بیان الاصول المجلد 3

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -

Safi Gulpaygan, Lutfullah

عنوان و نام پديدآور:بیان الاصول/ تالیف لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله العالی.

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1439 ق.= 1396 -

مشخصات ظاهر:3 ج.

شابک:دوره 978-600-7854-60-0 : ؛ 630000 ریال: ج.1 978-600-7854-57-0 : ؛ 630000 ریال: ج.2 978-600-7854-58-7 : ؛ ج.3 978-600-7854-59-4 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

يادداشت:ج.2 - 3(چاپ دوم: 1439 ق. = 1396)(فیپا).

يادداشت:کتاب حاضر تقریرات درس آیت الله سیدحسین بروجردی است.

یادداشت:کتابنامه.

یادداشت:نمایه.

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

شناسه افزوده:بروجردی، سیدحسین، 1253 - 1340.

رده بندی کنگره:BP159/8/ص26ب9 1396

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:4942697

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

ص: 3

بیان الاُصول

تألیف المرجع الديني الأعلى آية اللّه العظمى الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگاني مدّظلّه العالی

الجزء الثالث

ص: 4

المقصد السابع فی الاصول العملیة

اشارة

وفيه أربعة فصول:

الفصل الأوّل: في أصالة البراءة

الفصل الثاني: في أصالة التخيير

الفصل الثالث: في أصالة الاحتياط

الفصل الرابع: في الاستصحاب

ص: 5

ص: 6

الفصل الأوّل: في أصالة البراءة

اشارة

قال في الكفاية في تعريف الاُصول العملية: «المقصد السابع: في الاُصول العمليّة، وهي الّتي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل... إلخ».((1))

ولا يخفى: أنّه حيث جعل تمايز العلوم بتمايز الأغراض الداعية إلى التدوين، وجعل الغرض من علم الاُصول معرفة القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق الاستنباط، أو الّتي ينتهي إليها المجتهد في مقام العمل، أشار هنا بأنّ كون مسائل الاُصول العمليّة من هذا العلم إنّما هو باعتبار كونها ممّا ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل. وقد أشبعنا الكلام في ما هو الملاك الاُصولية المسألة عند التعرّض لموضوع العلم (وهو الحجّة في الفقه) فلا نعيده في المقام، ومنه نعلم دخول هذه المسألة في مسائل هذا العلم، فراجع.

وقد أوردنا على ما أفاد بقوله: «فإنّ مثل قاعدة الطهارة... إلخ»((2)) بعدم كون قاعدة الطهارة من الأحكام الكلّية، لاختصاصها بالشبهات الموضوعية.

فأجاب(قدس سره): بأنّها وإن كانت كذلك إلّا أنّ الطهارة حيث تكون ممّا لا يعلم حقيقتها

ص: 7


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص165.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص165.

إلّا من قبل الشرع تكون بهذا الاعتبار من الأحكام الكلّية.((1)) وكيف كان، فالبحث عنها ليس بمهمّ؛ لعدم جريانها في جميع الأبواب بخلاف الأربعة (أي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب).

وأفاد بقوله: «لو شكّ في وجوب شيء أو حرمته ولم تنهض عليه حجّة، جاز شرعاً وعقلاً ترك الأوّل وفعل الثاني...»إلخ،((2)) أن لا حاجة إلى عقد مسائل متعدّدة بعد وحدة الملاك،((3)) كما فعل الشيخ(قدس سره)،((4)) فإنّه قد تكلّم أوّلاً في الشبهة التحريمية في ضمن مسائل أوّلها فيما لا نصّ فيه. وثانيتها: فيما إذا كان النصّ مجملاً. وثالثتها: في تعارض النصّين.

وثانياً: في الشبهة الوجوبية أيضاً في ضمن مسائل. مع اتّحاد ملاك البحث في الجميع، فإنّ إجمال النصّ وتعارض النصّين سواءٌ كانا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية ملحقان بفقدان النصّ. نعم، بناءً على التخيير في تعارض النصّين لا وجه لإلحاقه بما لا نصّ فيه، لمكان وجود الحجّة المعتبرة وهو أحد النصّين.

ويمكن أن يقال: إنّ في مسألة تعارض النصّين بناءً على التوقّف لا مجال لأصل البراءة إلّا في بعض موارده، فإنّه ليس معنى التوقّف سقوطهما عن الحجّية بالمرّة، بل معناه عدم كون کلّ واحد منهما حجّة في تعيين مؤدّاه في مقابل الآخر، وإلّا فلا ترفع اليد عن حجّيتهما في

ص: 8


1- ذكر المحقّق الخراساني(قدس سره) إشكال السيّد البروجردي(قدس سره)، والجواب عنه في هامش الكفاية (مؤسّسة آل البيت)، ص337 بقوله: «لا يقال: إنّ قاعدة الطهارة مطلقاً، تكون قاعدة في الشبهة الموضوعية، فإنّ الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية الّتي يكشف عنها الشرع. فإنّه يقال: أوّلاً: نمنع ذلك، بل إنّهما من الأحكام الوضعية الشرعية، ولذا اختلفتا في الشرائع بحسب المصالح الموجبة لتشريعهما، كما لا يخفى. وثانياً: إنّهما لو كانتا كذلك، فالشبهة فيهما فيما كان الاشتباه لعدم الدليل على أحدهما كانت حكمية، فإنّه لا مرجع لرفعهما إلّا الشارع، وما كانت كذلك ليست إلّا حكمية».
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص167.
3- كما صرّح بذلك في هامش الكفاية (مؤسّسة آل البيت(عَلَيْهِ السَّلاَمُ))، ص338.
4- انظر: الأنصاري، فرائد الاُصول، ص192 وما يليها.

نفي الثالث، فالرجوع إلى الأصل إنّما يجوز إذا كان موافقاً لأحد النصّين، كما لا يخفى.

وأمّا قوله: «جاز شرعاً وعقلاً»، فيحتمل أن يكون مراده أنّ فعل ما شكّ في حرمته وترك مشكوك الوجوب يجوز عقلاً، بمعنى عدم وقوع المكلّف في تبعة ترك التكليف وهو استحقاق العقوبة، لعدم كون الاحتمال موجباً لذلك. وشرعاً بمعنى عدم إيجاب الاحتياط الطريقي من قبل الشرع.

ويحتمل أن يكون المراد من الجواز الشرعي عدم كون التكليف فعلياً بحيث تعلّقت به الإرادة الفعلية، حتى يكون فعل محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب في صورة وجود التكليف مخالفةً للمولى وعصياناً له، بل هو باقٍ في مرتبة الاقتضاء والإنشاء. ومن الجواز العقلي عدم تنجّز التكليف بمعنى عدم كون مخالفته خروجاً عن رسم العبودية وطغياناً على المولى حتى يستحقّ بذلك العقاب.

وأمّا احتمال كون الجواز العقلي بمعنى عدم تبعةٍ للمكلّف في ارتكاب محتمل الحرمة وترك محتمل الوجوب، والجواز الشرعي بمعنى الحكم الظاهريّ المجعول في ظرف الشكّ، فهو خلاف التحقيق؛ فإنّ حكم العقل بعدم وقوع العبد في تبعة ترك التكليف متوقّف على حكمه بعدم تنجّز التكليف وجوازه بهذا المعنى، ومع عدم حكمه بعدم تنجّز التكليف لا مجال لحكمه بعدم وقوعه في تبعة تركه.

وأمّا الحكم الظاهري، فلا فائدة في جعله. مضافاً إلى أنّه لا دليل عليه، فإنَّ مثل حديث الحجب،((1)) والرفع((2)) إنّما يدلّ على رفع ما لا يعلمون، أو ما حجب الله علمه عن العباد، ولا دلالة لهما على الحكم الظاهريّ أصلاً؛ وما هو مثل: «كل شيء لك حلال...» إلخ فلا يجري إلّا في الشبهات الموضوعية دون الحكمية، هذا.

ص: 9


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص163، ب 12، ح 33.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، ج15، ص369، ب 56 ، ح 1.

تحرير محلّ النزاع

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تحرير محلّ النزاع يمكن على أنحاء:

أحدها: أنّ الاحتمال هل يكون منجّزاً أو لا؟ بمعنى أنّ احتمال التكليف هل يكون موجباً لتنجّز التكليف المحتمل لو كان في البين، فيصحّ للمولى عقاب العبد لو لم يأت بمحتمل الوجوب أو أتى بمحتمل الحرمة ويعدّ خارجاً عن رسوم العبودية وطاغياً على المولى أو لا؟

ثانيها: أنّه هل أوجب الشارع الاحتياط الطريقي في موارد الشكّ في التكليف أو لا؟

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل: أنّ النزاع في الأوّل يكون كبروياً بأنّ الشكّ في التكليف هل يكون منجّزاً له أو لا؟ وفي الثاني يكون صغروياً وهو أنّ الشارع هل أوجب الاحتياط الطريقي في مورد احتمال التكليف أو لا؟ بعد اتّفاق الطرفين على تنجّز التكليف مع وجوب الاحتياط الطريقي.

ثالثها: أنّ التكليف هل يكون مع الشكّ فيه منجّزاً، إمّا لكون الاحتمال منجّزاً، أو لجعل الشارع الاحتياط الطريقي أو لا؟

والوجه الأوّل هو محلّ نزاع القدماء في أصالة البراءة ومورد لجريانها عندهم، وقد يعبّر عنها في کلماتهم بحكم العقل أو استصحاب حال العقل.

ومرادهم من استصحاب حال العقل: أنّ العقل قبل بعث النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بالشرع مستقلٌّ بعدم كون الاحتمال منجّزاً وعدم تنجّز التكليف به، فبعده أيضاً حاله حال ما قبل الشرع، فيستصحب حاله قبل الشرع إلى ما بعده.

وأمّا الوجه الثاني، فقد حدث الاختلاف فيه بين المتأخّرين من الأخباريّين في الشبهة التحريمية، لما زعموا من دلالة بعض الأخبار على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية دون غيرها.

ص: 10

ولا يخفى عليك: أنّه بناءً على الوجه الأوّل - في تحرير محلّ النزاع - لا مجال للاستدلال بالأخبار، والدليل عليه منحصرٌ في حكم العقل واستقلاله له بقبح مؤاخذة المولى عبده بالمخالفة المترتّبة على عدم الاعتناء باحتمال التكليف.

وأمّا ما في ألسنتهم في مقام الاستدلال على البراءة من قبح العقاب بلا بيان، فهو عين المدّعى، إلّا أن يراد منه استقلال العقل بذلك.

وبناءً على الوجه الثاني لا مجال للاستدلال بالدليل العقلي، بل الدليل على عدم إيجاب الاحتياط ليس إلّا الأخبار.

وأمّا على الوجه الثالث فيجب اختصاص الدليل العقلي لإثبات عدم كون الاحتمال منجّزاً للتكليف، والأدلّة النقلية لإثبات عدم وجوب الاحتياط. فما استقرّ عليه مشي المتأخّرين كالشيخ والمحقّق الاُستاذ في الكفاية من ذكر الأدلّة الأربعة دليلاً على البراءة على حدّ سواء؛ ليس في محلّه، كما لا يخفى.

ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّ ما ذكره المحقّق الاُستاذ في عبارته المذكورة الّتي صدرت تحريراً لمحلّ النزاع في أصل البراءة وهو قوله: «ولم تنهض حجّة عليه جاز شرعاً وعقلاً... إلخ».

لا يستقيم بحسب الظاهر، فإنّ الحجّة عبارة عمّا ينجّز التكليف ويوجب استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي، وعليه فمعنى هذه العبارة أنّه لو شكّ في وجوب شيء أو حرمته ولم ينجّز ذلك التكليف المحتمل ولم يقم عليه ما يوجب استحقاق العقاب على مخالفته، لم يكن ذلك التكليف منجّزاً وليس العبد في مخالفته مستحقّاً للعقاب. وهذا ليس أمراً يتنازع فيه، لضرورته وعدم تطرّق احتمال الخلاف فيه؛ فإنّ التكليف إذا لم يكن منجّزاً لم يكن منجّزاً.

فعلى هذا، لابدّ أن يكون غرضه من هذه العبارة: أنّه لو شكّ في تكليف إلزاميّ ولم

ص: 11

يقم على أحد طرفيه دليل، جاز عدم الاعتناء بهذا الاحتمال، ولا يكون مجرّد الاحتمال منجّزاً للتكليف الواقعي.

لا يقال: إنّ مجرّد الاحتمال والشكّ لا يمكن أن يكون منجّزاً للتكليف، ولا أظنّ أحداً يلتزم به حتى يقع ذلك محلّا للنزاع.

فإنّه يقال: إنّ هذا وإن كان يوجد في کلمات بعضهم ولكن لا أصل له، لإمكان كون الاحتمال منجّزاً، بل هو واقعٌ في بعض الموارد كاحتمال صدق مدّعي النبوّة، فإنّه منجّزٌ وموجبٌ لاستحقاق العقاب على عدم الاعتناء بالتحقيق والتفحّص وتحصيل المعرفة لو اتّفق كون من يدّعي النبوّة صادقاً (دون من لا يحتمل ذلك أصلاً كالمسلم المعتقد بخاتمية دين الإسلام وأنّ محمّداً(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خاتم النبيّين). ومثل احتمال وجود التكاليف في الشريعة، فإنّه بنفسه ملزمٌ للفحص ومنجّزٌ للتكاليف الواقعية. نعم، ليس في الشكّ جهة كشف عن الواقع كالظنّ فلا يصحّ جعله حجّة بملاحظة جهة كشفه كالظن فإنّه ترجيح بلا مرجح.

وإذا قد عرفت ذلك کلّه، فاعلم: أنّ الكلام يقع تارةً في أصل البراءة على الوجه الأوّل - الّذي ذكر في تحرير محلّ النزاع - فنقول: إنّ الوجدان أعظم شاهدٍ على أنّ العبد إذا احتمل توجّه تكليفٍ إليه من جانب المولى وتفحّص عنه ولم يجده لم يستحقّ في مخالفة هذا التكليف - بعد الفحص عنه وعدم الظفر به - العقاب، وليس للمولى توبيخه لمخالفته هذه، ولا يعدّ عند العقلاء خارجاً عن رسوم العبودية وطاغياً على المولى، فليس هذا الاحتمال منجّزاً لذلك التكليف بعد الفحص وعدم الظفر به.

ولا فرق في ذلك بين كون عدم ظفره بهذا التكليف لعدم بيان المولى رأساً، أو لعدم وصول البيان إلى العبد. فإنّ العقل لا يرى تفاوتاً بينهما في حكمه بعدم تنجّز هذا التكليف، فكما أنّ التكليف لا يصير منجّزاً مع احتمال نسيان المولى بيانه ولو علم عدم

ص: 12

صدور بيانٍ منه، كذلك لا يصير منجّزاً مع عدم العثور على بيانه مع الفحص وإن احتمل صدوره منه واختفاؤه عنّا لبعض الجهات الموجبة للاختفاء. فليس احتمال صدور البيان مع الفحص وعدم الظفر به إلّا كاحتمال النسيان في صورة العلم بعدم صدور البيان.

وأمّا الاستدلال على هذا بقبح العقاب بلا بيان فليس إلّا مصادرة بالمطلوب ومِن جعل الدليل عين المدّعى، لرجوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان أيضاً إلى حكم العقل بعدم استحقاق العقاب بمجرّد احتمال التكليف بعد الفحص وعدم الظفر.

وربما يستدلّ لعدم كون الاحتمال منجّزاً للتكليف بما قد مرّ تحقيقه منّا، وملخّصه: أنّ فعلية الحكم لا تتصوّر إلّا في ظرف العلم به؛ فإنّ الحكم عبارةٌ عن إنشاء الخطاب متسبّباً به لانبعاث العبد؛ وروحه وحقيقته عبارة عن إرادة انبعاثه أو انزجاره في ظرف علمه بذلك الخطاب ووصوله إليه، فإنّه لا يمكن إرادة انبعاثه عنه أو انزجاره به مطلقاً، حتى في صورة الجهل به، لعدم إمكان انبعاثه أو انزجاره كذلك، ولذا لو كان المولى مهتمّاً بحفظ تكاليفه وأراد فعلية أحكامه وانبعاث عبده نحوها مطلقاً، يجب عليه جعل حكم آخر طريقي كإيجاب العمل بالأمارة أو الأخذ بالحالة السابقة أو غيرهما.

لا يقال: انبعاث العبد نحو ما کلّفه به ليس منحصراً بصورة العلم به بل يمكن انبعاثه في ظرف احتمال التكليف.

فإنّه يقال: إنّ الانبعاث في ظرف احتمال التكليف ليس مسبّباً عن حكم المولى وتكليفه، فإنّه ليس معلولاً لوجود التكليف، بل ربما يحتمل التكليف وينبعث العبد من هذا الاحتمال ولا يكون تكليفٌ في البين أصلاً، بخلاف صورة وصوله إلى العبد فإنّ الانبعاث في ظرف وصوله مسبّبٌ عن وصول التكليف وهو مسبّبٌ عن نفس هذا التكليف.

ص: 13

فعلى هذا، لا تصير خطابات المولى فعليةً إلّا في ظرف العلم بها ووصولها إلى العبد، لعدم إرادة انبعاثه منه إلّا في هذا الظرف. وتستحيل فعلية الحكم وإرادة انبعاث العبد من الخطاب في ظرف الجهل، لاستحالة انبعاثه عنه في صورة الجهل به وإن كان يمكن انبعاثه عن احتمال التكليف.

فظهر: أنّ في صورة الاحتمال لا يكون التكليف فعلياً، لعدم إرادة المولى انبعاث العبد عن خطابه في هذا الظرف، لعدم إمكان انبعاثه كذلك. وإذا لم يكن التكليف فعلياً لا يكون منجّزاً بحيث يستحقّ العقاب على تركه، هذا.

ولكن لا حاجة إلى هذا البيان بعدما ذكرنا من استقلال العقل بعدم تنجّز التكليف بمجرّد الاحتمال، وكون ذلك من البديهيات الّتي لا يحتاج إثباتها إلى توسيط شيءٍ وتجشّم استدلالٍ.

نعم، هنا اُمور((1)) قيل بكون کلّ واحد منها وارداً على هذه القاعدة العقلية ومنجّزاً للتكليف المحتمل وموجباً للعلم باستحقاق العقاب في ظرف الاحتمال، بعضها بل کلّها - غير واحدٍ منها - تجري في الشبهة التحريمية، وواحدٌ منها تجري فيها وفي الشبهة الوجوبية.

الأمر الأوّل: قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل

وتقريره على نحو يعمّ الشبهة الوجوبية أيضاً: أنّ احتمال الوجوب أو احتمال الحرمة ملازمٌ لاحتمال الضرر، أي العقاب على ترك الواجب المحتمل وفعل محتمل الحرمة، والعقل حاكمٌ بوجوب دفع الضرر المحتمل وقبح ترك محتمل الوجوب وفعل محتمل الحرمه، لاحتمال الضرر في ترك الأوّل وفعل الثاني، فبمقتضى قاعدة الملازمة (وهي: کلّ ما حكم العقل بقبحه حكم الشرع بحرمته) نستكشف حكم الشرع

ص: 14


1- أوّلها في هذه الصفحة، وثانيها في الصفحة 16، وثالثها في الصفحة 18، ورابعها في الصفحة 35.

بحرمة مخالفة التكليف المحتمل. فعلى هذا ولو سلّم عدم كون نفس احتمال التكليف منجّزاً له، لكن يجب الحكم بتنجّزه بمقتضى هذه القاعدة.

وفيه: أنّه بعد استقلال العقل بعدم تنجّز التكليف بمجرد الاحتمال لا نحتمل ضرراً في ترك التكليف المحتمل، ولا ملازمة بين احتمال التكليف واحتمال الضرر والعقاب، وهذا واضحٌ لا سترة عليه.

وأمّا تقريره على نحو يختصّ بالشبهة التحريمية، فبيانه: أنّ في ترك ما يحتمل حرمته احتمال الوقوع في الضرر، ولا نعني به العقاب والمؤاخذة - الّتي ملاك صحّتها تحقّق عنوان المخالفة والطغيان والخروج عن رسوم العبودية - بل المراد منه احتمال الوقوع في المفسدة الموجبة لتحريم الفعل، وهي ضررٌ قطعاً ويجب دفعه ويحرم ارتكابه عقلاً، فيكون شرعاً كذلك لقاعدة الملازمة.

لا يقال: إنّ ما هو المسلّم وجود المصلحة في التكليف وهي كما يمكن أن تكون إيصالاً إلى مصلحة الفعل المأمور به وحفظاً عن مفسدة الفعل المنهيّ عنه يمكن أن تكون راجعةً إلى جهة اُخرى. وهذا مضافاً إلى أنّ المفاسد المترتّبة على الأفعال المحرّمة - الّتي توجب تحريمها من قبل الشرع - ليست کلّها راجعة إلى الفاعل بل كثيراً ما تكون راجعةً إلى غيره، كالمفاسد الاجتماعية الّتي تترتّب على بعض المحرّمات، ولا يجب عقلاً دفع الضرر عن الغير.

فإنّه يقال: إنّ ذلك لا يدفع احتمال الضرر المذكور، فإنّ من المحتمل أن تكون مصلحة تحريم هذا الفعل - الّذي احتملت حرمته - حفظ المکلّف عن وقوعه في مفسدته، ومن المحتمل أن تكون المفسدة المترتّبة على الفعل راجعةً إلى فاعله دون غيره.

والّذي ينبغي أن يقال في الجواب: إنّ دفع الضرر المحتمل غير الاُخروي لا يكون حسناً ولا تركه قبيحاً مطلقاً حتى في صورة قيام الاحتمالات غير العقلائية، بل ربما يكون الاعتناء به قبيحاً في هذه الصورة.

ص: 15

وأمّا إن كان من الاحتمالات العقلائية، فلا يكون عدم الاعتناء به قبيحاً بحيث يكون موجباً للمؤاخذة واستحقاق التوبيخ والذمّ واللوم، كالظلم والعدوان، ومورداً لاشمئزاز العقل وانزجاره، ولا يكون الاعتناء به حسناً بحيث يكون فاعله مستحقّاً للمدح والثواب، كالعدل وغيره، ولا يحكم على من جعل نفسه في معرض الضرر بالعقاب والعذاب وإن كان يعدّ عند العرف بأنّه هو المقدم على هذا الضرر والباعث لوروده مع كونه مدركاً له ومختاراً في حفظ نفسه ومفطوراً على الفرار عنه.((1))

هذا، وربما يتمسّك لوجوب دفع الضرر المحتمل بحكم الشارع.

وهو في غاية الفساد، لعدم وجوبه شرعاً. بل لم يثبت وجوب دفع الضرر المقطوع به شرعاً مطلقاً وبالنسبة إلى جميع الموارد، فضلاً عن دفع الضرر المحتمل. ولو سلّم وجوب دفع المقطوع منه مطلقاً، فصورة احتماله تكون من باب الشبهة الموضوعية، فلا يجب فيه الاحتياط.

الأمر الثاني: أصالة الحظر

إنّ الأصل في الأفعال غير الضرورية قبل الشرع هو الحظر، وحيث إنّ مدرك ذهاب القائلين بالحظر إلى هذا القول حكم العقل بقبح التصرّف فيما هو ملكٌ للغير وتحت سلطانه بدون إذنه، فيستكشف من قاعدة الملازمة حكم الشرع على تحريمه

ص: 16


1- ولا فرق في ذلك، أي في الفرار عن الضرر، بين الإنسان والحيوان فهذا الأمر جبلّيٌ لهما. وليس هذا من قبيل قبح الظلم وحسن العدل الّذي توافقت عليه عقول العقلاء لأجل إدراك المصالح وحفظ الناس عن الوقوع في المفاسد. ويمكن أن يقال: إنّ دفع الضرر المحتمل لا يجب بالمعنى المذكور إذا كان الضرر شخصياً، أمّا إذا كان نوعياً فيمكن ادّعاء وجوب دفعه وقبح تركه وتوافق آراء العقلاء عليه، كقبح الظلم وحسن العدل. ولكن لقائل أن يقول: إنّ وجوب دفعه ليس مطلقاً بل يختلف بحسب الموارد من الأهمّية وعدمها. ولو سلّم فهو إنّما يجب إذا كان مقطوعاً به دون غيره. [منه دام ظلّه العالي] .

أيضاً. فالانتفاع من الأعيان الخارجية لا يجوز إلّا بإذن الله تعالى، فإنّ کلّ ما في دار التحقّق والوجود ملكٌ له وهو مالكه، فالانتفاع من الأعيان الخارجية تصرّفٌ في ملكه وسلطانه، وهو بلا إذنٍ منه قبيحٌ عقلاً وظلمٌ، فيكون حراماً شرعاً للقاعدة المذكورة. وبعد ذلك لا مجال للقول بعدم استحقاق العقاب وعدم تنجّز التكليف المحتمل وإباحة ارتكاب محتمل الحرمة عقلاً وشرعاً، فإنّه إنّما يتمّ إذا لم يكن في البين منجّزٌ للتكليف غير احتماله. فلا منافاة بين القول بعدم تنجّز التكليف بمجرّد الاحتمال وبين الحكم بتنجّز محتمل الحرمة لهذه القاعدة.

وفيه: أنّه وإن وقع الاختلاف بين العلماء في أنّ الأصل في الأفعال قبل الشرع هل هو الحظر أو الإباحة (وغرضهم من قبل الشرع ليس قبل شرع الإسلام أو شريعةٍ اُخرى، بل غرضهم قبل أن يصدر من الشارع بالنسبة إليه تكليفٌ وحكمٌ من الأحكام الخمسة)، وقد ذهبت معتزلة بغداد، وابن أبي هريرة من الشافعية، وجماعة من قدماء الإمامية إلى الحظر، ولكن ليس لهم على ذلك حجّة قاطعة فإنّهم استدلّوا - كما ذكر - بأنّ التصرّف في الأعيان الخارجية تصرّفٌ في ملكه سبحانه وهو قبيحٌ وحرامٌ عقلاً وشرعاً. ومن يرى منهم تعميم ذلك الحظر بالنسبة إلى جميع أفعال المکلّف يقول: إنّ العبد أيضاً ملكٌ لخالقه وما اُوتي من نعمة البصر واليد واللسان وغيرها من الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة ملكٌ له فلا يحسن صرفها بدون إذنه ويستقبح العقل التصرّف فيه، وهكذا حال الشرع لقاعدة الملازمة.

ولكن لنا أن ننكر أصل حكم العقل بالحظر بالملاك المذكور بالنسبة إلى العبيد ومولاهم الحقيقي، فإنّ التصرّف في ملك الغير إنّما يحكم عليه بالقبح لو كان منطبقاً مع عنوان من العناوين المقبحة العقلية كالظلم، وإلّا فليس کلّ تصرّفٍ في ملك الغير قبيحاً وحراماً عقلياً. نعم، إذا كان ذلك التصرّف خلاف غرض المولى ومزاحماً مع سلطانه ومالكيته يصير قبيحاً بملاك وقوعه تحت عنوان الظلم.

ص: 17

وأمّا إذا لم يكن كذلك، كتصرّفات العباد غير المنافية لمالكية مالك السماوات والأرضين وسلطانه فلا يكون قبيحاً وظلماً. ويؤيّد ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ الله الَّتي أَخْرَجَ لِعبَادِهِ وَالطيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾((1)) وغيرها من الآيات، فإنّ هذه الآية ليست في مقام إنكار تحريم زينة الله الّتي أخرجها لعباده من جانب الشرع، أو إنشاء حكم الحلّية وجواز الانتفاع عمّا أخرجه لعباده. بل هي في مقام بيان عدم وجود مناطٍ ودليلٍ من العقل والشرع على ذلك، وتوبيخ من يحرم على نفسه ما أخرجه لعباده من غير دليلٍ عقليٍ ولا شرعيٍ، وأنّ الأفعال والانتفاع ممّا أخرجه لعباده بحسب الطبع الأوّلي ليس حراماً، ولا يكون المنتفع منه مع عدم صدور حكم حرمته من الشرع مستوجباً للتقبيح عند العقل. وإلّا فلو كان ذلك عند العقل قبيحاً لصحّ الجواب عن الاستفهام المذكور في الآية بأنّ العقل حاكمٌ بقبح التصرّف في ملك الله تعالى من غير إذنٍ منه.

الأمر الثالث: وجوب الاحتياط

استدلّ الأخباريّون بالآيات والروايات على وجوب الاحتياط الطريقي في الشبهات التحريمية الحكمية، ولو تمّ الاستدلال بها يكون منجّزاً للتكليف المحتمل التحريمي وإن لم يكن مجرّد احتماله منجّزاً له. وحيث إنّ الأخباري ذهب إلى وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية الحكمية دون الموضوعية والشبهات الوجوبية، فلابدّ لمن يراجع ما استدلّ عليه من الكتاب والسنّة من ملاحظة مقدار دلالة هذه الأدلّة وأنّها على تقدير تماميّتها هل تختصّ بالشبهات التحريمية الحكمية أو تعمّها وغيرها من الشبهات الوجوبية والموضوعية.

ص: 18


1- الأعراف، 32.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّهم استدلّوا على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالآيات القرآنية والروايات.

الآيات الّتي استدلّ بها للاحتياط والجواب عنها

أمّا الآيات الّتي استدلّ بها على الاحتياط فطائفتان:

إحداهما: ما دلّت على النهي عن القول بغير علمٍ، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.((1)) وقوله عزَّ من قائل: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.((2)) وغيرهما من الآيات الكثيرة الّتي ربما تبلغ ستّة عشر آيةً. بتقريب: أنّ الحكم بالجواز والترخيص في ما يحتمل حرمته قولٌ بغير علمٍ.

وجوابه يظهر ممّا أسلفناه،((3)) فإنّا لا نقول في محتمل الحرمة بالجواز الشرعي، ولا ندّعي ترخيص الشارع ارتكاب محتمل الحرمة حتى يقال بأنّكم تقولون على الله ما لا تعلمون، بل نحن ندّعي أنّ العقل مستقلّ بأنّ العبد لو احتمل التكليف بعد بذل جهده في سبيل الفحص عن الحكم ولم يطّلع على ما يدلّ عليه من الأدّلة، فليس مستحقّاً للعذاب والعقاب لو ارتكب ما يحتمل حرمته أو ترك ما يحتمل وجوبه. وليس معنى ذلك ترخيص الشارع ارتكاب محتمل الحرمة والحكم بالجواز الشرعي.

هذا مضافاً إلى أنّ هذا الدليل ناهضٌ على الأخباري، فإنّ القول بوجوب الاحتياط، والتفكيك بين الشبهة الوجوبية والتحريمية وبين الموضوعية والحكمية، قولٌ بغير علمٍ.

ص: 19


1- البقرة، 169.
2- الإسراء، 36.
3- تقدم في الصفحة 9.

ثانيتهما: ما تدلّ بظاهرها على وجوب الاحتياط والتورّع والاتقاء، كقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا الله َ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.((1)) وقوله سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا الله َ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾.((2)) وقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي الله ِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾.((3)) وقوله عزّ شأنه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾.((4)) وقوله تعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ﴾.((5))

والجواب: أمّا عن الآيات الثلاثة الاُول، فبمنع كون التقوى والجهاد في الله حقّ جهاده إتيان العبادات الاختراعية وتحريم المحلّلات وأخذ طريق التضييق وإدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين ولو كان بعنوان الاحتياط، بل حقيقتهما عبارة عن كمال الاهتمام والمراقبة في فعل الواجبات وترك المحرّمات وحضور العبد لذلك وقيامه بوظيفة العبودية. ولا دخالة لفعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة في ذلك. وليس ترك الأوّل وفعل الثاني مخالفاً للتورّع والتقوى، وإلّا يجب أن يكون العالم بجميع الأحكام الممتثل لها غير حائز لصفة التقوى.

وأيضاً لا ريب في أنّه لا يستفاد من هذه الآيات إيجاباتٌ مستقلّةٌ، كسائر الأوامر والنواهي الراجعة إلى الموضوعات المختلفة، وإلّا يلزم أن يكون الآتي بالصلاة آتياً بواجبين، أحدهما: ما وجب بالأمر بنفس الصلاة، وثانيهما: ما تعلّق بعنوان الاتّقاء.

فالمستفاد منها: أنّ المتكلّم يكون في مقام تنبيه العباد وتذكيرهم بأنّ المکلّف يجب أن يتحرّز ويجتنب عن مخالفة التكاليف الإلهية، ويبذل غاية جهده في فعل الواجبات وترك المحرّمات بأن لا يترك من الواجبات شيئاً ولا يعمل بواحدٍ من المحرّمات.

ص: 20


1- التغابن، 16.
2- آل عمران، 102.
3- الحجّ، 78.
4- البقرة، 195.
5- النساء، 59 .

والغرض من هذه التنبيهات إيقاظ الغافلين من نومة الغفلة، وسوق من لا يعظّم أمر أحكام الله إلى تعظيمها والجري على وفقها. فلا يستفاد من هذه العبارات أزيد ممّا يكون الواعظ في مقام بيانه من بيان ما يكون باعثاً لرغبة الناس إلى الطاعات وانزجارهم عن السيّئات.

ولا أظنّك أن تحتمل بأنّ هذه الآيات الكثيرة والروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين(علیهم السلام) بكثرتها، مثل ما روي عن أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - في المواعظ والخطب المشتملة على الأمر بالتقوى، تكون في مقام إيجاب التقوى، لأنّ کلّها - كما تنادي بذلك المراجعة إلى كتب الروايات والمواعظ الصادرة عنهم(علیهم السلام) - في مقام الإرشاد والترغيب والتحريض، وإيجاد الدواعي في المکلّفين لفعل الواجبات وترك المحرمات.

هذا، ولو احتمل أحدٌ خلاف ذلك، وحمل هذه الآيات على كونها في مقام إنشاء إيجاب التقوى - كسائر الخطابات الواردة في غير هذا المورد - فلا فرق حينئذٍ في ذلك - أي وجوب الاتّقاء - بين الشبهات التحريمية والوجوبية، وبين الشبهة الحكمية والموضوعية، ولا وجه للتفصيل بينهما كما زعمه الأخباري.

وأمّا الجواب عن الاستدلال بالآية الرابعة: فبأنّ المراد من التهلكة إن كان الهلكة الاُخروية فنقطع بعدمها. وإن كان المراد الهلكة الدنيوية، فالمحرّم هو الإلقاء في الهلكة المعلومة، وأمّا ما لم يعلم وجود التهلكة فيه فالشبهة بالنسبة إليه موضوعية.

وأمّا الاستدلال بالآية الخامسة ففيه أوّلاً: أنّ من الممكن أن يكون المراد ممّا تنازعوا فيه الشبهة الموضوعية، فإنّه يجب فيه الرجوع إلى القضاة المنصوبين من جانب الله والرسول، لا قضاة الجور ومن تولّى أمر القضاء من جانب غير المنصوب من قبل الله تعالى وهو الرسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

ص: 21

وثانياً: لو سلّمنا أنّ المراد منه هو الشبهة في الحكم، فلا يستفاد منه إلّا وجوب التسليم لأمر الله تعالى وأمر الرسول. ولا منافاة في ذلك مع القول بالبراءة وعدم استحقاق العقاب على فعل محتمل الحرمة بعد الفحص عمّا صدر عن الله والرسول واليأس عن الظفر.

هذا مضافاً إلى عدم الوجه في التفصيل بين الشبهة التحريمية الحكمية وغيرها.

هذا تمام الكلام في الآيات الّتي استدلّ بها الأخباريّون.

الروايات الّتي استدلّ بها للاحتياط والجواب عنها

وأمّا الروايات: فقد جمعها بعضهم كصاحب الوسائل - عليه الرحمة - في كتاب القضاء،((1)) وهي وإن كانت تبلغ - قبل إسقاط ما تكرّر منها وما ليس مرتبطاً بما نحن فيه - 68 حديثاً، إلّا أنّ جملة منها غير مرتبطة بالمقام. وجملةً منها في مقام الرّد على العامّة ومن يأخذ بالقياس والاستحسان ويستقلّ في استنباط الأحكام، ولا يرى للأئمّة المعصومين(علیهم السلام) ما لهم من المقام في بيان أحكام الله ولا يرجع إليهم، ويريد الهدى من تلقاء نفسه. وجملة منها راجعة إلى الوقوف عند الشبهات الّتي يظهرها أهل الأهواء والبدع ومن ينتحل الإسلام - ممّا يكون شبيهاً بالدليل والبرهان وليس منه - مثل ما يرى كثيراً في کلما ت هؤلاء من الصدر الأوّل إلى زماننا هذا.

وثلاثةً منها - وهي: ما رواه عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوعٌ عنهم».((2))

ص: 22


1- (1) الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص154-175، ب 12، باب وجوب التوقّف والاحتياط في القضاء والفتوى....
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص163، ب12، أبواب صفات القاضي، ح 33.

وما رواه عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم».((1))

وما رواه عن محمد بن عليّ بن الحسين قال الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهيٌ».((2)) - تدلّ على خلاف مطلوب الأخباري.

وأجاب عن هذه الروايات بأجوبةٍ غير كافيةٍ، منها: حمل هذه الأخبار على الشبهات الوجوبية.((3)) وجملةً منها راجعة إلى النهي عن القول بغير علم.

وجملةً اُخرى واردة في الشبهات البدوية قبل الفحص.

وبعضاً منها واردة في الشبهات الموضوعية، كما رواه عن الصدوق(رحمه الله) من أنّ أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خطب، فقال: «إنّ الله حدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلّفوها، رحمةً من الله لكم فاقبلوها». ثم قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «حلالٌ بيّنٌ وحرامٌ بيّن وشبهاتٌ بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك. والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها یوشك أن يدخلها».((4))

وقد جعل صاحب الوسائل ذيلها روايةً مستقلّةً وجعلها الرواية 27 من هذا الباب.((5))

وبعضاً منها ليس خالياً عن الإبهام والإجمال، كروايةٍ رواها سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «قال جدي رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة، ألا وقد بيّنهما الله عزّ وجلّ في الكتاب، وبيّنتُهما لكم في سنّتي وسيرتي، وبينهما شبهاتٌ من الشيطان وبدعٌ بعدي، من تركها صلح له أمر دينه

ص: 23


1- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص164، أبواب صفات القاضي، ب12، ح 35.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص173-174، أبواب صفات القاضي، ب12، ح 67.
3- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص163-164، أبواب صفات القاضي، ب12، ذيل الحديث 33.
4- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص175، أبواب صفات القاضي، ب12، ح 68 .
5- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص161، أبواب صفات القاضي، ب12، ح27.

وصلحت له مروّته وعرضه، ومن تلبّس بها وقع فيها واتّبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى...» الحديث.((1))

وبالجملة: فما يمكن أن يدّعى ارتباطه بالمقام ودلالته على ما ذهب إليه الأخباريون هي الروايات الّتي التقطها الشيخ(رحمه الله) من هذه الروايات وجعلها طوائف:((2))

إحداها: ما يكون مفادها مفاد الآيات، وتدلّ على حرمة القول والعمل بغير علم.((3)) وقد مرّ الجواب((4)) عنها عند ذكر الجواب عن استدلالهم بالآيات.

ثانيتها: الأخبار الدالّة على التوقّف. وقد ذكر منها اثني عشر حديثاً.

ثالثتها: أخبار الاحتياط. وذكر منها سبعة أحاديث.

رابعتها: أخبار التثليث.

ولا يخفى عليك: أنّ الطائفة الرابعة ترجع إلى الطائفة الثانية، وليست طائفةً مستقلّةً؛ فإنّ اختلاف التعابير لا يوجب اختلاف المضمون وتكثير الأقسام.

فعلى هذا، تجب الملاحظة والتأمّل في طائفتين من الروايات، إحداهما: أخبار الاحتياط. وثانيتهما: أخبار التوقّف.

أمّا أخبار الاحتياط، فأكثرها مراسيل لا يعتمد عليها، مثل: ما روى في الوسائل عن خطّ الشهيد(قدس سره) في حديثٍ طويل عن عنوان البصري عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد(علیهما السلام) يقول فيه: «سل العلماء ما جهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربةً، وإيّاك أن تعمل

ص: 24


1- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص169، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 52 .
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص205.
3- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب صفات القاضي، ج27، ص155، 161، 163-164، ب12، ح 3 و 4 و 22 و 32 و 35 وغيرها.
4- تقدّم في الصفحة 19 - 20.

برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع اُمورك ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك عتبةً للناس».((1))

وما أرسله الشهيد في الذكرى أيضاً وحكي عن الفريقين، قال النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».((2))

وما أرسله أيضاً عن الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لك أن تنظر الحزم، وتأخذ بالحائطة لدينك».((3))

وما أرسله الشهيد(قدس سره) أيضاً عنهم(علیهم السلام): «ليس بناكبٍ عن الصراط، من سلك سبيل الاحتياط».((4))

هذا مضافاً إلى عدم دلالتها على وجوب الاحتياط.

أمّا رواية عنوان البصري، فإنّه كان رجلاً متقشّفاً من تلامذة مالك بن أنس، وقد صرف مدّة من عمره في المدينة لأخذ الفقه عن مالك، ولم يكن يعرف الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالإمامة. ولكنّه أراد أن يزوره ليستفيد منه، فلم يأذن له، فدخل المسجد وصلّى ودعا الله أن يرقّق قلب جعفر بن محمد الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عليه، وبعد أن حصل الإذن تشرّف بزيارته وسأله عن مسائل فأجابه عنها، وقال له الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «سل العلماء ما جهلت...»، الحديث.

وهذا كما ترى لا يدلّ على وجوب الاحتياط في محتمل الحرمة أو الوجوب، بل کلام صدر عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) موعظةً لهذا الشخص الّذي لا يرى للإمام امتيازاً عن الناس، ولا يعرفه بالمقام الّذي أقامه الله فيه. ومن الواضح أنّ بهذه الكلمات والبيانات

ص: 25


1- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص172-173، أبواب صفات القاضي، باب 12، ح 61 .
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص173، أبواب صفات القاضي، ب12، ح63 .
3- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص173، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 65 .
4- لم يذكره في الوسائل، وانظره في جامع أحاديث الشيعة (البروجردي، ج1، ص332).

يجب أن يوعظ وينذر مثل هذا الشخص الّذي يدّعي العلم والفقه ولا يحترز عن الفتوى ولا يرجع إلى أئمّة أهل البيت(علیهم السلام).

وأمّا ما روى من قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فإنّما يدلّ على الإرشاد إلى حسن الاحتياط واستحبابه.

وأمّا الروايتان الأخيرتان، فليس فيهما دلالة على وجوب الاحتياط بمعنى وجوب ترك محتمل الحرمة وفعل محتمل الوجوب. غير أنّ ذكر لفظ الحائط والاحتياط فيهما صار سبباً لتوهّم ذلك؛ فإنّ المراد من اللفظين هو الاحتفاظ والاهتمام بأمر الدين.

وكذا الرواية المنقولة عن أمالي المفيد الثاني عن الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «أنّ أمير المؤمنين قال لكميل بن زياد: أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت».((1)) فإنّه ليس المراد من هذا الاحتياط المأمور به إلّا القيام بأمر الدين من العمل بما أوجب فيه وترك ما حرم. وأمّا رواية عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينهما؟ أو على کلّ واحدٍ منهما جزاءٌ؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا، بل عليهما أن يجزي کلّ واحدٍ منهما الصيد». قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه، فقال: «إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا».((2))

ففيها أوّلاً: أنّها لا تدلّ إلّا على وجوب الاحتياط في الفتوى والتحرّز والاجتناب عنه قبل السؤال والفحص.

وثانياً: لو أغمضنا عن ذلك فلا تدلّ إلّا على وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين أو غير الارتباطيين، لو لم نقل بكونهما كذلك في المقام.

ص: 26


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص167، أبواب صفات القاضي، ب12، ح46.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص154، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 1.

وأمّا رواية عبد الله بن وضّاح وهي: أنّه كتب إلى العبد الصالح(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يسأله عن وقت المغرب والإفطار؟ فكتب إليه: «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك».((1))

فظاهرة في الشبهة الموضوعية الوجوبية، والانتظار - مع الشكّ في تحقّق المغرب - للصلاة هو مقتضى الاستصحاب. والمراد بالأخذ بالحائطة لدينك ليس الاحتياط المذكور في کلامنا، بل هو الأخذ بما يحفظ به دينه وهو الانتظار عملاً بالاستصحاب.

وممّا ذكرنا ظهر: أنّ دعوى استفاضة الروايات الدالّة على الاحتياط لا يصدر إلّا عمّن ليس له اطلاعٌ بالروايات.

وأمّا أخبار التوقّف، فبعضها لا دلالة له على وجوب الاحتياط في العمل، كرواية حمزة بن طيّار أنّه عرض على أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعاً منها قال له: «كفّ واسكت». ثم قال أبو عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد، ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحقّ، قال الله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.((2))

فإنّ الظاهر منها أنّ الموضع الّذي بلغ منها كان متضمّناً لبعض المطالب المعضلة من الاُصول أو الفروع الّتي لا ينبغي لأمثال حمزة بن طيّار إظهار الرأي فيها، ويجب أن يعرف حقيقتها وما هو الحقّ فيها من قبل المعصوم العالم بحقائق مثل هذه الاُمور من قبل الله تعالى.

وبعضها على وجوب التوقّف عند الفتوى وحرمة القول بغير علم أدلّ وأظهر، مثل: رواية جابر عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في وصيّةٍ له لأصحابه قال: «إذا اشتبه الأمر عليكم

ص: 27


1- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص166-167، أبواب صفات القاضي، ب12، ح 42.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص155، أبواب صفات القاضي، ب12، ح3؛ والآية 43 سورة النحل؛ و 7 سورة الأنبياء.

فقفوا عنده، وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا، فإذا كنتم كما أوصيناكم لم تعدوه إلى غيره...»، الحديث.((1))

ورواية زرارة عنه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سألت أبا جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما حجّة الله على العباد؟ قال: «أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون».((2))

ورواية الميثمي - الّذي عبّر عنه الشيخ الأنصاري بالمسمعي - عن الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث اختلاف الأحاديث قال:«وما لم تجدوه في شيءٍ من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف، وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا».((3))

نعم، في عدّةٍ منها الأمر بالتوقّف عند الشبهة معلّلاً بأنّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة؛ أو ذكر هذه الجملة مستقلّةً وابتداءً كما في مقبولة عمر بن حنظلة؛((4)) ورواية الزهري؛((5))ورواية السكوني؛((6))ورواية مسعدة بن زياد؛((7))ورواية أبي شيبة؛((8))ورواية جميل بن دراج؛((9))ورواية عبد الأعلى.((10))

ولكن يمكن أن يقال - مضافاً إلى أنّ اشتمال بعض هذه الروايات على عبارات مثل:

ص: 28


1- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص168، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 48.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص163، أبواب صفات القاضی، ح 32.
3- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص165، أبواب صفات القاضی، ب12، ح 36 .
4- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص157، أبواب صفات القاضی، ح 9 .
5- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص154-155، أبواب صفات القاضی، ح2 .
6- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص171-172، أبواب صفات القاضی، ح 57 .
7- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص159، أبواب صفات القاضی، ح 15 .
8- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص158، أبواب صفات القاضی، ح 13 .
9- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص119، أبواب صفات القاضی، ب9، ح 35 .
10- العياشي، تفسیر، ج2، ص115، ذيل الآية 115 من سورة البراءة (التوبة).

«وتركك حديثاً لم تروه خيرٌ من روايتك حديثاً لم تحصه»((1)) ربما يصير سبباً لإجمال هذه العبارة -: إنّ المراد بالشبهة ما يحتمل فيه الهلكة، لا مطلق الشبهة ولو لم يحتمل فيها الهلكة.

وإن أغمضنا عن ذلك، وقلنا بأنّ المراد بالشبهة خصوص الشبهة التحريمية، وأنّ الهلاكة هي الهلكة الاُخروية، كما يريده الأخباري. فليس في هذه الأخبار ما يمكن أن يدّعى دلالته على خصوص الشبهة التحريمية الحكمية دونها والموضوعية، كما يظهر للمتأمّل في الأخبار.

اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّ النبويّ المذكور في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة((2)) - مع قطع

ص: 29


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص154-155، أبواب صفات القاضي، ب 12، ح 2.
2- وهي ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم إلى عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعةٌ في دينٍ أو ميراثٍ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطلٍ فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت، وإنّما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ﴾. قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران الی من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا قد ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله». قلت: فإن كان کلّ رجلٍ يختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر». قلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة: أمرٌ بينٌ رشده فيتبع، وأمرٌ بينٌ غيّه فيجتنب، وأمرٌ مشكلٌ يرد حكمه إلى اللّه. قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): حلالٌ بيّنٌ، وحرامٌ بيّنٌ، وشبهاتٌ بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم». قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: «ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامّة». قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال: «ما خالف العامّة ففيه الرشاد». فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر». قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: «إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات» [منه دام ظلّه العالي]. راجع: الکلیني، الكافي، ج1، ص67-68، ح10؛ الطوسي، تهذيب الأحکام، ج6، ص301، ح845؛ الصدوق، من لا یحضره الفقيه، ج3، ص8-11، ح2؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص106-107، أبواب صفات القاضي، ب9، ح1.

النظر عن احتفافه بكلام الإمام، وما يقتضي سياق أصل الرواية، واستشهاد الإمام بالنبويّ المذكور - يدلّ على المطلوب.

ولا يرد على الاستدلال به ما يرد على الاستدلال بأصل المقبولة من شمولها للشبهات الحكمية والموضوعية بقسميهما، بل تشمل غير التكاليف من الاُمور الوضعية. ومن اختصاصها بالشبهات الّتي يكون الوقوع في الهلكة بالنسبة إليها مقطوعاً كالإفتاء بغير علمٍ؛ فالوقوف عند الشبهة والامتناع من الإفتاء خيرٌ من الاقتحام في الهلكة وهو الإفتاء بغير علم.

والحاصل: أنّه يمكن أن يقال بصحّة استناد الأخباريّ إلى هذا النبويّ في خصوص الشبهة التحريمية. والقول بعدم دخل صدر المقبولة وذيلها في ما يستفاد من مضمونه. أو بكون هذا النبويّ روايةً مستقلّةً رواها عمر بن حنظلة هنا عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وقريبٌ منه في هذه الدلالة رواية جميل بن صالح عن الصادق عن آبائه(علیهم السلام) قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): - في کلام طويلٍ - «الاُمور ثلاثةٌ: أمرٌ تبيّن لك رشده فاتّبعه، وأمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه، وأمرٌ اختلف فيه فردّه إلى الله عزّ وجلّ».((1))

ومرسلة الصدوق قال: وخطب أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فقال: «إنّ الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تكلّفوها، رحمةً من الله لكم فاقبلوها. ثم قال: حلالٌ بيّنٌ، وحرامٌ بيّنٌ، وشبهاتٌ بين ذلك،

ص: 30


1- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص162، أبواب صفات القاضی، ب12، ح28.

فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها یوشك أن يدخلها».((1))

فعلى هذا، أوضح الروايات دلالة على ما يريده الأخباري هذا النبويّ الّذي لم يتعرّض لذكره بعض من صار في مقام الجواب عن الأخبار الّتي استدلّ بها الأخباري كالمحقّق الاُستاذ صاحب الكفاية، ومن تعرّض لذكره لم يأت في مقام الجواب بما كان حاسماً للإشكال، فيجب علينا أن نبيّن وجه الاستدلال به أوّلاً والجواب عنه ثانياً إن شاء الله تعالى، فنقول:

أمّا تقريب الاستدلال به: فغاية ما يمكن أن يقال هو: أنّ المستفاد من هذا النبويّ أنّ لنا حلالاً بيّناً من حيث الحكم، وأفعالاً کلّيةً حليتها مبيّنةٌ، وأفعالاً کلّيةً حرمتها مبيّنةٌ، وشبهاتٍ بين ذلك، أي أفعالٌ کلّيةٌ غير مبيّنةٍ من حيث الحكم، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات الواقعية الّتي تكون في هذه الشبهات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات الواقعية الّتي تكون في مورد هذه الشبهات وهلك من حيث لا يعلم، أي يقع فيما يقع فيه مرتكب الحرام من الخروج عن زيّ العبودية ورسوم الرقّية واستحقاق العذاب والعقاب.

وليس المراد من الشبهات جميعها، بل جنسها ولو كانت شبهةً واحدةً، كما أنّ المراد بالمحرّمات أيضاً ليس کلّها بل جنسها، فلو أخذ بشبهةٍ واحدةٍ يقع في الحرام، أي يصير في معرض الوقوع في الحرام وجعل نفسه في مورد ارتكاب الحرام.

وليس المراد من الوقوع الإشراف على الحرام حتى يكون استعمال الوقوع فيه على سبيل مجاز المشارفة كما ذكره الشيخ، وتحتاج تمامية الاستدلال إلى الكبرى الكلّية

ص: 31


1- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص175، أبواب صفات القاضی، ب12، ح68 .

الحاكمة على أنّ الإشراف على الوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم حرامٌ. فإن قلت: إنّ الرواية ظاهرةٌ في الإرشاد إلى أنّ ارتكاب الشبهة موجبٌ للوقوع في الهلكة الّتي تكون فيها مع قطع النظر عن هذا البيان، وهي تارةً تكون اُخروية واُخرى دنيوية، كالشبهات غير المقرونة بالعلم الإجمالي وقبل الفحص.

قلت: نعم، صدرها إلى قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «فمن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات» ظاهر في الإرشاد، ولكن قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «وهلك من حيث لا يعلم» يدلّ على وجود الهلاكة والعذاب في مورد الشبهة إذا صادف ارتكابها الحرام الواقعي.

فإن قلت: إنّ هذا - لو تمّ - يدلّ على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية مطلقاً موضوعيةً كانت أم حكميةً، لظهور النبويّ في حصر الحلال والحرام فيما هو بيّنٌ وما ليس كذلك.

قلت: لم يذكر في الرواية ما هو مقسمٌ لهذه الأقسام حتى يستفاد منه أنّها من الشبهة الحكمية أو الموضوعية، وليس بينهما جامعٌ.

فإن قلت: ما الما نع من أن يكون المراد من النبويّ والمستفاد منه أنّ لنا حلالاً بيّناً بحسب الخارج وحراما بيّناً بحسب الخارج وشبهاتٍ بين ذلك أيضاً في الموضوع، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات أي الوقوع في الحرام البيّن الخارجي، ومن لم يجتنب منها يقع في الحرام البيّن الخارجي ويجتري على ارتكابه بخلاف من ترك الشبهات؛ فإنّ جرأته على ارتكاب الحرام المعلوم في الخارج ليس بهذه المثابة.

ويؤيّد ذلك ما رواه الصدوق عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في خطبته، إلّا أنّه ينافي قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «وهلك من حيث لا يعلم».

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه بعد فرض عدم ذكر مقسمٍ للشبهات الحكمية والموضوعية في الرواية وإمكان حملها على الشبهات الموضوعية، فلم لا نقول بأنّ المراد منها: أنّ لنا

ص: 32

حلالاً بيّناً بحسب الخارج وحراماً كذلك وشبهاتٍ بين ذلك؟ فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات الواقعية الّتي تكون فيما بين المشتبهات، ومن ارتكب هذه الشبهات، أي المصاديق المشكوك كونها تحت بعض العناوين المحرّمة، يقع في المحرّمات الواقعية الّتي تكون فيما بينها. ولا منافاة لهذا الاحتمال مع قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «وهلك من حيث لا يعلم» وكيف كان: فلا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر.

قلت: لا مانع من هذا الاحتمال في نفسه، إلّا أنّ للأخباري أن يقول: الظاهر هو الاحتمال الأوّل.

هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال بالنبويّ.

والتحقيق في الجواب أن يقال أوّلاً: إنّ الحرام الفعلي ما تعلّق به زجر المولى وإرادته الحتمية، ولا يتحقّق ذلك إلّا إذا كان للعبد إليه طريقٌ ووصل نهي المولى إليه. وأمّا ما ليس له طريقٌ إليه أصلاً ولم يصل إليه حتى بعد الفحص فليس حراماً فعلياً، ولا يشمله عنوان محتمل الحرمة حقيقةً، بل هو من الحلال البيّن، للعلم بعدم تعلّق زجرٍ فعليٍّ من المولى إليه وعدم تعلّق إرادته الحتمية بتركه، ومع ذلك كيف يحتمل حرمته ويدخل تحت الشبهات الّتي تكون بين الحلال والحرام البيّنين. فالمراد بالمشتبهات ما يحتمل في مورده فعلية زجر المولى وإرادته الحتمية المتعلّقة بتركه، وهو لا يكون إلّا في الشبهات البدوية قبل الفحص. وأمّا بعد الفحص وعدم الظفر بالطريق فيحصل القطع بعدم فعلية زجر المولى وعدم تعلّق إرادته الحتمية بتركه. فالمشتبه بالحرام لا يكون إلّا ما يحتمل في مورده فعلية زجر المولى، وهو لا يتحقّق إلّا في الشبهات البدوية الّتي يحتمل وجود الطريق إلى الحكم الشرعيّ الّذي يكون في موردها. فعلى هذا، لا مانع من القول بظهور الهلاكة المذكورة في قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «وهلك من حيث لا يعلم» في الهلاكة الاُخروية، لكنّ المراد بها الهلاكة الّتي تكون للمشتبه مع قطع النظر عن هذه

ص: 33

العبارة وهي لا تكون إلّا في الشبهات البدوية. وكون هذه الرواية في مقام إيجاب الاحتياط وجعل الطريق إلى الأحكام الواقعية الّتي ليس إليها طريقٌ مع قطع النظر عن إيجاب الاحتياط الطريقي، خلاف الظاهر؛ فإنّ ظاهرها كونها في مقام الإرشاد إلى ما يحكم العقل به وهو لزوم الاجتناب عن الهلاكة الّتي تكون في المشتبهات مع صرف النظر عن هذه العبارة.

وثانياً: لو تمّ الاستدلال بهذه الرواية يجب القول بالاحتياط حتى في الشبهات الوجوبية؛ فإنّ هذه الرواية النبويّة بهذه العبارة ليست مرويّةً إلّا في ضمن مقبولة عمر بن حنظلة وهي باعتبار موردها - وهو اشتباه الحكم الوضعي الّذي يكون منشأً لانتزاع حكمٍ تحريميٍ ومنشأً لانتزاع حكمٍ وجوبيٍ - تشمل الشبهات الوجوبية أيضاً.

وثالثاً: لو قلنا بدلالة هذا النبويّ على وجوب الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية من جهة كون ارتكابها معرضاً لوقوع المرتكب في الحرام المشتبه، لكنّه تعارضه رواياتٌ كثيرةٌ دالّةٌ على عدم مانعٍ من ارتكاب الشبهة من جهة الوقوع في الحرام المحتمل الّذي يكون في مورده.

فغاية الأمر يستحبّ الاجتناب عنها لحصول ملكة التحفّظ والقدرة على ترك المحرّمات. ولأنّ فعل المشتبهات ربما يصير باعثاً لوقوع مرتكبها في المحرّمات المعلومة، فإنّ المعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه كما روي عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ضمن خطبته: «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها».((1))

ورابعاً: لا ريب في أنّ وجوب الاحتياط لو كان مجعولاً في الشريعة لنقل إلينا

ص: 34


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص175، أبواب صفات القاضي، ب 12، ح 68 .

ولعرفه جميع المسلمين؛ لشدّة الابتلاء به وعموم البلوى، واستقرّت عليه سيرتهم الكاشفة عن وجود نصٍّ أو نصوصٍ معتبرةٍ في المسألة، مع أنّه لم يوجد من هذا رسمٌ ولا أثرٌ لا في الكتب ولا في عمل المسلمين، ولم يوجد خبرٌ يدلّ عليه، إلّا هذا الخبر الّذي أشكل في دلالته، بل لم يذكر هذا الموضوع في کلما ت السابقين، وإنّما حدث هذا التوهّم في أوائل القرن الحادي عشر عند تداول شرب التنباك، وذهاب بعض الأخباريين إلى حرمته فصار سبباً لإحداث القول بوجوب الاحتياط في مطلق الشبهات التحريمية الحكمية، مع أنّ شبهة حرمة شرب التتن ليست من الشبهات الحكمية بل شبهةٌ موضوعيةٌ، فإنّ شرب التنباك لم يكن في زمن النبيّ والأئمّة(علیهم السلام) متداولاً حتى يرد فيه بخصوصه حكمٌ ويكون الشكّ فيه داخلاً في الشكّ في الحكم، بل لو شكّ فيه فلا يكون منشأ الشكّ إلّا كونه واقعاً تحت بعض العناوين المحرّمة مثل: «الخبائث»((1)) أم لا، فيكون بهذا الاعتبار من الشبهات الموضوعية، ولا ارتباط له بالشبهات الحكمية. هذا تمام الكلام في استدلالهم بالأخبار.

الأمر الرابع: وجوب الاحتياط للعلم الإجمالي

من الاُمور الّتي قيل بكون کلّ واحدٍ منها وارداً على حكم العقل بعدم تنجّز التكليف المحتمل بعد الفحص وعدم الظفر به بمجرّد الاحتمال، هو: العلم الإجمالي بوجود محرّماتٍ كثيرةٍ في الشريعة، ومقتضاه وجوب الاحتياط في الموارد المشتبهة.

وفيه: مضافاً إلى كون ذلك منقوضاً بالشبهات الوجوبية، لعدم وجهٍ لاختصاص العلم الإجمالي بالتكاليف التحريمية، أنّنا ننكر هذا العلم الإجماليّ الوسيع المتعلّق

ص: 35


1- في قوله تعالى: ﴿وَ يُ-حَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْ-خَبائِثَ ﴾. الأعراف، 157.

بوجود التكاليف الوجوبية والتحريمية فيما بين مؤدّيات الطرق والأمارات، وفيما ليس بين مؤدّيات الطرق ممّا ليس إليه طريقٌ؛ فإنّ من كان عالماً ببعث النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وتبليغه أحكام الله تعالى يعلم إجمالاً بوجود تكاليف في الشريعة بحيث لو تفحّص عنها من طرقها لوصل إليها. ولا يرى مجالاً لاحتمال وجودها في الطرق المتعارفة المتداولة، لاستلزام ذلك نقض الغرض ولزوم اختراع الشرع طريقةً اُخرى في تبليغ مقاصده ومراداته غير ما استقرّ عليه بناء العقلاء وسيرتهم. وكيف يصحّ جعل حكمٍ وتكليفٍ مع عدم وجود طريقٍ إليه؟ ولو فرضنا احتمال ذلك فهو احتمالٌ بدويٌّ يزول بعد المراجعة إلى الطرق والأخبار. وعلى فرض بقائه ليس منجّزاً للتكليف.

ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا بوجود هذا العلم الإجمالي الوسيع، فنقول: إنّ بعد الرجوع إلى الطرق والأمارات المثبتة للتكاليف نعلم إجمالاً بوجود هذه التكاليف بين مؤدّيات الطرق والأمارات بالمقدار المعلوم بالإجمال أوّلاً، ومعه ينحلّ العلم الإجمالي الكبير إلى هذا العلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعيّةٍ فيما بأيدينا من الطرق بالمقدار المعلوم بالإجمال أوّلاً وعدم وجود غير ما بأيدينا من مؤدّيات الطرق والأمارات ممّا ليس إليه طريقٌ.

ولا نقول بانحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بعد الرجوع إلى الأمارات والظفر بالطرق المثبتة للتكاليف بالمقدار المعلوم بالإجمال، حتى يقال بعدم الانحلال على القول بالسببية والموضوعية في باب الأمارات مطلقاً، وأمّا على القول بالطريقية أو جعل المنجّزية والحجّية فينحلّ لو كان ما نحن فيه من أقسام الصورة الاُولى من صور العلم الإجمالي - الّتي سيأتي ذكرها في التنبيه الآتي - وأمّا في سائر الصور فانحلاله محلّ للمناقشة والإشكال كما يأتي.

ص: 36

تنبيه: في تنقيح معنى الانحلال

تنبيه: في تنقيح معنى الانحلال((1))

إعلم: أنّ العلم الإجمالي متقوّمٌ من علمٍ متعلّق بالمعلوم بالإجمال كالنجس المردّد في كونه إناء عمرو أو إناء زيدٍ مثلاً، وترديد هذا المعلوم بين شيئين أو أشياء، وإذا انحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي فلا يبقى ذلك الترديد ولا يعقل بقاؤه؛ فإنّ فرض بقائه مساوقٌ لفرض عدم انحلاله.

لا يقال: فما معنى قولهم: إنّ العلم الإجمالي ينحلّ إلى العلم التفصيلي والشكّ البدويّ؟

فإنّه يقال: هذا الشكّ البدويّ الّذي يبقى بعد الانحلال ليس الشكّ الّذي به يتقوّم العلم الإجمالي، فإنّه يزول بمجرّد الانحلال، بل هذا الشكّ زائدٌ على هذا الشكّ. كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين بالبول واحتملنا نجاسة الآخر منهما بالدم، ثم علمنا تفصيلاً ما تنجّس منهما بالبول؛ فإنّ العلم الإجمالي وإن انحلّ وزال الشكّ الّذي هو مقوّمٌ له إلّا أنّ الاحتمال والشكّ الّذي كان لنا في نجاسة الآخر بالدم باقٍ على حاله، وليس هذا الشكّ البدوي أثر الانحلال بل هو الشكّ الّذي كان موجوداً مع العلم الإجمالي غير التردّد الّذي كان أحد مقوّميه. ولذا لو لم يكن مع العلم الإجمالي هذا الشكّ، كما إذا علم غصبيّة أحد الإناءين ولم يحتمل غصبيّة الآخر منهما ثم علم تفصيلاً غصبيّة أحدهما، ينحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي من غير أن يكون في البين شكّ بدويٌ. فتارةً: ينحلّ العلم الإجمالي إلى التفصيلي من دون أن يكون معه شكٌّ بدويٌّ، وتارة: يكون معه ذلك. فالمراد من الشكّ البدويّ الشكّ غير المقارن للعلم الاجمالي.

وليعلم: أنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ إلى التفصيلي إلّا في موردٍ كان تقدّم العلم

ص: 37


1- ليس له كثير فائدة لخصوص المقام، وإنّما تعرّض سيّدنا الاُستاذ العلّامة - دام ظلّه وعلاه - لذكره هنا لمجرّد مناسبةٍ له بالمقام وعدم وجود بحثٍ مستقلٍّ عنه في الاُصول مع كونه ممّا يحتاج إليه في كثير من الموارد. [منه دام ظلّه العالي].

التفصيلي مانعاً عن حدوث العلم الإجمالي حتى يكون حدوثه متأخّراً عنه مانعاً عن بقائه، فإذا علمنا بغصبيّة أحد الشيئين ثم علمنا تفصيلاً غصبيّة أحدهما المعيّن ينحل العلم الإجمالي. وأمّا إذا علمنا بغصبيّة أحد الكبشين ثم علمنا تفصيلاً بكون واحدٍ منهما جلّالاً لا ينحلّ علمنا الإجمالي. وهذا کلّه واضحٌ والتعرّض له إنّما هو لاحتمال خفائه عن بعضٍ. وبعد ذلك نقول:

إنّ العلم الإجمالي تارةً: يتعلّق بغصبيّة إناء زيدٍ من الإناءين المعلوم كون واحد منهما ملكاً لعمرو والآخر لزيدٍ، ويتعلّق العلم التفصيلي بأنّ هذا الواحد المعيّن هو إناء زيدٍ، ففي هذه الصورة ينحلّ العلم الإجمالي بغصبية ما هو منهما إناء زيد بالعلم التفصيلي بما هو إناء زيد، وأما الشكّ البدويّ بالنسبة إلى غصبيّة إناء عمرو فهو باقٍ على حاله إ

ذا احتملنا غصبيّته مع العلم بغصبية إناء في البين إلى العلم التفصيلي والشكّ البدويّ بالنسبة إلى إناء عمرو لو احتمل غصبيته.

وتارةً: يتعلّق بغصبيّة أحدهما، ويتعلّق العلم التفصيلي بكون أحدهما المعيّن - كإناء زيدٍ - غصباً، وفي هذه الصورة أيضاً ينحلّ العلم الإجمالي وإن كان انحلاله في الصورة الاُولى أوضح.

وثالثةً: يتعلّق بعنوانٍ ويتعلّق التفصيلي بعنوان آخر، كما إذا تعلّق العلم الإجمالي بكون خمسة شياه من قطيع غنمٍ مغصوبةً وعلم تفصيلاً بكون خمسةٍ منها شربت من لبن الخنزيرة حتى اشتدّ عظمها، فهل ينحلّ العلم الإجمالي في هذه الصورة أيضاً أو لا؟

يمكن أن يقال بأنّ ما يجب أن يكون العبد بصدده هو الاجتناب عن الحرام ومبغوض المولى وتحصيل الأمن من عقوبته من غير فرقٍ بين أن يكون مندرجاً تحت عنوان الغصب أو غيره، فبعد هذا العلم التفصيلي يعلم تفصيلاً بوجوب اجتنابه عن هذا الحرام المعيّن ويشكّ في حرمة غيره، وهذا معنى انحلال العلم الإجمالي إلى التفصيلي.

ص: 38

ولكنّ الأقوى عدم الانحلال في هذه الصورة إذ لا تمانع بين العلمين، لقيام الحجّة على تكليفين أحدهما: وجوب الاجتناب عن الغنم المغصوبة المردّدة في البين مثلاً، والآخر: وجوب الاجتناب عن الغنم الجلّالة مثلاً، ولا انحلال هنا لبقاء العلم الإجمالي بغصبية أحد الغنمين مع العلم التفصيلي بكون أحدهما المعيّن جلّالاً. فكلٌّ من العلمين مؤثّرٌ في تنجّز خطابٍ خاصٍّ وحجّةٍ على تكليف المولى ولا تمانع بينهما، فلو أكل من لحم الغنم المعيّن المعلوم كونه جلّالاً واتّفق كونه هو المغصوب ارتكب حرامين ووقع في مخالفة تكليفين. ولو اتّفق عدم كونه غصباً - ولكن بسبب ارتكابه الطرف الآخر وقع في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال - يكون عاصياً أيضاً.

وأمّا أنّ همّ العقل هو الاجتناب عن الحرام ومبغوض المولى ولا فرق في ذلك بين كون حرمته من جهة الغصب أو جهة اُخرى.

ففيه: أنّ العصيان والطغيان لا يتحقّق إلّا بارتكاب ما هو الحرام بالحمل الشائع كالمغصوب والجلّال، وهو الّذي يتعلّق التكليف بالاجتناب عنه ويكون منهيّاً عنه، لا مفهوم الحرام وما هو الحرام بالحمل الأوّلي، وبعد هذا نقول: إنّ العلم الإجمالي بوجوب الاجتناب عن المغصوب المردّد بينهما موجبٌ لتنجّزه وحجّةٌ عليه، والعلم التفصيلي بوجوب الاجتناب عن أحدهما المعيّن المعنون بكونه جلّالاً موجب لتنجّز التكليف بوجوب الاجتناب عن هذا الجلّال، ولا تمانع بينهما أصلاً.

ورابعةً: يتعلّق العلم الإجمالي بما هو أعمّ ممّا هو متعلّق العلم التفصيلي، كما لو تعلّق العلم الإجمالي بحرمة أحد الكبشين وتعلّق العلم التفصيلي بكون أحدهما المعيّن غصباً. أو بالعكس بأن يكون متعلّق العلم التفصيلي أعمّ ومتعلّق العلم الإجمالي أخصّ، كما لو تعلّق العلم الإجمالي بغصبيّة أحد الغنمين وتعلّق العلم التفصيلي بحرمة أحدهما المعيّن. وفي انحلاله وعدمه في هذه الصورة وجهان: من عدم تمانعٍ ومطاردةٍ بين العلمين،

ص: 39

واستقلال العقل بتنجّز التكليف المعلوم بالإجمال بسبب العلم الإجمالي، وعدم موجبٍ لانحلال ذلك العلم؛ ومن انطباق التكليف المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وعدم موجبٍ لوجوب الاجتناب عن الطرف الآخر بعد الانطباق، فيتعيّن الاجتناب عن المعلوم بالتفصيل ويصير الطرف الآخر مشكوكاً.

وربما يقال - بالنظر إلى الوجه المذكور في عدم انحلال العلم الإجمالي في هذه الصورة - بعدم انحلاله في الصورة الثانية أيضاً. فما يكون الانحلال بالنسبة إليه مسلّماً هو الصورة الاُولى. ولا فرق فيما ذكرنا بين تقدّم العلم الإجمالي على التفصيلي وعدمه؛ وبين تقدّم حدوث المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل وعدمه.

هذا کلّه إذا كانت الحجّة على التكليف علماً وقطعاً. وأمّا إذا كانت الحجّة غيره من المنجّزات، فعلى القول في باب الأمارات بالموضوعية والسببية، لا معنى للانحلال أصلاً في جميع الصور حتى في الصورة الاُولى. وأمّا على القول بالطريقية ووجوب الجري على وفق الطريق، وهكذا على القول بجعل المنجّزية والحجّية ينحلّ في الصورة الاُولى حكماً؛ فإنّ معنى قيام الأمارة على كون هذا الإناء المعيّن إناء زيد كون ذلك إناءه دون الآخر، ومقتضى ذلك سقوط العلم الإجمالي بوجوب الاجتناب عن الإناء النجس المردّد بين كونه إناء زيدٍ وإناء عمرو، عن رتبة تنجيز التكليف إذا كان في الطرف الآخر. وأمّا في سائر الصور، فعلى القول بالانحلال الحقيقي فيها ينحلّ حكماً أيضاً، وعلى القول بعدم الانحلال فلا انحلال هنا حكماً أيضاً.

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكر عدم وجود منجّزٍ للتكليف المحتمل بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل، وأنّ احتمال التكليف لا يكون موجباً لتنجّزه بحيث يعدّ عدم الاعتناء به ومخالفته خروجاً عن رسوم العبودية وزيّ الرقّية حتى يترتّب عليه استحقاق العقاب.

ص: 40

فالحقّ في المسألة هو البراءة وعدم استحقاق العبد للعقاب على مخالفة التكليف المحتمل. وقد استدلّوا عليها مع ذلك بالآيات والأخبار.

الاستدلال للبراءة بالآيات

أمّا الآيات، فمنها قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.((1))

وتقريب الاستدلال بها: أنّ المستفاد من الآية عدم العذاب في ارتكاب ما يكون مبغوضاً لله تعالى - فعلاً كان أو تركاً - قبل بعث الرسل، وأنّ هذا من سنن الله تعالى. وليس لبعث الرسول دخلٌ في ذلك إلّا لأجل أنّ تبيين الأحكام والتكاليف بتوسّط الرسول، وكونه وسيلة لتبيين الأحكام وتبليغها وإيصالها إلى المکلّفين. فيكون المراد عدم التعذيب على ارتكاب المبغوض قبل البيان. ونفي التعذيب وإن كان يمكن أن يكون نفياً لفعليته لا نفياً لاستحقاقه، إلّا أنّ مناسبة المقام تقتضي كونه نفياً للاستحقاق؛ فإنّه في مقام أنّ الله تعالى لا يفعل ذلك ولا يعذّب عبده قبل البيان وليس من شأنه هذه الأفعال. هذا مضافاً إلى أنّه لو قلنا بكونه نفياً لفعلية العذاب قبل البيان يلزم كون فعليته ثابتة بعد البيان مع أنّ فعليته بعده غير معلومةٍ.((2))

واستشكل على الاستدلال بهذه الآية الكريمة بإشكالات من قبيل: أنّها ظاهرة في نفي الفعلية لا نفي الاستحقاق وهو أخصّ منه، ونفي الأخصّ أعمّ من نفي الأعمّ. ومن قبيل: دخالة عدم بعث الرسول في نفي العذاب، لا مطلق عدم البيان.

ص: 41


1- الإسراء، 15.
2- لا دلالة لنفي الفعلية قبل البيان على ثبوتها بعده، وعدم الإخبار بنفيها بعده يمكن أن يكون لأجل فائدةٍ. ولو سلّم دلالته على ثبوتها بعد البيان، فيكفي ثبوتها على سبيل الجزئية وفي بعض الموارد، وهو مسلّمٌ. [منه دام ظلّه العالي] .

ومنها قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا﴾.((1))

والاستدلال بهذة الآية متوقّف على بعض التكلّفات؛ فإنّ الاستثناء مفرّغ لعدم ذكر المستثنى منه في الكلام، فلو كان المراد بالموصول التكليف يجب أن يكون المستثنى منه أيضاً التكليف، حتى يكون المراد منه: لا يكلّف الله نفساً تكليفاً إلّا تكليفاً آتاها، أي أعلمها، وهذا کلّه خلاف الظاهر؛ فإنّ ظاهرها كون المراد بالموصول المال لا التكليف. وعلى فرض كون المراد به التكليف يستلزم الدور، فإنّ التكليف بناءً على هذا متوقّفٌ على الإعلام ووصوله إلى المکلّف، ووصوله موقوفٌ على التكليف.

واُجيب عن هذا الدور بأنّ المراد من التكليف الأوّل التكليف الفعلي، أي لا يكلّف الله نفساً تكليفاً فعلياً إلّا تكليفاً وصل إليه.

وعلى کلّ حال التمسّك بمثل هذه الآية للمطلوب لا يخلو عن تكلّف.

ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إذْ هَدَيهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَ-هُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾.((2))

والظاهر أنّ هذه الآية على ما استدلّ له أدلّ من غيرها؛ فإنّ مفادها أنّ الله تعالى لا يضلّ قوماً، أي لا يحرمهم عن توفيقه والإعانات الباطنية الّتي تسوق الإنسان إلى الكمالات، بعد هدايتهم ببعث النبيّ وبيان المعارف والعقائد بسبب ارتكابهم مبغوضاً حتى يبينّ لهم ما يتّقون، أي حتى يبيّن لهم أحكامه وما يجب فعله عليهم وما يحرم ارتكابه، وليس من شأنه الإضلال الّذي هو قسمٌ من العقوبة على اكتساب السيّئات والخروج عن رسم العبودية بعد هدايتهم ببعث النبيّ، إلّا أن يبيّن لهم ما يتّقون وارتكابهم خلاف ما اُمروا به وما نهوا عنه واستحقاقهم للإضلال والحرمان عن

ص: 42


1- الطلاق، 7.
2- التوبة، 115.

الإعانات الباطنية؛ فإنّه على هذا لا يكون إضلالهم وعقوبتهم على خلاف ما يكون الله تعالى أهلاً له.

ومنها قوله تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّ-نَةٍ وَإِنَّ الله لَسَميعٌ عَلِيمٌ﴾.((1))

ولكن الاستدلال بها على ما نحن بصدده لا يتمّ على جميع الاحتمالات المتطرّقة فيها؛ فإنّ المراد بالهلكة والحياة إمّا يكون الروحانية منهما أو الجسمانية، أو يكون المراد من إحداهما الروحانية ومن الاُخرى الجسمانية، وعلى جميع هذه التقادير فإمّا أن يكون قوله تعالى: ﴿عَنْ بَيِّن-َةٍ﴾ متعلّقاً بقوله تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ﴾ و﴿يَحْيَى﴾ أو متعلّقاً ب- «من هلك» و«مَنْ حَيَّ».

فلو كان متعلّقاً بالأوّل يكون معناه على احتمال أن يكون المراد بالهلاك والحياة الروحانية منهما أنّ ما فعل الله تعالى ممّا هو مذكور في صدر الآية وهو قوله تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْ-مِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللُه أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾((2)) إنّما فعل لإراءة الحقّ وإظهار الواقع؛ فإنّ غلبة فئةٍ قليلةٍ على فئةٍ كثيرةٍ خصوصاً مع ما كان عليه المشركون من القوّة والشوكة والسلاح يعدّ من الاُمور الخارقة للعادة، وفعل الله کلّ ذلك حتى يهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ، كما هو الشأن في إظهار غيره من خوارق العادات. وعلى احتمال أن يكون المراد منهما الهلكة والحياة الجسمانيّتين يكون المفاد: أنّ ما أنعم الله على النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والمسلمين في غزوة بدر من نصرتهم على المشركين مع قلّة عدد المسلمين إنّما يكون لأجل أن يهلك من هلك من المشركين عن بيّنةٍ ويحيى من حيّ من المسلمين عن بيّنةٍ.

ص: 43


1- الأنفال، 42.
2- الأنفال، 42.

وأمّا لو كان قوله: «عن بيّنةٍ» متعلقاً ب «من هلك» وب- «مَنْ حَيَّ» يكون المعنى أنّ الله غلّب المسلمين على المشركين ليهلك الهلكة الجسمانية - على احتمال - من هلك عن بينةٍ وهم أعداء النبيّ والمسلمين؛ فإنّهم قد رأوا من الرسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) المعجزات الباهرات ومع ذلك لم يؤمنوا، فيكون هلاكهم عن بيّنة، ويحيى بالحياة الجسمانية من حيّ بالحياة الروحانية عن بيّنةٍ وهم المسلمون، أو ليهلك بالهلاك الروحاني - على الاحتمال الآخر - من هلك عن بيّنةٍ، ويحيى بالحياة الروحانية من حيّ عن بيّنة لمزيد بصيرته وثقته بصدق النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

هذا، ولكن لا يتمّ الاستدلال بواحدٍ من هذه الاحتمالات على البراءة؛ فإنّه ليست في الآية دلالة على أنّ الهلكة لا تتحقّق في جميع الموارد إلّا عن بيّنة، فيمكن أن لا تكون الهلكة الراجعة إلى الفروع كالهلكة الراجعة إلى الاُمور الاعتقادية الّتي لا تتحقق إلّا عن بيّنةٍ. هذا بعض الكلام في الآيات.

الاستدلال للبراءة بالأخبار

استدلّوا للبراءة بروايات لا معارضة لها مع ما استدلّ به الأخباري من الأخبار على وجوب الاحتياط - لو سلّم تماميته - مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»؛((1)) وقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «الناس في سعة ما لم يعلموا»،((2)) فلا نطيل الكلام بذكرها. نعم، ينبغي إرسال الكلام في حديث الرفع لما فيه من الفائدة.

ص: 44


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص163، ب 12، ح 33.
2- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج1، ص424؛ البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص326، ح604.

حديث الرفع

إعلم: أنّ الكلام في هذا الحديث الشريف يقع في طيّ اُمور:

الأمر الأوّل: في سند الحديث وألفاظه

إعلم: أنّه قد روى شيخنا الكليني ثقة الإسلام - رضوان الله تعالى عليه - عن الحسين بن محمد،((1)) عن محمد بن أحمد النهدي،((2)) رفعه عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «وضع عن اُمّتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما اُستكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكّر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد (أو بيد خ، أو بيديه خ)».((3)) والحديث مرفوعٌ كما هو مذكور في سنده، ويظهر من طبقة النهدي مضافاً إلى ما قيل فيه، هذا.

وروى شيخنا الصدوق في الخصال، والتوحيد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطّار((4)) - رضي الله عنه - قال: حدّثنا سعد بن عبدالله،((5)) عن يعقوب بن يزيد،((6)) عن حمّاد بن عيسى،((7)) عن حريز بن عبد الله،((8)) عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «قال رسول

ص: 45


1- ثقة له كتاب، من الطبقة الثامنة.
2- أبو جعفر القلانسي، كوفي ثقة له كتب من السابعة.
3- الکلیني، الكافى (كتاب الإيمان والكفر، باب ما رفع عن الاُمّة، ج2، ص335، ح2؛ البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص325، ح559؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، ج15، ص370، ب 56 ، ح3.
4- القمّي، الظاهر كونه من الثقات من التاسعة.
5- الأشعري القمّي، جليل القدر شيخ هذه الطائفة.... من الثامنة.
6- الكاتب الأنباري، ثقةٌ من السابعة.
7- الجهنى ثقةٌ صدوقٌ... من الخامسة وطال عمره حتى عاصر السادسة.
8- السجستاني أبو محمد الأزدي الكوفي، له كتاب، ثقة من كبار الخامسة.

الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): رفع (وضع في التوحيد) عن اُمّتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفةٍ»((1)) وسنده صحيحٌ. واحتمال كونه وما قبله واحداً لا يرد.

وفي الفقيه: قال النبّي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «وضع عن اُمّتى تسعة أشياء: السهو، والخطأ، والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، والطيرة، والحسد، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفةٍ».((2))

وعن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى،((3)) عن إسماعيل الجعفي((4)) عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سمعته يقول: «وضع عن هذه الاُمّة ستّ خصال»، وذكر نحوه (أي نحو ما في الخصال والتوحيد) إلى قوله:«وما اضطرّوا إليه».((5))

ورواه في البحار عن فضالة،((6)) عن سيف بن عميرة،((7)) عن إسماعيل الجعفي، عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سمعته يقول: «وضع عن هذه الاُمّة ستّة: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا عليه».

ص: 46


1- الصدوق، التوحيد، ص353، ح24؛ الصدوق، الخصال، ص417، ح9، باب التسعة؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، ب 56 ، ح1؛ البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص326، ح601.
2- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص325، ح600.
3- أبو جعفر شيخ القميّين ووجيههم... من السادسة.
4- وجهٌ من وجوه أصحابنا من الخامسة إن كان هو ابن عبد الخالق.
5- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص326.
6- ابن أيّوب، ثقةٌ من السادسة.
7- التخمي الكوفي، له كتابٌ، واقفيٌّ من الرابعة.

وعن دعائم الإسلام: قال جعفر بن محمد(عَلَيْهَا السَّلاَمُ): «رفع الله عن هذه الاُمّة أربعاً: ما لا يستطيعون، وما استكرهوا عليه، وما نسوا، وماجهلوا حتى يعلموا».((1))

و عن الاختصاص: قال أبو عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «رفع عن هذه الاُمّة ستّ»؛ وذكر مثل ما ذكر إسماعيل الجعفي عنه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).((2))

الأمر الثانى: في المراد من المرفوع

إعلم: أنّه بعد ما لا يمكن بالضرورة إسناد الرفع إلى المذكورات حقيقةً وإخباراً عن الواقع، لاستلزامه الكذب والإخبار عمّا هو خلاف الواقع، فلابدّ أن يكون إسناده إليها إمّا بتقدير المؤاخذة؛((3)) حتى يكون المرفوع المؤاخذة، والرفع مسنداً إليها.

وإمّا بلحاظ رفع المؤاخذة عليها وكونها مرفوعةً من باب نفي ما يقتضيه إثبات أمرٍ بنفي ذلك الأمر. وبعبارة اُخرى: رفع المؤاخذة برفع ما يمكن المؤاخذة عليه، ليكون مصحّح نفي المذكورات عدم المؤاخذة عليها.

وإمّا بلحاظ نفي الأثر الظاهر لكلٍّ منها، أو تمام الآثار المترتبة على کلّ منها، بنفي المؤثّر بلحاظ نفي الأثر، فيكون إخباراً عن عدم تأثير المؤثّر في إيجاد أثره، أو عدم كونه مؤثّراً مطلقاً.

وإذا لم يكن المتكلّم جالساً على كرسيّ التشريع يكون کلامه محمولاً على الإخبار والرفع التكويني وظاهراً فيه. وإذا كان شارعاً يكون کلامه على الصور الثلاث

ص: 47


1- المغربي، دعائم الإسلام، ج2، ص95، ح299؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص304، ح15؛ راجع أیضاً: البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص326، ح602؛ المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، ج16، ص47، ح19096.
2- المفید، الاختصاص، ص31؛ راجع أيضاً: المجلسي، بحار الأنوار كتاب العقل والعلم، ج2، ص274، ح18.
3- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص195 - 196.

الأخيرة ظاهراً في التشريع، وعلى الصورة الاُولى يكون ظاهرا في الإخبار عن الرفع التكويني. فاحتمالها مرجوح جدّاً لا يعبأ به. بل في الصورة الاُولى من الصور الثلاث إذا كان رفع المذكورات بلحاظ رفع المؤاخذة عنها أيضاً يكون ظاهراً في الإخبار عن الرفع التكويني لا الإنشاء والتشريع.

فإن قلت: إنّ ما ينبغي أن يكون مرفوعاً من قبل الشارع وإن كان هو الحكم الشرعي، إلّا أنّ لازم رفعه رفع المؤاخذة، فأخبر عن وجود الملزوم بوجود اللازم، فلا ينافي استفادة الرفع التشريعي من الحديث الشريف كون المراد من رفع المذكورات رفع المؤاخذة عنها.

قلت: هذا لا يستقيم؛ لأنّه إذا كان الغرض والمراد الأصلي الإخبار عن وجود الملزوم فكيف يكون المراد وجود اللازم؟ ولماذا لم يخبر عنه بلا واسطة اللازم؟

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الكلام جرى مجازاً، فاُريد الملزوم بالإخبار عن وجود اللازم.

وفيه: منع الظهور، كما لا يخفى.

هذا مضافاً إلى أنّ إسناد الرفع إلى هذه المذكورات، كما أفاده الشيخ(قدس سره)، بلحاظ رفع المؤاخذة لا يستقيم بالنسبة إلى جميعها؛ فإنّ رفع المؤاخذة بالنسبة إلى الثلاثة الأخيرة (الحسد والطيرة والوسوسة في التفكّر في الخلق) يصحّ بلحاظ رفع واحدة منها في عالم التشريع وفرضها كأن لم تكن، فلا يتعلّق بها حكمٌ يكون العبد مأخوذا بمخالفته، وقد كان فيها اقتضاء جعل الحكم والمؤاخذة عليه. وبعبارةٍ اُخرى: رفع المؤاخذة عليها بلحاظ رفعها وعدم لحاظها موضوعاً لحكمٍ في عالم التشريع مع وجود اقتضاء ذلك فيه.

وأمّا «ما لا يطيقون»، فلا يصحّ تعلّق الرفع به بلحاظ رفع المؤاخذة، لعدم صحّة المؤاخذة على ما لا يطيق - فعلاً كان كما في الواجبات، أو تركاً كما في المحرّمات - فلابدّ من أن يكون رفعه بلحاظ رفع حكمه لا المؤاخذة.

ص: 48

وأمّا النسيان،((1)) والخطأ،((2)) وما اضطرّوا إليه، وما استكرهوا عليه، فلا مانع من كون المراد من رفعها رفع المؤاخذة والعقوبة عليها. كما لا مانع من كون المراد من رفعها عدم ترتّب أثرها الظاهر، أو آثارها الظاهرة عليها.

وعلى هذا، لا يتمّ إطلاق القول بأنّ رفع المذكورات في الحديث يكون بلحاظ رفع المواخذة عليها، لعدم تمامية ذلك في بعضها، ک- «ما لا يطيقون».

وأمّا إن كان المراد رفع أظهر الآثار، فهو بالنسبة إلى الثلاثة الأخيرة وإن كان هو «الحرمة»، وبالنسبة إلى ما «لا يطيقون» «الإلزام»، لكن ليس لما اضطرّوا إليه وما استكرهوا عليه أثرٌ خاصٌ ظاهرٌ، بل يختلف بالنسبة إلى الموارد الّتي ينطبق عليها عنوان الاضطرار والإكراه، فليس لهما أثرٌ ظاهرٌ بهما، بخلاف الحسد، والطيرة، والوسوسة، وما لا يطيقون.

الأمر الثالث: المراد من المرفوع في غير «ما لا يعلمون»

والّذي ينبغي أن يقال: إنّه بعد التأمّل في الحديث الشريف يعلم أنّ إسناد الرفع إلى جميع المذكورات ليس على سياقٍ واحدٍ، فينبغي إفراد كلّ واحدٍ منها عن الآخر.

ونقدّم الكلام في غير «ما لا يعلمون» فنقول: أمّا رفع الطيرة، والحسد، والتفكّر في الخلق، فالمراد برفعها رفع هذه العناوين حقيقةً في عالم التشريع، وعدم ملاحظتها موضوعاً لحكم شرعيّ مع وجودها في عالم التكوين. فهذه الثلاثة جعلت في عالم التشريع كأن لم تكن وكما لو لم توجد، فلم يترتّب عليها حكمٌ، ولم يتعلّق بها نهيٌ.

ص: 49


1- النسيان: الذهول عمّا يعلم، كحرمة شيءٍ أو وجوبه، أو كون شيءٍ مال الغير، أو خمراً.
2- الخطأ: الجزم على خلاف الواقع.

فالمراد من رفعها رفع حكمها بلسان نفي موضوعها. وبعبارةٍ اُخرى: رفع تأثيرها في الحكم بتحريمها باعتبار نفيها وعدمها.

وأمّا ما اضطرّوا إليه، وما استكرهوا عليه، والنسيان، والخطأ، فيمكن أن يكون رفعها برفع الحكم التكليفي أو رفع جميع الآثار حتى يشمل آثارها التكليفية والوضعية.

وهذا هو الأقرب وإن كان ربّما يستبعد ذلك بملاحظة أنّ رفع الحكم الوضعيّ فيما اضطرّوا إليه يكون على خلاف الامتنان، مع أنّ الحكم امتنانيٌّ لأجل التوسعة على العباد.

ولكن يمكن دفع هذا بأنّ الاضطرار تارة يكون إلى النتيجة، كما لو باع ماله لتحصيل نقدٍ يدفعه للظالم ليخلّص ابنه من السجن، أو احتاج إليه لدفعه إلى غريمه، ففي مثل هذا رفع الاضطرار مخالفٌ للامتنان. بخلاف ما إذا اضطرّ إلى السبب، كالبيع مثلاً، فإنّه يكون رفعه موافقاً للامتنان. والمراد بما اضطرّ إليه هو القسم الثاني، لا الأوّل.

هنا فروع

الفرع الأوّل: الفرق بين فقرات الحديث

لا يخفى عليك الفرق بين الخطأ والنسيان، وبين ما اضطرّوا إليه وما استكرهوا عليه من جهة وجود الموصول في الأخيرين وعدمه في الأوّلين، فيشمل رفع الخطأ والنسيان الأحكام الوجوبية والتحريمية. إلّا أنّ النسيان في طرف الفعل الواجب علّة لتركه، لكون الفعل الاختياري متوقّفا على التصوّر والتصديق والعزم والإرادة والاختيار فنسيانه علّةٌ لتركه؛ وفي طرف الحرام والترك لا يكون متعلّق النسيان الفعل، مثل شرب الخمر، ولا يكون مستنده نسيان الفعل بل يكون مستنداً إلى نسيان الحكم الكلّي أو الجزئي أو سبب الحكم.

ص: 50

الفرع الثاني: رفع النسيان لا ينفي وجوب القضاء

إذا نسي واجباً ليس له قضاء ولا يترتب على تركه - شرعاً - أمرٌ آخر كالكفّارة، فلا يشمله حديث الرفع، لما قلنا من أنّ المستفاد منه الرفع التشريعي ولا يدلّ على رفع المؤاخذة، لأنّها وعدمها من الاُمور التكوينية. وأمّا إن كان تركه موجباً لوجوب القضاء أو كان ذلك مشكوكاً فيه، ففي دلالة رفع النسيان في الحديث على عدم وجوب القضاء إشكالٌ. والأقوى عدم شموله؛ لأنّه متوقّفٌ على دلالته على جعل الترك والعدم كالوجود، وهو متوقّفٌ على صحّة تعلّق الرفع بالعدم وهو غير معقولٍ، لأنّ العدم ليس شيئا حتى يرفع، فلا يتعلّق الرفع إلّا بالأمر الموجود دون المعدوم، فالعدم لا يكون رافعاً ولا مرفوعاً ولا يؤثّر ولا يتأثّر ولا يحصّل ولا يحصّل.

لا يقال: إنّ معنى رفع العدم تشريعاً - بهذه القرينة العقلية - رفع حكمه الشرعي.

فإنّه يقال: ليس العدم موضوعاً لحكمٍ حتى يصحّ رفعه بلسان رفع موضوعه، وثبوت القضاء مترتّبٌ على فوت الوجود.

هذا مضافاً إلى أنّه لو قلنا بشمول حديث الرفع لأمثال هذا المورد، فلا يشمل قضاء الصلاة لخروجه عن تحته بما ورد بالخصوص على وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت بالنسيان والنوم وغيرهما، هذا.

وربما يقال لوجه منع شمول الحديث لما إذا كان الترك موجباً للقضاء: إنّ معنى رفع النسيان والخطأ وتنزيلهما منزلة العدم هو: أنّ الفعل الصادر على أحد الوجهين يكون كأن لم يصدر على هذا الوجه.

وهذا المعنى بظاهره فاسدٌ، لاستلزامه ترتيب آثار العمد على الفعل الصادر عن الخطأ والنسيان، وذلك ينافي الامتنان والتوسعة، فلابدّ وأن يكون المراد من رفع الخطأ والنسيان رفع الفعل الصادر عن الخطأ أو النسيان كشرب الخمر - والعياذ بالله - ، يعني جعل الفعل كالعدم وكأنّه لم يصدر من هذا الشخص.

ص: 51

فيوافق مفاده مفاد رفع ما استكرهوا عليه وما اضطرّوا إليه وما لا يطيقونه، فإنّ المرفوع في هذه الثلاثة هو الفعل الّذي وقع عن الإكراه والاضطرار.

ثم إنّ الأحكام وضعيةً كانت أو تكليفيةً إمّا أن تكون مترتّبةً على الفعل بلحاظ صرف الوجود أو بلحاظ مطلق الوجود، فإن كانت مترتّبةً عليه بلحاظ مطلق الوجود كشرب الخمر، فلا ريب في سقوط الحكم بمجرّد النسيان أو الخطأ كما أنّه باقٍ على تنجّزه بالنسبة إلى سائر أفراده. وأمّا إن كانت مترتّبةً عليه بلحاظ صرف الوجود، ففي شمول حديث الرفع له إشكالٌ، فإنّ المنسيّ ليس محكوماً بحكمٍ حتى يرفع ويكون المراد من رفعه رفع حكمه، بل المتعلّق للوجوب صرف الوجود وفرد الكلّي وهو لم يصر منسيّا، وليس المنسيّ شيئاً حتى يكون محكوماً بحكمٍ ويكون المراد من رفعه رفع حكمه.

وحاصل ما ذكر: أنّ الأحكام الوجوبية حيث تكون مترتّبةً على موضوعاتها بلسان صرف الوجود، فلا ترفع بنسيانها فيما إذا لم يكن النسيان مستوعباً لتمام الوقت، وكذلك إن لم يكن مستوعباً لتمامه لأنّ المنسيّ ليس محكوماً بحكمٍ حتى يراد برفعه رفعه. فيختصّ رفع النسيان والخطأ بالأحكام التحريمية.((1))

ص: 52


1- أقول: لعلّ ما ذكر ليس وافياً بمراد السيّد الاُستاذ ولا بعض الأعلام الّذي حكى عنه في مجلس الدرس، والله هو العالم بمرادهما. وكيف كان، فقد أجاب السيّد الاُستاذ عنه بأنّ الأحكام الوجوبية أيضاً ترتفع بالنسيان والخطأ كالأحكام التحريمية، فكما أنّ فيما لا يطيقون ليس المرفوع أمراً وجودياً، فإنّ ما لا طاقة للمكلّف به لم يوجد ومع ذلك هو مرفوعٌ برفع حكمه، فليكن المنسيّ كذلك فهو مرفوعٌ برفع حكمه أيضاً. هذا مضافاً إلى أنّ النسيان الذي یکون علة لترك الواجب يتعلّق بنفس الواجب، والنسيان الّذي يكون علّة لفعل الحرام يتعلّق بحكمه أو سببه. وبعبارة اُخرى: المنسيّ في الأوّل نفس الواجب، وفي الثاني حكمه، فلو كان ممّا لابدّ للمناقشة فیه فليناقش في الثاني. نعم، لا يبعد دعوى اختصاص ذلك بالأحكام التحريمية بالنسبة إلى الإكراه والاضطرار لمناسبة الحكم والموضوع. أقول: يمكن أن يقال بالفرق بين ما لا يطيقون والنسيان، فإنّ في الأوّل لا يمكن أن يكون المرفوع أمراً وجودياً بخلاف النسيان، فإنّ المنسيّ في الأحكام التحريمية وجوديّ ولا يلزم معه لغوية الرفع وما ذكره(قدس سره) من الفرق كأنّه ليس بفارقٍ، والله هو العالم. [منه دام ظلّه العالي].

الفرع الثالث: رفع الجزئية برفع النسيان

إذا نسي جزءاً من الصلاة فهل مقتضى رفع النسيان رفع جزئيته أو لا؟

ربما يقال: بأنّ لازم الأمر بمجموع الوجودات المعيّنة واعتبارها أمرا واحداً تعلّق أبعاضه بها؛ لأنّ کلّ واحد من الأجزاء يكون متعلّقاً لبعض الأمر وواجباً بالأمر المتعلّق بالكلّ الشامل لجميع الأجزاء الملحوظة بلحاظه. وهذا معنى القول بكون الجزء واجباً بالوجوب الضمني كما ذكرناه في مبحث مقدّمة الواجب، فإنّ الجزء ليس واجبا بالوجوب الغيري ولا النفسي، ولكنّه واجب بالوجوب الضمني. وعلى هذا لامانع من رفع جزئية الجزء المنسيّ وجوبه برفعه. ولا فرق في كون المرفوع جزء المأمور به أو کلّه، فيرفع بالأوّل بعض الحكم، وبالثاني کلّه. وإذا رفع بعض الحكم المتعلّق بهذا الجزء يكون تمام المأمور به سائر الأجزاء فتبقى تحت الأمر.

وأظنّ أنّ هذا مراد شيخنا الاُستاذ(قدس سره) في الكفاية من كون حديث الرفع قاضياً برفع الجزئية؛ فإنّ منشأ انتزاع الجزئية هو بعض الحكم المتعلّق بهذا الجزء، وبعد رفع بعض الحكم برفع الجزء المنسيّ ترتفع جزئيته.

ولا يرد عليه: أنّ جزئية الجزء ليست منسيّةً حتى ترتفع بحديث الرفع بخلاف جزئية ما شكّ في جزئيته، فإنّ المجهول هو جزئية ذلك الشيء فترتفع.

فإنّ جزئية الجزء وإن لم تكن مرفوعة ابتداءً إلّا أنّها مرفوعةٌ برفع منشأ انتزاعها وهو بعض الحكم المتعلّق بهذا الجزء المنسيّ. وهكذا الكلام في جزئية ما شكّ في جزئيته، فإنّ الرفع لا يتعلّق بالجزئية لعدم كونها قابلة للرفع ابتداءً بل هو متعلّق ببعض الحكم المشكوك تعلّقه بهذا الجزء الّذي هو منشأٌ لانتزاع جزئيته، كما لا يخفى.((1)) هذا،

ص: 53


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص235.

والأقوى عدم استفادة رفع جزئية الجزء من حديث الرفع، فإنّ المستفاد منه جعل ما وجد كالعدم، لا جعل ما لم يوجد كالموجود. هذا مضافاً إلى أنّ رفع جزئية الجزء في حال النسيان لا يفيد كون المأمور به ما بقي من الأجزاء، بل يرجع ذلك إلى عدم الإتيان بأصل المأمور به ورفعه في حال النسيان، وهو لا يقتضي رفعه بعد النسيان.

الأمر الرابع: في المراد من رفع «ما لا يعلمون»

هذا کلّه في المرفوعات المذكورة في الحديث غير «ما لا يعلمون».

وأمّا الكلام في «ما لا يعلمون» الّذي هو المقصود من ذكر الحديث الشريف في المقام، فنقول فيه:

إعلم: أنّ الشيخ(قدس سره) قد أورد على كون المراد من رفع ما لا يعلمون رفع الحكم أوّلاً: بأنّ الظاهر من الموصول بقرينة السياق هو الموضوع، أي فعل المکلّف كشرب المائع الّذي لا يعلم أنّه شرب الخمر أو الخلّ، فلا يشمل الحكم المجهول للموضوع المعلوم. وثانياً: بأنّ تقدير المؤاخذة لا يلائم عموم الموصول للحكم والموضوع، أو خصوص الحكم؛ لأنّه لا معنى للمؤاخذة على نفس الحكم المجهول بخلاف الموضوع المجهول، فإنّه يمكن المؤاخذة عليه.((1))

والجواب عن الوجه الأوّل: أنّ قرينة السياق والعطف لاتقضي إلّا إثبات ما ثبت للمعطوف عليه للمعطوف أيضاً، أو نفي ما نفي عنه عن المعطوف. ولا يجب أن يكون المعطوف عليه والمعطوف من ماهيةٍ واحدةٍ. ففي المقام لا نحتاج إلى أزيد من كون «ما لا يعلمون» كغيره من المذكورات الّتي عطف عليها، ومثل هذا كثيرٌ في الكلمات.

ص: 54


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص195.

وأمّا ما أفاده ثانياً، ففيه أوّلاً: أنّ الظاهر من هذه التعبيرات - كما قلنا - هو الرفع التشريعي لا التكويني، والمؤاخذة ليست من الاُمور التشريعية.

وثانياً: إن كان المراد من تقدير المؤاخذة تقدير (المؤاخذة على) في کلّ من المذكورات، فهو ممنوع. وإن كان المراد منه أنّ رفع المؤاخذة على هذه المذكورات كناية عن رفع ما يوجبها من التكاليف والأحكام، فيقال: لا حاجة إلى ذلك بعد إمكان إسناد الرفع إلى ما يوجبها.

فتلخّص: أنّه ليس في البين شيءٌ يمنع من شمول «ما لا يعلمون» للحكم المجهول؛ وقد قلنا سابقا: إنّ المبهمات كأسماء الإشارة والموصولات والضمائر إنّما وضعت للإشارة، وأنّ اللفظ الدالّ على الإشارة يكون فانياً في الإشارة، وهي فانيةٌ في المشار إليه وهو معنىً اسميٌّ مستقلٌّ، فلذا يصحّ أن يقع لفظ الإشارة محكوماً عليه وبه؛ وأنّ المشار إليه لابدّ وأن يكون متعيّناً بنحو من التعيين لعدم إمكان الإشارة إلى غير المتعيّن. فعلى هذا لو كان المشار إليه متعيّناً كجاء الّذي أبوه فاضلٌ - ممّا يكون متعيّناً بصلته - يكون المشار إليه هذا المتعيّن، وإن لم يكن له هذا التعيّن يكون المشار إليه جميع أفراد صلته، كقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «ما لا يعلمون». فعلى هذا کلّه، يشمل «ما لا يعلمون» الحكم المجهول، والموضوع المجهول.

أقول: إلى هنا انتهى ما استفدنا من سيّدنا الاُستاذ الأعظم سيّد الطائفة وزعيم الفرقة المحقّة أعلى الله في فراديس الجنان درجاته في اُصول الفقه.

ونسأل الله تعالى أن يوفّقنا لما يحبّ ويرضى

ويصلّي على محمّدٍ وآله الطاهرين.

ص: 55

لمّا انتهى بحث سيّدنا الاُستاذ الأكبر(قدس سره) وتدريسه في بلدة قم المباركة عشّ آل محمد - صلوات الله عليهم أجمعين - إلى ما أفاد في حديث الرفع، ومنعته كثرة مشاغله وما صار على عاتقه من مهامّ الاُمور الإسلامية والوظائف العامّة وإصلاح اُمور المسلمين والذبّ عن الدين والسعي في إعلاء کلمة الله، عن إتمام مباحثه الاُصولية - رسمياً وتدريساً - ولم يتعرّض لروايات الباب إلّا لحديث الرفع، رأيت أن ألحق بما كتبته عنه سائر المباحث إلى آخر الكفاية واستفدت في ذلك ما اسندته في طي المباحث الى السيّد الاُستاذ(قدس سره) من تقريرات درسه ممّا أملاه على ثلّةٍ من الفضلاء في بلدة بروجرد وقد كتبها بعض أفاضل تلامذته حاشيةً على كفاية الاُصول - ممزوجاً بما يخطر ببالي القاصر - إن شاء الله تعالى، والله هو الموفّق والمعين. وكان الشروع في ذلك ليلة الخميس، السادس والعشرين من جمادى الاُولى، من شهور سنة 1422 الهجرية القمرية في بلدة دماوند، فنقول:

ص: 56

حديث الحجب

ومن الروايات الّتي استدلّ بها على البراءة: الحديث المعروف بحديث الحجب وهو ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوعٌ عنهم».((1))

ولا يخفى عليك: أنّ ما يحتمل أن يكون المراد من الحديث وجوهٌ يستدلّ ببعضها على المطلوب.

أحدها: أن يكون المراد منه: أنّ کلّ شيءٍ من الاُمور الواقعية الّتي اقتضت الحكمة الإلهية عدم علم العباد بها وحجب عنهم العلم بها، فهو موضوعٌ عنهم((2)) إمّا بالوضع التكويني؛ لأنّ العباد عاجزون عن معرفة بعض الحقائق المحجوبة عنهم، لعلوّ هذه الحقائق وارتفاعها عن وصول فهم البشر إليها.

وإمّا أن يكون المراد أنّهم غير مكلّفين بفهم ما حجب الله علمه عنهم، فليس عليهم أن يتكلّفوا فهماً لوقوعهم بذلك في معرض الضلالة والاعتقادات الباطلة.

وبعبارة اُخرى: معنى الحديث الإرشاد إلى عدم كون الحقائق العالية في معرض وصول عقل البشر وعلمهم إليه، ودفع توهّم كونهم مكلّفين مثلاً بمعرفة كنهه تعالى. وهذا وجهٌ في الحديث، لا مجال لردّ احتماله.

ص: 57


1- الصدوق، التوحيد، ص413، باب التعريف والبيان والحجّة والهدایة، ح 9؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعه، أبواب صفات القاضي، ج27، ص163، ب12، ح33 عن الصدوق والكليني.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص199.

ثانيها أن يكون المراد: أنّ التكاليف المستور علمها عن جميع العباد موضوعة عنهم (دون ما كان مستوراً عن بعضهم دون بعض). فالملاك جهل الجميع دون البعض، لإمكان رجوع الجاهل منهم إلى العالم ورفع جهله بالرجوع إليه، ولازم ذلك وضعه عمّن لا يمكن له الرجوع إلى غيره ورفع جهله به.

ثالثها: أن يكون المعنى: أنّ کلّ تكليفٍ صار مجهولاً للعبد ومحجوباً عنه لعدم وصوله إليه وعدم الطريق إليه، فهو موضوعٌ عنه.

ولا يخفى: أنّ النتيجة على المعنى الثاني والثالث واحدةٌ.

ولكن أظهر الاحتمالات بملاحظة إسناد الحجب إلى الله تعالى هو الاحتمال الأوّل، فيكون الحديث مرتبطاً بالمعاني العالية في باب المعارف القدسية ممّا کلّما نتكلّم فيه ونتصوّر أنّه هو كذلك، فلا يكون كما نتصوّره، بل هو أقدس وأعلى وأجلّ وأعظم منه.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المناسب لقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «فهو موضوع عنهم» المعنى الثالث والثاني دون الأوّل، فتدبّر.

حديث: «کلّ شيء لك حلال...»

ومنها: الحديث المنقول في الكفاية: «كلّ شيءٍ لك حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه».((1))

وجه الاستدلال به: دلالته على حليّة ما لم تعرف حرمته ولو كان من جهة عدم

ص: 58


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص176. ولم أجده بهذا اللفظ في الجوامع الروائية، وما يوجد قريباً منه لا يتمّ الاستدلال به في المقام، مثل: رواية مسعدة بن صدقة: «كل شيء هو لك حلالٌ حتى تعلم أنّه حرامٌ بعينه، فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب...»، الحديث. الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج17، ص89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4. وصحيح عبد الله بن سنان: «كل شيءٍ فيه حلالٌ وحرامٌ فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج17، ص87-89، أبواب ما یکتسب، ب4، ح 1)، وعلى هذا يسقط الاستدلال به. [منه دام ظلّه العالي].

الدليل على حرمته (سواءٌ كانت الشبهة موضوعيةً أو حكميةً)، وعدم الفصل قطعاً بين الحليّة وعدم وجوب الاحتياط، لمنافاة الحكم بالحليّة مع إيجاب الاحتياط. وعدم الفصل بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية وعدم وجوبه في الشبهة الوجوبية، للإجماع على عدم وجوبه في الشبهة الوجوبية.

حديث: «الناس في سعة ما لم يعلموا»

ومنها: الخبر المرسل: «الناس في سعة ما لم يعلموا».((1))

وجه الاستدلال به (بغضّ النظر عن ضعفه بالإرسال)، سواء كان لفظ «ما» فيه موصولة أم مصدرية، أنّهم في سعة.

فإن كانت «ما» موصولة يدلّ على أنّهم في سعة ما هو مجهول الحكم ما لم تعلم حرمته.

وإن كانت مصدرية يدلّ على أنّهم في سعة ما داموا غير عالمين، فيدلّ على عدم وجوب الاحتياط، لأنّ الاحتياط لو كان واجباً لما كانوا في سعةٍ أصلاً.

فيدفع به ما هو ظاهر في وجوبه، لأنّ الحديث نصٌّ في كونهم في سعةٍ، وما يدلّ على وجوب الاحتياط - لو قلنا بدلالته - ظاهرٌ فيه، فترفع اليد عن الظاهر بالأظهر والنصّ.

إشكال الشيخ والجواب عنه

ثم إنّه قد استشكل الشيخ(قدس سره) على الاستدلال بالآيات والروايات: بأنّه لو قبلنا دلالتها على المطلوب فإنّما تدلّ على عدم التكاليف المجهولة - الّتي لم يعلم المکلّف بها - بالعقل أو النقل. ولكن إذا فرض وجود دليلٍ معتبرٍ على وجوب الاحتياط، كما يقوله

ص: 59


1- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج1، ص424؛ المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، ج18، ص20، ب12، من أبواب مقدّمات الحدود، ح4؛ البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص326، ح604؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب النجاسات، ج3، ص493، ب50 ، ح11، وأبواب الذبائح، ب 38، ح2.

الأخباري، فيخرج به «ما لا يعلمون» عن كونه كذلك وينقلب إلى ما يعلمون، ويكون ما دلّ على وجوب الاحتياط وارداً عليه نافياً لموضوعه وموجباً لانقلاب موضوعه.((1))

وفيه: أنّ ذلك يرد على الاستدلال لو كان الاحتياط واجباً نفسياً، وأمّا إذا كان طريقياً فتقع المعارضة بين ما يدلّ على عدم وجوب الاحتياط مثل: قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «الناس في سعة...»، وما يدلّ على وجوبه؛ لأنّ الأوّل يدلّ على عدم الضيق من جهة ما لا يعلم، والثاني يدلّ على الضيق من جهته بوجوب الاحتياط الطريقي - الّذي وجب للجهل وعدم العلم بالواقع - فيقع التعارض بينهما. ولا ريب في أنّ الأوّل نصٌ في عدم وجوب الاحتياط كما مرّ.

لا يقال: يمكن الجمع بينهما بحمل ما يدلّ على وجوب الاحتياط على وجوبه في الشبهات التحريمية، وتقييد ما يدلّ على عدم وجوبه مطلقاً.

فإنّه يقال: إنّ تخصيص ما يدلّ على وجوب الاحتياط - على القول به - بالشبهة التحريمية تخصيصٌ بلا مخصصٍ. مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّه من التخصيص بالأكثر المستهجن، لكثرة الشبهات التحريمية وقلّة الوجوبية. هذا مضافاً إلى أنّ بعض الروايات الدالّة على البراءة وعدم وجوب الاحتياط وارداً في خصوص الشبهات التحريمية نصّاً أو ظاهراً، وإنّما نقول به في الشبهات الوجوبية لعدم الفصل والإجماع.

حديث: «کلّ شيء مطلق...»

ومنها: ما أرسله الصدوق عن مولانا الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «كلَّ شيءٍ مطلقٌ حتّى يرد فيه نهي».((2))

ص: 60


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص194، 195، 202.
2- الصدوق من لا یحضره الفقيه، ج1، ص317، ح22، ب 45 في وصف الصلاة؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب صفات القاضي، ج27، ص173-174، ب12، ح67؛ البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، أبواب المقدّمات، ج1، ص328، ح613، ب8 ، ح15.

ودلالته على المطلوب موقوفةٌ على كون المراد من الورود: العلم - أو ما بحكمه - بالنهي حتى يكون مفاده بيان حكم مجهول الحكم والمشكوك في كونه منهيّاً عنه. بخلاف أن يقال: إنّ المراد من الورود الورود الأوّلي الواقعي، فإنّه إخبارٌ عن أنّ الأشياء بحسب الواقع ونفس الأمر إنّما تكون على الإباحة حتى يرد فيها النهي، فيكون مفاده الإخبار بأنّ الأصل قبل الشرع هو الإباحة لا الحظر. وحيث إنّ الظاهر من حال الشارع كونه في خطاباته وإلقاءاته الكلّية في مقام التشريع دون الإخبار فلا يبعد استظهار كون المراد منه: بيان الحكم الظاهري وتكليف الشاكّ في الحكم الواقعي.

ولكن يمكن أن يقال: إنّه على الاحتمال الثاني أيضاً يمكن كونه في مقام التشريع وبيان الإباحة الشرعية لجميع الأشياء حتى يكون الحديث دليلاً على أنّ الأصل الأوّلي العقلي وإن كان الحظر إلّا أنّ الأشياء کلّها بحكم الشرع محكومةٌ بالإباحة الواقعية الشرعية حتى يرد النهي من الشارع وتصير محكومةً بالحرمة. وعليه يكون ما ورد من النهي عن الأشياء مخصِّصا لعموم مثل هذا الدليل. ولا تعارض بينه وبين أدلّة الاحتياط ولا ما يدلّ على الأحكام الظاهرية؛ لأنّ موردهما الشكّ في النواهي الواردة على هذا الأصل، بخلاف ما إذا كان المراد الاحتمال الأوّل فإنّه يقع التعارض بينه وبين أدلّة الاحتياط.

وكيف كان، فالقائل باستظهار الأوّل هو الشيخ،((1)) والقائل بالثاني هو المحقّق الخراساني.((2)) وقد أورد هو على نفسه بأنّ مطلوب من يقول بالأوّل يحصل على القول

ص: 61


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص199.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص177.

بالثاني أيضاً؛ لأنّه عليه بمقتضى الحديث إمّا أن يكون عالماً بورود النهي فالحكم الحظر، وإمّا أن يكون عالماً بعدم وروده فالحكم الإباحة، وإن شككنا في وروده فبضمّ أصالة عدم الورود تثبت الإباحة. فنتيجة الاستظهارين تكون واحدةً.

وأجاب عن هذا الإيراد بأنّ الحكم بالإباحة على الأوّل يكون لأجل أنّه مجهول الحرمة ظاهراً وهو حكمٌ ظاهريٌ وعلى الثاني يكون بعنوان أنّه لم يرد فيه النهي واقعاً.

فإن قلت: لا فرق في الحكم بالإباحة بين أن يكون بهذا العنوان أو بذاك، فالمكلّف غير ممنوع من ارتكاب ما وقع فيه. قلت: يحصل الفرق في مجهولي التاريخ - إذا ورد النهي في زمانٍ ثم نسخ بالإباحة في زمانٍ آخر، أو بالعكس وجهل المتقدّم والمتأخّر منهما - حيث لا يمكن إجراء الأصل لإثبات کلّ واحدٍ منهما للتعارض، كما عليه الشيخ، أو لعدم تحقّق أركان الاستصحاب في مجهولي التاريخ، فعلى القول الأوّل فيما هو مفاد الحديث نقول بالإباحة، و على الثاني يشكل إجراء استصحاب عدم ورود النهي، لما ذكر على المبنيين.

فإن قلت: إن لم يمكن إجراء استصحاب عدم ورود النهي في الفرض، يمكن إثباته بعدم القول بالفصل بين المشتبهات.

قلت: إثبات الإباحة لهذا الفرض لإثباتها في غيره بالاستصحاب بتوسيط عدم القول بالفصل، لايصحّ إلّا على القول بالأصل المثبت؛ لأنّ هذه الواسطة ليست بأمرٍ شرعيٍّ يثبت بالأصل الجاري في غير محلّ الفرض، كما هو المفروض.

ولكن يمكن أن يقال: نعم، يتمّ ما ذكر لو كان الإيراد مبنيّاً على القول بعدم الفصل بين المشتبهات، فيلزم إمّا رفع اليد عن الاستصحاب في مجهولي التاريخ والقول بعدم إثبات الإباحة مطلقاً، أو القول بإجرائه فيه والقول بالإباحة مطلقاً، فتأمّل جيّداً.

ص: 62

اُمور مهمّة

اشارة

اُمور مهمّة((1))

الأمر الأوّل: الأصل الموضوعي يمنع عن إجراء البراءة

لا تجري أصالة البراءة إذا كان في البين أصلٌ موضوعي يحرز به الحكم إثباتاً أو نفياً، سواءٌ كان منشأ الشكّ أمراً كان بيانه من شؤون الشرع مثل قابلية الحيوان للتذكية وعدمها، فإنّ مثلها لا يعلم إلّا ببيان الشارع، أم كان الشكّ في أمرٍ خارجيٍّ كالشكّ في وقوع التذكية على حيوانٍ اُحرزت قابليته لها.

والوجه في ذلك: أنّ جريان الأصل الموضوعي مانعٌ عن بقاء الواقعة مجهولة الحكم، ويجعلها معلومة الحكم فلا تشملها أدلّة البراءة النقلية كما لا تشملها أدلّة البراءة العقلية، لأنّها إنّما تجري في مورد فقدان البيان والأصل الموضوعي بيانٌ لها.

وبالجملة: بعد قيام الدليل أو الأصل المعتبر ينتفي ما هو الموضوع لإجراء البراءة وهو عدم وجود منجّزٍ للواقع دون ما إذا وجد، سواء كان هو العلم أو ما يقوم مقامه من دليلٍ معتبرٍ شرعيٍّ أو أصل معتبرٍ.

وعلى هذا، إذا شككنا في حيوانٍ - ذبح بفري أوداجه الأربعة وسائر الشرائط - من جهة قابليته للتذكية الّتي هي أيضاً من شرائط التذكية، لا تجري فيه أصالة البراءة عمّا يترتّب على غير المذكّى من الحرمة، لورود أصلٍ موضوعيٍ عليها وانتفاء الشكّ في حرمته بالعلم بها أو ما يقوم مقام العلم شرعاً وهو استصحاب عدم وقوع التذكية على الحيوان المذكور.

الأمر الثاني: إشكال الاحتياط في العبادة

لا ريب في حسن الاحتياط في الشبهات التحريمية والوجوبية العبادية وغيرها، إلّا

ص: 63


1- راجع: الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص190 وما يليها.

أنّه في الشبهة الوجوبية لمّا كان الاحتياط لا يتحقّق إلّا بالإتيان بالفعل بجميع أجزائه وشرائطه، يشكل تحقّقه إذا كان عبادياً ودار الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب، بل بين الوجوب وغير الحرام، لأنّ من الشرائط المعتبرة فيها نيّة القربة وهي تتوقّف على العلم بالأمر المفروض انتفاؤه.

ورد ذلك تارة:((1)) بأنّ الأمر بالفعل الّذي يؤتى به احتياطاً ولاحتمال كونه متعلّقاً لأمر المولى وإن كان لا يعلم تعلّق الأمر به بعنوانه الأوّلي، لكنّه متعلّق به بعنوان الاحتياط لحسنه المستتبع للأمر به بقاعدة الملازمة، ويكفي في وقوعه عبادةً بنيّة القربة الإتيان به بقصد إطاعة ذلك الأمر.

ورد هذا: بأنّ تعلّق الأمر الاحتياطي بالفعل فرع تحقّق الاحتياط به، ومادام لم يثبت ذلك لم يثبت الأمر به، فتحقّق الاحتياط بالفعل من مبادئ الأمر به ولا يتحقّق الأمر بدونه، وتحقّق الأمر به متوقّفٌ على تحقّق الاحتياط به.

هذا مضافاً إلى أنّه يقال:((2)) إنّ الأمر بالاحتياط ليس أمراً مولوياً يترتّب على الإتيان به الثواب والقربة، بل هو إرشاديٌ، كالأمر بالإطاعة، ولا يوجب إتيان الفعل بقصده القربة والامتثال؛ لأنّ الأمر الحقيقيّ الّذي موافقته بقصده توجب القربة هو الأمر المتعلّق بالفعل الداعي إليه والّذي يكون محرّكاً للعبد نحوه، والأمر بالاحتياط إرشادٌ إلى حسن الإتيان بالفعل المحتمل كونه مأموراً به، كالأمر بالطاعة، غير أنّ الثاني إرشادٌ إلى الفعل المعلوم كونه مأموراً به، والأوّل إرشادٌ إلى المحتمل كونه كذلك. وبالجملة: حسن الاحتياط لا يكون كاشفاً عن تعلّق الأمر المولويّ به بنحو اللمّ، كما أنّ ترتّب

ص: 64


1- نقله فرائد الاُصول (الأنصاري، ص228).
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص228.

الثواب عليه لا يكون كاشفا بنحو الإنّ، بل هو نحوٌ من الانقياد والطاعة لو لم يصادف الواقع ويستحقّ فاعله المدح والثواب، فتأمّل.

وتارة اُخرى يقال: بأنّ الاحتياط - كما أفاده الشيخ(قدس سره) - هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة، فمعنى الاحتياط بالصلاة: الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة، فأوامر الاحتياط تتعلّق بهذا الفعل وحينئذ فيقصد المکلّف فيه التقرّب بإطاعة هذا الأمر، ومن هنا تتّجه الفتوى باستحباب هذا الفعل وإن لم يعلم المقلِّد كونه ممّا شكّ في أنّه عبادة ولم يأت به بداعي احتمال المطلوبية. ولو اُريد بالاحتياط معناه الحقيقي وهو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبية لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلّا مع التقييد بإتيانه بداعي الاحتمال حتى يصدق عليه عنوان الاحتياط، مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه. فعلم أنّ المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي.((1))

وأورد عليه: سيّدنا الاُستاذ(قدس سره) في الحاشية على الكفاية.

أوّلاً: بأنّ ذلك مستلزم للقول بخروج العبادة عن كونها عبادة وصيرورتها واجباً توصّلياً، مع أنّ موضوع البحث هو الفعل التعبّدي لا التوصّلي.

وثانياً: بعدم الدليل على حسن الاحتياط في العبادات بدون قصد القربة فيها، لأنّه في العبادة ليس من الاحتياط بشيء.

وثالثاً: بأنّ ذلك التزامٌ بالإشكال، وهو عدم إمكان الاحتياط في العبادة.

ورابعاً: بأنّ ذلك مستلزمٌ لما لا يلتزم به الشيخ(قدس سره) أيضاً من كفاية الامتثال بنفس العمل بغير قصد القربة ولو أتى به رئاءً أو بداعٍ نفسانيٍّ.((2))

ص: 65


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص229.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص246.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ كفاية الاحتياط بمجرد الإتيان بالفعل المطابق للعبادة يستفاد من ترغيب الشارع في العبادة مع عدم إمكان الإتيان به بنيّة القربة بدلالة الاقتضاء. وما ذكر غاية ما يمكن الإتيان به في العبادات احتياطاً، فتأمّل.

هذا کلّه على القول بكون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشرائط والأجزاء المعتبرة فيها مأخوذةً في متعلّق الأمر وواقعة تحت الأمر بها كسائر الأجزاء والشرائط. وأمّا على القول بعدم أخذ قصد التقرّب ونيّة القربة في متعلّق الأمر، والبناء على أنّ متعلّق الأمر فيها أوسع ممّا يحصل به الغرض، غير أنّ العقل يدلّنا على اعتبار القصد المذكور في حصول الغرض، فيكون الإتيان بالاحتياط - كما أفاده في الكفاية - بمكانٍ من الإمكان، ضرورة التمكّن من الإتيان بما احتمل اعتباره في المأمور به بتمامه وكماله، غاية الأمر أنّه يلزم عليه أن يأتي به على نحو يكون محصّلاً للغرض، ويكفي في ذلك الإتيان به بداعي احتمال الأمر واحتمال المحبوبية.((1))

وفي تقريرات سيّدنا الاُستاذ(قدس سره): أنّه إذا قلنا بكفاية احتمال الأمر في حصول الغرض، فلا فرق بين أن تكون نيّة القربة مأخوذةً في متعلّق الأمر أم لا تكون مأخوذةً فيه، وكذلك إن قلنا بعدم الكفاية وقلنا بلزوم الجزم في القصد في حصول الغرض لا فرق بين القولين والوجهين.((2)) انتهى.

وبعبارة اُخرى نقول: إنّ العبادية والقربة إن كانت تتحقّق بإتيان الفعل بداعي احتمال الأمر به، فهي كما تتحقّق إذا لم يكن قصد القربة مأخوذاً في المأمور به وأتى به احتياطاً وبداعي احتمال أمر المولى، تتحقّق إذا أتى بما تكون القربة والعبادية مأخوذة فيه باحتمال الأمر به.

ص: 66


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص195 - 196.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص247.

وبعبارة ثالثة: يتحقّق الاحتياط بفعل - لو كان هو المأمور به كان قصد القربة مأخوذاً فيه بنحو الجزئية أو الشرطية - باحتمال الأمر به، وإن لا يكفي احتمال الأمر في تحقّق الاحتياط وحصول الغرض، فلا فرق بين القول بأخذ القربة في المأمور به في العبادة والقول بعدم اعتباره، فتدبّر.

ثم إنّه لا يخفى عليك فساد التمسّك((1)) - لإثبات جريان الاحتياط في العبادات - بأخبار «من بلغه ثواب...»؛ فإنّ هذه إن قيل بدلالتها على استحباب العمل الّذي ورد في الترغيب عليه خبرٌ ضعيف بعنوان نفسه أو بعنوان كونه مورداً للخبر، فهذا ليس من الاحتياط بشيءٍ. وإن قيل بدلالتها على حسن الاحتياط، فيعود الإشكال في العبادات.

ص: 67


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص229.
الكلام في أخبار من بلغ، وقاعدة التسامح في أدلّة السنن

حيث انتهى الكلام إلى هذه الأخبار فلا بأس بإجراء الكلام في دلالتها، فنقول: قد أفتى المشهور - كما أفاده في الكفاية((1)) - باستحباب نفس العمل الّذي بلغ عليه الثواب كسائر المستحبّات، فتستكشف بطريق الإنّ ووجود المعلول العلّة، أي يستكشف بالثواب المترتّب على نفس الفعل استحبابه الّذي هو العلّة لترتّب الثواب عليه استحباباً شرعيّاً كسائر المستحبات، فهو يكون مأموراً به بالأمر الندبي. وهذا ظاهر صحيح هشام بن سالم المرويّ في المحاسن عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال: «من بلغه عن النبيّ شيءٌ من الثواب فعمله، كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يقله»،((2)) فإنّ الظاهر منه ترتّب الثواب على نفس العمل لا بعنوانه الثانوي وإتيانه احتياطاً وانقياداً. خلافاً للشيخ(قدس سره)،((3)) فإنّه يرى أنّ ترتّب الثواب على العمل ليس بعنوانه الأوّلي بل بعنوان الانقياد والإطاعة، وعليه يستكشف بطريق الإنّ أنّ الاحتياط في موردٍ قام الخبر عليه يكون مستحبّاً وإن كان الخبر ضعيفاً، وذلك بدعوى دلالة بعض أخبار الباب على ذلك، ففي بعضها: «من بلغه ثواب من الله

ص: 68


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص200.
2- البرقي، المحاسن، ج1، ص25؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص256، ح3؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب مقدّمة العبادات، ج1، ص81، ب 18، ح 3.
3- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص230.

عزّ وجلّ على عملٍ فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اُوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه».((1))

ولكن يمكن أن يقال بعدم التنافي بين الخبرين، لعدم تقيّد صحيح هشام فهو مطلق في ترتّب الثواب وإن لم يكن احتياطاً والتماساً لذلك الثواب، وعدم استفادة كون الثواب مقيّداً بكونه ملتمساً له.

هذا مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّ أخبار الباب باختلاف مضامينها تدلّ على الترغيب في فعل ما ورد الخبر بترتّب الثواب عليه ولا حاجة إلى استكشاف الأمر الندبي بطريق الإنّ لأنّه لا موقع للترغيب إلّا إذا كان العمل مطلوباً ومحبوباً عند من يرغِّب إليه، وهذا هو الاستحباب. فلا يلزم في إثبات الاستحباب الأمر بالفعل، كما لا يجب ذلك في إثبات الوجوب، وكذا الحال في النهي.

وبعد ذلك کلّه يمكن أن يقال: إنّ استفادة الاستحباب من هذه الأخبار تدور مدار استفادة كونها في مقام التشريع لا الإخبار، وما هو الظاهر منها أنّها إخبار عن سعة تفضّل الله على عباده، وأنّه لا يخيّب رجاء من رجاه.

ويمكن أن يقال: إنّ الترغيب إلى إتيان کلّ عملٍ بلغ عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) له ثوابٌ، يوجب ورود كثير من الأعمال المباحة عملاً وفي عالم الظاهر في دائرة العبادات والشرعيات واشتغال الناس بها وانصرافهم بها عن الاُمور الأصلية والمقاصد الشرعية، وبعيد من حكمة الشارع فتح باب ذلك.

ولذلك نقول: إنّ القدر المتيقّن من هذه الأخبار أنّ من بلغه ثواب على عمل ثبت رجحانه وجوباً أو ندباً، أو على ترك ثبت مرجوحيّته تحريماً أو تنزيهاً، فأتى بالأوّل

ص: 69


1- الکلیني، الكافي، ج2، ص87، ح2؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب مقدّمة العبادات، ج1، ص82، ب 18، ح 7.

وترك الثاني التماساً لدرك الثواب الّذي بلغه عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يكون له هذا الثواب، والله هو العالم.

الأمر الثالث: أنحاء تعلّق النهي وإجراء البراءة فيها

لا يخفى عليك أنّه على ما أفاد السيّد الاُستاذ(قدس سره) من أنّ النهي عبارة عن الزجر عن الفعل، ينحلّ الحكم إلى أحكام عديدةٍ. فعلى هذا، يجب ترك کلّ فردٍ كان اندراجه تحت ما تعلّق به الزجر معلوماً دون ما جهل كونه مصداقاً له، سواءٌ لاحظ الحاكم الطبيعة مرآةً للأفراد أو لاحظها بما هي هي.

ووجه ذلك أنّ الزجر عن الطبيعة - إذا لم تكن مقيّدةً بقيدٍ خاصّ - يشمل جميع أفرادها؛ لأنّ کلّ فردٍ منها يكون نفس الطبيعة مع مشخصّات زائدة عليها، فإذا كانت الطبيعة مزجورة عنها باعتبار كونها مبغوضةً للزاجر يكون کلّ فرد منها مزجوراً عنه، وإذن فلا وجه للتفصيل المذكور في الكفاية،((1)) فتجري البراءة في کلّ فردٍ شكّ كونه من الطبيعة.

نعم، على ما بنى عليه في الكفاية من أنّ معنى النهي هو طلب الترك، يمكن في مقام الثبوت أن يقال: إنّ النهي عن شيءٍ إذا كان بمعنى طلب تركه في زمانٍ أو مكانٍ - بحيث لو وجد في ذلك المكان أو الزمان ولو دفعةً لما امتثل أصلاً - كان اللازم على المکلّف إحراز أنّه تركه بالمرّة ولو بالأصل، فلا يجوز الإتيان بشيءٍ يشكّ معه في تركه إلّا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الإتيان به.((2))

وبعبارة اُخرى: إذا كان الحاكم طلب ترك الطبيعة على النحو المذكور وشكّ في

ص: 70


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص200.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج2، ص200.

شيءٍ في كونه من أفراد الطبيعة ومصاديقها، لا يجوز إجراء البراءة بالنسبة إليه؛ لأنّ مع الإتيان به لا يحصل اليقين بالامتثال. وهذا بخلاف ما إذا كان طلب منه ترك کلّ فردٍ منها، فإنّه لا يجب عليه ترك ما شكّ في كونه فرداً منها، ولا يجب عليه إلّا ترك ما علم أنّه فردها. إلّا أنّ الظاهر في مقام الإثبات كون النواهي على الصورة الثانية، فتجري على هذا المبنى أيضاً البراءة الشرعية والعقلية في الفرد المشكوك، والله هو العالم.

الأمر الرابع: حسن الاحتياط مطلقاً

لا يخفى حسن الاحتياط مطلقاً حتى فيما قامت الحجّة على عدم الوجوب في الشبهة الوجوبية، أو عدم الحرمة في الشبهة التحريمية، سيّما إذا كان في الاُمور المهمّة كالدماء والفروج، فما دام احتمال فوت الواقع باقياً يحسن رعايته والإتيان بالمحتمل.

نعم، إذا كان ذلك مخلّا بالنظام وطرأ عليه عنوانٌ ثانويٌّ محرّمٌ فلا يجوز ولا يكون حسناً، ولكن إذا علم أنّ رعاية الاحتياط في أمر مّا ينتهي إلى ما يرضى به الشارع فهو حسن وعليه ينبغي قبل ذلك ترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً.

ص: 71

ص: 72

الفصل الثاني: في أصالة التخيير (دوران الأمر بين الوجوب والحرمة)

اشارة

قال في الكفاية: إذا دار الأمر بين وجوب شيءٍ وحرمته لعدم نهوض حجّة على أحدهما تفصيلاً بعد نهوضها عليه إجمالاً ففيه وجوه.((1))

أقول: إنّ السيّد الاُستاذ(قدس سره) - على ما كتب عنه الفاضل المقرّر - أفاد بأنّ البحث تارة: يلاحظ بالنسبة إلى نفس الحكم الواقعي من الوجوب والحرمة من حيث تنجّزه وعدمه. واُخرى: يلاحظ بالنسبة إلى الشكّ في الحكم الواقعي وأنّه هل هو الحرمة أو الوجوب. وثالثة: بالنسبة إلى الالتزام القلبي.

وأفاد في المورد الأوّل بأنّه لا شبهة في تنجّز الحكم الواقعي للعلم التفصيلي بجنسه والعلم الإجمالي بنوعه، إلّا أنّه لمّا لم يكن نوع الحكم معلوماً بالتفصيل وكان مردّداً بين الحرام والواجب وباعتبار وحدة متعلّقهما ودوران الأمر بين المحذورين، لا يمكن الاحتياط. فلابدّ من الكلام فيما هو التكليف بحسب الظاهر وهو المورد الثاني وهو حكم الواقعة ظاهراً،((2)) وفيه وجوه:

أحدها: أن يكون الحكم في هذه الواقعة البراءة نقلاً وعقلاً، لعموم النقل وحكم العقل بقبح العقاب على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به.

ص: 73


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج2، ص203.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص 255 - 256.

ثانيها: وجوب الأخذ بأحد الحكمين تعييناً.

ثالثها: وجوب الأخذ به تخييراً.

رابعها: التخيير بين الفعل والترك عقلاً، مع التوقّف عن الحكم به رأساً في مقام الإفتاء.

أو مع الحكم بالإباحة شرعاً. والظاهر أنّ هذا هو الوجه الخامس.

والفرق بين الوجوه المذكورة: أنّ الأوّل يقتضي عدم تنجّز الحكم الواقعي، سواء كان وجوبياً أو تحريمياً، لأنّه لا يثبت بجريان البراءة حكم ظاهري.

ومقتضى الوجه الثاني الحكم الطريقي الظاهريّ المنجّز للحكم المجهول، فإنّه إن كان الواقع المجهول حراماً يتنجّز بذلك الحكم الظاهريّ. والوجه الثالث أيضاً كذلك، أي يقتضي حكماً طريقياً ظاهرياً. غاية الأمر أنّ الحكم الواقعي تنجّزه تابع لاختيار المکلّف ، فما اختاره من الحكمين يتنجّز عليه في صورة الإصابة، ويكون عذراً في صورة الخطأ، سواءٌ كان التخيير بدوياً أو استمرارياً.

والوجه الرابع لا يكون مقتضياً لعدم التنجّز بطريقٍ كان الوجه الأوّل مقتضياً له؛ لأنّه باعتبار البراءة النقلية إنّما يكون دالّا على عدم تنجّز الحكم الواقعي بمعنى عدم إيجاب الاحتياط الطريقي، فإنّ الحكم بصرف الاحتمال لا يكون منجّزاً، وباعتبار البراءة العقلية يكون دالّا على أنّ صرف الاحتمال لا يكون سبباً للتنجّز. وعلى هذا، فالعقاب على مخالفة المجهول يكون عقاباً بلا بيان.

أمّا الوجه الرابع، فهو أيضاً دالّ على عدم التنجّز، لكن لا باعتبار عدم سببية صرف الاحتمال للتنجّز؛ لأنّ الحكم الواقعى في مثل المقام معلومٌ بجنسه وإن كان بنوعه محتملاً، ومعلومية الحكم بجنسه تكفي في تنجّزه عقلاً، لأنّه إذا علم إجمالاً بحرمة شرب التتن مثلاً، ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فلا شبهة عند العقل بلزوم ترك الأوّل وفعل الثاني لمكان العلم الإجمالي، والمقام يكون كذلك، والدالّ على عدم تنجّزه

ص: 74

أمرٌ آخر وهو عدم إمكان الموافقة والمخالفة القطعيتين في المقام، وعدم ترجيحٍ بينهما عند العقل، وهو الحاكم بعدم التنجّز والتخيير بين الفعل والترك. فحكم العقل بالتخيير في المقام ليس من باب عدم تنجّز الحكم باعتبار كونه مشكوكاً بل باعتبار عدم إمكان الجري على طبق المعلوم إجمالاً.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ أصحّ هذه الوجوه هو الوجه الرابع، أي حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك، لعدم إمكان الاحتياط، وعدم الترجيح بين الفعل والترك. ولعدم الدليل على سائر الوجوه.

أمّا الوجه الثاني والثالث، فلا دليل يدلّ على وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً أو تعييناً ظاهراً، من حيث كونه حكماً ظاهرياً وطريقاً إلى الواقع.

وأمّا الوجه الأوّل، فهو ضعيفٌ، لأنّ مجرى البراءة العقلية والنقلية ما إذا كان الحكم مشكوكاً فيه حتى من جهة جنسه، أمّا إذا كان معلوماً ولو بجنسه فلا تجري البراءة فیه، وإجراؤهما في طرفي العلم الإجمالي لا يجتمع مع العلم الإجمالي. غاية الأمر أنّ العقل لمّا يرى أنّه لابدّی من ارتكاب الفعل أو تركه وعدم الترجيح، بينهما يحكم بالتخيير.

ولا يتوهّم أنّ ما يدلّ على التخيير في باب تعارض الخبرين يدلّ على ذلك حتى يكون التخيير شرعياً، لأنّ حجّية الخبر إن كانت من باب السببية والموضوعية يدخل تعارض الخبرين في باب المتزاحمين فيقال بالتخيير، وليس هنا كذلك، لأنّه لا يكون في البين إلّا حكمٌ واحدٌ معلومٌ في الواقع. وإن كان من باب الطريقية فالقول بالتخيير فيه أو تعيين أحدهما مختصٌّ بخصوص مورده لقيام الدليل عليه، دون مقامنا هذا.

وأمّا القول بالإباحة الشرعية، فيمكن أن يوجّه بشمول مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّ شيءٍ لك حلالٌ حتى تعرف أنّه حرامٌ» له. وفيه: أنّ مثله إنّما يجري في غير مورد العلم الإجمالي بنوع التكليف والعلم التفصيلي بجنسه. مضافاً إلى أنّ شموله لمثل المقام بعد

ص: 75

حكم العقل بالتخيير لغوٌ لا فائدة فيه. ومضافاً إلى أنّ الحديث المذكور وأمثاله مثل: «كلّ شيءٍ مطلقٌ» لا يفيد إلّا نفي احتمال التحريم، ويبقى طرف الوجوب على حاله لا يشمله، فلا يكون دليلاً على إباحة ما علم بالإجمال وجوبه أو حرمته وجواز الفعل والترك فيه، فافهم.

تنبيهٌ: عدم اختصاص النزاع بالتوصّليات

هل يختصّ ما ذكر من النزاع بما إذا كان الواجب توصّلياً - كما اختاره الشيخ((1)) - لعدم إمكان المخالفة القطعية إذا كان كذلك، بخلاف ما إذا كان الواجب تعبّدياً لإمكان المخالفة القطعية لإمكان إتيان الواجب بغير قصد التقرّب والتعبّد، فإذا أتى به كذلك تتحقّق المخالفة القطعية، أي فعل الحرام وترك الواجب.

بل يمكن أن يقال: بأنّه إذا كان الواجب تعبّدياً واعتبرنا في نيّة القربة به الجزم وعدم كفاية الإتيان به احتمالاً ورجاءً، فتجب عليه الموافقة الاحتمالية بتركه، لأنّ بفعله تتحقّق المخالفة القطعية، لأنّه على فرض وجوبه غير مقدورٍ له لا يمكن له الإتيان به، فهو تاركٌ للواجب من غير اختيارٍ، وعلى فرض حرمته إن أتى به يكون فاعلاً للحرام فتتحقّق به المخالفة القطعية، بل على ذلك يتعيّن عليه تركه لدوران الأمر بين المخالفة القطعية والموافقة الاحتمالية.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ ما هو الملاك في حكم العقل بالتخيير ليس هو عدم إمكان المخالفة القطعية كما إذا كان الواجب توصّلياً، بل الملاك عدم إمكان الموافقة القطعية وعدم إمكان التحرّز عن المخالفة الاحتمالية، وهو حاصلٌ إذا كان الواجب توصّلياً، وإذا كان تعبّدياً أيضاً لا يمكن الموافقة القطعية ولا التحرّز من المخالفة

ص: 76


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص236.

الاحتمالية، فإذا لم يكن ترجيح للفعل أو الترك على الآخر، يتخيّر المکلّف بينهما، ولا فرق في ذلك بين كون الواجب توصّلياً أم تعبّدياً.

وإن كان هنا ترجيح معلوماً لأحدهما دون الآخر، فلابدّ من الأخذ بذي المرجّح.

وأمّا إذا لم يكن الترجيح معلوماً وكان محتملاً، مثلاً: إذا كان الوجوب المحتمل في المقام آكد من الحرمة بحيث لو وقع التزاحم بينه وبين الحرام يقدم عليه فهل يوجب ذلك تقديمه والأخذ به، أو كان الأمر بالعكس وكانت الحرمة كذلك؟ فيه وجهان:

وجه التخيير: أنّ مجرّد احتمال الترجيح لا يوجب تعيين ما يحتمل ترجيحه، لأنّه لا يجعله أقرب من الآخر إلى الواقع. واحتمال كونه هو الواقع لا يرجّح بذلك على احتمال كون الآخر واقعاً.

ووجه التعيين: استقلال العقل بالتعيين، كما هو كذلك في دوران الأمر بين التعيين والتخيير.((1))

أقول: يمكن منع ذلك؛ لأنّه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فالعقل مستقلّ بالتعيين لأنّ الإتيان بالطرف الّذي هو مأمورٌ به متعيّناً أو مخيّراً بينه وبين غيره موجبٌ للقطع بأداء التكليف، بخلاف المقام فإنّ الإتيان بذي الترجيح المذكور لا يوجب القطع بالامتثال وأداء الواقع، فكيف يستقلّ العقل بتعيّنه عليه؟

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مفسدة الوقوع في مخالفة الواقع وضرر تركه - لو كان هو الواقع - أشدّ من مفسدة الوقوع في ترك الآخر، والعقل في مثل ذلك يختار ما إن كان هو الواقع يدفع به الضرر الأشدّ، مثاله: إن كان الواجب هو الواقع تكون كفّارة تركه صيام شهرين، وإن كان الحرام هو الواقع تكون كفّارة فعله صيام شهرٍ واحدٍ.

وبالجملة: فالعقل مستقلٌّ باختيار ذي المرجّح وإن لم يحصل مثل باب دوران الأمر

ص: 77


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص207.

بين التعيين والتخيير المتيقّن بالامتثال. فالمقام وإن لم يكن من مصاديق الدوران المذكور إلّا أنّه مثله من جهة وقوع الشكّ في الجزم بالمعذورية، فإنّه إن أتى بذي المرجّح يحصل له الجزم بالمعذورية، وإن أتى بغيره لا يحصل له هذا الجزم.

ثم لا يخفى عليك: أنّ ما ذكرنا يجري فيما إذا كان الترجيح أو احتماله في جانب المحتمل، أمّا إذا كان في جانب الاحتمال كأن يكون أحد الحكمين مظنوناً بالظنّ غير المعتبر دون الآخر، فلا ريب في أنّ العقل مستقلٌّ بالأخذ بالمظنون.

ص: 78

الفصل الثالث: في أصالة الاحتياط (في الشكّ في المکلّف به)

اشارة

لو شكّ في المکلّف به مع العلم بالتكليف من الإيجاب والتحريم، فتارةً: يكون لتردّده بين المتباينين. واُخرى: لتردّده بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين. فالكلام يقع في مقامين.

وقبل الورود في الكلام عنهما ينبغي بيان ما هو المراد منهما حتى لا يعرض الشكّ في موردٍ أنّه من أيّهما.

فنقول: المراد بالمتباينين: شيئان بينهما بينونة تمنع عن انطباق عنوان کلّ واحدٍ منهما على الآخر، مثل: صلاة الظهر وصلاة العصر، ومثل: الصوم والصلاة، ومثل: الحجّ والزكاة، سواءٌ كان هذا الاقتران بينهما بالذات أو ببعض الخصوصيات.

وأمّا الأقلّ والأكثر فهما: ما يكون الأكثر حاوياً للأقلّ على نحو كان الأكثر هو الأقلّ مع شيءٍ زائدٍ من دون أن يكون الزائد مانعاً عن انطباق عنوان المأمور به على الأقلّ، فإن كان المأمور به هو الأقلّ وأتى بالزائد معه لا يبطل به. إذا عرفت ذلك فنبدأ ببسط الكلام في مقامين.

ص: 79

المقام الأوّل دوران الأمر بين المتباينين

إعلم: أنّه إذا تعلّق العلم بالوجوب أو الحرمة وتردّد متعلّقه بين شيئين أو أشياء، فإمّا أن نعلم بكونه منجّزاً من جميع الجهات، حتى مع تردّده بين شيئين أو أشياء كثيرة، بحيث كانت المصلحة الكامنة في متعلّقه - الداعية للأمر به والبعث نحوه - تامّةً مطلقةً ولا يرضى المولى بتركه مطلقاً، أو كانت المفسدة الّتي فيه كذلك ولا يرضى المولى بفعله مطلقاً وإن تردّد بين أطراف كثيرة، فلا محيص عن الاحتياط والإتيان بجميع الأطراف في الصورة الاُولى، وترك جميع الأطراف في الصورة الثانية. فإن ترك الموافقة القطعية في الصورة الاُولى وأتى ببعض الأطراف وترك البعض ووقع في مخالفة المولى، يكون عاصياً ولا يكون معذوراً. وكذا في الصورة الثانية إن ترك بعض الأطراف وأتى ببعض آخر ووقع في ارتكاب الحرام.

فلا مجال لإجراء البراءة والتمسّك بعموم ما دلّ على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة في أطراف العلم لمناقضتها مع العلم المذكور، ولمناقضة الترخيص في الفعل مع التحريم الفعلي، والترخيص في الترك مع الإيجاب الفعلي. ولا فرق فيما ذكر بين كون الشبهة محصورة وغيرها.

وإمّا أن نعلم بعدم كون التكليف فعلياً بهذه المثابة؛ فلا مانع - على ما أفاده في الكفاية((1)) - عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة للأطراف. بل لا حاجة للتمسّك

ص: 80


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص208 ، 214.

بها لعدم موقعٍ لجريان البراءة - الّتي مجراها التكليف المشكوك - في هذا الفرض الّذي نقطع بعدم التكليف.

نعم، لو شككنا في كون التكليف من أيّهما، يتعيّن الرجوع إلى البراءة هنا إذا كان التكليف محرزاً بالقطع، هذا.

وأمّا إذا كان المحرِز للتكليف حجّة شرعيّة، كما إذا قامت الأمارة على حرمة الخمر وشككنا في أنّ حرمته فعليةٌ مطلقاً ولا يرضى المولى بشربه وإن تردّد بين مائعين وأكثر، فلابدّ من ملاحظة الدليل الدالّ على حرمة الخمر، وأنّه هل يكون دالّا على تحريمه مطلقاً وإن تردّد بين مائعين أو لا؟ وعلى فرض الإطلاق لابدّ من ملاحظة معارضه إن وجد له معارضٌ، وعلاج التعارض بينهما إن أمكن. وإلّا فإذا لم يكن للدليل إطلاق، أو كان ولكن صار معارضاً بدليلٍ آخر ولم يمكن علاج التعارض الواقع بينهما تجري البراءة العقلية. وأمّا النقلية فما كان منها ناظراً إلى الشبهة الموضوعية مثل: «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم الحرام منه بعينه»((1)) فيجري، سيّما إذا كان الشكّ في الإطلاق، بل مع إطلاق دليل الحرمة أيضاً يجري مثله، لحكومة مثل: «كلّ شيءٍ...» على إطلاق دليل التحريم، دون ما إذا كان مثل حديث الرفع الناظر إلى الشبهة الحكمية.

ص: 81


1- الکلیني، الكافي، ج5، ص313، ح40، باب النوادر من كتاب المعيشة؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب ما يكتسب به، ج17، ص89، ب4، ح4.

تنبيهات

التنبيه الأوّل: الاضطرار إلى غير معيّن يمنع فعلية التكليف

لا ريب في أنّ الاضطرار إلى ترك واجبٍ معيّنٍ أو فعل حرامٍ معيّنٍ موجبٌ لجواز الترك في الأوّل وجواز الارتكاب في الثاني. وأمّا إذا اضطرّ إلى ارتكاب بعض الأطراف فيما علم حرمته إجمالاً، أو ترك بعض الأطراف فيما علم وجوبه إجمالاً، فلا ريب في الحكم وجواز العمل على مقتضى الاضطرار في نفس المضطرّ إليه إذا كان معيّناً، أو ما يختاره من الأطراف إذا كان الاضطرار إلى أحدها لا على التعيين. وفي غيرهما من الأطراف يجوز ارتكابه لانحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي في المضطرّ إليه معيّناً أو اختياراً والشكّ البدويّ في سائر الأطراف، لأنّه لا يبقى للمكلّف بعد الاضطرار إلى بعض الأطراف علم بالتكليف الفعلي في غيره. هذا، إذا كان الاضطرار بعد العلم الإجمالي بالتكليف وكان مسبوقاً به. وأمّا إذا كان الاضطرار سابقاً على العلم الإجمالي أو مقارناً له فاحتمال كون المعلوم بالإجمال هو المضطرّ إليه يكون مانعاً من العلم الإجمالي بالتكليف، فلا حكم للعقل بوجوب الاحتياط ولزوم تحصيل القطع بالبراءة اليقينية، لعدم العلم بالاشتغال اليقيني.

هذا مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّه إذا اضطرّ إلى غير معيّنٍ من الأطراف، فالحكم بوجوب الاحتياط وتنجّز الواقع يستلزم التناقض؛ فإنّ الزجر الفعلي مثلاً عن

ص: 82

الخمر المردّد بين مائعين يناقض الترخيص الفعلي لارتكاب أحدهما تخييراً لإمكان مصادفة ما يختاره الحرام الواقعي.

فإن قلت: فما الفارق بين المقام وبين ما إذا فقد أحد الأطراف بعد العلم الإجمالي مع أنّ الحكم هناك هو الاحتياط ووجوب الاجتناب عن الباقي؟

قلت: الفرق بين هنا وهناك أنّ عدم الاضطرار إلى مخالفة التكليف من حدود التكليف وقيوده، فهو إنّما يكون مكلّفاً إذا لم يكن مضطرّاً إلى مخالفة التكليف من أوّل الأمر، وإلّا لا يتوجّه إليه التكليف من أوّل الأمر. بخلاف فقد المکلّف به، فإنّ عدمه ليس من قيود التكليف حتى ينتفي بانتفائه، بل ينتفي بانتفاء موضوعه.((1))

هذا، ولكن الشيخ(قدس سره) قد فصّل وقال - فيما إذا كان الاضطرار بعد العلم - : «الظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر؛ لأنّ الإذن في ترك بعض المقدّمات العلمية بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات،((2)) انتهى.

ومراده من ذلك: أنّ الاضطرار قبل العلم يكون مانعاً من حصول العلم الإجمالي بالتكليف، بخلاف ما إذا كان بعد العلم فإنّ التكليف بوجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي صار منجّزاً بالعلم به السابق على حدوث الاضطرار، ومقتضى الجمع بينه وبين الترخيص في المضطرّ إليه، جواز ارتكابه ولزوم الاجتناب عن الباقي.

وفيه: أنّه كما يكون الاضطرار السابق على العلم مانعاً عن تنجّز الحكم الواقعي باعتبار احتمال كون متعلّقه هو ما اضطرّ إليه، يكون مانعا عن بقاء تنجّزه إذا كان

ص: 83


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص216 ، 218.
2- الأنصاري، فرائد الاصول، ص254.

مسبوقاً بالعلم، لعدم بقاء العلم - الّذي كان موجباً لتنجّز التكليف المردّد في البين - بعروض الاضطرار واحتمال كونه هو المضطرّ إليه.

وأفاد السيّد الاُستاذ(قدس سره) في توجيه کلام الشيخ كما قرّره المقرّر الفاضل: «إنّ الحكم الواقعي المفروض تنجّزه بالعلم، سابقٌ على عروض الاضطرار مردّد بين أن يكون متعلّقاً بهذا الفرد القصير عمره وبين أن يكون متعلّقاً بالفرد الّذي يكون عمره طويلاً، فإن كان بحسب الواقع متعلّقاً بالفرد القصير يكون تنجّزه إلى هذا الحدّ، وإن كان متعلّقاً بالفرد الطويل يكون تنجّزه للتالي، فكلّ من الفردين - بقصر أحدهما وطول الآخر - يكون طرفاً للعلم الإجمالي الّذي يكون منجّزاً للحكم المردّد، وخروج هذا الفرد ببعض أزمنة وجوده عن متعلّق الحكم لا يوجب خروجه عنه مطلقاً بجميع أزمنة وجوده حتى يكون الحكم باعتبار احتمال التصادف مشكوكاً وغير منجّز.

والحاصل: أنّ هذا الفرد قبل عروض الاضطرار يكون طرفاً لفردٍ لا يكون معروضاً للاضطرار ويجب الاحتياط بحكم العقل في کليهما بحسب القصر والطول».((1)) انتهى.

هذا، وجاء في هامش الكفاية: أنّ الاضطرار لو كان إلى أحدهما المعين، فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجّز، لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالاً المردّد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلاً، وعروض الاضطرار إنّما يمنع عن فعلية التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعلية المعلوم بالإجمال المردّد بين التكليف المحدود في طرف المعروض والمطلق في الآخر بعد العروض. وهذا

ص: 84


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص272 - 273.

بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فإنّه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقاً، فافهم وتأمّل.((1))

وخلاصة ما أفاد: أنّ المعلوم بالإجمال في التكليف المردّد بين ما يعرضه الاضطرار وما هو المطلق يكون في الطرف الّذي يعرضه الاضطرار محدوداً به. فهو مكلّفٌ إمّا بما هو محدودٌ بعروض الاضطرار، أو بما هو مطلقٌ عن ذلك. وذلك - أي كونه محدوداً به - لا يوجب عدم تنجز التكليف به، كالتكليف المردّد بين القصير والطويل؛ فإنّ تردّد التكليف بين حرمة فعلٍ من يوم السبت إلى يوم الأحد؛ وحرمة فعل آخر من يوم السبت إلى الخميس مثلاً، لا يوجب عدم تنجّزه بالعلم به.

وإذا كان أحد المعيّن من طرفي المعلوم بالإجمال المعيّن معروضاً للاضطرار، كما إذا علم بكون أحد المائعين خمراً ثم اضطرّ إلى ارتكاب أحدهما المعيّن، فحرمة ذلك المعيّن إن كان هو المکلّف به محدودةٌ إلى زمان عروض الاضطرار إليه، فهو مكلّفٌ بالاحتياط والاجتناب عنه إلى زمان عروض الاضطرار، كما هو مكلّفٌ بالاجتناب عن الآخر مطلقاً.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ التكليف في الجانب الّذي يعرضه الاضطرار إذا كان منحلّا بتكاليف عديدة كحرمة شرب الخمر، لا ينحلّ العلم الإجمالي به بعروض الاضطرار لأحد جانبي العلم في بعض أفراده. وأمّا إذا كان العلم الإجمالي تعلّق بكون أحد المائعين خمراً ثم اضطرّ إلى ارتكاب أحدهما المعيّن فلا ريب في أنّ الاضطرار إليه رافع للتكليف بالاجتناب عنه، فينحلّ به العلم الإجمالي بالتكليف بينهما بجواز المضطرّ إليه والشكّ البدويّ في حرمة الآخر.

ص: 85


1- الخراساني، كفاية الاُصول (مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام))، ص360، الهامش 1.

ويمكن دفع ذلك: بأنّ هذا إنّما يتمّ لو علم بعد العلم الإجمالي - بكون أحدهما خمراً - أنّ أحدهما المعيّن المضطرّ إليه من أوّل الأمر: وأمّا إذا عرض الاضطرار إليه بعد العلم فيكون الحكم بوجوب الاجتناب محدوداً بعروض الاضطرار، وفي مثله لا ينحلّ العلم الإجمالي بحدوث الاضطرار.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المکلّف به هنا ليس إلّا الاجتناب عن المائع المعيّن، فإذا صار المکلّف مضطرّاً إليه يرتفع التكليف بالاجتناب عنه. ويكشف عروض الاضطرار عن كون التكليف بالاجتناب عنه مرفوعاً وإن كان يجب عليه الاجتناب ظاهراً مادام لم يعرض الاضطرار.

وبعبارة اُخرى نقول: إنّ الحرام إذا كان مردّداً بين شيئين يحتاج تحقّق الاجتناب عنه - لو كان في کلّ منهما - إلى زمان أزيد من الزمان الذي يتحقّق العصيان فيه، بحيث يمكن تحقّق عصيانه في هذا الزمان وفي هذا وهذا، ولكنّ الامتثال والاجتناب عنه لا يتحقّق إلّا بتركه في جميع هذه الأزمنة، فإذا اضطرّ المکلّف إلى إتيانه في بعض هذه الأزمنة يسقط التكليف به أي بالمردّد بينهما، في الطرف المضطرّ إليه لأجل الاضطرار، وفي الطرف الآخر لسقوط العلم الإجمالي عن تنجّز التكليف به، لاحتمال كون المضطرّ إليه هو المکلّف به، والشكّ في كونه هو الآخر. فأين هذا من دوران الأمر بين المحدود والمطلق، والقصير والطويل؟! فتأمل.

التنبيه الثاني: تنجّز العلم الإجمالي بشرط الابتلاء بتمام الأفراد

لا ريب في أنّ النهي عن شيءٍ إنّما يصحّ إذا كان ذلك محلّ ابتلاء المكلّف؛ لأنّ فائدة النهي الزجر عن المنهيّ عنه فإذا لم يكن محلّ الابتلاء، لا يتحقّق الزجر والانزجار ولا النهي والانتهاء. ففي العلم الإجمالي بحرمة أحد شيئين أو أشياء إذا كان بعض

ص: 86

الأطراف خارجاً عن الابتلاء لا يتنجّز به التكليف المعلوم بالإجمال، لاحتمال كونه في غير محلّ الابتلاء، فيقع الشكّ الابتدائي في حرمة غيره.

وبعبارةٍ اُخرى: يصير الشكّ الواقع فيه من الشكّ في التكليف لا المكلّف به.

وهكذا إذا شككنا في كون بعض الأفراد في العلم التفصيلي بالمكلّف به، أو بعض الأطراف في العلم الإجمالي محلّ الابتلاء أو خارجاً عنه، ففيه أيضاً يرجع الشكّ في الصورة الاُولى إلى الشكّ في التكليف في خصوص الفرد المشكوك كونه محلّ الابتلاء، وفي الصورة الثانية أيضاً يرجع إلى الشكّ في التكليف؛ لأنّه إذا كان الحرام في الجانب المشكوك كونه محلّ الابتلاء لا تتنجّز حرمته، لاحتمال كونه خارجاً عن محلّ الابتلاء و عدم تعلّق النهي به، فهو على فرض كونه واقعاً تحت النهي إذا شكّ في كونه محلّ الابتلاء يكون تعلّق النهي به مشكوكاً، فلا يكون العلم الإجمالي بتعلّق النهي به أو بغيره المعيّن موجباً لتنجّز النهي عنه إن كان متعلّقاً به، وفي الطرف الآخر أيضاً يكون الشكّ فيه بدويّاً.

هذا، ولكن الشيخ الأنصاري(قدس سره) قال: إذا شكّ في قبح التنجيز [أي كونه خارجاً عن محلّ الابتلاء أو داخلاً فيه] فيرجع إلى الإطلاقات. فمرجع المسألة إلى أنّ المطلق المقيّد بقيدٍ مشكوك التحقّق في بعض الموارد لتعذّر ضبط مفهومه على وجهٍ لا يخفى، مصداقٌ من مصاديقه، كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفية، هل يجوز التمسّك به أو لا؟ والأقوى الجواز، فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب إلّا ما علم عدم تنجّز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام.

إلّا أن يقال: إنّ المستفاد من صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة((1)) كون الماء وظاهر

ص: 87


1- عن أخيه أبي الحسن(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الواردة فيمن رعف فامتخط فصار الدم قطعاً صغاراً، فأصاب إناءه، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):«إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به، وإن كان شيئاً بيّناً فلا يتوضّأ منه». الکلیني، الكافي، ج3، ص74، ح16، باب النوادر من كتاب الطهارة؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص150 – 151، أبواب الماء المطلق، ب 8 ، ح 1.

الإناء من قبيل عدم تنجّز التكليف، فيكون ذلك ضابطاً في الابتلاء وعدمه إذ يبعد حملها على خروج ذلك من قاعدة الشبهة المحصورة لأجل النصّ، فافهم.((1))

هذا، وأفاد السيّد الاُستاذ في وجه ما ذكره الشيخ قدّس سرّهما: أنّ ما ذكره هنا مبنيٌّ على ما ذكره في المطلق والمقيّد من أنّ عنوان المقيّد إذا كان مبهماً موجباً الشكّ في بعض مصاديقه يقيّد المطلق بما هو القدر المتيقّن للمقيّد فيتمسّك في غيره بظهور المطلق في الإطلاق. والمقام من هذا، لأنّ إطلاق الخطاب يشمل کلّ فردٍ من أفراد العنوان المأخوذ في موضوع الخطاب وما لا يكون من أفراده محلّ الابتلاء يخرج عنه بدليلٍ لبيّ وهو عدم شمول الخطاب ما هو خارجٌ عن محلّ الابتلاء، وهذا عنوانٌ مبهمٌ يقتصر في الخروج عن تحت العنوان الّذي هو موضوع الخطاب بما هو المتيقّن خروجه عنه.((2))

وأجاب السيّد الاُستاذ عنه: بأنّ صحّة التمسّك بالإطلاق تتوقّف على صحّة الإطلاق وجواز الزجر والنهي وعدم كونه لغواً ومن تحصيل الحاصل، وإذا كان ذلك مشكوكاً فيه لا يجوز الحكم بشمول الإطلاق.

وبعبارةٍ اُخرى: إطلاق الحكم يشمل من أفراده ما كان داخلاً في محلّ الابتلاء دون ما كان خارجاً عنه أو شكّ في كونه داخلاً فيه، فمقتضى الأصل عدم حرمته. هذا مضافاً إلى أنّ التقييد العقلي يكون بمنزلة التقييد اللفظي المتّصل، يسرى إبهامه إلى المطلق ويمنع من استقرار ظهوره في مقام الشكّ، والله هو العالم.((3))

ص: 88


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص252.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص276 - 277.
3- الحجّتي البروجردي، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج2، ص276 – 277.
التنبيه الثالث: الاجتناب في الشبهة غير المحصورة

لا ريب في أنّه مع العلم بفعلية التكليف من جميع الجهات، سواءٌ كان متعلّقه مردّداً بين اُمورٍ محصورةٍ أم غير محصورةٍ، يجب الاحتياط بالاجتناب عن جميع الأطراف أو الإتيان بجميعها. هذا إذا كان متعلّق العلم نفس التكليف.

ولا يستدرك ذلك بما إذا كانت كثرة الأطراف في موردٍ موجبةً لعسر موافقته القطعية باجتناب کلّها أو ارتكابه، كما هو ظاهر کلام الكفاية.((1))

لأنّ الأمر لا يخلو من صورتين: فإمّا يكون التكليف مشكوكاً لا يعلم بعث الشارع نحو الفعل أو زجره عنه، فلا علم بفعليته مطلقاً؛ وإمّا أن تكون فعلية التكليف مطلقاً معلومةً،

فلا وجه للاستدراك والاستثناء.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ مفروض کلامهم في المقام هو العلم بما هو حجّة على التكليف لا العلم بنفس التكليف، كما هو ظاهر عباراتهم. وإذا كان مرادهم ذلك، أي العلم بالحجّة الّتي تقوم على الحكم وتدلّ بإطلاقها على الوجوب أو الحرمة وإن كانت أطراف الشبهة كثيرة، فيمكن أن يقال: إذا كانت هذه موجبة لعسر الموافقة القطعية والاحتياط التامّ لا يكون التكليف معها فعلياً. وذلك لا يوجب تناقضاً، لأنّ من الممكن العلم بحجّةٍ تدلّ بإطلاقها على التكليف مطلقاً، وتقييد إطلاقها بحجّةٍ اُخرى، لأنّ العلم بالحجّة بإطلاقها أو عمومها لا يمنع من تقييدها أو تخصيصها بحجّةٍ اُخرى. فإذا ثبت العسر في موافقة التكليف الّذي دلّت عليه الحجّة، سواءٌ كانت الدلالة عليه بالإجمال أو التفصيل، ترفع اليد عن إطلاقها بالحجّة الأقوى، وهي هنا وقوع المکلّف في العسر بالاجتناب عن جميع الأطراف. هذا إذا اُحرز أنّ كثرة الأطراف موجبةٌ للعسر.

ص: 89


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص223.

وأمّا إذا شكّ في أنّ كثرة الأطراف وصلت إلى حدٍّ توجب العسر أم لا، فالمرجع إطلاق دليل الحكم؛ لأنّ ظهور المطلق بعد انعقاده حجّةٌ ومتّبعٌ لا يجوز التخلّف عنه إلّا بمقدارٍ قام الدليل الأقوى على خروجه عن تحت الإطلاق. فإنّ إطلاق دليل الأحكام الواقعية يقتضي ثبوت الحكم لموضوعه مطلقاً ولو مع الجهل وعروض بعض العوارض والطوارئ كالعسر والحرج، إلّا إذا قام الدليل الأقوى من النصّ أو الإجماع أو السيرة القطعية على عدم تنجّز الحكم عند طروّ بعض الطوارئ، كاشتباه موضوعه بين أطراف غير محصورةٍ بحيث يستلزم تنجّزه العسر على المکلّف. فيقتصر في رفع اليد عن إطلاق الدليل بمقدارٍ دلّ الدليل الأقوى على خروجه عن الإطلاق، دون غيره.

التنبيه الرابع: حكم ملاقي بعض أطراف المعلوم بالإجمال

إنّما يحكم العقل بوجوب الاحتياط بالاجتناب عن الأطراف في الشبهة التحريمية والإتيان بها في الوجوبية؛ لأنّ اليقين بالامتثال يكون متوقّفاً على تركها أو فعلها، ولا يتعدّى الحكم إلى غيرهما. وإن كان واقعاً محكوماً بحكم أحد الطرفين.

ففيما علم بنجاسة أحد الماءين يكفي في امتثال النهي المتعلّق بشرب النجس في البين ترك شربهما، أمّا الماء الّذي لاقى أحدهما فلا يجب الاجتناب عنه وإن كان هو في الواقع يكون محكوماً بحكم ما لاقاه.

فيجب الاجتناب عن الملاقى - بفتح القاف - الماء الّذي كان طرف العلم الإجمالي، ويجوز ارتكاب الملاقي - بكسر القاف - الماء الثالث. وذلك لحصول القطع باجتناب النجس في البين وامتثال التكليف بالاجتناب عن الطرفين، وأمّا الملاقي - بالكسر - فالشبهة بالنسبة إليه بدويّة، فإنّه لو صار نجساً بالملاقاة يكون التكليف بالاجتناب عنه تكليفاً آخر، لكونه نجساً آخر.

ص: 90

ويستفاد من الكفاية في المسألة:((1)) أنّه إن كان الملاقي - بالكسر - خارجاً عن الأطراف يكون الشكّ بدويّاً لا يوجب الاجتناب عنه، كما لو وقعت الملاقاة بعد العلم الإجمالي بالنجس فلا يجب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - وذلك لأنّ مقتضى العلم الإجمالي المذكور ليس إلّا الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - وطرفه الآخر، دون الملاقي - بالكسر - وإن كان هو محكوماً بحكم الملاقى لو كان هو النجس المعلوم بالإجمال، فالملاقي - بالكسر - في هذه الصورة حيث يكون خارجاً عن الأطراف لا يجب الاجتناب عنه.

وقد يكون الملاقى خارجاً عن الأطراف دون الملاقي - بالكسر - كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين ولاقى أحدهما المعيّن مع ما يقع طرفاً بعد ذلك للعلم الإجمالي بنجاسته أو بعض أطراف العلم الأوّل؛ فإنّ الملاقى - بالفتح - وإن كان طرفاً للعلم الثاني إلّا أنّه لا يكون تعلّق العلم الإجمالي الثاني به منجّزاً لوجوب الاجتناب عنه إن كان نجساً واقعاً، وذلك لأنّ طرفه من أطراف العلم الإجمالي الأوّل المنجّز به. وعلى هذا، يكون الملاقي - بالكسر - واجب الاجتناب دون الملاقى - بالفتح - لعدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي المنجّز.

وكما إذا حصلت الملاقاة أوّلاً كأن لاقى شيءٌ أحد المائعين وصارا متعلّقين للعلم الإجمالي بنجسٍ بينهما وخرج الملاقي - بالكسر - حال حدوث العلم عن مورد الابتلاء، ففي حال حدوثه يكون الملاقى - بالفتح - واجب الاجتناب دون الملاقي، فإن صار مبتلىً به بعده يكون الشكّ في وجوب الاجتناب عنه من الشكّ البدويّ، كما أنّه إذا لم يخرج الملاقي - بالكسر - عن محلّ الابتلاء يكون هو والملاقى طرفاً واحداً للطرف الآخر، وهذه الصورة هي الصورة الثالثة المذكورة في الكفاية.

ص: 91


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص224 ، 227.

هذا، ولكن السيّد الاُستاذ أورد على اُستاذه(قدس سره): بأنّ الحكم بعدم لزوم الاجتناب في المقام ليس مبتنياً على ما أفاد، أي خروج الملاقي عن الأطراف، بل الحقّ في المقام ما حقّقه الشيخ(قدس سره)((1)) من عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي مطلقاً من غير فرقٍ بين تقدّم العلم على الملاقاة أو تقدّمها عليه؛ فإنّ الأصل المسبّبي في الملاقي - بالكسر - يجري مطلقاً بعد عدم جريان الأصل السببي بالمعارضة في طرفي الشبهة. وهذا ظاهرٌ في صورة تقدّم العلم بالنجاسة على العلم بالملاقاة. وأمّا في صورة تقدّم العلم بالملاقاة على العلم بالنجاسة فإنّه وإن كان يحصل العلم إمّا بنجاسة الملاقي والملاقى أو طرفه إلّا أنّ الأصل الّذي هو في رتبة الأصل الجاري في الطرف هو الأصل الجاري في الملاقى - بالفتح - وهما يسقطان بالتعارض والحكم فيهما الاحتياط بالاجتناب عن کلا الطرفين وفي الملاقي - بالكسر - تجري أصالة الطهارة.

هذا مضافاً إلى أنّه يرد على الكفاية، كما أفاد السيّد الاُستاذ(قدس سره): أنّه بعد حصول العلم بالنجاسة والملاقاة يحصل العلم بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف الآخر، فيكون کلاهما طرفاً للآخر، كما إذا وقعت قطرةٌ من الدم في هذا الإناء المعيّن أو في الإناءين الآخرين، فيحكم العقل بلزوم الاجتناب عن کلّها حتى الملاقي كما يحكم بوجوب الاجتناب عن الإناء المعيّن والإناءين الآخرين في المثال المذكور. نعم، الفرق بين المثال والمقام وجود المؤمّن في المقام وهو الأصل الجاري في الملاقي دون المثال، فتدبّر جيّداً.

هذا، وأمّا الاستدلال بلزوم الاجتناب عن الملاقي بقوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾.((2))

ففيه: أنّ شمول الآية الكريمة لملاقي الرجز المعلوم بالتفصيل ممنوعٌ، فكيف به إذا كان بالعلم الإجمالي! والله وليّ التوفيق.

ص: 92


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، 253 - 254.
2- المدّثّر، 5. استدلّ بها ابن زهرة في الغنية (ص46)؛ ونقل عنه في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص252- 253).
المقام الثاني دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين

لا يخفى عليك: أنّ مرادهم في المقام من الأكثر ما هو مشتمل على الأقلّ وحاويه مع شيءٍ زائدٍ عليه، لكن لا تكون زيادته على الأقلّ مانعةً عن صحّة الأقلّ.

وبعبارة اُخرى: الأقلّ: ما لوحظ لا بشرط عمّا يزاد عليه بالإتيان بالأكثر. والأكثر: ما هو مشروطٌ بما كان الأقلّ لا بشرط عنه.

ومعنى الارتباط بينهما: أنّ المأمور به لو كان الأكثر فلابدّ وأن يوتى به، فإن أتى بالأقلّ لم يأت بالمأمور به.

ومن ذلك يعلم: أنّ ذلك في الصلاة لا يكون إلّا في الأجزاء غير الركنية كوجوب السورة. وأمّا فرض الشكّ بين الأقلّ والأكثر في أركان الصلاه، فهو من الشكّ في المتباينين.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أن الشيخ(قدس سره) اختار في المسألة البراءة العقلية.

ودليله على ما اختاره - حسبما ذكره السيّد الاُستاذ قدس سرهما - هو: أنّا نعلم بالتفصيل بتوجّه الأمر - بكلّه أو ببعضه - إلى الأقلّ وإن شكّ في تعلّقه بالزائد، والعلم بتوجّه الأمر به ولو كان ببعضه يكفي في تنجّزه ووجوب امتثاله عند العقل، وحرمة مخالفته بخلاف الزائد، للشكّ في تعلّق الأمر به.

وليس معنى ذلك أنّه علم إجمالاً بوجوب الأقلّ والأكثر ثم انحلّ العلم الإجمالي بالتفصيلي في الأقلّ والشكّ البدوي بالنسبة إلى الأكثر، حتى يرد عليه ما يأتي من

ص: 93

الكفاية. وهذا ما يستفاد من مطاوي کلما ت الشيخ،((1)) إلّا أنّه يستفاد من بعض کلماته أنّ الدليل على البراءة في المقام هو الانحلال المذكور، وهذا ما قاله في آخر کلامه بلفظه:

«وبالجملة: فالعلم الإجمالي فيما نحن فيه غير مؤثّرٍ في وجوب الاحتياط، لكون أحد طرفيه معلوم الإلزام تفصيلاً والآخر مشكوك الإلزام».((2)) ثم قال بعد سطورٍ: «ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلومٍ تفصيليٍّ ومشكوكٍ».((3))

ووجه الانحلال عنده: أنّ الأقلّ واجبٌ مطلقاً إمّا بالوجوب النفسي أو بالوجوب المقدّمي، وأمّا الأكثر فإن كان واجباً فلا يكون إلّا بالوجوب النفسي، فالأقلّ واجبٌ تفصيلاً معلومٌ وجوبه، والأكثر وجوبه مشكوك.

وبعبارة اُخرى: وجوب الأقلّ منجّزٌ يجب على المکلّف امتثاله دون الأكثر؛ فإنّ وجوبه النفسي مشكوك مجهولٌ فلا يجوز العقاب على تركه، لأنّه عقابٌ بلا بيان.

هذا، واختار المحقّق الخراساني في المسألة: لزوم الاحتياط - بالإتيان بالأكثر - عقلاً؛((4)) لأنّ تعلّق التكليف بالأقلّ أو الأكثر يكون نظير المتباينين يجب الخروج عنه تعلّق بالأقلّ أو بالأكثر، إلّا أنّه في المتباينين - المصطلح قبال الأقلّ والأكثر - لا يمكن الاحتياط ولا يخرج المكلّف عن عهدة التكليف المردّد بينهما إلّا بإتيان کلّ منهما مستقلّا، وفي الأقلّ والأكثر الارتباطيين يتحقّق الاحتياط والامتثال بالإتيان بالأكثر ولا يجب عليه أن يأتي بالأقلّ مستقلّا وبالأكثر كذلك.

ص: 94


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص272 - 274.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص274.
3- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص274.
4- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص228.

فالأقلّ والأكثر الارتباطيان قسمٌ من المتباينين لا قسيمهما؛ وذلك لأنّ الملحوظ في کلّ منهما - إن كان هو المأمور به - غير ما هو الملحوظ في الآخر، إن كان هو المأمور به فالملحوظ في الأقلّ - إن كان هو المأمور به - تسعة أجزاء وهو غير الملحوظ في الأكثر وهو عشرة أجزاء - إن كان هو المأمور به - فهما في مقام الجعل متباينان لا يمكن إجراء البراءة عن تعلّق الحكم بأحدهما دون الآخر، فبالعلم الإجمالي نعلم تعلّق الأمر إمّا بالمركّب من تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء، فكلٌ منهما طرفٌ للعلم وليس العقاب على ترك کلّ واحدٍ منهما - لو كان هو المأمور به - عقاباً بلا بيان.

نعم، الملحوظ في الأقلّ - إن كان هو المأمور به - وما جعله الآمر تحت أمره لا بشرط عن الزيادة عليه، ولكنّه بما هو ملحوظ عند تعلّق الأمر به غير الأكثر، ولكن في مقام الامتثال يكتفى بالأكثر ويتحقّق الاحتياط بالإتيان به، ولا يجب الإتيان بكلٍّ منهما مستقلّا كغيرهما من المتباينين، فافهم وتدبّر في ذلك حتى لا تتوهّم كما توهّمه البعض أنّ كون النسبة بين الأقلّ والأكثر التباين تقتضي الاتيان بكل منهما مستقلّا.

فما تنبّه إليه بعض المعاصرين فإمّا أن يكون من إفادات المحقّق الخراساني(قدس سره)، أو من إفادات تلميذه العظيم السيّد الاُستاذ(قدس سره) وإن كان الغالب على الظنّ أنّه من المحقّق الخراساني، بل هو مذكورٌ في کلما ت صاحب الحاشية((1)) كما أشار إليه اُستاذنا المحقّق مقرّر بحث الشيخ النائيني في فوائد الاُصول.((2)) شكّر الله مساعي الجميع، وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء، وغفر لنا زلّاتنا، فإنّه الغفور الغفّار.

ثم إنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) أجاب عن الانحلال المذكور في کلام الشيخ: بأنّ الانحلال بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ في الأكثر يلزم من وجوده العدم؛

ص: 95


1- الأصفهاني، هداية المسترشدين، ص449.
2- النائیني، فوائد الاُصول، ج4، ص152، الفصل الرابع من فصول دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

وذلك لأنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ لا يحصل إلّا إذا كان الأكثر واجباً بالوجوب الفعلي، حتى يكون الأقلّ على فرض عدم وجوبه بالوجوب النفسي واجباً بالوجوب التبعي ويكون واجباً على کلّ تقديرٍ، وفرض فعلية وجوب الأكثر لا يجتمع مع الانحلال والشكّ في وجوب الأكثر، ويلزم من فرض الانحلال عدم وجوب الأكثر ومن عدم وجوب الأكثر عدم الانحلال.((1))

هذا، وأفاد السيّد الاُستاذ في وجه عدم وجوب الاحتياط وجواز الاكتفاء بالأقلّ بما هو قريبٌ ممّا قال عنه بأنّه يستفاد من مطاوي كلمات الشيخ(قدس سره) وإن كان ظاهر بعض کلماته الاخرى أنّ الوجه لذلك هو الانحلال.

وكيف كان، فقد أفاد السيّد الاُستاذ(قدس سره): بأنّ المرّكب الاعتباري الجعلي يعتبر باعتبار اُمورٍ وأشياء متشتةٍ شيئاً واحداً تكون تلك الأشياء أجزاءها، فهو كثيرٌ بالكثرة الحقيقية وواحدٌ بالوحدة الاعتبارية، فإذا تعلّق الأمر بهذا المركّب ينبسط على أجزائه بحيث يرى كلّ جزءٍ منه مأموراً به واجب الإتيان به، وتعلّق الأمر بها يكون بعين تعلّقه بالمركّب. فإذا شككنا في وقوع شيءٍ تحت هذا الأمر، أو أنّ المعتبر اعتبره في المركّب يكون الأصل عدم اعتباره جزءاً، كما أنّ الأصل براءة الذمّة عقلاً عن الإتيان به. وبعبارة اُخرى: انبساط الأمر على الأقلّ معلومٌ وعلى الأكثر مشكوك.((2))

ص: 96


1- يمكن أن يقال: إنّ في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين لا يتنجّز بالعلم بالدوران وجوب الأكثر إن كان الواجب في الواقع الأكثر؛ لأنّ ذلك يكون إن كان الأقلّ على فرض وجوب الأكثر غير واجب، وفي المقام الأقلّ واجب وإن كان الأكثر أيضاً واجباً، فالأقلّ واجب على کلّ حال على فرض تعلّق الوجوب به مستقلّا أو في ضمن الأكثر، ومعنى دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين العلم بوجوب الأقلّ والشكّ في الأكثر، وانحلال العلم بالدوران ليس إلّا هذا. وبعبارة اُخرى: قبل انحلال العلم بدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر كان التكليف مردّداً بين الأقلّ والأكثر وكان الأكثر مجرى البراءة دون الأقلّ، لأنّ جريان البراءة في الأقلّ منافٍ لأصل الترديد دون الأكثر وبعدما يعبّر عنه بالانحلال أيضاً الترديد على حاله. [منه دام ظلّه العالي].
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص285- 286.

لا يقال: إنّ الإتيان بالأقلّ لا يوجب رفع الشكّ بالامتثال به، لأنّه إذا كان الأكثر مأموراً به يكون تحقّق امتثال الأمر بالأقلّ منوطاً بالأكثر لارتباطه به، فيجب الإتيان بالأكثر لتحصيل العلم بامتثال الأمر المتعلّق بالأقلّ.((1))

فإنّه يقال: إذا كان الأمر منبسطاً على الأجزاء يتحقّق بإتيان کلّ جزء منه امتثالُ مقدارٍ من الأمر، وهذا المقدار يكفي في تحقّق الامتثال وكون العبد في مقام الانقياد والإطاعة. ولا دخل لإتيان ما يحتمل دخله في المأمور به في امتثال الأمر. وبعبارة اُخرى: القدر المتيقّن ممّا وقع تحت الأمر هو هذا الجزء المرتبط بسائر الأجزاء المعلومة، ويكفي في امتثال الأمر به الإتيان به.

هذا، وتظهر النتيجة للمباني المذكورة أوّلاً: أنّه إذا أتى بالأقلّ وكان المأمور به بحسب الواقع الأكثر فعلى ما بنى عليه المحقّق الخراساني يكون معاقباً بترك الأكثر، وأمّا على مبنى الشيخ وما بنى عليه السيّد الاُستاذ فهو معذورٌ لا يستحقّ المؤاخذة.

وثانياً: إن لم يأت لا بالأكثر ولا بالأقلّ فهو يستحقّ العقوبة على الأقلّ على القول بعدم وجوب الاحتياط، وعلى الأكثر على القول بوجوب الاحتياط وكون المأمور به في الواقع الأكثر، وإلّا فلا يستحقّ العقوبة إلّا على الأقلّ، والله هو العالم.

هذا کلّه بحسب حكم العقل والبراءة العقلية.

الأصل الشرعي في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر

وأمّا الكلام بحسب النقل والبراءة الشرعية، فاعلم: أنّه قد حكي في تقريرات

ص: 97


1- راجع: الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص357؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج4، ص161؛ العراقي، نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص387- 388.

سيّدنا الاُستاذ((1)) اتّفاقهم على جريان البراءة النقلية في المقام حتى عن مثل المحقّق الخراساني القائل بعدم جريان البراءة العقلية، وإن كان الظاهر منه فيما أفاده في هامش الكتاب العدول عن ذلك، كما يأتي بيانه.

ولا يخفى عليك جريان البراءة الشرعية على مبنى السيّد الاُستاذ وما ربما يستفاد من مطاوي کلما ت الشيخ قدّس سرّهما من انبساط الأمر والوجوب على الأجزاء. فكلٌ منها واقعٌ تحت الأمر ويسقط بإتيانه مقدار منه ويطاع المولى بحسبه، فإذا شكّ في كون جزءٍ زائدٍ على الأجزاء المعلومة تحت الأمر، يرفع وجوبه بمثل حديث الحجب والرفع، ويكفي في الامتثال الإتيان بالأجزاء المعلومة الواقعة تحت الأمر؛ فإنّ العقاب على ترك غيرها عقابٌ بلا بيانٍ. مضافاً إلى أنّ مقتضى وقوع أدلّة البراءة مثل حديث الرفع في طول الأحكام الأوّلية ذلك. فالحديث كما يرفع وجوب الجزء المشكوك يدلّ أيضاً على جواز الاكتفاء بسائر الأجزاء.

وعلى القول - في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين - برجوع ذلك إلى العلم بوجوب الأقلّ نفسياً أو تبعياً أيضاً تجري البراءة عن وجوب الأكثر.

وأمّا من يقول بعدم جريان البراءة العقلية مثل المحقّق الخراساني، فإنّه يقول بأنّ عموم مثل الحديث رافعٌ لجزئية ما شكّ في جزئيته، وأنّ بمثله يرتفع الإجمال والتردّد بين الأقلّ والأكثر ويعيّن به الأقلّ.

والإشكال على ذلك بأنّ المرفوع بحديث الرفع لا يكون إلّا ما هو مجعولٌ بنفسه أو أثره، ووجوب الإعادة ليس من آثار الجزئية بل هو من آثار بقاء الأمر الأوّل بعد العلم به. مضافاً إلى أنّه أثرٌ عقلي من باب وجوب الإطاعة عقلاً.

ص: 98


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص294.

مدفوعٌ: بأنّ الجزئية وإن لم تكن مجعولة بنفسها إلّا أنّها مجعولة بجعل منشأ انتزاعها، وهذا يكفي لصحّة رفعها.

لا يقال: الأمر الانتزاعي إنّما يرتفع برفع منشأ انتزاعها وهو هنا الأمر الأوّل الّذي تعلّق بجميع الأجزاء، فإذا رفع هذا الأمر فما هو الأمر الدالّ على وجوب الخالي عن هذا الجزء.

فإنّه يقال: نعم، وإن كان ارتفاع الأمر الانتزاعي يكون بارتفاع منشأ انتزاعه إلّا أنّ نسبة حديث الرفع الناظر إلى الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء نسبة الاستثناء المتّصل بها، ومعه تكون الأدلّة الدالّة على بيان الأجزاء دليلاً على وجوب سائر الأجزاء بالنسبة إلى الجاهل ببعضها.

وبعبارةٍ اُخرى: يستفاد من الأدلّة بعد ضمّ حديث الرفع إليها أنّ صلاة العالم بجميع أجزائها هي المركّبة من جميع الأجزاء، وصلاة الجاهل ببعض الأجزاء هي المركّبة من الأجزاء المعلومة، والجزء المشكوك خارجٌ عنها.

هذا، ولكنّ المحقّق الخراساني كأنّه عدل عن صحّة التمسّك بالبراءة الشرعية في المقام في ما أفاد في وجه ذلك، فقال: «لا يخفى: أنّه لا مجال للنقل في ما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، وهو ما إذا علم إجمالاً بالتكليف الفعلي، ضرورة أنّه ينافيه دفع الجزئية المجهولة، وإنّما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك، بل علم مجرّد ثبوته واقعاً. وبالجملة: الشكّ في الجزئية والشرطية وإن كان جامعاً بين الموردين إلّا أنّ مورد حكم العقل مع القطع بالفعلية، ومورد النقل هو مجرّد الخطاب بالإيجاب، فافهم.((1)) انتهى.

وفيه: أنّه على مبنى السيّد الاُستاذ وما يستفاد من مطاوي کلما ت الشيخ قدس سرّهما التكليف بالأقلّ معلومٌ بالتفصيل والأكثر مشكوكٌ فيه. هذا مضافاً إلى أنّ

ص: 99


1- الخراساني، كفاية الاُصول (مؤسّسة آل البيت(علیهم السلام))، ص366، الهامش 1.

الانحلال الّذي منعه لا يتوقّف على تنجّز التكليف على تقدير تعلّقه بالأكثر أو الأقلّ، بل هو عبارةٌ عن وجوب ذات الأقلّ مطلقاً وعلى کلّ تقديرٍ وإن لم يكن التكليف على تقدير كونه الأكثر بالنسبة إلى خصوصه منجّزاً، ففي الواقع يحصل العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ إمّا تبعا أو مستقلّا، ولا منافاة بين ذلك وبين عدم تنجّز الأكثر بالخصوص، فتدبّر.

ص: 100

هنا اُمورٌ ينبغي التنبيه عليها:

التنبيه الأوّل: دوران الأمر بين المطلق والمشروط

إنّه قد وقع الاختلاف في الشكّ في شرطية شيءٍ للمأمور به، فاختار الشيخ(قدس سره)((1)) جريان البراءة فيه مطلقاً عقلاً ونقلاً، وسواءٌ كان الشرط منتزعاً عن ذات المشروط باعتبار بعض الحالات الذاتية أو الصفات العارضية، كالإنسانية للحيوان، والإيمان للرقبة؛ أو كان منتزعاً من شيءٍ مغايرٍ للمقيّد، كالصلاة المقيّدة بالطهارة المنتزعة عمّا يوجبها من الوضوء والغسل والتيمّم.

واختار بعضهم عدم جريان البراءة العقلية فيه مطلقاً، كعدم جريان النقلية منها في الأوّل، وجريانها في الثاني، وهو مختار المحقّق الخراساني.((2))

أمّا عدم جريان البراءة العقلية، فإنّ المقام أولى بعدم جريانها فيه من الشكّ في الجزئية؛ لأنّه نظير المتباينين، ولا يمكن أن يكون المطلق أي الصلاة اللا بشرط عن الطهارة أو الحيوان اللا بشرط عن الإنسانية متّصفاً باللزوم والمقدّمية للصلاة المشروطة بالطهارة وللحيوان المقيّد بالإنسانية، فإنّ الأجزاء التحليلية لا تتّصف باللزوم من باب المقدّمة، فالصلاة المتضمّنة للطهارة المشروطة بها هي عين وجودها لا

ص: 101


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص284.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص238.

مقدّمتها، وكذلك الحيوان المقيّد بوجوده للإنسان، أو الرقبة المقيّدة بقيد الإيمان هو عين وجود الحيوان وعين وجود الرقبة.

وبالجملة: لا تجري في المقام البراءة العقلية.

وأمّا النقلية، فتجري في خصوص ما كان قيد المأمور به منتزعاً عن أمرٍ خارجٍ عنه، كالطهارة المنتزعة من أسبابها، فيقال مثلاً: إنّ شرطية الطهارة - الّتي تنتزع من الوضوء - ممّا لا يعلم، فهي مرفوعة برفع منشأ انتزاعها. بل يمكن رفعها أوّلاً، وبه يرفع وجوب منشأ انتزاعها.

وكيف كان، فقد عرفت في ما حكينا قبل ذلك عن هامش الكفاية أنّ المحقّق الخراساني عدل عمّا أفاد في متن الكتاب من جريان البراءة النقلية في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء، وقال: لا مجال للنقل في ما هو مورد لحكم العقل بالاحتياط... إلخ.((1))

هذا، ولا يخفى عليك: أنّ ما ذكره المحقّق الخراساني في وجه عدم جريان البراءة العقلية((2)) إنّما يرد على الشيخ لو كان مبناه في جريانها انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي، وأمّا إذا كان دليله هناك ما أشرنا إليه - في الشكّ في الجزئية - من أنّ وجوب الأقلّ بالوجوب الضمني الانبساطي الشامل لجميع الأجزاء معلومٌ تفصيلاً والزائد عليه مشكوكٌ مرفوعٌ بالأصل، فهنا يجري هذا الدليل أيضاً، فيقال: إنّ العقل كما هو هناك حاكمٌ بقبح العقاب على ترك الجزء المشكوك، لعدم تنجّز الأمر به لعدم تعلّق العلم به وحاكم بتنجّز الأقلّ؛ فهنا أيضاً هو حاكمٌ بقبح العقاب على ترك الخصوصية والقيد المشكوك اعتباره في المأمور به بعد إتيانه بما هو فاقد لتلك الخصوصية. وهذه

ص: 102


1- انظر: الخراساني، کفایة الاُصول، ج2، ص126، الهامش1.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص238.

الخصوصية وإن كانت تنتزع عن الذات وهي عينها - وليست كالجزء المشكوك الّتي هي غير سائر الأجزاء حقيقةً - إلّا أنّ العقل يرى تقييد المأمور به بهذا الأمر الانتزاعي وملاحظته كذلك مساوقٌ لملاحظته غيره، فهو بهذا اللحاظ يكون مأموراً به ويقع الشكّ في كونه مأموراً به وتقييد المأموربه به؛ فلهذا تجري بالنسبة إليه قاعدة العقاب بلا بيان إن لم يعلم به، ويصحّ العقاب على إتيان المقيّد (بالفتح) به فاقداً له.

وبناءً على ذلك إذا تعلّق الأمر بمطلقٍ وشكّ في تقييده بأمرٍ، سواءٌ كان التقيد منتزعاً عن نفس الذات أو عن أمرٍ خارجٍ عن الذات، فالعقل مستقلٌّ بلزوم الإتيان بالمطلق وعدم جواز تركه رأساً، كما هو مستقلّ بعدم جواز العقاب على ترك الإتيان به في ضمن الخاصّ. وهذا ما يستفاد من کلام الشيخ(قدس سره)، فراجع وتأمّل في کلامه زيد في علوّ مقامه. وعلى هذا المبنى تجري في نفي وجوب القيد المشكوك البراءة العقلية كالنقلية، والله هو الموفّق للصواب.

التنبيه الثاني: الشكّ في الجزئية أو الشرطية في حال النسيان

إذا شكّ في جزء أو شرط أنّه هل هو جزء أو شرط للمأمور به في حال نسيانه هذه الجزء أو الشرط أم هو مختصّ بحال كونه ذاكراً له؟

وبعبارة اُخرى: هل هو مثل ما إذا شكّ في أصل جزئية شيء أو شرطيته؟ فيقال فيه ما ذكرناه من الأقوال فيه من البراءة العقلية والشرعية عنه، لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر في حال النسيان بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ؛ أو يقال بعدم جريان البراءة العقلية ووجوب الاحتياط بالإعادة، وجريان البراءة النقلية، بل وعدمها أيضاً، لعدم انحلال العلم المذكور؛ أو يقال بوقوع کلّ جزء من الأجزاء تحت الوجوب المنبسط على جميع الأجزاء، فيكون الشكّ في الجزء المنسيّ من الشكّ البدويّ، والأقلّ واجباً بالوجوب الضمني، وقد مرّ تفصيل ذلك کلّه.

ص: 103

ولكنّ الظاهر أنّ کلّ ما ذكر مبنيّ على إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي، فالانحلال المذكور متوقّف عليه، وأصل دوران التكليف بين الجزء المنسيّ وسائر الأجزاء أيضاً يتوقّف على إمكان خطابه والتفات الناسي إلى نسيانه.

ومن الواضح أنّ خطاب الناسي بهذا العنوان يلزم منه عدمه وانقلابه إلى عنوان الذاكر. ومن جانب آخر المركّب الخالي من هذا الجزء الّذي هو المأمور به للناسي أيضاً لا يمكن تعلّق الخطاب به؛ لأنّه أيضاً يلزم من وجوده عدمه، لأنّه حين عدم التفاته وغفلته لا يمكن توجيه الخطاب نحوه بمثل: «يا أيّها الغافل» و«يا أيّها الناسي»، ولو التفت بهذا الخطاب يخرج عن غفلته ونسيانه ويدخل في الذاكرين.

فعلى هذا، لا يدخل المقام في بحث البراءة والاحتياط، وليس البحث عنه كالبحث في أصل الشكّ في الجزئية والشرطية والأقلّ والأكثر. فالمركّب الخالي من الجزء المنسيّ الّذي يأتي به الناسي ليس المأمور به أصلاً؛ وإن دلّ دليل على صحّته لابدّ وأن يحمل على وقوعه بدلاً منه.

وبالجملة: فتصوير كون الفاقد للمنسيّ مأموراً به والناسي مخاطباً به في غاية الإشكال؛ لأنّ توجيه الخطاب نحو الناسي بهذا العنوان يكون لغواً لا يوجب التفاته إلى الخطاب وبعثه به نحو الفعل لغفلته عن نسيانه، وعلى فرض التفاته إلى نسيانه يخرج عن كونه ناسياً ومخاطباً لخطابه بعنوان الناسي.

وقد قيل للتفصّي عن هذا الإشكال وجوه يأتي الإشارة إليها:((1))

ص: 104


1- راجع: الأنصاري، فرائد الاُصول، ص286 - 288؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص22؛ الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص24؛ الخراساني، حاشية کتاب فرائد الاُصول، ص156؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج4، ص210؛ الأصفهاني، نهاية الدراية، ج2، ص279؛ العراقي، نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص420؛ الخراساني، درر الفوائد، ج2، ص141.

فمنها: أن يقال بإمكان أخذ الناسي عنواناً للمكلّف وتكليفه بما عدا الجزء المنسيّ والناسي وإن يمنعه النسيان من الالتفات إلى ذلك الخطاب لعدم التفاته إلى نسيانه، ولا يمكنه امتثال الأمر المتوجّه إليه بهذا الخطاب لكن امتثال الأمر لا يتوقف على أن يكون المکلّف ملتفتاً إليه بخصوصه والعنوان الّذي خوطب به، بل يكفي في ذلك الإتيان بالفعل المأمور به بأيّ عنوان توهّم كونه مخاطباً به من باب الخطأ في التطبيق، فهو في الواقع قصد الأمر المتوجّه إلى ما عدا الجزء المنسيّ الّذي توهّمه بعنوان لا ينطبق عليه، وهو في الواقع معنون بعنوان خوطب هو به.

واُجيب عن ذلك بأنّ فائدة الأمر البعث والتحريك به نحو الفعل ومثل هذا لا يكون سبباً للانبعاث والتحريك ولا يكون أمراً حقيقة.

ومنها: أن يقال: يمكن أن يكون أمر الناسي بما عدا الجزء المنسيّ بعنوان آخر يلازم نسيان الجزء الخاصّ. وقد مثّل له البعض بأن يكون بلغميّ المزاج دائماً ينسي السورة، فيخاطبه بهذا العنوان في الأمر بما عدا الجزء المنسيّ.

ولا يخفى: أنّ ذلك مجرّد الفرض لا يوجد عنوان كان ملازماً لنسيان الجزء من السورة والذكر وسائر الأجزاء غير الركنية.

ومنها: ما نذكره بلفظ اُستاذنا المحقّق الكاظمي(قدس سره) في ما كتبه تقريراً لأبحاث اُستاذه، فقال: «الوجه الثالث: هو ما أفاده المحقّق الخراساني((1)) وارتضاه شيخنا الاُستاذ، وحاصله: أنّه يمكن أن يكون المکلّف به في الواقع أوّلاً في حقّ الذاكر والناسي هو خصوص بقية الأجزاء ما عدا الجزء المنسيّ، ثم يختصّ الذاكر بتكليف يخصّه بالنسبة إلى الجزء الذاكر له ويكون المکلّف به في حقّه هو العمل المشتمل على

ص: 105


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص240.

الجزء الزائد المتذكّر له، ولا محذور في تخصيص الذاكر بخطاب يخصّه، وإنّما المحذور كان في تخصيص الناسي بخطاب يخصّه...» إلى آخر کلامه،((1)) فراجع إن شئت.

هذا، وأمّا السيّد الاُستاذ(قدس سره) فقد حكى عنه المقرّر الفاضل ونسبه إليه، وقال: إنّه ما أفاده السيّد الاُستاذ وخطر ببالي القاصر، وهو: أنّ الصلاة الّتي اُمر بها جميع المکلّفين على اختلاف أصنافهم - من الحاضر والمسافر، والعاجز والقادر، والذاكر والناسي، وفاقد الماء وواجده، والطاهر من الخبث، وواجد الساتر، وغير هؤلاء، لها أفراد مختلفة بحسب هذه الحالات ينطبق على الجميع عنوان الصلاة الّتي هي المأمور بها، ولا يحتاج کلّ فرد منها إلى أمر خاصّ به حتى لا يمكن توجيه خطاب خاصٍّ إلى الناسي، ولا يلزم أن يكون الناسي الّذي ما يأتي به من الأجزاء عدا الجزء المنسيّ ملتفتاً إلى نسيانه وأنّ هذه الأجزاء إنّما تكون منطبقاً لعنوان الصلاة وفرداً لها لنسيانها الجزء الخاصّ، بل يكفي كونها في هذا الحال فرداً للصلاة ومصداقاً له.

وهذا کلّه بحسب مقام الثبوت، وكون البحث في المقام أيضاً البحث عن البراءة والاحتياط. وعلى هذا، إن دلّ الدليل في مقام الإثبات على عدم جزئية المنسيّ حال النسيان مثل «حديث الرفع»((2)) مطلقاً، و«لا تعاد»((3)) في الصلاة يحكم بالامتثال وعدم وجوب الإعادة، والبراءة عن الجزء المنسيّ.

وبالجملة: يقال فيه ما قلنا في الشكّ في أصل الجزئية والشرطية. والله هو العالم.

ص: 106


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ج4، ص213.
2- مرّ تخريجه فى الصفحة 45 وما يليها.
3- عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه قال: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود»، ثم قال: «القراءة سنّة، والتشهّد سنّة، ولا تنقض السنّة الفريضة». الصدوق، من لا یحضره الفقيه، ج1، ص 339، ب 49، في أحكام السهو في الصلاة؛ الطوسي، تهذيب الأحکام، ج2، ص152، ح598/55، باب 9، في تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب القراءة في الصلاة، ج6، ص91، ب29، ح5.
التنبيه الثالث: حكم الزيادة العمدية والسهوية

إعلم: أنّ زيادة الجزء بما أنّه جزء لا يضرّ بالمركّب؛ لأنّ الجزء ما له دخل في تحقّق المركّب، سواء حصل في ضمن وجود أو وجودين أو أكثر، فالمركّب يتحقّق بوجود طبيعة الجزء وإن كثرت أفراده، فالزائد على الفرد الأوّل يكون لغواً لا مبطلاً وقاطعاً ولا مانعاً.

فالشكّ في زيادة الجزء كاليقين بها لا حكم له.

نعم، إذا كان الشكّ - في زيادة الجزء - راجعاً إلى الشكّ في كونها مانعة أم لا؟ يجري فيه حكم الشكّ في الجزء والشرط، فالأصل البراءة العقلية والنقلية منه، بناءً على أنّ المانع ما اعتبر مفسداً للعمل بعد تماميته وصحّته كما قد يستظهر من أدلّته، وبناءً على كون المانع ما اعتبر عدمه شرطاً للعمل بحيث يكون لعدمه دخل في حصول العمل على وجهه، كما ذهب إليه الشيخ والمحقّق الخراساني، فالأصل عليه أيضاً هو البراءة.

إلّا أنّ المبنى مخدوش من حيث إنّ الشرط لابدّ وأن يكون مؤثّراً فيما هو المقصود، وعدم المانع - كسائر الأعدام - ليس له تأثير وتأثّر، هذا بحسب مقام الثبوت. وبحسب مقام الإثبات أيضاً الأدلّة الدالّة على الموانع تدلّ على خلاف ذلك. وإن قام دليل بظاهره يدلّ على شرطية عدم شيء لابدّ من حمله على خلاف ظاهره، وكون وجود ما عدمه في الظاهر اعتبر شرطاً مانعاً.

وعلى کلّ حال، فقد أفاد الشيخ(قدس سره): بأنّه إن زيد جزءٌ من أجزاء الصلاة بقصد كون الزائد جزءاً مستقلّا، كما لو اعتقد شرعاً أو تشريعاً أنّ الواجب في کلّ ركعة ركوعان كالسجود، فلا إشكال في فساد العبادة إذا نوى ذلك قبل الدخول في الصلاة أو في

ص: 107

الأثناء؛ لأنّ ما أتى به وقصد الامتثال به - وهو المجموع المشتمل على الزيادة - غير مأمور به، وما أمر به - وهو ما عدا تلك الزيادة - لم يقصد الامتثال به.((1))

وأمّا صاحب الكفاية، فقال: لو كان عبادة وأتى به كذلك (يعني مع الزيادة عمداً تشريعاً أو جهلاً، وقصوراً أو تقصيراً، أو سهواً) على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه لكان باطلاً مطلقاً، أو في صورة عدم دخله فيه لعدم قصد الامتثال في هذه الصورة، مع استقلال العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال.

وأمّا لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أيّ حال، كان صحيحاً ولو كان مشرِّعاً في دخله الزائد فيه بنحو مع عدم علمه بدخله؛ فإنّ تشريعه في تطبيق المأتيّ مع المأمور به، وهو لا ينافي قصده الامتثال والتقرّب على کلّ حال.((2))

وخلاصة ما أفاد: أنّ الشكّ واقع في جزئية عدم الزيادة أو شرطيته، فيدخل في الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيين الجاري فيه البراءة الشرعية دون العقلية على مبناه من عدم الانحلال.

نعم، إذا دخل في التشريع بأن كان العمل عبادة، فيحكم بالبطلان. إلّا أنّه تردّد بين ما إذا أتى به على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما أتى به، فيبطل مطلقاً وإن كان له دخل فيه في الواقع؛ أو يبطل إذا لم يكن دخل للزائد فيه، لعدم قصد الامتثال في هذه الصورة بخلاف الصورة الاُولى، ولكن مع الشكّ في الحال يجب الإعادة لقاعدة الاشتغال. وقد أفاد: أنّه لو أتى به على نحو يدعوه إليه على کلّ حال، سواء كان للزائد دخل في المأمور به أو لم يكن، صحّ.

ص: 108


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص288، 289.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص244.

ولكن فيه: أنّ عمله بالزيادة في الواجب تشريعاً يقع مبغوضاً للمولى، ولا يمكن التعبّد والتقرّب إليه بما هو مبغوض له، فتدبّر.

التنبيه الرابع: دوران الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته وبين مانعيته

إذا دار الأمر بين كون شيء شرطاً للمأموربه أو مانعاً، أو بين أن يكون جزءاً له أو مانعاً، فهل مقتضى الأصل فيه البراءة أو التخيير أو الاحتياط؟

فنقول: أمّا البراءة فليس المقام مورد جريانها؛ لأنّها تجري في الشكّ في التكليف، وهنا يكون الشكّ في المکلّف به.

وأمّا التخيير، فما قيل في وجهه: أنّ الأمر دار بين المحذورين فلا يمكن الموافقة القطعية، فلابدّ من الاحتمالية، وحيث لا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر فهو مخيّر بين الفعل والإتيان بالمأمور به معه أو بدونه.

لا يقال: يمكن الموافقة القطعية بالتكرار.

فإنّه يقال: إنّه مستلزم لفوات ما يعتبر في العبادة من القصد التفصيلي والجزم بكون ما يأتي به مأموراً به.

ولكن يضعّف هذا الجواب أوّلاً بعدم الدليل على اعتبار الجزم في النيّة. وثانياً بأنّ هذا المحذور حاصل على القول بالتخيير أيضاً؛ لأنّ كون ما اختاره المأمور به الواقعي مشكوكٌ فيه، لأنّ التخيير يكون بحكم العقل وليس شرعياً.

وعلى ذلك کلّه، الأمر دائر في المقام بين المتباينين، لا الأقلّ والأكثر حتى يقال بالبراءة، ولا المحذورين حتى يقال بالتخيير، فلابدّ من الاحتياط بالتکرار. والله هو العالم.

التنبيه الخامس: في تعذّر الجزء أو الشرط

إذا كان شيء جزءاً أو شرطاً للمركّب منه و من غيره مطلقاً حتى في حال العجز

ص: 109

عنه، يسقط الأمر به إن عجز عن هذا الشيء. وإذا كان جزءاً أو شرطاً له في صورة التمكّن منه، لا يسقط باقي الأجزاء بالعجز عنه كما هو واضح؛ لأنّ المأمور به في حال العجز سائر الأجزاء، هذا في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات، فإن كان هنا دليل على كونه هو المأمور به من الأوّل مثل: «لا صلاة إلّا بطهور»،((1)) فالمتّبع الدليل فيحكم بسقوط الأمر إذا كان

عاجزاً عن تحصيل الطهارة. كما أنّه لو دلّ الدليل على وجوب الصلاة مطلقاً مثل: «الصلاة لا تسقط بحال» فإن عجز مثلاً عن القيام لا يسقط الأمر بسائر الأجزاء بالعجز عنه.

وإن صار ذلك مورد الشكّ ، فلم يدر أنّ الجزء الّذي عجز عنه جزء له حتى في حال العجز عنه ليكون الأمر بالمركّب منه ساقطاً به، أو أنّه جزؤه في حال التمكّن منه؟ فمقتضی الأصل البراءة عن الباقي عقلاً ونقلاً، لكون الشكّ في وجوبه شكّ بدويّ.

هذا، وقد يقال بالتمسّك بالاستصحاب للحكم بوجوب الباقي؛ فإنّه كان قبل العجز عن هذا الجزء واجباً، فالآن يكون هو كما كان ويستصحب وجوبه السابق.

وفيه: أنّ ذلك لا يتمّ إلّا على القول بصحّة القسم الثالث من استصحاب الكلّي والجامع بين الوجوب المرفوع بالعجز والحادث المحتمل قيامه مقامه.((2)) أو أن يقال بالمسامحة العرفية((3)) في تعيين الموضوع في الاستصحاب لا الدقّة العقلية إذا كان ما يتعذّر ممّا يتسامح به عند العرف، فيقال ببقاء الوجوب النفسي المتعلّق بتمام الأجزاء ببقاء سائر الأجزاء. وبعبارة اُخرى يقال ببقاء الموضوع ببقاء الباقي من الأجزاء.

ص: 110


1- الصدوق، من لا یحضره الفقيه، ج1، ص58، ح1، باب 14، فيمن ترك الوضوء.. ؛ الطوسي، تهذيب الأحکام، ج1، ص49-50، ح144، ص 209، ح605؛ ج 2، ص140، ح545، 566؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، ج1، ص365، ب1، ح1.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص294، 397؛ الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص249.
3- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص294، 397؛ الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص249.

لا يقال: إنّ المستصحب الوجوب الضمني أو الغيري الّذي كان الباقي محكوماً به قبل حدوث العجز.

فإنه يقال: إنّه كان متفرّعاً على الحكم النفسي المتعلّق بالجميع وهو مشكوك البقاء، لعدم بقاء موضوعه بالعجز عن بعض أجزائه، فلا يصحّ الحكم ببقاء الفرع مع الشكّ في بقاء الأصل.

أقول: اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ ذلك من القسم الثاني من استصحاب الكلّي، لأنّ وجوب الباقي من الأجزاء يكون باقياً إن كان الوجوب المتعلّق بهذا الجزء مشروطاً بالتمكّن منه، وإن كان مطلقاً فالوجوب المتعلّق بسائر الأجزاء يرتفع بارتفاعه بالعجز، فعلى هذا يستصحب الوجوب الكلّي الجامع بينهما.

قاعدة الميسور

إعلم: أنّه قد استدلّ على وجوب باقي الأجزاء على العاجز بما يعبّر عنه بقاعدة الميسور. وبناءً عليها لا يسقط واجب بمجرّد العجز عن بعض أجزائه، فضلاً عن أفراده إذا كان المأمور به على نحو العامّ المجموعي. وأمّا إذا كان على وجه العامّ الاستغراقي فلا ريب في عدم سقوط سائر الأفراد.

وهذه القاعدة إن ثبتت، فهي قاعدة شرعية تعبّدية ليست عقلية.

واستدلّ عليها مضافاً إلى الاستصحاب المذكور - وإن كان هو مخصوصاً بموضوعات يتسامح العرف فيه في الحكم ببقائه، نظير استصحاب كثرة الماء وقلّته - بروايات ضعيفة السند ادّعي جبر ضعف إسنادها بالعمل.

وردّ ذلك بعدم العمل بها في غير باب العبادات، بل ولم يعملوا بها في غير الصلاة كالصوم والحجّ، بل في باب الصلاة أيضاً ذلك بدليل خاصّ بأنّها لا تسقط بحال.

ص: 111

وكيف كان، فمن هذه الروايات، المرويّة في عوالي اللئالي - وهو كتاب لا يعتمد عليه، حتى أنّ مثل صاحب الحدائق(رحمه الله) تصدى للقدح عليه، ومن لاحظه يرى أنّ مؤلّفه جمع فيه الغثّ والسمين. وما نسبه إلى أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «الميسور لا یترك بالمعسور».((1))

بيان الاستدلال به: أنّ المراد منه النهي بلسان النفي ودعوى ظهوره في النهي المولوي وما يجب معسوره، حتى يصدق عدم سقوط ميسوره به، ونسبة السقوط إلى المندوب وإن كان جائزا إلّا أنّه في الواجب أظهر.

وبهذا يمكن الجواب عمّا ذكره من الإشكال في الكفاية،((2)) وهو: أنّ شمول الميسور للمندوب يمنع عن اختصاصه بالواجب والدلالة على اللازم. مضافاً إلى ما أفاده بنفسه((3)) من جواز كون المراد منه: أنّ الحكم الميسور - واجباً كان أو مندوباً - لا يسقط بالمعسور.

وأفاد بعض الأجلّة بما حاصله: أنّ المراد: أنّ الميسور من المعسور مطلوب لا يسقط الطلب المتعلّق به بسقوطه عن المعسور، والوجوب أو الندب ليس داخلاً في مفهوم الطلب، وإنّما يستفاد الوجوب بحكم العقل بلزوم الإطاعة والنهي بترخيص الشارع ترك المأمور به. لا يقال: إنّ النهي - سواء كان مولوياً أو إرشادياً - يتعلّق بفعل المكلّف وما هو تحت قدرته واختياره، وسقوط الواجب أو ثبوته في ذمّة المکلّف ليس تحت اختياره، فما معنى النهي عن سقوطه؟

فإنّه يقال: المراد منه أنّ الميسور حيث لا يسقط بالمعسور، لا يجوز تركه.

مضافاً إلى أنّه نهي عن إسقاط الميسور عملاً لا تشريعاً.

وبالجملة: إنّ المراد تشريع عدم السقوط، فهو الدليل على وجوب الميسور. وإن

ص: 112


1- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج4، ص58، ح205.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص252.
3- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص252.

كان المراد النهي عن عدم سقوط الميسور يكون المراد إسقاطه عن العمل وتركه. وبالجملة: المفهوم من هذه الجملة هو النهي عن ترك الميسور لأجل تعذّر الميسور.

واستشكل في الاستدلال به أوّلاً: أنّه لم يظهر منه أنّ المراد منه عدم سقوط الميسور من الأجزاء بالمعسور منها، فلعلّ المراد منه عدم سقوط أفراد العامّ بما يعسر الإتيان به منها.

وثانياً: على فرض دلالته على المطلوب يلزم منه كثرة التخصيص المستهجن لكثرة الموارد الساقطة فيها الميسور بالمعسور. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الموارد المذكورة ليس الميسور من الأجزاء عرفاً ميسوراً للمأمور به.

ومنها: ما روي عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حديث: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».((1))

والاستدلال به متوقّف على كون المراد من «شيء» المركّب من الأجزاء.((2)) وتكون کلمة «ما» موصولة، مفعولاً لقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «فأتوا»، حتى يكون مفاد الحديث: وجوب الإتيان بالمقدور من الأجزاء والشرائط.

ولكنّه لا ينطبق على مورد الرواية؛ فإنّ السائل عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) سأله عن وجوب الحجّ في کلّ عام، فأجابه بقوله: «ويحك... فإذا أمرتكم...». هذا مضافاً إلى أنّ بعض النسخ ليس فيه کلمة «منه»، وعليه تكون کلمة «ما» زمانية.

ومنها: ما عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه قال: «ما لا يدرك کلّه لا يترك كلّه».((3))

وما يمكن أن يكون المراد منه هو أن يكون المراد من کلمة «كلّ» المذكورة فيه في

ص: 113


1- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج4، ص58، ح206؛ الطبرسي، مجمع البيان، ج1، ص343، ذيل الآية 101 من سورة المائدة؛ الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج6، ص490؛ ج12، ص444؛ البیضاوي، أنوار التنزيل، ج4، ص81.
2- الأصفهاني، نهاية الدراية، ج2، ص298.
3- ابن أبي جمهور الأحساني، عوالي اللئالي، ج4، ص58، ح207.

الفقرتين کلّ الأفراد على سبيل الاستغراق، أو کلّ أبعاض الشيء على نحو العامّ المجموعي، أو كان الأوّل على الأوّل، والثاني على الثاني، أو بالعكس.

أمّا الوجه الأوّل، فالمراد منه ما لا يدرك کلّ أفراده ويدرك بعضها لا يترك کلّه أي بعضه الّذي يدرك.

وأمّا الوجه الثاني، فالمراد منه أنّ ما لا يدرك بجميع أجزائه ويدرك ببعضها لا يترك کلّها أي بعضها الّذي يدرك.

وأمّا الوجه الثالث والرابع، فلا يستقيم بهما المعنى والارتباط بين الجملتين.

ص: 114

شرائط الاُصول

اشارة

إعلم: أنّه وإن حكي عن بعض أنّ الشرط في جواز إجراء کلّ واحد من الاحتياط والتخيير والبراءة الفحص عن الدليل في مورده واليأس عن الظفر به؛ وذلك لتوهّم اعتبار نيّة الوجه بالتفصيل في العبادات. إلّا أنّه ردّ بعدم دليل على اعتباره، بل القطع حاصل لعدم وجوده في الأخبار، ولا يكون فيه إجماع محقّق، فالأصل عدم اعتباره. مضافاً إلى أنّ القصد والنيّة من شؤون الإطاعة والامتثال، والحاكم فيها هو العقل وهو لا يعتبر في حصول الامتثال إلّا قصد إطاعة أمر المولى ولو أتى به رجاءً وكان داعيه احتمال أمر المولى.

وبالجملة: لا ريب في أنّ الاحتياط بإتيان جميع ما يحتمل دخله في المأمور به يكفي في الامتثال ولا ريب في حسنه. وأمّا توهّم((1)) كون الاحتياط بتكرار الفعل عبثاً أو لعباً بأمر المولى، وهو ينافي قصد الامتثال والتقرّب فمدفوع بمنع كونه كذلك إذا كان بداعٍ عقلائيّ ولو كان ذلك تحصيل القطع بإدراك الواقع. هذا کلّه في إجراء الاحتياط.

وأمّا البراءة: فالعقلية منها لا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجّة على التكليف؛ لوضوح أنّ العقل لا يستقلّ بجواز إجرائها قبل الفحص واليأس، بل مستقلّ بعدم جواز إجرائها واستحقاق العبد للعقاب لو وقع في مخالفة المولى.

ص: 115


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص299.

وأمّا البراءة النقلية: فلا ريب في انصراف أدلّتها إلى صورة الفحص عن الحجّة على التكليف وعدم الظفر بها، فلا إطلاق لها يشمل صورة عدم الفحص، لاستلزامه تفويت أكثر مقاصد الشارع سيّما مع العلم الإجمالي بثبوت تكاليف بين موارد الشبهات لو فحص عنها لظفر بها. هذا مضافاً إلى الإجماع((1)) وقيام السيرة المستمرّة على ذلك. ويدلّ عليه أيضاً من الآيات والروايات ما دلّ على وجوب التفقّه والتعلّم وتحصيل العلم بالحلال والحرام. ولا ريب في تقديم هذه الأدلّة على أدلّة البراءة وتقييدها بها.

وأمّا التخيير العقلي: فالكلام فيه هو الكلام في البراءة العقلية.

هذا کلّه في شرط العمل على طبق البراءة والتخيير.

بقي الكلام في آثار البراءة إن عمل بها قبل الفحص، ثم بيان أحكامها بعد العمل بها كذلك.

استحقاق العقاب في إجراء البراءة قبل الفحص ومناطه

أمّا الكلام في آثار العمل بها قبل الفحص، فلا شكّ في استحقاق العقاب إن وقع في مخالفة المولى.

نعم، قد وقع الكلام بينهم في أنّ ذلك يكون بترك التعلّم، أو يكون على مخالفة الواقع، فيه قولان:((2))

أحدهما مبنيّ على كون وجوب التعلّم والتفقّه نفسياً، كما هو مختار الأردبيلي((3))

ص: 116


1- راجع: الأنصاري، فرائد الاُصول، ص300 - 301.
2- وذهب المحقّق النائيني إلى كونه على ترك التعلّم المؤدّي إلى ترك الواقع. فوائد الاُصول، ج4، ص285.
3- الأردبیلي، مجمع الفائدة والبرهان، ج1، ص342؛ ح2، ص110. وهكذا نسب إليه وإلى تلميذه صاحب المدارك، في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص302).

وصاحب المدارك،((1)) وصاحب الكفاية.((2)) وقد تفصّوا به عن الإشكال الوارد على القول بأنّ استحقاق العقاب يكون على مخالفة الواقع وهو أنّه على هذا القول في الواجب المشروط والموقّت كالحجّ لا يجب تحصيل المقدّمات قبل حصول الشرط أو حضور الوقت، فإن أدّى ذلك إلى عدم التمكّن من الإتيان بالواجب كيف يصحّ القول باستحقاق العقاب على تركه وإن التفت إلى الخطاب الواقعي بعدهما. وبالجملة لا يتنجّز بالنسبة إليه الخطاب أوّلاً لعدم تمكّنه من الامتثال. وثانياً لأنّه بعدما ترك التعلّم يكون جاهلاً وغافلاً عنه ولا يمكن تنجّز الخطاب الواقعي المطلق بالنسبة إلى الجاهل والعالم بالنسبة إليه لأنّ تنجّزه متفرّع على علمه به. وعلى ذلك يرد هذا الإشكال على القول بالواجب المعلّق، بل وعلى سائر الواجبات المطلقة فلا يكون مصحّحاً لاستحقاق العقاب في البين إلّا القول بوجوب التعلّم نفسياً.

ثانيهما: أنّ وجوب التعلم إرشادي ويكون الاستحقاق على مخالفة الواقع إن أدّى ترك التعلّم إليه.

وممّا اُخذ على القائل بالوجوب النفسي أنّه مستلزم لاستحقاق التارك للتعلّم - الواقع في مخالفة الواقع - عقابين أحدهما على ترك التعلّم، وثانيهما على مخالفة الواقع؛ في حال كون العالم بالتكليف التارك له عصياناً مستحقّاً لعقوبة واحدة، مع أنه يمكن دعوى القطع بخلافه.

والّذي يختلج بالبال في ردّ الإشكال الّذي توهّمه القائل بالوجوب النفسي للتعلّم: أنّه يكفي في صحّة العقاب على وقوع المکلّف في مخالفة الواقع كونه متذكّراً بأنّ للشارع خطابات واقعية مطلقة غير مقيّدة بالعلم والجهل والالتفات والغفلة، لأنّ

ص: 117


1- العاملي، مدارك الأحكام، ص123.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص256.

تقييدها بها مستلزم للدور، فيجب عليه التعلّم؛ لأنّ الشارع أنشأ هذه الخطابات ليعلم المکلّف بها. بل يكفي في وجوب أن يكون في مقام التعلّم أن يكون شاكّاً في ذلك، فلا يجوز له عدم الاعتناء بما يحتمل اعتناء المولى به، ويكفي في استحقاقه العقاب على مخالفة الواقع تركه التعلّم.

لا يقال: إذا كان شاكّاً في أمر المولى وخطابه إليه يكون العقاب على مخالفته العقاب بلا بيان.

فإنّه يقال: ليس الأمر كذلك مطلقاً وإن ترك الفحص الممكن عن أمره، وإلّا فهو كاشف عن عدم اعتنائه بأمر المولى واستخفافه به، فعبوديته للمولى و اعتناؤه بأمره تقتضي ذلك. والله هو العالم.

حكم الجاهل بعد إجراء البراءة

وأمّا الكلام في أحكام العمل بالبراءة قبل الفحص، فاعلم: أنّ السيّد الاُستاذ(قدس سره) أفاد بأنّ الأحكام المترتّبة على العمل بها قبل الفحص إمّا تلاحظ بالنسبة إلى من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، وإمّا بالنسبة إلى المجتهد.

أمّا المقلّد فتارة: يقع البحث في تكليف نفسه. واُخرى: في حكم يفتي به المفتي إذا استفتاه المقلّد من الواقعة.

أمّا المقلّد نفسه، فلا ريب في أنّه بعد العمل إذا التفت إلى أنّ له أحكاماً فشكّ لذلك في صحّة عمله، يجب عليه الرجوع إلى مجتهد يجب الرجوع إليه في هذا الحال، أي حال الشكّ والسؤال، فما أفتاه به فيه هو الحجّة له وعليه.

وأمّا المفتي، فيلاحظ تفاصيل الواقعة، فإن رأى أنّ عمل المقلّد وقع مطابقاً لفتوى من فتواه حجّة في حقّه حين العمل ومطابقاً لفتوى نفسه، فلا إشكال في صحّة عمله

ص: 118

ظاهراً، فيفتي بصحّته. وأمّا إن اختلفت الفتويان، فإن وقع مخالفاً لرأي من كان رأيه حجّة في حقّه حين العمل، وموافقاً لرأي من رأيه حجّة حين التذكّر والسؤال، كأن كان رأي الأوّل بطلان الصلاة بلا سورة، وهو أتى بها فاقدة لها، ورأي الثاني عدم وجوب السورة وصحّتها بدونها، فإن كان مستند رأي المفتي الثاني القطع أو الدليل القاطع الّذي يكون بحيث يقطع به بخطأ الأوّل، فلا ريب في أنّ الواجب عليه أن يفتي بصحّته، فإنّه يرى عمله مطابقاً للواقع وإن كان مخالفاً لرأي من كان يجب عليه تقليده حين العمل، فإنّ مخالفة العمل للطريق لا تضرّ بصحّة العمل إذا كان مطابقاً للواقع.

وأمّا إن كان مستند رأي المفتي أصل البراءة من وجوب السورة مثلاً، فلا يجوز له الإفتاء بصحّة العمل؛ فإنّ البراءة إنّما تجري إذا لم تكن حجّة على الحكم، وقول المفتي السابق بالوجوب كان عن حجّة، فلا يجوز للمفتي الّذي يقول بعدم الوجوب بالبراءة الفتوى بالصحّة؛ لأنّ العامل يرى عمله باطلاً مخالفاً للحجّة ومطابقته للواقع مشكوكة.

وهكذا يجري الكلام في الخبرين المتعارضين المتكافئين على القول بالتخيير الشرعي، فإنّ الحجّة على الحكم ما يختاره المفتي، وما اختاره المفتي الأوّل جزئية السورة وهو حجّة للمقلّد ويكون عمله السابق مخالفاً للحجّة، وما اختاره المفتي الثاني حجّة له لا تنفى به حجّية فتوى الأوّل ولا كونها على خلاف الواقع، فلا تؤثّر في ثبوت عدم الجزئية في زمان العمل، لأنّ حجّية أحد المتعارضين إنّما تكون من زمان اختياره لا قبله. مضافاً إلى أنّ حجّية کلّ واحد منهما باختيار هذا المجتهد أحدهما والآخر غيره لا تعارض حجّية الآخر.

هذا کلّه في صورة المخالفة مع رأي السابق والموافقة مع اللاحق.

وأمّا صورة المطابقة مع رأي السابق والمخالفة مع اللاحق، فالحكم بالصحّة مبنيّ على القول بالإجزاء. مضافاً إلى كفاية مجرّد موافقة العمل مع الحكم الظاهري وعدم

ص: 119

اعتبار البناء عليه في الإتيان بالعمل، وهذا هو نتيجة التحقيق في المسألة لظهور أدلّة الاُصول والأمارات على الإجزاء ولو بالموافقة الاتّفاقية، وقد مرّ البحث عن ذلك في مبحث الإجزاء.

ثم إنّ ما ذكر، کلّه في العبادات. وأمّا المعاملات فوقوع المعاملة على طبق الأمر الظاهريّ والحجّة، ككون العقد بالفارسية سبباً للملكيّة، في مقام الثبوت ممكن.

وفي مقام الإثبات أيضاً، فمقتضى أدلّة الاُصول والإطلاقات حصول الملكية بذلك. إلّا أن يقال بأنّ المعاملات تعتبر وجودات باقيات إلى زمان المفتي اللاحق وبعده، ويكون الوجود البقائي منها كالوجود الحدوثي منها يحتاج في ترتّب الآثار عليه إلى فتوى المفتي اللاحق. ولكن ذلك وجه ضعيف لا يوافق سماحة الشريعة وقوّة أحكامها.

تتمّة:

إعلم: أنّه قد خرج عن الكليّة المذكورة - أي وجوب الإعادة أو القضاء على الجاهل المتمكّن عن التعلّم إذا وقع في مخالفة الواقع - موردان، أحدهما: الإتمام في موضع القصر. وثانيهما: الجهر أو الإخفات في موضع الآخر. وأصل الحكم منصوص عليه((1)) والمفتى به بين الأصحاب((2)) فلا ريب في صحّة صلاة الجاهل بوجوب القصر تماماً، والجاهل بوجوب الجهر إخفاتاً، أو الجاهل بوجوب الإخفات جهراً، سواء كان قاصراً أو مقصراً.

ص: 120


1- الطوسي، تهذيب الأحکام، ج3، ص226، ب 23، الصلاة في السفر، ح 571/80؛ ج2، ص162، ب 9 (تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون، ح 635/93) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب صلاة المسافر، ج8، ص506 – 507، ب17، ح4 وأبواب القراءة في الصلاة، ج6، ص86، ب 26، ح 1.
2- انظر: العلّامة الحلّي، تذكرة الفقهاء، ج1، ص117، 193؛ الطباطبائي، رياض المسائل، ج1، ص162 و 257 - 258؛ الأنصاري، کتاب الصلاة، ص126- 127، 403.

ولذا أشكل الأمر في مقام الثبوت من جهتين:

إحداهما: أنّه إذا كان الأمر الواقعي متعلّقاً بالإخفات أو الجهر تكون الصلاة المأمور بها والمنجّز عليها غير ما أتى بها، والمأتيّ بها غير المأمور بها، فكيف يحكم بصحتّها مع أنّ صحّة المأتيّ بها تتوقّف على كونها على طبق ما اُمر بها؟!

وثانيتهما: أنّه كيف يجوز العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها مع إمكان إعادتها، وبعبارة اُخرى: إن كانت الصلاة المأتيّ بها موجبة لسقوط الأمر فما وجه استحقاق العقوبة؟ وإن لم تكن كذلك فما وجه عدم وجوب الإعادة؟!

وأجاب السيّد الاُستاذ عن الاُولى أوّلاً: بأنّه يجوز أن تكون تلك الصلاة مأموراً بها على نحو الترتّب، فهي تكون صحيحة لأنّها وقعت على وفق الأمر الترتّبي.((1)) وثانياً: أنّ الصحّة ليست عبارة عن وقوع الفعل على وفق الأمر، بل يكفي في صحّته كون الفعل واجداً لمصلحة تامّة في حدّ ذاته، وعدم الأمر به لمزاحمته مع ما يكون أقوى منه وأتمّ.

وأمّا الجواب عن الإشكال الثاني: أنّ استحقاق العقوبة لأجل أنّ المكلّف فوّت المصلحة الأقوى الكامنة في الفعل ولا يمكن استيفاؤها بعد استيفاء المصلحة الكامنة فيما أتى به من الجهر مثلاً في موضع الإخفات.((2))

واُورد على ذلك ما أفاده في الكفاية بقوله: «إن قلت: على هذا يكون کلّ منهما في موضع الآخر سبباً لتفويت الواجب فعلاً، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.

ص: 121


1- وأجاب به كاشف الغطاء أيضاً في كشف الغطاء (في المبحث الثامن عشر)، ص27. ونقل عنه الشيخ في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص309)، ثمّ ردّ عليه في المصدر نفسه. وكذا ردّ عليه في فوائد الاُصول (النائیني، ج4، ص293).
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص328.

وردّه: بأنّه ليس سبباً لذلك. غايته أنّه يكون مضادّاً له، والضدّ ليس سبباً لعدم ضدّه، بل يكون مقارناً له، ومجرّد المقارنة لا يجعله حراماً حتى يوجب فساده.((1))

ولكنّ السيّد الاُستاذ أفاد بأنّ کلّ واحد منهما سبب لتفويت الآخر، لا من باب التضادّ؛ فإنّ الضدّين - كما أفاد - ليس کلّ منهما سبباً للآخر، ولكن حقيقة التضادّ الواقع بين الضدّين عدم إمكان اجتماعهما في زمان واحد وفي موضوع واحد، وفي المقام يكون کلّ منهما سبباً لعدم الآخر في هذا الزمان وفي بعده من الأزمنة الاُخرى. وبعبارة اُخرى: تفويت الواقع بالصلاة المأتيّ بها ليس من جهة عدم اجتماعه معها بالذات ومضادّتهما، فإنّه يمكن اجتماعهما معاً بإتيان الواقع في الزمان اللاحق، بل يكون لأجل علّية ما أتى به لفوت الواقع، وعلى هذا تقع هذه الصلاة علّةً لفوت الواقع مبغوضة للمولى لا يصحّ التقرّب بها إلى المولى.((2))

وبعد ذلك أفاد في مقام الذبّ عن هذا الإشكال: أنّ الدليل الّذي يدلّ على صحّة ما أتى به الجاهل يكشف عن عدم كون العمل عصياناً للواقع؛ لأنّ العمل الصادر عنه في هذا الحال يكون وافياً بتمام مصلحة الواقع في غير حال الجهل به، فهو يكون مسقطاً للأمر الواقعي، فلا يكون في البين تفويت وعصيان.

وأمّا دعوى الإجماع على أنّ الجاهل المقصّر مستحقّ للعقاب حتى في هذه الموارد الثلاثة.

فممنوعة((3)) في خصوصها ولو بلحاظ ما ذكر. فليس للمولى - إذا كان ما أتى به عبده في هذا الحال وافياً بتمام مراده - عقوبة العبد على ترك ما أمر به، مع أنّه لم يفوّت من غرضه شيئاً. اللّهمّ إلّا أن يكون ذلك بتجرّيه عليه. فلم تتحقّق من العبد معصية

ص: 122


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص261 - 262.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص329 - 330.
3- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص329 - 330.

حقيقية، وإنّما تكون عدم موافقة العبد أمر مولاه موجباً لجواز عقوبته إذا كان عدم الموافقة زائداً على ذلك مفوّتاً لغرض المولى.

تذنيب

قد ذكر هنا لجواز إجراء الأصل شرطان آخران:((1))

أحدهما: أن لا يكون موجباً لثبوت حكم شرعيّ آخر، كما إذا كان شاكّاً في اشتغال ذمّته بدين بحيث إن كانت ذمّته مشغولة به يمنعه ذلك الدين من حصول الاستطاعة، إلّا أنّه لو أجرى أصالة البراءة عن هذا الدين تحصّل له الاستطاعة.

والوجه في ذلك: أنّ الأصل المذكور إنّما شرّع امتناناً على العباد، وليست في إجرائه لنفي تكليف إذا كان موجباً لإثبات تكليف آخر منّة على العبد.

والجواب عن هذا الشرط: أنّ أدلّة البراءة بإطلاقها تجري في الشبهة البدويّة مثل اشتغال ذمّته بدين لعمرو، وذلك وإن كان ملازماً لتعلّق تكليف آخر به مثل الحجّ المشروط بالاستطاعة لا يمنع من إجراء البراءة عن اشتغال ذمّته بالدين. أمّا البراءة العقلية، فإنّه بحكم العقل لا يكون مستحقّاً للعقوبة على ترك أداء الدين المجهول اشتغال ذمّته به. وأمّا النقلية، فأدلّتها مطلقة. والملازمة بين نفي الدين وحصول الاستطاعة لا تمنع من إجراء هذا الأصل. ولا ينافي كون نفي «ما لا يعلمون» امتناناً مطلقاً.

ثانيهما: أن لا يكون موجباً للضرر على آخر.

وهذا الشرط أيضاً ليس في محلّه؛ لأنّ الموضوع للبراءة هو خلوّ الواقعة عن دليل اجتهاديّ، لا ما إذا كان هنا دليل اجتهادي، ففيما إذا حبس شاة فمات ولدها، أو

ص: 123


1- ذكرهما الفاضل التوني في الوافية (ص79)، في شروط التمسّك بأصالة البراءة. ونقلهما عنه الشيخ(قدس سره) في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص311).

أمسك رجلاً فهربت دابّته، لا تجري أصالة البراءة لنفي ضمان الحابس والممسك، لا لأنّ ذلك موجب للضرر على المالك، بل بالدليل الاجتهادي مثل «من أتلف مال الغير فهو له ضامن»،((1)) أو «الممسك ضامن للمالك»، فلا موضوع للبراءة إذا كانت هناك قاعدة الضرر، أو أيّ دليل اجتهادي آخر، فتدبّر.

وهاهنا صار المجال للاستطراد بذكر قاعدة الضرر كما فعله الشيخ((2)) وتلميذه المحقّق الخراساني،((3)) فنبدأ ببيان هذه القاعدة.

ص: 124


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص313.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص313.
3- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص265.

قاعدة لا ضرر

اشارة

إعلم: أنّ مفاد قاعدة لا ضرر على الإجمال، بغضّ النظر عن تفاصيله وما قيل في شموله أو عدم شموله لبعض الموارد، ثابت بحكم العقل، لا يجوز أن تكون شريعة الإسلام الجامعة الكاملة المنزّهة عن النقصان خاليةً عن مثله، فكمال الشريعة يقتضي حكمها به.

وقد دلّت عليها الأخبار المستفيضة القطعية، بل المتواترة.

منها: ما يكون - على ما أفاده سيّدنا الاُستاذ، وهو خرّيت صناعة علوم الحديث ومعرفة أسانيدها وصحاحها وضعافها وعللها ومسانيدها ومراسيلها - أصحّ سنداً وأوضح دلالة،((1)) وهو: ما رواه غير واحد عن زرارة في قصّة سمرة بن جندب عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق((2)) وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجى ء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري، فقال له الأنصاري: يا سمرة! لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفاجئنا عليه، فإذا دخلت فاستأذن، فقال: لا أستأذن في طريق وهو طريقي إلى عذقي. قال: فشكاه الأنصاري إلى رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فأرسل إليه رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فأتاه، فقال له: إنّ فلاناً قد شكاك وزعم أنّك

ص: 125


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص332؛ وكذا أفاد الشيخ(قدس سره) في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص313 – 314).
2- عذق، كفلس: النخلة بحملها.

تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل، فقال: يا رسول الله! أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خلّ عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا، فقال: لا، قال: فلك إثنان، قال: لا اُريد، فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق، فقال: فلك عشرة في مكان كذا وكذا، فأبى، فقال: خلّ عنه ولك مكانه عذق في الجنّة، قال: لا اُريد، فقال له رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن. قال: ثمّ أمر بها رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فقلعت ثم رمي بها إليه، وقال له رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): انطلق فاغرسها حيث شئت».((1)) ثم إنّ السيّد الاُستاذ - كما حكى عنه المقرّر الفاضل((2)) - أفاد بإمكان القطع بصدور قضيّة «لا ضرر ولا ضرار» مضافاً إلى أنّ

ص: 126


1- الکلیني، الكافي، ج5، ص294، كتاب المعيشة، باب الضرار، ح 8 ؛ المجلسی، بحار الأنوار، ج22، ص135، ح118؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب إحياء الموات، ج25، ص428 – 429، ب 12؛ ح3 - 4. واعلم: أنّ هذا الحديث الّذي رواه الكليني(قدس سره) وفيه التعبير المذكور «لا ضرر ولا ضرار على مؤمن»؛ وهو الحديث الثامن في الباب سنده هكذا: عليّ بن محمد بن بندار، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن بعض أصحابنا، عن عبد الله بن مسكان، عن زرارة. والرواية بنفسها ضعيفة السند بالإرسال وببعض رجاله (عليّ بن محمد بن بندار)، فإنّه مسكوت عنه في كتب الرجال، إلّا أن يجعل كونه من شيوخ مثل الكليني أمارة على وثاقته وصحّة الاعتماد عليه، وهذا يكفي وكذا تعبير أبي عبد الله عمّن روى عنه ب- «عن بعض أصحابنا» مشعر بالمدح. فالرواية معتبرة يحتجّ بها. وهناك رواية اُخرى في الكافي نحو هذه الرواية وهي الثانية من هذا الباب، رواها عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) (الکلیني، ج5، ص292 – 293، ح2)، ومراده هنا من العدّة: عليّ بن إبراهيم، وعليّ بن محمد بن عبد الله بن اُذينة، وأحمد بن عبد الله، وعليّ بن الحسن. وعبد الله بن بكير وإن كان فطحياً، إلّا أنّه ثقة كثير الرواية عنهم(علیهم السلام). وقيل فيه: أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصحّ عنه. فلتكن هذه الرواية أصحّ الروايات في هذا الباب سنداً. ولكنّ الأمر سهل، فإنّ الأخبار يقوّي بعضها بعضاً، فهذه الرواية تجعل رواية عليّ بن محمد بن بندار في مرتبتها. وفي هذه الرواية: «قال رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) للأنصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار» وليس فيها «على مؤمن». [منه مدّ ظله العالي].
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص334.

المشهور عملوا بها، وهذا بنفسه يكفي في صحّة الاحتجاج بها والعمل عليها، وهذا ممّا لا شبهة فيه، إلّا أنّ الكلام وقع في جهات:

الجهة الاُولى: في معنى الضرر

قال في الكفاية: إنّ الضرر هو ما يقابل النفع من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال تقابل العدم والملكة، كما أنّ الأظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر جيء به تأكيداً، كما يشهد به إطلاق المضارّ على سمرة، وحكي عن النهاية لا فعل الاثنين... إلخ».((1))

وبعبارة اُخرى: التقابل بين الضرر والنفع هو عبارة عن عدم وصف لموضوع كان ينبغي أن يكون له ويوجد متّصفاً بذلك الوصف، سواء لوحظ ذلك بالنسبة إلى شخص الموضوع أو نوعه أو جنسه، فعدم الشيء - في مقابل وجوده حيث تكون له شأنية حصوله - يكون من الضرر، والمقابلة بينهما تكون مقابلة العدم والملكة كالعمى بالنسبة إلى البصر.

ولكن أفاد السيّد الاُستاذ بأنّ هذا المعنى خلاف التحقيق؛ لأنّ الضرر عند العرف أمر وجوديّ يعبّر عنه بالنقص. كما أنّ ما يقابله أي النفع أمر وجوديّ وهو زيادة رأس المال. بل يعتبر بينهما الواسطة وهو عدم تغيّر رأس المال وبقاؤه على حاله من دون نقص ولا زيادة.((2))

وفيه: أنّ تصديق ذلك لا يخلو من الإشكال، فإنّ على ذلك إذا كان رأس المال مثلاً مأة درهم ثم رجع إلى تسعين يكون الأمر الوجودي هو التسعين الّذي يعبّر عنه بالنقص، دون العشرة الّتي نقصت من رأس المال، مع أنّ العرف يعتبر هذه العشرة نقصاً، وهي الّتي كانت من شأنها البقاء. والنفع يكون على ذلك ما يزيد على المأة،

ص: 127


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص266.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص334.

والواسطة بقاء رأس المال على حاله. إلّا أن يقال: إنّ الضرر عبارة عن عدم النفع، أي عدم الزائد على المأة وما كان من شأنه أن يكون ويزيد.

وعلى الوجهين ليس الضرر أمراً وجودیّاً، بل هو عدم أمر وجودي كان من شأنه أن يوجد.

والظاهر أنّ الضرر يطلق على الأوّل إن اُريد منه الضمان، فإنّه إذا تنزّل بفعل شخص رأس ماله الّذي كان مأة إلى تسعين هو يكون ضامناً للعشرة الّتي نقصت عنه إن كان بالعين دون القيمة.

وأمّا إذا لم يحصل لصاحب رأس المال بفعل غيره ما كان مترقّباً من الزيادة فلا يكون ضامناً. نعم، لا يجوز له ذلك تكليفاً.

فعلى الأوّل يكون معناه: لا ضرر غير المتدارك. وعلى الثاني: لا يجوز الضرر ومنع النفع. والله هو العالم.

الجهة الثانية: في معنى لا ضرر

إعلم: أنّ کلمة «لا» في قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «لا ضرر ولا ضرار» لمّا كانت لنفي الجنس ونفي مدخولها لابدّ وأن تكون مستعملة في غير معناه الحقيقي، لوجود مدخولها في الخارج وهو قرينة على أنّ المراد غير معناه الحقيقي.

وقد قيل في ما هو المراد منها وجوه وأقوال:

أحدها: أن يكون المراد من النفي: النهي عن الضرر، سواء كان بنفسه أو غيره، فيكون معناه تحريم الإضرار بالنفس وبالغير، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿لَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدالَ في الْ-حَجِّ﴾((1)) وهذا مختار صاحب الجواهر.

ص: 128


1- البقرة، 197.

وهو خلاف الظاهر.

ثانيها: أن يكون المراد منه نفي الضرر غير المتدارك((1)) ليكون معناه أنّه لن يصل من أحد ضرر إلى غيره إلّا وهو متدارك بالشرع ويجبره الشارع ويدفع بحكمه.

وهذا أيضاً خلاف الظاهر؛ لاستلزامه استعمال الضرر وإرادة خصوص الغير المتدارك.

ثالثها: أنّ المعنى عدم تشريع الضرر، وأنّ الشارع لم يشرع حكماً فيه الضرر، سواء كان تكليفياً كالوضوء الضرري، أو وضعياً مثل لزوم البيع مع الغبن، وهذا مختار الشيخ الأنصاري.((2))

وفيه أيضاً أنّه خلاف الظاهر؛ لمكان احتياجه إلى تقدير وإضمار.

رابعها: أنّ المراد منه - كما أفاد في الكفايه((3)) - نفي الحقيقة، كما هو الأصل في هذا التركيب حقيقة أو ادّعاءً كنايةً عن نفي الآثار والأحكام المترتّبة على الموضوعات.

وبعبارة اُخرى: نفي الآثار والأحكام بالإرادة الجدّية المبرزة بالإرادة الاستعمالية وبنفي الحقيقة استعمالاً. ومثل هذا الاستعمال شائع في المحاورات، نظير قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد»؛((4)) و«يا أشباه الرجال ولا رجال».((5)) وهذا تأكيد لعدم ترتّب الأثر على العمل بنفي أصل العمل، وهو من البلاغة في الكلام؛ فإنّ نفي ما يترتّب على العمل من الأثر بنفيه حقيقةً بليغ جدّاً.

ص: 129


1- ذهب إليه السيّد مير فتاح (الحسیني المراغي، العناوين، ص198)؛ وشيخ الشريعة الأصفهاني (قاعدة لا ضرر ولا ضرار، ص44).
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص314؛ ورسالة قاعدة لا ضرر (المطبوعة في المكاسب)، ص373.
3- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص268. راجع أيضاً: حاشيته على فرائد الاُصول (ص169).
4- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب أحكام المساجد، ج5، ص194، ب 2، ح 1؛ المغربي، دعائم الإسلام ج1، ص148 في ذكر المساجد.
5- نهج البلاغة، الخطبة 27 (ج1، ص70).

ولكن ضعف هذا الوجه أيضاً، - كما في تقريرات سيّد الاُستاذ:((1)) بأنّ نفي الحكم والأثر بنفي الموضوع إنّما يصحّ إذا كان الحكم المنفيّ حكم نفس الموضوع مثل: عنوان الصلاة في قضيّة «لا صلاة لجار المسجد»، وأمّا إذا كان ذلك بلسان نفي موضوع لنفي حكم موضوع آخر، فلا يصحّ. وفي المقام لا ينفى بنفي الضرر حكمه، بل ينفى به الحكم المترتّب على الموضوعات والأفعال بعناوينها الأوّلية مثل وجوب الوضوء، وذلك لا يصحّ وغير شائع في المحاورات، فالحكم الثابت لعنوان الضرر مثلاً على الغير لا يكون منفيّاً حتى يريد بنفيه نفيه، والحكم الثابت للوضوء الضرري أي وجوبه، ليس هو حكم الضرر بل هو حكم الوضوء. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الوضوء الضرري من أفراد الوضوء الواجب.

وكيف كان، فيمكن أن يقال: إنّ عدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقهً ولا ادعاءً قرينة على أنّ المتكلّم أراد واحداً من هذه الوجوه. ويمكن أن يقال: إنّ الأظهر منها بمناسبة مقام الشارع نفي الأحكام الموجبة للضرر.

هذا، وممّا ذكر ظهر ما هو النسبة بين أدلّة الضرر والأحكام الأوّلية، وأنّ الاُولى حاكمة على الثانية مطلقاً((2)) وإن كانت النسبة بينهما عموماً من وجه، كالوضوء الواجب بالحكم الأوّلي، والضرر المنفيّ بالحكم الثانوي.

نعم، إذا كان دليل الحكم الأوّلي دالّا على ثبوت الحكم مطلقاً وبنحو العلّية التامّة يكون دليل الحكم الثانوي منصرفاً عنه لا يكون حاكماً عليه وإن لم نقل بالانصراف يكون محكوماً له.

هذا بالنسبة إلى نسبته مع الحكم الأوّلي. وأمّا مع الحكم الثانوي الآخر كدليل نفي

ص: 130


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص337.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص315.

العسر والحرج، فالنسبة بينهما تكون التعارض، فيلاحظ الدليل الأرجح والأقوى إن كان في البين، وإلّا فالمرجع لرفع التعارض ما قرّر بالأخبار.

هذا، إن كان التعارض بوجود مقتضٍ واحد بين المتعارضين لا يعلم أنّه لأيّهما يكون بالخصوص، وهو الملاك في باب التعارض بخلاف باب التزاحم، فإنّ فيه يكون المقتضي موجوداً في کليهما فلابدّ من ملاحظة ما هو الأقوى من المقتضيين وتقديمه على الآخر إن كان، وإلّا فهو بالخيار.((1))

ولا حول ولا قوّة إلّا بالله. وهاهنا نختم الكلام في البراءة ونسأل الله تعالى معرفة آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين؛ فإنّها البراءة من النار، قال رسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «معرفة آل محمد براءة من النار، وحبّ آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب».((2))

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. اللّهمّ اغفر ذنوبنا، وكفّر عنّا سيّئاتنا، وتوفّنا مع الأبرار.

ص: 131


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص271.
2- الحموئي، فرائد السمطين، ج2، ص257؛ القندوزي، ينابيع المودّة، ج1، ص 78، ح16؛ وغيرهما.

ص: 132

الفصل الرابع: في الاستصحاب

اشارة

ولابدّ فيه من تقديم اُمور:

الأوّل: اعلم: أنّ کلما تهم حول تعريف الاستصحاب وإن تفاوتت واختلفت في اللفظ((1)) إلّا أنّها متّحدة بالمعنى والمضمون، فله عندهم معنى واحد ومرادهم منه فارد وهو: الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه؛ أو بتعبير جاء في تقريرات السيّد الاُستاذ(قدس سره) أنّه: حكم الشرع ببقاء ما ثبت في مقام الشكّ في بقائه؛ أو غير ذلك. هذا هو الاستصحاب بحسب الاصطلاح. والتعريفات كما قيل((2)) من شرح الاسم وليس بالحدّ والرسم.

والظاهر أنّه لا خلاف بينهم في إمكانه، ولذا يجوز البحث عن وقوعه أو نفيه، وهذا مع غضّ النظر عمّن يقول باستحالة التعبّد بالظنّ مطلقاً.

ثم إنّه لا يضرّ بما قلنا من وحدة مرادهم من الاستصحاب اختلافهم فيما هو دليله

ص: 133


1- راجع: الشهید الأول، ذكرى الشيعة، ص5؛ البهائي، زبدة الاُصول، ص72؛ الخوانساري، مشارق الشموس في شرح الدروس، ص76؛ القمّي، قوانين الاُصول، ص275؛ العاملي، معالم الدين، ص231؛ الأصفهاني، الفصول الغروية، ص366.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص274.

من بناء العقلاء، أو الظنّ الحاصل عن ملاحظة ثبوت شيء سابقاً، أو الأخبار، فلا يوجب ذلك اختلافهم في المدلول كما لا يخفى.

الثاني: لا يخفى عليك: أنّ البحث عن حجّية الاستصحاب بحث عن مسألة اُصولية لوقوعه في طريق استنباط الحكم الفرعي. وليس مفاده حكم العمل بلا واسطة ولذا قد لا يكون مجراه إلّا الحكم الاُصولي كالحجّية.

وبالجملة: يبحث في حجّية الاستصحاب عن قاعدة کلّية تنطبق على مصاديقها وهي: حجّية وجوب شيء أو حرمته مثلاً في زمان سابق للحكم ببقائه عند الشكّ في بقائه في الزمان اللاحق.

هذا، وعلى القول بكون موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه - كما نبّه عليه السيّد الاُستاذ وتبعه بعض الأعلام من معاصريه في حاشيته على الكفاية - يقال في اُصولية المسألة: إنّ البحث في الاستصحاب واقع في أنّ وجوب شيء في زمان هل يكون حجّة على بقائه في زمان شكّ في وجوبه.

وكيف كان، فلا فائدة لهذا البحث إلّا اصطلاحياً وأنّ البحث عن حجّية الاستصحاب ليس من المبادي ولا من المسائل الفقهية بل يكون من المسائل الاُصولية.

هذا، إن قلنا بأنّ علم الاُصول علم مستقلّ، وأمّا إن قلنا بأنّه عبارة عن عدّة مسائل من علوم متفرّقة لها دخل في الاستنباط فالأمر واضح.

الثالث: لا ريب في أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أمران: اليقين بثبوت شيء والشكّ في بقائه، ولا يمكن ذلك إلّا باتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة من حيث المحمول والموضوع، فإنّه لو كان متعلّق إحداهما غير ما هو المتعلّق للاُخرى لا يصدق على الشكّ العارض الشكّ في بقاء المتيقّن.

ومن جانب آخر: الشكّ المذكور لا يطرأ إلّا من جهة وقوع التغيّر في بعض ما كان

ص: 134

عليه المتيقّن؛ إذن فكيف يتحقّق ما يعتبر في جريانه من اتّحاد القضيّتين؟ فإن لم يحدث في المتيقّن التغيّر لا يطرأ الشكّ في البقاء وإن طرأ التغيّر ينتقض به الاتّحاد المذكور.

ويجاب عن ذلك بأنّ الاتّحاد المذكور إن كان بنظر العقل وبالدقّة العقلية يرد الإشكال وينتقض اتّحاد القضيتين ولا يبقى معه مورد لإجراء الاستصحاب. ولكن إذا كان ذلك بنظر العرف - كما هو كذلك - لا يبقى مجال لهذا الإشكال، لأنّ التغيّر الحادث في المستصحب لا يكون من مقوّماته بل يكون من خصوصياته فلا يمنع من صدق كونه هو هو وأنّه الّذي كان محكوماً بكذا، ويكفي هذا الاتّحاد العرفي لأن لا يدخل الحكم بالبقاء في إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، بل يرى العرف المستصحب باقياً على ما كان ويحكم ببقائه سواء كان موضوعاً لحكم أو كان نفس الحكم.

فإن قلت: هذا يجري في الموضوعات الخارجية والأحكام الشرعية الثابتة بالنقل دون الأحكام الشرعية الّتي مدركها العقل وكذا نفس حكم العقل، فلا مناص فيه من قبول الإشكال؛ لأنّ ملاك الحكم الشرعي الّذي مدركه حكم العقل هو ملاك مدركه والعقل لا يشكّ في حكمه فإن كان ملاكه في حال الشكّ باقياً يحكم ببقائه وإن لم يكن موجوداً لا يحكم به، فإذا لم يحكم العقل ببقاء حكمه كيف يحكم ببقاء الحكم الشرعيّ الّذي مدركه هذا الحكم العقلي؟

واُجيب عن هذا الإشكال بأنّ الملازمة بين الحكمين يكون في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت، إذ من المحتمل أن يكون الحكم الشرعي المستكشف عن حكم العقل دائرته أوسع ممّا يكون بنظر العقل فلا تكون للخصوصية المفقودة عند الشرع دخل في موضوعيته للحكم وإن كان بنظر العقل في مقام الإثبات له دخل في حكمه.

وبعبارة اُخرى: العقل قد حكم به وهو كان واجداً للخصوصية الكذائية ولا يحكم به في حال فقدانه لها في مقام الإثبات ولكن لا يحكم بعدم الحكم ثبوتاً لفاقد

ص: 135

الخصوصية، فالحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل كالحكم الشرعي الثابت بالنقل لا فرق بينهما في الحكم ببقائه عند الشكّ فيه لطروّ بعض الحالات الّتي لا يراها العرف من مقوّماته إلّا أنّ الدليل على إحداهما العقل وعلى الآخر النقل.

وبالجملة: بعد ما لا يرى العرف التغيّر الّذي حصل فيه من مقوّماته ويحتمل سعة دائرة المستصحب في حكم الشرع وبقائه لا مانع من الحكم ببقائه كسائر الموارد، والله هو العالم.

ص: 136

أدلّة حجّية الاستصحاب

اعلم أنّه قد استدلّ على حجّية الاستصحاب باستقرار بناء العقلاء على العمل به، وبالظنّ الحاصل من الثبوت في السابق((1)) وبالإجماع،((2)) وبالروايات الشريفة، فنقول:

أمّا الإجماع والظنّ المذكور فبطلان التمسّك بهما غنيّ عن البيان. أمّا الإجماع، فالمناقشة فيه ظاهرة صغروياً وكبروياً.

وأمّا الظنّ، فهو أيضاً مخدوش، بمنع الصغرى والكبرى؛ لأنّ مجرّد الثبوت في السابق لا يوجب الظنّ بالبقاء. وإن أوجبه فلم يقم دليل على حجّيته إلّا على القول بحجّية الظنّ المطلق.

وأمّا استقرار بناء العقلاء، فقد منع استقرار بنائهم عليه تعبّداً، بل لعلّه يكون رجاءً واحتياطاً أو ظنّاً كما قيل ولم يثبت رضا الشارع به. وعدم الردع وإن كان يكفي لذلك إلّا أنّه يكفي في الردع ما ورد في الكتاب والسنّة من النهي عن اتّباع غير العلم والعمل بالظنّ.

ولكن يمكن أن يقال بأنّ هذه النواهي لا تشمل مثل ما نحن فيه الّذي استقرّ عليه بناء العقلاء، بل ربما يقال: إنّ أمثال هذه البناءات لا تقبل الردع عنها ولا المنع منها كاستقرار سيرتهم على العمل بالاُصول اللفظية وبخبر الواحد، بل يمكن أن يقال

ص: 137


1- راجع: العلّامة الحلّي، مبادئ الوصول إلى علم الاُصول، ص250- 251؛ وحكاه الشيخ الأنصاري عن النهاية (فرائد الاُصول، ص329)؛ وادّعاه أيضاً العاملي (معالم الدين، ص231).
2- العلّامة الحلّي، مبادئ الوصول إلی علم الأصول، ص251؛ كما في شرح مختصر الاُصول (الإیجي، ص453).

باستقرار عملهم على الثابت السابق، سيّما إذا كان مقتضياً للبقاء، كما قوّاه السيّد الاُستاذ. فالعقل والعقلاء يرون للمولى توبيخ عبده وذمّه إن ترك الأمر الّذي كان ثابتاً عليه إذا كان فيه اقتضاء البقاء.

وكيف كان، فالعمدة من الدليل هنا الأخبار فنجري الكلام فيها مستعيناً من الله تعالى، فنقول:

الأخبار الدالّة على الاستصحاب

صحيحة زرارة الاُولى:

فمنها: صحيحة زرارة قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: «يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن، فإذا نامت العين والاُذن والقلب فقد وجب الوضوء». قلت: فإن حُرّك إلى جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال: «لا، حتى يستيقن أنّه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ ولكن ينقضه بيقين آخر».((1))

أقول: قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا» جزاء لقول زرارة: «فإن حُرّك...» أي لا يوجب ذلك (يعني تحريك شيء في جانبه وهو لا يعلم به) عليه الوضوء، ويبني عليه حتى يستيقن أنّه قد نام أي نامت عينه واُذنه وقلبه، فيجب عليه قبل هذا الاستيقان البناء على وضوئه. فإلى هنا يدلّ على وجوب البناء على وضوئه لو شكّ في تحقّق النوم الغالب على العين والاُذن والقلب بالخفقة أو الخفقتين، فلا تستفاد منه القاعدة الكلّية الّتي تعمّ سائر أبواب الفقه، بل سائر النواقض للوضوء.

ص: 138


1- الطوسي، تهذيب الأحکام، ج1، ص8، كتاب الطهارة، ب 1، الأحداث الموجبة للطهارة، ح 11؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، ج1، ص245، ب1، ح1.

ثم إنّ قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «وإلّا» يعني وإن لم يستيقن أنّه قد نام فجزاؤه مقدّر أي لا يجب عليه الوضوء، وهو محذوف معلوم من قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا» في جواب سؤاله «فإن حُرّك إلى...»، وقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) «فهو على يقين من وضوئه» بمنزلة العلّة للجزاء أي عدم وجوب الوضوء، فاُقيمت مقامه. وهي تكون الصغرى للكبرى الكلّية المذكورة بقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ». وقد جاء في القرآن الكريم والمحاورات العربية حذف الجزاء وذكر علّته مقامه، مثل قوله تعالى: ﴿إنْ يَسْ-رِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبلُ﴾.((1))

وعلى هذا البيان تتمّ دلالة الصحيح على حجّية الاستصحاب في جميع الأبواب.

فإن قلت: لماذا لا يكون قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «فهو على يقين من وضوئه» جزاءاً للشرط حتى يكون معناه: إن لم يستيقن أنّه قد نام فهو على يقين من وضوئه ولا ينقض يقينه بالوضوء بالشكّ فيه ولكن ينقضه بيقين آخر. وعلى هذا تنحصر دلالة الرواية على عدم جواز نقض اليقين بالوضوء بالشكّ دون عدم جواز نقض مطلق اليقين بالشكّ؟

قلت: مجرّد الاحتمال لا يكفي في صحّة استظهار المعنى من اللفظ. وظاهر الشرط كونه علّة للجزاء، وعدم يقينه بالنوم ليس علّة لكونه على يقين من وضوئه، بخلاف عدم وجوب الوضوء فإنّ علّته عدم اليقين بالنوم واليقين على كونه مع الوضوء.

لا يقال: من المحتمل كون الجزاء قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» وعليه أيضاً لا تستفاد منه القاعدة الكلّية ويختصّ بباب الوضوء.

فإنّه يقال: إنّ هذا الاحتمال خلاف الظاهر ومردود أيضاً، لمكان الواو في صدر هذه الجملة، فإنّه غير معهود تصدير الجزاء بالواو، لأنّه يوجب الاختلال في نظام الكلام.

ص: 139


1- يوسف، 77.

فالوجه: ما ذكر من أنّ الشرط المستفاد من قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «وإلّا» إن لا يستيقن بالنوم، والجزاء مقدّر وهو «فلا يجب عليه الوضوء»، قام مقامه ما هو العلّة له وهو كونه «على يقين من وضوئه».

فإن قلت: هذا يتمّ لو كانت الألف واللام في قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» للجنس مع أنّ كونه مسبوقاً باليقين بالوضوء بقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «فهو على يقين من وضوئه» يقتضي كونها للعهد، وعلى هذا البيان أيضاً لا دلالة فيها على القاعدة الكلّية.

قلت: الظاهر من مثل هذه الجملة كون المراد منها أمراً ارتكازياً كلّياً غير المختصّ بمورد دون آخر. واختصاصه بخصوص مورد مستلزم للتعبّد الخاصّ وإدخال المورد تحته، وهو إنّما يصحّ إذا كان ذلك مبيّناً قبل ذلك معلوماً عند المخاطب.

هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال: إنّ في قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «فهو على يقين من وضوئه» إن كان «من وضوئه» متعلّقاً باليقين يكون المراد من اليقين اليقين بالوضوء، فتختصّ القاعدة بالوضوء. وأمّا إن كان متعلّقاً بالظرف دون المظروف، بعبارة اُخرى متعلّقاً بقوله: «على يقين» يكون المعنى: أنّه من وضوئه على يقين لا من وضوئه الّذي تعلّق به اليقين على يقين، فتدلّ على حجّية اليقين مطلقاً، وعلى هذا يستقيم الاستدلال ولو كان اللام للعهد، وعليه لا مجال لإنكار دلالة الصحيحة على قاعدة الاستصحاب، فتدبّر.

وأمّا الإضمار الواقع في سنده فليس مضرّاً كما صرّح به أساتذة علم الحديث بعد ما كان مضمرها مثل زرارة الّذي لا يسأل في الشرعيات عن غير الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سيّما بهذه الخصوصيات.

تذنيب: ظهر لك ظهور الرواية في الدلالة على القاعدة الجارية في جميع الأبواب.

ص: 140

وأمّا عند من يقصر دلالتها بباب الوضوء فإنّها بضميمة الروايات((1)) الواردة في موارد خاصّة اُخرى أيضاً تدلّ على القاعدة الكلّية، ويستفاد من الجميع أنّ الحكم غير مختصّ بباب دون باب وأنّ تلك الموارد المختلفة کلّها داخلة تحت القاعدة الكلّية الشاملة للجميع بملاك واحد.

التفصيل بين الشكّ في المقتضي والرافع

ثم إنّه قد وقع الكلام بينهم في مقدار شمول هذه الرواية وغيرها من الروايات، فمثل الشيخ الأنصاري اختار عدم شمولها لما يكون منشأ الشكّ في البقاء الشكّ في اقتضاء المقتضي للبقاء، مثل الشكّ في بقاء السراج من جهة الشكّ في استعداده للبقاء. بخلاف ما إذا كان ذلك معلوماً وشكّ في حدوث الرافع مثل هبوب الرياح، أو في رافعية الموجود. فاختار اختصاصها بهذا وعدم جريانها في الشكّ المسبّب عن الشكّ في اقتضاء المقتضي.((2))

ص: 141


1- هناك روايات متعدّدة تدلّ على المقصود عبّر عنها الشيخ الأنصاري بالمستفيضة (فرائد الاُصول، ص329)؛ والوحيد البهبهاني بالمتواترة (حاشيته على المعالم، الصفحة الأخيرة منها)، سيأتي بعضها في المتن، وبعضها الآخر كما يلي: ما روى عن عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، أنّه قال: «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ». (المفید، الارشاد، ج1، ص302؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص272). وصحيحة عبد الله بن سنان، قال: سأل أبي أبا عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنا حاضر: إنّي اُعير الذمّي ثوبي، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اُصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «صلّ فيه ولا تغسله لأجل ذلك، فإنّه أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه». الطوسي، تهذيب الأحکام، ج2، ص361، ح1495؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج3، ص521، أبواب النجاسات، ب74، ح1. وعن بكير قال: قال لي أبو عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إذا استيقنت أنّك قد توضّأت فإياك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنّك قد أحدثت». الطوسي، تهذيب الأحکام، ج1، ص102، ح268. وعن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: «إنّ الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه فيقول: أحدثت أحدثت، فلا ينصرفنّ حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً». الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج2، ص757-758؛ الصدوق، من لا یحضره الفقيه، ج2، ص62.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص361.

واختار صاحب الكفاية شمولها مطلقاً سواء كان الشكّ مسبّباً عن الشكّ في استعداد المقتضي، أو في حدوث الرافع أو في مانعية الموجود.((1))

وجه القول الأوّل: أنّ اليقين والشكّ إذا كانا متعلّقين بأمر في زمان واحد يصحّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ، كما هو كذلك في الشكّ الساري. وأمّا إذا اختلف زمانهما وتعلّق اليقين بأمر في زمان ثمّ شكّ في بقائه في زمان متأخّر عنه فلا يصحّ النهي عن نقض اليقين بذلك الشكّ، فإنّه لم يكن للشاكّ يقين حتى لا ينقضه بالشكّ، وبالنسبة إلى الزمان المتقدّم فاليقين به على حاله لم يعرض بالنسبة إليه شكّ حتى ينهى عن نقض اليقين به بالشكّ، ففي الاستصحاب لا نقض لليقين المتقدّم حتى ينهى عنه بالشكّ المتأخّر عنه.

وبعبارة اُخرى: اليقين السابق لم يعرضه الشكّ والشكّ المتأخّر لم يعرض اليقين. فعلى هذا، حيث لا يصحّ إسناد النقض إلى اليقين لأنّ اليقين السابق في ظرف وجوده لا ينقض بالشكّ اللاحق، بل كما قلنا يصحّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ إذا كانا متّحدين زماناً، فلابدّ وأن يكون النقض مسنداً إلى المتيقّن ويكون المتيقّن ما هو مستحكم ومستمرّ بذاته حتى يستحسن النهي عن نقضه بالشكّ في حدوث الرافع له، فلا يشمل الشكّ في اقتضاء المقتضي لأنّ النهي عن نقض اليقين فيه بالشكّ كأنّه بلا موضوع.

وجه القول الثاني: أنّه لا وجه للعدول عن ظاهر اللفظ الدالّ على إسناد النقض إلى اليقين، وحمل الحقيقة على المجاز، لأنّ اليقين أمر بنفسه متقن متين محكم وإن كان متعلّقه لم يكن بمبرم.

والإشكال بأنّه يشترط في إسناد نقض اليقين إلى الشكّ اتّحاد زمانهما وفي

ص: 142


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص285.

الاستصحاب يكون الأمر بالعكس ويجب تعدّد زمانهما فلا ينقض اليقين في الزمان المتقدّم المتعلّق بأمر بالشكّ في بقائه في الزمان المتأخّر.

يمكن أن يجاب عنه أنّ ذلك يصحّ بغضّ النظر عن لحاظ الزمان بالنسبة إلى اليقين والشكّ فهما قد تعلّقا بأمر واحد أي وجود المتيقّن وإن كان اليقين تعلّق بوجوده الحدوثي والشكّ بوجوده البقائي ولكن ذلك لا ينفي تعلّقهما بذات وجود الشيء، وبهذا اللحاظ يصحّ في العرف أن يقال: لا تنقض يقينك بذات شيء بالشكّ في ذاته.

هذا، ولكن السيّد الاُستاذ(قدس سره) بعد ما بيّن وجه القولين أفاد بأنّ الصحيحة ظاهرة في حجّية الاستصحاب بالنسبة الى الشكّ فى الرافع - لا بالوجه الّذي أشرنا إليه بل - لأنّ ما اُخذ في الصحيحة موضوعاً للاستصحاب والحكم بعدم نقض اليقين بالشكّ فيه هو الرافع.

وبعبارة اُخرى: موضوع الكلام في الصحيحة الشكّ في الرافع لا الشكّ في أصل وجود المستصحب، وذلك لأنّ قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «وإلّا» يستفاد منه وإن لا يستيقن أنّه قد نام أي شكّ في حدوث الناقض فلا يجب عليه الوضوء، أي لا ينقض يقينه بعدم حدوث الناقض بالشكّ فيه؛ لا أنّه لا ينقض يقينه بالطهارة والوضوء الّتي فيها اقتضاء الدوام والاستمرار بالشكّ فيها.

وبعبارة اُخرى: الشكّ المفروض في الصحيحة شكّ في الناقض لا المنقوض فلا يشمل الشكّ في اقتضاء المقتضي.

ولعلّ الاختلاف وقع بين مثل الشيخ وصاحب الكفاية لأنّهما اعتبرا الشكّ الواقع في الحديث، الشكّ في الوضوء، فيجيء فيه ما ذكراه، دون الشكّ في النوم.

وحاصل الكلام أنّ ما تدلّ عليه الصحيحة حكم الشكّ في الرافع والناقض وأنّ الشكّ فيه لا يوجب رفع اليد عن اليقين السابق بوجوده، ولا تدلّ على أزيد من

ص: 143

ذلك كما إذا كان الشكّ في البقاء ناشئاً عن الشكّ في اقتضاء المستصحب للبقاء وعدمه، فتدبّر.

ولا يخفى عليك: أنّ ما ذكر هو الّذي يساعده الاعتبار، فإنّ للشك احتمالين، أحدهما: متعلّق بالوجود والآخر بالعدم، واحتمال العدم هو الّذي يكون ناقضاً للوجود وترتيب الأثر عليه يكون نقضاً ويكون النهي عن النقض وارداً عليه وهو احتمال الناقض، وأمّا احتمال وجوده فهو مؤكّد للبقاء، لا يكون ترتّب الأثر عليه نقضاً حتى يرد عليه النهي.

لا يقال: إنّ الشكّ في الرواية اعتبر مضافاً إلى الوضوء لا الناقض.

فإنّه يقال: هذا الاحتمال في حدّ نفسه ليس ببعيد إلّا أنّه خلاف ظاهر الرواية، فتأمّل.

في المراد من المانع

إشارة:

هل المستفاد من الرواية إلغاء احتمال المانع بعد إحراز وجود المقتضي والمقتضى، وهو الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ في حدوث النوم بعد إحراز الوضوء المقتضي للطهارة وحصول مقتضاها به؟ وذلك هو مورد السؤال في الرواية، وهو القدر المتيقّن منها أو أنّها تدلّ على أعّم من ذلك فإذا احتمل وجود المانع حين حصول المقتضي وقبل حصول المقتضى - بالفتح - يحكم بإلغاء هذا الاحتمال؟ مثلاً على القول باقتضاء الملاقاة النجاسة ومانعية الكرّية عنها فيقال بنجاسة الماء لدلالة الصحيحة على إلغاء احتمال المانع مطلقاً، فتدلّ على القاعدة المسمّاة بقاعدة المقتضي والمانع القاضية بوجود المقتضى - بالفتح - بمجرّد وجود المقتضي، فلا يضرّ باعتبارها احتمال وجود المانع قبل حصول المقتضى - بالفتح - .

ص: 144

ومقتضى التحقيق: عدم دلالتها على إلغاء احتمال المانع مطلقاً، بل مقصورة على مورد السؤال وهو احتمال حدوث المانع بعد إحراز وجود المقتضى - بالفتح - كما هو الظاهر من الرواية. والله هو العالم.

صحيحة زرارة الثانية

ومنها: صحيحة اُخرى لزرارة المضمرة أيضاً على ما في التهذيب ولفظها:

قال: قلت له: «أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شيء من منيّ، فعلّمت أثره إلى أن اُصيب له الماء، فحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت، ثم إنّي ذكرت بعد ذلك». قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «تعيد الصلاة وتغسله»، قلت: «فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته»؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «تغسله وتعيد»، قلت: «فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئاً ثم صلّيت فرأيت فيه»؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «تغسله ولا تعيد الصلاة»، قلت: لم ذلك؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»، قلت: «فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله»؟ قال: «تغسل من ثوبك الناحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك»، قلت: «فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه»؟ قال: «لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك»، قلت: «إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة»؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ».((1))

ص: 145


1- الطوسي، تهذيب الأحکام، ج، ص421 – 422، باب زيادات تطهير البدن والثياب، من النجاسات، ح1335/8.

ورواها الصدوق(قدس سره) في العلل بسند حسن مذكور فيها اسم الإمام المرويّ عنه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).((1))

والكلام فيها يقع في جهات

الاُولى: في تقريب الاستدلال بها وهو ما ذكر في مقام الاستدلال بالصحيح السابق وأنّ المراد من الحديث بيان القاعدة الكلّية الارتكازية ودرج المورد المذكور فيه في تلك القاعدة، فلا حاجة إلى تكراره.

الثانية: أنّه جاء في المورد الأوّل من الرواية: «قلت: فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئاً ثم صليت فرأيت فيه»؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «تغسله ولا تعيد الصلاة»، قلت: «لم ذلك»؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً»، وهذه الفقرة تحتمل إحدى القاعدتين إمّا الاستصحاب وإمّا قاعدة اليقين.

بيان ذلك: أنّه معتبر في الاستصحاب تعدّد زمان المتيقّن وزمان المشكوك بمعنى لزوم كون زمان المشكوك متأخّراً عن زمان المتيقّن وإن كان نفس زمان اليقين والشكّ متّحداً، فإذا كان المراد من قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» اليقين السابق على ظنّ إصابة النجاسة يكون قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «فليس ينبغي لك...» دليلاً للاستصحاب.

ومن جانب آخر: يعتبر فى قاعدة اليقين اتّحاد زمان المتيقّن مع زمان المشكوك وإن كان زمان اليقين والشكّ فيهما متعدّداً. وبعبارة اُخرى: يعتبر فيها اتّحاد المتيقّن والمشكوك زماناً واختلاف اليقين والشكّ فيهما زماناً.

ص: 146


1- الصدوق، علل الشرائع، ج2، ص361، ب80، ح1.

وبعبارة ثالثة: في قاعده اليقين لا يتعدّد المتيقّن والمشكوك بتعلّق اليقين بالمتيقّن في زمان والشكّ بالمشكوك في زمان آخر، بخلاف قاعدة الاستصحاب حيث يتعدّد المتيقّن والمشكوك بتعلّق اليقين بالمتيقّن في زمان وتعلّق الشكّ بالمشكوك في زمان آخر.

فالفقرة المذكورة من الحديث تنطبق على قاعدة اليقين إن كان المراد من قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» اليقين الحاصل بالفحص بعد الظنّ بالإصابة.

فعلى كون الفقرة ناظرة إلى قاعدة الاستصحاب لا يزول - برؤية الدم بعد الصلاة - اليقين السابق على ظنّ إصابة النجاسة، بخلاف ما إذا كان المستفاد منها قاعدة اليقين، فاليقين الحاصل بالفحص بعد الظنّ بالإصابة يزول برؤية الدم بعد الصلاة لا محالة.

وكيف كان لا ريب في ظهور الفقرة في الاستصحاب. واحتمال كونها ناظرة إلى قاعدة اليقين وكون اليقين في قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لأنّك كنت على يقين من طهارتك» اليقين الحاصل بالفحص، ضعيف جدّاً.

الجهة الثالثة: قد استشكل الشيخ على الاستدلال بالفقرة لحجّية الاستصحاب، وحاصله: أنّ مفاده عدم جواز نقض اليقين بالشكّ كما هو الظاهر من قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فيها: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»، مع أنّ إعادة الصلاة بعد العلم بعدم وقوعها مع الطهارة المشروطة بها ليس نقضاً لليقين بالشكّ، بل هي عين نقض اليقين باليقين، فكيف يعلّل عدم وجوب الإعادة بأنّها نقض لليقين بالشكّ. نعم، يصحّ أن يعلّل به جواز الدخول في الصلاة لأنّه يلزم من عدم جوازه نقض اليقين بالشكّ، كما لا يخفى.((1))

واُجيب: بأنّه من الممكن أن يكون الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أراد بيان ما هو شرط للصلاة في حال

ص: 147


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص331.

الشكّ في الطهارة وأشار بقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لأنّك كنت...» أنّ الشرط في حال الشكّ إحراز الطهارة لا نفسها ووجودها الواقعي، فيجب أن يعمل به وهو مجزٍ عمّا هو عليه، وترك العمل به قبل كشف الخلاف، نقض لليقين بالشكّ. وبعبارة اُخرى: أنّه كان في حال العمل واجداً لما هو الشرط أي إحراز الطهارة واليقين بإجزاء ما أتى به، وبعد الانكشاف يشكّ في وجوب الإعادة ولا يجوز له نقض اليقين بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة بالشكّ فيه، والمفروض أنّه لا ينكشف بانكشاف عدم كونه مع الطهارة عدم كونه مع ما هو الشرط في الصلاة، لأنّ الشرط فيها هو إحراز الطهارة لا نفسها ووجودها الواقعي.((1))

فإن قلت: على هذا الفرض إذا كانت الطهارة المستصحبة ليست مشروطة بها الصلاة فليست هي بحكم شرعي ولا موضوعاً لحكم شرعي فما هو الوجه في صحّة هذا الاستصحاب وتسميته به على خلاف الاصطلاح؟

قلت: يمكن الجواب عن ذلك بأنّ مقتضى الأدلّة الأوّلية اشتراط الصلاة بالطهارة الواقعية، والاكتفاء بإحرازها في حال الشكّ يكون بدلالة مثل هذه الرواية والجمع بينها وبين الأدلّة الأوّلية. ففي الحقيقة الطهارة بنفسها هي الشرط الواقعيّ الاقتضائي غير فعلي حتى في حال الشكّ، ولكن لا يمنع ذلك من استصحابها في ذلك الحال والحكم بعدم وجوب الإعادة بعد كشف الخلاف لكفاية إحرازها ولكون الشرط في هذا الحال أعمّ من الواقع وإحرازه، وإنّما اكتفي بالإحراز في مورد الشكّ لأجل التوسعة على المکلّفين وكثرة الابتلاء بالنجاسة والله هو العالم.

هذا إذا كان التعليل في الحديث الشريف بلحاظ حال الفراغ من الصلاة، وعليه يكون الاستصحاب ملحوظاً بنحو الموضوعية.

ص: 148


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص290 - 292.

ويمكن أن يقال: إنّ التعليل كان بلحاظ حال الصلاة لأنّه في حال الصلاة يكون مأموراً بعدم الإعادة ومقتضى حرمة النقض في حال الصلاة مع كون الأمر الظاهري مقتضياً للإجزاء هو عدم وجوب الإعادة.

والقول بوجوب الإعادة بعد كشف الخلاف مستلزم لرفع اليد عن حرمة نقض اليقين بالشكّ الثابتة في حال الصلاة الّتي دلّ دليلها على الإجزاء مطلقاً. فراجع في ذلك إن شئت ما ذكرناه في بحث الإجزاء.

فإن قلت: إنّه لا فائدة لاستصحاب الطهارة بعد كفاية عدم العلم بالنجاسة في صحّة الصلاة.

قلت: يمكن أن يقال: إنّ ما تحقّق فيه الإجماع كفاية عدم سبق العلم بالنجاسة إذا أتى بالصلاة في حال الغفلة وعدم الالتفات، وأمّا إذا التفت فلابدّ من إحراز الطهارة علماً أو ما هو قائم مقامه شرعاً، والمفروض في السؤال هو صورة الالتفات، والله هو العالم بالصواب.

الجهة الرابعة: اعلم: أنّه إن تفصّي عن الإشكال المذكور في الجهة الثالثة بما ذكرنا فيها فهو، وأمّا إن بقي الإشكال على حاله فلا يوجب ذلك إشكالاً في دلالة الرواية على حجّية الاستصحاب؛ لأنّ أمرها دائر بين دلالتها على قاعدة الاستصحاب دون اليقين، أو على قاعدة اليقين فإن كان مدلولها الأوّل فهو، وإن كان الثاني فتدلّ على الاستصحاب بالأولوية والفحوى، لأنّ اليقين لمّا يكون حجّة في قاعدة اليقين مع سريان الشكّ إليه ولا يجوز رفع اليد عنه بالشكّ الساري إليه، فكيف أنت باليقين الثابت في حال الشكّ في المتيقّن! فتدبّر.

صحيحة زرارة الثالثة

ومنها: صحيحة ثالثة لزرارة: «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز

ص: 149

الثلاث، قام فأضاف إليها اُخرى ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يُدخِل الشكّ في اليقين، ولا يُخلِّط أحدَهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ويُتِمُّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات».((1))

والاستدلال بها يبتني على كون المراد من اليقين اليقين بعدم الإتيان بالرابعة، ومن الشكّ الشكّ في إتيانها.

وفيه:((2)) أنّ ذلك خلاف مذهب الإمامية الحقّ من وجوب الإتيان بالركعة المفصولة لا المتّصلة.

وما كتبه المقرّر الفاضل: بأنّه خلاف ظاهر الرواية، فإنّ الظاهر منها لزوم الإتيان بالعمل على نحو يحصل اليقين بالامتثال وعدم الاعتداد بالشكّ في الامتثال وفي مفروض السؤال يحصل العلم بالفراغ بالبناء على الرابعة وإتمام الصلاة ثم الإتيان بركعة مفصولة وبه يحصل الفراغ، فأين هذا من الاستصحاب؟((3))

ففيه: أنّه لم لا يحصل العلم بالفراغ بعد الإتيان بركعة متّصلة سيّما بمعونة دلالة الدليل؟ فالإشكال کلّه يرجع إلى أنّه على المذهب الحقّ لا يحصل بذلك الفراغ، وليس الإتيان بالركعة المتّصلة علاجاً للواقعة وإلّا فمقتضى الاستصحاب عدم الإتيان بالرابعة وبقاء اشتغال الذمّة بها.

وهل يمكن الذبّ عن هذا الإشكال بأن يقال: إنّ أصل ترك الإتيان بالركعة الرابعة مفصولة أو متّصلة خلاف الاستصحاب، والإتيان بها كذلك واجب بحكم

ص: 150


1- الکلیني، الكافي، ج3، ص 351 - 352، ح3؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج8، ص216-217، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ب1، ح3؛ الطوسي، تهذيب الأحکام، كتاب الصلاة، باب أحكام السهو في الصلاة وما يجب منه إعادة الصلاة، ج2، ص186، ح740/41.
2- انظر الإشكال من الشيخ الأنصاري(قدس سره) في فرائد الاصول (ص331).
3- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص362.

الاستصحاب، والرواية مطلقة في كونها مفصولة أو متّصلة فتقيّد بما دلّ على لزوم كونها مفصولة.

وأمّا الإشكال في الاستدلال بالرواية بأنّها من الأخبار الخاصّة الدالّة على خصوص ما وردت فيها، فلا يستفاد منها العموم، وإلغاء خصوصية المورد فيها غير واضح.

فيرد بأنّ إلغاء الخصوصية يكون بمناسبة ورود الحكم بالاستصحاب في موارد متعدّدة مختلفة، وانطباق قضية: «لا تنقض اليقين بالشكّ» على غير مورد، بل دلالة نفس القضيّة على عموم مفادها وعدم اختصاصها بمورد دون مورد.

ومنها: ما رواه الخصال عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال: «قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين».((1))

واحتمل ظهورها في قاعدة اليقين لظهوره في اختلاف زمان اليقين والشكّ الّذي هو في قاعدة اليقين، فلا يمكن اجتماعهما في زمان واحد.

ودعوى تداول هذا التعبير بالنسبة إلى الاستصحاب، لا يجعله ظاهراً في الاستصحاب.

وقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «فليمض على يقينه» ليس ظاهراً في اليقين الفعلي لو لم نقل بكونه ظاهراً في اليقين السابق الزائل بالشكّ الساري. ويمكن دعوى ظهوره في عدم رفع اليد عن اليقين مطلقاً سواء زال بالشكّ أو كان باقياً، فعلى کلّ حال يدلّ على الاستصحاب.

ومنها: خبر الصفّار عن عليّ بن محمد القاساني، قال: كتبت إليه - وأنا بالمدينة - عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «اليقين لا يدخله الشكّ، صم للرؤية وأفطر للرؤية».((2))

ص: 151


1- الصدوق، الخصال، ص619.
2- الطوسي، تهذيب الأحكام، ج4، ص159، ح445/17، ب41، باب علامة أوّل شهر رمضان وآخره.

وتقريب دلالته على الاستصحاب أنّ المراد من اليقين فيه اليقين بشعبان ومن الشكّ الشكّ في زواله بدخول شهر رمضان.

لا يقال: إنّ ذلك موقوف على كون شهر شعبان عنواناً واحداً وشيئاً فارداً يصدق عليه أنّه كان متيقّناً وشكّ في بقائه، وأمّا إذا لم يكن كذلك فليس في البين يقين سابق متعلّق بيوم شكّ فيه أنّه من شعبان أو شهر رمضان.

فإنّه يقال: لا يبعد دعوى كون شعبان عند العرف عنواناً واحداً تعلّق به اليقين وشكّ في بقائه.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى أنّ الرجوع إلى الأخبار الواردة في يوم الشكّ يوجب القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنّه لا يجب الصوم والإمساك إلّا إذا حصل اليقين بدخول شهر رمضان فراجع في ذلك جامع أحاديث الشيعة.((1)) ولكن حكي عن السيّد الأصفهاني أنّه قال: إنّي راجعت الأخبار المنقولة في ذاك الباب فما وجدت في شيء منها شاهداً على كون متعلّق اليقين هو دخول شهر رمضان.

ومنها: قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في موثّقة عمّار: «كلّ شيء طاهر حتى تعلّم أنّه قذر...».((2))

وقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «الماء کلّه طاهر حتى تعلم أنّه قذر».((3))

وقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام بعينه».((4))

ص: 152


1- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج2، ص384، ب12، من أبواب ما ينقض الوضوء وما لا ينقض.
2- المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، ج2، ص583، ح4، باب 30، من أبواب النجاسات؛ الصدوق، المقنع، ص15؛ الصدوق، الهداية، ص65، ب11، مع اختلاف يسير.
3- الکلیني، الكافي، ج3، ص1، ح2 – 3، باب طهور الماء؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج1، ص134، أبواب الماء المطلق، ب1، ح5، باختلاف يسير.
4- الکلیني، الكافي، ج5، ص313، ح39 -40، مثله باب النوادر من كتاب المعيشة؛ الطوسي، تهذيب الأحکام، ج7، ص226، ح988 و989 ؛ ج9، ص79/ح337؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج17، ص88-89، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح1 و4 مثله.

إعلم: أنّهم قد اختلفوا في مدلول هذه الأخبار، فمنهم من قال: بدلالتها على الاستصحاب بكون مدلول المغيّى الحكم الواقعي كالحلّية الواقعية أو الطهارة الواقعية، ومدلول الغاية استمرار الحكم إلى حصول العلم بطروّ ضدّه أو نقيضه، لا تحديد الموضوع.

ومنهم من قال: إنّ مفادها تأسيس القاعدتين الطهارة والحلّية في ما شكّ في طهارته أو حلّيّته من غير لحاظ الطهارة أو الحلّيّة السابقة، ودلالتها على ذلك تكون بالمغيّى والغاية جميعاً، والغاية تدلّ على تحديد الموضوع.

والقول الثالث: أن تكون في مقام تأسيس القاعدتين والاستصحاب جميعاً أيضاً بمجموع الغاية والمغيّى.

والقول الأوّل مختار صاحب الكفاية. والثاني مختار الشيخ والسيّد الاُستاذ(قدس سره).

ولا يخفى عليك: عدم صحّة القول الثالث عقلاً، لأنّه يوجب استعمال اللفظ في المعنيين والجمع بين اللحاظين؛ فإنّ المقصود بالقاعدتين هو إثبات الطهارة والحلّيّة لمشكوك الطهارة أو الحلّيّة، والاستصحاب استمرار الحكم الواقعي والطهارة الثابتة للموضوع بعنوانه الأوّلي، ولا جامع بين الاستصحاب وبين القاعدة الّتي موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي. ولا يمكن اجتماع ثبوت الطهارة سابقاً باعتبار الاستصحاب، وعدم ثبوتها باعتبار الموضوع للقاعدة للزوم اجتماع النقيضين. وعلى ذلك يدور الأمر بين كون مفاد الأخبار القاعدتين أو الاستصحاب.

وأفاد السيّد الاُستاذ(قدس سره) أنّ الأخبار ظاهرة في القاعدتين، لأنّ الأخبار ظاهرة في تقييد أصل الحكم لا استمرارها. وبعبارة اُخرى: إنّها ظاهرة في تحديد الموضوع.

وذلك لأنّ إرادة الاستصحاب منها تحتاج إلى إضمار لفظ الاستمرار ولحاظ الثبوت واقعاً. ولأنّ الظاهر من الروايات أنّها بجميعها من صدرها وذيلها تكون لبيان حكم واحد لا أن يكون الصدر دالّا على حكم والذيل دالّا على حكم آخر، فتدبّر.

ص: 153

تذنيب:

لا يخفى عليك أن في قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «حتى تعلم أنّه قذر» احتمالان، أحدهما: أن يكون «قذر» فيه فعل الماضي. ثانيهما: أن يكون صفة مشبهة على وزن «فعل» بكسر العين كخشن.

ويقوّي الأوّل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذيل الرواية: «فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم ليس عليك» وعلى ذلك، فالرواية تختصّ بالشبهة الموضوعية إذا كان الشكّ في القذارة العرضية وأمّا الشبهات الحكمية أو الموضوعية الّتي يكون الشكّ فيها في نجاسة الشيء أو طهارته بالذات كالمائع المردّد بين البول والماء لا يشملها الحديث، لدلالة قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «حتى تعلم أنّه قذر» بنحو الفعل الماضي على الشكّ في عروض النجاسة.

الكلام في الأحكام الوضعية

إنّ من الأقوال الّتي أحصيت في الاستصحاب((1)) القول بالتفصيل بين الأحكام الوضعية والتكليفية،((2)) وحيث لا فائدة في البحث عن سائرها - بعد ما استقرّ الاستدلال على حجّية الاستصحاب بالروايات من زمان والد شيخنا البهائي إلى زماننا هذا - اقتصرنا في الكلام عن هذه الأقوال المفصّلة بالبحث عن التفصيل المذكور، لأنّه بعد إطلاق الروايات لا مجال لتلك التفصيلات والأقوال.

وأمّا الأحكام الوضعية فلابدّ من الكلام عنها وأنّها هل تكون من الأحكام؟ وهل تنحصر مواردها ببعض العناوين؟ أو أنّها تشمل کلّ ما يكون بالوضع؟ وهل تشمل

ص: 154


1- ذكر منها أحد عشر قولاً في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص328).
2- إنّه تفصيل مهمّ علماً وعملاً يستفاد من کلما ت الفاضل التوني صاحب الوافية، ص201؛ ونقل عنه في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص348).

ما كان مستقلّا بالوضع؟ أو يعمّ ما ينتزع من التكليف؟ وعلى کلّ حال ينبغي البحث عنها، والله هو الهادي إلى الصواب، فنقول: الكلام فيه يقع في جهات:

الجهة الاُولى: تعريف الحكم

اختلفت کلماتهم في تعريف الحكم، فعن بعضهم تعريفه: بأنّه خطاب الله تعالى المتعلّق بأفعال المکلّفين من حيث الاقتضاء والتخيير.

وهذا لا يشمل الأحكام الوضعية ويختصّ بالأحكام الخمسة التكليفية، ولذا زادوا عليه «الوضع».

ومع ذلك اُورد على هذا التعريف: بأنّ الحكم لا ينحصر في الخطابات اللفظية بل يعمّها والأفعال الصادرة عن الشارع في مقام بيان الحكم وإنشائه مثل الوضوءات والصلوات البيانية.

هذا مضافاً إلى أنّ الحكم ليس ظاهر الخطاب، بل الخطاب دالّ عليه والحكم مدلوله.

ولعلّ التعريف الأسدّ والأخصر ما حكى المقرّر الفاضل عن السيّد الاُستاذ(قدس سره) وهو: أنّ الحكم ما جعله الشارع بالجعل الاستقلالي أو التبعي.((1)) وهذا التعريف جامع شامل للحكم التكليفي والحكم الوضعي.

كيفيّة جعل الأحكام الوضعية

الجهة الثانية:

هل الأحكام الوضعية مجعولة بالجعل الاستقلالي بتعلّق الجعل بنفس عناوينها، أو

ص: 155


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص370.

مجعولة بالجعل التبعي بتبع جعل الأحكام التكليفية ومنتزعة عنها؟((1))

وليس المراد كونها منتزعة من جعل نفس عناوينها والخطاب المتعلّق بها، فإنّ الأحكام التكليفية أيضاً كذلك منتزعة من جعل نفس عناوينها والخطابات المتعلّق بها كقوله تعالى: ﴿أَقيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فإنّ حكم وجوب الصلاة منتزع منه. بل المراد من كونها منتزعة انتزاعها من الأحكام التكليفية وأنّها مجعولة بالجعل التبعي.

أنحاء الوضع

وإذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الوضع على أنحاء:

فمنها: ما لا يقبل الجعل التشريعي. وعدّه من أنحاء الوضع مبنيّ على المسامحة وباعتبار عدم إمكان وقوع الوضع بالنسبة إليه كما يأتي.

ومنها: ما يقبل الجعل التبعي دون الاستقلالي.

ومنها: ما يقبل التبعي كما يقبل الاستقلالي.

فالأوّل منها: كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو سبب للتكليف وشرطه ومانعه ورافعه، فهذا القسم خارج عن وصول يد التشريع إليه لا مستقلّا؛ لأنّ هذه العناوين تنتزع من ذوات ما هو السبب أو الشرط أو المانع أو الرافع، وهذه اُمور واقعية موجودة في الخارج لا تنفكّ عنها خصوصياتها وما تنتزع عنها من العناوين.

ولا تبعاً للتكليف، لتأخّر التكليف عنها كتأخّر وجود کلّ شيء عن سببه وشرطه ومانعه، ولتهافت انتزاع رافع الشيء عن نفسه.

وبالجملة: هذه العناوين ليست مجعولة أصلاً، لا تبعاً ولا استقلالاً.

ص: 156


1- كما ذهب إليه الشيخ في الفرائد (ص350)، ونسبه إلى المشهور. وفصّل المحقّق الخراساني بين شرائط التكليف وشرائط المکلّف به في الكفاية (ج2، ص303 وما يليها) فراجع.

فهذا القسم خارج عن البحث بأنّه الأحكام الوضعية هل هي مجعولة بالاستقلال أو تبعاً للأحكام التكليفية، لأنّ مثل هذا البحث يأتي فيما تناله يد الجعل التشريعي، فما ليس كذلك يكون خارجاً عن البحث ولا يطلق عليه الحكم فضلاً عن كونه تكليفياً أو وضعياً.

وأمّا الثاني: فهو كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء للمكلّف به وشرطه ومانعه. فهو - على ما في الكفاية - ليس مجعولاً بنفسه؛ لأنّ اتّصاف الشيء بهذه الاُمور لا يعتبر قبل تعلّق الأمر به فلا يكون الاتّصاف بها إلّا باعتبار كونها مأخوذة في متعلّق الأمر، فتكون مجعولة بتبع الأمر والتكليف.((1))

وأورد عليه السيّد الاُستاذ(قدس سره) كما في الحاشية: بأنّ الجزء مثلاً لا يكون جزءاً من المأمور به قبل تعلّق الأمر به، ولكنّه جزء لما تعلّق به الأمر، وما هو متقدّم على الأمر ويتوقّف عليه الأمر فهو جزء للصلاة الّتي ينطبق عليه عنوان المأمور به بعد تعلّق الأمر بها لا يمكن أن يكون متأخّراً عن الأمر به، فاعتبار السورة - مثلاً - جزءاً للصلاة مجعول مستقلّ قبل تعلّق الأمر بها، وباعتبار تعلّق الأمر بها يكون جزءاً للمأمور به. وعلى هذا، يصحّ أن يقال: إنّ الجزئية مجعولة بنفسها لا يمكن أن تكون مجعولة بالتبع، للزوم تأخّر ما حقّه التقدّم وتقدّم ما حقّه التأخّر، فتدبّر.

وأمّا الثالث: فاعلم: أنّ في مثل القضاء والحجّية والنيابة والحرّية والرقّية والزوجية والملكية وغيرها من الاعتبارات يمكن الجعل التشريعي، وليس هنا ما يدلّ على عدم إمكانه كما كان في القسم الأوّل، بل وقوعه في الخارج أيضاً ممّا لا ريب فيه.

وإنّما الكلام في أنّ جعل هذه العناوين يكون بالاستقلال، أو هي مجعولات بتبع

ص: 157


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص304 - 305.

جعل الأحكام، أو منتزع عن الأحكام؟ والتحقيق أنّها منشئات بأنفسها. فولاية الولي نشأت بنفسها ليست منتزعة عن جواز تصرّفاته ولا بتبع الحكم بجوازه. وكذا مثل الحرّية منشأة بإنشاء المولى، والزوجية بالعقد، والملكية أيضاً بالعقد. فربما تتحقّق هذه العناوين ولم تتحقّق الأحكام. وربما تتحقّق الأحكام ولم تتحقّق هذه العناوين.

وبالجملة: فهذه الولاية الكبرى والإمامة العظمى الثابتة للنبيّ والوليّ ناشئة بنفس إنشائها من الله تعالى، ولا شكّ في أنّ جعلها للنبيّ والوليّ من جانبه تعالى جعل مستقلّ ليس منتزعاً من الأحكام التكليفية وجواز تصرّفهما في الاُمور، بل الأمر هنا بالعكس ويكون التكليف تابعاً للوضع، هذا.

قال صاحب الكفاية هنا: وهمٌ ودفع،((1)) وكأنّه أراد به دفع الإشكال عمّن يقول بأنّ الملكية من الاعتبارات المجعولة بالإنشاء الّتي تكون على اصطلاح أهل المعقول من خارج المحمول، لأنّه ليس بحذائه شيء في الخارج مع أنّ الملك باصطلاحهم من المحمول بالضميمة وهو لا يتحصّل بالإنشاء بل بأسباب خارجية، كالتعمّم والتقمّص والتنعّل.

وحاصل دفعه: أنّ الملك مشترك بين الملكية الحاصلة بالإنشاء، وهو غير الملك الحاصل بتلك الأسباب المصطلح عند أهل المعقول.((2))

ص: 158


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج2، ص306.
2- إنّ مقوله «المِلْك» عند أهل المعقول، هي ما تسمّى أيضاً تارة ب- «له» واُخرى ب- «الجِدَة» ورابعة ب- «القضيّة». وقال العلّامة الحلّي(قدس سره): «ولخفائها عبّر المتقدّمون عنها بعبارات مختلفة كالجدة وقد عرّفوها بأنّها نسبة الجسم إلى الجسم المنطبق، على بسيطه أو على جزء منه، إذا كان المنطبق ينتقل بانتقال المحاط به. وقالوا أيضاً في تعريفها: نسبة الجسم إلى الجسم المنطبق عليه، وهو ضروري في وجود الجسم على أحسن أحواله وحفظه ودفع الآفات عنه. وقالوا أيضاً: الملك عبارة عمّا يحصل للجسم بسبب نسبته إلى مالكه، أو لبعضه، ينتقل بانتقاله، كالتختّم والتقمّص. انظر مصادر هذه التعاريف في هامش نهاية المرام في علم الكلام، ص391.

وبعبارة اُخرى للملك معنيان بأحدهما يكون من خارج المحمول وهو: كونه مجعولاً بمجرّد الإنشاء والاعتبار. وبالآخر يكون من المحمولات بالضميمة كالتعمّم والتقمّص والتلبّس. ولا ريب في أنَّ إطلاق الملك على الأوّل حسب اللغة وعدّه من خارج المحمول حسب الاصطلاح وعلى الثاني يكون على حسب الاصطلاح فقط.

وهذا إشكال على أهل المعقول حيث اختصّوا الملك الّذي ظاهر معناه اللغوي هو ما يوجد بالإنشاء بما يوجد بأسباب اُخرى بحيث يخرج منه ما هو بأصل المعنى اللغوي الملك.

وكيف كان، فالمعنى والمراد لا يختلف باختلاف الاصطلاحات، فالملكية منشأة بالاستقلال وإن لم تكن من الملك الّذي اصطلحه من يسمّى بالاصطلاح من أهل المعقول، فالحقيقة لا تتغيّر ولا تتبدّل بالاصطلاح.

وصاحب الكفاية كأنّه أراد الدفع عن الاُصوليين وأنّهم لم يطلقوا الملك في غير موضعه، ولم يدافع عن أهل المعقول بأنّهم أطلقوا الملك في غير موضعه، كأنّه يرى أنّه يجب على الجميع متابعة اصطلاحات أهل المعقول.

ونعم ما قال الشيخ صاحب الذريعة في توصيف كفاية الاُصول: وقد أدخل المسائل الفلسفية في الاُصول أكثر ممّن قبله من مؤلّفي الرسائل والفصول والقوانين.((1)) انتهى. والله هو العاصم، وشكّر الله مساعيه ومساعي الجميع.

هذا، وبعد ما ذكرناه من التفصيل في حال الوضع فاعلم: أنّه لا مجال للاستصحاب إذا كان على النحو الأوّل الّذي قلنا: إنّه خارج من أقسام الوضع، وذلك لأنّه من الواجب أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا حكم شرعي، والسببية والشرطية والمانعية للتكليف ليست من ذلك.

ص: 159


1- آغا بزرگ الطهراني، الذریعة إلی تصانیف الشیعة، ج6، ص 186.

وترتّب التكليف - الّذي هو حكم شرعيّ - عليها لا يجزي، لأنّه ليس من ترتّب الحكم على موضوعه بل يكون من ترتّب المعلول على علّته وهو ترتّب عقلي لا شرعي.

وأفاد السيّد الاُستاذ بأنّ ذلك يتمّ إن كان الاستصحاب جارياً في نفس العلّة.

أمّا إذا كان جارياً في علّية العلّة فيجوز إجراء الاستصحاب فيه، وذلك لأنّ حقيقة علّية شيء لشيء آخر إصداره إيّاه وصدور المعلول منه، وكلّ منهما بحسب الحقيقة عين الآخر كالإيجاد والوجود وإن كانا متغايرين بحسب المفهوم، فاستصحاب العلّيّة حقيقة ترجع إلى استصحاب المعلول أي نفس التكليف، فلا مانع من استصحابه لأنّه حكم شرعي، فتأمّل فإنّ الحكم بالاستصحاب على وجود أركانه كموضوعه على هذه الدقائق البعيدة من الأذهان والقول بشمول الأدلّة له ليس خالياً من الإشكال، كما قيل مثل ذلك في استصحاب العدم الأزلي.

ثم إنّه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقلّ بالجعل فإنّه يصحّ التعبّد به في حال الشكّ، وكذا في ما كان مجعولاً بالتبع، فإنّ أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ولو بالتبع. نعم، لو كان متبوعه مجرى الاستصحاب يكفي جريان الاستصحاب فيه كما هو الشأن في كلّ شكّ مسبّبي، فلا محلّ لإجراء الاستصحاب فيه إذا كان جارياً في سببه، والله هو العالم.

ص: 160

تنبيهات

التنبيه الأوّل: اعتبار فعليّة اليقين والشكّ في الاستصحاب

المعتبر في الاستصحاب فعليّة الشكّ واليقين، فلا يجري في حقّ الغافل، فمن أحدث وغفل ولم يحدث له شكّ في بقاء حدثه وصلّى لا يجري استصحاب الحدث في حقّه بشكّه بعد الصلاة في أنّه تطهّر قبل الصلاة أم صلّى محدثاً بل يحكم بصحّة صلاته لقاعدة الفراغ. بخلاف من أحدث والتفت وشكّ في الطهارة فإنّ الاستصحاب يجري في حقّه، فإن لم يتطهّر وغفل وصلّى يحكم ببطلان صلاته.

نعم، يمكن إجراء الكلام فيما إذا شكّ في الطهارة وبنى على الحدث بحكم الاستصحاب وغفل عن كونه محدثاً وصلّى ثم بعد الصلاة شكّ في أنّه تطهّر وصلّى أم صلّى مع الحدث، فهل في هذه الصورة تجري قاعدة الفراغ كالصورة الاُولى، لأنّه لا فرق في الغفلة عن الحدث بين ما إذا كان معلوماً بالوجدان أو بالأصل؟ أو أنّ المسألة تبتني على تحقيق مورد قاعدة اليقين؟ فالكلام فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّ قاعدة الفراغ هل تختصّ بما إذا حدث الشكّ بعد الفراغ من العمل ولم يكن مسبوقاً بالشكّ قبل العمل، أو تعمّ ما إذا كان مسبوقاً بالشكّ قبل العمل وإن غفل عنه حين العمل؟

حكى المقرّر الفاضل عن السيّد الاُستاذ: أنّه لا إطلاق لروايات باب قاعدة الفراغ

ص: 161

تشمل الصورة الثانية، بل تكون ظاهرة في الشكّ الحادث بعد العمل مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فامض فيه» فإنّ قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «فذكرته تذكّراً» ظاهر في حدوث الشكّ بعد العمل. ووجه ذلك الظهور أيضاً القرينة المغروسة في أذهان أهل العرف من أنّ من عمل عملاً إنّما يعمله جامعاً لأجزائه وشرائطه فلا يترك شيئاً منه إلّا لعروض غفلة، ومع الشكّ والترديد لا يتمشّى منه العمل، وإذا حصل له الشكّ بعد العمل لا يعتني به، وهذه قرينة مانعة عن الإطلاق.((1))

أقول: فيه: أنّ في الحدث الثابت بالأصل أيضاً إذا غفل عنه يحكم بكون العمل واقعاً جامعاً للشرائط لمغروسية ما ذكر في الأذهان.

المقام الثاني: في أنّه على فرض شمول أدلّة القاعدة ما إذا كان منشأ الشكّ سابقاً على العمل، هل يجري الاستصحاب في حقّ من أحدث ثم شكّ في رفعه وغفل وصلّى ثم شكّ بعد الصلاة في صحّتها باعتبار الشكّ السابق على الصلاة، أو تجري في حقّه قاعدة الفراغ؟

قد أفاد السيّد الاُستاذ(قدس سره): أنّ حكومة القاعدة على الاستصحاب إنّما تكون إذا كان مجراه بعد العمل باعتبار الشكّ الطارئ بعده. وأمّا إذا كان مجراه الشكّ السابق على العمل فيجري الاستصحاب دون القاعدة، لأنّ مجراها بعد العمل.

وبالجملة: في الشكّ الحادث بعد الفراغ إذا لم يكن مسبّباً من الشكّ السابق على العمل فقاعدة الفراغ هي الحاكمة على الاستصحاب فلا يجري استصحاب الحدث بالنسبة إلى الصلاة. بخلاف الشكّ السابق، فإنّه مجرى الاستصحاب ولا تجري فيه القاعدة.((2))

ص: 162


1- . الحجّتي البروجردي، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج2، ص383.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ص383.

ولكن بعد ذلك يمكن أن يقال: إذا كان منشأ القاعدة الارتكاز المذكور فالغفلة عن الحدث المعلوم بالأصل أولى بجريان القاعدة فيه من الغفلة عن الحدث المعلوم بالوجدان.

وبعبارة اُخرى: الغفلة عن الحدث المشكوك فيه - وإن كان مجری الأصل - أولى بإجراء القاعدة فيه وعدم الاعتناء به من الحدث المعلوم بالوجدان. اللّهمّ إلّا أن يكون ذلك بالتعبّد المحض. والله هو العالم.

التنبيه الثاني: في الإشكال على جريان الاستصحاب
في الأمارات

قد اُشكل على جريان الاستصحاب في الأحكام الّتي قامت الأمارات والطرق المعتبرة على ثبوتها، فاُحرز حدوثها بها لا بالوجدان، وشكّ في بقائها بعد البناء على حدوثها؛ وذلك لعدم اليقين بالحدوث، بل وعدم الشكّ في البقاء لأنّه فرع اليقين بالحدوث، والمعتبر في الاستصحاب اليقين بالحدوث والشكّ في بقاء المتيقّن.

وأفاد السيّد الاُستاذ(قدس سره) هنا:((1)) أنّ ما يمكن أن يؤخذ في موضوع الاستصحاب والتعبّد بالبقاء في مقام الثبوت والواقع إمّا أن يكون نفس ثبوت الشيء واقعاً وإن لم يكن ثبوته محرزاً، فصحّة جريان الاستصحاب واقعاً يدور مدار الثبوت واقعاً وإن كان جريانه بحسب الظاهر لعلّه يحتاج إلى طريق محرز وبدونه لا يجري. نعم، يترتّب عليه صحّة جريان الاستصحاب فعلاً على تقدير الثبوت فيما كان هناك أثر شرعيّ مترتّب على هذا العنوان، وهذا هو الوجه الّذي اختاره المحقق الخراساني(قدس سره) في مقام الإثبات.((2))

ص: 163


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص385.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص309.

ووجهه: أنّ التعبّد والتنزيل شرعاً يكون في البقاء لا في الحدوث فيكفي الشكّ في البقاء على تقدير الثبوت، فيتعبّد به على هذا التقدير فيترتّب عليه ما يترتّب على البناء على ثبوته.

وإمّا يكون المأخوذ في موضوع الاستصحاب نفس ثبوت الشيء إذا كان محرزاً باليقين أو الأمارة، فيجري استصحابه على فرض إحرازه بأيّ محرز سواء كان اليقين أو الأمارة.

فعلى هذين الوجهين لا مانع من جريان الاستصحاب في الأحكام الثابتة بالأمارة.

وهنا وجه ثالث: وهو أن يكون موضوع الاستصحاب الشيء المحرز بخصوص اليقين، فيجري الاستصحاب إذا كان هو محرزاً باليقين دون الأمارات. هذا کلّه في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات فالّذي استظهره صاحب الكفاية هو: أنّ اليقين في الروايات مأخوذ من حيث كاشفيته وطريقيته لا لموضوعيته وبما هو هو، وعلى ذلك يجري الاستصحاب في موارد الأمارات ومؤدّاها كما يجري فيما تعلّق به اليقين.((1))

ولكن ردّ عليه السيّد الاُستاذ(قدس سره) بكونه خلاف الظاهر من الأخبار لظهورها في أنّ اليقين بما هو يقين مأخوذ في الحكم. ومع الغضّ عن ذلك لا ظهور لها فيما ذكر. فلا يحتجّ بها على أحد الاحتمالين لإجمال الروايات.

نعم، القدر المتيقّن منها صورة اليقين، إلّا أن يدّعى القطع بعدم خصوصية اليقين وأنّه جاء في الروايات لمحض الكاشفية وباعتبار كونه أحد المحرزات.

والحاصل: أنّ السيّد الاُستاذ(قدس سره) كأنّه استقرّ نظره على أنّ الحكم بجريان الاستصحاب في موارد الأمارات يحتاج إلى ارتكاب خلاف الظاهر، ولذا قال: إنّ الاحتياج بارتكاب مخالفة الظاهر مبنيّ على كون مدلول الأخبار حجّية الاستصحاب، كما هو كذلك عند الشيخ وصاحب الكفاية. أمّا بناءً على كون مدلولها حجّية قاعدة المقتضي والمانع فلا يحتاج شمول الأخبار لموارد الأمارات من ارتكاب خلاف الظاهر

ص: 164


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص310.

وحمل اليقين على أعمّ منه وسائر المحرزات، وذلك لاعتبار اتّحاد القضية المشكوكة والمتيقّنة في الاستصحاب دون القاعدة.

فإذا قامت البيّنة على عدالة زيد يوم الخميس وشككنا فيها يوم الجمعة لا يجري استصحاب عدالته في يوم الجمعة، لأنّ عدالته لم تكن متيقّنة يوم الخميس بل قامت الحجّة على ثبوتها فيه، وقيامها عليه كذلك تجعلها مظنون الوجود - بالظنّ المعتبر - لا متيقّن الوجود. واليقين بحجّية البيّنة لا يكفي في تحقّق أركان الاستصحاب، فإنّه تعلّق بغير ما تعلّق به الشكّ وهو عدالة زيد.

وهذا بخلاف القاعدة، فإنّ عليها يبنى على بقاء عدالته، فإنّ مقتضى حجّية البيّنة - الّتي تعلّق بها اليقين - ترتّب جميع آثار العدالة الواقعية، ولا ترفع اليد عنها بالشكّ في حدوث ما يزيل به عدالته، والقضية المشكوكة فيها غير المتيقّنة. وهذا عين کلام المقرّر عنه(رحمه الله).

وبالجملة: شمول أخبار الباب لمثل الأحكام الثابتة بالأمارات غير القطعية بناءً على حملها على الاستصحاب مشكل جدّاً، لما استظهرناه من الأخبار أنّ اليقين مأخوذ من حيث هو هو لا من حيث هو كاشف... إلخ.((1))

أقول: لا إشكال في ما ذكر من الدعوى، واستظهار عدم خصوصية اليقين. مضافاً إلى إمكان إلغاء هذه الخصوصية في مثل هذه الاُمور والقواعد الجامعة المفيدة.((2))

ص: 165


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص388.
2- قد كتبنا حول هذا التنبيه قبل ستّين سنة عندما كنت متشرّفاً بتقبيل عتبة الروضة المقدّسة العلوية على من ثاوى فيها آلاف الثناء والصلاة والتحية تقريراً لبحث سيّدنا الاُستاذ الأمجد صاحب المقامات الرفيعة السيّد جمال الدين الگلپايگاني(قدس سره) ورفع الله درجته فاغتنمت نقله هنا ليكون ذكراً له وسبباً لنزول الرحمة عليّ وعلى الّذي يراه ويقرأه، فقد قيل: «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة». المدني الشیرازي، ریاض السالکین، ج5، ص120؛ وإليك ما كتبت: قد عقد المحقّق الخراساني(قدس سره) مضافاً إلى التنبيهات الّتي ذكرها الشيخ(قدس سره) تنبيهين في الكفاية وجعلهما التنبيه الأول والثاني، والمقصود فعلاً بيان مراده في الثاني وما فيه وبيان ما اختاره المحقّق النائيني(قدس سره) في المقام ضمناً، والظاهر أنّ مختار النائيني مأخوذ من اُستاذه السيّد محمد الأصفهاني والميرزا الكبير، بل من الشيخ قدس الله أسرارهم، فنقول: إنّ الإشكال في المقام هو أنّه بناءً على اعتبار اليقين بالثبوت في الاستصحاب كيف يمكن القول بجريانه في مؤدّيات الأمارات حيث إنّه لا يكون لنا فيها يقين بالثبوت فإنّه على تقدير يكون الحكم ثابتاً وعلى تقدير لا يكون حكم أصلاً، فليس لنا يقين بالثبوت بل ليس لنا شكّ فعليّ. والذبّ عن الإشكال على ما ذهب إليه: أنّ التعبّد إنّما يكون في جهة البقاء ولو على تقدير الثبوت فلذا لو لم يكن للمتيّقن أثر وكان للبقاء يستصحب. وأمّا قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا تنقض اليقين بالشكّ» فلا يدل على لزوم اليقين الفعليّ بل الظاهر أنّه في مقام التوطئة والتمهيد لبيان الحكم بالبقاء في صورة الشكّ في البقاء ولو على تقدير ثبوت المستصحب فلا مدخلية لليقين بالثبوت في الحكم بالبقاء كما يشير إلى ذلك تعريفه الاستصحاب بإبقاء ما كان، فالمراد من قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا تنقض اليقين..» إثبات الملازمة بين ثبوت الشيء ولو تقديراً وبقائه، والملازمة لا تدور مدار ثبوت المتلازمين فلا مانع من التعبّد بالبقاء علی تقدير الثبوت، ومنزلة الاستصحاب للأدلّة منزلة الإطلاق فكما أنّه لو كان لنا إطلاق يعمّ صورة الشكّ واليقين كان الواجب علينا الأخذ به كذلك الاستصحاب بمنزلة ذلك الإطلاق، فبناءً على هذا إذا شككنا في بقاء الحكم الّذي هو مؤدّى الأمارة نحكم بالبقاء، فالاستصحاب دليل على الملازمة بين الثبوت والبقاء، والأمارة دليل على الثبوت على تقدير الإصابة، ولا يخفى أنّ الدليل على أحد المتلازمين دليل على الآخر. ولا يخفى: أنّ مبنى هذا القول أنّ دليل الاستصحاب ناظر إلى الواقعيات كالأمارة وبناءً عليه لا يمكن التفصّي من الإيراد إلّا بما ذكره، والّا فلو قلنا بأنّ الاستصحاب هو الجري على طبق ما كان وأنّ دليله ناظر إلى الحكم بعد إحرازه ولا فرق في أن يكون المحرز له القطع أو ما يقوم مقامه، وأنّ اليقين في قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا تنقض اليقين بالشكّ» يكون ملحوظاً إمّا من حيث كونه طريقاً وكاشفاً عن المتيقّن، أو من جهة كونه موجباً لتنجّز الحكم عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة. فيمكن الذبّ عنه بأنّه ولو قلنا باعتبار اليقين بالثبوت لا يرد الإشكال؛ لأنّ المستصحب قد اُحرز بقيام الأمارة عليه كما هو مختار المحقّق النائيني(قدس سره). وكيف كان: يرد على المحقّق الخراساني(قدس سره) أولاً: أنّ القول بأنّ قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا تنقض اليقين..» للتوطئة والتمهيد بعيد جدّاً، بل ظاهر الكلام اعتبار اليقين بالثبوت. وثانياً: كيف يصحّ القول بأنّ الاستصحاب بمنزلة إطلاق الدليل؟ لأنّه إنّما يصحّ إذا كان المستصحب حكماً ظاهرياً، وأمّا مع البناء على كون الأمارات والطرق ناظرة إلى الواقع وعدم كون الاستصحاب ناظراً إليه بل ناظر إلى الحكم بعد إحرازه كما هو الحقّ وإليه ذهب في غير المقام، فلا يمكن جعل الاستصحاب بمنزلة الإطلاق للأمارات إلّا أن يلتزم بمقالة الفاضل النهاوندي(قدس سره) وأنّ مؤدّى الأمارات يكون کلّ من الحكم الواقعي والظاهري، ولا يخفى ما فيه ولا يلتزم المحقّق الخراساني(قدس سره) به أصلاً. ثم إنّه لو قلنا بأنّ مؤدّيات الطرق أحكام ظاهرية فعلية بمعنى أنّه لو صادفت الأمارة الواقع فالحكم في حقّه هو الحكم الواقعي واقعاً وظاهراً ولو أخطأت اُنشأ على طبقها حكم ظاهريّ فعليّ مع بقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه، فلا يتوجّه الإشكال ولكنّ المحقّق عنده أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات نفس التنجّز والعذر بلا إنشاء حكم، والله هو العالم. [منه دام ظلّه العالى].

ص: 166

التنبيه الثالث: في استصحاب الكلّي

المستصحب إن كان حكماً أو موضوعاً جزئياً فلا ريب في جواز استصحابه.

وإن كان أمراً کلّياً فإمّا أن يكون الشكّ في بقائه من جهة الشكّ في بقاء الفرد الّذي يكون الكلّي موجوداً في ضمنه، فلا إشكال في استصحاب الكلّي لترتيب الأثر الثابت له. كما لا إشكال في استصحاب الفرد المشكوك بقاؤه الّذي كان الكلّي موجوداً في ضمنه للأثر الشرعي المترتّب على نفس الفرد. وهذا مثل الشكّ في الحيوان باعتبار الشكّ في بقاء الفيل مثلاً بشخصه.

ولكن لا يخفى عليك: أنّ تسمية هذا بالاستصحاب الكلّي مبنيّ على المسامحة، لأنّ وجود الكلّي الطبيعي عين وجود فرده واستصحاب الفرد يغني عن استصحابه. فما قال بعضهم من عدم جواز استصحاب الفرد لإثبات الأمر المترتّب على الكلّي إلّا على القول بالاُصول المثبتة، كأنّه ليس في محلّه.

والقسم الثاني: من استصحاب الكلّي ما يكون الشكّ في بقاء الكلّي من جهة تردّد وجوده بين ما يكون مقطوع الزوال وما يكون مشكوك البقاء أو مقطوع البقاء. وفي هذا يجري أيضاً استصحاب الكلّي كالحيوان المردّد وجوده في ضمن البقّ أو حيوان مشكوك البقاء أو مقطوع البقاء كالفيل. والتردّد المذكور لا يمنع من استصحاب الكلّي المردّد وجوده بين الحيوانين المفروضين لتمامية أركان الاستصحاب.

وقد اُشكل على هذا الاستصحاب: بأنّ الشكّ في بقاء ذلك الكلّي المردّد بين الخاصيّن مسبّب عن الشكّ في حدوث الخاصّ المتيقّن البقاء على تقدير حدوثه المحكوم بعدم الحدوث بالأصل، ومع جريانه في السبب لا يبقى مجال لإجرائه في المسببّ.

وفيه: أنّ الشكّ في بقاء الكلّي وارتفاعه ليس من لوازم حدوث الخاصّ - أي الفرد الطويل - حتى يكون محكوماً بالعدم بحكم الأصل، بل يكون من لوازم كون الحادث

ص: 167

المتيقّن وجوده هل هو المتيقّن الارتفاع أو المتيقّن البقاء؟ فيكون الشكّ في خصوصية الحادث وهذه ليس مسبوقة بالعدم حتى تستصحب.

وأيضاً يجاب عن هذا الإشكال: بأنّه يكون بناءً على ثبوت الملازمة بين وجود الفرد والكلّي حتى يكون الأصل في الفرد مغنياً عن إجراء الأصل في الکلّي، ولكنّ التحقيق أنّ الكلّي موجود بعين وجود الفرد كما قيل: «الحقّ: أنّ وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه»، وعلى هذا يسقط التوهّم المذكور من إجراء الأصل في السبب ونفيه في المسبب.

ويجاب ثالثاً: على فرض تسليم الملازمة بين الكلّي والفرد، ولكن إجراء الأصل في السبب يغني عنه في المسبّب إذا كان بينهما ملازمة شرعية لا عقلية ولا عادية، واللزوم بين الكلّي والفرد عقلي، فلا نستغني بإجراء الأصل فيه عن الأصل في الكلّي.((1))

هذا، وقد أورد السيّد الاُستاذ على اُستاذه صاحب الكفاية بأنّ نظر المستشكل في جريان أصالة عدم حدوث الخاصّ ليس إلى نفي الكلّي حتى يقال: إنّه من لوازم الحادث لا الحدوث، بل نظره إلى ما هو الأثر للكلّي شرعاً، وأنّ نفي الخاصّ يكفي في نفي الأثر الشرعيّ المرتّب على الكلّي لخفاء الواسطة، وأنّ العرف يرى الأثر مرتّباً على الفرد لا على الكلّي الّذي هو في ضمن الفرد. وقولكم: إنّ الكلّي عين الفرد، ووجوده وجود الفرد مؤيِّد لذلك. فعلى هذا، يكفي في عدم ترتّب الأثر الّذي هو للكلّي لا الكلّي نفي الفرد.

وعلى ذلك، لا يبقى مجال للجواب الثالث من أنّ ترتّب آثار الكلّي على الخاصّ عقلي لا شرعي، فإنّ العرف يرى الآثار آثاراً للفرد.

ص: 168


1- انظر الأجوبة الثلاثة من المحقّق الخراساني في الكفاية (ج2، ص311 – 312).

ثم إنّه يمكن أن يقال في قوله في دفع التوهّم: «إنّ بقاء الكلّي وارتفاعه ليسا من لوازم الحدوث بل من لوازم الحادث»: إنّه وإن كان كذلك، لكن لا يمنع من جريان الأصل في السبب بأن يقال: إنّ المراد من اللازم وإن كان من لوازم الحادث إلّا أنّ الكلّي في الخاصّ أيضاً يكون معلولاً له والجنس يكون معلولاً للصورة النوعية. وعلى هذا، يكون الشكّ في بقاء الكلّي فيما إذا تردّد بين كونه مقطوع الزوال أو مقطوع البقاء كالحيوان المردّد بين البقّ والفيل مسبّباً عن الشكّ في أنّه هل وجد الفيل أم لا؟ والأصل عدمه. وعلى ذلك کلّه لا يبقى مجال لاستصحاب الكلّي.

ولكن بعد ذلك يمكن أن يقال: إنّ عدم الكلّي ليس مركّباً من أعدام نظير المركّبات الوجودية حتى يحرز بعض أجزائها بالأصل وبعضها بالوجدان، بل عدم الكلّي أمر بسيط ينتقض بوجود فرد منه، فلا يقال: إنّه معدوم باعتبار عدم سائر أفراده. وعلى هذا، لا يثبت عدم الكلّي باستصحاب عدم الفرد المشكوك حتى يمنع من استصحاب وجود الكلّي.((1))

أقول: لا کلام في أنّه باستصحاب عدم بعض أفراد الكلّي لا يثبت نفي الكلّي ولا يحكم بعدمه به، ولكن إذا كان سائر أفراده غير الفرد المشكوك وجوده معلوم العدم لم لا يحكم باستصحاب عدم المشكوك بعدم الكلّي؟ كما يقال في المركّبات الوجودية بوجود المركّب بإثبات بعض أجزائه بالأصل والبعض الآخر بالوجدان.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ ذلك لا يثبت عدم الكلّي إلّا على القول بالأصل المثبت، وهذا كما إذا كان لمجموع المركّب بعنوانه المجموعي الواقعي حكم، فإنّه يمكن أن يقال: إنّ باستصحاب وجود بعض الأجزاء لا يثبت العنوان الّذي هو موضوع الحكم إلّا بالأصل المثبت.

ص: 169


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص392 - 394.

هذا کلّه في القسم الثاني من استصحاب الكلّي.

وهنا قسمان آخران الثالث والرابع.

القسم الثالث: وهو ما إذا شكّ في بقاء الكلّي لاحتمال وجود فرد آخر مقارناً مع وجود الفرد الّذي نقطع بعدمه في آن بعد ذلك.

ولا ريب في عدم جريان استصحاب الكلّي بعد القطع بعدم ما هو كنّا نقطع بوجوده لاحتمال وجود فرد آخر منه مقارناً لوجوده، وذلك لفقد أركان الاستصحاب من اتّحاد القضية المشكوكة والمتيقّنة؛ لأنّ المتيقّن السابق مقطوع الزوال في الآن الثاني، والمشكوك مشكوك الوجود من أوّل وجوده، فليس هنا شكّ في البقاء بل الشكّ في الحدوث.

القسم الرابع: وهو ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي من جهة احتمال فرد آخر مقارناً لارتفاع الفرد الّذي نقطع بارتفاعه.

وحكم هذا أيضاً كسابقه لا يجري فيه الاستصحاب، كما لا يخفى.((1))

ثم إنّه لا يخفى عليك أنّ ما ذكر إنّما يكون في الكلّي إذا كان متواطئاً((2)) وأمّا في الكلّي المشكّك((3)) فلا مانع من استصحابه إذا شكّ في بقائه من جهة الشكّ في ارتفاعه أو تبدّل مرتبته الشديدة مثلاً بالمرتبة الضعيفة كالسواد الشديد إذا شكّ في ارتفاعه أو تبدّله إلى الضعيف، ففي الحقيقة هذا من القسم الأوّل.

وعلى ما هو مقتضى التحقيق في الفرق بين الإيجاب والاستحباب، والحرمة والكراهة من كونه بشدّة الطلب وضعفه، أو شدّة الزجر وضعفه، يمكن أن يقال

ص: 170


1- وذهب الشيخ الأنصاري إلى التفصيل بين القسمين وقال بجريان استصحاب الكلّي في الأوّل دون الثاني، فراجع: فرائد الاُصول (ص372).
2- كاحتمال تحقّق الحدث الأكبر (الجنابة) مقارناً مع الحدث الأصغر (النوم) المتيقّن أو بعد زواله بالوضوء مثلاً.
3- كاحتمال حدوث مرتبة ضعيفة من الشكّ بعد زوال المرتبة الشديدة منه في كثير الشكّ.

بصحّة استصحاب المطلوبية والرجحان، أو المزجورية والمرجوحية إذا شكّ في بقاء کلّ واحد منهما بعد العلم بارتفاع الوجوب أو الحرمة.

لا يقال: إنّ العرف يرى الإيجاب والاستحباب من المتباينين، ولا يرى الشكّ في الاستحباب بعد رفع الإيجاب من اتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة، لاختلاف موضوعهما وإن كان كذلك بحسب الدقّة العقلية.

فإنّه يقال: هذا مسامحة من العرف، ولعلّ منشأ مسامحتهم في هذا النظر ما قرع سمعهم من الفقهاء من عدّ الأحكام الخمسة فتوهّموا تباينها، وبعد الالتفات إلى عدم صحّة منشأ توهّمهم وأنّ الفرق بينها يكون بالشدّة والضعف يرون نفي الرجحان أو المرجوحية من نقض اليقين بالشكّ، فأفهم وتأمّل.

التنبيه الرابع: في استصحاب الاُمور المتدرّجة
اشارة

لا شبهة في جريان الاستصحاب في الاُمور القارّة وهي الاُمور الّتي تجتمع أجزاؤها بعضها مع بعض في الوجود.

وأمّا التدريجية، وهي: ما ليس كذلك كالزمان والزمانيات مثل: الحركة والتكلّم، وما اُخذ الزمان قیداً له كالصوم المقيّد بالنهار.((1))

فإن كان الأمر التدريجي نفس الزمان أو من الزمانيات كالحركة والتكلّم، فكما أفاد في الكفاية:((2)) الظاهر جريان الاستصحاب فيه وإن كان ينصرم وجودها ولا يتحقّق منه جزء إلّا بعد انصرام الجزء الأوّل ولكن ما لم يتخلّل عدم في البين لا تنثلم أركان

ص: 171


1- وكالوقوف بعرفات المقيّد بما بين الزوال والغروب، والوقوف بمزدلفة، والصلوات اليومية المقيّدة بأوقاتها، وغير ذلك من المتدرّجات بعرض الزمان.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص315.

الاستصحاب به، كنفس الزمان. بل وإن تخلّل العدم ولا يخلّ بالاتّصال العرفي والوحدة العرفية مثل التكلّم. لصدق النقض والبقاء فيه عرفاً.

مضافاً((1)) إلى أنّه لو فرض في الاستصحاب بقاء المستصحب بالدقّة العقلية يمكن تحقّقه في الحركة في الأين بالحركة القطعية، أي: الحركة بين المبدأ والمنتهى وإن لم يتحقّق في الحركة التوسطية، وهي: كون الشيء في کلّ آن في حدّ أو مكان.

ثم لا يخفى عليك: عدم مجيء الاستصحاب في الزمان بحدّ أنّه الزمان؛ لعدم تعلّق الحكم الشرعي به. وإنّما يتعلّق به بتقطيعه بقطعات خاصّة في عالم الاعتبار كاليوم والساعة والشهر والسنة والقرن وغيرها. فالشهر مثلاً يكون محدوداً بحدوده يتحقّق القطع بوجوده والشكّ في بقائه، فيحكم ببقائه بالاستصحاب مطلقاً وإن كان الشكّ في المقتضي أو في خصوص الشكّ في الرافع.

هذا، ولا يخفى عليك: أنّه لا فرق في استصحاب الأمر التدريجي بين أن يكون استصحاب الشخص، أو الأمر الكلّي. ففي الشكّ في أنّ السورة الّتي شرع فيها تمّت أو بقيت منها شيء، يجوز فيه استصحاب الشخص واستصحاب الکلّي، وهو القسم الأوّل. وفي الشكّ في أنّ ما شرع فيها كان سورة الكوثر مثلاً أو سورة الإنسان يكون

ص: 172


1- هذا حلّ آخر من المحقّق الخراساني لرفع الإشكال عن الاستصحاب في الزمانيّات بأنّا نستصحب في مواردها بقاء الشيء بحركته بين المبدأ والمنتهى فهذا أمر بسيط قارّ قابل للاستصحاب، فيستصحب مثلاً كون الشمس وبقائها بين المبدأ (المشرق) والمنتهى (المغرب) فيما نشكّ في بقاء وقت الصلاة ولكنّه(قدس سره) خطأ في التعبير عن الحركتين فسمّى التوسّطية بالقطعية وبالعكس، وقد تفطّن بذلك سماحة الاُستاذ دام ظلّه العالي كما يأتي في الصفحة 54 وهو يطابق ما نرى من تعريفهما في تعريفات الجرجاني حيث عرفهما ب- : «الحركة بمعنى التوسّط وهي: أن يكون الجسم واصلاً إلى حدّ من حدود المسافة في کلّ آن لا يكون ذلك الجسم واصلاً إلى ذلك الحدّ قبل ذلك الآن وبعده. والحركة بمعنى القطع إنّما تحصل عند وجود الجسم المتحرّك إلى المنتهى لأنّها هي الأمر الممتدّ من أوّل المسافة إلى آخرها».

من القسم الثاني من استصحاب الكلّي. وإذا شكّ في أنّه شرع في سورة اُخرى مع القطع بإتمامه السورة الّتي كانت بيده، فهو من القسم الثالث.

وأمّا ما اُخذ الزمان قیداً له كالصوم المقيّد به، فإن كان الشكّ في بقاء حكمه من جهة الشكّ في بقاء قيده مثل النهار الّذي قيّد به الصوم، يستصحب قيده ويحكم ببقاء النهار، أو يستصحب نفس المقيّد.((1))

وإن كان الشكّ من جهة اُخرى كما إذا شكّ في الحكم من جهة أن تقيّد موضوعه بقيد خاصّ تمام المطلوب، أو من باب تعدّد المطلوب؟ فيجري الاستصحاب فيه في خصوص ما اُخذ الزمان ظرفاً لثبوته لا قیداً له مقوّماً لموضوعه.

أمّا الأوّل، فلتحقّق أركان الاستصحاب بالنسبة إليه.

وأمّا الثاني، فلعدم تحقّقها، فإنّ ما علم بثبوته هو المقيّد بالزمان الخاصّ، وما شكّ في ثبوته هو غيره. وإن شئت قلت: ما علم بثبوته قد ارتفع، وما وقع الشكّ في ثبوته كان متيقّن العدم، فيستصحب عدمه.

فإن قلت: فيما إذا كان الزمان ظرفاً للموضوع لا مجال للقول بعدم دخل الزمان فيه رأساً وإلّا فلا وجه لأخذه ظرفاً له، فإذا كان للزمان فيه دخل مّا فلا مجال لاستصحابه، بل لابدّ من استصحاب عدمه.

قلت: بالنظر الدقّي العقلي كذلك، ولكنّ العرف المعتبر نظره يرى الموضوع واحداً في الزمانين، ولا يرى الزمان من مقوّمات الموضوع.

لا يقال: على هذا يتعارض الاستصحابان: استصحاب الثبوت واستصحاب

ص: 173


1- أي الإمساك المقيّد بكونه في النهار، فيستصحب كونه في النهار، كما قال به في الكفاية (الخراساني، ج2، ص317)، وتأمّل فيه.

العدم، استصحاب الثبوت لوحدة الموضوع بنظر العرف، واستصحاب العدم لتعدّد الموضوع بنظر العقل.

فإنّه يقال: الاعتبار في وحدة الموضوع وتعدّده شرعاً بالنظر العرفي دون العقلي، فلا عبرة بالدقّة العقلية، فليس هنا إلّا استصحاب واحد وهو استصحاب الثبوت دون استصحاب العدم، لعدم الدليل على اعتباره.

وهذا بخلاف ما إذا اُخذ الزمان قيداً، فإنّ الفعل المقيّد بزمان خاصّ غير الفعل في زمان آخر. اللّهمّ إلّا أن يكون بحسبه متّحداً عرفاً، كما إذا كان الشكّ في بقاء حكم المقيّد من جهة كونه بنحو التعدّد المطلوبي فإنّه لا يبعد فيه دعوى اتّحاد الموضوع وصحّة استصحاب الحكم.

إزاحة وهم

لا يخفى عليك: أنّ ما ذكر من توهّم التعارض بين الاستصحابين محكيّ عن الفاضل النراقي(قدس سره).((1)) وحكي عنه أيضاً التعارض بينهما إذا كان الشكّ في البقاء من جهة عروض ما يشكّ في رافعيته، كما إذا شكّ في بقاء وجوب الصوم لعروض مرض يشكّ في بقاء وجوبه معه. وكما إذا حصل له الشكّ في بقاء الطهارة بعد المذي. وأيضاً كما إذا شكّ في طهارة الثوب النجس بعد الغسل بالماء مرّة. فاستصحاب عدم جعل الشارع وجوب الصوم مع المرض الّذي عرض له، وعدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي، واستصحاب نجاسة الثوب النجس بعد الغسل بالماء مرّة، يكون معارضاً لاستصحاب وجوب الصوم، ولاستصحاب الطهارة بعد المذي، ولاستصحاب عدم كون المنجّس الّذي تنجّس به الثوب بالملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة، فعلى هذا، يتساقط الاستصحابان في مثل هذه الصور.

ص: 174


1- النراقي، مناهج الأحكام والاُصول، ص242 (الفائدة الاُولى من فوائد ذكرها ذيل تتميم الاستصحاب).

وأجاب صاحب الكفاية عن المثال الثاني والثالث: بأنّ الطهارة الحدثية والخبثية وما يقابلها تكون ممّا إذا وجدت بأسبابها تبقى ولا تزول إلّا بما يكون رافعاً لها، فلا يشكّ في بقائها إلّا بالشكّ في تحقّق الرافع لها، فلا معنى لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي حتى يعارض بها أصالة بقاء الطهارة، ولا لأصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة حتى يعارض بها أصالة بقاء النجاسة.((1))

ولم يتعرّض للمثال الأوّل فضلاً عن جوابه.

ولعلّ نظره إلى أنّ الشكّ في تلك الأمثلة کلّها يرجع إلى الشكّ في الرافع والأصل عدمه وبقاء ما شكّ في رفعه به.

نعم، في الجميع لا يكون الشكّ في وجود الرافع المعلوم رافعيته، بل تكون الشبهة حكمية في أنّ المذي هل يكون رافعاً للطهارة؟ أو الغسل مرّة هل يكون رافعاً للنجاسة؟ أو خصوص هذا المرض هل يكون رافعاً لوجوب الصوم أو مانعاً من تعلّق وجوبه؟ فتدبّر جيّداً.

ثم إنّ السيّد الاُستاذ أعلى الله مقامه قد أفاد في المقام في تعريف البقاء المعتبر في الاستصحاب:

إنّ البقاء يطلق تارة على ما هو المجرّد من الزمان كذات الله تعالى.

وتارة: يطلق على الزمان والزمانيات.

فبالاعتبار الأوّل يكون المراد منه الذات الّذي لا يزول ولا يزال فلا نهاية له ولا نفاد. والمراد من الثاني البقاء في آن متأخّر بعد كونه في الآن المتقدّم. وعلى ذلك للبقاء أربعة أقسام.

ص: 175


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص319.

الأوّل: ما يطلق على الّذي هو باقٍ بنفسه خارج عن الزمان متقدّم عليه وعلى جميع الزمانيات بالذات وبالعلّية، وهو الباري تعالى.

الثاني: الموجود الممتدّ بالتدريج ذات أبعاض يتقدّم بعضها على بعض بالذات بحسب الوجود لا بالعلّية وينصرم المتقدّم قبل وجود المتأخّر، مثل الزمان نفسه.

الثالث: الموجود الامتدادي التدريجي في الزمان ومحدوداً بالحدّ الزماني، وله أيضاً أبعاض بعضها متقدّم على بعض بالذات وبالزمان وينصرم وجود بعضها قبل بعض، ويكون وجوده بتمامه عند انصرام تمامه ونفاد وجوده، مثل التكلّم والمشي والمركّبات الاعتبارية كالصلاة وغيرها من الاُمور التدريجية.

الرابع: ما هو موجود في الزمان بتمام أبعاضه وسائرٌ في الزمان بتمام وجوده، مثل وجود زيد وعمرو وحجر وشجر وغيرها.

وبعد ما عرفت من معنى البقاء وأقسام الموجودات الزمانية تعرف عدم جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات التدريجية، وذلك لعدم صدق البقاء عليها لا بالنسبة إلى أبعاضها، لأنّ کلّ بعض منها يتصوّر فهو يعدم وينتفي بعد وجوده، فليس له قرار حتى يحكم ببقائه، فلا يشكّ في شيء زال وانعدم حتى يحكم ببقائه بالاستصحاب. وأمّا بالنسبة إلى تمام وجوده فهو أيضاً ينعدم بمجرّد التمامية لا يفرض له وجود حتى يقع الشكّ في بقائه وزواله.

لا يقال: هذا تامّ بالنسبة إلى أصل الزمان. وأمّا بالنسبة إلى القطعة الخاصّة منه مثل ما سمّي بالنهار باعتبار محاذاة الشمس ومواجهتها للأرض في هذه القطعة من الزمان وبالليل باعتبار عدم محاذاتها لها، فلو شكّ في بقاء النهار أو بقاء الليل وهذه القطعة من الزمان نحكم ببقائه بحكم الاستصحاب.

فإنّه يقال: ننقل الكلام في هذه القطعة، فإنّه لا يعتبر البقاء في أبعاضها بعين ما قلناه

ص: 176

في أجزاء أصل الزمان. وبالنسبة إلى تمامها أيضاً لا يعتبر البقاء، لأنّه إن كان قبل التمامية لم يتحقّق وجودها حتى يشكّ في بقائها، وبعد تمامها لا وجود لها، فلا مجال لاعتبار البقاء لها.

فإن قلت: الحكم بالبقاء لا يصحّ باعتبار الحركة التوسّطية - الّتي عبّر عنها في الكفاية بالقطعية - ، وأمّا باعتبار الحركة القطعية - الّتي عبّر عنها في الكفاية بالتوسّطية - وهي كون الشيء بين المبدأ والمنتهى يجوز اعتبار البقاء والشكّ فيه وهو متحقّق في الشكّ في مثل النهار والليل، فإنّه وإن لا يتحقّق جزء منه إلّا بعد انصرام جزئه السابق وليس في البين ما يحكم بالبقاء إلّا أنّ رفع اليد عن النهارية وعدم الحكم ببقائها عند العرف من نقض اليقين بالشكّ.

فبالنسبة إلى مثل النهار وإن لا يعتبر البقاء بالحركة التوسّطية لا مانع باعتباره بالنسبة إلى الحركة القطعية، فإنّ النهار والليل باعتبار كون الحركة الواقعة فيهما تكون بين المبدأ والمنتهى يفرض أمر قارّ يوجد بمجرّد وجوده في الآن الأوّل ويحكم ببقائه في الآن الثاني وما بعده.

قلت: هذا، أي كون الشيء بين المبدأ والمنتهى،((1)) لا حقيقة له ولا منشأ لانتزاعه منه في الخارج، بل ليس إلّا مجرّد الفرض وليس في البين إلّا كون الشيء في کلّ آن في حدّ أو مكان ولا واقع لغير ذلك، فالحركة القطعية هي عين التوسّطية.

ثم إنّه يمكن تصحيح ذلك بأن يقال: إنّ النهارية تنتزع من صيرورة مواجهة الشمس مع الأرض وبهذا الاعتبار يصحّ الحكم بالبقاء، لأنّ الزمان الخاصّ المسمّى بالنهار يوجد بمجرّد تحقّق منشأ انتزاعه وهو سير الشمس ودخولها في قطعة خاصّة من الفضاء، فإذا شككنا في بقائها فيها نحكم به بالاستصحاب، فهي بهذا الاعتبار بمنزلة الاُمور القارّة التدريجية الّتي يقع الشكّ في استمرارها.

وإن أبيت عن ذلك فنقول: إنّ بعد الدقّة في الأخبار يحصل لنا أنّه لا يعتبر في جواز الاستصحاب صدق بقاء المستصحب، بل المعتبر ليس إلّا صدق نقض اليقين بالشكّ

ص: 177


1- وهي الحركة القطعية حسب تعبير سماحة الاُستاذ دام ظلّه، وتعريفات الجرجاني، والتوسّطية حسب تعبير الكفاية وكثير من الأعلام خطأً.

وهو متحقق فی الشک فی مثل النهار واللیل، فانه وان لا یتحقق جزء منه الابعد انصرام جزئه السابف فی البین ما یحکم بالبقاء الا ان رفع الید عن النهاریه وعدم الحکم ببقائها عند العرف من نقض الیقین بالشک.

وبالجملة: يكفي في الاستصحاب صدق عنوان النقض ولو لم يكن في البين ما يصدق عليه البقاء، فالحكم يدور مدار صدق عنوان نقض اليقين بالشكّ لا البقاء فليس في الأخبار ما يدلّ على اعتبار صدق عنوان البقاء.((1))

ثم إنّه قد استشكل السيّد الاُستاذ في المقيّد بالزمان مثل الصوم: بأنّ استصحاب نفس النهار وإن كان يجري ولكن لا يثبت كون الإمساك في النهار.

وصاحب الكفاية اختار جريانه بتقريب: أنّ الإمساك قبل هذا الآن كان في النهار وفي الآن الحاضر نشكّ في كونه كذلك وواقعاً في النهار فيحكم ببقائه وكونه في النهار كما كان سابقاً فيه.

ولكن لا يستقيم ما أفاد لعدم اتّحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة، وذلك لأنّ الإمساك المطلوب في جميع النهار وإن كان إمساكاً واحداً إلّا أنّه بحسب آناء النهار يتبعّض بأبعاض كثيرة ليس الآن الّذي يشكّ في كونه من آناء النهار والإمساك فيه وجوداً بقائياً للآن السابق، فتدبّر((2)).

التنبيه الخامس: في الاستصحاب التعليقي

هل يجري الاستصحاب في الأحكام التعليقية المشروطة كما يجري في الأحكام الفعلية المطلقة؟

ص: 178


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص 396 - 400.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص401 - 402.

فقد أفاد في الكفاية:((1)) أنّه لا إشكال في جريانه في الأحكام التعليقية، لعدم اختلال ذلك في أركان الاستصحاب من اليقين بالثبوت والشكّ في البقاء.

ولا يرد على ذلك: أنّ المعلّق لا وجود له قبل وجود المعلّق عليه، وأنّه يختلّ بذلك أحد ركني الاستصحاب.((2))

فإنّه يردّ: بأنّ المعلّق لا يكون موجوداً قبل ما علّق عليه بالفعل ولكن كان موجوداً بنحو التعليق قبل الشكّ في بقائه، فيحكم ببقائه عند الشكّ فيه بالاستصحاب.

وبالجملة: فالحكم التعليقي كان ثابتاً بحكم مثل العنب إذا غلى يحرم، فإذا شككنا في بقائه لطروّ بعض الحالات نحكم ببقائه بحكم الاستصحاب.

ولا يعارض هذا الاستصحاب استصحاب الحلّيّة المطلقة للعنب؛ لأنّها كانت مغيّاة بعدم الغليان، فكما لا تعارض بين الحلّيّة المطلقة الثابتة بالقطع للعنب والحرمة التعليقية الثابتة له بالغليان ولا يجري استصحابها بعد ثبوت الغليان، لا يجري استصحاب الحلّيّة أيضاً مع جريان استصحاب الحرمة.

وإن شئت قلت: كما لا تعارض بين الحكم بحلّية العنب والحكم بحرمته إذا غلى، لا يقع التعارض أيضاً بين الاستصحابين استصحاب حلّيّة الزبيب واستصحاب حرمته إذا غلى.

وبعبارة اُخرى قلت: إنّما يقع التعارض بينهما لأنّ مقتضى استصحاب الحلّيّة المطلقة للعنب الثابتة له قبل الغليان وبعده حلّيّة الزبيب قبل الغليان وبعده، ومقتضى استصحاب الحرمة التعليقية الثابتة للعنب الحرمة التعليقية للزبيب، وهو مضادّ لاستصحاب الحلّيّة؛ لأنّ مقتضاه حلّية الزبيب بعد الغليان، ومقتضى الاستصحاب التعليقي حرمته بعد الغليان.

ص: 179


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص320.
2- انظر: الطباطبائي، المناهل، ص652.

قلت: كما أنّه لا مضادّة بين أن يقال: العنب حلال، وأن يقال: العنب المغليّ حرام أو العنب إذا غلى حرام، لتقييد إطلاق الأوّل في الحلّيّة بعد الغليان بقوله: العنب المغليّ حرام، كذلك لا مضادّة بين استصحابهما.

التنبيه السادس: في استصحاب أحكام الشرائع السابقة

استشكل في جريان الاستصحاب إذا كان المتيقّن من أحكام الشريعة السابقة وشكّ في بقائه وارتفاعه بنسخه، تارة: بعدم اليقين بثبوتها في حقّ من لم يدرك الشريعة السابقة، لاحتمال اختصاصها بالموجودين في زمانها فلا يقين بثبوتها في حقّ غير الموجودين حتّى يشكّ في بقائها.

وتارة اُخرى: بأنّا وإن فرضنا ثبوتها في حقّ غير المدركين لها حسب إطلاق أدلّتها، إلّا أنّه لا اعتبار لهذا الإطلاق بعد القطع بارتفاع مداليلها، لأنّ الشريعة السابقة صارت منسوخة بشريعتنا فلا شكّ في بقائها، للقطع بنسخها وعدم بقائها.

والجواب عن الأوّل: أنّ الحكم في الشريعة السابقة لم يثبت على الموجودين في الخارج بنحو القضايا الخارجية الّتي مصاديق موضوعاتها الأفراد الموجودة في الخارج، كما إذا قلنا: حضر علماء البلد المجلس الكذائي. بل إنّما ثبت للأفراد على نحو القضايا الحقيقية، كما في قوله تعالى: ﴿اَلْإِنْسانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾((1)) أو ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُ-سْرٍ﴾،((2)) فالحكم في هذه القضايا يشمل جميع أفراد موضوعاتها سواء كانت محقّقة الوجود أو مقدرّة. ولو لم يكن كذلك لما صحّ استصحاب الأحكام الثابتة في شرعنا الحنيف، ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجودين في زمان ثبوت الحكم فكما أنّ الحكم

ص: 180


1- القیامة، 14.
2- العصر، 2.

في شريعتنا ثابت لعامّة الأفراد ممّن وجد أو يوجد ويستصحب إذا شكّ في بقائه، فالحكم في الشريعة السابقة أيضاً ثابت لمن وجد أو يوجد فيجري فيه الاستصحاب.

وأمّا الجواب عن القطع بنسخ الشريعة السابقة: أنّ ما ثبت من نسخ الشريعة السابقة عدم بقائها بتمامها لا ارتفاعها بجميعها.

لا يقال: إنّ العلم الإجمالي بارتفاع بعضها يمنع من استصحاب ما شكّ في بقائها.

فإنّه يقال: إنّه يمنع إذا كان المستصحب من أطراف ما علم ارتفاعه بالإجمال، وأمّا إذا علم بمقداره تفصيلاً بحيث كان الشكّ في مورد بدوياً، أو كان المشكوك فيه ممَّا علم عدم نسخه فلا يمنع عنه، بل يمكن أن نقول بالعلم التفصيلي بنسخ ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة دون غيرها.((1))

ثم إنّ الشيخ الأنصاري أجاب عن الإشكال الأوّل: بأنّ المستصحب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق عمّهم الحكمُ قطعاً، غاية الأمر احتمال مدخلية بعض أوصافهم المعتبرة (المتغيّرة) في موضوع الحكم... إلخ.((2))

وربّما توهّم عبارته أنّ الحكم ثابت للكلّي كالملكية الثابتة في باب الزكاة والوقف العامّ، فلا مدخلية للأشخاص فيها، وإذا كان كذلك لا يصحّ تعلّق الزجر والبعث إليه.

وبعبارة اُخرى: الحكم بالكلّي يصحّ بالإضافة إلى المکلّف به لا المكلّف، فالملكية في باب الزكاة تكون في المکلّف به وهو کلّي. أمّا المكلّف فلا يعقل أن يكون کلّياً، لأنّه لا يعقل بعث الکلّي، فلابدّ أن يكون ذلك إمّا باعتبار أفراده الخارجية، أو أعمّ منها ومن أفرادها المقدّرة وجودها. ولعلّ الشيخ أراد ذلك.

ص: 181


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص323 - 324.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص381.

وأجاب عن الثاني: بأنّا نفرض الشخص الواحد مدركاً للشريعتين فإذا حرم في حقّه شيء سابقاً وشكّ في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة، فلا مانع عن الاستصحاب أصلاً، فإنّ الشريعة اللاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الاُولى.((1))

وأورد عليه المحقّق الخراساني: بأنّ الاستصحاب وإن كان يجري في حقّ المدرك للشريعتين، أمّا جريانه في حقّ من لم يدرك متوقّف على كونه كالمدرك على يقين بالحكم الثابت عليه في الشريعة والشكّ في بقائه، وليس لغير المدرك للشريعة السابقة اليقين بثبوت الحكم له والشكّ في بقائه.((2))

ويمكن أن يقال: نعم، لا يجري الاستصحاب بالنسبة إلى غير المدرك، أمّا جريانه في المدرك للشريعتين مستلزم للحكم به على غير المدرك وذلك للإجماع على عدم اختلاف تكليف المدرك وغير المدرك، فأفهم.

التنبيه السابع: في الأصل المثبت

إعلم: أنّ مفاد الأخبار الّتي استدلّ بها على الاستصحاب - وهي عمدة أدلّته - إنشاء حكم مماثل للحكم المستصحب إذا كان المستصحب حكما من الأحكام. وإنشاء حكم مماثل لحكم الموضوع المستصحب إذا كان المستصحب موضوعاً من الموضوعات.

وليس مفادها تعميم الموضوع للحكم الواقعي، وذلك لتجرّد موضوعه من العلم والجهل والشكّ فيه، فلا يمكن أن يكون أعمّ من المجرّد عنها وممّا تعلّق الشكّ به أو كان مجهولاً أو معلوماً، لاختلاف رتبتهما وعدم إمكان لحاظهما معاً.

ولا يخفى عليك أيضاً: أنّ مفادها التعبّد بالمستصحب، بمعنى لزوم ترتيب آثاره

ص: 182


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص381.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص325.

عليه إذا كان موضوعاً، والعمل على طبقه إذا كان المستصحب حكماً، فلا يجري في الموضوعات - الّتي لا يترتّب عليها حكم شرعي - لترتّب آثارها العقلية أو العادية، لكونها من الاُمور التكوينية الخارجة عن دائرة التشريع.

وإنّما الكلام في أنّه هل يجري في الموضوعات الّتي تكون لآثارها ولوازمها العقلية أو العادية آثار شرعية؟

وبعبارة اُخرى: هل يجري في الموضوع الّذي له أثر شرعي بواسطة أمر عادي أو عقلي يترتّب عليه؟ وهذا هو الّذي يعبّر عنه بالأصل المثبت، فيجري الكلام فيه بأنّه هل تشمله أخبار الباب؟ وهل ترفع اليد عن مثل ذلك من نقض اليقين بالشكّ؟

فمن يقول بالأصل المثبت يقول: إنّه من نقض اليقين بالشكّ، لاستلزام اليقين به اليقين بلازمه العقلي أو العادي، فهو وإن لم يكن ملتفتاً بهذا اللازم واللزوم بينه وبين الملزوم حين اليقين بالملزوم إلّا أنّه حين الشكّ في اللازم لا يشكّ في كونه موجوداً عند اليقين بالملزوم، فهو على يقين باللازم في السابق والشكّ في بقائه.

بل يمكن أن يقال: إنّ هذا استصحاب اللازم بنفسه وبلا واسطة، وليس الحكم به باستصحاب ملزومه. نعم، اليقين باللازم لازم اليقين بالملزوم.

ولكن يرد على ذلك: أنّ البحث في حجّية الأصل المثبت وعدمه إنّما يكون إذا كانت الملازمة بين المستصحب ولازمه في البقاء فقط دون الحدوث والبقاء، وفيما ذكر تكون الملازمة بين الحدوث والبقاء. والمثال للصورة الاُولى: ما إذا شككنا في الغسل في وجود الحاجب وعدمه فلازم استصحاب عدم وجود الحاجب وصول الماء إلى البشرة، فإنّ عدم وجود الحاجب قبل الغسل ليس ملازماً لوصول الماء إلى البشرة بل إذا كان باقياً إلى زمان الغسل يكون ملازماً له.

ومثل استصحاب حياة زيد الملازم لإنبات لحيته فإنّ نبات لحيته ليس لازم حدوثه بل هو لازم بقائه إلى هذا الزمان الخاصّ.

ص: 183

وبعد ذلك نقول: التحقيق عدم جريان الاستصحاب في هذه الاُمور والوسائط لإثبات ما يترتّب على الواسطة من الأحكام الشرعية؛ وذلك لأنّ الأخبار ظاهرة في التعبد بنفس المتيقّن لترتّب أثره الشرعي عليه، ولا تدلّ على التعبّد بترتيب الآثار المترتبة على ما هو الأثر العقلي والعادي للمستصحب.

ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان الأمر العادي أو العقلي متّحداً مع المتيقّن في الوجود، كما في استصحاب عدم لبس غير المأكول الذي لازمه عدم كون ما عليه من اللباس الخاصّ غير المأكول، فإنّ عدم لبسه غير المأكول متّحد مع عدم كون لباسه من غير المأكول. أو كان خارجاً عن المتيقّن مقارناً لوجوده كإنبات اللحية لزيد مثلاً.

وبالجملة: لا يجري الاستصحاب لإثبات ما هو من اللوازم العقلية والعادية للمستصحب؛ لعدم تعلّق الجعل التشريعي بها. ولا يجري لترتّب الآثار الشرعية على تلك اللوازم لعدم دلالة الأخبار على التعبّد بنفس المتيقّن لترتّب آثاره الشرعية عليه.

هذا ولكن قد استثنى من ذلك الشيخ الأنصاري(قدس سره) ما إذا كانت الواسطة خفيّة، بحيث يرى العرف أثرها أثراً لذي الواسطة، فإنّ رفع اليد عن مثل ذلك يكون عندهم من نقض اليقين بالشكّ.((1))

وقال المحقّق الخراساني في حاشيته على الفرائد: وذلك لما عرفت من أنّ الدلالة على الأثر الّذي بلحاظه يكون التنزيل في مورد الاستصحاب إنّما هو بمقدّمات الحكمة، ولا يتفاوت بحسبها فيما يعد عرفاً أثراً بين ما كان أثراً بلا واسطة أو معها، كما لا يخفى. ولا يذهب عليك: أنّ ذلك من باب تعيين مفهوم الخطاب بمتفاهم العرف لا من تطبيق المفاهيم على مصاديقها العرفية خطأً أو مسامحة، كما توهّمه بعض السادة من الأجلّة(قدس سره) فأشكل عليه بأنّه لا اعتبار بمسامحات العرف في التطبيقات.

ص: 184


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص386.

فكأنّه(قدس سره) توهّم من مطاوي کلماته(قدس سره) (أي کلما ت الشيخ) أنّه استظهر من الخطاب وجوب ترتيب الأثر بلا واسطة بالاستصحاب، ومع ذلك ألحق به ما بالواسطة الخفيّة لتطبيقه عليه بالمسامحة العرفية وإن لم يكن منطبقاً عليه حقيقة.

وغفل عن أنّه بصدد ادّعاء أنّ الظاهر منه هو وجوب ترتيب الأثر بلا واسطة عرفاً، فيكون تطبيقه على ما يكون بلا واسطة كذلك (أي عرفاً) تطبيقاً حقيقياً دقيقاً بلا مسامحة.

وسرّه: أنّه قد مرّ أنّ تعيينه بمقدّمات الحكمة وليس ما لا واسطة له أصلاً بالإضافة إلى ما لا واسطة له عرفاً بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب، كما لا يخفى. ولا اعتبار بالقطع بإرادة مقدار من الخارج، فإنّ المدار فيها إنّما هو على القطع به في مقام التخاطب كما حقّقناه في البحث غير مرّة، فتأمّل تعرف سرّه.((1)) انتهى.

ثم إنّه قد أضاف المحقّق الخراساني(قدس سره) إلى ما استثنى شيخه(قدس سره): الأثر المترتّب على المستصحب بوساطة ما لا تفكيك بينهما عرفاً، كما إذا كان لزوم اللازم للمستصحب بمثابة من الوضوح وبحيث يعدّ أثره أثراً للملزوم ويعدّ عند العرف رفع اليد من ذلك الأثر نقضاً لليقين بوجود المستصحب. أو عقلاً كما إذا كان اللازم ممّا لا يمكن التفكيك بينه وبين ملزومه.((2))

ولكنّ الظاهر أنّ ذلك وإن صحّ من حيث الكبرى ولكنّه خارج عمّا فيه البحث، لأنّ البحث في الأصل المثبت إنّما يكون فيما إذا كانت الملازمة بين المستصحب ولازمه في البقاء فقط، وأمّا إذا كانت الملازمة بينهما في الحدوث والبقاء فكلّ منهما بالاستقلال مجرى الاستصحاب.

ص: 185


1- الخراساني، حاشية كتاب فرائد الاُصول، ص212 - 213.
2- الخراساني، حاشية كتاب فرائد الاُصول، ص212 - 213.

وبالجملة: الظاهر عدم وجود مورد تكون الملازمة بين المستصحب ولازمه في البقاء بهذه المثابة، فليس ما ذكره إلّا مجرّد الفرض.((1))

الفرق بين مثبتات الأمارة والأصل

بقي في المقام بيان وجه الفرق بين الأمارة والأصل، حيث إنّ مثبتات الأمارة حجّة دون الأصل.

وأفاد المحقّق الخراساني: بأنّ الأمارة كما تحكي عن المؤدّى ويشير إليه، كذا تحكي عن أطرافه من الملزوم واللازم. ومقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها ومقتضى ذلك حجّية المثبت منها. بخلاف مثل دليل الاستصحاب فإنّه لا يدلّ على أزيد من التعبّد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره، ولا يدلّ على التعبّد بثبوت ما هو الأثر لما يترتّب على المستصحب من اللازم العادي أو العقلي.((2))

ويمكن أن يقال: إنّ الأمارة مؤدّاها أعمّ من نفسه ولازمه وملزومه. وفيها جهة كشف عن الواقع اعتبرت بحكم الشارع، وليس ذلك في الاستصحاب وإن كانت في الحالة السابقة أيضاً كشف عن الواقع، فهو عند العرف مختصّ بالمستصحب بملاحظة أثره، والشارع أيضاً تعبّدنا به دون غيره. والسيرة وعمل العرف أيضاً في الأمارة على ذلك، ودليل حجّيتها إمضاء للسيرة، وليس هذا في الاستصحاب كما لا يخفى.

التنبيه الثامن: في ما يتوهّم ابتناؤه على الأصل المثبت
اشارة

وقد كان ذكره في ذيل التنبيه السابع أولى، لكونه ممّا يتفرّع عليه لدفع بعض التوهّمات:

ص: 186


1- واستشكل أيضاً المحقّق النائيني على استثناء الواسطة الخفيّة والجليّة، فراجع: فوائد الاُصول (ج4، ص494).
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص327 ، 329.
التوهّم الأوّل: استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلّي مثبت

إنّ استصحاب الفرد أو منشأ الانتزاع لترتيب آثار الكلّي الطبيعي، أو العرض على الفرد أو على منشأ الانتزاع مثبت.((1))

ومنشأ هذا التوهّم يمكن أن يكون أحد أمرين: أحدهما: مغايرة الكلّي مع أفراده وجوداً، فإذا شككنا في خمرية مائع كان متيقّن الخمرية سابقاً وأردنا استصحاب خمريته لأن نثبت به حرمته، نقول: إنّ الأصل - أي مقتضى الاستصحاب - بقاء المائع على حالته السابقة، ولازم ذلك بقاء طبيعة الخمرية الّتي كانت معه للملازمة بين بقائه وبقائها، ولكن هذا اللزوم ليس شرعياً حتى يحكم بحرمة المائع المذكور، فيكون إثبات حرمته بهذا الاستصحاب مثبتاً.

والجواب عن ذلك: أنّ وجود الطبيعة في الخارج ليس مغايراً لوجود الفرد بل هو موجود بعين وجود الفرد، فما كان متيقّناً هو الكلّي الموجود بوجود الفرد وهو عين وجوده وما يستصحب أيضاً هو ذلك الكلّي.

هذا مضافاً إلى أن الحكم الكلّي المتعلّق بالطبيعة ينحلّ إلى أحكام جزئية حسب أفرادها فيستصحب في المثال الخمر الجزئي الموجود بهذا الفرد فيترتّب عليه الحكم بحرمته.

ثانيهما: أن يقال: إنّ أثر الكلّي - وهو الحرمة في المثال - يترتّب على الفرد بجميع مشخّصاته الخارجية، فالمائع المتيقّن حرمته لخمريته حرام بجميع مشخّصاته الخارجية فإثبات بقاء حرمته بجميع تلك المشخّصات باستصحاب بقاء خمريته المستلزم عادة لبقاء هذه المشخّصات يكون مثبتاً.

وأجاب السيّد الاُستاذ - كما حكى عنه المقرّر في الحاشية - بأنّ الآثار المترتّبة على

ص: 187


1- توهّمه الشيخ في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص384).

الفرد بتوسّط الكلّي إنّما تكون مترتّبة عليه بما هو فرد للكلّي لا بما هو مقارن مع مشخّصاته الخارجية، فإنّه ليس في الأحكام الشرعية ما هو مترتّب على الفرد الخارجي بجميع مشخّصاته، بل إنّما تكون مترتّبة على الكلّي المنطبق على أفراده خارجاً والمتّحد معها وجوداً. انتهى.((1))

ولا يخفى عليك: أنّ وجود العرضي كالملكيّة ممّا ينتزع من منشأ انتزاعه أيضاً يكون كالكلّي، والفرد وجوده بعين وجود منشأ انتزاعه لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه، فاستصحاب منشأ انتزاعها يكفي لترتيب أثرها بدون توسيط ثبوته لأنّه لا ثبوت لها زائداً على ثبوت منشأ انتزاعها.

التوهّم الثاني: الاستصحاب في الأحكام الوضعية مثبت

إنّ الاستصحاب كيف يجري في الأحكام الوضعية المنتزعة من التكاليف، كالجزئية والشرطية والمانعية؟! فإنّ هذه الاُمور ليست من المجعولات الشرعية فلا تثبت إلّا بالأصل المثبت.((2))

والجواب: أنّها وإن لم تكن مجعولة بنفسها إلّا أنّها مجعولة بجعل منشأ انتزاعها، ويكفي ذلك في شمول الأخبار لها، فإنّ المقصود من الآثار الشرعية ما تناله يد الجعل وضعاً ورفعاً ولو كان بجعل منشأ انتزاعه.

التوهّم الثالث: إثبات عدم التكليف بالاستصحاب مثبت

إنّ الاستصحاب لا يجري في عدم التكليف، لأنّه ليس أمراً قابلاً للجعل، مع أنّ

ص: 188


1- الخراساني، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص418 - 419.
2- هذا ما توهّمه الشيخ في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص351).

اللازم في الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه أمراً مجعولاً أو ذا أثر مجعول، والعدم ليس من الأحكام وإلّا يلزم أن تكون الأحكام الخمسة، عشرة.

والجواب عنه: أنّ مقتضى الاستصحاب التعبّد بالمستصحب والبناء العملي عليه سواء كان أمراً وجودياً أو عدمياً، لا إنشاء حكم مماثل للمستصحب حتى يكون مجراه اليقين بالحكم السابق أو موضوع ذي حكم، وعدم التكليف إنّما يكون ممّا يبني عليه المکلّف بحكم الاستصحاب ويستريح به عن مشقّة التكليف.

وبالجملة: الاستصحاب كما يجري في کلّ مورد يكون وجوده متعلّقاً للتكليف يجري في عدمه. والقول بالتفصيل فهو من الأقوال في المسألة وقد اُجيب عنه في محلّه.

إثبات البراءة باستصحابها

وقد فرّع على ذلك في الكفاية صحّة الاستدلال على البراءة باستصحاب عدم المنع والبراءة من التكليف.((1))

خلافاً للشيخ حيث اختار عدم جريان الاستصحاب فيها؛ لأنّ عدم استحقاق العقاب ليس من اللوازم المجعولة الشرعية، لعدم المنع حتى يثبت باستصحاب عدم المنع.((2))

وفيه: أنّ عدم استحقاق العقاب ليس لازم أخصّ لعدم المنع الواقعي حتى يكون استصحابه لترتّب عدم استحقاق العقاب عليه مثبتاً، بل هو لازم عدم المنع أعمّ من الواقعي والظاهري، فإذا استصحبنا عدم المنع يترتّب عليه أثره وهو عدم استحقاق العقاب كما يترتّب على عدم المنع الواقعي.

ص: 189


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص331.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص204.

وبعد ذلك کلّه استشكل السيّد الاُستاذ على الاستدلال بالاستصحاب على البراءة: بأنّ النسبة بين الاستصحاب والبراءة التباين، فلا يمكن إثبات أحدهما بالآخر.

ييان ذلك: إنّ ما هو تمام الموضوع في البراءة احتمال التكليف فقط من دون مدخلية شيء آخر فيه، كاليقين السابق، وما هو تمام الموضوع في الاستصحاب الشكّ اللاحق واليقين السابق، فكيف يستدلّ بدليل أحدهما على إثبات الآخر.((1))

أقول: لم يتحصّل لي مراده(قدس سره)، ولعلّ المقرّر لم يأت بتمام مرامه، فإنّه لا شكّ في عدم صحّة الاستدلال بدليل الاستصحاب على البراءة لما بين موضوعيهما من التباين. ولكن لماذا لا يصح الاستدلال بالاستصحاب على البراءة باستصحاب عدم المنع والبراءة الأصلية الثابتة قبل الشرع إذا شككنا في وجوب فعل أو حرمته.

ومن ذلك يظهر ما في ذيل کلامه من الاستشكال زائداً على ما أفاد بأخصّية الاستصحاب من البراءة.((2))

هذا، وقد أفاد - رضوان الله عليه - في وجه جريان الاستصحاب في الجزئية والشرطية والمانعية بأنّ التعبّد بجزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته ليس إلّا التعبّد ببقاء الوجوب الضمني الّذي كان متعلّقاً بهذا الجزء، كما أنّ التعبّد بعدم الجزئية عبارة عن عدم فعلية وجوب ما شكّ في وجوبه. فعلى هذا، يكون التعبّد بالجزئية والشرطية والمانعية ممّا تناله يد الجعل التشريعي وضعاً ورفعاً فلا يكون مثبتاً أصلاً، وكما قال: لا مجال لتوهّمه أبداً.((3))

ص: 190


1- الخراساني، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص420.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج2، ص420.
3- الحجّتي البروجردي، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج2، ص420.
التنبيه التاسع: في التفصيل بين ترتّب الآثار غير الشرعية

من الاُمور الّتي ينبغي ذكرها ذيل التنبيه السابع: أنّ ما ذكر في التنبيه المذكور - من عدم حجّية جعل المثبت، أي عدم ترتّب الأثر العادي أو العقلي على المستصحب، ولا الأثر الشرعي المترتّب عليه بواسطة الأثر العادي أو العقلي المترتّب عليه - إنّما يكون بالنسبة إلى ما كان أثراً للمستصحب بوجوده الواقعي دون ما إذا كان الأثر لأعمّ من وجوده الواقعي والظاهري. فوجوب إطاعة الحكم المستصحب - سواء كان واجباً أو حراماً - أثر عقلي لاستصحاب الحكم بوجوده الأعمّ من الواقعي والظاهري ويترتّب على استصحابه. وذلك لاستقلال العقل بوجوب إطاعة أمر المولى سواء كان ظاهرياً أو واقعياً ثبت بالقطع أو بالظنّ المعتبر أو بالأصل. فباستصحاب الوجوب وإجراء الأصل يتحقّق ما هو موضوع لحكم العقل، أي أمر لمولى وإيجابه. ومثل هذا خارج عن الاُصول المثبتة، فتدبّر.

التنبيه العاشر: تعتبر شرعية المستصحب حين الشكّ لا اليقين

إعلم: أنّ ما هو المعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب - على فرض بقائه في حال استصحابه حكماً أو موضوعاً - ذا حكم وإن لم يكن كذلك فى حال ثبوته واليقين به فيجري إذا كان المستصحب في حال الشكّ في بقائه حكماً أو موضوعاً ذا حكم وإن لم يكن في حال كونه معلوم الثبوت كذلك. كما أنّه لا يجري إذا كان في حال كونه متيقّن الثبوت حكماً أو موضوعاً ذا حكم دون حال الشكّ في بقائه. وذلك لصدق نقض اليقين بالشكّ في الصورة الاُولى لو رفع اليد عنه وترك العمل به، بخلاف الصورة الثانية، كما هو واضح.

وبالجملة: يصحّ التعبّد بالبقاء في الصورة الاُولى وتشملها الأخبار، دون الصورة

ص: 191

الثانية. وعليه لا يضرّ كون المستصحب مثل عدم التكليف في الأزل وأنّه غير قابل للجعل بعد ما يكون قابلاً له في زمان الشكّ ، فتدبّر.

التنبيه الحادي عشر: مقتضى الأصل عند الشكّ في تقدّم الحدوث وتأخّره

لا إشكال في جريان الاستصحاب إذا كان الشكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع، كنجاسة هذا الشيء، أو موت زيد.

وأمّا إذا كان الشكّ في تقدّمه وتأخّره، كما إذا علم بانتقاض اليقين - بوجود شيء أو عدمه - في زمان مثل يوم الجمعة وشكّ في أنّ انتقاضه حدث قبل ذلك الزمان مثل يوم الخميس بعد اليقين بعدم انتقاضه قبله، فهل تترتّب عليه آثاره في يوم الشكّ في انتقاضه أي يوم الخميس أو لا؟

وهذا الّذي يعبّر عنه بأصالة تأخّر الحادث، أي مقتضى الأصل تأخّر حدوث ما انتقض به اليقين.

إذا عرفت ذلك: فنقول: إنّ التأخّر والتقدّم إن لوحظا بالنسبة إلى أجزاء الزمان، كما إذا علم بوجود أمر مثل موت زيد يوم الجمعة وشكّ في وقوع موته يوم الخميس، ففي مثله يجري الاستصحاب لإثبات الآثار المترتّبة على عدم موته في زمان الشكّ في موته، فيقال: إنّ الأصل بقاء حياته أو عدم موته إلى يوم الخميس، وذلك لتحقّق أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللاحق.

ولا دافع لذلك إلّا توهّم اعتبار كون زمان احتمال الانتقاض حالاً لا ماضياً ولا مستقبلاً، فيقال: إنّ الاستصحاب يجري في مثل الشكّ في مثل بقاء زيد المتيقّن وجوده في السابق، فإنّ هنا زمان احتمال الانتقاض حال، بخلاف المثال المذكور إذ زمان وقوع الانتقاض المحتمل ماضٍ.

ص: 192

ويدفع هذا التوهّم بإطلاق أخبار الباب وصدق نقض اليقين بالشكّ - بالبناء على خلاف الحالة السابقة - في المثالين على السواء.

نعم، لا تترتّب آثار عنوان حدوث موته يوم الجمعة باستصحاب عدم موته إلى يوم الخميس إلّا على القول بالأصل المثبت، لأنّ اللازم العقلي لعدم موته إلى يوم الخميس هو حدوث موته يوم الجمعة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بخفاء الواسطة، أو عدم التفكيك بين تنزيل عدم تحقّق موته إلى يوم الخميس وحدوثه يوم الجمعة.

أو يقال: بأنّ حدوث موت زيد يوم الجمعة مركّب من عدم موته إلى يوم الخميس وحياته في يوم الجمعة، فالأوّل محرز بالأصل والثاني بالوجدان.

وهكذا يجري الكلام في عدم ترتيب آثار عنوان تأخّر موته عن يوم الخميس.

هذا إذا لوحظ التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى نفس الزمان.

وأمّا إذا لوحظ تقدّم حدوث شيء أو تأخّره بالنسبة إلى حادث آخر هو أيضاً معلوم الحدوث وشكّ في تقدّمه عليه أو تأخّره عنه، وذلك كما إذا علم بموت متوارثين وشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر. فإذا كان الأثر للوجود الخاصّ لأحدهما من التقدّم والتأخّر والتقارن، لا للآخر ولا له بنحو آخر كتحقّقه في زمان الآخر، أو على نحو خاصّ على نحو مفاد كان التامّة، فشككنا مثلاً في موت زيد المتقدّم على موت عمرو، ففي مثله يجري استصحاب عدم موته الخاصّ في الزمان المتقدّم على زمان موت عمرو فإنّه كان قبل موت عمرو مسبوقاً بالعدم.

وأمّا إذا كان الأثر مترتّباً على وجوده إذا كان متّصفاً بوصف خاصّ من التأخّر أو التقدّم على نحو كان الناقصة، فاستصحاب عدم وجوده وإن كان يجري لكونه مسبوقاً بالعدم ولكن لا يجري استصحاب عدم كونه متّصفاً بالوصف الخاصّ لعدم حالة

ص: 193

سابقة له من وجوده مع هذا الوصف أو بدونه، لأنّه لم يثبت له وجود في زمان حتى يشكّ في اتّصافه فى ذلك الزمان بهذا الوصف فيستصحب عدمه، بل هو حدث إمّا متقدّماً أو متأخّراً.

وبعبارة اُخرى: إذا كان موضوع الأثر أمراً واحداً كوجود خاصّ مثل الموت في الزمان المتقدّم على زمان الآخر يجري استصحاب عدمه لوجود الحالة السابقة فيه. وإذا كان أمرين: أحدهما أصل وجود الموضوع، وثانيهما كونه متّصفاً بوصف خاصّ فلا يجري فيه، لأنّه لم تكن لكونه موصوفاً بهذا الوصف حالة سابقة حتى يستصحب.

ولا يخفى: أنّ ما ذكر يكون بقطع النظر عن المعارضة، فإذا كان للحادث الآخر أيضاً أثر متقدّم على الآخر أو متأخّر عنه لا يجري الاستصحاب؛ لمكان المعارضة بينه وبين الاستصحاب الجاري في الطرف الآخر.

وأمّا إذا كان الأثر لعدم الحادث متقدّماً أو متأخّراً على الآخر فلا يخلو إمّا أن يكون الأثر للعدم بوصف كونه في زمان الآخر بأن يكون هنا أمران أحدهما عدم الحادث، والثاني اتّصاف هذا العدم بكونه في زمان الآخر على نحو مفاد ليس الناقصة.

وإمّا أن يكون للعدم الخاصّ أي العدم في زمان الآخر، لا موصوفاً بكونه في زمان الآخر على نحو مفاد ليس التامّة.

فعلى الأوّل، لا يجري الاستصحاب أيضاً لا للمعارضة بل لعدم الحالة السابقة كما قلنا به في الوجودي. إلّا أنّ الظاهر وجود الفرق بين ما ذكر في الوجودي والعدمي، فإنّ في الوجودي إنّما لا يجرى الأصل لعدم الحالة السابقة، لأنّه لم يكن له زمان كان متّصفاً فيه بالوصف الكذائي أو غير متّصف به، فهو إذا وجد وجد متّصفاً به أو غير متّصف به، فليس له قبل الحدوث بحسب هذا الوصف وجوداً أو عدماً حالة سابقة. وذلك بخلاف العدمي، فإنّ مثل عدم موت الأب زمان موت ابنه له حالة سابقة وهي

ص: 194

عدم موت الأب قبل موت ابنه، فيجري استصحاب حالته السابقة إلى زمان موت الإبن. إلّا أن يعتبر فيه ما يختلّ به الحالة السابقة، كأن يقال باعتبار الأثر لعدم موت الأب متّصفاً بكونه في زمان حدوث موت الابن، ومن المعلوم أنّه ليست لذلك حالة سابقة، فلا يجري فيه الاستصحاب. وهذا مراد المحقّق الخراساني(قدس سره) بقوله: «بأن يكون الأثر للحادث المتّصف بالعدم في زمان حدوث الآخر»،((1)) فتدبّر.

وعلى الثاني، أي على أن يكون الأثر للعدم الخاصّ، أي العدم في زمان الآخر على نحو مفاد ليس التامّة، إنّما لا يجري الأصل من جهة عدم إحراز موضوعه وهو ما إذا كان زمان الشكّ متّصلاً بزمان اليقين، كما إذا كنّا على يقين بالطهارة وشككنا في بقائها.

وأمّا إذا شككنا في الطهارة بعد اليقين بالحدث فلا ريب في عدم صحّة إجراء الأصل في الطهارة، لفصل زمان اليقين بالحدث بين اليقين بها والشكّ فيها. وكذا إذا كان وقوع الفصل بين زمان اليقين والشكّ مشكوكاً فيه لم يحرز اتّصال زمانهما فإنّه يكون من الشبهة المصداقية لعموم قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا تنقض اليقين بالشكّ».

ونوضح ذلك في مثال، فنفرض في موت الوالد الكافر وإسلام ولده: أنّهما متيقّن العدم يوم الخميس، وحدوث أحدهما لا على التعيين يوم الجمعة والآخر يوم السبت، فشككنا في أنّ إسلام الولد هل وقع قبل موت الوالد حتى يرث الولد منه تمام تركته أم وقع بعده؟ فلا يجري استصحاب عدم إسلامه إلى زمان موت الوالد. وذلك لأنّ زمان الشكّ في إسلامه زمان موت والده، فاتّصال زمان الشكّ في إسلامه، أي زمان موت والده، بزمان اليقين بعدم إسلامه مشكوك؛ لاحتمال وقوع إسلامه يوم الجمعة وفصل زمان اليقين بإسلامه بين زمان اليقين بعدمه وزمان الشكّ في إسلامه، فيكون التمسّك بقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا تنقض اليقين بالشكّ» لإثبات عدم إسلام الولد إلى زمان موت والده

ص: 195


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص335.

من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية، لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ في عدم إسلام الولد بزمان اليقين به.

وأيضاً قد مثّل لذلك السيّد الاُستاذ(قدس سره) - كما حكى المقرّر - بهذا المثال وإليك عين عبارة المقرّر عنه: «أنّا نفرض في موت الوارثين - اللذين ماتا متعاقبين - ثلاث ساعات مثلاً: الساعة الاُولى زمان اليقين بعدم حدوث موتهما، الساعة الثانية زمان حدوث الموت لأحدهما، والثالثة زمان حدوث موت الآخر. ونفرض أيضاً زمان الشكّ هو الساعة الّتي مات فيها الآخر مثلاً، وتلك الساعة الّتي تكون زمان الشكّ على المفروض مردّدة بين الثانية والثالثة. فإن كانت هي الثانية يكون زمان الشكّ متّصلاً بزمان اليقين وهو الساعة الاُولى، وعلى هذا الفرض لا مانع عن استصحاب عدم حدوث الموت لزيد مثلاً لاتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين. وإن كانت هي الثالثة يكون زمان الشكّ منفصلاً عن زمان اليقين، وعلى هذا الفرض لا يبقى مجال لجريان الاستصحاب لعدم حدوث الموت لزيد إلى الساعة الثالثة الّتي تكون في هذا الفرض زمان الشكّ، لأنّ الاستصحاب عبارة عن الحكم ببقاء المستصحب في زمان الشكّ، وفي المفروض لا يكون الحكم بالبقاء، بل إنّما يكون الحكم بالحدوث، لأنّ المستصحب - وهو عدم موت زيد في المثال - قد انتقض وارتفع في الساعة الثانية وبعد ارتفاعه لا معنى للحكم ببقائه إلى الثالثة، وذلك هو السرّ في اشتراط اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين».((1))

ولا يخفى عليك: أنّ في مثل المثالين المذكورين يكون الموضوع - للخطابات والأخبار الواردة في الاستصحاب وحرمة نقض اليقين بالشكّ ووجوب إبقاء ما كان على ما كان - مشكوكاً فيه.

ثم إنّ هنا مثالاً آخر، فيه، إشكال عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ باليقين، وهو في

ص: 196


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص428- 429.

الحادثين المتضادّين كالطهارة والحدث أو الخبث، بأن نفرض ثلاث ساعات: الساعة الاُولى والثانية تكونان زمان اليقين بثبوتهما مع الشكّ في المتقدّم والمتأخّر، والساعة الثالثة زمان الشكّ في بقائهما، فإنّ فيه لا يجري استصحاب بقاء الطهارة، لأنّ زمان الشكّ في بقائها غير معلوم الاتّصال بزمان اليقين بها لإمكان تقدّم الطهارة على الحدث أو الخبث. نعم، على فرض تأخّرها عنه يكون الاتّصال المعتبر حاصلاً إلّا أنّه مشكوك فيه. وهكذا لا يجري استصحاب الحدث لنحو ما ذكر.((1))

وقد ردّه المقرّر الفاضل ذيل الصفحة وهو بتقريب منّا: أنّ في مثال المتوارثين زمان الشكّ في کلّ منهما زمان حدوث الآخر، ولذا لا يمكن إحراز اتّصال زمان الشكّ فيه بزمان اليقين بعدمه لإمكان حدوثه في الساعة الثانية أو في يوم الجمعة ووقوع نقض اليقين بعدمه باليقين بحدوثه.

وفي مثال المتضادّين لا معنى للشكّ في بقاء أحدهما في زمان حدوث الآخر لاستحالة اجتماع الضدّين، فلا معنى لاعتبار الشكّ فيهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر للتضادّ بينهما، فاعتبار الشكّ في کلّ منهما يكون باعتبار الشكّ فيهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان فيكون زمان الشكّ متّصلاً بزمان اليقين، وإنّما لا يجري الاستصحاب لوقوع المعارضة بين الأصلين.((2))

ثم إنّ هذا کلّه في مجهولي التاريخ وأمّا إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهولاً فيجري فيه أيضاً ما ذكر في مجهولي التاريخ، فيجري استصحاب عدم وجود ما شكّ في وجوده بنحو

ص: 197


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص429 - 430.
2- وإن شئت الوقوف بتمام مرامه فراجع: الحجّتي البروجردي، الحاشية علی کفایة الاُصول، ج2، ص430 - 431.

آخر على نحو مفاد كان التامّة، لأنّ استصحابه كذلك يكون بلا معارض إذا كان الأثر مترتّباً على وجوده كذلك. بخلاف ما إذا كان الأثر مترتّباً على وجود کلّ منهما أو لكلّ أنحاء وجوده، فإنّه لا يتّجه استصحاب العدم في کلّ من الطرفين أو الأطراف لوقوع المعارضة بين الاستصحابين. ولا يجري إذا كان على نحو مفاد كان الناقصة لعدم الحالة السابقة على التفصيل الّذي مرّ.

وأمّا إذا كان الأثر مترتّباً على عدم الحادث في زمان الآخر على نحو مفاد ليس التامّة، فيجري استصحاب عدمه في مجهول التاريخ منهما لاتّصال زمان شكّه بزمان يقينه، دون معلوم التاريخ. بخلاف ما إذا كان على مفاد ليس الناقصة، فإنّه لا يجري فيه الاستصحاب لعدم اليقين بالاتّصاف سابقاً، والله هو العالم.

التنبيه الثاني عشر: جريان الاستصحاب في الاعتقادات
اشارة

قد عرفت ممّا سبق:((1)) أنّ الاستصحاب مورده الحكم الشرعي أو الموضوع للحكم الشرعي، فإذا كان المستصحب حكماً شرعياً كوجوب إكرام زيد، أو موضوعاً لحكم شرعي كخمرية مائع، وشكّ في بقاء وجوب الإكرام أو خمرية المائع، يجري استصحاب الوجوب في الأوّل والخمرية في الثاني.

وأمّا الموضوع اللغوي، فقد مثّل له بمثل الصعيد المتيقّن كونه حقيقة في مطلق وجه الأرض، وشكّ في بقائه على المعنى الحقيقي عند نزول قوله تعالى: ﴿فَ-تَ-يَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾،((2)) فيترتب على استصحاب معناه الحقيقي الحكم بجواز التيمّم على مطلق وجه الأرض.

ص: 198


1- في التنبيه السابع.
2- النساء، 43؛ المائده، 6.

ولكن التمسّك لإرادة هذا المعنى منه يكون مثبتاً، لأنّ إرادته من اللفظ تكون من الآثار العرفية للمستصحب.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بجريان الأصل المثبت في باب اللغات، أو يبنى على خفاء الواسطة.

ولا فرق فيما ذكر بين أن يكون المورد من الاُمور الاختيارية العملية الّتي تتعلّق بالعمل الجوارحي، أو العمل الجوانحي والقلبي. وأمّا الّتي كان المهمّ فيها شرعاً المعرفة واليقين، فلا يجري فيها الاستصحاب لعدم ترتّب هذا الأثر عليه وعدم إمكان التعبّد بها، لأنّها من الاُمور الحقيقية الخارجية الّتي لا تتحصّل بالتعبّد بها والبناء عليها والجري العملي عليها.

إذن، فإذا كانت الموافقة الالتزامية في الأحكام الفرعية واجبة يمكن أن يقال - إذا استصحبنا وجوب إكرام زيد أو خمرية مائع - : كما تجب موافقته بالعمل الجوارحي تجب موافقته قلباً وبالعمل القلبي بالبناء عليه والتسليم له.

أمّا في الاُمور الاعتقادية مثل وجود الله تعالى وأسمائه وصفاته الكمالية ممّا يكون المطلوب فيها العلم والمعرفة واليقين، فإذا شكّ فيه - والعياذ به تعالى - لا يجري الاستصحاب، لأنّ الشكّ فيه يسري إلى اليقين السابق ويزيله هذا أوّلاً. وثانياً: لأنّه لا يترتّب الأثر المطلوب منه - أي العلم واليقين - على استصحابه.

ويمكن بيان عدم جريان الاستصحاب بوجه آخر، وهو: أنّه مع حفظ اليقين بالله تعالى يستحيل الشكّ فيه والجمع بين اليقين به والشكّ فيه، بخلاف موارد الاستصحاب المفروض فيها اليقين الفعلي بوجود المستصحب في الزمان السابق والشكّ الفعلي في وجوده، فمثل وجود الله تعالى وصفاته الثبوتية والسلبية والمعاد ومثل الحساب والميزان ووجود الملائكة ونبوّة الأنبياء كنبوّة إبراهيم وموسى وعيسى(علیهم السلام) ونبيّنا خاتم الأنبياء(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكذا الولاية الحكومية الثابتة للنبيّ والأئمّة(علیهم السلام)

ص: 199

من الاُمور المتقوّمة بحياتهم العنصرية دون شؤونهم الذاتية الّتي لا تزول بارتحالهم، فلا يتطرّق الشكّ في بقاء تلك الحكومة، لأنّها ثابتة لهم ما داموا هم في هذه الدنيا، فلا يمكن اجتماع بقاء اليقين بها في زمان والشكّ فيها في زمان آخر.

نعم، يمكن الشكّ في بقاء هذه الشؤون الدنيوية لهم للشكّ في بقاء حياتهم ولكن استصحاب حياتهم أيضاً لا يوجب القطع واليقين بها فيجب الفحص عنها لوجوب معرفة إمام الزمان، ومثل هذا الشكّ لا يقع في إمام زماننا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) الّذي لو بقيت الأرض بغير وجوده لساخت بأهلها، وبالنسبة إلى الأنبياء(علیهم السلام)، فلا معنى للشكّ في حياتهم لارتحالهم صلوات الله عليهم إلى الله تعالى، وبالنسبة إلى نبوّتهم أي بقاء شريعتهم ممّا هو مختصّ بشرائعهم فلا شكّ في نسخ الجميع بالشريعة الخاتمية المحمدية، وبالنسبة إلى بعض الأحكام ممّا يحتمل بقاؤه في هذه الشريعة، فيجري فيه الاستصحاب. وأمّا بالنسبة إلى شريعة نبينا(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الشريعة الخاتمية، فالشكّ فيها إن وقع يرجع إلى نسخ بعض الأحكام في عصر الرسالة، وأمّا الشكّ في أصل الشريعة ونسخ تمام الأحكام أو بعضها بعد عصر الرسالة فهو خلاف ما قامت به الضرورة بين المسلمين فحلال محمّد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

تمسّك الكتابي باستصحاب النبوّة

ثمّ إنّه هل يجوز للكتابي إن شكّ في بقاء شريعة موسى - مثلاً - التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقاء شريعته، فيجوز له ترك النظر في دعوى مدّعي النبوّة ونسخ أحكام الشريعة السابقة؟

يمكن أن يقال: إنّه لا يترتّب على استصحاب بقاء شريعة موسى جواز ترك النظر في دعوى مدّعي النبوّة والفحص عن صدقه، غاية الأمر يثبت به وجوب الجري العملي

ص: 200

على طبق المستصحب والبناء عليه ظاهراً إذا لم يكن شكّه في البقاء من جهة الشكّ في صدق مدّعي النبوّة، فإنّه لا يجوز له حينئذٍ البناء على الاستصحاب وترك الفحص.

يمكن أن نقول: إنّ الشكّ في بقاء الشريعة لا يأتي إلّا من احتمال صدق مدّعي النبوّة الّذي هو المنجّز لوجوب الفحص عن صدقه فلا يكون هو معذوراً إن ترك الفحص ووقع في المخالفة لصدق مدّعي النبوّة واقعاً، نعم، يكون معذوراً إن فحص وحصل له العلم بكذب المدّعي، فما دام احتمال صدق مدّعي النبوّة باقياً لا يكون المکلّف معذوراً، والاستصحاب لا يدفع هذا الاحتمال ولا يؤثّر في نفيه.

وبالجملة: استصحاب بقاء الشريعة السابقة للشكّ فيه من جهة دعوى مدّعي النبوّة لا يدفع احتمال صدقه، ومع بقاء الاحتمال يجب عليه الفحص.

هذا کلّه إذا كان تمسّك الكتابي بالاستصحاب لدفع وجوب الفحص عن صدق مدّعي النبوّة عن نفسه.

وأمّا تمسّكه به قبال المسلم، فإن كان لإثبات صحّة دينه به فقد عرفت أنّه لا يثبت به. وإن كان لجعل کلفة إثبات الإسلام على المسلم قبال الكتابي فليس هو بشيء، لأنّ على کلّ مدّع إثبات دعواه، فعلى مدّعي النبوّة وعلى المسلم قبال الكتابي إثبات الإسلام، وعلى الكتابي أيضاً إن كان يدّعى صحّة عقيدته إثباتها بما يوجب اليقين؛ لا يثبت بالاستصحاب دينه كما لا يثبت به الإسلام للمسلم أيضاً، فتدبّر.

هذا کلّه ما سنح ببالي القاصر.

وأمّا السيّد الاُستاذ فقد أفاد هنا أنّ الاُمور الاعتقادية على أقسام:

فقسم منها: لا يكون حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي مثل وجود الله تعالى وصفاته. نعم، يجب الاعتقاد به وعقد القلب بوجوده، ولكن لا معنى لجريان الاستصحاب فيه باليقين السابق والشكّ اللاحق.

ص: 201

والقسم الآخر: يكون مثل الولاية مجعولاً بجعل إلهي ويتعلّق به العمل بوجوب الإطاعة، ولا مانع من جريان الاستصحاب من تلك الجهة، ولكنّه ممنوع من جهة اُخرى وهي: أنّ الولاية الخاصّة يجب معرفتها بالقطع واليقين ولا معنى للتعبّد بها شرعاً لعدم حصول المعرفة به.((1))

أقول: ويمكن أن يقال: إنّ الولاية المجعولة بالجعل الإلهي الّتي هو الموضوع لوجوب الإطاعة لا يتطرّق الشكّ في بقائها بعد اليقين بها إذا كان الوليّ حيّاً. نعم، يتطرّق الشكّ فيها بالشكّ في بقاء حياته لا مطلقاً.

ثم أفاد بأنّ منها: ما يمكن أن يكون مجعولاً ويمكن أن لا يكون مجعولاً، مثل النبوّة، ولا مانع من جريان الاستصحاب فيها؛ لكونها موضوعاً لوجوب إطاعة النبيّ، ولكنّه أيضاً ممنوع لعين ما ذكر بالنسبة إلى الولاية.((2))

وفيه: أيضاً ما قلناه في الولاية، مضافاً إلى أنّه لم يظهر لنا معنى عدم كون النبوّة مجعولاً، والله هو الهادي.

التنبيه الثالث عشر: في استصحاب حكم المخصّص

إعلم: أنّه قد اختلفوا فيما إذا ورد عامّ وخصّص في زمان، فهل يكون المورد بعد هذا الزمان مورداً للاستصحاب أو التمسّك بالعامّ؟ - بعد اتّفاقهم على عدم جريان الاستصحاب مع دلالة العامّ - على أقوال:

الأوّل: أنّه يتمسّك فيه بالعموم مطلقاً. وهو مختار المحقّق الثاني، واختاره سيّدنا

ص: 202


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص435 - 436.
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص435 - 436.

الاُستاذ(قدس سره) على ما حكاه عنه الفاضل المقرّر.((1))

الثاني: أنّ المرجع هو استصحاب حكم المخصّص مطلقاً وعزي اختياره إلى السيّد بحر العلوم رضوان الله تعالى عليه.

الثالث: التفصيل بين ما إذا كان المخصّص لبّياً فيتمسّك فيه بالعامّ، وما إذا كان لفظياً فيتمسّك فيه باستصحاب حكم المخصّص. ونسب هذا القول إلى صاحب الرياض(رحمه الله).

الرابع: التفصيل بين ما إذا كان الزمان مفرّداً فيقال بالتمسّك بالعامّ، وبين ما إذا كان ظرفاً، فالمرجع هو استصحاب حكم المخصّص. وهو مختار الشيخ الأنصاري(قدس سره).((2))

الخامس: التفصيل بين ما إذا اُخذ الزمان قیداً لكلّ من العامّ والخاصّ فالمرجع هو العامّ دون استصحاب الخاصّ.

أمّا عدم جريان استصحاب الخاصّ، فلأنّه كان مقيّداً بالزمان مثل قوله: «أكرم العلماء في کلّ زمان ولا تكرم زيداً العالم في يوم الجمعة» فاستصحاب حرمة إكرامه في يوم السبت يكون من استصحاب حكم موضوع لموضوع آخر، وبطلانه أوضح من أن يخفى، فلا يجوز التمسّك بالاستصحاب ولو لم يكن هنا عامّ في البين.

وأمّا التمسّك بعموم العامّ، فلانحلاله بأحكام متعدّدة متعلّقة بموضوعات متعدّدة لا يخرج بعضها عن العامّ بخروج بعضها، فإذا ثبت تخصيص العامّ بخروج بعض الأفراد عن تحته وشكّ في خروج سائر الأفراد فالشكّ يكون في زيادة التخصيص ومقتضى الأصل عدمه والرجوع إلى العامّ كما هو الحال في صورة الشكّ في أصل التخصيص.

وهكذا إذا اُخذ الزمان قیداً في العامّ وظرفاً للخاصّ، فإنّ في مثله لا شكّ في إجراء

ص: 203


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية علی كفاية الاُصول، ج2، ص439.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص395 (العاشر من التنبيهات).

حكم العامّ. ومع قطع النظر عن العامّ يكون المرجع استصحاب حكم الخاصّ، إلّا أنّه لا مجال له مع وجود العامّ. ففي هاتين الصورتين يكون الحكم الرجوع إلى العامّ.

وبين ما إذا کان الزمان مأخوذاً ظرفاً للحكم في العامّ وقيداً في الخاصّ، لأنّ فيه لا مجال للتمسّك بالعامّ الّذي كان مفاده ثبوت الحكم بنحو الدوام والحال أنّه انقطع بالخاصّ وقطع استمراره ولا يكون متكفّلاً لبيان حكم المورد بعد انقطاعه، كما لا يجري استصحاب الحكم المخصّص، فلابدّ من الرجوع إلى سائر الاُصول.

وكذا إذا كان الزمان ظرفاً في کلّ واحد من العامّ والخاصّ، فلا يجوز التمسّك بالعامّ لانقطاع استمراره بالخاصّ، ولكن يكون المرجع هو استصحاب حكم الخاصّ.

فهاتان الصورتان مشتركتان في عدم جواز الرجوع إلى العامّ، غير أنّ المرجع في الصورة الاُولى يكون غير الاستصحاب من سائر الاُصول، وفي الثانية يكون المرجع استصحاب الخاصّ. وهذا ما اختاره المحقّق الخراساني، ولكنّه استدرك عن الحكم في الصورة الأخيرة ما إذا ورد التخصيص على العامّ من أوّله كما إذا قال: «أنفق في سبيل الله في تمام هذه السنة»، ثمّ قال: «لا تنفق على زيد في أوّل ساعة من السنة»، فقال بجواز التمسّك بالعامّ لوجوب الإنفاق فيما بعد الساعة الاُولى من الساعات، بخلاف ما إذا قال: لا تنفق عليه في الشهر الثاني مثلاً.

والوجه في هذا التفصيل عنده: أنّ في الأوّل لم ينقطع الحكم حتى لا يمكن التمسّك بالعامّ، لأنّ أوّل زمان وجوده المستمرّ بعد الزمان الأوّل الّذي دلّ الخاصّ على خروجه عن تحت العامّ، دون الثاني. وبنى على ذلك جواز التمسّك ب- ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾((1)) لو خصّص بخيار المجلس أو خيار الحيوان، دون الثاني فإنّه ينقطع به حكم العامّ.((2))

ص: 204


1- المائدة، 1.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص342.

وعلى هذا، الفرق بين ما اختاره الشيخ وصاحب الكفاية فيما إذا كان الزمان ظرفاً في کلّ من العامّ والخاصّ صار مختار الشيخ عدم جواز التمسّك بالعامّ مطلقاً واستصحاب حكم المخصّص، ومختار صاحب الكفاية التفصيل بأن لا يجوز التمسّك بالعامّ إذا ورد التخصيص في الأثناء دون ما إذا كان وارداً في الابتداء. ولا يجري الاستصحاب إذا كان الزمان قیداً للخاصّ.

وربّما يورد عليهما بأنّ الزمان إذا لم يؤخذ مفرّداً في العامّ كقوله: «أكرم العلماء» من غير تقييد بمثل قوله: «في کلّ زمان» أو «في کلّ يوم» فإكرام العلماء إمّا يكون عبرة لكل من أفراد إكرامهم على نحو العامّ الاستغراقي فيدلّ بالعموم على وجوب إكرام کلّ فرد من العلماء، كما يدلّ بالإطلاق على وجوب کلّ فرد منهم حسب جميع حالاته الطارئة، فإذا خرج فرد منه في حال من حالاته وشكّ في شمول دليله لسائر حالاته يتمسّك بإطلاق العامّ للحكم عليه بالعامّ.

وبعبارة اُخرى يتمسّك بعموم العامّ للحكم على أفراد العامّ، ولحالات الأفراد بإطلاق الإكرام.

وإمّا يكون الإكرام موضوعاً للعامّ على نحو الطبيعة السارية في الأفراد بأن يكون کلّ فرد من أفراد الإكرام مصداقاً وفرداً لها من غير أن يكون کلّ واحد من المصاديق ملحوظاً مستقلّا ولكنّه يكون بحيث لو خالف المکلّف في بعض المصاديق ولم يأت به لا يسقط عنه وجوب الإتيان بسائرها، وفي مثل هذا أيضاً كما يكون إكرام کلّ فرد من أفراد العلماء مصداقاً لطبيعة الإكرام السارية في جميع الأفراد بقوله: «أكرم العلماء» أو «أوفوا بالعقود» يكون کلّ فرد منه في کلّ حال من أحواله مصداقاً للإكرام والوفاء.

فعلى هذا، يمكن أن يقال: بورود الإشكال على الشيخ القائل بعدم جواز الرجوع

ص: 205

إلى العامّ إذا كان الزمان ظرفاً للعامّ، وكذا على صاحب الكفاية القائل بالتفصيل المذكور، فيجوز التمسّك بإطلاق موضوع دليل العام.

اللّهمّ إلّا أن يقال: معنى كون الزمان ظرفاً للعامّ أنّ مثل الوفاء في مثل «أوفوا بالعقود» يكون أمراً بسيطاً في وعاء الزمان بحيث لو خولف في زمان من الأزمنة سقط الأمر به بالعصيان، وفي مثله إذا خصّص بزمان لا يمكن التمسّك بالعامّ لوجوبه في سائر الأزمنة لقطع حكمه به، فتأمّل.

هذا، وقد أفاد السيّد الاُستاذ - طاب الله مضجعه - بعد بيان ما أفاد اُستاذه صاحب الكفاية: ما يوافق حاصل ما ذكرناه من التمسّك بالعامّ مطلقاً، وعدم جواز التمسّك بالاستصحاب وإن كان الزمان ظرفاً للعامّ بتقريب: أنّه لا شكّ في وجوب التمسّك بالعامّ إذا كان کلّ زمان من الأزمنة مفرّداً لموضوعه وخرج منه بعض أفراده في زمان من الأزمنة وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد هذا الزمان، لأنّ مثل «إكرم العلماء» - باعتبار كون الزمان مفرّدا له - يتكثّر وينحلّ بموضوعات متكثّرة كما ينحلّ الحكم أيضاً به بأحكام كثيرة. فإذا ورد دليل خاصّ على عدم إكرام زيد في زمان خاصّ لا ريب في أنّه يتمسّك بالعامّ في وجوب إكرام زيد في غير هذا الزمان، كما يتمسّك به في وجوب إكرام غير زيد من أفراده العرضية.

وإذا كان العامّ مقيّداً بالدوام كقوله: «أكرم العلماء دائماً» يكون موضوع کلّ حكم - من الأحكام الّتي انحلّ العامّ بها - الإكرام الدائم له في جميع حالاته وفي جميع الأزمنة على سبيل العامّ المجموعي، بمعنى أنّ المولى اعتبر مجموع الإكرامات المستمرّة المتتالية شيئاً واحداً وأمر بها نظير المركّب. وكما إذا قال: «أكرم هذه الفئة» أو «أعتق هذه العشرة». فإذا قال: «لا تكرم زيداً العالم في يوم الجمعة» يكون دليلاً على خروج زيد عن تحت «أكرم العلماء يوم الجمعة» وساكتاً عن حكمه بعد يوم الجمعة فيبقى ما بعد

ص: 206

يوم الجمعة تحت العامّ، فإذا كان العامّ ملحوظا على سبيل العامّ المجموعي فكما يشمل أفراده العرضية بعد خروج فرد منه كذلك يشمل أفراده الطولية بعد خروج فرد منها.

وبعبارة اُخرى: يكون مفاد العامّ مطلوبية مجموع الإكرامات، ومفاد الخاصّ خروج مقدار منها عن المطلوبية، فيبقى غيره باقياً على مطلوبيته. إذن: لا فرق بين هذه الصورة والصورة الاُولى إلّا في كون الخارج في الأوّل الفرد، وفي الثاني البعض أي بعض المجموع.

وهنا قسم ثالث، وهو: ما إذا لم يكن مقيّداً بالزمان أصلاً لا على كون التقيّد به مفرّداً، أو مستمرّاً، مثل قوله: «أكرم العلماء».

ففيه: إن كان العامّ دالّا على مطلوبية الإكرام في الجملة ولم يكن له إطلاق، يكون مفاده في مثل «أكرم العلماء» إكرام کلّ فرد منهم في الجملة، فإذا دلّ دليل الخاصّ على عدم مطلوبية إكرام زيد مثلاً في يوم الجمعة لا يكون مانعاً من التمسّك بالعامّ لمطلوبية غيره في الجملة. ولا يكون معارضاً للعامّ في أصل المطلوبية في الجملة، بل يكون مبيّناً للدليل ورافعاً لإجماله.

وإن كان له إطلاق بحسب الزمان، فلا يخلو إمّا أن يستفاد من الإطلاق مطلوبية کلّ فرد منه على حدة بحيث يكون إكرام کلّ يوم فرداً من العامّ فيكون إطلاقه راجعاً إلى الأوّل يتمسّك به في غير يوم الجمعة، أو يستفاد منه المطلوبية على الدوام والاستمرار فيكون إطلاقه راجعاً إلى الثاني ويعامل معه معاملة العامّ المجموعي، كما قد عرفت.

فإن قلت: المستفاد من تقيّد العامّ بالدوام اتّصال مطلوبية الإكرام على الدوام، فإذا انقطع الاتّصال بالدليل لا يبقى مجال للتمسّك بالعامّ فنحتاج إلى دليل آخر دالّ على مطلوبية الباقي من العامّ تحت الحكم بعنوان آخر.

قلت: مدلول العامّ المقيّد بالدوام والاستمرار هو الاتّصال والمتصل بالحمل الشائع

ص: 207

لا الحقيقي وهو العامّ المجموعي، وليس عنوان الاتّصال مأخوذاً في موضوعه ولا يستظهر ذلك من لفظ الدوام والاستمرار، بل يمكن دعوى ظهوره في خلافه.

هذا، ولا يخفى عليك: أنّ ما ذكر يكون فيما إذا كان الدوام قیداً للواجب.

وأمّا إذا كان قیداً للوجوب - كما هو الظاهر من الكفاية فإنّه جعل الدوام قیداً للحكم، ومعنى تقييده بالدوام أنّه لا ينسخ إلى الأبد وإن كان المطلوب من متعلّقه إيجاد نفس الطبيعة الّذي يحصل بوجود فرد منها - فالحكم أيضاً في غير مورد الخاصّ هو التمسّك بالعام، لدلالة العامّ على بقاء الحكم في غير مورد الخاصّ، كما عرفت ذلك، بالإضافة إلى كون الدوام والاستمرار قیداً للموضوع، فتدبّر وراجع التقريرات((1)) لعلّك تستفيد منه ما هو أزيد ممّا قلناه، والله هو الهادي إلى الصواب.

التنبيه الرابع عشر: في المراد من الشكّ في الاستصحاب
اشارة

لا ريب في أن المستفاد من أخبار الباب: أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو خلاف اليقين، يشمل الشكّ المصطلح والظنّ بالخلاف وكذا الظنّ بالوفاق بطريق أولى.

فلا حاجة مع مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ولكن تنقضه بيقين آخر» إلى دليل آخر مثل دعوى الإجماع القطعي((2)) على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف.

أو أن يقال:((3)) إنّ الظنّ غير المعتبر إن علم عدم اعتباره بالدليل مثل الظنّ الحاصل من القياس فوجوده كعدمه عند الشارع فكلّما يترتّب على

ص: 208


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص439 - 442.
2- كما استدلّ به الشيخ في الفرائد (الأنصاري، ص398).
3- والقائل به هو الشيخ أيضاً في الفرائد (الأنصاري ، ص 398).

تقدير عدمه يترتّب على تقدير وجوده، وإن كان اعتباره مشكوكاً فيه فالبناء عليه ورفع اليد عن اليقين السابق به يكون من نقض اليقين بالشكّ.

أمّا دليل الإجماع فيرد عليه صغروياً وكبروياً.

وأمّا الدليل الثاني، ففيه أنّ عدم اعتبار الظنّ بالدليل، أو عدم الدليل على اعتباره لا يفيد إلّا عدم إثبات مظنونه به تعبّداً فلا تترتّب عليه آثاره شرعاً ولا يفيد ترتّب آثار الشكّ عليه إذا لم يكن الشكّ المذكور في الأخبار أعمّ من الظنّ، بل لابدّ حينئذٍ من الرجوع إلى سائر الاُصول كأصل البراءة من التكليف أو أصالة الطهارة، والله هو العالم.

تتمّة في بقاء الموضوع وتقديم الأمارة على الاستصحاب

إعلم: أنّه قد ذكر في الكفاية أنّه لابدّ في الاستصحاب من أمرين:

أحدهما: بقاء الموضوع والثاني عدم أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه. فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في المراد من الموضوع وبقائه

قال الشيخ: إنّ المراد بالموضوع معروض المستصحب، مثل زيد المعروض للقيام مثلاً.

والمراد ببقائه بقاؤه على النحو الّذي كان في السابق معروض المستصحب إمّا بتقرّره الذهني أو بوجوده الخارجي، ففي الشكّ في قيام زيد لابدّ من بقاء زيد في الزمان اللاحق خارجاً كما كان في السابق وجوده محقّقاً محرزاً. وفي استصحاب وجود زيد يكفي تقرّره في الذهن، فكما كنّا نحكم بوجود زيد في الخارج وكان الموضوع زيد المتقرّر في الذهن إذا شككنا في بقاء وجوده نحكم عليه بالبقاء.

وبعبارة اُخرى: إذا كان المتيقّن السابق من عوارض شيء خارجيّ كقيام زيد وشككنا في بقاء قيامه يجب في الحكم ببقاء قيامه بحكم الاستصحاب بقاء زيد الّذي

ص: 209

هو معروض المستصحب وهو الموضوع. وإذا كان المتيقّن السابق عين أمر خارجي مثل وجود زيد وحياته وشككنا في بقائه لا يعتبر في استصحابه بقاؤه لمنافاة الشكّ في بقائه مع العلم بوجوده، بل يكفي بقاؤه في الذهن، وإليك ما أفاده الشيخ بلفظه:

الأوّل: بقاء الموضوع في الزمان اللاحق والمراد به معروض المستصحب، فإذا اُريد استصحاب قيام زيد أو وجوده فلابدّ من تحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الّذي كان معروضاً في السابق، سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهناً أو بوجوده خارجاً، فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي، وللوجود بوصف تقرّره ذهناً لا وجوده الخارجي. (إلى أن قال:) ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط (يعني بقاء الموضوع) في جريان الاستصحاب واضح؛ لأنّه لو لم يعلم تحقّقه لاحقاً فإذا اُريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوّم به فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضع وهو محال، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، ومن المعلوم أنّ هذا ليس إبقاء لنفس ذلك العارض وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد فيخرج عن الاستصحاب بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقاً بالعدم فهو المستصحب دون وجوده. انتهى.((1))

والجواب عنه أنّه لا دليل على لزوم ما ذكر، أي إحراز معروض المستصحب خارجاً.

وأمّا الاستدلال عليه بلزوم انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر وهو غير معقول، وأن يكون الحكم بالحدوث لا بالبقاء، أو لزوم كون العرض بدون المعروض وهو محال.

ففيه: أنّ ذلك يتمّ بالنسبة إلى وجود العرض الحقيقي الخارجي، وأمّا بالنسبة إلى وجوده التنزيلي والبنائي التعبدي فلا مانع منه لتوسعة دائرة التعبّد والبناء.

ص: 210


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص 399 - 400.

هذا، وأمّا صاحب الكفاية فقد أفاد في هذا الشرط:((1)) أنّ معنى اعتبار بقاء الموضوع اتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة موضوعاً، كاتّحادهما حكماً؛ لأنّ بدونه لا يكون الشكّ في البقاء بل يكون في الحدوث، ولا يكون رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقض اليقين بالشكّ، بل هذا الاتّحاد ليس شرطاً زائداً على أصل تحقّق موضوع الاستصحاب، فالاستصحاب مركّب من القضيتين المتحدّتين موضوعاً ومحمولاً.

وإنّما الكلام في أنّ الاتّحاد المذكور هل يكون بنظر العرف أو العقل؟ أو بحسب دليل الحكم؟

فإن كان بنظر العقل يلزم منه عدم جريان الاستصحاب في الأحكام في کلّ مورد شكّ في بقاء الحكم، لزوال خصوصية كانت في الموضوع أو زيادة خصوصية لم تكن فيه.

وإن كان بحسب لسان الدليل والجمود عليه يلزم الاقتصار على جريان الاستصحاب بنفس العنوان المذكور في لسان الدليل وإن علم كونه مشيراً إلى ما هو الموضوع واقعاً فإذا قال: أكرم هذا القاعد أو النائم، ثم زال عنوان القائم أو القاعد وشكّ في بقاء الحكم لا يجري استصحاب وجوب إكرامه، لزوال الموضوع المأخوذ في لسان الدليل مع أنّه يجري فيه الاستصحاب بلا کلام.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المراد أنّه يعتمد على لسان الدليل إذا كان استظهار كون العنوان فيه مشيراً مورداً للشكّ، لا ما إذا كان مثل هذا المثال أو مثل: «العنب إذا غلى يحرم».

وبالجملة: فالاعتبار على لسان الدليل إذا لم يكن بنظر العرف موضوع القضيتين واحداً أو كان مورد الشكّ وإلّا لا ريب في أنّ المعيار في تشخيص هذا الاتّحاد هو العرف، لأنّه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفية الّتي منها الخطابات الشرعية، والله هو العالم.

ص: 211


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص346 - 349.
المقام الثاني: في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب

إعلم أنّه قد ذكر المقرّر الفاضل(قدس سره) حكاية عن السيّد الاُستاذ(قدس سره) ذهاب البعض إلى جريان الاستصحاب في مورد قيام الأمارة.((1)) ولم يشر إلى اسمه.

وهذا غريب بعيد، لأنّ القول به على الإطلاق يوجب سقوط أكثر أدلّة الأحكام الفرعية - المبتنية على أخبار الآحاد - عن دلالتها عليها، وتعطيل الأحكام. وكذلك يوجب سقوط البيّنة في الموضوعات، مع أنّ مدار الاُمور يكون عليها وهي من الأمارات.

وكيف كان، كما أفاد صاحب الكفاية، لا شبهة في عدم الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده،((2)) ولا يحتاج ذلك إلى كثير تحقيق.

وإنّما الكلام يقع في أنّ عدم جريانه مع قيام الأمارة هل يكون للتوفيق بين دليل اعتبار الأمارة وخطابه؟ بتقريب: أنّ العرف يفهم من الدليلين معنىً مناسباً لهما، كالتوفيق بين دليل حجّية الأمارات والاستصحاب، لما ذكر من ابتناء أخذ أحكام الشرع بأخذها من الأمارات ومعرفة الموضوعات على البينة. فلابدّ من كون أمر آخر حجّة أن يكون في طولها لا نافياً لها أو لأكثرها.

أو أنّه للحكومة؟((3)) فإنّها عبارة عن حكم الشارع في ضمن دليل برفع اليد عمّا يقتضيه دليل آخر.

وبعبارة اُخرى الحكومة عبارة عن: كون أحد الدليلين شارحاً وناظراً إلى الآخر، فإذا قال الشارع: «إعمل بخبر الثقة الواحد في الأحكام»، أو قال: «اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك»، معناه: إرفع اليد عن آثار احتمال المخالف لذلك، مثل استصحاب العدم أو

ص: 212


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص447.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص350.
3- كما ذهب إليه الشيخ(قدس سره) في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص407).

استصحاب الطهارة، واعمل معاملة النجاسة معه. فمثل قوله: «اعمل بالبيّنة» يكون مبيّناً لمقدار دلالة دليل الاستصحاب ومضيّقاً لدائرته، فإنّ دليل الحاكم تارة يكون مضيّقاً لدائرة موضوع المحكوم مثل: «أكرم العلماء» و«زيد ليس من العلماء» بلحاظ نفي حكم وجوب الإكرام عنه مع كونه عالماً حقيقة، فيكون حاكماً على «أكرم العلماء». والمثال الآخر قوله: «لا شكّ لكثير الشكّ». واُخرى يكون موسّعاً لها كقوله: «زيد من العلماء» بلحاظ إثبات حكم وجوب الإكرام عليه مع عدم كونه من العلماء.

أو يكون عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة للتخصّص؟ وهو: خروج فرد عن موضوع الحكم عقلاً وواقعاً. ولا ريب أنّ الاستصحاب في مورد الأمارة ليس خارجاً عن الدليل الدالّ عليه بالعموم عقلاً وواقعاً.

أو يكون بالتخصيص؟ وهو: إخراج بعض الأفراد عن تحت الحكم مع كونه داخلاً في الموضوع مثل: «أكرم العلماء» و«لا تكرم زيداً العالم».

والأقوى أنّ عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة ليس من التخصيص - وإن نسب اختياره إلى جماعة - ، أي ليس دليل الأمارة مخصِّصاً لدليل الاستصحاب وإخراجاً لموردها عن حكم الاستصحاب، لكون دليل الأمارة أعمّ من الاستصحاب كما أنّ دليل الاستصحاب أيضاً أعمّ من مورد البراءة، والنسبة بينهما العموم والخصوص من وجه فيتعارضان في مادّة الاجتماع.

أو يكون بالورود؟((1)) وهو: كون أحد الدليلين رافعاً لموضوع الحكم المذكور في الدليل الآخر حقيقة كما هو كذلك في الأمارات والاُصول العقلية، كالبراءة العقلية والاحتياط والتخيير العقليين، فإنّ مع قيام الأمارة على حكم أو موضوع ذي حكم لا يبقى مجال لإجراء الاُصول المذكورة.

ص: 213


1- كما ذهب إليه المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية (ج2، ص350).

أو تعبّداً، كالأمارة قبال الاُصول الشرعية، والاستصحاب بناءً على كونه من الاُصول العملية، وقاعدة الحلّيّة والطهارة؛ فإنّ الأمارة إذا قامت تكون رافعة - تعبّداً وشرعاً - للجهل أو الشكّ في موارد الاُصول المذكورة.

هذا، وقد أفاد السيّد الاُستاذ(قدس سره): بأنّ التحقيق ما اختاره اُستاذه صاحب الكفاية من أنّ عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة يكون للورود، لأنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب الأمارة ليس نقضاً لليقين بالشكّ بل باليقين.

وليس بالتخصيص، لأنّه لا وجه له (وقد عرفت ما هو الوجه له والجواب عنه). ولا بالحكومة، لأنّه لا نظر لدليل الأمارة إلى مدلول دليل الاستصحاب بما هو مدلوله في مقام الإثبات وإن كان معنى لزوم العمل بالأمارة إلغاء احتمال الخلاف في مقام الثبوت.

والحاصل: مقتضى: دليل الأمارة هو: وجوب العمل على طبقها في حال الشكّ، كما هو مقتضى دليل الاستصحاب، لا أنّ مقتضاه إلغاء احتمال الخلاف حتى يكون ناظراً إلى دليل الاستصحاب ومدلوله.((1)) انتهى. والله هو العالم.

ص: 214


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص448.

خاتمة في أمرين

الأمر الأوّل: في بيان النسبة بين الاستصحاب وغيره

إعلم: أنّه قد أفاد في الكفاية في بيان النسبة بين الاستصحاب والاُصول العملية: أنّها بعينها هي النسبة بين الأمارات وبينه،((1)) فيكون الاستصحاب مقدّماً على هذه الاُصول، وإلّا يلزم في النقلية منها - كالبراءة الشرعية من تقدّمها على الاستصحاب - إمّا تخصيص دليله بدون المخصّص، أو القول بكون المخصّص لدليله دليل البراءة الشرعية وهو مستلزم للدور؛ لأنّ كونه مخصّصاً لدليل الاستصحاب يتوقّف على اعتباره مع الاستصحاب، واعتباره معه يتوقّف على كونه مخصّصاً له. وعلى هذا، يكون الاستصحاب وارداً على البراءة الشرعية بالورود التعبّدي، بمعنى كونه رافعاً للشكّ أو الاحتمال الّذي هو موضوع البراءة بحكم الشرع تعبّداً لا حقيقة فينتفي به موضوع البراءة تعبّداً.

وأمّا الاُصول العقلية فالاستصحاب يقدّم عليها لكونه رافعاً لموضوعها واقعاً وحقيقة، لكونه بياناً في مواردها.

فمثل التخيير العقلي إنّما يكون مرجعاً إذا لم يكن بياناً معيّناً لأحد الطرفين (الحرمة والوجوب)، والاستصحاب بيان للطرف الّذي يقوم عليه.

ص: 215


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص351.

وکذا یرتفع به موضوع البراءه العقلیه وهو عدم البیان.

وموضوع الاحتياط الناشئ من العلم الإجمالي بالتكليف وهو عدم الأمن من العقوبة بالإتيان ببعض الأطراف دون البعض، فإذا علم بخمرية أحد الإناءين يجب الاجتناب عنهما، أمّا إذا علم بكون أحدهما سابقاً خمراً والآخر خلّا ينحلّ العلم الإجمالي بوجوب الاجتناب عن أحدهما المعيّن والشكّ في وجوب الاجتناب عن الآخر، بل وإن لم تعلم الحالة السابقة للطرف الآخر.

هذا، وأمّا السيّد الاُستاذ(قدس سره) فيظهر من تقريرات بحثه الشريف: أنّه لا يرى التعارض بين الاستصحاب وسائر الاُصول العملية، فالبراءة العقلية عنده عبارة عن حكم العقل بأنّ مجرّد الاحتمال لا يوجب تنجّز التكليف، ولا ينافي ذلك قيام الحجّة على التكليف، لأنّ تنجّزه بالاستصحاب ليس بمجرّد الاحتمال بل بالحجّة القائمة عليه. وبعبارة اُخرى: مفهوم البراءة العقلية وعدم تنجّز التكليف بمجرّد الاحتمال تنجّزه إذا قامت الحجّة عليه والاستصحاب حجّة عليه.

وأمّا بالنسبة إلى البراءة النقلية، فإن كان مفاد ما يدلّ عليها الإرشاد إلى حكم العقل، وأنّ التكاليف المجهولة مرفوعة عن الاُمّة ولا تصير فعلية، فالكلام فيها هو الكلام في البراءة العقلية. إلّا أنّ ظاهر دليلها بالتدقيق هو التأسيس لا الإرشاد إلى حكم العقل المذكور. وحينئذٍ إن كان مفاد دليلها إخباراً عن عدم جعل طريق منجّز للتكاليف المجهولة، فلا ريب في تعارض دليلها مع دليل الاستصحاب، بل وسائر الطرق والأمارات. لكن هذا أيضاً خلاف الظاهر.

والتحقيق في مفاد دليلها هو: أنّ التكاليف المجهولة بعنوان أنّها مجهولة مرفوعة عن الاُمّة، بمعنى أنّها مع الجهل بها وإن كانت تقتضي جعل الاحتياط إلّا أنّها صارت مرفوعة عن الاُمّة.

ص: 216

وبعبارة اُخرى مفاده عدم جعل الاحتياط في التكاليف المجهولة بما هي مجهولة. وهذا معنى لا تعارض بينه وبين قيام الحجّة على ثبوت التكليف، والاستصحاب وسائر الأمارات حجّة. مع أنّ التكليف المجهول بمجرّد قيام الحجّة عليه يخرج عن عنوان المجهولية.((1))

أقول: ويمكن أن نقول: إنّ دليل البراءة النقلية إنّما ينهض بعد الفحص عن الحجّة على التكليف وعدم الظفر به، سواء كانت الحجّة الاستصحاب أو غيره، فتدبّر.

الأمر الثاني: في الاستصحابين

اشارة

وهو يتصوّر على وجوه:

أحدها: إذا لم نعلم بعدم انتقاض الحالة السابقة في أحدهما، كما إذا شككنا في بقاء وجوب کلّ من الواجبين، كإكرام زيد وإكرام عمرو، في الشبهة الحكمية. أو شككنا في حياة الغريقين في الشبهة الموضوعية من جهة وقوع التزاحم بينهما في مقام الامتثال، فالحكم فيهما هو الحكم في الواجبين اللذين وقع التضادّ بينهما من جهة عدم قدرة المکلّف بإتيان كليهما، كإكرام زيد وإكرام عمر المعلومين وجوبهما في زمان واحد في نفس المثال.

وبالجملة: حكم هذه الصورة، إن كان بينهما ما هو أهمّ من الآخر يجب الإتيان به، وإلّا فالمكلّف مخيّر بإتيان أيّهما شاء.

ولكن السيّد الاُستاذ كما يستفاد من تقريرات بحثه الشريف اعترض على اُستاذه في فرض التزاحم بأنّه لا مورد للاستصحاب فيه، لأنّ التعارض إذا وقع بين الحكمين - للتضادّ الّذي وقع بينهما في مقام الامتثال - فالحكم هو الأخذ بأهمّ منهما إن كان

ص: 217


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص450 - 451.

أحدهما أهمّ من الآخر، وإلّا فحكمه التخيير بينهما فليس لنا شكّ في وجوب أحدهما إمّا بالخصوص أو لا بالخصوص.

وبعبارة اُخرى: حكم التضادّ الواقع بينهما في مقام الامتثال هو ما ذكر، ولا شكّ في بقاء الحكمين من جهة هذا التضادّ، وإلّا فيمكن أن يقال: إنّ الموضوع المبتلى بالمزاحم غير ما لم يكن مزاحما به وإجراء استصحاب حكم غير المزاحم على المزاحم من إسراء الحكم إلى غير ما هو موضوع له. نعم، إذا كان المقصود من الاستصحاب استصحاب مقتضى الوجوب لاحتمال طروّ مانع آخر (غير التضادّ بين الواجبين الّذي ثبت لكلّ منهما وجود المقتضي حتى في حال التمانع وهو المراد من المتزاحمين)، فهو مع خروجه عن فرض التزاحم، لا يجري إلّا على القول بالأصل المثبت، أي لا يثبت به إلّا أثر عقليّ وهو التزاحم، فتأمّل.

ثانيها: ما إذا علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، وكان الشكّ في أحدهما مسببّاً عن الشكّ في الآخر.

وبعبارة اُخرى: كان وجود أحد المستصحبين مسبّباً عن وجود الآخر، مثل طهارة الثوب النجس المغسول في الماء المشكوك بقاء طهارته المعلومة سابقاً، فعلى الحكم بطهارة الماء المذكور بالاستصحاب يحكم بطهارة الثوب المذكور.

ولا شبهة في جريان الاستصحاب في هذه الصورة في السبب فقط، وذلك لأنّ جريانه في المسبّب والحكم ببقائه نجساً نقض لليقين بطهارة الماء سابقاً بالشكّ. بخلاف جريانه في السبب، فإنّ مع جريانه فيه يكون نقض اليقين بنجاسة الثوب والحكم بطهارته نقضاً باليقين وبما هو رافع للنجاسة شرعاً.

وأيضاً إجراء الاستصحاب في المسبّب إمّا يكون مع إجرائه في السبب، وإمّا يكون برفع اليد عن إجرائه فيه، وكلاهما محال.

ص: 218

أمّا الأوّل فلأنّه يستلزم الحكم ببقاء نجاسة الثوب وطهارته.

وأمّا الثاني، فإمّا أن يكون بتخصيص دليل الاستصحاب في السبب بلا مخصّص؛ وإمّا يكون بتخصيصه بالاستصحاب الجاري في المسبّب.

أمّا الأوّل، فبطلانه واضح.

وأمّا الثاني، فمستلزم للدور، لأنّ عدم فردية الاستصحاب الجاري في السبب لدليل الاستصحاب موقوف على فردية الجاري في المسبّب له، وفرديته تتوقّف على عدم فردية الجاري في السبب، وهو دور.

هذا کلّه إذا كان الاستصحاب جارياً في السبب وإلّا إذا لم يمكن إجراؤه فيه، كما إذ اشتبه الماء المغسول فيه الثوب بغيره من جهة وقوع النجاسة في أحدهما، فلا شبهة في أنّه يجري استصحاب بقاء نجاسة الثوب المغسول فيه.

ثالثها: ما إذا علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما وكانا عرضيين لم يكن أحدهما في طول الآخر.

فلا يخلو الأمر إمّا أن يلزم من جريانهما المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، كما إذا علم بوجوب أحد الأمرين إجمالاً بعد العلم بعدم وجوبهما سابقاً، وإجراء استصحاب عدم الوجوب في کليهما يوجب مخالفة الوجوب الفعلي المعلوم بالإجمال، ففي هذا يمنع هذا العلم عن جريانهما شرعاً وعقلاً وإن كان المقتضي لإجراء الاستصحاب في مقام الإثبات وهو إطلاق دليله موجوداً إلّا أنّ المانع المذكور يمنع من تأثيره.

وإمّا أن لا يلزم منه ذلك، مثل ما إذا علم إجمالاً بارتفاع وجوب أحد الأمرين بعد العلم بوجوب کليهما سابقاً، فلا يلزم من إجراء استصحاب الوجوب في الطرفين مخالفة للتكليف أصلاً، فليس هنا ما يمنع من تأثير المقتضي، أي إطلاق خطاب «لا تنقض» وشموله لأطراف العلم الإجمالي.

ص: 219

فإن قلت: لا يشمله الخطاب، لأنّ رفع اليد عن الحالة السابقة في الأطراف ليس نقضاً لليقين بالشكّ بل يكون نقضاً لليقين باليقين.

قلت: رفع اليد عن اليقين في کلّ واحد من الأطراف يكون نقضاً لليقين بالشكّ، واليقين الإجمالي لم يتعلّق بواحد من الأطراف بالخصوص حتى يكون رفع اليد عن اليقين السابق المتعلّق به رفعاً باليقين، بل إنّما هو متعلّق بأحد الأطراف لا بعينه بخلاف اليقين السابق والشكّ اللاحق، فإنّهما تعلّقا بأشخاص الأطراف ومصاديقها الخارجية، وخطاب «لا تنقض» ناظر إلى المصاديق الخارجية.

وممّا ذكر يظهر أنّ ما يقال((1)) من أنّ شمول الأخبار لمثل المقام يوجب التناقض في مدلول بعضها، لأنّ قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذيل بعض الأخبار: «ولكن تنقضه بيقين آخر» يشمل العلم الإجمالي بارتفاع أحد الأمرين، وهو يناقض قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا تنقض اليقين بالشكّ» الشامل للشكّ في بقاء كل فرد من الأطراف على حالته السابقة.

يردّ بأنّ قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ولكن...» اعتبر بالإضافة إلى متعلّق الشكّ ، وهو كلّ فرد من الأطراف بالخصوص، والعلم الإجمالي متعلّق بشيء آخر وهو عنوان أحد الأطراف لا بعينه. فعلى ذلك، تشمل الأخبار المقام من غير أن يستلزم تناقضاً في البين. فعلى هذا يكون المقتضي - وهو شمول الأخبار - موجوداً، والمانع - وهو لزوم المخالفة العمليّة - مفقوداً.((2))

هذا ما أفاده سيّدنا الاُستاذ أعلى الله مقامه. وأمّا صاحب الكفاية(قدس سره) فكأنّه قبل التنافي بين الصدر والذيل في بعض الأخبار، فلا يتمّ التمسّك بإطلاقه. بيان ذلك: أنّ قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ذيل بعض الأخبار: «ولكن تنقض اليقين باليقين» يمنع عن دلالة قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في صدرها: «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالإطلاق عن النهي عن نقض اليقين بالشكّ في

ص: 220


1- والقائل هو الشيخ(قدس سره) في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص429).
2- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص451 - 456.

أطراف العلم الإجمالي لكون اليقين في قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ولكن...» أعمّ من اليقين التفصيلي والإجمالي. فمفاد المغيّى حرمة النقض في کليهما، والغاية تدلّ وجوبه في أحدهما، فتقع المناقضة بين السلب الكلّي الّذي هو مفاد المغيّى والإيجاب الجزئي مفاد الغاية، فتصير الغاية سبباً لإجمال المغيّى وقرينة على عدم دلالة المغيّى على حرمة النقض في مورد العلم الإجمالي، لكنّه قال: إنّ ذلك لا يمنع من الاستدلال بغيره من الأخبار ممّا ليس فيه هذا الذيل، وشامل لما في أطرافه، لعدم سراية إجمال هذا البعض إلى غيره.((1))

فعلى هذا، مع وجود المقتضي - وهو الإطلاق المذكور وعدم المانع - بلزوم المخالفة العمليّة - يجري الاستصحاب في کليهما. وأمّا المخالفة الالتزامية، فهو ليس بمحذور شرعاً ولا عقلاً.

وممّا ذكر يظهر عدم جريان الاستصحاب في ما إذا يلزم منه المخالفة الاحتمالية وترك الموافقة القطعية، لأنّ إجراءه لا يكون عذراً للمخالفة الإحتمالية إذا وقع فيه، فتدبّر.

تذنيب

إعلم: أنّه كما أفاد في الكفاية،((2)) وأفاد سيّدنا الاُستاذ(قدس سره)،((3)) وغيرهما: لا ريب في تقدّم مثل قاعدة التجاوز، وقاعدة الفراغ، وأصالة صحّة عمل الغير وغيرها من القواعد المقررّة في الشبهات الموضوعية على الاستصحاب الجاري في مواردها - لولا هذه القواعد - المقتضي لفساد ما شكّ فيه من الموضوعات.

والدليل على ذلك أوّلاً: أخصّية دليل هذه القواعد عن دليل الاستصحاب فيخصّص دليله بأدلّتها.

ص: 221


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص356 - 358.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص356 - 358.
3- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص456.

فإن قلت: قد تكون النسبة بين بعض هذه القواعد ودليل الاستصحاب عموماً من وجه، فلابدّ من القول بتساقط الدليلين بالتعارض، ففي مورد قاعدة اليد إذا احتمل أو علم أنّه ليس ما في اليد مما كان في ملك غير ذي اليد سابقاً حتى تستصحب الملكية السابقة، أو كان ما في اليد ممّا تعاقبت فيه الحالتان، فعلم أنّ ما في اليد كان ملكاً لذي اليد في حالة ولم يكن ملكاً له في حالة اُخرى ولم يعلم السابقة منهما على الاُخرى، ففي هذين المثالين يدٌ ولا استصحاب، فهو مورد الافتراق من جانب اليد، وأمّا مورد الافتراق من جانب الاستصحاب فهو كثير جدّاً. وبالجملة: تكون النسبة بينهما عموماً من وجه، فكيف يقال بأنّ النسبة بينهما الأعمّ والأخصّ المطلق حتى يقال بالتخصيص تحكيماً للخاصّ على العامّ؟!

قلت: قد أجاب في الكفاية((1)) عن ذلك أوّلاً: بالإجماع على عدم التفصيل بين العمل بالقاعدة فيما لم يكن في موردها الاستصحاب، وبين ما إذا كان في موردها.

وثانياً: بأنّ ذلك موجب لقلّة المورد للقاعدة - الّتي تقتضي ملاحظتها وكثرة الحاجة إليها في فصل الخصومات وغيرها حجّيتها مطلقاً - بخلاف العكس، فإنّه لا يوجب قلّة المورد للاستصحاب.

هذا مضافاً إلى أنّه ليس في موارد جريان هذه القواعد ما لم يكن المشكوك فيه مسبوقاً بالعدم، ومقتضى الاستصحاب عدمه؛ ومع ذلك حكم الشارع بوجوده ووقوعه.

نعم، قد استثني من تلك القواعد القرعة، فإنّه لا شبهة في تقدّم الاستصحاب عليها.

أوّلاً: لأخصّية دليله عن دليل القرعة، لأنّ موضوعها الجهل والشكّ، والمعتبر في الاستصحاب الشكّ في ما تكون له حالة سابقة لا مطلقاً.

وثانياً: لقوّة دليل الاستصحاب وضعف دليلها ولو كان من جهة عدم العمل به مطلقاً.

ص: 222


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص360.

وثالثاً: لعدم حجّية دليل القرعة على الإطلاق، فإنّها مختصّة بالموضوعات دون الأحكام.

ورابعاً: - وهو العمدة - : أنّ الظاهر من أدلّتها أنّها لكلّ أمر مشكل ومشتبه، وما يكون حكمه الواقعي أو الظاهري (والأوّلي أو الثانوي) معلوماً ليس بالمشكل ولا المشتبه. ومثل دليل الاستصحاب وكلّ حكم ظاهريّ يكون رافعاً لموضوعها ومخرجاً لمورده عن تحتها. والله هو العالم بالصواب، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 223

ص: 224

المقصد الثامن: في التعادل والترجيح (في تعارض الأدلّة والأمارات)

اشارة

ص: 225

ص: 226

فصل: في معنى التعارض

إعلم: أنّه قد أفاد السيّد الاُستاذ((1)) بأنّ أحسن التعاريف وأتمّها في الباب المعنون في کلماتهم بالتعادل والترجيح أو التراجيح هو ما ذكره صاحب الكفاية،((2)) وذلك لأنّه أظهر من أن يبيّن بغير لفظه.

والتعادل والترجيح ظاهر فيما يطرأ على المتعارضين من تعادلهما وكون کلّ واحد منهما عدلاً للآخر، أو ذا مزيّة ورجحان عليه.

فاللازم قبل ذلك تعريف التعارض الواقع بين الدليلين، وهو: يتحقّق بينهما بكونهما متنافيين بحسب المدلول ذاتاً بالتناقض، كما إذا قال: يجب إكرام زید، ولا يجب إكرام زيد؛ أو بالتضادّ، كما إذا قال: يجب إكرام زيد، ويحرم إكرام زيد. أو عرضاً، كما إذا علم إجمالاً بكذب أحدهما.

وهذا إنّما يكون إذا لم يكن أحدهما قرينة على إرادة ما هو خلاف الظاهر من الآخر، وإلّا ينتفي التعارض بينهما. فلابدّ في مقام مقايسة أحد الدليلين مع الآخر من ملاحظة

ص: 227


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص461.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص376. وتعريفه(قدس سره) جامع ومانع بالنسبة إلى ما عرّفه الشيخ(قدس سره) في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص431).

أنّه هل يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر من اللفظ الآخر أم لا؟ فإذا كان أحدهما قرينة على ذلك لا يتحقّق التعارض بينهما أصلاً، ولا نحتاج إلى الرجوع إلى الأخبار العلاجية والترجيح والتخيير، وملاحظة فتوى المشهور، وإن كان الدليلان بقطع النظر عن كون أحدهما قرينة على تعيين المراد من الآخر متعارضين، فهذه قاعدة کلّية في باب التعارض. وعلى ذلك، لا يدخل في باب المتعارضين العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيد، لكون الخاصّ أو المقيّد بالنسبة إلى العامّ والمطلق نصّاً في الخصوص وقرينة عند العرف على عدم إرادة العموم من العامّ والمطلق.

فلا وجه لما قاله البعض من لزوم ملاحظة فتوى المشهور والأخذ بما يطابقها من العامّ أو الخاصّ.

وذلك لأنّ فتوى المشهور إنّما تلاحظ فيما إذا كان الدليلان متعارضين، ولا يرى العرف تعارضاً بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد أصلاً، بل الخاصّ عندهم قرينة على عدم إرادة العموم من العامّ، وهكذا في المطلق والمقيّد.

نعم، إذا لم يكن الخاصّ والمقيّد نصيّن في مدلولهما بل كانا ظاهرين في مدلولهما يدخلان مع العامّ والمطلق في باب التعارض. بل إذا كان العامّ والمطلق - في مورد - بسبب احتفافهما بقرينة أنصّ وأظهر دلالة من الخاصّ والمقيّد يقدمان عليهما، ولا تعارض بينهما أيضاً. ولكن الغالب - إذا كان العامّ والخاصّ مجرّدين عن قرينة تختصّ بموردهما - قرينية الخاصّ والمقيّد، لأنّ الظاهر من العامّ والخاصّ عدم كونهما مراداً للمتكلّم.

وممّا ذكر يظهر عدم التعارض بين الأدلّة المشتملة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوليّة والأدلّة المتكفّلة لبيان أحكامها بعناوينها الثانوية، مثل الضرر والحرج والعسر والإكراه والاضطرار، فإنّه لا يتحيّر أهل العرف في تقديم الثانية على الاُولى ويرون الثانية قرينة على إرادة ما هو خلاف الظاهر من الاُولى، وتكون الأدلّة

ص: 228

النافية للأحكام الأوّلية حاكمة عليها وناظرة إلى نفي الأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية وإن لم تكن ناظرة إلى أدلّتها ومفسّرة وشارحة لها، هذا.

وأمّا حال الأمارات المعتبرة مع مثل الاُصول العملية، فقد يقال: إنّ مع قيام الأمارة لا يبقى مجال للاُصول، ولا يتحيّر العرف في تقديمها عليها وإن كان دليل الأصل قطعيّ الصدور والدلالة ودليل الأمارة ظنّي الصدور والدلالة. والله هو العالم بالصواب.

ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّ ما يدخل في باب التعادل والترجيح هو ما إذا كان الدليلان ظنيّ الصدور وقطعيّ الدلالة والجهة، أو مظنون الدلالة فقط، أو مظنون الدلالة والجهة، ففي هذه الصور المرجع هو الأخبار العلاجية. وهكذا إذا كان کلاهما قطعيّ الصدور وكانا قطعياً من حيث الجهة مختلفاً في ذلك، أو كانت الجهة في أحدهما معلوماً دون الآخر، سواء أكان کلاهما قطعي الدلالة أو ظنيّ الدلالة. وإذا كانا قطعي الصدور والدلالة لا ترجيح لأحدهما على الآخر من جهة الصدور، فهو خارج من باب التعارض المصطلح، فإن أمكن الجمع بينهما عرفاً بحيث يخرجان به عن باب التعارض فهو، وإلّا فالحكم هو التخيير عقلاً.

ص: 229

ص: 230

فصل:

اشارة

في حكم المتعارضين

إعلم: أنّ الكلام في حكم المتعارضين يقع في مقامين:

الأوّل: في حكم العقل فيه مع قطع النظر عن الإجماع والأخبار العلاجية.

الثاني: في حكمه بالنظر إليهما. ويأتي الكلام في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

المقام الأوّل: مقتضى الأصل في المتعارضين

وأمّا الكلام في المقام الأوّل، فاعلم: أنّه يستفاد من تقريرات سيّدنا الاُستاذ أعلى الله مقامه أنّهم قد ذهبوا فيه إلى أقوال:((1))

الأوّل القول بأنّ مقتضى التعارض التساقط والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل. والثاني: القول بالتخيير في العمل بكلّ واحد منهما.

والثالث حجّية أحدهما بلا تعيين ولا عنوان لا واقعاً ولا ظاهراً.

والفرق بينها في مقام العمل وجوب العمل على ما يقتضيه الأصل على القول الأوّل وإن كان مخالفاً لكلّ واحد من المتعارضين.

وعلى القول الثاني، يجب العمل على طبق الأصل الموافق لأحدهما، وذلك لاستقلال العقل بوجوب الأخذ بالدليل الّذي يوافقه الأصل تعييناً.

ص: 231


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص465 - 470.

وعلى الثالث لا يجوز طرحهما والعمل على خلافهما، ولكن يجوز العمل على طبق الأصل المخالف لأحدهما إذا لم يكن معارضاً بالأصل الآخر.

وأمّا الفرق بينها بحسب الوجه: أنّ التعارض مانع عن شمول أدلّة حجّية الخبر لكليهما. وشمولها لواحد من الدليلين دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، لوجود شرائط الحجّية في کليهما على السواء. وشمولها لأحدهما لا بالخصوص بل بلا عنوان، فرع كون ذلك من مصاديق ما دلّ الدليل على حجّيته من الخبر، ومن المعلوم أنّ مصاديقه هي الأفراد الخارجية لا عنوان أحدهما، فإنّه ليس فرداً خارجياً للخبر، والتخيير إنّما يصحّ لو كان أحدهما بالخصوص حجّة واقعية ولا نعلمه بعينه، فإنّ العقل يحكم حينئذٍ بالتخيير مع عدم مرجّح في البين، ولكنّ القول بحجّية أحدهما واقعاً ترجيح بلا مرجّح.

فتحصّل من ذلك کلّه أنّ التعارض موجب لتساقط الدليلين عن الحجّية، فلابدّ من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل. هذا کلّه بيان وجه الفرق بين القول الأوّل وغيره.

وأمّا وجه الفرق بحسب الثاني: أنّ دليل الحجّية بإطلاقه يشمل الخبرين، ومقتضاه الأخذ بهما، إلّا أنّ مقتضى التعارض والعلم بكذب أحدهما هو سقوط أحدهما عن الحجّية دون الآخر، ومع الجهل بخصوص ما هو الساقط عن الحجّية،

ص: 232

إلّا أنّه ليس كذلك، أي ليس بحجّة في خصوص مؤدّاه، وأمّا بالنسبة إلى نفي الثالث يكون أحدهما حجّة. وعلى هذا، لا يشمل دليل الحجّية کلّ واحد من المتعارضين، ولا أحدهما المعين، ويشمل أحدهما من غير تعيين ولكنّه لا يفيد حجّية واحد منهما بالخصوص، إلّا أنّه ينفي الثالث به، كما لا يخفى، هذا.

وقد أفاد السيّد الاُستاذ(قدس سره) بعد بيان الفرق بين هذه الأقوال عملاً ووجهاً أنّ التحقيق في المقام يحتاج إلى بسط الكلام وذكر أنّ ما يكون المنشأ للتعارض على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون التنافي بين مدلولي الدليلين ذاتاً وعقلاً بحيث لا يمكن اجتماعهما وثبوتهما معاً لاتّحاد موضوعهما، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته.

والحكم في ذلك: امتناع شمول أدلّة الحجّية لهما معاً ذاتاً لا لأمر خارج عنهما؛ لاستلزام ذلك التناقض، لأنّ مقتضى حجّية کلّ واحد منهما تنجّز الواقع به في صورة المصادفة وكونه عذراً له في صورة الخطأ، فإذا كان الواقع مثلاً وجوب ما دلّ عليه أحد الدليلين، فمقتضى حجّية دليل الآخر الدالّ على حرمته أنّه لو تركه مع عدم كونه حراماً وكونه واجباً في الواقع أن يكون معذوراً في تركه، مع أنّ مقتضى دليل حجّية ما دلّ على وجوبه كونه مستحقّاً للعقاب بتركه، وهذا تناقض ظاهر لا يمكن الجمع بين استحقاق العقوبة وعدمه. وهكذا لو كانت المصادفة في طرف الحرمة.

بل يمكن أن يقال: إنّ أدلّة حجّية الأمارات لا تشمل المتعارضين بنفسها وبما هي هي لا لاستلزام شمولها لهما التناقض، لأنّ مفاد حجّية الأمارة هو البعث إلى الأخذ بها وإن كان بعثاً طريقياً، ولا يمكن اجتماع البعث إلى المتعارضين مع عدم إمكان الجمع بينهما.

هذا کلّه بالنسبة إلى شمول الأدلّة لكليهما. أمّا شمولها لأحدهما، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

القسم الثاني: ما إذا لم يكن بين المتعارضين تنافياً ذاتاً، بل وقع التعارض بينهما لأمر

ص: 233

خارجيّ مثل العلم بكذب أحدهما لا على التعيين، وذلك يفرض في الموضوعين، كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الظهر ودليل آخر على وجوب صلاة الجمعة، أو دلّ دليل على وجوب فعل ودليل آخر على حرمة فعل آخر وعلمنا بكذب أحدهما.

والحكم في ذلك: عدم التنافي بين حجّيتهما معاً لا ذاتاً، لإمكان اجتماع وجوب الظهر ووجوب الجمعة ووجوب فعل وحرمة فعل آخر، وإمكان الجمع بينهما. ولا عرضاً، لأنّ العلم بكذب واحد منهما لا على التعيين لا يمنع من شمول أدلّة الحجّية لكلّ واحد منهما بالخصوص، لأنّ أدلّتها تدلّ على حجّية الأفراد والمصاديق الخارجية المحتمل فيها الكذب والخطأ، ومن المعلوم أنّ احتمال الكذب لا يوجب عدم شمول الأدلّة، بل مفادها إلغاء احتمال الكذب والبناء على الدليل، ولولا ذلك لما يبقى مورد لشمول الأدلّة له لوجود احتمال الكذب في الجميع على السواء، وما تعلّق به العلم الإجمالي - وهو عنوان أحدهما - خارج عن تحت أدلّة الحجّية الدالّة على حجّية الأفراد والمصاديق.

هذا، وقد أورد المقرّر على سيّدنا الاُستاذ: بأنّ ما ذكر من التفصيل إنّما يتأتّى إذا كان دليل حجّية الأمارة الآيات والأخبار. وأمّا إذا كان الدليل بناء العقلاء - وكانت الآيات والأخبار الصادرة إمضاءً للبناء المذكور - فلا وجه لهذا التفصيل، فإنّ بناء العقلاء لا يكون على العمل بالمتعارضين مطلقاً إذا لم يكن لأحدهما مرجّح في البين على الآخر.

ولو تنزّلنا عن ذلك نقول: لم يثبت بناء العقلاء على الدليلين المتعارضين وإن لم يكن التنافي بينهما ذاتياً بل كان عارضياً، إلّا إذا كان کلّ واحد منهما مؤدّياً إلى التكليف وكان کلّ واحد من التكليفين مقدوراً للمكلف.((1))

ص: 234


1- الحجّتي البروجردي، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج2، ص465 – 470.

أقول: لم نتحصّل ورود إيراده بعد الاستثناء الّذي ذكره في آخر كلامه، فتأمّل.

القسم الثالث: ما كان منشأ تعارض الدليلين عدم قدرة المکلّف على امتثالهما معاً، فلا يمكن تنجّزهما فعلاً بحيث يكون المکلّف مستحقّاً للعقاب على مخالفتهما.

ويمكن أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق دليل الحجّية هو حجّية کلّ واحد منهما، غاية الأمر أنّ عدم قدرة المکلّف على الامتثال مانع عن تنجّزهما معاً، ولكن لا يمنع عن تنجّز التكليف بهما في الجملة فيجب عليه الإتيان بأحدهما والموافقة الإجمالية دون التفصيلية، لعدم قدرته عليها.

ولا يخفى عليك: أنّ الصحيح هنا التعبير بالموافقة الإجمالية والموافقة التفصيلية لا الموافقة الاحتمالية وحرمة المخالفة القطعية، لأنّ في المتزاحمين بالنسبة إلى ما يختار منهما ممتثل بالموافقة القطعية وبالنسبة إلى الآخر يكون معذوراً في المخالفة القطعية.

نعم، إذا تردّد التكليف بين أحد المتزاحمين تتحقّق المخالفة القطعية بتركهما معاً والموافقة الإحتمالية بفعل أحدهما. فما في التقريرات((1)) من التعبير بوجوب الموافقة الاحتمالية وحرمة المخالفة القطعية كأنّه ليس بمستقيم، فإنّ هذا غير ما جعله نظيراً لذلك في بحث البراءة في مسألة العلم الإجمالي بمتعلّق التكليف وكونه مردّداً بين شيئين لا يمكن الإتيان بهما معاً، هذا.

إذا عرفت ذلك عرفت أيضاً أنّ مقتضى الأصل في القسم الأوّل التساقط، وفي الثاني حجّية کلّ واحد من المتعارضين، وفي الثالث حجيتهما في الجملة. ففي الأوّل لابدّ في مقام العمل الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل. وفي الثاني العمل على طبق المتعارضين. وفي الثالث الموافقة القطعية الإجمالية. وبعبارة اُخرى: العمل على طبق أحدهما على سبيل التخيير إن لم يكن لأحدهما مرجّح على الآخر.

ص: 235


1- الحجّتي البروجردي، الحاشية على كفاية الاُصول، ج2، ص471.

وأمّا القول بأنّ الأصل في المتعارضين التخيير بمعنى حجّية أحد المتعارضين على سبيل البدلية، فلا وجه له.

وهكذا القول بأنّ الأصل حجّية عنوان أحدهما من غير تعيين وهو مختار صاحب الكفاية؛((1)) فباطل، لأنّ أدلة حجّية الأمارات إنّما تدلّ على حجّية کلّ فرد من أفراد الخبر تعيينا، وليس فيها ما يدلّ على حجّية أفرادها تخييراً.

هذا کلّه بناءً على كون حجّية الأمارات من باب الطريقية.

وأمّا بناءً على كونها من باب السببية والموضوعية، فإن قلنا بأنّ المستفاد من دليل الحجّية حجّية خصوص ما لم يعلم كذبه، وبعبارة اُخرى: ما لم يقع التنافى بينه وبين غيره، فلا ريب في أنّه هو الحجّة، كما هو كذلك بناءً على الطريقية، فما علم بكذبه والتنافي بينه وبين غيره ليس بحجّة، وذلك لأنّ هذا هو القدر المتيقّن من دليل الاعتبار، أي بناء العقلاء وظاهر الآيات والأخبار.

وأمّا إن قلنا بشموله لما علم كذبه إجمالاً مثل المتعارضين، فإمّا أن يكون مؤدّى کلّ واحد منهما حكماً إلزامياً في موضوع واحد، كوجوب شيء أو حرمته، فيدخل في باب التزاحم. وحكمه: إن لم يكن أحدهما الأهمّ أو محتمل الأهمّية التخيير، وإلّا فيؤخذ بالأهمّ أو محتمل الأهميّة.

وأمّا إن كان مؤدّى أحدهما الحكم الإلزامي، كالوجوب أو الحرمة، والآخر غير الإلزامي، كالاستحباب والكراهة، فيؤخذ بما دلّ على الإلزامي، لعدم المزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما ليس فيه الاقتضاء.

نعم، إن قيل بأنّ دليل غير الإلزامي أيضاً يدلّ على أنّه كان عن العلّة والاقتضاء،

ص: 236


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص382.

فيقع التزاحم بين المقتضيين، فالحكم هو الأخذ بما دلّ على غير الإلزامي، لعدم العلم بتمامية علّة الإلزامي والشكّ في وصول علّته بمرتبة تقتضي الإلزام.

أقول: يمكن أن يقال: إنّه على فرض شمول دليل الحجّية لما علم كذبه إجمالاً وكون مؤدّى کلّ منهما حكماً إلزامياً في موضوع واحد، يكون الحكم تساقطهما لا التزاحم والتخيير؛ فإنّ تزاحم الملاكين والمقتضيين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر يوجب عدم ثبوت الحكمين معاً، فالحكم في ذلك ما يقتضيه الأصل لا التخيير لأجل التزاحم، لأنّ التزاحم إنّما يقع بين الدليلين في ظرف تحقّق الملاك لكلّ واحد منهما وعجز المکلّف في مقام الامتثال عن الإتيان بكليهما. وهكذا إذا كان دليل غير الإلزامي أيضاً دالّا على كونه عن علّة واقتضاء، فإنّ لازم ذلك عدم الحكم بأحدهما لتعارض المقتضيين.

وبعبارة اُخرى: الصحيح أن يقال: إذا كان مؤدّى أحدهما الحكم الإلزامي والآخر الحكم غير الاقتضائي يؤخذ بالإلزامي، لعدم تعارض بينهما. وأمّا إذا كان مؤدّى الآخر الحكم الاقتضائي غير الإلزامي، كالكراهة والاستحباب والإباحة، إذا كان عن علّة مقتضية لها، فيقع التزاحم بينهما على مبنى صاحب الكفاية،((1)) لتعارض مثل مقتضى الوجوب ومقتضى الكراهة في شيء واحد، فيتساقطان. وهذا بخلاف باب التزاحم، فإنّ فيه يقدّم الإلزامي على غيره.

وأيضاً فما أفاد من الأخذ بحكم غير الإلزامي الاقتضائي دون الإلزامي لعدم العلم بتمامية علّة الإلزامي.((2))

فيه أيضاً: أنّ الحكم غير الإلزامي مثل أصالة البراءة أو الإباحة يجري بعد تساقط الإلزامي وغير الإلزامي الاقتضائي بالتعارض، فتأمّل جيّداً.

ص: 237


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص387 - 388.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص387 - 388.

المقام الثاني: مقتضى الدليل في المتعارضين

مقتضى دلالة الدليل من الأخبار أو الإجماع على عدم سقوطهما عن الحجّية - مع قطع النظر عن الدليل الدالّ على تعيين أحدهما أو التخيير بينهما - هو تعيّن ما فيه رجحان على الآخر، والظنّ بكونه هو الحجّة الواقعية أو كون مؤدّاه هو الواقع، وذلك للقطع بكونه حجّة تخييراً أو تعييناً، فالمتيقّن حجّية الراجح، بخلاف غيره فإنّه محكوم بعدم الحجّية بالأصل.

وأمّا مع ملاحظة الأخبار العلاجية، فقد وقع الاختلاف بينهم على قولين:

أحدهما: التخيير مطلقاً وإن كان أحدهما راجحاً. وهو ما ذهب إليه بعض القدماء مثل شيخنا الكليني(قدس سره) صاحب الكافي الشريف في ظاهر كتابه، وصاحب الكفاية من المتأخّرين.

ثانيهما: التعيين والأخذ بالراجح.

ومنشأ الاختلاف اختلاف ظاهر الأخبار، فإن بعضها يدلّ على التخيير، وبعضها ظاهر في وجوب الأخذ بالراجح. فمن قال بالتخيير حمل ما يدلّ على التعيين على الاستحباب. وبعبارة اُخرى: نظر إلى ما يدلّ على التخيير بأنّه ظاهر في تساوي عدليه ونصّ في جواز الاكتفاء بأيّهما شاء، وإلى ما يدلّ على التعيين وأنّه نصّ في رجحانه على الطرف الآخر وظاهر في تعيينه دون الآخر، فبنصّ هذا رفع اليد عن ظاهر الأوّل وبنصّ الأوّل رفع اليد عن ظاهر الثاني.

ولكن هذا بعيد عن ذهن العرف. ويمكن أن يكون المستند لمثل الشيخ الكليني(قدس سره) أمراً آخر لم يصل إلينا.

وأمّا وجه الذهاب إلى القول بالتعيين والأخذ بالراجح، فهو الجمع بين الطائفتين

ص: 238

بالإطلاق والتقييد، وتقييد إطلاق أخبار التخيير بما يدلّ على التعيين عند وجود الرجحان، فالنتيجة التخيير عند فقدان الراجح والتعيين في صورة وجوده، وهذا جمع عرفي.

وبعد ذلك کلّه، لابدّ من ذكر الأخبار الواردة في علاج المتعارضين والنظر فيهما، فنقول بحول الله تعالى وقوّته:((1)) من هذه الأخبار ما دلّ على التخيير على الإطلاق كخبر الحسن بن جهم عن الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): قلت للرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): تجيئنا عنكم الأحاديث مختلفة؟

قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ما جاءك عنّا فقسه على كتاب الله عزّ وجلّ وأحاديثنا فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يشبههما فليس منّا».

قلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ؟

فقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إذا لم تعلم فموسع عليك بأيّهما أخذت».((2))

وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة، فموسّع عليك حتى ترى القائم فتردّه عليه».((3))

ومكاتبة عبد الله بن محمّد الّتي رواها الشيخ عن أحمد بن محمّد((4)) عن العبّاس بن

ص: 239


1- لا يخفى عليك: أنّه قد انتهى ما وجد من إفادات سيّدنا الاُستاذ بقلم الفاضل المقرّر تغمّدهما الله برحمته بهذا الفصل، وبقي كتابه من الأخبار العلاجية إلى آخر مباحث الاجتهاد والتقليد ناقصاً. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. [منه دام ظلّه العالي].
2- الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص108. في احتجاجات الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). والحسن بن جهم بن بكير بن أعين أبو محمد الشيباني ثقة... له كتاب، من السادسة.
3- الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص108 - 109. والحارث بن المغيرة أبو عليّ النصري، ثقة ثقة، من الرابعة أو الخامسة.
4- الظاهر أنّه ابن عيسى الأشعري شيخ القميّين...، من السابعة.

معروف((1)) عن عليّ بن مهزيار((2)) قال: قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد((3)) إلى أبي الحسن(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم: أن صلّهما في المحمل، وروى بعضهم: أن لا تصلّهما إلّا على الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقع(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «موسّع عليك بأيّةٍ عملت».((4))

ومكاتبة محمّد بن عبد الله الحميري((5)) إلى مولانا الحجّة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في مسألة القيام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة: هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال: لا يجب التكبير ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته أقوم وأقعد؟

الجواب: «إنّ فيه حديثين: أمّا أحدهما، فإنّه إذا انتقل من حالة إلى حالة اُخرى فعليه التكبير. وأمّا الآخر، فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك في التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى. وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً».((6))

أقول: قد يقال بضعف سند خبر الحسن بن جهم بالإرسال، ولكن لا كلام في دلالته.

وخبر الحارث بن المغيرة أيضاً ضعيف السند بالإرسال. وقيل في دلالته: إنّه يدلّ على حجّية أخبار الثقة إلى ظهور الحجّة(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ولا دلالة له على حكم المتعارضين.

ولكن الظاهر من الخبر كونه ناظراً إلى صورة تعارض الحديثين. لأنّ حجّية خبر الثقة

ص: 240


1- قمّي ثقة له كتب، من كبار السابعة.
2- ثقة جليل القدر، له ثلاثة وثلاثون كتاباً، من كبار الطبقة السابعة.
3- لم أقف على ترجمته، ويكفي في الاعتماد عليه اعتماد عليّ بن مهزيار على كتابه.
4- الطوسي، تهذیب الأحکام، ج3، ص250، ب 23، ح 583/92.
5- ابن جعفر بن الحسين بن جعفر بن جامع بن مالك الحميري أبو جعفر القمي، كان ثقة وجهاً كاتب صاحب الأمر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)...، كان من الثامنة.
6- الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص303 – 304، في توقيعات الناحية المقدسة.

ليست مغيّاة برؤية القائم(عجل الله تعالی فرجه شریف). نعم، يمكن أن يقال: إنّ القدر المتيقّن منه صورة تكافؤ الحديثين ودوران الأمر بين المحذورين وعدم إمكان الاحتياط.

وبعبارة اُخرى: يكون موسّعاً عليه إذا صار تعارض الحديثين سبباً لوقوعه في الضيق والتحيّر، لا مطلقاً.

وأمّا المكاتبة الاُولى، فالظاهر منها أنّ الحكم في ركعتي الفجر التخيير الواقعي. وعلى فرض التعارض - لأنّ أحدهما روى لا تصلّهما إلّا على الأرض - يمكن أن يكون جواب الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على أساس التخيير الواقعي في خصوص المورد. وعلى القول بالتعدّي عنه غايته التعدّي إلى سائر النوافل لا الواجبات وغيرها.

وأمّا المكاتبة الثانية، فقد قيل فيها: إنّ موردها خارج عمّا هو محلّ الكلام، لأنّ التعارض بين الخبرين يكون بالعموم والخصوص، فأحدهما يدلّ على استحباب التكبير إذا انتقل من حالة إلى حالة اُخرى، والآخر يدلّ على عدم استحباب التكبير إذا قام للركعة التالية، ومقتضى الجمع العرفي هو تخصيص العامّ بالخاصّ. وحكم الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بأنّ الأخذ بأيّهما من جهة التسليم يكون صواباً، لأنّ الأمر في المستحب سهل، فإن لم يكن التكبير مستحبّاً لانتقاله من حالة إلى حالة اُخرى فإنّه مستحبّ لأنّه ذكر في نفسه.

ومنها: ما دلّ على التوقّف مطلقاً.((1))

ومنها: ما دلّ على ما هو الحائط منهما.((2))

أقول: إن اُريد - ممّا يدلّ عليهما - الأخبار العامّة الدالّة على التوقّف والاحتياط في الشبهات؛ فهي مخصّصة بما يدلّ على خلاف ذلك. وإلّا فالظاهر أنّه لا يوجد ما يدلّ عليهما في الخبرين المتعارضين.

ص: 241


1- الکلیني، الكافي، ج1، ص66، باب اختلاف الحديث، ح7؛ ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج4، ص133، ح230.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب صفات القاضي، ج27، ص154 – 175، ب12.

فالعمدة من أخبار الباب ما يدلّ على الترجيح بالمزايا والمرجحات المذكورة فيها. وأجمع خبر دلّ على المرجّحات خبران: (مرفوعة زرارة، ومقبولة عمر بن حنظلة).

أمّا الاُولى: فقد رواها ابن أبي جمهور((1)) عن العلّامة قدّست نفسه مرفوعاً إلى زرارة.

وضعفها من حيث السند غنيّ عن البيان. مضافاً إلى تصريح البعض بأنّه لم يجدها في ما بأيدينا من كتب العلّامة. ومع ذلك نجري الكلام في ما يستفاد من ألفاظها، فنقول:

أمّا الفقرة الاُولى، فإن كان المراد من قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «خذ بما اشتهر بين أصحابك» ما رواه الجميع، أو جمع يوجب إخبارهم القطع بالصدور، كالمتواتر قبال خبر الواحد، فمثله خارج عن باب الترجيح بالمزية، لأنّ المتواتر قطعي الصدور ولا يعارضه الشاذّ المظنون صدوره، وما يرجّح بالمزيّة لا يخرج بها عمّا هو ظنّي الصدور، فلا يوافق قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «خذ بقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك» إذا كان أحدهما المشتهر بين الأصحاب يقينيّ الصدور.

نعم، إذا كان المراد من المشتهر ما يكون رواته عن الراوي عن المعصوم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أكثر وأشهر قبال الآخر الّذي رواته عمّن يروي عن المعصوم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أقلّ فلم يروه مثلاً عن محمّد بن مسلم إلّا نفر واحد يترتّب عليه الترجيح بالمرجّحات فيرجّح المشتهر على غيره.

وبعبارة اُخرى: الظاهر أن المراد من السؤال عن حديثين متعارضين ما إذا كان ينتهي رواة أحدهما إلى زيد ورواة الآخر إلى عمرو، والمشتهر بين الأصحاب ما كان منهما رواته عن الراوي الآخر أكثر، وعليه تستقيم الأسئلة والأجوبة التالية. بخلاف ما إذا كان المراد من المشتهر ما رواه الجميع أو كان ثابتاً بالتواتر، فإنّه لا يستقيم المعنى ولا يترتّب ما ذكره بعده من الأسئلة عليها، لأنّها ظاهرة في كون السؤال عن أخبار الآحاد. وبعد ذلك يمكن أن يقال: إنّ الترتيب المذكور في الحديث خلاف الاعتبار، لأنّه إذا كان الخبران

ص: 242


1- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج4، ص133، ح 229.

المتعارضان کلّ واحد منهما مشهوراً مروّياً واجداً کلّ منهما لشرائط الاعتماد عليه فمقتضى الاعتبار العرفي الرجوع إلى جهة صدورهما، فما لا يمكن حمله إلّا على بيان حكم الله الواقعي هو الحجّة وهو المخالف للعامّة يقدّم على ما يمكن أن تكون جهة صدوره الموافقة معهم تقية. وعلى هذا، كأنّه لا يوافق الحديث الاعتبار، فإنّه إذا أمكن رفع التعارض بملاحظة جهة الصدور لا تصل النوبة إلى الأخذ بقول الأعدل ولا وجه لجعل هذه الجهة متأخّرة عن التقديم بالأعدلية. هذا مضافاً إلى ما وقع في ذيل الحديث من الخروج عمّا هو ظاهره في صدره، فإنّ الظاهر من الصدر تعارض الخبرين على نحو وقع المكلّف بين المحذورين كوجوب فعل وحرمته والسؤالات المترتّبة على السؤال الأوّل وأجوبتها تنطبق على ذلك ولا ينطبق عليه الأخذ بالحائطة للدين إذا دار الأمر بين وجوب فعل أو حرمته. نعم، ينطبق عليه الحكم بالتخيير. وكيف كان لا اعتبار بهذا الخبر بعد ما عرفت من ضعف سنده واضطراب متنه. والله هو العالم.

وأمّا الثانية: وهي المعروفة ب- «مقبولة» عمر بن حنظلة، فقد رواها المشايخ الثلاثة رضوان الله تعالى عليهم. وسندها على ما في التهذيب((1)) هكذا: محمّد بن عليّ بن محبوب،((2)) عن محمّد بن عيسى،((3)) عن صفوان،((4)) عن داود بن الحصين((5)) عن عمر بن حنظلة((6))...

ص: 243


1- الطوسي، تهذيب الأحکام، ج6، ص301 – 302، ب 6، من الزيادات في القضایا والأحکام، ح845/52. راجع: أيضاً الکلیني، الكافي، ج1، ص67، باب اختلاف الحديث، ح10.
2- الأشعريّ القمّي، شيخ القميّين، ثقة عين فقيه صحيح المذهب، له كتب.
3- ابن عبدالله الأشعري، شيخ القميّين ووجه الأشاعرة.
4- ابن يحيى، أوثق أهل زمانه...، له ثلاثون كتاباً.
5- ثقة واقفي.
6- العجلي الكوفي، وثّقه الشهيد الثاني، وروى الكليني بإسناده عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ما يدلّ على صدقه في الحديث.

وقد استشكل في الكفاية على الاستدلال بها لوجوب الترجيح بالمرجّحات المذكورة فيها:

أوّلاً: بقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة وفصل الخصومة الّذي لابدّ منه، فلا مجال لدعوى شموله غير مورد الحكومة لا بالإطلاق لتوقّفه على انتفاء القدر المتيقّن المفقود في المقام، ولا بتنقيح المناط، لأنّه لا يمكن دعواه بالقطع.

وثانياً: أنّ الرواية على فرض دلالتها على وجوب الترجيح بالمرجّحات مختصّة بزمان حضور الإمام وإمكان التشرّف بلقائه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فإنّ في آخره قال: «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك» فلا تشمل زماننا الّذي لا يمكن لأحد الفوز بمثل هذا اللقاء.

وثالثاً: أنّ إطلاقات التخيير أظهر من المقبولة في وجوب الأخذ بالمرجّحات، لأنّ القول بوجوب الأخذ بها مستلزم لأن لا يبقى تحت إطلاقات التخيير إلّا الفرد النادر، فإنّه قلّ مورد يكون فاقداً لبعضها. والمناط کلّ المناط في تقديم المقيّد على المطلق كونه أظهر في الدلالة على معناه من المطلق وصيرورة المطلق محمولاً على الفرد النادر بالتقييد مانع من أظهريته في الدلالة على تقييد المطلق من ظهور المطلق في الإطلاق، فلابدّ إمّا من القول بورود المقبولة في خصوص الحكومة، أو حملها على الاستحباب.((1))

ورابعاً: يدلّ على أظهرية أخبار التخيير الاختلاف الواقع الكثير بين أخبار الترجيح.

وخامساً: بأنّ أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم ليست من أخبار باب علاج التعارض بالمرجّحات، لأنّ المستفاد منهما عدم حجّية المخالف للكتاب والموافق للقوم منهما، فمثل ما ورد في أنّ المخالف للكتاب زخرف أو باطل أو يضرب على الجدار، معناه عدم الحجّية رأساً، وكذا الخبر الموافق للقوم يصير موهوناً به مع معارضة المخالف لهم له ويسقط به الأصل المثبت صدوره لأجل بيان الحكم الواقعي فيسقط

ص: 244


1- كما حمل السيّد الصدر(قدس سره) شارح الوافية جميع أخبار الترجيح على الاستحباب، فراجع.

عن الاعتبار ويخرج من باب التعارض. وعلى فرض أن نقول: إنّ أخبار موافقة الكتاب ومخالفة القوم تفيد ترجيح إحدى الحجّتين على الاُخرى نمنع أظهريّتها بالإطلاق على ظهور أخبار التخيير فيه، فلابدّ من حملها على الاستحباب إن لم نقل بكونها في مقام تمييز الحجّة عن اللاحجّة.

وسادساً: يلزم من عدم التوفيق بين أخبار موافقة الكتاب ومخالفة القوم وأخبار التخيير - بحمل الاُولى على تعيين الحجّة عن اللاحجّة، أو الاستحباب - تقييد الطائفة الاُولى بعضها ببعض مع إبائها عنه.

بيان ذلك: أنّه إذا كان الخبر الموافق للكتاب مخالفاً للقوم أو المخالف للكتاب موافقاً للقوم، فطريق الترجيح معلوم. وأمّا إذا كان الخبر الموافق للكتاب موافقاً لهم والمخالف للكتاب مخالفاً لهم، فيقع التعارض بين ما يدلّ على الأخذ بموافق الكتاب وما يدلّ على الأخذ بما هو مخالف للعامّة، وما يدلّ على ترك المخالف للكتاب وترك الموافق للعامّة، فلابدّ من القول بتقييد ما دلّ على الأخذ بالموافق للكتاب بما إذا لم يكن مخالفاً للعامّة مع أنّ هذه الأخبار مثل: «ما خالف قول ربّنا لم أقله، أو زخرف، أو باطل» تكون آبية عن التقييد.

وسابعاً: لو لم تحمل أخبار الترجيح على الاستحباب يلزم منه في أخبار التخيير ارتكاب ترك الاستفصال من الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) والسكوت في مقام البيان.

وبالجملة: يظهر من جميع ما ذكر أنّ إطلاقات التخيير محكمة ليس في الأخبار ما يصلح لتقييدها.((1))

أقول: يمكن الجواب أمّا عن الإشكال الأوّل، بأنّ المقبولة ناظرة إلى تعارض

ص: 245


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص392 - 395. وانظر بعض الإشكالات أيضاً في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص445)، المقام الثاني: في ذكر الأخبار الواردة...

الروايتين اللتين استند بهما الحَكَمين بما أنّهما روايتان متعارضتان، ولا نظر فيها إلى تعارض الحكمين، كما إذا كان حكمهما باجتهادهما في الروايات وتطبيقهما على المورد، ففي مثل ذلك يحكم مثلاً بأنّ الحكم ما حكم به أعلمهما. ولكن في المقام كأنّه لا خلاف بينهما في الموضوع وأنّ کلّا من الروايتين تنطبق عليه، إلّا أنّه لا يمكن الجمع بينهما، فكأن کلّ واحد منهما سأل عن حكم الموضوع حسب الرواية عمّن اختاره فأخبر کلّ منهما صاحبه برواية تتعارض رواية الآخر، فأعطى الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) القاعدة لرفع التعارض الروايتين، لا خصوص الحَكَمين، أو الحكمين لأن کلّ واحد منهما لم يجعل صاحبه حَكَماً ولم يسأله عن حكمه في الواقعة بل سأله عما هو عنده من روايات الأئمّة(علیهم السلام) فاختلفا في حديثهما عنهما، فقال الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ):«الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث». ولم يسأل السائل عن حكم ما إذا اختلفا في أنّ أيّاً منهما بهذه الصفات، وسأل عن أنّهما عدلان مرضيّان فأجاب الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بما أجاب. ولم يسأله الراوي أيضاً عن صورة اختلافهما في الحكم المجمع عليه. وكذا لم يسأل عن صورة الاختلاف في الموارد الآتية، فكأنّه سأل عن حكم نفسه في صورة اختلاف الرواة. فظهورها في رفع التعارض بين الروايات أظهر من ظهورها في مقام فصل الخصومات وإن كان للقاضي أن يعمل بها كما أنّ للمفتي العمل بها. والله هو العالم.

وأمّا الإشكال الثاني، فيمكن الجواب عنه بأنّ انتهاء الأمر إلى لقاء الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عصر الحضور لا يوجب رفع اليد عن القواعد المذكورة قبل ذلك.

نعم، يأتي الكلام في أنّ في عصر الغيبة إذا انتهى الأمر إلى ما ذكر في الرواية كيف يكون العمل؟

ويمكن الجواب، بأنّه إن أمكن الاحتياط يحتاط، وإلّا فيعمل بما يقتضيه الأصل، وإن لم يمكن فهو بالخيار.

ص: 246

وأمّا الإشكال الثالث، فهو يرد لو قلنا بالتجاوز عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها. وأمّا إن لم نقل به واقتصرنا بالمنصوصة منها يكون ما يبقى تحت إطلاقات التخيير أكثر مما يخرج منها بالتقييد.

وأمّا الإشكال الرابع، فيمكن أن يقال: إنّ بعد رفع اليد عن المرفوعة والبناء على عدم حجّيتها - كما هي كذلك - يخرج الاختلاف بين أخبار العلاج عن الكثرة.

ويمكن الجمع بينها بتقديم ما يرجع به السند على ما فيه الترجيح لجهة الصدور.

وعلى فرض تعارضها وعدم تقديم بعضها على البعض - لما ذكر - يقال بالتخيير في مورد تعارض المرجّحات لا مطلقاً، فيؤخذ بذي المزيّة إذا لم يكن المعارض له كذلك.

وأمّا الجواب عن الإشكال الخامس، فيرد بأنّ ما هو خارج من الأخبار العلاجية ما يخالف الكتاب بالتباين دون ما كان مخالفاً لعمومه أو لإطلاقه؛ فإنّه لا ريب في صحّة تخصيص عموم الكتاب وكذا تقييد إطلاقه بالسنّة، فإذا كان أحد المتعارضين موافقاً لعموم الكتاب والآخر مخصّصاً له يقدّم ما يوافق العموم على المخالف له.

وأمّا ما يدلّ على الترجيح بمخالفة العامّة فلا وجه لخروجه عن أخبار العلاج، فإنّ مجرّد كون الخبر مخالفاً للعامّة لا يجعله موثوق الصدور ولا صادراً لبيان الواقع، كما أنّ مجرّد كونه موافقاً لهم لا يجعله غير موثوق الصدور ولا صادراً لعدم بيان الواقع.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إذا كان أحد الخبرين مخالفاً للعامّة لا يحتمل صدوره للتقيّة دون الّذي هو موافق لهم، فإذا كان سند کلّ منهما قطعياً يكون ترجيح المخالف لهم من تقديم الحجّة على اللاحجّة. نعم، إذا كان سند کلّ منهما ظنّياً يكون الترجيح للأخبار العلاجية، فتدبّر.

وأمّا الجواب عن الإشكال السادس، فيعلم ممّا ذكرنا في الجواب عن الخامس، فانه لا یمکن تقیید ما دل ترک المخالف للکتاب بما اذا لم یکن مخالفا للعامه اذا کان مردانا من المخالف ما خالف الکتاب بالتباین لا ما خالفه بالعموم او الخصوص.

ص: 247

وأمّا الإشكال السابع، فشبهة ترك الاستفصال والسكوت في مقام البيان قويّة. واحتمال أن يكون ذلك لمصلحة في مثل المورد بعيد جدّاً.

اللّهمّ إلّا أن يقال بعدم وجود دليل معتبر على التخيير لا يخلو من المناقشة في سنده.

وفي قبال ذلك استبعاد حمل المقبولة على الاستحباب أيضاً قريب جدّاً، لأنّ احتمال كون ذي المزيّة أقوى وأقرب من غيره يقتضي الحكم بتعيّنه ووجوب العمل به، ولا وجه للاستحباب في المقام.

فيتلخّص من ذلك کلّه أنّ الأقوى هو الأخذ بالمرجّحات المنصوصة مهما أمكن، وإلّا فهو بالخيار. والله هو العالم.

ص: 248

فصل

ذكر في الكفاية((1)) أنّه استدلّ على تقييد أخبار التخيير، ووجوب الترجيح بوجوه اُخر:

منها: دعوى الإجماع((2)) على الأخذ بأقوى الدليلين.

وفيه: أنّ دعوى الإجماع - مع مصير مثل الكليني إلى التخيير، وهو في عهد الغيبة الصغرى، ويخالط النوّاب والسفراء، قال في ديباجة الكافي: «ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير» - مجازفة.

أقول: لا صراحة بل ولا دلالة لكلام عروة الإسلام الكليني على الحكم بالتخيير مطلقاً ولو مع وجود المرجّحات الّتي صرّح هو بها في صدر کلامه. وكيف يحكم بذلك بعد التصريح بأمر الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعرض الحديث على كتاب الله والأمر بترك ما وافق القوم والأخذ بالمجمع عليه؟! هذا مضافاً إلى أنّ الشيخ قد اختار تبعاً للمشهور الأخذ بالمرجّحات واستدلّ عليه بالإجماع المحقّق والسيرة القطعية.

ومنها: أنّه لو لم يجب الأخذ بالمرجّح وترجيح ذي المزيّة على غيره، يلزم ترجيح المرجوح على الراجح القبيح عقلاً، بل ممتنع قطعاً.((3))

ص: 249


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص 395 - 396.
2- قال الشيخ(قدس سره): «يمكن أن يستدلّ على المطلب بالإجماع المدّعى في کلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين...». الأنصاري، فرائد الاُصول، ص496.
3- استدل به المحقّق القمّي(قدس سره) في قوانين الاُصول (ج2، ص278).

واُجيب عنه: بأنّه إن كان مراد المستدلّ لزوم ترجيح المرجوح على الراجح في جعل الشارع، فيرد عليه أنّه يلزم ذلك إن كانت المزية موجبة لتأكّد ملاك الحجّية عنده بأن كان خبر الأعدل أغلب إيصالاً إلى الواقع من خبر العادل؛ وهو ممنوع، لاحتمال كون المزيّة المحتملة كونها موجبة للترجيح غير موجبة له. هذا مضافاً إلى أنّ الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع في غير محلّه، فإنّ الترجيح بلا مرجّح في الأفعال الاختيارية الّتي منها الأحكام الشرعية يكون قبيحاً، ولا يستحيل وقوعه إلّا من الحكيم تعالى، وإلّا فهو بمكان من الإمكان لكفاية كون إرادة المختار علّة لفعله، وما هو الممتنع وجود الممكن بلا علّة، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح إلّا من باب امتناع صدوره منه تعالى، وأمّا غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح ممّا هو باختياره.

وبالجملة: الترجيح بلا مرجّح بمعنى بلا علّة محال، وبمعنى بلا داعٍ عقلائي قبيح ليس بمحال، فلا تشتبه.

أقول: يمكن أن يقال: إنّ المسألة ليست من التعبّديات الصرفة الّتي لا طريق لنا إلى درك وجهها وحكمتها، وليس الملاك في باب حجّية الخبر غير كونه طريقاً إلى الواقع، ولا ريب أنّ المرجّحات المذكورة توجب أقوائية ذي المزيّة على غيره وكونه أرجح من الآخر عند العرف، فلا يصحّ للمولى أن يأمر بالأخذ بغيره، أو يخيّر عبده بالأخذ بأيّهما شاء إذا لم يكن هنا وجهٌ للتخيير ولو كان هو التسهيل على العبد.

وبالجملة: ليس في المقام أمرٌ لزم ملاحظته إلّا الإيصال إلى الواقع، ولا ريب في أنّ احتمال الوصول إليه بالأخذ بذي المزيّة أقوى من غيره ويجب الأخذ به ولا يجوز الحكم بالتخيير معه. والله هو العالم.

ص: 250

فصل

ثم إنّه على القول بالتخيير يجري الكلام في مقامات:

الأوّل: لا إشكال في تخيير المجتهد في الأخذ بواحد من المتعارضين، وهذا هو التخيير في المسألة الاُصولية.

الثاني: لا يجوز له الإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية إذا كان مضمون الخبرين دائراً بين المحذورين كوجوب شيء وحرمته، وذلك لأنّ مفاد دليل التخيير التخيير في الأخذ بأحدهما وجعله حجّة للعمل بمضمونه، لا التخيير بين الفعل والترك. والإفتاء بالتخيير بينهما إفتاء بغير ما أنزل الله ومخالف لما يستفاد منهما، وهو نفي الحكم الثالث مثل التخيير.

الثالث: لا يجوز في مقام القضاء وفصل الخصومة الإفتاء بالتخيير في المسألة الاُصولية. وبعبارة اُخرى: لا يجوز للحاكم الحكم في المسألة الاُصولية، لأنّه لا يفصل به الخصومة، فعليه أن يختار أحدهما ويفصل الخصومة بالحكم على طبق ما اختاره.

وأمّا في غير مقام القضاء ففي المسألة وجوه:

الأوّل: أنّه ليس له الإفتاء في المسألة الاُصولية بالتخيير، ويتعيّن عليه اختيار أحدهما والإفتاء بمدلوله للمقلّد.

الثاني: وجوب الإفتاء عليه بالتخيير في المسألة الاُصولية للمقلّد. وعليه إن کان المجتهد والمقلد مشترکین فی المساله ان یختار غیرز ما اختاره مقلده المجتهد.

ص: 251

الثالث: أن يكون المجتهد بالخيار في الإفتاء للمقلّد في المسألة الاُصولية، كما يجوز له الإفتاء في المسألة الفرعية.

وجه الأوّل: أنّ إفتاء المجتهد المقلّد بالتخيير في المسألة الاُصولية إفتاء بغير ما هو وظيفة المقلّد، فإنّ عليه التقليد في المسائل الفرعية، وأمّا الاُصولية فهي شأن المجتهد العارف بها.

ويمكن الجواب عن ذلك: بأنّه لِمَ لا يكون للمقلّد بعد انتهاء المجتهد إلى التخيير في العمل بأيّ منهما شاء هذا الاختيار؟ وما الفرق بينهما في ذلك؟ وبالجملة: التخيير وظيفة المتحيّر المواجه للمتعارضين، ولا فرق فيه بين المجتهد والمقلّد.

ووجه القول الثاني: أنّ حجّية فتوى المجتهد للمقلّد موردها عجز المقلّد عن تعيين وظيفته واضطراره إلى المجتهد فيه، وفي المقام هو ومقلَّده المجتهد في اختيار أحد الخبرين سواء.

وفيه: أنّ القدر المتيقّن من أخبار التخيير هو تخيير المکلّف العارف بتعارض المتعارضين دون من لا يعرف من ذلك شيئاً. نعم، يمكن أن يقال بالتخيير أي في المسألة الفرعية إذا كان المقلّد متجزّياً عارفاً بالتعارض.

ووجه القول الثالث: أنّه يجوز له أن يخيّر المقلّد بالتخيير في المسألة الاُصولية، ويجوز له أن يخيّره بما اختاره منهما أنّه الحكم الشرعي.

وفيه: أنّ كون ما اختاره الحكم الشرعي للمقلّد أوّل الكلام.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ جواز إفتائه بما اختاره في عمل نفسه وعمل مقلّده مما لا کلام فيه، وإنّما الكلام في جواز إفتائه له في المسألة الاُصولية.

ثم اعلم: أنّه على القول بالتخيير لابدّ من القول بكونه ابتدائياً، فإنّه مع قطع النظر

ص: 252

عمّا قيل في وجه كونه استمرارياً وما اُجيب عنه،((1)) يكون القول بكونه استمرارياً موجباً في الظاهر اللعب بأمر الشرع وتوهينه عند العرف، فإنّه على القول به يجوز للمجتهد وللمقلّد فيما إذا دلّ أحدهما على وجوب فعل والآخر على حرمته، واتّفق مورده في وقائع متعدّدة وأزمنة متعاقبة، اختيار ما دلّ على الوجوب في واقعة، وما دلّ على الحرمة في واقعة اُخرى، واختيار هذا في الزمان الأوّل، والآخر في الزمان الثاني، ويجوز للقاضي اختيار مفاده و الحكم على أحد الخصمين، واختيار غيره في الحكم على الآخر في قضيّتين متماثلتين، فمناسبة الحكم والموضوع واستظهار الحكم من الحكم بالتخيير تقتضي التخيير الابتدائي في المسألة الاُصولية مرّة واحدة، والبناء على أحد المتعارضين في جميع القضايا والمصاديق. والله هو العالم.

ص: 253


1- راجع: الأنصاري، فرائد الاُصول، ص440 - 441.

ص: 254

فصل

وأمّا الكلام في التعدّى عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها، فيمكن أن يقال: يستفاد ممّا يدلّ على التخيير، أو على التوقّف إلى الفوز بلقاء الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، بعد التنصيص على المرجّحات المنصوصة، عدم اعتبار غيرها فهو على التخيير بعد فقد المرجّحات المذكورة في النصوص، وإن كان الأحوط الأخذ بغير المنصوصة أيضاً((1)) إذا كان موجباً لرجحان احتمال إصابة ذيه إلى الواقع.

لا يقال:((2)) إنّ جعل شيء فيه خصوصية الطريقية وإراءة الواقع مرجّحاً، لا يدلّ على أنّ ذلك تمام الملاك في جعله حجّة.

فإنّه يقال: يستفاد ذلك منه بمناسبة الحكم والموضوع، فإنّ الحكم في أمثال هذه الاُمور ليس بالتعبّد، وإنّما الغرض فيه رعاية الواقع.

واستدلّ أيضاً على لزوم التعدّي بالتعليل في الروايات ب- «أنّ المشهور ممّا لا ريب فيه» باستظهار أنّ العلّة هو: عدم الريب بالإضافة إلى الآخر.

واُجيب عنه بأنّ الرواية المشهورة بين الرواة والأصحاب هي ما لا ريب فيها أصلاً بحيث تطمئنّ النفس بصدورها، لا ما لا ريب فيها بالإضافة إلى غيرها، فغاية الأمر نقول بالتعدّي إلى کلّ مزيّة توجب هذا الاطمئنان.

ص: 255


1- كما نسبه الشيخ(قدس سره) إلى جمهور المجتهدين، وحكى عن بعضهم دعوى الإجماع على ذلك. الأنصاري، فرائد الاُصول، ص 450.
2- قال به المحقّق الخراساني، في كفاية الاُصول (ج2، ص398).

كما استدلّ عليه أيضاً بالتعليل على «أنّ الرشد في خلافهم». وتقريب الاستدلال به: أنّ المراد منه ليس من جهة كون الحقّ في خلافهم دائماً، لبطلانه بالوجدان، بل الظاهر منه كون الحقّ في مخالفتهم غالباً، لكون المخالف لهم أقرب إلى الواقع غالباً، فما يكون أقرب إلى الواقع يتعيّن الأخذ به ولو لم يكن منشأه مخالفة القوم.

والجواب عنه: أنّ من المحتمل كون الرشد في نفس المخالفة لحسنها، لا مطلقاً، بل إذا تعارض المخالف لهم ما يوافقهم سلّمنا أنّه لغلبة الحقّ في طرف الخبر المخالف، لكن ذلك يوجب الوثوق بالخلل في الموافق لهم صدوراً أو جهة، وفي ما يوجب هذا الوثوق لا بأس بالتعدّي؛ وفيه منع حصول هذا الاطمئنان.

ثم إنّه ربما يقال: بأنّه لا يعتبر في التعدّي إلى المزايا غير المنصوصة إلى خصوص ما يوجب الظنّ أو الأقربية بل يتعدّى إلى کلّ مزية وإن لم توجب أحدهما؛ وذلك لأنّ في المزايا المنصوصة ما لا يوجب واحداً منهما مثل أورعية الراوي وأفقهيته فإنّ التورّع والجهد في العبادة وكثرة التتبّع في الفقه لا يوجب الظنّ بكون ما أخبر به الواقع وأقربيته، قبال ما أخبر به الورع والفقيه.

لا يقال: إنّ ما يوجب الظنّ بصدق أحد الخبرين لا يكون مرجّحاً، بل موجباً لسقوط الآخر عن الحجّية للظنّ بكذبه حينئذ.

فإنّه يقال: الظنّ بالكذب لا يضرّ بحجّية الخبر المجعول حجّة من باب الظنّ النوعي. هذا مضافاً إلى أنّ حصول الظنّ بكذب الآخر مختصّ بصورة العلم بكذب أحدهما، وإلّا فلا يوجب الظنّ بصدوره الظنّ بعدم صدور الآخر، لإمكان صدوره مع عدم إرادة ما هو الظاهر منهما أو أحدهما، أو لأجل التقيّة.

هذا کلّه بناءً على كون وجه التعدّي والاستظهار من الروايات إلغاء الخصوصية ومجرّد كون أحدهما ذا المزيّة بالنسبة إلى الآخر وإن لم يكن موجباً للظنّ أو الأقربية.

ص: 256

أمّا إذا كان وجه التعدّي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين يجب الاقتصار على المزية الّتي توجب قوّة ذي المزيّة في الدليلية والطريقية، فلا يرجّح أحدهما على الآخر لما يوجب قوّة مضمونه ثبوتاً، كالشهرة الفتوائية أو الأولوية الظنّية، فإنّ المنساق من قاعدة أقوى الدليلين أو المتيقّن منها إنّما هو الأقوى دليلية وطريقية.

وفي ما ذكر منع وجود ما لا يوجب الظنّ بالأقربية في المرجّحات المنصوصة، فإنّ ورع الراوي وفقهه وهكذا أورعيته وأفقهيته يكون موجباً للظنّ بكون خبره أقرب إلى الواقع، فلا يجوز التعدّي إلى مطلق المزيّة إذا كانت وجودها كالعدم بالنسبة إلى الإصابة إلى الواقع. والله هو الموفّق للصواب.

ص: 257

ص: 258

فصل

هل الأخبار الدالّة على التخيير أو الترجيح تشمل ما إذا أمكن الجمع بين الخبرين المتعارضين بحمل الظاهر على الأظهر، كالعامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد، أو تختصّ بغير موارد التوفيق العرفي؟ فإنّ العبد إذا قال له مولاه: اشتر کلّ ما في السوق من الفواكه، وقال: لا تشتر التفاح، لا يتحيّر في تكليفه ويعلم أنّه مكلّف بشراء غير التفّاح ممّا في السوق من الفواكه، ولا يرجع إلى مولاه في ذلك، وحكمه بالتخيير بين العمل بالعامّ أو الخاصّ أو ترجيح دليل أحدهما على الآخر، كأنّه مناقض لمدلولهما العرفي وما بينهما من التوفيق. فلا تحیّر حتّى يحتاج إلى رفعه، وإن قيل به في ابتداء الأمر لمن لا يتفطّن باُسلوب الاستفادة من الكلام والخطاب، فإنّه يزول بمجرّد التفطّن.

وممّا يدلّ على ذلك - أي على أنّ العرف لم يكن متحيّراً في التوفيق بين مثل العامّ والخاصّ - ما في نهج البلاغة من «أنّ في كتاب الله الخاصّ والعامّ».((1))

وبالجملة: قد جرت سيرة العرف وسيرة أهل الشرع والمتشرّعة على ذلك، فلا يقبل التخيير والأخذ بالعامّ وترك الخاصّ أو ترجيحه على الخاصّ، بعد حكم العرف وأهل المحاورة فيهما بحمل الظاهر على الأظهر والعامّ على الخاصّ، فلا حاجة إلى إطالة الكلام في المقام.

ص: 259


1- نهج البلاغة، الخطبة 1 (ج1، ص25).

ص: 260

فصل

لا إشكال في أنّ عند تعارض الظاهر والأظهر يحمل الأوّل على الثاني فيما إذا ظهر ذلك. وأمّا إذا اشتبه الحال ولم يتيسّر التمييز، فهما ملحقان بما لا يمكن التوفيق بينهما، فلا يجوز ترجيح أحدهما على الآخر. ومع ذلك قد ذكروا لتقديم أحدهما على الآخر وجوهاً، نشير إلى بعضها وما قيل فيها:

منها: تقديم العامّ على المطلق،((1)) والتقييد على التخصيص، فيما إذا كان أحد الدليلين عامّاً والآخر مطلقاً؛ وذلك لأنّ ظهور العامّ في العموم تنجيزي ومستند إلى الوضع، وظهور المطلق في الإطلاق تعليقي، فإنّه معلّق على مقدّمات الحكمة، الّتي منها عدم بيان ما يصلح أن يكون مقيّداً له، والعامّ صالح لأن يكون بياناً، فإذا قال المولى: «لا تكرم الفاسق»، وقال بعده أو قبله: «أكرم العلماء»، فدلالة العامّ على شموله لجميع أفراده تنجيزي لا تحتاج إلى أمر زائد على العامّ، بخلاف لا تكرم الفاسق، فإنّ دلالته وشموله لجميع أفراد الفاسق معلّق على عدم ما يصلح أن يكون بياناً له، والعامّ صالح لذلك، سواء كان صادراً قبل صدور المطلق أو بعده.

واُجيب عن ذلك:((2)) بأنّ عدم دلالة المطلق على الشمول والعموم موقوف على عدم ما يصلح أن يكون بياناً للقيد في مقام التخاطب لا إلى الأبد. فعلى هذا، يقدّم

ص: 261


1- انظر الوجه والاستدلال عليه في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص457) نقلاً عن سلطان العلماء.
2- الخراساني، كفاية الأُصول، ج2، ص 404.

العامّ على المطلق إذا كان صادراً بعد العامّ، أمّا إذا صدر العامّ بعد المطلق وانعقاد ظهوره في العموم والشمول لا يقدّم العامّ عليه، ولا يكون ظهوره أظهر من ظهوره.

ويمكن أن يقال: نعم، انعقاد ظهور المطلق في العموم والشمول يحتاج إلى عدم البيان في مقام التخاطب، لكن بقاء ظهوره فيه يحتاج إلى عدم البيان إلى الأبد، فكلّ ما ورد بعد ذلك يكون وارداً عليه وبياناً له، فيكون المطلق قبل ذلك كالاُصول العمليّة بالنسبة إلى الأمارات، إذن يتّجه تقديم التقييد على التخصيص مطلقاً، سواء كان العامّ وارداً قبل المطلق أو بعده.

وبهذا البيان لا نحتاج إلى التمسّك بالدور بأن يقال: لو لم يقدّم تقييد المطلق على تخصيص العامّ يلزم تخصيص العامّ إمّا بلا مخصّص أو على وجه دائر؛ فإنّ تخصيص العامّ بالمطلق متوقّف على إطلاقه المتوقّف على عدم كون العامّ بياناً ومقيّداً له، وكون العامّ كذلك متوقّف على إطلاق المطلق.

وإن شئت قل: كون المطلق مخصّصاً للعامّ متوقّف على تحقّقه معه، وتحقّقه معه متوقّف على كونه مخصّصاً له.

ومنها: ترجيح التقييد لكونه أغلب من التخصيص.((1))

وردّ بمنع أغلبية التقييد مع كثرة التخصيص حتى قيل: ما من عامّ إلّا وقد خصّ.((2))

ويمكن أن يقال: بناءً على تفسير المشهور من المطلق ب- «الماهية المرسلة»((3)) کلّما يقيّد المطلق بشيء فهو مستعمل فيها بالتقييد، والعامّ وإن خصّص بغير ما خصّص به

ص: 262


1- نقله الشيخ(رحمه الله) واستشكل عليه في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص457).
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص404.
3- راجع: القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص321 (المطلق والمقيد)؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص218 (فصل المطلق)؛ الخراساني، كفاية الاُصول (المقصد الخامس: في المطلق والمقيد).

مستعمل في العامّ، وإنّما الخاصّ يدلّ على عدم كونه محكوماً بحكم العامّ لا على خروجه من تحته، فلذلك يكون التقييد في المطلق أكثر بل مختصّ به دون العامّ.

وفيه: أنّ ذلك لا يوجب أولوية التقييد على التخصيص بهذا المعنى، فتأمّل.

منها: ما قيل بأنّه إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ يقدّم التخصيص على النسخ لغلبته وندرة النسخ.

أقول: إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص فورد مثلاً: «لا تكرم زيداً العالم» وبعد حضور وقت العمل به ورد «أكرم العلماء» فعلى القول بكون أصالة عدم النسخ كالاستصحاب من الاُصول العملية، فالوجه كون العامّ ناسخاً للخاصّ بأصالة العموم، وانتفاء المعارضة بين العامّ والخاصّ لتقدّم الدليل على الأصل. بل يمكن أن يقال: إنّ مثله ليس من النسخ الحقيقي، بل حكم ظاهريّ كسائر الأحكام الظاهرية والعامّ كاشف في مورده عن الواقع والحكم الواقعي، والنسخ إنّما يكون في الأحكام الواقعية. واحتمال كون الخاصّ مخصّصاً للعامّ مردود، لكونه موجباً لتقديم الأصل على الدليل، كما لا يخفى.

وعلى القول بكون أصالة عدم النسخ من الاُصول اللفظية مرجعها إلى أصالة العموم الجارية في الخاصّ، فالقول بتخصيص العامّ به مستلزم لتقديم ما هو المستفاد من الإطلاق على المستفاد من الوضع. وبعبارة اُخرى: إنّه تقديم العموم الأزماني - الثابت للخاصّ بالإطلاق - على العموم الأفرادي - الثابت للعامّ بالوضع - وهو خلاف التحقيق. ومقتضى ذلك: القول بالنسخ في طرف الخاصّ، وحينئذ يمكن أن يقال: بأنّ غلبة التخصيص على النسخ موجب لقوّة ظهور الخاصّ في العموم الأزماني وأظهريته فيه من ظهور العامّ في العموم الأفرادي. وبعبارة اُخرى: أظهرية التخصيص على التقييد.

ص: 263

ولكن يمكن أن نقول: إنّه ليس هنا نسخ وناسخ ومنسوخ، فإنّ ظهور الخاصّ في حرمة إكرام زيد في جميع الأزمنة يكون بالإطلاق المتوقّف على عدم البيان، والعامّ صالح لأن يكون بياناً، وعليه يكون الأخذ بالعامّ بدليله وأصالة العموم، وترك إطلاق الخاصّ لعدم انعقاد ظهوره فيه وعدم الدليل عليه. نعم، لا يجيء ذلك على مختار صاحب الكفاية، فإنّه عدّ من مقدّمات الحكمة((1)) عدم القدر المتيقّن في مقام التخاطب، فتدبّر جيّداً.

ثم إنّه بناءً على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص يشكل الأمر في تخصيص الكتاب أو السنّة بالأدلّة المخصّصة الواردة عن الأئمّة الطاهرين(علیهم السلام)؛ وذلك لأنّ دوران الأمر بين التخصيص والنسخ فيما إذا كان الخاصّ وارداً قبل حضور وقت العمل بالعامّ غير معقول، لأنّ النسخ حقيقته رفع الحكم الفعلي، وقبل حضور وقت العمل لا حكم فعليّ حتّى يرفع بالنسخ فليس هنا إلّا التخصيص.

وكذلك لا يعقل الدوران بينهما إذا كان الخاصّ وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، فإنّه لا يمكن أن يكون مخصّصاً للعامّ، لأنّه مشروط بكونه وارداً قبل حضور زمان العمل بالعامّ، وبعده لا يكون إلّا ناسخاً له.

وربما يجاب عن ذلك بالالتزام بالنسخ بناءً على جواز ورود النسخ عن الأئمّة(علیهم السلام)، بأن يقال: إنّ النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، أنشأ الناسخ ولكن لم يخبر به غير الأئمّة(علیهم السلام)، ولم يأذن لهم أن يخبروا به الناس إلّا عند اقتضاء المصلحة أو عند رفع المانع من إظهاره والإخبار به.

وفيه: أنّ هذا بعيد جدّاً وخلاف إكمال الدين بتبليغ جميع أحكامه وشرائعه، مضافاً إلى أنّه ليس من النسخ الحقيقي.

ص: 264


1- الخراساني، كفاية الاُصول، الفصل الأوّل من المقصد الخامس في المطلق والمقيّد.

وأيضاً ربما يجاب عن هذا الإشكال بأنّ من الممكن كون العامّ محفوفاً بقرائن يستفاد منها ما يستفاد من الخاصّ ولكن بمرور الزمان خفيت القرائن، والخاصّ إخبار عن الحكم الصادر عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وهذا قريب جدّاً، لاسيّما وقد حدث بعد ارتحال النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) إلى الرفيق الأعلى من الأحداث السياسية وغصب حقّ أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ومنع الحكومة الرواية عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بناءً على أساسهم الفاسد بقولهم: حسبنا كتاب الله، حتى منعوا النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن كتابة وصيته في مرض موته.((1))

فلا يقال: إنّ عموم البلوى بالأحكام يمنع من خفائه لكثرة الدواعي في نقلها وحفظها.

فإنّه يقال: نعم، ولكن قد وقع من الاُمّة ما لا يستبعد بوقوعه خفاء أكثر الأحكام حتى أنّ القوم أيضاً اعترفوا بتلك المصيبة العظمى، فقد جاء في صحيح البخاري أنّ أنس قال: ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قيل: الصلاة؟ قال: أليس ضيّعتم ما ضيّعتم فيها، وروي نحوه عن أبي الدرداء وغيرهما.((2))

ص: 265


1- البخاري، صحیح، ج5، ص137 – 138؛ المسلم النیسابوري، صحیح، ج5، ص76.
2- راجع في ذلك مقدّمة كتابنا: أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف. [منه دام ظلّه العالي].

ص: 266

فصل

لا يخفى أنّه إذا كان التعارض بين الإثنين وكان أحدهما أظهر من الآخر يحمل الظاهر على الأظهر، وإذا لم يكن أحدهما كذلك فالحكم ما ذكر من التخيير أو الترجيح.

وأمّا إذا وقع التعارض بين أزيد من اثنين كما إذا كان هنا عامّ قد خصّص بخاصّين أو أزيد فتارة: تكون نسبة أحدهما مع العامّ بعد ملاحظته مع الثالث كنسبته قبل هذه الملاحظة، كما إذا قال: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق منهم» و«لا تكرم زيداً العالم العادل» فإنّ نسبة «لا تكرم زيداً العالم العادل» مع «أكرم العلماء» العموم المطلق، وبعد ملاحظة العامّ مع قوله: «لا تكرم الفسّاق منهم» يخصّص العامّ بالعلماء العدول، ونسبة «لا تكرم زيداً العالم العادل» معه العموم المطلق لا تتفاوت قبل ملاحظة نسبة العامّ مع «لا تكرم الفسّاق منهم» وبعده. وهكذا لا تتفاوت نسبة «لا تكرم الفسّاق منهم» مع العامّ بعد ملاحظة تخصيصه ب- «لا تكرم زيداً العالم العادل» وقبله. ففي مثله لا تنقلب النسبة بملاحظة نسبة أحد الخاصّين مع العامّ بعد ملاحظة نسبته مع الآخر، فلا محلّ للاختلاف في أنّه هل يلاحظ کلّ خاصّ مع العامّ بنفسه أو بعد ملاحظة نسبة الخاصّ الآخر معه وتخصيصه به؟

مثال آخر: إذا قال: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق» و«يستحبّ إكرام الشعراء»، فنسبة کلّ واحد منها إلى الآخر بنفسه العموم من وجه، فمادّة افتراق العلماء من الفسّاق «العالم العادل» ومن الشعراء «العالم غير الشاعر» ومادة افتراق الفسّاق من

ص: 267

العلماء «الفاسق غير العالم» ومن الشعراء «الفاسق غير الشاعر»، وأيضاً مادّة افتراق الشعراء من العلماء «الشاعر غير العالم» ومن الفسّاق «الشاعر غير الفاسق». ومادّة اجتماع «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق» العالم الفاسق ومادّة اجتماع «أكرم العلماء» و«يستحبّ إكرام الشعراء» «العالم الشاعر»، ومادّة اجتماع «لا تكرم الفساق» و«يستحب إكرام الشعراء» «الشاعر الفاسق».

ثم إذا لوحظ، نسبة کلّ من الثلاثة مع غيره منها بعد ملاحظة الآخر معه تكون النسبة بينهما عموماً من وجه، فإذا خصّص العلماء بغير الفاسق تكون النسبة بينه وبين الشعراء عموماً من وجه، لا تنقلب النسبة التي كانت بين الشعراء والعلماء قبل تخصيص العلماء بغير الفاسق.

مثال آخر: «أكرم العلماء» و«يكره إكرام العصاة منهم» و«يحرم إكرام مرتكب الكبيرة منهم».

وبالجملة: فمثل هذه الأمثلة خارجة عن محلّ الكلام، وإنّما الكلام في صورة انقلاب النسبة بعد الجمع بين أحدها والآخر وحمل الظاهر منهما على الأظهر وملاحظة الثالث كما إذا ورد «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق منهم» و«يستحبّ إكرام الشعراء منهم» فنسبة أكرم العلماء، وإن شئت قلت: نسبة وجوب إكرام العلماء مع کلّ من حرمة إكرام الفسّاق منهم واستحباب إكرام الشعراء منهم، نسبة العامّ والخاصّ (العموم المطلق)، ولكن إذا خصّص وجوب إكرام العلماء بحرمة إكرام الفسّاق ثم لوحظ معه استحباب إكرام الشعراء منهم تنقلب النسبة الّتي كانت بينه وبين العامّ بالعموم من وجه.

وهكذا لو لوحظ أوّلاً نسبة استحباب إكرام الشعراء من العلماء مع وجوب إكرام العلماء، ثم لوحظت نسبة حرمة إكرام الفسّاق منهم معه، تنقلب النسبة من العموم

ص: 268

المطلق إلى العموم من وجه، فمادة افتراق وجوب إكرام العالم غير الفاسق مع استحباب إكرام الشعراء من العلماء وجوب إكرام العالم العادل غير الشاعر، ومادّة افتراق استحباب إكرام الشعراء عن وجوب إكرام العالم العادل استحباب إكرام العالم الشاعر الفاسق، ومادّة اجتماعهما العالم العادل الشاعر.

وفي هذا القسم من التعارض الواقع بين أكثر من إثنين وقع الخلاف في أنّ علاج التعارض هل يكون بملاحظة کلّ منهما بنفسه مع الآخر بنفسه؟ ففي المثال يخصّص عامّ «أكرم العلماء» ب- «لا تكرم الفسّاق منهم»، ويقال بتخصيص العامّ بالخاصّ، كما يخصّص باستحباب إكرام الشعراء منهم، ويقال بوجوب إكرام غير الشعراء من العلماء؟ أو أنّه يعالج تعارض أحدهما مع الآخر بملاحظة کلّ منهما بنفسه أوّلاً وحمل أحدهما على الآخر، وملاحظة نتيجة هذه الملاحظة ثانياً مع الثالث؟ فإنّه يكون بالعموم من وجه فيأتي الكلام في مادّة اجتماعهما، كما قلنا في المتباينين من القول بالتخيير أو الترجيح.

نسب الثاني إلى الفاضل النراقي((1)) إمّا مطلقاً أو إذا كان أحد الخاصّين لبّياً والآخر لفظياً.

ووجه الثاني: أنّ المخصّص إذا كان لبّياً يكون كالمخصّص المتّصل في مزاحمته لظهور العامّ فيه، ويكون العامّ المخصّص به ظاهراً في غير ما خصّص به، فيلاحظ هو مع العامّ ويخصّص العامّ به، ثمّ يلاحظ نسبة الثالث مع العامّ.

ويجاب عن ذلك بأنّه ليس من المتّصل بشيء، فإنّ في المخصّص المتّصل يستعمل العامّ في العموم، ويستفاد ضيق دائرته من مدخوله وتقيّده بقيد خاصّ، فلا ينعقد له الظهور سعةً وضيقاً إلّا بمدخوله. وأمّا في المخصّص اللبّي فينعقد له الظهور في

ص: 269


1- النراقي، عوائد الأیّام، ص119 - 120، العائدة 40.

مدخوله اللفظي دون اللبّي، وإنّما يكون المخصّص اللبّي مانعاً عن حجّية العموم فيه لا عن ظهوره فيه.

ومن هنا يظهر الجواب إذا كان المراد من هذا القول، أي لحاظ العامّ مع أحد الخاصّين المنفصلين ثم لحاظ العامّ المخصّص به مع الآخر، أعمّ من المنفصل اللفظي واللبّي؛ وذلك لعدم انثلام عموم العامّ بورود المخصّص المنفصل عليه سواء كان لفظياً أو لبّياً، غاية الأمر أنّه مانع عن حجّيته فيه، فظهور العامّ باقٍ على حاله ونسبة الخاصّ الآخر معه باقية على حالها.

وبالجملة: العامّ المخصّص بالمنفصل مستعمل في العموم وظاهر في كونه مراداً بالإرادة الجدّية، والخاصّ يدلّ على عدم كونه مراداً كذلك فيه، لا أنّه ليس ظاهراً في العموم واستعمل في غير الخاصّ، فلا يرتفع به التعارض الّذي كان بينه وبين الخاصّ بالعموم المطلق.

ويدلّ على عدم انثلام عموم العامّ بورود التخصيص عليه حجّيته في تمام الباقي، وإلّا فيمكن أن لا يكون حجّة فيه لإمكان أن يكون المستعمل فيه العامّ دون هذه المرتبة ومرتبة من مراتبه. وأيضاً يأتي الكلام في وجه سبق تخصيص العامّ بأحد الخاصيّن دون الآخر. وفي غير العامّ والخاصّ أيضاً من الأدلّة المتعارضة يأتي هذا الإشكال؛ فإنّ تقديم هذا الخاصّ في تخصيص العامّ على الآخر أو ملاحظة نسبة هذا الدليل مع الآخر أوّلاً دون الثالث ترجيح بلا مرجّح.

وبهذا يجاب عمّا يقال: من أنّ التعارض بين الدليلين أو الأدلّة يلزم أن يكون واقعياً، ولا يكون ذلك إلّا فيما يكون الدليلان حجّة فيه. وبعبارة اُخرى: لا يتحقّق التعارض إلّا إذا كان کلّ من الدليلين أو الأدلّة حجّة فيما كان غيره حجّة فيه بعد تخصيصه بالدليل الآخر لا قبله، فإنّ دفع التعارض حينئذ بين الأدلّة، مثل العامّ

ص: 270

والخاصّين، إذا كان منوطاً بملاحظة مدلول أحدهما مع الآخر ثم ملاحظة مدلول الآخر مع نتيجة الملاحظة الاُولى الّذي هو معارض لها، يحتاج إلى تقديم تخصيص العامّ بأحدهما ثم ملاحظة مدلول الآخر مع مدلول العامّ المخصّص بالأوّل ولا ريب أنّ تقديم کلّ منهما على الآخر ترجيح بلا مرجّح.

وبعبارة اُخرى: إذا قلنا بعدم وقوع التعارض بين العامّ بنفسه إذا كان مخصّصاً والخاصّ الآخر، لأنّ العامّ بنفسه ليس حجّة في مدلوله بل حجّة في غير المخصّص من أفراده، فلابدّ أن يقال بوقوع التعارض بين العامّ حال كونه مخصّصاً بأحد الخاصّين والخاصّ الآخر؛ يقع الكلام في تقديم تخصيص العامّ بهذا الخاصّ أو بغيره، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر مع أنّ النتيجة تتفاوت به.

ففي المثال: إذا خصّصنا أوّلاً عموم «أكرم العلماء» ب- «لا تكرم الفسّاق منهم»، تكون النتيجة وجوب إكرام العلماء العدول، ونسبة استحباب إكرام الشعراء منهم معها العموم من وجه، ويقع التعارض بينهما في العالم الشاعر العادل. وأمّا إذا خصّصنا أوّلاً عموم «أكرم العلماء» باستحباب إكرام الشعراء منهم تكون النتيجة وجوب إكرام العلماء غير الشعراء منهم، والنسبة ما بين تلك النتيجة وحرمة إكرام الفسّاق منهم أيضاً العموم من وجه، فيقع التعارض بينهما في العالم الفاسق غير الشاعر. إذن فلا وجه لتقديم إحدى الملاحظتين على الاُخرى.

فإن قلت: يخصّص العامّ بكلّ من الخاصّين بعد تخصيصه بالآخر.

قلت: نتيجة ذلك تساقط الجميع في مداليلهما إذا قلنا بتساقط الدليلين في مادّة الاجتماع، فالعلماء کلّهم إمّا هم فسقة غير الشعراء، وإمّا هم شعراء عدول، ولا يبقى منهم إلّا العلماء الفسقة، والنتيجة تكون وجوب إكرام العلماء من الفسقة والتخصيص المستهجن، ولا أظنّ يلتزم به الفاضل النراقي ومن يرى رأيه.

ص: 271

وبالجملة: فالوجه هو مختار الشيخ((1)) وصاحب الكفاية.((2)) وحينئذ إذا كان هناك عام مخصّص بخاصّين أو أكثر، فإمّا أن يكون على نحو لو خصّص بالخاصّين لا يبقى تحت العامّ فرد من أفراده وتكون الخصوصيات مستوعبة لها، أو يكون على وجه لا يبقى تحته من الأفراد إلّا ما يلزم منه التخصيص المستهجن، أو لا تصير بالتخصيصات المذكورة لا من الأوّل ولا من الثاني بل يبقى تحته بعد التخصيص ما يكون أكثر ممّا خرج عنه أو يساويه على البناء على أنّه ليس من التخصيص المستهجن.

أمّا حكم الثالث فبناءً على ما ذكر معلوم، فيخصّص العامّ بكلّ واحد من الخصوصات بنفسه دون ملاحظة تخصيصه بغيره.

وأمّا الأوّل والثاني، فإن كان بين الخصوصات قطعي فيقدّم في تخصيص العامّ به على الظنّي، لأنّه متيقّن الخروج عن تحت العام، وإن لم يكن بينها قطعي فلابدّ من ترجيح العامّ أو الخصوصات بالسند، لأنّه إذا لم يمكن الجمع الدلالي بين العامّ وبينها تكون النسبة بين العامّ وبينها التباين، وعلى ذلك إن كان الترجيح للخصوصات بأن لا يكون بينها ما هو مرجوح بالنسبة إلى العامّ، أو اختير الخصوصات لفقد المرجّح في أحد الطرفين على الآخر، فلابدّ من طرح العامّ وترك العمل به. وإن كان الترجيح للعامّ أو اختير العامّ لفقد المرجّح فيترك مجموع الخصوصات لا جميعها، لأنّ المعارض للعامّ هو المجموع دون الجميع، وحينئذ يقع التعارض بين الخصوصات لتخصيص العامّ بها بمقدار لا يكون من التخصيص المستهجن، فإن كان بينها ما هو الأرجح الوافي بهذا المقدار يؤخذ به وإلّا فالحكم هو التخيير بالأخذ من الخصوصات إلى حدّ لا يكون الأخذ به مستهجناً، فتدبّر.

ص: 272


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص458.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص406.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكر: حكم ما إذا كانت النسبة بين المتعارضات متّحدة، سواء كان على وجه العموم المطلق أو على وجه العموم من وجه، ومثاله كما مرّ: أكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق، ويستحبّ إكرام الشعراء، فإنّ نسبة کلّ من الثلاثة مع الآخر العموم من وجه، ولا ريب في أنّه يقع التعارض بينها في العالم الشاعر الفاسق، وحكمه إمّا العمل بالترجيح إن كان بعضها واجداً لموجبه، أو التخيير مطلقاً.

وأمّا إذا كانت النسبة بين المتعارضات متعدّدة، مثل: ما إذا ورد عامّان من وجه كأن يقول: أكرم العلماء، ويستحبّ إكرام العدول، فالنسبة بينهما العموم من وجه، وورد ما هو خاصّ بالنسبة إلى الأوّل، كقوله: لا تكرم فسّاق العلماء، فهل في مثله يؤخذ في الأوّلين - ابتداءً وقبل ورود المخصّص على الأوّل - بالعموم من وجه فيعمل في مادّة اجتماعهما على أحد المبنيين إمّا الأخذ بما فيه الترجيح أو التخيير، أو يخصّص أوّلاً «أكرم العلماء» بقوله: «لا تكرم الفسّاق منهم»، ثم يلاحظ نسبة استحباب إكرام العدول مع العامّ المخصّص وهي العموم المطلق وترتفع به المنازعة في مادّة اجتماع الأوّلين؟ وهذا هو اختيار الشيخ((1)) خلافاً لصاحب الكفاية،((2)) لأنّ ظهور العامّ - كما قلناه - لا ينثلم بالخاصّ، ولا يعارض الخاصّ المنفصل مع العامّ إلّا في حجّيته في الخاصّ لا في ظهوره فيه فتعارض استحباب إكرام العدول مع وجوب «أكرم العلماء» في مادّة اجتماعهما - وهو العالم العادل - باقٍ على حاله وإن خصّص «أكرم العلماء» بقوله: «لا تكرم فسّاقهم».

فإن قلت: في المثال المذكور تخصيص «أكرم العلماء» ب- «لا تكرم فسّاقهم» موجب لتقديم العامّ المخصّص - وهو أكرم العلماء العدول - على استحباب إكرام العدول في

ص: 273


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص458.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص409.

مادّة الاجتماع - وهو العالم العادل - لأنّه لو قدّم استحباب إكرام العدول على إكرام العلماء العدول لا يبقى مورد له، بخلاف أن لو قدّم وجوب إكرام العلماء العدول على استحباب إكرام العدول فإنّه يبقى تحته العدول من غير العلماء، فالأوّل يكون كالنصّ في شموله لأفراده، والثاني ظاهر في شموله لتمام أفراده، فيحمل الظاهر على النصّ.

قلت: نعم، يكون كذلك ولكن هذا ليس من جهة انقلاب النسبة، كما هو ظاهر لا يخفى.

ص: 274

فصل

يذكر فيه اُمور:

الأوّل: المزايا المرجّحة لذيها على غيره المعارض له سواء كان ممّا يرجّح الخبر به من جهة راويه كوثاقته وفقاهته وضبطه وحفظه، أو من جهة نفسه كالشهرة الروائية، أو من جهة صدوره كمخالفة العامّة، أو من جهة لفظه ومتنه كالفصاحة والبلاغة، أو من جهة مضمونه كموافقة الكتاب وفتوى الأصحاب، وبالجملة: على القول بالتعدّي عن المزايا المنصوصة إلى غيرها فكلّ ما يوجب مزيّة في أحد الطرفين المتعارضين على الآخر يكون مرجّحاً لسنده على الآخر والتعبّد لصدوره دون الآخر، وحتى مثل موافقة العامّة مرجّح لسند الآخر والتعبّد به بمقتضى الأخبار.

ولا يقاس بمقطوعي الصدور كالمتواترين حيث لابدّ من حمل موافقة العامّة فيهما على جهة الصدور وللتقية. فإنّه خلاف مظنوني الصدور.

لأنّ فيهما لا تعبّد بصدورهما ولا قطع، ولا يدور الأمر بين كون الموافق للعامّة هو الحجّة أو المخالف لهم، حتى يحمل الموافق على صدوره تقيّة، بل فيهما المحكوم بالصدور هو المخالف للعامّة وهو الّذي تعبّدنا الشارع به دون الموافق، فإنّه مطروح لم يثبت صدوره، فلا تصل النوبة إلى كون جهة صدوره التقيّة، لأنّها فرع ثبوت صدوره، فتدبّر.

الأمر الثاني: على القول بالتعدّي عن المرجّحات المنصوصة لا مجال للبحث في

ص: 275

ملاحظة الترتيب بينها، بل تمام المناط في کلّ منها وترجيح بعضها على بعض حصول الظنّ الأقوى بالصدور، أو بكون مضمونه أقرب إلى الواقع عن غيره.

وأمّا على القول بعدم التعدّي والاقتصار بالمزايا المنصوصة فللبحث فيه مجال.

وقد ذهب بعضهم((1)) إلى لزوم رعاية الترتيب المذكور في الروايات، وأنّ تقدّم بعضها في الذكر على البعض الآخر يكون بالعناية إلى ذلك، فلا يجوز جعل المتأخّر في الذكر في عرض المتقدّم عليه.

نعم، قد وقع بين الروايات ما بظاهرها تعارض في الترتيب المذكور، فلابدّ من حمل ظاهرها على أظهرها ومطلقها على مقيّدها، وإلّا فالحكم التخيير بين الأخذ بأحدهما، أو تساقطهما والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في المسألة.

هذا، وقد أنكر بعضهم كون أكثر ما في الروايات - سيّما المرفوعة والمقبولة - من المرجّحات، فقال بعدم كون الشهرة منها، لأنّ المذكور في المقبولة هو الأخذ بالمجمع عليه، أي الأخذ بما هو معلوم الصدور، لا ترجيح أحد مظنوني الصدور بها على الآخر.

وفرّع على ذلك: عدم إمكان الاستدلال بالمرفوعة ولا بالمقبولة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة، لكون موردهما عليهما الخبرين المشهورين، أي المقطوع صدورهما، فلا يشمل مظنوني الصدور.

وفي الترجيح بصفات الراوي كالأعدلية وغيرها، قال بعدم حجّية المرفوعة. وأمّا المقبولة فالترجيح المذكور فيها بصفات الراوي جعلت من مرجّحات الحكمين لا الروايتين. واستظهر ممّا ذكره عدم صحّة ما في کلام المتأخّرين من ترجيح الصحيحة على الموثّقة.

ص: 276


1- راجع: الفرید الگلپایگاني، ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد، ص120، الفائدة 21؛ الأنصاري، فرائد الاُصول، ص468؛ العراقي، بدائع الأفكار، ص455، 457، المقام الرابع في ترتيب المرجّحات.

وبالجملة: تلخّص ممّا ذكره عدم ورود الترجيح بالمرجّحات المذكورة في کلامهم(علیهم السلام) إلّا في ترجيح الموافق للكتاب على المخالف له، وترجيح مخالف العامّة على الموافق لهم، وذلك لخبر صحيح رواه الراوندي بسنده عن الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنّه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: «إذ ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فأعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه».((1)) وهذه الصورة غير مذكورة في المقبولة، فإنّ المذكور فيها صورة حكم الواجد لموافقة الكتاب والفاقد لها، وأيضاً صورة الموافق للعامّة والمخالف لهم.

وعلى کلّ حال، فمن تمسّك بصحيح الراوندي يظهر اختياره الترجيح بموافقة الكتاب على الخبر الفاقد لها وعلى المخالف للعامّة، وبالمخالف للعامّة على الموافق لهم، فلابدّ للقائل بذلك القول بعدم التعدّي من هذه المرجّحات والاقتصار عليها، وحيث لا يقول هو بالتخيير في الأخذ بالمتعارضين، ويرد ما يراه القائل به من الأخبار بالخدشة فيه سنداً أو دلالة، فلابدّ له في غير تلك الموارد الثلاثة المذكورة من القول بتساقط المتعارضين والرجوع إلى ما تقتضيه القواعد.

والذي ينبغي أن يقال: إنّ المراد من المجمع عليه لو كان معلوم الصدور يختلّ نظام السؤال والجواب في المقبولة، فإنّ ما هو الموضوع للسؤال ابتداءً - كما يظهر من جواب الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - هو تعارض مظنوني الصدور، ولا يرتبط الجواب عنهما بالأخذ بمعلوم الصدور منهما، فلابد أن يكون المراد من المجمع عليه ما أجمع عليه جمع من الرواة بروايته قبال الخبر الّذي رواه من لا يطلق عليه الجمع. فالظاهر من المقبولة أنّ الشهرة

ص: 277


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص118، أبواب صفات القاضي، ب9، ح29.

أوّل المرجحات، فإذا لم يكن بينهما ما هو المشهور أو كانا كلاهما مشهورين يكون المرجّح موافقة الكتاب، هذا.

ويظهر من صاحب الكفاية((1)) دعوى أنّ الظاهر من المرفوعة والمقبولة كونهما - كسائر ما يدلّ على الترجيح من الأخبار - بصدد بيان مجرّد ما هو المرجّح وأنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح، ولا يستفاد منهما ترجيح ما ذكر أوّلاً على ما ذكر بعده، فالجميع في عرض واحد. والشاهد على ذلك الاقتصار في غير واحد من الأخبار بذكر مرجّح واحد، ومن المستبعد تقييد جميع هذه الروايات بما في المقبولة. وبناءً على ذلك لو كان في أحد المتعارضين مرجّح وفي الآخر مرجّح لابدّ من الرجوع إلى إطلاقات التخيير، إلّا إذا كان أحدهما موجباً للظنّ بصدق مضمونه أو الأقربية إلى الواقع وعلى هذا لا فرق بين المرجّح الجهتي وسائر المرجّحات في الرجوع إلى إطلاقات التخيير إذا كان في أحد المتعارضين المرجّح الجهتي وفي الآخر غيره إلّا إذا كان المرجح الجهتي موجباً لما ذكر من الظنّ بصدوره أو أقربيته إلى الواقع، وإلّا فلا يرجح المرجّح الجهتي على غيره ولا غيره عليه.

وما قيل في وجه الأوّل وهو أنّه إذا كان أحد المتعارضين مخالفاً للعامّة يحصل القطع به بأنّ الموافق لهم إمّا صدر تقيّة أو لم يصدر عنهم(علیهم السلام).

ففيه: أنّه من أين يحصل هذا القطع، مع احتمال عدم صدور المخالف لهم، واحتمال كون الموافق هو حكم الله الواقعي؟ فلم يقل أحد بكون کلّ خبر مخالف لهم قطعي الصدور، فالمدار في الترجيح ليس إلّا ما ذكر.

ووجه القول الثاني: أرجحية المرجّح السندي على المرجّح الجهتي، لأنّه إنّما تصل النوبة إلى المرجّح الجهتي إذا كان المتعارضان من حيث السند سواء لا يرجّح أحدهما

ص: 278


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص 411.

على الآخر، وأمّا بعد وجود المرجّح السندي وتقديم ذي المرجّح على فاقده - يعني على صدوره - يرفع به التعارض، فلا تصل النوبة إلى الرجوع إلى المرجّح الجهتي الّذي يكون الواجد له فاقداً للمرجّح الصدوري الّذي يكون معارضه واجداً له.

وفيه: أنّ هذا يتمّ لو لم يكن المرجّح الجهتي مرجّحاً للصدور، ولكن قد قلنا بأنّ في باب التعارض تمام الكلام يرجع إلى أنّ أيّ الخبرين يكون صادراً وسنده أقوى من الآخر، لا أنّ أيّهما صدر للتقيّة أو لبيان الحكم الواقعي الّذي لا يأتي الكلام فيه إلّا بعد كونهما مقطوعي الصدور أو بحكمه، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الكلام في أقوائيّة أحدهما من حيث الصدور الّذي هو الموضوع للعمل به وإلغاء احتمال خلافه. فالمرجّحات کلّها جهةً أو صدوراً أو مضموناً كانت مرجّحات لصدور ذي المرجّح وطرح الفاقد، فلا تقدّم لأحدها على غيره.

وبعد ذلك کلّه في استشهاد المحقّق الخراساني - بالاقتصار في غير واحد من الأخبار على مرجّح واحد، واستبعاد تقييد جميعها بما في المقبولة - أنّ هذا الاستشهاد لا يصحّ، لأنّه ليست هنا روايات معتبرة - غير صحيح الراوندي - تدلّ على هذا الاقتصار. وعلى هذا، يمكن ترجيح القول برعاية الترتيب بين المرجّحات وتقييد صحيح الراوندي بالمقبولة، وجعل الشهرة أوّل المرجّحات، وأنّ عمدة المرجّحات بعدها ترجع إلى موافقة الكتاب ومخالفة العامّة على الترتيب بينهما.

الأمر الثالث: لا يخفى أنّ ما ذكر من الخلاف الواقع بينهم في أنّ المرجّح الجهتي هل يساوي غيره ولا ترتيب بينه وبين غيره أو يقدّم هو على غيره كما هو المنقول عن الوحيد البهبهاني،((1)) أو يقدّم غيره عليه كما اختاره الشيخ؟((2)) إنّما يجري إذا كان المرجّح جهتياً لا دلالياً.

ص: 279


1- الفرید الگلپایگاني، ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد، ص120، الفائدة 21.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص468.

وحيث إنّ الموافق لهم يحمل فيه صدوره تقيّة ولا لجهة بيان الواقع، ويحتمل صدوره تورية، والاحتمال الثاني موجب لوهن دلالته على صدوره تقيّة وكون المرجّح جهتياً، فيكون المخالف لهم أظهر في معناه من الموافق لهم، فيحمل الموافق على المخالف من باب حمل الظاهر على الأظهر، وهو مقدّم على جميع المرجّحات. ويؤكّد ذلك احتمال وجوب التورية على مثل الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، هذا.

ويمكن أن يقال: إنّ هذه الأظهرية عقلية ليست عرفية، فإنّ العرف لا يتنبّه بها إلّا بعد الدقّة والتأمّل، لا بالارتكاز والارتجال. مضافاً إلى أنّ ارتكازية ذلك تفيد وتجعل اللفظ في معناه أظهر إذا كان بحيث لا يتحيّر العرف في الحمل على معناه، وأمّا إذا كان المراد من اللفظ مردّداً بين معنيين وكان اللفظ محتمل الأمرين لا يجوز حمله على الآخر المعلوم معناه فيصير مجملاً مردّداً بين كون المرجّح جهتياً أو دلالياً.

وفيه: أنّ معنى حمل الظاهر على الأظهر ليس إلّا هذا، فإنّ الخبر المخالف ظاهر في معناه وهذا غير ظاهر، فيحمل غير الظاهر والمجمل على الظاهر والمبيّن، فتدبّر.

وبعد ذلك کلّه يردّ احتمال كون هذا المرجّح دلالياً صحيح الراوندي، فتأمّل.

ص: 280

فصل

المرجّح المضموني ما يوجب الظنّ بأقربية ذيه إلى الواقع من غيره، كالإجماع المنقول والشهرة الفتوائية، من دون أن يكون له دخل في قوّة دليليته أو كاشفيته بالسند أو الدلالة، وهو على قسمين:

أحدهما: ما لم يرد النهي عن العمل به وإلغاء اعتباره ووجوب تركه. وقد وقع الكلام في لزوم الترجيح به وعدمه، بل عدم اعتباره. وما قيل أو يمكن أن يقال في اعتباره وجوه:

أوّلها: ما قيل في وجوب التعدّي من المرجّحات المنصوصة.

وقد عرفت عدم تماميته، وأنّ التعبّد من الشارع بالعمل بذي المرجّح مختصّ بالمنصوص منه.

ثانيها: دخول ذي المرجّح المضموني في القاعدة المجمع عليها،((1)) بتقريب: أنّ المرجّح المضموني ممّا يوجب أقوائية ذيه بالنسبة إلى غيره، فيجب العمل بالدليل الأقوى من غيره، وبعبارة اُخرى: بأقوى الدليلين.

وفيه: أنّ موافقة أحد الدليلين مع الاُمور الخارجية مثل الإجماع المنقول لا يوجب قوّة ذي الموافقة على الدليل الآخر، غاية الأمر يوجب الظنّ بأقربيته إلى الواقع،

ص: 281


1- راجع: الأنصاري، فرائد الاُصول، ص469.

والقاعدة المذكورة المجمع عليها أنّها قامت على الأخذ بأقوى الدليلين من جهة دليليّتهما وكشفهما عن الواقع لا من جهة الأقربية إلى الواقع بسبب موافقته مع أمر خارج منه.

ثالثها: أنّ مطابقة أحد الخبرين مع أمر خارجي - يوجب الظنّ بأقربيته إلى الواقع - يوجب الظنّ بوجود خلل في الآخر من حيث الصدور أو جهة الصدور، فيرجع هذا المرجّح الخارجي إلى المرجّح الداخلي.

وفيه منع ذلك فلا توجب المطابقة المذكورة الظنّ بوجود الخلل في الخبر الآخر، فإنّا نرى أنّ الشهرة أو الإجماع المنقول لو قامت على خلاف خبر بلا معارض حجّة لا توجب ظنّ الخلل فيه، لأنّ القطع بالحجية وعدم الخلل فيه لا يمكن أن تجتمع مع الظنّ بالخلل.

فإن قلت: القطع بالحجّية وعدم وجود خلل فيما يعتبر في حجّيته لا يستلزم صدقه واقعاً وعدم خلل واقعي فيه من حيث الصدور أو من حيث الحجّية ولو كان بلا معارض فوجود المرجّح الخارجي مع أحدهما يوجب الخلل في الظنّ بصدق الآخر واقعاً، ويكفي ذلك مزيّة وموجبا لرجحان ذي المرجّح على الآخر.

قلت: لا يعتبر في حجّية الخبر صدقه واقعاً فهو معتبر مع احتمال كذبه، لأنّ فرض اعتبار صدق الخبر الواقعي في حجّيته مع كون معناها حجّة سواء كان صدقاً واقعاً أو كذباً كذلك غير معقول، لا يخفى ما فيه من التهافت.

وثانيهما: ما ورد النهي عنه، ودلّ الدليل بالخصوص على عدم اعتباره، كالقياس.

وحكمه - على القول بعدم جواز الترجيح بما لم يرد النهي عنه - معلوم واضح، لأنّه أولى بعدم الجواز، فلا کلام فيه.

وأمّا على القول بالجواز في القسم الأوّل لتمامية ما ذكر في اعتباره - کلّا أو بعضاً -

ص: 282

فهو وإن يدخل تحت ما دلّ على اعتبار القسم الأوّل، والنسبة بين ما دلّ على النهي عنه ودليل الاعتبار تكون بالعموم من وجه، إلّا أنّ الأخبار الدالّة على النهي عن القياس((1)) مع ما فيها من التأكيد والتشديد وتقبيح العمل به تكون آبية عن التخصيص، واختصاصه بمورد دون مورد، وخطر استعماله في المسألة الشرعية الاُصولية أكثر وأعظم من استعماله في المسألة الفرعية.

والوجوه الّتي قيل بها لجواز التمسّك به في ترجيح أحد الخبرين على الآخر مثل: أنّه ليس العمل بالقياس بل عمل بالخبر((2)) والدليل الّذي طابق مدلوله مدلول القياس، أو أنّ الترجيح به من قبيل العمل لتنقيح الموضوع أي الخبر الحجّة، أو غير ذلك، کلّها ضعيفة لا يخرج بها من إعمال القياس في الدين لوضوح كون الترجيح في هذه المسألة الاُصولية من القياس في الدين أظهر منه وأشنع من القياس في المسألة الفرعية.

ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، والحمد لله الّذي هدانا إلى ولاية أهل البيت عليّ أمير المؤمنين وأولاده الأئمّة المعصومين، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 283


1- الکلیني، الكافي، ج1، ص46، باب البدع والرأي والمقاييس، ح13 و15 و16، و ج7، ص299، كتاب الديات، باب الرجل يقتل المرأة و...، ح6؛ البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص269، ب 7، عدم حجّية القياس والرأي.
2- حكاه المحقّق الحلّي في معارج الاُصول (ص186).

ص: 284

ص: 285

ص: 286

الأمر الأوّل: في الاجتهاد

اشارة

والكلام فيه موضوعاً وحكماً يقع في مقامين:

الأوّل: في تعريف الاجتهاد

إنّ تعريف الاجتهاد بأنّه استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي، مأخوذ من العامّة((1)). فإنّهم لمّا رأوا أنّ ما عندهم من النصوص عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا تكفي في بيان الشريعة والأحكام المبتلى بها الناس إلّا في موارد هي الأقلّ من القليل، وخالفوا ما أوصى النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الاُمّة بالتمسّك بالثقلين (الكتاب والعترة)، وتركوا الأحاديث المتواترة الناصّة على وجوب التمسّك بهما وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وعلى أن لا يتقدّموا على العترة فيضلّوا، وأن لا يتأخروا عنهم فيهلكوا؛ لجأوا إلى الرجوع إلى غيرهم، واتّبعوا آراء الناس، فأخذوا عن مثل أبي هريرة في دين الله تعالى، ولمّا رأوا أنّ ذلك أيضاً لا يكفي ما يبتلي به الناس في أمر دينهم ودنياهم في أكثر أحكام العبادات من الصلاة والصوم والحجّ والجهاد وغيرها ممّا کلّ واحد منها مشتمل على آلاف من الفروع، وكذا في أحكام المعاملات بأنواعها، وأحكام العائلة والنكاح والطلاق، وأحكام القضاء والحكومة والسياسة والإدارة وغيرها ابتدعوا الاجتهاد بإعمال الرأي والقياس والاستحسان

ص: 287


1- راجع: الإیجي، شرح مختصر الاُصول، ص460، الكلام في الاجتهاد.

والاستقراء في دين الله تعالى، فضلّوا وأضلّوا وهلكوا وأهلكوا.

وأمّا شيعة أهل البيت(علیهم السلام) فبفضل تمسّكهم بالثقلين استغنوا عن هذا الاجتهاد وكفاهم ما عندهم - والحمد لله - من علوم ساداتهم الأبرار عترة النبيّ المختار صلوات الله عليهم أجمعين، ممّا رووا عنهم بأسنادهم الذهبية عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فلا توجد واقعة أو قضية أو موضوع أو فرع من فروع الأحكام ومسألة في الحلال والحرام، وفي الاُصول والعقائد، ولا آية من الكتاب تحتاج إلى التفسير إلّا وقد بيّن ما يرجع إليها في أحاديثهم ورواياتهم. والحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وغورهم في هذه الأحاديث ورجوعهم إليها لمعرفة مداليلها وخاصّها وعامّها ومطلقها ومقيّدها ومتواترها ومستفيضها وآحادها ومسندها ومرسلها وغير هذه، کلّها اجتهاد في فهم الحديث واستحصال للحكم من النصوص، يستخرج بها الحجّة على الأحكام الشرعية منها.

ولا يقاس هذا الاجتهاد بالاجتهاد المصطلح عند القوم الّذي هو منهيّ عنه، فلا يرد على علمائنا وفقهائنا القائمين بهذا الاجتهاد المقدّس اعتراض وإيراد في هذا الاجتهاد، لأنّ هذا لا يكون إلّا ضرباً من الكلام والجدال في اللفظ والاصطلاح.

وبالجملة: التعبير عن الاجتهاد باستفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي، إذا كان المقصود منه الظنّ الحاصل بالاستنباطات الظنّية من القياس والاستقراء الظنّي والمصالح المرسلة، فهو مردود عند جميع فقهائنا. وإذا كان المراد تحصيل الظنّ المعتبر بحكم الشارع مثل الظنّ الحاصل من خبر العادل الثابت حجّيته بالكتاب والسنّة والسيرة، فهو مقبول عند الكلّ يعمل به الجميع سواء سمّي العامل به مجتهداً أو أخبارياً، فالأخباريّ مجتهد والمجتهد أخباري.

وإن شئت فعبّر عن الاجتهاد باستفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي.

ص: 288

فهل من يسمّونه أو سمّى نفسه بالأخباري لا يستفرغ وسعه في تحصيل الحكم الشرعي؟ وهل عمل مثل الشيخ الجليل صاحب الحدائق في كتابه يكون غير استفراغ الوسع لتحصيل الحكم الشرعي؟ إذن فما الوجه لتسمية اختلاف أنظارهم في حجّية بعض الحجج واستنباطاتهم من الأدلّة الّذي ليس بعزيز بين العلماء باختلاف الاُصولي والأخباري؟ وتسمية العلماء بعضهم بالأوّل وبعضهم بالثاني؟

وبالجملة: إن كان بينهم بعض الاختلافات في بعض الصغريات فلا يوجب ذلك تجزئة العلماء بالطائفتين الأخباريّين والاُصوليين.

وبعد ذلك کلّه؛ فإن كان في من يسمّى بالأخباري من لا يقبل ذلك ويريد التباعد والتنازع، فلا نزاع لنا معه وندنو منه لا نتباعد عنه بل ننظر في اجتهاداته في الفقه بعين الاحترام كما ننظر في اجتهاد غيره، وننظر في الحدائق - مثلاً - كما ننظر في الجواهر، ونقبل منهما ما هو الحقّ. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم.

المقام الثاني: في حكم الاجتهاد

إعلم: أنّه لا ريب في جواز الاجتهاد واستفراغ الوسع المذكور لمن كان له أهلية ذلك كما يجوز له تحصيل تلك الأهلية.

والظاهر أنّه واجب على الأوّل للأحكام المبتلى بها بنفسه، فلا يجوز له التقليد، للأصل ولانصراف ما دلّ على جوازه، مثل: قوله تعالى: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون َ﴾((1)) عنه. فيجب عليه - لغيره، ولحفظ الشريعة القويمة من الاندراس والانطماس - كفاية.

وأمّا الثاني فيجب لنفسه تحصيل قوّة الاجتهاد عند فقد المجتهد الحيّ.

ص: 289


1- النحل، 43؛ الأنبیاء، 7.

ويمكن أن يقال بعدم الوجوب وجواز الرجوع إلى الأموات.

ويجب عليه أيضاً - لغيره إذا لم يمكن له الرجوع إلى الأموات، ولحفظ الشريعة - بالوجوب الكفائي.

وفي جميع الصور المذكورة إنّما يجب الاجتهاد أو تحصيل القوّة عليه عند عدم إمكان الاحتياط، أو الوقوع به في العسر والحرج.

هذا تمام الكلام في الاجتهاد موضوعاً وحكماً. وقد عرفت أنّه لا فرق فيه بين من يسمّى - عند من ينازع في الاصطلاح أو اللفظ - بالمجتهد أو الأخباري فكلّ في استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعي سواء، وإن كان قد يتّفق للبعض عدم وصوله إلى حجّية ما ثبت عند غيره حجّيته كما إذا لم يثبت له تخصيص عامّ، أو تقييد مطلق، أو نحو ذلك. والله هو العالم.

ص: 290

فصل في الاجتهاد المطلق والتجزّي

لا يخفى: أنّ الاجتهاد ينقسم إلى المطلق والمتجزّأ.

ولا يخفى أيضاً: أنّ القسم الثاني ممكن الحصول لسهولة الاجتهاد في بعض المسائل.

والأقوى أنّه حجّة للمتجزئ في عمل نفسه. وهل يكون حجّة لغيره؟ الظاهر أنّه كذلك إذا كان المجتهد منحصراً بالمتجزئ، ولا يمكن الاحتياط، والعمل بفتوى الأموات.

وأمّا جواز القضاء له في القضايا الّتي صار عارفاً بأحكامها، فمقتضى الأصل عدم الجواز وعدم نفوذ قضائه.

اللّهمّ إلّا أن يقال بصدق قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «عرف شيئاً من قضايانا» على مقدار صار عارفاً به، فلا يجب أن يكون عارفاً بجميع الأحكام.

وفيه: أنّ المستفاد من «شيئاً» ليس القليل من الأحكام، بل المراد منه الإشارة إلى أنّ ما يعرفه العارفون من علومهم وأحكامهم شيء قليل بالنسبة إلى ما عندهم(علیهم السلام).

وأمّا المجتهد المطلق، فلا ريب في وجوب العمل باجتهاده في عمل نفسه،ولا في نفوذ حكمه وقضائه. وكذا يجوز له الإفتاء والإخبار عمّا استنبطه من الأحكام. كما يجوز له تصدّي الاُمور العامّة، فإنّه القدر المتيقّن للولاية على هذه الاُمور، مضافاً إلى الأدلّة الخاصّة الدالّة على ولاية الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة.

ص: 291

والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين من يرى انفتاح باب العلم والعلمي، ومن يقول بانسداده؛ وذلك لأنّ القائل بالظنّ المطلق والقائل بالظنّ الخاصّ مشتركان في استنباط الأحكام من الأدلّة المعتبرة، وكلّ منهما يتمسّك بالكتاب أو السنّة أو الإجماع على السواء، إلّا أنّ القائل بالظنّ المطلق لا يدّعي القطع بكون مؤدّاه الحكم الواقعي وانتهاء ظنّه إلى العلم بالواقع، والقائل بالظنّ الخاصّ يقول بأنّ ظنّه - الحاصل مثلاً من خبر الواحد - وإن لم يكن قطعاً إلّا أنّ اعتباره مقطوع به. وبالجملة: لا يوجب الاختلاف في وجه اعتبار الظنون الخاصّة اختلافاً في الأدلّة الّتي يتمسّكون بها في الفقه. وأيضاً لا فرق بين الرجوع إلى المجتهد في الأحكام العقلية، كحكم العقل بوجوب تحصيل الموافقة القطعية في الشبهة المحصورة، والرجوع إلى من يقول باعتبار الظنّ المطلق بحكم العقل.

وخالف صاحب الكفاية، وقال بعدم جواز الرجوع إلى الظنّ المطلقي وعدم نفوذ حكمه، لأنّ الرجوع إليه يكون من رجوع الجاهل إلى الجاهل.((1))

وفيه: أنّ هذا مردود عند العرف، فهل ترى أنّ من رجع إلى مثل المحقّق القمّي في تعلّم الأحكام كان رجوعه إليه رجوع الجاهل! إلى الجاهل وهل إفتاؤه وقضاؤه يكون من غير العارف بشيء من أحكامهم. هذا مضافاً إلى أنّ البحث عن الفرق بين الرجوع إلى الظنّ المطلقي والظنّ الخاصّ يجري على تقرير دليل الانسداد على ما جرى في لسان المتأخّرين، وأمّا لو بنينا على تقرير القدماء - الّذين هم الأصل فيه - فلا يكون للبحث عن الفرق بينهما مجال، فراجع ما كتبناه من السيّد الاُستاذ(قدس سره) في المسألة في فصل تقرير دليل الانسداد على مسلك القدماء. والله هو العالم.

ص: 292


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص424.

فصل في الرجوع إلى المجتهد في الأحكام العقلية

قد قلنا: إنّه لا فرق بين الرجوع إلى المجتهد القائل باعتبار الظنّ المطلق وانسداد باب العلم والعلمي إلى الأحكام وبين الرجوع إلى المجتهد في الأحكام والاُصول العقلية كحكم العقل بوجوب تحصيل الموافقة القطعية في الشبهة المحصورة، وأصالة البراءة والتخيير والاشتغال، فينبغي أن تجري البحث في جواز تقليد العامّي عن المجتهد فيما استنبطه من الأحكام العقلية، فإذا شكّ المکلّف في حلّيّة الاستفادة من المذياع أو الركوب على الطائرة، وفرضنا عدم وجود عموم أو إطلاق يتمسّك به لحكمهما جوازاً أو حرمةً، فلا ريب في أنّ المجتهد بمقتضى البراءة وقبح العقاب بلا بيان يقول بحلّيّتهما بحكم العقل، وأمّا المقلّد فهل يقلّد المجتهد في الحكم بالحلّيّة أو يجب عليه الاحتياط؟

وجه الإشكال فيه: أنّ رجوع العامّي إلى المجتهد في تلك الموارد - الّتي يكون المرجع فيها الاُصول العقلية - رجوع الجاهل إلى الجاهل. واُجيب عنه: بأنّ رجوع الجاهل إليه فيما هو جاهل فيه والمجتهد عالم به، وهو فقد الأمارات الشرعية في موردها الّذي يكون المقلّد عاجزاً عن الاطّلاع به. وأمّا في تعيين الوظيفة في موارده، وأنّها هل هي البراءة أو الاحتياط، فهو يرجع إلى عقله.

ص: 293

واستشكل في هذا الجواب: بأنّ العامّي عاجز عن تشخيص حكم العقل في موارد فقد الأمارة، إلّا أن يقال بأنّه إن لم يعرف من العقل البراءة أو الاحتياط يعمل بالاحتياط، فإنّ عقله يعرف أنّه يخرج من اشتغال الذمّة بالتكليف بالاحتياط.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ العامّي - إذا كان الأمر المبتلى به من الاُمور العبادية - عاجز عن كيفية الاحتياط وتكرار العمل إلى حصول العلم بفراغ الذمّة.

وقد يجاب عن هذا الإشكال بأنّه يأتي إذا كان دليل جواز التقليد منحصراً فيما يدلّ على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فالمجتهد لا يكون في موارد فقد الأمارة عالماً بالحكم، ولكن يدلّ على الجواز استقرار سيرة العقلاء على الرجوع إلى الخبرة، فالمقلّد يرجع المجتهد في تلك المسائل لكونه من أهل الخبرة. والله هو العالم.

ص: 294

فصل فيما يتوقّف عليه الاجتهاد

لا ريب في أنّ الاجتهاد موقوف على معرفة طائفة من المسائل، وإن شئت فقل: إلى طائفة من مسائل طائفة من العلوم، كالعلوم العربية (النحو والصرف واللغة)، وكالتفسير.

واحتياج الفقيه إليها ظاهر، فإنّ جلّ مدارك الأحكام بل کلّها يستفاد من الكتاب والسنّة، ولا ريب في أنّ فهمهما متوقّف على فهم قواعد اللسان العربي. والحاجة إلى التفسير أيضاً ظاهر، لأنّ المعرفة إلى مداليل الآيات محتاجة إلى التفسير المشتمل على أسباب النزول وعموم الكتاب وخصوصه، وسيّما إلى ما ورد عنهم في تفسير الآيات، وإلى معرفة الأحاديث من حيث التواتر والاستفاضة والآحاد وحال أسنادها.

وأيضاً لا ريب أنّ هنا قواعد کلّية يحتاج الفقيه إلى معرفتها ممّا هو مذكور ومجموع سُمّي بالاُصول لبناء المسائل الفقهية عليها.

فما دام لم تكن هذه المسائل مبحوثاً عنها والبناء على ما ينتهي البحث إليها، لا يمكن الاستنباط، فما لم يبن الفقيه في البحث في أنّ الأمر هل ظاهر في الوجوب أو في مجرّد الرجحان على أحد الطرفين؟ لا يمكن له استظهار مراد الشارع من أوامره، وكذا في النواهي. وهكذا في مقدمة الواجب مادام لم يبن في البحث على أنّ وجوب المقدّمة

ص: 295

لازم لوجوب ذيها، لا يمكنه الفتوى بوجوب المقدّمة فيما يعرض له من المسائل الكثيرة. وإذا لم يبحث في أنّ العامّ المخصّص هل هو حجّة في الباقي أو لا؟ ولم يبن على حجّيته، لا يمكن له في العمومات المخصّصة الكثيرة الحكم على حجّية العموم في الباقي، إلّا أن يجدّد البحث في کلّ مسألة من الرأس، فإذا كان ذلك مبحوثاً عنه مستقلّا فيبني عليه في جميع المسائل.

وقس على ذلك سائر الموارد المذكورة في الاُصول.

نعم؛ لا کلام في أنّ بعض المسائل المذكورة في الاُصول غيرمحتاج إليها في الفقه، وليس البحث عنها إلّا استطراداً. إذن فما المانع من جمع هذه القواعد في مجموعة من المسائل، وتسميته بالاُصول، أو بعلم الاُصول؟ وسعيهم للإتيان بتعريف موضوعه على نحو يكون البحث عن تلك المسائل من عوارضه الذاتية، سواء أتوا به أم لم يأتوا به، لا يدخل تدوين هذه المسائل - مجموعة مستقلّة - في البدعة، كما ربما يظنّ ذلك بعض من يسمّي نفسه بالأخباري، وإلّا يكون تدوين مسائل الفقه والتفسير والنحو والصرف واللغة والرجال والتاريخ کلّها بدعة محرمة، فهذا ليس ممّا ينازع فيه العقلاء. والله هو الهادي إلى الصواب.

ص: 296

فصل في التخطئة والتصويب

إعلم: أنّه وإن كان في العامّة، كالعنبري يقول: إنّ کلّ مجتهد مصيب في العقليات، فضلاً عن الفروع. واُورد عليه بأنّه كيف يكون قدم العالم وحدوثه، وإثبات الصانع ونفيه حقّاً؟! إلّا أنّ الظاهر ذهاب أكثرهم إلى التخطئة فيما عليه دليل من الكتاب والسنّة، وإنّما يقول من يقول بالتصويب في الوقائع الّتي لا نصّ فيها ممّا يعملون فيه بالاستحسان والقياس وغيرهما.

وكيف كان، لا إشكال في بطلان التصويب مطلقاً، ولذا قال قوم من المصوّبة: إنّ الحكم في کلّ واقعة واحد معيّن يتوجّه إليه الطلب، إذ لابدّ للطلب من مطلوب، ولكن لم يكلّف المجتهد إصابته، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الّذي لم يؤمر بإصابته، بمعنى أنّه أدّى ما کلّف فأصاب ما عليه.

والجواب عن ذلك: أنّ القول بوجوب العمل بالظنّ القياسي والاستحساني ليس معناه - على قول هذا القائل الّذي يتحاشى من القول بالتصويب - إلّا وجوب العمل بالظنّ القياسي مثلاً، فإن أصاب فهو، وإلّا فهو عمل بما عليه وهو العمل بالقياس. وهذا قريب من القول بالتخطئة في الظنون المعتبرة الّتي نصّ الشارع على اعتبارها، كظاهر الكتاب وخبر الواحد، فالنزاع لا يكون بين الطرفين في التخطئة والتصويب،

ص: 297

بل في اعتبار القياس والاستحسان مطلقاً، أو إذا كانا موجباً للظنّ عند الشارع، فالمنكر للقياس والاستحسان يقول بعدم إثبات اعتبار هذه الاُمور إذا لم تكن موجبة للظنّ بالحكم الواقعي الواحد في حقّ الجاهل والعالم، أو مطلقاً. وهذا ما يقوله شيعة الحقّ وقوم من العامّة.

فظهر من ذلك کلّه: أنّنا حيث لا نقول باعتبار مثل القياس والاستحسان والاستقراء في الفقه نستغني عن البحث في التصويب والتخطئة فيها. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

ص: 298

فصل في اضمحلال الاجتهاد

إذا زال رأي المجتهد بالتردّد في المسألة، أو تبدّل رأيه برأي جديد، فإمّا يكون مورده وجوب فعل أو حرمة فعل، فلا خلاف في أنّه إذا زال رأيه الأوّل في کلّ منهما وتردّد في حكمه لا يجب عليه بعد ذلك فعل الأوّل ولا ترك الثاني.

وإن كان قد ترك الأوّل أو فعل الثاني قبل زوال رأيه فلا شيء عليه، إلّا إذا قلنا بحرمة التجرّي فيجب عليه التوبة.

وإن تبدّل رأيه من الوجوب إلى الحرمة أو من الحرمة إلى الوجوب يجب عليه البناء على رأيه الجديد في الأعمال اللاحقة، ولا شيء عليه من جهة الأعمال السابقة إن ترك الأوّل أو فعل الثاني، فإنّه أتى بمؤدّى رأيه اللاحق.

وأمّا إن فعل الأوّل فلا شيء عليه تكليفاً، لأنّه كان معذوراً في فعله، لأنّ تكليفه إن كان الوجوب فقد أدّاه، وإن كان تكلّفه الترك فعن عذر فعله.

نعم، يترتّب عليه ما يترتّب عليه من الحكم الوضعي.

وأمّا إن ترك الثاني، أي ما كان يراه حراماً، وتبدّل رأيه بوجوبه، فإن لم يكن لتركه على الاجتهاد الثاني قضاء وتدارك فلا کلام أيضاً، وإن كان يجب عليه تداركه بالقضاء. فالقول بالإجزاء وكونه مكلّفاً بالترك مستلزم للقول بالتصويب المستلزم للدور، وخلاف الإجماع. اللّهمّ إلّا أن يقال: بالسببية في باب الطرق والأمارات.

ص: 299

وإذا كان تكليفه مردّداً بين وجوب هذا الفعل أو حرمة فعل آخر، وأدّى اجتهاده إلى أنّه أحدهما المعيّن، ثم تبدّل رأيه بأنّه الآخر، فهل يجزي الأوّل عن الثاني إن أدّاه قبل تبدّل رأيه مع بقاء وقت الإتيان بالثاني؟ ففيه أيضاً أنّه لا وجه للإجزاء إلّا على القول بالسببية، دون سائر الأقوال.

ومن هنا يظهر أنّه لو كان رأيه السابق عدم وجوب صلاة العيد فتبدّل إلى الوجوب، لا مجال للكلام في أنّه هل يجب عليه البناء فيما مضى عليه على الاجتهاد السابق أو الاجتهاد الجديد.

ومثّلوا أيضاً بما إذا كان رأيه السابق جواز النكاح بالعقد بالفارسية وعقد على إمرأة بالصيغة الفارسية فزال رأيه وتردّد فيه أو تبدّل باشتراط صحّته بالعربية بعد موت المرأة أو بعد طلاقها وانقضاء عدّتها. إلّا أنّه يمكن أن يقال: إنّ في مثل هذا المثال ينفع البحث عمّا يجب أن يبني عليه من الرأي الأوّل أو الثاني في صداقها مثلاً، فإنّه على البناء على الرأي الجديد يتعيّن الصداق في مهر المثل، وعلى البناء على الرأي السابق فهو متعيّن في المهر المسمّى.

ولا يخفى عليك: أنّ الكلام في المسألة إنّما يأتي فيما إذا كان بناء المجتهد على رأيه الأوّل مبنّياً على الاعتماد بالأمارات والاُصول الشرعية، وأمّا إذا كان مبنیّاً على القطع بالحكم فزال وتبدّل بالشكّ أو الظنّ أو القطع بالخلاف، فالظاهر أنّه ليس محلّ الكلام، لعدم احتمال وجود الحكم الظاهري بعد كشف الخلاف بالنسبة إلى الأعمال السابقة، وعدم كونه عاملاً بطريق شرعي. فما يأتي الكلام فيه ما إذا كان ترتيب الأثر على الأعمال السابقة محلّ الابتلاء كالمرأة الّتي هي باقية تحت نكاحه بعد زوال رأيه بجواز العقد الفارسي وقد عقدها به. وكما إذا كان رأيه طهارة عرق الجنب من الحرام ثم زال بعد ما صلّى فيه. وكما إذا كان رأيه وجوب صلاة الجمعة تخييراً أو تعييناً في عصر الغيبة

ص: 300

فصلّاها وتبدّل رأيه بعدم وجوبها واشتراط صحّتها بزمان الحضور وإذن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). وكما إذا كان لا يرى تنجّس الملاقي للمتنجّس وتوضأ واغتسل به وصلّى، وبعده تبدّل رأيه بتنجّسه.

ويمكن أن يقال: إنّ بعد كشف الخلاف وقيام الحجّة على الرأي الثاني الّذي يكون مطلقاً وغير مقيّد بزمان دون زمان يجب العمل بمقتضاها، ولا وجه للاستناد بالرأي الأوّل الّذي ظهر بطلانه. فيجب عليه تجديد العقد المذكور، وقضاء ما فات عنه من الصلوات، والبناء على تنجّس ما لاقى المتنجّس قبل تبدّل رأيه.

وبالجملة: لا يجزي الإتيان بالأمارة القائمة على أصل التكليف بعد كشف الخلاف عن تكليف آخر، كما أشرنا إليه في مثل ما إذا قامت على وجوب صلاة الجمعة. كما لا يجزي في متعلّق التكليف إذا كان الحاكم في تشخيصه العرف، كمتعلّقات العقود والإيقاعات والمعاملات ممّا ليس تشخيص مصاديقه مبنيّاً على التعبّد، مضافاً إلى دعوى قيام الإجماع على البناء فيها على رأيه الجديد.

نعم، في العبادات، كالصلاة والصوم والحجّ، إذا كان زوال رأيه أو تبدّله فيما يعتبر في المأمور به شرطاً أو شطراً، كما إذا استقرّ رأيه بالدليل أو الأصل الشرعي على عدم جزئية السورة، أو عدم مانعية كون اللباس في الصلاة من وبر غير مأكول اللحم، أو الملاقي للبول بعد غسله بالماء القليل مرّة واحدة، ثم تبدّل رأيه بعد الصلاة بجزئية السورة، ومانعية كون اللباس من وبر غير المأكول، ومانعية اللباس الملاقي للبول المغسول بالماء القليل مرّة واحدة، لعدم زوال النجاسة بالغسل بالماء القليل مرّة واحدة، يمكن أن يقال بتوسعة موضوع المأمور به وأنّه أعمّ ممّا هو فاقد السورة في حال الجهل بوجوبها وواجدها في حال العلم به، أو هو أعمّ من الواقع في اللباس المجهول تنجّسه والواقع في المعلوم طهارته، فللصلاة المأمور بها فردان فرد لها في حال

ص: 301

الجهل بنجاسة اللباس، وإن شئت قل في حال حكم الشارع بطهارته، وفرد لها في حال علمه بطهارته، وإن شئت فقل: المانع العلم بنجاسة اللباس، لا أنّ العلم بطهارة اللباس شرط في الصلاة. وبعبارة اُخرى: المانع النجاسة المعلومة، لا النجاسة الواقعية، وذلك مقتضى ملاحظة وجوب الأمر بالصلاة، وأنّها لا تسقط بحال حتى في حال الجهل بجزئية السورة مثلاً أو نجاسة اللباس، ومقتضى مثل حديث الرفع((1)) وأصالة الطهارة، فإنّه لو قلنا بالبناء على كشف الخلاف بعد تبدّل الرأي إلى جزئية السورة، أو العلم بوقوع الصلاة في اللباس المتنجّس، يلزم منه سقوط التكليف بالصلاة واقعاً في حال وجوبها عليه ظاهراً، ولا يمكن الالتزام بذلك.

فإن قلت: إنّ ذلك إن يأتي يأتي في الشبهات الموضوعية، فإذا دلّت الأمارة أو الأصل الموضوعي على تحقّق ما هو الشرط أو الجزء، أو دلّت على عدم المانع في لباسه، يمكن أن يقال: إنّه فرد من اللباس الطاهر، أو الطهارة بالماء الطاهر، أو المكان المباح. وأمّا في الشبهة الحكمية، كما إذا شككنا في جزئية السورة، أو اشتراط الصلاة بطهارة اللباس، إذا كان الحكم الواقعي جزئية السورة، واشتراط الصلاة بطهارة اللباس، فالقول بكونها فرداً للصلاة مستلزم للتصويب والدور.

قلت: نعم، لابدّ لدفع ذلك من التمسّك بما ذكرناه في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، بأن يقال: إنّ الحكم ينشأ مطلقاً من غير تقيّده بحال العلم وبدون ملاحظة حال العلم والجهل به، وإنّما يريد الحاكم من إنشائه انبعاث العالم به منه. وإن كان يريد بعث الجاهل به يجب عليه التوسّل بأمر آخر كإيجاب الاحتياط على الجاهل، فإذا لم يجب الاحتياط عليه، ولم يسقط تكليفه بطبيعة المأمور به في حال الجهل بالطبيعة الواجدة

ص: 302


1- الکلیني، الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب ما رفع عن الاُمّة، ح2؛ الصدوق، من لا یحضره الفقيه، ج1، ص36، ب14، ح4؛ الصدوق، الخصال، ص417، باب التسعة.

لجميع الأجزاء والشرائط، وقامت الأمارة أو الأصل على فردية الفاقد للشرط أو الجزء المشكوك يكون لا محالة هذا فرداً لها، وإن شئت فقل: بمنزلتها ومجزياً عنها، فالحكم على ذلك غير متوقّف على العلم به وإن كان تنجّزه متوقّفاً عليه، فلا دور ولا تصويب، لأنّ حكم الله بطبيعة الصلاة الواجدة للشرائط غير مقيّد بعلم المكلف به، فهو أنشأ للجاهل والعالم على السواء، إلّا أنّه يتنجّز على العالم بالعلم به ولا يتنجّز على الجاهل، ولذا لا منافاة بين كونه محكوماً بحكم هو غير الحكم الّذي لم يتنجّز عليه. وتمام الكلام في باب الإجزاء، وفي باب الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، وقد مرّ.

ثم لا يخفى عليك: أنّ الفرق بين مسألتنا هذه ومسألة الإجزاء أنّ البحث في الإجزاء يعمّ المجتهد وغيره في الشبهات الموضوعية كالحكمية، وهنا مختصّ بالمجتهد في الشبهات الحكمية، فالبحث في الإجزاء بهذا اللحاظ أعمّ من البحث في مسألة اضمحلال الاجتهاد.

ومن جانب آخر البحث في هذه المسألة، تعمّ ما هو الموضوع للبحث في مسألة الإجزاء وغيره، فالثاني أخصّ من الأوّل، لأنّ البحث هنا في العبادات والمعاملات، والظاهر أنّ بحثهم في الإجزاء يختصّ بالعبادات، بل مطلق الواجبات. وبالجملة النسبة بينهما بالعموم من وجه، فتتداخل المسألتان في

العبادات إذا تبدّل رأي المجتهد، وتتفارقان في غير العبادات إذا تبدّل رأي المجتهد، وفي العبادات في الشبهات الموضوعية. والله هو العالم.

ص: 303

ص: 304

الأمر الثاني: في التقليد

معنى التقليد

اعلم أنّ ما يصحّ أن يبحث عنه في المبحث المعنون في کلماتهم بالتقليد هو: أنّه هل يجزي للجاهل العمل بقول العالم، أو متابعة العالم؟ وبتعبير آخر: إيجاد العمل على طبق رأي العالم، أو إتيان العمل معتمداً على قول العالم، أو الاعتماد على قول العالم في الخروج عن عهدة التكاليف الإلهية.

ولعلّ التعبير الأخير أولى وأشمل، لأنّه يشمل الاعتماد على قول المجتهد بعد العمل إن وقع موافقاً لفتواه وإن صدر منه غافلاً أو رجاءً، وعلى هذا يكفي في الاعتماد على رأيه علمه به قبل العمل أو حينه أو بعده.

وتسمية کلّ ذلك بالتقليد في الاصطلاح مناسب لمعناه اللغوي، فإنّه تقليد القلادة والفتل على عنق من كان المقلّد مالكاً لأمره، كتقليد الهدي، أو تقليد أمر كالإمارة وحفظ شيء، والعمل بالوصيّة على عهدة الغير وجعله كالقلادة على عنقه فيحتاج إلى قبول المقلّد (بالفتح).

نعم، الإمارة والخلافة والولايات الشرعية - حيث إنّها تجعل على عهدة الأمير والخليفة والوليّ من جانب الله تعالى المالك الحقيقي للجميع - لا تحتاج إلى قبولهم،

ص: 305

لأنّها من جانب الله تعالى كالقلادة مجعولة في عنقهم، لا يمكن لهم ردّها وكذلك في تقليد الهدي ونحوه لا يحتاج إلى القبول.

ويمكن أن يقال: إنّ فتوى المجتهد حجّة من الله تعالى إمضاءً أو تأسيساً على العاميّ، يجب عليه تعهّده والأخذ به والاعتماد عليه، فالفتوى تكون كالقلادة على عنق الجاهل، لا أن يكون عمله قلادة على عنق العالم، فتسميته بالمقلّد أنسب من تسميته بالمقلِّد.

بديهية رجوع الجاهل إلى العالم

وأمّا جواز رجوع الجاهل إلى العالم إذا لم يتمكّن من الاحتياط ولو من جهة وقوعه في العسر واختلال الأمر، لا يحتاج إلى کلام كثير، بل يعرفه کلّ واحد من العوامّ بفطرته وجبلّته، وقد استقرّ عليه بناء العقلاء ولم يردع عنه الشارع، وسيرة المتشرّعة((1)) المستمرّة عليه، فلا حاجة إلى الاستدلال ببعض الآيات كما أنّه لا حاجة إلى الاستدلال بالروايات((2)) أيضاً وإن كانت تامّة الدلالة على المطلوب، ويدّعى تواترها بالإجمال.

وتوهّم شمول ما يدلّ على عدم جواز اتّباع غير العلم((3)) والذمّ على التقليد((4)) لما ذكر كونه رادعاً عنه، مردود جدّاً، لانصرافه عن مثل متابعة العالم في أحكام الفروع الّتي لا يمكن تكليف عامّة الناس بتعلّمها، لاختلال النظام به. وينجرّ النهي عن متابعة غير العالم بها العالم إلى رفع اليد عن التكاليف الثابتة عليهم. فلابدّ أن يكون ذلك مختصّاً بالاُصول دون الفروع. هذا مضافاً إلى أنّه على فرض القول بشموله

ص: 306


1- راجع: الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص411، فصل جواز التقليد.
2- كآية النفر (التوبة، 122)، وآية السؤال (النحل، 43).
3- نحو قوله تعالى: ﴿وَلَاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾. الإسراء، 36.
4- نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾. الزخرف، 23.

للفروع يكون مخصّصاً بتلك الروايات الكثيرة الدالّة على الجواز، بل وجوب رجوع الجاهل إلى العالم بالأحكام، وهذا واضح لا ينبغي فيه الارتياب. والله هو الهادي والعالم بالصواب.

ص: 307

فصل في تقليد الأعلم

إعلم: أنّه لا إشكال في أنّ العالم الواجد لشرائط رجوع الجاهل إليه إذا كان واحداً يجب الرجوع إليه بناءً على وجوب الرجوع إلى الحيّ دون الميّت، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وأمّا إذا كانوا متعدّدين، فإن كانوا متساوين في العلم ومتوافقين في الفتوى يجوز الأخذ بما هو رأي الجميع بما أنّه رأيهم، فإنّه أولى بالإجزاء من الاعتماد على أحدهم المعيّن.

وليس المقام كالائتمام بالإمامين في الجماعة الّتي لابدّ وأن تكون بإمام واحد، فإنّه أمر تعبّدي صرف لم تثبت مشروعيته.

وهكذا إذا كانوا مختلفين في العلم متوافقين في الفتوى مع عدم العلم بالأعلم منهم، إلّا أنّ المعيار هنا على فتوى من كان منهم أعلم في الواقع، فالاعتماد يكون على رأي الأعلم الواقعي منهم.

وإذا كانوا متساوين في العلم مختلفين في الفتوى، فإن أمكن الاحتياط ولا ينتهي إلى العسر وما لا يرضى به الشارع، يحتاط، كما إذا كان فتوى أحد المجتهدين على الوجوب والآخر على الجواز والثالث على الاستحباب، أو كان فتوى أحدهم الحرمة والآخر

ص: 308

الكراهة والثالث الجواز. وأمّا إن لم يمكن الاحتياط، كما إذا دار الأمر بين المحذورين من الوجوب أو الحرمة، أو كان الاحتياط موجباً للعسر والحرج، ففيما يوجب العسر يحتاط فيما دون العسر، وفيما يدور بين المحذورين يأخذ برأي أيّهما شاء.

وأمّا إن كانوا مختلفين في العلم والفقه وفي الفتوى، فهل يجب تقليد الأعلم منهم، أو يجوز تقليد غير الأعلم كالأعلم على السواء. والكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في تكليف المقلّد، فلا ريب في أنّه يجب عليه عقلاً إذا احتمل تعيّن تقليد الأعلم أن يبني في المسألة الاُصولية (تقليد الأعلم) على وجوبه. وفي المسائل الفرعية على تقليد من يرى الأعلم جواز تقليده وإن كان هو غير الأعلم، أو يعمل في المسائل الفرعية بالاحتياط بتقليد الأعلم. والوجه في ذلك: حصول القطع ببراءة الذمّة عن التكليف بذلك فإنّه، إمّا يكون الواجب عليه تقليد الأعلم، أو يكون مخيّراً بينه وبين تقليد غيره، فجواز الاكتفاء بالأوّل يقيني، والثاني مشكوك فيه ويكفي ذلك في عدم حجّيته، والقول بجوازه مستلزم لتوقّف الشيء على نفسه أو التسلسل.

المقام الثاني: وهو في بيان حكم المسألة في نفسها، وأنّه بحسب الأدلّة هل حكم الله الواقعي هو وجوب تقليد الأعلم، أو التخيير بينه وبين تقليد غير الأعلم؟ فينبغي النظر في أدلّة الطرفين، فنقول: قد ذكر في الكفاية((1)) من أدلّة عدم جواز تقليد غير الأعلم الأصل.

يمكن أن يكون المراد منه عدم الخروج عمّا في ذمّته بتقليد غير الأعلم، واستصحاب بقاء التكليف. أو أنّ الأصل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو التعيين، لأنّ الأمر يدور بين الأخذ بما هو معلوم حجّيته وما هو مشكوك

ص: 309


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص439.

الحجّية، والعقل مستقلّ بوجوب الأخذ بالأوّل إمّا بالبديهة، أو لأنّ الأمر يدور بين الأخذ بالحجّة وما هو ليس بحجّة، أي المشكوك حجّيته إذ يكفي في عدم حجّيته الشكّ في حجّيته.

لا يقال: لم لا يتساقطان بالتعارض؟ كما هو الشأن في باب تعارض الأمارتين الحجّتين.

فإنّه يقال: ليس في باب تعارض الأمارتين الإجماع على وجوب الأخذ بإحداهما فتتساقطان بالتعارض، بخلاف المقام، ومقتضى ذلك وجوب تقليد الأعلم.

فإن قلت: الأصل مقطوع بالدليل، وهو إطلاق ما دلّ من العقل على جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم، وعدم ما يمكن أن يكون مقيّداً له في المقام.

قلت: نمنع الإطلاق، لأنّ الأدلّة إنّما صدرت للإرشاد إلى نفس حسن رجوع الجاهل إلى العالم، دون بيان تفاصيله. نعم، لو قلنا بالإطلاق فالظاهر أنّه لا إطلاق فيما يدلّ على تقييده بالأعلم، لأنّه مختصّ بمورده الخاصّ، فيبقى غيره تحت الإطلاق.

وإن قلت: لكنّ السيرة((1)) قد استقرّت من أصحاب الأئمّة(علیهم السلام) على الأخذ بفتوى أحد المخالفَين من دون الفحص عن أعلميته، مع العلم بأعلمية أحدهما.

قلت: نمنع تحقّق السيرة، بل يمكن دعوى سيرة المبالين بالدين على الفحص، فإذا كانوا هم بحكم جبلّتهم وفطرتهم مبالين بفتوى الأعلم المعيّن من بينهما، مقبّحين العمل بفتوى غيره، فكيف يعملون بفتوى أحدهما غير المعلوم أعلميته بدون الفحص عن الأعلم مع العلم بأعلمية أحدهما؟! فتحقّق السيرة على خلاف ذلك في غاية البعد.

إن قلت: الحكم بعدم جواز التقليد من غير الأعلم يوجب العسر للمقلّد والمقلّد،

ص: 310


1- راجع: الإیجي، شرح مختصر الاُصول، ص484.

بل يمكن أن يقال بعدم إمكانه، فكيف يمكن لشخص واحد الجواب عن استفتاءات جميع الاُمّة؟ وكيف يمكن للجميع الوصول إليه؟

قلت: يمكن للجميع أخذ فتاواه من رسالته وكتبه، والناقلين عنه من أهل الثقة، فلا يلزم منه عسر لا على هذا ولا على ذاك.

وهكذا لا يوجب القول بوجوب تقليد الأعلم العسر في تشخيصه، كما أنّه لا عسر في تشخيص المجتهد. وعلى فرض لزوم العسر يجب عليه الاحتياط فيما دونه.

هذا، وقد استدلّ لعدم جواز تقليد غير الأعلم بوجوه: منها: الإجماع.((1))

وردّ: بمنع تحقّقه أوّلاً. ومنع حجّيته على فرض تحقّقه ثانياً، لأنّه من المحتمل المدرك، لاحتمال كون مدرك المجمعين - جميعهم أو بعضهم - الأصل الّذي تقدّم ذكره.

ومنها: الأخبار الدالّة على ترجيح قول الأفقه في صورة المعارضة.((2))

وفيه: أنّها في مقام القضاء والحكم بالموضوع.

ولو سلّم أنّ النزاع والمخاصمة كانت لأجل الشبهة الحكمية من جهة الاختلاف في دين أو ميراث، فلا يدلّ ذلك على أزيد من ترجيح قول الأفضل، لعدم إمكان رفع التخاصم إلّا به.

ولكنّ الإنصاف مع ذلك أنّ هذه الأخبار لا تخلو من الدلالة على وجوب

ص: 311


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص303، التنبيه السادس، عند استدلاله على القول بوجوب تقليد الأفضل.
2- كما في المقبولة (الطوسي، تهذيب الأحکام، ج6، ص301، ب92، ح6؛ الکلیني، الكافي، ج1، ص54، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم، ح10). وغيرها من الأخبار (الطوسي، تهذيب الأحکام، ج6، ص301، ب92، ح50 و51؛ الصدوق، من لا یحضره الفقيه، ج3، ص5، ب9، ح1 و2). وانظر أيضاً المنقول عن أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك». نهج البلاغة، في كتابه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمالك الأشتر، کتاب 53 (ج3، ص 94).

الأخذ بفتوى الأفضل إذا دار الأمر بين المحذورين، كمقام المرافعة والمخاصمة، وبعدم القول بالفصل، بل القول بعدم الفصل، يقال بوجوب الأخذ بفتوى الأعلم مطلقاً، فتأمّل.

ومنها: إنّ قول الأفضل أقرب من غيره جزماً.((1)) وإن شئت قل: احتمال كونه الواقع أقوى من احتمال قول الفاضل.

والجواب عنه: أنّه ممنوع صغروياً وكبروياً. أمّا من حيث الصغرى: فإنّ مجرد كون القائل بقول أفضل من غيره لا يوجب كون احتمال إصابته إلى الواقع أقوى مطلقاً ولو كان قول غير الأفضل مطابقاً للمشهور أو لقول من هو أعلم منهما من الأموات.

وأمّا من حيث الكبرى: فلأنّ ملاك حجّية قول المجتهد شرعاً - ولو على نحو الطريقية - لم يعلم أنّه لقربه إلى الواقع، حتى يحكم عند المعارضة بوجوب الأخذ بقول الأعلم لأنّه أقرب إلى الواقع، بل يمكن أن يكون ملاك حجّيته أمراً آخر لا يتفاوت فيه كونه من الأعلم أو غيره.

وقد يجاب عن ذلك إمّا بمنع أنّ الكلام في تعارض قول الفاضل مع الأفضل بنفسهما لا بملاحظة ما يقارنهما ويوجب تفصيل أحدهما على الآخر، فيمكن أن يقال بعدم وجوب تقليد الأعلم إذا كان قول الأعلم منهما من الأموات موافقاً لغير الأعلم.

وإمّا بمنع الكبرى، بأنّ حجّية قول المجتهد بأيّ ملاك كان هو في قول الأعلم

ص: 312


1- الشریف المرتضی، الذريعة إلی اُصول الشریعة، ج2، ص801، باب الاجتهاد، فصل صفة المفتي والمستفتي؛ العاملي، معالم الدین، ص241.

أكثر أو أقوى، فلا يجوز مع وجود الأقوى الأخذ بالأضعف، مثلاً: إذا كان الملاك غلبة الإصابة فيمكن دعوى كون ذلك أقوى في قول الأعلم بالنسبة إلى غيره. والله هو الهادي.

ص: 313

فصل في اشتراط حياة المفتي

اشارة

إعلم: أنّه لا خلاف بينهم في جواز التقليد عن الحيّ بالنظر إلى نفس هذا الوصف، وإنّما وقع الخلاف بينهم في جواز تقليد الميّت في عرض تقليد الحيّ، فهل يجوز تقليد الميّت مع وجود المجتهد الحيّ؟ هناك صور نبحث عن کلّ منها على حدة.

الاُولى: إذا كان الحيّ والميّت متساويين في العلم متّفقين في الفتوى، فربما يظهر من کلما ت بعضهم((1)) أنّ الحياة شرط في جواز التقليد كالإيمان، فلا يجوز تقليد الميّت وإن كان متساوياً مع الحيّ، بل وإن كان أعلم منه وكانا متّفقين في الفتوى.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا دليل على ذلك، وأنّ ما يدلّ على إجزاء التقليد عن الحيّ يشمل التقليد عن الميّت المساوي له إذا كانا متوافقين في الرأي.

الثانية: إذا كانا متساويين في العلم مختلفين في الرأي، فمقتضى الأصل عدم إجزاء تقليد الميّت، وبقاؤه تحت حرمة العمل بغير العلم، وتعيّن تقليد الحيّ لدوران الأمر بين التعيين والتخيير، فالمتعيّن هو تقليد الحيّ لعدم خلاف في جوازه.

الثالثة: إذا كان الميّت أعلم من الحيّ وكانا مختلفين في الرأي، فلا يخفى أنّ مقتضى

ص: 314


1- راجع: الشهید الثاني، مسالك الأفهام، ج1، ص127، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ العلّامة الحلّي، قواعد الأحكام، ص119، كتاب الجهاد، في المقصد الخامس.

الشكّ في جواز تقليد الميّت واليقين بجواز تقليد الحيّ أيضاً تعيّن تقليد الحيّ، إلّا أنّه يمكن أن يمنع تحقّق اليقين بجواز تقليد الحيّ حينئذ، لمنع تحقّق الإجماع على جواز تقليد الحيّ حتى في هذه الصورة، ولانصراف إطلاق ما يدلّ على وجوب التقليد المدّعي انصرافه إلى الحيّ عن هذه الصورة. فلو لم نقل بوجوب تقليد الميّت الأعلم فلا أقلّ من تردّد الأمر بين تعيّنه، أو التخيير بينه وبين تقليد الحيّ غير الأعلم.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّ من بنى على أنّ الأصل حرمة تقليد الميّت وإن كان أعلم وفتواه مخالفاً للحيّ لبنائه على تحقّق الإجماع على جواز تقليد الحيّ مطلقاً فهو، وإلّا فلو منعنا هذا الإطلاق وقلنا بعدم شمول الإجماع لهذه الصورة، ففي جانب جواز التقليد عن الحيّ غير الأعلم أيضاً مقتضى الأصل حرمة تقليده، فاللازم الخروج عن الأصل بالدليل. والدليل على جواز التقليد عن الميّت الأعلم هو:

إطلاق النقل وشموله لتقليد الميّت كالحيّ على حدّ سواء، المقيّد بما إذا كان الحيّ والميّت متساويين أو الحيّ أفضل من الميّت.

والدليل الثاني: عدم الفرق في حكم العقل بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم بين العالم الحيّ والميّت، سيّما إذا كان الميّت أعلم، لو لم نحكم برجحانه.

والدليل الثالث: الأصل، وهو استصحاب جواز تقليده في حال حياته بعد موته، وهذا يقرّر بوجهين: أحدهما: استصحاب جواز العمل برأيه السابق الّذي كان له في حياته بناءً على انعدام رأيه عند العرف بموته وعدم بقائه.

وثانيهما: استصحاب جواز العمل برأيه الباقي ببقاء نفسه الناطقة بعد موته.

وعلى هذا يكون المخرج من الأصل - الدالّ على حرمة تقليد الميّت ابتداءً إذا كان الميّت أعلم من الحيّ ومخالفاً معه في الرأي - الاُمور الثلاثة:

ص: 315

أحدها: الإطلاق الدالّ على جواز التقليد، المقيّد بالإجماع على عدم جوازه إذا كان الميّت مساوياً للحيّ مخالفاً معه في الفتوى.

وثانيها: عدم الفرق في حكم العقل برجوع الجاهل إلى العالم بين الحيّ والميّت، بل وحكمه برجحان الرجوع إلى الأعلم منهما إذا كانا مختلفين في الرأي. ثالثها: الأصل.

واُجيب عن إطلاق النقل، بمنعه وظهور الروايات في جواز الرجوع إلى الحيّ.

وعن دليل العقل، باستقرار بناء العقلاء على الرجوع إلى الحيّ، ألا ترى أنّك إذا كنت مريضاً ترجع إلى الطبيب الحيّ ولا ترجع إلى كتب الأموات من الأطبّاء.

وعن الأصل، أمّا على التقرير الأوّل، فالجواب عنه: أنّه لابدّ من بقاء الرأي والاعتقاد، ولذا لو زال اعتقاده بجنون أو هرم أو تبدّل الرأي لا يجوز تقليده قطعاً. وبعبارة اُخرى: الإجماع قائم على أنّ، جواز التقليد يدور مدار الرأي الموجود، فلا يكفي مجرّد حدوثه.

وعن التقرير الثاني: فإنّا وإن قلنا ببقاء موضوع الرأي وهو النفس الناطقة وعدم انعدامها بموت الجسد، إلّا أنّه عند العرف تنعدم النفس بموت الجسد، فلا يرى العرف لها بقاءً فضلاً عن رأيه.

بل يمكن أن يقال: إنّ بقاء الرأي على القول ببقاء النفس الناطقة أيضاً ممنوع، فإنّ الرأي إن كان ظنيّ الحصول، كأغلب آراء المجتهدين، فإن كان خلافاً للواقع يرتفع جزماً لكشف خلافه بعد الموت، وإن كان موافقاً للواقع فيزول الظنّ به وينقلب باليقين، فهو مقطوع الارتفاع.

لا يقال: إنّ الفرق بين الظنّ واليقين بالشدّة والضعف.

فإنّه يقال: إنّ الظنّ ضدّ اليقين، فإنّ الظنّ عبارة عن الرجحان المحتمل خلافه، واليقين هو العقيدة الّتي لا تتحمّل احتمال خلافها.

ص: 316

وإن كان الرأي مقطوعاً به فهو مشكوك البقاء، لأنّ بقاءه يدور مدار كونه مطابقاً للواقع وهو مشكوك فيه، مضافاً إلى أنّه لو كان موافقاً للواقع لا وجه للتعبّد ببقائه فلا يجري فيه الاستصحاب، لأنّه التعبد ببقاء ما هو مشكوك البقاء، وعلى تقدير مطابقة الرأي مع الواقع يكون بقاؤه مقطوعاً به لا مشكوكاً فيه.

ويمكن الجواب عمّا ذكر. أمّا عن منع الإطلاق، فلأنّه لا وجه لدعوى انصراف الأدلّة إلى الحيّ وانصرافها عن الميّت، بعد ما نعلم أنّها ليست تأسيسية وأنّ مفادها إمضائية وإرشاد إلى ما يرشد إليه العقل من رجوع الجاهل إلى العالم الّذي ربما يكون ما هو الوجه للرجوع إلى العالم أقوى في الرجوع إلى الميّت من الرجوع إلي الحيّ.

وأمّا المثال بالطبيب والمريض، فقياس مع الفارق، لأنّ المريض العالم بما هي الدواء للداء الفلاني من الطبيب الميّت الأعلم من الحيّ يرجع إلى الطبيب لتشخيص الداء والموضوع، لا لأخذ النسخة والدواء، كما هو واضح.

وأمّا الجواب عن ردّ الأصل - على التقرير الأوّل بزوال الرأي بالهرم والجنون وغيرهما - : عدم صحّة استصحاب جواز التقليد من الرأي الّذي كان له قبل ذلك، فلا يدلّ على عدم جواز استصحابه إذا زال الرأي بموت المجتهد. ولا ملازمة بين زوال الرأي بالهرم والجنون وبين زواله بالموت.

اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّه لا وجه لعدم جواز التقليد من الرأي السابق إذا زال بالهرم أو الجنون إلّا زواله الّذي هو موجود في موته، وحينئذ نمنع تحقّق الإجماع على عدم جواز التقليد من الرأي الزائل بالهرم والجنون أيضاً، كالموت.

وأمّا الجواب عن ردّ الاستصحاب على التقرير الثاني، فيمكن أن يقال: إنّه لا يتفاوت في طريقية الرأي الصادر عن المجتهد إلى الواقع حياته ولا موته، ولا تنعدم هذه الطريقية بموته، بل هو يوجد في الخارج بحدوثه آناً مّا في ذهن المجتهد فهو طريق

ص: 317

إلى الواقع، كان المجتهد حيّاً أو ميّتاً أو ناسياً أو غافلاً منه أو ذاكراً له، لا ينعدم أصلاً. وإن تبدّل إلى آخر فهو موجود في عالم الآراء ينقل ويذكر عنه ويورد عليه ويستدلّ له. غاية ما يقال: إنّ طريقيته، وإن شئت قل حجّيته، تنتفي بتبدل رأيه، ولكن لا تنتفي بنسيانه أو بموت صاحب الرأي، فهو في وعائه الخاصّ طريق إلى الواقع باقية طريقيته لم تزل بعد.

ونتيجة ذلك کلّه: عدم نهوض ما يكون دليلاً على عدم جواز التقليد عن الميّت الأعلم إذا كان رأيه مخالفاً لرأي الحيّ، بل الدليل ناهض على وجوب تقليد الميّت الأعلم.

اللّهمّ إلّا أن يمنع وجوب تقليد الأعلم، سيّما إذا كان الأعلم ميّتاً لاستقرار السيرة على تقليد الحيّ من دون فحص عن فتاوى الأموات.

ولكن غاية ذلك جواز تقليد الحيّ مطلقاً، لا عدم جواز تقليد الميّت مطلقاً وإن كان أعلم من الحيّ. إلّا أن يقال بأنّه بعد ذلك جواز تقليد الميّت مشكوكٌ فيه، لدعواهم الإجماع على عدمه، فيدور الأمر بين تعيّن تقليد الحيّ والتخيير بين تقليده وتقليد الميّت، فالأحوط تقليد الحيّ.

هذا کلّه في التقليد البدوي.

حكم تقليد الميّت استمراراً

وأمّا حكم تقليد الميّت استمراراً، فكما أنّ في التقليد البدوي إذا كان الحيّ والميّت متساويين في العلم ومختلفين في الفتوى يتعيّن تقليد الحيّ، بل وإن كانا متوافقين في الفتوى فلاحتمال كون اعتبار الحياة في المقلد كاعتبار الإيمان، يكون الحكم في التقليد الاستمراري أيضاً كالحكم في البدوي. فإذا كان الميّت الّذي كان مقلّده مساوياً للحيّ

ص: 318

في العلم مختلفاً معه في الفتوى يتعيّن تقليد الحيّ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير. وكذا إن كانا متوافقين في الفتوى.

وإذا كان الحيّ أفضل من الميّت، فالمتعيّن أيضاً تقليد الحيّ على القول بوجوب تقليد الأعلم، بل مطلقاً. وإذا كان بالعكس، ففي التقليد الابتدائي قد مرّ الكلام فيه. وعلى القول بوجوب تقليد الميّت الأعلم الحكم في الاستمراري أيضاً الوجوب. وعلى القول بعدم جواز التقليد البدوي من الميّت مطلقاً يأتي الكلام في الاستمراري، فهل إذا كان الميّت أفضل من الحيّ أو مساوياً له يجوز - بل يجب على فرض كونه أفضل - البقاء على تقليده أو لا يجوز مطلقاً، ولو كان الميّت أفضل؟

يمكن أن يقال: إنّ في صورة تساويهما في الفضل يدور الأمر بين تعيّن العدول إلى الحيّ، أو التخيير بين البقاء والعدول، فمقتضى الأصل تعيّن العدول.

وأمّا إذا كان الميّت أفضل من الحيّ، وقلنا بعدم اشتراط الحياة في المفتي في التقليد الاستمراري، فالواجب البقاء. وإن قلنا باشتراط الحياة مطلقاً، فالواجب العدول إلى الحيّ حتى في فرض أفضلية الميّت من الحيّ. فالكلام يدور مدار اشتراط الحياة في المفتي - في التقليد الاستمراري - وعدمه، ولا يدور الأمر هنا بين التعيين والتخيير، كما يقال في التقليد الابتدائي: إنّ التقليد من الحيّ مجزٍ مطلقاً سواء كان الميّت أفضل من الحيّ أم لا، وإنّما الكلام في إجزاء تقليد الميّت كالحيّ وعدمه، لأنّ الإجماع إن كان على جواز الاكتفاء بتقليد الحيّ مطلقاً، لم يدّع تحقّقه هنا إذا كان الميّت أعلم من الحيّ.

فهذا - أي وجوب العدول إلى الحيّ أو البقاء إذا كان الميّت أفضل - محلّ النزاع، فالأصل في الطرفين عدم الإجزاء وعدم الخروج عن تحت الأصل الأوّلي الّذي مقتضاه حرمة الاكتفاء بكلّ منهما، فاللازم على هذا الرجوع إلى أدلّة الطرفين، فنقول:

إنّ الدليل العقلي على جواز البقاء وعدم جواز العدول يقرّر: بأنّ العقل الّذي

ص: 319

يوجب على العاميّ والجاهل الرجوع إلى العالم - لا يفصل بين حال موته بعد التقليد منه حال حياته، فهل يمنع العقل من العمل بما أخذ المريض من الطبيب حال حياته وعمل به بمجرّد موته؟ وهل يعدل إلى الطبيب الحيّ المفضول؟ بل نقول: لولا الإجماع المدّعى على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً لقلنا به في التقليد الابتدائي أيضاً. فحكم العقل في جواز الاكتفاء بتقليد العالم مطلق يشمل العالم الميّت والحيّ على السواء، وموجب لتقليد الأعلم منهما إذا كانا مختلفين في الرأي، خرج من هذا الحكم التقليد الإبتدائي بالإجماع.

وأمّا النقل، فلا ريب في أنّه إن لم يشمل التقليد الابتدائي يشمل البقاء عليه بعد موت المجتهد، فهل ترى أنّ الّذي أخذ مثلاً بآية النفر وبنى على ما أخذ ممّن تفقّه في الدين لا يجوز له العمل به إن مات هو بعد الأخذ والعمل به، بل وقبل العمل؟ فإطلاق هذه الأدلّة إن لم يشمل التقليد الابتدائي من الميّت يشمل التقليد الاستمراري. فقولنا: «اسأل عن العالم واعمل برأيه» وإن لم يشمل العالم الميّت والرجوع إلى كتابه إلّا أنّه يشمل بالإطلاق جواز استمرار العمل برأيه بعد موته.

وأمّا الأصل، فما هو المشترك للتقليد الابتدائي والاستمراري الاستدلال بما مرّ في تقرير الأصل للتقليد الابتدائي، فإنّه يشمل الاستمراري، وقد مرّ الكلام فيه. وما هو المشترك بين التقليد الاستمراري والابتدائي ما إذا كان المقلّد أدرك زمان المجتهد، فيقال: إنّ هذا كان له الأخذ برأي فلان في حال حياته فيكون له ذلك حال موته، والكلام فيه كما مرّ في سابقه.

والقسم الثالث من تقرير الأصل يختصّ بالتقليد الاستمراري وهو: استصحاب الأحكام الّتي قلّد الحيّ فيها، مثل استصحاب وجوب السورة أو نجاسة الخمر.

واستشكل فيه بأنّه على القول بحجّية قول المجتهد من باب الطريقية ليس حكم

ص: 320

سابقاً حتى يستصحب، وغاية ما هنا تنجّز الواقع بقوله عند المصادفة، وكونه معذوراً عند المخالفة.

وفيه أوّلاً: أنّ قول المجتهد، أي رأيه المحفوظ عنه بعد موته، كما يمكن أن يكون حجّة من باب الطريقية في حياته يمكن جعله حجّة من باب الطريقية بعد موته، فإذا شككنا في بقاء حجّيته نستصحبها.

فإن قلت: إنّ ما هو الموضوع للحجّية هو الرأي الّذي ينتفي بموته عند العرف وهو الّذي تعلّق به اليقين وهو مقطوع الزوال ليس مشكوك البقاء.

قلت: عند العرف لا يزول رأي الشخص بموته، بل يبقى بعده بوجوده الذهني في الأذهان والكتبي في الكتب، فلا يعتبره العرف کلا رأي وكما لم يكن قبل إبدائه، فهو طريق إلى الواقع بعد موت صاحبه كما كان قبله، وهو مثل الأعلام والعلامات المنصوبة لهداية الناس في الطرق والشوارع لا فرق في طريقيته بين حياة ناصبها وموته.

وثانياً: نقول بأنّ هذا يتمّ على القول بأنّ المجعول بالأمارات الحكم التكليفيّ المولويّ الطريقي، فيستصحب الحكم التقليدي الطريقي المولوي مثل الحكم بنجاسة الخمر. وبعبارة اُخرى: رأي المجتهد بنجاسة الخمر من أسباب عروض حكم النجاسة عليه لا من مقوّماته الّتي يدور بقاء الحكم وعدم، مدار بقائه وعدمه، وإن شئت فقل: إنّه من الحيثيات التعليلية لا التقييدية، فإذا ثبت الحكم بنجاسته يستصحب بعد زوال رأيه المفروض زواله عند العرف لا في الواقع.

وقد اُورد على ذلك بأنّ المعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع، فإذا ثبت كون رأي المجتهد بنجاسة الخمر من أسباب عروض الحكم عليه يجري الاستصحاب المذكور، ولكن من المحتمل بل المقطوع به أنّ رأي المجتهد يكون من مقوّمات هذا الحكم فيزول بزواله والفرض أنّه عند العرف يزول الرأي به بموت المجتهد.

ص: 321

وبعبارة اُخرى إذا كان الرأي من أسباب عروض حكم حرمة العصير عليه يكون تبدّل رأي المجتهد أو زوال رأيه بالموت من ارتفاع الحكم عن موضوعه، فإذا شكکنا فيه نحكم ببقائه بالاستصحاب، بخلاف ما إذا كان من مقوّمات الموضوع، فإنّه بزوال الرأي بالموت ينتفي الحكم أيضاً لانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه. وفي المقام ولو لم نقل بكون الرأي من مقوّمات الحكم إلّا أنّه لا يمكن ردّ احتماله، كاحتمال كونه من أسباب عروضه، فلا يصحّ استصحاب الحكم لاعتبار إحراز بقاء الموضوع، أي نجاسة الخمر أو حرمة العصير، مع أنّه مشكوك البقاء.

فتلخص من ذلك کلّه: أنّ احتمال عدم كون الأحكام التقليدية حكماً لموضوعاتها بقول مطلق، واحتمال كونها باقياً ببقاء رأي المجتهد يكفي في عدم صحّة إجراء استصحاب الحكم بعد زوال رأي المجتهد بالموت، فتدبّر.

ويمكن أن يقال: إنّ الظاهر كون رأي المجتهد من أسباب عروض الحكم لا من القيود المقوّمة له واحتمال كونه من القيود خلاف الظاهر.

ص: 322

فصل في تخيير الرجوع إلى أحد المتساويين

إذا كان المجتهدون متّفقين في العلم وفي الرأي، أو مختلفين في العلم متّفقين في الرأي، أو متّفقين في العلم مختلفين في الرأي، فالعامّي مخيّر في التقليد من أحدهم.

وإذا كانوا مختلفين في الفضل والفتوى، فإن كان الأعلم فيما بينهم معيّناً معلوماً يقلّد منه، وإلّا فإن أمكن العمل بالاحتياط بين الفتاوى فهو مخيّر بين الاحتياط، أو الفحص عمّن هو الأعلم من بينهم، فإن اطّلع عليه فهو، وإلّا فيأخذ بأحوط الأقوال إن كان في البين. وإن لم يمكن الاحتياط فالحكم التخيير في تقليد واحد منهم.

وأمّا إذا كان عالماً باختلافهم في الفضل شاكّاً في اختلافهم في الفتوى، فهل يجب عليه الفحص عن الاختلاف ليأخذ بفتوى الأعلم أو لا؟

استدلّ لوجوب الفحص بأنّ مقتضى الأصل وجوب الفحص أو العمل بالاحتياط بتقليد الأعلم، لأنّه يدور الأمر بين كون التقليد من الأعلم متعيّناً أو مخيّراً فيه، فيتعيّن تقليد الأعلم.

واُجيب عنه بانقطاع الأصل بالسيرة في عصر الأئمّة(علیهم السلام) على وجوب الرجوع إلى الأصحاب مع العلم باختلافهم في الفتوى. مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: إنّ فتوى المجتهد سواء كان فاضلاً أو مفضولاً حجّة وطريق بنفسها إلى الواقع، ووجود مجتهد

ص: 323

آخر سواء كان أعلم منه أو مساوياً له لا يزاحمها، وإنّما تزاحمها الفتوى المخالفة لها من مجتهد آخر، فإذا شككنا فيها فمقتضى الأصل عدمها، مثلاً: إذا أفتى المجتهد بنجاسة الخمر وشكّ في وجود الفتوى بطهارته من مجتهد آخر يستصحب عدمها ويؤخذ بالفتوى بالنجاسة.

لا يقال: لابدّ من الفحص كما في باب الأمارات والاُصول الجارية في الشبهات الحكمية، فكما أنّ جواز العمل بها مقصور بصورة الفحص ولا حجّية لها قبل الفحص، ففي المقام أيضاً لا يجوز العمل بالفتوى قبل الفحص عن المعارض معها.

فإنّه يقال: إنّ اشتراط جواز العمل في باب الأمارات بالفحص ليس بنفسها ولمجرّد احتمال وجود أمارة اُخرى على خلافها، بل يكون للعلم الإجمالي بوجود الأمارات المعارضة والأدلّة في موارد الاُصول، بخلاف مخالفة المفضول مع الفاضل فإنّها ممنوعة بالنسبة إلى المسائل المبتلى بها.

وبالجملة: فرق بين العلم الإجمالي الحاصل للمجتهد الّذي يعلم بوجود المعارضات من أوّل الفقه إلى آخره وهو مبتلى بالاجتهاد والاستنباط والإفتاء من أوّله إلى آخره وبين المقلّد الّذي لا يعلم إجمالاً بمخالفة فتوى الأعلم مع غيره، سيّما إذا كان عاملاً بالاحتياط في مظانّ اختلاف الفتاوى. ومع ذلك لا يترك الاحتياط بالفحص.

هذا کلّه فيما إذا كانوا مختلفين في الفضل وشكّ في اختلافهم في الرأي.

وإذا كانوا مختلفين في الرأي وشكّ في اختلافهم في الفضل، فهل يجب الفحص عن مرتبة کلّ منهم بالنسبة إلى غيره أو لا؟ هناك صور:

الاُولى: أن يحتمل أعلمية أحدهم من غيره واحتمل مساواة الغير معه، ولا يحتمل أفضليته عنه.

ففي هذه الصورة لا يجب الفحص ويجزي تقليد محتمل الأعلمية دون غيره، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير على القول بوجوب تقليد الأعلم.

ص: 324

والفرق بين هذه الصورة وصورة العلم بالاختلاف في الفضل وعدم العلم بالخلاف في الرأي: أنّ في صورة عدم العلم بالخلاف في الرأي لا يعلم بوجود المزاحم للفتوى فلا يجب الفحص ويجزي العمل بفتوى المفضول، وفي صورة العلم بالخلاف عالم بوجود ما يزاحم الحجّية فلابدّ إمّا من الفحص أو العمل بالاحتياط.

الصورة الثانية: أن يكون عالماً باختلافهم مع العلم الإجمالي بكون أحدهما أعلم، لكن يشكّ في أنّه زيد أو عمرو. وهذا من دوران الأمر بين الحجّة واللاحجّة كاشتباه الخبر الصحيح بالضعيف، فإنّه عالم بحجّية فتوى الأعلم - على القول بوجوب التقليد منه - وعدم حجّية فتوى المفضول، فمع عدم إمكان تعيين الحجّة من اللاحجّة فلابدّ له من العمل بأحوط القولين إن كان في البين، وإلّا فالعمل بالاحتياط وترك التقليد، وإن لم يمكن الاحتياط فالحكم التخيير.

الصورة الثالثة: الشكّ في أفضلية کلّ واحد من الأطراف عن غيره وعدم إمكان تعيين الأفضل من بينهم بالفحص. ففي مثل هذه أيضاً الحكم هو الأخذ بأحوط الأقوال إن كان في البين، وإلّا فالعمل بالاحتياط، وإن لم يمكن فهو بالتخيير.

وبالجملة: مع العلم بالاختلاف وكون الأعلم مردّداً بين شخصين أو أشخاص - على القول بوجوب تقليد الأعلم - يجب الفحص عنه، فإن لم يتعيّن هو بالفحص فالحكم على ما ذكر.

والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين، ونسأله التوبة وأن يغفر لنا خطايانا وهفواتنا وزلّاتنا وسيّئاتنا، ويجعل عواقب اُمورنا خيراً.

قد تمّ ما رزقنا كتابته في هذا الكتاب في اليوم العاشر من شهر ربيع المولود من العامّ الخامس من العشر الثالث من المأة الخامسة من الألف.

ص: 325

ص: 326

مصادر التحقیق

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، الشریف الرضي، تحقیق وشرح محمد عبده، بیروت، دار المعرفة، 1412ق.

3. الاحتجاج، الطبرسي، أحمد بن عليّ (م. 560ق.)، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386ق.

4. الاختصاص، المفید، محمد بن محمد (م. 413ق.)، بیروت، دار المفید، 1414ق.

5. الإرشاد في معرفة حجج الله علی العباد، المفید، محمد بن محمد (م. 413ق.)، بیروت، دار المفید، 1414ق.

6. أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف، الصافي الگلپایگاني، لطف الله، قم، المطبعة العلمیة، 1397ق.

7. أنوار التنزیل وأسرار التأویل (تفسیر البیضاوي)، البیضاوي، عبد الله بن عمر (م. 685ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1418ق.

8. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار(علیهم السلام)، المجلسي، محمد باقر (م. 1111ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1403ق.

9. بدائع الأفکار فی الاُصول، العراقي، ضیاء الدین (م. 1361ق.)، النجف الأشرف، المطبعة العلمیة، 1370ق.

ص: 327

10. تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.).

11. تفسیر العیّاشي، العیّاشي، محمد بن مسعود (م. 320ق.)، طهران، المکتبة العلمیة الإسلامیة.

12. التفسیر الکبیر (مفاتیح الغیب)، الفخر الرازي، محمد بن عمر (م. 606ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1420ق.

13. تهذیب الأحکام، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1364ش.

14. التوحید، الصدوق، محمد بن عليّ (م.381ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1398ق.

15. جامع أحادیث الشیعة، البروجردي، السّید حسین (م. 1380ق.)، قم، المطبعة العلمیة، 1399ق.

16. الحاشیة علی کفایة الاُصول، الحجّتي البروجردي، بهاء الدین، تقریرات أبحاث السیّد حسین البروجردي، قم، منشورات إسماعیلیان، 1412ق.

17. الخصال، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1403ق.

18. درر الفوائد فی الحاشیة علی الفرائد، الخراساني، محمد کاظم (م. 1329ق.)، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1410ق.

19. دعائم الإسلام، المغربي، قاضي نعمان بن محمد التمیمي (م.363ق.)، القاهرة، دار المعارف، 1383ق.

20. الذریعة إلی اُصول الشریعة، الشریف المرتضی، عليّ بن الحسین (م. 436ق.).

ص: 328

21. الذریعة إلی تصانیف الشیعة، آغا بزرگ الطهراني، محمد محسن (م. 1389ق.)، بیروت، دار الأضواء، 1403ق.

22. ذکری الشیعة في أحکام الشریعة، الشهید الأوّل، محمد بن مکّي العاملي (م. 786ق.).

23. رياض المسائل، الطباطبائي، السّید علي (م.1231ق.).

24. زبدة الاُصول، البهائي العاملي، محمد بن الحسین (م. 1031ق.)، طهران، الطبعة الحجریة، 1319ق.

25. شرح مختصر الاُصول، الإیجي، عبد الرحمن بن أحمد (م. 756ق.).

26. صحیح البخاري، البخاري، محمد بن إسماعیل (م. 256ق.)، بیروت، دار الفکر، 1401ق.

27. صحیح مسلم، المسلم النیسابوري، مسلم بن الحجّاج (م. 261ق.)، بیروت، دار الفکر.

28. العدّة في اُصول الفقه، الطوسي، محمد بن الحسن (م.460ق.)، قم، مطبعة ستارة، 1417ق.

29. علل الشرائع، الصدوق، محمد بن علی (م. 381ق.)، النجف الأشرف، المکتبة الحیدریة، 1385ق.

30. العناوین، الحسیني المراغي، میر عبد الفتاح (م. 1250ق.).

31. عوائد الأیام، النراقي، أحمد بن محمد مهدی (م.1245ق.)، قم، مکتب الإعلام الإسلامي، 1417ق.

32. عوالي اللئالي العزیزیة في الأحادیث الدینیة، ابن أبي جمهور الأحسائي، محمد بن عليّ (م. 880ق.)، قم، مطبعة سيّد الشهداء، 1403ق.

ص: 329

33. غنیة النزوع إلی علمي الاُصول والفروع، ابن زهرة الحلبي، حمزة بن علي (م. 588ق.)، قم، مؤسّسة الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، 1417ق.

34. فرائد الاُصول، الأنصاري، مرتضی (م. 1281ق.)، قم، مجمع الفکر الإسلامي، 1419ق.

35. فرائد السمطین، الحموئي، إبراهیم بن محمد (م. 730ق.).

36. الفصول الغرویة في الاُصول الفقهیة، الأصفهاني، محمد حسین بن عبد الرحیم (م. 1254ق.)، قم، دار إحیاء العلوم الإسلامیة، 1404ق.

37. فوائد الاُصول، الخرساني، محمد کاظم (م. 1329ق.)، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1407ق.

38. فوائد الاُصول، النائیني، محمد حسین (م. 1355ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1376ش.

39. قواعد الأحکام في معرفة الحلال والحرام، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1413ق.

40. قوانین الاصول، القمي، المیرزا أبو القاسم بن الحسن (م. 1231ق.)، طهران، المکتبة العلمیة الإسلامیة، 1378ق.

41. الکافي، الکلیني، محمد بن یعقوب (م. 329ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1363ش.

42. کتاب الصلاة، الأنصاري، مرتضی (م.1281ق.)، قم، الطبعة الحجریة.

43. کشف الغطاء عن مبهمات الشریعة الغرّاء، کاشف الغطاء، جعفر (م. 1228ق.).

ص: 330

44. کفایة الاُصول، الخراساني، محمد کاظم (م. 1329ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

45. مبادئ الوصول إلی علم الاُصول، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، المطبعة العلمیة، 1404ق.

46. مجمع البیان في تفسیر القرآن، الطبرسي، فضل بن الحسن (م.548ق.)، طهران، منشورات ناصر خسرو، 1373ش.

47. مجمع الفائدة والبرهان، الأردبیلي، أحمد بن محمد (م. 993ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

48. المحاسن، البرقي، أحمد بن محمد (م. 274ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1370ش.

49. مدارك الأحکام في شرح شرائع الإسلام، العاملي، السّید محمد بن علي (م. 1009ق.).

50. مسالك الأفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، الشهید الثاني، زین الدین بن عليّ العاملي (م. 965ق.)، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامیة، 1413ق.

51. مستدرك الوسائل، المحدّث النوري، میرزا حسین (م. 1320ق.)، بیروت، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1408ق.

52. مشارق الشموس في شرح الدروس ، الخوانساري، حسین بن محمد (م. 1099ق.)، قم، مؤسسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

53. مطارح الأنظار، الکلانتري الطهراني، أبو القاسم بن محمد (م. 1292ق.)، تقریرات شیخ مرتضی الأنصاري، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1404ق.

ص: 331

54. معارج الاُصول، المحقق الحلّي، جعفر بن حسن (م. 676ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام)، 1403ق.

55. معارج الاُصول، المحقّق الحلّي، جعفر بن حسن (م. 676ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام)، 1403ق.

56. معالم الدین وملاذ المجتهدین، العاملي، حسن بن زین الدین (م. 1011ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

57. ملاحظات الفرید علی فوائد الوحید، الفرید الگلپایگاني، حسن (م. 1366ق.).

58. من لا یحضره الفقیه، الصدوق، محمد بن علي (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404ق.

59. مناهج الأحکام، القمّي، المیرزا أبو القاسم (م. 1231ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1420ق.

60. المناهل، الطباطبائي، السیّد محمد بن علي (م. 1241ق.).

61. نهایة الأفکار، العراقي، ضیاء الدین (م. 1361ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1405ق.

62. نهایة الدرایة في شرح الکفایة، الأصفهاني، محمد حسین بن عبد الرحیم (م. 1254ق.)، بیروت، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1429ق.

63. نهایة المرام في علم الکلام، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، مؤسّسة الإمام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، 1419ق.

64. هدایة المسترشدین في شرح معالم الدین، الأصفهاني، محمد تقي بن عبد الرحیم (م. 1248ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

ص: 332

65. الوافیة في اُصول الفقه، الفاضل التوني، عبد الله بن محمد (م. 1071ق.)، قم، مؤسّسة إسماعیلیان، 1412ق.

66. وسائل الشیعة، الحرّ العاملي، محمد بن الحسن (م. 1104ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1414ق.

67. ينابيع المودّة لذوي القربی، القندوزي، سلیمان بن إبراهیم (م.1294ق.)، دار الأسوة، 1416ق.

ص: 333

ص: 334

فهرس المتحویات

الصورة

ص: 335

الصورة

ص: 336

الصورة

ص: 337

الصورة

ص: 338

الصورة

ص: 339

الصورة

ص: 340

الصورة

ص: 341

ص: 342

آثار سماحة آیة العظمی الصافی الگلپایگانی مد ظله الوارف

الصورة

ص: 343

الصورة

ص: 344

الصورة

ص: 345

الصورة

ص: 346

الصورة

ص: 347

الصورة

ص: 348

الصورة

ص: 349

الصورة

ص: 350

الصورة

ص: 351

الصورة

ص: 352

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.