بیان الاصول المجلد 2

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله ، ‫1298 -

Safi Gulpaygan, Lutfullah

عنوان و نام پديدآور:بیان الاصول/ تالیف لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله العالی.

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله ‫، 1439 ق. ‫= 1396 -

مشخصات ظاهری:3 ‫ج.

شابک: ‫دوره ‫ 978-600-7854-60-0 : ؛ ‫630000 ریال ‫: ج.1 ‫ 978-600-7854-57-0 : ؛ ‫630000 ریال ‫: ج.2 ‫ 978-600-7854-58-7 : ؛ ‫ج.3 ‫ 978-600-7854-59-4 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

يادداشت:ج.2 - 3(چاپ دوم: 1439 ق. = 1396)(فیپا).

يادداشت:کتاب حاضر تقریرات درس آیت الله سیدحسین بروجردی است.

یادداشت:کتابنامه.

یادداشت:نمایه.

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

شناسه افزوده:بروجردی، سیدحسین، ‫1253 - 1340.

رده بندی کنگره: ‫ BP159/8 ‫ /ص26ب9 1396

رده بندی دیویی: ‫ 297/312

شماره کتابشناسی ملی:4942697

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

ص: 3

بیان الاُصول

تألیف المرجع الديني الأعلى آية اللّه العظمى الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگانيمدّظلّه العالی

الجزء الثاني

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد رسله وخير خلقه أبي القاسم محمد وآله الطيّبين المعصومين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين.

وبعد، فهذا هو الجزء الثاني من محاضرات سيّد الأكارم وملاذ الأفاخم واُستاذ الأعاظم محيي رسوم الفقه بمباحثه القيّمة، ومشيّد أركان الاُصول بإفاضاته القويمة، حجّة الإسلام والمسلمين وآية الله العظمى في الأنام فريد عصره ووحيد دهره الحاج آغا حسين الطباطبائي البروجردي متّع الله المسلمين بطول بقائه، في اُصول الفقه، كتبته رجاء أن يجعله الله تعالى ذخراً لآخرتي يوم فقري وفاقتي ولحظات وحدتي ووحشتي، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكّلت وإليه اُنيب.

ص: 5

ص: 6

المقصد السادس في المنجّز للحكم الشرعي شرعاً أو عقلاً

اشارة

وفيه مقدّمة فيها اُمور:

الأمر الأوّل: المراد من «المكلّف» في تقسيم الشيخ

الأمر الثاني: مراتب الحكم

الأمر الثالث: تقسيم حالات المکلّف إلى القطع وغيره ومقامان:

المقام الأوّل: في القطع

المقام الثاني: في الظنّ

ص: 7

ص: 8

وقبل بيان ذلك نقدّم اُموراً:

الأمر الأوّل: المراد من «المكلَّف» في تقسيم الشيخ

قد اُورد على کلام الشيخ(قدس سره) وهو:

«إعلم: أنّ المکلّف إذا التفت إلى حكمٍ شرعيٍ، فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه أو القطع أو الظنّ... إلخ».((1))

بأنّ مراده من المکلّف إن كان المکلّف الشأني، فهو خلاف الظاهر. وإن كان المکلّف الفعلي، فيلزم منه تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره.

ولا يمكن دفعه بالتعبير الّذي ذكره في الكفاية وهو: «إنّ البالغ الّذي وضع عليه القلم...».((2))

لأنّ مراده من «الّذي وضع عليه القلم» إن كان من وضع عليه القلم شأناً، فهو خلاف الظاهر أيضاً. وإن كان فعلاً، فيرد عليه ما ذكر.

والحقّ عدم ورود الإيراد المذكور على العبارة؛ لأنّ المراد بالمكلّف هو المکلّف الفعلي؛ ومن المعلوم أنّ کلّ بالغٍ عاقلٍ يكون مكلّفاً فعلياً باعتبار تعلّق التكاليف

ص: 9


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص2.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص5.

الض_رورية به وفعليّتها في حقّه، ثمّ ينقسم باعتبار غيرها من الأحكام والتكاليف إلى الأقسام المذكورة، ولا يلزم كونه تقسيماً للشيء إلى نفسه وإلى غيره، وهذا بيّن.

والظاهر أنّ مطلق الالتفات لا يكون موجباً للقطع أو الظنّ أو الشكّ؛ فإنّه ربما يلتفت الإنسان إلى الموضوع والحكم والنسبة، وليس له التفات إلى وقوع هذه النسبة حتى يطلب العلم به، فيحصل له علمٌ قطعيٌ أو ظنيٌ به أو يبقى مردّداً بينهما. وبعبارة اُخرى: لا يكون التفاته التفاتاً تصديقياً، فلا يفيد التفاته التصورّي إلّا تصوّر الموضوع والحكم والنسبة.

ص: 10

الأمر الثاني: مراتب الحكم

قد أفاد شيخنا العلّامةرحمه الله: أنّ للحكم مراتب أربع((1))وقسّمه باعتبارها إلى:

الشأني: وهو وجود شأنية الوجود له، واقتضاء وجوده من دون أن يكون بالفعل موجوداً؛ وذلك بأن تكون في الفعل مصلحةٌ مقتضيةٌ للبعث إليه، أو مفسدةٌ مقتضيةٌ للزجر عنه.

والإنشائي: وذلك بأن يكون للحكم وجودٌ إنشائيٌ من دون أن يكون له بعث وزجر وترخيص فعلاً؛ وذلك بأن يكون للمولى مثلاً سجلٌّ يسجّل فيها أحكامه الراجعة إلى عبيده ولكن لم يخاطبهم ولم يصل ما كتب فيه إلى مرتبة البعث والزجر.

والفعلي: وهو كونه متوجّهاً إلى العبد وباعثاً وزاجراً من دون أن يكون منجّزاً بحيث يعاقب عليه.

والمنجّز: وهو وجود ذلك له مع تنجّزه فعلاً.

وقد أفاد أخيراً بأنّ للحكم خمس مراتب:

أوّلها: مرتبة الاقتضاء.

ثانيها: مرتبة الإنشاء.

ص: 11


1- الخراساني، حاشية کتاب فرائد الاُصول، ص36، 314؛ الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص8 .

ثالثها: مرتبة البعث والزجر، ويعبّر عنه في هذه المرتبة بالحكم الفعلي ما قبل التنجّز.

رابعها: مرتبة الفعلية، وهي مرتبة علم المکلّف بالحكم، ويعبّر عنه في هذه المرتبة بالحكم الفعلي مع التنجّز.

خامسها: مرتبة التنجّز.

هذا، ولكن لنا أن نقول: إنّ الاختلاف في المرتبة إنّما يتصوّر في الحقائق المختلفة في الشدّة والضعف وغيرهما. وبعبارة اُخرى: فيما هو مقولٌ بالتشكيك، وتكون الحقيقة في جميع المراتب محفوظةً. وأمّا إذا لم تكن الحقيقة في جميع المراتب محفوظةً بل كان کلّ منها حقيقةً خاصّةً، لا يصحّ عدّها من مراتب شيءٍ واحدٍ.

فعلى هذا، وجود المصلحة في الفعل أو المفسدة، بحيث تكون له شأنية ترتّب الحكم عليه، ليس من مراتب الحكم والتكليف.

كما أنّ الإنشاء أيضاً ليس من مراتبه؛ فإنّ الحكم عبارة عن البعث والزجر وهما مفاد قولنا: «إفعل» و«لا تفعل»، ومن الواضح أنّ الحكم الإنشائي _ بمعنى تسجيله في السجلّ كما أفاده _ ليس من مراتب الحكم والتكليف، لعدم تحقّق حقيقة الحكم وهو البعث والزجر فيه.

وأمّا التنجّز، فهو أيضاً ليس من مراتب الحكم، بل يحصل من تقارن الحكم مع أمر خارج عن حقيقته، وهو وصوله إلى المکلّف.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّ الحكم، أي الأمر والنهي، إنّما يقال على إنشائهما لانبعاث المکلّف نحو الفعل وإيجابه لبعثه وتحريكه إليه أو لزجره عنه. ولكن لا

يترتّب عليه انبعاث العبد أو انزجاره عن الفعل الّذي هو روح الحكم إلّا في صورة علم العبد به. فعلى هذا، تكون للحكم مرتبتان:

أوّلهما: مرتبة الإنشاء، وهي عبارة عن: إنشاء الحكم لينبعث العبد ويتحّرك نحو

ص: 12

الفعل، أو ينزجر عنه. وبعبارة اُخرى: هذه المرتبة عبارة عن: إنشاء ما يصلح لأن يكون داعياً للعبد أو زاجراً له بعد علمه به.

لا نقول: إنّ إنشاءه وبعثه وزجره متوجّهٌ إلى من يعلم به، بل إنّما ينشأ أمره ونهيه مطلقاً، وهو لا يصلح إلّا لانبعاث من علم به.

ثانيتهما: مرتبة الفعلية وترتّب الانبعاث عليه، وهي فيما إذا حصل العلم به للمكلّف وهو الحكم الإنشائي الفعلي.

لا يقال: لا حاجة لترتّب الانبعاث على الحكم إلى علم المکلّف به، بل يكفي في ذلك احتمال وجود الأمر.

فإنّه يقال: ليس الانبعاث على هذا أثراً للحكم ومترتّباً عليه، بل هو مترتّب على احتمال وجود الأمر، وهو حاصلٌ ولو لم يكن أمرٌ واقعاً، فلابدّ لوصول الحكم إلى مرتبة الفعلية من علم العبد به. وليس معناه أنّ الحكم مقيّدٌ بالعلم؛ لأنّه مستلزم للدور، بل المراد أنّ المولى لا يريد انبعاث العبد بالحكم الّذي أنشأه مطلقاً بل إذا كان عالماً به.

نعم، لا مانع من إيجاب المولى _ لحفظ المصلحة الكامنة في المأمور به، أو عدم وقوع العبد في مفسدة الفعل المنهيّ عنه استصلاحاً لحال العبد _ الاحتياط عليه فيما إذا احتمل وجود الأمر أو النهي حتى ينبعث نحو الفعل المأمور به أو ينزجر عن الفعل المنهيّ عنه، أو يعيّن له طريقاً وأمارةً على الحكم لينبعث نحوه، كأن يقول: إذا قام خبر الواحد أو الشهرة على وجوب فعلٍ أو حرمته إعمل به. وإذا كنت متيقّناً في حكمٍ ثم شككت فيه فابن على بقائه. ويعبّر عن هذه الأحكام بالأحكام الظاهرية الطريقية الّتي ليست لها مصلحة إلّا مصلحة حفظ الأحكام الواقعيّة، وليس لها استقلالٌ ونفسيةٌ كالأحكام الواقعية.

ص: 13

ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده الشيخرحمه الله _ ولعلّه المرضيّ عند المحقّق الخراساني في مبحث الظنّ _ من القول بأنّ حجّية الطرق والأمارات إمّا أن تكون من باب الطريقية أو من باب الموضوعية. ليس في محلّه؛ لأنّ مثل هذه الأحكام الّتي ليست لها نفسيّةٌ ومصلحةٌ إلّا بملاحظة الأحكام الواقعية لا يتصوّر فيها موضوعيةٌ ومصلحةٌ حتى يصحّ هذا التقسيم.

ص: 14

الأمر الثالث: تقسيم حالات المکلّف إلى القطع وغيره

اشارة

قد ظهر لك ممّا ذكر: أنّ ما هو المشهور من أنّ الحكم الظاهري هو الحكم الّذي يكون موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي.

ليس في محلّه؛ لأنّه يلزم منه إمكان أن تكون للحكم الظاهري نفسية واستقلال، وأن لا تكون رعاية للحكم الواقعي، وهو خلاف التحقيق. مع أنّ جعل الحكم الظاهري لا يكاد يصحّ إلّا في مورد يكون الخطاب المتكفّل للحكم الواقعي قاصراً عن بعث المکلّف أو زجره، فلا يكون الشكّ موضوعاً للحكم الظاهري إلّا إذا كان لازماً لشأنية الحكم الواقعي وقصوره عن البعث والزجر من جهة عدم علم العبد به.

ففي الحقيقة: يكون موضوع الحكم الظاهري شأنية الحكم الواقعي وقصوره في إيجابه لانبعاث العبد، وهذا وإن كان ملازماً للشكّ في الحكم الواقعي لعدم قصور الخطاب إلّا في صورة الشكّ في الحكم الواقعي دون صورة العلم به _ كما مرّ _ ولكن موضوع الحكم الظاهري ليس إلّا شأنيّة الحكم الواقعي.

وبعبارة اُخرى: الشكّ في الحكم الواقعي لازمٌ أعمّ لشأنية الحكم وقصور الخطاب. فربما نشكّ في الحكم الواقعي وهو موجود شأناً، وربما نشكّ فيه من غير أن يكون حكم في البين أصلاً، وقصور الخطاب إنّما يكون في الصورة الاُولى، وهو الموضوع للحكم الظاهري لهذه الصورة دون الثانية.

ص: 15

وكيف كان إذا عرفت ذلك کلّه، فاعلم: أنّ الشيخ رحمه الله أفاد في أوّل الرسالة بأنّ المکلّف إذا التفت إلى حكمٍ شرعيٍ، فإمّا أن يحصل له القطع أو الشكّ أو الظنّ.((1)) وبيّن حكم القطع في المقصد الأوّل. وأشار إلى حكم الشكّ هنا، وذكره مفصّلاً في المقصد الثالث. ولم يتعرّض في هذا المقام لحكم الظنّ وذكره في المقصد الثاني مفصّلاً.

وقد أشكل المحقّق الخراساني قدس سره على تثليثه الأقسام بتداخل الظن والشك بحسب الحكم.

أمّا دخول الشكّ في الظنّ، كما إذا اعتبر مثلاً خبر من لم يتحرّز عن الكذب غالباً من جهة حكايته، فلا يبقى معه مجالٌ للرجوع إلى الأصل أصلاً.

وأمّا دخول الظنّ في الشكّ، كما في صورة حصول الظنّ الّذي لا يساعد على اعتباره دليلٌ، فيلحقه ما للشكّ من الرجوع في مورده إلى الاُصول.

ولهذا عدل عنه وقال في الكفاية: «إنّ البالغ الّذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكمٍ فعليّ واقعيٍّ أو ظاهريٍّ متعلّقٍ به أو بمقلّديه فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا... إلخ».((2))

وعبر بالحكم الفعلي لإخراج ما ليس بفعليٍّ كالحكم الاقتضائي أو الإنشائي. وبالواقعيّ والظاهريّ لتقريب المسافة وتمهيداً لتثنية الأقسام.

ثم قال: «وإن أبيت إلّا عن ذلك، فالأولى أن يقال: إنّ المکلّف إمّا أن يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني إمّا أن يقوم عنده طريقٌ معتبرٌ أو لا».((3))

هذا، مضافاً إلى أنّ لازم ما أفاده الشيخ(قدس سره) كون التقسيم خماسياً، فإنّ في صورة

ص: 16


1- تقدّم تخريجه آنفاً.
2- (2) الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص5.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج2، ص5.

الظنّ إمّا أن يقوم عنده دليلٌ على اعتباره أو لا، فيرجع حكمه إلى حكم الشكّ، وفي صورة الشكّ إمّا أن يكون شكّه من الشكوك الّتي في مورده حكم للشارع أو لا؟

وقد أجاب بعضهم عن هذا الإشكال بأنّ تثليث الأقسام إنّما هو باعتبار الحالات النفسانية واختلافها من حيث المنجزّية؛ فإنّ القطع منجّزٌ صرفٌ، والشكّ غير منجّز صرفٍ، والظنّ لا منجّز ولا غير منجّز، أي: هو برزخٌ بينهما.

وفيه أوّلاً: أنّه يأتي فيما بعد إن شاء الله إمكان عدم كون القطع منجّزاً في بعض الموارد.

وثانياً: أنّ اتّصاف الظنّ باللامنجزية والمنجزية وكونه برزخاً في ذلك بين القطع والشكّ محلّ إنكارٍ؛ فإنّ الظنّ لو قام على اعتباره دليل يكون منجّزاً كالقطع، وإلّا فليس بمنجّزٍ ويكون حاله حال الشكّ.

أمّا الشكّ فهو أيضاً يمكن أن يكون منجّزاً كالقطع، كما في صورة احتمال أن يكون الغريق ابن المولى، فإنّ نفس هذا الاحتمال يكون منجّزاً أي موجباً لاستحقاق العقاب لو لم يعتنِ العبد به واتّفق كونه ابن المولى. ومثل احتمال صدق مدّعي النبوّة، فإنّ مجرّده منجّز وموجب لاستحقاق العقاب لتركه تصديق النبيّ لو اتّفق صدق مدّعيها. ومثل احتمال بقاء الحالة السابقة، فإنّه يكون منجّزاً لاستحقاق العقاب على ترك التكليف بحكم الشارع.

ولا نقول: إنّ الاحتمال كاشف عن الواقع، بل نقول: إنّ الشكّ في مثل هذه الموارد منجّز للواقع عقلاً أو شرعاً.

هذا، ولكن يمكن الإشكال على ما أفاده في الكفاية: بأنّ الحكم المتعلّق للقطع لابدّ وأن يكون صالحاً للتنجّز واستحقاق العقوبة على مخالفته؛ والحكم الظاهريّ ليس صالحاً له _ كما أفاد أخيراً في مجلس بحثه بأنّه ليس في موارد الطرق والأمارات حكمٌ وجوبيٌ متعلّقٌ بالعمل بها، بل ليس مفادها إلّا جعل الحجّية والمنجزّية. ولو كان

ص: 17

المجعول حكماً وجوبياً فهو طريقيٌ صرفٌ لا مجال لتنجّزه واستحقاق العقوبة على مخالفته بنفسه _ .

فلا يستقيم هذا التقسيم (الثنائي) بحسب الظاهر، لأنّه إنّما يكون باعتبار منجّزية القطع، مع أنّ الحكم الظاهريّ المقطوع به لا يتنجزّ بسبب القطع، وليس فيه صلاحية التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفته بنفسه.

وأمّا بيانه الآخر وهو تثليث الأقسام، فلا إشكال فيه.

وإن شئت تثنية الأقسام فقل: إنّ المکلّف إذا التفت (بالمعنى الّذي ذكرنا للالتفات) إلى حكمٍ شرعيٍّ إنشائيٍّ، فإمّا أن يكون للحكم منجّزٌ في البين أو لا، وعلى الأوّل فسيأتي الكلام في كونه موجباً لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف، وأنّه لا معنى لتنجّز الحكم إلّا استحقاق العقاب على مخالفته، وعلى الثاني المرجع هو البراءة .

ويدخل _ على هذا البيان _ في المنجِّز: القطع والأمارات المعتبرة والاحتمال والاستصحاب، فإنّه حكمٌ ظاهريٌ منجّز للتكليف الّذي احتمله العبد في ظرف وجود الحالة السابقة.

ويدخل في القطع: الاشتغال والتخيير، لوجود العلم بالتكليف الّذي يكون منجّزاً له في موردهما.

ولتوضيح المقام نقول: إنّ المکلّف إمّا أن يتعلّق قطعه بحكمٍ تفصيلاً أو إجمالاً،

سواءٌ كان إجماله من جهة نوع التكليف مع العلم بأصله، كالعلم بأنّ هذا الفعل إمّا واجبٌ وإمّا حرامٌ، أم كان من جهة تردّده بين شيئين أو أشياء مع معلومية نوع التكليف. وعلى کلّ حالٍ فإمّا أن يمكن فيه الموافقة القطعية والمخالفة القطعية والموافقة الاحتمالية.

وإمّا أن لا يمكن الموافقة القطعية ويمكن الموافقة الاحتمالية والمخالفة القطعية.

وإمّا أن لا يمكن إلّا الموافقة الاحتمالية.

ص: 18

ففي الفرض الأوّل، _ أي فرض إمكان الموافقة القطعية والمخالفة القطعية _ يكون تعلّق العلم بالتكليف المردّد بينهما موجباً لتنجّزه واستحقاق العقوبة على مخالفته، فلو ترك المکلّف أحد المشتبهين واتّفق مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال لكونه في الطرف الّذي تركه فإنّه يستحقّ العقوبة على المخالفة ويكون كمن ترك کلّ واحد من المشتبهين.

واستحقاق العقوبة إنّما يكون على مخالفة هذا التكليف الّذي تعلّق به العلم لا غيره. فلو فرض كون کلّ واحدٍ من المشتبهين متعلّقاً للحكم رأساً ولكنّ القطع تعلّق بأحدهما إجمالاً ولم يأت المکلّف إلّا بأحد المشتبهين فاتّفق وقوعه في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال استحقّ العقوبة عليه، وإن أتى بالتكليف الّذي لم يتعلّق به علمه بإتيانه بالطرف الآخر، وكذا لو لم يأت في هذا الفرض بأحد منهما لم يعاقب إلّا على مخالفة تكليفٍ واحدٍ، وهو التكليف المعلوم بالإجمال دون المجهول .

فعلى هذا، تكون أصالة الاشتغال ووجوب الاحتياط _ فيما أمكنت فيه الموافقة القطعية والمخالفة القطعية _ منجّزة للتكليف من جهة تعلّق القطع بالحكم المردّد بينهما وسببيته لتنجّز الحكم. وبعبارة اُخرى: وجود المنجّز _ وهو العلم _ يكون سبباً لتنجّز التكليف المعلوم بالإجمال ، ولازمه وجوب الاحتياط.

وأمّا الفرض الثاني، وهو ما أمكنت فيه المخالفة القطعية والموافقة الاحتمالية دون القطعية، كما لو تردّد الوجوب بين صلاة الجمعة والظهر مع فرض عدم قدرته إلّا على الإتيان بإحداهما، فلو ترك کلّ واحدة منهما واتّفق مصادفة قطعه مع الواقع استحقّ العقوبة على المخالفة لتنجّز التكليف المعلوم بالإجمال بهذا النحو من التنجيز الّذي مقتضاه لزوم الإتيان بحكم العقل بإحداهما مع كونه مخيّراً في الإتيان بأيّهما شاء إذا كان احتماله في وجود التكليف المعلوم بالإجمال بالنسبة إلى کلا الطرفين على السواء. وأمّا إذا كان احتمال التكليف في أحد الطرفين أقوى وأرجح من الآخر فيدور الأمر بين

ص: 19

التعيين والتخيير والعقل يحكم بلزوم الإتيان بالطرف المظنون مصادفته للواقع، فيصير ظنّه هذا موجباً لتنجز الواقع لو كان في الطرف المظنون، فيستحق العقوبة على المخالفة لو أتى بالطرف المرجوح دون الراجح.

وأمّا الفرض الثالث _ وهو عدم إمكان الموافقة القطعية والمخالفة القطعية _ فلو كان احتمال مصادفة التكليف في أحد الطرفين أقوى من الآخر فالكلام هو ما ذكر في الفرض الثاني.

ولو كان احتمالها في کلّ واحدٍ منهما على السواء فالعقل يحكم بتخيير المکلّف بين ارتكاب الطرفين لكن لا بنحو الإلزام واللزوم كما كان في التخيير المذكور في الفرض الثاني لإمكان المخالفة القطعية فيه، فكان المکلّف ملزماً بحكم العقل باختيار أحدهما، وأمّا في هذا الفرض فلا مجال لإلزام العقل لدوران أمر المکلّف مدار الفعل والترك فلا يحكم العقل إلّا بعدم استحقاق العقاب عند

مخالفة التكليف، ففي الحقيقة حكم العقل إنّما هو البراءة عن العقاب وقبح التوبيخ والعتاب. ولهذا قلنا: إن لم يكن منجّز في البين يكون المرجع هو البراءة ولم نذكر التخيير.

وقد ظهر ممّا ذكرناه إشكالٌ آخر على عبارة الرسائل في قوله: «فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية الثابتة للشاكّ»،((1)) فإنّ هذه القواعد _ غير الاستصحاب الّذي هو حكمٌ ظاهريٌ منجّز شرعاً للحكم ال_شرعي _ ليست إلّا من القواعد العقلية؛ إذ الاشتغال والتخيير من أحكام العقل والبراءة أيضاً كذلك، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك کلّه، فاعلم: أنّ الكلام يقع في مقامين.

ص: 20


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص2.

المقام الأوّل: في القطع

اشارة

والكلام فيه يقع طيّ اُمورٍ:

الأمر الأوّل: اُصولية مبحث القطع

قد ذكر في أوّل الكتاب عند البحث عن المراد من موضوع العلم _ الّذي يكون تمام الملاك لامتياز العلوم بعضها عن بعضٍ _ ، وعن موضوع علم الاُصول ما يظهر منه دخول البحث عن حجّية القطع ومنجّزيته في مباحث هذا العلم.

وقد بيّنا هناك أنّ موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه، فكلّ ما كان سبباً لاحتجاج المولى على عبده وحجّةً له عليه لو خالفه وعصاه، أو كان حجّة للعبد عند المولى فيما لو وقع في مخالفته، يكون البحث عنه داخلاً في هذا العلم ومن مسائله؛ لأنّ المراد من العوارض الذاتية الّتي يجب أن يبحث عنها في العلم ليس ما اصطلح عليه الطبيعيون وقسّموه إلى المقولات التسع وقابلوه بالجوهر، بل المراد منها _ كما صرّح به شارح المطالع((1)) وغيره، ويظهر من تتبّع مسائل العلوم _ ما اصطلح عليه المنطقيّون

ص: 21


1- قطب الدین الرازي، شرح المطالع، ص 18؛ وغيره في شرح الشمسية (قطب الدین الرازي، ص23؛ وشرح المنظومة، قسم المنطق (السبزواري، ص29).

وقسّموه إلى الخاصّة والعرض العامّ ، وقابلوه بالذاتي المنقسم إلى النوع والجنس والفصل، وهو الخارج المحمول، أي الكلي الخارج عن الش_يء مفهوماً المتّحد معه وجوداً. فعلى هذا، يكون القطع من المسائل الاُصولية؛ لأنّه حجّة للمولى على العبد لو خالفه. ويكون مغايراً للحجّة في الفقه مفهوماً ومتّحداً معها وجوداً، فنقول: القطع حجّة. وهكذا الكلام في الشهرة وخبر الواحد وغيرهما، كما تقول: الشهرة حجّة وخبر الواحد حجّة.

فلا وجه للقول بكون البحث عن القطع أشبه بالمسائل الكلامية؛((1)) لأنّه لو كانت من جهة أنّ النزاع واقعٌ في صحّة معاقبة القاطع وحسن عقابه في صورة المخالفة ليرجع البحث فيه عمّا يصحّ صدوره من الله تعالى وما يمتنع.

ففيه: أنّ المبحوث عنه في علم الكلام إنّما هو جواز صدور الفعل القبيح وعدمه من الله تعالى، فجوّزه الأشعري لإنكاره الحسن والقبح العقليين وأنّ الحَسَن ما صدر منه والقبيح ما لم يصدر منه، وأنكره العدلية، ولا يبحث في علم الكلام عن مصاديق ذلك وخصوصياته.

وإن كانت أشبهيته بالمسائل الكلامية من جهة رجوعه إلى أنّ العمل بالقطع هل يوجب الثواب؟ أو أنّ مخالفته هل توجب العقاب في الآخرة أو لا؟ ليرجع إلى المباحث المتعلّقة بالمعاد.

ففيه: أنّ المبحوث عنه في المعاد أيضاً ليس إلّا أصل المعاد والجزاء والثواب والعقاب، ولا يبحث فيه عن فعلية العذاب بالنسبة إلى المعاصي. ولا مجال للبحث عنه؛ لأنّ فعلية الجزاء ليست ممّا يمكن الاطّلاع عليها بخصوصيّاتها.

ص: 22


1- قاله في الكفاية (الخراساني، ج2، ص4- 5).

إن قلت: كيف يكون القطع من مسائل علم الاُصول مع عدم ذكره في كتب القدماء؟

قلت: عدم ذكره في كتب القدماء إنّما هو من جهة عدم انقداح شبهةٍ في منجّزية العلم عندهم، وإنّما ذكره المتأخّرون حيث أنكر بعض الأخباريين حجّيته إذا كان مأخوذاً من الأدلّة العقلية.

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكر أنّه لا تفاوت في إطلاق الحجّة على القطع وعلى سائر المنجّزات كالأمارات المعتبرة الشرعية؛ لأنّ إطلاق الحجّة على کلّ منهما إنّما هو من جهة كونه حجّة وسبباً لتنجّز الحكم الواقعي، ولا فرق في ذلك بين القطع وغيره.

فلا وجه لأن يقال بأنّ إطلاق الحجّة عليه ليس كإطلاق الحجّة على الأمارات المعتبرة شرعاً؛ لأنّ الحجّة عبارة عن الأوسط الّذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر كالتغيّر لإثبات حدوث العالم، فقولنا: «الظنّ حجّة» أو «البيّنة حجّة» أو «فتوى المفتي حجّة» يراد به كون هذه الاُمور وسائط لإثبات أحكام متعلّقاتها.((1))

لأنّه يقال: مضافاً إلى أنّ الحجّة في اصطلاح المنطقيّين عبارة عمّا هو المرکّب من القضيتين.

لو سلّمنا كونها عبارةً عن الوسط الّذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر اصطلاحاً خاصّاً للاُصوليّين لا تكاد تتمّ به حجّية الأمارات وصحّة إطلاقها عليها؛ لأنّ إطلاق الحجّة على خبر الواحد أو البيّنة وغيرهما ليس من جهة كونها وسائط لإثبات أحكام متعلقاتها، فإنّ المراد بقولنا: «خبر الواحد حجّة» أو «فتوى المفتي حجّة» ليس كونه حجّةً على الحكم الظاهري الّذي يستفاد من دليل حجّيته ويقع وسطاً للقياس في قولنا: «هذا ما أخبر العادل بوجوبه، وكلّ ما أخبر العادل بوجوبه واجبٌ فهذا واجب» أو «هذا مظنون الوجوب، وكلّ مظنون الوجوب واجبٌ فهذا

ص: 23


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص2.

واجبٌ»، بل المراد كون خبر الواحد أو الظنّ أو غيرهما حجّة على الحكم الش_رعي الواقعي وسبباً لتنجّزه واستحقاق العقوبة على مخالفته لو صادف الواقع، وفي القياس المذكور جعل ما أخبر به العادل وسطاً لإثبات الحكم الظاهري وهو وجوب کلّ ما أخبر به العدل، فتدبّر.

الأمر الثاني: معنى حجّية القطع

لا ريب في حكم العقل بوجوب متابعة القطع، ومعناه: حكمه بتنجّز التكليف المقطوع به في صورة الإصابة واستحقاق العقوبة على المخالفة. ولا فرق في ذلك، أي حكم العقل بوجوب متابعته وتنجّز التكليف به، بين القاطع وغيره.

ولكن يظهر من الشيخ(قدس سره) أنّ وجوب متابعته عبارةٌ عن أنّ القاطع يرى وجوب الإتيان بما لو أتى به لكان إتيانه به متابعةً للقطع بالحمل الشائع الصناعي. وبعبارة اُخرى: لا يكون وجوب متابعته إلّا حكماً شرعياً بمعنى أنّ القاطع يرى وجوب الإتيان بمقطوع الوجوب، وحرمة الإتيان بمقطوع الحرمة. وقد علّل ذلك بأنّ القطع بنفسه طريقٌ إلى الواقع.((1))

وفيه: أنّ هذا غنيٌّ عن البيان، فإنّه لا مجال لإنكار أنّ القاطع بوجوب شيءٍ قاطعٌ بوجوب هذا الشيء، وأنّ من يرى وجوب شيءٍ شرعاً يرى وجوبه شرعاً.

وأمّا تعليله بأنّ القطع بنفسه طريقٌ إلى الواقع، فمن قبيل تعليل الشيء بنفسه؛ فإنّ معناه أنّ القاطع يرى وجوب ما قطع بوجوبه شرعاً لأنّه قاطعٌ به، ويرى وجوبه كذلك.

هذا، وإنّما لم نقل بكون القطع عذراً فيما أخطأ قصوراً؟ وإن أفاد في الكفاية كونه

ص: 24


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص2.

هكذا؛((1)) لأنّ ما يوجب العذر للمكلّف في مقام احتجاج المولى عليه إنّما هو عدم انكشاف التكليف لا القطع بضدّه.

وأمّا أنّ تأثير القطع في تنجّز الحكم ليس بجعل جاعل لعدم جعلٍ تأليفيٍّ حقيقةً بين الشيء ونفسه، فلا يحتاج إلى بيان. ومع ذلك فالأحسن عدم التعبير عن هذا بما عبّر عنه في الكفاية بقوله: «لعدم جعلٍ تأليفيٍّ حقيقةً بين الش_يء ولوازمه بل عرضاً يتبع جعله بسيطاً»،((2)) فإنّه لو قال: بين ال_شيء ونفسه لكان أولى؛ إلّا أن يراد باللوازم اللوازم غير المتأخّرة عن الذات، وأمّا اللوازم المتأخّرة فلا مانع من تعلّق الجعل التأليفي بها، كما لا يخفى.

الأمر الثالث: قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقي

لا يخفى: أنّه لا دخل للقطع _ الّذي قلنا بأنّه منجّز للواقع _ في تحصّل الواقع المقطوع به، وذلك غير خفيٍّ؛ لأنّه طريقٌ إلى الواقع وانكشافه، ولا يمكن أن يكون الطريق سبباً لتحصّل ذي الطريق.

نعم، لا مانع من تحصّل حكم آخر وتحقّقه بواسطة هذا القطع، كما إذا قال: إذا قطعت بوجوب الصلاة فتصدّق. وهذا تارةً: يكون تمام الموضوع للحكم. واُخرى: يكون جزء الموضوع بأن يكون الموضوع مركّباً من وجوب الصلاة والقطع به في المثال.

فظهر من ذلك عدم إمكان أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور، وكذا في موضوع مثله ، كما لو فرضنا تعلّق الحرمة بالخمر الواقعي وتعلّق حرمة اُخرى به إذا كان مقطوع الخمرية، كقولنا: مقطوع الخمرية حرام؛ للزوم اجتماع المثلين

ص: 25


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص8 .
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج2، ص8.

بناءً على أن يكون لازم تعلّق الحكم بش_يءٍ عروض عرضٍ عليه واتّصافه بذلك كما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله، فيلزم من أخذ القطع في موضوع مثل هذا الحكم اجتماع المثلين في موضوعٍ واحدٍ. وأمّا بناءً على ما اخترناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من عدم كون الموضوع معروضاً للحكم بمعنى عدم كون الحكم عرضاً من الأعراض، فلا مانع من أخذه في موضوع مثل هذا الحكم، فراجع.((1))

ثم إنّه قد ذكر الشيخ رحمه الله قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقي،((2)) ومراده تنجّز الواقع بها؛ لأنّ الشارع إنّما اعتبر الأمارات وكذا الاُصول المحرزة لحفظ مصلحة الواقع ، وعدم وقوع المکلّف في مفسدة الحرام الواقعي ، فالحكم يتنجّز بها كما يتنجّز بالقطع.

نعم، لو قلنا في باب الأمارات بالسببية والموضوعية وأنّ قيام الأمارة مثلاً على وجوب فعلٍ سببٌ لوجوبه ، لا مجال للقول بقيام الأمارة مقام القطع؛ لأنّ الحكم الّذي يثبت بسبب قيام الأمارة على هذا المبنى حكمٌ واقعيٌ موضوعه قيام الأمارة على وجوب هذا الفعل مثلاً، بخلاف ما هو المختار من كون الأمارة حجّة من باب الطريقية.

وليعلم: أنّ المراد من اعتبار الأمارة إنّما هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فمعنى قوله: «صدّق العادل» أو «اعمل بالبيّنة» هو وجوب البناء على أنّ ما أخبر به العادل واقعٌ، وترتيب آثار الواقع عليه. فلو قامت البيّنة على موضوعٍ ذي حكمٍ مثل: «إنّ هذا المائع خمرٌ» فمعنى اعتبارها ترتيب آثار الخمرية عليه، ومن جملتها حرمته ووجوب الاجتناب عنه. ولو قامت على حكمٍ شرعيٍّ، فمعنى اعتبارها إلغاء احتمال خلافه، والبناء على أنّه حكمٌ شرعي.

ص: 26


1- الصفحة 333-334 من المجلّد الأوّل.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص3 - 4.

لكن يجب أن يكون الشيء الّذي قامت الأمارة عليه محتمل الوجود والعدم، وإلّا فلو كان مقطوع الوجود أو العدم فلا مجال لاعتبار الأمارة إذا قامت على أحد الطرفين.

وفي الجملة: معنى اعتبار الأمارة ليس إلّا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وإلغاء احتمال خلافه، وهو لا يكون إلّا في موردٍ شكّ فيه وتطرّق إليه احتمال کلّ من الوجود والعدم، وأمّا إذا قطعنا بوجود شيءٍ أو عدمه _ حكماً كان أم موضوعاً _ فلا مجال فيه للقول باعتبار الأمارة وتنزيل مؤدّاها منزلة الواقع.

وإذا عرفت ذلك تعرف أنّ معنى قيام الأمارة مقام القطع الطريقي ليس إلّا كونها سبباً لتنجّز التكليف الواقعي، فكما أنّ في صورة القطع بشيءٍ _ حكماً كان أم موضوعاً _ يتنجّز الواقع بسببه ويستحقّ القاطع العقوبة على تركه لو صادف قطعه الواقع، فكذلك في قيام الأمارة على حكمٍ أو موضوعٍ ذي حكمٍ شكّ فيه يتنجّز التكليف بسببها أيضاً، ويستحقّ العقوبة على مخالفته لو صادفت الواقع، وفي صورة عدم المصادفة وترك العمل على مقتض_ى الأمارة فيكون متجرّياً كالقاطع.

وأنّه لا يمكن قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي؛ لأنّه إذا كان لمقطوع الخمرية بما أنّه مقطوع الخمرية حكم فلا يثبت هذا الحكم لما قامت الأمارة على كونه خمراً، لتفرّع الحكم على وجود الموضوع وهو في المقام معلوم الانتفاء، للعلم بعدم وجود مقطوع الخمرية، فالموضوع _ وهو مقطوع الخمرية _ معلوم العدم، وما قامت الأمارة عليه _ وهو هذا المائع _ ليس موضوعاً.

وممّا ذكرنا ظهر صحّة کلام الشيخ(قدس سره) وما أفاده أوّلاً بقوله: «ثم من خواصّ القطع الّذي هو طريقٌ إلى الواقع قيام الأمارات الشرعية والاُصول مقامه في العمل».((1))

ص: 27


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص3 - 4.

فإنّ قيام الطرق والأمارات والاُصول مقام القطع _ كما أفاد _ من خواصّ القطع الطريقي دون غيره.

وأمّا ما أفاده بعد ذلك _ ممّا يناقض بظاهره هذا الكلام _ بقوله: «بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعية، فإنّه تابعٌ لدليل ذلك الحكم... إلخ»((1)) فنحن نحتمل أن يكون مراده ملاحظة الدليل الدالّ على موضوع القطع في مقام الإثبات. فإن كان راجعاً في عالم الثبوت إلى أنّ الموضوع هو متعلق القطع وأنّه ليس للقطع دخلٌ في الموضوع، وإنّما اُخذ في لسان الدليل لكونه طريقاً إليه _ كما هو المتعارف في لسان أهل المحاورة، فيقولون: إذا علمت بمجيء زيدٍ فاستقبله، فإنّه ليس للعلم بالمجيء دخلٌ في وجوب الاستقبال _ قامت الأمارة والأصل مقامه، وإلّا فلا.

والدليل على أنّ مراده هو هذا قوله: «ثم من خواصّ القطع... إلخ» وقوله: «على وجه الطريقية للموضوع»، فإنّ الظاهر أنّ مراده من الموضوع هو موضوع الحكم.

وبالجملة: فهذا أقرب الوجوه الّتي يمكن أن تقال في توجيه کلام الشيخ(قدس سره).

وقد ذكروا له وجهين آخرين:

أحدهما: (وهو الأقرب من الوجه الآتي) أنّ القطع تارةً: يؤخذ بما أنّه صفةٌ قائمةٌ بنفس القاطع وهي اطمئنانه بانكشاف الواقع وعدم تزلزله فيه. وتارةً: يؤخذ في موضوع الحكم بما أنّه صفةٌ للمقطوع به، لأنّ لازم تعلق القطع بشيءٍ وحصول الصفة القائمة بنفس القاطع عروض صفةٍ على ما قطع به ، وهي كونه مقطوعاً به منكشفاً. فلو اُخذ على النحو الأوّل لم يمكن قيام الأمارات والاُصول مقامه، ولو اُخذ على النحو الثاني قامت الأمارة مقامه.

ص: 28


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص3-4.

ولكنّ الحقّ عدم تمامية هذا التوجيه، وقد أشار إليه وإلى جوابه في الكفاية بقوله: «وآخر بما هو صفةٌ خاصةٌ للقاطع أو المقطوع به... إلخ».((1))

ثانيهما: أنّ القطع تارةً: یؤخذ في الموضوع بما هو انكشاف لا بما أنّه صفةٌ للقاطع أو المقطوع به ، بل بما أنّه كشفٌ تامٌ للواقع. وتارةً: یؤخذ بما أنّه طريقٌ معتبرٌ إلى الواقع.

وبعبارةٍ اُخرى: يلاحظ القطع ويؤخذ في الموضوع بجهته الجامعة بينه وبين سائر الطرق المعتبرة، فملاحظته إنّما تكون من حيث كونه أحد مصاديق الطرق المعتبرة.

فعلى الأوّل لا تقوم الأمارة مقامه. وعلى الثاني لا مانع من قيام الطرق والأمارات المعتبرة مقامه.

إن قلت: إذا لم يكن العنوان الواقعي موضوعاً كما هو المفروض فدليل الحجّية لا يشمل الأمارة القائمة عليه حتى تصير مصداقاً للطريق المعتبر؛ لأنّ معنى حجّية الأمارة فرض مدلولها الواقع وترتب آثار الواقع عليه، والمفروض في المقام أنّ ما تعلّقت به الأمارة ليس له أثرٌ واقعيٌ بل الأثر إنّما يترتّب على العلم إن كان تمام الموضوع، وعلى الواقع المعلوم إن كان قيده.

قلت: ما ذكرته حقّ لا محيص عنه لو كان العلم تمام الموضوع ولم يكن لمتعلّقه أثرٌ أصلاً، ولكن إذا كان للمتعلّق أثرٌ آخر غير ما يترتّب على العلم، كما إذا كان الخمر موضوعاً للحرمة واقعاً، وما علم بخمريته موضوعاً للنجاسة، أمكن إحراز الخمر تعبّداً بقيام البيّنة ، لكونها ذات أثرٍ شرعيٍّ، وبعد قيام البيّنة يترتّب عليها ذلك الحكم الآخر الّذي يترتّب على العلم من حيث إنّه طريقٌ لتحقّق موضوعه قطعاً ، فلا مانع في مثل ذلك من قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي.

ص: 29


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص18 - 19.

وأمّا لو كان العلم قيداً للموضوع فيكفي في إثبات الجزء الآخر كونه ذا أثرٍ تعليقيٍّ بمعنى أنّه لو انضمّ إلى الباقي لترتّب عليه الأثر الشرعي، وكم له من نظيرٍ، فإنّ إثبات بعض أجزاء الموضوع بالأصل أو بالأمارة والباقي بالوجدان، غير عزيزٍ.((1))

وفيه: أنّه بناءً على هذا الوجه لا معنى للقول بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الّذي لوحظ فيه القطع بما أنّه أحد أفراد الطرق المعتبرة، بل الأمارة على هذا تكون كالقطع وفي عرضه لا في طوله، فلا فرق بينهما في الموضوعية ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ، فإنّ القطع لم يؤخذ في الموضوع إلّا من حيث كونه أحد أفراد المنجّز ، فحاله وحال الأمارة واحدٌ.

وكيف كان، فأقرب الوجوه في توجيه کلام الشيخ(قدس سره) هو الوجه الأوّل. والله تعالى هو الهادي إلى الصواب والعالم به.

الأمر الرابع: في التجرّي
اشارة

بعدما علم طريقية القطع للحكم الواقعي الإلزامي وموضوعيته لحكم العقل بتنجّز هذا الحكم الإلزامي، وأنّ معنى منجّزية الحكم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المقطوع به في صورة إصابته، يقع الكلام في أنّه إذا قطع بوجوب شيءٍ أو حرمته ، فخالف مقتضى قطعه بترك ما قطع بوجوبه أو فعل ما قطع بحرمته مع عدم إصابة قطعه الواقع، لعدم كون ما قطع بوجوبه واجباً وما قطع بحرمته حراماً، هل يكون كما إذا قطع بوجوب شيءٍ وتركه وصادف قطعه الواقع أو لا؟

ص: 30


1- الحائري الیزدي، درر الفوائد، ص330 - 332.
تحرير محلّ النزاع

وقبل الخوض في الكلام ينبغي تحرير محلّ النزاع، فنقول: يمكن أن يكون محلّ النزاع في جهتين:

الجهة الاُولى: في الحكم الشرعي، وفيها يمكن أن يحرّر النزاع في حكم مطلق الفعل المقطوع وجوبه أو حرمته صادف القطع الواقع أم لم يصادف. ويمكن أن يحرّر في حكم الفعل المقطوع وجوبه أو حرمته إذا خالف القطع الواقع، كما أفاد المحقّق الخراسانيرحمه الله في الحاشية واستدلّ على عدم كونه محكوماً بحكم بخروجه عن تحت الاختيار،((1)) لأنّ مصادفة القطع الواقع ممّا لا تناله يد الاختيار، وبلزوم اجتماع المثلين لدى القاطع.

الجهة الثانية: في الحكم العقلي، وهو استحقاق العقاب على الفعل وقبحه، بعد معلومية عدم كون الفعل متّصفاً بالقبح مع قطع النظر عن تعلّق القطع به. وفي هذه الجهة أيضاً يمكن البحث في أنّ الفعل المتجرّئ به هل يكون قبيحاً بملاك العصيان الموجود في مخالفة القطع الّذي صادف الواقع ليكون المتجرّي أيضاً عاصياً كما يكون هو عاصياً أو لا؟

وفي أنّه هل يكون قبيحاً بغير هذا الملاك؟

وبعبارة اُخرى نقول: لا ريب في أنّه إذا تعلّق أمر المولى ونهيه بفعلٍ وإن كان فعل ما تعلّق به الأمر بحسب ذاته حسناً وما تعلّق به النهي قبيحاً وإلّا لم يقع الأوّل مورداً لأمر المولى والثاني لنهيه، ولكن بسبب تعلّق الأمر أو النهي به ينطبق عليه في صورة المخالفة عنوان يكون نفس هذا العنوان قبيحاً وملاكاً لاستحقاق العقاب، وهو

ص: 31


1- الخراساني، حاشية كتاب فرائد الاُصول، ص13.

خروجه عن رسم العبودية وعصيانه لأمر المولى ومخالفته له، كما أنّه في صورة الموافقة ينطبق عليه عنوانٌ يكون نفس هذا العنوان حسناً وملاكاً لاستحقاق الثواب، وهو الانقياد والأداء لرسوم العبودية. فعلى هذا، يمكن وقوع النزاع في وجود هذا الملاك في الفعل المتجرّئ به وعدمه، ويمكن تحرير النزاع في أنّ الفعل المتجرّئ به هل يكون قبيحاً بغير هذا الملاك أو لا؟

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ ما يظهر من بعض کلمات الشيخ(قدس سره) هو وقوع النزاع واقعاً في الحكم العقلي، كما في قوله في مقام الجواب عن الإجماع: «أمّا الإجماع فالمحصّل منه غير حاصلٍ، والمسألة عقليةٌ».((1)) ومن بعضها أنّ النزاع واقعٌ في الحكم الش_رعي، مثل قوله: «والحاصل: أنّ الكلام في كون هذا الفعل _ غير المنهيّ عنه باعتقاده _ واقعاً مبغوضاً للمولى» إلى أن قال: «لكن لا يجدي في كون الفعل محرّماً شرعيّاً»،((2)) هذا.

ولا يخفى: أنّ ما أفاده في صدر العنوان من أنّ الكلام واقعٌ في أنّ قطعه في صورة عدم المصادفة هل يكون حجّة عليه أو لا؟((3))

ليس في محلّه؛ لأنّ الحجّة ما يكون منجّزاً للحكم فلا يمكن أن يكون موضوعاً للحكم.

وكيف كان، فالّذي ينبغي أن يقال: إنّه لا مجال للنزاع في الحكم الش_رعي للفعل المقطوع به سواء صادف القطع الواقع أم لا ، لعدم وجود دليلٍ شرعيٍّ عليه أصلاً. وأمّا حكمه الشرعي في صورة عدم الإصابة، فهو أيضاً مثله، مضافاً إلى الإشكال الّذي ذكره في الحاشية من كونه خارجاً عن الاختيار.

وهكذا لا وقع لاحتمال كون النزاع في الحكم العقلي إذا كان راجعاً إلى استحقاق

ص: 32


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص5 .
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص5.
3- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص4.

العقوبة وقبح الفعل بغير ما هو الملاك في قبح الفعل واستحقاق العقوبة على المخالفة في صورة الإصابة.

فالصحيح: أنّ محلّ النزاع ليس إلّا الحكم العقلي الراجع إلى أنّ ملاك القبح واستحقاق العقاب وانطباق عنوان القبيح على الفعل الموجود في صورة الإصابة هل يكون موجوداً في صورة عدم الإصابة أو لا؟

وأنت لو تأمّلت في ذلك لا تجد تفاوتاً بين الفعل المتجرّئ به والمعصية الحقيقية في انطباق عنوان كفران نعمة المولى والظلم عليه والخروج عن رسم العبودية والطغيان عليه. ولا ينافي ذلك عدم كون الفعل المتجرّئ به بنفسه قبيحاً؛ لأنّ اتّصاف الفعل بالمفسدة الذاتية غير اتّصافه بالقبح من جهة تعلّق نهي المولى به وانطباق عنوان المخالفة عليه، وهذا هو الملاك لتحقّق العصيان واستحقاق الذمّ واللوم، ولا فرق فيه بين المتجرّئ به وغيره.

لا يقال: إنّ العقاب _ كما يستفاد من الآيات والروايات _ لا يكون إلّا على المعصية الحقيقية.

لأنّه يقال: فرق بين فعلية العقاب واستحقاقه، والآيات والأخبار إنّما هي في مقام الإيعاد على فعلية العقاب وهي غير استحقاق العقاب.

إن قلت: ليس الملاك لاستحقاق العقاب إلّا الإتيان بما هو مبغوضٌ للمولى، وهو لا يتحقّق إلّا في المعصية الحقيقية دون التجرّي.

قلت: إذا كان هذا ملاكه فما هو الملاك في استحقاق العقاب بالنسبة إلى الأوامر الامتحانية الصادرة من الموالي العرفية لأجل امتحان العبيد؟ مع أنّ في صورة مخالفتها لم يأت العبد بما هو مبغوضٌ للمولى قطعاً مع كونه مستحقّاً للعقاب والتوبيخ، هذا.

ثم إنّ الشيخ(قدس سره) _ بعدما ذكر الوجوه الّتي قيلت أو يمكن أن تقال لإثبات الحكم

ص: 33

العقلي للفعل المتجرّئ به وهو قبحه وكونه موجباً لاستحقاق العقاب؛ وحكمه الش_رعي، وهو حرمته، من الإجماع، وبناء العقلاء على استحقاق العقاب، وحكم العقل بقبح التجرّي؛ وتقرير دلالة العقل _ أفاد في مقام الخدشة في الإجماع بأنّ المحصّل منه غير حاصلٍ، والمسألة عقليةٌ، والمنقول منه ليس بحجّةٍ.

وأفاد في مقام الرّد على بناء العقلاء بأنّه لو سلّم فإنّما هو على مذمّة الشخص من حيث إنّ فعله كاشفٌ عن وجود صفة الشقاوة فيه لا على نفس فعله.((1))

أقول: لا مجال لدعوى الإجماع بعد كونه حجّة لأجل قول الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، أو كشفه عن وجود نصٍّ معتبرٍ في مثل هذه المسألة الّتي لم يقع البحث عنها عند القدماء.

وأمّا ما أفاد في مقام الردّ على بناء العقلاء، ففيه: أنّا نمنع كون الفعل كاشفاً عن شقاوة العبد وكونه في مقام التمرّد والخروج عن رسم العبودية ، بل ربما يكون منشأه طغيان الشهوة وغلبة الهوى، مع عدم كونه في مقام الطغيان وعدم الاعتناء بشأن المولى، بل مع كمال ميله إلى أداء رسم العبودية كما في الدعاء:«إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحدٌ ولا بأمرك مُسْتَخِفٌ ولا لِعقوبتك مُتَعَرِّضٌ ولا لِوَعدك مُتَهاوِنٌ، ولكن خطيئةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لي نفسي وغَلَبني هَوايَ وأعانني عَليها شِقْوَتي وَغَرَّني سِتْرُكَ الْ_مُرْخَى عَلَيَّ»((2))، ولذا لو وبّخه المولى على ذلك لقام مقام الاعتذار والاستغفار، كما ترى في الخطيئة الصادرة عن آدم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وزوجته(عَلَيْهَا السَّلاَمُ) لمّا وبّخهما الله تعالى بقوله: «أَلَ_مْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبينٌ»((3)) فإنّهما قاما مقام

ص: 34


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص5 .
2- فقرة من دعاء أبي حمزة الثمالي، انظرها في المصباح للكفعمي (ص594-595)؛ ومفاتيح الجنان، وغيرهما من كتب الأدعية.
3- الأعراف، 22.

الاعتذار و: «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا»((1)) وهذا بخلاف صاحب السريرة الخبيثة والشقاوة ؛ فإنّه في مقام الطغيان وعدم الاعتناء بشأن المولى يكون حاله كإبليس في استكباره ومخالفته لأمره تعالى، ولذا أجاب عن قوله تعالى: «مَا مَنَعَكَ أَلّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» «خَلَقْتَني مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ».((2))

هذا، مضافاً إلى أنّه لا فرق في حركة الأخلاق الرذيلة والصفات المقبّحة الشأنية من القوّة إلى الفعلية بين من صادف قطعه الواقع ومن لم يصادف؛ إذ لا تفاوت بين عزم المتجرّي وبين عزم من كان مصيباً في قطعه، وكذا بين جزمهما وإرادتهما وبين فعلهما من جهة انطباق عنوان التمرّد والطغيان عليه، ما لم تصل شقاوته إلى المرتبة الفعلية. وبعبارة اُخرى: ما لم تصل في حركتها إلى منتهاها، كما لو عزم على الفعل ولكن لم يجزم به، أو جزم ولكن منع نفسه عنه ولم يرده، لم يستحقّ العقاب. وأمّا إذا عزم وجزم وأراد بالإرادة الجدّية ووصلت شقاوته في حركتها إلى المرتبة الفعلية، فلا عذر له ويتّصف فعله بالقبح من غير فرق بين أن يكون مصيباً في قطعه أم لا؛ وإلّا فلا وجه لاستحقاقه الذمّ واللوم من جهة وجود الصفة الكامنة فيه، مع كونها ذاتية وخارجة عن تحت الاختيار وإن أمكن علاجه بالاختيار بسبب العمل بالوظائف المقرّرة في علم الأخلاق والرياضات الشرعية. ولذا لا یؤاخذ المولى عبده على عدم إقدامه لتعديل أخلاقه وإزالة الملكات الخبيثة لديه، بل یؤاخذ ويوبّخه على العمل على وفقها وما صدر منه بها، فتأمّل.

ردّ مقالة المحقّق الخراساني(قدس سره)

ثم إنّه قد ظهر ممّا اخترناه ضعف ما أفاد المحقّق الخراساني(قدس سره) من عدم استحقاق

ص: 35


1- الأعراف، 23.
2- الأعراف، 12.

العبد للذمّ واللوم من جهة وجود الصفة الكامنة، وأنّ الموجب لذلك والسبب لاستحقاق العقاب ليس إلّا الجري على طبقها والعمل على وفقها وجزمه وعزمه عليه مع بقاء الفعل المتجرّئ به والمنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح.((1))

وجه الضعف: أنّ الصفات الكامنة في النفس سواءٌ رجعت إلى سوء الس_ريرة وخبث الباطن أو غلبة الشهوة وطغيان الغضب وغيرهما، أم رجعت إلى الصفات الحسنة، کلّها قوّةٌ محضةٌ، ووصولها إلى الفعلية يحتاج إلى الحركة الّتي هي عبارة عن الخروج من القوّة إلى الفعل ، فإذا تهيّأت في عبدٍ موجبات خروج سوء سريرته وحركة خبث باطنه من القوّة إلى الفعلية كان الطغيان على المولى عنده محبوباً، فيعزم على ذلك ويجزم حتى إذا أراده تنتهي حركتها وسيرها إلى منتهاها، فما لم تصل إلى منتهاها ، ومَنَعها العبد عن سيرها كان منعها عنه في مرتبة وصولها إلى حدّ الحبّ والعزم أو الجزم لم يكن مستحقّاً للذمّ ولم يجز تقبيحه وتوبيخه عقلاً، أمّا بعد وصولها إلى منتهى سيرها وفعليّتها يصير الفعل قبيحاً لانطباق عنوان الطغيان عليه ، ويستحقّ الذمّ واللوم من جهة أنّه فعل فعلاً يكون له نحو ارتباطٍ بالمولى وجهة انتسابٍ إليه، بها يكون هذا الفعل قبيحاً وإن لم تكن مفسدته وقبحه ذاتية إلّا في صورة إصابة قطعه، فالملاك لاستحقاق اللوم والذمّ والعقاب ليس إلّا من جهة كون انتساب فعله إلى المولى قبيحاً. وهذا الملاك كما هو موجودٌ في المعصية الحقيقية، كذلك هو موجودٌ في الفعل المتجرّئ به أيضاً. وأمّا القبح الّذي يكون فيه لا من هذه الجهة بل من جهة نفس ذاته فهو على حاله ولا يمكن إزالته، وليس مناطاً لاستحقاق الذم والعقاب، ولا يمكن رفع أثره بالتوبة.

ص: 36


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص11.
تفصيل صاحب الفصول(قدس سره)

قد ظهر ممّا ذكر أنّ الفعل المتجرّئ به قبيحٌ وموجبٌ لاستحقاق العقاب، سواءٌ كان واجباً أو مستحبّاً أو مكروهاً أو مباحاً، خلافاً لصاحب الفصول (رحمه الله) فإنّه فصّل في المقام وأفاد بأنّ المتجرّي إذا قطع بتحريم شيءٍ غير محرّمٍ واقعاً استحقّ العقاب بفعله، إلّا أن يعتقد تحريم واجبٍ غير مش_روطٍ بقصد القربة فإنّه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقاً، أو في بعض الموارد، نظراً إلى معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية. بل ربما يتّصف فعله بالحسن كما إذا اعتقد كون شخصٍ عدوّاً للمولى وكان مأموراً بقتله فتجرّأ ولم يقتله، وظهر كونه ابن المولى .

واستدلّ على ذلك بأنّ قبح التجرّي ليس عندنا ذاتياً بل يختلف بالوجوه والاعتبارات.((1))

وأفاد بأنّه على ذلك يكون التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعية أشدّ منه في مباحاتها، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها. ويختلف باختلافها ضعفاً وشدّةً كالمكروهات.

ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعية ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي.((2))

ولتوضيح ما أفاد وظهور الحقّ في المقام نشير إلى اُمورٍ:

أحدها: أنّ اتّصاف الأفعال بالحسن والقبح إنّما هو من جهة ترتّب المصالح والمفاسد الّتي هي ملاكات الأحكام عليها، فمن الأفعال ما لا يترتّب عليه إلّا المصلحة. ومنها: ما لا يترتّب عليه إلّا المفسدة. ومنها: ما يترتّب عليه المصلحة والمفسدة، فإذا كانت المصلحة المترتّبة على الفعل أقوى من المفسدة تتّصف بالحسن، وإذا كانت مفسدته أقوى اتّصف بالقبح. ولكن كون المصلحة أو المفسدة أقوى ليس

ص: 37


1- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص431. ونقل عنه في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص6)؛ والكفاية (الخراساني، ج2، ص18).
2- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص432.

سبباً لزوال جهته الاُخرى بحيث لا تكون فيه إلّا جهة القبح أو الحسن، بل هو باقٍ على حاله من ترتّب المفسدة والمصلحة عليه. نعم، أقوائية المصلحة سببٌ لعروض عنوان الحسن عليه.

ثانيها: أنّ ما يقال بأنّ حسن بعض الاُمور أو قبحها ذاتيٌ كالعدل والظلم والإساءة إلى المحسن، إنّما هو بملاحظة نفس عنوانه، بحيث يحكم العقل بحسن هذا العنوان وعدم اتّصافه بالقبح أصلاً إذا تحقّق في الخارج، من دون أن يكون معنونه مصداقاً لعنوانٍ قبيحٍ. ولكن لا ينافي ذلك كونه مصداقاً لعنوانٍ قبيحٍ يكون قبحه أقوى من حسن هذا العنوان، وبالعكس. فعلى هذا، إن كان المراد من عدم كون قبح الفعل المتجرّئ به ذاتيّاً وإنّما يكون بالوجوه والاعتبار أنّه بحسب الوجود الخارجي وتحقّقه في فردٍ يكون مجمعاً للعنوانين يمكن أن يتّصف بالحسن، فهو كلامٌ متينٌ. وأمّا إن كان المراد من عدم كون قبحه ذاتياً أنّ قبحه ليس بذاتيٍّ حتى بملاحظة نفس عنوانه وفرض تحقّقه في الخارج مجرّداً عن تعنونه بعناوين اُخرى، فليس في محلّه، كما لا يخفى.

ثالثها: أنّ ما هو ملاك استحقاق العقاب واللوم والذمّ وصدق العصيان على الأفعال ليس إلّا الجهات الراجعة إلى المولى، وأمّا المصالح والمفاسد الّتي تترتّب عليها فلا تكون ملاكاً لذلك، ولا يكون الفعل بحسبها إلّا علّةً لوجود تلك المصالح أو المفاسد، من غير أن يكون سبباً لتحقّق عنوان العصيان وهتك حرمة المولى، وما يلازمه من استحقاق العقاب.

فملاكه ليس إلّا الجهة الراجعة إلى المولى، وليست هي إلّا انطباق عنوان مخالفة المولى والظلم عليه والخروج عن رسم العبودية وهتك حرمته وغيرها من أمثال هذه العناوين القبيحة على الفعل. ولا تتحقّق هذه العناوين إلّا بعد أمر المولى عبده أو نهيه ومخالفة العبد، حتى لو فرضنا عدم كون ملاك أمره ونهيه ترتّب المصلحة على

ص: 38

الفعل أو المفسدة، فلو أمره ومع ذلك خالف العبد يكون بفعله هذا مستحقّاً للعقاب واللوم والذمّ.

فالقبح الّذي ينطبق على الفعل من جهة كونه معنوناً بهذه العناوين لايستتبع الحكم الشرعي؛ لأنّه من آثار الحكم وما يترتّب عليه ويقع متأخّراً عنه رتبةً.

وأمّا الحسن والمصلحة والقبح والمفسدة الكامنة في الأفعال الّتي هي ملاكات الأحكام الشرعية فلها التقدّم الطبعي بالنسبة إلى الأحكام، وإذا كانت في فعلٍ مصلحةٌ ومفسدةٌ، وكانت إحداهما مرجوحةً بالنسبة إلى الاُخرى، أثّر الراجح في أمر المولى ونهيه. ولكن ليس المراد من ذلك أنّ المصلحة المرجوحة أو المفسدة المغلوبة تزول رأساً ولا تبقى على حالها، بل هما على حالهما كما كانتا. وعلى کلّ حالٍ فلا يمكن أن تكون المصلحة الكامنة في الفعل بحسب الذات مانعة عن فعلية قبحه من جهة انتسابه إلى المولى، وصحّة استحقاق عقوبته عليه.

إذا عرفت ذلك کلّه تعلم: أنّ المصلحة الذاتية الكامنة في الفعل المتجرّئ به لا تمنع عن انطباق عنوان الهتك والظلم والخروج على المولى عليه. ولا تمنع من صحّة عقاب المتجرّي واستحقاقه للذمّ واللوم.

وقد ظهر أيضاً ما في کلام صاحب الفصول(قدس سره) من تداخل العقابين في المعصية الحقيقية؛((1)) لأنّه بعد فرض كون ملاك استحقاق العقاب في المتجرّي عين ما هو الملاك في استحقاق العاصي، وأنّهما يرتضعان من ثديٍ واحدٍ، لا يبقى مجالٌ لهذا الكلام، لعدم إمكان تحقّق التجرّي والمعصية الحقيقية في موردٍ واحدٍ، ولا دخالة لمصادفة الجزم مع الواقع وعدمها في استحقاق العقاب.

ص: 39


1- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص87 (مبحث مقدّمة الواجب). ونقل عنه في فرائد الاُصول (ج1، ص32) وردّ عليه.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مراده من تداخل العقابين فيما إذا شرب مائعاً مع القطع بكونه خمراً واتّفق كونه ماءً مغصوباً فيتداخل العقابان عقاب التجرّي وعقاب الغصب.

ولكن هذا أيضاً بعيدٌ عن الصواب؛ لأنّ حرمته الواقعية بما أنّه مغصوبٌ ليس ملتفتاً إليها لتكون ملاكاً للعقاب، فتأمّل جيّداً.

ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّه لا فرق فيما ذكر من قبح التجرّي واستحقاق العقاب بين ما إذا كان الجزم منجّزاً للحكم الشرعي أو أمارةً من الأمارات أو أصلاً من الاُصول. بل ولو كان الاحتمال كما في الاحتمالين المذكورين في کلام الشيخ(قدس سره) وهو التلبّس بما يحتمل كونه معصية لعدم المبالاة بمصادفة الحرام، أو التلبّس برجاء أن لا يكون معصية والخوف من كونه معصية((1)) وإن لا يبعد أن يكون هذا أخفّ قبحاً من السابق.

وأمّا التلبّس به برجاء تحقّق المعصية فهو خارج عن التجرّي، بل ربما یؤول أمره إلى الكفر، كما أنّ القصد مع الاشتغال بمقدّمات الفعل سواء ارتدع عنه أو منعه مانع لا يكون تجرّياً، كما لا يخفى. والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين. اللّهم وفّقنا لما تحبّ وترضى.

تنبيه: ذكر المحقّق الخراساني(قدس سره) في هذا المقام کلاماً لا يناسب أن يصدر من مثله مع علوّ مقامه؛ لأنّه خلاف الحقّ والتحقيق، ولكنّ الجواد قد يكبو، وهو ما ذكره أيضاً في مبحث الطلب والإرادة من عدم كون الاختيار اختيارياً وإن كان بعض مباديه غالباً بالاختيار. وأنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعات البعد عن المولى، وهو وإن كان خارجاً عن الاختيار إلّا أنّ الذاتيات ضرورية الثبوت للذات.((2))

وهذا الكلام كما ترى يكون بظاهره خلاف ما استقرّ عليه قول أهل العدل، وقد

ص: 40


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص8 .
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص14، 16.

أشبعنا الكلام في جوابه في مبحث الطلب والإرادة، ومجمله: أنّ ملاك اختيارية الفعل وصحّة توبيخ المولى عبده على العصيان والمخالفة ليس مجرّد صدوره عن الإرادة في مقابل الأفعال الطبيعية القهرية وإلّا لكان الحيوان أيضاً مختاراً لأنّ فعله صادر عن الإرادة ومسبوق بها، فما هو الملاك في ذلك والمناط في باب صحّة التكليف وحسن المؤاخذة واستحقاق الثواب أنّ في الإنسان ميولاً مختلفة وغرائز متباينة فمنها الميل إلى إصلاح حال الجسم وتدبير حال البدن والاُمور الفانية الدنيوية، ومنها الميل إلى تدبير حال الروح وباطنه وإصلاح ما يتعلّق بالنشأة الآخرة، وقد أعطاه الله تعالى لأجل تشخيصه عواقب الاُمور وما يترتّب على أفعاله من المصالح والمفاسد القوّة الملكوتية العقلية، وأيّده بما أنزل على أنبيائه وبيّنه على لسانهم ، فلا يصدر من الإنسان فعل من الأفعال الإرادية إلّا وهو مسبوق بتمكّنه لملاحظة مآله وعاقبته، بخلاف الحيوان. وهذا هو الملاك في كون الفعل اختيارياً، لا مجرّد صدوره عن الإرادة.

فالحاصل: أنّ توهّم كون القرب والبعد وما هو ملاك استحقاق العقاب وصحّة توبيخ العبد راجعاً إلى الذات، فاسد جدّاً. وتدلّ على فساده _ مضافاً إلى العقل _ الآيات الكريمة والأخبار الشريفة.

قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا مَعْشَ_رَ الْ_جِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَ_مْ يَاْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْ_حَيَوةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كَافِرِينَ﴾.((1))

فلو كان العقاب راجعاً إلى ما تقتضيه ذات العاصي لما كان مجال لهذا الخطاب، ولما صحّ توبيخهم بهذا التوبيخ .

ص: 41


1- الأنعام، 130.

وقال أيضاً تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ خَسِ_رُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤمِنُونَ﴾((1)) فإنّ خس_ران النفس ليس بخ_سران المال، بل المراد منه أنّهم ضيّعوا أنفسهم واتلفوا الاستعداد واللياقة الذاتيّتين اللتين أعطاهم الله تعالى إيّاهما. والآيات الدالّة على هذا المعنى كثيرة جدّاً.

وأمّا الروايات، فمنها: ما روي عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال : «ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾((2))».((3))

ومنها: ما روي عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ما من مؤمن إلّا ولقلبه في صدره اُذنان في جوفه: اُذن ينفث فيها الوسواس الخناس، واُذن ينفث فيها الملك، فيؤیّد الله المؤمن بالملك، وذلك قوله: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾.((4))

ومنها: ما روي أيضاً عن أبي عبد اللّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ما من قلب إلّا وله اُذنان على أحدهما ملك مرشد، وعلى الاُخرى شيطان مفتن، هذا يأمره، وهذا يزجره ، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿عَنِ اليَمينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾».((5))

ص: 42


1- الأنعام، 12.
2- المطفّفين، 14.
3- الکلیني، الكافي، ج2، ص273؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج73، ص332، ح17.
4- المجادلة، 22؛ الطبرسي، مجمع البيان، ج10، ص876 نقلاً عن العياشي.
5- ق، 17 - 18. الکلیني، الکافي، ج2، ص266-267، ح1؛ الطریحي، مجمع البحرین، ج3، ص129؛ الفیض الکاشاني، تفسير الصافي، ج5، ص60-61؛ البحراني، البرهان، ج5، ص133.

ومنها: ما روي في كيفيّة خلق الإنسان بقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إنّ الله عزّ وجلّ لمّا أراد أن يخلق آدم بعث جبرئيل في أوّل ساعة من يوم الجمعة، فقبض بيمينه قبضة بلغت قبضته من السماء السابعة إلى السماء الدنيا وأخذ من کلّ سماء تربة، وقبض قبضة اُخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى _ إلى أن قال: _ ثم إنّ الطينتين خلطتا جميعاً... إلخ».((1))

ومنها: ما ورد في أنّ لكلّ واحد من العباد بيتاً في الجنّة وبيتاً في النار، وقد فسّ_ر به قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوسَ...﴾.((2))

ومثل هذه الروايات كثيرة متفرّقة في أبواب كتب الحديث، وكلّها تدلّ على أنّ للإنسان قوّة يتمايل بها إلى العالم الروحاني والتشبّه بالملائكة والروحانيّين وكسب العادات الباقية وفعل الأعمال الحسنة، وقوّة بها يتمايل إلى العالم الجسماني وحظوظ النفس البهيمية، وأنّ حقيقته تركّبت من جزءين: جزء من العالم العلوي، وجزء من العالم السفلي، وأعطاه الله تعالى _ لتمييز الصلاح _ القوّة العاقلة، فلا يصدر منه فعل

ص: 43


1- الکلیني، الکافي، ج2، ص5، ح7؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج64، ص87، ح10.
2- المؤمنون، 10 - 11. روي عن النبيّ(صل الله علیه وآله): «ما منكم من أحد إلّا وله منزلان: منزل في الجنّة، ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنّة منزله». الطبرسي، مجمع البيان، ج 7، ص159؛ الفیض الکاشاني، تفسير الصافي، ج3، ص395. وعن الصادق(علیه السلام)، قال:«ما خلق الله خلقا إلّا جعل له في الجنة منزلاً، وفي النار منزلاً، فإذا سكن أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار، نادى منادٍ، يا أهل الجنة أشرفوا فيشرفون على أهل النار وترفع لهم منازلهم فيها، ثم يقال لهم: هذه منازلكم الّتي في النار لو عصيتم الله لدخلتموها، قال: فلو أنّ أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحاً لما صرف عنهم من العذاب، ثم ينادي منادٍ، يا أهل النار ارفعوا رؤوسكم فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم الّتي لو أطعتم ربّكم لدخلتوها، قال: فلو أنّ أحداً مات حزناً لمات أهل النار حزناً فيورّث هؤلاء منازل هؤلاء، ويورّث هؤلاء منازل هؤلاء، فذلك قول الله عزّ وجلّ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ ﴾. القمّي، تفسیر، ج2، ص89؛ الفیض الکاشاني، تفسير الصافي، ج3، ص395.

من الأفعال الإرادية إلّا بعد تصويب العقل. وهذا هو ملاك اختيارية الأفعال، والفرق بين الإنسان والحيوان، كما لا يخفى. فافهم واغتنم عصمنا الله تعالى من الزلل، وغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان بحقّ محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين .

الأمر الخامس: في العلم الإجمالي
اشارة

هل العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في كونه منجّزاً وموجباً لاستحقاق العقوبة على المخالفة أو لا؟

وبعبارة اُخرى: إذا علم العبد بحرمة المائع المردّد بين المائعين، أو علم بوجوب إحدى الصلاتين (الجمعة أو الظهر). سواء كانت الشبهة موضوعية، كما إذا علم بخمرية أحد المائعين. أو حكمية، كما إذا تردّد تكليفه بين القصر والتمام ، أو بين الظهر والجمعة. فهل يكون علمه هذا منجّزاً للتكليف المعلوم في البين أو لا؟

في المسألة أقوال

نسب إلى المحقّق الخوانساري(قدس سره) والقمّي(قدس سره) عدم تنجّزه به مطلقاً،((1)) وجواز المخالفة القطعية، وسيجيء الكلام فيما في هذه النسبة.

وذهب الشيخ(قدس سره) إلى كونه علّة تامّة لعدم جواز المخالفة القطعية، ومقتضياً لوجوب الموافقة القطعية،((2)) بمعنى أنّه لو لم يمنع من اقتضائه مانع وارتكب المخالفة

ص: 44


1- الخوانساري، مشارق الشموس، ص281 - 282؛ القمّي، قوانين الاُصول، ج2، ص25؛ حاشية المحقّق القمّي على کلام الخوانساري (ص37).
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص21 ، 240.

الاحتمالية وصادف المعصية استحقّ العقاب، ولكنّ للشارع المنع من اقتضائه بالنسبة إلى الموافقة القطعية والإذن في المخالفة الاحتمالية.

واختار المحقّق الخراساني(قدس سره) كونه مقتضياً مطلقاً، فيجوز أن يمنع الشارع من اقتضائه ويرخّص العبد حتى في المخالفة القطعية.((1))

وهنا وجه آخر هو المختار، وهو: كون العلم علّة تامّة لتنجّز التكليف المعلوم بالإجمال، فلا يجوز الترخيص في المخالفة وإن كانت احتمالية.

وأمّا الوجه الثالث من الوجوه المذكورة في کلام الشيخ(قدس سره) وهو الفرق بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم، فيجوز في الأوّل دون الثاني،((2)) فلم أقف على وجود قائل به، كالوجه الرابع، وهو: الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحداً بالنوع كوجوب أحد الشيئين وبين اختلافه كوجوب شيء وحرمة آخر.((3))

وقبل الخوض في الكلام ينبغي التنبيه على أمر وهو: أنّه لا ريب في اُصولية البحث عن حجّية العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي.

ولا اعتناء بما في بعض الكلمات من أنّ النزاع في العلم الإجمالي إنّما يكون من المسائل الاُصولية إن كان مرجعه إلى إثبات الحكم به وعدمه، وأمّا إن كان راجعاً إلى استحقاق العبد للعقاب في صورة المخالفة، فهو بالمسائل الكلامية أشبه.

فإنّ المراد من أشبهيته بالمسائل الكلامية إن كان هو النزاع في جواز عقابه وعدم قبحه حتى يرجع النزاع إلى ما يصحّ صدوره عنه وما يمتنع.

ففيه: أنّ المبحوث عنه في الكلام جواز صدور فعل القبيح عن الله تعالى وعدمه _

ص: 45


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص35.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص22.
3- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص22.

فجوّزه الأشعري لإنكاره الحسن والقبح العقليّين، وأنّ الحسن ما صدر منه والقبيح ما لم يصدر، وأنكره العدلية _ ولا يبحث في علم الكلام عن مصاديق ذلك وخصوصياته.

وإن كان المراد أنّ النزاع يرجع إلى المباحث المتعلّقة بالمعاد، من جهة انتهاء هذا المبحث إلى البحث عن فعلية العذاب في الآخرة وعدمها.

ففيه: أنّ المبحوث عنه في المعاد ليس إلّا أصل المعاد والجزاء والثواب والعقاب والعذاب، ولا يبحث فيه عن فعلية العذاب بالنسبة إلى كلّ واحد من المعاصي؛ لأنّ فعلية العذاب ليس أمراً يمكن الاطّلاع عليه بخصوصياته.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ الحكم كما ذكرنا سابقاً هو إنشاء الخطاب ليكون باعثاً للعبد وسبباً لتحرّكه، أو زاجراً له وموجباً لانتهائه عن الفعل، ولا تتمّ سببيّته لذلك وعلّيته للانبعاث إلّا في ظرف وصوله إلى العبد، فما لم يصل إليه لا يترتّب عليه الانبعاث أو الانزجار، ولا تتحقّق له المرتبة الفعلية، بل ليس له إلّا الشأنية والصلاحية لأن ينبعث العبد به، ويصير فعليّاً في ظرف الوصول. وليس عدم صيرورته فعلياً في ظرف عدم وصوله إلى العبد مع كونه صالحاً لأن يكون باعثاً للعبد لقصور في ناحية الحاكم، بل لقصور الخطاب وعدم إمكان صيرورته سبباً للانبعاث في صورة الجهل، ولذا لا يريد الآمر انبعاث العبد بذلك الخطاب المتكفّل لهذا الحكم إلّا في صورة وصوله وعلم العبد به، مع كون حكمه مطلقاً وغير مقيّد بالعلم والجهل؛ فإنّ تقييده بالعلم موجب للدور، وبالجهل تكليف بالمحال. ولذا لا مانع من أن يوجب المولى الاحتياط أو ينصب طريقاً له في صورة الاحتمال حتى ينبعث العبد بأمره هذا بعد وصوله إليه أيضاً نحو التكليف الواقعي. وليس هذا إلّا من جهة عدم تقييد الحكم بالعلم والجهل؛ لأنّه لو كان مقيّداً بالعلم لما كان مجال للخطاب الثاني رعاية للخطاب الأوّل، كما لا يخفى.

ص: 46

لا يقال: لا يتوقّف انبعاث العبد بالأمر على العلم به ووصوله إليه بل يكفي في ذلك احتمال الأمر.

فإنّه يقال: إنّ انبعاثه باحتمال الأمر أو تخيّل الأمر ليس انبعاثاً بالأمر؛ فإنّه لا يتحقّق إلّا في ظرف العلم ووصول الحكم إلى مرتبة الفعلية لأجل وصوله إلى العبد.

والحاصل: أنّ وصول الحكم إلى العبد موجب لفعليّته وترتّب الانبعاث عليه، بل ليس فعليّته غير وصوله إليه، فبعد وصول الحكم إلى هذه المرتبة لا مجال لعدم كونه فعلياً. ولا فرق في ذلك بين العلم التفصيلي والإجمالي؛ لأنّه على الفرض ليس لفعليته مانع إلّا عدم وصوله إلى العبد ، وبعد وصوله لا مجال لعدم فعليته وترتّب الانبعاث أو الانزجار عليه ، سواء كان المعلوم مجملاً أم لا. فالحكم كمايكون موجباً لتحريك العبد وباعثاً له نحو الفعل إذا علم بالتكليف تفصيلاً ، كذلك يكون باعثاً له أيضاً إذا علم به إجمالاً.

ولا مجال للقول بعدم إمكان انزجاره به مثلاً من جهة التردّد في المائع المعلوم حرمته بين المشتبهين. لإمكان انزجاره بتركهما معاً.

نعم، إذا كانت الشبهة بدوية حيث لم يصل الحكم فيها إلى العبد ، لايمكن ترتّب الانبعاث أو الانزجار عليه، فلا يكون فعلياً وإن كان له شأنية ذلك، كما مرّ.

والحاصل: أنّا إذا فرضنا علم العبد بأنّ المولى بعثه بعثاً أكيداً إلى فعل معيّن ، ولا يرضى بتركه هذا الفعل ، ولكن متعلّق هذا البعث الأكيد والإرادة الحتمية اشتبه بين شيئين ، فالوجدان حاكم بلزوم الإتيان بالمشتبهين تحصيلاً لما هو مطلوب المولى؛ لعدم وجود قصور في بعثه وخطابه ، وإمكان موجبيّته لانبعاث العبد وصلاحيته لتحريكه كما في العلم التفصيلي.

فلو لم يأت العبد بما هو مطلوب المولى لتركه کلا المشتبهين، وعاقبه المولى على مخالفته هذه وعصيانه وخروجه عن رسم العبودية لم يكن ظالماً ولا عقابه عقاباً بلا برهان.

ص: 47

وكذا إذا ترك ما هو مطلوب المولى من جهة تركه أحد المشتبهين مع إتيانه بالآخر ، واتّفق كون ما تركه هو الواجب فللمولى أن يعاقبه على ذلك ، لتحقّق عصيانه وخروجه عن رسم العبودية، فهو عند العقل مستحقّ للعقاب.

فلو فرضنا أنّ أحد عبديه ترك کلّ واحد من المشتبهين وارتكب المخالفة القطعية ، والآخر لم يترك إلّا واحداً منهما وارتكب المخالفة الاحتمالية ولكن اتّفق كون المتروك هو الواجب في البين، فالعقل يحكم باستحقاقهما للعقاب على وزان واحد ، من غير فرق بين من ارتكب المخالفة القطعية ، ومن ارتكب المخالفة الاحتمالية مع عدم كون الواجب ما أتى به. ولا نعني بتنجّز التكليف المعلوم بالإجمال وفعليته إلّا هذا.

جواز المخالفة مع جعل البدل

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكر أنّه لا يتمّ القول بجواز المخالفة الاحتمالية مع جعل البدل؛((1)) فإنّ جعل البدل إن كان في مقام الواقع بأن يجعل شيئاً عدلاً له ولو بخطاب آخر في صورة عدم العلم التفصيلي بالمكلّف به، فيرجع إلى الوجوب التخييري، فيكون المکلّف مخيراً بينهما ، وهو خارج عن محلّ الفرض ، لأنّ الكلام واقع فيما إذا علم وجوب شيء معيّن وبعث المولى نحوه مع تردّد متعلّقه بين شيئين ، دون أن يكون کلّ واحد منهما متعلّقاً لبعثه وزجره على سبيل الترديد النفس الأمري. هذا، مضافاً إلى أنّ الشيخ(قدس سره) لا يجوّز أخذ العلم بالموضوع في حكم نفس هذا الموضوع،((2)) كأن يقال: إذا جزمت بالجزم التفصيلي بوجود الخمر فاجتنب عنه.

وإن كان المراد جعل البدل في مقام الظاهر، فبعد فرض فعلية الحكم الواقعي وعدم

ص: 48


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص242.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص3 - 4.

مانع عن انبعاث العبد به لا مجال لجعل البدل في مقام الظاهر والالتزام بشأنية الحكم وتأخّره عن مرتبة الفعلية الّتي وصل إليها.

وما في بعض الكلمات من انحفاظ موضوع الحكم الظاهري في مورد العلم الإجمالي ، فإنّ موضوعه إنّما يكون الشكّ في التكليف وهو موجود بالنسبة إلى کلا المشتبهين.

ففيه: أنّ جعل الحكم الظاهري كما ذكرنا إنّما يصحّ في مورد يكون الخطاب المتكفّل للحكم الواقعي قاصراً عن بعث المکلّف نحو الفعل أو زجره عنه ، والشكّ الّذي يكون موضوعاً للحكم الظاهري إنّما يكون كذلك إذا كان ملازماً لشأنية الحكم الواقعي وقصور خطابه عن البعث أو الزجر لا مطلقاً. ففي الحقيقة يكون موضوع الحكم الظاهري شأنية الحكم الواقعي وقصور خطابه عن بعث العبد وتحريكه نحو الفعل وإن كان هذا ملازماً للشكّ في الحكم الواقعي.

ثم إنّه قد تلخّص من جميع ما ذكرناه أنّه في مورد العلم الإجمالي بالتكليف والقطع بتعلّق إرادة المولى على سبيل الحتم بفعل شيء أو تركه ، لا مجال للقول بصحّة جعل البدل وجواز المخالفة ، لعدم الفرق بين المخالفة الاحتمالية والقطعية في ذلك. ولا يوجب تردّد هذا الشيء _ المعيّن المتعلّق لإرادة المولى _ بين شيئين صحّة جعل البدل وتجويز المخالفة ، مع حفظ العلم بتعلّق إرادته الحتميّة به ، من غير فرق في ذلك بين الشبهة المحصورة وغيرها.

إن قلت: إنّ تجويز المخالفة والاكتفاء بأحد الطرفين واقع في الش_رع، مثل موارد إجراء قاعدة الفراغ، وغيرها.

قلت: قد حقّقنا في مبحث الإجزاء((1)) أنّ دليل قاعدة الفراغ ونظائرها من القواعد إنّما تجعل المأتيّ به الناقص في ظرف الشكّ فرداً للمأمور به كالفرد التامّ الأجزاء، ولا

ص: 49


1- تقدّم في الصفحة 146 من المجلّد الأوّل من هذا الكتاب.

فرق بينهما في الامتثال والإجزاء، فلا يكون بدلاً عن الواقع ليكون المأمور به غيره واكتفى الشارع به عنه.

ثم إنّه لا يذهب عليك: أنّ ما نسب إلى المحقّق الخوانساري والقمي(قدس سره) من القول بعدم تنجّز التكليف إذا تعلّق به العلم الإجمالي.

ليس في محلّه؛ فإنّ مرادهما عدم تنجّز التكليف إذا قامت عليه حجّة إجمالية غير العلم ، فإنّ التكليف بشيء معيّن مشروط بالعلم التفصيلي بذلك الشيء ، لأنّ الطاعة لا تحصل إلّا بقصد التعيين، فلو أراده المولى ولم يبينه لزم تأخير البيان عن وقت الحاجّة ، فلا يتنجّز التكليف بالحجة الإجمالية. ولا ضير في مخالفة هذا التكليف الّذي قام عليه غير القطع من الحجج الإجمالية، إلّا إذا قام عليه إجماع كالإجماع القائم على عدم جواز ترك صلاتي الظهر والجمعة معاً بأن لا يأتي بواحدة منهما.

وأمّا إذا علم إجمالاً بأنّ المولى أراد فعلاً معيناً بالإرادة الحتمية غير المش_روطة بش_يء من العلم بذلك الشيء، فلا يسعه إلّا تحصيل الموافقة القطعيّة.

فالمحقّقان المذكوران موافقان لنا في تنجّز التكليف إذا تعلّق به العلم الإجمالي.

وأمّا إذا كان غير العلم من الحجج مجملاً ، فلا مانع من جواز المخالفة القطعية فضلاً عن الاحتمالية، مثلاً: إذا تردّد الخمر بين مائعين، وكان دليل وجوب الاجتناب عن الخمر المعيّن في البين إطلاق «اجتنب عن النجس» أو «لا تش_رب الخمر». أو دار الأمر بين وجوب صلاة الظهر والجمعة من جهة قيام رواية على وجوب الظهر وقيام رواية اُخرى على وجوب الجمعة، ولم نقل بتساقطهما بالتعارض. فلا مانع فيما إذا كان من هذا القبيل من تجويز المخالفة الاحتمالية بل والقطعية ، وسيجيء إن شاء الله تعالى توضيح ذلك في مبحث البراءة مفصّلاً.

هذا کلّه في إثبات أصل التكليف بالعلم الإجمالي.

ص: 50

الامتثال الإجمالي

ثم إنّه حيث ذكر القوم هنا حكم الامتثال الإجمالي وكفاية الاحتياط، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحقّ في المقام، ولتوضيح المرام نقول:

إعلم: أنّه وإن كان ظاهر بعض الكلمات ربما يوجب توهّم كبروية النزاع ، ولكن لا ريب في فساده؛ لأنّه لا مجال للقول بعدم كفاية الاحتياط والامتثال الإجمالي ، فإنّ الاحتياط عبارة عن الإتيان بالمأمور به بجميع ما احتمل دخله فيه جزءاً وشرطاً من غير إخلال بش_يء منه ، بحيث يعلم مع الإتيان به بإتيان ما هو المطلوب للمولى وعدم الإخلال بشيء ممّا اعتبر واُخذ فيه شرطاً أو شطراً ، وكفايته غير قابلة للنزاع.

فمحلّ النزاع والكلام إنّما هو في الصغرى وإمكان الاحتياط وعدمه في موارد:

أحدها: فيما إذا علم دخل شيء في المأمور به شرطاً أو شطراً، وشكّ في أنّ دخله فيه هل هو على نحو الوجوب أو الاستحباب؟ فاختلفوا في تحقّق الاحتياط مع الإتيان بالجزء المشكوك في وجوبه واستحبابه من جهة الإخلال بقصد الوجه الّذي احتمل دخله فيه.

ص: 51

متعلّقه القصر أو التمام ، فهل الإتيان بهما بداعي الأمر المتعلّق بأحدهما المعيّن واقعاً يكفي في حصول الامتثال؟ مع أنّ حاله حين الإتيان بكلّ منهما يكون حال من كان شاكّاً في أصل تعلّق الأمر بأمر معين معلوم خارجاً ، لأنّه لا يعلم كون هذا مأموراً به أم لا، وإن علم بعد الإتيان بهما بالإتيان بالمأمور به.

خامسها: فيما إذا شكّ في الجزء المأمور به بالأمر الضمنيّ مع دوران أمره بين المتباينين، كالجهر والإخفات. وهذا نظير القسم الرابع إلّا أنّ داعي الإتيان في هذا القسم _ بكلّ من الجزءين _ هو الأمر الضمني الّذي تعلّق بأحدهما بخلاف القسم الرابع ، فإنّ داعيه هو الأمر النفسي.

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا في القسم الأوّل فلا إشكال في صحّة الاكتفاء بالاحتياط والامتثال الإجمالي ولو قلنا باعتبار قصد الوجه في المأمور به. ووجهه يظهر ممّا ذكرناه في مبحث الصحيح والأعمّ من أنّ الصلاة عنوانٌ عرضيٌ مقولٌ بالتشكيك ذو مراتب ودرجاتٍ مختلفة في الشدّة والضعف والنقص والكمال، يصدق على مصاديقها المختلفة في الكمال والتمامية ، فالفرد الّذي يتحقّق في ضمن تحقّق الأجزاء الواجبة والمستحبّة فردٌ لها ومعنون لهذا العنوان العرضي، كما أنّ الفرد الخالي من الأجزاء المستحبّة مصداق لها أيضاً، ففي کلّ واحد من المصاديق تكون حقيقتها محفوظة. فعلى هذا، يكون ما هو مصداق الصلاة برتبتها الكاملة الشديدة بتمام أجزائه مأموراً به ، وكلّ جزء من أجزائه يكون واقعاً تحت الأمر بالكلّ ومتعلّقاً للأمر الضمني الّذي تعلّق به من جهة الأمر بالكلّ، من غير فرق بين الأجزاء الواجبة والمستحبّة.

كما أنّ ما هو مصداقها بغير هذه المرتبة مع فقده لجميع الأجزاء المستحبّة يكون معنوناً بعنوان الصلاة ، ويكون کلّ جزءٍ منه مأموراً به بالأمر الضمني ، وإن كان انطباق هذا العنوان على ما هو جامع لجميع الأجزاء المستحبّة والواجبة أولى من غيره.

ص: 52

فبناءً على ذلك لا مانع من قصد وجوب الكلّ من جهة كونه مصداقاً للصلاة ، وقصد وجوب أجزائه بالوجوب الضمنيّ، ولو لا ذلك لما أمكن تصور معنى صحيحٍ لاستحباب الأجزاء المستحبّة.

وبالجملة: ليس معنى استحباب شيء في الصلاة إلّا أنّ المکلّف لو أتى بها في ضمن فردٍ فاقد للجزء المستحبّ غير صادق عليه الصلاة بمرتبتها الكاملة كان مجزياً عنها مع كونه فاقداً لهذا الشيء المستحبّ، ولم يكن لأجل فقدانه هذا الجزء مصداقاً للصلاة بمرتبتها الكاملة. ولو أتى بها في ضمن فرد كان واجداً للجزء المستحبّ انطبق عليه الصلاة بالمرتبة الكاملة.

وأمّا ما أفاد بعض من عاصرناه _ من الأعاظم في مجلس ساعدنا التوفيق على الالتقاء به _ في تصوير الأجزاء المستحبّة من أنّ للصلاة ماهيتين إحداهما: المرکّبة من الأجزاء الواجبة وهي: الصلاة الواجبة المشتملة على التكبير والركوع والسجود وغيرها من الأجزاء الواجبة. وثانيتها: المرکّبة منها ومن الأجزاء المستحبّة، وهي: الصلاة المستحبّة المتضمّنة للصلوات الواجبة.

ففيه: ما أوردنا عليه في المجلس المذكور بأنّ الصلاة لو كانت ماهيّة صادقة على جميع الأجزاء والشرائط الواجبة ، فالأجزاء المستحبّة ليست منها لا محالة. وإن كانت مركّبة من الأجزاء المستحبّة والواجبة ، فلازمه تعلّق الأمر بما هو المرکّب من الأجزاء والشرائط الواجبة والمستحبّة وهو منافٍ لاستحباب الأجزاء المستحبّة.

هذا کلّه في إمكان الاحتياط في القسم الأوّل. وأمّا غيره من الأقسام وما يمكن أن يقال بكونه مناطاً لعدم إمكان الاحتياط فيه غير ما يقال بكونه مناطاً في القسم الأوّل ، وهو لزوم الإخلال بقصد الوجه، لإمكان تحقّق قصد الوجه في هذه الأقسام وصفاً وغايةً، فلو دار الأمر بين المتباينين يحصل قصد الوجه إذا أتى بهما بقصد الصلاة

ص: 53

الواجبة عليه من بينهما، أو بقصد الصلاة المردّدة بينهما لوجوبها. فإنّ قصد الوجه ليس إلّا قصد المأمور به من حيث وجوبه واستحبابه ، فلا مانع من تحقّقه فيما نحن فيه ، لإمكان قصد الوجه بعد معلومية وجوب الصلاة المردّدة بينهما أو استحبابها.

فما يمكن أن يقال بكونه مناطاً لعدم تمشّي الاحتياط ليس إلّا الإخلال بقصد القربة لا قصد الوجه، لما ذكرنا. ولا قصد التعيين والتمييز؛ لأنّ المراد من دخل قصد التمييز إن كان توقف تعيين بعض الأفعال وتميّزها عن الآخر بالقصد لكونه من العناوين القصدية الّتي لا تتحقّق إلّا به، كالتعظيم والظهرية والعصرية وغيرها، فلا ربط له بما نحن فيه؛ لأنّ المأمور به إذا كان من هذا القبيل لا يتحقّق إلّا إذا أتى به مع القصد، ولا ينطبق عليه إلّا إذا أتى به كذلك.

وإن كان المراد أنّ قصد التعيين موجب لتعيّن المأمور به وتميّزه عن غيره ، فمن الواضح أنّ تميّزه وتعيّنه لا يتوقّف على قصد التعيين؛ لأنّه بنفسه متعيّن ومتميّز عن غيره. ولا دخل لمعلومية كون الواجب صلاة الجمعة أو صلاة الظهر في تميّزه، لأنّه متميّز عن غيره علم المکلّف به أم لم يعلم.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المراد من اعتبار قصد التمييز هو أنّ عدم معلومية المأمور به ولو بكونه مردّداً بين المتباينين موجب للإخلال بقصد القربة ، فإنّه لا يتحقّق إلّا إذا أتى بالفعل بداعي أمره المعلوم تعلّقه به، لا ما إذا أتى به بداعي الأمر الّذي تردّد متعلّقه بين الفعلين.

فعلى هذا، تمام الإشكال في غير القسم الأوّل من الأقسام راجع إلى لزوم الإخلال بقصد القربة وعدم كفاية قصد التقرّب بما هو المطلوب من بينهما في تحقّق الامتثال والاحتياط.

ولا فرق في ذلك بين القول باعتبار قصد الوجه وعدمه.

فعلى القول باعتباره يشكل في كفاية الإتيان بالواجب المعيّن المردّد ظاهراً بين شيئين

ص: 54

بداعي التقرّب إلى الله تعالى في تحقّق الاحتياط، لعدم كفاية ذلك مع عدم قصد التقرّب بما هو مأمور به بالخصوص حين الإتيان به.

وعلى القول بعدم اعتباره يشكل كفاية الإتيان بما علم مطلوبيته إجمالاً _ إمّا بنحو الوجوب أو الاستحباب _ في تحقّق الاحتياط إذا أتى به بداعي الأمر المردّد متعلّقه بين المتباينين.

وكيف كان، فالّذي ينبغي أن يقال في دفع هذا الإشكال هو: أنّ الفاعل إذا أتى بالفعل بداعي المحبوبية أو امتثال الأمر بحيث كان محرّكه إلى الفعل تحصيل التقرّب إليه، لا مجال للقول بعدم كفاية ذلك في الامتثال وحصول التقرّب. ولا نعني بالتقرّب والتعبّد إلّا أن يكون داعيه نحو العمل أمر المولى أو محبوبية الفعل أو غيرهما من الوجوه الّتي يمكن أن يقال بكفايته لتحقّق التقرّب ، ولذا لو أتى بأحد المشتبهين بهذا الداعي وتبيّن قبل الإتيان بالآخر كونه هو المأمور به ، يكتفي به ولا يلزم الإتيان بالآخر.

ولا فرق فيما ذكر بين القول بتوصّلية المأمور به وتعبّديته تمسّكاً بالأصل اللفظي؛ لأنّ الأمر إنّما صدر ليكون داعياً نحو المتعلّق، أو بالأصل العملي وهو الاشتغال لوقوع الشكّ في كفاية الإتيان بالمتعلّق في حصول الغرض.

ووجه عدم الفرق هو أنّ کلامنا في المقام فيما تثبت عباديّته ، وقد ظهر لك إمكان الاحتياط في الموارد الّتي ذكرناها من غير إخلال بقصد القربة.

إن قلت: نعم، لا مانع من تحقّق قصد القربة مع الامتثال الإجمالي، ولكن من الممكن أن تكون معلومية الواجب في الخارج وعدم اشتباهه معتبرة في المأمور به.

قلت: لا وقع لهذا الاحتمال مع عدم وجود أثر له في الأخبار؛ لأنّ اعتباره كذلك مع عدم ذكره إخلال بالغرض، فمقتضى البراءة نفي اعتبار ذلك فيه، وإن لم يمكن نفيه بسبب التمسّك بإطلاق المتعلّق ، لأنّ العلم بالمأمور به متأخّر عن الأمر ، فلا يمكن أخذه في متعلّقه.

ص: 55

إن قلت: إنّ الإجماع قائم على عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع إمكان الامتثال التفصيلي.((1))

قلت: إنّ دعوى قيام الإجماع في مثل هذه المسألة _ الّتي لم يبحث عنها في كتب القدماء بل ذكرها المتأخّرون في كتبهم ، والظاهر أنّ أوّل من تكلّم فيها صاحب «الإشارات»((2)) _ مجازفة جداً.

ولو اُريد منه بناء المتش_رّعة على الامتثال التفصيلي وجريان سيرتهم عليه دون الامتثال الإجماليّ.

فليس ذلك من جهة عدم صحّة الاكتفاء به ولا كاشفاً عنه ، بل استقرار سيرتهم عليه إنّما هو لموافقته للطبع والعادة، لأنّ في الامتثال الإجمالي کلفة ليست هي في التفصيلي.

إن قلت: نعم، لا مانع من الاكتفاء بالامتثال الإجمالي إذا لم يستلزم التكرار، وأمّا إذا استلزم التكرار فلا يجوز الاكتفاء به، لكونه لعباً بأمر المولى.((3))

قلت: لا اعتناء بهذا الإشكال؛ لأنّ عدم كونه لعبا بأمر المولى _ ولو استلزم التكرار _ بمكان من الوضوح.

ثم لا يخفى عليك: أنّه كما لا مانع من حصول التقرّب إذا كان المأمور به مردّداً بين شيئين بإتيان کلّ منهما بداعي الأمر الّذي تعلّق بأحدهما المعين المردّد في الظاهر وتحقّق الاحتياط فيه، لا مانع أيضاً من حصوله لو أتى بهما بداعي امتثال الأمر الّذي احتمل تعلّقه بأحدهما.((4))

ص: 56


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص15.
2- وهو الحاج محمد إبراهيم بن محمد حسن الكافي الأصفهاني الكلباسي، صاحب «إشارات الاُصول».
3- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص15.
4- يمكن أن يقال بعدم تحقّق الاحتياط لو قلنا باعتبار قصد الوجه في صورة احتمال الأمر إذا لم يعلم أنّ مطلوبيته تكون على نحو الوجوب أو الاستحباب لإخلاله حينئذٍ بقصد الوجه، فتأمل. [منه دام ظله العالى].

هذا کلّه في كفاية الامتثال الإجمالي والموافقة الإجمالية مع التمكن من الموافقة التفصيلية. وأمّا كفايته في صورة تعذّر الامتثال التفصيلي وإمكان الامتثال الظنّي ، سواء كان بالظنّ المعتبر أم لا ، فلا ريب فيه.

هذا تمام الكلام في القطع، وسيأتي الكلام في غيره من المباحث إن شاء الله تعالى.

وفّقنا الله تعالى لطاعته وطاعة رسوله وأوليائه صلواته عليهم، وغفرلنا ولوالدينا ولأساتيذنا جميعاً بحقّ محمد وآله الطاهرين. اللّهمّ صحّح بلطفك نيّاتنا، واستصلح بقدرتك ما فسد منّا، وارزقنا عافية الدنيا والآخرة، وصلّ على محمد وعترته الطاهرة يا أرحم الراحمين.

ص: 57

ص: 58

المقام الثاني: في الظنّ

اشارة

في بيان ما يكون منجّزاً من الأمارات، أو قيل بكونه كذلك

وقبل الخوض في البحث لابدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: في محلّ النزاع

إنّه وإن كان البحث في كتب القدماء واقعاً في إمكان التعبّد بخبر الواحد، إلّا أنّ ملاك النزاع _ كما ذكره المتأخّرون _ يعمّه وسائر الأمارات، فلا وجه لتخصيصه به.

الأمر الثاني: في المراد من الإمكان

في بيان ما هو مرادهم من الإمكان المذكور في عنوان البحث، فنقول:

إعلم: أنّه تارة: يطلق الإمكان، ويراد منه الإمكان الذاتي وهو على قسمين:

أحدهما: الإمكان الذاتي الخاصّ ويطلق على ما كان ممكناً ذاتاً وليس فيه اقتضاء الوجود ولا اقتضاء العدم، وفي مقابله الوجوب الذاتي الّذي يطلق على ما كان بحسب ذاته ضروريّ الوجود، والامتناع الذاتي الّذي يطلق على ما كان بحسب ذاته ضروريّ العدم.

ثانيهما: الإمكان الذاتي العامّ ويطلق على ما كان سلب أحد طرفي الوجود والعدم

ص: 59

فیه ضروریا، وسلب ضروره طرف الوجود یجامع الامتناع والامکان، وسلب ضروره طرف العدم یجامع الوجوب والامکان.

واُخرى: يطلق الإمكان ويراد منه الإمكان الاستعدادي وهو تهيّؤ الش_يء ليصير شيئاً آخر، باعتبار نسبته إلى الشيء المستعدّ له ، كما يقال: الإنسان يمكن أن يوجد في النطفة. وهذا غير الاستعداد ، فإنّه يقال على تهيّؤ الش_يء باعتبار نسبته إلى الش_يء المستعدّ، كما يقال: إنّ النطفة مستعدّة للإنسانية.

وثالثة: يطلق ويراد منه الإمكان المذكور في کلام الشيخ الرئيس وهو الاحتمال،((1)) ويعبّر عنه في لسان الاُصوليّين بالإمكان الذهني.

ورابعة: يطلق ويراد منه الإمكان الوقوعي بالمعنى المصطلح عند الاُصوليّين، وهو كون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه ولا وقوعه محال ، وفي مقابله الوجوب والامتناع الوقوعيّان. وأهل المعقول يعبّرون عن هذا الإمكان أيضاً بالإمكان الاستعدادي.

وربما يطلق الإمكان ويراد منه الإمكان الاستقبالي؛ لأنّ الش_يء بوجود علّته يكون ضروريّ الوجود وبعدمها ضروريّ العدم، فلا يصحّ إطلاق الإمكان عليه إلّا بلحاظ الاستقبال.((2))

وفيه: أنّه لا تفاوت بين إطلاق الإمكان بلحاظ الحال وإطلاقه بلحاظ الاستقبال؛ لأنّه بلحاظ الاستقبال أيضاً يكون ضروريّ الوجود بوجود علّته وضروری العدم بعدمها.

ص: 60


1- وعبارته: «كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان». ابن سینا، الإشارات والتنبیهات، ج3، ص418، النمط العاشر في أسرار الآيات، نصيحة.
2- انظر تفصيل البحث في أقسام الإمكان في «نهاية المرام في علم الكلام» للعلّامة الحلّي المطبوع مع تحقيقنا (ج1، ص110 وما يليها). وأيضاً شرح الإشارات (الخواجة نصیر الدین الطوسي، ج1، ص151) وما بعدها؛ والمباحث المش_رقية (الفخر الرازي، ج1، ص211)؛ ونقد المحصّل (الخواجة نصیر الدین الطوسي، ص106).

وكيف كان لا إشكال في أنّ مرادهم من الإمكان المذكور في كلماتهم في المقام ليس هو الإمكان الذاتي بكلا معنييه، ولا الإمكان الاستعدادي ، ولا الإمكان المذكور في کلام الشيخ الرئيس، بل هو الإمكان الوقوعي،((1)) فتدبّر.

الأمر الثالث: في تأسيس الأصل

لا يخفى عليك: أنّه لا أصل في المقام يتمسّك به عند الشكّ في الإمكان الوقوعي. ولا فائدة في تأسيسه لعدم ترتّب أثر عليه، إذ مع قيام الحجّة على اعتبار الأمارة يجب الأخذ بها، ومع قيامها على عدم اعتبارها فلابدّ من رفع اليد عن الدليل الظاهر في اعتبار الأمارة، ومع عدم قيام الحجّة على اعتبارها لا تترتّب ثمرة على تأسيس الأصل.

إن قلت: إنّ الأصل عدم التعبّد بالأمارة وغيرها من الأحكام الظاهرية.((2))

قلت: أوّلاً: أنّ هذا الأصل إنّما يجري بعد إحراز المقتضي، وهو مفقود في المقام.

وثانياً: أنّ الإمكان ليس أثراً شرعياً حتى يثبت بهذا الأصل.

وثالثاً: أنّه لو سلّم ذلك فليس هذا الأصل غير الاستصحاب مع عدم معلومية الحالة السابقة فيه، لعدم معلوميّة وجود المانع من التعبّد بالأمارة وعدمه في الزمان السابق حتى يستصحب.

الأمر الرابع: في استدلال ابن قبة للامتناع
اشارة

في بيان ما قيل أو يمكن أن يقال في استحالة التعبّد بخبر الواحد وغيره من الأمارات بل وغيرها من الأحكام الظاهرية. والجواب عنه.

ص: 61


1- كما في نهاية الأفكار للعراقي، القسم الأوّل، من الجزء الثالث، ص56.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص55.

فاعلم: أنّه قد حكى عن ابن قبة الاستدلال على عدم جواز التعبّد بخب_ر الواحد بوجهين.((1))

الأوّل: أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لجاز التعبّد به في الإخبار عن الله تعالى، والتالي باطل إجماعاً.

وهذا كما ترى قياس استثنائي مركّب من شرطية متّصلة وحملية، حكم فيها ببطلان التالي وهو: أنّه لا يجوز في الإخبار عن الله تعالى، فالإخبار عن النبيّ مثله. واستدلّ لبطلان التالي بالإجماع.

والّذي ينبغي أن يقال فيه: إنّ المراد بجواز التعبّد بالإخبار عن الله تعالى إن كان جواز تصديق المتنبّي ولو لم يظهر لإثبات نبوّته بيّنة وآية، فهذا أمر بطلانه ثابت بحكم العقل واتّفاق العقلاء ، ولا معنى للتمسّك بالإجماع لإثبات بطلانه إلّا أنّ الملازمة بين المقدّم والتالي محلّ الإنكار لعدم كونهما من باب واحد وعدم مناسبة وارتباط بينهما ، فإنّ المدّعي في باب حجّية خبر الواحد جواز التعبّد بالخبر مع الدليل لا بدون الدليل حتى يدّعی الملازمة.

وإن كان المراد من جواز التعبّد في الإخبار عن الله تعالى جوازه مع قيام الدليل عليه، كما لو أخبر النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) _ الّذي ثبتت نبوّته بالمعجزة والآية _ بوجوب تصديق المتنبّي في إخباره عن الله تعالى ، فلا يبعد جوازه ولا مجال لدعوى الإجماع على بطلانه.

ويظهر من المحقّق الخراساني(قدس سره) في الحاشية أنّ المراد بالإخبار عن الله تعالى _ المذكور في التالي _ ليس إخبار المتنبّي ، بل المراد أنّه لو جاز التعبّد بالخبر عن النبيّ لجاز

ص: 62


1- انظر الوجهين في فرائد الاُصول (الأنصاري، ص 24) ؛ ومعارج الاُصول (العلّامة الحلّي، ص141)، وقد حكيا عن الجبّائي أيضاً، كما في فواتح الرحموت المطبوع في ذيل المستصفى من علم الاُصول (بحر العلوم، ج2، ص131).

التعبّد به عن الله، كما إذا قال النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كلّما أخبر سلمان عن الله تعالى، فاعملوا به. ولذا قال لا مانع منه ولا دليل على امتناعه، ولكن لا دليل على وقوعه.((1))

ولكنّ الظاهر أنّ المراد ما ذكرناه ، لأنّ ابن قبة كان من علماء العامّة ثم استبص_ر وصار من الخاصّة ، وبعيد أن يكون مراد مثله ما زعمه(قدس سره).

الوجه الثاني: أنّ العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيته حراماً وبالعكس.

والّذي ينبغي أن يقال في تقرير هذا الدليل وتشريحه: إنّ القائل بجواز التعبّد بخبر الواحد أو الأمارة أو أحد طرفي الشكّ إمّا أن يقول بأنّه ليس لله تعالى أحكامٌ متعلّقة بالأشياء بعناوينها الأوّلية يشترك فيها العالم والجاهل أو لا، والأوّل هو التصويب المجمع على بطلانه ، مضافاً إلى دلالة الأخبار المتواترة عليه ، وعلى الثاني فإمّا أن يقول بأنّ حكم الله تعالى وإن كان بالنسبة إلى العالم والجاهل سواء ، إلّا أنّ قيام الأمارة يكون سبباً لتغيّر الحكم عمّا هو عليه وارتفاعه، أو لا يقول بذلك، والأوّل هو التصويب الانقلابي، وهو وإن كان دون الأوّل في الفساد ، إلّا أنّ الإجماع أيضاً قائم على بطلانه مع دلالة الأخبار المتواترة عليه، وعلى الثاني (وهو القول بأنّ لله تعالى أحكاماً متعلّقة بالأشياء بعناوينها الأوّلية يشترك فيها العالم والجاهل من غير فرق بين قيام الأمارة على طبقها أو على خلافها، وعِلم المکلّف وجهله بها) يلزم من التعبّد بالأمارة أو أحد طرفي الشكّ إمّا محذور اجتماع المثلين لو كان الحكم الظاهري موافقاً للواقع، وهو محال، وإمّا محذور اجتماع الضدّين في صورة مخالفة الحكم الظاهري مع الواقعي ، والتكليف بالمحال لو كان الحكم الواقعي واجباً والظاهريّ حراماً مثلاً ، وتفويت

ص: 63


1- الخراساني، حاشية كتاب فرائد الاُصول، ص33.

المصلحة الملزمة لو أدّت الأمارة إلى حرمة ما هو واجب واقعاً، والإلقاء في المفسدة لو أدّت إلى وجوب ما هو حرام واقعاً.

هذا، مضافاً إلى أنّ الأحكام ظاهرية كانت أم واقعية إنّما هي تابعة للملاكات والمصالح ، فالواجب الواقعي إنّما وجب بملاحظة وجود مصلحة ملزمة فيه ، والحرام الواقعي إنّما حرم لوجود مفسدة شديدة فيه ، فلو أدّت الأمارة إلى حرمة الواجب الواقعي ، فإمّا أن تكون حرمته بعد قيام الأمارة عليها بلا ملاك ، أو تكون مع الملاك من جهة وجود المفسدة الشديدة ، وعلى الثاني فالمصلحة الملزمة المؤثّرة في الحكم الواقعي _ وهو الوجوب _ إمّا أن تكون مغلوبةً لهذه المفسدة بحيث تؤثّر هذه المفسدة في رفع أثر المصلحة في الوجوب ، فلا مجال لكون الفعل محكوماً بالوجوب واقعاً ، بل هو حرام ظاهراً وواقعاً ، وإن كان بالعكس فلا مجال لكون الفعل حراماً ظاهراً ، بل هو واجب ظاهراً وواقعاً ، وإن لم تكن لأحدهما غلبة على الآخر ، بل كان الملاكان على السواء من غير تفاوت بينهما ، فلا وجه للحكم بالوجوب والحرمة.

وكيف كان، فلا يكاد يفهم معنى معقول للحكم الظاهري مع محفوظية الحكم الواقعي وكونه بحاله.

إذا عرفت حقيقة هذا الاستدلال فاعلم: أنّه بعد ما بيّنا في مبحث اجتماع الأمر والنهي((1)) وغيره من المباحث السابقة من عدم كون الحكم عارضاً لفعل المکلّف وعدم كون معروضه الفعل الخارجي ، بل إنّما هو عرض يقوم بنفس المولى قياماً صدورياً؛ لأنّه لو كان عارضاً لفعل المکلّف للزم وجود العرض قبل المعروض ، فإنّ الحكم موجود قبل صدور الفعل عن المکلّف. ولا اعتناء بما قيل من لزوم محذور اجتماع المثلين في صورة إصابة الأمارة، لعدم استلزام أداء الأمارة إلى ما كان موافقاً للواقع لاجتماع

ص: 64


1- تقدّم في المجلّد الأوّل، الصفحة 266.

المثلین فی صالمثلين في صورة إصابة الأمارة، لعدم استلزام أداء الأمارة إلى ما كان موافقاً للواقع لاجتماع المثلين أصلاً.

فما هو المهمّ من المحاذير المذكورة ليس إلّا محذور اجتماع الضدّين، ومحذور اجتماع تمامية ملاك الحرمة مثلاً مع تمامية ملاك الوجوب إذا قامت الأمارة على حرمة ما يكون واجباً واقعاً، فنقول بعون الله تعالى:

أمّا الجواب عن محذور لزوم اجتماع الملاكين بناءً على الوجهين المذكورين في کلام الشيخ(قدس سره)،((1)) _ وهو كون الملاك في باب حجّية الأمارات والتعبّد بها راجعاً إلى كونها طرقاً محضة ، وعدم كون مصلحة في حجّيتها إلّا حفظ مصلحة الواقع ورعايتها ؛ لأنّه ليس في باب التعبّد بالأمارات وجعل حجّيتها تأسيساً من الشارع _ فأظهر الأمارات وأوضحها الظواهر وخبر الواحد، مع أنّا لو تأمّلنا في جميع ما استدلّوا به على حجّية الخبر مثلاً لوجدناه خالياً عن تأسيس ذلك ، بل ليس فيه إلّا ما يدلّ على ردع الشارع عن بعض الموارد ، ويفهم من هذه الأدلّة كآية النبأ((2)) وجود العمل على طبق الأمارة وبناء الناس واستقرار سيرتهم عليه ، وإنّما ردع الشارع عنه فيما إذا كان المخبِر مثلاً فاسقاً، فحجّية الأمارة ليس إلّا من جهة إمضاء الشارع ما عليه البناء وعمل العقلاء، ومن الواضح أنّ عملهم به ليس إلّا لمجرّد كونه طريقاً إلى الواقع.

فالشارع حيث لم يرد انبعاث الجاهل من الخطاب، لأجل عدم إمكان انبعاثه منه وقصوره عن ذلك؛ فإنّ الانبعاث مشروط بالوصول فمع عدم وصول الحكم إلى المکلّف لا يريد الحاكم انبعاثه منه _ وليس معنى ذلك تقييد الحكم بصورة العلم ، لأنّ علم المکلّف بالحكم متأخّر عن الحكم ، فلا يمكن أن يكون الحكم مقيّداً به _ فالحكم

ص: 65


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص25 - 26.
2- الحجرات، 6.

ينشأ مطلقاً _ ومعنى إطلاق عدم لحاظ علم العبد وجهله به في مقام إنشائه، لا ملاحظة إطلاقه بالنسبة إلى العالم والجاهل _ فلابدّ للمولى الّذي يريد إيصال عبده إلى المصالح الواقعية وحفظه عن الوقوع في المفاسد الواقعية من جعل حكم وإنشاء خطاب آخر كإيجاب العمل بالاحتياط أو العمل بخبر الواحد _ إذا كان في العمل بالاحتياط عس_ر ، وهذا إنّما يصحّ فيما إذا كانت إصابة الأمارة بنظر الشارع أغلب من غيرها ، لأنّ في صورة كون غيرها كذلك يكون جعل الأمارة قبيحاً، وفي صورة تساوي الطرفين يكون لغواً ، وحيث إنّه ليست في إيجابه العمل بالخبر مثلاً مصلحة إلّا إيصال المکلّف إلى المصالح الواقعية ، ففي صورة الإصابة ليس الحكم إلّا الحكم الواقعي ، وفيما أخطأ لا يكون حكماً حقيقياً في البين بل يكون صورياً، ولمّا لم يتمكّن المکلّف من التفرقة والتمييز بين الأمارة المصيبة وبين غيرها فلابدّ من جعلها طريقاً مطلقاً حتى في صورة عدم الإصابة، إلّا أنّه في هذه الصورة ليس جعلاً وحكماً واقعياً بل يكون صورياً محضاً، وليس له ملاك أصلاً. نعم، يكون له ملاك بحسب أصل الجعل الّذي تعلّق بالأمارة، فهو باعتبار بلا ملاك، وباعتبار آخر ذو ملاك. وكيف كان، ليس فيه ملاك الحرمة في صورة الخطأ إذا أدّت إلى الحرمة، وملاك الوجوب إذا أدّت إلى الوجوب أصلاً.

وممّا ذكرنا ظهر: دفع إشكال لزوم تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة؛ فإنّ المصلحة إنّما تفوت لأجل جهل المکلّف بالواقع وكذا الوقوع في المفسدة، ولا دخل لجعل الأمارة وعدمه في ذلك.((1)) مضافاً إلى أنّه لا مانع من جلب الخير الكثير إذا كان مجامعاً ومستلزماً للشرّ القليل.

إن قلت: إنّ هذا إنّما يتمّ لو قلنا بانسداد باب العلم، وأمّا في صورة الانفتاح فلا.

ص: 66


1- فيه تأمّل. [منه دام ظلّه العالي].

قلت: فرق بين انفتاح باب الجزم وانفتاح باب العلم بالواقع، فيمكن أن يرى العبد انفتاح باب علمه بالواقع مع كون علمه هذا جهلاً مركباً، ولا مانع من جعل الطريق بعد ما يرى المولى عدم إصابة علم عبده وكونه جهلاً مركّباً مطلقاً أو في أغلب الموارد.

هذا کلّه إذا قلنا في باب الطرق والأمارات بالطريقية المحضة، كما هو أحد الوجهين المذكورين في کلام الشيخ(قدس سره).

وأمّا على القول بالموضوعية والسببية: فإن اُريد منه أنّ أداء الأمارة يوجب حدوث مصلحة في المؤدّي مع عدم كونه في الواقع ذا مصلحة ومفسدة ، حتى يكون الحكم مطلقاً تابعاً للأمارة ، بحيث لا يكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عن الأمارة حكم، فهو تصويب باطل عقلاً ونقلاً وإجماعاً.((1))

وإن اُريد منه أنّ لله تعالى أحكاماً مشتركة بين العالم والجاهل، ولكن بسبب قيام الأمارة على خلافها تحدث في الفعل مفسدة غالبة على مصلحة الواقع ، أو مصلحة غالبة على المفسدة الواقعية، حتى يكون مرجعه إلى تغيير الحكم الواقعي عمّا هو عليه بسبب قيام الأمارة على خلافه ، فهو أيضاً تصويب باطل بالإجماع والروايات المتواترة.

ولو اُريد منه أنّ قيام الأمارة لا يصير سبباً لتغيير الواقع ، ولا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل ، ولا توجب حدوث مصلحة فيه ، ولا يكون نفس سلوك الطريق والعمل بالأمارة مشتملاً على مصلحة موجبة لإيجاب الشارع العمل على طبقها ليكون ملاك جعل الأمارة المصلحة السلوكية، بل المصلحة إنّما هي في نفس الأمر بالسلوك والعمل على طبق الطريق والأمارة ، كما هو المذكور في بعض نسخ

ص: 67


1- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج2، ص723 - 725؛ الشهید الثاني، تمهيد القواعد، ص322.

«الفرائد» المطبوع قرب وفاة الشيخ(قدس سره)((1)) واختاره المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية((2)) بزعم عدم ابتناء الأحكام على المصالح في المأمور بها وكفاية وجود المصلحة في نفس الأمر، وعدم خروج ذلك عمّا استقرّ عليه رأي أهل العدل من ابتناء الأحكام على المصالح والمفاسد النفس الأمرية.

ففيه: أنّا لا نتصوّر وجود المصلحة في نفس الأمر مع عدم وجودها في المأمور به؛ لأنّه لا يمكن تحقّق الأمر والنهي من دون وجود مصلحة في المأمور به ، فالأمر إنّما يصدر لأجل التسبّب إلى وقوع المأمور به وانبعاث المکلّف نحوه وحصوله في الخارج، وليست له نفسية واستقلال ، بل وجوده لا يكون إلّا آلة وتبعاً لوجود المأمور به. ولو فرض استقلاله وعدم لحاظه كذلك، فهو خارج عن حقيقة الأمر والبعث. ولا تفاوت بين الأمر والنهي والإرادة والكراهة، فكما أنّ الإرادة لا نفسية لها ولا استقلال، وليست تلحظ إلّا بتبع المراد، ولو فرض استقلالها وملاحظتها مستقلّة لخرجت عن كونها إرادة، كذلك الأمر لا نفسية له ولا استقلال ، لأنّه متفرّع على إرادة وقوع المأمور به في الخارج ويصدر للتسبيب له ، فلو صدر لغير هذا يخرج عن كونه أمراً.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو سلّم ذلك فلا تتدارك بهذه المصلحة، المصلحة الفائتة على المکلّف، ولا معنى لتداركها بها.

نعم، لا مانع من أن يقال بأنّها توجب تدارك المفسدة المترتّبة على نفس هذا الأمر بالسلوك، لكونه سبباً لتفويت الواقع أو وقوع المکلّف في مفسدة الحرام الواقعي،

ص: 68


1- حوالي سنة 1280 - 1281 ه_ .
2- قال في الكفاية (الخراساني، ج2، ص111): «... هذا، مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها، بل إنّما هي تابعة لمصالح فيها، كما حقّقناه في بعض فوائدنا». وانظر: فوائد الاُصول له(قدس سره) (ص 129، الفائدة 14 في الملازمة بين العقل والش_رع)؛ وحاشيته على فرائد الاُصول (ص37).

فيتحقّق الكسر والانكسار بين هذه المصلحة وتلك المفسدة ويترجّح جانب المصلحة لكونها أقوى.

وإن كان المراد من القول بالموضوعية أنّ الأمارة لا توجب تغيير الواقع ، بل هو على حاله إلّا أنّ المصلحة إنّما تكون في سلوك الطريق المجعول ، ويكون نفس العمل بالأمارة مشتملاً على مصلحة موجبة لإيجاب الشارع العمل على وفقها، كما هو المذكور في بعض نسخ الفرائد المطبوع أوّلاً ، وإن كان قد نقل عنه بعض تلامذتهرحمه الله رجوعه عن هذا الوجه _ لما أورد عليه بعض تلامذته _ واختياره إمكان كون المصلحة في نفس الأمر بالسلوك، كما هو المذكور في بعض نسخه المطبوعة في سنة (1280).

وكيف كان، ففيه: أنّه ليس السلوك الّذي تترتّب عليه المصلحة خارجاً غير العمل على طبق الأمارة وإتيان مؤدّاها ، فالمصلحة تترتّب على المؤدّى لا بما أنّه مؤدّى، بل بما أنّه سلوك الطريق والعمل على طبق الأمارة، وهذا يرجع إلى الوجه الثاني.

نقد القول بالمصلحة السلوكية

وتفصيل الكلام فيه: أنّ الأمارة إمّا أن تؤدّي إلى وجوب ما هو حرام واقعاً أو استحبابه، أو إلى حرمة الواجب الواقعي أو إلى كراهته، أو إباحة الحرام الواقعي، أو إلى غيره من الصور المفروضة في المقام. فلو أدّت إلى وجوب الحرام الواقعي فالمصلحة الّتي تترتّب على سلوك الأمارة إنّما تترتّب على هذا الفعل الّذي هو حرام واقعاً ، لأنّه لا معنى لسلوك الأمارة إلّا إتيان هذا الفعل حيث إنّه معنونه ، فهذه المصلحة السلوكية إمّا أن تكون غالبة على مفسدة الواقع ، فلا معنى لكون الفعل حراماً واقعاً بل هو واجب واقعاً؛ وإمّا أن تكون مغلوبة للمفسدة الواقعية، فلا معنى لكونه واجباً بل هو حرام واقعاً؛ وإمّا أن تكون مساوية لمفسدة الواقع، فيجب أن لا يكون حراماً ولا واجباً.

وأمّا لو أدّت إلى حرمة الواجب الواقعي، فإمّا أن يقال بترتّب المفسدة على الفعل الّذي يكون واجباً واقعاً، فمع تقدير غلبته على المصلحة الواقعية لا يكون غير الوجه الثاني؛ ولو قيل بترتّب مصلحة على الترك تتدارك بها مصلحة الواقع، فالترك ليس قابلاً لترتّب مصلحة عليه.

ولو أدّت الأمارة إلى استحباب ما هو الواجب واقعاً، فيجب أن يصير سبباً لتأكّد مصلحة الوجوب، لا أن يكون مزاحماً لها، وفي صورة الترك لا يعقل ترتّب مصلحة عليه.

وهكذا لو أدّت إلى كراهة ما هو حرام واقعاً.

ص: 69

وأمّا لو أدّت إلى إباحة الحرام الواقعي، أو الواجب الواقعي، فلا معنى لترتّب المصلحة على الفعل الّذي أدّت الأمارة إلى كونه مباحاً. وقس على هذا سائر الفروض الّتي تكون من هذا القبيل.

نعم، هنا فرض آخر ربما يكون السبب لتوهّم المصلحة السلوكية، وهو فيما إذا أدّت الأمارة إلى وجوب صلاة الجمعة مثلاً، مع كونها حراماً واقعاً وكون الواجب الواقعي صلاة الظهر، فتتدارك بالمصلحة السلوكية المصلحة الفائتة وهي مصلحة صلاة الظهر، والمفسدة الّتي وقع المكلّف فيها وهي مفسدة ارتكاب الحرام الواقعي.

ولكن ليس حال هذا الفرض خارجاً عن سائر الفروض؛ لأنّه بعد فرض عدم وجود واجب غير إحدى الصلاتين فإمّا أن تكون المصلحة المترتّبة على صلاة الجمعة غالبة على مفسدة فعلها وفوت مصلحة صلاة الظهر فيجب أن يكون الواجب الواقعي صلاة الجمعة، وإمّا أن تكون مساوية لهما فلا معنى لوجوب إحدى الصلاتين إلّا على وجه التخيير، هذا.

ويمكن أن يقال: إنّ القول بالموضوعية والسببية على هذا الوجه ربما لا يكون خالياً عن المناقضة، فإنّ مرجعه إلى الأمر بسلوك الطريق الّذي في سلوكه مصلحة بما أنّه

ص: 70

طريق إلى الواقع وسلوكه، ولازم ذلك ملاحظة الطريق موضوعاً للحكم على نحو يكون فانياً في ذي الطريق، وملاحظته في مقابل ذي الطريق وبحياله.

وكيف كان، فنحن لم نتعقّل وجهاً للوجه الثالث الّذي ذكره الشيخ(قدس سره)، ولا نفهم تفاوتاً وفرقاً بينه وبين الوجه الأوّل على نحو لا يرجع إلى التصويب المجمع على بطلانه.

ولا يخفى عليك: أنّا لم نجد أحداً من المحقّقين قال بالسببية والموضوعية في باب الأمارات والطرق.

وأنّ لازم القول بالموضوعية كون مؤدّى الأمارة حكماً واقعياً لا ظاهرياً. فالقول بالحكم الظاهريّ إنّما يكون صحيحاً على القول بالطريقية ليس إلّا. هذا کلّه فيما يرجع إلى المحذور الملاكي، ودفعه.

وأمّا الكلام في المحذور الخطابي وهو لزوم اجتماع الضدّين، كاجتماع البعث مع الزجر، أو البعث الأكيد مع الزجر إذا كان غير الأكيد، أو عكس ذلك، أو البعث أو الزجر مع الترخيص.

فما قيل في دفعه وجوه:

أحدها: ما عن السيّد العلّامة الميرزا الشيرازي، وتلميذه المحقّق السيّد محمد الأصفهاني. ومرجعه إلى عدم وجود التضادّ بين الحكم الظاهري والواقعي لاختلاف مرتبتهما، واجتماع الضدّين إنّما يكون ممتنعاً لو تحقّق في شيء واحد وفي مرتبة واحدة.

بيان هذا الوجه: أنّ ما هو الموضوع للحكم الواقعي ليس موضوعاً إلّا بعنوانه الأوّلي النفس الأمري ولا يكون متعلّقاً بالمكلّف إلّا بعنوانه الأوّلي، فالحكم يتعلّق بموضوعه وبالمكلّف بما هما عليه من العنوان الأوّلي الواقعي النفس الأمري، وإطلاقه يشمل تمام الحالات الّتي تعرض للموضوع أو للمكلّف قبل تعلّق الحكم بهما، ولا يشمل الحالات والأوصاف المتأخّرة عن الحكم، كالعلم والجهل والشك، فلا يمكن

ص: 71

لحاظ الموضوع مقيّداً بالعلم أو الجهل به، ولا ملاحظة إطلاقه بالنسبة إليهما؛ وما هو الموضوع للحكم الظاهريّ إنّما هو الموضوع بعنوان كونه مجهول الحكم أو مشكوك الحكم، فتكون مرتبته متأخّرة عن الحكم الواقعي، ومع هذا الاختلاف في الرتبة لا مانع من تعلّق البعث بأحدهما والزجر بالآخر. ألا ترى أنّ في مسألة الترتّب ليس ملاك تصحيح طلب الضدّين إلّا اختلاف مرتبتهما، فإنّ الأمر بالأهمّ إنّما تعلّق بأحد الضدّين مطلقاً، لكن لا يشمل إطلاقه الحالات الّتي تعرض الموضوع بعد تعلّق الحكم به كالعصيان، فلا يشمل إطلاقه ما هو الموضوع للأمر بالمهمّ لأنّه مقيّد بعصيان الأهمّ.

أقول: يمكن أن يقال بأنّ موضوع الحكم الواقعي وإن لم يشمل إطلاقه حال العلم والجهل بالإطلاق اللحاظي _ لأنّ ما لا يمكن لحاظ تقييده لا يمكن لحاظ إطلاقه _ إلّا أنّه بإطلاقه الذاتي محفوظ في ظرف الشكّ والجهل بالحكم الواقعي.

وقد بيّنّا في المطلق والمقيّد((1)) أنّ معنى الإطلاق ليس إلّا إرسال الموضوع وعدم كونه مقيداً بقيد، بمعنى كون الطبيعة تمام متعلّق الحكم، خلافاً لما ذهب إليه جماعة من الاُصوليّين ومنهم المحقّق الخراساني(قدس سره)، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الإطلاق عبارة عن جعل الموضوع آلة لملاحظة الخصوصيات،((2)) ولازم ذلك ملاحظة الخصوصيات وهذا عين التقييد.

وأمّا على ما اخترناه يكون الموضوع مطلقاً بالنسبة إلى جميع حالاته سواء كانت من الحالات المفروض وجودها قبل تعلّق الحكم به ككون الصلاة مثلاً في مكان كذا وزمان كذا، أو بعده كالجهل والعلم والعصيان، فإطلاقه هذا محفوظ حتى في مرتبة الشكّ والجهل.

ص: 72


1- تقدّم في المجلّد الأوّل، الصفحة 426 _ 427.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج1، ص378 _ 383.

ولا يقاس ما نحن فيه بمسألة الترتّب، فإنّ ما هو الملاك في صحّة القول بالترتّب وعدم كون طلب الضدّين من قبيل التكليف بالمحال _ الّذي هو الملاك في استحالة الأمر بالضدّين بعد كون الأمر بكل واحد منهما في حدّ ذاته ممكناً _ أنّ المولى حيث يرى أنّ بعثه ليس ممّا لا ينفكّ عنه المبعوث إليه لإمكان عدم انبعاث عبده منه، ولكن يمكن أن ينبعث العبد من الأمر بالمهمّ لأجل خصوصية تكون فيه فيأمر بالمهم مش_روطاً بعصيان الأهمّ وفي ظرف عدم تأثير أمره بالأهمّ في انبعاث العبد وعدم قابليته لذلك حتى لا يكون زمان عصيانه فارغاً. وهذا ممّا لا يرى العقل مانعاً منه والوجدان حاكم بصحّته وإمكانه، فلا ينبغي أن يقاس بما نحن فيه، فإنّ تعلّق أمرين بشيئين يمكن الإتيان بكل واحد منهما في ظرفه أمر ممكن بخلاف مسألتنا هذه، فإنّ التكليف الأوّل محفوظ حال التكليف الثاني.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو كان ملاك إمكان الأمرين بالضدّين وعدم انتهائه إلى التكليف بالمحال اختلاف مرتبة الحكمين يكون عنوان أحدهما مقيداً ومش_روطاً بعصيان الآخر، فيجب الالتزام بإمكانه إذا كان أحدهما مش_روطاً بإطاعة الآخر أو العلم به، مع اتّفاق الكلّ على عدم إمكانه.

ثانيها: ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) في الحاشية،((1)) بعد إفادة مقدمة ذكر فيها مراتب الحكم، وهو: أنّ التضادّ بين الأحكام إنّما يتحقّق فيما إذا وصلت إلى مرتبة الفعلية، وهي المرتبة الثالثة من المراتب الأربع الّتي ذكرها(قدس سره) للحكم، وأمّا في المرتبة الاُولى والثانية فلا تضادّ بينها ولا تزاحم بين إنشاء الإيجاب وإنشاء التحريم.

وعلى هذا، نقول: لا مضادّة بين الحكم الظاهري والواقعي، إذ البعث الفعلي أو

ص: 73


1- الخراساني، حاشية کتاب فرائد الاُصول، ص36.

الزجر الفعلي لا يكون إلّا بالنسبة إلى مؤدّى الأمارة، وأمّا الحكم الواقعي فلم يصل بعدُ إلى مرتبة الفعلية لعدم وصوله إلى المكلّف وعدم تجاوزه عن مرتبة الإنشاء، وقد مرّ عدم التنافر بين الحكم الإنشائي والفعلي.

إن قلت: إنّ تصوير الحكم الواقعي بهذه المرتبة وإن كان بمكان من الإمكان إلّا أنّه لا يدفع إشكال لزوم التصويب المجمع على بطلانه.

قلت: كما يكون الإجماع قائماً على اشتراك العالم والجاهل، كذلك الإجماع قائم على عدم فعلية الأحكام بالنسبة إلى جميع المکلّفين، كالجاهل بالحكم _ الّذي تقوم عنده الأمارة مع خطأها _. فالحكم بحسب المرتبتين الأُوليين لا يختلف بحسب اختلاف الآراء والأزمان، وأمّا بحسب المرتبة الثالثة والرابعة فالإجماع قائم على اختلافه.

فإن قلت: إذا لم يكن الحكم الواقعي الّذي اشترك فيه الجاهل والعالم فعلياً، فلا يجب اتباعه إذا تعلّقت به الأمارة وأصابت، ولا قبح في مخالفته، ضرورة عدم لزوم متابعة الخطاب التحريمي أو الإيجابي ما لم يصل إلى حد الزجر أو البعث الفعلي، وإنّما يجب اتّباع الأمارة فيما لو كان مؤدّاه حكماً فعلياً لا حكماً شأنياً.

قلت: وإن كان ما أفاد في الحاشية((1)) في مقام الجواب عن هذا الإشكال ليس كافياً في دفعه، لكنّه أفاد أخيراً في دفع هذا الإيراد: أنّ للحكم في مرتبة الفعلية درجتين، الاُولى: ما يعبّر عنها بفعلية ما قبل التنجز، والثانية: ما يعبّر عنها بفعلية حال التنجّز، والاُولى عبارة عن البعث أو الزجر إذا لم يصل إلى المکلّف ولم يتعلّق به علمه، والثانية عبارة عن مرتبة وصوله إليه، فعلى هذا إذا تعلّقت الأمارة بالحكم في هذه المرتبة تجب موافقته وتقبح مخالفته.((2))

ص: 74


1- الخراساني، حاشية کتاب فرائد الاُصول، ص37.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص49.

وقد أوردوا على هذا الوجه أيضاً بأنّه إن كان المراد من الحكم الشأني والمرتبة الشأنية مجرد الإنشاء من غير أن يكون للمولى بعث وزجر وترخيص فعلاً، كأن يكون له طومار مثبت فيه الأحكام الراجعة إلى عبيده مع عدم مخاطبتهم بها، فلا يدفع ما أفاده إشكال لزوم التصويب المجمع على بطلانه، لأنّ الحكم في هذه المرتبة ليس حكماً حقيقة.

وإن كان المراد من شأنية الحكم أنّه کلّما وجد موضوعه في الخارج يكون محكوماً بهذا الحكم، فلا يرفع به محذور اجتماع الضدّين، كما لا يخفى.

ولكن لنا أن نقول جواباً عن هذا الإيراد: إنّ تقييد الأحكام بالعلم موجب للدور، وبالجهل لغو؛ لأنّ في ظرف العلم لا يكون المکلّف معنوناً بعنوان الجاهل، وفي ظرف الجهل لا فائدة له، فالحاكم ينشأ مطلقاً ومن غير تقييد بصورة العلم والجهل ولكن لا يريد انبعاث المكلّف إلّا في ظرف العلم به لعدم إمكان انبعاثه في غير هذا الظرف. وهذا لا يكون لقصور في ناحية الحاكم وبعثه وزجره، بل لأجل القصور في ناحية الخطاب. فلو أراد الآمر انبعاثه مطلقاً يجب أن يتوسّل بأمر آخر مثل إيجاب الاحتياط أو جعل الطريق أو غيرهما. فالحكم الواقعي الّذي يشترك فيه العالم والجاهل هو الحكم الّذي أنشأه مطلقاً وإن كان المولى لم يرد انبعاث العبد منه إلّا في ظرف وصوله إليه لعدم إمكان انبعاثه إلّا في ظرف العلم به، وإنّما توسّل بإيجاب الاحتياط أو جعل الطريق لحصول غرضه وهو انبعاث العبد في ظرف الجهل أيضاً.

وأظن أنّ هذا مراد المحقّق الخراساني(قدس سره) من الحكم الفعلي في مرحلة ما قبل التنجّز، وهو المناسب لكلامه.

ثالثها: ما أفاده المحقّق المذكور في الكفاية:((1))من أنّ ما هو المجعول في باب الطرق

ص: 75


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص44.

والأمارات ليس إلّا الحجّية، والحجّية المجعولة غير مستتبعة للأحكام التكليفية، وفائدة جعل الحجّية تنجّز التكليف في صورة الإصابة وصحّة الاعتذار في صورة الخطأ، فلا منافرة بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي؛ لأنّ الأوّل وضعيّ غير مستتبع للحكم التكليفي، والثاني تكليفيّ محض، فلا مضادّة بين جعل الأمارة حجّة وبين وجوب فعل أو حرمته أو استحبابه أو كراهته أو إباحته.

والحاصل: أنّ معنى وجوب العمل على طبق الأمارة ليس إلّا جعلها حجّة. ولا فرق بين القطع _ وهو الحجّة الذاتية _ في كونها سبباً لتنجّز التكليف إذا أصابت وصحّة الاعتذار بها في صورة الخطأ وكون موافقتها انقياداً ومخالفتها تجرّياً، وبين الحجّة المجعولة، فإنّها أيضاً تكون كالحجّة الذاتية.

فبناءً عليه ليس في موارد الطرق والأمارات حكم من الأحكام الخمسة التكليفية حتى يستلزم محذور اجتماع الضدّين في صورة الخطأ واجتماع المثلين في صورة الإصابة، بل ليس إلّا الحكم الوضعي المجعول بجعل الشارع كسائر الاُمور الاعتبارية الوضعية نحو الملكيّة وغيرها.

رابعها: ما أفاده المحقّق المذكور أيضاً((1)) بناءً على الإباء عن الوجه السابق، والقول باستتباع جعل الحجّية للأحكام التكليفية، أو القول بأنّه لا معنى لجعلها إلّا جعل تلك الأحكام وانتزاع الحجّية من الأحكام التكليفية، فإنّ وجوب اتّباع الأمارة ينحلّ إلى وجوب الفعل إذا كان مؤدّاها وجوبه، وحرمته إذا كان المؤدّى حرمته، ومن هذا ينتزع تنجّز الواقع في صورة الإصابة ومعذورية المکلّف في صورة الخطأ.

وهو: أنّ اجتماع الحكمين وإن كان يلزم إلّا أنّهما ليسا بمثلين ولا ضدّين؛ فإنّ

ص: 76


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص49.

وجوب اتّباع الأمارة طريقيّ له مصلحة بحسب نفسه وهو رعاية الواقع ووصول المکلّف إلى الواقعيات، من دون أن تكون بالنسبة إلى متعلّقه بحسب كونه مؤدّى للطريق إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة، بل أُنشأ لأجل طريقيته إلى الواقع رعايةً لحفظ الواقع من جهة كون موارد إصابته أكثر من الطرق الّتي يستعملها العبد كالقطع وغيره.

فبناءً على هذا، إذا قامت الأمارة على وجوب شيء أو حرمته مثلاً ففي صورة الإصابة ليس في البين حكمٌ وإرادةٌ إلّا الحكم الواقعي والإرادة الواقعية، وأمّا الحكم الظاهري فيكون فانياً فيه فناء الطريق في ذي الطريق والمرآة في المرئيّ، وفي صورة الخطأ ليس في البين إلّا حكم ظاهريّ صوريّ من غير أن يكون متعلّقاً لإرادة المولى وكراهته، ومن غير أن تكون له في نفسه مصلحة لعدم كونه طريقاً إلى الحكم الواقعي، وإنّما أمر المولى عبده به صورةً لأجل عدم إمكان تميّز موارد إصابة الأمارة وعدمها، فأمر باتّباع الأمارة مطلقاً حفظاً لما تعلّق به غرضه من حفظ الواقعيات في موارد الإصابة. فعلى هذا، لا يلزم محذور اجتماع المثلين ولا الضدّين، لأنّه في صورة الإصابة يكون الحكم الظاهري مندكّاً وفانياً في الحكم الواقعي، وفي صورة الخطاء لا يكون الحكم الظاهري إلّا صوريّاً محضاً.

ولا يخفى عليك الفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني؛ فإنّ الوجه الثاني مبنيّ على القول بفعلية الحكم الظاهري وإسقاط الحكم الواقعي عن الفعلية، وهذا الوجه مبنيّ على كون الحكم الواقعي فعلياً وعدم كون الحكم الظاهري حكماً كسائر الأحكام.

هذا کلّه في تقرير الوجوه الّتي أفادها المحقّق الخراساني(قدس سره).

أقول: والذي ينبغي أن يقال تتميماً وتوضيحاً لما حقّقه المحقّق الخراساني(قدس سره) (في الوجه الثاني والرابع) هو: أنّ روح الحكم ليس إلّا إرادة المولى أو كراهته المطلقة

ص: 77

صدور الفعل عن جميع عباده أو تركه، ويكون المولى متسبّباً للمراد بإنشاء الخطاب المطلق _ الّذي لا يكون مقيّداً بالعلم والجهل _ ولكن لا يريد انبعاث المکلّف منه إلّا في ظرف علمه به، وذلك لا لقصور في ناحية المولى بل لقصور الخطاب لأن ينبعث منه العبد في حال الجهل، ولكن حيث يرى عدم كون هذا الخطاب باعثاً لانبعاثه إلّا في صورة العلم فلابدّ وأن يتوسّل لحصول مراده إلى خطاب آخر مثل إيجاب الاحتياط أو إيجاب العمل على طبق الأمارة.

وهذا الخطاب لا ينشأ إلّا من الإرادة الّتي أُنشأ منها الخطاب الأوّل، فالمولى بكلا الخطابين يكون متسبّباً لحصول مراده. ولا فرق بينهما أصلاً، ففي صورة قيام الأمارة على الوفاق لا يكون حكماً في البين إلّا الحكم الواقعي، وفي صورة قيامها على الخلاف لا يكون هنا حكم أصلاً بل هو حكم صوريّ ظاهريّ.

فإذا نظرنا إلى الخطاب الأوّل وأنّه لا يمكن أن يكون باعثاً للمكلّف نحو المراد ولا يريد المولى انبعاث عبده عنه _ مع كون إرادته مطلقة _ إلّا في ظرف علمه به لقصور الخطاب عن البعث والتحريك في غير هذا الظرف، نقول: إنّ الحكم الواقعي إذا قامت الأمارة على الخلاف شأني.

وإذا نظرنا إلى الإرادة الّتي تكون علّةً لإنشاء الخطابين وأنّ المولى أراد صدور الفعل من المکلّف مطلقاً وأنّ دائرة إرادته تكون أوسع ممّا تكون الخطابات الأوّلية باعثة إليه، نقول: إنّ الحكم الواقعي فعليّ.

فيوجّه بهذا کلا الوجهين (الوجه الثاني والرابع)، إلّا أنّ الوجه الرابع هو الأقرب.

وحاصل هذا الوجه: أنّ الحكم الواقعي يكون فعلياً في صورة علم المكلّف به أو قيام الأمارة عليه، ولا يكون حكماً في البين إلّا الحكم الواقعي الفعلي. وفي صورة الأمارة يكون الحكم الواقعي شأنياً، والحكم الظاهريّ صوريّاً محضاً.

ص: 78

هذا کلّه بناءً على كون الأحكام الظاهرية طريقية صرفة، كما هو الحقّ، وقد مرّ عدم صحّة القول بالموضوعية.((1))

تذنيبات

الأوّل: مرادنا من فعلية الحكم الواقعي فعليته في صورة إصابة العلم، أو الأمارة القائمة عليه. وأمّا في صورة المخالفة فلا فعلية له، بل هو باقٍ على شأنيته كما لا يخفى.

الثاني: إعلم: أنّ المناط لاستحقاق العقاب وصحّة احتجاج المولى على العبد في صورة المخالفة، واحتجاجه على المولى في صورة عدم إصابة الأمارة ووقوعه في مخالفة الواقع، هو: أمر المولى. كما لو أمره باتّباع الأمارة أو الأخذ بالحالة السابقة أو بأحد طرفي الاحتمال؛ فإنّ لازم هذا الأمر تنجّز الواقع واستحقاق العقاب على المخالفة في صورة الإصابة، ومعذوريته في صورة الخطأ إن قلنا بأنّ معذورية المکلّف في صورة الخطأ من آثار الأمر باتّباع الأمارة، ولم نقل باستناد معذوريته بجهله بالحكم الواقعي _ كما قوّيناه في مبحث القطع _ دون الأمارة.

وهذا، أي تنجّز الواقع واستحقاق العقاب على المخالفة في صورة الإصابة، هو معنى حجّية الأمارة أو الاحتياط أو غيرهما.

وأمّا ما أفاد المحقّق الخراساني(قدس سره) من كون المناط: جعل الحجّية الّتي تكون من آثارها استحقاق العقاب على المخالفة في صورة الإصابة، وتنجّز التكليف ومعذوريته في صورة الخطأ.((2))

ففيه: أنّ معنى الحجّية إن كان تنجّز الواقع واستحقاق العقاب على المخالفة

ص: 79


1- تقدم في الصفحة 65 _ 66.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص44.

والمعذورية، فلا يكون هذا من الاُمور الجعلية والاعتبارية. وإن كان معناها شيئاً آخر _ يكون تنجّز الواقع واستحقاق العقاب على المخالفة في صورة الإصابة، والمعذورية في صورة عدمها أثره _ فنحن لا نتعقّل هذا المعنى.

ولا يخفى: أنّه لا فرق بين الحجّية _ في عدم كونها قابلة للجعل _ وغيرها من العناوين المذكورة في کلّمات بعض المعاصرين((1)) كالطريقية والمحرزية والوسطية في الإثبات.

هذا مضافاً إلى أنّ جعل الحجّية، والوسطية أو الطريقية أو المحرزية منافٍ لما هو التحقيق من كون حجّية الأمارات والاُصول إمضائية وعدم كونها تأسيساً واقتراحاً من الشارع، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد توضيح لذلك.

الثالث: لا يخفى عليك: أنّ ما ذكرناه في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي، إنّما يجري فيما إذا كان مؤدّى الأمارة والحكم الظاهري وجوب فعل مع كونه حراماً في الواقع، أو العكس.

وبعبارة اُخرى: ما ذكرناه إنّما يجري إذا أدّى الطريق أو الأصل إلى حكم في قبال الواقع مخالف له، كوجوب فعل مع كونه محكوماً بحكم آخر.

وأمّا إذا كان الحكم الظاهري دالّا على توسعة موضوع الحكم الواقعي، وراجعاً إلى كيفيّة دخل جزء أو شرط في المأمور به وتوضيحه، كالأمارات والاُصول الجارية في الشكّ في أجزاء الصلاة أو شرائطها في الشبهة الموضوعية، مثل قوله: «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر»،((2)) فلا يتأتّى فيه ما ذكرنا من وجه الجمع والتوفيق، ولاحاجة إليه. ووجهه: أنّ

ص: 80


1- يقصد به المحقّق النائيني(قدس سره) في فوائد الاُصول (ج3، ص106 – 108).
2- المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، ج1، ص164، ب 29، ح4. ومثله (بلفظ «نظيف» بدل «طاهر» في تهذيب الأحكام (الطوسي، ج1، ص284- 285، ح199، ب12، باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات)؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج3، ص467، ب 37، من أبواب النجاسات، ح4.

مثل قوله: «كلّ شيء... إلخ» يدلّ على توسعة موضوع الحكم الواقعي _ وهو الصلاة مثلاً _ في ظرف الشكّ، وفردية الصلاة مع الطهارة المشكوكة للصلاة المأمور بها، وانطباقها عليها، من غير تفاوت بينها وبين الصلاة مع الطهارة الحقيقية. ولذا اخترنا في مبحث الإجزاء، إجزاء هذه الصلاة عن الواقع، وقلنا بأنّ منشأ توهم عدم الإجزاء ليس إلّا توهّم كون هذه الصلاة مع الطهارة المشكوكة وفي حال الشكّ في طهارة البدن أو اللباس متعلّقاً لأمر خاصّ غير الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة، والحال أنّه ليس في البين إلّا أمر واحد وهو الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة الّتي أحد أفرادها الصلاة مع الطهارة الواقعية، وأحدها الصلاة مع الطهارة المشكوكة، كما أنّ أحد أفرادها الصلاة مع الطهارة المائية في حال الاختيار وأحدها الصلاة مع الطهارة الترابية في حال الاضطرار، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...﴾ الآية،((1)) فما هو المأمور به في حال الاضطرار وفي حال الشكّ هو المأمور به في ظرف الاختيار وفي ظرف العلم، إلّا أنّ مصداق طبيعة الصلاة في حال الاختيار الصلاة مع الطهارة المائية، وفي ظرف الاضطرار مع الطهارة الترابية، وفي حال الشكّ مع الطهارة المستصحبة مثلاً. فتوهّم وجود أمر آخر في البين غير الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة، ليس في محلّه.

وقلنا هناك أيضاً: إنّ ما وقع محلّا للنزاع في مبحث الإجزاء ليس إلّا فيما إذا كان للشارع أمر متعلّق بطبيعة كان لها فرد بحسب حال وفرد بحسب حال آخر، كالاختيار والاضطرار، أو العلم والجهل بوجود الشرط أو الجزء، وأنّ الإتيان بأحد الفردين في حال يجزي عن الإتيان بما هو فردها في حالة اُخرى أم لا؟ وإلّا فلو قلنا بتعلّق أمر مستقلّ بكل واحد من الفردين، فلا يعقل القول بالإجزاء؛ فإنّه لا ريب في عدم إجزاء

ص: 81


1- المائدة، 6 .

الإتيان بما هو مأمور به بأمر عمّا هو المأمور به بأمر آخر، ويصير من قبيل الصلاة والصوم في عدم إجزاء کلّ واحد منهما عن الآخر.

وبالجملة: أدلّة الاُصول والأمارات الجارية في الشكّ في أجزاء الصلاة أو شرائطها حاكمة على الأحكام الواقعية، لكن ليس هنا أمران ظاهري وواقعي، بل أمر واحد تعلّق بالواقعي.

إن قلت: إنّ معنى الحكومة هو كون دليل الحاكم مفسّراً لدليل المحكوم إمّا بتضيق دائرته بلسان التخصيص وإفادة عدم شمول الحكم لجميع الأفراد ورفع حكم الخاصّ الّذي يكون ملاكه مع ملاك الأحكام المتعلقة بسائر أفراد العامّ واحداً، أو بلسان التقييد وإفادة عدم كون الطبيعة المذكورة في دليل المحكوم تمام الموضوع للحكم.

وإمّا موسّعاً لها بإدخال ما كان خارجاً عنه. ولازم ذلك كون دليل الحاكم في عرض دليل المحكوم وفي مرتبته، مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا شكّ لكثير الشكّ»((1)) الحاكم على أدلّة سائر الشکوك. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لتأخّر دليل الحكم الظاهري _ كدليل الأصل مثلاً _ عن دليل اشتراط الصلاة بالطهارة الواقعية بمرتبتين إحداهما الشكّ في الطهارة المأخوذة في موضوع الحكم الواقعي وثانيتهما أخذ الطهارة في موضوع الحكم الواقعي، ولازم ذلك تعدّد الحكمين وعدم الإجزاء؛ فإنّ الحكم الواقعي باقٍ على حاله، والحكم الظاهري بعد انكشاف الخلاف يزول بزوال موضوعه، فلا وجه للإجزاء.

قلت: نعم، وإن كان دليل الحكم الظاهريّ ودليل الحكم الواقعي ليسا في مرتبة

ص: 82


1- لم نعثر على هذا النصّ، والظاهر أنّها قاعدة مصطادة من عدّة روايات، انظرها في وسائل الشیعة (الحرّ العاملي، ج8، ص 227-229، ب16، من أبواب الخلل الواقع في الصلاة).

واحدة، ولكن بعد اتّفاق الكلّ على ورود دليل الأصل وتسليم ظهوره اللفظي فى جعل الحكم الظاهري، وعدم كون دليل الحكم الظاهري مخصِّصاً أو مقيِّداً بالمعنى المصطلح، يبقى الكلام في تقديم ظهور دليل الواقعي وظهور دليل الظاهري، والمدّعى هو تقديم الثاني على الأوّل، وإلّا يلزم لغوية الجعل في صورة الشكّ.

إن قلت: يكفي في عدم اللغوية كونه محكوماً بإتيان الصلاة ما لم ينكشف الخلاف، بل يمكن القول باستفادة ذلك من نفس أدلّة الأحكام الظاهرية لكونها مغيّاة بعدم كشف الخلاف؛ فإنّ قوله: «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر»((1)) مثلاً، بغايته يدلّ على امتداد هذا الحكم إلى زمان العلم، لا مطلقاً.

قلت: أوّلاً: الغاية مسوقة لبيان عدم العلم بالواقع والشكّ فيه، ودخالة الشكّ في موضوع الحكم، لا لبيان عدم وجود حكم المغيّى بعد كشف الخلاف.

وثانيا: العلم بالقذارة مثلاً بعد الشكّ فيها يكشف عن فقدان الطهارة في الصلاة مثلاً، لا عن عدم ترتّب الأثر _ أعني انطباق عنوان المأمور به على المأتيّ به _ وعدم إتيان المکلّف بالصلاة المأمور بها؛ فإنّ المفروض انطباقه ظرف الشكّ ومن جملتها انطباق عنوان المأمور به المشروط بالطهارة عليه، وبعد ترتّب ذلك الأثر لا مجال لارتفاعه.

إن قلت: هذا إذا لم نقل في مقام الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بمقالة المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية من جعل الحجّية والعذرية،((2)) وإلّا فلا مجال إلّا للقول بعدم الإجزاء.

ص: 83


1- مرّ تخريجه آنفاً.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص44.

قبل العلم. فكشف الخلاف لا يوجب رفع ذلك الأثر بعد تسليم ظهور دليل الحكم الظاهري في توسعة الواقع، وأنّه ظاهر في ترتّب جميع آثار الطهارة مثلاً في

قلت: أمّا جعل الحجّية فلا يمكن تصحيحه في المقام، لأنّ الفرض أنّ الحكم المتعلّق بالصلاة المرکّبة من الأجزاء والشرائط الكذائية معلوم للمكلّف، فلا معنى لجعل الحجّية وتنجّز التكليف في صورة موافقة الحكم الظاهري مع الواقعي. وأمّا العذرية فهي بالنسبة إلى الاُصول في بعض الموارد غير مستندة إلى الأصل، وإنّما تكون مستندة إلى الجهل، وفي بعض الموارد لا يمكن فرضه أصلاً، كما لو أتى المکلّف بالصلاة مع اللباس المشكوك في أوّل الوقت إستناداً إلى الأصل فبان عدم كونه طاهراً واقعاً في الوقت، فإنّه لا مجال لعذرية الأصل في مثله.

هذا مضافاً إلى أنّ جعل الشارع حكماً يوجب مخالفة الواقع، في غاية البعد. ومضافاً إلى خصوص الروايات الواردة في المقام، وعدم إمكان الالتزام بتحقّق العذر فقط دون تحقّق المأمور به، كما عن علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إني لا اُبالي أبَوْلٌ أصابني أم ماءٌ إذا لم أعلم»((1))، فإنّ الالتزام بأنّه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ترك الصلاة أصلاً وكان معذوراً في تركها، بعيد جدّاً.

إن قلت: إنّ الإجزاء منافٍ لجعل الأحكام الظاهرية على نحو الطريقية؛ لأنّ مقتض_ى طريقية الحكم الظاهري عدم الحكم واقعاً في صورة الخطأ.

قلت: إنّا وإن لم نقل بكون الأوامر والنواهي تابعة للمصالح والمفاسد الّتي تكون فيها، ولكن لا مانع من كون المصلحة في تحقّق الإطاعة بما هي إطاعة بالنسبة إلى العمل الّذي عيّنه الشارع من بين الأعمال بعد ملاحظة المرجّحات، ومع ذلك لا منافاة بين الإجزاء وطريقية الأحكام الظاهرية، لحصول المصلحة على کلّ حال.

والحاصل: أنّ بعد الفراغ من عدم كون دليل الحكم الظاهري مخصّصاً أو مقيّداً بالمعنى المصطلح، يبقى الكلام في تقديم دليل الحكم الظاهري أو الواقعي، وحيث إنّ

ص: 84


1- الطوسي، تهذيب الأحکام، ج1، ص253-254، ح735 ؛ الطوسي، الاستبصار، ج1، ص180، ح629؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج3، ص467، ب37، من أبواب النجاسات، ح5 .

دليل الحكم الظاهري إنّما دلّ على توسعة موضوع الحكم الواقعي، وحكم بكون البدن واللباس المشكوك طهارته مثلاً بحكم الطاهر، فلابدّ حينئذٍ من أحد المعنيين: فإمّا يكون المراد كون المصلّي كذلك معذوراً في المخالفة إذا خالف الحكم الظاهري الحكم الواقعي، ومستحقّاً للعقاب والتوبيخ من قبل المولى إذا تركها في صورة الإصابة. أو أنّ العمل الكذائي ينطبق عليه عنوان الصلاة. والأوّل غير معقول؛ إذ في صورة كشف الخلاف في الوقت لا مخالفة أصلاً فلا معنى للعذر، و لا عذر في خارج الوقت فلأنّ جعل العذر متفرّع على استناد مخالفة الواقع إلى الجهل وشبهه حتى يكون جعل العذر للامتنان والتسهيل موجَّهاً، وأمّا هنا فتكون المخالفة مستندة إلى نفس هذا الحكم والجعل، فكيف يصحّ أن يكون نفس هذا الجعل الموجب للمخالفة جعلاً للعذر في صورة المخالفة؟

إن قلت: فما وجه الجمع هنا بين الحكم الظاهري والواقعي؟

قلت: لا يمكن التوفيق بينهما بأحد الوجهين المتقدمين.

أمّا كون الحكم الواقعيّ شأنياً والظاهريّ فعلياً؛ فلأنّ الشأنية هناك((1)) حيث تكون متوقّفة على عدم إمكان انبعاث العبد بالخطاب الأوّل في ظرف الشكّ تكون الإرادة الأوّلية المنكشفة بالخطاب الثاني شأنية في صورة عدم الإصابة لا محالة، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لتعيّن الأمر والمأموربه وتمكّن المأمور من تحصيل شرائطه الواقعية، وحكم العقل بلزوم تحصيلها لولا حكم الشارع بتوسعة الموضوع وجعل الحكم الظاهري.

وأمّا الوجه الثاني وهو كون الحكم الظاهريّ حجّة وعذراً وحكماً صوريّاً والواقعي حقيقيّاً، فلما مرّ من عدم تحقّق الحجّية والعذرية هنا من غير فرق بين انكشاف الخلاف في الوقت وخارجه.

ص: 85


1- أي في باب الإجزاء.

ولكن يمكن أن نلتزم بشأنية الواقع وعدم حكم فعلي للشارع غير الشأنية المصطلحة، فإنّها كما ذكرنا لا تدفع الإشكال.

وتقريبه: أنّه لا ريب في أنّ الأحكام لابدّ لها من ملاكات ومصالح وأنّ العبد في مقام الامتثال يقع في الكلفة والمشقّة، ولا تعارض المشقّة والكلفة اللازمة _ الّتي يقتضيها طبع الحكم والإتيان بنفس الطبيعة _ المصلحة الثابتة في متعلّق الحكم، بخلاف المشقّة الزائدة على هذه المشقة، كالمشقة الحاصلة من إتيان نفس الطبيعة وغيرها مقدّمة لها، فإنّه يمكن معارضة المشقّة الزائدة للمصلحة الّتي تكون في متعلّق الحكم، فترفع اليد عن هذه المصلحة لمعارضتها مع هذه المشقّة الزائدة، لئلّا يقع المكلف فيها.

والحاصل: أنّ المستفاد من أدلّة الأحكام الظاهرية أنّ الشارع لا يرضى بتحمّل المشقّة زائداً على الكلفة الّتي اقتضاها نفس الإتيان بالمأمور به، ورَفَع اليد عن اشتراط الشرائط والأجزاء الواقعية في ظرف الشكّ، فيكون العلم بالنجاسة مضرّاً لا أنّ العلم بعدمها شرط.

إن قلت: إذا كان الحكم الواقعي في هذه الموارد شأنياً _ بالمعنى المذكور _ والحكم الظاهري فعلياً، فلا معنى لجعل الحكم الواقعي وجعل الش_رط إبتداءً وواقعاً الطهارة الواقعية، وأعمّ منها ومن الظاهرية ظاهراً وثانياً، وتنزيل المشكوك منزلة المعلوم، فلا ينبغي حينئذٍ إلّا جعل الشرط أعمّ منهما واقعاً حتى يرجع إلى كون الشرط عدم العلم بالنجاسة.

قلت: من الممكن أن يكون الوصول إلى مصالح متعلّقات الأحكام غير مترتّب على وجود المتعلّق بجميع خصوصياته ومشخّصاته في الخارج، وكان مترتّباً على شيء آخر هو حقيقة موضوع الأمر الواقعي وروحه مثل: عنوان الإطاعة أو الخضوع أو الخشوع وإظهار العبودية لله عزّ وجلّ، وكانت الخصوصيات والمشخّصات الموجبة لاختلاف

ص: 86

صور العبادات كالأجزاء والشرائط من قبيل المشخّصات الفردية الخارجة عن حقيقة الطبيعة، إلّا أنّ تعلّق الأمر بهذه الخصوصيات والصور الخاصّة والهيئات المخصوصة وتعيّنها لمكان وجود مصلحة مقتضية مؤثّرة في ذلك ما لم تزاحمها مصلحة أقوى كمصلحة التسهيل أو دفع المشقّة الزائدة، فهذه المصلحة إنّما توجب تعيّن تلك الخصوصيات ما لم توجب هذه الخصوصيات کلفة زائدة على المکلّف. فعلى هذا، لابدّ من جعل الشرط واقعاً وابتداءً الطهارة الواقعية، وأعمّ منها ومن الظاهرية في ظرف الشكّ مثلاً. وهذا يكفي في مقام تصوير إمكان جعل الحكمَين ولو لم يكن في عالم الإثبات دليل في البين، فتدبّر جيّداً.

تتمّة

استشكل بعض الأعاظم من المعاصرين _ كما في تقريرات بحثه _ على مختار المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية في مبحث الإجزاء من إجزاء الحكم الظاهري في الشبهة الموضوعية إذا كان دليله أحد الاُصول الجارية في الشبهات الموضوعية لكون دليله حاكماً على دليل الاشتراط ومبيّناً لدائرة الش_رط وأنّه أعمّ من الطهارة الظاهرية والواقعية.((1))

أوّلاً: بعدم استقامة ما أفاده على مسلكه من تفسير الحكومة من كون أحد الدليلين مفسّراً للدليل الآخر على وجه يكون بمنزلة کلمة «أعني» و«أردت» و«أي» وأشباهها من أدوات التفسير، لوضوح أنّ قوله: «كلّ شيء طاهر» أو «حلال» ليس مفسّ_راً لما دلّ على أنّ «الماء طاهر» و«الغنم حلال»، ولا لما دلّ على أنّه يعتبر الوضوء بالماء المطلق الطاهر، والصلاة مع اللباس الطاهر المباح، وأمثال ذلك.

وثانياً: التوسعة والحكومة إنّما تستقيم إذا كانت الطهارة أو الحلّية الظاهرية مجعولة

ص: 87


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج1، ص133.

أوّلاً، ثم يأتي دليل على أنّ ما هو الش_رط في الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعية والظاهرية، حتى يكون هذا الدليل موسّعاً وحاكماً على أدلّة اعتبار الطهارة الواقعية، مع أنّ المفروض عدم وجود دليل سوى نفس دليل قاعدة الطهارة وهو قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّ شيء طاهر»، وهو لا يمكن أن يكون معمِّماً أيضاً.

وثالثاً: الحكومة المتصوّرة في باب الطرق والأمارات والاُصول غير الحكومة الموجبة للتوسعة أو التضييق؛ فإنّ الحكومة الموجبة للتوسعة والتضييق إنّما تكون فيما إذا كان دليل الحاكم في مرتبة دليل المحكوم، ولا يكون الشكّ في المحكوم مأخوذاً في دليل الحاكم، وهي لا تتحقّق إلّا بالنسبة إلى أدلّة الأحكام الواقعية بعضها مع بعض، كقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا شكّ لكثير الشكّ»((1)) الحاكم على قوله: «إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأربع».((2))

وبعبارة اُخرى، نقول: إنّ الحكمين اللذين يتكفّلهما الدليل الحاكم والدليل المحكوم في الأدلّة الواقعية إنّما يكون أحدهما موسّعاً أو مضيّقاً لموضوع الآخر لأجل كونهما مجعولين في عرضٍ واحدٍ؛ فإنّ الحكومة بمنزلة التخصيص، والحكم الخاصّ إنّما يكون مجعولاً واقعاً في عرض جعل الحكم العامّ من دون أن يكون بينهما ترتّب وطولية، فكان هناك حكم مجعول على كثير الشكّ، وحكم آخر مجعول على غيره، وإنّما يسمّى ذلك بالحكومة لا التخصيص لعدم ملاحظة النسبة بين الدليلين، وإلّا فنتيجة الحكومة التخصيص.

وأمّا الحكمان اللذان يتكفّلهما دليل الحكم الظاهري ودليل الحكم الواقعي،

ص: 88


1- مرّ تخريجه في الصفحة 82.
2- انظر الروايات بهذا المضمون في وسائل الشیعة (الحرّ العاملي، ج8، ص212، ب8، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ص216، ب10).

فأحدهما _ وهو الّذي يتكفّله دليل الحكم الظاهري _ مجعول في طول الحكم الواقعي وفي المرتبة المتأخّرة عنه، لأنّ الشكّ مأخوذ في موضوعه.

وبعبارة ثالثة: المجعول الظاهري إنّما هو واقعٌ في رتبة إحراز الواقع والبناء العمليّ عليه بعد جعل الواقع وانحفاظه على ما هو عليه من التوسعة والتضييق، فلا يمكن أن يكون المجعول الظاهري موسّعاً أو مضيقاً للمجعول الواقعي مع عدم كونه في رتبته.

فبناءً على هذا، لا تكون حكومة الحكم الظاهري على الواقعي إلّا في مقام الظاهر والإحراز، ولذا نسمّيه بالحكومة الظاهرية في مقابل الحكومة الواقعية، وهي القسم الأوّل. فيجوز ترتّب آثار الواقع عليه ما لم ينكشف الخلاف، وأمّا بعد كشف الخلاف فينكشف عدم وجدان المأتيّ به لشرطه، ومقتضى القاعدة عدم إجزائه عن الواقع.

وبالجملة: بعد انقسام الحكومة إلى قسمين ظاهرية وواقعية، يتوقف الإجزاء على كون الحكومة في المقام واقعية مع أنّها مستحيلة لأجل أخذ الشكّ في موضوع أدلّة الأصل، ولا ريب أنّ هذا يكون من الحكومة الظاهرية وهي غير مستلزمة للإجزاء.

ورابعاً: اختصاص الاُصول دون الأمارات بذلك تخصيص بلا مخصّص، بل الأمارة أولى من الاُصول بالحكومة المدّعاة في المقام وإجزائها عن الواقع، فإنّ الموجود في الأمارة جعل المحرز للواقع، وفي الأصل ليس إلّا فرض المحرز وجعل آثار المحرز عند الشكّ لا جعل نفس المحرز.

وخامساً: لو كانت الحكومة كما ادّعاه المحقّق المذكور واقعيّة، وقلنا بأنّ الطهارة المجعولة لقاعدة الطهارة واستصحابها موسّعة للطهارة الواقعية، فلابدّ من ترتّب جميع آثار الواقع لا خصوص الشرطية، والحكم بطهارة ملاقي مستصحب الطهارة وعدم القول بنجاسته بعد انكشاف الخلاف والعلم بنجاسة الملاقى (بالفتح)، لأنّ الملاقي

ص: 89

حين الملاقاة كان طاهراً بمقتضى التوسعة المستفادة من القاعدة أو الاستصحاب، مع أنّه ممّا لم يلتزم به أحد.((1))

هذا، ولكن لا يذهب عليك ضعف ما أفاده المعاصر المذكور(قدس سره)، فإنّ المناقشة في عدم تحقّق الحكومة في المقام على مختار المحقّق الخراساني(قدس سره) مناقشة لفظية؛ لأنّ المقصود تقدّم دليل الأصل على دليل الاشتراط، وأنّه مبيّن لدائرة الش_رط بأنّه أعمّ من الطهارة الواقعية والظاهرية، وأنّ مقتضى ملاحظة قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّ شيء طاهر... إلخ» مع أدلّة اشتراط الصلاة بالطهارة الواقعية كون الش_رط في حال الشكّ أعمّ من الطهارة الظاهرية والواقعية، سواء استمرّ الشكّ أو لا. ولا دخالة لكون ذلك حكومة على اصطلاح وعدم كونه كذلك على اصطلاحه.

والحاصل: أنّ الإشكال متوجّه إلى المحقّق المذكور من حيث اعتباره في الحكومة كون الدليل الحاكم مفسراً للدليل المحكوم ومصدّراً بأدوات التفسير، لأنّه يكفي في الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى المحكوم بحيث لو لم يكن المحكوم لكان لغواً، سواء كان موسّعاً لدائرة المحكوم بإدخال ما يكون خارجاً عنه أو مضيّقاً له بإخراج ما يكون داخلاً فيه.

مضافاً إلى أنّه ربما لا يوجد دليل يكون مفس_ّراً لدليل آخر ومصدّراً بأدوات التفسير، إلّا أنّ هذا الإشكال لا يكون وارداً على ما اختاره في المقام من تقديم دليل الأصل على أدلّة الاشتراط، وأنّه يستظهر من ملاحظتهما معاً أعمّية الش_رط في حال الشكّ، كما لا يخفى.

وأمّا ما أفاده في الإيراد الثاني، فهو أيضاً مؤاخذة للمحقّق المذكور بظاهر عبارته،

ص: 90


1- النائیني، فوائد الاُصول، ج1، ص249 - 251.

والحال أنّ مراده أنّ مقتض_ى الاستظهار من قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّ شيء طاهر...» ودليل الاشتراط أنّ ما هو الشرط أعمّ من الواقعيّ والظاهريّ.

وبعبارة اُخرى: فردية الصلاة مع الطهارة المشكوكة للصلاة الواقعة تحت الأمر ومصداقيتها لها في حال الشكّ، كفردية الصلاة مع الطهارة الواقعية لها. ومعنى ذلك أنّ القاعدة ناظرة إلى نفس دليل الصلاة وموسّعة لدائرة العنوان المترقّب حصوله وانطباقه على المأتيّ به، فالحكم بالطهارة الظاهرية معناه الحكم بتحقّق العنوان المترقّب انطباقه على الفعل، وحصول ذلك العنوان في ظرف الشكّ، وبعد تحقّق ذلك العنوان والحكم بكون المأتيّ به فرداً له لا معنى لانكشاف الخلاف.

وأمّا إيراده الثالث، ففيه: مضافاً إلى أنّه لا معنى لتقسيم الحكومة إلى الظاهرية والواقعية، ما يظهر ممّا ذكرناه في التذنيب الثالث، فإنّ دليل الأصل ودليل الحكم الواقعي وإن لم يكونا في عرض واحد، ولكن بعد اتّفاق الكلّ على ورود دليل الأصل وجعل الحكم الظاهري في مورد الشكّ وعدم كونه مخصّصاً أو مقيّداً بالمعنى المصطلح، يجب الجمع بينه وبين دليل الحكم الواقعي بتقديم ظهور أحدهما، وحيث إنّ جعل الحكم الظاهريّ الدالّ على توسعة موضوع الحكم الواقعي لا يمكن أن يكون جعلاً للحجّية والعذرية كما مرّ تفصيله، فلابدّ من القول بكون الصلاة المأتيّ بها كذلك فرداً لطبيعة الصلاة المأمور بها، وأنّ الش_رط أعمّ من الطهارة الظاهرية والواقعية، فتدبّر.

وأمّا الإيراد الرابع، فهو وإن كان وارداً على ما سلكه المحقّق الخراساني(قدس سره) وذهابه إلى التفصيل بين الاُصول والأمارات، ولكن يدفعه ما اخترناه من عدم الفرق بينهما في الإجزاء.((1))

ص: 91


1- تقدّم في المجلّد الأوّل.

وأمّا إيراده الخامس، فمدفوع بأنّ انطباق الصلاة على الفرد المأتيّ به مع الطهارة الظاهرية في حال الشكّ بمقتضى قاعدة الطهارة لا يقتضي ترتب جميع آثار الواقع حتى بعد العلم وانكشاف الخلاف، فتدبّر جيّداً.

الأمر الخامس: في تأسيس الأصل فيما لا يعلم حجّيته

إعلم: أنّ بعد إثبات إمكان التعبّد بغير العلم، ودفع الشبهات المتصوّرة في المقام، وبيان الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعي، يقع الكلام في وقوعه في الأحكام الش_رعية وعدمه، ولابدّ قبل الورود في المطلب من تأسيس الأصل حتى يكون هو المعوّل عليه عند الشكّ وفقد الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم، فنقول:

احتجّ الشيخ(قدس سره) على حرمة التعبّد والاستناد قولاً أو عملاً بالظن الّذي لم يقم على التعبّد به دليل بالأدلّة الأربعة.

قال: ويكفي من الكتاب قوله تعالى: ﴿قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ﴾((1)) دلّ على أنّ ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشرع فهو افتراء.

ص: 92


1- يونس، 59.لا يخفى عليك، أنّ الآيات في هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشَاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة ، 168 – 169). ومثل قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الّتي...﴾ الآیة، إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ِ مَا لَا تَعْلَمُونِ﴾ (الأعراف، 32 – 33). ويمكن أن يقال: إنّ الآيات القرآنية المذكورة ليست في مقام إنشاء الحكم، ولا يستفاد منها أنّ التعبّد بغير العلم محرّم شرعاً كسائر المحرّمات الشرعيّة، بل الآيات إنّما تكون مسوقة للإرشاد إلى ما هو المرتكز في الأذهان من قبح التعبّد والالتزام بما لم يعلم كونه من قبل الله تعالى من غير فرق بين الالتزام القولي والعملي، فإنّ الثاني أيضاً إذا كان على سبيل الالتزام والتعبّد يكون حاكياً عنه. ولا يرد على ما ذكر كون أكثر هذه الآيات في مقام المحاجّة مع الكفّار، فإنّ ملاك الاحتجاج فيها استقلال العقل بقبح إسناد ما لم يعلم أنّه من جانب المولى إليه، فكلّها إرشاد إلى حكم العقل، كما لا يخفى. [منه دام ظلّه العالي] .

ومن السنّة قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في عداد القضاة من أهل النار: «وَرَجُلٌ قَض_ى بِالْ_حَقِّ وَهُوَ لَا يَعْلَم».((1))

ومن الإجماع ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله من كون عدم الجواز بديهيّاً عند العوام، فضلاً عن العلماء.

ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان عن جهل مع التقصير.

نعم، قد يتوهّم متوهمٌ أنّ الاحتياط من هذا القبيل، وهو غلط واضح؛ إذ فرق بين الالتزام بشيء من قبل المولى على أنّه منه مع عدم العلم بأنّه منه، وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه، وشتّان ما بينهما، لأنّ العقل يستقل بقبح الأوّل وحسن الثاني.

والحاصل: أنّ المحرم هو العمل بغير العلم متعبّداً به متديّناً به.((2)) انتهى کلامه(قدس سره).

وأورد عليه المحقّق الخراساني(قدس سره) بعدم ارتباط حرمة الالتزام بما يؤدّي إليه الظنّ من الأحكام ونسبته إليه تعالى بالمقام؛ لأنّ المقام واقع في حجّية الظنّ وغيره كأحد طرفي الشكّ وعدمها وليس بينها وبين صحّة الالتزام والاستناد ملازمة، فإنّ من الممكن أن يكون الظنّ حجّة مع عدم صحّة الالتزام والاستناد بمؤدّاه بأنّه حكم الله تعالى، كحجّية الظنّ على تقرير الحكومة في حال الانسداد. كما أنّه لا مانع من عدم حجّيته وصحّة الالتزام والاستناد إليه تعالى إذا دلّ عليها دليل.((3))

ص: 93


1- الحديث مرويّ عن الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال:«القضاة أربعة، ثلاثة في النار، وواحد في الجنّة: رجلٌ قض_ى بجورٍ وهو يعلم به فهو في النار، ورجلٌ قضى بجورٍ وهو لايعلم فهو في النار، ورجلٌ قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجلٌ قض_ى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة». الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب صفات القاضي، ج27، ص22، ب4، ح6. [منه دام ظله العالي].
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص30 - 31.
3- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص55 - 58. راجع أيضاً حاشيته على فرائد الاُصول (ص41)؛ ودرر الفوائد (ج2، ص28).

فالّذي ينبغي أن يقال في مقام تأسيس الأصل: إنّ الآثار المرغوبة من الحجّة، بل ما يكون منشأً لانتزاع الحجّية ككون شيءٍ منجّزاً للواقع فيما أصاب وعذراً فيما أخطأ، لا يتحقّق إلّا في ظرف العلم بالحجّية وإحراز جعله حجّة وطريقاً مثبتاً، وإلّا فمع عدم العلم وعدم اتّصافه بالحجّية فعلاً لا تكاد تترتّب عليه الآثار المرغوبة، بل لا يتّصف بالحجّية لكون هذه الآثار منشأً لانتزاعها. ولو فرض جعله حجّة في الواقع، فالأصل يقتضي عدم حجّية ما شكّ في اعتباره بالخصوص شرعاً ولم يحرز التعبّد به واقعاً.

وليس هذا أصلاً من الاُصول المعروفة، بل المراد عدم كونه حجّة جزماً ووجداناً، لحكم العقل بعدم حجّيته عند الشكّ.

ولا يخفى: أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) حقّ، ولا اعتناء بما قد استشكل عليه بأنّ دخل العلم بحجّية شيء في حجّيته مستلزم للمحال، للزوم تقدّم الحجّية على العلم بها وتأخّرها عنه.

لأنّه يمكن أن يقال في جوابه: بأنّ الحجّية تكون مثل الإيقاعات كالطلاق والعتاق، فإنّ الطلاق بوجوده الاعتباري الّذي يعتبره جميع العقلاء ويرتّبون عليه الآثار الخاصّة لا يتحقّق إلّا بعد تحقّق شرائطه مع أنّه موجود في ذهن المطلق واعتباره، ويعتبره هو قبل أن يعتبره العقلاء منشأً للآثار الخاصّة، إلّا أنّ العقلاء لا يعتبرونه إلّا بعد إنشائه وتحقّق سائر شرائطه.

فعلى هذا، نقول: وجود الحجّية يكون مقدّماً على العلم بها في اعتبار جاعلها، ولكن ترتّب الآثار واعتبار وجودها عند جميع العقلاء بحيث يعاملون معها معاملة الحجّة موقوف على العلم بها ويكون متأخّراً عنه.

هذا لو قلنا بأنّ الحجّية قابلة للجعل، أمّا لو لم نقل به فالجواب سهلٌ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله في مبحث حجّية الظواهر.

ص: 94

فصل: في حجّية ظاهر کلام الشارع

اشارة

وقبل الورود في المطلب ينبغي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل: في كون البحث من الاُصول

قد ذكرنا عند البحث عمّا هو الموضوع لعلم الاُصول((1)): أنّ جميع أرباب العلوم العقلية والنقلية _ سوى من شذّ من متأخّري الاُصوليّين _ اتّفقوا على أنّ لكلّ علم موضوعاً على حدة؛ وأنّ تمايز العلوم إنّما يكون بتمايز الموضوعات؛ وأنّ موضوع کلّ علمٍ هو الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، ولازم ذلك أن يكون موضوع العلم _ كما يكون جهة امتياز مسائل العلم عن مسائل سائر العلوم _ جهة وحدة لمسائله المختلفة أيضاً، لاشتراك جميع المسائل في كونها باحثة عن عوارض هذا الموضوع؛ وأنّه، أي موضوع العلم، يكون مقدّماً في التحصّل على مسائله، لأنّ المسائل إنّما تكون باحثة عن عوارض هذا الموضوع، فالمعلوم الأوّل _ الّذي يجعله مدوّن العلم تجاه عقله لأن يبحث فيما يدوّنه من المسائل عن شؤونه المجهولة _ هو موضوع العلم. ألا ترى أنّ النحويّ يجعل هيئة الكلمة من جهة آخرها تجاه عقله ويبحث عن مصاديقها؛

ص: 95


1- تقدّم في المجلّد الأؤّل.

والصرفيّ يجعل هيئة الكلمة من غير جهة آخرها تجاه عقله؛ والمنطقيّ يجعل تجاه عقله المعلوم التصديقي الموصل إلى المجهول التصديقي، والمعلوم التصورّي الموصل إلى المجهول التصورّي؛ والحكيم يجعل الموجود بما هو موجود تجاه عقله.

ولا يخفى عليك: أنّ مرادهم _ كما ذكرنا _ من العارض ليس ما اصطلح عليه الطبيعيون، وقسّموه إلى المقولات التسع، وقابلوه بالجوهر _ الّذي إذا وجد وجد لا في موضوع _ بخلافه، فإنّه إذا وجد وجد في موضوع. بل المراد منه العارض المصطلح عند المنطقيّ في باب الإيساغوجي الّذي قسّموه إلى الخاصّة والعرض العامّ، وقابلوه بالذاتي المقسّم إلى النوع والجنس والفصل وهو الخارج المحمول، أي الكلّي الخارج عن الشيء مفهوماً المتّحد معه وجوداً، مثل قولهم: الجنس عرضٌ عامٌّ للفصل، والفصل خاصّةٌ غير شاملةٍ للجنس، وكلّ منهما عرضٌ بالنسبة إلى الآخر، وهما ذاتيان للنوع، فالعرض المنطقيّ إضافيٌ، يعني کلّ مفهومٍ يحمل على مفهومٍ آخر ويتّحد معه وجوداً عرضٌ بالنسبة إليه. بخلاف العرض المصطلح عند الطبيعي، فإنّ عرضيته ليست نسبية بل هو عرضٌ دائماً، كما أنّ الجوهر جوهرٌ دائماً.

وقد ذكرنا هناك أيضاً: أنّ الموضوع لعلم الاُصول وما يجعله الاُصولي تجاه عقله هو «الحجة في الفقه». وأنّ ما استشكله المحقّق القمّي(قدس سره) بأنّ لازم كون مرادهم بالأدلّة هو الحجّية _ حتى يكون مرجع كلامهم كون الموضوع حيثية الحجّة في الفقه _ خروج المسائل الباحثة عن حجّية الحجج كخبر الواحد والإجماع والظاهر وغيرها عن مسائل العلم ودخولها في مباديه، إذ الحجّية تكون على هذا مقوِّمةً للموضوع لا من عوارضه.

مردودٌ؛ فإنّ منشأ هذا الإشكال عدم الالتفات إلى ما هو مراد القوم من موضوع العلم ومن عوارضه الذاتية، وتخيّل أنّ موضوع العلم يلزم أن يكون موضوعاً لمحمولات المسائل أيضاً.

ص: 96

وجوابه: أنّه لا منافاة بين كون الحجّة محمولة في المسائل كخبر الواحد والظاهر، وكون البحث في تلك المسائل عن عوارض الحجّة، فإنّ عوارض الحجّة _ الّتي يبحث في مسألة حجّية الظاهر وخبر الواحد مثلاً عن عروضها واتّحادها مع الحجّة في نفس الأمر _ هي خبر الواحد والظاهر والإجماع وغيرها ممّا وقع موضوعاً في المسائل، لا الحجّية حتى يقال بأنّها مقوّمة للموضوع.

بل لنا أن نقول: بأنّ الظاهر أنّ القضايا الباحثة عن حجّية شيء وعدم حجّيته هي المسائل لهذا العلم، ولذا نرى أنّ الشافعي لم يذكر في رسالته الّتي صنّفها في أواخر القرن الثاني وهي أوّل ما صنّف في علم الاُصول (فيما نعلم) غير مسألة حجّية الكتاب والسنّة غير المنسوخين والإجماع وخبر الواحد والقياس والاجتهاد والاستحسان.

والحاصل: بناءً على ما ذكرناه في بداية البحث (والكتاب) مفصّلاً((1)) وأشرنا إليه هنا إجمالاً: لا ريب في كون مسألة حجّية الظواهر من المسائل الاُصولية، فتدبّر.

الأمر الثاني: أقسام الألفاظ الموضوعة

اشارة

قد مرّ منّا عند البحث في وضع الألفاظ أنّها على قسمين((2))، أحدهما: ما وضع لأن يستعمل في إيجاد المعنى، والآخر: ما وضع لأن يستعمل في حكايته وإفهامه.

والأوّل منهما، أي الألفاظ الموضوعة لإيجاد المعنى، على نحوين: لأنّه إمّا أن يكون اللفظ فانياً ومندكّاً في المعنى والمعنى مندكّاً في معنى تصوّري آخر، كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات؛ فإنّ أسماء الإشارة وضعت لإيجاد حقيقة الإشارة مندكّةً في المشار إليه. فهاهنا اندكاكان أحدهما: اندكاك «هذا» وغيره في حقيقة الإشارة الّتي

ص: 97


1- تقدّم في المجلّد الأوّل.
2- تقدّم في المجلّد الأوّل.

يستعمل اللفظ لإيجادها، والثاني: اندكاك المعنى، أي حقّيقة الإشارة في المشار إليه. ولابدّ في المبهمات _ في تعيّنها خارجاً _ من معيّن، وما به تتعيّن الإشارة هو: وجود المشار إليه، والإشارة إليه إمّا أن تكون بالامتداد الاعتباري كما في «هذا» وإمّا أن تكون بتقدّم الذكر كما في بعض الضمائر، وإمّا أن تكون بالحضور والمخاطبة، كما في بعضها الآخر، وتارة: تكون بالمعهودية كقولنا: «جاء الّذي ضربناه».

وحيث إنّ الألفاظ المذكورة تكون مندكّةً في معانيها المتصوّرة مستقلّةً، فإذا كانت معهودية في البين فهي الجهة المعيّنة. ولو لم تكن جهةٌ معيّنةٌ في البين، فلابدّ من القول بالتعميم ليحصل بذلك التعيّن في جميع أفراده، كقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «رفع عن أُمّتي تسعة، ومنها ما لا يعلمون».((1))

وإمّا أن لا يكون اللفظ كذلك أي ليس له هذا الفناء والاندكاك، وهو ما وضع لإيجاد المعاني الاعتبارية، كقولنا: «بعت» و«أنكحت» و«أعتقت» و«إضرب» لإنشاء البيع والنكاح والعتق وطلب الضرب وغيرها من المعاني الّتي ليس لها ما بحذاء في الخارج وإنّما تنتزع من جعل الجاعل وإنشائه. ومثل الحروف الّتي وضعت لأن يشار بها إلى ربط بين المرتبطين مندكّةً فيهما، كما في مثل: «سرت من البص_رة إلى الكوفة»، فكلمة «من» تكون موضوعة لمعنى لا نفسية له. والاستقلال والنفسية إنّما يكون للمرتبطين بسبب تصوّر السير مستقلّا متخصّصاً بخصوصية كون أوّله من البص_رة وآخره الكوفة، وتصوّر زيد متخصّصاً بخصوصية صدور السير الكذائي منه.

وليس بحذاء «من» _ منفرداً _ شيءٌ، وإنّما يحصل منه المعنى حين التركّب. ولذا لو

ص: 98


1- الصدوق، التوحید، ص353، باب 56، ح24؛ الصدوق، الخصال، ص 417، ح9، باب التسعة؛ الصدوق، من لا یحضره الفقيه، ج1، ص36، باب14، ح4، فیمن ترك الوضوء أو بعضه أو شكّ فيه؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب جهاد النفس، ج15، ص369، ب 56 ، ح1.

قال قائل: السير، الصدور، زيد، الابتداء، البصرة، الانتهاء، الكوفة، يتصوّر من کلّ منها معنى بعضها جوهر وبعضها عرض وبعضها ارتباطات بالحمل الذاتي، من غير أن يفهم ارتباط بعضها مع بعض بنحو من أنحاء الارتباط. وأمّا لو قيل: «سار زيد من البصرة إلى الكوفة» فيفهم منه وجود سير مرتبط بزيد بسبب صدوره منه، وبالبص_رة والكوفة بابتدائه من البصرة وانتهائه إلى الكوفة. ففي الأوّل لا يفهم من الكلمات المذكورة إلّا تصوّر معانٍ منفردة، بخلاف الثاني.

قال قائل: السير، الصدور، زيد، الابتداء، البصرة، الانتهاء، الكوفة، يتصوّر من کلّ منها معنى بعضها جوهر وبعضها عرض وبعضها ارتباطات بالحمل الذاتي، من غير أن يفهم ارتباط بعضها مع بعض بنحو من أنحاء الارتباط. وأمّا لو قيل: «سار زيد من البصرة إلى الكوفة» فيفهم منه وجود سير مرتبط بزيد بسبب صدوره منه، وبالبص_رة والكوفة بابتدائه من البصرة وانتهائه إلى الكوفة. ففي الأوّل لا يفهم من الكلمات المذكورة إلّا تصوّر معانٍ منفردة، بخلاف الثاني.

والحاصل: أنّ کلّمة «من» وغيرها من الحروف وضعت لإفادة حقيقة الارتباط، كالابتداء وما هو بالحمل الشائع ابتداءٌ، لا مفهوم الابتداء وما هو الابتداء بالحمل الذاتي. وبعبارة اُخرى: وضعت لإفادة ارتباط شيءٍ بش_يءٍ آخر وكونهما مرتبطين بالحمل الشائع، فلا تکون في الخارج ولا في الذهن إلّا بأن يكون الارتباط مندكّاً فيهما موجوداً بعين وجودهما. وهذا لا يمكن إلّا بأن يكون اللفظ موضوعاً لأن يجعل في الكلام بجنب اللفظين الدالّين على طرفي الارتباط، لا لأن يتصوّر بحذائه ذلك الارتباط حتى يخرج عن كونه ارتباطاً حقيقياً وينتقض الغرض، بل لأن يفهم بسببه ما يفهم من اللفظين من المعنى متخصّصين بخصوصية تكون منشأً لانتزاع ذلك الارتباط منهما إذا نظر العقل إليهما بنظر آخر غير هذا النظر الّذي يكون الارتباط بحسبه ارتباطاً بالحمل الشائع ومندكّاً في الطرفين.

والثاني: على قسمين:

قسمٌ: وضع لإفهام المعاني إفهاماً تصوّرياً، كالألفاظ المفردة، مثل: زيد، وعمرو، وبكر، وأمثال ذلك من الألفاظ الّتي تدلّ على معانيها عند العالم بها ولو سمع من مجنون أو نائم وغيرهما. وممّا وضع لإفادة المعاني التصورّية: أسماء المبهمات كالموصولات، وأسماء الإشارة.

ص: 99

وقسم: وضع لإفهام المعاني التصديقية، والمراد بها المعاني الارتباطية الّتي هي النسب. والمراد من المعنى الارتباطيّ الّذي يدلّ عليه اللفظ كون المعنى بحيث لا يكون له ما بحذاء لا في الخارج ولا في الذهن بل نفس الارتباط الّذي يكون بالحمل الشائع ارتباطاً، لا ما يكون بالحمل الأوّلي الذاتي ارتباطاً، وهذا كالمعاني الحرفية.

المراد من تبعيّة الدلالة للإرادة

إذا عرفت ذلك کلّه، فاعلم: أنّ الألفاظ الموضوعة لإفهام المعاني التصوّرية دلالتها على المعنى لا تتوقّف على إرادة المتکلّم، ولا يحتاج إلى أزيد من كون اللفظ موضوعاً لهذا المعنى التصورّي. وأمّا الألفاظ الموضوعة لإفهام المعاني التصديقية فدلالتها على المعنى تتوقف على مقدمات: إحداها: وضع ألفاظ مفرداتها لمعانيها التصورّية، ووضع هيئاتها التركيبية لإفهام المعنى التصديقي.

ثانيتها: كون المتکلّم عاقلاً.

ثالثتها: كونه مريداً لمعنى اللفظ، وعدم احتمال كونه في مقام إغراء المخاطب بالجهل.

رابعتها: علم المخاطب بعلم المتکلّم بالوضع ومطابقة علمه الواقع.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ إرادة المعاني إنّما تكون من مقدّمات دلالة اللفظ على المعنى التصديقي، وهذا مراد (العلمين)((1)) من أنّ الدلالة تتبع الإرادة، لا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني(قدس سره) من كون مرادهما أنّ دلالة الألفاظ على كونها مرادة للافظها تابعة لإرادتها منها.((2))

ص: 100


1- أي ابن سينا، وفي الشفاء، قسم المنطق، الفصل الثامن من المقالة الاُولى من الفنّ الأوّل، ص42؛ وشرح الإشارات (الخواجة نصیر الدین الطوسي، ج1، ص32).
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج1، ص23.

الأمر الثالث: تحرير محلّ النزاع

اشارة

إنّ اعتناء الإنسان بكلام کلّ متكلّم إمّا أن يكون لأجل تحصيل التصديق بما يعلمه المتکلّم كبعض الاُمور الاعتقادية. فإذا كانت جميع المقدّمات المذكورة قطعية تكون النتيجة أيضاً قطعية. ولو كانت جميعها أو بعضها ظنّية تكون نتيجتها ظنّية. وإن كانت جميعها أو بعضها احتمالية تكون النتيجة احتمالية، وهذا القسم خارج عن محط بحث الاُصولي.

وإمّا أن يكون غرضه تحصيل العلم مقدمةً للعمل.

فلو كان مقصوده من الاعتناء بكلام الغير وفهم مراده حصول العلم بأمر مقدّمةً للعمل به ممّا يكون راجعاً إلى الاُمور الدنيوية من غير أن تكون في البين خصوصيات اُخرى كمولوية المتکلّم واستعلائه على المخاطب وعبودية المخاطب له، كالتاجر الّذي يسأل غيره عن قيمة جنس في بلد يريد حمل متاعه إليه، فالأخذ بظاهر قول المتکلّم والاعتناء بالاحتمالات المتطرّقة فيه وعدمه يدور مدار الاهتمام بشأن سلعته وعدمه، وهذا أيضاً خارج عن محلّ بحث الاُصولي.

وأمّا إن كان غرضه تحصيل العلم بمراد المتکلّم مقدّمةً للعمل به مع كون المتکلّم صاحب مولوية واستعلاء عليه، وكان العمل بقوله واجباً على المخاطب عقلاً كالعبيد بالنسبة إلى المولى الحقيقي، أو عرفاً كالموالي والعبيد العرفيين، وهذا هو الّذي يكون محطّ نظر الاُصولي ومورداً لكلامه دون غيره.

فإذا صدر من المولى کلامٌ ظاهرٌ في معنى من المعاني ولم ينصب على خلافه قرينة ولم يعمل العبد على طبق ظاهر کلامه، فهل له الاحتجاج على العبد ومؤاخذته على ذلك، كما في قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِِذَ أَمَرْتُكَ﴾،((1)) وهل يجوّز العقل عقوبته إن

ص: 101


1- الأعراف، 12.

أراد المولى معاقبته، كما قال تعالى لإبليس: ﴿اِِهْبِطُوا مِنْهَا جَميعاً﴾((1)) لمّا خالف أمره سبحانه أو لا يصحّ له ذلك؟ وأيضاً هل يكون للعبد إذا عمل على طبق ظاهر کلام المولى واعترض عليه المولى بأنّي ما أردت ظاهر کلامي بل أردت خلافه، الاحتجاج على المولى بأنّك لو أردت خلاف ما هو ظاهر كلامك فلِمَ لم تنصب القرينة عليه أو لا؟

فإذا عرفت ذلك کلّه، فاعلم: أنّ الكلام في مبحث حجّية الظواهر يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في تعيين ظواهر الألفاظ وأنّ لفظ الصعيد مثلاً ظاهر في أيّ معنى من المعاني.

والمقام الثاني: في حجّية الألفاظ الدائرة في ألسنة أهل المحاورة الظاهرة في معانيها المخصوصة.

والكلام على الأوّل يكون صغروياً، وعلى الثاني يكون كبروياً، وما يهمّنا البحث عنه هو المقام الثاني، فنقول وبالله نستعين:

إعلم: أنّ أقدم الأمارات وأشملها وأعمّها ظواهر الألفاظ، فإنّ عليه مدار مدنيّة الإنسان، وعليه تدور رحى اُموره الاجتماعية، فهو من أوّل يوم دخل في الحياة الاجتماعية أحسّ باحتياجه إلى ما به يُفهِم مراده إلى غيره، ويستفهم مراد غيره، ولم يجد شيئاً أسهل وأخفّ مؤونة من الأصوات، فاختارها وسيلة لذلك، حتى صار بعض الألفاظ قالباً لبعض المعاني إمّا من جهة جعله كذلك، أو كثرة استعماله، أو غير ذلك.

ودلالة الألفاظ الظاهرة في معنى من المعاني إذا كانت من الألفاظ المفردة أو المرکّبات غير التامّة لا تحتاج إلى أزيد من التلفّظ بها، كان المتلفّظ بها عاقلاً أم لا، فمجرّد التلفظ بهذه الألفاظ موجِد لتصوّر معانيها وحصولها في ذهن السامع العالم بظهورها في هذه المعاني.

ص: 102


1- البقرة، 38.

وهذا بخلاف ألفاظ المرکّبات التامّة، فإنّ دلالتها على معانيها التصديقية تتوقّف على أزيد من ذلك، ككون اللافظ عاقلاً حكيماً، وإن كان ارتكاز هذه المقدّمات في أذهان العرف والعقلاء يغني عن عنايتهم بها، ولذا ترى أنّهم يحملون ظواهر کلام المتکلّم الحكيم على معانيها التصورية والتصديقية بمجرّد استماعهم منه.

وممّن يحتاج إلى استعمال الألفاظ وإفادة المعاني واستفادتها بسببه هم الموالي والعبيد؛ فإنّ المولى محتاج في مقام تفهيم مراده إلى العبد باستعمال الألفاظ، والعبد محتاج أيضاً في مقام فهم مراد المولى إلى معرفة ذلك من قبله، ولا يمكن ذلك عادة إلّا بواسطة استعمال الألفاظ وما كان من هذا القبيل كالإشارة، وإن كان غير اللفظ لا يقوم هذا المقام ولا يؤدّي هذه الوظيفة في جميع الموارد، بل لا يمكن الاتّكال عليه عادة إلّا في الموارد الّتي لا يتمكّن المولى من إفهام مراده بتوسّط الألفاظ، فما يكون غير الألفاظ من الوسائط حتى الكتابة لا يكون كاللفظ في إظهار ما في الضمير، ولا يكون مثله مناسباً لوضع الإنسان وحياته الاجتماعية. فاللفظ هو أسهل ما يمكن أن يتمسّك الإنسان به لإظهار مراداته وأشمله. ولولا هذه الألفاظ لاختلّ نظام حياته الاجتماعية.

والحاصل: أنّ حجّية الظواهر إنّما تكون مقصورة بهذا المورد، أي الامور المربوطة بالموالي والعبيد دون غيره، فإنّه يصحّ للمولى أن يحتجّ على عبده إذا خالف ظاهر کلامه، ولا يعدّ العقلاء عقابه لمخالفته هذه ظلماً وقبيحاً. وللعبد أن يحتجّ على المولى إذا وافق ظاهر کلامه، وليس للمولى عقابه لو ارتكب خلاف مراده الواقعي بعد موافقته ظاهر کلامه.

وهذا بخلاف الألفاظ المستعملة بين سائر الناس، فإنّه ليس لأحدهم هذا الاحتجاج على الآخر، وإنّما يعوّلون عليها لمكان احتياجهم إلى إفهام مراداتهم واستفادة مقاصد غيرهم.

ص: 103

وكيف كان، لا إشكال في حجّية ظواهر الألفاظ الدائرة بين الموالي والعبيد إذا كان صادراً من المولى في مقام إعمال المولوية، وحجّيتها غنية عن البيان، وعليها بناء العقلاء.((1))

الاستدلال بسيرة العقلاء على حجّية الظواهر

وحيث إنّ بناء العقلاء هو عمدة ما استدلّ به في باب الظواهر وخبر الواحد، بل جميع ما ذكر من الأدلّة راجع إليه والمباحث المذكورة في الكتب الاُصولية أكثرها إمّا تكون من المبادي، أو ممّا تتفرّع على المباحث المتعلّقة بنفس العلم، ومسألة حجّية الظواهر وحجّية خبر الواحد وما يتفرّع عليها من حجّية الشهرة والإجماع المنقول من أهمّ المسائل الاُصولية ومورد الاحتياج في جلّ مباحث الفقه ولا ينبغي طي هذا الاستدلال وإهماله كما صنع بعض الاُصوليّين، فيجب علينا التكلّم فيه بمقدار يتّضح به المراد، فنقول:

يمكن تقرير هذا الاستدلال بوجهين:

أحدهما: أنّ العقلاء في اُمورهم الاجتماعية من المعاشرات والمعاملات وغيرها استقرّ بناؤهم على اتّباع الظاهر والعمل به، ويستكشف من عدم ردع الشارع عن تلك الطريقة المستمرّة والسيرة المستقرّة جواز العمل بما يقتضيه الظاهر شرعاً.

ثانيهما: أنّ العقلاء في الخطابات الصادرة من الموالي لتحريك العبيد وبعثهم أو زجرهم استقرّت سيرتهم على حجّية ظواهرها ما دام لم يتّخذ المولى طريقة اُخرى في تفهيم مراداته غير الطريقة المتداولة بين سائر الموالي والعبيد.

ومعنى استقرار طريقتهم وبنائهم على الحجّية حكمهم بصحّة مؤاخذة العبد من

ص: 104


1- لا يخفى عليك، أنّ البحث في حجّية ظواهر الألفاظ يشمل أبواب الأقارير والعقود والإيقاعات وما يدور به نظام الاجتماع. [منه دام ظلّه العالي].

جانب المولى إذا خالف ظاهر خطابه، وعدم كونه في عقابه العبد على ذلك ظالماً؛ وعدم صحّة مؤاخذة العبد إذا خالف مراده الواقعي مع موافقته مقتضى ظاهر کلام المولى، وكون عقابه في ذلك الفرض قبيحاً وظلماً.

الاستدلال بحكم العقل

لا يخفى: أنّ الوجه الثاني هو أمتن الوجهين، إلّا أنّ اللازم أن يعلم مرادهم من بناء العقلاء، وأنّ الاستدلال به يكون الاستدلال بما يقتضي بناء غيرنا من العقلاء، بمعنى أنّ کلّ أحد يرجع في ذلك إلى سائر العقلاء من غير أن يجد من نفسه وعقله هذا، حتى يكون الحدّ الأوسط في البرهان بناء غيره من العقلاء، وكان البرهان ل_مّياً، لأجل كون استقرار طريقتهم علّة لحجّية الظاهر، فيقال في مقام الاستدلال مثلاً: هذا ممّا استقرّت عليه طريقة العقلاء، وكلّ ما استقرّت عليه طريقة العقلاء فهو واقع، فهذا واقع.

أو يكون المراد من بناء العقلاء والاستدلال به حكم العقلاء بصحّة المعاقبة المذكورة واحتجاج المولى على العبد، وقبحها إذا وافق العبد مقتضى ظاهر کلام المولى، حتى يكون مرجع الدليل إلى التحسين والتقبيح العقليّين، بمعنى تقبيح العقل مؤاخذة المولى عبده إذا اتّبع ظاهر كلامه، وتحسينه مؤاخذته إذا خالف ظاهر کلامه. فكلّ واحد من العقلاء إذا راجع إلى عقله يجده حاكماً بقبح مؤاخذة المولى عبده واحتجاجه عليه في الصورة الاُولى، وعدم قبحها في الصورة الثانية.

والحاصل: أنّ معنى التمسّك باستقرار سيرة العقلاء وبنائهم، ليس أنّ کلّ واحد منّا إذا راجع إلى عقله لم يجد منه الحكم بحجّية الظواهر، حتى يتوقّف إثبات حجّيته على استقرار سيرة العقلاء.

بل المراد من هذا الاستدلال: الاستدلال بضرورة العقل، وإطباق جميع العقول على هذا الحكم، وكونه من الضروريات غير المحتاجة إلى إقامة البرهان والدليل.

ص: 105

فعلى هذا، يكون البرهان إنّياً لاستفادة استقرار طريقة العقلاء من حجية الظواهر وحكم العقل بالتقبيح والتحسين المذكورين، فيقال مثلاً: الظاهر ممّا يصحّ به احتجاج المولى على عبده، وكلّ ما يكون كذلك فعليه استقرار طريقة العقلاء، فالاحتجاج بالظاهر ممّا استقرّت عليه سيرة العقلاء.

حجّية الظواهر ليست ذاتية

ثم إنّ الظاهر أنّ ملاك حكم العقل واتّفاق العقلاء على حجّية ظواهر الخطابات الصادرة من الموالي إلى العبيد لتحريكهم أو زجرهم ليس ذات الظاهر حتى يكون باب حجّية الظواهر كباب القطع في كون حجّيته ذاتية، بل ما هو المقتض_ي لذلك في مقام الثبوت وتمام الملاك: ما يرى العقل من احتياج الإنسان في حياته الاجتماعية ونظم اُمور معاشه ومعاده إلى تفهيم مقاصده لغيره، وتفهّم مرادات غيره، مع عدم وجود طريق يكون وافياً لذلك عادة إلّا التلفّظ بالألفاظ والتكلّم، فالعقل مع انسداد الطريق وانحصاره في ظواهر الألفاظ وعدم اتّخاذ المولى طريقة خاصّة لتفهيم مراداته يحكم بحجّية ظاهر کلامه.

وكيف كان، فلا ريب ولا خلاف في حجّية الظواهر الصادرة من الموالي لتحريك العبيد أو زجرهم عند العقلاء، وعليها اتفاق عقولهم.

كما أنّه لا ريب في عدم اعتنائهم باحتمال كون المتکلّم ساهياً أو غافلاً أو لاغياً، أو احتمال إرادة المتکلّم ترتّب غاية اُخرى على فعله غير ما هو غايته بحسب المتعارف؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء استقرّ على حمل الفعل الصادر من العاقل المختار على صدوره مع الالتفات، ولأجل ترتّب فائدته عليه.

كما أنّهم لا يعتنون باحتمال احتفاف الكلام بما يوجب صرفه إلى غير معناه الظاهر

ص: 106

فيه، أو بما يوجب طروّ الإجمال، أو احتمال كونه في مقام الإجمال والإهمال مع القطع بعدم وجود القرينة الصارفة.

ولا فائدة في البحث عن رجوع الاُصول الجارية في هذه الموارد إلى الاُصول العدمية كأصالة عدم وجود قرينة دالّة على عدم إرادة المتكلّم المعنى الحقيقي؛ أو إلى الاُصول الوجودية كأصالة الظهور، وهي عبارة عن بنائهم على اتّباع الظاهر عند تطرّق جميع هذه الاحتمالات.

إنّما الخلاف واقع في مقامين:

أحدهما: التفصيل بين من قصد إفهامه وغيره

ذهب بعض إلى اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه دون غيره.

ووجهه احتمال أن يكون بين المتکلّم والمقصود بالإفهام قرائن معهودة اتّكل عليها المتکلّم في مقام التخاطب.

ولا فرق في ذلك التفصيل بين كون غير من قصد إفهامه شريكاً مع المقصود بالإفهام في التكليف، وبين عدم كونه كذلك.

وهذا الوجه هو مختار المحقّق القمّي(قدس سره)((1)) ونسب إلى ظاهر كلام صاحب المعالم(قدس سره). وقد بنى عليه حجّية الظنّ المطلق، لأنّه بعد البناء على اختصاص حجّيتها بمن قصد إفهامه مع كون أكثر أدلّة الفقه بل جلّها ظواهر ألفاظ القرآن العظيم والروايات والأحاديث الواردة عن أهله(علیهم السلام) ينسدّ باب العلم والعلمي إلى الأحكام، فنحتاج إلى إجراء دليل الانسداد لإثبات حجّية الظواهر.((2))

ص: 107


1- القمّي، قوانين الاُصول، ج1، ص398.
2- العاملي، معالم الدين، ص192. وقد صرّح بذلك في الصفحة 112. ونسبه إليه الشيخ في الفرائد، ص43.

وأمّا ما توهّم بعض من أنّ منشأ ذهاب المحقّق القمّي(قدس سره) إلى القول بحجّية الظنّ المطلق هو ضعف سند أكثر الروايات.

فليس في محلّه، لعدم عين ولا أثر من ذلك في کلماته.

ثانيهما: مقالة الأخباريّين

اختار بعض إخواننا الأخبارييّن _ رحمهم الله تعالى _ عدم حجّية ظواهر الكتاب بدون التفسير عنهم(علیهم السلام)((1)) حرصا على التمسّك بالروايات والأخذ بما ورد عنهم عليهم الصلاة والسلام.

وسيأتي في أنّ التمسّك بالكتاب العزيز لا يمنع من التمسّك بالأحاديث المروية عن أهله(علیهم السلام). ولا ينبغي لمسلم أن يرضى لنفسه بجعل الكتاب المبين _ الّذي تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربهم،((2)) وأنزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيراً((3)) _ كتاباً من الكتب الرمزية، مع قيام ضرورة المسلمين واتّفاقهم على خلاف ذلك، ومع كون الروايات الشريفة الدالّة على فساد هذا التوهّم الضعيف أكثر من أن تحصى.

والحاصل: أنّ الخلاف وقع في المقامين المذكورين.

توجيه الشيخ(قدس سره) لتفصيل القمّي(قدس سره)

أمّا الكلام في التفصيل المنسوب إلى المحقّق القمّي(قدس سره)، فنقول: إنّ الشيخ(قدس سره) قد وجّه هذا التفصيل بأنّ الظاهر إنّما يكون حجّة إذا كان الكلام بحيث لو خلّي وطبعه مفيداً للظنّ النوعي بكون المراد ظاهره وما هو قالب له. وأمّا إذا لم يكن كذلك، فلا يكون حجّة عند العقلاء. والكلام الملقى لإرادة الإفهام والإفادة إنّما يكون كذلك _ أي

ص: 108


1- انظر: هداية الأبرار (الکرکي العاملي، ص162).
2- إشارة إلى الآية 23 من سورة الزمر.
3- إشارة إلى الآية 1من سورة الفرقان.

موجباً للظنّ النوعي _ لمن كان مقصوداً بالإفهام، لأنّه ليس في البين ما يوجب التردّد في حجّيته وكون الظاهر مراده إلّا احتمال غفلة المتکلّم عن نصب قرينة صارفة عمّا يكون اللفظ ظاهراً فيه وقالباً له، واحتمال غفلة المخاطب عن الالتفات إلى ما كان الكلام محفوفاً به من القرينة، ولا اعتناء بهما إمّا لوجود الظنّ بالخلاف أي بعدم الغفلة، أو عدم اعتناء العقلاء باحتمال الغفلة في اُمورهم.

وأمّا إذا كان الشكّ في الحجّية وكون ظاهر اللفظ مراداً للمتكلّم لاحتمالات اُخرى، كاحتمال اختفاء القرينة المنفصلة _ مع نصبها وعدم غفلة المقصود بالإفهام عنها _ عن غير المقصود بالإفهام لجهات موجبة للاختفاء، أو اتّكال المتکلّم على القرائن العقلية والحالية في إفهام من قصد إفهامه، واحتمال اختفاء القرينة المتّصلة بسبب تقطيع الكلام، فلا يكون الظاهر حجّة، لعدم كون الظاهر بحيث لو خلّي وطبعه موجباً للظن النوعي بالمراد، إذ الكلام ليس بحيث يدفع ذلك الاحتمال. فإنّ الواجب على المتکلّم إلقاء الكلام على وجه يفي بإفهام مراده عند من قصد إفهامه، أمّا إلقاء الكلام على نحو لا يفهم مراده منه کلّ من سمع كلامه وحكي له، فلا يكون حجّة له لاحتمال اتّكال المتکلّم في إفهام مراده على القرائن الحالية أو المقالية الّتي اختفت على غير من قصد إفهامه، أو القرائن المتّصله مثل ما قال قبله أو بعده، أو احتمال كون الكلام بحيث لو نقل إلينا من أوّله إلى آخره كان وافياً بمراد المتکلّم ولكن بعروض التقطيع صار ظاهره خلاف مراده.

ولا مجال لدفع هذه الاحتمالات بالتمسّك بأصالة العدم أو أصالة عدم القرينة، لعدم حجّيتها في مثل المقام، لعدم حصول الظنّ بانتفائها في مثل المقام.

اللّهمّ إلّا أن يدّعى كون أصالة عدم القرينة حجّة من باب التعبّد، ودون إثباتها خرط القتاد.((1))

ص: 109


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص41. وقد أجاب(قدس سره) عن التفصيل المذكور، ص42. كما أجاب عنه المحقّق الخراساني(قدس سره) في حاشيته على فرائد الاُصول (ص47).

إن قلت: نعم، لا يحصل الظنّ بانتفاء القرينة قبل الفحص عنها، وأمّا بعد الفحص وعدم وجدان القرينة فيحصل الظنّ بأنّ الظاهر هو المراد.

قلت: مضافاً إلى أنّه يمكن منع حصول الظنّ بالمراد، لا دليل على حجّية هذا الظنّ لو سلّمنا حصوله، لعدم كونه مستنداً إلى الكلام وكونه ظنّاً خارجياً حاصلاً من الفحص، ولا دليل على حجّيته بالخصوص.

ولا يخفى عليك: أنّه على هذا التوجيه يكون مقتضى التفصيل في محل ابتلائنا _ وهو ظاهر الكتاب والأخبار _ القول بحجّية کلّ ظاهر مقطوع كونه مراد المتکلّم، وعدم حجّية غيره؛ لأنّ الفرض أنّ من قصد إفهامه لا يشكّ في كون الظاهر مراد المتکلّم إمّا لاحتمال غفلة المتکلّم وهو مقطوع العدم في محلّ الابتلاء، وإمّا لغفلة المخاطب وهو أيضاً مقطوع العدم، لأنّ المخاطب لا يكون غافلاً عن حال نفسه فإمّا يرى نفسه غافلاً فلا يكون الظاهر حجّة بالنسبة إليه، وإمّا لا يرى نفسه غافلاً فيقطع بعدم اختفاء شيء _ ممّا احتفّ بكلام المتکلّم _ عنه.

ردّ تفصيل القمّي(قدس سره)

وكيف كان، فالّذي ينبغي أن يقال جواباً عن هذا التفصيل: عدم ابتناء بناء العقلاء في حجّية الظواهر على جريان أصالة عدم القرينة، بمعنى أنّهم يبنون أوّلاً على عدم وجود القرينة وعدم الغفلة بسبب الأصل، ثم يأخذون بظاهر اللفظ.

بل يتّبعون ظاهر اللفظ ويحتجّون به في موارد الاحتجاج من غير توجّه إلى ذلك، لأنّ بناءَهم استقرّ على أنّ صدور الفعل من الفاعل وهو التكلّم بالإرادة والاختيار لأجل تحصيل غايته الطبيعية الّتي تترتّب عليها وهو في المقام إفهام الغير وإفادة المعنى الّذي يكون اللفظ ظاهراً فيه، وهذا كما ترى ليس متوقّفاً ومبتنياً على إجراء أصالة عدم الغفلة والقرينة.

ص: 110

والحاصل: أنّ التفصيل بين من قصد إفهامه وبين غيره إن كان لمجرّد ذلك، فلا وجه له أصلاً. ألا ترى عدم صحّة اعتذار العبد _ إذا لم يكن مقصوداً بالإفهام ومع ذلك علم أنّ المولى أمره _ : بأنّي لم أكن مقصوداً بالإفهام.

وإن كان لاختلافهما من جهات اُخرى، فإن كان لاحتمال وجود قرينة حالية اتّكل عليها المتکلّم في إفهام مراده؛ فلا فرق في عدم الاعتناء به بين المقصود بالإفهام وغيره، فكما أنّ المقصود بالإفهام يأخذ بظهور اللفظ ولو لم يكن مخاطباً به، يأخذ غيره أيضاً بظهور اللفظ.

وإن كان لاحتمال اتّكاله في إفهام مراده على ما هو الموجود في ذهن من قصد إفهامه؛ فهذا الاحتمال أيضاً ممّا لا اعتناء به عند العقلاء. مضافاً إلى وجود هذا الاحتمال بالنسبة إلى من قصد إفهامه أيضاً، لاحتمال اتّكال المتکلّم على بعض ما في ذهن المقصود بالإفهام.

الفحص عن المخصّص وعدمه _ من غير فرق بين المقصود بالإفهام وبين غيره.

والحاصل: أنّا لم نجد فرقاً بينهما في حجّية الظهور، فهذا التفصيل بظاهره غير متين.

ثم إنّه قد أفاد بعض الأعاظم من المعاصرين _ كما في تقريرات بحثه _ بأنّا لو سلّمنا ما أفاده المحقّق القمّي(قدس سره) من التفصيل، لكنّه لا تتمّ النتيجة الّتي رتّبها عليه من حجّية مطلق الظنّ، فإنّ الأخبار والروايات بالنسبة إلينا تكون مثل كتب التأليف والتصنيف، لأنّ نقلة الروايات في مبدء السلسلة كانوا هم المخاطبين بالكلام غالباً، وقد اعترف المفصّل بأنّ ظاهر الكلام حجّة في حقّهم، وبعد ذلك اُودعت تلك الروايات في الاُصول ثم في الجوامع والكتب، ولابدّ أن يكون الراوي عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ص: 111

يودع أو ينقل ما سمعه من الكلام مع کلّ ما احتفّ به من القرائن الحالية والمقالية، لأنّ غرضه من نقله هو إفهام الغير، فتكون الكتب المودّعة فيها الروايات كالكتب المؤلّفة الّتي اعترف بحجّية ظواهرها لكلّ من نظر فيها وقرأها.((1))

وفيه: أنّ المقصود بالإفهام في رواية رواها مثلاً محمد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليس إلّا محمد بن مسلم، وأمّا محمد بن مسلم فيحكي ما صدر من الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وينقل لفظه، ومقصوده إفهام العلاء بأنّ الإمام قال هكذا، لا إفهام مراد الإمام، ومراد العلاء أيضاً في نقله إفهام صفوان أنّ محمد بن مسلم قال هكذا، وهكذا صفوان ومن روى عنه، وليس مرادهم من کلامهم إفهام ما أراد الإمام. فعلى هذا، لا يكون غير محمد بن مسلم _ الّذي هو مخاطب للإمام في المثال _ مقصوداً بالإفهام بالنسبة إلى متن الرواية المنقولة عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). هذا تمام الكلام في التفصيل المنسوب إلى المحقّق القمّي(قدس سره).

ردّ مقالة الأخباريين

وأمّا الخلاف الثاني المنسوب إلى بعض المتأخّرين من المنتحلين للإمامية، فيرجع إلى منع حجّية ظواهر الكتاب بعد ما لم يكن لاحتماله عينٌ ولا أثرٌ عند أحدٍ من المسلمين فضلاً عن العلماء المحقّقين، وذلك لوضوح أنّ الكتاب العزيز إنّما اُنزل لينذر به الكافرين والظالمين ويبشّر به المؤمنين، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إلَىَّ هَذَا القُرآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾.((2))

ص: 112


1- الخراساني، فوائد الاُصول، ج3، ص139.
2- الأنعام، 19.

ولا شكّ أنّه بلسانٍ عربيٍ مبينٍ، وأنّه هدىً وبيانٌ وتبيانٌ، ويهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ، ويبشّر به المؤمنين، وينذر الكافرين، وتقشعرّ منه الجلود، وأنّ أمر التبليغ والرسالة ما قام عمدها إلّا بوسيلة القرآن وقراءة النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) الآيات المنزلة عليه على الناس، وقد أمر الله تعالى نبيه بإرسال عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ليقرأ سورة البراءة على المشركين.((1))

وبالجملة: لا ريب في حجّيته، ولا خلاف فيها بين المسلمين، ولم ينقل الخلاف إلّا عن بعض المنتحلين إلى الإمامية من الأخباريين.

أدلّة الأخباريّين

وما يمكن أن يكون وجهاً لهذا التوهّم الفاسد ليس إلّا أحد الوجوه الخمسة المذكورة في الكفاية((2)):

أحدها: دعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به.

وهذا الوجه يمكن أن يكون راجعاً إلى ما ذكره المحقّق القمّي(قدس سره)، فإنّ غير من خوطب به ليس مقصوداً بالإفهام.

ويمكن أن يكون راجعاً إلى:

الوجه الثاني من الوجوه الخمسة المذكورة، وهو: أنّه لأجل احتوائه على مضامين

ص: 113


1- راجع: العياشي، تفسیر، ج2، ص73 - 74، ح 4؛ الحاکم الحسکاني، شواهد التنزيل، ج1، ص240؛ الترمذي، سنن، ج13، ص164 - 165؛ أحمد بن حنبل، مسند، ج1، ص151؛ ج3، ص283؛ النسائي، خصائص أمیر المؤمنین، ص28 - 29؛ الطبري، تفسیر، ج10، ص46؛ الحاکم النیسابوري، المستدرك، ج3، ص51 - 52؛ الهیثمي، مجمع الزوائد، ج7، ص29؛ ابن عساکر، تاريخ مدینة دمشق، ج2، ص376، ترجمة أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؛ ابن الدمشقي، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)،ج1، ص96.
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص59 - 61 .

عالية شامخة غامضة لا تكاد تصل إليها أيدي اُولي الأفكار والأنظار غير الراسخين في العلم، كيف ولا يكاد يصل إلى فهم کلمات الأوائل إلّا الأوحديّ من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه تعالى.

ثالثها: دعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، ولا أقلّ من احتمال شموله لتشابه المتشابه.((1))

رابعها: دعوى أنّه وإن لم يكن منه ذاتاً إلّا أنّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر.((2))

خامسها: دعوى شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.((3))

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه مقالة الأخباريّين.

والجواب عن كون احتواء الكتاب على مضامين عالية شامخة موجباً لعدم وصول أيدي اُولي الأفكار والأنظار غير الراسخين في العلم إليها، أوّلاً: أنّ الآيات المتضمّنة لتلك المضامين الشامخة إنّما هي غير آيات الأحكام الظاهرة في معانيها المتضمّنة لمطالب ليست أجنبية عن إدراك أحد من ذوي العقول من أهل اللسان، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾؛((4)) وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبيلاً﴾؛((5)) وقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ اُمَّهَاتُكُمْ﴾؛((6))

ص: 114


1- قال به السيّد الصدر كما في فرائد الاُصول (ص38).
2- انظر: البحراني، الدرر النجفية، ص171.
3- انظر: الکرکي العاملي، هداية الأبرار، ص155؛ الحرّ العاملي، الفوائد الطوسية، ص191 - 192.
4- النساء، 22.
5- الإسراء، 32.
6- النساء، 23.

وقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةً فِي دِينِ اللهِ ِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله

وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾.((1))

ومثل بعض الآيات الراجعة إلى الوعد والوعيد وغيرها.

وثانياً: قياس الكتاب المبين _ الّذي أنزله الله نوراً وتبياناً وذكرى للمؤمنين الّذين إذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً _ بكتب الأوائل قياس مع الفارق، فإنّ الأوائل إنّما كتبوا ما كتبوا لأجل استفادة أهل الاطّلاع وطلبة العلوم خاصّة على اصطلاحاتهم دون غيرهم، حتى أنّهم لو أرادوا أن يكتبوا ويبيّنوا مطالبهم الغامضة لاستفادة العامّة لما يمكنهم ذلك، وهذا إنّما يكون من ضعف المتکلّم وضيق دائرة علمه وقدرته على بيان مراده. ولكن أين هذا من القرآن المجيد فإنّه كتاب الله الّذي أنزله لهداية عباده عالمهم وجاهلهم أبيضهم وأسودهم، وقد بيّن الله تعالى بقدرته الكاملة المطالب العالية _ الّتي لا يمكن أداء حقّ بيانها إلّا بإلقاء الخطابات المفصّلة البليغة _ في آية مختص_رة بأحسن بيان وأجود تقرير، يستفيد منه العالم والجاهل، ويبعث کلّا منهما إلى العمل ويسوقهما إلى طريق الكمال والحركة والتفكير، ويوقظ النفوس من نوم الغفلة، وتتحرّك به العواطف، وتستعدّ به النفس الإنسانية لقبول الإفاضات الربانية.

وتأثير القرآن في ذلك إنّما هو من وجوه إعجازه، فإنّه قد بلغ في ذلك حدّاً لم يمكن أن يبلغ إليه کلام الب_شر. فالقرآن هو السبب لتحويل أخلاق عرب الجاهلية إلى الأخلاق الكاملة الإنسانية. كما يجد المتتبّع في كتب التاريخ أنّه لا يوجد سببٌ لرقيّ العرب _ في الجهات الروحانية والاجتماعية والسياسية وغيرها، ورفضها أشدّ العادات الذميمة والأخلاق الرذيلة، وتخلّقها بالأخلاق الملكوتية،وتجنّبها عمّا ينافي شعار

ص: 115


1- النور، 2.

التقوى والفقه والأمانة وغيرها _ إلّا القرآن، فهو القائم بهذه الوظيفة في زمان قليل جدّاً. كما أنّ تأثيره في النفوس في زماننا هذا أيضاً أكثر من کلّ کلام وبيان، حتى أنّه لا يمكن قياس الأخبار والأحاديث في هذه الفوائد بالقرآن المجيد حتى الأخبار النبوية(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والخطب والكلمات العلوية(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع كونها في غاية المتانة والبلاغة.

نعم، توجد في القرآن المجيد بعض الآيات الراجعة إلى الاُمور التكوينية الّتي ليس فهم حقيقتها قريباً من اُفق أذهان جميع الناس؛ ومصلحة النبوات لا تقتض_ي إظهار حقيقتها صراحةً، لعدم اهتداء عقول غالب الناس إلى فهمها إمّا لكونها مخالفةً لما يكون عندهم كالضروريات والاُمور المحسوسة، أو لنقصان استعداداتهم وإدراكاتهم. ومع ذلك کلّه قد اُدّي حقّ البيان في هذه الآيات أيضاً بقدر ما تقتضيه مصلحة النبوّة.

ويمكن أن يكون المراد من المتشابه هذا النوع من الآيات، وليس هذا القسم محلّا للابتلاء. هذا، مع أنّ الأخبار أيضاً متضمنةٌ لهذه المطالب العالية الغامضة.

والحاصل: أنّه لا اعتناء بهذا الكلام، أي كون احتواء القرآن على المضامين الشامخة مانعاً عن حجّية ظهوراته، لكونه مخالفاً لحكمة إنزال القرآن وكونه معجزاً، ومخالفاً للسيرة القطعية من المسلمين خلفاً عن سلف، وعمل النبيّ الأكرم(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كقراءته الآيات الكريمة على الناس.

وأمّا الجواب عن كون الأخذ بالظاهر تفسيراً بالرأي

فهو: أنّ التفسير هو كشف القناع وليس منه حمل الكلام على ظاهره.

نعم، لو كان الكلام يحتمل وجوها وحملناه على بعضها، أو كان ظاهراً في معنى وحملناه على غيره فهذا من التفسير بالرأي.

فلا يقال لمن قال بحرمة منكوحة الأب لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ

ص: 116

آبَاؤُكُمْ﴾،( ) أو حرمة نكاح الاُم لقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُم اُمَّهَاتُكُمْ﴾،( ) أو محبوبية الإحسان إلى الوالدين لقوله تعالى: ﴿وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾،( ) أو وجوب جلد الزاني والزانية لقوله عزّ اسمه: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي...﴾( ) الآية، أنّه فسّر القرآن.

وبالجملة: فالتفسير هو القول بغير العلم وليس هو الأخذ بظاهر الكلام.

وأمّا الاستدلال بالعلم الإجمالي

ففيه: أنّه ليس لنا علمٌ إجماليٌ بطروّ التخصيص والتقييد لعمومات الكتاب ومطلقاته، أو وجود قرينة التجوّز مع قطع النظر عن المراجعة إلى كتب الأخبار ممّا بأيدينا فلا مجال لدعوى هذا العلم قبل المراجعة إليها.

نعم، يمكن دعوى العلم الإجمالي بطروّ التخصيص أو التقييد لبعض عمومات الكتاب أو مطلقاته، ولكنّه بعد المراجعة إلى الأخبار والظفر بموارد التخصيص والتقييد ممّا في أيدينا ينحل إلى العلم التفصيلي والشكّ البدويّ.

ص: 117

وأمّا الاستدلال ببعض الأخبار الدالّة على أنّ علم القرآن إنّما يكون عند من خوطب به دون غيره _ الّذي هو السبب العمدة في ذهاب الأخباريين إلى عدم حجّية ظواهر الكتاب _.ففيه: أنّه ليس المراد منها عدم حجّية الظواهر وعدم جواز التمسّك بالكتاب مطلقاً، لمخالفته لسيرة كافة المسلمين والأئمّة(علیهم السلام) وأصحابهم، لأنّهم كثيراً ما يستدلّون بظواهر القرآن ويرشدون أصحابهم إلى الرجوع إليه، وعرض الأحاديث والروايات عليه، كما يظهر ذلك لمن تتبّع كتب الأحاديث.

بل المراد من هذه الأخبار مذمّة الناس من الّذين تركوا أحد أركان الحجج وعمدتها واكتفوا بالكتاب والسنّة دونه ويفتون بالقياس فيما ليس حكمه مذكوراً في الكتاب والسنّة من دون أن يرجعوا في ذلك إلى العترة مع كونهم مأمورين بذلك، ومقتضى حديث الثقلين((1)) حجّية قولهم وتوافقهما وعدم افتراقهم عن الكتاب. وهذا غير مسألة الخلافة والرئاسة، فإنّه مع قطع النظر عن ذلك _ والقول بأنّ الخلافة والرئاسة العامّة _ كما زعمه العامّة _ ليست إلّا من قبيل السلطنة والأمارة وتتحقّق بإجماع الاُمّة واتّفاقهم على تولية واحد لها، وليست من المناصب الإلهية حتى يكون طريق إثباتها منحصراً بالنصّ _ كما تقوله الفرقة المحقّة الإمامية _ يجب القول بحجّية أقوال أهل البيت(علیهم السلام) وفتاويهم وأحكامهم لحديث الثقلين.

فالأخبار المذكورة إنّما وردت لذمّ هذه الطائفة، لا مَن يتمسّك بأذيال ولاية الأئمّة(علیهم السلام) ويهتدي بهداهم ويستضيء بنورهم ويذهب إلى تخصيص عمومات الكتاب وتقييد مطلقاته بالروايات الصادرة عنهم.

وليس معنى هذه الروايات عدم حجّية الظواهر مطلقاً حتى بعد المراجعة إليهم(علیهم السلام) وإلى رواياتهم وعدم الظفر بقرينة التجوّز أو المخصّص والمقيّد.

ص: 118


1- يأتي تخريجه في الصفحة 124.

والحاصل: أنّ الأخبار كما تنادي به رواية مخاطبة الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع أبي حنيفة((1)) وقتادة((2)) إنّما وردت في ذمّ أبي حنيفة وقتادة ومن يحذو حذوهما ممّن يجلس مجلس الفتوى ويفتي من غير أن يراجع إحدى الحجج وهو قول العترة صلوات الله عليهم، ويستغني عنهم، ويدّعي الاستقلال في فهم الكتاب والسنّة، ولا يأخذ بما صدر عن أئمّة أهل البيت(علیهم السلام) ممّا يدلّ على تخصيص عمومات الكتاب أو تقييد مطلقاته أو يكون قرينة على التجوّز.

ولا نظر لها إلى من ليس كذلك ممّن يأخذ بفتوى أئمّة أهل البيت(علیهم السلام) ويأخذ بما صدر عنهم من الفتاوى والأحكام وما هو مقيّدٌ لإطلاقات الكتاب أو مخصّص لعموماته.

ومن الواضح: أنّ مجرّد طروّ التخصيص أو التقييد لا يصير سبباً لعدم حجّية الظواهر، وإلّا فلا فرق في ذلك بين الكتاب والروايات، فكما أنّه في الروايات لا يصير ذلك سبباً لسقوطهما عن الحجّية كذلك الكتاب لا يسقط عن الحجّية بمجرّد ذلك.

الاستدلال بأخبار التحريف

إن قلت: لا مجال للتمسّك بظواهر الكتاب مع وقوع التحريف، للعلم الإجمالي

ص: 119


1- قال أبو عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لأبي حنيفة: «أنت فقيه العراق؟». قال: نعم، قال: «فبم تفتيهم؟». قال: بكتاب الله وسنّة نبيّه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، قال: «يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حقّ معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟» قال: نعم، قال: «يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علماً، ويلك، ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الّذين أنزل عليهم، ويلك! ولا هو إلّا عند الخاصّ من ذريّة نبيّنا محمّد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وما ورّثك الله من كتابه حرفاً». الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص47 – 48، ب 6، ح 27.
2- قال أبو جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لقتادة: «أنت فقيه أهل البصرة؟» فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «بلغني أنّك تفسّر القرآن؟» قال، نعم، إلى أن قال: «ویحك يا قتادة! إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت. ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به». الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص185، ب 13، ح 25.

باحتفاف بعض الآيات الظاهرة في معنى من المعاني بما يفيد خلافه، أو وقوع بعض الزيادات المغيّرة للمعنى.

قلت: أمّا الزيادة، فالضرورة قائمة على خلافها، ولا أظنّ أحداً يلتزم بها.

وأمّا النقيصة، فربما يحتمل لما نقل عن بعض المؤرّخين من العامّة في كيفية جمع القرآن في زمان خلافة أبي بكر بتوسّط زيد بن ثابت، مع أنّ کلّ ما نقل عنهم هؤلاء ليس إلّا روايات مرسلة ضعيفة((1)).

ولما روي من أنّ أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد وفاة الرسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: «لا أضع ردائي حتى أجمع القرآن»، لأنّ رسول الله أمره بجمعه وأوصاه به»،((2)) وقد أتى به بعد جمعه إلى المسلمين، فلم يقبلوا منه وقالوا حسبنا ما عندنا، وقال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا يظهر ذلك إلّا بعد خروج...» الحديث.

ولبعض روايات اُخرى تقضي البديهة بتأويلها أو طرحها لما فيها ممّا يخالف القطع والضرورة، كما في بعضها من نقص ثلث القرآن، أو ربعه، أو نقص أربعين إسماً في سورة «تبّت» منها أسماء جماعة من المنافقين.

ومن الوضوح أنّ ذلك مخالف لبديهة العقل؛ لأنّه لو كان ذلك ممّا أبرزه النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قرأه على المسلمين وكتبوه، كما قرأ عليهم الآيات المنزلة عليه، لافتضح المنافقون، مع أنّ النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لم يكن مأموراً إلّا بالستر عليهم. ولقامت الحرب على ساق، وكان في ابتداء الإسلام من الفتن ما ظهر بعد وفاة النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). مع أنّه لو كان لتواتر نقله؛ لأنّهم

ص: 120


1- انظر هذه الروايات في صحيح البخاري (ج3، ص206؛ ج 5، ص31؛ ج6، ص22 ، 98؛ ج8 ، ص177)؛ كنز العمّال (المتّقی الهندي، ج2، ص 575- 576 ، 581) ؛ مسند أحمد (ج5 ، ص188)؛ سنن الترمذي، (ج4، ص347)؛ تاريخ المدينة المنوّرة (ابن شبّة النمیري، ج3، ص1001). يدّعي زيد بن ثابت في هذه الروايات أنّه فقدت آيات من القرآن وجدها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري.
2- انظر: ابن أبي شيبة الکوفي، المصنّف، ج7، ص197؛ المتّقي الهندي، كنز العمّال، ج13، ص127-128.

كانوا يضبطون جميع آياته وحروفه وكلماته تمام الضبط، فكيف يغفلون عن مثل ذلك؟! ولعرف بين الكفّار والمعاندين من أعظم معائب الإسلام والمسلمين. ولكان القرآن غير محفوظ، وقد أخبر الله بحفظه. ولعرف بين الشيعة وأعدائهم من أعظم الأدلّة على خروج الأوّلين من الدين؛ لأنّ النقص على تقدير ثبوته مستند إليهم.

ثم العجب کلّ العجب من قوم يزعمون أنّ الأخبار محفوظة في الألسن والكتب في مدّة أكثر من ألف وثلاثمائة سنة وأنّه لو حدث فيها نقص لظهر، ويحكمون بنقص القرآن وخفائه في جميع الأزمان.

أقول: احتمال النقيصة مع كونه مرجوحاً بعيد في نفسه؛ لأنّ ما روي في بعض الروايات أنّه من القرآن، يكون من حيث المضمون ومن حيث الاُسلوب والعبارة والإنشاء على نحو لا يكاد يحتمل من له أدنى معرفة بأساليب الكلام أنّه من القرآن وصدر من المصدر الّذي صدر منه الكتاب المجيد. بل لو قيس ما نقلوه مع الكلمات الفصيحة المنقولة عن الفصحاء والاُدباء لرأينا رتبته أدنى من هذه المقايسة أيضا، فكيف بالكلام المعجز الصادر عن الله تعالى النازل على رسوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بلسان عربيٍ مبينٍ؟!

وأيضاً احتماله مخالفٌ لما ثبت من أنّ أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وسائر الأئمّة صلوات الله عليهم كثيراً ما يستشهدون بالقرآن المجيد، ويقرّرون أصحابهم على الاستدلال به، وأنّ هذا القرآن هو القرآن الّذي اُنزل على النبيّ، كما يظهر ذلك بالمراجعة إلى الروايات ونهج البلاغة وكثيرٍ من الأدعية مثل بعض أدعية الصحيفة السجّادية، كدعائه عند ختم القرآن، وغيره.((1)) والروايات الدالّة على وجوب الأخذ بالقرآن، كقوله: «إذا التبست عليكم الفتن كقِطع الليل المظلم...» الخبر،((2)) وخبر الثقلين، وغيرهما.

ص: 121


1- الصحيفة السجادية، دعاء 42 (ص174 – 182).
2- الکلیني، الكافي ، ج2، ص599؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج6 ، ص171.

هذا، مع أنّ هذا الاحتمال الضعيف المرجوح البعيد ليس مضرّاً بما نحن بصدده، وهو حجّية ظواهر آيات الأحكام، لأنّ العلم الإجمالي بالتحريف لو فرضنا تماميته وقبلناه مماشاةً مع الخصم ليس إلّا في غير آيات الأحكام ممّا تكون الدواعي على إسقاطه موجودة، كإسقاط کلمة «في عليّ» من قوله: ﴿بَلِّغْ مَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾.((1))وأمّا ما ليس لهم داعٍ على تحريفه كآيات الأحكام فليس متعلّقاً للعلم الإجمالي أصلاً.

ولو سلّم كونه طرفاً للعلم الإجمالي، فليس هذا العلم منجّزاً مؤثّراً لكون بعض أطرافه وهو آيات غير الأحكام خارجاً عن محلّ الابتلاء فيصير بالنسبة إلى آيات الأحكام شكّاً بدويّاً، كما لا يخفى.

اختلاف القراءات

ثم إنّ الاختلاف في القراءات وإن كان لا يوجب الشكّ في جواز القراءة لكل واحد منها، لكون جواز القراءة بكل واحد من القراءات المعروفة السبعة بل والثلاثة الاُخرى في زمان الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من المسلّمات عند جميع الشيعة فضلاً عن غيرهم، ولكن في مقام التمسّك لابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن ولا مجال لإعمال القواعد المقرّرة في باب الخبرين المتعارضين بالنسبة إلى اختلاف القراءات، لعدم كونه من هذا الباب.

هذا تمام الكلام في حجّية الظواهر.((2))

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله أجمعين. اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا ولمعلّمينا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ولمن استغفر لنا وترحّم علينا بحقّ محمد وآله.

ص: 122


1- المائدة، 67 .
2- وإن شئت المزيد في صيانة الكتاب من التحريف راجع كتابنا: «مع الخطيب في خطوطه العريضة». [منه دام ظلّه العالي].

فصل: في حجّية خبر الواحد

اشارة

إعلم: أنّ الخبر ما يحتمل الصدق والكذب،((1)) أي يكون له واقع يطابقه أو لا يطابقه؛ ولا يلزم فعلية ذلك، بل يكفي كونه في حدّ ذاته كذلك.

وفي مقابله الإنشاء، لأنّه ليس له واقع يطابقه أو لا يطابقه، ولا يحتمل الصدق والكذب.

وهو (أي الخبر) على قسمين: المتواتر، و خبر الواحد.

الخبر المتواتر وأقسامه

أمّا المتواتر،((2)) فهو: الخبر الّذي أخبر به جماعة كان تواطؤهم على الكذب ممتنعاً عقلاً أو عادة.((3))

ص: 123


1- الجرجاني، التعريفات، 96.
2- المتواتر: اسم فاعل، مشتقّ من التواتر، أي التتابع، تقول: تواتر المطر، تتابع نزوله. وتواترت الخيل، إذا جاءت يتبع بعضها بعضاً. لسان العرب، ج5، ص275، مادّة «وتر»؛ المعجم الوسيط، ج2، ص1009.
3- قال السرخسي: المتواتر: هو أن ينقله قوم لا يتوهّم اجتماعهم وتواطؤهم على الكذب، لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم عن قوم مثلهم هكذا إلى أن يتّصل برسول الله (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). السرخسي، اُصول، ج1، ص282. وعرّفه الخطيب بقوله: هو ما يخبر به القوم الّذين يبلغ عددهم حدّاً يعلم عند مشاهدتهم بمستقرّ العادة أنّ اتّفاق الكذب منهم محال، وأنّ التواطؤ منهم في مقدار الوقت الّذي انتش_ر الخبر عنهم فيه متعذّر، وأنّ ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأنّ أسباب القهر والغلبة والاُمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم. الخطیب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، ص32.

وقد قسّم في لسان أساتيذنا وأساتيذ أساتيذنا إلى الإجماليّ والتفصيليّ.

والمراد بالإجماليّ، هو: إخبار جماعة عن القضايا المتفرّقة _ الّتي بينها جامعٌ واحدٌ أو لازمُ جميعها مطلبٌ واحدٌ _ بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب، ويقطع بصدق واحدٍ منها.

وأمّا التفصيلي، فهو: إخبار جماعة _ يمتنع تواطؤهم على الكذب _ عن مطلبٍ واحدٍ، سواء كان المخبر عنه قول شخص، أو غيره كوجود زيد وطلوع الشمس وغيرهما.

فإن كان المخبر عنه قول أحد، وكان إخبارهم عنه نفس الكلام واللفظ بأن أخبروا کلّهم عن اللفظ الصادر من شخص يسمّى ب_ : «التواتر اللفظي» كما ربما يقال في قول: «إنّما الأعمالُ بِالنِّيات»،((1)) فإنّ نقلة هذا اللفظ عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب.

ص: 124


1- لكنّ الظاهر عدم كونه منه؛ لأنّ سنده ينتهي إلى شخص واحد عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فهو بذلك خبر واحدٍ. هذا، مضافاً إلى أنّه مطعونٌ جدّاً. والأولى بالمثال للمتواتر، أحاديث الثقلين المتواترة، وحديث الولاية، وأحاديث المهديّ، والسفينة، والأمان، وغيرها. [المقرّر دام ظلّه العالي]. والحديث المذكور «إنّما الأعمال بالنيّات» كما أفاد المقرّر المحترم _ مد ظلّه العالي _ ليس متواتراً لا لفظاً ولا معنىً. وإنّما تعرفه العامّة من غرائب الحديث ومتفرّداته، إذ هو متفرّد في السند ويستمرّ التفرّد في جميع رواته، حيث انفرد به علقمة بن وقّاص عن عمر؛ وانفرد به عن علقمة، محمد بن إبراهيم التيمي؛ وانفرد به يحيى بن سعيد عن محمد؛ ثم انتش_ر بعد يحيى بن سعيد، وهو من صغار التابعين المتوفّى سنة 143 أو 144 أو 146ه_. والحديث أخرجه البخاري في أ وّل صحيحه، ومسلم في الإمارة (ج6، ص48) من حديث عمر. فالصحيح من المثال ما ذكره المقرّر المحترم _ دامت بركاته _ من الأحاديث فهي کلّها متواترة لفظاً ومعنىً عند الرواة ومحدّثي الفريقين. فحديث الثقلين _ مثلاً _ قد رواه عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) 33 صحابياً و19 تابعياً وأكثر من 300 من علماء ومشاهير وحفظة الحديث لدى أهل السنّة من القرن الثاني حتى القرن الرابع عشر. راجع: مسلم النیسابوري، صحيح، ج4، ص1874، ح36 - 37؛ الترمذي، سنن، ج5 ، ص662، ح 2786 ، 2788 ،3786؛ البيهقي، سنن، ج2، ص148، ج7، ص30؛ ج10، ص114؛ الدارمي، سنن، ج2، ص889، ح 3198؛ أحمد بن حنبل، مسند، ج4، ص30، ح11104، ص36، ح 11131، ص54، ح11211؛ ج7، ص84، ح19332؛ ج8 ، ص138، ح21634، ص154، ح21711، ص118، ح11561؛ الحاکم النیسابوري، المستدرك، ج3، ص109، 148؛ النسائي، خصائص أمير المؤمنين، ص150، ح79؛ الخطیب البغدادي، تاريخ بغداد، ج8 ، ص443؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج2، ص194؛ الطبراني، المعجم الصغير، ج1، ص131- 135؛ الطبراني، المعجم الكبير، ج3، ص65 – 67، ح2678 - 2681 - 2683؛ السیوطي، الدرّ المنثور، ج2، ص60 ؛ المتّقي الهندي، كنز العمّال، ج1، ص172، 185-189، باب الاعتصام بالكتاب والسنة؛ القندوزي، ينابيع المودّة، ج1، ص95-126، 132؛ الهیثمي، مجمع الزوائد، ج9، ص163؛ ابن الاثیر الجزري، اُسد الغابة، ج3، ص136/2739 و 219/2907؛ الهیتمي، الصواعق المحرقة، ص228؛ ابن کثیر، البداية والنهاية، ج7، ص383؛ ابن الأثیر، جامع الاُصول، ج9، ص158؛ المرعش_ي النجفي، شرح إحقاق الحقّ، ج9، ص309 - 375؛ الصدوق، الخصال، ص65/97، 457-460/2؛ الطوسي، الأمالي، ص255، 548؛ الصدوق، كمال الدين، ص234 - 241؛ الصدوق، معاني الأخبار، ص90؛ المفيد، الأمالي، ص135؛ الصدوق، الأمالي، ص500، ح15؛ الخزّاز القمّي، كفاية الأثر، ص92، 128، 137، 163. ومن الأحاديث المتواترة لفظا ومعنىً عند العامّة حديث الحوض، عن النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) قال: «ليردنّ عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك». رواه خمسون من الصحابة فيهم أبو بكر وعمر وأبو سعيد الخدري وأنس وابن عمر وابن مسعود وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وغيرهم. وقد جمعها الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه «البعث والنشور» بأسانيدها وطرقها.

وإن كان إخبارهم عمّا أفاده بالكلام، وكان غرضهم من الإخبار الإخبار عن معنى اللفظ والكلام يسمّى ب_ «التواتر المعنوي».((1))

وكيف كان، فلا إشكال في حجّية الخبر المتواتر لحصول القطع بصدوره، ولا اعتناء

ص: 125


1- هذا وما أخذته في أوائل أمري من والدي المحقّق العلّامة الفقيد _ شكر الله مساعيه الجميلة في إعلاء کلمة الإسلام، والذبّ عن الدين، ودفع المبدعين والمبطلين _ في تقسيم المتواتر هكذا: المتواتر الإجمالي هو: المتواتر المعلوم وجوده بالإجمال بين أخبار باب واحد من الأخبار. والتفصيلي: ما علم بالتفصيل وبخصوصه. والمتواتر المعنوي هو: القدر المشترك والجامع بين أخبار كثيرة يحصل العلم منها به، كالأخبار الدالّة على شجاعة أمير المؤمنين، وجود حاتم. واللفظي: ما يدلّ على لفظ معين وهو: أخبار يحصل العلم بسبب تواترها بصدور لفظ كتواتر قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه». فالتواتر الإجمالى والتفصيلي يشملان ما كان المخبر عنه قول الشخص أو فعله، والمعنوي يشمل الفعل دون القول، كما أنّ اللفظي يشمل اللفظ دون الفعل. [منه دام ظلّه العالي].

بعدم حصوله لبعض غير المستقيمين في الاستعداد والسليقة،((1)) ومن وقع في ظلمة الشكّ والوسوسة وصار من السوفسطائية.((2))

خبر الواحد وأقسامه

وأمّا خبر الواحد، فهو: ما ليس بمتواتر.

وقد قسّموه إلى تقسيمات عديدة:

منها: تقسيمه إلى المستفيض، وهو: الخبر الّذي كان رواته أكثر من ثلاثة أو ثلاثة وأكثر، وغير المستفيض.

ومنها: تقسيمه إلى المحفوف بالقرائن القطعية، وغيره.

ولا ريب في أنّ خبر الواحد غير المحفوف بالقرائن القطعية غير مفيد للقطع وإن كان المنقول عن بعض من العامّة كأحمد بن حنبل إفادة كلّ خبرٍ للقطع؛((3)) ونقل أيضاً

ص: 126


1- زعم إبراهيم النظّام المعتزلي، أنّه لا حجّة في الخبر المتواتر، وأجاز وقوعه كذباً. راجع: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 241؛ ابن المرتضی، طبقات المعتزلة، ص49؛ البغدادي، اُصول الدين، ص11، 20.
2- قال الغزالي، أما إثبات كون المتواتر مفيداً للعلم فهو ظاهر، خلافاً للسُّمُنية حيث حص_روا العلوم في الحواسّ، وأنكروا هذا. وحصرهم باطل. الغزالي، المستصفى، ج1، ص251. راجع أيضاً: الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص69. والسُّمُنية، فرقة ضالّة منسوبة إلى سومان بلد بالهند، كان يعبد أهله صنماً، كسره السلطان محمود بن سبكتكين. يقولون بتناسخ الأرواح، ولا يجوّزون على الله بعث الرسل، ويقولون بقدم العالم، ولا يؤمنون إلّا بما يثبت بالحواسّ الخمس، ولهم مناقشات مع علماء الإسلام حول نظرية المعرفة. كذا في الفرق بین الفرق (البغدادي، ص241)؛ الفرق الإسلامية للبشبيش_ي (ص86) ؛ الفهرست (ابن الندیم، ص408)؛ تحقيق ما للهند (البيروني، ص19).
3- نسب كثير من علماء العامّة إلى أحمد بن حنبل، أنّه يذهب إلى أنّ أحاديث الآحاد تفيد العلم، منهم الإسفراييني، وابن حزم، وابن تيمية، وابن القيّم، والسبكي، والشوكاني. ونقل ابن حزم وابن القيّم وابن تيمية وغيرهم أنّ الفقيه المالكي ابن خويز منداد ذكر في كتابه «اُصول الفقه» أنّ مالكاً صرّح بأنّه يرى أنّ أحاديث الآحاد تفيد العلم. وهذا قول داود الظاهري أيضاً. راجع: آل تیمیّه، المسودّة في اُصول الفقه، ص242؛ ابن قیم الجوزي، الصواعق المرسلة، ج2، ص274 و 27؛ الآمدي، الاحكام في اُصول الأحكام، ج1، ص107.

عن بعض الأخباريين إفادة الأخبار المنقولة في الكافي القطع، وعن بعضهم ما في الكافي والفقيه، وعن بعضهم ما فيهما وفي التهذيب والاستبصار، وعن بعضهم الآخر إفادة کلّ خبر للقطع سواء كان من الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة أو غيرها. وهذا الادّعاء أيضاً _ كادّعاء عدم إفادة المتواتر القطع _ لا يصدر إلّا عمّن ليس له سليقةٌ مستقيمةٌ، ويحصل له القطع من غير تحقّق موجبه.

وأمّا حجّية الخبر غير المحفوف بالقرائن القطعية، فلا ريب فيها في الجملة.

والمشهور بين العامّة في تمام الأعصار _ قولاً وعملاً _ حجّية خبر الواحد،((1)) كما يظهر ذلك عند المراجعة إلى كتبهم الفقهية مثل: موطّأ مالك وغيره، حتى أنّهم ربما اتّفقوا على فتوى مع كون مستندها منحصراً بخبر الواحد مثل: مسألة منجّزات المريض، فإنّهم اتّفقوا على أنّها من الثلث لا الأصل لرواية واحدة رووها عن عمران بن حصين عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)،((2)) وكثيراً ما يعتذرون عمّن أفتى في مسألة على خلاف رواية بعدم وصولها إليه، كما اعتذر محمد بن الحسن الشيباني _ أحد تلامذة أبي حنيفة _ عن كون فتوى اُستاذه في خيار المجلس على خلاف الخبر المرويّ عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع»،((3)) بعد ما رواه الشافعي بسنده المتّصل إلى النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) بأنّ أبا حنيفة لو وصل إليه هذا الخبر لعدل عن هذه الفتوى.

ص: 127


1- قال الغزالي: «تواتر واشتهر من عمل الصحابة والعلماء من العمل بخبر الواحد في وقائع شتّى لا تنحص_ر...». المستصفى، ج1، ص276.
2- انظر منتقى الأخبار مع نيل الأوطار، ج6 ، ص48.
3- أخرجه أحمد في المسند (ج2، ص183)؛ وأبو داود في السنن (ج3، ص736)، كتاب البيوع، باب في خيار المتبايعين، ح 3456)؛ والترمذي في السنن (ج3، ص541)، كتاب البيوع، باب البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، ح 1247) وغيرهم. وانظر فتوى أبي حنيفة في شرح معاني الآثار (الطحاوي، ج4، ص12 – 17)؛ وشرح فتح القدير (ابن الهمام السیواسي، ج6 ، ص257 – 259)؛ وغيرهما.

وكيف كان، فالمسألة بينهم من المسلّمات، لأنّهم لم ينقلوا الخلاف فيها بل نقلوا اتّفاق جميع الأصحاب على العمل بخبر الواحد.

نعم، نقل الشافعي: أنّ قائلاً طالبه بالدليل على حجّية الخبر، ونقلوا عن بعض متكلّميهم وعن الخوارج القول بعدم الحجّية، ونسبوه أيضاً إلى الإمامية،((1)) هذا.

والظاهر: أنّ أصحاب رسول الله التابعين كانوا متّفقين على العمل بخبر الواحد، ولم ينقل منهم خلاف إلّا في بعض الموارد عن أبي بكر وعمر.((2))

وأمّا الإمامية، فالمشهور بين متكلّميهم نفي الحجّية،((3)) ولذا كثيراً ما يجيبون عن الاستدلال بالأخبار غير المتواترة بأنّها أخبار آحاد لا توجب علماً ولا عملاً. وأمّا المحدّثون والفقهاء منهم وهم معظمهم، وأصحاب الأئمّة صلوات الله عليهم فيعملون بالخبر وإن لم يكن متواتراً.((4))

ولا ريب في تحقّق الشهرة بين جميع أصحابنا في جميع الأعصار على حجّية خبر الواحد.

ص: 128


1- انظر: الفخر الرازي، اعتقادات فرق المسلمين والمش_ركين، ص41؛ النووي، شرح صحیح مسلم، ج1، ص131؛ آل تیمیّة، المسوّدة في اُصول الفقه، ص238.
2- بل المشهور والمسلّم عنهما أنّهما كانا يمنعان عن رواية سنّة الرسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فراجع كتاب: أضواء على السنة المحمدية؛ وكتابنا: أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف؛ وغيرهما. [منه دام ظله العالي]. روي عن أبي بكر أنّه لم يقبل خبر المغيرة بن شعبة في الجَدّة حتى شهد معه محمد بن مسلمة. أبو داود السجستاني، سنن، ج2، ص16، باب 5؛ الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص119. وروي عن عمر أنّه لم يقبل خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى شهد معه أبو سعيد الخدري. رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثا، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، وأبو داود. انظر أيضاً: الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص119.
3- راجع: الشریف المرتضی، الذريعة إلی اُصول الشریعة، ج2، ص529 ؛ ابن زهرة الحلبي، غنیة النزوع، ص28؛ ابن إدریس الحلّي، السرائر، ج1، ص50.
4- راجع: الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص100؛ العلّامة الحلّي، مبادئ الوصول إلی علم الاُصول، ص205 - 207؛ العاملي، معالم الدين، ص188؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص271.

وأمّا الإجماع الّذي ادّعاه السيّد،((1)) فسيأتي ما ينبغي أن يقال فيه،((2)) فإنّه لا يخلو من الغموض. مع أنّ الشيخ ادّعى الإجماع على حجّية الخبر، فإنّ الشيخرحمه الله تتلمذ عند السيدرحمه الله من سنة 413 إلى 436، ومع ذلك ادّعى الإجماع على حجّية الخبر في مقابل الإجماع الّذي ادّعاه اُستاذه السيّدرحمه الله وأنّ العمل بخبر الواحد كالعمل بالقياس في قيام الضرورة على بطلانه.

ولا يصحّ رفع التنافي بما زعمه بعض الأعلام من المعاصرين، حيث قسّم الخبر إلى الموثوق الصدور وإلى غيره، وأنّ الإجماع المدّعى على حجّية الخبر قائم على حجّية الخبر الموثوق الصدور، والإجماع المدّعى على عدم حجّيته قائم على عدم حجّية الخبر غير الموثوق بالصدور؛((3)) لعدم المجال لحمل الإجماع المدّعى على عدم الحجّية على ما حمله.

أدلّة المنكرين لحجّية خبر الواحد ونقدها

وكيف كان، فقد استدلّوا على عدم حجّية الخبر:

أوّلاً: بالآيات الناهية عن اتّباع غير العلم،((4)) كقوله: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...﴾((5)) الآية، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾،((6)) وغيرهما.

ص: 129


1- الشريف المرتضى، رسائل، ج3، ص309؛ ج1، ص24.
2- يأتي في الصفحة 168 وما يليها.
3- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص290، نقله عن بعض المتأخّرين وردّ عليه. وأوّله الشيخ(قدس سره) أيضاً بأنّ معقد الإجماع، الأخبار الّتي يرويها المخالفون.
4- قال في الكفاية (الخراساني، ج2، ص79): «فالمحكي عن السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس عدم حجّية الخبر، واستدلّ لهم بالآيات الناهية عن اتّباع غير العلم...». راجع أيضاً: الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص 288.
5- الإسراء، 36.
6- يونس، 36.

وفيه: أنّ اتّباع الخبر ليس اتّباع غير العلم، بل هو اتّباع العلم، لأنّا نتّبع الخبر بعد قيام الدليل القطعيّ على حجّيته ووجوب اتّباعه، لا بدونه. نعم، لو لم يقم دليل على حجّيته يكون اتّباعه عملاً بالظنّ وغير العلم، وأمّا معه فيكون اتّباعه اتّباع العلم، وتكون النسبة بين ما يدلّ على حجّية الخبر وهذه الآيات نسبة الورود.

والحاصل: أنّه لا فائدة للاستدلال بهذه الآيات؛ فإنّه لا يخلو إمّا أن لا تقوم حجّة على اعتبار الخبر، فلا حاجة إلى هذا الاستدلال، فإنّ الشكّ في الحجّية يغنينا عن الاستدلال على عدم جواز العمل، وإمّا أن يقوم الدليل على حجّيته كما يدّعيه القائل باعتبار خبر الواحد، فليس إذن اتّباعه اتّباع غير العلم.

فإن قلت: ما يدلّ على جواز اتّباع الخبر يكون مخصِّصاً للآيات الناهية لا وارداً عليها، فإنّ الأدلّة الدالّة على جواز العمل بالخبر إنّما تقتضي جواز اتّباع الظنّ وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف.((1))

قلت: إذا كان موضوع الدليل _ الّذي توهم كونه مخصِّصاً للعام _ خارجاً عن موضوع دليل العامّ قبل ورود هذا الدليل كما يكون بعد وروده خارجاً، كقوله: «لا تكرم زيداً» و«أكرم العلماء» إذا لم يكن زيد من العلماء تكون النسبة بين الدليلين التخصّص، ومعنى ذلك في الحقيقة عدم وجود ارتباط بينهما، بل عدم تحقّق نسبة بينهما، وأنّ کلّ واحدٍ منهما غير الآخر وغير مرتبطٍ به. وهذا، بخلاف التخصيص، كقوله: «لا تكرم زيداً العالم»، فإنّه يدلّ على عدم وجود الحكم الثابت لهذا الفرد بمقتضى «أكرم العلماء».

وأمّا في الورود فليس الفرد الخارج بسبب الدليل الوارد خارجاً عن موضوع العامّ

ص: 130


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص69 .

قبل وروده، بل إنّما يخرج بسبب ورود هذا الدليل عن موضوعه، لا خروجاً تعبّدياً بل خروجاً تكوينياً، كما إذا دلّ الدليل على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فإنّ مقتض_ى دلالة الدليل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال عن شمول قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «مَا لَا يَعلَموُنَ» تكويناً وكون التكليف به مقطوعاً، مع أنّه لولا هذا الدليل يكون واقعاً تحت عموم قوله: «مَا لَا يَعلَموُنَ» وكان مرفوعاً.

نعم، لا مانع من القول بكون الورود أيضاً قسماً من التخصيص، فيقال: إنّه على قسمين، فتارة: يكون موضوع دليل خارجاً عن تحت الآخر قبل وروده كما يكون خارجاً بعده. وتارة: لا يكون خارجاً قبله بل يكون بحيث لو لم يرد هذا الدليل يبقى مندرجاً فيه، ولكن بعد ورود هذا الدليل خرج من موضوع الدليل الآخر تكويناً.

فعلى هذا، نقول جواباً عن الإشكال: إنّ العمل بخبر الواحد وإن كان في نفسه اتّباع غير العلم ومتابعة الظنّ الّذي لا يغني من الحقّ شيئاً، وداخلاً تحت موضوع الأدلّة الدالّة على حرمة اتّباع غير العلم، وتكون أدلّة الاعتبار الدالّة على جواز اتّباع مفاده مع كونه غير موجب للعلم بالحكم الشرعيّ الواقعي مخصِّصة للأدلّة المانعة، إلّا أنّ أصل الأدلّة الدالّة على حجّية الأمارة ووجوب اتّباعها يكون وارداً على هذه الأدلّة المانعة عن اتّباع الظنّ، لحصول القطع بالحكم الشرعي الظاهري وهو وجوب اتّباع الأمارة بعد قيام الدليل القطعي على حجّيتها، فيصير العمل بالخبر بهذا الدليل الدالّ على هذا الحكم الظاهريّ خارجاً عن تحت موضوع دليل عدم الجواز تكويناً لعدم كون هذا العمل عملاً بغير العلم.

وثانياً: بالأخبار، مثل: ما يدلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب، أو الخبر الّذي لم يكن موافقاً له، أو عدم صدور ما كان كذلك عنهم(علیهم السلام).((1))

ص: 131


1- تقدّم تخريج هذه الأخبار في المجلّد الأوّل.

وفيه: أنّ الظاهر من هذه الطائفة أنّها صدرت لردّ الأخبار المجعولة المناقضة للكتاب والأحاديث المكذوبة الّتي دسّوها في الروايات كثير من أرباب الآراء الفاسدة والمقاصد الباطلة وجماعة من المنتحلين إلى التشيّع، لأن يفرّقوا بين الشيعة ويميلوا الناس عن أئمّتهم لإبطال أمرهم وتحقير کلمتهم بين الناس وإطفاء نورهم ﴿ وَ يَأْبَى اللهُ إلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.((1)) فهذه الأخبار إنّما صدرت في مقابل هؤلاء، وما يكذبون عليهم(علیهم السلام).

كما أنّ الظاهر أنّ جلّ هذه الروايات المجعولة راجعة إلى اُصول الدين وما ينافي التوحيد الإسلامي وسائر مبانيه المحكمة المسلّمة عند الكل. وأنّ مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا یصدق علينا إلّا ما يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)»((2)) راجع إلى الردع عن الأخذ بهذه الروايات.

ومثل: ما ورد عنهم من الأخبار في علاج الخبرين المتعارضين ووجوب الأخذ بما كان موافقاً للكتاب وطرح المخالف.((3))

وأنت خبير بأنّه لا ربط لهذه الأخبار بمحلّ الكلام، بل تدلّ على حجّية الخبر في الجملة.

ومثل ما يدلّ على طرح الخبر الّذي لم يوجد له شاهد أو شاهدان من الكتاب.((4))

وفيه: أنّ فساد الاستدلال بهذه الأخبار _ مع كونها أخبار آحاد بل ربما لا تتجاوز عن اثنين _ لإثبات عدم حجّية الخبر أوضح من أن يخفى.

اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّا إمّا أن نقول بحجية الخبر أم لا، فعلى الثاني لا كلام بيننا؛ وأمّا

ص: 132


1- التوبة، 32.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص123، ب 9، ح 47.
3- الکلیني، الكافي، ج1، ص69، ح 3 و 4 باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضي، ج27، ص109-111، ب 9، ح 10 و 12 و 14 وغيرها.
4- الکلیني، الكافي، ج1، ص69، ح2، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب؛ ج 2، ص222، ح 4، باب الكتمان؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضي، ج27، ص110، 112، ب 9، ح 11 و 18.

على الأوّل فتكون هذه الأخبار نافية لحجّية الخبر فتقع المعارضة بينهما، فلا يبقى ما يدلّ على الحجّية.

وفيه: أنّ بعد قيام الدليل القطعي على حجّية الخبر _ كما سيأتي إن شاء الله تعالى((1)) _ لا مجال لمعارضة هذه الأخبار معه.

وثالثاً: بالإجماع، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.((2))

وحاصل الكلام: أنّ إثبات عدم حجّية الخبر مع عدم قيام دليل قطعي عليها غير محتاج إلى إقامة البرهان، لكونه موافقاً للأصل؛ ومع قيام الدليل القطعي فلا مجال إلّا للأخذ به.

فعلى هذا، ينبغي لنا طيّ المقال وصرف عنان الكلام إلى بيان ما أفادوا لإثبات حجّية الخبر.

أدلة حجّية خبر الواحد

استدلّوا لإثبات حجّية الخبر بالأدلّة الأربعة، فنبدأ في بيانها، وعلى الله التوكّل وبه الاعتصام:

أمّا الكتاب

آية النبأ

إعلم: أنّه استدلّ لحجّية خبر الواحد بآيات من الكتاب الكريم، منها قوله

ص: 133


1- آنفاً تحت عنوان «أدلّة حجّية الخبر».
2- يأتي في الصفحة 168 وما يليها.

تعالى في سورة الحجرات: ﴿يَا أَيَّهَا الَّذِينَ آمَنوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنبأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيِبُوا قَوْماً بِجَهالةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.((1))

وقد اُفيد في مقام الاستدلال بهذه الآية بأنّه قد علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالخبر، فينتفي عند انتفائه. فإذا انتفى وجوب التبيّن والاستيضاح عند مجيء غير الفاسق به فإمّا أن يجب القبول وهو المطلوب، وإمّا أن يجب الردّ وهو فاسد للزوم كون العادل أسوأ حالاً من الفاسق.((2))

ولكن لا يخفى عليك: أنّه ليس التبيّن وطلب الوضوح والتثبّت في خبر الفاسق واجباً نفسّياً بالأصالة، ولا يفهم من الآية كونه واجباً نفسّياً رأساً، لعدم كون الآية في مقام بيان وجوب هذا التثبّت وكونه كسائر الواجبات الشرعية، بل الظاهر أنّ الآية مسوقة لبيان حرمة العمل بالخبر الّذي جاء به الفاسق قبل التثبّت وهذا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال في أنّ الاستدلال بهذه الآية هل يكون مبنيّاً على مفهوم الش_رط أو الوصف؟ ويظهر من الكفاية أنّ الاستدلال بها من جهة مفهوم الش_رط، فيكون الموضوع لحرمة العمل هو النبأ الّذي جيء به إذا كان الجائي به فاسقاً، فبانتفاء هذا القيد ينتفي الحكم.((3))

وفيه: أنّ الظاهر أنّ القضية المستفادة من الآية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع مثل: «إن رزقت ولداً فاختنه»، ولا يؤخذ الموضوع فيه _ خارجاً _ مفروض الوجود حتى يكون انتفاء الشرط مستلزماً لانتفاء الجزاء، فليست الآية من قبيل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «الماء إذَا

ص: 134


1- الحجرات، 6.
2- هكذا ذكره كثير من الاُصوليّين، كما في قوانين الاُصول (القمّي، ج1، ص433).
3- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص83؛ الخراساني، فوائد الاُصول، ج3، ص169؛ العراقي، نهاية الأفكار، القسم الأوّل من الجزء الثالث، ص111 - 112.

َکانَ قدر كرّ لم ينجّسه شيء»، فإنّ موضوعه وهو «الماء» محقّق الوجود في الخارج، فبانتفاء الش_رط ينتفي حكمه. أمّا شرط وجوب الختان _ أعني رزق الولد _ لو انتفى فلا ينبغي أن يقال بانتفاء حكمه، لعدم وجود أصل موضوعه في البين.

والآية أيضاً تكون في مقام إفادة أنّ مجيء الفاسق بالنبأ لو تحقّق يحرم العمل به قبل التثبّت، لا أنّ النبأ إذا كان الجائي به فاسقاً يحرم العمل به، فلا ينبغي الالتفات إلى الاستدلال بالآية من جهة مفهوم الشرط ولو فرضنا لها مفهوماً، ولا يكون إلّا من السالبة بانتفاء الموضوع.

وإن شئت مزيد توضيح لذلك نقول: إنّ القضيّة الشرطية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع إذا كان وجود الجزاء _ المذكور فيها _ متوقّفاً على وجود الشرط مثل: «إن ركب الأمير فخذ ركابه»، فإنّ وجوب أخذ الركاب لا يتحقّق إلّا إذا ركب الأمير، ومع عدم الركوب لا يمكن تحقّق الجزاء؛ وهذا بخلاف «إن جاءك زيد فأكرمه»، فإنّ وجوب إكرام زيد لا يتوقّف على المجيء بل هو ممكن مع عدم مجيئه، فالقضيّة الاُولى لا تكون مسوقة لإفادة المفهوم بل لبيان تحقّق الموضوع، بخلاف القضيّة الثانية.

وما يستفاد من الآية هو كونها مسوقة لبيان تحقّق الموضوع، فإنّ الجزاء معلّق فيها على مجيء الفاسق بالخبر، فيكون وجوب التبيّن متوقّفاً على مجيء الفاسق بالخبر، أمّا مع عدم مجيئه بالخبر فلا يمكن تحقّق التبيّن. ومجرّد ذكر الش_رط في حيّز الش_رط لا يوجب كون القضيّة ذات مفهوم.

فعلى هذا، لا يتمّ الاستدلال بمفهوم الشرط، لعدم كون القضيّة مسوقة لإفادة المفهوم.

نعم، لو كان الموضوع في القضيّة الشرطية المستفادة من الآية نفس النبأ، وعلّق الجزاء على الشرط، كما لو قيل في جواب من سأل عن حكم النبأ: «إذا جاء به الفاسق فتبيّن» يتمّ الاستدلال بالمفهوم. وأمّا في مثل الآية الّتي ظاهرها أنّها مسوقة لبيان تحقّق الموضوع فليس أخذ المفهوم في محلّه.

ص: 135

والحاصل: أنّ القول بالمفهوم من جهة الجملة الش_رطية هنا لا يتمّ إلّا بالتمحّل والتكلّف.

وهكذا من جهة الوصف: فإنّ القضيّة الوصفيّة ليست ذات مفهوم عند المتأخّرين، خصوصاً إذا كان الوصف المذكور فيها غير معتمد على الموصوف. هذا کلّه بناءً على مسلك المتأخّرين، وكون المفهوم قسماً من المدلول بالدلالة الالتزامية، كما أفادوا وقالوا بأنّ حجّيته _ لو ثبت أصله _ غنيّة عن البيان، وصاروا في مقام إثبات أصل المفهوم من طريق ظهور ذكر العلّة في انحصارها، وجعلوا النزاع في باب المفاهيم صغروياً.

وأمّا بناءً على ما حقّقناه في مبحث المفاهيم _ تبعاً لقدماء الاُصوليين _ من عدم كون المفهوم من سنخ المنطوق أصلاً، بل هو مستفاد من إتيان المتکلّم بقيد زائد في کلامه لكونه فعلاً اختيارياً يفعله الحكيم لغاية وفائدة، وغايته الظاهرة في الكلام إفادة معنى القيد الزائد الّذي أتى به في کلامه، فيستفاد من هذا القيد دخالته في الحكم صوناً لفعل الحكيم عن اللغوية، ولا يفيد ذلك أكثر من دخالة القيد وأنّ المقيّد بما هو هو لا يكون موضوعاً للحكم، فلا مانع من ضمّ قيد آخر إليه وقيامه مقامه، كما أفاده السيّد(قدس سره). ولا فرق في ذلك بين ما كان القيد الزائد المأتيّ به في الكلام من أدوات الش_رط أو الوصف أو الغاية؛ لأنّ كلّها في ما ذكر على وزان واحد، ولذا ترى القدماء في مقام الاستدلال بالآية المذكورة لم يفرّقوا بين مفهوم الوصف والشرط، وإنّما أفادوا بأنّ اشتمال الكلام على القيد الزائد مفيد لدخله في الحكم.

فعلى هذا، لا مانع من القول بالمفهوم من جهة اشتمال الآية على قيدٍ زائد وهو الوصف المذكور فيه؛ فإنّ ذكره يدلّ على دخالته في الحكم، فإنّ النبأ لو كان تامّاً في الموضوعية لكان الإتيان بقيد «كون الجائي به فاسقاً» لغواً، فيستفاد من الإتيان بهذا القيد دخل صفة فسق الجائي بالنبأ في موضوع وجوب التبيّن، وأنّه ليس بنفسه _ ومجرّداً _ مَركباً لحكم الشارع بوجوب التبيّن.

ص: 136

ولا يأتي هذا التقريب في الشرط، لما قد ذكرنا من أنّه إذا كان الجزاء متوقّفاً على وجود الشرط لا يمكن أخذ المفهوم ولا تكون القضيّة مسوقة لإفادة المفهوم، بل القضيّة إذا كان كذلك تكون مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

والحاصل: أنّ الوصف المأتيّ به في الآية يدلّ على دخله في الحكم، وعليه يتّجه القول باستفادة المفهوم من الآية. هذا تمام الكلام في بيان ما يمكن أن يقال في مقام الاستدلال بمفهوم آية النبأ، والله تعالى أعلم.

نقد الاستدلال بآية النبأ

وقد أوردوا على استفادة المفهوم والاستدلال به بوجوه نذكر بعضاً منها.

أحدها: ما عن بعض المتقدّمين كالشيخ(قدس سره) في العدّة((1)) وغيره،((2)) وهو: أنّ الإتيان بالوصف وكلّ قيدٍ زائدٍ إنّما يدلّ على المفهوم ودخل القيد في الحكم إذا لم تكن في البين قرينة على خلاف ذلك، كأن تكون للقيد المأتيّ به فائدة ظاهرة عرفاً غير دخله في الحكم، مع أنّها موجودة في ما نحن فيه وهي عبارة عن: التعليل المذكور في ذيل الآية، فإنّه يدلّ على أنّ ما هو العلّة لوجوب التبيّن ليس إلّا عدم إصابة القوم في الجهالة والوقوع في الندامة، وهو مشترك بين خبر العادل والفاسق.

هذا مضافاً إلى إمكان أن يكون ذكر ذلك القيد لإظهار فسق الوليد؛((3)) فإنّ مورد

ص: 137


1- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص111.
2- الشریف المرتضی، الذريعة إلى اُصول الشريعة، ج2، ص535 - 536 .
3- هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط الاُموي، اُمّه أروى بنت كريز بن ربيعة اُمّ عثمان بن عفّان، ولّاه عثمان الكوفة، وعزله بسعيد بن العاص، توفّي بالرقّة ودفن بالتليح. انظر: ابن الأثیر الجزري، اُسد الغابة، ج5 ، ص90-92. وبنو المصطلق: هم فخذ من قبيلة خزرج العربية الشهيرة.

نزول الآية كان إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق، وذكر الوصف إنّما يكون لأجل التنبيه على فسق هذا الفاسق.((1))

ثانيها: أنّ من المعلوم كون المعلول تابعاً لعلّته في العموم والخصوص، فالعلّة كما تخصّص مورد المعلول تكون معمّمة له أيضاً، فإنّ التعليل المذكور في قولنا مثلاً: «لا تأكل الرّمان لأنّه حامض» كما يخصّص الحكم بالأفراد الحامضة من الرمّان، يكون معمّماً له بالنسبة إلى غير الرّمان ممّا يكون متّصفاً بالحموضة.

فعلى هذا، لا يصحّ التمسّك بالمفهوم مع وجود التعليل المذكور في ذيل الآية، فإنّ حرمة العمل بقول الفاسق بدون التبيّن قد علّلت بمقتضى هذا التعليل بكونه معرضاً لإصابة القوم بالجهالة الموجبة لحصول الندامة، وهو مشترك بين خبر العادل والفاسق وإن كانت معرضية خبر الفاسق لذلك آكد من جهة أنّ احتمال الخلاف في نبأ الفاسق يكون لأجل احتمال تعمّده الكذب ولأجل خطأه واشتباهه، وفي نبأ العادل لأجل احتمال اشتباهه دون تعمّده، ولو سلّم ذلك فلا مجال لإنكار ضعف احتماله.

واُجيب عن هذا الإشكال بكون النسبة بين المفهوم والتعليل العموم والخصوص المطلق فيجب أن يحمل العامّ على الخاصّ.

وفيه: أنّ حمل العامّ على الخاصّ إنّما يكون لأجل نصوصية الخاصّ وظهور العامّ في مورد الخاصّ فيحمل العامّ على الخاصّ حملاً للظاهر على النص، وليس ظهور الجملة في المفهوم أقوى من ظهور العامّ حتى يحمل العامّ عليه. هذا مضافاً إلى أنّ التعليل المذكور مانع عن انعقاد ظهور الجملة في المفهوم حتى يقال بتعارضهما وحمل إحداهما على الآخر.

ص: 138


1- قال ابن حجر: «لا خلاف بين أهل العلم بالتأويل أنّ قوله عزّ وجلّ: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ...﴾ نزلت في الوليد». ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج11، ص125. راجع أيضاً: البصري، المعتمد في اُصول الفقه، ج2، ص117؛ الطبري، تفسیر، ج26، ص78 _ 79؛ ابن حجر العسقلاني، الإصابة، ج6 ، ص321.

وقد يجاب عنه: بأنّ الجهالة المذكورة ليس معناها عدم العلم حتى يكون مشتركاً بين العمل بخبر العادل والفاسق، بل المراد منها هو السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره عن العقلاء، وهذا غير موجود في العمل بخبر العادل.((1))

وفيه أوّلاً: أنّ هذا خلاف الظاهر من لفظ الجهالة.

وثانياً: لو سلّمنا احتمال هذا اللفظ لهذا المعنى يصير التعليل مجملاً، ومعه لا يمكن التمسّك بالمفهوم لوجود ما يصلح للقرينية على إرادة الخلاف. ولا يرفع هذا الإشكال وجود القدر المتيقّن؛ لأنّ إجمال التعليل مانعٌ عن انعقاد ظهورٍ للمعلّل.

وربما يجاب عن هذا الإشكال بأنّ وزان ذيل الآية ووزان سائر الآيات الناهية عن العمل بغير العلم واتّباع الظنّ واحدٌ، ولكن يخصّص هذا العموم بظهور الجملة في المفهوم.((2))

وقد اُجيب أيضاً عن الإشكال المذكور بأنّ العلّة الموجبة لوجوب التبين وإن كانت إصابة القوم بجهالة ومعرضية خبر الفاسق لإصابة القوم بها، ولكن ليست هذه بنفسها علة لوجوب التبين بل بملاك حصول الندامة على الأخذ بقول الفاسق والعمل على طبقه، والظاهر أنّ الندامة المذكورة هي الندامة الاُخروية الحاصلة من رؤية العذاب وحين المحاسبة، كما قال الله تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَ_مَّا رَأَوُا العَذَابَ﴾((3)) لا الندامة الدنيوية، وحيث إنّ ملاك الندامة الاُخروية غير معلوم لنا ولا يعلم إلّا من قبل الشارع يصير التعليل مجملاً ولا يمكن استفادة عمومه لخبر غير الفاسق، فلا مانع من استفادة

ص: 139


1- راجع: الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص86 ؛ الخراساني، فوائد الاُصول، ج3، ص172.
2- لا يخفى عليك ما في هذا الجواب أيضاً ممّا أورده السيّد الاُستاذ دام ظلّه وعلاه على الجواب الأوّل، فإنّ هذا الجواب أيضاً راجع إليه، فالجواب الجواب والإيراد عليه الإيراد. وليس حاضراً في ذهني خصوص ما أورده على هذا الجواب. [منه دام ظلّه العالي] .
3- سبأ، 33.

المفهوم لانعقاد ظهوره، فالتعليل يكون شبيهاً بالإيعادات المذكورة في بعض الآيات بعد بيان الأحكام ليكون مؤكّداً في البعث والزجر.

وفيه أوّلاً: أنّا لا نسلّم أن يكون المراد بالندامة الندامة الاُخروية، بل المراد بها الندامة الدنيوية.

وثانياً: أنّه وإن كانت سببية الأفعال للعذاب والعقاب وحصول الندامة في الآخرة على الأعمال لا تعلم إلّا من قبل الشارع وبيانه، إلّا أنّه قد بيّن في الآية الش_ريفة كون إصابة القوم بجهالة علّة لحصول الندامة وهي مشتركة بين خبر العادل والفاسق، كما لا يخفى.

وقد أجاب بعضٌ من أعاظم المعاصرين عن التعارض المذكور بين التعليل وظهور الجملة في المفهوم بحكومة المفهوم على التعليل؛ لأنّ المفهوم يدلّ على إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وكون الأخذ به أخذاً بالعلم تش_ريعاً وجعله محرزاً للواقع وكاشفاً عنه، فلا يشمله عموم التعليل، لا لأجل تخصيصه بالمفهوم بل لحكومة المفهوم عليه وكونه كالمفسّر له. فأقصى ما يقتضيه العموم هو عدم جواز العمل بما وراء العلم، والمفهوم يقتضي أن يكون خبر العدل علماً في عالم التشريع وموجباً لتضييق موضوع عموم التعليل وإخراج خبر العادل عنه موضوعاً بجعله محرزاً للواقع وحجةً، فلا تعارض بينهما، لأنّ المحكوم لا يعارض الحاكم ولو كان ظهور المحكوم أقوى منه.((1))

وفيه أوّلاً: أنّ اتّصال التعليل بصدر الآية مانعٌ عن ظهوره في المفهوم، ودليل على أنّ الإتيان بالقيد الزائد إنّما يكون لأجل إفادة نكتةٍ اُخرى.

وثانياً: سلّمنا أنّه مقيّدٌ للمفهوم وأنّ خبر العادل لا يجب فيه التبيّن، ولكن ليس للمفهوم لسانٌ حتى يقال بكونه كالمفسّر لدليلٍ آخر وناظراً إليه وحاكماً عليه، هذا.

ص: 140


1- النائیني، فوائد الاُصول، ج3، ص172 - 173.

ويمكن أن يقال: إنّ الإتيان في الكلام بقيدٍ زائدٍ يدلّ على دخله في الحكم مع ذكر التعليل الشامل لهذا القيد وغيره لا يكون عند العرف خالياً عن التهافت والمناقضة، فلو كان الكلام صادراً من المتکلّم الحكيم يوجّهونه على نحو يصير خارجاً عن التهافت واللغوية. وفي المقام يمكن أن يقال بأنّ العرف حيث يرى أنّ احتمال كون خبر الفاسق على خلاف الواقع ينشأ من تعمّده الكذب وإلقاء الغير في خلاف الواقع ومن احتمال النسيان والخطأ، وأمّا في خبر العادل فلا ينشأ إلّا من احتمال نسيانه وخطأه، وأمّا احتمال تعمّد الكذب فهو بالنسبة إليه بعيدٌ للغاية ولا يعتنى به، يحكم بأنّ مناسبة التعليل لوجوب التبيّن في خبر الفاسق دون العادل هي وجود احتمال تعمّد الكذب في خبر الفاسق دون العادل وعدم الاعتناء باحتمال الخطأ والنسيان فكأنّهم يفرضون الخبر _ الّذي لا يتطرّق إليه احتمال كونه على خلاف الواقع وإصابة القوم بجهالة إلّا من جهة احتمال النسيان والخطأ _ كالعلم في عدم تطرّق احتمال الخلاف إليه، وعدم كون العمل به إصابة القوم بجهالة، ولا يعتنون بالاحتمال المذكور في مقام العمل، ولهذا اُتي بالقيد في الآية تنبيهاً على الفرق الموجود بين الفاسق والعادل الّذي هو الموجب لحرمة العمل بخبر الفاسق قبل التبيّن وجوازه في خبر العادل.

ثالثها: ما لا يختصّ بمفهوم آية النبأ بل اُورد على مطلق ما استدلّ به على حجّية الخبر وهو: أنّ الآية وغيرها إنّما تقتضي حجّية الخبر إذا كان بلا واسطة، وأمّا الأخبار مع الواسطة فليست مشمولةً لها لانص_راف النبأ عن الخبر مع الواسطة، وليست الروايات والأخبار المرويّة عن الأئمّة(علیهم السلام) إلّا كذلك، فلا تشملها أدلّة حجّية الخبر.((1))

وفيه: أنّ إخبار الشيخرحمه الله عن خبر المفيد وإخبار

ص: 141


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص82 .

الصدوق عن خبر الكليني وكذا الكليني إلى أن ينتهي إلى الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، کلّها أخبار بلا واسطةٍ، فإنّ الشيخ أخبر عن المفيد بلا واسطةٍ وهو أخبر عن خبر الصدوق بلا واسطةٍ والصدوق أخبر عن الكليني بلا واسطةٍ وكذا الكليني إلى أن ينتهي إلى الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فليس في البين خبرٌ مع الواسطة حتى يقال بانص_راف النبأ عنه، بل کلّ واحدٍ خبرٌ بلا واسطةٍ. وكأنّه توهّم هذا المستشكل أنّ أدلّة حجّية الخبر إنّما تشمل نفس الخبر المرويّ عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فتنصرف إلى الخبر بلا واسطةٍ فلا تشمل الروايات المأثورة عنهم بوسائط أو واسطتين.

إن قلت: نعم، ولكن شمول دليل الحجّية لخبر الصدوق الّذي أخبر به الشيخ متوقّف على كونه محرزاً بالوجدان مع أنّه ليس محرزاً بالوجدان. نعم، إخبار الشيخ(قدس سره) عن الصدوق محرز بالوجدان وأمّا خبر الصدوق وسائر الوسائط فليست محرزةً كذلك بل إنّما يراد إحرازها بالتعبّد وبسبب دليل الحجّية. ولو قلنا بكفاية إحرازها بالتعبّد وبسبب دليل الحجّية في ترتّب الحكم عليه يلزم أن يكون الحكم مثبتاً لموضوعه، وهو محال.

وبالجملة: لا يكاد أن يشمل الحكم فرداً تتوقّف فرديّته على نفس الحكم ويكون ثبوته في مورد فردٍ آخر.

فلو قلنا بأنّ الحكم بتصديق العادل يجعل خبر الصدوق الّذي أخبر به الشيخ محرزاً تعبّداً، وقلنا بشمول هذا الحكم، أي الحكم بتصديق خبر العادل، لذلك أي خبر الصدوق _ الّذي اُحرز بنفس الحكم بتصديق خبر العادل _ يلزم أن يكون الحكم مثبتاً لموضوعه، لتوقّف فردية خبر الصدوق على فرديّة خبر الشيخ.

قلت: نعم، وإن كان لا يجوز أن يكون الحكم مثبتاً لموضوعه، إلّا أنّ لنا أن نقول بأنّ الحكم بوجوب تصديق خبر الشيخ _ الّذي يكون محرزاً لخبر الصدوق تعبّداً _ ليس نفس الحكم بوجوب تصديق خبر الصدوق بل هو غيره، والحكم الّذي يمتنع أن

ص: 142

يكون مثبتاً لموضوعه هو نفس حكم ذلك الموضوع، ولكن لا مانع من إثبات موضوع بسبب حكم موضوع آخر، وبعد ثبوته يترتّب عليه حكمه كما فيما نحن فيه؛ فإنّ بسبب الحكم بوجوب تصديق خبر الشيخ اُحرز خبر الصدوق، وهو موضوعٌ لوجوب تصديقه الّذي يكون وجوبه غير وجوب تصديق خبر الشيخ.

هذا مضافاً إلى أنّ خبرية خبر الصدوق بوجوده الخارجي وفرديّته للحكم بوجوب التصديق كذلك لا تكون متوقّفةً على الحكم وثبوته في مورد فرد آخر، بل إنّما تكون خبريّته بوجوده العلمي متوقّفةً على ثبوت الحكم لبعض الأفراد، وهذا لا مانع منه.((1))

إن قلت: نعم، ولكن التعبّد بالخبر وبكلّ أمارة إنّما يصحّ إذا كان للموضوع _ الّذي قامت عليه الأمارة _ بنفسه أثرٌ حتى يترتّب عليه ذلك الأثر بسبب التعبّد، وإلّا فلو لم يكن له أثرٌ لما صح جعله طريقا والتعبّد به، فالتعبّد بخبر العدل القائم على عدالة أحدٍ ووجوب تصديقه يجوز لأجل ما يترتّب على عدالته من الآثار من جواز الصلاة خلفه والطلاق عنده ووجوب قبول شهادته ونحو ذلك.

فعلى هذا، لابدّ من أن يكون ترتّب الأثر على الموضوع مفروغاً منه حتى يصحّ التعبّد بالأمارة القائمة على ذلك الموضوع، فبناءً على ذلك لا مانع من التعبّد بخبر زرارة عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بوجوب شيءٍ أو حرمته لما يترتّب عليه من وجوب هذا الش_يء أو حرمته. وأمّا إذا كان الخبر خبراً مع الواسطة كخبر المفيد عن الصدوق الّذي أخبر به الشيخ فلا يترتّب عليه أثرٌ شرعيٌ حتى يجوز التعبّد بخبر الشيخ الّذي أخبر عنه، ولا يجوز الحكم بوجوب تصديقه.

ولا يكفي في ترتّب الأثر الشرعي على خبر الصدوق نفس هذا الحكم بوجوب

ص: 143


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص75 - 76.

التصديق، لأنّ هذا الأثر لم يكن ثابتاً له قبل دليل الحجّية، بل لم يجئ إلّا من قبل دليل الحجّية، فيتوقّف الحكم بوجوب تصديق خبر الشيخ على كون خبر الصدوق _ الّذي أخبر به الشيخ _ محكوماً بوجوب التصديق، وكونه محكوماً بوجوب التصديق متوقّف على هذا الحكم.

قلت: نعم، هذا إنّما يتمّ إذا كان الحكم بوجوب التصديق بلحاظ الأفراد وأشخاص الآثار، ولكن لنا أن نقول: إنّ الحكم إنّما يكون بلحاظ طبيعة الأثر وكون القضية طبيعية، دون لحاظ خصوصيات الآثار، فيسري الحكم على هذا إلى نفس هذا الحكم ضرورة سراية الطبيعة إلى جميع أفرادها.((1))

إن قلت: سلّمنا ذلك، ولكن الحكم بوجوب تصديق خبر الشيخ متوقّفٌ على الحكم بوجوب تصديق خبر الصدوق مثلاً، وهو متوقّفٌ على كونه محرزاً بالتعبّد، وكونه كذلك متوقّفٌ على الحكم بوجوب تصديق خبر الشيخ، وهذا دور.

قلت: كما أنّ في قيام الطريق على الحكم الواقعي أو موضوعه تكون مرتبة الحكم الواقعي متقدّمة على الأمارة، والحكم الظاهري واقعاً في طول الحكم الواقعي ولا يتوقّف وجود الحكم الواقعي على الحكم الظاهري، لأنّه موجود إمّا على نحو الشأنية أو الفعلية؛ كذلك إذا قام الطريق على الطريق والحكم الظاهري على الحكم الظاهري يكون الحكم الظاهري الّذي قام عليه الطريق بحسب الرتبة متقدّماً على طريقه، مثلاً: إذا أخبر زرارة عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بشيءٍ يكون ما أخبر به من الحكم الواقعي كوجوب هذا الشيء أو حرمته متقدّماً على إخبار زرارة ويكون إخبار زرارة الّذي هو الطريق للحكم الواقعي متقدّماً على الطريق القائم عليه وهو إخبار حريزٍ عن زرارة، وإخباره

ص: 144


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص89 .

عن زرارة أيضا متقدّماً على الطريق القائم عليه وهو إخبار حمّاد، وهو أيضاً يكون متقدّماً على إخبار أحمد بن محمد عنه، وهو أيضاً متقدّم على خبر محمد بن يحيى عنه، وهو متقدّم على خبر الكليني عنه. فعلى هذا، وإن كان الحكم بوجوب تصديق الكليني مثلاً وشمول «صدّق العادل» له متوقّفاً على الحكم بوجوب تصديق خبر محمد بن يحيى لكنّه ليس متوقّفاً على وجوب تصديق خبر الكليني، لكونه موجوداً بنحو الشأنية أو الفعلية مع قطع النظر عن قيام خبر الكليني عليه.

فإن قلت: إنّ هذا يتمّ لو لم يكن شمول الحكم لخبر الكليني ومحمد بن يحيى وأحمد بن محمد وجميع الوسائط في عرضٍ واحدٍ، أمّا مع كون شموله لجميع أخبار الوسائط على حدٍّ سواءٍ وعدم وجود ترتّبٍ وطوليةٍ بينها فلا يكفي ما قلت في الجواب. وبعبارة اُخرى: لا يمكن إنشاء الحكم بلحاظ الأفراد الطولية؛ لأنّ هذه الأفراد إنّما تتولّد بعد شمول الحكم لها، دون الأفراد العرضية لإمكان لحاظها في مقام جعل الحكم.

قلت: هذا إذا لم تكن القضيّة المنشأة للحكم من القضايا المحصورة الحقيقية، فإنّها لو كانت كذلك فلا مانع من شمول الحكم لجميع الأفراد العرضية والطولية.((1))

ولا يخفى عليك: أنّه لا يلزم في جعل وجوب التصديق وترتيب الأثر على خبر العادل كونه ذا أثرٍ شرعيٍّ عملي، بل يكفي في ذلك انتهاؤه إلى الأثر الش_رعي العملي فهذا يكفي مصحّحاً لجعل الحكم. هذا تمام الجواب عن هذا الإشكال.

وأمّا ما جاء في بعض کلمات الأكابر في مقام الجواب عن هذا الإيراد بأنّه يكفي في دفع الإشكال كون کلّ واحد من الوسائط جزء الموضوع لدخله في ثبوت قول الإمام، فيشمله الحكم بوجوب التصديق لأجل هذا الأثر.((2))

ص: 145


1- راجع أيضاً: العراقي، نهاية الأفكار، القسم الأوّل من الجزء الثالث، ص123 - 124.
2- النائیني، فوائد الاُصول، ج3، ص178.

ففيه: أنّ هذا إنّما يتمّ إذا قامت الأمارات المتعدّدة على أجزاء موضوع حكمٍ واحدٍ، مثل: قيام خبرٍ على إخبار زيد بكذا، وقيام خبرٍ آخر على عدالته، فيشمل کلّاً منهما دليلُ التعبّد بالخبر لإثبات ما هو الموضوع للحكم الشرعي بسببهما، وهو خبر العادل. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ لأنّ خبر کلّ واحدٍ من الكليني ومحمد بن يحيى وأحمد بن محمد وحماد وزرارة يكون خبراً مستقلًّا وموضوعاً خاصّاً لوجوب تصديق خبر العادل.

رابعها: وهو ممّا اُورد على الاستدلال بخصوص آية النبأ: أنّ الالتزام بصحّة هذا الاستدلال يستلزم خروج المورد عن عموم المفهوم مع أنّ العامّ نصٌ في مورده، وإخراج مورده وتخصيصه به مستهجنٌ قبيحٌ؛ وذلك لأنّ مورد نزول الآية الش_ريفة هو الإخبار بالارتداد وهو كغيره من الموضوعات الخارجية لا يثبت إلّا بالبينة وخبر العدلين لا عدلٌ واحدٌ، سيّما في مثل المورد الّذي يكون من الاُمور المهمّة في نظر الشرع، فلابدّ من تخصيص عموم المفهوم على نحو ينطبق مع المورد، ومع تخصيصه يسقط الاستدلال به لحجّية خبر الواحد.

وقد أجاب الشيخ(قدس سره) عن هذا الإشكال كما يستفاد من رسائله أوّلاً: بعدم كون المورد داخلاً في المفهوم بل هو داخلٌ في المنطوق، فإنّ المورد هو إخبار الوليد الفاسق بارتداد بني المصطلق، والآية تدلّ بمنطوقها على وجوب الفحص والتبيّن في خبر الفاسق سواءٌ كان في الموضوعات الخارجية أو الأحكام، ولا ربط لذلك بمسألة عدم إثبات الموضوعات الخارجية إلّا بالبينة، ولا يكون هذا إخراجاً لمورد الآية عن عموم المنطوق.

وثانياً: لو أغمضنا عن هذا، وقلنا بأنّ أصل الإخبار عن الارتداد يكون مورداً للحكم بوجوب التبيّن إذا كان الجائي به فاسقاً وعدم وجوب التبيّن إذا كان عادلاً، نمنع كون ذلك تخصيصاً ومن إخراج المورد المستهجن، بل غاية الأمر كونه تقييداً

ص: 146

للحكم في طرف المفهوم، وكون حجّية خبر العدل الواحد مقيّداً بقيام خبر عدل آخر على طبقه أيضاً.((1))

ولا يخفى عليك: ما في جوابه الأوّل؛ فإنّ المفهوم ليس حاله حال غيره من الأدلّة الابتدائية مثل عموم المنطوق في الآية الش_ريفة، بل هو ما يستفاد من الخصوصية الموجودة في المنطوق وهي إتيان المتکلّم بقيد زائدٍ في المنطوق، وليس له استقلاليةٌ ونفسيةٌ كالمنطوق، بل هو تابعٌ للمنطوق ومن لوازمه وخواصه، فيكون تابعاً للمنطوق في الإطلاق والاشتراط والتعميم والتخصيص والسعة والضيق.

وأمّا جوابه الثاني ففيه: أنّ البيّنة القائمة على الموضوعات حجّة واحدةٌ وليس کلّ واحدٍ من الخبرين حجّة بشرط ضمّ الآخر به، كما لا يخفى.

آية النفر

ومن جملة الآيات الّتي استدلّ بها على حجّية خبر الواحد آية النفر.

قال الله تبارك وتعالى في سورة البراءة: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.((2))

تفاسير مختلفةٌ للآية

إعلم: أنّه يمكن أن يقال: إنّ المستفاد من ظاهر الآية أنّها في مقام بيان كمال التأكيد والترغيب إلى تحصيل العلم والتفقّه في الدين، وأنّه من الحوائج المهمّة لنوع الإنسان،

ص: 147


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص76 - 77.
2- التوبة، 122.

ويقتضي لشدّة أهمّيته والاحتياج إليه أن ينفر جميع الناس للتفقّه في الدين وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم إلّا أنّ مزاحمته مع القيام بسائر الاُمور الحياتية والمدنية منعت عن تأثيره في وجوب النفر على الجميع للتفقّه في الدين، فحينئذٍ يجب أن يعامل معه معاملة سائر الاُمور الحياتية المهمّة، وأن ينفر من کلّ فرقةٍ وجمعيةٍ وأهل کلّ صقعٍ وبلدٍ بعضهم لتحصيل العلم وتعلّم الأحكام، كما يتعهّد کلّ واحد منهم شأناً من شؤونهم وحاجةً من حوائجهم، وعليه بنوا نظام معاشهم وتمدّنهم، وإذا كان هذا حالهم في أمر الدنيا فكيف بما كان مؤثّراً في مصلحة دنياهم وآخرتهم ونظم جميع جهاتهم الروحانية والجسمانية وكمال القوّة العلمية والعملية وهو: التفقّه في الدين، فيجب بحكم الآية أن ينفر من کلّ فرقةٍ طائفةٌ.

ولا يصغى إلى ما قيل بأنّ مقتضى سياق آيات سورة البراءة كون هذه الآية أيضاً في مقام بيان وجوب النفر إلى الجهاد والمقاتلة مع الأعداء وما يحصل منه من الفوائد للنافرين والمتخلّفين.

فإنّه مضافاً إلى أنّ ملاحظة وحدة السياق بهذا النحو في القرآن الّذي أنزله الله تعالى منجّماً مرجوحة في نفسها، وممّا يقطع بخلافه، فيه: أنّ سورة البراءة وإن كانت نزلت لذلك وكانت فيها آياتٌ كثيرةٌ راجعةً إلى الجهاد والمقاتلة مع المشركين إلّا أنّها متضمّنةٌ لآياتٍ كثيرةٍ اُخرى متضمّنةٍ بيان الأحكام وغيرها من المطالب، كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُ_شْرِكينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ...﴾((1)) الآية.

وقوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله... ﴾.((2)) الآیة.

ص: 148


1- التوبة، 17.
2- التوبة، 18.

وآية: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْ_حَاجِّ... الآية﴾((1))، وغيرها من الآيات في هذه السورة المباركة.

فوحدة السياق ولو كانت ممّا يعتنى به في موارد من الكتاب الكريم إلّا أنّها ليست قاعدةً عامَّةً شاملةً لجميع آيات الكتاب حتى تفسّر لأجلها الآية بالآيات السابقة عليها ويترك ما هو الظاهر منها، وقد ورد أنّ الآية يمكن أن يكون صدرها في أمرٍ وذيلها في أمرٍ آخر. نعم، وحدة السياق أيضاً كسائر القرائن وما يحفّ به الكلام لها دخلٌ _ حسب الموارد _ في استظهار المراد، ولكنّها ليست في جميع الكتاب قرينة على حمل ما تكون الآية ظاهرةً فيه بنفسها على غيره.

ولا يخفى عليك: أنّ المراد بالإنذار المذكور في الآية الشريفة _ الّذي جعل كالتفقّه في الدين وفي عرضه فائدة للنفر وغاية له _ ليس مجرّد الإنذار والتخويف وتلاوة آيات العذاب عليهم من غير بيان الأحكام والتكاليف، لعدم ترتّب ثمرةٍ وفائدةٍ على هذا الإنذار، بل المراد من الإنذار تبليغ الأحكام وتعليم الناس، وتذكيرهم بأنّهم لم يخلقوا عبثاً ولم يهملوا كالبهائم، وأنّ الله تعالى جعل عليهم _ لحفظ مصالحهم ووصولهم إلى مقام الكمال _ تكاليف في جميع اُمورهم، وبيان ما يجب عليهم وما يحرم، وما يهديهم إلى طريق الرشد والكمال ويبعّدهم عن الغيّ والضلال، وهذا هو المراد من الإنذار المذكور في قوله تعالى: ﴿وَاُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرآنُ لِاُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾،((2)) وفي قوله عزّ اسمه: ﴿وَلِتُنْذِرَاُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾؛((3)) فإنّ المراد من إنزال القرآن ليس مجرّد إنذار القوم ومن بلغ واُمّ القرى ومن حولها بتلاوة آيات العذاب والعقاب، بل الإنذار بهذا المعنى إنّما يكون من توابع تبليغ المعارف والأحكام وتنبيه الناس وسوقهم إلى

ص: 149


1- التوبة، 19
2- الأنعام، 19.
3- الأنعام، 92.

سبيل الكمال، لعدم ارتداع أكثر الناس عن المعاصي والسيّئات بمجرّد النهي وعدم قيامهم بأداء الواجبات والحسنات بمجرد الأمر، فلابدّ من الإنذار والتوعيد بالعقاب والعذاب على المخالفة والعصيان، هذا.

وأيضا لا يخفى عليك: أنّ المراد بالحذر ليس مجرّد التخوّف والتحذّر القلبي، بل المراد منه هو التحذّر في العمل. هذا ما يستفاد من ظاهر الآية بحسب العرف وما يفهم أهل اللسان.

وربما تفسّر الآية الشريفة على نحوٍ آخر((1)) وهو: أنّ رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كان إذا خرج غازياً لم يتخلف عنه إلّا المنافقون والمعذرون، فلمّا أنزل الله تعالى عيوب المنافقين وبين نفاقهم في غزوة تبوك، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غَزاة يغزوها رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ولا سرية أبداً، فلمّا أرسل رسول الله السرايا إلى الغزو نفر المسلمون جميعاً وتركوا رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وحده، فأنزل الله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ الْ_مُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً...﴾.((2)) الآية.

وهذا التفسير خلاف ظاهر الآية الشريفة وإنّما فس_رت به اهتماماً بحفظ وحدة السياق. والدليل على كونه خلاف الظاهر: أنّ المستفاد من قوله: ﴿وَمَا كَانَ الْ_مُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا﴾((3)) هو النفي، وأنّه ليس لهم أهلية النفر كافة وشأنية ذلك، أو ليس لهم كافّةً قصد ذلك على قول بعض أهل الأدب، ولا يستفاد منها النهي، فإنّ النهي يستفاد من أمثال المقام إذا دخلت اللام على المنهيّ، كقوله عزَّ من قائل: ﴿مَا كَانَ لِأهْلِ الْ_مَدينَةِ

ص: 150


1- كما في مجمع البيان (الطبرسي، ج5، ص126) وفيه عن الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في شأن نزول الآية المباركة: «كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله أن تنفر منهم طائفة، وتقيم طائفة للتفقّه، وأن يكون الغزو نوباً». وانظر هذا التفسير أيضاً في قوانين الاُصول (ج1، ص438)؛ والفصول الغرویة (الأصفهاني، ص272)؛ وفرائد الاُصول (الأنصاري، ص79).
2- التوبة، 122.
3- التوبة، 122.

وَمَنْ حَوْلَ_هُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الله﴾،((1)) وأمّا إذا دخلت على الفعل مثل هذه الآية ومثل: ﴿مَا كَانَ الله ُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾((2)) و ﴿مَا كَانَ الله ُ لِيَذَرَ الْ_مُؤْمِنينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾((3)) و﴿لَمْ يَكُنِ اللّٰه ُ لِيَغْفِرَ لَ_هُمْ﴾((4)) فتدلّ على النفي.

هذا مضافاً إلى أنّ المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ

فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ هو الترغيب والتحريص على النفر، وعلى هذا التفسير لا يبقى مجال للترغيب، كما لا يخفى.

والحاصل: يرد على هذا التفسير أوّلاً: أنّه خلاف ما يستفاد من ظاهر جملة: ﴿وَمَا كَانَ الْ_مُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾، حيث إنّ المستفاد منها النفي وعدم كون المؤمنين أهلاً لأن ينفروا كافّةً لكونه سبباً لاختلال النظام.

وثانياً: أنّه مخالفٌ لما يستفاد من جملة: ﴿فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٍ﴾

وهو كون المتکلّم في مقام التحريص والترغيب إلى النفر. مع أنّه لا معنى للفظة «لولا» التحضيضية بمقتضى هذا التفسير.

وثالثاً: يلزم أن يكون الضمير في قوله: «ليتفقّهوا» و«لينذروا» راجعاً إلى غير المذكورين في الكلام وهم المتخلّفون.

ورابعاً: هذا التفسير لا يخلو من الاعوجاج وعدم الاستقامة، ومن كان له اُنسٌ بكلام الله تعالى وبلاغته في بيان المطالب والمقاصد يعرف مرجوحية هذا التفسير.

هذا مع أنّ الأمر ليس خارجاً كذلك، فإنّ التاريخ الإسلامي محفوظٌ ومضبوطٌ بحمد الله تعالى ولم يكن الحال كما ذكر، حتى أنّ في الغزوات لم يكن المؤمنون نافرين

ص: 151


1- التوبة، 120.
2- الأنفال، 33.
3- آل عمران، 179.
4- النساء، 168.

للجهاد جميعاً بل ربما يتسامح كثيرٌ منهم في أمر الجهاد، ولهذا كثر نزول الآيات في ترغيبهم إلى الجهاد وذمّ المتقاعدين عنه، فضلاً عن الس_رايا الّتي لم يكن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ليخرج إلى الجهاد معها.

هذا مضافاً إلى أنّ أمر الجهاد ليس أمراً من الاُمور العادية بل كان من الاُمور المهمّة، وتجهيز الجيوش والعساكر وتنظيم أمر المجاهدين لم يكن إلّا بأمر النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وما كان أمراً يعمل فيه کلّ أحدٍ على رأيه وسليقته ومن غير استئذان عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وبالجملة: فهذا التفسير ممّا يمكن دعوى القطع على خلافه.

وأمّا ما قيل في تفسير الآية بوجهٍ آخر وهو: أنّ المراد تحريض المؤمنين على أن ينفر من کلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ للجهاد ليتفقّهوا في الدين، أي: ليروا آيات الله تعالى في غلبة المسلمين على أعدائه، ونصرته إيّاهم عليهم.

أو ليتفقّهوا في الدين، أي: يتعلّمون من النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أحكام الدين حتى ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.

فهو أيضاً خلاف الظاهر؛ لأنّ الغاية في الآية هي التفقّه في الدين، وعلى هذا التفسير تكون غايته الجهاد مع الأعداء.

فما هو الظاهر ليس إلّا التفسير الأوّل، والله هو العالم.

نكتة

ثم إنّه ينبغي الإشارة إلى نكتة وهي: أنّه قد قلنا بأنّ المراد من الإنذار ليس مجرّد الإيعاد بالعقاب، بل المراد منه هو التبليغ والتعليم وبيان الأحكام الشرعية، وإنّما عبّر عنه بالإنذار ليكون أوقع في النفوس، فاعلم: أنّ ذلك يتصوّر على ثلاثة أوجه:

ص: 152

أحدها: بنحو التذكير وهو شغل الوعّاظ، فإنّ الوعظ عبارة عن: تنبيه الناس بما هو مركوزٌ في أذهانهم ومعلومٌ لهم ولكنّهم غفلوا عنه وصرفت الاشتغالات الدنيوية توجّههم عنه، فالواعظ يتعلّم المطالب الّتي كانت من هذا القبيل ويعلّم الناس ويذكّرهم إذا جلس على كرسيّ الوعظ والإرشاد.

ثانيها: تعليم الفقيه وتبليغه، وهو ليس إلّا بيان نتيجة ما تعلّمه وإظهار رأيه وما استقرّ عليه نظره في مقام الاجتهاد والحكم الشرعي، ولا يكون حجّة إلّا لمن يقلّده.

ثالثها: نقل الحديث من غير أن يكون نظر الناقل إلى بيان رأي نفسه. وهذا تارة: يكون نقل الحديث بألفاظه من غير تصرّفٍ فيها سواءً علم مضمون ما ينقله أم لا. وتارة: يكون نقلاً بالمعني، بمعنى أن لا يكون مراده نقل ألفاظ الإمام بل نقل معنى ما سمعه منه بنحو كان نقله هذا مفهماً ومفيداً لما قاله الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بألفاظه. هذا تمام الكلام فيما هو راجع إلى تفسير الآية.

كيفية الاستدلال بآية النفر

وأمّا الكلام في بيان الاستدلال بالآية على حجّية خبر الواحد، فنقول:

استدلّ على حجّية الخبر بالآية الش_ريفة بتقريب: أنّ مقتض_ى کلمة «لولا» التحضيضية وجوب النفر لتعلّم الأحكام والتفقّه في الدين ووجوب تبليغ الأحكام وإنذار الناس ووجوب التحذّر والعمل بالأحكام عند التبليغ مطلقاً؛ لإطلاق وجوب الإنذار وعدم كونه مقيّداً بإفادته للعلم، وإطلاق کلمة «طائفة» وعدم تقييدها بجمع يكون تواطؤهم على الكذب محالاً عقلاً أو عادة، ولإفادة قوله: «لينذروا» وجوب الإنذار على کلّ واحد من النافرين بما هو هو لا بما أنّه أحد النافرين _ الّذين يوجب إخبار جميعهم العلم بالمخبر به _ لعدم معهودية ذلك،

ص: 153

ولوضوح أنّ المراد ليس وجوب الإنذار على کلّ واحد بما أنّه أحد الجميع، بل بما أنّه منذر ومبلّغ، كما لا يخفى.((1))

إشكال الشيخ على الاستدلال بالآية

استشكل الشيخ(قدس سره) على الاستدلال بالآية بوجوه:

أحدها: يرجع إلى الشكّ في شمول الآية إذا كان المنذر واحداً، فيمكن أن يكون وجوب التحذّر متوقّفاً على حصول العلم وليس في الآية إطلاقٌ يثبت به وجوب الحذر مطلقاً.

ثانيها: راجعٌ إلى عدم شمول الآية لما استدلّوا بها على حجّيته وهو خبر الواحد بتقريب: أنّ الآية إنّما تكون مسوقة لبيان وجوب التفقّه وتعلّم أحكام الله تعالى والاُمور الدينية الواقعية والتحريض على التعلم والتعليم لحفظ أحكام الله الواقعية عن المهجورية وإخراجها من زاوية الخمول والمستورية والمجهولية، فلا تدلّ على أزيد من وجوب الحذر عقيب الإنذار بهذه الاُمور الدينية الواقعية، ومع عدم العلم بأنّ الإنذار هل وقع بهذه الاُمور أو بغيرها خطأً أو عمداً من المنذر (بالكس_ر) لا يجب الحذر، فينحص_ر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذَر صدق المنذِر في إخباره عن أحكام الله تعالى.

ثالثها: أنّه لو سلم دلالة الآية على وجوب الحذر عند إنذار المنذرين ولو لم يفد العلم، لكنّه يمكن منع دلالتها على وجوب العمل بالخبر من حيث إنّه خبر ووجوب الحذر عند نقل الراوي ومن يتحمّل الحديث والرواية، فإنّه من الممكن أن يكون وجوب الحذر عقيب إنذار الوعّاظ لكون الإنذار هو الإبلاغ مع التخويف وهو من

ص: 154


1- راجع: القمّي، قوانين الاُصول، ج1، ص435 ؛ الأصفهاني، الفصول الغرویّة، ص272؛ الأنصاري، فرائد الاُصول، ص78.

شأن الوعّاظ لا الرواة والمحدّثين، فتكون الآية مسوقةً لبيان إلزام التعلّم والتفقّه وما يتوقّف عليه أداء شغل الوعظ بين الناس من تعلّم الأحكام والآيات وكلّ ما يرتبط بالاُمور الدينية ووجوب الإرشاد والتنبيه والتذكير، ووجوب الحذر والاتّعاظ عند وعظ الوعّاظ، أو عقيب بيان حكم الله تعالى بنحو الإفتاء وأنّه ذات حكم الله تعالى لا أنّه خبرٌ كما هو شأن الفقيه، ويدلّ عليه قوله عزّ اسمه: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدّينِ﴾،((1)) فإنّ التفقّه عبارة عن: تعلّم أحكام الله وحقيقة التكاليف والوظائف ال_شرعية. فعلى هذا، يكون الحذر واجباً على المقلّد دون غيره، وتكون الآية مسوقة لبيان وجوب التفقّه وتعلّم الأحكام والإفتاء ووجوب قبوله على المقلّدين، هذا...((2))

ويمكن الجواب عن الإشكال الثالث: بأنّ التزام كون الآية في مقام إلزام الوعظ والاتعاظ؛ بعيدٌ للغاية.

وأمّا كونها في مقام بيان وجوب تحصيل الأحكام على نحو هو من شأن الفقيه.

ففيه: أنّه ليس ما بين شأن الفقيه وشأن نقلة الأخبار في زمن النبيّ والأئمّة _ صلوات الله عليهم _ كثير فاصلة، وأكثر ما اتّفق في تلك الأزمنة ليس إلّا سماع الأحكام من المعصومين(علیهم السلام) ونقل قولهم إلى الغير للعمل به. نعم، ربما كان بين نقلة الأخبار من كان عالماً بحقائق الأحكام كما هو شأن الفقيه في ذلك الزمان. ولذا ربما نرى أنّ رجلاً سأل من الإمام حكماً وسمع جوابه عنه، ولكن بعد نقله هذا الحديث إلى من له بصيرة بعلوم أهل البيت وفقههم لا يعمل به ويقول بأنّه أعطاه من جراب النورة، والإمام أيضاً يصدّقهم في هذا العمل، كما ورد في من سأل عن حكم إرث البنت إذا كان للميّت أخ، وجواب الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بتنصيف تركته، وردّ الأصحاب ذلك

ص: 155


1- التوبة، 122.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص80 - 81 .

وأنّ الإمام أعطاه من جراب النورة وأنّ الحكم كون تمام المال للبنت، وبعد أخذه بذلك وردّ تمام المال إلى البنت سأل عن الإمام فأجابه بصحّة ما قالوه.((1))

والحاصل: أنّه ليس في تلك الأزمنة كثير فرق بين ناقل الأخبار والفقيه، كما هو الحال في زماننا، لأنّ في زماننا بواسطة بعده عن عصور الأئمّة الطاهرين(علیهم السلام) لابدّ في فهم الأحكام من الاطّلاع على علم الرجال واُصول الفقه والدراية وغيرها، وصار هذا الاحتياج سبباً لكون الفقيه باصطلاحنا غير المحدّث، فإنّ الثاني ربما يكون محتاجاً إلى الأوّل في تعلّم الأحكام والرجوع إليه في مقام التقليد، بخلاف زمان الأئمة(علیهم السلام)، فإنّ كثيراً مّا يطلق على المحدّثين ونقلة الأخبار لفظ الفقهاء، وكان من ينفر إلى الإمام ويسأله عن المسائل العامّة الابتلاء مرجعاً لغيره، لكن لا على نحو المتداول في زماننا في مرجعية الفقهاء، بل بما أنّه ناقل لرأي الإمام وحاكٍ لِما سمع منه، فكان شأنهم شأن نقلة الفتوى في زماننا هذا.

ولقائل أن يقول: إنّ المستفاد من الآية الشريفة ربما يكون وجوب تحصيل العلم بالأحكام أزيد من ذلك، فإنّ التفقّه ليس شأن نقلة الأخبار والمحدّثين ولا يطلقون عنوان الفقيه عليهم حتى في أزمنة الأئمّة(علیهم السلام)، بل المراد بالفقه هو العلم بالأحكام الشرعية وحقائقها.

فالّذي ينبغي أن يقال: إنّ تحمّل الحديث يكون على أنحاء:

أحدها: تحمّل خصوص الألفاظ بسماعها عن أحد من غير فرقٍ بين أن يكون المتحمّل ممّن يرى حجّية قول من تحمّل عنه، أو لم يكن كذلك؛ ومن غير فرق بين أن يفهم للكلام الّذي يتحمّله ظهور في العرف، أو يعرف حجّية ظهوره إذا كان عالماً

ص: 156


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب ميراث الأبوين والأولاد، ج26، ص101، ب 4، ح 3، ص104 – 106، ب 5، ح 4 و 7.

بظهوره العرفي، وبين أن لا يفهم ذلك؛ ومن غير فرق بين أن يكون عارفا بكون ما يحمله أو يتحمّله عامّاً بالنسبة إلى غيره أو خاصّاً، فلا يكون في البين إلّا مجرّد نقل الألفاظ.

ثانيها: أن يكون نقلاً بالمعنى بأن يكون الّذي يتحمّل الحديث ممّن يفهم مراد المتکلّم من کلامه وعالماً بحجّية ظهوره العرفي، وكان غرضه من تحمّل الحديث إفادة معناه وما استفاده من ظاهر الكلام بحسب الظهور العرفي من غير أن يكون کلام من يتحمّل عنه حجّة عنده.

ثالثها: أن يكون الحامل للحديث حاملاً له بأن يراه حجّة ويعرف ما كان عامّاً أو خاصّاً أو مطلقاً أو مقيّداً بالنسبة إليه، وكان غرضه من نقل الحديث إفادة معناه وما هو عقيدة من تحمّل عنه، فهو وإن كان ربما ينقل الحديث بألفاظٍ سمعها إلّا أنّ نظره إلى نقل معناه وبيان ما هو رأي غيره وعقيدته دون الألفاظ.

والظاهر أنّ القسمين الأوّلين ليسا من التفقّه وإن كان ربما يعتنى بهما أيضاً كثير اعتناء خصوصاً في الأزمنة السالفة، فإنّه كان لأمثال هولاء المحدّثين شأنٌ عظيمٌ بين الناس، وكانت لهم مكانةٌ عظيمةٌ، حتى أنّ مثل المأمون _ الخليفة العباسي _ حينما ورد سفيان بن حرب _ أحد المحدّثين _ ببغداد _ كما في تاريخ بغداد _ جعله مورداً للاحترام والتكريم، وأمر بعقد مجلس قرب دار الخلافة لأن يملي الرجل الحديث، وكان يجتمع عليه جماعات كثيرة لأخذ الحديث بحيث احتاج إلى عدّة من المستملين، والمأمون نفسه أيضاً يستمع الحديث في مكانه المخصوص.((1))

وكيف كان، يعدّ هذا القسم من تحمّل الحديث من الشؤون المهمّة، ولا مانع من

ص: 157


1- لم يكن مثل ذلك من الحكّام المتغلّبين على الاُمّة بالاستبداد والاضطهاد غالباً إلّا من الأغراض السياسية فنراهم لم يفعلوا ذلك إلّا للمحدّثين المؤيّدين لطغيانهم وقبائح أعمالهم، وكان أكثر همهم في ترويج هؤلاء أن يمنعوا الناس عن الرجوع إلى أهل البيت أعدال الكتاب عليهم السلام. [المقرّر دام ظله العالي].

القول بشمول حديث: «من حفظ على اُمّتي أربعين حديثاً»((1)) له، إلّا أنّه مع ذلك ليس هذا القسم من تحمّل الحديث تفقّهاً ولا إنذاراً.

وأمّا القسم الثالث، فهو داخل في التفقّه ويطلق على متحمّله الفقيه وتشمله الآية الشريفة.

فإنّ التفقّه وتعلّم الأحكام في الصدر الأوّل كان بالنسبة إلى زماننا في غاية السهولة. فإنّ من يتشّرف بالحضور عند النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) مثلاً ويسمع منه الأحكام أوّلاً لا يحتاج إلى علم الرجال وملاحظة حال الرواة ونقلة الحديث. وثانياً بواسطة حضوره في مجلس الإمام ووجود القرائن الحالية والمقالية ربما لا يشكّ في جهة صدور قول الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأنّ الكلام صدر لبيان حكم الله الواقعي أو غيره، أو أنّه هل يكون لهذا الكلام معارضٌ أو خاصٌّ أو مقيّد أم لا، حتى يحتاج إلى الفحص من الأدلّة وبعد الفحص وعدم الظفر يعمل بمقتض_ى الأصل من الحكم بعدم وجود المعارض أو عدم كونه في مقام التقيّة مثلاً، ومع الشكّ أيضاً لا يحتاج إلى إتعاب النفس والتفحّص لحضور الإمام عنده وإمكان السؤال منه غالباً. وثالثاً: لا يخفى عليك: أنّ الفقه في زماننا هذا قد بلغ مدارجه وحاز مكانه اللائق به من الدقّة والمتانة ونهاية الاستحكام، وحيث لم يكمل في الصدر الأوّل ولم يدرج مدارجه ربما لا يحتمل في الألفاظ الصادرة من الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) من إطلاقها وتقييدها وعمومها وخصوصها وظاهرها وأظهرها ما نحتمله، ولا يصير الكلام مورداً للدقة وكمال العناية به، ولا ملاحظة جميع الجهات الراجعة إلى الكلام كما يلاحظ في زماننا، فإنّ لملاحظة هذه الجهات دخلاً كثيراً في فهم الروايات واستنباط الأحكام، وحيث كان الفقه في زمانهم في مراتبه الأوّلية ربما لم ينقدح في أذهان كثيرٍ من الفقهاء ما ينقدح في أذهان من تأخّر عنهم.

ص: 158


1- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج1، ص95؛ ج4، ص79؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج27، ص99.

وبالجملة: فالفقيه بالنسبة إلى کلّ زمان بحسب هذه الملاحظات ربما يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره في غير هذا الزمان. وهذا ليس سبباً لعدم كون من يتحمّل الحديث على النحو الثالث من الفقهاء؛ لأنّ الفقه في تلك الأزمنة ليس إلّا هذا. وإن شئت فقل: إنّ هذا النحو من تحمّل الحديث اجتهادٌ صغيرٌ سهلٌ.

إذا عرفت ذلك تعلم: أنّ الآية إنّما تدلّ على وجوب النفر للتفقّه في الدين على أهل کلّ زمانٍ بحسب حالهم، ووجوب الإفتاء والإنذار على الفقهاء، والتحذّر العملي وقبول رأيهم على غيرهم.

وأمّا وجوب تحمّل الحديث على النحو الأوّل والثاني فليس المراد من الآية ظاهراً.

وبالجملة: فرقٌ بين المحدّث الّذي شغله تحمّل الحديث والتحديث، وبين المجتهد والمفتي والفقيه الّذي من شأنه الإفتاء.

فإنّ الأوّل ربما يتحمّل الحديث ويحدّث بما تحملّه من غير أن يعتقد حجّية کلام المتکلّم، بل ومن غير أن يكون عالماً بمفاد ما يخبر به بحسب المتفاهم العرفي وإنّما ينقل ما سمعه من غيره، ولذا لو سئل عن حجّية کلّامه لغيره فليس له أن يجيب بحجّيته، ولا يكون مخبراً عن اعتقاده ورأيه في نقله وإخباره. وأيضا المحدّث بعد التحديث لو مات أو زال عقله لا يضرّ ذلك بما حدّثه، ولا تزول حجّية حديثه وخبره بما أنّه خبرٌ وحديثٌ.

بخلاف المجتهد والمفتي والفقيه، فإنّه يخبر عن عقيدته ورأيه. ولو حدّث بحديث فيحدّث به بما أنّه مستند رأيه وعقيدته، ولذا لو سئل عن حجّيته يجيب بكونه هكذا. وأيضاً المجتهد والفقيه إذا مات أو تبدّل رأيه أو اختلّ عقله تزول آثار فتواه ولا يجوز الأخذ بفتواه وعقيدته، فإنّها تزول بموته أو غيره من أسباب زوالها، ولا دليل على حجّيتها لمقلّديه بعد زوالها، ولا على بقائها بعد موته لعدم معلومية كيفيات ما بعد الموت وتفصيلاته، ولذا نرى في مسألة الإجماع اتّفقوا على كفاية إجماع العلماء في عص_رٍ

ص: 159

واحدٍ لعدم احتسابهم آراء الأموات رأياً واعتقاداً لهم بعد الموت، فلا يعتبرون لموافقة آرائهم مع آراء الأحياء دخلاً في تحقّق الإجماع، ولا يعتنون بمخالفتهم.((1))

والحاصل: أنّ المحدّث غير المفتي، والتحديث ونقل الخبر غير الإفتاء. نعم، لا مانع من اجتماعهما في مورد واحدٍ، كما إذا أخبر فقيهٌ في مقام نقل رأيه وفتواه بخبرٍ يرويه عن المعصوم عليه الصلاة والسلام. ولكن كثيراً مّا يتّفق انفكاكهما عن بعضهما، كما لا يخفى.

فتلخّص من جميع ما ذكر: أنّ الصواب ذكر الآية الش_ريفة في مباحث الاجتهاد والتقليد دون مبحث حجّية خبر الواحد، لعدم ارتباطها بحجّية الخبر من حيث إنّه خبرٌ، فافهم وتأمّل.

وأمّا الإشكال على الاستدلال بالآية بمنع إطلاقها في وجوب التحذّر إمّا من جهة أنّ القدر المتيقّن ممّا يستفاد من الآية وجوب التحذّر في الجملة. وأمّا إطلاقه بحيث يشمل وجوبه ولو لم يكن الإنذار مفيداً للعلم فمحلّ تأمّلٍ، بل منعٍ. وإمّا من جهة أنّ الآية مسوقة لأجل التوطئة والتمهيد لتعليم الأحكام وتبليغها ونشرها ووجوب بيانها صوناً لوقوع التعطيل في الشريعة سواءٌ كان مفيداً للعلم أم لا. ولا يستفاد منها غير التحريض على إخراج أحكام الله الواقعية من حجاب الاستتار وتفقّهها وإنذارها ووجوب التحذّر عند الإنذار والإبلاغ إذا كان ما يبلّغه المبلّغ والمنذِر من الأحكام الواقعية.

ففي الحقيقة تكون الآية متكفّلة للترغيب في كون بعض الناس واسطة بين المعصوم وسائر الناس في بيان الأحكام، ومؤدّياً لما هو وظيفته. ولا ملازمة بين هذا ووجوب التحذّر مطلقاً عند تبليغ کلّ مبلّغٍ وحجّية قوله ولو لم يكن مخبراً عن الأحكام الواقعية. فعلى هذا، يقيّد وجوب التحذّر بصورة إفادة العلم ليس إلّا.

ص: 160


1- لا يستقيم هذا إلّا على بعض المباني في الإجماع، فتأمّل. [منه دام ظلّه العالي].

ففيه: أنّ الآية مسوقة للتسبيب إلى التفقّه وتعلّم الأحكام، ووجوب الإبلاغ والإنذار والحذر العملي، والتحريض على نفر طائفةٍ من کلّ فرقةٍ ليتفقّهوا في الدين، والتفقّه في الدين أمر يقتضي نفر الجميع له إلّا أنّ امتناعه عادةً ولزوم اختلال النظام من وجوب النفر على الجميع منع من ذلك وصار موجباً لوجوب نفر البعض على سبيل الكفاية.

ولا يتمّ منع إطلاقها إلّا بالتصرّف في ظاهرها إمّا بتقييد الطائفة على جماعةٍ كثيرةٍ لا يمكن تواطؤهم على الكذب عادةً، وهو كما ترى. أو تقييد وجوب الحذر بصورة حصول العلم بما ينذر، وهو مستلزم لنقض الغرض والوقوع في المفسدة الّتي أوجب دفعها تخصيص وجوب التفقّه بالبعض مع وجود المقتضي لوجوبه على الجميع؛ فإنّ الغرض _ من النفر والترغيب إليه ووجوبه كفايةً على البعض لأجل وجود المانع عن وجوبه العيني على الكلّ _ هو التفقّه في الدين وتبليغ الأحكام إلى المتخلّفين الّذين لم يتمكّنوا من النفر لأجل إخلاله بوضع معاشهم ونظم امورهم، وعلى هذا لو كان وجوب التحذّر مقيّداً بصورة العلم يكون منافياً لإطلاق الطائفة الصادقة على الواحد فما زاد.

وربما لا يتّفق عدم احتمال الخلاف في إخبار المنذر، وعليه فإمّا أن يجب على المنذر (بالفتح) القبول أم لا، وعلى الثاني، فإمّا أن لا يجب عليه تحصيل العلم مقدّمةً للتحذّر العملي وإمّا أن يجب، ولا سبيل إلى الأوّل، وعلى الثاني فليس له طريقٌ إلّا نفر کلّ واحدٍ من المکلّفين وتفقّههم، وهو مستلزم لنقض الغرض واختلال اُمورهم الاجتماعية.

لا يقال: إنّ من الممكن تحصيل العلم بإخبار جماعة من النافرين.

فإنّه يقال: ليس امتناعه عادةً وإخلاله بالنظام بالنسبة إلى جميع المتخلّفين أقلّ مرتبةً من تطرّق ذلك في نفرهم؛ لعدم كونهم غالباً بهذه الكثرة، وعدم إمكان الاطّلاع على رأي جميعهم غالباً.

ص: 161

فإن قلت: يمكن منع الإطلاق بالروايات الواردة في تفسير الآية الكريمة، كصحيحة يعقوب بن شعيب، وعبد الأعلى، ومحمد بن مسلم الدالّة على وجوب النفر لمعرفة الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مع الاستشهاد لوجوبه بالآية الشريفة.((1))

وجه المنع: أنّ معرفة الإمام ليست ممّا يكتفى فيه بغير العلم وما يفيد الظنّ بل هي مقيّدة بالعلم، ومقتضى ذلك كون الآية في مقام وجوب النفر للتفقّه والإنذار بعد الرجوع ووجوب التحذّر في الجملة، والقدر المتيقّن منه وجوبه إذا أفاد العلم.

قلت:((2))

فذلكة: في نقد وجوهٍ اُخرى للاستدلال بالآية

لا يخفى عليك: أنّهم استدلّوا بالآية الشريفة تارةً: بأنّ کلمة «لعلّ» حيث يمتنع استعمالها في معناها الحقيقي وهو الترجّي لامتناعه في حقّه تعالى، فهي ظاهرةٌ في كون مدخولها محبوباً للمتكلّم، وأنّها استعملت في طلب الحذر.

وفيه: أنّ استعمال «لعلّ» في الطلب أو بداعي الطلب هنا خلاف البلاغة؛ فإنّه عدولٌ عمّا يقتضيه سياق الكلام ويناسب المقام، فإنّ الآية إنّما تكون في مقام إفادة وجوب النفر وترتّب التفقّه عليه، وبيان كون التفقّه لتحذّر نفس المتفقّهين غاية له، وأنّ الإنذار غاية للتفقه لحصول التحذّر للمنذرين (بالفتح)، وكون التحذّر غاية

ص: 162


1- الکلیني، الكافي، ج1، ص378 - 380، ح1 - 3، باب ما يجب على الناس عند مض_يّ الإمام؛ العیّاشي، تفسير، ج2، ص117، ح 159.
2- لم أحفظ هنا ما أفاده سيّدنا الاُستاذ(قدس سره) في الجواب. ويمكن أن يقال، إنّ الاستدلال بالآية على وجوب النفر لمعرفة الإمام يمكن أن يكون بالأولويّة في خصوص وجوب النفر، وأنّه إذا وجب النفر إلى النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لمعرفة الأحكام وجب النفر لمعرفة شخص الإمام بالأولوية القطعية، وكذا وجوب الإنذار والإخبار. وهذا المعنى لا ينافي ما يستفاد من منطوق الآية من وجوب النفر والإنذار والقبول ولو لم يحصل منه العلم. [منه دام ظلّه العالي].

للإنذار؛ ولو قيل بكونها في مقام جعل الوجوب والإلزام وطلب التحذّر بعد قوله: ﴿إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ يلزم منه قطع سياق الكلام، كما لا يخفى.

إن قلت: إذا لم يكن هذا معناها فما هو المستعمل فيه کلّمة «لعل» في المقام مع أنّها بمعناها الحقيقي وهو الترجّي محالٌ في حقّه تعالى؟

قلت: إنّما تستعمل کلّمة «لعلّ» لإفادة ترتّب مدخولها على غيره ممّا يكون مذكوراً قبلها وكونه في معرضية الترتّب والحصول، وحيث إنّ جميع الناس لا يحذرون بل بعضهم يحذر وبعضهم لا يحذر يكون الحذر عند الإنذار في معرض الحصول وعدمه. ولا يجب أن يستعمل اللفظ في الترجّي الّذي يكون مستعمله جاهلاً بوقوع الش_يء المترجّى، بل يكفي كونه في معرضية الترتّب والحصول وإن كان المتکلّم يعرف من يحذر ومن لا يحذر بعينه ولا يكون جاهلاً بالحال.

وتارة اُخرى: استدلوا بأنّ الإنذار واجب لكونه غاية للنفر الواجب، وإذا ثبت وجوبه وجب التحذّر وإلّا يلزم لغوية وجوب الإنذار.

وأجاب في الكفاية عن هذا الوجه: بعدم انحصار فائدة الإنذار بوجوب التحذّر مطلقاً حتى يلزم اللغوية، بل يمكن تقيّده بصورة إفادة الإنذار العلم لو لم نقل بكونه مشروطاً به.((1))

والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ وجوب التحذّر الّذي توهّم كونه غايةً للواجب أو لوجوبه إمّا أن يكون حكماً ظاهرياً أو حكماً واقعياً، فإن كان حكماً ظاهرياً، ففيه: _ مضافاً إلى أنّ ظاهر الآية كون الحذر غايةً لوجوب الإنذار أو الإنذار نفسه، لا وجوب الحذر _ أنّ وجوب الحذر ليس ممّا يترتّب على وجوب الإنذار، لأنّهما في عرضٍ واحدٍ. وإن كان المراد كونه غايةً للإنذار، فوجوب الحذر ليس ممّا وقع غايةً له ويترتّب عليه.

ص: 163


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص93.

و أمّا إن كان حكماً واقعياً، ففيه: أنّ الوجوب الواقعي للحذر ليس غايةً لوجوب الإنذار أو الإنذار نفسه، بل هو ممّا يترتّب على وجوب الأحكام الثابتة والواقعية ليس إلّا، لا على وجوب الإنذار.

وثالثة: يستدلّ بها بأنّ الحذر وقع في الآية غايةً للنفر الواجب، والغاية المترتّبة على فعل الواجب مطلوبة للشارع وواجبةٌ شرعاً.

لا يقال: إنّ الإنذار يجب أن يكون بالأحكام الواقعية، والحذر والعمل أيضاً إنّما يجب إذا كان الإنذار بها.

فإنّه يقال: تقييد وجوب العمل بالعلم بكون الإنذار بالأحكام الواقعية موجب لنقض الغرض، كما مرّ ذكره.((1))

ثم إنّه لا يخفى عليك الفرق بين ما قلنا في وجه عدم دلالة الآية على حجّية الخبر بما هو خبر وكونها في مقام حجّية الفتوى، وبين ما أفاده الشيخ(قدس سره) وغيره في وجه ذلك. فإنّ جهة إشكالنا راجعةٌ إلى ما يستظهر من لفظ التفقّه، وعدم شموله لمجرّد نقل الخبر والحديث. وجهة إشكاله راجعة إلى ما يستفاد من لفظي الإنذار والحذر، وأنّ المحدّثين والمخبرين ليس شأنهم الإنذار، وليس مقام حديثهم مقام الحذر.

ولكن فيه: أنّ منشأ هذا التوهم حسبان أنّ المراد من الإنذار هو: التهديد والتوعيد والتخويف، ومن الحذر: التخوّف القلبي، مع أنّه بمكان من الضعف والفساد، كما مرّ((2)). فإنّ المراد من الإنذار في المقام هو الإبلاغ، كما هو المراد من قوله سبحانه: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَ_خَافُونَ أَنْ يُ_حْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾،((3)) وقوله عزّ من قائل: ﴿وَاُوحِيَ

ص: 164


1- مرّ في الصفحة 161.
2- مرّ في الصفحة 150.
3- الأنعام، 51.

إِلَيَّ هَذَا الْقُرآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾.((1)) والمراد من الحذر هو العمل على وفق الإبلاغ لا مجرّد التخوّف القلبي، والله هو العالم.

الاستدلال بالسنّة على حجّية خبر الواحد

من الأدلّة الّتي تمسّكوا بها لإثبات حجّية خبر الواحد، السنّة.

وليعلم: أنّ ما يظهر من اُصول الشافعي المسمّى بالرسالة تمسّكه لحجّية خبر الواحد بالسنّة فقط، ولم يذكر الآيات من الأدلّة أصلاً. ويظهر من ذلك أنّ الاستدلال بالآيات لم يكن معهوداً بينهم في الصدر الأوّل، فلا مجال لاستنكار إنكار تمامية الاستدلال بالآيات لكونه إنكاراً لما تمسّك به الأوائل لحجّية خبر الواحد. وعلى کلّ حال، فلا يجب علينا إلّا متابعة الدليل، فلو لم يتمّ الاستدلال بالآيات فليس لنا أن نلتزم بتماميته، ذكرها القدماء من جملة الأدلّة أم لم يذكروها.

ولا يخفى عليك: أنّ تمسّكه بالروايات إن كان بأخبار الآحاد بحيث كان دليله على حجّية خبر الواحد هو خبر الواحد نفسه، فلا إشكال في فساده واستحالته. وإن كان استدلاله بها من باب دعوى تواترها، فإمّا يراد منه التواتر اللفظي أو المعنويّ أو الإجماليّ.

فإن اُريد بالتواتر في المقام التواتر اللفظي؛ فلا إشكال في عدم تحقّق هذا التواتر، ومن ادّعاه فلا تسمع دعواه، لأنّه لا يوجد لفظ دالّ على حجّية الخبر متواتراً بأن أخبر جماعة _ يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب _ بصدور هذا اللفظ الدالّ على هذا المعنى من المعصوم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وإن اُريد به التواتر المعنوي بأن أخبر جماعةٌ _ يمتنع تواطؤهم على الكذب عادةً _

ص: 165


1- الأنعام، 19.

عن المعصوم بحجية خبر الواحد، لكن لا بلفظٍ واحدٍ بل بألفاظٍ مختلفةٍ بحيث كان غرضهم من إخبارهم بذلك مجرّد نقل حجّية خبر الواحد عن المعصوم من دون عناية باللفظ الصادر منه؛ فهو أيضاً غير متحقّق في المقام قطعاً.

وإن كان المراد من دعوى التواتر دعوى التواتر الإجمالي، كأن يدّعى دلالة الروايات الكثيرة الواردة في الموارد المختلفة _ الّتي تكون بحيث يمتنع تواطؤ رواة کلّ واحدة منها على الكذب، ويقطع بصدق واحدة منها _ على حجّية خبر الواحد بالالتزام، بأن كان لازم جميع هذه الروايات المختلفة حجّية خبر الواحد؛ فهو ممّا ينبغي الاعتناء به ويصغى إليه وإن كان على مدّعيه إثباته.

فعلى هذا، لا يتمّ الاستدلال بالأخبار على حجّية خبر الواحد إلّا إذا ثبت تواترها الإجمالي.

ولا يخفى عليك: أنّ لدعوى ذلك مجالاً إذا كان المدّعي من الإمامية لسعة دائرة السنّة عندنا، فإنّها عبارة عن قول النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم وفعلهم وتقريرهم، بخلاف العامّة، فإنّهم جعلوا أنفسهم _ من هذه الجهة _ في ضيقٍ وتركوا الرجوع إلى العترة _ الّتي اُمروا بالرجوع إليها _ فالسنّة عندهم عبارةٌ عن قول النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وفعله وتقريره.

وإذ قد عرفت ذلك، فاعلم: أنّ ما يظهر من الشيخ(قدس سره) في رسائله هو التمسّك لحجّية الخبر بطوائف أربع من الروايات:

الاُولى: بعض ما ورد في الخبرين المتعارضين المسمّى بالأخبار العلاجية مثل: ما رواه صاحب عوالي اللئالي.((1))

الثانية: ما يستفاد منه إرجاع بعض الناس إلى بعض الرواة مثل: زرارة، ومحمد بن

ص: 166


1- وهي المرويّة عن العلّامة المرفوعة إلى زرارة.

مسلم، وأبي بصير، وغيرهم.

الثالثة: ما يستفاد منه الإرجاع إلى الرواة بطريق العموم لا إلى أشخاص معيّنين. فالفرق بين هذه الطائفة والطائفة الثانية أنّ في الثانية اُمروا بالرجوع إلى أشخاص معيّنين بخلاف الطائفة الثالثة.

الرابعة: بعض الأخبار الدالّة على الأمر بأخذ الأخبار أو كتابتها وغير ذلك؛ فإنّه يستفاد منها وجوب الأخذ بما يرويه الراوي أو ما كتبه أحد الرواة، لأنّ فائدة حفظ الروايات وكتابتها ليس إلّا الأخذ بها.

وقد أفاد الشيخ(قدس سره) بأنّه وإن لم يمكن الاستدلال بكلّ فردٍ فردٍ من هذه الروايات إلّا أنّه يمكن الاستدلال بمجموعها.((1))

وفيه: أنّ المجموع ليس إلّا الأفراد، فإن لم تكن الأفراد قابلة لأن يستدلّ بها فكيف يكون المجموع قابلاً له؟ هذا.

ويمكن أن يزاد على الطوائف الّتي ذكرها الشيخ(قدس سره) من الأخبار طوائف اُخرى:

إحداها: الروايات الواردة في احتجاجات الأئمّة(علیهم السلام) مع علماء المخالفين في باب القضاء.((2))

ثانيتها: الروايات الدالّة على أنّ الأئمّة(علیهم السلام) يبعثون بعضاً من خواصّهم أو أصحابهم لتبليغ الأحكام وبيان الفتاوى.((3))

ثالثتها: الروايات الدالّة على أنّ الشيعة يبعثون رجلاً من بينهم للاستفتاء

ص: 167


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص84 - 88. وقد فصّل فيه بذكر الروايات وتحليلها، فراجع.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص19، ب3، ح 9، ص47-48، 51، ب 6، ح 27، و ح 33، وغيرها كثيرة في كتاب القضاء.
3- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضي، ج27، ص33، ب 5 ، ح 8 .

وسؤال الأحكام عن الأئمّة(علیهم السلام) وأنّهم كانوا يعملون بما يخبرهم من أرسلوه للسؤال عن الأحكام.

رابعتها: الأخبار الدالّة على أنّ أصحاب الأئمّة(علیهم السلام) إذا اختلفوا في مسألة من المسائل واستند الآخذ بأحد طرفي المسألة في مقابل الآخر بروايةٍ يرويها عن المعصوم قبل منه ولا يردّ مختاره في المسألة((1)). نعم، ربما يردّ قوله لعدم إفادة ما رواه لرأيه، ولكن لا يردّون روايته قدحاً في سندها. فتدل هذه الطائفة بالالتزام على إمضاء الأئمّة(علیهم السلام) العمل بخبر الواحد.

وغير هذه الطوائف من الروايات الّتي يطّلع عليها المتتبّع في الروايات في موارد كثيرة. فظهر ممّا ذكرنا صحّة دعوى التواتر الإجمالي في المقام، وإمكان إثبات تواتر هذه الروايات الكثيرة إجمالاً.

الاستدلال بالإجماع لحجّية خبر الواحد

اشارة

من الأدلّة الّتي أقاموها لإثبات حجّية خبر الواحد: الإجماع. ويمكن ادّعاؤه تارة: بقيام إجماع جميع العلماء قولاً على حجّية الخبر. وإجماعهم حجّة من جهة ملازمة ذلك مع المجمع عليه إمّا من جهة العلم بدخول الإمام في المجمعين، وإمّا من جهة قاعدة اللطف، أو الحدس، كما سيأتي تفصيله إن شاء اللّه في مبحث الإجماع المنقول.

وتارة: يمكن ادعاؤه بأنّ العلماء أجمعوا على العمل بالخبر. وبعبارة اُخرى: ادّعي

ص: 168


1- انظر: الکلیني، الكافي، ج6 ، ص423، ح 7 ؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضي، ج27، ص37 – 38، ب 6 ، ح 2 و ص206- 208ص86، ب 14، ح 1، وأبواب القراءة في الصلاة، ب 46، ح 2، وأبواب صلاة المسافر، ب 25، ح 33، وأبواب المواقيت، ب 8 ، ح 13 و ح 33 و ب 18، ح 19، وأبواب القبلة، ب 2، ح 2، وكتاب المواريث، أبواب موجبات الإرث، ج26، ص86، ب 8 ، ح 4، وكتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادة، ب 2، ح 12، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، ب 30، ح 1 و 2، وغيرها كثيرٌ.

إجماعهم العملي على حجّية الخبر، وبناؤهم على العمل به. والمراد منه إمّا استقرار سيرتهم وبنائهم بما أنّهم علماء، بمعنى أنّ کلّ واحد واحد منهم بما أنّه عالم بحجّية الخبر عامل به، فهو راجع إلى ادّعاء الإجماع القولي. وإمّا أن يكون المراد استقرار سيرتهم بما أنّهم مسلمون، ومعناه كون العمل بالخبر ممّا استقرّ عليه عمل المسلمين دون غيرهم، كالصلوات الخمس في أوقاتها المخصوصة. وإمّا أن يكون المراد به استقرار بنائهم بما أنّهم عقلاء، حتى يكون راجعاً إلى حكم العقل بحجّية خبر الواحد.

تقريرات الشيخ للإجماع

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ الشيخ قد ذكر في تقرير الإجماع وجوهاً:

أحدها: إجماع العلماء جميعاً _ عدا السيّد وأتباعه _ على حجّية خبر الواحد.

ثانيها: دعوى إجماع العلماء على نحو يكون السيّد وأتباعه داخلين في المجمعين، وتقريره:

إمّا بادّعاء إجماع العلماء على وجوب العمل بالخبر غير العلمي في مثل زماننا هذا وشبهه ممّا انسدّ فيه باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر، فإنّ الظاهر أنّ السيّد إنّما منع عن حجّية الخبر غير العلمي سواء كان في الكتب المعروفة أم لا، لعدم الحاجة إلى مثل هذا الخبر في زمانه لوجود قرائن مفيدة للعلم.((1))

وإمّا بادّعاء حجّية الأخبار المدوّنة في الجوامع المعتبرة ووجوب العمل بها عند الكلّ وإن كانت وجه وجوب العمل بها عند السيّد وابن إدريس احتفافها بالقرائن المفيدة للعلم.

ثالثها: استقرار سيرة المسلمين بما أنّهم مسلمون وإجماعهم على استفادة الأحكام الشرعية من أخبار الثقات، وهذا كاشف عن مطابقة ذلك للواقع قطعاً.

ص: 169


1- راجع إبطال العمل بأخبار الآحاد، رسائل الشريف المرتضى، ج3، ص312.

والفرق بينه وبين بناء العقلاء: أنّ السيرة عبارة عن تداول فعل بين المسلمين وإجماعهم على عمل بما أنّهم مسلمون، بحيث يعدّ ذلك ممّا يمتازون به عن غيرهم ويختصّون به دون غيرهم، وذلك علامة مطابقة ما استقرّت سيرتهم عليه مع الواقع قطعاً.

رابعها: دعوى إجماع أصحاب النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) على العمل بخبر الواحد إجماعاً عملياً.

خامسها: استقرار طريقة العقلاء بما أنّهم عقلاء على ذلك، وهو أيضاً كاشف قطعيٌّ عن مطابقة ما استقرّت عليه السيرة مع الواقع.

وقد أفاد في طريق تحصيل الإجماع على الوجه الأوّل بأنّ طريق تحصيله أحد الوجهين على سبيل منع الخلوّ:

أحدهما: تتبّع أقوال جميع العلماء من زمان الشيخين إلى زماننا هذا، فيحصل من ذلك القطع بالاتّفاق، وهو كاشفٌ عن رضا الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بالحكم، أو وجود نصّ معتبرٍ عند الكلّ.

ثانيهما: تتبّع الإجماعات المنقولة.

ثم ذكر ادّعاء الشيخ الإجماع على حجّية خبر الواحد، وذكر كلامه المحكيّ عنه في العُدّة((1)) بطوله. وذكر أيضاً ادّعاء الإجماع من السيّد رضيّ الدين عليّ بن طاووس، ومن العلاّمة والمجلسي قدّس سرّهم.

وأفاد في جواب الإشكال _ بأنّ ذلك لا يفيد القطع بتحقّق إجماع العلماء _: أنّ هذا الإجماع _ مضافاً إلى كون مدّعيه هؤلاء الأكابر من العلماء _ معتضد بقرائن كثيرة تدلّ على صدق مضمونه، وتوجب القطع بتحقّقه.

منها: ما ادّعاه الكشّي من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة.((2)) فإنّه لا معنى للتصحيح المجمع عليه إلّا عملهم به.

ص: 170


1- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص126 - 127.
2- الكشي، رجال، ص206 و322 و466.

ومنها: دعوى النجاشي كون مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب.((1)) وهذا کلامٌ يدلّ على عمل الأصحاب بخبر الواحد إذا كان راويه ثقة. وليست مقبولية مراسيله لأجل القطع بالصدور، بل لأجل أنّه لا يروي إلّا عن الثقة، كما لا يخفى. وقد ادّعى الشهيد في الذكرى أيضا هذا الاتّفاق. وعن كاشف الرموز تلميذ المحقّق: أنّ الأصحاب عملوا بمراسيل البزنطي.

ومنها: ما ذكره ابن إدريس في رسالة «خلاصة الاستدلال» الّتي صنّفها في مسألة فورية القضاء في مقام دعوى الإجماع على المضايقة، وأنّها ممّا أطبقت عليه الإمامية إلّا نفرٌ يسيرٌ من الخراسانيّين. قال في مقام تقريب الإجماع: إنّ ابني بابويه، والأشعريّين كسعد بن عبد الله وسعيد بن سعد ومحمد بن عليّ بن محبوب، والقميّين أجمع كعليّ بن إبراهيم ومحمد بن الحسن بن الوليد عاملون بالأخبار المتضمّنة للمضايقة؛ لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته. انتهى.

فهو، _ أي ابن إدريس(قدس سره) _ استدلّ على مذهب الإمامية بذكرهم لأخبار المضايقة وذهابهم إلى العمل برواية الثقة.

ومنها: کلام المحقّق(قدس سره) في المعتبر الّذي يستفاد منه بأنّ العلماء قد يعملون بخبر المجروح كما يعملون بخبر العدل وإن لم يكن مفيداً للعلم.((2))

ومنها: ما ذكره الشهيد _ رفعت درجته _ في الذكرى، والمفيد الثاني ابن شيخنا الطوسي(قدس سره) من عمل الأصحاب بشرائع الشيخ أبي الحسن عليّ بن بابويه(قدس سره) عند إعواز النصوص تنزيلاً لفتاويه منزلة رواياته.

ص: 171


1- النجاشي، رجال، ص326، رقم، 887.
2- المحقّق الحلّي، المعتبر، ج1، ص29 .

ومنها: شهادة المحدّث المجلسي(قدس سره) في البحار بأنّ عمل أصحاب الأئمّة(علیهم السلام) بالخبر غير العلمي متواترٌ بالمعنى.

ومنها: ما ذكره البهائي(قدس سره) بأنّ الصحيح عند القدماء: ما كان محفوفاً بما يوجب ركون النفس إليه. وذكر فيما يوجب الوثوق اُموراً لا تفيد إلّا الظنّ. ومعلوم أنّ الصحيح هو المعمول به، وليس هذا مثل الصحيح عند المتأخّرين في أنّه قد لا يعمل به لإعراض الأصحاب عنه أو لخللٍ آخر، فالمراد أنّ المقبول عندهم ما تركن إليه النفس وتثق به.((1))

هذا ملخّص ما أفاده الشيخ _ رضوان الله تعالى عليه _ في المقام في عدّة صفحات.((2))

نقد کلام الشيخ الأنصاري

أقول: أمّا الإجماع القولي على حجّية خبر الواحد.

ففيه: أوّلاً: لو فرض تحقّق الإجماع القولي، فهو إنّما يفيد صحّة المجمع عليه إذا لم يكن من المسائل الفرعية. وأمّا إذا كان من المسائل الفرعية الّتي استنبطوا حكمها من الاُصول ومن باب تطبيق الكبرى على الصغرى وردّ الفرع على الأصل، فلا يفيد صحّة المجمع عليه، لعدم كشف ذلك عن وجود دليلٍ معتبرٍ، ولعدم كونه موجباً للحدس وحصول القطع برأي الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

كما أنّه لا حجّية للإجماع إذا كان المجمع عليه من المسائل العقلية، ولذا نرى أنّ قدماء العلماء من أهل المعقول وغيرهم من قبل الإسلام إلى عص_رنا هذا أجمعوا على كون الصوت مثلاً غير قارٍّ بالذات، مع أنّه قد ثبت في عص_رنا هذا خلاف ذلك بالحسّ.

وثانياً: لا طريق لتحصيل ذلك الإجماع على الوجه الأوّل الّذي ذكره؛ فإنّا بعد تتبّع

ص: 172


1- البهائي، مشرق الشمسين، ص269.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص 88 - 98 .

کلمات العلماء لم نظفر على کلمات القائلين بحجّية الخبر إلّا قليل منهم.

وأمّا ثبوته من طريق تتبّع الإجماعات المنقولة.

فهو أيضاً كذلك؛ فإنّ مجرّد نقل بعض العلماء الإجماع على ذلك مع كون حالهم في الظفر بأقوال العلماء حالنا، وعدم عثورهم على أقوال كثير من العلماء، بل ربما يمكن أن يكون الظفر بأقوال العلماء في زماننا أسهل من زمانهم، كما لا يخفى.

هذا مضافاً إلى أنّ الإجماع الّذي ادّعاه الشيخ _ رضوان الله عليه _ كما أفاد الشيخ الأنصاري(قدس سره) لا يفيد إجماع من بعده من العلماء واتّفاقهم على ذلك، وهكذا إجماع غيره ممّن ادعى الإجماع.

ومضافاً إلى أنّ الشيخ لم يدع الإجماع القولي، بل ادعى الإجماع العملي كما ينادي بذلك قوله: «والذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة» إلى قوله: «إلى زمان جعفر بن محمد(عَلَيْهَا السَّلاَمُ) الّذي انتشر منه العلم وكثرت الرواية من جهته».

وهكذا السيد الجليل رضيّ الدين بن طاوس والعلّامة والمجلسی(قدس سره) فإنّهم إنّما ادّعو الإجماع العملي لا القولي.

وأمّا ادّعاء إجماع المسلمين على العمل بالخبر، وادّعاء إجماع الصحابة كما ادّعاه الشافعي فغير مفيدٍ لعدم تحقّق إجماع المسلمين ولا الصحابة على العمل بالخبر بما أنّهم مسلمون، بل بما أنّهم عقلاء. نعم، لو ثبت إجماعهم على العمل بخصوص الأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة يمكن دعوى ذلك.

وأمّا ادّعاء الإجماع على حجّيته حتى من السيّد(قدس سره) وأتباعه، لانسداد باب القطع بالأحكام بالنسبة إلى زماننا دون زمانه بأنّه ذهب إلى عدم حجّية الخبر في مثل زمانه دون زماننا.

ففيه: أنّه لا فرق في انسداد باب القطع والعلم بين زماننا وزمانه بل وزمان المعصومين(علیهم السلام)، لعدم تمكّن المسلمين الساكنين في البلاد النائية والممالك البعيدة غالباً

ص: 173

من درك فيض حضورهم وسعادة زيارتهم، فلم يكن لهم طريقٌ إلّا الروايات الواردة عنهم. مع أنّ الروايات ما كانت مجموعة ومضبوطة مثل زماننا، بل ربما كان عند أحدٍ حديثٌ وعند الآخر حديثان وعند غيره أزيد أو أقلّ، بخلاف زماننا فإنّ الجوامع الأربعة وغيرها من الكتب تكون بيد أكثر أهل العلم، فيمكن أن يدّعى أنّ إنفتاح باب العلم في زماننا هذا تكون دائرته أوسع من زمان السيّد(قدس سره) وأتباعه.

وكيف كان، فالإنصاف عدم تمامية هذه الوجوه لإثبات حجّية الخبر.

ومثلها الآيات والأخبار، فإنّ استفادة حجّيته _ ولو إمضاءً _ من الآيات لا تخلو من إشكالٍ.

وأمّا الأخبار فاستفادة ذلك منها لا تكون إلّا إمضاءً من باب عدم الردع بعد قيام سيرة العقلاء على العمل بالخبر كما تدلّ عليه رواياتٌ كثيرةٌ دالةٌ على عمل الأصحاب بالخبر بمرئى ومسمعٍ من المعصومين(علیهم السلام) مع أنّهم لم يردعوهم عن ذلك.

وكيف كان، فما هو عمدة الدليل في باب حجّية الخبر بل ربما يرجع إليه أكثر الأدلّة _ الّتي أقاموها على حجّية الحجج _ هو بناء العقلاء.

سبب إنكار المتکلّمين حجّية خبر الواحد

لا يخفى عليك: أنّ ما هو المتداول في ألسنة الأصحاب مثل المفيد والمرتض_ى وابن قبة وعامّة المتکلّمين((1)) إلى زمان الشيخ _ رضوان الله عليه _ وتلامذته عدم جواز

ص: 174


1- راجع: الشریف المرتضی، الذريعة إلی اُصول الش_ریعة، ج2، ص529؛ المفید، التذكرة باُصول الفقه، ص38. وقال المفيدرحمه الله: «لا يجب العلم ولا العمل بشيء من أخبار الآحاد، ولا يجوز لأحد أن يقطع بخبر الواحد في الدين إلّا أن يقترن به ما يدلّ على صدق راويه على البيان، وهذا مذهب جمهور الشيعة وكثير من المعتزلة والمحكّمة وطائفة من المرجئة، وهو خلاف لما عليه متفقّهة العامّة وأصحاب الرأي. المفید، أوائل المقالات، القول في أخبار الآحاد، ص122.

العمل بخبر الواحد، وبذلك يردّون كثيراً _ في مقام الاحتجاج على العامّة حينما تمسّكوا بالأخبار _ بأنّها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً وقد تكرّر ذلك في ألسنتهم.

والشيخ أوّل من ردّ على ذلك وكسر صولة هذه العبارة، وبيّن ما هو الحقّ في المقام ومراد الأصحاب بقوله في العدّة: «وأمّا ما اخترته من المذهب فهو: أنّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مرويّاً عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أو عن واحدٍ من الأئمّة(علیهم السلام)، وكان ممّن لا يطعَن في روايته ويكون سديداً في نقله، ولم تكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر، لأنّه إن كانت هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك كان الاعتبار بالقرينة وكان ذلك موجباً _ ونحن نذكر القرائن فيما بعد _ جاز العمل به... إلخ».((1))

وليس معنى ما ذكره تقييد الحجّية بما إذا كان مرويّاً عن النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم وكان الراوي ممّن لا يطعَن في روايته وسديداً في نقله ولم تكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمنته الرواية؛ فإنّ لزوم كون الخبر مرويّاً عن النبيّ ممّا اتّفق عليه الكلّ، وكفاية كونه مرويّاً عن أحد الأئمّة أيضاً من جهة أنّهم بمنزلته في ذلك وحجّية قولهم لخبر الثقلين وغيره، وكذا استحكام الراوي وكونه ممّن لا يطعَن في روايته، وكذا عدم وجود القرينة فإنّ مع القرينة ليس الاتّكال على الخبر بل على القرينة.

نعم، ما يكون قيداً لحجّية الخبر على ما اختاره هو كونه مرويّاً من طرق أصحابنا القائلين بالإمامة.

ثم إنّه بعد ما أفاد إجماع الفرقة المحقّة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصنيفاتهم من عهد النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ومن بعده من الأئمّة إلى جعفر بن محمد(عَلَيْهَا السَّلاَمُ) قال : «فإن قيل: كيف تدَّعون الإجماع على الفرقة المحقّة في العمل بخبر الواحد، والمعلوم من حالها أنّها لا ترى

ص: 175


1- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص126.

العمل بخبر الواحد، كما أنّ المعلوم من حالها أنّها لا ترى العمل بالقياس، فإن جاز ادّعاء أحدهما جاز ادّعاء الآخر؟ قيل لهم: المعلوم من حالها الّذي لا ينكر ولا يدفع أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الّذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد ويختصّون بطريقه، فأمّا ما يكون راويه منهم وطريقة أصحابهم فقد بيّنا أنّ المعلوم خلاف ذلك، وبيّنا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضاً، وأنّه لو كان حظرُ العمل بخبر الواحد معلوماً لجرى مجرى العلم بحظر القياس، وقد علم خلاف ذلك».((1))

ولا يخفى عليك: أنّ الإشكال بحسب الظاهر واردٌ على الشيخ _ رضوان الله عليه _ ولكن المتتبّع البصير يرى أنّه أجاد فيما أفاد، فإنّ الإمامية قد ابتلوا بقومٍ كان تمام أساس مذهبهم من الاُصول والفروع مبنيّاً على خبر الواحد وهم العامّة، فإنّ الروايات المتواترة قليلة جدّاً بل لا يبعد ادّعاء عدم وجودها أصلاً، فالخبر المعروف المرويّ عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «إنّما الأعمال بالنيات» من الأخبار الّتي ذكر كثيرٌ من علمائهم في كتبهم تواتره بل ربما كان في نظرهم بحيث لم يكن في جهة التواتر خبرٌ أقوى منه بل ربما لا يعرفون خبراً متواتراً غيره إلّا أنّنا بعد التتبّع التامّ وجدنا انتهاء سند هذا الخبر إلى شخص واحدٍ وهو عمر بن الخطّاب.

فعلى هذا، يتمسّكون في الاُصول والفروع بكلّ خبر واحد ويقولون بعدالة کلّ واحد من الصحابة، ولذا دخل في مذهبهم سيّما في الاُصول المطالب العجيبة والعقائد السخيفة الّتي قامت الضرورة على بطلانها كالتجسيم وغيره من الخرافات الّتي جلّ شأن الإسلام ونبيّه الكريم من أن يسندها إليه تعالى. تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

وبالجملة: فالقوم من أوّل الأمر تمسّكوا بخبر الواحد في أمر الخلافة الّتي هي من أهم الاُمور، وهو ما رواه أبو بكر عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «الأئمّة من قريش».((2))

ص: 176


1- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص127 - 128.
2- قال: الفخر الرازي: «إنّ الأنصار لمّا طلبوا الإمامة، احتجّ عليهم أبو بكر بقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «الأئمّة من قريش». الفخر الرازي، المحصول، ج2، ص357.

واستند هو أيضاً في منع فاطمة(عَلَيْهَا السَّلاَمُ) عن فدك بما رواه نفسه وحده عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «نحنُ معاشرَ الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة».((1))

وكثيراً ما يرجعون إلى الناس في حكم ما يتّفق من الحوادث والوقائع، فإذا أخبر أحدٌ: أنّ النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فعل كذا، أو قال كذا، يأخذون به، كما نرى هذا كثيراً بالنسبة إلى أبي بكر وعمر. ومن الواضح: أنّه لابدّ لهم من ذلك، لعدم وجود مستندٍ على مذهبهم لفقههم كما يكون للإمامية وهو الإمام المعصوم الّذي لا تخلو الأرض منه في عصر من أعصار التكليف. والإمامية في مباحثاتهم ومجادلاتهم مع العامّة لم يروا بدّاً إلّا نفي حجّية خبر الواحد بالمرّة، فإنّ مع الاعتراف بحجّية الخبر في مقام الاحتجاج لابدّ لهم من التسليم، لعدم إمكان الخدشة في سند الروايات الواردة من طرقهم حتى ما رواه أمثال أبي هريرة والوليد بن عقبة _ الّذي نزلت الآية في فسقه _ ومعاوية والمغيرة بن شعبة وعمران بن حطّان الخارجي،((2)) فإنّ تفسيق هؤلاء في مثل تلك الأزمنة يؤدّي إلى فتنٍ عظيمةٍ ومفاسد كبيرةٍ، فلذا أنكروا في مقابلهم حجّية الخبر رأساً، مع عملهم فيما بينهم بما كان وارداً من طرقهم عن النبيّ والأئمّة(علیهم السلام).

ولأجل ما في هذه الأخبار المروية عن طرق العامّة ممّا لا يقبله عقلٌ سليمٌ ولا يوافقه كتاب الله الكريم ظهر مذهب الاعتزال، وقامت المعتزلة على خلاف الأشاعرة، ووقعت بينهم الوقائع والفتن العظيمة، ورمت الأشاعرة المعتزلة بالتكفير والزندقة والإلحاد

ص: 177


1- السیوطي، الفتح الكبير، ج3، ص349؛ الشوکاني، المنتقى من الاخبار، ج2، ص474؛ الشافعي، مسند، ص108. وقال الفخر الرازي في بحث الخبر الّذي لا يقطع بكونه صدقاً أو كذباً: «إنّ الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد... (إلى أن قال:) فبيانه من وجوه، الأوّل: رجوع الصحابة إلى خبر الصدّيق في قوله عليه الصلاة و السلام: «الأنبياء يُدفنون حيث يموتون»، وفي قوله: «الأئمّة من قريش»، وفي قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث». المحصول، ج4، ص368 - 369.
2- راجع في ذلك كتابنا: «أمان الاُمّة من الضلال والاختلاف». [منه دام ظلّه العالي].

والرجوع عن سنّة النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وغير ذلك من الافتراءات، ونسبت المعتزلة الأشاعرة إلى الجمود والإعراض عن حكومة العقل بالمرّة، والعقائد الباطلة الّتي لا يشكّ في بطلانها من له أدنى التفات بما يحكم به العقل مستقلاً. وتفصيل ذلك خارجٌ عن وضع الكلام.

ص: 178

فصل: في الإجماع

اشارة

إعلم: أنّ من المسائل المتفرّعة على مسألة حجّية الخبر مسألة الإجماع.

وهو لغةً يستعمل في معنيين:((1))

أحدها: العزم، ومنه ما روي عن النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «لا صيام لمن لم يُجمِع الصيام من الليل».((2))

ثانيها: الاتّفاق، ومنه قولهم: «أجمع العلماء على كذا» إذا اتّفقوا عليه.

وما يضاف إليه على هذا المعنى إن كان أهل حرفةٍ وطبقةٍ خاصّةٍ، فلا يرتبط بما نحن فيه، لعدم كون هذا الإجماع ممّا يحتجّ به. وأمّا إن اُطلق واُضيف إلى اُمّة نبيّنا(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)،

ص: 179


1- الأشعري، اللمع في اُصول الفقه، ص179؛ الفخر الرازي، المحصول، ج4، ص19؛ السبکي، الإبهاج في شرح المنهاج، ج2، ص349.
2- بهذا اللفظ وبلفظ: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» و «من لم ينو الصيام من الليل فلا صيام له». ورد في التلخيص بحاشية المجموع (ج6، ص304)؛ كما أورده النووي فيه (ج6، ص288)؛ وفي الجامع ا لصغ_ير، السیوطی، ج2، ص645؛ رواه أحمد في المسند عن حفصة (ج6، ص287)؛ والدارقطني (سنن، ج2، ص152)؛ والبيهقي عن عائشة (السنن الکبری، ج2، ص316)؛ وأخرجه ابن ماجة عن حفصة كما في الفتح الكبير، (السیوطي، ج3، ص346)، وكذا أخرجه النسائي عنها (السنن الکبری، ج2، ص116-117)؛ كما في الفتح الكبير (السیوطي، ج3، ص238)، وصحيح ابن خزيمة (ج3، ص212-213)؛ وابن حجر في الدراية (ج1، ص275، ح 359).

فهو الّذي وقع الخلاف في حجّيته، وذهبت العامّة إلى حجّيته، وحكي عن النظّام وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشّر القول بعدم حجّيته.((1))

واختلف من قال بحجّيته في تفسيره، فذهب داود الظاهري وكثيرٌ من أصحاب الظاهر إلى أنّه عبارةٌ عن اتّفاق الصحابة دون غيرهم من أهل الأعصار.((2)) وذهب أنس بن مالك ومن تابعه إلى أنّه عبارةٌ عن اتّفاق أهل المدينة، وهو حجّة في کلّ عص_رٍ من الأعصار. وفس_ّره الأكثر بأنّه عبارةٌ عن إجماع أهل الحلّ والعقد من المسلمين على مطلب في عصرٍ واحدٍ.

الاستدلال لحجّية الإجماع بالكتاب

استدلّوا لحجّية الإجماع تارة:

بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْ_هُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلِ الْ_مُ_ؤْمِنينَ نُوَلِّه ِمَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصيراً﴾.((3))

فإنّه تعالى جمع في الوعيد بين مشاققة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين، ولا شكّ في حرمة مشاققته استقلالاً، فلابدّ من أن يكون اتّباع غير سبيل المؤمنين مثله، وإلّا لم يحسن الجمع بينهما.

كما أنّه لا ريب في كون سبيل المؤمنين عبارةً عن أقوالهم وفتاويهم وسلوكهم في الاُمور الدينية.

ص: 180


1- راجع: المفید، أوائل المقالات، ص121، القول في الإجماع؛ الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج2، ص601 - 602؛ الغزالي، المستصفى، ج1، ص325؛ السرخس_ي، اُصول، ج1، ص295؛ الفخرالرازي، المحصول، ج4، ص35؛ الآمدي، الاحکام في اُصول الأحكام، ج1، ص200.
2- (2) انظر نفس المصادر.
3- النساء، 115. وانظر الاستدلال بهذه الآية وغيرها من الأدلّة والإشكالات عليها في المصادر المذكورة آنفاً.

واُجيب عنها بوجوه:

منها: منع كون اللام في المؤمنين للاستغراق.

ومنها: أنّه لا يستفاد من الآية إلّا حرمة اتّباع غير سبيلهم ومخالفتهم، لا وجوب موافقتهم.

ويمكن أن يقال: إنّ سبيل المؤمنين عبارةٌ عمّا عليه المؤمنون بما أنّهم مؤمنون وما هو مقتضى إيمانهم لا مطلق ما عليه المؤمنون.

واُخرى بقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾.((1))

وقوله: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ اُمَّةً وَسَطاً﴾.((2))

وجه الاستدلال بهما: اقتضاء كونهم اُمّةً وسطاً وخير اُمّةٍ اُخرجت للناس عدم اجتماعهم على الباطل لوجود المنافاة بينهما.

وفي الاستدلال بهما أيضاً مضافاً إلى أنّ في بعض القراءات: «كُنْتُمْ خَيْرَ أَئِمَّةٍ»،((3)) و ورود بعض الروايات على أنّ المراد بها أئمّة أهل البيت(علیهم السلام)، وكونهم واسطة بين الخلق والخالق، وأنّ المخاطب بخطاب ﴿جَعَلْنَاكُمْ﴾ في الآية الثانية الأئمّة الطيّبين(علیهم السلام): أنّ ظاهر الآية الاُولى كونها مسوقة لأجل الترغيب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. والثانية مسوقة لأجل الدعوة إلى الطريق السوي الوسط العدل، والترغيب إلى اتّباعه، وهو الطريق الّذي دعانا إليه نبيّنا(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فلا ربط لهما بالإجماع، ولا مجال للاستدلال بهما.

ص: 181


1- آل عمران، 110.
2- البقرة، 143.
3- العيّاشي، تفسیر، ج1، ص195، ح 128 و 129؛ القمّي، تفسیر، ج1، ص110؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص2؛ الفیض الکاشاني، تفسير الصافي، ج1، ص371، ذيل الآية.

وهكذا حال سائر الآيات الّتي استدلوا بها، كقوله تعالى: ﴿وَمِ_مَّنْ خَلَقْنَا اُمَّةً يَهْدُونَ بِالْ_حَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.((1))

فإنّ الاُمّة تقع على الواحد وعلى الجماعة. وتقع على جميع الاُمّة على وجه الاستغراق، والشاهد على ذلك قوله في حقّ إبراهيم: ﴿إِنَّ إِبرَاهيمَ كَانَ اُمَّةً قَانِتَاً﴾،((2)) وقوله عزّ من قائل: ﴿وَلَ_م_َّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ اُمَّةً مِنَ النّاسِ﴾.((3))

فيمكن أن يكون المراد واحداً من الاُمّة، فلا دلالة لها على حجّية الإجماع بما هو إجماع بل تدلّ على حجّية هذا الواحد ويمكن أن يكون المراد بالاُمّة الأنبياء.

الاستدلال لحجّية الإجماع بالسنّة

اشارة

واستدلّوا بالسنّة، وهي ما رووه عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنّه قال: «لا تجتمع اُمّتي على الخطأ» أو «لا تجتمع اُمّتي على الضلالة» أو «ما كان الله ليجمع اُمّتي على الخطأ» أو «لم يكن الله ليجمع اُمّتي على الخطأ». وقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «يد الله على (أو مع) الجماعة» و«كونوا مع الجماعة».((4))

وجه الاستدلال بها: أنّ المراد باجتماع الاُمّة ليس اجتماع الجميع من الأوّل إلى يوم القيامة؛ فإنّ معه تنتفي فائدة هذا الكلام ويصير لغواً. وليس أيضاً اجتماع الموجودين وغيرهم ممّن انقض_ى زمانهم؛ لعدم صدق الاجتماع على توافق المعدومين مع الموجودين. فالمراد به هو اجتماع أهل عصرٍ واحدٍ والموجودين من الاُمّة على مسألةٍ واحدةٍ.

ص: 182


1- الأعراف، 181.
2- النحل، 120.
3- القصص، 23.
4- انظر هذه الأحاديث في المصادر المذكورة في هامش الصفحة 202، خصوصاً هامش رقم 9 من كتاب المحصول (الفخر الرازي، ج4، ص83 )، تحقيق طه جابر فيّاض العلواني.

نقد الاستدلال بالسنّة

واُجيب عن الاستدلال بهذه الرواية:

أوّلاً بضعف سندها، حتى أنّ الشافعي لم يذكرها في أدلّة حجّية الإجماع.

وما يتراءى من بعض الروايات المذكورة في كتب أصحابنا كالاحتجاج من إسناد هذا الحديث إلى النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) فيمكن أن يكون ذلك في مقام الاحتجاج على العامّة، وتعليم الشيعة الاستدلال على بطلان مذهب مخالفيهم بما هو مقبولٌ عندهم.

هذا مضافاً إلى ما في هذه الروايات من اضطراب المتن وضعف السند أيضاً، فراجع.

وثانياً: بعدم تمامية دلالته لاحتمال أن يكون عدم اجتماعهم على الخطأ من جهة وجود المعصوم فيهم، لا أن يكون الإجماع بما هو هو حجّة كما هو مذهب العامّة.

إن قلت: هذا الاحتمال مخالف لظاهر الرواية، فإنّ ظاهرها أنّ اجتماع الاُمّة بما هم اُمّة حجّة لا بما أنّ الإمام فيهم وواحدهم.

قلت: كما يمكن أن يكون المراد به اجتماع الاُمّة بما هم اُمّة، يمكن أن يكون المراد به اجتماعهم بما أنّ الإمام المعصوم فيهم، وليس لأحدِ الاستظهارين تقدّمٌ على الآخر، مع أنّ الدليل موافقٌ لنا. هذا بعض من الكلام في وجه حجّية الإجماع عند العامّة، والجواب عنه.

الإجماع عند الإمامية

وأمّا الإمامية،((1)) فليس هذا الإجماع عندهم حجّة رأساً وبنفسه لو تحقّق، بل بملاك دخول الإمام في المجمعين، وكونه واحداً من الفقهاء وأهل الحلّ والعقد، لعدم خلوّ

ص: 183


1- راجع: الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج2، ص628 .

زمان التكليف من إمامٍ معصومٍ على ما تقتضيه اُصول مذهبهم، بل هم أركان الأرض((1)) وأمانٌ لأهلها((2)) وأعدال الكتاب((3)) وسفن النجاة.((4))

لا يقال: إذا كان ملاك حجّية الإجماع عندكم رأي الإمام المعصوم من غير أن يكون لغيره دخل في الحجّية فما وجه عنوان الإجماع في كتبكم وذكره في کلماتكم وعدّه من جملة الأدلّة؟

فإنّه يقال: إنّ القوم، أي العامّة سبقونا في طرح مسألة الإجماع في كتبهم، فذكرناها ورددنا عليهم وأوضحنا ما هو الحقّ فيها، ولو لم يسبقنا هؤلاء في ذلك لم تذكر هذه المسألة في كتبنا.

هذا مضافاً إلى أنّ بعضهم كصاحب الغنية والسيّد(قدس سره)((5)) إنّما أرادوا بالإجماع المتكرّر ذكره قول المعصوم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، والتعبير بالإجماع عن قول المعصوم لمكان كون تصنيفاتهم غالباً في مقابل العامّة وفي أوساطهم الفقهية، فيمكن أنّهم أرادوا بذلك الجري على مجراهم في كتبهم حتى لا يدخل النزاع الواقع بينهم في الإمامة _ الّتي من لوازمها حجّية قول المعصوم في جميع الأعصار _ في کلّ واحدة من المسائل الفقهية، فذكروا في

ص: 184


1- الکلیني، الكافي، ج1، ص198، ح 3، و 196، ح 1، و 197، ح 2؛ المفید، الاختصاص، ص21؛ الصفّار، بصائر الدرجات، ص199، ح1؛ الطوسي، تهذيب الأحکام، ج6، ص28، ح53 ؛ الصدوق، من لا یحض_ره الفقيه، ج2، ص591 ، ح 3197؛ ابن قولویه القمي، كامل الزيارات، ص45.
2- أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، ج2، ص671 ، ح 1145؛ الدیلمي، فردوس الأخبار، ج4، ص311، ح 6913؛ القندوزي، ينابيع المودّة، ج1، ص71، ح1؛ الطوسي، الأمالي، ص379، ح812 ؛ الحاکم النیسابوري، المستدرك، ج3، ص162، ح 4715.
3- بمقتضى حديث الثقلين، وقد سبق تخريجه.
4- الحاکم النیسابوري، المستدرك، ج3، ص163، ح4720؛ القندوزی، ينابيع المودّة، ج1، ص94، ح5 ؛ الطوسي، الأمالي، ص60 ، ح 88 ؛ الطبري، بشارة المصطفى، ص63، 145.
5- راجع: الشریف المرتضی، الانتصار، مقدّمة المؤلّف؛ الشریف المرتضی، الذريعة إلی اُصول الش_ریعة، ص630.

أوّل كتبهم مرادهم من الإجماع وما يقتضيه اُصول مذهبهم، وعبّروا عن قول الإمام بالإجماع، وأشاروا إلى أنّ مرادهم ليس ما أراده العامّة.

هذا کلّه فيما يتعلّق بالإجماع بالمعنى الّذي فسّر به في کلّمات العامة وهو: إجماع أهل الحلّ والعقد من اُمّة محمد(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في عصرٍ واحدٍ على أمرٍ.

وأمّا إجماع غيرهم كاتّفاق طائفةٍ خاصّةٍ، فإن كانوا غير الفقهاء والعلماء كأهل الحِرف والصنائع فلا کلام في عدم حجّية إجماعهم.

وأمّا إن كان ذلك اتّفاق علمائنا، أي علماء الإمامية على مطلب، فقد قيل بحجّيته لوجهين:

أحدهما: قاعدة اللطف، كما أفاد الشيخ(قدس سره) وهي: أنّ علماء الإمامية إذا اتّفقوا على مطلبٍ وكان خلاف الواقع يجب على الإمام _ بمقتضى هذه القاعدة _ الإظهار أو إلقاء الخلاف، فحيث وقع الاتّفاق نقطع بموافقة قول الإمام لأقوال المجمعين لا محالة.

ونقل مخالفة السيّد(قدس سره) لهذا البيان، ومَنْعه لزوم موافقة الإمام لما استقرّ عليه رأي علمائنا واتّفقوا عليه، أو إلقاء الخلاف إذا كان رأيه مخالفاً لرأي هؤلاء المجمعين.

وأجاب عن بيان السيّد(قدس سره) بأنّ ذلك لو تمّ لبطلت جميع استدلالات أصحابنا بالإجماع، وأنت خبير بأنّ بطلان استدلال من استدلّ بالإجماع لا يوجب القول بحجّيته.((1))

فهذا الكلام بظاهره غير مستقيم، وقد استشكل عليه بعده أكثر الفقهاء.

ثانيهما: دعوى الحدس، بتقريب: أنّ اتّفاق جميع فقهائنا مع اهتمامهم ودقّتهم في الفتاوى وعدالتهم كاشفٌ عن موافقة فتواهم لرأي الإمام وملازمٌ لقول المعصوم إمّا لكون نفس ذلك الاتّفاق كاشفاً عن إصابتهم للواقع وموافقة رأيهم لرأي الإمام، أو

ص: 185


1- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج2، ص631 .

لملازمة ذلك لوجود دليلٍ معتبرٍ، أو روايةٍ معتبرةٍ عند الكلّ وكشف ذلك الاتّفاق عنه.

وفيه: أنّ المسألة المجمع عليها إن كانت من المسائل العقلية أو المسائل الّتي للعقل دخل في استنباطها فليس لازمه القطع برأي الإمام أو وجود روايةٍ معتبرةٍ؛ لأنّا نرى أنّ أهل المعقول كثيراً ما أجمعوا على أمرٍ عقليٍّ مع ظهور خلافه وبطلانه بعد زمان طويلٍ، وهذا كاتّفاقهم في كثيرٍ من المسائل المذكورة في الطبيعيات مع ظهور بطلان ما اتّفقوا عليه في زماننا.

وإن لم يكن كذلك كالاُصول المتلقّاة، فدعوى ملازمة إجماعهم للقطع برأي الإمام أو وجود دليل معتبرٍ قريبةٌ جدّاً. وأمثلة ذلك كثيرة في الفقه، مثل مسألة العول والتعصيب الّتي ذهبت الإمامية فيها إلى خلاف العامّة، ولذا قلنا مكرّراً: إنّ في المسائل التفريعية لا اعتناء بدعوى إجماع الفقهاء، بل لا اعتداد بإجماعهم لدخالة العقل في استنباط أحكامها، بخلاف الاُصول المتلقّاة والمسائل المعنونة في كتب القدماء لعدم دخل شيءٍ في استنباطها إلّا السمع والنقل، وليس للعقل فيها سبيلٌ. فما ليس طريقه منحصراً في السمع والنقل بل يكون العقل دخيلاً أيضاً في استنباطه ليس إجماعهم فيه كاشفاً عن رأي الإمام ومستلزماً لوجود دليلٍ معتبرٍ أو روايةٍ معتبرةٍ. بخلاف المسائل النقلية المحضة، فإنّه لا مانع من الملازمة المذكورة فيها، ومن يدّعيها فليس بمجازفٍ. هذا تمام الكلام في أصل الإجماع.

الإجماع المنقول

وأمّا الكلام في الإجماع المنقول، فقد ذكر الشيخ(قدس سره) لمنع حجّيته مقدّمتين:

إحداهما: أنّ أدلّة حجّية خبر العادل لا تدلّ على أزيد من إلغاء احتمال تعمّد الكذب في خبر العادل، وجعله بالنسبة إليه كالعدم بخلاف الفاسق. وأمّا احتمال

ص: 186

الخطأ والاشتباه فلا فرق في تطرّقه بين خبر العادل والفاسق، ولا دلالة للأدلّة المذكورة على نفيه.

نعم، لا اعتناء بهذا الاحتمال من جهة الأصل _ وهو بناء العقلاء على عدم الاعتناء بذلك الاحتمال _ إذا كان المخبَر به أمراً حسيّاً، أو كان من الاُمور الحدسية الّتي تكون مباديها اُموراً حسّية كالإخبار عن شجاعة زيد وسخاوة عمرو، فإنّ شجاعة زيد مثلاً تعرف بسبب بعض الاُمور الحسية مثل مواقفه ومقاماته في الحروب ومبارزته الأبطال والشجعان، ففي مثل هذا لا يعتني العقلاء باحتمال الخطأ. وأمّا إذا كان المخبر به أمراً حدسيّاً من دون أن تكون مباديه من الاُمور الحسيّة بل كان استنباطاً واجتهاداً، فليس لرفع اليد وعدم الاعتناء بهذا الاحتمال أصلٌ وبناءٌ من العقلاء.

ثانيتهما: أنّ الإجماع في مصطلح الخاصّة بل العامّة _ الّذين هم الأصل له ويدّعون أنّه الأصل لهم((1)) _ هو: اتّفاق جميع أهل العصر، أو اتّفاق أهل الحلّ والعقد، أو اتّفاق جميع العلماء في عصرٍ واحدٍ على أمرٍ((2)). إلّا أنّه حجّة عند العامّة بنفسه بحيث يكون قول کلّ واحدٍ من المجمعين جزءاً من الحجّة((3)). وعند الإمامية حجّة لكونه مشتملاً على قول المعصوم، وفي الحقيقة الحجّة عندهم قول الإمام لا أقوال غيره من المجمعين.

والمدّعي للإجماع إن كان ينقل قول الإمام وقول غيره من العلماء، بحيث يكون

ص: 187


1- قال مؤلّف موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (ج1، ص27): «الإجماع مقطوع به في دين الله عزّ وجلّ وأصل عظيم من اُصول الدين...».
2- راجع: البخاري، كشف الأسرار ، ج3، ص423؛ الآمدي، الاحکام في اُصول الأحكام، ج1، ص254؛ الفخر الرازي، المحصول، ج4، ص20؛ ابن النجّار الحنبلي، شرح الكوكب المنير، ج2، ص211؛ الشوکاني، إرشاد الفحول، ص85، 269-270.
3- قال في موسوعة الإجماع (ج1، ص33): «والحق الّذي عليه جمهرة أهل العلم هو أنّ الإجماع لا يختصّ بالصحابة وحدهم دون غيرهم، أو أحدهما، أو أهل أيّ مصر، أو آل البيت... ، لأنّ هؤلاء جزء من کلّ...».

طريقه لاستكشاف قول الإمام أقوال غيره من العلماء، يكون مستنده لاعتبار هذا الإجماع _ من حيث نقل المنكشف والمسبّب وهو قول الإمام وعلم حاكيه بقوله _ إمّا قاعدة اللطف، أو التقرير وإن كان ذلك أيضاً راجعاً إلى قاعدة اللطف، أو الملازمة العادية بين قول المجمعين وبين قول الإمام لقضاء العادة باستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الجهد والوسع في فهم الحكم الصادر عن الإمام، واستحالة توافق المرؤوسين عادةً على رأي يكون مخالفاً لرأي رئيسهم، أو الملازمة الاتّفاقية.

وإن كان ناقلاً لقول الإمام وقول غيره لكن لا على النحو المذكور من الطولية وكون العلم بقول الإمام مترتّباً على العلم بأقوال غيره من العلماء، بل على نحو من العرضية بأن يحصل قول الإمام من طريق الحسّ باستماع قوله في ضمن استماعه أقوال جماعة لا يعرفهم بأعيانهم، فيحصل له القطع بقول المعصوم. فدلالة الإجماع على قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) تكون بالتضمّن. وهذا القسم من الإجماع في غاية القلّة لو لم نقل بعدم وقوعه واتّفاقه جزماً.

وأنت خبيرٌ بعدم كفاية واحدٍ من هذه الوجوه لإثبات حجّية نقل الإجماع من حيث المنكشف والمسبّب.

أمّا إذا كان اعتباره عند ناقله من جهة الحسّ واشتماله على قول الإمام للعلم بدخوله في المجمعين لاستماع الحكم من جماعةٍ كان الإمام فيهم وإن كان لا يعرفه بعينه، فهو ممّا لا يتّفق إلّا نادراً، بل يمكن دعوى عدم اتّفاقه جزماً.

وأمّا اشتماله على قول الإمام من جهة قاعدة اللطف أو التقرير، فهي مردودة عند المحقّقين من المتأخّرين.

وأمّا اشتماله على قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بدعوى وجود الملازمة بين تطابق رأي الفقهاء ورأي الإمام، فهو يبتني على الحدس الّذي قد يتّفق لنا وقد لا يتّفق. هذا ملخّص ما أفاده

ص: 188

الشيخ(قدس سره) في نفي حجّية الإجماع المنقول من حيث المنكشف((1)). وأمّا من حيث الكاشف فسيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

ولا يخفى عليك: أنّ المتراءى من کلامه(قدس سره) أنّه توهّم حص_ر بحثهم عن حجّية الإجماع المنقول بالإجماعات المنقولة المتحقّقة في زمان الغيبة، وأنّ الإمام الّذي يكون قوله مستنداً لحجّية الإجماع هو إمام العصر _ أرواحنا فداه _ دون غيره، ولذا في بيان إمكان كون مستند علم الحاكي بقول الإمام هو الحسّ مثَّل بما إذا سمع الحكم من الإمام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم، فيحصل له العلم بقول الإمام. مع أنّه لا فرق فيما هو مستند الإجماع بين زمان الغيبة وغيره من الأعصار السابقة وأزمنة الحضور. وليس في کلمات القدماء حصر العلم بدخول الإمام باستماع ناقل الإجماع قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في ضمن جماعة لا يعرفهم بأعيانهم، بل كما يمكن أن يكون هذا وجه علم الحاكي بقول الإمام يمكن أن يكون وجه علمه دلالة الروايات المأثورة عنهم. وإنّما ادّعوا الإجماع لأجل كون كتبهم في معرض ملاحظة علماء العامّة وفقهائهم فرأوا أنّ التمسّك بالروايات والأخبار المرويّة عن أهل البيت(علیهم السلام) في كلّ مسألة يوجب تجديد النزاع الواقع بينهم في الخلافة والإمامة في کلّ بابٍ من الفقه، فادّعوا الإجماع تخلّصاً من تجديد هذا النزاع في الفقه واكتفاءً بما ذكروه في غير الكتب الفقهية من الكتب الكلامية والاُصولية، لوجود ما هو الملاك في حجّية الإجماع عندنا وهو قول الإمام. ومع ذلك يشيرون إلى ذلك، أي أنّ المراد من هذا الإجماع ليس اتّفاق جميع الاُمّة أو جميع الفقهاء، كما أشار إليه ابن زهرة في الغنية في مقام الاستدلال للمسألة بقوله: «الإجماع المتكرّر ذكره» وغيره بقوله: «الإجماع المشار إليه».

ص: 189


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص47.

وغرضهم هو الإجماع المشار إليه في صدر الكتاب وهو قول الإمام. ولذا ترى أنّهم في مثل مسألة العول والتعصيب((1)) وحرمان الزوجة مع وجود الروايات المتواترة يتمسّكون بالإجماع، مع أنّ من الواضح عدم كون مراد ناقله أنّه تشرّف بحضور الإمام في ضمن ملاقاته جماعة لم يعرفهم بأعيانهم، بل المراد حصول العلم برأي الإمام لهذه الروايات المتواترة القطعية، هذا.

ويشهد على ما ذكرناه ما يجده المتدبّر في کلمات الشيخ(قدس سره)، فإنّه بعد ما ذكر في العدّة عدم كون ملاك حجّية الإجماع عندنا ما هو ملاكٌ لحجّيته عند العامّة، وتعرّض لما تمسّك به العامّة لإثبات مذهبهم وأبطل ما ذهبوا إليه وأجاب عن استدلالاتهم، قال: «فصلٌ: في كيفية العلم بالإجماع ومَن يُعتَبر قوله فيه».

إذا كان المعتبر في باب كونهم حجّة قول الإمام المعصوم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فالطريق إلى معرفة قوله شيئان:

أحدهما: السماع منه، والمشاهدة لقوله.

والثاني: النقلُ عنه بما يوجب العلم، فيعلم بذلك أيضاً قوله.

هذا إذا تعيّن لنا قول الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فإذا لم يتعيّن لنا قول الإمام ولا يُنقل عنه نقلاً يوجب العلم، ويكون قوله في جملة أقوال الاُمّة غير متميّزٍ منها، فإنّه يحتاج أن ينظر... إلخ».((2))

وليس في کلامه ما يستفاد منه انحصار طريق العلم بقول الإمام لناقل الإجماع بالاُمور الّتي ذكرها الشيخ الأنصاري(قدس سره)، كما ينادي بأعلى صوته استدلاله في الخلاف

ص: 190


1- راجع مراتب الإجماع لابن حزم (تحقيق حسن أحمد أبسر)، ص174، كتاب الفرائض. وانظر حول هذه المسألة كتابنا «مع الشيخ جادّ الحقّ شيخ الجامع الأزهر». [منه دام ظلّه العالي].
2- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج2، ص628 .

بالإجماع، فإنّ مراده ليس إلّا قول الإمام المستكشف عن النصّ القطعي الّذي يستكشف منه قول غيره من فقهائنا.

ولا وجه لأن يقال بأنّ مراده _ في کلّ مسألةٍ من هذه المسائل _ من دعوى الإجماع نقل قول الإمام وغيره على أحد النحوين المذكورين.

ألا ترى أنّه قال في الخلاف (في مسألة العدول من الفرادى إلى الجماعة، وفي مسألة صلاة ذات الرقاع) بالجواز للأصل، (وفي صلاة الجماعة أيضاً) قال بجوازه للأصل، وقال في محلٍّ آخر من صلاة الجماعة:

(مسألة، فيها ثلاث مسائل:

أوّلها: من صلّى بقومٍ بعض الصلاة ثم سبقه الحدث فاستخلف إماماً فأتمّ الصلاة جاز ذلك، وبه قال الشافعي في الجديد.((1))

وكذلك إن صلّى بقومٍ وهو محدثٌ أو جنبٌ ولا يعلم حال نفسه ولا يعلمه المأموم ثم علم في أثناء الصلاة حال نفسه، خرج واغتسل واستأنف الصلاة. وقال الشافعي إذا عاد أتمّ الصلاة، فانعقدت الصلاة في الابتداء جماعة بغير إمام ثم صارت جماعة بإمام.

الثانية: نقل نيّة الجماعة إلى الانفراد قبل أن يتمّ المأموم يجوز ذلك، وتنتقل الصلاة من حال الجماعة إلى حال الانفراد، وبه قال الشافعي.((2)) وقال أبو حنيفة: تبطل صلاته.((3))

الثالثة: أن ينقل صلاة الانفراد إلى صلاة جماعةٍ، فعندنا أنّه يجوز ذلك، وللشافعي

ص: 191


1- النووي، المجموع، ج 4، ص242 ، 245؛ السرخس_ي، المبسوط، ج1، ص169 ، 180؛ الشوکاني، نيل الأوطار، ج3، ص216؛ ابن قدامة، المغني، ج1، ص779.
2- الوجيز، ج1، ص58 ؛ النووي، المجموع، ج4، ص245 - 246.
3- شرح فتح القدير، ج1، ص260؛ النووي، المجموع، ج4، ص247.

فيه قولان أحدهما: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.((1)) والثاني: يجوز، وهو الأصحّ عندهم، وهو اختيار المزني مثل ما قلناه).

دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير، ولأنّه لا مانع يمنع منه، فمن ادّعى المنع فعليه الدلالة.((2)) انتهى.((3))

وقد تتبّعنا بالتتّبع التامّ كتابيه الكبيرين التهذيب والاستبصار فلم نجد فيهما روايةً يمكن أن تكون مدركاً لهذه المسائل إلّا روايات الاستخلاف وهي لا تدل إلّا على المسألة الاُولى، ولا دلالة لها على ما ذكره في الفرع الثاني والثالث؛((4)) إلّا أنّه استفاد حكم المسألة الثالثة وهو العدول من الانفراد إلى الجماعة من هذه الأخبار من جهة أنّ

ص: 192


1- النووي، المجموع، ج4، ص208؛ الوجيز، ج1، ص58 .
2- الطوسي، الخلاف، ج1، ص551 - 552 .
3- وجدت في هامش بعض نسخ الخلاف لبعض الأفاضل الأعلام نقل العبارات الآتية عن سيّدنا الاُستاذ المحقّق الطباطبائي دام ظلّه وعلاه، اُحبّ نقلها بلفظه في المقام توضيحا لما أفاده في مجلس البحث، وهذا لفظه: «أقول: أمّا المسألة الاُولى فقد وردت فيها أخبار الفرقة وعليه إجماعهم كما ذكره. وأمّا الثالثة فلم نجد عليها نصّاً لا في كتابه ولا في غيره، ولا أفتى بها فقيهٌ. نعم، يوجد في کلام بعض المتأخّرين تجويزها تمسّكاً بإطلاقات ما دلّ على فضل الجماعة، فإنّها تعمّ الجماعة في الكلّ والبعض، وبأخبار الاستخلاف حيث إنّ الصلاة تصير فرادى ثم جماعةً. وهو استنباطٌ ضعيفٌ؛ لأنّ الإطلاقات واردة لبيان جهة اُخرى، وصيرورة الصلاة فرداً في مورد الاستخلاف ممنوعة. وأمّا الثانية، فلم نجد فيها خبراً سوى ما رواه الحلبي وعلي بن جعفر في جواز تسليم المأموم قبل الإمام عند عروض الحاجة، وإثباتها به محلّ إشكال لاختصاصه بالتسليم وبمورد العذر، مع أنّه ليس من العدول إلى الانفراد بل أتى ببعض الأقوال من الصلاة قبل الإمام وتمّت صلاته قبله، لأنّ ما قدّمه كان آخر أفعالها. حسين ط». [منه دام ظلّه العالي].
4- انظر من روايات الاستخلاف في تهذیب الأحکام (الطوسي، ج3، ص283 – 284، ح 843). وأمّا رواية عليّ بن جعفر، فهي سؤاله عن أخيه موسى بن جعفر(عَلَيْهَا السَّلاَمُ) عن الرجل يكون خلف إمام فيطول في التشهد فيأخذه البول، أو يخاف على شيء أن يفوت، أو يعرض له وجع كيف يصنع؟ قال: «يسلّم وينص_رف ويدع الإمام». الطوسي، تهذيب الأحکام، ج3، ص283، ح 842 .

صلاة المؤتمين بعد صيرورتها فرادى بسبب عروض عارضٍ للإمام تصير جماعةً لصحة ائتمامهم فيما بقي من الصلاة بمن استخلفه الإمام السابق أو استخلفوه بمقتض_ى هذه الروايات. واستفاد حكم الفرع الثاني وهو جواز العدول من الجماعة إلى الفرادى من صيرورة صلاة المؤتمّين بالإمام الّذي حدث له حادث فرادى بعد حدوث الحادث.

والحاصل: أنّ الشيخرحمه الله في هذه المسائل تمسّك بالإجماع مع وضوح عدم وجود مستندٍ له لقول الإمام إلّا الأخبار، وما جعله مدركاً لحكم هذه المسائل، ومبنی دعوى الإجماع ليس إلّا أخبار الاستخلاف.

فظهر من جميع ما ذكر أنّ اشتمال الإجماع على قول الإمام وكونه معتبراً من حيث المنكشف ليس منحصراً في استماع قول الإمام في ضمن استماع أقوال جماعة لا يعرفهم بأعيانهم، ولا غير هذا الوجه ممّا قيل بكونه كاشفاً عن رأي الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في زمن الغيبة.

ص: 193

ص: 194

فصل: في حجّية الشهرة

ممّا قيل بحجّيته ومنجّزيته بالخصوص: الشهرة الفتوائية.

واستدلّ على حجّيتها بمرفوعة زرارة،((1)) ومقبولة عمر بن حنظلة.((2))

والاستدلال بالمرفوعة مبنيٌّ على كون المراد من قوله: «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر» مطلق المشهور فتوىً كان أو روايةً. أو على كون إناطة الحكم بالاشتهار دليلاً على حجّيته في نفسه.

وأمّا المقبولة، فوجه الاستدلال بها: أنّ المراد بالمجمع عليه المأمور بأخذه بقرينة قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور» ليس ما يكون كذلك حقيقةً، بل ما يكون كذلك عرفاً ومسامحةً، فيكون التعليل المذكور في الرواية وهو قوله( علیه السلام): «فإنّ المجمع

ص: 195


1- وهي: عن زرارة، قال: قلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما نعمل؟ قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر»، قلت: يا سيّدي إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم، قال(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «خذ بما يقوله أعدلهما...» الحديث.
2- عن أبي عبد الله (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في حديث: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه... » الحدیث. الکلیني، الكافي، ج1، ص67 _ 68 ، ح10؛ الطوسي، تهذيب الأحکام، ج6 ، ص301-303، ح 845 ؛ الصدوق، من لا یحضره الفقيه، ج3، ص10، ح2؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضي، ج27، ص106، ب 9، ح 1.

عليه لا ريب فيه» دالّا على كون المشهور مطلقاً ممّا يجب العمل به. ومع ما ذكر لا اعتناء بكون مورد التعليل الشهرة في الرواية.

وقد أجاب الشيخرحمه الله عن الاستدلال بالرواية الاُولى: بأنّه يرد عليه، مضافاً إلى ضعفها حتى أنّه ردّها من ليس دأبه الخدشة في سند الروايات كالمحدّث البحراني: أنّ المراد بالموصول ليس إلّا خصوص الرواية المشهورة من الروايتين دون مطلق المشهور، ألا ترى أنّك لو سئلت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك؟ فقلت: ما كان الاجتماع فيه أكثر، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبية کلّ مكانٍ يكون فيه الاجتماع أكثر بيتاً كان أو سوقاً أو خاناً.

هذا مع أنّ الشهرة الفتوائية لا تتحقّق في طرفي المسألة، فقوله: «يا سيّدي إنّهما مشهوران مأثوران» أوضح شاهد على أنّ المراد الشهرة في الرواية الحاصلة، بأن تكون الرواية ممّا اتّفق الكلّ على روايته أو تدوينه، وهذا ممّا يمكن اتّصاف الروايتين المتعارضتين به.

ومن هنا يعلم الجواب عن الاستدلال بالمقبولة، وأنّه لا تنافي بين إطلاق المجمع عليه على المشهور وبالعكس حتى تص_رف أحدهما عن ظاهره بقرينة الآخر، فإنّ إطلاق المشهور في مقابل الإجماع إطلاقٌ حادثٌ مختصٌّ بالاُصوليّين، وإلّا فالمشهور هو الواضح المعروف ومنه «شَهَر فلان سيفه» فالمراد أنّه يؤخذ بالرواية الّتي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحدٌ منهم، ويترك ما لا يعرفه إلّا الشاذّ ولا يعرفه الباقي.((1)) هذا ملخّص ما أفاده الشيخ(قدس سره).

وتوضيح الكلام وبيان ما هو الحقّ في المقام يقع في مقامين:

ص: 196


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص65 - 66 .

المقام الأوّل: في ما هو أوّل المرجّحات، فهل هو الشهرة الفتوائية أو الشهرة بحسب الرواية؟

والمقام الثاني: في حجّية الشهرة الفتوائية _ ولو لم تكن على طبقها روايةٌ _ وعدمها.

أمّا المقام الأوّل: فيمكن أن يدّعى أنّ الإرجاع إلى ما هو المجمع عليه وأخذه في مقابل الشاذّ إن كان بملاحظة كون الرواية ممّا اتّفقوا على روايتها أو تدوينها _ كما ذكره الشيخ(قدس سره) أثناء کلامه _ وإن كان ربما يستظهر خلافه ممّا ذكره ثانياً في ذيل کلّامه بقوله: «فالمراد أنّه يؤخذ بالرواية الّتي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحدٌ منهم»؛ فإنّ معرفة الرواية وعدم إنكارها ظاهرٌ في كون مضمونها كذلك، إلّا أنّ الحقّ موافقة ما أراده من هذه العبارة مع عبارته الاُولى.

فيمكن دعوى عدم استقامة ما يستفاد من الرواية بحسب هذا البيان، فإنّ المراد من المجمع عليه إن كان اتّفاق الكلّ على روايته وتدوينه فيجب ترجيح الرواية به ولو كان الخبر المشهور بحسب الرواية شاذّاً بحسب الفتوى بأن كان رأي أكثر الأصحاب على خلافه وبطلان مضمونه، ومثل هذا لا ينبغي أن يكون مرجّحاً. والشاهد على ذلك التعليل المذكور في الرواية وهو قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» فإنّ ما يصحّ أن يتّصف بكونه ممّا ليس فيه ريبٌ هو مضمون إحدى الروايتين لا لفظها.

إن قلت: إنّ هذا مخالف لظاهر الرواية، فإنّ الظاهر من لفظ المجمع عليه ما اتّفق عليه الكلّ من إحدى الروايتين، وهو يتّفق في الرواية لإمكان اتّفاقهم في روايتها أو تدوينها مع رواية بعضهم ما يعارضها أيضا، ولا يتّفق ذلك في الفتوى لعدم إمكان اتّفاق الكلّ على رأي مع كون رأي بعضهم غيره.

قلت: المراد بكون المجمع عليه ليس اتّفاق الكلّ لعدم وجود رواية بهذه الصفة، ولو وجدت فليس ممّا يعتنى بشأنه لقلّته، وليست في الأخبار المتعارضة رواية اتّفق

ص: 197

جميع القدماء على تدوينها أو روايتها. فالمراد من المجمع عليه والمشهور أن تكون الرواية بحسب المضمون أو بحسب اللفظ بحيث يعرفها هذا الراوي وذاك الراوي وغيرهما من الرواة، بخلاف الشاذّ فإنّه ممّا لا يعرفه هذا الراوي وذاك وغيرهما من الرواة ولكن يعرفه الشاذّ من الرواة دون غيره.

فإن قلت: يمكن أن يكون مورد الرواية ممّا توافق فيه الشهرة الفتوائية والروائية، فلا مجال لحملها على الاُولى والقول بكونها بنفسها أوّل المرجّحات.

قلت: ما هو الملاك في الحكم بالترجيح ليس إلّا الشهرة في الفتوى دون غيرها، لكونه بالنسبة إليها كالحجر بجنب الإنسان، فالشهرة الفتوائية مرجّحةٌ سواءٌ كانت الرواية مشهورةً أم لا.

إن قلت: إنّ هذا الاستظهار خلاف ما ذكر في الرواية وهو كون الخبرين مشهورين لعدم إمكان كونهما مشهورين بحسب المضمون، وهذا بخلاف الشهرة في الرواية لإمكان كونهما مشهورين وممّا اتّفق الكلّ على روايته وتدوينه.

قلت: إنّ الخبرين مشهوران بحسب المضمون إذا كان مضمون کلّ واحدٍ منهما ممّا أفتى به كثيرٌ من الأصحاب وكان معروفاً عندهم بحيث لا يكون من الأقوال والآراء الشاذّة.

هذا ملخّص الكلام في المقام الأوّل وهو: كون الشهرة في المضمون أوّل المرجّحات وهو مطابق لعمل الفقهاء؛ فإنّهم يأخذون في مقام التعارض بالخبر الّذي يكون مشهوراً بحسب المضمون.

وأمّا المقام الثاني: وهو حجّية الشهرة الفتوائية ولو لم تكن على طبقها رواية.

فيمكن أن يقال بعد ما ذكرنا أنّه لا دخل لوجود الخبر في مرجّحية الشهرة بل هي بنفسها كذلك، كما هو مقتضى التعليل المذكور في قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»، فإنّ الشهرة ممّا لا ريب فيه، ولا دخالة لوجود الخبر وعدمه في كونها هكذا.

ص: 198

إن قلت: فعلى هذا، يلزم أن تكون مخالفة العامّة أيضاً كذلك؛ فإنّ وجوب الأخذ بما خالفهم أيضاً معلّل بأنّ فيه الرشاد وأنّ الرشد في خلافهم، كما في غير هذه الرواية، ولا دخل لكون الرشد في خلافهم بين وجود الخبر وعدمه، فلو دار الأمر بين الأخذ بفتوى الموافق لهم وفتوى المخالف لهم يجب الأخذ بفتوى المخالف.

قلت: ما ذكرت إنّما يتوجّه إذا كانت فتوى المخالف للعامّة متعيّنة، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة وكان أحدهما مخالفاً لهم والآخر موافقاً. أمّا مع عدم كونها متعيّنة لاحتمال كون الفعل الّذي هو بحسب الفتوى الموافقة لهم حرامٌ واجباً كان أو مباحاً أو مكروهاً أو مستحبّاً، فلا يمكن الإحالة إليه، وهذا بخلاف فتوى المشهور فإنّها تكون بنفسها متعيّنة، هذا.

ولكنّ الظاهر عدم صحّة إلغاء الخصوصية بالمرّة. نعم، لا مانع من إلغاء خصوصية كون الخبر الّذي يكون مشهوراً بحسب المضمون «أحد الخبرين المتعارضين» فلو لم يكن منهما يجب العمل به أيضاً ويكون حجة إذا كان مشهوراً بحسب المضمون. ولكن يشكل القول بكون الاشتهار بحسب المضمون بنفسه حجّة ولو لم يكن على وفاقه خبرٌ، لاحتمال دخالة وجود الخبر في حجّيته.

وبهذا يمكن الاستدلال على ما يتكرّر كثيراً في کلام متأخّري المتأخّرين من جبر ضعف السند بفتوى المشهور ولو لم يستندوا في فتواهم إلى هذا الخبر الضعيف. فالاشتهار بحسب المضمون يكون جابراً لضعف سند الخبر وسبباً لحجّيته ووجوب الأخذ به.

هذا، ويمكن أن يقال في مقام حجّية الشهرة: إنّ الفتاوى المذكورة في الكتب الفقهية على ثلاثة أقسام:

إحداها: الفتاوى المتلقّاة بنفسها من المعصوم الّتي لا يعمل في معرفتها استنباط ولا يتوسّط النظر في فهم ما اُريد منها.

ص: 199

ثانيتها: الفتاوى المتلقّاة من المعصوم الّتي لابدّ من إعمال النظر والاستنباط في معرفتها، لوجود الإجمال والإبهام فيها.

ثالثتها: الفتاوى التفريعية، والفروع الّتي تستنبط من الاُصول الأوّلية الفقهية.

ولا ريب في عدم حجّية الشهرة في المسائل التفريعية الّتي لم يرد فيها نصٌّ بالخصوص، وإنّما استنبطوا حكمها من الروايات والأخبار الواردة عنهم(علیهم السلام) بسبب إعمال النظر والاستنباط.

وكذا لا حجّية في الفتاوى المتلقّاة الّتي تكون من القسم الثاني؛ فإنّها تكون بمنزلة محفظةٍ حاويةٍ لأشياء كثيرةٍ أخذتها الرواة وأوصلوها إلينا يداً بيد، فعلينا فتح باب هذه المحفظة وتحصيل العلم بما فيها من الذخائر والمطالب.

وأمّا في الفتاوى المتلقاة الّتي تكون من القسم الأوّل، فعدم الاعتناء بفتوى المشهور من القدماء فيها في غاية الإشكال؛ فإنّ ديدنهم ودأبهم في كتبهم ليس إلّا ذكر الأحكام الصادرة عنهم(علیهم السلام) من دون إعمال النظر واستعمال الاستنباط، بل لا يتجاوزون في مقام ذكر الفتوى الألفاظ الواردة في الروايات.

نعم، قد عدل الشيخ(قدس سره)((1)) عن هذه الطريقة في كتابه المبسوط، لما ذكر في أوّله من أنّه كتبه دفعاً لإيراد العامّة علينا من خلوّ فقهنا عن المسائل التفريعية وسدّ باب الاجتهاد في مذهب الشيعة، من جهة كوننا من أصحاب النصّ.

ولأجل ما ذكر من استقرار عادتهم على ذكر الأحكام الصادرة عن المعصومين(علیهم السلام) في كتبهم من دون إعمال النظر والاجتهاد، ربما يقال بالنسبة إلى بعض كتبهم الفتوائية: بكون الفتاوى المذكورة فيها عبارات الروايات وألفاظها. فلو أفتى المشهور في مسألة

ص: 200


1- الطوسي، المبسوط، ج1، ص3.

على أحد طرفيها، بل أفتى عدّة منهم كابني بابويه والشيخين وأمثالهم، فليس للفقيه عدم الاعتناء بفتواهم والجرأة على مخالفتهم؛ فإنّ اشتهار المسألة عندهم كاشف عن وجود دليلٍ معتبرٍ، خصوصاً لو ضمّ إلى ذلك دقّتهم في الفتاوى وعثورهم على الجوامع الأوّلية الّتي ليست بأيدينا.

ومع ذلك کلّه، لا ينبغي الاغترار بمجرّد ذلك والأخذ بكلّ شهرةٍ في کلّ مسألة، بل يجب الوقوف والتأمّل عند الموارد والمسائل بحسبها، وتتبّع کلمات القوم والتدبّر فيها.

والله تعالى أعلم بالصواب، ونسأل منه التوفيق والعصمة عن السيّئات، ونعوذ به من کلّ زلّةٍ وسوءٍ في الدنيا والآخرة، ونسأله أن يحفظ ديننا، ويرزقنا العلم والعمل، ويغفر لنا ولأساتيذنا ولوالدينا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان، ويصلّي على محمدٍ وآله الطاهرين.

ص: 201

ص: 202

فصل: في دليل الانسداد

اشارة

إعلم: أنّ دليل الانسداد على ما أفاد الشيخ(قدس سره) مركّبٌ من أربع مقدّمات.((1)) وزاد عليها المحقّق الخراساني(قدس سره) مقدّمةً اُخرى وجعلها الاُولى منها.((2)) والشيخ(قدس سره) وإن لم يجعل هذه المقدّمة من المقدّمات إلّا أنّه ذكرها في ضمن کلماته، ولعلّ وضوحها هو السبب لعدم ذكرها فى ضمن المقدّمات. وزاد المحقّق المذكور على المقدّمة الرابعة ذكر ملاك حكم العقل بلزوم الموافقة الظنّية وهو: قبح ترجيح المرجوح على الراجح. وكيف كان، لابدّ لنا من ذكر هذه المقدّمات والكلام فيها، ثم بيان أصل دليل الانسداد إن شاء الله تعالى، فنقول:

الاُولى منها: العلم الإجمالي بثبوت تكاليف كثيرةٍ فعليةٍ في ال_شريعة (وهذه هي المقدمة الّتي أضافها المحقّق الخراساني(قدس سره).

ثانيتها: انسداد باب العلم والعلمي إلى كثيرٍ من هذه التكاليف.

ثالثتها: عدم جواز إهمالها وترك التعرّض لامتثالها.

ص: 203


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص111 - 112. وكذلك درر الفوائد (الخراساني، ج2، ص64).
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ص114 - 115.

رابعتها:((1)) عدم وجوب الاحتياط في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة. كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل الجاري في کلّ مسألةٍ، ولا إلى فتوى الّذي يرى انفتاح باب العلم.

أمّا عدم وجوب الرجوع إلى الاحتياط، فلأنّه موجبٌ لاختلال النظام وتعطيل الاُمور الاجتماعية الراجعة إلى مدنيّة نوع الإنسان. ولأنّه مستلزم للعس_ر والحرج المنفيّين، وعدم وفاء عمر المجتهد باستقصاء موارد الاحتياط وتعليمه المقلّدين، فإنّ طرق الاحتياط تختلف بحسب الوجوه والاعتبارات المختلفة، مثلاً في التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ما يقتضيه الاحتياط في نفسه هو ترك التطهير به، لكن إذا لم يكن له غير هذا الماء فالأحوط التطهير به مع التطهير بالتراب. وأيضاً إذا لم يكن له غير هذا الماء ولم يجد التراب فالأحوط التطهير به وأداء الصلاة وقضاؤها مع التطهير بغيره من المياه، وهكذا. فيختلف الاحتياط في المسألة بحسب الوجوه المتصوّرة. وهذا ممّا لا يمكن استقصاؤه للمجتهد والمقلّد. هذا مضافاً إلى إجماع العلماء على عدم وجوب الاحتياط.

لا يقال: إنّ إجماعهم لو كان فليس في صورة الانسداد بل هو قائمٌ على عدم وجوبه في حال الانفتاح.

فإنّه يقال: لا فرق في ذلك بين الحالتين وإن كان ليس لهم تص_ريح بذلك في حال الانسداد، إلّا أنّ الإجماع التقديري قائمٌ على ذلك، فإنّه لا شكّ في أنّه لو سئل کلّ واحد منهم عن وجوب الاحتياط في حال الانسداد أيضاً لما أفتى إلّا بعدم وجوبه.

وأمّا الرجوع إلى الأصل الجاري في کلّ مسألةٍ، فلا يجوز لمنافاته مع علمنا الإجمالي.

وأمّا الرجوع إلى الغير، فهو أيضاً لا يجوز لكونه من قبيل رجوع العالم إلى الجاهل دون العكس، كما هو واضح.

ص: 204


1- وهي الثالثة في الفرائد، وتوضيحها في ص118.

خامستها: أنّه بعد الحكم ببطلان لزوم الاحتياط، وهكذا الرجوع إلى الأصل الجاري في کلّ مسألة أو إلى من كان يرى انفتاح باب العلم، يستقلّ العقل حينئذٍ بلزوم الإطاعة الظنّية لتلك التكاليف المعلومة، وإلّا لزم الحكم بكفاية الامتثال الشکّي والوهمي مع التمكّن من الموافقة الظنّية، وهو باطلٌ لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

والأولى أن يقال في بيان هذه المقدّمة: بأنّه بعد بطلان الرجوع إلى الاحتياط أو الأصل الجاري أو إلى تقليد غيره ممّن يرى باب العلم أو العلمي منفتحاً، يحكم العقل بلزوم الموافقة الظنّية وعدم الاكتفاء بالموافقة الشکّية أو الوهمية لا لقبح ترجيح المرجوح على الراجح لعدم كون قبحه معلوماً، بل لاستقلال العقل باستحقاق عقاب تارك الموافقة الظنّية لو وقع في المخالفة وعدم استحقاقه في صورة ترك الموافقة الشكّية والوهمية مع وجود الإطاعة الظنّية إذا دار الأمر بين الموافقة الظنّية وبين الموافقة الشکّية والوهمية.

فإن قلت: إنّ مقتضى ذلك كما أفاد الشيخ(قدس سره) ليس إلّا عدم جواز ترك المخالفة الوهمية، إلّا أنّه لا يقتضي الاكتفاء بالموافقة الظنّية وترك الموافقة الشکّية، فلا محيص عن الاحتياط في جانب الموافقة الظنّية والشكّية وتركه بالنسبة إلى الوهمية.

قلت: نعم، ذلك صحيح إن لم تستلزم مراعاة الاحتياط بالنسبة إلى الإطاعة الشکّية العسر والحرج المنفيّين واختلال النظام مع أنّها كذلك لكثرة مواردها، هذا.

ولكن يمكن منع كون مراعاة الاحتياط في الموارد المشكوكة مستلزماً للعس_ر والحرج، كما أفاد الشيخ(قدس سره).((1))

أقول: يمكن أن يقال جواباً عن استدلالهم بدليل الانسداد لحجّية مطلق المظنّة: بأنّ

ص: 205


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص125.

المراد من العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرةٍ فعليةٍ في الش_ريعة إن كان العلم بأنّ الشارع کلّفنا بتكاليف بعثيةٍ وزجريةٍ كثيرةٍ مجهولةٍ، وأراد انزجارنا عن أفعالٍ خاصّةٍ وانبعاثنا نحو أفعالٍ خاصّةٍ اُخرى بحيث لا يرضى بتركها على کلّ حال، فلازمه وجوب الاحتياط، لما قد ذكرنا سابقاً من أنّه إذا علم إجمالاً بتعلّق تكليفٍ زجريٍّ أو بعثي من جانب المولى وتردّد متعلّقه بين أمرين أو اُمورٍ فإمّا أن يكون الامتثال الإجمالي اليقيني مقدوراً للمكلّف ويكون متمكّناً من فعل کلّ واحد منها، أو لا يكون مقدوراً له. فعلى الأوّل يجب بحكم العقل الامتثال القطعيّ الإجمالي. وأمّا على الثاني فلو لم يمكن له التعرّض للامتثال أصلاً ولو بنحو الإجمال يكون في وقوعه في المخالفة القطعية معذوراً، لعدم تمكّنه لا من الموافقة القطعية ولا الاحتمالية منها؛ وإن كان متمكّناً من الموافقة الاحتمالية فيجب عليه بحكم العقل تحصيلها، فلو تركها واتّفق وقوعه في المخالفة يستحقّ العقوبة، كما أنّه لو أتى بالامتثال الاحتمالي ووقع مع ذلك في المخالفة يكون معذوراً. هذا إذا كان کلّ واحدٍ من الطرفين مساوياً.

وأما إذا كان احتمال كون التكليف في طرف أرجح، فلابدّ بحكم العقل من الإتيان بالراجح دون غيره. ولو أتى بالمرجوح ولم يأت بالراجح واتّفق وقوعه في مخالفة المولى فلا مانع من عقابه من طرف المولى عقلاً. ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان العلم متعلّقاً بتكليفٍ مردّد بين امورٍ أو تكاليف مردّدةٍ بين اُمورٍ.

وإن كان المراد من العلم الإجمالي العلم الإجمالي بتعلّق إرادة الشارع بانبعاث العبد نحو هذه الأفعال الخاصّة وانزجاره عن أفعال خاصّةٍ اُخرى، لكن بقدر ما يقتض_ي طبع کلّ حكمٍ من غير عروض عارض له وطروّ طارئ عليه، كاختفائه وعدم تعلّق علمنا به تفصيلاً، فلازمه عدم وجوب الاحتياط.

نعم، يمكن أن يكون المراد العلم الإجمالي بهذه التكاليف لا على النحو الأوّل

ص: 206

ولا على النحو الثاني، بل بنحو لا يرضى الشارع بتركها بالمرّة وعدم التعرّض لامتثالها أصلاً.

وعلى کلّ حالٍ بعد تسليم وجود العلم الإجمالي بتكاليف كثيرة ووجوب التعرّض لامتثالها، وعدم وجوب الاحتياط بل عدم إمكانه في الجملة بمقتض_ى المقدّمة الرابعة، ووجوب الامتثال الإجمالي الظنّي بمقتضى المقدّمة الخامسة، نقول: إنّا بعد الورود في الفقه ومراجعتنا إلى موارد قيام الطرق والأمارات _ من ظاهر الكتاب وخبر الواحد والشهرة وغيرها _ يحصل لنا الظنّ بوجود التكاليف المعلومة بالإجمال في موارد قامت الطرق والأمارات عليها، فتجب رعاية الاحتياط في هذه الموارد.

ويمكن أن يقال: بأنّا نمنع العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرةٍ في مؤدّيات الطرق والأمارات وغيرها، بل ما يحصل للمتتبّع المتفحّص في كتب الأخبار هو العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرةٍ في مؤدّيات الطرق والأمارات المعتبرة دون غيرها؛ فإنّ منشأ العلم الإجمالي ليس إلّا ملاحظة تلك الروايات والآيات الدالّة على وجود أحكامٍ كثيرةٍ من الواجبات والمحرّمات، فلا منشأ للعلم الإجمالي الكبير، بل ما يحصل عند تفحّص كتب الأخبار والآيات الراجعة إلى الأحكام ليس إلّا العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرةٍ في مورد هذه الآيات والأخبار وغيرها من مؤدّيات الطرق والأمارات المعتبرة، ولازمه لزوم الاحتياط في هذا المقدار دون غيره.

ويمكن أن يقال أيضاً: بانحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير، فإنّ بعد مراجعة كتب الأخبار وغيرها من الطرق والأمارات المعتبرة يحصل لنا العلم بوجود تكاليف كثيرةٍ في مؤدّيات هذه الطرق بمقدارٍ يمكن انطباق ما علم إجمالاً أوّلاً عليه، فينحلّ العلم الإجمالي الكبير بهذا العلم الإجمالي الصغير، ولازمه لزوم الاحتياط في موارد الطرق والأمارات المعتبرة، وعدم مانع من إجراء الاُصول في غير هذه الموارد.

ص: 207

ولا يخفى عليك: ما في هذا البيان من الفرق بينه وبين انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، من جهة نهوض الأدلّة على حجّية الظنون الخاصّة الوافية بمعظم الفقه بمقدار يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليه، فينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي والشكّ البدويّ في غير مؤدّيات الظنّون الخاصّة؛ فإنّ لازم هذا البيان العمل بمقتض_ى الطرق والأمارات المعتبرة بدليلٍ خاصٍّ، ولازم البيان الأوّل هو الاحتياط. هذا کلّه بالنسبة إلى المقدّمة الاُولى والثانية.

وأمّا المقدّمة الثالثة: فما جعلوه دليلاً على عدم جواز ترك التعرّض لامتثال التكاليف من لزوم الخروج من الدين.((1)) فإن كان مرادهم كون ذلك بمنزلة كبرى کلّيّةٍ محرّمةٍ، فليس له معنى محصّلاً، لعدم كون ذلك محرّماً من المحرّمات. وإن كان مرادهم أنّ تارك التعرّض لامتثال هذه التكاليف المعلومة بالإجمال يعدّ عند العرف خارجاً من الدين، فهو يرجع إلى دعوى الضرورة على وجود التعرّض لامتثال الأحكام.

وأمّا المقدّمة الرابعة: ففي الإجماع التقديريّ المدّعى لعدم وجوب الاحتياط التامّ:((2)) أنّ الإجماع يجب أن يكون مدركاً لحصول العلم، وفي ما نحن فيه جعل العلم مدركاً لتحقّق الإجماع. ودعواه على هذا النحو يرجع إلى دعوى وضوح ذلك بحيث لو سئل من المصنّفين والعلماء لأجابوا كذلك، وهذا ليس استدلالاً بالإجماع، بل هو استدلال بالضرورة والوضوح، ويمكن إنكاره من جانب الخصم.

وأمّا الاستدلال له بأنّ الاحتياط يوجب اختلال النظام. فبالنسبة إلى الاحتياط التام لا کلام فيه. وأمّا فيما لا يوجب ذلك، فقد استدلّ الشيخ(قدس سره) بقاعدة نفي العس_ر

ص: 208


1- الأنصاري، فرائد الاُصول (المقدّمة الثانية) ص113. وقال: إنّه تعبير في لسان بعض مشايخه.
2- الأنصاري، فرائد الاُصول (المقدّمة الثالثة)، ص118 .

والحرج((1))، فإنّ المستفاد من أدلّتها عدم وجود العسر والحرج في الإسلام، ولازم ذلك عدم وجود حكم يستلزم الحرج والع_سر في الإسلام ووجود أحكام لولاها تحقّق العسر والحرج.

وأمّا المحقّق الخراساني(قدس سره) فاختار أنّ المستفاد من أدلّتها وكذا أدلة نفي الض_رر إنّما هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع،((2)) فيكون مفادها نفي الحكم المترتّب على موضوع قد يكون ضرريّاً أو حرجيّاً وقد لا يكون بلسان نفي هذا الموضوع.

ولقائل أن يقول: إنّ أدلتها لو كانت في مقام نفي الحكم بلسان نفي الموضوع لكان مفادها نفي الحكم المترتّب أو المترقّب لموضوع العسر والحرج بلسان نفي أصل العس_ر والحرج، وفساده واضح.

ولا يقاس المقام بقوله في حديث الرفع: «ما استكرهوا عليه، وما اضطرّوا إليه»، فإنّ حرف الموصول للإشارة إلى صلتها. وقد قلنا بأنّ الفرق بين «ما» الموصولة والموصوفة هو: أنّ الاُولى معناها ما يعبّر عنه بالفارسية ب_ «آن چيز» والثانية ب_ «چيزى». وكيف كان، ليس ما نحن فيه من قبيل رفع ما استكرهوا عليه وما اضطرّوا إليه.

فالتحقيق: أنّ ما أفاده الشيخ(قدس سره) هو الحقّ والأظهر، كما لا يخفى. هذا کلّه فيما يتعلّق بالمقدّمة الاُولى والثانية والثالثة (والرابعة على مختار المحقّق الخراساني(قدس سره)).

وأمّا الكلام في المقدمة الرابعة (والخامسة على مختار المحقّق المذكور)، فنقول _ بعدما بيّناه من انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير _ : لا حاجة إليها لوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي الصغير أي مؤدّيات الطرق والأمارات الخاصّة.

وهكذا الكلام بالنسبة إلى المقدّمة الخامسة، ولا حاجة في الحكم بلزوم الإطاعة

ص: 209


1- الأنصاري، فرائد الاُصول (المقدّمة الثالثة، ص118).
2- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص118.

الظنّية وعدم الاكتفاء بالشكّية والوهمية بقبح تقديم المرجوح على الراجح؛ فإنّ نفس كون العبد مستحقّاً للعقاب _ في صورة الأخذ بالتكاليف المشكوكة والموهومة دون المظنونات _ من المستقلّات العقلية، فلا يحتاج استحقاقه للعقاب إلى قاعدة اُخرى تكون ملاكاً لحكم العقل، لعدم الفرق بين المقام وبين سائر المستقلّات العقلية.

هذا مضافاً إلى أنّ قبح تقديم المرجوح على الراجح لو كان من المستقلّات العقلية فإنّما هو في قبح تقديم المرجوح الخارجي على الراجح الخارجي، كما إذا أمر المولى عبده بإعطاء درهمٍ لشخصٍ وتردّد بين عمرو الفاضل العادل وبين زيدٍ الّذي ليس بعالمٍ، فأعطى زيداً وفضّل المفضول على الفاضل، وأمّا تقديم المرجوح الذهني على الراجح الذهني مثل ما نحن فيه، فليس قبيحاً.

وكيف كان، لا حاجة إلى ذلك بعد استقلال العقل بصحّة مؤاخذة المولى عبده على المخالفة في صورة الاكتفاء بالموافقة الوهمية أو الشكّية وترك الإطاعة الظنّية.

ثم اعلم: أنّه على تقدير تمامية المقدّمات، فليس مقتضاها إلّا تبعيض الاحتياط؛ لكون العلم الإجمالي منجّزاً ومقتضياً للاحتياط في جميع الأطراف إلّا أنّ محذور اختلال النظام ولزوم العسر والحرج المنفيّين صار سبباً لرفع اليد عن الاحتياط التامّ وتبعيضه في المظنونات في الموارد الّتي قامت الطرق والأمارات على التكليف فيها بناءً على انحلال العلم الإجمالى الكبير بالصغير، أو مطلق المظنونات لو لم نقل بانحلاله، لا حجّية المظنّة كالقطع، لعدم إفادة المقدّمات حجّية الظنّ رأساً كالعلم.

فما ربما يدّعى أنّه يستفاد من بعض کلمات الشيخ(قدس سره) من كون مفاد دليل الانسداد _ على تقدير تماميته _ حجّية المظنة، وأمّا لو قلنا بعدم تمامية دلالته على رفع اليد عن الاحتياط التامّ إلّا بقدر ما يوجب العسر والحرج لا مطلقاً، فيجب تبعيض الاحتياط في جانب المشكوكات أيضاً.

ص: 210

فليس بظاهره مستقيماً؛ لأنّ عدم رفع اليد عن الاحتياط رأساً لازم العلم الإجمالي من غير فرق بين القول بلزوم العس_ر والحرج واختلال النظام في مراعاته في الموارد المشكوكة والموهومة أو في مراعاته في الموارد الموهومة خاصّةً، فتدبّر.

تقريرٌ آخر لدليل الانسداد

تقريرٌ آخر لدليل الانسداد((1))

إعلم: إنّ الّذي ينبغي أن يقال: إنّ تقرير دليل الانسداد بهذا النحو الّذي استقرّت عليه عادة متأخّري المتأخّرين ليس مناسباً للش_ريعة الكاملة الإسلامية، وإنّما يكون مناسباً لشريعةٍ تكون جميع أحكامها راجعة إلى الاُمور العباديّة وما هو وظيفة العبد فيما بينه وبين خالقه، كش_ريعة المسيح الّتي ليست فيها أحكام راجعةٌ إلى السياسات والانتظامات وقطع المحاكمات والمنازعات وغيرها من شؤون الحياة الاجتماعية والانفرادية؛ فإنّ المقدّمة الثانية _ وهي عدم جواز إهمال تلك التكاليف المعلومة بالإجمال وترك التعرّض لامتثالها _ لا تناسب إلّا شريعةً كانت جميع أحكامها أو أكثرها راجعاً إلى العبادات، لا مثل الش_ريعة الإسلامية الجامعة الكافلة لجميع ما يحتاج إليه نوع الإنسان في أمر معاشه ومعاده وسياساته ومعاملاته وغيرها، فإنّ أكثر تلك الأحكام ليست من الاُمور العبادية المحضة حتى نجعل أنفسنا بالنسبة إليها كالرهبان ونستدلّ لعدم جواز ترك التعرّض للامتثال.

وهكذا المقدّمة الثالثة _ وهي استلزام الاحتياط والامتثال الإجمالي لل_عسر والحرج مع وجوبه لولا استلزامه لهما _ فإنّه لا معنى للاحتياط في الأحكام الراجعة إلى المعاملات والمرافعات وإجراء الحدود والديات والقضاء وغيرها.

ص: 211


1- وهو مناسب لمسلك القدماء، وقدّ من علينا سيّدنا الاُستاذ أدام الله ظلّه وعلاه ببيانه وتحقيقه، وكم له من مثل هذه الفوائد الجليلة في الاُصول والفقه وغيرهما من العلوم ممّا لعلّه لم يتفطّن إليها غيره من معاصريه بل المتأخّرين. (منه دام ظله العالی)

ولذا ليس في لسان من تقدّم على المحقّق جمال الدين الخوانساري(قدس سره) ذكر هذه المقدّمات((1)). فما هو المناسب لشريعتنا في تقريره، وهو مذكور في کلام من تعرّض لهذا الدليل قبل المحقّق المذكور: أنّ مقت_ضى آية النفر وأشباهها من الآيات كآية الكتمان وغيرها، والأخبار الكثيرة: وجوب تعلّم الأحكام وتعليمها ووجوب الاستفتاء والإفتاء والقضاء، وأنّ صاحب الش_ريعة لم يجعل الناس في اُمورهم الدنيوية والاُخروية مطلق العنان ولم يرض بفوت فوائد أحكامه عن الناس، بل أوجب عليهم التعليم والتعلم حفظاً لتلك الفوائد وإيصالها للناس، فإذا انسدّ باب العلم بهذه الأحكام أو بطرقها المعلومة حجّيتها من جانب الش_رع، فإمّا أن يقال بالاكتفاء بالأحكام المعلومة المقطوعة المسلمة، فهو باطل بص_ريح هذه الآيات والروايات كقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) «بعثت أنا والساعة كهاتين»((2)) الدالّة على بقاء دين الإسلام إلى يوم القيامة، وغيرها من الروايات، فإنّ الاكتفاء بهذا المقدار القليل من الأحكام مرغوب عنه قطعاً لاستلزامه فوت جلّ فوائد الأحكام لو لم نقل بفوات كلّها عن الناس. وإمّا أن يقال بتحصيل تلك الأحكام ووجوب تعليمها وتعلّمها على نحو لا يكون القول به والإفتاء به قولاً بغير علمٍ، فهو لا يمكن إلّا من الطرق المتعارفة المتداولة الّتي لا يكون الإفتاء وتعليم الأحكام فيها إفتاءً بغير علمٍ لإطلاق العلم على مثل هذا في القرآن والأخبار كقوله تعالى: ﴿أَوْأَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾.((3))

ص: 212


1- يقول الشيخ الأنصاري(قدس سره): «لم يذكر صاحب المعالم وصاحب الوافية في إثبات حجّية الظنّ الخبري غير انسداد باب العلم، وأمّا الاحتمالات الآتية في ضمن المقدّمات الآتية من الرجوع بعد انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ إلى شيء آخر غير الظنّ فإنّما هي اُمور احتملها بعض المدقّقين من متأخّري المتأخّرين، أوّلهم فيما أعلم المحقّق جمال الدين الخوانساري حيث أورد على دليل الانسداد باحتمال الرجوع إلى البراءة واحتمال الرجوع إلى الاحتياط، وزاد عليها بعض من تأخّر احتمالات اُخر». الأنصاري، فرائد الاُصول، ص112.
2- السیوطي، الجامع الصغير، ج1، ص126؛ النووي، المجموع، ج4، ص516؛ المتّقي الهندي، كنز العمّال، ج14، ص190، 194-195، 547.
3- الأحقاف، 4.

فظهر أنّ مع انسداد باب العلم ووجوب التفقّه والتعلّم وحرمة الكتمان ووجوب الإفتاء وبيان حكم الله لابدّ من الرجوع إلى هذه الطرق المتداولة والقول بحجّيتها عند الشارع العالم ببقاء أحكامه إلى يوم القيامة.

والحاصل: أنّ تقرير دليل الانسداد على النحو المذكور في کلمات من تأخّر عن المحقّق الخوانساري ليس مناسباً للش_ريعة الإسلامية، وليس الكلام في أنّ للشارع أحكاماً فعلية ليس لنا إليها طريقٌ حتّى تصل النوبة إلى مقام الامتثال ووجوب الامتثال الإجمالي والاحتياط. بل ما هو مناسبٌ للشريعة الإسلامية الحاوية للأحكام التكليفية والوضعية بكثرتها الراجعة إلى جميع الشؤون الحياتية ويستفاد من كلمات من تعرّض لدليل الانسداد ممّن تقدّم على المحقّق الخوانساري(قدس سره) هو: أنّا إمّا أن نقول بفعلية الأحكام الش_رعية وإرادة الشارع انتفاع عبيده بفوائد هذه الأحكام أم لا، ولا سبيل إلى الثاني، فعلى الأوّل فإمّا أن نقول بفعلية خصوص ما قام عليه الطريق القطعي دون غيره أم لا، ولا سبيل إلى الأوّل لكونه مؤدّياً إلى فوت فوائد هذه الأحكام الكثيرة في جلّ أبواب الفقه ونقض غرض الشارع وهو انتظام اُمور الناس بسبب الرجوع إلى هذه الأحكام، ولذا أوجب على الناس التفقّه والتعليم وحرّم الكتمان، وعلى الثاني لابدّ أن يكون الطريق إلى إحرازها بعد انسداد باب العلم إلى جلّ الأحكام أو بطرقها المعلومة حجّيتها عند الشارع: الطرق المتعارفة الظنّية دون غيرها، لدوران الأمر بين فعلية ما قام عليه الطريق الظنّي ومتابعة الظنّ أو متابعة الوهم، ولا شكّ في كون العقل قاطعاً بحجّية الظنّ وعدم جواز الاكتفاء بالوهم.

ولا يخفى عليك: أنّ مع هذا البيان لا معنى للمقدّمة الثالثة وهي إبطال العمل بالبراءة، ولا المقدّمة الرابعة وهي إبطال الاحتياط، ولا معنى لدوران الأمر بين الامتثال الظنّي والشكّي والوهمي كما ذكر في المقدّمة الخامسة، فإنّه إنّما يتصوّر بالنسبة إلى جميع الأحكام بعد عدم إمكان الاحتياط والتعرّض للامتثال الشکّي والوهمي والظنّي.

وأمّا على ما ذكرنا فيدور الأمر في کلّ واقعةٍ بين الأخذ بالظنّ أو الوهم، فالمفتي والقاضي

ص: 213

والسائس في مقام الفتوى والقضاء وإجراء السياسة يدور أمره بين الأخذ بالطريق الظنّي أو الوهمي. ولا ريب في أنّ العقل قاطع بفعلية الحكم إذا قام عليه الطريق الظنّي.

وأيضاً لا حاجة إلى المقدّمة الاُولى _ وهي دعوى العلم الإجمالي بوجود تكاليف كثيرة _ لكون احتمالها أيضاً منجّزاً، هذا.

تنبيهات دليل الانسداد

اشارة

وهنا ينبغي التنبيه على اُمور:

التنبيه الأوّل: هل مقتض_ى التقرير الثاني لدليل الانسداد حجّية الظنّ من باب الكشف ومقام إحراز التكليف أو الحكومة ومقام الامتثال.

يمكن أن يقال: إن كان المراد من الكشف أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة تأسيساً لإحراز الواقع، فليس لازم هذا البيان حجّيته كذلك.

وإن كان المراد أنّه بعد بقاء فعلية الأحكام وعدم اختصاص فعليتها بصورة قيام الطريق القطعي على الحكم ووجوب الإفتاء والقضاء ورفع المخاصمات وإجراء السياسات، يقطع العقل بحجّية الظنّ وإمضاء حجيته للكشف عن الواقع من طرف الشارع من الصدر الأوّل. لا يقال: إنّ الانسداد في الأعصار المتأخّرة لا يلازم الانسداد في عص_ر الحضور والصدر الأول.

فإنّه يقال: لا فرق في الانسداد بين الأزمنتين، لو لم نقل بأنّ الوصول إلى الأحكام في زماننا أسهل من الأزمنة الماضية.

ثم إنّه لا يأتي على البيان الثاني في ردّ القول بالكشف ما أفاده الشيخ(قدس سره) في ضمن بيان المقدّمات الّتي ذكرها لدليل الانسداد:((1)) أنّ وجوب الامتثال وكيفيّته ليس أمره بيد

ص: 214


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص139.

الشارع بل العقل حاكمٌ بوجوب امتثال أوامر المولى على العبد، وتقدّم الإطاعة القطعية التفصيلية على الإجمالية وهي على الظنّية التفصيلية وإن كان يحتمل عدم تقدّمها عليها وكونها في عرضٍ واحدٍ، أو تقدّم هذه عليها وهما على الإطاعة الاحتمالية.

والمتراءى منه في ضمن کلماته كون نتيجة دليل الانسداد الحكومة لا الكشف.

وأفاد لبطلان كون النتيجة هي الكشف وجوهاً ثلاثة،((1)) نشير إليها في التنبيه الثالث.

والغرض هنا أنّ ما ذكره من كون العقل حاكماً بوجوب إطاعة المولى، لا ريب فيه؛ فإنّه ليس للإطاعة نفسيّةٌ واستقلالٌ حتى تكون موضوعاً للوجوب، فإنّها أمرٌ منتسبٌ إلى أمر المولى أو نهيه، وعبارةٌ عن إتيان الفعل بداعي أمر المولى، ومعه كيف يمكن الأمر بها ليصير ذلك الأمر داعياً للمكلّف، فيكون صيرورة هذا الأمر داعياً له معدماً لموضوع الإطاعة الّتي هي موضوع لذلك الأمر الثانوي. وأيضاً يحتاج في إثبات وجوب إطاعة الأمر الثاني إلى أمرٍ آخر بإطاعة هذا الأمر إلى أن يتسلسل، فيلزم أن يكون العاصي بترك الصلاة مثلاً مرتكباً لمعاصي كثيرةٍ.

والحاصل: أنّه لا معنى للأمر بالإطاعة مولوياً. نعم، لا مانع منه إرشاداً كقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَطيِعُوا الله﴾.((2)) ومن هنا يظهر بطلان القول بكلّية قاعدة الملازمة وهي: «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع».

فعلى هذا، ليس الحاكم بلزوم الامتثال إلّا العقل، وليس للشرع دخلٌ في ذلك. وإذا كان هو الحاكم بأصل لزوم الامتثال وقبح ترك إطاعة أمر المولى، فهو الحاكم أيضاً في كيفيّة الامتثال ومراتبه.

ولكن أنت خبيرٌ بأنّ هذا البيان _ وإن يقال قبال تقرير دليل الانسداد على ما ذكره

ص: 215


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص140.
2- آل عمران، 32 ، 132؛ النساء، 59؛ وآيات اُخرى.

المتأخّرون والقول بأنّ نتيجته الكشف _ لا يجيء على الوجه الصحيح _ الّذي قرّرناه في بيان دليل الانسداد _ فإنّا قد قلنا بأنّ الأحكام الش_رعية إمّا أن تكون فعليةً مطلقاً بمعنى: أنّ الشارع أراد ترتب منافعها عليها، وكونها مرجعاً للمكلفين في جميع اُمورهم، وملاكاً وميزاناً لدفع الاختلافات والمخاصمات، ووصول کلّ ذي حقّ إلى حقّه، ومبنى لحفظ النظام، وغيرها من الفوائد الدنيوية والاُخروية مطلقاً، أي ولو لم يكن إليها طريقٌ. وإمّا أن يقال بفعليّتها مع وجود الطريق إليها. ولا سبيل إلى الأوّل.

وعلى الثاني: فإمّا نقول بأنّ الشارع أراد انتفاع المکلّفين بهذه الأحكام إذا قام إليها طريقٌ قطعيٌ وثبت بالعلم والقطع، أم لا.

فعلى الأوّل، يلزم حرمانهم عن فوائد جلّ الأحكام وتفويت منافعها، ومن المقطوع أنّه لا يريد ذلك، فيدور الأمر بين أن يكون المرجع هو الطرق الظنّية المتعارفة، أو الرجوع إلى العقل، ولا ريب في تعيّن الأوّل. فإنّ الرجوع إلى العقل وكونه ملاكاً في استنباط الأحكام بالخرص والتخمين والاستحسان أمرٌ مرغوبٌ عنه وقبيحٌ شرعاً وعقلاً، قال الله تعالى: ﴿وَإنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبيلِ الله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ﴾.((1))

فلا مجال لتطرّق الاستحسانات والتخمينات العقلية في استنباط الأحكام الإلهية، فإنّ العقل قاصر عن الإحاطة بجميع المصالح والمفاسد، وإدراك تمام ملاكات الأحكام ومناطاتها. ألا ترى أنّ العالم الخبير في کلّ فنٍّ يرى إحالة إدراك بعض المطالب العالية الغامضة إلى الجاهل غير المطّلع على هذا الفنّ قبيحاً، ويرى حكومته وإظهار رأيه رجماً بالغيب والخرص والتخمين. فكيف إذا كان ذلك الأحكام الإلهية

ص: 216


1- الأنعام، 116.

الصادرة من منبع الوحي الكافلة لجميع مصالح البشر، وما لعقل الإنسان من الشأن والقدر حتى يكون له شأنية الردّ والقبول في ذلك. ولو كانت له هذه الأهلية فلا حاجة إلى بعث الأنبياء بالشرائع والأحكام.

فعلى هذا، ليس مفاد دليل الانسداد أزيد من حجّية الطرق الظنّية المتعارفة وإمضائها من قبل الشارع. وليس مرادهم من الاستدلال به إثبات مطلق الظنّ بحيث يكون واجباً على کلّ من يتصدّى للاستنباط والاجتهاد المراجعة إلى قلبه، فإن وجد منه الظنّ إلى طرفٍ دون آخر يأخذ بالطرف الراجح في نظره.

ومن هنا يظهر: أنّ إخراج الظنّ القياسي من تحت دليل الانسداد ليس محتاجاً إلى تجشّم الاستدلال؛ فإنّه خارج من الأوّل، لعدم كون المرجع العقل حتى تكون حجّية الظنّ القياسي داخلة، ولعدم كونه من الطرق الظنّية المتعارفة، وإنّما استند إليه العامّة لمكان قلّة الروايات المرويّة عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في الأحكام من طرقهم _ فإنّها لا تزيد عن أربعمائة حديث _ وتركهم التمسّك بقول العترة الّتي اُمروا بالتمسّك بها، فألجأهم ذلك إلى العمل بالقياس وهو: استفادة حكم ما لا رواية فيه عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) عن حكم أشباهه ونظائره ممّا ثبت حكمه عندهم بروايةٍ. وحيث إنّ ذلك أيضاً لا يفي باستنباط جميع الأحكام الراجعة إلى أبواب الفقه أضافوا على العمل بالقياس العمل بالاستحسان فيما ليس له شبيه ولا نظير في الروايات. وحيث إنّ العمل بالقياس ليس من الاستحسان المحض ورفع اليد عن النقل بالمرّة بزعمهم كان العامل بالقياس بينهم أكثر من العاملين بالاستحسان وإن كان لا فرق بينهما في البطلان لما ذكرنا من أنّ ذلك ليس من شأن العقل، وعدم اطّلاعنا على ملاكات الأحكام الش_رعية والمصالح والمفاسد بحسب الموارد المختلفة الّتي لا يعلمها كما ينبغي إلّا الله علّام الغيوب. فافهم واغتنم ما في هذا التنبيه.

ص: 217

التنبيه الثاني: عدم حجّية مطلق الظنّ

قد ظهر ممّا ذكرنا في تقرير دليل الانسداد وما ذكرنا في ضمن التنبيه السابق: أنّه ليس مفاد هذا الدليل طريقية مطلق الظنّ في إحراز الحكم، بمعنى أنّ کلّ أحد يرجع في إحرازه إلى نفسه ويأخذ بكلّ طرفٍ يكون راجحاً عنده مطلقاً. ولا طريقية مطلق الطريق الظنّي، ولا مطلق النقل من الشارع. بل المستفاد منه حجّية النقل الّذي تعارف الأخذ به بين العقلاء.

فإنّ القول بكون النتيجة طريقية مطلق الظنّ، مخالفٌ لما يستفاد من آية النفر وغيرها ممّا يدلّ على وجوب الفحص عن الأحكام ووجوب تحصيلها. مضافاً إلى أنّ نتيجة هذا الدليل ليست الرجوع إلى حكم العقل والاستحسانات والأقيسة.

وبالجملة: فلا يستفاد منه أزيد من طريقية النقل الّذي تعارف بين العقلاء الأخذ به؛ فإنّه بعد عدم كفاية النقل القطعي في إحراز الأحكام لابدّ من التنزّل إلى النقل الظنّي المتعارف الأخذ به عند العقلاء، كما لا يخفى.

فعلى هذا، لا حاجة لإخراج القياس عن نتيجة دليل الانسداد إلى بيان الوجوه السبعة. وقد ذكرنا في ذيل التنبيه السابق ما يناسب ذكره في ما يرجع إلى هذا التنبيه مفصّلاً.

التنبيه الثالث: نقاشٌ مع صاحب المعالم(قدس سره) والشيخ الأنصاري(قدس سره)

لا يخفى عليك: أنّ ما ذكرناه في تقرير دليل الانسداد مناسبٌ لما ذكره صاحب المعالم(قدس سره)، فإنّه في مقام ذكر أدلّة حجّية خبر الواحد جعل الدليل الرابع منها دليل الانسداد.((1)) فإنّه لا يستفاد منه أكثر من حجّية الخبر وإن كان يظهر من بعض عباراته كون الظنّ مرجعاً، فإنّه أفاد في ما إذا دار الأمر بين الأخذ بالخبر المفيد للظنّ والأخذ بالظنّ الأقوى منه بلزوم الأخذ بالظنّ الأقوى.

ص: 218


1- العاملي، معالم الدين، ص192.

ولكنّه ظهر لك ممّا فصّلناه _ من عدم كون الأحكام فعلية مطلقاً بل ومع قيام الطريق القطعي إليها، وأنّه لا تفاوت في انسداد باب العلم بين زماننا وعص_ر النبيّ والأئمّة(علیهم السلام) والأعصار المتقدّمة على عصرهم لو لم نقل بانفتاحه في زماننا بالنسبة إلى الأزمنة السابقة لسهولة العثور على الروايات بسبب جمعها مع الترتيب والتنظيم في الكتب المدوّنه بعدما لم تكن كذلك وكانت متفرّقة عند الرواة _ : أنّ الشارع أراد فعليّة أحكامه وانتفاع عبيده منها من طريق النقل الموجب للظن النوعي _ المعتبر عند العقلاء الاتّكال عليه _ لا مطلق النقل ولو لم يكن ناقله موثّقاً، أو ضابطاً، أو ولو كان ناقله ممّن يحصل له العلم والظنّ بما لم يحصل لغالب الناس، ولا مطلق الظنّ ولو كان حاصلاً من الاستحسانات والقياسات والجفر والرمل والرؤيا، بل الظنّ الموجب للظنّ النوعي الّذي لا يعدّ العامل به عاملاً بغير العلم بل يعدّ أنّه عامل بالعلم، كما اُطلق العلم على مثل هذا الظنّ في سورة الأنعام: ﴿أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾؛((1)) وفي آية اُخرى: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾؛((2)) فإنّ المراد بالعلم القابل للإخراج والعلم المأثور هو النقل المعتبر.

وممّا ذكرنا يظهر ما في کلام الشيخ(قدس سره) من أجوبته الثلاثة عن كون نتيجة دليل الانسداد الكشف.((3))

أمّا وجهه الأوّل، وهو: أنّ المقدّمات المذكورة لا تستلزم جعل الظنّ _ مطلقاً أو بش_رط حصوله من أسباب خاصّة _ حجّةً من قبل الشارع، لجواز أن لا يجعل الشارع طريقاً للامتثال.

ص: 219


1- البقرة، 80 .
2- الأحقاف، 4.
3- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص140.

ففيه: أنّه إن أراد _ بجواز أن لا يجعل الشارع طريقاً للامتثال _ جعل الطريق تأسيساً، فهو مسلّمٌ. وإن أراد جوازه حتّى إمضاءً، فممنوعٌ.

وأمّا الوجه الثاني، وهو: أنّه على مبنى الكشف لا يجب أن يكون الظنّ حجّة بجعل الشارع، بل من الممكن جعله طريقاً آخر غير مفيدٍ للظنّ فمن أين ثبت جعل الظنّ حجّة من قبله؟

ففيه: أنّه بعد القطع بعدم جعله طريقاً غير هذه الطرق المتعارفة، لا مجال للاعتناء بهذا الاحتمال.

وأمّا الوجه الثالث، وهو: أنّ تعيين بعض الظنّون من بينها، كالظنّ الحاصل من النقل، لا يتمّ إلّا بضميمة الإجماع، مع أنّ هذا خلاف تسمية هذا الدليل بالدليل العقلي.

وفيه: أنّه ليس في هذا كثير إشكالٍ، فبعد تمامية الدليل سمّه ما شئت.

والحاصل: أنّ نتيجة دليل الانسداد هي: كون النقل الّذي يعتمد عليه العقلاء مرجعاً في إحراز الأحكام، كما مرّ ذكره في التنبيه الثاني. والقول برجوع هذا الدليل أيضاً إلى بناء العقلاء قريبٌ جدّاً. نعم، يوجد فرقٌ بينهما وهو أنّ في تقرير دليل العقل لا تذكر مقدّمة انسداد باب العلم إلى الأحكام، لكونها مركوزة في أذهان العقلاء وابتناء حكمهم على حجّية خبر العادل عليها، وفي دليل الانسداد يص_رّحون بتلك المقدمة، وهذا لا يمنع من رجوع هذا الدليل إلى بناء العقلاء. فلا مانع من أن نقول برجوع جميع الأدلّة إلى بناء العقلاء. أمّا الآيات من أنّ واحدة منها لا تدلّ على حجّيته تأسيساً. وهكذا حال الأخبار. وأمّا الإجماع، فقد ظهر أنّ الإجماع القولي ليس في البين، وأنّ ما هو في البين هو الإجماع العملي واستقرار طريقتهم على العمل بالخبر، ولا ريب في أنّ ذلك ليس بما أنّهم مسلمون أو فقهاء بل بما أنّهم عقلاء، كما هو دأب أهل سائر الفرق والمذاهب.

ص: 220

التنبيه الرابع: نتيجة دليل الانسداد

لا يخفى عليك: أنّهم اختلفوا في أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي حجّية الظنّ بطريقيّة الطريق أو حجّية الظنّ بالواقع أو حجّية کليهما.((1))

فاختار الأوّل بعضهم كالشيخ محمد تقي صاحب الحاشية((2)) وأخيه المحقّق صاحب الفصول((3)) قدّس سرّهما. واختار الثاني شريف العلماءرحمه الله. والشيخ وغيره اختاروا الثالث.((4))

ولكن بعد ملاحظة ما تلوناه عليك لا وقع لهذا الاختلاف ويسقط البحث رأساً، فإنّ مقتضى ما ذكر حجّية الظنّون النقلية الّتي توجب الظنّ عادةً، وليس في حجّية الظنّ تأسيساً من الشارع وجعلاً مستقلّا، لمعلومية أنّ ذلك لو كان لنقل إلينا لتوفّر الدواعي على نقله وكونه من أهمّ ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم وعدم وجود سببٍ لاختفائه، وهذا بخلاف إيكال الناس إلى حالهم وما هو المتعارف بينهم من الأخذ بالطرق النقلية، فإنّ إمضاء ما استقرّت عليه طريقتهم ليس أمراً نقلياً بل هو أمرٌ يعرف من بناء المسلمين بما استقرّت عليه سيرتهم من الأخذ بالظنون النقلية ومعاملتهم في ما هو بينهم وبين صاحب الشرع بحسب ارتكازهم على نحو ما هو المتعارف بينهم بالنسبة إلى سائر الموالي والعبيد. فعلى هذا، لا مجال للاختلاف المذكور.

التنبيه الخامس: انحصار الطرق الظنّية في الخبر

إعلم: أنّ الطرق النقلية الظنّية المتعارفة منحصرة في الخبر، بل حجّيتها نتيجة جميع

ص: 221


1- الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص125.
2- الأصفهاني، هداية المسترشدين، ص391.
3- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص277.
4- الأنصاري، فرائد الاُصول، ص128- 129.

المباحث المذكورة في مبحث حجّية الظنّ. فإنّ الإجماع المنقول لو قيل بحجّيته فإنّما هو باعتبار كشفه ونقله عن قول المعصوم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). وكذا الشهرة إنّما تعتبر لكونها سبباً للقطع بوجود خبر معتبر مذكور في الجوامع الأوّلية.

نعم، مبحث حجّية الظواهر ليس راجعاً إلى مبحث الخبر.

وربما يقال: بأنّ استقرار طريقة العقلاء على الأخذ بظواهر الكلمات أقوى من الأخذ بالطرق النقلية، خصوصاً هذه الطرق النقلية الّتي كثرت الوسائط فيها بين الناقل والمنقول عنه خصوصاً في أعصارنا، فلو لم نقل بعدم استقرار طريقتهم على الأخذ بمثل هذه الطرق لا مجال لإنكار ضعف استقرار طريقتهم على ذلك.

ولا يخفى عليك: أنّ هذا الكلام بظاهره متينٌ لولا ما بيّناه في دليل الانسداد من كون حجّية هذه الطرق النقلية _ وإن بلغت الوسائط ما بلغت _ هو مقتضى وضع الش_ريعة الكاملة الإسلامية وبقاء أحكامها إلى يوم القيامة لقوله: «بعثت أنا والساعة كهاتين»،((1)) مع عدم وجود طريق متعارف عند العقلاء غير النقل.

هذا تمام الكلام في دليل الانسداد. ولا يخفى عليك أنّا وإن ابتعدنا عمّا هو المذكور في کلمات المتأخّرين وخالفنا مسلكهم، إلّا أنّه لا اعتناء به بعد قربنا إلى ما هو المقصود من دليل الانسداد في المقام.

والحمد لله أوّلاً وآخراً واُصلّي على رسوله وآله الهادين المعصومين. وأسأله أن يوفّقنا لصالح الأعمال، وما يوجب رفع الدرجات وحطّ السيّئات وغفران الخطيئات. اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا ولمعلّمينا وللمؤمنين والمؤمنات.

ص: 222


1- النووي، المجموع، ج4، ص516؛ السیوطي، الجامع الصغير، ج1، ص126؛ المتّقي الهندي، كنز العمّال، ج14، ص190، 194-195، 547.

ص: 223

مصادر التحقیق

1. القرآن الکریم.

2. الإبهاج في شرح المنهاج، السبکي، عليّ بن عبد الکافي (م. 756ق.).

3. الاحکام في اُصول الأحکام، الآمدي، عليّ بن محمد (م. 631ق.)، الریاض، المکتب الإسلامي، 1387ق.

4. الاختصاص، المفید، محمد بن محمد (م. 413ق.)، قم، مؤسّسة الن_شر الإسلامي، 1414ق.

5. إرشاد الفحول إلی تحقیق الحقّ من علم الاُصول، الشوکاني، محمد بن عليّ (م. 1250ق.).

6. الاستبصار، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1390ق.

7. اُسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثیر الجزري، عليّ بن محمد (م. 630ق.)، طهران، مؤسّسة إسماعیلیان.

8. إشارات الاُصول، الکلباسي، محمد إبراهیم بن محمد حسن (م. 1262ق.)، طهران، الطبعة الحجریة، 1245ق.

9. الإشارات والتنبیهات، ابن سینا، حسین بن عبد الله (م. 428ق.)، قم، ن_شر البلاغة، 1383ش.

ص: 224

10. الإصابة في تمییز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (م. 852ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1415ق.

11. اُصول السرخس_ي، السرخس_ي، محمد بن أحمد (م. 483ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1414ق.

12. اعتقادات فرق المسلمین وال_مشرکین، الفخر الرازي، محمد بن عمر (م. 606ق.)، القاهرة، مکتبة مدبولي، 1413ق.

13. الأمالي، الصدوق، محمد بن علي (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة البعثة، 1417ق.

14. الأمالي، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، قم، دار الثقافة، 1414ق.

15. الأمالي، المفید، محمد بن محمد (م. 413ق.)، بیروت، دار المفید، 1414ق.

16. أمان الاُمة من الضلال والاختلاف، الصافي الگلپایگاني، لطف الله، قم، المطبعة العلمیة، 1397ق.

17. الانتصار، الشریف المرتضی، عليّ بن حسین (م. 436ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1415ق.

18. أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، المفید، محمد بن محمد (م. 413ق.)، بیروت، دار المفید، 1414ق.

19. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار(علیهم السلام)، المجل_سي، محمد باقر (م. 1111ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1403ق.

20. البدایة والنهایة، ابن کثیر، إسماعیل بن عمر (م. 774ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1408ق.

21. البرهان في تفسیر القرآن، البحراني، السّید هاشم الحسیني (م. 1107ق.)، طهران، مؤسّسة البعثة، 1416ق.

ص: 225

22. بشارة المصطفی(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لشیعة المرتضی(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، الطبري، محمد بن أبي القاسم (م. 525ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1420ق.

23. بصائر الدرجات في فضائل آل محمد(علیهم السلام)، الصفّار، محمد بن حسن (م. 290ق.)، طهران، مؤسّسة الأعلمي، 1404ق.

24. تاریخ المدینة المنوّرة، ابن شبة النمیري، عمر بن شبة (م. 262ق.)، قم، دار الفکر، 1410ق.

25. تاریخ بغداد، الخطیب البغدادي، أحمد بن عليّ (م. 463ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1417ق.

26. تاریخ مدینة دمشق، ابن عساکر، عليّ بن حسن (م. 571ق.)، بیروت، دار الفکر، 1415ق.

27. تحقیق ما للهند، البیروني، أبو ریحان محمد بن أحمد (م. 440ق.)، بیروت، عالم الکتب، 1403ق.

28. التذکرة باُصول الفقه، المفید، محمد بن محمد (م.413ق.)، بیروت، دار المفید، 1414ق.

29. التعریفات، الجرجاني، علّي بن محمد (م.816ق.)، طهران، منشورات ناصر خسرو، 1412ق.

30. تفسیر الصافي، الفیض الکاشاني، محسن بن مرتضی (م. 1091ق.)، طهران، مکتبة الصدر، 1416ق.

31. تفسیر العیّاشي، العیّاشي، محمد بن مسعود (م. 320ق.)، طهران،المکتبة العلمیة الإسلامیة.

32. تفسیر القمّي، الفیض الکاشاني، محسن بن مرتضی (م. 1091ق.)، طهران، منشورات الصدر، 1415ق.

ص: 226

33. تمهید القواعد، الشهید الثاني، زین الدین بن عليّ العاملي (م. 965ق.)، قم، مکتب الإعلام الإسلامي، 1416ق.

34. التوحید، الصدوق، محمد بن عليّ (م.381ق.)، قم، مؤسّسة الن_شر الإسلامي، 1398ق.

35. تهذیب الأحکام، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1364ش.

36. تهذیب التهذیب، ابن حجر العسقلاني، أحمد بن عليّ (م. 852ق.)، بیروت، دار الفکر، 1404ق.

37. جامع الاُصول في أحادیث الرسول، ابن الأثیر، مبارك بن محمد (م. 606ق.)، بیروت، دار الفکر، 1403ق.

38. جامع البیان في تفسیر القرآن، الطبري، محمد بن جریر (م. 310ق.)، بیروت، دار المعرفة، 1412ق.

39. الجامع الصغیر في أحادیث البشیر النذیر، السیوطي، جلال الدین (م. 911ق.)، بیروت، دار الفکر، 1401ق.

40. جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ابن الدمشقي، محمد بن أحمد (م. 871ق.)، قم، مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیة، 1415ق.

41. حاشیة کتاب فرائد الاُصول، الخراساني، محمد کاظم (م. 1329ق.)، قم، مکتبة بصیرتي.

42. خصائص أمیر المؤمنین عليّ بن أبي طالب7، النسائي، أحمد بن شعیب (م. 303ق.)، طهران، مکتبة النینوی الحدیثة.

43. الخصال، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة ال_نشر الإسلامي، 1403ق.

ص: 227

44. الخلاف، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، قم، مؤسّسة الن_شر الإسلامي، 1414ق.

45. الدرّ المنثور في التفسیر بالمأثور، السیوطي، جلال الدین (م. 911ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي، 1404ق.

46. درر الفوائد، الحائري الیزدي، عبد الکریم، قم، مؤسّسة الن_شر الإسلامي، 1408ق.

47. الدرر النجفیة، البحراني، یوسف بن أحمد (م. 1186ق.)، بیروت، دار المصطفی لإحیاء التراث، 1423ق.

48. الذریعة إلی اُصول الشریعة، الشریف المرتضی، عليّ بن حسین (م. 436ق.)، طهران، جامعة طهران، 1346ق.

49. رجال ال_کشّي، ال_کشّي، محمد بن عمر (م. قرن4)، مشهد، جامعة مشهد، 1409ق.

50. رجال النجّاشي، النجاشي، أحمد بن علي (م. 450ق.)، قم، مؤسّسة الن_شر الإسلامي، 1416ق.

51. رسائل الشریف المرتضی، الشریف المرتضی، عليّ بن حسین (م. 436ق.)، قم، دار القرآن الکریم، 1405ق.

52. سنن أبي داود، أبو داود السجستاني، سلیمان بن الأشعث (م. 275ق.)، دار إحیاء السنة النبویّة.

53. سنن الترمذي، الترمذي، محمد بن عیسی (م. 279ق.)، بیروت، دار الفکر، 1403ق.

54. سنن الدار قطني، الدارقطني، عليّ بن عمر (م. 385ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیّة، 1417ق.

ص: 228

55. سنن الدارمي، الدارمي، عبد الله بن الرحمن (م. 385ق.)، دمشق، مطبعة الاعتدال، 1349ق.

56. السنن الکبری، البیهقي، أحمد بن حسین (م. 458ق.)، بیروت، دار الفکر، 1416ق.

57. شرح إحقاق الحق، المرعشي النجفي، السّيد شهاب الدین (م. 1411ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي، 1409ق.

58. شرح الإشارات والتنبیهات، الخواجة نصیر الدین الطوسي، محمد بن محمد (م. 672ق.)، قم، نشر البلاغة، 1383ش.

59. شرح الشمسیة، قطب الدین الرازي، محمد بن محمد (م. 776ق.)، إیران، الطبعة الحجریة، 1304ق.

60. شرح الکوکب المنیر، ابن النجّار، محمد بن أحمد (م. 972ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة.

61. شرح المطالع في المنطق، قطب الدین الرازي، محمد بن محمد (م. 776ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي.

62. شرح المنظومة، السبزواري، هادي بن مهدي (م. 1289ق)، قم، مکتب العلّامة، 1369ش.

63. شرح صحیح مسلم، النووي، محیی الدین بن شرف (م. 676ق.)، بیروت، دار الکتاب العربي، 1407ق.

64. شرح فتح القدیر، الشوکاني، محمد بن عليّ (م.1250ق.).

65. شرح معاني الآثار، الطحاوي، أحمد بن محمد (م. 321ق.)، القاهرة.

66. الشفاء (المنطق)، ابن سینا، حسین بن عبد الله (م. 428ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي، 1405ق.

ص: 229

67. شواهد التنزیل، الحاکم الحسکاني، عبید الله بن عبد الله (م. 506ق.)، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1411ق.

68. صحیح ابن خزیمة، ابن خزیمة، محمد بن اسحاق (م. 311ق.)، المکتب الإسلامي، 1412ق.

69. صحیح البخاري، البخاري، محمد بن إسماعیل (م. 256ق.)، بیروت، دار الفکر، 1401ق.

70. صحیح مسلم، المسلم النیسابوري، مسلم بن الحجّاج (م. 261ق.)، بیروت، دار الفکر.

71. الصحیفة السجادیة، الإمام عليّ بن الحسین(عَلَيْهَا السَّلاَمُ).

72. الصواعق المحرقة، الهیتمي، أحمد بن حجر (م. 974ق.).

73. الصواعق المرسلة علی الجهمیة والمعطّلة، ابن قیّم الجوزي، محمد بن أبي بکر (م. 691ق.).

74. الطبقات الکبری، ابن سعد، محمد بن سعد (م.230ق.)، بیروت، دار صادر.

75. العدّة فی اصول الفقه، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، قم، مطبعة تبریز، الطبعة الحجریة، 1314ق.

76. عوالي اللئالي العزیزیة في الأحادیث الدینیة، ابن أبي جمهور الأحسائي، محمد بن عليّ (م. 880ق.)، قم، مطبعة سیّد الشهداء(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، 1403ق.

77. الفتح الکبیر، السیوطي، جلال الدین (م. 911ق.).

78. فرائد الاصول، الأنصاري، مرتضی (م. 1281ق.)، تبریز، الطبعة الحجرية، 1314ق.

79. الفرق الإسلامیة، البشبیشي، محمود، القاهرة، المکتبة التجاریة الکبری، 1350ق.

ص: 230

80. الفصول الغرویة في الاُصول الفقهیة، الأصفهاني، محمد حسین بن عبد الرحیم (م. 1254ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

81. فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل (م. 241ق.)، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1403ق.

82. فوائد الاُصول، الخراساني، محمد کاظم (م. 1329ق.)، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1407ق.

83. الفوائد الطوسیّة، الحرّ العاملي، محمد بن الحسن (م. 1104ق.).

84. فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، بحرالعلوم، محمد بن محمد (م. 1225ق.)، قم، دار الذخائر، 1368ش.

85. الفهرست، ابن الندیم، محمد بن أبي یعقوب (م. 438ق.)، طهران، منشورات المروي، 1392ق.

86. قوانین الاُصول، ، القمي، المیرزا أبو القاسم بن الحسن (م. 1231ق.)، طهران، المکتبة العلمیة الإسلامیة، الطبعة الحجریة، 1378ق.

87. الکافي، الکلیني، محمد بن یعقوب (م. 329ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1363ش.

88. کامل الزیارات، ابن قولویه القمّي، جعفر بن محمد (م. 367ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1417ق.

89. کشف الأسرار، البخاري، عبد العزیز بن أحمد (م. 730ق.).

90. کفایة الأثر في النصّ علی الأئمّة الاثني عشر(علیهم السلام)، الخزاز القمّي، عليّ بن محمد (م. 400ق.)، قم، منشورات بیدار، 1401ق.

91. کفایة الاُصول، الخراساني، محمد کاظم (م. 1329ق.)، قم، مؤسّسة الن_شر الإسلامي، 1414ق.

ص: 231

92. الکفایة في علم الروایة، الخطیب البغدادي، أحمد بن علي (م. 463ق.)، المدینة المنوّرة، المکتبة العلمیة.

93. کنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، المتّقي الهندي، علاء الدین عليّ (م. 975ق.)، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1409ق.

94. اللمع في اُصول الفقه، الشیرازي، إبراهیم بن عليّ (م. 476ق.).

95. المباحث المشرقیة في علم الإلهیات والطبیعیات، الفخر الرازي، محمد بن عمر (م. 606ق.).

96. مبادی الوصول إلی علم الاُصول، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، مکتب الإعلام الإسلامي، 1404ق.

97. المبسوط في فقه الإمامیة، الطوسي، محمد بن الحسن (م.460ق.)، المکتبة المرتضویة، 1388ق.

98. المبسوط، السرخس_ي، محمد بن أحمد (م. 483ق.)، بیروت، دار المعرفة، 1406ق.

99. مجمع البحرین، الطریحي، فخر الدین (م.1085ق.)، طهران، المکتبة المرتضویة، 1375ش.

100. مجمع البیان في تفسیر القرآن، الطبرسي، فضل بن الحسن (م. 548ق.)، طهران، منشورات ناصر خسرو، 1373ش.

ص: 255

101. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهیثمي، عليّ بن أبي بکر (م. 807ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1408ق.

102. المجموع شرح المهذّب، النووي، محیي الدین بن شرف (م. 676ق.)، دار الفکر.

103. المحصول في علم اُصول الفقه، الفخر الرازي، محمد بن عمر (م. 606ق.)، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1412ق.

104. مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات، ابن حزم الاندل_سي، عليّ بن أحمد (م. 456ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة.

105. مستدرك الوسائل، المحدّث النوري، میرزا حسین (م. 1320ق.)، بیروت، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1408ق.

106. المستدرك علی الصحیحین، الحاکم النیسابوري، محمد بن عبد الله (م. 405ق.)، بیروت، دار المعرفة.

107. المستصفی في علم الاُصول، الغزالي، محمد بن محمد (م. 550ق.)، قم، دار الذخائر، 1368ش.

108. مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل (م. 241ق.)، بیروت، دار صادر.

109. مسند الشافعي، الشافعي، محمد بن إدریس (م. 204ق.).

110. المسودة في اُصول الفقه، آل تیمیة، القاهرة، مطبعة المدني.

111. مشارق الشموس في شرح الدروس، الخوانساري، حسین بن محمد (م. 1099ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

112. مش_رق الشمسین وإکسیر السعادتین، البهائي، محمد بن حسین (م.1031ق.)، قم، مکتبة بصیرتي.

113. المصباح، الکفعمي، إبراهیم بن عليّ (م. 905ق.)، بیروت، مؤسّسة الأعلمي، 1418ق.

114. المصنّف في الأحادیث والآثار، ابن أبي شیبة الکوفي، عبد الله بن محمد (م. 235ق.)، بیروت، دار الفکر، 1409ق.

115. معارج الاُصول، المحقّق الحلّي، جعفر بن حسن (م. 676ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام)، 1403ق.

ص: 232

116. معالم الدین وملاذ المجتهدین، العاملي، حسن بن زین الدین (م. 1011ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

117. معانی الأخبار، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة النش_ر الإسلامي، 1361ق.

118. المعتبر في شرح المختصر، المحقّق الحلّي، جعفر بن حسن (م. 676ق.)، قم، مؤسّسة سیّد الشهداء(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، 1364ش.

119. المعتمد في اُصول الفقه، البصريّ، محمد بن عليّ (م. 436ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1403ق.

120. المعجم الصغیر، الطبراني، سیلمان بن أحمد (م. 360ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1404ق.

121. المعجم الکبیر، الطبراني، سلیمان بن أحمد (م.360ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1404ق.

122. المغني، ابن قدامة، عبد الله بن أحمد (م. 620ق.)، بیروت، دار الکتاب العربي.

123. مفاتیح الجنان، المحدّث القمي، عبّاس (م. 1359ق.).

124. من لا یحضره الفقیه، الصدوق، محمد بن علي (م.381ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404ق.

125. مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، محمد بن عليّ (م. 588ق.)، النجف الأشرف، المکتبة الحیدریة، 1376ق.

126. منتقی الأخبار، الشوکاني، محمد بن عليّ (م. 1250ق.).

127. نقد المحصّل (تلخیص المحصّل)، الخواجة نصیر الدین الطوسي، محمد بن محمد (م. 672ق.).

ص: 233

128. نهایة الأفکار، العراقي، ضیاء الدین (م. 1361ق.)، قم، مؤسّسة ال_نشر الإسلامی، 1405ق.

129. نهایة المرام في علم الکلام، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.).

130. نیل الأوطار من أحادیث سیّد الأخیار، الشوکاني، محمد بن عليّ (م. 1250ق.)، بیروت، دار الجیل، 1973م.

131. وسائل الشیعة، الحرّ العاملي، محمد بن الحسن (م. 1104ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1414ق.

132. هدایة الأبرار إلی طریقة الأئمّة الأطهار(علیهم السلام)، الکرکي العاملي، حسین بن شهاب الدین (م. 1076ق.).

133. هدایة المسترشدین في شرح معالم الدین، الأصفهاني، محمد حسین بن عبد الرحیم (م. 1254ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

134. ینابیع المودّة لذوي القربی، القندوزي، سلیمان بن إبراهیم (م.1294ق.)، دار الاُسوة، 1416ق.

ص: 234

فهرس المحتویات

المقصد السادس: في المنجّز للحكم الشرعي شرعاً أو عقلاً. 7

الأمر الأوّل: المراد من «المكلَّف» في تقسيم الشيخ. 9

الأمر الثاني: مراتب الحكم 11

الأمر الثالث: تقسيم حالات المکلّف إلى القطع وغيره 15

المقام الأوّل: في القطع. 21

الأمر الأوّل: اُصولية مبحث القطع. 21

الأمر الثاني: معنى حجّية القطع. 24

الأمر الثالث: قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الطريقي. 25

الأمر الرابع: في التجرّي.. 30

تحرير محلّ النزاع. 31

ردّ مقالة المحقّق الخراساني(قدس سره). 35

تفصيل صاحب الفصول(قدس سره). 37

الأمر الخامس: في العلم الإجمالي. 44

في المسألة أقوال. 44

جواز المخالفة مع جعل البدل. 48

الامتثال الإجمالي. 51

ص: 235

المقام الثاني: في الظنّ. 59

الأمر الأوّل: في محلّ النزاع. 59

الأمر الثاني: في المراد من الإمكان. 59

الأمر الثالث: في تأسيس الأصل. 61

الأمر الرابع: في استدلال ابن قبة للامتناع. 61

نقد القول بالمصلحة السلوكية. 69

تذنيبات.. 79

تتمّة. 87

الأمر الخامس: في تأسيس الأصل فيما لا يعلم حجّيته. 92

فصل: في حجّية ظاهر کلام الشارع. 95

الأمر الأوّل: في كون البحث من الاُصول. 95

الأمر الثاني: أقسام الألفاظ الموضوعة. 97

المراد من تبعيّة الدلالة للإرادة 100

الأمر الثالث: تحرير محلّ النزاع. 101

الاستدلال بسيرة العقلاء على حجّية الظواهر. 104

الاستدلال بحكم العقل. 105

حجّية الظواهر ليست ذاتية. 106

ردّ تفصيل القمّي(قدس سره). 110

ردّ مقالة الأخباريين. 112

أدلّة الأخباريّين. 113

الاستدلال بأخبار التحريف.. 119

ص: 236

اختلاف القراءات.. 122

فصل: في حجّية خبر الواحد 123

الخبر المتواتر وأقسامه. 123

خبر الواحد وأقسامه. 126

أدلّة المنكرين لحجّية خبر الواحد ونقدها 129

أدلة حجّية خبر الواحد 133

أمّا الكتاب.. 133

آية النبأ 133

نقد الاستدلال بآية النبأ 137

آية النفر. 147

تفاسير مختلفةٌ للآية. 147

نكتة. 152

كيفية الاستدلال بآية النفر. 153

إشكال الشيخ على الاستدلال بالآية. 154

فذلكة: في نقد وجوهٍ اُخرى للاستدلال بالآية. 162

الاستدلال بالسنّة على حجّية خبر الواحد 165

الاستدلال بالإجماع لحجّية خبر الواحد 168

تقريرات الشيخ للإجماع. 169

نقد کلام الشيخ الأنصاري.. 172

سبب إنكار المتکلّمين حجّية خبر الواحد 174

فصل: في الإجماع. 179

ص: 237

الاستدلال لحجّية الإجماع بالكتاب.. 180

الاستدلال لحجّية الإجماع بالسنّة. 182

نقد الاستدلال بالسنّة. 183

الإجماع عند الإمامية. 183

الإجماع المنقول. 186

فصل: في حجّية الشهرة 195

فصل: في دليل الانسداد 203

تقريرٌ آخر لدليل الانسداد 211

تنبيهات دليل الانسداد 214

التنبيه الثاني: عدم حجّية مطلق الظنّ. 218

التنبيه الثالث: نقاشٌ مع صاحب المعالم(قدس سره) والشيخ الأنصاري(قدس سره). 218

التنبيه الرابع: نتيجة دليل الانسداد 221

التنبيه الخامس: انحصار الطرق الظنّية في الخبر. 221

مصادر التحقیق. 223

ص: 238

آثار سماحة آیة العظمی الصافی الگلپایگانی مد ظله الوارف

الصورة

ص: 239

الصورة

ص: 240

الصورة

ص: 241

الصورة

ص: 242

الصورة

ص: 243

الصورة

ص: 244

الصورة

ص: 245

الصورة

ص: 246

الصورة

ص: 247

الصورة

ص: 248

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.