بیان الاصول المجلد 1

اشارة

سرشناسه:صافی گلپایگانی، لطف الله، 1298 -

Safi Gulpaygan, Lutfullah

عنوان و نام پديدآور:بیان الاصول/ تالیف لطف الله الصافی الگلپایگانی مدظله العالی.

مشخصات نشر:قم: مکتب تنظیم و نشر آثار آیت الله صافی گلپایگانی دام ظله، 1439 ق.= 1396 -

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:دوره 978-600-7854-60-0 : ؛ 630000 ریال: ج.1 978-600-7854-57-0 : ؛ 630000 ریال: ج.2 978-600-7854-58-7 : ؛ ج.3 978-600-7854-59-4 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

يادداشت:ج.2 - 3(چاپ دوم: 1439 ق. = 1396)(فیپا).

يادداشت:کتاب حاضر تقریرات درس آیت الله سیدحسین بروجردی است.

یادداشت:کتابنامه.

یادداشت:نمایه.

موضوع:اصول فقه شیعه

موضوع:* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

شناسه افزوده:بروجردی، سیدحسین، 1253 - 1340.

رده بندی کنگره:BP159/8/ص26ب9 1396

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:4942697

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فیپا

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

ص: 3

بیان الاُصول

تألیف المرجع الديني الأعلى آية اللّه العظمى الشيخ لطف اللّه الصافي الگلپايگاني مدّظلّه العالی

الجزء الأوّل

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، أشرف الأنبياء والمرسلين، سيّدنا أبي القاسم محمد وآله الطيّبين الطاهرين، الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وبعد، فمن منن الله تعالى على هذا العبد الحقير أن شرّفه مدّة خمس عشرة سنة في بلدة قم المقدّسة - عشّ آل محمد صلوات الله عليهم - بالاستفادة والاستفاضة من مجالس الإفادة والإفاضة لنابغة الدهر وفقيه العصر، نائب الإمام وأمينه على الحلال والحرام، صاحب الزعامة الكبرى والمرجعية العظمى، محيي الشريعة الغرّاء، وفخر الملّة البيضاء، من كان بالحقّ حجّة عن الحجّة، صاحب المكارم والمناقب والمحامد، اُسوة الزاهدين، وجمال السالكين والمتعبّدين، مولانا السيّد الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي، أعلى الله في فراديس الجنان مقامه.

فكنت بتوفيق الله تعالى وله الحمد والشكر خصّيصاً به، ومستفيضاً من مجالس درسه في الفقه والاُصول ومجالس الإفتاء والفتوى، وسائر مجالسه المليئة بالإفادات الثمينة العلمية، والإفاضات الروحانية.

وقد كان لي ولأخي الأكبر الأمجد اختصاص به، نرى منه كثير التشويق والتقدير والترحيب، يتفحّص عنّا إذا غبنا عن مجلسه.

اللّهمّ املأ مضجعه بأنوار رحمتك الخاصّة الّتي تخصّ بها أولياءك المخلصين، واجعل روحه في أعلى عليّين عند جدّه سيّد المرسلين، صلواتك عليه وعلى أولاده الطاهرين.

ص: 5

هذا، واعلم يا أخي أنّ ما كتبته واستفدته من إفاداته في الاُصول إنّما هو من بحث المشتقّ إلى مبحث البراءة، ولكنّي أضفت إليه الأبحاث المتقدّمة، والّتي كان بعضها من حاشيته القيّمة على الكفاية موجوداً عندي، بعضها الآخر ممّا استخرجته ممّا كتبه عنه غيري، لاسيّما بعض الأفاضل ممّن تتلمّذ عليه في بروجرد((1)) كما أنّي أضفت إليه سائر المباحث من البراءة إلى آخر مبحث الاجتهاد والتقليد؛ ليكون الكتاب شاملاً للمباحث الاُصولية. والله هو الهادي إلى الصواب.

ص: 6


1- وهو العلّامة الحجّة الشیخ بهاء الدین الحجّتي البروجردي في کتابه: الحاشیة علی کفایة الاُصول.

المقدّمة في بيان اُمور

اشارة

وهي:

الأمر الأوّل: في موضوع العلم

الأمر الثاني: في الوضع

الأمر الثالث: في الاستعمال المجازي

الأمر الرابع: في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه، أو صنفه، أو شخصه

الأمر الخامس: في أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها بما هي هي

الأمر السادس: في علائم الحقيقة والمجاز

الأمر السابع: في الصحيح والأعمّ

الأمر الثامن: في المشتقّ

ص: 7

ص: 8

الأمر الأوّل: في موضوع العلم

قال(قدس سره): في حاشيته على الكفاية ما هذا لفظه:

قوله(قدس سره): «أمّا المقدّمة ففي بيان اُمور: الأوّل: أنّ موضوع کلّ علم، هو الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية».((1))

أقول: إعلم أنّ أرباب العلوم العقلية والنقلية((2)) بعد اتّفاقهم - سوى من شذّ من متأخّري الاُصوليين - على أنّ لکلّ علم من العلوم موضوعاً على حدة، وأنّ تمايزها إنّما يكون بتمايز تلك الموضوعات، قد اتّفقوا أيضاً على أنّ موضوع کلّ علم هو ما يبحث في هذا العلم عن عوارضه الذاتية. ولازم ذلك هو أنّ موضوع العلم كما يكون جهة امتياز مسائله عن مسائل سائر العلوم، كذلك يكون جهة وحدة لمسائله المختلفة أيضاً، لاشتراك جميعها في كونها باحثة عن عوارض ذلك الموضوع. وأنّه مقدّم في التحصّل على مسائل العلم، لأنّها إنّما تكون مسائله باعتبار كونها باحثة عن عوارضه. وأنّه هو الملاك الفذّ لمعرفة حدّ العلم وغايته أيضاً.

ص: 9


1- الحجّتي البروجردي، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج1، ص5.
2- منهم الحکماء وأصحاب المیزان والفقهاء. راجع: ابن سهلان الساوي، البصائر النصیریّة، ص5-6؛ قطب الدین الرازي، شرح الشمسیّة، ص14؛ اللاهیجي، شوارق الإلهام، ج1، ص5؛ الأصفهاني، الفصول الغرویّة، ص10؛ الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص14.

فموضوع العلم على هذا، هو المعلوم الأوّل الّذي يضعه مدوِّن العلم تجاه عقله ليبحث فيما يدوّنه من المسائل عن شؤونه المجهولة، وكأنّهم لذا سمّوه بموضوع العلم، لا لما قد يتراءى من المتن من أنّه الكلي الصادق على موضوعات مسائله، وسيأتي الكلام فيه.((1))

ثم إنّ مرادهم بالعارض في تعريفه كما صرّح به شارح المطالع((2)) وغيره، ويدلّ عليه تتبعّ مسائل العلوم، هو: ما اصطلح عليه المنطقيّون في كتاب إيساغوجي،((3)) وقسّموه إلى الخاصّة والعرض العامّ، وقابلوه بالذاتي المقسّم إلى النوع والجنس والفصل، وهو الخارج المحمول، أي الكلّي الخارج عن الشيء مفهوماً المتّحد معه وجوداً؛ لا ما اصطلح عليه الطبيعيّون، وقسّموه إلى المقولات التسع، وقابلوه بالجوهر، وهو الموجود في الموضوع.

والفرق بينهما من وجوه كثيرة:

منها: أنّ الذاتي والعرضي إضافيّان يمكن صدقهما على مفهوم واحد بالقياس إلى شيئين بخلاف الجوهر والعرض.

ومنها: أنّه يمكن أن يكونا مفهومين کلّ واحد منهما عرضاً للآخر بالمعنى المقابل للذاتي لا بالمعنى المقابل للجوهر، ولذا قالوا: إنّ الجنس عرض عامّ بالإضافة إلى الفصل، والفصل خاصّة غير شاملة بالنسبة إلى الجنس، وهما ذاتيان بالقياس إلى النوع.

وأيضاً: فإنّ العرض المقابل للذاتي يصدق على المفاهيم الزائدة الصادقة على

ص: 10


1- یأتي في ذیل قوله7: «هو نفس موضوعات مسائله عیناً...».
2- حیث قال: «العرض هو المحمول علی الشيء الخارج عنه». قطب الدین الرازي، شرح المطالع، ص18. وغیره في شرح الشمسیّة (قطب الدین الرازي، ص23)؛ و شرح المنظومة (السبزواري، ص29).
3- أي الکلیات الخمس المنقسمة إلی الذي وهي: الجنس والفصل والنوع؛ والعرضي وهي: الخاصّة و العرض العامّ. و الذاتی في هذا الباب: هو المحمول الّذي تنقوّم ذات الموضوع به غیر خارج عنها، کالحیوان أو الناطق المحمولین علی الإنسان، و العرضي: هو المحمول الخارج عن ذات الموضوع لاحقاً به بعد تقوّمة بجمیع ذاتیاته، کالضاحك اللاحق للإنسان، والماشي اللاحق للحیوان.

الجواهر أيضاً، بخلاف المقابل للجوهر.

ومرادهم بالعرض الذاتي هنا: ما كان عروضه للمعروض، أي اتّحاده معه في المرتبة المتأخّرة عن مرتبة الذات لحوقاً أوّلياً بحسب تلك المرتبة، أي لا يكون لحوقه به مترتّباً على لحوق حيثية اُخرى به كذلك حتى يكون هذا متأخّراً عن الذات بمرتبتين بحسب الاعتبار، ويكون مع ذلك عارضاً بتمام ذاته أو بجزئه المساوي.

ويقابله العرض الغريب، وهو العارض للشيء بتوسّط عارض آخر أو بجزئه الأعمّ.

وربما يقال:((1)) إنّ العارض بتوسّط العارض المساوي عرض ذاتي يبحث عنه أيضاً في العلوم، وهو بعيد محتاج إلى التثبّت.

وما يتراءى من تمثيل صاحب الفصول((2)) للعرض الغريب بالسرعة العارضة للحركة العارضة للجسم، وبالشدّة العارضة للبياض العارض للجسم من جملة العرض

ص: 11


1- قال في شرح الشمسیّة ( قطب الدین الرازی، ص23): «والعوارض الذاتیة هي الّتي تلحق الشيء لما هو هو، أي لذاته...أو تلحق الشيء لجزئه...أو تلحقه بواسطة أمر خارج عنه...». وهذا القول هو المشهور بینهم، وقد ردّه صاحب الفصول بالتفصیل في فصوله (الأصفهاني، ص10 – 11).
2- الأصفهاني، الفصول الغرویّة، ص10. راجع أیضاً: قطب الدین الرازی، شرح الشمسیّة، ص23. وصاحب الفصول هو، الشیخ محمد حسین بن محمد رحیم الطهراني الحائري. ولد في قریة «ایوان کیف» بالقرب من طهران. أخذ مقدّمات العلوم في طهران، ثم اکتسب من شقیقه الحجّة الشیخ محمد تقی الأصفهاني صاحب هدایة المسترشدین في أصفهان، ثم هاجر إلی العراق، فسکن کربلاء، وکان یقیم الجماعة في الحرم المطهّر من جهة الرأس الشریف، فیأتمّ به خیار الطلبة والصلحاء و عامّة الناس. وکان في کربلاء یومذاﻙ فریق من الشیخیة، وکان المرحوم کثیر التشنیع علیهم حتی ضعّف نفوذهم وکسر شوکتهم؛ إذ کان مرجعاً عامّاً في التدریس والتقلید، وقد تخرّج من معهده جمع من کبار العلماء، وله آثار أشهرها «الفصول الغرویة». أجاب داعي ربّه سنة (1254ق)، ودفن في الصحن الصغیر في الحجرة الواقعة علی یمین الداخل، سبقه فیها صاحب الریاض(قدس سره). انظر: آغا بزرگ الطهراني، أعلام الشیعة الکرام البررة في القرن الثالث بعد الهجرة، رقم 795.

على مصطلح الطبيعيّين، و[إطلاق] العرض الذاتي لشيء على ما يعرض نفسه، والغريب على ما لا يعرضه أصلاً بل يعرض لما هو عرض له، قد ظهر بطلانه ممّا بيّناه، مضافاً إلى ما في تمثيله هذا من المناقشات الاُخر الّتي تركناها حذراً من الإطالة.

ثم إنّه یدلّ على ما ذكروه أنّك إذا لاحظت مسائل الفنون المختلفة، وقطعت نظرك عن غير ذواتها، الّتي هي القضايا المرکّبة من موضوعات ومحمولات ونسب، حتى عن مدوِّنها وعن غرضه منه، وعمّا يصدق على موضوعاتها أو على محمولاتها من المفاهيم، رأيت في نظرك هذا بين مسائل کلّ فنّ منها من المناسبة والمشاركة ما لا تراه بينها وبين مسائل غيره، فترى تشارك مسائل النحو فقط في بيان هيأة آخر الكلمة في لغة العرب؛ مسائل الصرف في بيان هيأتها من غير جهة آخرها؛ ومسائل المنطق في بيان أنّ أيّ معلوم صالح للإيصال إلى مجهول وأيّها غير صالح؛ ومسائل العلم الإلهي في أنّ أيّ شيء ممّا نتصوّره موجود في الأعيان، وأيّها غير موجود.

ولا ترى هذا التشارك في غيرها، وهكذا سائر الفنون، وتراها مع ذلك مسائل مختلفة متمايزة بعضها من بعض، فيعلم بذلك أنّها في مرتبة ذواتها ملتئمة من جهة جامعة مشتركة بين جميعها، وجهات مائزة ينفرد كل واحد منها بواحدة منها، وقد حمل فيها إحداهما على الاُخرى. وليس شيء من تلك الجهات المائزة عين الجهة الجامعة ولا جزءها بالضرورة، فهي خارجة عنها مفهوماً، والمفروض هو اتّحادهما وجوداً قضيّة للحمل، فهي عوارض منطقية لها.

فينتج أنّ لمسائل کلّ فنّ من الفنون جهة جامعة يشترك جميعها في البحث عن عوارضها المنطقية، وأنّ تلك الجهة بعينها مائزة بينها وبين مسائل سائر الفنون لفرض كونها فاقدة لها، وهذا هو المطلوب.

وينبغي التنبيه على أمرين:

ص: 12

الأوّل: أنّ مسائل العلم ليست منحصرة في القضايا الموجبة الّتي تكون الجهات المائزة فيها عوارض واقعية لموضوع العلم، بل تشمل سوالبها أيضاً وإن كان مفادها سلب العروض، فإنّ البحث عن عوارض الموضوع يستدعي البحث عن كلّ ما قيل أو يحتمل أنّه من عوارضه، سواء أدّى إلى الإثبات أو النفي.

الثاني: أنّ الجهة الجامعة الّتي ذكرنا أنّها هي موضوع العلم لا يلزم وقوعها موضوعة في مسائل العلم.

وتقدّم أنّ تسميته به ليست بهذا الإعتبار بل الغالب في المسائل هو حمل هذه الجهة على الجهات المائزة لكونها أعمّ منها، ومن هنا ترى أنّ مفهوم المنتج لكذا وهو المرادف للموصل إلى المجهول يحمل في مسائل المنطق على ضروب الأشكال، والموجود بما هو موجود مع أنّه موضوع للفلسفة الكلّية يقع محمولاً في مسائلها على ما يبحث فيها عن وجوده.

وقصر بعضهم مسائلها على قضايا معدودة ذكرها هو، وجعل موضوعها الموجود بما هو موجود، ومحمولها ما زعم أنّه من عوارضه من العلم والقدرة والعليّة وأشباهها، مخالف لما صرّح به أعاظم الفن في مواضع كثيرة:

منها: ما ذكره المحقّق الطوسي في الطبيعيّات من شرح الإشارات، حيث عدّ مسألة وجود المادّة والصورة من مسائل العلم الإلهي، واعتذر عن ذكرها هناك بما اعتذر.((1))

إن قلت: ما ذكرته من وقوع الجهات المائزة موضوعة في المسائل ينافي ما مرّ من أنّها عوارض لموضوع العلم، وأنّ العارض هو الخارج المحمول.

قلت: الحمل هو الاتّحاد في الوجود وهو بالنسبة إلى الطرفين على السواء.

إن قلت: كيف تكون أخصّ من الجهة الجامعة مع أنّها عوارض ذاتيّة لها، وما بالذات لا يتخلّف؟

ص: 13


1- الخواجة نصیر الدین الطوسي، شرح الإشارات والتنبیهات، ج2، ص3.

قلت: كونها ذاتيّة ليس بمعنى كون الذات علّة لها حتى يمتنع تخلّفها عنها، بل بمعنى أنّه لا واسطة بينهما في العروض كما مرّ، وقد قالوا: إنّ الفصول عوارض ذاتيّة للجنس مع أنّها أخصّ منه.

قوله(قدس سره): «أي بلا واسطة في العروض».

أقول: تعريف العرض الذاتي بهذا كأنّه غير مطّرد، لصدقه على ما يعرض الشيء بواسطة جزئه الأعمّ مع أنّه عرض غريب. اللّهمّ إلّا أن يقال: بشمول الواسطة في العروض للجزء أيضاً، فتأمّل.

قوله(قدس سره): «هو نفس موضوعات مسائله عيناً، وما يتّحد معها خارجاً، وإن كان يغايرها مفهوماً، تغاير الكلّي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده. والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّتة جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض... إلخ».

أقول: إردافه(قدس سره) تفسير موضوع العلم على طبق ما ذكره القوم بهذا الكلام يهدم أساس موافقته لهم، فإنّ محصّل مجموع كلامه حينئذٍ صدراً وذيلاً هو:

أنّ کلّ فنّ من الفنون عبارة عن جملة من قضايا لا مشاركة بينها في موضوع ولا محمول، بل هي متباينة بتمام ذواتها كتباينها مع مسائل سائر الفنون، ولكنّها مع تباينها كذلك تترتّب على مجموعها غاية واحدة هي الغرض من تدوينها، وبمداخلة جميعها في ذلك الغرض استحقّت لأن تجعل فنّاً واحداً ممتازاً عن سائر الفنون، ويكون أيضاً لموضوعاتها جامع واحد يصدق عليها صدق الطبيعي على أفراده. ولمّا كان محمول كلّ مسألة منها عرضاً ذاتياً لموضوعها الّذي هو فرد لهذا الجامع كانت محمولاتها عوارض ذاتية له أيضاً، فيصدق أنّه يبحث فيها عن عوارضه الذاتية، فيكون هو موضوعاً لذلك الفنّ وإن لم يكن له اسم ولا رسم ولا يتصوّره المدوِّن ولا غيره ولا يكون البحث في

ص: 14

مسائله راجعاً إليه.

ويرد عليه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ مسائل الفنّ الواحد ليست متباينة بتمام ذاتها، بل لها جهة جامعة بنفسها لا بأفرادها - أحد جزئيها- .

وثانياً: أنّ محمولات المسائل بعد فرض كونها عوارض ذاتية لموضوعاتها، لا يمكن كونها عوارض ذاتية للكلّيّ الجامع بينها؛ إذ لخصوصياتها المائزة دخل في عروضها. اللّهمّ إلّا أن يفسّر العرض الذاتي بما حكيناه عن الفصول، وقد مرّ أنّه غير متّجه.((1))

وثالثاً: أنّ اندراج موضوعات المسائل تحت كلّيّ صادق عليها صدق الطبيعي على أفراده، بعد فرض عدم صيرورته منشأً لوحدة المسائل وعدم اشتراكها بسببه في جهة جامعة، لعدم رجوع البحث فيها إليه وعدم دخله في وحدة الغرض منها الّتي هي المناط في كونها فنّاً واحداً ممتازاً عن غيره على ما أفاده، بل وعدم تصوّر أحد له - لعدم اسم له ولا رسم - أيّة فائدة تترتّب على ثبوته. وأيّ فرق يتصوّر بين أن يكون وبين أن لا يكون حتى يلزمنا القول بثبوته، فهل هو حينئذٍ إلّا كالحجر بجنب الإنسان؟ ثمّ بأيّ دليل يمكننا إثباته مع أنّ الدليل قائم على خلافه في أكثرها، فهل يمكن وجود جامع بين موضوعات مسائل العلم الإلهي يكون كلّياً طبيعيّاً لها مع أنّ بعضها واجب لذاته وبعضها ممكن؟

ورابعاً: أنّ ترتّب الغاية الواحدة على المسائل المتباينة بتمام الذات غير معقول، فإنّ غرض المدوِّنين من تدوين المسائل ليس إلّا حصول العلم بها، سواء كان العلم بها مطلوباً لذاته كما في العلم الإلهي أو مقدّمة للعمل كما في أكثر الفنون، ومعلوم أنّ وحدة العلم نوعاً أو شخصاً وتعدّده تابعة للمعلوم، فما لم يكن للمسائل المختلفة جهة

ص: 15


1- مرّ في الصفحة 11 – 12.

وحدة لم يكن للعلم بها تشارك واتّحاد.

إن قلت: مراده بالغرض الواحد هو مجموع الأغراض المترتّبة على مجموع المسائل، ووحدته حينئذٍ شخصية اعتبارية كوحدة سائر المركّبات الاعتبارية، ولذا قال: «جمعها إشتراكها في الدخل في الغرض»، وليست هذه الوحدة مترتّبة على وجود الجهة الجامعة بين المسائل.

قلت: لا يمكن كون وحدة الغرض بهذا المعنى ملاك تمايز العلوم، إذ کلّ جملة من المسائل يكون لا محالة لمجموع أغراضها وحدة كذلك وإن لم تكن من سنخ واحد، فيسأل حينئذٍ أنّه لم جعل هذه الجملة فنّاً واحداً واعتبرت أغراضها واحدة كذلك؟ ولا جواب عنه إلّا بأن يقال: إنّ أغراضها من سنخ واحد، بخلاف غيرها، فيرجع إلى وحدتها النوعية الّتي ذكرنا أنّها مترتّبة على ثبوت جهة الوحدة في نفس المسائل.

قوله(قدس سره): «لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلّا كان کلّ باب، بل كلّ مسألة من کلّ علم علماً على حدّة».

أقول: فيه أنّهم قالوا: إنّ کلّ واحد من الفنون المدوَّنة يكون له موضوع خاصّ هو جهة وحدة مسائله وامتيازه عن غيره، لا أنّ كلّ جملة من المسائل إذا كان لها جهة وحدة كذلك، يلزم أن يجعل فنّاً على حدة حتى يرد عليه ما ذكر. مع أنّ هذا مشترك الورود، إذ الغرض من كلّ باب بل کلّ مسألة ممتاز عن الغرض من غيره.

ثم إنّ قوله: «ولا المحمولات» لعلّه إشارة إلى ما ذكره صاحب الفصول من أنّ امتياز العلوم يكون بامتياز الموضوعات أو حيثيّات البحث، زعماً منه أنّ موضوع النحو والصرف واحد وهو الكلمة والكلام، وإنّما يمتازان بأنّ البحث عنهما في النحو من حيث الإعراب والبناء، وفي الصرف من حيث الصحّة والاعتلال.((1))

وهو غير وجيه، فإنّ الحيثيّتين مأخوذتان في موضوعيهما. وحقيقة الأمر هي ما

ص: 16


1- الأصفهاني ، الفصول الغرویّة، ص11.

أشرنا إليه سابقاً من أنّ موضوع النحو هو: هيأة الكلمة من جهة آخرها، وإليها أشاروا بقولهم: من حيث الإعراب والبناء، وموضوع الصرف هو: هيأتها من غير جهة آخرها، وهي المراد بقولهم من حيث الصحّة والاعتلال، وإنّما عبّروا بما ذكر تقريباً إلى فهم المبتدئين.

قوله(قدس سره): «وقد انقدح بذلك أنّ موضوع علم الاُصول، هو الكلّيّ المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة، بل ولا بما هي هي...إلخ».

{أقول}:((1)) الاُصوليّون بعد ما تسالموا على ما تسالم عليه غيرهم من أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، وأ نّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، قالوا: إنّ موضوع اُصول الفقه هو أدلّة الفقة. ومرادهم بها أدلّته بما هي أدلّته. ومرادهم بالدلالة هو الحجّية، فمرجع كلامهم حينئذٍ إلى أنّ موضوعه هو حيثيّة «الحجّة في الفقه».

ولذا استشكله المحقّق القمّي(رحمه الله) في «الحواشي» بأنّ لازمه خروج المسائل الباحثة عن حجّية الحجج كخبر الواحد والإجماع ونحوهما عن مسائل هذا العلم، ودخولها في مباديه، إذ الحجّية على هذا مقوّم للموضوع لا من عوارضه.((2))

ودفعه في الفصول بالتزام أنّ موضوعه هو ذوات الأدلّة الأربعة، لا بما هي أدلّته حتى يلزم ما ذكر.((3))

وفيه مضافاً إلى استلزامه كون موضوع الفنّ الواحد أربعة اُمور متباينة، بل وأكثر أو أقلّ على الخلاف فيه أنّه لو كان كذلك لكان يبحث فيه عن جميع عوارض الأربعة

ص: 17


1- أضفنا ما بین المعقوفین و هو المناسب ذکره هنا بدلاً عن البیاض في النسخة.
2- الحواشي المطبوعة ضمن کتاب قوانین الاُصول (القمّي، ج1، ص8).
3- الأصفهاني، الفصول الغرويّة، ص12.

لا عن الحجّية فقط. مع أنّه لا ينفع في إدخال مسألة حجّية الخبر فيها لأنّ الحجّية من عوارض الخبر لا السنّة، كما ذكره(قدس سره) في المتن وأطال الكلام فيه.

وكأنّ استصعاب دفع هذا الإشكال هو الّذي دعا شيخنا العلّامة(قدس سره) إلى العدول عن ذلك إلى ما قال: من أنّ موضوعه بل موضوع عامّة العلوم هو: الكلّيّ الجامع بين موضوعات مسائله وإن لم يكن له اسم ولا رسم. ولأجل منافاة هذا لكون تمايزها بتمايز الموضوعات، لاقتضائه تقدّم المسائل على الموضوع في التحصل عدل عنه أيضاً إلى أنّ تمايزها بالأغراض لا بالموضوعات.

وأنت بعد الإحاطة بما بيّناه تعلم أنّ هذا الإشكال إنّما نشأ من عدم تحصيل مراد القوم من موضوع العلم ومن عوارضه الذاتية، وتوهّم أنّ موضوع العلم يلزم أن يقع موضوعاً في المسائل أيضاً.

فالحقّ في الجواب عنه هو: أنّ وقوع الحجّة محمولة في تلك المسائل لخبر الواحد والإجماع ونحوهما، لا ينافي كون البحث فيها عن عوارض الحجّة، فإنّ عوارضها الّتي بحثوا في هذه المسائل عن عروضها لها، أي اتّحادها معها في نفس الأمر، هي خبر الواحد والإجماع وغيرهما ممّا وقع موضوعاً فيها لا الحجّية حتى يقال: إنّها مقوّمة للموضوع، بل الظاهر أنّ هذه القضايا الباحثة عن حجّية شيء وعدم حجّیته هي المسائل لهذا العلم فقط. ولذا اقتصر الشافعي في رسالته - الّتي صنّفها في ذلك العلم في أواخر القرن الثاني، وهي أوّل ما صنّف فيه فيما نعلم - على ذكر مسألة حجّية الكتاب والسنّة غير المنسوخين، والإجماع وخبر الواحد والقياس والاجتهاد والاستحسان. نعم، أطال الكلام في نسخ الكتاب والسنّة وفروعه. ثم زاد من جاء بعده على ما ذكره أشياء من سنخها وأشياء اُخر من غير سنخها إمّا على وجه الإستطراد أو من باب المبادي.

فظهر بما ذكرناه أنّ مسائل حجّية القطع والظنّ على

ص: 18

القول بها، وحجّية الأمارات الحاكية عن الواقع بلا معارض أو مع المعارض، وحجّية الاحتمالات غير الحاكية عنه كاحتمال بقاء ما ثبت في الاستصحاب المثبت للتكليف، كلّها من مسائل هذا العلم، وكذا المسائل النافية لحجّية ما احتمل حجّیته أو قيل بها مثل القياس والاستحسان والاجتهاد، وبعض ما مرّ على القول بعدم حجّیته، بل ومن هذا القسم أيضاً مسألة أصالة البراءة في الشبهة البدويّة فإنّ مرجعها إلى عدم حجّية احتمال التكليف بالنسبة إلى التكليف المحتمل وعدم تنجّزه به على تقدير ثبوته واقعاً.

هذا إذا قلنا بأنّ المراد بالحجّة ما كان للمولى على العبد، وأمّا إذا عمّمت لعكسه فهي من مسائله.

ثم ليعلم: أنّ مسألتي أصالة الاشتغال والتخيير أيضاً مرجعهما إلى البحث عن الحجّية وإثباتها بتقريب: أنّ ما ثبت حجّیته من العلم والأمارات وغيرهما يكون حجّة على الواقع مطلقاً سواء علم متعلّقها تفصيلاً أو تردّد بين أمرين أو اُمور، فإن أمكنت الموافقة القطعية لزمت عقلاً وهو أصالة الاشتغال، وإلّا فإن أمكنت الموافقة الاحتمالية - بکلا شقّيها - والمخالفة القطعية، كان اللازم هو الموافقة الاحتمالية وتخيّر بين شقّيها مع عدم المرجّح، وهو أصالة التخيير. وإن لم يكن شيء منهما، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة بلا مرجّح، كانت الحجّة على الواقع مسلوبة كما في أصالة البراءة. نعم، المسلوب هناك هو حجّية احتمال التكليف، وهنا حجّية الحجّة الإجمالية كذلك، فتفطّن.

فظهر أنّ مسائل الاُصول العمليّة ليست من سنخ آخر، ولا الغرض منها أمراً آخر غير ما هو الغرض من مسائل حجّية الأدلّة كما يتراءى من المتن، بل ويمكن على هذا التقرير إدراج جملة من مباحث الألفاظ في مسائل هذا العلم أيضاً.

بيانه: أنّ الأقدمين لمّا كانت حجّية دلالة الألفاظ عندهم واضحة، لم يبحثوا عنها بحثاً واحداً كلّياً، لكن لمّا احتملوا عدم حجّية جملة منها، إمّا لضعفها كالدلالات

ص: 19

المفهومية الناشئة من ذكر القيد، والإطلاقية الناشئة من عدم ذكره، أو لوجود ما احتملوا مانعيته منها كما في العامّ المخصَّص أو المطلق المقيَّد، أو لاحتمال اعتبار شيء فيها كالفحص عن المخصّص أو عن قرينة المجاز، عقدوا لکلّ منها مسألة. فالبحث فيها يرجع إلى البحث عن حجّية دلالة الألفاظ إذا كانت بهذه الخصوصيّة.

قوله(قدس سره): «يعرف بها القواعد الّتي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام».

أقول: إدراج مسائل حجّية الأدلّة في هذا مشكل، إذ استنباط الحكم الواقعي في مواردها على وجه القطع غير ممكن، وعلى وجه الظنّ حاصل من دون دخالة لها فيه؛ والحكم الظاهري هو عينها لا أنّها تقع في طريق استنباطه.

ص: 20

الأمر الثاني: في الوضع

قوله(قدس سره): «الوضع هو: نحو اختصاص للّفظ بالمعنى، وارتباط خاصّ بينهما((1)) ناشٍ من تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعماله فيه اُخرى».

أقول: أراد بالوضع، كون اللفظ موضوعاً للمعنى على أن يكون مصدراً مبنيّاً للمفعول أو اسم مصدر.

وأراد بالاختصاص، كونه ذا خصوصيّة وارتباط بالنسبة إلى المعنى، لا كونه مختصّاً به حتى يخرج وضع المشتركات.

ص: 21


1- لا ریب في اختصاص اللفظ بالمعنی وارتباطه به، و إنّما الإشکال في حقیقة هذا الاختصاص والارتباط، فاختلفوا في حقیقة الوضع، هل هو من الاُمور التکوینیة الواقعیة، أو من الاُمور الاعتباریة الجعلیة؟ فذهب عباد بن سلیمان الصیمري و أصحاب التکسیر - کما في القوانین (القمی، ج1، ص194) - إلی أنّه أمر واقعي تکویني، وأنّ دلالة اللفظ علی المعنی إنّما نشأت من مناسبة ذاتیّة. وذهب النائیني (قدس سره) إلی أنّه أمر وسط بین التکویني والجعلي و برزخ بینهما. النائیني، أجود التقریرات، ج1، ص11- 12. ثم اختلف القائلون بأنّه اعتباري وجعلي علی أقوال: الأوّل: أنّه عبارة عن جعل الارتباط بین اللفظ والمعنی واعتباره بینهما. الثاني: أنّه عبارة عن جعل اللفظ علی المعنی. الثالث: أنّه عبارة عن تنزیل اللفظ منزلة المعنی. الرابع: أنّه عباره عن التعهّد والبناء علی ذکر اللفظ عند إرادة تفهیم المعنی الخاصّ. راجع: الرشتي، بدائع الأفکار، ص34 وما بعدها؛ الأصفهاني، نهایة الدرایة، ج1، ص44 وما بعدها.

ولم يبيّن نوع الخصوصيّة، إذ هو من شرح الاسم، والغرض منه الإشارة إلى ما هو المراد من المعاني الحاضرة في الذهن، لا بيان ماهية مجهولة. وعدل عمّا هو المعروف من أنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه،((1)) لعدم شموله للتعيّني ولا لوضع الإنشاءات؛ مع أنّ هذا هو المعنى الّذي تترتّب عليه أحكام الوضع من الحجّية وغيرها وتؤدّي إليه أماراته لا ما ذكروه.

فحاصله: أنّ كون اللفظ موضوعاً لمعنى عند قوم، هو كونه عندهم آلة لهذا المعنى إفهاماً أو إنشاءً، وتقسيمه حينئذٍ إلى التعييني والتعيّني تقسيم له باعتبار مسبّبه، لكنّ الوضع بهذا المعنى ليس غير الدلالة الشأنية، كما لا يخفى.

قوله(قدس سره): «ثم إنّ الملحوظ حال الوضع: إمّا يكون معنىً عامّاً، فيوضع اللفظ له تارة ولمصاديقه اُخرى؛ وإمّا يكون معنىً خاصّاً، لا يكاد يصحّ إلّا وضع اللفظ له».

أقول: لمّا كان الوضع نسبة بين اللفظ والمعنى كان التعييني منه موقوفاً على تصوّر الواضع كلّاً منهما حتى يضع هذا لذاك، فباعتبار ملاحظته المعنى ووضعه اللفظ له قسّموه إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في المتن، وباعتبار ملاحظته اللفظ ووضعه إيّاه للمعنى قسّموه أيضاً إلى الوضع الشخصي والنوعي، فقالوا: إن تصوّر لفظاً خاصّاً ووضعه لمعنى فهو شخصي، وإن لاحظ عنواناً كلّياً صادقاً على ألفاظ كثيرة فوضع كلّ فرد من أفراده الملحوظة إجمالاً بلحاظه لمعنى فهو نوعي، ومثّلوه بوضع صيغ الأفعال والأوصاف، وذلك لأنّهم لمّا رأوا أنّ الفعل الموزون بزنة «فَعَلَ» بالفتحات الثلاث مثلاً معناه مع قطع النظر عن اختلاف الموادّ واحد، وهو قيام معنى مصدره بمعنى الاسم المرفوع بعده إذا كان مفرداً مذكّراً في الزمان الماضي، واستبعدوا أن يكون الواضع وضع كلّ واحد من أفراده لهذا المعنى المتشابه بوضع مستقلّ على حدّة، تحدّسوا من ذلك أنّه

ص: 22


1- الرشتي، بدائع الأفکار، ص34.

لاحظ هذا المفهوم الكلّي ووضع کلّ فرد منه - من أيّ مصدر كان - لقيام معناه بما بعده كذلك بوضع واحد ينحلّ إلى أوضاع كثيرة، وهكذا غيرها من الصيغ.

وعلى هذا فلك أن تقول: إنّه لا يتعيّن أن يكون الموضوع لذلك المعنى مجموع المادّة والهيأة من «ضرب» بالفتحات الثلاث مثلاً، حتى يقال: إنّ الواضع لاحظه وسائر ما يكون على وزنه إجمالاً بلحاظ مفهوم الموزون هكذا، إذ يمكن أن يكون الموضوع لهذا المعنى هيأته الّتي تقوم بنفسها بموادّ المصادر، وهي بنفسها ملحوظة للواضع تفصيلاً بنفسه، لا بمفهوم آخر صادق عليها وعلى غيرها، وعليه فيكون وضعها شخصياً وإن كانت هي كلّية لصدقها على حصصها القائمة بکلّ مادّة من الموادّ وعلى أشخاصها، ولعلّه لهذا ترك المصنف(قدس سره) ذكر هذا التقسيم.

قوله(قدس سره): «وأمّا الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فقد توهّم((1)) أنّه وضع الحروف، وما اُلحق بها من الأسماء،((2)) كما توهّم أيضاً أنّ المستعمل فيها((3)) يكون خاصّاً مع كون الموضوع له كالوضع عامّاً، والتحقيق: أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيهما حالهما في الأسماء».

أقول: تحقيق كيفية وضع الحروف من هذه الجهة موقوف على بيان معانيها، وتوضيح جهة الفرق بينها وبين الأسماء الّتي تذكر في مقام تفسيرها على وجه يتراءى منه ترادفها، كلفظتي «من» و«الابتداء» أو «إلى» و«الانتهاء» أو «في» و«الظرفية» وأشباهها، مع أنّا نرى أنّه لا يصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر، ولا وقوع «من» و«إلى» و«في»

ص: 23


1- المتوهّم جماعة، منهم: صاحب الفصول في فصوله (الأصفهاني، ص16)؛ وصاحب المعالم في معالمه (العاملي، ص124)؛ وشارحه في هدایة المسترشدین (الأصفهاني، ص30)؛ و صاحب القوانین في قوانینه (القمّي، ج1، ص10، 287، 289).
2- کأسماء الإشارة والضمائر والموصولات والاستفهام ونحوها.
3- في بعض نسخ الکفایة: «المستعمل فیه فیها».

محكوماً عليه أو به كما يقع الابتداء والانتهاء والظرفيّة كذلك. ومعلوم أنّه ليس ذلك إلّا لفارق وضعيّ بينهما وهو ينافي الترادف وصحّة تفسير أحدهما بالآخر.

والحاصل: أنّ معنى «من» و«الابتداء» مثلاً، إن كان واحداً كان اللازم صحّة استعمال کلّ منهما في موضع الآخر وجواز وقوع «من» محكوماً عليه وبه كالابتداء، لکنّه لا يجوز. وإن لم يكن واحداً لم يصحّ تفسير «من» بالابتداء، لکنّه صحيح لعدم فهم العرف منها سوى الابتداء، وصحّة الملازمتين كبطلان التاليين واضحة، فينتجان بطلان المقدّم في كلتي الشرطيّتين، وهو ارتفاع النقيضين، وبطلانه ضروري. وهذه عقدة((1)) صعب حلّها على كثير من الأفهام واختلفت عبارات أهل النظر في الجواب عنها.

فقال الرضيّ(رحمه الله) في شرح ما قالوه من «أنّ الاسم ما دلّ على معنى في نفسه، والحرف ما دلّ على معنى في غيره» بعد ما أرجع ضميري نفسه وغيره إلى «ما» المراد بها الكلمة، وأبطل إرجاعهما إلى المعنى،((2)) ما هذه عبارته: «إنّ معنى «من» الابتداء، فمعنى «من» ومعنى لفظ الابتداء واحد،((3)) إلّا أنّ الفرق بينهما أنّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر، بل مدلوله معناه الّذي في نفسه مطابقة،

ص: 24


1- وعبّر عنه في الکفایة (الخراساني، ج1، ص19) بأنّه: «دقیق وقد زلّ فیه أقدام غیر واحد من أهل التحقیق والتدقیق». وهو کذلك فیختار هو مختار الرضيّ(قدس سره) بأنّه لا فرق بین المفهوم الحرفي والاسمي في عالم المفهوم، والاختلاف بینهما ناشٍ من اشتراط الواضع. وهذا القول في حدّ الإفراط. وفي قباله القول بأنّ الحروف لم توضع لمعنی أصلاً، وأنّ حالها حال علامات الإعراب وهذا في حدّ التفریط، وفي البین آراء وأقوال انظرها في: فوائد الاُصول، لصاحب الکفایة، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائیني)، ج1، ص33 و ما یلیها، للشیخ الکاظمي، أجود التقریرات، ج1، ص14 وما بعدها.
2- وصاحب الکافیة یرجع الضمیرین إلی المعنی، کذا فعله في الإیضاح. ویناقشه الرضيّ في شرح الکافیة (ج1، ص35 – 36).
3- في المصدر، «سواء».

ومعنى «من» مدلول((1)) لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي، فلهذا جاز الإخبار عن لفظ «الابتداء» في قولك: «الابتداء خير من الانتهاء»، ولم يجز الإخبار عن لفظ «من» لأنّ الابتداء الّذي هو مدلولها في لفظ آخر، فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه بل في لفظ غيره؟ وإنّما يخبر عن الشيء باعتبار المعنى الّذي في نفسه مطابقة. فالحرف وحده لا معنى له أصلاً، إذ هو كالعَلَم المنصوب بجنب شيءٍ ليدلّ على أنّ في ذلك الشيء فائدة مّا، فإذا أفرد عن ذلك الشيء بقي غير دالّ على معنى [في شيء((2))] أصلاً».

ثم اعترض على نفسه: بأنّ «طويلاً» في قولك: «رأيت رجلاً طويلاً» موجد لمعناه وهو الطول، في لفظ آخر وهو «رجلاً»، مع أنّه ليس بحرف.

وأجاب: بأنّ معناه ليس هو الطول فقط، بل من له الطول مأخوذ فيه أيضاً على وجه الإجمال، وإنّما يتعيّن بالموصوف.

ثم اعترض بالمصدر المضاف كضرب زيد، إذ ليس من له الضرب مأخوذاً فيه، فهو موجد لمعناه في لفظ غيره.

وأجاب: بأنّه وإن كان كذلك في المثال، لكنّ المصدر لم يوضع لذلك، لصحّة قولنا: «الضرب شديد» بدون الإضافة إلى من له الضرب.((3)) انتهى ما أردناه.

ويرد عليه بظاهره، مضافاً إلى أنّه لم يزد المطلب إلّا إعضالاً، أنّ هذا المعنى بعد فرض وحدته، كيف يكون إذا أفاده لفظ «الابتداء» مدلولاً لنفسه وإذا أفادته لفظة

ص: 25


1- في المصدر، «مضمونه».
2- ما بین المعقوفین لیس في المصدر.
3- رضي الدین الأسترآبادي، شرح الکافیة، ج1، ص38.

«من» مدلولاً للفظ آخر منضافاً إلى مدلوله الأصلي؟ مع أنّ هذا لا يخلو من تهافت بل لا يتصوّر له معنىً معقول.

وقال بعض من تأخّر((1)) عنه، في توضيح ما ذكره بعضهم في شرح التعريفين المذكورين، بعد إرجاع الضميرين فيهما إلى المعنى، من قوله: أي ما دلّ على المعنى بلحاظه في نفسه، أو لا بلحاظه في نفسه بل في متعلّقه، ما هذه عبارته بأدنى تغيير: «كما أنّ في الخارج موجوداً قائماً بذاته وموجوداً قائماً بغيره، كذلك في الذهن معقول هو مدرَك قصداً ملحوظاً في ذاته يصلح لأن يحكم عليه وبه، ومعقول هو مدرَك تبعاً وآلة لملاحظة غيره فلا يصلح لهما، فالابتداء مثلاً إذا لوحظ قصداً وبالذات كان معنىً مستقلاً بالمفهومية، ولزمه تعقّل متعلّقه إجمالاً وتبعاً من غير حاجة إلى ذكره، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ الابتداء، بلا حاجة إلى ضمّ ما یدلّ على متعلّقه؛ وإذا لوحظ من حيث هو حالة بين السير والبصرة مثلاً وجعل آلة لتعريف حالهما كان معنىً غير مستقلّ بالمفهومية، ولا يصلح لأن يحكم عليه وبه، ولا يتعقّل إلّا بتعقّل متعلّقه بخصوصه، ولا يمكن أن یدلّ عليه إلّا بضمّ ما یدلّ على متعلّقه.

والحاصل: أنّ لفظ «الابتداء» موضوع لمعنى كليّ ولفظة «من» لكلّ واحد من جزئياته المخصوصة المتعلّقة من حيث إنّها حالات لمتعلّقاتها، وآلات لتعرّف أحوالها، وذلك الكلّي يمكن أن يتعقّل قصداً ويلاحظ في حدّ ذاته فيستقلّ بالمفهومية ويصلح أن يحكم عليه وبه، بخلاف تلك الجزئيّات فلا تستقلّ بها ولا تصلح لهما».((2)) انتهى.

ص: 26


1- وهو السیّد شریف عليّ بن محمد الجرجاني المتوفّی بشیراز، سنة، 816 ق.
2- راجع: حاشیة الجرجاني علی شرح الکافیة، ج1، ص9 – 10؛ وتعلیقاته علی شرح الشمسیة، ص33، ذیل قوله: إشارة إلی قسمة الاسم بالقیاس إلی معناه.

وبمثل هذا فرّق بينهما شيخنا العلّامة(قدس سره) أيضاً في مواضع من هذا الكتاب((1)) وغيره، لکنّه كما ترى أنكر كون «من» موضوعة للجزئيات. ولعلّ الظاهر من كلام ذاك القائل أيضاً أنّ مناط الفرق ليس هو الكلية والجزئية، بل اللحاظ على وجه الاستقلال والآلية، لکنّه زعم أنّ الثاني لا يكون إلّا في جزئياته، فهو حينئذٍ بحث آخر يأتي بيانه.

ثم إنّ هذا البيان وإن كان أقلّ إعضالاً من الأوّل، لکنّه لعدم بيانه حقيقة هذين اللحاظين ربما يورد عليه: بأنّ هذا المعنى الواحد كيف يلحظ تارة قصداً وبالذات، واُخرى حالة بين شيئين وتبعاً لهما وآلة لتعرّف حالهما؟ وأيّ معنى لهذين اللحاظين؟ وأيضاً فهذا المعنى الّذي ليست ماهيته إلّا الإضافة بين شيئين، كيف يسلب عنه ذلك ويصير معنىً ملحوظاً على وجه الاستقلال؟ وهل يكون هذا إلّا سلباً للشيء عن نفسه؟

وذكر بعض المتأخّرين:((2)) أنّ لفظ الابتداء والانتهاء والظرفيّة وأشباهها موضوعة للإضافات المخصوصة الّتي تفهم منها، ولفظة «من» و«إلى» و«في» للارتباطات الحاصلة بين معاني المتعلّقات بسبب هذه الإضافات. انتهى.

وربما يورد عليه: بأنّ الإضافات المذكورة وأشباهها ليست ماهيّاتها إلّا الارتباطات بين المعاني، فليست الارتباطات بينها شيئاً غيرها حتى يصحّ جعلها معاني للأسماء، وجعل الارتباطات الحاصلة بها معاني للحروف.

ولعلّ منشأ هذه الإيرادات هو عدم وفاء عباراتهم بأداء مقاصدهم على ما هو حقّه، وإلّا فبعد تحقيق المسألة يتبيّن أنّه يمكن تنزيل جميعها عليه.

ص: 27


1- منها في مبحث المشتقّ. الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص63.
2- وهو السّيد علّي القزویني في حاشیته علی القوانین، ج1، ص11، عند قول المصنّف: «وکذلك الفعل».

فتحقيق المقام هو:

إنّ ارتباط أحد الأمرين إلى الآخر جوهرين كانا أو عرضين أو مختلفين، وكلّيّين كانا أو جزئيّين أو مختلفين، بأيّ نحو من أنحاء الارتباط من العليّة والمعلوليّة، والتقدّم والتأخّر، والظرفيّة والمظروفيّة، والأوّلية والآخريّة، وأشباهها لا تحقّق له في نفس الأمر بغير وجود طرفيه بما لهما من الخصوصيّة هو المنشأ لانتزاع تلك الإضافات، ولا معنى لتحقّقها في نفس الأمر سوى ذلك.

نعم، للعقل أن ينتزعها من خصوصيّة الطرفين، ويتصوّرها أشياء بحيالها وعلى وجه الاستقلال، لکنّها حينئذٍ تخرج عن كونها ارتباطاً بين شيئين بالحمل الشائع وإن كان ارتباطاً بالحمل الذاتي. فكون شيئين مرتبطين بالحمل الشائع لا يكون في الخارج ولا في الذهن إلّا بأن يكون الارتباط مندكّاً فيهما موجوداً بعين وجودهما.

ولمّا كانت الحاجة ماسّة في المحاورات إلى تفهيم الارتباطات على كلا الوجهين، فتارة: يريد تصويرها للمخاطب في نفسها بحيث يتصوّرها ممتازة عن غيرها من المفاهيم، واُخرى: يريد تصوير طرفيها مرتبطين بشيءٍ من الارتباطات، فلا جرم كانت الألفاظ الموضوعة لها قسمين:

فمنها: ما وضع لإفادتها بعد انتزاعها من طرفيها، وصيرورتها أشياء بحيالها. وهذا القسم يكون كسائر الألفاظ الدالّة على المعاني المستقلّة من الجواهر والأعراض، متى سمع شيء منها فهم معناه بلا حاجة إلى غيره.

ومنها: ما وضع لإفادتها حال كونها ارتباطاً حقيقيّاً بالحمل الشائع، أي وضع ليفيد كون الطرفين مرتبطين كذلك. ولا يمكن ذلك إلّا بأن يكون موضوعاً لأن يجعل في الكلام بجنب اللفظين الدالّين على طرفي الارتباط، لا لأن يتصوّر بحذائه ذلك الارتباط حتى يخرج عن كونه ارتباطاً حقيقيّاً، وينتقض الغرض، بل لأن يفهم بسببه

ص: 28

ما يفهم من اللفظين من المعنى متخصّصين بخصوصيّة تكون منشأً لانتزاع ذلك الارتباط منهما إذا نظر إليهما العقل بنظر آخر غير هذا النظر الّذي يكون الارتباط بحسبه ارتباطاً بالحمل الشائع ومندكّاً في الطرفين. فهذا القسم هي الحروف الدالّة عليها، والقسم الأوّل أسماؤها.

ويدلّ على ذلك أنّك إذا سمعت قائلاً يقول: «السير»، «الصدور»، «زيد»، «الابتداء»، «البصرة»، «الانتهاء»، «الكوفة» تصوّرت معاني بعضها جواهر وبعضها أعراض وبعضها ارتباطات بالحمل الذاتي، من [دون] أن تفهم أنّ شيئاً منها مرتبط إلى آخر بشيءٍ من الارتباطات.

وإذا سمعته يقول: «سار زيد من البصرة إلى الكوفة» فهمت وجود سير مرتبط إلى زيد بصدوره منه، وإلى البصرة والكوفة باقتطاعه عندهما أوّلاً وآخراً؛ فيعلم بذلك أنّ ألفاظ «الصدور» و«الابتداء» و«الانتهاء» توجب تصوّر تلك المفاهيم المنتزعة المستقلّة، بخلاف هيأة الفعل والفاعل و«من» و«إلى» الواقعتين بين المتعلّق والمجرور، فإنّها تفيد السير المرتبط إلى زيد والبصرة والكوفة، أي تفيد منشأ انتزاع هذه المفاهيم. ولهذا لا يصحّ استعمال کلّ منهما في موضع الآخر؛ لأنّ كيفيّة عملهما في المعنى مختلفة، بل في غاية المباينة. ولا يمكن وقوع الحرف محكوماً عليه وبه؛ إذ ليس له معنىً متصوّر بحذائه حتى يحكم عليه أو به، وما يفيده أمر مندكّ في معنى طرفيه، ولذا قال الرضيّ: فكيف يخبر عن لفظ ليس معناه فيه بل في لفظ آخر، بخلاف القسم الأوّل؛ فإنّ معناه أمر متصوّر يكون بحذائه. ولا ينافي ذلك قولهم: «من» للابتداء، فإنّه في مقام بيان ما تفيده لفظة «من» من أنحاء الارتباطات، فلابدّ من ذكر ما يفيده تصوّراً بعد الانتزاع، وهو لفظ الابتداء.

فظهر بما ذكرناه أنّ لفظة «من» لا يقع بحذائها شيء من المعنى مطلقاً، بل ولا تفيد

ص: 29

أيضاً فائدة إلّا إذا ضمّت إلى لفظي الطرفين، فحينئذٍ تفيد تخصّص الطرفين بما ذكرناه من الخصوصيّة. وهذا هو مراد الرضيّ(قدس سره) بقوله: «فالحرف وحده لا معنى له أصلاً، إذ هو كالعَلَم المنصوب بجنب شيءٍ ليدلّ على أنّ فيه فائدة مّا، فإذا افرد عنه بقي غير دالّ على معنى في شيءٍ»، وقوله: «ومعنى «من» مدلول لفظ آخر ينضاف إلى معناه الأصلي». فاندفع بهذا ما أوردنا عليه سابقاً من التناقض.

فكلامه(رحمه الله) في غاية التحقيق، ولكن تسليمه الاعتراض بالمصدر المضاف واعتذاره عنه بأنّه ليس بالوضع، كأنّه أجنبيّ عمّا هو التحقيق، ولا ينبغي صدوره من مثله؛ فإنّ «الضرب» له معنى يقع بحذائه، غاية الأمر أنّه قائم بغيره، ولذا يمكن أن يحكم عليه وبه، وأين هو من الحروف الّتي لا يقع بحذائها شيء من المعنى أصلاً، وإنّما يكون ما تفيده فيما بحذاء لفظي الطرفين؟ ومن هنا يكون إرجاع الضمير في قولهم: «الحرف ما دلّ على معنى في غيره» إلى اللفظ أولى من إرجاعه إلى المعنى، لصدقه على التقدير الثاني على ألفاظ الأعراض مع أنّها ليست بحروف، فتدبّر.

إذا عرفت ما ذكرناه، تبيّن لك أنّ ما أفاده المصنّف(قدس سره) في مسألة المشتقّ((1)) من افتراق الإسم والحرف في كيفيّة الإستعمال في المعنى، وهو المراد بما أفاده هنا من كون افتراقهما في الوضع،((2)) في غاية الجودة. ولكن ما ذكره من أنّ ما يستعمل فيه

ص: 30


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص42 (مبحث المشتقّ).
2- وإلیك نصّ ما أفاده في الکفایة: «الفرق بینهما إنّما هو في اختصاص کلّ منهما بوضع، حیث إنّه وضع الاسم لیراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف لیراد منه معناه لا کذلك ، بل بما هو حالة لغیره...». فلیس مراد صاحب الکفایة، إیجاد الفرق بینهما باشتراط الواضع، بل مراده کما صرّح به السّید البروجردي(قدس سره) أنّ الواضع وضع الحروف علی معناها، ولکن بغایة وغرض أن تستعمل عند لحاظ المعنی حالة في غیره، فتأمّل.

لفظة «من» هو عين ما يستعمل فيه لفظ الإبتداء،((1)) وهو المعنى الكلّي المجرّد عن جميع الخصوصيّات عند استعمالها فيه وإن كان يتقيّد بعدُ بمداليل الألفاظ الاُخر؛ كأنّه بعيد من الصواب.

انتهى ما كان عندنا من حاشية سيّدنا الاُستاذ(قدس سره) - بإنشائه وقلمه الشريف - على الكفاية.

ص: 31


1- وإلیك نصّ ما ذکره في الکفایة: «والتحقیق - حسبما یؤدّي إلیه النظر الدقیق - أنّ حال المستعمل فیه والموضوع له فیها حالهما في الأسماء...».

ص: 32

الأمر الثالث: في الاستعمال المجازي

وقد أفاد سيّدنا الاُستاذ فيما حقّقه في هذا البحث على ما يستفاد من تقريرات بحثه الّتي كتبها بعض الأفاضل من تلامذته)(1)) في بروجرد حاشية على الكفاية.

قوله(قدس سره): «صحّة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان ؛ أظهرهما أنّه بالطبع...».

إنّ الاستعمالات المجازية لا تحتاج صحّتها إلى وضع مختصّ بها، بل يكفي فيها وضع الألفاظ لمعانيها الحقيقية واستعمال تلك الألفاظ في غيرها من المعاني المشابهة أو المضادّة أو المناسبة لمعانيها الحقيقية؛ ويكفي في ذلك ملاحة هذا الاستعمال حسبما يدركه و يستحسنه الذوق والطبع المستقيم.((2))

فالتحقيق: أنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي يكون بتوسّط استعماله في المعنى

ص: 33


1- وهو الحجّة الشیخ بهاء الدین الحجّتي البروجردي في کتابه: الحاشیة علی کفایة الاُصول.
2- هذا هو أحد القولین في المسألة، و ذهب إلیه متأخّر و الاُصولیین، منهم صاحب الفصول في فصوله (الأصفهاني، ص25)؛ والمحقّق الخراساني في الکفایة (ج1، ص19). وفیها قول آخر وهو، توقّف صحّة استعمال اللفظ في غیر ما وضع له علی ترخیص الواضع وإجازته، وبعبارة اُخری: أنّه منوط بالوضع واستعمال الواضع، وهذا القول منسوب إلی الاُدباء، وذهب إلیه القميّ في القوانین (ج1، ص 64)؛ والعراقي، في بدائع الأفکار في الاُصول (ج1، ص87).

الحقيقي، لا بأن يستعمل في المعنيين، بل يستعمل المتكلّم اللفظ في الموضوع له مدّعياً اتّحاده مع غير الموضوع له بنفس ذلك الاستعمال ونصب القرينة على أنّ مراده الجدّي غير الموضوع له. فالمتكلّم الّذي يرى ادّعاءً اتّحاد الموضوع له مع غيره، يستعمل اللفظ في الموضوع له، ويفهم ادّعاءه وإرادته الجدّية بنفس استعمال اللفظ ونصب القرينة. فهو يستعمل لفظ الأسد في الحيوان المفترس المتّحد مع الرجل الشجاع ادّعاءً الّذي هو مراده الجدّي في قوله: رأيت أسداً.((1))

ص: 34


1- هذا ما یستفاد من عبارته، وإن شئت قل، الاستعمال المسمّی بالمجاز هو: استعمال اللفظ في المعنی الحقیقي الّذي یکون من مصادیقه ادّعاءً المعنی الّذي هو مراد المتکلّم. وبعبارة اُخری: هو استعمال اللفظ في المعنی الحقیقي الّذي یدّعي المتکلّم أنّ غیره الّذي هو مراده الجدّي من مصادیقه. هذا وتفصیل البحث وما حقّقه السیّد الاُستاذ(قدس سره) یطلب من الحاشیة علی الکفایة (الحجّتي البروجردي، ج1، ص37 وما یلیها). [منه دام ظلّه العالي].

الأمر الرابع: في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه، أو صنفه، أو شخصه

إعلم: أنّه لابدّ للإنسان في إفهام مقاصده لغيره ممّا یدلّ عليها، وليس يوجد فيما یدلّ عليها أسهل وأدلّ من الألفاظ، ولمّا لم تكن بين اللفظ والمعنى علاقة ذاتية بها يختصّ کلّ واحد من الألفاظ بمعنى خاصّ من المعاني حتى ينتقل الذهن منه إليه، احتاج إلى علاقة وضعية يصير بها کلّ لفظ فانياً في معناه، فجعل لکلّ معنى من المعاني لفظاً خاصّاً يفهم به المخاطب مراد المتکلّم. هذا إذا كان المتکلّم مريداً لمعنى من المعاني.

وأمّا إذا كان مراده نفس اللفظ والحكم عليه أو به، فلا حاجة إلى هذه العلاقة الوضعية؛ لأنّه ليس في ذلك دلالة شيءٍ على شيءٍ أو إرادة شيءٍ من شيءٍ أو استعمال شيءٍ في شيءٍ، بل کلّ ما هناك هو إفهام المتكلم مقصده بنفس إيجاد اللفظ ليلتفت ذهن المخاطب إليه.

وهذا اللفظ الّذي يوجده المتکلّم يكون جزئيّاً حقيقيّاً بالنظر إلى وجوده الخاصّ. ومع قطع النظر عن ذلك يكون كليّاً؛ فإن أوجده وأراد به أن يلتفت الغير إلى وجوده الخاصّ، فهو من إيجاد اللفظ وإرادة شخصه، أي إرادة التفات المخاطب إلى شخصه جزئياً.

وإن أوجده مطلقاً لالتفات الغير إليه، فهو من إيجاد اللفظ لأن يلتفت الغير إلى نوعه.

وإن أوجده مقيّداً بقيد زائد يخصّه بصنف خاصّ يريد التفات المخاطب إليه، فهو من إيجاد اللفظ للالتفات إلى صنفه.

ص: 35

وليس ذلك من باب استعمال اللفظ ودلالته على معناه الّذي وضع له اللفظ، حتى يورد على الحكم عليه بشخصه باتّحاد الدالّ والمدلول، أو تركّب القضیّة من جزءين،((1)) فافهم وتدبّر.

ص: 36


1- هذه خلاصة إشکال وجواب، وأصل الإشکال في الفصول الغرویّة ( الأصفهاني، ص22)، عند قوله: «فصل: قد یطلق اللفظ...». وانظر تفصیل الجواب في الکفایة (الخراساني، ج1، ص20).

الأمر الخامس: في أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها بما هي هي

إعلم: أنّه قد استقرّ بناء العرف والعقلاء على استخدام الألفاظ لإفهام مراداتهم ومقاصدهم؛ لأنّه ليس فيما يتوسّل به لذلك ما هو أسهل من الألفاظ الجارية على اللسان. ولمّا لم يكن للألفاظ بالذات اختصاص بمعانيها الخاصّة وضعوا لکلّ معنى من المعاني لفظاً خصّ به حتى يكون دليلاً عليه ومرآةً له. والغرض من الوضع وإن كان استخدام هذه الألفاظ عند إرادة تلك المعاني، إلّا أنّ هذا ليس من قيود المعنى، وإلّا يلزم أن لا يكون المعنى حاصلاً في الخارج، ولا يكون اللفظ مرآة لما في الخارج، مثلاً لفظ «إنسان» إذا كان موضوعاً للطبيعة الكلّية الّتي تصدق على أفرادها الخارجية يصدق عليها لا محالة، أمّا إذا كان موضوعاً لها إذا كانت مرادة، فالمعنى بهذا الاعتبار لا يوجد إلّا في الذهن؛ لأنّ ما في الخارج ليس إلّا المعنى وأفراد الإنسان، فلابدّ من استعمال اللفظ في جزء معناه مجازاً حتى يتم به الغرض، أي إفهام المعنى وهو الإنسان الموجود خارجاً بأفراده.

ولا يصحّ أن يكون ذلك من باب الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ؛ إذ أنّ ذلك يصحّ إذا لوحظ معنىً كليٌّ ووضع اللفظ بإزاء کلّ فرد من أفراده، بخلاف ما إذا لوحظ معنىً كلّي مقيّد بقيد لا يتحقّق معه إلّا في الذهن ووضع له اللفظ، فلا يصحّ

ص: 37

استعمال هذا اللفظ في المعنى الخالص من القيد إلّا مجازاً، بل لا يصحّ وضع اللفظ لأفراد ذلك الكلّي خالصاً من هذا القيد، فإنّه من وضع اللفظ لغير ما لوحظ من المعنى. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ هذا ليس إلّا من ملاحظة المعنى الكلّي الخالص من قيد كونه مراداً ووضع اللفظ للمعنى الكلّي أو لأفراده.

وبالجملة: لا يتصوّر لوضع اللفظ للمعنى بما هو مراد المتکلّم فائدة عقلائية، بل إنّ ذلك ينافي حكمة الوضع. هذا مضافاً إلى غير ذلك ممّا يترتّب عليه من المفاسد.

ومن ذلك يعلم: أنّ ما حكي عن المحقّق الطوسي وابن سينا((1)) من أ نّهما ذهبا إلى «كون الألفاظ موضوعة لمعانيها بما هي مرادة» ليس في محلّه، ولا يصحّ أن ينسب إلى مثلهما.

ص: 38


1- راجع: ابن سینا، الشفاء، قسم المنطق، الفصل الثامن من المقالة الاُولی من الفنّ الأوّل، ص42؛ الخواجة نصیر الدین الطوسي، شرح الإشارات والتنبیهات، ج1، ص32. والحاکي عنهما صاحب الفصول في فصوله (الأصفهاني، ص17- 18). وحمل صاحب الکفایة (الخراساني، ج1، ص22) کلامهما علی الدلالة التصدیقیّة، فراجع.

الأمر السادس: في علائم الحقيقة والمجاز

اعلم: أنّ مختار المشهور((1)) في الفرق بين الحقيقة والمجاز: أنّ الحقيقة استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له - أي المعنى الّذي جعل اللفظ مرآة له ومختصاً به - تعييناً أو تعيّناً. وأمّا المجاز فاستعماله في غير ذلك المعنى؛ لوجود علاقة بينه وبين المعنى الحقيقي - الموضوع له - .

والمختار عندنا:((2)) أنّ المستعمل فيه في الاستعمالين هو المعنى الحقيقي، إلّا أنّ المستعمِل في الأوّل يجعل اللفظ بحذاء المعنى بما هو هو، وفي الثاني يستعمل فيه أيضاً بادّعاء كون مراده الجدّي عين المعنى الموضوع له (أو من أفراده ومصاديقه).

وأمّا إذا تردّد الأمر في أنّه استعمل على النحو الأوّل أو الثاني؟ فالظاهر أنّ ذلك يفهم من ملاحظة كيفية المحاورة ومن تعابيرهم في بيان المقاصد والمرادات.

ويمكن أن يقال: إنّ الأصل بعد ما علم المعنى الموضوع له حمله على الاستعمال في المعنى الحقيقي، إلّا إذا ثبت خلافه بوجه من الوجوه، وإن كان ذلك لصيرورة المعنى

ص: 39


1- راجع: التفتازاني، المطوّل، ص278؛ العلّامة الحلّي، مبادئ الوصول إلی علم الاُصول، ص77؛ القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص13؛ الأصفهاني، الفصول الغرویّة، ص14.
2- کما ذهب إلیه السکّاکي في الإستعارة، وأمّا في غیر مجاز الإستعارة فهو یقول بمقالة المشهور بأنّه استعمال اللفظ في غیر ما وضع له. راجع: السکّاکي، مفتاح العلوم، ص156 – 158.

المجازي أشهر أو مساوياً في الاستعمالات مع المعنى الحقيقي، فحينئذٍ يستفاد ذلك من التامّل في المحاورات.

وأمّا إن كان الشكّ في المعنى المراد من جهة الشكّ في المعنى المجازي والحقيقي، لا من جهة أنّ المتکلّم استعمله في المعنى المجازي أو الحقيقي المعلومَين عند الطرفين، حتى يقال: الأصل أو الظاهر استعماله في المعنى لحقيقي، بل الشكّ في أنّه أيّ واحد من المعنيين حقيقيٌّ لكي يحمل اللفظ عليه، وأىّ واحد منهما مجازي حتى لا يحمل عليه؟ فهنا يرجع إلى علائم الحقيقة والمجاز.

فمنها: التبادر

والمعروف أنّه علامة اختصاص اللفظ بالمعنى - تعييناً أو تعيّناً -. وبعبارة اُخرى: تبادر المعنى من اللفظ ودلالته عليه وانسباقه إلى الذهن علامة الحقيقة واختصاص اللفظ بالمعنى.

لكنّ الظاهر أنّ التبادر عين الوضع، لا أنّه علامة عليه؛ إذ هو نفس دلالة اللفظ على المعنى، لأنّ المراد من الوضع ليس خصوص التعييني بل هو أعمّ منه ومن التعيّني، ومعنى الوضع فيهما صيرورة اللفظ دالّا على المعنى بوضع الواضع أو كثرة الاستعمال.((1))

ومنها: عدم صحّة السلب وصحّته، وصحّة الحمل وعدمه عدم صحّة سلب اللفظ بما له من المعنى المرتكز في الذهن عن المعنى المشكوك فيه علامة الحقيقة، كما أنّ صحّة سلبه عنه كذلك علامة كون اللفظ فيه مجازاً.

ص: 40


1- أقول: دلالة اللفظ علی المعنی وتبادره منه یدلّ علی حصول اختصاص اللفظ بالمعنی بدلالة الإنّ ودلالة المعلول علی علّته. ولیس أحدهما عین الآخر، بل أحدهما علّة للآخر والثاني معلول له، فالتبادر دلیل علی فعل الواضع، وعلی کثرة استعمال اللفظ في المعنی. [منه دام ظلّه العالي].

وبعبارة اُخرى: صحّة سلبه عن المعنى علامة المجاز، وصحّة حمله عليه علامة الحقيقة. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المحمول والمسلوب في القضیّة اللفظ بما له من المعنى أو نفس المعنى، وأمّا الموضوع والمسلوب عنه فلا يكون إلّا المعنى المشكوك فيه.

لا يقال:((1)) إنّ سلب المعنى الحقيقي الواحد أو بعض المعاني الحقيقية أو اللفظ بما له من المعنى الواحد أو الأكثر عن المعنى المشكوك لا یدلّ على عدم كونه المعنى الحقيقي، لاحتمال الاشتراك. كما أنّ سلب جميع المعاني الحقيقية عن المعنى المشكوك لا ينهض دليلاً على مجازيّته، أي لا حاجة إلى هذا الدليل؛ لأنّه مع العلم بجميع المعاني الحقيقية لا يبقى مجال للشكّ.

فإنّه يقال أوّلاً: إنّ ذلك يتمّ في سلب المعاني عنه بالمفهوم، ولكن السلب أعمّ من المفهوم أو المصداق، فتكون صحّته دليلاً على المجازية.

وثانياً: المعنى المسلوب ليس المعلوم كونه حقيقياً حتى يقال: مع هذا العلم لا يبقى مجال للشكّ، بل هو مفهوم مّا للّفظ في ارتكاز أهل المحاورة، فلا علم لنا بجميع المعاني الحقيقية قبل هذا السلب حتى يرد علينا الإشكال المذكور.

ومنها: الاطّراد وعدمه

ولا يخفى أنّ المراد من علامية عدم الاطّراد إن كان بملاحظة نوع العلائق المجازية، فلا ريب في عدم اطّراده، وإن كان بملاحظة صنفها، فلا ريب في اطّراده،((2)) نعم بناءً على مختارنا في الفرق بين الحقيقة والمجاز - وأنّ اللفظ في كليهما يستعمل في معناه الموضوع له، إلّا أنّه في المجاز يجعل المعنى عين المعنى الموضوع له (أو فرده ادّعاءاً) -

ص: 41


1- والقائل هو المحقّق القمّي(رحمه الله) في قوانینه، ج1، ص18.
2- کما قال في القوانین (القمّي، ج1، ص28 – 29، مبحث الحقیقة والمجاز)؛ والکفایة (الخراساني، ج1، ص28 – 29).

تصحّ العلامية؛ إذ لا يطّرد هذا الادّعاء ولا يستحسنه الذوق ولا يستملحه الطبع دائماً، مثلاً استعمال الأسد في الرجل الشجاع يستملح ويوافق الذوق في مقام حكاية رميه ودفعه العدوّ، ولا يستملح في مقام أكله أو غيره من أفعاله العادية، وهذا بخلاف استعمال اللفظ في معناه الحقيقي، فإنّه مستحسن ومقبول لدى الذوق والطبع في جميع المقامات، فيحسن استعمال زيد مثلاً في معناه في مقام الإخبار عن عمله ومدحه وفي مقام الإخبار عن جسمه وكلّ فعل وحال من أفعاله وأحواله، وهذا المعنى للاطّراد يصحّ أن يكون من علائم الحقيقة وعكسه - عدم الاطّراد - من علائم المجاز.((1))

ص: 42


1- وتفصیل ذلك یطلب من کتاب: الحجّة في الفقه (الحائري الیزدي، ج1، ص53 - 56).

الأمر السابع: في الصحيح والأعمّ

اشارة

قد وقع الخلاف بينهم في أنّ المسمّى بأسماء العبادات مثل الصلاة والصوم والحجّ، هو ما كان مصاديقه خصوص الصحيح وما يترتّب عليه الأثر ويقع به الإمتثال، أو أعمّ منه وممّا يقع فاسداً ولا يتحقّق به الإمتثال؟

فلا يتوهم أنّ مرادهم من عنوان البحث - بأنّ ألفاظ العبادات هل هي أسامٍ لخصوص الصحيحة أو أعمّ منها - هو كون مفهوم الصحيح مأخوذاً في المعنى والمسمّى أم لا؟ فإنّ عدم كون ذلك مأخوذاً في تلك الأسامي، معلوم مسلّم عند الجميع.

وقبل الورود في البحث ينبغي التنبيه على اُمور:

التنبيه الأوّل: المراد من الصحّة والفساد

إنّ المراد بالصحّة هو التماميّة، ويعبّر عنها في الفارسية ب- «درستى»؛ وعمّا يوصف بها بالصحيح والتامّ بالعربية، وبالفارسية ب- «درست». ومقابل الصحّة الفساد المعبّر عنه في الفارسية ب- «نادرستى»، كما أنّ مقابل الصحيح الفاسد المعبّر عنه في الفارسية ب- «نادرست».

وهذا التقابل لا يأتي في الأشياء بالنسبة إلى نفس ذواتها فلا يتّصف بالصحّة والفساد الموجود في الخارج، بل ولا المفاهيم بالنسبة إلى ذواتها، بل الاتّصاف بهما

ص: 43

يكون بالنسبة إلى غير ذواتها من العناوين الخارجة عنها، فيوصف الشيء بالصحّة إذا كان مصداقاً لعنوان مّا، وبالفساد إذا لم يكن كذلك.

وبالجملة التقابل بين الصحّة والفساد تقابل العدم والملكة،((1)) ولا يتصوّر في نفس الشيء وذاته بل لابدّ أن يكون بين الشيء وعنوان من العناوين، فهو يتّصف بالصحّة إذا كان مصداقاً لهذا العنوان، ويتّصف بالفساد إذا لم يكن مصداقاً له مع أنّ من شأنه أن يقع مصداقاً له.

وبالجملة: الصحّة والفساد لا يأتيان مثلاً في أفعال الصلاة مثل الركوع والسجود والقيام بالنسبة إلى ذواتها، أي الحركة المحقّقة في الخارج، فهي لا تتّصف بالفساد؛ لأنّ معنى اتّصافها بالفساد نفي ذاتها عن ذاتها وسلب الشيء عن نفسه، ولذا لا توصف بالصّحة أيضاً؛ لأنّ ما لا يوصف بالفساد لا يوصف بالصّحة، ولكن توصف هذه الحركة الخاصّة بالصحّة بالنسبة إلى عنوان الركوع أو السجود أو القيام، فإذا كانت مصداقاً بالنسبة إلى هذا العنوان تكون صحيحة، وإذا لم تكن مصداقاً له تكون فاسدة.

وممّا ذكر يظهر أنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان، ولذلك يمكن أن يكون شيء واحد صحيحاً بالنسبة إلى عنوان أو عناوين، وفاسداً بالنسبة إلى عنوان أو عناوين اُخرى.

التنبيه الثاني: تصوير الجامع

لا يخفى أنّه لابدّ من تصوير الجامع بين أفراد الصحيح على القول به، وأفراد الأعمّ أيضاً على القول به، إلّا أنّهم وقعوا لذلك في الإشكال. ولا ريب في عدم إمكان تصوير

ص: 44


1- قال في التعریفات باب المیم: «المتقابلان بالعدم والملکة أمران أحدهما وجودي والآخر عدميّ ذلك الوجوديّ لا مطلقاً، بل من موضوع قابل له، کالبصر والعمي والجهل؛ فإنّ العمی عدم البصر عمّا من شأنه البصر، والجهل عدم العلم عمّا من شأنه العلم». الجرجاني، التعریفات، ص 86.

جامع ذاتي على القولين، لعدم تعقّل الجامع الذاتي بين الاُمور المتباينة بالذات. كيف ولا يعقل ذلك في خصوص ما هو المصداق للصلاة مثلاً، كصلاة الكامل المختار التامّة الشرائط والأجزاء، فلا جامع ذاتي بين هذه الأجزاء والشرائط يختصّ بها دون غيرها؛ فما ظنّك بالجامع الذاتي بين جميع مراتب الصلاة - قصراً وتماماً، ومضطرّاً ومختاراً- .

أمّا الجامع بين مثل أجزاء الصلاة وشرائطها وبين مراتبها وأفرادها فليس إلّا ما يكون عرضياً، سواء كان المختار هو القول بالصحيح أو الأعمّ.

فنقول: أمّا الجامع العرضي بين أفراد الصحيح، فقال في الكفاية: «لا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة، وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره، فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد، يؤثّر الكلّ فيه بذاك الجامع، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصلاة مثلاً: بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما».((1)) انتهى.

ويمكن الإيراد عليه:

أوّلاً: بأنّ الأثر الخاصّ المترتّب على أفراد الصلاة إذا كان مثل النهي عن الفحشاء أو كونها معراج المؤمن، لا يمكن أن يكون هو الجامع بين الأفراد والمسمّى بالصلاة، لأنّه لا يثبت به عدم ترتّبه على غيرها.

وثانياً: بأنّ الظاهر من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْ-مُنْكَرِ﴾،((2)) أنّها حقيقة يكون النهي عن الفحشاء أثرها، ولو كان معنى الصلاة هو الناهية عن الفحشاء يصير المعنى: الناهية عن الفحشاء تنهى عن الفحشاء، وهو المصادرة على المطلوب، وهذا لا يليق بالقرآن الكريم.

ص: 45


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص36. ولا إشکال فیما أفاد؛ فإنّ ترتّب أثرٍ واحدٍ علی أشیاء متباینة متکثّرة، یدلّ علی وجود جامع عرضي واحدٍ بینها. [منه دام ظلّه العالي].
2- العنکبوت، 45.

فالصحيح أن يقال بأنّ ما هو الجامع العرضي بين أفراد الصلاة هو ما لا يتحقّق في ضمن غيرها مثل: غاية الخضوع وكمال العبودية والتوجه الخاصّ الّذي يتحقّق في ضمن أفرادها المختلفة الأجزاء والشرائط بحسب الحالات، حتى وإن لم نعلم به تفصيلاً إلّا أ نّنا نعلم بوجوده في الجملة، فإذا دلّ الدليل على أنّ المسمّى باسم الصلاة أو الصوم أو غيرهما هو الصحيح نأخذ به، ونقول بالقدر الجامع بين أفراد الصلاة الصحيحة أو الصوم الصحيح.

وقد يشكل: بأنّ الجامع الّذي لم نتحصّله بعنوان لا يمكن أن يكون أمراً مركّباً؛ إذ کلّ ما فرض جامعاً يمكن أن يكون صحيحاً وفاسداً. كما لا يمكن أن يكون أمراً بسيطاً؛ لأنّه إمّا أن يكون مثل عنوان المطلوب، أو ملزوم المطلوب المساوي له، والأوّل مستلزم للدور لتوقّف تحقّق هذا العنوان على الطلب وتوقّف الطلب عليه. مضافاً إلى أنّه جامع عامّ يشمل جميع أفراد العبادات. ومضافاً إلى أنّ ذلك مانع من إجراء البراءة في أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الإجمال حينئذٍ في المأموربه وإنّما الإجمال فيما يتحقّق به وفي مثله لا مجال لها، كما حقّق في محلّه، مع أنّ المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشكّ فيهما.

وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضاً، فلا تجري البراءة معه.

وأجاب في الكفاية عن هذا الإشكال: «بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکّبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات، متّحد معها نحو اتّحاد، وفي مثله تجري البراءة، وإنّما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجياً مسبّباً عن مركّب مردّد بين الأقلّ والأكثر، كالطهارة المسبّبة عن الغسل والوضوء فيما إذا شكّ في أجزائهما».((1))

ص: 46


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص37.

وتوضيحه: أنّ مفهوم الصلاة ليس عنوان المطلوب ولا عناوين الأجزاء بذواتها، بل يكون عنواناً عرضياً صادقاً على کلّ الأجزاء الأصلية تارة، وعلى البعض اُخرى، وعلى أبدالها ثالثة، مع وجود جميع الشروط في الجملة تارة ومع عدمها اُخرى، وهكذا في الموانع.

وهذا العنوان العرضي لمّا كان صادقاً على الأجزاء بالفعل متّحداً معها في الخارج، كان وجوده عين وجودها، فكان بحسب الوجود مركّباً وإن كان بحسب المفهوم بسيطاً، فإذا شكّ في جزئية شيءٍ شكّ في نفس متعلّق الوجوب، فينحلّ العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بالوجوب والشكّ البدويّ فيه، فتجري البراءة النقلية على مختاره، والعقلية أيضاً على مختارنا تبعاً للقوم. وإنّما لا تجري البراءة فيما إذا كان البسيط المعلوم مسبّباً عن المرکّب، فإنّ وجوده غير صادق عليه.

ويمكن الإشكال بأنّه وإن شيّدنا أركان القول بجريان البراءة العقلية عند الشكّ في الجزئية والشرطية ودفعنا ما أورده شيخنا(قدس سره)، لكن جريان البراءة فيما إذا كان المكلّف به مفهوماً منتزعاً من جملة وجودات باعتبار الإضافة إلى شيءٍ آخر إمّا بالعلّية أو بغيرها وشكّ في مدخليّة وجود في انتزاع هذا المفهوم وتحقّق هذه الإضافة في نفس الأمر عند عدم هذا الوجود، في غاية الإشكال، وإن كان هذا المفهوم متّحداً معها حين ما يصدق، وصادق عليها حين يتحقّق، ألا ترى أنّه إذا أمر المولى عبده بإزهاق روح حيوان وهو يتحقّق منه بجملة اُمور شكّ في دخل واحد، فلم يوجده ولم يتحقّق الإزهاق لم يعدّ معذوراً وإن كان الإزهاق حين تحقّقه صادقاً على نفس هذه الجملة، وهكذا عنوان التعظيم إذا تحقّق بجملة اُمور صادق عليها وشكّ في دخل شيءٍ - جزءاً أو شرطاً-، وتمام الكلام في محلّه.((1))

ص: 47


1- راجع: الحاشیة علی کفایة الاُصول للحجّتي البروجردي، ج1، ص77 – 79. أقول: مراده من تشیید أرکان القول بجریان البراءة العقلیة ما أفاده في مبحث الأقلّ والأکثر الارتباطیّین، وأنّ الأمر إذا تعلّق بمرکّب مثل الصلاة یتعلّق بأجزائه أیضاً (ضمناً) بعین تعلّقه بالمرکّب وینبسط الأمر علی أجزائه، بحیث یوزّع علی کلّ جزءٍ من أجزائه، فیکون کلّ واحد من أجزائه مأموراً به وواجباً بالوجوب النفسي في ضمن کون جمیعها مأموراً به، لإمکان تبعّضه بالإضافة إلی کلّ جزء والحکم بوجوب هذا وهذا وغیرهما من الأجزاء، کما یمکن أن یقال بتعلّق العلم بکون هذا الجزء مأموراً به وکون هذا مشکوك الوجوب، وعلی ذلك یجوز إجراء البراءة في المشکوك وجوبه؛ للشكّ في تعلّق الأمر به ووقوعه تحت الأمر المنبسط علی الأجزاء. وعلی هذا لایکون المقام من أفراد العلم الإجمالي ومصادیقه حتی یقال بلزوم الاحتیاط في أطرافه ونحتاج لإجراء البراءة في الأکثر بالإلتزام بالإنحلال، بل تکون الشبهة بالإضافة إلی الجزء المشکوك من الشبهات البدویّة الّتی تکون المؤاخذة والعقاب علیها من العقاب بلا بیان. فإن قلت: سلّمنا أنّ الشبهة بالنسبة إلی وقوع الأکثر تحت الأمر - المنبسط علی الأجزاء - شبهة بدویة تجري البراءة فیها، ولکن بسبب الشكّ في الزائد نشكّ في امتثال الأمر المتعلّق بالأقلّ، وأنّه هل یتحقّق بدون الإتیان بالزائد أم لا؟ فالعقل حاکم بوجوب الإتیان بالمأمور به علی وجه یقطع بحصول امتثال الأمر المتعلّق به، فلابدّ إذن من الإتیان بالأکثر تحصیلاً لامتثال الأمر بالأقلّ. قلت: أوّلاً بناءً علی ما قلناه من بسط الأمر وتبعّضه وتوزیعه علی الأجزاء ووجوب کلّ واحد منها بالوجوب الضمني، یحصل لنا القطع بامتثال مقدار من الأمر - المنبسط علی جمیع الأجزاء - وهو الّذي انبسط علی الأقلّ الّذي تنجّز بالعلم به، وأمّا الزائد علیه فلیس بمتنجّز لعدم العلم به، ویعبّر عنه بالفعلي قبل التنجّز. و بالجملة: ما یتنجّز بالعلم به هو الأقلّ فقط، فیجب الإتیان به، ولا یکون العقاب علی ترکه بلا بیان. وأمّا الزائد علیه فدخله في صحّته مشکوك فیه ومرفوع بالبراءة. والغرض من عدم حصول الامتثال بدون الإتیان بالأکثر إن کان عدم العلم بحصول الغرض، ففیه: أنّ الواجب علینا الإتیان بالمأمور به ولایجب علینا تحصیل الغرض والعلم بحصوله. وإن کان المراد منه أنّ مقتضی قضیة إرتباطیة الأجزاء عدم العلم بإتیان المأمور به الأقلّ من غیر إتیانه بالأکثر وإن کان وقوعه تحت الأمر مشکوکاً فیه، ففیه: أنّ معنی الإرتباطیة: دخل کلّ جزء من أجزاء المرکّب في تحصّل المرکّب وتحقّقه، بحیث إذا لم یأت المکلّف بواحد من الأجزاء لم یأت بالمرکّب ولا یترتّب علیه أثره؛ ولیس معناه کون الجزء السابق مشروطاً بالجزء اللاحق. فالجزء المعلوم وجوبه بالوجوب الضمني یجب امتثاله ککلّ واحد من سائر الأجزاء، ومقتضی العبودیة وکون العبد في مقام امتثال الأمر المولی الإتیان به، سواء کان ما یأتي به بالوجوب الضمني (وامتثالاً للأمر الضمني المتعلّق به) تمام المرکّب المأمور به أو بعضه. نعم، إن کان بعضه ولم یأت بالبعض الآخر لعدم تنجّزه - حیث لم یتعلّق به - لا یترتّب علیه إلّا ثواب الإنقیاد، کمن علم بوجوب أمر وأتی به ثم انکشف خلافه، بل في المقام لاینکشف الخلاف، فإنّ البعض الّذي تعلّق به العلم مأمور به مطلقاً وإن لم یتعلّق علمه بغیره. وبالجملة: مقتضی وجوب البعض المعلوم وقوعه تحت الأمر بالوجوب الضمني، وجوب الإتیان به. ومقتضی کون البعض الآخر مشکوك الوجوب بالوجوب الضمني، عدم وجوبه. فالمعلوم وجوبه واجب ضمني صالح لأن یلحق به المشکوك وجوبه إن کان في الواقع واجباً، ولکن لایجب الإتیان به لأنّه مشکوك في وجوبه. إن قلت: فعلی هذا، إذا لم یکن المعلوم وجوبه تمام المرکّب وترکه المکلّف لم یکن عاصیاً وکان تارکاً للامتثال. قلت: أمّا عدم العصیان فیمکن أن نقول به، لکونه معذوراً لجهله بجمیع أجزاء المرکّب. وأمّا ترك الامتثال فیمکن التسلیم أیضاً، لأنّ الجزء المعلوم وجوبه کان مأموراً به، لعدم انکشاف الخلاف فیه، بل لا نستبعد القول بتحقّق العصیان أیضاً. واعلم: أنّ ما ذکر في هذا المقام لا نسنده بهذا التفصیل إلی السیّد الاُستاذ(قدس سره)، و إنّما هو استفادة ذهني القاصر ممّا أفاده عنه المقرّر المذکور، و الله أعلم بالصواب. و لایخفی علیك: أنّ الأمر علی هذا المبنی و تبعّض الوجوب و الأمر علی القول بالبراءة النقلیة في کمال السهولة؛ فإنّ مقتضی الجمع بین حدیث الرفع و الدلیل الدالّ علی الوجوب الضمني المتعلّق بالجزء المشکوك کون البقیّة هو مصداق الصلاة. و یأتي بعض الکلام في ذلك في مبحث الإجزاء، إن شاء الله تعالی، والله هو الهادي. [منه دام ظلّه العالي].

ص: 48

هذا كلّه في تصوير القدر الجامع على القول بالصحيح. وأمّا على القول بالأعمّ فقد ذكر لتصويره في الكفاية وجوهاً:

أحدها: أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة كالأركان في الصلاة مثلاً، وكان الزائد عليها معتبراً في المأموربه لا في المسمّى.((1))

وأجاب عنه أوّلاً: بأنّ التسمية بها لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأركان.

وثانياً: بعدم الصدق عليها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشرائط عند الأعمّي.

وثالثاً: بلزوم أن يكون الإستعمال فيما هو المأمور به - بأجزائه وشرائطه - مجازاً عنده، وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ، لا من باب إطلاق الكلّي على الفرد، ولا يلتزم به القائل بالأعمّ، فافهم.

ص: 49


1- راجع: القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص44.

ثانيها: أن تكون موضوعة لمعظم الأجزاء الّتي تدور مدارها التسمية عرفاً، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمّى، وعدم صدقه عن عدمه.

وأجاب عنه أوّلاً: بما أورد على الأوّل أخيراً.

وثانياً: بأنّه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى، فيكون شيءٌ واحدٌ داخلاً فيه تارةً وخارجاً عنه اُخرى، بل مردّداً بين أن يكون هو الخارج أو غيره وذلك عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سيّما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

أقول: إنّ مراد القائل بهذا الوجه إن كان مفهوم الأجزاء أو مفهوم معظم الأجزاء أو مفهوم أجزاء المطلوب بأمر «أقيموا الصلاة» أو الصحيح من الصلاة، فلا تتحصّل هذه المفاهيم إلّا بتحصّل مفهوم الصلاة، فإذا كان تحصّل مفهوم الصلاة متوقّفاً على تحصّل هذه المفاهيم يدور.

وإن كان مراده مصداق معظم الأجزاء، فمصاديقه كثيرة فلابدّ من تعدّد الوضع أو الوضع لواحدٍ منها، وهو غير الجامع بين الأفراد.

ثالثها: أن يكون وضع الصلاة كوضع الأعلام الشخصية، فكما لا يضرّ في التسمية فيها تبادل الحالات من الصغر والكبر، ونقص بعض الأجزاء وزيادتها، كذلك في الصلاة وسائر العبادات لا يضرّ بالتسمية اختلاف أفرادها حسب تبادل الحالات.

والجواب عنه: بالفرق بين ما نحن فيه وبين الأعلام الشخصية، فإنّ تلك الأعلام موضوعة للأشخاص، مثلاً لفظ «زيد» موضوع لابن عمرو، والموضوع له ليس جسم زيد وبدنه المرکّب حتى يكون اختلافه بحسب الزيادة والنقيصة موجباً لاختلاف معناه، بل الموضوع له يكون أمراً واحداً، وهو ابن عمرو الّذي هو فردٌ معيّنٌ للإنسان، وهو محفوظ في جميع الحالات الطارئة عليه، وهذا بخلاف الحقائق المرکّبة، فإنّ كلّ فردٍ منها موجودٌ بوجودٍ خاصّ تصدق عليه الحقيقة الّتي هو تحتها، وهي الجامعة بين أفرادها.

ص: 50

وبعبارة اُخرى: الموضوع له فيما يكون هو الجامع للأفراد كلّي ينطبق على أفراده لا تصوير له على القول بالأعمّ، بخلاف ما هو الموضوع له في الأعلام الشخصية، فإنّها موضوعة لها، وتشخّص كلّ فردٍ منها بوجوده الخاصّ الباقي ما بقي وجوده.

بل يمكن أن يقال: إنّ الأعلام الشخصية أيضاً وضعها كأسماء الأنواع، فهي أيضاً موضوعة للشخص الإنساني الّذي ينطبق عليه إذا كان واجداً لجميع الأعضاء والأجزاء، وكذا إذا كان فاقداً لبعضها، لكن ذلك لا يكون مصحّحاً لتصوير الجامع على القول بالأعمّ، بل يؤيّد ما ذكرناه في تصويره على القول بالصحيح، لأنّ تصويره على القول بالأعمّ يحتاج إلى جزء خارجي للعبادة يكون باقياً مع انتفاء غيره ممّا له دخل في صحّتها - جزءً أو شرطاً -، فتدبّر.

رابعها: ما ذكره أيضاً في الكفاية وردّ عليه.((1))

ويرد عليه مضافاً إلى ما أورده شيخنا الاُستاذ(قدس سره): أنّ استعمال اللفظ الّذي وضع للصحيح في ما وضع له وإرادة الفاسد منه وغير ما هو الموضوع له منه بدعوى كون

ص: 51


1- قال في الکفایة (الخراساني، ج1، ص40-41): «رابعها: إنّ ما وضعت له الألفاظ ابتداءً هو الصحیح التامّ الواجد لتمام الأجزاء والشرائط، إلّا أنّ العرف یتسامحون - کما هو دیدنهم - ویطلقون تلك الألفاظ علی الفاقد للبعض، تنزیلاً له منزلة الواجد، فلا یکون مجازاً في الکلمة - علی ما ذهب إلیه السکّاکي في الاستعارة - بل یمکن دعوی صیرورته حقیقة فیه، بعد الاستعمال فیه کذلك دفعة أو دفعات، من دون حاجة إلی الکثرة والشهرة، للاُنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة، أو المشارکة في التأثیر، کما في أسامي المعاجین الموضوعة ابتداءً لخصوص مرکّبات واجدة لأجزاء خاصّة، حیث یصحّ إطلاقها علی الفاقد لبعض الأجزاء المشابه له صورة، والمشارك في المهمّ أثراً تنزیلاً أو حقیقة. وفیه: أنّه إنّما یتمّ ذلك في مثل أسامي المعاجین، وسائر المرکّبات الخارجیة ممّا یکون الموضوع له فیها ابتداءً مرکّباً خاصّاً، ولایکاد یتمّ في مثل العبادات الّتي عرفت أنّ الصحیح منها یختلف حسب اختلاف الحالات، وکون الصحیح بحسب حالة، فاسداً بحسب حالة اُخری، کما لایخفی، فتأمّل جیّداً». یستفاد هذا الوجه لتصویر الجامع من کلمات المحقّق القمّي في القوانین (ج1، ص59). وانظر کلام السکّاکي في مفتاح العلوم (ص56، الفصل الثالث في الاستعارة).

الفاسد هو هو أو فرداً منه، لا يجعل الموضوع له الأعمّ وحقيقة فيه ولا يحدث بذلك جامعاً بين الصحيح والفاسد. غاية الأمر لو استعمل اللفظ في الفاسد وفي غير الموضوع له حتى صار حقيقةً فيه، يصير اللفظ به مشتركاً لفظياً بين المعنيين اللذين لا جامع بينهما.

نعم، يمكن تصوير الجامع بين أفراد الفاسد بأنّه ما لا يترتّب عليه أثر الصحيح.

خامسها: أيضاً ما ذكره في الكفاية وأجاب عنه.((1))

أقول: إنّ الكميّة في أسامي المقادير والأوزان ملحوظةٌ في معاني ألفاظها، لكن يمكن أن لا تكون ملحوظة على نحو لا تشمل الأقلّ منه أو الأكثر بما يتسامح العرف فيه، بل كانت ملحوظة كذلك أي على نحوٍ تشمل الأقلّ منه أو الأكثر في الجملة؛ وليس الأمر كذلك في العبادات، إذ ليست الكميّات المتّصلة أو المنفصلة مأخوذةً فيها حتى يقال بوضع الألفاظ لها، ولا ينافي ذلك أن يعرضها العدد ببعض الاعتبارات.

التنبيه الثالث: ثمرة النزاع

ذكروا((2)) أنّ ثمرة النزاع بين الصحيحي والأعمّي هو: الرجوع إلى البراءة على الأعمّ، وإلى الاشتغال على الصحيح، وذلك بناءً على التفصيل في مسألة البراءة

ص: 52


1- قال في الکفایة (الخراسانی، ج1، ص41-42): «خامسها: أن یکون حالها حال أسامي المقادیر والأوزان، مثل المثقال والحقّة والوزنة، إلی غیر ذلك ممّا لا شبهة في کونها حقیقة في الزائد والناقص في الجملة، فإنّ الواضع وإن لاحظ مقداراً خاصّاً إلّا أنّه لم یضع له بخصوصه بل بخصوصه بل لأعمّ منه ومن الزائد والناقص، أو أنّه وإن خصّ به أوّلاً بالاستعمال کثیراً فیهما، بعنایة أنّهما منه، قد صار حقیقة في الأعمّ ثانیاً. وفیه: أنّ الصحیح - کما عرفت في الوجه السابق - یختلف زیادةً و نقیصةً، فلایکون هناك ما یلحظ الزائد والناقص بالقیاس علیه کي یوضع اللفظ لما هو الأعمّ، فتدبّر جیداً». وانظر الوجه في بدائع الأفکار (الرشتي، ص139)، بعنوان الوجه الرابع. وقال المحقّق الرشتي فیه: «وهو أحسن الوجوه سلامة عن الإشکالات».
2- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص40؛ الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص113؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص9؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص43 – 44.

والاشتغال بين ما إذا كان منشأ الشكّ - في مدخلية شيء من الجزء أو الشرط في المأمور به - إجمال النصّ، فالمرجع الاحتياط، أو عدم النصّ، فالمرجع البراءة، وذلك لأنّه إذا حصل الشكّ في دخل شيء في المأمور به فعلى القول بالصحيح يكون الشكّ في المسمّى، فيصير الخطاب مجملاً، وعلى القول بالأعمّ يكون الشكّ في الزائد على المسمّى لا لإجمال الخطاب، بل لفقد النصّ الدالّ على اعتبار المشكوك فيه.

وأمّا لو قلنا بعدم الفرق - في إجراء البراءة في الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة - بين إجمال النصّ وفقده، فلا يكون ذلك ثمرة للنزاع، لأنّ البراءة تكون هي المرجع على كلا القولين.

والصحيح أنّه لا وجه للرجوع إلى الأصل في صورة وجود الدليل مثل الإطلاق أو العموم، وهنا - على القول بالأعمّ - المرجع هو إطلاق الدليل وصدق الصلاة على الفاقد للمشكوك جزئيّته فيه أو شرطيته له، فإنّه أحد أفراد المأمور به ومصاديقه. نعم، هذا يكون بعد توفّر شرائط التمسّك بالإطلاق؛ وأمّا على القول بالصحيح فلا مجال للتمسّك بالإطلاق، ولابدّ من الرجوع إلى الاحتياط. اللّهمّ إلّا أن نقول برجوع ذلك إلى الشكّ في الزائد ببيان أسلفناه في طيّ تصوير الوجوب الضمني للأجزاء.

فتلخّص ممّا ذكر: عدم الثمرة للنزاع في الصحيح والأعمّ بالقول بإجراء البراءة أو التمسّك بالإطلاق على القول بالأعمّ، والرجوع إلى الاحتياط على القول بالصحيح، وذلك لما قد ظهر لك من جريان البراءة على القول بالصحيح أيضاً.

المختار في المسألة:((1)) والحقّ الّذي يؤدي إليه النظر في بيان المختار هو: أنّ ألفاظ العبادات كلّها مستعملة في لسان الشرع فيما هو الموضوع له من أوّل الأمر في العصور الجاهلية وما قبلها بل من بدو تكوّن الإنسان، كما تدلّ عليه الآيات والأخبار على أنّ هذه الماهيّات

ص: 53


1- ربما یظهر ممّا أفاده زمیلنا الفقیه الفاضل الحائري(رحمه الله)، وغیره في تقریراته لبحث سیّدنا الاُستاذ(قدس سره) أنّه اختار في آخر البحث القول بالأعمّ. [منه دام ظلّه العالي].

العبادية ليست من مخترعات الشريعة الإسلامية، بل هي مرسومةٌ ومعمولٌ بها بين أبناء نوع الإنسان من أوائل التاريخ بل من قبل التاريخ،((1)) إلّا أنّها تختلف صورها باختلاف الأدوار والأكوار.

والخصوصيات المجعولة المستحدثة في زمن الإسلام إنّما هي الخصوصيات الفردية المذكورة في لسان الشارع لا ترتبط بالوضع أو الاستعمال المجازي، بل هي مستفادة بالقرينة من باب تعدّد الدالّ والمدلول، كما بنى عليه الباقلاني.((2))

وهذا الّذي قلناه ثابت في تمام الماهيات العبادية من الصوم والصلاة والحجّ والزكاة وغيرها من العبادات، ولذلك قد أنكرنا الحقائق الشرعية أو المتشرعيّة. فالموضوع له هو الحقيقة الّتي وضعت لها هذه الألفاظ من أوّل الأمر، ومعلوم أنّ معانيها أعمّ من الأفراد الموجودة في العصور الجاهلية أو الأفراد الصحيحة الّتي أمر بها الشارع، وهذا يكفي في إثبات القول بالأعمّ، فلا نحتاج في إثبات الأعمّ إلى غير ما أسلفناه في الحقيقة الشرعية.((3))

ونتيجة ذلك: أنّ المرجع فيما شكّ في جزئيّته أو شرطيته في العبادات هو أصالة البراءة؛ لأنّ الشكّ فيه شكّ في وجود الدليل على دخل المشكوك فيه في المأمور به - شرطاً أو شطراً - . وأمّا الإطلاقات فليست في مقام بيان ما هو من مصاديق الصلاة مثلاً في شرع الإسلام حتى يتمسّك بها، وإنّما هي تشير إلى المعنى المركوز في الأذهان - بحسب العرف واللغة - الصادق على أفراده المختلفة حسب المقرّر في الشرائع السابقة وحسب ما يقرّر أو قرّر وبيّن في شرعنا الخالد. إذن فليس هنا إلّا البراءة عمّا نشك في دخله في الصلاة وغيرها، والله هو العالم.

ص: 54


1- الظاهر أنّ مثل هذا التعبیر لیس من السیّد الاُستاذ کما لایخفی. [منه دام ظلّه العالي].
2- راجع: شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص51-52.
3- الحائري الیزدي، الحجّة في الفقه، ج1، ص68-69.

ثم إنّه قد استدلّ للقائل بالصحيح بوجوه:((1))

منها: الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار، للصلاة مثلاً ، كقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «الصلاة عمود الدين»،((2)) أو «الصوم جُنّةٌ من النار»،((3)) فإنّ هذه الخواص لا تترتب إلّا على الصحيح منها.

وكذا: ما یدلّ من الأخبار على نفي ماهيتها وحقيقتها لفقد بعض شرائطها أو أجزائها، كقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»،((4)) ولو كان الموضوع له هو الأعمّ لا يصحّ نفي الحقيقة لمجرد ذلك.

وفيه:((5)) أنّ التمسّك بمثل أصالة العموم أو أصالة الحقيقة إنّما يصحّ إذا كان الشكّ واقعاً في مراد المتکلّم، وأ نّه أراد العموم أو أراد الحقيقة أم لا؟ أمّا إذا شككنا في كيفية إرادته مع العلم بمراده فلا يتمسّك بالاُصول اللفظية؛ وفي المقام نعلم أنّ مراده(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)

ص: 55


1- انظر الوجوه في هدایة المسترشدین (الأصفهانی، ص101-105؛ الفصول الغرویة (الأصفهاني، ص46-47)؛ القوانین (القمّي، ج1، ص44)؛ الکفایة (الخراساني، ج1، ص43-46).
2- البرقي، المحاسن، کتاب ثواب الأعمال، ج1، ص44، ب44، ح60؛ المغربي، دعائم الاسلام، ج1، ص133، ذکر الرغائب في الصلاة و...؛ الشعیري، جامع الأخبار، ص85؛ الکلیني، الکافي، ج3، ص99؛ باب النفساء من کتاب الحیض، ح4؛ ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج1، ص322، ح55؛ الحرّ العاملي، الوسائل الشیعة، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، ج4، ص34-35، ب8، ح13؛ ج4، ص27، ب6، ح12.
3- الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج2، ص74 – 75، باب فضل الصیام، ح2و6؛ الکلیني، الکافي، ج4، ص62، باب ما جاء في فضل الصوم والصائم، ح1؛ البرقي، المحاسن، باب الشرائع، ح430، ج1، ص286 – 287 ؛ ح434، ج1، ص289؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب الصوم المندوب، ج10، ص395، ب1، ح1.
4- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج1، ص196، ح2؛ ج2، ص218، ح13؛ المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، أبواب القراءة، ج4، ص158، ب1، ح5.
5- انظر الإشکال من صاحب الکفایة في حاشیته علی الکفایة (الخراسانی، ج1، ص46).

من الصلاة الّتي هي عمود الدين الصلاة الصحيحة، ونتردّد في كيفية الاستعمال المذكور فهل هو حقيقي أو مجازي؟ فإذا قال المولى: أكرم العلماء وقال: لا تكرم زيداً، يدور الأمر بين كون خروج زيد عن تحت عنوان «العلماء» العامّ، تخصيصاً أو تخصّصاً، بعدم وجوب إكرام زيد لا يصحّ التمسّك بأصالة العموم لإثبات خروج زيد عن تحت العامّ بالتخصيص، كما لا يجوز التمسّك بأصالة العموم إذا شككنا في كون زيد أو عمرو عالماً، لكونه من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيه.

وهكذا نقول في مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»، فتدبّر.

ثم إنّه قد استدلّ للأعمّي بوجوه:((1))

منها: صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في المكان المكروه فيه الصلاة كالحمّام لمرجوحيتها، فلو كان ما وضع له لفظ «الصلاة» خصوص الصحيح، يكون متعلّق النذر هو ترك الصلاة الصحيحة، وهي بعد تعلّق النذر بتركها لا يمكن أن تقع صحيحة، فلا موقع لتركها في المكان المنذور تركها فيه وفاءً بالنذر بل مطلقاً، لانتفاء متعلّق الترك المنذور لوقوعه فاسداً لا صحيحاً، فلا يتحقّق به الحنث، وما يتحقّق به الحنث لا يمكن تحقّقه لحرمته ولوقوع الحنث المحرم به، فيلزم من تعلّق النذر بترك الصلاة الصحيحة عدم ما يمكن أن يكون صحيحاً حتى يتعلّق الترك المنذور به، فيلزم من وجوده عدمه.

وفيه: أنّ هذا الإشكال يأتي على القول بالأعمّ أيضاً، لأنّ متعلّق النذر إن كان فعلاً من الأفعال يجب أن يكون راجحاً، وإن كان ترك فعل من الأفعال يجب أن يكون ذاك الفعل مرجوحاً، وما هو المرجوح في المكان المكروه فيه الصلاة كالحمّام هو الصلاة

ص: 56


1- انظر الوجوه في القوانین ( القمّي، ج1، ص44)؛ الفصول الغرویة (الأصفهاني، ص48)؛ مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص16)؛ کفایة الاُصول (الخراسانی، ج1، ص46-49).

الصحيحة سواء كان الموضوع له الصحيح أو أعمّ. ولا يصحّ أن يكون متعلّق النذر ترك الصلاة الفاسدة أو أعمّ منها، لما ذكرنا من اشتراط كون الفعل الّذي تعلّق النذر بتركه مرجوحاً، إذن فلا فرق في تأتّي الإشكال بين القولين.

والجواب عن أصل الإشكال: عدم صحّة النذر في المقام بأن يقال: إنّ المصحّح للنذر - إذا تعلّق بترك فعل - إنّما هو مرجوحيته ذاتاً لا بالإضافة إلى سائر أفراده العرضية، كالصلاة في الحمّام، فإنّها مرجوحة بالنسبة إلى الصلاة في البيت أو في المسجد لا بملاحظة ذاتها بل بملاحظة كون غيرها أفضل وأكثر ثواباً منها، فلا يتعلّق بتركها النذر بل يتعلّق بفعلها النذر، إلّا أن يرجع النذر في الأوّل إلى إتيان الصلاة في البيت أو في المسجد، فلا يجوز إتيانها في الحمّام لوقوعها عصياناً للأمر بإيقاعها في المسجد، وفي الثاني يرجع إلى ترك الصلاة في المسجد وفي البيت، فتدبّر.((1))

هنا مطالب

الأوّل: هل يجري النزاع المذكور في العبادات، في المعاملات أيضاً أو لا؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين القول بكون أسامي المعاملات موضوعة للمسبّبات، فقال: لا مجال للنزاع في كونها للصحيحة أو للأعمّ؛ لعدم اتّصافها بهما، وبين كونها موضوعة للأسباب.((2)) فلم يمانع من جريانه.

وتوضيحه: أنّ لکلّ قسم من المعاملات معنى إعتبارياً ليس له وجود إلّا في عالم الاعتبار، فلا وجود له حقيقیاً سوى منشأ انتزاع هذا الاعتبار الّذي هو كالعلّة بالنسبة إليه، فإذا تحقّق ذلك المنشأ وجد هذا العنوان الاعتباري في عالم الاعتبار، وإذا اختلّت بعض شرائطه فلا يتحقّق.

ص: 57


1- راجع: الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص48-49.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص49.

وبعبارة اُخرى: أمر هذا الأمر الاعتباري دائرٌ بين الوجود والعدم، ووجوده يدور مدار وجود علّته، فلا يتّصف بالصحّة تارةً وبالفساد اُخرى، بل يتّصف بالوجود أو بالعدم. وعليه فإن كانت الأسماء موضوعة لهذا المعنى الاعتباري - المسبّب - فلا مجال للنزاع.

أمّا إذا كانت تلك الأسامي موضوعة للأسباب (وإن شئت قلت: مستعملة في الأسباب) فيمكن وقوع النزاع فيها، ويقال: إنّ عنواناً، مثل البيع، هل هو موضوع للعقد الجامع لشرائط التأثير في ملكية الثمن والمثمن للمشتري والبائع، أو موضوع لأعمّ منه ومن غير المؤثّر؟

ولا يبعد دعوى كونه موضوعاً لما هو الصحيح والمؤثّر.

هذا بيان لما أفاده شيخنا الاُستاذ(قدس سره)، لکنّه تفصيل لا يخلو عن الإشكال، وذلك لأنّ أسامي المعاملات، مثل البيع والإجارة، إنّما تكون موضوعة لماهيّاتها من غير تحيّثها بحيثية الوجود والعدم، فالماهيّات وإن كانت تارة موجودة في الخارج واُخرى غير موجودة، لكنّ الموضوع له هو نفس ماهيّة الملكية ونفس ماهيّة (عُلقة) الزوجيّة وغيرهما، فلا يصحّ التفصيل المذكور.

والدليل على ذلك صحّة إطلاق المعدوم عليها، فيقال: البيع معدوم، ولو كان البيع موضوعاً للمسبب الموجود والماهية الموجودة، يلزم التناقض بحمل المعدوم عليه. وكذلك يقال: البيع موجود، فلو كان معناه الماهيّة الموجودة يكون معناه: الّذي هو موجود موجود. فما ذكره(قدس سره) وجهاً للتفصيل غير وجيه، لأنّ السببیّة والمسبّبيّة من لوازم الوجود لا الماهية، وقد عرفت أنّ أسامي المعاملات موضوعة للمعاني المعرّاة عن الوجود، أي الماهيّات.

نعم، الألفاظ المشتقّة من هذه الأسامي، كلفظ «باع» و«يبيع» و«بع» الموضوعة للإخبار والأمر، تدلّ على وجود مصاديقها أو طلب إيجادها.

ص: 58

وعلى هذا، فالحقّ عدم تأتّي الخلاف في أسماء المعاملات مطلقاً من غير تفصيل بين الأسباب والمسبّبات.

الأمر الثاني: أفاد في الكفاية:((1)) كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها، بناءً على تعلّق الأحكام بالأفراد، كما توهّم في ألفاظ العبادات.

لأنّ إطلاقها - لو كان في مقام البيان - يشمل کلّ ما هو فردٌ لها عند العرف، فلو كان يعتبر في البيع مثلاً شيئاً زائداً على ما هو المعتبر عند العرف لكان على المولى أن يبيّنه. نعم، لو شكّ في اعتبار أمرٍ فيه عند العرف لا يصحّ التمسّك بالإطلاق، كما أنّه لا يتمسّك بالإطلاق إلّا مع وجود ما يسمّونه بمقدّمات الحكمة الّتي هي عند صاحب الكفاية الاُمور الثلاثة المذكورة في محلّها.((2))

وأمّا بناءً على تعلّق الأحكام بالطبائع، كما هو الحقّ، فيشكل التمسّك بالإطلاق لإثبات عدم مدخلية المشكوك دخله؛ لأنّ الشكّ في اعتبار شيءٍ، في فردية عقدٍ معيّنٍ لطبيعة البيع مثلاً، شكّ في كونه مصداقاً لتلك الطبيعة، والتمسّك بالإطلاق لإثبات ذلك تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيه.

نعم، إذا رجع ذلك إلى الشكّ في دخل جهة زائدة على نفس الطبيعة صحّ التمسّك بالإطلاق لنفيها.

وربما يقال: إنّ الطبيعة إذا كانت معلومة عند العرف، لا يكون الشكّ في فردية شيءٍ لها إلّا بالشكّ في مدخلية حيثيةٍ زائدة على ما هي حيثيتها عند العرف، فيتمسّك لعدم دخلها بالإطلاق، فتأمّل.((3))

ص: 59


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص50.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج2، ص384.
3- الحجّتي البروجردي، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ج1، ص101.

الأمر الثالث: في تحقيق معنى الجزء، والشرط، والفرق بينهما، فنقول: إنّ دخل شيءٍ في تحقّق المأمور به إمّا يكون بتركّب المأمور به منه ومن غيره، ويكون ممّا به قوام ذاته وماهيته كالركوع والسجود وغيرهما من أجزاء الصلاة، فهذا جزؤه وما به قوام ماهيته وحقيقته؛ وإمّا يكون شيئاً خارجاً عن حقيقة المأمور به وما يتركّب منه، لكن له دخلٌ في تحقّقه أو تحقّق أجزائه، فهو من مقدّماته ويسمّى شرطه، كمقدّمات الصلاة، مثل الطهارة وغيرها ممّا تتوقّف الصلاة عليه وتكون مشروطة بوجوده قبلها أو بعدها أو حين أدائها.

فالأمر الوجودي الّذي يكون مع غيره تكويناً أو تشريعاً - ويعدّ بالاعتبار شيئاً واحدا ً- هو جزء ذلك الشيء؛ والأمر الوجودي الذي يكون وجود المأمور به وتحقّقه متوقّفاً على وجوده - قبله أو بعده أو مقارناً له - هو شرط المأمور به.

وبعبارة اُخرى: يكون المأمور به مقيّداً بذلك الشيء ولا يتحقّق بدونه، بنحوٍ يكون التقيّد داخلاً في المأمور به، والقيد كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة خارجاً عنه. وهذا معنى كون الطهارة من شرائط الصلاة.

وأمّا ما يستفاد من الكفاية((1)) من دخل شيءٍ عدميّ في المأمور به واعتباره شرطاً أو شطراً، ففيه: أنّ العدم لا يؤثّر ولا يوصف بالتأثير والتأثّر. وعدّهم «عدم المانع» من أجزاء العلّة التامّة، يكون من المسامحة في التعبير، والمراد: أنّ وجود المانع، كالقهقهة، يكون مخلّا، لا أنّ عدمه مؤثّرٌ في وجود المأمور به - شطراً أو شرطاً- .

وبالجملة: المأمور به ليس إلّا المشروط والمقيّد بقيدٍ كذائيّ وجوديّ الّذي يكون لوجود القيد دخل في وجوده لتقيّد وجوده به، وأمّا عدم المانع فلا يؤثّر في وجوده. نعم،

ص: 60


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص50.

وجوده يكون في ظرف عدم مانعه، لا أنّ عدم مانعه يكون مقدّمة لوجوده. ومعنى اعتبار عدم المانع: وجوب إزالة المانع، وفرقٌ بين كون وجود شيءٍ مانعاً عن وجود آخر، وبين كون عدمه شرطاً لوجوده، وما لا يعقل تصوّره هو الثاني. وكيف كان، فالمعاني معلومة خارجاً سواء كانت التعابير عنها مطابقةً للإصطلاح، أو مخالفةً له.

ص: 61

ص: 62

الأمر الثامن: في المشتقّ

اشارة

وقبل الخوض والكلام فيه، ينبغي بيان مقدّمات:

الأُولى: معنى المشتقّ المتنازع فيه

مبحث هنا: في بيان معنى المشتقّ الّذي يمكن أن يقع فيه النزاع، وبيان الفرق بينه وبين ما لا يمكن أن يقع النزاع فيه؛ فنقول: إنّ المفاهيم المنتزعة على أقسام:

منها: ما يكون منتزعاً من مقام الذات مع الإغماض عن اللواحق الخارجة عنها، بحيث إذا فُرضت الذات بما هي هي مجرّدةً عن کلّ قيد، ينطبق عليها هذا المفهوم، وتكون الذات مصداقاً له حين فرض خلوّها عن جميع اللواحق.

والوجه في ذلك: أنّ المفهوم لا ينتزع إلّا من مرتبة الذات، فلابدّ وأن يكون في مرتبة الذات منطبقاً عليها بلا تأخّر عنها ولا تقدّم عليها، ويقال لهذا: الذاتي.

ومنها: ما ينتزع من المرتبة المتأخرة عن الذات وهو: ما يسمّونه في المنطق «بالعرض» أي ما يكون خارجاً عن الذات. وينقسم إلى قسمين: اللازم، والمفارق.

فالعوارض اللازمة لا تفارق الذات مادامت الذات موجودة وباقية.

والعوارض المفارقة تجري على الذات تارة ولا تجري عليها تارة اُخرى، كالضحك والقيام والقعود وغيرها.

ص: 63

ولا يخفى عليك: أنّ النزاع في مسألة المشتقّ إنّما يكون في هذا القسم الأخير. والظاهر كون أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة وصيغ المبالغة من هذا القبيل.((1))

الثانية: حيثية الصدق ومناط الحمل

لابدّ في المفاهيم المفارقة الصادقة على الذات من وجود حيثية الصدق ومناط صحّة حمل المفهوم عليها حتى يكون صدق مفهوم على ذاتٍ دون غيرها نتيجة لوجود تلك الحيثية فيها دون غيرها، فمفهوم الضارب أو الشارب مثلاً لا يصدق على زيد إلّا إذا كانت له خصوصية يصدق عليه بملاحظة تلك الخصوصية أنّه ضارب أو شارب، وهي: خصوصية صدور الضرب عنه مثلاً، فلا يصدق عليه الضارب قبل وجود تلك الخصوصية وإلّا فلو لم تلاحظ هذه الحيثية في حمل المفاهيم المفارقة على الذوات، فلازم ذلك الترجيح بلا مرجّح حين حملها على الذوات في وقت دون الآخر، وحين حمل أحد المفاهيم على إحدى الذوات دون غيرها. فلو فرض عدم تحقّق هذا الملاك في مورد، كما إذا لم يتلبس زيد بالنصر مثلاً في جميع الأزمنة، لا يصدق عليه مفهوم الناصر، وإلّا يلزم من صدقه الترجيح بلا مرجّح، أو صدق کلّ عنوان على کلّ شيء.

الثالثة: أقسام المشتقّات

المفاهيم الصادقة على الذوات - الّتي فيها ملاك الحمل ومناط الصدق - تنقسم إلى قسمين:

قسم: يكون بإزائه في الخارج شيء، وقسم: لا يكون بإزائه في الخارج شيء، كالرقّيّة والاُبوّة والبنوّة وغيرها من الاُمور الاعتبارية الّتي تنتزع ممّا يكون وعاؤه عالم العين

ص: 64


1- وهي الغالب، ولا یختصّ محلّ النزاع بها، کما زعمه صاحب الفصول في فصوله (الأصفهاني، ص60).

والخارج، لما فيه حالة أو هيأة أو نسبة له مع غيره، فلا يكون بإزاء هذا القسم من المفاهيم في عالم الخارج شيء غير وجود منشأ إنتزاعه.

وهذه المفاهيم أيضاً على قسمين:

قسم: يكفي فيه تلبّس الذات بالمبدأ آناً مّا ومجرّد حدوث المبدأ في الذات لاعتباره وإنتزاعه، كالاُبوّة والبنوّة، ولا يحتاج صدق المفهوم على الذات - في هذا القسم - إلى بقاء المبدأ وما هو ملاك الحمل وحيثية الصدق؛ إذ بمجرّد حدوث الإبن ينتزع معنى الاُبوّة والبنوّة، فيصحّ حمل مفهوم الاُبوّة على الأب ولو كان ذلك بعد موت الإبن، وبالعكس.

وقسم: لا يكفي فيه مجرّد الحدوث، بل يكون الانتزاع والاعتبار دائراً مدار بقاء المبدأ، فبقاء صدق المفهوم منوطٌ ببقاء المنتزع منه لا مجرّد حدوثه، كانتزاع الفوقية والتحتية من شيئين إذا كان أحدهما أعلى من الآخر.

الرابعة: المراد بالحال

المراد بالحال في عنوان المسألة،((1)) ليس الحال المذكور في الفعل - الّذي هو أحد الأزمنة الثلاثة - فلا ينبغي توهّم كون النزاع في أنّ مفهوم المشتقّ مقيّد بزمان الحال أو أنّه أعمّ من ذلك، بل مرادهم بالحال حال النسبة والجري.

نعم، حيث إنّ النسبة واقعةٌ في زمانٍ تكون زمانيةً لا محالة، فمفهوم المشتقّ كما لا يكون مقيّداً بمكانٍ لا يكون مقيّداً بزمانٍ أيضاً؛ فالمكان والزمان بالنسبة إلى مفهوم المشتقّ على حدّ سواء.

ص: 65


1- وهو: «هل المشتقّ حقیقة في خصوص ما تلبّس بالمبدأ في الحال، أو فیما یعمّه وما انقضی عنه؟».

الخامسة: المراد بالأعمّ

اشارة

المراد بالأعمّ ليس الأعمّ المذكور في المنطق الّذي هو في مقابل الأخصّ ويكون أكثر أفراداً من الأخصّ، كالحيوان في قبال الإنسان، بل المراد منه هنا أطولية زمان صدق المفهوم على المصداق، فالمصداق على كلا القولين واحدٌ إلّا أنّه على القول بالأخصّ يكون عمره أقصر من المصداق الّذي يفرض على القول بالأعمّ.

وبعبارة اُخرى: زمان صدق المفهوم على الذات يكون أطول على القول بالأعمّ من زمان صدقه على القول بالأخصّ.

***

محل النزاع في المشتقّ

إذا عرفت هذه المقدّمات فاعلم: أنّ محلّ النزاع في المشتقّ، وما به يرجع روح الاختلاف في المقام، هو: أنّ المشتقّات الجارية على الذوات هل تكون حقيقة في المتلبّسة بالمبادئ في الحال، أو فيما يعمّها وما انقضت عنها؟ بعد الاتّفاق على مجازيّتها فيما إذا استُعملت واُريد بها من يتلبّس بالمبدأ في الاستقبال.

وبعبارة اُخرى: هل الضارب والشارب وأمثالهما من الأعراض المفارقة تصدق على من كان متلبّساً بالضرب أو الشرب في حال النسبة وجري المفهوم على الذات، أو تصدق على من تلبّس بالمبدأ ولو لم يكن في حال النسبة والجري متلبّساً بالمبدأ؟ بمعنى أنّ من انقضى عنه المبدأ يكون باقياً على مصداقيته للضارب والشارب ببقاء ذاته، لا أنّه في حال التلبّس يكون مصداقاً لهما وفي حال الإنقضاء لا يكون كذلك.

والحاصل: أنّ حقيقة النزاع راجعة إلى أنّ هذا الفرد الّذي صدق عليه مفهوم في زمان مّا، من جهة تلبّسه بالمبدأ في ذلك الزمان، هل يكون باقياً على حاله ومصداقيته لذلك المفهوم بعد انقضاء المبدأ أم لا؟

ص: 66

كيفية النزاع في المشتقّ

لا يخفى عليك: أنّ النزاع في المقام: إمّا أن يكون عقلياً بمعنى أنّه هل يصدق عقلاً مفهوم الضارب والناصر وغيرهما على من تلبّس بمبدئهما في الزمان الماضي كما يصدق عليه في زمان التلبّس، أو أنّه لا تصدق عليه تلك المفاهيم إلّا في حال التلبّس بالمبدأ فحسب؟

وإمّا أن يكون النزاع لغوياً، بمعنى أنّ الموضوع له في أسماء الفاعلين وغيرها هل هو المتلبّس بالمبدأ في الحال، أو أعمّ منه وممّن انقضى عنه المبدأ؟

فإن كان النزاع عقلياً: فالقول بالأعمّ ضعيف، يظهر وجهه بالمراجعة إلى المقدّمات المذكورة؛ لأنّه بعد العلم بأنّ حيثية صدق الضارب أو القاعد وملاك الحمل في أمثالهما من المفاهيم الجارية على الذوات ليست إلّا تلبّس الذات بالمبدأ واتّحاده معها، يحكم العقل بعدم صدق تلك المفاهيم بعد زوال حيثية الصدق ومناط الحمل على من كان متلبساً بالمبدأ في الزمان الماضي. فكما أنّه لا يصدق مفهوم من هذه المفاهيم على ذات قبل أن تتلبّس به لكون الذات فاقدة لما هو مناط الصدق، كذلك لا يصدق عليها أيضاً بعد انقضاء زمن التلبّس؛ وذلك لعدم

الفرق بين ما قبل زمان التلبّس وما بعده.

نعم، إذا كان تلبّس مّا كافياً في اعتبار المفهوم وصدقه على الذات، كما أشرنا إليه في المقدّمة الثالثة، فلا مانع من حمل المفهوم على الذوات بعد انقضاء تلبّس الذات بالمبدأ؛ لأنّ ملاك صدق المفاهيم الّتي تكون من هذا القبيل ليس إلّا الأمر الاعتباري الّذي ينتزع من تلبّس الذات بالمبدأ، وهو موجود في عالم الاعتبار، ولا يلزم لاعتبار المفهوم شيءٌ أزيد من حدّوث المبدأ. فعلى هذا ولو كان منشأ الانتزاع متصرّماً لكن ملاك الصدق - وهو الاعتبار - موجود في عالم الاعتبار حتى بعد انقضاء منشأ الانتزاع.

ص: 67

ولكنّه لا يخفى عليك: أنّ هذا الفرض لا يكون جارياً في المشتقّات، كأسماء الفاعلين والمفعولين ممّا هو داخلٌ في محلّ النزاع وموضع النقض والإبرام؛ لأنّ مثل هذا التلبّس (تلبس مّا)، لا يكفي في اعتبار المفهوم في باب المشتقّات، بل صدق المفهوم على الذات يكون دائراً مدار بقاء تلبّس الذات بالمبدأ، كما لا يخفى.

فقد ظهر ممّا ذكرنا ضعف قول القائلين بالأعمّ؛ لأنّ التفريق بين من يتلبّس بالمبدأ في الاستقبال وبين من انقضى عنه المبدأ، تحكّم ومستلزم للترجيح بلا مرجّح.

وأمّا إن كان النزاع لغوياً: فتصوّر مفهوم الموضوع له على القول بالأخصّ في غاية السهولة؛ لأنّ الموضوع له على هذا القول: ذات اتحدت مع المبدأ بنحو من أنحاء الاتّحاد. وأمّا على القول الآخر: فتصوّر مفهومه في غاية الإشكال. نعم، بعد التامّل يمكن تصوّر مفهوم منتزع عن الذات لأجل تلبّسها بالمبدأ في حالة من الحالات، مثل: كون الشيء بحيث ضرب أو قام.

وأظنّ أنّ هذا كافٍ في إبطال القول بالأعمّ. مضافاً إلى أنّ دعوى أنّ واضع الألفاظ في کلّ لغةٍ إذا وضع أسماء الفاعلين وغيرها وضعها للأعمّ ممّن تلبّس بالمبدأ في الحال وممّن انقضى عنه، دون من يتلبّس به في الاستقبال، دون إثباتها خرط القتاد.

ثم إنّه قد أفاد بعض أفاضل عصرنا(قدس سره): أنّ النزاع في المقام واقعٌ في أنّ المشتقّ هل وضع لحصّة من الذات، وهي الّتي التئمت مع المبدأ، بمعنى أنّ الموضوع له، هذه الحصّة الملتئمة مع المبدأ، أو أنّه موضوع لذاتٍ التئمت مع المبدأ في وقتٍ مّا؟

وفيه ما لا يخفى.

تنبيهات

الأوّل: قد ظهر ممّا ذكرناه خروج الجوامد الجارية على الذوات عن محلّ النزاع وإن

ص: 68

ذهب بعضهم إلى دخولها في حريم النزاع، وتبعهم المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية،((1)) واستشهد عليه بما عن الإيضاح((2)) فيمن كانت له زوجتان كبيرتان مدخولتان وزوجة صغيرة، فأرضعت الكبيرتان زوجته الصغيرة - على الترتيب - حيث قال: إنّه تحرم الكبيرة الاُولى والصغيرة. أمّا الثانية ففي حرمتها خلاف، واختار والدي المصنّف((3)) وابن إدريس((4)) حرمتها؛ لأنّ هذه يصدق عليها أنّها اُمّ زوجته، لأنّه لا يشترط في صدق المشتقّ بقاء المشتقّ منه.

وما في المسالك((5)) أيضاً من ابتناء حكم هذه المسألة على الخلاف في المشتقّ.

وتوضيح الوجه في عدم جريان النزاع بناءً على كونه لغوياً هو: أنّ الموضوع له على القول بالأعمّ ذلك الأمر الاعتباري المنتزع عن الزوجية - أي العلاقة الثابتة بين الزوج والزوجة - في حال ثبوتها، فما دامت الزوجية والرابطة الخاصّة بين الزوجين باقية يصدق الزوج والزوجة، وإلّا فبمجرّد زوالها يزولان؛ إذ هما حاكيان عن تلك العلاقة وثبوتها. وليس لهما مفهوم آخر غيرها حتى يصدقا بسبب ذلك المفهوم على من كان في الزمان الماضي زوجاً لامرأةٍ أو زوجةً لرجل.

وأمّا بناءً على كون النزاع عقلياً، فيمكن القول بعدم الفرق بين الجوامد والمشتقّات،

ص: 69


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص59.
2- الحلّي، إیضاح الفوائد، ج3، ص52 (کتاب النکاح) وهذا نصّه: «تحریم المرضعة الاُولی والصغیرة مع الدخول بإحدی الکبیرتین بالإجماع. وأمّا المرضعة الأخیرة ففي تحریمها خلاف، واختار والدي المصنّف وابن إدریس تحریمها، لأنّ هذه یصدق علیها أنّها اُمّ زوجته؛ لأنّه لا یشترط في صدق المشتقّ بقاء المعنی المشتقّ منه، فکذا هنا. ولأنّ عنوان الموضوع لا یشترط صدقه حال الحکم، بل لو صدق قبله کفی، فیدخل تحت قوله تعالی: ﴿وَ أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾ (النساء، 23) (ولمساواة) الرضاع النسب، وهو یحرّم سابقاً ولاحقاً فکذا مساویه».
3- العلّامة الحلّي، قواعد الأحکام، ج3، ص25.
4- ابن إدریس الحلّي، السرائر، ج2، ص556.
5- الشهید الثاني، مسالك الأفهام، ج7، ص268.

ولكنّه قد ذكرنا ما يظهر به فساد القول بالأعمّ، وأنّ الأمر يدور مدار وجود المناط وجهة الصدق، مثل وجود الزوجية في المثال، فمع وجودها يصحّ إطلاق الزوج أو الزوجة على الذات، ولا يصحّ مع عدم وجود الملاك.

ثم إنّه يمكن أن يؤتى بالمثال لما نحن فيه بوجهٍ آخر، وهو: فيما إذا كانت للمرء زوجةٌ صغيرةٌ فطلّقها وبعد الطلاق أرضعتها إمرأته، فلو قيل بأنّه يصدق على المرضعة أنّها اُمّ زوجته لا يجوز له نكاحها، وأمّا لو قيل بعدم صدقها عليها فيجوز له نكاحها.

والظاهر أنّ منشأ التعرّض لبيان المثال الأوّل وجوده في الرواية الّتي فيها تخطئة ابن شبرمة القائل بحرمة المرضعة الثانية أيضاً، فبيّن الإمام أبو جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) خطأه بقوله: «حرمت عليه الجارية وامرأته الّتي أرضعتها أوّلاً، وأمّا الأخيرة فلم تحرم عليه لأنّها أرضعت ابنته».((1))

وهنا ظهر عدم ابتناء حرمة المرضعة الاُولى على النزاع في المشتقّ.

وأمّا ما قيل في ابتنائه على ذلك بأنّ الاتّصاف بالاُمومة إنّما يكون في وقت خروج الصغيرة عن الزوجية وصيرورتها بنتاً فلا تكون الكبيرة الاُولى في زمانٍ من الأزمنة اُمّ الزوجة الفعلية حتى تحرم عليه، وإنّما هي اُمّ من كانت زوجته فتبتني حرمة الاُولى أيضاً على ما حقّق في مبحث المشتقّ.

فواضح الفساد؛ لأنّ زوال الزوجية معلولٌ لتحقّق عنوان الاُمومة، والمعلول يكون متأخّراً عن علّته رتبةً بالضرورة، فتحقّق عنوان الاُمومة يكون متقدّماً على زوال عنوان الزوجية، كما لا يخفى.((2))

ص: 70


1- الکلیني، الکافي، ج5، ص446، باب نوادر في الرضاع، ح13؛ الطوسي، تهذیب الأحکام، ج7، ص293-294، ح1232/68، باب من أحلّ الله نکاحه من النساء وحرم منهنّ، ب25؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب النکاح، أبواب ما یحرم بالرضاع، ج20، ص402-403، ب14، ح1.
2- وقد دفع الإشکال بوجه آخر في الجواهر (النجفي، ج29، ص329).

التنبيه الثاني: لا يذهب عليك أنّه لا يفرق في ما نحن فيه اختلاف مبادئ المشتقّات، وكونها في بعضها حرفة، وفي بعضها ملكة، وفي بعضها غيرهما.((1)) كما أنّه لا يفرق في ما نحن بصدده اختلاف أنحاء التلبّسات، فمنها ما يكون تلبّس الذات به بنحو الحلول كالعلم، فإنّ كيفيّة تلبّس الذات (وهو العالم) به يكون حلولياً؛ ومنها ما يكون التلبّس به بنحو الصدور كالضرب، إذا كان المشتقّ اسم الفاعل؛ ومنها ما يكون بنحو الوقوع كالمضروب؛ ومنها ما يكون على نحو الظرفية وكون الذات ظرفاً للمبدأ كاسم الزمان والمكان.

فإذا نظرنا إلى مبدءٍ كالضرب، فكما أنّ وجوده محتاجٌ إلى شخص يصدر عنه الضرب وهو الضارب (اسم الفاعل)، كذلك هو محتاج إلى شخص يقع عليه وهو المضراب (اسم المفعول)، وإلى آلة بتوسطها يصدر الضرب من الضارب ويقع على المضروب وهي المضرب (اسم الآلة)، وإلى زمان يقع فيه الضرب وهو المضرب (اسم الزمان)، وإلى مكان يقع فيه الضرب وهو المضرب أيضاً (اسم المكان). فالمبدأ في المثال هو الضرب، واختلافه مع سائر المبادئ، كالعلم والكتابة، غير تغاير أنواع التلبّسات الواقعة في اسم فاعله ومفعوله وآلته واسم زمانه ومكانه، فتغاير المبادئ بعضها مع بعض غير تغاير أنحاء التلبّسات بالنسبة إلى مبدأ واحد، فالضرب مبدأ واحد لكن التلبّس به يكون بنحو الصدور كالضارب وبنحو وقوعه على الذات كالمضروب، وبنحو كون الذات آلة لصدور المبدأ من الفاعل ووقوعه على المفعول كالمضرب، وبنحو الظرفية كالمضرب.

هذا، وليكن ما ذكرنا من الفرق بين اختلاف المبادئ وأنواع التلبّسات استدراكاً على الكفاية فإنّها غير متعرّضةٍ لذلك.

التنبيه الثالث: ربما تُوهّم عدم جريان النزاع في أسماء الأزمنة؛ لأنّ الذات فيها وهي

ص: 71


1- کالأفعال نحو الضرب والشرب.

الزمان بنفسه ينقضي ويتصرّم، فلا يمكن وقوع النزاع في أنّ الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال، أو فيما يعمّ ما كان متلبّساً به في الماضي؟

وقد أجاب عنه في الكفاية: بأنّ انحصار مفهوم عامّ بفردٍ، غير موجب لكون اللفظ موضوعاً بإزاء ذلك الفرد دون العامّ، وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، بأنّه وضع لمفهوم عامّ - مع القطع بانحصاره في الفرد الواحد الأحد جلّ جلاله - أو هو موضوع للفرد.((1))

ويمكن الجواب بأنّه بعد قيام البرهان على بطلان الجزء الّذي لا يتجزّأ وتتالي الآنات لا مجال للقول بأنّ للزمان أجزاءً لا تتجزّأ وآناتٍ متتالية، بل لابدّ من القول بأنّ للزمان وحدة اتّصالية تدريجية هي عين الوحدة الشخصية، فإنّ بعض الحقائق تصرّمه عين بقائه وتجدّده وانقضاؤه عين وجوده، فامتداد الزمان من الاُمور الّتي لا تناهي لها ويكون بعينه ظرفاً للأشياء، ولكنّه مع تصرّمه وتجدّده شيء واحد.

فعلى هذا، تكون الذات في الزمان باقية؛ إذ تصرّمها عين بقائها، فلا مانع من وقوع أسماء الأزمنة تحت النزاع أيضاً.

التنبيه الرابع: لا إشكال في خروج سائر المشتقّات من قبيل الأفعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع؛ لعدم كونها جارية على الذوات.

تذييل

ذكر المحقّق الخراسانى(قدس سره) في المقام عدم دلالة الأفعال على الزمان، وبرهن عليه بما في الكفاية وبعض فوائده.((2))

ص: 72


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص60-61؛ راجع أیضاً فوائده المطبوع ضمن حاشیته علی الرسائل، ص304.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص61؛ الخراساني، فوائد الاُصول، ص304.

ولكن لا يخفى عليك: أنّ ما اختاره في الأمر والنهي صحيح؛ لأنّ مدلولهما مجرد البعث والزجر ولا دلالة لهما على الزمان.

وأمّا الفعل الماضي والمضارع فلا شبهة في كون الزمان مأخوذاً في مدلولهما، ومن الواضح عدم وجود فرق بين «ضَرَب» في اللغة العربية و«زد» في الفارسية وما يراد منهما في سائر اللغات، وبين «يضرب» و«می زند» وما يراد منهما في سائر اللغات إلّا من جهة دلالة «ضَرَبَ» على سبق وقوع الفعل، ودلالة «يضرب» على وقوع الفعل في حصّة من الزمان الصادقة على الحال والاستقبال، فيكون الفعل المضارع مشتركاً معنويّاً بين الحال والاستقبال.

ثم إنّه ذكر المحقّق الخراساني(قدس سره) هنا كلاماً في المعنى الحرفي يخالف المشهور من النحاة أيضاً، وقد استقصينا الكلام فيه سابقاً فلا نعيده خوفاً من الإطالة. هذا تمام الكلام في المقدّمات.

تأسيس الأصل

وأمّا الكلام في تأسيس الأصل في المسألة، فاعلم: أنّه لا أصل في المسألة على نحو كلّي يعوّل عليه عند الشكّ في أنّ ما يصدق عليه الضارب - مثلاً - هو الذات مادام تلبّسها بالمبدأ باقياً، أو أنّه الذات ولو بعد انقضاء تلبّسها؟

وأمّا الاُصول العملية في الموارد الجزئية فتختلف بحسب اختلاف الموارد، ففي مثل كراهة البول تحت الأشجار المثمرة يكون الأصل البراءة إذا انقضى عن الشجر المثمر التلبّس بالمبدأ قبل حكم الشارع بالكراهة، ويكون المرجع الاستصحاب إذا انقضى عنه بعد حكمه بالكراهية.

وكيف كان، فقد اختلفوا في أصل المسألة، فمنهم من زعم أنّ المشتقّ حقيقة في

ص: 73

الأعمّ مطلقاً. ومنهم من ذهب إلى أنّه حقيقة فيه إذا كان المشتقّ محكوماً عليه، وفي المتلبّس في الحال إذا كان محكوماً به. واختار بعضهم غير ذلك من الأقوال.((1))

والحقّ ما ظهر من مطاوي ما ذكرناه، وهو كونه حقيقة في من تلبّس بالمبدأ في الحال.

وقد مضى ما يظهر به صحّة القول بكون المشتقّ موضوعاً للأخصّ وضعف القول بالأعمّ.

وصفوة القول بعد ما صارت الجهة المبحوث عنها في المسألة - وهي أنّ حيثية صدق القائم على الذات هل هي القيام بالفعل أو مفهوم يعمّ حال التلبّس والإنقضاء؟- معلومة، أن نقول للقائل بالأعمّ المدّعي للتبادر: كيف يمكنكم إثباته والاستدلال به؟ وقد تبيّن فيما سبق خفاء حيثية الصدق في عالم الاعتبار وعدم وضوحها إلّا بعد التامّل، فما معنى هذا التبادر؟ وأيّ معنى ينسبق إلى الذهن بعد هذا الغموض؟

بيان ودفع إشكال: لا يخفى أنّ المشتقّات المستعملة في لسان أهل المحاورة تارة: تستعمل لأجل مجرّد بيان اتّحاد الذات مع المبدأ استعمالاً حقيقياً، أي في الموضوع له، ففي مثل هذا المورد تجعل الذات موضوعاً والمشتقّ محمولاً، كما في قولنا: زيدٌ ضاربٌ.

وتارة اُخرى: تستعمل لأجل جعلها مرآة لملاحظة الغير، وهذا كما إذا عرف المخاطب الشخص الّذي صدر منه الضرب بعينه ولم يعرفه باسمه، فيقال له: أكرم الضارب، بحيث يجعل الضارب مرآة وآلة لملاحظة الذات الصادر عنها الضرب. وهذا قد استعمل أيضاً في معناه الحقيقي، وبسبب استعماله في ذلك المفهوم يلتفت المخاطب إلى الشخص المعهود.

ص: 74


1- نحو القول بأنّه حقیقة في خصوص المتلبّس مطلقاً. وفصّل بعضهم بین ما کان المشتقّ مأخوذاً من المبادئ المتعدّیة إلی الغیر وما لم یکن کذلك، فالمتعدّي حقیقة في الأعمّ، واللازم حقیقة في خصوص المتلبّس. وقال بعضهم: إنّه حقیقة في الأعمّ إن کان مبدؤة ممّا ینصرم، وفي الأخصّ إن کان ممّا یمکن بقاؤه وثباته.

وثالثة: تستعمل لأجل دخالتها في الحكم وعليّتها له، كما إذا قال: أكرم العالم؛ فإنّ المراد منه بحسب مقدّمات الإطلاق وجوب إكرام كلّ من كان متّصفاً بصفة العلم فعلاً، فلا يتّجه بذلك استدلال القائل بالأعمّ((1)) بقوله تعالى: ﴿السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾،((2)) وقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾؛((3))

حيث يترتّب القطع والجلد بعد انقضاء التلبّس وليس حين التلبّس بالسرقة أو الزنا.

وذلك لعدم التنافي بين ما قلناه وبين ترتّب القطع والجلد في الموردين بعد انقضاء التلبّس؛ لأنّ الحكم بالقطع والجلد يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع، حيث إنّهما من وظائف السائسين والحكّام، فلا يمكن أن يكون المراد وجوب إجراء الحدّ على من كان مشغولاً بالزنا والسرقة.

ورابعة: تستعمل في المعنى الحقيقي أيضاً لأجل نفي الحكم عن الذات المتّصف بصفة ولو آناً مّا، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَ-مَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّال-ِمين ﴾،((4)) حيث إنّ المستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ﴾ وطلب إبراهيم جعل الإمامة في ذريّته بقوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتي﴾ وإضافة العهد إلى ياء النفس، أنّ منصب الإمامة منصب خطير عالٍ إلهيّ، وأنّ الإمام لابدّ أن يكون منصوباً من الله تعالى، ونصبه من وظائف مقام الربوبية وخصائصه، فلا ينال هذه الدرجة الرفيعة من كان متلبّساً بالظلم ولو آناً مّا. ومقتضى الجمع المحلّى باللام عدم نيل جميع أفراد الظالمين لهذا المقام، هذا.

ولا يخفى، أنّه لا يصحّ أن يكون المراد في الآية الشريفة أنّ المتلبّس بالظلم في حال

ص: 75


1- الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص84؛ الطباطبائي، مفاتیح الاُصول، ص17.
2- المائدة، 38.
3- النور، 2.
4- البقرة، 124.

الظلم لا ينال عهد الله تعالى؛ لأنّ الظلم ليس من الأوصاف الملازمة للإنسان، بل يكون من الأعراض المفارقة، فإذا قلنا: الظالم لا يتصدّى منصب الحكومة أو السلطنة، فمعناه أنّ من اتّصف بهذه الصفة ولو في وقت من الأوقات غير لائقٍ لحيازة هذا المنصب. ولو كان المراد عدم نيل الظالم له في حال الظلم، لزم من ذلك لياقة كلّ الناس لذلك المنصب الرفيع؛ لأنّه لا يوجد واحد من الظالمين قد تلبّس بالظلم في جميع الأزمنة، كما هو واضح.

بقي هنا اُمور

الأمر الأوّل: بساطة المشتقّ

لا يخفى عليك: أنّ مفهوم المشتقّ بسيطٌ. ومعناه أنّه عند الإطلاق لا يجيء إلى الذهن من الضارب والعالم مثلاً إلّا الضرب والعلم مبهماً ولا بشرط. نعم، في بعض المشتقّات يكون مفهومه مركباً لأجل تركّب مفهوم مبدئه.

ولا يخفى عليك أيضاً: أنّ مفهوم الذات والشيء غير معتبرٍ في مفهوم المشتقّ على کلّ حالٍ. ومن قال باعتبار أحدهما في مفهوم المشتق إنّما أراد من ذلك اعتبار مصداق الشيء أو الذات في مفهومه، هذا. وقد وقع النزاع في بساطة مفهومه وعدمها بين صاحب الكفاية وصاحب الفصول.((1))

واستدلّ في الكفاية على بساطته بما حقّقه المحقّق الشريف من أنّه لو اعتبرنا مفهوم الشيء في مفهوم الناطق مثلاً، يلزم دخول العرض العامّ في الفصل؛ ولو اعتبرنا ما هو مصداق الشيء، كالإنسان مثلاً، في قولنا: الإنسان ضاحك يلزم انقلاب القضیّة

ص: 76


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص78 وما بعدها؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص61.

الممكنة إلى الضرورية؛ لأنّ الشيء الّذي له الضحك هو الإنسان وثبوته لما جعل في القضیّة موضوعاً - وهو الإنسان - ضروريّ.((1))أقول: لا يخفى عدم لزوم المحال من ذلك أصلاً. غاية الأمر أنّه يلزم من صحّة الشقّ الأوّل عدم كون الناطق - مجرّداً - فصلاً، خلافاً لما ذهب إليه المنطقيّون من جعله فصلاً مجرّداً عن الذات.

وأمّا صحّة الشقّ الثاني فغير ملازمة للانقلاب، بل لا يلزم منها إلّا كون القضیّة الّتي زعمها المنطقيّون ممكنةً ضروريةً من أوّل الأمر، لا أنّها كانت ممكنةً ثم انقلبت إلى الضروریّة.

وقال في الكفاية بعد الجواب عمّا أجاب به الفصول باختياره الشقّ الأوّل لدفع الإشكال: «والتحقيق أنّ مثل الناطق ليس بفصل حقيقيّ، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصّه، وإنّما يكون فصلاً مشهورياً منطقياً يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه بل لا يكاد يعلم... إلخ».

وفيه: أنّه كان من الممكن أن يجعلوا الفصل «النطق»، فافهم.

وأجاب عمّا ذكر في الفصول (من اختياره الشقّ الثاني ودفع الإشكال بأنّ المحمول ليس مصداق الشيء مطلقاً بل مقيداً بالوصف، وليس ثبوته للموضوع حينئذٍ ضرورياً): «بأنّ عدم كون ثبوت القيد ضرورياً لا يضرّ بدعوى الانقلاب... إلخ».

وفيه: أنّ المحمول في القضیّة بناءً على اعتبار مصداق الشيء في مفهوم المشتقّ يكون مجموع قولنا: «إنسان له النطق» فالمقيّد بما أنّه مقيّد ومع قيده يكون محمولاً لا مطلقاً، فتأمّل جيّداً.

ص: 77


1- قطب الدین الرازي، شرح المطالع، ص11.

ثم لا يذهب عليك: أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) ذهب إلى خلاف ما يستفاد من كلامه في أوّل الأمر من بساطة مفهوم المشتقّ، فاختار في آخر هذا المبحث تركّب مفهومه. ومحصّل ما أفاده في المقام بعد هذه المناقشات مع الفصول: أنّ مفهوم المشتقّ إنّما يكون بسيطاً بالنظر البدويّ، ولكنّه بعد التأمّل يظهر كونه مركّباً.

وهذا كلام غريبٌ منه؛ لأنّ غالب المفاهيم بل كلّها تجيء إلى الذهن بنحو البساطة، ولا يظهر بعد التامّل كونه مركّباً إلّا أن يكون مفهوم مبدئه كذلك.

الأمر الثاني: في الفرق بين المشتقّ ومبدئه

لا فرق بين المبدأ والمشتقّ بحسب المفهوم، فمفهوم المشتقّ يكون عين مفهوم المبدأ وبالعكس، فلا فرق بين الضارب والضرب، والعالم والعلم، والضاحك والضحك. ولو قيل بأنّ الضارب هو الذات الّتي صدر عنها الضرب، أو العالم ذات ثبت لها العلم مثلاً؛ فإنّما هو لأجل تفهيم المطلب على المتعلّمين.

نعم، يظهر من هذه العبارات كون معنى الضرب نوع فعل يصدر من الذات، والعلم نوع شيء يحلّ فيها، وهذا یدلّ على اختلاف أنحاء التلبّسات، ولا ربط له بما نحن فيه.

إن قلت: فعلى هذا، لا مانع من حمل المبدأ على الذات أيضاً كالمشتقّ.

قلت: المانع كون المبدأ آبياً عن حمله على الذات، بخلاف المشتقّ فإنّه لا يأبى عن ذلك؛ لأنّ المشتقّ مفهومه الضرب مثلاً، ولكن بحيث يمكن أن يكون تمام تحصّله ذلك أو جهة اُخرى، فالضرب المبهم مفهوم المشتقّ بخلاف المبدأ، فإنّ مفهومه هو الضرب الّذي كان تمام تحصّله ذلك، ولا يكون فيه إبهام، فيكون المانع من حمل المبدأ على الذات كون المفهوم في المشتقّ لا بشرط وفي المبدأ بشرط لا.

ص: 78

وليس المراد من لا بشرطية المشتقّ وبشرط لائية المبدأ ما يراد منهما في مبحث الماهية، بل هو ما يراد منهما في الفرق بين الجنس والفصل والمادّة والصورة.

وتوضيح ذلك: أنّ المرکّبات على قسمين:

قسمٌ تكون له أجزاء في الخارج وإن كان يعدّ في نظر العرف شيئاً واحداً، وتتصوّر له ماهية واحدة بحيث تسع وتشمل جميع الأجزاء؛ ففي هذا القسم لا يصحّ حمل الجزء على الكلّ وحمل الكلّ على الجزء. والوحدة فيه تكون لا محالة اعتبارية، والكثرة حقيقية، وتركيبه يكون تركيباً انضمامياً.

وقسم ليس له أجزاء في الخارج وإن كان عند التأمّل والاعتبار ينحلّ إلى جزءين أو إلى أجزاء؛ ففي هذا القسم يكون الجزء عين الكلّ والكلّ عين الجزء، وتكون وحدته حقيقية، كما تكون كثرته اعتبارية، كالإنسان، وتركيبه يكون اتّحادياً.

وفي هذا القسم ذهب أهل المعقول إلى أنّ مجرد ذلك لا يصير موجباً لصحّة حمل الجزء على الكلّ والكلّ على الجزء؛ لأنّا إذا نظرنا إلى شيء فتارة نراه تامّ التحصّل بحيث لا تفرض في رؤيتنا جهة إبهام، وتارة نراه مبهماً ومن غير أن يكون تمام تحصّله ما يقع تحت نظرنا من حالاته وكيفياته، بل بحيث يمكن أن تكون له تحصّلاتٌ وتشخّصاتٌ غير ذلك، مثلاً: إذا نظرنا إلى البحر فتارة يكون نظرنا مقصوراً على الماء الموجود في المكان الكذائي المحدود بحدودٍ خاصّةٍ بحيث يكون تمام تحصّله وجوده في هذا الحدّ من المكان، فلو نظرنا إلى البحر في مكان آخر نحكم بمباينة الماء الموجود في هذا المكان مع الماء الّذي رأيناه سابقاً، وتارة ننظر إلى الماء الّذي يكون في مكان من البحر، ولكن لا من جهة كونه في هذا المكان ومحدوداً بحدٍّ خاصّ، ومن غير أن يكون تمام تحصّله وجوده في ذلك المكان وتخصّصه بهذه الخصوصيات، ففي هذه الصورة يكون الماء الموجود في مكانٍ آخر من البحر عين هذا الماء، بحيث لو قلنا بأنّ هذا هو ما نراه سابقاً لكان صحيحاً.

ص: 79

إذا عرفت ذلك، فنقول: إذا نظرنا إلى الحيوان وأخذنا تحت النظر تمام الماهية المشتركة بين الإنسان والبقر والغنم وغيرها، بحيث يكون تمام تحصّله ذلك، وكذلك لو نظرنا إلى الناطق بما أنّه مميّز الإنسان عن سائر الأنواع، فبحسب هذا النظر لا يمكن حمل أحدهما على الآخر، فلا يصحّ أن يقال: «الناطق حيوان أو الحيوان ناطق»، ولا يمكن حمل الإنسان عليهما، وحملهما عليه. وهذا ما يعبّر عنه بالمادّة والصورة العقلية، ويكون التركيب بينهما انضماميّاً.

وأمّا لو نظرنا إلى الحيوان لا بنحو يكون تمام الماهية المشتركة بين الإنسان وسائر الأنواع، بل نظرنا إليه وأخذناه مبهماً من دون أن يكون تمام تحصّله كونه تمام الماهية المشتركة بين الإنسان وغيره، أو شيء آخر. كذلك في طرف الناطق إذا أخذناه تحت النظر من غير أن يكون تمام تحصّله جهته المميّزة، أو جهة اُخرى، فلا مانع من حمل أحدهما على الآخر، فيصحّ أن يقال: بأنّ «الناطق حيوان والحيوان ناطق»، وحمل الإنسان عليهما، وحملهما عليه بأن يقال: «الإنسان حيوان والحيوان إنسان، أو الناطق إنسان والإنسان ناطق». ويعبّر عن هذا بالجنس والفصل، ويكون التركيب بينهما اتّحادياً.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين المادّة والصورة والجنس والفصل، فالجزء المتصوّر إذا اُخذ كما ذكرنا لا بشرط يكون جنساً أو فصلاً، وإذا اُخذ بشرط لا يكون مادّة أو صورةً.

واللا بشرط المذكور في المقام وكذا البشرط لا غير ما هو المذكور في تقسيمات الماهية واعتباراتها، فتارةً: تعتبر الماهية بشرط الوجود ويعبّر عنها بالماهية بشرط شيء، وتارة: تعتبر بشرط لا وهي الماهية الّتي لا يكون لها حظٌ من الوجود، وثالثة: تعتبر لا بشرط أن يكون معها الوجود.

ولا يخفى عليك: أنّ الفرق بين اللا بشرطية المذكورة في مبحث الماهية واللا بشرطية المذكورة في الجنس والفصل: أنّ الماهية في الأوّل تلحظ لا بشرط وبدون القيد حتى

ص: 80

اندكاكها في القيد، بخلاف الأخيرة، فإنّ الماهية تكون ملحوظة بما أنّها مندكّة في القيود سواء كان تمام تحصّلها وحيثيّتها بما نرى من القيود، أو كان بأشياء اُخر.

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذُكر وجه ما أفاده أهل المعقول من كون کلّ من الجنس والفصل جزءاً للحدّ لا المحدود، لأنّ فرض كونهما جزءين للمحدود منافٍ لحمل أحدهما على الآخر، وحمل الكلّ على الجزء، فلو قلنا في تعريف الإنسان بأنّه حيوانٌ ناطقٌ، لا يكون الحيوان وكذا الناطق جزءاً للإنسان بل هما جزءان لحدّه.

ولا يخفى عليك: أنّ مبنى القول بلا بشرطية المشتقّ وبشرط لائية المبدأ ثلاثة اُمور:

أحدها: كون الأعراض من مراتب وجود المعروضات وأنحائه، فإذن لا محالة يكون التركيب بين العرض والمعروض اتّحادياً.

ثانيها: قول أهل المعقول بأنّ الفرق بين الجنس والفصل والمادّة والصورة العقليتين كون الأوّليين لا بشرط والاُخريين بشرط لا.

ثالثها: كون المشتقّ بالنسبة إلى الذات عرضاً والذات معروضة.

هذا، ولا يذهب عليك عدم صحّة ما أفاده في الكفاية((1)) في معنى لا بشرطية مفهوم المشتقّ من كونه غير آبٍ عن الحمل، وفي معنى بشرط لائية مفهوم المبدأ من كونه آبياً عن الحمل، وذلك لما ذكرنا في مقام الفرق بينهما من أنّه إذا لوحظ الشيء تامّ التحصّل وبأن يكون الملحوظ تمام حيثيته الوجودية ووضعنا اللفظ بإزائه يصير المفهوم بشرط لا وآبياً عن الحمل. وإذا اعتبرناه غير تامّ التحصّل بل بنحو يمكن أن يكون تمام تحصّله وحيثيته الوجودية ما نرى منه من القيود، ويمكن أن يكون تحصّله لجهاتٍ اُخرى يصير مفهوم اللفظ لا بشرط ولا يأبى عن الحمل، فتدبّر.

ص: 81


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص83.
الأمر الثالث: في الصفات الجارية على ذاته تعالى

لا ريب في صحّة حمل القادر، والعالم، والحيّ، والمريد، وغيرها من الأسماء الحسنى على الله تعالى، إلّا أنّه لمّا يتراءى لزوم تغاير المبدأ مع ما يجري عليه المشتقّ ولم يكن لله تعالى حيثٌ وحيثٌ بمعنى أنّه لا تكون له حيثيةٌ يصدق عليه لتلك الحيثية أنّه عالمٌ وحيثيةٌ اُخرى موجبة لصدق القادر، أو الدائم، أو القديم، أو غيرها عليه تعالى؛ وإلّا لزم تركّب ذاته المقدّسة.

ذهبت الأشاعرة((1)) إلى قيام العلم والقدرة وسائر الصفات بذاته المقدّسة وتغايرها معها، وأنّ کلّ هذه الصفات قديمة كذاته تعالى، لأنّه لو لم تكن قديمة يلزم خلوّ ذاته تعالى عنها في رتبته المتقدّمة على قيام الصفات به تعالى.

ولازم قولهم هذا تعدّد القدماء، وفساده من الواضحات.

ولذا ذهبت المعتزلة((2)) إلى القول بنيابة الذات عن هذه الصفات، بمعنى أن ليس لله تعالى علمٌ، ولا قدرةٌ، ولا الصفات الاُخرى، ولكن يظهر منه آثار هذه الصفات.

تعالى الله عمّا يقول الأشاعرة والمعتزلة علوّاً كبيراً.

والتحقيق: عينيّة الصفات والذات، بمعنى كون علمه وقدرته وحياته وغيرها عين ذاته البسيطة، فما هو حيثية صدق العالم والقادر والقديم عليه تعالى، ذاته المقدّسة الأزلية. ولا يلزم تغاير المبدأ ومن يجري عليه المشتقّ؛ لأنّا نرى بالوجدان صحّة حمل القديم على بناءٍ مضى من تاريخ بنائه ألف عامّ بالنسبة إلى بناءٍ قبل خمسمائة عامّ، ولا

ص: 82


1- راجع: الأشعری، اللمع، ص14، رقم 24-25؛ الأشعري، مقالات الإسلامیین، ص290؛ الفخر الرازي، التفسیر الکبیر، ج1، ص132؛ المفید، أوائل المقالات، ص17؛ العلاّمة الحلّي، نهج الحقّ، ص64؛ التفتازاني، شرح المقاصد، ج4، ص69.
2- القاضي عبد الجبّار الأسد آبادي، شرح الاُصول الخمسة، ص183.

يكون معنىً لقدمه إلّا وجوده في تمام هذه المدّة، فلا تكون حيثية صدق القديم عليه غير وجوده الكذائي، ولا يكون ماوراء ذات البناء شيءٌ يكون قائماً به.

وأمّا الحياة فلو كانت حقيقتها ما يتصوّر بالنسبة إلى الإنسان والحيوان - وهو تحقّق علاقة الروح بالبدن، وفي مقابله الموت الّذي هو عبارة عن زوال لياقة البدن لتعلّق الروح به - فلا يخفى عدم تصوّر الحياة بهذا المعنى لله تعالى، بل لا يمكن تصوّر الحياة بهذا المعنى بالنسبة إلى سائر الموجودات الحيّة من الأرواح والملائكة والنبات والجماد.

أمّا لو كان معنى الحياة معنى يصحّ إطلاقه على جميع الموجودات الحيّة وهو ظهور الآثار المترقّبة عن الشيء بأسرها منه، وبهذا المعنى يقال: الله تعالى حيٌّ، والإنسان حيٌّ، والمعدن حيٌّ، والماء حيٌّ، فمعنى كونه تعالى حيّاً بروز جميع آثار واجبية الذات عنه تعالى، وهذا كما ترى لا يكون شيئاً ماوراء الذات حتى يكون قائماً به تعالى. وهكذا نقول في العلم فإنّه الإنكشاف، وهذا أيضاً ليس شيئاً غير الذات.

ص: 83

ص: 84

المقصد الأوّل في الأوامر

اشارة

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: فيما يتعلّق بمادّة الأمر

الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر

الفصل الثالث: في الإجزاء

الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب

الفصل الخامس: في مسألة الضدّ

الفصل السادس: في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

الفصل السابع: في الواجب التخييري

الفصل الثامن: في الواجب الكفائي

الفصل التاسع: في الواجب المطلق والموقّت

الفصل العاشر: في متعلّق الأوامر والنواهي

ص: 85

ص: 86

الفصل الأوّل: فيما يتعلّق بمادّة الأمر

اشارة

والكلام فيه يقع في جهات:

الجهة الاُولى والثانية: في معنى مادّة الأمر، واعتبار العلوّ والاستعلاء

اشارة

قال الجوهري: «أمرته بكذا أمراً. والجمع الأوامر».((1))

ولا يخفى: أنّ جمع الأمر على الأوامر من الجموع النادرة.

والقول بأنّه جمع الآمرة بحذف الموصوف (أي الصيغة أو الكلمة الآمرة) فيكون المراد من الأوامر: الكلمات الآمرة والصيغ الآمرة، بعيد عن الذهن كما يشعر بذلك كلام مولانا أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) في دعاء كميل: «وخالفت بعض أوامرك»؛ فإنّه بعيد في الغاية حمل لفظ الأوامر المذكور في كلامه(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) على هذا المعنى، بل المستفاد منه الطلب المخصوص الّذي يكون مرادفه بالفارسية لفظ «فرمان».

وعلى کلّ حال اختلفوا في معنى لفظ الأمر، وذكروا له معاني عديدةً:

منها: الشأن، والطلب، والفعل، والفعل العجيب، والغرض، وغيرها. والظاهر

ص: 87


1- الجوهري، الصحاح، ج2، ص581 (مادّة: أمر).

أن الأمر ليس كذلك في جميع المعاني المذكورة؛ فإنّه لا يستعمل في الفعل في كلامهم. وأمّا قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾؛((1)) فالظاهر أنّ المراد به المعنى الحدثي وما يشتقّ منه الأفعال وغيرها.

وكذلك الفعل العجيب، فلا يستعمل الأمر في كلامهم في الفعل العجيب أيضاً؛ واشتباه بعض الاُصوليين في ذلك إنّما نشأ من موافقة مادّة الأمر بفتح الهمزة مع الإِمر بكسرها، حيث إنّ الإِمر بالكسر بمعنى الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾.((2))

وأمّا الغرض، في مثل قولنا: «جاء زيد لأمر كذا» فإنّ ما یدلّ على الغرض هو اللام ويكون مدخوله مصداقه.

وأظنّ أنّ لفظ الأمر مشترك((3)) بين معنيين:

أحدهما: المعنى الحدثي الّذي تشتقّ منه الأفعال وغيرها.

ثانيهما: المعنى الجامد الّذي يكون عبارة عن الشيء، بل يكون أخصّ منه؛ لأنّ الشيء يطلق على الجواهر، فيقال: زيدٌ شيءٌ، ولا يقال: زيدٌ أمرٌ. ولكن يصحّ قولك: أتيتك لأمر من الاُمور، والأمر الّذي معناه هذا يكون جمعه الاُمور، ولا نظر للاُصولي في تعيين معناه.

اعتبار العلوّ والاستعلاء

اختلف الاُصوليون - بعد اتّفاقهم على دلالة الأمر على الطلب - في اعتبار كون

ص: 88


1- هود، 97.
2- الکهف، 71.
3- أي بالاشتراك اللفظي، و به قال الحسن البصري کما في هدایة المسترشدین (الأصفهاني، ص130)؛ و قال به في الفصول (الأصفهانی، ص62)؛ و بدائع الأفکار (العراقي، ج1، ص194). راجع أیضاً: کفایة الاُصول (الخراسانی، ج1، ص89 – 90). و قال بعض بالاشتراك المعنوي، کما ذهب إلیه فی فوائد الاُصول (النائیني، ج1، ص128).

الطلب من العالي حتى لا يكون الطلب من المساوي، أو السائل أمراً. وكذلك في اعتبار الاستعلاء وعدمه.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّ الطلب على قسمين:

قسم: يصدر من الطالب لأجل أن يكون موجباً للانبعاث وسبباً لتحريك الغير، ويكون موجب الانبعاث والتحريك مجرّد ذلك الطلب بدون ضمّ ضميمةٍ.

وقسم: لا يكون كذلك، بل ينشأ الطلب ويضمّ معه شيء آخر من الإصرار والاسترحام والتطميع والتعظيم والدعاء وغيرها، فلا يكون مجرّد إنشاء هذا الطلب باعثاً ومحرّكاً.

فإذا كان الطلب من القسم الأوّل يكون أمراً. وإذا كان من قبيل الثاني يكون سؤالاً أو التماساً. فبناءً عليه لا يعتبر في معناه العلوّ ولا الاستعلاء. نعم، لو طلب المساوي أو السافل بالنحو الأوّل يذمّه العقلاء ويقبّحونه، لأنّ اللائق بهذا الطلب الكذائي إنّما هم الموالي بالنسبة إلى عبيدهم ومن يجري مجراهم.

الجهة الثالثة: في حقيقة الطلب

لا يخفى عليك: أنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) وإن ذكر في الجهة الثالثة كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب،((1)) ولكن الأولى بيان ذلك في الجهة الرابعة، فإنّ اللازم بيان حقيقة الطلب أوّلاً ثم البحث في أنّ الوجوب الذي هو قسم من الطلب هل هو مفهوم الأمر أم لا؟ فعلى هذا، ينبغي لنا تقديم البحث عن حقيقة الطلب، فنقول بعون الله تعالى:

إنّ القوم حيث قسّموا الطلب إلى قسمين: الوجوب والندب، صاروا بصدد بيان

ص: 89


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص92.

حقيقة الطلب. وحيث إنّ البحث عن ذلك مرتبط بالبحث عن اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه الّذي يكون من شعبات المسألة المعروفة الكلاميّة الّتي وقع فيها الاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة - وهي أنّ صفة التكلّم من صفات الذات، أو الفعل؟ - ساقوا الكلام في تحقيق اتّحاد الطلب والإرادة، ولكن لم يبيّنوا محلّ الاختلاف والنزاع مفصّلاً ولم يأتوا بما يوضّح المرام، بل خرج بعضهم عمّا هو محلّ النقض والإبرام، فاللازم توضيح جهة النزاع ومنشأ الاختلاف بنحو يتّضح روح البحث وما هو الحقّ في المقام.

فنقول: إنّ المسلمين في صدر الإسلام تلقّوا الآيات والأخبار غالباً من غير أن يتعمّقوا في مضامينها ويبحثوا في مراداتها، بل کانوا يأخذونها من صاحب الشرع صلوات الله عليه وآله ويحفظونها ككنوز جواهر لا يعلم حافظها ما فيها، ولمّا وصلت النوبة إلى عصر الصحابة و رأوا شدّة اهتمام الإسلام بتحصيل العلم، والتفتوا إلى أنّ الواجب عليهم تحصيل العلوم، صاروا مهتمّين بتعلّم العلوم وإعمال التفحّص في سبيلها وعقدوا في المساجد حلقات تذاكروا فيها تفسير القرآن المجيد، وتحادثوا بما سمعوه عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ). وفي هذا العصر اطّلع المسلمون على ما في أيدي الناس من الأفكار والآراء لأجل اختلاطهم ومعاشرتهم مع غيرهم من الملل المختلفة، لاسيّما في عصر التابعين الّذي كثر فيه الأسرى العارفون بآراء مللهم في مبدأ العالم وصفاته تعالى، وكيفيّة تكوّن العالم وغيرها، وقد كان بعض هؤلاء الأسرى يحضر بعض تلك الحلقات ويطرح هذه الآراء، وكان أكثر تشكيل تلك الحلقات في مساجد مكّة والمدينة المكرّمتين والكوفة والبصرة.

وممّن كان له حلقة بحثٍ في مسجد البصرة الحسن البصري، وربّما حضر في حلقة بحثه بعض المطّلعين على بعض الآراء من الملّيّين، وصارت نظرياته منشأً لبحثهم في صفات الله تعالى، ومزيد اهتمامهم في فهم ما جاء في القرآن الكريم من الصفات الجارية عليه تعالى، كالعالم، والقادر، والمتكلّم، وغيرها. وقد وقع لواصل بن عطاء

ص: 90

أحد تلامذته معه اختلافٌ في بعض المسائل، فاعتزل من حلقته وجلس في ناحية اُخرى من المسجد، ووافقه في الاعتزال بعض التلامذة. ومن ذلك الزمان اُسّس مذهب الاعتزال، إلى أن نشأ أبو الحسن الأشعري الذي كان في بداية أمره من المعتزلة وممّن يرى رأيهم ويسلك سبيلهم، ثم رجع عن ذلك وأخذ طريقة الحسن البصري ومن يحذو حذوه، واهتمّ بردّ آراء المعتزلة وسمّاهم بأهل البدعة، كما سمّى نفسه وموافقيه بأهل السنّة. وذهب في صفات الله تعالى إلى قيامها بالذات قياماً حلولياً. وحيث رأى أنّ القول بحدوث الصفات ملازم لخلوّ الذات منها في المرتبة المتقدّمة على حدوثها ذهب إلى قدم صفاته تعالى، ولم يتحاش من تعدّد القدماء، فخالف المعتزلة الّذين قالوا بالنيابة.

وأثبت الكلّ لله تعالى صفات ثبوتية وسلبية، وأنّ صفاته الثبوتية على قسمين: صفات الذات وصفات الفعل. لکنّهم اختلفوا في التكلّم وكونه من صفات الذات أو الفعل فذهبت المعتزلة((1)) إلى أنّه من صفات الفعل،((2)) كما هو الحق عند الإمامية. وقالوا بأنّنا ما نفهم من الكلام إلّا تلك الأصوات والحروف المسموعة المنتظمة، ولا فرق فيه بيننا وبين الله تعالى، إلّا أنّه تعالى يوجد الكلام في الأشياء كشجرة موسى(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). فمعنى التكلم إيجاد الأصوات والحروف.

وذهبت الأشاعرة((3)) إلى أنّ الكلام صفة من صفات الذات، كالعلم والقدرة، ولا فرق فيه بيننا وبينه تعالى. وعبّروا عنه بالكلام النفسي. وقالوا بأنّنا إذا تکلّمنا بکلامٍ فلا

ص: 91


1- القاضي عبد الجبّار الأسد آبادي، شرح الاُصول الخمسة، ص528 – 563؛ القاضي عبد الجبّار الأسد آبادي، المغني، ج7، ص3-62؛ العلّامة الحلّي، کشف المراد، المسألة السادسة من الفصل الثاني في صفاته تعالی؛ العلّامة الحلّي، الباب الحادي عشر، ص29 (الصفة السابعة: أنّه تعالی متکلّم).
2- صفة الفعل: صفة تثبت لله تعالی لأجل صدور فعل عنه. [منه دام ظلّه العالي].
3- التفتازاني، شرح المقاصد، ج4، ص147 وما یلیها؛ الجرجاني، شرح المواقف، ج8، ص93.

محالة يكون في نفسنا شيء نعبّر عنه بالكلام اللفظي ونحكي بسببه عنه وهذه الصورة النفسية هي ما نسمّيها بالكلام النفسي، والكلام اللفظي حاكٍ عنه.((1))

وقالت المعتزلة في ردّهم: إنّ الكلام لا يخلو إمّا أن يكون من الجمل الخبرية أو الإنشائية، فلو كان من الجمل الخبرية فلا نجد في ذهننا إلّا العلم بما أخبرنا شيئاً نسمّيه بالكلام النفسي. ولو كان من الجمل الإنشائية، فإن كانت الجملة أمرية فلا يكون في أنفسنا بحذائها شيء غير الإرادة، وإن كانت زجرية فلا يكون غير الكراهة، فما هذا الكلام النفسي الّذي تقولون بأنّ الكلام اللفظي يكون حاكياً عنه، ونحن لا نرى بالوجدان غير الإرادة والكراهة والعلم، صفةً اُخرى تكون وراءها.

ومن هنا ظهر منشأ نزاعهم في اتّحاد الطلب والإرادة وعدمه؛ لأنّ من شعب النزاع والاختلاف في الكلام النفسي أنّ الجملة الإنشائية لو كانت بعثية تكون حاكية عن الطلب النفسي الّذي يكون مغايراً للإرادة على مذهب الأشعري.

وأمّا على مذهب المعتزلة فلا يكون شيء في النفس غير الإرادة، وإنّما تكون الجمل الإنشائية الأمرية حاكية عن الإرادة، فيكون الطلب متّحداً مع الإرادة، لكن لا بمعنى اتّحادهما حقيقة، فإنّ الطلب اللفظي وما هو حاكٍ عن الإرادة يكون مغايراً معها بالضرورة، بل مرادهم من الاتّحاد حكاية الجمل الإنشائية البعثية عن الإرادة.

ص: 92


1- وتمسکوا بما قاله الأخطل نظماً: إنّ الکلام لفي الفؤاد وإنّما جعل اللسان علی الفؤاد دلیلاً والأخطل هو، غیاث بن غوث بن الصلت بن طارق بن عمرو من بني تغلب أبو مالك شاعر نصراني اشتهر في عهد بني اُمية بالشام وأکثر من مدح ملوکهم، نشأ علی المسیحیة في أطراف الحیرة، واتّصل بالاُموییّن فکان شاعرهم. له دیوان شعر مطبوع. توفّي عامّ 90ق. وألّف عبد الرحیم بن محمود مصطفی في حیاته کتاب: «رأس الأدب الکمّل في حیاة الأخطل». راجع: دائرة المعارف الإسلامیة، ج1، ص515.

ففي الحقيقة: القول باتّحاد الطلب والإرادة راجع إلى إنكار الطلب النفسي، وأ نّه لا يكون غير الإرادة في النفس شيء نسمّيه بالطلب النفسي. كما ظهرت أيضاً مناسبة البحث عن الطلب والإرادة في الاُصول في هذا المقام.

والحاصل: أنّ النزاع واقع في أنّه هل توجد صفة في النفس غير الإرادة یدلّ عليها الطلب اللفظي، دلالة المسبّب على السبب، أم لا؟

ونحو ذلك يقال في الجمل الخبرية، فهل يوجد في أنفسنا شيء غير العلم تدلّ عليه الجمل الخبرية، أم لا؟ وقس على هذا الاختلاف الواقع في الجمل الإنشائية الزجرية؛ فإنّ الاختلاف بالنسبة إليها راجع إلى وجود صفة في النفس غير الكراهة وعدمه.

ومرجع الكلّ إلى أنّه هل تكون سوى الصفات المعروفة صفة في النفس تكون قائمة بها قياماً حلولياً نعبّر عنها بالكلام النفسي، ويدلّ عليها الكلام اللفظي، دلالة المسبّب على السبب، أم لا؟ فالأشاعرة اتّفقوا على الأوّل، والعدلية على الثاني.

وهذا البحث، أي البحث عن الكلام - الّذي مرجعه إلى البحث في أنّ القرآن مخلوق وحادث، أو قديم؟ -، أوّل بحث وقع بينهما في صفات الله تعالى، لمّا صاروا بصدد البحث وتصحيح العقائد وتطبيقها على ما ورد عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولذا سمّي علم الكلام بالكلام((1)) مع احتوائه على المباحث الكثيرة غير مبحث الكلام.

ولا ريب أنّ البحث في الكلام بحث دينيّ كلاميّ بحت، وينادي بالمغايرة مع ما في كتب الاُصول، فإنّ المتاخّرين من الاُصوليّين ادخلوه فى الاُصول بعدما لم يكن لهذا البحث أثرٌ في كتب المتقدّمين، ولم يلتفتوا إلى ما هو محلّ النزاع وروح الاختلاف. وأوّل من ذكره في الاُصول المحقّق صاحب الحاشية(قدس سره).((2)) وتوهّم أنّ المراد من اتّحاد الطلب

ص: 93


1- انظر علّة تسمیته بالکلام في نهایة المرام في علم الکلام المطبوع مع تحقیقنا، ج1، ص8-9.
2- وهو الشیخ محمد تقيّ الأصفهاني في شرحه علی المعالم المسمّی ب- «هدایة المسترشدین»، ص135.

والإرادة ترادفهما، وأنّ مراد القائل بمغايرتهما تغايرهما بحسب الموضوع له، وأنّ الموضوع له في الطلب الطلب الإنشائي وفي الإرادة الصفة المعهودة.

مع وضوح أنّ هذا غير لائق بأن يبحث عنه الأشاعرة والمعتزلة ويتعبوا أنفسهم بتسويد صفحات عديدة من الكتب الكلامية؛ لأنّ المسألة تصير على هذا مسألة لغوية.

وتبعه بعده سائر الاُصوليين، حتى وصلت النوبة إلى المحقّق الخراساني(رحمه الله) ، فهو وإن كان يظهر من بعض ما أفاد في المقام((1)) إلتفاته إلى ما هو محلّ النزاع في علم الكلام ولكن يظهر من بعض عباراته خلاف ذلك، فكأنّه تارة إلتفت إلى محلّ النزاع، واُخرى أغمض عنه ولذا أصلح بزعمه بين الطائفتين العدلية والأشاعرة، وقلع أساس النزاع بما حقّقه.((2))

وحاصل ما أفاده(قدس سره): أنّ الطلب والإرادة موضوعان لماهية واحدة وهي الإرادة العينية. ولهذه الماهية - وهو الموضوع المتصوّر - وجود خارجي وهو الطلب والإرادة الحقيقية العينية، ووجود اعتباري وهو الطلب والإرادة المنشاءان باللفظ.

فالعدلية إنّما ذهبوا إلى اتّحاد الطلب والإرادة بحسب الوجود الخارجي، وأنّ ما يدلّ عليه لفظ الإرادة هو ما يدلّ عليه لفظ الطلب، وإلى اتّحادهما أيضاً بحسب الوجود الذهني، وإلى اتّحادهما أيضاً في عالم الإنشاء.

والأشاعرة إنّما ذهبوا إلى تغايرهما بملاحظة تغاير الطلب الإنشائي مع الإرادة الخارجية.

هذا، ولكن يظهر ممّا أسلفناه فساد هذا التحقيق أيضاً؛ لأنّ النزاع كما ذكرنا لا يكون إلّا نزاعاً دينياً بحتاً ولا يكون نزاعاً لفظياً، فالأشاعرة إنّما ذهبوا إلى وجود صفة غير الصفات المعهودة في المتکلّم وسمّوها بالكلام النفسي، والعدلية على خلاف ذلك، فالنزاع واقع في وجود هذه الصفة وعدمها. ولو عبّرت العدلية عن مرادهم بالاتّحاد

ص: 94


1- راجع حاشیته علی فرائد الاُصول (ص287 و ما یلیها)؛ و کفایة الاُصول (الخراساني، ج1، ص95).
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص97.

فليس مقصودهم اتّحاد الطلب والإرادة حقيقة؛ لأنّ من الواضح عدم اتّحاد هذا الإنشاء المخصوص مع الإرادة الّتي تكون من الصفات النفسانية، بل مرادهم من اتّحادهما: دلالة الطلب على الإرادة دلالة المعلول على العلّة.

هذا، مع أنّ المعروف والمسلّم عند أهل المعقول تقسيم الوجود إلى العيني، والذهني، والكتبي، واللفظي، وإنّما يطلق الوجود على اللفظي والكتبي مسامحةً من جهة حكاية اللفظ والكتابة عن الوجود.

والمحقّق المذكور زاد في الكفاية على الأقسام الأربعة قسماً خامساً وهو الوجود الاعتباري الّذي سمّاه في المقام بالإرادة والطلب الإنشائي،((1)) مع أنّ الحقائق والاُمور الحاصلة في الخارج غير قابلة للاعتبار، فلا يعقل اعتبار وجود الإرادة - الّذي يكون وعاؤه عالم العين - في عالم الاعتبار؛ لأنّ الاعتبارات بعضها يكون له ما بحذاء في الخارج كالفوقية والتحتية والاُبوّة والبنوّة، وتنتزع هذه العناوين من جهة خصوصيات الوجودات العينية بالنسبة إلى وجودٍ آخر، وبعضها لا يكون له ما بحذاء في الخارج، وهذا ينتزع من جعل من بيده الاعتبار ووضعه، كالحكومة والولاية، فإنّ الحكومة مثلاً تنتزع من نصب السلطان أحداً ليتولّى أمر بلدٍ، وكذلك البيع، فإنّه ينتزع من إيجاب البائع وقبول المشتري. وعلى کلّ حالٍ، لا يكاد يتصوّر الوجود الاعتباري للحقائق الموجودة في عالم العين.

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ حقيقة الطلب عبارة عن وجود إنشائي اعتباري ينشأ بالجمل الإنشائية البعثية ويعتبر وجوده في عالم الاعتبار بإنشاء المنشى ء، ويكون مجرّد إنشاء الآمر والباعث حاكياً عن إرادته هذه.

ص: 95


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص93.

ثم اعلم: أنّ الأشاعرة قد تمسّكوا لما ذهبوا إليه بدليلين:

ص: 96

أحدهما:((1)) أنّه لو لم تكن في المتکلّم غير الإرادة صفة یدلّ عليها الطلب اللفظي فما هو مدلول الأوامر الصادرة عن الله تعالى الّتي لا تكون متعلّقاتها مرادةً له تعالى، كأمره تعالى الخليل بذبح ولده، حيث إنّ الله تعالى لم يرد منه الذبح، فما المحكيّ عنه في تلك الموارد؟ وهل يكون غير الطلب النفسي شيء؟ وهل يصحّ بعد ذلك قول القائل بعدم تعقّل صفة قائمة بالنفس غير الصفات المعروفة؟ فعلى هذا، فما یدلّ عليه الطلب اللفظي ليس إلّا الطلب النفسي القائم بذاته تعالى أزلاً.

وثانيهما: ما ذكره في الكفاية((2)) [كما أشار إلى الأوّل،] وهو أنّه لو لم تكن غير الصفات المعروفة صفة یدلّ عليها الكلام اللفظي، يلزم تخلّف إرادته تعالى عن المراد في تكليفه الكفّار وأهل العصيان، حيث أنّه أمر الكفّار بالإيمان، والعصاة بالواجبات، ولم يصدر منهم الإيمان وفعل الواجبات، وتخلّف إرادته عن مراده محال فلم يرد منهم الإيمان وأداء الفرائض البتّة. فما یدلّ عليه الطلب اللفظي هو الطلب النفسي، لا الإرادة.

والجواب عن الأوّل: أنّ الآمر تارة يأمر المأمور بفعل لحصول كمال له بسبب إتيانه ذلك الفعل. واُخرى يأمره به لأن يأتي بمقدّماته وجميع ما يتوقّف عليه الفعل، مع علمه بوجود المانع عن حصول الفعل، وذلك أيضاً لحصول الكمال للعبد.

ولا يخفى: أنّه في الأوّل أراد نفس الفعل، وفي الثاني أراد المقدمات. وقصة أمر الخليل(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بذبح ولده من قبيل الثاني، لأنّ الله أمره - لحصول الكمال له - بإتيانه جميع المقدّمات بحيث يساوق إتيانها الإتيان بالذبح عادةً لولا طروّ المانع، ولو أمره بالمقدّمات لا يحصل له ذلك الكمال وهو كونه بجميع وجوده وحقيقته مطيعاً للمولى، بحيث يذبح ولده في سبيل طاعته ورضاه. فالله تعالى لم يرد منه الذبح، بل أراد المقدّمات بأمره بالذبح. وقوله تعالى: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾((3)) دليل على اكتفائه بإتيان المقدّمات. ويكون أمره تعالى بالذبح كاشفاً عن إرادته تعالى لوصول عبده إلى الكمال.

وأمّا الجواب عن الثاني: فأجاب عنه المتکلّمون من العدلية بأنّ إرادة الله تعالى إذا تعلّقت بما هو فعله تعالى فلا يمكن تخلّفها عن المراد، وأمّا إذا تعلّقت بصدور فعل عن الغير بإرادة ذلك الغير فلا.((4))

وقال في الكفاية في مقام الجواب: بأنّ المستحيل تخلّفه عن المراد إرادته التكوينية دون إرادته التشريعية. وفسّر الاُولى بالعلم بالنظام على النحو الكامل التامّ، والثانية بالعلم بالمصلحة في فعل المكلّف.((5))

ولا يخفى عدم احتياج الجواب إلى بيان ماهيّة الإرادتين وأخذ ذلك من الحكماء((6)) وذكره في المقام. والظاهر أنّه تمهيد لبيان ما يذكر بعد ذلك من الإشكال والجواب

ص: 97


1- التفتازاني، شرح المقاصد، ج4، ص149؛ شرح القوشجي علی التجرید، ص246.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص99. و قبل الکفایة کتب اُخری، نحو: المطالب العالیة للفخر الرازي، ج8، ص11-19؛ وشرح القوشجي علی التجرید (ص340) ؛ والفصول الغرویة (الأصفهاني، ص68).
3- الصافّات، 105.
4- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص68.
5- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص99.
6- إنّ الحکماء والفلاسفة - کما في غیرواحد من کتبهم - فسّروا إرادة الله تعالی بعلمه، مع أنّ العلم عین ذاته تعالی، وإرادته فعله وإحداثه، کما ورد عن أبي الحسن7في حدیث: «وأمّا من الله تعالی فإرادته إحداثه لا غیر ذلك...، فإرادة الله الفعل لا غیر ذلك ، یقول له کن فیکون...». الحدیث. الکلیني، الکافي، ج1، ص109 - 110، ح 3 (باب أنّ الإرادة من صفات الفعل)؛ راجع أیضاً: الصدوق، التوحید، ص148، ح17، ب11، باب إرادته تعالی لفعل العبد؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ص137، باب القدرة و الإرادة، ب4، ح4.

بقوله(قدس سره): فإن قلت... إلخ، وهو خارج عن محل النزاع. مع أنّه لم يؤدّ حقّ الجواب وكأنّه أظهر العجز عنه في آخر المقال.((1))

وأمّا الإشكال المذكور في كلامه فهو الإشكال المعروف عن الخيّام((2)) وغيره.

وقد أجاب عنه المحقّق الطوسي(رحمه الله) بأنّ العلم تابع للمعلوم ولا يكون المعلوم تابعاً للعلم.((3))

ص: 98


1- یستفاد ممّا أفاد السیّد الاُستاذ(قدس سره)، فیما یأتي في البحث عن الجمع بین الحکم الظاهري والواقعي وما حکاه عنه هنا مقرّر بحثه عن مجلس درسه في بروجرد، الجواب عن الاستدلال الثاني بمنع وجود الإرادة الحقیقیة المتعلّقة بإطاعة الکفار والعصاة، فلا بعث ولا زجر حقیقةً بالنسبة إلیهم، وإن کان إنشاء التکلیف والأمر والنهي مطلقاً یشمل بإطلاقه العاصي کالمطیع، فما تعلّقت به الإرادة الحقیقیة إنبعاث عباد الله الصالحین من الأوامر وإنزجارهم عن المناهي من النواهي لینذر من کان حیّاً ویحقّ القول علی الکافرین وإنّما تنذر من اتّبع الذکر وخشي الرحمن بالغیب. لا یقال: فعلی هذا لا یکون العاصي عاصیاً حقیقیاً ولا یستحقّ اللوم والعذاب. فإنّه یقال: یکفي في استحقاقه العقاب المصلحة الکامنة في الفعل الّذي ترکه، والمفسدة الّتي في الفعل الّذي أتی به، وإطلاق الطلب الإنشائي وکونه صالحاً لأن ینبعث منه. [منه دام ظلّه العالي].
2- قال في ما نسب إلیه في رباعیته: من می خورم و هر که چو من اهل بود * می خوردن او نزد خرد سهل بود می خوردن من حق ز ازل می دانست * گر می نخورم علم خدا جهل بود ونقلها إلی العربیة، الشاعر الصافي النجفي قائلاً: أعبُّ الطّلا عمدا ومثلي ذو حجی * له یَغتَدي عند النُهی شُربها سهلاً دَری الله قِدما بارتشا فِيَ للطّلا * فإن أجتنبها ینقلب علمه جهلاً رباعیات الخیّام، تعریب السیّد أحمد الصافي، حرف اللام، رقم250.
3- الخواجة نصیر الدین الطوسي، نقد المحصّل، ص328، ویستفاد هذا الجواب ممّا أفاد نظماً: این نکته نگوید آنکه او اهل بود * زیرا که جواب شبهه اش سهل بود علم ازلی علت عصیان کردن * نزد عقلا ز غایت جهل بود

وفي هذا الجواب نظر، بل ظاهره واضح الفساد؛ لأنّ العلم على قسمين:

علم فعليّ، وهو الّذي يتعلّق بما أراد الفاعل فعله، وهذا العلم ليس تابعاً للمعلوم لأنّه لا يكون موجوداً قبله.

وعلم انفعالي: وهو الّذي يكون تابعاً للمعلوم، لأنّه لا يتعلّق بالمعلوم إلّا بعد وجوده.

وعلمه تعالى إنّما يكون من قبيل الأوّل، وأمّا الثاني فمحال في حقّه تعالى.

والتحقيق في بيان مراده(قدس سره): أنّ علمه تعالى بالنظام الأتمّ تعلّق بما أنّها مترتّبة بعضها على بعض وبما أنّ بعضها علل و بعضها معلولات، ومن الواضح أنّ ذلك الترتّب والعلّية، سواء كان إعدادياً أو ما به يكون الشيء موجوداً، ليس حاصلاً بجعله تعالى، بل هو حاصل بذاته وبالنظر إلى ماهيته المجعولة، فالصادر عنه تعالى بإيجاده هي الموجودات، والعلم بالترتب والعلّية المذكورة بين هذه الموجودات - المعلومة - يكون شبيهاً بالانفعال، ومن جملة تلك المعلومات فعل المكلّف الّذي يكون معلولاً لاختياره بأن يصدر الفعل عنه بترجيحه جانب الوجود أو العدم بعد كون فعله وتركه للمكلّف وميله إليهما على السواء.

وما ذكرناه هو الملاك في اختيارية الأفعال وصحّة المؤاخذة والعقوبة وحسن الثواب، لا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني(قدس سره) من كون ملاكها مسبَّبية الفعل عن الإرادة وصدوره بها، لأنّ الحيوان أيضاً يصير على هذا المبنى مختاراً ومستعدّاً لتوجيه التكليف إليه.

وبالجملة: خلق الإنسان ذا أميالٍ مختلفة وغرائز متباينة، لأنّ النفس الإنسانية متكوّنة من الرقائق المتضادّة، فلها ميولٌ حسب ما تقتضيه تلك الرقائق، فلا محالة يكون للإنسان بالنسبة إلى فعل کلّ شيء وتركه ميل إلى أحدهما حسب تلك الميول.

ومنحه الله تعالى القوّة العقلية لتمييز الصلاح والفساد، وبَعَث الأنبياء(علیهم السلام) ليعاونوا

ص: 99

العقل على ذلك وعلى إتيان الصالحات وترك السيّئات، فلا يصدر عنه فعل ولا ترك إلّا بعد ترجيحه أحد الطرفين، وهذا هو معنى الاختيار.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿إنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾.((1))

الأمشاج: جمع المشج، ومعناه المختلط. فالمعنى والله العالم: أنّه تعالى خلق الإنسان من مختلطات، أجزاؤها أيضاً مختلطة، وهذا الاختلاط إشارة إلى تلك الرقائق. كما أنّ الظاهر من الآية أنّ المراد بالنطفة نطفته الروحانية لا الجسمانية.((2)) وهذا الاختلاف والاختلاط صار سبباً لاختلاف الميول ثم الاختيار وترجيح بعضها على بعض.

إذا عرفت ذلك كلّه تعرف أنّ علمه تعالى بصدور الفعل عن العبد باختياره لا يقلّب الفعل عن كونه اختياريا. لأنّ هذا العلم يكون لا محالة شبه الانفعال وتابعاً للمعلوم؛ إذ العلّية والمعلولية من ذاتيّات العلل والمعلولات.((3))

ص: 100


1- الإنسان، 2.
2- کما أشارت إلیها أخبار الطینة. الصفّار، بصائر الدرجات، ص35، ح5، ص37، ح10. المجلسي، بحار الأنوار، ج25، ص49 - 50، ح10؛ ویدلّ علیه قوله تعالی في الآیة المبارکة: ﴿نَبْتَليهِ﴾ (الانسان، 2)؛ فإنّه یناسب الروح لا الجسد والمادّة.
3- وهذه التابعیة لا نستلزم البعدیة، هذا. ولتوضیح المرام نقول: - ومن الله نستمدّ ونستعین - یمکن طرح الإشکال تارة من جانب الأشاعرة بأنّ علی القول باتّحاد الطلب والإرادة یلزم بالنسبة إلی تکلیف الکفّار بالإطاعة والإیمان إمّا القول بعدم إرادة الإیمان منهم جدّاً وکون تکلیفهم وأمرهم به صوریّاً، أو تخلّف الإرادة عن المراد تعالی الله منه. وتارة من جانب المجبّرة الإیراد علی جواز أصل تکلیف العباد ومطیعهم وعاصیهم بأنّ کلّ واحد من الطائفتین مجبور علی أفعاله عصیاناً کان أو إطاعة. وبعبارة اُخری: لا یتصوّر بالنسبة إلیهم الإطاعة والعصیان لأنّهما خارجان عن قدرة العبد وکلّ میسّر لما خلق له، وذلك لأنّ الله تعالی عالم بحال عبده من الإطاعة والعصیان فلا یقدر العبد علی تغییر ما تعلّق به علمه تعالی، فإنّه یلزم منه تخلّف علمه عن معلومه وجهله، تعالی الله منه علوّا کبیراً، وهو خلاف اتّفاق العدلیة والأشاعرة. والجواب عن إیراد الأشاعرة أنّ التکلیف من الوجوب والحرمة ینشأ بالأمر الإنشائي المطلق الشامل للعاصي والمطیع، إلّا أنّ الإرادة متعلّق بانبعاث العبد إلیه بالاختیار. وإن شئت قلت: یتعلّق علم المولی بانبعاث عبده المطیع باختیاره من التکلیف الإنشائي دون العاصي. فنختار في الجواب عدم الإرادة الجدّیة، وتعلّق الأمر بالعصاة صوریّاً وشموله لهم إنشاءً واحتجاجاً علیهم ولئلّا یکون لهم علی الله حجّة. فإن قلت: فعلی هذا لا یتحقّق منه العصیان. قلت: یکفي فی صحّة حمل العاصي علیهم واستحقاقهم العقاب شمول إطلاق التکلیف له وإتمام الحجّة علیه. وأمّا الجواب عن إیراد المجبّرة - بأنّ علم المولی بوقوع الإطاعة أو العصیان من العبد مستلزم لعدم تخلّفه عن المعلوم، وعدم کون المطیع والعاصي مختارین في الإطاعة والعصیان - ما أفاده السیّد الاُستاذ وملخّصه؛ أنّ تعلّق علم الله بما هو کائن وما یکون لا یوجب انقلاب شيءٍ عن ذاته واقتضائه، فما هو المؤثّر في المسبّبات أسبابها الخاصّة، ولا یؤثّر في تأثیرها علم الله تعالی بها، وکلّ ما في الکون علی نظامه وبرامجه، واختیاریة أفعال العباد وکلّها علی حالها الأصلیة لا یستند شيءٍ منها إلی علم الله تعالی. وثانیاً، علمه تعالی قد تعلّق بصدورها عنه بالاختیار فلو صدر بغیر الاختیار یلزم تخلّف العلم عن المعلوم. وبعد ذلك کلّه نقول: مسألة اختیار الإنسان وعدم کونه مجبوراً في أفعاله لا في المعاصي ولا في الطاعات من أبده البدیهیّات، ثابت بالوجدان، تدور علیه الشرائع والأحکام وحسن إرسال الرسل وإنزال الکتب ونظام التمدّن وعلیه إجماع الملل والاُمم. وأیضاً البرهان قائم علی علمه بالأشیاء وأفعال العباد ما یصدر عنهم من الکفر والإیمان قبل وجودها. وشبهة العلم حیثیة متفرّعة علی ما لا یمکن درك حقیقته لنا أي علم الله تعالی فلا یتمّ الاستدلال بها، لجواز کون تعلّقه بالمعلوم علی نحو لا یترتّب علیه الفساد المذکور کما یقال بأنّه شبه الإنفعال وإن لم نقل بذلك أیضاً لأنّه من الکلام في ذات الله تعالی والإخبار عنها. وإن شئت فقل: إنّها شبهة في مقابلة البدیهة. هذا مضافاً إلی أنّا نری بالوجدان قصور إدراکاتنا وأفهامنا عن إدراك ما سواه من بعض الحقائق کحقیقة الروح وحقیقة بعض صفات الإنسان لولا الکلّ - مثل الإرادة - وحقیقة أشیاء اُخر، وقد قال الله تعالی: ﴿وَمَا أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَليلاً﴾ (الإسراء، 85)، فإذا کانت هذه حالتنا وعجزنا في فهم حقائق المخلوقات، فما ظنّك بحالنا في فهم حقیقة علم الخالق، ولذا تری اختلاف الفلاسفة والحکماء في هذه المباحث، فلم یأت أحد منهم بما تطمئنّ به النفس ویقنعها، إلّا ما کان متّخذاً من الشرائع السماویة والقرآن الکریم والأحادیث الصحیحة المأثورة عن النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والأئمّة الطاهرین صلوات الله علیهم أجمعین. فالأولی في مثل هذه المباحث الاقتصار بالإیمان الإجمالي وما جاء به القرآن الکریم والأحادیث الصحیحة، وأمّا الزائد علیهما فلا یزید الباحث إلّا تحیّراً وجهلاً. والمتدبّر في الآیات القرآنیة والأحادیث الشریفة یجد البیان الحقّ والوافي في موضوع المبدأ تعالی وصفاته بحیث لایحتاج الإنسان إلی أن یتعب نفسه ویرجع إلی ما فیه من قیل وقال وتضییع العمر والأوقات. نعم لا بأس بالإطّلاع علی ما یبحثونه في الکتب، لدفع الشبهات، والمجادلة مع أهل الخلاف بالّتي هي أحسن. هذا، ولا یخفی علیك أنّنا قد أطلنا الکلام في المقام مع أنّه خارج عمّا یبحث عنه في الاُصول لئلّا یقع البعض في بعض التوهّمات بسبب العبارات الواقعة في کلام صاحب الکفایة. والله هو العاصم عن الخطأ والاشتباه. ونختم الکلام ببعض ما في خطبة الأشباح من خطب أمیر المؤمنین7 الّتي هي - کما وصفها السیّد الرضيّ(رحمه الله) من جلائل خطبه7، قال 7 فیها: «اعلم أنّ الراسخین في العلم هم الّذین أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغیوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسیره من الغیب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم یحیطوا به علماً، وسمّی ترکهم التعمّق فیما لم یکلّفهم البحث عن کنهه رسوخاً، فاقتصر علی ذلك ولا تقدّر عظمة الله سبحانه علی قدر عقلك فتکون من الهالکین....» الخطبة. نهج البلاغة، الخطبة 90 (ج1، ص162).

ص: 101

الجهة الرابعة: في تقسيم الطلب إلى الوجوبيّ والندبيّ

اشارة

بعدما ظهر لك في الجهة الثالثة: أنّ حقيقة الطلب عبارة عن وجود إنشائيّ اعتباريّ موطنه عالم الاعتبار، وينتزع من الجمل الإنشائية البعثية، فليعلم: أنّ الطلب على قسمين: إلزامي إيجابي، وندبي استحبابي.واللازم بيان ما به يمتاز کلّ واحد منهما عن الآخر.

فنقول: إنّ امتياز الأشياء بعضها عن بعض تارة: يكون بتمام الذات من غير أن يفرض بينهما جزء مشترك.

واُخرى: ببعضها، وهذا في الحقائق المشتركة في الجنس الممتازة بالفصل الّذي هو جزء الذات.

وثالثة: يكون الامتياز بالمنضمّات والعوارض.

ورابعة: يحصل بالزيادة والنقصان، مثل: الخطّين المتمايزين بالطول والقصر.

وخامسة: يتحقّق الامتياز بالشدّة والضعف، كامتياز بياض العاج عن بياض الثلج. وفي هذين الأخيرين يكون ما به الامتياز عين ما به الاشتراك.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ امتياز الأمر الوجوبي عن الاستحبابي ليس من قبيل القسم الأوّل ولا الثاني. أمّا الأوّل فواضح.

ص: 102

وأمّا الثاني، فلأنّ الامتياز بجزء الذات لا يتحقّق إلّا إذا كان فصل الوجوب هو المنع من الترك، وفصل الاستحباب هو الإذن في الترك، كما هو المشهور بين القدماء. والحال أنّه ليس كذلك؛ لأنّ المنع من الترك في الأمر الوجوبي والإذن فيه في الندبي لا يكون جزء الذات وداخلاً فيها كدخول الفصل المقوّم في النوع، بل المنع من الترك لا يكون في الحقيقة إلّا طلب ترك الترك، وترك الترك نفس الفعل لا الجزء المميّز له.

كما أنّه ليس الامتياز أيضاً من قبيل القسم الثالث والرابع. وإنّما الظاهر كونه من قبيل القسم الخامس، إذ الطلب الإنشائي يكون كالبعث الخارجي المباشري فكما أنّ الطالب في الطلب المباشري قد يكون شديد البعث بحيث يجرّ المبعوث نحو المطلوب، وقد لا يكون بهذا الحدّ، كذلك في الطلب الإنشائي، فيكون الامتياز بين الوجوب والندب بالشدّة والضعف.

وليس معنى ذلك كون الطلب الإنشائي من المقولات المشكّكة حتى يقال بأنّ الأمر الاعتباري ليس مقولاً بالتشكيك، بل بمعنى أنّ إنشاء الطلب تارة يكون مقارناً لاُمور تدلّ على تأكّده، واُخرى يكون مقارناً لاُمور تدلّ على عدم تأكّده. فالطلب الندبي هو الطلب المقارن مع الإذن في الترك، والطلب الخالي عن ذلك أو المقارن مع اُمور تؤكّد الطلب هو الطلب الإيجابي.

فعلى هذا يكون الأمر حقيقة في الطلب، وأمّا الوجوب فإنّما يستفاد من عدم مقارنة الأمر مع القرينة الدالّة على الندب. فما هو الملاك وتمام الموضوع لاستحقاق العقاب وصحّة مؤاخذة المولى عبده، نفس إنشاء الطلب مع عدم الإذن في الترك ولو احتملنا إذنه في الترك.

ويمكن أن يقال بأنّ امتياز الوجوب والندب إنّما يكون في مبدئهما، وما هو علّة للطلب الإنشائي وهي الإرادة النفسانية، فإنّها تارة تكون متأكّدة بحيث لا يرضى

ص: 103

بترك مراده، وتارة لا تكون كذلك، فإذا كانت متأكدة يكون الطلب الإنشائي الناشئ منها إيجابياً وإلّا كان ندبيّاً.

فعلى هذا يكون الطلب الإنشائي غير المقرون بالإذن في الترك كاشفاً عن هذه الإرادة المتأكّدة وطلباً إلزامياً.

ثم إنّه ربما يظهر من كلام بعضهم: أنّ الفصل المميّز بين الوجوب والاستحباب إنّما هو صحّة المؤاخذة على المخالفة في الوجوب، وعدمها في الندب.

كما يظهر من بعض آخر أنّ فصل الوجوب هو عدم رضا المولى بترك الواجب، وفصل الندب رضاه على ذلك.

ولا يخفى ما فيهما.

أمّا الأوّل، فلأنّ صحّة المؤاخذة وعدمها من الآثار العقلية للأمر الوجوبي والاستحبابي، الّتي لا تكون إلّا بعد تحصّل الأمر الوجوبي في الوجوب والندبي في الندب، فلا يعقل أخذها في تحصّل الوجوب وعدمها في تحصّل الندب؛ لأنّ الفصل إنّما يكون محصّل الجنس ومقوّم النوع.

وأمّا الثاني، فلأنّ عدم الرضا على ترك الفعل أمر قلبي نفساني لا يمكن أن يكون فصلاً مقوّماً لما يوجد في الرتبة المتأخّرة عنه في عالم الاعتبار، وكذلك الرضا على الفعل.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ دلالة الجمل الإنشائية - فيما تكون خالية عن الإذن في الترك - على الوجوب إنّما تكون بالدلالة العقلية؛ لأنّ المتكلّم الحكيم إذا قال: «اضرب زيداً» أو «أمرتك بكذا» فكلامه هذا من حيث إنّه فعل من أفعاله یدلّ على صدوره منه عن الاختيار والقصد، وأنّ صدوره عنه لا يكون لغواً ولا هزلاً بل لأجل إفادة فائدة. ومن حيث إنّه لفظ تکلّم به یدلّ على أنّه تکلّم به لإفادة المعنى الموضوع له لا لإفادة مطلب آخر، وهذا الإنشاء الخالي من الإذن في الترك من حيث إنّه فعل صدر

ص: 104

من الحكيم یدلّ على الوجوب، إمّا من جهة كونه مقارناً مع أمریدلّ على تأكّد طلب المولى بناءً على المبنى الأوّل، أو من جهة كونه دالاً على وجود الإرادة المتأكّدة في نفسه على المبنى الثاني.

ومن هنا ظهر عدم صحّة ما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله)((1)) من دلالة الأمر وضعاً أو إنصرافاً على الطلب الإنشائي المقيّد بالإرادة المتأكّدة؛ إذ فيه مضافاً إلى ما ذكر أنّ الطلب الإنشائي لا يمكن أن يكون مقيّداً بالإرادة الّتي هي من الكيفيّات النفسانية، مع أنّ الطلب الإنشائي إنّما يكون معلولاً للإرادة، فكيف يقيّد المعلول بعلّته؟

ثم إنّ ما ذكرناه إلى هنا إنّما يكون مبنيّاً على صحّة تقسيم الطلب إلى الإيجاب والندب، وأمّا لو قلنا بعدم صحّة هذا التقسيم، وأنّ الاستحباب والإذن في الترك تنافي مع البعث والتحريك والطلب، وأنّ مقتضى المولويّة الطلب على سبيل الإلزام، فلا يبقى مجال لهذه الأبحاث.

وقد اختار ذلك المحقّق القمّي(قدس سره)،((2)) فإنّه ذهب إلى مباينة الندب مع الوجوب وعدم كونهما من سنخ واحد. وأنّ الأوامر الندبيّة كلّها إنّما تكون للإرشاد؛ لأنّ الندب منافٍ للطلب والبعث ومقتضى المولوية.

وربما كان مختاره هذا غير بعيد عن الصواب.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى مادّة الأمر سواء اُنشئ بالألفاظ أو الأفعال من غير دخل خصوصية لفظ من الألفاظ أو فعل من الأفعال. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وهو حسبي ونعم الوكيل.

ص: 105


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص98 - 99 (الجهة الرابعة).
2- القمّي، قوانین الاُصول، ص81 - 82.
فائدتان:

الاُولى: اختلاف صيغ الأمر

الصيغ الّتي بها يتحقّق الطلب بحيث يصحّ بعد التكلّم أن يقال: «طلب المتکلّم» وإن كانت متّفقة في أصل تحقّق الطلب بها، لكن يمكن القول بالفرق بينها. ففرق بين قول المولى لعبده: أطلب منك إكرام العلماء أو آمرك بإكرامهم، وبين قوله: أكرم العلماء؛ فإنّ مفهوم الطلب في الأوّل يكون متصوّراً عنده ويتوجّه إليه المتکلّم عند التكلّم، وهذا بخلافه في الثاني فإنّه ليس للآمر توجّه إلّا إلى المطلوب وهو إكرام العلماء، فكأنّه لم يكن الطلب متصوّراً عنده حين إلقاء اللفظ.

ومن هذه الجهة ذهب بعض أساتذتنا إلى أنّ صيغة إفعل وما في معناها موضوعة لمجرد انتساب الفعل. ولكنه لا يخفى ما فيه؛ لأنّا نرى أنّ المتکلّم إذا قال: إضرب أو اُنصر، يقال في العرف: طلب الضرب أو النصر.

هذا، ويمكن أن يقال: إنّ الإنسان تارة: يتوجّه إلى الشيء توجّه من يطلبه، واُخرى: توجّه من يتصوّره، وثالثة: توجّه من يصدّقه، ولابدّ أن يكون لفظ إضرب مثلاً مستعملاً وموضوعاً للضرب الّذي توجّه إليه المتكلّم توجّه من يطلبه، إذ لا يمكن أن يكون موضوعاً لتصوّر أو تصديق نسبة الضرب إلى المخاطب، لأنّهما أجنبيان عن مفاد هذه الصيغ الإنشائية، فتدبّر.

الثانية: كثرة استعمال الأمر في الندب

قال صاحب المعالم(قدس سره): الثانية: «يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمة(علیهم السلام) أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي،

ص: 106

فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمرٍ بمجرّد ورود الأمر به منهم(علیهم السلام)».((1))

وقد أجاب عنه في الكفاية بوجوه:

الأوّل: إنّ كثرة استعمال صيغة الأمر في الندب في الكتاب والسنّة غير موجب لنقلها إليه أو حملها عليه لكثرة استعمالها في الوجوب أيضاً.

الثاني: إنّه وإن كثر استعمالها فيه إلّا أنّه مع القرينة المصحوبة، وذلك وإن كان موجباً لشدّة اُنس الذهن مع المعنى المجازي إلّا أنّ مجرّد الاُنس وتوجّه الذهن إلى المعنى المجازي بمعونة القرينة لا يكون موجباً لصيرورة اللفظ مجازاً مشهوراً حتى يترتّب أثره وهو الترجيح أو التوقّف.

الثالث: النقض بكثرة استعمال العامّ في الخاصّ حتى قيل: «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» ومع ذلك لم ينثلم بها ظهوره في العموم بل يحمل على العموم ما لم تقم قرينة على الخصوص.((2))

وفيما أفاده في مقام الجواب نظر:

ففي الأوّل: أنّ صاحب المعالم(قدس سره) ادّعى الكثرة في جميع الأخبار المروية عنهم(علیهم السلام) لا خصوص السنّة المصطلحة في المرويات عن النبي(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حتى يقال بكثرة استعمالها في الوجوب فيها أيضاً. وادّعاء كثرة استعمالها في الوجوب في جميع الأخبار في مقابل كثرته في الندب مُجازفة جدّاً.

وفي الثاني: أنّه لو قلنا بأنّ الدالّ على المعنى المجازي هو اللفظ والقرينة معاً صحّ ما أفاده في الجواب. أمّا لو قلنا بأنّ الدالّ على المعنى المجازي هو نفس اللفظ، والقرينة إنّما تدلّ على إرادة المعنى المجازي منه كما هو الحقّ، فلا يتمّ ما أفاده، ففي مثل قولنا:

ص: 107


1- العاملي، معالم الدین، ص53.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص103-104.

رأيت أسداً يرمي يكون المستعمل في الرجل الشجاع هو الأسد وأمّا «يرمي» فهي قرينة على إرادة المعنى المجازي من اللفظ.

وفي الثالث: أنّ العامّ كما هو التحقيق ومختاره أيضاً،((1)) لا يستعمل إلّا في العموم، والمخصّص إنّما یدلّ على تعلّق الإرادة الجدّية بالخاصّ.

هذا مضافاً إلى أنّ استعمال العامّ في الخاصّ وإن كان كثيراً إلّا أنّه ليس بالنسبة إلى معنى مجازيّ واحد بل يكون بالنسبة إلى معانٍ مجازية متعدّدة، فلا يكون استعماله بالنسبة إلى کلّ واحد من هذه المعاني كثيراً، وأين هذا من استعمال صيغة الأمر وإرادة الندب الّذي لا يكون إلّا معنى مجازياً واحداً، فكثرة الاستعمال فيه توجب اُنس الذهن بخلاف المقيس عليه.

هذا كلّه بناءً على المسلك المشهور وأنّ الأمر حقيقة في الوجوب.

وأمّا بناءً على المختار من كون الأمر حقيقة في مطلق الطلب وأنّ الوجوب إنّما يستفاد من عدم اقتران الأمر بقرينة على الترخيص بخلاف الندب، أو من جهة أنّ الوجوب عبارة عن الإرادة الأكيدة فخلوّ الأمر عن القرينة الدالّة على الندب يكون كاشفاً عنها بخلاف الندب، فلا يبقى مجال لهذه التفصيلات.

نكتة: في الأوامر ونواهي المعصومين(علیهم السلام): وهاهنا نكتة لا يخلو ذكرها عن فائدة في الفقه، وهي: أنّ الأوامر والنواهي الصادرة عن النبيّ والأئمّة - صلوات الله عليهم أجمعين - ليست كلّها مولوية، بل تارة تصدر عنهم بما أنّ لهم الولاية والسلطنة على الناس: وهذه كالأوامر والنواهي النبوية الصادرة في الغزوات المرتبطة بالجهاد من تعيين وظائف المجاهدين ونحو ذلك، وكالأوامر والنواهي العلوية في حرب الجمل وصفّين وغيرهما.

ص: 108


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص333.

وتارة اُخرى: تصدر عنهم بما أنّهم مبلّغو الأحكام وعالمون بالتكاليف الدينية. وهذا القسم لم يصدر عنهم إلّا لمجرّد الإرشاد، كأوامر الفقهاء والوعّاظ ونواهيهم. فقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد سؤال السائل عن من شكّ في الثلاث والأربع: «يبني على الأربع» مثلاً، لا یدلّ إلّا على الإرشاد، ومخالفته لا تعدّ معصية ومخالفة للإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ). نعم، تكون معصية لله تعالى إذا كان المُرشَد إليه واجباً.

وعلى هذا البناء وفرض دلالة الإرشاد على مطلوبية المُرشَد إليه، تارة: يكون الأمر خالياً عن القرائن الدالّة على كون المُرشَد إليه ندباً فيحكم بوجوب المُرشَد إليه، واُخرى: لا يكون كذلك فيحكم باستحبابه.

ومن ذلك يظهر فساد ما ذكره صاحب المعالم(قدس سره) من كثرة استعمال الصيغة في كلام الأئمّة(علیهم السلام) في الندب؛ لأنّ الأوامر الصادرة عنهم إنّما استعملت في جميع الموارد - إلّا موارد خاصّة - في الإرشاد لا المولوية من الندب والوجوب.((1))

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكر حال بعض المباحث المذكورة في الكفاية،((2)) وإنّما لم نتعرّض لذكرها احترازاً من الإطالة، وهي كالبحث في أنّ الجمل الخبرية الّتي تكون في مقام الإنشاء هل تفيد الوجوب أو لا؟ فبأيّ لفظ اُنشئ الطلب يكون حاله حال الأمر من غير فرق بين الجمل الإنشائية والإخبارية.

ص: 109


1- یمکن تقریر کلام صاحب المعالم(رحمه الله) بما یطابق ما أفاده سیّدنا الاُستاذ متّعنا الله بطول بقائه بأنّه یظهر من تضاعیف أحادیثنا المرویة عن الأئمّة(علیهم السلام) استعمال صیغة الأمر في الإرشاد إلی الندب بحیث صار احتمال الإرشاد إلی الندب مع خلوّ الصیغة عن القرائن الدالّة إلیه مساویاً لإحتمال الإرشاد إلی الوجوب فیشکل استفادة الوجوب من الأوامر الواردة عنهم الدالّة علی الإرشاد إلی مطلوبیة شيء ولو کانت خالیة عن القرائن الدالّة علی کون المرشد إلیه مندوباً. ولکن ظاهر کلام صاحب المعالم(رحمه الله) خلاف ذلك. [منه دام ظلّه العالي].
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص104 (المبحث الثالث من الفصل الثاني فیما یتعلّق بصیغة الأمر).

الجهة الخامسة: في التعبّدي والتوصّلي

اشارة

إعلم: أنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) لم يجعل لبيان حقيقة الواجب التعبّدي والتوصّلي مبحثاً يخصّه، بل ذكر ذلك في المبحث الخامس من الفصل الثاني. وجعل البحث عن بيان ماهيّتها من مقدّمات التحقيق في أنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّلياً فيجزي إتيانه مطلقاً ولو بدون قصد القربة، أو لا؟ وأنّه لابدّ من الرجوع فيما شكّ في تعبّديّته وتوصّليته إلى الأصل، والحال أنّ أصل البحث من مهمّات مباحث الأوامر، واللازم طرحه مستقلّا ثم طرح تفريعاته. وكيف كان، فالكلام - تبعاً لترتيب الكفاية - يقع في اُمور:

الأمر الأوّل: تنقسم الواجبات بل مطلق ما كان مأموراً به إلى التعبّدي والتوصّلي، والأوّل كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها، والثاني كغسل الثوب والبدن ودفن الميّت وما يكون من هذا القبيل.

الأمر الثاني: إنّ المأمور به التعبّدي عبارة عن: ما يعتبر في حصول الغرض منه إتيانه لله تعالى. والتوصّلي ما لا يعتبر فيه ذلك، بل يحصل الغرض بمجرد تحقّقه وحصوله في الخارج وبأيّ وجه اتّفق ولو لم يكن حصوله بقصد التقرّب إلى الله تعالى، بأن كان بقصد الرئاء مثلاً أو بأيّ داعٍ آخر، أو حصل من غير قصد واختيار.

لا يقال: يلزم من ذلك تعلّق الأمر في التوصّليات بما هو أعم من كونه بالاختيار، ومحذوره لا يقلّ من محذور الأمر بما هو خارج عن الاختيار رأساً.

لأنّه يقال: إنّ الآمر تارة يأمر العبد ويصير أمره سبباً لإيجاد الداعي وإرادة الفعل في العبد من غير أن يكون لإرادته دخل في حصول غرض الآمر من تحقّق الفعل، واُخرى يأمره لإيجاد إرادة الفعل في العبد وصدور الفعل عن تلك الإرادة بأن يكون الفعل معلولاً لإرادته فلا يحصل غرض الآمر إلّا بصدور الفعل عن إرادة العبد؛ والواجب

ص: 110

التوصّلي إنّما يكون من القسم الأوّل، حيث يكفي مجرّد تحقّقه من غير دخل لإرادة العبد واختياره في حصول الغرض، ويسقط الأمر بتحقّق المأمور به ولو عن غير قصد واختيار، ولا يلزم منه المحذور المذكور، لأنّ الأمر يتعلّق بما هو مختار العبد لا أعمّ منه ولكنّه يسقط ولو بوقوع الفعل من غير اختيار، لأنّ غرضه قد حصل. فأثر الأمر في التوصّلي إنّما هو إيجاد الداعي في العبد من غير أن يكون لهذا الداعي دخل في الغرض.

الأمر الثالث: لا يعتبر في حصول التعبّد إتيان الفعل بداعي الأمر، بل إذا أتى به بأيّ داعٍ كان مناسباً لشأن المولى اعتناءً بشأنه واحتراماً له يحصل التعبّد ولو لم يتعلّق به أمر المولى.

نعم، إذا شكّ في أنّ هذا مناسبٌ لشأن المولى ومقامه أم لا؟ لابدّ لاستكشاف ذلك من الأمر به.

الأمر الرابع: لا يخفى عليك: أنّنا لم نعثر في كلمات السابقين على الشيخ الأنصاري(رحمه الله) القول بعدم إمكان أخذ قصد التقرّب والامتثال في متعلّق الأمر، بل الظاهر أنّ مذهبهم كون قصد الامتثال من ضمن كيفيّات المأمور به. والشيخ(قدس سره) أوّل من ذهب إلى عدم إمكانه، وفرّع عليه عدم جواز التمسّك بالإطلاق في صورة الشكّ لإثبات توصّلية المأمور به.((1))

وقد قرّر وجه هذا الكلام - الّذي أرسله تلامذة الشيخ ومن تأخّر عنهم إرسال المسلّمات - في التقريرات بما حاصله راجع إلى أنّ تخصّص الفعل بخصوصية إتيانه بقصد الامتثال واتّصافه بتلك الخصوصية إنّما يكون من الاُمور المتأخّرة عن الأمر ومن الانقسامات اللاحقة للحكم، فكيف يعقل أخذه في موضوع الحكم؟

وقد ذكروا في بيان ذلك وجوهاً بعضها يرجع إلى وقوع المحال في ناحية الأمر وأنّه

ص: 111


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص60.

لا يعقل الأمر مع قصد الامتثال في المأمور به - شرطاً كان أو شطراً - ؛ وبعضها يرجع إلى امتناعه في ناحية الإتيان والامتثال.

وجوه الإشكال في ناحية الأمر

ذكروا لبيان وقوع المحال في ناحية الأمر و كونه تكليفاً محالاً وجوهاً:((1))

أحدها: أنّه لا شكّ في أنّ نسبة الحكم إلى الموضوع كنسبة العرض إلى المعروض، والصفة إلى الموصوف؛ فكما لا يمكن أخذ العرض في المعروض والصفة في الموصوف للزوم الدور وتقدّم الشيء على نفسه، كذلك لا يمكن أخذ قصد الأمر في موضوع الحكم؛ لأنّ الحكم وقصد امتثاله متوقّفان على الموضوع ومتأخّران عنه، فلو فرض أخذ قصد امتثاله في الموضوع يلزم تقدّم هذا المتأخّر وصيرورة المتوقّف موقوفاً عليه، وليس هذا إلّا تقدّم الشيء على نفسه، وهو الدور المحال.

ثانيها: أنّ من الواضح اشتراط التكليف بقدرة المكلّف وعدم تعلّق الأمر إلّا بالمقدور، فلو أخذنا قصد الامتثال في متعلّقه يلزم عدم مقدوريته، لأنّ القدرة عليه تتوقّف على الأمر والأمر متوقّف على كونه مقدوراً، فيلزم الدور.((2))

ثالثها: ما أفاده بعض أساتيذنا: من لزوم اجتماع اللحاظين؛ لأنّ قصد الأمر لو كان من الكيفيّات المأخوذة في المأمور به يلزم بالنسبة إلى الآمر لحاظه آليّاً واستقلاليّاً، لأنّ الأمر بالصلاة المقيّدة بقصد الأمر يكون ملحوظا آليّاً ومندكّاً في لحاظه استقلاليّاً قيداً للصلاة المأمور بها فليزم المحال واجتماع اللحاظين المتنافيين.

ص: 112


1- لا یخفی إمکان إرجاع بعض هذه الوجوه إلی بعض، وإنّما الاختلاف من حیث التفنّن في العبارات، ولذا تری تکثیر الوجوه في بعض الکتب والتقریرات، وهي متّحد المآل حقیقة.
2- و المحال في ناحیة الأمر، لأنّه أمر و تکلیف بغیر القادر.
وجوه الإشكال في ناحية الإمتثال

فاعلم: أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) من لزوم الإشكال والمحال في ناحية الامتثال وجوه:

الأوّل: أنّ داعويّة الأمر لا تكون إلّا إلى عمل منطبق للمأمور به، فإذا كان المأمور به مقيّداً بالداعويّة يلزم الدور، لأنّ الداعويّة تتوقّف على انطباق العمل على المأمور به، والانطباق يتوقّف على الداعويّة.

الثاني: إنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه، والمفروض أنّه ليس ذات الفعل، بل هو ذات الفعل بداعي الأمر، وحينئذٍ ننقل الكلام إلى الأمر الثاني وأنّ متعلّقه ليس ذات الفعل، بل ذات الفعل بداعي الأمر - حسب الفرض - وهكذا الكلام في الأمر الثالث، وهلمّ جرّا تتسلل الأوامر إلى غير النهاية.

وقد أفاد صاحب الكفاية(قدس سره) هذا الوجه والوجه السابق في مجلس درسه.

الثالث: ما يظهر من الكفاية((1)) من عدم إمكان الإتيان بذات الفعل بداعي الأمر؛ لأنّ الأمر - حسب الفرض - متعلّق بها مقيّدة بداعي الأمر ولا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى متعلّقه لا إلى غيره أي ذات الفعل. وبعبارة اُخرى امتثال الأمر بالصلاة المقيّدة بقصد الأمر بها دون ذاتها بقصد الأمر موقوف على الأمر بذاتها المفقود هنا، والأمر بها مقيّدة بقصد الأمر لا يمكن امتثاله لأنّه لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به دون غيره أي ذات الصلاة، فتدبّر.

توضيح عبارات الكفاية: وحيث إنّ عبارات الكفاية في هذا المقام في غاية الاختصار، فلا بأس بتوضيحها وبيان المراد منها.

ص: 113


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص110.

فهو(قدس سره) بعد الإشارة إلى استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه قال: «وتوهّم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر... إلخ».

لعلّ المتوهّم يريد أوّلاً دفع الإشكال الثالث من ناحية الأمر((1)) بأنّه يمكن تصوّر الأمر بالمقيّد ولحاظ الأمر آليّاً واستقلاليّاً، لکنّه لا بلحاظ واحد ولا في رتبة واحدة، بل بلحاظين وفي رتبتين.

ولم يذكر دليل إمكان تصوّر الآمر لها((2)) مقيّدة كما أنّه لم يذكر أصل الإشكال.

وثانياّ دفع الإشكال الثاني من ناحية الأمر (من لزوم الدور وتوقّف الأمر على القدرة والقدرة على الأمر) بأنّ المعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحّة الأمر إنّما هو في حال الامتثال لا حال الأمر.

وهذا التوهّم واضح الفساد، ضرورة أنّه وإن كان تصوّرها كذلك بمكان من الإمكان ويجاب به عن الإشكال باجتماع اللحاظين، إلّا أنّه لا يدفع إشكال الدور، لأنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها؛ لعدم الأمر بها، فإنّ الأمر - حسب الفرض - تعلّق بها مقيّدة بداعي الآمر ولا يكاد يدعو الآمر إلّا إلى ما تعلّق به لا إلى غيره.

إن قلت: نعم، ولكن نفس الصلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدة.

وذلك بتصوير الأمر الانحلالي لذات الفعل؛ لأنّ المأمور به بالتحليل العقلاني ينحلّ إلى المقيّد والقيد.

ص: 114


1- ویمکن أن یقال: أنّه أراد به الجواب عن الإشکال الأوّل (وهو لزوم توقّف الحکم علی الموضوع وبالعکس) فقوله: «ضرورة إمکان تصوّر الآمر لها مقیّدة» أراد به أنّ ما یتوقّف علیه الحکم لیس إلّا الوجود الذهني للموضوع، فلا یرد الإشکال المذکور، فتأمّل. [منه دام ظلّه العالي].
2- نسخة «لها» هو الصحیح، و نسخة «بها» غلط من إقحام نسّاخ الکفایة، کما صرّح به سیّدنا الاُستاذ البروجردي(قدس سره). [منه دام ظلّه العالي].

قلت: كلّا! وسيأتي في باب مقدّمة الواجب عدم اتّصاف الجزء التحليلي العقلي بالوجوب، فذات المقيّد مجرّدة عن القيد لا تكون مأموراً بها، وليس في الخارج إلّا وجوداً واحداً واجباً بالوجوب النفسي.

إن قلت: سلّمنا ذلك، لكنّنا نقول بأخذ قصد الامتثال شطراً وجزءً لا شرطاً وقيداً، فعليه يكون نفس الفعل الّذي تعلّق به الوجوب مع قصد الامتثال متعلّقاً للوجوب، لأنّ المرکّب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر، أي لا بشرط الاجتماع ولا بشرط عدمه، فكما يتعلّق الأمر بمجموع الأجزاء، كذلك يتعلّق بکلّ واحد من الأجزاء، فيكون تعلّقه بکلّ بعين تعلّقه بالكلّ، فيصحّ إتيان الفعل بداعي ذلك الوجوب ضرورة صحّة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبها، فالجزء الّذي هو ذات الفعل يؤتى به بقصد الامتثال، والجزء الآخر الّذي هو عبارة عن قصد الامتثال يتحقّق بتحقّق الجزء الّذي هو ذات الفعل الّذي يؤتى به بقصد الامتثال.

قلت: لا يمكن تصوير صحّة ذلك في المقام وإن سلمنا صحّته في غيره، لأنّه يلزم من ذلك تعلّق الأمر بأمر غير اختياري، فإنّ الفرض كون داعي الأمر جزاً للمأمور به لا شرطاً، فيكون القصد أيضاً مأموراً به كنفس الفعل، والحال أنّ قصد الأمر ليس إلّا إرادة خاصّة، وملاك اختيارية الفعل صدوره عن الإرادة، وأمّا الإرادة نفسها فلا تكون عن إرادة اُخرى وإلّا لتسلسلت فلا تكون اختيارية.

هذا مضافاً إلى أنّه لا يصحّ الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه مستقلاً ومن غير أن يكون في ضمن الكلّ، وإنّما يصحّ الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيان الجميع بهذا الداعي، ولا يكاد يمكن الإتيان بالمركّب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره، لأنّه يلزم منه علّية الشيء لنفسه ومحرّكيته إلى محرّكية نفسه.

إنتهى ما أردنا ذكره لإيضاح بعض عبارات الكفاية في المقام. ولنرجع إلى ما كنّا فيه وتحقيق الحقّ في المقام فنقول:

ص: 115

عدم الفرق بين داعي الأمر وغيره

ربما يتوهّم((1)) الفرق بين أخذ قصد الأمر في المأمور به وبين غيره من الدواعي كحسن الفعل أو مصلحته أو محبوبيته عند المولى وغير ذلك، فترد الإشكالات المذكورة عند قصد الأمر دون غيره من الدواعي، فلا مانع من أخذها في المأمور به.

والحقّ عدم الفرق بين قصد الأمر وغيره في ورود إشكال الدور والتسلسل وغيرهما؛ لأنّ قصد الحسن والمصلحة أيضاً متوقّف على كون الفعل حسناً ومشتملاً على المصلحة في الخارج، وكونه كذلك متوقّف على قصد الحسن والمصلحة عند الإتيان، وإلّا لم يكن الفعل حسنا ولا ذا مصلحة. وقس على هذا البيان تقرير التسلسل وغيره من الإشكالات.

الجواب عن الإشكالات

إنّ الإشكالات الراجعة إلى لزوم المحال في ناحية الأمر، كلّها بعيدة عن الصواب.

أمّا الإشكال الأوّل، ففيه: أنّ الحكم إنّما يكون متوقّفاً على الوجود الذهني للموضوع لا الخارجي منه، وأمّا الموضوع فهو بوجوده الخارجي متوقّف على الحكم، فلا دور.

وأمّا الإشكال الثاني، ففيه: أنّ القدرة الّتي هي ملاك صحّة التكليف والأمر إنّما هي القدرة على إتيان المأمور به في ظرف الامتثال والإتيان لا قبله، فقدرة المكلّف قبل زمان الامتثال وظرف الإتيان لا تكون من قبيل أجزاء العلّة بالنسبة إلى التكليف حتى يقال بلزوم حصولها عند تعلّق الحكم بالموضوع.

ص: 116


1- وذهب إلیه في الکفایة (الخراساني، ج1، ص107).

فالحكم متوقّف على لحاظ قدرة المكلّف عند الامتثال ولا شكّ في أنّه يصير قادراً حين الامتثال ولو تتوقّف هذه القدرة على الأمر، فلا دور أصلاً.((1))

وأمّا الإشكال الثالث، ففيه: أنّ ما هو المحال هو لحاظ شيء آليّاً واستقلاليّاً بلحاظ واحد وفي آنٍ واحد، وأمّا لحاظه تارة آليّاً واُخرى استقلاليّاً جائز بالضرورة، فيلاحظ الأمر تارة استقلاليّاً آن تصوّر الموضوع، واُخرى آليّاً حين تعلّق الأمر به.

هذا تمام الكلام في الجواب عن الإشكالات الراجعة إلى لزوم المحال في ناحية الأمر.

وإنّما المهمّ الجواب و التفصّي عن الإشكالات الراجعة إلى لزوم المحال في ناحية الامتثال. وقد أفادوا في مقام التفصّي وجوهاً غير خالية عن الإشكال.

أحدها: الالتزام بتعدّد الأمر بأن يتوصّل الآمر إلى غرضه بأمرين أحدهما يتعلّق بذات الفعل، والآخر بإتيانه بداعي الأمر. هذا ما أفاده الشيخ الأنصاري(قدس سره).((2))

وأجاب عنه في الكفاية((3)) أوّلاً: بمنع الصغرى، لأنّا نقطع بأنّه ليس في العبادات إلّا أمر واحد.

وثانياً: بأنّ الأمر الأوّل لو كان يسقط بمجرّد الإتيان بذات الفعل مجرّداً عن قصد الامتثال، فلا يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني؛ لانتفاء موضوعه رأساً، فلا يتوصّل الآمر بالأمر الثاني إلى غرضه. وإن لم يكد يسقط، فليس له وجه إلّا عدم حصول غرضه بذلك، فلا وجه حينئذٍ للأمر الثاني (ولا التشبّث بحيلة تعدّد الأمر)؛ لاستقلال العقل بلزوم إتيان المأمور به بنحو يحصل غرض الآمر به.

ص: 117


1- لا یخفی أنّ هذا البیان لا یرفع الإشکال، ویمکن أن یقال ببقاء الدور بعدُ، لأنّ الحکم موقوف علی لحاظ القدرة في ظرف الامتثال، وملاحظتها کذلك موقوفة علی القدرة في ذلك الظرف، والقدرة في ظرف الامتثال موقوفة علی الحکم، فیعود المحذور بلزوم الدور، فتأمّل. [منه دام ظلّه العالي].
2- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص60.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص111.

ثانيها: ما يستفاد من بيان الكفاية في ضمن الجواب المذكور من أنّ المقصود إتيان الفعل بداعي الأمر إلّا أنّ المولى لمّا لم يتمكّن من أخذ ذلك في الأمر جعل متعلّق أمره أعمّ ممّا هو محصّل لغرضه وغيره، ثم إنّ العقل بعد ذلك يحكم بلزوم موافقته على نحو يوجب سقوط الأمر وحصول الغرض.

وفيه: أنّه يلزم من ذلك أن يكون الأمر بذات الفعل صورياً محضاً من غير أن يكون محصّلاً لغرض المولى، والحال أنّ الظاهر من الأمر بها كونه حقيقياً.

ثالثها: ما أفاده بعض الأجلّة من المعاصرين(قدس سره)((1)) وهو الفعل الواقع في الخارج على قسمين: أحدهما ما ليس للقصد دخل في تحقّقه بل لو صدر من العاقل لصدق عليه عنوانه، والثاني ما يكون قوامه في الخارج بالقصد كالتعظيم والإهانة وأمثالهما. ولا إشكال في أنّ تعظيم من له أهلية ذلك بما هو أهل له وكذا شكره ومدحه بما يليق به حسن عقلاً ومقرّب بالذات بلا حاجة في تحقّق هذا القرب إلى وجود أمر بهذه العناوين.

نعم، قد يشكّ في أنّ التعظيم المناسب له أو المدح اللائق بشأنه يتحقّق بماذا؟ وقد يتخيّل كون عمل خاصّ تعظيماً له وأنّ القول الكذائي مدح له وفي الواقع ليس كذلك، بل ما اعتقده تعظيماً له يكون توهيناً له وما اعتقده مدحاً يكون ذمّاً بالنسبة إلى مقامه. والمكلّف لمّا لم يكن له طريق إلى استكشاف المناسب لمقام المولى تبارك وتعالى إلّا إعلامه تعالى، فلابدّ أن يعلّمه أوّلاً ما يتحقّق به تعظيمه ثم يأمره به، وليس هذا الأمر إلّا لتشخيص المناسب لمقامه تعالى من دون أن يكون قصده دخيلاً في تحقّق القرب حتى يلزم منه محذور الدور.

وفيه نظر: لأنّ الباعث على الاهتمام في تصحيح الأمر التعبّدي وجزئية قصد الأمر أو قيديّته وقوع الإجماع بل الضرورة عليه بين المسلمين خلفاً عن سلف، وإلّا فإنكاره

ص: 118


1- وهو العلّامة المحقّق الشیخ المؤسّس الحائري(قدس سره).

بالمرّة ليس بعسير، فالمقصود تصويره على نحو لا يزاحم ذلك الإجماع والضرورة، وهذا لا يتمّ بما ذكره(قدس سره)، فإنّه أنكر دخالة قصد التقرّب في العبادة رأساً، إذ المراد من إتيان الفعل بقصد التعظيم إن كان إتيانه بداعي كونه تعظيماً للمولى، فهذا وإن كان موجباً لصيرورة العمل عبادة، إلّا أنّه لا يرفع به إشكال الدور؛ لأنّ قصد كون الفعل تعظيماً للمولى موقوف على كون ذات الفعل تعظيماً له وكونها كذلك موقوف على قصد كونه تعظيماً له، وقد مرّ((1)) نظير هذا الإشكال في صورة قصد الملاك والمصلحة.

وأمّا إن كان مراده من إتيان الفعل بقصد التعظيم إنشاء التعظيم وإيجاده بالفعل من دون أن يقصد التقرّب به، فلازمه مضافاً إلى إنكار ما عليه الإجماع والضرورة من اعتبار قصد التقرّب، اجتماع ذلك مع الدواعي النفسانية كالرئاء وهضم الغذاء وغيرهما، وأن يكون قصد الرئاء وغيره غير منافٍ لإنشاء التعظيم الّذي فرض هنا عبادة، وهذا أيضاً مخالف للإجماع.((2))

ورابعها: ما أفاده المعاصر المذكور(قدس سره) أيضاً((3)) بأنّه من الممكن أن يكون المعتبر في العبادات إتيان الفعل خالياً عن سائر الدواعي ومستنداً إلى داعي الأمر، فالفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانية ووجود الداعي الإلهي وإن لم يكن قابلاً لتعلّق الأمر به بملاحظة جزئه الأخير ولزوم الدور، وأمّا من دون ضمّ الأخير فلا مانع منه.

وأمّا إشكاله بأنّ هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده الّتي منها الأخير لا يكاد

ص: 119


1- تقدّم في الصفحة، 116.
2- واضح أنّ المکلّف تارة یأتي بالفعل بقصد إنشاء التعظیم وبقصد الرئاء هضم الغذاء بنحو یکون کلّ واحد من القصدین في عرض الآخر، فهو ممّا ینافي عبادیة الفعل ویخالف الإجماع. وأمّا لو أتی بفعل بقصد العبادة وإنشاء التعظیم، ومع ذلك یوجب في الخارج هضم الغذاء وما شابه ذلك، فلا إشکال فیه، لأنّ العمل معلول لقصد العبادة لا لقصد آخر. [منه دام ظلّه العالي].
3- الحائري الیزدي، درر الفوائد، ص97 – 98.

يتّصف بالمطلوبية، وكيف يمكن تعلّق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمام القيود الّتي يكون بها قوام المصلحة، فمندفع بأنّه قد يتعلّق الطلب بما ليس هو مطلوباً في حدّ ذاته، بل يراد منه حصول أمر آخر، والفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانية من هذا القبيل، فإنّه وإن لم يكن تمام المطلوب مفهوماً، إلّا أنّه لمّا لم يوجد في الخارج مصداق له إلّا بداعي الأمر - لعدم إمكان خلوّ الفاعل المختار عن کلّ داعٍ يصحّ تعلّق الطلب به - فهو يتّحد في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة. كما لو كان المطلوب الأصلي إكرام الإنسان، فلا شبهة في جواز الأمر بإكرام الناطق، لأنّه لا يوجد في الخارج مصداقٌ له إلّا متّحداً مع الإنسان الذي إكرامه مطلوب أصلي.

وليس هذا الأمر صورياً بل هو أمر حقيقيّ وطلب واقعيّ لأنّ متعلّقة متّحد في الخارج مع المطلوب الأصلي.

ولا يخفى: أنّ مثل هذه الأوامر الملحوظة فيها حال الغير تارة يكون للغير، واُخرى يكون غيرياً.

مثال الأوّل: الأمر بالغسل قبل الفجر لأجل الصوم، فإنّ الأمر متعلّق بالغسل قبل الأمر بالصوم، وليس هذا الأمر معلولاً لأمر آخر، إلّا أنّه يكون لمراعاة حصول الغير وهو الصوم في زمانه.

ومثال الثاني: الأوامر الغيرية الّتي تكون مسبّبة من الأوامر النفسية المتعلّقة بالعناوين المطلوبة نصّاً. وما نحن فيه من قبيل الأوّل، لأنّ الأمر بالفعل مقيّداً بعدم الدواعي النفسانية لا يكون تمام المطلوب النفسي، إلّا أنّه متّحد خارجاً مع ما هو تمام المطلوب ومحصّل لتمام الغرض فيكون أمراً للغير .

وهذا الجواب يشبه ما أجاب به صاحب الكفاية - وذكرناه في الوجه الثاني - في عدم تعلّق الأمر بتمام المطلوب، بل بما هو الأعمّ، ولكن لا يرد عليه ما أوردناه هناك، لأنّه

ص: 120

بنحو لا وجه لتوجّه الإشكال المذكور إليه. ولكن يورد عليه: بأنّه خلاف الظاهر من أدلّة العبادات، إذ ليس المعتبر فيها خلّوها عن الدواعي النفسانية وإتيانها بداعٍ إلهي، بل المعتبر فيها أمر بسيط وهو إتيانه بداعي الأمر الإلهي، فلا يستقيم ما ذكره في الجواب.

هذا تمام الكلام فيما أفادوه في مقام الجواب، وقد ظهر لك عدم ارتفاع الإشكال بواحد منها، فاللازم علينا التفصّي عن الإشكال على نحو صحيح.

الحقّ في الجواب عن الإشكال

وقبل الورود في المطلب لابدّ من تقديم مقدّمات:

اُولیها: أنّ دخل شيءٍ في المأمور به يتصوّر على ثلاثة أنحاء، الأوّل: كون ذلك الشيء جزءً للمأمور به بمعنى تركّبه منه ومن غيره. والثاني: كونه قيداً للمأمور به لا بمعنى كونه داخلاً فيه، بل بمعنى تقيّد المأمور به بذلك الشيء على نحو يكون القيد خارجاً وتقيّده به - على نحو المعنى الحرفي - داخلاً. والثالث: أن يكون المأمور به معنوناً بعنوان لا يمكن حصول ذلك العنوان له إلّا إذا كان معه هذا الشيء، وهذا في الحقيقة يكون شرطاً عقلياً لحصول المأمور به وممّا يتوقّف عليه انطباق ذلك العنوان على المأمور به.

ثانيتها: لا إشكال في أنّ الأمر كما يدعو إلى تمام متعلّقه يدعو أيضا إلى کلّ جزء من أجزائه وشرائطه ومقدّماته الخارجية، سواء قلنا بالملازمة في باب المقدّمة أم لا، لأنّه ولو لم نقل بالملازمة وترشّح الأمر بالمقدّمة من قبل الأمر بذيها لکنّه لم يناف أن يدعو الأمر إلى كلّ جزء من الأجزاء والشرائط والمقدّمات الخارجية، فإنّ المكلّف الذي يكون في مقام إطاعة مولاه وامتثال أوامره إذا رأى أنّ التكليف المتوجّه إليه مشروط بشرط، لا يتردّد في لزوم تحصيل ذلك الشرط. وهذا معنى دعوة الأمر واستدعائه کلّ جزء من الأجزاء والشرائط والمقدّمات الخارجية. هذا مضافاً إلى أنّه لو قلنا بالملازمة في باب المقدّمة لا

ص: 121

يكون الأمر المتوجّه إليها مستقلّا كسائر الأوامر، بل يكون فانياً ومندكّاً في الأمر بذيها، لأنّه لا هويّة للأمر الطريقي مستقلّا وبنفسه إلّا هويّة الأمر بذي الطريق، فيكون الأمر بالطريق والمقدّمة كلا أمر.

ومن هنا ظهر ضعف ما أفاده في الكفاية - في جواب الإيراد بأنّ نفس الصلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدة - بقوله: «قلت: كلاّ! لأنّ ذات المقيّد لا تكون مأموراً بها، فإنّ الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلاً... إلخ».

وقد عرفت وجه الضعف بأنّه لا حاجة إلى الأمر بل يكفي مجرّد كون الأمر داعياً إلى ذات المقيّد، لأنّ الأمر كما يكون داعياً إلى متعلّقه يكون داعياً إلى جميع مقدّماته وشرائطه أيضاً.

ولا يخفى عليك: أنّ ما أفاده بعد ذلك - في جواب الإشكال الّذي أورده على نفسه - أيضاً ضعيف جدّاً، فإنّه بعد ذكر الإيراد بقوله: «إن قلت: نعم، لکنّه إذا اُخذ قصد الامتثال شرطاً، وأمّا إذا اُخذ شطراً فلامحالة نفس الفعل الّذي تعلّق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلّقاً للوجوب، إذ المرکّب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تعلّقه بکلٍّ بعين تعلّقه بالكلّ، ويصحّ أن يؤتى به بداعي ذلك الوجوب ضرورة صحّة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه». أفاد في مقام الجواب بما لفظه: «قلت: مع امتناع اعتباره كذلك فإنّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياريّ، فإنّ الفعل وإن كان بالإرادة اختيارياً إلّا أنّ إرادته حيث لا تكون بإرادة اُخرى وإلّا لتسلسلت ليست باختيارية، كما لايخفى».

وفيه أوّلاً: أنّ الإرادة تكون اختيارية، لأنّ اختيارية کلّ فعل بها وهي بنفسها اختيارية، فلا يلزم التسلسل.

وثانياً: لو كانت الإرادة غير اختيارية فلا يمكن دخلها في الغرض وحكم

ص: 122

العقل بوجوبها لتحصيل الغرض، مع أنّ صاحب الکفایة(قدس سره) ذهب إلى دخلها في الغرض ووجوبها بحكم العقل لتحصيل الغرض وجعلها ملاكاً لصحّة الأفعال العباديّة وعباديّتها.

ثالثتها: أنَّ المأمور به الّذي تكون له أجزاء متعدّدة وشرائط متكثّرة تارة يكون تمام أجزائه وشرائطه غير حاصلة، واُخرى يكون بعضها حاصلاً وبعضها غير حاصل، ولا ريب أنّ الأمر يدعو ويبعث المكلّف إلى إتيان الجميع في الصورة الاُولى وإلى الجزء أو الشرط الّذي لا يكون حاصلاً في الصورة الثانية، ولا يدعو إلى الحاصل لأنّه محال.

رابعتها: لا ريب أنّ الأمر ليس بنفسه علّة لإطاعة المكلّف وتحقّق المأمور به في الخارج بل الأمر لا يكون إلّا محقّقاً لموضوع الإطاعة الّذي ينتظره العبد بمقتضى واحدة من الحالات النفسانية الخمسة على سبيل مانعة الخلوّ وهي كما يلي:

الاُولى: اعتقاد المكلّف باستحقاق المولى للعبادة وأهليّته لها.

الثانية: وصول المكلّف إلى مرتبة فناء دواعيه النفسانية ومقهوريّته تحت نور جماله وجلاله وكبريائه، وتأثير عظمة المولى في نفسه، ونورانية سماء قلبه بسبب إشراقات أنوار كماله وقدرته وسائر صفاته وأسمائه، بحيث لو أمره المولى بفعلٍ تحرّكه هذه الملكة النفسانية بتمام شوقه وهمّه نحو العمل وإطاعة المولى.

الثالثة: يلاحظ المكلّف كثرة نعماء المولى وشدّة اهتمامه بتربية عبده وعظمة آلائه، فيراه مستوجباً لأنواع الشكر، فيقوم بأداء وظيفته وإطاعة أمر المولى حسب قدرته شكراً لبعض آلاء ربّه وتعظيماً له.

الرابعة: شدّة الخوف من عقاب ربّه بحيث يدعوه إلى إطاعة أوامره ونواهيه.

الخامسة: إشتياقه وطمعه بما عند ربّه من الفضل والإحسان وجزيل الثواب، بحيث يبعثه ذلك إلى تحصيل مرضاته وإطاعته دركاً لبعض فضله وجزيل ثوابه.

ص: 123

فهذه الحالات الخمسة كلّها أو بعضها تكون علّة لإطاعة المكلّف وامتثال أوامر مولاه.

وبمجرّد حصول واحدة منها تتحقّق علّة الإطاعة، بحيث لا يكون فصل بين هذه الحالة وإتيان العبد بما يتحقّق به إطاعة المولى إلّا أمر المولى. فالأمر إنّما يحقّق موضوع الإطاعة، وأمّا نفس الإطاعة فهي معلولة لإحدى الحالات الخمسة.

فتلخّص ممّا ذكر: أنّ إرادة الإطاعة وقصد العبادة من العبد تحصل قبل أمر المولى، وبعد صدور أمره يصير العبد في مقام الإتيان ويأتي بالمأمور به بقصد الطاعة بمقتضى هذه الحالة من غير أن يكون قصد الإطاعة مستنداً إلى الأمر.

إذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم: أنّه يمكن التفصّي عن الإشكال بوجهين.

الأوّل: أنّ الأمر وإن كان متعلّقاً بالفعل مشروطاً بقصد القربة والامتثال إلّا أنّه لا يتعلّق الأمر بقصد القربة بنفسه ولا يدعو الأمر إليه أصلاً، ولا يكون هذا القصد متوقّفاً على الأمر حتى يستلزم المحال.

أمّا عدم تعلّق الأمر بقصد القربة بنفسه فلما ذكرناه آنفاً في المقدّمة الثانية من عدم تعلّق أمر حقيقيّ بالأجزاء والشرائط.

وأمّا أنّه لا يدعو الأمر إلى قصد القربة فلما ذكرناه كذلك في المقدّمة الثالثة من عدم دعوة الأمر إلى الشرط والجزء الحاصل. وقد تبيّن في المقدّمة الرابعة حصول ذلك الشرط، أي قصد القربة، بسبب إحدى الحالات المذكورة.

وأمّا عدم توقّف قصد الأمر على تحقّق الأمر بمعنى عدم استناده إليه فبمقتضى المقدّمة الرابعة أيضاً، فإنّ قصد القربة مستند إلى الحالات النفسانية المذكورة، فإذا أمره المولى بالصلاة والصيام مثلاً يوجد في نفسه بمجرّد هذا الأمر قصد إتيان الصلاة والصوم طاعة له من دون أن يكون هذا القصد مستنداً إلى الأمر.

الثاني: أنّ الأمر متعلّق بعنوان الصلاة إلّا أنّ انطباق هذا العنوان على هذه الأفعال

ص: 124

الخارجية موقوف على قصد القربة عقلاً، وقد كشف الشارع عن دخل قصد القربة في هذا الانطباق بسبب أخذه في متعلّق الأمر، لکنّه - أي القصد - ليس متوقّفا على انطباق ذلك العنوان على هذه الأفعال حتى يلزم الدور، بل هو متوقّف على إحدى الحالات الخمسة المذكورة.

هذا تمام الكلام فيما هو مناسب للمقام.

الاستنتاج من المبحث

تستنتج ممّا مرّ نتيجتان:

الاُولى: إمكان التمسّك بالإطلاق إن قلنا بإمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر، وعدم إمكانه لو قلنا بعدم إمكان أخذه في المأمور به. فالذاهب إلى الأوّل يتمسّك بالإطلاق، والقائل بالثاني لا يتمسّك به.

الثانية: أنّه بعد فرض عدم إمكان التمسّك بالإطلاق ففي مقام العمل هل يكون الأصل العملي البراءة أو الاشتغال؟ فيه وجهان، يطلب تفصيله من مبحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين لأنّه المناسب لهذا البحث، كما لا يخفى أنّ المناسب لمباحث الأوامر ليس إلّا البحث في ماهيتي التعبّدي والتوصّلي، والبحث عن إمكان أخذ قصد التقرّب في الأمر وعدمه، فلذلك نكتفي بهذا المقدار من مقتضى الأصل اللفظي والعملي، ونختم الكلام في المقام. والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطاهرين.

ص: 125

ص: 126

الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر

اشارة

وفيه مبحثان:

المبحث الأوّل: في المرّة والتكرار

المبحث الثاني: في الفور والتراخي

المبحث الأوّل: في المرّة والتكرار

اشارة

الحقّ أنّه لا دلالة للصيغة على المرّة ولا على التكرار،((1)) بل لا تدلّ إلّا على طلب إيجاد الطبيعة، سواء كان المراد من المرّة الفرد الواحد من الطبيعة أو الدفعة((2)) بمعنى إيجاد الطبيعة دفعة واحدة ولو كان في ضمن أزيد من الفرد الواحد. وسواء كان مراد القائل بالمرّة عدم وجوب إتيان الزائد عليها بمعنى أنّ المأمور به المرّة لا بشرط حتى لا يكون الإتيان بالزائد موجباً للبطلان أو كان مراده بالمرّة بشرط لائية المأمور به حتى يكون الإتيان بالزائد موجباً لفساد المأتيّ به. ففي جميع هذه الصور نقول بعدم

ص: 127


1- وفاقاً للفصول (الأصفهاني، ص71)؛ معالم الدین (العاملي، ص53)؛ قوانین الاُصول (القمّي، ص90)؛ هدایة المسترشدین (الأصفهاني، ص174)؛ کفایة الاُصول (الخراساني، ج1، ص117)؛ وغیرها من الکتب. راجع أیضاً: مفتاح العلوم، للسکّاکي، ص93.
2- کما ذهب إلیه صاحب الفصول (الأصفهاني، ص71)، خلافاً للمشهور.

دلالة الصيغة إلّا على طلب إيجاد الطبيعة، فليست للصيغة دلالة على المرّة أصلاً. وهكذا الكلام في جانب التكرار سواء كان مرادهم من التكرار تكرار المرّة بالمعنيين الأوّلين أو بالمعنيين الثانيين.

تنبيه

بناءً على المختار إذا أتى بفرد من المأمور به يسقط الأمر ويكتفى به في مقام الامتثال. فلو أتى بفرد آخر ثانياً يكون لغواً، لأنّه قد سقط الأمر بإتيان الفرد الأوّل. والقول بعدم سقوطه يستلزم طلب الحاصل المحال.

ولا ريب في تحقّق الامتثال أيضاً لو أتى بأفراد متعدّدة دفعة واحدة، كما إذا أمره المولى بعتق رقبة فأعتق جميع عبيده، فلا شكّ في حصول الامتثال وسقوط الأمر.

ولكنّ الإشكال في أنّ هذا هل يُعدّ امتثالاً واحداً أو أنّه امتثالات متعدّدة؟ ففي المسألة أقوال، ثالثها: التفصيل((1)) والإحالة إلى قصد الممتثل، فلو قصد الامتثال بجميع الأفراد أي بکلّ فرد منها يكون ذلك امتثالات متعدّدة. وأمّا لو قصد الامتثال بالمجموع أو بواحد منها يكون امتثالاً واحداً .

وأمّا وجه القول الأوّل: أنّ المطلوب ليس إلّا إيجاد أصل الطبيعة، وأمّا التعيّنات والتشخّصات فهي خارجة عن متعلّق الطلب وتأتي من ناحية وجود الطبيعة في الخارج: فالدخل لها في المطلوب، ففي فرض الإتيان بأفراد متعدّدة لا يتحقّق الامتثال إلّا بأصل الطبيعة وهي أمر واحد.

وفيه: وإن كان المطلوب إيجاد أصل الطبيعة وعدم دخالة خصوصيّاتها المفردة فيه، إلّا أنّ المكلّف قد أوجد الطبيعة بإيجاد کلّ فرد وتُحمل الطبيعة على کلّ فرد بالحمل

ص: 128


1- ذهب إلیه صاحب الکفایة (الخراساني، ج1، ص122).

الشائع الصناعي، والأفراد المتعدّدة الحاصلة دفعة من الطبيعة وجودات متعدّدة لها لا وجودٌ واحدٌ،((1)) وقد ذكرنا أنّ المطلوب بالصيغة ليس إلّا نفس الطبيعة فلا محالة يصدق على إيجاد کلّ فردٍ منها إيجاد تلك الطبيعة، فيصدق على إيجاد کلّ من الأفراد امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة، فلا يكون الامتثال امتثالاً واحداً بل يُعدّ امتثالات متعدّدة. وهذا، أي القول الثاني، أقوى القول في المسألة.

وأمّا القول بالتفصيل ودخالة القصد في تعدّد الامتثال وعدمه، فلا وجه له. نعم، لو كان الأمر تعبّدياً فبالنسبة إلى کلّ فرد قصد الامتثال يحصل الامتثال. وبالنسبة إلى فردٍ لم يقصد ذلك فلا، ولكن هذا لا يكون لدخالة القصد في الامتثال، بل لأجل عدم إتيانه بتمام المأمور به بالنسبة إلى فردٍ لم يقصد بإتيانه الامتثال.

المبحث الثاني: في الفور والتراخي

اشارة

بعدما ظهر لك عدم دلالة الصيغة على المرّة والتكرار يظهر لك أيضاً عدم دلالته على الفور والتراخي، بل لم أجد قائلاً بدلالتها على التراخي. نعم، ذهب بعضهم كالشيخ الطوسي(قدس سره)((2)) إلى دلالته على الفور، فعلى هذا لا تكون المسألة إلّا ذات قولين لا أزيد.

الأمر عقيب الحظر

الأمر عقيب الحظر ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّه وإن اختلفوا في دلالة الأمر الصادر عقيب الحظر أو توهّمه في دلالته على نفي الحظر السابق ورفع توهّمه - أي الإباحة - أو الوجوب، ولكنّ الحقّ عدم وجود ضابطة في ذلك، فعلى المجتهد التامّل التامّ في الموارد، لأنّه قد يكون ظا

ص: 129


1- و ذلك کالآباء والأبناء، خلافاً للرجل الهمداني الّذي لاقی شیخ الرئیس.
2- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص227.

ص: 130

الفصل الثالث: في الإجزاء

عنوان المسألة

إعلم: أنّ كلمات الاُصوليّين اختلفت في تحرير عنوان المسألة، فبعضهم قال: إنّ الأمر هل يقتضي الإجزاء أم لا؟((1)) وبعضهم قال: إنّ الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء أم لا؟((2)) وبعضهم زاد عليه قَيد «على وجهه»((3)) ردّاً على ما ذهب إليه القاضي عبد الجبّار العامّي،((4)) الّذي أدخل هذه المسألة في الاُصول وقال فيها بعدم الإجزاء. وسبب ذلك أنّه رأى في الفقه أنّ المكلّف لو صلّى مع الطهارة المستصحبة ثم بان الخلاف لا تجزيه

ص: 131


1- کما في الذریعة إلی الاُصول الشریعة للشریف المرتضی، ج1، ص121؛ والقوانین (القمّي، ص129)؛ والفصول (الأصفهاني، ص116). وعبارته هکذا: «اختلفوا في أنّ الأمر بالشيء هل یقتضي الإجزاء إذا أتی به المأمور علی وجهه أو لا؟».
2- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص18.
3- کما فعله العلّامة في مبادئ الوصول إلی علم الاُصول (ص111). وقال فیه: «وذهب أبوهاشم، إلی أنّه لا یقتضیه، لأنّ الحجّ الفاسد مأمور به، ولا یجزي. والجواب عنه: أنّه مجزٍ بالنسبة إلی الأمر الوارد به وغیر مجز بالنسبة إلی الأمر الأوّل».
4- عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار الهمداني الأسد آبادي، أبو الحسین: قاضٍ، اُصولي. کان شیخ المعتزلة في عصره. وهم یلقبونه قاضي القضاة، ولي القضاء بالريّ (من قبل الدیالمة) ومات فیها (عامّ 415ه-.ق.). الزرکلي، الأعلام، ج3، ص273.

تلك الصلاة، فذهب إلى القول بأنّ الإتيان بالمأمور به لا يقتضي الإجزاء، فأجابوا عنه بأنّ العلّة للإجزاء إتيان المأمور به على وجهه، أي بتمام ما هو معتبر فيه وموجب لتحصيل الغرض، وتلك الصلاة ليست كذلك فيحكم بعدم الإجزاء.((1))

فهذا هو السبب لإضافة القيد المذكور إلى العنوان لا ما ذكره صاحب الكفاية من أنّه اُضيف في العنوان ليكون شاملاً ما يعتبر في المأمور به شرعا وعقلاً كقصد القربة الّذي لا يمكن أخذه - على مبناه - في المأمور به، فهذا القيد جاء في العنوان حتى يشمل قصد القربة المعتبر عقلاً، فلا نظر فيه إلى خصوص ما يعتبر شرعاً، لأنّه عليه يكون توضيحيّاً لا احترازيّاً.((2))

وفساد هذا التفسير يظهر لمن يتأمل في تاريخ حدوث القيد المذكور، فإنّه قيد نشأ بين القدماء، فكيف يمكن أن يكون ناظراً إلى خلاف المتأخّرين من إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به؟ وقد نشأ هذا الخلاف في زمن الشيخ الأنصاري(قدس سره)((3)) وهو أوّل من تفطّن بالموضوع، فلا وجه لما ذكره في الكفاية.

كما أنّه لا وجه لكون هذا القيد إشارة إلى قصد الوجه، لأنّه مضافاً إلى ما أنكره الأكثر((4)) لا خصوصية له بالذكر.

المراد من الاقتضاء والإجزاء

لا يخفى عليك: أنّ المراد من «الاقتضاء» في قولهم: «إنّ الأمر يقتضي الإجزاء» هو

ص: 132


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص124.
2- انظر کلام القاضي والجواب عنه في، فواتح الرحموت لعبد العلّي الأنصاري (المطبوع مع المستصفي من علم الاُصول)، ج1، ص393-394 (مسألة: الإتیان بالمأمور به علی وجهه...) ومفاتیح الاُصول للسیّد الطباطبائي، ص126.
3- انظر: الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص60.
4- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص19.

«دلالة» الأمر على إجزاء الإتيان بالمأمور به.

وأمّا المراد منه (الاقتضاء) إذا نسب إلى الإتيان بالمأمور به هو العلّية التامّة((1)) من حيث إنّ الآمر الحكيم إذا أمر بشيء لأجل حصول غرض فلا محالة يأخذ تحت أمره کلّ ما له دخل في تحصيل غرضه ولا يجوز عليه أن يأمر بما هو أعمّ من محصّل غرضه أو أخصّ منه، وإلّا يكون ناقضاً لغرضه، وحينئذٍ إذا أتى المكلّف بالمأمور به على وجهه فلابدّ من حصول الغرض وتحقّق الامتثال وسقوط الأمر. أمّا حصول الغرض، فلأنّ المولى أخذ کلّ ما له دخل في حصول غرضه في المأمور به وقد أتى المكلّف به. وأمّا تحقّق الامتثال، فلأنّه يتحقّق بإتيان المأمور به على وجهه، والمفروض أنّ المكلّف أتى به كذلك. وأمّا سقوط الأمر، فلأنّه لا مجال بعد ذلك لبقائه وإلّا يلزم طلب الحاصل، وهو محال، كما لو أمر به ثانياً.

ومن هنا يظهر معنى الإجزاء بأنّ معناه والمراد منه كفاية المأتيّ به عن الغرض الموجب للأمر.((2)) وهذا موافق لما ذهب إليه القائل بالإجزاء، وأمّا القائل بعدم الإجزاء فينكر ما ذكرناه من الدلالة والعلّية وكفاية الإتيان بالمأمور به عن الغرض.

الفرق بين الإجزاء، والمرّة والتكرار

لا يخفى عليك: الفرق بين مسألتنا هذه((3)) ومسألة المرّة والتكرار، فإنّ النزاع في مبحث المرّة والتكرار إنّما يجري في أنّ المأمور به بحسب دلالة الأمر هل هو المرّة أو التكرار؟ وهذا بخلاف ما نحن فيه، إذ النزاع هنا واقع في أنّ الإتيان بالمأمور به مرّة

ص: 133


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص125.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص125.
3- راجع: الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص126.

كان أو مكرّراً هل يجزي أم لا؟ فالنزاع الواقع في مسألة الإجزاء يكون كبروياً وفي مسألة المرّة والتكرار صغروياً.

الفرق بين الإجزاء، وتبعية القضاء للأداء

وأمّا الفرق بين هذه المسألة و مسألة تبعية القضاء للأداء فممّا لا يحتاج إلى بيان، لأنّ البحث في مسألة التبعية في أنّ وجوب القضاء هل هو بالأمر الأوّل أو يحتاج إلى أمر جديد؟ مضافا إلى أنّ موردها عدم الإتيان بالمأمور به، وهذا بخلاف مسألة الإجزاء، فإنّ موردها الإتيان بالمأمور به والبحث في إجزائه وعدمه.

هذا تمام الكلام في مقدّمات البحث. وأمّا الكلام في أصله، فيقع في ثلاث مواضع. ونبدأ سائلين من الله تعالى الإعانة والتوفيق فإنّهما خير رفيق.

الموضع الأوّل: في إجزاء الإتيان بالمأمور به عن التعبّد به ثانياً

اشارة

يقع البحث هنا في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي، والمأمور به بالأمر الظاهري، والمأمور به بالأمر الاضطراري عن التعبّد ثانياً بکلّ واحد من هذه الأوامر في نفس مرتبتها، فنقول:

لا إشكال في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي - وهو الأمر الّذي يتعلّق بالموضوع بما هو و بعنوانه الأوّلي - عن الأمر به ثانياً.

كما لا إشكال في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري - وهو الّذي يتعلّق بالموضوع بملاحظة العجز عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الأوّلي - عن الأمر به ثانياً بنفس الأمر الاضطراري، وهكذا الكلام في الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري - وهو الأمر المتوجّه إلى المكلّف في ظرف الاشتباه وجهله بالحكم الواقعي وموضوعه - فإنّه أيضاً موجب للإجزاء وسقوط أمره، فلا يجب الإتيان به في ثاني الحال مع بقاء جهله.

ص: 134

ولو فرض في هذه الثلاثة بقاء الأمر لكان لغواً، بل يكون محالاً لأنّه طلب الحاصل. ولا يمكن أيضاً الأمر بها بملاك الغرض الحاصل من الموارد الثلاثة، لعدم فوت شيء من الغرض، وهذا واضح.

تبديل الامتثال

أمّا ما ذكره في الكفاية((1)) من تبديل الامتثال، كما لو أمره المولى بإتيان الماء فأتى به ولكن لم يشربه المولى بعدُ فله أن يبدِّل ذلك الماء بماءٍ آخر.

ففيه: أنّ المكلّف وإن أتى بالفعل المتعلّق للأمر إلّا أنّه ما کان مطلوبا نفسيا، فما دام لم يحصل غرض المولى من ترويته وإسقائه لم يسقط أمره ومطلوبه النفسي، فعلى المكلّف إتيان الماء الموصل إلى الغرض والمطلوب النفسي، فليس ما ذكره من المثال من باب تبديل الامتثال.

الموضع الثاني: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الاختياري

اشارة

هل يجزي الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الاختياري الواقعي بعد رفع الاضطرار أم لا؟ فهل تجب الإعادة في الوقت أو القضاء خارجه أم لا؟ في المسألة فروض ممكنة، قال في الكفاية في تصويرها:

إنّ التكليف الاضطراري إمّا أن يكون وافياً بتمام الغرض والمصلحة، أو لم يكن كذلك، بل يبقى منه شيء أمكن استيفاؤه، أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو بمقدار يستحبّ.

ص: 135


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص127؛ وکذا درر الفوائد، للمحقّق الحائري، ص78.

ثم ذكر أحكام الأقسام من الإجزاء وعدمه وجواز البدار في بعض الصور، وذكر أنّ المرجع في مقام الإثبات هو الإطلاق لو كان، كظاهر قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ...﴾((1)) الآية؛ وقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «التیمّم أحد الطهورين»((2)) فإنّ ظاهرهما الإجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء. وإلّا فالأصل يقتضي البراءة لكونه شكّاً في أصل التكليف.((3))

هذا، ولكنّه مبنيّ على تغاير الأمرين (الاختياري والاضطراري) وكونهما في عرض واحد، فعليه يبحث عن كفاية أحدهما عن الآخر. وأمّا بناءً على التحقيق في المسألة من طولية الأفراد وتعلّق الأمر بالطبيعة الّتي لها أفراد ومصاديق بعضها لصورة الاختيار وبعضها الآخر لصورة الاضطرار، فلا يأتي البحث عن كفاية أحدهما عن الآخر، فإنّ الصلاة - مثلاً - طبيعة لها أفراد ومصاديق بحسب أحوال المكلّفين، ففي حال فقدان الماء يكون فردها ومنطبقها الصلاة مع الطهارة الترابية، وفي حال وجدان الماء يكون ما تصدق عليه الطبيعة المأمور بها الصلاة مع الطهارة المائية. وأيضاً في حال تمكّن المكلّف من القيام يكون ما ينطبق عليه عنوان المأمور به والطبيعة الواقعة تحت الأمر الصلاة قائماً، وفي حال عدم تمكّنه من القيام يكون مصداق الطبيعة المذكورة الصلاة قاعداً، وفي حال عدم تمكّنه منه الصلاة مضطجعاً، فجميع هذه الصلوات أفراد لطبيعة الصلاة، وهي تصدق على کلّ واحدة منها، فلا يبقى مجال لبحث الكفاية.

ومن الواضح: أنّ متعلّق الأمر في قوله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ طبيعة الصلاة، هذه

ص: 136


1- النساء، 43؛ المائدة، 6.
2- الکلیني، الکافي، ج3، ص63 – 64، ح4، باب الوقت الّذي یوجب التیمّم؛ الطوسي، تهذیب الأحکام، ج1، ص200، ح580/54، باب التیمّم وأحکامه؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، أبواب التیمّم، ج3، ص381، ب21، ح1.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص130.

فرد لها وتلك فرد آخر وهكذا، وهذا ممّا لا إشكال فيه، فما حُكي عن الشيخ(قدس سره) من بدلية صلاة المتيمّم المضطرّ عن الصلاة الكامل المختار، بعيد عن الصواب ومخالف لظواهر الأخبار والكتاب كقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طِيِّباً﴾ إلى قوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ...﴾((1)) الآية؛ وقوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لله قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أوْ رُكْبَاناً...﴾((2)) الآية.

فإنّ الظاهر من الآيتين كون الصلاة مع الطهارة الترابية في حال عدم وجدان الماء، وراكباً في حالة الخوف فردان واقعيّان لطبيعة الصلاة المأمور بها، كما أنّ الصلاة مع الطهارة المائية في حال وجدان الماء، والصلاة في غير حال الخوف فردان لها من غير فرق بينها.

والحاصل: أنّه وإن كان يظهر من كلمات المتأخّرين أنّ محلّ النزاع في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن المأمور به الواقعي فيما يكون للشارع أمر متعلّق بالمكلّف في حال الاختيار، وأمر آخر متعلّق به في حال الاضطرار، إلّا أنّ هذا بعيد عن الصواب وغير قابل لأن يُعدّ محلّ البحث والنزاع؛ لأنّه لا ينبغي توهّم إجزاء الإتيان بما هو المأمور به لأمر عمّا هو المأمور به لأمر آخر وإلّا فيصحّ أن يكون النزاع في إجزاء الإتيان بالصلاة عن الصوم والزكاة وغيرهما. نعم، يمكن دلالة دليل بالخصوص على ذلك في مورد واقتصار المولى في صورة الإتيان بأحدهما عن الآخر، ولكن هذا غير إجزاء نفس الإتيان بأحدهما عن الآخر، فالصحيح أن يكون محلّ البحث: إجزاء الإتيان بالفرد الاضطراري عن الأمر بالطبيعة. ولعمري هذا واضح

ص: 137


1- المائدة، 6.
2- البقرة، 238 – 239.

غير محتاج إلى بيان، ولكن حيث كان ظاهر عباراتهم موهماً لذلك، أطلنا الكلام فيه. ولذا لو راجعنا كلمات المتقدّمين، نجد في بعض كلماتهم ما يوافق ما ذكرناه ويصدّقه، مثل ما يستفاد من المحقّق(قدس سره) في المعتبر في مسألة: إذا كان معه ماء فأراقه، ما هذا لفظه: «إذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت، أو مرّ بماءٍ فلم يتطهّر ودخل الوقت ولا ماء، تيمّم وصلّى ولا إعادة، ولو كان ذلك بعد دخول الوقت فكذلك. وللشافعي وأحمد هنا روايتان، أحدیهما: يعيد؛ لأنّه فرّط في الصلاة مع القدرة على طهارة كاملة. لنا أنّه صلّى مستكملة الشرائط، فتكون مجزية. والإراقة للماء سائغة، فلا يترتّب عليها لواحق التفريط».((1))

هذا ولا يخفى: أنّه ليس محلّ النزاع أيضاً صورة بقاء حالة فقدان الماء، أو عدم التمكّن من القيام أو القعود وغيرها إلى آخر الوقت، لأنّه ليس في هذه الصور تخيير للمكلّف في إتيان الفرد الاضطراري والاختياري مع انحصار ما هو منطبق لطبيعة الصلاة المأمور بها بفرد واحد، فلا يكون الفرد الاختياري فرداً بحسب حاله، فلا ينبغي في هذه الصورة توهّم عدم الإجزاء.

فروح البحث ومرجع النزاع راجع إلى ما إذا كان المكلّف فاقداً للماء في أوّل الوقت، وواجداً له في آخر الوقت، وأتى بالمأمور به في حال الاضطرار.

ولم نقل بأنّ المستفاد من الأدلّة كون الصلاة مع الطهارة الترابية فرداً لها في حال فقدان الماء في جميع الوقت، حتى لو لم يبق المكلّف على حاله من فقدان الماء في جميع الوقت يجب الالتزام بعدم كون ما أتى به فرداً للطبيعة المأمور بها؛ لأنّه لو قلنا ذلك لم يبق لهذا النزاع مجال أصلاً، ولم تترتّب عليه فائدة وثمرة.

ص: 138


1- المحقّق الحلّي، المعتبر، ج1، ص366 – 367.

فالنزاع يقع فيما إذا قلنا بأنّ المستفاد من الأدلّة أنّ للواجب بحسب حال المكلّف فردين، فرد مع الطهارة الترابية في أوّل الوقت، وفرد مع الطهارة المائية في آخره، فما هو المنطبق على للطبيعة المأمور بها في أوّل الوقت فرد، وفي آخره فرد آخر. بمعنى أنّ المكلّف مخيّر إمّا شرعاً((1)) وإمّا عقلاً فيما كلّفه الشارع - من إتيان الصلاة - أن ينتخب أحد فردي الطبيعة.

إذا عرفت محلّ النزاع ومركب البحث، فاعلم: أنّ مقتضى القاعدة، كما ظهر لك ممّا ذكر، فيما إذا أتى المكلّف بالصلاة في أوّل الوقت مع الطهارة الترابية، إجزاؤها عن صلاة اُخرى في آخر الوقت مع الطهارة المائية. إذ لا مجال لعدم الإجزاء وعدم سقوط الأمر بعد إتيان ما هو فرد للمأمور به. نعم، يمكن دلالة دليل خاصّ على عدم إجزاء الفرد الاضطراري عن الفرد الاختياري، لكن هذا فيما إذا لم يكن إطلاق للأمر المتعلّق بالطبيعة فيدلّ على فردية ذلك الفرد بمجرّد عروض حالة فقدان الماء، أو عدم التمكّن من القيام.

حكم صورة الشكّ

ثم إنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) بعدما ذكر في مقام الإثبات: أنّ المتَّبع هو الإطلاق لو كان، قال: «وإلّا فالأصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة لكونه شكّاً في أصل التكليف... إلخ».((2))

وفيه: أنّه لو لم يكن إطلاق للدليل، لا مجال لإجراء البراءة والقول بالإجزاء، بل المرجع هو الاشتغال؛ لأنّ الشكّ بعد العلم بأصل التكليف يرجع إلى الشكّ في

ص: 139


1- کما قال به في المعالم (العاملي، ص79).
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص130.

السقوط بأنّ التكليف الثابت يقيناً هل سقط بالإتيان الكذائي أم لا؟ ولا ريب في أنّ المرجع حينئذٍ هو الاشتغال، فلابدّ من القول بوجوب الإعادة أو القضاء.

تذنيب

لا يذهب عليك وجه ما ذهبنا إليه في الفقه في بعض حواشينا، وما كان في فتاوى المتقدّمين، من عدم إجزاء بعض الأفعال في ظرف الاضطرار عمّا هو المأمور به في حال الاختيار، كما إذا حكم قاضي العامّة بالعيد في يوم الثلاثين من شهر رمضان، فالواجب على المكلّف في موارد التقيّة، متابعة رأيه وإفطار الصوم، لحفظ نفسه ودفع ضررهم،((1)) فإنّ الحكم في المقام عدم الإجزاء؛ لعدم ما یدلّ على انطباق عنوان الصوم المأمور به على هذا العمل، وكونه فرداً لطبيعة الصوم. غاية الأمر یدلّ على عدم حرمة الإفطار وعدم وجوب الإمساك تكليفاً لا وضعاً، فلا يدلّ على عدم كون الأكل مفطراً. وليس هذا كالصلاة مع الطهارة الترابية في أوّل الوقت إذا كان فاقداً للماء، فإنّها مصداق لطبيعة الصلاة المأمور بها كما لا يخفى.

فإذا كان الإفطار بالاضطرار فرداً للطبيعة المأمور بها يسقط الأمر بالصوم أيضاً ولحكمنا بالإجزاء. وقس على ذلك نظائر هذا المثال في كلّ مورد يرفع دليل الاضطرار الأمر بالطبيعة فقط من دون أن يجعل المضطرّ إليه فرداً للطبيعة، والله الهادي إلى الصواب.

ص: 140


1- کما قال7: «أفطر یوماً من شهر رمضان أحبّ إليّ من أن یضرب عنقي». الکلیني، الکافي، ج4، ص83، ح9، باب الیوم الّذي شكّ فیه من شهر رمضان هو أو من شعبان؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الصوم، أبواب ما یمسك عنه الصائم، ج10، ص131- 132، ب57، ح4.

الموضع الثالث: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي

اشارة

قال في الكفاية بما ملخّصه: لو كان الدليل الدالّ على الحكم الظاهري أصلاً من الاُصول العملية كأصالة الطهارة والحلّية فالإتيان بالمأمور به يكون مجزياً عن الواقع حتى في صورة انكشاف الخلاف.

وأمّا لو كان دليله الأمارة، فإن قلنا بطريقية الأمارات فلازمه عدم الإجزاء بعد انكشاف الخلاف. وأمّا إن قلنا بالسببية وأنّه بواسطة قيام الأمارة على شيء توجد في المؤدّى مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ومفسدة تركه، فلابدّ من القول بالإجزاء لو كانت المصلحة المتدارك بها مطابقة لمصلحة الواقع، وإن لم تكن مطابقة لها فالكلام الكلام المذكور في الأمر الاضطراري.

وأمّا في صورة الشكّ في كون الأمارة حجّة من باب الطريقية أو السببية فمقتضى أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف الإعادة في الوقت... إلخ.

وأفاد في وجه إجزاء الحكم الظاهري فيما يكون دليله الأصل: بأنّ ذلك مقتضى ملاحظة دليل الأصل ودليل الحكم الواقعي، وبيان ذلك: أنّا نلاحظ قوله(قدس سره): «كلّ شيء طاهر»؛((1)) ونستفيد منه تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطهارة الواقعية؛ لأنّه لو اُريد منه ظاهره يلزم الكذب، فيستفاد منه أنّ کلّ شيء بمنزلة الطاهر الواقعي حتى انكشاف الخلاف ثمّ ينضمّ هذا الدليل إلى دليل الحكم الواقعي - وهو اشتراط الصلاة

ص: 141


1- الصدوق، المقنع، ص15؛ المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، ج2، ص583، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب30، ح4. وقوله7: «کلّ شيء نظیف حتی تعلم أنّه قذر». الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ج3، ص467، ب37، ح4.

بطهارة البدن واللباس، مثل قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لا صلاة إلّا بطهور»؛((1)) و «لا يقبل الله تلك الصلاة إلّا فيما أحلّ الله أكله»، فنستنتج من الجمع بينهما: أنّ شرط الصلاة هي الطهارة الّتي تكون أعمّ من الظاهرية والواقعية، وكذلك حلّية اللباس؛ لأنّ دليل الأصل حاكم عليه وناظر إليه ومبيّن لدائرة الشرط، هذا.((2))

ولا يخفى عليك: أنّ تقسيمه - على الظاهر - ليس بحاصر؛ لأنّ تقسيمه إنّما يكون متكفّلاً لبيان الحكم في الموضوعات والشبهات الموضوعية بأنّه إذا كان الحكم الظاهري ممّا يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه وكان بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة الطهارة أو الحلّية، فانكشاف الخلاف لا یدلّ على عدم إجزائه عن الحكم الواقعي. وإذا كان الحكم الظاهري بلسان تحقّق ما هو الشرط واقعاً، كالأمارة، فبناءً على الطريقية لا يجزي، وبناء على السببیّة يجزي لو كان وافياً بتمام المصلحة، أو لم يكن وافياً بتمام المصلحة ولكن كان الباقي غير ممكن التدارك، أو غير واجب التدارك.

فكما ترى ليس في كلامه حكم الشبهات الحكمية مثل ما إذا شكّ في جزئية السورة ودلّت الأمارة أو دليل شرعي آخر كأصالة البراءة على عدمها، ثم انكشف الخلاف. فكلامه ساكت عن حكم هذه الصلاة الفاقدة للسورة الّتي تكون فرداً لطبيعة الصلاة وأنّها مجزئة عن الصلاة الواجدة لها أم لا؟

لا يقال: إنّه قد ذكر في آخر كلامه حكم الفرض المذكور بقوله: «وأمّا ما يجري في إثبات أصل التكليف... إلخ».

ص: 142


1- الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج1، ص58، ب14، ح1. فیمن ترك الوضوء أو بعضه أو شكّ فیه؛ المغربي، دعائم الإسلام، ج1، ص100؛ الطوسي، تهذیب الأحکام، ج1، ص49 -50، ح144/ 83؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب الوضوء، ج1، ص365 – 366، ب1، ح1و6.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص133 – 134.

لأنّه يقال: المذكور في آخر كلامه ليس إلّا حكم صورة الشكّ في الموضوعين، أي صلاة الظهر والجمعة. وأمّا الحكم بالنسبة إلى الشبهات الحكمية الراجعة إلى موضوع واحد كالشكّ في أصل جزئية السورة ليس مذكوراً في كلامه.

تحرير محلّ النزاع

إنّ النزاع في إجزاء الأوامر الظاهرية - سواء كان دليلها الأصل أو الأمارة - عن الأوامر الواقعية، لا يقع فيما إذا قامت أمارة أو أصل على نفي وجوب شيء ثم انكشف أنّ الواقع وجوبه، أو على وجوب فعل مع كون الواجب غيره، كما إذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ثم انكشف أنّ الواجب صلاة الظهر، فهذه الموارد خارجة عن محطّ النزاع لأنّه لا إشكال في عدم إجزاء الإتيان بمتعلّق أمر عن متعلّق أمر آخر.

فمحلّ الكلام ومورد النقض والإبرام في مركّب ذي أجزاء وشرائط وموانع، بأن يكون الحكم - أصلاً كان دليله أو أمارة - دالّا على عدم اعتبار شيء في المأمور به أو عدم قاطعية شيء فيه، أو دلّ على حصول جزء أو تحقّق شرط من شروط المأمور به ثم انكشف بعد الإتيان خلاف ذلك.

وبعبارة اُخرى: النزاع واقع فيما إذا كان الحكم راجعاً إلى كيفيّات المأمور به.

وبعبارة ثالثة: محلّ النزاع ومورد الكلام فيما إذا كان الحكم متعلّقاً بعنوان كالصلاة ودلّ الحكم الظاهري على حصول هذا العنوان في ظرف الشكّ. فلا مجال لتوهّم وجود أمرين في هذه الموارد يكون أحدهما متعلقاً بالواجد للسورة مثلاً وهو الحكم الواقعي، والآخر متعلّقاً بالفاقد لها في صورة الجهل وهو الحكم الظاهري. بل ليس في البين إلّا أمر واحد متعلّق بطبيعة الصلاة - مثلاً - يكون لها مصداق واقعي ومصداق آخر ظاهري، فيبحث عن إجزاء الإتيان بالمصداق الظاهري عن الأمر بالطبيعة.

ص: 143

وعلى کلّ حال، فمقتضى التحقيق حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق أن يقال: إنّ الكلام تارة يقع في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري فيما يكون دليل الحكم أصلاً من الاُصول. واُخرى في إجزائه فيما يكون الدليل الدالّ عليه أمارة من الأمارات. ولنقدّم الكلام فيما يستفاد من الجمع بين دليل الحكم الظاهري - أصلاً كان أو أمارة - ودليل الحكم الواقعي بحسب مقام الإثبات، وذلك ينعقد في مقامين:

المقام الأوّل: إجزاء الإتيان بمقتضى الاُصول الشرعية

إذا كان دليل الحكم أصلاً من الاُصول، كأصالة الطهارة وأصالة الحلّية وقاعدة البناء على إتيان ما شكّ في إتيانه بعد الدخول في الجزء المترتّب عليه، أي قاعدة التجاوز أو الفراغ،((1)) نلاحظ مفاد کلّ واحد من أدلّة هذه الاُصول مثل «كلّ شيء طاهر...»؛((2)) أو «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال...»؛((3)) ونرى دلالة الأوّل على الحكم بطهارة مشكوك الطهارة والثاني على حلّية مشكوك الحلّية، ثم نلاحظ الأدلّة الأوّلية الدالّة على اشتراط الصلوات الخمس اليومية بطهارة البدن واللباس،

ص: 144


1- من أدلّتها صحیحة حمّاد في التهذیب (الطوسي، ج2، ص151، ب 9، ح593/51)، تفصیل ما تقدّم ذکره...؛ الطوسي، الاستبصار، ج1، ص358، ح5؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الصلاة، أبواب الرکوع، ج6، ص317، ب13، ح1. وموثّقة عبد الرحمن البجلي في التهذیب (الطوسي، ج1، ص151، ب 9، ح596/54)، تفصیل ما تقدم ذکره...؛ الطوسي، الاستبصار، ج1، ص358، ح8؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الصلاة، أبواب الرکوع، ج6، ص318، ب13، ح6؛ راجع أیضاً: ج6، ص317 – 318، ح3 و 4و 5و7، وأبواب الخلل الواقع في الصلاة، ج8، ص237-239، ب23.
2- مرّ تخریجه آنفاً.
3- الکلیني، الکافي، ج5، ص313، ح39، باب النوادر من کتاب المعیشة، مع اختلاف یسیر؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب ما یکتسب به، ج17، ص88، ب4، ح1. وقوله7: «کلّ شيء هو لك حلال...». الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، ج17، ص89، أبواب ما یکتسب به، ب4، ح4.

فنحكم في ظرف الشكّ بمقتضى الجمع بين الدليلين باشتراط الصلاة بالطهارة والحلّية أعمّ من الظاهرية والواقعية. فدليل الأصل يوسّع دائرة التكليف ويبيّن وظيفة المكلّف في حال الشكّ بأنّ تكليفه في حال الشكّ يكون هكذا استمرّ شكّه بعد ذلك أم لا؟ فلا يتصوّر في مثله انكشاف الخلاف وعدم الإجزاء، لأنّه عمل بوظيفته وأتى بما هو مأمور به ومصداق للطبيعة.

وهكذا الحال بالنسبة إلى قاعدة التجاوز أو الفراغ، وهي قوله: «إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء»؛((1)) فإنّ مفادها جواز البناء على إتيان المشكوك بعد الدخول في الجزء المتأخّر عنه. وهذا حكم تعبّدي مورده الشكّ الفعلي، توسّع به دائرة موضوع الصلاة. وليس مشروطاً باستمرار الشكّ، بل بمجرد حدّوث الشكّ يبنى على الإتيان، سواء استمرّ شكّه أم لا، فنستفيد من ملاحظة دليل هذه القاعدة مع دليل وجوب الصلوات اليومية فردية المأتيّ به للطبيعة المأمور بها ولو كان في الواقع فاقداً للجزء المشكوك، فهذا المأتيّ به فرد للصلاة منطبق لعنوانها، كما أنّ الفرد الواجد للجزء أو الواقع مع الطهارة الواقعيّة فرد لها. وهذا معنى إجزاء الفرد المأتيّ به في حال الشكّ عن الأمر بالطبيعة.

وكذلك الحال إذا دلّ الأصل كالبراءة الشرعية، على نفي جزئية شيء أو شرطيته أو عدم قاطعيته، فإنّ مقتضى ما يستفاد من حديث الرفع((2)) في جنب الأحكام الواقعية: كون الأصل المصطاد من مثل هذا الحديث حاكماً على تلك الأحكام وموسّعاً لدائرة الموضوع في ظرف الجهل أو النسيان، وأنّ هذا الفرد الفاقد للجزء (المنفيّ جزئيّته

ص: 145


1- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ج8، ص237، ب23، ح1.
2- الصدوق، التوحید، ص353، ح24، باب الاستطاعة؛ الصدوق، الخصال، ص417، ح9، باب التسعة؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، ج15، ص369، ب56، ح1.

بالأصل) فرد للمأمور به، فلا إشكال في کلّ ما كان من هذا القبيل من القول بالإجزاء واتّساع نطاق المأمور به. هذا كلّه فيما كان دليل الحكم الظاهري أصلاً.

المقام الثاني: إجزاء الإتيان بمقتضى الأمارات الشرعية

وأمّا إذا كان دليل الحكم الظاهري أمارة من الأمارات كما إذا قامت البيّنة على إتيان الركوع، أو أخبر عدل بقراءة السورة، أو عدم جزئيّتها للصلاة، أو عدم مانعية القهقهة لها، وغير ذلك. فإن قلنا بلزوم ملاحظة لسان نفس الأمارة مع دليل الحكم الواقعي، فدلالته على عدم الإجزاء ممّا لا ينكر، لأنّ لسان الأمارة كما ينادي بحصول ما هو الشرط واقعاً، ينادي أيضاً بعدم الإجزاء بعد كشف الخلاف.

ولكنّنا لا نلاحظ لسان الأمارة بل نلاحظ دليل حجّية الأمارة مثل قول الشارع: إبن على قول العادل مثلاً، أو صدّق العادل، وما في معناهما، ونلاحظ معه دليل الحكم الواقعي، فلا نجد حينئذٍ فرقاً بين الاُصول والأمارات، فكما أنّ مقتضى ظهور دليل الأصل ودليل الحكم الواقعي كفاية الإتيان بالمصداق الظاهري للطبيعة، كذلك مقتضى ظهور دليل الأمارة عند ملاحظته مع الحكم الواقعي طابق النعل بالنعل، فيستفاد منهما أيضاً كفاية الإتيان بالمصداق الظاهري.

ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا بأنّ دليل التعبّد بالأمارة لا يفيد الإجزاء، فلا وجه مع ذلك لما أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية بقوله: «وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنّه ما هو الشرط واقعاً كما هو لسان الأمارات فلا يجزي، فإنّ دليل حجّیته حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك».((1))

وذلك لأنّ دليل حجّية الأمارة ليس نفس الأمارة حتى يقال بأنّ لسانه لسان أنّه

ص: 146


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص133 – 134.

واجد لما هو الشرط واقعاً، بل الدليل على حجّیتها هي الأدلة الّتي أقاموها على حجّية الخبر وغيره وليس في لسان هذه الأدلّة تحقّق ما هو الشرط أو رفع المانع واقعاً، بل مفادها التعبّد بقول العادل مثلاً في جعل الناقص فرداً للمأمور به تعبّداً.

والحاصل: أنّه لا فرق بين دليل الأصل والأمارة، فكما أنّ قوله: «كلّ شيء طاهر» يعيّن وظيفة المكلّف في ظرف الشكّ، كذلك حديث الرفع وغيرهما، فإنّ مقتضى هذه الاُصول في ظرف الشكّ إجزاء الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط مثلاً عن الواقع وكونها فرداً لطبيعة الصلاة كما أنّ صلاته الواجدة لهما في حال العلم تكون فرداً لها، كذلك مقتضى قوله: صدّق العادل مثلاً، وابن على قوله، تعيين وظيفة المكلّف في حال الشكّ، وبيان أنّ ما أخبر به العادل من إتيان الركوع أو عدم جزئيّة السورة للصلاة مثلاً فرد للطبيعة المأمور بها؛ لأنّ الواجب هو البناء العملي على قول العادل وإلغاء احتمال الخلاف عنه وترتيب آثار الصدق عليه بأن يعدّ المخبر عنه في ظرف الشكّ فرداً للمأمور به. فلا فرق بين لسان الأمارة ولسان الأصل، فإنّ كلّا منهما يعيّن تكليف الشاكّ في مقام الامتثال ويكون مرآة للفرد الّذي به يحصل الامتثال في ظرف الشكّ، فكما أنّ الأوّل موجب للإجزاء فليكن الثاني أيضاً كذلك.

حكومة الأمارات على الاُصول

إنّ ما ذكرناه من عدم الفرق بين الأمارات والاُصول في اقتضائهما الإجزاء، لا ينافي حكومة الأمارات على الاُصول، وذلك لأنّ المماثلة والمساواة إنّما تكون في مجرّد كون کلّ منهما حكم الشاكّ في مقام الامتثال، لا أنّ الأصل يكون كالأمارة في جميع الجهات، فإنّ من الواضح تقديم الأمارة على الأصل، لأنّ موضوعه - وهو الشاكّ - يزول بمقتضى الأمارة الّتي يبدّل الموضوع من الشاكّ إلى العالم بالحكم، يعامل

ص: 147

بمفادها معاملة الواقع، وينزّل منزلته، فدليلها مفسّر لدليل الأصل وشارح له وحاكم عليه، فلا يبقى معها مجال لجريان الأصل.

فتلخّص من جميع ما أسلفناه: أنّ مقتضى ظهور دليل الأصل أو الأمارة بعد ضمّهما إلى دليل الحكم الواقعي كون الفعل الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط فرداً للطبيعة الواقعة تحت الأمر. وهذا معنى الإجزاء المذكور في كلام القدماء من الفقهاء كالعلّامة والمحقّق وغيرهما5. فعلى هذا، يكون الفرد المأتيّ به في حال الشكّ فرداً للمأمور به واقعاً، ومجزياً عن الفرد الآخر. هذا تمام الكلام في مقام الإثبات والاستظهار من الاُصول والأمارات الشرعية.

وأمّا الكلام بحسب مقام الثبوت: فحاصله أنّه يرد على القول بالحكم الظاهري والواقعي وجوه من الإيراد: من لزوم اجتماع النقيضين، أو الضدّين، أو المثلين، أو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة.

ولا يمكن الذبّ عنها بتقييد الحكم الواقعي بالحكم الظاهريّ، وتخصيص الحكم الواقعي بصورة العلم به؛ لأنّ هذا إنّما يتمّ لو كان الحكم الظاهري والواقعي في عرض واحد، وواردين على موضوع واحد، وأمّا مع تأخّر الحكم الظاهريّ عن الواقعي برتبتين (إحداهما نفس الحكم الواقعي، والثانية الشكّ فيه) فلا يمكن التقييد أو التخصيص؛ لأنّ الموضوع في أحدهما هو الشكّ في موضوع الآخر، فهما داخلان في باب التعارض.

هذا مضافاً إلى أنّ التقييد أو التخصيص مستلزم للدور؛ لأنّ الحكم بوجوب الصلاة مثلاً لو كان مقيّداً بصورة العلم به يلزم توقّف الحكم على العلم به، ولا ريب في أنّ العلم بالحكم أيضاً متوقّف على الحكم.

فالحقّ في الجواب أن يقال: إنّ الحكم إنّما اُنشئ مطلقاً من غير تقييد بالعلم والجهل.

ص: 148

وليس معنى إطلاقه أنّ المشكوك والمعلوم قد تعلّقت بهما إرادة الآمر، بل معناه أنّ الآمر أنشأ الحكم عارياً عن هذه القيود . إلّا أنّه لا يريد انبعاث المكلّف منه إلّا في ظرف العلم به. وذلك - أي عدم إرادة انبعاثه في صورة الجهل - ليس لقصور في ناحية الحاكم، بل القصور يكون في ناحية الحكم وهو في سلسلة علل الانبعاث، فإنّ الحكم لا يمكن أن يكون علّة لانبعاث المكلّف وحصول إرادة الفعل في نفسه إلّا في صورة علمه بالحكم، فالقصور راجع إلى ضيق دائرة العلّة.

ولو أراد الآمر انبعاث المأمور في جميع الأحوال فلابدّ له من التمسّك بأمر آخر يتعلّق بموضوع يكون دائم الموافقة أو غالب الموافقة مع الواقع، كأن يقول: إذا احتملت وجوب شيء فأت به.

لا يقال: يمكن أن ينبعث العبد من الأمر الأوّل في حال الجهل أيضاً لاحتمال وجود الأمر، فلا يحتاج الآمر إلى أمر آخر غير الأمر الأوّل.

فإنّه يقال: إنّ انبعاثه على هذا لا يكون من الأمر، بل يكون من احتمال وجود الأمر، فحال وجود الأمر الأوّل وعدمه سواء في انبعاث العبد.

إذا عرفت ما قلناه من إنشاء الحكم غير مقيّد بالعلم والجهل، وعدم انبعاث العبد إلّا إذا كان عالماً بالحكم، يمكّنك حينئذٍ أن تجمع بين الحكمين الواقعي والظاهريّ، بأن يكون الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهل أو المضطرّ متوقّفاً في مرتبة الإنشاء وعدم وصوله إلى مرتبة الفعلية، وإنّما الفعلي في حقّه هو الحكم الظاهري، وبذلك يرتفع التنافي بين الحكمين في حقّ شخص واحد.

إن قلت: إنّ التحقيق على ما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله) بقاء فعليّة الحكم الواقعي في ظرف الشكّ، وعذرية الحكم الظاهري في صورة الخطأ، وكونه ترخيصاً للمكلّف في هذه الصورة.

ص: 149

قلت: فساد هذا التحقيق أوضح من أن يخفى على مثله؛ لأنّ التنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي مع بقاء فعليته كالنار على المنار ولو فسّرنا الحكم الظاهري بالترخيص في ترك الجزء أو الشرط في صورة الشكّ، لأنّ الترخيص منافٍ للبعث الفعلي نحو الفعل، كما أنّ الزجر عنه ينافي البعث نحوه. فلا مناص ممّا ذكرناه لحلّ التنافي من اختصاص فعلية الحكم الواقعي بالعالم، هذا.

إشكال التصويب

وأمّا الإشكال بأنّ الذهاب إلى الإجزاء في مسألتنا هذه موجب للتصويب المجمع على بطلانه.

فيظهر جوابه بعد ذكر مقدّمة وهي: أنّ مسألة التخطئة والتصويب من المسائل المذكورة في الكتب الكلامية من أوائل ظهور علم الكلام، وكذلك الكتب الاُصولية من زمن الشيخ الطوسي(قدس سره) الّذي هو أوّل من صنّف في الاُصول كتاباً مفصّلاً وهو «العدّة»((1)) بعدما صنّف فيه اُستاذه الشريف المرتضى(قدس سره) كتابه المختصر الموسوم ب- «الذريعة».

وبيانها: أنّه هل يكون لله تعالى بعدد آراء المجتهدين أحكام مختلفة حتى يكون كلّهم مصيبين أم لا؟ بل يكون حكم الله في حقّ الجميع واحداً ولا يكون المصيب من الآراء غير رأي واحد، فكلّ من كان رأيه مخالفاً لذلك الرأي يكون مخطئاً لا محالة.

واختلف القائلون بالتخطئة بأنّ المخطئ معذور أم لا؟ ونقل عن بعض معتزلة بغداد الذهاب إلى فسق المخطئ. وذهب الأكثر إلى معذوريّته.

إذا عرفت ذلك، يظهر لك عدم وجود الإجماع من جميع الاُمّة على بطلان التصويب. وأمّا إجماع الإمامية، فمن الواضح أنّ حجّية إجماعهم إنّما تكون من جهة

ص: 150


1- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج2، ص725 - 726.

أنّهم أصحاب النصّ، بمعنى أنّهم لا يقولون ولا يفتون بمقتضى عقولهم والاستحسانات، كما يعملون أصحاب القياس في الأحكام الشرعية، فهم معتقدون أنّ النصّ الصادر من الأئمّة(علیهم السلام) حجّة كالنصّ الصادر من النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، وذلك بمقتضى النصوص المعتبرة، منها حدّيث الثقلين عنه(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

وهذه، أي حجّية أقوالهم وآرائهم، غير الخلافة والرئاسة العامّة التي تدّعي الشيعة أنّها لهم(علیهم السلام)، بل ولو لم نقل بذلك فلابدّ من القول بحجّية آرائهم(علیهم السلام) بمقتضى الحديث الشريف المذكور وأمثاله.((1))

فإذا ثبت إجماع الإماميّة على مسألة وتوافقهم عليها خلفاً عن سلف مع علمنا بأنّهم لا يقولون من عند أنفسهم ولا يتّبعون مقتضى رأيهم ولا يفتون إلّا بما عن النبيّ والأئمّة - صلوات الله عليهم أجمعين - فنكشف من ذلك قول أئمّتهم(علیهم السلام) ومطابقته لما أجمعوا عليه.

ولكن هذا الإجماع لم يقم في ما نحن فيه. وإنّما الشيخ(قدس سره) قال في «العدّة» بإجماع المتکلّمين من المتقدّمين والمتأخّرين من الإمامية على بطلان التصويب.((2)) وهذا كما ترى غير الإجماع المصطلح المعلوم حجّیته عندنا وإن كان للمتكلمين على بطلان التصويب دلائل قطعية بأنّ حكم الله في حقّ الجاهل والعالم على حدّ سواء، ولكن أنّى هذا من الإجماع المصطلح، فلا يمكن للخصم أن يتمسّك به لردّ ما اخترناه من أنّه يوجب التصويب المجمع على بطلانه.

هذا، مضافاً إلى أنّ مختارنا ليس من التصويب الّذي قد اُدّعي الإجماع على بطلانه؛ لأنّا نقول بأنّ الحكم الواقعي مطلق وغير مقيّد بصورة العلم والجهل، بل تقيّده بذلك ممتنع، لأنهّ مستلزم للدور، ولكن الشارع الحاكم حيث يرى عدم إمكان تحريك

ص: 151


1- راجع في ذلك کتابنا: «أمان الاُمّة من الضلال و الاختلاف».
2- الطوسي، عدّة الاُصول، ج2، ص725-726.

الجاهل بسبب الأمر وعدم انبعاثه من ذلك الحكم المطلق، فلا يريد انبعاثه من الحكم إلّا في صورة علمه به.

فإنشاء الحكم غير مقيّد بصورة العلم والجهل، ولكنّ الحكم حيث ينشأ لأن يكون محرّكاً للمكلّف وباعثاً له نحو الفعل؛ فلا يمكن أن يكون علّة لانبعاث الجاهل، فلابدّ للآمر أن يريد بذلك الحكم انبعاث العالم.

ولو أراد صدور الفعل من الجميع فعليه أن يتوصّل إلى مراده بإلقاء خطاب آخر يكون متوجّهاً إلى المكلّف في ظرف الشكّ والجهل بإيجاب الاحتياط والإتيان بجميع المحتملات، وحيث إنّ ذلك موجب لاختلال النظام من جهة العسر الشديد، فله أن يوسّع دائرة المأمور به بتوسّط خطاب آخر في ظرف الجهل والشك. ويمكن أن يكون هذا الخطاب دليلاً على عدم الفرق بين العالم والجاهل بالنسبة إلى حكم الله الواقعي، فإنّ مقتضى الجمع بين هذا الخطاب ودليل أصل التكليف أنّ المأمور به هو طبيعة الصلاة وعنوانها إلّا أنّ لها فرداً بحسب حال الاختيار والعلم وهو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط وفرداً بحسب حال الاضطرار أو الشكّ وهو الصلاة الفاقدة للسورة مثلاً، فكما أنّ الأوّل يكون موجباً للإجزاء فليكن الثاني أيضاً مثله.

وعلى کلّ حال لا مانع من القول بإجزاء المأمور به بالأمر الظاهري بحسب مقام الثبوت كما أنّه لا إشكال فيه بحسب مقام الإثبات أيضاً، وقد ظهر وجهه ممّا قدّمناه.

وأمّا ما في بعض الأذهان من تفويت المصلحة في صورة تأدية الحكم الظاهري إلى عدم جزئية شيء مع كونه جزءً للمأمور به.

فيمكن أن يقال في مقام رفعه بأنّ المصلحة كما يمكن أن تكون في ذات المأمور به يمكن أن تحصل فيه بسبب تعلّق الأمر به، فأمر الشارع مثلاً بالصلاة المرکّبة من القيام

ص: 152

والسجود والركوع والتشهّد وغيرها يكون موجباً لحصول مصلحة في الصلاة، كذلك أمره بالصلاة المركّبة من القيام والسجود والركوع غير التشهّد مثلاً، سبب لحصول المصلحة المقصودة منها، ففي کلّ من الصورتين يمكن القول بعدم المصلحة إذا لم يتعلّق الأمر بها.

وبالجملة: فنحن لا نتصوّر معنىً للمصلحة في هذه الموارد إلّا حصول التعبّد وإطاعة المولى، وهذا كما يمكن أن يحصل بإتيان الصلاة في الصورة الاُولى، كذلك لا مانع من حصوله في الصورة الثانية أيضاً، وهذا معنى إيجاد الأمر المصلحة في المأمور به.

ثم إنّه قد تلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّه وإن صار كلام المتقدّمين كالعلّامة والمحقّق وغيرهما موجباً لتوهّم تعدّد المأمور به في حال الاضطرار وفي حال الشكّ والجهل ولذلك ذهبوا إلى عدم الإجزاء إلّا في بعض الصور، ولكنّك بعد الإحاطة بما تلوناه عليك وبعد التدبّر في كلماتهم تعرف أنّ مرادهم هو كون المكلّف به في جميع الموارد واحداً إلّا أنّ له أفراداً متعدّدة، فالمكلّف إذا أتى بما هو فرد للمأمور به أجزأ عنه، سواء كان ذلك الفرد فرداً له في حال الاضطرار أو الاختيار أو في حال العلم أو الجهل.

فمرادهم من الإجزاء أنّ المأمور قد أتى بما هو فرد للطبيعة المأمور بها، لأنّ المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أوْ رُكْبَاناً...﴾((1)) الآية؛ وقوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا...﴾((2)) الآية؛ وقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّ شيءٍ نظيف...» الحدیث؛((3)) وقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «كلّ

ص: 153


1- البقرة، 239.
2- المائدة، 6.
3- الطوسي، تهذیب الأحکام، ج1، ص284-285، ب12، ح832/119، باب تطهیر الثیاب؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ج3، ص467، ب37، ح4.

ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»؛((1)) وغيرها أنّ الصلاة المأتيّ بها في جميع هذه الأحوال ولو كانت فاقدةً لجزءٍ أو شرطٍ هي فرد للصلاة المأمور بها.

هذا تمام الكلام في مبحث الإجزاء. والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

ص: 154


1- الطوسي، تهذیب الأحکام، ج2، ص344، ح1426/14؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ج8، ص237-238، ب23، ح3.

الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب

اشارة

الفصل الرابع: في مقدّمة((1)) الواجب

تحرير عنوان النزاع

لا يخفى عليك: أنّ عنوان النزاع في مقدّمة الواجب في كلمات القدماء من

ص: 155


1- لا بأس بتعریف لفظ المقدّمة بما ذکره الشیخ الأنصاري(قدس سره) حیث قال: «المقدّمة: لغة اسم فاعل من قدّم، أو اسم مفعول منه. فعلی الأوّل، لابدّ من تمحلّ، إمّا بالقول بأنّها من کثرة ارتباطها إنّما قدّمت نفسها، فیکون قدّم علی ما هو المعهود من استعماله متعدّیاً. وإمّا بالقول بأنّ قدّم بمعنی تقدّم، فیکون التفعیل للتکثیر کما في قوله تعالی: ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ...﴾. یوسف، 23. وعلی الثاني، فلا إشکال لأنّها مأخوذة من مقدّمة الجیش وهي علی الظاهر طائفة من الجیش تقدّم في المسیر لیکون عیوناً لهم من الأعداء، فیکون التفعیل للتعدية، لأنّهم قدّموهم علی أنفسهم. ومن هنا یظهر أنّ التاء فیها للتأنیث من حیث اعتمادها علی موصوف مؤنّث کما في قولهم: باقیة، وساریة، وباغیة، وطاغیة لاعتمادها علی النفس المحذوفة لفظاً. ولیست للنقل کما توهّم لعدم ثبوت النقل أوّلاً، وعدم ثبوتها ثانیاً. أمّا الأوّل، فلأنّ المنساق منها عرفاً واصطلاحاً وإن کان مختلفاً، فإنّ المراد منها اصطلاحاً أخصّ ممّا هو المراد منها عرفاً، إذ لا یلاحظ الارتباط بین المقدّم والمؤخّر في العرف، وفي الاصطلاح لابدّ من ملاحظة الارتباط والتوقّف بینهما، فوجود زید وإن کان سابقاً علی وجود عمرو ولا یکون مقدّمة لوجود عمرو اصطلاحاً إذا لم یتوقّف وجوده علیه ویکون مقدّماً علیه لغة وعرفاً، إلّا أنّ مجرّد الاختلاف لا یقضي بالنقل. وأمّا الثاني فلما قرّر في محلّه. وبالجملة، فالمقدّمة بحسب مصطلح الاُصولیین عبارة عمّا یتوقّف علیه الشيء. والمناسبة بین المعنیین ظاهرة». الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص37 – 38.

الاُصوليين هو: أنّ الآمر إذا أمر بشيءٍ وكانت له مقدّمات بها يحصل ذلك الشيء - بمعنى أنّ هذه المقدّمات واقعةٌ في طريقه وتكون من أجزاء علّة حصوله - فهل يلزم من أمره هذا، الأمر بتلك المقدّمات؟ بحيث لو كانت لفعل مقدّماتٌ كثيرةٌ تكون کلّ واحدة منها واجبة مضافاً إلى وجوب هذا الفعل أو لا؟

ولا يخفى عليك: أنّه بناءً على هذا لا يكون النزاع فرعياً، بل لأنّه يرجع إلى وجود الملازمة بين وجوب شيءٍ ووجوب مقدّماته لا يكون إلّا اُصوليّاً.((1))

وحيث رأى المتأخّرون أنّ الالتزام بوجوب جميع المقدّمات في عرض وجوب ذي المقدّمة ممّا لا ينبغي الذهاب إليه قسّموا الواجب إلى النفسي والغيري تارةً، وإلى الأصلي والتبعي تارةً اُخرى. وأثبتوا للمقدّمة نحواً من الوجوب المساوق مع القول بعدم الوجوب.

والظاهر أنّ تطويل البحث في المقدّمة كما هو دأب المتأخّرين قليل الجدوى إلّا أنّ الاقتفاء لأثرهم لمّا لم يكن خالياً عن كثير فائدة - لأنّ بعض المباحث الّتي تعرضوا لها من حيث هي تعدّ من المباحث العلمية المفيدة - فلا ينبغي طيّ المقال وتركها، فعلينا أن نسلك سبيلهم بحسب الوسع بعون الله تعالى، وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: ليست المسألة اُصولية

يظهر ممّا ذكرناه في موضوع علم الاُصول((2)) أنّ هذه المسألة ليست اُصولية، وإنّما هي من المبادئ الأحكامية، فلا حاجة لإعادة الكلام فيها.

ص: 156


1- هکذا أثبت الشیخ الأنصاري(قدس سره) اُصولیة المسألة، فراجع: الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص37.
2- تقدّم في الصفحة 17 وما یلیها.

الأمر الثاني: أقسام المقدّمة

اشارة

بدأ الاُصوليون في طرح هذا البحث بذكر أقسام المقدّمة، ولعلّه لذكرها في عنوان المسألة بأنّ المقدّمة واجبة أم لا؟ فتعرّضوا أوّلاً لبيان معنى المقدّمة وأقسامها، ثم لبيان أقسام الواجب، ثم دخلوا في أصل البحث.

ولا يخفى: أنّ المناسب في مقام التسمية تسميتها بالمتقدّمة، لأنّ مرادهم بالمقدّمة ما لها تقدّم على شيء آخر، إلّا أنّه يمكن أن تكون تسميتها بالمقدّمة لأجل الإشارة إلى أنّ أصل ذاتها موجب للتقدّم.

وكيف كان، تنقسم المقدّمة إلى أقسام:((1))

منها: الداخلية والخارجية

والمراد بالاُولى: الأجزاء المأخوذة في ماهية المأمور به. وبالثانية: الاُمور الخارجة عن ماهيته ممّا يتوقّف وجود ذي المقدّمة عليها. وقد استشكل في مقام تصوير المقدّمات الداخلية بأنّ المقدّمية نسبة متضایفة محتاجة إلى طرفين أحدهما المقدّمة والآخر ذي المقدّمة. وبعبارة اُخرى: احتياج ذى المقدّمة إلى المقدّمة إضافة لها طرفان: المحتاج إليه وهو المقدّمة، والمحتاج وهو ذو المقدّمة، فلا يعقل أن تكون أجزاء المرکّب مقدّمة للمركّب والحال أنّه ليس إلّا نفس الأجزاء بأسرها وإلّا لزم احتياج الشيء في الوجود إلى نفسه.((2))

والظاهر أنّ هذا الإشكال مأخوذ من الإشكال المعروف من أهل المعقول بالنسبة

ص: 157


1- انظر التقسیمات في القوانین (القمّي، ص100)؛ الفصول الغرویّة (الأصفهاني، ص83 وما بعدها)؛ مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص38 وما بعدها)؛ کفایة الاُصول (الخراساني، ج1، ص139 وما بعدها).
2- راجع: العراقي، نهایة الأفکار، ج2، ص262 – 263.

إلى العلّة التامّة، وبيانه: أنّ من المعلوم أنّ المعلول مغاير لعلّته وممتاز عنها فلا يعقل اتّحادهما معاً، والحال أنّ المادّة والصورة من أجزاء العلّة وهما متّحدتان مع المعلول بل عينه، فيلزم تقدّم الشيء وتوقّفه على نفسه، وهذا هو الدور المحال.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني(قدس سره) بأنّ المقدّمة ليست إلّا نفس الأجزاء بالأسر وهي الأجزاء الملحوظة من حيث التألّف والاجتماع بلا شرط - على نحو عدم الاعتبار لا اعتبار العدم - بحيث تكون بالحمل الأوّلي غير مجتمعة ولا مؤتلفة، وتكون بالحمل الشائع مجتمعة ومؤتلفة في مقابل الأجزاء الملحوظة بشرط الاجتماع والتألّف والتركّب الحقيقي أو الاعتباري وهو ذو المقدّمة.

هذا، ويمكن أن يقال: إنّ المقدّمة تكون کلّ فرد فرد من الأجزاء كالتكبير والقراءة والركوع، فالتكبير مقدّمة والقراءة مقدّمة والركوع مقدمة.

لا يقال: إذا كان هذا الجزء مقدّمة وذلك الجزء الآخر أيضاً مقدّمة وهكذا، فجميع الأجزاء تكون مقدّمة ويعود الإشكال.

لأنّه يقال: إنّ جميع الأجزاء على هذا مقدّمات، لا مقدّمة.

وبالجملة: في المرکّبات الاعتبارية يتعلّق لحاظ الآمر بجميع الأجزاء ويعتبرها واحداً، ثم يأمر المكلّف بإتيان هذا الواحد الاعتباري، فيكون التكبير مقدّمةً له والركوع مقدّمة اُخرى. ولا يلزم من ذلك كون جميع الأجزاء مقدّمةً، بل كون الأجزاء مقدّماتٍ، وذو المقدّمة هذه المقدمات الّتي لها وحدة اعتبارية من جهة أنّ الآمر لاحظها واعتبرها واحداً.

ومن هنا يظهر ما في كلام المحقّق الخراساني(قدس سره) في دفع الإشكال حيث قال: بأنّ المقدّمة نفس الأجزاء بالأسر، وذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع، فالمغايرة حاصلة بينهما.((1))

ص: 158


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص140.

لأنّ المغايرة بين المقدّمة وذيها لا تكون اعتبارية بل تكون حقيقية وما أفاده كافٍ في دفع الإشكال لو كانت المغايرة بينهما اعتبارية، هذا.

وأمّا الوجوب المتعلّق بکلّ جزء من الأجزاء، أي المقدّمات الداخلية، فلا ريب في نفسيته، وذلك لأنّ المرکّب إذا كان واجباً بالوجوب النفسي فكلّ جزء من أجزائه يكون واجباً كذلك أيضاً لا محالة وملوّناً بهذا اللون، لأنّ المرکّب ليس إلّا تلك الأجزاء.

ولا يبقى بعد كون کلّ جزء من أجزاء المرکّب واجباً بوجوبه النفسي مجالٌ للوجوب الغيري؛ إذ الوجوب إنّما يترشّح من ذي المقدّمة إلى المقدّمة إذا لم تكن المقدّمة واجبة.

ومن هنا يظهر فساد القول بالوجوب النفسي والوجوب الغيري معاً.((1)) وإن كان أضعف الاحتمالات في المقام احتمال وجوب الأجزاء بالوجوب الغيري، لأنّ الأجزاء - وهي نفس الكلّ - لو كانت واجبة كذلك لزم أن لا يكون لنا واجب بالوجوب النفسي، فكيف يتولّد منه ذلك الوجوب الغيري؟ فتدبّر.

ومنها: العقلية و العادية والشرعية

أمّا المقدّمة العقلية، فهي: ما يمتنع وجود ذيها بدونها.

وأمّا الشرعية، فقد توهّم أنّها كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فإنّ الصلاة بنفسها قابلة للتحقق والوجود ولو بدون الطهارة، إلّا أنّ الشارع لمّا جعل الطهارة شرطاً لها فلا تتحقق شرعا إلّا بها.

ولكن لا يخفى: أنّه لا يكاد أن تنال يد الجعل المقدّمية وعدمها. فلا يمكن للشارع أن يتصرّف في مقدّمية شيءٍ لشيء بجعله مقدّمة له أو نفيها عنه، فلو كان شيء مشروطاً بشيء واقعاً فلا ينقلب عمّا هو عليه بسبب تصرف الشارع فيه، فإلغاؤه تلك الشرطية لا يصير سبباً لحصوله من دون ذلك الشرط.

ص: 159


1- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص86.

نعم، يمكن للشارع أن يأمر بعنوانٍ يصدق على هذه الأفعال الخارجية المخصوصة الّتي من ضمنها الطهارة فلا يصدق على غيرها، من غير أن يأخذ شيئاً شرطاً للمأمور به. فعدم انطباق عنوان المأمور به على تلك الأفعال من غير طهارة محفوظ وباقٍ على حاله من دون حاجة إلى اشتراط شيء فيه أو جعله مقدّمة له.

وأمّا تقييد المأمور به بقيد أو شرط شرعاً بحيث يستحيل تحقّقه بدونه، فهو راجع إلى القسم الأوّل أي المقدّمة العقلية. وعلى کلّ حال ليس للمقدّمة الشرعية معنى محصّل.

وأمّا العادية، فقد توهّم أنّها كالصعود على السطح فإنّه لا يمكن عادة إلّا بنصب السلّم وإن كان يمكن عقلاً بالطيران.

ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ الصعود على السطح بالنسبة إلى غير المتمكن من الطيران ممتنع عقلاً إلّا بتوسّط نصب السلّم وأشباهه، فهي راجعة إلى العقلية أيضا.

ومنها: مقدّمة الوجود، والصحّة، والوجوب، والعلم

أما مقدّمة الوجود، فهي ما يتوقّف عليها وجود ذيها بمعنى استحالة وجوده إلّا في ظرف وجودها كنصب السلّم بالنسبة إلى الكون على السطح.

وأمّا مقدّمة الصحّة، فهي الّتي يمكن وجود ذيها بدونها لكن صحّته متوقّفة عليها، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.

وأمّا مقدّمة الوجوب، فهي ما يتوقّف عليها وجوب ذيها.((1))

وأمّا مقدّمة العلم، فهي ما يتوقّف عليها العلم بحصول الواجب، كإدخال شيءٍ أزيد ممّا بين قصاص الشعر وطرف الذقن في غسل الوجه طولاً، وشيء أزيد ممّا دارت عليه الإبهام والوسطى عرضاً لتحصيل العلم بغسل المقدار الواجب. وكالوضوء من الإناءين المعلوم كون أحدهما مضافاً لتحصيل العلم بحصول الوضوء بالماء المطلق.

ص: 160


1- مثل: الاستطاعة بالنسبة إلی الحجّ.

ولا يخفى عدم وجود فائدة في هذا التقسيم؛ وذلك لأنّ مقدّمة العلم لا تكون ممّا يتوقّف عليها وجود الواجب، فلا يمكن ترشّح الوجوب عليها من قبل وجوب ذيها؛ لأنّ من الممكن الوضوء من أحد الإناءين المشتبهين واتّفاق كونه الماء المطلق. فالقول بوجوب الوضوء منهما لا يكون من جهة المقدّمية المقصودة، بل من باب حكم العقل بالوضوء منهما إرشاداً لتحصيل العلم بالبراءة.

وأمّا مقدّمة الوجوب، فخارجة عن محلّ النزاع أصلاً؛ لأنّ ذي المقدمة لا يتصف بالوجوب قبل وجودها حتى يترشّح عليها وجوبه، وبعد وجودها لا يعقل ترشّح الوجوب عليها، لأنّه تحصيل الحاصل.

وأمّا مقدّمة الصحّة، فإن قلنا في باب الصحيح والأعمّ بوضع ألفاظ العبادات للصحيح فلا ريب في رجوعها إلى مقدّمة الوجود. وأمّا إن قلنا بوضعها للأعمّ فالمقدّمة تكون مقدّمة لوجود الواجب بالحمل الشائع، فلا يتحقّق الواجب بدونها، فترجع بناءً على الأعمّ أيضاً إلى مقدّمة الوجود.

ومنها: المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة

تنقسم المقدّمة بتقسيم آخر إلى المقدّمة الحاصلة قبل وجود ذيها، وإلى المقدّمة المقارنة، له وإلى المقدّمة المتأخّرة عنه.

وحيث إنّ المقرّر في محلّه عدم إمكان تقدّم المعلول على العلّة لا رتبة ولا زماناً بل اللازم وجوب تقدّمها على المعلول تقدّماً طبعياً أشكل الأمر في المتأخّرة بل في المقدّمة المتصرّمة حين وجود ذيها أيضاً؛ لأنّ من الواضح لزوم تقارن العلّة والمعلول زماناً في الوجود وإلّا فتبطل العلية والمعلولية والمسانخة بينهما.((1))

وأفاد في الكفاية في دفع الإشكال - بعد تقسيمه الموارد الّتي توهّم انخرام

ص: 161


1- راجع: الرشتي، بدائع الأفکار، ص31.

القاعدة العقلية فيها إلى ما كان المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف، وإلى ما كان شرطاً للوضع، وإلى ما كان شرطاً للمأمور به - ما حاصله: إنّ كون شيءٍ شرطاً للتكليف متقدّماً عليه أو متأخّراً عنه، مثل القدرة على المأمور به حين الفعل، ليس معناه كون وجوده الخارجي شرطاً، بل المراد لحاظه ووجوده ذهناً. فالآمر في مقام التكليف إذا لاحظ قدرة المكلّف حين الإتيان بالفعل صحّ منه التكليف والأمر. فشرط التكليف متقدّماً كان أو متأخّراً أو مقارناً ليس إلّا لحاظه ووجوده الذهني المقارن مع المشروط.

أمّا كون الشيء شرطاً للمأمور به، فليس معناه إلّا أنّ الآمر يعتبر وينتزع بسبب إضافة المأمور به إلى ذلك الشيء وتعقّب ذلك الشرط له عنواناً منه يكون بذلك العنوان حسناً ومتعلّقاً للغرض.

كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى الوضع، كالإجازة بالنسبة إلى العقد الفضولي فإنّ معنى شرطيتها له ليس إلّا أنّ لحاظها متأخّراً عنه موجب لصحّة اعتبار الملكية وانتزاعها من العقد. هذا ملخّص ما أفاده(قدس سره).((1))

وأمّا تحقيق الحقّ في المقام فسيجيء في نهاية البحث عن التقسيم الآتي للمقدّمة، إن شاء الله تعالى.

ومنها: تقسيمها إلى السبب، والشرط، وعدم المانع، والمُعِدّ

ص: 162


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص145 – 148. وهکذا تفصّي عن الإشکال في بعض فوائده (المطبوع ضمن حاشیته علی الرسائل، ص302). وقال في نهایة الجواب: «وبالجملة قد انقدح ممّا حقّقناه حال الشرط في أبواب العبادات والمعاملات، وأنّه عبارة عمّا بلحاظه تحصّل للأفعال خصوصیّات بها تناسب أحکامها المتعلّقة بها. وقد انحلّ به الإشکال والتفصّي عن العویصة والإعضال، والحمد لله تعالی علی کلّ حال. ولعمري أنّ هذا تحقیق رشیق ومطلب شامخ لا یناله إلّا ذو النظر الدقیق بالتأمّل فیما ذکرناه من التدقیق، فعلیك بالتأمّل لعلّك تعرف حقیقة المرام، وعلی الله التوکّل وبه الاعتصام».

قسّموا المقدّمة بلحاظ آخر إلى السبب، والشرط، وعدم المانع، والمعدّ.

فالأوّل: ما يلزم من وجوده الوجود و من عدمه العدم.((1))

والثاني: ما يلزم من عدمه عدم ذي المقدّمة، ولا يلزم من وجوده وجوده.

والثالث: ما يلزم من وجوده عدمه.

والرابع: ما يلزم من وجوده وعدمه وجوده.

وبعبارة اُخرى: إذا كان الشيء مؤثّراً في وجود شيءٍ آخر، وكان منه وجود ذلك الشيء، نسمّيه بالسبب.

وإذا كان وجوده موجباً لحصول قابلية الوجود للشيء، نسمّيه بالشرط.

وإذا كان عدمه موجباً لحصول تلك القابلية، نسمّيه بالمانع. فعدمه مقدّمة لحصول ذي المقدّمة.

وإذا كان وجوده وعدمه موجباً لهذه القابلية كالأقدام بالنسبة إلى الكون في المسجد، نسمّيه بالمعدّ.

حقيقة المعدّ، وعدم المانع، والسبب

لا يخفى: أنّه على مسلك أهل المعقول يكون المعدّ وعدم المانع راجعاً إلى الشرط؛ لأنّ الشرط على اصطلاحهم هو الفاعل الّذي يكون به الوجود في مقابل المقتضي الّذي يكون منه الوجود. وهو إمّا من متمّمات فاعلية الفاعل، أو من مصحّحات قابلية القابل. كما أنّ السبب المذكور في كلام الاُصوليين يكون أخصّ من السبب المذكور في عرف أهل المعقول؛ لأنّ السبب على اصطلاحهم يطلق على المقتضي وما يكون منه

ص: 163


1- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص100، وأضاف فیه قید «لذاته».

الوجود سواء أثّر في المسبّب وأوجده أم لم يوجده لفقدان شرطٍ من شرائط وجوده. وأمّا على اصطلاح الاُصوليّين فالسبب هو المقتضي المؤثّر في الوجود، أي العلّة التامّة، ولذا مثّلوا له بحركة اليد لحركة المفتاح.

وعلى کلّ حال، تعريف الاُصوليين للمعدّ بأنّه ما يلزم من وجوده وعدمه الوجود لا يخلو عن المناقشة؛ لأنّ المعدّ مثل وضع الأقدام ورفعها للكون في المسجد لا يكون إلّا وجوداً واحداً، لأنّه حركة واحدة كسائر الحركات، فكما أنّ الحركة في الكمّ والكيف وفي الجوهر - على القول بها - لا تُعدّ وجوداً وعدماً بل تكون حركة واحدة ووجوداً واحداً، كذلك وضع القدم ورفعه لا يكون إلّا حركة واحدة ووجوداً واحداً كما لا يخفى.

المقدّمة السببیّة في الأفعال التوليدية

يظهر من مثالهم بحركة اليد والمفتاح للمقدّمة السببیّة في الأفعال التوليدية أنّ مرادهم بالسبب ما كان متعلّقاً لاختيار العبد. ولا يخفى أنّه بعد الاعتراف بأنّ حركة اليد - وهي العرض القائم بوجود اليد - وجودها غير وجود حركة المفتاح - وهي العرض القائم بوجود المفتاح - وأنّ لازم ذلك كون الإيجاد أيضاً متعدّداً، لأنّ الإيجاد والوجود واحد ولا فرق بينهما إلّا أنّ الوجود إذا نسب إلى الفاعل يقال له الإيجاد، ومن دونها يقال له الوجود، يكون صدق السبب والمسبّب على مثل حركة اليد وحركة المفتاح موقوفاً على تعدّد جهة صدورهما من الفاعل، وأمّا لو قلنا بأنّ الصادر منه لا يكون إلّا واحداً ولم يصدر من الفاعل غير فعل واحد وعمل واحد، فلا يصحّ أن يقال بترشّح الوجوب من أحدهما إلى الآخر. فصدق المقدّمة السببیّة في الأفعال التوليدية يتوقّف على صدق تعدّد صدور الفعل من الفاعل.

ص: 164

الأمر بالمسبّب في الأفعال التوليدية

الأمر بالمسبّب في الأفعال التوليدية((1))

لا يخفى عليك: أنّ النزاع في وجوب المقدّمة السببیّة لا يصحّ إلّا بعد الفراغ عن النزاع في أنّ الأوامر المتعلّقة بالمسبّبات ظاهراً تكون متعلّقة بها واقعاً ولُبّا أيضاً أو أنّها بحسب الواقع متعلّقة بالأسباب، فعلى القول الأوّل يأتي النزاع في وجوب السبب من باب المقدّمية، وأمّا على القول الثاني فلا مجال للنزاع المذكور.

بيان ذلك: أنّ القوم اختلفوا فيما إذا تعلّق الأمر بالمسبّب ظاهراً في أنّ متعلّقه هل هو المسبّب حقيقة، أو هو السبب وإن كان متعلّقه ظاهراً هو المسبّب على أقوال:

أحدها: وجوب المسبّب مطلقاً.((2))

ثانيها: وجوب السبب مطلقاً.((3))

ثالثها: التفصيل((4)) بين ما إذا كان بين السبب والمسبّب فاعل بالطبع أو الإرادة كما في صورة الأمر بإلقاء شخص في النار للإحراق أو إلقائه إلى السبع، وبين ما لم يكن كذلك بل كان صدوره منه بلا واسطة شيءٍ من هذا القبيل. فعلى الأوّل يكون الأمر بالمسبّب كالإحراق مثلاً أمراً بالسبب وهو الإلقاء لا محالة، لأنّ الإحراق أو الإتلاف فعل النار والسبع، فلا يتعلق الأمر به واقعاً. وعلى الثاني

ص: 165


1- انظر البحث الکلامي في ذلك في کشف المراد للعلّامة الحلّي(رحمه الله)، المسألة السابعة من الفصل الثالث في أفعاله تعالی. وأیضاً نهج الحقّ وکشف الصدق للعلّامة، المطلب السادس عشر من المبحث الحادي عشر. وقال فیه: «ذهبت الإمامیة إلی ان المتولد من افعالنا، وخفالت اهل السنه فی ذلک، وتشعبوا فی ذلک وذهبت الاشاعرة الی ان المتولد من فعل الله تعالی...الخ
2- العاملي، معالم الدین، ص57.
3- نقله صاحب المعالم واستشکل علیه في المصدر نفسه (العاملي، ص58).
4- المفید، أوائل المقالات، ص125؛ الشاطبي، المواقفات في اُصول الشریعة، ج1، ص193ومایلیها؛ الحائري الیزدي، درر الفوائد، ص119 - 122.

يكون الأمر متعلّقاً بالمسبب واقعاً كما هو متعلّق به ظاهراً. وعلى هذا يتّجه النزاع في المقدّمة السببیّة.

ولكنّ التحقيق هو: أنّ متعلّق الأمر ليس إلّا نفس المسبّب؛ وذلك لأنّ ما استدلّوا به لرجوع الأمر إلى السبب ومنع رجوعه إلى المسبّب: إمّا أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بالمقدور والمسبّب ليس بمقدور.((1))

فجوابه: أنّ المقدور بالواسطة مقدورٌ.

وإمّا أنّ الأمر لا يتعلّق إلّا بما هو فعل للمكلّف والمسبّب ليس فعلاً له؛((2)) لأنّه لو كان فعله، لما انفكّ عنه في بعض الأحيان، كما إذا رمى سهماً ومات الرامي بعد رميه فأصاب شخصاً، فلو كان القاتل والفاعل هو الرامي لما جاز حصول القتل والفعل بعد موته، لاستحالة انفكاك المعلول عن علّته زماناً فهذا كاشفٌ عن عدم كون الرامي وأمثاله - فيما كان من هذا القبيل - فاعلاً بل الفاعل هو السهم.

فجوابه: أنّ الأمر لا يصدر من المولى إلّا لأن يكون داعياً وباعثاً نحو الفعل المأمور به، وأن يبعث العبد إلى إرادة المأمور به أو إلى ما يتوصّل بسببه إليه، فإذا كان ذلك ملاك الأمر فلا مانع من تعلّق الوجوب بالمسبّب.

ويظهر من كلمات الاُصوليين سيّما المثال الّذي مثلّوا به في المقام أنّ النزاع في المقدّمة السببیّة واقع فيما إذا كان السبب والمسبّب من الأفعال التوليدية، بمعنى عدم توسّط إرادة اُخرى بين السبب والمسبّب. ولا يكون في البين غير إرادة المكلّف المتعلّقة بالسبب، كما إذا رمى شخصاً بسهمٍ فأصابه وخرق قلبه فمات ذلك

ص: 166


1- العاملي، معالم الدین، ص58؛ الشاطبي، الموافقات في اُصول الشریعة، ج1، ص191 – 193.
2- راجع: الحائري الیزدي، درر الفوائد، ص120.

الشخص، ففي مثله وإن كان للموت وجود ولخرق قلبه أيضاً وجود مستقلّ وللإصابة أيضاً وجود وللرمي وجود كذلك وهكذا، وكذلك لکلّ من هذه الوجودات إيجادٌ خاصّ؛ لاتّحاد الإيجاد والوجود لما مرّ من أنّ الفرق بينهما ليس إلّا أنّه إذا نسب ما وجد إلى فاعله وموجده يسمّی بالإيجاد، وإذا نسب إلى نفسه يسمّی بالوجود. ولكن متعلّق الإرادة لا يكون إلّا الرمي. وأمّا الإصابة المترتّبة عليه والخرق المترتّب عليهما والموت المترتّب عليها فغير متعلّقة للإرادة، غير أنّه بيّنّا أنّه لا مانع من تعلّق الأمر بالمسبّب حقيقة.

فإن قلت: إنّ الأمر لابدّ وأن يتعلّق بما هو فعل للمكلّف.

قلت: يكفي في ذلك انتسابه إليه، فكما يصحّ أن يقال: إنّه رمى، يصحّ أن يقال: إنّه خرق وإنّه قتل، هذا.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ السبب على مذاق الاُصوليّين هو ما كان من قبيل الرمي بالنسبة إلى القتل، وفي مثله لا يلزم تقارن السبب والمسبّب زماناً. وهذا بخلاف ما لو اُريد من السبب العلّة الموجدة وفاعل الشيء الّذي يكون منه الوجود؛ لأنّه يلزم منه تقارن العلّة والمعلول زماناً قطعاً، لعدم إمكان تحقّق ضرورة الإيجاب للعلّة من دون تحقّقها للمعلول. وإذا كان الحكم بالنسبة إلى السبب على ذوق الاُصوليين هكذا، فما ظنّك بالشرط؟

التحقيق في حقيقة الشرط

إنّ شرائط التكليف في الحقيقة: قيود وأوصاف ترجع إلى المكلّف أو المكلّف به، فتخرج عن دائرة الحكم والتكليف وتدخل في دائرة الموضوع، ولا شبهة في تأخّر الموضوع عن الحكم وجوداً، ولكنّه مقارن له حين الحكم عليه بالإمكان. فلا يصحّ

ص: 167

تكليف المولى عبده إلّا بعد إحراز وجودها تصوّراً في المكلّف، وهي مثل القدرة والعقل والبلوغ من الشرائط العامّة. ولازم وجودها إمكان التكليف والبعث من قبل المولى.

وبعبارة اُخرى: شرط التكليف قيد في المكلّف أو في المأمور به ووصف فيهما يوجب وجوده صحّة حمل المحمول على الموضوع في قضيّة: «التكليف ممكن».

إشكال الشرط المتقدّم والمتأخّر

بعد ما عرفت من أنّ الشرط قيد ووصف للمكلّف أو المكلّف به تعرف بأنّه بناءً على ما حقّقناه لا يلزم منه تقارن الشرط والمشروط زماناً بل من الممكن تقدّمه على المشروط (والتكليف) وتأخّره عنه؛ لأنّه لا يكون علّة للوجود، بل موجب لصحّة انتزاع إمكان التكليف. وأمّا ما يلزم تقارن وجوده مع المشروط زماناً فهو العلّة الموجدة للشيء، هذا بالنسبة إلى شرط التكليف.

وأمّا شرط المأمور به فكون شيء شرطاً فيه يمكن أن يكون على أنحاء:

أحدها: أن يكون المراد من شرطية شيءٍ فيه كون المأمور به مقيّداً به على نحو يكون القيد خارجاً والتقيّد داخلاً، كما في صورة الأمر بالصلاة مقيّدة بالوضوء، أو الأمر بإتيان المرأة الصوم مقيّداً بالغسل.((1)) ففي مثل هذا الفرض لا مانع من تقدّم الشرط أو تأخّره عن المشروط، فكما أنّ من الممكن أن يأخذ الشارع شيئاً قيداً للمأمور به مقارناً له، كذلك لا مانع من أخذ شيءٍ متأخّرٍ عن المأمور به أو متقدّمٍ عليه قيداً له. فإذا أتى المأمور بالأمر المتقدّم أو المتأخّر مع نفس المأمور به فقد أتى بما هو وظيفته، وإلّا فلا.

ص: 168


1- في الاستحاضة الکثیرة، وهو شرط متأخّر لصحّة صوم المرأة، وقد أفتی به جمع من الفقهاء، راجع: العاملي، مفتاح الکرامة، ج1، ص397.

ثانيها: أن يكون المراد من شرطية شيء في المأمور به دخله في انتزاع عنوانه الاعتباريّ وانطباقه على معنونه. فمعنى شرطيّة ذلك الشيء له عدم اعتبار ذلك العنوان وانتزاعه إلّا في ظرف وجود هذا الشيء مقارناً له أو متقدّماً عليه أو ملحوقاً به، فالصوم المأمور به مثلاً أمر انتزاعي اعتباري لا ينتزع من هذه الإمساكات المخصوصة إلّا في ظرف لحوق الغسل به، والشارع لا يعتبر ذلك إلّا على هذه الكيفية.

ثالثها: أن يكون الشرط دخيلاً في وجود المشروط. وهذا هو الّذي لا يمكن تأخّره عن المشروط بل اللازم تقدّمه عليه تقدّماً وجوبيّاً، فيتقدّم عليه طبعاً ويقارنه زماناً لو كان من الزمانيات. وأمّا إذا كان من المجرّدات فلا يتصوّر فيه التقارن الزماني وعدمه. وكأنّه في الكفاية جزم بلزومه مطلقاً.

وأمّا تقدّمه عليه بنحو إذا فرض ضرورة وجود الشرط فرض ضرورة وجود المشروط، وبعبارة اُخرى: تقدّمه عليه تقدّماً إيجابياً فلا يلزم؛ لأنّ ذلك التقدّم لا يكون إلّا في العلّة التامّة وما منه وجود الشيء، هذا.

ولا يخفى عليك: أنّه على النحوين الأوّلين يكون القول بوجوب الشرط وجوباً غيرياً مقدّمياً وهو بعيد عن الصواب؛ لأنّ القيد في القسم الأوّل واجب بوجوب المقيّد، فكما أنّ ذات الصلاة واجبة يكون قيدها أيضاً واجباً. وهذا نظير تعلّق الأمر بمركّب ذات أجزاء، فكلّ واحد من هذه الأجزاء واجب بالوجوب النفسي. وهكذا الكلام في القسم الثاني؛ فإنّ الأمر المتعلّق بالعنوان الاعتباري إنّما هو متعلّق بمنشأ انتزاعه سواء كان منشأ انتزاعه شيئاً واحداً أو مركّباً. هذا تمام الكلام في تقسيمات المقدّمة.

ص: 169

الأمر الثالث: أقسام الواجب

اشارة

للواجب أقسام بحسب تقسيمات مختلفة:

منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط

إعلم: أنّه قد عرّف الواجب المطلق والمشروط بتعاريف((1)) لا يهمّنا البحث عنها وتطويل البيان في ما قيل أو يمكن أن يقال في نقضها وإبرامها، ونخبة القول فيه ما أفاده في الكفاية وهو: أنّ الواجب إذا لوحظ مع شيء فإن كان وجوبه مشروطاً به فهو مشروط بالنسبة إلى هذا الشيء، وإن كان وجوبه غير مشروط به فهو مطلق بالإضافة إليه، من غير فرق بين أن يكون الشيء المشروط به الوجوب من شرائط الوجود كنصب السلّم للكون على السطح، أو من شرائط الوجوب كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ.

فعلى هذا، لا ريب في أنّ الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان للواجب، فيمكن أن يكون الواجب مطلقاً من جهة وبالنسبة إلى شيء، ومشروطاً بالنسبة إلى شيء آخر. وإلّا لو قلنا بأنّ الواجب المطلق هو ما كان وجوبه مطلقاً وغير مشروط بشيء أصلاً، والمشروط ما كان مشروطاً بشيء سواء كان من جميع الجهات مشروطاً أو من جهة واحدة، حتى تكون النسبة بينهما التباين، يلزم منه عدم وجدان واجب مطلق أصلاً؛ ضرورة توقّف کلّ وجوب على شرط من الشروط ولا أقلّ من الشرائط العامّة، هذا.((2))

ص: 170


1- راجع: القمّي، القوانین، ج1، ص100؛ الأصفهاني، الفصول الغرویّة، ص79، الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص43؛ الموسوي القزویني، ضوابط الاُصول، ص83.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص151.
رجوع الشرط إلى الهيئة أو المادّة

لا يخفى عليك: أنّ الواجب المشروط كما عن الكلّ((1)) إلى زمان الشيخ الأنصاري(قدس سره) هو ما كان وجوبه مشروطاً. ولا نزاع بين غير الشيخ من الفقهاء - قدّس سرّهم - في أنّ الشرط في الأوامر المشروطة راجع إلى الهيئة. كما هو ظاهر القواعد الأدبية في مثل: «إن جاءك زيد فأكرمه»؛ فإنّه لا يشكّ أحد في أنّ المعلّق على المجيء جملة أكرمه لا مادّة الإكرام. ولهذا قالوا في مبحث مقدّمة الواجب بأنّا لو قلنا بوجوب المقدّمة، فإنّما هو بالنسبة إلى ما يكون مقدّمة الوجود لا ما يكون مقدّمة الوجوب؛ إذ من الواضح عدم وجوب تحصيل الاستطاعة لو قال المولى: إن استطعت فحجّ، لأنّه لا وجوب للحجّ قبل حصول الاستطاعة حتى يترشّح منه الوجوب إلى تحصيل الاستطاعة.

ولكنّ الشيخ(رحمه الله) منع رجوع الشرط إلى الهيئة، وذهب إلى رجوعه إلى المادّة.((2))

ولمّا رأى أنّ هذا - مضافاً إلى كونه على خلاف مختار الجميع - مخالف للقواعد العربية بل القواعد الأدبية مطلقاً وبحسب کلّ لغة، صار بصدد الاستدلال وبيان ما یدلّ على لزوم كون الشرط قيداً للمادة لبّاً، ثم أشار إلى دقائق أدبيّة ممّا یدلّ على عدم إمكان رجوعه إلى الهيئة، فأفاد لمقصوده الأوّل: بأنّ العاقل بعد التوجه والالتفات إلى شيء إمّا أن تتعلّق به إرادته وطلبه، أم لا. وعلى الأوّل إمّا أن يكون ذلك الشيء مورداً لطلبه مطلقاً، أو على تقدير خاصّ، وذلك التقدير قد يكون من الاُمور الاختيارية، وقد لا يكون. وعلى الأوّل قد يكون ذلك الأمر مأخوذاً في المكلّف به على نحو يكون مورداً للتكليف، وقد لا يكون كذلك. وعلى كلّ حال: فالإرادة والطلب المتعلّق به لا

ص: 171


1- من الفقهاء والاُصولیّین والمتکلّمین وغیرهم، وقد تقدّمت الإشارة إلی بعض مصادرهم آنفاً، وانظر أیضاً: الطوسي، المبسوط، ج3، ص22 في قوله7: «وما کان واجباً... لا یجوز أن یتعلّق وجوبه بشرط مستقبل».
2- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص45. ذکره في الکفایة (الخراساني، ج1، ص152).

يمكن أن يكون مشروطاً بشيء، بل المشروط والمقيّد نفس المطلوب لا الطلب. فلا مانع من كون المراد والمطلوب مشروطاً، بمعنى مطلوبيّته في زمان خاصّ أو في ظرف وجود شيء خاصّ. ثم أفاد لمقصوده الثاني، أي امتناع رجوع القيد إلى الهيئة مستفيداً في ذلك من الدقائق الأدبية:

فمنها: أنّ مفاد الهيئة لا يكون إلّا إنشاء الطلب وإيجاده اعتباراً، والإيجاد والإنشاء في عالم الاعتبار لا يمكن أن يكون مشروطاً بشيء، فلا يصحّ أن يقال: إنّي أوجدته بشرط كذا، أو اُوجده وأنشأه إن كان كذا؛ لأنّ الإيجاد مساوق للوجود والتحقّق ولو في عالم الاعتبار، والاشتراط والتقيّد تعليق للتحقّق، فلا يجتمعان.

ومنها: أنّ مفاد الهيئة - الّذي هو الطلب - معنى حرفي، وقد ثبت في محلّه أنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ، فيكون مفاد الهيئة جزئيّاً حقيقيّاً خارجيّاً، وما هو كذلك لا يمكن إطلاقه ولا تقييده، إلّا في عالم التصوّر والتعقّل، وأمّا في عالم الخارج فلا يعقل ذلك، لأنّه يلزم منه انقلاب الشيء عمّا وقع عليه.

وبعبارة اُخرى: إن كان اللفظ موضوعاً لمعنىً كلّي فبإنشائه يوجد ذلك المعنى الكلّي. وأمّا إن كان موضوعاً لمعنىً جزئيّ فبإنشائه يوجد ذلك المعنى الجزئيّ كما فيما نحن فيه، فإنّ الهيئة موضوعة لأفراد الطلب الخارجي فبإنشائها يوجد فرد من الطلب الخارجي الّذي لا يكون إلّا جزئيّاً حقيقيّاً، ومن الواضح عدم إمكان تقييد الفرد الجزئي.((1))

ومنها: أنّ معاني الهيئات كمعاني الحروف معانٍ آليّة وحالات للغير، والإطلاق والتقييد لا يتصوّر إلّا في المعاني المستقلّة.((2))

ثم إنّه(قدس سره) حيث رأى أنّه لو صحّ ما ذكره يرد عليه إشكال وهو: أنّ ما ذكره من

ص: 172


1- راجع أیضاً: الخراساني، فوائد الاُصول، ج1، ص181.
2- نقلاً بالمضمون عن مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص45 – 46).

المبنى لا يجتمع مع القول بعدم وجوب تحصيل الاستطاعة في الحجّ وغيره ممّا كان من هذا القبيل كتحصيل النصاب في الزكاة؛ لأنّه بعد فرض إطلاق الوجوب يجب على المكلّف الإتيان بالمأمور به مع تمام قيوده، والحال أنّه(قدس سره) موافق للمشهور في القول بعدم ترشّح الوجوب من الحجّ إلى تحصيل الاستطاعة ومن الزكاة إلى تحصيل النصاب. فأفاد في دفع هذا الإشكال بأنّ المطلوب تارة: يكون حصول مصلحته مطلقاً. واُخرى: يكون حصولها مقيّداً بقيد، وذلك القيد تارة: يكون بحيث لو أتى به المكلّف عن تكليف من المولى وكان انبعاثه بسبب أمر المولى يوجب حصول المصلحة كالصلاة المشروطة بالطهارة، فإنّ المصلحة الصلاتية لا تحصل إلّا إذا أتى المكلّف بالطهارة تعبّداً، وثالثة: يكون القيد على نحو لا تحصل المصلحة إلّا إذا أتى المكلّف بقيد المأمور به لا عن تكليف.

وبعبارة واضحة: المصلحة تارة: تحصل بإتيان المأمور به مع قيده بشرط كون القيد مأموراً به، أيضاً، وتارة: لا تحصل إلّا إذا لم يكن كذلك وإنّما كان القيد غير مأمور به فلو كان القيد مأموراً به لم تحصل المصلحة، وما نحن فيه من هذا القبيل، ففي مثله لا يعقل الوجوب وكون القيد مأموراً به، لأنّه يلزم منه نقض غرض المولى، هذا.

ولا يخفى عليك فساد ما تفصّى به عن الإشكال؛ لأنّ المراد بالقيد لو كان هو الجزء العقلي فهو واجب بالوجوب النفسي المتعلّق بالكلّ. ولو كان المراد به ما يتوقّف عليه المقيّد بأن يكون مقدّمة له، أو يكون ممّا لا ينطبق العنوان المأمور به عليه كالصلاة مثلاً إلّا في ظرف وجوده، فبحسبهما وإن كان يمكن توهّم عدم وجوب القيد، إلّا أنّه بعد فرض الوجوب مطلقاً لا ينبغي توهّم ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّ تقييد المأمور به بقيدٍ لا يكون مأموراً به ومشروطيّته بحصول ذلك القيد لكن لا عن تكليف، كلام خالٍ عن الوجه؛ لأنّ تقييد المأمور به بالقيد المشروط

ص: 173

إتيانه عن التكليف حَسَن وموجب لحدوث جهة الحُسن فيه، وأمّا تقييده بالقيد المشروط عدم إتيانه عن التكليف فلا طريق لتصوّر وجه له أصلاً.

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) في وجه عدم وجوب المقدّمة المعلّق عليها الوجوب على مختار الشيخ(رحمه الله): بأنّها وإن كانت من المقدّمات الوجودية للواجب إلّا أنّها قد أخذت على نحو لا يكاد يترشّح عليها الوجوب من ذيها؛ فإنّ الآمر قد جعل الشيء واجباً على تقدير حصول ذلك الشرط ومعه كيف يترشّح عليه الوجوب من جانب ذيها ويتعلّق به الطلب، وهل هذا إلّا طلب الحاصل؟((1))

فبعيد عن الصواب؛ لأنّ ما أفاده لا يدفع إشكال لزوم وجوب هذه المقدّمة مع إطلاق الوجوب، إلّا أن يقال برجوع ذلك إلى تقييد الهيئة وهو على خلاف مختار الشيخ(قدس سره)، فتأمّل.

موارد رجوع الشرط إلى الهيئة أو المادّة

والّذي ينبغي أن يقال: إنّ الملاك والقاعدة لرجوع القيد إلى المادّة لا إلى الهيئة: كون الفعل المقيّد ذا مصلحة أراد المولى حصول تلك المصلحة مطلقاً، ففي هذا الفرض لا يصحّ القيد إلّا برجوعه إلى المادّة.((2))

وأمّا القاعدة والملاك لرجوع القيد إلى الهيئة دون المادّة فعلى أقسام:

منها: أنّ الآمر يطلب فعلاً لدفع أو رفع مفسدة عن المكلّف، لکنّه في ظرف حدوث تلك المفسدة وتوجّهها إليه، فيكون الفعل مطلوباً بنفسه من دون تقييد له بوجود

ص: 174


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص157 – 158. راجع أیضاً: الحاشیة علی الکفایة للحجّتي البروجردي، ج1، ص255.
2- فلا یصحّ إنشاء وجوبه تحت إرادة الشرط.

تلك المفسدة المبغوضة، فدافعيّته عنها ليست مقيّدة بشيء حتى تكون المادّة مقيّدة، وإنّما طلبه ووجوبه - أي الهيئة - مقيّد بحدوث المفسدة. وهذا مثل أن يقول: إن ظاهرت فأعتق رقبة، أو إن فاتتك الصلاة فاقضها، أو إن أفطرت فكفّر؛ فإنّ العتق وقضاء الصلاة والكفّارة موجبة لدفع المنقصة الروحية الحاصلة بسبب الظهار وترك الصلاة وإفطار الصوم ولا تقييد لدافعيّة العتق أو القضاء أو أداء الكفّارة عن هذه المفسدة والمنقصة الروحية، ولكن وجوبها مقيّد بالظهار وترك الصلاة والإفطار.

ومنها: أن يكون الفعل المأمور به ذا مصلحة في جميع الأوقات والأحوال بمعنى سببيّة ذلك الفعل لتحقّق هذه المصلحة كيف ما وقع وأينما وقع، ولكن لأجل وجود المانع لا يمكن البعث إليه إلّا في بعض الموارد. ففي هذا الفرض يكون القيد راجعاً إلى الهيئة لا محالة أيضا، وهذا كاشتراط وجوب الصلاة بالقدرة، فإنّها لو صدرت عن العاجز تكون معراجه وموجباً لقربه، ولكن حيث لا يمكن تحريك العاجز وبعثه نحوها يقيّد الطلب بصورة القدرة، وهكذا بالنسبة إلى التمييز والعقل ونحوهما. وكما إذا كان البعث المطلق نحو الفعل موجباً للعسر كما في الحجّ، فتكون الاستطاعة قيداً للهيئة ولو كان الحجّ ذا مصلحة صدر من المستطيع أو غيره، ولكن حيث إنّ وجوبه على الجميع موجب للعسر فلذلك قيّده الشارع بالاستطاعة. ونحوه وجوب الزكاة، هذا.

مقام الإثبات

إذا عرفت إمكان رجوع القيد إلى الطلب مع إطلاق المطلوب ثبوتاً، يبقى الكلام في مقام الإثبات وفي أنّه هل يوجد في اللغات المتداولة سيّما اللغة العربية الواسعة لفظ يفيد ذلك المعنى أو لا؟ فلو ادّعي إمكان أن يكون لأهل الألسنة سيّما أهل اللسان

ص: 175

العربي مراداً مثل ما ذكر ولم يمكنهم إفادته ولا بيانه، فلا ريب أنّه خلاف الواقع؛ لأنّا نرى بالوجدان أنّ أهل کلّ لغة سيّما العرب يعبّرون في مقام التفهيم - بتوسط الجمل الشرطية - عن مرادهم إذا كان من قبيل ما ذكر. ولو قال لهم قائل بأنّ ذلك محال، لم يقبلوا منه، ويعدّون قوله شبهة في مقابل البديهة وإنكاراً للوجدانيات، فإنّ کلّ أحد يرى من نفسه إمكان إفادة هذا المراد في مقام الإفهام بتوسط إنشاء الجمل الشرطية. وهذا شائع في محاوراتهم واستعمالاتهم من دون أن ينكره أحد. فعلى هذا، لا مجال للاعتناء بالإشكالات المذكورة ودعوى استحالة ذلك؛ إذ كلّها شبهات مقابل البديهة والوجدان. مع أنّ أدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه.

ثم إنّه لا يخفى عليك عدم الفرق في ذلك بين قوله: «أطلب منك الإكرام إن جاء زيد» أو «إن جاء زيد فأكرمه».

نعم، الفرق بينهما كما مرّ من جهة أنّ الطلب في الأوّل وقع تحت لحاظ الآمر مستقلّا أي لاحظه باللحاظ الاستقلالي ثم استعمل لفظ الطلب. وأمّا في الثاني فهو مغفولٌ عنه، وملاحظته مندكّة في ملاحظة المطلوب و أنّ الآمر لا يرى إلّا فعل الإكرام، فينشئ لفظ «أكرمه» من غير التفات إلّا إلى تحقّق الإكرام من المطلوب منه. نعم، يرى الإكرام رؤية من اشتاق إليه ويتوجّه إليه توجّه من يطلبه، كما أنّ الإنسان إذا مشى إلى مسجد يكون حين المشي غافلاً عن مشيه ولا يرى إلّا لكون في المسجد.

ويمكن بعيداً أن يكون مراد الشيخ(قدس سره) من عدم إمكان رجوع القيد إلى الهيئة هذا الفرق الموجود بين النحوين من الأمر. وأنّه حيث إنّ الطلب مغفول عنه فلا يمكن تقييده؛ لأنّ إمكان تقييده ملازم لملحوظيته استقلالاً وهي خلاف الفرض. فحيث إنّ الآمر لا يرى إلّا المطلوب، فلابدّ من أن يكون القيد راجعاً إليه.

ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا أيضاً في الحقيقة يرجع إلى تقييد الهيئة.

ص: 176

تنبيهان

الأوّل: لا ينبغي الارتياب في عدم وجوب مقدّمة الوجوب في الواجب المشروط، وأمّا المقدّمات الوجوديّة فوجوبها لو قلنا بالملازمة تابع في الاشتراط لوجوب ذيها.

الثاني: إنّ مقدّمة الوجوب وما هو شرط للوجوب لا يلزم أن يكون مقدّماً أو مقارناً زماناً للوجوب، بل يلزم أن يكون مقدّماً عليه بالطبع. فعلى هذا، تارة: يكون وجود هذه المقدّمة قبل الوجوب كأكثر المقدّمات الوجودية. واُخرى: يكون بعده. وهذا لا إشكال فيه بناءً على ما سلكه المحقّق الخراساني(قدس سره) في شرائط التكليف،((1)) وعلى ما حقّقناه أيضاً.((2)) والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبي ونعم الوكيل في المبدأ والمآل، وأسأله التوفيق وحسن العاقبة والخاتمة، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

ومنها: تقسيمه إلى المنجّز والمعلّق

قال في الفصول: إنّه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف، ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدورٍ له، وليسمّ منجّزاً. وإلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدورٍ له، وليسمّ معلّقاً كالحجّ؛ فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته، وهو غير مقدورٍ له...،((3)) إلخ.

واستشكل على نفسه بأنّه على هذا لو كان الوجوب فعلياً يلزم تعلّقه بأمر غير مقدورٍ للمكلّف، والحال أنّ القدرة من الشرائط العامّة، فإنّ وجوب الحجّ في شهر ذي

ص: 177


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص145 – 148؛ فوائده (المطبوع ضمن حاشیته علی الرسائل)، ص302.
2- تقدم في الصفحة 162.
3- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص79.

الحجّة لو تعلّق مطلقاً بالمكلّف في شهر ذي القعدة مثلاً، يلزم منه التكليف بما لا يطاق؛ لأنّ الحجّ قبل الموسم غير مقدورٍ له. ولو تعلّق به مشروطاً بمجيء الوقت، فلا وجوب قبله حتى يجب تحصيل الراحلة والزاد.

ودفعه بأنّ ما هو الشرط في صحّة التكليف مقدوريّة المكلّف به في ظرف الامتثال وزمان العمل لا حال البعث والتكليف.

وقد تعرّض أيضاً لإشكال آخر وهو: أنّه لو كان المراد من إطلاق الوجوب قبل الموسم إطلاقه حتى بالنسبة إلى غير القادر ومن يموت قبل الموسم، فهذا تكليف بما لا يطاق. وأمّا إن كان المراد من إطلاقه إطلاقه بالنسبة إلى القادر والواجد للشرط، فإطلاقه مشروط بتحقّق الشرط، فلا يكون وجوباً قبل تحقّق الشرط.

ودفعه بأنّ المراد إطلاق التكليف بالنسبة إلى القادر والواجد للشرط. ولا يلزم منه اشتراط الوجوب بدخول الوقت، بل يمكن أن يكون مشروطاً بأمر اعتباري ينتزع من إدراك المكلّف وقت الامتثال وصيرورته فيما يأتي قادراً، فالشرط كونه بحيث يصير قادراً أو يُدرك الوقت، فالوجوب بذلك الأمر الاعتباري، وهو حاصل قبل دخول الوقت.

غرض صاحب الفصول من التقسيم المذكور

وغرضه من ذلك كلّه تصحيح القول بوجوب الأغسال الليلية للصوم، ووجوب تحصيل الزاد والراحلة قبل الموسم للحجّ؛ لأنّه بما أفاد لا مانع من القول بحالية الوجوب في الصوم والحجّ واستقبالية الواجب.

ولا يخفى: أنّ مبنى هذا التقسيم أنّه(قدس سره) تخيّل عدم إمكان تأخّر شرط الوجوب عن الوجوب في الواجب المشروط. ورأى القول بأنّ الحجّ والصوم من الواجبات المشروطة المتداولة، موجب للقول بعدم وجوب مقدّماتهما الوجودية مثل الغسل

ص: 178

وتحصيل الزاد والراحلة، فقسّم الواجب بالاعتبار المذكور حتى يتمّ القول بوجوب الغسل في الليلة السابقة ووجوب السير إلى الحجّ وغير ذلك.

ولا يذهب عليك: أنّ صاحب الفصول(قدس سره) لم يقسّم الواجب إلى المطلق والمشروط والمعلّق بأن يكون المعلّق قسماً ثالثاً في مقابلهما، حتى يقال: إنّ تقسيمه إلى المطلق والمشروط أمره دائر بين النفي والإثبات، فيلزم من تقسيم الفصول ارتفاع النقيضين وهو محال، بل ما يظهر من الفصول أنّه قسّمه إلى المطلق والمشروط باعتبار، وإلى المعلّق والمنجّز باعتبار آخر.

وكذا لا مجال للقول بأنّه(قدس سره) قد جعل المعلّق قسماً من المطلق؛((1)) لأنّ من الواضح كون المعلّق قسماً للمشروط. وإنّما الفرق بين هذا وسائر أقسام المشروط: أنّ الشرط في المعلّق أمر اعتباريّ موجود في الحال، وهو كونه بحيث يدرك الموسم أو يفي عمره بإدراك الوقت، بخلاف سائر أقسام المشروط؛ فإنّ الشرط فيها لا يتحقّق إلّا بتحقّق زمان الواجب.

فظهر بزعمه(قدس سره) أنّ المعلّق يكون من المشروط وافتراقه مع سائر أقسام المشروط في اعتبارية الشرط فيه ووجوده في عالم الاعتبار قبل مجيء وقت الواجب، هذا.

ولكن لا فائدة لهذا التقسيم ولو سلّم أنّ الاُمور الاعتبارية يمكن أن توجد قبل وجود منشأ اعتبارها (مع أنّ التحقيق أنّ الأمر الانتزاعي الاعتباري لا يتحقّق إلّا بتحقّق منشأ انتزاعه)، لأنّا قد حقّقنا((2)) جواز تأخّر شرط التكليف، عنه. ومراد صاحب الفصول(رحمه الله) من هذا التقسيم تصحيح القول بوجوب بعض المقدّمات،

ص: 179


1- والقائل به هو العلّامة الحائري(قدس سره) في درر الفوائد (ص106).
2- تقدّم في الصفحة 162.

والتفصّي عن الالتزام بوجوب المشروط قبل تحقّق شرطه كوجوب السير إلى الحجّ قبل مجيء ذي الحجّة، فلو قلنا بوجوب السير قبل ذي الحجّة من جهة وجوب الحجّ يلزم تحقّق وجوب الحجّ قبل شرطه - وهو مجيء ذي الحجّة - .

وقد عرفت في ما مضى إمكان ذلك بناءً على القول بجواز تأخّر الشرط عن المشروط، وأنّ أمثال ذلك كثير في الشرعيات، ولا حاجة للتفصّي عن الإشكال المتوهّم فيها إلى التقسيم المذكور.

ومن هنا يظهر عدم لزوم المحال لو التزمنا بقول صاحب الفصول(قدس سره)، كما زعمه بعضهم. ولو دقّقنا النظر لعلمنا أنّ مقصوده من ذلك لا يكون إلّا بيان إمكان فعلية الإيجاب واستقبالية الواجب. وهذا كلام صحيح عبّر عنه بالواجب المعلّق، وإن شئت عبّر عنه بالواجب المشروط. ولا يمكن الذبّ عن الإشكال المذكور في وجوب السير إلى الحجّ وتحصيل الراحلة إلّا على القول بفعلية الوجوب واستقبالية الواجب. أو القول بأنّ أمثال هذه المقدّمات واجبة بالوجوب النفسي لا بالغير، بل وجوبا نفسياً للغير، كما قد يظهر من بعض الأخبار والآيات الدالّة على وجوب هذه المقدّمات.

ثم إنّه قد حكى في الكفاية إشكالاً عن بعض أهل النظر،((1)) والحقّ في الجواب عنه ما أفاده(رحمه الله) فيه. وأمّا الجواب بأنّ إتيان المقدّمات من باب التهیّؤ لإرادة الفعل فيما بعد،((2)) ففاسد جدّاً؛ لأنّ إرادة المقدّمات إرادات تبعية متولّدة من إرادة أصل الفعل وهي الشوق المؤكّد. والله تعالى يعلم الصواب، وهو الهادي إلى ما هو الحقّ في کلّ باب.

ص: 180


1- وهو المحقّق الملّا عليّ بن فتح الله النهاوندي، صاحب تشریح الاُصول کما في حاشیة الکفایة (ج1، ص161).
2- راجع: الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص217. ویستفاد أیضاً من بعض کلمات الفقیه الهمداني(رحمه الله).

ومنها: تقسيمه إلى الأصلي والتبعي

إنّ المحقّق القمّي(رحمه الله) قسّم الواجب إلى الأصلي والتبعي.((1)) ومراده من الأصلي كما يستفاد من كلامه، هو: الواجب الّذي يحصل وجوبه من اللفظ ويثبت من الخطاب قصداً. وأمّا التبعي فهو: الّذي يكون وجوبه غير مقصود للمتكلّم وإن كان يستفاد وجوبه من اللفظ أيضاً.

فالأوّل كقوله: «إن جاءك زيد فأكرمه»، فإنّ دلالته على وجوب الإكرام عند المجيء مقصود للمتكلّم، وقد قصد من الخطاب ذلك.

والثاني، فمثل ما يستفاد من الآيتين الكريمتين: ﴿وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ﴾؛((2)) و ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾؛((3)) فإنّه يستفاد من لحاظ الآيتين معاً كون أقلّ الحمل ستة أشهر، وأمثال ذلك من دلالات الإشارة. فكون أقلّ الحمل ستة أشهر لا يقصد من اللفظ في الآيتين ولكنّهما تدلّان عليه بالالتزام، هذا.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّ محصّل هذا: أنّ الواجب الأصلي هو ما يدلّ اللفظ على وجوبه دلالة أصلية مقصودة للمتكلّم. والتبعيّ ما لم يكن كذلك.

وبعبارة اُخرى: الدلالة الأصلية في جميع الموارد هي: دلالة اللفظ على معناه المقصود للمتكلّم. والدلالة التبعية هي: دلالته على معنى غير مقصود له، ولكن هذا إنّما يتمّ ويصحّ فيما تكون له حقيقة لا من جهة الإنشاء وسببيّته، كأقلّ الحمل. وأمّا مثل البعث والطلب الّذي لا يكون له وجود إلّا بسبب الإنشاء فلا يعقل دلالته عليه تبعاً، فبعد فرض كون تحصّل الطلب بإلقاء اللفظ وإنشائه قاصداً لمعناه لا يمكن تحصّله من غير

ص: 181


1- راجع: القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص100- 101، ومواضع اُخری من کتابه الشریف.
2- البقرة، 233.
3- الأحقاف، 15.

أن يتحقّق إنشاء خاصّ كذلك، فلا يمكن دلالة اللفظ عليه تبعاً؛ لأنّ لازمه دلالة اللفظ على المعدوم، والحال أنّ العدم لا يشار إليه ولا يخبر عنه.

ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّ هذا التقسيم لا يعقل ولا يكون إلّا بحسب مقام الدلالة والإثبات.((1)) وأمّا بحسب مقام الثبوت فلا يمكن تصوّر تقسيمٍ غير تقسيمه إلى النفسي والغيري، فلا مجال للقول برجوع هذا التقسيم إلى مقام الثبوت.((2))

ومنها: تقسيمه إلى النفسي والغيري

وقد يقال في تعريفهما: بأنّ الواجب النفسي هو الّذي وجب لنفسه. والغيري ما وجب لغيره.

واُورد عليه: بأنّه يلزم من هذا التعريف أن تكون الواجبات الشرعية جلّها بل كلّها سوى المعرفة واجبات غيريّة؛ لأنّها ليست مطلوبة بالذات بل تعلّق الطلب بها من أجل فائدة ومصلحة تترتّب عليها، فالصلاة مثلاً واجبة لأجل أنّها موجبة لحصول القرب وصفاء الروح وغيرهما.((3)) وبعبارة اُخرى: يلزم عدم صدق المعرِّف على کلّ ما صدق عليه المعرَّف.

واُجيب: بأنّ الواجب النفسي هو الواجب الّذي لا تكون فائدته ومصلحته وما اُمر لأجله مأموراً به، لأنّه لا يمكن أن يقع تحت الأمر والتكليف، كالتقرّب إلى الله وحصول الدرجات في الجنة، فإنّ هذه الفوائد ليست اختيارية حتى تقع تحت الأمر.

ص: 182


1- کما في القوانین (القمّي، ج1، ص101 – 102) (في مقدّمة الواجب، المقدّمة السادسة والسابعة)؛ والفصول (الأصفهاني، ص82).
2- کما ذهب إلیه في الکفایة (الخراساني، ج1، ص194).
3- انظر الإشکال والجواب عنه في الفصول (الأصفهاني، ص80)؛ هدایة المسترشدین (الأصفهاني، ص193)؛ مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص66).

ولا يخفى ما في هذا الجواب، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور، فحصول القرب وإن كان ممّا لا يقدر عليه المكلّف ابتداءً لکنّه مقدور له مع الواسطة.

والأولى أن يجاب عنه: بأنّ الواجب النفسي هو الّذي تعلّق الإيجاب به بنفسه، بحيث يرى العرف تعلّقه به ابتداءً، وإرادة الآمر بإيجابه انبعاث المكلّف لإتيانه نفسه. والغيري ما كان إيجابه غير متعلّق بنفسه بل يكون متعلّقاً في الحقيقة بغيره، فلا يكون البعث إليه إلّا بعثاً إلى غيره وليس طلبه إلّا طلب غيره.

وبعبارة اُخرى: الواجب الغيري هو ما يمكن أن يقال: إنّه واجب باعتبار وليس واجباً باعتبار آخر، فباعتبار أنّ الطلب تعلّق به ظاهراً هو واجب، وأمّا باعتبار أنّ المطلوب ما كان هو في طريقه بحيث لا يرى العرف للطلب المتعلّق به وجوداً مستقلاً هو ليس بواجبٍ.

والحاصل: أنّ النفسي هو الواجب الّذي تعلّق به الوجوب بنفسه لا لأنّه واقع في طريق غيره، والغيري هو الّذي تعلّق به البعث والطلب لا لنفسه ولا بنفسه حقيقة بل من جهة وقوعه في طريق حصول واجب آخر، فالبعث والطلب فيه يكون راجعاً في الحقيقة إلى واجب آخر هو ذو المقدّمة، ووجوب هذا الفعل الواقع في طريقه يكون مندكّاً وفانياً فيه، بحيث إنّ الآمر لا يرى عند إيجابه إلّا الغير وحصول ذي المقدّمة من المكلّف. ولهذا يمكن أن يقال: بأنّه لا وجوب هنا حقيقة ولا طلب واقعاً، وأنّ الأوامر الغيرية أوامر إرشادية صرفة راجعة إلى الأوامر النفسية. ولو لم نقل ذلك، فلا ريب في أنّ نحو وجود الأوامر الغيرية لا يكون إلّا وجوداً مندكّاً في الغير.

الشكّ في النفسية والغيرية

إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري؟ فتارة: يكون وجوب الغير مقيّداً بشيء

ص: 183

بمعنى كونه مطلوباً في ظرف وجود شيء أو في زمان خاصّ، فلا إشكال في التمسّك بإطلاق الدليل على وجوب ذلك الواجب مطلقاً كان بذلك الغير واجباً أم لا. وتارة: يكون الغير واجباً مطلقاً وعلى کلّ حال، فتمام الشكّ في الواجب راجع إلى أنّه نفسي أو غيري، وفي هذه الصورة ذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله) إلى نفسيّته وجواز التمسّك بالإطلاق لإثبات نفسيّته؛((1)) لأنّ الشكّ واقع في أنّ الواجب هل وجب لأجل الغير أو لا؟ وإطلاق الهيئة يقتضي عدم تقييد وجوبه بذلك.

ولا يخفى ما في جواز التمسّك بالإطلاق في الصورة الثانية؛ لأنّه يلزم منه جواز تقييد المعلول من ناحية علّته فإنّ الواجب الغيري وجوده معلّل بوجود الغير، فلو قلنا بإمكان التمسّك بالإطلاق لإثبات نفسية الواجب - لأنّ كونه غيرياً معناه تقييده بغيره وكونه مترشّحاً منه وهو منفيّ بالإطلاق - يلزم منه وقوع ما هو فى المرتبه السابقة في المرتبة اللاحقة، ووقوع ما هو العلّة في مرتبة المعلول، وبطلانه واضح.

فالنتيجة: عدم الفرق فى الوجوب النفسي والغيري من جهة التمسّك بالإطلاق. وبعبارة اُخرى: وجوب الواجب الغيري معلول لوجوب الواجب النفسي وغير مقيّد بكون غيره واجباً وكونه مترشّحاً منه، بل وجوب الواجب النفسي أي ذي المقدّمة علّة للبعث نحو الواجب الغيري أي المقدّمة، لكن على سبيل الإطلاق وعدم كونه بعثاً مقيّداً بوجوب غيره وإلّا يلزم كون العلّة الّتي هي سبب لوجود المعلول قيداً له وسببا وعلّة لنفسه، فتدبّر جيّداً.

ويمكن دعوى انصراف الهيئة إلى الوجوب النفسي؛ لأنّ العرف لا ينصرف ذهنه عند طلب المولى إلّا إلى نفسيّة طلبه وإرادة المولى انبعاث العبد نحو المبعوث إليه لإتيانه لنفسه.

ص: 184


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص173.
استحقاق المثوبة والعقوبة

لا يخفى عليك: عدم استحقاق المكلّف الثواب بسبب موافقته للأمر النفسي، بمعنى أن يكون له مطالبة الثواب والأجر من المولى وقبح منعه من قبل المولى. وهذا من جهة أنّ العبد مِلْك للمولى، فلو أمره المولى بفعل فامتثل وأطاعه لم يكن للعبد طلب الأجر منه؛ لأنّ المولى تصرَّف في ملكه، وعلى العبد امتثال أمره. بل كلّما اشتدّت العبودية اشتدّ قبح طلب الأجر من المولى، فكيف بمن أنشأ العبد وخلقه وصوّره ونعّمه! وأيضاً الأوامر النفسية كلّها ذات مصالح راجعة إلى العبد، والمولى غنيّ عن إطاعته، فقبيح من مثل هذا العبد طلب الأجر منه، كما أنّه يقبح على المريض الّذي عالجه الطبيب وأعاد صحّة بدنه وسلامته إليه، لكن أمره بشرب المسهل ونهاه عن أكل البطّيخ مثلاً، أن يطلب من ذلك الطبيب الأجر على أنّه أطاع أمره وشَرب المسهل وانتهى عن أكل البطّيخ، بل لا يعدّ ذلك إلّا من نقص العقل.

فالثواب والأجر من المولى لا يكون إلّا رحمة وتفضّلاً منه.

وأمّا التعبير بالأجر في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿هُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾؛((1)) أو الجزاء، كقوله تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ﴾؛((2)) أو الثواب، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ﴾،((3)) فإنّما هو لأجل كمال العناية بهداية العبد، كقوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾.((4))

ص: 185


1- آل عمران، 199.
2- النحل، 97؛ العنکبوت، 7.
3- آل عمران، 145.
4- البقرة، 245؛ الحدید، 11.

فعلى هذا، لا مجال للاعتناء بقول بعض المتکلّمين((1)) من أنّ التكليف تحميل المشقّة والكلفة، فعلى الحكيم إعطاء الأجر للمكلّف. هذا بالنسبة إلى الأوامر النفسية.

وقد اتّضح من ذلك وجه عدم استحقاق الأجر والثواب لو أتى بالأوامر الغيرية ومقدّمات الواجبات النفسية.((2)) نعم، لا مانع من التفضّل من قبله جلّ شأنه.

وأمّا الكلام في استحقاق العقوبة على المخالفة، فلا يخفى أنّ العبد لو خالف أمر المولى فحيث يُعدّ طاغياً عليه وخارجاً عن رسم العبودية يستحقّ العقوبة بذلك، بمعنى أنّ للمولى عقابه. ولو عاقبه فلا يتصوّر قبح في عقابه عبده العاصي، هذا فيما تكون المخالفة مخالفة للواجبات النفسية، أو المحرّمات كذلك.

وأمّا العقاب على ترك المقدّمات ومخالفة الأوامر المتعلّقة بها، فلا مجال له أصلاً؛ لأنّ المخالفة لا تكون إلّا واحدة، فليكن عقابها أيضاً كذلك.

الإشكال على عبادية الطهارات الثلاث

قد اُشكل في الطهارات الثلاث((3)) بأنّ من الواضح كونها من الواجبات الغيرية مع أنّ قصد الامتثال معتبر فيها، وهذا مشعر باستقلالها وأنّ لها امتثالاً مستقلاً، وهذا يتنافى مع غيريّتها ومقدّميّتها.

ص: 186


1- انظر البحث عند المتکلّمین في أنوار الملکوت في شرح الیاقوت (العلّامة الحلّي، ص170) (المسألة الاُولی من المقصد الثالث عشر)؛ وشرح القوشجي علی التجرید (ص284)؛ وشرح المقاصد (التفتازاني، ج5، ص125)؛ وإرشاد الطالبین (الفاضل المقداد، ص413)؛ والمسلك في اُصول الدین (المحقّق الحلّي، ص17).
2- راجع: المستصفی من علم الاُصول لأبي حامد الغزالي، ج1، ص139؛ إشارات الاُصول (لکلباسي، ص72؛ مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص68)؛ کفایة الاُصول (الخراساني، ج1، ص175) (الأوّل من التذنیبان).
3- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص70.

واُشكل((1)) أيضاً بأنّه كيف يمكن الأمر بإتيانها بقصد الامتثال مع أنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى ما هو متعلّقه، فداعوية الأمر نحو الفعل موقوف على قصد الأمر، وقصد امتثال الأمر موقوف على كون الأمر داعياً إلى هذا الفعل، فيلزم منه الدور.

ولا يمكن الجواب عن هذا الإشكال في المقام بما قد يجاب عنه في الواجبات النفسية بتقريب: أنّ من الممكن أن لا يكون قصد الامتثال جزءاً للمأمور به، بل الأمر تعلّق بأصل العمل وعلم من الخارج حصول الإطاعة وتوقّفها على قصد الامتثال، كما عرفت تفصيله في مبحث التعبّدي والتوصّلي.((2)) وأمّا فيما نحن فيه حيث إنّ الأمر الغيري ترشّحي لا يكاد يترشّح إلّا إلى ما هو مقدّمة للواجب، والمقدّمة كما هو الفرض لا تكون إلّا الطهارة مع قصد الامتثال، فلابدّ من تعلّق الأمر الترشّحيّ الغيري بالمقدّمة، وهي نفس العمل مع قصد الامتثال والتقرّب.

ولايمكن التفصّي عن هذا الإشكال بما تفصّى به المحقّق الخراساني(قدس سره) هناك.((3))

وهذا مراد صاحب الكفاية فيما نحن فيه بقوله: «هذا مضافاً إلى أنّ الأمر الغيري لا شبهة في كونه توصّلياً... إلخ».((4))

وغرضه أنّ الأمر التعبّديّ النفسي على ما عرفت سابقاً - في التعبّدي والتوصّلي - هو الأمر المتعلّق بما هو أوسع من الغرض، وهذا بخلاف الغيري فإنّه لا يتعلّق إلّا بما هو محصّل لذي المقدّمة، فلا يكون إلّا توصّلياً صرفاً. فلا يفيد ذلك الجواب في ما نحن فيه. (ويأتي نظير هذا الإشكال على المحقّق الخراساني(قدس سره) في توجيه الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات إذا تعلّق النذر بهما، في ذيل البحث في الشبهة المصداقية).

ص: 187


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص60.
2- تقدّم في الصفحة 120 ومایلیها. و انظر الجواب أیضاً في الکفایة (الخراساني، ج1، ص109 – 110).
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص107.
4- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص177.

والّذي ينبغي أن يقال في الجواب: إنّ إتيان المقدّمات بقصد الامتثال وحصول التقرّب بها لا يكون موقوفاً على الأمر بالمقدّمات، بل إذا أراد المكلّف إتيان ذي المقدّمة بقصد الامتثال والتقرّب تتولّد من تلك الإرادة إرادة ما هو مقدّمته، فيأتي بها لأجل حصول ذيها، وهذا المقدار كافٍ في تحقّق الامتثال وحصول التقرّب.

فلو فرضنا أنّ المكلّف أراد إتيان المقدّمة لكن لا لغرض شهويّ ونفسانيّ بل من جهة أنّه أراد إتيان ذي المقدّمة مع كون إرادته لإتيانه متولّدة من أمر المولى كفى ذلك في الامتثال واستحقّ بذلك الثواب كما يستحقّ بإتيان ذيها.

فلو قام شخص من نومه في الليل مع شدّة البرد وتوضّأ من ماء بارد لصلاة الليل وأدركه الموت قبل الصلاة، وقام شخص آخر في مكان آخر لا تكون برودته بهذه المثابة وتوضّأ وأتى بها، أيجوز عند العقل أن يقال بأنّ الثاني امتثل ولكنّ الأوّل لم يمتثل؟ وهل يجوّز العقل أن یکافئ المولی ويشكر عمل الثاني دون الأوّل؟ هذا.

ولو لم نقل بذلك وقلنا بعدم استحقاق الثواب فالتقرّب والامتثال حاصل على کلّ حال؛ لأنّه لا يتوقّف على ترتّب الثواب. فعلى هذا، لا مانع من إتيان المقدّمة بقصد التقرّب والامتثال من غير تعلّق أمر بها. مع أنّه لو قلنا بتعلّق الأمر بها من جهة مقدّميتها فلا يتحقّق الامتثال بقصد ذلك الأمر بل إنّما يتحقّق لو أراد فعل ذيها ممتثلاً.

نعم، يمكن أن يكون لبعض المقدّمات كالطهارة أمر مخصوص من جهة نفسها، أو أوامر متعدّدة من جهة كونها مقدّمة لواجبات متعدّدة أو مستحبّات مختلفة، فلا مانع من حصول التقرّب والامتثال بقصد الأمر المتعلّق بنفسها أو بسبب قصد الأمر المتعلّق بذيها وإرادتها المتولّدة من إرادة ذيها.

ومن هنا يظهر الجواب عن الإشكال الثاني وهو لزوم الدور، فإنّ المكلّف إذا أتى بالمقدّمة وكانت إرادته لفعلها متولّدة من إرادة ذيها وهذه متولّدة من إرادة امتثال

ص: 188

الأمر كفى ذلك في تحقّق التقرّب وحصول الامتثال. هذا مضافاً إلى أنّنا في مبحث التعبّدي والتوصّلي قد أجبنا عن هذا الإشكال((1)) بعون الله المتعال.

نكتة فقهية: في الوضوء التهيّئي

بناءً على ما حقّقناه - من تحقّق الامتثال والتقرّب بفعل المقدّمة إن كانت إرادته متولّدة من إرادة ذيها وكانت إرادة ذيها متولّدة من إرادة امتثال الأمر المتعلّق به - لا يبعد القول بصحّة إتيان هذه المقدّمة ولو لم يتعلّق الأمر الوجوبي بذيها في حال إتيانها، كالوضوء أو الغسل قبل حضور وقت الصلاة. فلو أراد المكلّف امتثال أمر الصلاة في وقتها وتولّدت من إرادته هذه إرادة الوضوء قبل حضور الوقت فلا يبعد القول بصحّته؛ لأنّ هذا المقدار كافٍ في حصول الامتثال والتقرّب.

وبالجملة: لا مانع من توسعة دائرة امتثال المقدّمة بالنحو المذكور مع كون دائرة امتثال ذيها مضيّقة.

الأمر الرابع: قصد التوصّل أو الموصليّة في وجوب المقدّمة

اشارة

هل يعتبر قصد التوصّل بالمقدّمة في وجوبها؟ وهل الواجب منها خصوص الموصلة؟

لا يخفى: أنّ وجوب المقدّمة بناءً على القول بالملازمة غير مشروط بإرادة فعل ذيها وإن كان يظهر من صاحب المعالم(قدس سره) اشتراط وجوبها بإرادة ذيها.((2))

وذلك لأنّ وجوب المقدّمة لا يكون إلّا وجوباً ظلّياً رشحيّاً ولا يتصوّر بناءً على الملازمة وجوب ذي المقدّمة من غير تعلّق الوجوب إلى مقدّمته، فكما لا يمكن وجود

ص: 189


1- تقدّم في الصفحة 116.
2- العاملي، معالم الدین، ص74 (مبحث الضدّ).

ذي الظلّ مع عدم الظلّ، كذلك لا يمكن وجوب ذي المقدّمة مع عدم وجوب المقدّمة فالمقدّمة، تابعة لذيها في الإطلاق والاشتراط من دون تقييد آخر لها، وهذا واضح لا يحتاج إلى إطالة الكلام. إنّما وقع الخلاف بينهم في متعلّق وجوب المقدّمة وأنّ الواجب هل هو المقدّمة الّتي اُريد بإتيانها التوصّل إلى ذيها فلو لم يقصد من إتيانها هذا لما وقعت على صفة الوجوب، أو أنّ الوجوب تعلّق بمقدّمة يترتّب عليها ذو المقدّمة، فلو لم يترتّب عليها كشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب وعدم كونها متعلّقة له، أو لا يكون شيء منهما معتبراً في تعلّق الوجوب بها؟ وجوه، بل أقوال:

أوّلها: ما هو المنسوب إلى الشيخ الأنصاري(قدس سره) والمحكيّ عن تقريرات بحثه.((1))

وثانيها: مختار صاحب الفصول(رحمه الله).((2))

وثالثها: مختار الكفاية،((3)) وغيرها.

وهناك وجه آخر كما في الفصول وهو: كون متعلّق الوجوب وما يقع متّصفاً بالوجوب خصوص ما قصد به التوصّل إلى ذي المقدّمة مع موصليته إلى ذي المقدّمة.((4))

ولا يخفى عليك: أنّ الوجه الأوّل وإن كان قد نسب إلى الشيخ(رحمه الله) كما توهّم في الكفاية،((5)) ولكن هذا التوهّم إنّما نشأ من عدم التامّل التامّ في كلام صاحب التقريرات؛ فإنّ ما ذكره في هذا المقام (بنحو إن قلت وقلت) صريح في أنّ مراد الشيخ(رحمه الله): توقّف حصول التقرّب بالمقدمة على قصد التوصّل بسببها إلى ذي المقدّمة.

وهذا كلام متين وقد بيّنا وجهه سابقاً. فالمقدّمة إن كانت ممّا لها مطلوبية ونفسية

ص: 190


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص72.
2- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص81.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص182.
4- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص81.
5- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص181 – 182.

ومصلحة ذاتية كالوضوء والغسل يحصل التقرّب بفعلها تارة بإرادة أمرها النفسيّ. وتارة اُخرى بإرادة التوصّل بسبب فعلها إلى ذيها وإن لم تكن ممّا لها مطلوبية نفسيّة، فلا يمكن التقرّب بها إلّا بإرادة التوصل بسبب فعلها إلى ذيها. فعلى هذا، يسقط ما أورده المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية على الشيخ(قدس سره).((1))

وأمّا الكلام في أصل المطلب، فلا يكون محتاجاً إلى بيان؛ لأنّ عدم توقّف اتصاف المقدّمة بالوجوب على قصد التوصّل أوضح من أن يخفى، ولا ينبغي توهّم اعتباره لأحد بعد فرض كون المقدّمة ما يتوقّف عليها وجود ذي المقدّمة، وأنّ توقّفه عليها لا يكون إلّا بذات المقدّمة من غير دخل لهذا القصد وعدمه فيه. فالحقّ ما ذهب إليه وأوضحه في الكفاية.

وأمّا الوجه الثاني، وهو: أنّ المقدّمة لا تقع واجبة إلّا إذا ترتّب عليها ذو المقدّمة، ولا تقع على صفة الوجوب لو لم يترتّب عليها ذو المقدّمة. وليس معنى ذلك أنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة مشروط بترتّب ذي المقدّمة عليها، بل معناه أنّ الوجوب مطلق ولكنّ المقدّمة لا تقع على صفة الوجوب إلّا إذا كانت موصلة وترتّب عليها ذيها.

وقد بنى على ذلك في الفصول وجوب المقدّمة المحرّمة الّتي توقّف عليها واجب أهمّ لو ترتّب ذلك الواجب عليها، بخلاف ما لو لم يترتّب عليها ذو المقدّمة فتكون المقدّمة باقية على حالها من الحرمة. فلو أتى بهذه المقدّمة بزعم ترتّب ذيها عليها فاتّفق

ص: 191


1- لا یخفی، أنّ صاحب التقریرات قد استفاد ممّا ذکر في المقام إباحة المقدّمة المحرّمة المنحصرة لو قصد بفعلها التوصّل إلی ذیها، وبقاء حرمتها علی حالها لو لم یقصد بفعلها التوصّل إلی ذیها، وهذا کما تری موافق لما استفاده المحقّق الخراساني من التقریرات. ولکنّ الحقّ بعد ملاحظة جمیع ما ذکر في المقام ما حقّقه سیّدنا الاُستاذ دام ظلّه العالي. ویمکن أن یکون ذلك التفریع من قبیل سهو القلم، فراجع التقریرات. [منه دام ظلّه العالي].

عدم ترتّبه عليها فقد ارتكب فعلاً محرّماً، ولكن حيث زعم انطباق الواجب عليها يكون معذوراً ولا يعاقب عليه. كما أنّه لو لم يرتكب المقدّمة مع علمه بتوقف ذيها عليها وظهر فيما بعد أنّه لو فعلها أيضاً لما ترتّب ذو المقدّمة عليها، فليس عليه شيء. نعم، هو متجرٍّ بتركه فعلاً قَطَع بوجوبه.((1))

وفيه: أنّه إن اُريد بالموصلية أنّ للمقدّمة فردين، أحدهما: ما يترتّب عليه ذو المقدّمة وتكون موصلة إليه. والآخر: ما ليس كذلك. وقد تعلّق الوجوب المطلق بالأوّل لا بنحو أن تكون الموصلية قيداً له ويكون متعلّق الأمر مركباً من نفس المقدّمة وموصليّتها، بل الموصليّة لا تكون إلّا عنواناً يشار بها إلى ذلك الفرد، فهذا يرجع إلى أنّ المقدّمة الّتي تعلّق بها الوجوب من قبل ذي المقدّمة ليس إلّا ما يلزم من وجوده وجود ذي المقدّمة ومن عدمه عدمه، وهذا تفصيل بين السبب وغيره أي بين الأفعال التوليدية وغيرها، وقد تقدّم فساد ذلك التفصيل.((2))

وإن اُريد بالموصليّة أنّ الوجوب تعلّق بجميع أفراد المقدّمة لكن بقيد كونها موصلة وترتّب ذي المقدّمة عليها، حتى يكون متعلّق الوجوب: المقدّمة المقيّدة بالموصليّة، فلازم هذا أنّه لو كان لواجب نفسي آلاف من المقدّمات أن يترشّح منه إلى جميع تلك المقدّمات مع قيد الموصليّة آلاف من الوجوبات الغيرية، وحيث إنّ هذا القيد لا يحصل إلّا في ظرف إتيان المكلّف بذي المقدّمة يلزم أن يتعلّق من هذه المقدّمات بعدد

ص: 192


1- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص81.
2- تقدّم في الصفحة 165 - 166 وما یلیها. ویمکن أن یقال بعدم رجوع هذا إلی التفصیل بین السبب وغیره، فإنّ السبب کما تقدّم علی اصطلاح الاُصولیین هو المقتضي المؤثّر في الوجود أي التامّة، والمراد بموصلیّة المقدّمة لیس هذا المعنی، بل المراد وقوعها في طریق التوصّل إلی ذي المقدّمة وکونها من أجزاء العلّة التامّة الّتي ترتّب علیها المعلول. [منه دام ظلّه العالي].

جميعها وجوب غيريّ مقدّميّ بذي المقدّمة، فيصير ذو المقدّمة مقدّمة لما تكون مقدّمة له ومتوقّفاً على ما يكون متوقّفاً عليه، وهذا دور محال.

الغرض من الأقوال الثلاثة

لا يخفى عليك: أنّ الأقوال الثلاثة المذكورة - أي ما ذهب إليه صاحب المعالم(قدس سره) من كون وجوب المقدّمة مشروطاً بإرادة المكلّف إتيان ذيها، وما نسب إلى الشيخ(رحمه الله) من إطلاق الوجوب وتقييد متعلّقه وكون الواجب ما اُريد به التوصّل إلى ذي المقدّمة، وما اختاره صاحب الفصول(رحمه الله) من كون المقدّمة المقيّدة بالإيصال متعلّقاً للوجوب - إنّما ظهرت لتصحيح العبادة الّتي يتوقّف على تركها فعل الواجب الفوري، كالصلاة الّتي تتوقف على تركها الإزالة. وسيجيء إن شاء الله تعالى التعرّض لذلك على النحو المستوفى في مبحث الضدّ.

ثمرة النزاع

ثمرة النزاع((1))

لا يخفى عدم ترتّب ثمرة على البحث في وجوب المقدّمة؛ فإنّه ولو قلنا بوجوب المقدّمة إلّا أنّ وجوبها ليس إلّا وجوباً تطفّليّاً مندكّاً في وجوب ذي المقدّمة بحيث لا يمكن بالنسبة إليه تصوّر الامتثال والعصيان، كما سيتّضح لك إن شاء الله تعالى.

الأمر الخامس: تأسيس الأصل في المسألة

اشارة

إعلم: أنّه ليس في المسألة أصل يعوّل عليه عند الشكّ؛ فإنّه ليس لوجوب المقدّمة أثر شرعي حتى يستصحب أو تجري فيه البراءة.

ص: 193


1- راجع: الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص81؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص80.

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) من صحّة استصحاب عدم وجوبها؛ لأنّ نفس وجوب المقدّمة يكون مسبوقاً بالعدم حيث يكون حادثاً بحدوث ذيها، فالأصل عدم وجوبها.((1))

ففيه: أنّه إن أراد من استصحاب عدم وجوبها نفي استحقاق المكلّف للعذاب على تركها، فنفي استحقاق العقاب وإثباته ليس من الاُمور التعبّدية حتى يتعبّدنا به. مضافاً إلى أنّ ترك المقدّمة غير موجب لذلك كما أنّ فعلها أيضاً ليس سبباً لاستحقاق الثواب، بل استحقاق الثواب والعقاب راجع إلى امتثال الأمر النفسي وعصيانه.

وإن أراد بذلك نفي فعليّة وجوب المقدّمة، فلا يتمّ أيضاً ما أفاده؛ لأنّه بعد الالتزام بأنّ وجوب المقدّمة - على القول به - لا يكون إلّا ظلّا لوجوب ذيها، كيف يمكن نفي فعلية وجوبها مع بقاء فعلية وجوب ذي المقدّمة؟

وبالجملة: فلا فائدة لإجراء الاستصحاب؛ لأنّه لو تعلّق الوجوب بالمقدّمة واقعاً فلا يمكن نفي فعليته بسبب الاستصحاب بعد فرض بقاء فعليّة ذي المقدّمة، وإن لم يتعلّق الوجوب فلا فائدة لذلك.

هذا، مضافاً إلى أنّ نفي فعليّة وجوبها بالاستصحاب لا فائدة له أصلاً؛ لأنّ على المكلّف الإتيان بالمقدّمة على کلّ حال من جهة توقّف الواجب عليها قلنا بوجوبها الغيري أم لا.

تحرير محلّ النزاع

بعد ما عرفت المقدّمات، ندخل في أصل البحث، وقبل ذلك نحرّر محل النزاع بأنّه هل يتوجّه من قِبل الأمر بالواجب أمر إلى کلّ مقدّمة من مقدّماته؟ بمعنى أنّ العقل

ص: 194


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص199.

يحكم بأنّ لازم ذلك تولّد أمر واحد من الأمر بالواجب لو كانت المقدّمة واحدة، أو أكثر إذا كانت المقدّمات أكثر - ولو كان الآمر غافلاً - أم لا؟

ولا وجه لتوهّم كون النزاع في الوجوب العقلي وأنّ العقل هل يحكم بوجوب إتيان المقدّمة أو لا؟ لأنّ هذا غير قابل للنزاع، لرجوعه إلى اللابدّيّة العقلية ولزوم إتيان المقدّمة بحكم العقل حفظاً من الوقوع في مفسدة ترك ذي المقدّمة. فليس محلّ النزاع ومرجع الاختلاف إلّا الوجوب الشرعي((1)) بالمعنى الّذي ذكرناه.

الأقوال في المسألة

قد اختلفت الآراء والأقوال في المسألة، فذهب بعضهم إلى الوجوب مطلقاً.((2)) وبعضهم إلى عدم الوجوب مطلقاً.((3)) والقول الثالث: التفصيل بين السبب وغيره.((4)) والقول الرابع: التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره.((5))

ص: 195


1- القمّي، قوانین الاُصول، ص101؛ الکلباسي، إشارات الاُصول، ص68 ؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص80.
2- قال المجدّد الشیرازي(قدس سره): «وهو المنسوب إلی الأکثر، بل قد نقل عن الآمدي أنّه نقل الإجماع علیه». تقریرات آیة الله المجدّد الشیرازي للعلّامة الروزدري، ج2، ص392. وانظر ادّعاء إجماع الاُمّة عن الآمدي في الاحکام في اُصول الأحکام (ج1، ص97).
3- قال المجدّد(قدس سره): «والقول بعدمه مطلقاً ، وهو الّذي نسبه الآمدي - علی ما حکي عنه المحقّق الخوانساري - إلی بعض الاُصولیین، وحکي عن ظاهر المنهاج وجود القائل به، وعن عبارة المختصر علی إجمال فیها». ج2، ص292 – 293؛ وانظر ما حکاه القمّي، في القوانین (ج1، ص103) عن البیضاوي في المنهاج، ج1، ص110؛ ومختصر المنتهی لابن الحاجب المطبوع ضمن شرحه للعضدي، ص90.
4- ذهب إلیه في المعالم (العاملي، ص68) بقوله: «إنّا نمنع وجوب ما لا یتمّ الواجب إلّا به مطلقاً بل یختصّ ذلك بالسبب». ونسبه العلّامة إلی الواقفیة، والشریف المرتضی(قدس سره) في نهاية الوصول (ج1، ص519). وانظر: الفخر الرازي، المحصول في اُصول الفقه، ج2، ص189، ونسبه إلی الواقفیة. واحکم بنفسك في الذریعة إلی اُصول الشریعة للشریف المرتضی، ج1، ص83.
5- نسبه السبکي إلی إمام الحرمین وقال: إنّه مختار ابن الحاجب، فراجع: الإبهاج للسبکي، ج1، ص110. ونسبه العضدي إلی ابن الحاجب، واختاره أیضاً في شرح المختصر، ص91.
نقد الأقوال بالتفصيل

ص: 196

ولا يخفى عليك: أنّ مراد المفصّل (بين السبب وغيره) من السبب: الفعل المباشريّ الّذي هو تحريك العضلات كتحريك اليد، ومن المسبّب: الفعل الّذي يوجد بعين تحريك العضلات من غير توسط إرادة اُخرى بينه وبين الفعل كحركة المفتاح المسبّب من تحريك اليد وكذا انفتاح الباب، فالفعل الحاصل من السبب من غير توسط إرادة بينه وبين حصول ذلك الفعل هو المسبّب كتحريك المفتاح وانفتاح الباب. إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الوجه الّذي توهّم للقول بالتفصيل هو عدم قدرة المكلف على المسبّب في الأفعال التوليدية وأنّ الأمر فيها يتعلّق بالسبب.

وقد ظهر فساد هذا التوهّم ممّا ذكرناه سابقاً عند البحث في أنّ الأوامر المتعلّقة بالمسبّبات ظاهراً هل هي متعلّقة بها حقيقة أو لا؟ وقلنا بإمكان تعلّقها بالمسبّبات أيضاً حقيقةً، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور. مضافاً إلى أنّه ولو كان لکلّ من تحريك اليد وتحريك المفتاح وانفتاح الباب وجوداً مستقلّا وإيجاداً كذلك لاتّحاد الوجود والإيجاد من جهة أنّ الفرق بينهما ليس إلّا أنّ ما وجد إذا نسب إلى الفاعل نسمّيه بالإيجاد وبالنسبة إلى نفسه يسمّى بالوجود، ولكن من جهة ملاحظة حصول هذه الثلاثة من فاعل واحد وعدم توسيط إرادة اُخرى بين تحريك اليد وحركة المفتاح وانفتاح الباب تعدّ فعلاً واحداً، فلا مانع من تعلّق الأمر بالمسبّب أيضاً.

هذا، مضافاً إلى أنّ التفصيل خارج عمّا هو محلّ النزاع في مبحث المقدّمة، وإنّما هو نزاع آخر في متعلّق الأمر النفسي، وأنّه السبب أو المسبّب؟ فيكون أجنبيّاً عمّا نحن فيه.((1))

وأمّا وجه توهّم التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره، فهو ما يتراءى من وقوع

ص: 197


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص203.

بعض الواجبات في الخارج كالصلاة والصوم وغيرهما من غير تحقّق شرائطها، فلو لم نقل بوجوب الشرط يلزم حصول الموافقة بمجرّد حصول الواجب، ومن الواضح بطلانه، فهذا دليل تقيّد الواجب بشرطه كالطهارة مثلاً، فالصلاة المقيّدة بها على نحو يكون القيد خارجاً والتقيد داخلاً تكون متعلّقة للوجوب. وبعبارة اُخرى: إنّ متعلّق الوجوب هو الصلاة الواقعة بعد الغسلتين والمسحتين، وحيث لا يمكن تعلّق الوجوب بالتقيّد فلابدّ من تعلّقه بالقيد الّذي يكون منشأً لانتزاع التقيّد.

وفيه: أنّ الأمر المتعلّق بالقيد الّذي يكون منشأً لانتزاع التقيّد هو عين الأمر بالتقيّد؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالتقيّد راجع في الحقيقة إلى منشأ انتزاعه والوجوب المتعلّق به وجوب نفسيّ.

هذا، مضافاً إلى إمكان إنكار وقوع ذي المقدّمة بدون شرطه الشرعي، ودعوى رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي، فالصلاة لا تقع في الخارج إلّا بعد حصول مقدّمتها وهي الطهارة، وإن كان بحسب الظاهر يتخيّل وقوعها بدون مقدّمتها؛ لأنّه ربما كان المأمور به عنواناً ينطبق على أفعال خاصّة مشروطة بوجود اُمور معها بحيث لا ينطبق ذلك العنوان إلّا بعد حصول تلك الشروط، مثل عنوان الصلاتية؛ فإنّه لا ينطبق على القيام والركوع والسجود وغيرهما إلّا بعد حصول المسحتين والغسلتين، فتحقّق هذا العنوان في الخارج لا يمكن إلّا بهذا الشرط. والعقل وإن لم يدرك توقّف حصول هذا المأمور به وانطباق عنوانه على هذه الأفعال مقيّدة بهذا القيد، ولكنّ الشرع كشف عن ذلك بخطاب إرشاديّ كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ...﴾ الآية.((1))

ص: 198


1- المائدة، 6.
أدلّة وجوب المقدّمة ونقدها

أمّا الوجوه الّتي ذكروها لإثبات الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة والمقدّمة، وأنّه يتولّد من الطلب النفسيّ طلب غيريّ متعلّق بالمقدّمة، وأنّ الأمر كما يبعث المكلّف نحو ذي المقدّمة يبعثه نحو المقدّمة، فهي كثيرة ربما تتجاوز عشرين دليلاً، ذكر أكثرها المحقّق السبزواري.((1))

منها: الدليل المشهور بينهم عن أبي الحسين البصري،((2)) وهو قياس اقتراني شرطي.

بيانه: لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً؛ ينتج أنّه لو لم تجب المقدّمة يلزم إمّا التكليف بما لايطاق، أو خروج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً، واللازمان باطلان فالملزوم مثلهما.((3))

ولا يخفى بطلان هذا الدليل، فإنّه إن أراد ممّا هو الأوسط في القياس وهو قوله: «وحينئذٍ» جواز ترك المقدّمة الّذي هو التالي في الشرطية الاُولى، فالملازمة بينه وبين التالي في الشرطية الثانية ممنوعة؛ لأنّه لا يلزم من بقاء ذي المقدّمة على وجوبه التكليف

ص: 199


1- في رسالته المکتوبة في مسألة مقدّمة الواجب. وقد ذکر المجدّد الشیرازي(قدس سره) هذه الأدلّة في تقریراته (في مبحث مقدّمة الواجب)، فراجع.
2- هو محمّد بن عليّ بن الطیّب، أبو الحسین المتکلّم، صاحب التصانیف علی مذهب المعتزلة، له کتاب «المعتمد في الاُصول»، بصريّ سکن بغداد، ودرّس فیها علم الکلام إلی حین وفاته، ومات ببغداد في یوم الثلاثاء الخامس من شهر ربیع الآخر عامّ 436ق. ودفن في مقبرة الشونیزي. (راجع: الخطیب البغدادي، تاریخ بغداد، ج3، ص314 – 315؛ ابن خلّکان، وفیات الأعیان، ج4، ص271).
3- راجع: البصري، المعتمد في اُصول الدین، ج1، ص95؛ الفخر الرازي، المحصول في علم اُصول الفقه، ج2، 190؛ المحقّق الحلّي، معارج الاُصول، ص73 – 74؛ الآمدي، الاحکام في اُصول الأحکام، ج1، ص97؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص201.

بما لا يطاق. وإن أراد منه ترك المقدّمة أي فحين ترك المقدّمة إمّا أن يبقى الواجب... الخ، فبطلان القياس من جهة عدم تكرر الأوسط واضح.

ومنها: ما استدلّ به المحقّق الخراساني(رحمه الله) من إرجاعه وجوب المقدّمة إلى الوجدان؛((1)) فإنّه شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها. ولذلك يصحّ من المولى أن يقول: ادخل السوق واشتر اللحم، فيجعل المقدّمة في قالب الطلب، ومن الواضح أنّ ملاك الأمر بدخول السوق ليس إلّا مقدّميته لشراء اللحم. فكما أنّ دخول السوق يكون متعلّقاً لطلبه وإرادته لكونه مقدّمة لشراء اللحم، فليكن كذلك حال کلّ مقدّمة من مقدّمات الواجب من غير فرق بينها، فكلّها متعلّقة لطلبه، لوجود هذا الملاك في الجميع.((2))

وفيه: أنّ البعث إلى دخول السوق بعث إلى شراء اللحم حقيقة، ولا يكون للدخول صفة المطلوبية أصلاً. فلو سئل المولى عن عدد مطلوباته في ما إذا بعث عبده نحو فعل تكون له مقدّمات كثيرة؟ لأجاب عن وحدة مطلوبه وأنّ المبعوث إليه ليس إلّا الفعل المذكور ومطلوبه النفسي.

ومنها: استدلال بعض المعاصرين((3)) بأنّه كما تتولّد من الإرادة التكوينية المتعلّقة بفعل إرادات اُخر متعلّقة بمقدّماته، كذلك تتولّد من الإرادة التشريعية - وهي إرادة صدور الفعل من العبد باختياره - إرادات متعلّقة بصدور مقدّمات هذا الفعل منه.

وفيه: أنّه فرق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية؛ فإنّه لا يعقل صدور الفعل في الاُولى إلّا بذلك، وأمّا في الثانية فيمكن أن يريد المولى ذلك الفعل من دون توجّه إلى

ص: 200


1- واستدلّ به المجدّد الشیرازي(قدس سره)، وأسنده إلی أساتذته، في تقریراته، ج2، ص393.
2- النراقي، مناهج الأحکام والاُصول، ص50؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص200.
3- یقصد به المحقّق النائیني(رحمه الله) في فوائد الاُصول، ج1، ص284.

مقدّماته، وينشأ الطلب لأجل حدوث إرادة الفعل في العبد، ثم إذا أراد العبد إتيان الفعل تتولد من إرادته هذه إرادات اُخر متعلّقة بمقدمات الفعل.

ثم إنّه قد ظهر من جميع ما ذكرناه أنّ القول بعدم وجوب المقدّمة ليس ببعيد عن الصواب.

نعم، لو اُريد من الوجوب حكومة العقل بلزوم إتيان المقدّمة لمكان توقّف ذيها عليها، فهو مسلّم، لكن أين هو من وجوبها الشرعي! ومع ذلك كله، لا مضايقة من موافقة القائل بالوجوب لو أراد منه وجوباً ترشّحياً طريقيّاً تطفّليّاً بحيث لا يكون له امتثال ولا عصيان ولا أثر آخر، بل كان واجباً بوجوب ذي المقدّمة بالعرض.

والحاصل: إنّ المقدّمة باعتبار عدم ترتّب أثر على وجوبها، غير واجبة. وباعتبار أنّ الطلب المتعلّق بالشيء يستتبع الطلب المتعلّق بمقدّماته بالعرض، واجبة.

وأمّا لو أراد من وجوبها كون الوجوب المتعلّق بها وجوباً وطلباً وبعثاً في مقابل الطلب والبعث المتعلّق بالواجب النفسي، بحيث لو سألنا المولى عن عدد مطلوباته يعدّ کلّ واحدة من المقدّمات مطلوباً على حدة، فهو ممنوع جدّاً.

تبرير لمختار الفصول

ويمكن أن يكون نظر صاحب الفصول(رحمه الله) - في اختياره تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة - إلى ما أشرنا من عدم تشخّص وتعيّن ونفسية وجوب المقدّمة إلّا بحسب الوجوب المتعلّق بذيها، فحيث إنّه رأى أنّ القول بالوجوب مطلقاً (موصلة كانت المقدّمة أم غير موصلة) مستلزم لعدم صحّة القول بمعصية العبد إذا أتى بالمقدّمة المحرّمة الّتي لم يترتّب عليها ذو المقدّمة مع أنّ هذا فاسد؛ ذهب إلى وجوب المقدّمة الموصلة، بمعنى أنّ وجوب المقدّمة حيث لا يكون له وجود واقعاً وإنّما يطلق

ص: 201

عليها الواجب مسامحة، فلو صادف مع وجودها وجود الواجب وترتّب الواجب عليها لا تقع المقدّمة المحرّمة على صفة الحرمة لوقوعها مقدّمة للواجب الأهمّ، وأمّا لو لم يترتّب عليها الواجب فحرمتها باقية على حالها؛ لأنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمة ليس طلباً له واقعاً، فتأمّل.

مقدّمة المستحبّ والحرام

مقدّمة المستحبّ والحرام((1))

قد ظهر ممّا ذكر حال مقدّمة المستحب، فكلّ ما قيل أو يقال في مقدّمة الواجب يقال فيها.

وأمّا مقدّمة الحرام، فلو قلنا بأنّ النهي عبارة عن الزجر عن الفعل فلا يعقل تولّد زجر آخر من الزجر الراجع إلى ذيها يكون راجعاً إلى المقدّمة. ولو قلنا بأنّ النهي عبارة عن طلب الترك، وقلنا بثبوت الوجوب الغيري في مقدّمة الواجب فلا مناص من القول بحرمة مقدّمات الحرام حرمة غيرية في الجملة؛ لأنّ الملاك في كلتيهما واحد، إلّا أنّ مقدّمات الحرام حيث لا يتوقّف الترك فيها على ترك جميع المقدّمات فالحرمة تتعلّق بفعل المقدّمة السببیّة بل بالجزء الأخير من العلّة التامّة للفعل، فلا يحرم من المقدّمات إلّا ما يؤدّي إلى المحرم، فتدبّر جيّداً.

ص: 202


1- راجع: الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص203؛ الخراساني، درر الفوائد، ج1، ص130؛ العراقي، بدائع الأفکار، ج1، ص402 – 403.

ص: 203

الفصل الخامس: في مسألة الضدّ

اشارة

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟

وقبل الخوض في المطلب ينبغي تقديم اُمور:

الأوّل: في معنى الضدّ

إنّ الضدّ على اصطلاح أهل المعقول: کلّ أمر وجوديّ يمكن تعقلّه من غير تعقّل مقابله. وذلك لأنّ کلّ أمر إذا لوحظ مع أمر آخر فإمّا أن يكونا متخالفين، أو متماثلين، أو متقابلين. والمتقابلان إمّا أن يكون أحدهما الوجود والآخر العدم الّذي ليس من شأنه الوجود، أو العدم الّذي من شأنه الوجود. وإمّا أن يكون کلّ منهما أمراً وجودياً لم يمكن تعقّل أحدهما بدون الآخر، أو يمكن ذلك. فالمتناقضان: ما يكون أحدهما الوجود والآخر العدم الّذي ليس من شأنه الوجود. والعدم والملكة: ما يكون أحدهما الوجود والآخر العدم الّذي من شأنه الوجود. والمتلازمان: (وقد يعبر عنهما بالمتضائفين) ما لا يمكن تعقّل أحدهما بدون الآخر. والمتضادّان: ما يمكن تعقّل أحدهما بدون الآخر.

وأمّا في اصطلاح الاُصوليين فيطلق الضدّ تارة: على الضدّ العامّ بمعنى الترك أو

ص: 204

أحد الأضداد الوجودية لا بعينه. واُخرى: على کلّ أمر وجوديّ لا يمكن اجتماعه مع أمر وجوديّ آخر، ويسمّونه بالضدّ الخاصّ.

ومن هنا يظهر أنّ الضدّ في اصطلاح الاُصوليين أعمّ من الضدّ المصطلح عليه عند أهل المعقول؛ لأنّه عند الاُصوليين يشمل کلّ ما يمكن تعقلّه بدون تعقّل مقابله، وما لم يمكن تعقّله كذلك فيشمل المتضائفين أيضاً.

الثاني: كون المسألة من المبادئ الأحكامية

إنّ المتقدّمين قد جعلوا النزاع في الضدّ من مبادئ علم الاُصول، وذكروه في المبادئ الأحكامية الّتي تكون قسماً من المبادئ التصديقية لعلم الاُصول؛ فإنّ مبادئه التصديقية على أقسام: أحدها: ما يوجب ذكره بصيرة في مسائل العلم، مثل ذكر معنى الوجوب والحرمة، وسمّوه بالمبادئ اللغوية. وثانيها: ما يبحث فيه عن الحسن والقبح والإدراكات العقلية، وسمّوه بالمبادئ العقلية. وثالثها: ما يبحث فيه عن حالات الأحكام وكيفياتها وملازماتها والنسب الواقعة بينها واجتماع بعضها مع بعض وتقسيمات الأحكام، مثل تقسيم الحكم إلى التكليفي والوضعي، وتقسيم التكليفي إلى الأحكام الخمسة التكليفية، وسمّوه بالمبادئ الأحكامية.

وكيف كان، فبحثنا هذا إنّما يكون من المبادئ الأحكامية، ولا ينبغي أن يعدّ من المسائل الاُصولية.

الثالث: في مرادهم من الضدّ وكيفيّة الاقتضاء

اشارة

قد وقع اختلاف في المقام بين الاُصوليين، فذهب بعضهم إلى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، ولم يذكر ما أراد من الضدّ. وبعضهم قال باقتضائه النهي

ص: 205

عن ضدّه العامّ، وعنى الترك من الضدّ العامّ. وبعضهم عنى منه أحد الأضداد الوجودية لا بعينه. وذهب بعضهم إلى أنّه يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، ثم اختلفوا في كيفية الاقتضاء. فبعضهم قال بأنّ الأمر عين النهي عن الضدّ. واختار آخرون جزئية النهي عن الضدّ للأمر. ومذهب بعضهم أنّ النهي عن الضدّ يكون لازماً للأمر. واختلف القائلون بالمذهب الأخير، فقال بعضهم بأنّ النهي عن الضدّ يكون لازماً بيّناً بالمعنى الأخصّ للأمر. وذهب بعض منهم إلى أنّه لازم له بالمعنى الأعمّ.

إذا عرفت هذه الاُمور، فاعلم: أنّ المسألة عقلية، ولا أثر لاختلاف آرائهم فيما هو المهمّ.

الضدّ العامّ

ينبغي تقديم البحث عن الضدّ العامّ الّذي اُريد منه الترك. والظاهر أنّ هذا مراد القائل بأنّ الأمر عين النهي عن ضدّه، وإلّا فمن الواضح فساد دعوى العينية لو اُريد من الضدّ، الضدّ العامّ بمعناه الآخر، أو الضدّ الخاصّ. كما أنّه لا يبعد أن يكون هذا المعنى مراد من قال بأنّه جزؤه.

ولا يخفى: أنّ منشأ القول بجزئيّة النهي عن الضدّ للأمر: تعريفهم للوجوب بأنّه طلب الفعل مع المنع من الترك، فتوهّموا أنّ المنع من الترك يكون جزءً لمعنى الوجوب. والحال أنّ المراد بذلك بيان درجة تأكّد الطلب لا أنّ معنى الوجوب مركّب من هذا وذاك؛ لأنّ الطلب حيث يكون مقولاً بالتشكيك يكون له مراتب ودرجات فأقواها ما نسمّيه بالوجوب.

وأمّا منشأ القول بأنّ النهي عن الضدّ عين معنى الأمر فهو: ما ذكر في النواهي من

ص: 206

أنّ النهي طلب الترك، حيث إنّ متعلّق الترك تارة يكون الفعل، واُخرى يكون الترك، بحسب اختلاف المقامات، ففيما نحن فيه طلب الترك متعلّق بترك الواجب، فمعنى النهي عن الضدّ طلب ترك ترك الواجب وهو عين الأمر به.

وبعبارة اُخرى: منشأ القول بالعينية: ما ذكروه في باب النواهي من أنّ النهي طلب الترك، وحيث إنّ متعلّق الترك يكون ضدّ الواجب فالطلب يكون متعلّقاً بترك الترك لا محالة، وهذا لا يتحقّق إلّا بفعل الواجب وحصوله، فالأمر بالشيء الّذي هو عبارة عن طلب الفعل يكون عين النهي عن ضدّه الّذي معناه طلب ترك ترك ذلك الفعل، فالأمر الّذي هو عبارة عن طلب الفعل مغاير للنهي عن ضدّه مفهوماً ومتّحد معه مصداقاً، ويحمل هذا عليه بالحمل الشائع الصناعي.

كما أنّ النهي على ذلك يكون عين الأمر بالفعل. وليس معنى ذلك أنّ النهي حكم والأمر حكم آخر بمعنى توجّه الحكمين والتكليفين إلى المكلّف، بل المراد أنّ معنى الأمر بالشيء وطلب وجود فعل يكون طلب ترك تركه، ففي نفس الأمر يتحقّق ذلك الترك والوجود بإيجاد الفعل.

لا يقال: كيف يمكن أن يكون الفعل الواحد مصداقاً للوجود والعدم؟ فلا محيص عن القول بالملازمة بين الحكمين.

لأنّه يقال: إنّ المراد بالضدّ في المقام ليس النقيض المصطلح - الّذي ربما يقال في تعريفه: نقيض کلّ شيء رفعه - حتى يصير طلب ترك الترك أمراً عدمياً، بل المراد منه ما كان في مقابل شيء سواء كان من الاُمور العدمية كالترك بالنسبة إلى الفعل، أو الوجودية كالفعل بالنسبة إلى الترك. فعلى هذا، نقول: إنّ معنى النهي عن الضدّ هو طلب ترك النقيض، وفي نفس الأمر ترك النقيض لا يتحقّق إلّا بفعل الواجب.

هذا، وقد ظهر ممّا حقّقناه أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام بمعنى

ص: 207

الترك بناءً على كون معنى النهي طلب الترك. وكذلك لو كان الأمر بمعنى البعث، والنهي بمعنى الزجر على ما قوّيناه، فالأمر الّذي هو عبارة عن بعث المكلّف نحو الفعل وجلبه إليه عين الزجر عن ضدّه العامّ خارجاً ومصداقاً، كما أنّ الزجر عن الضدّ عين البعث إلى الفعل مصداقاً وإن كانا متغايرين مفهوماً. هذا تمام الكلام في الضدّ العامّ بمعنى الترك.

الضد الخاصّ

يعرّف الضدّ الخاصّ بأنّه: کلّ أمر وجودي لا يمكن اجتماع صدوره مع الواجب من المكلّف الواحد في زمان واحد، كالصلاة مع إزالة النجاسة عن المسجد، أو هي مع أداء الدين. ولا يخفى: أنّ هذا هو المهمّ في المقام ومحلّ النزاع بين الأعلام.

وقد استدلّ على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ بوجهين:((1))

الأوّل: أنّ فعل الضدّ، كالصلاة مثلاً، مستلزم لترك الإزالة الواجبة، وترك الإزالة حرام؛ لأنّه الضدّ العامّ الّذي يكون الأمر بها عين النهي عنه، ففعل الضدّ مستلزم للحرام وما يستلزم الحرام حرام.

الوجه الثاني: أنّ أداء الدين فوراً أو الإزالة واجب يتوقّف على ترك الصلاة وما يتوقّف عليه الواجب واجب، فترك الصلاة واجب وترك تركها حرام.

ولا يخفى: أنّ الدليل الأوّل اُخذ من حرمة الضدّ العامّ بمعنى الترك، بتقريب: أنّ فعل الضدّ مستلزم لترك الإزالة المحرّم من جهة كون هذا الترك ضدّ عامّ لفعل الإزالة الواجبة، ومستلزم المحرّم محرّم ففعل الضدّ محرم.

والدليل الثاني اُخذ من وجوب إتيان الواجب، بتقريب: أنّ أداء الدين المأمور به

ص: 208


1- راجع: العاملي، معالم الدین، ج1، ص67؛ القمّي، قوانین الاُصول، ص114.

واجب وهو يتوقّف على ترك الصلاة وما يتوقّف عليه الواجب واجب فترك الصلاة واجب. وحيث إنّ فعل الضدّ العامّ محرّم فترك ترك الصلاة الّذي هو عبارة اُخرى عن فعلها حرام.

ولا يخفى أيضاً: أنّ تمامية الدليل الأوّل تتوقّف على حرمة مقدّمة الحرام؛ لأنّ معنى استلزام فعل الضدّ لترك الواجب سببية فعله ومقدّميته لتركه. وتمامية الدليل الثاني تتوقّف على وجوب المقدّمة. كما أنّ دليلية الدليلين موقوفة على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه العامّ.

هذا، والّذي ينبغي أن يقال: إنّ المضادّة بين شيئين كالسواد والبياض وغيرهما من نظائرهما إنّما تكون من الإضافات المتشاكلة الأطراف كما في الاُخوّة، فما فرض في أحدهما لابدّ وأن يفرض في الجانب الآخر؛ لأنّهما متشابهان على المفروض، وبناءً عليه لو فرض استلزام وجود أحد الضدّين لعدم الضدّ الآخر كما هو المبيّن في الوجه الأوّل، فلابدّ من القول بكون وجود الآخر أيضاً مستلزماً لعدم ضدّه.

وهكذا لو قلنا بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر كما هو المذكور في الوجه الثاني، فلابدّ وأن يكون ترك الآخر مقدّمة لوجود ضده، فيلزم من ذلك أن تكون مرتبة کلّ واحد من الضدّين متأخّرة عن الآخر ومتقدّمة عليه، بل يلزم تأخّره عن نفسه وتقدّمه على نفسه.

ووجهه: أنّه إذا كان ترك الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ الآخر يلزم أن يكون وجوده أيضاً متقدماً على وجود هذا الشيء بحسب الرتبة لاتّحاد مرتبة الوجود والعدم، فوجود هذا الضدّ كما يكون متأخّراً عن عدم الضدّ الآخر يكون متأخّراً عن وجوده أيضاً، وهذا المتأخّر يجب أن يكون متأخّراً عن المتقدّم وعن کلّ ما تأخّر عنه المتقدّم؛ لأنّ المتأخّر عن المتأخّر عن الشيء متأخّر عن ذلك الشيء، ومن جملة

ص: 209

ما تأخّر عنه المتقدّم وجود هذا الضدّ المتأخّر؛ لأنّ وجود المتقدّم أيضاً موقوف على عدم المتأخّر، فتكون مرتبة وجود المتأخّر متقدّمة على المتقدّم، فيلزم تأخّر المتأخّر عن نفسه.

وأيضاً إذا كان ترك الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ الآخر يكون وجوده أيضاً متقدّماً عليه - بحسب المرتبة - وعلى کلّ ما يكون متأخّراً عنه، ومن جملة ما يكون متأخّراً عنه هذا الضدّ المتقدّم؛ لأنّ عدم هذا الضدّ المتأخّر يكون مقدّمة لوجوده، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه، وهذا محال.

مقدّمية أحد الضدّين للآخر

إنّ المستفاد من كلمات السابقين التزامهم بالمقدّمية، كما هو الظاهر من جواب العضدي والحاجبي عن الدليل الثاني؛ فإنّهما التزما في الجواب بنفي وجوب المقدّمة مع اعترافهما بأصل المقدّمية.((1))

ويستفاد هذا أيضاً منهم في ردّهم شبهة الكعبي،((2)) حيث قال: إنّ كل فعل إمّا يكون مقدّمة للواجب فيجب، أو مقدّمة لترك الحرام فيجب أيضاً، لأنّ ترك الحرام واجب.

وأجابوا عنها: بأنّا لا نسلّم وجوب مقدّمة الواجب.((3)) ولكنّه قد ظهر ممّا حققناه عدم إمكان القول بالمقدّمية، وأنّ كلماتهم في المقام خالية عن التحقيق.

ص: 210


1- شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص201 – 202.
2- هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الکعبي البلخي الخراساني، من بني کعب: أحد أئمّة المعتزلة، کان رأس طائفة منهم تسمّی «الکعبیة»، وله آراء ومقالات في الکلام انفرد بها، هو من أهل بلخ، أقام ببغداد مدّة طویلة وتوفّی ببلخ (317 – 319 ق.). الخطیب البغدادي، تاریخ بغداد، ج9، ص 392؛ ابن خلّکان، وفیات الأعیان، ج 3، ص 45.
3- الحائري الیزدي، الحجّة في الفقه، ص193.
مقتضى التحقيق

إنّ مقتضى التحقيق أن يقال في مقام الجواب: إنّ ما هو تمام الملاك للقول بالاقتضاء هو مقدّمية الترك لوجود الضدّ بملاحظة استحالة اجتماع وجود الضدّين كالسواد والبياض في محلّ واحد وفي زمان واحد. فالتضادّ الواقع بينهما موجب لامتناع اجتماع وجودهما كذلك وعلى نحو المعيّة، فوجود الضدّ في حال معيّته مع الضدّ الآخر محال. فلو فرضنا معيّة أحدهما مع عدم الآخر ارتفعت تلك الاستحالة وانقلبت مادّة الامتناع إلى الإمكان.

فكما أنّ ملاك الامتناع والاستحالة هو ضدّية وجود کلّ منهما مع الآخر ومعيّة وجود کلّ منهما لوجود الآخر، فليكن رفع هذا الامتناع بملاك معية وجود کلّ منهما لعدم الآخر.

وكما أنّ الضدّية - الّتي هي تمام الملاك للامتناع - ليست إلّا بأن يكون الضدّان في مرتبة واحدة من الوجود وعلى نحو المعيّة ولا يكون لأحدهما تقدّم على الآخر بنحو من أنحاء التقدّم، كذلك لابدّ وأن يكون نقيض کلّ من الضدّين مع نقيض الآخر في رتبة واحدة وعلى نحو المعيّة، فعلى هذا يكون نقيض أحد الضدّين في مرتبة الضدّ الآخر.

فبناءً عليه كما أنّ ملاك حكم العقل بالامتناع في الوجود لا يكون إلّا لفرض كونهما في مرتبة واحدة، كذلك حكم العقل بإمكان وجود أحدهما مع عدم الآخر لا يكون إلّا لفرض أنّ الوجود والعدم في مرتبة واحدة، فعلى هذا لا يمكن أن يكون عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر وبالعكس، كما لا يخفى.

بيان آخر لمقدّمية الضدّ ونقده

ثم إنّه ربما يقال بأنّ عدم الضدّ عند وجود الضدّ الآخر يكون من باب عدم المانع

ص: 211

عند وجود المعلول، وحيث لا إشكال في كون عدم المانع من المقدّمات وأجزاء العلّة فليكن عدم الضدّ أيضاً بالنسبة إلى وجود الضدّ الآخر كذلك.((1))

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ أجزاء العلّة - من المقتضي والشرط وعدم المانع - ليست كلّها في مرتبة واحدة وفي عرض واحد، بل يستند عدم المعلول إلى کلّ واحد منها على نحو الطولية، فيستند عدم المعلول أوّلاً إلى عدم المقتضي لو فرض عدمه؛ ولو فرض وجوده فيستند إلى عدم الشرط؛ ولو فرض وجوده أيضاً فيستند إلى وجود المانع. فالمانع يؤثّر ويمنع المقتضي من التأثير بعد حصول الشرط، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ لأنّ عدم الضدّ غير مستند إلى وجود المانع حتى يقال بأنّ عدمه من المقدّمات، بل هو مستند إلى عدم مقتضيه.

الجواب عن النقد

إنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ في مقام التأثير الفعلي، وأمّا بحسب مقام الشأنية والصلاحية فالمانع ما يصلح للمانعية ولو كان قبل وجود المقتضي، فإنّ معنى المقدّمية لا يجب أن يكون فعلياً، فبناءً على هذا لو فرضنا صلاحية وجود الضدّ للمانعية عن الضدّ الآخر لابدّ لنا من القول بكون عدمه مقدّمة لوجود الآخر.

ثمرة البحث

قد يقال في ثمرة النزاع بأنّ القول بالاقتضاء، وأنّ النهي في العبادات موجب للفساد، ينتج فساد الضدّ إذا كان عبادياً.

ص: 212


1- ذکره في الکفایة (الخراساني، ج1، ص206)، وردّ علیه.

واستشكل الشيخ البهائي(رحمه الله)((1)) على ترتّب هذه الثمرة بأنّا ولو قلنا بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه لكن مع ذلك لا إشكال في أنّ مقتضى الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه، فالأمر بإزالة النجاسة أو أداء الدين وإن لم يقتض النهي عن الصلاة إلّا أنّه يقتضي عدم الأمر بها وإلّا يلزم الأمر بالضدّين وهو محال، لا من جهة قبح صدوره عن الآمر الحكيم، بل ولا من جهة أنّه تكليف بالمحال، بل لأنّه محال بنفسه؛ لأنّ معناه إيجاب ما هو المحال، والإيجاب متفرّع على انقداح الإرادة النفسانية ومع فرض الاستحالة لا يمكن انقداح تلك الإرادة من الحكيم وغيره، فبناءً عليه يقتضي الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه، فالأمر بالإزالة يقتضي عدم الأمر بالصلاة المضادّة لها، وهذا يقتضي بطلان الصلاة لو ترك الإزالة وأتى بها؛ لأنّها ليست مأمورا بها فلا يمكنه قصد الأمر الّذي تتوقّف عليه صحّة العبادة.

وأجابوا عنه أوّلاً: بأنّا لا نسلّم استحالة الأمر بالضدّين مطلقاً؛ لأنّا لا نرى في ذلك مانعاً واستحالة إذا كان أحد الضدّين موسّعاً والآخر مضيّقاً.((2))

وثانياً: سلّمنا أنّ الأمر بأحد الضدّين موجب لعدم الأمر بالآخر وأنّه لا يمكن في مقام الامتثال قصد أمره، إلّا أنّ هذا لا يرفع المصلحة الكائنة في فعل الضدّ الآخر، ويكفي في تحقّق الامتثال قصد تلك المصلحة والمطلوبية الذاتية.((3))

ص: 213


1- البهائي، زبدة الاُصول، ص82-83.
2- القمّي، قوانین الاُصول، ص116؛ الکرکي، جامع المقاصد، ج5، ص13-14؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج1، ص313. وقال الشیخ الأنصاري: «قد صدر من المحقّق الثاني في شرح القواعد قول بصحّة العبادة ولو کان آثماً في تقدیمها علی أداء الدین ثم تبعه بعض من متأخّري المتأخّرین کالشیخ الفقیه في کشف الغطاء، وتبعه تلمیذه الأصبهاني الشیخ محمد تقي في حاشیته علی المعالم مع زیادة تحقیق منه فی تصحیح ذلك، ثم تبعهما أخوه الشیخ المحقّق صاحب الفصول وغیره کصاحب القوانین». الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص119.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص212.

وثالثاً: بأنّ الأمر بالضدّين لو فرض استحالته فهو إنّما يكون موجباً للمحال لو كان الأمر بهما في محلّ واحد وآن واحد على الإطلاق، لكن إذا كان أحدهما - الّذي يكون أهمّ من الآخر - على نحو الإطلاق والآخر مشروطاً بعصيان الأهمّ على سبيل الترتّب، فلا يوجب المحال. وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.((1))

واستشكلوا في الجواب الأوّل:

بأنّ معنى الموسعية لو كان هو الكلّية بحسب الزمان بمعنى أنّ الآمر لاحظ المأمور به في امتداد من الزمان وكان لهذا الامتداد أجزاء بحيث تكون نسبة الامتداد إلى أجزائه كنسبة الكلّ إلى أجزائه لا كنسبة الكلّي إلى أفراده وجزئياته، فعلى هذا يكون الأمر الواحد متعلّقاً بشيء واحد في مجموع هذه الأجزاء الزمانية، فيكون لحاظ المأمور به في هذا الامتداد لحاظه في أجزائه إذ الكلّ هو عين الأجزاء بالأسر، فلا يمكن انفكاك لحاظ الكلّ عن لحاظ الأجزاء، والمفروض وجود أمر آخر، كالإزالة مثلاً، من المولى في بعض هذه الأجزاء الزمانية، وليس هذا غير الأمرين بالضدّين.

وكذا لو كان معنى الموسعية التخيير الشرعي، بمعنى أنّ کلّ فرد من الأفراد الموجودة في هذا الظرف يكون متعلّقاً لأمر خاصّ، فكلّ فرد منها بما أنّه واقع في جزء من هذا الظرف الزماني واجد لهذه الخصوصية، فله أمر خاصّ به، فيكون تمام الأفراد بخصوصياتها مورداً لأمر مستقلّ لكن على سبيل التخيير، فعليه لا يصحّ الأمر بالفرد المزاحم مع ما يضادّه وهو مأمور به أيضا؛ لأنّ هذا عين الأمرين بالضدّين، هذا.

ص: 214


1- یأتي في الصفحة 216 و ما بعدها.
تثبيت معنى التوسّع لتصوير الأمر بالضدّين

إنّ التحقيق((1)) في معنى الموسعية أنّه ليس أحد الوجهين المذكورين، بل معناه أنّ المأمور به يكون طبيعة الفعل على وجه كلّيّ بحيث تكون لها بحسب أجزاء الزمان أفراد كثيرة خارجية، وهذه الطبيعة قابلة للانطباق على جميع تلك الأفراد انطباقاً قهرياً، كما يكون في انطباق کلّ طبيعي على جميع أفراده، فعلى هذا لا يكون لتلك الأفراد - الّتي لها خصوصيات فردية مشخّصة - دخل فيما هو الملاك والمناط في الأمر بالطبيعة؛ لأنّ المصلحة إنّما تترتّب على صرف الطبيعة المأمور بها، أمّا الخصوصيات الفردية فهي خارجة عن الملاك فلابدّ أن تكون خارجة عمّا هو متعلّق الأمر، ومن الواضح أنّ ما ليس له دخل في متعلّق الأمر ليس له دخل في تحقّق الامتثال.

وإن شئت مزيد توضيح لذلك فاعلم: أنّ الفعل الّذي يتعلّق به البعث والتحريك الإنشائي ويكون متعلّقاً للإرادة التشريعية لابدّ وأن تكون له مصلحة تترتّب عليه عند وجوده في الخارج ملازماً لوجود تلك المصلحة، ويكون الأمر بهذا الفعل بملاحظة تلك المصلحة لا محالة وإلّا لكان الأمر به جُزافاً ولغواً، وكذلك يلزم أن يكون لکلّ خصوصية من الخصوصيات ووصف من الأوصاف الّتي تؤخذ في متعلّق الأمر دخل في حصول هذه المصلحة وترتّب الغرض على الفعل حتى لا يكون أخذ هذه الخصوصية في متعلّق الأمر لغواً.

إذا عرفت ذلك يظهر لك أنّ طبيعة الصلاة مثلاً وجميع القيود المأخوذة فيها لابدّ وأن تكون لها مصلحة تترتّب عليها، وأن تكون القيود والخصوصيات المأخوذة فيها مؤثّرة ودخيلةً في ترتّب تلك المصلحة عليها، ومن تلك الخصوصيات الملحوظة فيها

ص: 215


1- هذا التحقیق مبني علی ما هو الحق من تعلّق الأمر بالطببیعة وعدم سرایته إلی الأفراد.

كونها في وقت كذائي معيّن - أوّله الزوال وآخره الغروب مثلاً - فلا مناص من أن يكون لهذه الخصوصية دخل في ترتّب المصلحة عليها وإلّا لكان الأمر بالصلاة مخصّصاً بها لغواً.

وأمّا ما لا يكون له دخل في ذلك كخصوصية وقوعها في أوّل الوقت أو آخره أو وسطه فلا يكاد أخذه فيها؛ لأنّ أخذها يكون عبثاً ومن قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان، فالمتعلّق للأمر إنّما هو الطبيعة المشتركة بين أفرادها من أوّل الزوال إلى الغروب على نحو اشتراك الطبيعي بين أفراده، فعلى هذا لا مانع من تعلّق الأمر بالطبيعة بملاحظة المصلحة المترتّبة عليها في زمان ممتدّ ولو كان بعض أفراد هذه الطبيعة مزاحماً لتكليف آخر ومطارداً له، إذ الضدّية والمطاردة لا تكون من جانب متعلّق التكليف الّذي هو الطبيعة ليس إلّا، فلا تكون معاندة بينها وبين غيرها أصلاً، بل المطاردة والمضادّة إنّما تكون بين بعض أفرادها المخصّصة بخصوصية كونه في زمان خاصّ، ومن المعلوم أنّ هذه الخصوصية غير مأخوذة في متعلّق الأمر؛ لأنّ هذه الخصوصية (وقوعها في ذلك الجزء من الزمان أو جزء آخر منه) غير دخيلة في ترتّب المصلحة.

والحاصل: أنّ ما هو المضادّ للتكليف الآخر من أفراد هذه الطبيعة ليس مأموراً به وإن كان ممّا تنطبق عليه تلك الطبيعة انطباق الكلّي على أفراده، فليس بين المأمور به وغيره تزاحماً وتعانداً أصلاً. وهذه الطبيعة لا تصير باعتبار هذا الفرد خارجة عن كونها مقدورةً وإن كان هذا الفرد منها مزاحماً ومطارداً للغير، فلا يكون الأمر بالطبيعة الموسّعة والأمر بالطبيعة المضيّقة من قبيل الأمر بالضدّين. فإذا صحّ تعلّق الأمر بها كذلك يمكن امتثالها بإيجاد کلّ فرد من أفرادها حتى تنطبق عليه تلك الطبيعة ولو كان الفرد المأتيّ به هو الفرد المزاحم للتكليف الآخر.((1))

ص: 216


1- إلّا علی ما سیأتي في بحث اجتماع الأمر والنهي في ثمرة النزاع.

ثم إنّه قد انقدح ممّا ذكرناه ضعف ما أورده بعض الأعاظم على هذا الكلام وإن كان المحتمل أنّه من زلّات أقلام بعض المقرّرين. وهو: أنّ السرّ في استحالة الأمر بالضدّين ليس قبح صدوره عن الحكيم كما هو المشهور، بل عدم انقداح الإرادة النفسانية مع الالتفات والعلم بامتناع وجود الضدّين في نفس الآمر الحكيم، فحينئذٍ تكون قدرة المكلّف شرطاً لأصل التكليف، فلا تكاد أن تكون في نفس المولى إرادة لفعله بعد علمه بعدم قدرة المكلّف على ذلك. وفيما نحن فيه قد فرضنا أنّ المولى حَكم بفعل الأهمّ في بعض زمان المهمّ وحكمه هذا يسلب عنه القدرة على إتيان الفرد المهمّ في هذا الزمان، وحيث إنّ الامتناع الشرعي كالامتناع العقلي فلا يمكن الأمر بالمهمّ في ظرف الأهمّ وزمان مزاحمته معه.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغفلة عمّا فرضناه، فإنّ المفروض كون الطبيعة - خالية عن جميع الخصوصيات الفردية - تمام متعلّق الأمر، فلا يكون وقوعها في زمان المزاحمة مع ما هو الأهمّ إلّا كالحجر المضموم إلى جنب الإنسان.

هذا مضافاً إلى أنّ حكمه بعدم قدرة المكلّف على المهمّ في زمان مزاحمته مع الأهمّ هو عين المتنازع فيه؛ فإنّ النزاع لا يكون إلّا في أنّ التكليف بالمهمّ على نحو تعلّقه بالطبيعة المجرّدة عن الخصوصيات الفردية في ظرف التكليف بالأهم على نحو تعلّقه بخصوص الفرد محال أم لا؟

وقوله: إنّ الامتناع الشرعي كالامتناع العقلي، ليس من المسلّمات.

هذا، ولكن لا يذهب عليك: أنّ ما ذكرناه من إمكان صدور الأمر بالضدين إنّما هو مختص بصورة عدم تضيّق الموسّع، وأمّا في صورة تضيّق وقته بحيث لو لم يأت بهذا الفرد لما تحقّق الإتيان بالطبيعة المأمور بها فلا محيص عن القول بأنّ الفرد الأخير يكون مأموراً به بالأمر التبعي للتحفظ على الطبيعة المأمور بها عن العصيان والفوت، فحينئذٍ

ص: 217

لو كان ذلك مزاحماً للأهم يكون الأمر به من الأمر بالضدّين. هذا كلّه فيما يكون أحدهما موسّعا دون الآخر.

وأمّا إذا كان کلّ منهما مضيّقاً وموقّتاً بالزمان الّذي تضيّق به الآخر، فلا يمكن تصوير الأمرين، بل لابدّ وأن يؤتى بالمهمّ بقصد المحبوبية الذاتية، لأنّ عبادية العبادة لا ينحصر طريق تحصيلها بقصد الأمر، بل يمكن القول بكفاية قصد محبوبيتها الذاتية، كما لا يخفى.

الكلام في الترتّب

تصدّى بعض الأعاظم لتصوير الأمر بالضدّين على نحو الطولية وكون أحدهما مشروطاً بعصيان الآخر، فيكون الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصيان الأهمّ.

وقد وقع الخلاف في إمكان ذلك واستحالته. وجوّزه المحقّق الثاني على ما يظهر عنه في بعض المسائل الفقهية،((1)) وشيّد أركانه الميرزا الشيرازي،((2)) ثم تلقّاه منه بالقبول تلميذه المعظّم السيّد محمد الفشاركي(قدس سره)، وحقّقه تلامذته عدا المحقّق الخراساني(قدس سره) فإنّه استحال ذلك.((3))

ومختارنا الحقّ هو الجواز. وقبل الشروع فيما هو المهمّ في المقام ينبغي المراجعة إلى الوجدان ليتّضح أنّ الضرورة العقلية هل هي قائمة على إمكان ذلك أو لا؟

والحقّ أنّ العقل لا يأبى عن قبول إمكانه، ولا يرى مانعاً لصحّة الأمر بالضدّين بحيث يكون أحدهما مترتّباً على عصيان الآخر، فلا يسمح للحكم بامتناعه. وهذا واضح بعد المراجعة إلى الوجدان وغنيّ عن البيان. فإنّ الوجدان حاكم بصحّة أمر المولى عبده بإنقاذ ولده الغريق على الإطلاق، وأمره بإنقاذ أخيه الغريق لكن لا على نحو الإطلاق بل بشرط عصيان أمره بإنقاذ ولده الغريق، وليس هذا من الممتنعات الوجدانية.

وأمّا البحث العقلي في ذلك وتحقيق المرام خارجاً عن إطار الوجدان، فيحتاج إلى بيان مقدّمة لم تذكر في كلمات الأعلام، فنقول: لا إشكال في أنّ ملاك استحالة الأمرين بالضدّين لا يكون إلّا امتناع اجتماع الضدّين في الخارج وأنّه لا يمكن انقداح الإرادة في نفس الآمر الملتفت إلى امتناع اجتماع الضدّين. وتحقّق هذا الملاك في الأمر الواحد المتعلّق بالضدّين في غاية الوضوح، إذ لا يمكن تعقّل تعلّق الإرادة الواحدة بالضدّين ولا يعقل انقداحها في نفس الآمر الملتفت فلا يعقل البعث والتحريك.

ولكن من الواضح عدم كون ما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ المفروض في مسألة الترتّب هو أمران تعلّق کلّ منهما بغير ما تعلّق به الآخر، وكلّ منهما يدعو نحو متعلّقه الّذي هو ممكن في حدّ ذاته، ولا يكون التحريك بواحد منهما مع قطع النظر عن الآخر تحريكاً بالمحال، فلا يكون انقداح الإرادة محالاً، لأنّ كلّا منهما يبعث إلى متعلّقه الممكن في حدّ ذاته، فعلى هذا لا يكون الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ من باب الأمر بالضدّين، أو الأمر بالمحال.

وبعبارة اُخرى: إنّ إرادة الأهمّ والبعث والتحريك نحوه مع قطع النظر عمّا يضادّه لا تكون من المحالات العقلية بل هي من الممكنات الواقعة كثيراً، وكذلك لا مانع من إرادة المهمّ بما هو هو وفي نفسه مع قطع النظر عن الأمر بالأهمّ. فليس هذا المقام، ومقام الأمر بالمحال والأمر بالضدّين من باب واحد، بل هنا أمران تعلّق کلّ منهما بشيء غير ما تعلّق به الآخر، ومن الواضح إمكان کلّ منهما في نفسه.

نعم، الأمران إذا كانا في مرتبة واحدة بحيث يكون البعث والتحريك بأحدهما في

ص: 218


1- نقلها الشیخ(رحمه الله) في مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص57).
2- تقریرات المجدّد الشیرازي، ج3، ص119. راجع أیضاً: درر الفوائد للشیخ الحائري، ج1، ص140.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص213، تبعاً لاُستاذه الشیخ(رحمه الله) في مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص57).

رتبة البعث والتحريك بالآخر، يكون هذا مستحيلاً كالأمر بالضدين، بمعنى أنّ العقل كما يحكم باستحالة الأمر بجمع الضدّين، حاكم أيضاً باستحالة الأمرين بالضدّين إذا كانا في مرتبة واحدة، بحيث كان التحريك بأحدهما في عرض تحريك الآخر، وكان كلّ واحد من البعثين في مرتبة البعث الآخر.

ثم إنّه لا فرق فيما هو ملاك الاستحالة والامتناع بين ما إذا كان الأمران كلاهما بنحو الإطلاق - ويكون تحريك کلّ منهما في رتبة تحريك الآخر - ، أو الاشتراط بأن يكون كلاهما مشروطين بشرطٍ واحد، كما إذا قال السيّد لعبده: إذا دخلت السوق يجب عليك شراء اللحم وإذا دخلت السوق فاشتر الخبز. أو يكونا مشروطين بشرطين ولكن كان حصولهما في مرتبة واحدة، سواء كان الشرط اضطرارياً أو اختيارياً، فيكون بعث کلّ واحد منهما نحو متعلّقه في مرتبة بعث الآخر. فلا فرق في جميع هذه الموارد من جهة استلزامها ملاك الاستحالة العقلية وهو التحريك إلى شيء في مرتبة التحريك إلى شيء آخر.

وأمّا إذا كان أحدهما مطلقاً والثاني مشروطاً بعصيان الآخر، فلا يلزم منه ملاك الاستحالة؛ لأنّ ملاك حكم العقل بالامتناع والاستحالة ليس إلّا عدم إمكان التحريك نحو شيء في مرتبة تحريكٍ آخر نحو شيء آخر. وهذا الملاك غير موجود في المقام؛ إذ المفروض أنّ أحد الأمرين تعلّق بموضوعه على نحو الإطلاق والثاني على نحو اشتراطه بعصيان الآخر. فالتحريك بالمهمّ ليس في مرتبة التحريك بالأهمّ؛ لأنّه مشروط بعصيان الأهمّ، والتحريك بالأهمّ يكون متقدّماً على عصيانه المتقدّم على التحريك بالمهمّ، فإذا كان التحريكان في مرتبتين، كيف يمكن أن يتحقّق فيهما مناط الاستحالة العقليّة؟ وهو التحريك بشیء فی رتبه التحریک بالاخر.

لایقال : بناء علی ما ذکرتم یلزم ان یکون الامر بالاهم ایضا مشروطا بعدم

ص: 219

العصيان؛ لأنّه عند عصيانه لا يكون مأموراً به بل المأمور به عندئذٍ هو المهمّ والحال أنّ المفروض إطلاق الأمر بالأهم.

هذا، مضافاً إلى أنّ اشتراط الأمر بالامتثال أو العصيان أو كليهما غير معقول؛ فإنّه بشرط الامتثال مستلزم لتحصيل ما هو الحاصل، وبشرط العصيان مستلزم لاجتماع النقيضين، وبشرط الإطاعة والعصيان مستلزم لکلّا المحذورين، وما لا يمكن تقييده واشتراطه لا يصحّ إطلاقه، بمعنى أنّه إذا لا يمكن تقييده بعنوان الإطاعة والعصيان بأن يقال: أيّها المطيع أو أيّها العاصي افعل کذا وکذا أو أيّها المطيع والعاصي افعلا كذا وكذا، فلا يمكن إطلاقه بالنسبة إليهما.

مضافاً إلى ذلك كلّه: أنّ الإطاعة والعصيان ممّا يترتّب على الأمر في المرتبة المتأخّرة عنه، فلا يمكن أخذهما في متعلّق الأمر.

فإنّه يقال: إنّ الأمر بالأهمّ لا يكون مشروطاً بالإطاعة والعصيان حتى يستلزم المحذورات المذكورة، بل الأمر متعلّق بذات المكلّف العاصي أو المطيع مثل أن يخاطبه بقوله: يا أيّها الإنسان إفعل كذا، وهذا هو الّذي يعبّر عنه بالإطلاق الذاتي ولا محذور فيه.

إن قلت: إنّ المهمّ وإن لم يكن طارداً للأهمّ من جهة اشتراطه، ولكن الأهمّ يكون طارداً للمهمّ لفرض إطلاقه ولو بالإطلاق الذاتي.

قلت: مرتبة العصيان مرتبة عدم تأثير الأمر، ولو فرض وجود الأمر فلا يكون مؤثّراً في تحريك العبد، فلا مانع عقلاً من الأمر بالمهمّ في تلك المرتبة، وقد مرّ أنّ الأمر بالمهمّ متأخّر عن الأمر بالأهمّ برتبتين والأمر بالأهمّ متقدّم عليه بمرتبتين، والمتأخّر عن الشيء لا يمكن ارتقاؤه إلى المرتبة المتقدّمة لذاك الشيء، وما هو متقدّم على الشيء لا يمكن انحطاطه وتنزّله في مرتبة ذلك الشيء، فلا تحصل المطاردة بين المتخالفين رتبة.

ص: 220

ثم إنّه ربما یمکن أن يختلج في بعض الأذهان ويشتبه العصيان الرتبي بالعصيان الخارجي الّذي يقع في الخارج في وعاء الزمان، ويقال: إنّ عصيان الأهمّ الّذي هو شرط للمهمّ لا يكون إلّا بعد انقضاء زمان الأهمّ، والحال أنّ المفروض أنّ زمان الأهمّ عين زمان المهمّ، فلا يمكن وجود ما اشترط عليه الأمر بالمهمّ إلّا بعد انقضاء زمان المهمّ.((1))

والجواب: أنّ هذا الإشكال إنّما نشأ من خلط العصيان الرتبي بالخارجي، والحال أنّ العصيان الرتبي غير العصيان الخارجي، فإنّ العصيان الرتبي الّذي هو شرط للمهمّ يحصل قبل انقضاء زمان المهمّ في الوعاء المخصوص به، بخلاف العصيان الخارجي الزماني - الّذي هو ليس شرطاً للمهمّ - كما هو معلوم.

إن قلت: فعلى هذا، لا مانع من أمرين بالضدّين واشتراط أحدهما بإطاعة الآخر؛ لأنّ الإطاعة والعصيان يكون من قبيل النقيضين وفي مرتبة واحدة، فكما أنّ اشتراط أحد الأمرين بعصيان الآخر موجب للخروج عمّا هو مناط الامتناع وانقلاب مادّة الامتناع إلى الإمكان، فليكن اشتراط أحدهما بإطاعة الآخر كذلك.

قلت: إنّ الفرق بين الإطاعة والعصيان أوضح من أن يخفى؛ فإنّ حقيقة الإطاعة وقوع المأمور به في الزمان الّذي لابدّ وأن يقع فيه، وليس معنى كون الأمر بالمهمّ مشروطاً بإطاعة الأهمّ إلّا الأمر بأحد الضدّين بشرط وجود ضدّه، وليس هذا إلّا الأمر بالمحال والتحريك إلى الضدّين، وهذا يكون أسوء حالاً من الأمرين بشيئين في مرتبة واحدة يكون کلّ واحد منهما ممكناً في حدّ نفسه ممتنعاً بالقياس إلى الآخر.

هذا، مضافاً إلى أنّ هذا مستلزم للتناقض؛ فإنّ الأمر بالشيء بشرط وجود ضدّه

ص: 221


1- النائیني، فوائد الاُصول، ج2، ص346.

معناه الأمر بالشيء بشرط انقضاء زمانه وهذا مستلزم لعدم الأمر به، فيكون الأمر بالشيء مشروطاً بعدم الأمر به.

إن قلت: بناءً على ما ذكرتم لا محيص عن الالتزام بعقابين عند ترك الأهمّ والمهمّ، مع أنّ العقاب على تركهما ليس إلّا العقاب على أمرٍ غير مقدور للمكلّف، لأنّه لا يكون قادراً على إيجاد الأهمّ والمهمّ.((1))

قلت: أيّ مانع عقلي من ذلك بعد فرض تعلّق الأمرين بهما على سبيل الترتّب؟ فلا يكون ذلك عقاباً على غير مقدور، لأنّه قادر عليهما على نحو الترتّب فما يكون مصحّحاً لتعلّق التكليف هو الملاك والمناط لصحّة العقاب.((2))

تذنيب

إنّ للشيخ الأنصاري(رحمه الله) كلاماً، حاصله: إنّ خبر الواحد إذا تعارض مع خبر آخر، وقلنا بالسببية في باب حجّية الخبر بمعنى قيام المصلحة في نفس العمل به، يكون من

ص: 222


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص218. ونقل عن اُستاذه آیة الله المجدّد السيّد حسن الشیرازي(رحمه الله) عدم التزامه بهذا اللازم، وأنّه کان بصدد تصحیحه.
2- یمکن تقریر الترتّب بأن یقال: إنّ معنی الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصیان الأهمّ کونه مشروطاً بعدم داعویة الأمر إلیه وموجباً لانبعاث العبد نحوه لعدم إرادة العبد الإتیان به وإرادته العصیان مع بقاء الأمر الإنشائي المطلق به حال الإتیان بالمهمّ علی حاله. وبعبارة اُخری: لا مضادّة بین الأمر الحقیقي بالمهمّ وإرادة انبعاث العبد منه مع الأمر الصوري بالأهمّ إتماماً للحجّة علی العبد، فالمولی الحکیم الّذي یعلم عدم انبعاث عبده من أمره بالأهمّ یأمره به إتماماً للحجّة ویأمره حقیقةً بالمهمّ لأن ینبعث منه ولابدّ له من ذلك. فإن قلت، فهذا یأتي بالضدّین المهمّین أیضاً. قلت: لا مانع إذا علم عدم انبعاثه من أحدهما المعیّن فیأمر به صوریاً وبالآخر بشرط العصیان به. ولا یخفی علیك ، أنّ مرادنا من الأمر الصوري الأمر الإنشائي المنشأ لإتمام الحجّة علی العبد وما هو مصحّح العقاب وعدم الانبعاث منه یعد عصیاناً، وبالأمر الحقیقي أیضاً الإنشائي المنشأ لانبعاث العبد منه، فتدبّر. [منه دام ظلّه العالي].

قبيل المتزاحمين فيتقيّد إطلاق دليل حجّية کلّ منهما بعدم الآخر من غير أن يسقط أصل الخطاب، وبهذا يرتفع محذور التزاحم.((1))

وأورد عليه بعض المعاصرين(رحمه الله)((2)) - على ما في تقريرات بحثه - بأنّ هذا التزام بخطابين يكون کلّ منهما مترتّباً على عدم امتثال الآخر وليس هذا إلّا الالتزام بالترتّبين فضلاً عن الالتزام بترتّب واحد، والحال أنّ الشيخ ممّن ينكر إمكان الترتّب ويلتزم بسقوط الأمر بالمهمّ.((3))

هذا خلاصة ما أفاده المعاصر المزبور رداً على الشيخ(رحمه الله). ولكنّك بعد التأمّل في كلام الشيخ(رحمه الله) تعرف عدم ورود هذا الإشكال على كلامه؛ فإنّ مراد الشيخ أنّه بعد الالتزام بالسببية ووجود المصلحة في نفس العمل بالخبرين المتعارضين يرجع التعارض بينهما إلى التزاحم ونتيجته تقييد إطلاق دليل کلّ منهما بعدم الآخر، وهذا عبارة اُخرى عن التخيير العقلي، وبهذا يرتفع محذور التزاحم من غير أن يسقط الخطابين من الأصل.

وبعبارة أخرى: لا يكون مراد الشيخ(رحمه الله) من تقييد کلّ من الإطلاقين بعدم الآخر

ص: 223


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ج2، ص445 (في التعادل والتراجیح، المقام الأول: في المتکافئین)، وهذا نصه: «ولکن، لمّا کان امتثال التکلیف [بالعمل بکلّ] منهما کسائر التکالیف الشرعیة والعرفیة مشروطاً بالقدرة، والمفروض أنّ کلّا منهما مقدور في حال ترك الآخر وغیر مقدور مع إیجاد الآخر، فکلّ منهما مع ترك الآخر مقدور یحرم ترکه ویتعيّن فعله. ومع إیجاد الآخر یجوز ترکه ولا یعاقب علیه. فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجة أدلّة وجوب الامتثال [والعمل] بکلّ منهما بعد تقیید وجوب الامتثال بالقدرة. وهذا ممّا یحکم به بدیهة العقل. کما في کلّ واجبین اجتمعا علی المکلّف، ولا مانع من تعیین کلّ منهما علی المکلّف بمقتضی دلیله إلّا تعیین الآخر علیه کذلك».
2- یقصد به المحقّق النائیني(رحمه الله) في فوائد الاُصول (ج1، ص338 – 339)؛ وأجود التقریرات (ج1، ص287).
3- انظر إنکاره للترتّب في مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص57 وما بعدها) (في مباحث مقدّمة الواجب، الهدایة الّتي تکلّم فیها عن صحّة اشتراط الوجوب عقلاً بفعل محرّم مقدّم علیه وعدمها).

تقييد کلّ منهما بعصيان الآخر، كما هو الحال في مسألة الترتّب حتى يكون کلّ واحد منهما مترتّباً على الآخر كما ظنّه هذا المحقّق المعاصر(رحمه الله)، بل مراده تعيّن کلّ واحد منهما في ظرف عدم الآخر بما أنّه عدم للآخر لا بما أنّه عصيان له. ولعلّ هذا هو محلّ التأمّل عند السيّد الشيرازي(قدس سره) ووجه عدم التزامه بالعقابين.

نعم، لو كان عدم الآخر بمعنى التمرّد والعصيان يكون وجوب العمل بکلّ واحد منهما مشروطاً بعصيان الآخر ويتّجه الإشكال، ولكن تفسير كلامه بهذا واضح البطلان.

هذا خلاصة الكلام في المقام ونسأل الله التوفيق وعليه التكلان.

ص: 224

الفصل السادس: في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أو لا؟((1))

إعلم: أنّ هذا البحث قد انقلب عمّا هو عليه أوّلاً، ضرورة أنّه لا معنى للبحث عن هذا العنوان ولا محصّل له، بل محصّله لا يكون إلّا التناقض؛ فإنّ مع انتفاء الشرط ينتفي المشروط وهو الأمر، فيكون محصّل العنوان: أنّ مع فرض عدم الأمر هل يجوز الأمر أو لا؟ وليس هذا إلّا التناقض. فالصحيح في عنوان المسألة أن يقال: هل يجوز للآمر الأمر مع كون أمره واجداً لشرائطه حين الأمر ولكنّه يعلم انتفاء بعض شرائطه عند مجيء وقت العمل به، كما في أمره مع علمه بالنسخ عند حضور وقت العمل مثل:

ص: 225


1- انظر عنوان المسألة والبحث فیها عند القدماء في الذریعة إلی اُصول الشریعة (الشریف المرتضی، ج1، ص430)؛ العدّة في اُصول الفقه (الطوسي، ج2، ص518)؛ معارج الاُصول (المحقّق الحلّي، ص167 وما بعدها)؛ المستصفی (الغزالی، ج1، ص215)؛ الاحکام (الآمدي، ج3، ص115)؛ الإبهاج بشرح المنهاج (السبکي، ج2، ص234)؛ اللمع في اُصول الفقه (الاشعري، ص56)؛ شرح اللمع، ج1، ص485؛ شرح المنهاج، ج1، ص469؛ المعتمد (البصري، ج1، ص164) (شروط حسن الأمر)، ص375 – 376؛ الاحکام (ابن حزم الأندلسي، ج4، ص512)؛ المنخول (الغزالي، ص392)؛ روضة الناظر (المقدسي، ص70)؛ المحصول (الفخر الرازي، ج2، ص275؛ ج3، ص311). وعند المتأخّرین في معالم الدین (العاملی، ص82)؛ قوانین الاُصول (القمی، ج1، ص124)؛ هدایة المسترشدین (الأصفهاني، ص300)؛ الفصول الغرویة (الأصفهاني، ص109).

أمره تعالى بذبح إبراهيم - على نبيّنا وآله وعليه السلام - ولده مع علمه تعالى بفقدان شرطه وقت العمل، فإنّه ربما يكون من شرائط وجوبه عدم وجود الفداء.

إذا عرفت ما يمكن أن يرجع إليه البحث وعنوان الكلام فاعلم: أنّ الأشاعرة لمّا ذهبوا إلى الكلام النفسي وأنّه غير الإرادة النفسانية((1)) التزموا بجواز ذلك؛ لأنّه لا مانع من تعلّق الطلب النفسي على هذا بأمر يعلم الآمر فقدان شرطه عند حضور وقت العمل.((2)) وأمّا المعتزلة: فقد ذهبوا إلى عدم جواز ذلك؛((3)) فإنّهم نفوا وجود صفة قائمة بالنفس غير الإرادة وسائر الصفات المعروفة، فبناءً عليه لا يمكن تعلّق الإرادة بشيء كان الآمر عالماً بفقدان شرط أمره قبل حضور وقت العمل. وأمّا قضيّة إبراهيم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وأمثالها فقد أسلفنا الكلام في تحقيقه، فتدبّر.

ص: 226


1- راجع: الفخر الرازي، المحصول، ج2، ص 18؛ وأیضاً: الجرجاني، شرح المواقف، ج8، ص91 – 104؛ التفتازاني، شرح المقاصد، ج4، ص147 – 151. وانظر نسبة الجواز إلی أکثر مخالفینا في المعالم (العاملي، ص82)؛ والقوانین (القمّي، ج1، ص126).
2- راجع: شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب (ص106، 108)؛ المستصفی (الغزالي، ج1، ص215)؛ المعتمد (البصري، ج1، ص376)؛ تیسیر التحریر (الفخر الرازي، ج2، ص240).
3- راجع: البصري، المعتمد، ج1، ص376؛ الفخر الرازي، المحصول، ج2، ص19.

الفصل السابع: في الواجب التخييري

اشارة

لا يخفى: أنّ قدماء الاُصوليّين من العامّة حيث عرّفوا الواجب على سبيل الإطلاق بأنّه: هو الّذي يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب؛((1)) أشكل عليهم الأمر في الواجب التخييري، لأنّه بناءً على تعريفهم لا يوجد جامع بينه وبين الواجب التعييني؛ فإنّ التخييري على فرض كونه واجباً لا يكون بحيث يستحقّ تاركه العقاب، فلا يصدق عليه ما ذكروه في تعريف مطلق الواجب.

وأمّا أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - فقد أدركوا حقيقة الأمر، وأنّه ليس جامع بينهما، وأنّ الوجوب التعييني حقيقته تحتّم المولى عبده بإتيان شيء وإلزامه له، والتخييري إلزامه وتحتّمه عبده بإتيان شيئين أو أشياء على سبيل الترديد النفس الأمري. ولأجل ذلك قالوا في تعريف الواجب التخييري: بأنّه الّذي يكون تاركه لا إلى بدل مستحقّاً للعقاب.((2))

ص: 227


1- الغزالي، المستصفی من علم الاُصول، ج1، ص69؛ الفخر الرازي، المحصول، ج1، ص95. ولا یرد الإشکال المذکور في المتن علی ما قرّره ونقله الرازي عن الباقلاني، إذ کان ملتفتاً إلیه فعرّفه بما لا یرد علیه الإشکال، فراجع. ومع ذلك یکون الترجیح مع ما عرّفه أصحابنا کما لا یخفی علی المتأمّل فیه.
2- البهائي، زبدة الاُصول، ص44؛ الفاضل التوني، الوافیة في اُصول الفقه، ص80. وانظر الأقوال، في تعریف الواجب التخییري والقائلین بها في هدایة المسترشدین (الأصفهاني، ص248).

فظهر من ذلك: أنّ حقيقة الوجوب التخييري إيجاب شيئين أو أشياء على سبيل الترديد النفس الأمري، والوجوب التعييني على نحو التعيين والتنجيز.

ولا يخفى: أنّ مراد الأصحاب بالبدل المذكور في تعريف الواجب التخييري ليس البدل الّذي يكون مقابلاً للأصل كما هو المصطلح، بل المراد هو الفرد التخييري كما هو واضح.

أقسام الواجب التخييري

ثم إنّه قد يفصل بين الواجب التخييري كما في الكفاية((1)) بأنّه يمكن أن تكون المصلحة المترتّبة على کلّ واحد من الشيئين أو الأشياء عين المصلحة الّتي تترتّب على غيره. فلو تعلّق الأمر بکلّ واحد من الشيئين أو الأشياء على سبيل التخيير يكون بمناط ترتّب تلك المصلحة الواحدة على کلّ واحد منها، ولابدّ من كون الواجب في هذا الفرض الجامع بينها وتعلّق الوجوب به تعييناً، فالتخيير بين أفراد هذا الجامع يكون عقلياً.

ويمكن أن تكون لکلّ واحد منها مصلحة خاصّة لا تكون في الآخر، ولكنّ المصلحتين تكونان بحيث لو أتى بأحدهما لا يبقى مجال لإتيان الآخر ويسقط ما يكون في غيره من المصلحة، بحيث يكون الإتيان بکلّ واحد منها مانعاً عن حصول مصلحة الآخر لو اُتي به أيضاً، فالتخيير في هذه الصورة يكون شرعياً، كخصال الكفّارة.

هذا، ولكنّك خبير بأنّه يمكن فرض مصلحة خاصّة لکلّ فرد من الأفراد حتى في الصورة الاُولى كما يمكن في الصورة الثانية وذلك بمقتضى الدليل، فإنّ الأمر يتعلّق بکلّ واحد منهما على حدة، فأين هذا من كشف الجامع بينهما بحيث يكون متعلّق الأمر هو الجامع؟ فتأمّل.

ص: 228


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص140 – 141.

إمكان التخيير بين الأقلّ والأكثر

وقع الخلاف في إمكان التخيير بين الأقلّ والأكثر.((1))

ولا يخفى: أنّه لابدّ من فرض النزاع فيما إذا كان الأكثر مشتملاً على الأقلّ، وهذا هو معنى الأقلّ والأكثر؛ فالزيادة الّتي تزيد على الأقلّ إمّا أن تكون من جنس المزيد عليه وهذا كالطبائع المشكّكة الّتي لها أفراد مختلفة في الشدّة والضعف والطول والقصر والأوّلية والآخرية، وإمّا أن لا تكون كذلك بل الزيادة تكون مباينة للأقلّ، فيكون الأقلّ والأكثر من قبيل المتباينين.

والحاصل: أنّ محلّ النزاع يكون فيما إذا كانت الجهة المشتركة هي الجهة المائزة، سواء كانت من قبيل الكمّيات المنفصلة كالأعداد، أو المتّصلة كالخطّ. مع فرض أنّ موضوع النزاع هو ذات الأقلّ والأكثر، لا بما أنّ الأقلّ له حدّ عدمي هو عدم وجدانه للزيادة وأخذه بشرط لا؛ إذ حينئذٍ يصير من قبيل المتباينين تباين الماهية بشرط لا مع الماهية بشرط شيء، فيخرج عن محلّ النزاع.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه قد يقال في تقريب التخيير: بأنّه إذا كان الأقلّ محصّلاً للغرض والأكثر أيضاً محصّلاً له بحيث يكون إذا وجد الأقلّ وجد الغرض بتمامه، وإذا وجد الأكثر وجد الغرض بتمامه أيضاً، ويكون الأقلّ في ضمن الأكثر جزءً للمحصّل، فتخصيص الوجوب بخصوص الأقلّ أو الأكثر يكون بلا مخصّص لا محالة؛ بداهة أنّه إذا كان الخطّ الطويل كالقصير محصّلاً لتمام الغرض يكون تخصيص الوجوب بأحدهما دون الآخر تخصيصاً من غير مخصّص، هذا في الكمّيات المتّصلة.

ص: 229


1- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص117؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص103؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص226.

وأمّا الكمّيات المنفصلة أو المتّصلة الّتي يتخلّل فيها العدم، فهي أيضاً كذلك؛ لأنّ الغرض إنّما يترتّب على الأقلّ لو لم يضمّ إليه الأزيد، ولو انضمّ إليه الأزيد فلا يترتّب عليه بل يترتّب على فرد آخر وهو الأكثر. هذا ملخّص تقريب القول بالتخيير.

ولكنّك خبير بأنّه لو كان الأقلّ والأكثر من الكمّيات المنفصلة أو ممّا يتخلّل فيه العدم، كالخطّ الّذي يقطع في حدّ مّا، فيحصل الغرض بمجرّد حصول الأقلّ، فلايصحّ فرض التخيير بينهما أصلاً.((1))

نعم، يمكن أن يقال: بأنّه لو كانت للطبيعة الجامعة خصوصية ملازمة للأقلّ وخصوصية اُخرى ملازمة للأكثر، كالصلاة المخصَّصه بالخصوصيّة السفرية أو الحضرية تكون في الأقلّ مصلحة لا تكون في الأكثر وفي الأكثر مصلحة لا تكون في الأقلّ إلّا أنّ كلّا من المصلحتين لو حصلت توجب سقوط الاُخرى. ويمكن أن تكون التسبيحة من هذا القبيل، فإنّها لو لوحظت بماهي هي وبما أنّها تسبيحة من غير ضمّ خصوصية بها لايمكن تصوّر التخيير بين الأقلّ والأكثر فيها؛ لأنّ الغرض يحصل بأوّل تسبيحة صدرت من المكلّف ولا تصل النوبة إلى الأكثر. وأمّا إذا لوحظت مع خصوصية وبما أنّ في إحداها مصلحة خاصّة وفي الثلاثة مصلحة اُخرى لامانع من تصوير التخيير بينهما حينئذٍ. هذا كلّه فيما إذا كان على نحو الانفصال كما في التسبيحات، أو الاتّصال مع تخلّل العدم فيه.

وأمّا لو لم يكن كذلك وكان متّصلاً من غير تخلّل عدم في اتّصاله، فلا يبعد صحّة التخيير بينهما مطلقاً ولو لم يكن کلّ من الأقلّ والأكثر ملازماً لعنوان ذي مصلحة خاصّة؛ فإنّ الخطّ الطويل يكون فرداً واحداً من الخطّ، والقصير أيضاً فرداً منه، فما دام لم يتخلّل العدم في رسمه يكون شيئاً واحداً غير الآخر، قصيراً كان أو طويلاً، فتدبّر.

ص: 230


1- استدلّ بهذا الدلیل المحقّق القمّي(رحمه الله) في ما إذا کان حصول الأکثر تدریجیاً. راجع المصدر نفسه. وذکره الجواهر (النجفي، ج10، ص43) في عدد أدلّة القائلین باستحباب ما زاد علی الأربع من التسبیحات، وأجاب عنه، فراجع.

الفصل الثامن: في الواجب الكفائي

اشارة

الواجب الكفائي هو: الواجب الّذي توجّه الخطاب به إلى كلّ واحد من المكلّفين، ولكنّه يسقط لو أتى به واحد منهم.

اختلاف التعاريف

وقد اختلفت كلماتهم في تصويره،((1)) فيظهر من بعضها: أنّ الخطاب فيه توجّه إلى تمام المكلّفين بعنوان المجموع من حيث المجموع ويسقط بإتيان فرد واحد منهم.

ويظهر من البعض الآخر من الكلمات: أنّ الخطاب متوجّه إلى واحد من المكلّفين كما هو الشأن في الواجب التخييري، وإنّما الفرق بينهما: أنّ الترديد في الواجب التخييري في ناحية متعلّق التكليف، وفي ما نحن فيه في ناحية المكلّفين.((2)) فكما لا مانع من تصوير الترديد في ناحية متعلّق التكليف، لا مانع من تصويره في جانب المكلّفين أيضاً.

وذهب بعضهم إلى: أنّ الخطاب في الواجب الكفائي متوجه إلى كل فرد فرد من

ص: 231


1- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص120؛ الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص268؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص107.
2- راجع: العراقي، قوامع الفضول في الاُصول، ص177 -178. و ذهب إلیه في فوائد الاُصول (النائیني، ج1، ص235-236).

المكلّفين على سبيل الاستغراق، إلّا أنّ الخصوصية في الواجب الكفائي تكون في ناحية السقوط وهذا بحيث لو أتى به أحد منهم سقط من السائرين.((1))

نقد التعاريف

إنّك خبير بفساد التعاريف المذكورة.

أمّا التعريف الأوّل، ففيه: أنّ عنوان المجموع ليس عاقلاً حتى يصحّ توجيه الخطاب إليه.

وأمّا التعريف الثاني، فلو كان المراد بواحد منهم مفهومه فيرد عليه الإشكال الأوّل. ولو كان المراد به مصداق أحد منهم فالترديد لا يعقل في جانب المكلّفين؛ لأنّ توجيه الخطاب لابدّ وأن يكون نحو شخص معيّن، إذ لا يمكن تحريك الشخص المردّد وبعثه نحو الفعل. وهذا بخلاف الترديد في جانب المتعلّق، إذ الغرض كما أنّه يترتّب تارة على متعلّق واحد كذلك يمكن أن يترتّب على کلّ واحد من المتعلّقات.

وأمّا التعريف الثالث، فيرد عليه: أنّ السقوط إن كان من جهة حصول تمام الغرض بإتيان واحد منهم، فلا مجال لتوجيه الخطاب نحو كلّ فرد فرد من المكلّفين، وإنّما يصحّ نحو واحد منهم.

وإن لم يكن وجه السقوط حصول الغرض، فلا يسقط الأمر؛ لأنّ الغرض إذا لم يحصل بعد إتيان واحد من المكلّفين فلا مجال لسقوط التكليف عن السائرين.

هذا مضافاً إلى أنّه لا يعقل أن يكون امتثال شخص للأمر امتثالاً من شخص آخر أيضاً.

ص: 232


1- ذهب إلیه قوانین الاُصول (القمّي، ج1، ص120)؛ والفصول الغرویة (الأصفهاني، ص107)؛ وهدایة المسترشدین (الأصفهاني، 268)؛ وکفایة الاُصول (الخراساني، ج1، ص228-229).

حقيقة الواجب الكفائي

إنّ التحقيق يقتضي أن يقال: إنّ للأمر إضافة إلى الآمر بسبب صدوره منه؛ وإضافة إلى المأمور بتحريكه إيّاه؛ وإضافة إلى الفعل الصادر بقيامه فيه قيام العرض في الموضوع، فكما يمكن أن تكون إضافته إلى الفعل المتعلّق بقيد صدوره عن کلّ فرد من الأفراد مباشرة، كما في الصلاة والصيام، فإنّ الأمر بهما قد توجّه إلى المكلّفين بقيد صدورهما عن کلّ فرد فرد منهم لقيام المصلحة بهذا النحو، كذلك يمكن أن تكون إضافة الأمر إلى المتعلّق لا بنحو صدور ذلك عن کلّ واحد منهم بل كانت إضافته إلى الطبيعة الصرفة لأجل تعلّق الأمر بصرف طبيعة الفعل لا بقيد تكثّرها بتكثّر أفرادها، ومن الواضح أنّ الطبيعة توجد بوجود فردٍ مّا، وبعد وجودها كذلك لا مجال لعدم سقوط الأمر المتعلّق إليها. وهذه حقيقة الواجب الكفائي.

تنبيهان

الأوّل: ربما يقال - كما في الكفاية: - بأنّ مقتضى إطلاق الأمر هو أن يكون الواجب عينياً؛ لأنّ الكفائي مقيّد بعدم إتيان الآخر والحال أنّ الإطلاق يقتضي خلاف هذا التقيّد.((1))

ولكن بعدما ذكرنا التحقيق في الوجوب الكفائي لا مجال لهذا القول، فإنّه على ما حقّقناه يقتضي الإطلاق خلاف ذلك؛ لأنّ القيد إنّما يكون في الوجوب العيني لا الكفائي، إذ المفروض أنّ الطبيعة الصرفة العارية عن خصوصية صدورها من الأشخاص هي متعلّقة الأمر في الكفائي، بخلاف العيني فإنّ المتعلّق فيه مقيّد بقيد صدورها عن کلّ فرد فرد من المكلّفين، هذا بحسب الإطلاق.

ص: 233


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص116 (المبحث السادس من الفصل الثاني فیما یتعلّق بصیغة الأمر).

وأمّا الّذي يقتضيه الظاهر فالإنصاف أنّه خلاف ذلك؛ لأنّ الأمر ظاهر في العيني لا الكفائي وهذا غير الإطلاق.

الثاني: إنّ مقتضى ما هو الحقّ من أنّ الطبيعة تتكثّر بتكثّر أفرادها: هو الامتثالات العديدة فيما يكون الآتي بالواجب الكفائي متعدّداً وامتثلوه دفعة واحدة. وقد أوضحنا ذلك في مسألة المرّة والتكرار بل يكون الأمر في المقام أوضح من هناك، والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 234

الفصل التاسع: في الواجب المطلق والموقّت

اشارة

إنّ الواجب إمّا مطلق وهو: ما ليس للزمان دخل في حصول مصلحته إذا أتى به، حتى لو فرض حصول الواجب في ما وراء عالم الزمان لا مانع من تحقّق مصلحته.

فعلى هذا، ولو كان الفعل المأمور به من الزمانيات بمعنى ضرورة وقوعه في وعاء الزمان ولكن لا يكون هذا سبباً لدخل الزمان في حصول مصلحته وتقيّد الواجب بزمان خاصّ.

وإمّا موقّت وهو: ما كان للزمان دخل في حصول مصلحته.

وهذا تارة: يكون الزمان الّذي له دخل في حصول مصلحته بمقدار ما يحتاج فعل الواجب إليه من غير زيادة، فهو المضيّق. وتارة: يكون أوسع من ذلك كصلاة الظهر، وهو الموسّع.

فالواجب الموسّع هو الفعل الّذي أمر بإتيانه في القطعة الواسعة من الزمان، فيكون المأمور به طبيعة الفعل الواقعة في تلك القطعة من غير دخالة لوقوعها في أوّلها أو وسطها أو آخرها في حصول المصلحة. فكما تكون للطبيعة أفراد دفعية، تكون للموسّع أيضاً أفراد تدريجية. وكما أنّ المكلّف مختار في إتيان کلّ واحد من أفرادها الدفعية، كذلك هو مخيّر بالنسبة إلى أفرادها التدريجية. وكما أنّ التخيير بين الأفراد الدفعية عقلي، يكون التخيير بين الأفراد التدريجية أيضاً عقلياً.

ص: 235

ولا يخفى: أنّ الواجب الموسّع بهذا المعنى لا يصير مضيّقاً ولا تضيق دائرته بتضييق زمانه؛ لأنّ الموسّع هو الواجب الّذي تعلّق الطلب بإتيانه في تلك القطعة من الزمان، فإن أتى به في أوّل الوقت يقال: إنّه أتى بالمأمور به وكذلك إن أتى به في وسط الوقت أو في آخره، فهو على حاله.

ولا يصحّ أن يقال: إنّه أتى بالفرد المأمور به فيما يأتي به في أوّل الوقت أو آخره، وإنّما هو يأتي بالطبيعة المأمور بها يكون في أوّل الوقت أو آخره أو في ضمن أيّ فرد من هذا الكلّي الممتدّ في قطعة من الزمان. وعليه إذا لم يبق من الوقت إلّا بمقدار لا يكون زائداً على المقدار الّذي يحتاج إليه الفعل من الزمان عقلاً وأتى بالمأمور به في هذا الوقت، فقد أتى بالطبيعة المأمور بها أيضاً بما أنّها موسّعة لا مضيّقة،((1)) لأنّ الطبيعة لا تنقلب عمّا هي عليه، وإنّما الانطباق في هذه الصورة قهريّ عقلاً.

دلالة الأمر بالموقّت على الأمر به خارج الوقت

وقع الخلاف في دلالة الأمر بالموقّت على الأمر به في خارج الوقت.

وبعبارة اُخرى: وقع النزاع في فوات الموقّت بفوات وقته وعدمه.

ولا يخفى: عدم دلالة الأمر على مطلوبيته في خارج الوقت لو لم نقل بدلالته على عدمها، وأنّ دليل وجوب الموقّت یدلّ على فواته بفوات وقته. هذا، إذا كان لنا أمر واحد.

وأمّا إذا كان لنا أمر متعلّق بالفعل مطلقاً، وأمر على سبيل التوقيت، فالأمر واضح أيضا؛ لأنّ بعد فوات الموقّت وإن لم يكن للأمر الثاني دلالة على وجوبه في خارج الوقت إلّا أنّ الأمر الأوّل حيث لا يفوت متعلّقه بفوت الوقت فدلالته على مطلوبيته

ص: 236


1- خلافاً لبعض العامّة کما في المحصول (الفخر الرازي، ج2، ص174)؛ شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص89؛ مبادئ الوصول إلی علم اُصول (العلّامة الحلّي، ص104) نقلاً عنهم.

المطلقة في الوقت وخارجه على حاله. فلا مجال للنزاع في هذين الموردين لوضوح عدم دلالة الأمر في المورد الأوّل، ووضوح دلالة الأمر المطلق في المورد الثاني.

ثم إنّه قد ذكر في الكفاية: أنّه لو كان التوقيت بدليل منفصل ولم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت بل كان لدليل الواجب إطلاق، لكان مقتضى إطلاق الواجب ثبوته ولو بعد انقضاء الوقت.((1))

وفيه: أنّه لا يكاد أن يفهم من ذلك الكلام معنى معقول؛ لأنّه بعد ظهور الدليلين في بيان تمام المطلوب، وأنّه نفس الطبيعة على ما يستفاد من إطلاق دليل الواجب، وأنّه الفعل المقيّد بحصوله في زمان خاصّ على ما يستفاد من إطلاق دليل القيد، يقع التعارض بينهما. وحينئذٍ لا يخلو إمّا أن يكون کلّ من الأمرين غير مرتبط بالآخر ويستفاد من كلّ واحد منهما حكم مستقلّا على حدة، فهذا غير مربوط بالمقام ولا يقع التعارض بينهما؛ وأمّا إن كان كلاهما راجعين إلى حكم واحد ومتكفّلين لبيان حكم واحد، فاللازم بعد إحراز ذلك حمل المطلق منهما على المقيّد، وبعد ذلك لا يبقى لدليل الواجب إطلاق حتى يقال: إنّ قضيّة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت، فتدبّر.

ص: 237


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص230.

الفصل العاشر: في متعلّق الأوامر والنواهي

إعلم: أنّ الاُصوليّين قد اختلفوا في أنّ متعلّق الأوامر هل تكون الطبائع أو الأفراد؟

فذهب بعضهم إلى أنّ متعلّقها الطبائع. والبعض الآخر إلى أنّ متعلّقها الأفراد.

ولا يخفى: أنّ مراد القائل بالطبيعة: أنّ متعلّق الأمر في قولنا: ادخل السوق واشتر اللحم، لا يكون إلّا الجهة الّتي يصدق عليها شراء اللحم من غير دخل لسائر الخصوصيات والحيثيات فيه، فإذا دخل العبد السوق واشترى اللحم فالمصحّح للقول بأنّه امتثل أمر المولى ليس إلّا جهة إتيانه بهذه الحيثية الّتي يصدق عليها شراء اللحم، فتكون هذه الجهة مناطاً لصدق العنوان.

وأمّا مراد القائل بالفرد: أنّ جميع الحيثيات الفردية والجهات المميّزة للفرد تكون واقعة تحت الأمر.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه من مراد القائلين بالطبائع: أنّ المجوّز في باب اجتماع الأمر والنهي يقول: إنّ متعلّق الصلاة لا يكون إلّا الجهة الّتي يصدق على الفعل أنّه صلاة، ومتعلّق النهي عن الغصب ليس إلّا الجهة الّتي بها يصدق على العمل أنّه غصب، فتختلف الجهتان فيمكن اجتماعهما في محلّ واحد.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ لمفهوم الأمر - وكلّ لفظ كان مفاده مفاد الأمر كالإلزام

ص: 238

والبعث والإيجاب والطلب - إضافة إلى الّذي يصدر منه الطلب والأمر وهو الآمر؛ وإضافة إلى من يطلب منه الفعل المأمور به وهو المأمور والمطلوب منه؛ وإضافة إلى ما يريد الآمر وقوعه في الخارج وتحقّقه وهو المطلوب والمأمور به.

ويشترط في تحقّق هذه الإضافات أن يكون المأمور موجوداً - حال الطلب والأمر - في الخارج، لاستحالة توجيه الخطاب نحو المعدوم.

وأمّا المأمور به فيشترط أن لا يكون موجوداً في الخارج وإلّا يلزم تحصيل الحاصل. مضافاً إلى أنّ لحاظ الحيثيّات المميّزة لأفراد، غير حاكٍ عن سائر الأفراد المميّزة بحيثيات اُخرى. وحيث إنّه لابدّ من تعلّق الطلب بالمطلوب ولا يمكن اتّصاف الموجود في عالم الخارج بالمطلوبية، فيكون المطلوب بوجوده الذهني مطلوباً ومتعلّقاً لإضافة الأمر إليه، فالآمر حين الأمر يلاحظ الجهة الّتي بسببها ينطبق على الفعل الخارجي الصلاة والصوم مثلاً، من غير أن تكون ملاحظتها في الذهن قيداً لها؛ لأنّه لو لاحظها مقيّدةً بقيد لحاظها في الذهن فلا يكون له موطنٌ إلّا الذهن، فلا يكون حاكياً عن الخارج وعن الجهة الخارجة الّتي بها يصدق على الأفراد الخارجية أنّها مطلوبة.

وبالجملة: ما هو المتعلّق للأحكام ليس إلّا الجهة المشتركة والحيثية الّتي توجد في جميع الأفراد من غير دخل لسائر الحيثيّات والجهات والخصوصيّات الفرديّة والمميّزة، هذا.

ثم إنّه لايخفى: أنّ صاحب الكفاية(قدس سره) ذهب إلى أنّ متعلّق الأحكام ليس إلّا نفس الطبائع من دون نظر إلى الخصوصيات الفردية، ولكن ليس المراد من ذلك زائد عليها وهو المطلوبية، وهذا محال؛ لأنّ الماهية من حيث هي ليست إلّا هي، ولذا قالوا في مبحث

ص: 239

أصالة الوجود: إنّ ارتفاع النقيضين في مرتبة الذات ليس بمحال، فالماهية من حيث هي لا تكون موجودة ولا معدومة، فيصحّ أن يقال: إنّ الإنسان في مرتبة ذاته وماهيّته ليس بعالم وليس بجاهل.

بل مرادهم أنّ متعلّق الطلب وجود الطبيعة، ومتعلّق الأمر نفس الطبيعة، لأنّه بمعنى طلب الوجود. وكذلك النهي يتعلّق بنفس الطبيعة بمعنى طلب تركها.

لا يقال: إذا كان الوجود متعلّقاً للطلب فلا يصحّ القول بعدم مطلوبية الخصوصيات الفردية؛ لأنّه لا يمكن بعد القول ببساطة الوجود تصوّر التفكيك بين وجود تلك الجهة المشتركة وسائر الجهات، لأنّهما موجودان بوجود واحد.

لأنّه يقال: إنّ متعلّق الحكم ليس مطلق الوجود حتى يرد علينا ما ذكر، بل المتعلّق هو الوجود المضاف إلى الطبيعة.

ولا ينبغي توهّم((1)) أنّ مقتضى ما ذكر - من تعلّق الطلب بوجود الطبيعة - أن يكون الطلب متعلّقاً بما هو حاصل وصادر في الخارج وتحصيلاً للحاصل.

لأنّ المراد أنّ الآمر يريد صدور الوجود من العبد وجعله بسيطاً، كما هو مفاد «كان» التامّة، وإفاضته.

كما أنّه لا مجال بعدما ذكر لتوهّم تعلّق الطلب بالطبيعة لأجل وجودها، والنهي بالطبيعة لأجل عدمها حتى يكون وجود الطبيعة غاية لطلبها، وعدمها غاية للنهي عنها.

لأنّه يعود الإشكال المذكور وهو جواز حمل ما هو زائد وخارج عن الذات عليها، هذا كلّه بناءً على أصالة الوجود.

وأمّا بناءً على أصالة الماهية، فمتعلّق الطلب ليس هو الماهية بما هي أيضاً بل بما هي

ص: 240


1- راجع: الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص126.

بنفسها في الخارج، فيطلب الماهية كذلك لكي يجعلها بنفسها - لا بوجودها - من الخارجيات والأعيان الثابتة. انتهى حاصل ما أفاده.((1))

ولكن قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا مانع من تعلّق الأمر والطلب بالطبيعة من غير فرق بينهما، فلا وجه لمنعه في الكفاية تعلّق الطلب بها مع اعترافه بتعلّق الأمر بها بتوهّم أنّ الأمر طلب الوجود وأمّا الطلب فلا يمكن أن يكون متعلّقاً بغير الوجود بناءً على القول بأصالة الوجود. وأمّا بناءً على القول بأصالة الماهية فيتعلّق الطلب بالماهية لكن بلحاظ وجودها.

فالحقّ كما ذكرناه: تعلّق الأمر وكذا الطلب بنفس الطبيعة، أي بالحيثية الّتي تدلّ عليها مادّة الأمر، مثلاً في قوله: ﴿أَقيمُوا الصَّلَوةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ﴾((2)) لا يتعلّق الأمر إلّا بالجهة الّتي تصدق عليها أنّها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

لا يقال: إنّ الطبيعة وماهية إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أو الضرب أعمّ من أن تكون موجودة أو معدومة فتصدق إقامة الصلاة على تلك الحيثية سواء كانت موجودة أم معدومة، فلا يصحّ أن تكون متعلّقة للطلب وواقعة تحت الأمر، لأنّ الأمر والطلب لا يتعلّقان بأعمّ من الموجود والمعدوم.

فإنّه يقال: لا مجال لهذا الإشكال، إذ الماهيّة في حال كونها معدومة آبية عن صدق المفاهيم عليها ولا يصحّ حمل إقامة الصلاة مثلاً على ما هو المعدوم؛ لأنّ العدم باطل بالذات وليس له استحقاق حمل مفهوم عليه.

وبالجملة: فالعقل وإن كان يرى للضرب الموجود حيثية موجودة، وماهية وجهة

ص: 241


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص222-224.
2- البقرة، 43.

يصدق عليها أنّه ضرب، لكن يراهما في عالم التحليل ممتازاً عن الآخر وإن كانا متّحدين معاً مصداقاً بحيث لا يكون في الخارج إلّا شيئاً واحداً.

ولأجل هذه التجزئة والتحليل يُشكّ في أنّ الصادر من المصدر والمفاض من المفيض، وبعبارة اُخرى: الصادر بالذات هل هو وجود الضرب وتعلَّق الجعل بتبعه إلى الماهيّة كما اختاره القائل بأصالة الوجود، أو أنّ المجعول بالذات والمفاض هو ماهية الضرب وتعلَّق الجعل بتبعها إلى الوجود؟

ولكن مع ذلك كلّه لا يصدق مفهوم الضرب على الماهية المعدومة. ولا مانع من تعلّق الطلب والأمر بالجهة الّتي يصدق عليها مفهوم الضرب أو إقامة الصلاة، فالآمر يطلب إصدار هذه الطبيعة من المكلّف، ولا نظر له إلى أنّ الإصدار يتعلّق أوّلاً بالوجود أو بالماهية.

وأمّا ما في كلامه(رحمه الله) من «أنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي»، فغير مربوط بالمقام؛ لأنّ معنى هذه القاعدة أنّ الماهية إذا اُخذت بنفسها ومجرّدة عن جميع الخصوصيات لا يصحّ حمل شيء عليها إلّا ذاتها وماهو جزء ذاتها، مثلاً ماهية الإنسان من حيث هي هي آبية عن حمل جميع المفاهيم عليها إلّا مفهوم ذاتها أو جزء ذاتها، فلا مانع من أن يقال: الإنسان إنسان، أو حيوان، أو ناطق. فلا يصدق عليه - إذا اُخذ موضوعاً - إلّا الإنسان أو الحيوان أو الناطق، ولا يحمل عليه أنّه جاهل أو عالم وشبههما. ولكن عدم صحّة حمل شيء على الماهية من حيث هي هي غير ذاتها أو جزء ذاتها لا ينافي صحّة إضافة شيء وتعلّقه بالماهية من حيث هي هي، فمن الممكن بل الواقع كثيراً إضافة أمر إليها كإضافة التصوّر والعلم والقدرة والطلب. فهذه الاُمور تتعلّق بها من حيث هي هي، وهذا لا ينافي خروجها بعد ذلك من هذه الحيثية واستحقاق الماهية لحمل ما كان زائداً على ذاتها عليها، مثل أن تقول: الطبيعة متصوّرة

ص: 242

أو معلومة أو مطلوبة؛ لأنّ تعلّق القدرة والتصوّر والعلم والطلب قبل عروض تلك الصفات عليها وفي رتبة سابقة عليها.

فظهر ممّا ذكر أنه لا مانع من تعلّق الأمر والطلب بالطبيعة المجرّدة عن جميع الخصوصيات وإن كانت بعد إضافته إليها تستحقّ حمل أنّ-ها مطلوبة. والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 243

المقصد الثاني في النواهي

اشارة

الفصل الأوّل : في مفاد الأمر والنهي

الفصل الثاني: في اجتماع الأمر والنهي

الفصل الثالث: في اقتضاء النهي للفساد

ص: 244

ص: 245

الفصل الأوّل: في مفاد الأمر والنهي

اشارة

إعلم: أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) وإن ذهب في الكفاية إلى عدم الفرق بين مفاد الأمر والنهي، وأنّ کلّ واحد منهما بمادته وصيغته لا دلالة له إلّا على الطلب، غير أنّ متعلّق الطلب في الأمر وجود الطبيعة، وفي النهي عدمها، فلا تفاوت في مفادهما أصلاً.

وحيث إنّ متعلّق الطلب في الأمر يكون وجود الطبيعة فلو أتى المكلّف بفردٍ منها يتحقّق به الامتثال؛ لأنّ الطبيعي يوجد بوجود فردٍ من أفراده. وفي جانب النهي حيث إنّ متعلّق الطلب يكون عدم الطبيعة فلا يتحقّق الامتثال إلّا بعدم جميع أفرادها. فإطاعة أمر المولى تتحقّق بإيجاد فردٍ من الطبيعي، وعصيانه لا يتحقّق إلّا بترك جميع الأفراد. وإطاعة نهيه لا تتحقق إلّا بترك جميع أفراد الطبيعي، ومعصية نهيه تتحقّق بوجود فردٍ من أفراده.((1))

ولكنّه يلزم من ذلك أوّلاً: لو نهى المولى عبده عن شرب الخمر مثلاً، فأطاعه ولم يشرب الخمر في هذا اليوم مع شدّة ميله إليه، وكذا لم يشربه في الغد، وهكذا أن يعدّ کلّ ذلك امتثالاً واحداً. أو نهاه عن أكل مائدة شخص، فدعاه إليها فلم يجبه لأجل نهي المولى، ثم دعاه بعد ذلك اليوم فلم يجبه، وهكذا لم يجبه في جميع الأيّام مراعاة لنهي المولى أن يكون کلّ ذلك امتثالاً واحداً.

ص: 246


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص232.

وثانياً: لو عصا العبد نهي المولى فأتى بفردٍ من أفراد المحرّم، ثم أتى بعد ذلك بفردٍ آخر منه لم يكن على هذا المبنى إتيانه بالفرد الثاني عصياناً.

وثالثاً: لو امتنع من شرب الخمر المنهيّ عنه في يوم وشربه في يوم آخر لا يكون بالنسبة إلى امتناعه عنه ممتثلاً.

والعقلاء في أحكامهم يخالفون جميع هذه اللوازم، ويكون ديدنهم في باب الإطاعة والعصيان منافياً لها بأشدّ المنافاة، وهذا كاشف عن إختلاف مفاد الأمر والنهي خلافاً لما ذكره صاحب الكفاية(قدس سره).

التحقيق: اختلاف الأمر والنهي حقيقة وآثاراً

والّذي يقتضيه التحقيق:((1)) أنّ الأمر والنهي مختلفان بحسب الحقيقة والأثر؛ وذلك لأنّ حقيقة الأمر عبارة: عن البعث نحو الفعل وتحريك المأمور إليه، وحقيقة النهي هي: الزجر عن الفعل والمنع عنه.

وبعبارة اُخرى: حقيقة الأمر: ما يقال له بالفارسية «وا داشتن، وادار كردن»، وحقيقة النهي: ما يقال له بهذه اللغة «باز داشتن». فالآمر إذا رأى في فعل مصلحة عائدة إلى نفسه أو إلى المأمور يصير ذلك الفعل محبوباً له فيبعث المكلّف نحوه. وإذا رأى في فعلٍ مفسدة عائدة إلى نفسه أو إلى عبده يصير ذلك الفعل مورداً لبغضه فيزجر عبده عن إتيانه. هذا اختلافهما بحسب المبدأ والحقيقة.

وأمّا اختلافهما بحسب الأثر من حيث الامتثال والعصيان،((2)) فهو بمكان من

ص: 247


1- انظر: الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص316؛ النراقي، مناهج الأحکام والأصول، ص74؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص120.
2- لا یخفی أنّ السیّد البروجردي(قدس سره)، یذکر أثراً آخر أیضاً غیر الامتثال والعصیان في عداد الآثار المترتّبة علی اختلاف المفاد في الأمر والنهي، وهو جریان البراءة في الشبهة المصداقیة، انظر تفصیله في حاشیته علی الکفایة، ج1، ص340-341.

الوضوح؛ فإنّ المولى إذا أمر عبده بفعل فأتى بفردٍ منه، يحكم العقلاء بامتثال أمره وسقوطه وحصول غرضه. وهذا بخلاف جانب النهي؛ فإنّهم لا يحكمون بسقوط النهي لو انزجر المكلّف عن فردٍ من أفراد المنهيّ عنه.

كما أنّهم لا يحكمون بعصيان الأمر لو لم يكن لمتعلّقه وقت أو كان ولكن كان موسّعاً ولم يأت المكلّف به في قطعة من الزمان. وفي جانب النهي يحكمون بالامتثالات العديدة لو انزجر من النهي وترك فرداً من الطبيعة المنهيّ عنها ثم ترك غيره من الأفراد وكان تركه لهذه الأفراد مع ميله واشتهائه إلى فعلها. ولا يحكم بالامتثال لو ترك جميع أفراد المنهي عنه أو بعضها مع عدم الميل أو الاشتهاء، بل يعدّ هذا موافقة للنهي لا إطاعته وامتثاله.

وأيضاً في جانب الأمر لو أتى بجميع الأفراد العرضية دفعة واحدة بقصد الامتثال يحكم بالامتثال والإطاعة بالنسبة إلى جميع الأفراد، دون ما إذا لم يقصد الامتثال إلّا بترك واحد منها، فلا يحكم بالامتثال إلّا بالنسبة إلى هذا الّذي قصد بإتيانه امتثال الأمر وإن صار الجميع متروكاً.

كما أنّه لا مجال للحكم بالامتثال إذا أتى بالأفراد التدريجية بعد الإتيان بواحد منها؛ لأنّ الغرض يحصل بوجود أوّل فرد من الطبيعة، فلو كان الأمر بعد ذلك باقياً على حاله يلزم تحصيل الحاصل.

وكذلك يحكمون بالعصيان وحصول المخالفة لو أتى بفرد من أفراد المنهيّ عنه بعد تحقّق العصيان والمخالفة بإتيانه بفرد آخر منه قبله؛ ووجه ذلك أنّ زجر المولى عبده عن الطبيعة يقتضي ترك إتيان كلّ فرد من أفرادها بحيث لو عصاه بالنسبة إلى فرد أو أطاعه يرى زجره عنها باقياً على حاله.

وأيضاً متعلّق الأمر والبعث في الأمر لا يكون إلّا ما به تحصل موافقة الأمر كإيتاء

ص: 248

الزكاة وإقامة الصلاة، ومتعلّق النهي على خلاف ذلك؛ لأنّه يكون ما به تتحقّق المخالفة كشرب الخمر والزنا. وهذا أيضاً يقتضي تخالفهما في الأثر؛ لأنّ على ذلك حصول الموافقة يتحقّق بإيجاد كلّ فردٍ من أفراد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وتحقّق المخالفة في جانب النهي يكون بالإتيان بکلّ فردٍ من أفراد الزنا وشرب الخمر. فالأوّل لا يقتضي إلّا وجوب الإتيان بفردٍ واحدٍ وكفاية الإتيان به في مقام الامتثال، وتحقّق العصيان بترك جميع الأفراد. والثاني يقتضي الاجتناب عن جميع الأفراد، وتحقّق العصيان بسبب الإتيان بکلّ فردٍ من أفراد المنهيّ عنه عصياناً مستقلاً بالنسبة إلى کلّ منها. وهكذا الكلام في جانب امتثال النهي.

لا يقال: إنّ ما ذكرته من تكثّر العصيان في جانب النهي صحيح لو اُخذت الطبيعة المتعلّقة للنهي مطلقة، أي بنحو الإرسال، وأمّا لو اُخذت في لسان الدليل مهملة، فلا.((1))

فإنّه يقال: إنّ هذا كلام أجنبيّ عن المقام وسيجيء البحث عنه إن شاء الله تعالى في المطلق والمقيّد؛ وذلك لأنّ الكلام في المقام إنّما يكون فيما إذا كانت الطبيعة تمام متعلّق الأمر والنهي وكانت في موضوعيتها للحكم تامّة وهذا يكون ملاك الإطلاق كما سنحققه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

تنبيهان

الأوّل: لو ترك المنهيّ عنه من غير اشتهاء وميل إليه، بل كما يتّفق كثيراً من غير التفات، لا يعدّ تركه هذا إطاعة للمولى وإن كان هذا الترك موافقة للنهي. فالامتثال وعدمه في صورة الموافقة راجع إلى اشتهائه وعدمه وكفّ النفس عن فعل المنهيّ عنه وعدمه، كما لا يخفى.

ص: 249


1- راجع: العراقي، مقالات الاُصول، ج1، ص348.

الثاني: ربما يتّفق في بعض الموارد الأمر بما كان من الاُمور العدمية، وتردَّد بعض من الأعلام في كونه أمراً أو نهياً، كما إذا تعلّق الأمر بأمر عدميّ كالإمساك، فتردَّد في أنّ حقيقة هذا الأمر هل هي راجعة إلى النهي عن إتيان المفطرات الخاصّة، أو هو أمر حقيقة كما أنّه كذلك بحسب الظاهر؟

ولكن لا يخفى عليك: أنّ في هذه الموارد يكون متعلّق الأمر أمراً وعنواناً وجودياً ملازماً لهذا الأمر العدمي.

الخلاصة

تلخّص ممّا ذكر أنّ اختلاف الأمر والنهي راجع إلى حقيقتهما، ولازم ذلك تحقّق الإطاعة في جانب الأمر بمجرّد الإتيان بفردٍ من الطبيعة؛ لأنّ ما هو تمام متعلّق البعث يكون وجود الطبيعة على نحوٍ ذكرناه في مبحث الطبائع والأفراد، فبمجرّد الإتيان بفردٍ من الطبيعة تتحقّق الإطاعة ويسقط الأمر، ولا يتحقّق العصيان إلّا بترك جميع الأفراد.

وأمّا في جانب النهي، فالعصيان يتحقّق بإتيان کلّ فردٍ من أفراد الطبيعة؛ لأنّ لازم الزجر عن وجود الطبيعة - حسب ما حقّقناه في البحث السابق - تحقّق العصيان بالإتيان بکلّ فردٍ من أفراد الطبيعة المنهيّ عنها، فهذا الفرد مزجور عنه وذاك أيضاً مزجور عنه وهكذا.

وهذا الاختلاف غير مرتبط بمتعلّقيهما؛ فإنّه في جانب الأمر والنهي واحد، فالزجر متعلّق بالوجود كما أنّ الأمر أيضاً متعلّق به.

نعم، ما به تحصل الموافقة في جانب الأمر هو عين ما تحصل به المخالفة في جانب النهي. فمتعلّق الأمر في «أقيموا الصلاة» و«آتوا الزكاة» يكون وجود إقامة الصلاة

ص: 250

وإيتاء الزكاة، وبهما تحصل الموافقة. ومتعلّق النهي في «لا تزن» و«لا تشرب» هو وجود الزنا والشرب، وبهما تتحقّق المخالفة.

وأمّا الامتثال فيتحقّق بترك کلّ فردٍ من أفراد المنهيّ عنه مع الميل إليه واشتهائه به، فبالنسبة إلى ترك کلّ فردٍ إذا تركه كذلك امتثل نهي المولى، وأمّا لو لم يكن له ميل إلى المنهيّ عنه فبمجرّد تركه لا يكون ممتثلاً وإن كان هذا موافقة لنهي المولى.

لا يقال: بناءً على هذا يلزم أن لا يكون العصيان مثل الامتثال مسقطاً للتكليف وأن يكون النهي بعد العصيان بسبب الإتيان ببعض الأفراد باقياً على حاله.

لأنّه يقال: سيأتي تحقيق ذلك في آخر هذا المبحث((1)) بأنّ القول بسقوط التكليف بالعصيان فاسد جدّاً، فلا مجال إلّا القول ببقاء النهي على حاله لو تحقّق عصيان المكلّف بالنسبة إلى بعض الأفراد دون غيره.

تعلّق النهي بالكفّ أو الترك؟

لا يخفى عليك: أنّه وإن وقع النزاع بينهم في أنّ متعلّق الطلب في النهي هل هو الكفّ،((2)) أو مجرّد الترك وأن لا يفعل؟((3)) ولكن لا وقْع لهذا النزاع بعدما حقّقنا معنى الأمر والنهي بأنّ مفاد النهي ليس الطلب حتى يأتي هذا النزاع بأنّه طلب الكفّ أو مجرّد الترك، بل مفاده إنّما هو الزجر عن وجود الطبيعة.

ولا يمكن أن يقال: يصحّ جريان هذا النزاع من جهة الأمر بالنقيض الّذي ينتزع

ص: 251


1- یأتي في الصفحة 254.
2- الفخر الرازي، المحصول في علم اُصول الفقه، ج2، ص302؛ شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص208-209.
3- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص137؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص120؛ الخراساني، کفایه الاُصول، ج1، ص232.

من النهي، كما ذكر في مبحث الضدّ بالنسبة إلى الأمر((1)) - في مقام بيان ملاك القول بعينية الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه - بأنّه وإن كان حقيقة الأمر البعث إلى الوجود ولكن ينتزع منه النهي عن نقيضه وهو العدم، لا بمعنى أنّ هذا النهي مغاير للأمر ولا بمعنى عينيته للأمر بل هو متّحد مع الأمر بنحو من أنحاء الاتّحاد بحيث ينتزع العقل من الأمر ذلك ويحكم باتّحادهما وجوداً وحمل أحدهما على الآخر بالحمل الشائع الصناعي الّذي ملاكه الاتّحاد في الوجود، فالأمر يكون غير النهي المنتزع منه مفاداً ومفهوماً ومتّحداً معه مصداقاً.

لأنّه يقال: وإن كان لا مانع من تصوير ذلك في النهي أيضاً ببيان أنّ النهي وإن كان حقيقته الزجر عن وجود الطبيعة ولكن ينتزع العقل من النهي الأمر بالنقيض وهو عدم الطبيعة، لكن لا بمعنى أنّ هذا عين النهي ولا أنّ هذا مغاير له بل هو متّحد معه بنحو من أنحاء الاتّحاد وينتزع ذلك منه عقلاً؛ ولكن لا يفيد ذلك لإجراء البحث المذكور، فإنّ الأمر المنتزع عن النهي ليس متعلّقه إلّا عدم الطبيعة ولا يقيّد بكونه عدم الخاصّ أي عدم الطبيعة الملازم للرغبة إلى الوجود؛ لأنّ نقيض الوجود العدم المطلق لا المقيّد. والحاصل: أنّ النهي لا يتّحد مع الكفّ أصلاً حتى يأتي النزاع المذكور، فتدبّر.

تقسيم النهي إلى التعبّدي والتوصّلي

يمكن أن يقال بإمكان تقسيم النهي إلى التوصّلي والتعبّدي((2)) لو قيل بأنّ مفاد النهي هو طلب ترك الطبيعة، فإنّه كما يمكن طلب

ص: 252


1- تقدم في الصفحة 206 - 207.
2- الرشتي، بدائع الأفکار ، ص334.

تركها مطلقاً، كذلك يمكن طلب ترکها مقيّداً بقصد القربة. وأمّا بناءً على ما اخترناه من كون مفاده الزجر عن الوجود،((1)) فلا يصحّ هذا التقسيم.((2))

تبصرة: في عدم سقوط التكليف بالعصيان

لا يذهب عليك: أنّه وإن اشتهر بينهم أنّ مسقط التكليف أمران،((3)) أحدهما: الإطاعة والموافقة. وثانيهما: العصيان والمخالفة، ولكنّ الصواب أنّ العصيان والمخالفة في جانب الأمر لا يكون سبباً لسقوط الأمر، بل إنّما يكون سببه أمراً آخر يوجد في ظرف العصيان وهو امتناع الإتيان بالمأمور به، كما إذا أمره بفعل في زمان معيّن ولم يأت المكلّف به حتى خرج الوقت، فسقوط الأمر لا يكون من جهة العصيان بل من جهة خروج الوقت وامتناع الإتيان بالمأمور به.

أو تكون علّة سقوطه امتناع بقاء التكليف، كما في الموسّعات فيما إذا لم يأت المكلّف بالواجب حتى مات، فسقوط التكليف راجع إلى استحالة تكليف الموتى.

ومن هذا يظهر وجه عدم سقوط النهي بمجرّد تحقّق العصيان بالنسبة إلى أحد أفراد المنهيّ عنه كما أشرنا إليه. والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 253


1- تقدّم تحقیقه في الصفحة 248.
2- أقول، وجه ذلك علی ما یخطر بالبال، أنّ کون المنهيّ عنه تعبّدیاً یتوقّف علی جواز الإتیان به وصحّة التعبّد به بإتیانه بقصد القربة، وتعلّق الزجر بما یکون کذلك غیر معقول ولا معنی له. وبعبارة اُخری، کون المزجور عنه مثل شرب الخمر تعبّدیاً موقوف علی جواز الإتیان به بقصد التقرّب، وتعلّق الزجر به متوقّف علی کونه مبغوضاً، وما یکون مبغوضاً لا یمکن الإتیان به تعبّداً وبقصد القربة. نعم، ترك المزجور عنه یزجر المولی امتثال له، ولکن لیس هذا من التعبّدیة بشيء، فتدبّر. [منه دام ظلّه العالي].
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص186؛ الخراساني، فوائد الاُصول، ج1، ص350.

الفصل الثاني: في اجتماع الأمر والنهي

تحرير محلّ النزاع

قد أشرنا في طيّ المباحث السابقة((1)) إلى أنّ لکلّ تكليف إضافة ونسبة إلى المكلّف وهو الآمر؛ وإضافة إلى المكلّف به وهو الحيثية الّتي تعلّق البعث إليها في الأمر، والزجر عنها في النهي؛ وإضافة إلى المكلّف وهو المأمور. فبدون تلك الإضافات لا يعقل تحقّق التكليف، فلا يتحقّق التكليف إلّا إذا وجد جميع هذه الإضافات، وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح.

ولا يخفى عليك: عدم إمكان تعلّق الأمر والنهي والبعث والزجر من شخص واحد إلى حيثية واحدة متوجّهاً إلى مكلّف واحد في آن واحد. ففي صورة وحدة التكليف ووحدة زمانه ووحدة المكلّف لا يعقل جواز اجتماع الأمر والنهي.

وبعبارة اُخرى: امتناع اجتماع تلك الإضافات، أي توجه الأمر والنهي والبعث والزجر من جانب شخص واحد إلى مكلّف واحد في متعلّق واحد، وفي آن واحد من البديهيات. وامتناع اجتماع تلك الإضافات ليس من جهة صيرورته تكليفاً بالمحال

ص: 254


1- في الصفحة 239 - 240.

لأجل عدم قدرة المكلّف على إتيان هذه الحيثية وتركها في زمان واحد، بل امتناعه راجع إلى نفس التكليف من جهة استحالة البعث والزجر نحو شيء واحد في مرتبة واحدة من جانب شخص واحد إلى شخص واحد.

نعم، لا مانع من تعلّق البعث والزجر بحيثية واحدة وتوجيههما إلى مكلّف واحد إذا كان الباعث غير الزاجر، فأحدهما يزجره عن هذه الحيثية والآخر يبعثه نحوها. كما أنّه لا مانع من التكليف في صورة تعدّد متعلّقه ولو كان الآمر والزاجر واحداً والمأمور أيضاً واحداً. وكذلك لا مانع من أمر المولى أحد عبيده بفعل وزجره عبده الآخر منه. وأمّا بدون هذه الجهات المفرِّقة فلا يمكن زجر مكلَّف واحد عن حيثية واحدة في آن واحد من مكلِّف واحد مع بعثه إليها كذلك.

ومن هنا يظهر أنّ النزاع في مبحث اجتماع الأمر والنهي لا يكون إلّا صغروياً، فبعد تسلّم امتناع الاجتماع على النحو المذكور عند الكلّ، اختلفوا في أنّ المولى إذا أمر عبده بحيثيّة وبعثه نحوها ونهاه عن حيثية اُخرى وكانت النسبة بينهما عموماً من وجه أو مطلقاً فجمع العبد في مقام الإتيان بين تلك الحيثيتين، هل يكون ممتثلاً من جهة إتيانه بتلك الحيثية المبعوث إليها وعاصياً من جهة الإتيان بالحيثية المزجور عنها أو لا؟ بل يكون هذا من صغريات الكبرى المذكورة الّتي امتناعها من الضروريات، فيحكم العقل باستحالة ذلك من جهة دخوله تحت هذه الكلّية؟

وبعبارة اُخرى: بعد فرض توافق عقول الكلّ على استحالة توجيه البعث والزجر في مرتبة واحدة من المولى الواحد إلى المكلّف الواحد، هل يلزم الخروج عن تحت هذه القاعدة الكلية من تباين الحيثية الّتي وقعت متعلّقة للأمر مع الحيثية المتعلّقة للنهي أو لا؟

فالقائل بالامتناع يقول: إذا كانت الحيثية الّتي تعلّق الأمر بها قابلة لأن يجمع المكلّف بينها وبين الحيثية المزجور عنها بإتيان فردٍ يكون منطبق تلك الحيثيتين ومجمع العنوانين

ص: 255

واختار بسوء اختياره هذا الفرد، يكون الفرد متعلّقاً للبعث من جهة كونه منطبقاً للحيثية المأمور بها ومتعلّقاً للزجر من جهة كونه منطبقاً للحيثية المزجور عنها، فيكون تعلّق البعث إليه في رتبة تعلّق الزجر به، فيدخل تحت الكلّية الضرورية وهي امتناع اجتماع الأمر والنهي في رتبة واحدة واختلاف الحيثيتين لا يرفع الاجتماع الممتنع.

وأمّا القائل بالجواز، فيقول: إنّ إتيان المكلّف بفردٍ ينطبق عليه كلّ من الحيثيتين والعنوانين لا يكون سبباً لتعلّق الأمر والنهي بهذا الفرد، فالبعث والزجر على حالهما ليس لمتعلّق کلّ منهما مساسٌ بالآخر، فلا يكون الأمر بحيثية والزجر عن حيثية اُخرى - تكون النسبة بينهما عموماً من وجه - من صغريات الكلية الضرورية.

هذا كلّه في تحرير محلّ النزاع، وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّ كثيراً من إفادات القوم في هذا المقام تطويلات لا طائل تحتها. ومنشأ ذلك تفسيرهم العبارة المعروفة في كتبهم في عنوان البحث من أنّه «هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في شيءٍ واحد من جهة واحدة أو لا؟» فاختلفوا في معنى الجواز المذكور في هذا العنوان، بأنّه بمعنى الإمكان العقلي أو الوقوعي. وفي معنى الاجتماع، بأنّه ليس الاجتماع الآمري، وهو توجّه الأمر والنهي من جانب المولى إلى عبده بالنسبة إلى شيء واحد، فإنّ هذا واضح الامتناع. بل المراد به الاجتماع المأموري، وهو فيما إذا كان للحيثية المأمور بها فرد يكون منطبقاً للحيثية الّتي تكون منهيّاً عنها واختار المأمور ذلك المصداق للحيثيتين.

واختلفوا أيضا في أنّ المراد من الأمر والنهي هل يعمّ الأمر والنهي الغيريين، أو لا يشمل إلّا النفسيين؟ وفي أنّ المراد منهما هو الأمر والنهي التعيينيّان أو يعمّهما والتخيريين؟ وكذلك في أنّ المراد منهما الأمر والنهي العينيّان أو يعمّهما والكفائيين؟

وأيضاً اختلفوا في ما هو مرادهم بالواحد، بأنّ المراد به الواحد الشخصي أو الجنسي والنوعي والصنفي أو ما هو أعمّ منها؟

ص: 256

وكذلك تکلّموا في ما هو المراد من الجهة، وفي معنى الجهة التقييدية والجهة التعليلية.

والحال أنّه ليس لنا تضييع الوقت لأجل تفسير تلك العبارة الّتي هي سترة للواقع وحجاب يمنع المحصّلين عن الوصول إلى روح المقصود.

مقدّمات البحث

والمحقّق الخراساني(رحمه الله) وإن كان في مقام تلخيص الاُصول وإلغاء القشور والزوائد وأخذ ما هو اللبّ في جميع المطالب، ولكن قد وقع في هذا المقام وغيره فيما كان يفرّ منه، فما صار كتابه مصوناً من هذه القشور والزوائد. وفي ما نحن فيه أيضاً قدّم قبل الخوض في الكلام اُموراً ليس في كلّها كثير فائدة، بل بعضها يكون خالياً عن الفائدة وينبغي إلغاؤه.

الاُولى: ممّا ينبغي إسقاطه، من مقدّمات البحث، ونحن نسقطه في هذا المقام هو البحث المذكور في الكفاية عن مرادهم من «الواحد». وتمام مراده في هذه المقدّمة إثبات أنّ المراد بالواحد ليس الواحد الشخصي بل ما هو أعمّ منه ومن الكلّي؛ لأنّه كما يمكن تعلّق الأمر بالواحد الشخصي لأجل عنوان وتعلّق النهي به أيضاً بعنوان آخر، كذلك يمكن تعلّقهما بالواحد الكلي. ومثّل له بالصلاة في المغصوب، فإنّها كلّي مقول على كثيرين، فيتعلّق الأمر بها من جهة تعنونها بعنوان الصلاتية والنهي من جهة تعنونها بعنوان الغصبية.((1))

ولا يخفى ما في هذا الكلام، فإنّ ما هو منشأ الآثار وملاك الاستحالة والامتناع عند القائل به هو اتّحاد العنوانين وجوداً وفي عالم الخارج لا مفهوماً، فلا مانع من تعلّق الأمر والنهي بالكلّي من جهة واحدة أيضاً؛ لأنّه ليس موجوداً ولا يوجد في الخارج، فالاجتماع

ص: 257


1- الخراساني، کفایه الاُصول، ج1، ص233 – 234.

فيها ليس حقيقياً فلا يدخل في نزاع النفي والإثبات. بخلاف الواحد الشخصي، فإنّ تعلّق الأمر والنهي به - حيث إنّه يوجد في الخارج - محال وممتنع، كما لا يخفى.((1))

الثانية: الأمر الثاني من الاُمور الّتي ذكرها المحقّق الخراساني(رحمه الله)،((2)) وينبغي تأجيلها إلى تنبيهات البحث لا ذكرها في المقدّمة.

الثالثة: البحث عن كون المسألة من المسائل الاُصولية، أو المبادئ الأحكامية، أو التصديقية، أو من المسائل الكلامية.((3)) وحيث إنّا قد استقصينا الكلام في ما هو الملاك لاُصولية المسألة وموضوع علم الاُصول، فلا مجال بعد المراجعة إلى ما ذكرناه للقول باُصولية هذه المسألة بل الصحيح عدّها من المبادئ الأحكامية.

الرابعة: وهي أيضاً غير محتاجه إلى البيان، وقد ذكرها في الكفاية بأنّ المسألة عقلية.((4))

لأنّا نبحث فيما هو المقصود من أنّه هل يجوز أمر المولى بحيثية لها فرد يكون منطبقاً لحيثية اُخرى مزجوراً عنها أو لايجوز؟ - على ما فصّلناه في بداية البحث - سواء كان الأمر والنهي والإيجاب والتحريم بدلالة العقل أو اللفظ.

ص: 258


1- لا بأس هنا بأن نذکر الفرق بین الواحد الجنسي أو النوعي وبین الواحد بالجنس أو النوع بأنّ الثاني عبارة عن الوحدات الّتي تتشخّص في الخارج کالإنسان والفرس المتّحدین في الحیوانیة، وزید وعمرو المتّحدین في الإنسانیة، وأمّا الجنسي والنوعي فهما نفس الجنس والنوع کالحیوان والإنسان اللذین لا یتحقّقان في الخارج إلّا بتحقّق أفرادهما. فما هو خارج عن نزاع الاجتماع بین الأمر والنهي هو الواحد الجنسي والنوعي، لأنّهما من المفاهیم وهي متباینة بالذات في موطنها فلا مجال لاجتماعها في عالم المفهوم اجتماعاً حقیقیاً کما في عالم الخارج، وهذا بخلاف الواحد بالجنس أو النوع فإنّ موطنهما الخارج کالواحد الشخصي، فیمکن النزاع المذکور فیها. [منه دام ظلّه العالي].
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص234.
3- الخراساني، کفایه الاُصول، ج1، ص236. وذهب المحقّق القمّي(قدس سره) إلی أنّها من المسائل الکلامیة (قوانین الاُصول، ج1، ص140). وعدّها المحقّق النائیني(قدس سره) من المبادئ التصدیقیة. (فوائد الاُصول، ج2، ص400).
4- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص237.

الخامسة:((1)) عدم اعتبار وجود المندوحة وعدمها في النزاع((2)) وهذا أيضاً واضح؛ لأنّ ما هو المهمّ في المقام لزوم المحال واجتماع الحكمين المتضادّين وعدم لزومه، ولا يتفاوت هذا بوجود المندوحة وعدمها وإن كان القائل بالجواز لابدّ وأن يقيّده بوجودها حتى لا يلزم محذور التكليف بالمحال.

السادسة: ردّ في الكفاية ابتناء النزاع على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع.((3))

ولا يخفى فساده؛ لأنّه لو قلنا بعدم ابتنائه على ذلك ومجيء النزاع ولو كان متعلّقها الأفراد يلزم تعلّق الحكمين بواحد شخصي على القول بالجواز، ووحدة الإضافات الزجرية والبعثية؛ وذلك لأنّ المفروض وحدة الباعث والزاجر وكذا المكلّف في الأمر والنهي وأيضاً المزجور عنه والمأمور به، فيلزم منه وحدة تلك الإضافات.

لا يقال: إذا ارتفع غائلة الامتناع بتعدّد الوجه والعنوان على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، يرتفع أيضاً لو قلنا بتعلّقها بالأفراد؛ فكما أنّه يمكن أن يكون وجود واحد مأموراً به من جهة انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ويكون منهيّاً عنه من جهة انطباق الطبيعة المنهيّ عنها عليه ولا يضرّ ذلك بتعدّد الطبيعتين، كذلك لا مانع من تعدّد الفردين واتّحادهما في الخارج يكون فرداً للمأمور به وبعينه فرداً للمنهيّ عنه، فيجري فيه النزاع أيضاً.

فإنّه يقال: قد مرّ فيما سبق أنّ معنى تعلّق الحكم بالفرد تعلّقه به بخصوصياته، ومع ذلك لا يعقل جواز تعلّق الأمر والنهي بالفرد في مرتبة واحدة.

والقول بأنّ هذا ممكن من جهة كون الفرد فرداً ومصداقاً للطبيعة المأمور بها وفرداً للطبيعة المنهيّ عنها.

ص: 259


1- لا یخفی أنّ الأمر الخامس في الکفایة أمر آخر مرّت الإشارة إلیها قبیل الشروع في مقدّمات البحث.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص239.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص239-240.

مندفع بأنّه خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ الحكم بكون الفرد فرداً للطبيعة المأمور بها من جهة اشتماله على الطبيعة وكذلك في جانب النهي، اعتراف بتعلّق الأمر والنهي بالطبيعة لا بالفرد.

السابعة: ما ذكره(قدس سره) من لزوم أن يكون لکلّ واحد من متعلّقي الإيجاب والتحريم مناط حكمه.((1))

وليس له مساس بمحلّ النزاع؛ فإنّ النزاع واقع في إمكان تعلّق الأمر بحيثية وتعلّق النهي بحيثية كانت النسبة بينهما عموماً من وجه، فالقائل بالجواز يقول بالإمكان عقلاً، وقع ذلك في الخارج أم لا، والقائل بالامتناع يقول بعدم الإمكان كذلك عقلاً، وأنّه لابدّ وأن تكون النسبة بين الحيثيتين التباين.

فالأولى ذكره في ثمرة النزاع بأنّ الثمرة تظهر فيما إذا كان إيجاب وتحريم كذلك، وكان في کلّ من متعلّقهما مناط حكمه مطلقاً حتى في مورد التصادق، ففي هاهنا يقول القائل بالجواز بكون المورد محكوماً بحكمين، والقائل بالامتناع يقول بكونه محكوماً بأقوى المناطين، أو بحكم آخر غيرهما إذا لم يكن أحدهما أقوى.

فالأولى ذكر الأمر الثامن وكذلك الأمر التاسع والعاشر بعد البحث عن أصل المسألة وتحقيق الحقّ فيها.

إذا عرفت ذلك كلّه، فندخل في أصل البحث بعون الله تعالى.

دليل امتناع الاجتماع ونقده

إعلم: أنّه ادّعي شهرة القول بالامتناع بين القدماء، ولكنّ الحقّ عدمها. بل يمكن

ص: 260


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص241.

دعوى عدم توجّه جلّ المتقدّمين لولا الكلّ بهذه المسألة،((1)) وإنّما ذهب إلى القول بالامتناع جماعة من المتأخّرين، واختار الجواز جماعة من محقّقيهم.

وعمدة ما استند إليه القائل بالامتناع: لزوم اجتماع الضدّين، وبيانه: أنّه لو قلنا بجواز توجّه الأمر والنهي بحيثيتين يكون بينهما عموم من وجه يلزم اجتماع الضدّين في محلّ واحد وهما الوجوب والحرمة.

واُجيب: بأنّه لا يلزم من ذلك اجتماع الضدّين في محلّ واحد؛ لأنّ الوجوب متعلّق بذلك الفرد لكن لم يتعلق في الحقيقة إلّا بالحيثية الّتي بها يصدق عليه أنّه صلاة مثلاً، والحرمة تعرض لذلك الفرد ولكن عرضت على الحيثية الّتي بها يصدق عليه أنّه غصب، فكلّما يكون متبعّضاً في نظر الحس أو العقل فلا مانع من كون کلّ واحد من أبعاضه معروضاً لعرض يكون هذا العرض ضدّاً لما يعرض بعضه الآخر.

واستشكل عليه: بأنّ هذا يتمّ على القول بأصالة الماهية، وأمّا على القول بأصالة الوجود فلا يتمّ هذا الجواب، لأنّ الوجود بسيط بحسب الذهن والخارج.

دليل الامتناع في الكفاية ونقده

قام صاحب الكفاية في مقام تحكيم الدليل المذكور لإثبات الامتناع وتشييد مبانيه، فأفاد لذلك مقدّمات:((2))

اُولاها: بداهة تضادّ الأحكام الخمسة((3)) في مقام الفعلية والبعث والزجر، فلا يمكن تعلّق الوجوب والحرمة بموضوع واحد في زمان واحد.

ص: 261


1- وسیأتي تفصیل ذلك في الصفحة 268 - 269 متناً وهامشاً.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص249 - 251.
3- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص142؛ الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص338؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص132.

ثانيتها: أنّ متعلّق الأحكام لا يكون إلّا حقائق الأشياء، فمتعلّق أمر الصلاة مثلاً لا يكون إلّا حقيقة الصلاة وهي الصلاة الّتي توجد في الخارج ويأتي المكلّف بها وهو فاعلها وجاعلها، لا ما هو اسم الصلاة، ولا عنوانها المنتزع من المتعلّق بحيث لولا انتزاعه تصوّراً واختراعه ذهناً لما كان في الخارج بحذائه شيء.

ثالثتها: أنّ تعدّد الوجه والعنوان لا يوجب تعدّد المعنون؛ فإنّ المفاهيم الكثيرة والعناوين المتعدّدة ربما تنطبق على الواحد وتصدق على الفارد الّذي لا كثرة فيه، فلا يصحّ أن يقال: إنّ الأمر يتعلّق بجهة صلاتية الفعل والنهي بجهة غصبيته؛ لأنّ الجهات الكثيرة لا تصير سبباً لانقلاب الفعل عمّا هو عليه من الوحدة.

(ولا يخفى أنّ الأولى ذكر هذه المقدّمة في ضمن المقدّمة الثانية دفعاً للدخل وجواباً عمّا يقال: من أنّ تعدّد الوجه والعنوان موجب لتعدّد المعنون والمتعلّق الحقيقي للأحكام).

رابعتها: أنّ الوجود إذا كان واحداً تكون الماهية مثله واحدة، فمع وحدة الوجود لا يمكن تعدّد الماهية، فلا تكون للمفاهيم الصادقة على وجود واحد ماهيات وحقائق متعدّدة.

وبالجملة: فما هو الواحد وجوداً واحد ماهية وحقيقة، فالمجمع وإن كان يصدق عليه متعلّق الأمر والنهي إلّا أنّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهية وحقيقة. ولا يتفاوت في ذلك القول بأصالة الوجود وأصالة الماهية كما زعمه صاحب الفصول(قدس سره)،((1)) فإنّه زعم صحّة القول بالامتناع لو قلنا بأصالة الوجود؛ لأنّ المجمع يكون على هذا واحداً ولايمكن اجتماع الوجوب والحرمة فيه، وأمّا على القول بأصالة الماهية، فلا؛ لأنّه لا مانع من أن تكون لوجود واحد ماهيّات متعدّدة، هذا ما أفاده في الكفاية.

وإذا عرفت ما مهّده من المقدّمات في تحكيم مباني الاستدلال، عرفت مراده أيضاً

ص: 262


1- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص126. و قال فیه أیضاً بابتناء صحّة الدلیل علی عدم التمایز بین الجنس والفصل ولواحقهما العرضیة في الخارج.

في مقام الاستدلال من أنّ المجمع إذا كان واحداً وجوداً وذاتاً يكون تعلّق الأمر والنهي به محالاً ولو كان بعنوانين.

وبالجملة: حيث نتأمّل في أدلّة القائلين بالجواز نرى أنّ كلّهم يطلبون طريق الخلاص من اجتماع الضدّين الواقع في المقام بسبب تعدّد مركب الحكمين (الوجوب والحرمة)؛ فإنّهم يستدلّون:((1))

تارة: بأنّ ماهو المتعلّق للأحكام ليس إلّا الطبائع، فلا يكون الفرد مجمعاً وموضوعاً للوجوب والحرمة ومركباً للأمر والنهي حتى يقع اجتماع الضدّين.

وتارة اُخرى: بأنّ متعلّق الأحكام وإن كان حقيقةً هو الفعل الصادر عن المكلّف ولكنّ العقل يرى بالدقّة أنّ مركب الأمر حيثيةٌ ومركب النهي حيثيةٌ اُخرى من الفعل مع وحدته، كالماء الموجود في الحوض فإنّه لا مانع من أن يكون جانباً منه ملوَّناً بلون غير ما تلوّن به طرفه الآخر.

وثالثة: بأنّه لا مانع من أن تكون لموجود واحد ماهيّتان تكون إحداهما متعلّقاً للأمر والاُخرى للنهي بناءً على صحّة القول بأصالة الماهية، فعلى هذا القول لا مانع من الجواز.

فأراد المحقّق الخراساني(رحمه الله) بما مهّد من المقدّمات ردّ هذه الاستدلالات، فالمقدّمة الثانية لردّ الدليل الأوّل؛ وأفاد الثالثة لردّ الدليل الثاني؛ والرابعة لردّ الدليل الثالث.

والتحقيق في مقام الجواب عمّا أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله): إنكار تضادّ الأحكام الخمسة مطلقاً.

وتوضيح ذلك: أنّ الأمر كما مرّ مراراً هو البعث، والنهي عبارة عن الزجر، وهما

ص: 263


1- راجع: درر الفوائد للمحقق الحائري، ص180؛ وقایة الأذهان (الأصفهاني، ص 345).

عرضان قائمان بنفس المولى قياماً صدورياً فمعروضهما نفس المولى ولكلّ منهما إضافة وتعلّق إلى العبد وإضافة إلى الفعل من دون لزوم أن يكون العبد والفعل موجودين في الخارج، نظير تعلّق الإرادة بالمراد والعلم بالمعلوم والحال أنّ ذاتهما غير موجودين في الخارج، وإنّما هذه الإضافة تكون منشأً لانتزاع مفهوم المأمور وحمله على العبد، وإضافة الأمر إلى الفعل يكون منشأً لانتزاع مفهوم الواجب والمأمور به وحمله على الفعل، فيقال: إنّه واجب ومأمور به أو حرام ومنهيّ عنه، ولكن ليس معنى ذلك أنّ الوجوب أو الحرمة عرض معروضه فعل المكلّف حتى لا يمكن اجتماعهما في معروض واحد؛ لأنّ لازم ذلك إمكان تحقّق العرض بدون المعروض في صورة العصيان، لأنّ في صورة العصيان ليس فعلاً حتى يعرضه الوجوب ويضاف إليه الأمر حقيقةً والحال أنّ البعث متحقّق بالنسبة إلى العصاة.((1))

لا يقال: إنّ مناط صدق المحمول على الموضوع كون الموضوع معروضاً له والمحمول عرضاً له، فلابدّ من وجود الموضوع حتى يعرضه المحمول.

لأنّه يقال: ليس الأمر كذلك، ولا يكون مناط الصدق في القضايا كون المحمول عرضاً للموضوع، ولا ملازمة بين صدق المحمول عليه وكونه عرضاً له، فملاك صدق المحمول على الموضوع في قضية: «هذا الفعل واجب» أو «هذا العبد مأمور» ليس إلّا وجود منشأ الانتزاع وهو الأمر، فوجود الأمر وعروضه بنفس المولى يكون هو المناط لانتزاع مفهوم الواجب وملاك صدقه على الفعل.

إذا عرفت ذلك تعرف أنّ إمكان انتزاع ذلك المفهوم وصدق حمله على الفعل وامتناعه إنّما يكون دائراً مدار إمكان الأمر وامتناعه، وفي ما نحن فيه لا يأبى العقل

ص: 264


1- وهکذا في جانب النهي؛ لأنّ في صورة الإطاعة والامتثال لیس فعلاً حتی تعرضه الحرمة ویضاف إلیه النهي حقیقة والحال أنّ الزجر متحقّق بالنسبة إلی المطیع والممتثل بالضرورة. [منه دام ظلّه العالي].

ولا يرى امتناعاً لأمر المولى عبده بحيثية يمكن أن يجمع العبد بينها وبين الحيثية المزجور عنها بسوء اختياره. ولا يلزم منه اجتماع العرضين في موضوع واحد.

إن قلت: إنّ إطلاق الأمر والنهي يقتضي تعلّقهما بالفرد الّذي يكون مجمعاً للعنوانين، ولازم ذلك عروض العرضين المتضادّين على نفس المولى بسبب قيام الأمر والنهي بنفسه قياماً صدورياً.

قلت: ليس معنى إطلاق الأمر انحلاله إلى الأفراد، بل المراد من إطلاقه كون متعلّقه حيثية طبيعة المأمور به من دون قيد زائد فيها، ومعناه سقوط الأمر بإتيان کلّ فردٍ من الأفراد. وكذلك الإطلاق في جانب النهي.

لا يقال: إنّ لازم بعث المولى بحيثية يمكن أن يجمع المكلّف بينها وبين الحيثية المنهي عنها اجتماع الضدّين أي الوجوب والحرمة في محل واحد وهو مجمع الحيثيّتين.

لأنّه يقال: لا يكون الوجوب والحرمة عرضاً حتى يقال بعدم إمكان عروضهما معاً على فعل المكلّف، وإلّا فيجب أن لا يتعلّق الوجوب بالفعل إلّا بعد وجوده حتى لا يلزم وجود العرض بدون المعروض. فالوجوب والحرمة و مفهوم الواجب والحرام مفاهيم تنتزع من بعث المولى وزجره وإضافتهما إلى الفعل. وليس مناط صدق حمل الواجب أو الحرام على الفعل عروض هذه الإضافة؛ لأنّه لم يوجد بعد، بل ملاك صدقه كما ذكر ليس إلّا العرض القائم بنفس المولى قياماً صدورياً.

فلا يصحّ أن يقال: إنّ بعث المولى وزجره على هذا يصير سبباً لاجتماع الضدّين؛ لأنّه يقال: إنّ المولى لم يبعث إلّا بالحيثية الصلاتية بحيث يكون وجود طبيعة الصلاة تمام متعلّق أمره، فلو كانت الصلاة ملازمةً لتحليل الغذاء أو تليين الأعضاء مثلاً، لا يقال: إنّه بعث إلى تحليل الغذاء؛ لأنّ تمام متعلّق بعثه ليس إلّا وجود طبيعة الصلاة تكون ملازمة لشيء أم لم تكن. وهكذا الكلام في جانب الغصب والتصرّف في مال الغي

ص: 265

ومرجع جميع ما ذكرناه ليس إلّا عدم كون الوجوب أو الحرمة عرضاً لفعل المكلّف. وحيث إنّ غير واحد من القائلين بالجواز اعترفوا بكونهما عرضاً له صرفوا تمام همّهم في مقام الجواب لإثبات تعدّد معروضهما ولم يأتوا بما يكفي في مقام الجواب، فتدبّر.

تمثيل: كما يمكن أن يكون شيء واحد متعلّقاً للعلم والجهل في آن واحد مثلاً: علمت بمجيء عادل في الغد مع جهلك بمجيء العالم فيه، فاتّفق مجيء زيد العالم العادل، يكون ذلك المجيء معلوماً ومجهولاً أي منطبقاً لکلا العنوانين ومصداقاً لهما، ولا يقول أحد بوقوع اجتماع الضدّين في هذا المثال، كذلك لا مانع من كون وجود واحد منطبقاً ومصداقاً لعنوان المأمور به والمنهيّ عنه من غير أن يتحقّق اجتماع الضدّين.

إن قلت: إنّ العلم والجهل قد تعلّقا في المثال بالماهية، وهذا بخلاف المقام لأنّ البعث والزجر يتعلّقان بالوجود.

قلت: إنّ العلم والجهل أيضاً متعلّقان بالوجود، لأنّ العلم متعلّق بوجود مجيء العادل والجهل بوجود مجيء العالم.

هذا تمام الكلام في إبطال ما توهّم أن يكون دليلاً على الامتناع.

دليل جواز الاجتماع

وأمّا القول بالجواز، فالقائل به غنيّ عن الاستدلال بعدما حقّقناه في المقام؛ لأنّه إذا لم يثبت الامتناع يتّجه القول بالجواز، إذ لا يتصوّر ثالث لهما.

ولا يعتنى بما قد يقال: من أنّ عدم إثبات الامتناع ليس دليلاً على الجواز، فإنّ من الممكن أن يكون الأمر بهذه الحيثية الّتي يمكن أن يجمع العبد بينها وبين الحيثية المزجور عنها من الممتنعات ولكن لم نعثر على وجه الامتناع.

لأنّا نحكم بالجواز أو الامتناع بحسب ما تدرك عقولنا. ولو سلّمنا ذلك فلا مانع من شمول إطلاق الأمر والنهي للفرد الّذي يكون مجمعاً للحيثيّتين.

ص: 266

ومع ذلك كلّه، فيمكن أن يستدلّ للقول بالجواز بأنّا نرى أنّ المولى إذا أمر عبده بفعل كخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاصّ((1)) وجعل لذلك الفعل ثواباً ولعدم انتهائه عن هذا النهي عقاباً فخاط العبد في هذا المكان، فلو طالبه بالثواب الموعود على الخياطة لا يصحّ للمولى أن يقول: إنّك غير مستحقّ للثواب لوقوع الخياطة في هذا المكان. والعرف يعتبر هذا المولى مجازفاً في أقواله، كما أنّ العقل أيضاً يراه مجازفاً؛ لأنّ العبد قد أتى بتمام متعلّق الأمر وإن أتى بتمام متعلّق نهيه أيضاً.

ثمرة النزاع

بقي في المقام شيء وهو أنّ ثمرة النزاع إنّما تظهر فيما إذا كان قصد التقرّب شرطاً لصحّة المأمور به وأتى المكلّف به ولكن في ضمن فرد يكون مجمعاً للحيثيّتين، فلو قلنا بأنّ الفعل الّذي يكون مصداقاً للحيثية المزجور عنها غير قابل لأن يتقرّب به ولا يصلح لأن يتعبّد به، لا يعدّ الإتيان بهذا الفرد المنطبق للعنوانين والمجمع للحيثيّتين إطاعة وامتثالاً؛ لأنّه لم يأت بما هو المأمور به فلا يكون ممتثلاً سواء قلنا بالجواز أو الامتناع؛ لأنّ المفروض اعتبار قصد القربة ودخله في انطباق عنوان المأمور به على الفعل، وذلك كالصلاة والصوم. فلو فرض عدم صلاحية الفعل لأن يتقرّب به لا يكون ذلك الفعل فرداً للمأمور به ومنطبقاً لعنوانه أصلاً.

وأظنّ أنّ المشهور من المتقدّمين حيث حكموا ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة أو الوضوء بماء مغصوب حكموا به لهذه الجهة، ولم يتفطّن القائل بالامتناع بمنشأ فتواهم

ص: 267


1- انظر الاستدلال بهذا المثال في شرح العضدي علی مختصر المنتهی لابن الحاجب، ص92-93، مسألة استحالة کون الشيء واجباً حراماً من جهة واحدة؛ المحصول (الفخر الرازي، ج2، ص286)؛ قوانین الاُصول (القمّي، ج1، ص148).

فتوهّم أنّ ذلك لجهة أنّهم يعدّون محل النزاع من صغريات الكلّية المذكورة، فادّعى - بناءً على هذا التوهّم الفاسد - الشهرة على الامتناع.((1))

وأمّا لو قلنا: إنّ الفعل الّذي يكون منطبقاً ومصداقاً للحيثية المزجور عنها لا يخرج بذلك عن كونه صالحاً لأن يقصد التقرّب به ولا فرق بينه وبين غيره في كونه صالحاً لأن يتقرّب به، يصير من صغريات مسألتنا هذه، وتظهر الثمرة بناءً على هذا الفرض. هذا ملخّص الكلام في المقام. وعلى الله التوكّل وبه الاعتصام.

تنبيهات

ينبغي التنبيه على اُمور:

التنبيه الأوّل: جريان النزاع في العموم من وجه والمطلق

لا فرق فيما ذهبنا إليه من جواز الأمر بحيثية يمكن اجتماعها مع الحيثية المزجور عنها أن تكون النسبة بين الحيثيّتين العموم من وجه أو المطلق، فلا مانع من توجيه الأمر إلى عامّ وتوجيه النهي إلى حيثية تكون بالنسبة إليه خاصّاً. ولا يلزم من جمع العبد بين

ص: 268


1- کما في معالم الدین (العاملي، ص93)؛ قوانین الاُصول (القمّي، ص140)؛ الفصول الغرویّة (الأصفهاني، ص125)؛ مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص129). وفي تقریر آخر لهذا البحث الحجّة في الفقه (ص248) قال(قدس سره): «قد تعمّقنا وتصفّحنا في کلمات القدماء من الأصحاب ولم نجد في موضع کلماتهم التعرّض لما نحن بصدده من الامتناع أو الجواز علی الوجه الّذي قلناه في العنوان والمسألة مستحدثة بین المتأخرین عن زمان العلّامة(قدس سره)، بل العنوان في کلامهم هو الّذي تعرّضوه في غیر واحد من کتبهم کاُصول الغنیة وکتب الشیخ والسیّد في الناصریات وهو مسألة صحّة العبادات فیما إذا اتّحدت واجتمعت مع المحرّمات وفسادها نظیر الصلاة في الدار المغصوبة. ومن المعلوم أنّ الشهرة علی فسادها أجنبيّ عن المقام...إلخ». راجع: نهایة الوصول للعلّامة الحلّي (ص157)؛ لمحات الاُصول (البروجردي، ص219، 227) وانظر شهرة الفتوی ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة في العدّة في اُصول الفقه (الطوسي، ص260).

الحيثيتين بسوء اختياره توجّه أمر المولى ونهيه إلى وجود مركّب واحد؛ لأنّ ذلك صحيح لو قلنا بانحلال الأمر إلى الأوامر المتعدّدة بحيث يكون كلّ حيثية خاصّة موجودة مع حيثية اُخرى بهذا القيد مأموراً بها، ولكن لا نقول بهذا، بل نقول: إنّ ما هو تمام متعلّق أمر المولى لا يكون إلّا تلك الحيثية وأمره متعلّق بإيجاد تلك الحيثية الحسنة الّتي لا تكون فيها جهة قبح أصلاً، فلو جمع العبد بين هذه الحيثية والحيثية المقبحة الّتي لا تكون فيها جهة حسن أصلاً لا يصير هذا سبباً لامتناع توجه الأمر بهذه الحيثية والنهي بالحيثية الاُخرى ولو كان الفعل المتحيّث بالحيثيّتين ذا مصلحة ومفسدة.

نعم، لو كانت مصلحة الحيثية المحسّنة أقوى من مفسدة الحيثية المقبّحة لكان الفعل حسناً باعتبار ذلك، كما أنّه بالعكس لو كان الأمر بالعكس.

ولكن في صورة أقوائية المصلحة لو فرض وجود المندوحة لا يكون صدوره عن المكلّف حسناً ولذا لا يمكن التعبّد به ولا يصلح لأن يتقرّب به، أمكن أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر كما ذكرناه أو لا يمكن، كما اختاره في الكفاية.

ولا يخفى: أنّه على القول بالامتناع لا مجال للقول بتقييد جانب النهي وترجيح جانب الأمر في صورة أقوائية المصلحة مع وجود المندوحة؛ لأنّ معنى هذا ليس إلّا حرمة الغصب أو التصرّف في مال الغير إلّا في حال الصلاة ولم يقل به أحد، ففي جميع الموارد على الامتناع لابدّ من تقييد جانب الأمر إلّا في صورة عدم المندوحة وأقوائية مصلحة الأمر، هذا.

والحاصل: أنّ اجتماع الأمر والنهي الّذي يكون تكليفاً محالاً إنّما يكون من جهة امتناع حصول الحالة الزجرية والبعثية في نفس المولى بالنسبة إلى شيء واحد في زمان واحد كما مرّ ذكره، ولا يكون هذا إلّا إذا كانت الحيثيتان متساويتين في الصدق أو متلازمتين في الوجود كالاستدبار والاستقبال، أو تكون الحيثية المزجور عنها أعمّ من

ص: 269

الحيثية المأمور بها في الصدق أو في الوجود، وأمّا إذا لم تكن النسبة بينهما كذلك فلا إشكال ولا امتناع حتى إذا كانت النسبة بينهما عموماً مطلقاً مثل الأمر بحيثية والنهي عنها إذا كانت مخصّصة بخصوصية خاصّة بحيث لا تكون تلك الخصوصية بنفسها تمام متعلّق النهي ولا الحيثية مخصّصة بها، بل كان لکلّ منهما دخل في حصول الغرض.

التنبيه الثاني: جريان النزاع في الأمر الندبي والنهي التنزيهي

لا يخفى عليك: أنّ ما ذكرناه من امتناع اجتماع الأمر الوجوبي والنهي التحريمي إذا كان متعلّقاهما متساويين في الصدق أو في الوجود، أو كانت الحيثية المأمور بها أخصّ من الحيثية المزجور عنها، وجواز الاجتماع في سائر الموارد؛ يكون جارياً أيضاً فيما إذا لم يكن الأمر وجوبياً بل يكون ندبياً والنهي تحريمياً، أو كان الأمر ندبياً والنهي تنزيهياً،((1)) ولكن الفرق أنّ في الصورة الأخيرة لو كان متعلّق الأمر عبادياً لا مانع من صحّة وقوعه عبادة لو أتى به في ضمن الفرد المتحيّث بالحيثية المتعلّقة للنهي التنزيهي؛ فإنّ صدوره عن الفاعل لا يكون قبيحاً فلا مانع من التقرّب به كما إذا كانت الحيثيتان المتعلّقتان للأمر الندبي والنهي التنزيهي متساويتين وكان ملاك النهي أقوى، فالحيثية المأمور بها وإن لم يتعلّق بها الأمر لكن لا مانع من وقوعها صحيحة وعبادة لو قلنا بكفاية قصد الملاك.

التنبيه الثالث: في وقوع الاجتماع في بعض العبادات

ممّا استدلّ به القائل بالجواز وقوع الاجتماع في موارد كثيرة مثل العبادات المكروهة كصوم يوم عاشوراء، والصلاة في الحمّام، وفي مواضع التهمة، والصيام في السفر،

ص: 270


1- کما في الوافیة في اُصول الفقه (الفاضل التوني، ص94، 96)؛ الفصول الغرویة (الأصفهاني، ص129)؛ خلافاً لما في مطارح الأنظار (الکلانتري الأصفهاني، ص127).

وبعد وقوع الاجتماع لا مجال للنزاع في إمكانه وامتناعه؛ لأنّ الوقوع أخصّ من الإمكان فلو لم يجز الاجتماع لما وقع في الموارد المذكورة.((1))

لا يقال: إنّ ملاك الامتناع موجود إذا كان النهي تحريمياً والأمر وجوبياً، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا مانع من الاجتماع لعدم تحقّق ملاك الامتناع.

لأنّه يقال: لا فرق فيما هو ملاك الاستحالة والامتناع وملاك الجواز والاجتماع بين اجتماع النهي التحريمي مع الأمر الوجوبي، والنهي التنزيهي مع الأمر الوجوبي أو الندبي، كما مرّ بيانه في التنبيه الثاني.

ويمكن دفع أصل الإشكال على سبيل الإجمال في جميع الموارد.

أوّلاً: بما أفاده في الكفاية بناءً على ما اختاره من الامتناع وهو: أنّ بعد قيام البرهان على استحالة الاجتماع لا مجال للأخذ بما يكون ظاهره الاجتماع، فلابدّ لنا من التأويل والتوجيه.((2))

وثانياً: نقول بأنّ في جميع الموارد الّتي توهّم الاجتماع في الشرعيات لا يدلّ الدليل على أزيد من صحّة العبادة، فليس لنا أن نقول بأنّ ما هو المتعلّق للنهي في هذه الموارد متعلّق للأمر أيضاً بعد عدم وجدان الدليل على كونه مأموراً به.

وأمّا صحّة الفعل ووقوعه عبادة فيمكن أن يكون لأجل الملاك والمحبوبية الذاتية. هذا ما يمكن أن يقال في الجواب على نحو الإجمال.

وأمّا الجواب على سبيل التفصيل، فنقول: إنّ بعض الموارد الّتي ذكرها بعض من القائلين بالجواز في هذا الدليل داخل في حريم النزاع، كما إذا تعلّق الأمر بحيثية والنهي

ص: 271


1- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص142؛ الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص338؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص131.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص254.

التنزيهي بحيثية اُخرى وكانت النسبة بينهما عموماً من وجه كالصلاة في مواضع التهمة،((1)) فإنّ الأمر قد تعلّق بحيثية الصلاة والنهي بحيثية الكون في موضع التهمة، جمع المكلّف بين الحيثيتين أم لا؛ ومثل ما إذا أمر بحيثية على نحو الإطلاق ونهى تنزيهاً عن هذه الحيثية إذا كانت مخصّصة بخصوصية بحيث يصير متعلّق النهي خاصّاً بالنسبة إلى الأمر كالصلاة في الحمّام.((2)) فإذا كان من هذا القبيل يبتني الأمر على أصل المسألة ويكون داخلاً في محلّ النزاع، والقائل بالجواز في فسحة من جهة ذلك، وعلى القائل بالامتناع جواب الإشكال.

وأمّا إذا تعلّق النهي بما ليس له بدل - كصوم يوم عاشوراء((3)) - فاللازم على کلّ من القائل بالجواز والامتناع التخلّص عن الإشكال؛ لأنّه وارد على کلّ حال.

و ملخّص ما أفاده المحقّق الخراساني(قدس سره) هو: الالتزام بوجود مصلحة في الفعل من غير أن تشوبها مفسدة، ووجود مصلحة في الترك من جهة انطباق عنوان ذي مصلحة عليه، أو من جهة ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة من دون الانطباق، فهما يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين اللذين أمر المولى بأحدهما من جهة أرجحيّته، فلو أتى المكلّف بالآخر لا مانع من صحّته لوجود المصلحة فيه.((4))

ص: 272


1- انظر روایاتها في التهذیب (الطوسي، ج2، ص219، ب11 ما یجوز الصلاة فیه من اللباس و المکان...، ح863/71)؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب مکان المصلّي، ج5، ص176-177، ب34.
2- انظر روایتها في الکافي (الکلیني، ج3، ص390، باب الصلاة في الکعبة و...، ح12).
3- انظر الروایات في صوم عاشوراء في الکافي (الکلیني، ج4، ص146 – 147، باب صوم عرفة وعاشوراء، ح3-7)؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب الصوم المندوب، ج10، ص459-463، ب21. وانظر آراء الفقهاء في حکمه: النجفي، جواهر الکلام، ج17، ص105؛ الکرکي، جامع المقاصد، ج3، ص86؛ البحراني، الحدائق الناضرة، ج13، ص369-376؛ الأردبیلي، مجمع الفائدة والبرهان، ج5، ص188-189.
4- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص256.

وفيه أوّلاً: مبنائية جوابه وتوقّفه على ما اختاره في معنى النهي من أنّه طلب ترك الوجود، وقد عرفت فساده وأنّ الظاهر منه هو الزجر عن الفعل.

وثانياً: سلّمنا مبناه لكن الظاهر تعلّق النهي بنفس الترك، لا العنوان المنطبق على الترك أو الملازم له.

وثالثاً: العنوان المنطبق على الترك يكون عدمياً لا محالة، لأنّ الترك عدميّ فلا داعي لتبديل متعلّق النهي من الترك إلى العنوان المنطبق عليه، لأنّه يمكن تصوير المصلحة في الترك أيضاً.

ورابعاً: ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة بغير الانطباق ليست تحت يد المكلّف حتى يتعلّق النهي بها.

التنبيه الرابع: لا يخفى أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) قد اختصّ التنبيه الأوّل من تنبيهات الباب بذكر مسألة: من توسّط داراً مغصوبة وانحصر التخلّص عن الغصب بالخروج عنها، فهل يكون هذا الخروج كالدخول حراماً أو لا؟

وقد أفاد في أوّل هذا التنبيه ما ليس راجعاً إلى أصل المطلب وهو: أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه لو كان مؤثّراً فيه كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام إلّا أنّه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة، فإنّ الخطاب بالزجر عنه حينئذٍ وإن كان ساقطاً إلّا أنه حيث يصدر عنه مبغوضاً عليه وعصياناً لذلك الخطاب ومستحقّاً عليه العقاب لا يصلح لأن يتعلق به الإيجاب، وهذا ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب.

وفيه: أنّ الاضطرار إلى فعل الحرام الّذي فيه ملاك الوجوب ولكن كان ملاك الحرمة فيه أقوى لا يوجب تعلّق الوجوب به؛ لأنّ الاضطرار يرفع النهي والحرمة المتعلّقة إلى الفعل لا المفسدة الكامنة فيه، فلا يعقل تعلّق الوجوب بفعل فيه مفسدة

ص: 273

أقوى من مصلحته وإن لم يتعلّق به النهي من جهة. نعم، لو فرض حصول المصلحة في ظرف الاضطرار وكانت أقوى من مفسدة الترك لا مانع من وجوب الفعل.

فالاضطرار إلى شرب الخمر مثلاً لا يصير موجباً لوجوبه وإن كان فيه منافع للناس. نعم، ربما يجب ذلك لوجود مصلحة أقوى من المفسدة في ظرف الاضطرار كما إذا اضطرّ بشربه لانحصار طريق حفظ النفس به.

وبعبارة اُخرى: قد ذكر المحقّق الخراساني(قدس سره) في مقدّمة التنبيه الأوّل الّذي اختص لبيان حكم هذه المسألة اُموراً ثلاثة:

أحدها: ارتفاع الحرمة والعقوبة فيما إذا اضطرّ المكلّف إلى ارتكاب الحرام.

ولا يخفى: أنّ الاضطرار الّذي ذكره، تارة: يكون عقلياً كما إذا اضطرّ إلى ارتكاب حرام على نحو لا يكون له اختيار في تركه، كما إذا حبس في مكان مغصوب، فالعقل حاكم بارتفاع حرمة الكون في هذا المكان والعقوبة عليه.

واُخرى: يكون عرفياً كما إذا اضطرّ إلى شرب الخمر من جهة انحصار علاج مرضه به، فهذا الاضطرار لا يكون عقلياً؛ لأنّه مختار في شرب الخمر. وفي هذا القسم أيضاً ترتفع الحرمة والعقوبة لكن بحديث الرفع.

وثالثة: يكون شرعياً كما إذا اضطرّ إلى أداء الصلاة في المكان الغصبي، فإنّ اضطراره بالتصرّف في مال الغير يكون لأجل حكم الشارع بوجوب أداء الصلاة.

وثانيها: أنّ الاضطرار إلى الحرام مضافاً إلى أنّه يصير موجباً لارتفاع الحرمة والعقوبة عليه يكون موجباً لتأثير ملاك الوجوب لو كان في الفعل کلّ من الملاكين، ملاك الحرمة وملاك الوجوب، ولكن كان ملاك الحرمة أقوى. فلو فرض عدم تأثير ملاك الحرمة فلا مانع من تأثير ملاك الوجوب.

وفيه: أنّه بالاضطرار يرتفع النهي والحرمة المتعلّقة بالفعل لا المفسدة الكامنة فيه،

ص: 274

فما دام المفسدة موجودة فيه لا يصحّ تعلّق الوجوب به؛ لأنّ المانع من عدم تعلّق الوجوب به وصيرورته محبوباً للمولى وجود المفسدة الكامنة فيه لا وجود النهي، فإذا اضطرّ المكلّف إلى شرب الخمر لا يجب شربه من جهة أنّ فيه منافع للناس، بل هو باقٍ على حاله.

نعم، لو حدثت في ظرف الاضطرار مصلحة أقوى في الفعل، كما إذا توقّف حفظ النفس على شرب الخمر، يصير ذلك الفعل واجباً لا محالة، لكن هذه غير المصلحة الكامنة فيه مع قطع النظر عن الاضطرار.

ولعلّ أن يكون وجه هذا التوهّم قولهم بالوجوب وتأثير ملاك الوجوب إذا اجتمع الأمر والنهي واضطرّ المكلّف إلى ارتكاب المجمع بناءً على الجواز. وهذا غير ما نحن فيه، كما لا يخفى.

وثالثها: أنّ الاضطرار إذا كان بسوء اختيار المكلّف لا يرتفع بسببه أثر الحرمة من المبغوضية والعقوبة على الفعل، كما أنّه لا يؤثّر ملاك الوجوب إن كان فيه.

والّذي ينبغي أن يقال في المقام أنّ الاضطرار إلى فعل إمّا أن يكون بغير دخل اختيار المكلّف فيه أو باختياره، وفيما إذا كان باختياره تارة: يكون سبب اضطراره فعلاً مباحاً، واُخرى فعلاً حراماً، وهذا الأخير إمّا أن لا يكون من جنس الحرام الّذي اضطرّ إليه، كما إذا ضرب شخصاً بغير حقّ مع علمه بأنّه موجب لحبسه في الدار المغصوبة، أو يكون من جنسه ولكن لا يكون شخصه كما إذا تصرّف في دار عمرو عدواناً مع علمه بأنّ هذا موجب لحبسه في دار زيد بدون إذنه، أو يكون شخصه أيضاً كما إذا اضطرّ إلى التصرّف في دار زيد عدواناً من جهة تصرّفه السابق - كدخوله في تلك الدار - عدواناً، وفي جميع هذه الموارد تارة: يكون الاضطرار إلى ارتكاب الحرام مع الالتفات بموجبية موجبه له أم لا؟ وفي صورة الالتفات إمّا يحصل له العلم

ص: 275

بحصول الاضطرار وكونه مسبّباً من هذا الفعل، أو يبقى مردّداً. هذه هي الفروض المتصوّرة لكون الاضطرار بالاختيار.

وأمّا إذا كان الاضطرار بغير الاختيار، فلا شكّ في كونه موجباً لارتفاع الحرمة والعقوبة على الفعل المضطرّ إليه.

وأمّا إذا كان سببه فعلاً اختيارياً - حراماً كان أم مباحاً - وعلم المكلّف بموجبيته للاضطرار، فالظاهر أنّه لا يرتفع بسببه أثر الحرمة من العقوبة على الفعل وغيرها وإن كان التكليف ساقطا في حقّه فعلاً. وأمّا في صورة عدم العلم وحصول الترديد في سببية الفعل للحرام المضطرّ، فالظاهر أنّه أيضاً كذلك سواء كان سببه فعلاً حراماً أو مباحاً.

إذا عرفت ذلك كلّه، فاعلم: أنّهم قد اختلفوا في أصل المسألة، فيما يكون الاضطرار بسوء الاختيار وينحصر التخلّص به، على أقوال:

أحدها: القول بوجوب التصرّفات المتوقّف عليها الخروج ليس إلّا، من دون ترتّب مفسدة وعقوبة ومؤاخذة عليها، فهذه التصرّفات واجبة ومأمور بها رأساً ومن الأوّل. وهذا مختار الشيخ(قدس سره).((1))

ثانيها: القول بوجوبها وحرمتها معاً. وهو مختار صاحب القوانين.((2))

ثالثها: القول بكونها منهيّاً عنها بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار.((3))

رابعها: القول بوجوبها مع كونها مخالفة ومعصية للنهي السابق. وهو مختار صاحب الفصول(رحمه الله).((4))

ص: 276


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص153. وقوّاه النائیني(قدس سره) في فوائد الاُصول (ج2، ص447).
2- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص153، سطر22، ناسباً إلی أکثر المتأخّرین وظاهر الفقهاء. وذهب إلیه أبو هاشم الجبّائي (م.321ق.) کما في شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب (ص94).
3- وهو الحقّ في الکفایة (الخراساني، ج1، ص263).
4- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص138.

ولا يخفى ما في مختار صاحب الفصول(قدس سره) من الفساد؛ لأنّه لا يعقل مخالفة النهي السابق الساقط في حال سقوطه؛ لأنّ المخالفة فرع بقاء الأمر.

وأمّا وجه مختار الشيخ(قدس سره) فهو: أنّ التصرّفات المتوقّف عليها الخروج قبل الدخول لاتكون مقدورة فلا يمكن تعلّق الأمر والنهي بها مطلقاً بل تصير مقدورة بعد الدخول، فالتكليف المتعلّق بها - أمراً كان أو نهياً، مشروطاً كان أم مطلقاً - لا يتعلّق بها إلّا بعد الدخول، وحيث إنّه لا يمكن في ذلك الظرف تعلّق النهي بتلك التصرّفات لأنّه مضطرّ إليها، فلابدّ وأن يتعلّق الأمر بها في ذلك الظرف مقدّمة للخروج، ولا يعقل أن يكون التكليف غير ذلك.

وبعبارة اُخرى: التصرّفات الخروجية لا تكون منهيّاً عنها أصلاً. والتكليف المتوجّه إليها ليس إلّا وجوبياً راجعاً إلى الخروج، ويكون هذا التكليف قبل الدخول مشروطاً وبعده مطلقاً. والسرّ في ذلك: أنّ التصرّفات المذكورة قبل الدخول لا تكون مقدورة فلا يتعلّق بها تكليف مطلق، وبعد الدخول تصير مقدورة، ولكن حيث لا يعقل توجّه النهي إليها لرجوعه إلى وجوب إبقاء الغصب مثلاً، فيتوجّه إليها الأمر بالخروج لا محالة.

وهذا نظير ارتكاب فعلٍ يؤدّي إلى مرض يكون علاجه منحصراً في شرب الخمر؛((1)) فإنّه لا يصحّ تعلّق النهي بشرب الخمر في هذا الظرف قبل ارتكاب الفعل المذكور، لأنّه تكليف بما هو خارج عن تحت الاختيار، ولكن يتوجّه الأمر بشرب الخمر في هذا الظرف قبل ارتكابه مشروطاً بارتكاب الفعل المزبور، ومطلقاً بعد الارتكاب، هذا.

ولكن مع ذلك كلّه، المسألة غير خالية عن الإشكال، لأنّه لو قيل بمقالة صاحب

ص: 277


1- انظر التنظیر بشرب الخمر في الکفایة (الخراساني، ج1، ص265).

الفصول(رحمه الله) يلزم اجتماع الضدّين. ولو قيل بحرمة التصرّفات المتوقّف عليها الخروج، فهو خلاف الوجدان. كما أنّ الأمر كذلك لو قيل بوجوبها من غير الحرمة.

وربما توهّم في المقام إمكان الترتّب، أي ترتّب الأمر بالخروج على عصيان النهي عن الغصب. وهذا وإن كان بحسب الظاهر قريباً، ولكن لم ينقل من أحد من الأعلام. ولعلّ السرّ في ذلك: أنّ الترتّب في غير هذا المقام إنّما يتصوّر إذا كان لنا أمران: أحدهما متعلّق بالأهمّ والآخر بالمهمّ في ظرف عصيان الأهمّ، ولكن فيما نحن فيه ليس الأمر بالخروج مغايراً مع النهي عن الغصب؛ لأنّه قد مرّ فيما سلف أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العامّ بمعنى اتّحاد متعلّقيهما في نفس الأمر، فالأمر بالخروج ليس إلّا الأمر بترك الغصب وهو منتزع عن النهي عن الغصب، كما أنّ النهي عن الترك منتزع من الأمر بالفعل.

وبالجملة: فالنهي عن الغصب ينحلّ إلى نواهي متعدّدة، فكل آنٍ من آنات الغصب منهيّ عنه وينتزع منه الأمر بترك الغصب، وهذا بخلاف باب الترتّب فإنّ کلّ واحد من الأمرين يكون غير الآخر.

المختار في المسألة

والذي لا يبعد أن يكون أقرب الوجوه في المسألة هو: التفصيل بين من كان تائباً ونادماً من عمله وأراد الخروج لأجل التخلّص عمّا هو مبغوض للمولى، وبين من لم يكن تائباً بل كان باقياً على العصيان وعدم الاعتناء بنهي المولى، فإذا كان نادماً من عمله لا يكون عمله منهيّاً عنه ولا يعاقب على التصرّفات الخروجية؛ لأنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، بل يصير تصرّفه هذا حسناً وممدوحاً شرعاً وعقلاً. وأمّا إذا لم يكن نادماً وتائباً، يكون عمله منهيّاً عنه بالنهي السابق الساقط، فلا مانع من أن يعاقبه المولى على التصرّفات الخروجية. والله تعالى أعلم بالصواب.

غفر الله لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

ص: 278

ص: 279

الفصل الثالث: في اقتضاء النهي للفساد

اشارة

هل النهي عن الشيء يقتضي فساده أو لا؟

إعلم: أنّ الباحثين عن هذه المسألة من المتقدّمين قد أدّوا حقّها وأدركوا الجهة المبحوث عنها فيها، ومع كمال الاختصار بيّنوها في كتبهم غاية التبيين. بخلاف أكثر المتأخّرين؛ فإنّهم وإن ذكروا في المقام مطالب كثيرة إلّا أنّ أكثرها أجنبيّ عمّا يرجع إليه روح البحث وجهة الاختلاف ومحلّ الفائدة، بل ربما لم يأت بعضهم بعد هذه التطويلات بما هو راجع إلى أصل المسألة ويبيّن الحقّ به فيها، وهذا من قبيل الاختلاف في أنّ هذا البحث من مباحث علم الاُصول أو غيره من العلوم.((1)) ومن قبيل الاختلاف في كون المسألة عقلية.((2)) ومعنى الاقتضاء وغيرها.((3)) وربما صارت هذه الاختلافات حجاباً للواقع وسبباً لتبعيد المسافة للمتعلّم. ونحن بعد إلغاء تمام هذه التطويلات ندخل في البحث مبتدءاً بتعريف الصحّة والفساد بعون الله تعالى:

ص: 280


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص157؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص283.
2- الکاظمي، فوائد الاُصول، ج2، ص455؛ العراقي، نهایة الأفکار، ج2، ص452.
3- الکاظمي، فوائد الاُصول، ج2، ص455؛ العراقي، نهایة الأفکار، ج2، ص452.

معنى الصحّة والفساد

معنى الصحّة والفساد((1))

إنّ کلّ موجود إذا وجد، إمّا يوجد على نحو يترقّب وجوده وينطبق عليه عنوان ذلك الموجود المترقّب وجوده أم لا.

فإن كان تحقّقه في الخارج أو غيره من الوعاء المناسب له على نحو يكون ذلك الموجود هو الموجود المترقّب وجوده يتّصف ذلك الموجود بصفة الصحّة وتترتّب عليه آثار الوجود المعنون بعنوان الصلاة أو الصوم أو النبات أو الإنسان مثلاً، ويقال: إنّه صحيح من جهة انطباق العنوان المترقّب وجود معنونه على ذلك الموجود.

وإن لم يكن نحو تحقّقه هكذا: بل كان على نحو لا يصدق عليه ذلك العنوان ووجد على خلاف ما يترقّب أن يوجد يتّصف بالفساد. ولكن لا من جهة نفس ذاته، فإنّ ما وجد بحسب نفس ذاته تامّاً تترتّب عليه آثاره المخصوصة، بل من جهة عدم انطباق ذلك العنوان عليه، وتحققه على خلاف ما يترقّب أن يوجد.

وبالجملة: فما وجد لا يتصف بالفساد من جهة نفس ذاته ولا يكون ناقصاً من حيث ذاته؛ فإنّ القراءة قراءة و السورة سورة والتسبيح تسبيح وكذلك الركوع والسجود كلها بحسب ذاتها تامّة تترتّب عليها آثارها المخصوصة بها ولا نقص ولا فساد فيها بحسب هذا.

ولكن لا يكون هذا ملاك الصحّة كما يوهمه ما في الكفاية؛((2)) فإنّه على ما ذكرناه

ص: 281


1- راجع: الغزالي، المستصفي من علم الاُصول، ج1، ص178-179؛ الفخر الرازي، المحصول في علم اُصول الفقه، ج2، ص291؛ النملة، إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، ج1، ص572 وما بعدها؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص140؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص159؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص287.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص287.

تكون الصحّة أخصّ من التمامية الّتي هى عبارة عن منشأيّة الشيء لترتّب آثاره عليه، فربما يكون الشيء تماماً وتترتّب عليه آثاره ولا يكون صحيحاً من جهة أنّه وجد على خلاف ما يترقّب أن يوجد ولا ينطبق عليه عنوان الشيء المترقّب وجوده. ولكن لا يمكن أن يكون الشيء صحيحاً ولا يكون تماماً ولا تترتّب آثاره عليه.

وهكذا الكلام في جانب الفساد؛ فإنّه أيضاً يكون أخصّ من التمامية فربما يكون الشيء تامّاً ولا يكون فاسداً من جهة أنّه وجد على نحو ينطبق عليه عنوان الموجود المترقّب وجوده. وربما يكون الشيء تامّاً تترتّب عليه آثاره الخاصّة به ويكون فاسدا لتحقّقه على خلاف ما يترقّب أن يوجد وعدم انطباق عنوان الموجود المترقّب وجوده عليه، هذا.

ولا بأس بأن يقال بأنّ التقابل الواقع بين الصحّة والفساد قريب من تقابل العدم والملكة. ثم إنّ الموجود الّذي يوجد في الخارج أو في وعاء آخر إمّا أن يكون من الموجودات الّتي توجد تارة على نحو يترقّب وجودها، واُخرى لا على هذا النحو بل يوجد على خلاف ما يترقّب أن يوجد؛ وإمّا أن لا يكون من هذا القبيل بل يكون بحيث كلّما يتحقّق في وعائه المناسب له يترتّب عليه أثره وينطبق عليه عنوان ما يترقّب وجوده ولا ينفكّ عنه ذلك، وهذا كإتلاف مال الغير والملاقاة مع النجاسة وغيرهما، فما يكون من هذا القسم لا يتصور فيه النزاع ولا يكون محلّا للاختلاف.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ اتّصاف الأشياء بالصحّة والفساد، تارة: يكون على نحو يكون معلوماً عند الكلّ. وبعبارة اُخرى: تارة يكون الشيء بحيث كلّما وجد يعرف کلّ واحد من العقلاء بأنّه وجد على نحو يترقّب وجوده أم لا. وهذا يكون لمعلومية کلّ ما له دخل في وجود هذا الشيء على هذا النحو عندهم، ومعلومية ما ليس له هذه الدخالة.

ص: 282

واُخرى: لا يكون الشيء ممّا يعلم حاله ووجوده على هذا النحو، فلا يعرف الانطباق وترتّب الآثار إلّا من كان عالماً به. وهذا كالأدوية والمعاجين المخصوصة، فإنّ ترتّب أثر كذائيّ خاصّ على معجون الموجود الخاصّ ممّا لا يعلمه إلّا من كان عالماً بالطبّ، كما أنّ عدم ترتّب هذا الأثر عليه لا يكون معلوماً إلّا عنده. ومن هذا القبيل تكون المعاملات والعبادات والإيقاعات؛ فإنّه لا يعلم ما له دخل في ترتّب الأثر واعتبار الملكية مثلاً في البيع وغيره إلّا العالم به وهو الشارع.

فلو تعلّق النهي بما كان من قبيل القسم الأوّل يكون النهي عنه دالّا على الحرمة والمبغوضية ولا دلالة فيه على فساده أصلاً. كما لو نهى المولى عبده عن لبس الحرير والذهب أو لباس آخر، فلا يُعقل أن تكون لنهيه هذا دلالة على فساد لبس الحرير أو فساد ما يترتّب عليه من الأثر وهو الزينة.

وأمّا إذا تعلّق النهي بما كان من القسم الثاني يكون النهي المتعلّق به دالّا على الفساد وإرشاداً بعدم تماميته وترتّب الأثر المقصود عليه. وهذا كنهي الطبيب المريض بأن لا يزيد شيئاً على الدواء الخاصّ المركّب من الأجزاء الخاصّة أو لا ينقص منه شيئاً. ومثل نهي الشارع عن كثير من المعاملات، كنهيه عن بيع الغرر، وبيع المنابذة، والملامسة، وبيع الكلب، أو نهيه عن لبس الحرير في الصلاة.

ولا يخفى عليك: أنّ النهي الدالّ على الحرمة مستلزم للفساد إذا كان متعلّقه أمراً عبادياً.((1)) بل مطلق الحرمة والمبغوضية، سواء كان دليلهما لفظياً أو لبّياً، مستلزمة لفساد المحرم والمبغوض إذا كان المحرم أمراً عبادياً؛ لأنّ لمقرّبية العمل دخلاً في صحّة المأتيّ به إذا كان عبادياً، ولا يمكن أن يكون فعل المبغوض والمبعِّد عن المولى مقرّباً، قلنا بجواز الاجتماع أو امتناعه.

ص: 283


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص162، في الهداية الثانیة من القول في اقتضاء النهي للفساد.

تقسيم النهي في العبادات إلى الإرشادي والمولوي

قسّم الشيخ(قدس سره) - كما أفاد بعض مقرّري بحثه - النواهي الواردة في العبادات إلى قسمين:

أحدهما: ماهو منساق لبيان المانع، كالأوامر الواردة في العبادات لبيان الأجزاء والشرائط، ولا إشكال في دلالة هذه النواهي على الفساد، بل ذلك لا يخلو عن مسامحة، فإنّ الفساد الواقعيّ إنّما أوجب النهي عن العبادة المقارنة للمانع، لا أنّ النهي اقتضى الفساد.

وثانيهما: ما هو منساق لتحريم أصل العبادة من دون إرشاد إلى عدم وقوع الامتثال بها، كقولك: «لا تصلّ في الدار المغصوبة» غير قاصد بذلك رفع الإذن الحاصل من إطلاق الأمر بالصلاة، وهذا ينبغي أن يكون محلّا للنزاع، ثم أفاد بأنّه يقتضي الفساد.((1))

أقسام النهي في المعاملات

وقسّم(قدس سره) النواهي الواردة في المعاملات إلى أقسام:

أحدها: أن يكون النهي متعلّقاً بالمعاملة من حيث إنّها أحد أفعال المكلّف فيكون إيجاد السبب والتلّفظ بالإيجاب والقبول مثلاً وقت النداء مثل شرب الخمر محرّماً من غير ملاحظة أنّ هذا الفعل المحرّم يوجب نقلاً وانتقالاً. ولا ريب في عدم دلالة هذا النحو من النهي على الفساد.

ثانيها: أن يكون مفاد النهي مبغوضية إيجاد السبب لا من حيث إنّه فعل من الأفعال بل من حيث إنّ ذلك السبب يوجب وجود المسبّب المبغوض في نفسه، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر؛ فإنّ إيجاد السبب حرام بواسطة إيراثه أمراً مبغوضاً وهو سلطنة الكافر على المسلم بناءً على الصحّة ووجوب الإجبار على إخراجه عن ملكه.

ص: 284


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص163.

فلو قلنا بأنّ الأسباب الناقلة إنّما هي مؤثّرات عقلية قد اطّلع عليها الشارع وبيّنها لنا من دون تصرّف زائد يمكن القول في هذا القسم بعدم دلالة النهي على الفساد.

وأمّا إن قلنا بأنّ هذه أسباب شرعية وضعها الشارع وجعلها مؤثّرة في الآثار المطلوبة فلابدّ من القول بالفساد؛ فإنّ من البعيد جعل السبب مع كون المسبّب مبغوضاً.

ثالثها: أن يكون مفاد النهي حرمة الآثار المترتّبة على المعاملة المطلوبة منها، مثل ما يدلّ على حرمة أكل الثمن فيما إذا كان عن الكلب والخنزير. وهذا النهي یدلّ بالالتزام على عدم حصول الملك بهذه المعاملة وهو عين الفساد؛ لأنّه لا وجه لحرمة التصرّف في الثمن والمبيع ونحو ذلك من الآثار المترتّبة على الملك لو حصل الملك.

رابعها: أن يكون النهي ناظراً إلى إطلاق دليل الصحّة فيكون لا محالة مقيّداً لإطلاقه ويكون مفاده التصريح بالدلالة على الفساد، فكأنّه بمنزلة الاستثناء لقوله مثلاً «أوفوا بالعقود» الدالّ على حصول الملك والنقل والانتقال بالعقد.((1))

خامسها: وهو الّذي زاده المحقّق الخراساني(رحمه الله) على هذه الأقسام، وهو: تعلّق الحرمة بالتسبّب بالمعاملة الخاصّة إلى مضمونها، فالنهي متعلّق على هذا بالتوسّل من هذا السبيل وإيجاد ذلك السبب الخاصّ إلى مسبّبه. وذهب إلى عدم دلالة النهي في هذا القسم أيضاً على الفساد.((2))

ولا يخفى عليك: أنّه يمكن إنكار النهي المتعلّق بالسبب في الشرعيات كما ذكره في القسم الأوّل؛ فإنّ البيع وقت النداء وما كان من هذا القبيل لا يكون منهيّاً بما هو فعل مباشري، بل النهي قد تعلّق حقيقة بحقيقة المعاملة وما يعبّر عنه بالفارسية ب- «داد و

ص: 285


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص163.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص296.

ستد» لكن لا من جهة مبغوضية أصل المعاملة بل من جهة مزاحمتها مع السعي إلى ذكر الله. وهذا الملاك موجود في کلّ فعل يزاحم السعي.

وهذا النهي لا يكون إلّا غيرياً وليس فيه دلالة على الفساد ولا على حرمة المعاملة أصلاً، فإذا ترك الصلاة واشتغل بالمعاملة لا يكتب عليه معصيتان.

وأمّا ما كان من قبيل القسم الخامس وهو تعلّق النهي بالتسبّب، فالقول فيه بدلالة النهي على الفساد قريب؛ لأنّ الشارع حيث أراد عدم التوصّل بذلك السبب الخاصّ إلى المسبّب يقتضي هذا إلغاء سببيته رأساً، فالنهي المتعلّق بالمسبّب يكون إرشادياً لا محالة.

الاستدلال على الفساد بفهم العلماء

والّذي ينبغي أن يقال في المقام: إنّا نرى العلماء في الأبواب المتفرّقة من الفقه كثيراً ما يستدلّون بالنهي على فساد المعاملة،((1)) كالنهي عن بيع الغرر وعن بيع المنابذة وعن نكاح منكوحة الأب وغيرها. ومن الواضح أنّه ليس ذلك من أجل دلالة النهي لغة على الفساد بل ولا شرعاً؛ لأنّه لا يدّعي أحد أنّ الشارع وضعه للدلالة على الفساد بعدما لم يكن كذلك في اللغة.

فما ينبغي أن يكون وجهاً لهذا أنّه كما أنّ الأسباب الناقلة كالإيجاب والقبول ليست مطلوبات نفسية لأرباب المعاملات، بل وليست مسبّباتها أيضاً - من قبيل الملكية والزوجية - مطلوبات نفسية، وإنّما هي أسباب يوجدها الناس لأجل الآثار الّتي تترتّب على مسبّباتها، كجواز التصّرف في الثمن والمثمن بسبب الإيجاب والقبول، وحصول الملكية في البيع، وجواز الوط ء بسبب الإيجاب

ص: 286


1- الشریف المرتضی، الذریعة إلی اُصول الشریعة، ج1، ص184، 187 – 190؛ شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص 209 – 210.

والقبول، وحصول الزوجية في النكاح، فلا يكون النهي المتعلّق بهذه الأسباب متعلّقاً بها وبمسبّباتها حقيقة، بل النهي إنّما يتعلّق بالأثر المترتّب على المسبّب الّذي لأجله يوجد السبب وما هو مطلوب نفسي، فالنهي المتعلّق بالمعاملة ليس مفاده حرمة إيجاد السبب والمسبّب، بل مفاده النهي عن ترتيب الأثر على المعاملة والعمل بمضمونها ليس إلّا، هذا.

الاستدلال بالروايات

قد استدلّ لدلالة النهي على فساد المعاملة بروايات، أمتنها متناً ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال: «ذاك إلى سيّده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما». قلت: أصلحك الله إنّ الحَكَم بن عتيبة وإبراهيم النَّخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد، ولا يحلّ إجازة السيّد له. فقال أبو جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إنّه لم يعص الله، إنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز».((1))

وجه الدلالة: أنّ مقتضى قوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «لم يعص الله... إلخ» أنّ النكاح لو كان ممّا حرّمه الله تعالى كان فاسداً، فمراده (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) - على الظاهر - أنّ النكاح حيث لم يكن ممّا حرّمه الله ولم يمضه لا يقع فاسداً، لأنّ هذا النكاح لا يقع معصية لله تعالى. فلو كان معصية لله تعالى وممّا لم يمضه يكون فاسداً؛ لأنّه يستتبع الفساد لا محالة.

وقريبة منها روايته الاُخرى عن أبي جعفر(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قال: سألته عن رجل تزوج عبدُه

ص: 287


1- الکلیني، الکافي، ج5، ص478، ح3، باب المملوک یتزوّج بغیر إذن مولاه؛ الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج3، ص3، ح541، باب طلاق العبد؛ الطوسي، تهذیب الأحکام، ج7، ص351، ح1432/63، ب30، باب العقود علی الإماء؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب نکاح العببید والإماء، ج21، ص114، ب24، ح1.

امرأةً بغير إذنه فدخل بها، إلى آخر الرواية.((1)) ولعلّهما رواية واحدة لبعد تكرّر هذا السؤال من زرارة عن الإمام(عَلَيْهِ السَّلاَمُ).

وأمّا رواية البقباق عن أبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قال: قلت لأبي عبد الله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): الرجل يتزوّج الأمة بغير علم أهلها قال: «هو زنى، إنّ الله يقول: ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾((2))».((3))

فلا دلالة لها على ما نحن بصدده، كما لا يخفى.

تذنيب

حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحّة.((4))

فإن كان مرادهما من ذلك أنّ النهي یدلّ على الصحّة بالمعنى الّذي حقّقناه، وهو: تحقّق المنهيّ عنه على نحو يترقّب أن يوجد ويتحقّق، فهو صحيح.((5)) وإن كان مرادهما كون المنهيّ عنه مأموراً به وقابلاً لأن يتقرّب به، فلا دلالة له على ذلك. والله العالم.

ص: 288


1- الکلیني، الکافي، ج5، ص478، ح2، باب المملوك یتزوّج بغیر إذن مولاه؛ الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج3، ص446-447، باب المملوك یتزوّج بغیر إذن سیّده؛ الطوسي، تهذیب الأحکام، ج7، ص351، ح1431/62، ب30، باب العقود علی الإماء؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب نکاح العبید والإماء، ج21، ص115، ب24، ح2.
2- النملة، إتحاف ذوي البصائر، ج3، ص1702، قال فیه: «فذهب أبو حنیفة، و محمد بن الحسن، و بعض الحنفیة إلی أنّه یدلّ علی الصحّة»؛ شرح البدخشي و الأسنوي، ص2، 70 - 73؛ القرافي، شرح تنقیح الفصول، ص173؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص66.
3- الطوسي، الاستبصار، ج3، ص219؛ الفیض الکاشاني، الوافي، ج22، ص603.
4- المقدسي، روضة الناظر، ص123 – 124؛ شرح البدخشي و الأسنوي، ص69 – 73.
5- قال في إتحاف ذوي البصائر فی بیان مرادهم: «أنّ مجرّد صدور صیغة النهي یدلّ علی تصوّر وقوع المنهيّ عنه، فالنهي مثلاً عن صوم یوم النحر یدلّ علی انعقاده، فلو استحال انعقاده في نفسه لما نهي عنه؛ لأنّ المحال لا ینهي عنه، أي: أنّ النهي عن غیر المقدور عبث، والعبث لا یلیق بالحکیم فلا یجوز أن یقال للزّمن - وهو المریض مرضاً شدیداً مزمناً - : «لا تطر»، ولا یجوز أن یقال للأعمی: «لا تبصر»؛ لأنّ مثل ذلك عبث...».

ص: 289

المقصد الثالث في المفاهیم

اشارة

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في معنى المنطوق والمفهوم

الفصل الثاني: في المنشأ وما يحصل به المفهوم

الفصل الثالث: في مفهوم الشرط

الفصل الرابع: في المفهوم في الجمل الإنشائية

الفصل الخامس: هل المراد انتفاء سنخ الحكم أو شخصه؟

الفصل السادس: في تعدّد الشرط ووحدة الجزاء

الفصل السابع: في تداخل الأسباب والمسبّبات

الفصل الثامن: في تطابق المفهوم مع المنطوق

ص: 290

ص: 291

الفصل الأوّل: في معنى المنطوق والمفهوم

اشارة

والحقّ: أنّ المنطوق والمفهوم من صفات المدلول. وانقسامه إليهما من جهة اختلاف خصوصية الدلالة، فباعتبار وجود إحدى الخصوصيتين في دلالة الكلام يسمّى المدلول مفهوماً، أو منطوقاً. ولا يوجب هذا كونهما من صفات نفس الدلالة وإن كان ربما يوجد في كلماتهم تقسيمها إلى المفهومية والمنطوقية.

فدلالة اللفظ تارة: تكون بحيث يسمّى مدلوله بحسب هذا النحو من الدلالة مفهوماً. واُخرى: تكون بحيث يسمّى مدلوله منطوقاً.

وربما يظهر من كلمات القدماء عدم وضوح مفادهما عندهم، ولذا وقع الاختلاف بينهم في أنّ دلالة الغاية في ﴿أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾((1)) على عدم وجوب الصوم بعد الليل، هل تكون بالمفهوم أو بالمنطوق؟

وعلى کلّ حال فلا يخفى عليك: أنّ الشيخ(رحمه الله) بعدما أفاد انحصار المدلول المطابقي في المنطوق وكذلك المدلول التضمّني - إلّا على قول من زعم أنّ دلالة الجملة الشرطية على الحكم المفهومي إنّما هي بالتضمّن؛ فإنّه على هذا ينقسم المدلول التضمّني إلى المفهوم والمنطوق - وانقسام المدلول الالتزامي إليهما، ونقل تعريف

ص: 292


1- البقرة، 187.

الحاجبي وتفسير العضدي له، وغير ذلك؛((1)) أفاد في ذيل كلامه بأنّ التحقيق في المقام: أن يقال: إنّ لوازم المداليل المفردة خارجة عن المقسم. وأمّا المداليل الالتزامية للمركّبات، فما كان منها لا يقصد دلالة اللفظ عليه وإن كان يستفاد منه، يكون خارجاً عن المفهوم. وما كان يقصد دلالة اللفظ عليه، فإن كان الحكم المستفاد من الكلام المنطوق به مفاده مفاد قولك لا غير، كما في مفهوم المخالفة مثل قولك: زيد قائم غير عمرو. أو كان الحكم ثابتاً للغير على وجه الترقّي كما في مفهوم الموافقة فهو المفهوم بقسميه، وإلّا فهو المنطوق.

وبعدما أفاد في توضيح مراده هذا، قال في آخر كلامه: بأنّه غاية ما يمكن أن يقال، إلّا أنّه بعد إحالة على المجهول.((2))

وهكذا حال غيره ممّن تأخّر عنه، فلم يأتوا بما يوضح مفادهما ويظهر به حقيقتهما.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّ الدلالات الثلاث كلّها منطوقية، وليست إحدى منها مقسماً للمنطوق والمفهوم. وكما أشرنا إليه أنّ مفادهما ليس مجهولاً عندهم كما زعمه الشيخ(رحمه الله) وغيره، بل الظاهر أنّهما عندهم بمكان من الوضوح، وعدم اختلاف بينهم في مفادهما. فما یدلّ عليه اللفظ في محلّ النطق هو المنطوق. وما یدلّ عليه لا في محلّ النطق هو المفهوم.((3))

ومرادهم من هذا التعريف: أنّ الّذي يستفاد من كلام المتکلّم ويصحّ أن يقال بأنّه قال كذا وتكلّم بكذا أو أخبر عن كذا أو أمر بكذا ونهى عن كذا، ويصحّ أن يحتجّ بسببه معه بأنّك قلت هكذا وأمرت بكذا، ولا يصحّ له أن ينكره، هو المنطوق. وأمّا ما

ص: 293


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص167 (بدایة البحث).
2- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص169.
3- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص167؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص145.

لا يكون كذلك ويمكنه في مقام الاحتجاج إنكار التكلّم به وأن يقول ما نطقت به، ولا يقال فيه: إنّه قال كذا، هو المفهوم.

فعلى هذا، يكون المفهوم خارجاً من الدلالات الثلاث.

ولا يخفى عليك: أنّ الدلالات بحسب اصطلاحهم غيرها بحسب مصطلح المنطقيّين؛((1)) فإنّ تقسيمهم راجع إلى الألفاظ المفردة ومرادهم من الدلالة الالتزامية ما یدلّ عليه اللفظ بالالتزام في عالم الذهن والتصوّر، و يكون لازم وجود المعنى المطابق في عالم الذهن، سواء كان لازماً لوجوده الخارجي أو لم يكن، بل كان مبايناً معه كالعمى والبصر.

وأمّا الدلالات بحسب اصطلاح الاُصوليّين فتقسيمهم إيّاها راجع إلى الألفاظ المرکّبة. فدلالة الجملة على مجموع ما تدلّ عليه أجزاؤها المفردة موسومة بالمطابقة، فاتّحاد الموضوع وهو زيد مع المحمول وهو القيام بحيث يكون الموضوع معروضاً له وكان القيام قائماً به، هو المعنى المطابقي.

ودلالة الجملة على جزء هذا المعنى وهو كون بعض أجزائه كرِجله أو رأسه أو غيرهما معروضاً لوضع خاصّ ومتّحداً معه، عبارة عن التضمّن.

ودلالة الجملة على لوازم هذا المعنى - لكن لا على ما كان لازمه بحسب الذهن، أي لازم وجوده الذهني كما استقرّ عليه اصطلاح المنطقيين، بل على ما كان لازم وجوده الخارجي - تسمّى بالالتزام.

وهذه الدلالات الثلاث كلّها دلالات منطوقية، وليست واحدة منها مفهومية؛ فإنّه يصحّ الاحتجاج مع المتکلّم بکلّ واحدة منهنّ، ويصحّ أن يقال بأنّك قلت هكذا أو أخبرت عن هذا، بالنسبة إليهنّ على السواء.

ص: 294


1- انظر: العلّامة الحلّي، الجوهر النضید، ص8؛ قطب الدین الرازي، شرح المطالع، ص28؛ قطب الدین الرازي، شرح الشمسیة، ج19، ص21- 22.

وبالجملة: الغرض من ذلك كلّه: بيان أنّ المفهوم ليس من الدلالات الثلاث حتى يقال بأنّ حجّیته لو ثبت أصله غنيّة عن البيان، وأنّ النزاع واقع في الصغرى كما زعمه المتأخّرون،((1)) ولذا نرى أنّ القدماء يستدلّون لحجّية مفهوم الشرط وغيره من المفاهيم بأنّه لو لم تكن حجّة لكان أداء الكلام بهذا النحو لغواً، فيفهم من هذه عدم كون المفهوم عندهم من الدلالات الثلاث،((2)) وأنّ النزاع يكون كبروياً وإلّا لما احتاجوا إلى الاستدلال لحجّيته.

والمتأخّرون حيث اشتبه عليهم ذلك وتوهّموا أنّه قسم من المدلول بالدلالة الالتزامية صاروا في مقام إثبات أصل المفهوم من طريق ظهور ذكر العلّة على انحصارها.((3))

والحاصل: أنّ تمسّك القدماء لحجّية المفهوم بدخالة القيد في ثبوت الحكم وإلّا يلزم كون القيود المذكورة في الكلام لغواً، یدلّ على أنّ المفهوم غير المداليل الّتي یدلّ عليها اللفظ بإحدى الدلالات الثلاث، وأنّ النزاع الواقع في المقام لا يكون إلّا كبروياً.

شمول البحث على مفهوم المخالفة والموافقة

لا فرق فيما ذكر بين مفهوم المخالفة وهو: ما يفهم من تقيّد الكلام بقيد من القيود من عدم ثبوت الحكم للمقيّد بما هو ودخالة ذلك القيد في ثبوت الحكم، وبين مفهوم

ص: 295


1- الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص280؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص169؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص301-302.
2- الشریف الرضي، الذریعة إلی اُصول الشریعة، ج1، ص323-324؛ الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص409-410.
3- الطباطبائي، مفاتیح الاُصول، ص 218، 221؛ الموسوي القزویني، ضوابط الاُصول، ص105؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص150، 152؛ القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص181؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص183؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص302؛ الخراساني، فوائد الاُصول، ج2، ص481.

الموافقة وهو: ما يستفاد عرفاً من الكلام المقيّد بقيد من عدم دخالة ذلك القيد في الحكم، وثبوت الحكم لموضوع كان فاقداً لهذا القيد، استفيد ذلك من جهة أولوية الفاقد كما في الآية: ﴿فَلَا تَقُلْ لَ-هُما اُفٍّ﴾،((1)) فإنّ العرف يفهمون أنّه ليست لحرمة التأفيف خصوصية وإنّما ذكر لأجل أنّه أحد مصاديق الظلم على الوالدين، فحرمة ما ليس تأفيفا بل كان من قبيل الضرب والشتم أولى. أو من غير جهة الأولوية كما إذا قال: «إذا شكّ الرجل بين الثلاث والأربع يبني على الأربع»، فإنّ العرف يفهم من ذلك عدم دخالة قيد الرجولية في الحكم، وأنّه حكم شكّ المرأة أيضاً.

ردّ إشكال على الشريف المرتضى(قدس سره)

وممّا ذكر((2)) يظهر: أنّ ما استشكلوا على الشريف المرتضى(قدس سره) - في استدلاله على عدم حجّية المفهوم بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾؛((3)) وقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾؛((4)) بأنّه لو كان المفهوم حجّة لما قامت إمرأتان مقام أحد الشاهدين.((5)) وإشكالهم عليه - أوّلاً وثانياً وثالثاً وبأنّ هذا الاستدلال بعيد عن محلّ البحث، ولا يليق بمقام السيّد(رحمه الله) ((6)) - في غير محلّه؛ لأنّ نظر السيّد(رحمه الله) إنّما يكون على إبطال استفادة دخالة القيد في الحكم، لا نفي دلالتهما على عدم الاكتفاء بشاهد واحد، وسيجيء لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.

ص: 296


1- الإسراء، 23.
2- من اعتبار القید في الکلام واستفادة المفهوم منه لکي لا یلزم لغویته.
3- البقرة، 282.
4- الطلاق، 2.
5- الشریف المرتضي، الذریعة إلی اُصول الشریعة، ج1، ص406.
6- العاملي، معالم الدین، ص78؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص171.

هذا تمام الكلام في أصل المفهوم. وتلخّص منه أنّ الدلالة إذا كانت لفظيةً كالدلالات الثلاث يكون مدلولها منطوقاً، وإذا كانت غير لفظية يكون مدلولها مفهوماً.

ص: 297

الفصل الثاني: في المنشأ وما يحصل به المفهوم

اشارة

يمكن أن يقال: إنّ العرف يستفيد المفهوم من نفس التلفّظ والتكلّم بما أنّه فعل اختياريّ، صوناً لفعل الحكيم من اللغوية؛ فإنّ في صورة الشكّ في كون المتکلّم في تکلّمه، بل وكلّ فاعل في فعله يكون لاغياً أو لا؟ استقرّ بناء العرف والعقلاء على عدم كونه لاغياً، بل أنّه فَعَلَ ما فَعَلَ لغرض ومقصد. وهذا الأصل يكون حجّة ومتّبعاً عند العقلاء، ولهذا لو اعتذر العبد في مخالفة مولاه بأنّي احتملت أن يكون لاغياً، لا يسمع منه.

وهذا الأصل يجري مقدّماً على إجراء أصالة كون غرض المتکلّم إفادة معنى من المعاني فيما إذا شكّ في أنّ المتکلّم في مقام الإفادة أو تكلّم لغرض آخر، كدفع شرّ ظالم أو غيره.

كما أنّ إجراء هذا الأصل الأخير أيضاً يكون مقدّماً على أصالة إرادة المعنى الحقيقي.

وكيف كان، فيما إذا كان المتکلّم في مقام الإفادة ولم يكن لاغياً وكان كلامه متضمّناً لزيادات على الموضوع والمحمول يفهم من نفس تكلّمه دخالة هذا الزائد في مقصوده؛ فإنّ العرف يفهم من إتيان المتکلّم بقيد في كلامه - من جهة أنّ تکلّمه فعل من الأفعال، لا من جهة دلالة لفظ القيد على معناه - أنّ للقيد دخالة في ثبوت الحكم. ويفهم من ذلك عدم ثبوت الحكم لما كان فاقداً لهذا القيد. فالمفهوم هو: ما يستفاد من تقييد كلام المتکلّم بقيد. وأمّا مفهوم الموافقة فهو في الحقيقة لا يستفاد من اشتمال

ص: 298

الكلام على قيد زائد، بل إنّما يستفاد من كون تقيّد الموضوع بهذا القيد من باب كونه أحد الأفراد والمصاديق لما هو الموضوع أو أنّه فرد دانيّ له، كقوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَ-هُ-مَا اُفٍّ﴾،((1)) فإنّ العرف يحكم بعدم دخالة هذا القيد في الموضوع، وثبوته لما كان فاقداً له.

ولو أغمضنا عن ذلك ولم نقل بأنّ اشتمال الكلام على القيد يفيد دخالته في الحكم من جهة أنّه فعل من الأفعال، فلا يمكن القول باستفادة المفهوم بما ذكره المتأخّرون من دلالة تقييد الحكم بواسطة كلمة «إن» على الانتفاء عند الانتفاء، من جهة أنّ ظاهر القضیّة الشرطية سببية الشرط للجزاء على وجه الانحصار.

وذلك من جهة أنّ مفاد القضیّة الشرطية إذا كان عليّة الشرط للجزاء لا يفيد الانتفاء عند الانتفاء أصلاً، فلو قال الطبيب للمريض: «إن شربت الماء يزيد مرضك»، أو قال المنجّم: «إذا اجتمع الكوكب الفلاني مع كوكب آخر تقع في العالم حادثة مهمّة» فلو أكل المريض البطّيخ وصار سبباً لشدّة مرضه، أو وقعت في العالم الحادثة المذكورة من دون اجتماع الكوكبين، لا يصحّ الاعتراض على الطبيب، فإنّ له أن يقول: ليس لازم قولي عدم سببية غير الماء لشدّة المرض. وهكذا في جانب المنجّم.

نعم، إذا كان المتکلّم في مقام بيان تمام ما هو المناط لترتّب الحكم على الموضوع وأتى بقيد زائد، فظاهره كما مرّ هو: الانتفاء عند الانتفاء، كقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إذا کان الماء قدر كُرٍّ لم ينجّسه شيء».((2))

وملخّص الكلام في المقام: أنّ المتکلّم الحكيم الّذي يكون في مقام الإفادة إذا أتى في

ص: 299


1- الإسراء، 23.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، ج1، ص158 – 159، ب9، ح1و2و6.

كلامه بقيد زائد في طرف الموضوع أو المحمول لابدّ وأن يفيد ذلك القيد دخالته في الحكم صوناً لفعله وتكلّمه من اللغوية.

هذا تمام الكلام فيما يحصل به المفهوم.

مفاد المفهوم

وأمّا الكلام في مفاده، فلا ريب في دلالته على أنّ المقيّد بما هو هو، أي من دون قيده، ليس موضوعاً للحكم، ولكن لا دلالة له على عدم كون المقيّد موضوعاً للحكم إذا كان فاقداً للقيد المذكور في الكلام وواجداً لقيد آخر. فلا يفيد المفهوم أكثر من دخالة القيد، وأنّ المقيّد في نفسه وبحسب ذاته لا يكون مرْكباً للحكم. فعلى هذا، لا مانع من ضمّ قيد آخر إليه يقوم مقامه، فقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «الماء إذا كان قدر كرّ لم ينجّسه شيء»، لا يفهم منه إلّا دخالة الكرّية في موضوع حكم الشارع بعدم التنجّس وأنّ نفس الماء مجرّداً عن القيد ليس موضوعاً للحكم، لا أنّ تمام الموضوع لهذا الحكم هو الماء إذا كان كرّاً، فلا يفهم منه تنجّسه بشيء ولو ضمّت إليه خصوصية اُخرى تقوم مقام القيد المذكور ككونه جارياً أو مطراً.

نعم، إذا كان المتکلّم في مقام بيان تمام ما هو مناط الحكم واُحرز ذلك، فلا مانع من أخذ المفهوم والحكم بأنّه ينجّسه شيء ولو ضمّت إليه خصوصية اُخرى، ولعلّ هذا مراد كاشف الغطاء(رحمه الله) في المقام، حيث أفاد: أنّ المتکلّم إذا كان في مقام البيان يستفاد هذا من كلامه، وإلّا فلا.

وممّا ذكرنا ظهر مراد السيّد المرتضى(رحمه الله)، فإنّه في مقام الجواب عن القائل بالانتفاء عند الانتفاء مطلقاً ولو قام قيد آخر مقام القيد المذكور، فأفاد بأنّ تقيّد الموضوع بقيد لا یدلّ على أزيد من دخالة القيد في الحكم وأنّه لا يكون بما هو هو موضوعاً، وليس

ص: 300

فيه دلالة على أنّ الحكم يدور مدار ذلك القيد مطلقاً، ألا ترى في قوله تعالى: ﴿وَأَشهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾((1)) مع أنّه یدلّ على عدم جواز قبول شاهد واحد إلّا إذا انضمّ إليه شاهد آخر، لا يمنع من قبول شاهد واحد إذا انضمّت إليه إمرأتان أو خصوصية اُخرى.((2))

وغرضه من ذلك أنّ تقيّد المقيّد بقيد لایدلّ على أزيد ممّا ذكر، كما أنّه يستفاد من الآية دخالة ضمّ شاهد آخر في جواز القبول وعدم جواز قبول شاهد واحد بما هو هو، ولكن لا يستفاد منه عدم جواز القبول في صورة ضمّ ضميمة اُخرى إليه، وهذا كما ترى كلام تحقيقي متين.

تتمة: في تعريف المفهوم في الكفاية أفاد المحقّق الخراساني(رحمه الله) في تعريف المفهوم، بأنّه عبارة عن: «حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الّذي اُريد من اللفظ بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة وكان يلزمه لذلك... إلخ».((3))

ويمكن أن يستظهر ممّا يفيد في مفهوم الشرط والوصف((4)) أنّ تلك الخصوصية المستتبعة لذلك الحكم المفهومي ليست إلّا انحصار العلّة.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاضطراب؛ لأنّ تلك الخصوصية إن اُريدت من اللفظ فهي داخلة في المعنى، ويصير معناه بناءً على هذا: أنّ المفهوم حكم إنشائي أو إخباري يكون لازماً للمعنى الّذي اُريد من اللفظ ولازمه أن يكون المفهوم من المداليل الالتزامية. وإن لم ترد من اللفظ، فهي خارجة عن مدلول اللفظ. مضافاً إلى أنّ

ص: 301


1- الطلاق، 2.
2- الشریف المرتضی، الذریعة إلی اُصول الشریعة، ج1، ص406.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص300 – 301.
4- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص302.

هذه الخصوصية كانحصار العلّة لا تلازم المعنى الّذي اُريد من اللفظ وهو علّية الشرط للجزاء؛ لأنّها كما يمكن أن تكون منحصرة، يمكن أن تكون غير منحصرة.

وبالجملة: وإن أشار(قدس سره) إلى أنّ هذه التعريفات شرح الاسم إلّا أنّه لابدّ من أن يكون شرح الاسم وما يشار به إلى المعرَّف ممّا يصحّ أن يشار به، هذا.

وقد أفاد بعض الأعاظم من المعاصرين في المقام بأنّ انفهام معنى تركيبي من جملة تركيبية إن كان باعتبار نفس الجملة في حدّ ذاته تكون الدلالة منطوقية. وإن كان باعتبار لزومها لمفاد الجملة بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، حتى تكون الدلالة لفظية، فتكون الدلالة مفهومية. وبنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ، حتى لا تكون الدلالة لفظية، فتكون سياقيه كدلالة الاقتضاء((1)) ودلالة التنبيه((2)) ودلالة الإشارة.((3)) ولا فرق في ذلك بين دلالة جملة واحدة كدلالة قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ): «كفّر» في جواب من قال «هلكت وأهلكتُ، واقعت أهلي في نهار شهر رمضان»((4)) على علّية

ص: 302


1- هي ما یتوقّف علیها صدق الکلام کقوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) في حدیث الرفع: «رفع عن اُمتي الخطأ... إلخ». الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب جهاد النفس، ج15، ص369، ب56، ح1. فإنّه لو لم یکن المراد منه رفع المؤاخذة لم یکن الکلام صادقاً. أو تتوقّف علیها صحّة الکلام عقلاً، کما في: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ (یوسف، 82)؛ فإنّ صحّة الکلام عقلاً موقوفة علی إفادته الأهل. أو شرعاً کما في: أعْتقْ عَبْدَكَ عنّي. [منه دام ظلّه العالي].
2- و هي ما لا یتوقّف علیها صدق الکلام و لا صحّته و لکن حیث کان الکلام، مقترناً بشيء لو لم یکن هذا الشيء علّة له لکان الاقتران به بعیداً فیفهم من ذلك الاقتران علّیة هذا الشيء في حکم الشارع أو غیره له، مثل قوله7: «کفّر» بعد قول القائل: «هلکت و أهلکت واقعت أهلي...إلخ. [منه دام ظلّه العالي].
3- وهي دلالة الکلام علی أمر یلزم منه من غیر أن یقصده المتکلّم علی حسب الظاهر المتعارف في المحاورات کدلالة الآیتین علی کون أقلّ الحمل ستّة أشهر. [منه دام ظلّه العالي].
4- الکلیني، الکافي، ج4، ص102، ح2؛ الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج2، ص72، ح309، أبواب الصوم، ب33؛ الطوسي، تهذیب الأحکام، ج4، ص206، ح595/2، ب55، باب الکفارة في اعتماد إفطار یوم من شهر رمضان.

الوقاع للتكفير؛ وبين دلالة الجملتين كدلالة الآيتين الشريفتين((1)) على كون أقلّ الحمل ستة أشهر.((2))

وفيه: أنّ دلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه إنّما تكون من الدلالات المنطوقية،((3)) وليس لنا دلالة اُخرى في مقابل الدلالة المفهومية والمنطوقية تكون موسومة بالدلالة السياقية.

ص: 303


1- البقرة، 233؛ الأحقاف، 15.
2- النائیني، فوائد الاُصول، ج2، ص476 – 477.
3- کما صرّح بذلك في القوانین (القمّي، ج1، ص168).

الفصل الثالث: في مفهوم الشرط

نبحث هنا في مفهوم الشرط على مسلك المتأخّرين وإن كان خلاف ما ذهبنا إليه. وحاصل ما أفاد في الكفاية في المقام: أنّ إثبات المفهوم موقوف:

أوّلاً: على إثبات أنّ القضیّة الشرطية لزومية لا اتّفاقية.

وثانياً: على إثبات دلالة الجملة على نحو الترتّب؛ لأنّه يمكن أن يكون الشرط والجزاء معلولين لعلّة ثالثة.

وثالثاً: على إثبات أنّ الترتّب يكون على نحو الترتّب على العلّة بمعنى ترتّب الجزاء على الشرط الّذي هو علّته.

ورابعاً: على إثبات أنّه على نحو ترتّب المعلول على العلّة المنحصرة.

فمنكر المفهوم في سعة وفسحة.

وأمّا القائل بالمفهوم مستدلاً بالتبادر، فلا يمكن له إثباته.

وأمّا ادّعاؤه: انصراف إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو أكمل أفرادها، وهو اللزوم بين العلّة المنحصرة ومعلولها.

ففاسد؛ لعدم كون الأكملية موجبة للانصراف. ولعدم كون العلّة المنحصرة أكمل من غيرها.

ص: 304

كما أنّه لا وجه للتمسّك بما هو قضيّة الإطلاق بمقدّمات الحكمة، كما يتمسّك بقضية إطلاق صيغة الأمر لإثبات الوجوب النفسي؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة لا يكاد يتمّ فيما هو مفاد الحرف كما في المقام، وإلّا لم يكن المعنى حرفياً.

هذا، مضافاً إلى أنّ کلّ واحد من أنحاء اللزوم والترتّب تعيينه محتاج إلى القرينة، كان اللزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة أو لا .

ولا يقاس المقام بالواجب النفسي والغيري؛ فإنّ النفسي واجب على کلّ تقدير، دون الغيري فإنّه واجب على تقدير الوجوب النفسي فبيانه محتاج إلى مؤونة التقييد بما إذا كان الغير واجباً، فيكون الإطلاق في الصيغة مع مقدّمات الحكمة محمولاً على الوجوب النفسي.

وأمّا الاستدلال على المفهوم بإطلاق الشرط، بتقريب: أنّ الشرط لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده، ضرورةَ أنّه لو قارنه أو سبقه أمر آخر لم يؤثّر وحده، وقضيّة إطلاقه تأثيره كذلك مطلقاً.

ففيه: أنّه لا يكاد أن يصحّ إنكار المفهوم مع إطلاقه كذلك، إلّا أنّه لو لم نقل بعدم اتّفاقه لا ريب في ندرة تحقّقه.

وأمّا لو قيل: بأنّ مقتضى إطلاق الشرط تعيّنه كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر هو تعيّن الوجوب.

فيدفع: بأنّ الواجب التعييني هو الواجب الّذي تعلّق به الوجوب معيّناً من غير أن يكون له عدل، بخلاف التخييري فإنّ الوجوب يتعلّق فيه بأحد الشيئين أو الأشياء على سبيل الترديد، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق لإثبات الواجب التعييني؛ لأنّه ليس له عدل، وما له العدل محتاج إلى زيادة مؤونة. وهذا بخلاف الشرط، فإنّه - واحداً كان أم متعدّداً - يكون دخله في المشروط على نحو واحد، ولا تتفاوت الحال فيه

ص: 305

ثبوتاً حتى يقال بتفاوته إثباتاً. واحتياج ما إذا كان الشرط متعدّداً إنّما يكون لبيان تعدّده لا لبيان نحو تأثيره في المشروط، فحيث كانت القضية مسوقة لبيان الشرطية من غير إهمال ولا إجمال لا تتفاوت نسبة إطلاق الشرط إلى المشروط، كان هناك شرط آخر أم لا؟ بخلاف إطلاق الأمر، فإنّه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني فلا محالة يكون في مقام الإهمال والإجمال.((1)) هذا حاصل ما أفاده في الكفاية.

ويمكن أن يزاد على هذه الوجوه الخمسة الّتي أجاب عنها(قدس سره) وجهاً سادساً، وهو: ما أوردناه عليه في مجلس بحثه: بأنّ الشرط إمّا يكون مؤثّراً في المشروط بشخصه وخصوصيته؛ وإمّا أن لا يكون مؤثّراً كذلك، بل بما أنّه أحد مصاديق العلّة، ويكون مؤثّراً فيه من جهة أنّه واجد لما هو الجامع بينه وبين سائر مصاديقها فيؤثّر بهذه الجهة، وظاهر اختصاص هذا الشرط بالذكر أنّه هو المؤثّر في وجود المشروط، ويكون علّة له بشخصه وخصوصيته، فانتفاؤه يكون مستلزماً لانتفاء المشروط، ولا نعني بالمفهوم إلّا هذا.

وقد أجاب عنّا: بأنّ التفطّن بهذا لا يحصل إلّا بعد إعمال التأمّل والدقّة العقلية، وهذا لا يساعده ابتناء المحاورات على العرفيات.

ص: 306


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص302-307.

ص: 307

الفصل الرابع: في المفهوم في الجمل الإنشائية

إذا قال: «أوقفت مالي (أو وقفت مالي) على أولادي الفقراء (أو إن كانوا فقراء)» فهل يصحّ أن يقال فيه بالمفهوم أو لا؟

الظاهر: أنّ الوقف حيث تكون حقيقته حفظ العين وإبقاءه على عنوان أو أشخاص، بحيث يدرّ على المعنون، ووجوده يتحقّق بإنشاء الواقف وإيجابه، فإذا قال: «أوفقتُ مالي على أولادي إن كانوا فقراء» جعل العين على أولاده معلّقاً على هذا الشرط، ففي صورة انتفاء الشرط لا يصحّ أن يقال بانتفاء المشروط وهو وقف هذا المال على أولاده؛ لأنّ عدم تعلّق الوقف بهم لو لم يكونوا فقراء ليس من جهة المفهوم ودلالة قوله: «أوقفت... إلخ» على الانتفاء عند الانتفاء، بل انتفاء الحكم عن غير هذا المورد إنّما يكون لأجل أنّ إيجاد الواقف وإنشاءه لم يتعلّق بالعين إلّا بشرط كونهم فقراء وعدم تعلّق إنشائه بغير هذا المورد.

والحاصل: أنّه لا يصحّ في الإنشائيات والإيجاديات القول بالمفهوم؛ لأنّنا ندور فيها مدار الإنشاء والإيجاد، فبعد العلم بأنّ الإنشاء والإيجاد لم يتعلّق بغير هذا المورد وأنّ تعلّقه بغيره يحتاج إلى إنشاء يخصّ به، لا يصحّ أن يقال بأنّ قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه» إذا كان في مقام الإنشاء لا الإخبار يفيد المفهوم على القول به؛ لأنّ إيجاد الوجوب وإنشاءه لم يتعلّق بإكرامه إلّا بشرط مجيئه، فعدم وجوب إكرامه على تقدير

ص: 308

عدم مجيئه ولو تخصّص بخصوصية اُخرى لا يكون من باب المفهوم، بل من جهة عدم تعلّق الإنشاء إليه وعدم كون غير هذا الشخص من وجوب الإكرام.

نعم، لا مانع من القول بالمفهوم في الإخباريات كما لو قال: «إذا جاء زيد يجب إكرامه»؛ وفي الإنشاءات الإرشادية مثل ما هو الغالب في أوامر الأنبياء والأئمّة - صلوات الله عليهم - وأوامر العلماء، حيث إنّهم إذا كانوا في مقام بيان الأحكام لا يأمرون مولوية بل يرشدون الناس إلى أحكام الله تعالى. ففي مثل هذه الموارد لا مانع من جريان نزاع المفهوم كما لا يخفى، فتدبّر واغتنم.((1))

ص: 309


1- ربما یتوهمّ أنّه إن لم نستفد عدم وجوب إکرام زید علی تقدیر عدم مجیئه من مفهوم: «إن جاءك زید فأکرمه» - وإن تخصّص بخصوصیة اُخری لأنّه خارج عمّا وقع تحت الإنشاء کما أنّ عمراً وبکراً أیضاً خارجان عن تحته - فما هو إذن مصبّ إجراء المفهوم علی القول به؟ والجواب أمّا علی ما أفاده السيّد الاُستاذ(قدس سره) فمصبّ إجراء المفهوم هو زید إذا لم یکن متخصّصاً بخصوصیة اُخری أیضاً فهو محکوم بعدم وجوب الإکرام. وأمّا علی قول المتأخّرین إذا کانت القضیّة دالّة علی الانتفاء عند الانتفاء، فعدم کون زید – علی تقدیر عدم مجیئه – واجب الإکرام، لعدم وقوعه تحت الإنشاء وعدم الدلیل علی وجوب إکرامه، ولکن مفهوم القضیّة دلیل علی عدم الوجوب، فالمفهوم علی الصورتین معارض مع الدلیل الدالّ علی الوجوب إن کان في البین، فتدبّر. [منه دام ظلّه العالي].

الفصل الخامس: هل المراد انتفاء سنخ الحكم أو شخصه؟

لا يخفى عليك: أن على القول بالمفهوم ليس معناه انتفاء سنخ الحكم كما ذهب إليه الشيخ(رحمه الله)((1)) ومن تأخّر عنه؛((2)) لأنّ الجزاء المعلّق على الشرط لا يكون إلّا جزئياً، كالوجوب المعلّق على المجيء، فبانتفاء الشرط لا ينتفي إلّا ذلك الحكم المنشأ في هذا الظرف. فكما أنّ بانتفاء هذا الشرط لا يصحّ أن يقال بانتفاء وجوب إكرام عمرو ووجوب إكرام خالد، لا يصحّ أيضاً أن يقال بانتفاء نوع الحكم المعلّق على الشرط.

فلا معنى لما أفاد في الكفاية بأنّ المعلّق على الشرط هو نوع الوجوب.((3))

لأنّ النوع يمتنع أن يوجد من غير أن يتشخّص بالخصوصيات المفردة، فلا يصحّ أن يتعلّق به الإنشاء والإيجاد.((4))

ص: 310


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص173.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص309؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج2، ص484؛ العراقي، مقالات الاُصول، ج1، ص396؛ الحائري الیزدي، درر الفوائد، ص196.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص310.
4- یمکن أن یقال بأنّه لا مانع من انتفاء السنخ إذا کان ثبوت سنخ الحکم في الجزاء صحیحاً بأن یکون الإنشاء جزئیاً ولکن کان المنشأ عامّاً وکلّیّاً، کما أنّه لو اُرید إیجاد الإنسان، فالإیجاد وإن کان یصیر جزئیاً لامحالة لکن الموجد وهو الإنسان یکون کلّیّاً. ولو سلّمنا عدم إمکان ذلك ، یمکن أن یقال بأنّ انتفاء سنخ الحکم یفهم من الحکم بعلّیّة الشرط للجزاء علی نحو العلّة المنحصرة، فلا مانع من کون الحکم في الجزاء شخصیاً ولکن ما یستفاد من القضیّة - من جهة ظهورها في انحصار العلّة - هو انتفاء سنخ الحکم. هذا بناءً علی مسلك المتأخّرین. وأمّا علی مسلك القدماء، فیمکن أن یقال، إنّ معنی کون مفاد المفهوم عدم کون المقیّد بما هو هو موضوعاً للحکم ودخالة القید في الحکم وعدم منافاة قید آخر مقامه مع المفهوم، هو انتفاء سنخ الحکم؛ فإنّه لو قیل بانتفاء شخصه ینافي مع قیام قید آخر مقامه، فتأمّل. [منه دام ظلّه العالي].

ثم إنّه لا يخفى عليك: ما في عبارة التقريرات من أنّ انتفاء شخص الحكم لازم ارتفاع الكلام الدالّ على الإنشاء.((1))

لأنّ لازم هذا الكلام وحاصله: أنّ الحكم بشخصه ينتفي بمجرّد تمامية كلام المتکلّم؛ لأنّه من الموجودات غير القارّة. وبطلان هذا واضح؛ لأنّ بقاء الحكم ليس وجوده دائراً مدار بقاء الكلام، بل الحكم ينتزع من كلام المتکلّم وله بقاء في عالم الاعتبار إلى أن يسقط بالامتثال أو العصيان أو ذهاب موضوعه، فتأمّل جيّداً.

ص: 311


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص173.

الفصل السادس: في تعدّد الشرط ووحدة الجزاء

مثال ذلك: «إذا خفي عليك جدران البلد فقصِّر»،((1)) و«إذا خفي عليك أذان المصر فقصِّر». فقيل برفع اليد عن المفهوم في كليهما.

وقيل بتخصيص مفهوم کلّ منهما بمنطوق الآخر، فينتفي وجوب القصر عند انتفائهما، بخلاف الوجه الأوّل فإنّه ليس لهما دلالة على عدم دخالة شيء ثالث في الجزاء لإلغاء مفهومهما رأساً.

وقيل بتقييد إطلاق الشرط في کلّ منهما بالآخر، حتى يكون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معاً، فلا يجب القصر عند انتفاء خفاء أحدهما، ويجب عند وجود كليهما.

وقيل بأنّ الشرط هو القدر المشترك وما هو الجامع بينهما.

ولا يخفى: أنّ رفع اليد عن مفهوم کلّ منهما - كما في الوجه الأوّل - خلاف الظاهر في مثل هذا المقام الّذي تكون القرينة لوجود المفهوم في الجملة موجودة ولو لم نقل بالمفهوم في الجملة الشرطية أصلاً.

وأمّا الوجه الثاني: فتخصيص المفهوم بالمنطوق بعيد من جهة أنّ المفهوم يستفاد من دلالة التكلّم على مسلك القدماء أو من دلالة الجملة الشرطية على العلّية المنحصرة

ص: 312


1- انظر روایات بهذا المضمون في الوسائل، أبواب صلاة المسافر، ج8، ص470-473، ب6.

على مذهب المتأخّرين. وعلى کلّ حال، فلا يكون مفاد المفهوم مثل العموم حتى يمكن أن يقال بتخصيص الإرادة الاستعمالية وعدم تعلّق الإرادة الجدّية بالعموم.

وأمّا الوجه الثالث: فهو أيضاً خلاف الظاهر.

ولا يبعد أن يقال بأنّ الوجه هو الرابع، كما لا يخفى.

ص: 313

الفصل السابع: في تداخل الأسباب والمسبّبات

اشارة

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء - سواء كان الشرط من جنس واحد، كما لو قال: كلّما نمت فتوضّأ، أو كلّما بلت فتوضّأ؛ أو لم يكن من جنس واحد بل كان مختلفاً، كما إذا قال: إذا نمت فتوضّأ، وإذا بلت فتوضأ، ممّا يكون الظاهر فيه حدوث الجزاء، وهو الوجوب المتعلّق بطبيعة عند وجود الشرط - فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدّداً((1)) أو لا؟((2)) فيه أقوال. وقبل الخوض في الكلام ينبغي تحرير محلّ النزاع.

تحرير محلّ النزاع

إنّ تمام الاختلاف يرجع إلى أنّ تعدّد الشرط هل يكون موجباً لتعدّد التكليف أو لا يوجب إلّا تكليفاً واحداً؟ فإتيان المكلّف بالفعل ثانياً يكون عزيمة. وعلى الأوّل، فهل يجب الإتيان بما هو قضيّة كلّ جزاء على حدّة، أو يكفي إتيان فعل واحد؟ لو قلنا بأنّه لا مانع من اجتماع الوجوبين في محلّ واحد بعنوانين مختلفين، فلو أتى المكلّف بفعل

ص: 314


1- ذهب إلیه المشهور، کما في مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص175).
2- الخوانساري، مشارق الشموس، ص61، کتاب الطهارة في تداخل الأغسال الواجبة؛ النراقي، عوائد الأیّام، ص297.

واحد بقصد امتثال الجميع يجزيه عن الجميع. ولو أتى بأفعال متعدّدة بقصد امتثال الأوامر المتوجّهة إليه في کلّ جزاء لا مانع منه.

ويعبّر عن الاختلاف الأوّل بأنّ الأصل، أي ظاهر القضیّة، هل يقتضي تداخل الأسباب أو لا؟

وعن الثاني بأنّ الأصل هل يقتضي تداخل المسبّبات أو لا؟

ولا يخفى: أنّه لا مساس لهذه المسألة بالمسألة السابقة كما توهّم في الكفاية؛ لأنّ البحث والاختلاف في المسألة السابقة فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء مع العلم بعدم تعدّد الجزاء، بخلاف هذه المسالة.

وأيضاً محلّ البحث فيما نحن فيه يكون فيما إذا كان الشرط بحسب ظاهر القضیّة سبباً لتعلّق التكليف بالمكلّف، بخلاف المسألة السابقة فإنّ تعلّق التكليف الصلاتي بالمكلّف فيما إذا قال: إذا خفي الأذان... وإذا خفي الجدران... مفروغ منه وإنّما يبيَّن بهما حدّ الانتقال من التمام إلى القصر.

هذا، مضافاً إلى ابتناء المسألة السابقة على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم، وعدم ابتناء مسألتنا هذه عليه أصلاً. فلا مساس لکلّ واحدة منهما بالاُخرى.

الاستدلال على عدم التداخل

إنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) قد اختار مذهب المشهور، وهو: عدم التداخل. واستدلّ عليه بأنّ ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه، وذلك يقتضي حدوث الجزاء عند حدوث کلّ من الشرطين.

ولا ريب أنّه مع القول بكون حقيقة واحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل: إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ أو فيما إذا نام مكرّراً لا يمكن أن تكون محكومة

ص: 315

بحكمين متماثلين، يكون مقتضى هذا الظهور فيما إذا تعدّد الشرط كما في المثال هو وجوب الوضوء بکلّ شرط غير ما وجب بالآخر. ولا ضير في كون فرد محكوماً بحكم فرد آخر، وإلّا يلزم رفع اليد عن هذا الظهور.

لا يقال: تقدير تعدّد الفرد ينافي إطلاق الجزاء؛ لأنّ إطلاقه يقضي بوجوب الإتيان بمجرّد وجود الطبيعة من غير تقييد ولو قلنا بأنّ متعلّق الوجوب في کلّ من الجزاءين يكون فرداً من الطبيعة غير ما هو متعلّق الوجوب في الجزاء الآخر، يوجب تقييد إطلاق الجزاء.

فإنّه يقال: إنّ ظهور الجملة في كون الشرط سبباً أو كاشفاً عن السبب يقتضي ذلك، أي تعدّد الفرد، فيكون بياناً لما هو المراد من إطلاق الجزاء.

ولا دور بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور إطلاق الجزاء؛ لأنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان، وظهور الجملة فيما ذكر صالح لأن يكون بياناً، فلا ظهور له مع ظهورها.((1))

ثم اعلم: أنّ الشيخ(قدس سره) قد استدلّ على هذا المذهب بظهور الجملة الشرطية في سببية الشرط للجزاء وعلّيته له، ومقتضى ذلك كون کلّ علّةٍ علّةً لمعلول مستقلّ.

وبعبارة اُخرى: ظهور الجملة الشرطية في مسبّبية الجزاء للشرط يقتضي كون الجزاء المسبّب معلولاً له بخصوصه، ولازم ذلك كون متعلّق الوجوب في کلّ من الشرطين فرداً من الطبيعة غير الفرد الّذي يكون متعلّق الوجوب في الآخر.((2))

ولا يخفى: أنّ ما أفاد في الكفاية مأخوذ عمّا أفاده الشيخ(رحمه الله) مع تفاوت يسير؛ لأنّ

ص: 316


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص315-318.
2- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص179.

الشيخ(رحمه الله) استدل بظهور الجملة في علّية الشرط ومعلولية الجزاء، والمحقق الخراساني(رحمه الله) استدلّ بظهورها في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط.

والفرق بين التقريبين: أنّه على ما أفاده في الكفاية إذا قارن وجود أحد الشرطين مع الآخر لا مانع من وحدة الجزاء، ولا يكون هذا رفع اليد عن الظهور؛ لأنّه لا دلالة للجملة - بناءً على ما أفاده - على طلب حدوث کلّ من الشرطين حدوث الجزاء مستقلّا ولو في صورة مقارنة الشرطين، بل إنّما تدل على لزوم حدوث الجزاء عند حدوث الشرط قارن معه شرط آخر أم لا.

وهذا بخلاف ما أفاده الشيخ(رحمه الله)؛ فإنّ مقتضاه حدوث الجزاء مستقلّا عند حدوث کلّ من الشرطين مطلقاً، هذا.

ولا يخفى عليك: أنّ ما أفاده الشيخ(قدس سره) في ضمن كلماته، كما في التقريرات، من أنّ متعلّق الجزاء إذا كان واحداً نوعياً كالوضوء وقلنا بأخذ الوحدة النوعية في الموضوع له، لا يكون قابلاً للتعدّد فلا يتحمّل وجوبين؛ إذ لا فرق في امتناع اجتماع الأمثال بين أن تكون الوحدة شخصية أو نوعية، فعند تعدّد الأسباب لا دليل على تعدّد الآثار والتكاليف، لعدم صلاحية الفعل المتعلّق للتكليف المدلول عليه باللفظ المأخوذ في الجزاء للتعدّد.((1))

ثم منع(قدس سره) دخالة الوحدة النوعية في الموضوع له؛ لأنّ ما هو الموضوع له ليس إلّا نفس الماهية الخارجة عنها الوحدة.((2))

فليس ما أفاده في محلّه؛ لأنّ الواحد النوعي صالح للتعدّد.

ص: 317


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص179.
2- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص179.

وكذا ما أفاد في الجواب عمّا أفاده المحقّق النراقي(رحمه الله) - من أنّ الأسباب الشرعية علل للأحكام المتعلّقة بأفعال المكلّف لا لنفس الأفعال، فتعدّد الأسباب لا يوجب تعدّد المسبّبات وهو الوجوب. ولا دلالة لتعدّد الوجوب على وجوب إيجاد الفعل متعدّداً، لإمكان تعلّق الفردين من حكم بفعل واحد كما في الإفطار بالحرام في نهار شهر رمضان وقتل زيد القاتل المرتدّ - من أنّ المسبّب هو اشتغال الذمّة ولا مانع من قبول الاشتغال للتعدّد؛ لأنّه تابع لقبول الفعل المتعلّق له، فإذا كان الفعل ممّا يقبل التعدّد فالاشتغال به أيضاً يقبل التعدّد.

ليس في محلّه أيضاً؛ لأنّ المسبّب ليس اشتغال الذمّة، بل هو أمر ينتزع من تعلّق التكليف بالمكلّف، كما هو واضح.

هذا، والّذي ينبغي أن يقال في أصل استدلال الشيخ وصاحب الكفاية(قدس سره): إنّه بعد هذه الإفادات، إنّا لم نتعقّل معنىً صحيحاً لتقييد الجزاء ولم يمكن لنا تصوّره؛ لأنّ متعلّق الوجوب إمّا أن يكون في إحدى الجملتين نفس الطبيعة مطلقة ومن غير تقييد، فما معنى تقييد متعلّق الآخر؟ وإن قيل: إنّه مقيّد بما هو غير متعلّق الآخر، فلا يفهم معنى صحيح لتقييد فرد من الطبيعة بكونه غير تلك الطبيعة.

وإمّا أن يكون متعلّق الوجوب فيما يوجد سببه أوّلاً هو فرد من الطبيعة وفي الآخر ما كان غير هذا الفرد، ففيه: أنّه لا يكون في جميع الموارد وجود سبب المقيّد مسبوقاً بوجود سبب غير المقيّد، بل تارة يكون هذا مسبوقاً واُخرى ذاك.

وهكذا الكلام لو قلنا بأنّ كلّا من المتعلّقين مقيّد بأن يكون غير الآخر.

ويمكن أن يكون هذا وجه ما قال بعض الأعاظم من أنّ الشرط إنّما هو سبب للأفعال لا للأحكام، وأمّا الحكم فيجيء من قبل اقتضاء السببية لهذا الفعل.

ص: 318

ولكن هذا غير حاسم لمادّة الإشكال، لأنّ ظاهر القضیّة كون الشرط سبباً للحكم للأفعال.((1))

ص: 319


1- وقال الفاضل المقرّر لبحث سيّدنا الاُستاذ رضوان الله علیهما في آخر البحث ممّا کتب عنه في بروجرد بعد ما کتب عنه تشیید القول بالتداخل، ما هذا لفظه: «اللّهمّ إلّا أن یقال: بأنّ الوجدان حاکم بأنّ الطبیعة قابلة للتکثّر، ومعه یحکم في المقام بإرادة التعدّد والکثرة منها. وهذا کلّه بالإضافة إلی حکم العقل الدقیق المتأمّل في المطالب علی التحقیق. وأمّا بالإضافة إلی حکم العرف السلیم عن الشبهات فلا یبعد أنّه یحکم بتعدّد الجزاء عند تعدّد الشروط وبعدم التداخل؛ فإنّ العرف یحکم بالظواهر من غیر تدقیق في حقائق الأشیاء کما هو وظیفة حکم العقل، فافهم». الحجّتي البروجردي، الحاشیة علی کفایة الاُصول، ص462. [منه دام ظلّه العالي].

الفصل الثامن: في تطابق المفهوم مع المنطوق

اشارة

لا يخفى: أنّه يجب تطابق المفهوم مع المنطوق في تمام القيود المعتبرة في الكلام والإعتبارات اللاحقة إلّا في النفي والإثبات، كما هو واضح لا ريب فيه.

وإنّما الإشكال فيما إذا كان المأخوذ في المنطوق عامّاً استغراقياً، كقولك: «إن جاءك زيد فأكرم العلماء» فهل يكون مفهومه عدم وجوب إكرام کلّ فرد من العلماء في ظرف عدم المجيء، أو عدم وجوب إكرام الجميع؟ فلو دلّ على وجوب إكرام بعضهم لا يعارضه المفهوم.

وبعبارة اُخرى: المفهوم هو عموم السلب أو سلب العموم؟

ولا فرق في ذلك بين أن يكون مفاد المنطوق القضیّة الموجبة أو الشرطية السالبة، كقوله(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «إذا کان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»،((1)) فهل يكون مفهومه أنّه إذا لم يكن قدر كرّ ينجسّه کلّ شيء من النجاسات. أو أنّ مفهومه أنّه إذا لم يكن كراً ينجسّه شيء منها؟ يمكن أن يقال: إنّ الوجه الثاني هو ما يفهم العرف من هذه القضیّة دون الأوّل. فالحقّ ما اختاره الشيخ المحقّق صاحب الحاشية((2)) وإن خالفه المحقّق الأنصاري((3)) قدّس الله سرّهما.

ص: 320


1- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، ج1، ص158-159، ب9، ح1و2و6.
2- الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص291.
3- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص174.

خاتمة: في سائر المفاهيم

قد ظهر ممّا ذكرنا سابقاً أنّ ما هو ملاك أخذ المفهوم عند القائل به من القدماء: اشتمال الكلام على قيد زائد من جهة أنّ الأصل يقتضي أن لا يكون المتکلّم لاغياً وأن لا يكون صدور الكلام منه لأجل فائدة غير إفادة مراده، فاشتمال الكلام على قيد زائد یدلّ على دخالة هذا الزائد في الحكم. ولازم ذلك انتفاء الحكم وعدم وجوده عند كونه مجرّداً عن قيدٍ مّا. وقد ذكرنا: أنّ المفهوم على قولهم يستفاد من دلالة نفس تکلّمه، بما أنّه فعل من الأفعال. وقد قلنا أيضاً بأنّه لا يستفاد من هذا إلّا دخالة هذا القيد، وأمّا الانتفاء عند الانتفاء مطلقاً ولو قام مقام هذا القيد قيد آخر فلا يستفاد منه، إلّا إذا كان المتکلّم في مقام بيان تمام ما هو المناط للحكم واُحرز ذلك.

ولا فرق فيما ذكر بين ما إذا كان القيد الزائد الّذي أتى به في كلامه أداة الشرط أو الوصف أو الغاية أو ما يفيد الحصر؛ فإنّ النزاع في جميع ذلك عندهم من وادٍ واحد. كما ينبئ بذلك قول القائل بعدم المفهوم في الجميع بأنّ إتيان المتکلّم بالقيد الزائد ربما يكون لأجل فائدة اُخرى غير دخالة القيد في حكمه.

نعم، ربما يختلفون في بعضها كالغاية، بأنّ ما يستفاد منها - وهو ثبوت الحكم للمغيّى وعدمه في غيره - هل يكون بالدلالة المنطوقية حتى تكون كلمة «حتى» موضوعة لإفادة ذلك، أو يكون بالدلالة المفهومية حتى يكون مفاد المنطوق ثبوت الحكم للمغيّى ودخالته فيه، ومفهومه عدم ثبوت الحكم لغيره؟((1)) ومنشأ توهّم كون ذلك بالدلالة المنطوقية كون «حتّى» وغيره (مثل: إنّما، وإلّا) وضع لذلك المعنى، وأنّ

ص: 321


1- راجع: شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص321-323؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص188.

استفادة انتفاء الحكم عمّا هو خارج عن المغيّى في الغاية وعن المستثنى في الاستثناء من أظهر المفاهيم كما قيل، فتوهّم أنّ ذلك يكون مستفاداً من المنطوق.

ثم لا يذهب عليك: أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) مع أنّه لم يسلك مسلك القدماء أفاد في مفهوم الغاية كلاماً يناسب ما ذهبوا إليه، وهو: أنّ قضية القواعد العربية أنّ الغاية إذا كانت قيداً للحكم كقوله: «كلّ شيء حلال... إلخ» تدلّ على ارتفاع الحكم عند حصولها، وإذا كانت قيداً للموضوع فلا .((1))

تنبيه: ذكر في الكفاية إشكالاً في دلالة كلمة الإخلاص (لا إله إلّا الله) على التوحيد، وهذا نصّه: «أنّ خبر «لا» إمّا يقدّر «ممكن» أو «موجود» وعلى کلّ تقدير لا دلالة لها على التوحيد.

أمّا على الأوّل؛ فإنّه حينئذٍ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى لا وجوده.

وأمّا على الثاني؛ فلأنّها وإن دلّت على وجوده تعالى إلّا أنّه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر».

ثم دفعه: «بأنّ المراد من الإله هو واجب الوجود ونفي ثبوته ووجوده في الخارج وإثبات فرد منه فيه وهو الله یدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك وتعالى؛ ضرورة أنّه لو لم يكن ممتنعاً لوجد، لكونه من أفراد الواجب».((2))

ولا يخفى عليك: أنّ أصل الإشكال وجوابه فاسد.

أمّا فساد الجواب؛ فلأنّ مثل هذا العنوان (واجب الوجود) الحادث المصطلح البعيد

ص: 322


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص325؛ وهکذا فوائد الاُصول ( ج2، ص504 – 505)؛ ودرر الفوائد (ج1، ص204).
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص327-328. راجع أیضاً: الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص154.

عن كثير من الأذهان خصوصاً العرب في ذلك الزمان (زمان بعثة النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يكون مدلولاً للكلام الملقى إليهم. والمعنى وإن كان مركوزاً في أذهانهم إلّا أنّه لا ينافي بُعد العنوان المانع عن تقديره في الكلام.

وأمّا فساد الإشكال؛ فلأنّ العرب ما كانوا ينكرون وجود الخالق الباري المنشئ للمخلوقات ولا وحدانيته تعالى، وإنّما كانوا يعبدون من دون الله أصناماً ليقرّبوهم إلى الله زلفى،((1)) مع الاعتراف بأنّها مخلوقة، ولا يعتقد أحد منهم اُلوهية الأصنام، ولذا يأخذهم الله تعالى بإقرارهم ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ...﴾((2)) الآية ووبّخهم على عبادة ما ليس فيه صلاحية العبادة، ومن لا يخلق بل هو يُخلق: ﴿أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً﴾؛((3)) ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾؛((4)) وكلمة التوحيد الطيبة إنّما تفيد نفي کلّ معبود سوى الله تعالى وتثبت التوحيد في العبادة.((5))

ص: 323


1- انظر: الزمر، 3.
2- انظر: العنکبوت، 61، 63؛ لقمان، 25؛ الزمر، 38؛ الزخرف، 9، 87.
3- المائدة، 76.
4- الأعراف، 191؛ انظر أیضاً: النحل، 20؛ الفرقان، 3.
5- والحقّ: أنّ مفهوم کلمة التوحید لا یختصّ بالإقرار بالتوحید في العبادة ونفي الشریك عنه فیها ممّا یعبده المشرکون من دون الله تعالی، بل مفهوم هذه الکلمة العظیمة - الّتي لیس شيء أثقل وأوسع منها في المیزان - هو: الإقرار بأن لا إله ولا خالق ولارازق ولا مدبّر للسماوات والأرض ولا مالك ولا حافظ لها إلّا الله. فمثل قوله تعالی: ﴿هُوَ الله الَّذي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ...﴾ (الحشر، 22-23)، معناه هو الله الذي لا خالق ولا رازق ولا بارئ ولا معبود و...إلّا هو: فمعنی الإله المطابقي، من یوصَف بهذه الصفات. والتوحید نفي الخالق البارئ الفاطر المعبود و... غیر الله سبحانه وتعالی، لا نفي المعبود غیره فقط کما قصّره علیه الفرقة المستحدثة الوهّابیة. وبالجملة: کلمة التوحید لا یقصر مفادها في نفي معبودیة غیر الله وإثباتها له تعالی، بل مفادها (التامّ نفي خالقیة غیر الله وربوبیته ورازقیته وسائر الأسماء الحسنی والصفات العلیا عن غیر الله وإثباتها لله دون غیره، وقد جاء في القرآن الکریم: ﴿وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِما خَلَقَ و لَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ (المؤمنون، 91)، فلو کان معنی «الإله» المطابقي المعبود لا یتمّ الاستدلال لنفسه بما في الآیة الکریمة وإنّما یتمّ الاستدلال إذا کان هو بمعنی الخالق وما یرادفه ویتلوه من الأسماء الحسنی. کما أنّه لو لم یکن اسماً لخالق الأرض والسماء والمتصرّف فیهما ومدبّرهما لم یتمّ الاستدلال علی توحیده بقوله تعالی: ﴿لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبیاء، 22)، إذ لیس ارتباط بین وجود معبود في السماء والأرض إلّا الله وفسادهما، وقد أشبعنا الکلام في ذلك في غیر المقام من تألیفاتنا. فظهر أنّ الحقّ مع المحقّق الخراساني(قدس سره) لا من جهة أنّ مدلول «الإله» مثل «خدا» وما یراد منهما من سائر اللغات هو واجب الوجود حتی یقال: إنّ مثل ذلك بعید عن أذهان الناس، بل من جهة أنّ ما هو المرکوز في أذهان عامّة العرب وغیرهم من هذه الألفاظ هو الّذي یعبّر عنه المتکلّم العارف بمعاني هذه الاصطلاحات المستحدثة في الإسلامیین بواجب الوجود غیر أنّه لا یعرفه بهذا الاصطلاح، وإنّما یعرفه بأنّه مالك السماوات والأرض وخالقهما، وهو الإله الّذي یحیی ویمیت، وهو الّذي یدعوه لدفع البلاء وکشف الضر وقضاء حوائجه و... ومن هو بهذه الصفات یکون واجب الوجود لامحالة. فالإله عند أهل هذا الاصطلاح هو الواجب الوجود؛ وکلمة التوحید تدلّ علی نفي کونه غیر الله، وکونه هو الله. وعند من لا یعرف مثل هذا الاصطلاح ولا یسمّی الله تعالی إلّا بما أسماه هو نفسه وذاته به یکون مدلول لفظ «الإله» وما بمعناه من سائر اللغات هو الذات المتًصف بهذه الصفات: المحیي والممیت والرازق والمنجي والسمیع والمجیب والقادر والرحمان والرحیم، فلا إله إلّا الله أي لا أحد موصوفاً بهذه الصفات إلّا الله، فتدبّر. [منه دام ظلّه العالي].

ويمكن أن يقال: بعدم الاحتياج إلى تقدير الخبر في هذه الكلمة ونظائرها مثل «لا رجل في الدار» كما يظهر من سيبويه،((1)) وهو الحقّ كما سيجيء إن شاء الله تعالى مزيد توضيح له في بعض مباحث العامّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وهو حسبي ونعم الوكيل في المبدأ والمآل. ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان، وحسِّن نيّاتنا وأعمالنا، واجعلها خالصة لك بحقّ محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

ص: 324


1- قال السیوطي في شرحه علی ألفیة ابن مالك ، ص70: «وذهب سیبویه والخلیل إلی أنّها تعمل في الاسم خاصّة ولا خبر لها... وشاع عند الحجازیین إسقاط الخبر أي حذفه إذ المراد مع سقوطه ظهر... وبنو تمیم یوجبون حذفه، فإن لم یظهر المراد لم یجب الحذف عند أحد...».

ص: 325

المقصد الرابع: في العامّ

اشارة

الفصل الأوّل: في أقسام العامّ

الفصل الثاني: في وجود الصيغة للعموم

الفصل الثالث: فيما یدلّ على العموم

الفصل الرابع: في حجّية العامّ المخصَّص

الفصل الخامس: في التمسّك بالعامّ عند إجمال المخصِّص مفهوماً

الفصل السادس: في التمسّك بالعامّ عند إجمال المخصِّص مصداقاً

الفصل السابع: في التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص

الفصل الثامن: شمول الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين

الفصل التاسع: تعقّب العامّ بضمير راجع إلى بعض أفراده

الفصل العاشر: تخصيص العامّ بالمفهوم المخالف

الفصل الحادي عشر: الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة

الفصل الثاني عشر: جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد

الفصل الثالث عشر: أحوال العامّ والخاصّ المتخالفين

ص: 326

ص: 327

نکتة

اشارة

إنّما عدلنا عن عنوان القوم، وهو: «العامّ والخاصّ» أو «العموم والخصوص»، لئلّا يتوهّم بعض المبتدئين تقابلهما، وأنّ الخاصّ هو كلّ لفظ كان غير العامّ، حتى يكون الجزئي الحقيقي أيضاً خاصّاً.

ولا يخفى: أنّ عدم تقابلهما من الواضحات؛ لأنّهم قد قالوا في تعريف الخاصّ بأنّه ما قصر عن شموله،((1)) فالمتکلّم تارة: يلاحظ تمام ما يصلح له المفهوم ويُلقي اللفظ من غير أن يقصر شموله، واُخرى: يلاحظ ما يصلح له لكن مع تخصّصه بخصوصيته بحيث يقصر شمول المفهوم لتمام ما يصلح له. ففي الحقيقة ينقسم العامّ إلى قسمين: قسم لا يقصر شموله، وقسم قصر عن شموله.

تعريف العامّ والخاصّ

قد عرّفوا العامّ بتعاريف، لا يخلو كلّها عن الإشكال بالانعكاس والاطّراد. ولا مجال لهذه الإشكالات بعد كون هذه التعاريف كلّها لفظية.

فمنها: قولهم في تعريفه: بأنّه لفظ مستغرق لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه.((2))

ص: 328


1- البصري، المعتمد في اُصول الفقه، ج1، ص234؛ شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص247-248.
2- البصري، المعتمد في اُصول الفقه، ج1، ص189 – 190؛ الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص273؛ الفخر الرازي، المحصول، ج2، ص309.

وفيه أوّلاً: أنّ استغراق اللفظ لجميع ما يصلح له إنّما يكون بملاحظة معناه ومفهومه، لا باعتبار نفس ذاته.

وثانياً: لا ينطبق العامّ، مثل کلّ رجل وغيره، على کلّ فرد من الأفراد الّذي يكون هذا العامّ مستغرقاً له، بل ما ينطبق على الأفراد ليس إلّا لفظ رجل في المثال.

فالأولى: أن يقال في تعريفه: بأنّه اللفظ المستغرق لجميع أفراد مفهوم واحد من حيث المعنى. أو أنّه اللفظ الدالّ على استغراق جميع أفراد مفهوم واحد من غير فرق بين أن يكون اللفظ الدالّ على العموم واحداً كالعلماء - بناءً على مذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله) من عدم إفادة الألف واللام العموم - ، أو مرّكباً ككلّ رجل، والجمع المضاف، وغيرهما.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الكلام في المقام يقع في طيّ فصول:

ص: 329

الفصل الأوّل: في أقسام العامّ

اشارة

قد ذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله) كغيره((1)) إلى انقسام العامّ إلى المجموعيّ والبدليّ والاستغراقيّ. إلّا أنّه أفاد بأنّ انقسامه إليها إنّما يكون من جهة اختلاف كيفية تعلّق الأحكام، وإلّا فالعموم في الجميع بمعنى واحد، وهو: شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه.((2))

ولكنّ التحقيق يقتضي خلاف ما أفاده(قدس سره)، وذلك لأنّ المفهوم - مع قطع النظر عن موضوعيته للحكم ولحاظ الحكم - إمّا أن يمتنع فرض صدقه على الكثيرين ولا يتطرّق فيه التكثّر. فهو جزئي، وإمّا يتطرّق فيه ذلك ويمكن تكثير وجوده خارجاً ولا يمتنع فرض صدقه على الكثير، فهو كلّي. فلو لوحظ المفهوم الّذي يكون قابلاً للتكثّر بحسب الوجود بما أنّه كذلك وقابل لتطرّق الكثرة فيه، فهو كلّي باصطلاح المنطقيّين وعامّ منطقيّ باصطلاح الاُصوليّين. ولو لوحظ هذا المفهوم وجعل مرآة للخارج، فلو جعل مرآة وآلة لملاحظة تمام الكثرات على نحو يكون الملحوظ کلّ واحد من أفراده، فهو العامّ الاستغراقي. ولو جعل هذا المفهوم الّذي لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين

ص: 330


1- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص160؛ الأصفهاني، هدایة المسترشدین، ص341.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص332.

آلة لملاحظة أحد من الأفراد على سبيل الترديد، فهو العامّ البدلي. ولو جعل مرآة لملاحظة تمام الكثرات على نحو يكون الجميع شيئاً واحداً، فهو العامّ المجموعي.

فعلى هذا، تكون الأقسام أربعة: العامّ المنطقي، والمجموعي، والبدلي، والاستغراقي. إلّا أنّه لا فرق بين البدليّ والمنطقي من حيث الحكم، مثل أن يقال: جئني برجل أو بالرجل.

هذا، مضافاً إلى أنّنا نجد من أنفسنا الفرق بين ألفاظ: أحد الرجال، والرجل، ورجل، والرجال ولو لم يتعلّق بها حكم من الأحكام.

ولا يذهب عليك: أنّ العامّ المجموعي بهذا المعنى الدائر في السنّة المتأخّرين قلّما يوجد، بل لم نجده في الشرعيات أن يكون موضوعاً لحكم من الأحكام؛ فإنّ العامّ المجموعي في ألسنتهم ما يكون مركّباً من أفراد مفهوم واحد ولوحظ الجميع شيئاً واحداً، فهو مركّب تكون أجزاؤه متوافقة في الحقيقة. وهذا بخلاف العامّ المجموعي الدائر على ألسنة القدماء؛ لأنّه عندهم مركّب من أجزاء لا توافق بينها بحسب الحقيقة. وقد مثّلوا له بالدار؛((1)) فإنّه مركّب من السقف والجدران وغيرهما من الأجزاء ولا توافق بينها بحسب الحقيقة ولوحظ الجميع شيئاً واحداً. وسيجيء إن شاء الله تعالى أنّ الأحكام الثابتة لجميع أقسام العامّ ثابتة لهذا أيضاً.

تذنيب

ممّا ينبغي ذكره في المقام: أنّ الأصل في ألفاظ العموم كونها للاستغراق؛ وذلك لأنّ الإنسان يلاحظ أوّلاً مفهوماً واحداً كمفهوم الرجل والعالم، ثم يجعل ذلك المفهوم مرآةً لملاحظة ما ينطبق عليه، ولازم هذا ملاحظة تمام أفراد هذا المفهوم على سبيل

ص: 331


1- شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص213-214.

الاستغراق؛ لأنّه لا يمكن جعل هذا المفهوم مرآةً لبعض الأفراد أو المجموع من حيث المجموع إلّا مع ملاحظة المفهوم على سبيل الاستغراق، فملاحظتهما محتاج إلى المؤونة الزائدة دون ملاحظته كذلك، كما لا يخفى.

ص: 332

ص: 333

الفصل الثاني: في وجود الصيغة للعموم

لا يخفى عليك: أنّ من المسائل الّتي ذكرها القدماء في مبحث العامّ والخاصّ واختلفوا فيها وتبعهم المتأخّرون - مع خلوّها عن الفائدة ووضوح أمرها - مسألة: أنّ العموم هل له صيغة تخصّه لغةً وشرعاً أو لا؟

فأثبتها بعضهم، ونفاها بعض آخر.

وربما يستدلّ النافي بتيقّن إرادة الخصوص تارة،((1)) واُخرى بأنّ كون اللفظ حقيقة في الخصوص يوجب تقليل المجاز لاشتهار التخصيص وشيوعه، حتى قيل: ما من عامّ إلّا وقد خصّ. فكون اللفظ موضوعاً للخصوص موجب لتقليل المجاز لا محالة.((2))

أمّا الدليل الأوّل (وهو تيقّن إرادة الخصوص وأولوية جعل اللفظ حقيقة في المتيقّن)، ففيه: إن اُريد من تيقّن إرادة الخصوص إرادة الواضع له، فلا يفهم منه مفهوماً محصّلاً. مضافاً إلى أنّ سبب وضع الألفاظ احتياج أهل المحاورة إلى إفهام المرادات، فكما أنّ الاحتياج يوجب وضع اللفظ في الخصوص كذلك يوجب وضعه في العموم.

ص: 334


1- راجع: شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص217؛ القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص193؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص161.
2- راجع: شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص217-218؛ القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص196؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص162.

وإن اُريد إرادة المتکلّم، فهذا لا يثبت الحقيقة ولا يوجب وضع اللفظ في الخصوص. مضافاً إلى أنّ الخصوص ليس له مفهوم واحد حتى يوضع له اللفظ، إذ الخصوص المراد بقولنا: «أكرم العلماء إلّا زيداً»، غير الخصوص المراد بقولنا: «إلّا عمرواً».

وأمّا الدليل الثاني، ففيه: أنّ كثرة المجاز بعد وضع اللفظ في العموم غير موجبة لوضعه للخصوص إن كان الاستعمال في المعنى المجازي مع القرينة. مضافاً إلى أنّه سيأتي أنّ الاستعمال في الخصوص لا يوجب مجازية الاستعمال، لعدم وجود ملازمة بين التخصيص والمجازية، كما لا يخفى.

وقد ظهر ممّا ذكر: أنّ الحقّ أنّ للعموم صيغاً تخصّه. ولا اعتناء بما ذكره النافي، لما قد أجبنا عنه. والله تعالى أعلم.

ص: 335

الفصل الثالث: فيما یدلّ على العموم

ممّا عدّ من الألفاظ الدالّة على العموم: النكرة في سياق النفي.

واعلم: أنّ دلالتها على العموم ليس من باب وجود وضع مستقلّ لمدخول النفي أو لحرف النفي إذا دخل على النكرة أو اسم الجنس، بل دلالتها على العموم إنّما تكون من جهة أنّ مدخول النفي یدلّ على الطبيعة وحرف النفي على النفي ومن ضمّهما إلى الآخر يستفاد نفي الطبيعة، ونفيها لا يحصل إلّا بنفي جميع أفرادها.

ولا يخفى عليك: أنّ مرادهم بالنكرة في المقام ما يعمّها واسم الجنس، فلو دخل حرف النفي على کلّ منهما يستفاد منه العموم، فلا فرق بين قولنا: «لا رجل في الدار» وبين «ما في الدار رجلٌ» (بالتنوين)، فالأوّل اسم الجنس والثاني النكرة.

كما أنّه لا فرق بين كون المدخول والمنفيّ بسيطاً ومفرداً وكونه مركّباً، فلا فرق بين قولنا: «لا رجل في الدار» وقولنا: «لا رجل موجود في الدار»؛ فإنّ الأوّل بسيط لعدم خبر المدخول، بخلاف الثاني فإنّه مركّب.

والحقّ عدم الحاجة إلى الخبر كما يظهر من سيبويه،((1)) بل هو صحيح من غير تقدير شيء.

ص: 336


1- قال السیوطي في شرحه علی ألفیة ابن مالك ، ص70: «وذهب سیبویه والخلیل إلی أنّها تعمل في الاسم خاصّة ولا خبر لها... وشاع عند الحجازییّن إسقاط الخبر أي حذفه إذ المراد مع سقوطه ظهر... وبنو تمیم یوجبون حذفه، فإن لم یظهر المراد لم یجب الحذف عند أحد...».

لا يقال: كيف يصحّ هذا مع عدم تمامية الكلام؟ لأنّ الكلام مركّب من حرف النفي وهو «لا» واسمه وهو «رجل» فلا يتمّ إلّا مع الخبر.

لأنّه يقال: لا مانع من ذلك ويمكن الالتزام باسمية لفظ «لا» في هذا المورد فلا يكون حرفاً، فيتمّ الكلام.

فإن قلت: لا يمكن تصحيح هذا الكلام مع عدم تقدير لفظ «موجود»، لأنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي، لا موجودة ولا معدومة، فلا يصحّ تعلّق النفي بها في هذه المرتبة، أي في مرتبة ذاتها من حيث هي، فيتعلّق النفي لا محالة بجهة اُخرى غير مرتبة ذاتها، وحيث إنّ أوّل ما يعرض الماهية ليس إلّا الوجود فالنفي لابدّ وأن يتعلّق بالماهية باعتبار وجودها، فلا محيص من تقدير الخبر وهو «موجود» في مثل لا رجل.

قلت: بعد كون الطبيعة من حيث هي لا موجودة ولا معدومة فوجودها كعدمها محتاج إلى العلّة غاية الأمر عدم علّة الوجود يكون علّة لعدمها، وبعد كون الوجود والعدم خارجين عن مرتبة ذاتها، فالنفي والإثبات الواردان عليها لا يردان إلّا على نفسها لا على حيث وجودها؛ لأنّ الوجود خارج عن مرتبة ذاتها، فمعنى قولك: «طبيعة الرجل موجودة»، أو «طبيعة الرجل الموجود موجودة»، أو «طبيعة الرجل معدومة» ليس أنّ طبيعة الرجل الموجود معدومة، بل المراد والمعنى ليس إلّا أنّ الطبيعة بنفسها موجودة أو معدومة. فقولك: «لا رجل في الدار» معناه ليس إلّا أنّ طبيعة الرجل تكون معدومة، لا أنّ طبيعة الرجل الموجود معدومة. وكذا في الفارسية لو قيل: «مرد در خانه نيست» يكون المراد نفي طبيعة الرجل في الدار، لا نفي طبيعة الرجل الموجود في الدار. وكيف كان لا فائدة في ذلك فيما نحن بصدده.

ثم إنّ وجه ما ذكر من أنّ النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم هو: كون الطبيعة موجودة بوجود فردها فانعدامها لا يتحقّق إلّا بانعدام جميع أفرادها، فلا يصحّ

ص: 337

نفي الطبيعة إلّا إذا العدم جميع أفرادها، فلو وجد فرد منها لا يصدق انعدامها، فنفي الطبيعة يفيد العموم لا محالة، ولا يحتاج ذلك إلى شيء أزيد ممّا ذكر.

فما يظهر من المحقّق الخراساني(قدس سره) من أنّ النكرة الواقعة في سياق النفي إنّما تفيد العموم إذا اُخذت مرسلةً، أي مطلقةً، وبنحو الإرسال لا مهملة؛ لأنّ حرف النفي لا يفيد إلّا نفي مدخوله فإن كان مدخول حرف النفي مطلقاً يكون النفي أيضاً مطلقاً، مثل: «لا رجل في الدار» بناءً على استفادة الإطلاق بمقدّمات الحكمة. وإن كان مقيّداً فالنفي أيضاً يكون مقيّداً كما لو قيل: «لا رجل عالماً في الدار» فالنفي يختصّ بالرجل العالم. فعلى هذا، لا يكفي لإفادة العموم مجرّد كون مدخول حرف النفي الطبيعة، لاحتمال أخذ الطبيعة الواقعة في حيّز النفي على نحو الأهمّال لا على نحو الإطلاق والإرسال. فلابدّ من كشف الإطلاق بمقدّمات الحكمة، ثم بعد ذلك الكشف - بمعونة مقدّمات الحكمة - يقال: بأنّ الطبيعة الواقعة في حيّز النفي تكون مطلقة، فتفيد نفي الطبيعة مطلقاً.((1))

ليس في محلّه، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في المطلق والمقيّد، وهذا المقام لا يناسب ذكره. والله هو الموفّق والمعين.

ص: 338


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص334.

ص: 339

ص: 340

الفصل الرابع: في حجّية العامّ المخصَّص

لا يخفى عليك: أنّ من أهمّ مطالب البحث في العامّ والخاصّ - الّذي يمكن أن يكون منشأً لإيراد أصل البحث في كتب الاُصوليين - مسألة: حجّية العامّ المخصّص في ما لم يعلم عدم شمول المخصِّص له أو يعلم عدم شموله له، مثل ما إذا تخصص العامّ بخاصّ وقصر عن شموله لجميع أفراده وأخرج الخاصّ بعض أفراد العامّ، فهل يكون العامّ حجّة في الباقي أو لا؟ كما لو قيل: «أكرم العلماء إلّا زيداً» فلا إشكال في خروج زيد عن حكم وجوب الإكرام، وإنّما الإشكال في أنّ هذا العامّ باقٍ على حجّیته لوجوب إكرام العلماء غير زيد، بحيث يؤخذ بالعموم ويحكم بوجوب إكرام جميع العلماء غير زيد أو ليس العامّ حجّة هكذا؟

ومنشأ الإشكال ما قيل: من أنّ حمل اللفظ على المعنى المجازي محتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي، وقرينة اُخرى معيّنة لكون المراد من اللفظ هو المعنى المجازي، وبعد فرض كون العامّ حقيقة في العموم فاستعماله في الخصوص مجاز فالتخصيص قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي وأنّه ليس مراداً للمتكلّم، وأمّا تعيين أنّ اللفظ استعمل في أيّ معنى من المعاني المجازية فلا دلالة للتخصيص عليه، فليس في البين قرينة معيّنة لكون المراد هو هذا المعنى المجازي دون غيره من سائر المعاني

ص: 341

المجازية؛ لأنّ کلّ مرتبة من الباقي بعد التخصيص معنى مجازيّ للمعنى الحقيقي غير مرتبته الاُخرى، فلفظ العامّ الشامل لعشرة أفراد مثلاً استعماله في التسعة مجاز وفي الثمانية مجاز وفي السبعة مجاز وهكذا، وبعد معلومية عدم إرادة الكلّ من لفظ العشرة وخروج واحد من الأفراد عن تحته لا يصحّ حمل اللفظ على معنىً من المعاني المجازية إلّا بمعونة القرينة وهي غير موجودة في المقام.

هذا مضافاً إلى أنّه لو فرضنا وجود قرينة معيّنة لإحدى المراتب، مثلاً: إذا قال: «أكرم العلماء إلّا زيداً» فهم بمعونة القرينة أنّ المراد وجوب إكرام واحد أو إثنين من العلماء، فتعيّن هذا الواحد من بين العلماء بأنّه بكر أو خالد أو غيرهما يحتاج إلى القرينة. وفي صورة كون المراد وجوب إكرام الإثنين فتعيّن أنّهما زيد وعمرو أو زيد وخالد أو غيرهم محتاج إلى القرينة وبدونها لا يمكن ذلك. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الإشكال.

وقد أجاب عنه بعض القدماء بأنّ مقتضى قاعدة: «إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات» تعيّن حمل لفظ العامّ بعد عدم كون المراد منه المعنى الحقيقي على الباقي؛ لأنّ الباقي هو أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي.((1))

وفيه: أنّ ملاك الأقربية بنظر العرف، وليس هذا موجباً للأقربية عندهم.((2))

إذا عرفت ذلك، نقول توضيحاً للمطلب: إنّ التخصيص إمّ-ا يكون بالمتّصل أو بالمنفصل.

والثاني: مثل إذا قال المولى في اليوم الماضي: «أكرم العلماء» ثم قال في هذا اليوم: «لا تكرم الفسّاق منهم» أو «لا تكرم زيداً».

ص: 342


1- صرّح بذلك العلّامة في تهذیب الوصول (ص138). راجع أیضاً: القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص266؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص192.
2- المصادر نفسها؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص337؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص200.

والأوّل: إمّا أن يكون التخصيص فيه بلسان التقييد مثل ما إذا قال: «أكرم کلّ رجل عالم» فتخصيص الرجل بالعالم إنّما وقع بلسان التقييد، وإمّا يكون بلسان الإخراج كما لو قيل: «أكرم العلماء إلّا زيداً».

ففيما ورد التخصيص بالعالم - متّصلاً كان أم منفصلاً - لا إشكال في عدم كون العامّ حجّة فيما اُخرج بدليل التخصيص. وإنّما الكلام في حجّية العامّ في أفراده الباقية، فذهب بعضهم إلى عدم الحجّية مطلقاً، وقد مرّ وجه هذا القول. وذهب بعضهم إلى التفصيل بين المخصّص المتّصل والمنفصل، فقال بحجّيته في الأوّل دون الثاني.((1))

واختار بعضهم حجّیته في تمام الباقي مطلقاً سواء كان التخصيص متّصلاً أو منفصلاً.

وقد أجاب الشيخ(قدس سره) عن الإشكال المتقدّم ذكره: بأنّ دلالة العامّ على کلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده،((2)) فلو قال: «أكرم العلماء» فدلالته على وجوب إكرام زيد العالم لا تكون منوطة بدلالته على وجوب إكرام عمرو العالم. والسرّ في ذلك: أنّ العامّ وإن كان لفظاً واحداً یدلّ على معناه ولكن هذه الدلالة بحسب الدقّة العقلية دلالات، وهذا معنى الانحلال وأنّ دلالة واحدة تنحلّ إلى دلالات عديدة بعدد أفراد العلماء، فليست بحسب الدقّة دلالة بسيطة واحدة، بل إنّما هي دلالات عديدة، ودلالة اللفظ على کلّ واحد من الأفراد ليست منوطة بدلالته على سائر الأفراد. فعلى هذا، لو قصر العامّ عن شموله لبعض الأفراد فلا مانع من شموله للبعض الآخر لما قلنا من أنّ دلالته على البعض غير منوطة بدلالته على سائر الأفراد.

ص: 343


1- ذهب إلیه البلخي کما في الاحکام في اُصول الأحکام (الآمدي، ج2، ص444)؛ والکرخي، کما في المحصول (الفخر الرازي، ج3، ص17). راجع أیضاً: شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص221؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص192.
2- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص192.

إذا عرفت ذلك في العامّ المخصّص فنقول: بأنّه بعد ورود التخصيص يكون أثر التخصيص قصر دلالة العامّ لشموله لفرد المخصّص، ولكن دلالته على غير هذا الفرد محفوظة على حالها.

فيندفع الإشكال المتقدّم (وهو بعد عدم كون المعنى الحقيقيّ مراداً للمتكلّم يحتاج حمل اللفظ على کلّ واحد من المعاني المجازية إلى القرينة المعيّنة، ولا يكفي مجرّد وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، لأنّ تعيين مراد المتکلّم من بين المعاني المجازية محتاج إلى قرينة معيّنة وهي غير موجودة في المقام، فيصير لفظ العامّ بعد قيام القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي مجملاً، فتسقط حجّیته في الباقي).

وتوضيحه بأنّه: لو كان المعنى الحقيقي أمراً بسيطاً أو مركّباً يكون شموله لأجزائه بحيثية واحدة وعلى نحو وحدانيّ غير انحلالي، وقامت القرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي، فيصحّ الإشكال بأنّه لا يمكن حمل العامّ على بعض المراتب أو بعض الأجزاء بمجرّد قيام القرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي. وأمّا إن كان المعنى الحقيقي مع كونه واحداً في وحدته منحلّا بالدقّة العقلية إلى كثرات وكانت دلالتها على کلّ من الكثرات باعتبار تعدّد الدلالات، فقيام القرينة على عدم دلالة المعنى الحقيقي على واحدة من هذه الكثرات لا يصير سبباً لعدم دلالته على سائر الكثرات، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ دلالة العامّ كما قلنا تنحلّ إلى دلالات، وكلّ دلالة لا تتوقّف على دلالة اُخرى، فالقرينة الصارفة وهي التخصيص لا تسبّب إلّا قصر دلالة العامّ عن شموله لهذا الفرد الخارج بسبب التخصيص، وأمّا دلالته على سائر الأفراد فعلى حالها محفوظة.

والحاصل: أنّا لا نسلّم الاحتياج إلى قرينة اُخرى غير القرينة الصارفة لإثبات حجّية العامّ في باقي الأفراد، هذا.

ص: 344

ويظهر من كلامه(قدس سره) - على ما في تقريرات بحثه - تردّده في كون ذلك مجازاً أو حقيقة، بمعنى أنّ العامّ استعمل في صورة التخصيص في المعنى الحقيقي أو المجازي؟((1))

وأورد المحقّق الخراساني(قدس سره) على هذا البيان إيراداً، والظاهر أنّه وارد، وهو: أنّ الظهور إمّا أن يكون بالوضع وهو من موارد استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي، وإمّا أن يكون بالقرينة وهو في مورد استعمال اللفظ في المعنى المجازي، فكلّ ظهور لابدّ وأن يكون مستنداً إلى أحدهما، ولا ظهور في غير الموردين. وعليه ففي العامّ المخصّص إن كان الظهور مستنداً إلى الوضع، فأنت تعلم عدم كون العامّ مستعملاً في المعنى الحقيقي وهو الاستيعاب لجميع الأفراد. وإن كان مستنداً إلى القرينة، فكون ظهور العامّ في تمام الباقي لوجود القرينة محلّ إنكار؛ لأنّ التخصيص لا يوجب إلّا صرف اللفظ عن المعنى الحقيقي، وهذا لا يوجب حصول ظهور للعامّ في تمام الباقي، بل لابدّ من وجود قرينة اُخرى لذلك وهي منتفية، كما لا يخفى.

وأيضاً بعد الاعتراف بعدم استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي (وهو استيعابه لجميع الأفراد) لا وجه للترديد في كون هذا الاستعمال حقيقة أو مجازاً.((2))

هذا حاصل ما أفاده الشيخ(قدس سره) وما أورد عليه في الكفاية.

وأمّا صاحب الكفاية فقد أجاب عن الإشكال المذكور: بمنع مجازية العامّ المخصَّص. أمّا في التخصيص بالمتّصل فلا تخصيص أصلاً؛ فإنّ أدوات العموم قد استعملت في العامّ وإن كانت دائرته - سعة وضيقاً - تختلف باختلاف مدخول الأدوات، فلفظة «کلّ» في مثل. «كلّ رجل» أو «کلّ رجل» عالم قد استعملت في العموم وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر بل في نفسها في غاية القلّة.

ص: 345


1- یظهر تردّده من مجموع کلماته في مطارح الأنظار (ص192).
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص338.

والحاصل: أنّ أدوات العموم تفيد شمول الحكم لجميع أفراد المدخول، وعموميته بحسب الضيق والسعة تابعة للمدخول، فلا يلزم من استعمالها في الخصوص مجازٌ أصلاً.((1))

ويمكن أن يرد عليه: بأنّ هذا الكلام لا يجري فيما إذا كان تخصيص المتّصل بلسان الإخراج، مثل: «أكرم کلّ عالم إلّا زيداً» لأنّ في مثل ذلك تستعمل أداة العموم في غير معناها، حيث إنّ مدخولها - مع قطع النظر عن الاستثناء - لفظ شامل لکلّ عالم حتى زيد، ولفظ الكلّ أيضا دالّ على استيعاب الحكم لجميع الأفراد، والاستثناء يوجب خروج زيد، فليس إخراجه من باب ضيق دائرة مدخول العموم.

ويمكن الذبّ عنه: بأنّ غاية هذا عدم كفاية الجواب المذكور لما إذا خصّص العامّ بالمخصّص المتّصل وكان لسانه الإخراج، فيصير مثل هذا والمخصّص المنفصل من وادٍ واحد، فما به يتفصّى عن المخصّص المنفصل يتفصّى به عن المخصّص المتّصل الّذي لسانه الإخراج. وأمّا عدم كون العامّ مجازاً في صورة التخصيص بالمنفصل، وأنّ استعمال اللفظ في العموم مع هذا التخصيص استعمال في المعنى الحقيقي، فوجهه:

أنّ الإرادة على قسمين: إرادة استعمالية وإرادة جدّية، أمّا الإرادة الاستعمالية فهي عبارة عن: إرادة المتکلّم استعمال اللفظ في معناه من غير أن يكون المعنى مراداً له، وأمّا الإرادة الجدّية فهي عبارة عن: إرادة المتكلم من إلقاء اللفظ كونه قالباً للمعنى، ويكون المعنى مراداً له. ففي المقام لفظ العموم بحسب الإرادة الاستعمالية مستعمل في العموم ولو مع التخصيص، وأثر التخصيص إخراج مورده عن إرادته الجدّية، فنتيجة التخصيص إنّما هي عدم كون الخارج مراداً للمتكلّم، لا أنّ اللفظ قد استعمل في غيره، بل العامّ إذا ورد التخصيص عليه أو لم يرد مستعمل في العموم وهو المعنى

ص: 346


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص335-336.

الحقيقي، ولكن بمقدار التخصيص يتصرّف في الإرادة الجدّية بأنّها ليست على طبق الإرادة الاستعمالية.((1))

فإن قلت: فما فائدة هذه الإرادة الاستعمالية في العموم مع العلم بأنّ إرادته الجدّية كذلك.

قلت: قد أفاد في الكفاية جواباً عن هذا الإشكال: بأنّ «من الممكن قطعاً استعمال العامّ في العموم قاعدةً وكون الخاصّ مانعاً عن حجّية ظهوره تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر لا مصادماً لأصل ظهوره».((2))

وأفاد في مجلس الدرس بأنّ فائدة ذلك كون العامّ حجّة للعبد في موارد الشكّ.

فعلى هذا، لا يوجب التخصيص مجازاً في استعمال العامّ أصلاً.

هذا، ولكن يمكن أن يقال: بأنّ صرف استعمال اللفظ في المعنى لا يوجب أن يصير حجّة للعبد، بل اللفظ لأجل كونه حاكياً عن المعنى وكاشفاً عن مراد المتکلّم يكون حجّة، ومع عدم كون الإرادة الجدّية على طبق الإرادة الاستعمالية كيف يصير مجرّد الإرادة الاستعمالية حجّة للعبد؟

والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ المتکلّم تارة: يستعمل اللفظ في معناه لأجل حضور المعنى في ذهن المخاطب وثبوته وقراره في ذهنه حتى يحكم عليه ويحمل على هذا المعنى ما شاء، وهذا الاستعمال هو استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي. واُخرى: يستعمل اللفظ في معناه لكن لا لأجل ثبوت المعنى وقراره في الذهن، بل لأجل أن يلتفت المخاطب إلى معنى آخر، مثل أن قال: «جاء حاتم» وأراد التفات المخاطب إلى أنّ الشخص الجائي متّصف بالجود، إذا كان في مقام المدح، أو أراد التفات المخاطب إلى أنّ هذا الشخص متّصف بغاية البخل، إذا كان في مقام الذمّ، ففي کلّ من الموردين قد

ص: 347


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص336.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص336.

استعمل اللفظ في معناه، لكن لا لأجل أن يثبت في ذهن السامع بل لأجل أن يكون عبرة وطريقاً لانتقاله إلى معنى آخر، وهو كمال جوده أو غاية بخله في المثال.

وهذا الاستعمال مقارن لادّعاء اتّحاد معنى اللفظ مع المعنى الّذي اُريد أن يلتفت إليه المخاطب. ولازم صحّة هذا الاستعمال وجود تناسب بين المعنيين، كما لا يخفى. وهذا هو استعمال اللفظ في المعنى المجازي.

وثالثة: يستعمل اللفظ الواحد الّذي تكون مندرجةً تحته أفراد كثيرة يصدق على جميع هذه الأفراد، لأجل أن يحضر المعنى المندمج فيه تلك الأفراد في ذهن المخاطب، ولكن لا لأجل أن يثبت ذلك المعنى في ذهن المخاطب ولا لأجل أن يلتفت بسببه إلى معنى آخر، بل لأجل أن يحضر المعنى في ذهن المخاطب لكي يتصوّر جميع الأفراد المندمجة فيه. ثم بسبب أدوات الإخراج يخرج ما شاء من هذه الأفراد أو الأجزاء - إذا كان عامّاً مجموعياً - ويبقى الباقي في ذهنه ثابتاً. وهذا الاستعمال يمكن أن يقال بأنّه بين الاستعمال الحقيقي والمجازي ليس مجازاً؛ لأنّ في المجاز يستعمل اللفظ لأن يكون معناه معْبراً وسبباً للالتفات إلى معنى آخر وليس حقيقة؛ لأنّ في الاستعمالات الحقيقية يستعمل اللفظ لأجل حضور المعنى في الذهن وقراره وثباته، وهذا الاستعمال لا يكون كذلك وإن كان أشبه باستعمال اللفظ في المعنى الحقيقي.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ استعمال العامّ في الخاصّ إنّما يكون من قبيل القسم الثالث. فعلى هذا، لا مانع من الالتزام بصحّة قول الشيخ(قدس سره) إذا كان موافقاً لما ذكرناه في المجاز.

هذا، وقد مضى منّا في علائم الحقيقة والمجاز أنّ عمدة ما عليه الاعتماد في معرفة الحقائق كون المعنى مستفاداً من حاقّ اللفظ من غير أن يتوسّط شيء آخر في البين، وهذا يكون غالب الموافقة مع الاطّراد. وأمّا طريق معرفة المجاز فهو: عدم استفادة المعنى كذلك من اللفظ.

ص: 348

ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّه لا فرق في ما ذكر بين العامّ الاستغراقيّ والمجموعي كالدار، كما اُشير إليه. وقد قلنا: إنّ العامّ المجموعي بالمعنى المشهور بين المتأخّرين غير ما هو المذكور في كلام المتقدّمين وأنّ هذا المعنى من العامّ المجموعي بالمعنى المذكور في لسان المتأخّرين لم يوجد في الأحكام الشرعية أصلاً.((1)) هذا تمام الكلام في المقام.

ولا يخفى عليك: أنّ حجّية ظهور العامّ في تمام الباقي من المسلّمات العرفية، فما ذكروه من الإشكال إنّما هو شبهة في مقابل البديهة. والحمد لله ربّ العالمين، ربّ اغفر لنا ولوالدينا يوم يقوم الحساب.

ص: 349


1- تقدّم في الصفحة، 329 - 330.

ص: 350

الفصل الخامس: في التمسّك بالعامّ عند إجمال المخصِّص مفهوماً

إذا ورد التخصيص على عامّ وكان المخصِّص مجمَلاً بحسب المفهوم، كما إذا كان مفهومه بحسب اللغة غير معلوم، أو كان لفظه من الألفاظ المشتركة، فهل يجوز التمسّك بالعامّ في حكم ما شكّ أنّه من أفراد المخصِّص من جهة إجمال مفهومه أو لا؟

فنقول: الخاصّ المجمل بحسب المفهوم إمّا أن يكون أمره دائراً بين المتباينين، كقولك: «أكرم العلماء إلّا زيداً» مع اشتراكه بين آحاد العامّ. وإمّا أن يكون بين الأقلّ والأكثر، وهو على قسمين: أحدهما: أن يكون الأقلّ داخلاً في الأكثر، كما إذا شكّ في أنّ الفاسق هل هو مرتكب الكبائر أو يعمّه ومرتكب الصغائر؟ وثانيهما: ما لم يكن كذلك ولا يكون الأقلّ داخلاً في الأكثر.

فإذا كان المخصِّص متّصلاً فيسري إجماله إلى العامّ سواء كان إجمال المخصِّص من جهة دورانه بين المتباينين أو الأقلّ والأكثر بقسميه، لعدم انعقاد ظهور للعامّ من أوّل الأمر لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لکلّ واحد من الأقلّ والأكثر أو المتباينين. لكنّ العامّ حجّة فيما عدا مورد الإجمال، والمخصِّص حجّة في الأوّل - إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر - من دون أن يكون العامّ حجّة في الأكثر لفرض إجماله.

وأمّا إذا كان المخصِّص منفصلاً فيسري إجماله إلى العامّ إذا كان أمره دائراً بين

ص: 351

المتباينين أو الأقلّ والأكثر الّذي لم يكن الأقلّ فيه داخلاً تحت الأكثر. وأمّا إذا كان المخصِّص منفصلاً ودار أمره بين الأقلّ والأكثر الّذي كان الأقلّ داخلاً تحت الأكثر فلا يسري إجماله إلى العامّ، بل هو المرجع فيما لم يكن الخاصّ مرجعاً فيه، فتدبّر.

ص: 352

الفصل السادس: في التمسّك بالعامّ عند إجمال المخصِّص مصداقاً

اشارة

إذا كان المخصِّص مجملاً لا بحسب المفهوم بل بحسب المصداق بأن اشتبه فرد وتردّد بين أن يكون فرداً للعنوان الخاصّ أو باقياً تحت عموم العامّ، فلا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعامّ فيما إذا كان المخصّص متّصلاً، لعدم انعقاد ظهور للعامّ من أوّل الأمر إلّا في غير مورد عنوان الخاصّ.

وأمّا إذا كان المخصّص منفصلاً، كما إذا قال المولى: «أكرم كلّ عالم» وقال: «لا تكرم الفسّاق من العلماء» وشكّ من جهة الاشتباهات الخارجية في أنّ زيداً العالم فاسق أم لا؟

ومحلّ الكلام في ما كان شمول العامّ للفرد المشكوك فرديّته للخاصّ مفروغاً منه، وإلّا فلو كان شمول العامّ للفرد المشكوك فيه مردّداً فلا إشكال في عدم جواز التمسّك بعموم العامّ.

فذهب جماعة إلى عدم جواز التمسّك بعموم العامّ فيما شكّ في مصداقيته للمخصّص.

وجماعة إلى الجواز.

دليل المجوّزين

عمدة ما استدلّوا على جواز التمسّك بعموم العامّ ما قالوا: بأنّ مصداقية الفرد المشتبه للعامّ معلومة وبعد ضمّ هذه المقدّمة (وهي اندراج الفرد المشتبه تحت العامّ)

ص: 377

بالكبرى الكلّية المسلّمة وهي: «وجوب إكرام کلّ عالم» نقيم الحجّة على طبق الشكل الأوّل ونقول مثلاً: زيد عالم، وكلّ عالم واجب الإكرام، فزيد واجب الإكرام. وأمّا في طرف المخصِّص فلا يمكن ترتيب ذلك؛ لأنّ محمول الصغرى وهو فاسق في قولنا: «زيد فاسق» غير ثابت، فلا يمكن تشكيل القياس.((1))

وهذا نظير ما قاله الشيخ(رحمه الله) في مبحث أصالة البراءة في الشبهات الموضوعية من عدم صحّة التمسّك بعموم: «کلّ خمر حرام» لاثبات حرمة هذا المائع المشكوك في أنّه خمر؛ لأنّ إثبات الحرمة محتاج إلى المقدّمتين إحداهما: كون هذا المائع خمرا، والثانية: کلّ خمر واجب الاجتناب، مثلاً، فقال في هذا المورد بجريان البراءة.

وبالجملة: الفرق واضح بين العامّ والخاصّ؛ لأنّ في طرف العامّ مصداقية زيد مثلاً للعنوان المأخوذ في العامّ محرز بالوجدان فبعد ضمّه إلى الكبرى المستفادة من العامّ يتمّ القياس، وأمّا في طرف الخاصّ لا يثبت صدق العنوان المأخوذ فيه على زيد المشكوك فيه بأنّه فاسق أو لا. فتكون الإرادة الجدّية في طرف العامّ بالنسبة إلى الفرد المشتبه مطابقاً وموافقاً للإرادة الاستعمالية كما هو مقتضى الأصل العقلائي وهو أصالة تطابق الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعمالية، وليس لنا دليل على خلاف مقتضى هذا الأصل، كما لا يخفى.

وقد أجاب المحقّق الخراساني(رحمه الله) عن هذا الاستدلال: بأنّ الخاصّ وإن لم يكن دليلاً وحجّة في الفرد المشتبه فعلاً، ولكنه موجب لاختصاص حجّية العامّ في غير عنوان الخاصّ من الأفراد. فعلى هذا، لا يكون «أكرم العلماء» دليلاً وحجّة إلّا في العالم غير الفاسق، فالفرد المشتبه وإن كان مصداقاً للعامّ إلّا أنّه لم يعلم أنّه من مصاديق ما هو حجّة فيه وهو غير الفاسق، أو من مصاديق ما لم يكن حجّة فيه وهو الفاسق.

ص: 353


1- النهاوندي، تشریح الاُصول، ص261؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص194.

وبالجملة: العامّ المخصَّص بالمنفصل وإن كان يمتاز عن المتّصل بقيام ظهوره في العموم كما إذا لم يكن مخصّصاً، إلّا أنّه في عدم الحجّية - إلّا في غير عنوان الخاصّ - يكون مثل المتّصل، فيكون الفرد المشكوك غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين، فلابدّ من الرجوع إلى الأصل.((1))

ولا يخفى عليك: أنّه يوجه هذا الجواب بأنّ في باب أدلّة الأحكام استفادة الأحكام الكلّية غير مرتبط بالمصاديق والجزئيات، ولا دخالة للمصاديق في حجّية الدليل، مثل قوله: «أكرم العلماء» أو «لا تكرم الفسّاق منهم» لوجوب إكرام کلّ عالم، أو حرمة إكرام کلّ فاسق من العلماء، فالدليل حجّة لثبوت الحكم في موضوعه الكلّي من غير احتياج إلى وجود المصاديق.

وبعبارة اُخرى: حجّية الأدلّة تكون على نحو الكلّية وثبوت الحكم للموضوعات الكلّية، وهذا تمام في مورده. نعم، في مقام إثبات الحكم للأشخاص والمصاديق لابدّ من إحراز مصداقية هذا الشخص لما هو موضوع الحكم حتى يضمّ إلى الكبرى الكلّية المستفادة من الدليل وتؤخذ النتيجة بأنّ هذا الشخص محكومٌ بحكم كذائي.

ولذا وقعت منّا المناقشة في مبحث البراءة مع الشيخ(رحمه الله)، حيث إنّه قال في الرسالة بإجراء البراءة العقلية والشرعية في الشبهات الموضوعية.

ووجه المناقشة: أنّ العقل حاكم بأنّ وظيفة المولى ليس إلّا الأحكام الكلّية فبعد إعمال المولى وظيفته تتمّ حجّته على العبد لو لم يأت بما أمره به، سواء كان ذلك من أجل الاشتباه في الموضوع أو غيره. والسرّ في ذلك: أنّ ما يتلقّى من الشارع - ووظيفته أن يبيّنه ليس إلّا الأحكام الكلية، ومن الواضح أنّ بيانه هذا حجّة لثبوت الحكم - فى الموضوع الكلّي، ولذا لا يصحّ الاعتذار ولا يقبل عذر المكلّف لو خالف أمره في

ص: 354


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص342-343.

الشبهة الموضوعية بالنسبة إلى هذا الحكم، ولا يكون عقاب المولى عبده مع بيان ما هو حجّة لهذا الحكم الكلّي عقاباً بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان.

وبالجملة: لا ريب في أنّ حجّية قول الشارع «لا تكرم الفسّاق من العلماء» لحرمة إكرام فسّاقهم على النحو الكلّي تمام ولا نحتاج معها إلى إحراز المصداق. فعلى هذا، نقول في المقام: إنّ «أكرم العلماء»یدلّ على وجوب إكرام کلّ من كان عالماً واقعاً، وقوله: «لا تكرم الفسّاق منهم» يدلّ على عدم وجوب إكرام کلّ من كان منهم فاسقاً، وهذا حجّة على العبد ولو لم يحرز المصداق بعدُ. وأمّا العلم بالمصداق فإنّما يحتاج إليه في مقام إثبات الحكم للمصاديق، لا إثبات أصل الحكم. فعلى هذا، يقصر «لا تكرم الفسّاق» شمول حجّية العامّ وهو «أكرم العلماء» لکلّ من كان فاسقاً واقعاً ويمنع شموله له، فالعام لا يكون حجّة إلّا لوجوب إكرام غير الفاسق من العلماء واقعاً. ففي مورد الشكّ في أنّ هذا فاسق أم ليس بفاسق، لا يصحّ التمسّك بالعامّ؛ لأنّه وإن كان يشمله بظهوره ولكن قد وقع الشكّ في حجّیته في مورد هذا الفرد، لأنّه إن كان فاسقاً لا يكون العامّ حجّة له ودليلاً على وجوب إكرامه، لأنّ المخصِّص قد اختصّ حجّية العامّ في غير الفاسق، كما لا يخفى.

وممّا یدلّ على أنّ حجّية الدليل لإثبات الحكم الكلّي تامّة ولا تحتاج إلى إحراز وجود المصداق: ذهابهم إلى جواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقية إذا كان في البين أصل موضوعي يحرز به فردية المشتبه للعامّ.

والحاصل: أنّ أدلّة الأحكام الواقعية - وهي الأحكام المتعلّقة بالموضوعات الواقعية - حجّة فيما يستفاد منها من الأحكام الكلّية المتعلّقة بالموضوعات الواقعية، سواء تعلّق بهذه الموضوعات علم العبد أم لا، ولا حاجة في حجّیتها إلى إحراز الصغريات ومصاديق الموضوعات. فأدلّة هذه الأحكام حجّة فيما يستفاد منها كان المصداق

ص: 355

معلوماً أو مشكوكاً. وفائدة حجّیتها كذلك إنّما هي استفادة حكم الصغريات في موارد وجود الاُصول الموضوعية، كما إذا شكّ في فسق زيد بعد عدالته، فإنّ مقتضى دليل: «لا تنقض... إلخ» الحكم بعدالته وترتيب آثارها. فلو لم تكن أدلّة الأحكام الواقعية حجّة لإثبات الحكم الكلّي لا فائدة في إحراز المصداق بالأصل، وتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فبناءً على هذا، إذا قال المولى: «أكرم العلماء» لا إشكال في تعلّق إرادته الاستعمالية بوجوب إكرام کلّ من كان عالماً واقعاً، والأصل (وهو بناء العقلاء) يقتضي توافق الإرادة الاستعمالية مع الجدّية، ولازم هذا حجية قوله: «أكرم العلماء» لوجوب إكرام کلّ من كان عالماً واقعاً.

ثم إذا ورد من المولى دليل مخصّص لهذه الكلّية - المستفادة من إكرام العلماء - ومبيّن لأنّ الإرادة الاستعمالية ليست طبقاً للإرادة الجدّية، كما إذا قال: «لا تكرم الفسّاق منهم» فلازمه قصر حجّية دليل العامّ على کلّ من كان عالماً غير فاسق واقعاً. لأنّ دليل «لا تكرم الفسّاق منهم» مثل دليل العامّ يفيد عدم وجوب إكرام الفاسق الواقعي منهم على النحو الكلّي، وهو حجّة في ذلك، لأنّ العقلاء يحملون الكلام الصادر من الحكيم على أنّ مراده الاستعمالي هو عين مراده الجدّي، فإذا شكّ في فسق شخص لا يصحّ التمسّك بعموم «أكرم العلماء» لوجوب إكرامه؛ لأنّ حجّیته قد اختصّت بوجوب إكرام کلّ من كان من العلماء غير فاسق واقعاً.

لا يقال: إنّ مقتضى الأصل المذكور - وهو تطابق الإرادتين - في هذا المورد - الّذي شمول العموم له معلوم وشمول المخصِّص مشكوك - جواز التمسّك بالعامّ.

لأنّه يقال: إن اُريد بذلك جواز التمسّك بالعامّ لإثبات وجوب إكرام هذا الشخص واقعاً من جهة الأصل المذكور.

ص: 356

فلا يصحّ؛ لأنّه بعد أن أفاد دليل المخصِّص عدم تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية إلّا إذا كان العالم غير فاسق واقعاً لا مجال للتمسّك بهذا الأصل، وليس بناء العرف والعقلاء على ذلك.

وإن اُريد جواز التمسّك بالعامّ لإثبات وجوب الإكرام ظاهراً، بمعنى أنّه وإن أفاد دليل المخصّص عدم تطابق الإرادتين في العامّ إلّا كذلك، ولكنّ العقلاء في هذه الموارد يتمسّكون بالعامّ لإثبات الحكم للمشكوك، وهو حجّة ظاهراً.

ففيه: أنّ هذا غير معقول بالنسبة إلى دليل واحد، إذ الحكم الظاهري متأخّر عن الواقعي برتبتين، لأنّ الموضوع في الحكم الظاهري هو الشكّ في الحكم الواقعي، فلا يمكن ملاحظتهما معاً، فلا يكون العامّ حجّة لإثبات وجوب الإكرام ظاهراً في هذا المورد.

بيان آخر لتصحيح جواز التمسّك والجواب عنه

لا يخفى عليك: أنّه ربما يقال لتصحيح جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية: بأنّ قول القائل: «أكرم العلماء» یدلّ على وجوب إكرام كلّ فرد من العلماء بعمومه الأفرادي، وعلى وجوب إكرام کلّ فرد من أفراد العلماء في جميع الحالات الّتي تفرض له ومن جملتها كونه: مشكوك العدالة والفسق، ومعلوم العدالة، أو الفسق بإطلاقه الأحوالي، فقوله: «لا تكرم الفسّاق منهم» یدلّ على خروج معلوم الفسق من العلماء، وأمّا الباقي فلا يعلم خروجه، فمقتضى أصالة العموم والإطلاق بقاء الفرد المشكوك تحت الحكم.

وفيه: أنّه إن اُريد بذلك أنّ لازم الإطلاق الأحوالي كون کلّ فرد موضوعاً للحكم في حال كونه معلوم العدالة، وفي حال كونه متّصفاً بالصفة الكذائية، وفي حال كونه مشكوك الفسق، حتى يكون کلّ واحد من هذه الحالات جزءاً للموضوع لكي یدلّ العامّ بإطلاقه الأحوالي على وجوب إكرام هذا الفرد في حال كونه مشكوك الفسق ظاهراً؛ لأنّ الحكم الّذي اُخذ في موضوعه الشكّ في الواقع يكون ظاهرياً لا محالة.

ص: 357

فنقول: إنّه توهّم نشأ من الاشتباه في معنى الإطلاق؛ وذلك لأنّ معنى الإطلاق ليس إلّا كون الموضوع المذكور في القضیّة تامّاً في موضوعيته للحكم من غير دخل شيء آخر فيه، بمعنى أنّه كلّما وجد هذا الموضوع فحكمه ليس إلّا هذا، ولا دخالة للحالات في سراية الحكم إلى الفرد، فزيد واجب الإكرام في حال عدالته لكن بما أنّه عالم، وفي حال آخر من حالاته أيضاً بما أنّه عالم. وكذلك إذا قال: «أعتق رقبة» فمعنى الإطلاق فيه كون عتق الرقبة تمام الموضوع للحكم، فعتق هذه الرقبة مثلاً في هذه الحالة مسقط للتكليف لكن لا بما أنّه مقيّد بهذه الحالة ومتّصف بهذه الصفة بل بما أنّه عتق الرقبة فقط، وهكذا عتق هذه الرقبة في حالة اُخرى وهكذا في سائر الحالات. فعلى هذا، لا يكون العالم الّذي شكّ في فسقه واجب الإكرام إلّا بما أنّه عالم لا بما أنّه عالم مشكوك الفسق، فلا يمكن أن يكون الفرد المشكوك فسقه محكوماً بحكم العامّ ظاهراً.

وإن اُريد أنّ الخاصّ إنّما يكون مخرِجاً لبعض الأفراد دون الحالات، فلا تكرم الفساق إنّما يخرَج به من تحت العامّ من كان معلوم الفسق من العلماء، وأمّا من شكّ في فسقه منهم فيثبت وجوب إكرامه بالإطلاق الأحوالي؛ لأنّ أصالة تطابق الإرادتين إنّما اُخذت منّا لأجل دليل المخصِّص بالنسبة إلى الأفراد المعلومة الفسق وأمّا في مورد مشكوك الفسق فحجّيتهما باقية على حالها.

فنقول: بعدما ذكرنا من أنّ مفاد دليل المخصِّص هو عدم وجوب إكرام الفاسق الواقعي من العلماء، وأنّ لازمه قصر حجّية العامّ في وجوب إكرام العالم على غير الفاسق الواقعي؛ لا يبقى مجال لهذا البيان، لأنّ مقتضى دليل التخصيص عدم وجود أصالة التطابق بين الإرادتين إلّا في العالم غير الفاسق الواقعي، فما لم يعلم عدالته وفسقه لا يشمله العامّ بما أنّه حجّة.

وبعبارة اُخرى: التمسّك بالإطلاق الأحوالي فرع كون الفرد تحت عموم العامّ وهو العالم غير الفاسق الواقعي، وكون هذا الفرد تحت هذا العموم مشكوك.

ص: 358

وملخّص الكلام: أنّ قوله: «أكرم العلماء» یدلّ بضميمة أصالة تطابق الإرادة الجدّية مع الاستعمالية على أنّ مراده الجدّي إنّما يكون إكرام کلّ فرد من العلماء، فإذا ورد: «لا تكرم الفسّاق منهم» لا يبقى مجال لإجراء هذا الأصل مطلقاً، ولا يبقى هذا الأصل على حاله محفوظاً إلّا في کلّ من كان عالماً غير فاسق بحسب الواقع. فعليه إذا شكّ في فسق عالم، لا يصحّ التمسّك بعموم أكرم العلماء على وجوب إكرامه؛ لأنّه إنّما دلّ على وجوب إكرام العلماء إذا كانوا بحسب الواقع غير متّصفين بالفسق، وهذا الفرد لا يعلم كونه كذلك.

لا يقال: هذا صحيح، ولكن هذا الفرد حيث لا يشمله دليل المخصِّص ولا يكون حجّة على عدم وجوب إكرامه فيشمله العامّ؛ لأنّ كونه تحت العامّ ليس محلّ الإنكار، وتخصيصه بهذا الفرد منتفٍ بالأصل، فلا يكون مانعاً فيه من التمسّك بعموم العامّ.

فإنّه يقال: بعدما عرفت من أنّ دليل المخصص قد قصّر حجّية العامّ واختصّها بکلّ ما هو فرد للعالم غير الفاسق بحسب الواقع، لا يبقى مجال للقول بشمول العامّ لهذا الفرد، وأنّه حجّة لوجوب إكرامه.

وإن قلت: إنّ العامّ يشمله بما هو مشكوك الحال وفي مقام الظاهر.

فنقول: لا يمكن أن يكون مبيّناً لحكمين يكون أحدهما متقدّماً على الآخر والآخر متأخّراً عنه.

وجهان آخران لعدم جواز التمسّك بالعامّ

الأوّل: ما أفاده بعض أساتذتنا(قدس سره)،((1)) وهو: أنّ التمسّك بعموم العامّ إنّما يجوز فيما إذا كان عدم التمسّك موجباً لمزيد تخصيص في العامّ، أمّا إذا لم يكن موجباً لذلك

ص: 359


1- انظر الوجه أیضاً في مطارح الأنظار (الأصفهاني، ص194)؛ تشریح الاُصول (النهاوندي، ص261).

فلا. وهذا كما فيما نحن فيه؛ لأنّ العامّ وهو قوله: «أكرم العلماء»، مخصّص بقوله: «لا تكرم الفسّاق منهم»، فلو شكّ في فرد أنّه من الفسّاق أو لا؟ لا يستلزم عدم التمسّك بعموم أكرم العلماء تخصيصاً زائدا فيه، لأنّه خارج عن تحت العامّ لو كان من الفسّاق بنفس العنوان.((1))

الثاني: قال في مطارح الأنظار (في مبحث العموم والخصوص في الهداية الثانية) تقريراً لما أفاده الشيخ(قدس سره): إنّ منشأ الشكّ في الشبهة الموضوعية هو التردّد في الاُمور الخارجية الّتي لا مدخل لإرادة المتكلّم فيها بوجه، بل ذلك التردّد والاشتباه كثيراً ما يقع للمتكلّم أيضاً، بل قد يقطع المتکلّم بخلاف ما هو الواقع فى المصاديق أيضاً، فمن حاول رفع هذه الشبهة فلابدّ من رجوعه إلى ما هو المعد في الواقع لإزالة هذه الشكوك والشبهات من إخبار وتجربة وإحساس ونحوها. وما يمكن رفعه بالرجوع إلى العامّ هو الشكّ فى مراد المتکلّم على وجه لو صرّح بمراده بعد الرجوع إليه لم يقع الشكّ فيه. ففيما إذا شكّ في أنّ زيداً عادل لو راجعنا المتکلّم أيضاً لا يرتفع الشكّ المذكور، من حيث هو متكلّم، فلا وجه لتحكيم العامّ في مورد الشكّ... إلخ.((2))

هذا تمام كلامنا فيما إذا كان المخصِّص لفظياً.

ص: 360


1- أقول، لم نتحصّل تمام المراد ممّا أفاده السیّد الاُستاذ(قدس سره). ویمکن أن یقال: لو کان الفرد المردّد فسقه فاسقاً واقعاً لا یصیر عدم التمسّك بعموم العامّ موجباً لزیادة التخصیص بعد ما کان المخصّص عنواناً عامّاً خرج به جمیع الفسّاق عن تحت العامّ، ولکن إذا لم یکن الفرد المذکور فاسقاً یصیر عدم التمسّك بعموم العامّ سبباً لخروجه عن تحت العامّ، فیجب التمسّك بعموم العامّ حتی لا یقع تخصیصاً زائداً في العامّ. اللّهمّ إلّا أن یقال: إنّ بناء العقلاء قد استقرّ في تمسّکهم بالعموم علی ما إذا کانوا عالمین بأنّ ترك التمسّك به موجباً لمزید التخصیص دون ما إذا کان العامّ مخصّصاً بعنوان و شكّ في فرد أنّه من مصادیقه أم لا، للشكّ في کون الترك مؤدّیاً لذلك أم لا. وبعد ذلك المسألة تحتاج إلی مراجعة کلمات الأعلام. [منه دام ظلّه العالي].
2- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص193.

التمسّك بالعامّ في المخصِّص اللبّي

أمّا الكلام في المخصّص اللبّي، قد أفاد في الكفاية: أنّه إن كان ممّا يصحّ

ص: 361

الاتّكال عليه عند التكلّم - إذا كان المتکلّم بصدد البيان في مقام التخاطب - فهو كالمتّصل؛ لأنّه لا ينعقد للعامّ ظهور إلّا في الخصوص. وإن لم يكن كذلك فالظاهر بقاء العامّ في المصداق المشتبه على حجّیته، فلابدّ من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه.

وقال في مقام الاستدلال على ذلك: بأنّ المولى إذا قال: «أكرم جيراني» وقطع العبد بأنّه لا يريد إكرام من كان عدوا له منهم، كان أصالة العموم باقية بالنسبة إلى من لم يعلم خروجه عن عموم الكلام للعلم بعداوته لعدم حجّة اُخرى بدون ذلك على خلافه. بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظياً؛ فإنّ قضيّة تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كأنّه كان من رأس لا يعمّ الخاصّ، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاصّ متّصلاً. والقطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجّیته إلّا فيما قطع أنّه عدوّه لا فيما شكّ فيه، كما يظهر صدق هذا من صحّة مؤاخدة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته على مخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنه، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء الّتي هي ملاك حجّية أصالة الظهور.

وبالجملة: كان بناء العقلاء على حجّیتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا، بخلاف هناك.((1))

وفيه: أنّه لا فرق في المخصّص اللفظي والمخصّص اللبّي فيما هو ملاك الإشكال وعدم صحّة الرجوع إلى العامّ إذا كانت الشبهة في المصداق؛ لأنّه بعد یرید اکرام من کان عودا له من جیرانه نقطع بان ارادته الجدیه انما تعلقت باکرام من

ص: 362


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص343 – 345.

كان من جيرانه غير عدوّ له واقعاً، فإذا شكّ في أنّ زيداً هل يكون عدوّاً للمولى حتى لا يجب إكرامه أو لا يكون عدوّه حتى يجب إكرامه؟ لا يجوز التمسّك بعموم «أكرم کلّ جيراني» لإثبات وجوب إكرامه، وإلّا يلزم أن يكون العامّ الّذي يكون متكفّلاً لبيان الحكم الواقعي متكفّلاً لبيان الحكم الظاهري أيضاً وهو حكم الفرد المشكوك عداوته، وقد مرّ عدم إمكان بيان الحكم الظاهري والواقعي معاً في خطاب واحد.

ثم إنّه قد ظهر لك: أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) إنّما فصّل بين المخصّص اللفظي واللبّي.

ولكنّ الشيخ(قدس سره) - كما يظهر من تقريرات بحثه - يفصل بين ما إذا علم تخصيص العامّ بما فرض له عنوان وبأنّ الوجه فيه عدم جواز التمسّك بعموم العامّ في الشبهات المصداقية، وبين ما إذا علم تخصيص العامّ بما لم يؤخذ عنواناً في موضوع الحكم، فالحقّ صحّة التعويل عليه عند الشكّ في فرد أنّه من أيّهما.

وقال: إنّ أغلب ما يكون من القسم الأوّل إنّما هو في التخصيصات اللفظية، والثاني أغلب ما يكون إنّما هو في التخصيصات اللبّية.((1))

ولا يخفى ما في هذا الكلام أيضاً؛ لأنّ مورد النزاع في الشبهة المصداقية لا يكون إلّا إذا كان التخصيص بعنوان من العناوين، وإلّا فلو لم يكن تخصيص العامّ بعنوان مأخوذ فى موضوع الحكم فليس من محل النزاع بشيء؛ لأنّه على ذلك يكون المخصَّص وما خرج من تحت العموم فرداً خاصّاً، فلو شكّ في خروج غيره عن تحت العامّ ينتفي خروجه بأصالة عدم تخصيص الأكثر.

وسيأتي إن شاء الله تعالى في تنبيهات المسألة ما يمكن أن يكون كلام الشيخ(قدس سره) راجعاً إليه.((2))

ص: 363


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص194.
2- یأتي في الصفحة 367 (التنبیه الثاني).

هذا، ولقائل أن يقول: إنّه يمكن أن يكون اتّكال المولى - إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب - على حكم العقل في الموضوعات الخارجية، ولا يكون اتّكاله على الحكم الكلي، مثلاً إذا قال: «أكرم جيراني» لا يتّكل على الحكم الكلّي الّذي يكون للعقل - وهو عدم وجوب إكرام کلّ من كان عدوّه من جيرانه - حتى يقال بأنّه إذا شكّ في فرد أنّه عدوّه أم لا، لا يصحّ التمسّك بالعامّ من جهة معلومية عدم تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدية في من كان عدوّه واقعاً وتطابقهما فيمن كان غير عدوّه واقعاً ولو كان إحراز هذا التطابق بالأصل.

وإنّما يتّكل في قوله: «أكرم جيراني» على حكم العقل في كلّ مورد يحرز بالوجدان مصداقيته للمخصّص من جهة ضمّ هذه الصغرى الوجدانية - وهي أنّ هذا عدوّ للمولى - إلى الكبرى الكلية - وهي كلّ من كان عدوه لا يجب إكرامه - فيحكم العقل بأنّ هذا لا يجب إكرامه، وكذلك في سائر الموارد.

واتّكاله على الأحكام الجزئية دون الحكم الكلّي الّذي للعقل إنّما يكون من جهة أنّه يرى لو اتّكل في مقام بيان الحكم على الحكم الكلّي لا يكون العامّ حجّة للمكلّف في موارد الشكّ، وبسبب هذا ربما يضيّع إكرام كثير من جيرانه مع أنّهم ليسوا بأعدائه، فلأجل أن يكرم المكلّف جميع من تعلّق إرادته الواقعية بإكرامه، حتى المشكوك كونه عدواً له، يلقي العامّ ويتّكل على هذه الأحكام الجزئية العقلية، فيكون الخارج عن تحت العامّ کلّ فرد كانت عداوته معه معلومة، فيكون العامّ حجّة في الفرد المشكوك ويجب إكرامه ظاهراً أيضاً، لكن لا بما أنّه مشكوك بل لأجل مصلحة عدم فوت إكرام الجار الّذي لا يكون عدواً له، فيكون في المقام حكم واقعي وهو: وجوب إكرام کلّ من كان من جيرانه وليس بأعدائه، وحكم ظاهري راجع إلى: وجوب إكرام الفرد الّذي شكّ في عداوته، وحكم واقعي عقلي وهو: عدم وجوب إكرام الجار الّذي تكون عداوته معلومة، وهذا الحكم هو الحكم الّذي اتّكل عليه المولى في مقام البيان.

ص: 364

فبناءً على هذا، لا مانع من التمسّك بالعامّ إذا شكّ في عداوة فرد. ولا يرد عليه الإشكال المتقدّم (وهو عدم إمكان بيان الحكم الواقعي والظاهري بخطاب واحد)، لأنّ هذا لا يمكن إن كان الشكّ في الواقع مأخوذاً في موضوع الحكم الظاهري، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل.((1))

تنبيهات

التنبيه الأوّل: في إخراج الأفراد بالتعليل المذكور

إذا قال المولى: «أكرم جيراني» وقال: «لا تكرم زيداً لأنّه عدوّي» والحال أنّ زيداً يكون جاره، وشكّ في أنّ عمرواً عدوّه أم لا؟ فهل يكون التمسّك بعموم «أكرم جيراني» كالتمسّك بعموم «أكرم العلماء» المخصّص بقوله «لا تكرم الفسّاق منهم» إذا شكّ في فسق فرد، من جهة استفادة التعميم من العلّة المذكورة (لأنّه عدوّي) للحكم بالنسبة إلى جميع الموارد، أو نقول بجواز التمسّك بالعموم من جهة أنّ المخصّص إنّما هو في مورد خاصّ وليس مقدار عموم علّته معلوماً؟ وجهان. لا يبعد أن يكون الأظهر هو الثاني من جهة عدم معلومية مقدار عمومية العلّة المذكورة.((2))

ص: 365


1- لا یخفی: أنّ هذا وإن کان علی طبق القاعدة ولا إشکال علیه في حدّ ذاته، إلّا أنّه لا یکون من الشبهة المصداقیة؛ لأنّه بعد فرض اتّکال المتکلّم علی الأحکام الجزئیة العقلیة لا مجال للشكّ في وجوب إکرام الفرد الّذي یشكّ في عداوته للمولی، لأنّه علی هذا یکون هذا الفرد واجب الإکرام قطعاً. إلّا أن یقال بأنّا نشكّ في أنّ اتّکال المولی هل یکون علی الحکم الکلّي أو الجزئي، فیدور الأمر بین الأقلّ والأکثر ویصیر کالشبهة المفهومیة، ولا مانع حینئذٍ من التمسّك بالعموم. [منه دام ظلّه العالي].
2- لا یخفی: أنّ مقتضی إطلاق العلّه المذکورة في دلیل المخصّص عمومیة العلّة. فکما لا یجب إکرام عمرو المعلوم عداوته للمولی من جهة هذه العلّة وکذا فرد آخر لأجل عدم وجود أصالة تطابق الإرادتین في مورد من کان من أعدائه، کذلك لا یصحّ التمسّك بعموم العامّ لإثبات وجوب إکرام الفرد المشکوك، فتأمّل. [منه دام ظلّه العالي].

التنبيه الثاني: في التمسّك بأحد العامّين المتزاحمين

إذا قال المولى: «أكرم کلّ عالم» وقال في خطاب آخر: «لا تكرم الفسّاق» لا ريب في أنّ مفاد کلّ من الدليلين ثبوت الحكم في ظرف وجود الموضوع، وهو العالم في المثال الأوّل، والفاسق في المثال الثاني. فإن تصادقا كلاهما في مورد واحد ووقع التزاحم بينهما، فلابدّ من ترجيح أحد المقتضيين، إمّا مقتضي الوجوب لو علمنا بأهمّيته في نظر المولى، أو الحرمة لو علم أهمّيتها.

وأمّا إذا شكّ فى صدق أحد العنوانين على فرد يصدق عليه العنوان الآخر، إمّا من جهة أصل الشكّ في وقوع التصادق بين العنوانين خارجاً، أو من جهة الشكّ في مورد خاصّ بعد فرض وجود التصادق في مورد آخر، فهل يكون هذا أيضاً من الشبهة المصداقية حتى لا يصحّ التمسّك بالعامّ من جهة إحراز عدم تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدّية في مورد التصادق بالنسبة إلى العامّ الّذي لا يكون مقتضى حكمه أهمّ من الآخر، أو يجوز التمسّك به؟ فإذا علم صدق عنوان العالم على هذا الشخص وشكّ في صدق الفاسق عليه، فهل لا يجوز التمسّك بعموم أكرم العلماء لإثبات وجوب إكرامه، أو لا مانع من التمسّك به لإحراز وجود المقتضي وعدم إحراز المزاحم؟ لا يبعد أيضاً أن يكون الأوجه هو الوجه الثاني. ألا ترى أنّ العقلاء يذمّون من خالف أمر المولى أو نهيه بعذر وجود هذه الشبهة .((1))

ص: 366


1- یمکن أن یقال: إنّ الأقرب هو الوجه الأوّل؛ لأنّه علی هذا یصیر العامّ الّذي یکون مقتضی حکمه مرجوحاً بالنسبة إلی الآخر معنوناً بحسب اللبّ ویکون معناه مثلاً وجوب إکرام کلّ عالم لا یکون مجمع العنوانین، أو حرمة إکرام کلّ فاسق یکون کذا لو قلنا بأهمیّة أحد المقتضیین. ولو قلنا بتکافؤهما یکون کذلك في کلّ منهما ویقال بعدم تطابق الإرادة الجدّیة مع الاستعمالیة في کلیهما بالنسبة إلی مورد التصادق، فعلی هذا لا یجوز التمسّك بالعامّ، ویکون کالشبهة المصداقیة المذکورة، فتأمّل. [منه دام ظلّه العالي].

ثم إنّه يمكن أن يكون مراد الشيخ(رحمه الله) عمّا إذا لم يكن للمخصّص عنوان((1)) هو هذا؛ لأنّه ليس للمخصّص عنوان. ويمكن أن يكون مراده ما ذكرناه في التنبيه الأوّل.((2))

التنبيه الثالث: في إحراز المصداقية بالأصل

لا يخفى: أنّ ما قلناه من عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقية سواء كان المخصّص لفظياً أو لبّياً، أو إذا كان المخصّص لفظياً دون ما كان لبّياً كما مرّ، إنّما يكون فيما لم يكن في المورد المشكوك أصل أو أمارة يرتفع بأحدهما الاشتباه، كما إذا قال: «أكرم العلماء» وقال: «لا تكرم الفسّاق منهم» وشكّ في فسق زيد العالم بعد العلم بعدالته سابقاً فباستصحاب العدالة يثبت له حكم العامّ، وذلك مثل ما إذا قامت البينة عليها. كما أنّ قيام البيّنة على فسقه أو جريان استصحاب فسقه موجب لإثبات حكم دليل المخصّص.

وهذا ليس تمسّكاً بالعامّ في الحقيقة بل يكون تمسّكاً بدليل حجّية الأصل أو الأمارة، ومقتضاه وجوب ترتّب آثار مؤدّاهما عليهما وهو في المقام حكم العامّ، وهذا لا إشكال فيه.

التمسّك بالعامّ باستصحاب العدم الأزلي

إنّما الإشكال فيما إذا لم تكن للمشتبه مع حفظ وجوده حالة سابقة حتى تستصحب، فقد ذهب بعض إلى إمكان إثبات حكم العامّ بتقريبين:

أحدهما: إجراء الأصل، وهو استصحاب العدم المحمولي بالنسبة إلى المخصّص.

بيان ذلك: أنّ العامّ إنّما يؤثّر ويوجب الحكم بعنوانه لا من جهة اُخرى، فإذا فرض

ص: 367


1- تقدّم تفصیله في الصفحة 363.
2- التأمّل في کلام الشیخ(قدس سره) یعطي عدم وجاهة هذا التوجیه، فتدبّر. [منه دام ظلّه العالي].

إخراج بعض أفراده عن تحته يكون شموله واقتضاؤه للحكم على حاله بالنسبة إلى الباقي، وشمول العامّ للباقي لا يكون لأجل تخصّصه بخصوصية أو تحيّثه بحيثيات، بل إنّما يشمله حكمه لمجرّد شمول العامّ له، فإذا استصحبنا عدم المخصّص الأزلي في مورد مشكوك فيه فلا مانع حينئذٍ من التمسّك بالعامّ. فعلى هذا، إذا كان لنا عامّ مثل: «المرأة ترى الدم إلى خمسين»((1)) وكان لنا خاصّ وهو: «أنّ القرشية ترى الدم إلى ستّين»،((2)) ثم شكّ في امرأة أنّها قرشية أم لا، فهي وإن كانت إذا وجدت وجدت إمّا قرشية أو غيرها، ولا أصل يحرز بسببه أنّها قرشية أو غيرها، فلا يصحّ استصحاب عدم كونها منتسبة إلى قريش بالعدم الرابط وما هو مفاد ليس الناقصة الّتي تقع في الجواب عن الهلّية المركّبة، إلّا أنّ استصحابه بالعدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامّة الّتي تقع في الجواب عن الهلّية البسيطة يجدي في إحراز أنّها ممّن لا تحيض بعد الخمسين؛ لأنّ المرأة الّتي لا تكون بينها وبين قريش انتساب تكون باقيةً تحت العامّ ويشملها العامّ بعنوانه، لا بما أنّها امرأة غير متصفة بالقرشية. فعلى هذا، نقول: إنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بين هذه المرأة والقريش يجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض بعد الخمسين.

لا يقال: إنّ هذا الأصل يكون مثبتاً؛ لأنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بالعدم الأزلي لا تثبت كون هذه المرأة غير قرشية إلّا على القول بالأصل المثبت.

لأنّه يقال: قد قلنا بأنّ شمول حكم العامّ لجميع أفراده ليس ملاكه إلّا عنوان العامّ، ولا يكون ملاكه الخصوصيات المختلفة الّتي تكون في الأفراد، ولكن خروج الخاصّ

ص: 368


1- بمضمونها روایات کثیرة، انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، ج2، ص335، أبواب الحیض، ب31.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، أبواب الحیض، ج2، ص335 – 337.

إنّما يكون بخصوصية خاصّة، فإذا اُحرز عدم وجود هذه الخصوصية فلا مانع حينئذٍ من التمسّك بالعامّ.

وثانيهما: جواز التمسّك بعموم العامّ بإجراء الاستصحاب في العدم النعتي وما هو مفاد «ليس» الناقصة والواقع في الجواب عن الهلّية المركّبة، فنقول: إنّ هذه المرأة لم تكن قرشية سابقاً ولو قبل وجودها، فيستصحب عدم كونها قرشية.((1))

فإن قلت: إنّ الحكم بعدم كونها قرشية بالعدم الرابط في الزمان السابق إنّما يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع، والحكم بعدمها قرشية في حال وجودها يكون من السالبة بانتفاء المحمول، فيختلف موضوع القضیّة المشكوكة مع المتيقّنة؛ لأنّ الموضوع في القضیّة المتيقّنة يكون عدم وجود الصفة القرشية للمرأة المعدومة، وفي القضیّة المشكوكة يكون عدم وجود هذه الصفة للمرأة الموجودة.

قلت: لا ضير في ذلك؛ لأنّ المنطقيّين إنّما قسّموا القضیّة إلى الموجبة والسالبة إلّا أنّ القضیّة السلبية أعمّ من كون السلب فيها بالموضوع أو المحمول ليست قضيتين، فالمتيقّن هو عدم قرشيتها قبل وجودها والمشكوك فيه قرشيتها بعد وجودها فيستصحب عدم قرشيتها بعد وجودها وإن كان عدم قرشيتها قبل وجودها يكون من السالبة بانتفاء الموضوع وبعد وجودها من السالبة بانتقاء المحمول، إلّا أنّ ذلك لا يضرّ بصحّة الاستصحاب عند العرف، هذا.

وبعد ذلك كلّه لا يخفى عليك: أنّ المعتبر في الاستصحاب وجود القضية المتيقّنة، ونفي القرشية عن المرأة والحكم بعدم كونها قرشية إذا لم تكن موجودة يتوقّف عند العرف على وجودها حتى يجوز الإشارة إليها بهذه، لا يشار إلى المرأة المعدومة ب-

ص: 369


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص194.

«هذه»، ولا يرى العرف هنا وحدة بين القضیّة المتيقّنة والمشكوكة.

وبالجملة: أدلّة الاستصحاب منصرفة عن ذلك عند العرف، ولا يكون عندهم ترك المرأة - الّتي ترى الدم بعد الخمسين - أعمال المستحاضة من نقض اليقين بالشكّ، والعرف لا يعتبر هذه المرأة قبل وجودها منتسبة إلى قريش ولا يوصفها نفياً أو إثباتاً بها.

ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّ عبارة المحقّق الخراساني(رحمه الله) في المقام، وهي قوله: «إيقاظ: لا يخفى أنّ الباقي تحت العامّ بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل لمّا كان غير معنون بعنوان خاصّ بل بکلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد إلّا ما شذّ ممكناً، فبذلك يحكم عليه بحكم العامّ... إلخ»،((1)) ربما كانت موهمة خلاف المقصود؛ لأنّ ظاهر هذا الكلام أنّ العامّ بعد التخصيص غير باقٍ لموضوعيته للحكم بل إنّما يكون موضوعاً للحكم مع کلّ عنوان يكون غير عنوان الخاصّ على نحو يكون کلّ واحد من العناوين المختلفة جزءًا لموضوع حكم العام، وهذا ممّا لا يقول به أحد.

بل مراده(رحمه الله) أنّ عنوان العامّ باقٍ على موضوعيته في غير المخصّص، فنحن لا نحتاج في مقام إثبات حكم العامّ إلّا إلى إحراز كون المشكوك تحت العامّ وهو محرز بالوجدان، وإلى إحراز عدم وجود عنوان المخصِّص وهو محرز بالأصل، فلا يصير عنوان العامّ مقيّداً بقيد حتى نحتاج لنفيه إلى استصحاب العدم النعتي والسلب الرابط المفقود في المقام، ويكون استصحاب العدم الأزلي بالنسبة إلى عنوان المخصِّص لإثبات موضوع حكم العامّ مثبتاً. بل موضوعية العامّ للحكم باقيةٌ على حالها وإنّما أخرج دليل المخصِّص عنوان الخاصّ، فبعد إثبات انتفائه ولو باستصحاب العدم المحمولي لا مانع من الرجوع إلى العامّ، هذا.

ص: 370


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص345 – 346.

وقد استشكل عليه بعض أعاظم المعاصرين((1)) بقوله: «إنّ جريان هذا الأصل إنّما يتمّ بناءً على توهّم إجراء حكم التقييد على التخصيص، وأنّ المخصِّص يقلّب العامّ عن تمام الموضوعية إلى جزئه، وإلّا فبناءً على المختار، من أنّ باب التخصيص غير مرتبط بباب التقييد، وإنّما يكون شأن المخصِّص إخراج الفرد الخاصّ مع بقاء العامّ على تمامية موضوعه بالإضافة إلى البقية بلا انقلاب في العامّ، نظير صورة موت الفرد، فلا يبقى مجال لجريان الأصل المذكور؛ إذ الأصل السلبي ليس شأنه إلّا نفي حكم الخاصّ عنه لا إثبات حكم العامّ ، لأنّ هذا الفرد حينئذٍ مورد العلم الإجمالي بكونه محكوماً بحكم الخاصّ أو محكوماً - بلا تغيير عنوان - بحكم العامّ، ونفي أحد الحكمين بالأصل لا يثبت الآخر، كما هو ظاهر.

نعم، في مثل الشكّ في مخالفة الشرط أو الصلح للكتاب أمكن دعوى أنّه من الشبهة المصداقية الناشئة عن الجهل بالمخالفة الّذي كان أمر رفعه بيد المولى، وفي مثله لا بأس بالتمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية من دون احتياج في مثله إلى الأصل. ولعلّ بناء المشهور أيضاً في تمسّكهم بالعامّ في الشبهة المصداقية مختصّ بأمثال المورد. وعليك بالتتبّع في كلماتهم ربما ترى ما ذكرنا حقيقاً بالقبول وهو الغاية المأمول». انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه: أنّ العامّ بعد تخصيصه لا يعقل أن يكون تامّاً في الموضوعية، فلابدّ وأن يكون العامّ بعد التخصيص مقيّداً بقيد وجوديّ إذا كان عنوان المخصِّص عدميّاً، وبقيد عدميّ إذا كان عنوان المخصِّص أمراً وجودياً. وتقييده بهذا القيد يكون في الأوّل على نحو الوجود الرابط والنعتي، وفي الثاني بنحو السلب الرابط والعدم النعتي. فلا يفيد لإثبات حكم العامّ استصحاب العدم الأزلي، كما زعمه المحقّق الخراساني(قدس سره)؛ لأنّ أصالة عدم انتساب هذه المرأة إلى قريش على نحو العدم المحمولي لا يثبت عدم كون هذه المرأة بقرشية على نحو العدم النعتي، والحال أنّ

ص: 371


1- المرتضوي اللنگرودي، جواهر الاُصول، ج4، ص397 – 398.

العامّ إنّما يكون موضوع حكمه مقيّداً بعدم كونها منتسبة إلى قريش على نحو العدم النعتي.

لا يقال: إنّ معنى هذا دخول باب التخصيص في باب التقييد.

لأنّه يقال: إنّ هذا لا يوجب إجراء حكم التقييد على التخصيص؛ لأنّ الكلام الملقى من المولى عامّ بالنسبة إلى جميع أفراده، بمعنى أنّه لاحظ جميع أفراد العامّ وموضوعية کلّ منها للحكم، ثم أخرج بالدليل المخصِّص بعض الأفراد، فالباقي إنّما يكون تحت العامّ من جهة كونه تمام موضوع الحكم بحسب الإرادة الاستعمالية، ولا يصير إخراج فرد سبباً لتعنون العامّ وتقيّده بقيد كنقيض المخصِّص في المثال المذكور حتى يكون الموضوع عنوان العامّ وذلك القيد. نعم، إخراج الخاصّ موجب لتقيّد موضوع الحكم واقعاً وبحسب الإرادة الجدّية، وهذا إنّما يكون على خلاف باب التقييد؛ فإنّ فيه يكون تمام الموضوع بعد التقييد مقيّداً بقيد عدميّ أو وجوديّ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

فلابدّ لنا من القول بتقييد الموضوع في المقام؛ لأنّ ذلك لازم باب التعارض، بخلاف باب التزاحم، كما إذا قال: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق»، فإنّ فيه في مقام الثبوت أيضاً لا نقول بالتقييد، لأنّ التزاحم إنّما يكون في صورة فعلية المقتضيين، وإنّما نقول بالأخذ بالأهمّ إذا كان في البين، أو التخيير من جهة كون المرجع فيه العقل، وهذا لا يوجب تقييداً في عالم الثبوت أصلاً، كما لا يخفى.

التنبيه الرابع: التمسّك بعمومات العناوين الثانوية((1))

لا يخفى أنّه لا مجال للتمسّك بالعمومات فيما إذا شكّ في فرد لا من جهة

ص: 372


1- انظر البحث في الکفایة (الخراساني، ج1، ص346) (وهم وإزاحة). وأسند القول به إلی بعض. فانظر الدروس (الشهید الأوّل، ج2، ص151) عند قوله: «ولا یجزي الخمس (أي الرکعات) فصاعداً بتسلیمه إلّا أن یقیّده في نذره علی تردّد». ونسب القول إلی العلّامة أیضاً، کما في الحاشیة علی کفایة الاُصول للسيّد البروجردي(رحمه الله)، ص516.

التخصيص بل من جهة اُخرى، كما إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فلا مجال لاستكشاف الصحّة بعموم مثل: «أوفوا بالنذور»((1)) فيما إذا وقع متعلّقاً للنذر، بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم، وكلّ ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً، للقطع بأنّه لولا صحّته لما وجب الوفاء به.

ولا يخفى عليك: أنّ الشبهة في المقام ليس من جهة احتمال التخصيص لعدم ورود تخصيص على عموم «أوفوا بالنذر» وليس قوله: «لا نذر إلّا في طاعة الله تعالى».((2)) تخصيصاً له، بل إنّما هو تقييد لموضوع الحكم بلسان الحكومة لا إخراج النذر الّذي ليس في طاعة الله. فعلى هذا، يكون الشكّ في صحّة الوضوء بالمائع المضاف في هذا المثال من قبيل الشبهة المصداقية للعامّ، ولم يقل أحد بجواز التمسّك بعموم العامّ - في الشبهة المصداقية لنفس العامّ - وإن ذهب بعضهم إلى جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية المعروفة - ووجهه: استحالة كون الحكم مثبتاً لموضوعه ومكفّلاً لبيانه، وهذا واضح.

وأمّا تأييد هذا بما ورد من صحّة الإحرام قبل الميقات((3)) وصحّة الصوم في السفر.((4))

ففيه: أنّه لا إشكال في ذلك - ولو قلنا بعدم جواز التمسّك بالعموم فيما نحن فيه -

ص: 373


1- إشارة إلی قوله تعالی: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم ﴾. الحجّ، 29.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب النذر والعهد، أبواب النذر والعهد، ج23، ص317 - 321، ب17.
3- راجع: الطوسي، تهذیب الأحکام، ج5، ص 53 - 54، باب المواقیت، ب6، ح 8 - 10؛ الطوسي، الاستبصار، ج2، ص163، ب93، باب من أحرم قبل المیقات، ح8 - 10؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب المواقیت، ج11، ص326 - 327، ب13.
4- الطوسي، تهذیب الأحکام، ج4، ص235، ب57 حکم المسافر والمریض في الصیام، ح688/63 و 689/64؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب من یصحّ منه الصوم، ص195 - 196، 198 - 199، ب10، ح1و7.

بحسب مقام الإثبات، لأنّه قد دلّت الروايات الواردة عن أهل البيت(علیهم السلام) على صحّتهما وجوازهما، مع عدم صحّتهما لولا تعلّق النذر بهما، خلافاً للعامّة حيث إنّهم قائلون بالجواز مطلقاً.

وأمّا بحسب مقام الثبوت فيظهر من الكفاية التفصّي عن الإشكال بوجوه:((1))

أحدها: القول بوجود الرجحان الذاتي فيهما المستكشف بدليل خاصّ، وإنّما لم یؤمر بهما لوجود مانع يرتفع بسبب تعلّق النذر بهما.

ثانيها: أن يكون النذر ملازماً لعروض عنوان راجح عليهما بعدما لم يكونا كذلك.

ثالثها: تخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلّق النذر بهذا الدليل، وعليه نقول بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر.

لا يقال: نعم، لا مانع من التخصيص، إلّا أنّه لا يتمكّن من إتيانهما بقصد التقرّب؛ لأنّ وجوب الوفاء بالنذر إنّما يكون توصّلياً ولا يعتبر فيه قصد القربة.

لأنّه يقال: لا مانع من صحّة الإتيان بقصد التقرّب بعد تعلّق النذر بإتيانهما عبادياً ومتقرّباً بهما منه تعالى.

هذا، والّذي ينبغي أن يقال في المقام: - بعد الغضّ عن عدم ارتباط ما ورد في صحّة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات إذا تعلّق النذر بهما بما نحن فيه، لأنّ القائل بجواز التمسّك بعموم النذر لإثبات صحّة الوضوء بالمائع المضاف إنّما تمسّك به لإثبات صحّة الوضوء في مورد لا يكون متعلّقا للنذر أو يكون مطلقاً تعلّق به النذر أم لا، وهذا بخلاف الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات فإنّ صحّتهما إنّما تكون فيما إذا تعلّق النذر بهما - أنّ ما أفاد(قدس سره) في تصحيح النذر المتعلّق بالصوم والإحرام بحسب مقام الثبوت غير وجيه.

ص: 374


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص349 – 350.

أمّا الوجه الأوّل: (وهو القول بوجود الرجحان الذاتي) فهو منافٍ للروايات الواردة فيهما مثل أنّ الإحرام قبل الميقات يكون كالصلاة قبل الوقت((1)) وغيره ممّا یدلّ على عدم وجود رجحان ذاتي فيهما أصلاً.

وأمّا الوجه الثاني، ففيه: أنّ كون النذر ملازماً لعروض عنوان راجح عليهما ممّا يعلم خلافه، فما معنى هذا العنوان الراجح الّذي ليس له أثر في الأخبار ولا يجيء في الأذهان؟

وأمّا الوجه الثالث، ففيه: أنّه بناءً على ما ذهب إليه في مبحث التعبّدي والتوصّلي من عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر،((2)) يرد عليه أنّ قدرة المكلّف على إتيان الصوم بقصد التقرّب موقوف على كونه متعلّقاً لأمر «أوفوا بالنذور» وكونه متعلّقاً لهذا الأمر موقوف على قدرة المكلّف على إتيان الصوم بقصد التقرّب (وقد اُشير إلى هذا الإشكال الوارد عليه بتقريب آخر في مبحث المقدّمة عند البحث في تصحيح الواجبات الغيرية وعدم استقلالها). وأمّا بناءً على ما ذهبنا إليه من إمكان أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر وعدم وقوع محال منه،((3)) فلا إشكال.

فالأظهر أن يقال في مقام الجواب عن هذا الإشكال: إنّ الدليل الدالّ على تقييد موضوع حكم وجوب الوفاء بالنذر بكونه طاعة لله تعالى مخصّص بدليل وجوب الوفاء بالنذر المتعلّق بالصوم في السفر والإحرام قبل الميقات. ولا يرد علينا ما أوردناه على المحقّق المذكور، كما لا يخفى.

ص: 375


1- ما وجدنا روایات بهذا المضمون، ولکن ورد ما یفیده ویقرب منه في الکافي (الکلیني، ج4، ص321 – 322، باب من أحرم دون الوقت، ح2و6). انظر أیضاً: الحرّ العاملي، وسائل الشیعة ، کتاب الحجّ، أبواب المواقیت، ج11، ص323 – 324، ب11، ح3و6.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص107 (ثانیتها).
3- تقدّم في الصفحة، 124.

التنبيه الخامس: دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص

إذا قال المولى: «أكرم کلّ عالم» وعلم عدم وجوب إكرام زيد مثلاً وشكّ في أنّه عالم حتى يكون العامّ مخصّصاً بدليل عدم وجوب إكرامه، أو جاهل حتى لا يكون دليل عدم وجوب إكرامه مخصّصاً لعموم العامّ؟ وهذا بخلاف الشكّ الواقع في التخصيص في سائر الموارد، مثل ما إذا قال: «أكرم العلماء» وعلم بأنّ زيداً عالم وشكّ في شمول العامّ عليه من جهة كونه من أفراد المخصِّص. وأمّا في ما نحن فيه، عدم محكومية هذا الفرد بحكم العامّ ومحكوميته بحكم آخر معلوم، وإنّما الشكّ وقع في كونه فرداً للعامّ حتى يكون خروجه عن حكمه ومحكوميته بحكم آخر تخصيصاً، أو لا يكون فرداً له حتى يكون خروجه تخصّصاً؟

وهذا معنى الكلام المعروف بينهم: إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص فأيّهما أولى؟

مثال ذلك: نعلم بعدم جواز سبّ المؤمن ودلّ الدليل على حرمة سبّه، ودلّ دليل آخر على جواز لعن بني اُميّة قاطبة، فهل يكون خروج المشكوك إيمانه منهم من تحت عموم حرمة سبّ المؤمن من جهة عدم إيمانه حتى يكون خروجه خروجاً موضوعياً وعلى نحو التخصّص، أو مع أنّه مؤمن وفرد للعامّ خرج عن عمومه بالتخصيص؟

ذهب بعضهم إلى جواز التمسّك بأصالة العموم والقول بعدم كونه فرداً للعامّ لأنّ الشكّ فيه يرجع إلى الشكّ في ورود التخصيص على العامّ، ومقتضى الأصل عدمه، فيحكم بعدم كونه مصداقاً للعامّ. ونتيجته إجراء کلّ حكم كان ثابتاً لهذا الفرد بکلّ عنوان كان غير عنوان العامّ.

وذهب بعضهم إلى عدم جواز التمسّك بأصالة العموم في إحراز كونه معنوناً بغير عنوان العامّ، لاحتمال اختصاص حجّیتها بما إذا شكّ في كون فرد العامّ محكوماً

ص: 376

بحكمه، لا في كون المعلوم خروجه عن حكم العامّ من أفراده. ولأنّ المثبتات من الاُصول اللفظية إنّما تكون حجّة إذا كان بناء العقلاء وسيرتهم عليها. ولم يعلم بناؤهم على ذلك.((1))

هذا، ولكنّ التحقيق في المقام موقوف على ذكر مقدّمة قد مرّت الإشارة إليها، وهي: أنّ باب الحقيقة والمجاز ليس افتراقهما من جهة أنّ استعمال اللفظ إذا كان في المعنى الحقيقي يكون حقيقةً، وإذا كان في غير ما وضع له يكون مجازاً. بل إنّما يكون من جهة أنّ المتکلّم تارة: يلقي اللفظ ويستعمله في المعنى الموضوع له ليحضر ذلك المعنى في ذهن المخاطب ويحكم عليه بما يريد، وهذا الاستعمال يكون استعمالاً حقيقياً؛ ومرادهم من أصالة الحقيقة كون استعمال اللفظ على هذا النحو. وتارة: يستعمل اللفظ في الموضوع له ولكن لا من جهة أن يحضر المعنى الموضوع له في ذهن المخاطب ويحكم عليه، بل من جهة أنّه أراد أن يكون هذا المعنى عبرة وطريقاً لالتفات المخاطب إلى معنى آخر غير المعنى الموضوع له، فيستعمل اللفظ في ما وضع له اللفظ لكن يريد منه معنىً مناسباً له ادّعاءً، وهذا الاستعمال يكون استعمالاً مجازياً. ولولا ذلك واستعمال اللفظ في المعنى الموضوع له وجعله عبرة ومرآة لمعنى آخر لما كان هذا الاستعمال مليحاً ولمّا يساعده الذوق السليم. هذا إذا كان معنى اللفظ جزئياً لا يشتمل على الكثير.

وأمّا إذا كان الّفظ معنىً واحداً مشتملاً على الكثير مثل: «كل عالم» و«العلماء»، فتارة: يستعمل ذلك اللفظ - الموضوع لهذا المعنى الوحدانيّ المشتمل على الكثير - ليحضر جميع الأفراد المنطوية في هذا المعنى في ذهن المخاطب ويحكم على جميع هذه الأفراد.

ص: 377


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص352.

وتارة اُخرى: يستعمله في معناه لكن يجعله عبرة لمعنى آخر كما مرّ. وثالثة: يريد المتکلّم إحضار بعض هذه الأفراد المنطوية في هذا المعنى الواحد بالإجمال، من جهة أنّ حكمه لا يشمل جميع هذه الأفراد بل إنّما يريد أن يشمل ذلك البعض دون غيره، لكن حيث لا يكون لهذه الأفراد - الّتي يريد إحضارها في ذهن المخاطب - لفظ خاصّ، ولا يمكنه التعبير عن کلّ واحد منها بلفظ خاصّ لأنّه يوجب التطويل، فيستعمل ذلك اللفظ فيما وضع له - وهو المعنى المذكور - حتى يحضر جميع الأفراد المنطوية في ذهن المخاطب ويحكم عليه، ويخرج ما يريد إخراجه وعدم شمول حكمه له بأدوات الإخراج.

فإذا شكّ في هذا اللفظ المستعمل الموضوع للمعنى الواحد المشتمل على الكثير، هل المتکلّم استعمله في المعنى الموضوع له ليحضره في ذهن المخاطب ويحكم عليه، أو لكونه عبرة وسبباً لانتقاله إلى معنى آخر؟ يكون المرجع أصالة الحقيقة.

وإن وقع الشكّ في أنّه أراد إحضار جميع الأفراد المنطوية في هذا المعنى الواحد في ذهن المخاطب ليحكم على جميعها، أو ليحكم على بعضها ويخرج بعضها الآخر بأداة الإخراج؟ وبعبارة اُخرى: بعد العلم بكون جميع الأفراد مراداً للمتكلّم بحسب الإرادة الاستعمالية لو شكّ في كون جميع الأفراد مراداً له بحسب الإرادة الجدّية بمعنى أنّه استعمل اللفظ في هذا المعنى الواحد بالإجمال ليحضر جميع الأفراد المنطوية في هذا المعنى الواحد ويحكم على جميعها، أو على بعض تلك الأفراد؟ يكون المرجع أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدّية. ويعبّر عن جميع ذلك بأصالة العموم، فهي تكون مركّبة من أصالة الحقيقة وأصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدّية.

إذا عرفت هذه المقدّمة، فاعلم: أنّ القائل بجواز التمسّك بأصالة العموم في المقام لو أراد التمسّك بها لإثبات أنّ زيداً عالم، ففساده غير محتاج إلى بيان؛ لأنّ التمسّك بها لا يثبت كونه عالماً.

ص: 378

وإن أراد إثبات دخوله في المراد الاستعمالي دون مراده الجدّي، فهذا أيضاً معلوم الفساد؛ لأنّه لا يعلم كونه مراداً للمتكلّم بحسب إرادته الاستعمالية.

وأمّا لو أراد بالتمسّك بأصالة العموم إثبات أنّه غير عالم فلا يثبت بها؛ لأنّ قول القائل: «أكرم کلّ عالم» لا یدلّ على أزيد من وجوب إكرام كل فرد من العلماء، وأمّا أنّ من لا يجب إكرامه يكون جاهلاً وليس من العلماء فلا يثبت به، ولا يستدلّ العقلاء لإثبات كونه غير عالم بأصالة العموم، كما لا يستدلّون بها لنفي كونه عالماً.

ثم لا يخفى: أنّه لا مجال لتوهّم كون النزاع في المقام من صغريات النزاع في التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية أو نظيرها، كما توهّم بعض أعاظم المعاصرين.

التنبيه السادس: دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص للتردّد بين فردين

إذا قال: «أكرم العلماء» ثم قال في دليل منفصل: «لا يجب إكرام زيد»، ودار الأمر بين أن يكون المراد منه هو زيد العالم حتى يكون تخصيصاً لعموم «أكرم العلماء»، أو زيد الجاهل حتى يكون خروجه عنه بالتخصّص.

والظاهر جواز التمسّك بأصالة العموم لإثبات وجوب إكرام زيد العالم؛ لأنّ عموم «أكرم العلماء» يشمله وليس في البين دليل تامّ یدلّ على تخصيص هذا العموم بغير زيد العالم، وهذا واضح.

وإنّما الإشكال فيما إذا استعقب عمومه بحكم إلزاميّ كقوله: «لا تكرم زيداً» أو «اضربه»، ودار الأمر بين أن يكون زيداً العالم أو زيداً الجاهل.

فربّما يقال: بعدم جواز التمسّك بأصالة العموم في مثل ذلك الّذي نعلم بتوجه تكليف نحو المكلّف خلاف التكليف الّذي يكون العامّ متكفّلاً له من جهة وجود الحجّة الإجمالية، وهو قوله: «لا تكرم زيداً» أو «أهنه» فيدور الأمر بين حرمة إكرام زيد العالم أو زيد الجاهل، ومقتضى ذلك هو الاحتياط.

ص: 379

لا يقال: هذا إذا لم يكن عموم العامّ موجباً لتعيّن الحرمة في طرف زيد الجاهل.

لأنّه يقال: إنّ دليل العموم بمنزلة الكبرى الكلّية وغير متكفّلة لحال الأفراد، وليس حاله حال البيّنة القائمة على أنّ زيداً العالم واجب الإكرام الموجبة لتعيّن الحرمة في الطرف الآخر، فإنّها متكفّلة لبيان حال الفرد، دون دليل العامّ الّذي ليس له نظر إلى خصوص حال الفرد، فلا يكون موجباً لتعيّن الحرمة في الطرف الآخر، فيسقط العموم عن الحجّية بالإضافة إلى زيد العالم قهراً. وهذا البيان موافق لما في تقريرات بحث بعض الأعاظم من المعاصرين((1)) مع أدنى تفاوت في العبارة. وإنّما لم نعبّر ما في كلامه بأنّ عموم العامّ لا يكون موجباً لانحلال العلم الإجمالي بل هو باقٍ على حاله.

ثم إنّه أفاد جواباً عن هذا الإشكال: بأنّ دليل العامّ وإن لم يكن متكفّلاً لحكم خصوص فرد ابتداءً إلّا أنّه يثبت له الحكم بعد انضمام الصغرى الوجدانية - وهي «أنّ زيداً عالم» - إلى الكبرى الكلّية المستفادة من دليل العامّ لا محالة. فإذا ثبت له الحكم الوجوبي بمقتضى العموم ترتفع عنه الحرمة بالملازمة، فتتعيّن الحرمة في الطرف الآخر بالملازمة والمثبت من الاُصول اللفظية لكونها ناظرة إلى الواقع يكون متّبعاً.((2))

ثم لا يخفى عليك: أنّ المعاصر المذكور لم يتعّرض للمبحث المذكور في التنبيه السابق، ولعلّ كان نظره إلى حجّية المثبتات من الاُصول اللفظية فلا فائدة حينئذٍ للتعرّض له، لأنّه يعد هذا الملاك يجوز التمسّك بعموم العامّ لإثبات عدم كون ما شكّ في فرديّته فرداً له بعد العلم بكونه محكوماً بحكم غير العامّ.

وفيه: ما لا يخفى من الفرق بين المبحثين؛ لأنّ في المبحث السابق إنّما قلنا بعدم جواز التمسّك بعموم العامّ لإثبات عدم كون ما شكّ في كونه مصداقاً للعامّ مصداقاً له من

ص: 380


1- یقصد به المحقّق النائیني(قدس سره) في أجود التقریرات (ج1، ص457 – 458).
2- النائیني، أجود التقریرات، ج1، ص457 – 458.

جهة عدم استقرار بناء العقلاء على التمسّك بأصالة العموم في هذه الموارد لا من جهة عدم حجّية مثبتات الاُصول اللفظية، كما لا يخفى.

تذنيب: لا يخفى عليك: أنّ بعض الأعاظم من المعاصرين الّذي أشرنا إلى كلامه في هذا التنبيه، حيث رأى أنّ القائل بجواز التمسّك بعموم العامّ في الشبهات المصداقية ربما يتمسّك لإثبات مراده بما عن المشهور بل عن جميع الفقهاء - رضوان الله عليهم((1)) - من إثبات الضمان فيما إذا دار الأمر بين كون اليد ضمانية أو أمانية، وكون من بيده المال مدّعياً وصاحب المال منكراً؛ لأنّه لولا جواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية تكون هذه الفتوى منهم على خلاف القواعد، إذ القواعد تقتضي أن يكون صاحب المال مدّعياً لأنّه يدّعي ثبوت شيء في ذمّة ذي اليد، وأن يكون من بيده المال منكراً، ولكنّهم تمسّكاً بعموم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»((2)) أفتوا بذلك مع وقوع الشكّ في كون هذه اليد يد أمانية الّتي اُخرجت بالتخصيص عن عموم على اليد، أم لا.فصار في مقام تصحيح فتوى المشهور ولو لم نقل بجواز التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية.((3))

ولكنّ الّذي ينبغي أن يقال في المقام: إنّ فتوى المشهور بل جميع الفقهاء - لأنّي لم أقف على أحد أفتى على خلاف ذلك - في هذه المسألة، إنّما تكون مستنداً إلى الروايات الواردة في المقام، من جملتها ما رواه في الوسائل في كتاب الوديعة عن الكليني(قدس سره) بإسناده عن إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا الحسن(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عن رجل استودع رجلاً ألف درهم فضاعت، فقال الرجل: كانت عندي وديعة، وقال الآخر:

ص: 381


1- راجع: العاملي، مفتاح الکرامة، ج5، ص209؛ النجفي، جواهر الکلام، ج25، ص262.
2- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج1، ص224، ح106؛ أحمد بن حنبل، مسند، ج5، ص8؛ أبو داود السجستاني، سنن، ج2، ص318، ح3561.
3- النائیني، فوائد الاُصول، ج2، ص529.

إنّما كانت لي عليك قرضاً، فقال:«المال لازم له إلّا أن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة».((1)) وغيرها من الروايات.((2))

اللّهمّ اجعل خاتمة أمرنا خيراً، وصلّ على نبيّك وآله الطاهرين.

ص: 382


1- الکلیني، الکافي، ج5، ص239، ح8؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الودیعة، ج19، ص85، ب7، ح 1؛ ونحوه الفقیه (الصدوق، ج 3، ص 305)؛ والتهذیب (ج 7، ص 179، ح 788/1، باب الودیعة).
2- الکلیني، الکافي، ج5، ص238، ح3 – 4، باب ضمان العاریة والودیعة؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، أبواب الرهن، ج18، ص400 – 404، ب16 و17 و 18.

الفصل السابع: في التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص

اشارة

هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص؟((1)) بأن يكون العامّ حجّة للمكلّف في مقام الاحتجاج على المولى، كما إذا دلّ دليل العامّ على عدم تكليف في مورد فأخذه المكلّف وبنى عليه من غير فحص عن مخصّصه مع وجوده واقعاً، أم لا يكون حجّة كذلك إلّا بعد الفحص عن المخصِّص؟

وليعلم أوّلاً: أنّ أوّل من تکلّم بهذه المسألة - بعد عدم كونها مورداً للبحث عند السابقين عليه من العلماء - هو أبو العباس بن سُرَيج الشافعي((2)) واختار عدم حجّية العامّ قبل الفحص عن المخصِّص.((3))

وخالفه في ذلك تلميذه أبو بكر الصَيْرَفي وذهب إلى حجّیته قبل الفحص.((4))

ص: 383


1- راجع: القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص272؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص197.
2- هو: أحمد بن عمر بن سریج البغدادي، أبو العباس. فقیه الشافعیة في عصره. مولده ببغداد سنة 249ق، و بها توفّي عامّ 306 ق. کان یلقّب بالباز الأشهب. ولي القضاء بشیراز وقام بنصرة المذهب الشافعي فنشره في أکثر الآفاق. کان حاضر الجواب. له مناظرات ومساجلات مع محمد بن داود الظاهري. له تصانیف کثیرة، منه: «الأقسام والخصال» و«الودائع لمنصوص الشرائع». انظر: الزرکلي، الأعلام، ج1، ص185.
3- البصري، المعتمد في اُصول الفقه، ج1، ص331؛ الفخر الرازي، المحصول، ج3، ص21؛ السبکي، رفع الحاجب، ج3، ص444 - 447؛ شرح الأسنوي ذیل شرح البدخشي، ج2، ص126 – 127.
4- البصري، المعتمد في اُصول الفقه، ج1، ص331؛ الفخر الرازي، المحصول، ج3، ص21؛ السبکي، رفع الحاجب، ج3، ص444 – 447؛ شرح الأسنوي ذیل شرح البدخشي، ج2، ص126 – 127.

ووافقه في ذلك البيضاوي، والعلاّمة في أحد قوليه، والمدقّق الشيرواني، وغيرهم.

وذهب السبكي من العامّة إلى التفصيل، وقال بعدم حجّیته قبل الفحص في حياة الرسول(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وحجّيته بعده(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).((1))

وذهب الشيخ(قدس سره)،((2)) والسيّد(قدس سره)((3)) - على ما يظهر منهما في مسألة جواز إسماع العامّ المخصَّص مع عدم ذكر مخصّصه -، وصاحب المعالم،((4)) والزبدة،((5)) وجلّ المتأخّرين إلى المنع،((6)) وإليه ذهب من العامة أبو العباس المذكور، وتبعه الغَزالي،((7)) والآمدي،((8)) والحاجبي مدّعياً للإجماع،((9)) والأنباري مدّعياً لإجماع الاُصوليين، ومن الإمامية العلّامة مدّعياً للإجماع في موضع من التهذيب،((10)) وكذا السيّد عميد الدين - رحمة الله عليهما - في شرح التهذيب.((11))

وكيف كان فلابدّ لنا قبل الورود في المطلب من بيان أنّ هذا النزاع هل يكون

ص: 384


1- السبکي، الإبهاج، ج2، ص141.
2- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج2، ص465.
3- الشریف المرتضی، الذریعة إلی اُصول الشریعة، ج1، ص390 – 391.
4- العاملي، معالم الدین، ص119 – 121.
5- البهائي، زبدة الاُصول، ص97.
6- کما في مطارح الأنظار (الأصفهاني، ص197).
7- الغزالي، المستصفی، ج2، ص176.
8- الآمدي، الاحکام، ج3، ص47.
9- قال ابن الحاجب: «یمتنع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصًص إجماعاً». راجع: السبکي، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، ج3، ص444.
10- انظر البحث في تهذیب الوصول (العلّامة الحلّي، ص138). واستظهر صاحب المعالم (العاملي، ص118) من کلامه هنا جواز الاستدلال بالعامّ قبل الفحص. ولکنّه لیس بصحیح، إذ لا یستفاد منه ذلك والشاهد علیه ادعاؤه الإجماع في موضع آخر من التهذیب (ص67) - کما في المتن - علی لزوم الفحص، فلا تغفل.
11- راجع: الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص197.

منحصرا في حجّية أصالة العموم، أو يعمّها وسائر الاُصول اللفظية كأصالة الحقيقة وأصالة الإطلاق، أو يكون أعمّ من الاُصول اللفظية ويشمل کلّ دليل شرعي، فيقع النزاع في کلّ دليل ولو كان خاصّاً في أنّه حجّة قبل الفحص عمّا يعارضه مع احتمال وجود معارض أقوى منه له أو لا؟ وجوه: أظهرها الأخير؛ لأنّه لو قلنا بعدم حجّية أصالة العموم قبل الفحص فلا فرق بينها وبين سائر الاُصول اللفظية والأدلّة الشرعية، كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ الشيخ(قدس سره) قد أفاد في وجه عدم جواز التمسّك بعموم العامّ قبل الفحص عن المخصِّص، كما في تقريرات بحثه، بقوله: «إنّ العلم الإجمالي بورود معارضات كثيرة بين الأمارات الشرعية الّتي بأيدينا اليوم حاصل لمن لاحظ الكتب الفقهية واستشعر اختلاف الأخبار، والمنكر إنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان بذلك، ولا يمكن إجراء الاُصول في أطراف العلم الإجمالي - كما قرّرناه في محلّه - فتسقط العمومات عن الحجّية للعلم بتخصيصها إجمالاً عند عدم الفحص. وأمّا بعد الفحص فيستكشف الواقع ويعلم أطراف الشبهة تفصيلاً بواسطة الفحص...»، إلى أن قال:

«فإن قلت: إنّ هذا العلم الإجمالي إنّما هو من شعب العلم الإجمالي بمطلق التكاليف الشرعية الّتي تمنع عن الرجوع إلى الاُصول في مواردها، واحتمال ثبوت التكليف في موارد العامّ وأفراده إنّما هو بواسطة ذلك العلم الإجمالي باقٍ وحكم ذلك العلم الإجمالي باقٍ بعد الفحص ما لم يقطع بعدم المخصِّص، وقيام الظنّ مقامه يوجب التعويل على الظنّ المطلق كما عرفت فيما تقدّم.

قلت: إنّ العلم الإجمالي بثبوت مطلق التكاليف الّذي أوجب الفحص عن مطلق الدليل يكفي في رفع حكمه الأخذ بظاهر العموم المعمول فيه الاُصول، وما هو

ص: 385

المدّعى في المقام يغاير ذلك العلم الإجمالي ولا مدخل لأحدهما بالآخر وجوداً وعدماً، كما لا يخفى على المتأمّل».((1)) انتهى كلامه رفع الله مقامه.

أمّا المحقّق الخراساني(قدس سره) بعد ما أفاد من أنّ حجّية أصالة العموم واعتبارها في الجملة إنّما يكون من باب الظنّ الخاصّ لا الظنّ المطلق؛ لأنّه لو قلنا بحجّيته من باب الظنّ المطلق فليست هي حجّة حقيقة بل الحجة إنّما يكون ظنّ المكلّف بالتكليف. ومن أنّ حجّیتها إنّما تكون من باب الظنّ النوعي لا الشخصي.

أفاد بأنّه مع العلم بتخصيص العموم تفصيلاً أو إجمالاً لا مجال للنزاع في حجّیته وعدمها؛ لأنّ النزاع في جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص إنّما يجري بعد الفراغ عن عدم حجّية العموم فيما إذا علم تخصيصه إجمالاً أو تفصيلاً.

وقال: إنّ التحقيق عدم جواز التمسّك به قبل الفحص فيما إذا كان في معرض التخصيص، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنّة، وذلك لأجل أنّه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله فلا أقلّ من الشكّ، كيف وقد ادّعى الإجماع على عدم جوازه فضلاً عن نفي الخلاف عنه وهو كافٍ في عدم الجواز، كما لا يخفى، إلخ.((2))

ويمكن الإشكال عليه: بأنّه إن أراد من كون العامّ في معرض التخصيص وقوع احتمال التخصيص بالنسبة إليه، فلا إشكال في استقرار سيرة العقلاء على العمل بالعامّ في مورد احتمال التخصيص.

وإن أراد كون العامّ في مظنّة ذلك، فهذا ممّا لم يقل به أحد.

وإن أراد كونه بحيث يكون قابلاً لورود التخصيص عليه، فما من عام إلّا وهو يكون كذلك.

ص: 386


1- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص200.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص352 – 353.

ومع ذلك، يمكن أن يوجّه ما أفاده بأنّه وإن كان بناء العقلاء استقرّ على جواز العمل بالعامّ قبل الفحص - بالمعنى الّذي ذكرنا في صدر المبحث - في المحاورات العرفية وبالنسبة إلى الموالي والعبيد، ولكن إذا لم يكن المولى من الموالي العرفية ووضع لعبده تكاليف ووظائف، ويريد منه العمل على وفق هذه الوظائف كما هو شأن الشارع المقدّس، ولم يرضی بترك عبده العمل على طبق هذه التكاليف، فلابدّ لهذا العبد الفحص عن هذه الوظائف، فلا يجوز له إذا اطّلع على عامّ في كلام المولى العمل به من غير فحص عن المخصِّص مع احتمال أن يكون هذا العامّ مخصّصاً في كلامه الآخر.

وبالجملة: إذا علم العبد بأنّ للمولى تكاليف كثيرة متوجّهة إليه لا عذر له لو ترك الفحص عن هذه التكاليف والتفحّص عن الدليل والحجّة. هذا، مضافاً إلى أنّ العبد لو علم بأنّ المولى أمره بالفحص عن أحكامه كما هو المراد من قوله:

«طلب العلم فريضة على کلّ مسلم»،((1)) وظاهر آية النفر،((2)) وسائر الآيات والروايات الواردة في مقام الترغيب والتحريض على الفحص،((3)) فكما أنّ هذه الروايات تمنع عن العمل بالاصول العملية تمنع أيضاً عن العمل بالاُصول اللفظية.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد من العلم في الروايات الّتي أمر الشارع فيها بطلب العلم ليس هو العلم الوجداني والملكة النفسانية، وإنّما المراد هو الدليل والحجّة، كما في قوله تعالى: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾،((4)) وغيرها من الآيات كالآية الّتي تدعو الكفّار بإخراج علمهم، فإنّه إن كان المراد من العلم هو الملكة النفسانية لا يمكن إخراجها.

ص: 387


1- الکلیني، الکافي، ج1، ص30، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ علیه، ح1.
2- قال الله تعالی: ﴿ فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين...﴾. التوبة، 122.
3- نحو قوله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حکایة عمّا یقال للعبد یوم القیامة: «أفلا تعلّمت». الطوسي، الأمالي، ص9 – 10. و انظر أیضاً: الکلیني، الکافي، ج3، ص68، ح4-5.
4- الأحقاف، 4.

ولا فرق فيما ذكر من وجوب الفحص عن المخصصات الواردة على العمومات وعن المعارض لما يحتمل أن يكون له معارض أقوى، كما قدّمناه في صدر البحث.

ولا يخفى عليك: أنّ وجوب الفحص ليس وجوباً نفسياً بل يكون وجوبه غيرياً وتطفّلياً، بمعنى أنّه لا يعاقب تارك الفحص إلّا بعقاب تارك الواقع إذا كان في موردٍ ترك الفحص فيه حكم وخالفه.

وأيضاً لا يخفى عليك: أنّه لا يرد على هذا البيان ما اُورد على وجوب الفحص من جهة العلم الإجمالى من الإشكال.((1)) تارة: بأنّ ما يوجب عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص (وهو العلم الإجمالي) لا يرفع بالفحص فبسبب الفحص لا يصحّ القول بجواز العمل بالعامّ وحجّيته ولا يوجب الفحص تغييراً في حاله.

واُخرى: بأنّه إذا كان الملاك في وجوب الفحص العلم الإجمالي بوجود المخصِّصات فلو تفحّص الفقيه حتى ظفر بالمقدار المتيقّن ينحلّ علمه الإجمالي - لا محالة - وفيما زاد على هذا المقدار يصير شكّه بدويّاً، فلا يجب الفحص عن جميع العمومات. مع أنّا نرى أنّ الفقهاء يتفحّصون عن المخصِّص في جميع الموارد، كما لا يخفى.

ولا فرق فيما ذكر بين الاُصول اللفظية والعملية.

فما أفاد في الكفاية،((2)) وما يظهر من بعض الأعاظم من المعاصرين:((3)) من الفرق بأنّ الفحص في المقام عمّا يزاحم الحجّة بخلافه في الاُصول العملية؛ فإنّه بدون الفحص لا حجّة، ضرورة أنّ العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة.

ص: 388


1- راجع: العراقي، مقالات الاُصول، ج1، ص455؛ العراقي، نهایة الأفکار، ج2، ص530؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج2، ص542.
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص354.
3- والمراد من بعض الأعاظم هو النائیني(قدس سره) في فوائد الاُصول (ج2، ص539).

ليس في محلّه؛ لأنّه إن اُريد بذلك أنّ المكلّف لو ترك الفحص في الاُصول اللفظية عمّا يعارضها ولم يكن في الواقع حكم يكون العامّ حجّة كما إذا تفحص المكلّف ولم يجد شيئاً، فبابه وباب الفحص في الاُصول العملية واحد بلا فرق بينهما؛ لأنّ فى كليهما يكون العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان. وإن اُريد أنّ ترك الفحص في مجاري الاُصول العملية مع عدم حكم للشارع واقعاً أو عدم بيان يجده المكلّف عند الفحص يكون تجرّياً على المولى، فلا فرق فيه بين مجاري الاُصول العملية واللفظية؛ لأنّ في مجاري الاُصول اللفظية أيضاً لو ترك الفحص يكون متجرّياً.

مقدار الفحص

ثم إنّه لا ريب في أنّ مقدار الفحص يختلف بحسب اختلاف المباني،((1)) فمن يرى وجوب الفحص من جهة العلم الإجمالي((2)) فمقدار الفحص - بحسب مبناه - إنّما يكون بمقدار يظفر به على المقدار المتيقّن من المخصِّصات.

ومن يرى وجوبه من جهة الظنّ بوجود تلك المخصِّصات((3)) فيجب عليه الفحص بمقدار يرتفع به ظنّه.

وأمّا من كان موافقاً للمحقّق الخراساني(قدس سره)، فحيث لم يعلم مراده من كون العامّ في معرض التخصيص ولم يفهم منه معنىً معقولاً صحيحاً، فلا يمكن تعيين مقداره بحسب مبناه. اللّهم إلّا أن يقال بكون مراده ما ذكرناه وإن كان كلامه ليس وافياً له، فيكون مقدار الفحص في کلّ عامّ يحتمل تخصيصه في كلام الشارع بمقدار لا يصل إلى

ص: 389


1- انظر المباني في فوائد الاُصول (النائیني، ج2، ص547).
2- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص200.
3- الفاضل التوني، الوافیة في اُصول الفقه، ص129 – 130.

حدّ العسر والحرج، لا أن يهمل أمر الفحص بالمرّة، أو إذا رأى عامّاً أو دليلاً آخر حكم بمجرّده وعمل به وأفتى على طبقه من غير فحص عن مخصّصه أو معارضه.

فمسألة الفحص في باب الاجتهاد من التكاليف المهمّة لمن كان في مقام الاجتهاد والفتوى، فهو محتاج بعد تحصيل العلم - بالصرف والنحو بمقدار يعرف به ما يراد من الألفاظ المفردة والمركّبة وأنحاء هيئاتها، وباللغة، والفقه، ومعاقد الإجماعات، وفتاوى العلماء، وغيرها - إلى كثير اطّلاع من القرآن المجيد وتفاسير الآيات الكريمة زائداً على آيات الأحكام؛ لأنّ للاطّلاع على الكتاب والتفاسير وأقوال علماء التفسير دخلاً عظيماً في استنباط الأحكام، وإلى علم الدراية والرجال لا بمعنى الاكتفاء بتصحيح الغير بل بصرف جهده في معرفة الرجال بل لا يبعد أن يقال بلزوم احتياج المجتهد إلى الاطّلاع على فتاوي العامّة وما هو المشهور بينهم بحسب الأزمنة المختلفة والاطّلاع على كتب أخبارهم.

وبالجملة: فأمر الاجتهاد صعب جدّاً؛ ولنعم ما قال الشيخ(قدس سره) في الفرائد. «أعاننا على الاجتهاد الّذي هو أشقّ من طول الجهاد».((1)) والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

ص: 390


1- الأنصاري، فرائد الاُصول، ج1، ص241.

الفصل الثامن: شمول الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين

اشارة

هل الخطابات الشفاهية مثل: «يا أيّها الناسُ» و «يا أيّها الذين آمنوا» مخصوص بالمشافهين ومن كان حاضراً في مجلس التخاطب، أو يعمّ غيره ممّن كان غائباً عن مجلس الخطاب بل معدوماً؟ فيه خلاف.

والظاهر أنّ مرادهم بهذه الخطابات الخطابات القرآنية. وهذا الاختلاف حدث بين القدماء من الاُصوليّين وبقي إلى الآن ذكره في كتب الاُصول.

وقد أفاد المحقّق الخراساني(قدس سره) في تحرير محلّ النزاع وجوهاً ثلاثة.((1))

والظاهر عدم كونها وجوهاً لتحرير محلّ النزاع وما يرجع إليه روح البحث في المقام، بل إنّما هي وجوه لما يمكن أن يكون ملاك هذا النزاع.

أحدها: أن يكون ملاك النزاع إمكان تعلّق التكليف بالمعدومين كما يصحّ تعلّقه بالموجودين وعدمه.

ثانيها: صحّة المخاطبة مع الغائبين عن مجلس الخطاب - سواء كانوا موجودين أم معدومين - وعدمها.

ثالثها: أنّ بعد معلومية إفادة مدخول أدوات الخطاب العموم والشمول

ص: 391


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص354 – 355.

للحاضرين في مجلس الخطاب والغائبين مطلقاً قبل دخول الأدوات، فهل يكون بعد دخول أداة الخطاب عليه مع كونها موضوعة للخطاب إلى الحاضرين باقٍ على حاله من إفادة العموم أم لا؟ وهل تكون الأدوات قرينة على عدم استعمال المدخول في المعنى الحقيقي؟ وبالجملة: يدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور المدخول في العموم، ورفع اليد عن ظهور أدوات الخطاب في اختصاصها بالمشافهة؛ فيكون ملاك النزاع على هذا الوجه (الثالث) لغوياً.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ ملاك النزاع ليس هو الوجه الأوّل ظاهراً؛ لأنّهم قد صرّحوا بأنّه لو قلنا باختصاص الخطاب بالمشافه يجب إثبات الحكم على غيره من المكلّفين بقاعدة الاشتراك، وهذا ينادي بأنّهم يجوّزون توجيه التكليف نحو الغائبين عن مجلس الخطاب.((1))

كما أنّ الظاهر أنّه ليس الملاك الوجه الثالث.

وعلى کلّ حال، فنحن نتكلم في الوجوه الثلاثة المذكورة ونقول:

أمّا الوجه الأوّل: وهو أن يكون ملاك النزاع إمكان توجيه الخطاب المتكفّل للتكليف بما أنّه تكليف لغير من كان حاضراً في مجلس الخطاب، فلا ريب في أنّه إن اُريد بإمكانه إمكان تكليف المعدوم وبعثه وزجره فعلاً، فلا يكون له معنىً معقولاً، ولا يظنّ بأحد أن يكون مراده هذا. وإن اُريد منه مجرد إنشاء الطلب وإلقاء اللفظ حتى ينتزع منه التكليف والطلب وبعث المعدوم في ظرف وجوده، فهذا معنى معقول لا مانع منه عقلاً، فلو أراد المولى صدور الفعل عن عباده المترتّبين في سلسلة الوجود فلا مانع من أن ينشأ الطلب حتى ينتزع منه التكليف على کلّ من يوجد في ظرف وجوده.

ص: 392


1- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص240؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص185؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج2، ص549.

هذا، ولكن المحقّق الخراساني(قدس سره) أفاد في هذا الوجه: بأنّ المراد - من تعلّق الطلب بما هو أعمّ من الحاضرين وغيرهم من المعدومين - إن كان تعلّق الطلب فعلاً وحقيقةً، فهو ممتنع.

وإن كان المراد منه إنشاء الطلب وتعلّقه به مقيّداً بوجود المكلّف، فهو بمكان من الإمكان.

وإن كان المراد تعلّق الطلب بما هو أعمّ على نحو الإطلاق - بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعث وزجر - وفائدة هذا الإنشاء صيرورته فعلياً بعد وجود الشرائط وفقد الموانع، فلا مانع منه أيضاً.((1))

وأنت خبير بأنّ الوجه الأخير راجع إلى الوجه الثاني، لأنّ الطلب الإنشائي أيضاً لا يتعلّق بالمعدومين فعلاً. ولو قلنا بأنّ الطلب موضوع للطلب الإنشائي الإيقاعي، كما هو مختار المحقّق المذكور، فلا فائدة في الطلب الإنشائي من غير أن يكون متعلّقاً بالمكلّف في ظرف وجوده. وانتزاع الطلب وصيرورته قابلاً لتحريك العبد بعد وجوده إنّما يكون من جهة تعلّق الطلب بالمكلّف في ظرف وجوده وإنشائه لانبعاثه كذلك، لا من جهة مجرّد إنشاء الطلب.

فالتحقيق أن يقال: إنّ الطلب المتوجه إلى المعدوم في حال كونه معدوماً محال، وإلى المعدوم بحسب حال وجوده لا مانع منه؛ وهذا أمر لم ينكره أحد من العلماء.

لا يقال: إنّ الطالبية والمطلوبية لابدّ وأن تكونا متكافئتين في القوّة والفعل كما هو شأن المتضائفين، وعليه فلابدّ من وجود طرفي التكليف حتى يتحقّق.((2))

فإنّه يقال: فرق بين الإضافة المقولية وبين الأعراض والصفات ذوات الإضافة كالعلم والقدرة وما شابههما؛ فإنّ فيها لا يلزم أن يكون كلّ واحد من طرفي الإضافة

ص: 393


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص355 – 356.
2- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص229.

موجوداً بالفعل بل يكفي وجود أحدهما؛ ألا ترى أنّ العالم موجود لكن المعلوم ليس بموجود، والقادر موجود والمقدور ليس بموجود، فليكن الطلب والطالب أيضاً من هذا القبيل، فلا مانع من وجود الطلب والطالب مع عدم وجود المطلوب والمطلوب منه فعلاً.

وأمّا الوجه الثاني، وهو: إمكان مخاطبة المعدومين وتوجيه الخطاب نحوهم، فنقول: لا يخفى عليك: أنّ الخطاب عبارة عن توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، والظاهر أنّه لا يجب أن يكون مشتملاً على أدوات الخطاب، بل توجيه الكلام نحو الغير يكون خطاباً سواء كان مشتملاً على أدوات الخطاب أم لا. نعم، لا مضايقة من القول بكون الخطاب فيما كان الكلام مشتملاً على أدوات الخطاب آكد، وهكذا إذا كان مشتملاً على أدوات التنبيه وأسماء الإشارة بل والضمائر. كما أنّ الظاهر أنّ الخطاب لا يجب أن يكون كلاماً بل يحصل بغيره مثل الكتابة.

ولا يجب أن يكون المخاطب موجوداً حين صدور الخطاب من المتكلّم، كما هو حال بعض العبائر المذكورة في الكتب ك «أيّها القرّاء» وغيره.

وأمّا إذا كان الخطاب حاصلاً بالكلام فهو وإن كان يمكن أن يقال بوجوب كون المخاطب موجوداً في مجلس الخطاب، لأنّ الكلام يكون غير قارٍّ بالذات عند القدماء. ولكن في مثل زماننا حيث ظهر خلاف هذا الرأي وثبت بقاء الكلام في عالم العين وقراره، فلا يضرّ بالخطاب الحاصل بالكلام أيضاً عدم وجود المخاطب (بالفتح) عند توجيه الكلام.

وأمّا الكلام في الوجه الثالث: فأفاد المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ ما وضع للخطاب، مثل أدوات النداء، لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي فاستعماله في الخطاب الحقيقي يوجب تخصيص ما يقع تلو هذه الأدوات بالحاضرين في مجلس الخطاب، كما أنّ مقتضى إرادة العموم من مدخولها استعمال تلك الأدوات في العموم.

ص: 394

ثم أفاد بعد ذلك بأنّ أدوات الخطاب ليست موضوعة للخطاب الحقيقي بل تكون موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي، فالمتکلّم تارة: يوقع بها الخطاب تحسّراً وتأسّفاً ونحوهما، وتارة: يوقع بها الخطاب حقيقة، فلا يصير استعمال تلك الأدوات في الخطاب الحقيقي سبباً لتخصيصها بمن يصحّ مخاطبته. نعم، دعوى الظهور انصرافاً في الخطاب الحقيقي ليس ببعيد. وهذا إذا لم تكن قرينة على خلافه كما هو الشأن في الخطابات القرآنية مثل: «يا أيّها الذين آمنوا» وغيره، ضرورة عدم اختصاص الحكم فيها بمن كان حاضراً في مجلس الخطاب، كما لا يخفى... إلى آخر ما أفاده(قدس سره).((1))

والّذي ينبغي أن يقال في المقام: إنّ الخطاب الّذي هو عبارة عن توجيه الكلام نحو الغير للإفهام ليس من الاُمور الاعتبارية الإنشائية، فإنّ الأمر الاعتباري تارة: لا يكون ممّا بحذائه شيء في الخارج كالملكية والزوجية وإنّما يوجده من بيده الاعتبار، وتارة: لا يكون بحذائه شيء في الخارج ولكن لا يكون وجوده بإنشاء شخص واعتبار معتبر كالفوقية والتحتية، وثالثة: يكون بحذائه شيء في الخارج وينتزع منه هذا الأمر كالمخاطبة الّتي تنتزع من نفس توجيه الكلام نحو الغير، فالخطاب والمخاطبة لا يكون من الاُمور الإنشائية بل إنّما ينتزع من نفس توجيه الكلام نحو الغير.

وأيضاً نقول: لا شكّ في أنّ الألفاظ المفردة إنّما وضعت لمعانيها المخصوصة، كما أنّ وضع الهيئات يكون بإزاء الانتسابات الّتي تكون بين بعض هذه المعاني مع الآخر سواء كان تلك الانتسابات تامة أو ناقصة. فالمتکلّم إذا تکلّم بکلام واستعمل الألفاظ في معانيها الموضوعة لها إمّا يكون إفهام الغير علّة غائية لفعله هذا وهو تکلّمه وتلفّظه بتلك الألفاظ كما إذا أخبر بمجيء زيد أو قيام عمرو إذا كان كلامه

ص: 395


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص356 – 359.

إنشاءً من غير فرق في ذلك بين الخطابات وغيرها. وإمّا تكون غاية فعله وتكلّمه إظهار الاشتياق أو التحسّر أو شيئاً آخر من هذا القبيل، من غير أن تكون علّته وغايته إفهام الغير. ففي كلّ من الموردين يستعمل اللفظ في معناه ولكن غرضه من ذلك يكون إفهام الغير أو غيره، وليس هذا مجازاً لفظياً؛ لأنّه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي وجعله عبرة وطريقاً لمعنى آخر، وإنّما يعدّ هذا من المجازات العقلائية، ولذا لو شكّ المستمع في أنّ الغاية الّتي أرادها المتكلّم من تکلّمه هل هي الإفهام أو غيره؟ يحمل على أنّه أراد الإفهام.

فظهر من ذلك عدم صحّة ما أفاده في الكفاية من كون ما وضع له أدوات الخطاب يكون معنى أعمّ يعبّر عنه بالخطاب الإنشائي الإيقاعي، بل اللفظ يستعمل في معناه الحقيقي وأدوات الخطاب أيضاً تكون موضوعة للخطاب الحقيقي وتستعمل فيه، ولكن المتکلّم تارة يتكلّم بها ويستعملها في معانيها لإفهام الغير، واُخرى لجهة اُخرى، هذا.

إذا عرفت ذلك، فنقول في مقام بيان أصل المطلب: إنّ المراد بإمكان توجيه الخطاب نحو المعدومين وعدمه إن كان إمكانه في حال كونهم معدومين، فلا يمكن قطعاً، وليس قابلاً لأن يكون محلّ النزاع، ولا أظنّ بأحد أن يكون مراده هذا.

وإن كان المراد إمكان مخاطبة المعدومين في ظرف وجودهم لانبعاثهم في هذا الوقت، فلو كان ما يخاطب به شيئاً غير قارٍّ بالذات كالكلام - بحسب رأي القدماء - لا يصحّ به مخاطبة المعدومين، وإن لم يكن كذلك بل كان ما يخاطب به ممّا يبقى منه أثر ويكون قابلاً لتحريك المعدومين في ظرف وجودهم كالخطابات القرآنية بل الخطابات المذكورة في الكتب والرسائل، فلا مانع من مخاطبة المعدومين به في ظرف وجودهم. ومثله ما إذا علم المتکلّم بأنّ كلماته تحفظ وتضبط وتنقل إلى الناس جيلاً بعد جيل. ولا يخفى: أنّ الخطابات القرآنية من هذا القبيل؛ لأنّها اُنزلت لأن تكون سبباً لانبعاث جميع الناس إلى طاعة الله تعالى شأنه.

ص: 396

وحاصل ما ذكرنا: أنّ الخطاب والمخاطبة لا تكون من الاُمور الإنشائية الإيقاعية، كما زعمه صاحب الكفاية، بل إنّما تكون من الاُمور الانتزاعية الّتي تنتزع من نفس إلقاء المتکلّم الكلام نحو الغير للإفهام، فلا تكون أدوات الخطاب موضوعة للخطابات الإيقاعية الإنشائية، بل هي للخطابات الواقعية الحقيقية. فما يظهر من كلامه - من أنّ خطاب المعدومين لا يمكن تصحيحه إلّا إذا قلنا بكون أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي - فاسد جدّاً.

كما أنّ توهّم كون محلّ النزاع جواز مخاطبة المعدومين في حال عدمهم وتوجيه الكلام نحوهم وعدم جوازها، كما يظهر أيضاً من كلامه، بعيد من الصواب؛ لأنّه لا نزاع في ذلك ولا يقول أحد بجواز خطاب المعدومين في حال عدمهم حتى ينحصر طريق تصحيحه على القول بأنّ أدوات الخطاب موضوعة للخطابات الإنشائية.

بل محلّ النزاع إنّما يكون في إمكان توجيه الكلام لإفهام المعدومين - في ظرف وجودهم - ومخاطبتهم، وعدم إمكانه كذلك. وإمكان هذا بعد ما ذكرنا واضح لا سترة فيه إذا كان ما به يتحقّق الخطاب قابلاً لأن يبقى ولو بوجوده الكتبي.

ويدلّ على ما ذكرنا من توجّه الخطابات القرآنية إلى الجميع قوله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ الله ُ شَهيدٌ بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِاُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾.((1))

لا يقال: إنّ ظاهر هذه الآيةیدلّ على خلاف ما استدلّ به، من جهة عطف «وَمَن بَلَغ» على ضمير الخطاب الواقع في كلمة «لاُنذِرَكُم» فلو كان الخطاب شاملاً للمعدومين أيضاً لكان قوله «وَمَن بَلَغ» زائداً.

لأنّه يقال: إنّ المخاطب بهذه الآية هو النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) كما یدلّ عليه قوله: «قُلْ»، وفي مثله

ص: 397


1- الأنعام، 19.

لا مجال لدعوى شمول الخطاب للمعدومين كما هو كذلك في سائر المخاطبات الّتي يكون المخاطب فيها رسول الله صلوات الله عليه وآله.

ولا يخفى أنّا لو لم نقل بأنّ المخاطب بالخطابات القرآنية مثل: «يا أيّها الذين آمنوا» و«يا أيّها الناس» يكون جميع المكلّفين وقلنا باختصاصه بالحاضرين في مجلس الخطاب، يلزم منه القول بعدم توجيهها إلى الحاضرين في مجلس النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والسامعين منه أيضاً؛ لأنّ الخطاب إنّما يكون ملقى على النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وهو المخاطب به، فلا يكون حال الحاضرين في مجلسه إلّا حالنا؛ لأنّ النبيّ(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يحكي القرآن ويقرأه ولا تكون قراءته كلام الله تعالى إلّا كقراءة غيره. هذا خلاصة الكلام في المقام.

ثمرة النزاع

ثم اعلم: أنّهم قد ذكروا لعموم الخطابات الشفاهية ثمرتين.((1))

إحداهما: أنّ الخطابات القرآنية إذا كانت شاملة للموجودين والمعدومين في ظرف وجودهم يصحّ التمسّك بظواهر الألفاظ حتى بناءً على مسلك المحقّق القمي القائل بحجّية ظواهر الألفاط لمن قصد إفهامه؛((2)) إلّا أنّ المحقّق حجّية ظواهر الألفاظ بالنسبة إلى کلّ من سمعها ووصلت إليه.

ثانيتهما: جواز التمسّك بعمومات الكتاب بناءً على التعميم ولو لم يكن المعدومون متّحدين في الصنف والعنوان مع الموجودين، وعدم صحّة التمسّك بعمومات الكتاب بناءً على عدم التعميم ولزوم الاستناد إلى اشتراك المعدومين مع الموجودين في

ص: 398


1- راجع: القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص233؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص184؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص205؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص359؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج1، ص548 – 549.
2- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص233.

التكليف، وحيث إنّ دليل الاشتراك لا يكون إلّا الإجماع ولا إجماع عليه إلّا مع اتّحاد الصنف، فلابدّ في إثبات التكليف من اتّحاد الصنف، كما لا يخفى.((1))

وفيه: أنّ الخطابات المتوجّهة إلى المكلّفين قد اُخذ في موضوعاتها عناوين خاصّة، فإذا كان الموجودون في زماننا مثلاً معنونين بتلك العناوين تكون الأحكام المتعلّقة بالمعنونين بالعناوين المذكورة في الخطابات ثابتة لهم أيضاً ولو لم نقل بالتعميم لاشتراكنا معهم في التكليف وحجّية ظواهر الألفاظ لنا أيضاً.

لا يقال: ظواهر الألفاظ حجّة لنا إذا لم يكن المخاطبون بالخطاب واجدين لشرط وخصوصية يحتمل دخلها في التكليف؛ لأنّه على هذا التقدير لا يحتاج المتکلّم إلى البيان، ولا يوجب عدم بيان كونه شرطاً نقضاً لغرضه، فلا يصحّ التمسّك بأصالة الإطلاق لإثبات عدم دخل تلك الخصوصية، كما لا يخفى.((2))

لأنّه يقال: لا يوجد في الخارج أمر يشترك فيه جميع المشافهين إلى آخر عمرهم ممّا لا يوجد عندنا، فعلى هذا لو احتملنا شرطية شيء يوجد في بعضهم دون الآخر وفي بعض حالاتهم دون حالة اُخرى، فلا مانع من دفع هذا الاحتمال بأصالة الإطلاق.

هذا تمام الكلام في الخطابات الشفاهية. والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين. اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا ولأساتذتنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان بحقّ محمد وآله الطاهرين.

ص: 399


1- انظر: الفرید الگلپایگاني، ملاحظات الفرید علی فوائد الوحید، ص55.
2- النائیني، فوائد الاُصول، ج2، ص549.

ص: 400

الفصل التاسع: تعقب العامّ بضمير راجع إلى بعض أفراده

لا يخفى عليك: أنّ من المباحث المذكورة في الاُصول البحث في تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده هل يوجب ذلك تخصيص العامّ أم لا؟

ومنشأ البحث قوله تعالى: ﴿وَالْ-مُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَ-هُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤمِنَّ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحاً وَلَ-هُنَّ مِثْلُ الَّذي عَلَيْهِنَّ بِالْ-مَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَالله ُ عَزِيزٌ حَكيمٌ﴾((1)) من جهة اختصاص حكم جواز الرجوع بالمطلقة رجعيّاً دون غيرها، فيدور الأمر بين أن يكون المراد من المطلقات العموم، وكان الضمير المذكور في «بعولتهنّ» راجعاً إلى بعض المطلقات؛ أو كان المراد من «المطلقات» الرجعيات خاصّة، حتى يكون الضمير راجعاً إليها؛ أو يقال بعدم جواز التمسّك بالعموم في المقام من جهة إجماله لوجود ما يصلح للقرينية؟

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) أفاد في المقام: بأنّ الأمر دائر بين أن يتصرّف في العامّ ويقال بإرادة خصوص ما اُريد من الضمير وارتكاب خلاف الظاهر في جانب العامّ؛ وبين إبقاء العامّ على حاله وارتكاب خلاف الظاهر في ناحية

ص: 401


1- البقرة، 228.

الضمير بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه؛ أو إرجاعه إلى تمام ما هو المراد من مرجعه توسّعاً في الإسناد بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة وإلى الكل توسّعاً، نحو «قتلوا بنو فلانٍ فلاناً» فإنّ القتل لا يصدر إلّا من أحدهم، ولكن اُسند إلى الجميع لفرضهم وجوداً واحداً.

وهذا الوجه موجب لارتكاب خلاف الظاهر في ناحية هيئة «بُعُولَتُهُنَّ»؛ لأنّها تدلّ على أنّ بعل کلّ منهنّ أحقّ بردهنّ، وحيث إنّ بناء العقلاء على حجّية أصالة الظهور ليس إلّا فيما إذا كان الشكّ في المراد، وأمّا إذا كان الشكّ في كيفيّة الإرادة والاستعمال مع معلومية المراد فلم يعلم بناءً منهم على حجّیتها، فلا يصحّ التمسّك بها لإثبات استعمال الضمير في تمام أفراد المرجع، حتى يقع التعارض بينها وأصالة الظهور الّتي تكون في طرف العامّ، فيبقى أصالة الظهور في طرف العامّ سليمة عن المعارض.

ثم أفاد بأنّ هذا - يعني التمسّك بأصالة العموم - إنّما يصحّ إذا انعقد للعامّ ظهور في العموم بأن لا يكتنف الكلام بما يوجب إجماله كاكتناف الكلام بالضمير فيما نحن فيه، وإلّا فيحكم عليه بالإجمال، فلابدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه الاُصول العملية.((1))

وفيه أوّلاً: أنّ احتمال رجوع الضمير إلى بعض أفراد المطلقات مع إرادة العموم منه ممّا لا ينبغي الالتفات إليه. وكذلك الاحتمال الثالث، أعني رجوع الضمير إلى تمام ما اُريد من لفظ المطلقات على نحو المجاز في الإسناد لا المجاز في الكلمة.

أمّا الاحتمال الثاني، وهو: أن يكون الضمير مستعملاً مجازاً في بعض ما اُريد من المرجع، فنقول: قد ذكرنا في أوّل الكتاب عند البحث عن المبهمات بأنّ كلّها موضوعة للإشارة لا لمفهوم الإشارة((2)) وما وضع له هذا اللفظ بل لما يشير به وتوجد به الإشارة،

ص: 402


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص362 – 363.
2- کما توهّمه جماعة علی ما نقل في حاشیة السیّد الشریف علی المطوّل (ص70).

سواء في ذلك أسماء الإشارة والموصولات والضمائر، وذلك إنّما يكون من جهة أنّ ذكر ما يشار إليه وما يرجع إليه الضمير يوجب تطويل الكلام فوضعوا هذه الألفاظ للإشارة إليه إذا كان فيما يشار إليه جهة تعيّن تصحّ الإشارة إليه من هذه الجهة، فوضعوا لفظ هذا وهذه وغيرهما للإشارة إلى من كان تعيّنه حضوره، وضمير الخطاب ك«أنت» و«أنتم» لأن يشير به إلى من كان جهة تعيّنه طرفيّته للكلام والخطاب؛ وكذلك «أنا» للمتكلّم لأنّ جهة تعيّنه وأوضح ما به يمكن الإشارة إليه هو كونه متكلّماً؛ ووضعوا ضمير الغائب ك «هو» و«هي» و«هنّ» للإشارة إلى ما تكون جهة تعيّنه كونه مذكوراً في السابق.

فعلى هذا، إذا استعمل الضمير لابدّ وأن يكون مرجعه مذكوراً في الكلام ولا يمكن استعماله وإرادة ما لم يكن مذكوراً في الكلام منه، ففيما نحن فيه لا يصحّ احتمال أن يكون الضمير راجعاً إلى بعض العامّ مع إرادة العموم منه.

وأمّا الاحتمال الثالث، ففيه: أنّ إسناد الشيء المسند إلى البعض حقيقة إلى الكلّ توسّعاً، بأن يفرض المجموع وجوداً واحداً على أن يكون المجاز في الإسناد، صحيح إذا كان الكلّ ملحوظاً شيئاً واحداً كما ذكر وبنحو العامّ المجموعي، وأمّا إذا لم يكن كذلك واُريد الكلّ بنحو العامّ الاستغراقي، كما هو الحال في «بُعُولَتُهُنَّ» لأنّ کلّ واحد من البعولة يكون موضوعاً للحكم فلا معنى لإسناد حكم جواز الرجوع في كلّ واحد من المطلّقات إلى الجميع، وليس هذا من قبيل قولهم: «بنو فلانٍ قتلوا فلاناً» إذا قتله رجل منهم.

وثانياً: ما أفاده من أنّ الكلام إذا كان مكتنفاً بما يوجب إجماله فلا مجال للتمسّك بأصالة العموم ولابدّ من الرجوع إلى الأصل العملي.

ليس في محلّه؛ لأنّ الكلام يصير مجملاً إذا كان مكتنفاً بقرينة متّصلة تدلّ على إرادة خلاف ظاهر الكلام، لا ما إذا كانت القرينة منفصلة، كما فيما نحن فيه فإنّ قوله تعالى:

ص: 403

﴿وَالْ-مُطَلَّقَاتِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِن ﴾((1)) ليس فيه ما يصلح لإجمال ظهور العامّ؛ لأنّ الظاهر أنّ «المطلّقات» استعمل في العموم وضمير ﴿بُعُولَتُهُنَّ﴾ يكون راجعاً إليه إلّا أنّه قد علم من الخارج كون المراد من قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ ﴾ خصوص الرجعيات.

هذا، والّذي ينبغي أن يقال في المقام: - بعدما ذكرنا سابقاً من أنّ الأصل تطابق الإرادة الجدّية مع الاستعمالية في کلّ مورد شكّ فيه إلّا إذا ثبت خلافه - إنّ مقتضى هذا الأصل إرادة العموم من «المطلّقات»، وكون ضمير «بُعُولَتُهُنَّ» راجعاً إلى «المطلّقات» ويراد منه بالإرادة الاستعمالية جميع المطلّقات. لكن بسبب القرينة الخارجية لا مجال للتمسّك بالأصل المذكور بالنسبة إلى الضمير إلّا في الرجعيات. والله تعالى أعلم.

ص: 404


1- . البقرة، 228.

الفصل العاشر: تخصيص العامّ بالمفهوم المخالف

اختلفوا في جواز تخصيص العامّ بالمفهوم المخالف وعدمه.((1))

وقبل بيان الحقّ في المقام نقول: إنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) قد نقل في هذا المقام اتّفاق الكلّ على جواز تخصيص العامّ بالمفهوم الموافق.

ولا ريب في أنّ اتّفاقهم على ذلك لو ثبت، كما ادّعاه المحقّق المذكور، ليس بمفيد ولا يكون حجّة لجواز التخصيص به، مع أنّه قد اختلفوا في ذلك أيضاً كما يظهر من العضدي،((2)) وبعضهم ذهب إلى التفصيل وقال بجوازه إذا كان المفهوم بالأولوية، وعدم الجواز إذا كان ملاكه مساواة الموضوع المسكوت عنه في الكلام مع الموضوع المذكور فيه.

وأفاد المحقّق المذكور في مقام تحقيق أصل المطلب: بأنّ العامّ وما له المفهوم إذا وردا في كلام أو كلامين وكانا بحيث يكون کلّ منهما قرينة متّصلة للتصرّف في الآخر ودار الأمر بين تخصيص العامّ أو إلغاء المفهوم، لا يمكن التمسّك بأصالة العموم ولا

ص: 405


1- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص212؛ الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص363؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج2، ص555.
2- شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص275، وقال بعد التردید في المسألة: «إنّ الأظهر هو التخصیص به».

الأخذ بالمفهوم، فلابدّ من العمل بالاُصول العملية إذا لم يكن أحدهما أظهر من الآخر بحيث يكون مانعاً عن انعقاد الظهور في الآخر.

وأمّا إذا لم يكونا كذلك ولا يكون بينهما هذا الارتباط والاتّصال يعامل معهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر.((1))

ولا يخفى: أنّ هذا ليس تفصيلاً بين ما إذا كان کلّ منهما قرينة متّصلة للتصرّف في الآخر وبين ما إذا لم يكونا كذلك؛ فإنّ الحكم لا يختلف على کلّ حال.

وكيف كان، فالّذي ينبغي أن يقال في المقام - بعد التنبيه على ما ذكرنا سابقاً((2)) بأنّ الملاك في أخذ المفهوم وجود القيد الزائد في الكلام، وأنّ هذا لا يفيد بأزيد من أنّ الموضوع بنفسه من غير ضمّ ضميمة لا يكون تامّاً في موضوعيته للحكم، ولا يستفاد منه أنّ مع فقد هذا القيد وقيام قيد آخر مقامه ليس موضوعاً للحكم - : إنّ الكلام في تخصيص العام بالمفهوم المخالف راجع إلى الكلام في المطلق والمقيّد وتعارضهما؛ لأنّ قوله: «خلق الله الماء طهوراً»((3)) ظاهره أنّ تمام الموضوع في الطهورية هو الماء، ومفهوم قوله: «إذا کان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»((4)) عدم كون الماء تمام الموضوع لذلك الحكم، فكما أنّ في التعارض بين المطلق والمقيّد يؤخذ بظهور دليل المقيّد، لأنّه أقوى من المطلق في دلالته على كون تمام الموضوع مطلقاً وبدون القيد، كذلك في المقام ظهور الجملة في

ص: 406


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص363 – 364.
2- تقدّم في الصفحة، ص 296.
3- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، ج1، ص135، ب1، ح9، عن المحقّق في المعتبر، وابن إدریس في السرائر، ج1، ص64. وروته العامّة عن رسول الله(صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنّه قال: «خلق الله الماء طهوراً لم ینجّسه شيء، إلّا ما غیّر لونه أو طعمه أو رائحته». الزبیدي، اتحاف السادة المتّقین، ج2، ص332؛ الفخر الرازي، التفسیر الکبیر، ج24، ص95.
4- الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، ج1، ص158 – 159، ب9، ح1و2و5و6.

المفهوم وعدم كون الموضوع بنفسه تمام الموضوع والملاك يكون أقوى من ظهور العامّ في ذلك، أي في كون تمام الموضوع والملاك العنوان المذكور في دليل العامّ.

ولا يخفى عليك: الفرق في المقام بين ما بنينا عليه في المفاهيم وحقّقناه من أنّ إتيان المتکلّم بقيد زائد في الكلام یدلّ على دخل هذا الزائد في موضوعية الموضوع للحكم، بمعنى عدم كونه موضوعاً للحكم مجرّداً وبدون القيد، وأمّا موضوعيته مع قيد آخر فلا مانع منه. ولا فرق في ذلك بين مفهوم الشرط، والوصف، والغاية، والعدد، وغيرها، وهذا هو الّذي يقتضيه التدبّر في كلمات القدماء. فعلى هذا، يكون باب تخصيص العامّ بالمفهوم المخالف راجعاً إلى باب المطلق والمقيد؛ لأنّ العام یدلّ على أنّ تمام الموضوع للحكم، هو العلم مثلاً، والخاصّ أي المفهوم یدلّ على أنّ العلم وشيء آخر تمام موضوع الحكم.

وبين ما بنى عليه المتأخّرون حيث إنّ ملاك أخذ المفهوم على مختارهم دلالة القضیّة الشرطية مثلاً على علّية الشرط للجزاء على نحو العلّة التامّة المنحصرة، أو إشعار الوصف على العلّية هكذا، فلا مجال على مختارهم للقول بأنّ باب تخصيص العامّ بالمفهوم المخالف راجع إلى باب المطلق والمقيّد، لأنّه لا دخالة للشرط في الموضوع، بل إنّما هو علّة للحكم. فلو دلّ دليل على «وجوب إكرام زيد» مثلاً، يكون معارضاً مع «إن جاءك زيد يجب إكرامه» على مذهبهم بخلافه على ما اخترناه، فإنّه لا دلالة للقضية الشرطية على أزيد ممّا ذكر. فنفي الحكم عن غير الموضوع المسكوت عنه في القضیّة إنّما يكون بالدليل على رأي المتأخّرين، ويكون الدليل الدالّ على ثبوت الحكم في غير الموضوع المسكوت عنه معارضاً للمفهوم، لكن على مختارنا ليست للقضيّة دلالة على نفي الحكم عن الموضوع المسكوت عنه في القضیّة، بل إنّما ينفى بالأصل، فتدبّر جيّداً.

ص: 407

ص: 408

الفصل الحادي عشر: الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة

هل الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة يكون ظاهراً في رجوعه إلى خصوص الأخيرة،((1)) أو إلى کلّ منها؟((2))

والظاهر أنّ نزاعهم لا يكون في إمكان رجوعه إلى الكلّ وعدمه. كما أنّه لا إشكال في أنّ محلّ النزاع إنّما يكون فيما إذا كان المستثنى قابلاً لأن يستثنى من المستثنى منه، كما إذا كان المستثنى عنواناً ينطبق على بعض أفراد جميع العناوين المذكورة في الجمل المتعدّدة، أو كان فرداً يصدق عليه جميع العناوين الكليّة المذكورة.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) أفاد في المقام: بأنّه لا إشكال في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة؛ لأنّ رجوعه إلى غيرها من الاُولى والمتوسطة خارج عن طريقة أهل المحاورة. وكذلك لا إشكال في صحّة رجوع الاستثناء إلى الكلّ وإن كان المتراءى من صاحب المعالم(قدس سره) خلافه؛ وذلك من جهة أنّ تعدّد المستثنى منه كتعدّد المستثنى لا يوجب تفاوتاً في ناحية الأداة بحسب المعنى أصلاً، كان

ص: 409


1- ذهب إلیه أبوحنیفة وأصحابه. راجع: البصري، المعتمد في اُصول الفقه، ج1، ص245؛ شرح المختصر للعضدي (ج1، ص260).
2- وهو مذهب الشافعي وأصحابه کما في الذریعة إلی اُصول الشریعة (الشریف المرتضی، ج1، ص249) والمصدرین المتقدّمین.

الموضوع له في الحروف عامّاً أو خاصّاً، وكان المستعمل فيه الأداة - فيما كان المستثنى منه متعدّداً - هو المستعمل فيه فيما كان مستثنى منه - واحداً، كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال. فعلى هذا، لا يصحّ التمسّك بأصالة العموم في الجملة الأخيرة فيما يشمله المستثنى، للقطع برجوع الاستثناء إليها ولو من باب القدر المتيقّن. وفي غيرها أيضاً لا مجال للتمسّك بأصالة العموم، لوجود ما يصلح للقرينية في الكلام. فلابدّ من الرجوع إلى الاُصول العملّية.((1))

هذا، والّذي ينبغي أن يقال: إنّه قد مرّ في أوّل الكتاب عند البحث في المعنى الحرفي((2)) أنّه ليس للشيئين المرتبطين إلّا وجودهما في الخارج، كالماء الّذي في الكوز، فليس في الخارج وجود مستقلّ إلّا وجود الماء ووجود الكوز، وأمّا كون الماء في الكوز فليس وجوداً مستقلّا في الخارج، بل يرى وجوده مندكّا في وجود المرتبطين أي الماء والكوز. نعم، ينتزع من كون الماء في الكوز نحو ارتباطهما إلى الآخر. فهذا الوجود الاندكاكي الّذي لا يرى في الخارج ولا يجيء في الذهن منه مفهوم مستقلّ، كما يجيء من لفظ الماء وغيره، هو الموضوع له للحروف، فالحروف إنّما وضعت لأجل إفادة ارتباط معنىً بمعنىً آخر، وهذا مطابق لما أفاده الرضيّ(قدس سره) من أنّه ليس للحروف معنى في الحقيقة.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه لا إشكال في صحّة الاستثناء عن الجمل المتعدّدة إذا اعتبر كلّها شيئاً واحداً ويرتبط بالمستثنى؛ لأنّ الاستثناء أيضاً نحو ارتباط بين المخرج والمخرج منه، وهو كون المخرج خارجاً عن المخرج منه، وكونه بحيث اُخرج منه

ص: 410


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص364 – 365.
2- مرّ في الصفحة 28.

ذلك. كما أنّه لا إشكال في صحته إذا كان المستثنى منه متعدداً وكان لهما جامعاً يكون هو المستثنى منه.

وأمّا إذا كان کلّ واحد منها ملحوظاً مستقلّا، فلا يمكن أن يرتبط كل واحد منها بالمستثنى باستثناء واحد؛ لأنّ لکلّ واحد منها ارتباطاً خاصّاً بالمستثنى، فليس هذا إلّا من قبيل استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد.

والحاصل: أنّ الحقّ فيما هو الفارق بين الحروف والأسماء: أنّ الحرف وضع لإفادة الارتباط لا لمفهوم الارتباط وإفادة تصوّره، فإنّ هذا معنى اسمي، فوضع الحرف لإفادة ارتباط المرتبطين، بحيث يحصل بسببه تصوّر المرتبطين على نحو تحقّقهما في الخارج، ولا يمكن تصوير هذا المعنى إلّا مندكّاً في الغير. ولو تصوّرته مستقلّا لما أفاد ارتباط المرتبطين على النحو المذكور. فعلى هذا، لا يمكن استعمال الحروف مثل «إلّا» لإفادة ارتباط معنىً من المعاني مع معنىً آخر ومع معنى غيره. وعدم إمكان هذا أشدّ من عدم إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد؛ لأنّ في المقام حيث يكون المعنى مندكّاً في المرتبطين يكون القول بإمكان تصور المعاني المختلفة وجعل اللفظ علامة لها لا بنحو المرآتية، كما احتملنا هناك، أبعد من الصواب.

فتلخّص ممّا ذكرنا: عدم صحّة استعمال أداة الاستثناء لإفادة ارتباط أكثر من معنى واحد مع معنى آخر.

ولا يقاس تعدّد المستثنى منه بتعدّد المستثنى؛ لأنّ إفادة إرادة التعدّد من الأداة في جانب المستثنى إنّما تكون من جهة حرف العطف، وأمّا في طرف المستثنى منه فحرف العطف إنّما يفيد إثبات الحكم المذكور في الجملة الاُولى لسائر الجمل.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه لا مانع من ملاحظة الارتباطات الواقعة بين المرتبطات المختلفة وجعل اللفظ علامة لها جميعاً، كما ذهب إليه الشافعي في الآية الشريفة:

ص: 411

﴿وَالَّذينَ يَرْمُونَ الْ-مُحْصَناتِ ثُمَّ لَ-مْ يَأتُوا ...﴾((1)) بإمكان ذلك؛((2)) لأنّ الألفاظ إنّما تكون علامات للمعاني، فكما أنّ في باب المشترك إذا استعمل لفظ مشترك تفهم منه إرادة جميع المعاني لكون هذا اللفظ علامة للجميع، إلّا إذا دلت القرينة على تعيين أحد المعاني دون غيره، كذلك في المقام لا مجال لتخصيص الاستثناء بالجملة الأخيرة إلّا مع وجود القرينة، وإلّا فهو راجع إلى الكلّ. وكلامه هذا وإن كان مخدوشاً بالنسبة إلى الجملة الأخيرة، لأنّ الاستثناء راجع إليها على كلّ حال - كانت القرينة موجودة على ذلك أم لم تكن قرينة أصلاً - إلّا أنّ أصل هذا الاحتمال ربما لا يكون بعيداً عن الصواب. ولكنّ الإنصاف أنّ التحقيق ما ذكرناه أوّلاً، وأنّ هذا الاحتمال خلاف التحقيق، فتدبّر.

ص: 412


1- النور، 4.
2- العلّامة الحلّي، مبادي الوصول إلی علم الاُصول، ص141.

الفصل الثاني عشر: جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد

الحقّ جواز التمسّك بخبر الواحد المعتبر بالخصوص لتخصيص الكتاب، وإن كان ربما يستدلّ لعدم الجواز بوجوه ذكرها في الكفاية.((1))

أحدها: كون الكتاب قطعيّ السند والخبر ظنيّ السند، ولا يعقل صحّة القول بتخصيص ما هو القطعيّ بالظنيّ.((2))

وثانيها: عدم دلالة دليل حجّية الخبر إلّا فيما لم يكن مخالفاً للكتاب، لأنّ مدرك حجّیته ليس إلّا الإجماع، والقدر المتيقّن منه ما لم يكن مخالفاً للكتاب.((3))

وثالثها: لزوم جواز إثبات النسخ بخبر الواحد أيضاً؛ لأنّ النسخ قسم من التخصيص، فإنّه يخصّص العموم - في دلالته على جميع الأزمان - ببعض الأزمنة، والخاصّ يخصّصه ببعض الأفراد ويوجب التصرّف فيه بالنسبة إلى العموم الأفرادي.((4))

ص: 413


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص366 – 367.
2- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص344؛ شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب (ص247)؛ العاملي، معالم الدین، ص141.
3- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص344 – 345.
4- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص345؛ العاملي، معالم الدین، ص141.

رابعها: الأخبار الدالّة على وجوب طرح الخبر المخالف للقرآن.((1)) وهي كما يظهر من تتبّع مواردها على وجوه:

الأوّل: مایدلّ على طرح الخبر الّذي لم يكن له شاهد أو شاهدان من كتاب الله تعالى.((2))

وهذا بظاهره مخالف لحجّية الخبر مطلقاً ولو لم يكن في مقابله عموم الكتاب؛ لأنّ ظاهره عدم وجود مقتضي الحجّية في الخبر بنفسه، وعند ضمّ شاهد أو شاهدين من كتاب الله تعالى فالحجّة إنّما يكون كتاب الله تعالى لا الخبر.

الثاني: الأخبار الواردة لعلاج الخبرين المتعارضين ووجوب الأخذ بما كان موافقاً للكتاب وطرح المخالف.((3))

الثالث: ما یدلّ على عدم صدور خبر مخالف للكتاب عنهم(علیهم السلام).((4))

الرابع: ما یدلّ على لزوم عرض الأخبار على الكتاب، فإن وافقته يجب أخذها، وإلّا يجب طرحها.((5))

واستدلّ لجواز التمسّك بخبر الواحد في مقابل عموم الكتاب بالسيرة المستمرّة من

ص: 414


1- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص350.
2- الکلیني ، الکافي، ج1، ص69، ح2؛ ج2، ص222، ح4؛ البرقي، المحاسن، ج1، ص225، ح145؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص110، ب9، ح11.
3- الکلیني، الکافي، ج1، ص67 - 68، ح10، باب اختلاف الحدیث؛ الصدوق، عیون أخبار الرضا7، ج2، ص20، ح45؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص112 - 115، ب9، ح19، 21.
4- الکلیني، الکافي، ج1، ص69، ح5؛ العیّاشي، تفسیر، ج1، ص9، ح7؛ الطوسي، التبیان في تفسیر القرآن، ج1، ص5؛ الحرّ العاملي، وسائل الشیعة، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ج27، ص106 - 134، ب9.
5- راجع: ابن إدریس الحلّي، مستطرفات السرائر، ص69، ح17؛ البروجردي، جامع أحادیث الشیعة، ج1، ص66، أبواب المقدمات، ب6.

زمان الأئمة(علیهم السلام) إلى زماننا هذا من جميع العلماء والأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب. ولو قلنا بعدم جواز ذلك لانسدّ باب الفقه والاستنباط في جلّ الأحكام، ولزم تعطيل عمدة الأحكام؛ لأنّه ما من رواية إلّا وفي قبالها عموم من الكتاب وإن كان من قبيل قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾.((1))

وأمّا الجواب عن الوجوه الّتي تمسّكوا بها لإثبات عدم الجواز، فيرد على الأوّل: أنّ الكتاب وإن كان سنده قطعياً إلّا أنّ دلالته لا تكون قطعية، فلابدّ من فهم المرادات منه من إعمال الاُصول العقلائية، كأصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدّية، وهذه الاُصول إنّما تجري إذا لم تكن على خلافه قرينة وإلّا فيعمل بالقرينة، وخبر الواحد المعتبر قرينة على عدم تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجدّية في عموم الكتاب.

وكون سنده ظنّياً لا يكون مانعاً من قرينيته بعد دلالة الدليل على حجّيته وإلغاء احتمال الخلاف بالنسبة إليه، فهو لا يكون إلّا كالخبر المقطوع الصدور.

ويرد على الثاني: أنّ دليل حجّية خبر الواحد ليس الإجماع حتى يقال بقيامه على ما لم يكن مخالفاً للكتاب ولو كانت مخالفته على نحو العموم والخصوص، بل دليل حجّیته بناء العقلاء وطريقتهم على الأخذ بالخبر الموثّق، والشارع قد أمضى ذلك، كما حقّقنا في محلّه بأنّ حجّیته ليست تأسيسية، بل الشارع قرّر وأمضى هذه السيرة المستمرّة العقلائية الّتي يحتجّ بها المولى على عبده لو خالف أمره الّذي أخبره به مخبر موثّق مثلاً.

ويرد على الثالث (وهو لزوم جواز إثبات النسخ بخبر الواحد لو قلنا بجواز تخصيص العامّ به):

بأنّ الفارق قيام الإجماع على عدم جواز النسخ به؛ وإن لم يثبت هذا الإجماع فلا مانع من الالتزام به.

ص: 415


1- البقرة، 29.

ويرد على الرابع (وهو دلالة كثير من الأخبار على وجوب طرح كلّ خبر مخالف للكتاب): بأنّ الطائفة الاُولى من هذه الأخبار لو فرضنا حجّيتها، فهي مع عدم تجاوزها من حديثين معارضة بأخبار كثيرة دالّة على وجوب الأخذ بالروايات، وإمضاء الشارع بناءَ العقلاء واستقرار سيرتهم على الأخذ بما أخبر به المخبر الموثّق؛ لأنّ هذه الطائفة إنّما تدلّ على عدم حجّية الخبر مطلقاً إلّا إذا كان له شاهد أو شاهدان من كتاب الله.

وأمّا الطائفة الثانية، فلا ربط لها بمحلّ الكلام؛ لأنّها واردة لأجل علاج التعارض الواقع بين الخبرين.

وأمّا الطائفة الثالثة، فمضافاً إلى إمكان أن يكون المراد بالمخالف ما كان مبايناً، يحتمل قويّاً أن يكون راجعاً إلى الأخبار المرويّة عنهم في اُصول الدين.

وأمّا الطائفة الرابعة، فليس دلالتها أزيد من لزوم طرح رواية لا توافق الكتاب ولا تلائمه، وأمّا الرواية الّتي تكون بينها وبين الكتاب ملائمة ولو كانت على نحو العموم والخصوص، فلا يجب طرحها.

والحاصل: أنّه بعد العلم باستقرار سيرة جميع المسلمين وأصحاب الأئمّة(علیهم السلام) في جميع أبواب الفقة على الأخذ بخبر الواحد ولو كان على خلافه عموم الكتاب لا مجال للتمسّك بهذه الروايات، فلابدّ من طرحها أو حملها على ما لا ينافي ذلك.

ص: 416

الفصل الثالث عشر: أحوال العامّ والخاصّ المتخالفين

الفصل الثالث عشر: أحوال العامّ والخاصّ المتخالفين((1))

لا يخفى عليك اختلاف أحوال العامّ والخاصّ. فتارة: يكون الخاصّ مقارناً مع العامّ، فيكون مخصّصاً للعامّ وبياناً له.

واُخرى: يكون متأخّراً عنه، فإن كان صدوره بعد حضور وقت العمل بالعامّ بالنسبة إلى هذا الفرد، فيكون ذلك الخاصّ ناسخاً والعامّ منسوخاً. وإن كان قبل حضور وقت العمل، يكون الخاصّ مخصّصاً. وإن كان الخاصّ من جهة صدوره قبل وقت العمل أو بعده مجهول التاريخ مع العلم بتأخّره عن العامّ، فعدم محكومية هذا الفرد بحكم العامّ فعلاً مقطوع - كان الخاصّ المذكور فيه هذا الفرد ناسخاً أو مخصّصاً للعامّ -.

وثالثة: يكون صدور الخاصّ مقدّماً على العامّ، فإن كان صدور العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ يكون العامّ ناسخاً له. وإن كان قبل حضور وقت العمل به يكون الخاصّ مخصّصاً، وقرينةً على عدم كون العموم مراد المولى بحسب إرادته الجدّية.

ص: 417


1- انظر: الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص368 – 369.

ورابعة: يكون کلّ منهما مجهول التاريخ بحسب الصدور، فلا يمكن تقديم أحدهما على الآخر، ولابدّ من الرجوع إلى الاُصول العملية.

هذا تمام الكلام في المباحث الراجعة إلى العامّ والخاصّ.

والحمد لله على الاختتام، وعليه التوكّل وبه الاعتصام، والصلاة على خير خلقه وآله أجمعين، ونسأل الله تعالى أن يجعل عواقب اُمورنا خيراً، وأن يوفّقنا لما يحبّ ويرضى.

ص: 418

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد

اشارة

وفیه اُمور:

الأمر الأوّل: في تعريف المطلق والمقيّد

الأمر الثاني: في ملاك الإطلاق والتقييد

الأمر الثالث: في ألفاظ المطلق

الأمر الرابع: في اعتبارات الماهيّة وتقسيمها

الأمر الخامس: في إحراز الإطلاق إثباتاً

ص: 419

ص: 420

الأمر الأوّل: في تعريف المطلق والمقيّد

قد عُرّف المطلق: بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه.((1))

وقال في الكفاية: بأنّه قد أشكل عليه بعض الأعلام بعدم الاطّراد والانعكاس.((2)) وقد ذكرنا مراراً أنّ هذه التعاريف ليست تعاريف حقيقية وما يقع في جواب السؤال عن «ما» الحقيقية، وإنّما تكون تعاريف لفظية بسببها يشير المتکلّم إلى ما هو الموجود في الذهن.((3))

ولكن لا ينبغي لنا الاكتفاء بهذا الكلام في المقام، بل لابدّ من معرفة الإطلاق والتقييد وموارد إطلاقهما، فنقول:

أمّا تعريفهم بأنّ المطلق ما دلّ على شائعٍ في جنسه، فإمّا أن يكون المراد أنّ المطلق ما له أفراد متعدّدة بأن يكون الشيوع والتكثر بحسب الأفراد. وبعبارة اُخرى: يكون كلّياً يصدق على أفراده المتكثّرة، والمقيّد ما لم يكن كذلك.

فمن الواضح عدم إفادة هذه العبارة هذا المعنى؛ ولو قيل بأنّ المطلق ما دلّ على شائع في أفراده لكان أولى.

ص: 421


1- شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص284؛ العاملي، معالم الدین، ص150؛ القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص321؛ الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص217؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص215.
2- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص218.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص376.

وإمّا أن يكون مرادهم من هذا التعريف أنّ المطلق ما له أفراد متعدّدة وشائع في أفراده ويكون صدقه على جميع أفراد طبيعة واحدة على سبيل البدلية على السواء. وبعبارة اُخرى: يكون صادقاً على فرد من أفراد الطبيعة الواحدة لا على نحو التعيين حتى يشمل أسماء الأجناس والنكرة وغيرهما؛ ولذلك قالوا: إنّ المطلق ما دلّ على شائع في جنسه لا في أفراده.

ففيه: أنّ التعريف لا يفي لإفادة هذا أيضاً.

وعلى کلّ حال: ففي هذا التعريف مضافاً إلى أنّ ظاهره كون الإطلاق والتقييد راجعين إلى اللفظ ومن صفات الألفاظ دون المعاني، يلزم منه أن تكون المعاني الجزئية مثل معنى «زيد» و«الأفعال» من المقيّدات مع أنّ الظاهر عدم صحّة إطلاق المقيّد عليهما، وأن تكون المعاني الكلية مثل معاني «أسماء الأجناس» وكلّ ما هو موضوع لمعنى كلّي من المطلقات ولو لم يكن تمام الموضوع للحكم، فيصحّ إطلاق المطلق مثلاً على الرقبة المذكورة في قولنا: «أعتق رقبة مؤمنة» مع اتّفاقهم على عدم صحّة إطلاق المطلق عليها. وبناءً عليه يكون اللفظ مبايناً مع المقيّد فالمطلق غير المقيّد والمقيّد غير المطلق، ويكون بعض الألفاظ متّصفاً بالإطلاق دائماً وبعضها متّصفاً بالتقييد كذلك.

هذا، والّذي يقتضيه التحصيل وملاحظة كلمات الاُصوليّين والفقهاء وموارد إطلاقاتهم:((1)) أنّ الإطلاق والتقييد ليسا من صفات الألفاظ، بل ما يتّصف بهما ليس إلّا المعنى. ولا يكاد أن يوجد لفظ متّصف بالإطلاق دائماً ولفظ متّصف بالتقييد كذلك، بل ربما يتّصف لفظ بملاحظة معناه بالإطلاق تارة، وبالتقييد اُخرى، كما يمكن أن لا يكون متّصفاً بواحد منهما أصلاً، بل طبع اللفظ - كما سيتّضح - صالح

ص: 422


1- راجع: الشریف المرتضی، الذریعة إلی اُصول الشریعة، ج1، ص275 – 277؛ الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص329 – 333.

لأن يتّصف باعتبار المعنى بالإطلاق والتقييد، فلا يلزم أن يكون دائماً موصوفاً بأحدهما؛ ألا ترى أنّ لفظ «الرقبة» إذا لم يكن موضوعاً لحكم من الأحكام لا يصحّ إطلاق المطلق أو المقيّد عليه، وأمّا إذا كان مأخوذاً في موضوع حكم فتارة: يطلق عليه المطلق مثل الرقبة المذكورة في كفّارة اليمين، وتارة: يطلق عليه المقيّد كما في كفّارة قتل الخطأ، وربما يكون إطلاقه وتقييده مختلفاً فيه كما في كفّارة الظهار.

فعلى هذا، نقول: کلّ معنى من المعاني الّتى تكون لها الشياع والسريان ولو كان جزئيّاً، كالأعلام الشخصيّة والجزئيات الحقيقية، الّتي لا مانع من فرض الشياع والسريان فيها ولو كان بحسب الحالات والأزمنة والأمكنة، وكان موضوعاً لحكم من الأحكام بحيث يشمل هذا الحكم جيمع حالاته وأفراده، يكون مطلقاً.

وكلّ معنى كان له هذا الشياع والسريان وكان موضوعاً لحكم من الأحكام ولكن كان في موضوعيّته للحكم بحيث لم يشمل ذلك الحكم جميع أفراده أو حالاته لخصوصيّة لاحظها الحاكم في موضوعه، يكون مقيّداً.

وقد اتّضح ممّا ذكرنا في المقام أوّلاً: أنّ النزاع في المقام ليس واقعاً في لفظ المطلق والمقيّد وما هو بالحمل الأوّلي الذاتي مطلق ومقيّد، بل النزاع واقع فيما هو بالحمل الشائع الصناعي مطلق أو مقيّد ويحمل عليه بهذا الحمل المطلق أو المقيّد.

وثانياً: أنّه ليس لنا ألفاظ مخصوصة مطلقة وألفاظ مخصوصة مقيّدة، بحيث لا يمكن تطوّر الإطلاق في المقيّد والتقييد في المطلق، حتى يكون کلّ من المطلق والمقيّد قسماً من الألفاظ كالاسم والفعل والحرف، ولذا يتّصف لفظ واحد تارة بالإطلاق واُخرى بالتقييد كما مرّ.((1))

ص: 423


1- آنفاً في الصفحة السابقة.

وثالثاً: أنّ إطلاق المطلق والمقيّد على الألفاظ إنّما هو باعتبار المعنى وبالعرض لا باعتبار نفس ذاتها. وسيظهر لك((1)) أنّ اتّصاف المعاني بهما ليس باعتبار ذواتها.

ورابعاً: أنّ الإطلاق عبارة عن: تساوي جميع أفراد مفهوم في موضوعيته للحكم. والتقييد عبارة عن: عدم تساوي أفراده في الموضوعية.

وقد ظهر أيضاً كون الإطلاق والتقييد من الاُمور الإضافية. وكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

ص: 424


1- بعد قلیل في نهایة الأمر الثاني من هذا المقصد.

الأمر الثاني: في ملاك الإطلاق والتقييد

بعدما عرفت معنى الإطلاق والتقييد، فاعلم: أنّ ما هو ملاك الإطلاق والتقييد على ما يظهر من عباراتهم ملاحظة الشياع والسريان في المعنى وعدمها. فإذا لوحظ في الماهية شياعها وسريانها في أفرادها تكون مطلقة. وإذا لوحظت مع ضمّ شيء إليها تكون مقيّدة.

ولا يخفى ما فيه: فإنّ الشياع والسريان لازم المعنى وذاتيّ الماهية، فلا يعقل دلالة اللفظ عليه تارة وعدمها اُخرى.

فما هو الملاك في إطلاق اللفظ والمعنى ليس إلّا ملاحظة الحاكم معنىً من المعاني تمام موضوع حكمه، بحيث لا يحتاج شموله لجميع أفراده إلى ضمّ ضميمة مثل «رقبة» في قولنا: «أعتق رقبة». والملاك تقييدهما لحاظه مع ضمّ ضميمة إليه كقوله: «أعتق رقبة مؤمنة»، فإنّ عتق الرقبة لا يكون تمام موضوع حكمه مطلقاً، بل إذا كانت متّصفة بصفة الإيمان.

وبالجملة: لا ريب في أنّ المفاهيم الّتي لها شياع وسريان مثل النكرة كرجل، واسم الجنس نحو الرجل، تارة: تكون في موضوعيّتها للحكم بحيث يكون شمول الحكم لتمام أفرادها على السواء مثل: «أعتق رقبة»، واُخرى: لا تكون كذلك مثل: «أحلّ الله

ص: 425

البيع»، فإنّ هذا الحكم ليس ثابتاً لجميع أفراد البيع، فبعض أفراده مثل «بيع المجهول» يكون خارجاً عن هذا الحكم ولا يشمله هذا الحكم.

وإنّما الخلاف في أنّ الملاك والمناط الّذي به يكون تارة نسبة الحكم إلى جميع أفراده على السواء، واُخرى لا يكون كذلك هل هو أنّ الآمر لاحظ الشياع والسريان الموجود في موضوع الحكم ولحاظه هذا هو العلّة لتساوي نسبة جميع الأفراد إلى الحكم، وعدم لحاظه كذلك سبب لافتراق نسبة الأفراد إلى الحكم، أو أنّ ملاك تساوي الأفراد لحاظ الموضوع مقيّداً بالشياع والسريان، وملاك عدمه عدم تقيّده بذلك؟

فلا ريب في عدم كون الوجه الأخير هو الملاك. لأنّ الماهيّة مع لحاظ الشياع والسريان ومقيّدة بهذا القيد لا يمكن انطباقها على ما في الخارج.((1))

وأمّا الوجه الأوّل، ففيه: أنّ الشياع والسريان ذاتيّ لما من شأنه هذا، ولا يعقل أن يكون لحاظ ذلك دخيلاً في شياعه وسريانه، فمفهوم رجل يصدق على کلّ فرد من أفراده لوحظ فيه ذلك أم لا.

فالّذي ينبغي أن يقال: إنّ الملاك کلّ الملاك، كما يظهر بعد التأمّل في كلماتهم((2)) وإعطاء حقّ الدقّة فيها، ليس إلّا أنّ الحاكم - سواء كان من الحُكّام العرفيين أو الشرعيين - تارة يلاحظ مفهوماً من المفاهيم الّتي لها شياع وسريان في موضوع حكمه بحيث كان تمام مركب حكمه هذه الطبيعة ليس إلّا، ولا تكون موضوعيّتها للحكم مقيّدة بقيد تكون نسبة تمام أفراد هذه الطبيعة بالنسبة إلى حكمه متساوية، واُخرى لم يلاحظه كذلك بل يلاحظ المعنى مقيّداً بقيد ومتخصَّصاً بخصوصية لا تكون نسبة

ص: 426


1- کما في الکفایة (الخراساني، ج1، ص378).
2- راجع: الشریف المرتضی، الذریعة إلی اُصول الشریعة، ج1، ص 275 – 277؛ الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص329 – 333.

جميع أفراد الطبيعة إلى الحكم سواء؛ فالأوّل هو ملاك الإطلاق، والثاني ملاك التقييد. ألا ترى أنّ الفقهاء كما أشرنا إليه يقولون بتقييد الرقبة المذكورة في الآية في كفّارة قتل الخطأ، وبإطلاقها في كفّارة اليمين، واختلفوا في إطلاقها وتقييدها في الظهار، فهل تجد لهذا منشأً وملاكاً غير ما ذكرناه أو هل يصحّ أن يقال: إنّ الرقبة المذكورة في هذه الآيات الكريمة لا تدلّ بذاتها على الشياع والسريان؟

وأظنّ أنّ ما نسب إلى المشهور من أنّ المطلق ما لوحظ في معناه الشياع والسريان((1)) بمعنى تقييد المعنى بلحاظه كذلك، حتى يكون استعماله في المقيّد مجازاً من جهة إلغاء هذا القيد، وما نسب إلى السلطان(قدس سره) في مقام الجواب بأنّ المعنى ليس مقيّداً بقيد اللحاظ بل الموضوع له هو الماهية اللابشرط فلا يكون استعماله في المقيّد مجازاً.((2))

ليس في محلّه. بل لعلّ أن يكون مراد المشهور أنّ الشياع والسريان حيث يكون من ذاتيّات المعاني من غير دخل لحاظ تقيّده بذلك وعدمه فيه يكون استعمال المطلق في المقيّد مجازاً؛ لأنّه موجب لإلغاء الشياع والسريان الّذي يكون في المعنى، ويصير من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ وهو الرقبة المقيّدة بخصوصية زائدة، فأجاب السلطان(قدس سره) عنهم بأنّ هذا يتّجه إذا استعمل الرقبة في الرقبة المؤمنة من غير ذكر المؤمنة في الكلام، وأمّا إذا استعمل الرقبة في معناه الّذي له الشياع والسريان وبيّن تقيّدها بالإيمان بدالّ آخر كما في قولنا: «أعتق رقبة مؤمنة» حتى يكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول فلا يكون موجباً للمجاز، كما لا يخفى.((3))

ص: 427


1- قد مرّ تعریفهم في بدایة البحث بأنّ المطلق ما دلّ علی شائع في جنسه.
2- العاملي، معالم الدین (حاشیه سلطان العلماء)، ص155. ونقله أیضاً في مطارح الأنظار (الکلانتري الطهراني، ص217).
3- الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص217.

فتحصل ممّا ذكرنا في ملاك الإطلاق والتقييد: أنّ اتّصاف المعاني بهما ليس باعتبار نفس ذواتها. وبتعبير آخر: لا تكون صفة بحال الموصوف، بل صفة بحال متعلّق الموصوف؛ لأنّ المعنى تارة: يؤخذ موضوعاً للحكم ويكون تمام أفراده بالنسبة إليه في الموضوعية على السواء، وتارة: لا يكون كذلك، فالأوّل هو المطلق والثاني المقيّد.

وبعبارة اُخرى: موضوع الحكم إذا كان في موضوعيته للحكم مطلقاً يتّصف المعنى الّذي لوحظ موضوعاً له بالإطلاق، وإلّا فيتّصف بالتقيّد، فتدبّر.

ص: 428

الأمر الثالث: في ألفاظ المطلق

قد ظهر لك ممّا حقّقناه أنّ إطلاق المطلق على اللفظ ليس من جهة وجود خصوصية في معناه الموضوع له حتى لا يتّصف بالإطلاق ما ليست له هذه الخصوصية. وبعدما حقّقناه في المقام لا نحتاج إلى ما تعرّض إليه في الكفاية((1)) لبيان بعض الألفاظ الّتي يطلق عليه المطلق وغيرها، لأنّه على ما اخترناه أجنبيّ عن المقام. ومع ذلك نذكرها تبعاً له(قدس سره).

فمنها: اسم الجنس، كإنسان ورجل وبقر وفرس وحيوان وسواد وبياض وغيرها. وأفاد بأنّها موضوعة لمفاهيمها بما هي مبهمة مهملة من غير ملاحظة شرط معها حتى ملاحظة إرسالها وإبهامها كذلك. وهذا ما يعبّر عنه باللابشرط المقسمي، فلا تكون موضوعة لمفاهيمها بشرط لحاظ شيء معها حتى تكون موضوعة للماهية بشرط شي ء، ولا موضوعة لمفاهيمها مع عدم لحاظ شيء معها حتى تكون موضوعة للماهية بشرط لا، ولا تكون أيضاً موضوعة للماهية اللابشرط القسمي؛ لأنّه كلّي عقلي لا موطن له إلّا الذهن.

هذا، ولكنّه لو لم يأت بهذه الاصطلاحات وقال بأنّ الموضوع له في أسماء الأجناس

ص: 429


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص376 – 378.

إنّما يكون ذوات المفاهيم من غير دخل شيء فيه حتى الوجود والعدم وما ينتزع منه كالشيئية والصفات العارضة له باعتبار وجودها، لكان أولى.

ومنها: علم الجنس، كاُسامة. والمشهور وإن كان أنّه موضوع للطبيعة لا بما هي هي بل بما هي متعيّنة في الذهن،((1)) ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أدات التعريف. ولكنّ الحقّ عدم كونه موضوعاً للماهية المقيّدة بقيد حضوره في الذهن والتعيين الذهني؛ لأنّ تعيّن الماهية ليس دائراً مدار ذلك بل هي متعيّنة، ولا دخالة لأخذ هذا القيد - أي قيد تعيّنها في الذهن - في تعيّنها الماهوي، فهي متعيّنة لوحظ معها هذا أم لا. مضافاً إلى أنّه لو كان موضوعاً للماهية مع هذا القيد لما يصدق على الأفراد. ولا يمكن حمله على الخارجيات إلّا بالتجريد عن هذه الخصوصية والحال أنّه يستعمل في الأفراد بدون تصرّف ولا تأويل. هذا، مع أنّه ممّا لا يلائمه حكمة الوضع.

وأمّا كون علم الجنس معرفة بخلاف اسم الجنس، فهو فرق لفظي ولا يلزم منه الفرق بحسب المعنى كما هو الحال في المؤنّثات السماعية.

ومنها: المفرد المعرَّف باللام. وهو على قسمين: تارة يطلق على حصّة من الحقيقة الّتي تكون معهوداً بين المتکلّم والمخاطب لتقدّم ذكر تلك الحصّة بالصراحة أو الكناية، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾،((2)) أو لعلم المخاطب به بالقرائن نحو «خرج الملك»، أو لحضور هذا الفرد مثل «هذا الرجل»، وهذا هو الموسوم بالعهد الذكري والعهد الحضوري.

وتارة اُخرى: يطلق اسم الجنس المعرّف باللام على نفس الحقيقة، فإمّا لا يكون

ص: 430


1- الصبّان، شرح الاُشموني مع حاشیة الصبّان، ج1، ص135 – 136؛ السیوطي، همع الهوامع، ج1، ص70؛ الأزهري، شرح التصریح علی التوضیح، ج1، ص125.
2- آل عمران، 36.

النظر إلّا إلى نفس الحقيقة مع قطع النظر عن مصاديقها، وإمّا أن يطلق على الحصّة المعيّنة منها، وإمّا أن يطلق على الحصّة غير المعيّنة، وإمّا أن يطلق على کلّ الأفراد. فاللام في الأوّل تسمّى بحقيقة الجنس، وفي الثاني بالعهد الخارجي، وفي الثالث بالعهد الذهني، وفي الرابع بالاستغراق.

وكيف كان، فلا إشكال في تعريف المفرد المعرّف باللام بحسب اللفظ. وقد صار أهل الأدب في مقام إرجاع ذلك إلى خصوصية ملحوظة في المعنى، فقال بعضهم: إنّ اللام موضوعة للتعريف ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني.

وفيه: ما ذكرناه في عَلَم الجنس من أنّ ذلك القيد لا يفيد التعيين، بل الملاك في التعيين صحّة حمل المعيّنية بالحمل الشائع الصناعي عليه. وهذه صادقة على مفاهيم أسماء الأجناس، وما هو مدخول لام التعريف. ولا فائدة لهذا القيد غير أنّه مانع لصدق المفهوم على الخارجيات.

وذهب بعضهم:((1)) إلى أنّ وجه التعريف كون اللام موضوعة للإشارة فإذا اُطلق المفرد المعرّف باللام على نفس الحقيقة يشار بها إليها، وكذلك إذا اُريد منه الاستغراق، أو غيره. فالتعريف إنّما يجيء من قبل الإشارة.

وفيه: أنّه على هذا يجب أن لا يصحّ استعمال «هذا الإنسان»، لأنّه يلزم منه إشارتان (من هذا، واللام)، مع أنّ هذا الاستعمال كثير في كلام العرب.

والظاهر أنّه لا فرق بين اسم الجنس المعرّف باللام وبين اسم الجنس غير المعرّف إلّا من جهة التنكير والتعريف اللفظي. فاسم الجنس لابدّ أن يستعمل مع اللام، أو

ص: 431


1- ابن هشام الأنصاري، مغني اللبیب، ص25؛ رضي الدین الأسترآبادي، شرح الکافیة، ج2، ص130 - 131؛ التفتازاني، المطوّل، ص63.

بدونها مع التنوين، وبدونهما مع الإضافة كغلام زيد، فإنّه مستعمل في نفس مفهومه بما هو هو، وخصوصيته في المقام إنّما تفهم من دالّ آخر وهو إضافته إلى زيد.

وأمّا أنّ اللام في جميع الموارد يكون للتزيين، كما زعمه في الكفاية.((1))

ففيه: إنّما يكون للتزيين ويفيد الزينة إذا كان العَلَم الّذي عليه اللام صفة من الصفات، كالحسن والحسين. فدخول اللام عليه كأنّه يشير إلى المعنى الأصلي، وأنّه جعل هذا اللفظ علماً لهذا الشخص من جهة أنّه موصوف بتلك الصفة.

وكذلك الجمع المعرّف باللام، فدلالته على العموم ليست من قبل اللام، ولأجل دلالة اللام على تعيين المرتبة المستغرقة لجميع الأفراد،((2)) بل إنّما یدلّ على الاستغراق من دون توسيط دلالة اللام على التعيين.

وأمّا ما أفاد في الكفاية من تعيّن المرتبة الاُخرى وهي أقلّ مراتب الجمع إذا لم تكن دلالته على المرتبة المستغرقة مستنداً إلى الوضع.((3))

ففيه: أنّه لا مجال لدلالته على القدر المتيقّن؛ لأنّ المتکلّم إذا لاحظ تمام ما يصلح له المفهوم وألقى اللفظ الدالّ عليه، مثل «مردها» بالفارسية، فلا مجال لأخذ القدر المتيقن، بل لفظه الملقى ظاهر في جميع الأفراد والمراتب، إلّا أن یدلّ عليه دليل من الخارج، وقد ذكرنا ذلك في صدر مبحث العامّ والخاصّ.

وملخّص الكلام: أنّ القول بكون اللام موضوعة للماهية والحقيقة بقيد تعيّنها في الذهن، أو موضوعة للإشارة إلى مدخولها، أو أن يكون للمفرد المعرّف وضع خاصّ بسببه یدلّ على معنى خاصّ غير ما هو مفاد الأسماء الموضوعة للمعاني الكلّية، ممّا لم

ص: 432


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص380.
2- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص169.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص381.

نقف على دليله. فعلى هذا، استفادة الخصوصيات إنّما تكون من قبل الخصوصيات الحالية والمقالية الّتي تكون موجودة في كلام أهل المحاورة.

ومنها: النكرة، مثل «رجل» في «جاء رجل» وقولك: «جئني برجل». ويظهر من المحقّق القمّي(رحمه الله) كون مفادها كلّياً، لأنّ اللفظ موضوع لمفهوم كلّي فإذا جاء في الكلام منكراً يفيد ضمّ قيد الوحدة إليه، وهو أيضاً كلّي.((1)) وأمّا رجل في قولك: «جاء رجل» فهو اُطلق في الفرد المعيّن خارجاً والمجهول عند المخاطب.

وصاحب الفصول(رحمه الله) ذهب إلى كونها جزئيّاً حقيقيّاً من جهة أنّ النكرة تدلّ على أحد الأفراد المردّد بينها،((2)) كما هو الأمر في متعلّق العلم الإجمالي، فعلمك بالإجمال بأنّ إناء زيد نجس أو إناء عمرو لا يصير سبباً لكون متعلّق العلم كلّيا، وفيما نحن فيه لو قال: «جئني برجل» فمجيئك بالرجل وإن كان يصدق على هذا وعلى هذا، وهذا بحيث لاحظ الآمر جميع هذه الأفراد ولكن بالنسبة إلى کلّ فرد منها كأنّه لاحظ المجيء تارة ولم يلاحظه اُخرى، فتارة يجيء لحاظه في الذهن. ويذهب تارة اُخرى.

والمحقّق الخراساني بعد ما أفاد بأنّ المفهوم في المثال الأوّل هو الفرد المعين ولو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، أفاد بأنّ صحّة حمل رجل في «جئني برجل» على کلّ فرد من الأفراد مع عدم صدقه على هذا الفرد أو غيره على سبيل الترديد، كما اختار صاحب الفصول(رحمه الله)، دليل على كليّة معنى النكرة. كما أنّ صدق الامتثال والإتيان بالمأمور به - لو أتى کلّ واحد من المكلّفين بالمأمور به مع كونه نكرة - عليه، دليل آخر على كليّة معناها.((3)) وهذا كلام متين.

ص: 433


1- القمّي، قوانین الاُصول، ج1، ص204، 208، 212.
2- الأصفهاني، الفصول الغرویة، ص163.
3- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص381 – 382.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ اللاحظ حيث يرى الحصّة والطبيعة بقيد الوحدة باعتبار الوجود، فيرى وجوداً واحداً مردّداً بين كثيرين، وتردّد هذا الواحد الجزئي بين الأفراد لا يخرجه عن جزئيته، ولا يصير بذلك كلّياً، كما أنّ الإنسان إذا رأى شبحاً من بعيد وتردّد في أنّه إنسان أو حيوان أو زيد أو عمرو لا يخرجه ذلك التردّد عن الجزئية.

ولكن لا يخفى ضعف هذا أيضاً؛ لأنّ مع هذا التوجيه لا يصير الكلّى جزئيّاً، ولا يصير ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين - وهو الفرد المردّد والشبح في المثال - ممّا يمتنع فرض صدقه على كثيرين.

وكيف كان، لا فائدة عملية في تعقيب ذلك. كما أنّه لا فائدة في معرفة أنّ اسم الجنس المعرّف باللام دلالته على کلّ واحد من المعاني الّتي يراد منها هل هي من جهة وضع اللام أو المفرد المعرّف أو يستفاد من الخصوصيات الخارجية؟

وما ينبغي أن نقول هنا: إنّ ملاك صدق الأحكام على الموضوعات الّتي يعبّر عنها في المعقول بالمصاديق تارة: يكون الطبيعة من غير ملاحظة وجودها. واُخرى: يكون الطبيعة لكن مع لحاظ وجودها. وثالثة: يكون الطبيعة مع لحاظ تمام الوجودات المندرجة فيها، بحيث تجعل الطبيعة مرآة ويرى منها جميع الأفراد بالإجمال، فإذا كان ملاك صدق الحكم على الموضوع كون الطبيعة ملحوظة ومقصودة من غير أن يكون نظره إلى الوجودات بحيث كان مركب الحكم نفس الطبيعة، أو كان نفس الطبيعة لكن باعتبار وجودها الخارجي المردد بين وجوداتها بحيث كان مركب الحكم هذا الوجود الخارجي المردّد، يكون مركب الحكم مطلقاً ويصح إطلاق وصف المطلق عليه، فلا ارتباط لما ذكره في الكفاية بما ذكرناه في المقام.

ومن هنا ظهر الفرق بين العامّ والمطلق؛ فإنّ في العامّ إنّما يكون ملاك صدق الحكم على الموضوع ملاحظة الحاكم المعنى الّذي جعله مركباً للحكم مرآةً لجميع أفراده بحيث تكون الطبيعة آلةً لملاحظة جميع الأفراد والوجودات، بخلاف المطلق.

ص: 434

الأمر الرابع: في اعتبارات الماهية وتقسيمها

لا يخفى عدم ارتباط ما نحن فيه بما ذكره علماء المعقول من اعتبارات الماهية((1)) في المباحث المتعلّقة بها، ولكن حيث أشار المحقّق الخراساني(قدس سره) وغيره من الاُصوليّين إليها، وإلى الإشكال المذكور في كتب المعقول وهو: دخول المقسم في الأقسام، فلا بأس ببيان ما هو الحقّ في المقام وإن كان خارجاً عمّا نحن بصدده، فنقول:

إعلم: أنّ أهل المعقول في مقام تعيين الماهية الّتي يحمل عليها الكلّي أفادوا بأنّ الماهيّة قد تعتبر وتلاحظ بشرط أن يكون معها شيء، وهي الماهية المخلوطة وبشرط شيء.

وقد تعتبر بشرط عدم اقترانها مع شيء، وهي الماهية المجرّدة وبشرط لا. وحيث اعتبر تجرّدها عمّا عداها فلا وجود لها حتى في الذهن.

لا يقال: إذا كان كذلك، أي لا وجود لها حتى في الذهن، فكيف تكون من الاعتبارات الذهنية؟

لأنّه يقال: هذا نظير شبهة المعدوم المطلق، والمجهول المطلق، وبيانه: أنّ المعدوم

ص: 435


1- انظر ما ذکروه من اعتبارات الماهیّة في شرح الإشارات، قسم المنطق، ص43 وما یلیها؛ کشف المراد، الفصل الثاني من المقصد الأوّل في الماهیة ولواحقها؛ نهایة المرام في علم الکلام بتحقیقنا (العلّامة الحلّي، ج1، ص164 – 166).

المطلق إذا كان يمتنع الحكم عليه، فكيف يحكم عليه بامتناع الحكم عليه مع أنّ الحكم متوقّف على تصوّر الموضوع والمحمول، وكلّ ما يتصوّر في الذهن فهو موجود ولابدّ أن يحكم عليه بالإمكان لا بالامتناع؟ وهكذا المجهول المطلق؛ إذ لا يمكن أن يخبر عنه، فكيف يخبر عنه بعدم إمكان الإخبار عنه؟

والجواب: أنّ الحاكم في حكمه على المعدوم المطلق بامتناع الحكم عليه، والمخبِر في إخباره عن المجهول المطلق بعدم إمكان الإخبار عنه يكون غافلاً عن تقرّره في الذهن وتحقّقه في عالم الذهن، ويشير بسبب هذا الّذي في ذهنه - وله نورانية ضعيفة - إلى ما يكون ظلمة بحتاً وعدماً صرفاً.

والإشكال المتوهّم في المقام إنّما يكون نظير هذا الإشكال، ببيان: أنّ الماهية المعتبرة فيها عدم وجود شيء معها إذا لم يمكن تحقّقها لا في عالم الخارج ولا في عالم الذهن كيف تصير ملحوظة ومعتبرة مع أنّ اعتبارها لا يمكن إلّا بوجودها في الذهن؟

وجوابه: أنّ المعتبِر يعتبر الماهية بشرط لا ويشير بسبب ما تصوّره ولاحظه إلى الماهيّة الّتي لا يحكم عليها ويكون غافلاً حين الاعتبار عن تقرّرها في الذهن وتحقّقها فيه.

وقد تعتبر الماهية مطلقة ومن غير تقيّدها بقيد عدم شيء معها أو وجود شيء معها، وهذه الماهية المطلقة واللابشرط، وهي الّتي يحمل عليه الكلّي الطبيعي ويعرضها.

وقد اختلفوا في وجودها وعدمها، فذهب بعضهم: إلى عدم إمكان وجودها.

وذهب أكثرهم: إلى أنّها موجودة؛ لأنّ الماهية المخلوطة وبشرط شيء إذا كانت موجودة في الخارج فلابدّ أن تكون هذه أيضا كذلك، فإنّ الماهية اللابشرط يجتمع مع ألف شرط، فهى موجودة مع بشرط شيء.

ولا يخفى عليك: أنّه لا يكون واحد من هذه الأقسام مقيّداً باللحاظ والاعتبار وإلّا يمتنع وجوده إلّا في الذهن.

ص: 436

وقد اُشكل على تقسيم الماهية بهذه الأقسام بلزوم دخول المقسم في الأقسام؛ لأنّ المقسم ليس إلّا ذات الماهيّة لا بشرط وجود شيء معها ولا بشرط عدم وجود شيء معها وهذه ليست إلّا الماهية الّتي اعتبرت عدم تقييدها باقتران شيء معها وعدمه.

وأجاب بعضهم عن هذا الإشكال:((1)) بأنّ المقسم إنّما هو ذات الماهية لا بشرط الاقتران ولا بشرط عدم الاقتران، والقسم هو الماهية المقيّدة بقيد عدم تقيّدها بلحوق شيء إليها وعدم لحوق شيء بها. فعلى هذا، يكون المعروض للكلّي هو الماهيّة اللابشرط المقسمي((2)) دون القسمي.

ولكنّ الحقّ في مقام الجواب أن يقال: إنّ هذا التقسيم كما يستفاد من عبائرهم مثل قولهم: «إنّ الماهية تعتبر، أو تلاحظ، أو اعتبارات الماهية» إنّما يكون راجعاً إلى اعتبار الماهيّة، فالمقسم هو اعتبار الماهية ولحاظها، فلا يكون داخلاً في الأقسام. وعلى هذا الجواب يكون المعروض للكلّي وما يحمل عليه، هو الماهية اللابشرط القسمي.((3))

فتلخّص ممّا ذكر أنّ أهل المعقول في مقام تعيين الماهية الّتي يحمل عليها الكلّي أفادوا بأنّ الماهية تارة: تعتبر بشرط لا، وهذه لا يمكن أن يحمل عليها الكلّي. واُخرى: تعتبر بشرط وجود شيء معها، فهذه أيضاً لا يمكن حمل الكلّي الطبيعي عليها. وثالثة: تعتبر لا بشرط أي بدون تقيّدها بالمتشخّص وعدمه، فهذه هي الماهية الّتي يعرضهاالكلّي وتسمّى بالكلّي الطبيعي.

ص: 437


1- السبزواري، شرح المنظومة، قسم الحکمة، ص97؛ الکلانتري الطهراني، مطارح الأنظار، ص216؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج 2، ص569.
2- ذهب إلیه السبزواري في شرح المنظومة، قسم المنطق، ص21 – 22، وقسم الحکمة، ص97.
3- کما ذهب إلیه المحقّق الطوسي في التجرید.

ص: 438

الأمر الخامس: في إحراز الإطلاق إثباتاً

اشارة

قد ظهر ممّا حقّقناه في الأمر الأوّل والثاني حال المطلق والمقيّد بحسب مقام الثبوت. وأمّا بحسب مقام الإثبات، فاعلم: أنّه لا مجال للتمسّك بأصالة الحقيقة((1)) لو شكّ في الإطلاق والتقييد؛ لأنّ التمسّك بها يصحّ لو كان استعمال اللفظ في المقيّد مجازاً، وأمّا بعد فرض عدم ذلك فلا مجال له.

وقد أفاد المحقّق الخراساني(رحمه الله) احتياج إثبات الإطلاق إلى المقدّمات الثلاثة المعروفة المعبّر عنها في الاُصول بمقدّمات الحكمة؛ لأنّ ملاك الإطلاق والتقييد عنده: لحاظ شياع المعنى وسريانه في تمام الأفراد وعدم لحاظه كذلك إلّا في بعض الأفراد، فلا موضوع للحكم إلّا الأفراد.

وعليه لابدّ لاستفادة الإطلاق من الكلام أوّلاً: من إثبات كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده وما هو موضوع حكمه، لا الإهمال والإجمال.

وثانياً: من انتفاء ما يوجب التعيين والتقييد.

وثالثاً: عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب حتى يكون نسبة کلّ واحد من

ص: 439


1- کما استدلّ بها بعض القدماء (قبل سلطان العلماء). راجع: العلّامة الحلّي، نهایة الوصول، ص240؛ شرح العضدي علی مختصر ابن الحاجب، ص286.

الأفراد في موضوعيّته للحكم على السواء، ولا يكون بعضها في موضوعيّته للحكم متيقّناً ومقطوعاً عند المخاطب والباقي في موضوعيته محتملاً.

فلو انتفى المقدّمة الاُولى بأن احتمل كونه في مقام الإهمال والإجمال لا مجال للتمسّك بالإطلاق.

وهكذا الحال بالنسبة إلى المقدّمة الثانية.

وأمّا المقدّمة الثالثة، فانتفاؤها أيضاً موجب لعدم تمامية الإطلاق؛ لأنّه لو كان موضوعية بعض الأفراد مقطوعاً ومعلوماً عند المخاطب وكان هذا البعض تمام موضوع حكمه لما أخلّ بغرضه لو لم يأت في كلامه بما يفيد ذلك ولما كان منافياً لكونه في مقام البيان؛ لأنّه إنّما يكون في مقام بيان ما هو تمام الموضوع لحكمه وما هو بالحمل الشائع تمام الموضوع، لا في مقام بيان أنّه، تمام موضوع حكمه، وهذا إذا كان القدر المتيقّن موجوداً بحسب مقام التخاطب، كأن تكون في ذهن المخاطب خصوصيات توجب التفاته إلى هذا المتيقّن وقطعه بموضوعيّته للحكم.

وأمّا إذا كان وجود القدر المتيقّن بحسب غير مقام التخاطب، كما لو تأمّل ولاحظ بعض الجهات علم بتيقّن بعض الأفراد دون غيره، فليس مضرّاً بالإطلاق كما لا يخفى.((1))

ولا يخفى عليك: أنّ مورد الشكّ في الإطلاق والتقييد إنّما يكون فيما إذا لم تكن قرينة دالّة على إرادة المقيّد، فإذن لا نحتاج في استفادة الإطلاق إلى المقدّمة الثانية.

كما أنّه يمكن أن يقال: برجوع المقدّمة الثالثة إلى المقدّمة الاُولى؛ فإنّ المخاطب بالنظر الابتدائي وإن يحكم من جهة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بكون الأقلّ تمام مراده، ولكن بالنظر الثانوي يكون هذا راجعاً إلى المقدّمة الاُولى وهو كونه في مقام

ص: 440


1- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص384. وانظر ما أورده المحقّق النائیني(قدس سره) علی المقدّمة الثالثة من مقدّماته في فوائد الاُصول (ج2، ص575 – 576)؛ وأجود التقریرات (ج1، ص530 – 531).

بيان المراد لا الإهمال والإجمال؛ لأنّه لو لم يكن القدر المتيقّن تمام مراده ولم يبيّن لما كان في مقام البيان. وكيف كان، هذا كلّه بناءً على ما اختاره المحقّق الخراساني(رحمه الله).

وأمّا بناءً على ما اخترناه من أنّ ملاك الإطلاق كون معنىً من المعاني تمام متعلّق الحكم من دون دخل خصوصية زائدة فيه، وأنّ الشياع والسريان ذاتيّ الماهيّات والمعاني الكلّية، فلا احتياج للتمسّك بالإطلاق إلّا إثبات كون المتکلّم في مقام بيان ما هو تمام الموضوع لحكمه، فلا نحتاج إلى المقدّمة الثانية، ولا إلى الثالثة أيضاً؛ لعدم تصوّر قدر متيقّن في البين بعد فرض كون المتکلّم في مقام بيان تمام متعلّق حكمه الّذي هي الحيثية والطبيعة الكذائيه لا أفرادها ووجوداتها.

ثم إنّه لا يخفى عليك: أنّه بناءً على ما سلكه المشهور((1)) من لزوم أخذ الشياع والسريان في المطلق وعدمه في المقيّد يلزم أخذ خصوصية زائدة في معنى لفظ المطلق، وكذا في لفظ المقيّد لو قلنا بلزوم ملاحظة شياع المعنى في بعض أفراده في المقيّد ولا نقول بأنّه لم يؤخذ في معناه ذلك. وعلى هذا، لا يمكن استفادة الإطلاق - ولو فرض وجود المقدّمة الاُولى - إلّا من دالّ آخر، فإنّ لفظ المطلق لا يكفي لإفادة المعنى ولحاظ الشياع والسريان فيه أو تقيّده بقيد خاصّ، فلابدّ للمتكلّم أن يتوصّل لإفهام مقصوده من دالّ آخر، وإلّا فلفظ «أعتق رقبة» لا يفيد ذلك.

وهذا بخلاف ما اخترناه، فإنّه على مبنائنا لا تؤخذ الخصوصية الزائدة إلّا في جانب المقيّد، ولذا لو لم يأت المولى إلّا باللفظ المطلق وكان في مقام البيان يستفاد منه الإطلاق، فتدبّر.

ثم إنّه بعدما ظهر عدم الحاجة إلى المقدّمة الثانية والثالثة لاستفادة الإطلاق من الكلام، وأنّ تمام الملاك في استفادة الإطلاق إحراز كون المتكلّم في مقام البيان، فلا

ص: 441


1- تقدّم مسلکه في تعریف المطلق والمقیّد في بدایة البحث.

ريب في أنّ إحراز هذا ليس موكولاً بالسؤال عن المتکلّم، بل الظاهر من أمر الحكيم عبده بحيثية وعدم إتيانه بلفظ آخر في كلامه - غير هذا اللفظ الدالّ على هذه الحيثية - أنّه في مقام بيان تمام موضوعه لا ما هو جزء موضوعه. وهذا ممّا استقرّت عليه طريقة العقلاء، ولذا يحتجّون به. ويكون نظير أصالة الحقيقة وبناؤهم على عدم كون اللفظ الّذي تکلّم به المتکلّم عبرة لمعنى مجازي.

لا أقول: إنّ التمسّك بالإطلاق في المقام يكون أيضاً من باب أصالة الحقيقة، بل أقول: إنّ ملاك حمل الكلام على المعنى الحقيقي، وحمل فعل المتکلّم إذا أمر عبده بحيثية - على أنّ ما هو تمام موضوع حكمه ليس إلّا هذه الحيثية - ولم يأت المتکلّم بما یدلّ على دخالة غير هذه الحيثية في موضوعيّتها للحكم، من باب واحد. ألا ترى أنّه إذا صدر من المولى أمر متعلّق بحيثية مثل «عتق رقبة»، وورد أمر آخر منه متعلّق بهذه الحيثية مع قيد زائد مثل «عتق رقبة مؤمنة» وعلم من الخارج اتّحاد التكليف، مثل قوله: «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و«إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» يقع التعارض بينهما من جهة ظهور كلّ منهما في أنّ ما هو تمام الموضوع ليس إلّا الحيثية المذكورة في كلام المولى، ولكن يجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد، من جهة أنّ ظهور قوله «إن ظاهرت فاعتق رقبة» على كون تمام موضوع الحكم عتق الرقبة إنّما يكون لأجل عدم ذكر ما یدلّ على دخل خصوصية زائدة في موضوع حكمه، وأمّا بعد ذكره ولو في كلام منفصل، لا يبقى مجال للتمسّك بهذا الظهور، ولا يتمّ احتجاج العبد على المولى بسبب هذا الإطلاق، كما هو دأب العقلاء واستمرّت عليه سيرتهم.

تنبيهات

وينبغي التنبيه على اُمور:

التنبيه الأوّل: بعدما عرفت من أنّ ملاك الإطلاق أن يأخذ الحاكم ماهيّة من

ص: 442

الماهيّات على نحو الإرسال دون التقييد في موضوع حكمه، بحيث كان تمام متعلّق حكمه هذه الماهية المرسلة الّتي لا قيد لها، يظهر لك عدم وجود فرق - في مقام ملاحظة الموضوع والطبيعة الّتي تكون مركّباً للحكم - بين كون الحكم أمراً أو نهياً.

ففي جانب الأمر يكون متعلّق الحكم وتمام موضوعه الطبيعة المذكورة في كلام المولى، وحيث إنّ معنى الأمر - كما حقّقناه سابقاً((1)) - هو البعث إلى الوجود والتحريك نحو إصدار الفعل، فبأوّل وجود منها يجب أن يسقط الأمر ويجزي ما أتى به، فلا مجال لبقاء الأمر على حاله بعد الموافقة، لاستحالة طلب الحاصل.

وفي جانب النهي حيث إنّه عبارة عن الزجر عن الوجود، فلا محالة إذا عصى المكلّف وأتى بفرد من أفراده يتحقّق العصيان، ولكن هذا لا يصير سبباً لسقوط النهي، فهو على حاله يكون باقياً؛ لأنّ التكليف لا يسقط بالعصيان وإن اشتهر بينهم سقوطه بالعصيان.((2))

ووجهه: عدم كون عصيان المكلّف سبباً لسقوط التكليف. ولو سقط في ظرف العصيان فسقوطه مستند إلى عدم إمكان بقاء الحكم. ففي جانب النهي لا مانع من بقاء التكليف في فرض العصيان (وقد مرّت الإشارة إلى هذا مفصلاً في المباحث الراجعة إلى النواهي).((3))

فما عن بعض أعاظم المعاصرين من أنّ المطلوب في جانب الأمر هو الطبيعة، لكن تكون ملاحظة الشياع والسريان في أفراده على سبيل البدلية، وفي جانب النهي على سبيل الاستغراق.

ليس في محلّه؛ فإنّ الشياع والسريان مضافاً إلى كونه غير دخيل في المطلب يكون

ص: 443


1- تقدّم في الفصل الأوّل مفاد الأمر والنهي من المقصد الثاني (في النواهي).
2- الخراساني، کفایة الاُصول، ج1، ص186؛ النائیني، فوائد الاُصول، ج1، ص350.
3- تقدّم في نهایة الفصل الأوّل (مفاد الأمر والنهي) من المقصد الثاني (في النواهي).

لازم إرسال الطبيعة وإطلاقها وعدم تقيّدها، ولازم ذلك شياع الحكم وسريانه إلى جميع الأفراد.

التنبيه الثاني: لا ريب في أنّه يجب أن لا يكون موضوع بعض الأحكام، كالأمر والنهي، مع قطع النظر عن الحكم موجوداً حتى يمكن البعث إليه والزجر عنه. ولكن ربما تكون أحكاماً متعلّقةً بموضوعاتها إذا كان موجودة أو مفروضة الوجود. وبعبارة اُخرى: يكون الحكم راجعاً إلى الماهية الّتي جعلت مرآةً لأفراده لا بخصوصياتها الفردية بل بمقدار يمكن أن يرى من مرآة الماهية، مثل قوله تعالى: ﴿وَالْ-عَصْرِ * إِنّ الْإنْسَ-انَ لَفِي خُسْرٍ﴾؛((1)) وقول أمير المؤمنين(عَلَيْهِ السَّلاَمُ): «أَعْجبوا لهذا الإنسان ينظر بشَحم، ويتكلّم بِلَحم... إلخ».((2)) فلا فرق في سريان الحكم إلى جميع الأفراد بين هذا القسم والقسم الأوّل؛ لأنّ منشأه في کلّ منهما كون الماهية المرسلة غير المقيّدة بقيد تمام موضوع الحكم، والشياع والسريان لازم ذلك.

والحاصل: أنّ منشأ الإطلاق في کلّ منهما ليس إلّا إطلاق الموضوع وكون نسبة جميع أفراده إلى الحكم سواء.

ولكنّ الحقّ: أنّ القسم الثاني أشبه بالعامّ، لما قد ذكرنا في مباحث العامّ من أنّ کلّ مفهوم يشار بسببه إلى أفراد ماهية مخصوصة هو العامّ. ولابدّ في هذا القسم من أن يكون المتعلّق معرَّفاً بالألف واللام، كالبيع والإنسان وغيرهما. ومن جهة كون هذا القسم أشبه بالعامّ ذكروا في مبحث العامّ بأنّ المعرَّف باللام يفيد العموم؛((3)) ولذا

ص: 444


1- العصر، 1 – 2.
2- نهج البلاغة، الحکمة 8 (ج4، ص4).
3- الطوسي، العدّة في اُصول الفقه، ج1، ص275؛ رضي الدین الأسترآبادي، شرح الکافیة، ج2، ص129، الغزالي، المستصفی من علم الاُصول، ج2، ص89.

جعلوا مبحث الإطلاق والتقييد مخصوصاً بغير هذا القسم، كما يستفاد من تعريفهم بأنّ المطلق ما دلّ على شائع في جنسه.

وإذا ورد عليه تقييد وشكّ في بقاء الإطلاق بالنسبة إلى الباقي يتمسّك بأصالة العموم مثل العامّ ويثبت الحكم في الباقي.

وأمّا القسم الأوّل فبابه غير باب العموم، وسيأتي الكلام فيه في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.

التنبيه الثالث: هل الاحتياج إلى قاعدة الحكمة لإثبات الإطلاق في جميع الموارد على السواء بحيث لابدّ في جميع الموارد من إحراز كون المتکلّم في مقام البيان أو لا؟

يمكن أن يقال: إذا كانت الحيثية المأخوذة في لسان الدليل تمام متعلّق الحكم ممّا يصحّ كونه في مقام الواقع تمام متعلّق الحكم ومطلوب المتکلّم أو جزء موضوع حكمه ومتعلّق طلبه، بحيث كان التمسّك بأصالة الحقيقة في الهيئات وموادّ الكلام في كلتي الصورتين على حالها، ولا ينافي كون المذكور في الكلام تمام الموضوع أو جزؤه مع إجراء أصالة الحقيقة، فلا مجال لإثبات الإطلاق إلّا بالتمسّك بقاعدة الحكمة وهذا مثل قوله: «أعتق رقبة»، فإنّ أصالة الحقيقة الجارية في موادّ هذا الكلام وهيئاته لا تنافي مع عدم كون عتق الرقبة تمام موضوع الحكم وبيان دخالة قيد فيه مثل الإيمان بدليل منفصل.

وأمّا إذا لم يكن كذلك بل لا يصحّ أن يكون المذكور في لسان الدليل بعض متعلّق الحكم ثبوتاً لمنافاته مع أصالة الحقيقة، فيمكن القول بعدم الاحتياج في إثبات الإطلاق إلى قاعدة الحكمة مثل أن يقال: «لا رجل في الدار» فإنّ مقتضى إجراء أصالة الحقيقة في لفظ «لا» الداخل على الطبيعة نفيها وكونها تمام الموضوع لهذا الحكم، فلو قلنا بإرادة نفي الرجل العالم منه لكان منافياً معه.

ولعلّ أن يكون باب النواهي أيضاً من هذا الباب؛ فإنّ لازم تعلّق النهي - الّذي هو

ص: 445

عبارة عن الزجر عن الوجود - بالطبيعة وأصالة الحقيقة الجارية في طرف النهي الداخل على الطبيعة عدم كون مراد المتکلّم معنى غير الزجر عن الطبيعة، فلو كان مراده غير هذا لكان مجازاً وليس من باب الاستعمال في المعنى الحقيقي.

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

ص: 446

مصادر التحقیق

1. القرآن الکریم.

2. الإبهاج في شرح المنهاج، السبکي، عليّ بن عبد الکافي (م. 756ق.).

3. إتحاف السادة المتقین بشرح إحیاء علوم الدین، الزبیدي، السّید محمد مرتضی، (م. 1205ق.)، بیروت، دار الفکر.

4. إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، النملة، عبد الکریم بن علی (م. قرن 14).

5. أجود التقریرات، النائیني، محمد حسین (م. 1355ق.)، المقرّر السیّد أبو القاسم الخوئي، قم، مطبعة العرفان، 1352ش.

6. الاحتجاج، الطبرسي، أحمد بن عليّ (م. 560ق.)، النجف الأشرف، دار النعمان، 1386ق.

7. الاحکام في اُصول الأحکام، الآمدي، عليّ بن محمد (م. 631ق.)، الریاض، المکتب الإسلامي، 1387ق.

8. إرشاد الطالبین إلی نهج المسترشدین، الفاضل المقداد، مقداد بن عبد الله السیوري (م. 826ق.).

9. الاستبصار، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، دار الکتب الإسلامیة، 1390ق.

10. إشارات الاُصول، الکلباسي، محمد إبراهیم بن محمد حسن (م.1262ق.)، طهران، الطبعة الحجریة، 1245ق.

ص: 447

11. الأعلام، الزرکلي، خیر الدین (م. 1410ق.)، بیروت، دار العلم للملایین، 1980م.

12. الأمالي، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، قم، دار الثقافة، 1412ق.

13. الأمالی، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة البعثة، 1417ق.

14. أمان الأمّة من الضلال والاختلاف، الصافي الگلپایگاني، لطف الله، قم، المطبعة العلمیة، 1397ق.

15. انوار الملکوت في شرح الیاقوت، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، منشورات الشریف الرضي، 1363ش.

16. أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، المفید، محمد بن محمد (م.493ق.).

17. إیضاح الفوائد فی شرح اشکالات القواعد، الحلّي، محمد بن حسن (م. 771ق.)، قم، المطبعة العلمیة، 1387ق.

18. الباب الحادي عشر، العلّامه الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، منشورات المصطفوي، 1399ق.

19. بحار الانوار، المجلسي، محمد باقر (م. 1111ق.)، بیروت، دار احیاء التراث العربي، 1403ق.

20. بدائع الأفکار في الاُصول، العراقي، ضیاء الدین (م. 1381ق)، المقرّر میرزا هاشم الآملي، النجف الأشرف، المطبعة العلمیة، 1370ق.

21. بدائع الأفکار، الرشتي، میرزا حبیب الله بن محمد علي (م. 1312ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

22. بصائر الدرجات الکبری، الصفّار، محمد بن حسن (م. 290ق.)، طهران، مؤسّسة الأعلمي، 1404ق.

ص: 448

23. البصائر النصیریة في المنطق، ابن سهلان الساوي، عمر بن سهلان (م.450ق.)، قم، المدرسة الرضویة.

24. تاریخ بغداد، الخطیب البغدادي، أحمد بن عليّ (م. 463ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1417ق.

25. التبیان فی تفسیر القرآن، الطوسي، محمد بن حسن (م. 460ق.)، بیروت، دار احیاء التراث العربي.

26. تشریح الاُصول، النهاوندي، مولی عليّ بن مولی فتح الله، طهران، دار الخلافة، 1320ق.

27. التعریفات، الجرجاني، علیّ بن محمد (م. 816ق.)، طهران، منشورات ناصر خسرو، 1412ق.

28. تفسیر العیاشي، العیاشي، محمد بن مسعود (م. 320ق.)، طهران، المکتبة العلمیة الإسلامیة.

29. التفسیر الکبیر، الفخر الرازي، محمد بن عمر (م. 606ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1420ق.

30. تقریرات آیة المجدد الشیرازي، الروزدري، علي (م. 1290ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1409ق.

31. تهذیب الأحکام، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، طهران،دار الکتب الإسلامیة، 1364ش.

32. تهذیب الوصول إلی علم الاُصول، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.).

33. التوحید، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة النشر اسلامي، 1398ق.

ص: 449

34. تیسیر التحریر، امیر بادشاه، محمد أمین بن محمود (م. قرن 10).

35. جامع أحادیث الشیعة، البروجردي، السیّد حسین (م. 1380ق.)، قم، المطبعة العلمیة، 1399ق.

36. جامع الأخبار، الشعیری، محمد بن محمد (م. قرن 6)، النجف الأشرف، المطبعة الحیدریة.

37. جامع المقاصد فی شرح القواعد، الکرکي، عليّ بن حسین (م. 940ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1408ق.

38. جواهر الاُصول، المرتضوي النگرودي، محمد حسن، طهران، مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمیني(قدس سره)، 1376ش.

39. جواهر الکلام في شرح شرائع الإسلام، النجفي، محمد حسن (م. 1266ق.)، طهران، دار الکتب الاسلامیة، 1366ش.

40. الجوهر النضید في شرح کتاب التجرید، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م.726ق.)، قم، منشورات بیدار، 1413ق.

41. حاشیة الصبّان علی شرح الاُشموني، الصبّان، محمد بن عليّ (م. 1206ق.)، قم، منشورات الزاهدي، 1412ق.

42. الحاشیة علی قوانین الاُصول، الموسوي القزویني، السیّد عليّ (م.1297ق.)، مطبعة حاجي إبراهیم التبریزي.

43. الحاشیة علی کفایة الاُصول، الحجّتي البروجردي، بهاء الدین، تقریرات أبحاث السیّد حسین البروجردي، قم، منشورات إسماعیلیان، 1412ق.

44. الحجّة في الفقه، الحائري الیزدي، مهدي، تقریرات درس السیّد حسین الطباطبائي البروجردي، أصفهان، مؤسّسة الرسالة، 1419ق.

ص: 450

45. الحدائق الناظرة، البحراني، یوسف بن أحمد (م. 1186ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

46. الخصال، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1403ق.

47. درر الفوائد في الحاشیة علی الفرائد، الخراساني، محمد کاظم (م. 1329ق.)، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الاسلامي، 1410ق.

48. درر الفوائد، الحائري الیزدي، عبد الکریم (م. 1355ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1408ق.

49. دعائم الإسلام، المغربي، قاضي نعمان بن محمد التمیمي (م. 363ق.)، القاهرة، دار المعارف، 1383ق.

50. الذریعة إلی اُصول الشریعة، السیّد المرتضی، عليّ بن الحسین (م. 436ق.).

51. رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، السبکي، عبد الوهاب بن عليّ (م. 771ق.).

52. روضة الناظر وجنّة المناظر، المقدسي، أحمد بن قدامة، مصر،المطبعة السلفیة، 1341ق.

53. زبدة الاُصول، البهائي العاملي، محمد بن الحسین (م. 1031ق.)، طهران، الطبعة الحجریة، 1319ق.

54. السرائر، ابن إدریس الحلّي، محمد بن منصور (م. 598ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1410ق.

55. سنن أبي داود، أبو داود السجستاني، سلیمان بن الأشعث (م. 275ق.)، دار إحیاء السنة النبویة.

ص: 451

56. شرح الإشارات والتنبیهات، الخواجة نصیر الدین الطوسي، محمد بن محمد (م. 672ق.)، قم، نشر البلاغة، 1383ش.

57. شرح الاُصول الخمسة، القاضي عبد الجبار الأسد آبادي، عبد الجبار بن أحمد (م. 415ق.)، بیروت، دار إحیاء التراث العربي، 1422ق.

58. شرح البدخشي والأسنوي علی مناهج العقول، البدخشي، محمد بن حسن (م. قرن7).

59. شرح التصریح علی التوضیح، الأزهري، خالد بن عبد الله (م. 905ق.)، مصر، دار إحیاء الکتب العربیة.

60. شرح الرضي علی الکافیة، رضي الدین الأسترآبادي، محمد بن الحسن (م. 688ق.)، طهران، مؤسّسة الصادق، 1395ق.

61. شرح السیوطي علی ألفیة ابن مالك ، السیوطي، جلال الدین (م. 911ق.).

62. شرح الشمسیة، قطب الدین الرازي، محمد بن محمد (م. 776ق.)،إیران، الطبعة الحجریة، 1304ق.

63. شرح العضدي علي مختصر ابن الحاجب، العضدي، عبد الرحمن بن أحمد، إسلامبول، مطبعة العالم، 1310ق.

64. شرح اللمع في اُصول الفقه، الشیرازي، إبراهیم بن عليّ (م. 474ق.).

65. شرح المطالع في المنطق، قطب الدین الرازي، محمد بن محمد (م. 776ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي.

66. شرح المقاصد، التفتازاني، سعد الدین مسعود بن عمر (م. 793ق.)، قم، منشورات الشریف الرضي، 1370ق.

ص: 452

67. شرح المنظومة، السبزواري، هادي بن مهدي (م. 1289ق)، قم، مکتبة العلّامة، 1369ش.

68. شرح المواقف، الجرجاني، عليّ بن محمد (م. 816ق.)، قم، منشورات الشریف الرضي، 1412ق.

69. شرح تجرید الاعتقاد، القوشجي، علّي بن محمد (م. 879ق.)، الطبعة الحجریة، 1285ق.

70. شرح تنقیح الفصول في اختصار المحصول، القرافي، أحمد بن إدریس (م. 684ق.).

71. الشفاء (المنطق)، ابن سینا، حسین بن عبد الله (م. 428ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي، 1405ق.

72. شوارق الإلهام في شرح تجرید الکلام، اللاهیجي، عبد الرزاق بن علي (م. 1072ق.)، أصفهان، نشر المهدوي، الطبعة الحجریة.

73. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربیة، الجوهری، إسماعیل بن حمّاد (م. 393ق.)، بیروت، دار العلم للملایین، 1407ق.

74. ضوابط الاُصول، القزویني الحائري، السیّد إبراهیم بن محمد، الطبعة الحجریة.

75. طبقات أعلام الشیعة، آغا بزرگ الطهراني، محمد محسن (م. 1389ق.).

76. العدّة في اُصول الفقه، الطوسي، محمد بن الحسن (م. 460ق.)، قم، مطبعة ستارة، 1417ق.

77. عوالي اللئالي العزیزیة في الأحادیث الدینیة، ابن أبي جمهور الأحسائي، محمد بن علي (م. 880ق.)، قم، مطبعة سیّد الشهداء، 1403ق.

78. عیون أخبار الرضا(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، بیروت، مؤسّسة الأعلميّ، 1404ق.

ص: 453

79. فرائد الاُصول، الأنصاري، مرتضی (م. 1281ق.)، تبریز، الطبعة الحجریة، 1314ق.

80. الفصول الغرویة في الاُصول الفقهیة، الأصفهاني، محمد حسین بن عبد الرحیم (م. 1254ق.)، قم، دار إحیاء العلوم الإسلامیة، 1404ق.

81. فوائد الاُصول، الخراساني، محمد کاظم (م. 1329ق.)، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1407ق.

82. فوائد الاُصول، النائیني، محمد حسین (م. 1355ق.)، المقرّر محمد عليّ الکاظمي الخراساني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامی، 1376ش.

83. فواتح الرحموت، الأنصاري، محمد بن نظام الدین، قم، دار الذخائر،1368ش.

84. قواعد الأحکام فی معرفة الحلال والحرام، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، مؤسّسة النشر الاسلامي، 1413ق.

85. قوامع الفضول في الاُصول، العراقي، محمود بن جعفر (م. 1308ق.).

86. قوانین الاُصول، القمي، المیرزا أبو القاسم بن الحسن (م. 1231ق.)، طهران، المکتبة العلمیة الإسلامیة، 1378ق.

87. الکافي، الکلیني، محمد بن یعقوب (م. 329ق.)، طهران، دار الکتب الإسلامیة، 1363ش.

88. کشف المراد في شرح تجرید الاعتقاد، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1407ق.

89. کفایة الاُصول، الخراساني، محمد کاظم (م. 1329ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

90. لمحات الاُصول، الإمام الخمیني، السیّد روح الله الموسوي (م. 1409ق.).

91. اللمع في الردّ علی أهل الزیغ والبدع، الأشعري، عليّ بن إسماعیل (م.330ق.).

ص: 454

92. مبادئ الوصول إلی علم الاُصول، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، المطبعة العلمیة، 1404ق.

93. مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان، أردبیلي، أحمد بن محمد (م. 993ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

94. المحاسن، البرقی، احمد بن محمد (م. 274ق.)، طهران، دار الکتب الاسلامیة، 1370ش.

95. المحصول فی علم اُصول الفقه، الفخر رازي، محمد بن عمر (م. 606ق.)، بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1412ق.

96. مسالك الأفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، الشهید الثاني، زین الدین بن عليّ العاملي (م. 965ق.)، قم، مؤسّسة المعارف الاسلامیة، 1413ق.

97. مستدرﻙ الوسائل، المحدّث النوري، میرزا حسین (م. 1320ق.)، بیروت، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لاحیاء التراث، 1408ق.

98. المستصفی في علم الاُصول، الغزالي، محمد بن محمد (م.550ق.)، قم، دار الذخائر، 1368ش.

99. مستطرفات السرائر، ابن ادریس الحلّي، محمد بن منصور (م. 598ق.).

100. المسلك في اُصول الدین، المحقّق الحلّي، جعفر بن حسن (م. 676ق.)، مشهد، آستان قدس رضوي، 1421ق.

101. مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل (م. 241ق.)، مصر، المطبعة المیمنیة، 1313ق.

102. مشارق الشموس في شرح الدروس، الخوانساري، حسین بن محمد (م. 1099ق.).

ص: 455

103. مطارح الأنظار، الکلانتري الطهراني، أبو القاسم بن محمد (م. 1292ق.)، تقریرات شیخ مرتضی الأنصاري، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1404ق.

104. المطالب العالیة، الفخر الرازي، محمد بن عمر (م. 606ق.).

105. المطوّل، التفتازاني، سعد الدین مسعود بن عمر (م. 793ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي، 1407ق.

106. معارج الاُصول، المحقّق الحلّي، جعفر بن حسن (م. 676ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام)، 1403ق.

107. معالم الدین وملاذ المجتهدین، العاملي، حسن بن زین الدین (م. 1011ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

108. المعتبر فی شرح المختصر، المحقّق الحلّي، جعفر بن حسن (م. 676ق.)، قم، مؤسّسة سیّد الشهداء(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، 1364ش.

109. المعتمد في اُصول الفقه، البصريّ، محمد بن عليّ (م.436ق.)، بیروت، دار الکتب العلمیة، 1403ق.

110. المغني، القاضي عبد الجبّار الأسد آبادي، عبد الجبّار بن أحمد (م. 415ق.)، القاهرة، الدار المصریة، 1965م.

111. مغنی اللبیب عن کتب الأعاریب، ابن هشام الأنصاري، عبد الله بن یوسف (م. 761ق.)، طهران، المکتبة العلمیة الإسلامیة، 1291ق.

112. مفاتیح الاُصول، الطباطبائی، السّید محمد المجاهد (م. 1242ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام)، 1296ق.

ص: 456

113. مفتاح العلوم، السکّاکي، یوسف بن أبي بکر (م. 626ق.).

114. مفتاح الکرامة فی شرح قواعد العلامة، العاملي، السیّد محمد جواد (م. 1226ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1423ق.

115. مقالات الإسلامیین واختلاف المصلّین، الأشعري، عليّ بن إسماعیل (م.330ق.).

116. مقالات الاُصول، العراقي، ضیاء الدین (م. 1321ق.)، قم، مکتبة المرعشي النجفي.

117. المقنع، الصدوق، محمد بن عليّ (م. 381ق.)، قم، مؤسّسة الإمام الهادي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، 1415ق.

118. ملاحظات الفرید علی فوائد الوحید، الفرید الگلپایگاني، حسن (م. 1366ق.).

119. من لا یحضره الفقیه، الصدوق، محمد بن علي (م. 381ق.)، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404ق.

120. مناهج الأحکام والاُصول، النراقي، أحمد بن محمد مهدي (م.1245ق.)، الطبعة الحجریة.

121. المنخول من تعلیقات الاُصول، الغزالي، محمد بن محمد (م. 505ق.).

122. الموافقات في اُصول الشریعة، الشاطبي، إبراهیم بن موسی (م.790ق.)، بیروت، دار المعرفة.

123. نقد المحصّل (تلخیص المحصّل)، الخواجة نصیر الدین الطوسي، محمد بن محمد (م. 672ق.).

ص: 457

124. نهایة الأفکار، العراقي، ضیاء الدین (م. 1361ق.)، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1405ق.

125. نهایة الدرایة في شرح الکفایة، الأصفهاني، محمد حسین بن عبد الرحیم (م. 1254ق.)، بیروت، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1429ق.

126. نهایة المرام في علم الکلام، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.)، قم، مؤسّسة الامام الصادق(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، 1419ق.

127. نهایة الوصول إلی علم الاُصول، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م. 726ق.).

128. نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب(عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، الشریف الرضي، تحقیق وشرح محمد عبده، بیروت، دار المعرفة، 1412ق.

129. نهج الحقّ وکشف الصدق، العلّامة الحلّي، حسن بن یوسف (م.726ق)، قم، دار الهجرة، 1414ق.

130. هدایة المسترشدین في شرح معالم الدین، الأصفهاني، محمد تقي بن عبد الرحیم (م. 1248ق.)، قم، مؤسسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث.

131. همع الهوامع شرح جمع الجوامع في علم العربیة، السیوطي، جلال الدین (م. 911ق.).

132. الوافي، الفیض الکاشاني، محسن بن مرتضی (م. 1091ق.)، الأصفهان، مکتبة الإمام أمیر المؤمنین عليّ(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) العامّة، 1406ق.

133. الوافیة في اُصول الفقه، الفاضل التوني، عبد الله بن محمد (م. 1071ق.)، قم، مؤسّسة إسماعیلیان، 1412ق.

134. وسائل الشیعة، الحر العاملي، محمد بن الحسن (م. 1104ق.)، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لاحیاء التراث، 1414ق.

ص: 458

135. وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلکان، أحمد بن محمد (م.681ق.)، بیروت، دار الثقافة.

136. وقایة الأذهان، الأصفهاني، محمد رضا بن محمد حسین، قم، مؤسّسة آل البیت(علیهم السلام) لإحیاء التراث، 1413ق.

ص: 459

ص: 460

فهرس المحتویات

المقدّمة: في بيان اُمور. 7

الأمر الأوّل: في موضوع العلم 9

الأمر الثاني: في الوضع. 21

الأمر الثالث: في الاستعمال المجازي. 33

الأمر الرابع: في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه، أو صنفه، أو شخصه. 35

الأمر الخامس: في أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها بما هي هي. 37

الأمر السادس: في علائم الحقيقة والمجاز. 39

الأمر السابع: في الصحيح والأعمّ 43

التنبيه الأوّل: المراد من الصحّة والفساد 43

التنبيه الثاني: تصوير الجامع. 44

التنبيه الثالث: ثمرة النزاع. 52

هنا مطالب.. 57

الأمر الثامن: في المشتقّ. 63

الأُولى: معنى المشتقّ المتنازع فيه. 63

الثانية: حيثية الصدق ومناط الحمل. 64

الثالثة: أقسام المشتقّات.. 64

ص: 461

الرابعة: المراد بالحال. 65

الخامسة: المراد بالأعمّ 66

محل النزاع في المشتقّ. 66

كيفية النزاع في المشتقّ. 67

تنبيهات.. 68

تذييل. 72

تأسيس الأصل. 73

بقي هنا اُمور. 76

الأمر الأوّل: بساطة المشتقّ. 76

الأمر الثاني: في الفرق بين المشتقّ ومبدئه. 78

الأمر الثالث: في الصفات الجارية على ذاته تعالى. 82

المقصد الأوّل: في الأوامر. 85

الفصل الأوّل: فيما يتعلّق بمادّة الأمر. 87

الجهة الاُولى والثانية: في معنى مادّة الأمر، واعتبار العلوّ والاستعلاء. 87

اعتبار العلوّ والاستعلاء. 88

الجهة الثالثة: في حقيقة الطلب.. 89

الجهة الرابعة: في تقسيم الطلب إلى الوجوبيّ والندبيّ. 102

فائدتان. 106

الجهة الخامسة: في التعبّدي والتوصّلي. 110

وجوه الإشكال في ناحية الأمر. 112

وجوه الإشكال في ناحية الإمتثال. 113

ص: 462

عدم الفرق بين داعي الأمر وغيره 116

الجواب عن الإشكالات.. 116

الحقّ في الجواب عن الإشكال. 121

الاستنتاج من المبحث.. 125

الفصل الثاني: فيما يتعلّق بصيغة الأمر. 127

المبحث الأوّل: في المرّة والتكرار. 127

تنبيه. 128

المبحث الثاني: في الفور والتراخي. 129

الأمر عقيب الحظر. 129

الفصل الثالث: في الإجزاء. 131

عنوان المسألة. 131

المراد من الاقتضاء والإجزاء. 132

الفرق بين الإجزاء، والمرّة والتكرار. 133

الفرق بين الإجزاء، وتبعية القضاء للأداء. 134

الموضع الأوّل: في إجزاء الإتيان بالمأمور به عن التعبّد به ثانياً 134

تبديل الامتثال. 135

الموضع الثاني: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الاختياري 135

حكم صورة الشكّ.. 139

تذنيب.. 140

الموضع الثالث: في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي 141

تحرير محلّ النزاع. 143

ص: 463

المقام الأوّل: إجزاء الإتيان بمقتضى الاُصول الشرعية. 144

المقام الثاني: إجزاء الإتيان بمقتضى الأمارات الشرعية. 146

حكومة الأمارات على الاُصول. 147

إشكال التصويب.. 150

الفصل الرابع: في مقدّمة الواجب. 155

تحرير عنوان النزاع. 155

الأمر الأوّل: ليست المسألة اُصولية. 156

الأمر الثاني: أقسام المقدّمة. 157

حقيقة المعدّ، وعدم المانع، والسبب.. 163

المقدّمة السببیّة في الأفعال التوليدية. 164

الأمر بالمسبّب في الأفعال التوليدية. 165

التحقيق في حقيقة الشرط. 167

إشكال الشرط المتقدّم والمتأخّر. 168

الأمر الثالث: أقسام الواجب.. 170

رجوع الشرط إلى الهيئة أو المادّة 171

موارد رجوع الشرط إلى الهيئة أو المادّة 174

مقام الإثبات.. 175

تنبيهان. 177

غرض صاحب الفصول من التقسيم المذكور. 178

الشكّ في النفسية والغيرية. 183

استحقاق المثوبة والعقوبة. 185

ص: 464

الإشكال على عبادية الطهارات الثلاث.. 186

نكتة فقهية: في الوضوء التهيّئي. 189

الأمر الرابع: قصد التوصّل أو الموصليّة في وجوب المقدّمة. 189

الغرض من الأقوال الثلاثة. 193

ثمرة النزاع. 193

الأمر الخامس: تأسيس الأصل في المسألة. 193

تحرير محلّ النزاع. 194

الأقوال في المسألة. 195

نقد الأقوال بالتفصيل. 196

أدلّة وجوب المقدّمة ونقدها 198

تبرير لمختار الفصول. 200

مقدّمة المستحبّ والحرام 201

الفصل الخامس: في مسألة الضدّ 203

الأوّل: في معنى الضدّ 203

الثاني: كون المسألة من المبادئ الأحكامية. 204

الثالث: في مرادهم من الضدّ وكيفيّة الاقتضاء. 204

الضدّ العامّ 205

الضد الخاصّ.... 207

مقدّمية أحد الضدّين للآخر. 209

مقتضى التحقيق. 210

بيان آخر لمقدّمية الضدّ ونقده 210

ص: 465

الجواب عن النقد 211

ثمرة البحث.. 211

واستشكلوا في الجواب الأوّل. 213

تثبيت معنى التوسّع لتصوير الأمر بالضدّين. 214

الكلام في الترتّب.. 217

تذنيب.. 222

الفصل السادس: في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه. 225

الفصل السابع: في الواجب التخييري. 227

أقسام الواجب التخييري.. 228

إمكان التخيير بين الأقلّ والأكثر. 229

الفصل الثامن: في الواجب الكفائي. 231

اختلاف التعاريف.. 231

نقد التعاريف.. 232

حقيقة الواجب الكفائي. 233

تنبيهان. 233

الفصل التاسع: في الواجب المطلق والموقّت. 235

دلالة الأمر بالموقّت على الأمر به خارج الوقت.. 236

الفصل العاشر: في متعلّق الأوامر والنواهي. 239

المقصد الثاني: في النواهي. 245

الفصل الأوّل: في مفاد الأمر والنهي. 247

التحقيق: اختلاف الأمر والنهي حقيقة وآثاراً 248

ص: 466

تنبيهان. 250

الخلاصة. 251

تعلّق النهي بالكفّ أو الترك؟. 252

تقسيم النهي إلى التعبّدي والتوصّلي. 253

تبصرة: في عدم سقوط التكليف بالعصيان. 254

الفصل الثاني: في اجتماع الأمر والنهي. 255

تحرير محلّ النزاع. 255

مقدّمات البحث.. 258

دليل امتناع الاجتماع ونقده 261

دليل الامتناع في الكفاية ونقده 262

دليل جواز الاجتماع. 267

ثمرة النزاع. 268

تنبيهات.. 269

المختار في المسألة. 279

الفصل الثالث: في اقتضاء النهي للفساد 281

معنى الصحّة والفساد 282

تقسيم النهي في العبادات إلى الإرشادي والمولوي.. 285

أقسام النهي في المعاملات.. 285

الاستدلال على الفساد بفهم العلماء. 287

الاستدلال بالروايات.. 288

تذنيب.. 289

ص: 467

المقصد الثالث: في المفاهیم 291

الفصل الأوّل: في معنى المنطوق والمفهوم 293

شمول البحث على مفهوم المخالفة والموافقة. 296

ردّ إشكال على الشريف المرتضى(قدس سره). 297

الفصل الثاني: في المنشأ وما يحصل به المفهوم 299

مفاد المفهوم 301

الفصل الثالث: في مفهوم الشرط. 305

الفصل الرابع: في المفهوم في الجمل الإنشائية. 309

الفصل الخامس: هل المراد انتفاء سنخ الحكم أو شخصه؟ 311

الفصل السادس: في تعدّد الشرط ووحدة الجزاء. 313

الفصل السابع: في تداخل الأسباب والمسبّبات. 315

تحرير محلّ النزاع. 315

الاستدلال على عدم التداخل. 316

الفصل الثامن: في تطابق المفهوم مع المنطوق. 321

خاتمة: في سائر المفاهيم 322

المقصد الرابع: في العامّ 327

نکتة. 329

تعريف العامّ والخاصّ.... 329

الفصل الأوّل: في أقسام العامّ 331

تذنيب.. 332

الفصل الثاني: في وجود الصيغة للعموم 335

ص: 468

الفصل الثالث: فيما یدلّ على العموم 337

الفصل الرابع: في حجّية العامّ المخصَّص... 341

الفصل الخامس: في التمسّك بالعامّ عند إجمال المخصِّص مفهوماً 351

الفصل السادس: في التمسّك بالعامّ عند إجمال المخصِّص مصداقاً 353

دليل المجوّزين. 353

بيان آخر لتصحيح جواز التمسّك والجواب عنه. 358

وجهان آخران لعدم جواز التمسّك بالعامّ 360

التمسّك بالعامّ في المخصِّص اللبّي. 362

تنبيهات.. 365

التمسّك بالعامّ باستصحاب العدم الأزلي. 367

الفصل السابع: في التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص... 383

مقدار الفحص.... 389

الفصل الثامن: شمول الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين. 391

ثمرة النزاع. 398

الفصل التاسع: تعقب العامّ بضمير راجع إلى بعض أفراده 401

الفصل العاشر: تخصيص العامّ بالمفهوم المخالف.. 405

الفصل الحادي عشر: الاستثناء المتعقّب لجمل متعدّدة 409

الفصل الثاني عشر: جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد 413

الفصل الثالث عشر: أحوال العامّ والخاصّ المتخالفين. 417

المقصد الخامس: في المطلق والمقيّد 419

الأمر الأوّل: في تعريف المطلق والمقيّد 421

ص: 469

الأمر الثاني: في ملاك الإطلاق والتقييد 425

الأمر الثالث: في ألفاظ المطلق. 429

الأمر الرابع: في اعتبارات الماهية وتقسيمها 435

الأمر الخامس: في إحراز الإطلاق إثباتاً 439

تنبيهات.. 442

مصادر التحقیق. 447

ص: 470

آثار سماحة آیة العظمی الصافی الگلپایگانی مد ظله الوارف

الصورة

ص: 471

الصورة

ص: 472

الصورة

ص: 473

الصورة

ص: 474

الصورة

ص: 475

الصورة

ص: 476

الصورة

ص: 477

الصورة

ص: 478

الصورة

ص: 479

الصورة

ص: 480

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.