدم الاجزاء، وهذا بخلاف ما إذا علم انّه مأمور به واقعاً وشكّ في ان ما أتى به يجزي عمّا هو المأمور به الواقعي الأولى، كما في الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة بناء على أن تكون الحجيّة على نحو السببيّة، فقضيّته الأصل فيها عدم وجوب الاعادة بالاتيان بما اشتغلت الذمّة به يقيناً، والأصل عدم فعليّة التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف، هذا كلّه في الاعادة.

وأمّا القضاء في صورة الشكّ في ان جعل الامارات على أيّ الوجهين فلا يجب، بناء على انّه فرض جديد، والفوت الموجب لوجوب القضاء لا يثبت باصالة عدم الاتيان، كي يجب القضاء بسبب تحقّق عنوانه، إلّا على القول بالأصل المثبت، وإن لم يكن فرضاً جديداً بل كان وجوبه بعين دليل وجوب الأداء فيجب القضاء أيضاً كالاعادة.

استشكل الشارح الكاظميني قدس سره بأن لقائل أن يقول بوجوبه وإن علّق على الفوت، لامكان أن يكون المراد من الفوت عدم الأداء، فبين الأداء والفوت تقابل

ص: 245


1- الكافي (ط - الاسلامية): 5/314، ح 40؛ بحار الأنوار 2/273، ح 12.
2- وسائل الشيعة: 1/142، ح 351 - 2؛ وسائل الشيعة: 3/467، ح 4195 - 4.
3- الكافي (ط - الاسلامية): 5/313، ح 40؛ بحار الأنوار: 2/273، ح 12.

............................................

_____________________________

العدم والملكة كما هو الحال في نظائره ممّا علّق فيه على اليأس في مقابل الطمع فانّ المراد من اليأس عدم الطمع، والأثر أثر عدم الطمع، إلّا انّه عبّر عن عدم الطمع باليأس، والعجز في مقابل القدرة فانّ المراد بالعجز عدم القدرة وعبّر عن عدمها بالعجز وهكذا، وأيضاً فيمكن أن يثبت القضاء وإن كان الفوت المعلّق عليه وجوبه أمراً وجوديّاً لخفاء الواسطة وعد العرف وجوبه من آثار عدم الأداء وإن كان الفوت واسطة بينه وبين وجوب القضاء انتهى كلامه مع أدنى توضيح(1).

أقول: وفيه انّه لا يثبت في المقام إلّا عدم العلم بأداء ما يفرغ معه الذمّة، لا عدم الأداء أو العلم بعدمه وهو غير الفوت، فان بين عدم العلم بالأداء من الفوت من النسبة العموم والخصوص المطلق، لأن كلّما يتحقّق الفوت يتحقّق عدم العلم بالأداء، وليس كلّما يتحقّق عدم العلم بالأداء يتحقّق الفوت بل يمكن أن لا يكون فائتاً في الواقع ما لا يعلم بعدم أدائه.

نعم التساوي والترادف إنّما هو بين الفوت ونفس عدم الأداء أو العلم بعدم الأداء وقد عرفت ان ما هو الثابت إنّما هو عدم العلم بالأداء، لا نفس عدم الأداء ولا العلم بعدم الأداء، فمرادفة عدم الأداء مع الفوت لا يفيد في اثبات وجوب القضاء في المقام بقوله اقض ما فات كما فات اصلاً.

نعم ما أفاده من خفاء الواسطة وحجيّة الأصل المثبت في مثل ذلك في غاية المتانة وبالجملة ما مرّ ممّا ذكر كلّها فيما إذا كان مدرك الحكم الظاهري جارياً في

ص: 246


1- الهداية في شرح الكفاية: 178.

............................................

_____________________________

متعلّق التكاليف من الامارات الشرعيّة والأصول العلميّة.

وأمّا ما كان من تلك المدارك جارياً في اثبات أصل التكليف كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلوة الجمعة يومها في زمان الغيبة مثلاً، فانكشف بعد أدائها وجوب صلوة الظهر في زمانها فلا وجه لاجزائها مطلقاً يعني ولو على القول بالسببيّة، وكذلك على القول بالطريقيّة في جميع الصور التي تتصوّر فيها مثل ما تتصوّر في الأمر الواقعي الاضطراري، غاية الأمر ان تصير صلوة الجمعة في يومها أيضاً ذات مصلحة لذلك أي لقيام الطريق أو الأصل على وجوبها، وهذا لا ينافي بقاء صلوة الظهر على ما هي عليه من المصلحة كما لا يخفى، إلّا أن يقوم دليل بالخصوص غير الطريق أو الأصل الذي قام على وجوب صلوة الجمعة على عدم وجوب صلوتين في يوم واحد، فان صلوة الجمعة بعد أن كانت ذا مصلحة حينئذٍ يجزي البتة.

واستشكل عليه الشارح بفساد القول بعدم الاجزاء هنا مطلقاً ولو على القول بالسببيّة والطريقيّة في صورة عدم إمكان تدارك الفائت من المصلحة(1).

وفيه انّه اما على القول بالسببيّة فغاية الأمر ان تصير صلوة الجمعة مثلاً ذات مصلحة وهذا لا ينافي مع ثبوت المصلحة في الظهر أيضاً.

وأمّا على القول بالطريقيّة فلا يتصوّر صورة عدم إمكان تدارك الفائت أيضاً لبقاء الظهر على ما هي عليه من المصلحة، فدائماً يكون على القول بالطريقيّة ممّا يمكن تداركه.

ص: 247


1- الهداية في شرح الكفاية: 178.

متعلقه، وكان بلسان تحقق ماهو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلية، بل واستصحابهما في وجه قوي، ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجزي، فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط، ومبينا لدائرة الشرط، وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل، وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا، كما هو لسان الامارات، فلا يجزي، فإن دليل حجيته حيث كان بلسان أنه واجد لما هو شرطه الواقعي، فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقدا.

هذا على ما هو الاظهر الاقوى في الطرق والامارات، من أن حجيتها ليست بنحو السببية، وأما بناء عليها، وأن العمل بسبب إدّاء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره، يصير حقيقة صحيحا كأنه واجد له، مع كونه فاقده، فيجزي لو كان الفاقد له - في هذا الحال - كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك، ويجب الاتيان بالواجد لاستيفاء الباقي - إن وجب - وإلا لاستحب.

هذا مع إمكان استيفائه، وإلا فلا مجال لاتيانه، كما عرفت في الامر الاضطراري.

ولا يخفى أن قضية إطلاق دليل الحجية - على هذا - هو الاجتزاء بموافقته أيضا، هذا فيما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف والطريقية، أو بنحو الموضوعية والسببية، وأما إذا شك ولم يحرز أنها على أي الوجهين، فأصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للاعادة في الوقت، واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت لا يجدي، ولا يثبت كون ما أتى به مسقطا، إلا

ص: 248

على القول بالاصل المثبت، وقد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي.

وهذا بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا، وشك في أنه يجزي عما هو المأمور به الواقعي الاولي، كما في الاوامر الاضطرارية أو الظاهرية، بناء على أن يكون الحجية على نحو السببية، فقضية الاصل فيها - كما أشرنا إليه - عدم وجوب الاعادة، للاتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا، وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.

وأما القضاء فلا يجب بناء على أنه فرض جديد، وكان الفوت المعلق عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الاتيان، إلا على القول بالاصل المثبت، وإلا فهو واجب، كما لا يخفى على المتأمل، فتأمل جيدا.

ثم إن هذا كله فيما يجري في متعلق التكاليف، من الامارات الشرعية والاصول العملية، وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف، كما إذا قام الطريق أو الاصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها، فلا وجه لاجزائها مطلقا، غاية الامر[1] أن تصير

_____________________________

[1] فقول المصنّف بعد قوله مطلقا، غاية الأمر إلى آخره اشارة إلى دفع ما أورده، ثمّ أورد عليه ما أفاده أخيراً بقوله إلّا أن يقوم دليل بالخصوص الخ بأن الدليل بالخصوص نفس دليل حجيّة الطريق المؤدّى إلى وجوب صلوة الجمعة، ضرورة ان من المعلوم انّ الواجب في الواقع في كلّ يوم مع العلم صلوة واحدة، والطريق حال عدم العلم منصوب لتعيين ذلك الواقع، فان أصاب وإلّا كان بدلاً،

ص: 249

صلاة الجمعة فيها - أيضا - ذات مصلحة لذلك، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة، كما لا يخفى، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

تذنيبان:

الاول: لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطأ،[1] فإنه

_____________________________

فاثبات وجوب كلّ من البدل والمبدّل منه يحتاج إلى دليل انتهى(1).

أقول: لا يخفى ان في بيانه للاشكال اعتراف بما أنكره فانّ الضرورة التي أدّعاها هي الدليل بالخصوص، لا نفس دليل حجيّة الطريق المؤدّي، وإلّا فلو كان الدليل نفس دليل حجيّة الطريق المؤدّي لما احتاج إلى ادّعاء الضرورة بأنّ الواجب في الواقع في كلّ يوم مع العلم صلوة واحدة.

نعم ما ادّعاه من وجود الدليل بالخصوص على عدم وجوب صلوتين في يوم واحد ليس جزافاً إلّا انّ النزاع في هذا صغروي لا يترتّب عليه نتيجة مهمّة.

[1] أقول: لا شبهة في انّ الأمر الظاهري العقلي لا يقتضي الاجزاء بل يمتنع ذلك فيه، وبيانه اجمالاً ان الاجزاء فرع الأمر والاتيان بالمأمور به بعد ذلك على ما يعتبر فيه من الأمور الداخلة أو الخارجة، ومع انتفاء الأمر كما في محلّ الكلام يمتنع الاتيان بالمأمور به على انّه مأمور به، فلا يتحقّق الامتثال، فيمتنع حصول الاجزاء والكفاية عن الاعادة أو القضاء، وبعبارة اخرى إذا قطع المكلّف بالأمر وأتى بما قطع بوجوب الاتيان به وكان مخطأ في اعتقاده فلا يكون موافقة للأمر

ص: 250


1- الهداية في شرح الكفاية: 178.

............................................

_____________________________

أصلاً لا واقعيّاً ولا ظاهريّاً، لأنّ القطع ليس إلّا مرآتاً للواقع كاشفاً عنه فلا يعقل تأثيره في ترتّب الأحكام المترتّبة على المعلوم ولا مدخل له في متعلّقه فانّه أمر يتفرّع على وجوده فكيف يعقل تأثيره في متعلّقه، فلو كان موجوداً كان العلم به واقعاً، وإلّا فالعلم لا يصير علّة لوجوده وذلك ظاهر، فعند الجهل المركّب لا يكون الّا اعتقاد الأمر الغير المؤثّر في وجود الأمر، ومن الواضع الجلي عدم كون اعتقاد الأمر أمراً، فلا وجه لتوهّم الاجزاء، ضرورة توقّفه على وجود الأمر المفروض عدمه في المقام وهذا واضح لمن له أدنى تامّل.

نعم وقع الخلاف في وجه كفاية ما أتى به المأمور في صورة القطع بالأمر والخطأ مع عدم الأمر لا واقعاً ولا ظاهراً مثل صحة صلوة الجاهل بالقصر والاتمام في السفر تماماً والجاهل بالجهر والاخفات جهراً في مقام الاخفات وبالعكس.

فأفاد المصنّف في وجهه ان الحكم بالكفاية في المقامين ليس من جهة الحكم بالاجزاء بل إنّما هو لخصوصيّة اتفاقيّة في متعلّق الأمر.

وبيانه انّه ربما يكون ما قطع بكونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة في حال الجهل بالواقع والقطع بخلافه، أو على مقدار من المصلحة ولو في حال العلم لا يمكن مع استيفاء ذلك القدر منها استيفاء الباقي منه، فاذا كان كذلك لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي ولو بعد كشف الخلاف.

فالكفاية حينئذٍ لا تكون من جهة موافقة الأمر بل اما من جهة موافقة ملاك الأمر وغرض المولى، وإمّا من جهة عدم امكان استيفاء تمام الغرض وعدم كون

ص: 251

............................................

_____________________________

المحل قابلاً للاستيفاء والاعادة أو القضاء.

وما ذكر في الأمر الظاهري العقلي وانّه يمكن كفاية ما أتى به المكلّف ولا يصح التدارك بعد كشف الخلاف إمّا لكونه المأتي به مشتملاً على تمام مصلحة الواقع أو على مقدار منها لا يبقى مع استيفائه مجال لاستيفاء الباقي.

وأورد عليه الشارح بأن الالتزام بذلك الوجه في كفاية ما أتى به المكلّف مع عدم كونه مأموراً به لا ظاهراً ولا واقعاً تمحل موهون جدّاً.

قال: فانّ الحكم بكفاية ما لم يتعلّق به أمر أصلاً لا واقعي ولا ظاهري ولا كان عدم تعلّق الأمر به لمانع خارجي كما في مسئلة الضد فان عدم تعلّق الأمر بالصلوة مثلاً لوجوب ازالة النجاسة عن المسجد مع ما فيها من المصلحة وتمام مقتضى الأمر إنّما هو لفوريّة وجوب الازالة لا غير مشكل جدّاً من غير فرق بين الحكم القطعي أو الطريقي.

وما أفاد نفسه في وجهه هو انّه ربما كان الأمر الواقعي متعلّقاً بموضوع مختلف بحسب الكم أو الكيف بالنسبة إلى مكلّفين كالأمر تماماً في حقّ الحاضر وقصراً في حقّ المسافر، وفي هذا الحال لا مانع عقلاً من بقاء ذلك الأمر إلى حصول العلم بتغير كميّة المتعلّق في حقّه، نظير ما اتّفقوا عليه في الوكالة من بقاء جواز التصرّف للوكيل واقعاً حتّى يعلم العزل، ففي هذه الصورة قد جاء المكلّف حال عدم علمه بتغير المتعلّق في حقّه بما هو تكليفه واقعاً.

وقال في مقام تحقيق ما أفاده فان قلت يلزم ممّا ذكرت كون التكليف بالقصر أو

ص: 252

............................................

_____________________________

الجهر مشروطاً بالعلم به فان هذا القول في غاية الضعف(1).

وأجاب بما حاصله انّ اللازم على ما وجهنا أخذ العلم في الموضوع لا التكليف، لأن دليل التكليف قوله صلّ الظهر مثلاً، ولكن الموضوع وهو صلوة الظهر يختلف بحسب الكميّة بالنسبة إلى الحاضر والمسافر، والموضوع المتعلّق به قوله صلّ ركعتان للمسافر وأربع ركعات للحاضر، وإنّما يجب القصر على المسافر بعد العلم بموضوع تكليفه وهو القصر كما لا يخفى من تأمّل قوله ان قرأت عليه آية القصر.

وأخذ العلم في الموضوع وكونه جزء له لا مانع منه كما ان ذلك مسلم بالنسبة إلى الموضوعات الخارجيّة، غاية الأمر الموضوع هنا هو موضوع مجعول شرعي وهو القصر ولذا يحتاج إلى كاشف ولو بنحو الأمر كقوله قصر مثلاً مخاطباً للمسافر، فهذا الأمر غير الأمر بصلّ الظهر، فأمر المسافر بالصلوة موقوف على العلم بأن حكمها القصر وإنّها ركعتان ولا مانع منه، فانّ الأمر بالتقصير توصلي لبيان انّ الصلوة المتعلّق بها الأمر فعلاً للمسافر ركعتان، ولذا لا يجب على المكلّف أن يتصوّر أمرين صلّ وقصّر وينوي الامتثال لكلّ منهما، وحيث كان الأمر بالتقصير لبيان الموضوع احتيج إلى تعيين كونه قصرا اما تفصيلاً أو اجمالاً كصلوة هذا الوقت، فلو علم انّ صلوة المسافر ركعتان بنحو الاخبار لا الانشاء والأمر كفى، ومن هنا جاء التعبير في الآية بلا جناح(2).

ص: 253


1- الهداية في شرح الكفاية: 179.
2- الهداية في شرح الكفاية: 180.

............................................

_____________________________

وبعبارة أخرى أوضح أمر الحاضر والمسافر أمر واحد وهو الأمر بالصلوة، والمقصود من الآية وأدلّة القصر اعلام المسافر بأن صلوته ركعتان والموضوع بالنسبة إليه غير الموضوع بالنسبة إلى الحاضر، وليس المقصود منها تكليفاً مستقلاً على المسافر غير التكليف الوارد على الحاضر، وبهذا الوجه يكشف عن انّه لا مانع من اختلاف التكليف في صورة العلم والجهل، وليس التكليف بالقصر أو الجهر مشروطاً بالعلم بنفس التكليف.

أقول: ما أفاده في توجيه المقام وعرفته وجه وجيه إلّا انّه ليس في الأدلّة ما يعين هذا الوجه، بل ما وجهه المصنّف به أيضاً محتمل وقوله عليه السلام: « إن قرأت عليه آية القصر »(1) لا ينافي ما أفاده المصنّف في التوجيه، إذ يمكن أن يكون المراد منه ان مع الالتفات إلى القصر ولو بالاجمال لا يشتمل ما أتى به المكلّف من التمام على المصلحة، أو على مقدار منها لا يبقى مجال معه لاستيفاء الباقي.

وغاية ما يرد على المصنّف وأورده هو ان الحكم بكفاية ما لم يتعلّق به أمر أصلاً لا واقعي ولا ظاهري ولا كان عدم تعلّق الأمر به لمانع خارجي، مع تحقّق تمام مقتضى الأمر فيه عن المأمور به الواقعي مشكل.

وفيه: ان ملاك الأمر وهو المصلحة في الفعل كاف في صحّة العمل المأتي به، فكما انّ المصحّح للمأتي به فيما إذا كان عدم تعلّق الأمر لمانع خارجي كما في مسئلة الضدّ إنّما هو ملاك الأمر والمصلحة الكامنة في الفعل، فكذلك هنا أيضاً.

ص: 254


1- تفسير البرهان: 2/164، ح 2704 - 8؛ وسائل الشيعة: 8/506/44.

لا يكون موافقة للامر فيها، وبقي الامر بلا موافقة أصلا، وهو أوضح من أن يخفى، نعم ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال، أو على مقدار منها، ولو في غير الحال، غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منها، ومعه لا يبقى مجال لامتثال الامر الواقعي، وهكذا الحال في الطرق، فالاجزاء ليس لاجل اقتضاء امتثال الامر القطعي أو الطريقي للاجزاء - بل إنما هو لخصوصية اتفاقية في متعلقهما، كما في الاتمام والقصر، والاخفات والجهر.

الثاني: لا يذهب عليك أن الاجزاء في بعض موارد الاصول والطرق والامارات، على ما عرفت[1] تفصيله، لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه

_____________________________

وبالجملة لا معين لأحد الوجهين ممّا أفاده المصنّف والشارح أيضاً وكلّ منهما محتمل وليس من المهم البحث في تعيين الوجه في ذلك بعد قيام الدليل على صحّة عمل الجاهل بالواقع وعدم وجوب الاعادة والقضاء بعد كشف الخلاف فلنقطع المقال واللَّه العالم بحقيقة الحال.

[1] شرحه ان الحكم بالأجزاء في بعض موارد الأصول والطرق والامارات على القول بالطريقيّة، بل في كلّها بناء على السببيّة كما قال بها بعض لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه من المخطئة لوجهين:

أحدهما: ان المقصود من انتفاء الحكم الواقعي الفعلي البعثي لا الإنشائي الذي لم يصل إلى المرتبة الفعليّة فانّ بقائه في مرتبته مسلم عند الكل القائلين بالأجزاء وغيرهم، والتصويب المجمع على بطلانه إنّما هو عبارة من القول بانتفاء الحكم الانشائي وكون الحكم تابعاً لرأي الحاكم.

ص: 255

............................................

_____________________________

ثانيهما ان انتفاء الحكم مع ان المقصود منه الفعلي لا الانشائي الذي ينفيه المصوبة، لا دخل له بالقول بالاجزاء، بل إنّما هو لعدم حصول شرط فعليّة الحكم الانشائي وهو العلم به، لأنّه ما لم يعلم به لا يصل إلى المرتبة الفعليّة، سواء قلنا بالاجزاء وكفاية ما أتى به المكلّف باعتقاد انّه المأمور به بسب قيام الأصل أو الامارة بعد كشف الخلاف والعلم بالحكم الواقعي الاختياري أو لم نقل به، والقول بسقوط التكليف بالواقع بسبب حصول الغرض أو عدم إمكان تحصيله الذي هو الوجه في القول بالأجزاء غير التصويب المجمع على بطلانه، إذ كما عرفت انّه عبارة عن خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدّت إليه الامارة واستنبطه المستنبط، وكيف يكون القول بالاجزاء عين القول بالتصويب مع ان الجهل بالأحكام الواقعيّة بخصوصيّتها كما في الشبهة الموضوعيّة أو بحكمها رأساً كما في الشبهة الحكميّة مأخوذ في موضوع الامارة وشرط في جواز العمل بها وحجيّتها، فلابدّ من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته وهي مرتبة الانشاء محفوظاً فيها أي في مورد الامارة.

وبعبارة أخرى جعل الغاية في دليل حجيّة الأصل والاماراة العلم بنفس الحكم الواقعي وكونها طرقاً منصوبة إليه، ومحفوظيّتها بمرتبة الانشاء عين القول بالتخطئة والالتزام بوجوده، فالقول بالاجزاء بعيد عن التصويب بمراحل، والمناسبة ولو بأدنى الوجوه بين القولين غير حاصل.

ص: 256

في تلك الموارد، فإن الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها، فإن الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل، ليس إلا الحكم الانشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الاحكام للموضوعات بعناوينها الاولية، بحسب ما يكون فيها من المقتضيات، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الامارات، وإنما المنفي فيها ليس إلا الحكم الفعلي البعثي، وهو منفي في غير موارد الاصابة، وإن لم نقل بالاجزاء، فلا فرق بين الاجزاء وعدمه، إلا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الامر الظاهري، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الاصابة، وسقوط التكليف بحصول غرضه، أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه، وهو خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الامارة، كيف؟ وكان الجهل بها - بخصوصيتها أو بحكمها - مأخوذا في موضوعها، فلابد من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظا فيها، كما لا يخفى.

المقصد الاول: فى الاوامر /

الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب

فصل في مقدمة الواجب:

وقبل الخوض في المقصود، ينبغي رسم أمور: الاول:[1] الظاهر أن المهم

_____________________________

[1] أقول: أبطل المصنّف قول من جعل النزاع في هذا البحث عن نفس وجوب المقدّمة والمسئلة فرعيّة كالبحث عن وجوب الصلوة والزكوة ونحوهما، بأن مرجع البحث فيها إلى انّ العقل هل يحكم بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها أو لا؟ فيرجع البحث فيها إلى البحث عن تحقّق الملازمة بين الارادة الجازمة المتعلّقة لشي ء وبين ارادة مقدّماته، وهذا كما ترى ليس بحثاً عن فعل المكلّف، بل هل هو

ص: 257

المبحوث عنه في هذه المسألة، البحث عن الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدمته، فتكون مسألة أصولية، لا عن نفس وجوبها، كما هو المتوهم من بعض العناوين، كي تكون فرعية، وذلك لوضوح أن البحث كذلك لا يناسب الاصولي، والاستطراد لا وجه له، بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون عن المسائل الاصولية.

ثم الظاهر أيضا أن المسألة عقلية، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه، لا لفظية كما ربما يظهر من صاحب المعالم، حيث استدل على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الالفاظ،[1 ]

_____________________________

بحث عن اقتضاء نفس التكليف والطلب وان استلزم العلم بها العلم بكيفيّة عمل المكلّف من حيث وجوب الاتيان به واباحته كما هو الشأن في جميع المسائل الأصوليّة، فانّها مهدت لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة منها، فلا وجه حينئذٍ للالتزام بالاستطراد بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون المسئلة من المسائل الأصوليّة.

[1] أقول: بل للمسئلة اعتباران، باعتبار عقليّة وباعتبار أخرى لفظيّة، ولا يكون النزاع في هذا الأمر إلّا لفظيّاً، إذ من المعلوم انّ المسئلة ليست من العقليّات المحضة التي لا دخل للألفاظ فيها أصلاً كمسئلة البرائة العقليّة مثلاً، ولا من اللفظيّات الصرفة التي لا مدخل فيها للعقل أصلاً كبحث دلالة الأمر على الوجوب مثلاً.

ص: 258

ضرورة أنه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدمته ثبوتا محل الاشكال، فلا مجال لتحرير النزاع في الاثبات والدلالة عليها بأحدى الدلالات الثلاث، كما لا يخفى.[1]

_____________________________

نعم يمكن أن يكون الدال على وجوب ذي المقدّمة غير اللفظ كالاجماع مثلاً فحينئذٍ لا يبقى للفظ دخل في بحثنا أصلاً.

ولكن لما كان الغالب في ما دلّ على الوجوب أن يكون لفظاً وما لا يكون كذلك في غاية الندرة لاحَظَ بعض القوم تلك الغلبة وراعوا جانب دخالة اللفظ، اذ هو المؤسّس لأساس البحث وجعلوا البحث لفظيّاً، وقالوا في مقام تحرير النزاع انّه هل يدلّ اللفظ الدال على وجوب ذي المقدّمة على وجوب المقدّمة بدلالة الالتزام العقلي أم لا، ومعلوم انّ المعروف عدّ دلالة الالتزام سواء كان اللزوم عقليّاً أم عرفياً أم عادياً من جملة أقسام الدلالة اللفظيّة في مقام تقسيمها إلى المطابقة والتضمّن والالتزام ولا ضير في تلك الملاحظة المذكورة منهم أصلاً، ولا إشكال عليهم في ذلك الخصوص، والمناقشة في المضمون بعد وضوح المقصود غير مناسب لأهل التحقيق، خصوصاً التعرّض لمثل هذه الأمور التي لا يناسب وضع الكتاب الذي أسّس لتحقيق المهمّات.

[1] فيه ان مقصود صاحب المعالم وغيره ممّن حرّر محلّ النزاع مثله أيضاً نفي الملازمة أوّلاً في مقام الثبوت، ثمّ نفيها بسبب ذلك في مقام الاثبات أيضاً، فانّه لا غبار على بيان من يقول انّ اللفظ الفلاني لا يدلّ بدلالة الالتزام على المعنى

ص: 259

الامر الثاني: إنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات: منها:[1] تقسيمها إلى

_____________________________

الفلاني بسبب انتفاء اللزوم بين المعنى المطابقي والمعنى الخارج عنه، فغرضه من انتفاء الدلالات الثلاث انتفاء دلالة الالتزام بسبب انتفاء اللزوم كما لا يخفى.

[1] أقول: قد قسّم المقدّمة إلى تقسيمات باعتبارات، أحدها التقسيم إلى الداخلية والخارجية والمراد من المقدّمات الداخليّة بعض أجزاء المركّب.

لا يقال: ان مقدّمة الشي ء ما يكون متقدّماً عليه ولا تقدّم لأجزاء الشي ء على الشي ء أصلاً، اذ المركّب نفس الأجزاء، والأجزاء عين المركّب، ولا يمكن أن يكون الشي ء الواحد شيئين، وما يكون ذي المقدّمة عين ما يكون المقدّمة وبالعكس، وأيضاً يلزم تقدّم الشي ء على النفس، اذ الفرض اتّحاد المركّب والاجزاء ولزوم تقدّم المقدّمة على ذيها وهو محال عقلاً.

فانّه يقال: انّ المقدّمة هي نفس الأجزاء بالأسر من حيث هي نفسها بلا لحاظ عنوان فيها أصلاً، وذوالمقدّمة هو الأجزاء بلحاظ شرط الاجتماع، ومعلوم انّ نفس الأشياء العديدة من حيث هي مع تلك الأشياء بعنوان الاجتماع متغايران، ويكفي في تغاير المقدّمة وذيها اختلافهما لحاظاً واعتباراً وعنواناً فالأجزاء بلحاظ قيد اللابشرط أجزاء ومقدّمات، وباعتبار الاجتماع والانضمام كلّ ومركب.

فان قلت: ما اعتبرت من لحاظ اللابشرطيّة في الأجزاء في مقابل المركّب الذي هو تلك الأجزاء أيضاً بشرط الانضمام ينافي ما اعتبره الحكماء في عنوان الجزئيّة وحصول الهيولى والصورة من لحاظها بشرط لا.

ص: 260

............................................

_____________________________

قلت: ليس هذا الاعتبار منهم في الأجزاء في مقابل المركّب، بل هذا اعتبار في الأجزاء الخارجيّة في مقابل الأجزاء العقليّة التحليليّة، وإنّما هو في مقام الفرق بينهما وبيان انّ الأجزاء الخارجيّة ما اعتبر فيها اللابشرطيّة بخلاف الأجزاء العقليّة المعتبر فيها لحاظ اللابشرطيّة، وان أجزاء المركّب اذا اعتبرت بشرط لا تكون هيولى وصورة وأجزاء خارجيّة، وإن اعتبرت لا بشرط تكون أجزاء عقليّة وجنساً وفصلاً.

ثمّ لا يخفى خروج الأجزاء الداخليّة عن محلّ النزاع، ولا وجه للخلاف في وجوبها وعدمه بسبب وجوب ذيها، اذ هي عين ذي المقدّمة والتغاير بينهما اعتباري، فتكون واجبة بعين وجوبه ومبعوثاً إليها بنفس الأمر الباعث إليه، بل لا يمكن أن تكون واجبة بوجوب آخر أيضاً بعد وجوبها بوجوب ذيها، لامتناع اجتماع المثلين ووجوب شي ء واحد بوجوبين.

فان قلت: لا مانع من اجتماع الوجوبين في شي ء واحد اذا تعدّدت الجهة، فان وجوب الأجزاء بالوجوب المقدمي ولكونها مقدّمة للمركّب غير وجوبها بعين وجوبه الذي هو الوجوب النفسي، كما يجوز اجتماع الوجوب والحرمة مع تعدّد الجهة، فلا مانع من جريان النزاع في المقدّمات الداخليّة كجريانه في الخارجيّة منها.

فجوابه: ان عنوان المقدّمة ليس معروضاً للوجوب بل إنّما هو معروضه نفس الأجزاء من حيث هي، غاية الأمر عنوان المقدميّة علّة لعروض الوجوب على

ص: 261

............................................

_____________________________

الأجزاء، فحينئذٍ يلزم اجتماع وجوبين في محل واحد حقيقة ولا تغاير أصلاً بين معروضهما لا حقيقة ولا اعتباراً، ومن البديهي انّ الواجب بالوجوب الغيري وما يتوقّف ذي المقدّمة عليه إنّما هو نفس الأجزاء من حيث هي، لا الأجزاء بعنوان المقدميّة.

فظهر فساد توهّم اتّصاف كلّ جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي والغيري باعتبارين وباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي وباعتبار كونه ممّا يتوصّل إلى الكلّ به واجب غيري.

نعم لا مانع من التزام ثبوت ملاك الوجوبين في الأجزاء واستعدادها لأن يعرض عليها الوجوبان وإن كان فعلاً واجباً بوجوب واحد نفسي لسبقه رتبة، وبعبارة أخرى لو لا عدم جواز اجتماع الوجوبين في محلّ واحد لأمكن أن يكون الأجزاء محلّا لوجوبين، ومع الامتناع يثبت الوجوب النفسي وينفي الغيري، لأنّه إذا وجبت بعين وجوب ذيها بواسطة الأمر الباعث إليه لا يصل النوبة إلى ثبوت الوجوب الغيري والمقدّمي، لأن الأوّل مقدم على الثاني رتبة، فثبت انّ وجوب الأجزاء بعين وجوب ذي المقدّمة ونفسي لا غيري ولا يجري النزاع فيها بوجه.

واستشكل عليه الشارح بأنّه لا مانع من اجتماع الوجوبين في الأجزاء والمقدّمات الداخليّة باعتبارين إذ نفس الأجزاء من حيث هي لا تكون معروضاً لحكم من الأحكام سواء الوجوب أو غيره، وكذلك سائر الموضوعات الخارجيّة بل إنّما اتّصافها بالأحكام الشرعيّة من الوجوب وغيره باعتبار تعلّق فعل المكلّف

ص: 262

............................................

_____________________________

بها، فاذا كان كذلك فمعلوم انّ المكلّف هنا فعلان ضم بعض الأجزاء ببعض والاتيان بالأجزاء المنضمة بعضها مع بعض، فان الضم فعل مقدّمي والمقصود منه حصول الاتيان بالأجزاء المنضمّة فيكون واجباً بوجوب غيري، وأمّا الاتيان بالأجزاء المنضمّة حيث لا يكون المقصود منه إلّا نفسه يكون واجباً بالوجوب النفسي.

ومثل لذلك بأنّه إذا أمر المولى عبده بالاتيان بالسرير وكان السرير أجزاء عديدة، فضمّ الأجزاء بعضها مع بعض ليحصل عنوان السرير واجب غيري، والاتيان بها منضمّة التي هي عين السرير واجب نفسي.

ثمّ قال بعد تمثيله بذلك لا يقال: انّ الأمر بالصلوة من قبيل الأمر بالاتيان بالسرير بعد ضمّ المولى بعض أجزائه ببعض، فليس إلّا الاتيان بها منضمّة وهو عين المركّب، فليس إلّا الوجوب النفسي.

لأنّا نقول: ليس الحال كذلك لأنّ السرير المصنوع لا يمكن الاتيان به إلّا مجتمعا دفعة بخلاف الصلوة، فانّ الاتيان بأجزائها لا يكون إلّا تدريجيّاً وعند تمامها يحصل المركّب، فالصلوة هي الأجزاء المنضمّة المعدودة واتيان العبد بهذا المنضم موقوف على الضم بالضرورة، فظهر ان لا دخل لوجوب المنضم بوجوب الضم(1).

أقول: لا يخفى انّ بعد تماميّة ضم أجزاء الصلوة لا يبقى واجب حتّى يتصوّر الاتيان به، فالقول بأنّ الاتيان بالأجزاء بعد انضمامها واجب نفسي وقبله واجب

ص: 263


1- الهداية في شرح الكفاية: 184.

............................................

_____________________________

غيري لا محصّل له، بل يكون الاتيان بكلّ جزء جزء من الواجب واجباً نفسيّاً، إذ الأمر تعلّق بتلك الأجزاء من أوّل الأمر وبعث المولى نحو تلك الأجزاء لا غير، وضم بعضها مع بعض عين اتيانها، وعنوان مقدميّتها للكلّ، وانّ المقصود من الاتيان بها حصول الكل، والمركّب اعتبار يعتبره المعتبر، وإلّا ففي الحقيقة اتيانها عين اتيان الكل كما ان نفسها نفس المركّب والكلّ.

وما أفاده عين ما تفطّن به المصنّف وتعرّض له بقوله « ولو قيل بكفاية تعدّد الجهة » وأبطله بما حقّقه من أن تغاير العنوان هنا غير محقّق، وانّ الواجب بالوجوب الغيري لو كان إنّما هو نفس الأجزاء لا عنوان مقدميتها وضمها من المكلّف.

نعم عنوان الضم ومقدميّته لحصول الانضمام علّة لترشّح الوجوب على المنضم.

ثمّ قال الشارح ولو سلّم يمكن أن يكون الجزء واجباً بملاكين لا متعلّقاً لوجوبين، ولا مانع من كون الشي ء واجباً لنفسه من جهة ولغيره من أخرى كالصوم اذا نذر الاعتكاف في رمضان، فانّه واجب بملاكين(1).

أقول: لم يعلم انكار المصنّف لذلك بل اعترافه بثبوت ملاكي الوجوب في الأجزاء يدلّ على تسليمه، ولذلك أشار في آخر كلامه بأن عدم ثبوت الوجوب لأحد ملاكين لمانع عنه وهو سبق ملاك الوجوب النفسي رتبة على ملاك الوجوب الغيري، ويستفاد منه انّه لَوْ لا المانع لثبت وجوب الواجب بملاكين.

ص: 264


1- الهداية في شرح الكفاية: 184.

داخليّة وهي الاجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها، والخارجية وهي الامور الخارجة عن ماهيته مما لا يكاد يوجد بدونه.

وربما يشكل في كون الاجزاء مقدمة له وسابقة عليه، بأن المركب ليس إلا نفس الاجزاء بأسرها.

والحل: إن المقدمة هي نفس الاجزاء بالاسر، وذو المقدمة هو الاجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما، وبذلك ظهر أنه لابد في اعتبار الجزئية أخذ الشي ء بلا شرط، كما لابد في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع.

وكون الاجزاء الخارجية كالهيولى والصورة، هي الماهية المأخوذة بشرط لا لا ينافي ذلك، فإنه إنما يكون في مقام الفرق بين نفس الاجزاء الخارجية والتحليلية، من الجنس والفصل، وأن الماهية إذا أخذت بشرط لا تكون هيولى أو صورة، وإذا أخذت لا بشرط تكون جنسا أو فصلا، لا بالاضافة إلى المركب، فافهم.

ثم لا يخفى أنه ينبغي خروج الاجزاء عن محل النزاع، كما صرح به بعض وذلك

_____________________________

وبعبارة اخرى اذا كان الملاكان لوجوبين في عرض واحد ولم يكن أحدهما متقدّماً على الآخر بحسب الرتبة كما في مثال الصوم المزبور لا مانع من اجتماعهما في موضوع واحد بنحو التداخل وبحيث يكون أحدهما مؤكّداً للاخر بأن يكون الموضوع الواحد واجباً بالوجوب المؤكّد ومطلوباً بالطلب المشدّد.

وأمّا إذا كان أحد الملاكين أصليّاً وسابقاً على الملاك الآخر رتبة وكان الملاك الآخر تبعاً له ومؤخّراً عنه بحسب الرتبة فلا يبقى مجال لثبوت التبعي بعد وجود الأصلي ليجتمعا معاً ويتداخلا كما لا يخفى.

ص: 265

لما عرفت من كون الاجزاء بالاسر عين المأمور به ذاتا، وإنما كانت المغايرة بينهما اعتبارا، فتكون واجبة بعين وجوبه، ومبعوثا إليها بنفس الامر الباعث إليه، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر، لامتناع اجتماع المثلين، ولو قيل بكفاية تعدد الجهة، وجواز اجتماع الامر والنهي معه، لعدم تعددها ها هنا، لان الواجب بالوجوب الغيري، لو كان إنما هو نفس الاجزاء، لا عنوان مقدميتها والتوسل بها إلى المركب المأمور به، ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمة، لانه المتوقف عليه، لا عنوانها، نعم يكون هذا العنوان علة لترشح الوجوب على المعنون.

فانقدح بذلك فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي والغيري، باعتبارين، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي، وباعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل واجب غيري، اللهم إلا أن يريد أن فيه ملاك الوجوبين، وإن كان واجبا بوجوب واحد نفسي لسبقه، فتأمل.

هذا كله في المقدمة الداخلية، وأما المقدمة الخارجية، فهي ما كان خارجا عن المأمور به، وكان له دخل في تحققه، لا يكاد يتحقق بدونه، وقد ذكر لها أقسام، وأطيل الكلام في تحديدها بالنقض والابرام، إلا أنه غير مهم في المقام.

ومنها: تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية: فالعقلية هي ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه.[1]

_____________________________

[1] أقول: قد قسموا المقدمة إلى ثلاثة أقسام: العقليّة والشرعيّة والعادية والمصنّف حيث توهّم انّ المقدّمة تكون مقدّمة بعنوان المقدميّة وغفل عن ان

ص: 266

............................................

_____________________________

المقدّمة نفس ما هو معنون بعنوانها توهم ان رجوع الأخيرين إلى الأوّل، والمقدّمات كلّها عقليّة.

وقال في بيانه: انّ المقدّمة الشرعيّة على ما قيل ما يستحيل وجوده بدونه شرعاً، ولا يخفى رجوع ذلك إلى العقليّة ضرورة انّه لا يكاد يكون مستحيلاً ذلك شرعاً إلّا إذا أخذ فيه شرطاً وقيداً، واستحالة المشروط والمقيّد بدون شرطه وقيده يكون عقليّاً.

وأمّا العادية فان كانت بمعنى أن يكون التوقّف عليها بحسب العادة بحيث يمكن تحقّق ذيها بدونها إلّا أن العادة جرت على الاتيان بها بواسطتها، فهي وإن كانت غير راجعة إلى العقليّة ولا دخل للعقل في مقدميّته وتوقّف ذي المقدّمة عليها، إلّا أنّه لا ينبغي توهّم دخولها في محلّ النزاع، فان عدم وجوب المقدّمة العاديّة ممّا لا يكاد ينكر، ولا وجه للقول بوجوب ما لا يلزم وجوده لوجود ذي المقدّمة، إذ مخالفة العادة كثيراً ما يقع.

وأمّا إذا كان بمعنى انّ التوقّف عليها كان فعليّاً واقعيّاً، ولم يمكن فعلاً صدوره من الفاعل إلّا بوسيلة تلك المقدّمة العاديّة كنصب السلم ونحوه للصعود على السطح، إلّا أنّه لأجل عدم التمكّن عادة من الطيران الممكن عقلاً، فهي أيضاً راجعة إلى العقليّة، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلاً لغير الطائر فعلاً وإن كان طيرانه ممكناً ذاتاً، فحصل ان جميع المقدّمات من الشرعيّة والعادية راجعة إلى العقليّة وبطل تقسيمها منهم إلى الأقسام الثلاثة.

ص: 267

والشرعية على ما قيل: ما استحيل وجوده بدونه شرعا، ولكنه لا يخفى رجوع الشرعية إلى العقلية، ضرورة أنه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك شرعا، إلا إذا أخذ فيه شرطا وقيدا، واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده، يكون عقليا.

وأما العادية، فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة، بحيث يمكن تحقق ذيها بدونها، إلا أن العادة جرت على الاتيان به بواسطتها، فهي وإن

_____________________________

وفيه انّ المقصود من المقدّمة الشرعيّة ما كان مقدميّته لجعل الشارع في مقابل العقليّة التي مقدميّتها بحكم العقل، فكما انّ المقصود من المقدّمة العقليّة ليس إلّا ما كان مقدميّته بحكم العقل، لا ما كان توقّف ذي المقدّمة عليها بعد فرض ثبوت عنوان المقدميّة بحكم العقل، فكذلك في المقدّمة الشرعيّة المقصود منها كون ذات المقدّمة دخيلة في وجوب ذي المقدّمة بحكم الشرع، وكذلك في العادية أيضاً فانّ المراد منها ما كان دخيلاً في وجود ذي المقدّمة فعلاً بحسب العادة، وليس المراد منها ما كان توقّف ذي المقدّمة عليه بعد فرض ثبوت عنوان المقدميّة له بحكم العادة كي يقال بعد فرض ثبوت عنوان المقدميّة يصير التوقّف عقليّاً لا عاديّاً، فظهر انّ التقسيم المذكور منهم في محلّه ولا غبار عليه، وما أفاده المصنّف ليس إلّا إشكالاً على تعبيرهم.

نعم التعبير الصحيح أن يقال انّ المقدّمة العقليّة ما كان الحاكم باستحالة وجود ذيها بدونه هو العقل لادراكه واقع الأمر، والشرعيّة ما كان الحاكم لها هو الشرع لعدم ادراك العقل ذلك، ومعلوم ان مرادهم ليس إلّا ذلك، غاية الأمر تعبيرهم قاصر عن أدائه واللَّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 268

كانت غير راجعة إلى العقلية، إلا أنه لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع، وإن كانت بمعنى أن التوقف عليها وإن كان فعلا واقعيا، كنصب السلم ونحوه للصعود على السطح، إلا أنه لاجل عدم التمكن من الطيران الممكن عقلا فهي أيضا راجعة إلى العقلية، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلا لغير الطائر فعلا، وإن كان طيرانه ممكنا ذاتا، فافهم.

ومنها: تقسيمها إلى مقدمة الوجود، ومقدمة الصحة، ومقدمة الوجوب، ومقدمة العلم[1] لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، ولو على القول

_____________________________

[1] أقول: منشأ توقّف الواجب على كلّ واحد من مقدّماته الأربع من مقدّمة الوجود والوجوب والصحّة والعلم بلحاظ مخصوص، ولو لوحظت الأربع بالنسبة إلى وجودها تكون كلّها مقدّمة الوجود، إلّا انّها تختلف باختلاف الاضافات، فمقدّمة حصول الوجوب للواجب كالاستطاعة ومقدّمة حصول ذات الواجب الذي يعبّر عنها بمقدّمة الوجود كالزاد والراحلة ومقدّمة حصول الصحّة كالاسلام وحصول العلم كالاتيان بالطرفين فيما إذا اشتبه الواجب بأحدهما وتركهما فيما إذا اشتبه الحرام.

والمصنّف قال برجوع مقدّمة الصحّة إلى مقدّمة الوجود لأن ما ليس بصحيح من ذي المقدّمة ليس موجوداً ولو قيل بكون الألفاظ موضوعاً للأعم من الصحيح، إذ الكلام في مقدّمات الواجب وما ليس بصحيح من ذي المقدّمة ليس بواجب البتة.

نعم بناء على القول الأعمى موسوم باسم أحد الواجبات كاسم الصوم والصلوة

ص: 269

............................................

_____________________________

مثلاً، وليس الكلام في مقدّمات ما هو الموسوم بالأسماء الخاصّة للواجبات ولو كان من القسم الفاسد.

واستشكل عليه الشارح بأنّ الكلام في مقدّمات ذات الواجب لا بوصفه العنواني، كي يقال ان ما ليس بصحيح ليس بواجب والطهارة مثلاً محسوبة من مقدّمات ذات الصلوة المركّبة من الأجزاء المخصوصة لا بعنوان انّها واجب من الواجبات، وإلّا فلو كان كذلك لخرج مقدّمة الوجوب من المقدّمات، اذ عنوان مقدميته ملحوظ مع قطع النظر عن وجوب ذي المقدّمة، بل بالنسبة إلى ذاته، وذلك لعدم حصول الوجوب لذي المقدّمة إلّا بوساطة وجود المقدّمة فكيف يمكن لحاظ مقدميّته مع فرض حصول صفة الوجوب لذيها(1).

وإذا كان الملحوظ في هذا التقسيم مقدّمات ذات الواجب لا بوصفه العنواني، فلا يرجع مقدّمات الصحّة إلى مقدّمات الوجود ولا خلل في التقسيم أصلاً كما لا يخفى، والانصاف ان الاشكال في محلّه.

ثمّ اعلم انّه لا إشكال في خروج مقدّمة الوجوب عن محلّ النزاع في وجوب المقدّمة وعدمه، بداهة عدم اتّصافها بالوجوب قبل وجوب ذيها، لأنّ الفرض ان وجوب ذي المقدّمة لا يحصل إلّا بعد حصول المقدّمة، فكيف يمكن أن يترشح الوجوب من ذي المقدّمة الكذائي إلى مقدّمة وهو واضح.

وكذلك المقدّمة العلميّة خارجة من هذا النزاع، لأنّه وان استقلّ بوجوبها إلّا انّه

ص: 270


1- الهداية في شرح الكفاية: 187.

بكون الاسامي موضوعة للاعم، ضرورة أن الكلام في مقدمة الواجب، لا في مقدمة المسمى بأحدها، كما لا يخفى.

ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع، وبداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها، وكذلك المقدمة العلمية، وإن استقل العقل بوجوبها، إلا أنه من باب وجوب الاطاعة إرشادا ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجز، لا مولويا من باب الملازمة، وترشح الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة.

ومنها: تقسيمها إلى المتقدم، والمقارن، والمتأخر، بحسب الوجود بالاضافة إلى ذي المقدمة،[1] وحيث أنها كانت من أجزاء العلة، ولا بد من تقدمها

_____________________________

من باب الملازمة وترشح الوجوب عليها من قبل وجوب ذيها وما أبعد ما بين الوجوبين، فتحصل انّ النزاع في بحث مقدّمة الواجب في وجوب المقدّمة وعدمه من جهة الملازمة منحصر في مقدّمة الوجود ومقدّمة الصحة كالزاد والراحلة للمستطيع والطهارة لمن كان الصلوة واجبة عليه مثلاً.

[1] أقول: لا إشكال في الشرط المقارن، إذ القاعدة ان تكون الشرط مقارناً مع المشروط في الوجود وتصاحبه من آن حصوله إلى آخره إن كان من الأمور التدريجيّة، إذ الشرط من أجزاء علّة وجود المعلول ولابدّ في العلّة من وجودها بجميع أجزاؤها مع المعلول.

وأمّا الشرط المتأخّر والشرط والمقتضى المتقدّم فيقع فيه الاشكال من جهة عدمهما حين حصول المشروط والمقتضى وعدم التصاحب المعتبر.

ص: 271

............................................

_____________________________

ولكن العلماء الأعلام أوردوا الاشكال في خصوص الشرط المتأخّر بأنّه كيف يمكن تأثير شي ء في شي ء من قبل وجوده واختلفوا في دفعه، مع انّ الاشكال الوارد في الشرط المتاخّر بعينه وارد في الشرط المتقدّم والمقتضي المتقدّم أيضاً بأن يقال كيف يمكن تأثير شي ء في شي ء بعد انصرام وجوده وانقضاء مدّة حصوله.

مثال الشرط المتأخر الأغسال الليليّة للمستحاضة المعتبر في صحّة صوم اليوم الماضي، والمقتضى المتقدّم كعقد الفضولي الملحق به الاجازة هذا شرح ما أفاده المصنّف.

وأقول: وجه تخصيص الاشكال بالشرط المتأخّر مع عموم المناط هو ان ما وقع في الشرعيّات من الشروط والمقتضيات المقدّمة غالباً ترجع إلى المقارن، مثلاً أغسال الليلة الماضية التي تكون شرطاً في صحّة صوم الغد لا إشكال من جهتها، اذ الشرط في الحقيقة الطهارة النفسانيّة الحاصلة بالأغسال التي تكون أعمالاً خارجيّة، والطهارة الحاصلة منها مقارنة مع الصوم.

والمقتضى المتقدّم كالعقد من الفضولي لا إشكال من جهتها أيضاً إذ المقتضى في الحقيقة العهد الذي يقع بين البائع والمشتري المنكشف بالعقد اللفظي الباقي إلى حين الاجازة، وليس المقتضى في الحقيقة الألفاظ المعيّنة التي يتلفّظ بها البائع كي يقال انّها فانية حين لحوق الاجازة والرضا من المالك، بخلاف الشروط المتأخّرة، فانّها بظاهرها ممّا يصعب الأمر فيها، فهي المهمّة لأن ينعقد البحث في علاج

ص: 272

............................................

_____________________________

شرطيّتها في المشروط المتقدّم الذي لم يبق منه أثر حين حصولها في الخارج.

وعلى كلّ حال فتوضيح الاشكال هو ان من ضروريّات العقل التي لا شبهة فيها لزوم تقدّم العلّة على المعلول ذاتاً وطبعاً واتّحادها معه وجوداً في الخارج وعلّة الشي ء لا تكون إلّا عبارة عن السبب والشرط وعدم المانع، فيلزم أن تكون كلّها مقارنة للمعلول ومصاحبة معه في الخارج، ولو تخلّف جزء واحد منها عن التقدّم الطبعي والاتّحاد في الوجود الخارجي لزم تخلّف العلّة عن المعلول، ووجود المعلول بدون وجود العلّة، وهو محال عقلاً، فاذا تأخّر الشرط عن المشروط فان كان تأثير العلّة في ايجاد المعلول حين وجوده ولا يكون قبله تأثير أصلاً لزم عدم مقارنة السبب المتقدّم في الوجود الخارجي مع المعلول، فيبطل الشرط المتقدّم. وإن كان تأثير السبب المتقدّم من حين وقوعه فان كان وجود الشرط محدثاً لتأثيرها من ذلك الحين لزم جواز تأخر بعض أجزاء العلّة المستلزم لجواز سبق المعلول وتقدّمه ذاتاً على العلّة وهو غير معقول فبطل الشرط المتأخّر.

وأمّا إن كان الشرط المتأخّر كاشفاً عن وجود شرط التأثير حين العقد صحّ ولا إشكال.

ومن المعلوم انّه لا يمكن قطعاً دفع هذه العويصة مع بقاء المقدّمات المذكورة على حالها من كون السبب متقدّماً والشرط متأخّراً كذلك ويؤثر العقد المتقدّم حين وجود الشرط المتأخّر أو يؤثر الشرط المتأخّر حين وجود العقد المتقدّم.

أمّا مع التصرّف في بعض تلك المقدّمات فقد ادّعى امكانه، وقد أفادوا لدفع

ص: 273

............................................

_____________________________

الاشكال وجوهاً خمسة، والوجه الأخير ما أفاده المصنّف لا بأس بالاشارة إليها والبحث فيها.

أحدها ما عن شيخنا المحقّق المرتضى قدس سره وهو انّ الشرط المتاخّر شرط بوصف كونه متأخّراً وبلحاظ كونه معنوناً بعنوان التأخّر، وكذلك الشرط المتقدّم شرط بوصف التقدّم، وليس الشرط فيهما ذات ما جعل شرطاً بحسب الظاهر كي يرد الاشكال.

وشرح مراده انّ الشرط قد يكون ذات الشي ء من دون ملاحظة وصف من أوصافه معه أصلاً، وقد يكون شرطاً بملاحظة وصف من أوصافه كالتقدّم على الشي ء والتأخّر عنه مثلاً، وهذا في غير الشرعيّات أيضاً غير قليل، مثلاً الدواء الذي يكون علّة لدفع الداء الفلاني قد يكون شرط تأثيره أن يستعمله المريض في الفصل الفلاني من فصول السنة أو مع استعمال الدواء الآخر قبله أو بعده، ولكن في صورة التقدّم والتأخّر يكون الشرط في الحقيقة الأثر الذي يحصل ممّا استعمله من الدواء المتقدّم أو المتأخّر، وذلك الأثر مقارن وجوداً وخارجاً مع المشروط، وإلّا فالقاعدة الكليّة العقليّة وهي لزوم مصاحبة أجزاء العلّة مع المعلول كما عرفت لا يقبل التخلّف أصلاً لا في الشرعيّات ولا في غيرها.

ولو لا انّ التحقيق ما ذكرنا لا يلزم أن يكون قول الطبيب لابدّ من شرب المائع الفلاني قبل شرب الدواء الآخر في تأثيره أو لابدّ في تأثير المسهل الفلاني من شرب الماء الحار أو البارد بعد شربه لغواً وهذراً.

ص: 274

............................................

_____________________________

ولكن لما كان المقصود من شرب المائع مقدماً على شرب الدواء حصول استعداد في المزاج به يكتسب الأثر من الدواء اللاحق الموجود ذلك الاستعداد حين استعماله، وكذلك المقصود من شرب الماء الحار أو البارد اتمام الأثر المتزلزل الناقص الحاصل من شرب المسهل، لم يكن من جهة تقدّم جزء العلّة أو تأخره محذور أصلاً.

وكذلك الأمر في الشرعيّات فان نفس الاجازة المتأخرة مثلاً عن العقد الفضولي التي عبارة عن الكشف عن الرضا الباطني بقوله أجزت المعاملة الفلانيّة أو رضيت به مثلاً ليس شرطاً، بل الشرط في الحقيقة الرضا المكشوف بذلك القول الحاصل قبل حصول الكاشف المقارن مع العقد بل السابق عليه أيضاً.

وكذلك الأغسال الليليّة المستحاضة الموجدة للطهارة، فانّه لا إشكال في ان تلك الطهارة الواقعة في الليل في الصوم الذي انقضى وجوده حين حصولها، ولا بعد في توقّف تماميّة الصوم على تعقّب الغسل وحصول أثر الطهارة في ليل ذلك اليوم الذي صامت فيه كما ان تماميّة أثر الدواء المسهل متوقف على شرب الماء الحارد أو البارد مثلاً بعده، والحاصل ان شرطيّة الشروط المتأخّرة وإن كان ظاهر الأدلّة شرطيّة نفسها ولكن المراد شرطيّة تعقّبها لمشروطاتها، ووصف التعقّب مقارن مع المشروط الذي انقضى وجوده حين حصول ذات الشرط، فانّ المراد من اشتراط الاجازة في صحّة عقد الفضولي اشتراط تعقّبها فاذا لحق الاجازة

ص: 275

............................................

_____________________________

يكون الشرط حاصلاً من حين حصول المشروط وهو العقد ومقارناً معه فلا اشكال.

الثاني ما أفاده النيراقي قال الشارح حكى عن النيراقي انّ الشرط في أمثال هذه الموارد هو الوجود في الجملة ولم أعرف ما أريد بهذه العبارة فعلمه موكول إلى صاحبه، ثمّ قال وقد رأيت بعد ذلك عبارته في المستند فكان مضمونها مطابقاً لما عن صاحب الفصول، فانّه قال ما ملخّصه انّ العقد إن كان في الواقع متعقباً بالاجازة صحّ من حينه وإن كان غير متعقّب فسد من حينه، فليس الشرط وجودها حين العقد بل وجودها وقتاً ما فالظاهر انّ الحكاية اشتباه انتهى(1).

أقول: كيف يكون الحكاية اشتباهاً مع انّها مطابقة مع ما رأى من عبارة المستند، فانّ الوجود في الجملة عبارة أخرى عن الوجود في وقت ما، ولا اختلاف بين المحكي عنه وما في المستند كما هو واضح وما أفاده النيراقي راجع إلى ما أفاده الشيخ الأنصاري.

الثالث ما نقل عن السيّد الأجل الميرزا الشيرازي وهو انّ الشرط في أمثال هذه الموارد ليس المتقدّم والمتأخّر بوجودهما الكوني الزماني ليلزم المحذور بل بوجودهما الدهري المثالي وهما بهذا الوجود لا يكونان إلّا مقارنين للمشروط، فانّ المتفرّقات في سلسلة الزمان مجتمعات في وعاء الدهر(2).

ص: 276


1- الهداية في شرح الكفاية: 191.
2- الهداية في شرح الكفاية: 191 - 192.

............................................

_____________________________

وأجاب عنه المصنّف الأخوند الخراساني بأن ذلك وإن كان لطيفاً في نفسه إلّا أنّه لا يكاد يكون الشرط للزماني إلّا الزماني مضافاً إلى انّ الشرط في الموارد حسب دليله إنّما هو الشي ء بوجوده الكوني ضرورة إن اجازة المالك في الفضولي والأغسال الليليّة في صوم المستحاضة مثلاً بما هي اجازة واغتسال خاصّة يكون شرطاً وهي كذلك ليست إلّا زمانيّة، لأنّها بوجودها الدهري لا تكون محدودة بهذه الحدود بل بحدود اخر يجتمع بها الشرط والمشروط، لسعة حيطة ذلك الوجود وكمال بساطته، وبهذا المعنى يكون الدهر مجمع المفترقات الزمانيّة.

واستشكل عليه الشارح الكاظميني بأن صحّة ما أفاده في جواب السيّد مبنى بأسره على أن يكون مراده ان المشروط زماني والشرط مثالي، وهو خلاف صريح عبارته، فانّه جعل الشرط كذلك أيضاً كالمشروط ليجتمع بوجوده المثالي مع المشروط، لأنّ الدهر مجمع المفترقات بالوجود الزماني، وإلا فكيف يعقل مقارنة الوجود المثالي للوجود الزماني وكيف يعقل تحقّق الشي ء بوجوده الزماني المفترق في عالم الوجود المثالي المجتمع وهذا واضح(1).

فغرض السيّد المجيب انّ الشرطيّة والمشروطيّة إنّما تكون في الأشياء بوجودها المثالي المجتمع ثمّ توجد بوجودها الزماني المفترق، وحدود كلّ واحد مشخصة له بما هو عليه في الوجودين، فلا يرد عليه شي ء ممّا أفاده.

ص: 277


1- الهداية في شرح الكفاية: 192.

............................................

_____________________________

نعم ما أفاده من انّ الظاهر في الشروط كونها مشروطاً بوجودها الزماني حق كما ان الظاهر من المشروطات ذلك أيضاً.

أقول: ما أورده الشارح على المصنّف من انّه اشتبه عليه مراد المجيب في محلّه وإلّا فكيف يظنّ بمثل ذلك الفحل الذي كان علما في التحقيق والتدقيق أن يلتزم بجواز كون الشرط مثالياً والمشروط زمانياً مع وضوح بعد كلّ واحد من هذين المنزلين عن الآخر ولزوم الاتّحاد في السنخيّة بين الشرط والمشروط.

والعجب من المصنّف كيف رضى بنسبة مثل هذا المطلب الذي وضوح فساده كالنار على المنار إلى مثل هذا العَلَم النحرير.

وأمّا ما استسلمه الشارح من الاشكال الثاني من انّ الظاهر في الشروط كونها شروطاً بوجودها الزماني، ففيه أيضاً انّ هذا الظاهر يبقى بحاله إلى قيام القرينة على خلافه، ومن المعلوم ان عدم معقوليّة الشرط المتأخّر قرينةٌ على كون المناط في هذه الموارد اجتماع المشروط والشرط في عالم المثال، وكفاية ذلك الاجتماع في ذلك العالم في صحّة شرطيّة الشرط المتأخّر في العالم الزماني.

وأمّا ما أورده الشارح بعد تسليم الخروج عن الظاهر حيث قال ولو سلّم وقلنا بأن هذا الظاهر لابدّ من الخروج عنه بناء على المشهور فلا ينفع التقارن في عالم المثال في تصحيح تأثير العقد من حينه لما عرفت من عدم معقوليّة تأثير العلّة إلّا بعد تمام أجزائها، ولا يجوز أن تؤثّر النار أثرها قبل المماسة وإن قارنتها.

ففيه ان بعد ان حكم الشارع بكفاية اجتماع أجزاء العلّة في عالم المثال في

ص: 278

............................................

_____________________________

تأثير المقتضى ولو كان الشرط متأخّراً في عالم الزمان، فلم لا يصحّ تأثير العقد من حينه.

ثمّ استشكل الشارح عليه أيضاً بأنّه يلزم على هذا الوجه جواز التصرّف فعلاً في حقّه الفضولي لتماميّة العلّة بوجودها المثالي قبل تحقّق الاجازة، وأيضاً إذا كانت العلّة بأجزائها متباينة فلا يعقل أن يكون أثرها جواز التصرّف الزماني، للزوم تحقّق السنخيّة بين العلّة ومعلولها، وإذا كان الأثر هو جواز التصرّف بالوجود المثالي فلم ينفع هذا التوجيه شيئاً في العلّة والمعلول والأثر بحسب الوجودات الزمانيّة والحكم بسقوط هذه الأوصاف العنوانيّة عنها في هذا الوجود لا يمكن مع حكم الشارع بترتيب آثارها في هذا الوجود فلا تغفل انتهى(1).

أقول: أمّا الاشكال الأوّل فمندفع بأن عدم جواز التصرّف فعلاً لعدم تحقّق الشرط وهو الاجازة بعد في عالم الزمان، ومعلوم ان المقتضى لا يؤثّر مادام لم يحصل الشروط، وحصول الشرط والمشروط معاً في عالم الدهر من قبل لا يكفي في حصول التأثير بل اللازم حصولهما في عالم الزمان، غاية الأمر لا يلزم اجتماع الشرط والمشروط في ذلك العالم، بل يجوز كونه متأخّراً عن المشروط لكفاية اجتماعهما في عالم المثال، وإلّا فيلزم جواز التصرّف فيما لو كان الشخص عالماً لكمال نفسه بحصول المشروط والشرط بعد اوقات في عالم الزمان الملازم مع

ص: 279


1- الهداية في شرح الكفاية: 192 - 193.

............................................

_____________________________

حصولهما من قبل في عالم المثال، مع انّه لا يجوز قطعاً حتّى على فرض كفاية اجتماع الشرط مع المشروط في عالم المثال.

وذلك لما عرفت من لزوم وجود العلّة بجميع أجزائها في عالم الزمان غاية الأمر يلتزم السيّد المجيب بعدم الغائلة في تأخّر الشرط في عالم الزمان لاجتماعه مع المشروط في عالم المثال فقط.

بقي الكلام فيما استشكل أخيراً من لزوم السنخيّة بين العلّة والمعلول، وكيف يمكن تأثير اقتران الشرط والمشروط في عالم الدهر في المعلول الذي يوجد في عالم الزمان.

وهو مندفع بأنّه حقق في الحكمة الالهيّة انّ عوالم الغيب والشهادة والمجرّدات والماديّات ليست حقايق متباينات بل مرتبطات متّصلات، ومبني جميع الشرائع على ذلك وتأثير الخيرات والشرور من أهل الخير والشر في عالم المحشر من المسلّمات عند جميع أهل الشرايع، والأخبار الواردة من النبي صلى الله عليه وآله والسفراء في خصوص ذلك أكثر من أن تحصى، مثل قوله صلى الله عليه وآله: «الجنّة قيعان غراسها سبحان اللَّه والحمد للَّه»(1)، فاذا ثبت ارتباط تلك العوالم وعدم تباينها وجواز تأثير ما يقع في بعضها في الآخر مثل تأثير ما يقع في عالم الناسوت في عالم اللاهوت فكذلك يجوز تأثير الاجتماع الذي يقع في عالم الدهر في عالم الدنيا أيضاً.

ص: 280


1- بحار الأنوار: 7/229.

............................................

_____________________________

نعم الانصاف ان ما أفاده السيّد المجيب قدس سره بعيد في نفسه ولا يستأنس الذهن به، وأمّا الغفلات التي نسب إليه المصنّف والشارح وإن ما أفاده من الأمور المستحيلة بالوجوه التي ذكرها فكلّا وحاشا، وكيف ذلك والمحذورات التي ذكراها من الواضحات التي لا يخفى على أحد فضلاً عن السيّد العلم النحرير فكيف يظنّ به أن يكون غافلاً عنها، فاللازم دقّة النظر فيما أفاده ليعلم برائته من تلك الغفلات واللَّه العالم.

الرابع ما في الفصول وحاصله: انّ الشرط هو الأمر المنتزع عنه المقارن لمشروطه، فالعقد المؤثّر ثلاثة أنواع عقد مع الرضا وعقد مسبوق بالرضا وعقد ملحوق بالرضا، وكونه مسبوقاً أو ملحوقاً وصفان مقارنان له عند تحقق ذات الشرط في وقته، فصح كشفه عن الصحة حين العقد وإن لم يكن صحيحاً فعلاً قبل تحقّق الاجازة مثلاً(1)، وهذا الوجه في الحقيقة راجع أيضاً إلى ما سلكه شيخنا المرتضى قدس سره.

الخامس ما أفاده المصنّف وحاصله انّ الشرط المتأخّر والمتقدّم إمّا شرط في الحكم تكليفيّاً أو وضعيّاً أو المأمور به.

أمّا في الصورتين الأولتين فمعلوم انّ المقصود من شرطيّة الأمر الفلاني في التكليف أو الوضع ان لحاظه وتصوّره دخيل في حدود الحكم من الحاكم كما انّ

ص: 281


1- الهداية في شرح الكفاية: 193.

............................................

_____________________________

الأمر في الشرط المقارن أيضاً كذلك، فان من أراد أن يطلب شيئاً أو ينهى عن شي ء أو يحكم بالصحّة أو فساد عمل لابدّ أن يتصوّره أو لا بجميع أجزائه وأطرافه وشروطه ممّا يقع منها مقارناً معه في الخارج أو متقدّماً عليه أو متأخّراً عنه في الوجود الخارجي، ليرغب في طلب فعله والأمر به أو تركه والنهي عنه، فيسمى كلّ واحد من الأطراف التي لتصوّرها دخل في حصول الرغبة فيه وارادته شرطاً في الحكم، لأجل دخل لحاظه في حصوله، فليس انخرام في القاعدة العقليّة في غير المقارن في خصوص شروط التكليف والوضع أصلاً.

وأمّا إذا كان الشرط شرطاً في المأمور به فكذلك لا ينخرم القاعدة أيضاً، إذ ليس المقصود من شرطيّة الشي ء الفلاني سواء كان مقارناً أو متقدّماً أو متأخّراً إلّا أنّه يحصل لذات المأمور به بالاضافة إليه ووقوع ذلك متأخّراً عنه أو متقدّماً عليه أوْ مقارناً له وجه وعنوان، به يكون حسنا، واختلاف الحسن والقبح بالاعتبار ممّا لا شبهة فيه، وكما يكون اضافة الشي ء إلى الأمر المقارن له موجباً كذلك اضافته إلى المتأخّر عنه والمتقدّم عليه بلا تفاوت، ولا يلزم في المضاف إليه أن يكون مقارناً مع المضاف في الوجود الخارجي، بل يجوز تأخّره عنه أو تقدّمه عليه أيضاً، فليس المقصود من الشرط المتأخر إلّا ان لاضافة المأمور به إليه دخل في صحّته وكذلك في المتقدّم كما انّ الأمر في المقارن أيضاً كذلك.

وتوهّم الانخرام إنّما نشأ من جهة توهّم شرطيّة ذات المتأخّر وكونه بوجوده الخارجي شرطاً في المأمور به والغفلة عن انّ المقصود من حدوث ذاته وحصول

ص: 282

............................................

_____________________________

الاضافة للمأمور به وحصول ذاته مقدّمة لحصول تلك الاضافة، كما انّ الأمر في الشرط المقارن أيضاً كذلك، فان استقبال القبلة الذي يكون من الشروط المقارنة للصلوة مثلاً ليس المقصود من حصوله في الخارج إلّا أن يكون وقوع الصلوة من المكلّف في حال الاستقبال وحصول نسبة واضافة بين الصلوة واستقبال القبلة من المكلّف، وهذا معنى شرطيّة الشي ء في الشي ء وهذه الاضافة والنسبة تحصيل بين الشي ء والأمر المقارن والمتقدّم والمتأخّر على نهج سواء بلا تفاوت بينهما أصلاً، هذا شرح ما أفاده المصنّف.

ولكن الانصاف ان هذا الوجه أيضاً راجع في الحقيقة إلى ما أفاده الشيخ الأنصاري، غاية الأمر بيانه أوضح من بيان الشيخ وإلّا فكون الشرط الأمر المتأخّر بوصف كونه متأخّراً كما عبّر به الشيخ معناه أيضاً ان الشرط في الحقيقة اضافة المأمور به إلى ذلك الشي ء المتأخّر وثبوت نسبة بينهما، فتأمّل تعرف.

ولعلّك حقّقت الفرق بين الوجهين كما انّ الشارح الكاظميني أقسم بنفسه بوجاهة هذا الوجه وبكارته حيث قال بعد شرحه لعمري لقد أبدع وأعجب وأجاد وأغرب وكم له من تحقيق باهر وكم ترك الأوّل والآخر واللَّه العالم.

ص: 283

بجميع أجزائها على المعلول أشكل الامر في المقدمة المتأخرة، كالاغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند بعض، والاجازة في صحة العقد على الكشف كذلك، بل في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط زمانا المتصرم حينه، كالعقد في الوصية والصرف والسلم، بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه، لتصرمها حين تأثيره، مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه زمانا، فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في الشرعيات - كما اشتهر في الالسنة - بل يعم الشرط والمقتضي المتقدمين المتصرمين حين الاثر.

والتحقيق في رفع هذا الاشكال أن يقال: إن الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها، لا يخلو إما يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف، أو الوضع، أو المأمور به.

أما الاول: فكون أحدهما شرطا له، ليس إلا أن للحاظه دخلاً في تكليف الامر، كالشرط المقارن بعينه، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلا أن لتصوره دخلا في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل له الداعي إلى الامر، كذلك المتقدم أو المتأخر.

وبالجملة: حيث كان الامر من الافعال الاختيارية، كان من مبادئه بما هو كذلك تصور الشي ء بأطرافه، ليرغب في طلبه والامر به، بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره، فيسمى كل واحد من هذه الاطراف التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطا، لاجل دخل لحاظه في حصوله، كان مقارنا له أو لم يكن كذلك، متقدما أو متأخرا، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطا، كان فيهما كذلك، فلا إشكال، وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقا ولو كان مقارنا، فإن دخل شي ء في الحكم به وصحة انتزاعه لدى الحاكم به، ليس إلا ما كان بلحاظه

ص: 284

يصح انتزاعه، وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده، فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصوره ولحاظه وهو مقارن، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن؟ فتأمل تعرف.

وأما الثاني: فكون شي ء شرطا للمأمور به ليس إلا ما يحصل لذات المأمور به بالاضافة إليه وجه وعنوان، به يكون حسنا أو متعلقا للغرض، بحيث لولاها لما كان كذلك، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الاضافات، مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه، والاضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت أصلا، كما لا يخفى على المتأمل، فكما تكون إضافة شي ء إلى مقارن له موجبا لكونه معنونا بعنوان، يكون بذلك العنوان حسناو متعلقا للغرض، كذلك إضافته إلى متأخر أو متقدم، بداهة أن الاضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضا، فلو لا حدوث المتأخر في محله، لما كانت للمتقدم تلك الاضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والامر به، كما هو الحال في المقارن أيضا، ولذلك أطلق عليه الشرط مثله، بلا انخرام للقاعدة أصلا، لان المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس إلا طرف الاضافة الموجبة للخصوصية الموجبة للحسن، وقد حقق في محله أنه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنها تكون بالاضافات.

فمنشأ توهم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر، وقد عرفت أن إطلاقه عليه فيه، كإطلاقه على المقارن، إنما يكون لاجل كونه طرفا للاضافة الموجبة للوجه، الذي يكون بذاك الوجه مرغوبا ومطلوبا، كما كان في الحكم لاجل دخل تصوره فيه، كدخل تصور سائر الاطراف والحدود، التي لو لا لحاظها لما حصل له الرغبة

ص: 285

في التكليف، أو لما صح عنده الوضع.

وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الاشكال، في بعض فوائدنا، ولم يسبقني إليه أحد فيما أعلم، فافهم واغتنم.

ولا يخفى أنها بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع، وبناء على الملازمة يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن والسابق، إذ بدونه لا تكاد تحصل الموافقة، ويكون سقوط الامر بإتيان المشروط به مراعى بإتيانه، فلولا اغتسالها في الليل - على القول بالاشتراط - لما صح الصوم في اليوم.

الامر الثالث: في تقسيمات الواجب منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط،[1]

_____________________________

[1] أقول: تسليم ثبوت الاصطلاح من أهل الأصول في لفظ المطلق والمشروط ليس بذلك البعيد لما مرّ من البيان في بحث الأجزاء.

نعم ما أفاده من ان التعريفات للواجب المطلق والمشروط وغيرهما من المعرفات تعاريف لفظيّة وليس فيها حدّاً ولا رسماً فلا وجه للاشكال عليها طردا وعكسا، لأنّ التعريفات اللفظيّة وما هي شروح الاسم تعريفات بالأعم غالباً، في محلّه لو لم يثبت اصطلاح خاص في اللفظين وأمثالهما.

وأمّا بناء على ثبوت الاصطلاح الخاص فلا نسلّم كون المراد من التعريف التعريف في الجملة ولو بالوجه، بل المراد بيان ما اصطلح عليه في تلك اللفظة كملا، فلا يصح التعريف بالأعم.

وأمّا ما أفاده من ان مطلقية الواجب ومشروطيته وصف اضافي لا حقيقي وإلّا فلا واجب مطلق من جميع الجهات ولا أقل من كون وجوب الواجب مشروطاً

ص: 286

وقد ذكر لكل منهما تعريفات وحدود، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، وربما أطيل الكلام بالنقض والابرام في النقض على الطرد والعكس، مع أنها - كما لا يخفى - تعريفات لفظية لشرح الاسم، وليست بالحد ولا بالرسم، والظاهر أنه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق كل منهما بما له من معناه العرفي، كما أن الظاهر أن وصفي الاطلاق والاشتراط، وصفان إضافيان لا حقيقيان، وإلا لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كل واجب ببعض الامور، لا أقل من الشرائط العامة، كالبلوغ والعقل.

فالحري أن يقال: إن الواجب مع كل شي ء يلاحظ معه، إن كان وجوبه غير مشروط به، فهو مطلق بالاضافة إليه، وإلا فمشروط كذلك، وإن كانا بالقياس إلى شي ء آخر كانا بالعكس.

ثم الظاهر أن الواجب المشروط كما أشرنا إليه، أن نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط،[1] بحيث لا وجوب حقيقة، ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط، كما هو

_____________________________

بالشروط العامّة ففيه أيضاً ان ذلك كذلك لو لم يثبت اصطلاح في اللفظين وكانا باقيين في ألسنتهم ومحاوراتهم على معناهما اللغوي، وأمّا مع فرض ثبوت الاصطلاح الخاص في المطلق والمشروط لا بُعْد فى انهم اصطلحوا في المشروط على كونه مشروطاً بغير الشروط العامّة، لأنّ الاصطلاح الخاص والجعل المخصوص أمره بيد الجاعل، وسعة دائرة الجعل وضيقها موكول إليه.

[1] أقول: اختلفوا في انّ الشرط الذي يقيّد به الواجب المشروط كالاستطاعة المشترطة في وجوب الحجّ مثلاً راجع إلى نفس الوجوب الذي هو مفاد هيئة

ص: 287

............................................

_____________________________

صيغة الأمر أو يكون راجعاً لبا إلى المادّة التي تكون دالّة على الواجب وإن كان صورة ولفظاً راجعاً إلى الهيئة.

فذهب شيخنا المحقّق الأنصاري طاب تربته إلى انّه راجع إلى المادّة لباً ولو كان لفظاً راجعاً إلى الهيئة واستدلّ عليه بأن مفاد الهيئات كمفاد الحروف آلية وناقصة ولا تأصل فيها، واليتها مستلزمة لتشخصها وجزئيتها، وما كان جزئياً ومتشخصاً لا يقبل التقييد، إذ عنوان التقييد يحصل مع الاطلاق والشيوع، وحيث لا اطلاق ولا شيوع ولا كثرة في مفاد الهيئات فكيف يمكن ارجاع الشرط إليه وتقييده به.

وشرح ارجاع الشرط إلى المادّة لبا يتضح بأن يقال انّ العاقل إذا توجّه إلى شي ء والتفت إليه فاما ان يطلبه أو لا، وعلى الأوّل فاما أن يطلبه مطلقاً وكيف ما كان من دون دخل شرط وقيد فيه، أو يطلبه على تقدير خاص ووجه مخصوص، فعلى الأوّل يأمر به مطلقاً ومن دون تقييد، وعلى الثاني يأمر به مع التقييد بالقيد الذي له دخل في طلبه، وفي هذه الصورة الأخيرة يسمّى الواجب بالواجب المشروط، ولا فرق في ثبوت الأقسام المذكورة بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد والقول بعدم التبعيّة، فان هذا التقسيم يجري ولو على القول بعدم التبعيّة أيضاً، فانّه ولو كان المصالح والمفاسد في الأمر دون المأمور به ينقسم طلب الآمر للمأمور به إلى القسمين المذكورين أيضاً.

واستشكل عليه المصنّف باشكالات الأوّل انّه كما حقّق سابقاً وضع الهيئات

ص: 288

............................................

_____________________________

والحروف عام والموضوع له فيها أيضاً عام، وإنّما الخصوصيّة نشأت من قبل الاستعمال، وآلية مفادهما لا يستلزم الخصوصيّة والتشخّص كما ان الاستقلاليّة في معنى الأسماء لا يستلزمه أيضاً، وإذا ثبت كليّة مفاد الهيئات والحروف كالأسماء لا مانع من تقييد مفادها.

ثمّ قال المصنّف ولو أغمضنا عن التحقيق المزبور وسلّمنا جزئيّة مفادها أيضاً، لا مانع أيضاً من تقييدها من أوّل الأمر وينشأ الوجوب مقيّداً بدالين، نعم بناء على تشخص مفادها لا يجوز انشاؤه أولاً مطلقاً ثمّ بقيد، إذ لا اطلاق حينئذٍ في مفادها، وأمّا الانشاء ولو بناء على التشخّص من قبيل ضيق فم الركية جائز البتة.

فان قيل: انشاء الوجوب مشروطاً يستلزم تخلّف الانشاء عن المنشئ، اذ الفرض ان التقييد يمنع عن حصول المقيّد قبل حصول القيد، فاذا كان انشاء الوجوب مشروطاً فلا يحصل الوجوب المنشأ قبل حصول الشرط، مع انه قد حصل الانشاء من المنشى، فوقع الانشاء من دون وقوع المنشئ، وهو باطل.

قلنا: المنشأ في الواجب المشروط الطلب التقديري والمعلّق على حصول الشرط، فلابدّ أن لا يكون قبل حصول الشرط طلب وبعث، ولو حصل الطلب والبعث قبل حصول الشرط يتخلّف المنشأ عن الانشاء، فعدم حصول المنشأ ما لم يحصل الشرط لا يستلزم تخلّف الانشاء عن المنشأ، بل الأمر بالعكس بمعنى انّه إن حصل المنشأ قبل حصول الشرط يحصل التخلّف والتفكيك بين الانشاء والمنشأ وحصول المنشأ قبل حصول الانشاء، كما أورده مغالطة واضحة.

ص: 289

والانشاء التقديري كالاخبار التقديري بمكان من الامكان، فكما ان الإخبار لا يستلزم التنجز بل يمكن أن يكون معلّقاً كما قد يكون منجزاً فكذلك الانشاء لا يلزم أن يكون منجزاً بل التعليق فيه جار كما في الإخبار.

فان قلت: لا نسلم جريان التعليق في الإخبار، بل كلّ ما توهّم انّه من الإخبار التعليقي فانّما يكون التعليق في المخبر به لا في الاخبار، مثلاً إذا اخبر بقدوم ولد زيد من السفر معلّقاً على قدوم والده بأن قال ان قدم زيد من السفر فابنه معه فقد اخبر بقدوم الابن من دون تعليق، وإنّما التعليق في قدوم الابن لا في الاخبار به، فان قدوم الابن معلّق على قدوم الأب وقد أخبر المخبر بحصول ذلك الأمر المعلّق.

قلت: التعليق في المخبر به يسري إلى الاخبار، اذ الاخبار عبارة عن القاء الخبر والخبر ما يحتمل الصدق والكذب، ولا يحتملهما إلّا ما كان منجزاً، واذا كان المخبر به معلّقاً لا يحتمل الصدق ولا الكذب ولم يلق المتكلّم إلينا خبراً على الاطلاق بل معلّقاً على قدوم الوالد، نعم مع حصول المعلّق عليه يتمّ عنوان الخبريّة والاخبار، فالاخبار بأمر معلّق نظير بيع الفضولي، فكما انّ عنوان البيع لا ينعقد إلّا بلحوق الاجازة ومع عدم اللحوق لا ينعقد اذ «لا بيع إلّا في ملك»(1) وإنّما النقل الفضولي من غير المالك يستعد لأن يكون بيعاً ومقتضياً لنقل الملك، والمقتضى للشي ء لا يؤثّر أثره إلّا بعد اجتماع الشروط وعدم الموانع، والبيع إنّما يكون علّة

ص: 290


1- عوالي اللئالي: 2/247، ح 16؛ مستدرك الوسائل: 13/230، ح 15209 - 3.

ظاهر الخطاب التعليقي، ضرورة أن ظاهر خطاب (إن جاء ك زيد فأكرمه) كون الشرط من قيود الهيئة، وأن طلب الاكرام وإيجابه معلق على المجئ، لا أن الواجب فيه يكون مقيدا به، بحيث يكون الطلب والايجاب في الخطاب فعليا ومطلقا، وإنما الواجب يكون خاصا ومقيدا، وهو الاكرام على تقدير المجئ، فيكون الشرط من قيود المادة لا الهيئة، كما نسب ذلك إلى شيخنا العلامة أعلى اللَّه مقامه، مدعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة واقعا، ولزوم كونه من قيود المادة لبا، مع الاعتراف بأن قضية القواعد العربية أنه من قيود الهيئة ظاهرا.

أما امتناع كونه من قيود الهيئة، فلانه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة، حتى يصح القول بتقييده بشرط ونحوه، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة، فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة.

وأما لزوم كونه من قيود المادة لبا، فلان العاقل إذا توجه إلى شي ء والتفت إليه، فإما أن يتعلق طلبه به، أو لا يتعلق به طلبه أصلا، لا كلام على الثاني.

وعلى الاول: فإما أن يكون ذاك الشي ء موردا لطلبه وأمره مطلقا على اختلاف طواريه، أو على تقدير خاص، وذلك التقدير، تارة يكون من الامور الاختيارية،

_____________________________

تامّة لحصول النقل والانتقال، فما لا يكون علّة لحصوله لا يكون بيعاً، واطلاق البيع على البيع الفضولي تجوز بعلاقة المشارفة أو الأول فكذلك الاخبار بالمخبر به المعلّق لا يكون اخباراً حقيقة بل ممّا يصلح أن يكون اخبارا بعد حصول المعلّق عليه فتأمّل تعرف إن شاء اللَّه.

ص: 291

وأخرى لا يكون كذلك، وماكان من الامور الاختيارية، قد يكون مأخوذا فيه على نحو يكون موردا للتكليف، وقد لا يكون كذلك، على اختلاف الاغراض الداعية إلى طلبه والامر به، من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، والقول بعدم التبعية، كما لا يخفى، هذا موافق لما أفاده بعض الافاضل المقرر لبحثه بأدنى تفاوت، ولا يخفى ما فيه.

أما حديث عدم الاطلاق في مفاد الهيئة، فقد حققناه سابقا، إن كل واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عاما كوضعها، وإنما الخصوصية من قبل الاستعمال كالاسماء، وإنما الفرق بينهما أنها وضعت لتستعمل ويقصد بها المعنى بما هو هو، والحروف وضعت لتستعمل وتقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلقات، فلحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية ليس من طوارئ المعنى، بل من مشخصات الاستعمال، كما لا يخفى على أولي الدراية والنهى.

والطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق، قابل لان يقيد، مع أنه لو سلم أنه فرد، فانما يمنع عن التقيد لو أنشئ أولا غير مقيد، لا ما إذا أنشئ من الاول مقيدا، غاية الامر قد دل عليه بدالين، وهو غير إنشائه أولا ثم تقييده ثانيا، فافهم.

فإن قلت: على ذلك، يلزم تفكيك الانشاء من المنشأ، حيث لا طلب قبل حصول الشرط.

قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله، فلابد أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث، وإلا لتخلف عن إنشائه، وإنشاء أمر على تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان، كما يشهد به الوجدان، فتأمل جيدا.

ص: 292

وأما حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبا ففيه: إن الشي ء[1] إذا توجه

_____________________________

[1] أقول: يعني انّ الأمر إذا توجّه إلى الشي ء وراه موافقاً لغرضه فكما انّه إذا لم يكن مانعاً عن طلبه فعلاً يطلبه حالاً ويبعث العبد إليه فعلاً فكذلك إذا كان مانعاً من طلبه فعلاً يطلبه استقبالاً ويعلّق طلبه على شرط متوقع الحصول ولم يحصل بَعدُ، فاذا كان وجوب اكرام زيد مشروطاً بمجيئه وكانت المصلحة في ايجابه في تلك الحال فقط لا يصح منه إلّا الطلب والبعث معلّقاً بحصوله لا مطلقاً ولو معلّقاً بذلك التقدير، اذ الفرض انّ الطلب المطلق ممنوع بسبب ذلك المانع وهو عدم حصول الشرط، فلا يصحّ منه الطلب المطلق الحالي للاكرام المقيّد بالمجي ء، اذ المفروض انّ الاكرام غير مطلوب قبل حصول المجي ء، وعنوان الاطلاق والمشروطيّة متباينان ولا يصحّ الاطلاق اثباتاً فيما يكون المشروط ثبوتاً كطلب الاكرام فيما نحن فيه.

وهذا بناء على تبعيّة الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح لأنّه إذا كان المصلحة في الأحكام الشرعيّة في صرف الأمر والنهي وكان المأمور به والمنهى عنه سواء ذاتاً وكان المقصود منها اختبار العبد وامتحانه بأمره بشي ء لا مصلحة في الاتيان بنفس ذلك الشي ء «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(1) و«لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ»(2) فلا يحصل تلك المصلحة بالطلب الذي يكون مشروطاً بها ولم يبلغ وقت امتثاله حين الأمر فيبقى الطلب حينئذٍ بلا مصلحة.

ص: 293


1- الأنفال: 42.
2- الأنفال: 37.

............................................

_____________________________

وأمّا بناء على التعبية للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهى عنها فانّما تكون المصلحة في المأمور به بالأمر الواقعي لا بالأمر الفعلي، ويدلّ عليه انّه كثيراً ما يتّفق في موارد الأصول والامارات مخالفة الواقع، وبعض الأحكام الواقعيّة يبقى غير فعليّة إلى قيام القائم عجّل اللَّه فرجه مع «ان حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1)، فاذا لم يكن المصلحة في الأحكام الواقعيّة لزم أن يبقى الأحكام الواقعيّة بلا مصلحة أو الكذب اذا بنى على انّها جميعاً فعلية ورجوع الشرط إلى المادّة لبا مسلّم في الأحكام الواقعيّة بناء على القول الثاني، اذ لا مصلحة في الحكم حينئذٍ ليكون للشرط مدخل فيها وأمّا في الأحكام الفعليّة فيصحّ رجوع الشرط إلى الهيئة كما لا يخفى.

فاتّضح ممّا قلنا انّ للأحكام مقامين مقام الانشاء ومقام الفعليّة، فكلّ أمر تعلّق بذي مصلحة في انشائه فهو مشروط في مقام فعليته، لأنّه في ذلك المقام مشروط وله شرائط كثيرة وربما طال زمان وجود الشرط، فالمنشأ في قوله صلّ الجمعة إذا ظهر الحجّة عجّل اللَّه فرجه هو الطلب على تقدير الظهور، ولا ينافي ذلك كون المقتضى لأصل الانشاء هو المصلحة في نفس الصلوة كما لا يخفى.

فان قلت: فما فائدة الانشاء إذا لم يكن المنشأ به طلباً فعليّاً ولم لا ينتظر المنشى وقت حصول الشرط كي ينشأ حينئذٍ طلباً فعليّاً فلا يكون انشاؤه قبل حصول الشرط الا لغوا وعبثاً.

ص: 294


1- بصائر الدرجات: 1/148، ح 7.

إليه، وكان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها، كما يمكن أن يبعث فعلا إليه ويطلبه حالا، لعدم مانع عن طلبه كذلك، يمكن أن يبعث إليه معلقا، ويطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول لاجل مانع عن الطلب والبعث فعلا قبل حصوله، فلا يصح منه إلا الطلب والبعث معلقا بحصوله، لا مطلقا ولو متعلقا بذاك على التقدير، فيصح منه طلب الاكرام بعد مجئ زيد، ولا يصح منه الطلب المطلق الحالي للاكرام المقيد بالمجئ، هذا بناء على تبعية الاحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.

وأما بناء على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور به، والمنهي عنه فكذلك، ضرورة أن التبعية كذلك، إنما تكون في الاحكام الواقعية بما هي واقعية، لا بما هي فعلية، فإن المنع عن فعلية تلك الاحكام غير عزيز، كما في موارد الاصول والامارات على خلافها، وفي بعض الاحكام في أول البعثة، بل إلى يوم قيام القائم عجل اللَّه فرجه، مع أن حلال محمدصلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ومع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الاحكام باقيا مر الليالي والايام، إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظلام، كما يظهر من الاخبار المروية عن الائمةعليهم السلام.

_____________________________

قلت: كفى في عدم اللغويّة وثبوت الفائدة انّه يصير بعثاً فعليا بعد حصول الشرط بلا حاجة إلى خطاب آخر، إذ يمكن أن لا يكون المولى حين حصول الشرط متمكنا من الخطاب، مع انه لا يكون الطلب فعليّاً بالنسبة إلى فاقد الشرط وأمّا المكلّف الواجد للشرط فيكون الخطاب بالنسبة إليه فعليّاً كما لا يخفى.

ص: 295

فان قلت: فما فائدة الانشاء؟ إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا، وبعثا حاليا.

قلت: كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط، بلا حاجة إلى خطاب آخر، بحيث لولاه لما كان فعلا متمكنا من الخطاب، هذا مع شمول الخطاب كذلك للايجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثا فعليا بالاضافة إليه، وتقديريا بالنسبة إلى الفاقد له، فافهم وتأمل جيدا.

ثم الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط، في محل النزاع أيضا،[1] فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب المطلق، غاية الامر تكون في

_____________________________

[1] أقول: يعني ان الظاهر عدم صحّة تخصيص النزاع بمقدّمات الواجب المطلق كما في كلام القوم، بل يشمل المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط أيضاً، وإنّما الفرق ان المقدّمة الوجوديّة للواجب المشروط واجبة مشروطاً بناء على وجوب المقدّمة، كما انّها تكون واجبة مطلقاً فيما كانت مقدّمة للواجب المطلق.

وأمّا المقدّمات الوجوبيّة للواجب المشروط كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ والنصاب للزكوة لخروجها عن محلّ النزاع ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب.

أمّا على ما هو المشهور من ان ذلك الشروط راجعة إلى الهيئة وشرط في حصول الطلب فلكونها مقدّمة للوجوب.

وأمّا على المختار لشيخنا العلامّة الأنصاري أعلى اللَّه مقامه فلأنّه وإن كانت مقدّمة وجوديّة للواجب إلّا انه ماخوذ على نحو لا يكاد يترشّح الوجوب منه، فانّه جعل الشي ء واجباً على تقدير حصول ذلك الشرط، مثلاً اكرام زيد واجب على تقدير مجيئة فكيف يترشّح الوجوب على المجي ء ويتعلّق به الطلب، وليس هذا إلّا

ص: 296

طلب الحاصل اذ وجوب الواجب في صورة فرض حصول ما علّق عليه الوجوب، فاذا كان حاصلاً فكيف يمكن أن يكون واجباً بوجوب أصل الواجب ؟

نعم على مختاره قدس سره لو كانت للواجب المشروط مقدّمات وجوديّة غير معلّق عليها وجوبه لتعلّق بها الطلب في الحال على تقدير اتّفاق وجود الشرط في الاستقبال، ويكون حال تلك المقدّمات حال مقدّمات الواجب المطلق حيث تكون واجبة في الحال كوجوب ذيها بناء على وجوب المقدّمة، لأن ايجاب ذي المقدّمة على ذلك حالى والواجب إنّما هو استقبالي كما يأتي في الواجب المعلّق، فانّ الواجب المشروط على ما اختاره موافق بعينه مع ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلّق، اذ هو كما فسّره صاحب الفصول ما كان وجوبه حالياً وفعليّاً والواجب استقباليّاً ووقت أدائه يكون فيما بعد، هذا كلّه في غير المعرفة والتعلّم من المقدّمات.

وأمّا المعرفة التي هي المهم من المقدّمات اذ العمل لا يقع إلّا بعد العلم، ولذا ورد في الأخبار من الحث والترغيب إليه ما لم يرد في مقدّمة، اذ بالعلم يطاع اللَّه ويعبد ويعرف ويوحد، فتجب لا بالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، بل من باب استقلال العقل بتنجز الأحكام على الأنام بمجرّد قيام احتمالها إلّا مع الفحص واليأس بعده من الظفر بدليل على التكليف، فيستقل حينئذٍ بالبرائة، وانّ العقوبة على المخالفة حينئذٍ بلا حجّة وبيان والمؤاخذة عليه بلا برهان، فتحصّل ممّا ذكر انّ المعرفة واجب نفسي توصّلي للغير ولا يكون واجباً بالغير.

ص: 297

الاطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدمة كأصل الوجوب بناء على وجوبها من باب الملازمة.

وأما الشرط المعلق عليه الايجاب في ظاهر الخطاب، فخروجه مما لا شبهة فيه، ولا ارتياب:

أما على ما هو ظاهر المشهور والمتصور، لكونه مقدمة وجوبية لا وأما على المختار لشيخنا العلامة - أعلى اللَّه مقامه - فلانه وإن كان من المقدمات الوجودية للواجب، إلا أنه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه، فانه جعل الشي ء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب ويتعلق به الطلب؟ وهل هو إلا طلب الحاصل؟ نعم على مختاره قدس سره لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه، لتعلق بها الطلب في الحال على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال، وذلك لان إيجاب ذي المقدمة على ذلك حالي، والواجب إنما هو استقبالي، كما يأتي في الواجب المعلق، فإن الواجب المشروط على مختاره، هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلق، فلا تغفل.

هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات، وأما المعرفة، فلا يبعد القول بوجوبها، حتى في الواجب المشروط - بالمعنى المختار - قبل حصول شرطه، لكنه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجز الاحكام على الانام بمجرد قيام احتمالها، إلا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقل بعده بالبراء ة، وإن العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان، والمؤاخذة عليها بلا برهان، فافهم.

ص: 298

تذنيب: لا يخفى[1] أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط، بلحاظ حال

_____________________________

[1] أقول: اطلاق اسم الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشرط حقيقة مطلقاً يعني على مختارنا ومختار شيخنا قدس سره في مقابل من يجيي ء منه من التفصيل.

وأمّا بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك حقيقة على مختاره قدس سره في الواجب المشروط لأنّ وجوب الواجب على مختاره في الحال ولو كان الواجب استقباليّاً، ومجاز على مختارنا حيث لا وجوب قبل حصول الشرط بناء على رجوع الشرط إلى الهيئة كما حقّقناه، والبهائي صرّح بذلك وقال ان اطلاق اسم الواجب على الواجب المشروط مجاز بعلاقة الأول أو المشارفة، هذا كلّه في لفظ الواجب.

وأمّا الصيغة المستعملة في الطلب المشروط فمستعملة في معناها الحقيقي على مختارنا ومختاره، لاستعمالها في الطلب المطلق على مختاره، وعلى مختارنا في الطلب المقيّد على نحو تعدّد الدال والمدلول، فالصيغة تدلّ على الطلب والشرط على القيد كما هو الحال فيما اذا أريد المطلق المقيّد بقيد الاطلاق في مقابل المقيد يعني ما كان مقيّداً بغير قيد الاطلاق، فكما انّه إذا استعملت في الطلب المطلق بمعنى المقيّد بقيد الاطلاق حقيقة فكذلك إذا كان مستعملة في المقيّد بغير قيد الاطلاق، فاستعمال الصيغة في الطلب المقيّد والمطلق يعني المقيّد بقيد الاطلاق حقيقة.

وأمّا إذا استعملت في المبهم المقسم يعني الطلب الذي يكون خالياً عن جميع القيود حتّى عن قيد الاطلاق فان الطلب المبهم مقسم للمقيد والمطلق الذي أخذ فيه قيد الاطلاق والطلب الساذج ينقسم إلى قسمين مطلق ومشروط فمن باب عموم المجاز.

ص: 299

حصول الشرط على الحقيقة مطلقا، وأما بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك على الحقيقة على مختاره قدس سره في الواجب المشروط، لان الواجب وإن كان أمرا استقباليا عليه، إلا أن تلبسه بالوجوب في الحال، ومجاز على المختار، حيث لا تلبس بالوجوب عليه قبله، كما عن البهائي رحمه الله تصريحه بأن لفظ الواجب مجاز في المشروط، بعلاقة الاول أو المشارفة.

وأما الصيغة مع الشرط، فهي حقيقة على كل حال لاستعمالها على مختاره قدس سره في الطلب المطلق، وعلى المختار في الطلب المقيد، على نحو تعدد الدال والمدلول، كما هو الحال فيما إذا أريد منها المطلق المقابل للمقيد، لا المبهم المقسم، فافهم.

ومنها: تقسيمه إلى المعلق والمنجز، قال في الفصول: إنه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له،[1 ]

_____________________________

[1] أقول: بيان ما أفاده المصنّف انّه استخرج صاحب الفصول غير الواجب المطلق الذي في قبال الواجب المشروط قسماً ثالثاً وهو الواجب المعلّق في قبال الواجب المنجز، وعرف المنجز بأنّه ما لا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة فانّها من الواجبات المطلقة المنجزة، والمعلّق بأنّه ما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالحجّ فانّه يتوقّف وجوده على مجي ء وقته الذي هو غير مقدور للمكلّف(1).

ص: 300


1- الفصول الغرويّة في الأُصول الفقهيّة: 79. (ناشر: دار العلوم الاسلامية).

............................................

_____________________________

وفرق بين الواجب المعلّق والواجب المشروط بأن في الواجب المشروط التوقّف للوجوب، وفي المعلّق التوقّف إنّما يكون للفعل الخارجي الواقع من المكلّف.

والشيخ الانصاري أنكر هذا التقسيم والواجب المعلّق، لأنّه فسّر الواجب المشروط بعين ما فسّر به صاحب الفصول الواجب المعلّق حيث اختار الشيخ في الواجب المشروط رجوع الشرط إلى المادّة ثبوتاً في الواقع واثباتاً في مقام الدلالة على خلاف القواعد العربيّة وظاهر المشهور، فاذن لا يبقى معنى آخر معقول كان هو الواجب المعلّق في مقابل الواجب المشروط كما فعله صاحب الفصول.

وقد عرفت ممّا ذكرنا جواز رجوع الشرط إلى الهيئة وان ما جعله الشيخ مانعاً عن ذلك ليس بمانع، فما أفاده في الفصول من الواجب المعلّق لا غائلة فيه من هذه الجهة.

نعم يمكن أن يستشكل عليه وانكار هذا التقسيم والواجب المعلّق من جهة أخرى وانّه لا ثمرة في هذا التقسيم، لأنّ المعلّق قسم من المطلق الذي في مقابل المشروط، والاختلاف في حالية الفعل واستقباليته مع حاليّة الوجوب لا يوجب جواز التقسيم بعد عدم تأثيره فيما هو المهم، وإلّا فلو جاز التقسيم من دون ملاحظة ثمرة فيه لكثر التقسيمات لكثرة الخصوصيّات، بأن يقال مثلاً المطلق زماني ومكاني في المقيّد بالمكان والزمان، وعمومي وفردي في المخاطب به

ص: 301

............................................

_____________________________

العموم أو الفرد، وهلم جرا، ووجوب المقدّمة فعلاً قبل مجي ء وقت الواجب إنّما هو أثر حالية الوجوب واطلاقه لا استقباليّة الواجب كما لا يخفى.

واستشكل عليه الشارح الكاظميني بتصحيح ما أفاده الشيخ وصاحب الفصول أيضاً.

أمّا الأوّل فبان ما أفاده الشيخ من رجوع الشرط في الواجب المشروط إلى الهيئة ليس مخالفاً لقواعد، بل إنّما مقتضى قواعد العربيّة تعلّق الشرط أو غيره من القيود بالصيغة، وأمّا رجوعه إلى الهيئة أو المادّة فلا يستفاد من تلك القواعد، بل في بعض التراكيب يتعيّن رجوعه إلى المادّة قطعاً كقولك اضرب زيداً في الدار، فان من المعلوم ان الظرف متعلّق بالصيغة لكن بمادّتها لا بهيئتها، فانّ الواجب هو ضرب زيد في الدار لا انّ ضرب زيد واجب في الدار، فالوجوب تعلّق بالضرب في الدار لا الوجوب في الدار تعلّق بالضرب وهذا واضح(1).

أقول: العجب من هذا الفاضل الكامل كيف أورد على المصنّف ما أورده مع ان كلام المصنّف في خصوص قيد الشرط لا في جميع القيود، ووضوح ثبوت مفهوم الشرط دليل على انّ الأمر كما فهمه المصنّف فان انتفاء وجوب اكرام زيد مع انتفاء مجيئه مثلاً إذا قال اكرم زيداً إن جائك كما فهمه أهل اللسان والمحاورة أقوى دليل على رجوع الشرط إلى الهيئة، فالمقصود من القواعد العربيّة قواعد لغة العرب وكيفيّات محاورتهم وتكلّمهم، لا خصوص قواعد النحو التي متكفّلة لبيان تعلّق

ص: 302


1- الهداية في شرح الكفاية: 207 - 208.

............................................

_____________________________

القيد بالمقيّد فقط مثل تعلّق الظرف بالفعل وما فيه رائحته، فان تلك القاعدة لا تثبت أزيد من تعلّق في الدار بقوله اضرب مثلاً البتة، وساكتة عن رجوع معناه إلى مادّته أو هيئته.

وأمّا قاعدة المحاورة ولغتهم مقتضية لرجوع معنى الشرط إلى هيئة الفعل المشروط، ومن هنا اتّفق الأكثر على ثبوت مفهوم الشرط، ومنكره قليل بحكم المعدوم، فقياس الشرط على الظرف قياس مع الفارق، لأن قاعدة المحاورة في قوله اضرب في الدار تقضي بعكس ما تقضي في قوله اكرم زيداً إن جائك، فما أورده خلط ومغالطة.

وأمّا الثاني فان صاحب الفصول قسم المطلق عنده الذي أضاف عليه قسماً من المشروط إلى قسمين معلّق ومنجز، لا المطلق عند القوم، فانّ الوقت عند القوم من شرائط الوجوب والواجب بالنسبة إليه واجب مشروط، وصاحب الفصول بعد ادخال الواجب بالنسبة إلى وقته في الواجب المطلق، قسم المطلق بذلك المعنى إلى قسمين معلّق ومنجز، فيختلف الغرض المهم بين المطلق عند القوم والمطلق عنده، والمشروط عند القوم والمشروط عنده، فانّ المشروط عنده أخص من المشروط عند القوم، والمطلق عنده أعم من المطلق عند القوم، اذ الواجب الموقت مشروط عندهم بمجي ء وقته إذ لا وجوب عندهم قبل الوقت، ومطلق بالنسبة إلى وقته عنده إذ هو يقول بوجوبه قبل الوقت ولا يشترط الوجوب عنده بمجي ء الوقت ويترتّب الأثر على المطلق عنده المشروط عندهم المعبّر عنه بالمعلّق.

ص: 303

............................................

_____________________________

قال فكون ما رتّبه عليه وهو وجوب المقدّمة فعلاً من آثار اطلاق الوجوب وحاليته، لا من آثار استقباليّة الواجب مسلم الا ان هذا القسم الذي وجوبه حالي والواجب استقبالي لم يكن من أقسام الواجب المطلق عندهم، مع ان الأثر لا يترتّب إلّا عليه(1) وهو القسم المخصوص الذي أنكره القوم وجعلوه من الواجب المشروط.

أقول: ما أفاده صاحب الفصول إنّما هو الازدياد في أفراد الواجب المطلق وجعل بعض ما كان مشروطاً عند القوم من أقسام الواجب المطلق، ويكفي في ترتيب الأثر المهم تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط فحينئذٍ ذلك الفرد محكوم بأحكام الواجب المطلق التي منها وجوب مقدّماته قبل مجي ء وقته، ولا حاجة إلى تسميته باسم آخر وتقسيمه مع التقسيم المزبور إلى المنجز والمعلّق، بل هو ملغى بعد ذلك التقسيم.

فما أفاده المصنّف في لغويّة ذلك التقسيم في غاية المتانة، اذ نظرهم في ذلك التقسيم ليس إلى الأفراد الخاصّة كي يخرج الفرد الذي جعلوه من الواجب المشروط، بل التقسيم ناظر إلى طبيعة معنى المطلق والمشروط، والأحكام إنّما هي أحكام للطبيعة التي توجد في أيّ فرد، وكون فرد خارجاً من أحد القسمين لا يستلزم عدم الشمول والاحتياج إلى تقسيم آخر كما فعله صاحب الفصول.

ص: 304


1- الهداية في شرح الكفاية: 208.

كالمعرفة، وليسم منجزا، وإلى ما يتعلق وجوبه به، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له، وليسم معلقا كالحج، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة، أو خروج الرفقة، ويتوقف فعله على مجئ وقته، وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أن التوقف هناك للوجوب، وهنا للفعل.

انتهى كلامه رفع مقامه.

لا يخفى أن شيخنا العلامة - أعلى اللَّه مقامه - حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى، وجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا وإثباتا، حيث ادعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك، أي إثباتا وثبوتا، على خلاف القواعد العربية وظاهر المشهور، كما يشهد به ما تقدم آنفا عن البهائي، أنكر على الفصول هذا التقسيم، ضرورة أن المعلق بما فسره، يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك، كما هو واضح، حيث لا يكون حينئذ هناك معنى آخر معقول، كان هو المعلق المقابل للمشروط.

ومن ها انقدح أنه في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط، بالمعنى الذي يكون هو ظاهر المشهور، والقواعد العربية، لا الواجب المعلق بالتفسير المذكور.

وحيث قد عرفت - بما لا مزيد عليه - امكان رجوع الشرط إلى الهيئة، كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد، فلا يكون مجال لانكاره عليه.

نعم يمكن أن يقال: إنه لا وقع لهذا التقسيم، لانه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط وخصوصية كونه حاليا أو استقباليا لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم، وإلا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات، ولا اختلاف فيه،

ص: 305

فإن ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلا - كما يأتي - إنما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته، لا من استقبالية الواجب، فافهم.

ثم إنه ربما حكي عن بعض(1) أهل النظر من أهل العصر إشكال في الواجب المعلق، وهو أن الطلب[1] والايجاب، إنما يكون بأزاء الارادة المحركة للعضلات

_____________________________

[1] أقول: حاصل ما استشكله ذلك البعض من أهل النظر، هو ان الارادة هي الجزء الأخير لعلّة وجود الشي ء الذي يحصل المعلول بعد حصوله بلا فصل، لأنّ النفس اذا توجّه إلى ايجاد شي فيقصده، ثمّ يعزم ويجزم، ثمّ يريده، فاذن لا يتخلّف المراد عن الارادة ويوجد بعد وجودها، والطلب والايجاب من الطالب والموجب على الغير حاله حال الارادة التي تنقدح في نفس من يفعل الفعل بالمباشرة، فكما لا ينفك الارادة عن المراد في الفاعل المباشر كذلك لا ينفك الطلب عن المطلوب عن الغير فيما إذا كان بالتسبيب فكيف الطلب بأمر استقبالي ولا يكاد يصحّ الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخر، فالواجب المعلّق الذي اثبته صاحب الفصول أمر غير معقول.

وأجاب عنه المصنّف بعد تسليم عدم جواز انفكاك الطلب عن المطلوب كما لا ينفك المراد عن الارادة، أولا بأنّ المقاصد والمرادات مختلفة، فبعضها سهل المؤنة ومقدّماتها يسيرة، وبعضها صعب المؤنة ومقدماتها كثيرة، فما كثر مقدّماته لا يقاس بما قل مقدّماته، اذ ما هو قليل المقدّمات لا يحتاج وجوده بعد حصول

ص: 306


1- قيل: انّ المراد من بعض أهل النظر هو المحقّق النهاوندي صاحب « تشريع الاصول » وقيل: هو المحقّق الشهير السيّد محمّد الاصفهاني.

............................................

_____________________________

الارادة والرغبة إليه بمضي مدّة، وأمّا ما هو كثير المقدّمات فلا محالة حصول مقدّماته بعد حصول الارادة والرغبة إليه يحتاج إلى زمان بقدر تلك المقدّمات، اذ الأفعال الزمانيّة لا تقع إلّا في ظرف الزمان، ومع ذلك لا ينفصل المراد عن الارادة.

ولعلّ الذي أوقع المستشكل في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد وتوهّم ان تحريكها نحو أمر متأخّر ممّا لا يكاد، وغفل عن ان كونه محرّكاً نحوه يختلف حسب اختلافه في كونه ممّا لا مؤنة له أصلاً كحركة نفس العضلات أو ممّا له مؤنة ومقدّمات قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات أعم من أن يكون بنفسها مقصودة أو مقدّمة له، والجامع أن يكون نحو المقصود، فمن يشتغل بالمقدّمات مريدٌ لذي المقدّمة ويتحرّك عضلاته نحوه، اذ لا موصل إلى ذي المقدّمة إلّا مقدّماته.

ثمّ فرّق المصنّف بين ارادة الفاعل بالمباشرة والبعث الذي يصدر نحو الفعل المسبّب بالكسر بأنّه لا يكاد يكون الطلب عن الغير وبعثه إلى المطلوب إلّا بأمر متأخّر عن زمان البعث، ضرورة انّ البعث إنّما يكون لاحداث الداعي للمكلّف إلى المكلّف به بأن يتصوّره بما يترتّب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة، وهذا التصور من المكلّف لا يحصل إلّا بعد البعث بزمان، فلا يجوز البعث نحو أمر غير متأخّر فضلاً عن استحالة البعث إلى أمر متأخّر، ولا يتفاوت طول الزمان وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر الحاكم، فلا وجه لقياس الطلب والايجاب على الغير على الارادة التي تنقدح في نفس المباشر للفعل، إذ هو قياس

ص: 307

نحو المراد، فكما لا تكاد تكون الارادة منفكة عن المراد، فليكن الايجاب غير منفك عما يتعلق به، فكيف يتعلق بأمر استقبالي؟ فلا يكاد يصح الطلب والبعث فعلا نحو أمر متأخر.

قلت: فيه أن الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي، كما تتعلق بأمر حالي، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلا عن فاضل، ضرورة أن تحمل المشاق في تحصيل المقدمات - فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المؤونة - ليس إلا لاجل تعلق إرادته به، وكونه مريدا له قاصدا إياه، لا يكاد يحمله على التحمل إلا ذلك، ولعل الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكد

_____________________________

مع الفارق، إلى هنا توضيح ما أفاده المصنّف.

وفيه: انّه لا حاجة في رد ما أورده المعاصر إلى الفرق بين الأفعال وبيان اختلافها من حيث القلّة وكثرة مقدّماتها، ولا إلى الفرق بين أقسام الارادات، والارادة البعثيّة نحو المطلوب غير ارادة الشخص للفعل بالمباشرة، بل مَرَّ منه قدس سره تحقيق في دفع ذلك ارشق وأنيق في بحث الطلب والارادة، وهو ان عدم تخلّف الارادة عن المراد إنّما يكون في الارادة التكوينيّة وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام، دون الارادة التشريعيّة.

فتوهّم المستشكل إنّما نشاء من عدم الفرق بين الارادتين والعجب من المصنّف كيف غفل عن هذا التحقيق وتشبث بالتمحلات التي لا حاجة إليها أصلاً فتذكر.

ص: 308

المحرك للعضلات نحو المراد، وتوهم أن تحريكها نحو المتأخر مما لا يكاد، وقد غفل عن أن كونه محركا نحوه يختلف حسب اختلافه، في كونه مما لا مؤونة له كحركة نفس العضلات، أو مما له مؤونة ومقدمات قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له، والجامع أن يكون نحو المقصود، بل مرادهم من هذا الوصف - في تعريف الارادة - بيان مرتبة الشوق الذي يكون هو الارادة، وإن لم يكن هناك فعلا تحريك، لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدمة، ضرورة أن شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي، محتاج إلى ذلك.

هذا مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلا بأمر متأخر عن زمان البعث، ضرورة أن البعث إنما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به، بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة، وعلى تركه من العقوبة، ولا يكاد يكون هذا إلا بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان، ولا يتفاوت طوله وقصره، فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب، ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه، والاطناب إنما هو لاجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب.

وربما أشكل على المعلق أيضا، بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث، مع أنها من الشرائط العامة.

ص: 309

وفيه: إن الشرط إنما هو القدرة على الواجب في زمانه، لا في زمان الايجاب والتكليف، غاية الامر يكون من باب الشرط المتأخر، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه كالمقارن، من غير انخرام للقاعدة العقلية أصلا، فراجع.

ثمّ لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر اُخذ على نحو يكون مورداً للتكليف ويترشّح عليه الوجوب من الواجب أوّلاً[1] لعدم تفاوت فيما يهمه من وجوب تحصيل

_____________________________

[1] أقول: لا وجه لتخصيص الواجب المعلّق الذي قرّره صاحب الفصول بما يتوقّف حصوله أي ذلك الواجب على أمر غير مقدور كالوقت، بل لا مانع من تعميمه بحيث يشمل ما اذا توقّف الواجب على أمر مقدور متأخّر أخذ في الواجب على نحو يكون مورداً للتكليف ويرشح عليه الوجوب من الواجب أوّلاً، لعدم تفاوت فيما يهم القائل بالواجب المعلّق من وجوب تحصيل المقدّمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب الذي هو الثمرة المترتّبة على الواجب المعلّق دون المشروط، فانّه كما يجب تحصيل المقدّمات من حين وجوب الواجب فيما إذا كان متوقّفاً على أمر غير مقدور والآتي بعد زمان الواجب كالحجّ كذلك يجب تحصيلها من حين وجوب الواجب أوّلاً فيما إذا كان المتوقّف عليه أمراً متأخراً عن زمان ذلك الواجب مقدوراً للمكلّف كالأغسال الليليّة للمستحاضة بناء على توقّف الصوم عليها، فيما إذا توقّف حصول الواجب على أمر مقدم على زمان وجوبه كأغسال الليلة الماضية لصوم المستحاضة، ولكن المصنّف خصّ التعميم بالمتوقّف عيه المتأخّر، لأن الاشكال في وجوب مقدّمة الواجب قبل زمان

ص: 310

المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب المعلق، دون المشروط، لثبوت الوجوب الحالي فيه، فيترشح منه الوجوب على المقدمة، بناء على الملازمة، دونه لعدم ثبوته فيه إلا بعد الشرط.

نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر، وفرض وجوده، كان الوجوب المشروط به حاليا أيضا، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب أيضا حاليا، وليس الفرق بينه وبين المعلق حينئذ إلا كونه مرتبطا بالشرط، بخلافه، وإن ارتبط به الواجب.

_____________________________

حصوله ودفعه بكفاية وجوبه قبل وقت حصوله في وجوب مقدّماته، في مقابل الواجب المشروط الذي لا وجوب له قبل حصول الشرط فلا يجب مقدّمات وجوده أيضاً قبل حصوله.

نعم لو كان الشرط في الواجب المشروط على نحو الشرط المتأخّر وفرض وجوده كان الوجوب المشروط بذلك الشرط حالياً أيضاً، إذ الفرض وجود ما يتوقّف عليه الوجوب من الشرط المتأخّر، فاذن يجب سائر المقدّمات الوجوديّة للمشروط أيضاً البتة، فلا يبقى حينئذٍ فرق بين الواجب والمعلّق لأنّ الفرض وجوب مقدّماتهما حالياً إلّا انّ الوجوب في الواجب المشروط مرتبط بالشرط، بخلاف المعلّق فان وجوبه لا يرتبط بشرط ولا يتوقّف على شي ء أصلاً وإن كان نفس الواجب فيه مرتبطاً بما علّق عليه ومتوقّفاً حصوله على حصوله.

ص: 311

تنبيه: قد انقدح - من مطاوي ما ذكرناه - أن المناط[1] في فعلية وجوب المقدمة الوجودية، وكونه في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها، هو فعلية وجوب ذيها، ولو كان أمرا استقباليا، كالصوم في الغد والمناسك في الموسم، كان وجوبه مشروطا بشرط موجود أخذ فيه ولو متأخرا، أو مطلقا، منجزا كان أو معلقا، فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا، أو مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل

_____________________________

[1] يعني قد ظهر من تضاعيف ما ذكرناه وأشعة ما حقّقناه انّ وجوب المقدّمة الوجوديّة للواجب قبل مجي ء زمان الواجب ليس مختصّاً بما ذكره صاحب الفصول، بل يعم ما إذا كان وجوب الواجب مشروطاً بشرط أخذ فيه ولو متأخّراً كصوم المستحاضة بالنسبة إلى الأغسال الليليّة لو كان الواجب مطلقاً وغير مشروط بشي ء أصلاً، وسواء كان ذلك الواجب المطلق منجزاً أو معلّقاً، كلّ ذلك فيما إذا لم يكن تلك المقدّمة الوجوديّة مقدّمة للوجوب أيضاً ولم تكن تلك المقدّمة أيضاً مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن يكون مورداً للتكليف ومرشّحاً عليه الوجوب من الواجب الأصلي الاولى، كعنوان المسافر والحاضر والمستطيع وغيرها، ولم يكن الفعل الواجب مقيّداً باتّفاق حصول ذلك الشي ء وتقدير وجوده بلا اختيار كالوقت في الحج مورداً للتكليف، ضرورة انّه لو كان مقدمة للوجوب أيضاً كما انه مقدّمة لوجود الواجب في الصورة الأولى من الصور المزبورة لا يكاد يكون هناك وجوب إلّا بعد حصول ذلك الشي ء، وبعد الحصول يكون وجوبه للملازمة طلب الحاصل، كما انّه إذا أخذ ذلك الشي ء في وجوب الواجب على أحد النحوين المزبورين اما عنواناً للمكلّف كالمسافر والحاضر أو

ص: 312

أن تكون موردا للتكليف، كما إذا أخذ عنوانا للمكلف، كالمسافر والحاضر والمستطيع إلى غير ذلك، أو جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله، وتقدير وجوده - بلا اختيار أو باختياره - موردا للتكليف، ضرورة أنه لو كان مقدمة الوجوب أيضا، لا يكاد يكون هناك وجوب إلا بعد حصوله، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل، كما أنه إذا أخذ على أحد النحوين يكون كذلك، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف، ومع حصوله لا يكاد يصح تعلقه به، فافهم.

إذا عرفت ذلك، فقد عرفت أنه[1] لا إشكال أصلا في لزوم الاتيان بالمقدمة

_____________________________

جعل قيداً للفعل الواجب يكون أيضاً كذلك اذ قبل حصول العنوان والقيد لا يكون الفعل مورداً للتكليف وواجباً وبعد حصولهما لا يصح تعلّق الوجوب بهما اذ هو تحصيل الحاصل وهو باطل.

[1] يعني انّ بعد البيانات المذكورة ظهر انه لا إشكال في وجوب مقدّمة الواجب قبل زمان الواجب إذا كان وجوب الواجب الأولى حالياً مطلقاً ولو كان مشروطاً بشرط متأخّر كان معلوم الوجود فيما بعد، بل لزوم الاتيان بالمقدّمة فيما إذا علم بعدم القدرة عليه في زمان الواجب عقلي ولو لم نقل بالملازمة، كلزوم الاتيان بسائر المقدّمات في زمان الواجب وقبل الاتيان به.

وظهر مما ذكر ان التفصى عن عويصة وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها لا ينحصر بالتعلّق بالتعليق كما فعل صاحب الفصول، ولا رجوع الشرط إلى المادّة في المشروط كما ذهب إليه شيخنا المرتضى قدس سره، بل لا محذور في كون الواجب مشروطاً وكان الشرط راجعاً إلى الهيئة ومع ذلك كانت المقدّمة واجبة قبل وجوب

ص: 313

قبل زمان الواجب، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه، فيما كان وجوبه حاليا مطلقا، ولو كان مشروطا بشرط متأخر، كان معلوم الوجود فيما بعد، كما لا يخفى، ضرورة فعلية وجوبه وتنجزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدمته، فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة، ولا يلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، وإنما اللازم الاتيان بها قبل الاتيان به، بل لزوم الاتيان بها عقلا، ولو لم نقل بالملازمة، لا يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان، كالاتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه.

فانقدح بذلك: أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة بالتعلق بالتعليق، أو بما يرجع إليه، من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط.

فانقدح بذلك: أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الاتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب، كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره مما وجب عليه الصوم في الغد، إذ يكشف به بطريق الان عن سبق وجوب الواجب، و إنما المتأخر هو زمان إتيانه، ولا محذور فيه أصلا، ولو فرض العلم بعدم سبقه، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري، فلو نهض دليل على وجوبها، فلا محالة يكون وجوبها نفسيا ولو تهيؤا، ليتهيأ بإتيانها، ويستعد لايجاب ذي المقدمة عليه، فلا محذور أيضا.

إن قلت: لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق وجوب ذي المقدمة لزم وجوب جميع مقدماته ولو موسعا، وليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر.

ص: 314

............................................

_____________________________

ذيها للعلم بوجود الشرط المتأخّر لكون وجوده متأخّراً كاشفاً عن سبق وجوب الواجب وحاليته، فاذا كان وجوبه حالياً لا ضير في وجوب سائر مقدّماته الوجوديّة.

أقول: لا يخفى انّ مراد صاحب الفصول من الواجب المعلّق وقول الشيخ برجوع القيد إلى المادّة لبا عين ما أفاده المصنّف، إذ لا يريد صاحب الفصول من الواجب المعلّق إلّا ما كان وجوبه قبل زمان أدائه، فكلّ ما كان من الواجبات كذلك معلّق عنده وقد صرّح مراراً في بيان الفرق بين المعلّق والمشروط ان حصول الشرط في الأوّل كاشف عن سبق الوجوب وعدمه عن عدمه، وجعله كالاجازة بالنسبة إلى العقد، وان كون المشروط متعقبا به هو الشرط، بخلاف الثاني، ومعلوم انّه إذا لم يكن الوجوب مرتبطاً بالشرط في المعلّق فلا محل لانكشاف الخلاف فيه.

نعم كلّ حكم منوط وجوداً بوجود موضوعه وعدماً بعدمه، وهذا غير مسئلة الشرط، ولا يعقل وجود معلّق غير مرتبط بالشرط، فمشروط المصنّف عين معلّق الفصول.

وعلى كلّ حال ففرع المصنّف على ما حقّقه بزعمه عدم الإشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الاتيان بالمقدّمة قبل زمان الواجب كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره ممّا وجب عليه الصوم في الغد، اذ يكشف به بطريق الان والانتقال من المعلول إلى العلّة عن سبق وجوب الواجب، وإنّما المتأخر هو مان أدائه، ولو فرض العلم بعدم سبق الوجوب لاستعمال اتّصاف مقدّمته بالوجوب

ص: 315

............................................

_____________________________

الغيري، مع عدم وجوب الواجب الأصلي بعد، ومع ذلك ولو دلّ دليل على وجوب تلك المقدّمة فلا محالة يكون وجوبه نفسيّاً ولو تهيّاياً ليتهياء باتيانها ويستعد لايجاب ذي المقدّمة عليه فلا محذور أيضاً.

إن قلت: لو كان وجوب المقدّمة في زمان كاشفاً عن سبق وجوب ذي المقدّمة لزم جميع مقدّماتها، وبعد ثبوت وجوب ذي المقدّمة بسبب وجوب مقدّمتها يثبت وجوب كلّ المقدّمات، وليس كذلك وكلّ المقدّمات واجبة بحيث يجب المبادرة إليها في فرض عدم التمكّن منها لو لم يبادر، بل يجوز تركها وعدم الاتيان بها ولو كان عالماً بعدم التمكّن منها في زمان الواجب.

قلت: لا محيص عن وجوب جميع المقدّمات بعد ثبوت وجوب ذيها ولا غائلة في ذلك أصلاً، وعدم وجوب المبادرة إلى بعض المقدّمات مع ثبوت وجوب الواجب بطريق الان من قبل وجوب الاتيان به إنّما هو لأجل ان المأخوذ في بعض الواجبات القدرة عليه بعد مجيي ء زمانه يعني انّه يجب الاتيان بالمقدّمة لحصول القدرة على ذي المقدّمة في زمان الواجب فقط، ولم يكن المقدّمة واجبة لحصول القدرة على ذي المقدّمة في زمانه من زمان وجوبه، وبعبارة اخرى تحصيل القدرة على الواجب بوساطة الاتيان بمقدّماته واجبة للملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، ولكن الغالب وجوب تحصيل تلك القدرة في زمان الواجب لا من قبل، فانّه لا ضير في عدم القدرة على الواجب قبل زمان اتيانها بسبب عدم ايجاد مقدماته.

ص: 316

قلت: لا محيص عنه، إلا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة، وهي القدرة عليه بعد مجئ زمانه، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه، فتدبر جدا.

تتمة: قد عرفت اختلاف القيود[1] في وجوب التحصيل، وكونه موردا للتكليف

_____________________________

نعم المقدّمة التي لا تقدر عليها قبل زمان الاتيان إنّما يجب الاتيان بها من قبل لحصول القدرة على الواجب في زمان الاتيان به، وهذا هو السر في عدم وجوب الاتيان بالمقدّمة مع كشف وجوب الواجب في الزمان السابق على زمان اتيانه بواسطة وجوب بعض مقدّماته.

[1] يعني انّه ظهر مما ذكرنا اختلاف حال القيود في وجوب التحصيل وعدمه وانّه إذا كان القيد راجعاً إلى الهيئة لا يجب تحصيله، إذ لا يجب المقدّمة إلّا بعد وجوب ذي المقدّمة، ومفاد رجوع الشرط إلى الهيئة عدم وجوب ذي المقدّمة إلّا بعد حصول القيد، بخلاف ما إذا كان راجعاً إلى المادّة فان وجوب ذي المقدّمة يثبت حينئذٍ قبل وجود القيد وحينئذٍ يلزم تحصيل سائر المقدّمات الوجوديّة من زمان وجوب الواجب، فان كان في مقام الاثبات والدلالة ما يعين حال القيد والشرط وانّه راجع إلى الهيئة أو المادّة من القواعد العربيّة وطريق المحاورة فيعمل على طبقه، وإن لم يكن على ما ذكر دلالة فالمرجع هو الأصول العمليّة.

وربما قيل إنّ القواعد العربيّة تقتضي رجوع القيد إلى المادّة وبقاء اطلاق الهيئة فيما إذا دار الأمر بين رجوعه إلى أحدهما بوجهين:

أحدهما: ان اطلاق الهيئة الدال على العموم بمقدّمات الحكمة يكون شموليّاً كما

ص: 317

وعدمه، فإن علم حال قيد فلا إشكال، وإن دار أمره ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة، نحو الشرط المتأخر أو المقارن، وأن يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أولا يجب، فإن كان في مقام الاثبات ما يعين حاله، وأنه راجع إلى أيهما من القواعد العربية فهو، وإلا فالمرجع هو الاصول العملية.

وربما قيل في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة، بترجيح الاطلاق في طرف الهيئة، وتقييد المادة، بوجهين:

أحدهما: إن إطلاق الهيئة يكون شموليا، كما في شمول العام لافراده، فإن وجوب الاكرام على تقدير الاطلاق، يشمل جميع التقادير التي يمكن أن يكون تقديرا له، وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة.

ثانيهما: إن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الاطلاق في المادة ويرتفع به مورده، بخلاف العكس، وكلما دار الامر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.

أما الصغرى، فلاجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان لاطلاق المادة، لانها لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة، بخلاف تقييد المادة، فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

وأما الكبرى، فلان التقييد وإن لم يكن مجازا إلا أنه خلاف الاصل، ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الاطلاق، وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الاثر، وبطلان العمل به.

ص: 318

............................................

_____________________________

في شمول العام لأفراده بمعنى انّه إذا ثبت الاطلاق في وجوب اكرام زيد مثلاً يشمل جميع التقادير الذي يمكن أن يكون تقديراً له، يعني ان وجوب اكرام زيد مطلقاً معناه وجوب اكرامه على تقدير مجيئه وعدم مجيئه، وكونه عالماً أو جاهلاً أو فاسقاً مثلاً، كما يشمل لفظ العلماء، يشمل كلّ فرد فرد من العدول والفسّاق والنحوي والبصري من العلماء، واطلاق المادّة وعمومه بمقدّمات الحكمة إنّما يكون بدليّاً غير شامل لفردين في حالة واحدة، اذ الاكرام الذي يكون مادّة أكرم في قوله أكرم زيداً إن جائك اسم جنس، مفاده كمفاد لفظ رجل مثلاً، فان لفظ الرجل لا يشمل كلّ فرد فرد من الرجال بل شامل لكلّ منهم على سبيل البدليّة، إلّا مع لصوق دال على الاستغراق به كاللام مثلاً، وارجاع القيد إلى ما كان شموله بدليّاً أولى من ارجاعه إلى ما كان عمومه استيعابيّاً، لأنّ العموم الاستيعابي أقوى من العموم البدلي.

ثانيهما: ان تقييد الهيئة وهو الوجوب يوجب بطلان محلّ الاطلاق في المادّة وسقوطه ويرتفع به مورده، بخلاف العكس، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى من العكس.

أمّا الصغرى فلأجل انّه لا يبقى مع تقييد مفاد الهيئة وهو وجوب الاكرام مثلاً محل حاجة وبيان لاطلاق المادّة، بل يبطل حينئذٍ اطلاق المادّة، اذ لا تنفك المادّة عن وجود قيد الهيئة، فانّه إذا لم يكن وجوب إلاّ مع تقدير المجيي ء فلا يكون اكرام أيضاً إلّا مع ذلك التقدير، فلا يبقى مورد لاطلاق المادّة بعد رجوع القيد إلى

ص: 319

وما ذكرناه من الوجهين موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الاستاذ العلامة أعلى اللَّه مقامه، و أنت خبير بما فيهما.[1]

_____________________________

الهيئة، بخلاف تقييد المادّة، فان اطلاق الهيئة معه باق على حاله، فان الاكرام في المثال إذا كان مقيّداً بالمجيي ء فيمكن أن يثبت الاطلاق في وجوبه، وبعبارة اخرى وجوب اكرام زيد المقيّد بمجيئه لا ينافي وجوب اكرامه على التقدير الآخر أيضاً.

وأمّا الكبرى وهو ترجيح التقييد الواحد على تقيدين فلأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً ولم يكن من باب ترجيح المجاز الواحد على مجازين إلاّ انّه خلاف الأصل، وارتكاب خلاف أصل واحد أولى من ارتكاب خلافين قطعاً.

فان قلت: تقييد الهيئة ليس بتقييد للمادّة فلا يكون تقييدين وإنّما هو موجب لارتفاع الاطلاق عن المادّة.

قلنا: لا فرق في الحقيقة بين تقييد الاطلاق وبين أن يعمل عملاً يشترك مع التقييد في الاثر وبطلان العمل بالاطلاق، فان ابطال العمل باطلاق المادّة بسبب تقييد الهيئة نوع تقييد أيضاً في الحقيقة.

[1] واستشكل المصنّف على الوجهين المذكورين بقوله وانت خبير بما فيهما.

أمّا الأوّل فلأن مفاد اطلاق الهيئة وإن كان شموليّاً بخلاف المادّة التي يكون عمومه بدليّاً ولكن لما كان العمومان حكمتيين لا يكون ترجيحاً لأحدهما على الآخر، فان رجحان العموم على الاطلاق من جهة ان الأوّل بالوضع بخلاف عموم الثاني فانّه بالحكمة، لا لكون الأوّل استيعابيّاً والثاني بدليّاً، فانّ المرجّح علّة

ص: 320

............................................

_____________________________

العموم لا كيفيته ولذا لو فرض كون الأمر بالعكس وكان عام بالوضع دلّ على العموم البدلي ومطلق باطلاقه ومقدّمات الحكمة دلّت على الشمول واستغراق الأفراد لكان العام أيضاً مقدّماً عليه بلا كلام، بواسطة الجهة المذكورة وهي كون دلالته على العموم ولو بدليّاً وضعيّاً لا حكمتياً.

وأمّا الوجه الثاني فلأنّ التقييد وإن كان خلاف الأصل، إلّا ان عدم الاطلاق وابطال مورده لا يكون خلاف الأصل أصلاً، اذ معه لا يكون اطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي على خلاف الأصل.

وبعبارة أخرى معنى كون التقييد على خلاف الأصل كونه خلاف ظهور اللفظ في الاطلاق ببركة مقدّمات الحكمة، ومع انتفاء المقدّمات وعدم المورد لها لا ينعقد للفظ ظهور كي يلزم مخالفة ذلك الظهور ويكون ابطال الاطلاق مشاركاً مع التقييد في كونه خلاف الأصل.

وكانّ المستدل اشتبه عليه الأمر وزعم ان اطلاق المطلق كعموم العام ثابت، ورفع اليد عن العمل به تارة لأجل التقييد وأخرى بالعمل المبطل للعمل به، ولم يلتفت إلى انّه إذا لم يجر مقدّمات الحكمة لا يثبت اطلاق أصلاً ليلزم مخالفته ورفعه بالتقييد.

نعم إذا كان التقييد بقيد منفصل، لا مثل الشرط الذي من القيود المتّصلة ودار الأمر بين رجوعه إلى الهيئة أو المادّة، كان لهذا التوهّم مجال بأن يقال ان رفع مورد الاطلاق في معنى التقييد، اذ ينعقد حينئذٍ للمطلق اطلاق ويستقر للفظ ظهور بسبب انفصال القيد عنه ولو بقرينة الحكمة.

ص: 321

............................................

_____________________________

واستشكل الشارح على المصنّف بأنّه لا فرق بين القيد المتّصل والمنفصل، لأنّ الفرض ان اقتضاء الاطلاق في المادّة والهيئة معاً ثابت، فاذا شككنا في انّ القيد راجع إلى المادّة أو الهيئة فلا محالة رجوعه إلى ما لا يبطل معه اطلاق الآخر أولى، لأنّ الأصل عدم المانع والفرض ثبوت المقتضى، فيبقى اقتضاء الاطلاق في الهيئة سليماً ولا حاجة في كون رجوعه إلى الهيئة خلاف الأصل إلى ثبوت الاطلاق الفعلي كى يخص المحذور بما إذا كان القيد منفصلاً عن المقيد(1).

والحاصل انّ الشارح استحسن تحقيق الشيخ وأبطل ما أورده المصنّف بالبيان المذكور.

وقال بعد ذلك انّه يمكن أن يقال في ترجيح تقييد المادّة ان بطلان اطلاق المادّة وسقوطه متيقن على كلّ تقدير، لأنّه إن رجع القيد إليها سقط موضوعاً وإن رجع إلى الهيئة سقط حكماً، فيبقى الشكّ في تقييد الهيئة بدويّاً، والأصل عدم المانع عن مقتضى الاطلاق فيها، وهذا أحسن من تقريره بما أفاده الشيخ العلّامة فتأمّل جدّاً انتهى(2).

أقول: أمّا ثبوت الفرق بين القيد المتّصل والمنفصل فممّا لا مجال لانكاره، إذ على فرض الانفصال كما عرفت ينعقد ظهور اللفظ في الاطلاق، والتقييد بعد ذلك خلاف الأصل البتة، بخلاف ما إذا كان القيد متّصلاً، فبواسطة اتّصاله لا ينعقد ظهور

ص: 322


1- الهداية في شرح الكفاية: 220 - 221.
2- الهداية في شرح الكفاية: 221.

أما في الاول: فلان مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف المادة، إلا أنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها، لانه أيضا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة، غاية الأمر أنها تارة تقتضي العموم الشمولي، وأخرى البدلي، كما ربما يقتضي التعيين أحيانا، كما لا يخفى.

وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لاجل كون دلالته بالوضع، لا لكونه شموليا، بخلاف المطلق فإنه بالحكمة، فيكون العام أظهر منه، فيقدم عليه، فلو فرض أنهما في ذلك على العكس، فكان عام بالوضع دل على العموم البدلي، ومطلق بإطلاقه دل على الشمول، لكان العام يقدم بلا كلام.

وأما في الثاني: فلان التقييد وإن كان خلاف الاصل، إلا أن العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة، وانتفاء بعض مقدماته، لا يكون على خلاف الاصل أصلا، إذ معه لا يكون هناك إطلاق، كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الاصل.

وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الاصل، إلا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة، ومع انتفاء المقدمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور، كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الاثر، وبطلان العمل بإطلاق المطلق، مشاركا معه في خلاف الاصل أيضا.

وكأنه توهم: أن إطلاق المطلق كعموم العام ثابت، ورفع اليد عن العمل به، تارة لاجل التقييد، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به، وهو فاسد، لانه لا يكون إطلاق إلا فيما جرت هناك المقدمات.

نعم إذا كان التقييد بمنفصل، ودار الامر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان

ص: 323

لهذا التوهم مجال، حيث انعقد للمطلق إطلاق، وقد استقر له ظهور ولو بقرينة الحكمة، فتامل.

ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري، وحيث كان طلب شي ء وإيجابه[1 ]

_____________________________

أصلاً ولا يبلغ الاطلاق من مرتبة الاقتضاء إلى المرتبة الفعليّة، والعمل بما يوجب ابطال ذلك الاقتضاء في طرف المادّة وعدم انعقاد اطلاق بالنسبة إليها أصلاً لا يكون خلاف الأصل، وأصل عدم المانع وبقاء اقتضاء الاطلاق في المادّة بحاله وعدم رفعه بواسطة ثبوت المانع لا يثبت رجوع القيد إلى المادّة، إذ يكون حينئذٍ من الأصول المثبتة التي لا تكون حجّة في غير الأصول اللفظيّة.

[1] يعني ان المقصود من الواجب إن كان بداعي التوصّل إلى واجب آخر لا يكاد التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري، وإلّا فهو نفسي.

والواجب النفسي تارة يكون محبوباً بنفسه من دون أن يلحظ له فائدة مترتّبة عليه كالمعرفة باللَّه، فان المعرفة في حق ولي النعمة ممّا يكون حسناً في نفسه وإن كان فائدته القرب منه تعالى شأنه، ضرورة ان المحبوب النفسي قد يجب بالغير كالطهارة والصلوة فان المعرفة باللَّه في نفسها غاية الغايات ونهاية النهايات ففائدتها نفسها.

وأخرى يكون محبوباً بملاحظة الفائدة التي تترتّب عليه، كالصلوة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر(1)، والصوم الذي يكون جنّة من النار(2) والصدقة التي تطفئ

ص: 324


1- العنكبوت: 45.
2- الكافي: 2/19، ح 5؛ بحار الأنوار: 65/333، ح 10.

............................................

_____________________________

غضب الرب(1).

وأكثر الواجبات من العبادات التي يعتبر فيها قصد القربة والتوصليّات التي لا يعتبر فيها ذلك القصد كذلك يعني محبوبات بما لها من الفوائد.

ولا يخفى انّه لو كان المقصود من الواجب الفائدة المترتّبة عليه يكون في الحقيقة واجباً غيريّاً، اذ لو لم يكن تلك الفائدة لازمة لما حصل الداعي إلى ايجاب ذي الفائدة.

فان قلت: نعم وإن كان وجود الفائدة فيما كان المقصود من الواجب الفائدة المترتّبة عليه محبوباً لزوماً ولكنّه حيث كانت من الخواص المترتّبة على الأفعال وتلك الخواص ليست داخلة تحت قدرة المكلّف لما يصحّ أن يتعلّق بها الايجاب، فلم تكن واجبة لوجود المانع عن ايجابه، والواجب الغيري ما كان واجباً لوجوب غيره، فلا يكون تلك الواجبات المقصود منها الفائدة المترتّبة عليها واجبات غيريّة لعدم وجوبها لوجوب الغير وانحصر الواجبات الغيريّة في غير أكثر الواجبات.

قلت: لا مانع من كون أكثر الواجبات غيريّة، وكون وجوبها لوجوب غيرها من الفوائد، وعدم جواز ايجاب تلك الفوائد لكونها غير مقدورة فاسد، إذ المقدور أعم من المقدور بلا واسطة وما كان مقدوراً بالواسطة، وتلك الخواص وإن كان غير مقدور بلا واسطة ولكنّها مقدورة بواسطة القدرة على الأفعال التي تترتّب عليها،

ص: 325


1- قرب الاسناد (ط - الحديثة): 76، ح 244؛ بحار الأنوار: 93/118، ح 12.

............................................

_____________________________

وإلّا لما صحّ وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج، إذ هي آثار تترتّب على الأفعال الخارجيّة الواقعة من الفاعلين قهراً، مع ان وقوع تلك الآثار ممّا لا يقبل الانكار.

فالأولى في دفع اشكال كون أكثر الواجبات غيريّة أن يقال انّ الأثر المترتّب عليه الفعل وإن كان لازماً كما في الواجب الذي يترتّب على الواجب الغيري المقدّمي، الا ان ذي الأثر لما كان معنوناً بعنوان حسن في نفسه مثل الصلوة والصوم مثلاً، يستقل العقل بمدح فاعله بل وذم تاركه، صار متعلقاً للايجاب بما هو معنون بذلك العنوان الحسن، ومطلوبيّته بذلك العنوان لا ينافي كونه مقدّمة لأمر مطلوب واقعاً بخلاف الواجب الغيري لمحضية وجوبه في انّه لكونه مقدّمة لواجب نفسي لا يلاحظ فيه عنوان إلّا هذا العنوان، ولا مطلوبية نفسه له أصلاً وإن كان معنوناً بعنوان حسن في نفسه أيضاً، ولكنّه لا دخل لذلك العنوان والحسن النفسي في ايجابه الغيري.

ولعلّه مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه وما أمر به لأجل غيره، فان قيد الحيثيّة مطوي في تفسيره، ومراده انّ الأمر بالشي ء لنفسه ومن حيث مطلوبيّه ذاته نفسي، والأمر به لغيره ومن حيث مطلوبيّة الغير غيري، فلا يردّ عليه بأن جل الواجبات لو لا الكلّ يلزم أن يكون من الواجبات الغيريّة والمطلوب النفسي قلّما يوجد في الأوامر، فان جلّ ما أمر بها مطلوبات لأجل الغايات التي تكون خارجة عن حقيقتها.

ص: 326

لا يكاد يكون بلا داع، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب، لا يكاد التوصل بدونه إليه، لتوقفه عليه، فالواجب غيري، وإلا فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه، كالمعرفة باللَّه، أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات.

هذا، لكنه لا يخفى أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك - أي بما له من الفائدة المترتبة عليه - كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريا، فإنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما، لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة.

فإن قلت: نعم وإن كان وجودها محبوبا لزوما، إلا أنه حيث كانت من الخواص المترتبة على الافعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف، لما كاد يتعلق بها الايجاب.

قلت: بل هي داخلة تحت القدرة، لدخول أسبابها تحتها، والقدرة على السبب قدرة على المسبب، وهو واضح، وإلا لما صح وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق..إلى غير ذلك من المسببات، موردا لحكم من الاحكام التكليفية.

فالاولى أن يقال: إن الاثر المترتب عليه وإن كان لازما، إلا أن ذا الاثر لما كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله، بل ويذم تاركه، صار متعلقا للايجاب بما هو كذلك، ولا ينافيه كونه مقدمة لامر مطلوب واقعا، بخلاف الواجب الغيري، لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي، وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه، إلا أنه لا دخل له في إيجابه الغيري، ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه، وما أمر به لاجل غيره، فلا يتوجه عليه

ص: 327

الاعتراض بأن جل الواجبات - لو لا الكل - يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية، فإن المطلوب النفسي قلما يوجد في الاوامر، فإن جلها مطلوبات لاجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها، فتأمل.

ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين، وأما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري، فالتحقيق[1] أن الهيئة، وإن كانت موضوعة لما يعمهما، إلا أن إطلاقها

_____________________________

[1] أقول: إذا شكّ في واجب انّه نفسي أو غيري فكون الهيئة موضوعة للطلب المطلق والأعم من الوجوب النفسي والغيري والتعييني والتخييري والعيني والكفائي موجب للاجمال، ولكن اطلاقها وعدم تقييد مفادها بقيد يقتضي كونه نفسيّاً، إذ لو كان غيريّاً لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم اللازم عليه بيان تمام مراده.

فان قلت: لا وجه للاستناد إلى اطلاق الهيئة في اثبات كون الوجوب نفسيّاً مع كون مفاد هيئة الأمر الطلب الجزئي الذي لا يعقل فيه التقييد، نعم لو كان مفادها الطلب الكلي الذي يصحّ تقييده لتم الاطلاق ودلّ على انّ المراد منها غير المقيّد بمقدّمات الحكمة، ولكنّه بمراحل عن الواقع وباطل جزماً، اذ معاني الهيئات كالحروف جزئيّات ومتشخّصات، والوضع فيها عام والموضوع له خاص، فكيف يجوز التقييد فيما هو جزئي حقيقي فانّ المراد من هيئة الأمر الطلب القائم بنفس الطالب والارادة الشخصيّة التي انقدحت في قلب المريد فلا عموم في مفادها فلا اطلاق.

ص: 328

............................................

_____________________________

قلت: قد مرّ انّ التحقيق ان وضع الحروف والهيئات والموضوع له فيها كما في الأسماء، وان ما وضع له فيها عام، والطلب الشخصي القائم بنفس الطالب والارادة الشخصيّة ليس قابلاً لأن ينشأ، بل الطلب الانشائي المنشأ بصيغة الأمر إنّما هو الطلب الكلّي الذي صرف مفهوم ذهنى ولا وجود له في الخارج إلّا بانشاء المنشى، ومفهوم الهيئة ما يكون طلباً بالحمل الأولى الذاتي لا ما هو طلب بالحمل الشايع الصناعي.

وبعبارة أخرى مفهوم هيئة الأمر مفهوم الطلب الكلّي، لا المصداق الخارجي للطلب القائم بنفس الطالب، وإلّا لما صحّ انشائه إذ الفرد الخارجي من الطلب من الأمور الخارجيّة المتأصلة التي وجودها بنفسها وتكون ناشئة من أسبابها الخاصّة وليست قابلة للانشاء، إذ الموجود الانشائي من الاعتبارات التي ينشاءها المنشى والمعتبر، غاية الأمر الداعي إلى إنشاء الطلب الكلّي المفهومي قد يكون الطلب الخارجي المصداقي وقد يكون غير ذلك أيضاً كالامتحان والاختبار وغير ذلك أيضاً.

فتوهّم كون مفاد الهيئة الطلب المطلق الكلّي المفهومي لا الطلب الخارجي إنّما هو من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق، وكثيراً ما يقع ذلك الاشتباه، فان إطلاق قولهم ان مفاد هيئة الأمر الطلب بقول مطلق أوقع المتوهّم في الاشتباه والغلط فتوهّم ان مفاد الصيغة يكون الطلب الحقيقي يصدق عليه الطلب بالحمل الشايع الصناعي.

ص: 329

............................................

_____________________________

فانقدح بما ذكرنا صحّة تقييد مفاد الصيغة بالشرط والدلالة بها على وجوب شي ء لوجوب غيره هذا كلّه إذا كان هناك اطلاق.

وأمّا إذا لم يكن وكان مقدّمات الحكمة مختلة فيجب الاتيان بما أمر به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطاً له فعليّاً، يعني انّ الشاكّ في الوجوب النفسي والغيري إن كان عالماً بأنّه لو كان هذا الواجب المردّد وجوبه بين النفسي والغيري واجباً غيريّاً مقدّمياً كان التكليف بذي المقدّمة فعليّاً، وإنّما وجب الاتيان به حينئذٍ للعلم بوجوبه فعلاً إمّا نفسيّاً واما لأنه لو كان غيريّاً فوجوب ذلك الغير الذي وجب لأجله فعلى فيجب فعلاً اتيانه لأجله.

وبعبارة أخرى الواجب المردّد وجوبه فعلى في الفرض المزبور، لأنّه مردّد بين أن يكون واجباً نفسيّاً فيجب فعلاً اتيانه أو غيريّاً يعلم بكون وجوب ذلك الغير فعليّاً فيجب الاتيان به أيضاً فعلاً لأجله.

وعلى كلّ حال ففي الفرض المزبور يجب اتيان الواجب المردّد فعلاً، غاية الأمر انّ المكلّف الآتي به حينئذٍ لا يعلم جهة وجوبه هل هي النفسيّة أو الغيريّة.

وأمّا إذا لم يعلم فعليّة التكليف بذي المقدّمة لو كان مشكوك الوجوب المقدّمي واجباً في الواقع فلا يلزم الاتيان به، لصيرورة الشكّ في الوجوب المشكوك بدويّاً للعلم التفصيلي بعدم وجوبه على تقدير كونه غيريّاً، لعدم العلم بوجوب ذي المقدّمة فعلاً على فرض الغيريّة.

ص: 330

يقتضي كونه نفسيا، فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم.

وأما ما قيل من أنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة، لدفع الشك المذكور، بعد كون مفادها الافراد التي لا يعقل فيها التقييد، نعم لو كان مفاد الامر هو مفهوم الطلب، صح القول بالاطلاق، لكنه بمراحل من الواقع، إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الامر، ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب، فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الارادة وحقيقتها، لا بواسطة مفهومها، وذلك واضح لا يعتريه ريب.

ففيه: إن مفاد الهيئة - كما مرت الاشارة إليه - ليس الافراد، بل هو مفهوم الطلب، كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف، ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي، والذي يكون بالحمل الشائع طلبا، وإلا لما صح إنشاؤه بها، ضرورة أنه من الصفات الخارجية الناشئة من الاسباب الخاصة.

نعم ربما يكون هو السبب لانشائه، كما يكون غيره أحيانا.

واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية والارادة الحقيقية - الداعية إلى إيقاع طلبه، وإنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكا إلى مراده الواقعي - لا ينافي اتصافه بالطلب الانشائي أيضا، والوجود الانشائي لكل شي ء ليس إلا قصد حصول مفهومه بلفظه، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر.

ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق، فتوهم منه أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا، يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع،

ص: 331

ولعمري إنه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق، فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلا له، وإن تعارف تسميته بالطلب أيضا، وعدم تقييده بالانشائي لوضوح إرادة خصوصه، وإن الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها، كما لا يخفى.

فانقدح بذلك صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط، كما مر هاهنا بعض الكلام، وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والارادة ما يجدي في المقام.

هذا إذا كان هناك إطلاق، وأما إذا لم يكن، فلابد من الاتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا، للعلم بوجوبه فعلا، وإن لم يعلم جهة وجوبه، وإلا فلا، لصيرورة الشك فيه بدويا، كما لا يخفى.

تذنيبان الاول: لا ريب[1] في استحقاق الثواب على امتثال الامر النفسي

_____________________________

[1] أقول: لا شبهة في استحقاق الثواب على موافقة الأمر النفسي وأمتثاله واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته، وإنّما الاشكال في استحقاقهما على امتثال الأمر الغيري ومخالفته.

والتحقيق عدم استحقاقهما عليهما، إذ لا شبهة في حكم العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقاب واحد أو ثواب واحد في مخالفة الأمر الواجب وعدم الاتيان بواحد من مقدّماته ولو كانت كثيرة وموافقة العبد له والاتيان بجميع المقدّمات.

نعم لا بأس ولا إشكال في استحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدّمة بما هي مقدّمة، وتركها يوجب ترك ذي المقدّمة، وزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو اتى بالمقدّمات أيضاً بما هي مقدّمات للواجب، من جهة انّه يصير حينئذٍ من أفضل

ص: 332

............................................

_____________________________

الأعمال حيث صار من أشقّها وعليه ينزل ويحمل ما ورد في الأخبار من الثواب على المقدّمات أو يحمل على التفضل.

ووجه ذلك الحمل والتنزيل هو بداهة ان موافقة الأمر الغيري بما هو أمر لا بما هو شروع في اطاعة الأمر النفسي لا يوجب قربا، ولا مخالفته بهذا الوجه يوجب بعدا عن المولى، والمثوبة والعقوبة إنّما يكونان من آثار القرب إلى المولى والبعد عنه كما لا يخفى، هذا ما أفاده المصنّف.

ولا يخفى ما فيه: لأن تمام المناط في استحقاق الثواب والعقاب قصد العبد في فعله لا عنوان النفسيّة والغيريّة، فانّ الاتيان بالواجب النفسي من جهة ميل النفس لا اطاعة المولى لا يوجب قربا ولا استحقاقاً للمثوبة أصلاً سواء كان تعبديّاً أو توصليّاً، أمّا إذا كان تعبديّاً فبطلانه لاشتراط قصد العبوديّة في اتيانه، وإن كان توصليّاً فإنّما يوجب عدم استحقاق العقاب على تركه فقط، وليس لاستحقاق المثوبة مع قصد المتابعة لميل النفس من المولى وجه.

وأمّا الواجب الغيري والمقدمي فاذا أتى به بقصد انه من مقدّمات الواجب واطاعة المولى ومن حيث انّه وسيلة إلى امتثال أمره فيوجب أيضاً استحقاق الثواب بلا شبهة وارتياب، وإذا تركه مع القصد المزبور فيوجب استحقاق العقاب، وكذلك الأمر في مقدّمات الحرام واستحقاقه للعقوبة مع الاتيان والمثوبة مع الترك كما اعترف به هو قدس سره.

وعلى كلّ حال فلا علية في نفسية الواجب لاستحقاق االثواب ولا في غيريته

ص: 333

وموافقته، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا، وأما استحقاقهما على امتثال الأمر الغيري ومخالفته، ففيه إشكال، وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته، بما هو موافقة ومخالفة، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد، أو لثواب كذلك، فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها، أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات.

نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة، وبزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له، من باب أنه يصير حينئذ

_____________________________

لعدمه، ولا خلاف بينهم في استحقاق الثواب وعدمه على امتثال الأمر الغيري بما هو أمر كما فهمه المصنّف، بل الكل متّفقون على عدم الاستحقاق كذلك، وإنّما يكون محلّ الخلاف هو اطاعة الأمر الغيري بما هو غيري وبما هو مقدمة للواجب، والمصنّف وإن جعل محلّ الخلاف أولا فيما قلنا انّه محلّ الخلاف الا انّه عقب ذلك بنفيهما فيما لا خلاف في نفي الاستحقاق فيه، وأثبتهما فيما هو محلّ الخلاف، فهو في الحقيقة من المثبتين فيما هو محلّ الخلاف، مع انّه زعم بأنّه من النافين فيه.

والمراد من الأخبار التي وردت في ترتيب الثواب والعقاب على المقدّمات صورة اتيانها بما هي مقدّمات موصلة إلى الواجب أو الحرام، ولا ريب ان مقدّمة الواجب بما هي مقدّمة له يعرضها الحسن، ومقدّمة الحرام بما هي مقدّمة له يعرضها القبح، فيترتّب لذلك على فعل الأوّل الثواب والثاني العقاب.

وحملها على عروض الأفضليّة لصيرورة العمل مع مقدّماته من أشقّ الأعمال أو على التفضل بعيد مع انّه لا يجري الوجهان في مقدمات الحرام كما لا يخفى.

ص: 334

من أفضل الاعمال، حيث صار أشقها، وعليه ينزل ما ورد في الاخبار من الثواب على المقدمات، أو على التفضل فتأمل جيدا، وذلك لبداهة أن موافقة الامر الغيري - بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الامر النفسي - لا توجب قربا، ولا مخالفته - بما هو كذلك - بعدا، والمثوبة والعقوبة إنما تكونان من تبعات القرب والبعد.

إشكال ودفع:[1] أما الاول: فهو أنه إذا كان الامر الغيري بما هو لا إطاعة له،

_____________________________

[1] أقول: أمّا الاشكال فهو انّه إذا كان الأمر الغيري بما هو أمر غيري لا اطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة على امتثاله وإنّما يكون حصول الاطاعة والقرب مع الموافقة بالنسبة إلى الأمر النفسي فكيف حال بعض المقدّمات التي لا شبهة في حصول الاطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها كالطهارات الثلاث، فانّه لاشبهة في ترتب الثواب على فعلها، مع انّها مقدّمات لما هو مشروط بها.

ويرد الاشكال فيها أيضاً بأنّ المأمور به بالأمر الغيري لا يكون إلّا واجباً توصليّاً مع انّه قد اعتبر في صحّتها اتيانها بقصد القربة.

وأمّا الدفع فثبوت عنوان العبادة في تلك المقدّمة وعنوان المقدميّة والوجوب الغيري لا ينافي الاستحباب النفسي والمطلوبيّة النفسيّة، فانّه يجوز أن يكون مقدّمة الواجب وما هو واجب للغير أن يكون مطلوباً بنفسه، فاذا كان المقدّمة أمراً عباديّاً لا تحصل إلّا مع قصد القربة ويوجب موافقة أمره القرب بالمولى البتة، وعدم الاكتفاء في صحّة فعلها بقصد أمرها الغيري لا النفسي من جهة انه لا يدعو ذلك الأمر الغيري الا إلى ما هو عبادة، فقصد الأمر الغيري في فعلها لابدّ من أن يتضمّن لقصد الأمر النفسي، وليس قصد الأمر الغيري في فعلها من حيث انه لا يدعو الا إلى ما هو المقدّمة كي لا يحتاج إلى قصد الأمر النفسي وعدم التوجّه إلى عنوان التعبّد بها كما في سائر المقدّمات التي تكون خالية عن عنوان العباديّة.

ص: 335

............................................

_____________________________

وللشارح وجه آخر في دفع الاشكال وهو ان الأوامر النفسيّة والغيريّة ان علم حصول الغرض بوجودها فتوصليّة وإلّا فتعبديّة، ولابدّ في امتثال القسم الثاني الاتيان بالفعل لمجرّد أمر المولى به أيّا ما كان الغرض منه، ولما كان الغرض من المقدّمات الشرعيّة كالطهارات الثلاث غير معلوم فلابدّ في اتيانها من قصد التعبّد، كما انّ الأمر في الأوامر النفسيّة كلّها أيضاً كذلك.

قال: وأيّ مانع عقلاً من أن يكون متعلّق الأمر الغيري شيئاً لا يحصل الغرض منه من حيث ترتب ذلك الغير عليه إلّا باتيانه بقصد الطاعة، وأيّ فارق عقلاً بين الغيري والنفسي في ذلك، أليس إذا تعلّق الأمر النفسي بالموضوعات العادية المعلوم حصول الغرض بوجودها كيفما وجدت يكون توصليّاً وإذا تعلّق بالموضوعات الشرعيّة التي لا يحصل الغرض إلّا بوجودها بعنوان الطاعة يكون تعبديّاً فليكن كذلك الأمر الغيري المتعلّق بالموضوعات العادية والشرعيّة.

نعم لا شكّ في احتياج المقدّمة الشرعيّة إلى أمر آخر غير الأمر المقدّمي اللازم للأمر النفسي، ضرورة إن ذلك الأمر التبعي لا يتعلّق إلّا بما علمت مقدميته، فان كانت عادية كفى فيها وحده وان كانت شرعيّة فلا يعلم مقدميتها إلّا بتعلّق أمر أصلي بها بل يكفي في الكشف عنها بيانها أخباراً لا انشاءً.

والحاصل انّ حال الأمر الغيري حال الأمر النفسي عادياً وشرعيّاً توصليّاً وتعبديّاً، ولا وجه للعباديّة هنا غير هذا الأمر، ولذا ترى أغلب المكلّفين المتشرّعين لا يقصد عند فعلها إلّا اطاعة أمرها الغيري، وعلى ذلك جرت السيرة من أوّل زمان التكليف بالصلوة إلى يومنا هذا، ولو لا عدم كفايته في حصول القرب والاحتياج إلى قصد المحبوبيّة النفسيّة لبطلت عبادات أكثر الناس، لخفاء

ص: 336

............................................

_____________________________

هذا المعنى على حذاق العلماء الأعلام فضلاً عن العوام، ولعمري انّ ما ذكرنا واضح لدى من راجع وجدانه وألقى في مقام الجدال والعصبيّة عنانه، فلم يبق على ما ذكرنا اشكال حتّى في التيمّم، واتّضح فساد ما قيل في دفع الاشكال من انّ المقدّمة فيها بنفسها مستحبّة وعبادة، وغاياتها إنّما تكون متوقّفة على احدى هذه العبادات، فلابدّ أن يؤتى بها عبادة، وإلّا فلم يأت بما هو مقدّمة لها، إلى آخر ما أفاده المصنّف.

ثمّ قال بعد تتميم ما أفاده وأنت خبير بما فيه، فانّه لا يعقل حصول امتثال أمر تعبّدي بامتثال أمر توصّلي مع الغفلة وعدم الشعور بالأمر التعبّدي ومتعلّقه بما هو متعلّقه من المأمور، هذا، مع عدم تعقّل المأمور إلّا الشاذ منه كفاية المحبوبيّة بلا أمر فعلي في عبادية المأمور به.

ثمّ قال بعد كلمات مضافاً إلى أن ما أفاده المصنّف لم يدفع الاشكال بالنسبة إلى التيمم، لعدم دليل على استحبابه في نفسه، فليس إلّا أمره الغيري، وأيضاً فانّ المستحب في نفسه هو الطهارة التي هي من آثار الوضوء والغسل والتيمّم، فهذه الثلاثة مقدّمات للمقدّمة، فما بالها لا تصح أيضاً إلّا بقصد القربة وليس المدعى الا كون مقدمة الصلوة مستحبّة وعبادة في نفسها لا مقدّمة المقدمة.

وعلى ما ذكرنا لو انتهى الحال إلى ألف مقدمة لم يعلم فيها جهة التوقف كان أمراً عباديّاً حتّى يعلم ان موضوعه يسقط بالاتيان به بدون قصد الطاعة، فضلاً عمّا لو دلّ الدليل على عدم السقوط إلّا بقصدها كما في الطهارة وأسبابها والحاصل كلما ازداد الانسان تأمّلاً فيما ذكرنا وذكر القوم يتّضح به الحال تمام الوضوع.

ومن هنا لم تجد أحداً قبل شيخنا المرتضى استشكل في ذلك بل يرسلون ذلك

ص: 337

............................................

_____________________________

ارسال المسلمات، وفهم الفحول من المحقّقين مع وضوح منشأ الاشكال حسبما زعموه منشاءً له، فاحتمال غفلتهم عن ذلك مع هذا الوضوح بعيد إلى الغاية وفظيع إلى النهاية انتهى ما أفاده بعين عبارته مع تلخيص منا واسقاط الفقرات المستغنى عنها(1).

أقول: وفيه ان حاصل ما أفاده المصنّف هو عباديّة بعض المقدّمات كالطهارات الثلاث، وانّه لا يحصل ذوالمقدّمة إلّا بعد الاتيان بالمقدّمة بقصد العبادة، وأمّا كون جهة عباديّة الأمر الذي تعلّق به كقوله: « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ »(2) الخ فلا يظهر من بيانه كي يرد عليه بأن هذا الأمر أمر غيري توصلي، ولا أثر له في عباديّة العمل، بل الظاهر منه ثبوت العباديّة من دليل آخر غير الامر المزبور، وإلّا فلو كان مراده ثبوت العباديّة بسبب هذا الأمر فمثله صدر من الشارع في غير الطهارات الثلاث، كالطهارة من الخبث مثل قوله تعالى: « وإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّروا »(3)، وغير ذلك، مع انّه لا يقول بلزوم قصد التعبّد في التطهير عن الخبث وسائر المقدّمات الشرعيّة، وأيضاً الطهارة عن الخبث مقدّمة شرعيّة أيضاً، فيلزم ممّا أفاده أن يكون من التعبديّات ولم يقل به أحد، فيعلم ان ليس المناط في تعبديّة المقدمة وتوصليته كونها عادية أو شرعيّة وكون الغرض منها

ص: 338


1- الهداية في شرح الكفاية: 229 و231 و231.
2- المائدة : 6.
3- المائدة: 6.

............................................

_____________________________

معلوماً أو مجهولاً بنحو الكليّة وفي جميع الموارد، بل قد يعلم تعبديّة المقدّمة من دليل خاص كالطهارات الثلاث.

والقول بتعبديتها لعدم العلم بالغرض منها يلازم القول بالتعبديّة في الطهارة عن الخبث.

وإن قيل انّ الغرض في الطهارة الخبثيّة معلوم وهو تنظيف البدن واللباس وكونهما نظفتين حال الصلوة ليناسب الحضور في مقابل المعبود.

فيقال انّ الغرض من الطهارة عن الحدث أيضاً بهذا الحد معلوم وهو تنظيف الباطن عن الدنائس وتحصيل اللياقة الباطنيّة للحضور في مقابل الربّ إذ من المعلوم شركة الباطن والظاهر، وتأثير الظاهر في الباطن وتأثّره به خصوصاً بعد ما ورد من قوله عليه السلام الوضوء على الوضوء نور على نور(1)، فيثبت ان تعبديّة الطهارة الحدثيّة دون الخبثيّة إنّما هو من الدليل الخارج ولا دخل له بالعلم بالغرض وعدم العلم به وكون المقدّمة عاديّة أو شرعيّة كما زعمه الشارح.

وأمّا ما أورده بالنسبة إلى التيمّم وانّه بحسب ما أفاده لا يبقى اشكال فيه وعلى الوجه الذي أفاده المصنّف لا يرفع الاشكال عنه،

ففيه أيضاً انّه بناء على كون التيمّم مفيداً للطهارة كالغسل والوضوء كما عليه بعض من الفحول فلا يبقى اشكال فيه أصلاً، هذا مع الاغماض عمّا سيجي ء من ان مراده من الطهارات الثلاث الأعمال الخارجيّة المحصّلة لها.

ص: 339


1- من لا يحضره الفقيه: 1/41، ح 82.

............................................

_____________________________

وما أورده من انّ الوجه المذكور إن كان تماماً في الطهارة فلم لا يصح نفس العمل الخارجي من الغسل والوضوء والتيمّم إلّا بقصد القربة، مع ان الفرض ان المقدّمة وهو الطهارة عبادة لا مقدّمة المقدّمة وهي الأعمال الخارجيّة،

ففيه انّ المقصود من الطهارات الثلاث في عبارته ما هو محصل لها وهي الأعمال الخارجيّة، لا الحالة النفسانيّة التي لا تتصف بالتعبديّة والتوصليّة أصلاً، والغرض اشتراط قصد القربة والعبوديّة في تلك الأعمال لحصول تلك الحالة التي يعبّر عنها بالطهارة بها معه، وعدم حصولها بسبب تلك الأفعال إذا لم يقصد ذلك، ولا أرى لهذا الاشكال موقعاً أصلاً.

فالانصاف ان ما أورده من التفصيل في رد ما أفاده المصنّف من الوجه كلّه غير وارد، وإنّما هو ألفاظ لا يستفاد منها حاصل بل تطويل بلا طائل كما لا يخفى على من أدقّ النظر وأجال البصر.

وعدم التعرّض للاشكال من السابقين لا يدلّ على عدمه إذ كم ترك الأوّل للآخر، ووضوح منشائه لا يستلزم عدم الغفلة منه، مع انّ النسيان كالطبيعة الثانية للانسان، مع انّه لو كان بذلك الوضوح لم يحتجّ في حله إلى التفاصيل التي ذكره، وكيف يجامع الوضوح بتلك المثابة التي زعمه مع الحاجة إلى التوضيحات المذكورة منه، فاذن ليس ما أفاده في حلّه إلّا من باب توضيح الواضحات وتبيين البينات وهل يرضى هو بنسبة ذلك اليه بعد ما تحمّله في حله من المشقات والتمحلات كلّا وحاشا واللَّه العالم.

ص: 340

ولا قرب في موافقته، ولا مثوبة على امتثاله، فكيف حال بعض المقدمات؟ كالطهارات، حيث لا شبهة في حصول الاطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها، هذا مضافا إلى أن الامر الغيري لا شبهة في كونه توصليا، وقد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة.

وأما الثاني: فالتحقيق أن يقال: إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة وعبادة، وغاياتها إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات، فلا بد أن يؤتى بها عبادة، وإلا فلم يؤت بما هو مقدمة لها، فقصد القربة فيها إنما هو لاجل كونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفيسة، لا لكونها مطلوبات غيرية والاكتفاء بقصد أمرها الغيري، فإنما هو لاجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه حيث أنه لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة، فافهم.

وقد تفصي عن الاشكال بوجهين آخرين:[1] أحدهما ما ملخصه: إن الحركات

_____________________________

[1] أقول: الوجه الأوّل من الوجهين الآخرين هو انّه قد يكون المقدّمة للواجب ذات الشي ء بلا دخل عنوان خاص في مقدميّته، وقد يكون العنوان الخاص دخيلاً في ذلك، وفي المقام يمكن أن لا يكون الحركات الخاصّة محصّلة لما هو المقصود منها من العنوان الذي يكون بذلك العنوان مقدّمة، فلذا يلزم في اتيانها بذلك العنوان قصد أمرها، اذ ذلك الأمر الذي ورد من الشارع به لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة والموقوف عليه والمعنون بذلك العنوان، فيكون اتيانها بداعي امتثال أمرها الغيري عنواناً اجمالياً ومراتاً للمقدّمة، فقصد العبادة واطاعة أمر المولى في اتيانها واتيانها لأنّه أمر بها وكون أمرها داعياً إلى الاتيان ليس لأجل ان أمرها المقدّمي يقضي

ص: 341

............................................

_____________________________

بذلك ليرد ان الأوامر الغيريّة توصليّة لا يشترط في امتثالها قصد العبادة والقربة، بل لأجل احراز نفس العنوان الذي يكون بذلك العنوان مقدمة وليس للمأمور معلوماً تفصيلاً.

وفيه ان فعل المقدّمة بالعنوان الذي يكون مقدّمة لا يستلزم جعل أمرها داعياً وغاية للفعل، بل يحصل ذلك المقصود بقصد أمرها ولو وصفاً، ولو كان الداعي إلى الامتثال واتيان المأمور به بالأمر الغيري شيئاً آخر غير أمرها، ويكفي في الاشارة إلى العنوان الغير المعلوم المعتبر في المقدميّة كون تلك الحركات موصوفة بكونها مأموراً بها، ويأتي بالحركات الموصوفة بذلك بداع آخر غير أمرها، مع ان هذا الوجه غير واف بدفع الاشكال بترتب المثوبة عليها، إذ لا تترتّب إلّا على موافقة ما يكون مأموراً به بالأمر النفسي التعبّدي.

وأمّا ما قيل في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادات وما هو المأمور به بالأمر النفسي، من الالتزام بأمرين وطلبين من المولى، كان واحداً منهما متعلّقاً بذات العمل، وأخرى بكون الفعل من المأمور بداعي امتثال الأمر الأوّل يمكن جريانه في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في الطهارات، اذ لو لم يكن بنفسها مقدمة لغاياتها بل كان مقدميتها متوقّفة على فعلها بداعي امتثال أمرها الأوّل لا يكاد يتعلّق بنفسها أمر من قبل الأمر بالغايات، بل يكون الأمر المترشّح من الأمر بذي المقدّمة حينئذٍ متعلّقاً بفعلها بداعي امتثال الأمر الآخر، فمن أين يجيي ء ذلك الأمر الآخر الذي هو من سنخ الطلب الغيري والمقدّمي يتعلّق بذاتها بل يبطل في الأمر

ص: 342

الخاصة ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود منها، من العنوان الذي يكون بذاك العنوان مقدمة وموقوفا عليها، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها، لكونه لا يدعو إلا إلى ما هو الموقوف عليه، فيكون عنوانا إجماليا ومرآة لها، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لامرها ليس لاجل أن أمرها المقدمي يقضي بالاتيان كذلك، بل إنما كان لاجل إحراز نفس العنوان، الذي يكون بذاك العنوان موقوفا عليها.

وفيه: مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الاتيان بها كذلك، لا مكان الاشارة إلى عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر، ولو بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها، انّه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها، كما لا يخفى.

ثانيهما:[1] ما محصله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة، إنما يكون لاجل أن

_____________________________

الغيري المتعلّق بالذات، اذ لا منشأ له حينئذٍ على الفرض، فلا يبقى موضوع للأمر الثاني وهو الأمر بالفعل بداعي الأمر الآخر، فلا يتمكّن المكلّف حينئذٍ من اتيان المقدّمة في الخارج، مع انّه قد مرّ الاشكال سابقاً في ذلك الوجه وتفصيل بطلانه فراجع.

[1] أقول: حاصل ما أفاده في التذنيب الثاني هو، انّه قد ظهر من التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث وان وجهه كون تلك المقدّمات بخصوصها مطلوبات نفسيّة وإن كانت مطلوبة للغير أيضاً صحّتها ولو لم يقصد التوصّل بها إلى غاية من غاياتها كالصلوة مثلاً.

ص: 343

............................................

_____________________________

نعم لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيري لكان قصد الغاية ما لابدّ منه في وقوعها صحيحة، اذ الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلاّ إذا قصد التوصّل إلى الغير حيث لا يكاد يصير داعياً للامتثال ليحصل عنوان امتثاله إلّا مع قصد التوصّل به إلى الغير، إذ الفرض ان المطلوب للغير ليس مطلوباً في نفسه، بل إنّما يكون مطلوبيته للغير فلا ينفكّ قصد الامتثال بالنسبة إليه وموافقة أمره والاتيان به لكونه مطلوباً للمولى عن قصد التوصّل به إلى الغير، لوقوع المقدّمة عبادة ولو لم يقصد أمرها اللفظي، كقوله تعالى: « إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ »(1) إذ عنوان العباديّة يحصل للمقدّمة إذا أتى به المكلّف بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي، لأن ذلك القصد قصد الطاعة، والمكلّف في ذلك المقام في مقام العبادة، بل عنوان العبوديّة حاصل مع ذلك القصد ولو لم نقل بتعلّق الطلب بها أصلاً، وهذا الذي ذكر من توقّف حصول عنوان العبوديّة على قصد التوصّل هو السر في اعتبار قصد التوصّل في وقوع المقدّمة عبادة، لأنّه إذا كان المناط في العباديّة قصد اطاعة الأمر الغيري والتوصّل إلى الغير لتوقّف حصول الامتثال عليه فلابدّ في عبادية المقدمة قصد التوصل إلى الغير،

لا ما توهّم من انّ المقدّمة إنّما تكون مأموراً بها بعنوان المقدميّة ولذا لا يحصل عباديتها بسبب موافقة الأمر والتعبّد إلّا بان يقصد ذلك العنوان، بل إنّما هذا من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، إذ المقدّمة وما هو المأمور به بالأمر النفسي متوقّف

ص: 344


1- المائدة: 6.

الغرض من الامر النفسي بغاياتها، كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب بموافقته، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بهاكذلك، لا باقتضاء أمرها الغيري.

وبالجملة وجه لزوم إتيانها عبادة، إنما هو لاجل أن الغرض في الغايات، لا يحصل إلا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا، بقصد الاطاعة.

وفيه أيضا: إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها، وأما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادات، من الالتزام بأمرين: أحدهما كان متعلقا بذات العمل، والثاني بإتيانه بداعي امتثال الاول، لا يكاد يجزي في تصحيح اعتبارها في الطهارات، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها، لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل الامر بالغايات، فمن أين يجئ طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها، ليتمكن به من المقدمة في الخارج.

هذا، مع أن في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على

_____________________________

عليه إنّما هو ذات المقدّمة ومصداق عنوان المقدمية، ولا دخل لمفهوم المقدّميّة ونفس العنوان بالمأمور به، وليس صرف العنوان موقوفاً عليه ومقدمة.

نعم عنوان المقدميّة والتوقّف علّة لوجوب تلك الذوات الموقوف عليها، وبعبارة أخرى مقدّمة الواجب ما هو المقدّمة بالحمل الشائع الصناعي لا ما هو مقدّمة بالحمل الأولى الذاتي، فلا وجه لاعتبار حصول الطاعة في امتثال أمرها إلى قصد عنوان المقدميّة، بل إنّما الوجه في اعتبار قصد التوصل إلى الغير في حصول عنوان الطاعة والعبادة ما ذكر من اعتبار قصد امتثال الأمر الغيري فيه الذي لا ينفك عن قصد التوصّل إلى الغير.

ص: 345

ما عرفته مفصلا سابقا، فتذكر.

الثاني: إنه قد انقدح مما هو التحقيق، في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات صحتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها، نعم لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها امرها الغيري، لكان قصد الغاية مما لابد منه في وقوعها صحيحة، فان الامر الغيري لا يكاد يمتثل إلا إذا قصد التوصل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير داعيا إلا مع هذا القصد، بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة، ولو لم يقصد أمرها، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا.

وهذا هو السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة، لا ما توهم من أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية، فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان، وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها، فإنه فاسد جدا، ضرورة أن عنوان المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب، ولا بالحمل الشائع مقدمة له، وإنما كان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها الاولية، والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها.

الامر الرابع: لا شبهة في أن وجوب المقدمة[1] بناء على الملازمة، يتبع في

_____________________________

[1] أقول: قد ظهر من مطاوي الأبحاث السابقة ان وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها من حيث الاطلاق والاشتراط لأنّه إذا كان وجوبها وجوباً ترشحيّاً تبعيّاً فلا محالة يكون مطابقاً لوجوب ذي ا لمقدّمة إن كان مطلقاً فمطلق وإن كان مشروطاً فمشروط، اذ الفرع يتبع الأصل ولا يكون وجوب المقدّمة مشروطاً بارادة ذي المقدّمة لأن وجوب ذيها لا يكون مشروطاً بذلك الشرط.

ص: 346

............................................

_____________________________

فما يظهر من صاحب المعالم في بحث الضد من انّه جعل وجوبها مشروطاً بارادة ذيها في غير محلّه، قال وأيضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون مكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها(1)، إذ من المعلوم دلالة تلك الحجّة على التبعيّة ودلالتها على التبعيّة واضح لا يكاد يخفى وإن كانت دلالتها على أصل الملازمة وترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة قابلة للتشكيك، والعجب انّه كيف خفى ذلك الأمر الواضح عليه.

وأيضاً قد أشير انفاً إلى ان علّة وجوب المقدّمة عنوان المقدميّة فاذا حصل العلّة يحصل المعلول من دون انتظار لشي ءٍ آخر فما يظهر ممّا نسبه إلى شيخنا العلّامة أعلى اللَّه مقامه لبعض أفاضل مقرّري بحثه من توقّف وقوعها على صفة الوجوب اتيانها بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة أيضاً في غير محلّه، فلذا اعترف هو قدس سره بالاجتزاء والاكتفاء بالاتيان بالمقدّمة التي لم يقصد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة في غير المقدّمات العباديّة مثل الطهارات الثلاث، لحصول ذات الواجب والمقدّمة إنّما هو الذات الموقوف عليه بلا دخل عنوان فيه أصلاً، فاذن تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصّل من المقدّمات إلى ذي المقدّمة بلا مخصّص أي بلا دليل يثبت ذلك التخصيص والحصر، نعم قد مرّ انفاً اعتبار ذلك القصد في حصول الامتثال وعنوان الطاعة والعبوديّة للمولى لما مرّ من انّه لا يكاد يكون الآتي

ص: 347


1- معالم: 71. «ناشر دفتر انتشارات اسلام وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم».

............................................

_____________________________

بالمقدّمة ممتثلاً ومطيعاً لأمرها وآخذاً يعني شارعاً في امتثال الأمر بذيها بدون ذلك القصد، ومعه يثاب بثواب أشقّ الأعمال، فالفعل المقدّمي يقع على صفة الوجوب بسبب المقدميّة ولو لم يقصد به التوصّل إلى ذي المقدّمة كسائر الواجبات التوصليّة التي تقع على صفة الوجوب وإن لم يلتفت الفاعل إلى صفتها ولم يقعها بداعي وجوبها، ولا يقع المقدّمة على حكمه السابق على مقدميّتها الثابت له لَوْ لا عروض صفة توقّف الواجب الفعلي المنجز عليه فيقع الدخول في ملك الغير الذي حكمه الحرمة في الأصل ولو لا عروض مقدميته لانقاذ الغريق أو اطفاء الحريق على الوجوب بعد عروض عنوان المقدميّة لتلك الأفعال الواجبة بالوجوب النفسي لا حراماً وإن لم يلتفت إلى عروض عنوان التوقّف والمقدميّة عليه، غاية الأمر فيما إذا لم يلتفت إلى عنوان المقدميّة يكون متجرياً في فعله لا عاصياً كما انّه مع الالتفات إلى ذلك العنوان يكون متجريّاً بالنسبة إلى ذي المقدّمة إذا لم يقصد التوصّل إليه أصلاً، وأمّا إذا قصد التوصّل ولكن لم يأت بها بهذا الداعي بل بداع آخر أكّده بقصد التوصّل فلا يكون متجرياً أيضاً كما لا يخفى، والحاصل يكون التوصّل بتلك الأفعال المتوقّف عليها وجود ذي المقدّمة من الفوائد المترتّبة على المقدّمة الواجبة وليس قصد التوصّل قيداً وشرطاً لوقوعها على صفة الوجوب لملاك ثبوت الوجوب في نفس الأفعال المقدمي بلا دخل لقصد التوصّل بها إلى ذيها في وجوبها أصلاً، وإلّا فلو كان ذلك القصد دخيلاً في وجوبها وقيداً وشرطاً للوجوب لما حصل ذات الواجب بفعلها إذ لا يحصل المشروط بدون الشرط والمقيد بدون قيده ولما سقط التكليف الوجوبي به.

ص: 348

............................................

_____________________________

ولا يجوز قياس فعل المقدّمة بدون قصد التوصّل على ما إذا أتى بالفرد المحرم من المقدّمات بأن يقال كما انه يسقط الوجوب بالفرد المحرم فكذلك يسقط بفعل الغير المحرم منها فيما لو لم يكن الاتيان به بقصد التوصّل، وكما انّ الفرد المحرم الذي يوصل إلى ذي المقدّمة لا يكون واجباً ولا يقع بصفة الوجوب فكذلك الفرد المحلّل الذي لم يقصد التوصّل باتيانه إلى ذي المقدّمة لا يكون واجباً.

إذ هو قياس مع الفارق لأنّ الفرد المحلّل الذي لم يقصد به التوصّل لا يفرق مع ما قصد التوصّل به أصلاً فكما انّ الفرد الذي قصد به التوصّل يكون واجباً فكذلك ما لم يقصد به ذلك، ولا تفاوت بينهما أصلاً، بخلاف الفرد المحرم فان سقوط الوجوب به إنّما هو لكونه محصّلاً للغرض وموصلاً إلى ذي المقدّمة وإلّا فالفرض انّه محرّم، وما يكون محرّماً لا يكون واجباً فان عروض صفة الحرمة مانع عن صفة الوجوب، وبعبارة أخرى المقتضي لوجوب الفرد المحرّم موجود وهو المحصليّة للغرض إلّا أنه لا يعرض الوجوب لوجود المانع وهو ثبوت صفة الحرمة، وأمّا الفرد المحلّل الذي لم يفعله بقصد التوصّل فالمقتضى لعروض صفة الوجوب عليه موجود والمانع منها مفقود فلا وجه لعدم وقوعه واجباً، فبدليل الان يكشف من ان قصد التوصّل لا يعتبر في ثبوت صفة الوجوب له قطعاً.

ثمّ انّ المصنّف استشكل على شيخنا الأنصاري طاب ثراه بأنّ العجب انّه شدّد الانكار على القول بالمقدّمة الموصلة واعتبار ترتّب ذي المقدّمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب وإن وجوب المقدّمة ينحصر فيما إذا ترتّب ذوالمقدّمة في

ص: 349

............................................

_____________________________

الخارج على المقدّمة، واستشكل على هذا القول بالاشكالات التي ترد أيضاً على القول باعتبار قصد التوصل في وجوب المقدّمة الذي اختاره هو طاب ثراه ورجّحه.

ووجه التعجّب هو انّه كيف غفل مثل هذا الفحل عن ورود تلك الاشكالات على نفسه حيث اختار في مسئلة وجوب المقدّمة وجوبها في صورة قصد التوصّل بها إلى ذيها فقط مع ان اشتراك ورودها على القولين من الواضحات التي لا يغفل عنها أحد.

واستشكل الشارح على المصنّف ورجح القول باعتبار قصد التوصّل في وجوب المقدّمة ببيان انّ الأفعال بحسب موضوعاتها الخارجيّة على ضربين:

أحدهما لا دخل للقصد في وقوعه بعنوانه الخاص به بل يقع بعنوانه وإن قصد ضدّه وذلك شأن أغلب الموضوعات الخارجيّة.

ثانيها ما لا واقع له إلّا بالقصد كالاهانة والتعظيم والتأديب والظلم وغير ذلك فالقصد مقوم لموضوعه فالضرب لا يقع تأديباً مأموراً به إلّا إذا قصد به ذلك، وتظهر الثمرة فيما لو ضرب بقصد الظلم فترتّب عليه التأديب فانّه يقع حراماً لا واجباً ضرورة انّ الواجب هو الضرب المعنون بالتأديب ولم يقع، وترتّب التأديب على ما قصد به الظلم لا يكشف عن وجوبه، لما عرفت من انّه قد يترتّب على الحرام ومن المعلوم ان الأحكام تابعة للحسن والقبح ولا يتّصف الفعل بهما إلّا بعنوانه المقصود، وأمّا على مذهب المصنّف فلا تكون الأفعال وموضوعاتها إلّا

ص: 350

............................................

_____________________________

نحواً واحداً، فالضرب الذي له في الواقع شأنيّة التأثير للأدب والتصرّف في ملك الغير الذي له في الواقع شأنيّة ترتب الانقاذ عليه وما اشتبه ذلك غير محكوم واقعاً إلّا بالوجوب فداخل دار غيره وفيها غريق أو حريق غير قاصد إلّا التصرّف في ملك الغير عدواناً يقع دخوله واجباً وإن لم ينقذ الغريق أو يطفأ الحريق وهو خلاف ما تقضي به الضرورة، فظهر انّ الواجب هو نصب السلم للتمكّن من الصعود فلا تقع على صفة الوجوب إلّا بقصده فالمقصود من قصد التوصّل في بعض العبادات هذا المعنى.

ثمّ قال: ولا بأس بتوضيحه فاعلم انّ لذلك مراتب ثلاث: التمكّن من التوصّل، والتوصّل فعلاً بمعنى قصد الاقدام على العمل أقدم بعده أو لم يقدم، والتوصّل بمعنى الاقدام فعلاً، فالواجب نصب السلم للتمكّن من الصعود لو أراده لا نصبه للتوصل فعلاً وإن لم يقع منه بعد ذلك وهو معنى الاشتراط بالارادة الذي تقدّم ولا نصبه للتوصّل فعلاً الذي يعقبه الوصول وهو معنى اشتراط ترتّب الواجب عليه المسمّى بالمقدّمة الموصلة.

قال: إذا عرفت ذلك فاعلم انّ المعتبر ليس إلّا إمكان التوصّل إذ هو مناط الوجوب فيجب قصده(1) ثمّ اطنب في بيان ما أفاده اطنابا مملا وكرر في البيان بما لا حاجة فيه أصلاً ولا فائدة مهمّة في نقلها بعد كون ما أفاده المصنّف أجنبيّاً عن افاداته والانصاف انّه في غاية المتانة ولا يرد عليه شي ء ممّا أورده، إذ كيف يظنّ

ص: 351


1- الهداية في شرح الكفاية: 239 - 240.

............................................

_____________________________

بمثل المصنّف التزام انّ الأفعال وموضوعاتها على نحو واحد وانكار عروض الحسن والقبح بالاعتبارات مع انّه من الواضحات التي لا تقبل الانكار، بل مراد المصنّف ان اعتبار قصد التوصّل لا دخل له في عروض الحسن في مقدّمة الواجب ووقوعه على صفة الوجوب، بل يكفي في وقوعه على تلك الصفة عنوان التوقّف والمقدمية، ولا وجه أيضاً للنقض عليه بالمقدّمة المحرّمة مع انّه يسلم عدم وقوعها على صفة الوجوب لوجود المانع وإن كان المقتضى موجودا بل حاصل مرامه انّه إذا كان الفاعل للمقدّمة غافلاً وخالي الذهن عن عنوان التوصّل والمقدّميّة وكذلك عن العنوان الموجب للحرمة أيضاً فانّه يقع منه على صفة الوجوب لوجود العنوان واقعاً وإن لم يلتفت هو إليه، وفيما إذا التفت إلى العنوان المحرّم للفعل وغفل عن العنوان الموجب للوجوب وقصد العنوان المحرّم فانّه متجر ولا معصية عليه، وأمّا إذا كان ملتفتاً إلى العنوان المحرم وكان في المقدّمات ما لم يكن الحرام واختار ما هو المحرم فانه عاص البتة وان سقط عنه الواجب، وحمل كلامه على ارادة التوصّل الفعلي بالمقدّمة وترتّب ذي المقدّمة عليها خارجاً فاسد أيضاً، بل ظاهر عبارته ينادي بأنّه لم يفهم من كلام الشيخ إلّا اعتبار قصد التوصّل والتمكّن منه كما هو مراده لا ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة خارجاً كما هو مذهب صاحب الفصول وسيأتي الاشارة منه قدس سره في رد قول صاحب الفصول إلى ان قصد التمكّن من ذي المقدّمة بواسطة المقدّمة يحصل للمكلّف ولو لم يترتّب ذوالمقدّمة على المقدّمة خارجاً، وليس الغرض من ايجاب المقدّمة إلّا حصول التمكّن من

ص: 352

الاطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا، ولا يكون مشروطا بإرادته، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم رحمه الله في بحث الضد [حيث] قال: وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما تنهض دليلا على الوجوب، في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر.

_____________________________

ذي المقدّمة بواسطة المقدّمة، وكذلك يرد على الشيخ بأنّ التمكّن من ذي المقدّمة الذي هو الغرض من ايجاب المقدّمة يحصل للمكلّف وإن لم يقصده حين الاتيان بالمقدّمة، وقصد التمكن حين الاتيان لا دخل له فيما هو الغرض من الايجاب، فيعلم انّ المصنّف لم يفهم من عبارة الشيخ غير ما فهمه الشارح من ان المقصود من قصد التوصّل قصد امكان التوصّل والتمكّن من ايجاد ذي المقدّمة في الخارج كما لا يخفى.

وأيضاً ما استشكله الشارح بأنّ الاشكال على الشيخ بثبوت التناقض في كلماته من جهة انكاره لما ذهب إليه صاحب الفصول مع انّه يرد عليه ما يرد على صاحب الفصول بأنّ من المعلوم انّ الشيخ لم يذهب إلى ما ذهب إليه ففاسدٌ أيضاً، إذ مقصود المصنّف ليس إلّا ان مناط الاشكال على صاحب الفصول موجود فيما ذهب إليه الشيخ لا انّهما قالا بقول واحد ويشهد عليه انّ المصنّف فصل بين قول الشيخ وصاحب الفصول حيث نقلهما وجعلهما قولين متغايرين ونقل أولا قول الشيخ واستشكل عليه ثمّ قول صاحب الفصول بعد ذلك وأبطله أيضاً وفصل في ابطال قول صاحب الفصول بما لم يفصل في ابطال قول الشيخ، فيعلم انّ القولين عنده أيضاً متغايران غاية الأمر مناط ورود الاشكال عليهما واحد.

ص: 353

وأنت خبير بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى، وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة، كما لا يخفى.

وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب[1] أن يكون الاتيان بها بداعي

_____________________________

[1] أقول: بيان بطلان ما ذهب إليه صاحب الفصول من انّه يعتبر في وجوب المقدّمة ترتّب ذيها عليها المعبّر عنها بالمقدّمة الموصلة بنائه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في غرض المولى الداعي إلى ايجاب الواجب والباعث على طلبه ومعلوم انّ الغرض من ايجاب المقدّمة حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدّمة، إذ من المعلوم عدم التمكّن من ذي المقدّمة في صورة عدم حصول المقدّمة والتمكّن منه في صورة حصولها، فاذا كان الغرض من ايجابها تحصيل التمكّن من ذي المقدّمة للمكلّف به فلا فرق بين ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة خارجاً وعدم ترتّبه عليها لحصول التمكن من ذي المقدّمة في الصورتين، وعدم اقدام المكلّف في ايجاد ذي المقدّمة بعد التمكّن من ايجاده بواسطة المقدّمة لا يضرّ في حصول ما هو منظور المولى من ايجاب المقدّمة وهو التمكّن بواسطتها من ذي المقدّمة، مع انّه لا يمكن أن يكون الغرض من ايجاب المقدّمة ترتّب ذي المقدّمة عليها خارجاً كما يقول به صاحب الفصول اذ غالب الواجبات إلّا ما قل في الشرعيّات والعرفيّات أفعال اختياريّة يختار المكلّف تارة اتيانه بعد وجود المقدّمات واخرى عدم اتيانه ولا يحصل ذوالمقدّمة غالباً بعد وجود المقدّمة قهراً وبدون اختياره، نعم فيما إذا كان الواجب من الأفعال التسبببيّة والتوليديّة كان ذوالمقدّمة لا محالة مترتّباً على تمام مقدّماته لعدم تخلّف المعلول عن علّته.

ص: 354

............................................

_____________________________

فان قلت: ما من واجب إلّا وله علّة تامّة ولابدّ من حصول المعلول بعد حصول علّته التامة فالتخصيص بالواجبات التوليديّة بلا مخصّص أي بلا دليل يثبت التخصيص.

قلت: نعم ذلك كذلك ولا يمكن وجود الممكن بدون علّة كانت تلك العلّة غير ذلك المعلول إلّا انّه إذا كان الفعل المعلول من الأفعال الاختياريّة لا التوليديّة فلا محالة تكون مبادي ذلك الفعل ومقدّماته كارادة الفاعل من أجزاء علته وتلك المبادى كالارادة من الفاعل لا يكاد يتّصف بالوجوب بل إنّما يمكن أن يتّصف بالوجوب غيرها من أجزاء العلّة لعدم كونه تلك المبادي بالاختيار وصدورها بالارادة، وإلّا لتسلسل لأن تلك الارادة تحتاج حينئذٍ إلى ارادة اخرى وتلك الارادة الاخرى إلى ارادة ثالثة وهكذا فيتسلسل، وبعبارة أخرى مع تسليم ان لكلّ واجب علّة تامّة وإن بعد حصولها يحصل ذوالمقدّمة والواجب النفسي فيكون جميع المقدّمات مقدّمة موصلة فيجب الكل إلّا انّه ارادة الفعل من الفاعل بعد حصول جميع المقدّمات الاخر ليست باختياريّة وإلّا لاحتاجت إلى ارادة أخرى فلا تكون واجبة اذ تكليف الوجوب كسائر التكاليف لا يتعلّق إلّا بالأمور الاختياريّة فاذا لم تكن واجبة فسائر أجزاء العلّة غير ذلك الجزء وهو الارادة ليست بمقدّمة موصلة، فيلزم أن لا تكون واجبة بعد تخصيص الوجوب بالمقدّمة الموصلة.

وأيضاً لو كان الترتّب وحصول ذي المقدّمة بعد حصول المقدّمة معتبراً في

ص: 355

............................................

_____________________________

وجوب المقدّمة لما كان الطلب يسقط بمجرّد الاتيان بالمقدّمة ولو لم يترتّب ذوالمقدّمة عليها ولم يكن سقوطه بحيث لا يبقى في البين إلّا طلب ذي المقدّمة وايجابها فقط، كما إذا لم يكن تلك المقدّمة بمقدّمة أو كانت حاصلة من الأوّل ومن قبل ايجاب ذي المقدّمة مع انّه بعد الاتيان بالمقدّمة يسقط الطلب المتعلّق بها من دون انتظار لترتّب الواجب عليها، فيعلم ان وجوبها لا يتوقّف على ترتّب ذي المقدّمة وليس الترتّب شرطاً في وجوبها والطلب المتعلّق بالمطلوب من الطالب لا يكاد يسقط إلّا بواحد من ثلاثة أمور الموافقة، أو العصان والمخالفة أو ارتفاع موضوع التكليف، كما انّه يسقط الأمر بالتكفين وتدفين الميّت بسبب غرقه احياناً أو حرقه لأنّه يرتفع موضوع التكليف حينئذٍ، ولا يكون الاتيان بالمقدّمة الغير المترتّب عليه ذوالمقدّمة التي يسقط معه التكليف بها من هذه الأمور الثلاثة غير الموافقة، ولا يحصل الموافقة إلّا فيما إذا كان هناك أمر متعلّق بما فعله المكلّف، فيعلم ان وجوب المقدّمة وكونها مأموراً بها لا يتوقّف على ترتّب ذي المقدّمة عليها.

فان قلت: كما يسقط الأمر بالأمور المذكورة كذلك قد يسقط بفعل ما ليس بمأمور به إلّا انّه يحصل الغرض منه كسقوطه في التوصليّات بفعل الغير أو المحرّمات فان المحرم ليس بمأمور به وكذلك فعل الغير ليس بمأمور به في حق من وجب عليه ذلك الواجب التوصّلي مع انّه يسقط الأمر به بهما لحصول الغرض.

قلت: ذلك كذلك ولكن كلّ ما يحصل به الغرض لابدّ أن يكون مأموراً به من

ص: 356

التوصل بها إلى ذي المقدمة؟ كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة - أعلى اللَّه مقامه - بعض أفاضل مقرري بحثه، أو ترتب ذي المقدمة عليها بحيث لو لم يترتب عليها يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب، كما زعمه صاحب الفصول قدس سره أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شي ء منهما.

الظاهر عدم الاعتبار: أما عدم اعتبار قصد التوصل، فلاجل أن الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لاجل المقدمية والتوقف، وعدم دخل قصد التوصل فيه واضح، ولذا اعترف بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية، لحصول ذات الواجب، فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص، فافهم.

نعم انما اعتبر ذلك في الامتثال، لما عرفت من انه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلا لامرها، وآخذا في امتثال الامر بذيها، فيثاب بثواب أشق الاعمال، فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب، ولو لم يقصد به التوصل، كسائر الواجبات التوصلية، لا على حكمه السابق الثابث له، لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه، فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة

_____________________________

الأفعال الاختياريّة للمكلّف إلّا أن يمنع عن الطلب مانع مثل كونه محرّماً بالفعل ومعلوم انّه لا يكون بين المقدّمة الموصلة والغير الموصلة تفاوت أصلاً من جهة حصول الغرض بهما ومناط المطلوبيّة في كلّ واحد منهما واحد والمقتضى لها موجود والمانع عنها مفقود فكيف يمكن مع ذلك أن يكون أحدهما وهو الموصلة واجباً فعلاً دون الآخر وهو الغير الموصلة.

ص: 357

لانقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي لا حراما، وإن لم يلتفت إلى التوقف والمقدمية، غاية الامر يكون حينئذ متجرئا فيه، كما أنه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة، فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا.

وأما إذا قصده، ولكنه لم يأت بها بهذا الداعي، بل بداع آخر أكده بقصد التوصل، فلا يكون متجرئا أصلا.

وبالجملة: يكون التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة، لا أن يكون قصده قيدا وشرطا لوقوعها على صفة الوجوب، لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلا، وإلا لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به، كما لا يخفى.

ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها، حيث يسقط به الوجوب، مع أنه ليس بواجب، وذلك لان الفرد المحرم إنما يسقط به الوجوب، لكونه كغيره في حصول الغرض به، بلا تفاوت أصلا، إلا أنه لاجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب، وهذا بخلاف ما ها هنا، فإنه إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض، فلابد أن يقع على صفة الوجوب مثله، لثبوت المقتضي فيه بلا مانع، وإلا لما كان يسقط به الوجوب ضرورة، والتالي باطل بداهة، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا، وانتظر لذلك تتمة توضيح.

والعجب أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة، واعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب، على ما حرره بعض مقرري بحثه قدس سره بما يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك، فراجع تمام كلامه زيد في

ص: 358

علو مقامه، وتأمل في نقضه وإبرامه.

وأما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب، فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب إلا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه والباعث على طلبه، وليس الغرض من المقدمة إلا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة، ضرورة أنه لا يكاد يكون الغرض إلا ما يترتب عليه من فائدته وأثره، ولا يترتب على المقدمة إلا ذلك، ولا تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب، وما لا يترتب عليه أصلا، وأنه لا محالة يترتب عليهما، كما لا يخفى.

وأما ترتب الواجب، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها، فإنه ليس بأثر تمام المقدمات، فضلا عن إحداها في غالب الواجبات، فإن الواجب إلا ما قل في الشرعيات والعرفيات فعل اختياري، يختار المكلف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدماته، وأخرى عدم إتيانه، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته، مع عدم ترتبه على تمامها، فضلا عن كل واحدة منها؟ نعم فيما كان الواجب من الافعال التسبيبية والتوليدية، كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته، لعدم تخلف المعلول عن علته.

ومن هنا قد انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة، يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات، والقول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية.

فإن قلت: ما من واجب إلا وله علة تامة، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص.

قلت: نعم وإن استحال صدور الممكن بلا علة، إلا أن مبادئ اختيار الفعل

ص: 359

الاختياري من أجزاء علته، وهي لا تكاد تتصف بالوجوب، لعدم كونها بالاختيار، وإلا لتسلسل، كما هو واضح لمن تأمل، ولانه لو كان معتبرا فيه الترتب، لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها، من دون انتظار لترتب الواجب عليها، بحيث لا يبقى في البين إلا طلبه وإيجابه، كما إذا لم تكن هذه بمقدمة، أو كانت حاصلة من الاول قبل إيجابه، مع أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة، أو بالعصيان والمخالفة، أو بارتفاع موضوع التكليف، كما في سقوط الامر بالكفن أو الدفن، بسبب غرق الميت احيانا أو حرقه، ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير الموافقة.

إن قلت: كما يسقط الامر في تلك الامور، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به فيما يحصل به الغرض منه، كسقوطه في التوصليات بفعل الغير، أو المحرمات.

قلت: نعم، ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض، من الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع، وهو كونه بالفعل محرما، ضرورة أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلا، فكيف يكون أحدهما متعلقا له فعلا دون الآخر؟ وقد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه بوجوه،[1] حيث قال بعد

_____________________________

[1] أقول: قال صاحب الفصول بعد بيان انّ التوصّل بالمقدّمة إلى ذي المقدّمة من قبيل شرط الوجود لها يعني ان عنوان المقدّمة لا يحصل إلّا بعد حصول التوصّل كما انّ الصلوة لا تحصل إلّا مع حصول الطهارة، وليس من قبيل شرط الوجوب لها الذي يكون عنوان الواجب حاصلاً مع عدم حصوله، غاية الأمر وجوب الواجب لا يحصل إلّا بعد حصوله، والذي يدلّك على هذا يعني الاشتراط

ص: 360

............................................

_____________________________

بالتوصّل وانّ ما ليس بموصلة من المقدّمات ليست بمقدّمة، وليس التوصّل من قبيل شرط الوجوب بأن يكون ما هو غير الموصل مقدّمة ولكن لم يكن مطلوباً للآمر، ان وجوب المقدّمة لما كان من باب الملازمة العقليّة فالعقل لا يدلّ عليه زائداً على القدر المذكور.

قال: وأيضاً لا يأبى العقل أن يقول الحكيم اريد الحجّ وأريد المسير الذي يتوصّل به إلى فعل الواجب دون ما لم يتوصّل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك كما انّها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقاً أو على خصوص تقدير التوصّل بها إليه خصوصاً، وذلك اية عدم الملازمة بين وجوب شي ء ووجوب مقدّماته على تقدير عدم التوصّل بها إليه.

ثمّ قال: وأيضاً حيث انّ المطلوب بالمقدّمة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصّل بها إليه وحصوله معتبراً في مطلوبيّتها، فلا يكون مطلوبة إذا انفكّت عنه.

وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئاً بمجرّد حصول شي ء آخر لا يريده إذا وقع مجرّداً عنه، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطاً بحصوله انتهى كلامه رفع مقامه(1).

وفي ما أفاده ما لا يخفى من الاشكال والخلل والاضطراب، اذ يظهر من بعض بيانه انّ التوصّل الخارجي إلى ذي المقدّمة بواسطة المقدّمة من شروط وجود

ص: 361


1- الفصول الغروية في الاصول الفقهية: 86.

............................................

_____________________________

المقدميّة وثبوت عنوان المقدميّة، ومن بعض اخر انّ التوصّل من شروط الوجوب، والعجب من المصنّف انّه لم يفهم من بيانه إلّا انّه جعله من شروط الوجوب، وردّ عليه بأنّ العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها دلّ على وجوب مطلق المقدّمة ولو لم توصل إلى ذي المقدّمة فيما لم يكن هناك مانع عن عروض الوجوب، كما إذا كان بعض مصاديقه فعلاً محكوماً بالحرمة فان ثبوت الحرمة فعلاً مانع عن عروض الوجوب.

وذلك يعني عدم الفرق بين النوعين من المقدّمة ووجوب كلّ منهما بناء على الملازمة، لثبوت مناط الوجوب حين ثبوت الملازمة في مطلقها، وعدم اختصاصه بخصوص الموصلة منها، إذ المناط تمكّن المكلّف من ذي المقدّمة بواسطة إيجاد المقدّمة وهو حاصل بفعل كلّ واحد من النوعين، وعدم اقدام المكلّف في فعل ذي المقدّمة بعد الاتيان بالمقدّمة لا ينافي حصول التمكّن منه الذي هو المناط في وجوبها.

قال المصنّف: كيف يكون ذا أي الفرق بين النوعين من المقدّمة باختياره مع ثبوت الملاك يعني التوقّف والمقدميّة في الصورتين بلا تفاوت أصلاً.

نعم إنّما يكون التفاوت بين الموصلة وغيرها في حصول المطلوب النفسي في أحدهما وعدم حصوله في الاخرى من دون دخل للمقدّمة في ذلك أصلاً، بل إنّما هو بسبب اختيار المكلّف، فانّه إمّا أن يختار بحسن اختياره بعد فعل المقدّمة اتيان ذي المقدّمة، أو يتركه بسوء اختياره، وجاز للآمر أن يصرّح بحصول خصوص هذا

ص: 362

............................................

_____________________________

المطلوب أي المطلوب النفسي في احدى الصورتين، وعدم حصوله في الآخر، حيث انّ المطلوب بالذات هو هذا المطلوب أي النفسي، وإنّما كان الواجب الغيري والمقدّمي ملحوظاً اجمالاً بتبعه.

وجاز أيضاً في صورة عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلاً ومطلقاً، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدّمة وكونه غافلاً عنها بالمرّة، فضلاً عن أن تكون مطلوبة له.

وجاز أيضاً التصريح بالغيري مع التصريح بعدم حصول مطلوبه أصلاً، وعدم فائدة الغيري بوجه لو التفت إلى المقدّمة ولم يكن غافلاً عنها وعن حصولها.

فيعلم من ذلك كلّه انّ التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها وعدم التوصّل بها إليه لا أثر له فيما هو الملاك في وجوب المقدّمة.

إن قلت: لعلّ التفاوت بين المقدّمتين بأن يكون احديهما واجبة دون الاخرى يحصل بسبب عنوان الموصليّة وعدمها، ولذا يجوز التصريح من الآمر بوجوب الموصل دون غيره وإن لم يكن بينها تفاوت في الأثر وهو التمكّن من ذي المقدّمة بعد ايجاد المقدّمة.

قلت: إنّما يوجب ذلك تفاوتاً فيهما لو كان ذلك التفاوت لأجل صفة في ناحية المقدّمة، لا فيما إذا لم يكن بسبب ذلك التفاوت فرقاً بينهما وفي ناحيتهما أصلاً، ضرورة ان ترتّب الواجب على المقدّمة والتوصّل بها إلى ذيها إنّما تنتزع من وجود الواجب وحصوله بعد حصولها من دون اختلاف في ناحية المقدّمة، وكونها في

ص: 363

............................................

_____________________________

كلتا الصورتين على نحو واحد وصفة فاردة.

وأمّا ما أفاده قدس سره من ان مطلوبيّة المقدّمة ووجوبها حيث كانت لمجرّد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة وإلّا فليس لها مطلوبيّة ذاتيّة كالواجب النفسي فلا جرم يكون التوصّل بها إلى الواجب معتبراً فيها وفي وجوبها،

ففيه: انّه إنّما كانت مطلوبيتها لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها، لا لأجل التوصّل بها، وبعبارة أخرى مطلوبيّة المقدّمة لأجل التمكّن من التوصّل لا لنفس التوصّل الخارجي، لما عرفت من انّ التوصّل الخارجي ليس من آثار المقدّمة بعد كون ذي المقدّمة من الأفعال الاختياريّة للمكلّف لا التوليديّة والتسببيّة التي تحصل قهراً بعد حصول السبب.

وبعد وجود المقدّمة يمكن أن يختار المكلّف ايجاد ذيها وعدم ايجادها، ومثل هذا الأمر الاختياري الذي وجوده منوط بارادة الفاعل لا يكاد يكون غاية لمطوبية المقدّمة وداعياً إلى ايجابها، وصريح الوجدان يقضي بأن ما أريد لأجل غاية وتجرّد عن تلك الغاية ولم يحصل الغاية بعد حصولها بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها وهو في المقام ارادة المكلّف يقع على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة، وعدم حصول الغاية بعد حصولها لا يوجب تغييراً في حكمها ومطلوبيتها للغير.

وكيف يكون كذلك يعني حصول الغاية دخيلاً في مطلوبيته مع انّه يلزم حينئذٍ أن يكون وجود الغاية من قيود تلك المقدّمة ومقدّمة لوقوعها على نحو يكون

ص: 364

............................................

_____________________________

الملازمة بين وجوبه يعني وجوب المقدّمة بذاك النحو يعني بالنحو الذي يكون قيداً لذي الغاية وجوبها أي وجوب الغاية، وهو كما ترى ظاهر الفساد.

ضرورة انّ الغاية لا يكاد يكون قيداً لذي الغاية بحيث كان تخلّف الغاية وعدم حصولها بعد حصول ذي الغاية والمقدّمة موجباً لعدم وقوع ذي الغاية والمقدّمة على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة، وإلّا أي وإن كان ترتّب الغاية على ذي الغاية من قيود وجوب ذي الغاية يلزم أن يكون ذوالغاية والمقدّمة مطلوبة بطلب الواجب والغاية كسائر قيوده، وهو واضح البطلان، فتحصل انّه لا يكون وقوع ذي الغاية على هذه الصفة أي الوجوب الغيري منوطاً بحصول الغاية وذي المقدّمة كما أفاده.

ولعلّ منشأ توهّم صاحب الفصول خلطه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة، فان عنوان التوقّف والمقدميّة علّة لوجوب المقدّمة لا قيد لوجوبها، هذا.

مع ما عرفت من عدم تخلّف الغاية عن ذيها فيما لم تكن المقدّمة موصلة، إذ الغاية والغرض من المقدّمة التمكّن من التوصّل إلى المطلوب النفسي ورفع عدم التمكّن منه، ومع وجودها ولو لم يترتّب ذوالمقدّمة عليها في الخارج يحصل التمكّن من ايجادها فيه فافهم واغتنم.

ثمّ انّه لا شهادة على الاعتبار أي اعتبار التوصّل إلى ذي المقدّمة بواسطة المقدّمة في وجوبها في صحّة منع المولى عن مقدّمات الواجب بجميع أقسامها، إلّا في المقدّمات التي تترتّب عليها الواجب وذوالمقدّمة، لو سلّم اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة أصلاً.

ص: 365

بيان أن التوصل بها إلى الواجب، من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب، ما هذا لفظه: والذي يدلك على هذا - يعني الاشتراط بالتوصل - أن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور، وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم: أريد الحج، وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب، دون ما لم يتوصل به إليه، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الامر بمثل ذلك، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا، أو على تقدير التوصل بها إليه، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه، وأيضا حيث أن

_____________________________

ضرورة انّه وإن لم يكن الواحب حينئذٍ أي حين الاختصاص غير ما هو الموصلة منها، الا ان عدم وجوب غير الموصلة ليس لأجل اختصاص الوجوب بها، بل لوجود مانع خارجي، وهو منع المولى عن غيرها، المانع عن اتّصاف غير الموصلة بالوجوب هيهنا أي في زمان ثبوت المنع عنها كما لا يخفى.

مع ان في صحة المنع عنه كذلك يعني بجميع أنحاء المقدّمة إلّا فيما إذا رتّب عليه الواجب نظراً واشكالاً. ووجهه انه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذٍ مخالفة وعصياناً، لعدم التمكّن مع المنع من المقدّمات من الواجب شرعاً لاختصاص جواز مقدّمة الواجب بصورة الاتيان بالواجب، وبالجملة والحاصل يلزم أن يكون الايجاب مختصّاً بصورة الاتيان بالواجب لاختصاص جواز المقدّمة بها، وهو محال فانّه يكون من طلب الحاصل، إذ مع الاتيان بالواجب لا أثر للمقدّمة جوازاً أو منعاً فتدبّر جيّداً.

ص: 366

المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله، فلاجرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه، وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا بمجرد حصول شي ء آخر، لا يريده إذا وقع مجردا عنه، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله.

انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه.

وقد عرفت بما لا مزيد عليه، أن العقل الحاكم بالملازمة دل على وجوب مطلق المقدمة، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب، فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة، لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها، وعدم اختصاصه بالمقيد بذلك منها.

وقد انقدح منه، أنه ليس للآمر الحكيم الغير المجازف بالقول، ذلك التصريح، وأن دعوى أن الضرورة قاضية بجوازه مجازفة، كيف يكون ذا مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلا؟ كما عرفت.

نعم إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما، وعدم حصوله في الاخرى، من دون دخل لها في ذلك أصلا، بل كان بحسن اختيار المكلف وسوء اختياره، وجاز للآمر أن يصرح بحصول هذا المطلوب في إحداهما، وعدم حصوله في الاخرى، بل من حيث أن الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه، كما يأتي أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعي، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة، فضلا عن كونها مطلوبة، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت اليها، كما لا يخفى، فافهم.

ص: 367

إن قلت: لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلية دون الاخرى، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها، وجواز التصريح بهما، وإن لم يكن بينهما تفاوت في الاثر، كما مر.

قلت: إنما يوجب ذلك تفاوتا فيهما، لو كان ذلك لاجل تفاوت في ناحية المقدمة، لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا - كما هاهنا - ضرورة أن الموصلية إنما تنتزع من وجود الواجب، وترتبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها، وكونها في كلا الصورتين على نحو واحد وخصوصية واحدة، ضرورة أن الاتيان بالواجب بعد الاتيان بها بالاختيار تارة، وعدم الاتيان به كذلك أخرى، لا يوجب تفاوتا فيها، كما لا يخفى.

وأما ما أفاده قدس سره من أن مطلوبية المقدمة حيث كانت بمجرد التوصل بها، فلا جرم يكون التوصل بها إلى الواجب معتبرا فيها.

ففيه: إنه إنما كانت مطلوبيتها لاجل عدم التمكن من التوصل بدونها، لا لاجل التوصل بها، لما عرفت من أنه ليس من آثارها، بل مما يترتب عليها أحيانا بالاختيار بمقدمات أخرى، وهي مبادئ اختياره، ولا يكاد يكون مثل ذا غاية لمطلوبيتها وداعيا إلى إيجابها، وصريح الوجدان إنما يقضي بأن ما أريد لاجل غاية، وتجرد عن الغاية بسبب عدم حصول سائر ماله دخل في حصولها، يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، كيف؟ وإلا يلزم أن يكون وجودها من قيوده، ومقدمة لوقوعه على نحو يكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو ووجوبها.

وهو كما ترى، ضرورة أن الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية، بحيث كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية، وإلا

ص: 368

يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده، فلا يكون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها، كما أفاده.

ولعل منشأ توهمه، خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية، هذا. مع ما عرفت من عدم التخلف ها هنا، وأن الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي، فافهم واغتنم.

ثم إنه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها، إلا فيما إذا رتب عليه الواجب لو سلم أصلا، ضرورة أنه وإن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة، إلا أنه ليس لاجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدمة، بل لاجل المنع عن غيرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا، كما لا يخفى.

مع أن في صحة المنع عنه كذلك نظر، وجهه أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا، لعدم التمكن شرعا منه، لاختصاص جواز مقدمته بصورة الاتيان به.

وبالجملة يلزم أن يكون الايجاب مختصا بصورة الاتيان، لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال فإنه يكون من طلب الحاصل المحال، فتدبر جيدا.

بقي شي ء وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة، هي تصحيح العبادة[1] التى

_____________________________

[1] أقول: ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة وعدم وجوب غير الموصلة منها، تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الواجب، كالصلوة التي يتوقّف على تركها فعل ازالة النجاسة عن المسجد، بناء على كون ترك الضد وهو الصلوة مثلاً ممّا يتوقّف عليه فعل ضدّه وهو الازالة مثلاً ومن أجزاء علّة فعل الضد بحيث كان

ص: 369

............................................

_____________________________

تركه مؤثّراً في وجود ضدّه، لا من المقارنات التي لا تكون بينها تأثير وتأثّر أصلاً، فان تركها أي ترك العبادة وهو الصلوة مثلاً على القول بالمقدّمة الموصلة لا يكون مطلقاً يعني ولو لم توصل إلى فعل الازالة واجباً ليكون فعلها حينئذٍ محرماً فيكون فاسدة، بل فيما يترتّب عليه الضد وهو فعل الازالة مثلاً فقط، ومع الاتيان بالعبادة كالصلوة مثلاً لا يكاد يكون هنا ترتب، فلا يكون ترك تلك العبادة مع ذلك يعني مع عدم الترتّب واجباً، فلا يكون فعلها منهيّاً عنه فلا يكون فاسدة.

وربما أورد على تفريع هذه الثمرة بما حاصله: ان فعل الضد كالصلوة مثلاً وإن لم يكن نقيضاً للترك الذي يكون واجباً مقدّمة بناء على القول بالمقدّمة الموصلة، الا ان ذلك الفعل وهو الصلوة مثلاً لازم لما هو من أفراد النقيض، لأن نقيض ذلك الترك أي ترك الصلوة التي يترتّب عليه فعل الازالة رفعه، وهو أي الرفع أعم من فعل الصلوة والترك الآخر المجرّد عن فعلها، وبعبارة أخرى فعل الصلوة ملازم مع الترك المجرد الذي يكون مقتضياً لفعل الازالة، وهذا يكفي في اثبات الحرمة فيكون فاسدة، وإلّا أي وإن لم يكن تلك الملازمة كافية في اثبات الحرمة فيلزم أن لا يكون الفعل المطلق وهو الصلوة مثلاً محرماً أيضاً فيما إذا كان الترك المطلق أي الأعم من الموصل وغيره واجباً لأن فعل الصلوة أيضاً ليس نقيضاً للازالة لأنّه أمر وجودي، ونقيض الترك إنّما هو رفعه، ورفع الترك إنّما هو ملازم الفعل مصداقاً وخارجاً وليس عينه، فكما ان هذه الملازمة يكفي في اثبات الحرمة لمطلق فعل الصلوة يعني فيما إذا كان الترك مطلقاً واجباً سواء كان موصلاً أم لا فكذلك في المقام الذي نقول بعدم وجوب الترك إلّا ما كان موصلاً.

ص: 370

............................................

_____________________________

غاية الأمر ان ما هو النقيض في مطلق الترك والترك العام إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وما هو النقيض للترك الخاص وهو خصوص الترك الموصل فله فردان أحدهما الفعل أي فعل الصلوة مثلاً والآخر الترك المجرّد عن الفعل، وهذا لا يوجب فرقاً فيما نحن بصدده من تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل الواجب.

قلت: وأنت خبير بما بينهما من الفرق، فانّ الفعل في الأوّل يعني بناء على وجوب المقدّمة الموصلة فقط لا يكون إلّا مقارناً لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه الفعل تارة ومع الترك المجرّد أخرى، ولا يكاد يسري حرمة الشي ء إلى ما يلازمه، فضلاً عمّا يقارنه أحياناً.

نعم في فرض ثبوت الملازمة لابد أن لا يكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكم الملزوم إلّا أن يكون محكوماً بحكمه، وهذا بخلاف الفعل في الثاني يعني بناء على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً ولو غير الموصل منها، فانّه حينئذٍ بنفسه أي الفعل مثل فعل الصلوة مثلاً يعاند الترك المطلق الذي يتوقّف فعل الازالة عليه وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه، فلو لم يكن فعل الصلوة مثلاً حينئذٍ عين ما يناقض الترك الموقوف عليه بحسب الاصطلاح مفهوماً لكنّه متّحد معه عيناً وخارجاً، فاذا كان الترك الصلوة الموقوف عليه واجباً لتوقّف فعل الضد وهو الازالة مثلاً فلا محالة يكون فعلها منهيّاً عنه قطعاً فتكون فاسدة، إذ النهي في العبادات يوجب الفساد قطعاً فتدبّر جيّداً فانّه لا يخلو عن دقّة.

ص: 371

يتوقف على تركها فعل الواجب، بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل ضده، فإن تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا، ليكون فعلها محرما، فتكون فاسدة، بل فيما يترتب عليه الضد الواجب، ومع الاتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا، فلا يكون فعلها منهيا عنه، فلا تكون فاسدة.

وربما أورد على تفريع هذه الثمرة بما حاصله بأن فعل الضد، وإن لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة، بناء على المقدمة الموصلة، إلا أنه لازم لما هو من أفراد النقيض، حيث أن نقيض ذاك الترك الخاص رفعه، وهو أعم من الفعل والترك الآخر المجرد، وهذا يكفي في إثبات الحرمة، وإلا لم يكن الفعل المطلق محرما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا، لان الفعل ايضا ليس نقيضا للترك، لانه أمر وجودي، ونقيض الترك إنما هو رفعه، ورفع الترك إنما يلازم الفعل مصداقا، وليس عينه، فكما أن هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل، فكذلك تكفي في المقام، غاية الامر أن ما هو النقيض في مطلق الترك، إنما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وأما النقيض للترك الخاص فله فردان، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده، كما لا يخفى.

قلت: وأنت خبير بما بينهما من الفرق، فإن الفعل في الاول لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض، من رفع الترك المجامع معه تارة، ومع الترك المجرد أخرى، ولا تكاد تسري حرمة الشي ء إلى ما يلازمه، فضلا عما يقارنه أحيانا.

نعم لابد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر على خلاف حكمه، لا أن يكون محكوما بحكمه، وهذا بخلاف الفعل في الثاني، فإنه بنفسه يعاند الترك

ص: 372

المطلق وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما، لكنه متحد معه عينا وخارجا، فإذا كان الترك واجبا، فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا، فتدبر جيدا.

ومنها: تقسيمه إلى الاصلي والتبعي،[1] والظاهر أن يكون هذا التقسيم بلحاظ

_____________________________

[1] أقول: الظاهر ان المقصود من تقسيم الواجب إلى التبعي والأصلي هنا باعتبار الواقع ومقام الثبوت من دون دخل لدلالة اللفظ ومقام الاثبات فيه، بخلاف سائر التقسيمات كتقسيم الواجب إلى العيني والكفائي والتعييني والتخييري والنفسي والغيري، فانّ المقصود هناك بيان اختلاف كيفيّة دلالة اللفظ على وجوب الواجب، مثل انّه إذا دلّت الصيغة على وجوب الواجب على كلّ واحد واحد من أشخاص المكلّفين وعدم كفاية فعل واحد منهم عن فعل الآخر فعيني وإلّا فكفائي.

وبعبارة أخرى البحث في سائر التقسيمات بحث لفظي بخلاف ما هنا، فانّ المقصود هنا ان ما يكون واجباً في الواقع ومقام الثبوت، تارة تكون مقصوداً بالاصالة ومراداً بالاستقلال، وأخرى يكون مطلوباً تبعاً واستطراداً، فلذا يجوز تقسيم الواجب الغيري إلى الأصلي والتبعي ولا مانع من جريان ذلك التقسيم فيه أصلاً.

فانّ الواجب الغيري وما يكون وجوبه للغير تارة يكون مراداً بالاصالة ويتعلق ارادة المولى به مستقلّاً للالتفات إليه، وتارة يكون مرادا تبعا لارادة غيره لأجل كون ارادته لازماً لارادته من دون التفات إليه، ولا شبهة في اتّصاف الواجب

ص: 373

............................................

_____________________________

النفسي بالأصلي أيضاً ولكنّه لا يتصف بالتبعيّة، لأنّه لا يكاد يتعلّق الطلب النفسي بالشي ء ما لم يكن فيه المصلحة النفسيّة، ومع وجود تلك المصلحة يتعلّق الطلب بها مستقلّاً ولو لم يكن هناك شي ء آخر مطلوب أصلاً، هذا حاصل ما أفاده المصنّف.

واستشكل عليه الشارح الكاطميني بأنّه لا مانع من اتّصاف الواجب النفسي بالتبعيّة أيضاً كما انّه يتّصف بالأصليّة، بل الواجب النفسي التبعي واقع في الشرعيّات كالصوم الواجب في الاعتكاف، فانّه مراد نفسيّاً لا غيريّاً، وتبعاً لارادة الاعتكاف لا بالاصالة، فلا وجه لتخصيص اتّصاف الواجب الغيري بالتبعيّة فيما إذا كان التقسيم إلى الأصليّة والتبعيّة بلحاظ مقام الثبوت والواقع(1).

وفيه انّ الصوم الواجب في الاعتكاف مراد للآمر مستقلّاً ومطلوب له بالاصالة عن المعتكف، فان من يجب عليه الاعتكاف يجب عليه الصوم أصليّاً، غاية الأمر موضوع وجوب الصوم إمّا من يمرّ عليه ساعات شهر رمضان أو أيّام نذره مثلاً.

وأمّا المعتكف الذي وجب عليه الاعتكاف فكما انّ وجوب الصوم على من يمرّ عليه ساعات الشهر المبارك مطلوب اصالة ومراد مستقلاً ولا بتبع أمر آخر كان هو المراد فكذلك صوم المعتكف يكون صوماً ومراداً بالاصالة، غاية الأمر موضوع وجوبه من يمرّ عليه ساعات اليوم الذي وجب فيه الاعتكاف كالساعات التي تجب فيها الوفاء بالنذر، وإلّا فيمكن بيان التبعيّة في الصوم النذري أيضاً كما

ص: 374


1- الهداية في شرح الكفاية: 257 - 258.

............................................

_____________________________

بيّنه في الاعتكاف بأنّه مراد تبعاً لارادة الوفاء بالنذر وبرّه.

وأيضاً يصحّ أن يعبّر بمثل هذا التعبير في صوم رمضان بأنّه مراد تبعاً لارادة ايجاد ما هو الوظيفة في شهر اللَّه المبارك، فان مثل هذه التعبيرات لا يؤثّر فيما هو الواقع.

وبالبيان المذكور يعلم انّ الواجب التبعي ينحصر في الواجب الغيري في مقام الثبوت.

وإنّما يكون الواجب الغيري تبعياً إذا لم يلتفت إليه المولى وكان غافلاً عنه، فحينئذٍ يكون مراداً ومقصوداً بالارادة التبعيّة والاستطرادي لارادة ذي المقدّمة وليس فيه جهة مطلوبيّة أصليّة أصلاً.

وأمّا إذا توجّه إليه وأراده وأمر به فحينئذٍ يكون غيريّاً أصليّاً كالطهارات الثلاث بالنسبة إلى الصلوة، فما أفاده المصنّف لا غبار عليه.

نعم هو قدس سره أعترف بأنّه لو كان اتصاف الواجب بالتبعيّة والأصليّة بلحاظ الدلالة ومقام الاثبات اتّصف النفسي بهما أيضاً ضرورة انّه قد يكون الواجب المدلول عليه غير مقصود بالافادة، بل إنّما المقصود بالافادة وجوب غيره، وإنّما افيد هو بتبع غيره المقصود بالافادة.

ولكن الظاهر ان المقصود من ذلك التقسيم التقسيم بحسب الواقع ومقام الثبوت، لا بحسب الدلالة ومقام الاثبات، وإلّا فلو كان كذلك لما اتّصف الواجب بواحد من وصفي الأصليّة والتبعيّة ما لم يكن مفاد دليل وهو كما ترى واضح

ص: 375

............................................

_____________________________

البطلان، إذ الظاهر ان المقصود من ذلك التقسيم وجود القسمين بالفعل دائماً، وإن كان المراد من التقسيم التقسيم بلحاظ حال الدلالة لزم أن يكون في جملة من المقامات مجرّد فرض لا واقع له، إذ لو لوحظ ذلك لما اتّصف بواحد منهما إذا لم يكن بعد مفاد دليل، إمّا لعدمه أو لاجماله أو لغير ذلك.

ثمّ ليعلم انّ الأصل الذي يمكن أن يعتمد عليه في المقام في صورة الشكّ في الأصليّة والتبعيّة مبتن على كون الوجوب التبعي من الأمور العدميّة وكان الواجب التبعي ما لم يتعلّق به ارادة مستقلّة، اذ لو شكّ في الأصليّة والتبعيّة يجري حينئذٍ اصالة عدم تعلّق ارادة مستقلّة به وهو معنى التبعيّة، ويترتّب عليه اثاره اذا فرض لصفة التبعية أثر شرعي، ويكون حينئذٍ حاله كحال سائر الموضوعات المتقوّمة بأمور عدميّة التي تثبت باصالة العدم.

وأمّا لو كان أمراً وجوديّاً خاصا غير متقوّم بأمر عدمي وإن كان ذلك الأمر الوجودي من لوازم العدمي كما في الواجب التبعي بالنسبة إلى مقام الاثبات، فانّه في ذلك المقام يكون عبارة عن افادة اللفظ له تبعاً، أو الأوّل وفي مقام الثبوت إن فسّر بالنسبة إلى ذلك المقام بأنّه ما تعلّقت به الارادة تبعاً، فان الافادة التبعي من لوازم عدم الافادة الاستقلالي الأصلي، وتعلّق الارادة تبعاً أيضاً من لوازم عدم تعلّق الارادة اصالة واستقلالاً، لما كان حينئذٍ يثبت باصالة العدم عنوان التبعيّة إلّا على القول بالأصل المثبت الذي هو بمعنى اثبات لوازم الملزوم الذي يثبت بالأصل فضلاً عن نفس الملزوم، إذ حينئذٍ يكون الثابت بالأصل الأمر الوجودي الذي من لوازم الأمر العدمي الذي يجري فيه الأصل بلا واسطة كما لا يخفى.

ص: 376

الاصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت، حيث يكون الشي ء تارة متعلقا للارادة والطلب مستقلا، للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه فيطلبه، كان طلبه نفسيا أو غيريا، وأخرى متعلقا للارادة تبعا لارادة غيره، لاجل كون إرادته لازمة لارادته، من دون التفات إليه بما يوجب إرادته، لا بلحاظ الاصالة والتبعية في مقام الدلالة والاثبات، فإنه يكون في هذا المقام أيضاً، تارة مقصودا بالافادة، وأخرى غير مقصود بها على حدة، إلا أنه لازم الخطاب، كما في دلالة الاشارة ونحوها.

وعلى ذلك، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما، واتصافه بالاصالة والتبعية كليهما، حيث يكون متعلقا للارادة على حدة عند الالتفات إليه بما هو مقدمة، وأخرى لا يكون متعلقا لها كذلك عند عدم الالتفات إليه كذلك، فإنه يكون لا محالة مرادا تبعا لارادة ذي المقدمة على الملازمة.

كما لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالاصالة، ولكنه لا يتصف بالتبعية، ضرورة أنه لا يكاد يتعلق به الطلب النفسي ما لم تكن فيه مصلحة نفسية، ومعها يتعلق الطلب بها مستقلا، ولو لم يكن هناك شي ء آخر مطلوب أصلا، كما لا يخفى.

نعم لو كان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة، اتصف النفسي بهما أيضا،

ضرورة أنه قد يكون غير مقصودة بالافادة، بل أفيد بتبع غيره المقصود بها، لكن الظاهر - كما مر - أن الاتصاف بهما إنما هو في نفسه لا بلحاظ حال الدلالة عليه، وإلا لما اتصف بواحد منهما، إذا لم يكن بعد مفاد دليل، وهو كما ترى.

ثم إنه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة، فإذا شك في واجب أنه أصلي أو تبعي، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه تبعي، ويترتب

ص: 377

عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي، كسائر الموضوعات المتقومة بأمور عدمية.

نعم لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا غير متقوم بعدمي، وإن كان يلزمه، لما كان يثبت بها إلا على القول بالاصل المثبت، كما هو واضح، فافهم.

تذنيب

في بيان الثمرة،[1] وهي في المسألة الاصولية - كما عرفت سابقا - ليست

_____________________________

[1] أقول: عقد هذا التذنيب لبيان ان ما رتّبوا على هذا البحث من الثمرة كلّها غير سديدة وليست ثمرة لهذه المسئلة، وهي أربعة أمور نذكرها اوّلاً، ثمّ نشرح ما أورده المصنّف عليها.

الأوّل انّه بناء على الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوبها يحصل البرء بالنذر باتيان مقدّمة الواجب.

الثاني حصول الفسق بترك واجب واحد له مقدّمات كثيرة لأنّه بترك المقدّمات الواجبة بناء على الملازمة يحصل الاصرار على الحرام وهو موجب للفسق.

الثالث عدم جواز أخذ الأجرة على المقدّمة إذا كانت واجبة وعلى فرض ثبوت الملازمة.

الرابع اجتماع الوجوب والحرمة إذا قيل بالملازمة فيما إذا كانت المقدّمة محرمة، وكلّها مخدوشة عند المصنّف.

أمّا الأوّل فلأن الثمرة للمسئلة الأصوليّة ما يكون مفيداً في استنباط الحكم الكلّي الالهي من الأدلّة التفصليّة، وثبوت الوفاء بالنذر باتيان مقدمة الواجب بناء على الملازمة ليس كذلك، بل إنّما هو الثمرة للمسئلة الفقهيّة الفرعيّة وهو الحكم

ص: 378

............................................

_____________________________

بوجوب الشي ء الذي يكون مقدّمة للواجب الذي يثبت بثبوت الملازمة وكون ذلك الشي ء مقدّمة للواجب، مع أنّه لا وجه للحكم بثبوت البرء للنذر باتيان مقدّمة الواجب بناء على الملازمة مطلقاً وبنحو الكليّة، إذ حصوله بالفعل المأتي به تابع لقصد الناذر، فانه لو قصد في نذره ان يأتي بالواجب النفسي فلا يحصل البرء باتيان الواجب المقدمي ولو قيل بالملازمة.

ويرد على الثاني مضافاً إلى ان مثل هذه الثمرة ليست ثمرة للمسئلة الأصوليّة لعدم صلاحيّتها لأن تقع في طريق الاستنباط، بل إنّما هو ثمرة للمسئلة الفرعيّة، وهذا الاشكال وارد على جميع ما أفادوه من الثمرة ممّا مضى ويأتي انه لا يكاد يحصل الفسق بترك المقدّمات بناء على الملازمة، لأنّه لا يقدر على اتيان الواجب ولا شي ء من مقدّماته بترك أوّل مقدّمة من المقدّمات، ولا تكليف بغير المقدور، فاذا ترك المقدّمة الأولى لا يكون ترك سائر المقدّمات حراماً فضلاً عن أن يكون اصراراً على الحرام.

ويرد على الثالث ان أخذ الأجرة على الواجب الذي لم يكن ايجابه مقيّداً بالاتيان به مجاناً وبلا عوض، بل كان وجوده المطلق مطلوباً كالصناعات الواجبة بالوجوب الكفائي التي لا يكاد ينتظم به البلاد كالنجارة والحدادة والصفارة مثلاً لا مانع منه أصلاً، فان مقدّمات الواجب من هذا القبيل ومن التوصليّات التي لا منافاة في أخذ الأجرة عليها مع غرض المولى الآمر بها، وليست من قبيل الصلوة والصوم والحج وغيرها من التعبديّات التي اعتبر في صحتها اتيانها بداعي

ص: 379

............................................

_____________________________

القربة وعدم أخذ الأجرة عليها، مع ان لجواز أخذ الأجرة على التعبديّات أيضاً وجه، فان أخذ الأجرة على اتيانها بداعي امتثالها لا على نفس الاتيان لا ينافي عباديّتها فيكون من قبيل الداعي على الداعي.

نعم لا يصحّ ذلك إلّا في العبادة الاستيجاري وما يفعله الفاعل نيابة عن الغير، لا لنفسه، وإنّما يكون ذلك لما يعتبر في عقد الاجارة أن يكون على نحو يحصل من عمل العامل منفعة للمستأجر لئلّا يكون المعاملة سفهيّة وأكل المال الذي وقع عليه الاجارة أكلاً بالباطل، وهذا لا دخل له بعنوان العبادية أو الوجوب، ولذا لا يصحّ استيجار الشخص لفعل الصلوة التي وجب عليه اصالة، لا بعنوان النيابة.

وعلى الرابع بأن اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة المحرمة لا وجه له بعد ما مرّ غير مرّة بأن عنوان المقدميّة سبب لطريان الوجوب للمقدّمة، لا ان الواجب ذلك العنوان والفعل المعنون به كعنوان الغصب مثلاً إذا اجتمع مع عنوان الصلوتية، فان في المثال المشهور وهو الغصب والصلوة إنّما يكون الواجب والحرام الفعل المعنون بعنوانين الواجب والمحرم.

وأمّا في المقدّمة إنّما يعرض الوجوب النفسي لنفس الفعل الذي يتوقّف عليه الواجب، غاية الأمر عنوان المقدمية سبب للعروض ولا يكون محلّاً للوجوب فاذن على الملازمة يكون من باب النهي في العبادة والمعاملة، اذ حرمة المقدّمة حينئذٍ بمعنى أن ما يكون بذاته وبنفسه لا بعنوانه واسمه واجباً منهيّاً عنه أيضاً، وهذا معنى النهي عن العبادة، مثل ما إذا نهى الشارع عن الصلوة في الدار المغصوبة بقوله: لا تصلّ في الدار المغصوبة مثلاً.

ص: 380

............................................

_____________________________

وأورد عليه الشارح بأنّه ليس مقصود من أفاد تلك الثمرة من اجتماع الحرمة والوجوب حرمة ما هو بعنوانه وكونه مقدّمة يكون واجباً كي يرد عليه بأنّ الوجوب في المقدّمة من عوارض نفس الفعل لا بما هو مقدّمة، بل إنّما مراده اجتماع الحرمة والوجوب، فما هو بعنوانه الخاص يكون واجباً مثل الوضوء بعنوان كونه وضوء والغسل بعنوان كونه غسلاً، لا بعنوان مقدميتهما، والاشكال عليه بأنّه حينئذٍ يكون من باب النهي في العبادة أو المعاملة، لا اجتماع الوجوب والحرمة.

ففيه ان الكلام في المقدّمة المحرمة إذا قيل بترشّح الوجوب عليها(1)، فيندرج تحت عنوان اجتماع الأمر والنهي في المقدّمة الواجبة المنهي عنها كي يندرج تحت عنوان النهي في العبادة أو المعاملة.

أقول: ما أفاده الشارح في وجه الاشكال على المصنّف مجرّد عبارة، وإلّا فلا فائدة له بناء على الملازمة في اخراج محلّ الكلام عن عنوان النهي في العبادة أو المعاملة وادخاله تحت عنوان الاجتماع، بل دخوله في الأوّل وخروجه عن الثاني عليها من الواضحات، اذ مناط الفرق بين العنوانين هو ان حصول عنوان الاجتماع فيما اذا أمر الشارع بعنوان لا يكون إلّا مطلوباً ومحبوباً كالصلوة مثلاً ونهي عن عنوان آخر لا يكون إلّا مبغوضاً له كالغصب مثلاً ولم يكن بين أمره ونهيه ولا المأمور به ولا المنهي عنه ارتباط أصلاً.

ص: 381


1- الهداية في شرح الكفاية: 261.

............................................

_____________________________

غاية الأمر اجتماع العنوانين في الفرد الخارجي بواسطة جمع المكلّف بسوء اختياره بين المأمور به والمنهي عنه في الخارج، وعنوان المحبوبيّة والمبغوضيّة إنّما اجتمعا من قبله.

وأمّا عنوان النهي في العبادة أو المعاملة فيحصل فيما إذا نهى الشارع عن العبادة أو المعاملة التي أوجبها أو أمضاه أوّلاً ودلّ على المبغوضيّة بعد ما دلّ على المحبوبيّة أيضاً.

مثاله في العبادة إذا نهى عن الصلوة في الدار المغصوبة بقوله لا تصلّ في الدار المغصوبة بعد ما أمر بها بقوله أقيموا الصلوة، ومعلوم انّه على القول بالملازمة ووجوب المقدّمة بسبب وجوب ذيها يكون المقدّمة بذاتها مأمورة بها، فإذا نهى عن الوضوء الذي يكون مقدّمة للصلوة ومأموراً به بذاته بسبب وجوب الصلوة، بالماء المغصوب فقد نهى عن العبادة، اذ الفرض أن يكون حينئذٍ نهي عمّا أمر به.

وبعبارة أخرى ليس في مقام الكلام خطابان، أحدهما الأمر بالمقدّمة مثل قوله: افعل مقدّمة الواجب مثلاً وآخر النهي عن الغصب، وكان المكلّف جامعاً بسوء اختياره بين العنوانين في فرد واحد كما في الصلوة والغصب، بل في المقام ما يكون واجباً بذاته يكون حراماً أيضاً، والشارع نهى عمّا يكون بذاته واجباً كما إذا نهى عن ذات الصلوة التي تكون بذاتها واجبة في قوله: لا تصلّ في الدار المغصوبة.

وهذا بخلاف عنوان الاجتماع، فانّه لم ينه الشارع عمّا كان واجباً بذاته أصلاً، بل إنّما نهى عن عنوان آخر لا دخل له بالواجب وهو الغصب مثلاً، غاية الأمر جعل المكلّف فعله باختياره مجمع العنوانين، وهذا غير النهي عن العبادة أو

ص: 382

............................................

_____________________________

المعاملة، بل إنّما يكون النهي في مسئلة الاجتماع عن غير العبادة، وليس في المقام نهي عن غير العبادة وهو عنوان المقدّمة في مقابل عنوان الغصب في المثال المعروف، وإنّما النهي عمّا يكون بذاته واجباً لا بعنوانه، وتلك الذات هي الواجب، فيكون من باب النهي عمّا يكون واجباً بذاته إن كان تعبديّاً فالنهي عن العبادة، وإن كان توصليّاً فالنهي عن الواجب الغير العبادي.

ثمّ أورد على ما أورده المصنّف ثانياً من عدم لزوم الاجتماع، لاختصاص الوجوب بغير المحرم من المقدّمات في غير صورة انحصار المقدّمة بالمحرمة، واما في صورة الانحصار فاما لا وجوب للمقدّمة لعدم وجوب ذيها لأجل المزاحمة وسقوط وجوب الواجب، وأمّا لا حرمة لها كذلك أي لأجل المزاحمة وسقوط الحرمة فيما إذا كان ذوالمقدّمة أهم بأنّه عجيب اذ لا وجه لاختصاص الوجوب بغير المحرم في صورة عدم الانحصار إلّا عدم جواز الاجتماع ثمّ قال بعد اظهار العجب وبيان ان وجه الاختصاص عدم جواز الاجتماع والظاهر انّ النسخة غلط، وما ذكره ثانياً لم يوجد في الطبع الجديد، والظاهر انّه غالب الصحّة بل غلطيتها من المقطوع به عندي، فان المصنّف بل من هو أدنى المحصّلين أجل من ذلك، انتهى(1).

أقول: العجب كلّ العجب في ما أفاده، فان من جعل اندراج اجتماع الحرمة والوجوب في المقدّمة بناء على الملازمة تحت عنوان اجتماع الأمر والنهي ومبتنياً على جواز الاجتماع وعدمه، مقصوده انه على جواز الاجتماع لا اشكال

ص: 383


1- الهداية في شرح الكفاية: 261.

............................................

_____________________________

في وجوب المقدّمة المحرمة، وعلى عدم جوازه اما ان يغلب الوجوب أو الحرمة.

وحاصل إشكال المصنّف عليه هو ان في صورة عدم الانحصار لا يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة المحرمة أصلاً، بل إلى ما هو غير المحرم، سواء كان اجتماع الأمر والنهي جايزاً أم غير جايز، اذ لا وجه لايجاب موجب ذي المقدّمة للمقدّمة المحرمة مع وجود ما هو غير المحرّم، وإنّما الاجتماع يحصل في الواجب والمحرم بسوء اختيار المكلّف، اما الآمر الحكيم لا يختار هذا الأمر السوء بأن يوجب ما هو فيه مفسدة الحرمة مع امكان أن لا يفعل كذلك، مثل المأمور الذي يفعل هذا السوء ويجمع باختياره بين المأمور به والمنهي عنه في الفرد الخارجي.

وبعبارة أخرى لا يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلّا إلى المقدّمة الغير المحرمة، لا لعدم جواز الاجتماع، بل لأنّه مهما أمكن حصول ذي المقدّمة بالأسباب المحلّلة لا وجه لايجاب غيرها من المحرّمة، لأنّه ولو جاز الاجتماع ولم يمتنع اجتماع الوجوب والحرمة معاً في شي ء واحد لكونه ذا عنوانين ولكن الحرمة مع الوجوب بحالها.

ثمّ أورد المصنّف على بيان الثمرة المذكورة ثالثاً بأن الاجتماع وعدمه لا دخل له بالتوصّل بالمقدّمة المحرمة وعدمه أصلاً فكون وجوب المقدّمة المحرمة على الملازمة مبتنية على جواز اجتماع الوجوب والحرمة وعدم وجوبها بناء على عدم جواز الاجتماع لا وجه له، اذ المناط في وجوب المقدّمة التي تجب بوجوب ذيها

ص: 384

............................................

_____________________________

بسبب الملازمة بين وجوبه ووجوبها موصليته إلى ذيها فان كانت توصليّة ولم يكن قصد القربة والتعبّد معتبراً فيها لا يلزم محذور من مقدميتها وموصليتها ولو على القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي.

وأمّا إذا كانت المقدّمة تعبديّة المعتبر فيها قصد القربة والعبوديّة فلا يجوز التوصّل بها أي المقدّمة المحرمة التعبديّة إلى ذي المقدّمة على القول بالامتناع وعدم جواز اجتماع الأمر والنهي، سواء قلنا بوجوب المقدّمة أو عدم وجوبه، ويجوز التوسّل بالمقدّمة المحرمة التعبديّة إلى ذيها على القول بجواز الاجتماع كذلك، أي سواء قلنا بوجوب المقدّمة أو عدمه أيضاً، فلا وجه لجعل اجتماع الوجوب والحرمة من ثمرات الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها.

ولا يتفاوت الحال في جواز التوسّل بها إلى ذي المقدّمة وعدم جوازه بين أن يقال بوجوب المقدّمة المحرّمة لجواز اجتماع الوجوب والحرمة وعدم وجوبها لعدم جوازه.

وتوضيح الاشكال ببيان أوضح: انّ الاجتماع في الواجب الغيري قليل الثمرة بل كاد أن يكون معدومها، والثمرة فيه منحصرة في الواجب النفسي، اذ المقصود من الواجب الغيري التوصّل إلى الغير كيف ما كان، سواء كان واجباً لجواز اجتماع الأمر والنهي أم غير واجب لعدم جواز اجتماعه، فجواز اجتماعهما وعدم جوازه لا أثر له بالنسبة إلى الواجب الغيري المقدمي.

ص: 385

إلا أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد، واستنباط حكم فرعي، كما لو قيل بالملازمة في المسألة، فإنه بضميمة مقدمة كون شي ء مقدمة لواجب يستنتج انه واجب.

ومنه قد انقدح، أنه ليس منها مثل برء النذر بإتيان مقدمة واجب، عند نذر الواجب، وحصول الفسق بترك واجب واحد بمقدماته إذا كانت له مقدمات كثيرة، لصدق الاصرار على الحرام بذلك، وعدم جواز أخذ الاجرة على المقدمة.

مع أن البرء وعدمه إنما يتبعان قصد الناذر، فلا برء بإتيان المقدمة لو قصد الوجوب النفسي، كما هو المنصرف عند إطلاقه ولو قيل بالملازمة، وربما يحصل البرء به لو قصد ما يعم المقدمة ولو قيل بعدمها، كما لا يخفى.

ولا يكاد يحصل الاصرار على الحرام بترك واجب، ولو كانت له مقدمات غير عديدة، لحصول العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن معه من الواجب، ولا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا، لسقوط التكليف حينئذ، كما هو واضح لا يخفى.

وأخذ الاجرة على الواجب لا بأس به، إذا لم يكن إيجابه على المكلف مجانا وبلا عوض، بل كان وجوده المطلق مطلوبا كالصناعات الواجبة كفائية التي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، ويختل لولاها معاش العباد، بل ربما يجب أخذ الاجرة عليها لذلك، أي لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها، هذا في الواجبات التوصلية.

وأما الواجبات التعبدية، فيمكن أن يقال بجواز أخذ الاجرة على إتيانها بداعي امتثالها، لا على نفس الاتيان، كي ينافي عباديتها، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي، غاية الامر يعتبر فيها - كغيرها - أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستاجر،

ص: 386

كي لا تكون المعاملة سفهية، وأخذ الاجرة عليها أكلا بالباطل.

وربما يجعل من الثمرة، اجتماع الوجوب والحرمة - إذا قيل بالملازمة - فيما كانت المقدمة محرمة، فيبتني على جواز اجتماع الامر والنهي وعدمه، بخلاف ما لو قيل بعدمها، وفيه: أولا: إنه لا يكون من باب الاجتماع، كي تكون مبتنية عليه، لما أشرنا إليه غير مرة، إن الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدمة، لا بعنوان المقدمة، فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادة والمعاملة.

وثانياً : لا يكاد يلزم الإجتماع أصلاً لاختصاص الوجوب بغير المحرّم في غير صورة الانحصار به. وفيها إمّا لا وجوب للمقدّمة، لعدم وجوب ذي المقدّمة لأجل المزاحمة، وإمّا لا حرمة لها لذلك، كما لا يخفى .

وثالثا: إن الاجتماع وعدمه لا دخل له في التوصل بالمقدمة المحرمة وعدمه أصلا، فإنه يمكن التوصل بها إن كانت توصلية، ولو لم نقل بجواز الاجتماع، وعدم جواز التوصل بها إن كانت تعبدية على القول بالامتناع، قيل بوجوب المقدمة أو بعدمه، وجواز التوصل بها على القول بالجواز كذلك، أي قيل بالوجوب أو بعدمه.

وبالجملة لا يتفاوت الحال في جواز التوصل بها، وعدم جوازه أصلا، بين أن يقال بالوجوب، أو يقال بعدمه، كما لا يخفى.

في تأسيس الاصل في المسألة

إعلم أنه لا أصل في محل البحث في المسألة،[1] فإن الملازمة بين وجوب

_____________________________

[1] أقول: اما الاستصحاب فلا جريان له هنا، إذ الملازمة بين وجوب المقدّمة

ص: 387

ووجوب ذيها وعدمها بينهما ليست لها حالة سابقة، بل في الأزل اما كانت ثابتة أو منفية، وواحد من الثبوت والنفي في الأزل غير معلوم لنا حتّى يجري استصحاب الوجودي أو العدمي.

نعم نفس وجوب المقدّمة الذي هو حكم فرعي ولا دخل له بالمسئلة الأصوليّة يكون مسبوقاً بالعدم، لأنه يحدث بحدوث وجوب ذي المقدّمة، وقبل ايجاب الشارع لذيها لم تكن المقدّمة معروضة للوجوب قطعاً، فاذا شككنا في وجوبها بعد وجوبه لا مانع من جريان الاستصحاب العدمي إلّا توهّم ان وجوب المقدّمة بناء على الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ليس من الأمور المجعولة الشرعيّة كما ان وجوب ذي المقدّمة كذلك مثلاً، بل من قبيل لوازم الماهيّة غير مجعولة بل منجعلة بجعلها، ولا يترتّب على ذلك الوجوب الذي ليس هو من المجعولات التي يكون وضعها ورفعها بيد الجاعل والشارع أثر آخر مجعول مترتّب عليه، يكون استصحابه من قبيل استصحاب الموضوع الخارجي الذي هو وإن لم يكن بنفسه من الأمور المجعولة ولكنّه يترتّب عليه الأثر الشرعي، ولذلك يجوز استصحابه لترتيب ذلك الأثر الذي يكون وضعه ورفعه بيد الشارع ولو كان على الفرض أثر مجعول مترتّباً على وجوبها مثل بر النذر باتيانها اذا نذر الاتيان بواجب، وجواز أخذ الأجرة لنفي الوجوب لم يكن بمهم، ولا ربط لمثل هذين الأثرين بالمسئلة الأصوليّة.

والجواب عن ذلك التوهّم ودفعه بأنّه وإن كان غير مجعول بالذات لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامّة وعبارة أخرى عن ايجاد الشي ء وتكوينه ولا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة وعبارة أخرى عن تركيب أشياء

ص: 388

............................................

_____________________________

متعدّدة مختلفة وانضمامها بحيث كانت مربوطة معاً، إلّا انه مجعول بالعرض وبتبع جعل وجوب ذي المقدّمة، وهو كاف في جريان الأصل.

واستشكل على اصالة عدم وجوب المقدّمة بلزوم التفكيك بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها مع الشكّ لا محالة، لجريان اصالة عدم وجوب المقدّمة في حال الشكّ دائماً، مع إمكان وجوب ذي المقدّمة واقعاً، فاذن يلزم أن يكون ذو المقدّمة واجباً مع عدم وجوب المقدّمة بالأصل عند الشكّ، وهذا ينافي الملازمة بين الوجوبين، إذ معنى الملازمة عدم التفكيك، واذا ثبت جواز التفكيك بسبب الأصل فاين الملازمة.

وجوابه ان جريان الأصل وعدم وجوب المقدّمة لا ينافي الملازمة بين الحكمين الواقعيّين من وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، والملازمة المدعاة بين الوجوبين إنّما هو في الواقعيّين، فلا مانع من وجوب المقدّمة في الواقع بسبب وجوب ذيها ومن جهة ثبوت الملازمة بين وجوبهما في الواقع، ومع ذلك يجري اصالة عدم الوجوب في الظاهر بالنسبة إليها مع الشكّ في الملازمة.

نعم جريان اصالة عدم الوجوب فيها ينافي مع ثبوت الملازمة بين الفعليين من الحكمين، لأنه إذا كان وجوب ذي المقدّمة فعلاً ملازماً مع وجوب مقدّمة فعلاً أيضاً فكيف يجوز أن يجري اصالة عدم الوجوب فعلاً بالنسبة إلى المقدّمة، وهل هذا إلّا تناقض واجتماع الوجوب وعدمه في محل واحد في مرتبة واحدة ؟

وبعبارة أخرى إذا شككنا في ثبوت الملازمة وعدمها ووجوب المقدّمة بواسطة

ص: 389

المقدمة ووجوب ذي المقدمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون الملازمة أو عدمها أزلية، نعم نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم، حيث يكون حادثا بحدوث وجوب ذي المقدمة، فالاصل عدم وجوبها.

وتوهم عدم جريانه، لكون وجوبها على الملازمة، من قبيل لوازم الماهية، غير مجعولة، ولا أثر آخر مجعول مترتب عليه، ولو كان لم يكن بمهم ها هنا، مدفوع بأنه وإن كان غير مجعول بالذات، لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة، ولا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة، إلا أنه مجعول بالعرض، ويتبع جعل وجوب ذي المقدمة، وهو كاف في جريان الاصل.

_____________________________

وجوب ذيها لا مانع من اجراء اصالة عدم الوجوب الفعلي في الظاهر بالنسبة إلى المقدّمة ولو كان وجوب المقدّمة فعليّاً.

نعم لو كان الدعوى هي الملازمة المطلقة حتّى في المرتبة الفعليّة لصحّ التمسّك بالمنافاة مع الملازمة الفعليّة في اثبات بطلان الأصل، ولكن الملازمة حتّى في المرتبة الفعليّة غير ثابتة.

والحاصل انّه لو كانت الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها ثابتة كان وجوب المقدّمة في الواقع ثابتاً البتّة إلّا انّه غير فعلي مع الشكّ في الملازمة ووجوب المقدّمة بسبب وجوب ذيها وإن كان وجوب ذي المقدّمة فعليّاً أيضاً، ضرورة عدم امكان فعليّته مع فعليّة الحكم الظاهري كما هو الحال في جميع الأحكام الظاهريّة بالنسبة إلى الواقعيّات كانت لوازم أو ملزومات.

ص: 390

ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشك لا محالة، لاصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة، لا ينافي الملازمة بين الواقعيين، وإنما ينافي الملازمة بين الفعليين، نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية، لما صح التمسك بالاصل، كما لا يخفى.

إذا عرفت ما ذكرنا، فقد تصدى غير واحد من الافاضل لاقامة البرهان على الملازمة، وما أتى منهم[1] بواحد خال عن الخلل، والاولى إحالة ذلك إلى

_____________________________

[1] حاصل ما أفاده من الدليل الخالي عن الخلل على وجوب المقدّمة وأقوى الشهود عليه الوجدان الذي يكفي عن اقامة البرهان، فان كلّ مدرك يجد من نفسه وادراكه ان من أراد شيئاً أراد مقدّماته وأسبابه، لأنّ الشي ء لا يوجد إلّا بمقدّماته وأسبابه، ولابديّة المقدميّة في وجود ذي المقدّمة ممّا لا يكاد ينكر، ولذا ربما الامر إلى ذلك تفصيلاً ويطلب المقدّمات بطلب عليحدّة غير طلب ذيها، مثل أن يقول ادخل السوق واشتر اللحم، ولو لا ثبوت مناط الوجوب في المقدّمة لم يخبر أن يطلبها المولى من العبد.

فان قلت: مقدميّة المقدّمة في المقدّمات الشرعيّة وفيما إذا أمر المولى به يعلم بأمره وطلبه، فكيف يمكن أن يكون طلبه مسبّباً عن عنوان المقدمية ليعلم بذلك ان كلّ مقدّمة واجبة وإن لم يأمر بها المولى.

وبعبارة أخرى مطلوبيّة ما طلبه المولى مقدّمة لحصول الغير تكون سبباً لمقدميته لذلك الغير، فاذا كان مقدميته لذلك الغير سبباً لطلب المولى فيلزم الدور الباطل.

ص: 391

............................................

_____________________________

أقول: الموقوف والموقوف عليه متغايران فلا دور، اذ الأمر بذات المقدّمة من المولى يتوقّف على المقدميّة الواقعيّة، ولكن المقدّمة الواقعيّة لا يتوقّف على الأمر بها، بل علمنا بأنّه مقدّمة واقعاً يتوقّف على الأمر به من المولى في الأوامر الشرعيّة، فاذا أمر بشي ء نعلم انّه ليس مطلوباً له ذاتاً ونفساً، بل مقدّمة ولتحصيل الغير بوسيلته، فنعلم ان كلّ ما كان مقدّمة لما هو مطلوب المولى نفساً يكون مطلوباً له، سواء طلبه بالأمر اللفظي أو لم يطلبه كذلك.

ثمّ ان من جملة الاستدلالات التي ذكروها على وجوب المقدّمة ما استدلّ به عليه أبو الحسن البصري نقله المصنّف ورده، واكتفى برّده عن رد سائرها، لأنّه كالأصل لغيره وسائرها راجعة إليه، فاذا ثبت انّ الاشكال في تمامها يثبت ان أقوى الأدلّة عليه شهادة الوجدان ولم يقم على اثباته برهان.

تقرير ذلك: أنّه لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها وحينئذٍ فان بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، والّا خرج الواجب مطلق عن كونه واجباً.

«وفيه» في عبارة المتن خبرٌ مقدمٌ بعد اصلاحه أو لا بارادة عدم المنع الشرعي من قوله لجاز تركها، لا الاباحة الشرعيّة، مع انّه خلاف ظاهر لفظ الجواز في قوله لجاز تركها، اذ لو كان مراده الاباحة الشرعيّة تصير الملازمة واضح البطلان، إذ عدم الوجوب لا يلازم الاباحة الشرعيّة، بل يجتمع مع سائر الأحكام الخمسة، وارادة الترك أيضاً من لفظ « اذ » التي أضيفت إليه لفظ الحين في قوله حينئذٍ مع انّه خلاف الظاهر أيضاً، إذ هو ظاهر في ارادة الفعل الذي وقع جواباً للشرط وهو

ص: 392

............................................

_____________________________

الجواز، لا الترك الذي يكون فاعلاً لذلك الفعل، إذ لو أريد مجرد الجواز من اللفظة المذكورة كما هو الظاهر من صناعة العبارة لا يلزم أحد المحذورين، إذ بمجرّد الجواز الذي يتحقّق مع فعل المقدّمة وعدم تركه لا يكاد يتوهّم صدق الشرطيّة الثانية، إذ ما لا يمكن معه التكليف بذي المقدّمة لعدم القدرة عليه إنّما هو ترك المقدّمة في الخارج لا جواز تركه، ما لا يخفى لفظ « ما » مبتدءٌ مؤخرٌ.

وجه الاشكال ان ترك المقدّمة بمجرّد عدم المنع شرعاً لا يوجب صدق أحد الشرطيتين، ولا يلزم واحد من المحذورين من التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجباً، إذ مع الترك وإن لم يجز التكليف بذي المقدّمة وايجابه على المكلّف وسقوط وجوبه على المكلّف التارك لها ويلزم خروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً ويصير الوجوب مقيّداً بما إذا أتى المكلّف بالمقدّمة وهو خلاف المفروض من كون الواجب واجباً مطلقاً، الا انه لما كان ذلك الخروج بسوء اختيار المكلّف بمعنى انّه باختياره في ترك المقدّمة صار بحيث لم يمكن تكليفه بذي المقدّمة، لابأس به.

فخروج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً ليس باطلاً مطلقاً، بل إذا لم يكن بسبب سوء اختيار المكلّف، إذ لو لم يكن بذلك السبب يلزم التناقض من الحكم بالوجوب أوّلاً ثمّ بعدمه ثانياً من دون تغير فيما يكون مناطاً في الحكم به وبعدمه، مع انّ الوجوب الذي يرتفع بسوء اختيار المكلّف من جهة استحالة الاتيان بذي

ص: 393

............................................

_____________________________

المقدّمة مع ترك المقدّمة إنّما هو الوجوب الشرعي الذي لا يمكن ثبوته في حال ترك المقدّمة.

وأمّا الوجوب العقلي وارشاده إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب فهو باق بحاله، فليس انتفاء الوجوب الشرعي مستلزماً لانتفاء العقاب على ترك ذي المقدّمة كي يلزم الأمر الباطل وهو خروج الواجب عن كونه واجباً وعدم كون تركه مستلزماً للعقاب، فانّ المقصود من محذور خروج الواجب عن كونه واجباً عدم العقاب على تارك ما جعله الشارع واجباً.

نعم لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعاً وعقلاً معاً يلزم أحد المحذورين: إمّا التكليف بما لا يطاق وإمّا خروج الواجب عن كونه واجباً بمعنى عدم العقاب على تركه، إلّا انّ الملازمة على هذا في الشرطيّة الأولى ممنوعة يعني لو كان المراد من الجواز الجواز مطلقاً فليس حينئذٍ بين عدم وجوب المقدّمة شرعاً وجواز تركها مطلقاً ملازمة، إذ لو لم تكن المقدّمة واجبة شرعاً لا يلزم أن يكون تركها جائزاً شرعاً وعقلاً، إذ يمكن أن يكون غير واجبة شرعاً ولا يجوز تركها عقلاً، وكذا يمكن غير واجبة شرعاً ومع ذلك لا تكون جائزة أيضاً بأن لا تكون محكومة بحكم شرعاً أصلاً وإن كانت واجبة عقلاً ارشاداً، وهذا واضح.

قال الشارح بعد قوله وهذا واضح: قلت: بل هو في غاية الإشكال وبيّنه بقوله: فانّهم ذكروا في ثبوت الأحكام الخمسة ان فعل المكلّف لو لم يتّصف بأحدها لزم ارتفاع النقيضين، واشتهر انه ما من واقعة إلّا وللَّه فيها حكم، واعترف بذلك

ص: 394

............................................

_____________________________

المصنّف في أوّل مسئلة الضدّ، فبين كلامه تدافع، ولا تخلو واقعة عن حكم شرعي إلّا الواقعة التي لا يمكن تعلّق الحكم الشرعي بما هو شرعي بها كالطاعة والمعصية ولزوم العمل بالعلم وأمثالها ممّا لا يمكن تعلّق حكم الشرع به للزوم الدور الباطل، والمقدّمة ليست من هذا القبيل، ولا مانع من تعلّق الحكم الشرعي به أصلاً وإلّا لما كانت محلّاً النزاع.

فاذا لم تكن واجبة الفعل شرعاً ولم تكن محكومة بوجوب فعلها فلابدّ من أن تكون جائزة الترك، لأن تركها إمّا أن يجوز أو يحرم أو يكره أو يستحب أو يجب ولا يعقل خلوها عن ذلك ولا سبيل إلى الأربعة الباقية، فيتعين الجواز.

ولا محيص عن الاعتراف بلزوم أحد المحذورين لو كان الجواز شرعيّاً لا لأجل نفس الجواز بل لأجل انّ المكلّف لو ترك المقدّمة استناداً إلى جوازها شرعاً فان بقي الوجوب لزم المحذور الأوّل قطعاً وإن لم يبق من الثاني، فظهر ان لزوم أحد المحذورين يكفي فيه الجواز شرعاً ولا يحتاج إلى أن يُضمّ إليه الجواز عقلاً كما لا يخفى. انتهى ما نقلناه عنه بعين عبارته(1).

أقول: مقصود المصنّف من عدم الوجوب الشرعي للمقدّمة عدم ترشّح الوجوب من ناحية ذي المقدّمة التي أمر به الشارع إليها وجواز ان لا يريد الشارع مقدّمة الواجب بتبع ارادة ذيها وعدم دلالة اللفظ الذي يدلّ على وجوب ذيها على وجوبها، وهذا لا ينافي مع ما أفاده الشارح بوجه من عدم جواز خلو واقعة عن

ص: 395


1- الهداية في شرح الكفاية: 265.

............................................

_____________________________

حكم اللَّه، لأنّ المصنّف يعترف بأن حكم المقدّمة الوجوب بحكم العقل، والعقل من جملة أدلّة الفقه بل هو الرسول الباطن والأصل في تصديق الرسول الظاهر والوصول لى معارج تكميل النفس، ولولاه لما ثبت حقّ ولما اضمحل باطل، فانّه بعد أن حكم العقل بوجوب المقدّمة ولو ارشاديّاً فكيف تخلو الواقعة من الحكم كي ينافي مع اتّفاقهم على لزوم اتّصاف كلّ واقعة بحكم واعتراف المصنّف بذلك في مسئلة الضد أيضاً ليلزم التدافع والتناقض بين كلامه هناك وما أفاده هنا.

نعم لو قيل بعدم وجوب المقدّمة شرعاً ولا عقلاً لتمّ ما قاله الشارح وللزمت الفاسدة من اللوازم التي بينها، والعجب منه كيف زعم انحصار الحكم الشرعي فيما يفيده الشارع باللفظ بواحد من الدلالات ولو الالتزاميّة ولم يلتفت إلى أن ما يحكم به العقل أيضاً من الحكم الشرعي.

والحاصل انّه لما كان مقصود المستدل من الدليل الذي ذكره اثبات وجوب المقدّمة شرعاً وبدلالة من الشارع وبواسطة دلالة اللفظ ولو كانت التزامية ببيان انه لو لم تكن واجبة شرعاً كذلك للزم اللازم الفلاني وذلك اللازم مستلزم لأحد من المحذورين ردّه المصنّف بأن عدم وجوب المقدّمة شرعاً لا يلزم جواز تركه شرعاً ليلزم المحذور، بل كل ما كان للعقل في حكمه سبيل يجوز أن لا يحكم الشرع فيه بحكم ويكتفي بحكم العقل فيه، فلا يثبت وجوب المقدّمة شرعاً وبدلالة اللفظ الذي يدلّ على وجوب ذيها وإن كانت واجبة عقلاً، ولعمري هذا واضح لا سترة فيه واللَّه العالم بحقائق الأمور.

ص: 396

الوجدان، حيث أنه أقوى شاهد على أن الانسان إذا أراد شيئا له مقدمات، أراد تلك المقدمات، لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله، ويقول مولويا (أدخل السوق واشتر اللحم) مثلا، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب (أدخل) مثل المنشأ بخطاب (إشتر) في كونه بعثا مولويا، وأنه حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء، ترشحت منها له إرادة أخرى بدخول السوق، بعد الالتفات إليه وأنه يكون مقدمة له، كما لا يخفى.

ويؤيد الوجدان، بل يكون من أوضح البرهان، وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات، لوضوح أنه لا يكاد يتعلق بمقدمة أمر غيري، إلا إذا كان فيها مناطه، وإذا كان فيها كان في مثلها، فيصح تعلقه به أيضا، لتحقق ملاكه ومناطه، والتفصيل بين السبب وغيره[1] والشرط الشرعي وغيره سيأتي بطلانه،

_____________________________

[1] أقول: شرح الاستدلال على وجوب المقدّمة السببيّة دون غيرها هو انّ المسبّب لا يكون مقدوراً إلّا بواسطة السبب، والقدرة على متعلّق التكليف لازمة، إذ لا يتعلّق التكليف بغير المقدور، والمقدور في محلّ الكلام إنّما هو السبب دون المسبب فيلزم أن يكون التكليف الذي تعلق صورة بالمسبب مطلقاً بالسبب حقيقة فثبت ان المقدمة السببيّة واجبة، وهذا الدليل لا يجري في غير السببي من المقدّمات، فلا يثبت الوجوب لها لعدم دليل آخر عليه أيضاً.

واستشكل عليه المصنّف بأن هذا الاستدلال على وجوب المقدّمة السببيّة خروج عن الفرض، إذ الكلام في الوجوب الغيري والمقدمي وإن المقدّمات للواجب واجبة تبعاً وبسبب وجوب ذيها مطلقاً أم لا كذلك أو الحق التفصيل، وبهذا

ص: 397

............................................

_____________________________

الوجه الذي استدلّ به المستدل إنّما يثبت الوجوب النفسي للمقدّمة السببيّة لا الغيري، فما قصده لم يثبت وما يثبت ليس له بمقصود، مع انّه فاسد في نفسه إذ المقدور أعم من المقدور الأولى وبلا واسطة والمقدور بالعرض، والمسبّب وإن لم يكن مقدوراً أو لا وبالذات إلّا انّه مقدور بواسطة السبب وهذا القدر من المقدوريّة يكفي في صحّة تعلّق التكليف.

واستشكل الشارح على المصنّف بأن ما أورده على المستدل غير تمام، حيث زعم انّ المصنّف أنكر عدم المقدوريّة المطلقة للمسبب كما أفاده المستدل، مع ان بيانه ينادي بتسليمه لما استدلّ به المستدل من انّ المسبّب ليس مقدوراً مطلقاً بل إنّما مقدوريّته بالواسطة وبالعرض، ولكن الاشكال من المصنّف إنّما هو في انّه خروج عن المبحث والكلام من انّ الوجوب المقدمي والغيري هل يثبت لمطلق المقدّمات أو خصوص بعضها ؟ فلا يرد ما أورده حينئذٍ على المصنّف بقوله وفيه تأمّل، لأنّ المسبّب غير مقدور مطلقاً ضرورة انّه بعد ما كان ترتّب المسبّب على السبب قهرياً فحال ايجاد العبد للسبب ليس قادراً على ايجاد المسبّب لفرض استناد وجوده بتمامه إلى وجود السبب ولو كان ذلك قدرة على ايجاد المسبّب كان اللازم عقلاً قدرته حال ايجاده السبب على عدم ايجاد المسبّب، مع انّه غير معقول، والقدرة على عدم ايجاده بعد ايجاد السبب قدرة على السبب لا على المسبّب، فلا تنسب القدرة إلى المسبّبات إلّا عرضاً ومجازاً، والتكليف مشروط بالقدرة الحقيقيّة على المكلّف به، لا المجازيّة العرضيّة.

ص: 398

وأنه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدمة ومقدمة.

ولا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالاصل لغيره - مما ذكره الافاضل من الاستدلالات - وهو ما ذكره أبوالحسن البصري، وهو أنه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها، وحينئذ، فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً.

وفيه: - بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى،

_____________________________

فما ذكره هذا القائل من انّ الوجوب النفسي لا يتعلّق إلّا بالأسباب ولو تعلّق بالمسبّبات صرف إليها لأنّه تعلّق صوري وعرضى في غاية المتانة والقوّة انتهى بعين عبارته(1).

أقول: العجب منه كيف لم يلتفت من بيان المصنّف انّه يسلم انّ القدرة بالنسبة إلى المسبّبات عرضيّة وأطال الكلام في بيانه، مع ان بيان المصنّف ينادي بتسليمه له حيث قال في آخر كلامه: ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة، كانت بلا واسطة أو معها كما لا يخفى، فما فهمه من بيان المصنّف لا مساس له بما أفاده، بل إنّما مقصوده ما أوضحناه انفاً وشرحناه.

نعم ما بينه من انّ التكليف مشروط بالقدرة الحقيقة له ربط بما أفاده المصنّف في رد المفصل الا انه فاسد في نفسه، إذ لا وجه لعدم كفاية المقدوريّة العرضيّة في جواز التكليف بعد مساعدة العرف والاعتبار على كفايته، ومعلوم ان حال التكاليف الشرعيّة حال التكاليف العرفيّة من دون تفاوت بينهما.

ص: 399


1- الهداية في شرح الكفاية: 266.

لا الاباحة الشرعية، وإلا كانت الملازمة واضحة البطلان، وإرادة الترك عما أضيف إليه الظرف، لا نفس الجواز، وإلا فمجرد الجواز بدون الترك، لا يكاد يتوهم معه صدق القضية الشرطية الثانية - ما لا يخفى، فان الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين، ولا يلزم أحد المحذورين، فإنه وإن لم يبق له وجوب معه، إلا أنه كان ذلك بالعصيان، لكونه متمكنا من الاطاعة والاتيان، وقد اختار تركه بترك مقدمته بسوء اختياره، مع حكم العقل بلزوم إتيانها، إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب.

نعم لو كان المراد من الجواز الترك شرعا وعقلا، يلزم أحد المحذورين، إلا أن الملازمة على هذا في الشرطية الاولى ممنوعة، بداهة أنه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا وعقلا، لامكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا، وإن كان واجبا عقلا إرشادا، وهذا واضح.

وأما التفصيل بين السبب وغيره، فقد استدل على وجوب السبب، بأن التكليف لا يكاد يتعلق إلا بالمقدور، والمقدور لايكون إلا هو السبب، وإنما المسبب من آثاره المترتبة عليه قهرا، ولا يكون من أفعال المكلف وحركاته أو سكناته، فلابد من صرف الامر المتوجه إليه عنه إلى سببه.

ولا يخفى ما فيه، من أنه ليس بدليل على التفصيل، بل على أن الامر النفسي إنما يكون متعلقا بالسبب دون المسبب، مع وضوح فساده، ضرورة أن المسبب مقدور للمكلف، وهو متمكن عنه بواسطة السبب، ولا يعتبر في التكليف أزيد من

ص: 400

القدرة، كانت بلا واسطة أو معها، كما لا يخفى.

وأما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره،[1] فقد استدل على الوجوب في

_____________________________

[1] فقد استدلّ على الوجوب في الأوّل بأنّه لو لا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً من جهة ان ما جعله الشارع شرطاً لابدّ وأن لا يكون ممّا يجب عقلاً أو عادة في حصول ذي المقدّمة، فيعلم بدليل الْإن ان ما جعل شرطاً شرعاً في الواجب يكون مأموراً به ويجب الاتيان به، بخلاف ما إذا كان الشرطيّة والمقدميّة ثابتة بحكم العقل أو العادة فانّه لا حاجة حينئذٍ إلى بيان الشارع واظهاره عن المقدميّة فلذا لا يبثبت الوجوب الشرعي وايجابه في غير المقدّمات الشرعيّة.

واستشكل المصنّف عليه أوّلاً بأنّ الشرط الشرعي بعد ما جعل شرطاً بحكم الشارع يصير شرطاً عقليّاً إذ بعد كشف الشارع عن دخالة وجود الأمر الفلاني في ايجاد المأمور به الفلاني لا فرق بينه وبين ما يدرك العقل دخالته اوّلا وبلا واسطة بيانه، فكما يحكم العقل بوجوبه فيما كان المدرك لمقدميّته نفس العقل من دون واسطة فكذلك فيما كان الشارع واسطة في الكشف عن المقدميّة أيضاً.

فظهر ان التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره من الشروط العقليّة والعادية غير سديد اذ مرجع الشرط الشرعي إلى العقلي أيضاً، وثانياً بأنّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري من الشارع إلّا بما فيه عنوان المقدميّة للواجب، فلو كان حصول ذلك العنوان متوقّفاً على تعلّق الأمر به بأن كان المحقّق للمقدميّة أمر الشارع بالشي ء وجعله شرطاً لدار.

وتقريره هكذا ان تعلّق الأمر بشي ء لغيره يتوقّف على المقدميّة والمقدميّة

ص: 401

تتوقّف على تعلّق الأمر وأن يجعله الشارع شرطاً في حصول الغير فتحصل انه لا يصح القول بوجوب المقدّمة الشرعيّة للواجب لكونها شرطاً ومقدمة شرعاً، بل إنّما المقصود من المقدّمة في محلّ البحث ما يكون مقدّمة لا بجعل جاعل وتوقّف وجوبها على عنوان الشرطيّة المقدميّة غير جايز.

ثمّ أفاد وجهاً آخر لبطلان توقّف وجوب المقدّمة على كونه شرطاً شرعاً فضلاً عن الدور وبيانه انّ عنوان الشرطيّة وإن كانت منتزعة عن التكليف والأمر وان كلّما كان شرطاً يكون مأموراً به إلّا انّه منتزعة عن التكليف النفسي المتعلّق بما قيد بالشرط وهو ذو المقدّمة لا التكليف المتعلّق بالمأمور به بالأمر الغيري أي المقدّمة، فالشرطيّة الشرعيّة لا مساس لها بعنوان المقدميّة كي تجعل مناطاً في وجوبها كما زعم المستدل.

واستشكل الشارح على ما أفاده المصنّف بعدم لزوم الدور أولاً، لأن ما يتوقّف عليه الوجوب هو مقدميّة المقدّمة وما يتوقّف على الوجوب هو انكشاف المقدميّة والعلم بها وانّ الشارع جعلها مقدّمة لا نفس المقدّمية،

وثانياً بأن ظاهر علماء الأصول ان منشأ انتزاع عنوان الجزئيّة والشرطيّة هو الحكم المتعلّق بالجزء والشرط لا المركّب وكيف يكون صل مثلاً منشأ انتزاع شرطيّة الوضوء في الصلوة مع انّه قبل ورود توضّأ فأصل الشرط غير معلوم وبعد وروده فالشرط منه مفهوم لا من قوله صلّ.

ثمّ قال بعد بيان تقريبات لما اختاره من انّ الجزئيّة والشرطيّة منتزعة عن التكليف المتعلّق بنفس الأجزاء والشروط لا المركب اللّهمّ إلّا أن يجعل منشأ الانتزاع هو الوجوب النفسي المتعلّق بنفس المركّب المنبسط على جميع أجزائه

ص: 402

............................................

_____________________________

وشرائطه فيكون المحقّق للشرطيّة والمنشأ لانتزاعها هو هذا الوجوب المنبسط، والكاشف عنها هو الخطاب الأصلي المتعلّق بذات الشرط، وفيه مجال للتأمّل انتهى(1).

أقول: أمّا ما أورده أوّلاً من عدم لزوم الدور وانّ الموقوف على الوجوب غير ما يتوقّف الوجوب عليه لأنّ الأوّل علمنا بالمقدميّة والتوقّف والثاني مقدميّة المقدّمة في الواقع فلا ريب فيه.

وأمّا الاشكال الثاني الذي محصّله انتزاع عنوان الجزئيّة والشرطيّة عن التكليف المتعلّق بنفس الأجزاء والشروط دون المركّب وان كونه منتزعاً عن التكليف المتعلّق بالمركّب محلّ التأمّل، فالانصاف انّه لا تأمّل فيه اذ الأمر المتعلّق بذات الشرط لا يتحصّل منه عنوان الشرطيّة بوجه ما لم يتعلّق الأمر بالمشروط بعنوان المشروطيّة كما لا يخفى.

فقول المستدل بأنّه لَوْ لا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً مسلم الا انّ الوجوب الذي عنوان الشرطيّة منتزع عنه هو وجوب المركب وما أمر به نفسيّاً وليس منتزعاً من الأمر الذي تعلّق بذات الشرط غيريا كي يثبت تعلّق الأمر الشارع بالشرط الشرعي وايجابه للمقدّمة الشرعيّة كما هو مرام المستدل.

والحاصل ان المقصود من الأمر المتعلّق بالشرط الشرعي إن كان الأمر المستقل الذي تعلّق بذات الشرط فعنوان الشرطيّة غير متنزعة عنه، فثبوت ذلك

ص: 403


1- الهداية في شرح الكفاية: 267.

الاول بأنه لولا وجوبه شرعا لما كان شرطا، حيث أنه ليس مما لا بد منه عقلا أو عادة.

وفيه - مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي - أنه لا يكاد يتعلق الامر الغيري إلا بما هو مقدمة الواجب، فلو كانت مقدميته متوقفة على تعلقه بها لدار، والشرطية وإن كانت منتزعة عن التكليف، إلا أنه عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط، لا عن الغيري، فافهم.

تتمة: لا شبهة في أن مقدمة المستحب كمقدمة الواجب، فتكون مستحبة - لو قيل بالملازمة -[1] وأما مقدمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتصف بالحرمة أو

_____________________________

العنوان لا يفيد في اثبات وجوبه خصوصاً وبعنوان شرطيّته شرعاً كان الأمر التبعي الذي يترشّح من ناحية الأمر بالمركّب إلى الأجزاء والشروط فلا فرق حينئذٍ بين الشرط الشرعي وغيره والتفصيل بينهما باطل.

[1] أقول: يعني ان ما هو المناط في وجوب مقدّمة الواجب مثبت للاستحباب في مقدّمة المستحب أيضاً إذ كما ان وجوب ذي المقدّمة يلازم مع وجوب مقدّمتها كذلك استحباب ذي المقدّمة يلازم استحباب مقدّمتها ورجحانه موجب لرجحانها.

وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه فليست بمحرم ولا مكروه إذ لا ملازمة بين ترك الحرام وترك مقدمته، بل يمكن ترك الحرام من دون ترك المقدّمة، وفعل مقدّمة الحرام يجامع مع ترك نفسه، فالنهي عن الحرام لا يستلزم النهي عن مقدمته، ومبغوضيّة الحرام لا يستلزم مبغوضيّة مقدمته، إذ مع فعل المقدّمة قد يوجد الحرام

ص: 404

............................................

_____________________________

وقد لا يوجد، وكذلك المكروه، بخلاف الواجب والمستحب فان فعلهما بدون فعل المقدّمة غير ممكن.

نعم لو كان مقدّمة الحرام علّة تامّة للحرام بأن يحصل الحرام بعد فعلها قهراً ولو لم يكن المكلّف مريداً لفعله فيحرم، إذ مبغوضية الحرام يستلزم مبغوضيّة ما يوجد الحرام بسببه البتّة ولم يمكن انفكاكه عنه، فعلى هذا اذا فرض أن لا يكون للحرام مقدّمة لا يتمكّن من حصولها من ترك الحرام لم يحرم مقدّمة من مقدّماته إذ الفرض ان المقدمة التي يكون علّة تامّة للحرام منتفية بحسب الموضوع وما لا يكون كذلك من سائر مقدّماته التي يمكن أن يفعلها المكلّف ليس بحرام.

لا يقال: كلّ حرام لابدّ له من مقدّمة لا يتمكّن المكلّف مع حصولها من ترك الحرام لكونها علّة تامّة لحصولها، وما ذكر من انّه قد لا يكون مقدمة من مقدّمات الحرام بحرام اذ ما ليس علّة تامّة للحرام من مقدّماته ليس بحرام وما يكون علّة تامّة ليس بموجود، مجرّد فرض، اذ الشي ء ما لم يجب لم يوجد يعني ان كلّ شي ء ما لم يجتمع أجزاء علّته بتمامها وكمالها بحيث لا يقدر الانسان على تركه لا يوجد البتة، وكلّ موجود واجب بالغير وإن كان ممكناً في نفسه، وكلّ ممكن لا يوجد إلّا بعد صيرورته واجب الوجود.

فانّه يقال في جوابه: نعم ذلك كذلك وكلّ ممكن وفعل من الأفعال لا يوجد في الخارج إلّا بعد وجوب وجوده لكنّه لا يلزم أن يكون تلك المقدّمة التي تجب ذوها بعد وجودها من الأمور الاختياريّة، بل يمكن أن يكون من المقدّمات الغير الاختياريّة فاذن لا يتعلّق التكليف به كمبادي الاختيار لغير ما به يكون الفعل

ص: 405

الكراهة، إذ منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا، كما كان متمكنا قبله، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه، فلم يترشح من طلبه طلب ترك مقدمتهما، نعم ما لم يتمكن معه من الترك المطلوب، لا محالة يكون مطلوب الترك، ويترشح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه المقدمة، فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته.

لايقال: كيف؟ ولا يكاد يكون فعل إلا عن مقدمة لامحالة معها يوجد، ضرورة أن الشي ء مالم يجب لم يوجد.

فإنه يقال: نعم لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام، لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية، بل من المقدمات الغير الاختيارية، كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار، والا لتسلسل، فلا تغفل، وتأمل.

_____________________________

اختياريّاً وما يكون مناطاً في الاختياريّة وهو القصد والعزم والجزم التي يعبّر عنها بالارادة، اذ بعد حصول الارادة في نفس الفاعل لا يمكن أن لا يقع الفعل وتخلف المراد عن الارادة باطل، ولكن الارادة من الأمور الاختياريّة ومسبوقة بارادة أخرى كي يجوز تعلّق التكليف به والأمر بتركه أو فعله لكونها مقدّمة للحرام أو الواجب وإلّا فلو كان فعل الارادة بارادة أخرى لتسلسل يعني يلزم أن يتوقّف حصول فعل في الخارج أو تركه على ارادات غير محصورة كلّ ارادة منها معلولة لارادة أخرى سابقة عليها، وهذا مستلزم لأن لا يوجد فعل أو ترك في الخارج أصلاً إذ الارادات الغير المحصورة لا توجد في الخارج فكذا ما هو معلول لها.

ص: 406

الفصل الخامس: مسالة الضد

فصل: الامر بالشي ء هل يقتضي النهي عن ضده، أو لا؟ فيه أقوال،[1] وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور:

الاول: الاقتضاء في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية، أو الجزئية، أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين، وطلب ترك الآخر، أو المقدمية على ما سيظهر، كما أن المراد بالضد هاهنا، هو مطلق المعاند والمنافي وجوديا كان أو عدميا.

الثاني: إن الجهة المبحوث عنها في المسألة، وإن كانت أنه هل يكون للامر اقتضاء بنحو من الانحاء المذكورة، إلا أنه لما كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص، إنما ذهبوا إليه لاجل توهم مقدمية ترك الضد، كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال، في المقدمية وعدمها، فنقول وعلى اللَّه الاتكال: إن توهم توقف الشي ء على ترك ضده، ليس إلا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين، وقضيتها الممانعة بينهما، ومن الواضحات أن عدم المانع من المقدمات.

وهو توهم فاسد، وذلك لان المعاندة والمنافرة بين الشيئين، لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقق، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله، بل بينهما كمال الملاء مة، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر، كما لا يخفى.

_____________________________

[1] أقول: لما كان عنوان البحث محتاجاً إلى البيان من جهة اشتماله على لفظ

ص: 407

............................................

_____________________________

الاقتضاء والضد، لاختلاف كيفيّات الأوّل واشتراك الثاني، رسم المصنّف أموراً، والانصاف انّه قد أجاد فيما أفاد فيها.

الأوّل ان الاقتضاء في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينيّة ودلالة المطابقة أو الجزئيّة ودلالة التضمن أو اللزوم ودلالة الملازمة لثبوت التلازم بين طلب أحد الضدّين وطلب ترك الآخر، أو المقدّمة التي هي نوع اقتضاء رابع لا دخل له بدلالة اللفظ بل يكون خارجاً عن الأقسام المذكورة للدلالة اللفظيّة، وسيظهر حقيقة المراد منها.

والمراد بالضد أيضاً كما يظهر من تعبيراتهم واطلاقه على الترك المسمّى بالضدّ العام مطلق المعاند والمنافي، سواء كان وجوديّاً أم عدميّاً وإن كان ذلك خلاف ما اصطلحوا عليه أهل المعقول من انّ الضدّين أمران وجوديان لا يمكن اجتماعهما في محل واحد فانّه صريح في انّه أمر وجودي، ولا مشاحة في الاصطلاح فانّه كما اصطلح أهل المعقول على ما ذكر اصطلح الأصوليّون أيضاً على خلافه فلكلّ قوم لغة واصطلاح، أو انّ القوم استعملوه في محلّ البحث في معناه اللغوي من دون جعل اصطلاح خاص فيه، وهذا هو الأقرب إذ لا داعي إلى جعل اصطلاح خاص مع مطابقة ما أرادوا منه في العنوان مع المعنى اللغوي كما لا يخفى.

الثاني انّه وإن كان ما عنون بحث النهي عن الضد لتحقيقه هو دلالة الأمر بأحد من الدلالات المذكورة على النهي عن الضد إلّا انّ اللازم تحقيق الحق في مقدميّة ترك الضدّ الخاص للمأمور به وعدمها، إذ عمدة القائلين بالدلالة يستدلّون عليها

ص: 408

............................................

_____________________________

بالمقدّميّة ووجوب مقدّمة الواجب، ونقول في ابطال هذا التوهّم ان غاية ما يمكن أن يقال في اثبات مقدميّة ترك الضد الخاص في سعة الوقت مثلاً كترك الصلوة لفعل المأمور به كازالة النجاسة عن المسجد الواجب فوراً، ثبوت المعاندة والممانعة بين الشي ء وضدّه وان وجود الشي ء متوقّف على وجود المقتضى وعدم المانع وحيث انّ الممانعة فيما بين المأمور به وفعل الضد واضحة فيتوقّف وجوده على عدمه، والفرض ان ايجاد المأمور به واجب وما يتوقّف عليه الواجب واجب فيجب الترك ويحرم فعل الضد وهو معنى دلالة الأمر بالشي ء على النهي عن ضدّه، وهو فاسد جداً.

اذ المنافرة والمعاندة والممانعة بين الشيئين لا يقتضي أزيد من عدم اجتماعهما في التحقّق والوجود الخارجي وأمّا توقّف وجود أحدهما على عدم الآخر ومقدميّة عدم أحدهما لوجود الآخر فلا وجه له لأنّه إذا لم يكن منافاة أصلاً بين أحد العينين كالازالة مثلاً وما هو نقيض الآخر وبديله كترك الصلوة مثلاً بل بينهما كمال الملائمة كان أحد العينين كالازالة مع نقيض الآخر كترك الصلوة في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر، إذ مع عدم المنافات بل كمال الملائمة بين أحدهما ونقيض الآخر لا وجه لتقدّم النقيض على العين الآخر بمجرّد التنافي والتمانع بين العينين، فان التمانع بين العينين لا يستلزم مقدميّة نقيض أحدهما للآخر وتوقّف وجود الآخر على ذلك النقيض، بل الجامع التمانع بين العينين مع كمال الملائمة بين عين ونقيض آخر وكونهما في مرتبة

ص: 409

............................................

_____________________________

واحدة من دون مقدميّة النقيض لوجود العين الآخر كما لا يخفى.

فكما انّ المتناقضين في غاية التنافي والتعاند ومع ذلك ليس ارتفاع أحدهما مقدّمة لثبوت الآخر فانّ العدم والوجود نقيضان وليس عدم العدم مقدّمة للوجود ولا عدم الوجود مقدّمة للعدم فكذلك الحال في المتضادّين.

وممّا يدلّ على عدم مقدميّة عدم أحد الضدّين لوجود الضدّ الآخر وعدم توقّف وجوده على عدمه لكون وجود أحدهما مانعاً عن وجود الآخر وتوقّف وجود الشي ء على عدم المانع انّه لو كان كذلك لكان عدم أحد الضدّين أيضاً متوقّفاً على وجود الآخر أيضاً لأنّه لما كان الممانعة من الطرفين والمطاردة من الجانبين وكان وجود أحدهما متوقّفاً على عدم الآخر لتلك الجهة فيتوقّف عدم الآخر على وجوده بسببها أيضاً، فانّه إذا كان وجود الازالة مثلاً متوقّفاً على ترك الصلوة مثلاً من جهة ثبوت المضادة والمعاندة والممانعة بينهما فكذلك لابدّ أن يتوقّف ترك الصلوة على وجود الازالة أيضاً وهو دور واضح، فيثبت انّ الممانعة في الوجود لا يقتضي التوقّف من واحد من الطرفين لا من طرف الوجود ولا من طرف العدم.

وربما يجاب عن الدور بأنّ التوقّف من طرف الوجود فعلي يعني توقّف وجود أحدهما على عدم الآخر ثابت من دون الحاجة إلى أمر آخر امّا توقّف عدم أحدهما على وجود الآخر ليس بفعلي بل يتوقّف على ثبوت المقتضى لوجود ذلك الضد المعدوم وثبوت جميع شرائط وجوده غير عدم وجود ضدّه فانّه إذا كان المقتضى لوجوده وكذا سائر شرائطه موجوداً لا يكون عدمه حينئذٍ إلّا بسبب

ص: 410

............................................

_____________________________

وجود المانع وهو وجود الضد الآخر وهذا مجرّد فرض، إذ من المحالات أن يكون المقتضى لوجود الضد مع سائر شرائطه موجوداً ومع ذلك لا يوجد بسبب وجود المانع وهو وجود الضدّ الآخر.

وجه الاستحالة انتهاء عدم وجود أحد الضدّين مع وجود الآخر وكون الضد الآخر مانعاً عن وجوده إلى عدم تعلّق الارادة الازليّة من الفاعليّة وتعلّقها بالآخر حسبما اقتضته الحكمة البالغة فاذا كان العلّة لعدم الوجود عدم تعلّق الارادة فكيف يمكن أن يكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع مع ان عدم الارادة أسبق في التأثير في عدمه وبعبارة أخرى الاعدام كلّها مستندة إلى عدم تعلّق مشيّة فاعل بها وارادتها والاعدام تكون دائماً اعداماً لهذه الجهة لا لوجود أضدادها فكون عدميّة العدم بواسطة وجود الضد مجرّد فرض ولا وقوع له في الخارج فليس عدماً من الاعدام يكون عدميته بواسطة المانع عن تبدّله بالوجود أصلاً فلا يلزم الدور لأنّه على هذا يكون وجود أحد الضدّين متوقّفاً على عدم الآخر وليس عدم أحدهما متوقّفاً على وجود الآخر فلا يكون التوقّف من الجانبين.

ان قلت: هذا إذا لوحظا يعني الوجود والعدم منتهيين إلى ارادة شخص واحد فان ارادة شخص واحد لا يتعلّق إلّا بأحد الضدّين ولا يمكن تعلّقها بارادة الضدّين فدائماً يكون عدم الضد الآخر بسبب عدم ارادة الشخص لايجاده واما إذا كان كلّ من وجود أحد الضدّين وعدم الآخر متعلّقاً لارادة شخص عليحدّة بأن أراد زيد مثلاً وجود الحركة وأراد عمرو وجود السكون الضدّ له فاذن يكون

ص: 411

فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر، كذلك في المتضادين، كيف؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشي ء على عدم ضده، توقف الشي ء على عدم مانعه، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشي ء توقف عدم الشي ء على مانعه، بداهة ثبوت المانعية في الطرفين، وكون المطاردة من الجانبين، وهو دور واضح.

وما قيل في التفصي عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود فعلي، بخلاف التوقف من طرف العدم، فإنه بتوقف على فرض ثبوت المقتضي له، مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضده، ولعله كان محالا، لاجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الارادة الازلية به، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة، فيكون العدم دائما مستندا إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع، كي يلزم الدور.

_____________________________

المقتضى لكلّ منهما موجوداً وهو ارادة زيد وعمرو فعدم أحدهما اما الحركة واما السكون لابدّ أن يكون بسبب المانع ومستنداً إليه.

قلت: عدم أحد الضدّين في الفرض المفروض مستند أيضاً إلى عدم قدرة المغلوب منهما في ارادته وعدم تمكّنه من ايجاده لأنّ القدرة على ايجاد الفعل والتمكّن منه أيضاً شرط في وجود المراد ولا يكاد يحصل المراد بمجرّد الارادة وليس مستنداً إلى المانع ووجود الضدّ الآخر لكون عدم الضد مسبوقاً بعدم القدرة عليه فلا يصل النوبة إلى وجود الضد اذ المعلول يستند إلى اسبق العلل فيكون عدمه بواسطة عدم الشرط لوجوده لا لوجود المانع.

ص: 412

إن قلت: هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد، وأما إذا كان كل منهما متعلقا لارادة شخص، فأراد مثلا أحد الشخصين حركة شي ء، وأراد الآخر سكونه، فيكون المقتضي لكل منهما حينئذ موجودا، فالعدم - لا محالة - يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع.

قلت: هاهنا أيضا مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته، وهي مما لابد منه في وجود المراد، ولا يكاد يكون بمجرد الارادة بدونها لا إلى وجود الضد، لكونه مسبوقا بعدم قدرته - كما لا يخفى - «غير سديد»[1]، فإنه وإن كان قد ارتفع به الدور، إلا أنّ غائلة لزوم توقف الشي ء على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها، لاستحالة أن يكون الشي ء الصالح لان يكون موقوفا عليه الشي ء موقوفا عليه، ضرورة أنه لو كان في مرتبة يصلح لان يستند إليه، لما كاد يصح أن يستند فعلا إليه.

والمنع عن صلوحه لذلك بدعوى: أن قضية كون العدم مستندا إلى وجود الضد، لو كان مجتمعا مع وجود المقتضي، وإن كانت صادقة، إلا أن صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك، لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها، مساوق لمنع مانعية الضد، وهو يوجب رفع التوقف رأسا من البين، ضرورة أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الآخر، إلا توهم مانعية الضد - كما أشرنا إليه - وصلوحه لها.

_____________________________

[1] «غير سديد» في المتن خبر لقوله «ما قيل في التفصى» وجه عدم السداد: هو انه وإن كان قد ارتفع به الدور الا ان غائليته وفساد لزوم توقّف الشي ء على ما يصلح ان يتوقّف هو عليه أيضاً على حالها يعني انه وإن

ص: 413

............................................

_____________________________

ثبت بعد البيان المذكور ان التوقّف من طرف فعلى ومن طرف آخر فرض فلا يلزم الدور الا ان توقّف الشي ء على ما يصلح أن يتوقّف هو عليه أيضاً وشانا وان لم يكن كذلك فعلا أيضاً غير جائز فانه وإن لم يكن عدم أحد الضدّين فعلاً متوقّفاً على وجود الآخر ولكن توقّفه عليه شانا مع كون وجود الآخر متوقّفاً على عدمه فعلاً أيضاً غير جائز ومن المحال أن يكون الشي ء الصالح والقابل لأن يكون موقوفاً عليه الشي ء كعدم أحد الضدّين موقوفاً عليه ذلك الشي ء وهو وجود الآخر ضرورة انه لو كان ذلك الشي ء في مرتبة يصلح لأن يستند إليه يعني عدم أحد الضدّين لو كان صالحاً لأن يستند إلى وجود الضد الآخر لما كان يصح أن يستند إلى وجود الضد الآخر لما كان يصح أن يستند وجود الآخر فعلاً إلى ذلك العدم.

فان قلت: عدم أحد الضدّين لا يصلح ان يستند إلى وجود الآخر لأن قضيّة كون العدم مستنداً إلى وجود الضد ولو كان مجتمعاً مع وجود المقتضى وإن كانت صادقة الا ان صدقها لا يقتضي كون الضد صالحاً لذلك لعدم اقتضاء صدق الشرطيّة صدق طرفيها فانه يجوز أن يتركّب قضيّة شرطيّة من قضيّتين لا يصدق واحد منهما مثل قوله إذا كان الحمار ناطقاً كان ضاحكاً فقوله ان كان عدم الضد مجتمعاً مع وجود المقتضى فيستند إلى وجود الضد المانع صادق الا ان عدمه لا يجتمع مع وجود المقتضى في الخارج أصلاً فلا يصلح وجود الضد أن يكون سبباً لعدم الضد الآخر ولا يتوقّف عدم أحد الضدّين على وجود الضد الآخر ولو شانا لا فعلاً، فهذا البيان مساوق لمنع مانعيّة الضد وان أحد الضدّين لا يكون مانعاً عن وجود الضدّ الآخر أصلاً ولو شأناً وهذا يوجب رفع التوقّف رأساً من البين

ص: 414

............................................

_____________________________

ومن الطرفين ضرورة انّه لا منشأ لتوهّم توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر وكونه مقدّمة له الا توهم مانعيّة الضد عن وجود الآخر كما أشرنا إليه آنفاً وصلوحه لها فاذا لم يصلح للمانعيّة ولم يكن ممانعة ومزاحمة بين الضدّين فكيف يكون عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر ووجوده متوقّفاً على عدمه.

قال الشارح في ذيل قول المصنّف فانّه وإن كان قد ارتفع به الدور الخ وعمدة غرضه قدس سره عدم ارتفاع الدور مطلقاً بهذا الوجه ضرورة ان هذا الوجه بعد أن كان لا يُرتفع به صلاحيّة الوجود للمانعيّة فالدور من حيث التوقّف الفعلي من الجانبين ارتفع الا انّه من حيث صلوح كلّ من الوجود والعدم لتوقّف أحدهما على الآخر ثابت اما في جانب التوقّف فعلاً وهو الوجود فالصلوح موجود وإلّا لم يتوقّف وأمّا في جانب العدم فهو أيضاً موجود حسب الفرض وإن لم يكن توقّف فعلى فحينئذٍ نقول انّ وجود أحد الضدّين صالح لتوقّفه على عدم الآخر وعدم الآخر صالح لتوقّفه على وجود الآخر وهو الدور وهذا ضروري فانّه إذا كان التوقّف الفعلي من الطرفين دوريا فالصلاح للتوقّف أيضاً دوري إذ لا يعقل صلوح الطرفين لأمر دوري يوجه غير دوري فقوله قدس سره وإن ارتفع به الدور إلّا أن غائلة الخ وإن كان ظاهره تسليم ارتفاع الدور مطلقاً ورفع المقدميّة باستلزام محال آخر غير الدور الّا أنّ التأمّل في كلامه يعطي انّ المقصود ارتفاع الدور المتحقّق بفعليّة التوقّف على الوجه الذي قرّره لا ما كان بصلاحيّة التوقّف انتهى كلامه رفع مقامه(1).

ص: 415


1- الهداية في شرح الكفاية: 274 - 275.

إن قلت: التمانع بين الضدين[1] كالنار على المنار، بل كالشمس في رابعة

_____________________________

أقول: اثبات الدور مع عدم التوقّف الفعلي من الطرفين ببيان انّ التوقّف الفعلي مشتمل على صلاحيّة التوقّف أيضاً يثبت الصلاحيّة من الطرفين وهذا أيضاً دور لا وجه له لأن التوقّف الفعلي غير صلاحيّة التوقّف ومتى كان التوقّف فعليّاً فلا صلاحيّة في البين اذ مرتبة الفعليّة غير الصلاحيّة ولا يجامع واحد منهما الآخر فكيف يجوز أن يقال وجود الضد الذي يتوقّف فعلاً على عدم الضد الآخر صالح لأن يتوقّف وجوده على عدمه نعم توقّف شي ء على آخر فعلاً لا يصح مع صلاحيّة ذلك الآخر لأن يتوقّف عليه ذلك الشي ء فان توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر مع صلاحيّة الآخر لأن يتوقّف عليه ذلك الضد غير جائز فيثبت أن لا توقّف في البين بسبب بطلان الأمر المزبور الذي هو غير الدور الباطل والعجب من الشارح انّه كيف نسب إلى المصنّف اثبات الدور مع ثبوت مجرّد الصلاحيّة المتوقّف من طرف عدم الضد مع ان عبارته صريحة في ارتفاعه في تلك الصورة.

[1] أقول: بيانه انّ التدقيقات العملي والتحقيقات الفنوني لا تصلح لأن تمنع عن التصديق بالواضحات والاذعان بالأمور الجليات فانّ التمانع بين الضدّين وتنافيهما وعدم اجتماعهما في الوجود كالنار على المنار بل كالشمس في رابعة النهار وكذا من الواضحات توقّف وجود الشي ء على وجود المقتضى وعدم المانع ويترتّب في المقام صغرى وكبرى هكذا الممانعة بين الضدّين ثابتة لأن وجود كلّ واحد منهما مانع عن وجود الآخر ووجود الشي ء يتوقّف على عدم وجود المانع ينتج ان وجود أحد الضدّين يتوقّف على عدم الضد الآخر فليس ما ذكر إلاّ شبهة في مقابل البديهة.

ص: 416

............................................

_____________________________

قلت: المزاحمة في الوجود الخارجي وعدم اجتماع الشيئين خارجاً غير تأثير أحدهما في وجود الآخر وعدمه وما هو من الواضحات ليس إلّا المزاحمة في الوجود الخارجي بين الضدّين فانّها ممّا لا يقبل الانكار بل يصدق به من له أدنى ادراك إنّما الاشكال في تأثير عدم أحد الضدّين في ايجاد الآخر كما يؤثّر عدم كلّ مانع في ايجاد المقتضى بالفتح كما يؤثّر المقتضى بالكسر أيضاً وهو الذي ننكره ولا نسلمه وكان هذا أيضاً واضح لا يحتاج إلى اقامة برهان بل ولا مؤنة بيان والحاصل ان وجود أحد الضدّين لا يكون مانعاً عن وجود الآخر كي يكون عدمه مؤثّراً في وجوده نعم العلّة التامة لأحد الضدّين ربما يكون مانعاً عن وجود الضد الآخر ومزاحماً لمقتضيه في تأثيره فاذن يتوقّف وجود ذلك الضد على عدم تلك العلّة للضد الآخر ومع عدم العلّة يعدم المعلول البتّة مثلاً يكون شدّة الشفقة على الولد الغريق وكثرة المحبّة له التي تكون علّة تامّة لانقاذ الولد الغريق مانعاً عن أن يؤثر ما في الأخ الغريق من المحبّة والشفقة لارادة انقاذه مع المزاحمة فينقذ الولد دونه فان كمال المحبّة بالنسبة إلى الولد يوجب عدم الضد الآخر وهو انقاذ الأخ اما نفس الضدّين فلا وجه لتأثير وجود أحدهما في عدم الآخر أو عدم أحدهما في وجود الآخر فتأمّل جيّداً كي يظهر لك حقيقة الحال بلطف القديم المتعال.

وممّا ذكرنا ظهر انّه لا فرق بين عدم مقدميّة عدم أحد الضدّين لوجود الآخر من جهة توقّف وجود الشي ء على عدم المانع بل إنّما الضدان يتزاحمان في

ص: 417

............................................

_____________________________

الوجود الخارجي من دون ترتب وسبق ولحوق بينهما في الوجود بين الضد الموجود والمعدوم فالتفصيل بينهما بأن توقف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر إذا كان ذلك الضد الآخر معدوماً باطل وأمّا إذا كان موجوداً فكذلك لأن الضد لا يوجد إلّا بعد عدم الضد الآخر الموجود اذ تزاحم الضدّين في الوجود وتمانعهما ممّا لا يقبل الانكار غير تمام. وجه عدم الفرق ان عدم الضد الموجود إنّما يلائم وجود الضد الآخر المعاند له ولذا لابدّ أن يجامع مع وجود الضد الآخر ولكن ترتّب وجود الضد الآخر على عدم ذلك الضد الموجود وكون عدمه سابقاً على وجود ذلك الضد ومؤثّراً في ايجاده فلا دليل عليه ولا مقتضى له بل قد ظهر ممّا سبق ثبوت المقتضى لعدم السبق وعدم المؤثريّة فتحصل ممّا ذكر ان تفصيل بعض الأعلام بين الضدّ الموجود والمعدوم حيث قال بالتوقّف والمقدميّة في الأوّل دون الثاني مخدوش فتأمّل في أطراف ما ذكرناه فانّه دقيق وبالتأمّل فيه حقيق

وظهر ان حرمة الضد من جهة المقدميّة وعدمه ومؤثّراً في وجود المأمور به الذي هو الضد الآخر لا وجه له وأمّا ثبوت حرمة الضد من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم والمفروض ان وجود المأمور به متلازم مع عدم الضد الآخر والفرض وجوب المأمور به فلابدّ أن يكون عدم الضد الآخر أيضاً واجباً فيكون فعله حراماً فلا يتمّ أيضاً لأن غاية ما يلزم في المتلازمين أن لا يكون

ص: 418

............................................

_____________________________

أحدهما فعلاً محكوماً بغير ما حكم به الآخر إلّا أن يكون محكوماً بحكمه.

فان قيل: ان الحكم الذي يكون أحد المتلازمين محكوماً به اما أن يكون عين الحكم الذي محكوم به الآخر أو غيره فان كان عينه فقد ثبت المطلوب وإن كان غيره فالفرض انّه لا يجوز.

قلنا: لا مانع من أن لا يكون أحدهما محكوماً بحكم فعلاً أصلاً وعدم خلو الواقعة عن الحكم إنّما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضاً بل إنّما حكمه ما ثبت له في الواقع لولا الابتلاء بهذه المضادة غاية الأمر ذلك الحكم الواقعي لم يبلغ الدرجة الفعليّة من جهة الابتلاء بالمضادة وهذا غير خلو الواقعة عن الحكم أصلاً ورأساً وما لا يجوز إنّما هو الخلو على هذا الوجه قال الشارح بعد هذا البيان من المصنّف:

تنبيه: لا يذهب عليك ان هذا مع ما ذكره أيضاً في آخر المقدّمة الموصلة من جواز خلو الواقعة عن الحكم مطلقاً متدافع وحمل ما ذكره هناك على ما ذكره هنا موجب لبطلان ما أسّسه هناك فانّه مبنى على خلوها مطلقاً لا فعلاً فلاحظ وتدبّر.

أقول: قد مرّ من الشارح في بحث المقدّمة الاشارة إلى ما ذكره المصنّف هنا أيضاً وقد مرّ منّا هناك ما يوضح بطلان ما أورده على المصنّف بما لا مزيد عليه ويظهر منه انه لا تدافع بين كلامه أصلاً فلا نطيل بالاعادة واللَّه العالم.

ص: 419

النهار، وكذا كون عدم المانع مما يتوقف عليه، مما لا يقبل الانكار، فليس ما ذكر إلا شبهة في مقابل البديهة.

قلت: التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، إلا أنه لا يقتضي إلا امتناع الاجتماع، وعدم وجود أحدهما إلا مع عدم الاخر، الذي هو بديل وجوده المعاند له، فيكون في مرتبته لا مقدما عليه ولو طبعا، والمانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود هو ماكان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشي ء ويزاحمه في وجوده.

نعم العلة التامة لاحد الضدين، ربما تكون مانعا عن الآخر، ومزاحما لمقتضيه في تأثيره، مثلا تكون شدة الشفقة على الولد الغريق وكثرة المحبة له، تمنع عن أن يؤثر ما في الاخ الغريق من المحبة والشفقة، لارادة إنقاذه مع المزاحمة فينقذ الولد دونه، فتأمل جيدا.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم، في أن عدمه الملائم للشي ء المناقض لوجوده المعاند لذاك، لابد أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه، بل قد عرفت ما يقتضي عدم سبقه.

فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الاعلام، حيث قال بالتوقف على رفع الضد الموجود، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم، فتأمل في أطراف ماذكرناه، فإنه دقيق وبذلك حقيق.

فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمية.

وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود، في الحكم، فغايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر، لا أن يكون محكوما بحكمه.

ص: 420

وعدم خلو الواقعة عن الحكم، فهو إنما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا، بل على ما هو عليه، لولا الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي، من الحكم الواقعي.

الامر الثالث: إنه قيل بدلالة الامر بالشي ء بالتضمن على النهي عن الضد العام،[1 ]

_____________________________

[1] أقول: ذهب بعض إلى انّ الأمر بالشي ء يدلّ بدلالة التضمّن على حرمة ضدّه العام وهو الترك إذ معنى الأمر الوجوبي يتركّب من طلب الفعل والمنع من الترك فيكون المنع من الترك أحد جزئي الوجوب الذي هو معنى الأمر ودلالة التضمّن إنّما هي عبارة عن دلالة اللفظ على جزء المعنى.

والتحقيق: انّه لا تركّب في معنى الأمر وهو الوجوب بل إنّما الوجوب طلب أكيد وبعث شديد نحو المطلوب فلا يكون إلّا طلباً واحداً شديداً مؤكّداً لاطلبين يكون أحدهما متعلّقاً بالفعل وآخر بالترك كما توهّم، نعم في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها وشرحها وتقريب الاذهان بتفصيلها ربما يقال الوجوب يكون عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك ويتخيّل انّه يذكر له حدّاً وانّ المنع من الترك من ذاتيات الوجوب وأجزائه وغير طلب الفعل مع انّه ليس كذلك إذ ليس من أجزاء الوجوب ومقوّماته بل من خواصه ولوازمه بمعنى انه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة وكان يبغضه البتّة مع انّه يمكن أن يأمر بشي ء بالأمر الوجوبي ولم يكن ملتفتاً إلى ترك ما أمر به أصلاً فضلاً عن المنع منه ومن هنا ظهر انه لا وجه لدعوى العينيّة ودلالة الأمر بالشي ء على النهي عن الضد العام وهو الترك بالدلالة المطابقيّة ضرورة انّ اللزوم بين الشيئين يقتضي المغايرة

ص: 421

بمعنى الترك، حيث أنه يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل والمنع عن الترك.

والتحقيق: أنه لا يكون الوجوب إلا طلبا بسيطا، ومرتبة وحيدة أكيدة من الطلب، لا مركبا من طلبين، نعم في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها، ربما يقال: الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك، ويتخيل منه أنه يذكر له حدا، فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوماته، بل من خواصه ولوازمه، بمعنى أنه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة، وكان يبغضه البتة.

ومن هنا انقدح أنه لا وجه لدعوى العينية، ضرورة أن اللزوم يقتضي الاثنينية، لا الاتحاد والعينية.

نعم لا بأس بها، بأن يكون المراد بها أنه يكون هناك طلب واحد، وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا إليه، كذلك يصح أن ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز ويكون زجرا وردعا عنه، فافهم.

_____________________________

والاثنينية والا فلا يمكن أن يكون تلازماً بين الشي ء ونفسه فانّ الشي ء عين نفسه وليس لازماً له فادعاء الدلالة المطابقيّة لا وجه له، نعم لا بأس بدعوى العينيّة إذا كان المراد بها انّ هناك طلب واحد وكما يصح أن ينسب ذلك الطلب المدلول بالأمر إلى الفعل والوجود حقيقة بأن يقال انّ الآمر طلب من المأمور ايجاد الفعل وبعثه إليه كذلك يصح أن ينسب ذلك الطلب إلى الترك بالعرض والمجاز بأن يقال انّ الآمر طلب ترك الترك من المأمور وزجره عنه وردعه وهذا غير عينيّة طلب الفعل مع المنع من الترك كما لا يخفى.

ص: 422

الامر الرابع: تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة، وهي النهي عن الضد بناء على الاقتضاء، بضميمة[1] أن النهي في العبادات يقتضي الفساد، يتنج فساده إذا كان عبادة.

_____________________________

[1] أقول: بيانه انّ الثمرة في دلالة الأمر بالشي ء على النهي عن ضدّه وعدم صحّة العبادة إذا كان الضد للمأمور به عبادة كالصلوة التي تكون ضداً لازالة النجاسة عن المسجد مثلاً بناء على عدم الدلالة وفسادها بناء على دلالته عليه ولكن البهائي رحمه الله أنكر تلك الثمرة بدعوى انه لا نحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد بل يكفي عدم الأمر به لاحتياج العبادة إلى الأمر، وعدم صحّتها حاصل إذا لم تكن مأمورة بها ولا يحتاج إلى النهي في فسادها كالمعاملات ففساد العبادة أعم من تعلّق النهي بها إذ يمكن أن يكون فاسدة ولم يكن النهي متعلّقاً بها بل كانت غير مأمورة بها وأجاب عنه المصنّف بأن عدم الأمر لا يكون موجباً للبطلان إذ يكفي في الصحّة مجرّد الرجحان ووجود مناط الأمر وملاكه وثبوت المصلحة في العمل بناء على ما هو مذهب العدليّة أو غيرها أي شي ء كان غير المصلحة كما هو مذهب الأشاعرة وإن لم يتعلّق بما فيه الرجحان والمصلحة أمر أصلاً فان مزاحمة احد الضدّين مع الآخر إنّما توجب ارتفاع الأمر المتعلّق به فعلاً مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة أو غيرها فعدم الأمر أيضاً كتعلّق النهي أعم من الفساد إذ لا مانع من الصحّة مع عدمه بسبب الملاك الثابت واستشكل الشارح هنا ان ما قاله البهائي ليس انكاراً للثمرة كما أفاده المصنّف قدس سره بل توسعة لموضوعها فلا تصحّ العبادة حينئذٍ لاحتياج العبادة إلى الأمر.

أقول: مراد المصنّف من إنكار الثمرة انكارها على نحو تكون مختصّة ببحث الضد وثبوت النهي عن الضد الذي أمر بما يكون ضداً له وان تكون تلك الثمرة

ص: 423

وعن البهائي رحمه الله أنه أنكر الثمرة، بدعوى أنه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد، بل يكفي عدم الامر به، لاحتياج العبادة إلى الامر.

وفيه: إنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى، كي يصح أن يتقرب به منه، كما لا يخفى، والضد بناء على عدم حرمته يكون كذلك، فإن المزاحمة على هذا لا يوجب إلا ارتفاع الامر المتعلق به فعلا، مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة، كما هو مذهب العدلية، أو غيرها أي شي ء كان، كما هو مذهب الاشاعرة، وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيته وخروجه عن قابلية التقرب به كما حدث، بناء على الاقتضاء.

ثم إنه تصدى جماعة من الافاضل، لتصحيح الامر بالضد بنحو الترتب على العصيان، وعدم إطاعة الامر بالشي ء[1] بنحو الشرط المتأخر، أو البناء على

_____________________________

نتيجة للأبحاث التي وقعت في بحث الضد كما هو الشأن في كلّ ثمرة تتعيّن للبحث والمسئلة وبعبارة أخرى الثمرة ما تكون دائرة مدار ما يتحصّل من أبحاث المسئلة وجوداً وعدماً بمعنى انّه كلّما كان لأبحاث المسئلة نتيجة وحصل منها فائدة كانت تلك وإذا لم يترتّب عليها فائدة لا تحصل تلك الثمرة ولا توجد وقد جرى اصطلاحهم في ثمرة المسئلة على ذلك وعلى هذا فلمّا كان بطلان العمل إذا كان المنهي عنه بسبب الأمر بالضد عبادة ثابتاً مع عدم اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن ضدّه من جهة عدم الأمر بها وكفايته في بطلانها فلا يكون بطلان العبادة ثمرة لتلك المسئلة على اصطلاحهم.

[1] أقول: حاصل مراد تلك الجماعة هو انّه إذا كان الأمر بالشي ء والأمر بضدّه .

ص: 424

............................................

_____________________________

في مرتبة واحدة بأن كان الأمر أمراً بفعل وأمراً بضدّه في عرضه أيضاً فلا يجوز ذلك وأمّا إن كان الأمران من الآمر صادرين منه بنحو الترتّب بأن يقول يجب عليك فعل كذا وان عصيت فلم تفعل فافعل كذا فلا مانع منه أصلاً والشرط الممكن أخذه في الأمر الثاني على واحد من ثلاثة أنحاء إمّا الشرط المتأخّر أو المتقدّم أو المقارن لأنّه إمّا أن يجعل الشرط في الأمر بالضد نفس فعل المعصية ومخالفة الأمر الأوّل مثل أن يقول أمرك بكذا فان عصيت فافعل كذا فالشرط يكون حينئذٍ شرطاً متأخراً لأنّ فعل المعصية ومخالفة الأمر الأوّل لا يحصل إلّا بامتثال الأمر الثاني وتماميّة فعل ضدّه الكاشف عن تعلّق الأمر به أوّل الشروع وأمّا أن يجعل بناء العبد على المعصية بأن يقول المولى أمرك بكذا فان كنت بانياً على العصيان وناوياً للطغيان فافعل كذا فالشرط حينئذٍ يكون من الشرط المتقدم أو المقارن إذ البناء على المعصية والعزم عليها يكون سابقاً في الوجود على فعل غير الأهم ومقارناً من أوّل الشروع إلى تمام العمل ويشهد على صحّة الأمر بالشي ء والأمر بضدّه بنحو الترتّب المذكور فضلاً عن عدم لزوم محذور منه وعدم مانع عنه وقوعه بين أهل العرف كثيراً فانّه ربما يقول المولى لعبده بالفارسيّة فلان كار را بكن واگر نمى كنى اقلا فلان كار ديگر را بكن أو يقول و اگر خيال دارى اين امر مرا اطاعت نكنى اقلا فلان كار ديگر را بكن ولولا صحّة ذلك مرتكزاً في الأذهان ولم تكن حسنة ثابتاً في جبلتهم لما صدر عنهم مثل تلك الأوامر البتة.

ص: 425

............................................

_____________________________

قلت: ما هو المناط في استحالة طلب الضدّين في عرض واحد حاصل في طلب الفعل وضدّه ولو بنحو الترتّب أيضاً، بيانه انّ المناط في استحالة تعلّق الطلب بالضدّين عرضاً اجتماع طلبين لا يمكن امتثالهما وقباحة صدور مثل هذا الطلب من الحكيم وهذا المحذورات موجودة في ما اذا كان الطلبان قريبين لا عرضيين أيضاً لأنّه في مرتبة الأمر بغير الأهم يكون الأمر بالأهم حاصلاً أيضاً وإن كان في مرتبة الأمر بالأهم لا يكون الأمر بغير الأهم إذ الفرض انّه يأمر بالأهم أولا فقط ثمّ على فرض المعصية أو البناء عليها يأمر بغير الأهم أيضاً فاذا كان في حال العصيان للأمر بالأهم مأموراً بغير الأهم ولا مانع من الأمر بالأهم حينئذٍ أيضاً وفعليته فيجتمع الأمر بالأهم وغير الأهم حينئذٍ وقد ذكرنا انّ الأمر بالضدّين محال لا يصدر من الحكيم.

لا يقال: انّ قبح الأمر بالضدّين إنّما يكون فيما إذا لم يكن الباعث عليه سوء اختيار المكلّف فان عصيان المكلّف في المقام صار سبباً لأن يأمره المولى بالضدّين وإلّا فلم يكن مأموراً أوّلاً الا بالأهم ولما عصى أو بنى على العصيان أمره المولى بغير الأهم أيضاً ليتمكّن منه حينئذٍ فلا قبح فيه بعد ما كان المكلّف هو السبب له وإنّما المعلوم والمسلّم قبحه وامتناعه فيما إذا لم يكن كذلك.

فانّه يقال في جوابه: انّ طلب الضدّين محال مطلقاً ولا مانع منه إلّا محاليّته وقبح صدور طلب المحال من الحكيم تعالى ولا فرق في ذلك بين حال وحال آخر فان ما يدلّ على استحالة طلب الأهم وغير الأهم معاً في غير حال ترك العبد

ص: 426

............................................

_____________________________

للأهم وهو طلب المحال يدلّ على استحالته في غير تلك الحال أيضاً وإلّا فلو كان الارجاع إلى اختيار المكلّف مجوزاً للتكليف بالضدّين لم يكن حاجة إلى تصحيحه بالترتّب بل جاز أن يأمره المولى بهما عرضاً وايكال فعل الواحد منهما إلى ارادة المكلّف واختياره بأن يقول المولى لعبده أمرك بفعل كذا وضدّه في زمان واحد ولكنّك مختار في ايجاد أيّ واحد منهما في الخارج مع انه محال وباطل إذ بذلك التعليق لا يخرج الطلب عن عنوان طلب المحال فانّه إذا كان طلب الضدّين محالاً مطلقاً فمحال ولو في حال عصيان المكلّف واختياره للسوء وترك الأهم وفعل غيره.

ان قلت: فرق بين اجتماع طلبين في عرض واحد واجتماعهما بنحو الترتب فان الطلب في كلّ منهما في الصورة الأولى يطارد الآخر ويدفعه إذ طلب الشي ء وطلب ضدّه يتزاحمان غاية المزاحمة ولا يجتمعان واما ان كان بنحو الترتّب وطوليا فلا طرد في البين إذ الأمر بالأهم إنّما يكون على تقدير عدم الاتيان بالأهم وعلى تقدير الاتيان به لا يكاد يريد غيره فلا مطاردة في البين أصلاً.

قلت: ثبوت المطاردة بين الأمرين ولو كان ثبوتهما بنحو الترتّب لا يكاد ينكر اذ مناط مطاردة الأمر بغير الأهم للأمر بالأهم ومزاحمته له فعليّة الأمر بغير الأهم ومضادة متعلّقة للأهم والمفروض فعليّة الأمر بغير الأهم وضديّة متعلقة للأهم ولو كان بتحو الترتب إذ المراد من الترتب اثبات الأمرين طوليّاً وهو لا ينافي فعليتهما وعدم ارادة غير الأهم على تقدير الاتيان بالأهم لا يوجب عدم طرد الأمر بغير

ص: 427

............................................

_____________________________

الأهم لطلب الأهم مع تحقّق الأمر بغير الأهم على تقدير عدم الاتيان بالأهم وعصيان أمره فيلزم اجتماع الأمر بالأهم وغير الأهم على هذا التقدير يعني عدم الاتيان بالأهم والاتيان بغير الأهم فان حين الاتيان بغير الأهم يكون مأموراً البتة بالأهم مع انّه لا يلزم في استحالة طلب الضدّين أن يكون المطاردة من الجانبين كي يقال عند الاشتغال بغير الأهم لاطرد لغير الأهم بالنسبة إلى الأهم اذ في تلك الحال لا يريد الأهم بل يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم فانه على هذا الحال أي حال الاتيان بغير الأهم يكن طارداً لطلب الضد كما كان في غير هذا الحال كذلك فلا يكون للأهم مع غير الأهم مجال أصلاً.

فان قلت: فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدّين في زمان واحد في العرفيّات فان المحال لا يصدر من العاقل وقد مرّ ان ما هو ملاك الاستحالة في طلب الضدّين عرضا ثابت في طلبهما بنحو الترتّب أيضاً.

قلت: إنّما يتصوّر لتصحيح ما ورد في العرفيّات من الأمر بالضدّين بنحو الترتّب وجهان أحدهما أن يكون الامر بغير الأهم بعد التجاوز عن الأمر بالأهم وطلبه حقيقة، قوله وطلبه في المتن معطوف على الأمر بغير الأهم لا على الأمر به أي بالأهم بقرينة قوله في مقابله ارشاداً، وقوله حقيقة قيد لقوله طلبه أي طلب غير الأهم بالطلب الحقيقي في مقابل الارشادي يعني ان الامر بغير الأهم وطلبه إمّا أن يكون حقيقيّاً لا ارشاديّاً فحينئذٍ يكون بعد التجاوز عن الأمر بالأهم والاعراض عن الأهم وسقوط الأمر وإمّا أن لا يكون بعد التجاوز وسقوط الأمر بالأهم ولكن

ص: 428

معصيته بنحو الشرط المتقدم، أو المقارن، بدعوى أنه لا مانع عقلا عن تعلق الامر بالضدين كذلك، أي بأن يكون الامر بالاهم مطلقا، والامر بغيره معلقا على عصيان ذاك الامر، أو البناء والعزم عليه، بل هو واقع كثيرا عرفا.

قلت: ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد، آت في طلبهما كذلك، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الاهم اجتماع طلبهما، إلا أنه كان في مرتبة الامر بغيره اجتماعهما، بداهة فعلية الامر بالاهم في هذه المرتبة، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص، أو العزم عليها مع فعلية الامر بغيره أيضا، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا.

لا يقال: نعم ولكنه بسوء اختيار المكلف حيق يعصي فيما بعد بالاختيار، فلولاه لما كان متوجها إليه إلا الطلب بالاهم، ولا برهان على امتناع الاجتماع، إذا كان بسوء الاختيار.

_____________________________

لما كان الأمر به ارشاديّاً لا حقيقيّاً يعني للارشاد إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا مزاحمة الأهم معه وانّ الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بسبب المثوبة المترتّبة على فعل غير الأهم بعض ما استحقّه على مخالفة الأمر بالأهم لأنّ الحسنات يذهبنّ السيّئات وليس الأمر المتعلّق بغير الأهم في العرفيّات مولويّاً فعليّاً كالأمر بالأهم فتحصل ان اجتماع الامرين بالأهم وغير الأهم ولو بنحو الترتّب لا يجوز من دون أن يكون بأحد النحوين المزبورين ولا أثر للترتيب في تجويز الأمر بالضدّين أصلاً اذا لم يكن بأحد النحوين.

ص: 429

فإنه يقال: استحالة طلب الضدين، ليس إلا لاجل استحالة طلب المحال، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته، لا تختص بحال دون حال، وإلا لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب، مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال.

إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك، فإن الطلب في كل منهما في الاول يطارد الآخر، بخلافه في الثاني، فإن الطلب بغير الاهم لا يطارد طلب الاهم، فإنه يكون على تقدير عدم الاتيان بالاهم، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه، وعدم عصيان أمره.

قلت: ليت شعري كيف لا يطارده الامر بغير الاهم؟ وهل يكون طرده له إلا من جهة فعليته، ومضادة متعلقه للاهم؟ والمفروض فعليته، ومضادة متعلقه له.

وعدم إرادة غير الاهم على تقدير الاتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه، على تقدير عدم الاتيان به وعصيان أمره، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير، مع ما هما عليه من المطاردة، من جهة المضادة بين المتعلقين، مع أنه يكفي الطرد من طرف الامر بالاهم، فإنه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد، كما كان في غير هذا الحال، فلا يكون له معه أصلا بمجال.

إن قلت: فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكون الامر بغير الاهم، بعد التجاوز عن الامر به وطلبه حقيقة.

وإما أن يكون الامر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة، وأن الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الامر بالاهم، لا أنه أمر مولوي فعلي

ص: 430

كالامر به، فافهم وتامل جيدا.

ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب،[1] بما هو لازمه من الاستحقاق في

_____________________________

[1] يعني مضافاً إلى فساد الترتّب في نفسه وانه لا فرق في استحالة تعلّق الطلب بالضدّين بين كونه عرضيّاً أو طوليّاً مستلزم لأمر فاسد أيضاً وهو استحقاق العقابين في صورة المخالفة وترك الأهم وغير الأهم معاً وقبحه واضح اذ العقوبة على ترك غير المقدور قبيح قال ولذا كان سيّدنا الأستاذ يعني الميرزا محمّد حسن الشيرازي قدس سره لا يلتزم به يعني باستحقاق العقوبتين على ما هو ببالي وكنّا نورد به على الترتّب وكان بصدد تصحيحه يعني انّ السيّد الأستاذ أراد تصحيح الترتّب ونورد عليه الاشكال بلزوم هذا اللازم ولا يلتزم به فظهر انه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهم منها إلّا ملاك الأمر وهو المحبوبيّة والمطلوبيّة الواقعيّة ولا وجه لتصحيحها بسبب تعلّق الأمر به، والترتّب لا أثر له في ذلك فتحصل من جميع ما ذكر انه لا وجه لتصحيح ثبوت الأمر الفعلي وان يقصد العبد امتثاله في فعل غير الأهم من الواجبين وانه ينحصر وجه صحّة العبادة فيما لو أمر بالضدّين في ملاك الأمر أي المحبوبيّة والمطلوبيّة إلّا ان المصنّف استثنى من هذا صورة واحدة جَدَّ بليغاً في شرحها بقوله نعم الخ بيانه إذا كانت غير الأهم موسعة وكانت مزاحمة بالأهم بالنسبة إلى بعض وقته لاتمامه يمكن أن يقال بثبوت الأمر الفعلي وصحّة تلك العبادة بواسطة قصد امتثال ذلك الأمر في اتيانه كازالة النجاسة عن المسجد التي تجب فوراً والصلوة في سعة الوقت لأنّ الأمر بالصلوة في المثال باق على

ص: 431

............................................

_____________________________

حاله وان صارت العبادة الموسعة مضيقة بخروج ما زاحمه الواجب الأهم من أفرادها من تحت طبيعة العبادة المأمور بها أمكن أن يؤتى بما زوحم منها أي بالفرد المنافي مع الواجب الأهم من أفراد تلك العبادة بأن يصلّي مثلاً في حال ترك الازالة بداعي الأمر الذي تعلّق بطبيعة الصلوة في قوله أقيموا الصلوة فان ذلك الفرد المزاحم وإن كان خارجاً عن تحتها بما هي مأمور بها إلّا انّه لما كان وافياً بغرضها ولم يكن تفاوت بين ذلك المزاحم مع الواجب الأهم وغيره كان عقلاً مثله في الاتيان به في مقام الامتثال والاتيان به بداعي ذلك الأمر وعدم كون ذلك الفرد مشمولاً للأمر بالطبيعة لا لقصور فيه كما هو الفرض بل لعدم امكان تعلّق الأمر بما تعمّه عقلاً من حيث المزاحمة، وبالجملة فالعقل لا يرى تفاوتاً في مقام الامتثال واطاعة الأمر بها بين هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً فكما انّ العقل يحكم بالتخيير بين الأفراد التي أمر الشارع بكليها ولا فرق في نظره بين الأفراد المختلفة الواقعة في الخارج للطبيعة المأمور بها ويحصل الامتثال للأمر بالطبيعة باتيان كلّ واحد منها من دون فرق بينها أصلاً فكذلك حيث انّ الفرد المزاحم مساو مع الفرد الغير المزاحم ولا تفاوت بينهما فيحكم العقل بكفايته في امتثال الأمر بالطبيعة كما يحصل الامتثال بالاتيان بالفرد الغير المزاحم هذا بناء على تعلّق الأوامر بالطبائع وهكذا إذا قلنا بتعلّقها بالأفراد أيضاً فانه إذا لم يكن تفاوتاً بين الأفراد فلم لا يحصل امتثال الأمر المتعلّق بالأفراد بالاتيان بالفرد المزاحم وإن كان جريانه

ص: 432

............................................

_____________________________

عليه أخفى كما لا يخفى، هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أفاده المصنّف.

وأورد عليه الشارح وقال مقدّمة لبيان الاشكال انّهم(1) ذكروا في مقام الفرق بين القول بمفهوم الصفة وعدمه وان الخالي عن الصفة على الأوّل يعني على القول بثبوت المفهوم للوصف منفي عنه الحكم فيقع معارضاً لو دلّ دليل على ثبوته له وعلى الثاني وهو القول بعدم المفهوم يكون مسكوتاً عنه فلو دلّ دليل على الثبوت فلا يقع معارضاً وذكروا ان الامتثال على القولين لا يكون إلّا بواجد الصفة وإن كان الخالي عنها مساوياً بناء على عدم المفهوم لأن غير المأمور به لا يمكن تحقّق الامتثال به والمقام من هذا القبيل فانّ الخروج وإن كان للمزاحمة لا للقصور إلّا انّه لا يمكن أن يكون مأموراً به كما اعترف بذلك، فكيف يكون الاتيان بالفرد الغير المأمور به امتثالاً للأمر واتياناً بالفرد المأمور به وان ساواه في جميع الجهات حقيقة وواقعاً ثمّ قال الشارح وهذا الوجه محكي في تقريرات بعض الأعاظم عن شيخنا العلّامة المرتضى وتبعه المصنّف قدس سره عليه وغاية ما أفاده المقرّر في بيانه انّ الموجب لصحّة الفرد هو انطباق الكلي عليه لا تعلّق أمر بخصوصه وإلّا لكانت الأفراد كلّها واجبات عينية ومن المعلوم انّ الأمر إنّما تعلّق لفظاً بكلي الصلوة وإنّما يحكم العقل بحصول الامتثال بالفرد لانطباق المأمور به عليه من غير فرق بين صورة المزاحمة وعدمها ولذا قلنا بالتخيير عقلاً بين الأفراد لا شرعاً، وفي

ص: 433


1- الهداية في شرح الكفاية: 287.

............................................

_____________________________

صورة المزاحمة لم يحكم العقل بخروج الفرد المزاحم تخصيصاً والا كان التخيير بين الأفراد من أوّل الأمر شرعاً فيخرج هذا الفرد المزاحم عنه وإذا كان الأمر كذلك فالفرد المزاحم بعد ان لم يكن منهياً عنه وكان كغير المزاحم في ثبوت مقتضى الأمر فيه كان ممّا ينطبق عليه الكلي ويكفي ذلك في صحته هذا غاية ما حقّقه المقرّر.

قال الشارح: وفيه ما عرفت من انّ العقل بعد ما حكم بخروجه ولو للمانع عن الطبيعة أو الأفراد المأمور بها فلا يعقل كفاية مجرّد الانطباق عليه في الصحّة بعد ان استحال عقلاً تعلّق أمر به أو بطبيعة تعمه من حيث انها تعمه ولا يكون متعلّقاً للأمر ولو لمانع كيف يكون امتثالاً لذلك الأمر المتعلّق بمثله من حيث تحقّق المقتضى المغاير له من حيث عدم المانع، وبالجملة فالاتيان بداعي الأمر للفعل الذي لا أمر به فعلاً يكون داعياً إليه غير ممكن أصلاً لو لم يكن تشريعاً على بعض الوجوه، نعم يمكن أن يأتي بما زوحم بداعي أمره التقديري لولا المزاحمة لتعلّق به أو بداعي وجوبه الواقعي الذي لولا المزاحمة لبلغ المرتبة الفعليّة وأمر به فعلاً فيئول إلى كونه بداعي أمره وكلاهما كما ترى عبارة أخرى عن قصد المحبوبيّة والملاك وظاهر المصنّف قصد تصحيح قصد الأمر الفعلي كما لا يخفى انتهى كلامه رفع مقامه(1).

أقول: لا مانع من انطباق الكلّي على الفرد المزاحم الذي هو المناط في صحّة

ص: 434


1- الهداية في شرح الكفاية: 288.

............................................

_____________________________

الفرد الذي يأتي به المأمور والمقصود من كونه مأموراً به انطباق الكلّي على الفرد أمر قهري لا يتوقّف على ارادة من يأمر بالكلّي والطبيعة لفرده وإنّما المانع وهو المزاحمة ثابت فيما إذا أراد الآمر خصوص الفرد من الكلّي وليس كذلك بل يمكن أن لا يتوجّه الآمر بالطبيعة إلى الأفراد أصلاً حين الأمر بها وحصول الامتثال باتيان الفرد إنّما هو للانطباق والمقصود من الأمر الفعلي المتعلّق بما أتى به المأمور ليس إلّا كون الفرد ممّا ينطبق عليه الكلّي وبهذا المعنى لا اشكال في ثبوته واستشكال الشارح إنّما هو من جهة انه فهم من الأمر الفعلي تعلّق الأمر الشرعي بخصوص الفرد الخارجي وانحلال قوله أقيموا الصلوة مثلاً إلى قوله صلّ حتّى في وقت تنجس المسجد مثلاً وتنظير الشارح محلّ البحث بما إذا لم يكن للمفهوم وصف مع الفارق اذ الجاهل مثلاً غير العالم الذي يكون موضوعاً للحكم في قوله أكرم العالم فلا يكون مأموراً به بوجه ولا وجه لكون اكرامه امتثالاً للأمر بخلاف ما نحن فيه فانّ الفرد المزاحم كسائر الأفراد ممّا ينطبق عليه الكلّي المأمور به وإن لم يمكن كونه مأموراً به بخصوصه أو بما تعمّه الأمر بالطبيعة إلّا انّه لما كان العقل حاكماً بالتخيير بين أفراد الكلّي الذي أمر به الشارع ولا يرى تفاوتاً بين الفرد المزاحم وغير المزاحم بتولّد أمر عقلي تخييري بالنسبة إلى الفرد المزاحم من الأمر الشرعي بالكلّي والطبيعة وهو كاف في صحّته وهو المعنى من ثبوت الأمر الفعلي ولا إشكال فيه نعم يحتاج إلى دقّة لم يعملها الشارح في المقام عصمنا اللَّه من الزلل والخطأ وبه الاعتصام.

ص: 435

صورة مخالفة الامرين لعقوبتين، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، ولذا كان سيدنا الاستاذقدس سره لا يلتزم به - على ما هو ببالي - وكنا نورد به على الترتب، وكان بصدد تصحيحه، فقد ظهر أنه لا وجه لصحة العبادة، مع مضادتها لما هو أهم منها، إلا ملاك الامر.

نعم فيما إذا كانت موسعة، وكانت مزاحمة بالاهم ببعض الوقت، لا في تمامه، يمكن أن يقال: إنه حيث كان الامر بها على حاله، وإن صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الاهم من أفرادها من تحتها، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذلك الامر، فإنه وإن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها، إلا أنه لما كان وافيا بغرضها كالباقي تحتها، كان عقلا مثله في الاتيان به في مقام الامتثال، والاتيان به بداعي ذلك الامر، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا.

ودعوى أن الامر لا يكاد يدعو إلا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها، وما زوحم منها بالاهم، وإن كان من أفراد الطبيعة، لكنه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها، فاسدة، فإنه إنما يوجب ذلك، إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة، فإنه معها وإن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها، إلا أنه ليس لقصور فيه، بل لعدم إمكان تعلق الامر بما تعمه عقلا، وعلى كل حال، فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال وإطاعة الامر بها، بين هذا الفرد وسائر الافراد أصلا.

هذا على القول بكون الاوامر متعلقة بالطبائع.

وأما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك، وإن كان جريانه عليه أخفى، كما لايخفى، فتأمل.

ص: 436

ثم لا يخفى أنه بناء على إمكان الترتب وصحته، لابد من الالتزام بوقوعه، من دون انتطار دليل آخر عليه،[1] وذلك لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلا امتناع الاجتماع في عرض واحد، لا كذلك، فلو قيل بلزوم الامر في صحة العبادة: ولم يكن في الملاك كفاية، كانت العبادة مع ترك الاهم صحيحة لثبوت الامر بها في هذا الحال، كما إذا لم تكن هناك مضادة.

المقصد الاول: فى الاوامر /

الفصل السادس: حكم أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

فصل: لا يجوز أمر الآمر، مع علمه بانتفاء شرطه خلافا لما نسب إلى[2 ]

_____________________________

[1] أقول: يعني انّه إذا ثبت امكان الترتّب في مقام الثبوت لا يحتاج إلى دليل خاص في مقام الاثبات بل يكفي في اثباته ثبوته والأدلّة الأوليّة الأصليّة الدالّة على وجوب الأهم وغير الأهم وذلك لوضوح انّ المزاحمة بناء على صحّة الترتّب وامكانه لا تقتضي عقلاً إلّا امتناع الاجتماع في عرض واحد لا كذلك يعني لا بنحو الترتّب لفرض صحّته وامكانه وعدم امتناعه فلو قيل بلزوم الأمر في صحّة العبادة ولم يكن في الملاك والمحبوبيّة كفاية كانت العبادة مع ترك الأهم صحيحة لثبوت الأمر بها في هذا الحال أي حال ترك الأهم مثل ما إذا لم يكن هناك مضادة فانّه لو لم يكن هناك مضادّة لم يكن مانع عن الأمر بغير الأهم فكذلك مع ثبوت المضادة والمزاحمة في حال ترك الأهم لا مانع من ثبوت الأمر بغير الأهم بنحو الترتّب والحاصل انّ الترتّب من الأشياء التي صحّتها عين وقوعها من دون انتظار دليل آخر عليه بل هو دليل لصحّة ما استحالت ظاهرا صحته.

[2] أقول: الضمير في قوله مع شرطه راجع إلى الأمر يعني انّ الأمر بشي ء مع عدم تماميّة علّته التي يكون الشرط من أجزائها يستحيل عرضاً وبالغير ومن جهة

ص: 437

............................................

_____________________________

عدم امكان وجود الشي ء مع عدم علّته فالمراد بعدم الجواز الاستحالة بالغير لاستحالة وجود المعلول بدون العلّة لا الاستحالة الذاتيّة في مقابل الامكان الذاتي، وحمل عدم الجواز على الاستحالة الذاتيّة بعيد عن محلّ الخلاف بين الأعلام لان محلّه كما عرفت ما امتنع لعدم علّته فلا ينافي امكانه ذاتاً كما هو الحال في سائر الممكنات الذاتيّة الممتنعة بالغير، نعم لو كان المراد من لفظ الأمر واسم الظاهر الأمر ببعض مراتبه ومن ضميره الراجع إليه ببعض مراتبه الآخر بأن يكون النزاع في انّ أمر الآمر يجوز انشاء مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليّة وبعبارة أخرى كان النزاع في جواز انشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعليّة لعدم شرطه لكان جائزاً وفي وقوعه في الشرعيّات والعرفيّات غني وكفاية فانّه ربما يأمر المولى عبده انشاء مع عدم حصول شرط الأمر الفعلي ولا حاجة مع الوقوع في الشرعيّات والعرفيّات إلى مزيد بيان أو مؤنة برهان وقد عرفت سابقاً في الفصل الثاني فيما يتعلّق بصيغة الأمر في المبحث الأوّل منه ان داعي انشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك جداً بل قد يكون صوريّاً امتحانيّاً وربما يكون غير ذلك من الترجي والتمنّي والتهديد والانذار والاهانة فيتحصّل انّه لا مانع من انشاء الطلب مع عدم فعليته لعدم حصول شرطيّة الفعليّة.

فان قلت: الأمر الذي لا يكون بداعي البعث والتحريك ليس أمرا فان الأمر حقيقة في الطلب الفعلي الجدي وهو ما يصدر من الطالب بداعي البعث والتحريك وإلّا فمن يأمر بشي ء صورياً لا بداعي البعث والتحريك نحو المأمور به فليس أمراً

ص: 438

............................................

_____________________________

حقيقة ولا طلبه أمراً كذلك فيتحصّل انّ الأمر بمرتبة العلم بانتفاء شرطه بمرتبة أخرى لا مصداق له في الخارج وغير ممكن أيضاً لعدم تحقّق عنوان الأمريّة مع عدم كون البعث والتحريك داعياً نحو المطلوب.

فجوابه وإن كان ما ذكر في محلّه وانّ الطلب لا بداعي البعث والتحريك ليس أمراً حقيقة ولكنّه لا بأس باطلاق الأمر عليه تجوزا وتوسعاً إذا كانت هناك قرينة على انه بداع آخر غير، فلا مانع من التعبير بأنّه يجوز الأمر بمرتبة مع العلم بانتفاء شرطه بمرتبة أخرى وقد ظهر بذلك انّ النقض والابرام من الأعلام في المقام في غير محلّه وانّ نفي نافي الصحّة لا يكون وارداً على ما أثبته المثبت واثبات المثبت لا يكون وارداً على ما نفاه النافي أيضاً وربما يقع بما ذكرنا التصالح بين الجانبين ويرتفع النزاع من البين لما ذكر من عدم التدافع بين ما يدّعيه المثبتون وينكره المنكرون وان من يقول بعدم جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه يمكن أن يكون مراده العلم بانتفاء شرطه الذي يكون شرطاً له في تلك المرتبة التي صدرت من الآمر ومن يقول بالجواز يكون مراده العلم بانتفاء شرطه الذي يكون شرطاً في مرتبة متأخّرة عن المرتبة التي صدرت بتلك المرتبة عن الآمر ثمّ ليعلم ان كلّ ما هو شرط للمأمور به شرط للأمر أيضاً وبعض ما يكون شرطاً للأمر ليس شرطاً للمأمور به وبينهما عموم وخصوص مطلق وبعبارة أخرى للأمر نوعان من الشرط قسم يكون شرطاً للأمر ابتداء وبلا واسطة وقسم يكون شرطاً للمأمور به أوّلاً ويكون شرطاً للأمر أيضاً بالواسطة لأن من المعلوم ان المشروط ليس مقدوراً

ص: 439

أكثر مخالفينا، ضرورة أنه لا يكاد يكون الشي ء مع عدم علته، كما هو المفروض ها هنا، فإن الشرط من أجزائها، وانحلال المركب بانحلال بعض أجزائه مما لا يخفى، وكون الجواز في العنوان بمعنى الامكان الذاتي بعيد عن محل الخلاف بين الاعلام.

نعم لو كان المراد من لفظ الامر، الامر ببعض مراتبه، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الاخر، بأن يكون النزاع في أن أمر الآمر يجوز إنشاء مع علمه بانتفاء شرطه، بمرتبة فعليته.

وبعبارة أخرى: كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية لعدم شرطه، لكان جائزا، وفي وقوعه في الشرعيات والعرفيات غنى وكفاية، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مؤونة برهان.

وقد عرفت سابقا أن داعي إنشاء الطلب، لا ينحصر بالبعث و التحريك جدا حقيقة، بل قد يكون صوريا امتحانا، وربما يكون غير ذلك.

ومنع كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدا واقعا، وإن كان في محله، إلا أن

_____________________________

بدون الشرط فكلّما كان شرطاً للمأمور به دخيل في مقدوريّته ولا يجوز تعلّق الأمر بغير المقدور فيصير ما هو الشرط للمأمور به شرعاً شرطاً للأمر أيضاً لهذه الجهة، والقوم عنونوا البحث باسم الشرط للمأمور به والمصنّف لما التفت إلى النقص في العنوان كذلك عدل عنه وعنونه باسم شرط الأمر لأنّ العنوان كذلك أجمع وأشمل لأنّ عنوان القوم لا يشمل الشروط الأمر ابتداء وبلا واسطة كما لا يخفى.

إطلاق الامر عليه، إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير البعث توسعا، مما لا بأس به أصلا، كما لا يخفى.

ص: 440

المقصد الاول: فى الاوامر /

الفصل السابع: تعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع

وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الاعلام في المقام من النقض والابرام، وربما يقع به التصالح بين الجانبين ويرتفع النزاع من البين، فتأمل جدا.

فصل: الحق أن الاوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد[1 ]

ص: 441

............................................

_____________________________

[1] أقول: بيانه انّ الأوامر والنواهي سواء كانت لفظيّة أمْ غيرها من الاجماع أو العقل وإن كان الظاهر من عناوين القوم وتعبيراتهم تخصيص النزاع بما إذا ثبت الطلب بالصيغة واللفظ متعلقة بالطبائع دون الأفراد يعني ان الصادر من الآمر فائدته انشاء طلب ايجاد ما هو المطلوب للآمر ومحبوبه والنهي الصادر منه فائدته طلب ترك ما هو مبغوض للمولى وليس ما هو المحبوب أو المبغوض إلّا الطبيعة المحدودة بحدود والمقيّدة بقيود بها تكون موافقة للغرض والمقصود من دون أن يتوقّف الغرض بأحدى الخصوصيّات الخارجة اللازمة للوجودات بحيث لو كان الانفكاك عن الخصوصيّات بأسرها ممكناً لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلاً كما هو الحال في القضيّة الطبيعيّة في غير الأحكام مثل الانسان نوع والحيوان جنس مثلاً فانّ الموضوع فيها الطبيعة المجرّدة عن المشخّصات الخارجيّة بل الحال كذلك في القضايا المحصورة أيضاً فانّ الموضوع فيها وإن كان الأفراد كلّاً أو بعضاً ولكن المحمول في القضيّة في الحقيقة محمول على الماهيّة مثل قولنا الانسان حيوان فان صفة الحيوانيّة أوّلاً وبالذات من أوصاف ماهيّة الانسان ولا دخل لمشخّصات الأفراد الخارجيّة في ثبوت وصف الحيوانيّة، وثبوت الحكم .

للأفراد أو سلبه عنها إنّما هو بواسطة الطبيعة لأن نسبة الطبيعة إلى الأفراد كنسبة الاباء إلى الأولاد وبعبارة أخرى الطلب الجدي المنقدح في نفس الطالب المستكشف بالطلب الانشائي والمدلول عليه بالأمر لفظيّاً كان أو غيره إنّما يتعلّق بالطبيعة المطلقة بملاحظة وجودها السعي وحصوله في ضمن الفرد الغير المعيّن، وفي مراجعة الوجدان في ثبوت ما ذكرنا للانسان غني وكفاية ولا حاجة إلى اقامة بيّنة وبرهان حيث يرى إذا راجع وجدانه انّه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطبائع ولا نظر له إلّا إليها من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجيّة والمشخّصات الفرديّة ولا إلى عوارضها العينيّة أي الصفات التي تحصل بها الامتياز للماهيّة من مشاركاتها في النوع كالسخاء والبخل والشجاعة والجبن مثلاً وهي غير الخصوصيّات الشخصيّة بل هي متقدّمة عليها وبتلك العوارض تستعد الماهيّة لعروض الخصوصيّات الشخصيّة والمشخصات الفرديّة لا دخل لها بالذات وأمّا العوارض العينيّة قد تكون صفاتاً ذاتيّة كالأمثلة المتقدّمة وقد تكون غيرها كالضاحكيّة والمالكيّة وقد تكون وجوديّة كامتياز الكاتب من الأمي بالكتابة وقد تكون عدميّة كامتياز العكس بالعكس والحاصل انّ المقصود من العوارض العينيّة غير الخصوصيّات الخارجيّة والمشخّصات الفرديّة، وبعبارة اخصر المقصود من العوارض العينيّة الأوصاف المصنفة التي تحصل الأصناف المختلفة من النوع الواحد كالانسان مثلاً بها والمقصود من الخصوصيّات الشخصيّة الأوصاف المفردة التي تحصل الأفراد المختلفة بها وليس عطف قوله وعوارضها العينيّة من باب العطف للتفسير كما يترائى في بادي النظر.

ص: 442

............................................

_____________________________

ثمّ لا يخفى انّ للطبيعة الكليّة ثلاثة اعتبارات أحدها أن يعتبر بشرط لا أي بشرط أن لا يكون معها من المشخّصات الفرديّة شي ء أصلاً وهي بهذا اللحاظ ليست إلّا هي لا يكون محبوباً ولا مبغوضاً ولا يصح طلب فعله أو تركه إذ يمتنع وجوده بهذا اللحاظ وما يمنع وجوده لا يمكن أن يكون محبوباً ولا مبغوضاً وثانيها ان يعتبر بشرط شي ء أي بشرط أن تكون محفوفة بالمشخصات والخصوصيّات الوجوديّة والمقومة للوجود وبهذا اللحاظ والاعتبار تكون واجبة الوجود وقابلة للمحبوبيّة والمبغوضيّة وثالثها أن يعتبر لا بشرط وهذه أعم من الثاني ضرورة انها بهذا اللحاظ تجتمع مع ألف شرط وتسمى الأولى بالمجرّدة والثانية بالمخلوطة والثالثة بالمطلقة والأخيرة قد تلحظ بما هي مع قطع النظر عن الوجود والعدم وقد تلحظ من حيث الوجود تارة الوجود السعي وأخرى الوجود الخاص الذي هو الفرد للطبيعة، والطلب الجدي القائم بنفس الطالب إنّما يتعلّق بالطبيعة المعتبرة بالنحو الثالث أي الطبيعة المطلقة بملاحظة وجودها السعي وحصوله في ضمن أي فرد كان في مقابل الوجود الخاص والفرد المعين اذ طلب الطبيعة المجرّدة ومن حيث هي هي مع قطع النظر عن الوجود أو بشرط عدم الوجود لا وجود لها والخيرات والشرور الملحوظة في الأوامر والنواهي عند المولى الحكيم لا تترتّب إلّا على ما توجد من الماهيّات والطبائع نعم هيئة الأمر الدالّة على الطلب الانشائي الجعلي الكاشف عن الطلب الجدّي الحقيقي يتعلّق بالطبيعة من حيث هي هي يعني مع قطع النظر عن الوجود والعدم لا بشرط عدم

ص: 443

ولا يخفى أن المراد أن متعلق الطلب في الاوامر هو صرف الايجاد، كما أن متعلقه في النواهي هو محض الترك، ومتعلقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيدة قيود، تكون بها موافقة للغرض والمقصود، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكنا، لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا، كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الاحكام، بل في المحصورة، على ما حقق في غير المقام.

وفي مراجعة الوجدان للانسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك، حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلا نفس الطبائع، ولا نظر له إلا إليها من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية، وعوارضها العينية، وإن نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام المطلوب، وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية.

فانقدح بذلك أن المراد بتعلق الاوامر بالطبائع دون الافراد، انها بوجودها السعي بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود، متعلقة للطلب، لا أنها بما هي هي كانت متعلقة له، كما ربما يتوهم، فإنها كذلك ليست إلا هي، نعم هي كذلك تكون متعلقة للامر، فإنه طلب الوجود، فافهم.

_____________________________

الوجود الذي هو اعتبار اخر ويلاحظ في الماهيّة من حيث هي هي اذ هو دال على طلب الايجاد فان لفظ اضرب مثلاً يدل على طلب ايجاد الضرب فلابدّ أن يكون المطلوب بذلك الطلب الطبيعة المطلقة القابلة للوجود والعدم وإلّا فان كان قيد الوجود ملحوظاً ومنظوراً في المادّة فكيف يصحّ تعلّق طلب الايجاد به.

ص: 444

دفع وهم: لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب، إنما يكون بمعنى أن الطالب[1] يريد صدور الوجود من العبد، وجعله بسيطا الذي هو

_____________________________

[1] أقول: هذا رد لما أفاده صاحب الفصول قال في بيان الفرق بين متعلّق الأمر ومتعلّق الطلب وان متعلّق الأمر إنّما هو الطبيعة لا الفرد ما نصه ان فرديّة الطبيعة على ما تقرّر في محلّه إنّما يكون بانضمام الوجود اذ الطبائع بأسرها كليات ولا يتحصّل من انضمام كلي إلى كلي إلّا كلي ثالث فتعلّق الأمر بالفرد على الحقيقة يؤدّي إلى طلب تحصيل الحاصل وهو محال وان أوّل بأن المراد ما هو فرد بانضمام الوجود المطلوب إليه فهو التزام في الحقيقة بتعلّقه بنفس الطبيعة كما لا يخفى انتهى كلامه(1) وشرح مراد صاحب الفصول على وجه يتّضح مرامه وعدم توجّه ما أورده المصنّف عليه يكون بتقريره هكذا: ان فرديّة الفرد موقوفة على انضمام الوجود فان أريد بتعلّق الأمر بالفرد تعلّقه بعد تحقّق الفرديّة فهو طلب الحاصل لعدم تحقّق الفرديّة إلّا بعد حصول الوجود فكيف يكون الوجود مطلوباً وهل هذا إلّا تحصيل الحاصل وإن أريد تعلّقه بالفرد الذي يتحقّق فرديّته في الآتي بضم الوجود المطلوب إليه كان تعلّقاً بالطبيعة لا بالفرد، ضرورة ان ضم الوجود إلى الطبيعة هو المحصّل للفرد لا ضمّه إلى الفرد فليس فيما أفاده توهّم ان المطلوب هو الوجود الصادر الثابت كما لا يخفى ليحتاج إلى الدفع بما ذكره المصنّف من أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلّقاً للطلب إنّما يكون بمعنى انّ الطالب يريد صدور الوجود عن العبد وجعله بسيطاً الذي هو مفاد كان التامّة وافاضته يعني ولو على

ص: 445


1- الفصول الغروية في الاصول الفقهية: 109.

............................................

_____________________________

القول بكون الطلب متعلّقاً بالفرد فالمراد ان الطالب يريد صدور الوجود من العبد لا انه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل.

ومثل ما قال صاحب الفصول هنا قال أيضاً في أثناء الاستدلال على استحالة اجتماع الأمر والنهي ما لفظه: لا ريب في ان الطلب لا يتعلّق بالماهيّة من حيث هي ولا من حيث كونها في الذهن بل من حيث كونها في الخارج لا بمعنى ان الطلب لا يتعلّق إلّا بما هو موجود في الخارج كيف وتعلّق الطلب سابق على وجود المطلوب لامتناع تحصيل الحاصل بل بمعنى ان العقل يلاحظ الماهيّة الخارجيّة من حيث كونها خارجيّة ويجعلها بهذا الاعتبار مورداً للطلب والمنع كما نقول في الفرض السابق انه يلاحظ الوجود الخارجي من حيث انّه وجود خارجي ويجعله مورداً للطلب والمنع انتهى(1) والمقصود من الفرض الذي ذكره تقرير الدليل بناء على اصالة الماهيّة ومن الفرض السابق تقريره بناء على اصالة الوجود فليس في كلامه توهّم ان الطلب يتعلّق بما هو الصادر الثابت بل هو عين ما سيأتي من المصنّف وما مضى، هذا كلّه في بيان مراد من قال بتعلّق الطلب بالفرد وانه ليس ما أفاده صاحب الفصول في ردّه توهماً فاسداً ولا يرد عليه ما أورده بقوله لا انّه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج ولكنّه ما أفاده المصنّف في قوله ولا جعل الطلب الخ فمتين في الغاية لعدم معقوليّة تعلّق الطلب بنفس الطبيعة من حيث هي كيف وقد مضى انّ الطبيعة بما هي هي ليست إلّا هي فلا يعقل أن يتعلّق بها طلب لتوجد

ص: 446


1- الفصول الغروية في الاصول الفقهية: 126.

............................................

_____________________________

أو تترك وبعبارة أخرى متعلّق الطلب لا يكون إلّا فعل المكلّف لا متعلّق الفعل وهو نفس الطبيعة والفعل غايته وقد مرّ سابقاً انّه لابدّ في تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه كي يكون ويصدر منه هذا كلّه بناء على اصالة الوجود وأمّا بناء على اصالة الماهيّة فكذلك أيضاً ولا بأس بتوضيح المراد من القولين والفرق بينهما ليكون الباحث في المقام على مزيد بصيرة.

اعلم انّ الفرق بين القول باصالة الوجود واصالة الماهية هو ان المجعول أولاً وبالذات بناء على اصالة الوجود نفس الوجودات الخاصّة فهي اعيان ثابتة في الخارج متباينة الحقائق بسائط ليس بينها قدر جامع وإنّما ينتزع منها الوجود بمفهومه العام فيكون أمراً اعتباريّاً يكون هو المحمول على الماهيّة التي لا نصيب ولا حظ لها في الجعل وإنّما هي معنى منتزع من ذلك الوجود عارض له فاذا قيل الانسان موجود فالمحمول هي الموجوديّة المصدريّة المأخوذة من الوجود المصدري فالوجود مجعول بالجعل البسيط والماهيّة غير مجعولة أصلاً لا بالجعل البسيط ولا المؤلف، وأمّا بناء على اصالة الماهيّة فالمجعول أولا وبالذات هو الماهيّة وليس الوجود أمراً زائداً عليها بل وجودها نفس كونها الخاص في الخارج وكونها في الخارج عين وجودها فالوجود من عوارضها ذهناً ولاحظ له في الجعل أصلاً، وهنا قول ثالث وهو انّ المجعول أولا وبالذات هو اتّصاف الماهيّة بالوجود وهذا معنى الجعل المؤلّف يعني حصلت الالفة بين الماهيّة والوجود بهذا الجعل.

ص: 447

مفاد كان التامة، وإفاضته، لا أنه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل، كما توهم، ولا جعل الطلب متعلقا بنفس الطبيعة، وقد جعل وجودها غاية لطلبها.

وقد عرفت أن الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي، لا يعقل أن يتعلق بها الطلب لتوجد أو تترك، وأنه لابد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه، كي يكون ويصدر منه، هذا بناء على أصالة الوجود.

وأما بناء على أصالة الماهية، فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضا، بل بما هي بنفسها في الخارج، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات والاعيان الثابتات، لا بوجودها كما كان الامر بالعكس على أصالة الوجود.

وكيف كان فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجية أو الوجود، فيطلبه ويبعث نحوه ليصدر منه ويكون ما لم يكن، فافهم وتأمل جيدا.

_____________________________

اذا عرفت ما ذكرنا فاعلم انه ولو بناء على القول باصالة الماهيّة فليس متعلّق الطلب الطبيعة بما هي أيضاً بل بما هي بنفسها في الخارج فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات والاعيان الثابتة لا بوجودها كما كان الأمر بالعكس على اصالة الوجود والحاصل انّ الآمر يلاحظ ما هو المقصود من الماهيّة الخارجيّة بناء على اصالة الماهيّة أو الوجود بناء على اصالة الوجود فيطلبه ويبعث نحوه ليصدر منه ويكون ما لم يكن فافهم وتأمّل جيداً.

ص: 448

الفصل الثامن: نسخ الوجوب

فصل: إذا نسخ الوجوب فلا دلالة[1] لدليل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء

_____________________________

[1] أقول: إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم الذي في مقابل الحرمة والوجوب فقط ويكون في ضمن الاستحباب والكراهة والجواز بالمعنى الأخص ولا الجواز بالمعنى الأخص الذي يكون حكماً من الأحكام الأربعة في مقابل سائرها من الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب أيضاً اما عدم دلالة المنسوخ على ذلك فواضح اذ المنسوخ لا يدل قبل الناسخ الا على الوجوب وبعد ورود الناسخ يبطل دلالته على المنع من الترك قطعاً وبقاء دلالته على الاذن في الفعل الذي هو الجنس للأحكام الأربعة بعد تقومه بالفصل المقابل للمنع من الترك وهو الاذن في الترك وهو الجواز بالمعنى الأخص أو لا مع تقومه به بل مع كونه باقياً على اطلاقه القابل للتقوم بكلّ واحد من الفصول للجواز بالمعنى الأخص والاستحباب والكراهة غير معلوم وأمّا الناسخ فلأنّه لا يدل إلّا على رفع الوجوب الذي كان ثابتاً بالمنسوخ ورفع الوجوب لا يدلّ على الجواز لا بالمعنى العام ولا بالمعنى الخاص اما بالمعنى العام فلانه يمكن أن يكون الشي ء غير واجب ومع ذلك لا يكون جائزاً بالمعنى الأخص ولا مكروهاً ولا مستحباً بل يكون حراماً وأمّا بالمعنى الخاص فلأنّه يجوز أن يكون أيضاً شي ء غير واجب ولا يكون جائزاً بمعنى تساوى فعله وتركه وعدم رجحان أحدهما على الآخر بل يكون مستحبّاً أو مكروهاً أو حراماً هذا بيان ما أفاده المصنّف.

ص: 449

............................................

_____________________________

ولا يخفى ان عدم دلالة المنسوخ على الجواز ممّا لا ريب فيه وأمّا الناسخ فاذا كان بعبارة يجوز لك ترك الفعل الفلاني مثلاً فتلك العبارة تكون دالّة على الجواز بالمعنى الأخص اذ تجويز الترك في معنى تجويز الفعل أيضاً والا فلو لم يجز الفعل لا معنى لجواز الترك بل الترك يكون واجباً حينئذٍ فانكار المصنّف لدلالتهما على الجواز بالمعنى الأعم والأخص في غير محلّه ولعلّ انكاره من جهة توهّم انّ الناسخ إنّما يكون بلفظ نسخت الوجوب واشتباه المصداق بالمفهوم فانه لو كان كذلك فالانكار متوجه وصرح بذلك صاحب المعالم حيث قال في بيان رد من قال بثبوت الجواز بالمعنى الأخص بعد ورود الناسخ بسبب انضمام الاذن في الترك مع الجواز بالمعنى الأعم باعتبار لزومه لرفع المنع من الترك الذي اقتضاه النسخ بأن هذا موقوف على كون النسخ متعلّقاً بالمنع من الترك الذي هو جزء مفهوم الوجوب دون مجموعه وهو الاذن في الفعل والمنع من الترك وذلك غير معلوم اذ يحتمل أن يكون النسخ متعلّقاً بالمجموع دون الفصل وحده وهو المنع من الترك اذ النزاع في النسخ الواقع بلفظ نسخت الوجوب ونحوه وهو كما يحتمل التعلّق بالجزء الذي هو المنع من الترك لكون رفعه كافياً في رفع مفهومه الكلّي كذلك يحتمل التعلّق بالمجموع، وفيه ان جعل عنوان البحث نسخاً لا يدلّ على اختصاص محلّ النزاع بالنسخ الواقع بلفظ نسخت الوجوب بل يعم ما إذا قال المولى يجوز لك ترك الفعل الذي كان واجباً عليك فانّه يصدق عيه النسخ أيضاً وإن لم يشتمل على مفهوم النسخ ولكنّه من مصاديقه وقد عرفت انّه إذا كان التعبير بمثل تلك القضيّة فظهوره

ص: 450

............................................

_____________________________

في ثبوت الجواز بالمعنى الأخص لا يكاد ينكر إذ جواز الترك لا يتحقّق إلّا بجواز الفعل أيضاً وهذا هو الجواز بالمعنى الأخص، ثمّ انّه لما كان ورود الناسخ موجباً للشكّ في بقاء الجواز وعدمه حيث كان محتملاً لتعلّقه بمجموع مفهوم الوجوب أو الجزء الأخير الذي هو المنع من الترك وعلى الثاني يبقى الجواز البتّة فيمكن التمسّك ببقائه بدليل الاستصحاب إذ هو عبارة عن ابقاء ما كان بعد الشكّ في زواله وبقائه ولكنّه لما كان الاستصحاب الجاري في المقام داخلاً في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي وهو فيما إذا علم بزوال الفرد المعيّن من الكلي واحتمل حدوث فرد آخر قائم مقامه مقارناً لزوال الأوّل وقد حقّق في محلّه عدم حجّيته لعدم شمول أدلّة حجيّة الاستصحاب لمثله إلّا إذا كان الفرد الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضعيفة المتّصلة بالمرتفع كالسواد الضعيف بالنسبة إلى الشديد وبالعكس فان في مثله يعد عرفاً انّه الأمر الذي كان سابقاً وليس أمراً حادثاً غيره وإن كان حقيقة ذلك الحادث غير الحادث الأوّل ومبنى الاستصحاب على الصدق العرفي ومعلوم ان الأحكام الخمسة كلّ واحد منها يباين الآخر ويضادّه عقلاً وعرفاً معاً إلّا الوجوب والاستحباب فانّهما وإن كانا تفاوتهما بالشدّة والضعف عقلاً إلّا انّهما متباينان عرفاً أيضاً فلم يكن مجال للاستصحاب والحكم ببقاء الجواز لا بالمعنى الأخص متباينة مع الوجوب عقلاً وعرفاً ولا بالمعنى الأعم أيضاً فانّه وإن لم يكن بائناً مع الوجوب عقلاً إن فرض في ضمن الاستحباب إلّا انّه مباين معه عرفاً وحكم العرف ونظره يكون متبعاً في

ص: 451

الجواز بالمعنى الاعم، ولا بالمعنى الاخص، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الاحكام، ضرورة أن ثبوت كل واحد من الاحكام الاربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ - بإحدى الدلالات - على تعيين واحد منها، كما هو أوضح من أن يخفى، فلابد للتعيين من دليل آخر، ولا مجال لاستصحاب الجواز، إلا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي، وهو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع

_____________________________

باب الاستصحاب فاذا ارتفع الوجوب فلا يعد العرف ثبوت الاستحباب الذي هو المرتبة الضعيفة حقيقة وعقلاً من مراتب الجواز بالمعنى الأعم بالنسبة إلى مرتبة الوجوب بقاء لذلك الجواز والسر في ذلك ان تغاير الفردين المتبدلين في الاسم كاشف عن تغايرهما حداً وانما ينفع اختلاف المراتب في الشدّة والضعف في صدق البقاء إذا اتّحد الاسم في جميع المراتب لكشف الاتّحاد اسماً عن الاتّحاد معنى فكانه معنى واحد مستمر فالضابط هو اختلاف المراتب مع اتّحاد الاسم ولا ينخرم هذا الضابط في مورد من الموارد عرفاً كما لا يخفى، هذا كلّه في الجواز الشرعي.

وأمّا الجواز الثابت بالقاعدة العقليّة واصالة الاباحة في جميع الأشياء فلا مانع منه بعد رفع الوجوب بدليل الناسخ ما لم يكن الواجب عبادة والمشترط فيه قصد القربة وإلّا فلا معنى لاباحة العبادة إذ هي إمّا واجبة أو محرّمة من جهة التشريع والجواز العقلي باق بعد رفع الوجوب حتّى يقوم دليل على أحد الأحكام واللَّه العالم بالحقائق.

ص: 452

فرده الآخر، وقد حققنا في محله، أنه لا يجري الاستصحاب فيه، ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع، بحيث عد عرفا - لو كان - أنه باق، لا أنه أمر حادث غيره.

ومن المعلوم أن كل واحد من الاحكام مع الآخر عقلا وعرفا، من المباينات والمتضادات، غير الوجوب والاستحباب، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلا إلا أنهما متباينان عرفا، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر، فإن حكم العرف ونظره يكون متبعا في هذا الباب.

الفصل التاسع: الوجوب التخییری

فصل: إذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الاشياء ففي وجوب كل واحد على التخيير، بمعنى عدم جواز تركه إلا إلى بدل، أو وجوب الواحد لا بعينه،[1 ]

_____________________________

[1] أقول: يعني إذا ورد في الشريعة الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء كالأمر الوارد بخصال الكفّارة من الصيام أو الاطعام أو العتق مثلاً فاختلفوا في حقيقة ذلك على أقوال أربعة، أحدها أن يكون كلّها واجبة على التخيير بمعنى عدم جواز تركه لا إلى بدل في مقابل الوجوب على وجه التعيين الذي يكون بمعنى عدم جواز الترك مطلقاً وهذا هو ظاهر اللفظ فان ظاهر قوله افعل كذا أو كذا يدلّ على كون المكلّف مخيّراً بين فعل أحدهما وترك الآخر فانّ الواجب الكفائي تخيير في افراد المكلّف والواجب التخييري تخيير في أفراد المكلّف به.

ثانيها أن يكون الواجب واحداً لا بعينه وهو غير وجوب الكل على نحو التخيير انّه على الأوّل يكون كلّ من الأطراف واجباً غاية الأمر على نحو التخيير لا التعيين وعلى الثاني لا يكون واحد منها واجباً بل الواجب المفهوم المنتزع من

ص: 453

............................................

_____________________________

الأطراف الذي هو أمر اعتباري وجوده باعتبار المعتبر ويكون كلّ واحد من الأطراف محصّلاً لما هو الواجب لا نفس الواجب كما هو الحال في الفرد والطبيعة بناء على تعلّق الأوامر بالطبائع لا الافراد فكما انّه بناء عليه يكون الفرد الخارجي محقّقاً للواجب ومحصّلاً له وهو الطبيعة وليس نفسه واجباً ذاتاً بل من جهة المقدميّة للطبيعة فكذلك هنا الأنواع المتعدّدة المختلفة التي جعلت متعلّقة للأمر كلّها مقدّمة لحصول الواجب وهو الواحد لا بعينه بناء على القول الثاني، فما أفاده العلّامة من: ان الظاهر انّه لا خلاف بين القولين في المعنى لأنّ المراد بوجوب الكل على البدل وهو القول الأوّل انّه لا يجوز للمكلّف الاخلال بها أجمع ولا يلزم الجمع بينهما وله الخيار في تعيين أيّها والقائلون بوجوب واحد لا بعينه عنوا به هذا فلا خلاف معنوي بينهم في غير محلّه(1) وان ارتضاه صاحب المعالم حيث قال: قال العلّامة ونعم ما قال لأنّ الاختلاف بين القولين بالوجه المزبور ولو كان اختلافاً في الجملة ممّا لا يكاد ينكر.

ثالثها أن يكون الواجب كلّ واحد من الشيئين أو الأشياء ولكن مع السقوط بفعل أحدهما فانّه لا مانع عقلاً ولا نقلاً ان يوجب المولى على عبده فعل ثلاثة أفعال مثلاً ويحكم مع ذلك بسقوط وجوب البعض بسبب فعل البعض الآخر.

رابعها أن يكون الواجب واحداً منها المعين عند اللَّه تعالى والمبهم عندنا وهو

ص: 454


1- معالم الدين وملاذ المجتهدين: 72. (ناشر: دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم).

............................................

_____________________________

الذي يعلم ان العبد يختاره، والقول الأوّل هو المشهور بين أصحابنا وهو اختيار جمهور المعتزلة أيضاً والقول الثاني ما قال به الأشاعرة والقول الأخير تبرى منه كلّ واحد من المعتزلة والأشاعرة ونسبه كلّ منهم إلى صاحبه واتفقا على بطلانه.

ثمّ لا يخفى انّ جريان الأقوال المذكورة في المسئلة إنّما يكون فيما إذا كان الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء بملاك انّه غرض واحد للآمر يقوم به كلّ واحد منهما بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض وعليه فيكون الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليّاً لا شرعيّاً لوضوح انّ الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن جامع في البين فان عليّة الشيئين لمعلول واحد لا يعقل ما لم يكن جهة وحدة بينهما لاعتبار نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول وإلّا لجاز أن يكون كلّ شي ء علّة لكلّ شي ء وأمّا إذا كان الأمر بهما بملاك انّه يكون في كلّ واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض من الآخر باتيانه وبعبارة أخرى يكون كلّ واحد من الفعلين الذين تعلّق الأمر بأحدهما مشتملاً على غرض مغاير للغرض الذي في الآخر الا انه مع الاتيان بواحد وحصول الغرض الذي اشتمل عليه لا يبقى مجال للاتيان بالآخر المحصّل للغرض الذي اشتمل عليه بحيث لو فرض ممّا لا امكان تحصيل الغرض باتيان الفعلين لوجب كلّ منهما معيناً ولم يكن الغرض الحاصل من أحدهما مغنياً عن الغرض الحاصل بالآخر ففي هذا الفرض تعليق الوجوب بكلّ من الشيئين لكن لا بنحو لا يجوز تركه مطلقاً بل بنحو لا يجوز تركه لا إلى بدل وهو

ص: 455

............................................

_____________________________

الآخر فاثار الوجوب التخييري امتثالاً وسقوطاً وثواباً وعقاباً تجري فيه الا ان ما ذكر من الأقوال لا ينطبق عليه اما وجوب أحدهما لا بعينه فلما ذكر من ان الواجب كلّ منهما بما فيه من الغرض المباين للآخر على الفرض المزبور وعدم امكان تحصيل الآخر مع حصول واحد غير وجوب أحدهما لا بعينه، نعم هذا القول يجري في الصورة الأولى كما عرفت.

وأمّا وجوب أحدهما معيناً فعدم انطباقه على الفرض المزبور في غاية الوضوح.

واما وجوب كلّ منهما معيناً مع السقوط بفعل أحدهما فلما عرفت من ان فعل أحدهما لا يوجب بنفسه سقوط الآخر وإنّما يسقط لعدم التمكّن من اتيانه ومع فرض عدم التمكّن من اتيانه كيف يجوز ايجابهما معيناً كي يقال بوجوب كلّ منهما، والحاصل ان الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء إن كان بالملاك الأوّل بأن كان الواجب في الحقيقة الجامع الذي يمكن حصوله بكلّ واحد من تلك الأشياء فالأقوال المذكورة كلّها جارية فيه واما ان كان بالملاك الثاني بأن كان في كلّ واحد منهما غرض لا مجال لحصوله مع حصول الغرض باتيان الآخر ولذا أمر بأحدهما وواحد منها فلا يجري فيه إلّا القول بالتخيير شرعاً لا عقلاً كما في الصورة الأولى التي قد مرّ انّ التخيير فيها في الحقيقة عقلي لا شرعي إذ الواحد لا يمكن صدوره من الاثنين إذا لم يكن جامع في البين ومع ذلك فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان انّ الواجب هو الجامع بينهما وإذا كان الواجب كليا فالتخيير بين أفراده عقلي لا شرعي اذ لا مورد لجعل الشارع فيما لا حاجة فيه إلى الجعل.

ص: 456

أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما، أو وجوب المعين عند اللَّه، أقوال.

والتحقيق أن يقال: إنه إن كان الامر بأحد الشيئين، بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض، ولذا يسقط به الامر، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا، وذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان، ما لم يكن بينهما جامع في البين، لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول.

وعليه: فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي، لبيان أن الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.

وإن كان بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض، لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه، كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب، يستكشف عنه تبعاته، من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما، والعقاب على تركهما، فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقا ولا مفهوما، كما هو واضح، إلا أن يرجع إلى ما ذكرنا فيما إذا كان الامر بأحدهما بالملاك الاول، من أن الواجب هو الواحد الجامع بينهما، ولا أحدهما معينا، مع كون كل منهما مثل الآخر في أنه واف بالغرض ولا كل واحد منهما تعييناً مع السقوط بفعل أحدهما، بداهة عدم السقوط مع إمكان استيفاء ما في كل منهما من الغرض، وعدم جواز الايجاب كذلك مع عدم إمكانه فتدبر.

ص: 457

بقي الكلام في أنه هل يمكن التخيير عقلا أو شرعا بين الاقل والاكثر، أولا؟

ربما يقال، بأنه محال،[1] فإن الاقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة،

_____________________________

[1] أقول: ذهب بعض إلى استحالة التخيير بين الأقل والأكثر شرعاً أو عقلاً وإنّما جوازه في المتباينين اذ بناء على حصول الغرض بالأقل لا معنى لوجوب الأكثر بل يكون الأكثر حينئذٍ واجباً مع زيادة ومعلوم ان المقصود من وجوب الواجب تحصيل الغرض الذي لا طريق لتحصيله إلّا بذلك الواجب فاذا كان الأقل محصّلاً له وحصل الغرض باتيانه فالجزء الزائد في الأكثر لا يكون جزء للواجب بل يكون زائداً عليه فلا يمكن أن يكون الأكثر واجباً بجميع أجزائه في مقابل الأقل.

ويرد عليه انّ الأقل إنّما هو محصّل للغرض إذا لم يكن في ضمن الأكثر وإذا كان في ضمنه وبعد الاتيان به لم يكتف المأمور به بل زاد عليه فلا يفي بالغرض إلّا الأكثر والمقصود من التخيير بين الأقل والأكثر الأقل الذي يكون مستقلاً ولا يكون في ضمن الأكثر وبهذا الاعتبار أي اعتبار بشرط لا لا مانع من أن يكون عدلا للأكثر ومقابلاً له وهذا مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتباً على الطويل اذا رسم بما له من الحد لا على القصير الذي هو في ضمنه ومع ذلك يعني إذا كان الأكثر بحدّه مثل الأقل في محصلية الغرض على الفرض فكيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه وكان الأكثر خارجاً عن محلّ الوجوب وكان الواجب الأقل فقط ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الامكان.

فان قلت: ذلك يصحّ فرضه في مثل الخط الطويل والقصير الذي لم يكن في

ص: 458

............................................

_____________________________

مثلهما وجودان بالاستقلال للخطين وإنّما الوجود للأكثر ولا يكون للأقل الذي في ضمنه وجود على حدّة ومستقلّاً لأن الخط يرسم دفعة واحدة بلا تخلّل سكون في البين يوجب وجوداً مستقلّاً للقصير واما في مثل محلّ البحث وهو فيما كان للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث وثلاثة أشاب في ضمن ثلاثة ونصف في الكر والثلاثين في ضمن الأربعين في منزوحات البئر وتسعة أجزاء في ضمن عشرة في العبادات إلى غير ذلك من غير فرق بين كونهما ارتباطيّين أو غيرهما من موضوعات الأحكام أو غيرها مثل خط طويل رسم مع تخلّل العدم في رسمه لأن الأقل قد وجد بحده وبه يحصل الغرض على الفرض ومعه لا محالة يكون الزائد عليه أي على الأقل ممّا لا دخل له في حصوله أي الغرض فيكون زائداً على الواجب لا من أجزائه.

وأجاب عنه المصنّف بان المقصود انه إذا كان الغرض تارة يحصل بالأكثر بحدّه وتارة بالأقل بحدّه أيضاً أمكن التخيير بينهما ومعنى الحد في الأقل عدم انضمام الأكثر إليه فالتسعة لا غير والثلاثة لا غير محصّلة للغرض ومع الانضمام إنّما المحصّل هو الأكثر لأن المحصّل الثاني قد نقص بانضمام جزء فلا يكون محصلاً والحاصل انّه إذا كان كلّ واحد من الأقل والأكثر بحدّه ممّا يترتّب عليه الأثر والغرض فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما عقليّاً ان كان الغرض أمراً واحداً وشرعيّاً فيما كان هناك غرضان على ما ذكر سابقاً.

واستشكل على ما أفاده المصنّف من الجواب بأنّ الذي ادعوا محاليته هو التخيير بين الأقل والأكثر وما أفاده مع القيد المذكور فهو تخيير بين المتباينين ثمّ

ص: 459

............................................

_____________________________

بينه بأن الأقل مع قيد عدم الانضمام هو بمقدار الأكثر أجزاء وليس بأقل ضرورة ان كلّ جزء وجودي في الأكثر يكون عدمه شرطاً في الأقل ولا ينخرم عن ذلك جزء واحد فاجزاء الأقل الوجوديّة والعدميّة بمقدار الأكثر من دون تخلّف، نعم أجزاؤه الوجوديّة أقل إلّا انّها ليست وحدها هي الأقل وعدم انضمام غيرها إليه وإن كان شرطاً واحداً الّا انّه ينحل عقلاً بالضرورة إلى شروط عدميّة بمقدار الاجزاء الوجوديّة كما لا يخفى(1).

وحاصل الاشكال ان ما فرضه المصنّف من معنى الأقل والأكثر وجواز التخيير بينهما بهذا المعنى غير ما ادّعوا محاليّته ففرضه أجنبي عن محلّ كلامهم وما ادّعوا محاليّته غير ما فرضه المصنّف وجوّزه ولذا اعترف المصنّف هو بنفسه في آخر كلامه بذلك وقال: نعم لو كان الغرض مترتّباً على الأقل من دون دخل للزائد انضم أو لم ينضم معه لما كان الأكثر مثل الأقل وعدلا له بل كان في الأكثر حينئذٍ اجتماع الواجب وهو الأقل وغيره وهو الزائد والزائد حينئذٍ إمّا أن يكون مستحبّاً أو غير مستحب على اختلاف الموارد والمواضع وحاصل مراده انّ الأقل والأكثر اللذان يستحيل التخيير بينهما هو ما لو كان الغرض مترتّباً على الأقل الخ ولا يستحيل التخيير بالوجه الذي ذكره فانه لا مانع من التخيير بينهما بذلك الوجه ويرد عليه انّ التخيير بين الأقل والأكثر المبتنى عليه كثير من الفروع الفقهيّة إنّما هو بالوجه الذي اعترف ببطلانه واما بالوجه الذي صحّحه فمجرّد فرض ليس في الفروع الفقهيّة ما يبتني عليه.

ص: 460


1- الهداية في شرح الكفاية: 302 - 303.

ولو كان في ضمن الاكثر، لحصول الغرض به، وكان الزائد عليه من أجزاء الاكثر زائدا على الواجب، لكنه ليس كذلك، فإنه إذا فرض أن المحصل للغرض فيما إذا وجد الاكثر، هو الاكثر لا الاقل الذي في ضمنه، بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله، وإن كان الاقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا، فلا محيص عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الاقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص، فإن الاكثر بحده يكون مثله على الفرض، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتبا على الطويل إذا رسم بماله من الحد، لا على القصير في ضمنه، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه؟ ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الامكان.

إن قلت: هبه في مثل ما إذا كان للاكثر وجود واحد، لم يكن للاقل في ضمنه وجود على حدة، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين، لكنه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود، كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث، أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه، فإن الاقل قد وجد بحده، وبه يحصل الغرض على الفرض، ومعه لا محالة يكون الزائة عليه مما لا دخل له في حصوله، فيكون زائدا على الواجب، لا من أجزائه.

قلت: لا يكاد يختلف الحال بذلك، فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الاقل في ضمن الاكثر، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام، ومعه كان مترتبا على الاكثر بالتمام.

وبالجملة إذا كان كل واحد من الاقل والاكثر بحده مما يترتب عليه الغرض، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك

ص: 461

غرض واحد، وتخييرا شرعيا فيما كان هناك غرضان، على ما عرفت.

نعم لو كان الغرض مترتبا على الاقل، من دون دخل للزائد، لما كان الاكثر مثل الاقل وعدلا له، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره، مستحبا كان أو غيره، حسب اختلاف الموارد، فتدبر جيدا.

الفصل الوجوب الکفائی

فصل: في وجوب الواجب الكفائي[1] والتحقيق أنه سنخ من الوجوب،

_____________________________

[1] أقول: التحقيق عند المصنّف هو ان الوجوب الكفائي كالوجوب العيني وكما انّ الواجب العيني يجب على كلّ أحد وبصدوره من الكلّ تمثيل الكل ويستحق المثوبة وبالمخالفة يستحق العقوبة فكذلك الواجب الكفائي وإنّما الفرق بينهما انّ الواجب العيني لا يسقط عن الكل بفعل البعض بل إنّما سقوطه عن الكل بفعل الكل بخلاف الواجب الكفائي فانّه يسقط عن الكل بفعل البعض وهذا لا ينافي مع كون الوجوب الكفائي من سائر الجهات موافقاً للوجوب العيني والسر في ثبوت هذا الفرق بينهما وانّ الواجب الكفائي يسقط عن الكل بفعل البعض بخلاف الواجب العيني هو انّه قد يكون غرض المولى أمراً واحداً يحصل بعمل واحد وفعل فارد سواء صدر ذلك الفعل عن الكل أو البعض وقد لا يكون كذلك بل الأغراض متكثّرة ويترتّب على فعل كلّ واحد من الفاعلين غرض عليحدّة والغرض الباحث على الايجاب في الوجوب الكفائي من قبيل الأوّل وفي الوجوب العيني من قبيل الثاني فلذا يسقط الواجب في الأوّل بفعل البعض ولا يسقط في الثاني إذ المقصود من الواجب الغرض الذي صار واجباً بملاحظته هذا بيان ما أفاده المصنّف على

ص: 462

............................................

_____________________________

نحو الاختصار وفصّل فيه الشارح الكاظميني قدس سره ولا بأس بنقل ما فصّل مع أوفى بيان لمزيد التبيان.

قال: انّ التحقيق كون وجوب الواجب الكفائي قسماً من الوجوب متعلّقاً بواجب واحد فهو أي الوجوب واحد لوحدة الواجب ولو تعلّق بكلّ واحد من أفراد المكلّفين على نحو العموم الاستغراقي لا البدلي يعني ان كلّ واحد واحد من الأفراد مكلّف بالواجب الكفائي لا على سبيل البدليّة بأن يكون من وجب عليه الواجب فرداً ما من الأفراد المتعدّدة لا على التعيين كما زعم بعض لعدم تفطنه لنحوة تعلّقه بكلّ واحد وجوازه بتلك النحوة نعم نزل الجميع في مقام تعلّق الواجب الكفائي بمنزلة الواحد بخلافه في مقام تعلّق الواجب العيني فانّه ليس فيه ذلك التنزيل وأيضاً لما كان الواجب في الواجب الكفائي أمراً واحداً فاذا أتى به جميعهم كان لهم ثواب واجب واحد وامتثال واحد لا المثوبات المتعدّدة على قدر تعدّد الممتثلين والمطيعين كما في الواجب العيني من تعدّد المثوبات وكان حين امتثال جمع من المكلّفين واتيانهم به جميعاً استناده إليهم في حصول الغرض منه كاستناد المعلول إلى العلل المتعدّدة المجتمعة دفعة فانّه قد يتوارد العلل المتعدّدة على معلول واحد واستناد الواجب حين امتثال الجمع إلى واحد منهم كاستناد المعلول إلى احدى العلل فان الاستنادين يصحّان، وان تركوه جميعهم معا دفعة وكان وقته مضيقاً وبمقدار زمان تركهم له عوقبوا عقاب مخالفة واجب واحد لأنّهم تركوا واجباً واحداً ويحتمل أن يكون تعدّد الثواب والعقاب منوطاً بتعدّد الطاعة

ص: 463

............................................

_____________________________

والمعصية لا بوحدة الواجب وتعدّده وان يكون ثواب المطيعين ومؤاخذة المخالفين متعدداً في الواجب الكفائي مع وحدة الواجب من جهة تحقّق الطاعة من كلّ واحد لو جائوا به والمعصية أيضاً من كلّ واحد لو تركوه فكلّ منهم أطاع واجباً فاستحق المثوبة وعصى واجباً فاستحق العقوبة فقول الشارح ويحتمل أن يكون الخ عطف على قوله فان جاءوا به جميعاً كان لهم ثواب واجب واحد وامتثال واحد إلى هنا في صورة كون وقت الواجب مضيقاً وحصول المخالفة من المكلّفين دفعة.

واما إذا كان وقت الواجب واسعاً والترك من المكلّفين تدريجيّاً فان رجع الأمر إلى انحصار الأمر والتكليف بالأخير من المكلّفين مثل ما إذا ترك كلّ واحد منهم اعتماداً على الآخر ثمّ زالت قدرة من ترك للاعتماد المذكور كان الوجوب على الأخير عينيّاً واختصّ الثواب والعقاب به وإن لم يرجع الأمر إلى ذلك بل كان ترك كلّ واحد لا من جهة الاعتماد على الآخر بل لقصد العصيان والطغيان كان كتركهم دفعة ويستحق كلّ واحد منهم للمؤاخذة والعقوبة.

ومحصل ما ذكر من أوّل التفصيل إلى هنا ان المخاطب بالواجب الكفائي الذي هو واجب واحد هو الماهيّة الانسانيّة التي هي أيضاً أمر واحد وان تعدّدت الأفراد الخارجيّة لمن وجب عليه وليس المكلّف به الوجودات الخاصّة بقيد الخصوصيّة لعدم المعقوليّة فان وجوب أمر على جميع الأفراد من الماهيّة الانسانيّة بقيد الخصوصيّة مع حصول الغرض بفعل واحد منهم وعدم دخل خصوصيّة الأفراد في

ص: 464

............................................

_____________________________

حصوله غير معقول ولو لم يكن عموم الخطاب لفظاً بحيث يشمل جميع الأفراد لكانت مقدمات الحكمة كافية في تحقيق عمومه فكلّ مصداق لتلك الماهيّة مخاطب والمقصود من تنزيل الجميع منزلة الواحد هذا المعنى يعني ان الأفراد مكلّفون بالواجب الكفائي بعنوان ماهيّة الانسانيّة لا بقيد الخصوصيّة ثمّ قال الشارح ولعمري انّ هذا الوجه في تحقيق كيفيّة تعلّق الواجب الكفائي هو أحسن ما قيل في المقام لو أنصف الخصم المنكر له القائل بوجوبه على فرد ما من الأفراد المتعدّدة لا على التعيين وعلى سبيل البدل وببيان الوجه المذكور ظهر معنى قول المصنّف ولو تعلّق بكلّ واحد وانه بحيث لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعاً بما انّ كلّاً منهم انسان لا بما انّه مخاطب بخصوصه وشخصه وان سقط عنهم لو أتى به بعضهم لتحقّق اطاعة المخاطب بما خوطب به وذلك واضح المدرك وشرح المدرك ثانياً هو انّه إذا كان غرض واحد حصل بفعل واحد صادر عن الكل أو البعض فمقتضاه تعلّق الواجب بأفراد المكلّفين من حيث اندراجهم تحت عنوان عام والمراد بصدور الواحد عن الكل في الواجب الكفائي استناد حصول الغرض المقصود إلى القدر المشترك الواحد المتحقق في ضمن الأفعال المتعدّدة الصادر كلّ واحد منها عن واحد وإلّا فلا يعقل صدور فعل واحد من كلّ واحد بتمامه دفعة واحدة أو ترتّب غرض واحد بما هو واحد على أفعال متعدّدة بما هي كذلك كما ذكر أيضاً ان الظاهر امتثال الجميع لو أتوا به دفعة واستحقاقهم للمثوبة وان الظاهر سقوط الغرض بفعل الكل كما هو قضيّة توارد العلل على معلول واحد وبالجملة تعلّق الوجوب الكفائي بالمكلّفين أشبه شي ء بتعلّق البيع

ص: 465

وله تعلق بكل واحد، بحيث لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم، وذلك لانه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد، حصل بفعل واحد، صادر عن الكل أو البعض.

كما أن الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة، واستحقاقهم للمثوبة، وسقوط الغرض بفعل الكل، كما هو قضية توارد العلل المتعددة على معلول واحد.

الفصل الحادی عشر : الواجب الموقت

فصل: لا يخفى أنه وإن كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب[1] إلا أنه

_____________________________

بالمبيع سلفاً فكما ان في البيع السلف إنّما يتعلّق غرض المشتري بالأوصاف المشتركة بين أفراد المبيع الموجب لرفع الجهالة عن المبيع الكلي حتّى يصحّ البيع المندرج تحت عنوان كلي واحد كعنوان الحنطة بوصف الفلاني والفلاني القابل للحصر لا خصوصيّات الأفراد التي لا تعد ولا تحصى ولذا يتحقّق تسليم المبيع بتسليم أيّ فرد من الأفراد فكذلك هنا يتعلّق غرض المولى بالأوصاف التي تكون الفعل مشتركة بين الأفراد والأفعال الخارجيّة الصادرة من الفاعلين لا خصوصيّات الأفعال المقترنة بالأفعال الخاصّة الخارجيّة الصادرة من الفاعلين التي لا تعدّ ولا تحصى فاذا كان كذلك فلابدّ وان يسقط التكليف بفعل البعض لحصول الغرض وان يعاقب الجميع عند ترك الكل دفعة لعدم حصوله وثبوت التقصير من الجميع لذلك وان يثاب الجميع عند فعل الكل دفعة واحدة لصدق الطاعة وكون أفعالهم حينئذٍ كفعل واحد صادر من الواحد هذا غاية ما يمكن أن يقال في شرح مرام المصنّف واللَّه العالم بحقائق الأمور.

[1] أقول: احتياج كلّ فعل من الأفعال الصادرة من الفاعل الذي يكون الواجب

ص: 466

............................................

_____________________________

الشرعي فرداً منه من الواضحات ومن الأمور التي يستقلّ بها العقل ولكنّه يثبت الاحتياج إليه عقلاً في الجملة وقد يظهر من الشرع دخالة زمان مخصوص فيما أمر به وتعلّق غرضه بحصوله ويصرّح بأنّه يجب على العبد الاتيان بالفعل الفلاني في الزمان الخاص الفلاني فيكون الواجب حينئذٍ موقتاً، وان كان غرض الشارع متعلّقاً بنفس الفعل من دون أن يكون في الزمان الفلاني فهو غير موقت، والموقت قد يكون وقته بقدر الواجب وقد يكون أوسع فعلى الأوّل يكون مضيقاً وعلى الثاني موسعاً أمّا المضيق فكصوم شهر رمضان فان الزمان فيه بقدر الواجب والموسع كصلوة الظهر والعصر فانّ الزمان الذي تعلّق غرض الشارع بحصولهما في ذلك الزمان أوسع من فعلهما وليلتفت في هذا المقام إلى ان التخيير الحاصل في الواجب الموسع بين الأفراد التدريجيّة عقلي كالتخيير بين أفراد الطبيعة المأمور به الحاصلة دفعة لا تدريجيّاً فكما انّ تخيير المكلّف بين الاتيان بأيّ فرد من أفراد الانسان اذا آمره المولى بقوله جئني بانسان عقلي لا شرعي فكذلك إذا أمر الصلوتين من حين دلوك الشمس إلى غروبه فانّ الواجب الموسع وهو الصلوة في أيّ جزء من أجزاء الزمان المذكور كلي كما انّ الانسان كلي فانّ الأمر بالموسع أمر بالكلي وكلّما كان الأمر متعلّقاً بالكلي فالتخيير بين أفراده يكون عقليّاً لا شرعيّاً غاية الأمر قد يكون الكلي كلياً أصليّاً حقيقيّاً فعلا كالانسان والشجر والحجر مثلاً وقد يكون جعلياً اختراعياً اعتبارياً كالصلوة الواقعة في أيّ جزء من أجزاء الزمان من الدلوك إلى الغروب نعم أصل الجعل والاختراع من الشارع ولكنّه بعد ان جعل

ص: 467

............................................

_____________________________

واخترع وأمر بالكلي المجعول والمخترع فحاله حال الأمر بالكلي الأصلي الحقيقي في ان التخيير بين أفراده تخيير عقلي لا شرعي ومن البديهي ان نسبة الأفراد التدريجيّة إلى الواجب كنسبة أفراد الطبائع إليها كما لا يخفى فلا تفاوت بينهما في كون التخيير بين أفرادهما تخييراً عقليّاً لا شرعيّاً فتوهّم انّ التخيير بين الأفراد التدريجيّة إلى الواجب كنسبة أفراد الطبائع إليها كما لا يخفى فلا تفاوت بينهما في كون التخيير بين أفرادهما تخييراً عقليّاً لا شرعيّاً فتوهّم انّ التخيير بين الأفراد التدريجيّة في الواجب الموسع تخيير شرعي كالتخيير بين خصال الكفّارة في غير محلّه وواضح الفساد هذا كلّه في بيان حقيقة معنى الأمر بالواجب الموسع ثمّ انّ وقوع الواجب الموسع فضلاً عن امكانه ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه والاغناء ببعض التسويلات والتخيلات كما يظهر من المطوّلات.

ثمّ انّه إذا كان الواجب موقتاً فلا دلالة لأمره على الأمر به في خارج الوقت بعد فواته في الوقت لو لم نقل بدلالة على عدم الأمر به نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل عن الأمر بنفس الفعل ولم يكن له اطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب اطلاق لكان قضيّة اطلاقه ثبوت الواجب بعد انقضاء الوقت لاطلاق الثاني وعدم الاطلاق في الأوّل وكون التقييد بالوقت بحسب تمام المطلوب لا أصله يعني ان الاطلاق في الثاني وعدم الاطلاق في الأوّل يدلّ على انّ التقييد بالوقت لبيان ان الجزء الآخر من المطلوب حصوله في الوقت وان أصل الفعل مطلوب مستقلّاً وحصوله في الوقت مطلوب آخر وبالجملة والحاصل ان التقييد

ص: 468

............................................

_____________________________

بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب كذلك ربما يكون بنحو تعدّد المطلوب بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب الا انه لابدّ في اثبات هذا النحو من دلالة ولا يكفي الدليل على الوقت في اثباته ووجوب الفعل في خارج الوقت أيضاً الا فيما عرفت من ثبوت الاطلاق في الأمر بالفعل وعدم الاطلاق في الأمر بالوقت بل عرفت ان في غير هذه الصورة يمكن ادّعاء دليل الوقت على عدم الوجوب في خارج الوقت فضلاً عن عدم دلالته على وجوبه في الخارج والحاصل ان مع عدم الدلالة فقضيّة اصالة البرائة عدم وجوبها في خارج الوقت ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت قال الشارح توضيح المقام ونتيجته انّ التوقيت بالزمان إن كان على نحو الظرفيّة لا القيديّة فاستصحاب بقاء الحكم بعد انقطاع الوقت عند الشكّ لا شكّ فيه كما حقّق في محلّه وسيجي ء تحقيقه إن شاء اللَّه وقد اعترف به المصنّف قدس سره، وإن كان على نحو التقييد فان كان لدليل الوجوب اطلاق ولم يكن لدليل التقييد اطلاق فان كان هناك قدر متيقّن يعني في تقيد الاطلاق اقتصر في التقيد عليه وعمل على الاطلاق في المشكوك تقييده وإن لم يكن له قدر متيقّن سقط اطلاق دليل الواجب عن الحجيّة بسبب دليل التقييد فلا يحكم إلّا بوجوبه في ذلك الوقت لاصالة البرائة عن وجوبه في غيره اذ لا متيقن أكثر من ذلك يعني من وجوبه في ذلك الوقت ليستصحب كما ان الحال كذلك لو لم يكن لهما معاً اطلاق ولعمري انّه أجاد فيما أفاد وأتى بما فوق المراد ونقح المقام بما لا مزيد عليه فشكر اللَّه سعيه وشرح صدره واللَّه العالم بحقائق الأمور.

ص: 469

تارة مما له دخل فيه شرعا فيكون موقتا، وأخرى لا دخل له فيه أصلا فهو غير موقت، والموقت إما أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره فمضيق، وإما أن يكون أوسع منه فموسع.

ولا يذهب عليك أن الموسع كلي، كما كان له أفراد دفعية، كان له أفراد تدريجية، يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها الدفعية عقليا.

ولا وجه لتوهم أن يكون التخيير بينها شرعيا، ضرورة أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها، كما لا يخفى، ووقوع الموسع فضلا عن إمكانه، مما لا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه، ولا اعتناء ببعض التسويلات كما يظهر من المطولات.

ثم إنه لا دلالة للامر بالموقت بوجه على الامر به في خارج الوقت، بعد فوته في الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الامر به.

نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل، لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.

وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب، كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب، بحيث كان أصل الفعل، ولو في خارج الوقت مطلوبا في الجملة، وإن لم يكن بتمام المطلوب، إلا أنه لابد في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة، ولا يكفي الدليل على الوقت إلا فيما عرفت، ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراء ة عدم وجوبها في خارج الوقت، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت، فتدبر جيدا.

ص: 470

الفصل الثانی عشر: الامر بالامر

فصل: الامر بالامر بشي ء أمر به لو كان الغرض حصوله،[1] ولم يكن له غرض

_____________________________

[1] أقول: لا وجه للقول بأنّ الأمر بالأمر أمر مطلقاً ولا انه ليس أمرا كذلك بل لابدّ من ملاحظة الأمر الصادر من الآمر الأوّل فقد يكون أمره أمراً بالنسبة إلى المأمور الثاني وقد لا يكون اما الأوّل ففي صورة واحدة وهي ما إذا كان الغرض من الآمر بالمأمور الأوّل جعله واسطة لتبليغه إلى المأمور الثاني فقط وكان رسولاً صرفاً في الايصال وما على الرسول إلّا البلاغ كما هو المتعارف في أوامر الرسل والأوصياء ونواهيهم فانهم وسائط صرفا في ايصال أوامر اللَّه ونواهيه إلى عباده فأمر اللَّه المتوجه إليهم في الحقيقة راجع إلى سائر العباد والمكلّفين وإنّما هم واسطة الايصال إليهم وأمّا الثاني ففي الصورتين الأولى ان يكون غرض الآمر متعلّقاً بأمر الآمر الثاني ولم يكن غرضه متعلّقاً بنفس ذلك الشي ء وكان المصلحة في أن يأمر الآمر الثاني بالشي ء المأمور بالعمل المأمور به والثاني أن يكون غرض الآمر متعلّقاً بنفس الشي ء المأمور به ولكن لا مطلقاً بل بعد تعلّق أمر الآمر الثاني بذلك الشي ء وكان المصلحة فيهما من نفس العمل المأمور به وتعلّق أمر الآمر الثاني بذلك العمل ففي هاتين الصورتين يكون الآمر بالأمر أمراً بالشي ء من الآمر الأوّل بل إنّما هو أمر بالأمر لا بذلك الشي ء ومن جهة ما ذكرنا يعلم انّ ثبوت كون أمر الآمر بالشي ء أمراً بذلك الشي ء لابدّ من قرينة تدلّ عليه ولا يدلّ مجرّد أمر الآمر بالشي ء على انه أمر بذلك الشي ء والقول بالدلالة لا وجه له.

واستشكل الشارح هنا على المصنّف بأنّه لم يبين مقام الكلام حقّ بيانه بل أجمل وأهمل والصواب أن يقال انّ المأمور من قبل المولى بالأمر قد يكون واسطة

ص: 471

............................................

_____________________________

في تبليغ أمره فقط ولم يكن له سلطنة مستقلّة تامّة كجماعة الرسل التي تكون وسائط في تبليغ أوامر اللَّه ونواهيه إلى عباده ففي مثل تلك الصورة يكون الأمر بالأمر أمراً ونفس هذه القرينة وعدم استقلال المأمور بالأمر تكون كاشفة عن كيفيّة الغرض وقد يكون للمأمور سلطنة مستقلّة وولاية عامّة في خصوص التبليغ فقط وكما يأمره المولى الأصل بأن يأمر غيره كذلك يأمر المولى المأمور الثاني باطاعة الواسطة وامتثال أوامرها الصادرة منها بملاحظة استقلاله وسلطنته لا بملاحظة كونه التي لتبليغ أوامر المولى الأصل إلى المأمورين هذا كما في الولاة المنصوبة من جانب السلطان المستقلّة في صدور الأوامر منهم والنواهي عموماً وكالزوج بالنسبة إلى الزوجة والمولى بالنسبة إلى عبده والولي الاجباري للمولى عليه والأب وغيره من الأولياء للولد وفي تلك الصورة لم يكن الأمر بالأمر أمراً وإنّما يكون ذو الأمر نفس الواسطة قال ولذا ورد في العبد في بعض الموارد انه لم يعصى اللَّه وإنّما عصى سيّده يعني ان هذا دليل على استقلال المولى بالنسبة إلى العبد وانّ السيّد واجب الاطاعة للعبد من حيث هو لا من حيث كونه واسطة في ايصال أوامر الغير إليه وإن لم يسبق للمأمور جعل ولاية تبليغ بالخصوص ولا ولاية تصرّف بالعموم كي يكون قرينة على انّ الأمر بأيّ نحو من الأنحاء يختلف في تلك الصورة باختلاف ألفاظ المقال فان قال الآمر الأوّل بالمأمور الأوّل قل لفلان فلان يأمرك أو يقول لك افعل أو ما أشبه تلك الألفاظ فصريح في صرف التبليغ وإن قال له أنت أمر فلاناً من نفسك وما أشبهه فصريح في العدم وان الأمر

ص: 472

............................................

_____________________________

من الآمر الأوّل ليس أمراً بالشي ء بل إنّما هو أمر بالأمر فقط وان قال له امر فلاناً بكذا أو قل لفلان افعل كذا أو أوجب عليه أو أفرض عليه مع خلو المقام عن كلّ قرينة كما هو الفرض فالحق عدم الدلالة على شي ء لا على انّ الأمر بالأمر أمر بالشي ء ولا على عدم كونه أمراً بالشي ء، نعم يجب على المأمور الثاني أن يمتثل الأمر الواقعي الثابت في حقّه فعلاً مع اشتباه حاله من حيث كونه مولويّاً أو ولايتياً ولو ولاية بمقدار هذا الأمر وكلاهما واجب الطاعة انتهى ما أفاده قدس سره مع تغيير في العبارة وتوضيح وتلخيص(1).

أقول: الانصاف انّ المناط في كون الأمر بالأمر بالشي ء أمراً بذلك الشي ء وعدم كونه كذلك ما أفاده المصنّف من انّه قد يكون المصلحة في أمر المأمور الأوّل صرفاً ولذا يأمره الآمر الأوّل بالأمر والغرض متعلّقاً به لكونه خبيراً وبصيراً بموارد حسن الفعل والترك وقبحهما فلذا ينصبه الآمر الأوّل من قبله ويجعله مستقلّاً في الأمر والنهي وجعل استقلاله هو المناط كما فعله الشارح بعيد عن التحقيق إذ المناط الأصلي وما هو المناط أوّلاً ما يكون مناطاً في جعل الاستقلال والنصب العمومي وإنّما هو حصول الغرض بالأمر من المأمور الثاني بالشي ء كائناً ما كان لبصيرته في الأمور وخبرته فالعدول عن الوجه الذي ذكره المصنّف والمناط الذي بينه إلى ما أفاده الشارح لا وجه له إذ الوجه الذي ذكره يحتاج إلى بيان وجه آخر له وهو الوجه الذي لا وجه ورائه.

ص: 473


1- الهداية في شرح الكفاية: 306 - 307.

في توسيط أمر الغير به إلا تبليغ أمره به، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالامر أو النهي.

وأما لو كان لغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشي ء، من دون تعلق غرضه به، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقا، بل بعد تعلق أمره به، فلا يكون أمرا بذاك الشي ء، كما لا يخفى.

وقد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرد الامر بالامر، على كونه أمرا به، ولا بد في الدلالة عليه من قرينة عليه.

الفصل الثالث عشر: الامر بعد الامر

فصل: إذا ورد أمر بشي ء بعد الامر به قبل امتثاله فهل يوجب تكرار ذاك الشي ء، أو تأكيد الامر الاول،[1] والبعث الحاصل به؟ قضية إطلاق المادة هو

_____________________________

ثمّ ليعلم ان المقصود من هذا البحث تحقيق انه هل أمر الشارع الوالد بأمر الولد الغير البالغ بالعبادة أمر من الشارع للصبي بالعبادة ويكون عباداته شرعيّاً أو لا يكون أمراً منه ويكون عباداته تمرينيّاً وظهر بما ذكر انه لم يعلم ولم يثبت كون أمر الوالد بالعبادة أمراً من الشارع بها لعدم قرينة تدلّ عليه وثبوت انّ الأمر بالأمر بالشي ء لا يكون أمراً به مطلقاً بل لابدّ من دلالة القرينة فالأوامر الواردة المتوجهة إلى الوالد استحباب بعث الصبي إلى العبادة لا تدلّ على كون عبادة الصبي شرعيّة نعم لا يبعد ثبوت كونها شرعيّة بوجوه آخر ذكرناها في الفقه في شرحنا على الرسالة الشريفة العروة الوثقى للسيّد الطباطبائي طاب رمسه واللَّه العالم بحقائق الأمور.

[1] أقول: شرحه انه إذا ورد أمر بشي ء بعد الأمر به بعد امتثاله فلا شبهة في كونه دالّاً على وجوب تكرار ذلك الشي ء وتأسيساً وعدم ارتباطه مع الأمر الأوّل وأمّا

ص: 474

............................................

_____________________________

إذا ورد الأمر بعد الأمر قبل امتثال الأمر الأوّل ثانياً فهل يوجب تكرار ذلك الشي ء ويكون تأسيساً أيضاً أو تأكيداً للأمر الأوّل أو لا يوجب التكرار، مقتضى اطلاق المادة وعدم التقييد هو التأكيد إذ الطلب التأسيسي لا يكاد يتعلّق بطبيعة واحدة مرتين من دون قيد في البين ولو كان ذلك القيد مثل لفظ مرّة اخرى مثلاً لرجوع الطلب حينئذٍ إلى المرّة الأخرى اذا قيد بمثله لا إلى الطبيعة وأمّا إذا لم يكن مقيّداً بقيد ولو مثل القيد المذكور فيكون لغواً وتحصيلاً للحاصل وهو من الحكيم قبيح ومحال.

قال الشارح قدس سره: هذا مع العلم باتّحاد الطبيعة أو مع العلم باختلاف طبيعتين واتّحادهما في الاسم كطبيعة الأغسال واحتمال أن يكون متعلّق الثاني طبيعة أخرى على حدّ احتمال انّه عين الأولى فالظاهر انّه مورد الاجمال وعدم حصول الفراغ إلّا بتكرار الامتثال ويحتمل أن يكون كالقسم الأوّل مع تجرّدهما عن ذكر السبب بقرينة الحكمة انتهى كلامه رفع مقامه(1).

أقول: سيجي ء الاشارة من المصنّف إلى هذا الأمر والتنبيه على الفرق بين ما إذا علم باتّحاد الطبيعتين المتعلّقين للطلب اذا شكّ في ذلك واحتمل تغايرهما واختلافهما ومعلوم أن الحكم فيما إذا علم بالاختلاف كالحكم فيما إذا احتمل الاختلاف والتغاير واذا لم يكن احتمال التغاير موجباً للاجمال بل كان حكمه كما اذا علم بالاتّحاد لمسبوقيّة الطلب الثاني بمثله وعدم ذكر السبب أو وحدة السبب

ص: 475


1- الهداية في شرح الكفاية: 307 - 308.

التأكيد، فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين، من دون أن يجئ تقييد لها في البين، ولو كان بمثل (مرة اخرى) كي يكون متعلق كل منهما غير متعلق الاخر، كما لا يخفى، والمنساق من إطلاق الهيئة، وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده، إلا أن الظاهر هو انسباق التأكيد عنها، فيما كانت مسبوقة بمثلها، ولم يذكر هناك سبب، أو ذكر سبب واحد.

_____________________________

المذكور كما سيجي ء من المصنّف قدس سره فكذلك فيما إذا علم بالاختلاف والتغاير كما فرضه الشارح ومثل له بالأغسال كلّ ما ذكر من الانصراف إلى التأكيد للوجه المذكور إنّما هو في المادة وأمّا المنساق من اطلاق الهيئة فهو وإن كان تأسيس الطلب لا تأكيده فان استعمالها في التأكيد مرجوح ينصرف عند الاطلاق اذ الغالب في استعمالها استعمالها في التأسيس الا ان الظاهر أنّ مسبوقيتها بمثلها وعدم ذكر السبب في الطلبين او ذكر سبب واحد فيهما يوجب انسباق التأكيد فيها أيضاً حتّى فيما احتمل تغاير المادّة بحسب الحقيقة كتكرار الطلب بالنسبة إلى الأغسال التي تكون أعمالاً مختلفة وحقائق متغايرة والمحتمل فيها أن يكون المتعلّق للطلب في الثاني غير المتعلّق له في الأوّل فانّ المسبوقيّة بالمثل وعدم ذكر السبب يكون أقوى في الدلالة على التأكيد من احتمال تغاير متعلّق الطلبين الموجب لضعف كونه للتأكيد والمقرب لكونه تأسيساً.

تمّ الجزء الأوّل بحمد اللَّه ويليه الجزء الثاني إن شاء اللَّه تعالى

ص: 476

المحتویات

الصورة

ص: 477

الصورة

ص: 478

الصورة

ص: 479

الصورة

ص: 480

الصورة

ص: 481

الصورة

ص: 482

الصورة

ص: 483

الصورة

ص: 484

الصورة

ص: 485

الصورة

ص: 486

الصورة

ص: 487

الصورة

ص: 488

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.