کتاب القضاء و الشهادات المجلد 1

اشارة

سرشناسه:شفتی بیدآبادی ، محمد باقر بن محمد نقی

عنوان و نام پديدآور:کتاب القضاء و الشهادات / نویسنده سید محمد باقر شفتی / تحقيق السيّد مهدي الشفتيّ

وضعیت استنساخ:شفتی بیدآبادی ، محمد باقر بن محمد نقی

مشخصات ظاهري:2ج

موضوع :فقه

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مقدّمة التحقيق

1 - لمحةٌ من حياة المؤلّف (قدس سره)

اشارة

1 - لمحةٌ من حياة المؤلّف (قدس سره)(1)

اسمه و نسبه

هو السيّد محمّد باقر بن السيّد محمّد نقي ( بالنون ) الموسويّ النسب، الشفتي الرشتيّ الجيلانيّ الأصل واللقب، الغرويّ الحائريّ الكاظميّ العلم والأدب، العراقي، الأصفهاني البيدآبادي المنشأ والموطن والمدفن والمآب، الشهير في الآفاق بحجّة الإسلام على الإطلاق، من فحول علماء الإمامية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ومن كبار زعماء الدين وأعلام الطائفة .

ص: 5


1- لاحظ ترجمته في : بيان المفاخر : المجلّد الأوّل والثاني ؛ روضات الجنّات : 2 / 100 ؛ الفوائد الرضويّة :2/426 ؛ تاريخ اصفهان : 97 ؛ طبقات أعلام الشيعة (ق13) : 2 / 193 ؛ قصص العلماء : 135؛ الروضةالبهيّة في الطرق الشفيعيّة : 19 ؛ مستدرک الوسائل : 3 / 399 ؛ أعيان الشيعة : 9 / 188 ؛ ريحانة الأدب:1/312 ؛ الكنى والألقاب: 2 / 155 ؛ لباب الألقاب: 70 ؛ الكرام البررة : 1 / 192 ؛ معارف الرجال :2/196 ؛ مكارم الآثار: 5 / 1614 ؛ نجوم السماء: 63 ؛ بغية الراغبين (المطبوع ضمن موسوعة الإمام شرفالدين): 7 / 2949 ؛ تكملة أمل الآمل : 5 / 238 ؛ موسوعة طبقات الفقهاء : 13 / 533 ؛ دانشمندانوبزرگان اصفهان: 1 / 373؛ تذكرة القبور: 149 ؛ رجال ومشاهير اصفهان: 255 ؛ وفيات العلماء: 162 ؛غرقاب: 210 ؛ بغية الطالب: 171 ؛ هدية الأحباب: 140 ؛ مزارات اصفهان: 163 ؛ تذكرة العلماء: 213؛أعلام اصفهان: 2 /141.

وأمّا نسبه الشريف هكذا :

محمّد باقر بن محمّد نقي بن محمّد زكي بن محمّد تقي بن شاه قاسم بن مير أشرف بن شاه قاسم بن شاه هدايت بن الأمير هاشم بن السلطان السيّد عليّ قاضي بن السيّد عليّ بن السيّد محمّد بن السيّد علي بن السيّد محمّد بن السيّد موسى بن السيّد جعفر بن السيّد إسماعيل بن السيّد أحمد بن السيّد محمّد بن السيّد أحمد بن السيّد محمّد بن السيّد أبي القاسم بن السيّد حمزة بن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)(1) .

ولادته و نشأته

ولد على أصحّ القولين في سنة 1180 أو 1181 ه (2) في قرية من قرى : «طارم العُليا»، وانتقل إلى شفت و هو ابن سبع سنين (3) .

ثمّ هاجر إلى العراق لطلب العلوم الدينيّة والكمالات النفسانيّة في حدود سنة 1197 ه أو قريبًا من ذلک، و هو ابن ستّ أو سبع عشرة سنة (4) ، فحضر في أوّل أمره على الأستاذ الأكبر الآقا محمّد باقر الوحيد البهبهاني (قدس سره) في كربلاء (5) ، ثمّ

ص: 6


1- . هكذا ذكره صاحب الترجمة في ديباجة كتابه « مطالع الأنوار : 1 / 1 ».
2- . روضات الجنّات : 2 / 102 ؛ تاريخ اصفهان : 97 .
3- . بيان المفاخر : 1 / 24 و 25 .
4- . روضات الجنّات : 2 / 102 .
5- . صرّح بذلک صاحب الترجمة (قدس سره) في بعض إجازاته، حيث قال : ... عن المولى الساطع ... الّذي فزنابالاستفادة من جنابه في أوائل التحصيل في علم الأصول، و قرأنا عليه من مصنّفاته ما هو مشهور بالفوائدالعتيق ... مولانا آقا محمّد باقر البهبهاني ( كتاب الإجازات : مخطوط ).

على أستاذه العلّامة المير سيّد عليّ الطباطبائيّ (قدس سره) صاحب الرياض .

ثمّ رحل إلى النجف الأشرف و أقام فيها سبع سنين، و حضر فيها على العلّامة الطباطبائيّ بحر العلوم (قدس سره)، والشيخ الأكبر صاحب كشف الغطاء.(رحمه الله)

ثمّ سافر إلى الكاظميّة، فحضر فيها على السيّد المحقّق المُحسن البغداديّ المقدّس الأعرجي ؛ قليلاً، فقد قرأ عليه القضاء والشهادات، وأقام عنده مدّة من الزمان .

ولمّا حلّت سنة 1205 ه و قد تمّ بها على المترجم في العراق ثمان سنين بلغ فيها درجة سامية و مكانة عالية، رجع إلى ديار العجم (1) و توطّن في أصفهان (2)

مع الحاجّ محمّد ابراهيم الكلباسي (قدس سره)، وكانا صديقين رفيقين شفيقين .

ثمّ اتّفق له في سنة 1215 ه الارتحال من أصفهان إلى قم أيّام زعامة المحقّق القمّي ؛، فحضر مجلسه بما ينيف على ستّة أشهر (3) ، وكان يقول : « أرى لنفسي

الترقّي الكامل في هذه المدّة القليلة بقدر تمام ما حصل لي في مدّة مقامي

ص: 7


1- . كما نصّ عليه نفسه(قدس سره) في حواشي بعض إجازاته، قال : قد حُرِمنا من شرافة مجاورة العتبات العاليات على مشرفها آلاف التحيّة و الصلوات - و انتقلنا منها إلى ديار العجم في سنة خمس ومائتين بعد الألف،وكان مولانا مولى الكلّ آقا محمّد باقر البهبهاني في الحيات، ثمّ انتقل إلى الفردوس الأعلى في سنة ستّومائتين بعد الألف قدّس الله تعالى روحه السعيد ( كتاب الإجازات : مخطوط ).
2- . قال المترجم له (قدس سره) في حاشية بعض إجازاته ما هذا كلامه : انتقل المرحوم المغفور مير عبدالباقي إلى دارالآخرة - قدّس الله تعالى روحه - في أوائل ورودي في اصبهان في سنة سبع و مائتين بعد الألف من الهجرة(كتاب الإجازات : مخطوط ).
3- . قال سيّدنا المترجم(رحمه الله) في حاشية كتابه « مطالع الأنوار : ج 1 » : « إعلم انّه اتّفق لي في سنة مائتين وخمس عشر بعد الألف الارتحال من اصبهان إلى بلدة قم، ومكثت فيها أربعة أشهر أو أكثر، وكنت مشتغلاًبكتابة هذا المجلّد من الشرح، إلخ».

بالعتبات العاليات » (1) ؛ فكتب له الميرزا (قدس سره) إجازة مبسوطة مضبوطة كان يغتنم بها من ذلک السفر المبارک .

ثمّ سافر بعدها إلى كاشان، فحضر على المولى محمّد مهدي النراقي(رحمه الله) ، وتلمّذ عليه مدّة قليلة (2) .

نقل من بعض المشايخ أنّه بعد وروده إلى أصفهان ليس له شيء من الكتب إلّا مجلّدًا واحدًا من المدارک، و كان مجرّدًا من الأموال، قليل البضاعة، بل عديمها، إلّا منديلاً لمحلّ الخبز، ويسمّى بالفارسية : سفره (3) .

و سكن في مدرسة السلطان - المفتوح بابه إلى چهارباغ العبّاسي - المعروفة في اصفهان بمدرسة چهارباغ، واجتمع الطلّاب والمشتغلون عنده للتحصيل والتعليم، و أخرجه المدرّس من المدرسة و لم يتعرّض له و لم يعارضه، فإذا اطّلع على انّه أمر بالخروج، خرج من غير إظهار للكراهة (4) .

فبعد قليل من الزمان إجتمع عليه أهل العلم والمحصّلون، وانتقلت إليه رياسة الإماميّة في أغلب الأقطار بعد ذهاب المشايخ - رحمهم الله - فصار مرجعًا للفتوى، و أقبلت له الدنيا بحيث انتهت إليه الرياسة الدينيّة والدنيويّة، وملكت أموالاً كثيرة من النقود والعروض والعقار والقرى والدور الكثيرة في محلّة بيدآباد، و كان له أموال كثيرة في التجارة إلى بلدة رشت يدور من اصفهان إلى

ص: 8


1- . انظر روضات الجنّات : 2 / 100 .
2- . الروضة البهيّة في الطرق الشفيعيّة : 19 .
3- . الروضة البهيّة في الطرق الشفيعيّة : 19 .
4- . انظر طرائف المقال : 2 / 377 .

رشت، و يربح كثيرًا .

و كان الباعث على ترويج أمره في أصفهان و في غيره من البلاد، العالم الربّاني والمحقّق الصمداني ميرزا أبوالقاسم الجيلاني القمّي (قدس سره)، المقبول قوله عند العوام والخواص، و عند السلطان والرعيّة .

و أيضًا يقدّمه العالم الزعيم الحاج محمّد إبراهيم الكرباسي(رحمه الله) في المشي والحكم و غيرهما، فكلّ هذه الأمور كانت ترفع شأنه، إلّا انّ يده - تعالى - فوق الأيدي، ترفع و تضع طبق المصالح الربّانيّة (1) .

وكانت بينه و بين الحاج محمّد إبراهيم المذكور صلة متينة و صداقة تامّة من بدء أمرهما، فقد كانا زميلين كريمين في النجف، تجمع بينهما معاهد العلم، وشاء الله أن تنمو هذه المودّة شيئًا فشيئًا، و يبلغ كلّ منهما في الزعامة مبلغًا لم يكن يحدث له في البال، وأن يسكنا معًا بلدة أصفهان، ويتزعّما بها في وقت واحد، ولم تكن الرياسة لتكدّر صفو ذلک الودّ الخالص، أو تؤثّر مثقال ذرّة، فكلّما زادت سطوة أحدهما زاد اتّصالاً و رغبة بصاحبه، فاعتبروا يا أولى الأبصار .

و حجّ بيت الله الحرام في سنة 1231 ه (2) من طريق البحر، و كان ذلک أيّام محمّد عليّ باشا المصريّ، و كانت له زيارة خاصّة له، فأخذ منه « فدک » وكفّل بها سادات المدينة (3) ؛ و كذلک حدّد المطاف على مذهب الشيعة للمسلمين في مكّة

ص: 9


1- . الكرام البررة : 1 / 194 .
2- . صرّح بذلک نفسه(قدس سره) في مناسكه ( مناسک الحجّ : مخطوط ).
3- . قصص العلماء : 145 ؛ وقد أشار بذلک الميرزا حبيب الله نيّر(رحمه الله) ضمن مرثيته للمترجم(قدس سره) (معادن الجواهر: 1 / 23 ) بقوله :ميراث أولاد الزهراء استرد لهممن غاصبي فدک في طوفه الحرما

المكرّمة (1) .

و في سنة 1243 (2) أخذ في بناء المسجد الأعظم باصبهان (3) وأنفق عليه ما يقرب من مائة ألف دينار شرعيّ تقريبًا من أمواله الخالصة، ومال بقبلته إلى يمين قبلة سائر المساجد يسيرًا، و جعل له مدارس و حجرات للطلبة، و أسّس أساسًا لم يعهد مثله من أحد العلماء والمجتهدين، و بنى فيه قبّة لمدفن نفسه، و هي الآن بمنزلة مشهد من مشاهد الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)مطاف للخلايق في خمسة أوقات الصلوات .

إطراء العلماء له

1- الفقيه المحقّق ميرزا أبوالقاسم القمّي (قدس سره)

هو من أساتذته و مشايخه، قال في إجازته الكبيرة له :

«... فقد استجازني الولد الأعزّ الأمجد، والخل الأسعد الأرشد العالم العامل الزكي الذكي، والفاضل الكامل الألمعيّ اللوذعيّ، بل المحقّق

ص: 10


1- . تاريخ اصفهان : 97 .
2- . صرّح بهذا التاريخ معاصره الأديب الفاضل الميرزا محمّد عليّ الطباطبائي الزوّاري، المتخلّص بوفا(المتوفّى سنة 1248 ه ) في تذكرته الموسومة بالمآثر الباقريّة : ص 232، الّتي جمع فيها بعض من القصائدوالمقطّعات الّتي أنشدها الشعراء في مدح حجّة الإسلام(قدس سره) ووصف مسجده الأعظم .
3- . أنشأه في محلّة «بيدآباد»، وهي من محلّات أصفهان العظيمة .

المدقّق التقي النقي، ابن المرحوم المبرور السيّد محمّد نقي، محمّد باقر الموسويّ الجيلانيّ، أسبل الله عليه نواله، و كثّر في الفرقة الناجية أمثاله »(1) .

2 - الحكيم المولى عليّ النوريّ (قدس سره)

هو من أساتذته، قد أطرى عليه بقوله :

« علّامة العهد، فقيه العصر، حجّة الطائفة المحقّة، قبلة الكرام البررة، الفريد الدهريّ، والوحيد العصريّ، مطاع، واجب الإتّباع، معظّم، مجموعة المناقب والمفاخر، آقا سيّد محمّد باقر، دامت بركات فضائله الإنسيّة و شمائله القدسيّة » (2) .

زهده و عبادته

قال المحدّث القمّي(رحمه الله) في الفوائد الرضويّة، نقلاً عن صاحب التكملة :

« حجّة الإسلام السيّد محمّد باقر كان عالمًا ربّانيًّا روحانيًّا ممّن عرف حلال آل محمّد (عليهم السلام)و حرامهم، و شيّد أحكامهم، و خالف هواه، واتّبع أمر مولاه، كان دائم المراقبة لربّه، لا يشغله شيء عن الحضور والمراقبة. و قال : حدّثني والدي(رحمه الله) انّ آماق عين السيّد كانت مجروحة من كثرة بكائه في تهجّده .

ص: 11


1- . بيان المفاخر : 2 / 7 .
2- . رسالة في أحكام القناة للمترجم له : مخطوط .

و حدّثني بعض خواصّه، قال: خرجت معه إلى بعض قراه، فبتنا في الطريق، فقال لي: ألا تنام؟! فأخذت مضجعي فظنّ أني نمت، فقام يصلّي، فوالله إنّي رأيت فرائصه وأعضائه يرتعد بحيث كان يكرّر الكلمة مرارًا من شدّة حركة فكّيه وأعضائه، حتّى ينطق بها صحيحة » (1) .

إقامته الحدود الشرعيّة

يعتقد السيّد حجّة الإسلام أنّ إقامة الحدود واجبة على الفقيه الجامع لشرائط الفتوى في عصر الغيبة عند التمكّن من الإقامة والأمن من مضرّة أهل الفساد، وألّف (قدس سره) في إثبات هذا الاعتقاد رسالة ؛ و بهذا كان يقيم الحدود الشرعيّة ويجريها بيده أو يد من يأمره بلا خشية و لا خوف .

قال صاحب الروضات(رحمه الله) :

يقدم إلى إجرائه بالمباشرة أو الأمر بحيث بلغ عدد من قتله(رحمه الله) في سبيل ربّه - تبارک و تعالى - من الجناة والجفاة أو الزناة أو المحاربين اللاطين زمن رئاسته ثمانين أو تسعين، و قيل : مائة و عشرين (2) .

أساتذته و مشايخ روايته

1 - الأستاذ الأكبر الآقا محمّد باقر الوحيد البهبهاني (قدس سره) ( المتوفّى 1206 ق )

ص: 12


1- . الفوائد الرضويّة : 2 / 429 .
2- . روضات الجنّات : 2 / 101 .

2 - الميرزا محمّد مهدي الموسويّ الشهرستانيّ (قدس سره) ( المتوفّى سنة 1216 ق )

3 - الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء (قدس سره) ( المتوفّى سنة 1227 ق )

4 - الشيخ سليمان بن معتوق العامليّ (قدس سره) ( المتوفّى سنة 1227 ق )

5 - السيّد محسن الأعرجيّ البغداديّ (قدس سره) ( المتوفّى سنة 1227 ق )

6 - الأمير السيّد عليّ الطباطبائي الحائريّ (قدس سره) ( المتوفّى سنة 1231 ق )

7 - الميرزا أبوالقاسم الجيلاني القمّي (قدس سره) ( المتوفّى سنة 1231 ق )

أولاده

له (قدس سره) أولاد متعدّدون، كلّهم علماء أجلّاء، و سادة فضلاء، إنتهت إليهم الرياسة الدينيّة والعلميّة بعد أبيهم في أصفهان، و هم:

1 - السيّد أسد الله ( 1228 - 1290 ق ) (1)

ص: 13


1- . ترجمته في : روضات الجنّات : 2 / 103 ( ذيل ترجمة أبيه ) ؛ أعيان الشيعة : 11 / 109 ؛ بيان المفاخر :2/ 245 - 351 ؛ الكنى والألقاب : 2 / 156 ؛ الفوائد الرضويّة : 1 / 42 ؛ أحسن الوديعة : 1 / 78 ؛ المآثروالآثار : 138 ؛ الروضة البهيّة في الطرق الشفيعيّة : 22 ؛ ماضي النجف وحاضرها : 1 / 133 ؛ معارف الرجال: 1 / 94 ؛ مكارم الآثار: 3 / 836؛ لباب الألقاب: 71؛ ريحانة الأدب: 2 / 26؛ قصص العلماء: 122؛الكرام البررة: 1/124؛ نجوم السماء: 332 ؛ بغية الراغبين ( المطبوع ضمن موسوعة الإمام شرف الدين ) :7/ 2950 ؛ تكملة أمل الآمل : 2 / 165 ؛ مرآة الشرق : 1 / 146 ؛ رجال ومشاهير اصفهان : 153 ؛ تاريخاصفهان و رى : 262؛ تاريخ اصفهان : 305 ؛ دانشمندان وبزرگان اصفهان : 1 / 253 ؛ أعلام اصفهان :1/519 ؛ منتخب التواريخ: 718 ؛ ناسخ التواريخ : (تاريخ قاجار) 3 / 103 ؛ علماى معاصرين: 331 ؛روضة الصفا: 10 / 458.

قال الإمام السيّد عبدالحسين شرف الدين في ترجمة والده(قدس سره) ما هذا كلامه :

« و خَلَفَه ولده الأبرّ الأغرّ، الفقيه الأصولي، المحقّق البحّاثة، العلّامة السيّد أسد الله . كان(رحمه الله) على شاكلة أبيه في العلم والعمل والجهاد لنفسه والمراقبة عليها آناء الليل، و أطراف النهار . و قد انتهت إليه رئاسة الدين في ايران، وانقادت لأمره عامّة الناس وخاصّتها حتّى السلطان ناصرالدين شاه ... »(1) .

2 - السيّد محمّد مهديّ (2)

3 - السيّد محمّد عليّ ( حدود 1227 - 1282 ه ) (3)

4 - السيّد مؤمن ( 1294 ه ) (4)

5 - السيّد محمّد جعفر ( المتوفّى عاشوراء 1320 ه ) (5)

6 - السيّد زين العابدين ( المتوفّى قبل 1290 ه ) (6)

ص: 14


1- . بغية الراغبين ( المطبوع ضمن موسوعة الإمام شرف الدين ): 7 / 2950 .
2- . ترجمته في : رجال اصفهان : 146 ؛ تذكرة القبور : 81 ؛ بيان المفاخر : 2 / 161 ؛ دانشمندان وبزرگاناصفهان: 1 / 381 .
3- . ترجمته في : غرقاب : ص 222 ؛ الكرام البررة (القسم الثالث): 119 ؛ تذكرة القبور : 81 ؛ بيان المفاخر :2/ 159 و 160 ؛ مكارم الآثار : 7 / 2490 - 2487 ؛ بزرگان ودانشمندان اصفهان : 1 / 379.
4- . ترجمته في تذكرة القبور : 81 ؛ بيان المفاخر : 2 / 160 ؛ دانشمندان وبزرگان اصفهان: 1 / 380 ؛ رجالاصفهان : 147 ؛ تكملة أمل الآمل : 6 / 96 ؛ المآثر والآثار : 184 ؛ تكملة نجوم السماء : 1 / 400.
5- . ترجمته في: بيان المفاخر: 2 / 155 - 157؛ نقباء البشر: 1/279؛ دانشمندان وبزرگان اصفهان: 1/ 377تاريخ اصفهان : 324 ؛ المآثر والآثار : 1 / 249 ؛ معجم رجال الفكر والأدب : 1 / 398 ؛ اعلام اصفهان :2/ 288.
6- . ترجمته في : بيان المفاخر : 2 / 157 و 158 ؛ الكرام البررة : 2 / 589 ؛ دانشمندان وبزرگان اصفهان :1/378 ؛ تكملة نجوم السماء : 1 / 368 ؛ المآثر والآثار : 1 / 221 ؛ تذكرة القبور : 146 ؛ اعلام اصفهان :3/ 261 .

7 - السيّد أبو القاسم ( المتوفّى 1262 ه ) (1)

8 - السيّد هاشم ( المتوفّى قبل 1293 ه ) (2)

تآليفه القيّمة

له مؤلّفات كثيرة، و رسائل متعدّدة، كلّها تفصح عن تضلّعه في شتّى العلوم المختلفة خصوصًا الفقه والرجال، و تظهر منها جامعيّته من المعقول والمنقول، وإليک أسماء بعضها :

الكتب و الرسائل الفقهيّة

1- مطالع الأنوار المقتبسة من آثار الأئمّة الأطهار(عليهم السلام)( شرح شرائع الإسلام )

2- تحفة الأبرار الملتقط من آثار الأئمّة الأطهار لتنوير قلوب الأخيار

3- المصباح الشارقة في الصلاة

4- السؤال و الجواب

5- كتاب القضاء و الشهادات

ص: 15


1- . ترجمته في : دانشمندان وبزرگان اصفهان : 1 / 376 ؛ الكرام البررة : 1 / 51 ؛ بيان المفاخر : 2 / 154؛مكارم الآثار : 5 / 1619 .
2- . ترجمته في : بيان المفاخر : 2 / 162 ؛ آثار ملّى اصفهان : 193 .

6- مناسک الحجّ

7- رسالة في آداب صلاة الليل و فضلها

8- رسالة في إبراء الوليّ مدّة المتعة عن المولى عليه

9- رسالة في حرمة محارم الموطوء على الواطي

10- رسالة في الردّ على رسالة تعيين السلام الأخير في النوافل

11- رسالة في الردّ على ردّ المولى الإيجهي(رحمه الله)

12- إقامة الحدود في زمن الغيبة

13- رسالة في أنّ يد الواقف كاف في القبض لو كان هو المتولّي

14- رسالة في مسألة الغُسالة

15- رسالة في تطهير العجين بالماء النجس بتخبيزه و عدمه

16- رسالة في أنّ اللبن المضروب بماءٍ نجسٍ هل يطهّر بطبخه آجرًا أو خزفًا أم لا؟

17- رسالة في الأراضي الخراجيّة

18- رسالة في أحكام الشکّ والسهو في الصلاة

19- رسالة في طهارة عرق الجنب من الحرام

20- رسالة في صلاة الجمعة

21- رسالة في العقد على أخت الزوجة المطلّقة

22- رسالة في حكم صلح حقّ الرجوع في الطلاق الرجعيّ

23- رسالة في جواز الإتّكال بقول النساء في انتفاء موانع النكاح فيها

ص: 16

24- رسالة في حكم الصلاة في جلد الميتة المدبوغ

25- رسالة في ثبوت الزنا واللواط بالإقرار

26- رسالة في شرح جواب المحقّق القمّي(رحمه الله)

27- رسالة في أحكام القناة

28- رسالة في ولاية الحاكم على البالغة غير الرشيدة

29- رسالة في حكم الصلاة عن الميّت

30- رسالة في تحديد آية الكرسي

31- رسالة في كيفيّة زيارة عاشوراء

32- رسالة في حكم أكل التربة الحسينيّة و تعيين الحائر

33- رسالة في صيغ النكاح

34- رسالة في العصير العنبيّ والزبيبيّ والتمريّ

35- رسالة في نجاسة المخالفين و عدمه

36- رسالة في انّه هل يجوز نيّة الوجوب في الوضوء قبل دخول الوقت مع اشتغال الذمّة بالقضاء و عدم ارادة الإتيان بها بذلک الوضوء، أم لا ؟

37- رسالة في تعريف البيع وأقسامه و شروطه

38- رسالة في توكيل الصبيّ المميّز

39- رسالة في أنّه هل ينفسخ المبايعة الخياريّة بمجرّد ردّ مثل الثمن وإرادة الفسخ من غير أن يتلفّظ بصيغة الفسخ، أم لا ؟

ص: 17

40- رسالة في أنّه إذا وقع عقد النكاح من الأب وكالة للابن المريض فمات قبل الدخول ما حكمه من العدّة والصداق والميراث و تزويج المرأة في العدّة ؟

41- رسالة في أنّه إذا انهدم بنيان لمالكين، هل يجوز لمالک بناء التحت بعد الإحياء منع مالک الفوق من الإحياء، أم لا ؟

42- رسالة في انّه إذا قتل عبد حرًّا ما حكمه

43- رسالة في ميراث الغائب و بيان زمان التربّص

44- رسالة في جواز الوصل بين اسطوانين أو أسطوانات المسجد لجدار ضعيف البنيان لمصلحة إقامة الجماعة

45- رسالة في سلام التحيّة في الصلاة

46- الرسالة العمليّة

الكتب و الرسائل الحديثيّة

47- الحاشية على الكافي

48- الحاشية على الوافي

49- شرح الحديثين المرويّين عن العترة الطاهرة (عليهم السلام)

الكتب و الرسائل الأصوليّة

50- الزهرة البارقة لمعرفة أحوال المجاز والحقيقة

ص: 18

51- رسالة في الاستصحاب

52- الحاشية على تهذيب الوصول

53- الحاشية على أصول معالم الدين

54- رسالة في الاجتهاد والتقليد

الكتب و الرسائل الرجاليّة

55- الحاشية على رجال الطوسي

56- الحاشية على الفهرست

57- الحاشية على خلاصة الأقوال

58- رسالة في تحقيق حال أبان بن عثمان و أصحاب الإجماع

59و60 - رسالتان في تحقيق حال إبراهيم بن هاشم القمّي (1)

61- الإرشاد الخبير البصير إلى تحقيق الحال في أبي بصير

62- رسالة في تحقيق حال أحمد بن محمّد بن خالد البرقي

63- رسالة في تحقيق حال أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري

64و65 - رسالتان في تحقيق حال إسحاق بن عمّار الساباطي

ص: 19


1- . صرّح السيّد حجّة الإسلام(قدس سره) في الرسالة الثانية بأنّه كتب في تحقيق أحواله رسالتان، حيث قال في أوّلها :لمّا كتبت في سالف الزمان رسالة في تحقيق الحال في إبراهيم بن هاشم وأغفلت فيها بعض ما ينبغي التنبيهعليه، أبرزت هذه الكلمات في ذلک المرام ( الرسائل الرجاليّة : 61 ).

66-رسالة في تحقيق حال حسين بن خالد

67- رسالة في تحقيق حال حماد بن عيسى الجهني

68- رسالة في تحقيق حال سهل بن زياد الآدمي الرازي

69- رسالة في تحقيق حال شهاب بن عبد ربّه

70- رسالة في تحقيق حال عبد الحميد بن سالم العطّار وولده محمّد

71- رسالة في تحقيق حال عمر بن يزيد

72- رسالة في تعيين محمّد بن اسماعيل الواقع في صدر بعض أسانيد الكافي (1)

73- رسالة في تحقيق حال محمّد بن أحمد الراوي عن العمركي

74- رسالة في تحقيق حال محمّد بن خالد البرقي

75و76- رسالتان في تحقيق حال محمّد بن سنان

77- رسالة في تحقيق حال محمّد بن الفضيل

78- رسالة في تحقيق حال محمّد بن عيسى اليقطيني

79- رسالة في بيان أشخاص الّذين لقّبوا بما جيلويه

80- رسالة في تحقيق حال معاوية بن شريح و معاوية بن ميسرة و أنّهما واحد

ص: 20


1- . قال صاحب الذريعة(قدس سره): ترجمة محمّد بن اسماعيل الواقع في صدر بعض أسانيد الكافي، للسيّد حجّةالإسلام الاصفهاني، طبعت مع رسائله، فرغ من أصله سنة 1206، ثمّ بعد مدّة كتب عليه حاشية منه سنة1232 ( الذريعة : 4 / 162 الرقم 801 ).

81- رسالة في بيان العدّة المتكرّرة في أسانيد الكافي (1)

الكتب و الرسائل المتفرّقة

82- رسالة في أصول الدين

83- سؤال و جواب عن بعض عقائد الشيخيّة

84- رسالة في أنّ المراد من الطعام في قوله تعالى : ( و طعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم ) ماذا ؟

85- الحلية اللامعة للبهجة المرضيّة

وفاته و مرقده

عاش - قدّس الله نفسه الزكيّة - ثمانين سنة تقريبًا، ثمّ أجاب دعوة الإلهيّة في عصيرة يوم الأحد، الثاني من شهر ربيع الثاني سنة 1260 ه (2) علی اصح

ص: 21


1- . طبعت أكثر هذه الرسائل في مجلّد واحد بتحقيق الحجّة الحاج السيّد مهدي الرجائي - دامت بركاته - سنة1417 ه ، قامت بطبعها مكتبة مسجد السيّد حجّة الإسلام الشفتي(قدس سره)باصفهان .
2- . هذا التاريخ مطابق لما كتبه صاحب الروضات(رحمه الله) في بياضه ( انظر مقدّمة النهريّة : 20 ) ؛ وكذا مطابق لماكتبه العلّامة الشيخ محمّد جعفر بن محمّد إبراهيم الكرباسي (المتوفّى 1292 ه ) في ظهر كتابه: منهج الرشادفي شرح إرشاد الأذهان ( انظر فهرس مخطوطات مكتبة مركز إحياء التراث الإسلامي: 6 / 79 الرقم 90 ).وضبطه كذلک العالم الفاضل الشاعر رضا قليخان هما الشيرازيّ ( المتوفّى 1290 ه) فقال في « ديوانه : ص104» في تاريخ وفاته : در اول حمل و دويم ربيع دويم*** زدامگاه جهان شد بسوى دار سلام بلفظ تازى تاريخ رحلتش گفتم***چو بشمرى مأتين است و ألف و ستّين عام

الأقوال ؛ و دفن بعد ثلاثة أيّام من وفاته في البقعة الّتي بناها لنفسه في جانب مسجده الكبير باصبهان، و هي الآن مشهد معروف و مزار متبرّک .

قال المحقّق الچهارسوقي (قدس سره) في الروضات:

و لم ير مثل يوم وفاته، يوم عظيم، ملأت زقاق البلد من أفواج الأنام رجالاً و نساءًا، يبكون عليه بكاء الفاقد والده الرحيم و مشفقه الكريم، بحيث كان همهمة الخلائق تسمع من وراء البلد، و غسل في بيته الشريف، ثمّ أتى به إلى المسجد، فصلّى عليه ولده الأفضل و خلفه الأسعد الأرشد و الفقيه الأوحد والحبر المؤيّد ... مولانا و سيّدنا السيّد أسد الله ... ؛ و من العجائب اتّفاق فراغه من التحصيل و مراجعته من النجف الأشرف بإصرار والده الجليل في سنة وفاته، و مسارعة روحه المطهّر إلى جنّاته (1) .

ص: 22


1- . روضات الجنّات : 2 / 104 .

2 - تعريف الكتاب

اشارة

لا إشكال و لا ترديد في نسبة هذا الأثر النفيس إلى مؤلّفنا الجليل صاحب الكتاب الحاضر .

و هذا الكتاب المستطاب الّذي أحاط بدقائق الفقه هو : كتاب القضاء والشهادات ؛ من تأليفات فخر الشيعة و ركن الشريعة العلّامة الحاجّ السيّد محمّد باقر بن محمّد نقي الموسويّ الشفتيّ الرشتيّ الجيلانيّ الأصفهانيّ، المعروف بحجّة الإسلام - أعلى الله مقامه في دار السلام - اشتمل على تحقيقات لطيفة و نوادر فقهيّة رائعة .

استوفى فيه المؤلّف الأدلّة و الأحكام، لم ير مثله في كثرة التفريع و الإحاطة بنوادر الفقه و الاستقامة في طريق الاستدلال ؛ عناوينه : « مسألة - مسألة »، وليس شرحًا على شيءٍ من الكتب الفقهيّة .

ألّفه (قدس سره) في مبادي أمره حين قراءته تلک المباحث على أستاذه العلّامة السيّد محسن الأعرجيّ ( 1130 - 1227 ه )، كما ذكره تلميذه صاحب الروضات (قدس سره) قائلاً :

و من تصنيفاته الفائقة أيضًا كتاب ألّفه في القضاء والشهادات بطريق الاستدلال التامّ زمن قراءته في تلک المباحث على شيخه السيّد محسن المرحوم (1) .

ص: 23


1- . روضات الجنّات : 2 / 101 .

رتّب المصنّف - رحمه الله - كتاب القضاء على ترتيب كتاب « قواعد الأحكام في مسائل الحلال و الحرام »، تأليف العلّامة الحلّيّ (قدس سره)، كما صرّح به في «كتاب القضاء »، حيث قال ما هذا نصّه :

إعلم : أنّي بنيت أن يكون هذا المجلّد من كتابي على ترتيب القواعد غالبًا، لكنّ العلّامة (رحمه الله)لمّا ذكر كثيرًا من المسائل فيه مكرّرًا، تركت التكرار واكتفيت بذكر كلّ مسألة مرّة، إلّا لأجل فائدة، فقد ذكرت بعضًا من المسائل مكرّرًا لذلک، و من ذلک مسألة النكول .

و قد ذكره المحقّق الطهراني (قدس سره) في موضعٍ من ذريعته بقوله :

القضاء و الشهادات، لحجّة الإسلام الحاج سيّد محمّد باقر بن محمّد تقي (1) الموسويّ الجيلانيّ الأصفهانيّ، المتوفّى في 3 ربيع الثاني 1260. قال سيّدنا أبي محمّد الحسن صدر الدين : انّه من تقرير أستاذه السيّد محسن الأعرجيّ (2) .

و قال في موضعٍ آخر :

رسالة في القضاء و الشهادات و بعض فروعها، للسيّد محمّد باقر حجّة الإسلام الأصفهانيّ، المتوفّى 1260 . يوجد ضمن مجموعة مع رسالة الوقف له، رأيتها في كتب الميرزا عليّ الشهرستاني بكربلا (3) .

ص: 24


1- . كذا في المصدر، والصواب : نقي بالنون .
2- . الذريعة : 17 / 140 الرقم 733 .
3- . الذريعة : 17 / 141 الرقم 737 .

تاريخ و مكان التأليف

فرغ المصنّف (قدس سره) من تأليف كتاب القضاء في 24 شهر محرّم الحرام سنة 1205ه ، و هو في جوار جدّه الإمام الكاظم موسى بن جعفر(عليهماالسلام)

قال في آخر « كتاب القضاء » ما هذا نصّه :

قد فرغت منه في سحر ليلة الاثنين هي الرابعة و العشرون من شهر المحرّم في سنة خمس و مأتين بعد الألف من الهجرة .

و قد اتّفق الابتداء به و كذا الفراغ في جوار سابع و تاسع الأئمّة الهدى، جعلني الله من السالكين في طريقتهم الحسنى، و التابعين لسنّتهم العليا، و المرحومين بشفاعتهم يوم يفرّ المرء من الأمّهات و الآباء، و لا ينفع هنالک مال و لا غيره من خصائص أهل الدنيا .

ص: 25

3- منهجيّة التحقيق

توجد للكتاب نسختين خطّيتين :

الأولى : النسخة المحفوظة في مكتبة آية الله الحاجّ السيّد حسين الموسويّ الخادمي(رحمه الله) تحت رقم 172 ، المذكورة في فهرس مخطوطاتها : ص 203 ؛ و هي نسخة الأصل بخطّ المؤلّف (قدس سره). و قد تفضّل بها علينا صديقنا الفاضل الحجّة السيّد محمّد عليّ الخادميّ - دام عزّه .

و الثانية : النسخة الموجودة في مكتبة الميرزا عليّ الشهرستاني بكربلاء، كما أشار إليها المحقّق الطهراني في الذريعة (1) .

واعتمدت في تحقيقي لهذا الكتاب على نسخة الأصل الّتي هي بخطّ المصنّف (قدس سره)، و كان عملي فيها كالآتي :

1 - خرّجت ما يحتاج إلى تخريجٍ من آياتٍ قرآنيّة كريمة، و أحاديثٍ شريفة، وأقوالٍ من مصادرها على قدر المستطاع .

2 - أوضحت المواضع المشكلة و العبارات المبهمة، و شرحت بعض اللغات الغريبة الواردة في المتن مع الاستعانة بكتب اللغة و معاجم العربيّة .

ص: 26


1- . الذريعة : 17 / 141 الرقم 737 .

3 - أضفت عناوين فرعيّة في المتن بين قوسين معقوفين كي يسهّل الوصول إلى تفاصيل الموضوع .

4 - عملت فهارس فنّيّة للايات القرآنيّة و الأحاديث الشريفة والموضوعات المطروحة، وضعنا هذه الفهارس في آخر الكتاب تسهيلاً لمهمّة الباحثين والمراجعين .

و لقد بذلنا قصارى جهدنا في تحقيق هذا السفر القيّم و إخراجه إلى عالم النور، فما وجد فيه من خلل أو خطأ فهو عن قصور لا تقصير .

و نسأل الله - تعالى - أن يتقبّل منّا هذا القليل بقبول حسن ؛ و نسأله أن يوفّقنا لإحياء تراث أهل البيت(عليهم السلام) و علمائنا الأبرار، خصوصًا بقيّة آثار جدّنا الأمجد الأسعد العلّامة المحقّق والفقيه الأصوليّ الأوحد السيّد محمّد باقر الشفتيّ المعروف بحجّة الإسلام - أعلى الله مقامه في دار السلام - و سلفه الصالح .

و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين و الصلاة و السلام على محمّد و أهل بيته الطيّبين الطاهرين .

السيّد مهدي الشفتيّ

20 رمضان المبارک 1440 ه

اصفهان - صانها الله عن الحدثان

ص: 27

ص: 28

ص: 29

نماذج من المخطوطة الأصليّة

بخطّ المؤلّف ( قدّس سرّه )

ص: 30

ص: 31

كتابُ القضاء

اشارة

ص: 32

ص: 33

ص: 34

بسم الله الرّحمن الرّحيم

و إليه الاستعانة فيما يعجز عنه الصديق و الحميم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على مدّعى النبوّة والرسالة بإقامة البيّنة والبراهين، و على ابن عمّه و وصيّه الّذي قد أقرّ بفضله أشرف أصحاب اليمين، و على أوصيائه و أصحابه إلى يوم يتميّز فيه دعوى الحقّ عن الباطلة للمشركين و المنكرين .

الكلام في بيان المدّعي و المدّعى عليه

1- مسألة

اشارة

في بيان المدّعي و المدّعى عليه الّذي يقال له المنكر أيضًا، فأقول : قد اختلفت مقالة الأصحاب في ذلک، فمنهم من قال :

إنّه هو الّذي يترک لو ترک الخصومة .

ص: 35

و لو قيل بدله : انّه هو الّذي لو ترک الخصومة تترک، بأن يكون مرجع الضمير في الفعل الثاني للخصومة، كان أظهر .

و منهم من قال :

إنّه الّذي يدّعي أمرًا خفيًّا يخالف الظاهر .

و منهم من قال :

إنّه هو الّذي يدّعي خلاف الأصل .

هكذا نقل الأقوال (1) .

و منهم من ردّد بين هذه الثلاث، كالعلّامة حيث قال :

المدّعي هو الّذي يترک لو ترک الخصومة، أو الّذي يدّعي خلاف الظاهر أو خلاف الأصل (2) .

و مثله غيره (3) .

و كيف كان والمنكر ما يقابله و قضيّة الترديد والتخيير بين هذه التعاريف اتّحاد

ص: 36


1- . انظر شرائع الإسلام : 4 / 93 و 893 ؛ والمختصر النافع : 276 ؛ و كشف الرموز : 2 / 26 و 504 ؛وتلخيص المرام : 298 ؛ و قواعد الأحكام : 3 / 436 ؛ وإيضاح الفوائد : 4 / 323 ؛ والتنقيح الرائع :4/265 ؛ والمقتصر من شرح المختصر : 379 ؛ و غاية المرام : 4 / 251 ؛ والروضة البهيّة : 3 / 77 ؛وحاشية المختصر النافع، للشهيد الثاني : 191 ؛ و روضة المتّقين : 6 / 178 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 719 ؛و كشف اللثام : 10 / 85 ؛ و رياض المسائل : 13 / 158 و 15 / 146 ؛ والمهذّب البارع : 4 / 482 ؛ومسالک الأفهام : 14 / 59 ؛ و مفاتيح الشرائع : 3 / 270 .
2- . قواعد الأحكام : 3 / 436.
3- . انظر التنقيح الرائع : 4 / 366 ؛ و كشف اللثام : 10 / 85 .

مقتضاها و ليس الأمر كذلک .

نعم، هو أمر أغلبيّ، و من ذلک هو انّه لو ادّعى زيدٌ عينًا في يد عمرو أنّها ماله وهو ينكره، فزيدٌ في المثال المفروض مدّع على جميع التعاريف، لأنّه الّذي يترک لو ترک الخصومة ؛ و أنّه الّذي يدّعي خلاف الظاهر، لأنّ الظاهر أنّ المال الّذي في يد عمرو انّه منه ؛ و أنّه الّذي يدّعي خلاف الأصل، لأنّ اشتغال ذمّة عمرو بمال الغير خلاف الأصل .

و عمرو منكر في المثال المفروض على جميع التعاريف أيضًا، لأنّه الّذي يَتْرُکُ لو تُرِک ؛ و بعبارة أخرى : انّه لا يُتْرَک لو تَرَک (1) ، و هو الّذي يدّعي ما يوافق الظاهر والأصل .

و من ذلک أيضًا هو أنّه لو ادّعى دينًا على ذمّة عمرو و هو ينكره، فزيد مدّع حينئذٍ على جميع التعاريف و عمرو منكر كذلک، هكذا قيل (2) .

و نحن نقول : كون زيد في المثال الأخير مدّعيًّا على التعريف الأوّل والثالث مسلّم، لكن على الثاني فمحلّ كلام، إذ من أين يحصل لنا الظنّ بعد ادّعاء واحد على الآخر دينًا و هو ينكره أنّ الأوّل كاذب و الثاني صادق حتّى نحكم بأنّ مقالة الأوّل مخالفة للظاهر و مقالة الثاني موافقة له ؟!

و مخالفة مقالة الأوّل للأصل و موافقة مقالة الثاني له لا يقتضي ذلک ؛ و كيف

ص: 37


1- . جاء في حاشية الأصل : إعلم : أنّ الفعل الأوّل في الأوّل مبنيّ للفاعل والثاني مبنيّ للمفعول، و في الثانيبالعكس ؛ منه .
2- . انظر مسالک الأفهام : 14 / 59 و 60 .

ذلک مع أنّه ربّما يحصل لنا الظنّ باتّصاف شيء على خلاف ما كان يستحقّه بالأصل، كآنية الكفّار و المواضع القريبة من النجاسة، حيث أنّ الأصل فيهما الطهارة، مع أنّا نظنّ نجاستهما الآن و مثلهما فضلاً عن حصول الظنّ بعكس ذلک ؟!

و يمكن أن يقال : إنّ موافقة الشيء للأصل موجبة لحصول الظنّ ببقائه على مقتضاه، إلّا إذا عارضه من الخارج ما يوجب الخروج عنه كالمثالين المذكورين، والكلام عند فقد المعارض، فتأمّل .

و إنّما قلنا : إنّ اتّحاد مقتضى التعاريف ليس أمرًا كلّيًّا، لأنّه ربّما يكون الشيء بأحد التعاريف المذكورة مدّعيًا و بالتعريف الآخر منكرًا ؛ و من ذلک المثال المشهور بينهم، و هو ما إذا أسلم الزوج و الزوجة قبل الوطي وادّعى الزوج تقارنهما في الإسلام، فيكون النكاح باقيًا على حاله، وادّعت الزوجة التعاقب، فانفسخ النكاح .

فعلى التعريف الأوّل للمدّعي - أي : هو الّذي يترک لو ترک الخصومة - انّ المرأة مدّعية، لأنّها تدّعي انفساخ النكاح و تريد التزويج بغيره، والزوج يمنعه وانّها تترک لو تركت الخصومة والزوج منكر، لأنّه يَترُک لو ترک .

و كذا على التعريف الثالث، لأنّها تدّعي خلاف الأصل، لأنّ إسلامهما أمر حادث والأصل في الحادثين التقارن، فمدّعي التعاقب على خلاف الأصل .

و أمّا على التعريف الثاني، فينعكس الأمر، إذ تساويهما و تقارنهما في الإسلام بعيد مخالف للظاهر، فالزوج مدّع لخلاف الظاهر والزوجة بالعكس، فتكون مدّعيًا عليها.

ص: 38

و لا يخفى عليک أنّ بعد التقارن في الإسلام إنّما هو إذا كان المراد من التقارن التقارن الحكميّة والحقيقيّة ؛ و أمّا إذا كان المراد منه العرفيّ، فليس كذلک .

و قيل (1) : إنّ الزوج مدّع بناءً على التعريف الأوّل أيضًا، لأنّه يدّعي بقاء النكاح و وقوع الإسلام معًا، فلو ترک يترک، والزوجة مدّعى عليها، فإنّ الزوج لو تركها هي لا تطلب شيئًا .

و كذا لو كان الأمر بالعكس، أي : ادّعى الزوج التعاقب في الإسلام فانفسخ النكاح، وادّعت الزوجة التقارن فبقي، فالزوج مدّع بالتعريف الأوّل والثالث، والزوجة مدّعى عليها بالتعريفين ؛ و بالعكس في التعريف الثاني، فإنّ الزوجة تدّعي خلاف الظاهر، و الزوج ما وافقه (2) .

و ممّا اختلف فيه مقتضى التعاريف أيضًا هو : ما لو ادّعت الزوجة عدم إنفاق الزوج لها و كان رجلاً خيّرًا متموّلاً، فإنّها على التعريف الأوّل والثاني مدّعية، لأنّها تترک لو تركت الخصومة و تدّعي مخالفة الظاهر من عدم إنفاق الزوج الخيّر المتموّل لها، و هو مدّعى عليه على التعريفين .

و أمّا على التعريف الثالث، فالأمر بالعكس، أي الزوج مدّعي، لأنّه يدّعي خلاف الأصل من وصول النفقة إليها، و هي مدّعى عليها، لأنّها تدّعي ما يوافقه .

و ما يختلف المدّعي والمنكر فيه هو ما إذا اشترى واحد شيئًا معلومًا برؤية

ص: 39


1- . نسبه إلى القيل في : الإيضاح : 4 / 324 ؛ و التنقيح : 4 / 267 ؛ و المهذّب البارع : 4 / 484 ؛ و المسالک :14 / 60 .
2- . انظر تحرير الأحكام : 5 / 155 ؛ و غاية المرام : 4 / 252 .

سابقة، ثمّ عند القبض ادّعى أنّه حدث فيه عيب بعد ما رأيته، و البائع يدّعي أنّه ما حدث، بل كان كذلک، فحينئذٍ على التعريف الأوّل يكون المشتري مدّعيًا، لأنّه الّذي لو ترک و لم يدّع حدوث العيب لترک .

والبائع منكر على هذا التعريف، لأنّه الّذي ترک لو ترک ؛ و بالعكس بالنسبة إلى التعريف الثالث، لأنّ البائع يدّعي خلاف الأصل والمشتري ما يوافقه من حدوث العيب و تأخّره، لأنّ الأصل في الحادث التأخّر .

و حيث قد عرفت إختلاف مقتضيات هذه التعاريف بالنسبة إلى المدّعي والمنكر، فلابدّ من ترجيح واحد فيهما، ليمكن لک تشخيص المدّعي من المنكر حتّى يمكنک أن تقول : هذا مدّع فحقّه البيّنة، و ذاک منكر فحقّه اليمين .

فنقول: إنّ لفظ « المدّعي » لم يرد له تفسير من الشارع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، لأنّه الحَكَم فيما لم يرد له تفسير، فالظاهر من لفظ « المدّعي » في العرف هو الّذي يدّعي حقًّا على شخص بحيث لو سكت الشخص الأوّل سكت الشخص الثاني، فعلى هذا أحسن التعاريف هو الأوّل .

البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر

2-مسألة

اشارة

قد عرفت ممّا ذكرنا المدّعي و المدّعى عليه ؛ و فائدة ذلک الحكم بأنّ البيّنة

ص: 40

للمدّعي واليمين على من أنكر .

و هذه القاعدة قد اتّفقت بها الألسن و تظافرت بها السُنن، منها: ما روي من طرقهم عنه (صلي الله عليه واله) : « البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر » (1) .

و قد رواها شيخنا الصدوق في الفقيه عنه(صلي الله عليه واله)، لكن بدل « من أنكر » بالمدّعى عليه (2) .

و منها : حسنة الحلبي و جميل و هشام عن مولانا الصادق (عليه السلام)قال : قال رسول الله(صلي الله عليه واله): البيّنة على من ادّعى، واليمين على المدّعى عليه (3) .

و غيرهما .

و قيل في سبب ذلک - أي جعل البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر - هو :

انّ جانب المنكر أقوى، لموافقته للأصل والظاهر، و جانب المدّعي ضعيف لمخالفته لهما ؛ والبيّنة أقوى من اليمين، للبرائة عن تهمة جلب النفع، فجعل الأقوى للضعيف والأضعف للقويّ (4) ولا يخفى عليک أنّ ما قلنا من كون البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر إنّما

ص: 41


1- . سنن الترمذي : 2 / 399 ح 1356 ؛ السنن الكبرى : 10 / 252 ؛ عوالي اللّألئ : 1 / 244 ح 172 ؛الوسائل : 27 / 233 ح 33666 ؛ وانظر : كنز العمّال : 6 / 187 و 190 .
2- . الفقيه : 3 / 32 ح 3267 ؛ وانظر الكافي : 7 / 361 ح 4 .
3- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 553 ؛ الوسائل : 27 / 233 ح 33666 .
4- . لم نعثر على قائله، نعم نسبه إلى القيل في إيضاح الفوائد : 4 / 323 ؛ و غاية المرام : 4 / 251 ؛ و مسالکالأفهام : 14 / 59 ؛ و مفاتيح الشرائع : 3 / 270 .

هو في حقّ غير الأمين، و أمّا هو فيصدّق في ردّ الوديعة باليمين ولا يطلب منه البيّنة مع كونه مدّعيًا فيما إذا ادّعى ردّ الأمانة، لكونه مدّعيًا خلاف الأصل من ردّ الأمانة الثابتة، و خلاف الظاهر بناءً على ما مرّ، و أنّه يترک لو ترک، لأنّه لو ترک دعوى ردّ الوديعة لايدّعي المنكر عدم ردّها، فالأمين عند ادّعاء ردّ الأمانة مدّع على جميع التعاريف، مع أنّه يصدّق باليمين، لاستثناء الشارع من تلک القاعدة لمصالح العباد، لأنّ عدم إسماع قول الأمين فيما ائتمن فيه يفضي إلى امتناع الناس من قبول الأمانات، هذا .

مع أنّه يمكن إخراج الأمين من سلک المدّعي و إدخاله تحت المنكر بأن يقال : المالک عند جعل الأمانة عند المستودع قد علم أمانته، فالأصل بقائها، وهو يدّعي خلاف الأصل والظاهر من ارتفاع الأمانة الثابتة ؛ و أيضًا هو الّذي لو ترک ترک، لأنّه لو لم يدّع ارتفاع الأمانة يترک .

قال في المختلف :

ويحتمل أن يكون القول قول المالک، لأنّه منكر، فيقدّم قوله مع اليمين، لكن الأشهر الأوّل، إنتهى (1) .

قال في الفقيه :

مضى مشايخنا - رضي الله عنهم - أنّ قول المودع مقبول، فإنّه مؤتمن ولا يمين عليه (2) .

ص: 42


1- . مختلف الشيعة : 6 / 67 .
2- . الفقيه : 3 / 305 .

شرائط المدّعي

3-مسألة

اشارة

يشترط في المدّعي البلوغ، لأنّه قبله ليس بمكلّف، فيمكن أن يكون ادّعاؤه كاذبًا، لعلمه بعدم المؤاخذة .

وفيه نظر، لأنّ كلام المدّعي لم يعتبر من حيث هو كلامه، بل لأجل البيّنة، فمع وجودها ينبغي أن يحكم ولو كان غير مكلّف.

ألا ترى انّ المدّعى لو كان فاسقًا و فاجرًا مع وجود البيّنة يحكم له و يعلم منه أن العبرة بالبيّنة، لا بكلام المدّعي، فينبغي أن يكون غير البالغ أيضًا كذلک، بل ربما كان كلام غير البالغ أولى من كلام البالغ من حيث حصول المظنّة به، إلّا أنّ الظاهر أنّه لا خلاف في اعتبار البلوغ .

وكذا يشترط فيه العقل، فلا عبرة بقول المجنون ؛ و يرد عليه ما مرّ و يجاب بما يجاب.

ويمكن أن يقال : إنّ المدّعي قد يتوجّه إليه اليمين، كما إذا نكل المنكر منه، فحينئذٍ لابدّ من أن يكون المدّعي ممّن يكون مكلّفًا حتّى يقبل يمينه، فيعتبر البلوغ في الجميع لعدم القول بالفصل .

ويشترط فيه أيضًا أن يكون ادّعاؤه لنفسه، أو لمن له ولاية منه، كالوكيل والوصيّ و غيرهما ؛ و ذلک لأنّ الحكم بأنّ المال الّذي في يد زيد انّه لعمرو مثلاً

ص: 43

خلاف الأصل يقتصر فيه على الموضع المتيقّن اقتصارًا فيما خالف الأصل على القدر المتيّقن، و هو ما إذا كان ادّعاؤه لنفسه أو لمن له ولاية منه دون غيره.

وأيضًا اليمين بالله - تعالى - ليس بأمر سهل فيحكم به على المنكر أيّ وقت كان بدعوى أيّ شخص يكون، بل يقتصر فيه على ما ثبت، و هو ما ذكر لا غير ؛ هذا مع انّ اعتبار ما ذكر كأنّه موضع وفاق.

يشترط في المدّعى به أن يكون ممّا يصحّ تملّكه

4-مسألة

اشارة

يشترط في المدّعى به أن يكون ممّا يصحّ تملّكه، فلو ادّعى خمرًا أو خنزيرًا لم يقبل، لأنّ قبول قوله وإقامة البيّنة إنّما هو لأجل تمليک المدّعي على المدّعى به ؛ ومعلوم أنّ ذلک إنّما هو إذا كان المدّعى به ممّا يصحّ و يمكن تملّكه، فمتى لم يصحّ التملّک، كيف يمكن التمليک ؟!

هل يشترط في المدّعى به العلم من كلّ وجه، أم لا ؟

و هل يشترط فيه علم المدّعي بحسب الشخص، أو لا، بل يصحّ دعوى شيء مع كونه مجهولاً في الجملة و معلومًا من وجه، مثل أن يدّعى فرسًا أو دابّة أو ثوبًا ؟

فيه خلافٌ، فالشيخ على الأوّل، قال:

ص: 44

لا يسمع الدعوى إذا كانت مجهولة، مثل أن يدّعى فرسًا أو ثوبًا (1) .

قال :

لانتفاء فائدتها، و هي حكم الحاكم بها لو أجاب المدّعى عليه بنعم (2) .

و كثير منهم على الثاني، وأجابوا عمّا ذكره الشيخ من عدم الفائدة بأنّها موجودة، إذ لو أقرّ الخصم بدعوى المدّعي أو ثبتت بالبيّنة يحكم بمسمّى المدّعى به، فيلزمه، فإن جاء به وادّعى المدّعي الزائد على الخصم لحلف على نفيه وإن اشتركا في الجهالة بأن يدّعي الخصم أيضًا جهالته، فاللازم هو المسمّى وإن ادّعى المدّعي علم الخصم بذلک يحلف على نفيه .

واستدلّوا على قبول قول المدّعي حينئذٍ بأنّه ربما يعلم حقّه بوجه مّا ولا يعلم صفته كما مرّ، فلو لم يجعل له إلى الدعوى ذريعة لبطل حقّه، فلزم إضاعة الحقوق (3) .

واستدلّوا أيضًا بأنّ الإقرار بالمجهول و كذا الوصيّة به يسمع بلا إشكال، فينبغي أن يسمع الدعوى به أيضًا (4) .

ص: 45


1- . هكذا نقله عنه المحقّق في الشرائع : 4 / 872 ؛ قال في المبسوط : فإذا ادّعى عليه لم تسمع الدعوى إلّامحررة، فأمّا إن قال لي : عنده ثوب أو فرس أو حقّ لم تسمع دعواه ( المبسوط : 8 / 156 ).
2- . لم نجده في المبسوط بهذه العبارة، لكن نقله عنه هكذا في إيضاح الفوائد : 4 / 327 ؛ والمهذّب البارع :4/484 ؛ وغاية المرام : 4 / 228 ؛ وانظر المبسوط : 8 / 156 ؛ والسرائر : 2 / 177 .
3- . انظر مجمع الفائدة : 12 / 116 ؛ و المهذّب البارع : 4 / 484 ؛ و مسالک الأفهام : 12 / 436 و 437 .
4- . انظر كنز الفوائد : 3 / 473 ؛ وإيضاح الفوائد : 4 / 327 ؛ والتنقيح الرائع : 4 / 270 .

ولقائل أن يفرق بينهما، لأنّ الإقرار و الوصيّة دعوى عليه، بخلاف الدعوى فانّها له، فلهذا تسمع الإقرار به و كذا الوصيّة دون الدعوى .

يشترط في المدّعى به أن يكون لازمًا على المدّعى عليه

و يشترط فيه أيضًا أن يكون لازمًا على المدّعى عليه، فلو ادّعى أنّ الفرس الّذي في يد زيد مثلاً انّه وهبه لي، لم يسمع، لأنّ الشيء بمجرّد الهبة لم يلزم، لجواز الرجوع للصاحب فيه .

نعم، لو ادّعى الهبة والقبض بإذن المالک لزم، فيقبل دعواه حينئذ ؛ و ذلک لأنّ الهبة بمجرّدها لا فائدة لإثباتها، لأنّها أعمّ من المقبوضة و غيرها، واللازم هو الأوّل، فلا يمكن الحكم بالتسليم بمجرّد إثبات مطلق الهبة، فلا فائدة لقبول دعويها.

وأيضًا مطلق الهبة يجوز للواهب الرجوع، فيحتمل رجوعه، فلا يلزمه شيء، هكذا علّل (1) .

وفيه نظر، لأنّه إذا ثبت الهبة قد ترتّب عليها الثمرة، مثل أن يكون المنكر من الأشخاص الّتي لو ثبتت الهبة لا يرجع فيها، أو يكون ناذرًا إقباض كلّ هبة ؛ و لک أن تقول: إنّ الكلام في المدّعي للهبة والمنكر لها، والناذر لإقباضها بعد تحقّق الهبة لاينكرها، فلا ثمرة للدعوى .

ص: 46


1- . انظر مسالک الأفهام : 14 / 61 ؛ ومجمع الفائدة : 12 / 117 .

إلّا أن يقال : إنّه قد يكون وهب شيئًا، ثمّ نسى ؛ و فائدة قبول الدعوى هي انّه قد يكون المدّعي أقام البيّنة لتحقّقها، فيتذكّر الواهب الناذر، فيردّها ؛ و على هذا يكون إنكاره لأجل النسيان، أو ينكر الهبة مع التذكّر بها و بالغدر لحدوث الفسق له بعد النذر، إلّا أنّ هذا قليل لاينصرف إليه إطلاق كلماتهم.

ثمّ (1) إنّ الظاهر من كلماتهم انّه يشترط في المدّعى به اللزوم، فلا يسمع دعوى الهبة إلّا مع دعوى القبض، هو أن يكون مرادهم من قبول دعوى الهبة مع القبض فيما إذا كان القبض سببًا للزوم، كما إذا وهب شيئًا لذي رحم واقبضه، فلا يشمل دعوى الهبة مع القبض إذا كانت للأجنبيّ، فلا يسمع دعواه للهبة وإن كانت مع القبض، لأنّ القبض فيه لايصير سببًا للزوم.

و قولهم : « يشترط في المدّعى به لزومه على المدّعى عليه »، قرينة على إخراج ذلک وإن كان قولهم : « يسمع دعوى الهبة مع القبض » شامل له .

إن قلت (2) : لو كان لزوم المدّعى به على المدّعى عليه شرطًا لقبول الدعوى،فينبغي عدم دعوى شرى حيوان إلّا مع مضيّ زمان سقوط خياره الثلاثة و عدم دعوى في شيء من سائر العقود إلّا مع تفرّق المجلس، مع أنّهم لا يقولون بذلک.

قلنا : مقتضى ما ذكر في لزوم المدّعى به وإن كان ذلک، إلّا انّ اتّفاقهم منعنا من ذلک.

ص: 47


1- . جاء في حاشية الأصل بخطّ المصنّف(قدس سره): ردّ على المقدّس الأردبيليّ ] انظر مجمع الفائدة : 12 / 117[.
2- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): ردّ على المقدّس الأردبيليّ ] انظر مجمع الفائدة : 12 / 117 [.

و ممّا ينبغي أن يستثني من عدم قبول دعوى المدّعي الهبة مجرّدة عن الإقباض قول المدّعي الّذي يدّعي على أبيه أنّه وهبه مالاً في حال صغره، فإنّ لزوم هذه الهبة لا يحتاج إلى القبض.

لابدّ من إيراد الدعوى بعبارة صريحة في الملكيّة

5- مسألة

اشارة

اعلم : أنّه لابدّ من إيراد الدعوى بعبارة صريحة في الملكيّة، فلو ادّعى هذه بنت أمتي و أراد جعلها مملوكة له لم تسمع ؛ و ذلک لأنّ كونها بنت أمته غير صريحة في كونها ملكه، لاحتمال انّها ولدت منها قبل أن تدخل في ملكها، إذ يصدق حينئذٍ أنّها بنت أمته (1) .

وكذا لو قال : إنّها ولدت منها في ملكه، لعدم صراحته في الملكيّة أيضًا، لجواز كونها مولودة في ملكه ولم تكن مملوكة له، كما إذا كان أبوها حرًّا فتكون حرّة، أو اشتراها مع كونها حاملة من عبد مولاها وقد شرط كون الولد للمولى .

و هل يسمع لو ادّعى هذه بنت أمته و ولدت منها في ملكي و علم من خارج انّه ملک الأمة حين كانت صبيّة ؟ والظاهر لا، لاحتمال كون البنت من حرّ .

ص: 48


1- . لاحظ البحث في قواعد الأحكام : 3 / 437 ؛ وتحرير الأحكام : 5 / 157 ؛ وإرشاد الأذهان : 2 / 143 ؛ومجمع الفائدة : 12 / 118 و119 ؛ و غاية المراد : 4 / 28 ؛ و مسالک الأفهام : 14 / 66 .

و هكذا لو قال : هذه ثمرة نخلتي، لأنّ كونها ثمرة لنخلته لايستلزم أن تكون ملكًا له، لصدق ذلک قبل أن تدخل النخلة في ملكه ؛ وكذا لو ضمّ إليه : « ثمرتها في ملكي »، لجواز أن يشتري النخلة وحدها و شرط كون الثمرة ملكًا للبائع، أو باع ثمرتها.

و بالجملة : لايسمع الدعوى في أمثال المقام ولا يطلب البيّنة، لما عرفت من أنّ إثبات المدّعى لايجدى نفعًا.

ويحتمل القبول فيما إذا كان النخلة من ماله بالأصل أو بالعارض و علم عدم اشتراط كون الثمرة للبائع إذا ادّعى هكذا : هذه ثمرة نخلتي ثمرتها في ملكي، بناءً على أنّ الأصل عدم بيعها للغير، فتأمّل .

في أنّه لو ادّعى المنكر فسق الشاهدين أو الحاكم

6-مسألة

اشارة

لو ادّعى المنكر بعد إقامة البيّنة فسق الشاهدين، هل تسمع فيطلب بالبيّنة، فإن أقامها لايثبت الحكم، لكن الدعوى لم تسقط ؟

قيل : يمكن أن لا تسمع، لأنّه لا فائدة في قبولها وإسماعها، لما عرفت من عدم

ص: 49

سقوط الدعوى (1) .

و فيه تأمّل، لأنّ عدم الفائدة مطلقًا ممنوع، لأنّه لو لم يكن للمدّعي إلّا الشاهدان وقد أثبت المنكر فسقهما بإقامة البيّنة، فحينئذٍ يكون الحكم للمنكر، فيحلف، فيتخلّص من الدعوى .

ثمّ إنّ ما ذكر هل هو مختصّ قبل حكم الحاكم للمدّعي، أو لا، بل يشمل بعده أيضًا؟

احتمالان من أنّ هذا حكم قد حكم به الحاكم بعد إقامة البيّنة المعتبر قولها شرعًا ظاهرًا، فالأصل بقاء صحّته ؛ و ثبوت فسق الشاهد بعده لايضرُّ بالحكم القبل . و من أنّ الحكم قد حكم الحاكم بقول الفاسق حين الفسق في نفس الأمر، وعدم علم الحاكم لايصير سببًا للصحّة، فإذا علم و ظهر الفسق تبيّن الأمر، فيكون الحكم باطلاً .

هذا إذا تمكّن مدّعي الفسق من إقامة البيّنة ؛ و إن لم يتمكّن من ذلک وادّعى علم المدّعي بذلک، فحينئذٍ لو أقرّ المدّعي بذلک فالأمر ظاهر من عدم ثبوت الحكم، لكن لم تفسد الدعوى أيضًا .

و فساد الحكم هنا فيما لو كان الإقرار بعد حكم الحاكم أظهر ممّا ذكر سابقًا، لعلم المدّعي بفسق البيّنة هنا قبل الحكم ؛ هذا إذا لم يعلم فسقها في الصورة الأولى، وإلّا اشتركت الصورتان .

ص: 50


1- . انظر مجمع الفائدة : 12 / 121 .

و لو أنكر علمه بالفسق، هل للمنكر تحليفه على عدم العلم، أم لا ؟

إشكالٌ من أنّه لا يدّعى حقًّا لازمًا يثبت بالنكول، أو بردّ اليمين، فلا حلف ؛ ومِن أنّه ينتفع بها في حقّ لازم، لأنّه لو حلف على أنّه لم يعلم فسق البيّنة مثلاً حكم له .

و كيف كان و ينبغي الجزم بعدم الحلف فيما إذا كان له شهودٌ أخرٌ سالمةٌ عن دعوى فسق المنكر .

{لو ادّعت المرأة في رجل أنّه زوجها}

7-مسألة

اشارة

لو ادّعت المرأة في رجل أنّه زوجها، تسمع و تطلب بالبيّنة، فإن أقامتها حكم لها، وإلّا حلف الزوج، ولو نكل حلفت ؛ و ذلک لأنّ هذه دعوى لازمة، فيجب القبول كسائر الدعاوي، فلا يحتاج إلى ضمّ حقّ من حقوق الزوجيّة كالنفقة والمضاجعة والصداق.

نعم، لو ادّعت أنّه كان زوجي، في قبولها وجهان : من أنّها دعوى غير لازمة، لاحتمال الطلاق، فلا تقبل ؛ و من الأصل، لأنّ الطلاق أمر حادث الأصل عدمه .

و على تقدير إقامة البيّنة على أنّه زوجها و حكم الحاكم بالزوجيّة، هل يجوز له المضاجعة معها و وطيها، و بالجملة : ما يجوز للزوج على الزوجة ؟

ص: 51

فيه إشكالٌ، لأنّ مع علمه بأنّه ليس زوج لها في نفس الأمر و أنّها أجنبيّة، كيف يجوز له أن يفعل معها ما يفعل مع الزوجة ؟!

بل مقتضى الأصل والقاعدة التجنّب عنها كيف ما أمكن بالطلاق و غيره، أو أن يعقدها بعقدٍ جديد ؛ وإن لم يمكن شيء من ذلک و تطلب هي حقّ الزوجيّة ولا ترضى بعقدٍ جديد، يفعل هو معها ما تندفع معه الضرورة .

يشترط لسماع الدعوى أن تكون بصورة الجزم

8-مسألة

هل يشترط لسماع الدعوى أن تكون بصورة الجزم أم لا، بل تسمع ولو على سبيل الظنّ ؟

الظاهر الأوّل، وفاقًا للمحكيّ عن ابن زهرة و المحقّق و جماعة (1) ، بل في الكفاية : هو المشهور، للأصل (2) .

بيانه هو : انّه لا شکّ أنّ الأصل براءة ذمّة المنكر عمّا ادّعى عليه المدّعي و عدم اشتغال ذمّته به، فسماع دعوى واحد على آخر سماع لما خالف الأصل ؛ و معلوم

ص: 52


1- . انظر المختصر النافع : 276 ؛ و شرائع الإسلام : 4 / 872 ؛ و تلخيص الخلاف : 3 / 198 ؛ و غنية النزوع :438 ؛ والوسيلة : 232 ؛ والمناهل : 720 .
2- . كفاية الأحكام : 2 / 684 .

انّه يجب الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن، و هو ما إذا كانت الدعوى بصورة الجزم، لا الظنّ .

وأيضًا الدعوى توجب التسلّط على الغير بالالتزام بالإقرار أو الإنكار أو الحبس ؛ ولا شکّ انّ كلاًّ منها يستلزم الضرر، و هو مدفوع بالكتاب والسنّة والإجماع ؛ والتخصيص ثبت فيما إذا كانت الدعوى بصورة الجزم، لا غيرها، لما سيجيء من انّ الغالب المتعارف المعهود في الدعاوي كونها بصورة الجزم، فينصرف إليه إطلاق الأدلّة الدالّة على التحاكم بين الخصمين .

ولأنّ المدّعى ينبغي أن يكون بحيث يجوز له اليمين، لإمكان ردّها إليه، فلو لم يكن جاز لا يجوز له ذلک، فلا تسمع دعواه .

صحّة الاستدلال موقوفة على التأمّل في النصوص الدالّة على أنّ المدّعي لو لم يحلف عند الردّ لا حقّ له، فها أنا أذكر جملة من تلک النصوص، ليظهر لک حقيقة الحال .

فأقول : منها : ما رواه في الفقيه باسناده عن أبان، عن جميل، عن أبي عبدالله 7 قال : إذا أقام المدّعي البيّنة، فليس عليه يمين ؛ وإن لم يقم البيّنة فردّ عليه الّذي ادّعي عليه اليمين فأبى، فلا حقّ له (1) .

و منها : الصحيح المرويّ في التهذيب باسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى،

ص: 53


1- . الكافي : 7 / 417 ح 2 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3342 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 563 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح33684 .

عن أبي عبد الله(عليه السلام) في الرجل يدّعى عليه الحقّ و لا بيّنة للمدّعي، قال : يستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له (1) .

و منها : الصحيح المرويّ فيه أيضًا عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهماالسلام): في الرجل يدّعي و لا بيِّنة له، قال: يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلايحلف (2) ، فلا حقّ له (3) .

و غيرها .

وجه الاستدلال هو : أنّ الظاهر من النصوص المذكورة و غيرها التلازم بين عدم الحقّ و عدم الحلف عند الردّ، كما قال (عليه السلام): « فإن أبى فلا حقّ له »، أو : « فإن لم يفعل فلا حقّ له »، أو : « فلا يحلف فلا حقّ له ».

و معلوم أنّ المدّعي لو لم يكن جازمًا، لايجوز له الحلف، فإذا لم يحلف لا حقّ له، لما عرفت من التلازم، فإذا ثبت أنّه لا حقّ له لا تسمع دعواه، لأنّ سماع الدعوى لأجل الحقّ، فإذا ثبت عدمه فلا تسمع، فلا تصغ إلى ما تمسّک به بعض المحقّقين من المتأخّرين (4) .

لايقال : إنّ الغالب المعهود من المدّعي هو أن يكون جازمًا كما اعترفت به، فينصرف إليه إطلاق النصوص المذكورة، فيكون المراد من النصوص بناءً على

ص: 54


1- . التهذيب : 6 / 229 ح 7 .
2- . في المصدر : فلم يحلف .
3- . الكافي : 7 / 416 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 557 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33679 .
4- . هو الفاضل الاصبهانيّ(قدس سره) في كشف اللثام : 10 / 99 .

حملها على المعهود المتعارف هو : أنّ المدّعي الجازم لو لم يحلف عند الردّ لا حقّ له، فلا تشمل لما نحن فيه، لعدم جزمه .

لأنّا نقول : هذا إنّما يصحّ في الحديث الأوّل، و أمّا في الثاني والثالث فلا، لأنّ ترک استفصال المعصوم عن المدّعي من أنّه أهو جازم أم لا ؟ يفيد العموم .

و على تقدير التسليم نقول : إنّه كما لم تشمل النصوص المذكورة للمدّعي إذا لم يكن جازمًا لكون الغالب خلافه، كذا لايشمله الأدلّة الدالّة على التحاكم بين المدّعي والمدّعى عليه، فيجب الرجوع فيه إلى حكم الأصل وقد عرفت مقتضاه .

وأيضًا سيجيء إن شاء الله - تعالى - أنّ الحقّ أنّه يحكم للمدّعي بمجرّد نكول الخصم، فيحكم بأخذ الحقّ من المنكر ؛ و ذلک مع الظنّ بالاستحقاق مشكل، لاحتمال أنّ نكول الخصم لأجل تعظيم اليمين أو لكراهتها .

وذهب جماعة إلى الثاني، كشيخنا الشهيد الثاني (1) ، و عن فخر الدين و الشهيد في النكت (2) ، لكن قيل : إنّهم لم يذهبوا إلى قبول الدعوى بمطلق الظنّ، بل إذا كانت من قبيل التهمة، أي ممّا يعسر العلم به، كالقتل والسرقة (3) .

بل ربما قيل : لا خلاف في عدم قبول الدعوى بمطلق الظنّ، و إنّما نقله شيخنا الثاني قولاً (4) ، و يحتمل أن يكون من العامّة (5) ؛ و على تقدير تسليم انّه منّا، لا

ص: 55


1- . انظر الروضة البهيّة : 3 / 80 ؛ و مسالک الأفهام : 13 / 438 .
2- . انظر غاية المراد في شرح نكت الإرشاد : 4 / 30 ؛ و إيضاح الفوائد : 4 / 327 .
3- . انظر الدروس : 2 / 84 ؛ و غاية المرام : 4 / 229 ؛ والروضة البهيّة : 3 / 80 ؛ و كشف اللثام : 10 / 90 .
4- . انظر مسالک الأفهام : 13 / 437 و 438 .
5- . انظر رياض المسائل : 13 / 163 و 15 / 151 .

شکّ في شذوذه .

وكيف كان واستدلّ لهذا القول بالأصل، لأنّ اشتراط الدعوى بما إذا كان المدّعي جازمًا خلاف الأصل ؛ و بقوله - تعالى - : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) (1) ؛ وبأنّه لو كان الجزم شرطًا لم يكف اللفظ المحتمل عند الحاكم، بل كان يجب عليه الاستفسار بأنّک هل جازم أم لا ؟ والتالي باطل، فالمقدّم مثله (2) .

والجواب أمّا عن الأوّل فهو : انّ صحّته موقوفة على وجود الدليل العامّ والإطلاق لايجدى نفعًا بعد ما عرفت، سيّما مع وجود الدليل على خلافه كما عرفت .

و عن الثاني فبأنّ الإطلاق إنّما ينصرف إلى جميع الأفراد عند تواطؤها وعدم وروده في بيان حكم آخر، و هنا بعد تسليم الأوّل نقول : الظاهر انّ الآية سيقت لأجل لزوم الحكم بالحقّ و عدم جواز العدول عنه، لا أنّ المراد منها لزوم الحكم بين الخصمين مطلقًا وإن لم يكن المدّعي جازمًا .

و عن الثالث فبأنّه ليس المراد بالجزم في قولهم : « يشترط في الدعوى الجزم » قولک : أنا جازم و نحوه، بل المراد ما لم يفهم الظنّ، فعلى هذا قول المدّعي : « إنّ لي على فلان كذا »، دعوى بطريق الجزم .

ص: 56


1- . المائدة : 49.
2- . انظر غاية المراد : 4 / 31 ؛ و مسالک الأفهام : 13 / 438 ؛ وكفاية الأحكام : 2 / 684 ؛ وكشف اللثام :10/ 90 ؛ و رياض المسائل : 13 / 162.

ثمّ إنّ هذه أدلّتهم الّتي استدلّوا بها على هذا القول، والحقّ أنّها لا تقاوم ما ذكرنا، لكن يمكن الاستدلال لهذا القول بما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن مولانا الصادق(عليه السلام) قال : لا يضمن الصائغ و لا القصار ولا الحائک، إلّا أن يكونوا متّهمين، فيجيئون (1) بالبيّنة و يستحلف لعلّه يستخرج منه شيء (2) .

و هذا و إن ورد في الأشخاص المذكورة، إلّا أنّه يمكن القول بالعموم من جهة التعليل .

و بما رواه الشيخ عن بكر بن حبيب، عنه (عليه السلام)قال : لا يضمن القصار إلّا ما جنت يداه و إن اتّهمته أحلفته (3) .

و بما رواه أيضًا بهذا الاسناد قال : قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): أعطيت جُبّة إلى القصار، فذهبت بزعمه، قال : إن اتّهمته فاستحلفه، و إن لم تتّهمه فليس عليه شيء(4) .

و لا يخفى أنّ هذه النصوص واضحة الدلالة على المطلوب .

ثمّ على تقدير جواز الدعوى مع الظنّ هل يورد الدعوى بصيغة الظنّ كأظنّ مثلاً، أو بصيغة الجزم ؟

ص: 57


1- . في التهذيب و الوسائل : فيخوف .
2- . الفقيه : 3 / 257 ح 3928 ؛ التهذيب : 7 / 218 ح 951 ؛ الوسائل : 19 / 144 ح 24327 .
3- . التهذيب : 7 / 221 ح 967 ؛ الاستبصار : 3 / 133 ح 481 ؛ الوسائل : 19 / 146 ح 24333 .
4- . التهذيب : 7 / 221 ح 966 ؛ الوسائل : 19 / 146 ح 24332 .

قال في الشرائع :

و لابدّ من إيراد الدعوى بصيغة الجزم، فلو قال: أظنّ أو أتوهّم، لم تسمع (1) .

قال في المسالک :

نبّه بقوله : « إيراد الدعوى بصيغة الجزم » على أنّ المعتبر من الجزم عنده ما كان في اللفظ بأن يجعل الصيغة جازمة، دون أن يقول : أظنّ، أو أتوهّم كذا ؛ سواء انضمّ إلى جزمه بالصيغة جزمه بالقلب واعتقاده استحقاق الحقّ أم لا .

و الأمر كذلک، فإنّ المدّعي لا يشترط جزمه في نفس الأمر، لأنّه إذا كان للمدّعي بيّنة تشهد له الحقّ (2) ، و هو لا يعلم به، فله أن يدّعي به عند

الحاكم لتشهد بالبيّنة (3) .

و كذا لو أقرّ له مقِرّ بحقّ و هو لا يعلم به، فله أن يدّعيه (4) عليه و إن لم يعلم سببه في نفس الأمر ما هو .

و وجه ما اختاره المصنّف من اشتراط الجزم بالصيغة : أنّ الدعوى

ص: 58


1- . شرائع الإسلام : 4 / 872.
2- . في المصدر : بحقّ .
3- . في المصدر : له البيّنة .
4- . في المصدر : أن يدّعيه به .

يلزمها أن يتعقّبها يمين المدّعي و (1) القضاء بالنكول، و هما غير ممكنين مع عدم العلم بأصل الحقّ، إنتهى كلامه (2) .

وفيه نظر، لأنّ ذيل كلامه مناف لصدره، لأنّ قوله : « و وجه ما اختاره المصنّف من اشتراط الجزم بالصيغة أنّ الدعوى يلزمها أن يتعقّبها اليمين » إلى آخره، يدلّ على عدم جواز الدعوى من غير العلم، و هو يناقض ما صرّح به أوّلاً من جواز ذلک، فكيف يكون هذا وجهًا لذلک ؟!

فأقول : كلام المحقّق يحتمل وجوهًا، أحدها : انّه لابدّ من إيراد الدعوى بصيغة الجزم إذا كان جازمًا، فعلى هذا الاحتمال وجه عدم قبول قوله : أظنّ أو أتوهّم،لعدم مطابقتهما بما في الاعتقاد .

و الثاني : انّه لابدّ من إيراد الدعوى بصيغة الجزم و يكون مراده فيما إذا كان جازمًا ؛ و مراده من قوله : « فلو قال : أظنّ أو أتوهّم، لم تسمع »، أي : فيما إذا كان المدّعي ظانًّا و متوهّمًا ؛ وجه عدم قبول قوله حينئذٍ هو ما ذكرناه سابقًا .

و الثالث : هو ما حمل عليه في المسالک من أنّه لابدّ من إيراد الدعوى بصيغة الجزم و إن كان ظانًّا ؛ وقد ذكر في وجه ذلک ما يدلّ على عدم جواز ذلک كما أشرت إليه .

ثمّ أقول : كون هذا مرادًا للمحقّق بعيد، و كيف مع أنّه يستلزم الكذب و التدليس

ص: 59


1- . في المصدر : أو .
2- . مسالک الأفهام : 13 / 437 و 438.

من غير حاجة و داع، لأنّ إيراد الدعوى بصيغة الجزم مع عدم جزمه بذلک كذب لايصار إليه إلّا مع داع، بل الظاهر أنّ مراده هو ثاني الاحتمالات، أي يعتبر في الدعوى الجزم، فلا تسمع مع الظنّ .

و قوله : « و بعض من عاصرناه (1) يسمعها في التهمة، و يحلف المنكر » يؤيّد ذلک، لأنّ تحليفه المنكر لا المدّعي و لو مع الردّ، لأجل عدم علم المدّعي .

9-مسألة

اشارة

لو ادّعى المدّعي إقرار المنكر له بحقّ، فإن أقرّ بذلک أيضًا فالحكم واضح، وإن أنكره هل تسمع الدعوى حينئذٍ بأن يحكم له بالحلف ؟

فالظاهر ذلک، لأنّه ينتفع به في حقّ لازم، فإنّه إن أقرّ بإقراره ثبت الحقّ (2) ، فإذا حلف على عدم الإقرار يترک و إن ردّ أو نكل يحلف المدّعي على أنّه أقرّ له ذلک، فيأخذه لعموم : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (3) .

ص: 60


1- . أشار بذلک إلى شيخه الفقيه نجيب الدين محمّد بن نما الحلّيّ ؛ انظر إيضاح الفوائد : 4 / 327 و 328 ؛وغاية المرام : 4 / 229 .
2- . انظر كشف اللثام : 10 / 88 .
3- . استدلّ به الشيخ الطوسي (قدس سره)في الخلاف : 3 / 597 قائلاً : « دليلنا : الأخبار المرويّة في أنّ إقرار العاقلعلى نفسه جائز ». والعلّامة في المختلف : 5 / 237 و 350 و ج 6 / 51 و 56 و 417 . و قال الشيخ حرّالعاملي في الوسائل : « و روى جماعة من علمائنا في كتب الاستدلال عن النبيّ (صلي الله عليه واله)أنّه قال : إقرار العقلاءعلى أنفسهم جائز » ؛ ثمّ قال : « أقول : و يأتي ما يدلّ على ذلک في القضاء و غيره » ( وسائل الشيعة :23/184). و رواه أيضًا في الفصول المهمّة : 2 / 403 ح 1 ؛ و عوالي اللّألئ : 1 / 224 ح 104 و ص 257ح 5 و ج 3 / 442 ح 5 .

و لعدم لزوم علم المقرّ له بالسبب المقتضي للإقرار، بل يجوز له أخذه اعتمادًا على إقراره ما لم يعلم بفساد السبب، لجواز استناد الإقرار إلى سبب لا يعلمه، كالنذر و الجناية و الإتلاف .

{لا يفتقر قبول الدعوى إلى الكشف عن خصوصيّاتها }

10-مسألة

اشارة

لا يفتقر قبول الدعوى إلى الكشف عن خصوصيّاتها والتفصيل في أسبابها بأن يقول: أطلب منک خمسة تومان مثلاً بالدين، أو انّه من ثمن فرس، أو غيرهما.

ويستوي في ذلک الدعوى بالمال و غيره، لإطلاق الدالّ على التحاكم بين المتخاصمين، كصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عليهم السلام): في الرجل يدّعي ولا بيّنة له، قال : يستحلفه، إلى آخر الحديث (1) .

و ترک الاستفصال عن كشف الأسباب و عدمه يفيد عموم الحكم ؛ و تقييده فيما إذا كان الدعوى عن تفصيل الأسباب وكشف الخصوصيّات خلاف الأصل ؛ وللمشقّة، لأنّ أسباب الملک كثيرة فقد تنسى و لا تضبط، فلو شرط التفصيل لأدّى

ص: 61


1- . الكافي : 7 / 416 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 557 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33679 .

إلى تضييع الحقوق .

و كذا الكلام في العقود كالنكاح و غيره، فلو قال: هذه زوجتي، تقبل، خلافًا لبعض العامّة، فأوجب فيه التفصيل بأن يقول : هذه زوجتي صداقها كذا و تزوّجتها عند عادلين مثلاً ؛ و ذلک لأنّ أمر الفروج مبنيّ على الاحتياط (1) .

و فيه نظر، لأنّ بناء الفروج على الاحتياط لا يقتضى إلّا عدم الحكم بالنكاح من غير حجّة، لا التفصيل في الدعوى، بل ربّما يئول التفصيل إلى خلاف الاحتياط، و ذلک كما إذا نسي التفصيل في النكاح، فلو كان التفصيل موقوفًا عليه لسماع الدعوى، ينبغي أن يحكم بعدم الزوجيّة، فحينئذٍ تزوّج الإمرأة مع أنّها زوجة غيره .

و لا يخفى أنّ ما قلنا من عدم اعتبار التفصيل في الدعوى إنّما هو في دعوى غير القتل، و أمّا في دعواه فقد نقل اتّفاق أصحابنا على اعتبار الكشف والتفصيل في ذلک بأن يقول : هذا قاتل أبي عن عمد، أو سهو، أو وحده، أو مع غيره بالمباشرة أو التسبيب ؛ و ذلک لاختلاف الحكم باختلاف الأسباب (2) .

ولو لا اتّفاق المحكيّ من الأصحاب، لأمكن المناقشة في ذلک، بناءً على أنّ إختلاف الأسباب ما يصير سببًا لعدم سماع دعوى القتل من غير كشف مطلقًا، لجواز أن يسمع الحاكم الدعوى حينئذٍ و طلب البيّنة من المدّعي، فإن أقامها

ص: 62


1- . انظر الحاوي الكبير : 17 / 310 و 313 ؛ و حلية العلماء : 8 / 185 ؛ والمغني، لابن قدامة : 12 / 165 ؛وروضة الطالبين : 8 / 293 .
2- . انظر مسالک الأفهام : 14 / 64 ؛ و مفاتيح الشرائع : 3 / 260 .

استفصل منها بأنّ القاتل أيّ نحو قتله، عمدًا أو سهوًا، وحده أو بالمشاركة، فإن تبيّن الأمر حكم بما ظهر، وإلّا أصل القتل معلوم، فلا أقلّ من الحكم بإعطاء الدية، لأنّ القتل ولو كان عن عمد و رضي الوارث بأخذ الدية يجوز، فإذا ثبت قاتليّته تدفع تشارک الغير معه بالأصل و كذا قتل الغير بتسبيبه .

هل يشترط مطالبة الحاكم الجواب

من الخصم بسؤال المدّعي ذلک أم لا ؟

11-مسألة

اشارة

إذا ادّعى المدّعي على المدّعى عليه عند الحاكم، هل للحاكم المطالبة بالجواب قبل أن يسأل المدّعي ذلک، أم لا ؟

قولان، اختار ثانيهما الشيخ والمحقّق (1) والعلّامة ؛ قال في القواعد :

إذا تمّت الدعوى، فالأقرب انّ الحاكم لايبتدئ بطلب الجواب { من الخصم } (2) إلّا بعد سؤال المدّعي ذلک، لأنّه حقّ له، فيتوقّف على المطالبة (3)

ص: 63


1- . انظر المبسوط : 8 / 157 ؛ و شرائع الإسلام : 4 / 872 .
2- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
3- . قواعد الأحكام : 3 / 438 .

أقول : العبارة تحتمل وجهين، أحدهما : انّ الحاكم لايبتدئ بطلب الجواب من الخصم إلّا بعد سؤال المدّعي من الحاكم ذلک، أي طلب الجواب من الخصم.

والثاني هو : أنّ الحاكم لايبتدئ بطلب الجواب من الخصم إلّا بعد سؤال المدّعي من الخصم ذلک، أي الجواب ؛ والظاهر انّ المراد هو الاحتمال الأوّل.

والظاهر أنّ الضمير في « لأنّه » في قوله : « لأنّه حقّه فيتوقّف على المطالبة » يعود إلى : « الجواب »، و في « حقّه » إلى : « المدّعي »، أي : الجواب حقّ للمدّعي لأنّه السائل، فيستحقّ الجواب، فيتوقّف على مطالبته بنفسه، بناءً على الاحتمال الثاني ؛ و بالواسطة بناءً على الاحتمال الأوّل .

إذا عرفت ذلک نقول : إنّ كون الجواب حقًّا له لايدلّ على عدم جواز طلب الحاكم ذلک من الخصم ؛ و الحاكم إنّما يطلبه ذلک للمدّعي لا لنفسه ؛ و إحضاره الخصم عندالحاكم قرينة قويّة على رضاه بطلبه الجواب منه .

و يحتمل أن يكون الضمير في « لأنّه » في قوله : « لأنّه حقّه » عائدًا إلى المدّعى به المدلول عليه بالمقام ؛ و على هذا نقول أيضًا : كون المدّعى به حقًّا للمدّعي لايدلّ على عدم جواز مطالبة الحاكم الجواب من السؤال عن الخصم كما هو واضح .

و على فرض التسليم نقول : إنّ الطلب من المدّعي حاصل، لأنّ الإنسان لايحضر خصمه في مجلس الحاكم و يدّعى عليه إلّا و هو يريد الجواب، فالقرينة الحاليّة دالّة على سؤاله الحاكم وإذنه له على طلب الجواب، فعلى هذا أظهر القولين

ص: 64

هو الأوّل، وفاقًا لجملة ممّن تأخّر (1) .

حكم الحاكم بعد إقرار الخصم غير مشروط بسؤال المدّعي

ثمّ اعلم : أنّه إذا طلب الحاكم الجواب من الخصم فأقرّ هو بما ادّعاه المدّعي عليه و كان جائز التصرّف بأن كان كاملاً مختارًا غير محجور عليه فيما أقرّ به، هل للحاكم أن يحكم عليه من غير أن يسأله المدّعي ذلک، أم لا ؟

قولان أيضًا ؛ قال في القواعد :

فإذا أقرّ وكان جائز التصرّف حكم عليه إن سأله المدّعي (2) .

ونقل ذلک عن المبسوط أيضًا، لأنّه حقّ له، فلا يستوفى إلّا بمسئلته (3) .

و القول الثاني : الجواز، و هو الظاهر، لأنّ المقرّ به حقّ ظهر للحاكم، فوجب عليه إظهاره ؛ و لأنّ القرينة الحاليّة قائمة على رضى المدّعي بذلک، فيقول الحاكم عند الحكم : حكمت، أو قضيت عليک، أو ادفع إليه حقّه، و نحو ذلک، سواء كان بعد سؤال المدّعي، أو قبله (4).

ص: 65


1- . انظر مسالک الأفهام : 13 / 440 ؛ و مجمع الفائدة : 12 / 128 ؛ و رياض المسائل : 13 / 85 ؛ والمناهل :722 .
2- . قواعد الأحكام : 3 / 438.
3- . المبسوط : 8 / 158 .
4- . لاحظ البحث في شرائع الإسلام : 4 / 873 ؛ و مسالک الأفهام : 13 / 442 ؛ و مجمع الفائدة : 12 / 128 ؛ومفاتيح الشرائع : 3 / 255 ؛ والمناهل : 722 .

التماس المدّعي للكتابة بإقرار المنكر يقبل

12-مسألة

اشارة

لو التمس المدّعي من الحاكم أن يكتب له كتابًا في ثبوت حقّه، أجابه وجوبًا إن توقّف وصول الحقّ على ذلک، فيكتب : انّ فلان بن فلان قد حضر وأحضر معه فلان بن فلان وادّعى عليه بكذا، فأقرّ له به .

هذا إذا كان الحاكم يعرف كلاًّ منهما، أو عرفهما عدلان، وإن كان الأحوط في الأخير التنبه على حصول المعرفة بالعدلين ؛ وإلّا - أي : وإن لم يعرفهما الحاكم ولا العدلان - يكتب المحضر بالحلية (1) كلّ منهما بحيث يمتاز كلّ منهما عمّن عداه،بأن يكتب هكذا : انّ رجلاً حليته كذا وكذا حضر وأحضر معه رجلاً حليته كذا وكذا ؛ و ذكر كلّ منهما انّه فلان بن فلان وادّعى عليه بكذا، فأقرّ له به.

ويمكن التخيير في الكتابة في هذه الصور، لأنّ فائدتها التذكّر بالحكم عند رؤية الخطّ، و هو مشترک في الجميع.

وهل يختصّ الحكم - أي وجوب الكتابة إذا تجب - فيما إذا أتى المدّعى بالقرطاس و المداد و القلم، أو يعمّ فيجب على الحاكم القرطاس و غيره لو لم يأتى

ص: 66


1- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): و هي بكسر الحاء المهملة واللام الساكنة وكسر الياء المثنّاة التحتانيّة،أي : الصفة من الطول والقصر والسواد والبياض و غيرها .

المدّعي ذلک ؟

الظاهر الثاني، لأنّ المفروض انّ وصول الحقّ موقوف على الكتابة، فلو تركت بعدم إتيان المدّعي القرطاس مثلاً، لضاع حقّه و قد نصب الحاكم للمنع من ضياع حقوق الناس بحسب الإمكان .

وكذا يجب على الحاكم الإشهاد لو التمس المدّعي أن يشهد على إقرار المنكر شاهدين إذا توقّف وصول الحقّ عليه (1) .

ينظر المدّعى عليه إلى الميسرة لو ظهر إعساره

13- مسألة

اشارة

لو ادّعى المنكر الإعسار بعد ثبوت المدّعى به عليه، و ظهر صدقه إمّا بشهادة البيّنة المطلقة على حاله، أو بعلم الحاكم ذلک، أو بتسليم الخصم، ينظر إلى أن يوسر ويوسّع و يقدر على الأداء، لقوله - تعالى - : ( و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) (2) .

ص: 67


1- . لاحظ البحث في المبسوط : 8 / 115 ؛ والمختصر النافع : 273 ؛ و شرائع الإسلام : 4 / 873 ؛ وتحريرالأحكام : 5 / 142 ؛ والقواعد : 3 / 438 ؛ ومختلف الشيعة : 8 / 436 ؛ وكشف اللثام : 10 / 93 ؛ وكفايةالأحكام : 2 / 686 .
2- . البقرة : 280.

و رواية غياث بن إبراهيم (1) : أنّ عليًّا (عليه السلام) كان يحبس في الدين، فإذا تبيّن له أفلاس و حاجة خلّى سبيله حتّى يستفيد مالاً (2) .

وجه الاستدلال هو : أنّه خلّى سبيله مع كونه محبوسًا بسبب الإعسار الّذي علم به بعد الحبس، فنظرته بالإعسار الّذي علم به قبل الحبس بطريق أولى .

أو يقال: إنّ الداعي للنظرة هناک إعساره، فلا يتفاوت الحال فيه بين أن علم به بعد الحبس أو قبله، فعلى الحالتين لابدّ من الإنظار .

وأيضًا مورد الحديث هو الحبس بالدين، فنجري الحكم على جميع الحقوق لعدم القول بالفصل .

قال في الشرائع :

ولو ادّعى الإعسار كشف عن حاله، فإن استبان فقره أنظره . و في تسليمه إلى غرمائه، ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان، أشهرهما الإنظار (3) .

قال في المسالک :

ص: 68


1- . جاء في حاشية الأصل : رواها في زيادات التهذيب في باب كيفيّة الحكم والقضاء، باسناده عن محمّد بنعليّ بن محبوب، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه(عليهماالسلام)؛ منه .
2- . الفقيه : 3 / 28 ح 3258 ؛ التهذيب : 6 / ص 196 ح 433 و ص 299 ح 834 ؛ الاستبصار : 3 / 47 ح156 ؛ الوسائل : 18 / 418 ح 23960 .
3- . شرائع الإسلام : 4 / 873 .

الرواية الدالّة على ذلک لم تحضرني حال الكتابة . و ذكر بعضهم أنّها ليست موجودة أصلاً . و جعلها صاحب كشف الرموز (1) رواية زرارة

عن الباقر 7 : « كان عليّ (عليه السلام) لا يحبس في السجن إلّا ثلاثة : الغاصب، ومن أكل مال اليتيم ظلمًا، و من اؤتمن على أمانته (2) فذهب بها، وإن وجد له شيئًا باعه، غائبًا كان أو شاهدًا » (3) . و لا دلالة في هذه الرواية

على المدّعى فضلاً عن كونها أشهر.

أقول : هذه الرواية مرويّة في زيادات القضاء (4) من التهذيب صحيحة ؛ و ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني من عدم دلالتها على المدّعى مسلّم، لعدم ذكر الإعسار في الرواية ؛ و على تقدير تنزيلها على ذلک نقول : غاية ما يستفاد منها عدم حبس غير الثلاثة، و هو لايستلزم الإنظار، لتحقّق الواسطة، و هو : تسليمه إلى الغرماء ليستعملوه أو يؤاجروه .

والقول (5) بأنّ التسليم إلى الغرماء أيضًا حبس، يدفعه : أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة، و عدم جواز استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز في استعمال

ص: 69


1- . كشف الرموز : 2 / 499 .
2- . في المصدر: أمانة .
3- . الاستبصار : 3 / 47 ح 154 ؛ التهذيب : 6 / 299 ح 836 ؛ الوسائل : 27 / 295 ح 33783 .
4- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : بإسناده عن ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد ابنمحمّد بن عيسى، عن عبدالرّحمن بن أبي نجران، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن زرارة، عن أبيجعفر(عليه السلام).
5- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : ردّ على المقدّس الأردبيليّ.

واحد ؛ و ممّا يبعد هذا الاحتمال - زيادة على ما مرّ - ذكر السجن في قوله : «لايحبس في السجن ».

ثمّ أقول : يمكن أن يكون الرواية الّتي أشار إليها المحقّق بقوله : « أشهرهما الإنظار»، هي ما ذكرناه أوّلاً بناءً على ما تقدّم .

و يحتمل أيضًا أن يكون الرواية المشار إليها في قوله، هي رواية السكوني عن مولانا جعفر، عن أبيه، عن عليّ :: أنّ امرأة استعدت على زوجها أنّه لا ينفق عليها، و كان زوجها معسرًا، فأبى أن يحبسه، و قال : إنّ مع العسر يسرًا (1) .

وجه الدلالة هو : أنّه 7 لم يجعل للزوجة تسلّطًا على استعمال الزوج، بل قال : « إنّ مع العسر يسرًا »، فعدم التسلّط للغير بطريق أولى .

تنبيهٌ

اعلم : أنّ ظاهر صحيحة زرارة المذكورة مناف لما مرّ من رواية غياث، لأنّ ظاهر الصحيحة عدم حبس غير الغاصب ومن أكل مال اليتيم ظلمًا ومن اؤتمن على أمانته فذهب بها، و رواية غياث نصّ على أنّه (عليه السلام)كان يحبس في الدين، فبينهما تناف .

و رفعه يمكن إمّا بحمل رواية غياث على الحبس في غير السجن، ومعلوم أنّ مورد الصحيحة هو الحبس في السجن، فلا منافات، أو بحمل الصحيحة على غير

ص: 70


1- . التهذيب : 6 / 299 ح 837 ؛ و 7 / 454 ح 1817 ؛ الوسائل : 18 / 418 ح 23961 .

القادر، فلا منافات أيضًا، لأنّ رواية غياث في القادر، بقرينة قوله : « فإذا تبيّن له أفلاس » إلى آخره (1) .

إن قلت : حمل الصحيحة على غير القادر يدلّ على جواز حبس الثلاثة المذكورة فيها عند عدم القدرة، إذ معناها حينئذٍ هكذا : كان عليّ (عليه السلام)لايحبس غير القادر - أي المعسر - في السجن إلّا الغاصب و من أكل مال اليتيم إلى آخره، فانّه (عليه السلام) يحبسهم مع الإعسار .

قلت : لا بُعد في حبس هؤلاء ولو في حالة الإعسار تغليظًا لأحكامهم على حكم غيرهم، فعلى هذا يكون الصحيح دالاًّ على جواز حبس هؤلاء عند العجز عن أداء الحقّ صريحًا، فإذا جاز حبس هؤلاء مع العسر، فمع اليسر بطريق أولى .

ثمّ إنّ ما ذكرنا من إنظار المدّعى عليه إلى الميسرة لو ظهر إعساره، هو المشهور بين الأصحاب، كما صرّح به المحقّق و الشهيد الثاني و المقدّس الأردبيليّ(2) .

و نقل عن شيخنا في النهاية (3) أنّه ذهب إلى تسليم المدين على الغريم ليستعمله، أو يؤاجره، لرواية السكوني (4) عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال : إنّ

ص: 71


1- . الفقيه : 3 / 28 ح 3258 ؛ التهذيب : 6 / ص 196 ح 433 و ص 299 ح 834 ؛ الاستبصار : 3 / 47 ح156 ؛ الوسائل : 18 / 418 ح 23960 .
2- . انظر مسالک الأفهام : 7 / 407 ؛ و مجمع الفائدة : 12 / 131 .
3- . نقله عنه الصيمريّ في غاية المرام : 4 / 231 ؛ والشهيد الثاني في مسالک الأفهام : 13 / 445 ؛ وانظرالنهاية في مجرّد الفقه و الفتاوي : 353، الرقم 16 .
4- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : رواها في باب القضاء من زيادات التهذيب باسناده عن محمّد بن عليّبن محبوب، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي جعفر (عليه السلام).

عليًّا (عليه السلام)كان يحبس في الدين، ثمّ ينظر، إن كان له مال أعطى الغرماء، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء، فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم، إن شئتم آجروه، و إن شئتم استعملوه (1) .

و هذا القول ضعيف جدًّا كضعف مستنده، لمخالفته لعمومات الكتاب و السنّة، قال الله - تعالى - : ( ليس عليكم في الدين من حرج ) (2) ؛ ( و يريد الله بكم اليسر

و لا يريد بكم العسر ) (3) ، و غير ذلک ؛ و خصوص قوله - تعالى - : ( فنظرة إلى ميسرة ) (4) ، و ما تقدّم من الرواية ؛ و لأنّ الأصل عدم تسلّط صاحب الدين على المديون عينه، لانتفاء ولايته عليه .

و في المسألة قول ثالث، نقل ذلک عن ابن حمزة، و دفع عنه البعد جماعة، وهو أنّه إذا ثبت إعساره خلّى سبيله إن لم يكن ذا حرفة يكتسب بها { أمره بالتمحل، وإن كان ذا حرفة } (5) دفعه إليه ليستعمله فيها (6) ، وما (7) فضل عن قوته و قوت

عياله { بالمعروف } (8) أخذه (9) بحقّه (10) .

ص: 72


1- . تهذيب الأحكام : 6 / 300 ح 838 ؛ الاستبصار : 3 / 47 ح 155 ؛ الوسائل : 18 / 418 ح 23962 .
2- . الحجّ : 78 ؛ والآية هكذا : ( ما جعل عليكم في الدّين من حرج ).
3- . البقرة : 185 .
4- . البقرة : 280 .
5- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
6- . « فيها » لم يرد في المصدر .
7- . في المصدر : فما .
8- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
9- . في المصدر : أخذ .
10- . الوسيلة : 212 .

و مستنده في ذلک رواية السكوني المتقدّمة على ما قيل (1) .

و أنت تعلم أنّه ليس فيها هذا التفصيل ؛ و حملها على ذلک جمعًا بينها و بين ما تقدّم من الأدلّة يحتاج إلى شاهد، و هو مفقود .

إن قلت (2) : إنّ هذا الشخص مثلاً متمكّن من أداء ما وجب عليه وإيفاء صاحب

الدين حقّه، فيجب عليه كما يجب عليه السعي في المؤنة . و أيضًا أنّ هذا الشخص مع تمكّنه من الكسب لا يكون معسرًا، بل موسر، لأنّ اليسار كما يتحقّق بالقدرة على المال، كذا يتحقّق بالقدرة على تحصيله ؛ و لهذا منع القادر على الكسب من أخذ الزكاة، فلا يشمله ما تقدّم من الأدلّة في إنظار المعسر إلى الميسرة (3) .

قلت : ما ذكرت مسلّم، لكن نقول: إيسار هذا الشخص المفروض ليس أظهر من القادر على المال بالفعل، فحكمه إن لم يكن أدون من حكمه، فليكن مساويًا معه ؛ و حكمه وجوب الوفاء بالدين، فليكن حكم هذا أيضًا ذلک، فتسليمه إلى الغريم و تسليطه عليه من أين ؟!

و الحاصل هو : أنّا نقول : الموسر على قسمين، قسم قادر بالمال بالفعل، فيجب عليه الوفاء بالدين دفعة ؛ و قسم قادر به بالتكسّب والتحصيل، فيجب عليه الوفاء بقدر ما اكتسب و حصّل، و هو إمّا يدلّ على تسليمه إلى الغريم و الكلام في ذلک.

وعلى المختار من الإنظار إلى الميسرة لو مات في حال الإعسار سقط عنه

ص: 73


1- . القائل هو العلّامة (قدس سره) في المختلف : 8 / 452 .
2- . جاء في حاشية الأصل بخطّه(قدس سره) : ردّ على العلّامة .
3- . انظر مختلف الشيعة : 8 / 453 .

الدين لو لم يبق منه ما لا يمكن به الوفاء كلاًّ أو بعضًا و كان في حال الحياة محتاجًا إليه بحيث لم يجوز أخذه منه فيها، و لا حرج عليه لو استدان بحقّ و لم يتهاون في الأداء، لأنّ هذا دين قد احتاج إليه في حال الحياة، فاستدان، و قد جعل الشارع للأداء به أجلاً معيّنًا، و هو عند الإيسار و قبل الوصول إليه قد فات، فسقط عنه .

لا يجب على المديون قبول الهبات والصدقات لأجل وفاء الدين

ثمّ إنّه هل يجب عليه قبول الهبات والصدقات و غير ذلک ؟

فالظاهر لا، للأصل و عدم دليل يوجب الخروج عنه .

و عن المبسوط أنّه قال :

لا خلاف أنّه لايجب عليه قبول الهبات والوصايا والاحتشاش والاحتطاب والاصطياد والاغتنام والتلصص في دار الحرب وقتل الابطال و سلبهم ثيابهم و سلاحهم ولا تؤمر المرأة بالتزويج لتأخذ المهر وتقضي الديون، ولا يؤمر الرجل بخلع زوجته فيأخذ عوضه، لأنّه لا دليل على شيء من ذلک، والأصل براءة الذمّة، إنتهى (1)

ص: 74


1- . المبسوط : 2 / 274 .

هذا كلّه إذا علم إعساره بأيّ وجه كان، وأمّا إذا ادّعى الإعسار ولم يعلم، بل اشتبه حاله، فحينئذٍ لايخلو إمّا أن يعلم أنّه كان ذا مال، أو كان المال أصل الدعوى، كما إذا كان المدّعى به قرضًا عنده، أو ثمن مبيع مردود إليه بعيب و نحوه، فادّعى التلف، أو لا يعلم أنّ له مالاً ولم يكن أصل الدعوى هو المال أيضًا .

و على الأوّل يطلب بالبيّنة على تلف ذلک المال جميعًا، فإن أقامها فحكمه كالأوّل - أي ينظر إلى ميسرة - و لا يجوز حبسه حينئذٍ لما تقدّم، و إلّا فيحبس حتّى يثبت إعساره للأصل، بناءً على أنّ المال كان معلوم الثبوت عنده، والأصل بقاؤه إلى أن حصل العلم بالتلف، أو ما قام مقامه .

و لما مرّ من رواية غياث : أنّ عليًّا (عليه السلام)كان يحبس في الدين، فإذا تبيّن له إفلاس و حاجة خلّى سبيله حتّى يستفيد مالاً (1) .

و الظاهر أنّ موردها في الدين الّذي لم يعلم حاله قبل الحبس من الإعسار والإيسار ؛ و على فرض تسليم عدم الظهور في ذلک، فلا شبهة في شموله له أيضًا، و ضعفها غير مضرّ بعد عمل الأصحاب، كاحتمال إعساره في نفس الأمر .

إن قلت : ما تقدّم من الأدلّة قد دلّ على أنّ المعسر يجب إنظاره إلى الميسرة؛ ويحتمل أن يكون هذا الشخص معسرًا في نفس الأمر و عجز عن إثباته، فينبغي نظرته حتّى يحصل الامتثال .

ص: 75


1- . الفقيه : 3 / 28 ح 3258 ؛ التهذيب : 6 / ص 196 ح 433 و ص 299 ح 834 ؛ الاستبصار : 3 / 47 ح156 ؛ الوسائل : 18 / 418 ح 23960 .

قلت أمّا أوّلاً : فبالمعارضة، بيانها هو : أنّ الأدلّة قد دلّت على أنّه لو كان مؤسرًا لا يجوز إنظاره، و يحتمل أن يكون هذا الشخص موسرًا في نفس الأمر، فينبغي مطالبته بالحقّ حتّى يحصل الامتثال .

و أمّا ثانيًا : فبالحلّ، بيانه هو : أنّا غير مكلّفين إلّا بما نفهم من الألفاظ و يتبادر إلى أذهاننا منهاج، والظاهر المتبادر من قوله - تعالى - : ( إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) (1) هو الّذي علم إعساره، لا ما احتمل، فيجب الحمل عليه .

إن قلت : كما أنّ المتبادر من المعسر هو الّذي علم عسره، كذا يكون المتبادر من الموسر هو الّذي علم إيساره، فكما لم يشمل الدالّ على أنّ المعسر يجب إنظاره للّذي لم يعلم عسره، كذا لم يشمل الدالّ على أنّ الموسر يجب مطالبته للّذي لم يعلم إيساره، فمن أين ترجّح الثاني على الأوّل، فتحكم بالمطالبة من الّذي لم يعلم إعساره حتّى يحبس ؟

قلت : الدليل الدالّ على أنّ الموسر يطالب على نحوين، أحدهما : مثل مفهوم الشرط في قوله - تعالى - : ( و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة )، و هو أنّه إن لم يكن ذو عسرة، فليس له نظرة إلى الميسرة، بل يطلب بالحقّ ؛ و هذا يجري فيه ما مرّ، لأنّ المتبادر من قولک : « إن لم يكن ذو عسرة »، هو ما إذا حصل العلم بعدم إعساره، فلا يشمل ما اشتبه حاله .

و ثانيهما : مثل رواية غياث المتقدّمة، و قد عرفت شمولها لمشتبه الحال أيضًا ؛

ص: 76


1- . البقرة : 280 .

و مستندنا في إدخال مشتبه الحال في حكم المؤسر من الحبس ليس هو القسم الأوّل من الدليل، بل الثاني .

على أنّا نقول : ليس كلامنا في مشتبه الحال مطلقًا، بل إذا علم بأنّه كان ذا مال، وقد عرفت أنّه موسر بحكم الاستصحاب، فتأمّل .

ثُمَّ الظاهر انّ المدّعي لو أراد أن يحلفه على عدم إبقاء المال المعلوم جاز، لأنّ المدّعي يدّعي إبقاء المال، و هذا ينكره، فيجوز له إحلافه على عدم بقاء المال، فإذا حلف خلّى سبيله إلى الإيسار .

ثمّ اعلم : الظاهر أنّه لو حصل الظنّ بكلّ من الإيسار و الإعسار يكفي في المقام، فعلى هذا لو حصل الظنّ من حال المدين بإتلاف المال يكفي في إنظاره إلى الميسرة، فلا يحتاج إلى العلم ؛ ألا ترى أنّه يشترط في آخذ الزكاة مثلاً الاستحقاق و يكفى فيه بحصول الظنّ و هكذا، فلا يجب تحصيل العلم، فتأمّل .

و على الثاني - أي إذا لم يعلم انّ له مالاً و لم يكن أصل الدعوى مالاً من المدّعي إلى المدّعى عليه، كأن يكون الدعوى صداق الزوجة، أو نفقتها، أو أرش الجناية، و حينئذٍ لو لم يكن معسرًا - فحكمه واضح، و كذا إذا علم إعساره .

و أمّا إذا ادّعى الإعسار و عجز عن إثباته شرعًا، أحلف على الفقر ؛ و كأنّه لاخلاف في ذلک بين الأصحاب، و إن ناقش فيه بعض المتأخّرين (1) ؛ و ذلک لأنّ غالب الناس قد اشتبه حالهم، فلو اكتفى في الإعسار بمجرّد ادّعاء المدّعي لكان ذلک فتحًا للباب الّذي يختلّ به النظام .

ص: 77


1- . لم نعثر عليه .

ثُمَّ إنّ الحكم بالحلف هنا إمّا خروج عن الأصل الّذي تقدّم من أنّ البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر، لكونه مدّعيًا للإعسار، أو لإرجاع قول المدّعي إلى ادّعاء القدرة على وفاء المدّعى به و المنكر ينكره، فيكون الحكم بالحلف على القاعدة .

و كيف كان لو حلف خلّى سبيله إلى الميسرة، و إن نكل و منع نفسه من اليمين حلف المدّعي على القدرة، فحبس .

قيل (1) :

و لو كان غريبًا لا يتمكّن من إقامة البيّنة وكّل به القاضي مَن يبحث عن منشئه و منتقله و تفحّص (2) عن أحواله بقدر الطاقة، فإذا غلب على ظنّه إفلاسه شهد به عند القاضي، لئلّا تتخلّد عليه عقوبة السجن (3) .

جواب المنكر إقرار و سكوت و إنكار

14-مسألة

اشارة

جواب المنكر على ثلاثة أقسام، إمّا إقرار، أو سكوت، أو إنكار ؛ أمّا الإقرار

ص: 78


1- . قائله العلّامة الحلّي(قدس سره) .
2- . في المصدر : و يفحّص .
3- . تذكرة الفقهاء : 14 / 74 .

فقد تقدّم الكلام فيه، و أمّا السكوت (1) فسيجيء .

و كلامنا الآن في الإنكار، فأقول : إذا ادّعى المدّعي على خصمه عند الحاكم حقّه، فأنكره ذلک و تعرّض به الحاكم إلى المدّعي فيقول له : ألَک بيّنة فيما تدّعيه عليه وجوبًا إن لم يعلم أنّه موضع المطالبة بالبيّنة، و إلّا فهو مخبر في ذلک، لقوله 7: « البيّنة على المدّعي، و اليمين على من أنكر » (2) .

فإن قال: نعم و أحضرها و شهدت له، حكم له ؛ و إن قال : ليس لي بيّنة، عرّفه الحاكم أنّ المنكر له اليمين، فإن طلب إحلافه أحلفه الحاكم، و لا يجوز للحاكم إحلافه من غير طلبه اتّفاقًا كما حكاه بعض (3) ، لأنّه حقّ للمدّعي مسقط لدعواه .

و يحتمل أن لا يريد المدّعي الإحلاف في الحال، لاحتمال إقرار الخصم، أو ليتذكّر أنّ له بيّنة ؛ و كذا المنكر، فانّه لا يجوز له الإحلاف (4) ابتداء ؛ و كذا المدّعي، فانّه لا يحلف المنكر من غير أمر الحاكم، فلو تبرّع الحاكم يمينه، أو المنكر حلف ابتداء، أو باحلاف المدّعي، وقعت اليمين لغوًا، فلا يعتدّ بها ولا يرتفع بها الدعوى .

و حكي أنّ أبا الحسين بن أبي عمر القاضي أوّل ما جلس القضاء (5) ارتفع إليه

ص: 79


1- . جاء في حاشية الأصل : في جعل السكوت جوابًا توسّع من تسمية الشيء باسم نقيضه، أو لمشاركتهالإنكار في الحكم على ما سيجيء ؛ منه .
2- . سنن الترمذي : 2 / 399 ح 1356 ؛ السنن الكبرى : 10 / 252 ؛ عوالي اللّألئ : 1 / 244 ح 172 ؛الوسائل : 27 / 233 ح 33666 ؛ وانظر كنز العمّال : 6 / 187 و 190 .
3- . حكاه في كشف اللثام : 10 / 96 .
4- . جاء في هامش الأصل : الحلف ( بدل ) .
5- . في المصدر : للقضاء .

خصمان، وادّعى (1) أحدهما على الآخر (2) دنانير، فأنكرها (3) ، فقال القاضي للمدّعي : ألَکَ بيّنة ؟ قال : لا، فاستحلفه القاضي من غير مسألة المدّعي، فلمّا فرغ قال له المدّعي : ما سألتک أن تستحلفه {لي } (4) ، فأمر أبو الحسين أن يعطي الدنانير من خزائنه، لأنّه استحيا أن يحلفه (5) ثانيًا، إنتهى (6) .

فللمدّعي في جميع الصور الثلاث، المطالبة باليمين وإعادتها مع مسألة الحاكم .

و قد عرفت الوجه في عدم اعتبار اليمين إذا تبرّعها الحاكم، و كذا إذا حلف الحالف بنفسه .

و أمّا وجه عدم اعتبارها إذا أحلفه المدّعي من غير إذن الحاكم، لأنّ الحكم بأنّ اليمين على من أنكر حكم من الأحكام الشرعيّة قد اجتهد فيه الحاكم، فلابدّ أن يكون من إذنه و اطّلاعه .

بعد حلف المنكر سقطت الدعوى وإن أقام المدّعي البيّنة

ثمّ إنّ فائدة جعل اليمين للمنكر هو أنّه لو حلف بالإحلاف المعتبر سقطت

ص: 80


1- . في المصدر : فادّعى .
2- . في المصدر : على صاحبه .
3- . في المصدر : وأنكر الآخر .
4- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
5- . في المصدر : أن يستحلفه .
6- . حكاه الشيخ في المبسوط : 8 / 16 .

الدعوى عنه ظاهرًا، وإن كان كاذبًا في يمينه، فلا يجوز للمدّعي المطالبة بعد ذلک بشيء، سواء شرط سقوط الدعوى، أم لا ؛ و سواء ادّعى أنّه كان لي بيّنة و نسيتها، أم لا، للاعتبار والنصوص .

منها : ما رواه إبن أبي يعفور في الصحيح عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال : إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهب اليمين (1) بحقّ المدّعي، فلا حقّ له (2) . قلت له : و إن كانت عليه بيّنة عادلة ؟ قال :

نعم و إن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قَسامة ما كان له حقّ (3) ، و كان اليمين (4) قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه (5) .

و منها : ما رواه النخعيّ عن مولانا الصادق (عليه السلام) في رجل (6) يكون له على الرجل المال فيجحده، قال : إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه (7) شيئًا، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه (8) .

ص: 81


1- . في الكافي و الفقيه : ذهبت اليمين .
2- . في الكافي و الفقيه : فلا دعوى له .
3- . « حقّ » لم يرد في الكافي و التهذيب .
4- . في الكافي : و كانت اليمين ؛ و في الفقيه : فانّ اليمين .
5- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 61 ح 3340 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 565 ؛ الوسائل : 27 / 245 ح33689 .
6- . في المصادر : الرجل .
7- . « منه » لم يرد في المصادر .
8- . الكافي : 7 / 418 ح 2 ؛ الفقيه : 3 / 185 ح 3695 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 566 ؛ الوسائل : 27 / 246ح 33601 .

و منها : ما رواه إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض أصحابه : في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده فيحلف له ؛ إلى أن قال : أعليه (1) شيء ؟ قال : ليس له أن يطلب منه (2) .

و هذا و إن لم يذكر فيه أنّه شرط سقوط الدعوى أم لا ؟ و كان له بيّنة أم لا ؟ إلّا أنّه يدلّ عليه من وجهين، أحدهما : من جهة الإطلاق، و هو مشترک بينه و بين ما تقدّم منه ؛ والثاني : من جهة ترک الاستفصال، فإنّ ترک الاستفصال في مقام السؤال مع قيام الاحتمال يفيد العموم .

خلافًا للمحكيّ عن المقنعة والكامل والوسيلة والمراسم من أنّه يحكم بالبيّنة، إلّا أن يشترط الحالف سقوط الحقّ باليمين، و هو محجوج بما تقدّم من الأدلّة، لكونها مطلقة ؛ و بالإجماع المحكيّ عن الخلاف والغنية في أنّه لايسمع دعواه بعد الإحلاف و لو كانت مع البيّنة ؛ و للمحكيّ عن موضع من المبسوط و الحلبي و ابن إدريس، و العلّامة في المختلف، حيث ذهبوا إلى أنّه يسمع الدعوى بالبيّنة مع النسيان أو الجهل، أو لا، لأنّه إنّما رضى باليمين لظنّ عجزه عن إثبات حقّه .

و جوابه يظهر ممّا تقدّم، فعلى هذا في المسألة أقوال ثلاثة :

الأوّل : عدم سماع الدعوى بعد الإحلاف المعتبر مطلقًا، و هو المختار .

والثاني : سماعها بالبيّنة، إلّا أن يشترط الحالف سقوط الحقّ باليمين.

ص: 82


1- . في المصادر : « أله عليه شيء ؟ ».
2- . الكافي : 7 / 418 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 232 ح 567 ؛ الوسائل : 23 / 286 ح 29582 .

والثالث : سماعها مع النسيان، أو الجهل بالبيّنة، أو لا .

و على المختار لا تسمع دعواه بعد الحلف و لو مع إقامة البيّنة و عدم اشتراط السقوط و مع الجهل و النسيان بالبيّنة، بل لا يجوز له المطالبة، فلو فعل فعل محرَّمًا ويأثم .

و كذا لايجوز له الاقتصاص من ماله لو ظفر به وإن كان في نفس الأمر انّه كاذبًا في يمينه، لأنّ الشارع جعل فسخ دعواه في الدنيا بالحلف كما عرفت وقد حلف، فقد فسخت الدعوى، و مع فسخها كأنّه لا يريد منه شيئًا في الدنيا، فاقتصاصه من ماله حينئذٍ كأخذ ماله من غير أن يطلب منه شيئًا، فيكون حرامًا .

وحكى الشيخ في التهذيب عن عبد الله بن وضاح أنّه قال : كان (1) بيني وبين رجل من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم، فقدمته إلى الوالي، فاحلفته فحلف، وقد علمت أنّه حلف يمينًا فاجرة، فوقع له بعد ذلک عندي أرباح و دراهم كثيرة، فأردت أن أقبض الألف درهم الّتي كانت لي عنده وأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن 7، فأخبرته انّي قد حلفته، فحلف وقد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه ألف (2) درهم الّتي حلفت (3) عليها {فعلت } (4) .

ص: 83


1- . في المصدر : كانت .
2- . في المصدر : منها الألف .
3- . في المصدر : حلف .
4- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .

فكتب (عليه السلام): لا تأخذ منه شيئًا إن كان قد (1) ظلمک فلا تظلمه، ولولا انّک رضيت بيمينه فحلفته لأمرتک أن تأخذ من تحت يدک ولكنّک قد (2) رضيت بيمينه فقد مضت اليمين بما فيها، فلم آخذ منه شيئًا وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السلام) (3) .

و روى سليمان بن خالد في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)عن رجل وقع لي عنده مال، فكابرني عليه و حلف، ثمّ وقع له عندي مال، أفآخذه لمكان مالي الّذي أخذه واجحده واحلف عليه كما صنع ؟ فقال : إن خانک فلا تخنه و لا تدخل فيما عبته عليه (4) .

نعم، لو أكذب الحالف نفسه بعد الحلف فأقرّ بالحقّ، يجوز له المطالبة حينئذٍ والمقاصّة ممّا يجده له مع امتناعه من التسليم، لعموم أدلّة الأخذ بالإقرار، فيخصّص بها عموم ما تقدّم من أدلّة السقوط .

والتعارض بينهما وإن كان من قبيل تعارض الظاهرين والعموم من وجه، لأنّ أدلّة السقوط خاصّة من حيث ورودها في خصوص مسألة الحلف و عامّة لشمولها فيما لو أكذب الحالف نفسه أم لا ؛ وأدلّة جواز الأخذ بالإقرار وإن كانت من حيث ورودها في خصوص الإقرار خاصّة، إلّا أنّها عامّة من حيث أنّ المقرّ أعمّ من أن

ص: 84


1- . « قد » لم يرد في المصدر .
2- . « قد » لم يرد في المصدر .
3- . الكافي : 7 / 430 ح 14 ؛ التهذيب : 6 / 289 ح 802 ؛ و 8 / 293 ح 1084 ؛ الاستبصار : 3 / 53 ح175 ؛ الوسائل : 27 / 246 ح 33692 .
4- . الكافي : 5 / 98 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 185 ح 3696 ؛ التهذيب : 6 / 197 ح 437 ؛ الاستبصار : 3 / 52 ح171 ؛ الوسائل : 17 / 275 ح 22505 .

يكون الحالف أو غيره، إلّا أنّ الترجيح لأدلّة الإقرار، لكونها موافقة بعمل الأصحاب على ما صرّح به بعضهم من أنّ جواز أخذ الحقّ و مطالبته فيما لو أكذب الحالف نفسه لعلّه لا خلاف فيه .

ذكر الأدلّة على طلب البيّنة من المدّعي أوَّلاً

ثمّ بعد العجز طلب اليمين من المنكر دون العكس

ثمّ إنّا قلنا بعد ترافع الخصمين إلى الحاكم وادّعاء أحدهما على الآخر مع إنكاره يطلب الحاكم البيّنة من المدّعي، فيقول : ألک بيِّنة فيما تدّعيه ؟ فإذا قال : «نعم »، أمر باحضارها لو لم تكن حاضرة، فحكم له بعد الشهادة، فارتفع الخصومة بينهما ؛ ولو قال: « لا بيّنة لي »، فهناک يحكم بحلف المنكر مع سؤاله .

و هذا الحكم من أين ؟ و لأيّ شيء لا يبتدأ بحلف المنكر ؟ و قوله (عليه السلام) : « البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر » (1) لا يدلّ على ذلک كما لا يخفى .

فأقول : و ذلک أمّا أوّلاً : فلأنّه موافق بالاعتبار، إذ لو جاز الابتداء بإحلاف المنكر، فلا حاجة لنا إلى البيّنة، لأنّ المنكر إمّا أن يحلف، أو يردّه على المدّعي ؛ وهو إمّا يحلف، أو ينكل منه .

ص: 85


1- . سنن الترمذي : 2 / 399 ح 1356 ؛ السنن الكبرى : 10 / 252 ؛ عوالي اللّألئ : 1 / 244 ح 172 ؛الوسائل : 27 / 233 ح 33666 ؛ وانظر كنز العمّال : 6 / 187 و 190 .

و في جميع هذه الصور لا حاجة لنا إلى البيّنة، أمّا في الصورة الأولى والثالثة فلأنّ الحكم بعد حلف المنكر له، وكذا إذا نكل المنكر عند نكول المدّعي بعد ردّ المنكر الحلف إليه.

و أمّا في الصورة الثانية فلأنّ الحكم للمدّعي - كما سيجيء بيان الكلّ إن شاء الله تعالى - فيأمر الحاكم بتسليم المدّعى به إليه، فلا حاجة لنا إلى البيّنة، فلأيّ شيء قال (عليه السلام): « البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر » ؟!

وأمّا ثانيًا : فلأنّه منصوص، و من النصّ في ذلک ما رواه في التهذيب عن سليمان بن خالد، عن مولانا الصادق (عليه السلام) قال : في كتاب عليٍّ (عليه السلام) : أنّ نبيًّا من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال : يا ربّ كيف أقضي فيما لم أشهد ولم أرَ ؟ قال: فأوحى الله - تعالى - إليه : احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلى اسمي تحلفهم به، و قال : هذا لمن لم تقم (1) بيّنة له (2) .

و منه : ما رواه عن يونس، عمّن رواه قال: استخرج (3) الحقوق بأربعة وجوه : شهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعي، فإن لم تكن (4) شاهد فاليمين على المدّعى عليه (5) .

ص: 86


1- . في المصدر : لم تقم له بيّنة .
2- . الكافي : 7 / 415 ح 4 ؛ التهذيب : 6 / 228 ح 550 ؛ الوسائل : 27 / 229 ح 33657 .
3- . في الكافي : استخراج .
4- . في المصدر : لم يكن .
5- . الكافي : 7 / 416 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 562 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33682 .

و أمّا ثالثًا : فلأنّ المسألة الظاهر أنّه لا خلاف فيها .

و أمّا رابعًا : فالنصوص الدالّة على أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر، وقد عرفت جملة منها سابقًا، فإنّها و إن لم تدلّ على ذلک، لكن تقديم القول بأنّ البيّنة على المدّعي في جميعها يؤيّد ذلک .

في ردّ اليمين على المدّعي

15- مسألة

اشارة

لو توجّه اليمين إلى المنكر، له أن يحلف و أن يردّها على المدّعي، أمّا الأوّل فقد مرّ الكلام فيه ؛ وأمّا الثاني فحكمه أنّه لو حلف المدّعي استحقّ المدّعى به، فيجب عليه تسليمه، وإن نكل و منع نفسه من اليمين تسقط الدعوى أيضًا إجماعًا، كما في الشرائع و موضع من القواعد (1) .

و للنصوص، منها : الصحيح المرويّ عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهماالسلام) : في الرجل يدّعي و لا بيّنة له، قال : يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلا يحلف (2) ، فلا حقّ له (3) .

ص: 87


1- . انظر شرائع الإسلام : 4 / 878 ؛ و قواعد الأحكام : 3 / 445 .
2- . في المصدر : فلم يحلف .
3- . الكافي : 7 / 416 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 557 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33679 .

و هذا الحديث قد دلّ على جواز ردّ اليمين و على أنّه لو حلف بعد الردّ استحقّ المدّعى به، ولو لم يحلف و نكل منه تسقط الدعوى .

أمّا دلالته على جواز الردّ و سقوط الدعوى للنكول فواضحة، و أمّا على أنّه لو حلف استحقّ المال فبمفهوم الشرط، و هو قوله : « فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلا يحلف (1) ، فلا حقّ له »، إذ مفهومه هو : أنّه لو ردّ اليمين على صاحب الحقّ فيحلف فله حقّ، و هو المطلوب .

و منها : ما رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يدّعى { عليه الحقّ } (2) ولا بيّنة للمدّعي، قال: يستحلف أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له (3) .

و منها : مرسلة أبان، عن رجل، عن أبي عبد الله 7 : في الرجل يدّعى عليه الحقّ و ليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: يستحلف المدّعى عليه، فإن أبى أن يحلف وقال : أنا أردّ اليمين عليک لصاحب الحقّ، فإنّ ذلک واجب على صاحب الحقّ أن يحلف و يأخذ ماله (4) .

و غيرها .

قال في القواعد :

ص: 88


1- . في المصدر : فلم يحلف .
2- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
3- . الكافي : 7 / 416 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 556 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33680 .
4- . الكافي : 7 / 416 ح 4 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 561 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح 33683 .

و إن ردّ المنكر اليمين على المدّعي، فإن حلف ثبت دعواه، وإن نكل سقطت . و هل له المطالبة بعد ذلک ؟ إشكال (1) .

أقول : لايخفى أنّه بعد تسليم سقوط الدعوى بسبب النكول وجه جواز المطالبة غير معلوم حتّى تردّد في المسألة، بل مع تسليمها ينبغي الحكم بعدم جوازها.

إن قيل : وجه الإشكال هو الأصل، لأنّ قبل النكول كانت المطالبة جائزة، فالأصل بقاء الجواز .

قلت : إنّ هذا الأصل قد ارتفع بسقوط الدعوى، لأنّ مع تسليم سقوطها ما بقي الجواز حتّى يستصحب، بل الأصل عدم الجواز استصحابًا للسقوط، فتأمّل .

على أنّا نقول : شرط التمسّک بالأصل عدم وجود النصّ و قد عرفته ؛ وتخصيص سقوط الدعوى في وقت النكول و عدمه بعده تقييد للنصّ من غير دليل، إذ قوله 7 : « فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلا يحلف، فلا حقّ له » (2)

مطلق .

إنّما يتوجّه اليمين إلى المدّعي

إذا كانت دعواه لنفسه، لا أن يكون وكيلاً أو وصيًّا

ثمّ إنّ الحكم بحلف المدّعي خلاف الأصل، لما عرفت من أنّ البيّنة على

ص: 89


1- . قواعد الأحكام : 3 / 439 .
2- . التهذيب : 6 / 229 ح 557 .

المدّعي و اليمين على من أنكر، فيجب الاقتصار فيه على الموضع المتيقّن، وهو ما إذا كان ادّعاؤه لنفسه، لأنّه الظاهر من النصوص المتقدّمة، حيث قال 7 فيها : «فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ »، سيّما من الرواية الأخيرة، فلا يحكم بحلف المدّعي إذا كان وكيلاً، أو وصيًّا، وبالجملة إذا لم يكن الدعوى لنفسه .

بل الحكم بحلف المنكر أيضًا مشكل، إذ يسقط به الدعوى والحقّ، ولا مصلحة لليتيم في ذلک، لاحتمال أنّه إذا بلغ و رشد يثبت المدّعى به بالبيّنة، أو يصالح ويحصل له نفع .

حلف المدّعي هل هو بمنزلة الإقرار أو البيّنة ؟

ثمَّ اعلم : أنّ حلف المدّعي فيما يحلف هل هو بمنزلة البيّنة، أو بمنزلة إقرار المنكر ؟

وجهان، وجه الأوّل هو : انّ المدّعي لو أقام البيّنة يحكم له، وكذا إذا حلف بعد ردّه المنكر إليه، فيكون بمنزلتها .

و وجه الثاني : أنّ يمين المدّعي إنّما هو من حيث ردّ المنكر أو نكوله، فيكون بمنزلة صدور الإقرار بالحقّ منه .

و لعلّ الأوّل أولى، لأنّ الردّ في اليمين أو النكول منها لايستلزم الإقرار، لاحتمال أنّ ترک المنكر و عدم حلفه إنّما هو باعتبار كراهة اليمين، فيحتمل أنّه

ص: 90

تركها لذلک و إن كان مصيبًا في نفس الأمر، فردّ اليمين غير مستلزم للإقرار .

و لأنّ ردّ اليمين لو كان مستلزمًا للإقرار ينبغي أن يثبت له حكم الإقرار ؛ و من حكمه أنّ الإقرار متى وجد يكون حجّة يستحقّ به الحقّ للمقرّ له، و ليس الردّ كذلک، إذ ربما يوجد الردّ واستحقّ المدّعى لشيء، بل يسقط، كما ردّ اليمين إليه ولم يحلف .

وأيضًا حلف المدّعي لو كان بمنزلة إقرار المنكر بالحقّ، لكان مثله، ومن المعلوم أنّ الإقرار لايحتاج أن يكون بإذن الحاكم ولا في مجلسه، وقد تقدّم انّ الحلف لايكون إلّا بإذن الحاكم، و سيجيء أيضًا انّه لايجوز إلّا في مجلس الحاكم، فتأمّل.

ثمّ لايخفى عليک أنّه لا دليل في كون اليمين بمنزلة شيء منهما، ولو كان البيّنة ؛ وحملها عليهما لما ذكر قياس لانقول به ؛ و غاية ما ثبت من الدليل أنّ المدّعي لو حلف بعد الردّ إليه لكان مستحقًّا للحقّ، وهو لايستلزم أن تكون اليمين بمنزلة البيّنة أو الإقرار، لجواز أن لا تكون بمنزلة شيء منهما، و مع ذلک تثبت الحقّ لأمر الشارع، و لم يرد من الكتاب و لا من السنّة أنّها بمنزلة شيء منهما .

بعد حلف المدّعي لا تقبل البيّنة لو أقامت لها المنكر

ثمّ إنّ بعد حلف المدّعي لو أقام المنكر البيّنة على أداء الحقّ، أو على إبرائه المدّعى عنه، و بالجملة على خروج ذمّته عن حقّه، هل تسمع أم لا ؟

ص: 91

الظاهر : لا، لما عرفت سابقًا من أنّ الدعوى بعد اليمين غير مسموعة، والنصّ في ذلک وإن ورد في حقّ المنكر، إلّا أنّه نجري الحكم هنا بتنقيح المناط، لأنّا نقطع أنّ عدم قبول قول المدّعي و البيّنة بعد حلف المنكر إنّما هو لأجل الحلف، و هو موجودٌ هنا، فينبغي أن لا تسمع مثله (1) .

و لا يخفى أنّ ما قلنا من سقوط الدعوى بمجرّد نكول المدّعي وامتناعه من اليمين إنّما هو إذا لم يعلّل ذلک بشيء، و أمّا لو علّله كأن يقول : أريد أن أتى بالبيّنة، أو أنظر في الحساب ؛ و نحو ذلک، فلا تسقط الدعوى للأصل و عدم ما يوجب الخروج عنه، لأنّ الظاهر أنّ المتبادر من النصوص المتقدّمة غير الصورة المفروضة، فتصير بالنسبة إليها مجملة، فبقي الأصل سالمًا عمّا يصلح للمعارضة .

ثمّ هل يقدر لإمهاله قدرًا ؟

الظاهر لا، لأنّ الحقّ له، فله أن يحلف و يأخذ، أو يتأخّره إلى أن يشاء، كإقامة البيّنة ؛ و هذا بخلاف المنكر، فإنّ إمهاله بعد توجّه اليمين غير جائز، فلابدّ إمّا أن يحلف، أو يردّ، لأنّ الحقّ لغيره .

ص: 92


1- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : ألا ترى إلى قوله(عليه السلام) في الصحيح : « و كان اليمين قد أبطلت كلّما ادّعاهقبله » { الكافي : 7 / 418 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 565 }، فإنّ الظاهر منه انّ اليمين مستقلّة في إبطالالحقّ ؛ و يمكن الاستدلال لذلک أيضًا بعموم الموثّق المرويّ عن أبي حمزة عن مولانا عليّ بن الحسين (عليهماالسلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه واله) : « لا تحلفوا إلّا بالله، و من حلف بالله فليصدق، و من حلف له بالله فليرض، ومنحلف له بالله فلم يرض فليس من الله » {الكافي : 7 / 438 ح 1 ؛ التهذيب : 8 / 284 ح 1040 }. وجهالاستدلال أنّ « مَن » الموصوليّة تفيد العموم، فيشمل عين المدّعى أيضًا، و معلوم أنّ من أقام البيّنة بعد الحلفغير راض باليمين، وإلّا لما أقامه .

16- مسألة

اشارة

لو قال المدّعي للمنكر : « قد أسقطت عنک هذه اليمين »، لم تسقط دعواه، لأنّ إسقاط اليمين لايستلزم إسقاط الدعوى، بل له إحلافه في مجلس آخر، لأنّ هذا دعوى غير الدعوى الأولى، واليمين الساقطة هي اليمين في الأولى .

نعم، لو قال : « قد أسقطت عنک اليمين »، ليس له إحلافه مطلقًا ولو في مجلس آخر، لكن الحقّ لم يسقط لإمكان إثباته بالبيّنة ؛ ولو فرض عدمها ينبغي أن يسقط، لأنّ طريق ثبوته بعد إنكار المنكر منحصرٌ في شيئين : اليمين والبيّنة، و قد فرض عدمهما، واللازم من عدمهما عدم ثبوت الحقّ .

المنكر إذا نكل من اليمين والردّ حكمه ما هو ؟

17- مسألة

اشارة

إذا توجّه اليمين على المنكر لايخلو إمّا أن يحلف، أو يردّ، أو ينكل بأن لايحلف و لا يردّ اليمين على المدّعي .

و قد مرّ الكلام في الأوّل والثاني، و أمّا الثالث فقد حكم كثير منهم (1) بأنّ

ص: 93


1- . انظر القواعد : 3 / 439 ؛ و الإرشاد : 2 / 144 ؛ و الدروس : 2 / 87 ؛ و المسالک : 13 / 453 ؛ و كشفاللثام : 10 / 100 ؛ و رياض المسائل : 13 / 105 .

الحاكم يقول له ثلاث مرّات : إن حلفت و إلّا جعلتک ناكلاً (1) .

و بعضهم أطلق ذلک و لم يصرّح بالوجوب أو الندب (2) ، فظاهره الوجوب .

وبعضهم صرّح بأنّ ذلک على سبيل الندب، لا الوجوب (3) .

و بعضهم حكم بوجوب ذلک مرّة و باستحباب الزيادة (4) .

و لم أظفر بمستند في ذلک، فالحكم بالوجوب مشكل، و أمّا الاستحباب فلا بأس به، للتسامح في أدلّته .

نعم، يمكن الاستدلال للوجوب دفعةً بأنّ الحاكم لابدّ أن يُعْلم المنكر بأنّه يحكم عليه بالحقّ حينئذ، أو يردّ الحلف إلى المدّعي، إذ ربما لا يعلم ذلک، فإذا علم حلف أو ردّ، لكنّه أخصّ من المدّعى، لأنّ الإعلام إنّما هو إذا لم يعلم المنكر ذلک .

و كيف كان فإن حلف المنكر بعد ذلک، أو ردّ، فالحكم واضح ؛ وإن أصرّ على النكول، ففي حكمه قولان :

{ القول الأوّل }

الأوّل : إنّ الحاكم يردّ اليمين إلى المدّعي، فإن حلف ثبت الدعوى، وإلّا

ص: 94


1- . جاء في حاشية الأصل : معناه أنّه يحكم عليه بمجرّد ذلک بالحقّ إمّا بردّ اليمين إلى المدّعي، أو بدونه علىما سيأتي ؛ منه .
2- . انظر الوسيلة : 217 .
3- . انظر المبسوط : 3 / 31 ؛ و المهذّب : 1 / 413 ؛ و الشرائع : 4 / 874 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 691 .
4- . انظر الدروس : 2 / 89 .

فسقطت .

و هو المحكيّ عن ابن الجنيد والمبسوط والخلاف والمهذّب والعلّامة في أكثر كتبه، و غيرهم (1) .

و منه ابن إدريس، حيث قال في السرائر :

من ادّعى مالاً أو غيره ولا بيّنة له، فتوجّهت اليمين على المدّعى عليه فنكل عنها، فإنّه لا يحكم (2) بالنكول، بل يردّ اليمين إلى المدّعي (3) فيحلف، و يحكم له بما ادّعاه، هذا هو مذهب أصحابنا . وقال شيخنا أبوجعفر في نهايته : فإذا نكل، لزمه الحقّ، و أطلق ذلک (4) ، و رجع في مسائل الخلاف والمبسوط إلى ما اخترناه، إنتهى (5) .

واستدلّ على ذلک بما روي عن النبيّ (صلي الله عليه واله) : أنّه ردّ اليمين على طالب الحقّ (6) .و برواية عبيد بن زرارة عن مولانا الصادق (عليه السلام) : في الرجل يدّعى عليه الحقّ

ص: 95


1- . حكاه عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة : 8 / 380 ؛ وانظر الخلاف : 6 / 290 ؛ والمبسوط : 8 / 159 ؛والمهذّب : ج 1 / ص 413 و ج 2 / ص 586 ؛ و مختلف الشيعة : 8 / 398 ؛ و التبصرة : 238 ؛ و القواعد :3 / 440 و 452 ؛ و التحرير : 2 / 186 ؛ و غاية المراد 4 / 37 ؛ و المسالک : 13 / 453 ؛ و كشف الرموز :2 / 501 ؛ وإيضاح الفوائد : 4 / 331 و 353 ؛ و الدروس : 2 / 89 ؛ و التنقيح الرائع : 4 / 255 .
2- . في المصدر : يحكم عليه .
3- . في المصدر : بل يلزم اليمين المدّعي .
4- . النهاية : 340 .
5- . السرائر : 2 / 180 .
6- . كنز العمّال : 5 / 850 ح 14545 ؛ سنن الدارقطني : 4 / 213 ح 24 ؛ سنن البيهقي : 10 / 184 .

ولا بيّنة للمدّعي، قال : يستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له (1) .

و بأنّ المدّعي مع ردّ اليمين عليه يجب الحلف، فإذا نكل بطل حقّه وإذا كان الحال بهذه المثابة يجب على الحاكم ردّ الحلف إليه، لاحتمال أن ينكل ولم يستحقّ شيئًا ؛ و مع تحقّق هذا الاحتمال كيف يأمر بأخذ المدّعى به ؟!

وبقوله (صلي الله عليه واله) : « المطلوب أولى من الطالب باليمين » (2) .

وجه الاستدلال هو : أنّه (صلي الله عليه واله) جعل المطلوب - و هو المنكر - أولى باليمين من الطالب - أي المدّعي - و معلوم أنّ أولويّة المطلوب بها تستلزم تحقّق الجواز في المفضل عليه - أي الطالب - لأنّ أفعل التفضيل حقيقة في اشتراک المفضل والمفضل عليه في الشيء مع تفضيل المفضل فيه، فإذا ثبت جواز يمين المدّعي، ثبت المطلوب .

و بأنّ الأصل براءة الذمّة و عدم اشتغالها بالمال إلى أن يثبت ما يوجب الخروج عنه، و لم يثبت ذلک بالنكول .

ص: 96


1- . الكافي : 7 / 416 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 556 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33680 .
2- . رواه في تلخيص الحبير: 4 / 210 في ذيل الحديث 2143 ؛ لفظه : « من كانت له طلبة عند أحد فعليهالبيّنة، والمطلوب أولى باليمين، فإن نكل حلف الطالب و أخذ ». و في مسند أحمد بن حنبل 1 / 356 :«المدّعى عليه أولى باليمين ». و في الجامع الصغير للسيوطي 2 / 665 : « المدّعى عليه أولى باليمين إلّا أنتقوم عليه البيّنة ». و نحوه في سنن الدارقطني : 4 / 136 و 140 ؛ و سنن البيهقي : 10 / 256 . و نقله الشيخ- قدّس سرّه - في الخلاف : 6 / 292 ؛ و ابن زهرة في الغنية : 443 ؛ والعلّامة في المختلف : 8 / 381 ؛وغيرهم .

و بما رواه هشام في الحسن عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال : يردّ اليمين على المدّعي (1) .

و في جميعها نظر، أمّا في الأوّل فلأنّه قضيّة في الواقع، يحتمل أن يكون ردّه اليمين على المدّعي لأجل سؤال المنكر ذلک، كما يحتمل أن يكون ذلک لأجل النكول ؛ و وقائع الأحوال إذا تطرّق إليها الاحتمال دخلت في حيّز الإجمال، فلايجوز بهاالاستدلال (2) ؛ هذا مع أنّه عامّيّ .

و أمّا في الثاني فلأنّ وجه الاستدلال به غير واضح، إلّا بحمل « يستحلف » و«يردّ » على المبنيّ للمفعول، و هو غير متعيّن، بل الظاهر أنّ الضمير في «يستحلف » يعود إلى « الرجل » في قوله : « في الرجل يدّعى عليه »، وكذا في «يردّ »، فلاوجه للتمسّک به في المقام، بل هو دليل على المسألة السابقة من أنّ المنكر إمّا يحلف هو، أو يردّ اليمين إلى المدّعي على ما تقدّم .

وكون « يستحلف » من باب الاستفعال و وضعها للطلب غير مناف لذلک، لأنّه يطلب اليمين من نفسه ؛ على انّ استعمال باب الاستفعال مجرّدًا من الطلب غير عزيز في الاستعمال .

و على فرض تسليم كون الفعل مبنيًّا للمفعول نقول : المتبادر منه هو ما إذا كان الرادّ منكرًا، فينصرف إليه .

ص: 97


1- . الكافي : 7 / 417 ح 5.
2- . نقل هذه القاعدة الأصوليّة عن الشافعي ؛ حكاها عنه الزركشيّ في البحر المحيط : 2 / 308 ؛ وانظر أيضًا :الوافية، للفاضل التوني : 115 ؛ والقوانين : 226 .

و أمّا في الثالث فلأنّ ردّ اليمين على المدّعي خلاف الأصل، لما عرفت سابقًا من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، فعلى هذا ينبغي أن يقتصر في مخالفة الأصل على موضع اليقين، و هو ما إذا ردّ المنكر اليمين إلى المدّعي، لا إذا نكل المنكر .

فعلى هذا نقول : إنّ نكول المدّعي إنّما يسقط دعواه إذا ثبت جواز الردّ إليه، والكلام في ذلک، فكيف هذا يصير دليلاً لجواز الردّ ؟! إذ معه يلزم الدور، لأنّ النكول المسقط للحقّ موقوفٌ على جواز الردّ و جواز الردّ لو كان لأجل أنّ بالنكول يسقط الحقّ، لكان ذلک توقّف الشيء على نفسه، و هو باطل .

وأمّا في الرابع فلأنّ قوله (صلي الله عليه واله): « المطلوب أولى من الطالب باليمين » ظاهره خلاف اتّفاق الأصحاب، فالظاهر انّ المراد بأولويّة المطلوب باليمين من الطالب هو ما إذا جاز يمين الطالب، كما إذا ردّها المنكر إليه ؛ و كيف يجعل هذا دليلاً على الجواز ؟!

على أنّ استعمال أفعل التفضيل مجرّدًا عن معنى التفضيل غير عزيز ؛ ألا ترى أنّک تقول : إنّ في المسألة الفلانيّة ثلاثة أقوال مثلاً، إلّا أنّ أشهرها ذلک مع أنّ القولين الأخيرين شاذّان ؛ و هكذا تقول : إنّ هذا القول من بين الأقوال أقوى وأصحّ، مع أنّ غيره من الأقوال ضعيف، و هكذا، فتأمّل .

و أمّا في الخامس فلأنّ الأصل كما يكون براءة الذمّة عن الاشتغال بالمال، كذا انّ الأصل عدم جواز ردّ اليمين إلى المدّعي، لأنّ قبل النكول لم يكن ذلک جائزًا، فالأصل بقاؤه، فإذا تعارضا تساقطا، فعلى مدّعي جواز الردّ الإثبات .

ص: 98

و أمّا في السادس فسيجيء إليه الإشارة بعد نقل القول الثاني و أدلّته .

{ القول الثاني }

و القول الثاني هو : انّه يحكم عليه بمجرّد نكوله من دون ردّ اليمين على المدّعي .

نقل ذلک عن الصدوقين و المقنعة و المراسم و أبي الصلاح والغنية والنهاية والقاضي في الكامل و الجامع و الموجز (1) ، و هو مختار المحقّق في الشرائع والنافع (2) ؛ للأصل، بناءً على ما مرّ من أنّ « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (3) ، فالحكم بحلف المدّعي خلاف الأصل، فيقتصر فيه على موضع اليقين،والمقام من ذلک .

و لصحيحة محمّد بن مسلم عن مولانا الصادق (عليه السلام) حيث سأله عن الأخرس كيف يحلف ؟ قال : إنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) كتب له اليمين و غسلها و أمره بشربها، فامتنع، فألزمه الدين (4) .

ص: 99


1- . المقنع : 396 ؛ و حكاه عن عليّ بن بابويه ابنه الصدوق في الفقيه : 3 / 39 ؛ والمقنعة : 724 ؛ والمراسم :231 ؛ والكافي في الفقه : 447 ؛ و الغنية : 445 ؛ و النهاية و نكتها : 2 / 71 ؛ وحكاه عن القاضي فيالمختلف : 8 / 380 ؛ وانظر غاية المراد : 4 / 35 ؛ و مسالک الأفهام : 13 / 453 ؛ و كشف اللثام : 10 /100؛ و رياض المسائل : 13 / 105 ؛ والمناهل : 730 .
2- . الشرائع : 4 / 874 ؛ المختصر النافع : 274 .
3- . سنن الترمذي : 2 / 399 ح 1356 ؛ السنن الكبرى : 10 / 252 ؛ عوالي اللّألئ : 1 / 244 ح 172 ؛الوسائل : 27 / 233 ح 33666 ؛ وانظر كنز العمّال : 6 / 187 و 190 .
4- . الفقيه : 3 / 65 ح 218 ؛ التهذيب : 6 / 319 ح 879 .

وجه الاستدلال أنّه (عليه السلام) لم يردّ اليمين على المدّعي مع امتناع المنكر عن الحلف، بل ألزمه الدين عليه بعد الامتناع من غير أن يتحقّق فصل بينهما، على ما هو قضيّة فاء التعقيبيّة في : « فألزمه »، فلو كان الحكم عند نكول المنكر عن الحلف والردّ ردّ الحاكم اليمين على المدّعي لفعله (عليه السلام)، و عدم فعله دليل على العدم، فإذا ثبت الحكم في الأخرس نقول في غيره، لعدم الفارق .

و لما رواه في التهذيب عن عبدالرحمن بن أبي عبد الله، قال: قلت للشيخ (1) : خبّرني (2) عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ، فلا يكون له البيّنة بما له، قال : فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، وإن لم يحلف فعليه (3) .

وجه الاستدلال هو : أنّه حكم بثبوت الحقّ على المنكر بمجرّد عدم الحلف من دون أن يأمر الحاكم بردّ الحلف على المدّعي، و هو المطلوب .

الظاهر أنّ الحديث حسن، فهذا القول هو الأقوى، لما عرفت من ضعف مستند القول الأوّل و قوّة مستند هذا القول .

لكن بقي الكلام في الجواب عمّا رواه هشام عن مولانا الصادق (عليه السلام)، و هو ما مرّ من قوله : « يردّ اليمين على المدّعي » (4) .

ص: 100


1- . جاء في حاشية الأصل : يعني : موسى بن جعفر (عليهماالسلام)، كما فى الفقيه ؛ منه .
2- . في الفقيه : أخبرني .
3- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3343 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 555 ؛ الوسائل : 27 / 236 ح33673 .
4- . الكافي : 7 / 417 ح 5 .

فأقول : والجواب عن هذا هو : أنّ الاستدلال به لقول الأوّل مبنيٌّ على كون الفعل فيه مبنيًّا للمفعول، و هو غير معلوم، لاحتمال كونه للفاعل، بل هذا أولى، لأنّ الأصل في الفعل المبنيّ للفاعل، و حينئذٍ الضمير يحتمل أن يعود إلى الحاكم فيصير دليلاً لهم، أو للمنكر فلا، فصار مجملاً، فلا يجوز التمسّک به في إثبات الحكم .

على انّه بعد النظر والتتبّع في الأخبار يحصل الظنّ بتعيّن الاحتمال الثاني من كون الضمير فيه عائدًا إلى المنكر، فلا دخل له فيما نحن فيه .

و على تقدير تسليم كون الفعل مبنيًّا للمفعول، نمنع التمسّک به أيضًا، لما مرّ من أنّ المتبادر منه هو ما إذا كان الرادّ هو المنكر، فينصرف إليه .

و ربما قدح الاستدلال به بما وجد في ذيله (1) : « و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات، فأقيمت عليه البيّنة، فعلى المدّعي اليمين - إلى أن قال (عليه السلام) - : و لو كان حيًّا لألزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين » (2) .

و كان وجه القدح مبنيّ على حمل « يردّ اليمين » بصيغة المبنيّ للمفعول، و هو غير متعيّن، أمّا أوّلاً لجواز أن لا يكون فعلاً مطلقًا، بل مصدر مصدَّر بالباء الجارّة، أي : لألزم بردّ اليمين، و حينئذٍ يصير دليلاً على بطلان القول الأوّل، لدلالته حينئذٍ على أنّ اليمين لا يردّ على المدّعي إلّا بردّ المنكر .

و على فرض تسليم كونه فعلاً نقول : كما يحتمل أن يكون مبنيًّا للمفعول كذا

ص: 101


1- . أي : ذيل رواية عبدالرحمن بن أبي عبد الله .
2- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3343 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 555 ؛ الوسائل : 27 / 236 ح33673 .

يحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، أي : يردّ المنكر اليمين ؛ و إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال .

ثمّ اعلم : أنّه ربما يمكن التأييد به للقول الأوّل من حيث قوله : « أو الحقّ »، فتأمّل.

{ الجواب عن الإجماع المنقول على القول الأوّل }

نعم، بقي في المقام شيء، و هو أنّه قد نقل في المسالک عن الشيخ الإجماع على القول الأوّل (1)

و جوابه : أنّه موهون بمصير أساطين الفقهاء على خلافه، كالصدوقين والشيخ المفيد وابن البرّاج و أبي الصلاح و سلّار وابن زهرة و غيرهم (2) .

و على فرض تسليم عدم الوهن فيه نقول : إنّه لايقاوم ما مرّ من الأدلّة في القول الثاني، فارتفع الإشكال عن المسألة بإعانة الله - سبحانه .

ص: 102


1- . مسالک الأفهام : 13 / 456 ؛ نقلاً عن الخلاف : 6 / 292 ذيل المسألة 38 .
2- . انظر المقنع : 396 ؛ و الفقيه : 3 / 39 ؛ و المقنعة : 724 ؛ و المراسم : 231 ؛ والكافي في الفقه : 447 ؛والغنية : 445 ؛ والنهاية و نكتها : 2 / 71 ؛ و المختلف : 8 / 380 ؛ و غاية المراد : 4 / 35 ؛ و مسالکالأفهام : 13 / 453 ؛ و كشف اللثام : 10 / 100 ؛ و رياض المسائل : 13 / 105 ؛ والمناهل : 730 .

18- مسألة

اشارة

لو بذل المنكر يمينه بعد الحكم بالنكول لم تسمع، لأنّ الحكم قد استقرّ بسبب النكول، إمّا بردّ الحاكم اليمين على المدّعى - كما هو القول الأوّل - أو بمجرّد النكول - كما هو الحقّ - فلا يجدى بذل اليمين، كما لايجدى بعد ردّه الحلف على المدّعي .

نعم، لو ادّعى بذلها بعد النكول قبل حكم الحاكم تسمع، فيحلف لبقاء المحلّ، لأنّه إنّما ينقضى بالحكم، و المفروض أنّ الدعوى قبله .

حكم المنكر إذا سكت

19- مسألة

اشارة

قد تقدّم الكلام في المنكر إذا أقرّ أو أنكر، وأمّا إذا سكت ولم يجب بشيء، فلايخلو إمّا أن يكون لا لأجل العناد، أو لذلک .

و على الأوّل يجتهد الحاكم للتوصّل إلى معرفة جوابه على نحوٍ يحصل له اليقين، و إن احتاج في فهم إقراره و إنكاره إلى من يعرفه إشارته، كما إذا كان سكوته لأجل الخرس، فلابدّ من عدلين تحصيلاً للأقرب إلى اليقين ؛ فإن شهد العدلان بأنّ مقصوده كذا و أذعن هو بذلک بالإشارة المفهمة لذلک، فيحكم الحاكم بينهما ؛ و إن لم يفعل ذلک و لم يُشر إشارة مفهمة للإذعان والعدم، فيكون من قبيل

ص: 103

أن يكون سكوته لإحلافه، بل للعناد، و سيجيء حكمه .

و على الثاني - أي : يكون سكوته عنادًا و لا يكتفى بإلزام الحاكم - ففيه أقوال ثلاثة :

{ القول الأوّل }

الأوّل : انّه يُجبر حتّى يجيب ؛ و هو المحكيّ عن المقنعة و النهاية و الخلاف والمراسم و الوسيلة و الجامع (1) .

واختاره في الشرائع و النافع و القواعد (2) .

ونسبه في المسالک إلى المتأخّرين، لأنّ الجواب حقّ عليه، فيجوز حبسه لاستيفائه منه، كذا قيل (3) .

و نسبه في الشرائع و غيره إلى الرواية ؛ و قال في المسالک :

و لم نقف على روايته (4) .

واحتمل بعضهم أنّ المراد بالرواية قوله (صلي الله عليه واله): « لِيّ الواجد يُحلّ عقوبته

ص: 104


1- . المقنعة : 725 ؛ النهاية : 2 / 73 ؛ الخلاف : 6 / 238 ؛ المراسم : 231 ؛ الوسيلة : 212 ؛ الجامع للشرائع :524 .
2- . الشرائع : 4 / 875 ؛ المختصر النافع : 274 ؛ القواعد : 3 / 440.
3- . انظر مسالک الأفهام : 13 / 466 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 696 .
4- . مسالک الأفهام : 13 / 466 .

وعِرْضَه (1) » (2) ، بناءً على تفسيرهم العقوبة بالحبس خاصّة (3) .

{ مختار المصنّف (قدس سره) في المسألة }

أقول : ظاهر عبارة أصحاب هذا القول الّتي رأيناها وجوب الحبس ؛ و هذا التعليل و كذا الرواية مقتضاهما جوازه كما ترى، فإن أردت تطبيق القول للمستند تقول : الظاهر انّ مرادهم جواز الحبس، لا وجوبه .

وجه الظهور أمّا أوّلاً : فلأنّ المطلوب استيفاء الجواب من المنكر كيف ما حصل، و تعيين الحبس خلاف الأصل .

و أمّا ثانيًا : فلأنّه الظاهر من عباراتهم أيضًا، لأنّ الأمر الوارد مورد توهّم الحضر لايفيد إلّا الإباحة ؛ و هذا القول هو الأقوى .

{ القول الثاني }

والقول الثاني : هو أن يجبر عليه بالضرب و الإهانة حتّى يجيب ؛ و قائل هذا

ص: 105


1- . جاء في حاشية الأصل بخطّ المصنّف 1 : أي طلبه .
2- . أمالي الطوسي : 520 ح 1146 ؛ الوسائل : 18 / 333 ح 23793 ؛ عوالي اللّألئ : 4 / 72 ح 44 ؛مسندأحمد : 4 / 222 ؛ صحيح البخاري : 3 / 155 ؛ سنن أبي داود : 3 / 313 ح 3628 ؛ سنن النسائي :7/ 316 ؛ سنن البيهقي : 6 / 51 .
3- . مجمع الفائدة و البرهان : 12 / 170.

القول غير معلوم، و إنّما ذكره المحقّق و العلّامة قولاً من غير أن يذكرا له قائلاً (1) .

و مستنده أيضًا غير معلوم، سوى ما ذكره بعض المحقّقين (2) من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

و رُدّ بأنّهما يحصلان أيضًا بالأوّل، فلا وجه للتخصيص به، سيّما مع رجحان الأوّل بما مرّ من الخبر المنجبر قصوره بفتوى الأكثر، و بالنصوص الكثيرة الدالّة على حبس الأمير (عليه السلام) الغريم بالِليّ والمطل من دون أن يحصل الحقّ منه بالضرب والجبر (3) .

{ القول الثالث }

والقول الثالث : هو المحكيّ عن المهذّب و المبسوط و السرائر (4) من أنّه يقول الحاكم له مرّة وجوبًا و ثلاثًا استظهارًا : « إن أجبت، و إلّا جعلتک ناكلاً و رددت اليمين على المدّعي »، فإن أصرّ ردّ اليمين على المدّعي .

و عن المبسوط : انّه الّذي يقتضيه مذهبنا، والثاني - يعني الحبس - قويّ أيضًا (5) .

ص: 106


1- . الشرائع : 4 / 875 ؛ التحرير : 2 / 187 ؛ القواعد : 3 / 440 .
2- . هو الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام : 10 / 102 .
3- . رياض المسائل : 13 / 116 ؛ و 15 / 100 .
4- . المهذّب : 2 / 585 و 586 ؛ المبسوط : 8 / 160 ؛ السرائر : 2 / 163 .
5- . المبسوط : 8 / 160 .

و في المهذّب : انّه ظاهر مذهبنا (1) ، و لا بأس بالعمل بالثاني (2) - يعني الحبس - كما نقل عنه (3) .

واستدلّ لذلک بأنّ ثبوت الحكم بالنكول يدلّ على ثبوته هنا بطريق أولى، لأنّه لو كان النكول عن الحلف والردّ مع الجواب - أي الإنكار - موجبًا للحكم، فمع عدم الجواب بطريق أولى (4) .

و فيه نظر، لاحتمال أن يكون سكوته لا لأجل الإنكار، بل لأجل أنّه أدّى الحقّ، و حينئذٍ لم يكن منكرًا يلزمه اليمين و لا مقرًّا يلزمه الحقّ، فيسكت عن الإنكار لعدم صحّته و عن الإقرار لإلزامه بالمقرّ به مع العجز عن إثبات أدائه (5) .

بل نقول: إنّ الحكم على المدّعى عليه بمجرّد النكول عن الحلف و ردّه إمّا بردّ الحاكم الحلف إلى المدّعي أو من دونه خلاف الأصل، فيجب الاقتصار فيه على مورد اليقين، و هو ما إذا أنكر المدّعى عليه و نكل عن الحلف و ردّه كما عرفت، لا إذا سكت، فتأمّل .

ص: 107


1- . في المصدر : الظاهر من مذهبنا .
2- . المهذّب : 2 / 586 .
3- . نقله عنه في كشف اللثام : 10 / 102 .
4- . انظر مجمع الفائدة و البرهان : 12 / 170 .
5- . انظر رياض المسائل : 13 / 116 ؛ و 15 / 100 .

فصلٌ

في كيفيّة سماع البيّنة والحكم بها

الحاكم يأمر بإحضار البيّنة أم لا ؟

20- مسألة

قد عرفت ممّا تقدّم أنّ الحاكم بعد إنكار المنكر عمّا ادّعى عليه، يسأل المدّعي : ألک بيّنة ؟ فإذا سأله و قال : نعم، هل للحاكم أن يأمره بإحضارها، أم لا ؟

فيه أقوالٌ للأصحاب :

الأوّل : الجواز مطلقًا ؛ و هو المنقول عن الشيخين و سلّار و أبي الصلاح والقاضي في أحد قوليه، بل عليه الأكثر كما في المسالک (1) .

و القول الثاني : العدم كذلک ؛ و هو المحكيّ عن المبسوط و المهذّب والسرائر(2) ، لأنّه حقّ له، فله أن يفعل فيه ما يرى .

ص: 108


1- . انظر النهاية : 339 ؛ و النهاية و نكتها : 2 / 70 ؛ والمقنعة : 723 ؛ والمراسم : 231 ؛ والكافي في الفقه :446؛ والوسيلة : 212 ؛ والمسالک : 13 / 459 ؛ وكفاية الأحكام : 2 / 693 ؛ و رياض المسائل : 13 / 91.
2- . المبسوط : 8 / 115 ؛ المهذّب : 2 / 585 ؛ السرائر : 2 / 158 .

والقول الثالث : التفصيل بين علم المدّعي بأنّ المقام مقام البيّنة فالثاني لما مرّ، وإلّا فالأوّل، لئلّا يضيع حقّه ؛ و هو المنقول عن العلّامة والشهيد (1) .

ولا أدري ما يقولان فيما إذا لم يطّلع الحاكم بعلم المدّعي و لا بجهله ؛ و يحتمل أن يقولا بوجوب الاستعلام منه .

أقول : هكذا قرّر الأقوال، فالحقّ في المقام أن يقال: إن كان المراد من الأمر في قولهم : « يجوز للحاكم أمر المدّعي بإحضار البيّنة » الإيجاب، فيكون المراد: أنّه يجوز للحاكم أن يوجب المدّعي إحضار البيّنة و يجبره عليه، فالحقّ مع المانع، لأنّ الحقّ له، فهو مخيّر بين إقامة البيّنة فيأخذ حقّه، أو عدمها فلا يأخذ، فإيجاب الحاكم إحضار البيّنة عليه لا وجه له .

لايقال : إنّ المدّعي لو كان ممّن يرفع اليد عن ماله، فلم جاء بالخصم عند الحاكم.

لأنّا نقول: لاحتمال أن يقرّ بحقّه و يعطيه من غير أن يحتاج إلى إقامة البيّنة، لكن لما أنكر فترک المدّعي إثبات حقّه بإقامة البيّنة أو بغيرها، إلّا أن يقيّد فيما إذا لم يرفع اليد عن الدعوى ولم يتأخّر المطالبة واحتاج رفع الخصومة بينهما بحضور البيّنة و هو لايحضرها، و حينئذٍ للحاكم أن يوجبه بإحضارها .

وإن لم يكن المراد من الأمر ذلک، بل الإرشاد، يعني : انّه للحاكم أن يقول للمدّعي : أحضر البيّنة، ولم يرد من الأمر الوجوب، فالحكم بالمنع حينئذٍ مشكل،

ص: 109


1- . انظر المختلف : 8 / 359 ؛ والقواعد : 2 / 209 ؛ والدروس : 2 / 77 .

بل الظاهر : الجواز، للأصل .

وما استدلّ للمنع من : « انّه حقّ له، فله أن يفعل فيه ما يرى »، لايصير دليلاً للمنع، لأنّ مقتضاه عدم إيجاب الحاكم إحضار البيّنة، لا عدم سؤاله .

و يمكن أن يكون مراد المانع أنّه لايجوز للحاكم أمر المدّعي بإحضار البيّنة، أي إيجابه على ذلک، و مراد المجوّز من جواز ذلک إذا لم يرد الوجوب، فارتفع الخلاف .

ويؤيّد ذلک ما حكي عن الشيخ في المبسوط من أنّه قال : « لا يقول (1) - أي الحاكم - : أحضر بيّنتک، بل يقول له : إن شئت أقمها (2) ، ولا يقول له : أقمها، لأنّه أمر » (3) ؛ والحقّ له (4) ، فلا يؤمر باستيفائه، بل إليه المشيئة، إنتهى (5) .

فيعلم منه أنّ نهيه من قول : « أحضر بيّنتک » فيما إذا قصد الوجوب، لا مطلقًا، فيجمع بين قوله هذا و قوله في النهاية من أنّه يجوز أن يقول له : « أحضرها » بما مرّ.

وكيف كان، الحقّ إمّا مع المانع، أو مع المجوّز، بناءً على ما مرّ، أو لا خلاف بينهما حقيقة، بل النزاع لفظيّ .

ص: 110


1- . في المصدر : لا يقول للمدّعي .
2- . في المصدر : أقمتها .
3- . انظر المبسوط : 8 / 115 .
4- . « والحقّ له » لم يرد في المصدر .
5- . مسالک الأفهام : 13 / 459 .

لكن بقي الكلام في قول المفصِّل بأنّه إن علم المدّعي أنّ المقام مقام البيّنة، فلايجوز للحاكم أمره بإحضارها، و إلّا فيجوز .

أقول : ينبغي أن يردّد المقصود بالأمر هنا أيضًا بأنّه إن كان الإيجاب - أي لو علم المدّعي كون المقام مقام البيّنة - فلا يجوز أن يوجبه بإحضارها، و إلّا فيجوز، فينبغي أن لايكون جائزًا ولو مع الجهل، لأنّ غاية ما يلزم من جهله تعليم الحاكم إيّاه و تنبيهه على انّ لک إحضار البيّنة، لا أن يوجبه بإحضارها، إذ بعد علمه بذلک يجوز له إقامة البيّنة فيستوفى حقّه، و عدمها فيترک الاستيفاء، فكيف يوجبه الحاكم على الإقامة ؟!

وما استدلّ لهذا القول من : « أنّ الأمر بإحضار البيّنة لئلّا يضيع حقّه »، لايدلّ على ذلک، بل غاية ما يلزم منه تنبّه الحاكم إيّاه على أنّ لک إقامة البيّنة، فإذا أقمتها استحقّقت حقّک، لا أن يوجبه بإحضارها، و هو واضح .

وإن لم يكن المراد من الأمر ذلک، فمنع أمر الحاكم بإحضار البيّنة في صورة علم المدّعي بكون المقام مقامها لا وجه له، لأنّ علم المدّعي بذلک لايصير دليلاً لمنع ذلک، كما لايخفى هذا.

ويمكن أن يوجّه الخلاف بنحو آخر، و هو أن يقال : إنّ الخلاف ليس من حيث أنّ المراد من لفظ « الأمر » الإيجاب أو لا، بل من حيث انّه إذا جاء الخصمان عند الحاكم فادّعى أحدهما على الآخر شيئًا و هو ينكره، هل يجب على الحاكم أن يطلب البيّنة من المدّعي، أو لا ؟

ص: 111

فقيل : إن علم المدّعي أنّ المقام مقام البيّنة، فلا يجب ذلک لعلم المدّعي، فله أن يحضرها فيستوفى حقّه و يتركها و يرتفع اليد عنه ؛ وإلّا فيجب، لأنّ استيفاء الحقوق واجب ولا يحصل إلّا بطلب البيّنة، فيكون واجبًا على الحاكم، سواء أراد المدّعي بعد العلم إقامتها، أو لا، فعلى هذا الحقّ هو قول المفصّل .

21- مسألة

اشارة

لو أحضر المدّعي بيّنته، فلا يسأل الحاكم منها إلّا بعد التماس المدّعي ذلک، لأنّ المدّعى به حقّ للمدّعي، فلا يتصرّف فيه إلّا بإذنه ؛ و معلوم أنّ القيام في إثباته من نحو السؤال من البيّنة تصرّف، فيتوقّف على إذنه .

و يمكن المناقشة فيه أوّلاً بطلب الدليل على حرمة مثل هذا التصرّف الّذي قصد به إيصال الحقّ إلى مالكه ؛ و ثانيًا بحصول الإذن، لأنّ المدّعي ما أتى بالبيّنة إلّا لأن يطلب الحاكم الشهادة منها بما تعلم، فالإذن حاصل .

و يمكن الجواب عنه بأنّ الحكم بأنّ الحكم بأنّ المال الّذي في يد زيد لعمرو وأخذه منه وإعطاؤه إيّاه خلاف الأصل، فيجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن، وهو ما إذا يكون حكمه بشهادة البيّنة بعد سؤال المدّعي ذلک، لا قبله ؛ هذا، مع أنّه ادّعى اتّفاق الأصحاب على ذلک .

ثمّ لو التمس المدّعي للسؤال من البيّنة و عرف عدالتهما بالعلم أو بالتزكية، يقول الحاكم : من كانت عنده شهادة في كذا فليذكرها إن شاء، أو نحوه ؛ و لا يأمر

ص: 112

بذلک بأن يقول : إشهدا، لئلّا يدخل في قلب المنكر ريب من الحاكم لأمره بشهادة البيّنة ؛ و لأنّ الحاكم ليس في مقام الأمر، بل في مقام السؤال، والسؤال غير الأمر ؛ ولما مرّ من وجوب الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن .

ثمّ بعد التماس المدّعي و سؤال الحاكم و شهادة الشاهدين لايحكم إلّا بعد سؤال المدّعي ذلک، لاحتمال رفع المدّعي اليد عن حقّه وإبرائه عنه بعد إثباته عليه فتأمّل، و لما مرّ .

فإذا سأله المدّعي يقول الحاكم للخصم : إن كان عندک ما يقدح في شهادة البيّنة أذكره، فإن قال : لا، يحكم بينهما وإن قال : نعم و طلب الإنظار، قالوا : أنظره ثلاثة أيّام ؛ وإن عجز عن إثبات ما ادّعى من الجرح، يحكم عليه (1) .

ولا يخفى عليک أنّ إطلاق كلماتهم في إنظار ثلاثة أيّام عند الاستنظار يقتضي عدم الفرق فيما تمكن من إثباته قبل الثلاثة، أم لا .

و فيما ادّعى أنّ شهودي على الجرح في موضع لايمكن حضورهم إلّا بعد الثلاثة، أم لا، قال في شرح القواعد بعد ذكر الإمهال بثلاثة أيّام :

و لم أعرف مستند التقدير. ثمّ إنّهم أطلقوه، فيعمّ ما إذا ادّعى بعد بيّنة الجرح بحيث لايحضر في ثلاثة، ولعلّ (2) الحكم مخصوص بما عداه، إنتهى (3) .

ص: 113


1- . انظر المبسوط : 8 / 159 ؛ والتحرير : 5 / 145 ؛ والقواعد : 3 / 441 .
2- . في المصدر : فلعلّ .
3- . كشف اللثام : 10 / 104 .

الكلام في البيّنة إذا كانت غائبة

22- مسألة

اشارة

لو قال المدّعي : إنّ بيّنتي غائبة، يجعل له أجلاً بمقدار إحضارها، أو يحكم له بإحلاف المنكر مخيّرًا بينهما، بلا خلاف في ذلک كما ادّعي ؛ و لأنّ الحقّ له، فله أن ينتظر إلى حضور البيّنة و إحلاف المنكر (1) .

و لو لم يكن الاتّفاق المحكيّ من الأصحاب، لأمكن المناقشة في ذلک ؛ و ذلک لأنّا قد ذكرنا سابقًا من الرواية ما يدلّ على أنّ اليمين على المدّعى عليه إنّما هو إذا لم يكن للمدّعي شاهد، و هو قوله (عليه السلام) : « فإن لم يكن شاهد، فاليمين على المدّعى عليه » (2) ؛ ولفظ : « شاهد » نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فيشمل جميع البيّنة ولو كانت غائبة، هذا .

و سيجيء الجواب عن ذلک في المسألة الآتية بعون الله - سبحانه .

هل يجوز أخذ الكفيل من المنكر عند غياب البيّنة، أم لا ؟

ثمّ لو اختار المدّعي عدم الإحلاف والانتظار إلى حضور البيّنة، هل يجوز له

ص: 114


1- . انظر الروضة البهيّة : 3 / 88 ؛ و مجمع الفائدة : 12 / 194 ؛ و كشف اللثام : 2 / 338 ؛ و رياض المسائل :15 / 73 .
2- . الكافي : 7 / 416 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 562 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح 33682 .

تكفيل المدّعى عليه و أخذ الكفيل منه لاحضاره عند حضور البيّنة، أم لا ؟

فيه خلافٌ بينهم ؛ و المحكيّ عن الشيخين في المقنعة و النهاية (1) ، والقاضي في أحد قوليه (2) ، وابني حمزة و زهرة (3) ، هو الأوّل، بل عن الأخيرين نفي الخلاف في ذلک ظاهرًا، لاحتمال ذهاب الغريم و فراره، فيؤخذ منه الكفيل حذرًا من ذلک، حفظًا للحقوق ؛ هكذا استدلّ لهم (4) .

أقول : لو تمّ ذلک لم يدلّ على الجواز فقط، بل على الوجوب، لأنّ حفظ الحقوق واجب، و هو لا يتمّ إلّا بأخذ الكفيل من المدّعى عليه، فيكون واجبًا من باب المقدّمة .

و المنقول عن الشيخ في المبسوط و الخلاف، و ابن ادريس، و القاضي في قوله الآخر، هو الثاني (5) ؛ و هو مختار المحقّق و العلّامة (6) ؛ و في المسالک (7) نسبه إلى

المتأخّرين ؛ للأصل، بناءً على أنّ قبل ذلک لم يكن جائزًا، فالأصل بقاؤه .

و لأنّ مثل ذلک عقوبة يحتاج في إثباته إلى دليل ؛ و دعوى البيّنة من المدّعي

ص: 115


1- . المقنعة : 733 ؛ النهاية و نكتها: 2 / 70 و 71 .
2- . حكاه عنه في المختلف : 8 / 360 ؛ قال فيه : « و لابن البرّاج قولان، ففي الكامل وافق الشيخ أيضًا، و قالفي المهذّب »، إلى آخره .
3- . الوسيلة : 212 ؛ الغنية : 445 .
4- . انظر رياض المسائل : 15 / 73 .
5- . انظر المبسوط : 8 / 159 ؛ و الخلاف : 6 / 237 ؛ والسرائر : 2 / 158 ؛ والمهذّب : 2 / 586 .
6- . المختصر النافع : 273 ؛ المختلف : 8 / 361 .
7- . مسالک الأفهام : 13 / 465.

لأجل استحقاقه واشتغال ذمّته بالمدّعى به لا يجعله مستحقًّا حتّى يحلّ عقوبته .

و أيضًا أنّ الكفيل يلزمه الحقّ إن لم يحضر المكفول ؛ و لزوم الحقّ على تقدير عدم إحضار المكفول قبل ثبوته لا وجه له، مع أنّ المدّعى عليه بعد إحضار البيّنة إن كان حاضرًا فيطلب الحقّ، و إلّا كسائر الغياب يحكم عليه .

إن قيل : إنّ الأصل يجب الخروج عنه لما دلّ على لزوم مراعات حقّ المسلم عن الذهاب .

قلت : المتبادر منه الحقّ الثابت، و هو مفقود قبل إقامة البيّنة .

و على تقدير تسليم أنّ المراد منه هو الحقّ في نفس الأمر، فيجب المراعات لكلّ ما احتمل أنّه حقّ من باب المقدّمة، نقول : مقتضى هذه وجوب أخذ الكفيل منه، والمحكيّ منهم الجواز، لا الوجوب كما عرفت .

على أنّا نقول : يجب الاحتراز عن عقوبة و أذيّة كلّ من لم يثبت من الشارع في حقّه ذلک .

ويحتمل أن يكون عدم الثبوت النفس الأمريّ، فيجب الاجتناب عن أذيّة كلّ من احتمل أنّه ممّن لم يثبت له من الشرع عقوبة من باب المقدّمة، فتأمّل.

وممّا ذكر ظهر الجواب عمّا لو قيل : إنّ الكفيل يلزمه أداء الحقّ لو لم يحضر المكفول، لاحتمال إثبات الحقّ في ذمّته نفس الأمر ؛ و قولک : « إنّ لزوم الحقّ على الكفيل لا وجه له قبل إثباته »، ممنوع، لاحتمال حضور البيّنة و ثبوت الحقّ بها، فإذا حضرت البيّنة و ثبت الحقّ يلزم الكفيل أداء الحقّ إن غاب المدّعي،

ص: 116

فالحكم بجواز التكفيل من المدّعى عليه مشكل .

وما نقل عن ابني حمزة و زهرة من دعوى عدم الخلاف في ذلک (1) ، فجوابه :انّ عدم الخلاف من حيث هو ليس بحجّة، بل لاستلزامه الإجماع، والاستلزام إنّما نسلّم إذا لم يظهر للمسألة مخالف ؛ وأمّا إذا ظهر فلا، سيّما مع كون المخالف كثيرًا كما في المسألة .

نعم، لو فصّل أحد في المسألة فقال : بوجوب أخذ الكفيل من المدّعى عليه فيما لو خيف هربه و عدم التمكّن من استيفاء الحقّ بعد ثبوته من ماله حفظًا لإضاعة الحقوق و عدم جواز ذلک فيما إذا لم يكن الأمر كذلک، لكان له وجه .

وهذا التفصيل هو الظاهر من الفاضل المقداد في شرح المختصر حيث قال:

ويقوى أنّ التكفيل موكولٌ إلى نظر الحاكم، فإنّ الحكم يختلف باختلاف الغرماء، فإنّ الغريم قد يكون غير مأمون (2) ،فالمصلحة حينئذٍ تكفيله،وإلّا لزم تضييع حقّ المسلم ؛ وقد لايكون كذلک، بل يكون ذا ثروة (3) وحشمة و مكنة، فلا حاجة إلى تكفيله لعدم ثبوت الحقّ والأمن من ضياعه، إنتهى (4) .

ثمّ على القول بالتكفيل مطلقًا، أو في الجملة، هل يتعيّن في ضرب مدّته ثلاثة

ص: 117


1- . الوسيلة : 212 ؛ الغنية : 445 ؛ و نقله عنهما في رياض المسائل : 15 / 73 .
2- . في المصدر : قد يكون ملطلطًا غير مأمون .
3- . في المصدر : مروة .
4- . التنقيح الرائع : 4 / 252.

أيّام كما عن ابن حمزة (1) ، أو يناط بنظر الحاكم ؟

قولان، الظاهر الثاني، لأنّ الحاكم أمر بتكفيله لأجل مصلحة، فتعيين المدّة بيده من حيث وجود المصلحة و عدمها.

يجوز للمدّعي مع وجود البيّنة إحلاف المدّعى عليه

23- مسألة

اشارة

هل يجوز للمدّعي مع حضور البيّنة إحلاف المدّعى عليه و ترک البيّنة ؟

الظاهر الجواز، لأنّ الحقّ له، فله أن يقيم البيّنة فيستحقّ حقّه، و أن يحلف المنكر فيرفع اليد عنه .

و لا دلالة لقوله (عليه السلام) : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (2) على منع ذلک على ما ربما توهّم، لأنّ مقتضاه أنّ منصب المدّعي إقامة البيّنة، فلا يجوز له الحلف ابتداء، لا أن لا يجوز له إحلاف المنكر مع وجود البيّنة، كما هو واضح، فإذا ترک البيّنة و أحلفه سقطت به الدعوى .

للإجماع على الحكمين من جواز الإحلاف و سقوط الدعوى بعده ؛ حكاه

ص: 118


1- . الوسيلة : 212 .
2- . سنن الترمذي : 2 / 399 ح 1356 ؛ السنن الكبرى : 10 / 252 ؛ عوالي اللّألئ : 1 / 244 ح 172 ؛الوسائل : 27 / 233 ح 33666 ؛ وانظر كنز العمّال : 6 / 187 و 190 .

بعض الأجلّة (1) .

وللصحيح المتقدّم، و هو صحيحة ابن أبي يعفور عن مولانا الصادق (عليه السلام): إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهب اليمين (2) بحقّ المدّعي، فلا حقّ له (3) ؛ قلت له : وإن كانت عليه بيّنة عادلة ؟ قال :

نعم و إن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له (4) ، وكان اليمين (5) قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه (6) .

و دلالته على ما ذكر من وجهين، أحدهما : من جهة إطلاق قوله : « إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر »، إلى قوله (عليه السلام): « فلا حقّ له »، فيشمل ما كان للمدّعي بيّنة أم لا، وكانت حاضرة أم لا.

والثاني : من جهة ترک الاستفصال، فانّه (عليه السلام) بعد أن سأله الراوي : « وإن كانت عليه بيّنة ؟ »، حكم به لسقوط الحقّ من غير استفصال بين علم المدّعي بوجود البيّنة قبل الإحلاف أم لا، و حضورها أم لا ؛ و ترک الاستفصال في مقام السؤال مع قيام الاحتمال يفيد عموم الحكم في المقال .

ص: 119


1- . حكاه عن الخلاف والغنية في كشف اللثام : 10 / 97 ؛ وانظر الخلاف : 6 / 293 ؛ والغنية : 442 .
2- . في الكافي و الفقيه : ذهبت اليمين .
3- . في الكافي و الفقيه : فلا دعوى له .
4- . في الفقيه : ما كان له حقّ .
5- . في الكافي : و كانت اليمين ؛ و في الفقيه : فانّ اليمين .
6- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 61 ح 3340 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 565 ؛ الوسائل : 27 / 245 ح33689 .

إن قلت : إنّ قوله (عليه السلام) في الرواية المتقدّمة : « فإن لم يكن له شاهد، فاليمين على المدّعى عليه » (1) يعارض ذلک، لأنّ مقتضاه أنّ اليمين إنّما يتوجّه على المدّعى عليه إذا لم يكن له شاهد مطلقًا، حاضرًا كان أو غائبًا .

قلت أمّا أوَّلاً : فإنّها ضعيفة، فلا تصلح للمعارضة .

وأمّا ثانيًا : فلأنّ دلالتها على ما ذكر انّما هي بالمفهوم، لأنّ قوله : « فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه »، مفهومه : انّه إن كان له شاهد، فليس اليمين على المدّعى عليه ؛ والظاهر أنّ المراد به : انّه لو كان له شاهد فليس منصب المدّعى عليه أن يحلف، و هو مسلّم ولا يستلزم منه عدم جواز اليمين له مطلقًا.

وأمّا ثالثًا : فلأنّ هذا المفهوم مطلق، أعمّ من أن يرضى المدّعي لحلف المدّعى عليه أم لا، فيحمل على الثاني لدلالة الصحيح المذكور على أنّه إذا رضي بيمينه جازله الإحلاف، لوجوب حمل المطلق على المقيّد .

هل يجوز للمدّعي إحلاف المنكر بعد إقامة الشاهد، أم لا ؟

ثمّ هل الحكم المذكور مختصّ بما إذا لم يقم البيّنة على الحقّ، أو يعمّ فيجوز إحلاف المدّعى عليه ولو بعد إقامة البيّنة قبل الحكم ؟

ص: 120


1- . الكافي : 7 / 416 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 562 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح 33682 .

الظاهر الأوّل، لأنّ بعد إقامة البيّنة ثبت الحقّ في ذمّته شرعًا ؛ و بعد ثبوت الحقّ كيف يجوز الإحلاف على عدمه ؟!

و يمكن الاستدلال لذلک من النصّ بما مرّ، و هو ما رواه في التهذيب عن مولانا الصادق (عليه السلام)أنّه قال : في كتاب عليّ (عليه السلام): أنّ نبيًّا من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال : يا ربّ كيف أقضي فيما لم أشهد و لم أر ؟ قال : فأوحى الله - تعالى - إليه : أحكم بينهم بكتابي و أضفهم (1) إلى اسمي تُحلِفُهُم به، و قال : هذا لمن لم تقم له بيّنة (2) .

وجه الاستدلال : أنّه (عليه السلام) قيّد توجّه الحلف بعدم إقامة البيّنة، فلا يجوز معها .

و يمكن الجواب عنه : بأنّه (عليه السلام) قيّد وجوب الحكم بالحلف بعدم إقامة البيّنة، لأنّ قوله (عليه السلام) : « أضفهم إلى اسمي » أَمْرٌ، والأمرُ حقيقةٌ في الوجوب، ونحن نقول به، لأنّ مع وجود البيّنة لا يجب الحكم بالحلف اتّفاقًا وإن لم يقمها، لكن كلامنا في الجواز بمعنى انّه يجوز للمدّعي مع إقامة البيّنة على ما ادّعاه الإعراض عنها وإحلاف المنكر، أم لا ؛ والحديث المذكور لاينافيه .

إن قلت : يمكن الاستدلال لذلک بما رواه في التهذيب أيضًا عن محمّد بن مسلم عن مولانا الباقر (عليه السلام) عن الرجل يقيم البيّنة على حقّه، هل عليه أن يستحلف ؟ قال: لا (3) .

ص: 121


1- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : أضفته إليه : ألجأته { هكذا في القاموس المحيط : 3 / 166 }.
2- . الكافي : 7 / 415 ح 4 ؛ التهذيب : 6 / 228 ح 550 ؛ الوسائل : 27 / 229 ح 33657 .
3- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 558 ، و 231 ح 564 ؛ الوسائل : 27 / 243 ح 33685 .

وجه الاستدلال هو : أنّ باب الاستفعال للطلب، فعلى هذا يكون معنى قوله : «هل عليه أن يستحلف ؟ » أي : أن يستحلف من المنكر مع إقامته البيّنة، فأجاب (عليه السلام) بلا، فثبت المطلوب.

قلت : لا دلالة للرواية بما ذكر أمّا أوّلاً : فلأنّ الظاهر من تتبّع النصوص في الباب هو أنّ المراد بقوله : « هل عليه أن يستحلف » هو حلف المدّعي نفسه ؛ أمّا بناءً على انّه مجرّد عن معنى الطلب هنا، فيكون « يستحلف » بمعنى : يحلف، أو باق على الدلالة على الطلب، لأنّه يطلب الحلف من نفسه.

و على تقدير تسليم أنّ المراد منه استحلاف المدّعي من المنكر نقول أيضًا : لا دلالة له لذلک، أي لعدم جواز إحلاف المدّعى عليه مع إقامة البيّنة، بل يدلّ على عدم وجوب ذلک، و نحن نقول به، لكن كلامنا في الجواز ؛ بيانه هو : انّ « على » للضرر، فعلى هذا يكون معنى قوله في السؤال : « هل عليه أن يستحلف »، أي : هل يجب عليه ذلک، فأجاب عليه بلا، أي : لا يجب ذلک ؛ ولا يلزم من نفي الوجوب نفي الجواز، لأنّ نفي الخاصّ لايستلزم نفي العامّ .

نعم، لو سأل الراوي باللام فقال : هل له أن يستحلف، و أجاب (عليه السلام) بلا، كان له دلالة، بل نقول : لو استدلّ به على جواز الإحلاف حينئذٍ كان له وجه، بيانه هو : انّ الراوي - بناءً على ما مرّ - سأل عن وجوب الاستحلاف بعد إقامة البيّنة، والظاهر منه انّه كان يعلم جوازه، فقرّره المعصوم على فهمه ؛ و معلوم أنّ تقرير المعصوم على شيء يدلّ على رضائه بذلک، فيكون جائزًا .

قال في الشرائع :

ص: 122

لو كان له بيّنة فأعرض عنها، والتمس يمين المنكر، أو قال : أسقطت البيّنة و قنعت باليمين، فهل له الرجوع ؟ قيل : لا، و فيه تردّد، ولعلّ الأقرب الجواز . وكذا البحث لو أقام شاهدًا فأعرض عنه، و قنع بيمين المنكر، إنتهى (1) .

أقول : قوله : « الأقرب الجواز » يحتمل وجهين، أحدهما : جواز الرجوع قبل أن يحلف المنكر ؛ والثاني : جوازه بعد حلفه .

والظاهر أنّ مراده هو الأوّل، لما عرفت سابقًا من الأدلّة في إسقاط الدعوى بمجرّد حلف المنكر .

و كذا الكلام في قوله : « وكذا البحث لو أقام شاهدًا فأعرض عنه، و قنع بيمين المنكر »، فإنّ الظاهر أنّ المراد انّه يجوز الرجوع فيه قبل أن يحلف المنكر وإن كانت العبارة مطلقة .

24- مسألة

اشارة

لو قال المدّعي : « إنّ لي بيّنة أريد إحلافه أوّلاً، ثمّ أحضرها لإثبات حقّي »، لم يكن له ذلک بلا خلاف ؛ و لأنّ اليمين مسقطة للحقّ شرعًا، والبيّنة بعد سقوطه غير ملتفت إليها .

ص: 123


1- . شرائع الإسلام : 4 / 880 .

ولما عرفت من قول الصادق (عليه السلام) : انّه إن أقام بعد ما استحلف (1) بالله خمسين قسامة ما كان له (2) ، و كان اليمين (3) قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه (4) .

وغيره من النصّ الدالّ أنّ إقامة البيّنة لا تجتمع مع الحلف، والحلف لايجتمع مع إقامة البيّنة .

يقضى بشاهد و اليمين في الأموال و الديون

25- مسألة

اشارة

يجوز للحاكم أن يقضي بالشاهد الواحد و اليمين في الأموال و الديون بالإجماع، نقل ذلک عن الشيخ في الخلاف و ابن إدريس (5) ؛ و عن جماعة نفي الخلاف في ذلک (6) .

ص: 124


1- . في المصدر : ما استحلفه .
2- . في الفقيه : ما كان له حقّ .
3- . في الكافي : و كانت اليمين ؛ و في الفقيه : فانّ اليمين .
4- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 61 ح 3340 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 565 ؛ الوسائل: 27 / 245 ح33689 .
5- . نقله عنهما في المختلف : 8 / 521 ؛ و كشف اللثام : 10 / 137 ؛ و رياض المسائل : 15 / 124 ؛ وانظرالمقنعة : 726 ؛ والخلاف : 6 / 274 و 275 ؛ والمبسوط : 8 / 189 ؛ والسرائر : 2 / 140 ؛ والمراسم: 233 .
6- . منهم الكاشاني في المفاتيح : 3 / 264 ؛ والسبزواري في الكفاية : 272 .

و في المسالک :

أجمع أصحابنا على القضاء في الجملة بالشاهد و اليمين (1) .

و النصوص المستفيضة، منها : ما روي من طرق العامّة عنه (صلي الله عليه واله)، عن ابن عبّاس و جابر : أنّ النبيّ (صلي الله عليه واله) قضى بالشاهد مع اليمين (2) .

و روي أيضًا : أنّه (صلي الله عليه واله) قضى بالشاهد الواحد مع يمين الطالب (3) .

و منها : ما نقل إنّهم رووا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليّ (عليه السلام) : أنّ النبيّ (صلي الله عليه واله) قضى بشاهد واحد و يمين صاحب الحقّ، و قضى به عليّ (عليه السلام) بالعراق (4) .

وغيرها (5) .

و من طرق الخاصّة ما رواه عبّاس بن هلال، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)قال: إنّ جعفر بن محمّد (عليهماالسلام) قال له أبو حنيفة : كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد ؟ فقال جعفر (عليه السلام) : قضى به رسول الله (صلي الله عليه واله)، و قضى به عليّ (عليه السلام) عندكم ؛ فضحک أبو حنيفة، فقال جعفر (عليه السلام): أنتم تقضون بشهادة واحد شهادة مائة ؛ فقال : ما نفعل،

ص: 125


1- . مسالک الأفهام : 13 / 506 .
2- . مسند أحمد : 1 / 315 ؛ سنن ابن ماجة : 2 / 793 ح 2369 و 2370 ؛ سنن أبي داود : 3 / 308 ح3608؛ سنن البيهقي : 10 / 167 و 170 ؛ سنن الترمذي : 3 / 628 ح 1344 .
3- . سنن ابن ماجة : 2 / 793 ح 2371 .
4- . مسند أحمد 3 / 305 ؛ سنن الترمذي : 3 / 628 ح 1345 ؛ سنن الدارقطني : 4 / 136 ح 4441 ؛ السننالكبرى : 10 / 170 ؛ كنز العمّال : 5 / 830 ح 14507 .
5- . انظر السنن الكبرى : 10 / 170 و 171 ؛ و المصنّف : 5 / 360 و 7 / 12 .

فقال : بلى يشهد (1) مائة، فترسلون واحدًا يسأل عنهم، ثمّ تجيزون شهادتهم بقوله (2) .

و منها : ما رواه منصور بن حازم في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال: كان رسول الله (صلي الله عليه واله) يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ (3) .

و منها : ما رواه حمّاد بن عيسى في الصحيح قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : حدّثني أبي أنّ رسول الله (صلي الله عليه واله) قد (4) قضى بشاهد و يمين (5) .

و منها : ما رواه عبدالرحمن بن الحجّاج في الصحيح قال : دخل الحكم بن عتيبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام)، فسألاه عن شاهد و يمين، فقال : قضى به رسول الله (صلي الله عليه واله)، و قضى (6) عليٌّ (عليه السلام) عندكم بالكوفة ؛ فقالا : هذا خلاف القرآن، فقال: أين (7) وجدتموه خلاف القرآن ؟ فقالا : إنّ الله - تبارک و تعالى - يقول :(وأشهدوا ذوي عدل منكم ) (8) ، فقال : هؤلاء يقبلوا شهادة واحد و يمين (9) .

ص: 126


1- . في التهذيب : تشهد .
2- . التهذيب : 6 / 296 ح 826 ؛ الوسائل : 27 / 268 ح 33744 .
3- . الكافي : 7 / 385 ح 4 ؛ التهذيب : 6 / 273 ح 741 ؛ الاستبصار : 3 / 33 ح 113 ؛ الوسائل : 27 / 264ح 33733 .
4- . « قد » لم يرد في المصدر.
5- . الكافي : 7 / 385 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 275 ح 748 ؛ الاستبصار : 3 / 33 ح 112 ؛ الوسائل : 27/ 265ح 33735 .
6- . في المصادر : و قضى به .
7- . في المصادر : و أين .
8- . الطلاق : 2.
9- . في المصادر بدل « فقال : هؤلاء يقبلوا شهادة واحد و يمين » : « فقال لهما أبو جعفر(عليه السلام): فقوله(وأشهدوا ذوي عدل منكم ) هو أن لا تقبلوا شهادة واحد و يمينًا ».

ثمّ قال: إنّ عليًّا (عليه السلام) كان قاعدًا في مسجد الكوفة، فمرّ به عبد الله بن قَفَل التَيْمي (1) و معه درع طلحة أخذت غلولاً (2) يوم البصرة (3) ، فقال له عليّ (عليه السلام) : هذه درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة، فقال له عبدالله بن قفل : فاجعل بيني و بينک قاضيک الّذي رضيته للمسلمين ؛ فجعل بينه و بينه شريحًا .

فقال له عليّ (عليه السلام) : هذه درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة، فقال له شريح : هات على ما تقول بيّنة، فأتاه الحسن (عليه السلام) (4) ، فشهد أنّها درع طلحة أُخِذَتْ غُلُولاً يوم البصرة .

فقال (5) : هذا شاهد واحد و لا أقضي بشهادة شاهد (6) حتّى يكون معه آخر،فدَعَا (7) قنبرًا، فشهد أنّها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة، فقال (8) شريح :هذا مملوک لا أقضي (9) بشهادة مملوک .

ص: 127


1- . في الكافي : التميمي .
2- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : غلّ غلولاً، أي : خان .
3- . « أخذت غلولاً يوم البصرة » لم يرد في الكافي و التهذيب و الاستبصار .
4- . في الكافي و التهذيب : بالحسن (عليه السلام)
5- . في الكافي و التهذيب و الفقيه : فقال شريح .
6- . في التهذيب : شاهد واحد .
7- . في التهذيب : قال : فدعا .
8- . في الاستبصار : فقال له .
9- . في المصادر : و لا أقضي .

قال أبو جعفر (1) : فغضب عليّ (عليه السلام) و قال : خذها (2) ، فقال (3) : هذا قضى بجور ثلاث مرّات ؛ قال : فتحوّل شريح عن مجلسه، ثمّ قال: لا أقضي بين اثنين حتّى تخبرني مِن أين قضيتُ بجور ثلاث مرّات ؟

فقال له : ويلک - أو ويحک (4) - إنّي لمّا أخبرتُک أنّها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة فقلت : هات على ما تقول بيّنة، و قد قال رسول الله (صلي الله عليه واله): ما (5) وُجِد غُلُولاً (6) أخذ بغير بيّنة، فقال الرجل لم تسمع الحديث (7) ، فهذه واحدة .

ثمّ أتيتک بالحسن فشَهِدَ، فقلت : هذا واحد و لا أقضي بشهادة واحد حتّى يكون معه آخر و قد قضى رسول الله (صلي الله عليه واله) بشاهد (8) واحد و يمين، فهذه اثنتان (9) ، ثمّ أتيتک بقنبر ليشهد (10) ، فقلت : هذا مملوک ولا أقضي بشهادة مملوک،

ص: 128


1- . « أبو جعفر » لم يرد في المصادر .
2- . في الكافي و التهذيب و الاستبصار : خذوها ؛ و في الفقيه : خذوا الدرع .
3- . في المصادر بدل « فقال » : « فإنّ » .
4- . جاء هنا في حاشية الأصل بخطّ المصنّف (قدس سره) : الترديد من الراوي .
5- . في المصادر : حيث ما .
6- . في المصادر : غُلولٌ . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : الغلول : الخيانة، و ربّما يخصّ بالغنيمة، يقال: غلّشيء من المغنم إذا أخذ في خفية ؛ ولعلّ الوجه في جواز أخذ الغلول بغير بيّنة أنّه ممّا يعرفه العسكر و لميقسم بعد بين أهله ليباع ويوهب، وافي {الوافي : 16 / 948 }.
7- . في الكافي و الفقيه : « فقلت : رجل لم يسمع الحديث » ؛ و في التهذيب والاستبصار : « فقلت : إنّک رجللم يسمع الحديث ».
8- . في المصادر : بشهادة .
9- . في الكافي : فهذه ثنتان ؛ و في التهذيب والاستبصار: فهاتان ثنتان ؛ و في الفقيه : فهاتان اثنتان .
10- . في المصادر : فشهد أنّها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة .

و لا بأس بشهادة مملوک إذا كان عدلاً (1) .

ثمّ إنّ جملة من هذه النصوص و إن كانت مطلقة شاملة لحقوق الناس و حقوق الله - تعالى - فمقتضى إطلاقها جواز الاكتفاء بشهادة واحد مع يمين و لو كانت في حقوق الله - تعالى - إلّا أنّها مقيّدة بالأوّل .

بالإجماع المحكيّ على عدم جواز الاكتفاء في حقوق الله - تعالى - بذلک .

و بالصحيح المرويّ في الفقيه، و هو هذا : « لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد (2) إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق الله - تعالى - و رؤية الهلال فلا » (3) .

ثمّ إنّ حقوق الناس و إن كانت شاملة لغير المال و ما يقصد منه المال أيضًا كالقصاص، إلّا أنّها يجب تخصيصها بالأموال، لما نقل من إطباق الأصحاب ظاهرًا على عدم قبول شهادة واحد و يمين في القصاص .

إن قلت : ينبغي تقييد الأموال أيضًا بالدين، للنصوص الدالّة على كون متعلّق قضاء النبيّ (صلي الله عليه واله) والأمير (عليه السلام) بشهادة شاهد و يمين هو خصوص الدين، كالصحيح :

ص: 129


1- . الكافي : 7 / 385 ح 5 ؛ الفقيه : 3 / 109 ح 3428 ؛ الاستبصار : 3 / 34 ح 117 ؛ التهذيب : 6/273 ح747 ؛ الوسائل : 27 / 266 ح 33737 ؛ و للحديث تتمّة، و هي هذه : « ثمّ قال : ويلک - أو ويحک - إنّ إماما لمسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا » .
2- . « الواحد » لم يرد في الفقيه .
3- . الفقيه : 3 / 54 ح 3319 ؛ التهذيب : 6 / 273 ح 746 ؛ الاستبصار : 3 / 34 ح 116 ؛ الوسائل : 27 /394 ح 34039 .

« كان (صلي الله عليه واله) يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين، و لايجيز (1) في الهلال إلّا شاهدي عدل » (2) .

و مثله : الصحيح الآخر في قضاء الأمير (عليه السلام)، والموثّق : « كان رسول الله (صلي الله عليه واله) يقضي بشاهد واحد و يمين صاحب الحقّ، و ذلک في الدين » (3) .

لدلالتهما على عدم إجازتهما (عليهماالسلام) الحكم في غير الدين بشاهد و يمين، فيكون جواز الاكتفاء في الحكم بشاهد واحد و يمين مختصًّا بالدين، كما هو المنقول عن ابن أبي عقيل والشيخ في النهاية و ابن زهرة، حيث خصّوا جواز القضاء بالشاهد واليمين في الديون، بل الأخير ادّعى إجماع الإماميّة عليه (4) .

قلت : شرط حمل المطلق على المقيّد هو أن لا يكون المطلق فيما به التعارض موافقًا بعمل الأصحاب أو أكثرهم، و قد عرفت نقل جماعة اتّفاقهم على جواز الاكتفاء بهما في الأموال والديون ؛ والقول باختصاص ذلک بالديون نادرٌ، لرجوع الشيخ عنه في غير النهاية، بل قد ادّعى الإجماع على خلافه في خلافه (5) كما

ص: 130


1- . كذا في الاستبصار ؛ وفي الكافي : ولم يكن يجيز ؛ و في التهذيب والوسائل : ولم يجز .
2- . الكافي : 7 / 386 ح 8 ؛ التهذيب : 6 / 272 ح 740 ؛ الاستبصار : 3 / 32 ح 108 ؛ الوسائل : 27 / 264ح 33732 .
3- . الكافي : 7 / 385 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 272 ح 742 ؛ الاستبصار : 3 / 32 ح 109 ؛ الوسائل : 27 / 265ح 33736 .
4- . انظر النهاية : 2 / 61 و 63 ؛ و الغنية : 439 ؛ والكافي في الفقه : 438 ؛ والمراسم : 233 ؛ و مختلف الشيعة :8 / 522 ؛ و كشف اللثام : 10 / 331 ؛ و رياض المسائل : 15 / 124 .
5- . انظر الخلاف : 6 / 274 .

عرفت، فالإجماع الّذي ادّعاه ابن زهرة موهون .

على أنّه يمكن المناقشة في دلالة بعض النصوص المذكورة على عدم جواز الاكتفاء بهما في غير الدين، لأنّ قوله : « إنّه(صلي الله عليه واله) يقضي بشاهد واحد و يمين صاحب الحقّ، و ذلک في الدين » (1) إنّما يدلّ على أنّ قضائه (صلي الله عليه واله) بذلک كان في الدين و لم يقض به في غيره، و لا يلزم منه عدم جواز القضاء بهما فيه ؛ و من المحتمل أن يكون جائزًا، لكن لم يتّفق له (عليه السلام) ذلک، فتأمّل .

و كيف كان و قد عرفت أنّها مع تسليم صراحتها لايصحّ لتقييد ما ذكرنا من النصوص المستفيضة لما مرّ، فينبغي إمّا حمل « الدين » فيها على المعنى الشامل لمطلق المال، كما حمل عليه لفظ « الدين » في عبارة النهاية في المختلف ؛ أو طرحها.

ما يجوز فيه القضاء بالشاهد واليمين و ما لا يجوز

تنبيهٌ

ينبغي أن نذكر هنا ما يثبت بشهادة واحد و يمين، و ما لا يثبت، و ما اختلف في الإثبات والعدم، فنقول : الظاهر الموضع المتيقّن الّذي يجوز فيه القضاء هو في

ص: 131


1- . الكافي : 7 / 385 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 272 ح 742 ؛ الاستبصار : 3 / 32 ح 109 ؛ الوسائل : 27 / 265ح 33736 .

الأموال، كالدين والغصب و غيرهما ؛ و ضابطه ما كان مالاً، أو المقصود منه المال، و قد تقدّم الدليل على ذلک.

وأمّا الموضع الّذي لايجوز القضاء بهما فيه، فهو مثل الحدود و رؤية الهلال ونحوهما ؛ و بالجملة : ما لم يكن مالاً و لم يكن المقصود منه المال أيضًا.

و قد عرفت النصّ في حقوق الله - تعالى - و رؤية الهلال .

وأمّا الموضع المختلف في جواز القضاء بهما فيه، فهو دعوى النكاح والخلع والعتق والوقف و غيرها، فالمحكيّ عن سلّار و أبي الصلاح و فخر الدين و شيخنا الشهيد الثاني في الروضة (1) : المنع من ذلک في الأوّل (2) ، بل عن الأخيرين نسبة ذلک إلى المشهور بين الطائفة ؛ قالا :

لأنّ المقصود الذاتي منه الإحصان و إقامة السنّة و كفّ النفس عن الحرام والنسل، و أمّا المهر و النفقة فانّهما تابعان (3) .

و فصّل العلّامة في ذلک بين دعوى الزوجة، فيجوز القضاء بهما لتضمّنها المهر والنفقة ؛ و دعوى الرجل فلا (4) .

و قال في الشرائع :

ص: 132


1- . حكاه عنهم في رياض المسائل : 13 / 142 ؛ وانظر : المراسم : 233 ؛ والكافي في الفقه : 438 ؛والإيضاح : 4 / 348 .
2- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : أي النكاح .
3- . الروضة البهيّة : 3 / 102 ؛ الإيضاح : 4 / 348 .
4- . القواعد : 3 / 449 ؛ التحرير : 2 / 192 س 30 .

و في النكاح تردّد (1) .

وجهه ما مرّ من التضمّن للمهر والنفقة، و من حيث انّ المقصود بالذات منه الإحصان والتناسل كما مرّ ؛ وأمّا المهر والنفقة فهما تابعان .

وأمّا في الثاني (2) فقد منع العلّامة والشهيد من القضاء بهما فيه (3) ؛ و نسبه في الروضة إلى الأكثر (4) ؛ و فصّل فيها و في المسالک بين دعوى المرأة فالمنع،ودعوى الرجل فالجواز، فإنّ دعواه تتضمّن المال، فقال في الثاني :

والوجه ثبوت الحكم بهما في الخلع (5) إذا كان يدعيه (6) الزوج، و هو خيرة العلّامة في أحد قوليه، إنتهى (7) .

وأمّا في الثالث - أي العتق - كما إذا ادّعى عتق عبد عبد و هو في يد غيره، فقد قال في المسالک :

المشهور عدم ثبوته بهما، لأنّه يتضمّن تحرير الرقبة، والحرّيّة ليست مالاً، و هي حقّ الله (8) - تعالى (9) .

ص: 133


1- . الشرائع : 4 / 881 .
2- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : أي الخلع .
3- . انظر الإرشاد : 2 / 162 ؛ والتحرير : 2 / 192 ؛ والقواعد : 3 / 449 ؛ والدروس : 2 / 97 ؛ واللمعة : 55 .
4- . الروضة البهيّة : 3 / 99 و 102.
5- . في المصدر : ثبوت الخلع بهما .
6- . في المصدر : مدّعيه .
7- . مسالک الأفهام : 13 / 513.
8- . في المصدر : حقّ لله .
9- . مسالک الأفهام : 13 / 513.

قال :

و قيل: يثبت بهما العتق، لأنّ المملوک مال، و تحريره يستلزم تفويت المال على المالک، والحريّة وإن لم يكن نفسها مالاً، لكنّها تتضمّن المال من هذه الحيثيّة .

ثمّ قال :

واختلف كلام العلّامة في التحرير في نسخة الأصل، فوافق التحرير لفظ القواعد (1) ، ففي كتاب العتق والتدبير قطع بثبوتهما بالشاهد واليمين (2) من غير نقل خلاف، و في هذا الباب منه قطع بعدم ثبوتهما (3) كذلک . وتوقّف في الدروس مقتصرًا على نقل القولين ؛ و له وجه، إنتهى (4) .

في أنّه هل يثبت الوقف بالشاهد الواحد و يمين، أو لا ؟

و أمّا في الرابع - أي الوقف - ففيه أقوال ثلاثة، الأوّل : عدم القضاء بهما في ذلک مطلقًا، حكي ذلک عن الشيخ في الخلاف (5) .

ص: 134


1- . في المصدر : واختلف كلام العلّامة في التحرير والقواعد .
2- . في المصدر : بشاهد و يمين .
3- . في المصدر : بثبوتهما بهما .
4- . مسالک الأفهام : 13 / 514.
5- . الخلاف : 6 / 280 .

والثاني : عدمه أيضًا، لكن مع عدم انحصار الموقوف عليه، كما عن الشهيدين في الدروس و المسالک (1) و غيرهما (2) .

والقول الثالث : جواز القضاء بهما مطلقًا (3) .

هذا نقل الأقوال في الأمور المذكورة .

و يمكن أن يقال بترجيح القضاء بهما في الجميع بناءً على الإطلاق والعموم في النصوص المتقدّمة، منها : الصحيح المتقدّم، و هو أنّه : « لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد (4) إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس »، الحديث (5) .

و لا شکّ أنّه يصدق في كلّ منها أنّه حقّ و لو كان غير متبادر، و معلوم أنّ جمع المضاف يفيد العموم الاستغراقي، فيشمل جميع الأفراد ولو كانت غير متبادرة.

فعلى هذا نقول : إنّه يجب العمل بالعامّ إلى أن يثبت له مخصّص، فيتبع التخصيص ذلک المخصّص ؛ و نحن قد خصّصنا العامّ و قلنا : إنّ المراد به المال، للإجماع كما عرفت، و معلوم فقده في ما نحن فيه لمحلّ النزاع والخلاف كما

ص: 135


1- . الدروس : 2 / 97 ؛ مسالک الأفهام : 13 / 515.
2- . انظر كشف اللثام : 2 / 344 ؛ و رياض المسائل : 13 / 144 .
3- . كما عن الشيخ في المبسوط : 8 / 190 ؛ و الحلّي في السرائر : 2 / 162 ؛ والفاضل في القواعد : 3 / 449 ؛وانظر رياض المسائل : 13 / 144 .
4- . « الواحد » لم يرد في الفقيه .
5- . الفقيه : 3 / 54 ح 3319 ؛ التهذيب : 6 / 273 ح 746 ؛ الاستبصار : 3 / 34 ح 116 ؛ الوسائل : 27 /394 ح 34039 .

عرفت، فلا مخصّص للعامّ في محلّ النزاع، فيجب العمل به .

و يمكن أن يقال : إنّ هذا إنّما يتوجّه إذا كان المجوّز للقضاء بشاهد و يمين في الأمور المذكورة قادحًا في القاعدة المتقدّمة، و هي : أنّه لا يجوز العمل بشهادة شاهد و يمين في غير المال، أو ما يقصد منه، فإن كان تجويزه القضاء بهما في الأمور المذكورة لأجل القدح في تلک القاعدة، كان الكلام المذكور متوجّهًا، إلّا أنّ الظاهر منه أنّه ليس كذلک، بل لأجل إدخالها في المال كما عرفت من دليله، فحينئذٍ هو قائل بتلک الكلّيّة و تجويز القضاء بهما فيما نحن فيه، لكونه مالاً .

فعلى هذا نقول : صحّة ذلک موقوفة على تشخيص معنى تعلّق الدعوى بالمال الموجب لِقبول القضاء بشهادة شاهد و يمين هل هو مطلق التعلّق ولو بالاستتباع كما في النكاح مثلاً، أو هو التعلّق المقصود بالذات من الدعوى بمعنى أنّ الباعث للدعوى هو المال ؟

و الظاهر المتبادر من كلماتهم أنّ الدعوى بالمال يقضي فيها بشاهد و يمين هو الثاني، و لذا لم يثبتوا بهما النسب و الرجعة اتّفاقًا كما في المسالک (1) ، مع أنّهما تستتبعان المال من النفقة و نحوها .

فيعلم أنّ تعلّق الدعوى بالمال الموجب للقضاء بهما هو ما إذا كان مقصودًا بالذات، فعلى هذا الحقّ في النكاح عدم القضاء بهما، لما عرفت من أنّ المقصود بالذات منه الإحصان و إقامة السنّة و كفّ النفس عن الحرام والنسل، وأمّا المهر

ص: 136


1- . انظر مسالک الأفهام : 13 / 513 ؛ و رياض المسائل : 13 / 146 .

والنفقة فانّهما تابعان (1) .

نعم، إذا كانت الدعوى من المرأة و علم أنّ قصدها لأجل المهر والنفقة، فتقبل، فيقضي حينئذٍ بهما، فيكون الحقّ في المسألة قول المفصّل، كما أنّ الحقّ في الخلع ذلک .

و أمّا في العتق، فالظاهر العدم، لأنّه ليس المقصود من دعوى الرقّيّة المال، بل حصول الحرّيّة، و هي تستلزم زوال الماليّة هنا، مع أنّ الأصل عدم قبول شاهد ويمين، لقوله - تعالى - : ( و أشهدوا ذوي عدلٍ منكم ) (2) ، و غيره ؛ و هو شامل لما إذا كان الدعوى بالمال و غيره، فتقييده خلاف الأصل، لا يصار إليه إلّا بدليل، ونحن قد قيّدناه فيما إذا لم يكن تعلّق الدعوى في الأموال مقصودًا بالذات بالأدّلة السابقة على ما تقدّم، و أمّا غيره فغير معلوم إخراجه، فالأصل البقاء .

هذا كلّه في غير الوقف، و أمّا فيه فالظاهر أنّه يقضي فيه بهما، لأنّ الحقّ انّ الوقف ينتقل إلى الموقوف عليه، كما هو المنقول عن أكثر الأصحاب (3) ، فظاهر العلّامة أنّه إجماعيّ، حيث قال في القواعد:

ص: 137


1- . انظر الروضة البهيّة : 3 / 102 ؛ و مسالک الأفهام : 13 / 512 ؛ و رياض المسائل : 13 / 142 .
2- . الطلاق : 2.
3- . جاء في حاشية الأصل : فيه خلافٌ بين الأصحاب، و ما ذكرناه أحد الأقوال ؛ و قيل : إنّ ملک الوقف ينتقلإلى الله - تعالى . و قيل : مع الانحصار ينتقل إلى الموقوف عليه و إلى الله مع عدمه . و قيل : يبقى على ملکالواقف، مع أنّ ابن زهرة ادّعى إجماع الإماميّة بخروجه عن ملک الواقف . و على هذه الأقوال ينبغي أنلايقضي بهما في الوقف بشاهد و يمين إلّا في القول المفصّل بناءً على الإنحصار ؛ منه .

انّه عندنا ينتقل إلى الموقوف عليه (1) .

و في السرائر نفى الخلاف في ذلک، قال :

انّه بالوقف خرج من ملكه، وانتقل إلى ملک الموقوف عليه بغير خلاف بيننا (2) .

و جعله الشيخ وابن إدريس مقتضى المذهب (3) ، و عن أبي الصلاح نسبة ذلک إلينا(4) ؛ و ظاهرهم دعوى الإجماع عليه .

هذا مضافًا إلى ما استدلّوا به عليه زيادةً على ما مرّ من أنّه مال لابدّ له من مالک ؛ واختصاص الموقوف عليه به دون غيره دليلٌ على أنّه المالک، و كذا جميع أحكام الملک .

و الامتناع عن بيعه لا يخرج عن الملكيّة، كأمّ الولد والأموال المرهونة، مع أنّه قد يجوز بيعه في بعض الأحوال عند علمائنا، و أنّه يضمن باليد والقيمة، فإذا ثبت أنّ الوقف ملک الموقوف عليه، فيجوز القضاء بهما في دعواه .

ص: 138


1- . القواعد : 3 / 449 .
2- . السرائر : 3 / 165 .
3- . انظر المبسوط : 8 / 190 ؛ والسرائر : 2 / 142 .
4- . نقله عنه في رياض المسائل : 13 / 144 .

يجوز القضاء بشاهد و يمين و لو مع التمكّن من الشاهدين

26- مسألة

اشارة

هل يجوز القضاء بشاهد و يمين فيما يجوز مطلقًا و لو مع التمكّن من الشاهدين، أم يخصّ ذلک فيما إذا لم يكن الشاهدان (1) ؟

و الظاهر من إطلاق العبارات الأوّل، و كذا من النصّ .

و يمكن المناقشة في النصّ بأنّه لم يرد بصيغة الأمر و لا بغيرها ممّا يفيد الإطلاق، بل أكثره إخبار بالواقع ؛ و معلوم أنّ وقائع الأحوال إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، فلم تصلح للاستدلال في المشكوک، بل يجب الاقتصار على المتيقّن (2) ، و هو عند عدم التمكّن من الشاهدين .

و هو مقتضى الأصل أيضًا، لأنّ قوله - تعالى - : ( و أشهدوا ذوي عدل منكم ) (3) يفيد وجوب الإشهاد برجلين، فمقتضاه عدم جواز الحكم بشاهد ويمين مطلقًا، سواء وجد الرجلان أم لا .

ص: 139


1- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : أي لم يوجد .
2- . نقل هذه القاعدة الأصوليّة عن الشافعي ؛ حكاها عنه الزركشيّ في البحر المحيط : 2 / 308 ؛ وانظر أيضًا :الوافية، للفاضل التوني : 115 ؛ والقوانين : 226 .
3- .الطلاق : 2.

لكن قلنا بجواز الحكم بهما عند عدم وجود الرجلين للأدلّة السابقة، فبقي غيره داخلاً تحت الإطلاق .

لكن يمكن الاستدلال لذلک بقول مولانا الأمير (عليه السلام) لشريح في الحديث المتقدّم (1) ، حيث حكم أنّ شريح قضى بجور ثلاث و عدّ من جملة ذلک عدم حكمه بشهادة واحد و يمين مع التمكّن من الشاهدين، و هما مولانا الحسن (عليه السلام) وقنبر، فتأمّل .

لكن روي في التهذيب ما هو صريح على أنّ الحكم بشاهد و يمين إنّما هو بعد التعذّر عن الشاهدين، و هو هذا : « استخرج الحقوق بأربعة وجوه : شهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، و إن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعي »، الحديث (2) .

لكنّه ضعيف لا يجوز التمسّک به لإثبات الحكم الشرعيّ .

يجوز القضاء بشهادة امرأتين مع يمين المدّعي

ثمّ اعلم : أنّه لو لم يوجد رجل لأن يشهد له، أو وجد و هناک امرأتان تشهدان على ما ادّعاه، هل يجوز القضاء حينئذٍ بشهادتهما و يمين المدّعي ؟

ص: 140


1- . انظر الكافي : 7 / 385 ح 5 ؛ و الفقيه : 3 / 109 ح 3428 ؛ و الاستبصار : 3 / 34 ح 117 ؛ و التهذيب :6/273 ح 747 ؛ و الوسائل : 27 / 266 ح 33737 .
2- . الكافي : 7 / 416 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 562 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33682 .

الظاهر ذلک، لأنّ امرأتين بدل عن رجل، فيجوز في البدل ما يجوز في المبدل منه .

و للصحيح : أنّ رسول الله (صلي الله عليه واله) أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين، الحديث (1) .

والموثّق : إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان و يمينه { فهو } (2) جائز (3) .

يشترط تقديم الشهادة على اليمين

27- مسألة

اشارة

يشترط في شهادة الشاهد الواحد أن تكون قبل اليمين، فتشهد أوّلاً هو ثمّ حلف المدّعي، فلو عكس بأن يحلف المدّعي أوّلاً ثمّ يشهد الشاهد لايحكم، بل وقعت اليمين لاغية، فيفتقر إلى إعادتها ؛ هكذا ذكر كثير من الأصحاب (4) ، و لم يظهر لهم في ذلک مخالف منهم، بل قال في كشف اللثام :

ص: 141


1- . هذه الرواية مرويّة في الكافي : 7 / 386 ح 7 ؛ و الفقيه : 3 / 55 ح 3321 ؛ و التهذيب : 6 / 272 ح739؛ و الوسائل : 27 / 272 ح 33754 ؛ عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام).
2- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصادر .
3- . الرواية مرويّة في الفقيه : 3 / 55 ح 3320 ؛ والتهذيب : 6 / 272 ح 738 ؛ والوسائل: 27 / 271 ح33752 ؛ عن منصور بن حازم، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهماالسلام).
4- . انظر المختصر : 275 ؛ والشرائع : 4 / 92 ؛ والسرائر : 2 / 141 ؛ والتحرير : 2 / 193 ؛ والقواعد : 3 /449 ؛ والروضة : 3 / 102 ؛ والدروس : 2 / 98 ؛ والمفاتيح : 3 / 264 ؛ والرياض : 13 / 146 .

ذكره الأصحاب قاطعين به (1) .

و ذكر الخلاف شيخنا الشهيد الثاني عن بعض العامّة فقط (2) ، و هو يشعر بعدم وجود المخالف منّا ؛ و عدم ظهور الخلاف كاف في الحكم، مضافًا إلى الأصل، لأنّ الحكم بشهادة واحد و يمين خلاف الأصل، يجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن، و هو ما إذا قدمت الشهادة على اليمين .

و علّل ذلک شيخنا في المسالک بأنّ وظيفة المدّعي بالأصالة إنّما هو البيّنة، واليمين تتميم لها بالنصّ (3) .

لا يقال : إنّ النصوص المتقدّمة مطلقة في جواز القضاء بشهادة شاهد و يمين وتقييدها فيما إذا قدمت الشهادة على اليمين خلاف الأصل ؛ و منه يظهر الجواب عمّا مرّ من الأصل، لأنّ حكم الأصل بعد وجود الإطلاق مفقود .

لأنّا نقول : أكثر النصوص المتقدّمة إخبار في الواقع، و قد عرفت أنّ وقائع الأحوال إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، فأسقطها عن صلاحيّة الاستدلال (4) .

و على فرض التسليم نقول : شرط انصراف المطلق إلى جميع الأفراد عدم

ص: 142


1- . كشف اللثام : 10 / 139 .
2- . انظر المسالک : 13 / 510 .
3- . المسالک : 13 / 509 .
4- . نقل هذه القاعدة الأصوليّة عن الشافعي ؛ حكاها عنه الزركشيّ في البحر المحيط : 2 / 308 ؛ وانظر أيضًا :الوافية، للفاضل التوني : 115 ؛ والقوانين : 226 .

وروده في بيان حكم آخر ؛ والظاهر من النصوص المذكورة أنّها سيقت لأجل دفع توهّم عدم جواز القضاء بشاهد و يمين و إثبات ذلک في الجملة، لا أن يكون المراد بها القضاء بهما مطلقًا ولو مع تقدّم اليمين .

هذا مع أنّ تقديم الذكريّ في النصوص مؤيّد لذلک .

و ممّا ذكرنا ظهر وجوب تقديم تعديل الشاهد حيث أحتيج إليه على اليمين، لأنّ تعديل الشاهد مقدّم على شهادته، و شهادته مقدّمة على اليمين كما عرفت، فتعديله مقدّم على اليمين .

و فيه نظر، لعدم تسليم الصغرى ؛ و من الممكن إسماع شهادته أوّلاً ثمّ النظر إلى التعديل، و قد صرّح جمع من الأصحاب في إقامة الشاهد أنّه بعد إسماع الشهادة ينظر إلى العدالة، فينبغي أن يكون هنا أيضًا كذلک، بل يمكن أن يقال بجواز أن يشهد الشاهد أوّلاً، ثمّ يحلف المدّعي، ثمّ ينظر إلى عدالة الشاهد، إذ يصدق حينئذٍ أنّه قضاء بشاهد و يمين، فقدّمت شهادته، فيشمله إطلاق النصوص المتقدّمة وعبارات المصرّحين بأنّه يشترط أن تكون الشهادة قبل اليمين .

و يمكن أن يستدلّ لذلک بالأصل المتقدّم، و هو أنّ القضاء بشاهد و يمين خلاف الأصل، فيجب أن يكون التعديل قبل اليمين، اقتصارًا فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن، و هو ما إذا كان التعديل قبل اليمين .

و أيضًا لو أخّر التعديل عن الحلف يحتمل أن لا يثبت عدالته، أو ثبت خلافها ؛ فعلى هذا وقعت اليمين عبثًا و ليس الحلف بالله - تعالى - بهاتين حتّى يجري فيه،

ص: 143

فيجب التعديل أوّلاً، فإن ثبتت العدالة يحلف المدّعي و يأخذ ماله، و إلّا فلا .

والجواب عن إطلاق النصوص قد تقدّم، و أيضًا المتبادر من قولک : « يقضى بشاهد و يمين »، هو ما إذا علمت عدالته، فينصرف إليه النصوص و كذا عباراتهم، فيجب أن يكون التعديل قبل اليمين أيضًا .

إذا علمت ذلک فاعلم : أنّه لو قدّمت اليمين على الشهادة أو التعديل، وقعت لاغية، لما عرفت من أنّها مؤخّرة عنهما، فحينئذٍ يحكم بإعادتها وحدها ؛ ولايحتاج إلى إعادة الشهادة أو التعديل ثانيًا، لصدق أنّ اليمين وقعت بعد الشهادة مثلاً.

و يمكن المناقشة في ذلک بأنّ المتبادر من إطلاقهم هو ما إذا كان إقامة الشهادة مثلاً إبتداءً، لا أن يسبقها يمين لو لم يكن الإجماع على خلافه .

ادّعاء المنكر البراءة مع إقامة البيّنة

28- مسألة

اشارة

قد عرفت ممّا تقدّم أنّ المدّعي بعد إقامة البيّنة لا يحلف ؛ و هو إجماعيّ كما صرّح به بعض الأجلّة (1) ؛ و منصوصٌ قد تقدّم الإشارة إلى بعض منه ؛ لكن لو

ادّعى المنكر مع إقامة البيّنة برائة ذمّته عمّا قامت عليه، فحينئذٍ ينعكس الأمر، أي المدّعي صار منكرًا، لأنّه ينكر براءة ذمّة الخصم، والمنكر مدّعيًا لادّعائه

ص: 144


1- . لم نعثر عليه .

البراءة (1) .

والحكم في ذلک أنّه لو أثبت ما ادّعاه بإقامة البيّنة سقطت الدعوى، وإلّا فيحلف المدّعي الأوّلي على بقاء الحقّ، أو على عدم براءة ذمّة الخصم عن حقّه فيأخذه ؛ وذلک لما مرّ من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر .

إن قلت : إنّ المتبادر من قولک : « البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر » هو ما كان منكرًا إبتداءً ؛ و ليس ما نحن فيه من ذلک، فينبغي الرجوع فيه إلى حكم الأصل، و هو يقتضي أخذ الحقّ من غير أن يحلف .

قلت أوّلاً : كون مقتضى الأصل مطلقًا أخذ الحقّ من غير حلف ممنوع، لأنّ المراد بالأصل هنا الاستصحاب، و هو إنّما يجري إذا سبقت إقامة البيّنة على دعوى البراءة، و أمّا إذا لم يكن كذلک فلا، فتأمّل .

و ثانيًا : على تقدير تسليم كون المتبادر من قولک : « البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر » ما ذكر، نقول : إنّ النصوص في المسألة ليست منحصرة بلفظ : « واليمين على المنكر أو المدّعى عليه »، إذ في بعضها : « واليمين على من أنكر »، و « مَن » الموصول تفيد العموم الاستغراقيّ، فيشمل كلّ منكر ؛ والاستصحاب إنّما يكون حجّة إذا لم يعارضه الإطلاق أو العموم، و أمّا معه فلا.

ص: 145


1- . لاحظ المسألة في الشرائع : 4 / 878 ؛ والإرشاد : 2 / 147 ؛ والقواعد : 3 / 447 ؛ والمسالک :13/489 ؛ وكشف اللثام : 10 / 130 ؛ و الرياض : 13 / 133 .

{ فروعٌ }

و في المقام فروعٌ :

{ الفرع الأوّل }

الأوّل : انّه لا فرق فيما ذكر بين ما أقام البيّنة و غيره، فإذا أقرّ المنكر بما ادّعاه المدّعي عليه، ثمّ ادّعى البراءة عنه و عجز عن الإثبات، حكمه ما ذكر لما مرّ .

{ الفرع الثاني }

والثاني : انّ الحكم المذكور هل هو مختصّ بما إذا شهدت البيّنة بحكم الأصل والظاهر بأنّ المدّعي كان مريدًا للمدّعى به قبل ذلک من المنكر، فشهادة البيّنة الآن لما كان، أو يعمّ ولو ادّعت العلم بثبوت الحقّ حين الدعوى، كما إذا اشتغلت ذمّة المنكر بالمدّعى به و لم تفارقها البيّنة إلى أن حضرت عند الحاكم، أو لم تفارق المدّعى إلى ذلک الوقت، فحصلت له العلم بعدم وصول الحقّ إلى المدّعي ؟

الظاهر : الأوّل، لأنّ الثاني يستلزم تكذيب البيّنة ؛ و فتح هذا الباب يرفع فائدة ثبوت البيّنة، بل لا يبعد أن يقال : بعد إقامة البيّنة لا يلتفت إلى قول المنكر مطلقًا، إذ معه يرتفع فائدة ثبوت البيّنة، إذ لكلّ منكر حينئذٍ أن يدّعي براءة الذمّة، فيرجع

ص: 146

الحكم إلى حلف المدّعي كما إذا لم توجد البيّنة، فيحتمل قويًّا بعد إقامة البيّنة عدم الالتفات إلى قول المنكر .

هذا مضافًا إلى النصوص المستفيضة الدالّة على أنّ الرجل لو أقام البيّنة على حقّه لا يحلف، منها : الصحيح عن مولانا الصادق (عليه السلام) عن الرجل يقيم البيّنة على حقّه، هل عليه أن يستحلف ؟ قال : لا (1) .

و نحوه الموثّق القريب من الصحيح بفضالة عن أبان، المجمع على تصحيح ما يصحّ عنهما، و غيرهما (2) .

و دلالة هذه على ما قلنا من وجهين، أحدهما : من جهة الإطلاق، والثاني : من جهة ترک استفصال المعصوم من أنّ المنكر هل يدّعي البراءة، أم لا ؟ و ترک الاستفصال في مقام السؤال مع قيام الاحتمال يفيد عموم الحكم في المقال .

والأوّل وإن أمكن المناقشة فيه بعدم وجود شرط انصراف الإطلاق إلى جميع الأفراد في هذه النصوص، إلّا أنّ الثاني لا شبهة فيه .

إذا عرفت ذلک نقول : إنّ التعارض بين هذه النصوص والنصّ الدالّ على أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، من قبيل تعارض الظاهرين والعموم من وجه، أمّا خصوص النصّ فيما نحن فيه لوروده فيمن أقام البيّنة .

ص: 147


1- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 558 ، و 231 ح 564 ؛ الوسائل: 27 / 243 ح 33685 .
2- . انظر الكافي : 7 / 417 ، باب : انّ من كانت له بيّنة فلا يمين عليه إذا أقامها ؛ والوسائل : 27 / 243 ، باب :أنّ المدّعي إذا أقام البيّنة فلا يمين عليه معها إلّا فيما استثنى .

و أمّا عمومه فلأنّه أعمّ من أن يدّعي المنكر براءة ذمّته عمّا ادّعى عليه المدّعي وأقيمت عليه البيّنة، أم لا .

و أمّا خصوص نصّ : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر »، فمن أجل اشتماله على المنكر .

وأمّا عمومه فلأنّ المنكر أعمّ من أن يكون ابتدائيًّا، أو ممّا نحن فيه، فيجب الرجوع إلى الترجيح، و هو مع النصوص الدالّة على أنّ المدّعي بعد إقامة البيّنة لايحلف للأصل و ما تقدّم من الاعتبار .

إن قلت : إنّ الترجيح مع النصوص الدالّة على أنّ اليمين على المنكر، لأكثريّتها، حتّى ادّعي أنّها متواترة معنًى .

قلت : قد عرفت سابقًا أنّ تلک النصوص لا يجدي لنا نفعًا في المقام، إلّا ما كان عامًّا منها، كما إذا ورد بصيغة العموم، مثل : « انّ اليمين على من أنكر » ؛ و كثرة مثل ذلک ممنوعة .

نعم، لو ثبت في المقام شهرة، لأمكن الترجيح لتلک الأدلّة، إلّا أنّه لم يحضرني كتب الأصحاب حين الكتابة حتّى ننظر فيها لتحقّق الشهرة، لكن مقتضى القواعد الاجتهاديّة هو ما ذكرناه .

{ الفرع الثالث }

والثالث : يجوز للمنكر الحلف على عدم الاستحقاق بعنوان العموم مطلقًا، ولو

ص: 148

كان المدّعى به مفيدًا، فلو ادّعى الغصب مثلاً أو الدين و هكذا، يجوز له الحلف على عدم الاستحقاق، لأنّ نفي العامّ يستلزم نفي الخاصّ، فإذا حلف على عدم استحقاق المدّعي بعنوان العموم، يلزمه عدم استحقاقه لخصوص المدّعى به أيضًا .

هذا مع انّه ربما يكون للعدول عن الخاصّ إلى العامّ فائدة، كما إذا غصب شيئًا ودفع إلى المالک، و حينئذٍ لا يمكنه الحلف على نفي الغصب لتحقّقه .

و أمّا الحلف على نفي الاستحقاق فصحيح، لأنّه مع دفعه ذلک لا يستحقّه المالک منه .

المواضع الّتي يحلف المدّعي مع إقامة البيّنة

29- مسألة

اشارة

قد عرفت ممّا ذكرناه أنّ مقتضى الأصل في المدّعي أن لا يحلف، لما عرفت من النصوص الدالّة على أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، سيّما بعد إقامة البيّنة، فإنّ المدّعي بعد أن أقام البيّنة لا حلف له، لما عرفت و للإجماع المحكيّ عن الخلاف و غيره (1) .

والنصوص مع ذلک مستفيضة، منها : فيها الصحيح المرويّ في الفقيه عن أبان وجميل، عن مولانا الصادق (عليه السلام) قال: إذا أقام المدّعي البيّنة فليس عليه يمين،

ص: 149


1- . انظر الخلاف : 6 / 236 ، المسألة 35 ؛ و رياض المسائل : 13 / 112 .

الحديث (1) .

و رواه في التهذيب عن أبان، عن أبي العبّاس، عنه (عليه السلام) (2) .

و منها : الصحيح المرويّ في التهذيب عن ابن مسلم (3) قال: سألت أبا

جعفر (عليه السلام) عن الرجل يقيم البيّنة على حقّه، هل عليه أن يستحلف ؟ قال : لا (4) .

و منها : الموثّق القريب من الصحيح بفضالة و أبان المجمع على تصحيح ما يصحّ عنهما، المرويّ في التهذيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثل ذلک (5) .

أقول : تمسّک بهما فيما نحن فيه بعض الأصحاب (6) ، و لا يبعد أن يقال : إنّ التمسّک بهما فيما نحن فيه في غير محلّه، إذ الظاهر أنّ المراد منه انّ المدّعي بعد إقامة البيّنة على المدّعى عليه لا يستحلف المدّعي عليه ؛ والمراد أنّ المدّعي بعد إقامة البيّنة لا يحلف ؛ و أين هذا من ذلک ؟! فالتعويل على ما سلف، فعلى هذا الحكم بحلف المدّعي يحتاج إلى دليل، فيجعل مستثنى عمّا تقدّم .

ص: 150


1- . الكافي : 7 / 417 ح 2 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3342 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 563 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح33684 .
2- . الكافي : 7 / 417 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 563 ؛ و فيه : إذا أقام الرجل، الحديث ؛ الوسائل: 27 /243 ح 33686 .
3- . جاء في حاشية الأصل : رواه باسناده إلى الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم، عن محمّد بنمسلم، قال : سألت، إلى آخره ؛ و عاصم و إن كان مشتركًا بين الثقة و الضعيف، لكنّ الظاهر أنّه في المقامعاصم بن حُميد الثقة، بقرينة رواية النضر بن سويد عنه، منه .
4- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 558 ، و 231 ح 564 ؛ الوسائل: 27 / 243 ح 33685 .
5- . التهذيب: 6 / 230 ح 10.
6- . انظر مجمع الفائدة : 12 / 154 ؛ و رياض المسائل : 13 / 112 .

{ الصور المستثناة من قاعدة :

البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر }

إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّه استثني من ذلک صور :

{ الصورة الأولى }

الأولى : إذا لم يكن له بيّنة، فردّ المنكر الحلف إليه، فيحلف حينئذٍ كما تقدّم دليله .

المدّعي يحلف مع إقامة البيّنة إذا كانت دعواه على الميّت

{ الصورة الثانية }

والثانية : إذا كانت الدعوى على الميّت و أقام البيّنة على ذلک، فإنّه حينئذٍ يحلف على بقاء الحقّ في ذمّة الميّت فيأخذه، بلا خلاف في ذلک كما يظهر من جمع، بل نقل عن شيخنا الشهيد الثاني الإجماع على ذلک، قال في المسالک :

المشهور بين الأصحاب - بل لا يظهر فيه مخالف - أنّ المدّعي يستحلف مع بيّنته على بقاء الحقّ في ذمّة الميّت (1) .

ص: 151


1- . مسالک الأفهام : 13 / 461.

و قال قبل ذلک بعد ذكر رواية عبدالرحمن الآتية :

انّها من الروايات المتلقّاة بالقبول للأصحاب، لأنّها مستند الحكم بثبوت اليمين على المدّعي على الميّت إذا كان له بيّنة، إنتهى (1) .

هذا مع أنّه منصوص، ففي الصحيح المرويّ في الفقيه و التهذيب و غيرهما عن محمّد بن الحسن الصفّار أنّه كتب إلى أبي محمّد الحسن بن عليّ (عليه السلام) : هل تقبل شهادة الوصيّ للميّت بدين له على رجل ؟ - إلى أن قال : - أو تقبل شهادة الوصيّ على الميّت بدين مع شاهد آخر عدل ؟ فوقّع (عليه السلام) : نعم من بعد يمين (2) .

و ما رواه عبدالرحمن بن أبي عبد الله (3) قال : قلت للشيخ - قال في الفقيه : يعني موسى بن جعفر (عليهماالسلام)- أخبرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ، فلا يكون له بيّنة بما له، قال : فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، و إن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف فلا حقّ له .

هكذا في الفقيه، و في التهذيب و الكافي : « و إن حلف فلا حقّ له، و إن لم يحلف فعليه ». ثمّ اشتركت الكتب الثلاثة .

فإن كان المطلوب بالحقّ قد مات، و أقيمت عليه البيّنة، فعلى المدّعي اليمين

ص: 152


1- . مسالک الأفهام : 13 / 455.
2- . الكافي : 7 / 394 ح 3 ؛ الفقيه : 3 / 73 ح 3362 ؛ التهذيب : 6 / 247 ح 626 ؛ الوسائل : 27 / 371 ح33973 .
3- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : الحديث مرويّ في الكافي و الفقيه و التهذيب، أمّا في الكافي فقد رواهعن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن ياسين الضرير قال :حدّثني عبدالرحمن بن أبي عبد الله ؛ و أمّا في الفقيه فقد رواه باسناده إلى ياسين الضرير .

بالله الّذي لا إله إلّا هو لقد مات فلان و إنّ حقّه لعليه، فإن حلف وإلّا فلا حقّ له، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه - هكذا في الفقيه، و في التهذيب : قد وفاه - ببيّنته لا نعلم موضعهم - هكذا في الفقيه، و في التهذيب : موضعها - أو بغير بيّنة قبل الموت، فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة، فإن ادّعى و لا بيّنة فلا حقّ له، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ، ولو كان حيًّا لألزم اليمين أو الحقّ، أو يردّ (1) اليمين عليه، فمن ثمّ لم يثبت له حقّ عليه (2) .

إن قلت (3) : إنّها لا تصلح دليلاً للحكم، لأنّ قوله (عليه السلام) : « فعلى المدّعي اليمين

بالله الّذي لا إله إلّا هو »، يدلّ على وجوب الحلف بهذا النحو، لقوله (عليه السلام) : عليه، وأنتم لا تقولون بذلک .

قلت : لا نسلّم أنّ مقصوده (عليه السلام) الحلف بجميع : « الله الّذي لا إله إلّا هو »، بل الظاهر أنّ المقصود : عليه الحلف بالله، و ذكر « الّذي لا إله إلّا هو » لأجل التعظيم، لا لأن يكون الجميع متعلّقًا للحلف .

وربّما يقدح في الرواية بأنّ في طريقها: محمّد بن عيسى بن عبيد، و هو ضعيف.قلت : الأمر و إن كان كذلک، لكنّ الحقّ أنّ رواية ابن عبيد مقبولة، بل صحيحة، سيّما إذا لم تكن عن يونس و كتبه كما فيما نحن فيه، مع أنّ الضعف لو سلّم غير

ص: 153


1- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : ردّ خ ل فقيه .
2- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3343 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 555 ؛ الوسائل : 27 / 236 ح33673 .
3- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : ردّ على المقدّس الأردبيليّ .

مضرّ بعد عمل الأصحاب، فلا إشكال في المسألة، فيخصّص النصوص المتقدّمة الدالّة على أنّ المدّعي لا حلف له بعد إقامة البيّنة بهذين الحديثين و عمل الطائفة كما عرفت .

إن قيل (1) : روى في الفقيه و التهذيب صحيحًا ما يعارض ذلک، و هو ما كتبه محمّد بن الحسن إلى أبي محمّد (عليه السلام) : رجل أوصى إلى ولده و فيهم كبار قد أدركوا و فيهم صغار يجوز للكبار أن ينفذوا وصيّته و يقضوا دينه لمن صحّح على الميّت بشهود عدول قبل أن يدركوا الأوصياء الصغار ؟ فوقّع (عليه السلام) : على الكبار (2) من الولد أن يقضوا دين أبيهم و لا يحبسوه (3) .

لأنّه (عليه السلام) أمر بقضاء دين الميّت بشهود من دون أن يقيّده باليمين، فلا يكون اليمين لازمة، و إلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة و الإغراء بالجهل (4) .

و الجواب أنّ هذا مطلق و ما تقدّم مقيّد، و المطلق يحمل على المقيّد .

حلف المدّعي مع إقامة البيّنة مختصّ بما إذا

لم يكن الحاكم عالمًا بعدم وفاء الميّت حقّه

ثمّ هل الحكم - و هو تحليف المدّعي مع إقامة البيّنة - مختصّ بما إذا لم يحصل

ص: 154


1- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : ردّ على المقدّس الأردبيليّ .
2- . في التهذيب : نعم على الأكابر ؛ و في الفقيه : على الأكابر .
3- . الفقيه : 4 / 210 ح 5487 ؛ التهذيب : 9 / 185 ح 744 ؛ و فيهما : « و لا يحبسوه بذلک ».
4- . انظر مجمع الفائدة : 12 / 162 .

العلم للحاكم ببقاء الحقّ في ذمّة الميّت، أو يعمّه و غيره، فيحلّف المدّعي ولو مع علمه ببقاء اشتغال ذمّة الميّت و عدم تحقّق الإبراء من المدّعي ولو لم يمتنع في حقّه، كأن كان كبيرًا مثلاً .

و عدم الوفاء من الميّت إمّا بسماع ذلک عند الموت، أو بعدم تحقّق زمان يحتمل الوفاء، أو بمصاحبة الحاكم له بنحو يحصل له العلم بعدم الوفاء و نحوها .

و بالجملة : إذا كان الحاكم عالمًا بعدم الوفاء و عدم الإبراء من صاحب الحقّ، فيكون عالمًا باشتغال ذمّة الميّت و بقائه إلى ذلک الحين .

الظاهر : الأوّل، لما عرفت من أنّ الحكم بحلف المدّعي خلاف الأصل، سيّما بعد إقامة المدّعي البيّنة ؛ و معلوم أنّه يجب الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن، و هو ما إذا لم يكن الحاكم عالمًا ببقاء اشتغال ذمّة الميّت واحتمل البراءة .

و لما عرفت من التعليل في النصّ، و هو : « أنّا لا ندري لعلّه وفاه » (1) ، فإذا علم عدم وفائه، و كذا عدم تحقّق الإبراء من صاحب الحقّ، فلا يشمله النصّ المخصّص، فيبقى النصوص المطلقة الدالّة على أنّ المدّعي بعد إقامة البيّنة لايحلف سالمة عمّا يصلح لتقييدها حينئذ، فيجب العمل بمقتضاها .

إن قلت : إنّ هذا إنّما يصحّ بالنسبة إلى رواية عبدالرحمن، لكونها معلّلة بما ذكر، وأمّا بالنسبة إلى الصحيح فلا، لعدم ذكر التعليل فيه، بل هو مطلق، فيشمل ما

ص: 155


1- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3343 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 555 ؛ الوسائل : 27 / 236 ح33673 .

نحن فيه و غيره، فيقيّد إطلاق النصوص بذلک .

قلنا : إنّ الصحيح و إن كان مطلقًا، لكن الغالب غير ما نحن فيه، لأنّ حصول العلم للحاكم بعدم وفائه و عدم الإبراء من المدّعي نادرٌ، فلا ينصرف إليه إطلاق الصحيح .

لكنّ الإنصاف أنّ هذا الجواب ليس بشيء، لأنّ إطلاق الصحيح غير مسلّم، بل هو عامّ، لأنّ ترک الاستفصال في مقام السؤال مع قيام الاحتمال يفيد العموم، فيشمل المقام و غيره .

فالأولى أن يقال في الجواب : انّ الصحيح وإن كان عامًّا، لكن يجب تخصيصه بالمفهوم من التعليل المتقدّم .

بيانه هو : أنّ قوله (عليه السلام) : « لأنّا لا ندري لعلّه قد وفاه » (1) ، يدلّ بمفهومه على انّا لو علمنا بعدم وفائه لايحلف، فيقيّد عموم الصحيح بذلک، فتأمّل .

ثمّ إنّ البيّنة تختلف، قسمٌ منها تشهد على طلب المدّعي الحقّ عن الميّت عملاً بالأصل ؛ و قسمٌ ليس كذلک، بل شهادته ليس لأجل العمل بالأصل، بل لأجل علمهم بعدم وفاء الميّت ذلک، إمّا لسماعهم منه عند الموت، أو لغير ذلک ممّا تقدّم ؛ و هل الحكم شامل لكلا القسمين منها، أو مختصّ بالأوّل ؟

والظاهر العموم، لترک الاستفصال في النصّين المذكورين .

ص: 156


1- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3343 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 555 ؛ الوسائل : 27 / 236 ح33673 .

الحكم بحلف المدّعي مختصّ بما إذا كانت الدعوى دينًا

ثمّ اعلم أيضًا : أنّ الحكم المذكور هل هو مختصّ بما إذا كان المدّعى به الدين، أو يعمّ غيره أيضًا كالوديعة والغصب، فلو أقام البيّنة على وديعة عين عند الميّت، أو غصبها، يتوقّف الانتزاع على الحلف أيضًا، فلا يكفي البيّنة وحدها ؟

الظاهر : الأوّل، وفاقًا للعلّامة في القواعد، و شيخنا الشهيد الثاني في المسالک، وصاحب الكفاية (1) ؛ للأصول :

الأوّل : براءة ذمّة المدّعي من الحلف .

والثاني : بقاء إطلاق النصوص الدالّة على أنّ المدّعي بعد إقامة البيّنة لايحلف سالمًا من التقييد .

والثالث : بقاء العين في ملكه، لأنّ البيّنة شهدت على كونها ملكًا له، فالأصل بقاء الملكيّة، فاحتمال خروجها عن ملكه خلاف الأصل، فيجب الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن، و هو ما إذا كانت الدعوى على الميّت بالدين، لأنّ الدليلَ على عدم الاكتفاء بالبيّنة و ضمّ اليمين معها الإجماعُ والنصّ ؛ والأوّل منتف هنا، لمحلّ الخلاف .

ص: 157


1- . انظر القواعد : 3 / 441 ؛ و مسالک الأفهام : 13 / 461 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 695 ؛ و كشف اللثام :10/ 105 ؛ و رياض المسائل : 13 / 113 .

و أمّا الثاني فكذلک، لأنّ النصّ في المسألة هو ما ذكر من صحيحة محمّد بن الحسن الصفّار و رواية عبدالرحمن ؛ و الأوّل قد صرّح فيه باليمين حيث كتب إليه (عليه السلام) : « أتقبل (1) شهادة الوصيّ على الميّت بدين »، الحديث (2) ؛ و الثاني و إن لم يكن نصًّا في الدين، لكن ظاهره ذلک، لقوله (عليه السلام) : « و إنّ حقّه لعليه » (3) .

مضافًا إلى قوله (عليه السلام) : « لأنّا لا ندري لعلّه قد وفاه ببيّنة »، لأنّ التوفية ظاهرة في الدين ؛ و أمّا الوديعة و الغصب، فيقال في الأوّل الردّ، و الثاني الدفع ؛ و إن كان صدره مشتملاً لمطلق الحقّ الشامل للجميع، إلّا أنّه بمجرّد هذا الإطلاق لايمكن رفع اليد عن مقتضى الأصل المتّفق عليه و تقييد النصوص الكثيرة الدالّة على أنّ المدّعي مع إقامة البيّنة لا يحلف ؛ مع ما عرفت من الكلام في سندها و الإشعار الظاهر في أنّ المراد به الدين، مضافًا إلى أنّه يمكن دعوى ظهور الحقّ في الدين أيضًا .

اعلم : أنّه قال في المسالک :

واعلم : أنّه مع العمل بمضمون الخبر يجب الاقتصار على ما دلّ عليه من كون الحلف على المدّعي مع دعواه الدين على الميّت، كما يدلّ عليه قوله: « وإنّ حقّه لعليه ... لأنّا لاندري لعلّه وفاه ». فلو كانت الدعوى

ص: 158


1- . في المصدر : أو تقبل .
2- . الكافي : 7 / 394 ح 3 ؛ الفقيه : 3 / 73 ح 3362 ؛ التهذيب : 6 / 247 ح 626 ؛ الوسائل : 27 / 371 ح33973 .
3- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3343 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 555 ؛ الوسائل : 27 / 236 ح33673 .

{ عينًا } (1) في يده بعارية أو غصب دفعت إليه مع البيّنة من غير يمين (2) .قال في الكفاية بعد نقل هذا عنه :

و هو متجّه، لكن ينافيه إطلاق صحيحة محمّد بن الحسن (3) .

أقول : فيه نظر واضح، لأنّ صحيحة محمّد بن الحسن ليست مطلقة، بل مصرّحة بالدين كما مرّ، و هو هذا : « تقبل شهادة الوصيّ على الميّت بدين مع شهادة آخر عدل ؟ فوقّع (عليه السلام) : نعم من بعد يمين »، هكذا في الفقيه (4) .

و أيضًا قد ذكرها جمع من أصحابنا في كتبهم الاستدلاليّة كذلک، فأين الإطلاق ؟!

لايمكن أن يقال : إنّ مراده جواب المعصوم (عليه السلام) حيث لم يذكر فيه الدين، لأنّ الجواب جواب للسؤال، و قد عرفت أنّه في الدين، و كذا الجواب .

نعم، لو كان لفظ « الدين » مذكورًا في الجواب، لأمكن به الاستدلال على عدم لزوم الحلف في غير الدين مع إقامة البيّنة، فكان دليلاً في المسألة .

فها أنا أذكر الصحيح بتمامه، ليظهر لک حقيقة الحال، فأقول : قال في الفقيه :

كتب محمّد بن الحسن الصفّار إلى أبي محمّد الحسن بن عليّ (عليهماالسلام): هل

ص: 159


1- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
2- . مسالک الأفهام : 13 / 463 .
3- . كفاية الأحكام : 2 / 695.
4- . الفقيه : 3 / 73 ح 3362 .

تقبل شهادة الوصيّ للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل ؟ فوقّع (عليه السلام) : إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين . و كتب إليه : أيجوز للوصيّ أن يشهد لوارث الميّت صغيرًا كان أو كبيرًا بحقّ له على الميّت أو على غيره و هو القابض للوارث الصغير و ليس للكبير بقابض ؟ فوقّع (عليه السلام) : نعم و ينبغي للوصيّ أن يشهد بالحقّ و لايكتم شهادته . و كتب إليه : أو تقبل شهادة الوصيّ على الميّت بدين مع شاهد آخر عدل ؟ فوقّع (عليه السلام) : نعم من بعد يمين (1) .

و لا يخفى أنّ المستند فيما نحن فيه هو سؤاله : « تقبل شهادة الوصيّ على الميّت بدين » إلى آخره، و هو كما ترى صريح في سؤال قبول الشهادة على الميّت بدين، فأجاب (عليه السلام) بالجواز من بعد يمين .

نعم، لفظ « الحقّ » وقع مطلقًا في قوله : « أيجوز للوصيّ أن يشهد لوارث الميّت صغيرًا أو كبيرًا لحقّ له » إلى آخره، لكن ليس له دخل في المقام كما لايخفى .

ثمّ أقول : نقل الحديث عن الكافي (2) و التهذيب مثل ما مرّ من الفقيه، لكن في التهذيب على ما رأيناه ليس فيه لفظ : « بدين »، بل مطلق هكذا : « تقبل شهادة الوصيّ على الميّت مع شاهد آخر عدل، فوقّع : نعم من بعد يمين » (3) .

و هذا هو الّذي ذكره في الكفاية، فيكون مراده من الإطلاق : أي من غير التقييد

ص: 160


1- . الفقيه : 3 / 73 ح 3362 .
2- . الكافي : 7 / 394 ح 3 .
3- . التهذيب : 6 / 247 ح 626 .

بدين ؛ و حينئذٍ و إن وجّه ما قاله، إلّا أنّ جوابه هو : أنّه إذا دار الأمر بين سقوط شيء في الحديث و زيادته، فالسقوط أولى ؛ فعلى هذا اعتراضه غير موجّه، بل الحكم مختصّ بالدين، فلا يشمل مثل دعوى غصب العين و عاريتها، بل يحكم فيهما بمجرّد البيّنة، فلا حاجة إلى اليمين لما تقدّم .

و لا فرق في ذلک بين ما تلفت العين، أو وجدت في التركة، قال في المسالک :لو لم توجد في التركة و حكم بضمانها للمالک، ففي إلحاقها حينئذٍ بالدين نظرًا إلى انتقالها إلى الذمّة، أو العين نظرًا إلى أصلها، وجهان أجودهما الثاني (1) .

وجه الأجوديّه يظهر ممّا قلنا، لأنّ الحكم بحلف المدّعي خلاف الأصل، سيّما بعد إقامة البيّنة، فيقتصر فيه على الموضع المتيقّن، و قد عرفته .

تنبيهٌ

قال في الشرائع و القواعد و الإرشاد ما حاصله :

إنّ المدّعي لم يستحلف مع البيّنة إلّا أن تكون الشهادة على ميّت، فيستحلف على بقاء الحقّ في ذمّته استظهارًا (2) .

و معنى الاستظهار في كلامهم ليس ما يقابل الوجوب، بل المراد به هنا طلب

ص: 161


1- . مسالک الأفهام : 13 / 463.
2- . الشرائع : 4 / 874 ؛ القواعد : 3 / 441 ؛ الإرشاد : 2 / 145 .

ظهور ثبوت الحقّ إلى حين الطلب، إذ لم يعلم من البيّنة سوى كونه في ذمّته في الجملة .

ثمّ اعلم : أنّ مقتضى النصّ و الفتاوي الاكتفاء بيمين واحدة و لو كان الوارث متعدّدًا ؛ وجهه واضح، إذ يكفي في الامتثال بالمطلق الإتيان بفرد من أفراده، بل الزيادة على المرّة مشكل، لما عرفت من أنّ الحكم بحلف المدّعي خلاف الأصل، يقتصر فيه على القدر المتيقّن، و هو مرّة واحدة، لا أزيد .

و أيضًا العمومات الدالّة على المنع من الحلف قد خصّصت بالنسبة إلى المرّة بعمل الأصحاب و السّنة، وأمّا الزائد عليها فلا، فالأصل بقاء المنع .

{ الصورة الثالثة }

والصورة الثالثة المستثناة من القاعدة المسلّمة - و هي : انّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر - هي ما إذا أقام المدّعي البيّنة وادّعى المنكر براءة الذمّة، فإنّه حينئذٍ صرّح كثير منهم بأنّ المدّعي يحلف على بقاء الاستحقاق، فيأخذ حقّه ؛ وقد تقدّم الكلام منّا في ذلک مفصّلاً، فليراجع من أراد الإطّلاع عليه .

هذا مع أنّ المدّعي فيما يحلف عليه حينئذٍ ليس مدّعيًا، بل منكر، لأنّه ينكر برائة ذمّة خصمه .

ص: 162

هل يضمّ اليمين إلى البيّنة

في الغائب والصغير والمجنون، أم لا ؟

{ الصورة الرابعة }

والصورة الرابعة الّتي استثنيت من تلک القاعدة، هي ما إذا كانت الشهادة على الصغير أو مجنون أو غائب، فإنّ الشيخ في المبسوط، والعلّامة في التحرير والقواعد و الإرشاد، و ابنه في الإيضاح، حكموا بضمّ اليمين إلى البيّنة أيضًا (1) .

و في المسالک والكفاية : هو ما ذهب إليه الأكثر (2) .

و عن الصيمريّ : هو المشهور (3) .

و ذهب المحقّق في الشرائع و بعض من المتأخّرين إلى العدم (4) ، و نسبه في الكفاية إلى جماعة، منهم : المحقّق (5) ؛ للأصل، لأنّک قد عرفت أنّ الحكم بحلف المدّعي سيّما بعد إقامة البيّنة خلاف الأصل، و قد منعت منه النصوص المستفيضة المتقدّمة إلى جملة منها الإشارة .

ص: 163


1- . التحرير : 2 / 187 ؛ القواعد : 3 / 441 ؛ الإرشاد : 2 / 145 ؛ الإيضاح : 4 / 334 ؛ المبسوط : 8 / 162.
2- . المسالک : 13 / 461 ؛ الكفاية : 2 / 694 .
3- . غاية المرام : 4 / 233 .
4- . انظر شرائع الإسلام : 4 / 874 ؛ و كشف اللثام : 10 / 106 ؛ و رياض المسائل : 13 / 114 و 115 .
5- . كفاية الأحكام : 2 / 695 .

و قد قلنا بضمّ الحلف إلى البيّنة في الميّت لدليل و موجب، و هو مفقود هنا، فيجب العمل بالأصل، إذ الدليل في تلک المسألة إمّا الإجماع، أو النصّ ؛ و كلاهما مفقود في المقام، أمّا الأوّل فلمكان الخلاف، و أمّا الثاني فلأنّ مورده الميّت، و هو مفقود فيما نحن فيه .

و الجواب عنه : أنّ مورد النصّ وإن كان الميّت، لكن في رواية عبدالرحمن المتقدّمة قد علّل الشارع ضمّ الحلف إلى البيّنة باحتمال التوفية، و هذه العلّة موجودة في كلّ من الثلاثة، فيجب القول به فيها أيضًا ؛ و ليس ذلک من باب العلّة المستنبطة، بل المنصوصة، و الحقّ حجّيّة القياس إذا كانت العلّة منصوصة .

واستدلّ في المسالک (1) للقول الأوّل بمشاركة كلّ من الصبيّ و المجنون والغائب للميّت في العلّة المومى إليها في النصّ، و هو أنّه ليس للمدّعى عليه لسان يجيب به، فيكون من باب منصوص العلّة، أو من باب اتّحاد طريق المسألتين، لا من باب القياس المستنبطة (2) ؛ و لأنّ الحكم في الأموال مبنيّ على الاحتياط التامّ، و هو يحصل بانضمام اليمين .

ثمّ قال :

و فيه نظر، لأنّ العلّة الظاهرة في الخبر - على تقدير تسليمه - كون المدّعى عليه ليس بحيّ، و هذه العلّة منتفية عن المذكورين . و أيضًا فإنّ

ص: 164


1- . المسالک : 13 / 462 .
2- . في المصدر : الممنوع .

مورد النصّ - و هو الميّت - أقوى من الملحق به، لأنّ جوابه قد انتفى مطلقًا، و يئس منه في دار الدنيا، والصبيّ والمجنون والغائب لهم لسان يرتقب جوابه، إنتهى (1) .

و فيما ذكره نظر، أمّا أوّلاً : فلأنّ قوله : « العلّة المومى إليها في النصّ، و هي (2) أنّه ليس للمدّعى عليه لسان يجيب به » غير مسلّم، لأنّه ليس مرادنا من العلّة في النصّ ما ذكره، بل قوله (عليه السلام) : « لأنّا لاندري لعلّه قد وفاه » ؛ وأين ذلک ممّا ذكره ؟!

نعم، انّ ما ذكره لعلّه مستنبطٌ من النصّ، فيكون من باب العلّة المستنبطة، فقوله : « فيكون ذلک من باب منصوص العلّة » لا وجه له .

وأمّا ثانيًا : فلأنّ قوله : « العلّة الظاهرة في الخبر - على تقدير تسليمه - كون المدّعى عليه ليس بحيٍّ » ممنوعٌ أيضًا، لأنّ المراد من العلّة ليس ما ذكره، بل ما ذكرناه .

وأمّا ثالثًا : فلأن في قوله : « فإنّ مورد النصّ - و هو الميّت - أقوى من الملحق به » إنّما يتوجّه إذا قلنا بدلالة الخبر على اشتراک الصبيّ و غيره مع الميّت بالفحوى، و لم يقل أحد بذلک ؛ وأمّا منصوص العلّة فاللازم فيه وجود العلّة المنصوصة في الفرع، لا غيره.

و قال في الكفاية بعد نقل القول الأوّل :

ص: 165


1- .مسالک الأفهام : 13 / 462.
2- . في المصدر : و هو .

و مذهب الأكثر ذلک، نظرًا إلى مشاركتهم للميّت في العلّة المومئ إليها في الخبر، فيكون من باب منصوص العلّة، و من باب اتّحاد طريق المسألتين .

ثمّ قال :

و فيه : أنّ العلّة المذكورة في الخبر احتمال توفية الميّت قبل الموت، وهي غير حاصلة في محلّ البحث وإن حصل مثلها، و مورد النصّ أقوى من الملحق به، لليأس عن (1) الميّت مطلقًا (2) .

و فيه أيضًا نظر، أمّا أوّلاً : فلأنّک قد عرفت أنّ كون مورد النصّ أقوى من الملحق به إنّما يتوجّه إذا قلنا بدلالة الخبر عليه بالفحوى، و لم نقل به .

و أمّا ثانيًا : فلأنّ ما ذكره من أنّ العلّة هي احتمال توفية الميّت - و هو غير حاصل في محلّ البحث - مبنيّ على الفرق في منصوص العلّة بين قولک : « الخمر حرام لكونها مسكرة »، و بين قولک : « علّة حرمة الخمر الإسكار »، بأنّه لو كان مثل الأوّل فلا يكون حجّة، لاحتمال أن يكون العلّة هي الإسكار، و أن يكون إسكار الخمر بحيث يكون قيد الإضافة إلى الخمر معتبرًا في الحكم، فإذا احتمل الأمران لم يجز القياس .

و في المقام أيضًا كذلک، لأنّ الضمير في « لعلّه » في قوله (عليه السلام) : « لأنّا لاندري

ص: 166


1- . في المصدر : في .
2- . كفاية الأحكام : 2 / 694 .

لعلّه قد وفاه » راجعٌ إلى الميّت، و حينئذٍ نقول : يحتمل أن يكون علّة ضمّ اليمين إلى البيّنة احتمال عدم الوفاء، أو عدم وفاء الميّت بحيث يكون النسبة إلى الميّت معتبرة في الحكم، فإذا احتمل الأمران لم يجز القياس .

لكنّ الحقّ أن لا فرق بين قولک : « الخمر حرام لأنّها مسكرة »، و بين قولک : «علّة حرمة الخمر الإسكار »، لأنّ أهل العرف يفهمون من الأوّل أيضًا أنّ علّة الحرمة هي الإسكار من غير اعتبار النسبة .

ألا ترى أنّه لو قال طبيب لواحد : « لا تأكل الشيء المعلوم لأنّه حلو أو حامض »، فلا شکّ في أنّ العرف يفهمون منه المنع عن أكل كلّ ما فيه حلاوة أو حموضة من غير ملاحظة النسبة، فضلاً عن اعتبارها ؛ وأنّ علّة المنع هي الحلاوة أو الحموضة بنفسها .

فعلى هذا نقول : إنّ قوله (عليه السلام) : « لأنّا لاندري لعلّه قد وفاه »، يفهم منه أنّ علّة ضمّ الحلف إلى اليمين هل هو احتمال التوفية، و هو متحقّق في كلّ من الصبيّ والمجنون والغائب، فينبغي أن يحكم بضمّ الحلف إلى البيّنة هنا أيضًا من غير اعتبار نسبة ذلک إلى الميّت .

لكنّ الإنصاف أن يقال بعدم جواز التمسّک بهذا التعليل في محلّ البحث، لا من حيث الإتيان بالضمير الراجع إلى الميّت في « لعلّه »، بناءً على ما عرفت من أنّ ذلک غير قادح، بل من حيث انّ التعليل ليس هو قوله (عليه السلام) : « لأنا لاندري لعلّه وفاه » وحده، بل مجموع قوله (عليه السلام) : « لأنّا لاندري لعلّه وفاه ببيّنة لم نعلم موضعها، أو بغير بيّنة قبل الموت ».

ص: 167

و قوله (عليه السلام) : « قبل الموت » متعلّق بقوله : « وفاه » ؛ و حينئذٍ نقول : إنّه يعتبر في منصوص العلّة وجود تمام العلّة في الملحق به، إلّا ما قلنا من عدم اعتبار النسبة، فنقول : إنّ قولک : « الخمر حرام لإسكارها »، يدلّ على حرمة النبيذ، لتحقّق العلّة فيه، إذ يمكنک أن تقول : النبيذ حرام لإسكاره .

و أمّا ما نحن فيه، فليس الأمر كذلک، إذ لم يمكننا أن نقول : يجب ضمّ اليمين إلى البيّنة في الغائب، لأنّا لا ندري لعلّه وفاه ببيّنة لم نعلم موضعها، أو بغير بيّنة قبل الموت .

نعم، يصحّ إذا قلنا قبل الغياب مثلاً، لكنّه غير التعليل المذكور في كلام المعصوم، فلو لم يكن لفظ « قبل الموت » مذكورًا في العلّة، لقلنا بحجيّة ذلک ولو مع الضمير العائد إلى الميّت في قوله (عليه السلام) : « لعلّه » كما عرفت، فتأمّل.

فالأقوى حينئذٍ هو القول الثاني، لما عرفت من الأصل وإطلاق النصوص المانعة عن الحلف مع إقامة البيّنة في بعضها، و عموم ترک الاستفصال في الآخر.

مضافًا إلى إطلاق المرويّ في التهذيب عن أبي الحسن الرضا و جعفر بن محمّد (عليهماالسلام) : « الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة و يباع ماله و يقضى عنه دينه و هو غائب » (1) .

حيث حكم (عليه السلام) بالقضاء على الغائب بمجرّد إقامة البيّنة عليه من غير أن يأمره بضمّ اليمين إليها .

ص: 168


1- . الكافي : 5 / 102 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 191 ح 413 ؛ الوسائل : 27 / 294 ح 33782 .

فإذا ثبت الحكم في الغائب نقول في الصغير والمجنون، لعدم القائل بالفصل .

و هذه الرواية رواها في التهذيب بسندين، و هي في أحدهما صحيحة، مع أنّ موافقتها للأصل وإطلاق النصوص المتقدّمة و مخالفتها لأكثر العامّة - على ما صرّح به شيخنا في المسالک (1) من أنّ أكثرهم على ضمّ اليمين - مؤيّدةٌ لها .

{ هل يجب التكفيل للغائب بعد إقامة البيّنة و ضمّ اليمين ؟ }

و هل يجب التكفيل للغائب - أي أخذ الكفيل من المدّعي للغائب - بعد إقامة البيّنة و ضمّ اليمين بناءً على القول به ؟

قال في القواعد :

و يدفع الحاكم من مال الغائب بعد التكفيل (2) .

و لعلّ مستنده الخبر المذكور، فإنّ في ذيله : « و يكون الغائب على حجّته إذا قدم و لا يدفع المال إلى الّذي أقام البيّنة إلّا بكفلاء » (3) .

و نحوه قول مولانا الباقر (عليه السلام) في خبر محمّد بن مسلم، إلّا أنّه خصّص ذلک : إذا لم يكن المدّعي مليًّا (4) .

ص: 169


1- . انظر مسالک الأفهام : 13 / 462 .
2- . القواعد : 3 / 441 .
3- . التهذيب : 6 / 296 ح 827 ؛ الوسائل : 27 / 294 ح 33782 .
4- . الكافي : 5 / 102 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 191 ح 413 ؛ الوسائل : 27 / 294 ح 33782 .

و عن بعضهم (1) : تخصيص الكفيل بما إذا لم يضمّ اليمين إلى بيّنة المدّعي .

إذا كان للمدّعي على الميّت شاهد واحد

هل يكتفى في حقّه يمين واحد، أو لابدّ من يمينين ؟

ثمّ اعلم : أنّه إذا كانت الدعوى على الميّت و لم يكن عنده إلّا شاهد واحد، هل تكفيه يمين واحدة لإثبات حقّه، أو يحتاج إلى يمينين إحداهما مقام شاهد آخر والأخرى في محلّها، بناءً على ما مرّ من أنّ المدّعي على الميّت مع إقامة الشاهدين يحلف ؟

الظاهر : الأوّل، وفاقًا للعلّامة (2) ، لأنّ الّذي دلّ عليه التعليل المذكور هو أنّ اليمين مع الشاهدين لرفع احتمال التوفية و بقاء الاستحقاق، و هذا يحصل بيمين واحدة، والأصل البراءة عن الزيادة ؛ و لقوله (عليه السلام) في الصحيحة السالفة : « لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق الله - عزّوجلّ - و رؤية الهلال فلا » (3) .

وجه الدلالة هو: أنّ حقوق الناس يعمّ ما نحن فيه وغيره، خرج ما إذا تمكن من الشاهدين فيما إذا كان الدعوى على الميّت، و يبقى غيره مندرجًا تحت العموم .

ص: 170


1- . هو الفاضل الأصبهاني (قدس سره) في كشف اللثام : 10 / 107 .
2- . انظر القواعد : 3 / 441 .
3- . الفقيه : 3 / 54 ح 3319 ؛ التهذيب : 6 / 273 ح 746 ؛ الاستبصار : 3 / 34 ح 116 ؛ الوسائل : 27 /394 ح 34039 .

قال في السرائر :

فإن لم يكن للمدّعي على الميّت إلّا شاهد واحد و كان عدلاً، لزم المدّعي أيضًا اليمين معه، لأنّ الشاهد واليمين عندنا في المال جائز، ولايلزمه يمين أخرى (1) .

و لا يمكن الاستدلال بتعدّد اليمين هنا بما مرّ من النصّين الَّذَيْن قد دلّا على لزوم اليمين مع الشاهدين، فيجب تعدّد اليمين هنا، إحداهما للقيام مقام شاهد واحد، والأخرى في محلّها، لاختصاصهما فيما إذا أقام الشاهدين ؛ و لم يثبت عموم بدليّة اليمين للبيّنة حتّى يؤتى بها في كلّ موضع لم يمكن إقامتها .

ألا ترى أنّه لو لم يكن له شاهد مطلقًا لايمكن له أن يحلف مرّتين، فيأخذ حقّه .

هذا مع ما عرفت من أنّ اليمين فيما نحن فيه إنّما هو لدفع احتمال التوفية و بقاء الاستحقاق، و هو يحصل بالواحدة، إذ يتعرّض فيها لبقاء الحقّ .

يفرّق الشهود إذا كانوا من أهل الريبة

30- مسألة

يكره تفريق الشهود عند الإقامة إذا كانوا من ذوي البصائر والشأن، كالعلماء والصلحاء، لأنّ ذلک ربّما يؤل إلى مهانتهم، بل ربّما يحصل من ذلک كسر قلوبهم .

ص: 171


1- . السرائر : 2 / 46 .

نعم، يستحبّ التفريق بينهم إذا كانوا من أهل الريبة، أي ارتاب الحاكم في أمرهم، فيسأل كلّ واحد عن جزئيّات القضيّة، فيقول له مثلاً : في أيّ وقت شهدت و في أيّ مكان، و هل كنت وحدک أو مع باقي الشهود ؟ فإن قال : وحدي، قال : هل كنت أوّل من شهد أو لا ؟ بحيث يظهر الكذب إن ظهر الاختلاف، فإن اختلفت أقوالهم أبطلها، و إلّا حكم .

والمستند في ذلک فعل الأمير و قبله دانيال النبيّ (عليهماالسلام)، و إن أردت أن تقف على فعلهما فاعلم : أنّه روي في التهذيب في الحسن أو الصحيح عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : أتى عمر بن الخطّاب بجارية قد شهدوا عليها أنّها بغت وكان من قصّتها أنّها كانت يتيمة عند رجل و كان الرجل كثيرًا ما يغيب عن أهله، فشبّت اليتيمة، فتخوّفت المرأة أن يتزوّجها زوجها، فدعت بنسوة حتّى أمسكوها(1) ، فأخذت عذرتها بإصبعها، فلمّا قدم زوجها من غيبته رمت اليتيمة المرأة بالفاحشة وأقامت البيّنة من جاراتها اللّاتي ساعَدَنْها على ذلک، فرفع ذلک إلى عمر، فلم يدر كيف يقضي فيها .

ثمّ قال للرجل : إئت عليّ بن أبي طالب واذهب بنا إليه، فأتيا (2) عليًّا (عليه السلام) وقصّوا عليه القصّة و قال (3) لامرأة الرجل : ألکِ بيّنة أو برهان ؟ قالت : لي شهود هؤلاء جاراتي يشهدن عليها بما أقول وأَحْضَرْتُهنَّ، وأخرج عليٌ - صلوات الله

ص: 172


1- . في المصدر : أمسكنها .
2- . في المصدر : فأتى .
3- . في المصدر : فقال .

عليه (1) - السيف من غمده فطرح بين يديه، فأمر (2) بكلّ واحدة منهنّ، فأدخلت

بيتًا.

ثمّ دعا امرأة الرجل، فأدارها بكلّ وجه، فأبت أن تزول عن قولها، فردّها إلى البيت الّذي كانت فيه، و دعا إحدى الشهود و جثا على ركبتيه، ثمّ قال : تعرفيني أنا عليّ بن أبي طالب و هذا سيفي و قد قالت امرأة الرجل ما قالت و رجعت إلى الحقّ وأعطيتها الأمان، وإن لم تصدقيني لأمكننّ السيف منک .

فالتفت إلى عمر فقالت : يا أميرالمؤمنين الأمان عليّ الصدق، فقال لها عليٌ 7: فاصدقي، فقالت : لا ، والله إلّا أنّها رأت جمالاً و هيئة، فخافت فساد زوجها، فسقتها المسكر و دعتنا فأمسكناها، فافتضّتها بإصبعها .

فقال عليّ (عليه السلام) : الله أكبر أنا أوّل من فرّق بين الشهود إلّا دانيال النبيّ (عليه السلام)، وألزمهنّ عليّ (عليه السلام) بحدّ القاذف وألزمهنّ جميعًا العُقر و جعل عُقرها أربعمائة درهم و أمر المرأة أن تنفى من الرجل و يطلّقها زوجها و زوّجه الجارية و ساق عنه المهر عليّ (عليه السلام).

فقال عمر : يا أبا الحسن، فحدِّثنا بحديث دانيال النبيّ، فقال : إنّ دانيال كان يتيمًا لا أمّ له و لا أب، و إنّ امرأة من بني إسرائيل عجوزًا كبيرةً ضمّته فربّته، وإنّ ملكًا من ملوک بني إسرائيل كان له قاضيان، فكان لهما صديق و كان رجلاً صالحًا

ص: 173


1- . في المصدر بدل « صلوات الله عليه » : عليه السلام .
2- . في المصدر : و أمر .

و كانت له امرأة ذات هيئة جميلة و كان يأتي الملک فيحدّثه، فاحتاج الملک إلى رجل يبعثه في بعض أموره .

فقال للقاضيين : اختارا رجلاً أرسله في بعض أموري، فقالا : فلان، فوجّهه الملک، فقال الرجل للقاضيين : أوصيكما بامرأتي خيرًا، فقالا : نعم .

فخرج الرجل، فكان القاضيان يأتيان باب الصديق (1) ، فعشقا امرأته، فراوداها عن نفسها، فأبت، فقالا لها : والله لئن لم تفعلي لنشهدنّ عليک عند الملک بالزنا ليرجمنّک .

فقالت : افعلا ما أحببتما، فأتيا الملک فأخبراه و شهدا عنده أنّها بغت، فدخل الملک من ذلک أمر عظيم واشتدّ بها غمّه و كان بها مُعجبًا، فقال لهما : قولكما (2) مقبول ولكن ارجموها بعد ثلاثة أيّام و نادى في البلد الّذي هو فيه : احضروا قتل فلانة العابدة، فإنّها قد بغت وإنّ القاضيين قد شهدا عليهما بذلک وأكثر الناس في ذلک .

و قال الملک لوزيره : ما عندک في هذا من حيلة ؟ فقال : ما عندي في ذلک من شيء، فخرج الوزير يوم الثالث و هو آخر أيّامها، فإذا هو بغلمان عراة يلعبون وفيهم دانيال و هو لايعرفه .

فقال دانيال : يا معشر الصبيان، تعالوا حتّى أكون أنا الملک و تكون أنت يا فلان

ص: 174


1- . في المصدر : الرجل الصديق .
2- . في المصدر : انّ قولكما .

العابدة و يكون فلان و فلان القاضيين الشاهدين عليها، ثمّ جمع ترابًا و جعل سيفًا من قصب و قال للصبيان : خذوا بيد هذا، فنحّوه إلى مكان كذا و كذا و خذوا بيد هذا، فنحّوه إلى مكان كذا و كذا، ثمّ دعا بأحدهما فقال له : قل حقًّا، فإنّک إن لم تقل حقًّا قتلتک بم تشهد ؟ و الوزير قائم يسمع و ينظر .

فقال: أشهد أنّها بغت، قال : متى ؟ قال : يوم كذا و كذا، قال: ردّوه إلى مكانه وهاتوا الآخر، فردّوه إلى مكانه و جاؤا بالآخر، فقال له : بم تشهد ؟ قال : أشهد أنّها بغت، قال: متى ؟ قال: يوم كذا و كذا، قال : مع مَن ؟ قال : مع فلان بن فلان، قال: وأين ؟ قال : في موضع كذا و كذا، فخالف صاحبه .

فقال دانيال (عليه السلام) : الله أكبر شهدا بزور، يا فلان ناد في الناس أنّما (1) شهدا على فلانة بزور، فاحضروا قتلهما، فذهب الوزير إلى الملک مبادرًا فأخبره الخبر، فبعث الملک إلى القاضيين، فاختلفا كما اختلف الغلامان، فنادى الملک في الناس و أمر بقتلهما، إنتهى الحديث (2) .

و إنّما ذكرناه مع طوله لأنّي لما رأيت الكتب الاستدلاليّة الّتي عندي خالية من ذكر الحديث، بل قالوا فيها : « كما فعل الأمير و دانيال (عليهماالسلام)»، فأردت أن أذكره حتّى يعرف الناظر حقيقة الحال، إذ ربما لا يمكن لكلّ أحد الرجوع في المأخذ ويحبّ أن يطّلع على حقيقة الحال كما اتّفق لي أوّلاً .

ص: 175


1- . في الكافي : أنّهما .
2- . الكافي : 7 / 426 ح 9 ؛ الفقيه : 3 / 20 ح 3251 ؛ التهذيب : 6 / 308 ح 852 ؛ الوسائل : 27 / 277 ح33762 .

{ بيان حرمة تتعتع الشاهد من قبل القاضي }

31- مسألة

اشارة

يحرم على الحاكم أن يتعتع الشاهد، و هو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة وأن يدخل في أثناء نطقه بها كلّما يجعل ذريعة إلى أن ينطق به و يعدل عمّا كان يريده، هدايةً له إلى شيء ينتفع به، أو إيقاعًا له إلى شيء يتضرّر به ؛ أو يتعقّبه عند فراغه بكلام ليجعله تتمّة شهادته، و يستدرجه فيه بحيث تصير به الشهادة مقيّدة، أو مسموعة، أو مردودة، سواء كان الشاهد يأتي بما داخله و يعقّبه لولاه، أم لا .

بل الواجب أن يصبر عليه حتّى ينتهي ما عنده، ثمّ ينظر فيه و يحكم بمقتضاه من نفي و إثبات ؛ و إذا وجده قاصرًا عن تأدية المطلوب، أو غير مطابقٍ للمدّعى ونحو ذلک ردّه، كما في المسالک (1) .

وجه الجميع ظاهر .

و كذا يحرم له إذا تردّد الشاهد في شهادته ترغيبه بها، لاحتمال أن يكون تردّده للشکّ في الأصل، فعلى هذا ترغيبه في الشهادة ترغيب للباطل والحرام، لأنّ الشهادة لا تجوز إلّا مع العلم بالمشهود به .

ص: 176


1- . مسالک الأفهام : 13 / 417 .

و كذا يحرم عليه تزهيده عن الإقامة بالشهادة إذا رآه جازمًا بذلک، لأنّ ذلک يؤدّي إلى ضياع الحقّ، إذ ربما لم يكن له شاهد غيره، فيضيع حقّه .

و كذا يحرم عليه أن يوقف الغريم عن الإقرار إذا أراد أن يقرّ بالحقّ، لأنّ منصبه إيصال الحقوق إلى صاحبها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ نعم، يجوز ذلک في حقوق الله - تعالى - تأسّيًا للنبيّ (صلي الله عليه واله) (1) .

ص: 177


1- . انظر المسالک : 13 / 418 .

فصلٌ

فيما ينعقد به اليمين الموجبة للحقّ إذا كانت

من المدّعي والمسقطة للدعوى إذا كانت من المنكر

و في كيفيّة الاستحلاف

لا ينعقد اليمين إلّا بالله تعالى

32- مسألة

اشارة

إعلم : أنّه لا تنعقد اليمين الموجبة للحقّ و لا لسقوط الدعوى إلّا بالله - تعالى - مطلقًا ولو كان الحالف كافرًا ؛ والحكم في المسلم اتّفاقيّ، و في الكافر مشهور، كما صرّح به بعضهم (1) .

والنصوص بذلک مستفيضة بالعموم و الخصوص، منها : الصحيح المرويّ عن سليمان بن خالد عن مولانا الصادق (عليه السلام) قال : لا يحلف اليهوديّ و لا النصرانيّ ولا المجوسيّ بغير الله - تعالى - إنّ الله - تعالى - يقول : ( و أن احْكُم بينهم بما أنزل الله) (2) .

ص: 178


1- . صرّح به في كشف اللثام : 10 / 109 .
2- . الكافي : 7 / 451 ح 4 ؛ الاستبصار : 4 / 39 ح 131 ؛ التهذيب : 8 / 278 ح 1013 ؛ الوسائل : 23 /266 ح 29536 ؛ و الآية في سورة المائدة : 49 .

و منها : الموثّق عن سماعة قال : سألته هل يصلح لأحد أن يحلف أحدًا من اليهود و النصارى و المجوس بآلهتهم ؟ فقال : لا يصلح لأحد أن يحلف أحدًا إلّا بالله(1) .

و منها : الصحيح المرويّ عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله 7 عن أهل الملل كيف يستحلفون ؟ فقال : لا تحلّفوهم إلّا بالله (2) .

و منها : ما رواه الجرّاح المدائني عنه (عليه السلام) أنّه قال : لا يحلف بغير الله، و قال : اليهوديّ و النصرانيّ و المجوسيّ لا تحلّفوهم إلّا بالله (3) .

و عموم النصوص و الفتاوى يقتضي عدم الفرق بين من يعرف الله من الكفّار ومن لا يعرفه .

و عن المبسوط :

و إن كان وثنيًّا معطلاً، أو كان ملحدًا يجحد الوحدانيّة لم يغلّظ عليه (4) واقتصر على قوله : والله . فإن قيل : كيف حلفته بالله و ليست عنده

ص: 179


1- . الكافي : 7 / 451 ح 2 ؛ الاستبصار : 4 / 39 ح 133 ؛ التهذيب : 8 / 279 ح 1015 ؛ الوسائل : 23 /267 ح 29540 .
2- . الكافي : 7 / 450 ح 1 ؛ الاستبصار : 4 / 40 ح 134 ؛ التهذيب : 8 / 279 ح 1016 ؛ الوسائل : 23 /267 ح 29541 .
3- . الكافي : 7 / 451 ح 5 ؛ الاستبصار : 4 / 39 ح 132 ؛ التهذيب : 8 / 278 ح 1014 ؛ الوسائل : 23 /266 ح 29537 .
4- . في المصدر : لم يغلّظ عليه باللفظ .

بيمين (1) ؟ قلنا : ليزداد إثمًا و يستوجب العقوبة، إنتهى (2) .

قال بعض المحقّقين من متأخري المتأخّرين :

و عندي أنّ الوثنيّ والملحد يستحلف بالّذي يعبده و يعتقد أنّه الخالق والرازق (3) ، أو أنّه الرازق اعتقد (4) وحدته أو تعدّده أو بإحدى (5) العبارتين ؛ وإن قيل له : إنّ الله هو الخالق الرازق و يستحلفه بالله ثانيًا كان أولى، إنتهى (6) .

وأنت قد عرفت مقتضى النصوص والفتاوى، والعجب أنّه قال ذلک بعد ما صرّح بأنّ إطلاق النصوص والفتاوى عدم الفرق بين من يعرف الله من الكفّار و من لايعرفه .

ص: 180


1- . في المصدر : يمينًا .
2- . المبسوط : 8 / 205 .
3- . في المصدر : والرزّاق .
4- . في المصدر : واعتقد .
5- . في المصدر : أو إحدى .
6- . كشف اللثام : 10 / 110 ، الهامش 3 .

فروعٌ

{ الفرع الأوّل : لا يجوز الحلف بغير الله و إن كان

من الكتب المنزلة أو الرسل المعظّمة أو الأمكنة المتبرّكة }

الأوّل : النهي في النصوص المذكورة عن الحلف بغير الله - تعالى - إمّا محمولٌ على ظاهره من الحرمة، فلو حلف بغير الله - تعالى - أثم و يلزمه عدم حصول الغرض المطلوب من اليمين، أو المراد منه عدم صحّة اليمين و عدم حصول الغرض المطلوب منها من غير حصول الإثم .

مقتضى الأصل في الاستعمال الحقيقة هو الأوّل، لأنّ النهي حقيقة في التحريم و حمله على غيره مجاز، فلا يصار إليه إلّا بدليل و ليس، فلا يجوز الحلف بغيره -تعالى - وإن كان من الكتب المنزلة أو الرسل المعظّمة أو الأمكنة المتبرّكة .

مضافًا إلى النصوص الكثيرة، منها : حسنة محمّد بن مسلم أو صحيحته عن مولانا الباقر (عليه السلام) قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قول الله - تعالى - : ( والليل إذا يغشى ) (1) ( والنجم إذا هوى ) (2) و ما أشبه ذلک ؛ فقال : إنّ لله - عزّوجلّ - أن يقسم من خلقه بما يشاء و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به (3) .

ص: 181


1- . الليل : 1 .
2- . النجم : 1 .
3- . الكافي : 7 / 449 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 376 ح 4323 ؛ التهذيب : 8 / 277 ح 1009 ؛ الوسائل : 23 / 260ح 29521 .

و منها : صحيحة الحلبي عن مولانا الصادق (عليه السلام) : لا أرى أن يحلف الرجل إلّا بالله، وأمّا قول الرجل : لا بل شانئک، فإنّه من قول أهل الجاهليّة (1) .

و منها : ما رواه ابن حمزة (2) عنه (صلي الله عليه واله) : لا تحلفوا إلّا بالله تعالى (3) .

و منها : ما روي عنه (صلي الله عليه واله) أيضًا أنّه قال : من حلف بغير الله فقد أشرک (4) .

و في بعض الأخبار : فقد كفر (5) .

قيل :

في قوله : « فقد أشرک » تأويلان، أحدهما : الشرک الحقيقيّ، و هو أن يعتقد تعظيم ما يحلف به، و يعتقده لازمًا كاليمين بالله، فمن اعتقد هذا فقد كفر. و ثانيهما (6) : لا يكفر به، و هو أن يشارک في اليمين فيحلف

بغير الله كما يحلف بالله.

و قوله : « فقد كفر » لا تأويل له غير الكفر الحقيقيّ، و هو أن يعتقد تعظيم

ص: 182


1- . الكافي : 7 / 449 ح 2 ؛ التهذيب : 8 / 278 ح 1010 ؛ الوسائل : 22 / 260 ح 29522 .
2- . كذا في الأصل، والصواب : أبي حمزة ؛ قال في مجمع الفائدة : و رواية أبي حمزة - كأنّه الثمالي - عن عليّبن الحسين (عليهماالسلام) قال : قال رسول الله (صلي الله عليه واله) : لا تحلفوا، الحديث ( مجمع الفائدة : 12 / 175 ؛ وانظر كشفاللثام : 10 / 111 ).
3- . الكافي : 7 / 438 ح 1 ؛ التهذيب : 8 / 284 ح 1040 ؛ الوسائل : 23 / 211 ح 29390 .
4- . مسند أحمد : 2 / 69 و 87 و 125 ؛ سنن أبي داود : ج 2 ، كتاب الأيمان والنذور، ص 91 ح 3251 ؛السنن الكبرى : 10 / 29 .
5- . مسند أحمد : 2 / 125 ؛ سنن الترمذي : 3 / 46 ح 1574 ؛ المستدرک للحاكم : 1 / 18 ؛ السنن الكبرى :10 / 29 ؛ عوالي اللّألئ : 1 / 262 ح 46 .
6- . في المصدر : والتأويل الثاني .

ما يحلف به كما يعتقده في الله - تعالى ذكره - إنتهى (1) .

و لظاهر هذه النصوص عمل المحقّق والعلّامة، فقال في الشرائع :

لا يجوز الإحلاف بغيره - تعالى (2) .

و كذا في القواعد (3) .

و عن الشيخ في المبسوط :

انّ الحلف بغيره - تعالى - مكروه (4) .

واختاره في الكفاية (5) .

و عن ابن الجنيد :

لا بأس أن يحلف الإنسان بما عظم الله من الحقوق، لأنّ ذلک من حقوق الله - عزّوجلّ - كقوله : و حقّ رسول الله و حقّ القرآن (6) .

و فصّل شيخنا الشهيد بين الدعوى و غيرها، فقطع بالتحريم في الأوّل و تردّد في غيرها (7) .

ص: 183


1- . المبسوط : 6 / 192.
2- . شرائع الإسلام : 4 / 876 .
3- . القواعد : 3 / 443 .
4- . المبسوط : 6 / 191 .
5- . كفاية الأحكام : 2 / 699 .
6- . حكاه عنه في مختلف الشيعة : 8 / 142 .
7- . الدروس الشرعيّة : 2 / 96 .

و لا يخفى أنّ وجه التفصيل غير ظاهر، لأنّ النهي إمّا محمولٌ على الحقيقة في النصوص المذكورة، فينبغي أن يقال بالتحريم في الجميع ؛ وأمّا على غيرها فكذلک إلّا أن يقال : إنّه أبقي النهي في النصوص على ظاهره، لكن قطع بالتحريم في الدعوى، لأنّها مقطوع الإرادة منها، و أمّا غيرها فيحتمل أن يكون مرادًا و عدمه، فلهذا تردّد، فتردّده من جهة الشکّ في الإرادة .

{ الفرع الثاني }

الحلف بالله هل يعمّ جميع الأسماء، أو بعضًا دون آخر ؟

الثاني : قد عرفت من النصوص الناهية عن الحلف إلّا بالله اختصاصه به -تعالى - و هل تعمّ جميع الأسماء، أو بعضًا دون آخر ؟

فأقول : أمّا حصول الحلف بلفظ الجلالة فلا شبهة فيه، و ينبغي أن يكون كذلک أسماءه الخاصّة - كالرحمن - و الصفات الّتي لا تطلق على غيره - كالّذي نفسي بيده - و الّتي تطلق على غيره - تعالى - أيضًا، لكن عند الإطلاق تنصرف إليه سبحانه - كالخالق و الرحيم .

و أمّا الّتي تطلق عليه - تعالى - و على غيره و لم تغلب استعمالها فيه - سبحانه - بحيث تنصرف إليه عند الإطلاق، فلا تنعقد به اليمين - كالموجود و الحيّ .

ص: 184

{ الفرع الثالث }

يجوز الاكتفاء في الحلف بلفظ الجلالة

و إن كان الحالف مجوسيًّا

الثالث : المستفاد من النصوص المذكورة أوّلاً : الاكتفاء في الحلف بلفظ الجلالة مطلقًا و لو كان الحالف مجوسيًّا .

و عن الشيخ في المبسوط :

يفتقر في إحلاف المجوسيّ مع لفظ الجلالة إلى ما يزيل الاحتمال، لأنّه يسمّى النور إلهًا (1) .

و توضيح هذا الكلام على ما فهمه جمع من الأعلام - كفخر الدين والمقدّس الأردبيليّ و صاحب الكفاية و غيرهم (2) - أنّه لا يفتقر في إحلاف المجوسيّ على لفظ الجلالة بأن يقول : « والله كذا »، لأنّهم يسمّون النور إلهًا، فيحتمل أن يريدوا بلفظ الجلالة النور، لأنّ الله هو إلهٌ بإدخال حرف التعريف، فلا يكون حالفًا بالله -تعالى - فلابدّ أن يقول : « والله خالق النور والظلمة »، أو : « خالق كلّ شيء »، وهكذا؛ و هذا هو الظاهر من العبارة المنقولة عنه كما ترى .

ص: 185


1- . انظر المبسوط : 8 / 205 ؛ و حكاه عنه في مفاتيح الشرائع : 3 / 265 ؛ و كشف اللثام : 10 / 110 ؛ورياض المسائل : 13 / 119 .
2- . انظر الدروس : 2 / 96 ؛ و مسالک الأفهام : 13 / 472 ؛ و مجمع الفائدة : 12 / 179 ؛ و إيضاح الفوائد :4/ 335 ؛ و غاية المرام: 4 / 237 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 699 ؛ و كشف اللثام : 10 / 110 ؛ و رياضالمسائل : 13 / 119 ؛ والمناهل: 742 .

و قال بعضهم في معناها و توضيحها هو :

أنّهم لمّا أثبتوا أصلين هما : النور والظلمة، وأسندوا خلق الخيرات إلى النور وخلق الشرور إلى الظلمة جعلوهما إلهَين، فإذا اقتصر المجوسيّ على قوله : « والله » احتمل أن يكون أقسم بالظلمة، فإنّ عَلَميّة « الله » ليست معلومة، وإن علمناها لم نعلم بعلم المجوسيّ الحالف، فيمكن أن لا يريد به إلّا معنى الإله، وأمّا إذا ضمّ إلى لفظ الجلالة (1) : خلقني ورزقني - بأن يقول : « والله الّذي خلقني ورزقني » (2) - فتعيّن (3) النور للإرادة بيقين (4) .

واختلاف المعنيين بيّن، إذ المعنى الأوّل صريح على أنّ المعتبر عدم إرادة النور من لفظ الجلالة، و لهذا اعتبروا أن يقول : خالق النور، والمعنى الثاني صريح على أنّ المعتبر إرادة النور منه .

ثمّ قال هذا القائل :

و في الدروس : إضافة خالق النور والظلمة (5) . و في اللمعة : خالق كلّ شيء (6) . و فيهما نظر ظاهر، إذ ليس عند المجوس إلهٌ خلق النور

ص: 186


1- . في المصدر : وأمّا إذا ضمّ إليه نحو .
2- . قوله : « بأن يقول : والله الّذي خلقني و رزقني » لم يرد في المصدر .
3- . في المصدر : فيتعيّن .
4- . كشف اللثام : 10 / 110 .
5- . الدروس : 2 / 96 .
6- . اللمعة : 97 .

والظلمة أو كلّ شيء، إنتهى (1) .

أقول : في كلا المعنيين المذكورين لعبارة المبسوط نظر، أمّا في الأوّل : فلأنّه لايخلو إمّا أن يكون المعتبر في الحلف الحلف بالله - تعالى - سواء قصده الحالف أم لا، أو يعتبر فيه قصد الحالف في يمينه الله - سبحانه .

فإن كان الأوّل فينبغي أن يكتفى في حلف المجوسيّ بذكر لفظ الجلالة فقط و لو لم يقصده الحالف ؛ وإن كان الثاني فإضافة الخالق إلى النور والظلمة مثلاً لايجدى نفعًا، لما مرّ من أنّهم لم يقولوا بوجود خالق للنور والظلمة، فكيف يقصدونه ؟!

إلّا أن يقال : المعتبر أن لايقصد المجوسيّ بحلفهم إلههم، و هو مع لفظ الجلالة وحده غير معلوم، لما عرفت من جواز إرادة إلههم منه .

وأمّا مع إضافة خالق إلى النور بأن يقال : « والله الّذي خلق النور »، فلا يمكن ذلک .

و أمّا في المعنى الثاني : فلأنّه لايخلو إمّا أن يكون المعتبر في الحلف ذكر لفظ «الله » و قصده - سبحانه - منه، أو ذكر لفظ « الله » فقط وإن قصد به غيره - تعالى .

و إن كان الأوّل فينبغي أن لايحصل الحلف بالنسبة إلى المجوسيّ، سواء قصد من لفظ « الله » الظلمة أو النور، إذ النور الّذي هم أثبتوا غير ذاته - سبحانه - فعلى هذا لا وجه لقوله : « وأمّا إذا ضمّ إلى لفظ الجلالة خلقني و رزقني بأن يقول : والله الّذي خلقني، فتعيّن النور للإرادة بيقين »، إذ إرادة النور غير مجدٍ حينئذ .

ص: 187


1- . كشف اللثام : 10 / 110 .

و إن كان الثاني - أي : كان المعتبر في الحلف ذكر لفظ الجلالة فقط وإن لم يقصد به ذاته المقدّس، بل غيرها - فينبغي أن يحصل الحلف وإن أراد به الظلمة .

وبالجملة : المعنيان المذكوران قد عرفت حالهما، و فسادهما ينبئ عن فساد أصل الاشتراط ؛ و إن كان المعنى الأوّل - أي : إذا قال : والله الّذي خالق النور والظلمة - أحوط، لعدم إرادة إلههم من لفظ الجلالة .

و معلوم أنّ عدم إرادة غيره - تعالى - أولى و أقرب بإرادته - تعالى - من إرادة غيره - سبحانه .

{ الفرع الرابع }

لا يجوز لنا إحلاف اليهوديّ و غيره بغير الله - تعالى -

الرابع : ذهب الشيخ في النهاية، و المحقّق في النافع و الشرائع، والعلّامة في الإرشاد و القواعد، و عن الوسيلة و الجامع : أنّه لو رأى الحاكم إحلاف الّذي بما يقتضيه دينه من التوراة والإنجيل و موسى و عيسى و نحو ذلک أردع و أمنع عن الكذب من الحلف بالله - تعالى - جاز له إحلافه به (1) .

بل عن الوسيلة : أنّه عمّم ذلک لكلّ كافر (2) .

ص: 188


1- . انظر النهاية : 556 ؛ والوسيلة : 228 ؛ والمختصر النافع : 274 ؛ والشرائع : 4 / 876 ؛ والإرشاد :2/146؛ والقواعد : 3 / 443 ؛ والجامع للشرائع : 525 .
2- . الوسيلة : 228 .

واستدلّ لهم على ذلک برواية السكونيّ عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال : إنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) استحلف يهوديًّا بالتوراة الّتي أنزلت على موسى (1) .

و بصحيحة محمّد بن قيس أنّه قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : قضى عليّ (عليه السلام) فيمن استحلف أهل الكتاب يمين صبر (2) أن يستحلف بكتابه و ملّته (3) .

والجواب عنهما أوّلاً : انّ ظاهرهما خلاف الإجماع، لأنّه لم يعمل أحد بإطلاقهما ؛ و تقييدهما بما إذا كان يمينهم أردع، ليس بأولى من التقييد بما إذا كان الإحلاف بعد الحلف بالله - سبحانه - بأن يقال : والله الّذي أنزل التوراة .

و ثانيًا : انّهما قضيّتان في الواقع ؛ و يحتمل أن يكون الحلف بالتوراة والكتاب بعد الحلف بالله - سبحانه - للتأكيد والتشديد، أو يحتمل أن يكون ذلک مخصوصًا بالإمام (عليه السلام) ؛ و إذا تحقّق الاحتمال بطل الاستدلال، لأنّ وقائع الأحوال إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، فلا يجوز التمسّک بها للاستدلال (4) .

و قال شيخ الطائفة في الاستبصار بعد ذكر رواية السكونيّ :

ص: 189


1- . الكافي : 7 / 451 ح 3 ؛ الاستبصار : 4 / 40 ح 135 ؛ التهذيب : 8 / 279 ح 1019 ؛ الوسائل : 23 /266 ح 29539 .
2- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : يقال : قتل فلان صبرًا، أو حلف صبرًا، إذا حبس على القتل حتّى يقتل،أو على اليمين حتّى يحلف ؛ ص { الصحاح : 2 / 706 }.
3- . الفقيه : 3 / 375 ح 4320 ؛ الاستبصار : 4 / 40 ح 137 ؛ التهذيب : 8 / 279 ح 1018 ؛ الوسائل : 23 /268 ح 29543 .
4- . نقل هذه القاعدة الأصوليّة عن الشافعي ؛ حكاها عنه الزركشيّ في البحر المحيط : 2 / 308 ؛ وانظر أيضًا :الوافية، للفاضل التوني : 115 ؛ والقوانين : 226 .

انّ الوجه في هذا الخبر أن نحمله على أنّ للإمام أن يحلّف أهل الذمّة بما(1) يعتقدون في ملّتهم اليمين به إذا كان ذلک أردع لهم، وإنّما لا يجوز

لنا أن نحلّفهم، لأنّا لا نعرف ذلک، و إذا عرفنا (2) جاز ذلک أيضًا لنا، لأنّ كلّ من اعتقد اليمين بشيء جاز أن يستحلفه (3) به، إنتهى (4) .

و كلامه هذا موافق لما ذهب إليه في النهاية (5) .

والحقّ في الجواب ما ذكرناه، فلا نخرج عمّا دلّت عليه النصوص المتقدّمة من عدم جواز إحلاف اليهوديّ و غيره بغير الله - تعالى - والجمع بينهما بأن يحلفهم هكذا: والله الّذي أنزل التوراة مثلاً، أحوط .

يستحبّ للحاكم موعظة الحالف

33- مسألة

اشارة

يستحبّ للحاكم عند توجّه اليمين إلى أحد المتخاصمين وعظه بذكر ما ورد من النهي عنها في الآيات و الأخبار، و استحباب ترک الحلف إجلالاً له - تعالى -

ص: 190


1- . في المصدر : ممّا .
2- . في المصدر : عرفنا ذلک .
3- . في المصدر : أن يستحلف .
4- . الاستبصار : 4 / 40 .
5- . انظر النهاية : 556 .

كقوله - تعالى - : ( وَ لاَ تَجْعَلُوا آللهَ عُرْضَةً لاَِيْمَانِكُمْ أنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ) (1) .

تفسير قوله تعالى : ( لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم )

تفسير الآية : يقال : فلان عرضة للناس، أي نصب للوقوع فيهم، فعلى هذا يكون معنى ظاهر الآية : لا تجعلوا الله معرضًا لأيمانكم، أي : تكثروا به الحلف حتّى في الأمور المحقّرة و غير المهمّة، كما ذمّ كثير الحلف بقوله تعالى : ( وَ لاَتُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ ) (2) ، أي كثير الحلف .

و على هذا يكون قوله - سبحانه - : ( أنْ تَبَرُّوا ) إلى آخره، علّة للنهي في قوله : (لا تجعلوا )، أي : أنهاكم عن التكثّر بالحلف إرادة برّكم و تقواكم و إصلاحكم بين الناس، لأنّ كثير الحلف مجرئ على الله - تعالى - والمجرئ عليه - سبحانه - لايكون بارًّا و لا متّقيًا و لا موثوقًا به في الإصلاح بين الناس، فالآية دلّت على النهي عن التكثّر باليمين و إن كانت صادقة (3) .

و قيل في معنى الآية : إنّ العرضة بمعنى العارض، أي : الحاجز والمانع، والمراد

ص: 191


1- . البقرة : 224.
2- . القلم : 10.
3- . انظر الكشّاف : 1 / 362 ؛ و تفسير البيضاوي : 1 / 511 ؛ و تفسير جوامع الجامع : 1 / 212 ؛ و فقهالقرآن : 2 / 243 ؛ و كنز العرفان : 2 / 119 ؛ و ملاذ الأخيار : 14 / 34 .

من ( أيمانكم ) ليس هو اليمين، بل ما وقعت عليه اليمين، أي : لما حلفتم عليه، وتسميته بالأيمان لتلبّسه باليمين .

و على هذا يكون قوله - تعالى - : ( أنْ تَبَرُّوا ) إلى آخره، في محلّ النصب لأن يكون عطف بيان لقوله - سبحانه - : ( لأيمانكم )، أي : لاتجعلوا الله مانعًا للأمور المحلوف عليها الّتي هي البرّ والتقوى والإصلاح بأن تحلفوا به - تعالى - على ترک هذه الأشياء ثمّ تمتنع منها لأجل الحلف .

و يمكن أن يبقى ( أيمانكم ) على معناه بأن يقال : لا تجعلوا الله مانعًا لسبب أيمانكم به - تعالى - لأن تبرّوا و تتّقوا و تصلحوا بين الناس، فيكون على هذا قوله - تعالى - : ( أن تبرّوا ) متعلّقًا بعرضة (1) .

و على هذا لا مناسبة للاية في المقام، لكنّ المعنى الأوّل أولى كما لا يخفى .

و قوله - تعالى - : ( إنَّ الَّذينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَ أيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولئِکَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَةِ وَ لاَ يُكَلِّمُهُمُ آللهُ وَ لاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لاَ يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ ) (2) ؛ « لا خلاق لهم »، أي : لا حظّ و لا نصيب لهم في يوم الآخرة .

و أمّا النصوص الناهية عن الحلف بالله - تعالى - فكثيرة، منها : ما رواه أبو أيّوب الخزّاز قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : لا تحلفوا بالله لا (3) صادقين و لا

ص: 192


1- . انظر الكشّاف : 1 / 362 ؛ و تفسير البيضاوي : 1 / 511 ؛ و تفسير جوامع الجامع : 1 / 212 ؛ و فقهالقرآن : 2 / 243 ؛ و كنز العرفان : 2 / 119 ؛ و ملاذ الأخيار : 14 / 34 .
2- . آل عمران / 77.
3- . « لا » لم يرد في المصدر .

كاذبين، فإنّه يقول - عزّوجلّ - : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) (1) .

و لا يخفى عليک أنّ تعليله (عليه السلام) للنهي عن الحلف بالآية يقوى المعنى الأوّل، لأنّ تعليله (عليه السلام) بناءً عليه، كما هو واضح .

و منها : ما رواه أبو سلام المتعبّد أنّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لسَدير : يا سدير من حلف بالله كاذبًا كفر، و من حلف بالله صادقًا أثم، إنّ الله - عزّوجلّ - يقول : (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) (2) .

والكلام في التعليل قد مرّ .

و منها : ما رواه وهب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : مَن قال الله يعلم ما لم يعلم اهتزّ له (3) عرشه إعظامًا له (4) .

و منها : ما رواه أبان بن تغلب قال { قال أبو عبد الله (عليه السلام) (5) : إذا قال العبد :«علم الله » و كان كاذبًا، قال الله - عزّوجلّ - : أما وجدت أحدًا تكذب عليه غيري (6) .

و منها : ما رواه عليّ بن الحكم مرسلاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا ادّعي عليک

ص: 193


1- . الكافي : 7 / 434 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 362 ح 4281 ؛ التهذيب : 8 / 282 ح 1033 ؛ الوسائل : 23 / 198ح 29357 .
2- . الكافي : 7 / 435 ح 4 ؛ التهذيب : 8 / 282 ح 1035 ؛ الوسائل : 23 / 199 ح 29358 .
3- . في المصدر : لذلک .
4- . الكافي : 7 / 437 ح 1 ؛ التهذيب : 8 / 283 ح 1038 ؛ الوسائل : 23 / 209 ح 29386 .
5- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
6- . الكافي : 7 / 437 ح 2 ؛ التهذيب : 8 / 283 ح 1039 ؛ الوسائل : 23 / 209 ح 29387 .

مالٌ و لم يكن له عليک شيء فأراد أن يحلّفک، فإنْ بلغ مقدار ثلاثين درهمًا فأعطه و لا تحلف، وإن كان أكثر من ذلک فاحلف و لا تعطه (1) .

و منها : ما رواه في الأمالي عن النبيّ (صلي الله عليه واله) أنّه قال : من حلف على يمين يقطع (2) بها مال أخيه (3) لقي الله - عزّوجلّ - و هو عليه غضبان (4) .

وأمّا ما ورد من النصّ الدالّ على رجحان ترک التحلّف إجلالاً له -سبحانه - فمنه : ما رواه السكونيّ عن مولانا الصادق (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلي الله عليه واله) : من أجلّ الله أن يحلف به أعطاه يوم القيامة خيرًا ممّا ذهب منه (5) .

و في بعض النسخ : خيرًا ممّا يحلف منه .

و منه : ما رواه أبو بصير عنه (عليه السلام) أيضًا أنّه قال : حدّثني أبو جعفر (عليه السلام) : أنّ أباه كانت عنده امرأة من الخوارج أظنّه قال : من بني حنيفة، فقال له مولى له : يابن رسول الله إنّ عندک امرأة تبرّأ من جدّک فقُضي لأبي أنّه طلّقها، فادّعت عليه صداقها، فجاءت به إلى أمير المدينة تستعديه، فقال له أمير المدينة : يا عليّ إمّا أن

ص: 194


1- . الكافي : 7 / 435 ح 6 ؛ التهذيب : 8 / 283 ح 1037 ؛ الوسائل : 23 / 201 ح 29366 .
2- . في أمالي الطوسي (قدس سره) : « من حلف يمينًا يقتطع ». و في أمالي الصدوق (قدس سره) : « من حلف بيمين كاذبة صبرًاليقطع ».
3- . في أمالي الصدوق (قدس سره) : مال امرئ مسلم .
4- . الأمالي، للشيخ الصدوق : 511 ؛ الفقيه : 4 / 7 ؛ الأمالي، للشيخ الطوسي : 358 ح 743 ؛ الوسائل : 23/207 ح 29380 .
5- . الكافي : 7 / 434 ح 2 ؛ الفقيه : 3 / 370 ح 4299 ؛ التهذيب : 8 / 282 ح 1034 ؛ الوسائل : 23 / 198ح 29355 .

تحلف وإمّا أن تعطيها، فقال لي : يا بنيّ قم فأعطها أربعمائة دينار، فقلت له : يا أبه ألست مُحقًّا ؟ قال : بلى ولكنّي أجللت الله - عزّوجلّ - أن أحلف به يمين صبر (1) .

هذا كلّه بالنسبة إلى الحالف، ثمّ ينبغي أن تذكر للمحلف إذا كان مدّعيًا بأنّه ليس لک في يمينه نفع أصلاً، لا في الدين و لا في الدنيا، بل مجرّد اتّباع الهوى والانتقام وإرادة إدخال ضرر على المنكر لا يجبر، و ذلک غير مرضيّ، بخلاف العفو فإنّه حسنٌ بالعقل والنقل .

و يذكر له ما ورد عنهم (عليهم السلام)، كالمرويّ عن عبد الحميد عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال : قال النبيّ (صلي الله عليه واله) : من قدم غريمًا إلى السلطان يستحلفه وهو يعلم أنّه يحلف ثمّ تركه تعظيمًا لله - تعالى - لم يرض الله له بمنزلة يوم القيامة إلّا منزلة إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) (2) .

يجوز الاقتصار في الحلف بلفظ الجلالة

34- مسألة

اشارة

المستفاد من النصوص المتقدّمة جواز الاقتصار في الإحلاف بلفظ الجلالة بأن يقول الحاكم للحالف إذا كان منكرًا قل : « والله ما له قِبلي كذا »، و مدّعيًا قل : «والله لي قبله كذا » ؛ و هكذا، لأنّ الامتثال بالمطلقات يتحقّق بالاتيان على أيّ

ص: 195


1- . الكافي : 7 / 435 ح 5 ؛ التهذيب : 8 / 283 ح 1036 ؛ الوسائل: 23 / 200 ح 29364 .
2- . ثواب الأعمال و عقاب الأعمال : 130 ؛ التهذيب : 6 / 193 ح 419 ؛ الوسائل : 23 / 289 ح 29589 .

فرد كان من أفرادها .

مضافًا إلى ما رواه أبو حمزة في الموثّق عن عليّ بن الحسين (عليهماالسلام) قال: قال رسول الله (صلي الله عليه واله) : لا تحلفوا إلّا بالله، و من حلف بالله فليصدق، و من حلف له بالله فليرض، و من حلف له بالله فلم يرض فليس من الله (1) .

وجه الاستدلال أنّه يصدق على من حلف بما ذكر أنّه حلف بالله، فدلّ الحديث على إجزاء القدر المذكور في الحلف .

و يمكن الاستدلال لذلک أيضًا بما رواه في الفقيه عن قاسم بن محمّد الجوهريّ عن عليّ بن أبي حمزة قال : سألته عمّن قال : « والله » ثمّ لم يف (2) ؟ قال أبو عبدالله (عليه السلام): كفّارته إطعام عشرة مساكين مدًّا مدًّا دقيق، أو حنطة، أو تحرير رقبة، أو صيام ثلاثة أيّام متوالية إذا لم يجد شيئًا (3) .

وجه الاستدلال هو : أنّه (عليه السلام) حكم بالكفّارة بمجرّد قول القائل : « والله »، و هو يستلزم انعقاد الحلف به، لأنّ الكفّارة لليمين فرع انعقادها .

يستحبّ التغليظ في اليمين للحاكم

ثمّ إنّه يجوز للحاكم تغليظ اليمين و تشديدها، بل عن المشهور يستحبّ بالقول

ص: 196


1- . الكافي : 7 / 438 ح 1 ؛ التهذيب : 8 / 284 ح 1040 ؛ الوسائل : 23 / 211 ح 29390 .
2- . في الفقيه : لم يف به .
3- . في الكافي : « إذا لم يجد شيئًا من ذا » . الكافي : 7 / 453 ح 8 ؛ الفقيه : 3 / 363 ح 4285 ؛ الوسائل :22/ 376 ح 28821 .

والمكان والزمان .

والتغليظ بالقول أن يقول للحالف : قل بمثل ما في الصحيح المتضمّن لإحلاف الأخرس، و هو هذا : والله الّذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضارّ النافع المهلک المدرک الّذي يعلم من السرّ ما يعلمه من العلانية .

و بالجملة : ينبغي أن يذكر من أوصافه - تعالى - المشتملة على عظم شأنه والقدرة على الإهلاک في الحال وأنّه قهّار و منتقم شديد العقاب عالم بجميع الأشياء.

و بالمكان بأن يحلفه في المكان الشريف، كالكعبة والمسجد الحرام و غيره من المساجد.

و روي عن قرب الاسناد : أنّ عليًّا (عليه السلام) كان يستحلف اليهود والنصارى في بيعهم و كنائسهم، والمجوس في بيوت نيرانهم، و يقول : شدّدوا عليهم إحتياطًا للمسلمين (1) .

و بالزمان كالجمعة والعيد و بعد الزوال والعصر .

والظاهر أنّ استحباب التغليظ إنّما هو بالنسبة إلى الحاكم، لا بالنسبة إلى الحالف، لما عرفت من النصوص المذكورة النهي عن اليمين، فيعلم منها أنّها مرغوب عنها، فكلّما كانت اليمين أخفّ كان أولى .

ص: 197


1- . قرب الاسناد : 86 ح 284 ؛ و عنه في الوسائل : 23 / 268 ح 29546 .

قال في المسالک :

وجه الاستظهار بالتغليظ أنّه مظنّة رجوع الحالف إلى الحقّ خوفًا من عقوبة العظيم . و على تقدير جرأته عليه كاذبًا مظنّة مؤاخذته، حيث أقدم على الحلف به مع إحضار عظمته و جلالته و انتقامه في الموضع الشريف والزمان الشريف (1) اللذين هما محلّ الاحترام (2) .

ثمّ إنّ استحباب التغليظ باليمين قالوا متحقّق في جميع الحقوق وإن قلّت، إلّا المال، فإنّه لا تغليظ فيه بما دون نصاب القطع، و هو ربع الدينار (3) .

قال في المسالک :

هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب، و ذكروا (4) أنّه مرويّ، و ما وقفت على مستنده، إنتهى (5) .

و لا يجبر الحالف لو امتنع من التغليظ

واعلم : أنّه لو أمره الحاكم بالتغليظ في اليمين، لا يجبر الحالف عليه لو امتنع

ص: 198


1- . في المصدر : والمكان والزمان الشريف .
2- . مسالک الأفهام : 13 / 477 .
3- . انظر المختصر النافع : 274 ؛ والشرائع : 4 / 876 ؛ والتحرير : 5 / 165 ؛ وكفاية الأحكام : 2 / 701 ؛ومجمع الفائدة : 12 / 184 ؛ والرياض : 13 / 122 .
4- . المبسوط : 8 / 203 .
5- . مسالک الأفهام : 13 / 478 .

منه، للأصل و لما عرفت من حصول الحلف بذكر لفظ الجلالة، فيجب الرضاء به لما مرّ من قوله (صلي الله عليه واله) : « مَن حلف بالله فليرض، و مَن لم يرض فليس من الله » (1) .ولكراهة أصل اليمين، فالتغليظ أولى .

قيل :

أمّا في المكان والزمان فيجبر عليهما، فإنّ اليمين حقّ للمدّعي لايحلف إلّا إذا حلّفه، والمستحلف هو الحاكم، فأينما يحلّفه وجب عليه الحلف (2) .

يحلف الأخرس بالإشارة المفهمة لليمين

35- مسألة

اشارة

المشهور بين الأصحاب - على ما صرّح به جمع كثير منهم كصاحب الإيضاح والمسالک والتنقيح والكفاية و كشف اللثام و غيرهم - أنّه يحلف الأخرس بالإشارة المفهمة لليمين ؛ و علّل ذلک جمع منهم بأنّ الشارع جعل إشارته قائمًا مقام كلامه (3) .

ص: 199


1- . الكافي : 7 / 438 ح 1 ؛ التهذيب : 8 / 284 ح 1040 ؛ الوسائل : 23 / 211 ح 29390 .
2- . كشف اللثام : 10 / 116 .
3- . انظر التذكرة : 10 / 222 ؛ والتنقيح : 4 / 257 ؛ والإيضاح : 4 / 336 ؛ و غاية المرام : 4 / 238 ؛والمسالک : 13 / 480 ؛ والمهذّب : 4 / 478 ؛ والكفاية : 2 / 701 ؛ وكشف اللثام : 10 / 117 ؛ والرياض :13 / 123 .

و نقل عن الشيخ في النهاية : أنّه يوضع مع الإشارة يده على اسم الله -تعالى - في المصحف إن كان، و إلّا يكتب اسم من أسمائه - تعالى - فيضع يده عليه (1) .

و عن الوسيلة و الجامع : أنّه يكتب صورة اليمين في لوح و يغسل بالماء، ثمّ يؤمر بشربه بعد إعلامه، فإن شرب كان حالفًا، و إلّا ألزم الحقّ (2) .

و مستند هذا القول ما رواه محمّد بن مسلم في الصحيح عن مولانا الصادق 7 حيث سأله عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين و لم يكن للمدّعي بيّنة ؟ فقال: إنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) أتي بأخرس وادّعى عليه دين فأنكر و لم يكن للمدّعي بيّنة، فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الّذي لم يخرجني من الدنيا حتّى بيّنت للأمّة جميع ما تحتاج إليه .

ثمّ قال : إئتوني بمصحف فأتي به، فقال للأخرس : ما هذا ؟ فرفع رأسه إلى السماء و أشار أنّه كتاب الله - عزّوجلّ - ثمّ قال : إئتوني بوليّه، فأتي بأخ له فأقعده إلى جنبه، ثمّ قال : يا قنبر عَلَيَّ بدواة و صحيفة، فأتاه بهما، ثمّ قال لأخي الأخرس : قل لأخيک : هذا بينک و بينه هو عليّ (3) ، فتقدّم إليه بذلک .

ثمّ كتب أميرالمؤمنين (عليه السلام) : والله الّذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة

ص: 200


1- . النهاية : 2 / 79 .
2- . الوسيلة : 228 ؛ الجامع للشرائع : 524 .
3- . « هو عليّ » لم يرد في التهذيب ؛ و في الفقيه : أنّه عليّ .

الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضارّ النافع المهلک المدرک الّذي يعلم السرّ والعلانية، إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان - أعني الأخرس - حقّ و لا طلبة بوجه من الوجوه و لا سبب من الأسباب ؛ ثمّ غسله و أمر الأخرس أن يشربه، فامتنع، فألزمه الدين (1) .

و عن ابن إدريس أنّه أجاب عن الصحيحة بحمله على أخرس لا يكون له إشارة مفهومة (2) .

و فيه نظر، لأنّ استفهامه (عليه السلام) بالإشارة إلى المصحف بأنّه ما هذا ؟ و إشارته إلى أنّه كتاب الله - تعالى - برفع رأسه إلى السماء، ينافيه .

و ربما أجيب عنه (3) أيضًا : بأنّها قضيّة في واقعة، فلا تكون عامّة، لاحتمال كون الحلف فيها بشرب المكتوب بعد الحلف بالإشارة، و يكون ذلک من باب التغليظ، كما فعل (عليه السلام) في اليمين (4) المكتوبة .

و فيه أيضًا نظر، أمّا أوّلاً : فلأنّ سؤال الراوي بأنّ الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين ؟ و قوله (عليه السلام): « الحمد لله الّذي لم يخرجني من الدنيا حتّى بيّنت » ينافيه، لأنّ الراوي سأل عن أصل حلف الأخرس، لا عن التغليظ في الحلف، وجوابه (عليه السلام) محمولٌ على ذلک .

ص: 201


1- . الفقيه : 3 / 112 ح 3432 ؛ التهذيب : 6 / 319 ح 879 ؛ الوسائل : 27 / 302 ح 33799 .
2- . السرائر : 2 / 163 ؛ و فيه : لا يكون له كناية معقولة و لا إشارة مفهومة .
3- . المجيب هو أستاذ المؤلّف (قدس سره)، يعني العلّامة السيّد عليّ الطباطبائيّ (رحمه الله) في الرياض : 13 / 125 .
4- . في المصدر : كما فعله (عليه السلام) في يمين .

وأمّا ثانيًا : فلأنّ قوله (عليه السلام) : « حتّى بيّنت لهم جميع ما نحتاج إليه »لايساعد ذلک أيضًا، لأنّ التغليظ في الحلف ليس بأمر يحتاج إليه الأمّة، لأنّ الظاهر أنّ ذلک إنّما يقال لشيء إذا كان ضرورًا بحيث يتوقّف حصول المال عليه، إذ المتبادر من لفظ الحاجة والاحتياج ذلک، و هو في تغليظ الحلف مفقود، لما عرفت سابقًا من أنّ الواجب المتوقّف عليه الحقّ هو الحلف، لا التغليظ .

وأمّا ثالثًا : فلأنّ الظاهر أنّ أصحابنا متّفقون على أنّه لو امتنع الحالف من التغليظ لم يجبر عليه كما عرفت و لا يكون بسببه ناكلاً، فعلى هذا قوله : « و أمر الأخرس أن يشربه فامتنع فألزمه الدين » قرينةٌ واضحة و بيّنة لائحة على بطلان هذا الاحتمال، لأنّ أمره (عليه السلام) بشرب ماء اليمين لو كان بعد الإشارة الّتي حصل بها أصل الحلف و كان المقصود منه التغليظ، لما ألزمه (عليه السلام) الدين بسبب الامتناع لما عرفت.

و بالجملة : القول بأنّ وقائع الأحوال إذا تطرّق إليها الاحتمال لا يجوز بها الاستدلال، إنّما هو إذا جاز إرادة ذلک المحتمل منها، و قد عرفت عدم جواز إرادته هنا .

فعلى هذا نقول : إنّ طرح الحديث مع صحّته و وضوح دلالته و عدم انعقاد الإجماع على خلافه مع فقد المعارض له أمرٌ مشكل، إذ لم نجد للقولين الآخرين مستندًا يعارض ذلک .

نعم، مستند القول الأوّل هو الأصل، و معلوم أنّ حجّيّته مشروطة بفقد دليل خاصّ و قد عرفته .

ص: 202

و مع ذلک كلّه لا محيص عمّا عليه المشهور، لأنّ الأصل والعمومات المعتضدة بالمشهور لا يرفع اليد عنهما بمجرّد وجود خاصّ سيّما في المقام، لأنّا لم نجد قائلاً صريحًا بذلک بعد زمان ابن حمزة و صاحب الجامع، والحقّ حجّيّته اتّفاق أهل عصر واحد، فضلاً عن الزائد .

نعم، قد نفى البعد عن هذا القول الفاضل المقداد في شرح النافع قائلاً : بأنّ الإشارة لا تنافيه، بل هذا من أحد جزئيّاتها (1) .

فنفيه البعد عن هذا بناءً منه على كونه من أحد أفراد الإشارة، فيدخل في القول المشهور، لا أنّه قول سواه، كما هو الظاهر من الناقلين هذا القول حيث ذكروه منفردًا عنه و مقابلاً له ؛ و مقتضى ذلک كونه قولاً غير القولين الآخرين، أي تعيّن كون الحلف في الأخرس بكتابة صورة اليمين في اللوح و غسلها ثمّ الشرب، لا أنّه من أحد أفراد الإشارة، وإن كانت العبارة المنقولة عن ابن حمزة في الإيضاح (2) غير مقيّدة للتعيين .

و كيف كان، فالقول المشهور أقوى، لكنّ الجمع بينه و بين هذا القول أحوط بأن يحلّف الأخرس بالإشارة، ثمّ بما في الصحيح .

هذا بالنسبة إلى الحاكم، و أمّا بالنسبة إليه فالحلف بالإشارة و ترک ما في الرواية أولى، لما عرفت من أنّ اليمين كلّما كانت أخفّ كان أولى بالنسبة إلى الحالف .

ص: 203


1- . التنقيح الرائع : 4 / 259 .
2- . أنظر إيضاح الفوائد : 4 / 337 ؛ والوسيلة : 238.

والجواب عن القول الثاني هو : أنّه مع شذوذه مخالف للأصل و غير واضح المستند.

إذا عرفت أنّ الحقّ في المسألة كون حلف الأخرس بالإشارة، فاعلم : أنّ نكوله يعرف بترک الإشارة مع التمكّن منها إن يظهر لتركها موجب، و هناک يحكم عليه بالنكول على ما مرّ سابقًا .

لا يحلف أحد إلّا في حضور الحاكم

36- مسألة

اشارة

المعروف بين الأصحاب من غير خلاف يظهر أنّه لا يحلّف الحاكم أحدًا إلّا في حضوره للأصل .

بيانه هو : أنّ كلّ ما يترتّب على الحلف شيء حادث مقطوع بالعدم، فترتّب ما يترتّب على الحلف خلاف الأصل ؛ والواجب فيما خالف الأصل الاقتصار على المتيقّن، و هو ما إذا كان الحلف في حضور الحاكم، لا غيره .

إن قيل : إنّ الأصل بالعكس، لإطلاق الأدلّة الدالّة على سقوط الحقّ بالحلف وتقييدها فيما إذا كان الحلف حضور الحاكم خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلّا بدليل و ليس فليس، فلا بأس بذكر جملة من النصوص المتعلّقة بتلک المسألة حتّى يظهر لک حقيقة الحال .

فأقول : منها : صحيحة ابن أبي يعفور عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه قال : إذا رضي

ص: 204

صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهب (1) اليمين بحقّ المدّعي، الحديث (2) .

و قريب منها رواية النخعيّ (3) ، و قد تقدّمت .

وجه الاستدلال هو : أنّه (عليه السلام) حكم بسقوط الحقّ بالحلف بمجرّد رضاءالمدّعي، و هو أعمّ من أن يكون الحلف المرضيّ به حضور الحاكم أم لا، فينبغي اشتراكهما في الحكم .

و بعبارة أخرى : انّه (عليه السلام) جعل مناط سقوط الحقّ رضاء المدّعي، لا غيره ؛ ويعلم منه عدم اعتبار غيره، و منه كون الحلف حضور الحاكم، إذ لو كان هذا معتبرًا أيضًا لذكره (عليه السلام) ، لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة .

قلت : الجواب عنه هو ما تقدّم مرارًا من أنّ انصراف الإطلاق إلى جميع الأفراد مشروط بشرطين، أحدهما : تواطئ الأفراد، والثاني : عدم وروده في مقام بيان حكم الآخر ؛ و وجودهما فيما نحن فيه غير مسلّم .

أمّا الأوّل منهما فلأنّ الغالب المتبادر المتعارف في الحلف أن يكون عند الحاكم، فينصرف إليه الإطلاق .

ص: 205


1- . في الكافي : ذهبت .
2- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 61 ح 3340 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 565 ؛ الوسائل : 27 / 245 ح33689 .
3- . هي ما رواه خضر النخعيّ عن مولانا الصادق (عليه السلام) : في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال :إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئًا، و إن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه ( الكافي : 7 / 418 ح 2 ؛ الفقيه :3/ 185 ح 3695 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 566 ؛ الوسائل : 27 / 246 ح 33601 ).

وأمّا الثاني فلأنّ الظاهر من سياق الحديثين و غيرهما من النصوص في المسألة هو أنّها سيقت لأجل عدم جواز المطالبة بعد الحلف الّذي صدر على وفق المشروع، لا أنّ المراد منها سقوط الحقّ بعد أيّ حلف كان و لو لم يكن عند الحاكم، فيبقى المطلق بالنسبة إلى ما نحن فيه مجملاً، و مع الإجمال لا يمكن رفع اليد عن الأصل المتيقّن المتقدّم .

نعم، ربما يقال : إنّ هذا الجواب إنّما يصحّ بالنسبة إلى النصوص المطلقة في تلک المسألة، لا بالنسبة إلى جميعها، إذ بعض منها عامّ من جهة ترک الاستفصال، كرواية عبد الحميد المتقدّمة عن بعض أصحابه : في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، فيحلف ؛ إلى أن قال : أعليه شيء ؟ قال : ليس عليه أن يطلب منه (1) .

وجه الاستدلال هو : انّه (عليه السلام) قال : ليس عليه أن يطلب منه، و لم يستفصل بين وقوع الحلف حضور الحاكم و غيره ؛ و ترک الاستفصال في مقام السؤال مع قيام الاحتمال يفيد عموم الحكم في المقال، لكن ضعف الخبر كفانا عن تجشّم الجواب عنه ؛ و بالجملة : جميع ما ذكر غير موجب للخروج عن مقتضى الأصل .

و كيف عمّا عليه الأصحاب على ما عرفت من أنّ الظاهر عدم الخلاف بين الأصحاب في المسألة، و هو الظاهر من المقدّس الأردبيليّ و غيره أيضًا (2) ، حيث قال الأوّل عند ذكر الدليل للحكم :

ص: 206


1- . الكافي : 7 / 418 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 232 ح 567 ؛ الوسائل : 23 / 285 ح 29582 .
2- . انظر كفاية الأحكام : 2 / 703 ؛ و رياض المسائل : 13 / 125 .

و لعلّه { ما شرحناه } (1) أنّه من تتمّة الحكم، و لا حكم لغيره، إذ هو العالم بالكيفيّة لا غير، أو الإجماع، أو تبادر ذلک إلى الفهم من الاستحلاف في الروايات والعبارات، فتأمّل ؛ و بالجملة قد تقرّر عندهم عدم جواز الإحلاف إلّا للحاكم، إنتهى (2) .

تنبيهٌ

اختلفت كلمات الأصحاب في التعبير عن المسألة، قال في الشرائع :

لايستحلف الحاكم أحدًا إلّا في مجلس قضائه (3) .

و مثله في القواعد، إلّا أنّه قال :

إلّا في مجلس حكمه (4) .

قال في الإرشاد :

لا يستحلف أحد إلّا في مجلس الحكم (5) .

و هكذا، والظاهر أنّ مرادهم ما ذكرناه من أنّه لا يحلّف الحاكم أحدًا إلّا عند حضوره، سواء كان موضع الإحلاف موضع قضاء الحاكم، أم لا، فيجوز له

ص: 207


1- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
2- . مجمع الفائدة : 12 / 188.
3- . شرائع الإسلام : 4 / 877 .
4- . القواعد : 3 / 444 .
5- . إرشاد الأذهان : 2 / 146 .

الإحلاف في غير موضع الحكم، لأنّ المعتبر حضور الحاكم، لا كون الإحلاف في خصوص مجلس القضاء ؛ ولمّا كان الغالب أنّ الإحلاف إنّما هو في مجلس القضاء، عبّروا بما ترى .

فالظاهر أنّ مراد المحقّق من عبارة الشرائع : « انّه لا يستحلف الحاكم أحدًا إلّا في موضع قضائه » (1) ، أنّه لا يجوز أن يستحلف المنكر مثلاً و هو ليس في حضوره، لا أنّ الواجب كون الاستحلاف في خصوص مجلس القضاء .

و كذا الكلام في عبارة القواعد .

و أمّا عبارة الإرشاد فكذلک أيضًا وإن كانت تصدق فيما إذا حلف غير الحاكم في مجلس الحكم و توهّم عدم جواز استحلاف الحاكم في غير مجلس الحكم و لو مع حضوره .

فالظاهر أنّ مرادهم ما مرّ من أنّ المعتبر في حالة الإحلاف حضور الحاكم وإن لم يكن مجلس الحكم بأن يحكم في موضع و يحلف في موضع آخر، لما مرّ ؛ ولأنّهم قالوا في اليمين المغلظة باستحبابها في الأمكنة الشريفة - كالمساجد والمشاهد المتبرّكة - مع كراهة جعلها مجلسًا للقضاء، فلا يحتاج إلى تخصيص الحكم، و هو عدم جواز الإحلاف إلّا في مجلس الحكم في غير اليمين المغلظة، أو حمل النهي على الكراهة كما فعله بعض الأجلّة (2) .

ص: 208


1- . شرائع الإسلام : 4 / 877 .
2- . انظر مجمع الفائدة : 12 / 187 .

ثمّ لا يخفى أنّ ما قلنا من عدم جواز الإحلاف إلّا عند حضور الحاكم إنّما هو مع الإمكان، وأمّا إذا لم يمكن، كأن يكون الحالف ذا عذر، كالمرض المانع من حضوره عند الحاكم، أو إذا كان مرأة غير برزة، أي ليس من شأنها البروز عند الرجال و يكون ذلک نقصًا في حقّها و عيبًا عليها ؛ و بالجملة كلّ عذرٍ لا يمكن معه الحضور عند الحاكم، أو يشقّ معه ذلک، فإنّ الحاكم حينئذٍ يستنيب واحدًا لإحلافه في موضعه، للأدلّة الدالّة على نفي العسر والحرج في الدين من الكتاب و السنّة والعقل.

و هل يجب على الحاكم حينئذٍ الذهاب إلى ذوي الأعذار لتحقّق الحلف في حضوره ؟

مال إلى ذلک المقدّس الأردبيليّ (1) إذا لم يجعل ذلک نقصًا له و مسقطًا محلّه عند الناس .

و ردّ بأنّه مع مخالفته لإطلاق الفتاوي يوجب فتح باب لإلقاء الحاكم في ضيق وشدّة منفيّة في الشريعة، مع عدم كونه معهودًا في الأعصار السابقة واللاحقة عند أحد من حكّام الخاصّة والعامّة، وإلّا أشتهر (2) .

و لقائل أن يقول بأنّه إن ثبت إجماع فهو، و إلّا ما ذكر أوّلاً من أنّه يوجب فتح باب لإلقاء الحاكم في ضيق و شدّة منفيّة في الشريعة لايصير دليلاً على المنع

ص: 209


1- . مجمع الفائدة : 12 / 188.
2- . رياض المسائل : 13 / 126 و 127 .

مطلقًا، بل إذا استلزم الإلقاء في الضيق والشدّة فيتبع ذلک، والقائل لا يقول بذلک حينئذٍ أيضًا، كما هو واضح .

{ شرط اليمين أن تطابق الإنكار والدعوى }

37- مسألة

اشارة

قال في القواعد :

و شرط اليمين أن تطابق الإنكار و (1) الدعوى (2) .

أي : اليمين إذا كانت من المنكر شرطها مطابقتها لإنكاره في العموم والخصوص والنفي والإيجاب ؛ و إذا كانت من المدّعي شرطها مطابقتها لما ادّعاه كذلک .

توضيحه هو : أنّه لو كان إنكاره أنّه ما اقترض، أو ما غصب بعد ادّعاء الاقتراض أو الغصب عليه، حلف على أنّه ما اقترض أو ما غصب ؛ و كذا لو ادّعى أنّ له عليه كتابًا مثلاً، بناءً على ما مرّ من سماع الدعوى المجهولة و يحلف بأنّه ليس له كتاب عليه، لا أن يحلف أنّه ليس له عليه الكتاب الفلانيّ، لاحتمال أن يكون غيره .

ص: 210


1- . في المصدر : أو .
2- . القواعد : 3 / 444 .

والثاني مسلّم، أي : لزوم كون اليمين مطابقة للإنكار إذا كان عامًّا، لأنّ نفي الأخصّ لا يستلزم نفي الأعمّ ؛ و أمّا الأوّل - أي : لزوم كون اليمين مطابقة للإنكار الخاصّ - فغير مسلّم، بل يكفي فيما أنكر الاقتراض مثلاً أن يحلف على انّه لا حقّ عليه للمدّعي، لأنّ نفي العامّ يستلزم نفي الخاصّ (1) .

هذا في المنكر، و أمّا يمين المدّعي كما إذا ردّت عليه، فشرطها أيضًا مطابقتها لما ادّعاه على ما ذكره ؛ فلو كان دعواه شيئًا خاصًّا - كما إذا ادّعى أنّ له عليه عشرة تومان مثلاً - يجب عند ردّ الحلف أن يحلف على ذلک بخصوصه، لا أن يحلفه أنّ له عليه حقًّا ؛ و ذلک واضح، لأنّ الحقّ يصدق بتومان و أقلّ منه، فلايستلزم كون الحقّ له عليه استحقاقه لعشرة تومان .

وأمّا إذا كان دعواه بالعموم - كما إذا ادّعى أنّ له عليه كتابًا مثلاً - ينبغي أن يحلف عند الردّ على العموم أيضًا .

و فيه نظر، لأنّه يجوز أن يكون له عليه كتاب خاصّ و أبرز دعواه أوّلاً بصورة العامّ، لعدم اشتراط كون المدّعى به محرزًا في سماع الدعوى، أو لاحتمال أنّه ما كان أوّلاً بباله، ثمّ جاء ؛ و لأنّ المعتبر حلفه، فكلّما تعلّق به يستحقّه .

و يحتمل أن يكون قوله : « و شرط اليمين أن تطابق الإنكار أو الدعوى » بالنسبة إلى يمين المنكر، لا المدّعي ؛ و معناه حينئذٍ هو : أنّ المعتبر في يمين المنكر مطابقتها إمّا لإنكاره، أو لدعوى المدّعي ؛ و يكون المراد بالمطابقة المطابقة

ص: 211


1- . لاحظ البحث في كشف اللثام : 10 / 119 .

في العموم والخصوص، لا في النفي والإيجاب، أمّا مطابقتها للإنكار بالعموم والخصوص فقد مرّ المثال في ذلک .

و يرد على هذا أيضًا ما مرّ من أنّ الإنكار لو كان خاصًّا لم يجب مطابقة اليمين معه، بل يجوز اليمين بالعموم، لأنّ نفي العامّ يستلزم نفي الخاصّ .

و قوله : « أو الدعوى »، يعني : أنّ شرط اليمين أحد الأمرين، إمّا مطابقتها لإنكار المنكر كما مرّ، أو للدعوى، كما إذا كانت الدعوى أخصّ من الإنكار، كأن ادّعى الاقتراض عليه وأنكر أن يكون عليه حقّ ؛ و حينئذٍ ما يجب مطابقة اليمين للإنكار في العموم، بل يجوز مطابقتها للدعوى، فله أن يحلف بأنّه ما اقترض، كما يجوز جعلها مطابقة للإنكار الأعمّ حينئذٍ أيضًا .

و هذا المعنى أنسب بالنسبة إلى الإتيان بأو حيث قال : « أو الدعوى ».

ص: 212

فصلٌ

في الحالف

يشترط في الحالف أن يكون مكلّفًا

يشترط في الحالف أن يكون مكلّفًا حين الحلف، فلا اعتبار بيمين الصبيّ والمجنون والسكران والمغمى عليه والنائم والغافل والمضطرّ (1) .

وجه الجميع واضح، لأنّ الحلف هو الّذي يسقط بمجرّده حقّ المدّعي ولو كانت عنده بيّنة، كما عرفت سابقًا ؛ و معلوم أنّ الحكم بسقوط ذلک موقوفٌ على كون الحالف ممّن يعتبر كلامه و إقراره، إذ مع عدم الاعتبار كلّما تنطق به يكون لغوًا، فكيف يجوز سقوط الحقّ معه ؟ و عدم اعتبار كلام هؤلاء بيّن .

و أيضًا الشارع جعل اليمين مسقطة للحقّ بناءً على أنّ ما فيها من العقاب وسوء العاقبة كما عرفت سابقًا من النصوص المستفيضة من حيث انّ المطّلع بذلک لايتجرّي على الحلف من دون حقّ و هؤلاء ليس عليهم تكليف، فليس عليهم بالحلف عقاب و لا سوء عاقبة .

ص: 213


1- . لاحظ البحث في الشرائع : 3 / 713 ؛ والقواعد : 3 / 444 ؛ و كشف اللثام : 10 / 119 .

و بالجملة : المسألة من أوضح الواضحات، فلا يحتاج إلى تجشّم الاستدلال .

و كذا يعتبر في الحالف للاعتبار بحلفه توجّه دعوى صحيحة عليه، فلو توجّه إليه دعوى غير صحيحة فحلف، لا اعتبار به ؛ كما إذا ادّعى عليه أنّ المال الّذي في يده أنّه لعمرو من غير ثبوت الولاية للمدّعي، فأحلف، فلا اعتبار بهذا الحلف، بل وجوده كعدمه، فيجوز لعمرو أن يدّعيه ثانيًا، فإن أقام البيّنة يأخذه، و إلّا أحلفه ثانيًا.

لا يحلف المنكر في حدود الله تعالى

38- مسألة

اشارة

و ممّا لا يحلف المنكر أيضًا هو ما إذا كان متعلّق الدعوى حدودًا، كحدّ الزنا وشرب الخمر و غيرهما ؛ و بالجملة : ما لا يستحقّ المدّعي موجب الدعوى فيه ؛ ولهذا لا تسمع الدعوى فيه مجرّدة عن البيّنة بلا خلاف أعرف بين الأصحاب، كما في الكفاية (1) .

و لأنّ مستحقّه - و هو الله سبحانه - أمر بالستر والإخفاء والكفّ عن الجدّ والجهد في إظهار معايب الناس .

ص: 214


1- . كفاية الأحكام : 2 / 707 .

و لأنّ ترتّب الأحكام المذكورة سابقًا على الحلف خلاف الأصل، يجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن، و هو في حقوق الناس، لا في حقوق الله تعالى .

و لأنّ الشارع جعل لمدّعيه من غير بيّنة عقوبة، فلو جاز فيه حلف المنكر لَما كان الأمر كذلک .

و للنصوص، منها : المرسل بابن أبي عمير المرويّ في التهذيب في كتاب الحدود في باب الحدّ في الفرية، باسناده عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : جاء رجل إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) برجل و قال : يا أمير المؤمنين هذا قذفني، فقال له : ألک بيّنة ؟ فقال: لا ولكن استحلفه، فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : لا يمين في حدّ (1) .

و رواه في الكافي (2) في كتاب الحدود بسند آخر فيه سهل، عن ابن أبي نصر البزنطيّ، و هو أرسله، لكن للمرويّ فيه نوع مخالفة لما ذكر من التهذيب، وسنذكره .

و روي في التهذيب في أواخر باب الزيادات من كتاب الحدود : أنّ رجلاً استعدى عليًّا (عليه السلام)على رجل فقال : إنّه افترى عليّ، فقال (عليه السلام) للرجل : فعلت (3) ما فعلت ؟ فقال : لا، فقال (عليه السلام) للمستعدي : ألَکَ بيّنة ؟ قال : فقال : ما لي بيّنة، فأحلفه

ص: 215


1- . التهذيب : 10 / 79 ح 310 ؛ الوسائل : 28 / 46 ح 34176 ؛ و للحديث تتمّة، و هي : « و لا قصاص فيعظم ».
2- . الكافي : 7 / 255 ح 1 .
3- . في المصدر : أفعلت .

لي، فقال (عليه السلام) : ما عليه يمين (1) .

و يمكن الاستدلال في المسألة بالنصوص المستفيضة الدالّة على عدم إقامة الحدود إلّا بالبيّنة، منها : ما رواه أبو بصير عن مولانا الصادق (عليه السلام) أنّه : لا يرجم الرجل و المرأة حتّى تشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع والإيلاج والإدخال كالميل في المكحلة (2) .

و منها : ما رواه محمّد بن قيس عن مولانا الباقر (عليه السلام) أنّه قال : قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : لا يرجم الرجل و لا المرأة حتّى يشهد عليه أربعة شهود على الإيلاج والإخراج (3) .

و غيرهما، فإنّ النصوص في ذلک كثيرة .

وجه الاستدلال هو : أنّهم (عليهم السلام) جعلوا طريق إقامة الحدّ منحصرًا في البيّنة كما عرفت، فيعلم منه عدم إقامة الحدّ باليمين ؛ إذ لو جاز إقامة الحدّ باليمين، لَما كان طريق إقامته منحصرًا في البيّنة، و قد عرفت انحصارها بذلک .

و بالجملة : المسألة ممّا لا كلام فيها .

ص: 216


1- . التهذيب : 6 / 314 ح 868 ؛ الوسائل : 27 / 299 ح 33791 .
2- . الكافي : 7 / 184 ح 4 ؛ التهذيب : 10 / 2 ح 1 ؛ الاستبصار : 4 / 217 ح 812 ؛ الوسائل : 28 / 95 ح34307 .
3- . الكافي : 7 / 183 ح 2 ؛ الفقيه : 4 / 24 ح 4991 ؛ التهذيب : 10 / 2 ح 3 ؛ الاستبصار : 4 / 217 ح814؛ الوسائل : 28 / 409 ح 34077 .

في حدّ القذف هل يحلف المنكر أم لا ؟

لكن وقع الخلاف بين الأصحاب فيما لو كان الحدّ مشتركًا بين كونه من حقوق الله - سبحانه - و كونه من حقّ الآدميّ، كحدّ القذف، فعن الشيخ في المبسوط أنّه لو قذفه و لا بيّنة له تسمع ترجيحًا لجانب حقّ الآدميّ، قال :

فإن ادّعى عليه أنّه زنى لزمه الإجابة عن دعواه واستحلف (1) على ذلک،فإن حلف سقطت الدعوى و يلزم القاذف الحدّ، وإن لم يحلف ردّت اليمين فيحلف و يثبت الزنا في حقّه و يقسط عنه حدّ القذف، و لا يحكم على المدّعى عليه بحدّ الزنا، لأنّ ذلک حقّ لله - تعالى - محض، و حقوق الله المحضة لا يسمع فيها الدعوى، و لا يحكم فيها بالنكول و ردّ اليمين، إنتهى (2) .

والمحكيّ عن الأكثر عدم السماع هنا أيضًا كما في حقوق الله - تعالى - و هو الظاهر لقوله (عليه السلام) في المرسل المتقدّم بناءً على ما في الكافي، و هو أنّه أتى رجل أميرالمؤمنين (عليه السلام)برجلٍ فقال : هذا قذفني و لم يكن له بيّنة، فقال : يا أميرالمؤمنين استحلفه، فقال (عليه السلام): لا يمين في حدّ (3) .

ص: 217


1- . في المصدر : و يستحلف .
2- . المبسوط : 8 / 216 .
3- . الكافي : 7 / 255 ح 1 ؛ التهذيب : 10 / 79 ح 310 ؛ الوسائل : 28 / 46 ح 34176 ؛ و للحديث تتمّة،وهي : « و لا قصاص في عظم ».

وجه الاستدلال هو : أنّ الظاهر أنّ فاعل قوله : « فقال يا أميرالمؤمنين » هو الرجل القاذف، لأنّ الرجل المقذوف لمّا قال له (عليه السلام) : إنّ الرجل قذفه، مع أنّه لا بيّنة له، فأراد حدّه و هو خاف من ذلک، فقال له (عليه السلام) : استحلفه، أي : على أنّه لم يفعل ذلک، و لعلّه هو كان يدري بأنّه لا يحلف لفعله ذلک ؛ و حينئذٍ إمّا ينكل أو يردّ، وعلى التقديرين لا يلزمه حدّ المفتري، فقال (عليه السلام): « لا يمين في حدّ ».

و على هذا، الحديثُ صريحٌ في الردّ على الشيخ، و دلالته على ما تقدّم من أنّه لايحلف المنكر في حقوق الله - تعالى - من وجهين، أحدهما : من جهة العموم، فإنّ قوله (عليه السلام) : « لا يمين في حدّ » عامّ، لأنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم ؛ و معلوم أنّ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص المحلّ .

والثاني : من جهة الأولويّة، لأنّه لو لم يستحلف في حدّ يشترک فيه حقّ الله -تعالى - والآدميّ، فعدم الاستحلاف في حقوقه المختصّة به - سبحانه - بطريق أولى .

هذا مضافًا إلى قوله - جلّ شأنه - : ( والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) (1) ، فإنّه - سبحانه - ألزم الحدّ على القاذف بمجرّد القذف إذا لم يأت بالبيّنة، فلو كان اليمين على المنكِر للزنا - أي المقذوف - لَما كان كذلک، بل كان الحدّ موقوفًا على يمينه، فإن حلف فثبت، وإلّا فلا ؛ وبمضمونه نطقت السنّة أيضًا .

ص: 218


1- . النور : 4 .

فالمستفاد منهما لزوم الحدّ على القاذف بمجرّد القذف، و تقييدهما فيما إذا حلف المقذوف خلاف الأصل .

هذا مع أنّ هذا القول لم ينقلوا إلّا من الشيخ، فيكون نادرًا، فلا يلتفت إليه .

نعم، واستحسن الشهيد في الدروس ما ذهب إليه الشيخ من تعلّقه بحقّ الآدميّ و حمل نفي اليمين { في الخبر } (1) على ما إذا لم يتعلّق بحقّه (2) .

و فيه : انّ هذا تخصيص للدليل من غير مخصّص .

إن قيل : إنّ المخصّص هو ما مرّ سابقًا من الأدلّة الدالّة على أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، و هو أعمّ من أن يكون المنكر منكرًا لحقّ الله -تعالى - أو حقّ الآدميّ، أو لهما، و خصّصناه بغير الأوّل لعمل الأصحاب والخبر، و أمّا غيره فالأصل بقاؤه، فيقيّد به إطلاق الخبر .

قلنا : على تقدير تسليم شمول تلک الأدلّة لمحلّ النزاع و عدم تبادر غيره منها نقول : إنّ ما ذكر إنّما يصحّ إذا كان التعارض بينهما من قبيل تعارض العامّ والخاصّ بأن يكون تلک الأدلّة خاصّة والخبر المذكور هنا عامًّا، و هو غير مسلّم .

و كيف ؟! مع أنّ الأمر بالعكس، لأنّ تلک الأدلّة - كما مرّ - أعمّ من أن يكون الإنكار لحقّ الله - سبحانه - أو لحقّ الآدميّ أو لهما ؛ و على الثالث أعمّ من أن يتعلّق الإنكار بحقّ الله فقط، أو بحقّ الآدميّ، والخبر ورد على أنّه لا يمين فيما إذا

ص: 219


1- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
2- . الدروس : 2 / 93.

يتعلّق الإنكار بحقّهما، سواء تعلّق الإنكار بحقّ الله - تعالى - فقط، أو بحقّ الآدميّ، فيجب العمل به، لوجوب حمل العامّ على الخاصّ .

هذا مع أنّ الخبر - على ما فهمناه و قد سبق ذكره - صريحٌ فيما نحن فيه، فلاإشكال في المسألة بحمد الله - سبحانه .

لو ادّعي على العبد فهل الغريم هو أو مولاه ؟

39- مسألة

اشارة

لو ادّعي على العبد، فهل الغريم هو، أو مولاه ؟

فيه خلافٌ بين الأصحاب، ففي الشرائع :

إذا ادّعي على المملوک فالغريم مولاه، و يستوي في ذلک دعوى المال والجناية (1) .

و نحن نكتفي في المقام بذكر كلام المسالک، فأقول : قال فيه بعد كلام المحقّق المذكور :

مقتضى كون الغريم مولى العبد في الدعوى عليه ] مطلقًا [ (2) قبول قوله عليه لو أقرّ بموجب الدعوى، و توجّه اليمين عليه لو أنكر، وأنّ العبد لا عبرة بإقراره و لا بإنكاره .

ص: 220


1- . الشرائع : 4 / 879 .
2- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .

والأمر ليس كذلک مطلقًا، بل إقرار العبد معتبرٌ بالنسبة إلى اتباعه بمقتضاه بعد العتق، كما سلف في باب الإقرار، و يلغى (1) عاجلاً، لكونه

إقرارًا في حقّ الغير .

وإقرار المولى في حقّه بالمال مقبول مطلقًا، فيدفعه فيه، أو يفكّه بمقداره، إذ لا يتوجّه على العبد بذلک ضرر، بل هو إقرار من المولى في حقّ نفسه محضًا ؛ و كذا إقراره في حقّه بالجناية الموجبة للمال .

ولو أوجبت القصاص لم تقبل في حقّ العبد بالنسبة إلى القصاص، لكن يتسلّط المجني عليه منه بقدرها ؛ و يلزم من هذا أنّ غريم الدعوى عليه متعلّق بالمولى والعبد معًا ؛ وأنّ اليمين تتوجّه على العبد لو أنكر موجب الدعوى، لأنّه لو أقرّ لزم على بعض الوجوه، و هو قاعدة سماع الدعوى على الشخص .

فعلى (2) هذا فلا يشترط في الدعوى عليه حضور المولى، وإنّما يعتبر حضوره بالنسبة إلى ما يتعلّق به من ذلک . و قد اختلفت عبارات الأصحاب في حقّه بسبب ذلک، فالمصنّف { رحمه الله } (3) أطلق كون الغريم مولاه، و لم يجعل للعبد اعتبارًا .

ص: 221


1- . في المصدر : و ملغى .
2- . في المصدر : و على .
3- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .

و قال الشيخ في المبسوط (1) : إذا كان على العبد حقّ، فإنّه ينظر فإن كان حقًّا يتعلّق ببدنه - كالقصاص و غيره - فالحكم فيه مع العبد دون السيّد، فإن أقرّ به لزمه عند المخالف، و عندنا لا يقبل إقراره، و لا يقتصّ منه مادام مملوكًا، فإن أعتق لزمه ذلک، فإمّا ان أنكر فالقول قوله، فإن حلف سقطت الدعوى، وإن نكل رُدّت اليمين على المدّعي، فيحلف و يحكم بالحقّ (2) .

و مقتضى كلام الشيخ أنّ الغريم في الجناية الموجبة للقصاص العبد مطلقًا، و في موجب المال المولى مطلقًا .

واختلف كلام العلّامة، ففي القواعد (3) جعل الغريم مولاه مطلقًا، لكنّه قرّب توجّه اليمين على العبد، و أنّه مع نكوله عنها تردّ على المدّعي، وتثبت الدعوى في ذمّة العبد يتبع بها إذا أعتق . فخالف حكمها في الموضعين . و مقتضى كون الغريم مولاه أنّه يقبل إقراره إن جعل جواب الدعوى الإقرار، و تلزمه اليمين إن أنكر، لأنّ ذلک هو مقتضى كلام (4)

الغريم الّذي تسمع عليه الدعوى .

ص: 222


1- . المبسوط : 8 / 315 .
2- . في المصدر زيادة : و إن كان حقًّا يتعلّق بالمال - كجناية الخطأ و غير ذلک - فالخصم فيه السيّد، فإن أقرّ بهلزمه، فإن أنكر فالقول قوله، و إن حلف سقطت الدعوى، و إن نكل ردّت اليمين على المدّعي، فيحلفويحكم له بالحقّ .
3- . انظر قواعد الأحكام : 2 / 211 و 212 .
4- . في المصدر : حكم .

و في باب الإقرار (1) حكم بعدم قبول إقرار العبد على نفسه مطلقًا، لكن يتبع بالمال بعد العتق . و حكم بعدم قبول إقرار المولى عليه مطلقًا، لكن في الإقرار عليه بالجناية يجب المال و يتعلّق برقبته .

و في الإرشاد (2) أطلق كون الغريم مولاه، كالمصنّف (3) .

والأقوى أنّ الغريم كلّ واحد من العبد والمولى، فإن وقع النزاع مع العبد فلم ينفذ (4) إقراره معجّلاً مطلقًا، و يثبت بعد العتق مطلقًا، فيتبع بالمال،ويستوفى منه الجناية . فإن أنكر فحلف انتفت عنه الدعوى مطلقًا، وإن ردّها أو نكل أتبع بموجبها بعد العتق كما لو أقرّ، لأنّ النكول أو يمين المدّعي منزّل منزلة إقراره أو منزلة قيام البيّنة عليه ؛ و كلاهما يوجبان ثبوت الحقّ عليه في الجملة، والقدر المتّفق عليه منه كونه بعد العتق، لأنّ قيامه مقام البيّنة و إن أوجب الرجوع معجلاً، إلّا أنّ السبب نشأ من جانب العبد، فلا يتعلّق بحقّ السيّد بمجرّده .

و إن وقع النزاع بينه و بين المولى، سواء كان قد وقع بينه و بين العبد، أم لا، فإن أقر بالمال لزمه مقتضاه معجّلاً في ذمّته، أو متعلّقًا برقبة العبد على حسب موجب الإقرار . وإن أقرّ بالجناية لم يسمع على العبد

ص: 223


1- . انظر قواعد الأحكام : 1 / 278 .
2- . إرشاد الأذهان : 2 / 146 و 147 .
3- . في المصدر زيادة : رحمه الله .
4- . في المصدر : لم ينفذ .

بالنسبة إلى القصاص، لكن يتعلّق برقبة المجني عليه بقدرها، فيملكه المقرّ له إن لم يفده المولى .

و مختار الشهيد في الدروس (1) يناسب ما اخترناه، وإن كانت عبارته لاتخلو من قصور، حيث جعل الغريم المولى كما أطلقه المصنّف، إلّا أنّ تفصيله يرجع إلى ما ذكرناه، لأنّه قال : ولو ادّعي على العبد فالغريم المولى، وإن كانت الدعوى بمال . و لو أقرّ العبد تبع به . و لو كان بجناية واعترف (2) العبد فكذلک ؛ و لو أقرّ المولى خاصّة لم يقتص من العبد،ويملک المجني عليه منه بقدرها . و يلزم من هذا وجوب اليمين على العبد لو أنكر اللزوم، لسماع الدعوى عليه منفردًا (3) .

إنتهى كلامه، ذكرناه وإن كان في بعض المواضع منه نظر .

حلف المدّعي مع اللوث في دعوى الدم

40- مسألة

قد تقدّم جملة من المواضع الّتي يحلف فيها المدّعي، واتّفق الأصحاب في أنّه يحلف المدّعي أيضًا مع اللوث في دعوى الدم .

ص: 224


1- . الدروس: 2 / 87.
2- . في المصدر : و أقرّ .
3- . مسالک الأفهام : 13 / 493 .

والنصوص مع ذلک ناطقة به، منها : ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إنّ الله حكم في دمائكم بغير ما حكم (1) في أموالكم، حكم في أموالكم أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من ادّعي عليه (2) و حكم في دمائكم أنّ البيّنة على من ادّعي عليه واليمين على من ادّعى، لكيلا يبطل دم امرئ مسلم (3) .

و منها : ما رواه بريد بن معاوية عنه (عليه السلام) قال: سألته عن القسامة، فقال: الحقوق كلّها البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، إلّا في الدم خاصّة، فإنّ رسول الله (صلي الله عليه واله) بينما هو بخيبر إذ فقدت الأنصار رجلاً منهم فوجدوه قتيلاً، فقالت الأنصار: إنّ فلانَ اليهوديّ قتل صاحبنا، فقال رسول الله (صلي الله عليه واله) للمطالبين (4) : أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقده (5) برُمّته، فإن لم تجدوا شاهدين فأقيموا قسامة

خمسين رجلاً أقده (6) برمّته .

فقالوا : يا رسول الله ما عندنا شاهدان من غيرنا و إنّا لنكره أن نقسم على ما لم نره، فوداه رسول الله (صلي الله عليه واله) من عنده و قال: إنّما حقن دماء المسلمين بالقسامة لكي إذا (7) رأى الفاجر الفاسق فرصة من عدوّه حجزه مخافة القسامة أن يقتل به، فكفّ

ص: 225


1- . في المصدر : ما حكم به .
2- . في المصدر بدل « من ادّعي عليه » : المدّعى عليه .
3- . الكافي : 7 / 362 ح 6 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 554 ؛ الوسائل : 18 / 171 ح 3 .
4- . في المصدر : للطالبين .
5- . في الكافي : أقيدوه .
6- . في الكافي : أقيدوه .
7- . في الكافي : إذ .

عن قتله، و إلّا حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلناه و لا علمنا قاتلاً (1) .

و منها : ما رواه أبو بصير عنه (عله السلام) أيضًا حيث قال : سألت أبا عبد الله 7 عن القسامة أين كان بدؤها ؟ فقال : كان من قبل رسول الله (صلي الله عليه واله) لمّا كان بعد فتح خيبر تخلّف رجل من الأنصار عن أصحابه، فرجعوا في طلبه، فوجدوه متشحّطًا في دمه قتيلاً، فجاءت الأنصار إلى رسول الله (صلي الله عليه واله)، فقالت : يا رسول الله قتلت اليهود صاحبنا .

إلى أن قال : فقلت له : كيف الحكم فيها ؟ فقال : إنّ الله - عزّوجلّ - حكم في الدماء ما لم يحكم في شيء من حقوق الناس لتعظيمه الدماء، لو أن رجلاً ادّعى على رجلٍ عشرة آلاف درهم، أو أقلّ من ذلک، أو أكثر لم يكن اليمين على المدّعي و كانت اليمين على المدّعى عليه، فإذا ادّعى الرجل على القوم (2) أنّهم قتلوا كانت اليمين لمدّعي الدم قبل المدّعى عليهم، الحديث (3) .

فتأمّل (4) .

ص: 226


1- . الكافي : 7 / 361 ح 4 ؛ التهذيب : 10 / 166 ح 661 ؛ الوسائل : 29 / 152 ح 35362 ؛ و للحديثتتمّة و هي : « و إلّا أغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون ».
2- . في المصدر زيادة : بالدم .
3- . الكافي : 7 / 362 ح 8 ؛ الفقيه : 4 / 100 ح 5179 ؛ التهذيب : 10 / 167 ح 663 ؛ الوسائل : 29 / 156ح 35373 .
4- . جاء في حاشية الأصل : وجهه يظهر للمتأمّل في صدر الحديث و ذيله ؛ منه .

41- مسألة

اشارة

لو ادّعى الصبيّ بلوغه تسمع، لا يطلب بالبيّنة، لأنّ الحقّ بينه و بين الله -تعالى - ولا يعلم إلّا من قبله غالبًا ؛ و لا يحلف على ذلک أيضًا، لما عرفت سابقًا من أنّ الاعتبار باليمين موقوفٌ على كون الحالف بالغًا، فلو كان بلوغه أيضًا موقوفًا على اليمين يلزم الدور .

و كذا يقبل قوله لو ادّعى عدم بلوغه، فلا يحلف حينئذٍ أيضًا، و إلّا يلزم من صحة اليمين فسادها .

و لو أخذ من المشركين، فوجد إنبات الشعر الخشن في العانة وادّعى استنباته بالعلاج لا بنفسه، في الإيضاح (1) :

قال كثير من الفقهاء يحلف، فإن حلف عفي عنه، وإلّا قتل، فقد أقاموا هنا أمارة البلوغ مقامه (2) ، لأنّ الأمارة تفيد الظنّ، و قتل الكافر حدّ،

والحدود مبنيّة على التخفيف، و قد ذكر أمرًا ممكنًا، فيصحّ أن يحلف عليه، فإن لم يحلف عمل معه بما أمر الشارع به في حقّ من أنبت، و هو القتل، إذ المقتضي موجود، و هو الكفر، والأسر قبل وضع الحرب أوزارها، والأمارة الّتي حكم الشارع عندها بالبلوغ موجودة، والمانع منتف، لأنّه اليمين و لم توجد (3) .

ص: 227


1- . إيضاح الفوائد : 4 / 338 .
2- . في المصدر : مقام البلوغ .
3- . في المصدر : و لم يوجد .

و قال الشيخ في المبسوط (1) : القول قوله، فإن حلف حكم بأنّه لم يبلغ ويكون في الذراري، و إن نكل حكمنا بنكوله وإنّه بالغ، فيجعل في المقاتلة . قال : و عندنا أنّ الّذي يقتضيه مذهبنا أنّه يحكم (2) بالبلوغ بلا يمين، لأنّ عموم أخبارنا أنّ الإنبات بلوغ يقتضي ذلک . ثمّ قال : و ما ذكروه قويّ، إنتهى (3) .

أقول : كيف يرضي لحلفه مع أنّه يلزم من صدقه فساده كما عرفت .

المواضع الّتي يقبل فيها قول المدّعي من غير يمين و لا بيّنة

و حيث قد عرفت أنّ الصبيّ يقبل قوله من غير حلف، ينبغي أن نذكر المواضع الّتي تشترک معه في ذلک، أي : يقبل فيها قول المدّعي من غير يمين .

فأقول : الأوّل منها هو : ما لو ادّعى المالک إبدال النصاب في أثناء الحول لينتفي عنه الزكاة ؛ ومثله ما لو ادّعى دفع الزكاة إلى المستحقّ .

والثاني هو : ما لو ادّعى الذمّيّ الإسلام قبل الحول ليتخلّص من الجزية إن أوجبناها على المسلم بعده .

ص: 228


1- . المبسوط : 8 / 313 .
2- . في المصدر : يحكم عليه .
3- . إيضاح الفوائد : 4 / 338 .

والثالث : ما لو ادّعى نقصان الخرص للثمرة و الزرع لينتقص عنه ما قدر (1) عليه من مقدار الزكاة .

فإنّ في هذه المواضع يقبل قول المدّعي من غير يمين بلا خلاف، كما في المسالک (2) .

ثمّ قال فيه :

و وراء هذه المواضع الخمسة ممّا يقبل فيه قول المدّعي مواضع :

أحدها (3) : مدّعي أنّه من أهل الكتاب لتؤخذ منه الجزية .

والثاني : مدّعي تقدّم الإسلام على الزنا بالمسلمة حذرًا من القتل .

والثالث : مدّعي فعل الصلاة والصيام خوفًا من التعزير .

والرابع : مدّعي إبقاء (4) العمل المستأجر عليه إذا كان من الأعمال المشروطة بالبيّنة (5) ، كالاستيجار على الحجّ والصلاة .

والخامس : دعوى الوليّ إخراج ما كلّف به من نفقة و غيرها ؛ و كذا الوكيل فعل ما وكلّ فيه .

و في هذين نظر .

ص: 229


1- . في المصدر : ما قرّر .
2- . المسالک : 13 / 500 .
3- . في المصدر : أحدها : « دعوى البلوغ ... و ثانيها : مدّعي أنّه من أهل الكتاب » .
4- . في المصدر : إيقاع .
5- . في المصدر : بالنيّة .

والسادس : دعوى المعير و مالک الدار لو نازعه المستعير والمستأجر في ملكيّة الكنز على قول مشهور .

والسابع : دعوى ذي الطعام أنّه لم يبقه إلّا لقوته وإن زاد عليه في نفي الاحتكار.

والثامن : قول المدّعي مع نكول خصمه بناءً على القضاء بالنكول .

والتاسع : مدّعي الغلط في إعطاء الزائد عن الحقّ لا التبرّع .

والعاشر : دعوى المحلّلة الإصابة .

والحادي عشر : دعوى المرأة ممّا يتعلّق بالحيض والطهر، كالعدّة .

والثاني عشر : دعوى الظئر أنّه الولد .

والثالث عشر : منكر السرقة بعد إقراره مرَّةً، لا في المال (1) .

والرابع عشر : مدّعي هبة المالک ليسلم من القطع و إن ضمن المال .

والخامس عشر : منكر موجب الرجم الثابت بإقراره .

والسادس عشر : مدّعي الإكراه في الإقرار المذكور .

والسابع عشر : مدّعي الجهالة مع إمكانها في حقّه .

والثامن عشر : مدّعي الاضطرار في الكون مع الأجنبيّ مجرّدين .

ص: 230


1- . جاء في حاشية الأصل : أقول : و في جعل الثالث عشر والخامس عشر والتاسع عشر من عنوان المسألة-أي ممّا يقبل فيه قول المدّعي من غير يمين - لا يخفى ما فيه ؛ منه .

والتاسع عشر : منكر القذف بناءً على عدم سماع دعوى مدّعيه .

والعشرون : مدّعي ردّ الوديعة على القول المشهور، على ما صرّح به في المسالک (1) .

لكن الّذي يُظهر من الكفاية أنّ المشهور قبول قوله مع يمينه، قال :

والمشهور قبول قوله بيمينه (2) .

قال شيخنا الشهيد في اللمعة :

و يقبل قوله بيمينه في الردّ (3) .

والحادي والعشرون : مدّعي تقدّم العيب مع شهادة الحال .

و ضبطها بعضهم بأنّ كلّ ما كان بين العبد و بين الله، أو لا يعلم إلّا منه و لا ضرر فيه على الغير، أو ما تعلّق بالحدّ و (4) التعزير (5) .

و فيه نظر، لأنّ هذا لا يصدق في جميع هذه الصور .

ص: 231


1- . المسالک : 13 / 503.
2- . كفاية الأحكام : 1 / 699 .
3- . اللمعة الدمشقيّة : 134 .
4- . في المصدر : أو .
5- . مسالک الأفهام : 13 / 500 - 503 .

في أنّه لو شهد للميّت واحد بدين على شخص

42- مسألة

اشارة

نقل عن الشيخ في المبسوط (1) : أنّه لو شهد للميّت واحد بدين بأنّ له على فلان كذا، أو وجد ذلک في روزنامجته و أنكر المشهود عليه مثلاً، فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف سقطت الدعوى، و إلّا يحبس حتّى يقرّ أو يحلف، إذ لا يمكن ردّ اليمين هنا، لكون صاحب الحقّ ميّتًا .

و كذا قال فيما إذا ادّعى الوصيّ على الورثة أنّ أباهم أوصى للفقراء أو المساكين، سواء أقام على ذلک شاهدًا واحدًا، أم لا ؛ وأنكروا ذلک، أي القول قولهم مع الحلف، فإن حلفوا سقطت الدعوى، وإن نكلوا يحبسون حتّى يقرّوا أو يحلفوا، ولايمكن ردّ اليمين إلى الوصيّ، لأنّه لا يجوز له أن يحلف عن غيره، و لا إلى الفقراء أو المساكين، لأنّهم غير متعيّنين (2) .

و فيه نظر، لأنّ الحبس عقوبة لا يصار إليه إلّا بموجب و لم نجده .

و قياسُ ذلک فيما إذا ترک الخصم وفاء الدين قياسٌ فاسدٌ لا نذهب إليه ؛ على أنّه قياس مع الفارق، لأنّ الحبس هناک بعد ثبوت الحقّ شرعًا، و هو في المقام

ص: 232


1- . المبسوط : 8 / 214 .
2- . نقله عن المبسوط في المسالک : 13 / 503 ؛ و كشف اللثام : 10 / 127 .

مفقود، فلا يشمله الدليل الدالّ على حبس الخصم، لتركه الوفاء بالحقّ .

إن قلت : إنّ المسلّم أنّه كلّما تعذّرت البيّنة و ما يقوم مقامها، بل مطلقًا، فاليمين حقّ المدّعى عليه و قد ترک، فيصدق في حقّه أنّه ترک الوفاء بالحقّ، فيشمله الأدلّة الدالّة على أنّ من ترک الوفاء بالحقّ يحبس حتّى يوفيه .

قلت : ليس عندنا دليل يدلّ على أنّ مَن ترک الوفاء بحقّ أيّ حقّ كان يحبس، بل غايه ما يستفاد منه هو أنّ التارک لأداء الحقّ الّذي يملک به الغير يحبس، و هنا ليس كذلک، ضرورة أنّ اليمين لا يملكها الغير . و كيف ؟! مع أنّها مسقطة لحقّ الغير، فالقول بالحبس هنا لا شبهة في ضعفه .

لكن ينبغي البحث في أنّه هل يحكم عليه بالنكول، أو لا، بل يقف الحكم إلى أن يقرّ ؟

فأقول : الحكم بالنكول أيضًا مشكل، لأنّ أصل القضاء بالنكول مختلفٌ فيه ؛ وعلى تقدير القول به - كما هو الحقّ لما سبق - نقول : الظاهر من أدلّته هو ما إذا كان المدّعي هو صاحب الحقّ كما هو واضح، و ليس المقام من ذلک .

والقول بجواز القضاء بالنكول أيضًا مختصّ بذلک، أي بما إذا كان المدّعي هو صاحب الحقّ الّذي يجوز له أن يحلف إذا ردّ إليه . ألا ترى كلماتهم أنّه لو نكل المنكر بمعنى أن لا يحلف و لا يردّ اليمين على المدّعي، و معلوم أنّ ردّ اليمين إليه فرع جوازها منه، و قد عرفت عدمه .

و أيضًا القضاء بالنكول خلاف الأصل، فيجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن

ص: 233

إرادته من النصّ، و هو ما إذا كان المدّعي هو صاحب الحقّ، لا غيره .

و حكي عن المبسوط (1) نسبة القضاء بالنكول في المسألة الثانية إلى قوم، والظاهر أنّ المراد منهم العامّة، و هو مبنيّ على العمل بالقياس، لأنّ القضاء بالنكول فيما إذا كان المدّعي صاحب الحقّ، لكون المنكر عادلاً عن اليمين، و هو متحقّق هنا، و هو علّة مستنبطة لا منصوصة .

على أنّ العلّة المستنبطة ليست خصوص العدول عن اليمين، بل العدول عنها وعن الردّ، و هو غير متحقّق في المقام، لما عرفت من عدم جواز ردّ اليمين .

و من المحتمل أن يكون القضاء بالنكول في تلک المسألة لأجل أنّه لمّا كان ردّ اليمين هناک جائزًا و لم يفعل المنكر و عدم فعله لعلّه لأجل علمه بجواز الحلف للمدّعي فخاف أن يحلف فيستحقّ الحقّ، فأمر الشارع القضاء بالنكول لذلک، وليس المقام كذلک .

لو ادّعى الوارث لمورّثه مالاً على الغير

43- مسألة

اشارة

لو ادّعى الوارث لمورّثه مالاً على الغير، فلا يخلو إمّا أن لا يكون على الميّت دين يحيط بالتركة، أو يكون ذلک .

ص: 234


1- . انظر المبسوط : 8 / 190 .

و على الأوّل فلا كلام في سماع دعوى الوارث، لأنّ بعد موت المورّث صار المال حقّه، فدعواه له دعوى لحقّه، فتسمع و يترتّب عليها أحكام الدعوى .

هل ينتقل المال بعد موت الموّرث إلى الوارث، أم لا ؟

و أمّا على الثاني، فلا يخلو إمّا أن ينتقل التركة بعد موت المورّث إلى الوارث حينئذٍ أيضًا - كما ذهب إليه العلّامة في القواعد في هذا المقام، والشهيد الثاني، وبعض متأخّري المتأخّرين (1) - وإن لم يجز له التصرّف في شيء منها قبل الأداء،أو الإسقاط، أو إذن الغرماء إجماعًا، كما في الإيضاح والمسالک و غيرهما (2) .

أو لا ينتقل إلى ملكه، بل يبقى على حكم مال الميّت، كما ذهب إليه في الشرائع (3) ، و موضع من القواعد (4) ، و نقل ذلک عن الشيخ والأكثر (5) .

و على الأوّل فلا إشكال أيضًا في سماع دعواه، لأنّه ماله فيدّعيه ؛ و عدم جواز التصرّف فيها لا يمنع من انتقالها في ملكه، كالأموال المرهونة والعبد الجاني .

ص: 235


1- . انظر القواعد : 3 / 354 ؛ والمسالک : 13 / 505 ؛ والرياض : 13 / 137 و 138 .
2- . انظر الإيضاح : 4 / 342 ؛ والمسالک : 13 / 505 ؛ و كشف اللثام : 10 / 127 .
3- . الشرائع : 4 / 818 .
4- . القواعد : 3 / 446 .
5- . حكاه عن الشيخ في الدروس : 2 / 95 ؛ و عن الشيخ والأكثر في المسالک : 13 / 61 ؛ والكفاية : 2 /807 ؛ وانظر المبسوط : 8 / 192 و 193 ؛ والخلاف : 6 / 282 .

وأمّا على الثاني فقد نقل اتّفاقهم على سماع دعواه أيضًا، فلا ثمرة للاختلاف من حيث سماع الدعوى والعدم .

نعم، تظهر الثمرة في النماء المتخلّل بين الوفاة والوفاء، فإنّه على القول الأوّل يصير ملكًا للوارث، و على الثاني يبقى في حكم مال الميّت .

{ الحقّ في المسألة }

و حيث ظهرت الثمرة للاختلاف، فينبغي الإشارة إلى الحقّ في المسألة، وإن كان للمسألة محلّ أليق، و لهذا نقتصر هنا بذكر كلام قليل، فأقول : الظاهر هو القول الثاني، لظاهر الكتاب و السنّة .

قال الله - سبحانه - : ( يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين )، إلى أن قال - جلّ شأنه - : ( من بعد وصيّة يوصي بها ) (1) . و كذا قوله - تعالى - : ( من بعد وصيّة يوصين بها أو دَين ) (2) ، و قوله - تعالى - : ( من بعد وصيّة توصون بها ) (3) .

وأمّا السنّة فكالصحيح : قضى أميرالمؤمنين (عله السلام) في دية المقتول أنّه يرثها الورثة على كتاب الله تعالى (4) إذا لم يكن على المقتول دين (5) .

ص: 236


1- . النساء : 11 .
2- . النساء : 12 .
3- . النساء : 12 .
4- . في المصادر : على كتاب الله و سهامهم .
5- . الكافي : 7 / 139 ح 2 ؛ الفقيه : 4 / 318 ح 5686 ؛ التهذيب : 9 / 375 ح 1338 ؛ الوسائل : 26 / 35ح 32432 ؛ الحديث مرويّ عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و له تتمّة و هي : « إلّا الإخوةوالأخوات من الأمّ، فإنّهم لا يرثون من ديته شيئًا ».

و لتمام الكلام في المسألة و الكلام في الآيات حيث قدّم فيها الوصيّة على الدين مع أنّه نقل اتّفاق الفقهاء على تقديم مؤنة التجهيز والدين من أصل التركة، ثمّ الوصيّة من الثلث، محلّ أليق نذكره هناک إن شاء الله تعالى .

فينبغي الإشارة إلى ما هو المقصود هنا، فأقول : إذا أقام الوارث المدّعي على المدّعى عليه شاهدًا و له أن يحلف، فيأخذ المال مطلقًا، سواء لم يكن على الميّت دين محيط بالتركة، أم كان ؛ و إذا لم يحلف و أراد تأخير الدعوى، فليس للديّان أن يحلفه على التقدير الأوّل، أي إذا لم يكن الدين محيطًا بالتركة، و هو واضح .

وأمّا إذا كان فكذلک، بناءً على القول بانتقال المال إلى الوارث، لأنّه حقّ للغير والتحليف من صاحب الحقّ لا غيره، إذ قد عرفت سابقًا أنّ الحاكم لو تبرّع بالإحلاف وقعت اليمين لغوًا، و كيف ظنّک في غيره ؟!

و أمّا على القول الآخر فيجوز للديّان أن يحلفه، فتأمّل (1) .

و كذا للوارث بناءً على نقل الاتّفاق الّذي عرفت في سماع دعواه، و من أحكام

ص: 237


1- . جاء في حاشية الأصل : وجهه هو : أنّ مقتضى ما ذكر من أنّ التحليف لابدّ أن يكون من صاحب الحقّينبغي أن لا يجوز للديّان تحليف الغريم على هذا القول أيضًا، لأنّ هذا القول إنّ المال باق على حكم مالالميّت . نعم، انّ التحليف من الديّان إنّما يتّجه إذا قيل بانتقال المال في الصورة المفروضة إلى الديّان ؛ و فيكلام بعضهم أنّه خلاف الإجماع، بناءً على أنّ القول في المسألة عند الشيعة منحصر في القولين المذكورين ؛منه .

سماع الدعوى إقامة الشهود و الإحلاف و الحلف .

و هذا ثمرة أخرى للاختلاف المذكور، لكن قال في القواعد بعد اختياره القول بانتقال المال إلى الوارث :

للديّان إحلاف الغريم (1) .

و كذا قال ابنه في الشرح (2) .

أقول : إن ثبت الإجماع في ذلک فهو، فيرتفع الثمرة المذكورة، و إلّا فمقتضى القواعد ما ذكرناه و على القول بجواز إحلافهم إذا أحلفوه براء ذمّته منهم، لما عرفت من قوله (صلي الله عليه واله): « و من حلف له بالله فليرض، و من حلف له بالله فلم يرض فليس من الله » (3) .

ثمّ بعد ذلک هل للوارث أن يحلف و يأخذ المال لإقامته شاهدًا واحدًا، أو لا وللديّان أن يأخذه من الوارث، لأنّه من تركة الميّت ؟

هكذا قال في القواعد وابنه في الشرح (4) ، لكن مقتضى قوله (صلي الله عليه واله) : « من حلف بالله فليصدق » هو أنّه متى حلف الحالف بالحلف الصحيح يجب تصديقه، سواء كان المحلف الديّان أو غيره، فينبغي إمّا أن يقال بعدم جواز إحلاف الديّان للغريم، أو بجوازه مع عدم جواز مطالبة الوارث .

ص: 238


1- . قواعد الأحكام : 3 / 446 .
2- . إيضاح الفوائد : 4 / 342 .
3- . الكافي : 7 / 438 ح 1 ؛ التهذيب : 8 / 284 ح 1040 ؛ الوسائل : 23 / 211 ح 29390 .
4- . انظر القواعد : 3 / 446 ؛ والإيضاح : 4 / 342 .

إلّا أن يقال : إنّ المتبادر من قوله (صلي الله عله واله) : « من حلف بالله فليصدق » تصديق المحلف، ولهذا قال بعد ذلک : « من حلف له بالله فليرض و من حلف له بالله فلم يرض فليس من الله ».

هذا كلّه إذا حلف الوارث و أخذ المال، وأمّا إذا حلف و لم يأخذ المال منه، بل أخَّره، فهل للديّان حينئذٍ أخذ المال من الغريم بعد إحلافهم إيّاه، أم لا ؟

قال في القواعد : إشكال (1) .

منشأه من أنّه تركة، فيتعلّق به حقّ الديّان ؛ و من قوله (صلي الله عليه واله): « و من حلف له بالله فليرض » إلى آخره .

والأولى - وفاقًا لفخر المحقّقين - جواز استيفائهم من الغريم (2) .

والجواب عن قوله (صلي الله عليه واله) : « و من حلف له بالله فليرض » هو : أنّ المراد به عدم جواز المطالبة به على الحالف من غير سبب آخر مبيح للمطالبة، و قد وجد هنا، وهو استحقاق الوارث للمال، والديّان إنّما يطلبه منه لا من حيث استحقاقه لذلک، بل من حيث استحقاق الوارث ذلک منه، و هو مقرّ بأنَّه من تركة الميّت .

44- مسألة

اشارة

اعلم : أنّ السرقة قد تكون موجبة للحدّ والمال، كما إذا كانت بالبيّنة مع

ص: 239


1- . القواعد : 3 / 446 .
2- . الإيضاح : 4 / 342 .

الشرائط من النصاب و غيره ؛ و قد تكون موجبة للمال فقط، كما إذا كانت مع عدم الشرائط، فلا تلازم بين ثبوت المال و ثبوت الحدّ، فعلى هذا منكر السرقة يحلف لنفي المال وإسقاط الغرم، فإن ردّ فحلف المدّعي أو نكل، ثبت المال دون الحدّ، لأنّ الحدّ لا يثبت باليمين كما تقدّم .

لا يحلّف الوارث إلّا مع اجتماع شروط ثلاثة

45- مسألة

اشارة

لا يحلّف الوارث بالدعوى على المورّث إلّا مع اجتماع شروط ثلاثة :

الأوّل : دعوى علمه بموت مورّثه .

والثاني : دعوى علمه بثبوت الحقّ في ذمّته .

والثالث : دعوى تركة الميّت في يده (1) .

فإذا ادّعى المدّعي على الوارث على النحو المزبور، فهو إن أقرّ بما ادّعاه فالحكم واضح، و إن أنكر و عجز المدّعي عن إثبات ذلک له أن يحلفه بنفي العلم في الشرطين الأوّلين و بعدم كون التركة في يده في الثالث ؛ و لايكفي فيه الحلف بنفي العلم لما سيجيء .

والحكم - أي جواز إحلاف المدّعي مع الشروط الثلاثة - واضح، لأنّ الأدلّة

ص: 240


1- . لاحظ البحث في المختصر النافع : 275 ؛ والقواعد : 3 / 447 ؛ والمسالک : 13 / 492 ؛ و مجمع الفائدة :12 / 195 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 706 ؛ و كشف اللثام : 10 / 130 ؛ و رياض المسائل : 13 / 134 .

الدالّة على تحليف المنكر تشمله .

بقي الكلام في أنّه لو تعدّد متعلّق الإنكار، هل يجبر على تعدّد الحلف، أم لا بل له الاكتفاء بالحلف الواحد بأن يقول فيما إذا كان متعلّق الإنكار الثلاثة : والله ما لي علم بموت فلان و ثبوت حقّک في ذمّته و ما له عندي مال . و هكذا إذا كان متعلّقه اثنين منها ؟

الظاهر الثاني، لكن يراعى في الشرط الثالث تعلّق الحلف عليه بالقطع والبتّ، لا بنفي العلم، بل يجوز الاكتفاء حينئذٍ (1) بنفي واحدٍ منها كائنًا ما كان، بأن يقول :« والله ما لي علم بموت فلان » ؛ أو : « والله ما له عندي مال » ؛ و هكذا، لما ستقف عليه .

و إنّما قلنا : لا يحلّف الوارث إلّا مع اجتماع هذه الشرائط، لأنّه لو لم تكن تلک الشرائط و لو واحد منها لا يجوز إحلافه، فلو ادّعى علمه بثبوت المال في ذمّة المورّث و بكون ماله في يده من غير أن يدّعي علمه بموت المورّث لا تسمع دعواه، لعدم الفائدة، إذ لا يلزم عليه شيءٌ ؛ و معلوم أنّ الإحلاف فرعُ سماع الدعوى .

و كذا لو ادّعى علمه بموت مورّثه و ثبوت حقّه في ذمّته و لم يدّع بأنّ تركته في يده لا يجوز الإحلاف أيضًا، بناءً على ما حكي (2) من عدم الخلاف في أنّ الوارث

ص: 241


1- . جاء في حاشية الأصل : أي حين تعلّق الإنكار بالمتعدّد ؛ منه .
2- . حكاه في رياض المسائل : 13 / 134 .

لايجب عليه أداء دين المورّث من ماله ؛ و حيثما توجّه إليه الحلف، فلا يخلو إمّا أن يحلف، أو يردّ، أو ينكل ؛ و على تقدير الردّ إمّا أن يحلف المدّعي، أو ينكل .

و حكم الجميع قد مرّ مستقصًى، فإنّه على تقدير حلفه و نكول المنكر عنه بعد الردّ يسقط الدعوى ؛ و على تقدير النكول و حلف المدّعي بعد الردّ يجب الوفاء، وقد تقدّم الدليل في الجميع .

فرعٌ

لو حلف الوارث على نفي العلم بالدين أو الاستحقاق مثلاً، لا يمنع المدّعي من إقامة البيّنة على حقّه بعد حلفه، لأنّ ما وقع عليه الحلف هو نفي العلم مثلاً، و ما أقام عليه البيّنة هو أصل الحقّ، أحدهما غير الآخر .

و ما دلّ على أنّ المدّعي لو أقام البيّنة بعد يمين المنكر لا يلتفت إليها، مختصٌّ فيما إذا كان إقامة البيّنة على ما وقع عليه الحلف، و في المقام ليس كذلک .

لابدّ في الحالف أن يكون حلفه على بتّ و قطع

46- مسألة

اشارة

لابدّ للحالف أن يكون حلفه على البتّ والقطع، إلّا على فعل الغير، فيحلف على

ص: 242

نفي العلم ؛ هكذا قالوا (1) .

إن أردت توضيح المقام فاعلم : أنّ الحالف لايخلو إمّا مدّع، أو منكر ؛ والأوّل لايحلف إلّا على البتّ والقطع .

و معنى كون الحلف على البتّ والقطع هو : أن يكون متعلّقه بحيث يفهم منه القطع واليقين، لا الظنّ والتخمين .

فلو ادّعى المدّعي على خصمه أنّ له عليه كذا وانقضى الأمر إلى حلفه، لابدّ أن يقول هكذا : « والله إنّ لي على فلان كذا » ؛ لا أن يقول : « والله إنّي أظُنُّ، أو أتوهّم أنّ لي عليه كذا ».

و أمّا إذا كان الحالف هو المنكر، فلا يخلو إمّا أن يكون حلفه على فعل نفسه، أو على فعل غيره ؛ والأوّل كالأوّل في لزوم كون الحلف على البتّ والقطع، و قد عرفت المراد بالبتّ والقطع ؛ فلو ادّعى عليه أنّ له عليه كذا، فأنكره، و عند الحلف لابدّ أن يقول : والله ما له عليّ ذلک بالخصوص، أو بالعموم بأن يقول : والله لايستحقّ منّي شيئًا، بناءً على ما مرّ ؛ و لا يجوز له الحلف بنفي العلم، أو بالظنّ .

{ مستند المصنّف (قدس سره) في المسألة }

إذا عرفت ذلک نقول : إنّ مستندنا في المسألة وجوه :

ص: 243


1- . انظر المبسوط : 8 / 206 ؛ والقواعد : 3 / 447 ؛ والمسالک : 13 / 492 ؛ و مجمع الفائدة : 12 / 189 ؛وكفاية الأحكام : 2 / 703 ؛ و كشف اللثام : 10 / 128 ؛ و رياض المسائل : 13 / 127 .

الأوّل : اتّفاق الأصحاب ظاهرًا .

والثاني : هو أنّ المتبادر من يمين المدّعي هو أن يكون على ثبوت المدّعى به والمنكر على نفيه، لا عدم العلم بشيء منهما، فينصرف إليه الأدلّة الدالّة على يمينهما.

والثالث : هو أنّک قد عرفت سابقًا أنّ ترتّب الأحكام على اليمين خلاف الأصل، فيقتصر فيه على القدر المتيقّن من النصوص والفتاوى، و هو ما إذا كان اليمين على البتّ والقطع، لا الغير كما لا يخفى .

والرابع : هو أنّ مولانا الأمير (عليه السلام) حيث أتى بأخرس حلّفه بذلک حيث كتب (عليه السلام) : أنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان - أعني الأخرس - حقّ ولا طلبة بوجه من الوجوه و لا بسبب من الأسباب .

لا يقال : إنّ هذا إنّما يدلّ على جواز كون الحلف بالبتّ، لا تعيّنه، لاحتمال أنّ إحلافه (عليه السلام) الأخرس بذلک لكونه ممّا يحصل به اليمين، لا أنّها تنحصر بذلک، والكلام إنّما هو في ذلک، والتأسّي إنّما يجب إذا ظهر وجهه ؛ و على فرض التسليم نقول : إنّه قضيّة في واقعة، فلا عموم له .

لأنّا نقول : إنّ ما ذكرت إنّما يرد إذا كان تمسّكنا بالحديث لأجل فعل الأمير (عليه السلام)، وليس الأمر كذلک، بل تمسّكنا به إنّما هو من جهة أنّ مولانا الصادق (عليه السلام) لمّا سئل عن كيفيّة حلف الأخرس أتى (عليه السلام) بذلک في الجواب، فيعلم منه أنّه لا خصوصيّة للحديث لأخرس خاصّ و تعيين حلفه أيضًا، إذ لو كان

ص: 244

الحلف جائزًا بغير ذلک لذكره (عليه السلام)أيضًا ؛ هذا .

لكنّ الجواب عنه يمكن أن يقال : إنّ التمسّک به فرع القول بمضمونه و نحن لانقول بذلک كما تقدّم .

و الخامس : قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة : إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهب اليمين بحقّ المدّعي، فلا حقّ له (1) .

وجه الاستدلال هو : أنّه (عليه السلام) قيد سقوط الحقّ بسبب الحلف بأن يحلف أن لاحقّ له، فيدلّ بمفهوم الشرط على أنّه لو لم يحلف بأنّه لا حقّ له لا يسقط حقّه، وهو أعمّ من أن يحلف بنفي العلم و غيره، و هو المقصود .

والصحيح وإن ورد في حقّ المنكر، لكن نعمّم الحكم بالمدّعي أيضًا، لعدم القول بالفصل .

و أنت بعد اطّلاعک على ما ذكرناه يظهر لک ظهورًا بيّنًا عدم جواز الاكتفاء في اليمين بنفي العلم فيما إذا كان الحالف عالمًا بما ادّعى به .

و أمّا إذا لم يكن كذلک فأقول : لايخلو إمّا أن يكون الحالف هو المدّعي، أو المنكر.

أمّا الأوّل : فكما أنّه ادّعى واحد على آخر بمال و هو ينكره، ثمّ ردّ إليه اليمين

ص: 245


1- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 61 ح 3340 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 565 ؛ الوسائل : 27 / 245 ح33689 .

بعد توجّهها إليه، فقال المدّعي : أنا لا أحلف بثبوت المدّعى به في ذمّتک لعدم علمي بذلک، لكن أحلف على أنّي أظنّ أنّ حقّي في ذمّتک .

و هذا لايحكم له بشيء وإن حلف، لما عرفت سابقًا من عدم سماع الدعوى المظنونة ؛ و هذا بعد توجّه الحلف إليه ظهر أنّ دعواه كذلک، و غاية ما ثبت من حلفه لو حلف أنّه ظانّ بذلک، و قد عرفت الحال فيه، فبطلت دعواه .

في أنّه هل يسقط الدعوى بحلف المدّعى عليه

بعدم علمه بحقّيّة دعوى المدّعي أم لا ؟

و أمّا إذا كان الحالف هو المنكر، كما إذا ادّعي عليه بمال في ذمّته و أنكر، فقال بعد توجّه اليمين إليه : إنّي لا أحلف على عدم ثبوت المدّعى به في ذمّتي، لعدم علمي بذلک، بل أحلف على عدم علمي بثبوت حقّک في ذمّتي .

فهل يكتفى حينئذٍ لسقوط الدعوى بحلفه على عدم علمه بذلک، أو لابدّ من ردّ اليمين إلى المدّعي، و إلّا فيقضى عليه بالنكول بعد ردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي، أو بدونه ؟

إشكالٌ .

و نفى البعد في الكفاية عن الاكتفاء بالحلف على نفي العلم، قال :

ص: 246

و لا دليل على نفيه (1) .

و فيه نظر، لما عرفت من أنّ الأصل عدم ترتّب شيء على يمين، فحينئذٍ عدم الدليل على نفي الاكتفاء بالحلف على نفي العلم في الصورة المزبورة لايجدى نفعًا، بل يحتاج للاكتفاء به فيها إلى دليل، فالاكتفاء بسقوط الدعوى بالحلف على نفي العلم فيما نحن فيه مشكل، لما عرفت من أنّ المتبادر من اليمين من المدّعي أو المنكر هو ما كان على بتّ و قطع، فينصرف إليه إطلاق الأدلّة الدالّة على سقوط الدعوى باليمين .

هذا، مع أنّ النصوص الدالّة على سقوط الحقّ والدعوى باليمين إنّما هو إذا كان المنكر منكرًا لأصل الحقّ و يحلف على عدمه، فلا يشمل ما إذا كان المنكر لم ينكره، بل يقول: أنا لست بعالم في ثبوت الحقّ و يحلف على عدم العلم .

وإن شئت أن يظهر لک صحّة ما قلته، فانظر في قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة، حيث قال فيها : « إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهب اليمين بحقّ المدّعي، فلا حقّ له » (2) .

و دلالته على ما ذكر في مواضع منها :

الأوّل هو : قوله (عليه السلام): « إذا رضي الحقّ بيمين المنكر »، والمتبادر من المنكر أن يكون منكرًا لأصل الدعوى، لا أن يدّعى عدم العلم بالحقّ .

ص: 247


1- . كفاية الأحكام : 2 / 703 .
2- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 61 ح 3340 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 565 ؛ الوسائل : 27 / 245 ح33689 .

والثاني هو : قوله : « إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه »، و هذا الشخص لا يكون يمينه للحقّ، بل لعدم العلم بالحقّ .

والثالث - و هو أوضح منهما - هو : قوله (عليه السلام) : « فحلف أن لا حقّ له » إلى آخره، و هذا الشخص لايحلف على أن لا حقّ له، بل حلفه لعدم العلم بالحقّ، لا لعدم الحقّ، والفرق بينهما بيّن .

فهذا الحديث لايدلّ على سقوط الحقّ بالحلف على نفي العلم، بل فيه دلالة على عدمه من جهة مفهوم الشرط، لأنّ مفهوم قوله (عليه السلام) : « فحلف أن لا حقّ له ذهب اليمين بحقّ المدّعي » هو : أنّه لو لم يحلف على أن لا حقّ له لم يذهب اليمين بحقّ المدّعي ؛ و ما نحن فيه كذلک، إذ الشخص المفروض غير حالف على عدم الحقّ، بل على عدم العلم بالحقّ، فدلّ الحديث بمفهومه على عدم سقوط الحقّ بمثل هذا اليمين، فتأمّل .

و كذا في رواية إبراهيم بن عبد الحميد، حيث سئل فيها عن الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، إلى أن أجاب : ليس له أن يطلب منه (1) .

و هذا صريح في أنّه أنكر الحقّ المدّعي، فلا دخل له لما نحن فيه .

و كذا الكلام في رواية النخعي المتقدّمة عن مولانا الصادق (عليه السلام) في رجل يكون على الرجل المال فيجحده ؟ قال (عليه السلام) : إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه شيئًا (2) .

ص: 248


1- . الكافي : 7 / 418 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 232 ح 567 ؛ الوسائل : 23 / 286 ح 29582 .
2- . الكافي : 7 / 418 ح 2 ؛ الفقيه : 3 / 185 ح 3695 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 566 ؛ الوسائل : 27 / 246ح 33601 .

فالاكتفاء بسقوط الحقّ المدّعي بالحلف على عدم العلم من أين ؟! مع أنّ الأصل بقاء الدعوى الّتي اجتمع فيها شرائط السماع .

ثمّ في الكفاية أيضًا ادّعى جواز الحلف على البتّ في الصورة المزبورة، فها أنا أذكر عبارته بتمامها في المقام، ثمّ نشير إلى المقصود .

فأقول : قال فيها بعد أن حكم بأنّ المعروف بين الأصحاب كون الحالف على البتّ، إلى أن قال :

و مقتضى ظاهر كلامهم أنّه إذا ادّعى عليه بمال في ذمّته ولم يكن المدّعى عليه عالمًا بثبوته أو نفيه (1) ، لم يكف حلف المنكر بنفي العلم،وأنّه لا يجوز له حينئذٍ الحلف بنفي الاستحقاق، لعدم علمه بذلک، بل لابدّ ]له [ (2) من ردّ اليمين، وإن لم يردّ يقضى عليه بالنكول إن قيل بالقضاء به (3) ، و بعد ردّ اليمين على المدّعي إن لم نقل به .

لكن في إثبات ذلک إشكال، و لا يبعد (4) الاكتفاء حينئذٍ بالحلف على نفي العلم، و لا دليل على نفيه، إذ الظاهر أنّه لايجب عليه إيفاء ما يدّعيه إلّا مع العلم .

و يمكن على هذا أن يكون عدم العلم بثبوت الحقّ كافيًا في الحلف على

ص: 249


1- . في المصدر : و لا بنفيه .
2- . ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
3- . في المصدر : بالنكول .
4- . في المصدر : إذ لا يبعد .

عدم الاستحقاق، لأنّ وجوب إيفاء حقّه إنّما يكون عند العلم به، لكن ظاهر عباراتهم خلاف ذلک، إنتهى (1) .

إيرادٌ على الكفاية في حكمه بجواز

الحلف على نفي الاستحقاق مع عدم علمه بذلک

أقول : قد عرفت الكلام على قوله : « و لا يبعد الاكتفاء حينئذٍ بالحلف على نفي العلم، و لا دليل على نفيه »، و سيجيء أيضًا .

وكلامنا الآن على قوله : « و يمكن على هذا أن يكون » إلى قوله : « على عدم الاستحقاق »، لأنّا لانسلّم أنّ عدم وجوب إيفاء ما يدّعيه يكون كافيًا في الحلف على عدم الاستحقاق المطلق، لأنّ المتبادر من قولک : « هذا لايستحقّ منّي شيئًا» هو نفي الاستحقاق ولو في نفس الأمر، فلا يجوز الحلف هنا بذلک، لعدم علمه واحتمال ثبوت الحقّ في ذمّته .

نعم، عدم علمه بالحقّ أثبت له عدم كونه مكلّفًا بإيفائه والحلف عليه، لا على عدم استحقاقه .

و على فرض التسليم أنّه ليس المتبادر من قولک : « هذا لايستحقّ منّي شيئًا »

ص: 250


1- . كفاية الأحكام : 2 / 703 .

نفي الاستحقاق مطلقًا، بل نفيه ظاهرًا - أي بينه و بين الله تعالى - نقول : لا نسلّم أنّ كلّ من حلف على نفي الاستحقاق يلزم منه سقوط الحقّ، بل إذا كان من المدّعى عليه الّذي أنكر الحقّ، لا من الّذي ادّعى عدم العلم بالحقّ، لأنّ الدليل في ذلک إمّا الإجماع، أو النصوص، و كلاهما مفقودٌ في محلّ النزاع، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلما عرفت من ورود النصوص في المنكر، مضافًا إلى أنّ المتبادر منها نفي الاستحقاق النفس الأمريّ، فلا تشمل لمحلّ النزاع .

إن قلت : يمكن أن يستدلّ للاكتفاء بالحلف فيما نحن فيه بما مرّ من صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهماالسلام) في الرجل يدّعى و لا بيّنة له، قال (عليه السلام) : يستحلفه (1) .

و هو أعمّ من أن يكون المدّعى عليه عالمًا بالمدّعى به، أم لا ؛ وأمَرَ المعصوم بإحلافه من غير استفصال، و ترک الاستفصال في مقام السؤال مع قيام الاحتمال يفيد العموم .

قلت : لا ريب ولا شبهة في أنّ مراده (عليه السلام) من الأمر بإحلاف المدّعى عليه هو إحلافه على المدّعى به، لا على شيء خارج عنه ؛ و معلوم عدم جواز إرادته هنا، لعدم جواز إحلافه على ذلک في المقام، لتصريحه بأنّه غير عالم بالمدّعى به لا نفيًا ولا إثباتًا ؛ والحلف على شيء نفيًا أو إثباتًا فرعُ العلم به و قد عرفت فقده، لأنّ المدّعى به هو الحقّ، لا عدم العلم به، فلا يدخل تحت الصحيح .

ص: 251


1- . الكافي : 7 / 416 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 557 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33679 .

و هكذا يجاب عن مثل الصحيح من النصّ، كمرسلة أبان المتقدّمة عن مولانا الصادق (عليه السلام) : في الرجل يدّعى عليه الحقّ و ليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال : يستحلف المدّعى عليه (1) .

و غيرها .

و بالجملة : الاكتفاء بالحلف على نفي العلم لسقوط الدعوى في المقام لا وجه له .

في أنّ القضاء بالنكول إنّما هو إذا

تمكّن المنكر من اليمين ولم يحلف ولم يردّ

لكن بقي الكلام في ردّ اليمين إلى المدّعي، وإلّا فالقضاء بالنكول بمجرّده أو بعد ردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي .

فأقول : أمّا القضاء بالنكول، فالظاهر أنّه مختصّ فيما إذا تمكّن المنكر من الحلف على نفي المدّعى به ولم يحلف ولم يردّ أيضًا، لأنّ المتبادر من أدلّته ذلک، وكلام الأصحاب أيضًا مختصّ بذلک، لأنّه موضوع المسألة في كلامهم، و هو غير متحقّق في المقام، مع أنّ الأصل عدم استحقاق المدّعي للمدّعى به، فيجب

ص: 252


1- . الكافي : 7 / 416 ح 4 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 561 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح 33683 .

الاقتصار فيه على القدر المتيقّن، و هو ما إذا كان المدّعى عليه متمكّنًا من الحلف على نفي المدّعى به ظاهرًا ولم يحلف ولم يردّ أيضًا، فهناک يقضى عليه إمّا من غير ردّ اليمين إلى المدّعي، أو معه ؛ و قد عرفت أنّه لم يتمكّن منه فيما نحن فيه .

بل نقول: إنّ الحكم باستحقاق المدّعي للمدّعى به بيمينه ولو مع رضا المدّعى عليه بها مشكلٌ، لما عرفت من أنّ حلف المدّعي خلاف الأصل، فيحتاج حلفه في كلّ موضع إلى دليل .

و ليس لنا دليل على أنّه كلّما رضي المدّعى عليه بيمين المدّعي يثبت بها الحقّ، لما عرفت من أنّ المتبادر من النصوص الدالّة على ذلک هو ما إذا كان المدّعى عليه متمكّنًا من الحلف على نفي المدّعى به، وليس ما نحن فيه من ذلک .

إلّا أن يتمسّک بالفحوى بأن يقال : لو ثبت استحقاق المدّعي للمدّعى به بيمينه لو رضي المدّعى عليه بذلک مع تمكّنه من الحلف، فاستحقاقه بذلک مع عدم تمكّنه منه بطريق أولى، لكنّ الأولويّة غير واضحة .

إن قلت : إنّ ما ذكرت من كون المتبادر من النصوص الدالّة على أنّ المدّعى عليه لو رضي بيمين صاحب الحقّ، هو ما إذا كان المدّعى عليه متمكّنًا من الحلف على نفي المدّعى به ظاهرًا مسلّم، لكن هل الدليل على التبادر إنّما هو إذا كان مطلقًا، و أمّا إذا كان عامًّا فلا، بل يحمل على جميع الأفراد ولو كان غير متبادر؟

و من هذا القبيل الصحيح المتقدّم، و هو قوله (عليه السلام) : « فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلا يحلف، فلا حقّ له » بعد أن سئل عن الرجل يدّعي و لا بيّنة له، قال (عليه السلام) :

ص: 253

«يستحلفه فإن ردّ اليمين » الحديث، لأنّ ترک استفصال المعصوم من أنّ المدّعى عليه هل هو يدّعى العلم بعدم الحقّ، أو عدم العلم به مع حكمه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلا يحلف، فلا حقّ له، قرينته العموم .

قلت : قد مرّ الجواب عن الصحيح المذكور و مثله بأنّها محمولان فيما إذا كان المدّعى عليه مدّعيًا علمه بعدم الحقّ، فلاحظه حتّى يظهر لک صدق ما قلته،فالمسألة قويّة الإشكال .

نعم، يمكن أن يقال : إنّ الحاكم نصب لقطع النزاع بين الناس، فعليه أن يقطع الدعوى بين المدّعي والمدّعى عليه في المقام، و هو يحصل إمّا بحكمه بفساد الدعوى، فلا تسمع ؛ أو بالاكتفاء في حلف المدّعى عليه بنفي العلم، فيسقط الدعوى أيضًا ؛ أو يحكم عليه بردّ اليمين على المدّعي، فإن حلف ثبت حقّه وإلّا سقط، وإن نكل من الردّ يحكم عليه بالقضاء بالنكول على ما مرّ .

لكن لايمكن الأوّل، لأنّ الحكم بعدم سماع الدعوى المستجمعة للشرائط غير جائز وادّعاء المدّعى عليه عدم علمه بما ادّعاه لم يوجب ذلک، ولهذا لم يقل أحد بأنّ شرط سماع الدعوى عدم دعوى المدّعى عليه عدم علمه بما ادّعى عليه .

و كذا الثاني، لما عرفت من الأدلّة السابقة ؛ على أنّک قد عرفت من عبارة الكفاية أنّ الاكتفاء بحلف المدّعى عليه في المقام خلاف الظاهر من كلماتهم، فتعيّن الثالث، و هو وإن لم يثبت من جهة الدليل لما عرفت، إلّا أنّه من حيث الاعتبار على ما عرفت لابدّ من المصير إليه .

ص: 254

إقامة المدّعي البيّنة بعد نكوله عن الحلف تعتبر أم لا ؟

ثمّ بناءً عليه لو ردّ اليمين على المدّعي و نكل ولم يحلف، سقط به الدعوى، هل يحكم له لو أقام البيّنة بعد ذلک ؟

إشكالٌ من إطلاق الأدلّة الدالّة على اعتبار البيّنة، و من النصوص المتقدّمة الدالّة على أنّ المدّعي لو ردّ إليه الحلف ولم يحلف لا حقّ له .

والتعارض بينهما من قبيل تعارض الظاهرين والعموم من وجه، لأنّ النصّ في اعتبار البيّنة خاصّ من جهة وروده في البيّنة، و عامّ من جهة شموله لما إذا كانت إقامة البيّنة بعد النكول من الحلف أو قبله .

والأخبار الدالّة على أنّ المدّعي لو توجّه إليه اليمين ولم يحلف لا حقّ له، خصوصها لأجل ورودها في المدّعي المتوجّه إليه اليمين بالردّ، و عمومها لأجل حكمه (عليه السلام) بعدم الحقّ إذا لم يحلف حينئذ، و هو أعمّ من أن يقيم البيّنة بعد ذلک، أم لا ؛ و لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيجب التوقّف في مرتبة الاجتهاد، ولكنّ الحاكم عند الحكم مخيّرٌ بين الأخذ بأيّهما شاء، لأنّه الشأن في كلّ ما تعارض فيه الدليلان و لم يكن لأحدهما ترجيح على الآخر .

إن قلت : لا نسلّم عدم ترجيح أحدهما على الآخر فيما نحن فيه، لأنّ إطلاق النصوص الدالّة على أنّ المدّعي بعد توجّه الحلف إليه لو لم يحلف لا حقّ له موافقٌ

ص: 255

بأصالة براءة ذمّة المدّعى عليه عن حقّه، فيجب اختياره والفتوى بعدم سماع البيّنة بعد نكول المدّعي من الحلف .

قلت : هذا الأصل معارض بأصالة بقاء دعوى المدّعي و عدم سقوطها .

إن قلت : هذا لايمكن التمسّک به، لأنّ وجود النصّ الدالّ على أنّه لو نكل لا حقّ له قد أبطل حكم هذا الأصل .

قلت : نقول بعينه في النصّ في البيّنة، لأنّ وجود النصّ الدالّ على اعتبار البيّنة قد أبطل حكم أصالة البراءة، فتساويا ؛ هذا .

و يمكن الجواب عنه بأنّ النصوص الدالّة على أنّ المدّعي بعد النكول سقط حقّه، ليست مطلقة، بل مقيّدة فيما إذا لم يكن له بيّنة، كما تقدّم من قوله : «رجل يدّعي ولا بيّنة له »، و معلوم أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم ؛ و هذا المدّعي أقام البيّنة كما هو المفروض، فلا تشمله النصوص المزبورة، بل هي دالّة على أنّها لو كانت للمدّعي بيّنة لا تسقط الدعوى بمفهومها، فتكون معاضدةً لأدلّة البيّنة، لا معارضة لها، فتأمّل .

إقامة المنكر البيّنة بعد حلف المدّعي لا تسمع

هذا فيما إذا نكل المدّعي من اليمين، ثمّ أقام البيّنة بعد ذلک على حقّه، وأمّا لو حلف، فاستحقّ المال، فادّعى المدّعى عليه بعد ذلک العلم بعدم ثبوت حقّه في

ص: 256

ذمّته، إمّا لعدم ثبوته أوّلاً، أو معه، لكن علم أنّه أدّاه مثلاً، فلا تسمع .

و هل الحكم مختصّ فيما إذا ادّعى العلم و لم يقدر على إقامة البيّنة، أو عامّ ولو مع إقامة البيّنة، فلو أقام البيّنة بعد حلف المدّعي على أدائه حقّه، أو على إبرائه المدّعى عنه، و بالجملة على خروج ذمّته عن ذلک الحقّ الّذي ادّعى المدّعى عليه، فحلف عليه، لا تسمع أيضًا ؟

الظاهر : الثاني، لما عرفت سابقًا من النصّ الدالّ على أنّ البيّنة بعد اليمين لاتنفع، والنصّ وإن ورد في يمين المنكر، لكن يتعدّي الحكم إلى غيره بالتنقيح المناط القطعيّ، لأنّا نعلم أنّ عدم اعتبار البيّنة بعد يمين المدّعي إنّما هو لأجل اليمين، لا من جهة كونه من المنكر، و هو موجود هنا، فيجب الحكم بعدم اعتبارها.

هذا كلّه فيما إذا كان حلف المنكر في فعل نفسه، وأمّا إذا كان حلفه في فعل غيره، فيكفى له الحلف على نفي العلم حينئذ، و ذلک كما تقدّم من أنّه إذا ادّعي على الوارث العلم بموت مورّثه و بثبوت الحقّ في ذمّته و أنكر ذلک، فانّه يكتفى عنه حينئذٍ بالحلف على عدم العلم ولا يحلف على عدم ثبوت الحقّ في ذمّة المورّث مثلاً، لامتناع العلم به غالبًا ؛ ولو فرض حصول العلم له بذلک يجوز له الحلف عليه أيضًا؛ هكذا قال جماعة (1) .

ص: 257


1- . انظر قواعد الأحكام : 3 / 447 ؛ و مجمع الفائدة : 12 / 189 ؛ و مسالک الأفهام : 13 / 493 ؛ وكفايةالأحكام : 2 / 703 ؛ و كشف اللثام : 10 / 130 ؛ والمناهل : 748 ؛ و رياض المسائل : 13 / 131 .

و أقول : الظاهر أنّ هذا القسم من الحلف داخل في الحلف على البتّ أيضًا، لأنّ حلفه وقع على عين ما ادّعى عليه من العلم بموت الموِّرث، أو ثبوت الحقّ في ذمّته، فاليمين على البتّ والقطع، لا على غيره .

ثمّ إنّ هذا الحلف ليس على فعل الغير، لأنّ عدم علمه بموت المورّث مثلاً ليس فعل الغير .

و ممّا ذكر تبيّن أنّه لو ادّعى المدّعي علم المدّعى عليه بما ادّعاه عليه، يكون ذلک من هذا القبيل، و لا إشكال حينئذٍ في حلف المدّعى عليه بنفي العلم ولا في ردّ اليمين إلى المدّعي .

يكفي الحلف على عدم العلم فيما إذا ادّعي

على شخص بأنّ مملوكه جنى جناية يلزمه الأرش

ثمّ اعلم : أنّه قد استشكل في الحكم المذكور من الاكتفاء بالحلف على نفي العلم في مواضع :

منها : لو ادّعي على شخص بأنّ مملوكه جنى جناية يلزمه الأرش و أنكر وعجز عن إثباته بالبيّنة، فهل يكفي الحلف على عدم العلم حينئذ، لأنّه فعل الغير، أو لابدّ من الحلف على البتّ، لأنّ فعل العبد كفعله ؟

ص: 258

قال في القواعد : إشكال (1) . وجهه ما مرّ .

و على الأوّل يسقط الدعوى لو حلف على عدم العلم، أو أقرّ المدّعي بذلک ؛ وعلى الثاني يجب عليه الحلف على البتّ، أو الردّ، و إلّا يقضى عليه بالنكول.

أقول : لا شکّ و لا شبهة في أنّ الأصل براءة ذمّة المدّعى عليه و عدم اشتغال ذمّته بشيء من حقّ المدّعي، فلابدّ في الحكم بثبوت حقّه في ذمّته من دليل وموجب حتّى يمكن الخروج بهما عن مقتضى الأصل .

ولم يثبت لنا دليل يدلّ على أنّ الحقّ هل يثبت في ذمّة المدّعى عليه بمجرّد ادّعاء المدّعي إلّا بعد أن أقام البيّنة على ما ادّعاه، أو بعد أن حلف فيما إذا توجّه اليمين المردودة إليه ؟ والمفروض أنّ الأوّل متعذّر، فبقي الثاني .

فنقول : لم يثبت أيضًا أنّ كلّ يمين من المدّعي يثبت بها الحقّ، لأنّ الظاهر من النصوص المتقدّمة هو ما إذا كان المدّعى عليه متمكّنًا من الحلف على ما ادّعى عليه ظاهرًا ولم يحلف و ردّه إلى المدّعي و حلف، فيستحقّ الحقّ .

و هو غير متحقّق في المقام، لأنّ المدّعى به هو جناية العبد الموجبة للأرش، والمولى غير عالم بذلک، فلا يجوز له الحلف، لما عرفت من أنّ الحلف على شيء موقوفٌ على معلوميّته، و هي مفقودة فيما نحن فيه ولم يثبت أنّ ادّعاء المدّعى عليه عدم العلم بما ادّعى عليه موجبٌ لردّ اليمين إلى المدّعي .

فعلى هذا عدم ردّ المنكر الحلف إلى المدّعي و عدم حلفه على البتّ لايصير

ص: 259


1- . قواعد الأحكام : 3 / 447 .

سببًا لنكوله حتّى يقضى عليه بالنكول، بل الحكم باستحقاق المدّعي للحقّ بعد الحلف لو ردّ إليه مشكل، كما عرفت ؛ على أنّه لا يصدق الردّ هنا، لأنّ الظاهر من الردّ هو إنّما يقال فيما إذا كان المدّعى عليه متمكّنًا من الحلف ولم يحلف، بل أحاله إلى المدّعي، و هناک يقال : إنّه ردّ اليمين و قد عرفت أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل .

{ الحقّ في المسألة }

فعلى هذا الحقّ هو : الاكتفاء بالحلف على نفي العلم في الصورة المفروضة، وفاقًا للمقدّس الأردبيليّ و صاحب الكفاية (1) .

و إثباته من الأدلّة وإن كان مشكلاً لما عرفت سابقًا من عدم الدليل على الحلف بنفي العلم، إلّا أنّ الحاكم لمّا نصب لرفع الخصومة فيجب عليه أن يرفعها، و رفعه يمكن إمّا بالحكم بفساد دعوى المدّعي، أو بالحكم على الحلف على البتّ للمنكر، أو الاكتفاء بالحلف على عدم العلم .

والأوّل والثاني لايجوز اختيارهما لما عرفت، فتعيّن الثالث، و هو وإن كان مشتركًا مع الثاني في كونه مخالفًا للأصل، إلّا أنّه أقلّ ممّا يندفع به الضرورة، ومعلوم أنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، فعلى هذا لو حلف المنكر على نفي العلم تسقط به الدعوى، وإلّا يقضى عليه بالنكول .

ص: 260


1- . انظر مجمع الفائدة : 12 / 191 و 192 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 704 .

لكن لايخفى عليک أنّه لو أقام المدّعي البيّنة بعد حلف المدّعى بنفي العلم ينبغي قبولها والحكم بمقتضاها ؛ و كذا الحكم في كلّ ما كان مثل المقام، لعموم الأدلّة الدالّة على اعتبارها من غير معارض في المقام، لاختصاص النصوص الدالّة على عدم اعتبار البيّنة بعد حلف المنكر فيما إذا كان حلفه على البتّ، كما نبّهنا عليه سابقًا و أوضحناه .

هذا إذا حلف المنكر على نفي العلم وإن لم يحلف و قضى عليه بالنكول، فلو أقام البيّنة على براءة ذمّته عمّا ادّعى عليه المدّعي، فكذلک أيضًا بناءً على المختار من أنّه يقضى بالنكول من غير حلف المدّعي، فيجب قبول البيّنة والحكم بمقتضاها لما عرفت .

وأمّا على القول الآخر فلا، لما مرّ سابقًا، لكن لايبعد هنا القول بعدم القضاء بالنكول إلّا بعد الحلف على المدّعي، لأنّ المتبادر من الدليل المتقدّم للقول المختار غير ما نحن فيه .

و لقائل أن يقول : إنّه ينبغي على كلا القولين عدم الردّ هنا، لأنّ الظاهر من الردّ هو ما ردّ إلى المدّعي الحلف الّذي نكل المنكر منه، و هو لم يتحقّق في المقام، لأنّ اليمين الّتي نكل المنكر منها هي اليمين على عدم العلم و الّتي يحلفها المدّعي هي العلم بالعدم، فتأمّل (1) .

ص: 261


1- . جاء في حاشية الأصل : وجهه واضح، لأنّ كون المراد من اليمين الّتي يردّ إلى المدّعي هي اليمين الّتينكل منها المنكر ممنوع، لأنّ إحداهما منفية والأخرى مثبتة، فإذا جاز الاختلاف على هذا الوجه ينبغي أنيجوز كون إحداهما على عدم العلم والأخرى على العلم بالعدم، فتأمّل ؛ منه .

و من المواضع المذكورة : ما لو نصب البائع وكيلاً لقبض الثمن و تسليم المبيع، فادّعى المشتري : موكّلک أوجب عليک تسليم المبيع قبل قبض الثمن، و هو ينكره، فهل يكفي حينئذٍ الحلف على نفي العلم، لأنّ إيجاب تسليم المبيع فعل الغير، أو لابدّ من الحلف على البتّ، لأنّه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المنع ؟

و منها : ما لو طولب البائع بتسليم المبيع، فادّعى حدوث عجز عنه و قال للمشتريّ : أنت عالم بذلک، و هو ينكره .

والحقّ في الموضعين أيضًا ما تقدّم، لما تقدّم وفاقًا لمن تقدّم (1) .

ثمّ لايخفى عليک أنّ الحلف في جميع هذه المواضع على البتّ والقطع، لأنّه حلف على عدم العلم، و عدم العلم مقطوع به، فقول بعضهم (2) : إنّ اليمين على البتّ إلّا إذا كانت على نفي فعل الغير (3) ، لا وجه له .

وإنمّا الفرق بين فعل نفسه و فعل غيره هو : أنّ الحلف في الأوّل على نفي الفعل، وفي الثاني على عدم العلم بالفعل .

و بعبارة أخرى : أنّ الحلف في الأوّل على العلم بالعدم، و في الثاني على عدم العلم .

ص: 262


1- . انظر مجمع الفائدة : 12 / 191 و 192 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 704 .
2- . جاء في حاشية الأصل بخطّ المصنّف (قدس سره): كالمبسوط و غيره .
3- . المبسوط : 8 / 206 .

الفرق بين حلف المدّعي والمنكر

هذا إذا كان الحلف من المنكر، وأمّا إذا كان من المدّعي فإنّه يحلف على البتّ في فعله و فعل غيره كما تقدّم، فالفرق بين حلف المدّعي والمنكر هو أنّ حلف المدّعي على البتّ في فعله و فعل نفسه، و حلف المنكر على البتّ في نفي فعله وعلى البتّ أيضًا في عدم العلم بفعل الغير، لا أنّ حلفه على البتّ في نفي فعله وعلى عدم البتّ في نفي فعل غيره، كما يظهر من الكفاية حيث قال :

و يظهر من الضابطة المذكورة أنّ حلف المدّعي دائمًا على البتّ ؛ وحلف المنكر ينقسم إلى قسمين (1) .

و أراد من الضابطة أنّ حلف المدّعي على البتّ و حلف المنكر على البتّ في فعله و على عدم العلم في فعل غيره، و أنت قد عرفت أنّه أيضًا من الحلف على البتّ .

نعم، الفرق بين حلفهما هو أنّ حلف المدّعي على العلم بالفعل، و حلف المنكر على العلم بعدم الفعل و على عدم العلم بعدم الفعل كما عرفت، لكنّ الجميع على البتّ .

إلّا أن يقال : المتبادر من قولهم : « لابدّ في الحلف أن يكون على البتّ »، هو ما

ص: 263


1- . كفاية الأحكام : 2 / 704 ؛ مع اختلاف يسير في العبارة .

إذا تعلّق العلم في الحلف بثبوت الفعل أو بنفيه، فلا يشمل الصورة الّتي تعلّق العلم فيها بعدم العلم بنفيه ؛ و لهذا لايقال لمن حلف على أنّه ظانّ بكذا : إنّه حلف على البتّ مع أنّه عالم بكونه ظانًّا .

و كذا الكلام في مَن حلف على أنّه شاکّ أو متوهّم بكذا مع علمه بحصول الشکّ والوهم فيه، فتأمّل .

فعلى هذا يكون معنى قولهم : « الحلف لابدّ أن يكون على البتّ والقطع » هو : أن يكون الحلف بحيث لو وجد لدلّ على أنّ الحالف عالم بثبوت الفعل أو بنفيه، فحينئذٍ يكون حلف المنكر على قسمين، أحدهما : حلفه على نفي الفعل، والثاني: حلفه على عدم العلم بذلک، والأوّل على البتّ دون الثاني بناءً على ما ذكر .

لا يجوز أن يحلف على البتّ مع عدم العلم

47- مسألة

اشارة

لا يجوز للحالف أن يحلف على البتّ مع عدم العلم مطلقًا، سواء كان ظانًّا أو شاكًّا، و كان ظنّه من شهادة عدل، أو عدلين، أو من خطّ و قرينة، كنكول المنكر وخطّ المورّث .

بمعنى أن يحلف مع عدم العلم على نحو يفهم منه أنّه عالم بما حلف عليه .

ص: 264

للإجماع على ما يظهر من بعض المحقّقين من المتأخّرين (1) .

و لأنّ الحلف على نحو يفهم منه أنّه عالم بذلک مع أنّه ليس الأمر كذلک كذب حرام، فيشمله النصوص الناهية عن الحلف كاذبًا، و قد تقدّم جملة منها .

و لأنّ الحلف منهيّ عنه بالكتاب و السنّة، قال الله - تعالى - : ( لا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم ) (2) ، بناءً على ما مرّ في أحد المعنيين خرج منهما ما إذا كان الحالف عالمًا بما يحلفه بالإجماع و السنّة، فبقي الباقي داخلاً تحت النهي .

و خصوص النصوص المستفيضة، منها : الصحيح المرويّ عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) : لا يحلف الرجل إلّا على علمه (3) .

و منها : ما رواه أبو بصير عنه (عله السلام) أيضًا : لايستحلف (4) الرجل إلّا على علمه (5) .

و منها : ما رواه محمّد بن يحيى عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لايستحلف العبد إلّا على علمه، ولا يقع إلّا على العلم، يستحلف أو لم يستحلف (6) .

ص: 265


1- . يظهر من كشف اللثام : 10 / 128 .
2- . البقرة : 224 .
3- . الكافي : 7 / 445 ح 1 ؛ التهذيب : 8 / 280 ح 1020 ؛ الوسائل : 23 / 246 ح 29491 .
4- . في التهذيب : لا يحلف .
5- . الكافي : 7 / 445 ح 2 ؛ التهذيب : 8 / 280 ح 1021 ؛ الوسائل : 23 / 247 ح 29492 .
6- . التهذيب : 8 / 280 ح 1022 .

و بالجملة : المسألة واضحة، لكن بقي الكلام في أنّه هل يجوز له أن يحلف على ما عنده من الظنّ والشکّ والوهم ؟

الظاهر ذلک، لأنّ حلفه حينئذٍ على العلم، لكن لا فائدة لهذا الحلف، إذ غاية مايستفاد من هذا الحلف أنّه ظانّ مثلاً، وقد عرفت أنّ الدعوى مع الظنّ غير مسموعة .

نيّة الحالف إذا كانت على خلاف ما حلف عليه لا تضرّه

48- مسألة

إعلم : أنّ المعتبر في نيّة اليمين إذا كانت من المنكر هو ما قصده المدّعي والقاضي واحلفاه عليه، سواء قصده المنكر، أم لا، بل لايجوز له أن يقصد غيره، فلو قصده فعل محرّمًا ولم يضرّ في انعقاد اليمين و ترتّب أثرها ؛ وإذا كانت من المدّعي هو ما قصده المنكر والقاضي واحلفاه عليه، و بالجملة كما تقدّم .

و فيما إذا ردّها القاضي بنكول المنكر - بناءً على القول به - المعتبر قصد القاضي، سواء قصده الحالف، أم لا، فلا يجوز للحالف قصد سوى ما وقع عليه الحلف ظاهرًا، ولو فعل لم يضرّ مطلقًا، سواء كانت من المنكر أو المدّعي، هي نيّة القاضي الّذي أحلفه عليها، سواء قصدها، إذ لو أضرّ ذلک في انعقادها يلزم منه ضياع الحقوق، لاحتمال أنّ كلّ حالف يضمر في قلبه خلاف ما وقع عليه الحلف

ص: 266

ظاهرًا، فيحلف و يأخذ ماله .

و لما روي عن مسعدة بن صدقة في الموثّق أنّه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: و سئل عمّا لايجوز من النيّة على الإضمار في اليمين، فقال (عليه السلام) : قد يجوز في موضع و لا يجوز في آخر، فأمّا ما يجوز فإذا كان مظلومًا فما حلف به ونوى اليمين فعلى نيّته، و أمّا إذا كان ظالمًا فاليمين على نيّة المظلوم (1) .

و عنه (صلي الله عليه واله) أنّه نهى أن يُلْغَزَ (2) في الأيمان و قال : إذا كان مظلومًا فعلى نيّة الحالف، و إن كان ظالمًا فعلى نيّة المستحلف (3) .

وجه الاستدلال واضح، لأنّ كلاًّ من المنكر والمدّعي إذا أراد في حلفه خلاف ما قصده خصمه فقد ظلمه، فإنّ قصده خلاف ذلک ليس إلّا لأجل أنّ الحقّ في جانب خصمه، فلا يعتبر قصده، بل اليمين على قصد المستحلف .

و بما ذكر من النصّ و غيره يقيّد إطلاق النبويّ : « اليمين على ما يستحلف الطالب » (4) ؛ بأن يقال : إنّ المراد منه إذا كان الطالب مظلومًا .

والصحيح المرويّ عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن (عليه السلام) : « عن الرجل

ص: 267


1- . الكافي : 7 / 444 ح 1 ؛ التهذيب : 8 / 280 ح 1025 ؛ الوسائل : 23 / 245 ح 29488 .
2- . اللغز التشبيه في الكلام، و هو أن يريد الشيء فيشبه بغيره و يوهم السامع الّذي يشبه به، هو المراد منقوله، وهو ينوي و يضمر غيره، و يستحلف أهل الذمّة بالله و بما يعظمونه من أيمانهم ؛ تمّت من مختصرالآثار (دعائم الإسلام : 2 / 96 ، الهامش 1 ).
3- . دعائم الإسلام : 2 / 96 ح 301 .
4- . روى هذا الخبر في « كشف اللثام : 10 / 131 » عن النبيّ (صلي الله عليه واله)؛ و في « دعائم الإسلام : 2 / 96 » عنجعفر بن محمّد (عليهماالسلام).

يحلف و ضميره على غير ما حلف عليه ؟ قال: الحلف (1) على الضمير (2) ». بأن يقال : إنّ المراد به أيضًا إذا كان الحالف مظلومًا .

و يمكن تقييده بما إذا لم يكن هناک طالب و مطلوب، بل الرجل يحلف بنفسه، لكن ضميره على غير ما حلف عليه، فقال (عليه السلام) : « الحلف على الضمير ».

49- مسألة

لو قال المدّعي بعد إقامة البيّنة : « إنّ بيّنتي كذبت »، لم يجز الحكم بشهادتهاحينئذٍ ؛ و ذلک واضح .

و هل يقتضي ذلک فساد الدعوى و بطلانها، فلا تسمع بعد ذلک و لا يطلب ببيّنة أخرى ؟

فيه تفصيل، و هو : أنّ شهادة البيّنة إن كانت هكذا : نشهد أنّه أقرضه كذا أو ابتاعه كذا مثلاً ؛ أو قالوا : و كان ذلک في حضورنا أو نعلم ذلک، فلا تبطل الدعوى حينئذ، لجواز أن يكون تكذيبه للبيّنة حينئذٍ لأجل عدم علمها بالمشهود به، لا لأجل عدم الشهود به .

ألا ترى قوله - تعالى - : ( إذا جاءک المنافقون قالوا نشهد إنّک لرسول الله والله يعلم إنّک لرسوله والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون ) (3) ، فقد نسب الله - تعالى -

ص: 268


1- . في المصادر : اليمين .
2- . الكافي : 7 / 444 ح 3 ؛ التهذيب : 8 / 280 ح 1024 ؛ الوسائل : 23 / 246 ح 29490 .
3- . المنافقون : 1.

المنافقين إلى الكذب مع أنّ المشهود به - و هو كونه (صلي الله عليه واله)رسول الله - حقّ، فتكذيبهم حينئذٍ للمنافقين، لأجل عدم علمهم بالمشهود به، إذ الشهادة على شيء يدلّ على علم الشاهد بذلک الشيء، فإذا لم يكن الشاهد عالمًا بذلک الشيء كان كاذبًا في شهادته، و هو لايستلزم كون المشهود به كذبًا، كما عرفت .

وأمّا إذا لم يكن كذلک بأن اقتصروا على قولهم : « إنّه أقرضه كذا، أو ابتاعه كذا» و هكذا، فالظاهر بطلان الدعوى حينئذ، لأنّ قول البيّنة حينئذٍ هو أصل الدعوى وقد أقرّ الخصم بأنّها كاذبة، و هو يستلزم إقراره بكذب دعواه، فلا تسمع بعد ذلک .

هذا إذا أقرّ عند الحاكم بتكذيب الشهود، أو أكذبها عنده، أو أثبت ذلک المنكر ببيّنة عند الحاكم ؛ وأمّا إذا ادّعى الخصم عليه ذلک و أنكر و أقام شاهدًا واحدًا على ذلک، هل يمكن له أن يحلف على أنّه أقرّ بكذب شهوده، أو لا ؟

مبنيٌّ على ما تقدّم من أنّ اليمين والشاهد الواحد إنّما تسمع في الأموال، أو ما كان المقصود منه المال، فإن كانت شهادة البيّنة من قبيل الثاني، فينبغي أن تسمع، لإسقاط الدعوى حينئذٍ بالمال .

و أمّا إن كانت من قبيل الأوّل فلا، لأنّ الدعوى حينئذٍ ليست بمال و لا المقصود منه المال ؛ أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فكذلک أيضًا، إذ مع ثبوت الدعوى لايستحقّ المال (1) .

ص: 269


1- . لاحظ المسألة في تحرير الأحكام : 5 / 171 ؛ و قواعد الأحكام : 3 / 448 ؛ و إيضاح الفوائد : 4 / 345؛وكشف اللثام : 10 / 132 .

فصلٌ

في التوصّل إلى الحقّ

50- مسألة

اشارة

إعلم : أنّ حقّ المدّعي إمّا عقوبة أو مال ؛ و إن كان عقوبة - كالقصاص و حدّ القذف - فلابدّ من الرفع إلى الحاكم، لا أعرف فيه خلافًا كما في الكفاية (1) ، فلايجوز للمدّعي استيفائها بنفسه .

و إن كان مالاً فلا يخلو إمّا أن يكون عينًا أو دينًا ؛ أمّا الأوّل فحكمه أنّ من كان له عين عند آخر و تيقّن استحقاقها وأمكن انتزاعها من غير تحريک فتنة، يجوز له ذلک بأيّ نحو كان ولو قهرًا، ولايحتاج إلى إذن الحاكم بلا خلاف، كما صرّح به بعضهم (2) ؛ و في الإيضاح : عليه الإجماع (3) .

و وجهه مع ذلک واضح، لأنّ المقتضي موجود والمانع مفقود، فوجب القول به .

أمّا الأوّل فلأنّ المفروض أنّها ماله، و معلوم أنّ للمالک التصرّف في ماله، لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم .

ص: 270


1- . كفاية الأحكام : 2 / 721 .
2- . صرّح به في رياض المسائل : 13 / 164 ؛ وانظر كشف اللثام : 10 / 133 .
3- . إيضاح الفوائد : 4 / 346 .

وأمّا الثاني فلأنّه المفروض، و معلوم أنّ مجرّد كونها في يد الغير لايمنع من ذلک بالضرورة .

و من قبيل المسألة أنّه لو رأى عينًا من ماله في يد الغير و هو يدّعي تملّكه بالشراء و غيره، و هو عالم بخلافه و خاف أنّه لو أظهر أنّها من ماله لاحتاج إلى الترافع عند الحاكم و إقامة الشاهد، و هي غير ممكن له، يأخذه من غير أن يظهر ذلک، كأن يقول له : أعْطِيني، لأن ألاحظها مثلاً، فإذا أخذ يمتنع من تسليمها .

و أنكر كونها من مال الّذي كانت عنده، فيكون المالک حينئذٍ منكرًا، فإذا ترافعا عند الحاكم له أن يحلف أنّها من ماله وأنّ خصمي ما يستحقّ منّي شيئًا، فتبطل دعوى خصمه .

هذا إذا لم يؤدّ انتزاعها بنفسه إلى الفتنة، وأمّا إذا أدّى إليها قال في المسالک والكفاية : فلابدّ من الحاكم (1) .

أقول : الحاكم غير متعيّن، بل لابدّ ممّن أمن معه من حدوث الفتنة ولو كان غير حاكم .

و أمّا الثاني - أي لو كان الحقّ دينًا - فلا يخلو إمّا أن يقرّ الخصم بذلک، أو ينكره .

والأوّل لايخلو إمّا أن يكون باذلاً غير مماطل، أو مماطلاً، أو غير باذل، لكن

ص: 271


1- . مسالک الأفهام : 14 / 69 ؛ كفاية الأحكام : 2 / 721 ؛ و عبارة المسالک هكذا : فلابدّ من الرفع إلى الحاكمدفعًا لها .

يمكن الانتزاع بالحاكم، ففي الجميع لايجوز له أن يستقلّ بالانتزاع، بل لابدّ من إذن الغريم في الأوّل، لأنّ حقّه أمر كلّيّ في ذمّة المديون و له التخيير في تعيينه من ماله، فلا يتعيّن في شيء منه بدون تعيينه .

ولأنّ الأصل عدم جواز التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه، فلا يجوز له الأخذ من ماله إلّا بإذنه، ولا مدخل للحاكم في ذلک أيضًا، لأنّ المفروض أنّ الغريم باذل ومن اذن الحاكم في غيره، لما عرفت من أنّ الأصل عدم جواز تصرّف غير المالک في المال من غير إذنه .

و عدم بذل الغريم للمال، أو مماطلته في ذلک ليس موجبًا للخروج عن مقتضاه مع فرض إمكان الانتزاع بالحاكم، لوجوب الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن، و هو ما إذا لم يبذل الغريم أو يماطل فيه ولم يمكن العلاج بالحاكم أيضًا.

و فصّل بعض المحقّقين من المتأخّرين في المقام (1) بأنّ الغريم لو أقرّ وامتنع من الأداء، فلا يخلو إمّا أن يكون بعد الرفع إلى الحاكم، أو قبله ؛ و ما ذكر من عدم جواز استقلال المدّعي بالأخذ والتوقّف على إذن الحاكم هو مختصّ بصورة الأولى - أي بعد الرفع إلى الحاكم - وأمّا قبله فقد نسب إلى الأكثر جواز الأخذ من دون إذن الحاكم بعد أن اختاره ؛ و هو الحقّ، إذ لم نجد دليلاً على توقّف الأخذ على إذن الحاكم فيما ذكر إلّا الأصل المتقدّم .

ص: 272


1- . التفصيل للفاضل الأصبهانيّ (قدس سره) في كشف اللثام : 10 / 133 .

والجواب عنه : أنّه معارض بأصالة البراءة من وجوب الرفع إلى الحاكم، فإذا تعارضا تساقطا، فله أن يأخذ حقّه بأيّ وجه اتّفق ؛ على أنّه يمكن الترجيح لهذا الأصل بما في الرفع إلى الحاكم من المشقّة، سيّما بعد شمول قوله - تعالى - : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (1) .

و معلومٌ من امتنع من أداء الحقّ اعتدى على صاحبه، بل المماطل للأداء من غير عذر شرعيّ أيضًا كذلک .

و سيجيء الكلام في الآية إن شاء الله - سبحانه - وكذا بعض ما سيجيء في المسألة الآتية .

بعد إنكار الغريم يجوز لصاحب الحقّ أخذه من ماله مطلقًا

هذا كلّه فيما إذا أقرّ بالحقّ، وأمّا إذا أنكره فلايخلو إمّا أن يكون للمدّعي على حقّه حجّة يتمكّن معها من إثباته عند الحاكم، أو لا ؛ و على الأوّل قال في النافع (2) : لايستقلّ المدّعي بالأخذ حينئذٍ أيضًا (3) .

ص: 273


1- . البقرة : 194.
2- . المختصر النافع : 276 ؛ مع اختلاف يسير في العبارة .
3- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): قال شيخ الطائفة في النهاية : و متى كان للإنسان على غيره دين فحلفهعلى ذلک لم يجز له مطالبته بعد ذلک بشيء منه، فإن جاء الحالف تائبًا فردّ عليه ماله جاز له أخذه . إلى أنقال : فإن لم يحلف، لكنّه لا يتمكّن من أخذه و وقع له عنده مال، جاز له أن يأخذ حقّه منه من غير زيادةعليه { النهاية : 307 ، مع اختلاف يسير في العبارة }.

للأصل المتقدّم ؛ والمشهور بين الأصحاب الجواز - كما صرّح به في الكفاية وغيرها (1) - و هو الحقّ .

والجواب عن الأصل أنّه معارض بما تقدّم، سيّما مع شمول الآية، إذ من أنكر حقّه اعتدى عليه بلا شبهة، فيجوز له الأخذ ولو من غير إذن الحاكم، لقوله -تعالى - ( و من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (2) ، و عموم الأدلّة الآتية .

وأمّا إذا لم يكن له حجّة يتمكّن معها من إثباته عند الحاكم، فيجوز للمدّعي أن يستقلّ بأخذ حقّه بلا خلاف فيه كما صرّح به جمع (3) ، والدليل عليه مع ذلک كثير،كقوله - تعالى - : ( و من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ).

إعلم : أنّ « اعتدى » في قوله تعالى : ( و من اعتدى عليكم ) المراد به المعنى الحقيقيّ، وأمّا قوله تعالى : ( فاعتدوا عليه )، فليس المراد به المعنى الحقيقيّ، وهو واضح، لأنّ أخذ المال حينئذٍ ليس من العدوان .

و قوله تعالى : ( فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) (4) ، والكلام فيه مثل الكلام في الآية السابقة عليه .

ص: 274


1- . صرّح به في الكفاية : 2 / 723 ؛ والمسالک : 14 / 70 ؛ و غاية المرام : 4 / 254 ؛ و كشف اللثام : 10 /133 ؛ و رياض المسائل: 13 / 165 .
2- . البقرة : 194.
3- . صرّح به في الكفاية : 2 / 722 ؛ و غاية المرام : 4 / 254 ؛ و كشف اللثام : 10 / 133 ؛ و رياض المسائل :13 / 166 .
4- . النحل: 126.

و قوله (صلي الله عليه واله): « ليّ الواجد يُحلّ عقوبته و عِرْضَه » (1) .

الليّ : المطل (2) ، و المراد بالعقوبة : الحبس، و بالعِرض : المطالبة .

وجه الاستدلال هو : أنّه لو جاز الحبس و المطالبة بالمال بالمماطلة مع الإقرار بالحقّ، فجواز أخذ المال مع الإنكار بطريق أولى .

و صحيحة (3) داود بن زربي (4) قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّي أعامل قومًا

فربما أرسلوا إليّ فأخذوا منّي الجارية والدابّة، فذهبوا بها منّي، ثمّ يدور لهم المال عندي، فآخذ منه بقدر ما أخذوا منّي ؟ فقال : خذ منهم بقدر ما أخذوا منک ولا تزد عليه (5) .

و صحيحته الأخرى أيضًا : قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إنّي أخالط السلطان،

ص: 275


1- . أمالي الطوسي : 520 ح 1146 ؛ الوسائل : 18 / 333 ح 23793 ؛ عوالي اللّألئ : 4 / 72 ح 44 ؛ مسندأحمد : 4 / 222 ؛ صحيح البخاري : 3/155 ؛ سنن أبي داود : 3 / 313 ح 3628 ؛ سنن النسائي : 7 /316 ؛ سنن البيهقي : 6 / 51 .
2- . المطل : « التسويف بالعدّة و الدين »، كما في القاموس المحيط : 4 / 51 .
3- . جاء في حاشية الأصل : المرويّة في الفقيه في باب الدين والفرض ؛ منه .
4- . جاء في حاشية الأصل : « رزين »، و عليه علامة : خ ل . قال في « جامع الرواة » ذيل ترجمة داود بنزربي، بعد إشارته إلى هذا الاختلاف : الظاهر أنّ ابن رزين سهو، لعدم وجوده في كتب الرجال، والله أعلم،إنتهى ( جامع الرواة : 1 / 303 ). ولم يذكره الكشّي أيضًا في كتابه، نعم قد تعرّض لداود بن زربي، قال : وكانأخصّ الناس بالرشيد ( إختيار معرفة الرجال : 2 / 600 ). و قد تعرّض أيضًا العلّامة في الخلاصة بعنوان :داود بن زربي، قال : و كان أخصّ الناس بالرشيد، و أورد الكشّي ما يشهد بسلامة عقيدته، و قال النجاشي :إنّه ثقة، ذكره ابن عقدة ( الخلاصة : 142 ).
5- . الفقيه : 3 / 187 ح 3703 .

فيكون عندي الجارية، فيأخذونها و (1) الدابّة الفارهة، فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال، فلي أن آخذه ؟ فقال : خذ مثل ذلک ولا تزد عليه (2) .

والصحيح (3) المرويّ عن الحسن بن محبوب، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرميّ قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل كان له على رجل مال، فجحده إيّاه و ذهب به منه (4) ، ثمّ صار إليه بعد ذلک منه للرجل الّذي ذهب بماله مال مثله (5) ، أيأخذه مكان ماله الّذي ذهب به منه ؟ قال: نعم، يقول (6) : اللّهمّ إنّي إنّما آخذ هذا مكان مالي الّذي أخذه منّي (7) .

و في الفقيه بعد نقله الحديث : و في خبر آخر ليونس بن عبدالرحمن عن أبي بكر الحضرميّ مثله، إلّا أنّه قال : يقول : اللّهمّ إنّي لم آخذ ما أخذت منه خيانة ولا ظلمًا، ولكنّي أخذته مكان حقّي (8) .

اعلم : أنّ ما اشتمله الموثّق المذكور و غيره من الأمر بالدعاء حين أخذ المال

ص: 276


1- . في المصدر : أو .
2- . التهذيب : 6 / 338 ح 939 ؛ رواه باسناده عن ابن أبي عمير عن داود بن رزين . و روى مثله فيه أيضًا :6/347 ح 978 ؛ باسناده عن الحسين بن سعيد، عن داود بن زربي .
3- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : رواه في التهذيب في باب الديون .
4- . « منه » لم يرد في التهذيب .
5- . في التهذيب : قبله .
6- . في التهذيب : نعم، ولكن لهذا كلام يقول .
7- . الكافي : 5 / 98 ح 3 ؛ الفقيه : 3 / 186 ح 3699 ؛ التهذيب : 6 / 98 ح 439 ؛ الوسائل : 17 / 274 ح22503 .
8- . الفقيه : 3 / 186 ح 3700 .

وإن كان ظاهرهما الوجوب، لكنّه محمول على الاستحباب، لأنّ ظاهر الأصحاب عدم وجوب الدعاء حينئذ، حيث ذكروا المسألة مفتين بها من غير ذاكرين للدعاء.

ويؤيِّده خلوّ جملة من النصوص الواردة في المسألة عن الأمر به مع ورودها في مقام الحاجة، كالصحيحين المتقدّمين، واختلاف المتضمّن له كما عرفت من كلام الفقيه، لأنّ الاختلاف علامة الاستحباب .

و من جملة النصوص في المسألة ما روي عن أبي بكر الحضرميّ في الموثّق: قال: قلت: رجل لي عليه دراهم فجحدنا (1) و حلف عليها، أيجوز لي أن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي ؟ قال: فقال: نعم، ولكن لهذا كلام ؛ قلت: و ما هو ؟ قال: تقول: اللّهمّ إنّي (2) لم آخذه ظلمًا ولا خيانة وإنّما أخذت منه (3) مكان مالي الّذي أخذ منّي لم ازدد عليه شيئًا (4) .

و هو مع اشتماله على الأمر بالدعاء متضمّن للاقتصاص بعد الحلف .

والجواب عنه : أنّه محمول فيما إذا كان الحلف من غير استحلاف المدّعي بإذن الحاكم، لما مرّ من النصوص المستفيضة في عدم جواز الاقتصاص بعد الإحلاف ؛ وهذا أولى من إبقائه على إطلاقه و حمل النهي في النصوص المتقدّمة على الكراهة، لأولويّة التقييد من المجاز عند تعارضهما في نفسه، مع أنّه هنا لابدّ من

ص: 277


1- . في المصدر : فجحدني .
2- . « إنّي » لم يرد في التهذيب .
3- . في المصدر بدل « أخذت منه » : أخذته .
4- . الاستبصار : 3 / 52 ح 168 ؛ التهذيب : 6 / 348 ح 982 ؛ الوسائل : 17 / 273 ح 22502 .

هذا الحمل، لما عرفت من اتّفاق الأصحاب على عدم جواز الاقتصاص بعد الإحلاف، لا على كراهته .

و من النصّ في المسألة أيضًا ما رواه جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له على الرجل الدين، فيجحده، فيظفر من ماله بقدر الّذي جحده، أيأخذه و إن لم يعلم الجاحد بذلک ؟ قال : نعم (1) .

ولا يخفى أنّ ترک الاستفصال في هذه النصوص من تمكّن إثبات حقّه عند الحاكم و غيره يفيد العموم، لكن الصحيح الثاني ظاهر في أنّه لايمكن فيه ذلک، لأنّ الدعوى والترافع مع السلطان الظاهر أنّه غير ممكن، لكن غيره من النصّ عامّ وكذا الآيتان، فالحقّ شمول الحكم له أيضًا .

{ هل يشمل الحكم فيما إذا نسي الغريم الدين

واستحى صاحب الحقّ إظهاره ، أم لا ؟ }

ثمّ هل يشمل الحكم فيما إذا نسي الغريم الدين واستحى صاحب الحقّ إظهاره، فإذا حصل عنده من ماله يأخذ بمثل ماله، أم لا ؟

الظاهر الثاني، للأصل المتقدّم من غير معارض، و هو عدم جواز التصرّف في مال الغير إلّا بإذنه، و لا تشمله الأدلّة المتقدّمة أيضًا .

ص: 278


1- . الاستبصار : 3 / 51 ح 167 ؛ التهذيب : 6 / 349 ح 986 ؛ الوسائل : 17 / 275 ح 22508

أمّا عدم شمول الآيتين له فواضح، لأنّه لا يصدق على من نسي وفاء الدين أنّه اعتدى على صاحب الحقّ ولا عاقبه .

وأمّا النصوص فأوضح، فالخروج عن مقتضى الأصل مع فقد ما يوجبه غير جائز، و على صاحب الحقّ أن يذكره .

يجوز أخذ صاحب الدين حقّه من الوديعة

ولا يخفى أنّ ما مرّ من جواز الاقتصاص من مال الغريم و نقل اتّفاق الأصحاب عليه إنّما هو إذا لم يكن المال المذكور عنده بعنوان الوديعة .

و أمّا إذا كان كذلک، ففيه خلاف بين الأصحاب، و ما اختاره في التهذيب والاستبصار والشرائع والإرشاد والقواعد والإيضاح والمسالک والكفاية هو الجواز مع الكراهية (1) .

و هو المنقول عن السرائر والمختلف والنكت للشهيد و شرح الشرائع للصيمريّ و شرح النافع للفاضل المقداد (2) .

ص: 279


1- . انظر التهذيب : 6 / 349 ؛ والاستبصار : 3 / 53 ؛ والشرائع : 4 / 109 ؛ والقواعد : 3 / 213 ؛ والإرشاد :2/ 143 ؛ والإيضاح : 4 / 347 ؛ والمسالک : 14 / 71 ؛ والكفاية : 2 / 723 .
2- . انظر السرائر : 2 / 36 ؛ والمختلف : 5 / 28 و 8 / 145 ؛ و غاية المراد : 4 / 24 ؛ والتنقيح : 4 / 268 ؛وغاية المرام : 4 / 254 .

و في المسالک و الكفاية و شرح القواعد للفاضل نسبوه إلى أكثر المتأخّرين (1) .و هو الحقّ، لما تقدّم من الأدلّة من النصوص والآية .

أمّا النصوص فلأنّ ترک الاستفصال في جملة منها من أنّ المال الّذي حصل بيد صاحب الحقّ أنّه بالوديعة و غيرها يفيد العموم .

و أمّا الآية فلأنّ قوله - سبحانه - : ( فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى ) مطلق شامل لكلّ ما يمكن الاعتداء به عليه و لو كان وديعة .

و خصوص النصوص الواردة في المسألة، منها : ما رواه إسحاق بن إبراهيم أنّ موسى بن عبد الملک كتب إلى أبي جعفر (عليه السلام) (2) يسأله عن رجل دفع إليه مالاً ليفرقه (3) في بعض وجوه البرّ، فلم يمكنه صرف ذلک المال في الوجه الّذي أمره به وقد كان له عليه مال بقدر هذا المال، فقال : هل يجوز لي أن أقبض مالي، أو أردّه عليه واقتضيه ؟ فقال (4) : اقبض مالک ممّا في يديک (5) .

و منها : ما رواه عليّ بن سليمان قال : كتبت (6) إليه رجل غصب رجلاً مالاً أو جارية، ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه، أيحلّ له

ص: 280


1- . انظر المسالک : 14 / 71 ؛ والكفاية : 2 / 723 ؛ و كشف اللثام : 10 / 133 ؛ والرياض : 13 / 168 .
2- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : هكذا في الاستبصار، و في كشف اللثام : إلى الجواد (عليه السلام){ انظر كشفاللثام : 10 / 134 }.
3- . في المصدر : ليصرفه .
4- . في المصدر : فكتب .
5- . الاستبصار : 3 / 52 ح 170 ؛ التهذيب : 6 / 348 ح 984 ؛ الوسائل : 17 / 275 ح 22506 .
6- . في المصدر : كتب .

حبسه عليه، أم لا ؟ فكتب (عليه السلام) : نعم، إن كان بقدر حقّه (1) ، وإن كان أكثر فليأخذ (2) منه ما كان عليه و يسلم الباقي إليه إن شاء الله (3) .

و منها : الصحيح المرويّ عن أبي العبّاس البقباق : أنّ شهابًا ما رآه (4) في رجل ذهب له ألف درهم واستودعه بعد ذلک ألف درهم، قال أبو العبّاس : فقلت له : خذها مكان الألف الّذي أخذ منک، فأبى شهاب قال: فدخل شهاب على أبي عبدالله (عليه السلام )، فذكر له ذلک، فقال : أمّا أنا فأحبّ إليَّ (5) أن تأخذ و تحلف (6) .

ولعلّ المراد من قوله (عليه السلام): « و تحلف » هو أنّه إذا طلب المودع منک الوديعة فأنكرها، فإن أحلفک يجوز لک أن تحلف، و حلفه حينئذٍ إمّا على عدم الاستحقاق مطلقًا، لأنّ المودع لايستحقّ منه شيئًا، أو على عدم الاستيداع مع التورية .

والضمير في قوله : « انّ شهابًا ما رآه » يعود إلى أبي العبّاس، والممارات : المعارضة، أي : عارض أبا العبّاس .

ثمّ إنّ قوله (عليه السلام) : « و أحبّ إليّ » كيف يجتمع مع اتّفاق الأصحاب على المرجوحيّة في الجملة، و هو (عليه السلام) إنّما يحبّ الراجح لا المرجوح ؟!

و يمكن أن يقال : إنّ نسبة المحبّة (عليه السلام) إلى نفسه في أخذ الحقّ من الوديعة

ص: 281


1- . في المصدر : يحلّ له ذلک إن كان بقدر حقّه .
2- . في المصدر : فيأخذ .
3- . التهذيب : 6 / 349 ح 349 ؛ الاستبصار : 3 / 53 ح 173 ؛ الوسائل : 17 / 275 ح 22507 .
4- . ما رآه مراء، و مماراة : ناظره و جادله ( المعجم الوسيط : 866 « مري » ).
5- . « إليّ » لم يرد في التهذيب .
6- . الاستبصار : 3 / 53 ح 174 ؛ التهذيب : 6 / 347 ح 979 ؛ الوسائل : 17 / 272 ح 22500 .

بالنسبة إلى عدم الأخذ، حيث أتى (عليه السلام) بصيغة أفعل للتفضيل، والمفضّل عليه هو عدم أخذه .

و على هذا محبّته لأخذ الحقّ من الوديعة ليست مطلقة، بل بالنسبة إلى عدم أخذ الشهاب، إذ يحتمل أنّه كان محتاجًا غايته إلى ذلک المال، فلو ردّه إلى صاحبه يبقى مُعَطَّلاً و غير قادر على نفقة عياله الواجبة، فقال (عليه السلام) : أخذ الحقّ من الوديعة حينئذٍ أحبّ اِليَّ من ردّها، إذ ربما يصير الشيء المكروه محبوبًا باعتبار استلزام تركه الواجب، فيكون أخذ الحقّ من الوديعة مكروهًا في نفسه، لكن صار محبوبًا هنا بالنسبة إلى ما ذكرنا، و مرجوحيّة الذاتي لاتناف الرجحان بالعرض .

و على فرض التسليم نقول : الرواية ظاهرة في عدم المرجوحيّة واتّفاق الأصحاب عليها قاطع، والظاهر لايعارض القاطع، فينبغي العود إلى المقصود، وهو ذكر القول الآخر في المسألة و أدلّته والجواب عنها .

{ القول الآخر في المسألة و أدلّته والجواب عنها }

فأقول : المنقول عن الصدوق في أكثر كتبه وابن أبي عقيل وأبي الصلاح والكيدري وأبي عليّ الطبرسي وابن زهرة المنع من ذلک، بل عن الأخير دعوى الإجماع عليه (1) .

ص: 282


1- . الفقيه : 3 / 185 ؛ الكافي في الفقه : 331 ؛ إصباح الشيعة : 284 و 535 ؛ مجمع البيان : 1 / 288 ؛ الغنية :240 .

لقوله - تعالى - : ( إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ) (1) ، والأمر بالأداء يفيد وجوبه، و هو ينافي جواز الأخذ منها .

والنصوص الآمرة بردّ الأمانات بالعموم .

و خصوص النصوص الواردة عن أهل الخصوص في المسألة، منها : ما رواه معاوية بن عمّار عن مولانا الصادق (عليه السلام) قال : قلت له : الرجل لي عليه حقّ (2) فيجحدنيه، ثمّ يستودعني مالاً أَلي أن آخذ مالي عنده ؟ قال: لا هذه خيانة (3) .

و هذا الحديث إمّا صحيح أو موثّق، لأنّ في سنده إبراهيم بن عبد الحميد، وقد اختلفوا فيه، لكن رواه في الفقيه باسناده عن معاوية بن عمّار (4) ، و قد صحّح العلّامة (رحمه الله) طريقه إليه (5) ، فيكون الحديث صحيحًا .

و منها : ما رواه الشيخ باسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن ابن أخي الفضيل بن يسار قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) و دخلت عليه (6) امرأة وكنت أقرب الناس (7) إليها، فقالت لي : أسأله، فقلت : عمّا ذا ؟ فقالت : إنّ ابني مات و ترک مالاً كان في يد أخي فأتلفه، ثمّ أفاد مالاً فأودعنيه، فلي أن آخذ منه

ص: 283


1- . النساء: 58.
2- . في الكافي والتهذيب : الحقّ .
3- . الكافي : 5 / 98 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 197 ح 438 ؛ الوسائل : 17 / 275 ح 22509 .
4- . الفقيه : 3 / 186 ح 3697 .
5- . انظر خلاصة الأقوال : 439 .
6- . « عليه » لم يرد في التهذيب .
7- . في التهذيب والاستبصار : القوم .

بقدر ما أتلف من شيء ؟ فأخبرته بذلک، فقال : لا ، قال رسول الله (صلي الله عليه واله): أدّ الأمانة إلى من ائتمنک و لاتخن من خانک (1) .

و دلالته على ذلک في مواضع، الأوّل : جوابه (عليه السلام) بلا، والثاني : قوله : « أدّ الأمانة إلى من ائتمنک » . والثالث : قوله : « و لا تخن مَن خانک ».

والراوي - و هو ابن أخي الفضيل - و إن كان الآن لم يكن لي معلوم الحال، لكن ابن أبي عمير ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه من رواياته (2) .

{ الجواب عن أدلّة القول الآخر }

والجواب أمّا عن الآية - أي قوله تعالى : ( إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ) (3) - فهو أنّها معارضة بما مرّ من قوله - تعالى - : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (4) .

والتعارض بينهما من قبيل تعارض العموم من وجه، لأنّ الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها أعمّ من أن يكون أهلها من اعتدى على المستودع بإنكار حقّه عليه، أم لا؛ و قوله - تعالى - : ( فمن اعتدى عليكم ) أعمّ من أن يكون المعتدي من أهل الأمانة، أم لا .

ص: 284


1- . التهذيب : 6 / 348 ح 981 ؛ الاستبصار : 3 / 52 ح 172 ؛ الوسائل : 17 / 273 ح 22501.
2- . انظر إختيار معرفة الرجال : 2 / 830 .
3- . النساء : 58 .
4- . البقرة : 194.

فالواجب عند تعارض الأدلّة الرجوع إلى الترجيح، و هو مع القول الأوّل للشهرة ؛ والظاهر أنّها مرجّحة ولو كان المتعارضان من الكتاب .

و منه يظهر الجواب عن النصوص الآمرة بردّ الأمانات بالعموم، مضافًا إلى أنّ شرط العمل بالعامّ فَقْد الخاصّ المعارض له، و قد عرفته و هو ما ذكرناه من النصوص الدالّة على جواز أخذ الحقّ من الوديعة لو جحد صاحبها عن الحقّ .

و أمّا عن النصوص الخاصّة، فأقول : الّذي ظفرنا منها أحسنها من حيث الدلالة هو ما ذكرناه من الحديثين، فالجواب عنهما أمّا عن الثاني منهما فلأنّه مطلق، إذ لم يذكر فيه أنّ صاحب الأمانة جحد حقّها .

و غاية ما ذكر فيها أنّه أتلف المال، و معلوم أنّ إتلاف المال لا يستلزم إنكاره، فهو أيضًا من النصوص المطلقة يجب تقييدها بما إذا لم يجحد الحقّ، لما مرّ من النصوص الخاصّة .

أمّا عن الأوّل منهما فقد أجيب عنه بالحمل على الكراهة (1) .

و فيه نظر، لأنّ سؤال الراوي : « ألِي أن آخذ »، و جوابه (عليه السلام) بلا، لا يساعده، لأنّ سؤاله في الجواز و معنى « ألي أن آخذ » أي : أيجوز لي أن آخذ ؛ و جوابه (عليه السلام) بلا بمنزلة أن يقول : لا يجوز . و معلوم أنّ نفي الجواز يستلزم نفي الكراهة .

فالحقّ في الجواب أن يقال : إنّه معارض بأمر من الأدلّة الخاصّة الدالّة على جواز المقاصّة في تلک الصورة، فالتعارض بينهما من قبيل تعارض النصّين،

ص: 285


1- . أجاب عنه في المختلف : 8 / 378 .

فيجب الرجوع إلى الترجيح، و هو معنا، لأكثريّة عدد تلک النصوص و موافقتها بعمل المشهور .

و به يجاب عن الإجماع المنقول عن الغنية، فلا يبقى من أدلّة المنع ما يدلّ على الكراهة، فضلاً عن الحرمة، لكن قلنا بالكراهة، لما مرّ من الاتّفاق على المرجوحيّة في الجملة ؛ على أنّه يكفي في إثباتها قولُ فقيهٍ بها، للتسامح في أدلّتها.

فالحقّ في المسألة السابقة و في هذه المسألة : جواز المقاصّة .

لا يشترط في جواز المقاصّة كون المقتصّ منه

لكن هل يشترط في جوازها كون المقتصّ منه من جنس الحقّ، أم لا، بل يجوز ولو كان من غير جنسها ؟

مقتضى النصوص المتقدّمة الثاني، لترک الاستفصال بين كون المال من جنس الحقّ و غيره، بل صريح جملة منها حيث سئل عن الجارية والدابّة، و أمر المعصوم (عليه السلام) بأخذ المال في المسألة السابقة، و كذا في هذه المسألة كما في رواية عليّ بن سليمان، و هي هذه : رجل غصب رجلاً مالاً أو جارية، ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة، الحديث (1) .

ص: 286


1- . التهذيب : 6 / 349 ح 985 ؛ الاستبصار : 3 / 53 ح 173 ؛ الوسائل : 17 / 275 ح 22507 .

قال في الكفاية :

ولو كان المال من غير جنس الموجود جاز أخذه بالقيمة، و يسقط اعتبار رضى المالک . و يتخيّر عند الأصحاب بين أخذه بالقيمة و بين بيعه و صرفه في جنس الحقّ، و يستقلّ بالمعاوضة، إنتهى (1) .

يجوز الأخذ من غير جنس الحقّ و لو مع التمكّن من جنسه

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق جماعة من الأصحاب و جملة من النصوص المتقدّمة جواز الأخذ من غير جنس الحقّ و لو مع التمكّن من جنسه، خلافًا للشهيدين وبعض محقّقي المتأخّرين (2) ، فاشترطوا في جواز الأخذ من غير الجنس عدم التمكّن من جنسه، و هو تقييد للدليل من غير دليل وإن كان أحوط .

ثمّ لو أخذ المال الغير المجانس لحقّه لايخلو إمّا أن يكون أخذه لنفسه، بمعنى أنّه أخذه في مقابلة ماله، أو أخذه ليبيع و يصرف القيمة في حقّه .

و على الأوّل لو تلف المال قبل البيع كان ذلک منه و براء ذمّة الغريم من حقّه، ولا يجوز له المقاصّة بعد ذلک .

و على الثاني لو تلف قبله هل يكون ضامنًا، أم لا ؟

ص: 287


1- . كفاية الأحكام : 2 / 724 .
2- . الدروس : 2 / 85 ؛ المسالک : 14 / 74 ؛ الرياض : 13 / 168 .

فيه قولان، أحدهما : عدم الضمان، و هو المنقول عن الشيخ حيث قال :

الأليق بمذهبنا أنّه لا يضمنها (1) .

واختاره في المسالک (2) .

والقول الآخر : الضمان، واختاره في الشرائع والقواعد والإيضاح (3) ، لأنّه قبضه لمصلحة نفسه، كما إذاقبض الرهن من غير إذن الراهن، فيصدق عليه أنّه تصرّف في ملک الغير من غير إذن الصاحب، فكان ضامنًا .

و فيه نظر، لأنّه وإن كان تصرّفه من غير إذن المالک، لكنّه بإذن الشارع، و إذن الشارع أقوى من إذن المالک ؛ و حمل ذلک على الرهن قياس لا نقول به، على أنّه قياس مع الفارق، لحصول الإذن من الشارع هنا بخلاف الرهن .

فالأقرب هو : القول الأوّل، سيّما بعد نسبته الشيخ إلى مذهبنا .

و هل يختصّ الحكم فيما إذا كان المقبوض بقدر الحقّ، أي : لم يكن زائدًا عليه، أو يعمّه والزائد أيضًا ؟

أقول : المقبوض الزائد على الحقّ لايخلو إمّا كان ممّا يمكن أخذ قدر الحقّ منه، أم لا ؛ و إن كان من القبيل الأوّل فينبغي القطع بضمانه للزائد، لأنّه تصرّف في ملک الغير من غير الإذن، لا من الشارع و لا من المالک .

ص: 288


1- . نقله عنه في الشرائع : 4 / 896 ؛ وانظر المبسوط : 8 / 311 .
2- . مسالک الأفهام : 14 / 75 .
3- . الشرائع : 4 / 896 ؛ القواعد : 3 / 448 ؛ الإيضاح : 4 / 347 .

أمّا الثاني، فواضح ؛ و أمّا الأوّل فلأنّ الشارع جوّز له الأخذ بقدر ماله دون الزائد، بل نهاه عنه كما عرفت، فيكون ضامنًا .

وإن كان من القبيل الثاني - أي كان المال ممّا لم يمكن أخذ الحقّ منه إلّا على قبض جميعه - فيحتمل عدم الضمان أيضًا .

و كيف كان و ثمرة القولين تظهر فيما لو تلف المال قبل البيع، فإنّه على القول الأوّل غير ضامن، بل له الأخذ من ماله بقدر حقّه إذا تمكّن إذا كان المال التالف بقدر حقّه، أو زائدًا عليه، لكن يمكن أخذه من غير أخذ الزائد بناءً على الاحتمال المذكور؛ و على القول الثاني فيتقاصّان كلّ ممّا على ذمّة الآخر، و على ذي الفضل دفع الفاضل .

إذا وجد مال في حضور جماعة وادّعى

واحد منهم أنّه له من أن ينازعه غيره، حكم له

51- مسألة

اشارة

إذا وجد مال في حضور جماعة و لا يد لأحدهم عليه وادّعى واحد منهم أنّه له ولا ينازعه غيره، حكم بأنّ المال له من غير شهادة ولا يمين .

و من هذا القبيل ما لو وجد كيس بحضرة جماعة لابدّ لأحد منهم عليه وادّعى واحد أنّه له و لا ينازعه غيره، فيحكم بأنّه ماله ولا يطلب منه البيّنة ولا اليمين .

ص: 289

أمّا عدم اليمين فواضح، فلأنّها حقّ المنكر، وأمّا عدم طلب البيّنة فلأنّها لقطع النزاع و لا نزاع هنا .

والأصل في المسألة بعد ما ذكر من الاعتبار موثّقة منصور بن حازم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت: عشرة كانوا جلوسًا و وسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضًا : ألكم هذا الكيس ؟ فقالوا كلّهم : لا، فقال واحد (1) منهم : هو لي،فلمن هو ؟ قال : للّذي ادّعاه (2) .

و لأنّ هذا مال لابدّ له من صاحب، والحاضرون كلّهم مقرّون بعدم كونه لهم غيره، فينبغي أن يكون له، إذ هو أولى من الغير، لادّعائه ذلک، والأصل في أفعال المسلمين حملها على الصحّة، و كذا في أقوالهم .

لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله

و ما أخرجه الغوّاص بعد يأس أهله عنه فهو لهم

52- مسألة

اشارة

لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله و أصحابه، و ما أخرجه الغوّاص فهو لهم، هكذا قيل (3) .

ص: 290


1- . في التهذيب : للواحد .
2- . الكافي : 7 / 422 ح 5 ؛ التهذيب : 6 / 292 ح 810 ؛ الوسائل : 27 / 273 ح 33758 .
3- . قائله الكيدريّ في إصباح الشيعة : 248 ؛ ولاحظ البحث في السرائر : 2 / 195 ؛ والمختصر النافع : 277 ؛والشرائع : 4 / 896 ؛ والإرشاد : 2 / 143 ؛ والقواعد : 3 / 449 ؛ والتنقيح : 4 / 271 ؛ والمسالک : 14 /77 ؛ وكفاية الأحكام : 2 / 724 ؛ وكشف اللثام : 10 / 136 ؛ والرياض : 13 / 175 .

و المستند رواية الشعيريّ قال : سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن سفينة انكسرت في البحر فأخرج بعضه بالغوص و أخرج البحر بعض ما غرق فيها، فقال : أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله الله أخرجه لهم، و أمّا ما أخرج بالغوص فهو لهم و هم أحقّ به (1) .

و لا يخفى أنّ الأصل عدم تملّک أحد لشيء إلّا بممّلِک، و كذا الأصل عدم خروج الملک عن تحت يد المالک والانتقال إلى الغير .

فعلى هذا، الحكم بخروج المال عن تحت يد المالک وانتقاله إلى ملک الغوّاص بمجرّد غرق السفينة في البحر غير جائز، إلّا بدليل يصحّ معه الخروج عن مقتضى الأصل، إذ لم يثبت أنّ غرق السفينة من المملّكات، فلا فرق في ذلک بين إعراض المالک عنه، أم لا ؛ و لا يأسه عنه، أم لا .

والرواية المزبورة وإن دلّت على الإطلاق على أنّ ما أخرجه الغوّاص فهو لهم، إلّا أنّها ضعيفة، لأنّ في سندها أميّة بن عمر، أو عمرو على اختلاف النسخة، و هو واقفيّ ؛ والشعيريّ الظاهر أنّه إسماعيل بن أبي زياد السكونيّ، و هو عاميّ، فلا تعارض بها الأصول المقطوعة، لكن صرّح في الكفاية باشتهار مضمونها بين الأصحاب حيث قال :

ص: 291


1- . التهذيب : 6 / 295 ح 822 ؛ الوسائل : 25 / 455 ح 32343 ؛ عوالي اللّألئ : 3 / 523 ح 23 .

لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله، و ما هو (1) أخرج بالغوص فهو لمخرجه على الأشهر عند الأصحاب، و مستنده رواية الشعيريّ (2) .

و ذكر الرواية .

و في المسالک بعد حكم المحقّق بضعف سند الرواية :

و لا يلزم من حكم المصنّف بضعف سندها ردّ حكمها، لأنّه كثيرًا ما يجبر الضعف بالشهرة و غيرها، والأمر في هذه كذلک، إنتهى (3) .

فعلى هذا الرواية وإن كانت ضعيفة، إلّا أنّها منجبرة بالشهرة المحكيّة، فيخصّص بها الأصول المزبورة .

وابن إدريس حملها في صورة اليأس على ما نقل من أنّه قال :

وجه الفقه في هذا الحديث : أنّ ما أخرجه البحر فهو لأصحابه و ما تركه أصحابه، آيسين منه، فهو لمن وجده و غاص عليه، لأنّه صار بمنزلة المباح، و مثله من ترک بعيره من جهد (4) في غير كلاء و لا ماء، فهو لمن أخذه، لأنّه خلاه آيسًا منه و رفع يده عنه، فصار مباحًا، و ليس هذا قياسًا، لأنّ مذهبنا ترک القياس، وإنّما هذا على جهة المثال، والمرجع

ص: 292


1- . « هو » لم يرد في المصدر .
2- . كفاية الأحكام : 2 / 724 .
3- . مسالک الأفهام : 14 / 77.
4- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره) : الجهد المشقّة .

فيه إلى الإجماع، و تواتر النصوص، دون القياس والاجتهاد، و على الخبر (1) إجماع أصحابنا منعقد (2) .

و عن أبي العبّاس في مقتصره : تنزيل الرواية في صورة اليأس أيضًا (3) .

و في القواعد و المسالک : تنزيلها في صورة إعراض المالک (4) .

و الفرق بينهما يظهر في الأشياء الّتي لا ييأس عنها، لكن أعرض عنها .

و يظهر من المحقّق في النافع والشرائع التأمّل في أصل المسألة (5) ، و هو في محلّه لو لم نقل بجبر الرواية بالشهرة المنقولة والإجماع الّذي ادّعاه ابن إدريس .

لو قال المنكر : إنّ المدّعي حلّفني و طلب إحلافه

53- مسألة

اشارة

لو قال المنكر : إنّ المدّعي حلّفني مرّة، و أنكر المدّعي ذلک و طلب إحلافه عليه، هل يسمع أم لا ؟

ص: 293


1- . في المصدر : الخبرين .
2- . انظر السرائر : 2 / 195 .
3- . المقتصر : 380 ؛ و نقله عنه في الرياض : 13 / 176 .
4- . القواعد : 3 / 449 ؛ المسالک : 14 / 77 .
5- . انظر المختصر النافع : 277 ؛ والشرائع : 4 / 896 .

الظاهر لا، لما عرفت سابقًا من النصوص الكثيرة على النهي من الإحلاف، ولم يقم لنا دليل على جواز إحلاف كلّ منكر بأيّ إنكار كان حتّى يخصّص تلک النصوص الناهية، لما عرفت من ورود النصوص المتقدّمة في الحقّ حيث سئل عن رجل يدّعى عليه الحقّ، و هكذا .

نعم، ورد بعض النصوص مطلقًا، لكن المتبادر هو الحقّ .

إن قلت : التبادر إنّما ينفع في المطلقات، لا في العامّ، و قوله (عليه السلام) : « البيّنة على المدّعي واليمين على مَن أنكر » (1) يفيد العموم، لأنّ « مَن »الموصولة من أدوات العموم، فيدلّ على أنّ اليمين على كلّ منكر، و من جملته ما نحن فيه، فيحكم عليه بالحلف .

قلت : لفظ « مَن » و إن كان من أدوات العموم، لكن المتبادر من الإنكار في قوله (عليه السلام): « مَن أنكر » غير ما نحن فيه، فلا يجدى فيه عموم الموصول، لأنّ عمومه بالنسبة إلى المفهوم من صلته، و قد عرفت أنّ المتبادر منها غير ما نحن فيه، فلاينصرف إليه .

نعم، لو دلّ دليل على أنّ اليمين على كلّ منكر بأيّ إنكار كان، كان ذلک نافعًا لنا في المقام، لكن أنّى لنا بإثبات ذلک .

فمعنى قوله : « إنّ اليمين على مَن أنكر » أنّ اليمين على كلّ مَن أنكر،والمتبادر

ص: 294


1- . سنن الترمذي : 2 / 399 ح 1356 ؛ السنن الكبرى : 10 / 252 ؛ عوالي اللّألئ : 1 / 244 ح 172 ؛الوسائل : 27 / 233 ح 33666 ؛ وانظر كنز العمّال : 6 / 187 و 190 .

من الإنكار غير الإنكار الّذي كلامنا فيه، فيصير الحديث بالنسبة إليه مجملاً، و مع الإجمال لا يجوز تخصيص النصوص الناهية .

إذا علمت ذلک نقول : إن أقام المنكر البيّنة على أنّ المدّعي حلّفه فهو، و إلّا فيحكم عليه بالحلف .

إلّا أن يقال : إنّه لو لم يحكم بحلف المدّعي لأدّى ذلک إلى ضرر بالنسبة إلى المنكر، إذ للمدّعي حينئذٍ أن يرفعه عند كلّ حاكم و يحلّفه، و يلزم من ذلک عليه عُسر شديد، لكن يمكن التخلّص عنه بإقامة البيّنة، أو العرض إلى الحاكم الأوّل .

و على فرض تسليم عدم تمكّن شيء منهما و لا من غيرهما إذا سلّمنا حصول الضرر أيضًا نقول : ينبغي الاقتصار حينئذٍ في إحلاف المدّعي بما يرفع معه الضرر، لا مطلقًا، و الكلام فيه .

لو ادّعى جماعة و كان لهم شاهد، لابدّ لحلف الجميع

54- مسألة

اشارة

إذا ادّعى جماعة على خصمهم مالاً و كان لهم شاهد واحد على دعواهم، يتوقّف استحقاقهم للمدّعى به على حلف كلّ واحد منهم، لأنّ الأصل براءة ذمّة المدّعى عليه و عدم اشتغالها بما ادّعى عليه، فالحكم عليه بشيء خلاف الأصل .

و أيضًا الأصل عدم استحقاق المدّعي للمدّعى به و عدم تسلّطه على المدّعى

ص: 295

عليه، لأنّ كلاًّ منهما أمر حادث ؛ و معلوم أنّ كلّ حادث مسبوق بالعدم .

و أيضًا الأصل براءة ذمّة الحاكم عن وجوب الحكم على المدّعى عليه ولو كان بعد التماس المدّعي، فالحكم باشتغال ذمّة المدّعى عليه بما ادّعى عليه واستحقاق المدّعى به و تسلّطه عليه و وجوب الحكم على الحاكم خلافٌ للأصول المقطوعة .

و قد عرفت مرارًا أنّ الاقتصار فيما خالف الأصل على الموضع المتيقّن واجب، و هو ما إذا حلف كلّ واحد منهم بعد إقامة الشاهد، فلا يكفى للحكم باستحقاقهم للمدّعى به حلف بعض دون آخر .

و للنصوص المستفيضة، منها : الصحيح المرويّ، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال: كان رسول الله (صلي الله عليه واله) يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين، و لم يجز (1) في الهلال إلّا شاهدي عدل (2) .

و منها : الموثّق المرويّ عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ و له شاهد واحد ؟ قال : فقال : كان رسول الله (صلي الله عليه واله) يقضي بشهادة شاهد واحد (3) مع يمين صاحب الحقّ (4) .

و منها : الصحيح المرويّ عن حمّاد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)

ص: 296


1- . في الكافي : ولم يكن يجيز . و في الاستبصار : ولا يجيز .
2- . الكافي : 7 / 386 ح 8 ؛ التهذيب : 6 / 272 ح 740 ؛ الاستبصار : 3 / 32 ح 108 ؛ الوسائل : 27 / 264ح 33732 .
3- . في الاستبصار : بشهادة واحد ؛ و في التهذيب : بشاهد واحد .
4- . الكافي : 7 / 385 ح 3 ؛ الاستبصار : 3 / 32 ح 109 ؛ التهذيب : 6 / 272 ح 742 ؛ الوسائل : 27 / 265ح 33736 ؛ و للحديث تتمّة و هي : « و ذلک في الدين ».

يقول: كان عليّ (عليه السلام) يجيز في الدين شهادة رجل و يمين المدّعي (1) .

و منها : الصحيح المرويّ عن أبي مريم - الظاهر أنّه عبد الغفّار بن القاسم الأنصاريّ الثقة - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : أجاز رسول الله (صلي الله عليه واله)شهادة شاهد مع يمين صاحب (2) الحقّ (3) .

و منها : الصحيح المرويّ عن منصور بن حازم عنه (عليه السلام)أيضًا أنّه قال: كان رسول الله (صلي الله عليه واله) يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ (4) .

وجه الاستدلال هو : أنّ النصوص المذكورة و غيرها تدلّ على أنّهم (عليهم السلام) أجازوا في الحقّ شهادة شاهد واحد و يمين المدّعي، فالحكم بشهادة شاهد واحد من غير يمين المدّعي غير جائز .

لما عرفت من النصوص المذكورة أنّهم أجازوا الحكم مع يمين المدّعي، والمدّعي قد يكون واحدًا، فيكتفى بيمينه مع شهادة شاهد واحد، و قد يكون متعدّدًا، فيتوقّف الحكم بالاستحقاق على يمين الجميع مع شهادة شاهد واحد، لأنّ المدّعي حينئذٍ هو الجميع .

فالحكم باستحقاق الجميع يتوقّف على حلف الجميع، فلو حلف بعض منهم

ص: 297


1- . الكافي : 7 / 385 ح 1 ؛ الاستبصار : 3 / 33 ح 111 ؛ التهذيب : 6 / 275 ح 749 ؛ الوسائل : 27 / 265ح 33734 .
2- . في المصدر : يمين طالب الحقّ إذا حلف أنّه حقّ .
3- . الاستبصار : 3 / 33 ح 115 ؛ التهذيب : 6 / 273 ح 744 ؛ الوسائل : 27 / 267 ح 33740 .
4- . الكافي : 7 / 385 ح 4 ؛ الاستبصار : 3 / 33 ح 113 ؛ التهذيب : 6 / 272 ح 741 ؛ الوسائل : 27 / 264ح 33733 .

دون آخر و حكم للجميع بأخذ الحقّ يصدق بالنسبة إلى غير الحالف أنّه حكم له باستحقاق الحقّ من غير حلف المدّعي، لأنّ المفروض أنّه مدّع و لم يحلف، كما أنّه يصدق بالنسبة إلى الحالف حينئذٍ أنّه حكم له باستحقاق الحقّ مع حلف المدّعي ؛ ولهذا قالوا : إنّه لو حلف بعض منهم دون الآخر ثبت نصيبه دون نصيب الممتنع .

و بما ذكرنا ظهر لک الوجه في أصل المسألة من استحقاقهم مع شهادة شاهد واحد و حلف الجميع للحقّ، و كذا في توقّف الحكم باستحقاق الجميع على حلف الجميع من الأصول والنصوص على ما مرّ .

مضافًا في الأخير، و هو توقّف الحكم باستحقاق الجميع على حلفهم أنّه لو ثبت حقّ الجميع بحلف البعض يلزم الحكم بثبوت حقّ الغير بحلف الغير، و سيجيء إن شاء الله تعالى أنّ الحلف لا يثبت إلّا حقّ الحالف .

إذا علمت ذلک فاعلم : أنّ من أفراد المسألة ما لو ادّعى الورثة لمورّثهم مالاً على آخر و لهم على ذلک شاهد واحد، فإذا أقاموه و حلفوا جميعًا استحقّوا المال، فيقسم بينهم على حسب سهامهم ؛ وإن لم يحلفوا لم يحكم لهم بشيء وإن حلف بعضهم دون آخر حكم للحالف دون غيره، فلا يشاركه في حصّته .

و هكذا لو كان دعوى الجماعة في وصيّة و كان لهم على الدعوى شاهد واحد إذا حلفوا جميعًا بعد إقامة الشاهد استحقّوه، فيقسمون بينهم بالسويّة، إلّا إذا ثبت تفضيل الموصي بعضهم على بعض في ذلک، فبحسب الوصيّة .

وإن امتنعوا من الحلف لم يستحقّوا شيئًا، وإن اختلفوا في الحلف بأنّ حلف

ص: 298

البعض دون الآخر استحقّ الحالف نصيبه دون الممتنع، ولم يشاركه في ذلک .

هذا إذا كان كلّهم متمكّنين من الحلف، و أمّا إذا لم يكن كذلک - كأن يكون بعض منهم صغيرًا أو مجنونًا مثلاً - فهناک يحلف المتمكّن و يبقى الباقي إلى أن يصلح لذلک، ثمّ بعد الصلاحيّة إن حلف فهو، وإلّا فلم يستحقّ شيئًا ولا يشارک ما حلف عليه غيره و أخذه .

الفرق بين ما أخذ بعض الورثة

المال بيمين و شاهد و بغيرهما

و في المقام إشكالٌ، و هو : أنّه من المسلّم أنّه لو ادّعى واحد من الورثة على آخر مالاً و ذكر سببًا موجبًا لاشتراک غيره من الورثة معه فيه، شاركه غيره فيما وصل إليه من الحقّ، فينبغي أن يكون ما نحن فيه أيضًا كذلک بأن يشارک غير الحالف معه فيما أخذه .

والجواب عنه هو : انّ بين المقامين فرقًا، بيانه هو : أنّ المدّعي فيما نحن فيه لمّا كان جميعهم و كان لهم شاهد، جعل الشارع استحقاق كلّ واحد منهم لحصّته موقوفًا على حلفه، والمفروض أنّ بعضهم حلف فاستحقّ حصّته، و بعض آخر ترک فلم يستحقّ حصّته، فعدم استحقاقه لحصّته إنّما هو لنكوله عن اليمين الّتي توقّف استحقاقه لحصّته بها .

ص: 299

و أمّا الحالف فإنّ الشارع جعل ما أخذه بحلفه حينئذٍ حصّة له، فاشتراک غيره معه في حصّته الّتي استحقّ بها باليمين يحتاج إلى دليل ؛ و كون أصل الدعوى إرثًا مثلاً لا يقتضي التشريک فيما وصل إليه حينئذ، لما عرفت من أنّ نكول الناكل عن الحلف سلب الاستحقاق عنه، و يمين الحالف جعلت ما وصل إليه حقًّا له .

هذا مع أنّه لو اشترک مع الحالف فيما وصل إليه بحلفه يلزم استحقاقه للمال بحلف الغير، و سيجيء أنّه غير جائز .

و أمّا في المثال المفروض فليس الأمر كذلک بالضرورة، لأنّ المدّعي فيه واحد ولم يتوقّف وصول الحقّ هناک إلى حلف غير المدّعي إن احتيج إلى اليمين حتّى يسقط حقّ غير الحالف .

واستحقاق غير المدّعي للمال ليس بحلف المدّعي حتّى يلزم استحقاق غير الحالف للحقّ بحلف الحالف، بل بإقراره بالسبب الموجب لاشتراک غيره معه في الحقّ المدّعى، ولهذا اشترک غيره معه فيما وصل إليه .

و هكذا فيما إذا كان المدّعي جميعًا، لكن أخذ المال كلاًّ أو بعضًا واحد منه لا بالشاهد واليمين، بل بنحو آخر، فإنّ غير الآخذ حينئذٍ يشترک معه فيما وصل إليه ولو كان بقدر حصّته بالنسبة إلى جميع المال، لأنّ مقتضى اشتراكهم ثابت والمانع عنه مفقود .

وفرّق بعضهم (1) بين المقامين باختصاص ما نحن فيه بما إذا كان المدّعى به

ص: 300


1- . روضة الطالبين : 8 / 254 ؛ وانظر مسالک الأفهام : 13 / 518 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 711 .

دينًا والمثال المفروض بما إذا كان عينًا، نظرًا إلى اشتراک عين التركة بين الورثة، وحيث اعترف بذلک لزم عليه التشريک، بخلاف الدين، فإنّه يتعيّن بالتعيين والقبض .

و لا يخفى أنّ هذا مبنيّ على القول بعدم مشاركة الشريک في الدين فيما قبضه الآخر، و أمّا على القول بالمشاركة فلا، فالأولى ما ذكرناه .

ثمّ إنّ ما ذكرناه إنّما هو إذا لم يحلف بعض من الورثة مطلقًا، و أمّا إذا حلف الجميع، فحينئذٍ لايخلو إمّا أن يحلفوا دفعة، فاستحقّوا المال دفعة، فلكلّ نصيبه، فلا ثمرة حينئذٍ لاشتراک بعض على آخر في حصّته، أم لا .

و أمّا لو حلف بعضهم بعد حلف الآخر، سواء كان البعض غير متمكّن من الحلف في ذلک الوقت - كما إذا كان صغيرًا مثلاً - أو متمكّنًا، فهل يشترک المتأخّر في الحلف مع المتقدّم فيه فيما وصل إليه، أم لا ؟

الظاهر لا، و يظهر وجهه ممّا قدّمناه، و تظهر الثمرة في النماء المتجدّد قبل يمين الآخر.

و فصّل العلّامة وابنه في المولى عليه - كالصبيّ والمجنون - بأنّه إن كمل وحلف له شركه فيما قبضه الحالف أوّلاً، و إلّا فلا (1) .

ص: 301


1- . قواعد الأحكام : 3 / 450 ؛ إيضاح الفوائد : 4 / 350 .

فروعٌ

{ الفرع الأوّل }

لو لم يحلف بعض الورثة واتّفق موته

لوارثه أن يحلف و يأخذ حصّته

الأوّل : لو لم يحلف بعض المدّعي من الورثة، سواء كان غير متمكّن من الحلف، أو متمكّنًا، لكن لا من حيث نكوله عن اليمين، ثمّ اتّفق موته، لوارثه أن يحلف فيستحقّ حصّته ؛ و هل يجب عليه حينئذٍ إقامة الشاهد ثانيًا، أو يكتفى بالشاهد الّذي أقامه مورّثه ؟

أقول : الوارث لايخلو إمّا أن يكون هو الّذي أقام الشاهد مع مورّثه، كما إذا كان أخًا له مثلاً ؛ أو لا، كما إذا كان ابنًا له مثلاً .

والأوّل لا يبعد الاكتفاء بذلک الشاهد و عدم الاحتياج إلى إقامته مرّة أخرى، بل يحلف و يأخذ الحقّ .

ص: 302

والثاني لا يبعد عدم الاكتفاء بذلک فيه، لأنّ المتبادر من الحكم بشاهد و يمين هو ما إذا كان الحالف هو مقيمًا للشاهد .

و يمكن أن يقال بعدم الاكتفاء بتلک الإقامة مطلقًا ولو كان الوارث هو الأوّل، لأنّ الحكم بشاهد و يمين خلاف الأصل، يقتصر على الموضع المتيقّن، و هو ما إذا كان الحالف أقامه للحقّ الّذي يأخذه، لكونه المتيقّن من النصّ دون غيره، وفاقًا لفخر المحقّقين في الإيضاح (1) .

فعلى هذا يشكل الحكم فيما لو مات الشاهد، أو لم يمت لكن لا يمكن إحضاره .

لو اتّفق موت الحالف قبل الاستيفاء

كان المحلوف عليه لوارثه

{ الفرع الثاني }

الثاني: لو حلف بعض المدّعي واتّفق موته قبل الاستيفاء، لوارثه استحقاق المحلوف عليه، سواء كان ابنه، أو أخاه الّذي كان مدّعيًا معه .

والثاني أعمّ من أن يكون ممّن حلف على أصل الدعوى فاستحقّ حصّته، أم لا،

ص: 303


1- . إيضاح الفوائد : 4 / 349 .

سواء كان عدم الحلف للنكول، أم لا، إلّا إذا كذب مورّثه في أصل الدعوى، فحينئذٍ لا يجوز له أن يأخذ ما حلف عليه مورّثه، لعلمه بعدم استحقاق مورّثه لذلک، فعدم استحقاقه بطريق أولى .

لو نكل المدّعي من الحلف لم يجز لوارثه المطالبة

{ الفرع الثالث }

الثالث : لو لم يحلف بعض المدّعي من الورثة و كان عدم حلفه للنكول لايجوز لوارثه بعد موته المطالبة بالدعوى والحلف، لأنّ نكول موّرثه من الحلف قد أسقط دعواه، و بعد سقوطها كيف يجوز المطالبة ؟!

و يطّرد الحكم في كلّ ناكل من اليمين، لكن إثبات ذلک من حيث الدليل مشكل، لأنّ النصّ ورد في أنّ المنكر لو ردّ اليمين على المدّعي ولم يحلف لا حقّ له ؛ والمقام ليس كذلک، إلّا أن يتمسّک بتنقيح المناط إن تحقّق المنقّح، و هو غير معلوم، فالحكم بسقوط الدعوى بالنكول في غير صورة الردّ مشكل .

لا يجوز اليمين لإثبات مال الغير

55- مسألة

اشارة

لا يجوز اليمين لإثبات مال الغير، فلا يجوز للوكيل والوصيّ أن يحلفا إذا ردّ

ص: 304

إليهما لإثبات ما وكّل أو وصّى عليه، لأنّه لغيرهما (1) .

و كذا لو ادّعى غريم الميّت دينًا له على آخر و كان له شاهد واحد، فلا يجوز له أن يحلف وإن كان الدين مستوعبًا للتركة، لأنّ مال الميّت حينئذٍ إمّا أن ينتقل إلى الوارث، أو يبقى على حكم مال الميّت ؛ و على التقديرين حلف الغريم لإثبات مال الغير، فلا يكون جائزًا .

و كذا لو ادّعى رهنًا أنّه للراهن و أقام شاهدًا واحدًا عليه، فلا يجوز له أن يحلف، لأنّ حلفه حينئذٍ لإثبات مال الغير، بل لابدّ في الأخير من حلف الراهن وفي دعوى مال الميّت من حلف الوارث (2) .

والدليل في المسألة الأصل، تقريره هو : أنّه لا شکّ أنّ الأصل في كلّ من ادّعى عليه براءة ذمّته عمّا ادّعى عليه و عدم اشتغالها به، فالحكم باشتغال ذمّته بشيء خلاف الأصل، يحتاج إلى دليل و موجب، لأنّ مخالفة الأصل من غير دليل غير جائز.

و ليس لنا دليلٌ يدلّ على أنّ كلَّ حلفٍ بأيّ حالف كان حجّة موجبٌ لإثبات المال، بل المتيقّن من الأدلّة هو أنّ الحلف إنّما يصير موجبًا لإثبات الحقّ إذا كان من مستحقّه، لا غير ؛ و معلوم أنّ الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن واجب.

ص: 305


1- . لاحظ المسألة في الشرائع : 4 / 882 ؛ والقواعد : 3 / 450 ؛ والدروس : 2 / 95 ؛ والمسالک : 13 /516؛ و كشف اللثام : 10 / 141 ؛ و رياض المسائل : 13 / 147 .
2- . جاء في حاشية الأصل : هذا على القول بالانتقال إلى الوارث واضح، و أمّا على الاحتمال الآخر فحلفالوارث أيضًا يكون لإثبات مال الغير لا سيّما في صورة استيعاب الدين ؛ منه .

والعمومات الدالّة على عدم جواز اليمين من الكتاب و السنّة، و قد تقدّم إلى جملة منها الإشارة ؛ والتخصيص إنّما ثبت بالإجماع، والنصوص فيما إذا كان الحالف مستحقًّا للمال و صاحبه، لا غير، فبقي الباقي داخلاً تحت العمومات الناهية عن الحلف، و من جملته ما نحن فيه .

و لأنّ الأصل عدم حجّية شيء إلّا ما ثبت، لأنّ كون الشيء حجّة أمر وضعيّ يحتاج إلى دليل، ولم يثبت حجّيّة الحلف إلّا إذا كان الحالف الّذي ذكرناه .

هذا كلّه بالنسبة إلى غير الحاكم من الحالف و المدّعى عليه، وأمّا بالنسبة إليه فنقول: لا شبهة في أن الأصل براءة ذمّته من وجوب الحكم بين المتخاصمين، بل الأصل عدم جواز ذلک أيضًا، لأنّ الحكم بانتقال المال عمّن في يده إلى غيره وكذا تسليط أحد على آخر غير جائز، إلّا ما دلّ الدليل عليه، و هو إنّما يكون إذا كان الحالف ممّن ذكرناه، لا غير .

و أيضًا جعل الشارع البيّنة حقًّا للمدّعي واليمين حقًّا للمدّعى عليه في النصوص المستفيضة الّتي تقدّم إلى بعضها الإشارة، فالحكم باليمين على المدّعي غير جائز، إلّا فيما ثبت، و ليس ما نحن فيه من ذلک .

و إن أردت صدق ما ادّعيناه في هذا المقام فاعلم : أنّه موقوفٌ على ملاحظة النصوص الواردة في حلف المدّعي، فها أنا أذكرها ليظهر لک حقيقة الحال و ضعف ما ذكره من المناقشة بعض المتأخّرين من الأخيار في بعض ما مرّ على أصحابنا العلماء الأبرار - عليهم رحمة الله العزيز الغفّار إلى يوم يتميّز فيه الحقّ للمنافقين والفجّار .

ص: 306

فأقول : من النصوص صحيحة محمّد بن مسلم المرويّة عن أحدهما (عليهماالسلام): في الرجل يدّعي و لا بيّنة له، قال : يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلايحلف (1) فلا حقّ له (2) .

و منها : ما رواه عبيد بن زرارة في الحسن، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الرجل يدّعى عليه الحقّ و لا بيّنة للمدّعي، قال: يستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له (3) .

و منها : المرسل المرويّ عن أبان، عن رجل، عنه أيضًا : في الرجل يدّعى عليه الحقّ و ليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: يستحلف المدّعى عليه، فإن أبى أن يحلف وقال : أنا أردّ اليمين عليک لصاحب الحقّ، فإنّ ذلک واجب على صاحب الحقّ أن يحلف و يأخذ ماله (4) .

و منها : مرسلة أخرى عن يونس، عمّن رواه قال : استخرج (5) الحقوق بأربعة وجوه : شهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان، فإن لم يكن (6) امرأتان فرجل و يمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف ردّ اليمين على المدّعي، و هي واجبة عليه أن يحلف و يأخذ

ص: 307


1- . في المصدر : فلم يحلف .
2- . الكافي : 7 / 416 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 557 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33679 .
3- . الكافي : 7 / 416 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 556 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33680 .
4- . الكافي : 7 / 416 ح 4 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 561 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح 33683 .
5- . في الكافي : استخراج .
6- . في المصدر : فإن لم تكن .

حقّه، فإن أبى أن يحلف فلا شيء عليه (1) .

و منها : ما رواه أبوالعبّاس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أقام الرجل البيّنة على حقّه فليس عليه يمين، فإن لم يقم البيّنة فردّ عليه الّذي ادّعي عليه اليمين، فإن أبى أن يحلف فلا حقّ له (2) .

لا يحلف الوكيل والوصىّ، و بالجملة غير صاحب الحقّ

و لا يخفى عليک أنّ هذه النصوص دالّة على جواز ردّ الحلف على المدّعي، فبها يخصّص ما مرّ من الأصول والعمومات، لكن بحسب موردها .

و معلوم أنّ مورد الجميع فيما إذا كان المدّعي صاحب الحقّ، فلا تشمل الوكيل والوصيّ، فتبقى الأصول والعمومات المتقدّمة بالنسبة إليهما سالمة عمّا يصلح للتخصيص .

أمّا كون مورد النصوص المذكورة في صاحب الحقّ فواضح بالنسبة إلى الثلاثة الأُوَل من تلک النصوص، لقوله (عليه السلام) : « فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ » في الأوّلين منها، و أمّا الثالث فأوضح منهما .

و أمّا كون مورد الباقيين ذلک، فلقوله (عليه السلام) في الأوّل منهما : « فإنّ ذلک على المدّعي أن يحلف و يأخذ حقّه » ؛ والثاني منهما : « فإن أقام الرجل البيّنة على حقّه ».

ص: 308


1- . الكافي : 7 / 416 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 562 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33682 .
2- . الكافي : 7 / 417 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 563 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح 33686 .

و معلومٌ أنّ كلاًّ من الوكيل والوصيّ ليس الحقّ المدّعى من حقّهما، بل من حقّ الغير، فلا تشمل النصوص المذكورة لهما، فلا يجوز حلفهما عملاً بما تقدّم من الأصول والعمومات .

بل يمكن أن يقال بدلالة بعض من تلک النصوص على عدم جواز حلفهما وحلف غيرهما إذا لم يكن مالكًا للحقّ المدّعى .

و ذلک من وجهين، أحدهما : من جهة أنّ الراوي سأل في أكثرها عن الرجل يدّعي و لا بيّنة له، و هو أعمّ من أن يكون صاحبًا للحقّ و أقام البيّنة على حقّه، أم لا ؛ و عدول المعصوم (عليه السلام) في الجواب بالإطلاق إلى الجواب بصاحب الحقّ قرينة على عدم اشتراک غيره معه في الحكم، وإلّا لكان الجواب بالإطلاق أنسب بأن يقول : فإن ردّ اليمين على المدّعي، كما لايخفى .

و ثانيهما : من جهة المفهوم، فإنّ جعله (عليه السلام) مدار سقوط الحقّ حلف صاحب الحقّ عند الردّ يدلّ على عدم سقوطه بحلف غيره و لو كان وكيلاً أو وصيًّا .

هذا كلّه في عدم جواز حلف الوكيل لإثبات ما وكّل عليه، و كذا الوصيّ .

هل يجوز للوكيل والوصىّ أن يحلفا المنكر ؟

و هل يجوز لهما إحلاف المنكر ؟

لا يبعد ذلک، لعموم صحيحة الحلبي و جميل و هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال :

ص: 309

قال رسول الله (صلي الله عليه واله) : البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه (1) .

و غيرها .

و « مَن » الموصول من أدوات العموم، فيعمّ المدّعى عليه، سواء كان بدعوى صاحب الحقّ، أو الوكيل والوصيّ، كما أنّ قوله (صلي الله عليه واله) : « البيّنة على من ادّعى » أعمّ من أن يكون المدّعي صاحب الحقّ، أو لا .

و يمكن الفرق بين المقامين بأنّ إقامة البيّنة لمّا كانت من المدّعي، فدلّت الصحيح على أنّ إقامتها على كلّ المدّعي ؛ و أمّا الحلف فليس كذلک، لأنّ الحلف ليس باختيار المنكر، بل باختيار المدّعي، لأنّه المحلّف، فإذا أراد يجوز له الحلف، و إلّا فلا.

فعلى هذا دلّت الصحيحة على أنّ اليمين على كلّ من ادّعي عليه، وكيلاً أو وصيًّا، لكن ما دلّت على جواز الحلف بأيّ محلف و لو كان من الوكيل والوصيّ، بل بالنسبة إليه مطلق .

والجواب : أنّ هذا مسلّم، لكنّ المطلق حجّة في أفراده، و من جملتها ما نحن فيه، فعلى هذا ما استشكلناه سابقًا - وفاقًا لبعض المحقّقين من المتأخّرين (2) - في الحكم بحلف المنكر حينئذٍ لاستلزامه سقوط الدعوى والحقّ، و لا مصلحة لليتيم مثلاً في ذلک، لاحتمال أنّه إذا بلغ و رشد يثبت المدّعى به بالبيّنة، أو يصالح ويحصل له من ذلک نفع، هو اجتهاد في مقابلة النصّ .

ص: 310


1- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 553 ؛ الوسائل : 27 / 233 ح 33666 .
2- . هو الفاضل الاصبهانيّ (قدس سره) في كشف اللثام : 10 / 99 .

إحلاف الوكيل والوصىّ للمنكر هل يسقط الحقّ، أم لا ؟

ثمّ على تقدير جواز الإحلاف للوكيل والوصيّ هل تسقط الدعوى والحقّ بعد أن أحلفاه مطلقًا، فلا يجوز للموكّل واليتيم إذا بلغ و رشد المطالبة بشيء وإن كانت له بيّنة ؟

إشكالٌ من أنّ النصّ في ذلک ورد فيما إذا كان المحلف هو صاحب الحقّ، كصحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة عن مولانا الصادق (علیه السلام) قال : إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله ذهب اليمين بحقّ المدّعي، فلا حقّ له (1) .

و كذا رواية النخعيّ (2) ، و مرسلة إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض أصحابه (3) ،

الّلتان تقدّم ذكرهما سابقًا .

والتمسّک بتنقيح المناط هنا بعد احتمال مدخليّة رضاء صاحب الحقّ في السقوط غير ممكن .

ص: 311


1- . الكافي : 7 / 417 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 61 ح 3340 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 565 ؛ الوسائل : 27 / 245 ح33689 .
2- . هي ما رواه خضر النخعيّ عن مولانا الصادق (علیه السلام): في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال :إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئًا، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه ( الكافي : 7 / 418 ح 2 ؛ الفقيه :3/ 185 ح 3695 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 566 ؛ الوسائل : 27 / 246 ح 33601 ).
3- . الحديث هكذا : في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده فيحلف له يمين صبر، أله عليه شيء ؟ قال :ليس له أن يطلب منه، و كذلک إن احتسبه عند الله، فليس له أن يطلب منه ( الكافي : 7 / 418 ح 3 ؛التهذيب : 6 / 232 ح 567 ؛ الوسائل : 23 / 286 ح 29582 ).

و من أنّ هذا يمين قد جوّز الشارع للوصيّ مثلاً أن يحلّف المنكر بها، فينبغي أن يسقط بها الدعوى مطلقًا من غير تخصيص السقوط بالنسبة إلى الوصيّ أو اليتيم عند عدم البيّنة .

و يمكن التمسّک للسقوط مطلقًا بقوله (صلی الله علیه واله) في الموثّق المتقدّم، و هو هذا : لاتحلفوا إلّا بالله، و من حلف بالله فليصدق، و من حلف له بالله فليرض، و من حلف له بالله فلم يرض فليس من الله (1) .

وجه الاستدلال هو : أنّ « مَن » الموصوليّة تفيد العموم واليتيم مثلاً يصدق عليه أنّه هو الّذي حلف له بالله، فينبغي أن يرض بعد البلوغ والمطالبة ولو كانت مع البيّنة تنافيه .

هذا كلّه بالنسبة إلى الوكيل والوصيّ، و بالجملة : إذا كان المدّعي غير صاحب الحقّ ولم يكن له بيّنة، لم يجز له أن يحلف إذا ردّ إليه .

لا يجوز حلف غريم الميّت لإثبات حقّه

ولا حلف المرتهن لإثبات حقّ الراهن

و أمّا عدم جواز حلف غريم الميّت إذا ادّعي له على آخر دينًا و كان له شاهد واحد، و كذا عدم جواز الحلف للمرتهن إذا ادّعى أنّ هذا رهن للراهن و كان عنده شاهد واحد، فللأصول والعمومات المتقدّمة .

ص: 312


1- . الكافي : 7 / 438 ح 1 ؛ التهذيب : 8 / 284 ح 1040 .

وإن أردت إعادتها نقول : لا شبهة في أنّ الأصل براءة ذمّة المدّعى عليه عمّا ادّعي عليه و عدم اشتغالها بذلک .

والحكم باشتغال ذمّته بشيء خلاف الأصل، لا يصار إليه إلّا بعد دليل وموجب، لأنّ مخالفة الأصل من غير دليل غير جائز، ولم يثبت عندنا دليل يدلّ على أنّ كلّ من أقام شاهدًا و حلف يستحقّ المدّعى به، لأنّ المتيقّن من الأدلّة هو ما إذا كان الحالف صاحب الحقّ لا غير، كما ستعرف إن شاء الله تعالى .

و أيضًا أنّ الأصل عدم حجّيّة شيء إلّا ما ثبت من الشارع حجّيّته، لأنّ كون الشيء حجّة أمرٌ وضعيّ يحتاج إلى دليل، ولم يثبت حجّيّة الحلف مع شاهد واحد، إلّا إذا كان الحالف هو الّذي ذكرناه .

هذا بالنسبة إلى المدّعي والمدّعى عليه، وأمّا بالنسبة إلى الحاكم فنقول أيضًا : لا شکّ أنّ الأصل براءة ذمّته من وجوب الحكم بين المتخاصمين، بل الأصل عدم جواز ذلک أيضًا، لأنّ الحكم بانتقال المال عمّن في يده إلى غيره، و كذا تسليط أحد على آخر غير جائز، إلّا إذا دلّ الدليل عليه .

والّذي دلّ عليه الدليل هو ما إذا كان الحالف صاحب الحقّ و أقام شاهدًا، وأمّا غيره فلا .

و أيضًا العمومات من الكتاب و السنّة دالّة على عدم جواز الحلف، و قد تقدّم إلى جملة منها الإشارة .

والتخصيص إنّما ثبت إذا كان الحالف صاحب الحقّ و أقام شاهدًا واحدًا لا

ص: 313

غير، فالأصل بقاء الغير تحت العمومات الناهية إلى أن يثبت المخصّص، ولم يثبت .

و ذلک لأنّ النصوص الخاصّة واردة فيما إذا كان الحالف صاحب الحقّ، وقد ذكرنا كثيرًا منها في المسألة المتقدّمة، فلاحظها، و أذكر جملة منها هنا للإشارة إلى ما ينفعنا في المقام .

فأقول : منها : صحيحة أبي مريم المتقدّمة عن مولانا الصادق (علیه السلام) قال: أجاز رسول الله (صلی الله علیه واله) شهادة شاهد مع يمين صاحب الحقّ (1) .

و منها : صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة أيضًا عنه (علیه السلام)قال: كان رسول الله (صلی الله علیه واله)يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين (2) .

و غيرهما .

ولا يخفى أنّ الصحيحين المذكورين كما ترى و مثلهما من النصوص تدلّ على جواز الحكم بشهادة شاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ، فيجب تخصيص العمومات بمقتضاها .

و قد عرفت أنّه ليس الغريم والمرتهن صاحب حقّ، فلا تشمله النصوص المشار إليها، فلايجوز تخصيص ما ذكر من الأصُول والعمومات بما عداهما أيضًا.

ص: 314


1- . الاستبصار : 3 / 33 ح 115 ؛ التهذيب : 6 / 273 ح 744 ؛ الوسائل : 27 / 267 ح 33740 .
2- . الكافي : 7 / 386 ح 8 ؛ التهذيب : 6 / 272 ح 740 ؛ الاستبصار : 3 / 32 ح 108 ؛ الوسائل : 27 / 264ح 33732 .

إن قلت : إنّ ورود الصحيحين في صاحب الحقّ مسلّم، لكن النصوص ليست منحصرة فيهما و فيما هو مثلهما، لأنّ لنا نصوصًا مطلقة دالّة على جواز الحكم بشهادة شاهد واحد و يمين مطلقًا و لو كانت من غير صاحب الحقّ، منها : صحيحة حمّاد بن عيسى قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول : حدّثني أبي أنّ رسول الله (صلی الله علیه واله) قد قضى بشاهد و يمين (1) .

و منها : صحيحته الأخرى (2) أيضًا عنه (علیه السلام) قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول : كان عليّ (علیه السلام) يجيز في الدين شهادة رجل و يمين المدّعي (3) .

و مثلهما .

وجه الاستدلال هو : أنّه (علیه السلام) قال : « بشاهد و يمين »، أو : « بشاهد و يمين المدّعي »، و هو مطلق أعمّ من أن يكون يمين صاحب الحقّ و غيره، فيجب تخصيص الأصول والعمومات المتقدّمة، لأنّ المطلق حجّة في أفراده .

قلت : أمّا الجواب عن الأوّل فلأنّه (علیه السلام) قال : « رسول الله (صلی الله علیه واله) قضى بشاهد ويمين »، و هو قضيّة في واقعة وإخبار عن فعله (صلی الله علیه واله) ، والفعل لا عموم له ؛ و يحتمل أن يكون اليمين الّتي قضى بها (صلی الله علیه واله) مع شاهد هي يمين صاحب الحقّ .

ص: 315


1- . الكافي : 7 / 385 ح 2 ؛ الاستبصار : 3 / 33 ح 112 ؛ التهذيب : 6 / 275 ح 748 ؛ الوسائل : 27/ 265ح 33735 .
2- . كذا في الأصل، والصواب : صحيحة حمّاد بن عثمان .
3- . الكافي : 7 / 385 ح 1 ؛ الاستبصار : 3 / 33 ح 111 ؛ التهذيب : 6 / 275 ح 749 ؛ الوسائل : 27 / 265ح 33734 .

و قد عرفت مرارًا أنّ وقائع الأحوال إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، فسقطت عن قابليّة الاستدلال (1) .

و أمّا عن الثاني فنقول : إنّ حجّيّة المطلق على أفراده مسلّمة، لكن إذا وجد شرط انصرافه إلى جميع الأفراد، والظاهر أنّ المقام ليس كذلک، لأنّ من شرط انصرافه إلى جميع الأفراد عدم وروده في مقام بيان حكم آخر .

والظاهر أنّ المراد من النصّ إثبات جواز القضاء بشاهد و يمين في الجملة دفعًا لتوهّم عدم جواز ذلک مطلقًا، كما يظهر ذلک من قول أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال : إنّ جعفر بن محمّد (علیهماالسلام) قال له أبو حنيفة : كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد ؟ فقال جعفر (علیه السلام): قضى به رسول الله (صلی الله علیه واله) و قضى به عليّ (علیه السلام) عندكم ؛ فضحک أبو حنيفة، الحديث (2) .

و من حسنة عبد الرحمن الحجّاج قال : دخل الحكم بن عتيبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر (علیه السلام)، فسألاه عن شاهد و يمين، فقال : قضى به رسول الله (صلی الله علیه واله) وقضى به عليّ (علیه السلام)عندكم بالكوفة، فقالا : هذا خلاف القرآن، فقال : و أين وجدتموه هذا (3) خلاف القرآن ؟ فقالا : إنّ الله - تبارک و تعالى - يقول : ( و أشهدوا ذوي عدل منكم ) (4) ، الحديث (5) .

ص: 316


1- . نقل هذه القاعدة الأصوليّة عن الشافعي ؛ حكاها عنه الزركشيّ في البحر المحيط : 2 / 308 ؛ وانظر أيضًا :الوافية، للفاضل التوني : 115 ؛ والقوانين : 226 .
2- . التهذيب : 6 / 296 ح 826 ؛ الوسائل : 27 / 268 ح 33744 .
3- . « هذا » لم يرد في المصادر .
4- . الطلاق : 2.
5- . الكافي : 7 / 385 ح 5 ؛ الفقيه : 3 / 109 ح 3428 ؛ الاستبصار : 3 / 34 ح 117 ؛ التهذيب : 6 / 273 ح747 ؛ الوسائل : 27 / 266 ح 33737 .

إذا عرفت ذلک نقول : على هذا يكون المطلق بالنسبة إلى ما نحن فيه مجملاً، ومع الإجمال لايمكن رفع اليد عن أصل واحد، فضلاً عن الأصول والعمومات المتقدّمة .

هذا، مع أنّ المسألة - أي : عدم جواز الحلف لإثبات حقّ الغير - كأنّه لا خلاف فيه عندنا .

و قال في المسالک بعد الحكم بأنّه لو كان على الميّت دين و له على آخر دين وله شاهد واحد يكون الحلف على الوارث، ما هذا كلامه :

لم يكن للغريم الحلف عندنا .

ثمّ نقل عن بعض العامّة جواز حلف الغريم بناءً على أنّ المال لو ثبت صار ملكًا له، فصار كالوارث .

ثمّ قال :

والفرق واضح، لأنّ الوارث إذا حلف صار له بالفعل، فالغريم ينتقل بحلفه إلى الوارث و منه إليه، فكان حلفه لإثبات مال غيره، إنتهى (1) .

و قال في الكفاية :

لو ادّعى غريم الميّت مالاً له على آخر مع شاهد، فإن حلف الوارث

ص: 317


1- . مسالک الأفهام : 13 / 516 .

يثبت (1) وإن امتنع الوارث من الحلف لم يكن للغريم الحلف عند الأصحاب (2) .

و أنت إذا أحطت خبرًا بما حرّرناه يظهر لک ظهورًا بيّنًا أنّه لايجوز الحلف لإثبات مال الغير، فلابدّ في الصورتين المتقدّمتين حلف الراهن في إحداهما وحلف الوارث في الأخرى مع إقامة الشاهد .

و لا إشكال في الأولى و كذا في الثانية بناءً على القول بأنّ تركة الميّت ينتقل إلى الوارث مطلقًا و إن كان له دين محيط بها .

و أمّا على القول بعدم انتقالها إليه مع الدين، بل يبقى المال على حكم مال الميّت حينئذٍ كما هو الحقّ و قد تقدّم، فالحكم لحلف الوارث حينئذٍ مشكل، بل مقتضى ما ذكر عدم جوازه، لأنّه حلف لإثبات مال الغير، لكن قد تقدّم سابقًا نقل اتّفاق الأصحاب على سماع دعوى الوارث مطلقًا و لو من أصحاب القول الثاني، و معلوم أنّ من لوازم سماع دعواه صحّة حلف المدّعي .

و لعلّه لهذا ترى جماعة من الأصحاب حاكمين في المسألة بحلف الوارث على الجزم والقطع مع اختيارهم القول الثاني، بل مصرّحين بجواز حلف الوارث على هذا القول أيضًا - كما في المسالک و غيره - فحكم الوارث حينئذٍ من جواز الحلف بناءً على هذا القول خلاف الأصل، لكنّه ثبت .

ص: 318


1- . في المصدر : ثبت .
2- . كفاية الأحكام : 2 / 712 .

بل الظاهر من المسالک أنّه على الأصل، حيث قال بعد نقل القولين من انتقال التركة إلى الوارث و عدمه :

و على القولين لو كان للميّت دين على آخر، فالمحاكمة فيه للوارث، لا للغرماء، لأنّه إمّا مالک أو قائم مقامه، و من ثمّ لو أبرئ الغريم من الدَين صارت التركة ملک الوارث، فهو مالک لها بالقوَّة أو بالفعل . و على هذا فلو توجّه اليمين مع الشاهد أو بردّ الغريم، فالحالف هو الوارث، و إن كان المنتفع بالمال هو الغريم (1) ، إنتهى (2) .

واعلم : أنّه لو امتنع الوارث من الحلف لا يجبر عليه - كما في القواعد والإيضاح والمسالک والكفاية (3) - لأنّه لايجب عليه إثبات مال به لنفسه، فضلاً عن مورّثه .

ص: 319


1- . في المصدر : هو المدين .
2- . مسالک الأفهام : 13 / 505 .
3- . القواعد : 3 / 450 ؛ الإيضاح : 4 / 349 ؛ المسالک : 13 / 517 ؛ الكفاية : 2 / 712 .

فروع

لو ادّعى ورثة الميّت أنّ مورّثه وقف لهم أعيان ماله

حكم لهم بعد حلف الجميع والشاهد

{ الفرع الأوّل }

الأوّل : لو ادّعى ورثة الميّت أنّ مورّثهم وقف أعيان تركته - كالدار و نحوها - عليهم و من بعدهم على نسلهم و كان لهم على ذلک شاهد واحد يحكم لهم بعد حلف الجميع، بناءً على ما مرّ من جواز الحكم بالشاهد واليمين في الوقف لانتقاله إلى ملک الموقوف عليهم، على ما هو الحقّ بين الأقوال في تلک المسألة، و قد تقدّم وجهه .

ثمّ إنّ فائدة هذا الحكم مع أنّه لو لم يحكم بالوقفيّة يكون المال لهم أيضًا تظهر فيما إذا كان على الميّت دين مستوعب للتركة، فإنّه مع ثبوت الوقفيّة لا يؤدّى منه دين و كذا لا يؤدّى منه وصيّة ؛ و في ترتّب أحكام الوقف عليه بعد ثبوته، بخلاف ما إذا لم يثبت ؛ و إذا لم يحلفوا جميعهم، أو حلف بعض دون آخر يظهر حكمه ممّا سيجيء.

ص: 320

هذا إذا كان المدّعي للوقف جميع الورثة، و أمّا لو كان بعضها و أقام شاهدًا وحلف، فيحكم له، فلا يشاركه غيره من الورثة وإن لم يبق لهم شيء من التركة، ولا يؤدّى منه دين و لا وصيّة .

وإن امتنع من الحلف يبقى المال ميراثًا بالنسبة إلى باقي الورثة و إلى الديون والوصايا، فإذا أدّى الديون منه مثلاً و بقي منه شيء يشترک فيه الوارث، لكن يحكم على مدّعي الوقف بوقفيّة نصيبه منه في حقّه لإقراره، بخلاف غير المدّعي، فإنّ ما وصل إليهم طلق .

هذا إذا نكل مدّعي الوقف جميعهم، أو كان مدّعيه واحد و نكل ؛ و أمّا إذا حلف بعض مدّعيه دون الآخر، فالحالف يستحقّ نصيبه وقفًا و يبقى الباقي ميراثًا بالنسبة إلى الديون والوصايا و باقي الورثة، فإن فضِّل عن (1) أداء الأوّلين يقسّم بين الورثة غير الحالف و يبقى المال بالنسبة إلى غير المدّعي للوقف من الورثة طلقًا وإليه وقفًا، ولا يشترک الحالف من المدّعي معهم، لإقراره بأنّه ما يستحقّ إلّا ما أخذه .

ثمّ لو انقرض الممتنع من الحلف، فلا يخلو إمّا أن يكون بعض مدّعي الوقف أو جميعه، فإن كان الأوّل كان للحالف من مدّعيه الحلف، لا لأولاد الممتنع، لأنّ التولية إلى الأولاد - كما هو المفروض - بعد انقراض الطبقة الأولى .

و إن كان الثاني قال في الشرائع والقواعد :

ص: 321


1- . جاء في حاشية الأصل : هذا إذا كانت التركة منحصرة في ذلک ؛ منه .

كان للبطن الثاني الحلف مع الشاهد، ولا يبطل حقّهم بامتناع الأوّل (1) .

هذا بناءً على أنّهم يتلقّون الوقف من الواقف، و عليه لابدّ لهم من اليمين مع الشاهد، و أمّا إذا قلنا بأنّهم يتلقّونه من بطن الأوّل - كما هو الأشهر على ما في المسالک (2) - فليس لهم ذلک، لأنّ الأوّل أسقط حقّه بالامتناع من الحلف .

و أمّا ما وصل إلى الأوّل بعد الامتناع من الحلف من جهة الميراث و كان محكومًا بوقفيّته في حقّهم، فالظاهر أنّه بالنسبة إلى البطن الثاني أيضًا محكوم بالوقفيّة في حقّهم، لأنّه كان وقفًا أخذًا بإقرار الأوّل .

لو ادّعى الوقف أنّه وقف ترتيب بعد الحكم

به للمدّعي و موته ينتقل إلى وارثه من غير حلف

الفرع الثاني

لو ادّعى أنّ الوقف وقف ترتيب، بأن ادّعى أنّه وقف عليه و من بعده على أولاده، و حلف المدّعي مع إقامة شاهد واحد و حكم له بالوقف، ثمّ بعد ذلک مات، كان الحقّ المدّعى باقيًا على وقفيّته بالنسبة إلى أولاده، فلا يلزمهم الحلف ثانيًا وإقامة الشاهد .

كما أنّه لو كان للمدّعي دين على آخر و أقام شاهدًا واحدًا و حلف، ثمّ اتّفق

ص: 322


1- . شرائع الإسلام : 4 / 882 ؛ قواعد الأحكام : 3 / 451 .
2- . مسالک الأفهام : 14 / 723 .

موته قبل أن يأخذه، فإنّ لوارثه أن يأخذه من غير يمين و إقامة شاهد .

و هكذا بالنسبة إلى البطن الثالث و الرابع .

هذا مبنيّ على ما مرّ من أنّ البطن الثاني يتلقّون الوقف من البطن الأوّل، كما هو الأشهر على ما في المسالک (1) .

وأمّا لو قلنا : إنّهم يتلقّونه من الواقف، فلا بدّ لكلّ بطن من الحلف و إقامة الشاهد ؛ و رجّحه في الإيضاح، فقال :

والأصحّ عندي الثاني (2) .

لأنّ حقّ الثاني ينتقل من الواقف، و لا يمكن إثبات حقّ واحد بيمين غيره، ولتحقيق المقام محلّ أليق .

و أمّا لو ادّعى أنّ الوقف وقف تشريک، و هو ما لم يكن كذلک، فقيل :

افتقر البطن الثاني إلى اليمين، لأنّها بعد وجودها يصير كالموجودة وقت الدعوى المتّفقة مع الدعوى رتبة (3) .

{ الفرع الثالث }

الثالث : لو ادّعى ثلاثة من بني الميّت تشريک الوقف بينهم و بين البطون،

ص: 323


1- . مسالک الأفهام : 13 / 523 .
2- . إيضاح الفوائد: 4 / 351 .
3- . كشف اللثام : 10 / 144 .

وحلفوا بعد إقامة شاهد واحد، ثمّ صار لأحدهم ولد وقف له الربع من حين يولد، لاشتراكه معهم بإقرارهم، و بقي إلى أن بلغ الكمال، فإن حلف حينئذٍ أخذ، وإن امتنع يرجع الربع إلى المدّعين كما عن المبسوط (1) ، لأنّهم أثبتوه لأنفسهم بحلفهم ولا تزاحم، إذ بامتناعه جرى مجرى المعدوم .

و فيه نظر، لأنّ إثباتهم ذلک لأنفسهم ليس لا بشرط، بل بشرط لا، أي بشرط أن لا يوجد الشريک و قد وجد ؛ وامتناع الولد عن الحلف لا يصير سببًا لرجوع المال إليهم بعد إقرارهم بأنّه ليس لهم، و إقرار العقلاء على أنفسهم جائز .

والحاصل : أنّ المقتضي لعدم انصراف المال إليهم موجود، والمانع عنه مفقود، فوجب القول به .

أمّا وجود المقتضي فلإقرارهم باشتراک الغير معهم، بل حلفهم و إقامتهم شاهدًا على ذلک .

و أمّا فقدان المانع فلأنّه ليس إلّا امتناع الولد من الحلف، و هو لا يقتضي رجوع المال إليهم بعد ما عرفت من وجود المقتضي، بل رجوعه إليه أولى، لأنّ المقتضي لذلک - و هو : إقرار المدّعين و حلفهم و إقامتهم شاهدًا على ذلک - موجودٌ، والمانع ليس إلّا امتناعه عن الحلف، و لم يثبت أنّ كلّ امتناع من الحلف مانع ولو كان ممّا نحن فيه .

و فيه : أنّه يلزم من هذا ثبوت حقّ الغير بحلف الغير، و قد علمت عدم جوازه ؛

ص: 324


1- . المبسوط : 8 / 201 .

ولا يبعد أن يقال برجوعه إلى غير المدّعين من الورثة .

إن قلت : كيف يجوز ذلک مع أنّ المانع عنه موجود، و هو : عدم استحقاقهم لذلک بحلف المدّعين و إقامتهم شاهدًا ؟!

قلت : والّذي ثبت من حلفهم و شاهدهم استحقاقهم للحقّ المدّعى و عدم استحقاق غيرهم من الورثة إذا لم يوجد غيرهم ممّن ادّعوه شريكًا لهم، فإذا وجد - كما هو المفروض - فلا .

أمّا عدم استحقاق المدّعين حينئذٍ فلإقرارهم، و أمّا انتفاء عدم استحقاق غيرهم من الورثة حينئذٍ أيضًا فلأنّ الحلف إنّما يسقط حقّ المدّعى عليه مثلاً بالنسبة إليهم، لا بالنسبة إلى غيرهم .

لما عرفت من أنّ حلف الحالف لا يثبت مال الغير، فعدم استحقاق غير المدّعين من الورثة بعد وجود الولد و كماله موقوفٌ على حلفه، والمفروض أنّه مفقود، والموقوف على المفقود مفقود، فثبت استحقاق غير المدّعين من الورثة .

ثمّ إنّه لو مات أحد الثلاثة من المدّعين قبل كمال الولد، يصير الوقف حينئذٍ أيضًا أثلاثًا، و قد كان لكلّ من الولد والإثنين ربع، فأضيف إلى كلٍّ نصف سدس .

ثمّ إن كمل الولد و حلف، فالحكم واضح، و كذا إذا اتّفق موت أحد المدّعين بعد كماله و حلفه ؛ و إن امتنع من الحلف في الموضعين فالحكم ما مرّ من انتقال الحصّة إلى باقي الورثة لما مرّ (1) .

ص: 325


1- . لاحظ الفرع في الشرائع : 4 / 883 ؛ والقواعد : 3 / 451 ؛ والتحرير : 5 / 178 ؛ والإيضاح : 4 / 351 ؛والمسالک : 13 / 530 ؛ وكشف اللثام : 10 / 144 .

حكم ما لو ادّعى البطن الأوّل وقف ترتيب

و ادّعى الثاني تشريكهم معهم

{ الفرع الرابع }

الرابع : لو ادّعى البطن الأوّل أنّ الوقف على الترتيب و حلفوا بعد إقامة الشاهد، ثمّ ادّعى البطن الثاني بعد وجودهم تشريک الوقف، كانت دعواهم مع البطن الأوّل، لا غيرهم من الورثة .

فإن حلفوا بعد إقامة شاهد واحد ثبت التشريک، لما عرفت من اعتبار شاهد واحد و حلف المدّعي في الوقف، فلهم حينئذٍ مطالبة البطن الأوّل بحصّتهم من النماء من حين وجودهم، وإن لم يحلفوا سقطت دعواه و خلص الوقف للبطن الأوّل ما بقي منهم واحد، فإذا انقرض الجميع انتقل إليهم، بناءً على ما مرّ .

هذا إذا كان وجود البطن الثاني و دعواهم بعد حلف الأوّل، وإن تجدّدوا وادّعوا التشريک قبل حلفهم، و حينئذٍ كانت دعواهم معهم و مع غيرهم من الورثة، لكن نكولهم لا يجدى الورثة، لأنّهم لو نكلوا و حلف البطن الأوّل على اختصاص الوقف مع الشاهد، حكم لهم فقط .

نعم، لو انعكس الأمر بأن نكل الأوّل و حلف الثاني صار نصيب الأوّل ميراثًا، وأمّا إذا حلف كلاهما فإن كان حلف البطن الأوّل مقدّمًا، فالحكم ما مرّ ؛ و مثله عكسه (1) .

ص: 326


1- . انظر كشف اللثام : 10 / 146 .

{ الفرع الخامس }

الخامس : قال في القواعد :

لو ادّعى البطن الأوّل الوقف مرتّبًا و نكلوا عن اليمين مع شاهدهم، فوُجِد البطن الثاني، احتمل إحلافهم واحتمل عدمه إلى أن يموت البطن الأوّل . و منشأ التردّد : جعل النكول كالإعدام، فكأنَّ البطن الأوّل قد انقرضوا فيحلف، واعتراف البطن الثاني بنفي استحقاقهم الآن مع تلقّيهم الوقف من الواقف، فلهم اليمين بعد موتهم (1) .

واحتمل بعض (2) عدم الإحلاف مطلقًا، لتلقّيهم من الأوّلين و قد أبطلوا حقّهم .

يقضي على المنكر بالنكول

من غير ردّ الحاكم اليمين على المدّعي

56- مسألة

اشارة

إعلم : أنّي بنيت أن يكون هذا المجلّد من كتابي على ترتيب القواعد غالبًا، لكنّ العلّامة (رحمه الله) لمّا ذكر كثيرًا من المسائل فيه مكرّرًا، تركت التكرار واكتفيت بذكر كلّ

ص: 327


1- . هذه عبارة شرح القواعد : « كشف اللثام 10 / 146 » للفاضل الاصبهانيّ (قدس سره). و انظر قواعد الأحكام : 3 /452.
2- . هو الفاضل الاصبهانيّ (قدس سره) في كشف اللثام : 10 / 146 .

مسألة مرّة إلّا لأجل فائدة، فقد ذكرت بعضًا من المسائل مكرّرًا لذلک، و من ذلک مسألة النكول .

اعلم : أنّ العلّامة (رحمه الله) لمّا ذكرها أوّلاً في إنكار المنكر بما ادّعي عليه كغيره من الأصحاب، ذكرناها هناک أيضًا ؛ و لمّا جئت في هذا المقام من القواعد رأيت أنّه ذكرها فيه أيضًا، فأحببت أن أذكرها أيضًا للتنبيه على بعض الفوائد .

فأقول : من تلک المسألة مسألة القضاء بالنكول، و قد اختلف الأصحاب في ذلک على قولين :

{ القول الأوّل في المسألة }

الأوّل : أنّ الحاكم يقضي عليه بمجرّد النكول من غير أن يردّ اليمين إلى المدّعي .

و قد عرفت أنّه منقول عن الصدوقين و المقنعة و المراسم و أبي الصلاح والنهاية و الغنية و القاضي في الكامل (1) ، و اختاره المحقّق في النافع و الشرائع وقال : هو المرويّ (2) ، بالحصر ؛ و من متأخّري المتأخّرين جماعة (3) ، و عن

ص: 328


1- . المقنع : 396 ؛ و حكاه عن عليّ بن بابويه ابنه الصدوق في الفقيه : 3 / 39 ؛ وانظر المقنعة : 724 ؛والمراسم : 231 ؛ والكافي في الفقه : 447 ؛ والغنية : 445 ؛ و النهاية و نكتها : 2 / 71 ؛ و حكاه عن القاضيفي المختلف : 8 / 380 .
2- . الشرائع : 4 / 874 ؛ والمختصر النافع : 274 .
3- . انظر غاية المراد : 4 / 35 ؛ و مسالک الأفهام : 13 / 453 ؛ و كشف اللثام : 10 / 100؛ و رياض المسائل :13 / 105 ؛ والمناهل : 730 .

العلّامة في التلخيص (1) .

و قد عرفت أنّ هذا القول هو الحقّ، فلا يجب ردّ الحلف إلى المدّعي، للأصل ؛ ويمكن تقريره من وجوه :

الأوّل : أنّ الأصل براءة ذمّة الحاكم من وجوب ردّ الحلف حينئذٍ إلى المدّعي .

والثاني : هو أنّ الأصل عدم كون اليمين حجّة، و سقطه للحقّ بالنسبة إلى المدّعي، لأنّ منصبه إقامة البيّنة، واليمين منصب المنكر، لقوله (علیه السلام): « البيّنة على المدّعي، و اليمين على من أنكر » (2) ؛ و معلوم أنّ الحكم لحجّيّة شيء حكم وضعيّ يحتاج إلى دليل من الشارع .

والثالث : هو أنّک قد عرفت العمومات الناهية عن الحلف من الكتاب و السنّة، و تخصيصها ثبت بالنسبة إلى المدّعي إذا ردّ المنكر الحلف إليه، أو كان دعواه على الميّت، أو مع شاهد واحد ؛ و بالجملة ليس المقام من ذلک، فيبقى داخلاً تحت عموم النهي .

والرابع : هو أنّ الأصل براءة ذمّة المدّعي من وجوب الحلف عليه، فتأمّل .

و لصحيحة محمّد بن مسلم عن مولانا الصادق (علیه السلام) حيث سأله عن كيفيّة حلف الأخرس، قال : إنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) أتي بأخرس وادّعى عليه دين، فأنكره ولم يكن للمدّعي بيّنة، ثمّ كتب الأمير (علیه السلام) صورة الحلف و أمر الأخرس أن يشربه،

ص: 329


1- . تلخيص المرام : 299 .
2- . سنن الترمذي : 2 / 399 ح 1356 ؛ السنن الكبرى : 10 / 252 ؛ عوالي اللّألئ : 1 / 244 ح 172 ؛الوسائل : 27 / 233 ح 33666 ؛ وانظر كنز العمّال : 6 / 187 و 190 .

فامتنع، فألزمه الدين (1) .

وجه الاستدلال هو : أنّه (علیه السلام) ألزم الدين بمجرّد الامتناع من الحلف من غير تحقّق فصل بينهما، على ما هو قضيّة فاء التعقيبيّة في : « فألزمه »، فلو كان الحكم عند نكول المنكر ردّ اليمين إلى المدّعي لفعله (علیه السلام)، و عدم فعله دليل على العدم، فإذا ثبت الحكم في الأخرس نقول في غيره، لانتفاء الفرق بينهما بالإجماع، كما في المسالک و غيره (2) .

ثمّ إنّ ظاهر الصحيح و إن دلّ على إلزام الدين بمجرّد الامتناع من الحلف، لكن يجب تخصيصه بما إذا لم يردّ المنكر اليمين إلى المدّعي أيضًا، لما تقدّم من الأدلّة من أنّ القضاء بالنكول إنّما هو بعد الامتناع من الحلف و الردّ، لا أنّه بمحض الامتناع من الحلف فقط، و هو اتّفاقيّ أيضًا .

لا يقال : إنّ هذا قضيّة في واقعة، لأنّه إخبار بفعل الأمير (علیه السلام) ذلک في أخرس، ويحتمل أن يكون في ذلک الأخرس خصوصيّة موجبة لذلک ؛ و قد عرفت مرارًا أنّ وقائع الأحوال إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، فلا يجوز بها التمسّک للاستدلال (3) .

لأنّا نقول : إنّ ما ذكر إنّما يرد إذا كان تمسّكنا بالصحيح فيما ذهبنا إليه من جهة

ص: 330


1- . الفقيه : 3 / 112 ح 3432 ؛ التهذيب : 6 / 319 ح 879 ؛ الوسائل : 27 / 302 ح 33799 .
2- . انظر المسالک : 13 / 454 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 691 ؛ و رياض المسائل : 13 / 106 .
3- . نقل هذه القاعدة الأصوليّة عن الشافعي ؛ حكاها عنه الزركشيّ في البحر المحيط : 2 / 308 ؛ وانظر أيضًا :الوافية، للفاضل التوني : 115 ؛ والقوانين : 226 .

فعل الأمير (علیه السلام) ذلک في أخرس، و ليس الأمر كذلک، بل نقول : إنّ التمسّک به إنّما هو لأجل أنّ الراوي لمّا سأل مولانا الصادق (علیه السلام) عن كيفيّة حلف الأخرس مطلقًا أجابه (علیه السلام) بذكر فعل الأمير (علیه السلام)، و يعلم منه أنّ هذا الحكم ليس مختصًّا بذلک الأخرس الخاصّ، بل هو عامّ لكلّ أخرس، و إلّا لما أجاب (علیه السلام) بذلک، و هو واضح .

إن قلت : سلّمنا عدم قدح هذا الاحتمال للتمسّک بالصحيح في المقام لما ذكرت، لكن فيه ما يمنع من ذلک، و هو أنّ التمسّک به فرع العمل به في كيفيّة إحلاف الأخرس، والمشهور لم يقولوا بذلک، كما عرفت سابقًا من أنّ حلف الأخرس إنّما هو بالإشارة المفهمة لليمين على المشهور .

قلت : الظاهر أنّ المشهور لم يقولوا بذلک من حيث التعيين، بمعنى أنّ حلف الأخرس لا يكون إلّا بذلک، لا مطلقًا .

و كيف ؟! مع أنّ ما تضمّنه الصحيح من أفراد الإشارة المفهمة لليمين أيضًا، وظاهر الصحيح وإن كان التعيين، إلّا أنّهم حيث ظهر لهم عدمه قالوا بعدمه ؛ وحمله على عدم التعيين فيما اشتمل من كيفيّة الحلف لا يستلزم عدم العمل به مطلقًا.

و حسنة عبدالرحمن قال : قلت للشيخ - في الفقيه يعني موسى بن جعفر (علیهما السلام) - : خبّرني (1) عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ، فلا يكون له البيّنة بما له، قال :

ص: 331


1- . في الفقيه : أخبرني .

فيمين المدّعى عليه فإن حلف فلا حقّ له، وإن لم يحلف فعليه، الحديث (1) .

وجه الاستدلال واضح ؛ و هذا أيضًا كالصحيح محمول بما إذا لم يردّ المنكر اليمين أيضًا لما تقدّم .

و ربما قدح الاستدلال به بما وجد في ذيله، و هو هذا : « و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأقيمت عليه البيّنة، فعلى المدّعي اليمين » ؛ إلى أن قال (علیه السلام): « ولو كان حيًّا لألزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين ».

والظاهر أنّ وجه الحمل مبنيّ على حمل « يردّ » فيه فعلاً مبنيًّا للمفعول، و هو غير متعيّن، أمّا أوّلاً : فلجواز أن لا يكون فعلاً مطلقًا، بل مصدر مُصدَّر بالباء الجارّة، أي : لألزم بردّ اليمين ؛ و حينئذٍ يصير دليلاً للمسألة، لا قادحًا لصدره، لدلالته على أنّ اليمين لا يردّ على المدّعي إلّا بردّ المنكر .

و لهذا ترى الفاضل الهنديّ (رحمه الله) مع كمال دقّته في نقل الأحاديث والأقوال استدلّ بما ذكر من ذيل الحديث لهذا القول، بناءً على حمله « بردّ اليمين » على ما ذكر (2) .

و يؤيّده ما وجد في حاشية الفقيه نسخةً : « ردّ » بإسقاط الجارّ .

و مع ملاحظة ما ذكر لو لم يحصل الظنّ بترجيح هذا الاحتمال على الاحتمال

ص: 332


1- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3343 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 555 ؛ الوسائل : 27 / 236 ح33673 .
2- . انظر كشف اللثام : 10 / 100 .

الأوّل، فلا أقلّ من التساوي، فيصير مجملاً، والمجمل لا يصير قادحًا للمبيّن .

و على فرض تسليم كونه فعلاً نقول : كما يحتمل أن يكون مبنيًّا للمفعول، كذا يحتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، بل الأخير أولى، أمّا أوّلاً فلأنّ الأصل في الفعل المبنيّ للفاعل، و أمّا ثانيًا فلأنّه لو كان فعلاً لكان عطفًا على : « لألزم »، فيكون التقدير : و لو كان حيًّا يردّ اليمين، أو ليردّ .

و معلوم أنّ الضمير في « كان » يعود إلى المدّعى عليه، و ينبغي أن يكون في «يردّ » أيضًا كذلک ؛ و معلوم أنّه لو أمكن إرجاع الضمير بشيء مذكور صريحًا أولى من غيره .

والمناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه في كون كلّ منهما مَبنيًّا للفاعل أوالمفعول وإن كانت من المحسّنات، إلّا أنّه إذا لم يلزم مع مراعاتها ما هو أدون من هذا، و قد عرفته .

و على تقدير تسليم تساوي الاحتمالين يكون مجملاً، و قد عرفت حاله .

ثمّ على تقدير تسليم ترجيح كون الفعل مبنيًّا للمفعول على كونه مبنيًّا للفاعل نقول أيضًا : لا يجدى في المقام، لوجوب حمله فيما إذا كان الرادّ هو المنكر، لأنّه المتبادر منه حينئذ، إمّا لأنّه الفرد الغالب، إذ الظاهر أن يكون رادّ الحلف هو المنكر غالبًا، أو مع قطع النظر عن الغلبة و غيرها، بل من حيث انّه يتبادر من لفظ « الردّ »، لأنّ الظاهر المتبادر من لفظ « الردّ » أن يكون رادّ الشيء هو الّذي كان ذلک الشيء تحت يده، و هو هنا المنكر، لا الحاكم، لأنّ الشارع جعل اليمين حقًّا للمنكر،

ص: 333

فينبغي أن يكون الرادّ هو أيضًا لما ذكر (1) .

{ القول الثاني في المسألة }

والقول الثاني هو : أنّ الحاكم يردّ اليمين إلى المدّعي، فإن حلف فيحكم على المنكر بأداء حقّه، و إلّا فيسقط (2) .

و قد تقدّم القائل به و أدلّته المستدلّ بها عليه والجواب عنها، فلا نعيدها (3) .

و قد اختار العلّامة في الموضعين من القواعد هذا القول (4) ، و اختار ابنه في الشرح أيضًا (5) .

ص: 334


1- . جاء في حاشية الأصل : نعم، ربما يمكن القدح في الاستدلال من جهة قوله (علیه السلام) : « أو الحقّ »، بيانه هو :انّ المنكر لا يلزم على الحقّ، بل الّذي ألزم عليه هو الحلف أو ردّه، لا الحقّ، فعلى هذا قوله (علیه السلام) : « أو الحقّ »يحتمل أن يكون فيما ردّ الحلف على المدّعي و حلف هو، فحينئذٍ يكون المراد من قوله (علیه السلام) : « أو يردّاليمين » أي الحاكم، فتأمّل جدًّا ؛ منه .
2- . حكاه عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة : 8 / 380 ؛ وانظر الخلاف : 6 / 290 ؛ والمبسوط : 8 / 159 ؛والمهذّب : ج 1 / ص 413 و ج 2 / ص 586 ؛ و مختلف الشيعة : 8 / 398 ؛ و تبصرة المتعلّمين : 238 ؛وقواعد الأحكام : 3 / 440 و 452 ؛ و تحرير الأحكام : 2 / 186 ؛ و غاية المراد 4 / 37 ؛ ومسالک الأفهام : 13 / 453 ؛ و كشف الرموز : 2 / 501 ؛ و إيضاح الفوائد : 4 / 331 و 353 ؛ والدروس الشرعيّة : 2 / 89 ؛ والتنقيح الرائع : 4 / 255 .
3- . تقدّم في المسألة 17 .
4- . انظر قواعد الأحكام : 3 / 440 و 452 .
5- . انظر إيضاح الفوائد : 4 / 331 و 353 .

نكول المدّعي في اليمين المردودة إليه مسقط لحقّه

57- مسألة

اشارة

لو نكل المدّعي من اليمين المردودة إليه سقطت دعواه إجماعًا، كما في الشرائع (1) .

والنصوص المستفيضة، منها : الصحيح (2) : في الرجل يدّعي و لا بيّنة له، قال : يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلا يحلف، فلا حقّ له (3) .

و منها : الموثّق المرويّ عن أبان و جميل المجمع على تصحيح ما يصحّ عنهما، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إذا أقام المدّعي البيّنة فليس عليه يمين، وإن لم يقم البيّنة فردّ عليه الّذي ادّعي عليه اليمين فأبى، فلا حقّ له (4) .

و منها : المرسل المقطوع المتقدّم، و هو هذا : استخرج (5) الحقوق بأربعة وجوه - إلى أن قال : - فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف ردّ اليمين على المدّعي، و هي واجبة عليه أن يحلف و يأخذ حقّه، فإن أبى أن يحلف

ص: 335


1- . الشرائع : 4 / 878 .
2- . هو الصحيح المرويّ عن محمّد بن مسلم عن أحدهما (علیهماالسلام).
3- . الكافي : 7 / 416 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 557 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33679 .
4- . الكافي : 7 / 417 ح 2 ؛ الفقيه : 3 / 63 ح 3342 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 563 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح33684 .
5- . في الكافي : استخراج .

فلا شيء له (1) .

و منها : مقبولة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) : في الرجل يدّعى عليه البيّنة ولا بيّنة للمدّعي، قال : يستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له (2) .

و منها : مرسلة أبان عنه (علیه السلام) أيضًا : في الرجل يدّعى عليه الحقّ و ليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال : يستحلف المدّعى عليه، فإن أبى أن يحلف و قال : أنَا أردّ اليمين عليک لصاحب الحقّ، فإنّ ذلک واجب على صاحب الحقّ أن يحلف ويأخذ ماله (3) .

و منها : رواية أبي العبّاس عنه (علیه السلام) أيضًا (4) ، و هي مثل الموثّقة المتقدّمة .

و لا يخفى عليک أنّ مقتضى الإجماع المنقول في المسألة والنصوص المستفيضة المذكورة سقوط الحقّ والدعوى عند نكول المدّعي من اليمين مطلقًا، سواء كان في ذلک المجلس، أو في غيره .

و هو موافق بالاعتبار أيضًا، إذ لو لم يكن كذلک لكان لكلّ مدّع كلّ يوم أن يرفع خصمه عند الحاكم و لم يحلف عند ردّ اليمين عليه، فيلزم من ذلک عسر شديد .

ص: 336


1- . الكافي : 7 / 416 ح 3 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 562 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33682 .
2- . الكافي : 7 / 416 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 556 ؛ الوسائل : 27 / 241 ح 33680 .
3- . الكافي : 7 / 416 ح 4 ؛ التهذيب : 6 / 230 ح 561 ؛ الوسائل : 27 / 242 ح 33683 .
4- . الكافي : 7 / 417 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 231 ح 563 ؛ الوسائل : 27 / 243 ح 33686 .

و هذا الإطلاق هو مقتضى كثير من الفتاوى، بل في الكفاية و غيره صرّح بأنّ سقوط الدعوى مطلقًا هو المشهور (1) .

و أيضًا وضع الحاكم و جعل البيّنة واليمين و ردّها كلّ ذلک لأجل قطع النزاع ؛ وعلى تقدير عدم سقوط الدعوى في غير ذلک المجلس بمجرّد النكول لم يرتفع النزاع .

و عن المبسوط تجويز المطالبة في مجلس آخر (2) ، و هو تقييد للنصوص من غير دليل .

و قال في القواعد عند بيان حكم ما لو ادّعى المدّعى عليه و أنكر :

و إن ردّ المنكر اليمين على المدّعي، فإن حلف ثبت حقّه (3) دعواه، وإن نكل سقطت . و هل له المطالبة بعد ذلک ؟ إشكال (4) .

أقول : لا إشكال في ذلک بعد ما عرفت من النصوص المستفيضة الدالّة على أنّ المدّعي بعد ردّ اليمين عليه لو لم يحلف لا حقّ له، و هو نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فيشمل مجلس النكول و غيره .

مضافًا إلى ما عرفت من التأييد بالاعتبار، بل الحكم بعدم سقوط الدعوى في

ص: 337


1- . انظر الكفاية : 2 / 692 ؛ و الخلاف : 6 / 290 - 292 ؛ والغنية : 445 ؛ و المسالک : 13 / 455 - 458 ؛وكشف اللثام : 10 / 123 ؛ والرياض : 13 / 109 .
2- . انظر المبسوط : 8 / 209 .
3- . « حقّه » لم يرد في المصدر .
4- . قواعد الأحكام : 3 / 439.

غير ذلک المجلس مشكل، لاستلزامه التخصيص في النصوص المستفيضة من غير دليل .

ثمّ إشكاله (رحمه الله) من الأصل و كون اليمين المردودة بمنزلة إقرار المنكر له بالحقّ، أو بمنزلة بيّنة المدّعي و من النهى في النصوص، و قد مرّ الجواب عن الأصل من أنّ التمسّک به إنّما هو إذا لم يعارضه دليل، و قد وجد ؛ و انّه لا دليل في كون اليمين بمنزلة شيء منهما، و سيجيء الكلام فيه أيضًا .

ثمّ في موضع من القواعد قال :

وإن ردّها المنكر توجّهت، فإن نكل سقطت دعواه إجماعًا (1) .

حيث إنّ ظاهره نقل الإجماع على السقوط مطلقًا .

لكن قال إبنه :

إنّ مراده من دعوى الإجماع هو سقوط الدعوى في مجلس النكول (2) .

ثمّ قال في هذا المقام من القواعد :

الفصل السادس في النكول، والأقرب أنّه لا يقضى به، بل يردّ اليمين على المدّعي . و لو نكل المدّعي سقطت دعواه في الحال، و له إعادتها في غير المجلس (3) .

ص: 338


1- . القواعد : 3 / 445 .
2- . الإيضاح : 4 / 331 .
3- . القواعد : 3 / 452.

و هو صريح في الفتوى بجواز المطالبة للمدّعي الناكل في مجلس آخر، لكن يحتمل أن يكون مراده من نكول المدّعي هو النكول من اليمين الّتي ردّها الحاكم، بل هذا هو الأظهر ؛ كما يحتمل أن يكون المراد مطلق النكول من اليمين، سواء كان الرادّ المنكر، أو الحاكم ؛ و على الأوّل ما ذكره هنا غير مخالف لما ذكره سابقًا، بخلافه على الثاني .

ثمّ أقول : إن كان مراده ما استظهرناه من كون اليمين المردودة من الحاكم لايبعد القول بجواز المطالبة حينئذٍ في غير المجلس، لأنّ الدليل الدالّ على سقوط الحقّ بالنكول هو ما إذا كان الرادّ هو المنكر، والتعدّي إلى غيره يحتاج إلى دليل، وليس، فبقي الأصل حينئذٍ سالمًا من المعارض .

بل نقول : لا شکّ و لا شبهة في أنّ الحكم بسقوط الدعوى بالنكول خلاف الأصل، فيجب الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن، و هو ما إذا كان نكول المدّعي من اليمين الّتي ردّها المنكر، لما عرفت من النصوص الكثيرة في ذلک، لا غيره .

و بهذا يظهر لک ضعف آخر للقول بعدم القضاء بالنكول، حيث إنّ أصحاب هذا القول أناطوا سقوط الحقّ و العدم بردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي، فإن حلف فاستحقّ، و إن نكل فسقطت دعواه .

و قد عرفت أنّه لا دليل لنا بكون هذا النكول مسقطًا للدعوى مطلقًا ولو كان في ذلک المجلس، بل نقول : كون حلف المدّعي حينئذٍ موجبًا للحقّ أيضًا مشكل، لعدم الدليل على ذلک .

ص: 339

و بهذا يعلم فساد هذا القول من وجه آخر زيادة على ما تقدّم، بل إنّما يستحقّ المدّعي للحقّ بمنع المنكر نفسه من الحلف والردّ، لما تقدّم من الدليل على ذلک، لا أنّ استحقاقه موقوف على ردّ الحاكم الحلف على المدّعي، فتأمّل .

سقوط حقّ المدّعي بنكوله لا يحتاج إلى حكم الحاكم

ثمّ اعلم : أنّه إذا ردّ المنكر اليمين على المدّعي ولم يحلف، هل يحتاج في سقوط حقّه إلى حكم الحاكم بأن تقول له : خلّ سبيله، أو لا حقّ لک عليه، و هكذا، أو لا ؟

و الظاهر الأخير، للنصوص المستفيضة المذكورة الدالّة على أنّ المدّعي لو نكل من الحلف لا حقّ له، و هو عامّ و تقييدها فيما إذا حكم الحاكم خلاف الأصل، لايصار إليه إلّا بدليل، و ليس فليس .

و اشتراط الأصحاب حكم الحاكم ليصير لازمًا إنّما هو بالنسبة إلى المدّعى عليه بأداء الحقّ ؛ ألا ترى قولهم صورة الحكم : أخرج إليه من حقّه، و غيره .

نعم، لو حلف المدّعي حينئذٍ يحتاج في لزوم المدّعى به في ذمّة المدّعى عليه إلى حكم الحاكم .

ثمّ اعلم أيضًا : أنّ المدّعي بعد النكول لو أقام البيّنة على حقّه، هل تسمع، أم لا ؟ و كذا لو أقامها المنكر بعد حلف المدّعي على الإبراء أو الأداء، هل تسمع، أم لا ؟

ص: 340

و قد ذكرناهما مستقصًى سابقًا، مَن أراد الاطّلاع فعليه الرجوع إلى ذلک (1) .

ينبغي للحاكم أن يذكر حكم النكول

ثمّ اعلم أيضًا : أنّه ينبغي للحاكم أن يشرح لكلّ من المدّعي والمدّعى عليه حكم المتعلّق باليمين والنكول، بأن يقول للمدّعي : إن لم تحلف بعد أن يردّ اليمين عليک تسقط حقّک ؛ و للمدّعى عليه انّه : إن لم تحلف لک أن تردّ اليمين على خصمک، و إن لم تردّ و لم تحلف أقضي عليک بأداء حقّه، إمّا من دون ردّ اليمين إلى خصمک، أو معه إن حلف .

والظاهر أنّ هذا مرادهم من قولهم : « إن حلفت و إلّا جعلتک ناكلاً »، وإن كان العبارة غير وافية لذلک، إذ بمجرّد عدم الحلف لا يجعل ناكلاً .

و هل يجب على الحاكم ذلک ؟

الظاهر لا، وفاقًا لبعض المحقّقين من المتأخّرين (2) ، للأصل و عدم ما يوجب الخروج عنه .

إن قيل : ينبغي أن يجب ذلک إذا لم يعلم المنكر ذلک .

قلت : هذا و إن احتملناه سابقًا، لكن مقتضى التحقيق العدم مطلقًا و لو مع عدم

ص: 341


1- . تقدّم في المسألة 46 .
2- . هو الفاضل الاصبهانيّ (قدس سره) في كشف اللثام : 10 / 148 .

العلم، إذ التقصير منه لإمكان استفساره ذلک .

نعم، الواجب على الحاكم بعد التماس المدّعي أن يعرض له اليمين بأن يأمره بها و يقول له : قل : والله لا يستحقّ منّي مثلاً.

ثمّ إنّما يقضى عليه بعد تحقّق النكول بأن يقول : أنا ناكِل، أو أنا لا أحلف ولا أردّ ؛ أو بعد أمر الحاكم له بالحلف لا يحلف، فإذا تحقّق نكوله يقضى عليه إمّا من غير ردّ الحلف إلى المدّعي كما هو الحقّ، أو معه و مع حلف المدّعي (1) .

دعوى المنكر عدم العلم بحكم النكول تسمع أم لا ؟

إذا علمت ذلک فاعلم : أنّه لو لم يشرح له حكم النكول على ما مضى و حكم عليه إمّا بالردّ، أو بدونه، فرجع المنكر وادّعى عدم علمه بحكم النكول و أراد أن يحلف، هل يسمع أم لا ؟

إشكالٌ من تحقّق النكول و حكم الحاكم به و عدم دليل على معذوريّة الجاهل هنا، فلا يسمع، و هو المحكيّ عن التحرير (2) ؛ و من أنّ اليمين في الأصل حقّه،فالأصل بقاؤه إلى أن يردّه إلى المدّعي، والنكول مع العلم بحكمه قرينة على الردّ،

ص: 342


1- . انظر قواعد الأحكام : 3 / 453 .
2- . تحرير الأحكام : 10 / 148 .

بخلافه مع الجهل (1) .

هذا إن لم يحلف المنكر و لم يردّه أيضًا، و أمّا لو نكل من الحلف و ردّه على المدّعي، ثمّ بعد حلفه ادّعى عدم علمه بأنّه يحلف، أو يستحقّ بعد الحلف و أراد أن يحلف، لم يسمع قطعًا، لما عرفت في النصوص المستفيضة الدلالة على أنّه لو حلف المدّعي بعد ردّ المنكر عليه يستحقّ الحقّ .

دعوى المدّعي عدم علمه بحكم النكول غير مسموعة

هذا بالنسبة إلى المنكر، و أمّا المدّعي فإنّه إذا نكل من الحلف بعد ردّه المنكر عليه، ثمّ ادّعى عدم علمه بأنّ نكوله موجب لإسقاط حقّه و أراد أن يحلف، لم يسمع، لما عرفت من النصوص المستفيضة المتقدّمة أنّ نكول المدّعي بعد ردّ المنكر الحلف عليه مسقط لحقّه ؛ و تقييده فيما إذا لم يدّع المدّعي عدم علمه بحكم النكول خلاف الأصل ؛ هذا .

مع أنّ الأصل عدم جواز حلف المدّعي و استحقاقه للمدّعى به بذلک ؛ وغاية ما ثبت جواز حلفه عند ردّ الحلف عليه و استحقاقه بالمدّعى به بذلک الحلف، و أمّا غيره فلا.

ص: 343


1- . كشف اللثام : 10 / 148 .

عدم جواز الحلف بادّعاء الناكل منه عدم العلم بحكم النكول

هل هو مختصّ فيما إذا لم يرض خصمه بحلفه، أم عامّ ؟

ثمّ هل المنع مختصّ فيما إذا لم يرض كلّ من المدّعي والمنكر بحلف الآخر، أو يعمّه و غيره، فلا يجوز حلفهما و لو مع رضاء أحدهما على حلف الآخر ؟

أقول : توضيح المقام يحتاج إلى إرخاء القلم في بيان كلّ من الصُوَر المذكورة، فأقول : أمّا لو كان الناكل هو المدّعي - كما إذا ردّ المنكر اليمين عليه ولم يحلف - فالحقّ فيه أنّ حلفه بعد نكوله غير موجب لاستحقاقه للمدّعى به مطلقًا ولو مع رضا المنكر .

لما عرفت من النصوص المستفيضة، حيث دلّت انّ نكول المدّعي حين ردّ الحلف عليه مسقط لحقّه، و هو أعمّ من أن يرضي المنكر بحلفه بعد ذلک، أم لا ؛ وتقييدها بالثاني خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلّا بدليل .

إن قلت : إنّ الصورة المفروضة - و هي ما إذا ردّ اليمين إلى المدّعي و نكل، ثمّ ادّعى عدم علمه بحكم النكول، ثمّ رضا خصمه بيمينه ثانيًا - نادرة جدًّا فلاينصرف إليها إطلاق النصوص المذكورة، لأنّ من شرط انصراف المطلقات إلى جميع أفرادها تواطؤها - كما أشرت إليه غير مرّة - و قد عرفت عدمه .

قلت : على فرض تسليم ذلک نقول : عدم انصراف النصوص المتقدّمة إلى الصورة المفروضة لا يكفي في الحكم باستحقاق المدّعي للمدّعى به بحلفه بعد

ص: 344

النكول فيها .

بل غاية ما يثبت من عدم شمولها لها أنّها لا تدلّ على المنع، و لا يلزم من عدم دلالتها على المنع الجواز بالضرورة، بل يجب الرجوع في حكم الصورة المفروضة حينئذٍ إلى ما اقتضاه الأصول المعتبرة .

و معلوم أنّ صيرورة حلف المدّعي حجّة موجبة لما ادّعى عليه بعد نكوله من اليمين أوّلاً خلاف الأصل، و معلوم أنّ رضا المنكر لا يجعل غير الحجّة حجّة ؛ هذا.

مع ما عرفت العمومات الناهية من الحلف من الكتاب و السنّة و تخصيصها ثبت حين ردّ المنكر الحلف عليه، لا بعد نكوله أوّلاً .

و معلوم أيضًا أنّ رضا المنكر لا يجعل غير الجائز جائزًا، و لا يصير مخصّصًا للأدلّة الناهية عن الحلف .

و أمّا إذا كان الناكل هو المنكر، فهو لايخلو إمّا أن ردّ اليمين على المدّعي وحلف هو، ثمّ ادّعى عدم علمه بلزوم الحقّ عليه بحلف المدّعي، و رضي المدّعي بحلفه أيضًا لا يبعد القول بعدم كون هذا الحلف من المنكر مسقطًا لحقّ المدّعي .

لأنّ المدّعي بعد توجّه الحلف إليه و حلفه استحقّ المدّعى به، لما عرفت من النصوص المستفيضة، حيث دلّت على ذلک، و لم يثبت أنّ كلّ يمين من المنكر مسقطة لحقّ المدّعي و لو بعد حلف المدّعي فيما إذا ردّ عليه، لأنّ الظاهر أنّ ما دلّ على سقوط الحقّ المدّعى بيمين المنكر مختصّ بما إذا يردّها على المدّعي، و

ص: 345

هوواضح، و معلوم أنّ رضا المدّعي لا يجعل غير المسقط مسقطًا .

هذا إذا نكل المنكر من اليمين، لكن ردّها على المدّعي، و أمّا إذا نكل ولم يردّ، لكن ردّها الحاكم عليه بناءً على هذا القول و حلف المدّعي، ثمّ ادّعى المنكر عدم علمه بحكم النكول و أراد أن يحلف و رضي المدّعي بحلفه، فيجري فيه الإشكال المتقدّم من تحقّق النكول و حكم الحاكم به و عدم دليل على معذوريّة الجاهل هنا، و من أنّ اليمين حقّه في الأصل والأصل بقاؤه إلى أن يردّه هو إلى المدّعي .

و يمكن أن يقال : الأصل جواز اليمين للمنكر، لعموم الأدلّة ؛ والتخصيص ثبت فيما إذا ردّ اليمين هو إلى المدّعي، أو الحاكم، لكن مع عدم رضا المدّعي بحلفه .

و أمّا إذا ردّها الحاكم على المدّعي و حلف، ثمّ رضي بيمين المنكر في الصورة المذكورة فلا، لأنّ المتبادر من كلمات الأصحاب و دليل النكول غير ما نحن فيه، بل يمكن جريانه فيما إذا لم يرض المدّعي بحلف المنكر أيضًا، إلّا أنّ تحقّق الإجماع على خلافه .

يمين المدّعي هل هي بمنزلة

إقرار المنكر له بالحقّ ، أو بمنزلة بيّنته ؟

58- مسألة

اشارة

اعلم : أنّه اختلف في أنّ حلف المدّعي هل هو بمنزلة إقرار المنكر له بحقّه، أو بمنزلة بيّنة المدّعي ؟

ص: 346

و قد أشرنا إلى الخلاف سابقًا أيضًا، و أعدت ذكره هنا للتنبيه على بعض ما لم أنّبهه عليه هناک .

فأقول : وجه الأوّل : أنّ يمين المدّعي إنّما هو من حيث ردّ المنكر أو نكوله بناءً على القول بالردّ حينئذٍ، فيكون بمنزلة صدور الإقرار منه بالحقّ .

أمّا كون ردّه اليمين عليه بمنزلة إقراره، فلأنّ ردّ اليمين لا يكون إلّا بعد أن ألزم المنكر نفسه بأداء المدّعى به بعد حلف المدّعي ؛ والإقرار أيضًا كذلک، لأنّ الإنسان لا يقرّ بشيء إلّا بعد أن ألزم نفسه بأداء المقرّ به بعد الإقرار .

و أمّا كون نكوله بمنزلة صدور الإقرار منه، فلأنّ ترک الحلف و ردّه لا يكون إلّا من جهة استقرار الحقّ في ذمّته، لأنّه ما حلف لعلمه باستقرار الحقّ في ذمّته، و ما ردّه، لأنّه لمّا كان عالمًا باستقرار المال في ذمّته علم أنّه لو ردّه عليه ليحلف ويلزمه أداء الحقّ .

و فيه نظر، لأنّ المنع في كليهما متوجّه، أمّا في الأوّل فلأنّ ترک الحلف لايلزم أن يكون لأجل استقرار الحقّ في ذمّته، لاحتمال أن يكون تركه تعظيمًا لله تعالى، ولكراهة الحلف، و للعمومات الناهية عن الحلف وإن كان الحالف صادقًا، كقوله (علیه السلام): « لا تحلفوا بالله لا (1) صادقين و لا كاذبين » (2) ، و قد تقدّم .

و أمّا عدم استلزام ترک الردّ استقرار الحقّ في ذمّة المنكر، فلاحتمال أنّه يعلم

ص: 347


1- . « لا » لم يرد في المصدر .
2- . الكافي : 7 / 434 ح 1 ؛ الفقيه : 3 / 362 ح 4281 ؛ التهذيب : 8 / 282 ح 1033 ؛ الوسائل : 23 / 198ح 29357 .

أنّ المدّعي يحلف إذا ردّ الحلف عليه مع علمه بأنّه لا يطلب منه شيئًا، فلا يستلزم عدم الحلف و لا عدم الردّ الإقرار .

و قال جمع (1) في توجيه ذلک - أي كون حلف المدّعي بمنزلة إقرار المدّعى

عليه له بالحقّ - : أنّ يمين المدّعي جاءت من قبل المدّعى عليه إمّا بردّها، أو بالنكول، فيكون بمنزلة الإقرار .

و فيه نظر أيضًا، لأنّا لا نسلّم أنّ مجرّد يمين المدّعي من قبل المدّعى عليه جعلها بمنزلة الإقرار .

و كيف ؟! مع أنّ المدّعى عليه عند النكول يمتنع من اليمين والردّ، و عند الإقرار يقرّ ؛ و كيف يكون الشيء الممتنع منه كالمقرّ به ؟! و ليس هذا إلّا قياس محض، لا نقول به .

والحكم بكون أحد الشيئين المتخالفين في الحقيقة بمنزلة الآخر لا يجوز إلّا من دليل، و ليس لنا فيما نحن فيه دليل على ذلک .

هذا كلّه في وجه كون حلف المدّعي بمنزلة إقرار المدّعى عليه، و أمّا وجه كونه بمنزلة بيّنة المدّعي - كما هو قول الأكثر على ما في الإيضاح (2) - فهو أنّ المدّعي لو أقام البيّنة يحكم له، و كذا إذا حلف بعد الردّ، فيكون بمنزلتها .

ص: 348


1- . منهم الشهيد الثاني في مسالک الأفهام : 13 / 451 ؛ والمحقّق الأردبيليّ في مجمع الفائدة : 12 / 138 ؛والسيّد الطباطبائيّ في رياض المسائل : 13 / 102 .
2- . إيضاح الفوائد : 4 / 355 .

و فيه أيضًا نظر، لما عرفت آنفًا من أنّ الحكم بكون أحد الشيئين المتخالفين في الحقيقة بمنزلة الآخر يحتاج إلى دليل و ليس .

و غاية ما ثبت أنّ المدّعي لو حلف بعد ردّه الحلف إليه يكون مستحقًّا لما حلف عليه، و هو لا يستلزم أن يكون حلفه بمنزلة بيّنته، أو إقرار المدّعى عليه، لجواز أن لايكون بمنزلة شيء منهما ؛ و مع ذلک يثبت بها الحقّ لوجود الدليل .

و نعم ما قال في الكفاية بعد نقل القولين :

و حجّة الطرفين غير وافية، إنتهى (1) .

فالقول بعدم كونه بمنزلة شيء منهما قويّ، إن لم يستلزم مخالفة الإجماع في المسألة .

و فرّع على القولين فروعٌ، ينبغي الإشارة إلى جملة منها، فأقول : منها : أنّ المدّعى عليه لو أقام بيّنة على الأداء أو الإبراء بعد ما حلف المدّعي تسمع بيّنته على الثاني دون الأوّل، لأنّه مكذِّب لبيّنته بالإقرار .

و منها : عدم الاحتياج بعد حلف المدّعي إلى حكم الحاكم على الأوّل، واحتياجه إليه على الثاني (2) .

و من الفروع : عدم الشرط في حلف المدّعي كونه في مجلس الحاكم على الأوّل، لأنّ الإقرار كذلک، بخلافه على الثاني .

ص: 349


1- . كفاية الأحكام : 2 / 690 .
2- . انظر مسالک الأفهام : 13 / 451 ؛ و مجمع الفائدة : 12 / 139 ؛ و كفاية الأحكام : 2 / 690 .

و لم أر مَن ذكر من الأصحاب هذا الفرع .

و منها : أنّه لو اعترفت بزوجيّة أحدهما و قلنا بأنّها إن اعترفت بزوجيّة الآخر لم تغرم المهر، فأنكرت و نكلت فحلف، فعلى الثاني يغرم المهر، دون الأوّل (1) .

نكول المدّعي عن الحلف

إذا كان له شاهد واحد غير مسقط حقّه

59- مسألة

اشارة

قد عرفت سابقًا أنّ المدّعي لو كان له شاهد واحد في ماله له أن يحلف بعد إقامته، فيستحقّ المدّعى به، فلو أقام الشاهد و نكل من الحلف هل يجوز له الحلف بعد ذلک، أم لا ؟

الظاهر الأوّل، لأنّ سقوط الدعوى بالنكول خلاف الأصل، فيجب أن يقتصر فيه على مورد النصّ و الفتوى، و هو ما إذا كان بعد ردّ الحلف إلى المدّعي، و هو هنا مفقود .

و للاستصحاب، لأنّه قبل النكول كان له أن يحلف، فالأصل بقاؤه إلى أن يثبت المانع و لم يثبت .

ص: 350


1- . انظر كشف اللثام : 10 / 148 .

و عن المبسوط (1) : عدم قبول دعواه إلّا بشاهد آخر، لسقوط اليمين بالنكول، و لا دليل على ذلک، مع أنّ مقتضى الاستصحاب البقاء كما عرفت .

و لأنّه (2) كالنكول بعد نكول المنكر، إن أراد أنّ نكول المدّعي حينئذٍ كنكوله بعد نكول المنكر من حيث انّ كلاًّ منهما ترک للحلف .

و فيه : أنّ هذا القدر لا يكفي للتعدية، لما عرفت من أنّ الحكم بسقوط الدعوى بالنكول خلاف الأصل، و الاقتصار فيما خالفه على مورد النصّ لازم، و ليس المقام من ذلک .

و إن أراد أنّه مثله، بمعنى أنّ المناط محقّق، و هو أنّ سقوط اليمين هناک إنّما هو لأجل النكول فقط، لا خصوصيّة للناكل و لا للحلف المردودة، و هو متحقّق في المقام أيضًا، نطلب بالمنقح في ذلک .

فأقول : و هو إمّا العقل، و هو لا يبعده أن يكون سقوط اليمين بالنكول لأجل ردّها عليه و لم يحلف ؛ أو الإجماع، و إثباته في المقام دونه خرط القتاد .

على أنّ نكول المدّعي حينئذٍ لو كان كنكوله بعد نكول المنكر ينبغي أن يحكم بسقوط الحقّ أيضًا، لا بسقوط اليمين، لما عرفت من النصوص المستفيضة في أنّه لو نكل المدّعي بعد توجّه اليمين إليه لا حقّ له .

و إن أراد أنّ نكوله حينئذٍ كنكوله بعد امتناع المنكر من الحلف والردّ، فنمنع

ص: 351


1- . المبسوط : 8 / 211 .
2- . جاء في حاشية الأصل بخطّه (قدس سره): عطف على لسقوط .

الأصل، فضلاً عن المنع، لما مرّ من أنّ المنكر يحكم عليه من دون ردّ، فاستحقاق المدّعي ثبت هناک بمجرّد امتناع المنكر من الحلف والردّ للمدّعى به، فلا يمين هناک على المدّعي حتّى تسقط بنكوله .

ثمّ على تقدير التسليم بناءً على غير المختار من القولين نمنع المثليّة في المقامين، لأنّ نكول المدّعي الّذي بعد امتناع المنكر من الحلف فقط أو من الردّ أيضًا ليس مثلاً للنكول الّذي من المدّعي، أو لا مع شاهد .

و على تقدير تسليم ذلک بمعنى أنّ كلاًّ منهما ترک للحلف كما مرّ، و إن كان المقام مختلفًا نطالب بدليل التعدّي كما مرّ .

لو ادّعى القاضي مالاً لميّت

لا وارث له على إنسان حكمه ماذا ؟

60- مسألة

اشارة

لو ادّعى القاضي مالاً لميّت لا وارث له على إنسان، إمّا لشهادة شاهد واحد، أو لوجوده في روزنامجته (1) و أنكر و لم يحلف، هل يحكم عليه بالنكول، أو يحبس حتّى يقرّ، أو يحلف، أو لا هذا و لا ذاک ؟

ص: 352


1- . كلمة فارسية تعني : دفتر المذكّرات اليوميّة .

احتمالاتٌ ؛ والأوفق بالقواعد الأخير، لما عرفت من أنّ القضاء بالنكول خلاف الأصل، يقتصر فيه على الموضع المتيقّن، و ليس المقام من ذلک .

مضافًا إلى أنّ القضاء بالنكول فيما مرّ لعلّه لإمكان المنكر من الحلف والردّ، وليس ما نحن فيه كذلک، لعدم إمكان الردّ فيه .

أمّا أوّلاً فلما عرفت من أنّه لايجوز الحلف إلّا مع العلم، والقاضي غير عالم بثبوت الحقّ المدّعى في ذمّة المنكر .

و أمّا ثانيًا فلما عرفت أيضًا من أنّه لا يجوز الحلف لإثبات مال الغير، و عدم كون الوارث للميّت لا يجعل القاضي مالكًا، بل ماله حينئذٍ من بيت المال ؛ و أمّا الحبس فهو عقوبة يحتاج إلى موجب، و ليس .

إن قلت : ما روي عنه (صلی الله علیه واله): « ليّ (1) الواجد يُحلّ عقوبته » (2) ، مقتضاه ذلک،لأنّ الشخص المفروض متمكّن من الحلف و واجد له، و لِيُّه عن ذلک يُحلّ عقوبته ؛ والمراد من العقوبة على ما فسّر هو الحبس، فالشخص المذكور يجوز حبسه .

قلت : مع الإغماض عن جميع ذلک نقول : لا دخل للرواية في المقام، لأنّ الظاهر منه أنّه ورد في حقّ مَن ثبت عليه الحقّ، و هو باطل أدائه، و ما نحن فيه

ص: 353


1- . الليّ : المطل و عدم وفاء الدين، كما في النهاية : 4 / 280 . و في القاموس : « المطل : التسويف بالعدّةوالدين »، ( القاموس المحيط : 4 / 51 ).
2- . أمالي الطوسي : 520 ح 1146 ؛ الوسائل : 18 / 333 ح 23793 ؛ عوالي اللّألئ : 4 / 72 ح 44 ؛ مسند أحمد : 4 / 222 ؛ صحيح البخاري : 3 / 155 ؛ سنن أبي داود : 3 / 313 ح 3628 ؛ سنن النسائي : 7 /316 ؛ سنن البيهقي : 6 / 51 .

ليس من هذا القبيل كما لا يخفى .

والمتبادر من الواجد في قوله : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته »، هو الواجد للمال ومتمكّن منه، لا أنّه واجد للحلف و متمكّن منه، إذ الحلف ليس بمال، فلم يبق إلّا الاحتمال الثالث، فلا يحكم عليه بالنكول و لا يحبس .

و يمكن أن يقال : إنّ قوله (علیه السلام) : « واليمين على من أنكر » يدلّ على وجوب اليمين على كلّ منكر، و منه الشخص المفروض، فترک الحلف حينئذٍ ترک للواجب، و تارک الواجب يجبر على تركه إلى أن يؤدّى بالحبس و غيره .

لو ادّعى الفقير إقرار الخصم بثبوت الزكاة في حقّه

61- مسألة

اشارة

لو ادّعى الفقير إقرار المالک بثبوت الزكاة في ذمّته فأنكر، هل يجوز للمدّعي أن يحلف إذا كان له شاهد واحد ؟

الظاهر لا، لأنّ الحلف لا يثبت إلّا حقّ الحالف كما عرفت ؛ و هذا المال بعد ثبوته لا يكون حقّ المدّعي، لجواز إعطائه لفقير آخر .

نعم، لو انحصر الفقير في ذلک و لم يكن غيره يمكن حلفه، لأنّه حينئذٍ لإثبات حقّ الحالف .

و لو ادّعى و لم يكن له شاهد، أو كان لكن لم ينحصر الفقير في ذلک، فأنكر

ص: 354

المالک و لم يحلف، هل يحكم عليه بالنكول، أو يجبر على الحلف أو الإقرار، أو لا هذا و لا ذاک ؟

مقتضى ما ذكرناه آنفًا هو الثاني، و لا يحكم عليه بالنكول لما تقدّم، فتأمّل .

{ لابدّ أن يكون المدّعي على الغائب مدّعيًا شيئًا معلومًا }

62- مسألة

اشارة

قيل (1) : لابدّ أن يكون المدّعي على الغائب مدّعيًا شيئًا معلومًا في جنسه ووصفه و قدره، و إن أجزنا ادّعاء المجهول على الحاضر .

و ذلک فإنّ الحاضر لما ادّعي عليه المجهول و ثبت ذلک عليه يؤخذ بالمسمّى ويجبر على نفي الزائد بالحلف إن ادّعي عليه ؛ و لا يمكن ذلک في الغائب، لأنّه لايمكن حلفه على نفي الزائد .

و فيه نظر، لأنّ مع عدم تمكّن الغائب من الحلف على نفي الزائد لا يجوز طرح الدعوى و عدم سماعها مطلقًا لجواز الحكم له بالمسمّى، فإن تمكّن من الغائب له إحلافه على نفي الزائد، و إلّا فلا، فالقول باشتراط العلم في الجنس والوصف والقدر مشكل .

ص: 355


1- . قائله الفاضل الاصبهانيّ (قدس سره) في كشف اللثام : 10 / 150 .

نعم، يصحّ ذلک بالنسبة إلى الجنس، فإنّ العلم به لابدّ منه، فلو لم يعلم الجنس لايسمع دعواه، لعدم الفائدة في ذلک .

و أمّا بالنسبة إلى الوصف والقدر، فالظاهر عدم اشتراط سماع الدعوى بعلمهما، إذ معه يلزم إضاعة الحقّ .

فعلى هذا لا فرق في الدعوى بين الحاضر والغائب في ذلک، لاشتراط العلم بالجنس في الموضعين و عدم اشتراط العلم بالوصف والقدر فيهما .

ثمّ هل يشترط في المدّعي أن يدّعى عليه صريحًا بأن يقول : « إنّي مطالب به »، فلو قال : « لي عليه كذا »، لم يكف في الحكم ؛ أو لا، فيجوز أن يكون دعواه بمثل الثاني أيضًا ؟

اختار في القواعد (1) الأوّل، فنصّ على عدم كفاية الثاني .

أقول : لا شکَّ و لا شبهة في أنّه يصدق على من ادّعى على غائب أنّ لي عليه كذا أنّه مدّع، فيدخل تحت عموم قوله (عليه السلام): « البيّنة على من ادّعى » (2) ؛ و ثمرةكون البيّنة له جواز الحكم له بعد إقامتها و تخصيصه فيما إذا لم يكن دعواه مثل ما ذكر خلاف الأصل، فتأمَّل ؛ هذا .

مضافًا إلى إطلاق الصحيح المرويّ في التهذيب : « أنّ الغائب يقضى عليه إذا

ص: 356


1- . القواعد : 3 / 454 .
2- . الكافي : 7 / 415 ح 1 ؛ التهذيب : 6 / 229 ح 553 ؛ الوسائل : 27 / 233 ح 33666 .

قامت عليه البيّنة » (1) ، لأنّه (عليه السلام) علّق القضاء على الغائب بإقامة البيّنة عليه، و هو أعمّ من أن يكون مقيم البيّنة دعواه مثل الأوّل أو الثاني، و تقييده فيما إذا لم يكن الدعوى مثل الثاني تقييد للنصّ من غير دليل .

هل يحكم على الغائب بشاهد و يمين، أم لا ؟

63- مسألة

اشارة

لا يحكم على الغائب إلّا بعد إقامة البيّنة، و هو واضح، لما عرفت من الصحيح المذكور، و هو : أنّ الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة و يباع ماله و يقضى عنه دينه .

و هل يحكم عليه فيما إذا أقام المدّعي شاهدًا واحدًا مع يمينه، أم لا ؟

أقول : ذلک موقوف على أنّ البيّنة هل هي مختصّة بشاهدين مثلاً، أو يشمل اليمين و شاهد واحد أيضًا .

والحقّ الثاني، فيجوز الحكم عليه بشاهد و يمين أيضًا، لعموم قوله (عليه السلام) : «الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة »، فتأمَّل .

مضافًا إلى إطلاق النصوص المتقدّمة الدالّة على جواز الحكم بشاهد ويمين،

ص: 357


1- . الكافي : 5 / 102 ح 2 ؛ التهذيب : 6 / 191 ح 413 ؛ الوسائل : 27 / 294 ح 33782 .

كصحيحة أبي مريم المتقدّمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : أجاز رسول الله (صلي الله عليه واله) شهادة رجل مع يمين صاحب الحقّ (1) .

و غيرها، فتأمّل أيضًا .

و إلى إطلاق و عموم كلمات الأصحاب في مسألة جواز القضاء بشاهد و يمين حيث قالوا : يجوز القضاء بشاهد و يمين في الأموال من غير استثناء الغائب (2) .

و يمكن الاستدلال لذلک بالفحوى، بيانه هو : أنّه لو جاز الحكم بشاهد و يمين مع حضور المدّعي و إنكاره، فمع الغياب بطريق أولى .

لا يشترط الحكم على الغائب بادّعاء المدّعي إنكاره

و هل يشترط في الحكم على الغائب ادّعاء المدّعي إنكار الغائب عن حقّه، لأنّ البيّنة إنّما تطلب بعد إنكار الخصم، أم لا ؟

الظاهر لا، لأنّ الظاهر من استقراء الأحكام الشرعيّة أنّ البيّنة حجّة بنفسها أيّ موضع تحقّقت .

ألا ترى أنّها إذا شهدت بنجاسة شيء نقبل، و كذا بتطهيره بعد النجاسة، و كذا برؤية الهلال و جهة القبلة و غير ذلک .

ص: 358


1- . الاستبصار : 3 / 33 ح 115 ؛ التهذيب : 6 / 273 ح 744 ؛ الوسائل : 27 / 267 ح 33740 .
2- . انظر المبسوط : 8 / 254 ؛ والمختصر النافع : 275 ؛ و شرائع الإسلام : 4 / 921؛ والتحرير: 5 / 267 ؛والقواعد : 3 / 449 ؛ وكشف اللثام : 10 / 137 .

نعم، لو كان الخصم حاضرًا لا نطلب البيّنة إلّا بعد إنكاره عن المدّعى به ؛ و ذلک لأنّه لا حاجة إليها و لا ثمرة لها إلّا بعد إنكاره، لأنّ الخصم إذا أقرّ فإقراره مثبت للمدّعى به، فلا حاجة إلى البيّنة .

و كذا إذا سكت و لم يجب بشيء، بناءً على القول بأنّه يحكم عليه بعد قول الحاكم له : إن أجبت و إلّا جعلتک ناكلاً .

و بالجملة نقول : البيّنة تطلب في كلّ دعوى إلّا إذا قيّد المطالبة بها بشيء، و قد ثبت أنّ المطالبة بها عند حضور الخصم لا يكون إلّا بعد إنكاره ؛ و أمّا إذا كان غائبًا فلا.

فعلى هذا لو ادّعى على خصمه الغائب من غير تعرّض لجحوده و لا إقراره بما ادّعاه عليه و أقام بيّنة يحكم له، بل و لو اعترف اعترافه بذلک .

ثمّ مع إقامة البيّنة على الغائب هل يتوقّف الحكم له على يمينه على بقاء الحقّ في ذمّته و عدم وفائه ذلک، أو لا ؟

قولان، المشهور على ما نقل هو الأوّل، و ذهب المحقّق في الشرائع (1) إلى الثاني، و هو ظاهره في النافع (2) ، و نقله في الكفاية (3) عن جماعة من الأصحابمنهم المحقّق .

ص: 359


1- . الشرائع : 4 / 874 .
2- . المختصر النافع : 277 .
3- . كفاية الأحكام : 2 / 695 .

و قد تقدّم الكلام فيه مستقصًى، مَن أراد الاطّلاع فعليه الرجوع إلى ما ذكرناه