مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام المجلد 3

اشارة

سرشناسه:برغانی، محمدصالح بن محمد، -1271؟ق.

عنوان قراردادی:مخزن البکاء. عربی

عنوان و نام پديدآور:مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام/ محمدصالح البرغانی؛ ترجمه و تحقیق السیدعلی السیدجمال اشرف الحسینی.

مشخصات نشر:قم: طوبای محبت، 1441 ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:دوره 978-600-366-200-1 : ؛ ج.1 978-600-366-201-8 : ؛ ج.2 978-600-366-202-5 : ؛ ج.3 978-600-366-203-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ اول: 1399)(فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق -- احادیث

موضوع:Hosayn ibn Ali, Imam III, 625 - 680 -- Hadiths

موضوع:واقعه کربلا، 61ق -- احادیث

موضوع:Karbala, Battle of, Karbala, Iraq, 680 -- Hadiths

شناسه افزوده:حسینی، سیدعلی جمال، مترجم

رده بندی کنگره:BP41/5

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:6099609

وضعيت ركورد:فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

مخزن البكاء

في مقتل سيّد الشهداء علیه السلام

تأليف:

محمّد صالح البرغاني

ترجمة وتحقيق:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

المجلس العاشر: في بيان ما وقع بعد الداهية العظمى والمصيبة الكبرى إلى أن خرج الأسرى من كربلاء

اشارة

رُوي أنّ الأُمّة جاءت إلى النبيّ وطلبت منه أن يحدّد لهم خدمةً يقدّمونها إليه مقابل ما تحمّله في أداء الرسالة إليهم، فأنزل الجليل قوله (تعالى): «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((1)) ((2)).

ورُوي أنّه لمّا نزلَت هذه الآية على رسول الله صلی الله علیه و آله: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»، قام رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: «أيّها الناس، إنّ الله (تبارك وتعالى) قد فرض لي عليكم فرضاً، فهل أنتم مُؤدّوه؟». قال: فلم يُجِبْه أحدٌ منهم،

ص: 5


1- سورة الشورى: 23.
2- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 23 / 229 الباب 13.

فانصرف، فلمّا كان من الغد قام فيهم فقال مثل ذلك، ثمّ قام فيهمفقال مثل ذلك في اليوم الثالث، فلم يتكلّم أحد، فقال: «يا أيّها الناس، إنّه ليس مِن ذهبٍ ولا فضّةٍ ولا مطعمٍ ولا مشرب»، قالوا: فألقِه إذاً. قال: «إنّ الله (تبارك وتعالى) أنزل علَيّ: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»». فقالوا: أمّا هذه فنعم. فقال أبو عبد الله: «فوَاللهِ ما وفى بها إلّا سبعة نفر» ((1)).

إي والله، لم يفِ إلّا جماعةٌ قليلة، وأيّ ظلم وجَورٍ صدر من هذه الأُمّة الّتي لا تستحي في حقّ وصيّه عليّ المرتضى وابنته المظلومة فاطمة الزهراء، وفلذة كبده الحسن المجتبى، ونور عينه سيّد الشهداء علیهم السلام.

وعدَوا على الإمام المظلوم بعد أن ذبحوه فسلبوه. قال في (الملهوف): ثمّ أقبلوا على سلب الحسين، فأخذ قميصه إسحاق بن حوية الحضرمي فلبسه، فصار أبرص وامتعط شعره.

ورُوي أنّه وُجد في قميصه مئةً وبضع عشرة ما بين رميةٍ وطعنة سهم وضربة ((2)).

وأخذ سراويله بحر بن كعب التَّيميّ (لعنه الله تعالى)، فرُوي أنّه صار زَمِناً مُقعداً من رجليه.

وأخذ عمامته أخنس بن مرثد بن علقمة الحضرميّ، وقيل: جابر بن

ص: 6


1- قرب الإسناد للحِميري: 78 ح 254 و255، بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 321.
2- اللهوف لابن طاووس: 129.

يزيد الأودي (لعنهما الله)، فاعتمّ بها فصار معتوهاً.

وأخذ نعلَيه الأسود بن خالد (لعنه الله).وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبيّ، وقطع إصبعه علیه السلام مع الخاتَم ((1)).

آه، وا ويلاه، وا مصيبتاه! مِن فعل هذا اللعين الأبتر، فلمّا أخذه المختار الوفيّ فأمر فقُطّعَت يديه بالساطور قطعةً قطعةً إلى عاتقه، ودقّوا رجليه بالفأس (الطبر) حتّى هلك، وأخذوا ابنه فقطّعوا يديه ورجليه، وتركوه يتشحّط بدمه حتّى التحق بجهنّم.

وأخذوا أموال بجدل النحس، ودُفعَت إلى بيت المال، وأمر أن تهدم داره ((2)).

وفي (اللهوف): وأخذ قطيفةً له علیه السلام كانت من خزّ قيس بن الأشعث.

وأخذ درعه البتراء عمرُ بن سعد، فلما قُتِل عمر وهبها المختار لأبي عمرة قاتله.

وأخذ سيفه جميع بن الخلق الأوديّ، وقيل: رجلٌ من بني تميم يُقال له: أسود بن حنظلة، وفي رواية ابن أبي سعد أنّه أخذ سيفه الفلافس النهشلي، وهذا السيف المنهوب المشهور ليس بذي الفقار، فإنّ ذلك كان

ص: 7


1- اللهوف لابن طاووس: 129.
2- أُنظُر: سرور المؤمنين: 165. في (اللهوف: 129): وهذا أخذه المختار، فقطع يديه ورجليه وتركه يتشحّط في دمه حتّى هلك.

مذخوراً ومصوناً مع أمثاله من ذخائر النبوّة والإمامة ((1)).

وحُكي أنّه جيء بمالك بن هشيم وحمل بن مالك إلى المختار، فقال لهما: أين الحسين بن عليّ يا أعداء الله؟! قالا: لقد خرجنا إلىحربه مكرَهين! فقال المختار: لعنكم الله! متى أكرهكما ابن الأمة الفاجرة ابن زياد على الخروج لقتال الحسين علیه السلام إنّكما خرجتما طلباً للذهب والفضّة ولهو الدنيا، فأخذتما المال وبغيتما المتعة وتحقيق الآمال، فنلتما ما أردتما، فلمَ لم ترحماه وتسقيانه جرعةً من الماء؟!

ثمّ التفت المختار إلى مالك فقال: يا ابن الفاعلة، أوَلستَ أنت الّذي سلبتَ قلنسوة الإمام؟ فأنكر ذلك، فقال: بلى، أنت الّذي سلبتها.

ثمّ قال: يا خليفة! فوثب عبد الله بن كامل ووقف بين يدَي المختار، فقال له المختار: يا خليفة، إنّ بينك وبين الله ذنوباً كثيرة! فقال ابن كامل: فما الذي تأمرني به؟! فقال المختار: أكرمتك بمالك، وجعلت حمل بن مالك من نصيب هشيم! فانحنيا تعظيماً له، وأخذا اللعينين وقتلاهما شرّ قتلة، والحمد لله ((2)).

ولمّا جاؤوا بقرار بن ماسك إلى المختار قال: لعنك الله، لمَ ضربتَ الإمام الحسين بالسيف وسلبت درعه؟ فسكت اللعين، فقال المختار: يا خليفة،

ص: 8


1- اللهوف لابن طاووس: 130.
2- أُنظُر: سرور المؤمنين: 162.

أهديتُ ثواب هذا لك، فلا تقصِّر في خدمته! فأخذه عبد الله فشقّ خاصرته أوّلاً، ثمّ أمر الغلمان فقطعوا يديه ورجليه، وألحقه بجهنّم.

ونُقل أنّ المختار سأل أبا خليق عن أوّل مَن سلب ثياب الإمام علیه

السلام ، فقال أبو خليق: زياد بن عبدوس الشاكريّ. وكان زعيم الشاكريّة قد قبض على زياد بن عبدوس وجاء به إلى الأمير،فسأل الأمير أبا خليق: مَن هذا؟ قال: هذا زياد بن عبدوس. فأمر المختار فقُطعت يداه بالساطور، وكان في يد هشيم سيفاً يريد اختباره، فضربه على ظهره ضربةً قطعَته نصيفين كما يقطع القثّاء (الخيار) الرطب.

ولمّا جاؤوا بحنظلة بن الأسود إلى المختار قال: لعنك الله يا حنظلة، ما فعلتَ بسيف الإمام الحسين؟ ولمَ قتلتَه؟ ثمّ أمر فسمّر بدنه بالمسامير، وقيل: قطّعوه إرباً إرباً.

وجاؤوا بابن يسار إلى المختار، فقال: يا ابن يسار، ما فعلت بجوشن (مغفر) الإمام علیه السلام ثمّ أمر فصُلب وجُلد ألف جلدة، ثمّ قطعت يداه وأُحرق حيّاً ((1)).

أجل، في (التبر المذاب): وسلبوه جميع ما كان عليه، حتّى سراويله ((2)

ص: 9


1- أُنظُر: سرور المؤمنين: 239 و240 و215.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب: 162، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 228.

وتركوه عرياناً مكبوباً على وجهه مرمَّلاً بالدماء.

ولكن بمقتضى رواية الجمّال الّتي سنذكرها فيما يلي، يلزم أن يكون بدن الإمام عليه سروالاً، ويمكن أن يكون قد كساه الله القادر الممتحِن سروالاً ليُظهر الكامن من الجمّال الخبيث صاحب هذا العمل الشنيع ((1)).ولا تتوهّم أنّ بقاء بدن الإمام المظلوم عرياناً يلزم منه كشف عورتي!!! سيّد الأنام، والطبع ينفر من سماع هذا الكلام، لما يُستشمّ منه من تعريضٍ بمنصب الإمام.

والجواب: إنّ بقاء بدن الإمام عرياناً لبيان كمال شقاوة أُولئك اللئام، وإبداء غاية العداوة والحقد والضغينة على أهل البيت الكرام، الّذين شهد القرآن بطهارتهم وعظمتهم في آية التطهير.

وبقاء بدن الإمام بتلك الصورة لا يلزم منه كشف العورتين؛ إذ يُحتمَل أن يكون الإمام مكبوباً على قفاه بعد الذبح! من دون أن تبدو العورة! للناظرين، وذلك لأنّه كان مغطّىً بالدم والتراب، سيّما إذا كنت لا زلت تتذكّر أنّنا قلنا أنّ بدنه المنوّر كان مقطّعاً إرباً، وفيه أربعة آلاف جراحة من السهام ومئة وثمانين طعنة رمح وضربة سيف، وسنذكر عن قريبٍ أنّ عشرةً

ص: 10


1- سلب سراويل الإمام (صلوات الله عليه) لا يلزم أن يكون قد ترك ريحانة النبيّ عرياناً كما يصوّره المؤلف رحمه الله فإنّ الإمام كان قد تسرول بأكثر من سروال كما هو واضح من الأخبار.

جالوا بأفراسهم على البدن المقدّس وسحقوه بسنابكها، فلماذا يُستبعَد إذن أن تكون الدماء والرمال وما أثارتها الخيل بحوافرها من أشواك قد التصقت بالبدن الشريف وغطّته بحيث لا تنكشف العورة؟ سيّما وأنّنا رأينا ولاحظنا بالتجربة أنّ الدم إذا برد تخثّر وصار طبقةً متراكمةً عازلة.

نعتذر عن تحرير مثل هذه الكلمات، وإنّما أقدمنا على ذلك لأنّنا قدّرنا أنّ أقلام المحبّين لا تجرؤ على التعرّض لمثل هذه الأُمور، ووجه عذري أنّ هذا ما جرى، وقد وقع بالفعل، فاجترأتُ على ذلك في مقام دفع الشبهات وبيان مصيبة المظلوم الّتي هي أعظم المصائب.

تأمّل -- أيّها الشيعي! -- بدن إمام الكائنات، قطيع الرأس، مكبوبٌ على وجهه، سحقَته الخيل بسنابكها، ثمّ تصوّر أُخته الحوراء زينبتبحث عن بدن روح العالم بين القتلى، والإنسان إنّما يُعرَف برأسه ولباسه، وقد سُلب البدن المقدّس من كليهما، لذا بقيَت الحوراء زينب مدهوشةً متحيّرةً بين القتلى، حتّى عرفَته من خلال شدّة أُنسها وتعلّقها به، أو من خلال كثرة الجراحات وتميّزه عن باقي الأبدان، إذ كان مكبوباً على وجهه!

فماذا جرى لها لمّا رأت عزيز أُمّها فاطمة بتلك الحالة؟ لأيّ واحدةٍ من تلك المصائب تضجّ وتبكي، وتنوح وتعول، وتشقّ جيبها وتصكّ جبينها، وتلطم صدرها وتخمش وجهها؟! لرأسه المقطوع من القفا، أم لبدنه العريان، أم لمفاصله المهشّمة بحوافر الخيل، أم للأربعة آلاف ومئة وثمانين جراحة بالسهام والسيوف والرماح، أم لقتله بيد الأراذل والأنذال والسفلة واللئام،

ص: 11

أم لقطع بجدل بن سليم خنصره ليأخذ الخاتم، أم لقطع الجمّال كلتا يديه، أم لرفع رأسه المقدّس على الرمح وهو أوّل رأسٍ رُفع على الرمح في الإسلام! أم تخمش صدرها لأنّ أخاها قُتل عطشاناً جائعاً؟ أم تصكّ رأسها لأنّ الأجانب قد أحاطوا بتلك المخدرة؟ أم على العليل إمام العابدين الّذي تراه ينظر إلى القتلى فيجود بنفسه، فتأخذه وتحتضنه وتواسيه وتسلّيه؟ أم تُجري دموعها على بدن عليّ الأكبر المقطّع آراباً، أم تشقّ جيبها على كفَّي أبي الفضل القطيعان؟ أم تعول على نحر عليّ الأصغر المنحور؟ أم ترتعد فرائصها وترتجف أعضاؤها لسلب العلويّات ونهبهنّ ((1)) وهنّ بين الأجانب والأعداء؟ أم تخفي لوعتها وتتجرّع غصّتها لئلّا يفزع الأطفالالمحيطين بها وهم في تلك الغصص المتتالية والأهوال اللامتناهية؟ أم تخنق عبرتها وتمسح دمعتها لئلّا يفزع من معها وتزداد لوعتهم واضطرابهم؟ أم تكبت فزعها ولوعتها لتنشغل بجمع الأطفال والبنات المتناثرة في الصحراء فراراً وخوفاً من الأعداء؟

آه، وا ويلاه!

افسانه اي كه كس نتواند شنيدنش

يا رب بر اهل بيت چه آمد ز ديدنش

ص: 12


1- تعبير المؤلّف فيه قساوةٌ ربّما تُستساغ بالتركيب الفارسي (أقول: ربّما!)، ولهذا أعرضنا عن ترجمته بالحرف واستبدلناه بتعبير السلب والنهب.

وقد ذكرنا فيما سبق قصّة أُخت عمرو بن ودّ حينما رأت جثّة أخيها، فلو تذكّرت ما سردناه لَما تمالكتَ دمعك ولا امتنعت عن تمزيق ثياب صبرك.

أجل، بعد أن قُتل المظلوم وسُلب، قال السيّد ابن طاووس في (الملهوف): وجاءت جاريةٌ من ناحية خيَم الحسين علیه السلام ، فقال لها رجل: يا أَمة الله، إنّ سيّدكِ قُتل! قالت الجارية: فأسرعتُ إلى سيّدتي وأنا أصيح، فقمن في وجهي وصِحْن ((1)).

وفي (المنتخب) أنّه لمّا قُتل الحسين علیه السلام جعل جواده يصهل ويحمحم، ويتخطّى القتلى في المعركة واحداً بعد واحد، فنظر إليه عمر بن سعد، فصاح بالرجال: خذوه وآتوني به. وكان من جياد خيل رسول الله صلی الله علیه وآله، قال: فتراكضَت الفرسان إليه، فجعل يرفس برجليه ويمانع عن نفسه ويكدم بفمه، حتّى قتل جماعةً من الناس ونكّس فرساناً عن خيولهم، ولم يقدروا عليه ((2)).وقيل: قتل أربعين رجلاً ((3)).

فصاح ابن سعد: ويلكم! تباعدوا عنه ودعوه لننظر ما يصنع. فتباعدوا عنه، فلمّا أمن الطلب، جعل يتخطّى القتلى ويطلب الحسين علیه السلام ، حتّى إذا

ص: 13


1- اللهوف لابن طاووس: 131.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 452 المجلس 10.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 45، جلاء العيون: 690.

وصل إليه جعل يشمّ رائحته ويقبّله بفمه ويمرّغ ناصيته عليه، وهو مع ذلك يصهل ويبكي بكاء الثكلى، حتّى أُعجب كلّ مَن حضر ((1)).

قال أبو مخنف: فنفر فرسه، وهو يحمحم ويقول: الظليمة الظليمة لأُمّةٍ قتلَت ابن بنت نبيّها ((2)). فتعجّب الناس من حركاته أشدّ العجب.

وقد أخبر جبرئيل آدم من قبل بما سيقوله هذا الفرس في همهمته ((3)).

قال عبد الله بن قيس، قال: كنتُ مع عليٍّ علیه السلام في صفّين، وقد أخذ أبو الأعور السلَميّ الماء على المسلمين، ولم يقدر أحدٌ عليه، فبعث إليه الحسينَ علیه السلام فكشفه عن الماء، وانهزم أبو الأعور، فبلغ ذلك أمير المؤمنين فبكى، وسئل: ممّ بكاؤك يا أمير المؤمنين؟ وهذا أوّل الفتح، وهذا ابنك الحسين! قال: «ذكرتُ أنّه سيُقتل عطشاناً بطفّ كربلاء، حتّى ينفر فرسه، ويحمحم ويقول: الظليمة الظليمة لأُمّةٍ قتلَت ابن بنت نبيّها، وهم يقرؤونالقرآن الّذي جاء به إليهم» ((4)).

ص: 14


1- المنتخب للطريحي: 2 / 452 المجلس 10.
2- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 266، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 96.
3- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 308 (الخطاب لموسى علیه السلام ).
4- الإمام الحسين وأصحابه للقزويني: 1 / 346، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 94، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 364.

قال أبو مخنف: فلمّا أمن الجواد من الطلب أتى إلى جثّة الحسين علیه السلام، وجعل يمرّغ ناصيته بدمه، ويبكي بكاء الثكلى، وثار يطلب الخيمة، فلمّا سمعَت زينب بنت عليّ علیه السلام صهيله أقبلَت على سكينة وقالت لها: قد جاء أبوكِ بالماء. فخرجت سكينة فرحةً بذكر أبيها، فرأت الجواد عارياً، والسرج خالياً من راكبه وينعى صاحبه، فهتكت خمارها، ونادت: وا أبتاه، وا حسيناه، وا قتيلاه، وا محمّداه، وا جدّاه، وا عليّاه، وا فاطمتاه، وا غربتاه، وا بُعد سفراه، وا طول كربتاه! هذا الحسين بالعرى، مسلوب العمامة والرداء، قد أُخذ منه الخاتم والحذا، بأبي مَن رأسه بأرضٍ وجثّته بأُخرى، بأبي مَن رأسه إلى الشام يُهدى، بأبي مَن أصبحَت حرمه مهتوكةً بين الأعداء. ثمّ وضعَت يدها على ناصية الفرس ((1)) وأنشأت شعراً.

فلمّا سمعَت السيّدة زينب المظلومة خرجَت من الخيمة وصرخت وبكت بكاءً شديداً، وأنشأت شعراً توجّع لها قلوب ملائكة السماء ((2)).

ورُوي أنّها قالت: يا محمّداه! صلّى عليك مليك السماء، هذا حسينٌ مرمَّلٌ بالدماء، مقطَّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى عليّ المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزةسيّد الشهداء، هذا حسينٌ

ص: 15


1- في الأسرار: (وضعَت يدها على رأسها).
2- أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 94، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 126 المجلس 16.

بالعراء، تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد الأدعياء (البغايا)، وا حزناه، وا كرباه! اليوم مات جدّي رسول الله، يا أصحاب محمّداه! هذا ذرّيّة المصطفى يُساقون سوق السبايا ((1)).

قال أبو مخنف: فلمّا سمعنَ باقي الحريم خرجن، فنظرن إلى الفرس عارياً، والسرج خالياً فجعلن يلطمن الخدود ويشققن الجيوب، وينادين: وا محمّداه، وا عليّاه، وا فاطمتاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا حمزتاه، وا جعفراه، وا عبّاساه، وا أخاه، وا سيّداه! اليوم فُقد محمّدٌ المصطفى، اليوم فُقد عليٌّ المرتضى، اليوم فُقدت فاطمة الزهراء، اليوم فُقدت خديجة الكبرى، اليوم فُقد الحسن والحسين علیهما السلام ((2)).

و في (البحار): وضعَت أُمّ كلثوم يدها على رأسها، ونادت: وا محمّداه، وا جدّاه، وا نبيّاه، وا أبا القاسماه، وا عليّاه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا حسناه! هذا حسينٌ بالعراء، صريعٌ بكربلا، مجزوز الرأس من القفاء، مسلوب العمامة والرداء. ثمّ غُشي عليها ((3)).

ص: 16


1- مثير الأحزان لابن نما: 41، نفَس المهموم للقمّي: 376.
2- أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 149، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 127 المجلس 16.
3- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 127 المجلس 16 -- عن: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 60، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 304.

ثمّ إنّ الفرس اشتدّ به الحزن على الإمام المظلوم، فجعل يصهل ويضرب رأسه بالأرض عند الخيمة، حتّى انقطع نفَسُه وحلّقتروحه، كما في (المناقب) ((1)).

قال عبد الله بن قيس: فنظرت إلى الجواد وقد رجع من الخيمة، وقصد الفرات ورمى بنفسه فيه. وذكر أنه يظهر عند صاحب الزمان عجل الله تعالی شریف ((2)).

وفي (البحار): فأقبل أعداء الله (لعنهم الله) حتّى أحدقوا بالخيمة، ومعهم شمر، فقال: ادخلوا فاسلبوا بزّتهنّ. فدخل القوم (لعنهم الله) فأخذوا ما كان في الخيمة، حتّى أفضوا إلى قرطٍ كان في أُذُن أُمّ كلثوم أُخت الحسين علیه السلام فأخذوه وخرموا أُذنها، حتّى كانت المرأة لَتنازع ثوبها على ظهرها حتّى تُغلَب عليه ((3)).. ثمّ مال الناس على الورس والحُليّ والحُلل والإبل فانتهبوها ((4)).

نُقل أنّ من جملة الأشخاص الّذين نهبوا الحُليّ والحلل: الفرار بن ماسك، وعمرو بن خالد، وعبد الله البجَلي، وعبد الله بن قيس الخولاني، وقد جيء بهم إلى المختار، فأمر أن تُضرب طبول الفرح والبشارة، ثمّ قال:

ص: 17


1- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 70 / 45 عن مناقب آل أبي طالب.
2- المقتل لأبي مخنف (المشهور): 96.
3- مقتل الحسين للخوارزمي: 37 / 2، بحار الأنوار للمجلسي: 60 / 45.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 60 / 45.

لعنكم الله يا قتلَة الصالحين، نهبتم الحُليّ والحُلل من معسكر الحسين علیه السلام ، وقسّمتموها بينكم في يومٍ كان أنحس الأيام! ثمّ أمر بهم فأُخذوا إلى السوق وأُحرقوا ((1)).

وقيل: أمر فضُربت أعناقهم، والحمد لله.ونُقل أنّ المختار سأل أبا خليق عمّن نهب خيام الإمام ومَن أضرم النار فيها، فقال: كان في مقدمهم الشمر ويزيد بن الحارث ومهاجر بن أوس وآخرون لا أذكر أسماءهم، ثمّ أمر شمر فأُركبَت الحرم على الإبل، وكان معه ألف رجل.

قال أبو مخنف: فلمّا ارتفع ضجيج حرم الحسين علیه السلام وكثر بكاؤهم، صاح عمر بن سعد (لعنه الله): اكبسوا عليهم الخيم -- يا ويلكم! -- واضرموها بالنار. وقال رجل: لا حاجة لنا في سلبهم، احرقوا الخيم ومَن فيها بالنار. فقال مَن كان يهوى الرسول صلی الله علیه وآله: يا ويلكم، ما كفاكم ما فعلتم بالحسين وبأهل بيته وأنصاره حتّى تحرقوا النساء والأطفال من آل رسول الله صلی الله علیه وآله لقد زعمتم على أن لا يخسف الله بنا الأرض؟ ثمّ قال عمر بن سعد: انهبوا الخيم.

قالت زينب بنت عليّ بن أبي طالب: كنتُ في ذلك الوقت واقفةً في جانب الخيمة، إذ دخل علَيّ رجلٌ أزرق العين، وهو خولي بن يزيد الأصبحي (لعنه الله)، فأخذ جميع ما كان فيها، ونظر إلى زين العابدين وهو

ص: 18


1- أُنظُر: سرور المؤمنين: 163.

مطروحٌ على نطعٍ من الأديم، وذلك أنّه كان مريضاً، فجذب النطع من تحته ورمى به الأرض، والتفت إليّ فأخذ قناعي من رأسي، ونظر إلى قرطين كانا في أُذني فجعل يعالجهما حتّى نزعهما بعد خرم، وهو مع ذلك يبكي.

فقلت له: لعنك الله، تسلبني وأنت تبكي؟! قال: نعم، أبكي لما أراه يحلّ بكم. فقلت له: قطع الله يديك ورجليك، وأحرقك الله بنار الدنيا قبل الآخرة، لا تسلبني ولا تبكِ. قال: أخاف أن يأخذها غيري.

قال أبو مخنف: والله ما مضت إلّا أيّام قلائل وظهر المختار بنأبي عُبيدة الثقفي بأرض الكوفة يطالب بدم الحسين علیه السلام والأخذ بثأره، فوقع بخولي بن يزيد الأصبحي (لعنه الله)، وهو ذلك الرجل.

قال أبو مخنف: وأقبلوا على عليّ بن الحسين علیه السلام ليقتلوه، فقال بعضهم لبعض: يا قوم، هذا صبيٌّ صغير السنّ لم يبلغ الحلم، فلا يحلّ لكم قتله. وجعل بعضهم يمنع بعضاً عن قتله.

قال: فلمّا أُوقف بين يديه قال: ما صنعتَ بيوم كربلاء؟ قال: ما صنعتُ شيئاً غير أنّي أخذتُ من تحت زين العابدين نطعاً كان نائماً عليه، وسلبت زينب قناعها، وأخذت القرطين كانا في أُذنيها. فقال له: يا عدوّ الله، وأيّ شيءٍ يكون أعظم من هذا؟ وأيّ شيءٍ سمعتها تقول؟ قال: قالت: قطع الله يديك ورجليك، وأحرقك بنار الدنيا قبل نار الآخرة. فقال المختار:

ص: 19

واللهِ لَأُجيبنّ دعوتها.. ثمّ أمر بقطع يديه ورجليه وإحراقه بالنار ((1)).

وفي (المنتخب): فإنّه أقبل إليه الشمر مع جماعةٍ وأرادوا قتله، فقيل له: صبيٌّ عليلٌ لا يحلّ قتله. ثمّ أقبل عليهم عمر بن سعد (لعنه الله)، فضجّ النساء في وجهه بالبكاء والنحيب حتّى ذهل اللعين وارتعدت فرائصه، وقال لهم: لا تقربوا هذا الصبيّ. ووكّل بعليّ بن الحسين وعياله مَن حضر، وقال لهم: احفظوا واحذروا أن يخرج منهم أحد ((2)).وعن (أخبار الدول): وهَمّ شمر بقتل عليّ بن الحسين علیه السلام وهو مريض، فخرجت إليه زينب بنت عليّ بن أبي طالب فوقعت عليه، وقالت: واللهِ لا يُقتَل حتّى أُقتَل. فكفّ عنه ((3)).

عن عبد الله، عن أُمّه فاطمة بنت الحسين علیه السلام قالت: دخلَت الغانمة [العامّة] علينا الفسطاط، وأنا جاريةٌ صغيرةٌ وفي رجلي خلخالان من ذهب، فجعل رجلٌ يفضّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا عدوّ الله؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله. فقلت: لا

ص: 20


1- أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 129 المجلس 16، وانظر: وسيلة النجاة: 187، مقتل الحسين ومصرع أهل بيته: 106.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 455 المجلس 10.
3- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 131 المجلس 16، أخبار الدول: 108، نفَس المهموم: 379، نور الأبصار للشبلنجي: 378.

تسلبني. قال: أخاف أن يجيء غيري فيأخذه.

قالت: وانتهبوا ما في الأبنية، حتّى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا ((1)).

وفي رواية (المناقب) ومحمّد بن أبي طالب: فأخذوا ما كان في الخيمة، حتّى أفضوا إلى قرطٍ كان في أُذن أُمّ كلثوم أُخت الحسين علیه السلام فأخذوه وخرموا أُذنها، حتّى كانت المرأة لَتنازَع ثوبها على ظهرها حتّى تُغلَب عليه ((2)).

وفي رواية الأخنس بن زيد اللعين أنّه خرم أُذُن صفيّة بنت الحسين وسلب قرطها، وجرّ النطع من تحت سيّد العابدين وكبّه على وجهه ((3)).وفي (المنتخب) أنّ فاطمة الصغرى قالت: كنتُ واقفةً بباب الخيمة وأنا أنظر أبي وأصحابه مجرّدين كالأضاحي على الرمال، والخيول على أجسادهم تجول، وأنا أُفكّر ما يصدر علينا بعد أبي من بني أُميّة، أيقتلوننا أو يأسروننا؟ وإذا برجلٍ على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه، وهنّ يلذن بعضهنّ

ص: 21


1- الأمالي للصدوق: 164 المجلس 31 ح 2.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 60، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 324.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 321، قال الخبيث -- في خبرٍ طويل -- : وجررتُ نطعاً من تحت عليّ بن الحسين، وهو عليل، حتّى كببتُه على وجهه، وخرمت أُذُنَي صفيّة بنت الحسين لقرطين كانا في أُذنيها..

في بعض، وقد أخذ ما عليهنّ من أخمرةٍ وأسورة، وهنّ يصحن: وا جدّاه، وا أبتاه، وا عليّاه، وا قلّة ناصراه، وا حُسيناه! أما من مُجيرٍ يجيرنا؟ أما من ذائدٍ يذود عنّا؟ قالت: فطار فؤادي وارتعدت فرائصي، وجعلت أجيل طرفي يميناً وشمالاً على عمّتي أُمّ كلثوم؛ خشيةً منه أن يأتيني، فبينما أنا على هذه الحالة وإذا به قد قصدني، فقلت: ما لي إلّا إلى البَرّ. ففررتُ منهزمةً وأنا أظنّ أنّي اسلم منه، وإذا به قد تبعني، فذهلت خشيةً منه، وإذا بكعب الرمح بين كتفي، فسقطتُ لوجهي، فخرم أُذني وأخذ قرطي وأخذ مقنعتي من رأسي، وترك الدماء تسيل على خدّي، ورأسي تصهره الشمس، وولّى راجعاً إلى الخيم وأنا مغشيٌّ علَيّ، وإذا بعمّتي عندي تبكي وهي تقول: قومي نمضي، ما أعلم ما صدر على البنات وأخيكِ العليل. فقمت وقلت: يا عمّتاه، هل مِن خرقةٍ أستر بها رأسي عن أعين النظّارة؟ فقالت: يا بنتاه، وعمّتك مثلك. وإذا برأسها مكشوف، ومتنها قد اسودّ من الضرب، فما رجعنا إلى الخيمة إلّا وهي قد نُهبَت وما فيها، وأخي عليّ بن الحسين مكبوبٌ على وجهه، لا يطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والسقام، فجعلنا نبكي عليه ويبكيعلينا ((1)).

ونُقل أنّ المختار أمر فأُحضر هشيم بن الأسود بن مالك الكنديّ، فقال له: يا لعين، لمَ ضربتَ زينب على عاتقها بالسوط؟! فأنكر اللعين، فأمر به

ص: 22


1- المنتخب للطريحي: 1 / 184 المجلس 9.

فجُرّد من ثيابه وصُلب، وضُرب ألف سوط، فطلب الماء فلم يعطوه، ثمّ أمر به فضُرب بمسمارٍ في عاتقه حتّى خرج من صدره، وألحقه بجهنّم.

ثمّ جيء ب- (ثبل)، فقال له المختار: إنّي أُحبّك حبّاً أعرفه أنا! فقال له: إن كنت صادقاً فأطلِقْني. فقال المختار: أُحبّك حبّاً يدعوني لأن أقرض لحمك بالمقاريض وأنا أنظر إليك، جزاءً على فعلتك إذ ضربتَ أُمّ كلثوم بالسياط وسلبت مقنعتها من رأسها. فأُلقي فوراً على الأرض، وفعلوا ما أمر المختار به.

ثمّ جيء بقيس بن ظفر وظفر بن ملجم، فقال لقيس: أنت الّذي ضربت أَمَةً للحسين على يدها بالسوط فكسرتها؟ فأنكر اللعين وقال: لا والله، لا علم لي بما تقول. فقال المختار: بلى والله، إنّك لَعالمٌ بما أقول.

ثمّ التفت إلى ظفر وقال: أنت الّذي كنت تزعم أنّك متشيّع، فلمّا خرجتَ إلى كربلاء كنت تنادي: اقتلوا هذا الخارجي؟! فأقسم ظفر أيماناً مغلّظةً أنّه خرج إلى كربلاء ولكنّه لم يقل شيئاً ولم يضرب بسيف ولم يطعن برمح، فقال له المختار: إذن إنّك تقرّ بالارتداد والكفر.

ثمّ أمر فصُلب، وضُرب بالسياط حتّى هلك والتحق بجهنّم، وأمربالثاني فضُربت عنقه.

ثمّ جيء بأسمع، فقال له المختار: يا ابن الزانية، أنت الّذي سلبتَ الملحفة من رأس زينب؟! فأنكر اللعين، فأمر المختار أن يُسلَخ جلده وهو حيّ.

ص: 23

ثمّ جيء بزعيم محلّة بني زهرة، فأمر أن تُضرب طبول (نقارة) الفرح، ثمّ قال له: يا ابن الفاعلة، أنت الّذي سلبت من أُمّ كلثوم قرطها وأنت تبكي وتقول: إن لم أسلبها سلبها غيري؟ فقال: لا والله. فقال الأمير: بلى والله، أنت الّذي فعلت ذلك. ثمّ أمر فقُطّعت أصابع يديه، وثُقبت أعقابه، وصُلب منها منكوسها، وضُرب بالعصيّ حتّى تناثر لحمه، فطلب الماء فلم يعطوه، ثمّ قتلوه.

وجيء بالحارث بن نوفل إلى المختار، فقال له: ألستَ أنت الّذي كنت تضرب زينباً بالسوط؟ فأمر فصُلب وضُرب ألف سوط، فجعل يستغيث بالمختار، فقال المختار: لا رحمني الله إن رحمتكم. فأمر فضُرب ألف سوطٍ أُخرى، وهو لا زال حيّاً، فطلب ماءً، فأمر أن يُصَبّ في حلقه نفطاً مغليّاً، ثمّ أجّجوا ناراً وأحرقوه بها.

ثمّ جيء بيزيد بن مطرع، فقال له المختار: يا ابن الزنا، أنت الّذي كنت تضرب النساء بكعب الرمح وتخرجهنّ من الخيمة؟! فقال: يا أمير، أنت تكذب علَيّ! فقال المختار: سترى صدقي من كذبي. فأمر به فقُطع لسانه، ثمّ قُطّع إرباً إرباً.

ثمّ جيء ببكر بن عامر، فقال له الأمير: يا ملعون، أنت الّذي كنت تركّض النساء على الرمضاء حافيات، وقد اضطررتهنّ إلى خلع أحذيتهنّ ونعالهن؟! فأنكر اللعين ذلك، فأمر به فطُرح على الأرض، ودُقّ بالعصيّ الضخمة من رأسه حتّى قدميه حتّى هلك.

ص: 24

ثمّ جيء بأبي جرجم، فقال المختار: لمَ أحرقتَ الخيام وضربت أهل البيت بالسياط، وقتلت محمّد بن مسلم بن عقيل؟ فأنكر اللعين، فأمر فأُحميَت له كمّاشة، فأقرّ واعتذر، وطلب جرعةً من الماء وقال: اسقني لعلّي أبقى حيّاً ولا أموت من العطش. فأمر فقطعت يداه، وصُبّ في حلقه رطلاً من الرصاص الذائب.

ثمّ جيء بأسد بن مالك إلى المختار، فقال: أنت الّذي سلبت خمار سكينة؟! فقال: لا أيّها الأمير. فقال: بلى والله، أنت الّذي فعلت ذلك. ثمّ أمر فقُطّت أنامله، وعُلّق على كلّابين وضُرب بالسياط حتّى هلك.

ثمّ أُتي بعمران إلى المختار، فقال: أنت الّذي كنت تضرب أهل البيت بالسياط، وأنت الّذي أخذت القرط من أُذُن أُمّ كلثوم وفاطمة الصغرى؟ هل كنت من محارم آل الرسول حتّى تفعل ذلك؟ ثمّ أمر فسمّلَت عيناه، وكُسرت يداه بالفأس (الطبر)، ثمّ صبّوا عليه النفط وأحرقوه.

وجيء بابن نوفل إلى المختار، وكان هذا اللعين قد ضرب فضّة جارية فاطمة الزهراء بالسوط، فقال الأمير: يا ابن الزنا، لمَ ضربتَ فضّة وكسرت يدها؟ ثم أمر فعُلّق على كلّابين وضُرب ألف سوط، وقُطعت يداه بالفاس (الساطور)، فطلب ماءً فصبّوا في فمه رصاصاً ذائباً، فهلك وعجّل به إلى جهنّم وبئس المصير ((1)).

ص: 25


1- أُنظُر: سرور المؤمنين: 192.

وجيء بعبد الله بن معاذ إلى المختار، وكان اللعين قد سلب فاطمة قرطها، ففرح الأمير وقال له: أيّها اللعين، كنتَ تسلب بنت خير البشر قرطها وتبكي وتقول: أخشى أن لا أسلبها ويسلبها غيري! لَأفعلنّ اليوم بك فعلاً تبكي بكاءً يضحك الدهر منك. ثمّ أمرفثقبوا كعبيه، وعُلّق على كلّابين، ثمّ قُطّعت أنامله، وضُرب حتّى تناثر لحم بدنه، فطعش فصبّوا في حلقه رصاصاً ذائباً فهلك.

روى الشيخ المفيد في (الإرشاد)، عن حميد بن مسلم قال: فوَاللهِ لقد كنتُ أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها، حتّى تُغلَب عليه فيذهب به منها، ثمّ انتهينا إلى عليّ بن الحسين علیه السلام وهو منبسطٌ على فراش، وهو شديد المرض، ومع شمر جماعة من الرجّالة، فقالوا له: ألا نقتل هذا العليل؟ فقلت: سبحان الله، أيُقتَل الصبيان؟ إنّما هو صبيّ، وإنّه لما به. فلم أزل حتّى رددتُهم عنه.

وجاء عمر بن سعد، فصاح النساء في وجهه وبكين، فقال لأصحابه: لا يدخل أحدٌ منكم بيوت هؤلاء النسوة، ولا تعرّضوا لهذا الغلام المريض. وسألَته النسوة ليسترجع ما أُخذ منهنّ ليتسترن به، فقال: مَن أخذ من متاعهنّ شيئاً فلْيردّه عليهنّ. فوَاللهِ ما ردّ أحدٌ منهم شيئاً، فوكّل بالفسطاط وبيوت النساء وعليّ بن الحسين جماعةً ممّن كانوا معه، وقال: احفظوهم

ص: 26

لئلّا يخرج منهم أحد، ولا تسيئنّ إليهم. ثمّ عاد إلى مضربه ((1)).

وروى السيّد ابن طاووس، عن حميد بن مسلم قال: رأيتُ امرأةً من بني بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين علیه السلام وفسطاطهنّ وهم يسلبونهن، أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط وقالت: يا آل بكر بن وائل، أتُسلَب بنات رسول الله صلی الله علیهوآله لا حكم إلّا لله، يا لثارات رسول الله صلی الله علیه وآله. فأخذها زوجها وردّها إلى رحله ((2)).

أجل، لم تحرّك رجالهم الغيرة، وإذا تحرّكت غيرة النساء منعهنّ أشباه الرجال، وتغافلوا عن الفضل والإحسان الّذي أسداه جدّ آل النبيّ وأبوهم وأُمّهم وإخوتهم للغرباء والأيتام والأسراء، ألم تكن أُمّهم فاطمة هي الّتي أعطت خبز الشعير الّذي خبزته من كدّ يدها يوم غزلت الصوف لليهوديّ مقابل شيءٍ من الشعير، ثم دفعته للمسكين في اليوم الأوّل، ولليتيم في اليوم الثاني، وللأسير في اليوم الثالث، وافطرت هي وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفضّة على الماء القراح؟! ((3))

ص: 27


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 112.
2- اللهوف لابن طاووس: 132.
3- أُنظُر: الأمالي للصدوق: 257، بحار الأنوار للمجلسي: 35 / 237 الباب 6 نزول «هَلْ أَتى».

وكان أهل بيت هؤلاء الأطهار -- يوم صرخت من أجلهم هذه المرأة -- مساكين أيتام أسراء، وزيادة على ذلك إذ كانوا غرباء عطاشى جياع مفجوعين بين الأعداء الأنذال مصّاصي الدماء، محاصرين مسلوبين منهوبين، ينظرون إلى رأس أبيهم على الرمح، ويشاهدون بدن أبيهم وأبدان سائر أقربائهم وأنصارهم مطرّحين على الرمضاء مجزّرين كالأضاحي، وقد تسلّط عليهم أراذل الخلق وشرارهم، وهم أشراف العالم ونجباء الخلق، وقد أوصى بهم النبيّ المختار وجعل أجر رسالته المودّة في ذوي قرباه، فهل يجوز لهم أن يعاملوهم بكلّ هذا الظلم والقسوة والغلظة والجفاء؟! وإذا انبرت امرأةٌ للدفاع فأطلقت صرخةً في الذبّ عنهم أن تُمنَع؟!

فمَن مبلغٌ بنت النبيّ بناتها***عرايا!!! كأسر الروم منكشفاتِ

أفاطمُ قومي من ستورك واجمعي***يتاماكِ في ذلّ السبى وشتاتِ

روى الكلينيّ في (الكافي)، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء إلى أمير المؤمنين علیه السلام عسل وتين من همدان وحلوان، فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها، وهو يقسّمها للناس قدحاً قدحاً، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما لهم يلعقونها؟ فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى، وإنّما ألعقتُهم هذا برعاية الآباء ((1)).

ص: 28


1- الكافي للكليني: 1 / 406 ح 5، بحار الأنوار للمجلسي: 27 / 247 ح 7.

وقصّة حمله الماء والطحين والتمر واللحم للأرامل والأيتام وإسجاره التنّور ليخبز للأيتام معروفةٌ مشهورة ((1)).

حُكي أنّه كان في الموصل طبيبٌ مروانيٌّ يخدم معاوية، وكان يقول أيّام خلافة الإمام الحسين علیه السلام : إمامنا يزيد بن معاوية. وكان له جارٌ من شيعة أهل البيت علیهم السلام يقول: إمامنا الحسين بن علي علیهما السلام.

فقال له الشيعيّ يوماً: لا تقل بإمامة يزيد؛ فإنّه فاسقٌ فاجرٌ ظالمٌ عاصي، وأبوه معاوية وجدّه أبو سفيان ظلَمة أشقياء، وقُل بإمامة الحسين ابن عليّ؛ فإنّه متّصفٌ بجميع الخصال الحميدة، وأقلّ ما يُقال في صفاته أنّه أوقف ماله على الفقراء والمحتاجين والأرامل والأيتام، ويزيد ليس كذلك.لم يقبل منه الطبيب علانية، ولكنّه أضمر في نفسه أن يختبر كلام الشيعي، فإن كان صادقاً في قوله تشيّع.

ثمّ إنّ الطبيب كانت له جارةٌ أرملةٌ عندها طفلٌ يتيم، فمرضَت، فأرسلَت ولدها إلى الطبيب ليعالجها، فقال الطبيب للغلام: ينفع لعلاج أُمّك كبد الفرس! فقال اليتيم: مِن أين آتيك بكبد الفرس؟ فقال الطبيب: صِرْ إلى الحسين بن عليّ واطلب منه ذلك.

وكان الطبيب يريد أن يختبر كرم الإمام وخُلُقه ورحمته، فذهب اليتيم إلى الإمام علیه السلام وشكى له حال أُمّه وما وصف لها الطبيب، فأمر الإمام بفرسٍ

ص: 29


1- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 52 / 421.

فذُبحَت، وأخرج كبدها ودفعها إلى اليتيم، فأخذها اليتيم وانصرف إلى الطبيب، فقال: ما كان لون الفرس؟ قال: اللون الكذائيّ الّذي طلبتَه. قال: لا ينفع كبد الفرس بهذا اللون، أحضر كبد فرس بلون كذا. فذهب اليتيم إلى الإمام مرّةً ثانية، وحكى له قول الطبيب، فأمر الإمام بفرسٍ أُخرى فذُبحَت، واستخرج كبدها ودفعها إلى اليتيم، فتعلّل له الطبيب وطلب لوناً آخَر، حتّى فعل ذلك خمس مرّات، وفي كلّ مرّةٍ يذبح الإمام فرساً باللون المطلوب ويدفع له كبدها.

فلمّا شاهد الطبيب حُسن خلق الإمام وكرمه ورحمته، قام وتوجّه إلى باب الإمام الحسين علیه السلام، وطلب الملازمين للإمام أن يأخذوه إلى حظيرة الأفراس، فأخذوه، فرأى خمسة أفراسٍ مذبوحة، فسألهم: لمَ ذُبحَت؟ قالوا: ذُبحَت من أجل يتيمٍ وصف الطبيب كبدها لأُمّه.

فخرج الطبيب وجلس على باب دار الإمام علیه السلام ، فلمّا خرج الإمام وقع على قدمَيه المباركتين يقبّلهما ويعتذر إليه، وصارمن شيعته المخلصين، فسأله الإمام عن سبب إيمانه وإخلاصه، فأخبره بحال اليتيم وأُمّه، وأنّه كان يختبر رحمة الإمام وكرمه وسخائه، فقال له: «قُم معي حتّى أُريك ما هو أعظم من ذلك»!

فرفع الإمام علیه السلام يديه بالدعاء وقال: «اللّهمّ أحيي هذه الأفراس الّتي ذبحتُها في رضاك ورضى أوليائك، بحقّ منزلتنا عندك وبحقّ جدّي محمّد صلی الله علیه وآله المصطفى وأبي عليّ المرتضى وأُمّي فاطمة الزهراء، إنّك على كلّ شيءٍ قدير».

ص: 30

فما أتمّ الإمام دعاءه حتّى أحيى الله الأفراس، فقامت على قوائمها ((1)).

كذا كان في رحمته وشفقته على الأيتام، وقد جزته هذه الأُمّة المتعوسة بما جرّت على أيتامه وأُسرائه والغرباء من بعده، فخلّفَت في قلوب شيعته نيران لا تنطفئ إلى قيام الساعة.

أجل، روى السيّد ابن طاووس قال: ثمّ أُخرج النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات، يمشين سبايا في أسر الذلّة ((2)).

ولمّا جيء بعبد الله بن قيس الحنفيّ إلى المختار، قال له: يا عبد الله، لَأُعذّبنّك عذاباً لم تسمع به أُذناك قطّ، يا ابن الزانية، أوَلستَ أنت الّذي ذهبت إلى كربلاء وأضرمت الخيام بالنار؟ فأمر فسلخوا رأسه ووجهه، فهلك وفي وديان جهنّم سلك.

وجيء بخالد بن هلال إلى المختار، فقال: يا نحس يا لئيم، لمَضرمت خيام الحسين بالنار؟ فأنكر ذلك، فأمر فعُرّي، وأُضرمت فيه النار فهلك.

وجيء بعبد الله بن أسد إلى المختار، فقال له: يا أسد، أيّ عداوةٍ كانت لك مع آل محمّدٍ حتّى قتلتَ الحسين؟ فقال: أجبروني على ذلك! قال: لمَ

ص: 31


1- تحفة المجالس: 188 المقصد 5 المعجزة 2، ذكرها المؤلّف فيما مضى في الفصل السابع في فضائله ومناقبه علیه السلام.
2- اللهوف لابن طاووس: 132.

أضرمت النار في الخيام، ولم تكن مجبراً على ذلك؟! فأمر به فذُبح كما يذبح الكبش.

وكان ابن زياد اللعين كتب كتاباً جاء فيه: فإن قتلتَ حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنّه عاتٍ ظلوم، ولستُ أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن علَيّ قولٌ قد قلتُه لو قد قتلتُه لَفعلتُ هذا به ((1)).

وروى ابن طاووس في (الملهوف): ثمّ نادى عمر بن سعد في أصحابه: مَن ينتدب للحسين علیه السلام فيوطئ الخيل ظهره وصدره؟ فانتدب منهم عشرة، وهم: إسحاق بن حرية [حوية] الّذي سلب الحسين علیه السلام قميصه، وأخنس بن مرثد، وحكيم بن طفيل السنبسي، وعمر بن صبيح الصيداوي، ورجاء بن منقذ العبدي، وسالم بن خثيمة الجعفي، وواحظ بن ناعم، وصالح بن وهب الجعفي، وهاني بن شبث الحضرمي، وأسيد بن مالك (لعنهم الله تعالى)، فداسوا الحسين علیه السلام بحوافر خيلهم حتّى رضّوا صدره وظهره.قال الراوي: وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد، فقال أُسيد ابن مالك أحد العشرة (عليهم لعائن الله):

ص: 32


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 88، إعلام الورى للطبرسي: 236، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 182، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 331 الفصل 9، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 390.

نحن رضضنا الصدر بعد الظهرِ***بكلّ يعبوبٍ شديد الأسرِ

فقال ابن زياد: مَن أنتم؟ قالوا: نحن الّذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتّى طحنا حناجر صدره! قال: فأمر لهم بجائزةٍ يسيرة.

قال أبو عمر الزاهد: فنظرنا إلى هؤلاء العشرة، فوجدناهم جميعاً أولاد زناء، وهؤلاء أخذهم المختار فشدّ أيديهم وأرجلهم بسكك الحديد، وأوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا ((1))، فجمعوا أشلاءهم وأحرقوها.

قال المؤلّف:

إنّ الخبيث النحس ابن سعد لم يكتفِ بما أمره اللعين ابن زياد من وطيء جسد سيّد الشهداء بالخيل، إذ أمر عشرةً من أولاد الزنا بالقيام بذلك، ثمّ عزم على أن يُجري خيل عسكر الشقاء كلّها على ذلك البدن المقدّس، حتّى لا يُبقي أثراً منه على أثر، غافلاً من أنّ الحقّ (تعالى) سيمنعهم عن إطفاء نوره وسيدفع ذلك الشرّ العظيم بأسدٍ يسخّره لذلك.

وقد حُكي عن فاطمة بنت سيّد الشهداء أنّها قالت: بينا نحن في محنة الأسر حواسر مسلوبين، إذ سمعنا المنادي ينادي: يا خيل الله اركبي واسحقي جسم الحسين بالسنابك والحوافر، حتّى لا يبقى له عينٌ ولا أثر! فلمّا سمعتُ ذلك لم أُطِق الجلوس في مكاني ولم يقرّ لي قرار، فقمت أنا وعمّتي، وكنتُ أنا أُريد الابتعاد عن ذلك المكانلئلّا أنظر إلى ما سيجري، أمّا عمّتي فقد

ص: 33


1- اللهوف لابن طاووس: 134، مثير الأحزان لابن نما: 78،

توجّهَت مذهولةً إلى المصرع لعلّها تستطيع منع الملاعين عن تنفيذ الأمر، فسارعَت حتّى انتهت إلى الجسد المقدّس.

للهِ قلبك المجروح وكبدك المحترق أيّها الصدّيقة المكرّمة! تبّاً لقلبٍ لا يقطّعه الأسى من سماع هذا الخبر، وعمىً لعينٍ لا يجري دمعها، وكيف لا تجري العيون دموعها وهي تسمع أنّ السيّدة زينب تقف عند جسد الإمام الغريب مذهولةً تنظر يميناً وشمالاً، وهي تصفق يداً بيد تريد منع العسكر من إجراء الخيل كلّ الخيل على جسد أخيها؟!

رُوي في (المنتخب) أنّه لمّا قُتل الحسين وأراد القوم وطأه بالخيل، قالت فضّة لزينب: يا سيّدتي، إنّ سفينه صاحب رسول الله كان بمركب، فضربته الريح فتكسّر، فسبّح فقذفه البحر إلى جزيرة، وإذا هو بأسد، فدنا منه فخشي سفينه أن يأكله، فقال له: يا أبا حارث، أنا مولىً لرسول الله. فهمهم بين يديه مشيراً له برأسه، ومشى قدّامه حتّى أوقفه على طريق، فركبه ونجا سالماً، وأرى أسداً خلف مخيّمنا، فدعيني أذهب إليه وأُخبره بما هم صانعون غداً بسيّدي الحسين. فقالت: شأنكِ. قالت فضّة: فمضيتُ إليه حتّى قربت منه وقلت: يا أسد، أتدري ما يريدون صنعه غداة غدٍ بنو أُميّة بأبي عبد الله؟ يريدون يوطؤون الخيل ظهره. قال: نعم. فقام الأسد، ولم يزل يمشي وأنا خلفه حتّى وقف على جثّة الحسين علیه السلام ،فوضع يديه عليه، وجعل يمرّغ وجهه بدم الحسين ويبكي إلى الصباح، فلمّا أصبح بنو أُميّة، أقبلَت الخيل يقدمهم ابن الأخنس (لعنه الله تعالى)، فلمّا نظروه صاح بهم ابن سعد:

ص: 34

إنّها لَفتنة، لا تثيروها. فرجعوا (عليهم لعائن الله تعالى) ((1)).

وقد روى السيّد نعمة الله في كتاب (رياض الأبرار)، عن كتاب (المناقب) قصّة الأسد بالنحو الآتي، وهو أقرب للاعتبار:

إنّ النبيّ كان له عبدٌ أسود في سفر، فكان كلّ مَن أعيى ألقى بعض متاعه حتّى حمل شيئاً كثيراً، فمرّ به النبيّ فقال: «أنت سفينة». وهذا العبد سافر بعد النبيّ في البحر، فانكسرت السفينة بأهلها، فخرج هذا العبد إلى جزيرةٍ من جزائر البحر وحده، فمشى ساعةً فلقي أسداً، فقال له: أنا سفينة عبد رسول الله. فأقبل نحوه الأسد وأشار إليه: اركب على ظهري، فركب على ظهره، فأسرع في المشي حتّى أتى به البلدة القريبة، فرآه الناس على ظهر الأسد، فنزل ورجع الأسد ((2)).

فلمّا قُتل الحسين علیه السلام أمر عمر بن سعد (لعنه الله) أن تطأ الخيل غداً، فسمعت جارية الحسين علیه السلام فحكت لزينب أُخته، فقالت: ما الحيلة؟ قالت زينب: إنّ سفينة عبد رسول الله صلی الله علیه وآله نجّاه الأسد على ظهره لمّا قال له: أنا عبد رسول الله، وسمعتُ أنّ في هذه الجزيرة أسداً، فأمضي إليه فقولي له: إنّ عسكر ابن سعدٍ (لعنهم الله) يريدون غداً أن يطؤوا بخيولهم ابن

ص: 35


1- المنتخب للطريحي: 2 / 322، الكافي: 1 / 465 باب مولد الحسين بن علي علیهما السلام، وبحار الأنوار للمجلسي: 45 / 169 الباب 39.
2- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 155 المجلس 17.

رسول الله، فهل أنت تاركهم؟

فلمّا مضت إليه الجارية فقالت ما قالته زينب إلى قولهما: فهلأنت تاركهم؟ أشار برأسه: لا.

فلمّا كان الغد أقبل الأسد يأزّ أزّاً، والعسكر واقف، فظنّ ابن سعدٍ أنّه جاء يأكل من لحوم الموتى، فقال: دعوه نرى ما يصنع. فأقبل يدور القتلى، حتّى وقف على جسد الحسين علیه السلام فوضع يده على صدره، وجعل يمرّغ خدّه بدمه فيبكي، فلم يجسر أحدٌ أن يقربه، فقال ابن سعد: فتنة، فلا تهيّجوها. فانصرفوا عنه ((1)).

ولَنعم ما قال الشاعر:

أصدرٌحوى وحيَ الإله وعلمَه***تحطّمه في عَدْوها الضمّر الجردُ

وجسمٌ له الأفلاك والأرض كُوّنت***يظلّ ثلاثاً ما بها ضمّها لحدُ

ورأسٌ ترى في الأرض مجير فاطم***أعصراً تنوء به في البيد خطية بلدُ

أجل، أيّ جَورٍ لم يأتِ به هؤلاء الكفّار؟ وأيّ ظلمٍ وعدوانٍ كان في الإمكان أن يفعلوه ولم يفعلوه هؤلاء الظلَمة؟ وأيّ شيءٍ عدوه ولم يفعلوه؟ فلأنّهم عجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه، وإلّا فإنّهم لم يقصّروا في كلّ ما استطاعوا أن يفعلوه من جنايةٍ وجرمٍ ونكايةٍ وأذى.

ص: 36


1- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 147 المجلس 17.

ولو سلّمنا لزعمهم، فإنّ الرجال قاتلوهم، فما ذنب الأطفال والصغار والنساء والبنات والعيال، حتّى يسلبوهم وينهبوهم ويحرقوا خيامهم؟! ثمّ لم يكتفوا بذلك، بل أركبوهنّ على أقتاب الجمال مكبَّلينبالأغلال!

يا ليت صمّ صماخي قبل أن قرعت***أُذني بسبي نساء الهاشميّاتِ

مكشّفات على الأقتاب عارية***مصفودة بجسوم عمهرياتِ

وفي زيارة صاحب الأمر المعروفة بزيارة الناحية المقدّسة: «وسُبيَ أهلُك كالعبيد، وصُفّدوا بالحديد فوق أقتاب المطيّات».

(آه، آه!) «تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يُساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولةٌ إلى الأعناق، يُطاف بهم في الأسواق» ((1)).

جمعي

که پاس محملشان داشت جبرئيل

گشتند

بي عماري محمل شترسوار

أجل، بعد أن نهبوا الخيام وسلبوا النساء والعيال، وأضرموا الخيام بالنيران، أسر الأشقياء النساء والأطفال وبنات سيّد الشهداء وأخواته، وساقوهنّ بذُلّ الأسر إلى الكوفة، فجعلن يتترسن بالأكفّ والأيدي عن السياط، ويبكين بدمعٍ هطولٍ وقد بُحّت أصواتهنّ وكُسّرت عبرتهنّ في صدورهن.

ص: 37


1- بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 241.

وفي (الملهوف): ثمّ أُخرج النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّباتٍ حافياتٍ باكيات، يمشين سبايا في أسر الذلّة، وقلن: بحقّ الله إلّا ما مررتم بنا على مصرع الحسين((1)).

وفي (المنتخب): وجاؤوا بالنساء قصداً وعناداً وعبّروهم على مصارع آل الرسول ((2)).

وفي (الملهوف): فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صِحنَ وضربن وجوههنّ ((3)).

هم بانگ نوحه غلغله در شش جهت فكند

هم گريه بر ملايک هفت آسمان فتاد

شد وحشتي که شور قيامت به گرد رفت

چون چشم اهل بيت بر آن کشتگان فتاد

ماذا جرى على بناته وأخواته لمّا نظروا إلى آبائهم وإخوانهم مطرحين بتلك الحالة؟ وقد رُوي أنّ أمير المؤمنين عليّاً أخذ فيمن أخذ صفيّة بنت حيي، فدعا بلالاً فدفعها إليه، وقال له: «لا تضعها إلّا في يدَي رسول الله صلی الله علیه وآله، حتّى يرى فيها رأيه». فأخرجها بلال، ومرّ بها إلى رسول الله صلی الله علیه وآله على القتلى

ص: 38


1- اللهوف لابن طاووس: 132.
2- المنتخب للطريحي: 1 / 112 المجلس 6، تظلّم الزهراء للقزويني: 272.
3- اللهوف لابن طاووس: 132.

وقد كادت تذهب روحها، فقال صلی الله علیه وآله: «أنُزعَت منك الرحمة يا بلال؟!»، ثمّ اصطفاها لنفسه، ثمّ أعتقها وتزوّجها ((1)).وفي معركة أُحُد لمّا استُشهد حمزة، وانتهت فاطمة وصفيّة إلى رسول الله صلی الله علیه وآله ونظرتا إليه، قال صلی الله علیه وآله لعليّ: «أمّا عمّتي فاحبسها عنّي، وأمّا فاطمة فدَعْها» ((2)).

يا رسول الله، كنتَ أنت حاضراً عند حمزة، وكان عليٌّ أمير المؤمنين وسائر الصحابة، فألقيتَ رداءك على جسده وغطّيتَ ما بدا من رأسه ورجليه بأوراق النبات والحشيش، وصلّيتَ عليه بنفسك وكبّرت عليه سبعين تكبيرة، ثمّ لم ترضَ أن تحضر عنده أُختُه صفيّة، بل عاتبت بلال من أجل صفيّة بنت حي بن أخطب.

ليتك كنت حاضراً عند ابنتك الحوراء زينب لمّا حضرت عند جسد أخيها المقطّع إرباً إرباً، وهو قرّة عين الرسول وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد أُصيب بدنه المقدّس بأربعة آلاف نبلة ومئة وثمانين طعنة رمح وضربة سيف، وهُشّمَت عظام ظهره وصدره بسنابك الخيل، وجالوا برأسه على رأس السنان، وقطعوا يديه من أجل تكّة السروال، وسلبوا ما عليه حتّى الثوب العتيق، وسفت عليه الريح وعلاه التراب ورُمّل بالدماء.

ص: 39


1- بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 21.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 95 / 20، إعلام الورى للطبرسي: 82.

معاشرَ المسلمين، لقد نهى النبيّ عن المُثلة حتّى بالكلب العقور ((1))، والمراد بالمُثلة قطع الأطراف وأن يُشوّه بدنه ((2)).

لقد اعتذر أبو سفيان مع كلّ ما فيه من شقاوةٍ في معركة أُحُد، إذكان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي سفيان وهو على فرس وبيده رمح يجأ به في شدق حمزة، فقال: يا معشر بني كنانة، انظروا إلى مَن يزعم أنّه سيّد قريش ما يصنع بابن عمّه الّذي قد صار لحماً. وأبو سفيان يقول: ذُق عقق، فقال أبو سفيان: صدقت، إنّما كانت منّي زلّة، اكتمها علَيّ ((3)).

وقال لأمير المؤمنين: إنّه قد كانت في قتلاكم مُثلة، واللهِ ما أمرتُ ولا نهيت ((4)). يقول ذلك معتذراً عن المثلة في حمزة.

وممّا كتبه الرجس الخبيث ابن زياد إلى عمر بن سعد: وإن أبى فامنعه من شرب الماء الفرات، فقد حرّمتُه عليه وحللتُه على الكلاب والخنازير!!! ((5))

ص: 40


1- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 246، وسائل الشيعة للحر العاملي: 29 / 128.
2- في (لسان العرب: 11 / 615): مثّلت بالحيوان أمثل به مثلاً إذا قطعت أطرافه وشوّهت به، ومثلت بالقتيل إذا جدعتَ أنفه وأُذُنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 97.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 97، اعلام الورى للطبرسي: 1 / 181.
5- أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 185 -- عن: أبي مخنف.

وكتب إليه يأمر بالتمثيل به، وأن يوطئ الخيل صدره وظهرها ((1)).

ففعلوا ما كتبه إليهم تماماً، حيث قتلوا الإمام المظلوم عطشاناً، وأوطؤوا الخيل صدره وظهره، وقطعوا إصبعه ليسلبوه خاتمه، بل قطعوا يديه المباركتين من أجل تكّة سرواله.

فكيف نظرت السيّدة زينب إلى بدنه وهو في هذه الحال، وماذا جرى عليها وهي تشاهده كذلك؟

معاشرَ الشيعة، إنّ عمرو بن عبد ودّ كان كافراً، وكان عليه درعٌلم يكن في العرب أفضل منها، فلمّا أراد الإمام أمير المؤمنين قتله سأله أن لا يكشف عورته ولا يسلبه سلبه، فقال له الإمام: «ذاك أهون علَيّ»، وأعرضَ عن سلبه ولم يأخذ درعه، فقال له عمر بن الخطّاب: هلّا سلبته يا عليّ درعه، فما لأحدٍ درع مثلها! فقال: «إنّي استحييتُ أن أكشف عن سوأة ابن عمّي» ((2)).

ولمّا جاءت أُخت عمرو ورأته في سلبه فلم تحزن، وقالت: إنّما قتله كريم ((3)).

ص: 41


1- أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 330 الفصل 9، روضة الواعظين للفتّال: 182، الإرشاد للمفيد: 2 / 88، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 453.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 331 الفصل 14 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا: 69 رقم 196، كشف الغمّة للإربلي: 1 / 205.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 332 الفصل 4 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 73.

ولمّا نُعي إلى خنساء قالت: مَن الّذي اجترى عليه؟! قالوا: عليّ. قالت: قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيّته على يد كريم قومه، ما سمعتُ أفخر من هذا يا بني عامر. ثمّ أنشأت:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله***لكنتُ أبكي عليه آخر الأبدِ

لكنّ قاتله مَن لا يُعاب به***مَن كان بدعاً قديماً بيضة البلدِ ((1))لله مصائب الحوراء زينب! لأيّ مصيبةٍ تبكي؟ تبكي لبدن أخيها الّذي تركوه عرياناً، أو تبكي لبدنه الّذي تراه مكبوباً على وجهه وقد جرت عليه الخيل الأعوجيّة؟معاشرَ الشيعة والمحبّين، مَن ذا يخبرني عن الحوراء زينب؟! كيف عرفَت أخيها حين جالت ببصرها بين الشهداء والقتلى، تبحث عن أخيها وعزيزها؟ فالشخص يُعرَف إمّا بصوته أو برأسه ووجهه أو بثيابه وملابسه، وكان الإمام المظلوم قطيع الرأس منخمد الأنفاس مسلوب الثياب مقطّع الأعضاء، وقد كبّه الشمر الدعيّ على وجهه ليحزّ رأسه من القفا!

فلعلّها عرفَته من حيث أنّها كانت تحدّق في القتلى تبحث عن جسد أخيها حتّى وقفَت عليه، باعتبار أنّ جراحاته كانت أكثر الأبدان جراحاً، وكان مكبوباً على وجهه بفعل الشمر الخبيث الّذي ذبحه من القفا، ونتيجةً

ص: 42


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 2 / 243 الفصل 31 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، الإرشاد للمفيد: 1 / 69.

لشدّة تعلّقها وأُنسها بسيّد الشهداء وقربها منه فهي تعرف بدنه معرفةً تامّة.

أو أنّها عرفَته من أثر الجراب على ظهره، ممّا كان ينقل إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين، كما هو المأثور عن الإمام سيّد الساجدين ((1)).

فلمّا عرفته صرخت: هذا الحسين؟!!

[نادت فأحرقَت القلوب بشجوها***فكأنّها ترمي غضىً مِن فيها]

أجل، إنّ حرارة قتل الحسين في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً إلى يوم القيامة ((2)).وفي بعض الروايات أنّهنّ اجتمعنَ عند الجسد الّذي هزّ جبرئيل مهده وربّاه النبيّ على صدره، وتركه الأعداء عارياً على الصعيد، وجلعن يخضّبن شعورهنّ ووجوههنّ من دمه، وهنّ يندبن: وا حسيناه، وا مظلوماه، وا قتيلاه ((3)).

وفي (الملهوف): قال الراوي: فوَاللهِ لا أنسى زينب بنت عليّ تندب الحسين علیه السلام وتنادي بصوتٍ حزينٍ وقلبٍ كئيب: يا محمّداه! صلّى عليك

ص: 43


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 69 الفصل 4، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 190.
2- في (مستدرك الوسائل للنوري: 10 / 318): قال رسول الله: «إنّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين، لا تبرد أبداً».
3- مهيّج الأحزان لليزدي: 575.

ملائكة السماء، هذا الحسين مرمّلٌ بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمّدٍ المصطفى، وإلى عليٍّ المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيّد الشهداء، يا محمّداه! هذا حسينٌ بالعراء، تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا، وا حزناه، وا كرباه، اليوم مات جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله، يا أصحاب محمّداه! هؤلاء ذرّيّة المصطفى يُساقون سوق السبايا. وفي رواية: يا محمّداه! بناتك سبايا، وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حسينٌ مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء ((1)).

ورُوي أنّ السيّدة المخدّرة وجّهت كلامها لجدّها فقالت:

هذا الّذي قد كنتَ تلثم نحره***أمسى نحيراً من حدود ضبائها

من بعد حجرك يا رسول الله قد***أُلقي طريحاً في ثرى رمضائها ((2))من بعد حجرك يا رسول الله قد

أُلقي طريحاً في ثرى رمضائها ((3))

ثمّ رمَت بطرفها نحو الحسين، وهي باكيةٌ مفجوعة، يلتهب صدرها بنيران الحزن والأسى ((4)).

وفي (الملهوف): قالت: بأبي مَن أضحى عسكره في يوم الإثنين نهباً، بأبي مَن فسطاطه مقطّع العُرى، بأبي مَن لا غائبٌ فيُرتَجى ولا جريحٌ

ص: 44


1- اللهوف لابن طاووس: 133، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 58.
2- لا يبعد أن يكون الشعر لسان حال، والله العالم.
3- لا يبعد أن يكون الشعر لسان حال، والله العالم.
4- مهيّج الأحزان لليزدي: 576.

فيُداوى، بأبي مَن نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتّى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي مَن شيبته تقطر بالدماء، بأبي مَن جدّه محمّدٌ المصطفى، بأبي مَن جدّه رسول إله السماء، بأبي مَن هو سبط نبيّ الهدى، بأبي محمّد المصطفى، بأبي خديجة الكبرى، بأبي عليّ المرتضى علیه السلام، بأبي فاطمة الزهراء سيدة النساء، بأبي مَن رُدّت له الشمس وصلّى.

قال الراوي: فأبكت واللهِ كلَّ عدوّ وصديق ((1)).

وفي (المنتخب): فما زالت تقول هذا القول حتّى أبكت كلّ صديقٍ وعدوّ، حتّى رأينا دموع الخيل تنحدر على حوافرها ((2)).

فلمّا رأت أُمّ كلثوم أخاها الحسين علیه السلام وهو مطروحٌ على وجه الأرض، تسفوا عليه الرياح وهو مكبوبٌ مسلوب، وقعَت من أعلى البعير إلى الأرض، وحضنت أخاها الحسين، وهي تقول ببكاءٍوعويل: يا رسول الله، انظُر إلى جسد ولدك ملقىً على الأرض بغير غُسل، كفنُه الرمل السافي عليه، وغسله الدم الجاري من وريده، وهؤلاء أهل بيته يُساقون أُسارى في سبي الّذي ما لهم محامٍ يمانع عنهم، ورؤوس أولاده مع رأسه الشريف على الرماح كالأقمار. فلمّا أحسّوا بها عنّفوها وأركبوها وساروا بها، باكيةً لا ترقى لها

ص: 45


1- اللهوف لابن طاووس: 133، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 59.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 457 المجلس 10.

دمعةٌ ولا تبطل لها حسرة ((1)).

وفي (الملهوف): ثمّ إنّ سكينة اعتنقَت جسد أبيها الحسين ((2)).

ماذا جرى على السيّدة مدلّلة أبيها حينما رأت أباها مطروحاً على الرمضاء مقطّع الأعضاء؟!

ولَنِعْم ما قاله الشاعر على لسانها:

أبي يا أبي، يا خير ذُخرٍ فقدتُه***فيا ضيعتي، مَن ذا لضيمي أؤمِّلُ

أبي يا أبي، ماکان أسرع فرقتي***لديك، فمَن لي بعدك اليوم يکفلُ

ومَن لليتامي بعد بُعدك سيّدي***ومَن للأيامي کافلٌ متکفّلُ؟

أيا جدّتا، قومي من القبر وانظري***حبيبك متلول الجبين مرمَّلُ

عريّاً على عاري العرا متعفِّراً***قتيلاً خضيباً بالدماء مغسَّلُ

وساروا بنا يا جدّتا وحواسراً***وأوجهنا بعد التخفّر تبذلُ

سبايا على الأقتاب تبدوا ... ((3))أجل، لقد بكت المظلومة وناحت عند جسد أبيها، حتّى بكى لبكائها ملائكة السماء.

ص: 46


1- المنتخب للطريحي: 1 / 112 المجلس 6.
2- اللهوف لابن طاووس: 133.
3- حذفنا عجز البيت لأنّه قاسٍ غير مؤدّبٍ لا يحتمله غيور، والعجب كيف يستطيع شاعرٌ التجرّؤ واستخدام هذه العبارات!

وفي (الملهوف): فاجتمعت عدّةٌ من الأعراب حتّى جرّوها عنه ((1)).

وفي روايةٍ أنّ المظلومة بكت حتّى أُغمي عليها، فسمعَته يقول:

«شيعتي ما إن شربتم***ماء عذبٍ فاذكروني

أو سمعتُم بغريبٍ***أو شهيدٍ فاندبوني ((2))

فأنا السبطُ الّذي مِن***غير جُرمٍ قتلوني

وبجُرد الخيل بعد ال-***-قتلِ عمداً سحقوني

ليتكم في يوم عاشو***را جميعاً تنظروني

كيف أستسقي لطفلي***فأبوا أن يرحموني

فسقَوه سهمَ بغيٍ***عِوَض الماء المعينِ

يا لَرزءٍ ومصابٍ***هدّ أركان الحجونِ

ويلهم! قد جرّحوا قل-***-بَ رسول الثقلينِ

فالعنوهم ما استطعتم***شيعتي في كلّ حِينِ ((3))فالعنوهم ما استطعتم شيعتي في

كلّ حِينِ ((4))

وهذه الأبيات تفيد أنّ مصيبة الطفل الرضيع البريء جرحت فؤاد الإمام أكثر من سائر المصائب الأُخرى، حيث ذكر الإمام للشيعة ولده الرضيع من بين سائر الشهداء، وذكر نحره الدامي بالسهم والدرّة المرمّلة.

ص: 47


1- اللهوف لابن طاووس: 134.
2- المصباح للكفعمي: 741.
3- مهيّج الأحزان لليزدي: 578.
4- مهيّج الأحزان لليزدي: 578.

أجل، هذه أعظم المصائب على إمام العالمين..

أمّا أعظم المصائب على المخدّرة أُخت إمام الثقلين الحوراء زينب المظلومة، فهي دخولها أرض المصرع لتوديع الأجساد المبضّعة، وكانت ندبتها ونياحتها وبكاؤها شجيّاً حزيناً كئيباً مقرّحاً للقلوب مفتّتاً للأكباد محرقاً للأفئدة، بحيث بكى لبكائها -- وهي تودّع جسد أخيها -- خيولُ الأعداء حتّى جرت دموعها على حوافرها، حتّى لَكأن القيامة قامت، فناحت وأعولت كلُّ ذرّات التكوين وبكى ملائكة السماوات والأرضين.

بينا هي كذلك إذ التفتت إلى سيّد الساجدين وزين العابدين، فرأته يجود بنفسه، فعضّت على الجراح وحبست عَبرتها وتمالكت صبرها، وتوجّهت نحو الإمام.

رُوي عن زائدة قال: قال عليّ بن الحسين علیه السلام : «بلغني يا زائدة أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين علیه السلام أحياناً»، فقلت: إنّ ذلك لَكما بلغك. فقال لي: «فلماذا تفعل ذلك ولك مكانٌ عند سلطانك الّذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأُمّة مِن حقّنا؟»،فقلت: واللهِ ما أُريد بذلك إلّا الله ورسوله، ولا أحفل بسخط مَن سخط ولا يكبر في صدري مكروهٌ ينالني بسببه. فقال: «واللهِ إنّ ذلك لَكذلك»، فقلت: واللهِ إنّ ذلك لَكذلك، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً.

فقال: «أبشِرْ، ثمّ أبشِرْ، ثمّ أبشِرْ! فلَأُخبرنّك بخبرٍ كان عندي في النخب [البحر] المخزون:

ص: 48

فإنّه لمّا أصابنا بالطفّ ما أصابنا وقُتل أبي علیه السلام وقُتل مَن كان معه مِن وُلده وإخوته وسائر أهله، وحُملَت حرمُه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري واشتدّ لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبيّنَت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت عليّ علیه السلام ، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟! فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع، وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي ووُلد عمّي وأهلي مصرّعين بدمائهم، مرمَّلين بالعراء مسلَّبين لا يُكفَّنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحدٌ ولا يقربهم بشَر، كأنّهم أهل بيتٍ من الديلم والخزر؟

فقالت: لا يجزعنّك ما ترى، فوَاللهِ إن ذلك لَعهدٌ من رسول الله صلی الله علیه وآله إلى جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله الميثاق [ميثاق] أُناسٍ مِن هذه الأُمّة، لا تعرفهم فراعنة هذه الأُمّة وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطفّ علَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرَس أثره ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيّام، ولَيجتهدنّ أئ-مّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً وأمره إلّا علوّاً.فقلت: وما هذا العهد؟ وما هذا الخبر؟

فقالت: نعم، حدّثَتني أُمّ أيمن أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله زار منزل فاطمة علیه السلام في يومٍ من الأيّام، فعملَت له حريرة، وأتاه عليٌّ علیه السلام بطبَقٍ فيه تمر، ثمّ قالت أُمّ أيمن: فأتيتُهم بعسّ فيه لبن وزبد، فأكل رسول الله صلی الله علیه وآله وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام من تلك الحريرة، وشرب رسول الله صلی الله علیه وآله وشربوا من ذلك اللبن، ثمّ أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد، ثمّ غسل رسول الله صلی الله علیه وآله يده وعليٌّ يصبّ عليه الماء، فلما فرغ من غسل

ص: 49

يده مسح وجهه، ثمّ نظر إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه، ثمّ رمق بطرفه نحو السماء مليّاً، ثمّ إنّه وجّه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثمّ خرّ ساجداً وهو ينشج، فأطال النشوج وعلا نحيبُه وجرت دموعه، ثمّ رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنّها صوب المطر، فحزنَت فاطمة وعليٌّ والحسن والحسين علیهم السلام، وحزنتُ معهم لِما رأينا من رسول الله صلی الله علیه وآله، وهِبْناه أن نسأله، حتّى إذا طال ذلك قال له عليٌّ وقالت له فاطمة: ما يُبكيك يا رسول الله؟ لا أبكى الله عينيك، فقد أقرح قلوبُنا ما نرى من حالك. فقال: يا أخي، سُررتُ بكم» -- وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هاهنا: فقال: «يا حبيبي، إنّي سُررت بكم سروراً ما سُررتُ مثله قطّ --، وإنّي لَأنظر إليكم وأحمدُ الله على نعمته علَيّ فيكم، إذ هبط علَيّ جبرئيل علیه السلام فقال: يا محمّد، إنّ الله (تبارك وتعالى) اطّلع على ما في نفسك وعرف سرورك بأخيكوابنتك وسبطيك، فأكمل لك النعمة وهنّأك العطيّة بأن جعلهم وذرّيّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة، لا يفرّق بينك وبينهم، يُحبَون كما تحب ويُعطَون كما تعطى حتّى ترضى وفوق الرضى، على بلوىً كثيرةٍ تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بأيدي أُناسٍ ينتحلون ملّتك ويزعمون أنّهم من أُمّتك، براءٌ من الله ومنك، خبطاً خبطاً وقتلاً قتلاً، شتّى مصارعهم، نائية قبورهم، خيرةٌ من الله لهم ولك فيهم، فاحمد الله عزوجل على خيرته وارضَ بقضائه. فحمدتُ الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم.

ثمّ قال لي جبرئيل: يا محمّد، إنّ أخاك مضطهَدٌ بعدك مغلوبٌ على أُمّتك، متعوبٌ من أعدائك، ثمّ مقتولٌ بعدك، يقتله أشرّ الخلق والخليقة وأشقى البريّة، يكون نظير عاقر الناقة، ببلدٍ تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة وُلده،

ص: 50

وفيه -- على كلّ حالٍ -- يكثر بلواهم ويعظم مصابهم، وإنّ سبطك هذا -- وأومأ بيده إلى الحسين علیه السلام -- مقتولٌ في عصابةٍ من ذرّيّتك وأهل بيتك وأخيار من أُمّتك بضفّة الفرات، بأرضٍ يُقال لها: كربلاء، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريّتك، في اليوم الّذي لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة، يُقتل فيها سبطك وأهله، وإنّها من بطحاء الجنّة، فإذا كان ذلك اليوم الّذي يُقتَل فيه سبطك وأهله وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة، تزعزعَت الأرض من أقطارها، ومادت الجبال وكثر اضطرابها، واصطفقت البحار بأمواجها، وماجت السماوات بأهلها؛ غضباً لك يا محمّد ولذرّيّتك، واستعظاماً لما يُنتهك من حرمتك، ولَشرّ ما تكافى به في ذرّيتك وعترتك، ولا يبقىشيءٌ من ذلك إلّا استأذن الله عزوجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الّذين هم حُجّة الله على خلقه بعدك، فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومَن فيهنّ: إنّي أنا الله الملِك القادر، الّذي لا يفوته هاربٌ ولا يُعجزه ممتنع، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام، وعزّتي وجلالي، لَأُعذّبنّ مَن وتر رسولي وصفيّي وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم أهل بيته [أهله] عذاباً لا أُعذّبه أحداً من العالمين. فعند ذلك يضجّ كلّ شيءٍ في السماوات والأرضين بلعن مَن ظلم عترتك واستحلّ حرمتك، فإذا برزَت تلك العصابة إلى مضاجعها تولّى الله عزوجل قبض أرواحها بيده، وهبط إلى الأرض ملائكةٌ من السماء السابعة، معهم آنيةٌ من الياقوت والزمرّد مملوّة من ماء الحياة، وحُللٌ من حلل الجنّة، وطِيبٌ من طيب الجنّة، فغسّلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحلل وحنّطوها بذلك الطيب، وصلّت الملائكة صفّاً صفّاً عليهم، ثمّ يبعث الله قوماً من أُمّتك لا يعرفهم الكفّار، لم يُشركوا في تلك الدماء

ص: 51

بقولٍ ولا فعلٍ ولا نيّة، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء، يكون علَماً لأهل الحقّ وسبباً للمؤمنين إلى الفوز، وتحفّه ملائكةٌ من كلّ سماء مئة ألف ملَكٍ في كلّ يومٍ وليلة، ويصلّون عليه ويطوفون عليه ويسبّحون الله عنده ويستغفرون الله لمن زاره ويكتبون أسماء مَن يأتيه زائراً من أُمّتك متقرّباً إلى الله (تعالى)، وإليك بذلك وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش الله: هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نورٌتغشى منه الأبصار، يُدلّ عليهم ويُعرفون به، وكأنّي بك يا محمّد بيني وبين ميكائيل، وعليٌّ أمامنا، ومعنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عددهم، ونحن نلتقط مَن ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق، حتّى ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمّد أو قبر أخيك أو قبر سبطيك لا يريد به غير الله عزوجل، وسيجتهد أُناسٌ ممّن حقّت عليهم اللعنة من الله والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره، فلا يجعل الله (تبارك وتعالى) لهم إلى ذلك سبيلاً.

ثمّ قال رسول الله صلی الله علیه وآله: فهذا أبكاني وأحزنني.

قالت زينب: فلمّا ضرب ابن ملجم (لعنه الله) أبي علیه السلام ورأيتُ عليه أثر الموت منه، قلت له: يا أبت، حدّثَتني أُمّ أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك. فقال: يا بُنيّة، الحديث كما حدّثتك أُمّ أيمن، وكأنّي بكِ وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد، أذلّاء خاشعين، تخافون أن يتخطّفكم الناس، فصبراً صبراً، فوَالّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، ما لله على ظهر الأرض يومئذٍ وليٌّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسول الله صلی الله علیه وآله حين أخبرنا بهذا الخبر: إنّ إبليس (لعنه الله)

ص: 52

في ذلك اليوم يطير فرحاً، فيجول الأرض كلّها بشياطينه وعفاريته، فيقول: يا معاشر الشياطين، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية، وأورثناهم النار، إلّا مَن اعتصم بهذه العصابة، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم وحملهم على عداوتهم وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتّىتستحكموا ضلالة الخلق وكفرهم ولا ينجو منهم ناج. ولقد صدق عليهم إبليس -- وهو كذوبٌ -- أنّه لا ينفع مع عداوتكم عملٌ صالح، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنبٌ غير الكبائر».

قال زائدة: ثمّ قال عليّ بن الحسين علیه السلام بعد أن حدّثني بهذا الحديث: «خُذْه إليك ما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولاً لَكان قليلاً» ((1)).

تنبيهات

الأوّل:

في كتاب (المنتخب): رُوي عن طريق أهل البيت علیهم السلام أنّه لمّا استُشهد الحسين بقي في كربلاء صريعاً ودمه على الأرض مسفوحاً، وإذا بطائرٍ أبيضٍ قد أتى ومسح بدمه، وجاء والدم يقطر منه، فرأى صوراً تحت الظلال على الغصون والأشجار، وكلٌّ منهم يذكر الحبّ والعلف والماء، فقال لهم ذلك الطير المتلطّخ بالدم: يا ويلكم، أتشتغلون بالملاهي وذكر الدنيا والمناهي، والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ مُلقىً على الرمضاء ظامٍ مذبوحٌ ودمعه

ص: 53


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 260 الباب 88، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 179.

مسفوح؟! فعادت الطيور كلٌّ منها قاصدة كربلاء، فرأوا سيدنا الحسين علیه السلام مُلقىً في الأرض، جثّةً بلا رأسٍ ولا غُسلٍ ولا كفن، قد سفت عليه السوافي، وبدنه مرضوض قد هشّمته الخيل بحوافرها، زوّاره وحوش القفار، وندبته جنّ السهول والأوغار، قدأضاء التراب من أنواره، وأزهر الجوّ من إزهاره، فلمّا رأته الطيور تصايحن وأعلنّ بالكباء والثبور، وتواقعن على دمه يتمرّغن فيه، وطار كلّ واحدٍ منهم إلى ناحيةٍ يُعلِم أهلها عن قتل أبي عبد الله الحسين علیه السلام.

فمن القضاء والقدَر أنّ طيراً من هذه الطيور قصد مدينة الرسول، وجاء يرفرف والدم يتقاطر من أجنحته، ودار حول قبر سيّدنا رسول الله صلی الله علیه وآله يُعلن بالنداء: ألا قُتل الحسين بكربلاء! ألا ذُبح الحسين بكربلاء! فاجتمعت الطيور عليه وهم يبكون عليه وينوحون، فلمّا نظر أهل المدينة من الطيور ذلك النوح وشاهدوا الدم يتقاطر من الطير، ولم يعلموا ما الخبر حتّى انقضت مدّةٌ من الزمن وجاء خبر مقتل الحسين علیه السلام ، علموا أنّ ذلك الطير كان يُخبر رسول الله بقتل ابن فاطمة البتول وقرّة عين الرسول.

وقد نُقل أنّه في ذلك اليوم الّذي جاء فيه الطير إلى المدينة، أنّه كان في المدينة رجلٌ يهوديّ، وله بنتٌ عمياء زَمِنةٌ طرشاء مشلولة، والجذام قد أحاط ببدنها، فجاء ذلك الطائر والدم يتقاطر منه، ووقع على شجرةٍ يبكي طول ليلته، وكان اليهوديّ قد أخرج ابنته تلك المريضة إلى خارج المدينة إلى بستان، وتركها في البستان الّذي جاء الطير ووقع فيه، فمن القضاء والقدر

ص: 54

أنّ تلك الليلة عرض لليهودي عارض فدخل المدينة لقضاء حاجته، فلم يقدر أن يخرج تلك الليلة إلى البستان الّتي فيها ابنته المعلولة، والبنت لمّا نظرت أباها لم يأتها تلك الليلة لم يأتها نومٌ لوحدتها، لأنّ أباها كان يحدّثها ويسلّيها حتّى تنام، فسمعَت عند السحَر بكاء الطير وحنينه، فبقيت تتقلّب على وجه الأرض إلى أنصارت تحت الشجرة الّتي عليها الطير، فصارت كلّما حنّ ذلك الطير تجاوبه من قلبٍ محزون، فبينما هي كذلك إذ وقع من الطير قطرة من الدم، فوقعت على عينها ففُتحَت، ثمّ قطرة أُخرى على عينها الأُخرى فبرئت، ثمّ قطرة على يديها فعوفيت، ثمّ على رجليها فبرئت، وعادت كلّما قطرت قطرة من الدم تلطّخ بها جسدها، فعوفيت من جميع مرضها من بركات دم الحسين علیه السلام .

فلمّا أصبح الصباح أقبل أبوها إلى البستان، فرأى بنتاً تدور ولم يعلم أنّها ابنته، فسألها أنّه كان لي في البستان بنت عليلة لم تقدر أن تتحرّك، فقالت ابنته: واللهِ أنا ابنتك. فلمّا سمع كلامها وقع مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قام على قدميه، فأتت به إلى ذلك الطير، فرآه واكراً على الشجرة يئنّ من قلبٍ حزين محترق ممّا فُعل بالحسين علیه السلام، فقال له اليهودي: بالّذي خلقك أيّها الطير أن تكلّمني بقدرة الله (تعالى). فنطق الطير مستعبِراً، ثمّ قال: اعلمْ أنّي كنتُ واكراً على بعض الأشجار مع جملةٍ من الطيور قبالة الظهر، وإذا بطيرٍ ساقطٍ علينا وهو يقول: أيّها الطيور، تأكلون وتتنعّمون والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ على الرمضاء طريحاً ظامياً، والنحر دامٍ ورأسه

ص: 55

مقطوعٌ على الرمح مرفوع، ونساؤه سبايا حفاة عرايا؟ فلمّا سمعن بذلك تطايرن إلى كربلاء، فرأيناه في ذلك الوادي طريحاً، الغسل من دمه والكفن الرمل السافي عليه، فوقعنا كلّنا ننوح عليه ونتمرّغ بدمه الشريف، وكان كلٌّ منّا طار إلى ناحية، فوقعتُ أنا في هذا المكان. فلمّا سمع اليهوديّ ذلك، تعجّب وقال: لو لم يكُن الحسينذا قدرٍ رفيع عند الله، ما كان دمه شفاءً من كلّ داء. ثمّ أسلم اليهوديّ، وأسلمَت البنت، وأسلم خمسمئة من قومه ((1)).

وروى صاحب (المناقب)، عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «لمّا قُتل الحسين بن عليّ جاء غرابٌ فوقع في دمه، ثمّ تمرّغ، ثمّ طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين بن عليّ علیه السلام ، وهي الصغرى، فرفعَت رأسها فنظرت إليه، فبكت بكاءً شديداً، وأنشأت تقول:

نعب الغراب فقلت مَن

تنعاه؟

ويلك يا غراب

قال: الإمام، فقلت: مَن؟

قال:

الموفّق للصواب

إنّ الحسين بكربلا

بين

الأسنّة والضراب

فابكي الحسين بعبرةٍ

ترجي

الإله مع الثواب

قلت: الحسين؟ فقال لي:

حقّاً لقد

سكن التراب

ثمّ استقلّ به الجناح

ص: 56


1- المنتخب للطريحي: 1 / 105 المجلس 6.

فلم يطق

ردّ الجواب

فبكيتُ ممّا حلّ بي

بعد

الدعاء المستجاب»

قال محمّد بن علي: فنعَته لأهل المدينة، فقالوا: قد جاءتنا بسحرعبد المطّلب. فما كان بأسرع أن جاءهم الخبر بقتل الحسين بن علي علیه السلام((1)).

الثاني:

في كتاب (المنتخب): رُوي عن سعيد بن المسيّب قال: لمّا استُشهد سيّدي ومولاي الحسين علیه السلام وحجّ الناس من قابل، دخلتُ على عليّ بن الحسين فقلت له: يا مولاي، قد قرب الحجّ، فماذا تأمرني؟ فقال: «امضِ على نيّتك وحج». فحججت، فبينما أنا أطوف بالكعبة وإذا أنا برجلٍ مقطوع اليدين ووجهه كقِطَع الليل المُظلم، وهو مُتعلّقٌ بأستار الكعبة وهو يقول: اللّهمّ ربّ هذا البيت الحرام اغفر لي، وما احسبك تفعل ولو تشفّعتُ في سكّان سماواتك وأراضيك وجميع ما خلقت؛ لعِظَم جرمي!

قال سعيد بن المسيّب: فشُغلتُ وشغل الناس عن الطواف، حتّى حفّ به الناس واجتمعنا عليه، فقلنا: يا ويلك! لو كنت إبليس ما كان ينبغي لك أن تيأس من رحمة الله، فمَن أنت وما ذنبك؟! فبكى، وقال: يا قوم، أنا أعرَفُ بنفسي وذنبي وما جنيت. فقلنا له: تذكره لنا؟

فقال: أنا كنت جمّالاً لأبي عبد الله الحسين علیه السلام لمّا خرج من المدينة إلى

ص: 57


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 171 -- عن: مناقب آل أبي طالب (القديم).

العراق، وكنت أراه إذا أراد الوضوء للصلاة يضع سراويله عندي، فأرى تكّته تُغشي الأبصار بحسن إشرافها، وكنت أتمنّاها تكون لي.

إلى أن صرنا بكربلاء وقُتل الحُسين علیه السلام وهي معه،فدفنتُ نفسي في مكانٍ من الأرض، فلمّا جنّ الليل خرجتُ من مكاني، فرأيت في تلك المعركة نوراً لا ظلمة ونهاراً لا ليلاً، والقتلى مُطرّحين على وجه الأرض، فذكرت لحيني وشقاني التكّة، فقلت: والله لَأطلبنّ الحسين، وأرجو أن تكون التكّة في سرواله فآخذها.

ولم أزل أنظر في وجوه القتلى حتّى أتيتُ إلى الحسين، فوجدتُه مكبوباً على وجهه وهو جثّةٌ بلا رأس ونوره مشرق، مرمَّلٌ بدمائه والرياح سافيةٌ عليه، فقلت: هذا والله الحسين. فنظرت إلى سرواله كما كنت أراها، فدنوت منه وضربت بيدي إلى التكّة لِآخذها، فإذا هو قد عقدها عقداً كثيرة، فلم أزل أحلّها حتّى حللت عقدةً منها، فمدّ يده اليمنى وقبض على التكّة، فلم أقدر على أخذ يده عنها ولا أصل إليها، فدعتني النفس الملعونة إلى أن أطلب شيئاً أقطع به يده، فوجدت قطعة سيفٍ مطروح فأخذتها، واتكيت على يده ولم أزل أحزّها حتّى فصلتُها عن زنده، ثمّ نحيتها عن التكّة ومددت يدي لأحلّها، فمدّ يده اليسرى فقبض عليها، فلم أقدر على أخذها، فأخذت قطعة السيف ولم أزل أحزّها حتّى فصلتها عن التكّة، ومددت يدي إلى التكّة لآخذها، فإذا الأرض ترجف والسماء تهتزّ، وإذا بجلبةٍ عظيمةٍ وبكاءٍ ونداء، وقائل يقول: وا أبتاه، وا مقتولاه، وا ذبيحاه،

ص: 58

وا حسيناه، وا غريباه! يا بُني، قتلوك وما عرفوك، ومن شرب الماء منعوك!

فلمّا رأيت ذلك، صُعقت ورميت نفسي بين القتلى، وإذا بثلاثة نفر وامرأةٍ وحولهم خلائق وقوف، وقد امتلئت الأرض بصور الناس وأجنحة الملائكة، إذ بواحدٍ منهم يقول: يا أبتاه يا حسين، فداؤك جدّك وأبوك وأُمّك وأخوك! وإذا بالحسين قد جلس ورأسه على بدنه، وهو يقول: «لبّيك يا جدّاه يا رسول الله، ويا أبتاه يا أمير المؤمنين،ويا أُمّاه يا فاطمة الزهراء، ويا أخاه المقتول بالسمّ، عليكم منّي السلام». ثمّ إنّه بكى وقال: «يا جدّاه، قتلوا والله رجالنا! يا جدّاه، سلبوا والله نساءنا! يا جدّاه، نهبوا والله رحالنا! يا جدّاه، ذبحوا والله أطفالنا! يا جدّاه، يعزّ والله عليك أن ترى رحالنا، وما فعل الكفّار بنا!». وإذا هم جلسوا يبكون على ما أصابه، وفاطمة تقول: «يا أباه يا رسول الله، أما ترى ما فعلَت أُمّتك بولدي؟! أتأذن لي أن آخذ من دم شيبه وأخضب به ناصيتي، وألقى الله؟عز؟ وأنا مختضبة بدم ولدي الحسين؟»، فقال لها: «خُذي، وأنا آخذ يا فاطمة». فرأيتهم يأخذون من دم شيبه وتمسح به فاطمة ناصيتها، والنبيّ وعليّ والحسن يمسحون به نحورهم وصدورهم وأبدانهم إلى المرافق، وسمعت رسول الله يقول: «فديتك يا حُسين! يعزّ واللهِ علَيّ أن أراك مقطوع الرأس، مرمّل الجبينين، دامي النحر، مكبوباً على قفاك، قد كساك الذاري من الرمول، وأنت طريحٌ مقتولٌ مقطوع الكفّين، يا بُني! مَن قطع يدك اليُمنى وثنّى باليسرى؟»، فقال: «يا جدّاه، كان معي جمّالٌ من المدينة، وكان يراني إذا وضعت سراويلي للوضوء فيتمنّى أن تكون تكّتي له، فما منعني أن أدفعها إليه إلا لعلمي أنّه صاحب

ص: 59

هذا الفعل، فلمّا قُتلت خرج يطلبني بين القتلى، فقد وجدني جثّةً بلا رأس، فتفقّد سراويلي فرأى التكّة وقد عقدتُها عقداً كثيرة، فضرب بيده إلى التكّة فخلّ عقدةً منها، فمددت يدي اليمنى فقبضت على التكّة، فطلب المعركة فوجد قطعة سيفٍ مكسور فقطع يميني، ثمّ حلّ عقدةً أُخرى، فقبضت على التكّة بيدي اليسرى كي لا يحلّها فتكشف عورتي، فحزّ يدي اليسرى، فلمّا أراد حلّ التكّة حسّ بك، فرمى نفسه بينالقتلى».

فلمّا سمع النبيّ كلام الحسين بكى بكاءً شديداً، وأتى إليّ بين القتلى إلى أن وقف نحوي، فقال: «ما لي وما لك يا جمّال؟ تقطع يدين طالما قبّلهما جبرائيل وملائكة الله أجمعين، وتباركَت بهما أهل السماوات والأرضين؟ أما كفاكك ما صنع به الملاعين من الذلّ والهوان؟ هتكوا نساءه من بعد الخدور وانسدال الستور! سوّد الله وجهك يا جمّال في الدنيا والآخرة، وقطع الله يديك ورجليك، وجعلك في حزب مَن سفك دماءنا وتجرّأ على الله». فما استتمّ دعاءَه صلی الله علیه وآله حتّى شُلّت يداي، وحسست بوجهي كأنّه أُلبس قطعاً من الليل مُظلماً، وبقيت على هذه الحالة، فجئت إلى هذا البيت أستشفع، وأنا اعلم أنّه لا يغفر لي أبداً.

فلم يبقَ في مكّة أحدٌ إلّا وسمع حديثه، وتقرّب إلى الله (تعالى) بلعنه، وكلٌّ يقول: حسبك ما جنيت يا لعين، «وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((1)).

ص: 60


1- المنتخب للطريحي: 1 / 90 المجلس 5.

الثالث:

حُكي عن رجلٍ أسديّ قال: كنت زارعاً على نهر العلقميّ بعد ارتحال عسكر بني أُميّة، فرأيت عجائب لا أقدر أحكي إلّا بعضها.

منها: أنّه إذا هبّت الريح تمرّ علَيّ نفحاتٌ كنفحات المسك والعنبر، وإذا سكنَت أرى ما تنزل من السماء إلى الأرض ويرقى من الأرض إلى السماء مثلها، وأنا مفردٌ مع عيالي، ولا أرى أحداًأسأله عن ذلك.

وعند غروب الشمس يُقبل أسدٌ من القبلة، فأُولّي عنه إلى منزلي، فإذا أصبح الصباح وطلعَت الشمس وذهبَت من منزلي أراه مستقبل القبلة ذاهباً، فقلت في نفسي: إنّ هؤلاء خوارج قد خرجوا على عُبيد الله بن زياد فأمر بقتلهم، وأرى منهم ما لم أره من سائر القتلى، فوَاللهِ هذه الليلة لَأبدأ من المساهرة لِأُبصر هذا الأسد يأكل من هذه الجثث أم لا؟

فلمّا صار غروب الشمس وإذا به أقبل، فحقّقتُه وإذا هو هائل المنظر، فارتعدتُ منه، وخطر ببالي إن كان مراده لحوم بني آدم فهو يقصدني، وأنا أُحاكي بهذا فمثلتُه وهو يتخطّى القتلى حتّى وقف على جسدٍ كأنّه الشمس إذا طلعَت، فبرك عليه، فقلت: يأكل منه؟ وإذا به يمرّغ وجهه عليه، وهو يهمهم ويدمدم، فقلت: الله أكبر، ما هذا إلّا أُعجوبة! فجعلت أحرسه حتّى اعتكر الظلام، وإذا بشموع مُعلّقة ملأت الأرض، وإذا ببكاءٍ ونحيبٍ ولطمٍ مفجع، فقصدت تلك الأصوات فإذا هي تحت الأرض، ففهمت من ناعٍ

ص: 61

فيهم يقول: وا حسيناه، وا إماماه! فاقشعرّ جلدي، فقربت من الباكي وأقسمت عليه بالله وبرسوله: مَن تكون؟ فقال: إنّا نساء من الجنّ. فقلت: وما شأنكنّ؟ فقلن: في كلّ يومٍ وليلةٍ هذا عزاؤنا على الحسين الذبيح العطشان. فقلت: هذا الحسين الذي يجلس عنده الأسد؟ قلن: نعم، أتعرف هذا الأسد؟ قلت: لا. قلن: هذا أبوه عليّ بن أبي طالب. فرجعت ودموعي تجري على خدّي ((1)).

الرابع:

ورُوي عن أبي مخنف أنّه قال: قال الطرمّاح بن عدي: كنتُ في واقعة كربلاء، وقد وقع فيّ ضرباتٌ وطعناتٌ فأثخنَتني بالجراح، فلو حلفتُ لَحلفت صادقاً أنّي كنتُ نائماً إذ رأيت عشرة فوارس قد أقبلوا وعليهم ثيابٌ بيضٌ تفوح منهم رائحة المسك، فقلت في نفسي: يكون هذا عُبيد الله بن زياد قد أقبل لطمّ جسد الحسين علیه السلام ، فرأيتهم حتّى نزلوا على القتلى، ثمّ إنّ رجلاً منهم تقدّم إلى جسد الحسين علیه السلام فجلس قريباً منه، ومدّ يده إلى نحو الكوفة، وإذا برأس الحسين علیه السلام أقبل من نحو الكوفة، فركّبه على الجسد فعاد كما كان بإذن الله (تعالى)، وإذا هو رسول الله صلی الله علیه وآله، ثمّ قال: «يا ولدي، قتلوك؟ أتراهم ما عرفوك؟ ومن شرب الماء منعوك؟»، ثمّ التفت إلى مَن كان معه

ص: 62


1- المنتخب للطريحي: 2 / 322 المجلس 5.

وقال: «يا أبي آدم، ويا أبي نوح، ويا أبي إبراهيم، ويا أخي موسى، ويا عيسى! أترون ما صنعَت أُمّتي بولدي من بعدي؟ لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة» ((1)).

الخامس:

في كتاب (المنتخب): حُكي عن رجلٍ كوفيّ حدّاد، قال: لمّا خرج العسكر من الكوفة لحرب الحسين بن عليّ علیه السلام، جمعتُ حديداً عندي وأخذت آلتي وسِرتُ معهم، فلمّا وصلوا وطنبوا خيمهم بنيت خيمة، وصرت أعمل أوتاداً للخيم وسككاً ومرابط للخيل وأسنّةًللرماح، وما اعوجّ من سنان أو خنجر أو سيف كنت بكلّ ذلك بصيراً، فصار رزقي كثيراً وشاع ذكري بينهم، حتّى أتى الحسين مع عسكره، فارتحلنا إلى كربلاء وخيّمنا على شاطئ العلقمي، وقام القتال فيما بينهم، وحموا الماء عليه وقتلوه وأنصاره وبنيه، وكان مدّة إقامتنا وارتحالنا تسعة عشر يوماً، فرجعت غنيّاً إلى منزلي والسبايا معنا، فعُرضَت على عُبيد الله فأمر أن يشهّروهم إلى يزيد إلى الشام، فلبثتُ في منزلي أيّاماً قلائل، وإذا أنا ذات ليلةٍ راقد على فراشي، فرأيت طيفاً: كأنّ القيامة قامت، والناس يموجون على الأرض كالجراد إذ فقدَت دليلها، وكلّهم دالعٌ لسانه على صدره من شدّة الظمأ، وأنا أعتقد أنّ فيهم أعظم منّي عطشاً؛ لأنّه كَلَّ سمعي وبصري من شدّته، هذا غير حرارة

ص: 63


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 157، تظلّم الزهراء للقزويني: 227.

الشمس تغلي منها دماغي، والأرض تغلي كأنّها القير إذ أُشعل تحته نار، فخِلتُ أنّ رجلَيّ قد تقلّعت قدماها، فوَاللهِ العظيم لو أنّي خُيّرت بين عطشي وتقطيع لحمي حتّى يسيل دمي لأشربه، لَرأيت شربه خيراً من عطشي، فبينما أنا في العذاب الأليم والبلاء العميم إذ أنا برجلٍ قد عمّ الموقف نوره وابتهج الكون بسروره راكبٌ على فرس، وهو ذو شيبة، قد حفّت به أُلوفٌ من كلّ نبيٍّ ووصيٍّ وصدّيقٍ وشهيدٍ وصالح، فمرّ كأنّه ريحٌ أو سيران فلك، فمرّت ساعةٌ وإذا أنا بفارسٍ على جوادٍ أغرّ، له وجهٌ كتمام القمر، تحت ركابه أُلوف، إن أمر ائتمروا وإن زجر انزجروا، فاقشعرّت الأجسام من لفتاته وارتعدت الفرائص من خطواته، فتأسّفت عن الأوّل ما سألتُ عنه خِيفةً من هذا، وإذا به قد قام في ركابه وأشار إلى أصحابه، وسمعتُ قوله: «خذوه!»، وإذا بأحدهم قابضٌ بعضدي كلُبّة حديدٍ خارجةٍ من النار، فمضى بي إليه، فخِلتُ كتفي اليمنى قد انقلعَت، فسألتُه الخفّةفزادني ثقلاً، فقلت له: سألتُك بمَن أمّرك علَيّ، مَن تكون؟ قال: ملَكٌ من ملائكة الجبّار. قلت: ومَن هذا؟! قال: عليّ الكرّار. قلت: والّذي قبله؟ قال: محمّد المُختار. قلت: والّذين حوله؟ قال: النبيّون والصدّيقون والشهداء والصالحون والمؤمنون. قلت: أنا ما فعلتُ حتّى أمرك علَيّ؟ قال: إليه يرجع الأمر، وحالك حال هؤلاء. فحقّقتُ النظر وإذا بعمر بن سعد أمير العسكر وقومٍ لم أعرفهم، وإذا بعنقه سلسلةٌ من حديد، والنار خارجةٌ من عينيه وأُذنيه، فأيقنتُ بالهلاك، وباقي القوم منهم مغلَّلٌ ومنهم مقيَّدٌ ومنهم مقهورٌ بعضده

ص: 64

مثلي، فبينما نحن نسير وإذا برسول الله الّذي وصفه الملك جالسٌ على كرسيّ عالٍ يزهو، أظنّه من اللؤلؤ، ورجُلَين ذي شيبتين بهيّتين عن يمينه، فسألتُ الملك عن الرجلين، فقال: آدم ونوح ((1)). وإذا برسول الله يقول: «ما صنعتَ يا عليّ؟»، قال: «ما تركتُ أحداً من قاتلي الحسين إلّا وأيتُ به». فحمدتُ الله (تعالى) بأنّي لم أكن منهم، ورُدّ إليّ عقلي، وإذا برسول الله يقول: «قدّموهم!»، فقدَّموهم إليه، وجعل يسألهم ويبكي، ويبكي كلُّ مَن في الموقف لبكائه؛ لأنّه يقول للرجل: «ما صنعتَ بطفّ كربلاء بولدي الحسين؟»، فيجيب: يا رسول الله، أنا حميتُ الماء عليه. وهذا يقول: أنا قتلتُه. وهذا يقول: أنا سلبتُه. وهذا يقول: أنا وطأت صدره بفرسي. ومنهم يقول: أنا ضربتُ ولده العليل. فصاح رسول الله صلی الله علیه وآله وقال: «وا ولداه، وا قلّة ناصراه، وا حُسيناه، وا عليّاه! هكذا صدر عليكم بعدي أهل بيتي؟ انظر ياأبي يا آدم، انظر يا أخي يا نوح، كيف أخلفوني في ذرّيّتي»، فبكوا حتّى ارتجّ المحشر، فأمر بهم زبانية جهنّم يجرّونهم أوّلاً فأوّلاً إلى النار، وإذا بهم قد أتوا برجل، فسأله صلی الله علیه وآله، قال: ما صنعت شيئاً. قال: «أما أنت نجّار؟»، قال: صدقتَ يا سيّدي، لكنّي ما عملت شيئاً إلّا عموداً لخيمة الحُصين بن نمير؛ لأنّه انكسر من ريحٍ عاصف، فوصلتُه. فبكى صلی الله علیه وآله وقال: «كثّرتَ السواد على ولدي، خُذوه

ص: 65


1- في المتن: (نوح وإبراهيم).

للنار». وصاحوا: لا حكم إلّا لله ولرسوله ووصيّه. قال الحدّاد: فأيقنتُ بالهلاك، فأمر بي فقدّموني، فاستخبرني فأخبرته، فأمر بي إلى النار، فلمّا سحبوني إلّا وانتبهت، وحكيتُ لكلّ مَن لقيته. وقد يبس لسانه ومات نصفه، وتبرّأ كلّ مَن يحبّه، ومات فقيراً، لا رحمه الله (تعالى)، «وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((1)).

قال المؤلّف:

الّذين أعانوا عسكر المخالفين بأيّ نوعٍ من أنواع الإعانة، ولو بالتفرّج وتكثير السواد، نالوا جزاءهم في هذه الدنيا قبل الآخرة، منهم المغيرة بن الحارث، إذ جاؤوا به إلى المختار، فقال المختار: إنّي أعرف هذا الرجل، أوَلستَ المغيرة بن الحارث الّذي يصنع الرماح والسيوف؟ قال: بلى أيّها الأمير، أعطني الأمان أيّها الأمير، وإنّي لَتائبٌ من عملي القبيح أيّها الأمير! فقال المختار: لَأُعطينّك أماناً وتوبةً لا تقوى بعدها على أن تفعل مثل هذا الفعل في الدنيا أبداً. ثمّ أمر فضربوا يديه ورجليه بالمسامير، وسمّروه إلى الأرض تسميراً، وأضرموا فيه النار فاحترق.ثمّ أمر بالحرفيّين الّذين خرجوا مع العسكر، فبُقرَت بطونهم في بيوتهم وعلّقوهم، ثمّ أمر بكلّ مَن أعطى آجر دابّته أو دفع زاداً أو راحلةً، فصنع شبكةً من قضبان الحديد فشبّكوهم فيها، وصبّوا عليهم الجصّ، وأمر بزهاء

ص: 66


1- المنتخب للطريحي: 1 / 190 المجلس 9.

ألفين شخص ممّن خرج للتفرّج في كربلاء، فأذابوا الرصاص وصبّوه في حلوقهم.

ولمّا جاؤوا بقادر بن عبد العزّى الكندي، قال له المختار: ما أشدّ شوقي لك أيّها الملعون، أوَلستَ أنت الّذي طرت بخبر فتح عمر بن سعد إلى الكوفة، وأخذت على ذلك ألف دينار؟ فسكت قادر ولم يردّ جواباً، فقال المختار: لمَ لا تردّ أيّها الملعون؟! فقال: وماذا أردّ وأنت صادقٌ أيّها الأمير؟! قال المختار: أين تلك الدنانير؟ رُدّها علَيّ لأُخلي سبيلك. فقال: لقد جمعتُ دنانير غيرها أدفعها لك مع تلك الدنانير. فقال المختار: حسناً. فخرج قادر وجاء بما جمعه من مال، فقال الأمير: زيّنوه، وأحملوا معه المشاعر، وطوفوا به في الليل في الكوفة ليخبر أهل الكوفة بفتحنا وظفرنا بقتلة الإمام الحسين.

السادس:

قال السيّد ابن طاووس: روى ابن رياح قال: رأيتُ رجلاً مكفوفاً قد شهد قتل الحسين علیه السلام ، فسُئل عن ذهاب بصره، فقال: كنتُ شهدت قتله عاشر عشرة، غير أنّي لم أضرب ولم أرمِ، فلمّا قُتل علیه السلام رجعت إلى منزلي وصلّيت العشاء الأخيرة ونمت، فأتاني آتٍ في منامي فقال: أجِبْ رسول الله صلی الله علیه وآله، فإنّه يدعوك! فقلت: ما لي وله؟ فأخذ بتلبيبي وجرّني إليه، فإذا النبيّ صلی الله علیه وآله جالسٌ في صحراء، حاسر عن ذراعيه آخذبحربة، وملكٌ قائمٌ بين يديه وفي يده سيفٌ من نار، فقتل أصحابي التسعة، فكلّما ضرب ضربةً

ص: 67

التهبت أنفسهم ناراً، فدنوت منه وجثوت بين يديه، وقلت: السلام عليك يا رسول الله. فلم يردّ علَيّ، ومكث طويلاً، ثمّ رفع رأسه وقال: «يا عدوّ الله، انتهكتَ حرمتي، وقتلت عترتي، ولم ترعَ حقّي، وفعلت ما فعلت»، فقلت: واللهِ يا رسول الله ما ضربتُ بسيفٍ ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم. قال: «صدقت، ولكنّك كثّرت السواد، ادنُ منّي»، فدنوتُ منه، فإذا طستٌ مملوٌّ دماً، فقال لي: «هذا دم ولدي الحسين علیه السلام »، فكحّلني من ذلك الدم، فانتبهتُ حتّى الساعة لا أُبصر شيئاً ((1)).

السابع:

في كتاب (المنتخب): رُوي عن أبي الحُصين رضی الله عنه قال: رأيتُ شيخاً مكفوف البصر، فسألتُه عن السبب، فقال: إنّي مِن أهل الكوفة، وقد رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله في المنام وبين يدَيه طشتٌ فيه دمٌ عظيمٌ من دم الحسين علیه السلام ، وأهل الكوفة كلّهم يُعرَضون عليه فيلطّخهم بالدم، دم الحسين علیه السلام ، حتّى انتهيتُ إليه وعُرضتُ عليه، فقلت: يا رسول الله، ما ضربتُ بسيفٍ ولا رميت بسهمٍ ولا كثّرت السواد عليه. فقال لي: «صدقت، ألستَ مِن أهل الكوفة؟»، فقلت: بلى. قال: «فلِمَ لا نصرتَ ولدي؟ ول-مَ لا أجبتَ دعوته؟ ولكنّك هويت قتلة الحسين، وكنتَ من حزب ابن زياد». ثمّ إنّ النبيّ

ص: 68


1- اللهوف لابن طاووس: 136.

أومى إليّ بإصبعه فأصبحتُ أعمى، فوَاللهِ ما يسرّني أن يكون لي حُمر النعيم، ووددتُ أن أكون شهيداً بين يدي الحسين ((1)).

الثامن:

حُكي أنّ من الشيعة المحبّين كان أبوه ممّن يُقيم العزاء على سيّد الشهداء وينظم الشعر في الرثاء، نقل في كتابٍ له أنّه قال: كنتُ في إبان شبابي قبل البلوغ مواظباً على حضور مجالس العزاء لاستماع مصائب سيّد الشهداء، وكنت ملتزماً بإقامة المأتم، فرأيتُ ليلةً في ما يرى النائم أنّي مررتُ ببستانٍ غايةٍ في النظافة والجمال، تظلّله أغصان الأشجار الوارفة بأنواعها، وتتدلّى منها ألوان الثمار الطاهرة، وأنا أسير في تلك البستان فرحاً مسروراً محبوراً في غفلةٍ عن مكان البستان وصاحبها، إذ لم أعرف أين كانت؟ ولا لمن كانت؟ فجأةً رأيتُ إمرأةً وضيئةً وفي يدها ملابس مخضّبة بالدم، وهي تغسلها وتتنفّس الصعداء، كأنّها تنفّس عن النيران المشتعلة في كبدها، وهي تنظر إلى السماء ودموعها تنهمر كأنّها المطر على وجهها، فسمعتُها تستغيث إلى الله بقلبٍ حزينٍ وتشكو إليه، فرأيتُ الماء تحوّل كأنّه دمٌ عبيطٌ يجري في تلك الأنهار، فقلت في نفسي: ماذا لو رأتك هذه المرأة وأنت في هذه البستان، خصوصاً إذا كانت هي صاحبة البستان؟!

ص: 69


1- المنتخب للطريحي: 2 / 314 المجلس 5.

فاختفيت وراء شجرة، فسمعتها تقول: لمَ لا تسمّيتَ لهم يا ولدي؟ عساهم ما عرفوك، ومن الماء منعوك، فلذلك قتلوك! فلمّاأتمّت كلامها سمعتُ صوتاً أجابها فقال: يا أُمّاه، أأترك سنّة جدّي رسول الله والأنبياء من قبله؟

قال: فنظرت، فرأيتُه واقفاً في الجانب الشرقيّ من البستان، وعليه جبّة خزّ، والدماء متجمّدة على حلقه ونحره، ولحيته مخضّبة بالدم، وهو يقول: قلت لهم: إنّ جدّي محمّد المصطفى، وأبي عليّ المرتضى، وأُمّي فاطمة الزهراء، وجدّتي خديجة الكبرى، وأخي الحسن المجتبى، فلم يسمعوا منّي ولم يراجعوا أنفسهم، ولم يعرفوا قدري وتنكّروا لمقامي ومنزلتي، وأبوا إلّا أن يقتلوني، وهشّموا بسنابك خيلهم عظامي.

فلمّا سمعتُ منه هذا الكلام قفّ شعري وفزعت، وقلت في نفسي: ليتني كنت أعرف هذه المرأة وهذا الشابّ المظلوم! فقصدتُ المرأة المظلومة، لأنّها كانت أقرب إليّ، فسلّمتُ عليها فردّت علَيّ السلام، فقلت: أُقسم عليكِ بالله، مَن أنتِ؟ ومَن هذا الشاب المظلوم؟ فبكت وقالت: أنا ابنة سيّد هذه الأُمّة فاطمة الزهراء، وهذا الشابّ ابني الحسين، الّذي قتله أشقياء هذه الأُمّة، استفردوا به مِن بعدنا فقتلوه بطفّ كربلاء مسلوب العمامة والرداء منزوع الخاتم والحذاء. ثمّ رفعَت صوتها بالبكاء، فخرجَت من بين الأشجار نساءٌ كثير كأنّها البدور الساطعة، وأحطن بالسيّدة فاطمة الزهراء، يلطمن الخدود وينشرن الشعور ويشققن الجيوب، وينادين بالويل والثبور وينُحْن

ص: 70

ويندبن ويبكين، فعلى الضجيج وارتفعت الصيحات.

فسارعتُ إلى سيّدتي فاطمة الزهراء وقلت: يا سيّدتي، مَن هؤلاء النسوة الباكيات النادبات وللشعور ناشرات؟ فقالت: هؤلاء أهل بيت الحسين، أُمّ كلثوم وسكينة ورقيّة والرباب وشاه زنان، يبكين الحسين ويندبنه.فبكيت وقلت: يا سيّدتي، إنّ أبي كان يرثي ولدكِ الحسين، وقد مات، فما هو حاله الآن؟ قالت: إنّ قصره محاذي لقصرنا. فأنشدتُها بعض شعره، وقلت: يا سيّدتي أنا أُحبّ أن أرثيكم، ولكن لا أقدر على ذلك. فلقّنَتني هذه الأبيات وقالت: قل:

بنت

النبيّ رسولِ الله فاطمةٌ

بکت، ألا وا حسيناه آه وا ولدي

ربّيتُه

وهجرت الغمض ساهرةً

فراح عنّي وخلّ النار في کبدي

لم

أدرِ شمراً بحدّ السيف يذبحه

بارض الطفوف علی

الرمضاء في کمدي

حسين ضاقت عليك الأرض أجمعها

وجئتَ إلی کربلاء للذبح يا سندي

يا

ليتني کان شمر الرجس يذبحني

ص: 71

ويترك السبط حيّاً ذاك مقتصدي

ص: 72

المجلس الحادي عشر : في خروج أهل البيت من كربلاء وورودهم مع الرؤوس إلى الكوفة

اشارة

في (الملهوف): ثمّ إنّ عمر بن سعدٍ بعث برأس الحسين علیه السلام في ذلك اليوم -- وهو يوم عاشوراء -- مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي إلى عُبيد الله بن زياد ((1))، ثمّ أمر برؤوس الباقين من أهل بيته وأصحابه فقُطعت ((2))، ورُوي أنّه أمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فنظفت ((3)).

إقتسم القبائل الرؤوس ليتقرّبوا بذلك إلى عبيد الله وإلى يزيد، فجاءت كِندة إلى ابن زياد بثلاثة عشر رأساً، وصاحبهم قيس بن

ص: 73


1- اللهوف لابن طاووس: 142.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 62.
3- اللهوف لابن طاووس: 142، الإرشاد للمفيد: 2 / 113.

الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت بنو تميم بتسعة عشر ((1)) رأساً، وجاءت بنو أسدبتسعة رؤوس، وجاء سائر الجيش بتسعة رؤوس ((2))، فذلك سبعون رأساً كما في (الإرشاد) ((3))، وفي (البحار): رُوي أنّ رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً ((4)).

بنفسی رؤوس ساميات علی القنا***کمثل بدورٍ وافقتها سعودها

مخضّبة بالدم منها جباهها***فيا طالما لله طالَ سجودُها

روى أبو حنيفة الدينوري: إنّ عمر بن سعد لمّا دفع الرأس المقدّس إلى الرجس خولي فعجّل اللعين به إلى ابن زياد الخبيث، فأقبل به ليلاً فوجد باب القصر مغلقاً، فأتى به منزله، وكان على فرسخٍ من الكوفة، وكانت زوجته محبّةً لأهل البيت ومن أنصارهم وشيعتهم، فخاف الخبيث النجس من المرأة الصالحة أن تطّلع على خبره فتنغّص عليه عيشه، فلمّا جاء سألَته: أين كنتَ منذ أيّام؟! فقال الطاغي: كنتُ أُحارب رجلاً خرج على

ص: 74


1- في المتن: (بتسعة رؤوس).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 370 الفصل 9، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 62.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 113.
4- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 331، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 62.

يزيد. فسكتت الحرّة، وجاءته بالطعام فأكل الخبيث ونام.

فلمّا قامت الصالحة لصلاة الليل كعادتها كلّ ليلة، رأت نوراً زاهراً ساطعاً من المطبخ، فحقّقت النظر فإذا بالنور يسطع من التنّور، فتعجّبت وقالت: سبحان الله! إنّي لمَ أُسجّر التنّور، فمن أين يسطع هذا النور؟ فحقّقت النظر أكثر فرأت أنّ النور يصعد كالعمودنحو السماء، فزاد عجبها منه.

بينا هي كذلك إذ رأت أربعة نسوةٍ نزلن من السماء وتوجّهن نحو التنّور، فتقدّمت إحداهنّ فمدّت يدها إلى التنّور وأخرجَت منه رأساً، فقبّلَته وضمّته إلى صدرها، وارتفع أنينها وبكاؤها وهي تقول: «يا شهيد الأُمّ، يا مظلوم الأُمّ، حكم الله بيني وبين قاتليك يوم القيامة، ولَينتقمنّ الله لي منهم، أو لا أبرح متعلّقةً بقائم العرش»، وبكت معها باقي النسوة، ثمّ أرجعن الرأس إلى التنّور وغبن.

فتوجّهَت المرأة الصالحة إلى التنّور، وأخرجَت الرأس المقدّس وأطالت النظر إليه، فعرفته؛ لأنّها كانت قد رأت الإمام الحسين كثيراً، فصرخت صرخةً عظيمة، ووقعت على الأرض مُغمىً عليها، فسمعت هاتفاً وهي في تلك الحالة يخاطبها: قومي، لا نؤاخذكِ بذنب بعلك. فسألت المرأة الصالحة من الهاتف: مَن تكون تلك النساء الأربعة؟ فجاءها الجواب: المرأة الّتي أخرجت الرأس من التنّور وضمّته إلى صدرها وبكت بكاءً شديداً أشدّ من بكاء الأُخريات هي أُمّه فاطمة الزهراء، والأُخرى أُمّه خديجة الكبرى،

ص: 75

والثالثة مريم أُمّ عيسى، والرابعة آسية امرأة فرعون.

فلمّا أفاقت المرأة الصالحة نظرت حولها فلم ترَ أحداً، فأخذت الرأس المقدّس وقبّلته، وغسلته بالمسك وماء الورد، ومسحته بالغالية والكافور، ووضعته في مكانٍ طاهرٍ نظيف، وذهبت إلى خولي الخبيث فأوقظته من نومه وقالت له: يا ملعون! لمَن هذا الرأس الّذي جئتَ به وأخفيتَه في التنّور؟ أوَليس هذا رأس ابن رسول الله؟ قم، فإنّ السماوات والأرضين تضجّ إلى الله وتنوح، وهذه أفواج الملائكة تزوره وتبكي عنده وتنوح وتعرج، واللهِ لا يجمعني وإيّاك سقفٌ واحدٌ أبداً. فلبست حجابها وخرجت، فناداها الخبيث: إلى أينتخرجين وتتركي أولادي أيتاماً؟ فقالت المرأة المؤمنة: يا ملعون، أنت أيتمتَ أبناء محمّدٍ المصطفى ولم تُبالي، فليتيم أولادك. ثمّ خرجَت ولم يُعرَف لها خبر ((1)).

معاشرَ الشيعة، بأيّ ذنبٍ فعلوا كلّ هذا مع السيّد المولى؟ سوى أنّه كان سبط النبيّ الأطهر، وقرّة عين المرتضى حيدر، وابن فاطمة الزهراء، وآمِراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، ذبحوه وقطعوا رأسه ورفعوه على السنان، ثمّ أنزلوه من السنان في التنّور على الرماد!

روى في (التبر المذاب) عن الواقديّ خبراً يذوب له قلب المحبّ وتجري له دموعه ويسلبه استقراره ويقضّ عليه مضجعه.

ص: 76


1- تحفة المجالس: 196 معجزة 28.

قال الواقدي: لمّا حمل الشمر رأس الحسين، جعله في مِخلاة، وذهب إلى منزله فوضعه على التراب، وجعل عليه أُجانة، فخرجَت امرأته ليلاً، فرأت نوراً ساطعاً عند الرأس إلى عنان السماء، فجاءت إلى الأُجانة، فسمعَت أنيناً تحتها، فجاءت إلى شمرٍ (لعنه الله) وقالت: رأيتُ كذا وكذا، فأيّ شيءٍ تحت الأُجانة؟ قال: رأس خارجيّ قتلتُه، وأُريد أذهب به إلى يزيد ليعطيني عليه مالاً كثيراً. قالت: ومَن يكون؟ قال: الحسين بن عليّ! فصاحَت وخرّت مغشيّة، فلمّا أفاقت قالت: يا شرّ المجوس، أما خفتَ مِن إله الأرض والسماء؟ ثمّ خرجَت من عنده باكية، ورفعت الرأس وقبّلته، ووضعته في حجرها، ودعت نساءً يساعدنها بالبكاء عليه، وقالت: لعن الله قاتلك.

فلمّا جنّ الليل غلبها النوم، فرأت كأنّ الحائط قد انشقّ بنصفين، وغشيَ البيت نور، وجاءت سحابة، فإذا فيها امرأتان، فأخذتا الرأسوبكتا، فسألَت عنهما، فقيل: إنّهما خديجة وفاطمة. ثمّ رأت رجالاً وفي وسطهم إنسانٌ كالقمر ليلة تمّه، فسألت عنه، فقيل: محمّد صلی الله علیه وآله، وعن يمينه حمزة وجعفر وأصحابه، فبكوا وقبّلوا الرأس، ثمّ جاءت خديجة وفاطمة إلى امرأة الشمر وقالتا لها: تمنّي ما شئتِ، فإنّ لكِ عندنا منّةً ويداً بما فعلتِ، فإن أردتِ أن تكوني من رفقائنا في الجنّة فأصلحي أمركِ، فإنّا منتظروك. وانتبهت من النوم ورأس الحسين في حِجرها.

وجاء الشمر (لعنه الله) لطلب الرأس فلم تدفعه إليه، وقالت له: يا عدوّ

ص: 77

الله، طلّقني، فإنّك يهوديّ، واللهِ لا أكون معك أبداً. فطلّقها، فقالت: واللهِ لا أدفع إليك هذا الرأس أو تقتلني. فضربها ضربةً كانت منيّتها فيها، وعجّل الله بروحها إلى الجنّة ((1)).

أمّا ابن سعدٍ الخبيث، فقد روى الشيخ المفيد قال: وأقام ابن سعد يومه ذلك وغده إلى الزوال -- زوال اليوم الحادي عشر --، فجمع قتلاه فصلّى عليهم ودفنهم، وترك الحسين وأصحابه منبوذين بالعراء ((2)).

ولمّا رحل ابن سعد، خرج قومٌ من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضريّة إلى الحسين وأصحابه (رحمة الله عليهم)، فصلّوا عليهم ودفنوا الحسين علیه السلام حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين عند رجلَيه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الّذينصُرعوا حوله ممّا يلي رجلَي الحسين علیه السلام ، وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العبّاس بن عليّ علیه السلام في موضعه الّذي قُتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الآن ((3)).

قال ابن شهرآشوب: وكانوا يجدون لأكثرهم قبوراً، ويرون طيوراً بيضاً ((4)).

ص: 78


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 222.
2- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 326، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 62.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 113.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 369 الفصل 9.

ورُوي عن الإمام الرضا أنّ الإمام زين العابدين جاء متخفّياً وصلّى على أبيه ودفنه ورجع ((1)).

وإنّما لم يدفن الخبيثُ ابن سعد أبدانَ الشهداء المطهّرة، لأنّهم كانوا يسمّونهم خوارج، وقد ذكرنا فيما مضى أنّ بعض أُولئك الكفّار كانوا يرمون القاسم بن الحسن بالأحجار وينادون: اقتلوا ابن الخارجي! فكيف يسمع الشيعي هذا الكلام ثمّ يحبس دمعه؟ ولَنعم ما قالت النائحة الجنّيّة:

ياعين جودي بالدموع فإنّما***يبكي الحزين بحرقةٍ وتوجّعِ

ياعين ألهاكِ الرقاد بطيبةٍ***من ذكر آل محمّدٍ وتوجّعِ

باتت ثلاثاً بالصعيد جسومهم***بين الوحوش وكلّهم في مصرعِ ((2))

ورُوي أنّ هاتفاً سُمع بالبصرة ينشد ليلاً:

إنّ الرماح الواردات صدورها***نحو الحسين تقاتل التنزيلا

ويهلّلون بأن قُتلت، وإنّما***قتلوا بك التكبير والتهليلا

فكأنّما قتلوا أباك محمّداً****صلّى عليه الله أو جبريلا ((3))

أجل، كان هذا الظلم والجَور والعدوان أجر الرسالة الّتي أمر الله بها هذه

ص: 79


1- أُنظُر: إثباة الوصية: 207، بحار الأنوار للمجلسي: 169 / 45، تظلّم الزهراء: 275.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 95 الباب 29 ح 5.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 235 / 45.

الأُمّة المتعوسة، إذ قال: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((1)).

أجل، لقد قطعوا الرؤوس المقدّسة، وقسّموها على القبائل، وحملوا السبايا من آل محمّدٍ قاصدين الكوفة، وقد مرّوا بهنّ على مصارع الشهداء.

قال ابن طاووس في (الملهوف): ثمّ رحل بمن تخلّف من عيال الحسين علیه السلام ، وحمل نساءه (صلوات الله عليه) على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء، مكشّفات الوجوه بين الأعداء وهنّ ودائع الأنبياء، وساقوهنّ كما يُساق سبي الترك والروم في أشد المصائب والهموم ((2)).

وفي (البحار): جعلوا في عنق الإمام السجّاد الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه، وقد نهكته العلّة ((3)).

معاشر الشيعة، لله حال تلك النساء والبنات المخدّرات اللواتيعشن دائماً معزّزاتٍ مكرّمات، وفي حجب الخدر والعفاف مستورات، والآن أُخرجن حاسرات، يتصفّح وجوههنّ الأعداء والأجانب، وقد خرجن من المدينة إلى كربلاء في المحامل مستورات، في عزّ الأهل والحُماة محميّات، والآن على أقتاب الأبل مكشوفات، وكان سيّد الشهداء وسائر شباب أهل البيت يراقبوهنّ ويداروهن، في الطريق عند كلّ نزولٍ ورحيلٍ وفي أثناء

ص: 80


1- سورة الشورى: 23.
2- اللهوف لابن طاووس: 143.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 165.

الطريق يشدّون المحامل بأيديهم الكريمة، ويتابعوهنّ طول المسير ويدفعون عنهنّ الأذى والوعثاء، والآن ركّبوهنّ على جمال لا موطئه ولا مرحولة، ويسوقهنّ الأعداء بغلظةٍ وشدّةٍ يزجرون النساء والأطفال، فماذا تفعل السيّدة فخر المخدرات زينب الحوراء مع وصيّة أخيها لها بالنسوة والأطفال؟ سوى أن يقال عن لسان حالها:

يا هادي الأضعان رفقاً بالأُلى****كانوا من العليا بدور مهائها ((1))

أوَما علمتَ بمن تحثّ ركابها***يا ديك يا أولى الورى بشقائها

في الركب أولاد الرسول وفاطم ال***زهرا البتول الطهر ستّ نسائها

فيه الفواطم للخدود لواطمٌ***ثكلى، تنادي الغوث من ضرّائها

في الركب زين العابدين مكبّلاً***ذو غلّةٍ عبرى تسحّ بمائها

دنفٌ عليلٌ ذو غليل زاده***غلّ اليدين كآبة لعيائها

حضرني -- وقد وصلتُ في الكلام إلى هذا المقام -- ما حدث أيّام الأمير الوفيّ القويّ المختار، حيث جاؤوا بسهيل بن عريف الخزاعي إليه، فقال: يا سهيل، أوَلستَ أنت الّذي كنت تغمز الإبل بالقضيب لتنفر، فيقع أهل البيت من ظهرها على الأرض؟ فأنكر اللعين، فقال الأمير: لو أحرقتَ لي في قسمك مئة مصحفٍ لما صدّقتك. ثمّ أمر فقُطعت أصابيع يديه ورجليه،

ص: 81


1- يقال للكواكب: مَها (انظر: لسان العرب: مادّة مهو).

ورُمي به تحت الشمس حتّى هلك وفي وديان جهنّم سلك.

[عودةٌ إلى الحديث]

أمر ابن زيادٍ في يوم ورود آل محمّد الكوفة أن لا يخرج أحدٌ من أهل الكوفة مع السلاح، وأمر بعشرة آلاف فارسٍ أن يأخذوا السكك والأسواق والطرق والشوارع، خوفاً من الناس أن تحرّكهم الحميّة والغيرة على أهل البيت إذا رأوهم في تلك الحالة ((1)).

وفي (الملهوف): فلمّا قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهن ((2)).

ورُوي: فجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون ((3)).

وفي (الملهوف): فأشرفت امرأةٌ من الكوفيّات فقالت: مِن أيّ الأُسارى أنتنّ؟ فقلن: نحن أُسارى آل محمّد صلی الله علیه وآله فنزلَت المرأة من سطحها، فجمعت لهنّ ملاءً وأُزُراً ومقانع وأعطتهنّ فتغطّين ((4)).فجعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: «تنوحون وتبكون من أجلنا؟ فمَن ذا الّذي قتلنا؟!» ((5)).

ص: 82


1- ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 28 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- اللهوف لابن طاووس: 144.
3- اللهوف لابن طاووس: 146، تظلّم الزهراء للقزويني: 293.
4- اللهوف لابن طاووس: 144.
5- اللهوف لابن طاووس: 146.

وروى أبو مخنف، عن بعض الثقاة من أهل العلم قال: كنتُ في الكوفة سنة قُتل الحسين علیه السلام فرأيت نساء أهل الكوفة وهنّ مشقّقات الجيوب ناشرات الشعور لاطمات الخدود، فأقبلتُ إلى شيخٍ كبيرٍ فقلت له: ما هذا البكاء والنحيب؟! فقال: من أجل رأس الحسين علیه السلام.

فبينما أنا كذلك وإذا بالعسكر قد أقبل، والسبايا معهم، فرأيتُ جاريةً حسناء جسيمةً على بعيرٍ بغير غطاءٍ ولا وطاء، فسئلتُ عنها فقيل لي: هذه أُمّ كلثوم. فدنوتُ منها فقلت لها: حدّثيني بما جرى عليكم. فقالت: مَن أنت يا شيخ؟ فقلت لها: أنا رجلٌ من أهل البصرة. فقالت: يا شيخ، اعلمْ أنّي كنتُ في الخيمة إذ سمعتُ صهيل الفرس، فخرجتُ فرأيت الفرس عارياً والسرج خالياً من راكبه، فصرخت وصرخَت النساء معي، فسمعتُ هاتفاً أسمع صوته ولا أرى شخصه وهو يقول:

واللهِ ما جئتُكم حتّى بصرتُ به***بالطفّ منعفر الخدَّين منحورا

وحوله فتيةٌ تدمى نحورهمُ****مثل المصابيح يغشون الدجى نورا

وقد ركضت ركابي كي أُصادفه***من قبل يلثم وسط الجنّة الحورا

دنى إلى أجلٍ والله قدّره***وكان أمرٌ قضاه الله مقدورا

كان الحسين سراجاً يُستضاء به****والله يعلم أنّي لم أقل زورا

فقلت له: بحقّ معبودك مَن أنت؟ فقال: أنا ملكٌ من ملوك الجنّ، جئتُ أنا وقومي أنصر الحسين علیه السلام، فوجدناه قد قُتل. ثمّ قال: وا أسفاه

ص: 83

عليك يا أبا عبد الله! ثلاث مرّات ((1)).

وعن أبي مخنف أيضاً، قال سهل بن حبيب الشهرزوري ((2)): كنتُ قد أقبلتُ في تلك السنة أُريد الحجّ إلى بيت الله الحرام، فدخلتُ الكوفة، فوجدت الأسواق معطَّلةً والدكاكين مغلقة، والناس مجتمعون خلقاً كثيراً حلقاً حلقاً، منهم مَن يبكي سرّاً ومنهم مَن يضحك جهراً، فتقدّمتُ إلى شيخٍ منهم وقلت له: يا شيخ، ما نزل بكم؟! أراكم مجتمعين كتائب، ألكم عيدٌ لست أعرفه للمسلمين؟ فأخذ بيدي وعدل بي ناحيةً عن الناس، وقال: يا سيّدي ((3))، ما لنا عيد. ثمّ بكى بحرقةٍ ونحيب، فقلت: أخبِرْني يرحمك الله. قال: بسبب عسكرين، أحدهما منصورٌ والآخر مهزومٌ مقهور. فقلت: لمن هذان العسكران؟ فقال: عسكر ابن زيادٍ وهو ظافرٌ منصور، وعسكر الحسين بن عليّ وهو مهزومٌ مكسور. ثمّ قال: وا حرقتاه أن يدخل علينا رأس الحسين.

فما استتمّ كلامه إذ سمعتُ البوقات تضرب، والرايات تخفق قد أقبلَت، فمددتُ طرفي وإذا بالعسكر قد أقبل ودخل الكوفة، فلمّاانقضى دخوله سمعتُ صيحةً عالية، وإذا برأس الحسين علیه السلام قد أقبل على رمحٍ طويل،

ص: 84


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 100.
2- في المتن: (قال سعيد).
3- في المتن: (يا حبيبي).

وقد لاحت شواربه والنور يخرج ساطعاً من فيه حتّى يلحق بعنان السماء، فخنقَتني العَبرة لمّا رأيته.

وأقبلَت مِن بعده أُمّ كلثوم (عليها وعلى آبائها السلام)، وعليها بُرقع خزّ أدكن، وهي تنادي: يا أهل الكوفة، نحن والله سبايا الحسين، غضّوا أبصاركم عن النظر إلينا، معاشرَ الناس، أما تستحون من الله ورسوله تنظرون إلى حريم نبيّكم رسول الله صلی الله علیه وآله وحريم عليّ المرتضى وفاطمة الزهراء علیهما السلام قال: فغضّوا الناس أبصارهم من النظر إليهم.

قال سهل بن حبيب ((1)): فوقفوا بباب بني خزيمة ساعةً من النهار، والرأس على قناةٍ طويلة، فتلا سورة الكهف، إلى أن بلغ في قرائته إلى قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً» ((2)). قال سهل: واللهِ إنّ قراءته أعجب الأشياء، ثمّ بكيت وقلت: إنّ هذا أمرٌ فظيع. ثمّ غُشيَ علَيّ، فلم أفق من غشوتي إلى أن ختم السورة ((3)).

وفي كتاب (المنتخب)، عن مسلم الجصّاص قال: دعاني ابن زيادٍ لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا أُجصّص الأبواب وإذا بالزعقات قد ارتفعَت من جنبات الكوفة، فأقبلتُ على خادمٍ -- وكان يعمل معنا -- فقلت:

ص: 85


1- في المتن: (سهل بن المسيّب).
2- سورة الكهف: 9.
3- مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 122 الرقم 165.

ما لي أرى الكوفة تضجّ؟ قال: الساعة أتوا برأس خارجيّ خرج على يزيد ابن معاوية. فقلت: مَن هذا الخارجي؟ قال: الحسين بن عليّ.

قال: فتركتُ الخادم حتّى خرجت، ولطمتُ وجهي حتّى خشيت على عينَيّ أن تذهبا، وغسلتُ يدي من الجصّ، وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الكناس، فبينما أنا واقفٌ والناس يتوقعّون وصول السبايا والرؤوس، إذ قد أقبلَت نحو أربعين شقّةً تُحمَل على أربعين جملاً، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة، وإذا بعليّ بن الحسين على بعيرٍ بغير وطاء، وأوداجه تشخب دماً، وهو مع ذلك يبكي ويقول:

«يا أُمّةَ السوء، لا سقياً لربعكمُ***يا أُمّةً لم تراعي جدَّنا فينا

لو أنّنا ورسول الله يجمعنا***يوم القيامة ما كنتم تقولونا؟

تسیّرونا علی الأقتاب عاریةً***کأنّنا لم نشيّد فیکم دیناً

بني أُمیّة، ما هذا الوقوف لنا؟***تلك المصائب لا تبلون ((1))داعینا

تصفّقون علینا ((2))کفّکم فرحاً****وأنتمُ في فِجاج الأرض تسبونا

ألیس جدّي رسول الله؟ ویْلکمُ***أهدی البریّة من سبل المضلّینا

ألیس جدّي رسول الله؟ ویْلکمُ***أهدی البریّة من سبل المضلّینا

یا وقعةَ الطفّ قد أورثتِني حزَناً***والله يهتك أستار المسيئینا»

ص: 86


1- في المتن: «لا تکبّون»، وفي (البحار) و(العوالم) و(الدمعة الساكبة) و(نفَس المهموم): «لا تلبّون»، وفي (الأسرار): «لم تصنعوا».
2- في المتن: «عليكم».

وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الّذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أُمّ كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام. وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض. قال: كلّ ذلك والناس يبكون على ما أصابهم.

ثمّ إنّ أُمّ كلثوم أطلعَت رأسها من المحمل وقالت لهم: صَهْ يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم! فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء.

فبينما هي تخاطبهنّ إذا بضجّةٍ قد ارتفعَت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يَقدِمهم رأس الحسين علیه السلام ، وهو رأسٌ زهريٌ قمري، أشبه الخلق برسول الله صلی الله علیه وآله، ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع، والرمح تلعب بها يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها، فنطحَت جبينها بمقدم المحمل حتّى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بحرقةٍ وجعلت تقول:

يا هلالاً لمّا استتمّ كمالا***غاله خسفُه فأبدا غروبا

ما توهّمتُ يا شقيق فؤادي***كان هذا مقدّراً مكتوبا

يا أخي، فاطم الصغيرة كلِّمْها***فقد كاد قلبها أن يذوبا

يا أخي، قلبك الشفيق علينا****ما لَه قد قس-ى وصار صليبا؟

يا أخي، لو ترى عليّاً لدى الأسر***مع اليتم لا يطيق وجوبا

ص: 87

مع اليتم لا يطيق وجوبا

كلّما أوجعوه بالضرب ناداك***بذلٍّ يغيض دمعاً سكوبا

يا أخي، ضمّه إليك وقرِّبْه***وسكّن فؤاده المرعوبا

ما أذلّ اليتيم حين ينادي***بأبيه ولا يراه مجيبا ((1))

يا محبّ أحمد المختار وشيعة عليّ الكرار، لو تصوّرت هذه الحالة: الرأس مرفوعٌ على السنان، وأُخته المظلومة تنظر إليه، وتنوح عليه بتلك الأبيات وتبكي عليه بدمعٍ هطولٍ منهمر، فإن لم يرقّ قلبك -- والعياذ بالله -- لِما سمعتَه من شعرها الحزين ولم تجرِ دمعتك، فاستمع بكلّ مشاعرك وحواسّك وأنت في غاية الخشوع والأدب إلى ما قاله بعض الشعراء العرب بلسان الحال عن أُخته المظلومة:

أخي یا أخي، أيّ المصائب أشتکي***فراقك أم هتکي وذلّي وغربتي

أم الثوب مسلوباً، أم الجسم عارياً***أم النحر منحوراً ببيض صقيلةِ

أم الظهر مرضوضاً، أم الشيب قانياً***أم الرأس مرفوعاً كبدر الدجيّةِ

أم الرحل منهوباً، أم المهر ناعياً***أم الوجه مكبوباً بحرّ الظهيرةِ

أم الضائعات الفاقدات حواسراً***كمثل الإما يُشهَرن في كلّ بلدةِ؟

أخي يا أخي، قُلْ للئام: ترفّقوا***بسلب حريمي، وارحموا حال غربتي

أخي،ليت هذا النحر كان بمنحري***ويا ليت هذا السهم كان بمهجتي

ص: 88


1- المنتخب للطريحي: 2 / 463 المجلس 10، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 114.

أخي يا أخي، ما كان أطيب عيشنا***وأطيب أيّاماً تقضّت بطيبةِ

أخي،بلّغ المختار طه سلامنا***وقل: أُمّ كلثومٍ بكربٍ ومحنةِ

أخي،بلّغ الكرّار عنّي تحيّةً***وقل: زينبٌ أضحت تُساق بذلّةِ

[خطبة السيّدة الحوراء]

في (الملهوف) لابن طاووس: قال بشير بن خزيم الأسديّ: ونظرتُ إلى زينب بنت عليٍّ يومئذ، ولم أرَ خَفِرةً واللهِ أنطق منها، كأنّها تُفرع من لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثمّ قالت:

الحمد لله، والصلاة على أبي محمّدٍ وآله الطيّبين الأخيار.

أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مَثَلكم كمَثل الّتي نقضَت غزلها مِن بعد قوّةٍ أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلّا الصلف والنطف والصدر الشنف، وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنةٍ أو كفضّةٍ على ملحودة، ألا ساء ما قدّمَت لكم أنفسُكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً؛ فلقدذهبتُم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسلٍ بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل

ص: 89

سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجّتكم ومدرة سنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي وتبّت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضبٍ من الله، وضُربَت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فريتم، وأيّ كريمةٍ له أبرزتم، وأيّ دمٍ له سفكتم، وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟ ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء [وفي بعضها: خرقاء شوهاء]، كطلاع الأرض أو ملء السماء. أفعجبتم أن مطرت السماء دماً؟! ولَعذاب الآخرة أخزى، وأنتم لا تُنصرون، فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار، وإنّ ربكم لَبالمرصاد ((1)).

وفي رواية القطب الراوندي: ثمّ أنشأَت تقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم:***ماذا صنعتم وأنتم آخر الأُمم

بأهل بيتي وأولادي ومكرمتي؟***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحتُ لكم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

إنّي لَأخشى عليكم أن يحلّ بكم***مثل العذاب الّذي أودى على إرَمِ

ثم ولّت عنهم.

ص: 90


1- اللهوف لابن طاووس: 144.

قال حذيم ((1)): فرأيتُ الناس حيارى، قد ردّوا أيديهم في أفواههم، فالتفتّ إلى شيخٍ إلى جانبي يبكي وقد اخضلّت لحيته بالبكاء ويده مرفوعة إلى السماء وهو يقول: بأبي وأُمّي، كهولهم خير الكهول، وشبابهم خير شباب، ونسلهم نسلٌ كريم، وفضلهم فضلٌ عظيم. ثمّ أنشد شعراً:

كهولهم خير الكهول، ونسلهم***إذا عُدّ نسلٌ لا يبور ولا يخزى

وفي (الاحتجاج): فقال عليّ بن الحسين: «يا عمّة اسكتي؛ ففي الباقي من الماضي اعتبار، وأنتِ -- بحمد الله -- عالِمةٌ غير مُعلَّمة، فَهِمَةٌ غير مُفهَّمة، إنّ البكاء والحنين ((2)) لا يردّان مَن قد أباده الدهر»، فسكتت ((3)).

وفي رواية أبي مخنف: إنّ السيّدة المخدّرة أطرقت برأسها إلى الأرض، وجلعت تبكي بكاءً شديداً، ثمّ أنشأت الأبيات المذكورة: (ماذا تقولون..) ((4)).

وفي (الملهوف): خطبت فاطمة الصغرى بعد أن وردت من كربلاء، فقالت:

الحمد لله عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأُومن به

ص: 91


1- في المتن: (بشير بن حريم الأسدي).
2- في المتن: (الحزن).
3- الاحتجاج للطبرسي: 2 / 305، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 164.
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي المخنف (المشهور): 101.

وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله صلی الله علیه وآله، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات بغير ذحلٍ ولا ترات. اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلتَ عليه مِن أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، المسلوبِ حقّه المقتولِ من غير ذنب -- كما قُتل ولده بالأمس -- في بيتٍ من بيوت الله، فيه معشرٌ مسلمة بألسنتهم، تعساً لرؤوسهم، ما دفعَت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبضتَه إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب، مشهور المذاهب، لم تأخذه اللّهمّ فيك لومة لائم ولا عذل عاذل، هديتَه اللّهمّ للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك، حتّى قبضتَه إليك زاهداً في الدنيا غير حريصٍ عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته، فهديته إلى صراطٍ مستقيم.

أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء! فإنّا أهل بيتٍ ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عَيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته، وحُجّتُه على الأرض في بلاده لعباده، أكرمَنا الله بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّدٍ صلی الله علیه وآله على كثيرٍ ممّن خلق تفضيلاً بيّناً، فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً، كأنّنا أولاد تركٍ وكابل، كما قتلتم جدّنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقدٍ متقدّم، قرّت لذلك عيونكم وفرحت قلوبكم، افتراءً على الله ومكراً مكرتم، والله خير الماكرين، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما

ص: 92

أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا، فإنّ ما أصابنا منالمصائب الجليلة والرزايا العظيمة «فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا» ((1))، «إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ((2))، «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» ((3)).

تبّاً لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حلّ بكم وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذابٍ ويذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

ويلكم! أتدرون أيّةٍ يد طاغتنا منكم، وأية نفسٍ نزعت إلى قتالنا، أم بأيّة رجلٍ مشيتم إلينا تبغون محاربتنا؟ واللهِ قست قلوبكم وغلظت أكبادكم، وطُبع على أفئدتكم وخُتم على سمعكم وبصركم، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوةً فأنتم لا تهتدون، فتبّاً لكم يا أهل الكوفة، أيّ تراتٍ لرسول الله صلی الله علیه وآله قبلكم، ودخولٍ [خ ل: ذحولٍ] له لديكم بما عندتم بأخيه عليّ بن أبي طالب جدّي وبنيه وعترته الطيّبين الأخيار؟ فافتخر بذلك مفتخرٌ وقال:

ص: 93


1- سورة الحديد: 22.
2- سورة الحجّ: 70.
3- سورة الحديد: 23.

نحن قتلنا عليّاً وبني علي***بسيوفٍ هنديّةٍ ورماح

وسبينا نساءهم سبي تركٍ***ونطحناهم فأيّ نطاح

بفيك أيّها القائل الكثكث والأثلب افتخرتَ بقتل قومٍ زكّاهم اللهوطهّرهم الله وأذهب عنهم الرجس، فاكظم واقعَ كما أقعى أبوك، فإنّما لكلّ امرئٍ ما كسب وما قدّمَت يداه. أحسدتمونا -- ويلاً لكم -- على ما فضّلَنا الله؟

فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا

وبحرك ساجٍ ما يواري الدعامصا؟

«ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ((1))، «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ» ((2)).

قال: فارتفعَت الأصوات بالبكاء والنحيب، وقالوا: حسبكِ يا ابنة الطيّبين، فقد أحرقتِ قلوبنا وأنضجتِ نحورنا وأضرمتِ أجوافنا. فسكتَت.

قال: وخطبَت أُمّ كلثوم ((3)) بنت عليّ علیه السلام في ذلك اليوم من وراء كلّتها، رافعةً صوتها بالبكاء، فقالت:

يا أهل الكوفة، سوأةً لكم، ما لَكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه؟ فتبّاً لكم وسحقاً، ويلكم!

ص: 94


1- سورة الحديد: 21.
2- سورة النور: 40.
3- في المتن: (زينب).

أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم، وأيّ وزرٍ على ظهوركم حملتم، وأيّ دماءٍ سفكتموها، وأيّ كريمةٍ أصبتموها، وأيّ صبيّةٍ سلبتموها، وأيّ أموالٍ انتهبتموها؟ قتلتم خير رجالاتٍ بعد النبيّ صلی الله علیه وآله، ونُزعَت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الفائزون وحزب الشيطان هم الخاسرون.

ثمّ قالت:

قتلتم أخي صبراً، فويلٌ لأُمّكم***ستُجزَون ناراً حرّها يتوقدُ

سفكتم دماءً حرّم الله سفكها***وحرّمها القرآن ثمّ محمّدُ

ألا فابشروا بالنار، إنّكمُ غداً***لَفي سقَرٍ حقّاً يقيناً تخلّدوا

وإنّي لَأبكي في حياتي على أخي***على خير مَن بعد النبيّ سيولدُ

بدمعٍ غريزٍ مستهلٍّ مكفكفٍ***على الخدّ منّي دائماً ليس يجمدُ

فضجّ الناس بالبكاء والنوح، ونشر النساء شعورهنّ ووضعنَ التراب على رؤوسهنّ، وخمشن وجوههنّ وضربن خدودهنّ، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال ونتفوا لحاهم، فلم يُرَ باكيةً وباكٍ أكثر من ذلك اليوم.

ثمّ إنّ زين العابدين علیه السلام أومأ إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، فقام قائماً، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبيّ صلی الله علیه وآله ثمّ صلّى عليه، ثمّ قال:

«أيّها الناس! مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي، أنا عليّ ابن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، أنا ابن مَن انتُهكت حرمته وسُلبت نعمته وانتهب ماله وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحلٍ ولا ترات، أنا

ص: 95

ابن مَن قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً ...» ((1)).أيّها الإخوة المؤمنون، لقد أشار الإمام زين العابدين في هاتين الفقرتين إلى قضيّةٍ تثير الزفرة وتسيل لها الدموع من العيون.

قال ابن الأثير في (النهاية): أنّه نُهي عن قتل شيءٍ من الدوابّ صبراً، وهو أن يمسَك شيءٌ من ذوات الأرواح حيّاً ثمّ يُرمى به حتّى يموت ((2))، ويقصد ب- (يُرمى به) أن يضرب السهام والعصا والحجارة حتّى يموت.

وقد فعلوا كلّ ما نهى عنه النبيّ أن يُفعَل مع الحيوان، حيث أُصيب الإمام المظلوم بأربعة آلاف جراحةٍ من السهام ومئةٍ وثمانين جراحةٍ من طعن الرماح وضرب السيوف.

وقال الإمام محمّد الباقر: «ولقد قُتِل بالسيف والسنان، وبالحجارة، وبالخشب، وبالعصا، ولقد أوطؤوه الخيل بعد ذلك» ((3)).

فالإمام زين العابدين يقول في هاتين الفقرتين: أنا ابن مَن قُتل قتلاً نهى عنه النبيّ أن يُفعَل بالحيوان، أنا ابن من قُتل صبراً! وكفى بهذا القتل فخراً لما فيه من درجاتٍ عاليةٍ خاصّة بالإمام المظلوم.

أيّها الناس، فأُنشدكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه،

ص: 96


1- اللهوف لابن طاووس: 146 وما بعدها.
2- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 3 / 8.
3- عوالم العلوم للبحراني: 17 / 317 ح 9، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 91 ح 30.

وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه، فتبّاً لما قدمتم لأنفسكم، وسوأةً لرأيكم، بأيّة عينٍ تنظرون إلى رسول الله صلی الله علیه وآله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي،فلستم من أُمّتي؟

قال الراوي:

فارتفعَت الأصوات من كلّ ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون! فقال علیه السلام : «رحم الله امرأً قَبِل نصيحتي وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإنّ لنا في رسول الله أُسوةً حسنة»، فقالوا بأجمعهم: نحن كلّنا يا ابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك، فمُرْنا بأمرك، يرحمك الله، فإنّا حربٌ لحربك وسلمٌ لسلمك، لَنأخذنّ يزيد (لعنه الله) ونبرأ ممّن ظلمك وظلمنا. فقال علیه السلام: «هيهات هيهات أيّها الغدَرة المكَرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل؟ كلّا وربِّ الراقصات، فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلی الله علیه وآله بالأمس وأهل بيته معه، ولم يُنسى ثكل رسول الله؟صلی الله علیه وآله وثكل أبي وبني أبي، ووَجْدُه بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغُصصه تجري في فراش صدري، ومسألتي أن تكونوا لا لنا ولا علينا»، ثمّ قال:

«لا غرو إن قُتل الحسين، فشيخه***قد كان خيراً من حسين وأكرم

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالّذي***أُصيب حسينٌ، كان ذلك أعظم

قتيلٌ بشطّ النهر، روحي فداؤه***جزاء الّذي أرداه نار جهنّم»

ص: 97

ثمّ قال: «رضينا منكم رأساً برأس، فلا يومٌ لنا ولا يومٌعلينا» ((1)).

وفي (المنتخب): وعن عليّ بن الحسين علیه السلام أنّه كان يقول وهو في أسر بني أُميّة: «أيّها الناس، إنّ كلّ صمتٍ ليس فيه فكرٌ فهو غيّ، وكلّ كلامٍ ليس فيه ذكرٌ فهو هباء، ألا وإنّ الله (تعالى) أكرم أقواماً بآبائهم، فحفظ الأبناء بالآباء، لقوله (تعالى): «وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً» ((2)) (1)، فأكرمهما، ونحن واللهِ عترة الرسول صلی الله علیه وآله، فأكرِمونا لأجل رسول الله؛ لأنّ جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله كان يقول فوق منبره: احفظوني في عترتي وأهل بيتي، فمَن حفظني حفظه الله، ومَن آذاني فعليه لعنة الله. ونحن واللهِ أهل بيتٍ أذهب الله عنّا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونحن والله أهل بيتٍ اختار الله لنا الآخرة، وزوي عنّا الدنيا ولذّاتها ولم يمتّعنا بلذّاتها» ((3)).

قال المؤلّف: لو تأمّل الإنسان في خطب النساء الأسرى وعبارات السيّدات المسبيّات والإمام العليل سيّد الساجدين، مع أنّهم في السبي وقد رأوا كلّ تلك المصائب والرؤوس مرفوعةٌ أمامهم على رؤوس الرماح وتظافر المتفرّجين وهنّ حواسر بين الأعداء، وهذا يكشف عن علوّ مقامهم ورتبهم وكمالهم وقربهم من الله، العجب العجب من أهل الكوفة وصلافتهم كيف ينظرون إلى هذه المشاهد ولا ينتقمون من أعداء أهل البيت ويسفكون

ص: 98


1- اللهوف لابن طاووس: 157 وما بعدها.
2- سورة الكهف: 82.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 232 المجلس 1.

دماءهم؟!

يا لَلرجال، مخدّرات محمّدٍ***تُسبى وتُهتك ما لهنّ ودود

تلهي وتضرب بالسياط جراءة***وتسبّ آباء لها وجدود

أضوؤهن كالبدور ظواهر***تحت الحجاب شعاعها موقود

أصبحن من بعد الحجاب سوافراً***في السفر يعلو نورهنّ كنود

يشهرن في الأمصار ما بين الورى***يسوقها رجسٌ هناك عنيد

في (الإرشاد) للمفيد: جلس ابن زيادٍ للناس في قصر الإمارة، وأذن للناس إذناً عامّاً، وأمر بإحضار الرأس ((1)) المقدّس، روحي وأرواح العالمين له الفداء.

قال بعض الثقات: لمّا اقتربَت الرؤوس من مقصورة ابن زياد، اقتربتُ من الرأس المقدّس لسيّد الشهداء وحقّقت النظر، فرأيتُ شفتيه تتحرّكان، فدنوتُ منه وأنصتُّ اليه، فسمعتُه يقرأ: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ» ((2)) ((3)).

وفي (الأمالي) للصدوق: فوضع بين يديه في طستٍ من ذهب ((4)).

ص: 99


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 114.
2- سورة إبراهيم: 42.
3- أُنظُر: روضة الشهداء للواعظي: 365.
4- الأمالي للصدوق: 165 المجلس 31 ح 3.

وفي (الإرشاد) للمفيد: وجعل ينظر إليه (وهو مرمَّلٌ بالدماء)ويتبسّم، وفي يده قضيبٌ يضرب به ثناياه ((1)) -- آه، وا ويلاه، وا مصيبتاه! شُلّت يداه ولعنه الله -- ويقول: لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبد الله. فقال رجلٌ من القوم: مَهْ! فإنّي رأيتُ رسول الله يلثم حيث تضع قضيبك. فقال: يومٌ بيوم بدر ((2)). أي: كما قتل أبوه كبراء بني أُميّة الكفّار، فإنّه انتقم من أولاده، فجاهر بالكفر الّذي كان يُبطنه.

ورُوي أنّ أنس بن مالك قال: شهدتُ عُبيد الله بن زياد وهو ينكت بقضيبٍ على أسنان الحسين، ويقول: إنّه كان حسن الثغر. فقلت: أمَ والله لَأسوأنّك، لقد رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يُقبّل موضع قضيبك من فيه.

وعن سعد بن معاذ وعمر بن سهل أنّهما حضرا عبيد الله يضرب بقضيبه أنف الحسين وعينيه ويطعن في فمه ((3))..

قال أبو القاسم بن محمّد: ما رأيتُ منظراً قطّ أفظع من إلقاء رأس الحسين علیه السلام بين يديه وهو ينكته ((4)).

وفي (الإرشاد): وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلی الله علیه وآله،

ص: 100


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 114.
2- الأمالي للصدوق: 165.
3- مثير الأحزان لابن نما: 91.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 167.

وهو شيخٌ كبير، فلمّا رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له: ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فوَاللهِ الّذي لا إله غيره لقد رأيتُ شفتَي رسول الله صلی الله علیه وآله عليهما ما لا أُحصيه كثرةً تقبّلهما. ثمّانتحب باكياً ((1))، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله؟ والله لولا أنّك شيخٌ قد خرفت وذهب عقلك لَضربتُ عنقك. فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله ((2)).

وفي رواية (التبر المذاب): فنهض وهو يقول: أيّها الناس، أنتم العبيد بعد اليوم؛ قتلتم ابن فاطمة، وأمّرتم ابن مرجانة! واللهِ لَيقتلنّ خياركم، وليستعبدنّ شراركم ((3))، فبُعداً لمن يرضى الذلّ والعار ((4)).

ثمّ قال: يا ابن زياد لَأُحدّثنّك حديثاً هو أغلظ عليك من هذا! رأيتُ رسول الله أقعَدَ حسناً على فخذه اليمنى والحسينَ على اليسرى، ثمّ وضع يده على يافوخهما وقال: «اللّهمّ إنّي أستودعك إيّاهما وصالح المؤمنين»، فكيف

ص: 101


1- أبكى الله عينَيه، ما يصنع هذا الشيخ في مجلس ابن الأَمة الفاجرة، وقد قتل ريحانة النبيّ وسيّد شباب أهل الجنّة وسبى ذرّيّته وعياله؟!!
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 114.
3- أُسد الغابة لابن الأثير: 1 / 499.
4- أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 207، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 190، تاريخ الطبري: 5 / 456، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 81.

كانت وديعة رسول الله عندك يا ابن زياد؟! ((1))

معاشرَ الشيعة، لمّا بلغتُ فيما أكتب إلى هذا المقام وما فعله الدعيّ الخبيث من تجاسرٍ على رأس الإمام، طفقت أُفكّر في حِلم المظلوم وصبره على هذا الإجرام، ونحن نعتقد أنّه يسمع ويرى، يتلو القرآن، وهو في الإحساس أعظم من أرواح الشيعة المخلوقةمن فاضل طينته علیه السلام ، وقد أعطاه الله من القدرة ما جعل جميع المخلوقات مطيعةً له خاضعةً لأمره، فبينا أنا كذلك إذ لاح لناظري حديث هشام بن محمّد المذكور في (التبر المذاب)، فجرت دموعي وثارت زفرتي، واضطربتُ وفقدت راحتي، وعقلت حينها معنى قولهم: «تخلّقوا بأخلاق الله» ((2))، والحديث هو:

قال هشام بن محمّد: لمّا وُضع الرأس بين يدَي ابن زياد (لعنه الله)، قالت له كاهنة: قم وضع قدمك على فم عدوّك!!! فقام ووضع قدمه على فيه!!!!! ثمّ قال لزيد بن أرقم: كيف ترى؟ فقال: واللهِ لقد رأيت رسول الله صلی الله علیه وآله واضعاً فاه حيث وضعت قدمك! ((3))

ص: 102


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 169، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 231، مثير الأحزان لابن نما: 72، الصواعق المحرقة لابن حجر: 300، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 170.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 58 / 129.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 170، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 231.

فتحمُّل مثل هذا الأذى لا يكون إلّا من منشأ الولاية المطلقة ومنع الأسرار الإلهيّة، ولا يتحمّلها سوى ذلك لا ملَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسَل ولا مؤمنٌ ممتحَن، حتّى أُولي العزم من الرسل، فهذا كليم الله دعا على قارون بمجرّد أن افترى عليه وقذفه بفرية الزنا، رغم أنّ الله قد فضح قارون على رؤوس الأشهاد ودافع عن موسى وبراءته، بَيد أنّ موسى غضب، فتوسّل به قارون سبعين مرّة فلم يجب، حتّى خُسفَت به وبداره الأرض، وكانت الأرض فقط مأمورة بإطاعته، بينما نرى سيّد الشهداء المظلوم لم يدعُ مع كلّ ما تحمّله من أذى وتجاسر عليه، والحال أنّ الله قد جعل كلّ الأشياء طوع إرادته ومؤتمرةً بأمره.

وكذا المخدّرة المظلومة، كلّما ازداد الأذى والتجاسر عليها كانتمنشأً لظهور كمالاتها وشقاوة أعدائها أكثر، وكانت منشأً لحرقة قلوب الشيعة وجريان دموعهم الموجبة للجنان أكثر.

أيّها الشيعي، إن لم يرقّ قلبك ولم تجرِ دموعك لسماع الخبر الذكور، فاجتنب فضول الكلام ولا تخض فيما لا يعنيك، لتستعدّ لسماع ما سأذكره لك عن (التبر المذاب)، فلو كان قلبك أشدّ قساوةً من الحجر لرقّ ولان وانكسر وجرى دمعك وانهمر، وهو حديثٌ يصدّع الفؤاد:

قال عبد الله بن عمرو الورّاق في كتاب (المقتل): إنّه لمّا حضر الرأس

ص: 103

بين يدَي ابن زياد، أمر حجّاماً فقال: قوِّرْه. فقوَّرَه، وأخرج لغاديده ((1)) ونخاعه وما حوله من اللحم ((2)).

قال أبو مخنف: إنّ عمر بن الحارث المخزوميّ قوّره، فيبست يداه، وورمت عليه، وانتفخت، وقيل: وقعت فيها الآكلة، فتقطّعت يداه.

وأمر الخبيث الشرير ابن زياد أن يُحشى الرأس مسكاً وكافوراً وصبراً وعنبراً، ففُعل به ذلك ((3)).

وفي (التبر المذاب): فقام عمرو بن حريث المخزوميّ فقال لابن زياد: أيّها الأمير، قد بلغتَ حاجتك من هذا الرأس، فهَبْ لي ما ألقيت منه. فقال: ما تصنع به؟ قال: أُواريه! فقال: خُذه. فجمعه في مطرف خزّ، وحمله إلى داره، فغسله وطيّبه، وكفّنه ودفنه عنده في داره ((4)).وفي (التبر المذاب): وكان في المجلس عند ابن زيادٍ قيسُ بن عباد ((5))، فقال له ابن زياد: ما تقول فيّ وفي حسين؟! فقال: يأتي يوم القيامة جدُّه

ص: 104


1- اللغاديد: ما بين الحنك وصفحة العنق من اللحم.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 173، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233.
3- مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 103 الرقم 150.
4- حياة الإمام الحسين؟ع؟ من التبر المذاب للخافي: 174، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233.
5- في المتن: (عبادة).

وأبوه وأُمّه فيشفعون فيه، ويأتي جدّك وأبوك وأُمّك فيشقون فيك. فغضب ابن زيادٍ وأقامه من المجلس ((1)).

ورُوي أنّ ابن زياد بعد أن ضرب ثنايا الحسين بالقضيب، حمل الرأس على يديه وجعل ينظر إليه، فارتعدَت يداه فوضع الرأس على فخذه، فقطرت قطرةٌ من الدم من نحره الشريف على ثوبه، فخرقه وخرق فخذه حتّى خرجَت من الجهة الأُخرى وغابت في الأرض، وصار في فخذه جرحاً منكراً، كلّما عالجه لم يبرء حتّى صارت نتناً عفناً تُزكم عفونته الأُنوف، فلم يزل يحمل المسك معه ليغطّي تلك العفونة ويخفّف النتن، حتّى هلك، فلمّا قتله إبراهيم بن مالك الأشتر في ظلمة الليل لم يعرفه، فقال: قتلت رجلاً كانت تفوح منه رائحة المسك. فلمّا فتّشوه وجدوه ابن زياد ((2)).

كقطر

الماء في الأصداف درٌّ

وفي بطن الأفاعي صار سُمّا

فما يفيض من عالم الإمام نورٌ للمؤمنين ونارٌ على الكافرين، وشفاءٌ للمسلمين وعذابٌ على الظالمين، فإذا أفاض دمُه المباركعلى القابل المستعدّ صار سبباً للشفاء، كما سمعتَ في قصّة بنت اليهوديّ فيما مضى،

ص: 105


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 170، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 231.
2- ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 40 -- بترجمة: السيّد علي أشرف -- عن: روضة الأحباب، روضة الشهداء للكاشفي: 365.

وإذا أصاب ابن زيادٍ أمرضه وجرحه، كما سمعتَ الآن.

وكذا هي تربته، إذا تناولها شيعته صارت لهم شفاءً من كلّ مرض، وإذا تناولها العدوّ مستهزءاً أمرضَتْه، كما حدث لموسى بن عيسى من أقرباء هارون الّذي استعمل التربة بقصد الاستهزاء، فخرجت أحشاؤه جميعاً وهلك وفي جهنّم سلك.

وكذا هو اسمه المبارك، إذا سمعه الشيعيّ ثارت زفرته وجرت دمعته، وإذا سمعه العدوّ اشمأز قلبه ونبش حقده وجرى السبّ والشتم على لسانه، وقد ذكرنا فيما سبق حديث المفضّل كم سيكون الإمام عند الظهور نعمةً للمؤمنين ونقمةً وعذاباً على المعاندين، وقد قال الله (تعالى) في كتابه الكريم: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً» ((1)).

في (الكافي)، مسنداً عن المفضّل بن عمر قال: سألتُ أبا عبد الله؟ع؟ عن قول الله (تعالى): «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَ-ذَا أَوْ بَدِّلْهُ» ((2))، قال: «قالوا: أو بدِّلْ عليّاً» ((3))، يعني أنّ المنافقين قالوا: بدّلِ القرآن وائتنا بقرآنٍ ليس فيه ما لا

ص: 106


1- سورة الإسراء: 82.
2- سورة يونس: 15.
3- الكافي للكليني: 1 / 419 ح 37.

نرضاه من ولاية أمير المؤمنين، أو بأن يجعل مكان آيةٍ متضمّنةٍله آيةً أُخرى، فقال الله (تعالى) لرسوله: «قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي»، أي: بالتبديل مِن قِبل نفسي «عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ((1)) ((2)).

وفي (الكافي) في حديثٍ طويلٍ عن جابر فيه خطبة لأمير المؤمنين يصف فيها انحراف أبي بكر عن أمير المؤمنين: «فأنا الذِّكر الّذي عنه ضلّ، والسبيلُ الّذي عنه مال، والإيمان الّذي به كفر، والقرآن الّذي إيّاه هجر، والدين الّذي به كذّب، والصراط الّذي عنه نكب» ((3)).

وفي (تفسير فرات)، عن الإمام أبي جعفر الباقر؟ع؟ في قول الله: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» ((4))، قال: «ولقد آتيناك سبعاً مِن المثاني: نحن هم ولد الولد، والقرآن العظيم: عليّ بن أبي طالب» ((5)).

ففسّر الإمام القرآن العظيم بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فظهر من ذلك أنّهم علیهم السلام شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، وعذابٌ ونقمةٌ على الظالمين.

ص: 107


1- سورة يونس: 15.
2- أُنظُر: شرح الكافي للمازندراني: 7 / 67.
3- الكافي للكليني: 8 / 28.
4- سورة الحِجر: 87.
5- تفسير فرات الكوفي: 231 ح 310.

أعتذر عن تغيير سياق الكلام بعد أن ذكرتُ ما تجاسر به ابنُ مرجانة على رأس الإمام المبين والقرآن الناطق الّذي يسمع ويرى والآلِ الكرام في المجلس العام، فهاجت روحي وثار قلبي، وكيف لا وقد فعل ابن الزانية كلّ تلك الأفاعيل مع الرأس المقدّس وتجاسر فيثنايا كلامه مع الآل.

[دخول أهل البيت إلى المجلس العام]

أمّا كيفيّة دخول أهل بيت النبيّ الكرام وآل سيّد الأنام إلى المجلس العام، الّذي دعا إليه الدعيّ ابن الأَمة الفاجرة، فقد قال فيه الشاعر:

مَن مُخبِر الزهراء أنّ بناتها***يُشهَرن بين طغاتها وبغاتها

يا فاطم الزهراء قومي واندبي***أسراكِ في أشراك

ذلّ عداتها ((1))

معاشرَ الشيعة، أُقسم على الله بحقّ فخر بني آدم أن لا يذلّ أيّ عزيز، ولا يبتلِ أيّ شريف قومٍ بأراذل قومه وسفلتهم.

ماذا جرى على الرأس المقدّس لسيّد الشهداء -- وهو سميعٌ بصيرٌ عليمٌ -- حينما دخلوا به المجلس، ويشاهد أهل بيته في المجلس وهو غاصٌّ بالخاصّ والعامّ، وقد وُضع الرأس المقدّس بين يدَي الخبيث الرجس؟ وماذا جرى على السيّد السجّاد حينما دخل المجلس ونظر إلى رأس أبيه

ص: 108


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 431.

بين يدَي الدعيّ وهو يتغذى؟ ((1))

وماذا جرى لزينب وأُمّ كلثوم وبنات الإمام وزوجاته الثكالى المفجوعات الباكيات النادبات، وهنّ المحجوبات المخدّرات، والآنيدخلن المجلس العام حاسراتٍ سبيّات؟

وماذا سيجري على الشيعة والمحبّين في هذه الأزمان حينما يسمعون مصائب أهل البيت ويتصوّرون ذلك ويعيشونه كأنّه مشاهدة حضور من خلال ما أنقله لهم من أخبار؟!

قال أبو مخنف: أُدخل الإمام زين العابدين إلى المجلس مريضاً عليلاً، والجامعة في عنقه ويديه والدماء تسيل من بدنه، (تصوّر أيّها الشيعي هذا المشهد!) فقال عليّ بن الحسين السجّاد: «سوف نقف وتقفون، ونسأل وتُسألون، فأيّ جوابٍ تردّون على جدّنا محمّدٍ وهو خصمكم يوم القيامة؟» ((2)).

وفي (الإرشاد): فدخلَت زينب أُخت الحسين في جملتهم متنكّرة، وعليها أرذل ثيابها، فمضَت حتى جلست ناحيةً من القصر، وحفّت بها إماؤها ((3)).

آه، وا ويلاه! يحتمل أن يكون الأشقياء قد سلبوا ثيابها، فهي ليس لها

ص: 109


1- أُنظُر: أمالي الصدوق: 229 ح 242، اللهوف لابن طاووس: 202، بحار الأنوار: 45 / 119، الأمالي للطوسي: 242.
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 164، نور العين للاسفراييني: 58.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 115.

إلّا ثوبٌ واحدٌ عتيق لبسَته.

وفي (المنتخب): وهي تتخفّى بين النساء وتستر وجهها بكُمّها، لأنّ قناعها أُخذ منها ((1)).

وفي (الإرشاد): فقال ابن زياد: مَن هذه الّتي انحازت ناحيةً ومعها نساؤها؟ فلم تُجِبْه زينب، فأعاد ثانيةً وثالثةً يسأل عنها، فقالله بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله ((2)).

قال أبو مخنف: فالتفت إليها وقال لها: يا زينب، بحقّ جدِّكِ كلّميني! فقالت: ما تريد يا عدوّ الله وعدوّ رسوله؟ لقد فضحتَنا ((3)) بين الأنام ((4)).

وفي (الإرشاد): فأقبل عليها ابن زيادٍ وقال لها: الحمد لله الّذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم. فقالت زينب: الحمد لله الّذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلی الله علیه وآله، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، وإنّما يُفتضَح الفاسق ويُكذَّب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله ((5)).

ص: 110


1- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 115.
3- في المقتل: (هتكتنا بين البرّ والفاجر).
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 105، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 259 المجلس 23.
5- الإرشاد للمفيد: 2 / 115.

وفي (الملهوف): فقال ابن زياد: كيف رأيتِ صُنع الله بأخيكِ وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتخاصَم، فانظر لمن يكون الفلج ((1)) يومئذ، هبلتك أُمُّك يا ابن مرجانة. فغضب ابن زياد، وكأنّه همّ ((2)) بها ليقتلها، وقيل: أمر بقتلها ((3)).

وفي (الإرشاد): فغضب ابن زيادٍ واستشاط، فقال عمرو بنحريث: أيّها الأمير، إنّها امرأة، والمرأة لا تؤاخَذ بشيءٍ من منطقها ولا تُذمّ على خطابها. فقال لها ابن زياد: لقد شفى الله نفسي من طاغيتكِ والعصاة من أهل بيتك. فزقت ((4)) زينب علیها السلام وبكت، وقالت له: لَعمري لقد قتلتَ كهلي، وأبَدْت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت. فقال ابن زياد: هذه سجاعة، ولَعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت: ما للمرأة والسجاعة؟ إنّ لي عن السجاعة لَشغلاً، ولكنّ صدري نفث بما قلت ((5)).

ص: 111


1- في المتن: (الفتح).
2- اللهوف لابن طاووس: 160.
3- أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 366.
4- أي: صاحت.
5- الإرشاد للمفيد: 2 / 115.

وفي (المنتخب): فغار عليّ بن الحسين على عمّته، فقال لابن زياد: إلى كم تهتك عمّتي بين مَن يعرفها ومَن لا يعرفها؟ قطع الله يديك ورجليك ((1)).

وفي (الإرشاد): وعرض عليه عليّ بن الحسين علیه السلام، فقال له: مَن أنت؟ فقال: «أنا عليّ بن الحسين». فقال: أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فقال له عليّ علیه السلام: «قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً، قتله الناس». فقال له ابن زياد: بل الله قتله! فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: ««اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا» ((2))». فغضب ابن زياد، وقال: وبك جرأةٌ لجوابي، وفيك بقيّةٌ للردّ علَيّ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه. فتعلّقَت به زينب عمّته وقالت: يا ابن زياد، حسبك من دمائنا. واعتنقَته وقالت: واللهِ لا أُفارقه، فإنقتلته فاقتلني معه ((3)).

قال أبو مخنف: قال لبعض حجّابه: خُذْ هذا الغلام واضرب عنقه. فجذبه الحاجب، وتعلّقَت به زينب فغلبها الحاجب، وصاحت: وا ثكلاه، وا أخاه! تفجعنا يا ابن زياد مرّةً أُخرى؟ ((4))

ص: 112


1- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10.
2- سورة الزمر: 42.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 116.
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 105، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 259 المجلس 23.

وفي (الإرشاد): فنظر ابن زيادٍ إليها وإليه ساعة، ثمّ قال: عجباً للرحم، والله إنّي لَأظنّها ودّت أنّي قتلتُها معه، دعوه، فإنّي أراه لما به ((1)).

وفي (الملهوف): فقال عليٌّ علیه السلام لعمّته: «اسكتي يا عمّة حتّى أُكلّمه»، ثمّ أقبل علیه السلام فقال: «أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟ أما علمتَ أنّ القتل لنا عادةٌ وكرامتنا الشهادة» ((2)).

وفي (بحار الأنوار): فقال له عليّ: «إن كان بينك وبين هؤلاء النساء رحم فأرسِلْ معهنّ مَن يؤدّيهن»، فقال: تؤدّيهن أنت. وكأنّه استحيا، وصرف الله عزوجل عن عليّ بن الحسين القتل ((3)).

قال أبو مخنف: ثمّ أقبل على النساء وقال: أيّكنّ أُمّ كلثوم؟ فلم تكلّمه، فنادى ثانيةً فلم تكلّمه، فقال: بحقّ جدّكِ رسول الله إلّا ما كلمتِني ((4)). فقالت: أنا يا عدوّ الله، وأيّ شيءٍ تريد؟ فقال الكذّاب المفتري -- قطع الله لسانه -- : لقد کذبتم وکذب جدُّکم، وفضحکم اللهومکّنني منکم ((5)).

ص: 113


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 117.
2- اللهوف لابن طاووس: 162.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 167.
4- في المتن: (أسألكِ بالله وبحقّ جدِّكِ رسول الله كلّميني).
5- يعني أنّ قلتلكم دليل كذبك إمامتكم -- هكذا --، قال اللعين وهو لا يعلم أنّ الشهادة للإمام سعادة (من المتن).

فقالت: يا عدوّ الله يا ابن الدعيّ، إنّما يُفتضَح الفاسق الكذّاب المنافق، وأنت واللهِ أَولى بالكذب والفجور والنفاق، فأبشِرْ بالنار، فضحك ابن الأَمة الفاجرة. فقال: إن صرتُ إلى النار فقد شفيتُ قلبي منكم. قالت له: يا ابن الدعيّ، لقد رويت الأرض من دم أهل البيت. فقال الملعون: أبيتِ إلّا الشجاعة، لقد أشبهتِ أباكِ، ولولا أنت امرأة لَضربتُ عنقك! ((1))

أجل، لم يقصّر ابن الأَمة الفاجرة في أيّ شيءٍ أمكنه أن يفعله في تجاسره وتعدّيه على أهل البيت الأطهار، وما لم يفعله لم يكن في وسعه وطاقته، أو كان خوفاً من الناس، أو خوفاً من تعجيل العقوبة من ربّ الناس.

قال في (المنتخب): قال مَن حضر مجلس ابن زياد: رأيتُ ناراً قد خرجَت من القصر كادت تحرقه، فقام ابن زيادٍ عن سريره هارباً، ودخل بعض بيوته ((2)).

ص: 114


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 104، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 258 المجلس 23 بأدنى تفاوت.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10، وتتمّة الكلام فيه: (كلّ ذلك ولم يرتدع اللعين عن غيّه وشقاوته. ثمّ التفت إلى السبي، فرأى زينب وهي تتخفّى بين النساء وتستر وجهها بكُمّها ...). ويبدو أنّ المؤلّف استفاد من الخبر بخلاف ما استفاد منه الطريحيّ؟رحهما؟، فإنّ المؤلّف وظّف الخبر كرادعٍ عن ارتكاب أكثر ممّا ارتكب، فيما أكّد الشيخ الطريحيّ من خلال تتمّة الخبر أنّه لم يرتدع عن غيّه واستمرّ في العدوان على آل الله.

أمّا مذمّة الناس على المغضوب عليه فقد خرجَت عن حدّ الإحصاء والحصر، حتّى أنّ أُمّه -- كما في (الطبقات) لابن سعد -- قالت له: يا خبيث، قتلتَ ابن رسول الله؟ واللهِ لا ترى الجنّة أبداً ((1)).

أجل، إنّ مَن ظلم هذا الإمام العظيم لابدّ أن يكون مخلَّداً في أسفل دركات الجحيم، ولا ينجو من المؤمنين بل حتّى الأنبياء إلّا مَن توسّل به.

قال الشاعر:

بأسمائهم أحيا الرمیمَ ابنُ مریمٍ***وأُبرئ فیهم أکمهٌ غیرُ مرّةِ

وآیات موسی التسع منهم صُدورُها***فلولاهمُ لم یأتِ منه بآیةِ

وهم جلعوا داوود فیها خلیفةً***عن الله، بل عنهم بحکم النیابةِ

وحكمهمُ جارٍ علی الرسْلِ كلِّهم***كأنّ جميع الرسل من بعض أُمّةِ

فسَلْ آدماً والرسْلَ مِن بعد آدمٍ***عن السرّ في إرسالهم للخليفةِ

وما عنهمُ استغنى رسولٌ بما أتي***بل الرسْلُ فیهم أیّدَت حین عدّتي

ويؤيّد مضامين هذا الشعر ما ورد في كتاب (الكنز) للكراجكي،عن فرج بن أبي شيبة قال: سمعتُ أبا عبد الله علیه السلام يقول وقد تلا هذه الآية: ««وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْ-مَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ

ص: 115


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / خ 501، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233، تاريخ الإسلام للذهبي: 5 / 15، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 265، حياة الإمام الحسين؟ع؟ من كتاب التبر المذاب للخافي: 173.

مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ»، يعني رسول الله صلی الله علیه واله، « وَلَتَنصُرُنَّهُ» ((1))، يعني وصيّه أمير المؤمنينعلیه السلام ، ولم يبعثِ اللهُ نبيّاً ولا رسولاً إلّا وأخذ عليه الميثاق لمحمّدٍ صلی الله علیه وآله بالنبوّة ولعليٍّ بالإمامة» ((2)).

وفيه أيضاً في حديثٍ عن أمير المؤمنين علیه السلام قال: «لمّا كان عند الانبعاث للنطق شكّ أيّوب في مُلكي، فقال: هذا خطبٌ جليلٌ وأمرٌ جسيم! قال الله عزوجل: يا أيّوب، أتشكّ في صورةٍ أقمتُه أنا؟ إنّي ابتليتُ آدم بالبلاء، فوهبتُه له وصفحتُ عنه بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين، وأنت تقول: خطبٌ جليلٌ وأمرٌ جسيم؟ فوَعزّتي، لَأُذيقنّك من عذابي أو تتوب إليّ بالطاعة لأمير المؤمنين. ثمّ أدركَته السعادة بي». يعني أنّه تاب وأذعن بالطاعة لأمير المؤمنين (عليه السلام وعلى ذريّته الطيّبين) ((3)).

وفي (بصائر الدرجات)، بسندٍ صحيحٍ عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام قال: «ولاية عليٍّ مكتوبٌ في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله نبيّاً إلّا بنبوّة محمّدٍ وولاية وصيّه عليّ» ((4)).وبسندٍ موثّقٍ عن أبي بصيرٍ قال: سمعتُ أبا عبد الله الصادق علیه السلام يقول:

ص: 116


1- سورة آل عمران: 81.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 24 / 352.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 26 / 293.
4- بصائر الدرجات للصفار: 1 / 72 الباب 8 ح 1.

«ما مِن نبيٍّ نُبّئ ولا مِن رسولٍ أُرسل إلّا بولايتنا وبفضلنا عمّن سوانا» ((1)).

وفي (الاختصاص): ابن سنان، عن المفضّل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام : «... فمن أراد الله أن يطهّر قلبه من الجنّ والإنس عرّفه ولايتنا، ومَن أراد أن يطمس على قلبه أمسك عنه معرفتنا». ثمّ قال: «يا مفضّل، واللهِ ما استوجب آدم أن يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه إلّا بولاية عليّ علیه السلام، وما كلّم الله موسى تكليماً إلّا بولاية عليّ علیه السلام، ولا أقام الله عيسى ابن مريم آيةً للعالمين إلّا بالخضوع لعليّ علیه السلام». ثمّ قال: «أجمِل الأمر، ما استأهل خلقٌ من الله النظر إليه إلّا بالعبوديّة لنا» ((2)).

والخلاصة أنّهم قالوا: «نزّهونا عن الربوبيّة، وقولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا» ((3)).

وروى الشيخ الصدوق عن الصادق علیه السلام يقول: «أتىيهوديٌّ النبيّ صلی الله علیه وآله، فقام بين يديه يحدّ النظر إليه، فقال: يا يهودي، ما حاجتك؟ قال: أنت أفضل أَم

ص: 117


1- بصائر الدرجات للصفّار: 1 / 74 الباب 9 ح 2.
2- الاختصاص للمفيد: 250.
3- الرسائل الأحمديّة: 361. وفي (تفسير الإمام العسكريّ علیه السلام : 50): «قال أمير المؤمنينعلیه السلام : لا تتجاوزوا بنا العبوديّة، ثمّ قولوا ما شئتم، ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى، فإنّي بريءٌ من الغالين». وفي (بصائر الدرجات للصفّار: 236 ح 5) عن الصادق علیه السلام في حديث: «اجعلونا مخلوقين، وقولوا بنا [خ ل: فينا] ما شئتم، فلن تبلغوا!».

موسى بن عمران النبيّ الّذي كلّمه الله وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلّه بالغمام؟ فقال له النبيّ صلی الله علیه وآله: إنّه يُكره للعبد أن يزكّي نفسه، ولكنّي أقول: إنّ آدمعلیه السلام لمّا أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّدٍ وآل محمد لمّا غفرت لي، فغفرها الله له، وإنّ نوحاً لمّا ركب في السفينة وخاف الغرق قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّدٍ وآل محمّدٍ لمّا أنجيتني من الغرق، فنجّاه الله عنه، وإنّ إبراهيم علیه السلام لمّا أُلقيَ في النار قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّدٍ وآل محمّدٍ لمّا أنجيتَني منها، فجعلها اللهُ عليه برداً وسلاماً، وإنّ موسى علیه السلاملمّا ألقى عصاه وأوجس في نفسه خِيفةً قال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّدٍ وآل محمّدٍ لمّا آمنتني، فقال الله جل جلاله: لا تخف، إنّك أنت الأَعلى. يا يهوديّ، إنّ موسى لو أدركني ثمّ لم يؤمن بي وبنبوّتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته النبوّة، يا يهوديّ، ومِن ذرّيّتي المهدي، إذا خرج نزل عيسى ابن مريم لنصرته، فقدّمه وصلى خلفه» ((1)).

وقد ذكرنا فيما مضى حديث (بصائر الدرجات) مسنداً عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «إنّ الله عرض ولاية أمير المؤمنين فقبلها الملائكة، وأباها ملَكٌ يُقال له: فطرس، فكسر الله جناحه، فلمّا وُلد الحسين بن عليّ علیه السلام بعث اللهجبرئيل في سبعين ألف ملَكٍ إلى محمّدٍ صلی الله علیه وآله يهنّئهم بولادته، فمرّ بفطرس، فقال له فطرس: يا جبرئيل، إلى أين تذهب؟ قال: بعثني الله محمّداً يهنّئهم بمولودٍ وُلد في هذه الليلة. فقال له فطرس: احملني معك، وسَلْ محمّداً يدعو لي. فقال له جبرئيل: اركب

ص: 118


1- الأمالي للصدوق: 218 المجلس 93 ح 4.

جناحي. فركب جناحه، فأتى محمّداً صلی الله علیه و آله فدخل عليه وهنّأه، فقال له: يا رسول الله صلی الله علیه وآله، إنّ فطرس بيني وبينه أُخوّة، وسألني أن أسألك أن تدعو الله له أن يردّ عليه جناحه. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله لفطرس: أتفعل؟ قال: نعم. فعرض عليه رسول الله صلی الله علیه وآله ولاية أمير المؤمنين علیه السلام فقبلها، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: شأنك بالمهد فتمسَّحْ به وتمرّغ فيه. قال: فمضى فطرس، فمشى إلى مهد الحسين بن عليّ ورسول الله يدعو له». قال: «قال رسول الله: فنظرتُ إلى ريشه وإنّه لَيطلع ويجري منه الدم ويطول حتّى لحق بجناحه الآخَر، وعرج مع جبرئيل إلى السماء وصار إلى موضعه» ((1)).

يُحتمل أن يكون جريان الدم إشارةً إلى دم الإمام المظلوم وشهادته.

وفي (تفسير فرات) مسنداً عن رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنّ الله (تبارك وتعالى) عرض ولاية عليّ بن أبي طالبعلیه السلام

على أهل السماوات وأهل الأرض فقبلوها، ما خلا يونس بن متّى، فعاقبه الله وحبسه في بطن الحوت لِإنكارهولاية أمير المؤمنين [عليّ بن أبي طالب علیه السلام] حتّى قبلها» ((2)).

وخطب أمير المؤمنين فقال في خطبته: «فلولا أنّه كان من المقرّين -- أي: مقرّاً بولاية أمير المؤمنين -- لَلبث في بطنه إلى يوم يُبعَثون» ((3)).

وفي كتاب (المناقب)، عن الثماليّ قال: دخل عبد الله بن عمر على

ص: 119


1- بصائر الدرجات للصفار: 1 / 68 الباب 6 ح 7.
2- تفسير فرات الكوفي: 264 ح 359.
3- تتمّة الحديث السابق، تفسير فرات الكوفي: 265 ح 359.

زين العابدين علیه السلام وقال: يا ابن الحسين، أنت الّذي تقول: «إنّ يونس بن متّى إنّما لقيَ من الحوت ما لقي لأنّه عُرضَت عليه ولاية جدّي فتوقّف عندها»؟ قال: «بلى، ثكلتك أُمّك». قال: فأرني آية ذلك إن كنتَ من الصادقين. فأمر بشدّ عينيه بعصابةٍ وعيني بعصابة، ثمّ أمر بعد ساعةٍ بفتح أعيننا، فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه، فقال ابن عمر: يا سيّدي، دمي في رقبتك، اَلله الله في نفسي. فقال: «هيه، وأُريه إن كنت من الصادقين»، ثمّ قال: «يا أيّها الحوت!»، قال فأطلعَ الحوتُ رأسَه من البحر مثل الجبل العظيم، وهو يقول: لبّيك لبّيك يا وليّ الله. فقال: «مَن أنت؟»، قال: أنا حوت يونس يا سيّدي. قال: «أنبِئْنا بالخبر»، قال: يا سيّدي، إن الله (تعالى) لم يبعَثْ نبيّاً من آدم إلى أن صار جدّك محمّدٌ إلّا وقد عُرض عليه ولايتكم أهل البيت، فمَن قبلها من الأنبياء سلم وتخلّص، ومَن توقّف عنها وتمنّع مِن حملها لقيَ مالقيَ آدم علیه السلام من المعصية، وما لقي نوح علیه السلام من الغرق، وما لقي إبراهيم علیه السلام من النار، وما لقي يوسف علیه السلام من الجُبّ، وما لقي أيّوب علیه السلام من البلاء، وما لقي داوود علیه السلام من الخطيئة، إلى أن بعث الله يونس علیه السلام، فأوحى الله أن: يا يونس، تولَّ أمير المؤمنين عليّاً والأئ-مّة الراشدين من صلبه، في كلامٍ له، قال: فكيف أتولّى مَن لم أره ولم أعرفه؟ وذهب مغتاظاً، فأوحى الله (تعالى) إليّ أن التقمي يونس، ولا توهِني له عظماً، فمكث في بطني أربعين صباحاً، يطوف معي البحار في ظلماتٍ ثلاث، ينادي: أنّه لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين، قد قبلتُ ولاية عليّ بن أبي طالب والأئ-مّة الراشدين

ص: 120

مِن وُلده. فلمّا أن آمن بولايتكم أمرني ربّي فقذفتُه على ساحل البحر. فقال زين العابدين علیه السلام: «ارجعْ أيّها الحوت إلى وكرك»، واستوى الماء ((1)).

[إلى السجن]

أعتذر اليكم معاشر الشيعة، أين كنت، وإلى أين سرحت؟ لقد أثارني جفاء ابن زياد مع هؤلاء المقرّبين من الملِك المعبود، فآلمني تجاسر الناس الفاسقين وأميرهم على الإمام زين العابدين، فسلّيتُ نفسي وعزّيتُها بذكر بعض مقاماته علیه السلام، وكيف يهدء الروع وتسكن العبرة وتخمد الزفرة وأنا أذكر ما رواه الصدوق؟ قال: ثمّأمر بعليّ بن الحسين علیه السلام فغُلّ وحُمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنتُ معهم، فما مررنا بزقاقٍ إلّا وجدناه ملاءً رجالاً ونساءً يضربون وجوههم ويبكون، فحُبسوا في سجنٍ وطُبق عليهم ((2)).

وفي (الملهوف): ثمّ أمر ابن زيادٍ بعليّ بن الحسين؟ع؟ وأهله فحُملوا إلى دارٍ إلى جنب المسجد الأعظم، فقالت زينب بنت عليّ علیه السلام : لا يدخلنّ عربيّةٌ إلّا أُمّ ولدٍ أو مملوكة؛ فإنّهنّ سُبين كما سُبينا ((3)).

ص: 121


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 34 الفصل 2 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار للمجلسي: 14 / 401.
2- الأمالي للصدوق: 165 المجلس 31 ح 3.
3- اللهوف لابن طاووس: 163.

ثمّ إنّ اللعين بعد أن تجاسر في المجلس العامّ على الرأس المقدّس لسيّد الشهداء، وضرب بالقضيب عينه وأنفه ولسانه، وأمر الحجّام فقوّره وامتثل ما أمرته الكاهنة.

قال أبو مخنف: ثمّ دعا بخولي الأصبحي (لعنه الله) وقال له: خُذ هذا الرأس حتّى أسألك عنه. فأخذه وانطلق إلى منزله، وكان له زوجتان، إحداهما مضريّة والأُخرى تغلبيّة ((1))، فدخل به على المضريّة، فقالت له: ما هذا الرأس؟ فقال: رأس الحسين علیه السلام . فقالت له: ارجعْ به. ثمّ أخذَت عموداً وأوجعَته ضرباً، وقالت: واللهِ ما أنا لك زوجة، وما أنت لي ببعل. فانصرف عنها، ومضى إلى التغلبيّة، فقالت له: ما هذا الرأس؟ فقال لها اللعين: هذا رأس خارجيّ خرج بأرض العراق، فقتله ابن زياد (لعنه الله). فقالت له: ما اسمه؟ فأبى أن يُعلِمها، ثمّ تركه عندها وبات ليلته.قالت امرأته: سمعتُ الرأس يقرأ إلى طلوع الفجر، فكان آخر قرائته: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((2)). ثمّ سمعتُ حوله دويّاً كدويّ الرعد، فعلمتُ أنّه تسبيح الملائكة ((3)).

رُوي أنّ المختار أرسل عبد الله بن كامل إلى خولّي، فلمّا دخل عليه

ص: 122


1- في المتن: (ثعلبيّة) في المواضع كلّها.
2- سورة الشعراء: 227.
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف: 105، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 52.

البيت أشارت إليه امرأته المؤمنة بيدها أنّه في السرداب فدلّت عليه، فلمّا نظر إليه عبد الله قال له: أيّها الدعيّ الكافر، أين الرمح الّذي حملت عليه رأس الحسين وطفت به في السكك والأزقّة والأسواق؟ فدلّهم عليه اللعين، فحملوه معه، فلمّا نظر إليه الناس تذكّروا سيّد الشهداء وبكوا عليه، ثمّ أخذوه إلى المختار، فأمر أن تقطّع يديه إلى كتفيه في دفعات، ثمّ أمر فقُلعَت عيناه وقطّعت رجلاه وقطع رأسه، وأُحرق بنار العقوبة (لعنة الله عليه) ((1)).

وفي (الإرشاد): ولمّا أصبح عُبيد الله بن زياد، بعث برأس الحسين علیه السلام فدِيرَ به في سكك الكوفة كلّها وقبائلها.

فرُوي عن زيد بن أرقم أنّه قال: مُرّ به علَيّ وهو على رمحٍ وأنا في غرفة، فلمّا حاذاني سمعتُه يقرأ: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً» ((2))، فقَفَّ واللهِ شعري، وناديت: رأسُك والله يا ابن رسول الله أعجب وأعجب ((3)).ورُوي عن الشعبي أنّه صلب رأس الحسين علیه السلام بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ

ص: 123


1- أُنظُر: سرور المؤمنين: 193.
2- سورة الكهف: 9.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 117.

هُدًى» ((1))، فلم يزدهم ذلك إلّا ضلالاً.

و في أثرٍ أنّهم لمّا صلبوا رأسه على الشجر سُمع منه: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((2)) ((3)).

ورُوي عن سلَمة بن كهيل قال: رأيتُ رأس الحسين؟ع؟ على القنا وهو يقرأ: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ((4)) ((5)).

وفي (مسند السيّدة البتول)، عن الحارث بن وكيدة قال: كنتُ فيمن حمل رأس الحسين علیه السلام، فسمعتُه يقرأ سورة الكهف، فجعلتُ أشكّ في نفسي، وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله، فقال لي علیه السلام: «يا ابن وكيدة! أما علمتَ أنّا معشر الأئ-مّة أحياءٌ عند ربّنا نُرزَق؟». فقلت في نفسي: أسترق رأسه. فقال: «يا ابن وكيدة، ليس لك إلى ذلك سبيل، إنّ سفكهم دمي أعظمُ عند الله من تسييرهم رأسي، فذَرْهم فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحَبون» ((6)).

ص: 124


1- سورة الكهف: 13.
2- سورة الشعراء: 227.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 304.
4- سورة البقرة: 137.
5- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 22 / 117، الوافي بالوفيات: 15 / 201.
6- دلائل الإمامة للطبري: 188، نوادر المعجزات: 110، شرح الشافية لابن أمير الحاج: 378، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 53، تظلّم الزهراء للقزويني: 27.

وقيل: إنّ هاتفاً كان يقرأ هذه الأبيات فوق الرأس المقدّس:

رأس ابن بنت محمّدٍ ووصيّه***للناظرين على قناةٍ يُرفَعُ

والمسلمون بمنظرٍ وبمسمعٍ***لا مُنكِرٍ منهم ولا متفجّعُ

كلحت بمنظرك العيون عمايةً***واصمّ رزؤك كلَّ أُذنٍ تسمعُ

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرىً***وأنمتَ عيناً لم تكن بك تهجعُ

ما روضةٌ إلا تمنّت أنّها***لك حفرةٌ، ولخطّ ((1)) قبرك مضجعُ ((2))معاشرَ الشيعة، عجبي من أهل الكوفة، كيف سكتوا ولم يأخذوا اللعين المعاند ابن زياد ويقتلوه ويعجّلوا به إلى جهنّم وبئس المصير؟ وهم يرَون ما رواه صاحب (التبر المذاب)، قال: ثمّ إنّ ابن زيادٍ نصب الرؤوس بالكوفة على الخشب زيادةً على سبعين رأساً، وهي أوّل رؤوسٍ نُصبَت في

ص: 125


1- في المتن: (لحظّ).
2- مهيّج الأحزان لليزدي: 435 -- بترجمة: السيّد علي أشرف، وفي (اللهوف لابن طاووس: 163): (ويحقّ لي أن أتمثّل هنا بأبياتٍ لبعض ذوي العقول، يرثي بها قتيلاً من آل الرسول ...)، وكذا عبارة ابن نما في (مثير الأحزان: 58): (ولقد أحسن نائح هذه المرثيّة في فادح هذه الرزيّة)، وفي (مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 398 الفصل 9) نسبها لدعبل، وفي (المنتخب للطريحي: 2 / 483) قال: (ثمّ ساروا إلى أن قربوا من دمشق، وإذا بهاتفٍ يقول: ...)، وأضاف إليها بيتين.

الإسلام ((1)).

آهٍ من ضعفاء الشيعة الّذين تحترق قلوبهم وتجري دموعهم، ولكنّ إيمانهم لم يبلغ بهم حدّاً يسخون بأرواحهم، فإنّ ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، ومراتب العبادة والقساوة تختلف، ولك مرتبة من الطرفين، أفرادها الّذين ظهرت منهم ما يقتضيه المقام من علاماتٍ وآثار، كشفَت عن منازلهم في تلك الرتب والمقامات من أعلاها في طرف الإيمان الإمام سيّد الشهداء، وفي طرف الخذلان في أسفل الدرجات من يزيد العنيد والشمر الخبيث وعمر ابن سعد الّذي خسر الدنيا والآخرة، ففي (المنتخب): لمّا فرغ عمر بن سعد من حرب الحسين وأُدخلَت الرؤوس والأُسارى إلى عُبيد الله بن زياد (لعنه الله تعالى)، جاء عمر بن سعد (لعنه الله) ودخل على عُبيد الله بن زياد يريد منه أن يمكّنه من مُلك الريّ، فقال له ابن زياد: آتِني بكتابي الّذي كتبتُه لك في معنى قتل الحسين وملك الري. فقال له عمر بن سعد: واللهِ إنّه قد ضاع منّي، ولا أعلم أين هو. فقال له ابن زياد: لابدّ أن تجئني به في هذا اليوم، وإن لم تأتِني به فليس لك عندي جائزة أبداً؛ لأنّي كنتُ أراك مستحياً معتذراً في أيّام الحرب من عجائز قريش، ألستَ أنت القائل:

فواللهِ ما أدري وإنّي لَصادقٌ***أُفكّر في أمري على خطَرَينِ

ص: 126


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 173، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233.

أأترك ملك الريّ والريّ منيتي***أم ارجعُ مأثوماً بقتل حسينِ؟

وهذا كلام معتذرٍ مستحٍ متردّدٍ في رأيه. فقال عمر بن سعد: واللهِ -- يا أمير -- لقد نصحتُك في حرب الحسين نصيحةً صادقة، لو ندبني إليها أبي سعد لَما كنتُ أدّيتُ حقّه كما أدّيتُ حقّك في حرب الحسين. فقال له عُبيد الله بن زياد: كذبتَ يا لُكَع. فقال عثمان بن زياد -- أخو عبيد الله بن زياد --: لَوددتُ أنّه ليس من بني زياد رجلٌ إلاّ وفي أنفه خزمةٌ إلى يوم القيامة، وأنّ حُسيناً لم يُقتَل أبداً. فقال عمر بن سعد: فوَاللهِ -- يا ابن زياد -- ما رجع أحدٌ من قتلة الحسين بشرّ ممّا رجعتُ به أنا. فقال له: وكيف ذلك؟ فقال: لأنّي عصيتُ الله وأطعت عبيد الله، وخذلت الحسين ابن رسول الله ونصرت أعداء الله، وبعد ذلك إنّي قطعت رحمي ووصلت خصمي، وخالفت ربّي، فيا عظم ذنبي ويا طول كربي في الدنيا والآخرة. ثمّ نهض من مجلسه مغضباً مغموماً، وهو يقول: و«ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» ((1)) ((2)).

قال المؤلّف: هذا أثر كلام الإمام، إذ قال لابن سعد اللئيم الملعون: «إنّي لَأرجو أن لا تأكل من بُرّ العراق إلّا يسيراً»، فأجابه اللعين مستهزئاً: في الشعير كفاية عن البُرّ! ((3))

ص: 127


1- سورة الحجّ: 11.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 323.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 389.

[خطبة ابن زياد وشهادة عبد الله بن عفيف الأزدي]

ثمّ إنّ ابن زيادٍ صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال في بعض كلامه: الحمد لله الّذي أظهر الحقّ وأهلَه، ونصر أميرالمؤمنين وأشياعه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب.

فما زاد على هذا الكلام شيئاً حتّى قام إليه عبد الله بن عفيف الأزديّ، وكان من خيار الشيعة وزهّادها، وكانت عينه اليسرى ذهبَت في يوم الجمل والأُخرى في يوم صفّين، وكان يلازم المسجد الأعظم فيصلّي فيه إلى الليل، فقال: يا ابن مرجانة، إنّ الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك ومَن استعملك وأبوه، يا عدوّ الله! أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المؤمنين؟!

قال: فغضب ابن زياد، ثمّ قال: مَن هذا المتكلّم؟ فقال: أنا المتكلّم يا عدوّ الله، تقتل الذرّيّة الطاهرة الّتي قد أذهَبَ اللهُ عنهم الرجس، وتزعم أنّك على دِين الإسلام! وا غوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لا ينتقمون من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمّدٍ رسول ربّ العالمين؟

قال: فازداد غضب ابن زيادٍ حتّى انتفخَت أوداجُه، وقال: علَيّ به. فبادر إليه الجلاوزة من كلّ ناحيةٍ ليأخذوه، فقامت الأشراف من الأزد من بني عمّه فخلّصوه من أيدي الجلاوزة، وأخرجوه من باب المسجد، وانطلقوا به إلى منزله، فقال ابن زياد: اذهبوا إلى هذا الأعمى.. فأْتوني به ((1)).

ص: 128


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 119، اللهوف لابن طاووس: 164.

فانطلقوا إليه، فلمّا بلغ ذلك الأزد اجتمعوا، وقيل: اجتمع سبعمئة منهم ((1))، واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم، قال: بلغ ذلكابن زياد، فجمع قبائل مضر وضمّهم إلى محمّد بن الأشعث وأمرهم بقتال القوم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى قُتل بينهم جماعةٌ من العرب، ووصل أصحاب ابن زياد -- لكثرتهم -- إلى دار عبد الله بن عفيف، فكسروا الباب واقتحموا عليه، فصاحت ابنتُه: أتاك القوم من حيث تحذر! فقال: لا عليكِ، ناوليني سيفي. فناولَته إيّاه ((2)).

وفي رواية: فقال لها: يا بُنيّة، ناوليني سيفي، وقولي: خلفك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك ((3)). فجعل يذبّ عن نفسه ويقول:

أنا ابن ذي الفضل عفيف الطاهر***عفيف شيخي وابن أُمّ عامر

كم دارعٍ من جمعكم وحاسر***وبطلٍ جدّلتُه مغادر

قال: وجعلَت ابنتُه تقول: يا أبتِ ليتني كنتُ رجلاً، أُخاصم بين يديك

ص: 129


1- الإرشاد للمفيد: 244، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 121، حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 172، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 233، أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 210، تاريخ الطبري: 5 / 459.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 119، اللهوف لابن طاووس: 164.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 106.

اليوم هؤلاء الفجَرة قاتلي العترة البررة.

قال: وجعل القوم يدورون عليه من كلّ جهة وهو يذبّ عن نفسه، فلم يقدر عليه أحد، وكلّما جاؤوا من جهةٍ قالت: يا أبه، قد جاؤوك من جهة كذا ((1))، حتّى قتل -- في رواية أبي مخنف -- ثمانيةً وعشرين ((2)) رجلاً، وهو يقول:

والله لو يكشف لي عن بصري***ضاق عليكم موردي ومصدري ((3))

وفي (الملهوف): حتّى تكاثروا عليه وأحاطوا به، فقالت بنته: وا ذُلّاه! يُحاط بأبي وليس له ناصرٌ يستعين به. فجعل يدير سيفه ويقول شعراً:

أُقسمُ لو يُفسَحُ لي عن بصري***ضاق عليكم موردي ومصدري

قال الراوي: فما زالوا به حتّى أخذوه، ثمّ حُمل فأُدخل على ابن زياد، فلمّا رآه قال: الحمد لله الّذي أخزاك. فقال له عبد الله بن عفيف: يا عدوّ الله، وبما ذا أخزاني الله؟

واللهِ لو فُرّج لي عن بصري***ضاق عليك موردي ومصدري

ص: 130


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 120، اللهوف لابن طاووس: 166.
2- في (مقتل الحسين علیه السلام المشهور لأبي مخنف: 106): (فقتل خمسين فارساً)، وفي (أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 270 المجلس 24 -- عن: أبي مخنف): (فقتل ثلاثةً وعشرين رجلاً وخمسين فارساً).
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 120، اللهوف لابن طاووس: 168.

فقال ابن زياد: يا عدوّ الله، ما تقول في عثمان بن عفّان؟ فقال: يا عبد بني علاج ((1))، يا ابن مرجانة -- وشتَمَه --، ما أنت وعثمان بن عفّان؟ أساء أو أحسن وأصلح أم أفسد، والله (تبارك وتعالى) وليّ خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحقّ، ولكن سَلْني عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه. فقال ابن زياد: والله لا سألتُك عن شيءٍ أوتذوق الموت غُصّةً بعد غُصّة. فقال عبد الله بن عفيف: الحمد لله ربّ العالمين، أما إنّي قد كنتُ أسأل الله ربّي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أُمّك، وسألت الله أن يجعل ذلك على يدَي ألعن خلقه وأبغضهم إليه، فلمّا كفّ بصري يئست عن الشهادة، والآن فالحمد لله الّذي رزقنيها ((2)).

قال أبو مخنف: وأنشأ يقول:

صحوتُ وودّعت الصبا والغوانيا***وقلتُ لأصحابي: أجيبوا المناديا

وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى***وقتل العدى: لبّيك لبّيك داعيا

ص: 131


1- قال المؤلّف: عبيد الله بن زياد (لعنه الله)، فإنّ أباه زياد ابن سميّة، كانت أُمّه سميّة مشهورة بالزنا، ووُلد على فراش أبي عُبيد عبد بني علاج من ثقيف، فادّعى معاوية أنّ أبا سفيان زنا بأُمّ زيادٍ فأولدها زياداً وأنّه أخوه، فصار اسمه: الدعيّ، وكانت عائشة تسمّيه: زياد ابن أبيه؛ لأنه ليس له أبٌ معروف (من المتن). بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 309.
2- اللهوف لابن طاووس: 168، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 120.

وقوموا له إذ شدّ للحرب أُزره***فكلّ امرئٍ يُجزى بما كان ساعيا

وقودوا إلى الأعداء كلّ مضمرٍ***لحوقٍ وقودوا السابحات النواجيا

وسيروا إلى الأعداء بالبيض والقنا***وهزّوا حراباً نحوهم والعواليا

وحنّوا لخير الخلق جدّاً ووالداً***حسينٍ لأهل الأرض لا زال هاديا

ألا ابكوا حسيناً معدن الجود والتُّقى***وكان لتضعيف المثوبة راجيا

ألا ابكوا حسيناً كلّما ذرّ شارقٌ***وعند غسوق الليل فابكوا إمامياألا

ابكوا حسيناً كلّما ذرّ شارقٌ***وعند غسوق الليل فابكوا إماميا

ويبكى حسيناً كل حافٍ وناعلٍ***ومن راكب في الأرض أو كان ماشيا

لحى الله قوماً كاتبوه لعذرهم***وما فيهمُ مَن كان للدين حاميا

ولا مَن وفى بالعهد إذ حميَ الوغى***ولا زاجراً عنه المضلّين ناهيا

ولا قائلاً: لا تقتلوه فتخسروا***ومن يقتل الزاكين يلقى المخازيا

ولم يكُ إلّا ناكثاً أو معانداً***وذا فجرةٍ يأتي إليه وعاديا

وأضحى حسينٌ للرماح دريّةً***فغودر مسلوباً على الطفّ ثاويا

قتيلاً،كأن لم يعرف الناسُ أصلَه***جزى الله قوماً قاتلوه المخازيا

فيا ليتني إذ ذاك كنتُ لحقتُه***وضاربتُ عنه الفاسقين مفاديا

ودافعت عنه ما استطعت مجاهداً***وأغمدت سيفي فيهمُ وسنانيا

ولكنّ عذري واضحٌ غير مختفٍ***وكان قعودي ظلّةً من ضلاليا

ويا ليتني غودرت فيمن أجابه***وكنت له في موضع القتل فاديا

ص: 132

ويا ليتني جاهدت عنه بأُسرتي***وأهلي وخِلّاني جميعاً وماليا

تزلزلَت الآفاق مِن عظم فقده***وأضحى له الحصن المحصّن خاوياتزلزلَت

الآفاق مِن عظم فقده

وأضحى له الحصن

المحصّن خاويا

وقد زالت الأطواد من عظم قتله***وأضحى له سامي الشناخيب هاويا

وقد كسفت شمس الضحى لمصابه***وأضحت له الآفاق جهراً بواكيا

فيا أُمّةً ضلّت عن الحقّ والهدى***أنيبوا، فإنّ الله في الحكم عاليا

وتوبوا إلى التوّاب من سوء فعلكم***وإن لم تتوبوا تدركون المخازيا

وكونوا ضراباً بالسيوف وبالقنا***تفوزوا كما فاز الّذي كان ساعيا

وإخواننا كانوا إذا الليل جنّهم***تلوا طوله القرآن ثمّ المثانيا

أصابهمُ أهلُ الشقاوة والغوى***فحتّى متى لا يبعث الجيش عاديا؟

عليهم سلام الله ما هبّت الصبا***وما لاح نجمٌ أو تحدّر هاديا

قال: ثمّ قطع عليه ابن زيادٍ شِعره، وأمر بضرب عنقه، فضُرب عنقه وصُلب ((1)).

[جندب بن عبد الله الأزدي]

قال ابن نما: ثمّ دعا بجندب بن عبد الله الأزدي، وكان شيخاً،فقال: يا

ص: 133


1- أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 271 المجلس 24، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 106 وما بعدها.

عدوّ الله، ألستَ صاحب أبي تراب؟ قال: بلى، لا أعتذر منه. قال: ما أراني إلّا متقرّباً إلى الله بدمك. قال: إذن لا يقرّبك الله منه، بل يباعدك. قال: شيخٌ قد ذهب عقله. وخلّى سبيله ((1)).

ص: 134


1- مثير الأحزان لابن نما: 94، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 121.

المجلس الثاني عشر : في كتاب ابن زياد ليزيد ووالي المدينة ووقائع طريق الشام

اشارة

کأنّي بالبتول الطهر واقفةً***في الحشر تشکو إلى الرحمان باریها

تأتي وقد ضمخت ثوب الحسین دماً***فیض النحورالحواري، ویل مجریها

تدعو:ألا أين مسمومي؟ ویا أسفي***علی ذبیحی، وأسري من ذراريها

تقول:وا حزَني، بل آه وا حسَني***هذا حسین قتيلٌ في فیافیها

هذا حسیني رضيض الجسم منجدلاً***تسفي علی جسمه العاري سوافیها

آهٍ علی جثثٍ بالطفّ قد قطعت***رؤوسها، وهجير الصیف یصليها

آهٍ علی جثثٍ فيها القنا لعبَت***وأرکضَت ماضياتٌ في تراقیها

یا فیتةٌ ذُبحَت في کربلا وثوَت***علی الوجوه عرايا في صحاريها

ص: 135

بنتم،

فبانَ لکم سلوان فاطمةٍ***ولاعِجُ الوجد بالوجدان یُشجيها ((1))

روى السيّد ابن طاووس قال: وكتب عُبيد الله بن زيادٍ إلى يزيد بن معاوية يُخبره بقتل الحسين علیه السلام وخبر أهل بيته، وكتب أيضاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة بمثل ذلك ((2)).

وفي (الإرشاد): تقدّم إلى عبد الملك بن أبي الحديث السلَميّ فقال: انطلِقْ حتّى تأتي عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة، فبشّره بقتل الحسين. فقال عبد الملك: فركبتُ راحلتي وسِرتُ نحو المدينة، فلقيني رجلٌ من قريش فقال: ما الخبر؟ فقلت: الخبر عند الأمير تسمعه. فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قُتل واللهِ الحسين. ولمّا دخلتُ على عمرو بن سعيد قال: ما وراؤك؟ فقلت: ما سَرَّ الأمير، قُتل الحسين بن عليّ. فقال: اخرج فنادِ بقتله. فناديت، فلم أسمع واللهِ واعيةً قطّ مثل واعية بني هاشم في دورهم على الحسين بن عليّ علیه السلام حين سمعوا النداء بقتله، فدخلت على عمرو بن سعيد، فلمّا رآني تبسّم إليّ ضاحكاً، ثمّ أنشأ متمثّلاً بقول عمرو بن معديكرب:

عجّت نساء بني زيادٍ عجّةً***كعجيج نسوتنا غداة الأرنبِ

ثمّ قال عمرو: هذه واعيةٌ بواعية عثمان! ثمّ صعد المنبر فأعلم الناس

ص: 136


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 459 المجلس 13.
2- اللهوف لابن طاووس: 169.

قتلَ الحسين بن عليّ علیه السلام، ودعا ليزيد بن معاوية، ونزل ((1)).

وفي (المناقب): قال في خطبته: إنّها لدمةٌ بلدمة، وصدمةٌ بصدمة، كم خطبةٍ بعد خطبة، وموعظةٍ بعد موعظة، حكمةٌ بالغةٌ فما تُغنِ النذر، واللهِ لَوددتُ أنّ رأسه في بدنه وروحه في جسده، أحياناً كان يسبّنا ونمدحه ويقطعنا ونصله، كعادتنا وعادته، ولم يكن من أمره ما كان، ولكن كيف نصنع بمَن سلّ سيفه يريد قتلنا إلّا أن ندفعه عن أنفسنا؟

فقام عبد الله بن السائب فقال: لو كانت فاطمة حيّةً فرأت رأس الحسين لَبكت عليه. فجبهه عمرو بن سعيد وقال: نحن أحقّ بفاطمة منك، أبوها عمّنا، وزوجها أخونا، وابنها ابننا، لو كانت فاطمة حيّةً لَبكت عينها وحرّت كبدها وما لامت مَن قتله ودفعه عن نفسه ((2)).

قال المؤلّف: أيّها النحس الشقي، كلامك هذا يعني تسويغ قتل جميع الأنبياء والأوصياء الّذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

وفي (الإرشاد): ودخل بعض موالي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب علیه السلام فنعى إليه ابنَيه، فاسترجع، فقال أبو السلاسل مولى عبد الله: هذا ما لقينا من الحسين بن عليّ. فخذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثمّ قال: يا ابن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟ واللهِ لو شهدتُه لَأحببتُ أن لا أُفارقه

ص: 137


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 123.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 122.

حتّى أُقتَل معه، واللهِ إنّه لَممّا يسخي بنفسي عنهما ويعزّيني عنالمصاب بهما أنّهما أُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيَين له صابرَين معه. ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عزَّ علَيّ مصرعُ الحسين، إن لا أكن آسيتُ حسيناً بيدي فقد آساه ولدَيّ.

وخرجَت أُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب حين سمعت نعي الحسين علیه السلام حاسرة، ومعها أخواتها: أُمّ هانئ وأسماء ورملة وزينب بنات عقيل بن أبي طالب (رحمة الله عليهنّ)، تبكي قتلاها بالطفّ وهي تقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم:***ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأُممِ

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ؟

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

فلمّا كان الليل من ذلك اليوم الّذي خطب فيه عمرو بن سعيد بقتل الحسين بن عليّ؟ع؟ بالمدينة، سمع أهل المدينة في جوف الليل منادياً ينادي، يسمعون صوته ولا يرون شخصه:

أيّها القاتلون جهلاً حسيناً***أبشِروا بالعذاب والتنكيلِ

كلّ أهل السماءِ يدعو عليكم***من نبيٍّ وملأكٍ وقبيلِ

قد لُعنتم على لسان ابن داوود***وموسى وصاحب الإنجيلِ ((1))

ص: 138


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 123.

وذكر ابن سعد، عن أُمّ سلَمة لمّا بلغها قتل الحسين علیه السلام، قالت: أوَ قد فعلوها؟! ملأ الله قلوبهم وبيوتهم وقبورهم ناراً. ثمّ بكت حتّى غُشي عليها ((1)).

وفي (الملهوف): وأمّا يزيد بن معاوية، فإنّه لمّا وصله كتاب عبيد الله ابن زياد ووقف عليه، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين علیه السلام ورؤوس مَن قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله ((2)).

وفي (الإرشاد): ولمّا فرغ القوم من التطواف به بالكوفة ردّوه إلى باب القصر، فدفعه ابن زيادٍ إلى زحر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرّحه إلى يزيد بن معاوية، عليهم لعائن الله ولعنة اللاعنين في السماوات والأرضين، وأنفذ معه أبا بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان في جماعةٍ من أهل الكوفة ((3)).

وفي (التبر المذاب): أنّ ابن زياد (عليه اللعنة والعذاب) رفع زيادةً على

ص: 139


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 189، الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / 496، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 240، نفَس المهموم للقمّي: 419، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 48، جواهر العِقدين للسمهودي: 2 / 334، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 238.
2- اللهوف لابن طاووس: 171.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 118.

سبعين رأساً على الرماح ((1)).

وفي (الفصول المهمّة): وكان معهم عليّ بن الحسين علیهالسلام، وقد جعل ابن زياد الغلّ في يديه وفي عنقه ((2)).

وفي (التبر المذاب): عن عبد الملك بن هشام النحويّ البصريّ قال: لمّا أنفذ ابن زياد (لعنه الله) رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية (لعنه الله) مع الأُسارى موثّقين في الحبال مع نساءٍ وصبيانٍ وصبيّاتٍ من بنات رسول الله صلی الله علیه وآله على أقتاب الجمال مكشّفات الوجوه والرؤوس!!! ((3))

وعن (أخبار الدول): أنّهم حملوا آل الرسول إلى الشام سبايا، تقشعرّ من مشاهدتهم القلوب وترتعد الفرائص.

وفي (الإرشاد): ثمّ إن عبيد الله بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين علیه السلام أمر بنسائه وصبيانه فجُهّزوا، وأمر بعليّ بن الحسين فغُلّ بغلٍّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع مجفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن ((4)).

وفي (المنتخب): وخولي وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجّاج، وضمّ

ص: 140


1- أُنظُر: حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 173.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 831 -- بتحقيق: سامي الغريري.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 237.
4- الإرشاد للمفيد: 2 / 119.

إليهم ألف فارس، وزوّدهم وأمرهم بأخذ السبايا والرؤوس إلى دمشق عند يزيد، وأمر أن يشهروهم في كلّ بلدةٍ يدخلونها ((1)).

قال أبو مخنف: وكان الإمام زين العابدين مقيَّداً بقيودٍ عديدة، على بعيرٍ من غير وطاء، وهو في أوّل السبايا، وفخذاه ينضحان دماً((2)).

وروى أبو مخنف، عن سهل بن المسيَّب: فلمّا رأيتُ ذلك جمعت رأيي إلى السير معهم، فجهّزت، وحملت معي ألف دينارٍ وألف درهم، وسِرتُ مع القوم، فلمّا نزلوا القادسيّة أنشأت أُمُّ كلثوم تقول بقلبٍ حزين:

ماتت رجالي وأفنى الدهرُ ساداتي***وزادني حسراتٍ بعد لوعاتي

صال اللّئام علينا بعد ما علموا***أنّا بنات نبيٍّ للهداياتِ ((3))

ويحملونا على الأقتاب عاريةً***کأنّنا بينهم بعض الغنيماتِ

يعزّ عليك رسولَ الله ما صنعوا***بأهل بيتك يا خير البريّاتِ

کفاکمُ برسول الله، ويلکمُ!***هداکمُ من سلوكٍ

في الضلالاتِ ((4))

وفي رواية عبد الملك بن هشام: وكانوا كلّما نزلوا منزلاً أخرجوا الرأس

ص: 141


1- المنتخب للطريحي: 2 / 466 المجلس 10.
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 100.
3- في (المقتل) المشهور: (بالهدايات)، وفي (الأسرار) و(الدمعة): (بالهدى يأتي).
4- مقتل الحسينعلیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 110، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 292 المجلس 27، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 93.

من صندوقٍ أعدّوه له، فوضعوه على رمح، وحرسوه إلى حينالرحيل، ثمّ يعيدوه إلى الصندوق ويرحلوا ((1)).

وفي (المنتخب): فساروا وأخذوا على أوّل منزلٍ نزلوا، وكان المنزل خراباً، فوضعوا الرأس بين أيديهم والسبايا قريباً منه ((2)).

وفي (البحار): فجعلوا يشربون، ويتبجّحون بالرأس فيما بينهم ((3)).

وفي (المنتخب): وإذا بكفٍّ خارجٍ من الحائط وقلمٍ يكتب بدمٍ هكذا:

أترجوا أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ؟

فلاواللهِ ليس لهم شفيعٌ***وهم يوم القيامة في العذابِ

ففزعوا من ذلك وارتاعوا ((4)).

وفي (البحار): فهربوا وتركوا الرأس، ثمّ رجعوا ((5)).

وفي (المنتخب): ففزعوا من ذلك وارتاعوا، ورحلوا من ذلك المنزل، وإذا بهاتفٍ يسمعونه ولا يرونه وهو يقول:

ص: 142


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 237.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 466.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 125.
4- المنتخب للطريحي: 2 / 467.
5- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 305.

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لکم:***ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُممِ

بعترتي وبأهلي عند مفتقدي***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ؟

ماکان هذا جزائي إذ نصحتُ لکم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي ((1))

قال أبو مخنف: وساروا بالسبايا والرؤوس إلى شرقي الجصّاصة، وعبروا تكريت، وكتبوا إلى عامله أن: تلقّانا؛ فإنّ معنا رأس خارجي. فلمّا قرأ الكتاب أمر بأعلامٍ فنُشرت والبوقات فضُربت والمدينة فزُيّنت، وجاء الناس من كلّ جانبٍ ومكان، ثمّ خرج الوالي فتلقّاهم، وكان كلّ مَن سألهم قالوا: هذا رأس خارجيّ خرج على يزيد فقتله ابن زياد.

فقال لهم رجلٌ نصراني: يا قوم، إنّي كنتُ بالكوفة وقد قدم هذا الرأس، وليس هو رأس خارجي، بل هو رأس الحسين! فلمّا سمعوا ذلك ضربوا النواقيس إعظاماً له، وقالوا: إنّا برئنا من قومٍ قتلوا ابن بنت نبيّهم. فبلغهم ذلك فلم يدخلوها.

ثمّ دخلوا من تكريت، وأخذوا على طريق البرّ، ثمّ على الأعمى، ثمّ على دِير عروة، ثمّ على صليتا، ثمّ على وادي النخلة فنزلوا فيها وباتوا، فسمعوا نساء الجنّ يندبن الحسين وينحن ويبكين ويلطمن، وينشدن:

نساء الجنّ أسعِدنَ***نساء الهاشميّاتِ

بنات المصطى أحمد***يبكين شجيّاتِ

ص: 143


1- المنتخب للطريحي: 2 / 467.

يولون ويندبن***بدور الفاطميّاتِ

ويلبسن ثياب السود***لبساً للمصيباتِ

ويلطمن خدوداً كال-***-دنانير نقيّاتِويبكين ويندبن ((1))

مصاب الأحمديّاتِ ((2))

وفي (المنتخب): لمّا أتوا على وادي النخلة سمعوا بكاء الجنّ وهنّ يلطمن الخدود على وجوههنّ ويقلن:

مسح النبيّ جبينه***فله بريقٌ في الخدود

أبواه من عليا قريشٍ***جدّه خير الجدود

وأُخرى تقول:

إلا يا عين جودي فوق خدّي***فمن يبكي على الشهداء بعدي؟

على رهطٍ تقودهمُ المنايا***إلى متكبّرٍ في الملك عبدِ ((3))

قال أبو مخنف: ثمّ دخلوا من وادي النخلة وأخذوا إلى لبنا ((4))، وفي مقابلها بلد يُقال له: المرصاد ((5))، وكانت بلداً عامراً بالناس، فلمّا وصلَت

ص: 144


1- في المتن: (ويندبن حسيناً، عظمت تلك الرزيّات).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 181.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 467 المجلس 10.
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 181: (لينا).
5- في (المنتخب للطريحي: 2 / 467) بعد منزل وادي النخلة وقبل منزل بعلبك: (فلمّا وصلوا إلى بلدةٍ يُقال لها: مرشاد، خرج المشايخ والمخدّرات والشبّان يتفرّجون على السبي والرؤوس، وهم مع ذلك يصلّون على محمّدٍ وآله ويلعنون أعداءهم، وهم من العجائب).

الرؤوس والسبايا خرجَت الكهول والشبّان والمخدّرات ينظرون إلى رأس الحسين علیه السلام، ويصلّون على جدّه وأبيه ويلعنون مَن قتله، وهم يقولون: يا قتَلَة أولاد الأنبياء، اخرجوا من بلدنا!فأخذوا عن وادي لبنا على (الكحيل) ((1)) وأتوا جُهَينة، وأنفذوا إلى عاملها ((2)) أن: تلقّانا؛ فإنّ معنا رأس الحسين علیه السلام . واسم عاملها خالد بن نشيط ((3))، فلمّا قرأ الكتاب أمر بالأعلام فنُشرت والمدينة فزُيّنت، وتداعت الناس من كلّ جانبٍ ومكان، وخرج الوالي إلى زهاء ثلاثة أميالٍ فتلقّاهم، فقال بعض القوم: ما الخبر؟ فقالوا: رأس خارجيّ خرج بأرض العراق، قتله عُبيد الله بن زياد وبعث برأسه إلى يزيد. فقال رجلٌ منهم: يا قوم، هذا رأس الحسين علیه السلام . فلمّا تحقّقوا ذلك اجتمعوا أربعين ألف ((4)) فارسٍ من الأوس والخزرج، وتحالفوا أن يقتلوا خالد بن نشيط وخولي بن يزيد ويأخذوا منه رأس الحسين علیه السلام ويدفنوه عندهم، ليكون فخراً لهم إلى يوم

ص: 145


1- في المقتل المشهور: (مجيلة).
2- في المقتل المشهور: (عامل الموصل).
3- في المقتل المشهور: 187: ذكر خالد بن نشيط أميراً لحمص.
4- في المتن: (ألف فارس).

القيامة، فجاؤوا القوم وقالوا: يا قوم، أكفرٌ بعد إيمان، وضلال بعد هدى، وشكّ بعد يقين؟ ((1))

قال أبو مخنف: سمعتُ ممّن قال: قد اجتمع ذلك اليوم أكثر من ثلاثين ألفاً، فلمّا سمعوا ذلك لم يدخلوها، وأخذوا على تلّ أعفر، ثمّ على جبل سنجار، فوصلوا إلى نصيبين، فنزلوا وشهروا الرأس والسبايا، فلمّا رأت زينب ذلك بكت بكاءً شديداً، وأنشأت تقول:

أتشهرونا في البريّة عنوةً***ووالدنا أوحى إليه جليلُ؟

كفرتم بربّ العرش ((2)) ثمّ نبيّه ***كأن لم يجئكم ((3)) في الزمان رسولُ

لَحاكم ((4)) إلهُ العرش يا شرَّ أُمّةٍ***لكم في لظى يوم المعاد عويلُ ((5))

نُقل أنّهم جاؤوا بعبد الله بن عقبة إلى المختار، فقال له: يا ملعون، صنعت كلّ ما أردت، وما لم تفعله لم تقدر عليه، لمَ رفعتَ رأس الحسين علیه السلام على القناة في طريق الشام، وضربت السيّدة المخدّرة زينب بالسياط؟

ص: 146


1- ما ذكره المؤلّف هنا من وقائع ذُكرت في (مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف)، ومَن روى عنه في حمص وشبيه لها في الموصل.
2- في المتن: (بدين الله).
3- في المتن: (يبعثكم).
4- في المتن: (الحاكم).
5- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 183.

فأنكر عبد الله وقال: إنّك لَكاذب، ما فعلتُ ذلك أبداً! فقال المختار: يا ملعون، أأنا كاذب؟! سأضطرّك للإقرار والاعتراف. ثمّ أمر فأُحميَت له كلّابتين، فشدّوا بها صدره فقلعوا ثديَيه، فأقرّ، وأُغمي عليه، فلمّا أفاق قطّعوه إرباً إرباً حتّى هلك وفي جهنّم سلك.

قال أبو مخنف: وجعلوا يسيرون إلى عين الوردة، وعبروا الفرات، وأتوا إلى قريب دعوات ((1))، وكتبوا إلى عاملها أن: تلقّانا؛ فإنّ معنا رأس الحسين علیه السلام . فلمّا قرأ الكتاب أمر بضرب البوقات، وخرج يتلقّاهم، فشهروا الرأس ودخلوا من باب الأربعين ((2)).

ثمّ ساروا إلى حلب، فلمّا سمع أهلها خرجوا يتفرّجون علىالرؤوس والسبايا، وزيّنوا البلد وضربوا الطبول، وشهروا بحرم آل محمّدٍ في المدينة.

ثمّ نصبوا رأس الحسين علیه السلام في الرحبة من زوال الشمس إلى العصر ((3))، فأهل الدين والعقلاء كانوا يبكون ويصلّون عليه وعلى جدّه وأبيه، والجلهة والملعونون كانوا ينادون تحت الرأس: هذا رأس خارجي، خرج على يزيد بن معاوية في العراق ((4)).

ص: 147


1- في المتن: (دوغان) في المواضع كلّها، ويحتمل أن يكون تصحيفاً.
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 183.
3- في (المقتل المشهور: 183) ذكر هذه الوقائع في منزل دعوات السابق.
4- في (المقتل المشهور): (وأهلها طائفةٌ يبكون وطائفةٌ يضحكون).

قال أبو مخنف: وتلك الرحبة الّتي نصب فيها رأس الحسين علیه السلام لا يجتاز فيها أحدٌ إلا وتُقضى حاجته إلى يوم القيامة ((1)).

قال: وباتوا تلك الليلة في حلب ((2)) ثملين من الخمور إلى الصباح، فلمّا ارتحلوا من الغدات بكى عليّ بن الحسين السجّاد علیه السلام، وأنشأ يقول:

«ليت شعري، هل عاقلٌ في الدياجي***بات من فجعة الزمان يناجي

أنا نجل الإمام ((3))،ما بال حقّي***ضائع بين عصبةٍ أعلاجِ؟ ((4))

نكروا حقّنا وفاؤوا علينا***يقتلونا بخدعةٍ واحتجاجِ»

ثمّ ساروا إلى مَديَن، وهي مدينةٌ عامرةٌ بالناس كثيرة البركات، فغلقوا الأبواب في وجوههم، وركبوا السور، وجعلوا يلعنونهم ويرمونهم بالأحجار، وقالوا: يا قتَلَة الحسين، لا دخلتم مدينتنا ((5)).

ص: 148


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 183، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 65، وفيهما: (وتقضى حاجته)، ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 68 -- بترجمة: السيّد علي أشرف، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 293 المجلس 27 -- كلاهما عن: أبي مخنف، وفيهما: (إلّا وتقضى حاجته).
2- في المقتل المشهور وغيره ممّن روى عنه ذكر ذلك في منزل دعوات.
3- في المتن: (النبيّ).
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 184.
5- في (المقتل لأبي مخنف المشهور: 184)، في وقائع الدخول إلى قنسرين: (ويقولون: يا فجَرة، يا قتَلَة أولاد الأنبياء، واللهِ لا دخلتم بلدنا ولو قُتلنا عن آخرنا).

فبكت أُمّ كلثوم، وأنشأت تقول:

کم تنصبون لنا الأقتاب عاريةً***كأنّنا من بنات الروم في البلدِ

أليس جدّي رسول الله؟ ويلَکمُ!***همُ الّذي دلّکم قصداً إلى الرشدِ

يا أُمّة السوء، لا سقياً لربعکمُ إلّا***عذاباً، كما أخنى على لبدِ ((1)) ((2))

وأتوا معرّة النعمان، واستقبلوهم وفتحوا الأبواب (وذبحوا الذبائح) وقدّموا لهم الأكل والشرب، وبقوا بقيّة يومهم.

ورحلوا منها ونزلوا شيزر، وكان فيها شيخٌ كبير، فقال: يا قوم، هذا رأس الحسين علیه السلام. فتحالفوا أن لا يجوزوا في بلدهم ((3))، فقال المشايخ للشبّان: يا قوم، إنّ الله كره الفتنة، وقد مرّ هذا الرأس في جميع البلدان ولم يعارضه أحد، فدعوه يجوز في بلدكم. فقال الشبّان: واللهِ لا كان ذلك أبداً! ثمّ عمدوا على القنطرة فقعوها، فخرجوا عليهم شاكين في السلاح، فقال لهم خولي: إليكم عنّا. فحملواعليه وعلى أصحابه فقاتلوهم قتالاً شديداً، فقُتل من أصحاب خولي ستّةٌ وسبعون رجلاً، ومن أهل شيزر سبعون رجلاً ((4)).

ص: 149


1- في المتن: (کما أخنا على الکبدي)، وفي (الأسرار): (كما أحيى على البلدِ).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 184.
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 185، إلى هنا في (المقتل) لمنزل شيزر، وما يأتي ممّا ذكره المؤلّف فهو في (المقتل) لمنزل سيبور.
4- في (المقتل): (فقُتل من أصحاب خولي ستمئة فارس، وقُتل من الشبّان خمس فوارس)، والكلام في (المقتل) في سيبور.

فقالت أُمّ كلثوم: ما يُقال لهذه المدينة؟ قالوا: شيزر ((1)). فقالت: أعذب الله شرابهم، وأرخص الله أسعارهم، ورفع أيدي الظلَمة عنهم.

قال أبو مخنف: فلو أنّ الدنيا مملوءةً ظلماً وجوراً لَما نالهم إلّا قسطاً وعدلاً ((2)).

فأنشأ عليّ بن الحسين زين العابدين يقول:

«ساد العلوج،فما ترضى بذا العربُ ((3))***وصار يقدم رأس الأُمّة الذنَبُ

يا لَلرجال، وما يأتي الزمان به***من العجيب الّذي ما مثله عجبُ

آل الرسول على الأقتاب عاريةً***وآل مروان تسري تحتهم نجبُ» ((4))

فلمّا عاينوا ذلك منهم لم يدخلوها، وساروا إلى كفر طاب، وكان حصناً صغيراً فغلقوا عليهم بابه، فتقدّم إليهم خولي فقال: ألستُم في طاعتنا؟ فاسقونا الماء! فقالوا: واللهِ لو قُتلنا عن آخرنا ما سقيناکم الماء وأنتم قد منعتم الحسين وأصحابه من شرب الماء وقد قتلتموهعطشاناً ((5)).

ص: 150


1- في (المقتل): (سيبور).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 186 وما بعدها.
3- في المتن: (ساد العلوج على السادات ذي الحسبِ).
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 186، في سيبور.
5- في (المقتل): (والله لا نسقيكم قطرةً واحدةً وأنتم منعتم الحسين علیه السلام وأصحابه الماء!).

ثمّ ساروا حتّى وصلوا حماة، فغلقوا الأبواب في وجوههم، وركبوا السور وقالوا: واللهِ لا تدخلون بلدنا ولو قُتلنا عن آخرنا ((1)). فلمّا سمعوا ذلك ارتحلوا.

وساروا إلى قمتين ((2))! وكتبوا إلى صاحبها أنّ معنا رأس الحسين علیه السلام، وكان أميرها أخا صالح بن نشيط ((3))! فلمّا قرأ الكتاب أمر بأعلامٍ فنُشرت والمدينة فزُيّنت، وتداعى الناس من كلّ جانبٍ ومكان، وخرج فتلقّاهم على مسير ثلاثة أميال، وشهروا الرأس، وساروا حتّى أتوا حمص، فدخلوا الباب فازدحمت الناس بالباب، فساروا ليدخلوا المدينة من الباب الشرقي فأغلوا الباب في وجوههم، وقالوا: يا قوم، أكفرٌ بعد إيمانٍ وضلالٌ بعد هدى؟ أيجوز في مدينتنا رأس ابن بنت نبيّنا؟ واللهِ لا كان ذلك أبداً ((4)).

ص: 151


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 187.
2- لم أعثر على المنزل في المقتل المطبوع، ولا في ما فحصنا من الكتب الّتي تروي عنه.
3- في (المقتل): (خالد بن النشيط)، وقد ذكره المؤلّف قبل قليلٍ في غير هذا المنزل.
4- في (مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 188): (حتّى أتوا حمص، فدخلوا الباب فازدحمت الناس بالباب، فرموهم بالحجارة حتّى قُتل ستّةٌ وعشرون فارساً، واغلقوا الباب في وجوههم، فقالوا: يا قوم، أكفرٌ بعد إيمانٍ وضلالٌ بعد هدى؟ فخرجوا ووقفوا عند كنيسة ...).

فلمّا رأوا ذلك توجّهوا نحو باب تدمر فدخلوا البلد منها، وأدخلواالرؤوس والسبايا المكرمين إلى المدينة، تتقدّمهم الأعلام، فوقفوا عند كنيسة جرجيس ((1))، وهي دارٌ لخالد بن النشيط ((2))، والجهّال والبغاة يصفّقون ويرکضون ويقولون: هذا رأس خارجيّ خرج على الخليفة يزيد بن معاوية! ((3))

ثمّ ارتحلوا إلى سوق الطعام! ثمّ إلى حرسه! فلمّا سمع أهل حرسه تحالفوا أن يقتلوا خولي وشمر ويأخذوا منهم الرأس المقدّس، فسمع الأشقياء ففزعوا، وساروا إلى بحيرة، ثمّ إلى كيزر!

وكتبوا إلى والي بعلبك أنّ معنا رأس الحسين علیه السلام، فلمّا قرأ الوالي كتابهم أمر بالجوار أن يضربن الدفوف، ونُشرت الأعلام وضُربت البوقات، وأخذوا الخلوق والسكر والسويق، وباتوا ثملين، وخرجوا يتلقّونهم على مسير ستّة أميال، فقالت أُمّ كلثوم: ما يُقال لهذه البلد؟ قالوا: بعلبك. فقالت: أباد الله خضراءهم، ولا أعذب الله شرابهم، ولا رفع الله أيدي الظلَمة عنهم.

ص: 152


1- في (المقتل): (قسّيس).
2- مقتل الحسين علیه السلاملأبي مخنف (المشهور): 188.
3- في (المقتل): (ووقفوا عند كنيسة قسّيس، وهي دارٌ لخالد بن النشيط، فتحالفوا أن يقتلوا خولي ويأخذوا منه الرأس، ليكون فخراً لهم إلى يوم القيامة).

قال أبو مخنف: فلو أنّ الدنيا مملوءة عدلاً وقسطاً لَما نالهم إلّا ظلمٌ وجور ((1)).

وباتوا تلك الليلة ثَمِلين، فأنشأ زين العابدين علیه السلام يقول:

«هو الزمان، فما تفنى عجائبُهُ***عن الكرام ولا تهدأ مصائبُهُ

فليت شعري إلى كم ذا تجاذبنا***صروفُه،وإلى كم ذا نجاذبُهُ

يسيّرونا على الأقتاب عاريةً***وسائق العيس يحمي عنه غاربُهُ

كأنّنا من سبايا الروم بينهمُ***أو كلّما قاله المختار كاذبُهُ

كفرتُمُ برسول الله، ويلكمُ***يا أُمّة السوء، قد ضاقت مذاهبُهُ» ((2))

فلمّا جنّ الليل دفعوا الرأس إلى جانب الصومعة ((3)).

وفي (المنتخب): ونصبوا الرمح الّذي فيه الرأس إلى جانب صومعة راهب، فسمعوا هاتفاً يقول:

والله ما جئتكم حتّى بصرتُ به***بالطفّ منعفر الخدَّين منحورا

وحوله فتيةٌ تدمى نحورهُمُ***مثل المصابيح يغشون الدجى نورا

كان الحسين سراجاً يُستضاء به***اَلله أعلم أنّي لم أقل زورا

فقالت أُمّ كلثوم: مَن أنت؟ يرحمك الله. قال: أنا ملكٌ من الجنّ، أتيتُ

ص: 153


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 188 -- 189.
2- في (المقتل): (لا حلّت مذاهبُهُ).
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 189.

أنا وقومي لننصر الحسين فصادفناه وقد قُتل.

فلمّا سمعوا بذلك رعبت قلوبُهم، وقالوا: إنّنا علمنا أنّنا من أهل النار بلا شكّ.فلمّا جنّ الليل أشرف الراهب من صومعته، ونظر إلى الرأس وقد سطع منه نور وقد أخذ في عِنان السماء، ونظر إلى بابٍ قد فُتح من السماء والملائكة ينزلون، وهم ينادون: يا أبا عبد الله، عليك السلام. فجزع الراهب من ذلك، فلمّا أصبحوا وهمّوا بالرحيل أشرف الراهب عليهم وقال: ما الّذي معكم؟ قالوا: رأس الحسين بن عليّ. فقال: ومَن أُمّه؟ قالوا: فاطمة بنت محمّد. فجعل الراهب يصفق بكلتا يدَيه وهو يقول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، صدقَت الأحبار فيما قالت. فقالوا: وما الّذي قالت الأحبار؟ قال: يقولون: إذا قُتل إلى الرجل مطرت السماء دماً، وذلك لا يكون إلّا لنبيّ أو ولد وصيّ. ثمّ قال: وا عجباه من أُمّةٍ قتلَت ابن بنت نبيّها وابن وصيّه! ثمّ أنّه أقبل على صاحب الرأس الّذي يلي أمره وقال له: أرني الرأس لِأنظر إليه. فقال: ما أنا بالّذي أكشفه إلّا بين يدَي الأمير يزيد؛ لِأحظى عنده بالجائزة، وهي بدرة عشرة آلاف ((1)) درهم. فقال الراهب: أنا أُعطيك ذلك. فقال: أحضِرْه. فأحضر له ما قال، ثمّ أخذ الرأس، وكشف عنه وتركه في حِجْره فبدت ثناياه، فانكبّ عليها الراهب وجعل يقبّلها

ص: 154


1- في المتن: (اثنا عشر ألف)

ويبكي ويقول: يعزّ علَيّ يا أبا عبد الله ألّا أكون ((1)) أوّل قتيلٍ بين يديك، ولكن إذا كان من الغد فاشهَدْ لي عند جدّك أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله. ثمّ ردّ الرأس بعد أن أسلم وأحسن إسلامه، فسار القوم، ثمّ جلسوا يقتسمون الدراهم فإذا هي خزفٌ مكتوبٌ عليها: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ»((2)).

ص: 155


1- في المطبوع: (لأكون).
2- المنتخب للطريحي: 2 / 468 المجلس 10.

ص: 156

تنبيهات

الأوّل:

في (بحار الأنوار)، عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف بالموسم إذا رأيت رجلاً يدعو وهو يقول: اللّهمّ اغفِرْ لي، وأنا أعلم أنّك لا تغفر! قال: فارتعدتُ لذلك، ودنوت منه وقلت: يا هذا، أنت في حرم الله وحرم رسوله، وهذا أيّامٌ حُرُمٌ في شهرٍ عظيم، فلمَ تيأس من المغفرة؟! قال: يا هذا، ذنبي عظيم! قلت: أعظم من جبل تُهامة؟ قال: نعم. قلت: يوازن الجبال الرواسي؟ قال: نعم، فإن شئتَ أخبرتُك. قلت أخبرني. قال: اخرج بنا عن الحرم. فخرجنا منه.

فقال لي: أنا أحد مَن كان في العسكر الميشوم -- عسكر عمر بن سعد -- حين قُتل الحسين، وكنتُ أحد الأربعين الّذين حملوا الرأس إلى يزيد من الكوفة، فلمّا حملناه على طريق الشام نزلنا على دِيرٍ للنصارى، وكان الرأس معنا مركوزاً على رمحٍ ومعه الأحراس، فوضعنا الطعام وجلسنا لنأكل، فإذا بكفٍّ في حائط الدير تكتب:

أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ؟

ص: 157

قال: فجزعنا من ذلك جزعاً شديداً، وأهوى بعضنا إلى الكفّ ليأخذها فغابت، ثمّ عاد أصحابي إلى الطعام، فإذا الكفّ قد عادتتكتب:

فلا واللهِ ليس لهم شفيعٌ***وهم يوم القيامة في العذابِ

فقام أصحابنا إليها فغابت، ثمّ عادوا إلى الطعام، فعادت تكتب:

وقد قتلوا الحسين بحكم جَورٍ***وخالف حكمُهم حكمَ الكتابِ

فامتنعت وما هنأني أكله.

ثمّ أشرف علينا راهبٌ من الدير، فرأى نوراً ساطعاً من فوق الرأس، فأشرف فرأى عسكراً، فقال الراهب للحرّاس: مِن أين جئتم؟ قالوا: من العراق، حاربْنا الحسين. فقال الراهب: ابن فاطمة بنت نبيّكم وابن ابن عمّ نبيّكم؟! قالوا: نعم. قال: تبّاً لكم، واللهِ لو كان لعيسى ابن مريم ابنٌ لَحملناه على أحداقنا، ولكن لي إليكم حاجة. قالوا: وما هي؟ قال: قولوا لرئيسكم: عندي عشرة آلاف دراهم ورثتُها من آبائي، يأخذها منّي ويعطيني الرأس يكون عندي إلى وقت الرحيل، فإذا رحل رددتُه إليه. فأخبروا عمر بن سعد بذلك، فقال: خذوا منه الدنانير وأعطوه إلى وقت الرحيل. فجاؤوا إلى الراهب فقالوا: هاتِ المال حتّى نعطيك الرأس. فأدلى إليهم جرابين، في كلّ جرابٍ خمسة آلاف درهم، فدعا عمر بالناقد والوزّان فانتقدها ووزنها ودفعها إلى خازنٍ له، وأمر أن يُعطى الرأس، فأخذ الراهب الرأس، فغسله ونظّفه وحشاه بمسكٍ وكافورٍ كان عنده، ثمّ جعله في حريرةٍ ووضعه في حِجْره، ولم

ص: 158

يزل ينوح ويبكي حتّى نادوه وطلبوا منه الرأس، فقال: يا رأس، واللهِ لا أملك إلّا نفسي، فإذا كان غداً فاشهَدْ لي عند جدّك محمّدٍ أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أسلمتُ على يدَيك وأنا مولاك. وقال لهم: إنّي أحتاج أن أُكلّم رئيسكم بكلمةٍ وأُعطيهالرأس. فدنا عمر بن سعد، فقال: سألتُك بالله وبحقّ محمّدٍ أن لا تعود إلى ما كنتَ تفعله بهذا الرأس، ولا تخرج بهذا الرأس من هذا الصندوق. فقال له: أفعل. فأعطاه الرأس، ونزل من الدير يلحق ببعض الجبال يعبد الله، ومضى عمر بن سعد، ففعل بالرأس مثل ما كان يفعل في الأوّل.

فلمّا دنا من دمشق قال لأصحابه: انزلوا. وطلب من الجارية الجرابين، فأُحضرت بين يديه، فنظر إلى خاتمه، ثمّ أمر أن يُفتَح، فإذا الدنانير قد تحوّلَت خزفيّة، فنظروا في سكّتها فإذا على جانبها مكتوب: «لاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ» ((1))، وعلى الجانب الآخَر مكتوب: «سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((2))، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، خسرتُ الدنيا والآخرة. ثمّ قال لغلمانه: اطرحوها في النهر. فطُرحَت، ورحل إلى دمشق من الغد، وأُدخل الرأس إلى يزيد ...

ص: 159


1- سورة إبراهيم: 42.
2- سورة الشعراء: 227.

وأمر فأدخل الرأس القبّة الّتي بإزاء القبّة الّتي يشرب فيها، ووكّلنا بالرأس، وكلّ ذلك كان في قلبي، فلم يحملني النوم في تلك القبّة، فلمّا دخل الليل وكّلنا أيضاً بالرأس، فلمّا مضى وهنٌ من الليل سمعتُ دويّاً من السماء، فإذا منادٍ ينادي: يا آدم اهبط. فهبط أبو البشر ومعه كثيرٌ من الملائكة. ثمّ سمعتُ منادياً ينادي: يا إبراهيم اهبط. فهبط ومعه كثيرٌ من الملائكة. ثمّ سمعت منادياً ينادي: يا موسى اهبط. فهبط ومعه كثيرٌ من الملائكة. ثمّ سمعت منادياً ينادي: يا عيسى اهبط. فهبط ومعه كثيرٌ من الملائكة. ثمّ سمعت دويّاً عظيماًومنادٍ ينادي: يا محمّد اهبط. فهبط ومعه خلقٌ كثيرٌ من الملائكة، فأحدق الملائكة بالقبّة، ثمّ إنّ النبيّ دخل القبّة وأخذ الرأس منها.

وفي روايةٍ أنّ محمّداً قعد تحت الرأس، فانحنى الرمح ووقع الرأس في حِجْر رسول الله، فأخذه وجاء به إلى آدم، فقال: «يا أبي آدم، ما ترى ما فعلَت أُمّتي بولدي من بعدي؟». فاقشعرّ لذلك جلدي، ثمّ قام جبرئيل فقال: يا محمّد، أنا صاحب الزلازل، فأْمُرني لِأُزلزل بهم الأرض وأصيح بهم صيحةً واحدةً يهلكون فيها. فقال: «لا». قال: يا محمّد، دعني وهؤلاء الأربعين الموكَّلين بالرأس. قال: «فدونك»، فجعل ينفخ بواحدٍ واحد، فدنا منّي فقال: تسمع وترى؟ فقال النبيّ: «دعوه، دعوه؛ لا يغفر الله له»، فتركَني، وأخذوا الرأس وولّوا، فافتُقد الرأس من تلك الليلة فما عُرف له خبر.

ولحق عمر بن سعد الريَّ فما لحق بسلطانه، ومحق الله عمره فأهلك في

ص: 160

الطريق.

فقال سليمان الأعمش: قلت للرجل: تنحَّ عنّي؛ لا تُحرقني بنارك. وولّيتُ ولا أدري بعد ذلك ما خبره ((1)).

وفي (بحار الأنوار): وفي كتاب ابن بطّة أنّهم وجدوا هذه الأبيات: (أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً) مكتوبةً على كنيسة، فسألوا أهلها: منذ كم هذا في كنيستكم؟ فقالوا: قبل أن يبعث نبيّكم بثلاثمئة عام ((2)).

ص: 161


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 184 الباب 39 ح 31.
2- في (بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 305، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 45 الفصل 3): (وفي كتاب ابن بطّة أنّهم وجدوا ذلك مكتوباً في كنيسة)، بعد أن ذكرا أبيات: أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً ... وفي (البحار: 45 / 305، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 45 الفصل 3، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 124، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 243، روضة الواعظين للفتّال: 193، الأمالي للصدوق: 193 المجلس 27 ح 203، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 106): وقال أنس بن مالك: احتفر رجلٌ من أهل نجران حفيرة، فوجد فيها لوحٌ من ذهبٍ فيه مكتوبٌ هذا البيت، وبعده: فقد قدموا عليه بحكم جَورٍ فخالف حكمُهم حكمَ الكتابِ ستلقى يا يزيدُ غداً عذاباً من الرحمان، يا لَك من عذابِ فسألناهم: منذ كم هذا في كنيستكم؟ فقالوا: قبل أن يُبعث نبيُّكم بثلاثمئة عام.

وفي (أخبار الدول): فساروا إلى أن وصلوا إلى ديرٍ في الطريق، فنزلوا ليقيلوا به، فوجدوا أيضاً مكتوباً على بعض جدرانه:

أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ؟

فسألوا الراهب عن المكتوب ومَن كتبه، فقال: إنّه مكتوبٌ هاهنا مِن قبل أن يُبعث نبيُّكم بخمسمئة عام ((1)).

وعن أنس بن مالك: احتفر رجلٌ من أهل نجران حفيرة، فوجد فيها لوحٌ من ذهبٍ فيه مكتوبٌ هذا البيت وبعده:

فقد قدموا عليه بحكم جَورٍ***فخالف حكمهم حكمَ الكتابِ

ستلقى يا يزيد غداً عذاباً***من الرحمان، يا لَك من عذابِ

فسألناهم: منذ كم هذا في كنيستكم؟ فقالوا: قبل أن يُبعَث نبيّكم بثلاثمئة عام ((2)).

ص: 162


1- تاريخ الخميس للديار بكري: 2 / 333، حياة الحيوان للدميري: 1 / 87، نفَس المهموم للقمّي: 422.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 54 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 305.

الثاني:

في (بحار الأنوار)، عن (الخصائص): لمّا جاؤوا برأس الحسين ونزلوا منزلاً يُقال له: قنسرين، اطلع راهبٌ من صومعته إلى الرأس، فرأى نوراً ساطعاً يخرج مِن فِيه ويصعد إلى السماء، فأتاهم بعشرة آلاف درهمٍ وأخذ الرأس وأدخله صومعته، فسمع صوتاً ولم يرَ شخصاً، قال: طوبى لك، وطوبى لمن عرف حرمته. فرفع الراهب رأسه وقال: يا ربّ، بحقّ عيسى تأمر هذا الرأس بالتكلّم معي. فتكلّم الرأس وقال: «يا راهب، أيّ شيءٍ تريد؟»، قال: مَن أنت؟ قال: «أنا ابن محمّدٍ المصطفى، وأنا ابن عليٍّ المرتضى، وأنا ابن فاطمة الزهراء، أنا المقتول بكربلاء، أنا المظلوم، أنا العطشان»، وسكت. فوضع الراهب وجهه على وجهه، فقال: لا أرفع وجهي عن وجهك حتّى تقول: أنا شفيعك يوم القيامة، فتكلّم الرأس وقال: «ارجعْ إلى دِين جدّي محمّد»، فقال الراهب: أشهدُ أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله. فقبل له الشفاعة. فلمّا أصبحوا أخذوا منه الرأس والدراهم، فلمّا بلغوا الوادي نظروا الدراهم قد صارت حجارة ((1)).

ص: 163


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 49 الفصل 3 -- عن: الخصائص للنطنزي، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 303.

الثالث:

في (البحار)، عن كتاب (المناقب) القديم: رُوي أنّه لمّا حُمل رأسه إلى الشام، جَنَّ عليهم الليل فنزلوا عند رجلٍ من اليهود، فلمّا شربوا وسكروا قالوا: عندنا رأس الحسين علیه السلام. فقال: أروه لي. فأروه، وهو في الصندوق يسطع منه النور نحو السماء، فتعجّب منه اليهودي، فاستودعه منهم، وقال للرأس: اشفَعْ لي عند جدّك. فأنطق الله الرأس فقال: «إنّما شفاعتي للمحمّديّين، ولستَ بمحمّديّ!». فجمع اليهودي أقرباءه، ثمّ أخذ الرأس ووضعه في طست، وصبّ عليه ماء الورد وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثمّ قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمّد علیه السلام. ثمّ قال: يا لهفاه؛ حيث لم أجد جدّك محمّداً صلی الله علیه وآله فأُسلم على يدَيه، يا لهفاه؛ حيث لم أجدك حيّاً فأُسلم على يديك وأُقاتل بين يديك، فلو أسلمتُ الآن أتشفعُ لي يوم القيامة؟ فأنطق الله الرأس فقال بلسانٍ فصيح: «إنْ أسلمتَ فأنا لك شفيع»، قاله ثلاث مرّاتٍ وسكت، فأسلم الرجل وأقرباؤه.

قال صاحب (البحار): ولعلّ هذا اليهوديّ كان راهب قنسرين؛ لأنّه أسلم بسبب رأس الحسين علیه السلام ، وجاء ذكره في الأشعار، وأورده الجوهري الجرجاني في مرثيّة الحسين علیه السلام ((1)).

ص: 164


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 172.

قال المؤلّف: لا يبعد أبداً التعدّد.

الرابع:

في بعض الكتب المعتبرة: كان رجلٌ يهوديٌّ يُقال له: يحيى الحراني، وكان يعيش على تلٍّ يُشرف على مدينة حران، فلمّا ساروا بأهل البيت من دير الراهب النصراني الى حران سمع أنّ جماعةً من النساء والأطفال والأسرى من الصغار والكبار معهم عددٌ كبيرٌ من الرؤوس المرفوعة على الرماح ستدخل حران.

فخرج يحيى من منزله ونزل من التلّ، ووقف على قارعة الطريق ينتظر قدوم الأسرى، فلاحت له بيارق عساكر ابن زياد، فنظر فرأى رؤوساً مرفوعةً على أطراف الأسنّة، وأهل البيت يُساقون خلفها كأنّهم أسرى الكفّار، فوقع نظره على رأس ابن المصطفى، فسطع نورُه في عينه، فحقّق النظر واذا بشفتَي الحسين تتمتمان، فاقترب منه وأنصت له، فسمعه يقول: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ». ففزع يحيى ودُهش لُبّه من هذه الآية العظمى، وارتعدت فرائصه لما سمع منه.

فسارع إلى رجلٍ من العسكر ساهماً واجماً وقال له: لمن هذا الرأس؟ فقال: رأس الحسين بن عليّ المرتضى. قال: ومَن أُمّه؟ قال: فاطمة بنت محمّدٍ المصطفى. قال: ومَن هؤلاء الأسرى؟ قال: أهل بيت الحسين علیه السلام.

فبكى يحيى بكاءً شديداً، وقال: الحمد للّه الّذي عرّفَني الحقّ ودلّني

ص: 165

على الصراط المستقيم، فعلمتُ أنّ أيّ صراطٍ سوى صراطمحمّدٍ ضلالٌ مبين، ومَن سلك غير صراطه فهو في جهنّم من المخلدين، وهذا ظلمٌ وجورٌ وحزنٌ وألمٌ وبلاءٌ لا يحلّ إلاّ في أهل بيت النبيّين، وهذه الرزيّة العظمى برهانٌ على أحقّيّة هؤلاء المظلومين. فأعلن إسلامه ونطق بالشهادتين.

فعزم على أن يقدّم لأهل البيت ما عنده من الطعام وممّا رزقه اللّه، فمنعه العسكر وتوعّدوه وهدّدوه بسلطان يزيد وسطوته، غير أنّ يحيى هام في حبّ الحسين علیه السلام، وصار حاله كحال أيّ محبٍّ لا يعبأ بالنفع والضرر، فشهر سيفه وقاتلهم قتالاً شديداً، حتّى قُتل ونال سعادة الشهادة، فدفنوه في باب حران، وعُرف بعد ذلك بيحيى الشهيد، والدعاء عنده مستجاب ((1)).

الخامس:

في بعض كتب المقاتل: وساروا مُجدّين إلى أن وصلوا إلى بلدٍ يُقال له: عسقلان، وأمير ذلك البلد يعقوب العسقلاني، وكان في حرب الحسين علیه السلام، فلمّا وصل العسكر مع الرأس والنساء إليه أمر أن يزيّنوا ذلك البلد، وأمر أصحاب اللهو والزهو أن يفرحوا ويلعبوا، ويضربوا الطنبور والعود، وجلسوا في القصور باللهو وشرب الخمور.

ص: 166


1- ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 73 -- ترجمة: السيّد علي أشرف -- عن: روضة الأحباب، روضة الشهداء للكاشفي: 367.

فلمّا دخلوا وأدخلوا الرأس والنساء، كان رجلٌ تاجرٌ اسمه زرير الخزاعي، وكان واقفاً، فلمّا رأى الناس على ذلك سأل من بعضهم:إنّ هذا الفرح والسرور ما سببه؟ وما سبب تزيين الأسواق؟ فقالوا: كأنّك غريب! قال: نعم. قالوا: كان في العراق رجلٌ مع جماعةٍ وهم يخالفون يزيد وما بايعوه، فبعث إليهم عسكراً فقتلوهم، وهذه رؤوسهم ونساؤهم. فسأل زرير: يا هذا، أهؤلاء كانوا مسلمين أم كفرة؟ فقيل له: إنّهم كانوا سادات أهل الإسلام. فقال: ما كان سبب خروجهم على يزيد؟ قيل له: إنّ كبيرهم كان يقول: أنا ابن رسول الله، وأنا بالخلافة أحقّ.

سأل عن كبيرهم ومَن كان أبوه ومَن كان أُمّه؟ قيل: أمّا اسمه الحسين، وأخوه الحسن، وأُمّه فاطمة الزهراء بنت رسول الله، وأبوه أمير المؤمنين.

فلمّا سمع زرير ذلك اسودّت الدنيا في عينيه وضاقت الأرض عليه، فجاء قريباً من السبايا، فنظر إلى عليّ بن الحسين، وبكي بكاءً شديداً وأنَّ أَنّةً عظيمة، فقال زين العابدين علیه السلام: «ما لي أراك تبكي يا هذا، وجميع أهل البلد في فرحٍ وسرور؟»، فقال: يا مولاي، أنا رجلٌ غريب، قد وقعت في هذا البلد، وسألت أهل البلد عن فرحهم وسرورهم، فقالوا: باغٍ تباغى على يزيد، فقتله وبعث برأسه ونسائه إلى الشام، فسألت عن اسمه، قالوا: هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، وجدّه محمّد المصطفى، فقلت: تبّاً لكم، فمَن كان أحقّ منه بالخلافة؟ فقال علیه السلام: «جزاك الله يا زرير خيراً، فقد أرى فيك المعرفة ولنا المحبّة».

ص: 167

قال: فقلت: يا سيّدي، هل لك حاجة؟ لأنّي لك بشرط الخدمة. قال علیه السلام: «قل للذي هو حامل رأس الحسين علیه السلامأن يتقدّم على النساء؛ لتشتغل النظّارة بالرأس عن النظر إلى النساء».قال: فمضيت من وقتي، وأعطيت حامل الرأس خمسين مثقالاً من الذهب والفضّة حتّى اعتزل وتقدّم به، فاستراحت النساء من مدّ النظر إليهنّ، وعاد الناس يتفرّجون على الرؤوس.

فأتيتُ إلى الإمام وقلت: سيّدي، بماذا تأمرني بعد ذلك؟ قال علیه السلام : «إن كان في رحلك ثيابٌ زائدةٌ ايتني بها». قال: فمضيت وأتيت لكلّ واحدةٍ من النساء بثوب، وأتيت لزين العابدين بعمامة.

فعند ذلك قام الصياح والزعقات في السوق، فتأمّلت ذلك وإذا هو الشمر اللعين، فأخذتني الحميّة، فجئتُ إليه وشتمتُه، ومسكتُ بلجام فرسه وقلت له: لعنك الله يا شمر، رأس مَن هذا وضعتَه على الرمح؟ وهؤلاء السبايا الّذين سبيتهم أولاد مَن حتّى أركبتهم الجمال بغير وطاء؟ قطع الله يديك ورجليك، وأعمى قلبك وعينيك. فغضب اللعين، وصاح بأصحابه: اضربوه! فضربوه، واجتمع عليه الناس بالحجارة حتّى أثخنوه، ووقع مغشيّاً عليه، فظنّوا أنّه قد قُتل ومات، وتركوه ملقىً على قفاه لا يتحرّك.

فلمّا كان الليل ومضى نصفه قام زرير مرّةً يحبو ومرّةً يتمرغل على ظهره وبطنه من كثرة الجراح، حتّى وصل إلى مسجدٍ هناك يسمّى بمشهد سليمان النبي، فإذا هو بأُناسٍ رؤوسهم مكشوفة، وأزياقهم مشقّقة، وأعينهم باكية،

ص: 168

وقلوبهم محترقة، فقال زرير: ما لكم باكون والناس في هذا البلد فرحون مسرورون؟! فقالوا: أيّها القادم علينا، إن كنتَ منّا فاجلس وشاركنا في المصيبة. وإذا هم يبكون على الحسين وأهل بيته، فحكى زرير قصته، وأراهم الطعن في بدنه، فاشتغلوا بالبكاء، وزادت مصيبتهم وعزاؤهم على أهل بيت الرسول صلی الله علیهوآله ((1)).

ثمّ جمع زرير ماله فدفعه، فاشتروا به السلاح والأفراس، وبايعه مئةٌ ورجلين ((2))، وخرج يوم الجمعة فقتلوا الخطيب وأخذا العامل ((3)).

ألا لعنة الله على الظالمين.

السادس:

في كتاب (البحار)، عن الشعبي: رأيتُ رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: اللّهمّ اغفِرْ لي، ولا أراك تغفر لي! فسألتُه عن ذنبه، فقال: كنتُ من الوكلاء على رأس الحسين، وكان معي خمسون رجلاً، فرأيت غمامةً بيضاء من نورٍ وقد نزلت من السماء إلى الخيمة، وجمعاً كثيراً أحاطوا بها، فإذا فيهم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ثمّ نزلَت أُخرى وفيها النبيّ صلی الله علیه وآله

ص: 169


1- الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 76.
2- في (روضة الشهداء): (مئة وعشرة).
3- روضة الشهداء للكاشفي: 375.

وجبرائيل وميكائيل وملَك الموت، فبكى النبيّ وبكوا معه جميعاً، فدنا ملَك الموت وقبض تسعاً وأربعين، فوثب علَيّ، فوثبت على رجلي وقلت: يا رسول الله، الأمان الأمان! فوَاللهِ ما شايعتُ في قتله ولا رضيت. فقال: «ويحك! وأنت تنظر إلى ما يكون؟»، فقلت: نعم. فقال: «يا ملَك الموت، خلِّ عن قبض روحه، فإنّه لابدّ أن يموت يوماً»، فتركني، وخرجت إلى هذا الموضع تائباً على ما كانمنّي ((1)).

السابع:

في كتاب (البحار)، عن ابن لهيعة قال: كنتُ أطوف بالبيت، فإذا أنا برجلٍ يقول: اللّهمّ اغفِرْ لي، وما أراك فاعلاً! فقلت له: يا عبد الله، اتقِ الله ولا تقل مثل هذا؛ فإنّ ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمطار وورق الأشجار فاستغفرتَ الله غفرها لك، فإنّه غفورٌ رحيم! قال: فقال لي: تعالَ حتّى أُخبرك بقصّتي. فأتيته، فقال: اعلم أنّنا كنّا خمسين نفراً ممّن سار مع رأس الحسين إلى الشام، وكنّا إذا أمسينا وضعنا الرأس في التابوت، وشربنا الخمر حول التابوت، فشرب أصحابي ليلةً حتّى سكروا، ولم أشرب معهم، فلمّا جَنّ الليل سمعتُ رعداً ورأيت برقاً، فإذا أبواب السماء قد فُتحَت ونزل آدم

ص: 170


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 303، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 48 الفصل 3، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 100.

ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ونبيّنا محمّد صلی اله علیه وآله، ومعهم جبرئيل وخلقٌ من الملائكة، فدنا جبرئيل من التابوت فأخرج الرأس وضمّه إلى نفسه وقبّله، ثمّ كذلك فعل الأنبياء كلُّهم، وبكى النبيّ صلی اله علیه وآله على رأس الحسين، فعزّاه الأنبياء، فقال له جبرئيل: يا محمّد، إنّ الله (تعالى) أمرني أن أُطيعك في أُمّتك، فإن أمرتَني زلزلت بهم الأرض وجعلت عاليها سافلها، كما فعلتُ بقوم لوط. فقال النبي صلی اله علیه وآله : «لا يا جبرئيل، فإنّ لهم معي موقفاً بين يدَي الله يوم القيامة». قال: ثمّ صلّواعليه، ثمّ أتى قومٌ من الملائكة وقالوا: إنّ الله (تبارك وتعالى) أمرنا بقتل الخمسين. فقال لهم النبيّ: «شأنكم بهم». فجعلوا يضربون بالحربات، ثمّ قصدني واحدٌ منهم بحربته ليضربني، فقلت: الأمان الأمان يا رسول الله! فقال: «اذهب، فلا غفر الله لك». فلمّا أصبحتُ رأيتُ أصحابي كلّهم جاثمين رماداً ((1)).

ص: 171


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 125، اللهوف لابن طاووس: 172.

ص: 172

المجلس الثالث عشر : في ورود الرؤوس والسبايا إلى الشام، وجملة من الكرامات والأحداث الواقعة في الشام

اشارة

إعلَمْ أنّ أُميّة جدّ بني أُميّة كان غلاماً لعبد شمس بن عبد مناف، كما صرّح بذلك علماء النسب، وكان عبد شمس يلوط به!! ثمّ أعتقه، ونُسب إليه بالتبنّي، فقيل له: أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف ((1)).

واعلم أنّ سلسلة أُميّة تنشعب إلى ثلاث شُعب، منها عثمان بن عفّان ابن أبي العاص بن أُميّة، ومنها يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر ابن حرب بن أبي العاص بن أُميّة، ومنها هشام بن عبد الملك بن مروان

ص: 173


1- أُنظُر: إلزام النواصب: 179، بحار الأنوار للمجلسي: 31 / 544 من دون الإشارة إلى اللواط.

ابن الحكَم بن أبي العاص بن أُميّة ((1)).

والمراد من الشجرة الملعونة المذكورة في القرآن في قوله(تعالى): «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً» ((2))، هم بنو أُميّة ((3)).

وفسّرها بعض العرفاء الظاهريّين بالظاهر، فقال: «فَما يَزِيدُهُم» هو يزيد ابن معاوية (لعنهما الله) ((4)).

وكذا قالوا في قوله (تعالى): «وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً» ((5)).

اللّهمّ العن بني أُميّة قاطبة.

* * * * *

قال أبو مخنف: فلمّا خرجوا من صومعة الراهب، قال سهل: فهتف هاتفٌ يقول:

أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ

ص: 174


1- أُنظُر: رسائل المقريزي: 79، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 3 / 270.
2- سورة الإسراء: 60.
3- أُنظُر: الاحتجاج للطبرسي: 1 / 276، تفسير العيّاشي: 2 / 297، تفسير القمّي: 2 / 21، بحار الأنوار للمجلسي: 30 / 165، شرح النهج لابن أبي الحديد: 9 / 219.
4- أُنظُر: تفسير المعين: 2 / 719، تفسير لاهيجي: 2 / 718.
5- سورة الإسراء: 82.

وقد غضبوا الإله وخالفوه***ولم يخشوه ((1)) في يوم المآبِ؟

ألا لعن الإله بني زيادٍ***وأسكنهم جهنّمَ فيالعذابِ ((2))وفي (المنتخب): ثمّ ساروا إلى أن قربوا من دمشق، وإذ بهاتفٍ يقول:

رأسُ ابن بنت محمّدٍ ووصيّه***يا لَلرجال على قناةٍ يُرفَعُ

والمسلمون بمنظرٍ وبمشهدٍ***لا جازعٌ فيهم ولا متوجّعُ

كحلت بمنظرك العيون عماءها***وأصمّ رزؤك كلَّ أُذنٍ تسمعُ

ما روضةٌ إلّا تمنّت أنّها***لك تربةٌ ولخطّ جنبك مضجعُ

مُنعوا زلال الماء آلُ محمّدٍ***وغدت ذئاب البرّ فيه تكرعُ

عينٌ علاها الكحل فيه تفرقعت***ويدٌ تصافح في البريّة تُقطعُ ((3))

ورُوي عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر قال: «سألتُ أبي عليَّ بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال: حملني على بعيرٍ يطلع بغير وطاء، ورأس الحسين علیه السلام على علم، ونسوتنا خلفي على بغالٍ فأكف [واكفة]، والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعَت من أحدنا عينٌ قُرع رأسه بالرمح، حتّى إذا دخلنا دمشق صاح صائحٌ: يا أهل الشام، هؤلاء سبايا أهل البيت الملعون!» ((4)).

ص: 175


1- في المتن: (يرجوه).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 192.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 469 المجلس 10.
4- إقبال الأعمال لابن طاووس: 583، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 154.

هذه الحالات المفجعة والكلمات المفجعة كانت جزاءً لوصيّة الحقّ (تعالى)، الّتي قال: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِيالْقُرْبَى» ((1)).

وفي (الملهوف): وسار القوم برأس الحسين ونسائه والأسرى من رجاله، فلمّا قربوا من دمشق دنَت أُمّ كلثوم من شمر -- وكان من جملتهم -- فقالت له: لي إليك حاجة. فقال: ما حاجتكِ؟ قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في دربٍ قليل النظّارة، وتقدّم إليهم أن يُخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحّونا عنها؛ فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال. فأمر في جواب سؤالها أن يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل، بغياً منه وكفراً، وسلك بهم بين النظّار على تلك الصفة، حتّى أتى بهم باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي ((2)).

وروى صاحب (المناقب) بإسناده عن زيد، عن آبائه أنّ سهل بن سعدٍ قال: خرجتُ إلى بيت المقدس حتّى توسّطت الشام، فإذا أنا بمدينةٍ مطّردة الأنهار كثيرة الأشجار، قد علّقوا الستور والحجب والديباج، وهم فرحون مستبشرون، وعندهم نساءٌ يلعبن بالدفوف والطبول ((3)).

وفي (المنتخب): فدخلتُ الشام فرأيت الأبواب مفتّحة والدكاكين

ص: 176


1- سورة الشورى: 23.
2- اللهوف لابن طاووس: 174.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 127.

مغلَقة، والخيل مسرَجة، والأعلام منشورة والرايات مشهورة، والناس أفواجاً امتلأَت منهم السكك والأسواق، وهم في أحسن زينةٍ يفرحون ويضحكون، فقلت لبعضهم: أظنّ حدث لكم عيدٌ لا نعرفه! قالوا: لا. قلت: فما بال الناس كافّةً فرحين مسرورين؟! فقالوا:أغريبٌ أنت أم لا عهد لك بالبلد؟ قلت: نعم، فماذا؟ قالوا: فُتح لأمير المفسدين فتحٌ عظيم. قلت: وما هذا الفتح؟ قالوا: خرج عليه في أرض العراق خارجيٌّ فقتله، والمنّة لله وله الحمد. قلت: ومَن هذا الخارجي؟ قالوا: الحسين بن عليّ بن أبي طالب. قلت: الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله؟!! قالوا: نعم. قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وإنّ هذا الفرح والزينة لقتل ابن بنت نبيّكم، وما كفاكم قتله حتّى سمّيتموه خارجيّاً؟! فقالوا: يا هذا، أمسِكْ عن هذا الكلام واحفظ نفسك؛ فإنّه ما مِن أحدٍ يذكر الحسين بخيرٍ إلّا ضُربَت عنقه. فسكتُّ عنهم باكياً حزيناً ((1)).

وفي رواية (المناقب): فرأيتُ قوماً يتحدّثون، فقلت: يا قوم، لكم بالشام عيدٌ لا نعرفه نحن؟ قالوا: يا شيخ، نراك أعرابيّاً. فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيتُ محمّداً صلی الله علیه وآله. قالوا: يا سهل، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها؟ قلت: ولمَ ذاك؟ قالوا: هذا رأس الحسين علیه السلام عترة محمّد صلی الله علیه وآله يُهدى من أرض العراق. فقلت: وا عجباه! يُهدى رأس الحسين

ص: 177


1- المنتخب للطريحي: 2 / 282 المجلس 3.

والناس يفرحون؟ قلت: مِن أيّ بابٍ يدخل؟ فأشاروا إلى بابٍ يُقال له: باب ساعات، قال: فبينا أنا كذلك حتّى رأيتُ الرايات يتلو بعضها بعضاً ((1)).

وفي (المنتخب): فرأيت باباً عظيماً قد دخلَت فيه الأعلام والطبول، فقالوا: الرأس يدخل من هذا الباب. فوقفت هناك، وكلّماتقدّموا بالرأس كان أشدّ لفرحهم وارتفعت أصواتهم ((2)).

وفي (المناقب): فإذا نحن بفارسٍ بيده لواءٌ منزوع السنان، عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله صلی الله علیه وآله ((3)).

وفي (المنتخب): وإذا برأس الحسين والنور يسطع مِن فِيه كنور رسول الله صلی اله علیه وآله , فلطمتُ على وجهي وقطعت أطماري وعلا بكائي ونحيبي، وقلت: وا حزناه للأبدان السليبة النازحة عن الأوطان، المدفونة بلا أكفان! وا حزناه على الخدّ التريب والشيب الخضيب، يا رسول الله! ليت عينيك ترى رأس الحسين في دمشق يُطاف به في الأسواق، وبناتك مشهوراتٍ على النياق مشقّقات الذيول والأرياق، ينظر إليهم شرار الفسّاق، أين عليّ بن أبي طالب يراكم على هذا الحال؟ ثمّ بكيتُ وبكى لبكائي كلّ مَن سمع منهم

ص: 178


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 127.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 282 المجلس 3.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 128.

صوتي، وأكثرهم لا يلتفتون بي؛ لكثرتهم وشدّة فرحهم واشتغالهم بسرورهم وارتفاع أصواتهم، وإذا بنسوةٍ على الأقتاب بغير وطاءٍ ولا ستر، وقائلة منهنّ تقول: وا محمّداه، وا عليّاه، وا حسناه! لو رأيتم ما حلّ بنا من الأعداء، يا رسول الله، بناتك أُسارى كأنّهنّ بعض أُسارى اليهود والنصارى -- وهي تنوح بصوتٍ شجيٍّ يُقرح القلوب على الرضيع الصغير، وعلى الشيخ الكبير المذبوح من القفا ومهتوك الخبا، العريان بلا رداء --، وا حزناه لما نالنا أهل البيت! فعند الله نحتسب مصيبتنا ((1)).وفي (المناقب): فإذا أنا من ورائه رأيتُ نسوةً على جمالٍ بغير وطاء، فدنوتُ من أُولاهم فقلت: يا جارية، مَن أنتِ؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها: ألكِ حاجةً إليّ، فأنا سهل بن سعد ممّن رأى جدّكِ وسمعتُ حديثه. قالت: يا سعد، قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا؛ حتّى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله صلی اله علیه وآله. قال سهل: فدنوتُ من صاحب الرأس فقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار؟ قال: ما هي؟ قلت: تقدّم الرأس أمام الحرم. ففعل ذلك، فدفعتُ إليه ما وعدتُه ((2)).

وفي (التبر المذاب): فقلت لها: هل لكِ من حاجةٍ أُخرى؟! قالت: نعم،

ص: 179


1- المنتخب للطريحي: 2 / 283 المجلس 3.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 128.

ادفع إلينا شيئاً من الثياب نستر به أبداننا!!! ((1)) فدفعتُ إليها عمامتي، ودفعتُ إلى كلّ واحدٍ منهنّ قطعةً من ثيابي ((2)).

وفي (المنتخب): قال: فتعلّقتُ بقائمة المحمل وناديت بأعلى الصوت: السلام عليكم يا آل بيت محمّدٍ ورحمة الله وبركاته. وقد عرفتُ أنّها أُمّ كلثوم بنت عليّ علیه السلام، فقالت: مَن أنت أيّهاالرجل الّذي لم يسلّم علينا أحدٌ غيرك منذ قُتل أخي وسيّدي الحسين علیهالسلام فقلت: يا سيّدتي، أنا رجلٌ من شهرزور، اسمي سهل، رأيت جدّكِ محمّداً المصطفى صلی اله علیه وآله. قالت: يا سهل، ألا ترى ما قد صُنع بنا؟ أما والله لو عشنا في زمانٍ لم يُر محمّدٌ ما صنع بنا أهله بعض هذا، قُتل والله أخي وسيّدي الحسين، وسُبينا كما تُسبى العبيد والإماء، وحُملنا على الأقتاب بغير وطاءٍ ولا سترٍ كما ترى. فقلت: يا سيّدتي، يعزّ والله على جدّكِ وأبيكِ وأُمّكِ وأخيكِ سبط نبيّ الهدى. فقالت: يا

ص: 180


1- ورد خبر سهل في: مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 60، وتسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 379، وبحار الأنوار للمجلسي: 45 / 127، وعوالم العلوم للبحراني: 7 / 427، والمنتخب للطريحي: 2 / 282، ولم نسمع فيها كلاماً يشبه هذا الكلام، وهو كلامٌ غريبٌ مُقرفٌ تقشعرّ منه الجلود وترتعش له القلوب ويقفّ له الشعر، سيّما إذا لاحظنا أنّه يدّعي -- حسب هذا النصّ -- توزيع ثيابه على كلّ واحدةٍ من بنات الوحي وحرم الله، فكم كانت ثيابه؟! والخبر عامّيٌّ شاذٌّ لا يُعتدّ به، والله العالم.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 207.

سهل، اشفع لنا عند صاحب المحمل أن يتقدّم بالرؤوس؛ ليشتغل النظّارة عنّا بها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا. فقلت: حُبّاً وكرامة. ثمّ تقدّمتُ إليه وسألتُه بالله وبالغت معه، فانتهرني ولم يفعل.

قال سهل: وكان معي رفيقٌ نصرانيٌّ يريد بيت المقدس، وهو متقلّدٌ سيفاً تحت ثيابه، فكشف الله عن بصره، فسمع رأس الحسين وهو يقرأ القرآن ويقول: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ...» ((1))، فقد أدركَته السعادة، فقال: أشهدُ أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله. ثمّ انقضى سيفه وشدّ به على القوم وهو يبكي، وجعل يضرب فيهم فقتل منهم جماعةً كثيرة، ثمّ تكاثروا عليه فقتلوه رحمه الله، فقالت أُمّ كلثوم: ما هذه الصيحة؟ فحكيتُ لها الحكاية، فقالت: وا عجباه! النصارى يحتشمون لدين الإسلام، وأُمّة محمّدٍ الّذين يزعمون أنّهم على دين محمّدٍ يقتلون أولاده ويسبون حريمه، ولكنّ العاقبة للمتقين: «وَمَاظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ((2)) ((3)).

وفي (المنتخب): فلمّا وردوا إلى دمشق جاء البريد إلى يزيد، وهو معصَّب الرأس ويداه ورجلاه في طشتٍ من ماءٍ حار، بين يديه طبيبٌ

ص: 181


1- سورة إبراهيم: 42.
2- سورة البقرة: 57.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 283 المجلس 3.

يعالجه، وعنده جماعةٌ من بني أُميّة يحادثونه، فحين رآه قال له: أقرّ عينك بورود رأس الحسين. فنظره شزراً وقال: لا أقرّ الله عينك. ثمّ قال للطبيب: أسرع واعمل ما تريد أن تعمل. فخرج الطبيب عنه وقد أصلح جميع ما أراد أن يصلحه، ثمّ إنّه أخذ كتاباً بعثه إليه ابن زياد وقرأه، فلمّا انتهى إلى آخره عضّ على أنامله حتّى كاد أن يقطعها ((1))، ثمّ قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ودفعه إلى مَن كان حاضراً، فلمّا قرؤوه قال بعضهم لبعض: هذا ما كسبَت أيديكم ((2)).

قال أبو مخنف: ثمّ أمر بمئةٍ وعشرين راية، وأمرهم أن يستقبلوا رأس الحسين صلی اله علیه وآله .

قال سهل: فأقبلَت الرايات، ومن تحتها التكبير والتهليل، وإذا بهاتفٍ يُنشد ويقول:

ص: 182


1- هذه الأخبار لا تصمد أمام النقد؛ إذ فيها ما يفيد ندم يزيد إشارة، وهذا ما لم يمكن أن يكون، ولا دليل عليه من كلمات أهل البيت وأولياء الدم المقدّس الّذي سكن في الخلد، وأيّ ندمٍ لقردٍ متعلّقٍ بالشجرة الملعونة في القرآن؟ ولو ثبت ندمه فلماذا اللعن والانتقام، ولماذا التشهير وإقامة المجلس ووقوع كلّ تلك الجنايات والمصائب في مجلسه؟! إلّا أن يُفهَم ندمه أن لا يكون هو المباشر لقتل سليل الأنبياء وسيّد شباب أهل الجنّة، أو يكون عضّه لأنامله من شدّة الفرح والشماتة.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 469 المجلس 10.

جاؤوا برأسك يا ابن بنت محمّدٍ***مترمّلاً بدمائه ترميلا

لايوم أعظم حسرةً من يومه***وأراه رهناً للمنون ((1)) قتيلا

فكأنّما ((2)) بك يا ابن بنت محمّدٍ***قتلوا جهاراً عامدين رسولا

ويكبّرون بأن قُتلتَ، وإنّما***قتلوا بك التكبير والتهليلا ((3))

إنّ الرماح الصادمات صدورها***صدر الحسين أصابت التنزيلا

قال سهل: ودخل الناس من باب الخيزران، فدخلتُ في جملتهم، وإذا قد أقبل تسعةٌ وتسعون بيرقاً ((4))، وإذا السبايا على المطايا بغير وطاء، ورأس الحسين بيد خولي ((5))، وهو يقول: أنا صاحب المجد الأصيل، أنا صاحب السيف الصقيل، أنا قتلت أعداءنا أجمعين، وأتيت برؤوسهم إلى يزيد أمير المؤمنين ((6)).

فقالت له أُمّ كلثوم: كذبتَ يا لعين ابن اللعين، ألا لعنة الله على القوم

ص: 183


1- في المتن: (في التراب).
2- في المتن: (وكأنّهم).
3- مقتل الحسين؟ع؟ لأبي مخنف (المشهور): 193.
4- في (المقتل): (وإذا قد أقبل ثمانية عشر رأساً).
5- في (المقتل) المطبوع: (شمر).
6- في (المقتل) المطبوع: (أنا صاحب الرمح الطويل، أنا قاتل ذي الدين الأصيل، أنا قتلت ابن سيّد الوصيّين، وأتيت برأسه إلى أمير المؤمنين!).

الظالمين، يا ويلك! أتفتخر بقتل مَن ناغاه في المهد جبرئيل، وحمله ميكائيل ((1))، ومَن اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش ربّ العالمين، ومَن ختم الله بجدّه المرسلين، وقمع بأبيه المشركين؟ فمن أين مثل جدّي محمّدٍ المصطفى صلی الله علیه وآله، وأبي عليّ المرتضى علیه السلام ، وأُمّي فاطمة الزهراء علیه السلام فأقبل عليها خولي وقال: لَعمري بأنّكِ من بيت الشجاعة ((2)).

وأقبل من بعد رأس الحسين علیه السلام رأس الحرّ بن يزيد الرياحي، يحمله شمر بن ذي الجوشن، وقد وضع في أُذنه رقعةً كتب فيها قصيدة من إنشائه، ذمّ فيها بني أُميّة وابن زياد، وكان قد نظمها حينما انحاز إلى نصرة الإمام المظلوم، وكان في الرقعة أيضاً أسماء المستشهدين بين يدَي الإمام، وإنّما وضع الرقعة في أُذن الحرّ ليقرأها يزيد وأعوانه فيزدادوا غيضاً وحنقاً.

ثمّ جاؤوا برأس العبّاس يحمله قشعم الجعفي، ثمّ رأس عليّ الأكبر ((3)) يحمله سنان بن أنس النخعي، ومن ورائهم سبايا آل البيت يتقدّمهم الإمام زين العابدين علیه السلام ، وأقبلَت جاريةٌ على بعيرٍ مهزولٍ بغير غطاءٍ ولا وطاء،

ص: 184


1- في (المقتل) المطبوع: (وناغاه في المهد جبرئيل وميكائيل).
2- في (المقتل) المطبوع: (تأبين الشجاعة، وأنتِ بنت الشجاعة).
3- في (المقتل) المطبوع: (وأقبل من بعده رأس العبّاس علیه السلام يحمله قشعم الجُعفي، وأقبل من بعده رأس عون علیه السلام يحمله سنان بن أنس، وأقبلت الرؤوس على أثرهم ...).

على وجهها برقع خزّ أدكن، وهي تنادي: وا أبتاه، وا محمّداه،وا عليّاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا عبّاساه، وا حمزتاه، وا عقيلاه، وا جعفراه، وا بُعد سفراه، وا سوء صباحاه!

قال سهل: فأقبلتُ إليها، فصاحت بي فوقعتُ مغشيّاً علَيّ، فلمّا أفقتُ دنوت منها وقلت لها: سيّدتي، لمَ تصيحين علَيّ؟ فقالت: أما تستحي من الله ورسوله أن تنظر إلى حرم رسول الله؟ فقلت: يا مولاتي، والله ما نظرتُ إليكم بريبة. فقالت: مَن أنت؟ فقلت: أنا سهل بن سعيد الشهرزوي، وأنا من مواليكم ومحبّيكم.

ثمّ أقبلتُ على عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام[وقلت له: مولاي، أنا من شيعتكم، ويا ليتني كنت معكم وكنت أوّل المستشهدين بين يديكم]. وقلت له: مولاي، هل لك من حاجة؟ فقال لي: «هل عندك من الدراهم شيء؟»، فقلت: ألف دينارٍ وألف ورقة. فقال: خذ منها شيئاً وادفعه إلى حامل الرأس، وأْمُره أن يُبعده عن النساء؛ حتّى تشتغل الناس بالنظر إليه عن النساء. ففعلت ذلك، ورجعتُ إليه وقلت له: يا مولاي، فعلتُ الّذي أمرتَني به. فقال لي: «حشرك الله معنا يوم القيامة».

ثمّ إنّ عليّ بن الحسين أنشأ يقول:

«أُقاد ذليلاً في دمشق، كأنّني***من الزنج عبدٌ غاب عنه نصيرُ

وجدّي رسول الله في كلّ مشهدٍ***وشيخي أميرُ المؤمنين أميرُ

فيا ليت أُمّي لم تلدني، ولم أكن***يزيد يراني في البلاد أسيرُ»

ص: 185

قال سهل: ورأيتُ روشناً عالياً فيه خمسة نسوة، ومعهنّ عجوزٌ محدودبة الظهر [لها زهاء ثمانون عاماً]، فلمّا صارت بأزاء الحسينعلیه السلام وثبَت العجوز وأخذَت حجراً وضربَت به رأس الحسين علیه السلام ((1))، فلمّا رأى عليّ بن الحسين ذلك دعا عليها ((2)) وقال: «اللّهمّ عجِّلْ بهلاكها وهلاك مَن معها». فما استتمّ دعاءه حتّى سقط الروشن، فسقطن بأجمعهنّ فهلكن، وهلك تحته خلقٌ كثير ((3)).

بأبي الرؤوس العاليات على القنا***مثل النجوم تضيئ في الأقطارِ

بدمائها،والريح في شيباتها***لعبَت بها عن يمنةٍ ويسارِ ((4))

روى الصدوق قال: فلمّا دخَلنا دمشق، أُدخل بالنساء والسبايا بالنهار مكشَّفات الوجوه، فقال أهل الشام الجفاة: ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء، فمَن أنتم؟ فقالت سكينة ابنة الحسين: نحن سبايا آل محمّد. فأُقيموا على درج المسجد حيث يُقام السبايا ((5)).

وفي (الملهوف): وجاء شيخٌ ودنا من نساء الحسين علیه السلام وعياله، وهم في

ص: 186


1- في (المقتل) المطبوع: (ثنايا الحسين علیه السلام).
2- في (المقتل) المطبوع: (فلمّا رأيتُ ذلك قلت: اللّهمّ ...).
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 194 وما بعدها.
4- مهيّج الأحزان لليزدي: 467 المجلس 13 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
5- الأمالي للصدوق: 166 المجلس 31 ح 3.

ذلك الموضع، فقال: الحمد لله الّذي قتلكم وأهلككم، وأراح البلاد عن رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له عليّ بن الحسين علیه السلام: «يا شيخ، هل قرأتَ القرآن؟»، قال: نعم. قال:«فهل عرفتَ هذه الآية: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((1))؟»، قال الشيخ: نعم، قد قرأتُ ذلك. فقال عليّ علیه السلام له: «فنحن القربى، [يا شيخ، فهل قرأتَ في بني إسرائيل: «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ» ((2))؟»، فقال الشيخ: قد قرأت. فقال عليّ بن الحسين: «فنحن القربى]، يا شيخ، فهل قرأتَ هذه الآية: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى» ((3))؟»، قال: نعم. فقال له عليّ علیه السلام :«فنحن القربى، يا شيخ، فهل قرأتَ هذه الآية: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ((4))؟»، قال الشيخ: قد قرأتُ ذلك. فقال عليّ علیه السلام: «فنحن أهل البيت الّذين خصّصنا الله بآية الطهارة يا شيخ». فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، وقال: بالله إنّكم هم؟! فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : «تالله إنّا لَنحن هم مِن غير شكّ، وحقِّ جدّنا رسول

ص: 187


1- سورة الشورى: 23.
2- سورة الإسراء: 26.
3- سورة الأنفال: 41.
4- سورة الأحزاب: 33.

الله صلی الله علیه وآله إنّا لَنحن هم». فبكى الشيخ، ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمّ إنّا نبرأ إليك مِن عدوّ آل محمّدٍ صلی الله علیه وآله من جنّ وإنس، ثمّ قال: هل لي من توبة؟ فقال له: «نعم، إن تبتَ تاب الله عليك، وأنت معنا»، فقال: أنا تائب. فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ، فأمر به فقُتل ((1)).وروى القطب الراوندي، عن المنهال بن عمرو قال: أنا واللهِ رأيتُ رأس الحسين علیه السلام حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يديه رجلٌ يقرأ الكهف حتّى بلغ قوله: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً» ((2))، فأنطق الله الرأس بلسانٍ ذربٍ ذلقٍ فقال: «أعجبُ من أصحاب الكهف قتلي وحملي!» ((3)).

إي والله، قصّتك أعجب من كلّ عجيب.

قال أبو مخنف: وأقبلوا بالرأس إلى يزيد بن معاوية، وأوقفوه ساعةً إلى باب الساعات، وأوقفوه هناك ثلاث ساعاتٍ من النهار ((4))، ولذلك سُمّي هذا الباب بباب الساعات.

وفي (البحار): فلمّا انتهوا إلى باب يزيد رفع مخفر بن ثعلبة صوته فقال:

ص: 188


1- اللهوف لابن طاووس: 176.
2- سورة الكهف: 9.
3- الخرائج للراوندي: 2 / 577 ح 1.
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 197.

هذا مخفر بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين بالفجرة اللئام!! فأجاب عليّ بن الحسين: «ما ولدت أُمّ مخفر أشرّ وألأم». وزاد في (المناقب): «ولكن قبّح الله ابن مرجانة» ((1)).

يعني به ابن زيادٍ الملعون.

وربّما كان سماع الإمام المظلوم هذه الكلمات المشؤومة من هذا الظلوم ذكّرته بابن زياد العاتي الغاشم، الّذي ارتكب بطغيانه وعتوّه ما جرّأ هذا الجرو النذل على هذه المقالة.

وقد جاؤوا بمخفر اللعين هذا إلى المختار، فلمّا نظر إليه قال له:لعنك الله يا ابن الزانية. ثمّ أمر فصُبّ على رأسه النفط وأُحرق، فطهّر الدنيا من وجوده النحس.

وجيء بإسحاق الحضرميّ إلى المختار، فقال له: لعنك الله، أنت الّذي فعلتَ ما فعلت في كربلاء، ثمّ أخذت أهل البيت إلى الشام مع مخفر بن ثعلبة، ولم تكن تفكّر في مثل هذا اليوم؟! فأمر فصُلب، وخُلعت كتفاه، وسُلخ جلده وهو حيّ.

ثمّ جاؤوا بهاني بن أبي حيّة، وكان ممّن سار بأهل البيت إلى الشام، فأمر فسُلخ جلد وجهه، وقطعوا يديه ورجليه، فهلك وفي جهنّم سلك.

ص: 189


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 130.

وهؤلاء الملاعين نالوا عقابهم في الدنيا، ولم يهنؤوا بالدنيا، ولكنّهم أحرقوا قلوب الشيعة وأشعلوا في الدنيا ناراً لم تخمد، لعنة الله عليهم أجمعين.

في (المنتخب): ثمّ أتوا إلى باب الساعات، فوقفوا هناك ثلاث ساعاتٍ يطلبون الإذن من يزيد، فبينما هم كذلك إذ خرج مروان بن الحكم، فلمّا نظر إلى رأس الحسين علیه السلام صار ينظر إلى أعطافه جذلاً طرباً، ثمّ خرج أخوه عبد الرحمان، فلمّا نظر إلى الرأس بكى، ثمّ قال: أمّا أنتم فقد حُجبتم عن جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله، واللهِ لا جامعتكم على أمرٍ أبداً. قال: بالعزيز علَيّ يا أبا عبد الله ما نزل بك. ثمّ أنشأ يقول:

سميّة أمسى نسلها عدد الحصى***وبنت رسول الله ليس لها نسلُ

إمامٌ غريب الطف، أدنى برأسه***من ابن زيادٍ وهو في العالم الرذلُ ((1))إمامٌ غريب الطف، أدنى برأسه من ابن زيادٍ وهو في العالم الرذلُ ((2))

قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام :«لمّا وفَدنا على يزيد بن معاوية (لعنه الله)، أتونا بحبالٍ وربطونا مثل الأغنام، وكان الحبل بعنقي وعنق أُمّ كلثوم وبكتف زينب وسكينة والبنات، وساقونا، وكلّما قصرنا عن المشي ضربونا، حتّى أوقفونا بين يدَي يزيد، وهو على سرير مملكته» ((3)).

قال ابن نما: وكان يزيد جالساً على السرير، وعلى رأسه تاجٌ مكلَّلٌ بالدرّ

ص: 190


1- المنتخب للطريحي: 2 / 470 المجلس 10.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 470 المجلس 10.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 473 المجلس 10.

والياقوت، وحوله كثيرٌ من مشايخ قريش ((1)).

وفي (التبر المذاب): فناداه الإمام زين العابدين علیه السلام: «يا يزيد، ما ظنُّك برسول الله صلی الله علیه وآله لو رآنا على هذا الحال، موثوقين بالحبال، عرايا على أقتاب الجمال بغير غطاءٍ ولا وطاء؟». فلم يبقَ في القوم إلّا مَن بكى ((2)).

وفي (المنتخب): فبكى يزيد ((3))، وأمر بالحبال فقُطّعت من أعناقنا وأكتافنا ((4)).

قال ابن نما: وقالت فاطمة بنت الحسين: يا يزيد، بناتُ رسول الله سبايا؟! فبكى الناس، وبكى أهل داره حتّى علَت الأصوات.

فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : «ما ظنّك برسول الله لورآني في غِلّ؟». فقال لمَن حوله: حلّوه ((5)).

وفي (الإرشاد): ثمّ قال يزيد (لعنه الله) لعليّ بن الحسين: يا ابن حسين، أبوك قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعَني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت. فقال عليّ بن الحسين: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي

ص: 191


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 128.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 180، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 236، الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / 488.
3- كذب اللعين وراوغ، إنْ صحّ أنّه بكى، لعنة الله ورسله وملائكته عليه!
4- المنتخب للطريحي: 2 / 473 المجلس 10.
5- مثير الأحزان لابن نما: 99.

أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ((1)). فقال يزيد لابنه خالد: اردُدْ عليه. فلم يدرِ خالد ما يردّ عليه، فقال له يزيد: قل «مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ» ((2)) ((3)).

وفي (المناقب): فقال عليّ بن الحسين: «يا ابن معاوية وهند وصخر، لم تزَلِ النبوّة والإمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تُولَد، ولقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب في يوم بدرٍ وأُحُد والأحزاب في يده راية رسول الله صلی الله علیه وآله، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار»، ثمّ جعل عليّ بن الحسين علیه السلام يقول:

«ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم:***ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأُممِ

بعترتي وبأهلي عند مفتقدي***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ»

ثمّ قال عليّ بن الحسين: «ويلك يا يزيد! إنّك لو تدري ماذاصنعتَ وما الّذي ارتكبتَ مِن أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي، إذاً لهربتَ في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور أن يكون رأس أبي الحسين ابن فاطمة وعليّ منصوباً على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول الله فيكم، فأبشِر بالخزي والندامة غداً إذا جُمع الناس ليوم القيامة» ((4)).

ص: 192


1- سورة الحديد: 22.
2- سورة الشورى: 30.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 120.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 135.

ثمّ دعا الدعيّ العنيد بالنساء والصبيان فأُجلسوا بين يديه، فرأى هيئةً قبيحة، فقال: قبّح الله ابن مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابةٌ ورَحِمٌ ما فعل هذا بكم، ولا بعث بكم على هذا ((1)).

وفي (المنتخب): إنّ الحريم لمّا أُدخلن إلى يزيد بن معاوية، كان ينظر إليهنّ ويسأل عن كلّ واحدةٍ بعينها، وهنّ مربَّطاتٍ بحبلٍ طويل، وكانت بينهنّ امرأةٌ تستر وجهها بزندها، لأنّها لم تكن عندها خرقة تستر وجهها، فقال: مَن هذه؟ قالوا: سكينة بنت الحسين. فقال: أنتِ سكينة؟ فبكت واختفت بعبرتها حتّى كادت تطلع روحها، فقال لها: وما يبكيكِ؟ قالت: كيف لا تبكي مَن ليس لها ستراً تستر وجهها ورأسها عنك وعن جلسائك؟ فبكى اللعين، ثمّ قال: لعن الله عُبيد الله بن زياد، ما أقوى قلبه على آل الرسول ((2)).

قال المؤلّف: رأيتُ يزيد الخبيث في عالم الرؤيا، فسألتُ اللعين عن الخبيث الّذي قرأ هذا البيت في مجلسه:

إملَأْ رکابي ذهباً وفضّة***إنّي قتلتُ السيّد المحجّبا

فقال: هوسنان.

ثمّ سألتُه عن المذكور في التاريخ مِن ستر السيّدة سكينة بإحدى يديها

ص: 193


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 136.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 473 المجلس 10.

وجهها وربط يدها الثانية بالحبل، فبكى اللعين وقال: لا تسأل عن حال السيّدة سكينة، فإنّها أحرقَت قلبي!!! ثمّ بكى اللعين بكاءً شديداً، وبكيت أنا، واستيقظت من نومي.

أجل، فإنّ مصيبة الحسين أعظم المصائب، وهذه المصيبة أعظم من جميع مصائب العالم، فقد بكى في مصائبهم العدوّ والصديق في جميع العوالم.

ثمّ التفت اللعين إلى سكينة وقال: يا سكينة، أبوكِ الّذي كفر حقّي وقطع رحمي ونازعني في مُلكي. فبكت سكينة وقالت: لا تفرح بقتل أبي، فإنّه كان مطيعاً لله ولرسوله، ودعاه إليه فأجابه وسعد بذلك، وإنّ لك يا يزيد بين يدَي الله مقاماً يسألك عنه، فاستعدّ للمسألة جواباً، وأنّى لك الجواب. قال لها: اسكتي يا سكينة، فما كان لأبيك عندي حقّ.

[فلمّا رأى حضّار مجلس الدعيّ اللعين، فصاحت بنت النبيّ محمّد المصطفى ببلاغته وعذوبة منطقها].

قال: فوثب رجلٌ من لخم وقال: يا أمير، هَبْ لي هذه الجارية من الغنيمة، فتكون خادمةً عندي. فانضمّت إلى عمّتها أُمّ كلثوم وقالت: يا عمّتاه، أترين نسل رسول الله يكونون مماليكاً للأدعياء؟! فقالت أُمّ كلثوم لذلك الرجل: اسكت يا لُكَع الرجال، قطع الله لسانك وأعمى عينيك وأيبس يديك، وجعل النار مثواك، إنّ أولاد الأنبياء لا يكونون خدمةً لأولاد الأدعياء. قال: فواللهِ ما استتمّ كلامها حتّى أجاب الله دعاءها في ذلك الرجل، فقالت: الحمد لله الّذي عجّل لك العقوبة فيالدنيا قبل الآخرة،

ص: 194

فهذا جزاء مَن يتعرّض بحرم رسول الله ((1)).

قال أبو مخنف: فنظر اللعين يزيد إلى أُمّ كلثوم وقال: كيف رأيتِ أن مكّنني الله منكم؟ ((2)) فقالت أُمّ كلثوم: يا ابن ((3)) الطليق! ((4)) أعرِضْ عن هذا، رضّ الله فاك، يا ويلك يا ملعون، هذه إماؤك ونساؤك وراء الستور عليهنّ الخدور، وبنات رسول الله على الأقتاب بغير وطاء، ينظر إليهن البرّ والفاجر ويتصدّق عليهنّ اليهود والنصارى؟! فنظر إليها شزراً، وكان في المجلس عُبيد الله بن عمرو بن العاص، فلمّا تبيّن الغضب في وجه يزيد علم أنّه عزم على قتلها، فقام من مكانه وقبّل رأس ذاك الخبيث اللعين وقال: إنّ الّذي کلمتك ليس بشيءٍ تأخذ به. فسکن غضبه ((5)).

وروى الشيخ المفيد في (الإرشاد) قال: قالت فاطمة بنت الحسين: ولمّا جلسنا بين يدَي يزيد رقّ لنا، فقام إليه رجلٌ من أهل الشام أحمر فقال: يا أمير المؤمنين، هَبْ لي هذه الجارية. يعنيني، وكنتُ جاريةً وضيئة، فأرعدت

ص: 195


1- المنتخب للطريحي: 2 / 472 المجلس 10.
2- في (المقتل) المطبوع: (يا أُمّ كلثوم، كيف رأيتِ صنع الله بكم؟).
3- في (المقتل) المطبوع: (يا ابن الطلقاء).
4- تقصد بالطليق: أبا سفيان، إذ شفع له العبّاس عمّ النبيّ يوم فتح مكّة، فأطلقه النبيّ صلی الله علیه وآله إكراماً لعمّه (من المتن).
5- ناسخ التواريخ، حياة السيّدة زينب لسپهر: 2 / 379، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 208.

وظننتُ أنّ ذلك جائزٌ لهم، فأخذت بثياب عمّتي زينب، وكانتتعلم أنّ ذلك لا يكون. وفي رواية السيّد: قلت: أُوتمتُ وأُستخدَم؟! فقالت عمّتي للشامي: كذبتَ والله، ولؤمت والله، ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبتِ والله، إنّ ذلك لي، ولو شئتُ أن أفعل لَفعلت. قالت: كلّا والله، ما جعل الله لك ذلك إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها. فاستطار يزيد غضباً، وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين أبوكِ وأخوكِ. قالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديتَ أنت وأبوك وجدّك، إن كنتَ مسلماً! قال: كذبتِ يا عدوّة الله. قالت له: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر لسلطانك. فكأنّه استحيا وسكت، وعاد الشامي فقال: هَبْ لي هذه الجارية. فقال له يزيد: اعزُب، وهب اللهُ لك حتفاً قاضياً ((1)).

وفي رواية السيّد رحمه الله: فقال الشامي: مَن هذه الجارية؟ فقال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين، وتلك زينب بنت عليّ بن أبي طالب. فقال الشامي: الحسين ابن فاطمة وعليّ بن أبي طالب؟ قال: نعم. فقال الشامي: لعنك الله يا يزيد، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته؟ واللهِ ما توهّمتُ إلّا أنّهم سبي الروم. فقال يزيد: واللهِ لَأُلحقنّك بهم. ثمّ أمر به فضُرب عنقه ((2)).

فمَن مُبلغ الکرّار ذا البأس والتُّقى***بأنّ بنيه بعد عزٍّ تذلّلوا

ص: 196


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 121، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 136.
2- اللهوف لابن طاووس: 187، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 137.

وآل يزيدٍ في المقاصير والخبا***تُناط عليهنّ الستور وتُسدَلُ

وأنّ بني الزهراء بنتِ محمّدٍ***وجوهُهُمُ للناس تبدو وتُبذَلُأما

غَيرةٌ؟! هذي بنات محمّدٍ***يُلاحظهنّ الناسُ والأعبد الرذّلُ ((1))

قال أبو مخنف بعد أن أُدخلت السبايا إلى مجلس يزيد الكافر وأُحضر رأس سيّد الشهداء في المجلس: فجعل مروان بن الحكم يهزّ أعطافه، وهو ينشد ويقول:

يا حبّذا بردك في اليدينِ***ولونك الأحمر في الخدَّينِ

كأنّما حُفّ بوردتينِ***شفيتُ نف-سي من دمِ الحسينِ ((2))

أُنظروا معاشرَ الشيعة كيف يتفوّه هذا الفاسق الحاقد -- فظّ الله فاه وقطع لسانه -- بهذه الكلمات في حقّ سيّد الكائنات وإمام المخلوقات، فيجدّد بذلك على قلوب المؤمنين الأحزان والكربات.

قال سهل: فدخلتُ مع مَن دخل لأنظر ما يصنع يزيد بهم ((3)) وبالرأس المقدّس، فأمر الخبيث أن يُغسل الرأس وتمشّط محاسنه.. كما في (أخبار الدول)، وكأنّ الخبيث اللعين أراد أن يمتثل -- شامتاً -- وصيّة الله (تعالى) في

ص: 197


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 475 المجلس: 13 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- في (المقتل) المطبوع:(شفيتُ قلبي من دم الحسينِ أخذتُ ثاري وقضيتُ دَيني)
3- مقتل الحسين ل علیه السلام أبي مخنف (المشهور): 198.

قربى النبيّ فيؤدّي أجر الرسالة: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((1))، فأحرق قلوب العالمين، وأجرى دموع الشيعة والمحبّين، فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله الحسين علیهالسلام.

قال سهل: فأمر بحطّ الرأس عن الرمح، وأن يوضَع في طشتٍ من ذهب، ويُغطّى بمنديلٍ ديبقيّ ((2))، ويُدخَل به عليه ((3)).

وفي رواية المفيد قال: ولمّا وُضعَت الرؤوس بين يدَي يزيد، وفيها رأس الحسين علیه السلام ، قال يزيد:

نفلّق هاماً من رجالٍ أعزّةٍ***علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقال يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم، وكان جالساً مع يزيد:

لهامٌ بأدنى الطف أدنى قرابةً***من ابن زياد العبد ذي الحسب الرذل

أُميّة أمسى نسلها عدد الحصى***وبنت رسول الله ليس لها نسل

فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال: اسكت ((4)).

فداءً لرأسك المقدّس أيّها المظلوم، ماذا جرى عليك وأنت تسمع وترى

ص: 198


1- سورة الشورى: 23.
2- الديبقيّ من ثياب مصر.
3- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 198، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 93، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 343 المجلس 31.
4- الإرشاد للمفيد: 2 / 119.

وتنظر ما يفعل هذا الخبيث؟ وماذا جرى على أهلك وعيالك من ظلم هذا الجبّار العنيد؟!

وفي (الملهوف): ثمّ وضع رأس الحسين علیه السلام بين يديه،وأجلس النساء خلفه لئلّا ينظرون إليه، فرآه عليّ بن الحسين علیه السلام ، فلم يأكل بعد ذلك أبداً، وأمّا زينب فإنّها لمّا رأته أهوت إلى جيبها فشقَّته، ثمّ نادت بصوتٍ حزينٍ يُفزع القلوب: يا حسيناه، يا حبيب رسول الله، يا ابن مكّة ومنى، يا ابن فاطمة الزهراء سيّدةِ النساء، يا ابن بنت المصطفى!

قال الراوي: فأبكت واللهِ كلَّ مَن كان في المجلس، ويزيد (عليه لعائن الله) ساكت ((1)).

وفي (الفصول المهمّة): فجعلت فاطمة وسكينة تتطاولان لتنظرا إلى الرأس، وجعل يزيد يستره عنهما، فلمّا رأينه صرخن وأعلنّ بالبكاء ((2))، فضجّ المجلس بالبكاء والعويل.

وفي رواية المفيد: ثمّ جعلَت إمرأةٌ من بني هاشم في دار يزيد تندب على الحسين علیه السلام وتنادي: وا حبيباه، يا سيّد أهل بيتاه، يا ابن محمّداه، يا ربيع الأرامل واليتامى، يا قتيل أولاد الأدعياء. فأبكت كلَّ مَن سمعها ((3)).

ص: 199


1- اللهوف لابن طاووس: 178.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 836 -- بتحقيق: سامي الغريري.
3- اللهوف لابن طاووس: 179، الكبريت الأحمر للبيرجندي: 253، ناسخ التواريخ لسپهر: 3 / 87 -- بترجمة: السيّد علي أشرف، من دون النسبة للمفيد.

لعن الله الجلف الصلف الّذي لم يستحِ من الله ولا من رسوله، إذ أحضر رأس المظلوم أمام عيون أخواته وبناته في المجلس.

ورُوي أنّه لمّا نظر نساء أهل البيت إلى الرأس الشريف صرخن وبكين عالياً، وقالت سكينة: يا يزيد، أيسرّك هذا؟! ((1))وفي (المناقب): [ثمّ نظر يزيد الخبيث الرأس المقدّس] وهو يقول: كيف رأيتَ يا حسين ((2)).

وفي (الملهوف): ثمّ دعا يزيد (عليه اللعنة) بقضيب خيزران، فجعل ينكت به ثنايا الحسين علیه السلام ((3)).

في بعض النسخ: (ينكت) ((4)) بالتاء، وفي بعضها: بالثاء (ينكث) ((5))، وإذا كان الثاء المثلّثة فمعناه أنّه كان يبدي حنقه وغيضه (عليه لعائن الله) بكسر الثنايا المقدّسة.

ولم يكتفِ بهذا الفعل الشنيع، وإنّما طفق ينبش حقده الدفين، ويُبدي

ص: 200


1- أُنظُر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 836 -- بتحقيق: سامي الغريري.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 128.
3- اللهوف لابن طاووس: 179.
4- أُنظُر: اللهوف لابن طاووس: 179، مثیر الأحزان لابن نما: 100، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 132.
5- أُنظُر: المنتخب: 2 / 470، الفتوح: 5 / 129، المنتظم: 5 / 432.

ما تجذّر فيه من ضغائن آبائه. ففي (المناقب) أنّه قال: يومٌ بيوم بدر ((1)). إذ قتل أبوه حيدرُ الكرّار أجدادَ يزيد الغدّار ومشايخه الأشرار، وعجّل بهم إلى دار البوار وبئس القرار.

شُلّت يد الخبيث اللعين الّذي جرح قلوب الشيعة، وآذى تلك الثنايا المنوّرة بقضيب الخيزران.

وفي (المنتخب): وكان بيده قضيب خيزران، فجعل ينكث ثناياه، ويفرّق بين شفتيه ((2))، ولم يستحِ منه وهو يتلو القرآن الكريم.

وفي رواية: قال الخبيث الرجس لمّا نظر إلى ثنايا أبي عبد الله:رحمك الله يا حسين، لقد كنتَ حسن المضحك ((3)).

فأقبل عليه أبو برزة الأسلميّ وقال: ويحك يا يزيد! أتنكت بقضيبك ثغر الحسين علیه السلام ابن فاطمة علیها السلام أشهد لقد رأيتُ النبيّ صلی الله علیه وآله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن علیه السلام ويقول: «أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، فقتل الله قاتلكما ولعنه، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً». فغضب يزيد، وأمر بإخراجه فأُخرج سحباً ((4)).

وفي (المنتخب): فسكت يزيد، وإذا بغرابٍ ينعق ويصيح في أعلى

ص: 201


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 375 الفصل 9.
2- المنتخب للطريحي: 1 / 187 المجلس 9 باب3.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 470.
4- اللهوف لابن طاووس: 179، بحار الأنوار للمجلسي: 133 / 45.

القصر، فأنشأ اللعين يقول [شعراً أعلن فيه نفاقه وكفره وفسقه]:

يا غراب البَين ماشئتَ فقُل***إنّما تندب أمراً قد فُعِل

کلُّ مُلكٍ ونعيمٍ زائلٌ***وبنات الدهر يلعبن دوَل ((1))

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا***جزع الخزرج مع وقع الأسَل

[ولا يُتوهّم أنّ هذا البيت بالخصوص من إنشاء يزيد اللعين، وذلك لأنّهم صرّحوا أنّه لابن الزبعرى، ويشهد له قوله: (جزع الخزرج)، والخزرج لم يقاتلوا مع الحسين علیه السلام ، وكان الأنسب أن يقول: (جزع بني هاشم مِن وقع الأسل)، ويكفي في كفرالطاغي العنيد إنشاده هذا البيت في هذا الموضع، سيّما إذا لاحظنا البيت الذي يليه:]

لَأهلّوا واستهلّوا فرحاً***ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تُشَل

[قصد بذلك الخبيث أنّه كما انتقم الكفّار في معركة أُحُد لقتلاهم في بدر فقتلوا من أصحاب النبيّ الكثير، فكذلك انتقم هو مِن عليّ بن أبي طالب لقتله مشايخه الكفّار بقتله ولده سيّد الشهداء علیه السلام].

قد قتلنا القوم من ساداتهم***وعدلناه ببدرٍ فاعتدل

وأخذنا من عليٍّ ثارنا ((2))***وقتلنا الفارس الندب البطل

لستُ من خِندف إن لم انتقم***من بني أحمد ما کان فعل

ص: 202


1- في (المنتخب) المطبوع: (يلعبن بكل).
2- في المتن: (الثار من ابن علي).

لعبَت هاشمُ بالمُلك، فلا***خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل ((1))

إستمعوا إلى هذا الحقير الأحقر من الكلب العقور كيف أعلن كفره!

قال أبو مخنف: وأنشد اللعين أيضاً هذه الأبيات:

إن يکن أحمد قِدماً مرسَلاً***فلمَ القتلُ عليه قد دخل؟

وبقينا نحن في دولتنا***وکذا الأيّام والدهر الدول

أيّها الملعون الغويّ، إنّ شهادة النبيّ وأولاده دليلٌ على فلاحهم وسعادتهم، وتسلّطك دليل نكبتك وشقائك.وروى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله (تعالى): «وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ» ((2))، بعد ذكره لقوله: (لستُ من خندف) هذا البيت:

وكذاك الشيخ أوصاني به***فاتّبعتُ الشيخ فيما قد سأل ((3))

يُحتمَل أن يريد بالشيخ أباه الطاغي العنيد معاوية، الّذي أمره بقتل الإمام الحسين علیه السلام ، ويُحتمل أن يريد به عمر بن الخطّاب الّذي كتب إلى معاوية كتاباً طويلاً وأمره بقتل الإمام واستئصاله، وقد عرض يزيد تلك الرسالة على عبد الله بن عمر، فخرج من عنده وهو يمدحه ويثني عليه

ص: 203


1- المنتخب للطريحي: 2 / 470.
2- سورة الحجّ: 60.
3- في (تفسير القمّي: 2 / 86) بعد أن روى أبيات (ليت أشياخي ببدرٍ..)، قال: (وقال الشاعر في مثل ذلك: ...)، ثمّ نقل البيت الّذي رواه المؤلّف عنه.

لقتله الإمام السعيد، وقد أتيتُ على ذِكر تلك الرسالة في المجلس الأوّل من هذا الكتاب.

أجل، هل تلد الحيّة إلّا الحيّة؟ اللّهمّ العن أوّل ظالمٍ ظلم حقّ محمّدٍ وآل محمّد، وآخر تابعٍ له على ذلك.

وفي (التبر المذاب): قال الزهري: لمّا جاءت الرؤوس، كان يزيد (لعنه الله) على منطرة جيرون، فأنشد يقول:

لمّا بدت تلك الحمول وأشرقَت***تلك الشموس على رُبى جيرونِ

نعب الغراب،فقلت: صح أو لا تصح***فلقد قضيتُ من النبيّ ديونيقال مجاهد: فوَاللهِ لم يبقَ أحدٌ في الدنيا إلّا سبّه ولعنه ((1)).

قال المؤلّف: إنّ كفر الخبيث اللئيم أوضح من أن يتعرّض أحدٌ لبيانه، بل لقد كان الملعون أعرف بكمالات الإمام الصوريّة والمعنويّة من كثيرٍ من أهل زمانه، ومع ذلك صدر منه ما صدر.

رُوي أنّ يزيداً ((2)) كان جالساً، وكان في مجلسه شاعران من شيعة أمير

ص: 204


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 179، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 235.
2- في (تشييد المطاعن للكهنوي: 16 / 266): ذكر الشيخ البهائيّ في كشكوله: رُوي أنّ معاوية كان جالساً، وعنده ابنه يزيد وعمرو بن العاص، فعرضت عليه جائزة، فقال معاوية: لو كان عندي غيركما لَأهديتُ به إلى بيت المال، فالآن أيّكما يُنشد بشعرٍ حسنٍ فله هذه الهديّة؟ فقالا: أنشِدْ أوّلاً. فقال معاوية: خير البريّة بعد أحمد حيدرٌ***فالناس أرضٌ والوصيّ سماءُ ثمّ قال ابنه يزيد: ومليحةٌ شهدَت لها ضرّاؤها والحُسن ما شهدَت به الضرّاءُ ثمّ قال عمرو بن العاص: واللهِ، قد شهد العدوُّ بفضله والفضل ما شهدَت به الأعداء

المؤمنين علیه السلام ، فقال يزيد: مَن منكما يُنشد بيتاً في مدح عليٍّ على البداهة؟ فقالا: أنشد أوّلاً. فقال اللعين على البداهة -- بحكم قولهم: (والفضلُ ما شهدَت به الأعداءُ):

خيرُ البريّة بعد أحمد حيدرٌ***فالناس أرضٌ والوصيّ سماءُ

فقال أحد الشاعرَين:

ومناقبٌ شَهِد العدوُّ بفضلها***والفضلُ ما تشهد به الأعداءُ

فقال الشاعر الآخر:

کمليحةٍ شهدَت لها ضرّاتُها***والحُسن ما شهدَت به الضرّاءُ

وفي (البحار): ثمّ أقبل على أهل مجلسه فقال: إنّ هذا كان يفخر علَيّ ويقول: أبي خيرٌ من أب يزيد، وأُمّي خيرٌ من أُمّه، وجدّي خيرٌ من جدّه، وأنا خيرٌ منه، فهذا الّذي قتله، فأمّا قوله بأنّ أبي خيرٌ من أب يزيد، فلقد حاجّ أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه، وأمّا قوله بأنّ أُمّي خيرٌ من أُمّ يزيد، فلَعمري لقد صدق، إنّ فاطمة بنت رسول الله خيرٌ من أُمّي، وأمّا

ص: 205

قوله جدّي خيرٌ من جدّه، فليس لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخِر يقول بأنّه خيرٌ من محمّد، وأمّا قوله بأنّه خيرٌ منّي، فلعلّه لم يقرأ هذه الآية: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ» ((1)) ((2)).

قال المؤلّف: تصوّر الجاهل النحس أنّ سلطنة الدنيا منشأٌ لخير الآخرة، ولم يُدرك أنّ الدنيا مبغوضةٌ عند الحقّ (تعالى)، فإذا أقبلَت على أحدٍ لا يعني أنّه ينال درجةً عاليةً في الآخرة، ولو كان الأمر كما توهّمه هذا الملعون لَكان فرعون والنمرود من السعداء، اللّهمّ العنه لعن عادٍ وثمود.

[خطبة السيّدة فخر المخدّرات زينب]

لمّا شاهدَت فخر المخدّرات السيّدة زينب ما يجري، وقد تحمّلَت أعباءً ثقيلةً وعانت من آلام أعظم المصائب، ورأت أنّ الخبيث الملعون ما زال متمادياً في طغيانه وغيّه، لا يكفّ عن هذيانه وأكاذيبه وعدوانه بلسانه، وهو يفرق شفتَي أبي عبد الله بالخيزران، بل ويكسر ثناياه بالقضيب، فثارت غَيرتها الحيدريّة وهي بنت أسد الله، فكمدت الأسى والحزن والألم في قلبها، ومزّقت أثواب الصبر بعد أن كثرت فيها جراحات اللسان وسنان أفعال اللعين الجبان.

ص: 206


1- سورة آل عمران: 26.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 131.

في (الملهوف): فقامت زينب بنت عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقالت:

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين.

صدق الله سبحانه كذلك يقول: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون» ((1)).

أظننتَ يا يزيد حيث أخذْتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسراء، أنّ بنا هواناً عليه وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لِعظم خطرك عنده؟ فشمختَ بأنفك، ونظرت في عِطفك جذلان مسروراً، حيث رأيتَ الدنيا لك مستوثقة، والأُمورَ متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيتَ قول الله (تعالى): «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ» ((2)).

أمِنَ العدلِ يا ابن الطلقاء تخديرُك حرائرك وإماءك وسوقُك بنات رسول الله صلی الله علیه وآله سبايا، قد هتكتَ ستورهنّ، وأبديتوجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء مِن بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف، ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ، ولا مِن حُماتهنّ حمي؟ وكيف يُرتجى مراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمُه من دماء الشهداء؟ وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنئان، والإحن والأضغان؟

ص: 207


1- سورة الروم: 10.
2- سورة آل عمران: 178.

ثمّ تقول غير متأثّمٍ ولا مستعظِم:

لَأهلّوا واستهلّوا فرحاً***ثمّ قالوا: يا يزيد لا تُشَل

منتحياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة، تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذريّة محمّدٍ صلی الله علیه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب، وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم، فلَتَرِدَنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شُللت وبكُمت، ولم تكن قلتَ ما قلتَ وفعلتَ ما فعلت!

اللّهُمّ خُذْ لنا بحقّنا، وانتقِمْ مِن ظالمنا، وأحلِلْ غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حُماتنا.

فوَاللهِ ما فريتَ إلّا جلدك، ولا حززتَ إلّا لحمك، ولَتردنّ على رسول الله صلی الله علیه وآله بما تحمّلتَ مِن سفك دماء ذريّته وانتهكتَ من حُرمته في عترته ولُحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم، «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» ((1))، وحسبُك بالله حاكماً، وبمحمّدٍ صلی الله علیه وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلمُ مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً» ((2))، وأيّكم «شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً» ((3)).

ص: 208


1- سورة آل عمران: 169.
2- سورة الكهف: 50.
3- سورة مريم: 75.

ولئن جرَّتْ علَيّ الدواهي مخاطبتَك، إنّي لَأستصغرُ قدرك، وأستعظمُتقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عَبرى، والصدور حَرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب لِقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف مِن دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفّرها أُمّهات الفراعل، ولئن اتّخذتَنا مغنماً لَتجدنا وشيكاً مَغرماً، حين لا تجدُ إلّا ما قدّمَت يداك، «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ» ((1))، فإلى الله المشتكى، وعليه المعوَّل.

فكِدْ كيدك، واسعَ سعيك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكرنا، ولا تُميتُ وحيَنا، ولا تُدرك أمَدَنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين؟

فالحمد لله ربّ العالمين، الّذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخِرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكمل لهم الثواب، ويُوجِب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيمٌ ودود، وحسبنا الله ونِعْم الوكيل.

فقال يزيد (لعنه الله):

يا صيحةً تُحمَد من صوائح***ما أهون النوح على النوائح

ثمّ استشار أهل الشام فيما يصنع بهم، فقالوا: لا تتّخذنّ من كلب سوءٍ جرواً. فقال له النعمان بن بشير: أُنظر ما كان الرسول يصنع بهم، فاصنعه

ص: 209


1- سورة فصّلَت: 46.

بهم ((1)).

وفي (المنتخب): قالت له زينب بنت عليّ: يا يزيد، أما تخاف الله (سبحانه) مِن قتل الحسين؟ وما كفاك حتّى تستحثّ حرم رسول الله من العراق إلى الشام؟ وما كفاك انتهاك حرمتهنّ حتّى تسوقنا إليككما تُساق الإماء على المطايا بغير وطاءٍ من بلدٍ إلى بلد؟

فقال لها يزيد (لعنه الله): إنّ أخاكِ الحسين قال: «أنا خيرٌ من يزيد، وأبي خيرٌ من أبيه، وأُمّي خيرٌ من أُمّه، وجدّي خيرٌ من جدّه»، فقد صدق في بعضٍ وألحن في بعض، أمّا جدّه فرسول الله فهو خير البريّة، وأمّا أنّ أُمّه خيرٌ من أُمّي وأباه خيرٌ من أبي، كيف ذلك وقد حاكم أبوه أبي؟ ثمّ قرأ: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ((2)).

فقالت: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ» ((3))، ثمّ قالت: يا يزيد، ما قتَلَ الحسينَ غيرُك، لولاك لكان ابن مرجانة أقلّ وأذلّ، أما خشيتَ من الله بقتله؟ وقد قال رسول الله فيه وفي أخيه الحسن والحسين سيّدا شباب

ص: 210


1- اللهوف لابن طاووس: 181 وما بعدها.
2- سورة آل عمران: 26.
3- سورة آل عمران: 169 و170.

أهل الجنّة، فإن قلت: لا، فقد كذبت، وإن قلت: نعم، فقد خصمت نفسك.

فقال يزيد: «ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ» ((1))، وبقي خجلاناً ((2)).

وفي (المنتخب): ثمّ إنّه التفت [الدعيّ يزيد] إلى القوم وقال: كيف صنعتم بهم؟ فقالوا: جاءنا بثمانية عشر من أهل بيته وسبعين رجلاً من شيعته وأنصاره، فسألناهم النزول على حكم الأمير يزيد فأبَوا، فغدونا عليهم من شرق الأرض وغربها، وأحطنا بهم من كلّ ناحية،حتّى أخذَت السيوف مأخذها مِن هام القوم، فلاذوا بنا كما يلوذ الحمام من الصقر، فما كان إلّا ساعةً حتّى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجرّدةً وثيابهم مرمّلةً وخدودهم معفّرة، تصهرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، وزوّارهم العقبان والرخم. فأطرق يزيد برأسه وقال: كنتُ أرضى من طاغيتكم بدون قتل الحسين!!! ((3))

قال أبو مخنف: ودخل عليه شمر وهو يقول:

إملَأْ رکابي فضّةً أم ذهبا***إنّي قتلتُ السيّد المهذّبا!

ص: 211


1- سورة آل عمران: 34.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 479 المجلس 10.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 471 المجلس 10.

قتلتُ خير الناس أُمّاً وأبا****وخيرَهم جدّاً وأعلى نسبا ((1))

وأشرف الخلق جميعاً حسبا***سيّد أهل الحرمَين منسبا ((2))

طعنتُه بالرمح حتّى انقلبا***ضربتُه بالسيف ضرباً عجبا ((3))

فنظر إليه شزراً، وقال له: إذا علمتَ أنّه خير الناس أُمّاً وأباً فلمَ قتلتَه؟ املأَ اللهُ ركابك ناراً وحطباً! قال: أطلبُ منك الجائزة ((4)).فقال له: لا جائزة لك عندي ((5)). ثمّ أمر بضرب عنقه، فشفع فيه أحد الحاضرين في المجلس، فأطلقه.

قال أبو مخنف بعد نقل كلام مَن قصّ ليزيد (لعنه الله) قضايا يوم الطفّ وأخبره بها من خبر سهل، قال: فسمعَته هندُ بنت عبد الله ((6)) بن

ص: 212


1- في (المقتل) المطبوع و(الدمعة الساكبة): (وأكرم الناس جميعاً حسبا).
2- في (المقتل) المطبوع و(الدمعة الساكبة):سيّد أهل الحرمَين والورى ومَن على الخلق معاً منتصبا
3- في المتن: (حتّى مخبا).
4- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 201، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 95.
5- في (المقتل) المطبوع و(الدمعة الساكبة): (فلكزه يزيد بذبال سيفه، وقال له: لا جائزة لك عندي. فولّى هارباً).
6- في (المقتل) المطبوع و(الدمعة الساكبة): (فسمعَته بنت عبد الله زوجة يزيد، وكان مشغوفاً بها).

عامر ((1))، فدعَت برداءٍ فتردّت به، ووقفت من وراء الستر، وقالت ليزيد: هل معك أحد؟ قال: أجل. فأمر مَن كان عنده بالانصراف، وقال: ادخلي. فدخلَت.

الأمان الأمان يا شيعة من جفاء الزمان، يُخلى المجلس لدخول هند زوجة يزيد، ويُعقَد المجلس العام لتدخل زينب وأُمّ كلثوم وفاطمة وسكينة وسائر عقائل النبوّة ومخدّرات الوحي والقرآن؟!

اين

انتقام گر نفتادي به روز حشر

با

اين عمل معاملة خلق چون شدي

قال: فنظرَت إلى رأس الحسين علیه السلام ، فصرخت وقالت: ما هذا الّذي معك؟ فقال (لعنه الله): رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب. فبكت وقالت: يعزّ والله على فاطمة أن ترى رأس ولدها بينيدَيك، وإنّك يا يزيد فعلتَ فعلاً استوجبت به اللعن من الله ورسوله، واللهِ ما أنا لك بزوجةٍ ولا أنت لي ببعل. فقال لها: ما أنتِ وفاطمة؟ فقالت: بأبيها وبنيها هدانا الله وألبسَنا هذا القميص، ويلك يا يزيد! بأيّ وجهٍ تلقى الله ورسوله؟ فقال لها: يا هند، دعي هذا الكلام، فما اخترتُ قتله. فخرجَت باكية ((2)).

ص: 213


1- في المتن: (جعفر)، ويبدو أنّه تصحيفٌ أو سهو؛ لأنّه سيذكر بعد قليل: (عامر).
2- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 200، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 95.

قال المؤلّف: أيّها النذل الهابط، أما كان لك أن تُلقي ثوباً على رأس زينب على الأقلّ، كما فعلتَ مع ابنة عبد الله بن عامر؟

قال المجلسي (عليه الرحمة): وخرجَت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز امرأة يزيد، وكانت قبل ذلك تحت الحسين علیه السلام ، حتّى شقّت الستر وهي حاسرة، فوثبت إلى يزيد وهو في مجلسٍ عام، فقالت: يا يزيد، أرأس ابن فاطمة بنت رسول الله مصلوبٌ على فناء بابي؟! فوثب إليها يزيد فغطّاها، وقال: نعم، فأعولي عليه يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زيادٍ (لعنه الله) فقتله، قتله الله ((1)).

قال المؤلّف: إن لم تكن راضياً بقتل الإمام المظلوم الشهيد، فما هذه الأفعال المُقرفة والقساوة والصلف والطغيان في تعاملك مع الرأس المقدّس؟!

معاشرَ الشيعة، مَن أراد منكم أن يذوب في غصّة الاكتئاب والحزن على ما فعله هذا الخبيث اللعين، فلْيستمع إلى ما رواه في (التبر المذاب)، قال:فأمر بوضعه [وضع الرأس المقدّس] على طبقٍ من ذهب، ثمّ دعا بالشراب فشرب، ثمّ صبّ جرعةً منه على الرأس!!! ((2)) وقال: كيف رأيتَ

ص: 214


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 143.
2- هذا الكلام شاذٌّ مثيرٌ للقرف والغرابة، والأخبار المرويّة في هذا الباب لا تتضمّن هذا المعنى، وحاشا لمعدن الطهر والّذي أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً أن يُلوَّث بما ذكره الخافي وقبله ابن الجوزيّ ثمّ المؤلّف، فربّما كان إضافةً من الرواة، أو كان فيه تصحيفٌ أو سقط، كأن يكون: (صبّه إلى جانب الرأس)، وكيف كان فالخبر عامّيٌّ تقشعرّ له الجلود، فلا يُعتدّ به، والله العالم.

يا حسين؟ أتزعم أنّ أباك ساقٍ على الحوض، فإذا مررتُ عليه يومئذٍ فلا يسقني؟ وتقول أنّ جدّك حرّم آنية الذهب والفضّة على الأُمّة؟ ها رأسك على الذهب! ويفخر أبوك بأنّه قتل الأقران يوم بدر؟ هذا بذاك.

ثم أنشد ارتجالاً يقول:

هلالٌ بدا وهلالٌ أفَلْ***كذلك تجري صروفُ الدوَلْ

لئن ساءنا أنّ جيشاً مض-ى***لقد سرّنا أنّ جيشاً قفَلْ

لست من خندف إن لم***أنتقم من بني أحمد ما كان فعَلْ

قال صاحب كتاب (التبر المذاب): قال أهل العلم: صبّ الجرعة من الخمر على رأس الحسين علیه السلام ، واستهزاءً بأنّ عليّاً ساقٍ على الحوض، وأنّ محمّداً صلی الله علیه وآله حرّم الذهب والفضّة، وشِعره في الانتقام من بني أحمد واتراً عن شيوخه الكفَرةالمقتولين يوم بدر، إن صحّ عنه ذلك فهو كافر، لأنّه ما فعل ذلك إلّا وهو منكرٌ لِما جاء به النبيّ صلی الله علیه وآله وصحّ عنه من قوله في عليّ وأهل بيته علیهم السلام وبغضاً لهم، والمنكر لما جاء به النبيّ صلی الله علیه وآله وعدم التصديق به كافر ((1)).

ص: 215


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 208.

ثمّ نقل عن أبي الفرج ابن الجوزيّ قوله: ليس العجب من قتال ابن زيادٍ الحسين علیه السلام ، وتسليط عمر بن سعد على قتله والشمر، وحمل الرؤوس إليه، وإنّما العجب صبّ الخمر على رأس الحسين علیه السلام !!! [وضربه] بالقضيب ثناياه، وأمر ابن زياد بحمل آل بيت رسول الله صلی الله علیه وآله سبايا على أقتاب الجمال، وعزمه على دفع فاطمة بنت الحسين علیه السلام للرجل الّذي طلبها منه، وإنشاده: (ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا) ((1)).

أفيجوز أن يُفعَل هذا بالخوارج؟ أليس بإجماع المسلمين أنّ قتلى المسلمين يُكفَّنون ويُصلّى عليهم ويُدفنون؟ ((2))

وقول يزيد لفاطمة بنت الحسين؟ع؟: لي أن أسبيكم. لمّا طلبها الرجل، وهذا قولٌ لا يقنع لقائله وفاعله باللعنة.

ولو لم يكن في قلبها أحقادٌ جاهليّةٌ وأضغانٌ بدريّةٌ لاحترم الرأس لمّا وصل إليه، ولم يضربه بالقضيب، ولا صبّ عليه جرعة الخمر!!! ولَكفّنه ودفنه، وأحسن إلى آل رسول الله صلی الله علیه وآله

والدليل على صحّة ذلك أنّه استدعى ابن زياد، وشكره علىفعله، وأعطاه أموالاً جزيلةً وتُحفاً كثيرةً من بيت مال المسلمين، وقرّب مجلسه ورفع منزلته، وأدخله على نسائه، وجعله نديمه، وسكر ليلةً فقال للمغنّي:

ص: 216


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 260.
2- الردّ على المتعصّب العنيد: 52.

غنِّ. ثمّ أنشد بديهياً:

إسقِني شربةً تروّي فؤادي***ثم مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحبَ السرّ والأمانة عندي***ولتسديد مغنمي وجهادي

قاتلَ الخارجيّ، أعني حسيناً***ومبيدَ الأعداءِ والأضدادِ ((1))

وله أيضاً:

معشرَ الندمان قوموا***واسمعوا صوت الأغاني

واشربوا كأس مدامٍ***واتركوا ذكر المعاني

أشغلتني نغمة العي-***-دانِ عن صوت الأذانِ

وتعوّضتُ عن الحو***رِ خموراً في الدنانِ ((2))

وممّا يدلّ على كفر الدعيّ اللعين ما رواه في كتاب (بحار الأنوار) عن الرضا علیه السلام قال: «لمّا حُمل رأس الحسين إلى الشام، أمر يزيد (لعنه الله) فوُضع، ونُصب عليه مائدة،فأقبل هو وأصحابُه يأكلون ويشربون الفقاع، فلمّا فرغوا أمر بالرأس فوُضع في طستٍ تحت سريره، وبسط عليه رقعة الشطرنج، وجلس يزيد (لعنه الله) يلعب بالشطرنج ويذكر الحسين وأباه وجدّه (صلوات الله عليهم) ويستهزئ بذكرهم، فمتى قمر صاحبه تناول الفقاع فشربه ثلاث مرّات، ثمّ صبّ

ص: 217


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 260.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 261، حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 230 -- 232.

فضلته ممّا يلي الطست من الأرض، فمَن كان من شيعتنا فلْيتورّع عن شرب الفقاع واللعب بالشطرنج، ومَن نظر إلى الفقاع أو إلى الشطرنج فلْيذكر الحسين علیه السلام ولْيلعن يزيد وآل زياد، يمحو الله عزوجل بذلك ذنوبه ولو كانت كعدد النجوم».

وعن الهرويّ قال: سمعتُ الرضا علیه السلام يقول: «أوّل مَن اتُّخذ له الفقاع في الإسلام بالشام يزيد بن معاوية (لعنة الله عليه)، فأُحضر وهو على المائدة، وقد نصبها على رأس الحسين بن عليّ علیه السلام ، فجعل يشربه ويسقي أصحابه ويقول: اشربوا، فهذا شرابٌ مبارك، من بركته أنّا أوّل تناولناه ورأس عدوّنا بين أيدينا ومائدتنا منصوبةٌ عليه ونحن نأكل، ونفوسنا ساكنة وقلوبنا مطمئنّة. فمَن كان مِن شيعتنا فلْيتورّع عن شرب الفقاع؛ فإنّه شراب أعدائنا» ((1)).

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله، أيتجاسر هذا الوغد الهابط كلّ هذا التجاسر في محضر رأسك الشريف، وأنت تسمع وترى وتعلم؟! فيشرب بمحضرك الشراب، ويصبّ على رأسك المقدس ((2)) ... ويتفوّه بتلك المزخرفات والسفاسف وغير ذلك من قبائحالأقوال والأفعال؟!

ص: 218


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 176 ح 23 و24.
2- لم أجرؤ على كتابتها، وإنّي لا يمكن المصير إلى هذا القول أبداً، سيّما ونحن نعتقد ما يعتقده المؤلّف مِن أنّ الرأس المقدّس كان يسمع ويرى ويعلم، فلا يمكن أن يكون ذلك أبداً، وقد مرّ الحديث عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه صبّه ممّا يلي الطست، والخمر «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطان» بنصّ القرآن الكريم، وقد طهّر الله الحسين وأذهب عنه الرجس!

[جاريةٌ في بيت يزيد]

ومن جملة مَن لم يُطق النظر إلى ما فعله هذا الوغد الحقير جاريةٌ من جواري يزيد اللعين، إذ رأته ينكت بالخيزران على ثنايا أبي عبد الله ويقول:

يا حُسنه يلمع في لونينِ***يلمع في طشتٍ من اللُّجَينِ

كأنّما حُفّ بوردتينِ***كيف رأيتَ الضرب

يا حسينِ؟ ((1))

فلمّا سمعَت الجارية هذه الأبيات ورأت ما يفعله اللعين، قال أبو مخنف: قال الراوي: وخرجَت جاريةٌ من قصر يزيد، فرأته ينكت ثنايا الإمام، فقالت: قطع الله يديك ورجليك، أتنكت ثنايا طالما قبّلهما رسول الله صلی الله علیه وآله قال لها: قطع الله رأسكِ، ما هذاالكلام؟! فقالت له: اعلمْ يا يزيد كنتُ بين النائمة واليقظانة إذ نظرتُ إلى بابٍ من السماء قد انفتح، وإذا بسُلّمٍ من نور قد نزل من السماء إلى الأرض، وإذا بغلامين أمردين عليهما ثيابٌ خضرٌ وهما ينزلان على ذلك السُّلَّم، وقد بُسط لهما في ذلك الحال بساطٌ

ص: 219


1- في (الدمعة الساكبة: 5 / 96) وغيره: وفي بعض نسخ كتاب أبي مخنف ذكر هذه الأبيات، وهي قوله (لعنه الله): يا حُسنه يلمع باليدينِ يلمع في طشتٍ من اللُّجَينِ كأنّما حُفّ بوردتينِ كيف رأيت الضرب يا حسينِ؟ شفيتُ قلبي من دمِ الحسينِ أخذتُ ثاري وقضيتُ دَيني يا ليت مَن شاهد في الحُنين يرون فعلي اليوم بالحسينِ

من زبرجد الجنّة، وقد أخذ نور ذلك البساط من المشرق إلى المغرب، وإذا برجلٍ رفيع القامة مدوّر الهامة قد أقبل يسعى، حتّى جلس في وسط ذلك البساط، ونادى: «يا أبي آدم اهبط»، فهبط رجلٌ دُرّيّ اللون طويل، ثمّ نادى: «يا أبي سام اهبط»، فهبط، ثمّ نادى: «يا أبي إبراهيم اهبط»، فهبط، ثمّ نادى: «يا أبي إسماعيل اهبط»، فهبط، ثمّ نادى: «يا أخي موسى اهبط»، فهبط، ثمّ نادى: «يا أخي عيسى اهبط»، فهبط، ثمّ رأيتُ امرأةً واقفةً قد نشرت شعرها وهي تنادي: «يا أُمّي حواء اهبطي، يا أُمّي خديجة اهبطي، يا أُمّي هاجر اهبطي، ويا أُختي سارة اهبطي، ويا أُختي مريم اهبطي». وإذا هاتف من الجوّ يقول: هذه فاطمة الزهراء ابنة محمّدٍ المصطفى زوجة عليّ المرتضى أُمّ سيّد الشهداء المقتول بكربلاء. ثم إنّها نادت: «يا أبتاه! ألا ترى ما صنعَت أُمّتك بولدك الحسين علیه السلام ». فبكى رسول الله صلی الله علیه وآله وقال: «ألا ترى ما فعلَت الطغاة بولدي يا أبي آدم؟ لا أنالهم الله شفاعتي». فبكى آدم علیه السلام ، وبكى كلُّ مَن كان حاضراً حتّى بكت الملائكة لبكائهم، ثمّ إنّي رأيتُ رجالاً حول الرأس وقائلاً يقول: خذوا صاحب الدار واحرقوه بالنار. فخرجتَ أنت يا يزيد من الدار، وأنت تقول: النار النار، أين المفرّ من النار؟ فأقبل عليها وقال: ياويلكِ! ما هذا الكلام؟ أردتِ أن تُخجليني بين أهل مملكتي والرعيّة

ص: 220

والعامّة! فأمر بضرب عنقها ((1)).

[الجاثليق ورأس الجالوت]

وممّن لم يُطِق ما فعله اللعين يزيد أيضاً، رأس الجالوت والجاثليق.

قال أبومخنف بعد نقل نكث اللّعين ثنايا الحسين علیه السلام وشِعره المتقدّم المشوم بقوله: كيف رأيتَ الضرب يا حسين؟ وكان قد حضر عنده رأس الجالوت، وكان مقدَّماً عنده، فلمّا رأى وسمع ما سمع قال له: أتأذن لي أن أسألك؟ قال: سَلْ عمّا شئت. قال: سألتك بالله إلّا ما أخبرتني لمَن هذا الرأس؟ قال: هذا رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّه فاطمة بنت محمّد المصطفى. قال: فيما استوجب القتل وهو ابن بنت نبيّكم؟! قال: إنّ أهل العراق دعوه وكتبوا إليه، وأرادوا أن يُجلسوه خليفة، فقتله عاملي عُبيد الله بن زياد وبعث إليّ برأسه. فقال له رأس الجالوت: مَن يكون أحقّ بالخلافة منه وهو ابن بنت نبيّكم؟ ما أعجب أمركم! اعلمْ يا يزيد إنّ بيني وبين داود علیه السلام نيف وثلاثون أباً، واليهود يعظّموني ويأخذون التراب من تحت أقدامي ويمسحون به وجوههم، ولايريدون التزويج إلّا بي، وأنتم بالأمس كان نبيّكم خلف ظهوركم، واليوم شددتم على ولده فقتلتموه؟! واللهِ أنتم شرّ أُمّة. فقال له يزيد (لعنه الله): يا ويلك! لولا بلغني عن رسول

ص: 221


1- مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 206.

الله أنّه قال: مَن آذى معاهداً كنتُ خصمه يوم القيامة، لَقتلتك. فقال رأس الجالوت: يا يزيد، هذا عليك لا لك، يكون النبيّ صلی الله علیه وآله خصم مَن قتل معاهداً ولا يكون خصم مَن قتل ولده؟! ثمّ قال: يا أباعبد الله، اشهد عليه عند جدّك صلی الله علیه وآله أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ جدّك محمّداً رسول الله صلی الله علیه وآله. فقال له يزيد: قد خرجتَ مِن دينك ودخلتَ في دِين الإسلام، فقد برئنا من ذمّتك. ثمّ أمر بضرب عنقه رحمه الله علیه ((1)).

فبينما هو كذلك إذ دخل عليه جاثليق النصارى، وفي يده عكازٌ يتوكّأ عليه، وكان شيخاً كبيراً، وعليه ثيابٌ سود، وعلى رأسه برنس، فنظر إلى رأس الحسين علیه السلام بين يدَي يزيد (لعنه الله)، فقال: يا يزيد، هذا رأس مَن؟ قال: رأسُ خارجيّ خرج علينا بأرض العراق. فقال: وما اسمه؟ فقال: الحسين بن عليّ بن أبي طالب. قال: ومَن أُمّه؟ قال: فاطمة الزهراء بنت محمّدٍ المصطفى. فقال له الجاثليق: فيما استوجب القتل؟ قال: لأنّ أهل العراق دعوه وكتبوا إليه، وأرادوا أن يُجلسوه خليفة، فقتله عاملي عُبيد الله ابن زياد وبعث إليّ برأسه. فقال له الجاثليق: يا يزيد، ارفعه مِن بين يديك وإلّا أهلكك الله (تعالى)، ولقد كنتُ الساعة في البقعة إذ سمعت رجفةً شديدة، فنظرت في السماء وإذا أنا برجلٍ أحسن من الشمس وقد نزل من

ص: 222


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 268، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 202 وما بعدها.

السماء، ومعه رجالٌ كثيرة، فقلت لبعضهم: مَن هذا الرجل؟ فقال لي: هذا محمّد المصطفى صلی الله علیه وآله، وهؤلاء الملائكةحوله يعزّونه بولده الحسين علیه السلام . ارفعه من بين يديك! فقال له: يا ويلك! جئتَ تخبرني بأحلامك الكاذبة؟ والله لَأضربنّ بطنك وظهرك. ثمّ قال: خذوه. ثمّ أخذوه فجعلوا يسحبونه حتّى أوقفوه بين يديه، وجعلوا يضربونه بالسياط، فلمّا ألّمه الضرب نادى: يا أبا عبد الله، اشهَدْ لي عند رسول الله صلی الله علیه وآله أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ جدّك محمّداً صلی الله علیه وآله عبده ورسوله، وأنّ أباك عليّاً علیه السلام أميرُ المؤمنين. فغضب يزيد (لعنه الله) من كلامه وقال: أوجعوه ضرباً. فجعلوا يضربونه حتّى رضّوا جسده، فقال له: يا يزيد، إن شئت اضرب، وإن شئت لا تضرب، فهذا رسول الله صلی الله علیه وآله واقفٌ بإزائي وفي يده قميصٌ من نورٍ وتاجٌ من الذهب، وهو يقول: «ليس بيني وبينك أن تلبس هذا القميص وأتوّجك بهذا التاج إلّا خروج روحك من الدنيا، ثمّ أنت رفيقي هذا في الجنان العُلى، لأجل محبّتك لأهل بيتي علیهم السلام». فلم يلبث إلّا ساعةً حتّى فارقَت روحه الدنيا رحمه الله علیه ((1)).

ص: 223


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصورة): 268، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 204 وما بعدها.

[عبد الوهّاب النصراني]

وفي (المنتخب): رُوي في بعض الأخبار عن ثقات الأخيار أنّ نصرانيّاً أتى رسولاً من ملِك الروم إلى يزيد (لعنه الله)، وقد حضر في مجلسه الّذي أتى إليه فيه برأس الحسين علیه السلام ، فلمّا رأىالنصرانيّ رأس الحسين علیه السلام بكى وصاح وناح حتّى ابتلّت لحيته بالدموع، ثمّ قال:

اعلم يا يزيد أنّي دخلتُ المدينة تاجراً في أيّام حياة النبيّ صلی الله علیه وآله، وقد أردتُ أن آتيه بهديّة، فسألت رجلاً من أصحابه: أيّ شيءٍ أحبّ إليه من الهدايا؟ فقال: الطيب أحبّ إليه من كلّ شيء.

قال: فحملتُ من المسك فأرتين وقدراً من العنبر الأشهب وجئت به إليه، وهو يومئذٍ في بيت زوجته أُمّ سلَمة، فلمّا ساعدت جماله ازداد لعيني من لقائه نوراً ساطعاً وزادني منه سرور، وقد تعلّق قلبي بمحبّته، فسلّمت عليه ووضعت العطر بين يديه، فقال: «ما هذا؟»، قلت: هديّة محقّرة أتيت بها إلى حضرتك. فقال: «ما اسمك؟»، فقلت: اسمي عبد الشمس. فقال لي: «بدل اسمك، فأنا سمّيتُك عبد الوهّاب، إن قبلتَ منّي الإسلام قبلتُ منك الهديّة». قال: فنظرتُه وتأمّلتُه فعلمت أنّه نبيّ، أخبرَنا عنه عيسى علیه السلام ، فاعتقدت ذلك وأسلمت على يده في تلك الساعة.

ورجعت إلى الروم وأنا أُخفي الإسلام، ولي مدّةٌ من السنين وأنا مسلمٌ مع خمسٍ من البنين وأربع من البنات، وأنا اليوم وزير ملك الروم، وليس

ص: 224

لأحدٍ من النصارى اطّلاعٌ على حالنا.

واعلم يا يزيد أنّ ذات يومٍ كنتُ في حضرة النبيّ صلی الله علیه وآله وهو في بيت أُمّ سلَمة، رأيتُ هذا العزيز الّذي رأسه بين يديك مهيناً حقيراً قد دخل على جدّه صلی الله علیه وآله من باب الحجرة، والنبيّ صلی الله علیه وآله فاتحٌ باعه ليتناوله، وهو يقول: «مرحباً بك يا حبيبي»، حتّى أنّه تناوله وأجلسه في حِجره، وجعل يقبّل شفتيهويرشف ثناياه، وهو يقول: «بَعُد عن الرحمة مَن قتلك وأعان على قتلك يا حسين»، والنبيّ صلی الله علیه وآله مع ذلك يبكي، فلمّا كان اليوم الثاني كنت مع النبيّ صلی الله علیه وآله في مسجده إذ أتاه الحسين علیه السلام مع أخيه الحسن علیه السلام وقال: «يا جدّاه، قد تصارعت مع أخي الحسن علیه السلام، ولم يغلب أحدنا الآخَر، وإنّما أُريد أن نعلم أيّنا أشدّ قوّةً من الآخر»، فقال لهما النبيّ صلی الله علیه وآله: «يا حبيبَيّ يا مهجتَيّ، إنّ التصارع لايليق لكما، لكن اذهبا فتكاتبا، فمَن كان خطّه أحسن كذلك تكون قوّته أكثر». قال: فمضيا، وكتب كلُّ واحدٍ منهما سطراً وأتيا إلى أحدهما النبيّ صلی الله علیه وآله فأعطياه اللّوح ليقضي بينهما، فنظر النبيّ صلی الله علیه وآله إليهما ساعة، ولم يرد كسر خاطرهما، فقال: «يا حبيبَيّ، إنّي نبيٌّ أُمّيّ لا أعرف الخطّ!! اذهبا إلى أبيكما علیه السلام ليحكم بينكما وينظر أيّكما أحسن خطّاً». قال: فمضيا إليه، وقام النبيّ صلی الله علیه وآله أيضاً معهما، ودخلوا جميعاً إلى منزل فاطمة علیها السلام، فما كان إلّا ساعة وإذا النبيّ صلی الله علیه وآله مُقبلٌ وسلمان الفارسيّ معه، وكان بيني وبين سلمان صداقة ومودّة، فسألتُه: كيف حكَمَ لهما أبوهما علیه السلام، وخطّ أيّهما أحسن؟ قال سلمان رضی الله عنه: إنّ النبيّ صلی الله علیه وآله لم يُجبهما

ص: 225

بشيء؛ لأنّه تأمّل أمرهما وقال: «لو قلتُ خطّ الحسن علیه السلام أحسن كان يغتمّ الحسين علیه السلام، ولو قلت خطّ الحسين علیه السلام أحسن كان يغتمّ الحسن علیه السلام»، فوجّههما إلى أبيهما علیه السلام. فقلت: يا سلمان، بحقّ الصداقة الّتي بيني وبينك وبحقّ دين الإسلام إلّا ما أخبرتَني كيف حكم أبوهما علیه السلام بينهما؟ فقال: لمّا أتيا إلى أبيهما علیه السلام وتأمّل حالهما، رقّ لهماولم يرد أن يكسر قلب أحدهما، قال لهما: «امضيا إلى أُمّكما علیها السلام فهي تحكم بينكما»، فأتيا إلى أُمّهما علیها السلام وعرضا عليها ما كتبا في اللّوح، وقالا: «يا أُمّاه، إنّ جدّنا صلی الله علیه وآله أمرنا أن نكاتب، فكلّ مَن كان خطّه أحسن تكون قوّته أكثر، فكاتبنا وجئنا إليه، فوجّهَنا إلى أبينا علیه السلام فلم يحكم بيننا، ووجّهَنا أبي علیه السلام عندكِ»، فتفكّرت فاطمة علیها السلام بأنّ جدّهما صلی الله علیه وآله وأباهما علیه السلام ما أرادا كسر خاطرهما، أنا ماذا أصنع؟ وكيف أحكم بينهما؟ فقالت لهما: «يا قرّة عينَيّ، أن أقطع قلادتي على رأسيكما، فأيّكما يلتقط من لؤلؤها أكثر كان خطّه أحسن وقوّته أكثر». قال: وكان في قلادتها سبع لؤلؤات، ثمّ إنّها قامت فقطعَت قلادتها على رأسهما، فالتقط الحسن علیه السلام ثلاث لؤلؤاتٍ والتقط الحسين علیه السلام ثلاث لؤلؤات، وبقيَت الأُخرى، فأراد كلٌّ منهما تناولها، فأمر الله (تعالى) جبرئيل بنزوله إلى الأرض وأن يضرب بجناحه تلك اللّؤلؤة ويقدّها نصفَين بالسويّة، ليأخذ كلٌّ منهما نصفها، لئلّا يغتمّ قلب أحدهما، فنزل جبرئيل لطرفة عينٍ وقدّ اللّؤلؤة نصفين، فأخذ كلٌّ منهما نصفاً.

ص: 226

فانظر يا يزيد كيف أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله لم يُرد أن يُدخِل على أحدهما ألم ترجيح الكتابة، ولم يُرد كسر قلبهما، وكذلك أمير المؤمنين وفاطمة علیهما السلام، وكذلك ربّ العزّة لم يُرد كسر قلب أحدهما، بل أمر من قسم اللّؤلؤة بينهما ليجبر قلبهما، وأنت هكذا تفعل بابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله أُفٍّ لك ولدينك يا يزيد.

ثمّ إنّ النصرانيّ نهض إلى رأس الحسين علیه السلام واحتضنه، وجعل يقبّله وهو يبكي ويقول: يا حسين، اشهَدْ لي عند ربّك وعندجدّك محمّدٍ المصطفى وأبيك عليّ المرتضى وعند أُمّك فاطمة الزهراء (صلوات الله عليهم أجمعين) ((1)).

قال المؤلّف: انظروا إلى هذا الخبيث كم بلغ به الشقاء، إذ يسمع كلّ هذه القصص ولا يرعوي، فهذا رسول ملك الروم -- في رواية (الملهوف) -- تكلّم بكلماتٍ لو سمعها الصخر الأصمّ لَذاب وتأثّر، لكنّها لم تؤثّر في قلب معدن الشرور وثمرة الشجرة الخبيثة الملعونة المذكورة في القرآن، بل زادت قلبه الأقسى من الحجر مرضاً.

[رسول ملِك الروم]

وفي (الملهوف): رُوي عن زين العابدين علیه السلام قال: «لمّا أُتي برأس الحسين علیه السلام إلى يزيد، كان يتّخذ مجالس الشرب، ويأتي برأس الحسين علیه السلام ويضعه

ص: 227


1- المنتخب للطريحي: 1 / 63 المجلس 4.

بين يديه ويشرب عليه، فحضر ذات يومٍ في مجلسه رسولُ ملِك الروم، وكان من أشراف الروم وعظمائهم، فقال: يا ملك العرب، هذا رأس مَن؟ فقال له يزيد: ما لَك ولهذا الرأس؟ فقال: إنّي إذا رجعتُ إلى ملكنا يسألني عن كلّ شيءٍ رأيتُه، فأحببتُ أن أُخبره بقصّة هذا الرأس وصاحبه حتّى يشاركك في الفرح والسرور. فقال يزيد (عليه اللعنة): هذا رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام. فقال الرومي: ومَن أُمّه؟ فقال: فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله» ((1)).وفي (المنتخب): قال النصراني: أما تراني إذا حقّقتُ النظر إليه يقشعرّ جسمي، وأسمعه يقرأ آياتٍ من كتابك ((2)).

وفي (الملهوف): فقال النصراني: أُفٍّ لك ولدينك، لي دِينٌ أحسن مِن دينكم؛ إنّ أبي من حوافد داوود علیه السلام ، وبيني وبينه آباء كثيرة، والنصارى يعظّموني ويأخذون من تراب قدمي تبرّكاً بأنّي من حوافد داوود علیه السلام ، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله، وما بينه وبين نبيّكم إلّا أُمٌّ واحدة! فأيّ دِينٍ دينكم؟! ثمّ قال ليزيد: هل سمعتَ حديث كنيسة الحافر؟ فقال له: قل حتّى أسمع. فقال: بين عمان والصين بحرٌ مسيره سنة، ليس فيها عمرانٌ إلّا بلدة واحدة في وسط الماء، طوله ثمانون فرسخاً في ثمانين فرسخاً، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها، ومنها يُحمل الكافور والياقوت، أشجارهم العود

ص: 228


1- اللهوف لابن طاووس: 190.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 341 المجلس 6.

والعنبر، وهي في أيدي النصارى، لا مُلك لأحدٍ من الملوك فيها سواهم، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة، وأعظمها كنيسة الحافر، في محرابها حُقّة ذهبٍ معلَّقة، فيها حافرٌ يقولون: إنّ هذا حافر حمارٍ كان يركبه عيسى علیه السلام ، وقد زيّنوا حول الحقّة بالديباج، يقصدها في كلّ عامٍ عالَمٌ من النصارى ويطوفون حولها ويقبّلونها ويرفعون حوائجهم إلى الله (تعالى) عندها، هذا شأنهم ورأيهم بحافر حمارٍ يزعمون أنّه حافر حمارٍ كان يركبه عيسى علیه السلام نبيّهم، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم؟! فلا بارك الله (تعالى) فيكم ولا في دِينكم. فقال يزيد (لعنه الله): اقتلوا هذا النصرانيّ لئلّا يفضحني فيبلاده. فلمّا أحسّ النصرانيّ بذلك قال له: أتريد أن تقتلني؟ قال: نعم. قال: اعلم أنّي رأيتُ البارحة نبيَّكم في المنام يقول: «يا نصرانيّ، أنت مِن أهل الجنّة»، فتعجّبتُ من كلامه، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله صلی الله علیه وآله. ثمّ وثب إلى رأس الحسين علیه السلام فضمّه إلى صدره وجعل يُقبّله ويبكي، حتّى قُتل ((1)).

قال المؤلّف: يعجز اللسان عن بيان ما جرى على الرأس المقدّس وأهل البيت في مجلس الخبيث اللعين من أفعالٍ وأقوالٍ وأحوال، سيّما ما اقترفه الخبيث الغدّار اللئيم بنفسه من عدوانٍ ضدّ إمام الزمان زين العابدين

ص: 229


1- اللهوف لابن طاووس: 190.

السجّاد، منها:

• ما رواه في (بحار الأنوار)، عن الصادق علیه السلام : «لمّا أُدخل رأس الحسين بن عليّ علیه السلام على يزيد (لعنه الله) وأُدخل عليه عليّ بن الحسين علیه السلام وبنات أمير المؤمنين (عليه وعليهنّ السلام)، كان عليّ بن الحسين علیه السلام مقيَّداً مغلولاً، فقال يزيد (لعنه الله): يا عليّ بن الحسين، الحمد لله الّذي قتل أباك. فقال عليّ بن الحسين: لعنة الله على مَن قتل أبي». قال: «فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه، فقال عليّ بن الحسين: فإذا قتلتَني فبنات رسول الله مَن يردّهم إلى منازلهم وليس لهم مَحرمٌ غيري؟ فقال: أنت تردّهم إلى منازلهم. ثمّ دعا بمبرد، فأقبل يبرد الجامعة من عنقه بيده، ثمّ قال له: ياعليّ بن الحسين، أتدري ما الّذي أُريد بذلك؟ قال: بلى، تريد أن لا يكون لأحدٍ علَيّ مِنّةٌ غيرك. فقال يزيد: هذا واللهِ ما أردت. ثمّ قال يزيد: يا عليّ ابن الحسين، «مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» ((1)). فقال عليّ بن الحسين: كلّا، ما هذه فينا نزلَت، إنّما نزلَت فينا: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا» ((2))، فنحن الّذين لا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا منها» ((3)).

قال المؤلّف: لم يتنبّه ذاك الشقيّ الظلوم إلى أيّ شيءٍ من سماع تلك

ص: 230


1- سورة الشورى: 30.
2- سورة الحديد: 22.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 168 -- عن: تفسير القمّي.

الأجوبة الشافية الوافية، ولم يقلع عن ضلالته وعناده وغوايته.

• قال أبو مخنف: التفت يزيد إلى عليّ بن الحسين علیه السلام وقال له: يا غلام، أنت الّذي أراد أبوك أن يكون خليفة، والحمد لله الّذي سفك دمه وأمكنني منه وأراح المؤمنين منه ((1)). فقال: «يا يزيد، مَن كان أحقّ بالخلافة، أنت أَم هو وابن بنت نبيّكم؟ يا يزيد، ما سمعتَ كلام الله إذ يقول: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا» ((2)) -- الآية؟». فغضب يزيد من ذلك، لأنّه كان يلبس الثياب الفاخرة وينظر في أعطافه، فلذلك قرأ عليّ بن الحسين علیه السلام: «إِنَّاللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» ((3))، فغضب يزيد وقال: يا غلام، تعرّضتَ بنا؟ فأمر برجلٍ بين يديه وقال له: خُذ هذا واضرب عنقه. فعند ذلك بكى عليّ بن الحسين علیهما السلام وأنشأ يقول:

«أُناديك يا جدّاه يا خير مرسلٍ***حبيبك مقتولٌ ونسلك ضايع

أُقاد ذليلاً في دمشق مكبَّلاً***وما لي مِن بين الخلائق شافع

لقد حكموا فينا علوجُ أُميّةٍ***فقد ظهروا فينا عظيم البدايع»

وجعلن عمّاته وأخواته يبكين ويندبن، فنادت أُمّ كلثوم: يا يزيد، لقد

ص: 231


1- في (المقتل) المطبوع: (... الّذي أمكنني منه وجعلكم أسرى بين يدَيّ، يراكم القريب والبعيد والحرّ والعبد، ما لكم من ناصرٍ ولا كفيل).
2- سورة الحديد: 22.
3- سورة لقمان: 18.

رويت الأرض من دم أهل البيت، أتريد أن لا تترك من نسل رسول الله صلی الله علیه وآله على وجه الأرض أحداً؟

قال: فبكى جلساؤه، وقالوا: دع هذا الصبيّ؛ فإنّه لا يحلّ قتله. فأمر بتركه.

ثمّ أقبل عليّ بن الحسين علیهما السلام على يزيد وقال: «سألتُك بالله، إن كان بينك وهؤلاء النساء قرابةٌ فابعث معهنّ مَن تثق به حتّى يبلغهنّ المدينة»، فانتهب الناس وضجّوا بالبكاء والعويل، فخشيَ يزيد (لعنه الله) الفتنة، وقال: يا غلام، لا يبلغهنّ غيرك. ثمّ أقبل على جلسائه وقال: أشيروا علَيّ إمّا بقتله أو بتركه. فقالوا: إنّه صبيٌّ لم يبلغ مبالغ الرجال، فلا يحلّ لك قتله.

فعند ذلك أمر رجلاً درب اللّسان قويّ الجنان مبالغاً في الخطابأن يصعد المنبر ولا يترك شيئاً من المساوي إلّا يجعلها في عليٍّ والحسين علیهما السلام، ففعل ذلك، فأقبلَت سكينة بنت الحسين علیها السلام وقالت: يا ويلك! ما أقلّ حياءك، وأيّ مساوي كانت في أبي وجدّي؟ فقال لها يزيد: ألا تسكتين يا بنت الخارجيّ؟ فقالت: يا ويلك، أيّما أحقّ بالخلافة، أنت أَم أبي؟ وأبوه عليّ بن أبي طالب علیه السلام وأُمّه فاطمة الزهراء جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ((1)).

ص: 232


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 278، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 210.

• وفي (المناقب): ورُوي أنّه قال لزينب: تكلّمي. فقالت: هو المتكلّم. فأنشد السجّاد:

«لا تطمعوا أن تهينونا فنكرمكم***وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

والله يعلم أنّا لا نحبكم***ولا نلومكم أن لا تحبونا»

فقال: صدقتَ يا غلام، ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرَين، والحمد لله الّذي قتلهما وسفك دماءهما. فقال علیه السلام : «لم تزلِ النبوّة والإمرة لآبائي وأجدادي مِن قبل أن تولد» ((1)).

قال المدائني: لمّا انتسب السجّاد إلى النبي صلی الله علیه وآله، قال يزيد لجلوازه: أدخِله في هذا البستان واقتله وادفنه فيه. فدخل بهإلى البستان، وجعل يحفر والسجّاد يصلّي، فلمّا هَمّ بقتله ضربَته يدٌ من الهواء فخرّ لوجهه وشهق ودُهش، فرآه خالد بن يزيد وليس لوجهه بقيّة، فانقلب إلى أبيه وقصّ عليه، فأمر بدفن الجلواز في الحفرة، وإطلاقِه ((2)).

وقد عزم اللعين يزيد عدّة مرّاتٍ على قتل الإمام العليل السجّاد علیه السلام ليقطع نسل رسول الله صلی الله علیه وآله، ولكنّه لم يقدر، رغم أنّه فعل كلّ ما في وسعه من أجل ذلك.

ص: 233


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 132 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، الفتوح لابن أعثم: 5 / 131، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 62.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 132 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف.

وفي (الملهوف): ثمّ أمر بهم إلى منزلٍ لا يكنّهم من حرٍّ ولا برد، فأقاموا به حتّى تقشّرت وجوههم، وكانوا مدّة إقامتهم في البلد المشار إليه ينوحون على الحسين علیه السلام ((1)).

وفي (البصائر): عن الإمام الصادق: «لمّا أتى بعليّ بن الحسين علیه السلام يزيدُ بن معاوية (عليهما لعائن الله) ومَن معه، جعلوه في بيت، فقال بعضهم: إنّما جعلَنا في هذا البيت ليقع علينا فيقتلنا. فراطن الحرس فقالوا: انظروا إلى هؤلاء يخافون أن تقع عليهم البيت، وإنّما يُخرجون غداً فيُقتَلون. قال عليّ بن الحسين علیه السلام: لم يكن فينا أحدٌ يُحسن الرطانة غيري. والرطانة عند أهل المدينة: الروميّة» ((2)).

وفي (المناقب): وموضع حبس زين العابدين هو اليوم مسجد ((3)).وكان الخبيث يزيد يبحث عن حجّةٍ ليقتل بها الإمام زين العابدين علیه السلام.

وفي (دعوات) الراوندي: رُوي أنّه لمّا حُمل عليّ بن الحسين علیه السلام إلى يزيد (لعنه الله)، همّ بضرب عنقه، فوقفه بين يديه وهو يكلّمه ليستنطقه بكلمةٍ يوجب بها قتله، وعليٌّ علیه السلام يجيبه حسب ما يكلّمه، وفي يده سبحةٌ صغيرةٌ يديرها بأصابعه وهو يتكلّم، فقال له يزيد: أُكلّمك وأنت تجيبني

ص: 234


1- اللهوف لابن طاووس: 188.
2- بصائر الدرجات للصفّار: 338 الباب 12 ح 1.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 132 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف.

وتدير أصابعك بسبحةٍ في يدك، فكيف يجوز ذلك؟ فقال: «حدّثَني أبي، عن جدّي، أنّه كان إذا صلّى الغداة وانفتل لا يتكلّم حتّى يأخذ سبحةً بين يديه فيقول: اللّهمّ إنّي أصبحتُ أُسبّحك وأُمجّدك وأحمدك وأُهلّلك بعدد ما أدير به سبحتي. ويأخذ السبحة ويديرها وهو يتكلّم بما يريد من غير أن يتكلّم بالتسبيح، وذكر أنّ ذلك محتسَبٌ له، وهو حِرزٌ إلى أن يأوي إلى فراشه، فإذا أوى إلى فراشه قال مثل ذلك القول ووضع سبحته تحت رأسه، فهي محسوبةٌ له من الوقت إلى الوقت، ففعلتُ هذا اقتداءً بجدّي». فقال له يزيد: لستُ أُكلّم أحداً منكم إلّا ويجيبني بما يعوذ به. وعفا عنه ووصله، وأمر بإطلاقه ((1)).

وفي (الملهوف) قال: وخرج زين العابدين علیه السلام يوماً يمشي في أسواق دمشق، فاستقبله المنهال بن عمرو فقال له: كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله؟ قال: «أمسينا كمثل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، يا منهال، أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً عربي، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينامعشر أهل بيته ونحن مغصوبون مقتولون مشرّدون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ممّا أمسينا فيه يا منهال».

ولله درّ مهيار حيث قال شعراً:

يعظّمون له أعواد منبره***وتحت أرجلهم أولاده وُضعوا

بأيّ حكمٍ بنوه يتبعونكمُ***وفخركم أنّكم صحبٌ له تبعُ؟

((2))

ص: 235


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 200، الدعوات للراوندي: 61.
2- اللهوف لابن طاووس: 193.

معاشرَ الشيعة، تصوّروا ما جرى على الأسرى في الشام، فإنّ قلوبكم ستحترق، وعيونكم ستنهمر دموعها، وسيتنغّص عيشكم، وتحرّمون اللذائذ على أنفسكم، فكيف يهنأ أحدكم بعيشٍ أو يخلد إلى نومٍ على فراشٍ وثير وسبايا آل الرسول يبكون وينوحون في الخربة ولا يفترون؟! سيّما إذا سمعتَ الخبر الّذي سأرويه عن شهادة بنت الحسين علیه السلام الصغيرة في خربة الشام.

[شهادة بنت الحسين علیه السلام في خربة الشام]

في (المنتخب): رُوي أنّه لمّا قدم آل الله وآل رسوله على يزيد في الشام أفرد لهم داراً، وكانوا مشغولين بإقامة العزاء، وإنّه كان لمولانا الحسين علیه السلام بنتاً عمرها ثلاث سنوات، ومن يوم استُشهد الحسين ما بقيَت تراه، فعظُم ذلك عليها واستوحشت لأبيها، وكانت كلّما طلبَته يقولون لها: غداً يأتي ومعه ما تطلبين.

إلى أن كانت ليلة من الليالي رأت أباها بنومها، فلمّا انتبهت صاحت وبكت وانزعجت، فهجعوها وقالوا: لما هذا البكاء والعويل؟فقالت: آتوني بوالدي وقرّة عيني. وكلّما هجعوها، ازدادت حزناً وبكاءً، فعظم ذلك على أهل البيت، فضجّوا بالبكاء وجدّدوا الأحزان، ولطموا الخدود وحثوا على رؤوسهم التراب ونشروا الشعور، وقام الصياح.

فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم، فقال: ما الخبر؟ قالوا: إنّ بنت الحسين

ص: 236

الصغيرة رأت أباها بنومها، فانتبهَت وهي تطلبه وتبكي وتصيح. فلمّا سمع يزيد ذلك قال: ارفعوا رأس أبيها وحطّوه بين يديها؛ لتنظر إليه وتتسلّى به.

فجاؤوا بالرأس الشريف إليها مُغطّىً بمنديلٍ ديبقي، فوُضع بين يديها وكُشف الغطاء عنه، فقالت: ما هذا الرأس؟! قالوا لها: رأس أبيكِ.

(أيّها الشيعي! إن كنتَ ترى نفسك مخلوقاً من فاضل طينة الإمام الحسين، فعلامة ذلك أنّك لا تتمالك نفسك وأنت تسمع هذه المصيبة، ولابدّ أن تجري دموعُك على خدّك، فإن اعرتك قساوة القلب فلابدّ لك أن تحزن على الأقلّ وتتباكى، لتستوجب الجنّة بذلك.

ولا تنسَ أنّ الرأس المقدّس يسمع ويرى ويحسّ بما يجري حوله، أما سمعتَه بأُذنَي قلبك وهو يتلو القرآن ويكلّم ابن وكيد وزيد بن أرقم وغيرهم؟ فهو الآن يرى ابنته وما يجري عليها، فضجّ مع من ضجّ في الخربة وابكِ معهم، فإنّك تسمع ما تقوله هذه البنت الصغيرة وأنت فاضل طينتهم).

فرفعَته من الطشت حاضنةً له, وهي تقول: يا أباه! مَن ذا الّذي خضّبك بدمائك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي قطع وريدك؟ يا أبتاه! مَن ذا الّذي أيتمني على صغر سنّي؟ يا أبتاه! مَن بقيَ بعدك نرجوه؟ ياأبتاه! مَن لليتيمة حتّى تكبر؟ يا أبتاه! مَن للنساء الحاسرات؟ يا أبتاه! مَن للأرامل المسبيّات؟ يا أبتاه! مَن للعيون الباكيات؟ يا أبتاه! مَن للضائعات الغريبات؟ يا أبتاه! مَن للشعور المنشرات؟ يا أبتاه! مِن بعدك واخيبتنا، يا أبتاه! مِن بعدك واغربتنا، يا أبتاه! ليتني كنت

ص: 237

الفدى، يا أبتاه! ليتني كنت قبل هذا اليوم عميا، يا أبتاه! ليتني وُسّدتُ الثرى ولا أرى شيبك مخضّباً بالدماء.

ثمّ إنّها وضعَت فمها على فمه الشريف، وبكت بكاءً شديداً حتّى غُشيَ عليها، فلمّا حرّكوها فإذا بها قد فارقَت روحُها الدنيا.

فلمّا رأوا أهل البيت ما جرى عليها، أعلنوا بالبكاء واستجدّوا العزاء، وكلّ مَن حضر من أهل دمشق، فلم يُرَ في ذلك اليوم إلاّ باكٍ وباكية ((1)).

فداءً لمظلوميّتك وغربة أهل بيتك يا أبا عبد الله، ماذا جرى على أُولئك المفجوعين عند غسل تلك الصغيرة وتكفينها ودفنها؟!

اين

انتقام گر نفتادي به روز محشر

با

اين عمل معامله خلق چون شدي

في (البحار): قال صاحب (المناقب): وذكر أبو مخنف وغيره أنّ يزيد (لعنه الله) أمر بأن يُصلَب الرأس على باب داره، وأمر بأهل بيت الحسين علیه السلام أن يدخلوا داره، فلمّا دخلَت النسوة دار يزيد لم يبقَ من آل معاوية ولا أبي سفيان أحدٌ إلّا استقبلهنّ بالبكاءوالصراخ والنياحة على الحسين علیه السلام، وألقين ما عليهنّ من الثياب والحُليّ، وأقمن المأتم عليه ثلاثة أيّام.

ص: 238


1- المنتخب للطريحي: 1 / 136 المجلس 7 الباب 2.

(الله! ماذا جرى على السيّدة زينب وأُمّ كلثوم حينما رأين نساء آل أبي سفيان عليهنّ الحُليّ والحلل، وهنّ عليهنّ الثياب القديمة؟ كيف تغيّرت أحوالهنّ وألوانهنّ من الحياء!! فمَن مِن شيعة الكرّار يطيق الصبر على هذا ويمتلك نفسه ويحبس دموعه؟ ولو كان قلبه من حجر، إذ أنّ من الحجارة لما يشقّق فيخرج منه الماء).

وخرجت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز امرأة يزيد -- وكانت قبل ذلك تحت الحسين علیه السلام -- حتى شقّت الستر وهي حاسرة، فوثبَت إلى يزيد وهو في مجلسٍ عام، فقالت: يا يزيد، أرأس ابن فاطمة بنت رسول الله مصلوبٌ على فناء بابي؟! فوثب إليها يزيد فغطّاها، وقال: نعم، فأعوِلي عليه يا هند وابكي على ابن بنت رسول الله وصريخة قريش، عجّل عليه ابن زياد (لعنه الله) فقتله، قتله الله. ثمّ إنّ يزيد (لعنه الله) أنزلهم في داره الخاصّة، فما كان يتغدّى ولا يتعشّى حتّى يحضر عليّ بن الحسين ((1)).

غير أنّ اللعين لم تخمد نيران الحقد والضغينة والحسد في قلبه، فكان بين الحين والآخر يلسع الإمام المظلوم كالعقرب المسموم، فأخذه يوماً معه إلى المسجد -- كما في (بحار الأنوار) --، ودعا يزيد الخاطب وأمره أن يصعد

ص: 239


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 142. لقد قدّم المؤلّف وأخّر في الخبر، فذكر دخول هند في أوّله، ونقلناه وفق ترتيب المصدر.

المنبر فيذمّ الحسين وأباه (صلوات الله عليهما)، فصعد وبالغ في ذمّ أمير المؤمنين والحسين الشهيد (صلوات الله عليهما) والمدح لمعاوية ويزيد، فصاح به عليّ بن الحسين علیه السلام: «ويلك أيّها الخاطب! اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأْ مقعدك من النار» ((1)).

وقال أبو مخنف: فقال له الخاطب: واللهِ لقد أخطأتُ فيما تكلّمتُ به، وأنا أعلم أنّ بكم فتح الله وبكم ختم الله (تعالى)، وإنّما أمرني يزيد أن أتكلّم بهذا الكلام ((2)).

[خطبة الإمام السجاد علیه السلام]

وفي (المناقب): ثمّ قال عليّ بن الحسين علیه السلام: «يا يزيد، ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلماتٍ لله فيهن رضىً ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجرٌ وثواب». قال: فأبى يزيد عليه ذلك، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، ائذن له فلْيصعد المنبر، فلعلّنا نسمع منه شيئاً. فقال: إنّه إن صعد لم ينزل إلّا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان. فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما قدر ما يُحسن هذا؟ فقال: إنّه مِن أهل بيتٍ قد زُقّوا العلم زقّاً. قال: فلم يزالوا به حتّى أذن له ((3)).

ص: 240


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 137.
2- معدن البكاء للمؤلّف: 272.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 137.

قال أبو مخنف: فقال الناس للخاطب: ما يضرّك ان تدع هذا الغلام يصعد المنبر، فإنّه إذا نظر إلى كثرة النّاس لم يتكلّم بشيء.فنزل الخاطب وقال له: اصعد ((1)).

وفي (المناقب): فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبةً أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب، ثمّ قال:

«أيّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع، أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد رسوله، ومنّا سبطا هذه الأُمّة، ومنّا مهديّ هذه الأُمّة ((2)).

ص: 241


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 272.
2- لم تُذكر هذه العبارة في (البحار)، وذكرها المؤلّف في كتابه (معدن البكاء (مصوّرة): 272)، وكتب في الهامش تعليقاً قال فيه: الظّاهر أنّ في الخبر سقطاً، وهو: «منّا مهديّ هذه الأُمّة»، كما يرشد إليه ما رُوي عن ابن المغازليّ في كتاب (مناقب آل أبي طالب) بإسناده يرفعه إلى أبي أيّوب الأنصاريّ عن رسول الله صلی الله علیه وآله في حديثٍ طويلٍ أنّه قال لفاطمة علیها السلام: «يا فاطمة، إنّا أهل بيتٍ أُعطينا سبع خصال، لم يُعطَها أحدٌ من الأوّلين والآخِرين قبلنا»، أو قال: «الأنبياء علیهم السلام، ولايدركها أحدٌ من الآخِرين غيرنا: نبيّنا صلی الله علیه وآله أفضل الأنبياء علیهم السلام، وهو أبوكِ، ووصيّنا علیه السلام أفضل الأوصياء، وهو بعلكِ علیه السلام ، وشهيدنا خير الشهداء، وهو حمزة عمّكِ، ومنّا مَن له جناحان يطير بهما في الجنّة حيث يشاء، وهو جعفر ابن عمّكِ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة، وهو ابناكِعلیهما السلام، ومنّا -- والّذي نفسي بيده -- مهديّ هذه الأُمّة».

مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسَبي ونسَبي. أيّها الناس، أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرامإلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، (أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى)، أنا ابن محمّدٍ المصطفى، أنا ابن عليٍّ المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا: لا إله إلّا الله، أنا ابن من ضرب بين يدَي رسول الله بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين وقاتل ببدرٍ وحُنين ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيّين وقامع الملحدين ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وزين العابدين وتاج البكّائين وأصبر الصابرين وأفضل القائمين من آل ياسين رسول ربّ العالمين، أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين والمجاهد أعداءه الناصبين وأفخر من مشى من قريش أجمعين وأوّل من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين وأوّل السابقين وقاصم المعتدين ومبيد المشركين وسهم من مرامي الله على المنافقين ولسان حكمة العابدين وناصر دين الله ووليّ أمر الله وبستان حكمة الله وعيبة علمه، سمحٌ سخيٌّ بهيٌّ بهلولٌ زكيٌّ أبطحيٌّ

ص: 242

رضيٌّ مقدامٌ همامٌ صابرٌ صوّامٌ مهذَّبٌ قوّام، قاطع الأصلاب ومفرّق الأحزاب، أربطهم عناناً وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمةً وأشدّهم شكيمة، أسدٌ باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة طحن الرحى، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز وكبش العراق، مكّيٌّ مدنيّ خيفيّ عقبيّ بدريّ أُحُديّ شجريّ مهاجريّ، من العرب سيّدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرَين، وأبوالسبطَين الحسن والحسين، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب»، ثمّ قال: «أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء» ((1)).

وفي (كتاب الأحمر): «أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المجزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتّى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى» ((2)).

وفي (المنتخب): «أنا ابن الّذي افترض الله ولايته فقال: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنا»، ألا إنّ الاقتراف مودّتنا أهل البيت» ((3)).

ص: 243


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 138 -- عن: مناقب آل أبي طالب.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 120 -- عن: كتاب الأحمر للأوزاعي.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 481 المجلس 10.

وفي (كتاب الأحمر): «أيّها الناس، إنّ الله (تعالى) وله الحمد ابتلانا أهل البيت ببلاءٍ حسن، حيث جعل راية الهدى والعدل والتُّقى فينا، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا، فضّلنا أهل البيت بستّ خصال، فضّلنا بالعلم والحِلم والشجاعة والسماحة والمحبّة والمحلة في قلوب المؤمنين، وآتانا ما لم يؤتِ أحداً من العالمين من قبلنا، فينا مختلف الملائكة وتنزيل الكتب» ((1)).وفي (المناقب): فلم يزل يقول أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد (لعنه الله) أن يكون فتنة، فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام، فلمّا قال المؤذّن: الله أكبر الله أكبر، قال عليّ: «لا شيء أكبر من الله»، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله، قال عليّ بن الحسين: «شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي»، فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: «محمّدٌ هذا جدّي أم جدّك يا يزيد؟ فإن زعمتَ أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمتَ أنّه جدّي فلمَ قتلتَ عترته؟» ((2)).

وفي (كتاب الأحمر): ثمّ قال: «معاشرَ الناس، هل فيكم مَن أبوه وجدّه رسول الله صلی الله علیه وآله»، فعَلَت الأصوات بالبكاء.

فقام إليه رجلٌ من شيعته يُقال له ((3)): مكحول، صاحب رسول

ص: 244


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 120 -- عن: كتاب الأحمر للأوزاعي.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 139 -- عن: مناقب آل أبي طالب.
3- في (البحار): (يُقال له: المنهال بن عمرو الطائيّ، وفي روايةٍ: مكحول، صاحب رسول الله).

الله صلی الله علیه وآله، فقال له: كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله؟ فقال: «ويحك! كيف أمسيت؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً منها، وأمسى آل محمّدٍ مقهورين مخذولين، فإلى الله نشكو كثرة عدوّنا وتفرّق ذات بيننا وتظاهر الأعداء علينا» ((1)).وفي (البحار): قال: وفرغ المؤذّن من الأذان والإقامة، وتقدّم يزيد فصلّى صلاة الظهر، وكان في مجلس يزيد هذا حبرٌ من أحبار اليهود، فقال: مَن هذا الغلام يا أمير المؤمنين؟ قال: هو عليّ بن الحسين. قال: فمن الحسين؟ قال: ابن عليّ بن أبي طالب. قال: فمن أُمّه؟ قال: أُمّه فاطمة بنت محمّد. فقال الحبر: يا سبحان الله! فهذا ابن بنت نبيّكم قتلتموه في هذه السرعة؟! بئسما خلفتموه في ذريّته، واللهِ لو ترك فينا موسى بن عمران سبطاً من صلبه لَظنّنا أنّا كنّا نعبده من دون ربّنا، وأنتم إنّما فارقكم نبيُّكم بالأمس فوثبتم على ابنه فقتلتموه! سوءةً لكم مِن أُمّة. فأمر به يزيد (لعنه الله) فوُجئ في حلقه ثلاثاً، فقام الحبر وهو يقول: إن شئتم فاضربوني، وإن شئتم

ص: 245


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 121، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 175، الفتوح لابن أعثم: 5 / 133، تفسير فرات: 149 ح 187، تفسير القمّي: 2 / 134.

فاقتلوني، أو فذروني، فإنّي أجد في التوراة أنّ مَن قتل ذرّيّة نبيٍّ لا يزال ملعوناً أبداً ما بقي، فإذا مات يصليه الله نار جهنّم ((1)).

وقال أبو مخنف: وقام إلى عليّ بن الحسين علیهما السلام رجلٌ يُقال له: منهال ابن عمرو، فقال: كيف أصبحتَ يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله فقال له: «كيف يصبح مَن قُتل أبوه بالأمس وأهلُ بيته، وهو يتوقّع الموت في يومه وليلته؟ فإلى الله أشكو ما أصبحنا وأمسينا فيه»، ثمّ قال: «أصبحَت العربُ تفتخر على العجم بأنّ محمّداً صلی الله علیه وآله منها، وأصبحَت قريش تفتخر على العرب بأنّ محمّداً صلی الله علیه وآله منها، ونحن أهل بيته مظلومون مقهورون». فعَلَت الأصوات بالبكاء والنحيب،فخشيَ يزيد (لعنه الله) الفتنة، فقال للخاطب: لمَ أذنتَ له بالكلام؟ إنّما أردتَ زوال ملكي! قال الرجل: والله ما ظننتُ أنّه يتكلّم بهذا الكلام. قال يزيد: يا ويلك، هذه العصى من تلك العصبة، وهذه الورقة من تلك الشجرة، وهل تلد الحيّة إلّا الحيّة؟ أما علمتَ أنّه مِن أهل بيت النبوّة؟ فقال الخاطب: يا يزيد، إذا علمتَ أنّه مِن أهل بيت النبوّة لمَ قتلتَ أباه علیه السلام وأهل بيته؟ ثمّ قال: أبدلَنا الله (تعالى) بك بمن هو خيرٌ لنا منك، وأبدلك الله (تعالى) بمن هو شرٌّ لك منّا. فغضب يزيد (لعنه الله) من قوله، فضرب عنقه.

فقال أهل الشام من تلك الرقدة واستيقظوا منها، وعُطّلَت الأسواق، وجعلوا يقولون: هذا رأس ابن بنت نبيّنا صلی الله علیه وآله ، ماعلمنا بذلك، إنّما قال: هذا

ص: 246


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 139.

رأس خارجيٍّ خرج بأرض العراق. فبلغ ذلك الخبر إلى يزيد، فاستعمل لهم الأجزاء من القرآن وفرّقها في المساجد، وكانوا إذا صلّوا وفرغوا من الصلاة وُضعت الأجزاء بين أيديهم في مجالسهم حتّى يشتغلوا بها عن ذكر الحسين علیه السلام، والناس ما لهم حديثٌ إلّا حديث الحسين علیه السلام، يقول الرجل لصاحبه: يا فلان، أما ترى إلى ما فُعل بابن بنت نبيّنا محمّد صلی الله علیه وآله

فبلغ ذلك يزيد، وعرف أنّ أهل الشام لا يشغلهم عن ذِكر الحسين علیه السلام شاغل، فنادى الناس أن يحضروا إلى الجامع، فحضروا من كلّ جانبٍ ومكان، فلمّا تكامل الناس قام فيهم خطيباً، ثمّ قال: تقولون يا أهل الشام أنا قتلت الحسين بن عليّ بن أبي طالب؟ واللهِ ما قتلتُه ولا أمرتُ بقتله، وإنّما قتله عاملي عُبيد الله بن زياد. ثمّ قال: واللهِ لَأقتلنّ مَن قتله.

ثمّ دعا بالّذين تولّوا حرب الحسين علیه السلام فأُوقفوا بين يديه،فالتفت إلى شبث بن ربعيّ (لعنه الله) وقال: ويلك، أأنت قتلتَ الحسين أم أنا أمرتك بقتله؟ قال شبث: والله ما قتلتُه، بل قتله قيس بن الربيع. فالتفت يزيد إلى قيس وقال: يا ويلك، أأنت قتلت الحسين وأنا أمرتك بقتله؟ قال: لا. قال: فمن قتله؟ قال: قتله الشمر بن ذي الجوشن. فالتفت إلى الشمر وقال: يا ويلك، أأنت قتلت الحسين وأنا أمرتك بقتله؟ فقال: لعن الله مَن قتله. قال: فمن قتله؟ قال: سنان بن أنس النخعي. قال: فأقبل يزيد عليه وقال له: ويلك، أأنت قتلت الحسين وأنا أمرتك بقتله؟ قال: لعن الله مَن قتله. فعند ذلك غضب يزيد غضباً شديداً من قولهم، وقال لهم: يا ويلكم، يُحيل

ص: 247

بعضُكم على بعض. قال قيس بن الربيع: يا أمير المؤمنين، أقول لك مَن قتله ولي الأمان من القتل؟ قال: نعم، ولك الأمان. قال: والله ما قتله إلّا الّذي عقد الرايات وفرّق الأموال ووضع العطايا وسيّر الجيوش بعد جيش. فقال: يا ويلك، مَن هو؟ قال: واللهِ ما قتل الحسين غيرك يا يزيد!

قال: فغضب يزيد من قوله، وقام ودخل قصره، ووضع الرأس في طشتٍ غطّاه بمنديلٍ ديبقيّ، ووضعه في حجره، ودخل إلى بيتٍ مظلم، وجعل يلطم على أُمّ راسه، وقال: ما لي وما للحسين بن عليّ بن أبي طالب؟ ((1)).

[رؤيا هند]

وفي كتاب (المنتخب): ونُقل عن هند زوجة يزيد قالت: كنتُ أخذتُ مضجعي، فرأيتُ باباً من السماء قد فُتحَت، والملائكة ينزلون كتائب كتائب إلى رأس الحسين وهم يقولون: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا ابن رسول الله. فبينما أنا كذلك إذ نظرت إلى سحابةٍ قد نزلَت من السماء وفيها رجالٌ كثيرون، وفيهم رجلٌ دُرّيّ اللون قمريّ الوجه، فأقبل يسعى حتّى انكبّ على ثنايا الحسين يقبّلهما وهو يقول: «يا ولدي، قتلوك؟

ص: 248


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 274، وانظر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 216 وما بعدها.

أتراهم ما عرفوك، ومن شرب الماء منعوك؟ يا ولدي، أنا جدّك رسول الله، وهذا أبوك عليّ المرتضى، وهذا أخوك الحسن، وهذا عمّك جعفر، وهذا عقيل، وهذان حمزة والعبّاس»، ثمّ جعل يعدّد أهل بيته واحداً بعد واحد.

قالت هند: فانتبهتُ من نومي فزعةً مرعوبة، وإذا بنورٍ قد انتشر على رأس الحسين، فجعلتُ أطلب يزيد وهو قد دخل إلى بيتٍ مظلمٍ وقد دار وجهه إلى الحائط، وهو يقول: ما لي وللحسين؟ وقد وقعت عليه الهمومات، فقصصتُ عليه المنام وهو منكّس الرأس.

فلمّا أصبح استدعى بحرم رسول الله، فقال لهنّ: أيّما أحبّ إليكنّ، المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة ولكم الجائزة السنيّة؟ قالوا: نحبّ أوّلاً أن ننوح على الحسين. قال: افعلوا ما بدا لكم. ثمّ أُخليَت لهنّ الحُجَر والبيوت في دمشق، ولم تبقَ هاشميّةٌ ولا قرشيّةٌ إلّا ولبست السواد على الحسين وندبوه سبعة أيّام ((1)).

[رؤيا سكينة]

وفي (المنتخب): إنّ سكينة بنت الحسين قالت: يا يزيد، رأيتُ البارحة رؤيا إن سمعتَها منّي قصصتُها عليك. فقال يزيد: هاتي ما رأيتِ. قالت: بينما أنا ساهرةٌ وقد كللت من البكاء بعد أن صلّيتُ ودعوت الله بدعوات،

ص: 249


1- المنتخب للطريحي: 2 / 482 المجلس 10.

رقدَت عيني، رأيتُ أبواب السماء قد تفتّحَت، وإذا أنا بنورٍ ساطعٍ من السماء إلى الأرض، وإذا أنا بوصائف من وصائف الجنّة، وإذا أنا بروضةٍ خضراء، وفي تلك الروضة قصر، وإذا أنا بخمس مشايخ يدخلون إلى ذلك القصر، وعندهم وصيف، فقلت: يا وصيف، أخبرني لمن هذا القصر؟ فقال: هذا لأبيك الحسين، أعطاه الله ثواباً لصبره. فقلت: ومَن هؤلاء المشايخ؟ فقال: أمّا الأوّل فآدم أبو البشر، وأمّا الثاني فنوح نبيّ الله، وأمّا الثالث فإبراهيم خليل الرحمان، وأمّا الرابع فموسى كليم الله. فقلت: ومَن الخامس الّذي أراه قابضاً على لحيته باكياً حزيناً مِن بينهم؟ فقال لي: يا سكينة، أما تعرفينه؟ فقلت: لا. فقال: هذا جدّكِ رسول الله. فقلت له: إلى أين يريدون؟ فقال: إلى أبيكِ الحسين. فقلت: والله لَألحقنّ جدّي وأُخبرنّه بما جرى علينا. فسبقني ولم ألحقه.

فبينما أنا متفكّرةٌ وإذا بجدّي عليّ بن أبي طالب، وبيده سيفه وهو واقف، فناديتُه: يا جدّاه! قُتل والله ابنُك من بعدك. فبكى، وضمّني إلى صدره وقال: «يا بُنيّة صبراً، وبالله المستعان». ثم إنّه مضى ولم أعلم إلى أين، فبقيت متعجّبةٌ كيف لم أعلم به، فبينما أنا كذلك إذا ببابٍ قد فُتح من السماء، وإذا بالملائكة يصعدون وينزلون على رأس أبي.وفي نقلٍ آخَر أنّ سكينة قالت: ثمّ أقبلتُ على رجلٍ دُرّي اللون قمريّ الوجه حزين القلب، فقلت للوصيف: مَن هذا؟ قال: جدّكِ رسول الله. فدنوتُ منه وقلت له: يا جدّاه، قُتلَت واللهِ رجالنا، وسُفكت والله دماؤنا،

ص: 250

وهُتكت والله حريمنا، وحُملنا على الأقتاب بغير وطاءٍ نُساق إلى يزيد. فأخذني إليه وضمّني إلى صدره، ثمّ أقبل على آدم ونوح وإبراهيم وموسى، ثمّ قال لهم: «ما ترون إلى ما صنعَت أُمّتي بولدي من بعدي؟». ثمّ قال الوصيف: يا سكينة، اخفضي صوتكِ؛ فقد أبكيتِ رسول الله.

ثمّ أخذ الوصيف بيدي وأدخلَني القصر، وإذا بخمس نسوةٍ قد عظّم الله خلقتهنّ وزاد في نورهنّ، وبينهنّ امرأةٌ عظيمة الخلقة، ناشرة شعرها وعليها ثيابٌ سود وبيدها قميصٌ مضمَّخٌ بالدم، وإذا قامت يقمن معها وإذا جلست يجلسن معها، فقلت للوصيف: مَن هؤلاء النسوان اللواتي قد عظّم الله خلقتهن؟ فقال: يا سكينة، هذه حوّاء، وهذه مريم ابنة عِمران، وهذه خديجة بنت خُويلد، وهذه هاجر، وهذه سارة، وهذه الّتي بيدها القميص المضمَّخ بالدم وإذا قامت يقمن معها وإذا جلست يجلسن معها هي جدّتكِ فاطمة الزهراء. فدنوتُ منها وقلت لها: يا جدّتاه، قُتل واللهِ أبي، وأُوتمت على صِغَر سنّي ((1)).

وفي رواية: فوقفتُ بين يديها أبكي وأقول: يا أُمّتاه، جحدوا واللهِ حقّنا، يا أُمّتاه، بدّدوا والله شملنا، يا أُمّتاه، استباحوا والله حريمنا، ياأُمّتاه، قتلوا والله الحسين أبانا. فقالت لي: «كُفّي صوتكِ يا سكينة، فقد قطّعتِ نياط قلبي،

ص: 251


1- المنتخب للطريحي: 2 / 480 المجلس 10.

هذا قميص أبيكِ الحسين علیه السلام لا يفارقني حتّى ألقى الله» ((1)).

وفي رواية: فضمَّتني إلى صدرها وبكت بكاءً شديداً، وبكين النسوة كلّهنّ، وقلن لها: يا فاطمة، يحكم الله بينكِ وبين يزيد يوم فصل القضاء.

ثمّ إنّ يزيد تركها ولم يعبأ بقولها ((2)).

وفي نقلٍ آخر: فلمّا سمع يزيد ذلك لطم على وجهه وبكى، وقال: ما لي ولقتل الحسين؟ ((3))

وفي كتاب (النسب): عن يحيى بن الحسن: قال يزيد لعليّ بن الحسين علیه السلام: وا عجباً لأبيك سمّى عليّاً وعليّاً. فقال علیه السلام: «إنّ أبي أحبّ أباه، فسمّى باسمه مراراً» ((4)).

وفي (تاريخ الطبري) و(البلاذري) أنّ يزيد بن معاوية قال لعليّ بن الحسين: أتصارع هذا؟ يعني خالداً ابنه. قال: «وما تصنع بمصارعتي إيّاه؟ أعطني سكّيناً ثمّ أُقاتله». فقال يزيد: شنشنةٌ أعرفها من أخزم

هذا من العصا عصيّةْ***هل تلد الحيّة إلّا الحيّةْ؟

ص: 252


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 141، اللهوف لابن طاووس: 189.
2- المنتخب للطريحي: 2 / 481 المجلس 10.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 480 المجلس 10.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 130 -- عن: كتاب النسب.

وفي (كتاب الأحمر): قال: أشهد أنّك ابن عليّ بن أبي طالب ((1)).

وفي (الملهوف): ودعا يزيد (عليه لعائن الله) يوماً بعليّ بن الحسين علیه السلام وعمرو بن الحسين علیه السلام ، وكان عمرو صغيراً، يقال: إنّ عمره إحدى عشرة سنة، فقال له: أتصارع هذا؟ يعني ابنه خالداً. فقال له عمرو: لا، ولكن أعطني سكّيناً وأعطه سكّيناً، ثمّ أُقاتله. فقال يزيد (لعنه الله):

شنشنةٌ أعرفها من أخزم***هل تلد الحيّة إلّا الحيّةْ؟

وقال لعليّ بن الحسين علیه السلام: اذكر حاجاتك الثلاث اللاتي وعدتك بقضائهنّ. فقال له: «الأُولى: أن تُريَني وجه سيّدي ومولاي وأبي الحسين علیه السلام ، فأتزوّد منه [وأنظر إليه وأُودّعه]، والثانية: أن تردّ علينا ما أُخذ منّا، والثالثة: إن كنتَ عزمت على قتلي أن توجّه مع هؤلاء النسوة مَن يردّهنّ إلى حرم جدّهنّ صلی الله علیه وآله»، فقال: أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً، وأمّا قتلك فقد عفوتُ عنك، وأمّا النساء فما يردّهنّ غيرك إلى المدينة، وأمّا ما أُخذ منكم فأنا أُعوّضكم عنه أضعاف قيمته. فقال علیه السلام: «أمّا مالك فلا نريده وهو موفّر عليك، وإنّما طلبتُ

ص: 253


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 131، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 39، تاريخ الطبري: 4 / 353، وفي النسخة المطبوعة من الطبري: (ودعا عمرو بن الحسن بن عليّ وهو غلامٌ صغير، فقال لعمرو بن الحسن ...)، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 69 / 177، ترجمة الإمام الحسين علیه السلام من طبقات ابن سعد: 84، أنساب الأشراف للبلاذري: 1 / 420.

ما أُخذ منّا لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد صلی اللهعلیه وآله ومقنعتها وقلادتها وقميصها». فأمر بردّ ذلك، وزاد فيه من عنده مئتَي دينار، فأخذها زين العابدين علیه السلام وفرّقها في الفقراء. ثمّ أمر بردّ الأُسارى وسبايا الحسين علیه السلام إلى أوطانهنّ بمدينة الرسول صلی الله علیه وآله

فأمّا رأس الحسين علیه السلام فرُوي أنّه أُعيد فدُفن بكربلاء مع جسده الشريف علیه السلام ، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه ((1)).

قال المؤلّف: إنّما كانت تصدر هذه التصرّفات من يزيد رعايةً لمصالح سلطانه كمواقف سياسيّة، وإلّا فهو راضٍ بقتل سيّد الشهداء، يُبدي الفرح والسرور ويتبادل كأس الخمر فرحاً مع ابن زياد، وقد استدعاه وشكره على فعله وأعطاه أموالاً جزيلةً وتُحفاً كثيرةً من بيت مال المسلمين، وقرّب مجلسه ورفع منزلته وأدخله على نسائه، وجعله نديمه وسكر معه ((2)).

وفي (التبر المذاب): حكم ثلاث سنين.

أوّل سنةٍ: أمر بقتل الحسين علیه السلام لعبيد الله بن زياد (لعنه الله)، وأمره بتجهيز رأسه وحريمه إليه سبايا إلى دمشق، وشرب على رأسه الخمر، ونكت ثناياه بالقضيب، ولم يرعَ له حرمة.

وثاني سنةٍ: سبى المدينة الشريفة النبويّة، وأباحها ثلاثة أيّام ... وسبى

ص: 254


1- اللهوف لابن طاووس: 194.
2- أُنظُر: حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 231.

أهلها ونهبها في وقعة الحرّة، وسببه ما رواه الواقديّ وابن إسحاق وهشام بن محمد أنّ جماعةً من أجلّاء أهل المدينة وفدوا على يزيد (لعنه الله) سنة اثنتين وستّين بعد مقتل الحسين علیه السلام ، فرآه يشرب الخمر ويلعب بالطنابير، فلمّا عادوا إلى المدينة أظهروا سبّه ولعنه، وخلعوه وطردوا عامله عثمان بن محمّد بن أبي سفيان، وقالوا: قدمنا من عند رجلٍ لا دِين له، يسكر ويدَع الصلاة، وبايعوا عبد الله بن حنظلة بن الغيل، وكان ابن حنظلة يقول: يا قوم، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، رجلٌ ينكح الأُمّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمور، ويقتل أولاد الأنبياء، واللهِ لو لم يكن عندي أحدٌ من الناس لَأبليتُ الله فيه بلاءً حسناً. فبلغ ذلك يزيد، فبعث بمسلم بن عقبة المرّي في جيشٍ كثيفٍ من أهل الشام، فقتل حنطلة والأشراف، وأقام بالمدينة ثلاثة أيّام ينهب المال ويهتك الحرم ((1)).

وذكر المدائني في كتاب (وقعة الحَرّة)، عن الزهريّ قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الموالي، وأمّا مَن لم يُعرف من حرٍّ وعبدٍ وإمراةٍ فعشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء حتّى بلغ قبر رسول الله صلی الله علیه وآله وامتلأت الروضة الشريفة والمسجد منه ((2)).

ص: 255


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.

قال مجاهد: التجأ الناس إلى حجرة الرسول صلی الله علیه وآله ومنبره، والسيف يعمل فيهم ((1)).وكانت وقعة الحرّة ثلاث وستّين في ذي الحجّة ((2)).

وذكر المدائني، عن أبي قرّة قال: قال هشام بن حسّان: ولدَت ألفُ امرأةٍ بعد الحرّة من غير زوج، وقال غيره: عشرة آلاف ((3)).

قال الشعبي: وكلّ ذلك برضى يزيد لإرساله الجيش ((4))، وهو دليل الرضى بالفعل، وقد قال عليّ بن أبي طالب علیه السلام: «الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم، وعلى كلّ داخلٍ إثمان: إثم الرضى، وإثم العمل» ((5)).

وفي السنة الثالثة: جهّز جيشاً إلى مكة -- شرفها الله (تعالى) --، حاصرها وهتك حرمتها ... وكان أمير الجيش مسلم بن عقبة، فمات في أثناء الطريق، فاستخلف على الجيش الحُصين بن النمير السكوني، فضرب الكعبة بالمناجنيق وهدمها وحرقها ((6))، وإلى الآن أثر الحريق على حجارتها، وكان

ص: 256


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.
3- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 259.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 260.
5- نهج البلاغة: 449 ح 154.
6- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 260.

بينها وبين موت يزيد ثلاثة أشهر، ما أمهله، بل أخذه أخذ القرى وهي ظالمة ((1)).

وكان في مدّة حكمه مشغولاً بالغناء والخمرة والنساء والصبيان واللهو واللعب.

وعن محمّد النحويّ أنّه ذكر في (تاريخه) أنّ عبد الرحمان بنبرثن ظلمه عُبيد الله بن زياد، فرحل إلى يزيد بن معاوية يتظلّم إليه، فأقام على بابه حولاً لا يصل إليه، فانصرف راجعاً، قال: فضربتُ مضربي في بعض وادي الشام، فإذا أنا بكلبٍ في طوق ذهب، فدخل المضرب، فإذا رجل على دابّةٍ يركض، فقال لي: هل أحسست كلباً؟ قلت: نعم، قد دخل الخباء. فدخل وأخذه، ثمّ قال: هل عندك ماء؟ فأعطيتُه إناءً فيه ماء، فسقى الكلب، ثمّ غسله سبع غسلات، ثمّ شرب الفضلة، ثمّ قال: ما تصنع هاهنا؟ قلت: ظلمني هذا الفاجر عُبيد الله بن زياد ظلامة، فخرجت إلى هذا الفاسق يزيد أتظلّم إليه، فأقمت على بابه حولاً لا أصل إليه، وها أنذا راجعاً. فقال: هل لك أن تكتب إليه كتاباً، فإنّه لي صديق. فكتب لي كتاباً، فقدمتُ على ابن زياد فدفعت الكتاب إليه، فجعل يقرأه وهو يتبسّم مرّةً ويتغيّر أُخرى، ثمّ قال: أتدري مَن كتب لك الكتاب؟ ذلك أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، أمّا أنّه قد عرّفني أنّك سبّبتَه وسببتَني، وأمرني بردّ ظلامتك، وقد

ص: 257


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 225 وما بعدها.

فعلت ((1)).

وخلاصة القول في كفر هذين الشقيَّين وفسقهما أنّه من الوضوح ما لا يحتاج معه إلى بيان، وهما في مرتبةٍ من العناد والشقاء والغيّ والطغيان ما لا يمكن تصوّر ندمهما على أفعالهم القبيحة، ألا تتصوّر عظيم ما صدر منهما وشنيع ما بدر عنهما؟!

في كتاب (التبر المذاب): قال ابن سيرين: لمّا قُتل الحسين علیه السلام اظلمّت الدنيا ثلاثة أيّام، ثمّ ظهرت هذه الحمرة في الأُفق((2)).

وقال ابن الجوزي: حدّثنا غير واحدٍ عن هلال بن ذكوان قال: لمّا قُتل الحسين علیه السلام مكثنا شهرين كأنّما لُطّخت الحيطان بالدم من صلاة الفجر إلى غروب الشمس ((3)).

وقال السدّي: ولمّا قُتل الحسين علیه السلام بكت السماء، وبكاؤها حمرتها ((4)).

ص: 258


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 275، وانظُر: أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 296، تاريخ الإسلام للذهبي: 6 / 125.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 209، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246، تاريخ الإسلام للذهبي: 5 / 15.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 209، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246.
4- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 210، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246.

وقال ابن سعد في (الطبقات): ما رُفع حجرٌ إلّا وُجد تحته دمٌ عبيط، ولقد مطرت السماء دماً بقي أثره في الثياب مدّةً حتّى تقطّعت ((1)).

وذكر ابن سعد في (الطبقات): إنّ هذه الحمرة الّتي في السماء لم تُرَ قبل أن يُقتَل الحسين علیه السلام ((2)).

و قال أبو الفرح ابن الجوزيّ في كتاب (التبصرة): لمّا كان الغضبان يحمرّ وجهه عند الغضب فيُستدلّ بذلك على غضبه وأنّهأمارة السخط، فالحقّ (سبحانه) ليس بجسم، فأظهر تأثير غضبه على مَن قتل الحسين علیه السلام بحمرة الأُفق، وذلك دليلٌ على عظم الجناية ((3)).

قال المؤلّف: لا يخفى أنّ هؤلاء الّذين يتكلّمون مثل هذا الكلام هم من أهل السنّة!

ص: 259


1- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 209، الطبقات الكبرى لابن سعد: خ 1 / 505، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246، وفي هامش النسخة المخطوطة الأصل: (وفي صواعق ابن حجر أنّه مطر كالدم على البيوت والجُدُر بخراسان والشام والكوفة، وأنّه لمّا جيء برأس الحسين علیه السلام إلى دار ابن زياد سالت حيطانها دماً).
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 203، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 245.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 203، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246.

وذكر أبو الفرج أيضاً في هذا الكتاب: إنّه لمّا أُسر العبّاس بن عبد المطّلب يوم بدر، سمع رسولُ الله صلی الله علیه وآله أنينه، فلم ينم تلك الليلة، فكيف لو سمع أنين الحسين علیه السلام

قال: ولمّا أسلم وحشيّ قاتل حمزة قال له النبيّ صلی الله علیه وآله: «غيِّبْ وجهك عنّي؛ فإنّي لا أُحبّ مَن قتل الأحبّة» ((1)).

قال: إذا كان هذا حال النبيّ صلی الله علیه وآله وفعله مع وحشيّ والإسلام يجبّ ما قبله ويهدمه، فكيف يقدر الرسول علیه السلام أن يرى من ذبح الحسين علیه السلام وأمر بقتله وحمل بأهله على أقتاب الجمال بغير غطاءٍ ولا وطاء؟! ((2))

وقال إبراهيم النخعي: واللهِ لو كنتُ فيمن قاتل الحسين، وأتتني المغفرة من ربّي وأدخلني الجنّة، لَاستحييتُ أن أمرّ على رسول الله صلی الله علیه وآله فينظر وجهي ((3)).

ص: 260


1- ألا لعنة الله على مَن لا يحبّه حبيب الله الّذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يُوحى.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 203، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 246.
3- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 245، تهذيب الكمال للمزّي: 25 / 154 -- عن: الترمذي، الإصابة لابن حجر: 2 / 71.

المجلس الرابع عشر : في رجوع أهل البيت من الشام وورودهم إلى مدينة سيّد الأنام

اشارة

روى الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخب) قال: فلمّا كان اليوم الثامن دعاهنّ يزيد وعرض عليهم المقام، فأبَين وأرادوا الرجوع إلى المدينة، فأحضر لهم المحامل وزيّنها، وأمر بالأنطاع من الإبرسيم وصبّ عليها الأموال، وقال: يا أُمّ كلثوم، خذوا هذا المال عِوَض ما أصابكم. فقالت أُمّ كلثوم: يا يزيد، ما أقلّ حياءك وأصلف وجهك! أتقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم مالاً؟! واللهِ لا كان ذلك أبداً ((1)).

وفي (الإرشاد) للمفيد: ثمّ ندب يزيدُ النعمانَ بن بشير وقال له: تجهّز لتخرج بهؤلاء النسوان إلى المدينة.

ص: 261


1- المنتخب للطريحي: 2 / 483 المجلس 10.

ولمّا أراد أن يجهّزهم دعا عليّ بن الحسين علیه السلام فاستخلاه، ثمّ قال له: لعن الله ابن مرجانة، أَمَ واللهِ لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلةً أبداً إلّا أعطيتُه إيّاها، ولَدفعت الحتف عنه بكلّما استطعت، ولكنّ الله قضى ما رأيت، كاتبني من المدينة وأنّه كلّ حاجةٍ تكون لك.

وتقدّم بكسوته وكسوة أهله، وأنفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولاً تقدّم إليه أن يسير بهم في الليل ويكونوا أمامه حيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحّى عنهم وتفرّق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، وينزل منهم حيث إذا أراد إنسانٌ من جماعتهم وضوءاً أو قضاء حاجةٍ لم يحتشم.

فسار معهم في جملة النعمان، ولم يزل ينازلهم في الطريق ويرفق بهم كما وصّاه يزيد ((1)).

وقال السيّد ابن طاووس: ولمّا رجع نساء الحسين علیه السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق، قالوا للدليل: مُر بنا على طريق كربلاء. فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ رحمه الله وجماعةً من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله صلی الله علیه وآله قد وردوا لزيارة قبر الحسين علیه السلام ، فوافوا في وقتٍ واحد، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد، فأقاموا على ذلك أيّاماً ((2)).

ص: 262


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 122.
2- اللهوف لابن طاووس: 196.

ورُوي أنّه خرجَت زينب حتّى جاءت عند القبر، فأهوَت إلى جيبها فشقَّته، ونادت بصوتٍ حزينٍ يقرح القلوب: وا أخاه، وا حسيناه، وا حبيب رسول اللّه، يا ابن مكّة ومنى، يا فاطمة الزهراء، يا عليّ المرتضى!وأمّا أُمّ كلثوم، فقد نشرت شعرها، ولطمت خدَّيها، ونادت برفيع صوتها: اَليوم مات جدّي محمّدٌ المصطفى، اليوم مات أبي عليٌّ المرتضى، اليوم حلّ الثكل بالزهراء.

وباقي النساء لاطمات نادبات ناعيات، قائلات: وا محمّداه!

فلمّا رأت سكينة ما حلّ بالنساء، رفعت صوتها تنادي: وا محمّداه، وا جدّاه! ((1)) ...

هنا ذُبح الحسينُ بسيف شمرٍ***هنا قد ترّبوا منه الجبينا

هنا العبّاس في يومٍ عبوسٍ****حيال الماء قد أمسى رهينا

هنا ذبحوا الرضيع بسهم حقدٍ***فما رحموا صغار المرضعينا

هنا علّوا رؤوس بني عليٍّ***وروس بني عقيل العاقلينا ((2))

نُقل عن الملّا أحمد الأردبيليّ أنّه قال: رأيتُ كتاباً في إحدى خزائن الملوك فيه هذا الحديث مكتوباً بماء الذهب:

قال يحيى البرمكي: خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاريّ إلى كربلاء

ص: 263


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 523 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- مهيّج الأحزان لليزدي: 522.

لزيارة قبر سيّد الشهداء، فنزلنا في التاسع عشر من شهر صفر على مشارف كربلاء على بُعد منزلٍ واحدٍ منها، وكانت معي زوجتي خديجة، فأقمنا خيمةً لخديجة، وكنت أنا وجابر جلوساً نتحدّث أنّنا سندخل كربلاء غداً ونزور سيّدنا ومولانا أبا عبد اللهالحسين ونقيم العزاء عنده، بينا نحن كذلك إذ سمعتُ صوت زوجتي خديجة، فقمت من مكاني وتوجّهت إلى الخيمة، فلمّا وصلت الخيمة رأيت خديجة وهي تبكي بكاءً شديداً، فتقدّمت فرأيتها قد نشرت شعرها وهي تلطم على وجهها ورأسها وتصبّ دمعها كأنّه المطر المنهمر، فقلت لها: ماذا أرى يا خديجة؟ ماذا دهاكِ؟ وممّا بكاؤكِ؟ قالت خديجة: أُجلس، سأُحدّثك بما جرى. فجلست.

فقالت: رأيت الآن فاطمة الزهراء في الرؤيا، وقد لبسَت الثياب السود، ونشرَت شعرها، وحفّت بها أربعةُ آلاف حوريّة، فجاءت حتّى دخلَت كربلاء، فلمّا رأت قبر ولدها الحسين وقعت تنوح وتئنّ وتندب، وهي تقول بزفرةٍ وعويل: «يا نور عينَي الأُمّ، ويا ثمرة قلب الأُمّ، ويا شهيد الأُمّ، ويا غريباً بلا معين، ويا عطشان، يا فريد، فداءً لنحرك المنحور ظلماً وعدواناً، لم ترحمك هذه الأُمّة الغدّارة، ولم ترعَ فيك جدَّك محمّداً المصطفى، ولا أباك عليّاً المرتضى، ولم يرعوا أنين أُمّك فاطمة الزهراء، ولم يخافوا عذاب يوم الجزاء، فقتلوك يا ولدي وقتلوا إخوتك وأبناء إخوتك وأبناءك ظمايا مفتّتي الأكباد، واجتزّوا رأسك وذبحوك كما يُذبَح الكبش، يا ولدي وفلذة كبدي! مَن عزّى أطفالك الصغار من بعدك وواساهم؟ وماذا جرى على أخواتك؟

ص: 264

ولدي، عزيزي! كيف أنظر إلى بدنك المقطَّع إرباً إرباً مرمَّلاً بالدماء؟».

يا يحيى، بعد أن بكت وأعولت، دعت كبيرة الحوريّات، واسمها: طيبة، وقالت: يا طيبة، إذهبي إلى قبر أبي محمّدٍ المصطفى وأخبريه أنّ فاطمة حضرت عند قبر ولدها الحسين، وتريد أن تقيم المأتم غداً في يوم الأربعين، وهي تنتظر حضورك. وقالت لحوريّةٍ أُخرى:إذهبي إلى النجف الأشرف وأخبري أبا الحسين عليّ بن أبي طالب.

فلمّا مضت الحوريّة إلى النجف عادت فاطمة ورمت بنفسها على قبر الحسين، وجعلت تبكي وتنوح، فبينا أنا كذلك وإذا برجلٍ أبيض اللحية وهو في غاية الحزن يُقبل مسرعاً نحونا، ومن ورائه رجلٌ آخر واضعاً يديه على رأسه، وجاء بعده شابٌّ عليه ثياب خضر، فاجتمعوا معاً، فسألتُ حوريّةً: مَن هؤلاء الرجال؟ فقالت الحوريّة: الرجل الّذي يأتي متقدّماً على الجميع هو محمّدٌ المصطفى، والّذي بعده عليّ بن أبي طالب، والشابّ هو الحسن المجتبى. فتقدّم النبيّ إلى فاطمة، فلم تلتفت إليه لشدّة بكائها، فالتفت النبيّ إلى عليّ وقال: «إذهب إلى فاطمة وقُل لها فلْترفع رأسها»، فالتفت الإمام عليّ إلى الحسن فقال له: «يا نور عيني، اذهب إلى أُمّك وقل لها ترفع رأسها من على القبر ولا تبكي وتنوح هكذا»، فأقبل الإمام الحسن إليها وقال: «السلام عليكِ يا أُمّاه، أنا قرّة عينكِ الحسن، يا أُمّاه! أنا ابنك الّذي تقطّع كبدي ثلاثمئة وسبعين قطعة، أُمّاه ارفعي رأسكِ من على قبر أخي»، فرفعَت فاطمة الزهراء رأسها من على القبر، وكان بيدها قارورةٌ

ص: 265

مملوءةٌ ماءً، وقالت: «يا بُنيّ، بنفسي كبدك المقطّع ونحر أخيك المنحور ظلماً»، ثمّ دفعَت إليه القارورة وقالت: «يا بُنيّ، احتفِظ بهذه القارورة، فقد جمعتُ فيها دموع الباكين على أخيك الحسين علیه السلام ».

ثمّ التفت النبيّ إلى ملَكٍ وقال: «إذهب وأحضِر أرواح الرجال والنساء من أُمّتي»، فما مضت إلّا ساعةٌ وإذا بالأنبياء قد حضروا في هالةٍ من نورٍ وضياء، وجاء آخَرون في هوادج، فسألتُ الحوريّة: مَن هؤلاء؟ فقالت: هؤلاء المقبلون في المقدّمة أرواح الأنبياء،والّذين من بعدهم أرواح رجال الأُمّة، والّذين في الهوادج أرواح نساء الأُمّة، جاؤوا هذا اليوم ليقيموا العزاء على الحسين ويسعدوا فاطمة.

ثمّ إنّ النساء نزلن من الهوادج، وأقبلن حتّى وقفن بين يدَي فاطمة وسلّمن عليها، وأحطن القبر واشتغلن بالنياحة والعزاء ((1)).

وفي كتاب (بشارة المصطفى)، مسنداً عن الأعمش، عن عطيّة العوفيّ قال: خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاريّ زائرَين قبر الحسين علیه السلام ، فلمّا وردنا كربلاء دنى جابر من شاطى الفرات فاغتسل، ثمّ ائتزر بإزارٍ وارتدى بآخر [إنّ جابر يعلم أنّ زيارة الإمام المظلوم أفضل من زيارة الكعبة بأضعاف مضاعفة]، ثمّ فتح صرّةً فيها سعدٌ فنثرها على بدنه.

ص: 266


1- مفتاح الجنّة للمقدّس الزنجاني: 218 المجلس 43.

وفي (مصباح الزائر): ثمّ مشى حافياً حتّى وقف عند رأس الحسين ((1)).

مشى في غاية الخضوع والخشوع والتوجّه، لم يلتفت إلى غير الله، وقد وضع نصب عينيه ما ورد في الحديث: «مَن زار الحسين كمن زار الله» ((2))، ورطّب لسانه بذكر الله (تعالى).

وفي (بشارة المصطفى): ثمّ لم يخطُ خطوةً إلّا ذكر الله، حتّى إذا دنى من القبر..

وفي (مصباح الزائر): حتّى وقف عند رأس الحسين علیه السلام، وكبّر ثلاثاً، ثمّ خرّ مغشيّاً عليه.

وفي (بشارة المصطفى): قال: ألمِسْنيه. فألمستُه، فخرّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء فأفاق، وقال: يا حسين! ثلاثاً، ثمّ قال: حبيبٌ لا يُجيب حبيبه. ثمّ قال: وأنّى لك بالجواب وقد شحطت أوداجك على أثباجك وفُرّق بين بدنك ورأسك؟ فأشهد أنّك ابن النبيّين، وابنُ سيّد الوصيّين، وابن حليف التقوى وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيّد النقباء، وابن فاطمة سيّدة النساء، وما لَك لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين، ورُبّيت في حِجر المتّقين، ورضعت من ثدي

ص: 267


1- مصباح الزائر: 286، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 329.
2- کامل الزیارات: 147 الباب التاسع والخمسون أنّ مَن زار الحسين؟ع؟ كان كمن زار الله في عرشه وكُتب في أعلى علّيّين.

الإيمان، وفُطمت بالإسلام؟ فطِبت حيّاً وطبت ميّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبةٍ لفراقك، ولا شاكّة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه، وأشهد أنّك مضيتَ على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا علیه السلام. ثمّ جال ببصره حول القبر وقال: السلام عليكم أيّها الأرواح الّتي حلّت بفناء قبر الحسين علیه السلام وأناخت برحله، أشهد أنّكم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم الملحدين، وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين، والّذي بعث محمّداً بالحقّ لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال عطيّة: فقلت لجابر: كيف ولم نهبط وادياً ولم نعلُ جبلاً ولم نضرب بسيف، والقوم قد فُرّق بين رؤسهم وأبدانهم وأُوتمت أولادهم وأُرملت الأزواج؟! فقال لي: يا عطيّة، سمعتُ حبيبي رسول الله يقول: «مَن أحبّ قوماً حُشر معهم، ومَن أحبّ عمل قومٍ أُشرك في عملهم»، والّذي بعث محمّداً بالحقّ، إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين علیه السلام وأصحابه، خذوني نحو أبيات كوفان.فلمّا صِرنا في بعض الطريق فقال لي: يا عطيّة، هل أُوصيك؟ وما أظنّ أنّني بعد هذه السفرة ملاقيك، أحبّ محبّ آل محمّدٍ على ما أحبّهم، وأبغضهم ببغض آل محمّدٍ ما أبغضهم وإن كان صوّاماً قوّاماً، وارفق بمحبّ آل محمّد، فإنّه إن تزلّ قدمٌ بكثرة ذنوبهم تثبت أُخرى بمحبّتهم، فإنّ محبّهم

ص: 268

يعود إلى الجنّة ومبغضهم يعود إلى النار ((1)).

قال المؤلّف: نرجو من الله الكريم الرؤوف الرحيم أن يحيينا على محبّة أهل البيت، ويميتنا على محبّة أهل البيت، وأن لا يفرّق بيننا وبينهم في الدنيا والآخرة طرفة عينٍ أبداً، وأن يوفّقنا وجيمع المحبّين لإقامة العزاء والبكاء، وأن لا يقسّي قلوبنا ولا يرقأ دموعنا في عزائهم دائماً وأبداً، وأن يجعل عقلنا ناعياً على الدوام، حتّى لا نغفل عن مصائبهم ولا نغفل عن النياحة والعويل الّتي أقامتها النساء المفجوعات عند الرجوع من الشامات على قبر سيّد الأنام الّتي أحرقت قلوب العالمين إلى قيام يوم الدين.

قال السيّد ابن طاووس: وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد، فأقاموا على ذلك أيّاماً ((2)).

ثم ودّعوا تلك المشاهد والقبور المنوّرة، وكان وداعاً لا يوصف ولا يمكن أن يحرّره بيان.

وفي روايةٍ أنّ فاطمة بنت الحسين احتضنت قبر أبيها وبكت حتّى أُغميَ عليها ((3)).

ص: 269


1- بشارة المصطفى للطبري: 2 / 74.
2- اللهوف لابن طاووس: 196.
3- في (الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 163): (ثمّ أمر عليّ بن الحسين بشدّ رحاله فشدّوها، فصاحت سكينة بالنساء لتوديع قبر أبيها، فدُرن حوله، فحضنَت القبر الشريف وبكت بكاءً شديداً وحنّت وأنّت ...).

ثمّ إنّ المفجوعات والثكلى آيسن من البقاء هناك، فقطعن النظر بالحسرات والآهات، وتوجّهن إلى مدينة الرسول، فما نزلوا منزلاً في الطريق وارتحلوا إلّا بعد أن يسقوا ترابه من دموعهم، وأحرقوا ما ثمّة بزفراتهم وآهاتهم، حتّى نزلوا على مشارف المدينة.

وفي (الملهوف): ثمّ انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة.

قال بشير بن جذلم: فلمّا قربنا منها نزل عليّ بن الحسين علیه السلام فحطّ رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه، وقال: «يا بشير، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيءٍ منه؟»، فقال: بلى يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، إنّي لَشاعر. فقال علیه السلام: «ادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله علیه السلام ». قال بشير: فركبتُ فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة، فلمّا بلغت مسجد النبيّ صلی الله علیه وآله رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مُقام لكم بها***قُتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاء مضرّجٌ***والرأس منه على القناة يُدارُ

قال: ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين علیه السلام مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أُعرّفكم مكانه. قال: فما بقيَت في المدينة مخدّرةٌ ولا محجّبةٌ إلا برزن من خدورهنّ مكشوفةً شعورهنّ مخمشةً وجوههنّ ضارباتٍ خدودهنّيدعون بالويل والثبور، فلم أرَ باكياً

ص: 270

أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه، وسمعتُ جاريةً تنوح على الحسين علیه السلام فتقول:

نعى سيّدي ناعٍ نعاه فأوجعا ((1))***وأمرضَني ناعٍ نعاه فأفجعا

فعينَيّ جودا بالدموع وأسكبا***وجودا بدمعٍ بعد دمعكما معا

على مَن دهى عرش الجليل فزعزعا***فأصبح هذا المجد والدين أجدعا

على ابن نبيّ الله وابن وصيّه***وإن كان عنّا شاحط ((2)) الدار أشسعا

ثمّ قالت: أيّها الناعي، جدّدتَ حزننا بأبي عبد الله علیه السلام ، وخدشت منّا قروحاً لمّا تندمل، فمَن أنت رحمك الله؟ فقلت: أنا بشير بن جذلم، وجّهَني مولاي عليّ بن الحسين علیه السلام ، وهو نازلٌ في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله علیه السلام ونسائه. قال: فتركوني مكاني وبادروني، فضربتُ فرسي حتّى رجعت إليهم، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع، فنزلت عن فرسي وتخطّيت رقاب الناس حتّى قربت من باب الفسطاط، وكان عليّ بن الحسين علیه السلام داخلاً، فخرج ومعه خرقةٌ يمسح بها دموعه، وخلفه خادمٌ معه كرسيّ، فوضعه له وجلس عليه، وهو لا يتمالك عن العَبرة، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين النسوان والجواري، والناس يعزّونه من كلّ ناحية، فضجّت تلك البقعة ضجّةً شديدة، فأومأ بيده أن اسكتوا،

ص: 271


1- في المتن: (فأفجعا).
2- في المتن: (شاخص).

فسكتت فورتهم، فقال:

«الحمد لله ربّ العالمين، [الرحمن الرحيم]، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الّذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلى، وقَرُب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأُمور وفجائع الدهور، وألمِ الفجائع ومضاضة اللواذع ((1))، وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم، إنّ الله -- وله الحمد -- ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين علیه السلام وعترته، وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل ((2)) السنان، وهذه الرزية الّتي ليس ((3)) مثلها رزيّة.

أيّها الناس، فأيّ رجالاتٍ منكم يسرّون بعد قتله؟ أَم أيّ فؤادٍ لا يحزن من أجله؟ أَم أيّة عينٍ منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار، والملائكةُ المقرّبون وأهل السماوات أجمعون. يا أيّها الناس، أيّ قلبٍ لا ينصدع لقتله؟ أَم أيّ فؤادٍ لا يحنّ إليه؟ أَم أيّ سمعٍ يسمع هذه الثلمة الّتي ثُلمت في الإسلام ولا يصمّ؟

أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مشرَّدين مذودين وشاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد تركٍ وكابل، مِن غير جرمٍ اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه ولا ثلمة في الإسلام

ص: 272


1- في المتن: (ومضافية اللّوارع).
2- في المتن: (العالي).
3- في المتن: (لا).

ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إن هذا إلّا اختلاق.

واللهِ لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لَما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون مِن مصيبةٍ ماأعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ بنا، فإنّه عزيزٌ ذو انتقام».

فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان -- وكان زَمِناً -- فاعتذر إليه بما عنده من زمانة رجلَيه، فأجابه بقبول معذرته وحسن الظن فيه، وشكر له، وترحّم على أبيه ((1)).

قال أبو مخنف: فلمّا أشرفوا على المدينة، وكان يوم الجمعة والخاطب يخطب، فتجدّدت الأحزان والمصائب، وشققن الجيوب ولطمن الخدود ونشرن الشعور، فانقلبت المدينة بأهلها، وحلّ فيهم الرجف والزلازل لكثرة النوح والعويل من المهاجرين والأنصار، ولقد كان ذلك اليوم أشدّ من يوم مات فيه رسول الله صلی الله علیه وآله.

قال: وإنّ الوليد بن عُتبة كان على المنبر يخطب، فسمع الصياح، فقال: ما الخبر؟ قيل له: هذا صايح الهاشميّات. فتحادرت دموعه على خدَّيه، ثمّ نزل عن المنبر ((2)).

ص: 273


1- اللهوف لابن طاووس: 197 وما بعدها.
2- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 284، وسيلة النجاة: 241.

وفي (المنتخب): وأمّا أُمّ كلثوم فحين توجّهَت إلى المدينة جعلت تبكي وتقول بحزنٍ وبكاءٍ وثبور:

مدينةَ جدّنا لا تقبلينا***فبالحاسرات والأحزان جئنا

ألا فاخبر رسول الله عنّا***بأنّا قد فُجعنا في أخينا ((1))

[وأنّ رجالنا في الطفّ صرعی***بلا روسٍ، وقد ذبحوا البنینا] ((2))[وأنّ رجالنا في الطفّ صرعی بلا روسٍ، وقد ذبحوا البنینا] ((3))

وأخبِرْ جدَّنا أنّا أُسرنا***وبعد الأسر يا جدّا سُبينا

ورهطك يا رسول الله أضحوا***عرايا بالطفوف مسلَّبينا

وقد ذبحوا الحسين ولم يراعوا***جنابك يا رسول الله فينا

فلو نظرَت عيونُك للأُسارى***على أقتاب جمالٍ تحملينا

رسول الله، بعد الصَّون صارت***عيونُ الناس ناظرةً إلينا

وكنتَ تحوطنا، حتّى تولّت***عيونك صارت الأعدا علينا

أفاطمُ لو نظرتِ إلى السبايا***بناتك في البلاد مشتّتينا

أفاطمُ لو نظرتِ إلى الحيارى***ولو أبصرتِ زين العابدينا

أفاطمُ لا لقيتِ من عداكِ***ولا قيراط ممّا قد لقينا

فلو دامت حياتك لم تزالي***إلى يوم القيامة تندبينا

ص: 274


1- في المتن: (أبينا).
2- لم يذكره المؤلّف.
3- لم يذكره المؤلّف.

وعرّجْ بالبقيع وقِف ونادي:***أين حبيب ربّ العالمينا؟

وقل: يا عمّ يا الحسن الزكيّ**عيال أخيك أضحوا ضائعينا

أيا عمّاه، إنّ أخاك أضحى***بعيداً عنك بالرمضا رهينا

بلا رأسٍ تنوح عليه جهراً***طيور الوحوش الموحّشينا

ولو عاينتَ يا مولاي ساقوا***حريماً لا يجدن لهم معينا

على متن النياق بلا وطاءٍ***وشاهدت العيال مكشَّفينا

مدينة جدّنا لا تقبلينا***فبالحسراتِ والأحزان جئنا

خرجنا منكِ بالأهلين جمعاً***رجعنا لا رجال ولا بنينا

وكنّا بالخروج بجمع شملٍ***رجعنا حاسرين مسلَّبينا

وكنّا في أمان الله جهراً***رجعنا بالقطيعة خائفينا

ومولانا الحسين بنا أنيسٌ**رجعنا والحسين به رهينا

فنحن الضايعات بلا كفيلٍ***ونحن النايحات على أخينا

ونحن السائرات على المطايا***نُشال على الجمال المبغضينا

ونحن بنات يس وطه***ونحن الباكيات على أبينا

ونحن الطاهرات بلا خفاءٍ***ونحن المخلصون المصطفونا

ونحن الصابرات على البلايا***ونحن الصادقون الناصحونا

ألا يا جدّنا قتلوا حسيناً***ولم يرعوا جناب الله فينا

ص: 275

ألا يا جدّنا بلغَت عدانا***مُناها، واشتفى الأعداءُ فينا

لقد هتكوا النساء وحمّلوها***على الأقتاب قهراً أجمعينا

وزينب أخرجوها من خباها***وفاطم والهاً تبدي الأخينا

سكينة تشتكي من حرّ وجدٍ***تنادي: الغوث ربَّ العالمينا

وزين العابدين بقيد ذُلٍّ***وراموا قتله أهل الخؤونا

فبعدهمُ عن الدنيا ترابٌ***فكأس الموت فبها قد سقينا

وهذا قصّتي مع شرح حالي***ألا يا سامعون أبكوا علينا ((1))

قال أبو مخنف: ودخلوا المدينة بالنوح والبكاء والصياح، وعمدوا إلى مسجد رسول الله ((2)).

وفي (المنتخب): أمّا زينب فأخذت بعضادتي باب المسجد، ونادت: يا جدّاه، إنّي ناعيةٌ إليك أخي الحسين. وهي مع ذلك لا تجفّ لها عَبرةٌ ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلّما نظرت إلى عليّ بن الحسين تجدّد حزنها وزاد وجْدها ((3)).

قال أبو مخنف: فأخذَت أُمّ كلثوم بعضادة الباب، باب رسول الله صلی الله علیه وآله، وقالت: السلام عليك يا جدّاه، إنّي ناعيةٌ إليك بولدك الحسين علیه السلام.

ص: 276


1- المنتخب للطريحي: 2 / 484 المجلس 10.
2- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 284، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 93.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 486 المجلس 10.

وجعلت تمرّغ خدّيها على المنبر، والناس يعزّونها، وهي لا ترقى لها عَبرةٌ ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلّما نظرت إلى عليّ بن الحسين علیهما السلام تجدّدت أحزانها ((1)).

وفي بعض كتب المقتل: وخرجت أُمّ سلَمة من الحجرة الطاهرة، وفي إحدى يديها قارورةٌ وقد صارت التربة فيها دماً، وقد أخذت بالأُخرى يد فاطمة العليلة بنت الحسين، فلمّا رأى أهل البيت أُمّ المؤمنين والتربة المنقلبة بالدم تضاعف بكاؤهم، فتعانقوا مع أُمّ المؤمنين، وسألوا عن حال فاطمة العليلة، فعزّتهم أُمّ سلمة وأمرتهمبالصبر ((2)).

[لقاء محمّد ابن الحنفيّة]

في بعض كتب المقاتل أنّه لمّا سمع محمّد ابن الحنفيّة برجوع أهل البيت المفجوعين ونزولهم على مشارف المدينة، ركب جواده حتّى خرج من المدينة، فلم يرَ إلّا أعلاماً سوداً، فقال: ما هذه الأعلام السود؟ واللهِ قتل الحسينَ بنو أُميّة. فصاح صيحةً عظيمة، وخرّ عن جواده إلى الأرض مغشيّاً عليه، فركض الخادم إلى زين العابدين وقال: يا مولاي، أدرِكْ عمّك قبل أن تفارق روحه الدنيا. فخرج الإمام وبيده خرقةً سوداء يمسح بها

ص: 277


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 284.
2- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 285، روضة الشهداء للكاشفي: 392.

دموعه، إلى أن أتى إلى عمّه، فأخذ رأسه ووضعه في حِجره، فلمّا أفاق قال: يا ابن أخي، أين أخي؟ أين قرّة عيني؟ أين نور بصري؟ أين ثمرة فؤادي؟ أين أبوك؟ أين خليفة أبي؟ أين أخي الحسين؟ فقال علي: «يا عمّاه، أتيتك يتيماً» ((1)).

قال أبو مخنف: ثمّ أقبل عليّ بن الحسين علیهما السلام على عمّه محمّد ابن الحنفيّة، وأخبره بما جرى عليهم وكيفيّة قتل أبيه وابن عمّه وأهل بيته وما صنع يزيد، وحدّثه بالحديث من أوّله إلى آخرة، فبكى محمّد ابن الحنفيّة بكاءً شديداً حتّى غُشي عليه، فلمّا أفاق من غشوته قال: يعزّ علَيّ يا أبا عبد الله يا أخي، كيف طلبتَ ناصراً فلم تُنصَر، ومعيناً فلم تعن؟ ثمّ نهض ودخل داره، ولم يخرج إلّا بعدثلاثة أيّام، فلمّا كان في يوم الرابع خرج للناس وهو شاكٍ في سلاحه، واشتمل ببردته واستوى على جواده، وقصد ناحية الجبل، فلم يظهر للناس إلّا عند ظهور المختار ((2)).

[خروج أُمّ لقمان]

وسمعَت أُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب صراخ زينب وأُمّ كلثوم وباقي النساء، فخرجت تنعي الحسين علیه السلام وهي حاسرة، معها أخواتها أُمّ

ص: 278


1- الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 164.
2- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 285.

هاني وأسماء ورملة وزينب، وأنشأت تقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم:***ماذا فعلتم وأنتم آخِر الأُممِ

بأهل بيتي وأصحابي ومكرمتي***منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ؟

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم***أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمِ

فأقاموا مأتماً عظيماً ثلاثة أيّامٍ بلياليهنّ مع حرم رسول الله ((1)).

[مأتم الرباب]

وفي (الفصول المهمّة): وكان من جملة مَن كان معهم أُمّ سكينة بنت الحسين علیه السلام ، وهي الرباب ابنة امرء القيس، فلمّاوصلت إلى المدينة معهم وأقامت قليلاً خطبها الأشراف من قريش، فقالت: ماكنتُ لأتّخذ حمواً بعد رسول الله صلی الله علیه وآله. وبعده بقيَت سنةً لم يُظلّها سقف بيتٍ إلى أن ماتت (رضي الله تعالى عنها) ((2)).

[مأتم الهاشميّات]

في خبر زرارة، عن الصادق علیه السلام: «ما اختضبَت منّا امرأةٌ ولا

ص: 279


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 285، وانظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 224.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 839.

ادّهنَت ولا اكتحلت ولا رجّلَت حتّى أتانا رأس عُبيد الله بن زياد، وما زلنا في عَبرةٍ بعده» ((1)).

ورُوي عنه علیه السلام قال: «ما اكتحلَت هاشميّةٌ ولا اختضبَت ولا رُئي في دار هاشميّ دخان خمس حِجج، حتّى قُتل عُبيد الله بن زياد» ((2)).

وعن ابن سعدٍ في (الطبقات) أنّ أُمّ سلَمة زوج النبيّ صلی الله علیه وآله لمّا بلغها قتل الحسين علیه السلام قالت: أو قد فعلوها؟ ملأ الله قلوبهم وبيوتهم وقبورهم ناراً. ثمّ بكت حتّى غُشي عليها ((3)).

وعن الصادق علیه السلام: «وكانت أُمّ البنين أُمّ هؤلاء الأربعة الإخوة القتلى [يعني العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان]تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبةٍ وأحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي» ((4)).

للهِ مظلوميّتك يا أبا عبد الله الحسين، ويا أبا الفضل العبّاس.

ذكرتُ حينما بلغت إلى هذا الموضع ما رواه الشيخ المفيد بعد أن ذكر حثّ أبي الفضل العبّاس إخوانه على الجهاد والقتال بين يدَي إمامهم، فتقدّموا ونالوا الشهادة والسعادة، قال: وحملَت الجماعةُ على الحسين علیه السلام

ص: 280


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 81 الباب 26 ح 6، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 207.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 286.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: خ 1 / 496.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.

فغلبوه على عسكره، واشتدّ به العطش، فركب المسنّاة يريد الفرات، وبين يديه العبّاس أخوه [وذلك أنّ العبّاس هو حامل اللواء، ولابدّ أن يتقدّم حامل اللواء في المعركة]، فاعترضَته خيل ابن سعد، وفيهم رجلٌ من بني دارم، فقال لهم: ويلكم! حولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنوه من الماء. فقال الحسين علیه السلام: «اللّهمّ أظمِئْه»، فغضب الدارمي، ورماه بسهمٍ فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين علیه السلام السهم، وبسط يده تحت حنكه فامتلأَت راحتاه بالدم، فرمى به، ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعَل بابن بنت نبيّك»، ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدّ به العطش، وأحاط القوم بالعبّاس فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتل (رضوان الله عليه)، وكان المتولّي لقتله زيد بن ورقاء الحنفيّ وحكيم بن الطُّفيل السنبسيّ، بعد أن أُثخن بالجراح فلم يستطع حراكاً ((1)).

وقد أتينا على ذكر ذلك مفصَّلاً فيما مضى، ولكنّ الغرض هوالبكاء والإبكاء، إذ كانت أُمّ أبي الفضل العبّاس تندب في البقيع فيبكي لندبتها أهل المدينة، فأردنا أن يشاركها الشيعة في ندبتها وبكائها، لئلّا يخجلوا غداً يوم القيامة إذا وقفوا بين يدَي النبيّ المختار والإمام حيدر الكرّار، بل يفتخروا بدموعهم في عرصات القيامة.

ص: 281


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 109.

[ما جرى على الرأس المقدّس]

وتذكّرتُ ما رواه صاحب (المناقب): وذكر الإمام أبو العلاء الحافظ بإسناده عن مشايخه، أنّ يزيد بن معاوية حين قدم عليه رأس الحسين علیه السلام بعث إلى المدينة، فأقدم عليه عدّةٌ من موالي بني هاشم، وضمّ إليهم عدّةً من موالي أبي سفيان، ثمّ بعث بثقل الحسين ومَن بقي من أهله معهم، وجهّزهم بكلّ شيء، ولم يدَع لهم حاجةً بالمدينة إلّا أمر لهم بها، وبعث برأس الحسين علیه السلام إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وهو إذ ذاك عامله على المدينة، فقال عمرو: وددتُ أنّه لم يبعث به إليّ. ثمّ أمر عمرو به فدُفن بالبقيع عند قبر أُمّه فاطمة ((1)).

ويؤيّد ذلك ما رُوي في (التبر المذاب): قال الواقدي: ولمّا وصل الرأس والسبايا إلى المدينة الشريفة، لم يبقَ بالمدينة أحد، وخرجوا يضجّون بالبكاء، وخرجت زينب بنت عقيل بن أبي طالب كاشفةً شعرها تصيح: وا حسيناه، وا إخوتاه، وا أهلاه، وا محمّداه! ثمّ قالت:

ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم:***ماذا فعلتم وأنتم آخر الأُمم؟

الأبيات ((2))..

ص: 282


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 145 -- عن: صاحب المناقب.
2- حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 186، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 240، المنتظم: 5 / 342.

وما يحرق الفؤاد أكثر ويثير الزفرة أشدّ ما رُوي في (بحار الأنوار) عن (تاريخ) البلاذريّ، أنّه لمّا وافى رأس الحسين المدينة سُمعَت الواعية من كلّ جانب، فقال مروان بن الحكم:

ضربت دوسر فيهم ضربةً***أثبتت أوتاد مُلكٍ فاستقر

ثمّ أخذ ينكت وجهه بقضيبٍ ويقول:

يا حبّذا بردك في اليدين***ولونك الأحمر في الخدَّين

كأنّه بات بمجسدين***شفيتُ منك النفس يا حسين ((1))

لعنك الله ولعن يزيد وعُبيد الله الطاغي، إذ تتشفّون بقتل سيّد شباب الجنّة، وما الّذي فعله حتّى ينكت الثلاثة ثناياه بالقضيب، ويشمتون به وبما نزل به من مصائب، ويطوفون به في الكوفة والشام والمدينة، ويسلخون رأسه المقدّس كما صرّح به بعض العلماء؟ ((2))

ص: 283


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 124.
2- في كتاب (جواهر الكلام للجواهري: 20 / 93): (ويمكن أن يكون هذا المكان -- يعني مسجد الحنّانة -- موضع دفن الرأس الشريف بعد سلخه، فإنّهم (لعنهم الله تعالى) نقلوه بعد أن سلخوه). ويؤيّد تحقّق هذه المصيبة العظمى أحاديث النبيّ إسماعيل صادق الوعد الّذي سُلخَت فروة رأسه فصبر، ليواسي سيّد الشهداء علیه السلام. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، ولعنة الله على بني أُميّة قاطبة ومَن مكّنهم من رقاب المسلمين.

وقال السيّد ابن طاووس في (اللهوف): وقد وردت أخبارٌ كثيرةٌ في أنّه مدفونٌ عند قبر أمير المؤمنين ((1)).

ودلّت بعض الأخبار أنّ رأسه علیه السلام صُلب بدمشق ثلاثة أيّام، ومكث في خزائن بني أُميّة حتّى ولي سليمان بن عبد الملك، فطلب فجيء به وهو عظيمٌ أبيض، فجعله في سفطٍ وطيّبه وجعل عليه ثوباً، ودفنه في مقابر المسلمين بعد ما صلّى عليه، فلمّا وليَ عمر بن عبد العزيز بعث إلى المكان يطلب منه الرأس، فأُخبر بخبره، فسأل عن الموضع الّذي دُفن فيه، فنبشه وأخذه، والله أعلم ما صنع به. فالظاهر من دينه!!! أنّه بعث إلى كربلاء فدفن مع جسده ((2)).

وعن منصور بن جمهور أنّه دخل خزانة يزيد بن معاوية لمّا فُتحت، وجد به جؤنةً حمراء، فقال لغلامه سليم: احتفظ بهذه الجؤنة، فإنّها كنزٌ من كنوز بني أُميّة. فلمّا فتحها إذا فيها رأس الحسين علیه السلام ، وهو مخضوبٌ بالسواد، فقال لغلامه: ائتني بثوب. فأتاه به، فلفّه ثمّ دفنه بدمشق عند باب الفراديس عند البرج الثالث ممّا يلي المشرق.

وحدّث جماعةٌ من أهل مصر أنّ مشهد الرأس عندهم يسمّونه: مشهد

ص: 284


1- أُنظُر: فرحة الغريّ لابن طاووس: 57 و97، كامل الزيارات لابن قولويه: 37 الباب 9 ح 10، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 145.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 145.

الكريم، عليه من الذهب شيءٌ كثير، يقصدونه في المواسم ويزورونه ويزعمون أنّه مدفونٌ هناك.

والّذي عليه المعوَّل من الأقوال أنّه أُعيد إلى الجسد بعد أن طيف به في البلاد ودُفن معه ((1)).

[مع النعمان بن بشير]

لمّا وصل أهل البيت إلى المدينة واستقرّوا في بيوتهم يقيمون العزاء ويبكون ويندبون، فبلغهم أنّ النعمان بن بشير عازمٌ على الرجوع إلى أهله ودياره.

قال في (أخبار الدول): فقالت فاطمة لأُختها زينب بنت عليّ: لقد أحسن هذا الرجل -- يعني النعمان -- إلينا، فهل لكِ أن تصليه بشيء؟ ((2))

وفي (الفصول المهمّة): فقالت: واللهِ ما معنا ما نصله به إلّا ما كان من هذه الحُليّ. فقالت: فافعلي. فأخرجَت له سوارين ودملجين، وبعثتا بهما إليه ((3)).

وفي رواية: أعطوه المال والثياب، وقلن: خُذ هذا المال والثياب، ولو كنّا

ص: 285


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 144.
2- أُنظُر: الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 155.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 839، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 155.

نملك أضعاف ذلك لَرفدناك به ((1)).وفي (الفصول المهمّة): فردّهما [النعمان] وقال: لو كان الّذي صنعتُه رغبةً للدنيا لَكان في هذا مقنعٌ بزيادةٍ كثيرة، ولكنّي واللهِ ما فعلتُه إلّا لله (تعالى) ولقرابتكم من رسول الله ((2)).

قال المؤلّف: ماذا جرى على أُولئك المفجوعين الملوّعين لمّا دخلوا دار الرسول ووجدوها مقفرة الطلول، خاليةً من سكانها، حاكيةً أحزانها، وقد غشيها القدر النازل وساورها الخطب الهائل، وبكت أبوابها وجدرانها لفقدها أُناساً كانت تأنس بهم في الخلوات وتسمع تهجّدهم في الصلوات..

ولله درّ مَن قال:

مررتُ على دار النبيّ محمّدٍ***فألقيتها قد أقفرت عرصاتها

وأمست خلاءً من تلاوة قارئٍ***وعُطّل منها صومها وصلاتها

وکانت ملاذاً للأنام وجُنّةً***من الخطب، يغني المنفقين صلاتها

فأفنت من السادات من آل هاشمٍ***ولم يجتمع بعد الحسين شتاتها

فعيني لقتل السبط عبرى ولوعتي***على فقدهم ما تنق-ضي زفراتُها

ص: 286


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 285، وانظر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 226.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 839، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 155.

فيا کبدي، کم تصبرين على الأذى؟***أما آن تفنى إذاً حسراتها؟ ((1))فيا کبدي، کم تصبرين على الأذى؟

أما آن تفنى إذاً حسراتها؟ ((2))

اللّهمّ عجّل فرج مولانا صاحب الزمان، بمحمّدٍ وآله.

[حزن الإمام السجّاد]

أمّا الإمام السجّاد علیه السلام ، فلم تنقطع له عَبرةٌ ولم تهدأ له زفرة، ففي (المنتخب): حُكي عن عليّ بن الحسين علیه السلام أنّه منذ وفاة أبيه الحسين ما أكل لحم الرؤوس؛ حزناً على رأس أبيه، وكان عمره يومئذٍ أحد عشر سنة، ولم يزل يبكي على مصاب أبيه أربعين سنة، وهو مع ذلك صائمٌ نهاره قائمٌ ليله، فإذا أُحضر الطعام لإفطاره قال: «وا كرباه لكربك يا أباه! وا أسفاه لقتلك يا أباه!»، ثمّ يبكي طويلاً وهو يقول: «قُتل ابن بنت رسول الله جائعاً، قُتل ابن بنت رسول الله عطشاناً، وأنا آكل الزاد وأشرب الماء، لا هنّاني الأكل والشرب، يعزّ عليك يا أبي، ليتني لم أرَ مصرعك»، ولم يزل يبكي حتّى تبلّ الدموع وجهه ولحيته ويُغشى عليه، فإذا أفاق أكل قليلاً وحمد الله كثيراً، وقام إلى عبادة ربّه وأصبح صائماً، ولم يزل هكذا حتّى مات ((3)).

وفي (البحار): إنّه بكى حتّى خيف على عينيه، و كان إذا أخذ إناءً يشرب ماءً بكى حتّى يملأها دمعاً، فقيل له في ذلك، فقال: «وكيف لا أبكي

ص: 287


1- مهيّج الأحزان لليزدي: 531.
2- مهيّج الأحزان لليزدي: 531.
3- المنتخب للطريحي: 2 / 308 المجلس 4.

وقد مُنع أبي من الماء الّذي كان مطلقاً للسباعوالوحوش؟» ((1)).

وفي كتاب (كامل الزيارة): أشرف مولىً لعليّ بن الحسين؟ع؟ وهو في سقيفةٍ له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي يا عليّ بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي؟! فرفع رأسه إليه وقال: «ويلك -- أو: ثكلتك أُمّك --، واللهِ لقد شكا يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت، حتّى قال: يا أسفى على يوسف، إنّه فقد ابناً واحداً، وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يُذبحون حولي» ((2)).

وفي كتاب (الملهوف): وحدّث مولىً له أنّه برز يوماً إلى الصحراء، قال: فتبعتُه، فوجدته قد سجد على حجارةٍ خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه، وأحصيت عليه ألف مرّةٍ يقول: «لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً، لا إله إلّا الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلّا الله إيماناً وتصديقاً وصدقاً»، ثمّ رفع رأسه من سجوده وإنّ لحيته ووجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه، فقلت: يا سيّدي، أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقلّ؟! فقال لي: «ويحك! إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيّاً ابن نبيّ، له اثنا عشر ابناً، فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغمّ وذهب بصره من البكاء، وابنه حيٌّ في دار الدنيا، وأنا رأيتُ أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي؟» ((3)).

ص: 288


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 108.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 107 الباب 35 ح 2.
3- اللهوف لابن طاووس: 209، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 149.

اللّهمّ العن ظالمهيم وخاذليهم، وعذّبهم عذاباً أليماً.

قال المؤلّف: أي والله، كيف ينقضي حزن الإمام ولا زال أُولئكالأشرار يؤذونه ويُنزلون به ما ينزلون من عظائم الأُمور بعد قتل أبيه سيّد الشهداء؟

ففي (الكافي)، عن الإمام الباقر علیه السلام: «إنّ يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحجّ، فبعث إلى رجلٍ من قريش فأتاه، فقال له يزيد: أتقرّ لي أنّك عبدٌ لي، إن شئتَ بعتُك ((1)) وإن شئتَ استرقيتك؟ فقال له الرجل: واللهِ يا يزيد ما أنت بأكرم منّي في قريش حسباً، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهليّة والإسلام، وما أنت بأفضل منّي في الدِّين ولا بخير منّي، فكيف أقرّ لك بما سألت؟! فقال له يزيد: إن لم تقرّ لي واللهِ قتلتك. فقال له الرجل: ليس قتلك إيّاي بأعظم من قتلك الحسين بن علي علیه السلام ابن رسول الله صلی الله علیه وآله. فأمر به فقُتل. ثمّ أرسل إلى عليّ بن الحسين علیه السلام فقال له مثل مقالته للقرشي، فقال له عليّ بن الحسين علیه السلام: أرأيتَ إن لم أقرّ لك أليس تقتلني كما قتلت الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد (لعنه الله): بلى. فقال له عليّ بن الحسين علیه السلام: قد أقررتُ لك بما سألت، أنا عبدٌ مكرَه، فإن شئت فأمسِكْ وإن شئت فبعْ. فقال له يزيد (لعنه الله): أَولى لك، حقنت دمك، ولم ينقصك ذلك من شرفك» ((2)).

وما أحسن ما قال في (الفصول المهمّة)، قال: حكى الشّيخ نصر الله

ص: 289


1- في المتن: (قتلتك).
2- الكافي للكليني: 8 / 235 ح 313.

-- وكان من الثقات -- قال: رأيتُ في المنام عليّ بن أبي طالبعلیه السلام ، فقلت: يا أمير المؤمنين، تقولون يوم فتح مكّة: مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثمّ يتمّ على ولدك الحسين علیه السلام في يوم كربلاء منهم ما يتمّ؟ فقال لي: «أما سمعتَ أبيات ابن الصيفيّ (التميمي) في هذا المعنى؟»، فقلت: لا. قال: «اذهب إليه واسمعها منه». فاستيقظت من نومي متفكّراً، ثمّ إنّي ذهبت إلى دار ابن الصيفي الملقّب بشهاب الدين، فطرقت عليه الباب فخرج، فقصصت عليه الرؤيا، (فشهق) وأجهش بالبكاء، وحلف بالله (تعالى) إن كان سمعها منّي أحد، وإن أكن نظمتُها إلّا في ليلتي هذه، ثمّ أنشدني:

ملكنا، فكان العفو منّا سجيّةً***فلمّا ملكتم سال بالدم أبطحُ

وحلّلتمُ قتل الأُسارى، وطالما***غدونا على الأسرى نعّف ونصفحُ

وحسبُكمُ هذا التفاوت بيننا***وكلُّ إناءٍ بالّذي فيه ينضحُ ((1))

قال المؤلّف: لقد اشتدّ ظلم الكفرة الجائرين على سادات العالمين، بل على الشيعة أجمعين، حتّى لا يكاد القلم يقوى على تحريره وبيانه، بحيث لم يجرؤ الشيعة على لعن ظالمي آل محمّدٍ ولو تلويحاً.

وفي كتاب (المنتخب): روى بشّار بن عبد الله قال: دخلتُ على مولاي الصادق علیه السلام وهو يومئذٍ مُقيمٌ بالكوفة، فرأيت قدّامه طبقاً فيه رطب وهو يأكل منه، فقال لي: «يا بشّار، ادنُ فكُلْ معي من هذا الرطب»، فقلت: هنّاك

ص: 290


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 842، وفَيات الأعيان: 2 / 364.

الله به وجعلني فداك. فقال لي: «لِمَ لا تأكُل؟»، فقلت: إنّي فيهمٍّ عظيمٍ من شيءٍ رأيتُه الآن في طريقي هذا، قد أوجع قلبي وأهاج حزني. فقال لي: «بحقّي عليك إلاّ ما أخبرتَني بما رأيت»، فقلت: يا مولاي، رأيتُ ظالماً يضرب امرأةً ويسوقها إلى الحبس، وهي تنادي: المُستغاث بالله وبرسول الله. ولم يغثها أحدٌ من الناس. فقال: «ولِمَ فُعل بها ذلك؟»، فقلت: سمعتُ من الناس يقولون: إنّها عثرت بحجرٍ وهي تمشي، فقالت: لعن الله ظالميكِ يا فاطمة الزهراء. فسمعها هذا الجلواز فصنع بها ما سمعت. قال: فقطع الصادق علیه السلام أكله وتظاهر حزنه، ولم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديله ولحيته، وقال لي: «نغّصتَ علَيّ يا بشّار، قُم بنا إلى مسجد سهيل؛ لندعوا الله عزوجل ونسأله خلاص هذه المرأة». قال: ووجّه بعض أصحابه إلى باب السلطان وقال له: «لا تبرحْ حتّى تأتيني بالخبر الصحيح، فإن حدث في المرأة حدَثٌ سِرْ إلينا حيث كُنّا». فسرنا إلى مسجد السهلة، وصلّى كلٌّ منّا ركعتين لله عزوجل، ثمّ رفع الصادق علیه السلام يديه بالدعاء وابتهل إلى الله (تعالى) بالثناء، ثمّ خرّ ساجداً لله ساعة، ثمّ رفع رأسه وقال: «الحمد لله، قُم يا بشّار، أُطلقَت المرأة». فبينما نحن على الطريق إذ أتانا الرجل الّذي وجّهه الصادق إلى باب السلطان، فقال له: «ما الخبر؟»، فقال: أُطلقَت المرأة. فقال: «كيف كان إطلاقها؟»، قال: كنتُ واقفاً عند باب السلطان، إذ خرج الحاجب فدعا المرأة وقال لها: ما الّذي تكلّمتِ به؟ قالت: عثرتُ بحجرٍ فقلت: لعن الله ظالميكِ يا فاطمة الزهراء، ففُعل بي ما ترون. قال: فناولها مئتي درهمٍ وقال: خُذي هذا المال، واجعلي السلطان في

ص: 291

حِلّ. فأبَتْ أن تأخذها، وانصرفَت إلى منزلها، فقال الصادق علیه السلام: «أبت أن تأخذها وهي والله محتاجةٌ إليها». ثمّ إنّه علیه السلام أخرج من جيبه صُرّةً فيها سبعة دنانير لم يكن عندهغيرها، وقال لي: «اذهب أنت يا بشّار إلى منزلها، واقرأها عنّي السلام، وادفع إليها هذه الدنانير». فقال: فمضيت إليها، وأقرأتها منه السلام، فقالت: باللهِ عليك، أقرأَني مولاي الصادق السلام؟! فقلت: أي والله. فخرّت ساجدةً لله ساعة، ورفعَت رأسها وقالت: أقرأَني مولاي السلام؟ فقلت: نعم. فسجدت لله شكراً، حتّى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقلت لها: يا أَمة الله، خُذي ما أرسله إليكِ سيّدي، وأبشِري بالجنّة. فأخذَت، واستبشرت، وشكرته على ذلك، وقالت: يا بشّار، اسأله أن يستوهب أَمة الله من الله (تعالى). قال: فرجعتُ إليه وحدّثتُه بما جرى، فجعل يبكي ويقول: «غفر الله لها» ((1)).

ص: 292


1- المنتخب للطريحي: 1 / 44 المجلس 3 الباب 1.

تنبيهات

الأوّل:

من محاسن أخلاق الإمام سيّد الساجدين أنّه كانت له ناقةٌ قد حجّ عليها اثنتين وعشرين حجّة، ما قرعها بمقرعةٍ قطّ ((1)).

وفي (بصائر الدرجات): عن الإمام الصادق علیه السلام: «لمّا كان الليلة الّتي وُعدها عليّ بن الحسين، قال لمحمّد: يا بُنيّ، أبغي وضوءاً. قال: فقمتُ فجئت بوضوء، قال: لا ينبغي هذه؛ فإنّ فيه شيئاً ميتاً. قال: فخرجتُ فجئت بالمصباح، فإذا فيه فأرة ميتة، فجئته بوضوءٍ غيره، قال: فقال: يا بُنيّ، هذه الليلة الّتي وُعدتها. فأوصى بناقته أن يُحضر لها عصام، ويقام لها علف، فجعلت فيه، فلم نلبث أن خرجت حتّى أتت القبر، فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها، فأتاها فقال: مَهْ، الآن قومي، بارك الله فيكِ. فسارت ودخلت موضعها، فلم نلبث أن خرجَت حتّى أتت القبر، فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها، فأُتي محمّد بن عليّ فقيل له: إنّ الناقة قد خرجت فلم تفعل. قال: دعوها؛ فإنّها مودعة. فلم تلبث إلّا ثلاثة حتّى نفقت، وإن كان لَيخرج عليها إلى مكّة فيتعلّق السوط بالرحل، فما يقرعها قرعةً

ص: 293


1- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 147.

حتّى يدخل المدينة» ((1)).

وفي كتاب (البحار): وتلكّأت عليه ناقته بين جبال رضوى، فأناخها، ثمّ أراها السوط والقضيب، ثمّ قال: «لَتنطلقنّ أو لَأفعلنّ؟»، فانطلقت وما تلكّأَت بعدها ((2)).

وفي (البحار) أيضاً، مسنداً عن يونس بن يعقوب، عن الصادق علیه السلام قال: «قال عليّ بن الحسين علیه السلام لابنه محمّد علیه السلام حين حضرَته الوفاة: إنّني قد حججتُ على ناقتي هذه عشرين حجّة، فلم أقرعها بسوطٍ قرعة، فإذا نفقَت فادفنها، لا تأكل لحمها السباع، فإنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال: ما مِن بعيرٍ يُوقَف عليه موقف عرفة سبع حِججٍ إلّا جعله الله من نَعَم الجنّة، وبارك في نسله. فلما نفقَت حفر لها أبو جعفر علیه السلام ودفنها» ((3)).

وقد تذكّرتُ في هذا المقام حديثاً يثير الزفرة ويستدرّ العَبرة، فقد رُوي في بعض الكتب أنّ رسول الله كان يخطب ويعظ الناس ويحثّهم على الصدقة، فجاء أعرابيٌّ ومعه ناقة، فقال: يا رسول الله، أُريد أن أتصدّق بهذه الناقة في سبيل الله. فدعا له النبيّ، وأمر أن تُقيَّم الناقة، فدفع ثمنها وأخذها، ثمّ إنّه خرج عليها مرّةً إلى الجهاد، فلمّا رجع عقلها ودخل البيت، ثمّ خرج في الليل

ص: 294


1- بصائر الدرجات للصفّار: 483 الباب 9 ح 11.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 44 ح 42.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 70 ح 46.

وإذا بالناقة تنادي: السلام عليك يا زين القيامة. فردّ عليها النبيّالسلام بأحسن ردّ، وقالت له يوماً: يا رسول الله، كنتُ أنا ناقةً عند رجلٍ كافر، فخرجتُ ليلةً أرعى في الصحراء، فأحاطت بي الوحوش المفترسة وأرادت أن تهجم علَيّ، فقال ذئب: لا تؤذوا هذه الناقة، فإنّها ستكون مركباً لزين القيامة وأفضل الخلائق محمّدٍ المصطفى. ثمّ قالت: يا رسول الله، عندي إليك حاجتين، الأُولى: أن أكون مركبك يوم القيامة كما كنت لك في الدنيا، والأُخرى: لا أُريد أن أبقى بعدك فيركبني غيرك. فدعا النبيّ، وأمّنَت السيّدة فاطمة الزهراء على دعائه، فلمّا مضى النبيّ وانتقل إلى الرفيق الأعلى، امتنعت الناقة عن الأكل والشرب، وكانت فاطمة الزهراء تتعهّدها، فجاءتها يوماً، فلمّا رأتها الناقة مقبلةً قالت: السلام عليكِ يا بنت زين القيامة، لا ينبغي لي أن آكل أو أشرب؛ فقد رحل أبوكِ وحان لي أن أرحل، فهل عندكِ من كلامٍ أُوصله له؟ فدنت منها الزهراء، فرأتها دامعة العين، فاحتضنتها وبكت، فماتت الناقة بين يدَي الزهراء ((1)).

لمّا ذكرتُ رأفة الأُمّ فاطمة الزهراء ورأفة ابنها الإمام السجّاد بالناقتين، تذكّرتُ ناقة صالح، المعجزة الإلهيّة الّتي جاء بها إلى قومه، وأوصاهم أن لا يمسّوها بسوءٍ ولا يتعرضوا لشربها، فقال الله (تعالى): «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا *

ص: 295


1- أُنظُر: تحفة المجالس: 27 المعجزة 36.

إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا» ((1)).معاشرَ الشيعة، لا تغفلوا عن حديث النبيّ إذ قال: «يقع في أُمّتي كلُّ ما وقع في الأُمم السابقة، حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة» ((2)).

وقد رُوي عن رسول الله أنّه قال لعليّ بن أبي طالب علیه السلام: «مَن أشقى الأوّلين؟»، قال: «عاقر الناقة»، قال: «صدقت، فمن أشقى الآخرين؟»، قال: «قلت: لا أعلم يا رسول الله»، قال: «الّذي يضربك على هذه»، وأشار إلى يافوخه ((3)).

وتذكّروا ما رُوي في (الكنز) و(تأويل الآيات الظاهرة)، عن الفضل بن العبّاس، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام أنّه قال: ««وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا» ((4))، الشمس: أمير المؤمنين؟ع؟، وضحاها: قيام القائمد علیه السلام ، «وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا» ((5)): الحسن والحسين؟عهما؟، «وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا» ((6)): هو قيام

ص: 296


1- سورة الشمس: 11 -- 15.
2- أُنظُر: تفسير الإمام العسكري علیه السلام: 482، مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 1 / 203، الاحتجاج للطبرسي: 1 / 77، تفسير العيّاشي: 1 / 303، عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 2 / 201.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 11 / 376.
4- سورة الشمس: 1.
5- سورة الشمس: 2.
6- سورة الشمس: 3.

القائم علیه السلام ، «وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا» ((1)): حبتر ودلام، غشيا عليه الحقّ، وأمّا قوله: «وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا» ((2))، قال: هو محمّد صلی الله علیه وآله، هو السماء الّذي يسمو إليه الخلق في العلم، وقوله: «وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا» ((3))، قال: الأرضالشيعة، «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا» ((4))، قال: هو المؤمن المستور وهو على الحقّ، وقوله: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» ((5))، قال: معرفة الحقّ من الباطل، «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا» ((6))، قال: قد أفلحت نفسٌ زكّاها الله عزوجل، «وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» ((7))، وقوله: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا» ((8))، قال: ثمود رهطٌ من الشيعة، فإنّ الله (سبحانه) يقول: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ» ((9))، فهو السيف إذا قام القائم علیه السلام ، وقوله (تعالى): «فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ»، هو

ص: 297


1- سورة الشمس: 4.
2- سورة الشمس: 5.
3- سورة الشمس: 6.
4- سورة الشمس: 7.
5- سورة الشمس: 8.
6- سورة الشمس: 9.
7- سورة الشمس: 10.
8- سورة الشمس: 11.
9- سورة فُصّلت: 17.

النبي صلی الله علیه وآله، «نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا» ((1))، قال: الناقة الإمام الّذي فهّمهم عن الله، وسقياها: أي عنده مستقى العلم، «فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا» ((2))، قال: في الرجعة، «وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا» ((3))، قال: لا يخاف من مثلها إذا رجع» ((4)).

إذا فهمت هذا الحديث تعرف أنّ المراد برسول الله في الباطنهو النبي صلی الله علیه وآله، وناقة الله هو الإمام، وقد أوصى النبيّ برعاية حقّ الإمام، وأن لا يُمنَع من الماء، وأن لا يُعقَر ولا يُقتَل، فخالفت الأُمّة وضربوا ناقة الله الأوّل على رأسه، وسمّوا ناقة الله الثاني، وقتلوا ناقة الله الثالث ظمآناً ومنعوا عنه الماء، ولهذا ذكر الإمام فصيل ناقة صالح لمّا قتلوا الطفل الرضيع (عليّ الأصغر) عطشاناً، ورموه بسهمٍ فذبحه من الوريد إلى الوريد.

وفيما فعلَته الصدّيقة فاطمة الزهراء من العطف والرأفة مع ناقة النبيّ واحتضانها، وما فعله الإمام السجّاد مع ناقته والوصيّة بها، وعدم صبر الناقتين بعد رحيل النبيّ والإمام، نكاتٌ عديدةٌ لا تخفى على أُولي الألباب والأفئدة.

ص: 298


1- سورة الشمس: 13.
2- سورة الشمس: 14.
3- سورة الشمس: 15.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 24 / 72.

معاشرَ الشيعة، تحتضن فاطمة الزهراء رأس الناقة برأفةٍ وعطفٍ في وقت الاحتضار، وتقتل هذه الأُمّة ولدها الحسين، وتجعله غرضاً لأربعة آلاف سهمٍ ومئةٍ وثمانين طعنة رمحٍ وضربة سيف!

ويدفن الإمام الباقر ناقة السجّاد تنفيذاً لوصيّة أبيه، ويترك الأجلاف الجفاة بدن عزيز الزهراء على الرمضاء بلا دفن!

يا لها من مصيبةٍ تحرق القلوب وتفتّت الأكباد!

الثاني:

روى الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي)، مسنداً عن الزهريّ قال: كنتُ عند عليّ بن الحسين علیه السلام ، فجاءه رجلٌ من أصحابه، فقال له عليّ ابن الحسين علیه السلام: «ما خبرك أيّها الرجل؟»، فقال الرجل: خبري يا ابن رسول الله أنّي أصبحتوعلَيّ أربعمئة دينار دَينٍ لا قضاء عندي لها، ولي عيالٌ ثقالٌ ليس لي ما أعود عليهم به. قال: فبكى عليّ بن الحسين علیه السلام بكاءً شديداً، فقلت له: ما يبكيك يا ابن رسول الله؟ فقال: «وهل يعدّ البكاء إلّا للمصائب والمحن الكبار؟»، قالوا: كذلك يا ابن رسول الله. قال: «فأيّة محنةٍ ومصيبةٍ أعظم على حرٍّ مؤمنٍ من أن يرى بأخيه المؤمن خلّةً فلا يمكنه سدّها، ويشاهده على فاقةٍ فلا يطيق رفعها؟».

قال: فتفرّقوا عن مجلسهم ذلك، فقال بعض المخالفين وهو يطعن على عليّ بن الحسين: عجباً لهؤلاء، يدّعون مرّةً أنّ السماء والأرض وكلّ شيءٍ

ص: 299

يطيعهم، وأنّ الله لا يردّهم عن شيءٍ من طلباتهم، ثمّ يعترفون أُخرى بالعجز عن إصلاح خواصّ إخوانهم. فاتّصل ذلك بالرجل صاحب القصّة، فجاء إلى عليّ بن الحسين علیه السلام فقال له: يا ابن رسول الله، بلغني عن فلانٍ كذا وكذا، وكان ذلك أغلظ علَيّ من محنتي.

فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: «فقد أذن الله في فرجك، يا فلانة احملي سحوري وفطوري»، فحملَت قرصتين، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام للرجل: «خُذهما، فليس عندنا غيرهما، فإنّ الله يكشف عنك بهما وينيلك خيراً واسعاً منهما».

فأخذهما الرجل، ودخل السوق لا يدري ما يصنع بهما، يتفكّر في ثقل دينه وسوء حال عياله، ويوسوس إليه الشيطان: أين مواقع هاتين من حاجتك؟ فمرّ بسمّاكٍ قد بارت عليه سمكته قد أراحت، فقال له: سمكتك هذه بائرةٌ عليك، وإحدى قرصتَيّ هاتين بائرةٌ علَيّ،فهل لك أن تعطيني سمكتك البائرة وتأخذ قرصتي هذه البائرة؟ فقال: نعم. فأعطاه السمكة وأخذ القرصة، ثمّ مرّ برجلٍ معه ملحٌ قليلٌ مزهودٌ فيه، فقال له: هل لك أن تعطيني ملحك هذا المزهود فيه بقرصتي هذه المزهود فيها؟ قال: نعم. ففعل، فجاء الرجل بالسمكة والملح، فقال: أُصلح هذا بهذا.

فلمّا شقّ بطن السمكة وجد فيه لؤلؤتين فاخرتين، فحمد الله عليهما.

فبينما هو في سروره ذلك إذ قُرع بابه، فخرج ينظر مَن بالباب، فإذا صاحب السمكة وصاحب الملح قد جاءا، يقول كلّ واحدٍ منهما له: يا عبد الله، جهدنا أن نأكل نحن أو أحدٌ من عيالنا هذا القرص، فلم تعمل فيه

ص: 300

أسناننا، وما نظنّك إلّا وقد تناهيت في سوء الحال ومرنت على الشقاء، قد رددنا إليك هذا الخبز وطيّبنا لك ما أخذتَه منّا. فأخذ القرصتين منهما.

فلمّا استقرّ بعد انصرافهما عنه قُرع بابه، فإذا رسول عليّ بن الحسين علیه السلام فدخل، فقال: إنّه يقول لك: «إنّ الله قد أتاك بالفرج، فاردد إلينا طعامنا، فإنّه لا يأكله غيرنا».

وباع الرجل اللؤلؤتين بمالٍ عظيم، قضى منه دَينه، وحسنت بعد ذلك حاله، فقال بعض المخالفين: ما أشدّ هذا التفاوت، بينا عليّ بن الحسين علیه السلام لا يقدر أن يسدّ منه فاقةً إذ أغناه هذا الغناء العظيم، كيف يكون هذا؟ وكيف يعجز عن سدّ الفاقة مَن يقدر على هذا الغناء العظيم؟ فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: «هكذا قالت قريش للنبيّ صلی الله علیه وآله: كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء من مكّة ويرجع إليهافي ليلةٍ واحدةٍ مَن لا يقدر أن يبلغ من مكّة إلى المدينة إلّا في اثني عشر يوماً. وذلك حين هاجر منها». ثمّ قال عليّ بن الحسين علیه السلام: «جهلوا واللهِ أمر الله وأمر أوليائه معه، إنّ المراتب الرفيعة لا تُنال إلّا بالتسليم لله (جلّ ثناؤه)، وترك الاقتراح عليه، والرضى بما يدبّرهم به، إنّ أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لم يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله؟عز؟ عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنّهم مع ذلك لا يريدون منه إلّا ما يريده لهم» ((1)).

ص: 301


1- الأمالي للصدوق: 453 المجلس 99 ح 3.

وصلّى الله على محمّدٍ وآله، وحسبنا الله ونعم الوکيل.

الثالث:

في كتاب (المنتخب) أنّ رجلاً مؤمناً من أكابر بلاد بلخ كان يحجّ بيت الله الحرام ويزور قبر النبيّ في أكثر الأعوام، وكان يأتي عليَّ بن الحسين فيزوره، ويحمل إليه الهدايا والتحف، ويأخذ مصالح دينه منه، ثمّ يرجع إلى بلاده.

فقالت له زوجته: أراك تهدي تحفاً كثيرة، ولا أراه يجازيك عنها بشيء! فقال: إنّ الرجل الّذي نهدي إليه هدايانا هو ملك الدنيا والآخرة، وجميع ما في أيدي الناس تحت مُلكه؛ لأنّه خليفة الله في أرضه وحجّته على عباده، وهو ابن رسول الله، وهو إمامنا ومولانا ومقتدانا. فلمّا سمعت ذلك منه أمسكَت عن ملامته.

قال: ثمّ إنّ الرجل تهيّأ للحجّ مرّةً أُخرى في السنة القابلة، وقصدعليّ ابن الحسين، فاستأذن له فدخل، فسلّم عليه وقبّل يديه، ووجد بين يديه طعاماً، فقرّبه إليه وأمره بالأكل معه، فأكل الرجل حسب كفايته، ثمّ استدعى بطشتٍ وإبريقٍ فيه ماء، فقام الرجل فأخذ الإبريق وصبّ الماء على يدَي الإمام، فقال الإمام: «يا شيخ، أنت ضيفنا، فكيف تصبّ على يدَي الماء؟»، فقال: إنّي أُحبّ ذلك. فقام الإمام علیه السلام: «حيث أنّك أحببت ذلك، فوالله لَأُريك ما تحبّ وترضى به وتقرّ به عيناك». فصبّ الرجل الماء

ص: 302

على يديه حتّى امتلأَت ثلث الطشت، فقال الإمام للرجل: «ما هذا؟»، قال: ماء. فقال الإمام: «بل هو ياقوتٌ أحمر». فنظر الرجل إليه، فإذا هو قد صار ياقوتاً أحمر بإذن الله (تعالى). ثمّ قال الإمام علیه السلام: «يا رجل، صبّ الماء أيضاً»، فصبّ الماء على يدَي الإمام مرّةً أُخرى حتّى امتلأ ثُلثَي الطشت، فقال له: «ما هذا؟»، قال: هذا ماء. فقال الإمام: «بل هذا زمرّدٌ أخضر». فنظر الرجل إليه، فإذا هو زمرّدٌ أخضر. ثمّ قال الإمام أيضاً: «صبّ الماء يا رجل»، فصبّ الماء على يدَي الإمام حتّى امتلأ الطشت، فقال للرجل: «ما هذا؟»، فقال: ماء. قال: «بل هذا دُرٌّ أبيض». فنظر الرجل إليه، فإذا هو درٌّ أبيضٌ بإذن الله (تعالى)، وصار الطشت ملآناً من ثلاثة ألوان: درّ، وياقوت، وزمرّد.

فتعجّب الرجل غاية العجب، وانكبّ على يدَي الإمام يقبّلهما، فقال له: «يا شيخ، لم يكن عندنا شيءٌ نكافيك على هداياك إلينا، فخُذ هذه الجواهر، فإنّها عوض هديّتك، واعتذر لنا عند زوجتك؛ لأنّها عتبت علينا». فأطرق الرجل رأسه خجلاً، وقال: يا سيّدي، مَن أنبأك بكلام زوجتي؟ فلا شكّ أنّك من بيت النبوّة.

ثمّ إنّ الرجل ودّع الإمام، وأخذ الجواهر وسار بها إلى زوجته،وحدّثها بالقصّة، قالت: ومَن أعلمه بما قلت؟ فقال: ألم أقل لكِ إنّه مِن بيت العلم والآيات الباهرات؟ فسجدَت لله شكراً، وأقسمَت على بعلها بالله العظيم أن يحملها معه إلى زيارته والنظر إلى طلعته، فلمّا تجهّز بعلها للحجّ في السنة

ص: 303

القابلة أخذها معه، فمرضت المرأة في الطريق وماتت قريباً من مدينة الرسول، فجاء الرجل إلى الإمام باكياً حزيناً، وأخبره بموت زوجته، وأنّها كانت قاصدةً إلى زيارته وزيارة جدّه رسول الله، فقام الإمام وصلّى ركعتين، ودعا الله (سبحانه) بدعواتٍ لم تُحجَب، ثمّ التفت إلى الرجل فقال له: «قم وارجع إلى زوجتك، فإنّ الله عزوجل قد أحياها بقدرته وحكمته، وهو «يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ»».

فقام الرجل مسرعاً وهو فرحٌ بين مصدّق ومكذّب، فدخل إلى خيمته فرأى زوجته جالسةً في الخيمة على حال الصحة، فزاد سروره واعتقد ضميره، وقال لها: كيف أحياكِ الله (تعالى)؟ فقالت: واللهِ لقد جاءني ملَك الموت وقبض روحي، وهمّ أن يصعد بها، وإذا برجلٍ صفته كذا وكذا، وجعلَت تعدّد أوصافه الشريفة، وبعلها يقول لها: نعم صدقتي، هذه صفة سيّدي ومولاي عليّ بن الحسين علیهما السلام، قالت: فلمّا رآه ملَك الموت مُقبلاً، انكبّ على قدميه يقبّلهما ويقول: السلام عليك يا حجّة الله في أرضه، السلام عليك يا زين العابدين. فردّ عليه السلام، وقال له: «يا ملَك الموت، أعِدْ روح هذه المرأة إلى جسدها؛ فإنّها قاصدةٌ إلينا، وإنّي قد سألت ربّي أن يبقيها ثلاثين سنةً أُخرى، ويحييها حياةً طيّبة؛ لقدومها إلينا زائرةً لنا، فإنّ للزائر علينا حقّاً واجباً». فقال له الملك: سمعاً وطاعةً لك يا وليّ الله. ثمّ أعاد روحي إلى جسدي، وأنا أنظر إلى ملك الموت قبّل يده

ص: 304

الشريفة وخرج عنّي.

فأخذ الرجل بيد زوجته، وأتى بها إلى مجلس الإمام وهو بين أصحابه، وانكبّت على ركبتيه تقبّلهما وهي تقول: هذا والله سيّدي ومولاي، هذا الّذي أحياني الله ببركة دعائه. ولم تزل المرأة مع بعلها مجاورين عند الإمام بقيّة أعمارهما بعيشةٍ طيّبةٍ في البلدة الطيّبة، إلى أن ماتا (رحمة الله عليهما) ((1)).

هل كان يليق بمثل هذا الإمام العظيم أن يُكبَّل بالأصفاد، وتوضع الجامعة في عنقه، وتسبى أخواته وعمّاته على أقتاب الإبل بلا غطاءٍ ولا وطاء، يُطاف بهم من بلدٍ إلى بلد؟!

الرابع:

روى ابن الجوزي في كتاب (تذكرة الخواصّ) قال: كان ببلخ رجلٌ من العلويّين، وله زوجةٌ وبنات، فتُوفّي أبوهنّ.

قالت المرأة: فخرجت بالبنات إلى سمرقند خوفاً من شماتة الأعداء، واتّفق وصولي في شدّة البرد، فأدخلت البنات مسجداً ومضيت لأحتال في القوت، فرأيت الناس مجتمعين على شيخ، فسألت عنه فقالوا: هذا شيخ البلد. فشرحت له حالي، فقال: أقيمي عندي البيّنة عندكِ أنّك علويّة. ولم

ص: 305


1- المنتخب للطريحي: 2 / 342 المجلس 6 الباب 1.

يلتفت إليّ، فيئست منه وعُدت إلى المسجد، فرأيت في طريقي شيخاً جالساً على دكّةٍ وحوله جماعة، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: ضامن البلد، وهو مجوسي. فقلت: عسى أن يكون على يده فرَجي. فحدّثتُهبحديثي وما جرى لي مع شيخ البلد، وأنّ بناتى في المسجد ما لهم شيءٌ يقوتون به. فصاح بخادمٍ له فخرج، فقال له: قل لسيّدتك تلبس ثيابها. فدخل، وخرجت امرأته ومعها جواري [جوار]، فقال لها: اذهبي مع هذه المرأة إلى المسجد الفلاني واحملي بناتها إلى الدار. فجاءت معي وحملَت البنات، وقد أفرد لنا بيتاً في داره، وأدخلَنا الحمّام، وكسانا ثياباً فاخرة، وجاءنا بألوان الأطعمة، وبتنا بأطيب ليلة.

فلمّا كان نصف الليلة رأى شيخ البلد المسلم في منامه كأنّ القيامة قد قامت، واللواء على رأس محمّدٍ صلی الله علیه وآله،وإذا بقصرٍ من الزمرّد الأخضر، فقال: لمن هذا القصر؟ فقيل: لرجلٍ مسلمٍ موحّد. فتقدّم إلى رسول الله صلی الله علیه وآله فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله، تعرض عنّي وأنا رجلٌ مسلم؟! فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله: «أقم البيّنة عندي أنّك مسلم». فتحيّر الرجل، فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله: «نسيتَ ما قلتَ للعلويّة؟ وهذا القصر للشيخ الّذي هي في داره». فانتبه الرجل وهو يلطم ويبكي، وبثّ غلمانه في البلد، وخرج بنفسه يدور على العلويّة، فأُخبر أنّها في دار المجوسيّ، فجاء إليه فقال: أين العلويّة؟ فقال: عندي. فقال: أُريدها. فقال: ما لك إلى هذا سبيل. قال: هذه ألف دينارٍ خذها وسلمهنّ إليّ. قال: لا والله، ولا مئة ألف دينار. فلمّا

ص: 306

ألحّ عليه قال له: المنام الّذي رأيتَه أنت رأيتُه أيضاً أنا، والقصر الّذي رأيتَه لي خُلق وأنت تدلّ علَيّ بإسلامك، واللهِ ما نمت ولا أحد في داري إلّا وأسلمنا كلّنا على يد العلويّة، وعادت بركاتها علينا،ورأيت رسول الله صلی الله علیه وآله وقال لي: «القصر لك ولأهلك بما فعلت مع العلويّة» ((1)).

الخامس:

في (المناقب): وفي حديث أبي حمزة الثمالي أنّه دخل عبد الله بن عمر على زين العابدين وقال: يا ابن الحسين علیه السلام، أنت الّذي تقول: «إنّ يونس ابن متّى إنّما لقي من الحوت ما لقي لأنّه عُرضَت عليه ولاية جدّي فتوقّف عندها»؟ قال: «بلى، ثكلتك أُمّك». قال: فأرني آية ذلك إن كنتَ من الصادقين. فأمر بشدّ عينيه بعصابةٍ وعيني بعصابة، ثمّ أمر بعد ساعةٍ بفتح أعيننا، فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه، فقال ابن عمر: يا سيّدي، دمي في رقبتك، اَلله الله في نفسي. فقال: «هيه، وأريه إن كنتُ من الصادقين»، ثمّ قال: «يا أيّتها الحوت»، قال: فأطلع الحوت رأسه من البحر مثل الجبل العظيم، وهو يقول: لبّيك لبّيك يا وليّ الله. فقال: «مَن أنت؟»، قال: أنا حوت يونس يا سيّدي. قال: «أنبئنا بالخبر»، قال: يا سيّدي، إنّ الله (تعالى) لم يبعث نبيّاً من آدم إلى أن صار جدّك محمّدٌ إلّا وقد عُرض عليه

ص: 307


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 330، بحار الأنوار للمجلسي: 93 / 230.

ولايتكم أهل البيت، فمن قبلها من الأنبياء سلم وتخلّص، ومن توقّف عنها وتتعتع في حملها لقي ما لقي آدم من المعصية، وما لقي نوحٌ من الغرق، وما لقي إبراهيم من النار، وما لقي يوسف من الجُبّ، وما لقي أيّوب من البلاء، وما لقي داوود من الخطيئة، إلى أنبعث الله يونس، فأوحى الله إليه أن يا يونس تولَّ أمير المؤمنين عليّاً والأئمة الراشدين من صلبه، في كلامٍ له، قال: فكيف أتولّى مَن لم أره ولم أعرفه؟ وذهب مغتاظاً، فأوحى الله (تعالى) إليّ أن التقم يونس ولا توهن له عظماً، فمكث في بطني أربعين صباحاً يطوف معي البحار في ظلماتٍ مئات، ينادي أنّه لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين، قد قبلتُ ولاية عليّ بن أبي طالب والأئمة الراشدين من وُلده، فلمّا آمن بولايتكم أمرني ربّي فقذفتُه على ساحل البحر. فقال زين العابدين: «ارجع أيّها الحوت إلى وكرك»، واستوى الماء ((1)).

وفي (المناقب) أيضاً: جابر بن يزيد، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «بينا عليّ ابن الحسين علیه السلام مع أصحابه إذ أقبل ظبيٌ من الصحراء حتّى قام حذاه، وتبغم وحمحم، فقال بعض القوم: ما شأن هذا يا ابن رسول الله؟ فقال: إنّ هذه الظبية تزعم أنّ فلاناً القرشي أخذ خشفاً لها، وأنّها لم ترضعه من أمس. فبعث عليّ بن الحسين إلى الرجل أن أرسل إليّ الخشف، فبعث به، فلمّا رأته حمحمت وأرضعته، ثمّ كلّمها عليّ بن الحسين بكلامٍ مثل كلامها، فحمحمت، ثمّ انصرفت، واتبعها

ص: 308


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 34.

الخشف، فقالوا له: يا ابن رسول الله، ماذا قلتَ لها؟ قال: قلت لها: قد وهبتك خشفك، فدعت لكم وجزتكم خيراً» ((1)).معاشرَ الشيعة، الويل لأُولئك الأوغاد الّذي لم يرحموا الطفل الرضيع (عليّ الأصغر)، فسقوه سهم بغيٍ بدل الماء المعين، وفجعوا أُمّه به.

وفي (البحار): عن أبي جعفر علیه السلام قال: «إنّ أبي خرج إلى ماله، ومعنا ناسٌ من مواليه وغيرهم، فوُضعَت المائدة ليتغذّى، وجاء ظبيٌ وكان منه قريباً، فقال له: يا ظبي، أنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّي فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله ، هلمّ إلى هذا الغذاء. فجاء الظبي حتّى أكل معهم ما شاء الله أن يأكل، ثمّ تنحّى الظبي، فقال بعض غلمانه: ردّه علينا. فقال لهم: لا تخفروا ذمّتي. قالوا: لا. فقال له: يا ظبي، أنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّي فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله ، هلمّ إلى هذا الغذاء وأنت آمِنٌ في ذمّتي. فجاء الظبي حتى قام على المائدة، فأكل معهم، فوضع رجلٌ من جلسائه يده على ظهره، فنفر الظبي، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: أخفرتَ ذمّتي، لا كلّمتك كلمةً أبداً» ((2)).

وفي كتاب (الخرائج) أنّ النبي صلی الله علیه وآله كان يمشي في الصحراء، فناداه منادٍ: يا رسول الله. فإذا هي ظبيةٌ موثقة، قال: «ما حاجتكِ؟»، قالت: هذا

ص: 309


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 38 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، الهداية الكبرى: 216، الاختصاص للمفيد: 299، الخرائج للراوندي: 1 / 26 ح 5، دلائل الإمامة للطبري: 206، بصائر الدرجات للصفار: 370 الباب 15 ح 10.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 43.

الأعرابيّ صادني، ولي خشفان في ذلك الجبل، فأطلقني حتّى أذهب وأُرضعهما فأرجع. قال: «وتفعلين؟»، قالت: نعم، فإن لم أفعل عذّبني الله عذاب العشّار. فأطلقها، فذهبت فأرضعت خشفيها،ثمّ رجعت فأوثقها، فأتاه الأعرابي فأخبره النبيّ صلی الله علیه وآله بحالها، فأطلقها، فعدت تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك رسول الله ((1)).

معاشرَ الشيعة، يا لَشقاوة أهل الكوفة والشام الّذين لم يرحموا الطفل الرضيع (عليّ الأصغر)، وسقوه سهم بغيٍ بدل الماء المعين، ولم يرحموا أُمّه المفجوعة، ولم يخشوا من دعائها وتضرّعها، فذبحوه من الوريد إلى الوريد، وأحرقوا قلبها الملوّع، وتركوا فيه جمرة المصاب في قلوب المحبّين إلى يوم الحساب.

وأذكر هنا حديثاً يرمي بشررٍ فيصيب قلب الخاصّ والعام:

رُوي عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الباقر علیه السلام قال: «كان عليّ بن الحسين جالساً مع جماعةٍ إذ أقبلَت ظبيةٌ من الصحراء حتّى وقفت قدّامه، فهمهمت وضربت بيدها الأرض، فقال بعضهم: يا ابن رسول الله، ما شأن هذه الظبية قد أتتك مستأنسة؟ قال: تذكر أنّ ابناً ليزيد طلب عن أبيه خشفاً، فأمر بعض الصيّادين أن يصيد له خشفاً، فصاد بالأمس خشف هذه الظبية، ولم تكن قد أرضعَته، فإنّها تسأل أن يحمله إليها لترضعه وتردّه عليه. فأرسل عليّ بن

ص: 310


1- الخرائج للراوندي: 1 / 37 ح 41.

الحسين علیه السلام إلى الصيّاد فأحضره، فقال: إنّ هذه الظبية تزعم أنّك أخذت خشفاً لها، وأنك لم تسقه لبناً منذ أخذته، وقد سألَتني أن أسألك أن تتصدّق به عليها. فقال: يا ابن رسول الله، لست أستجرئ على هذا. قال: إنّي أسألك أن تأتي به إليها لترضعه، وتردّه عليك. ففعل الصيّاد، فلما رأتههمهمت ودموعها تجري، فقال عليّ ابن الحسين صلی الله علیه وآله للصيّاد: بحقّي عليك إلّا وهبتَه لها. فوهبه لها، وانطلقت مع الخشف، وقال: أشهد أنّك من أهل بيت الرحمة، وأنّ بني أُميّة من أهل بيت اللعنة ((1))» ((2)).

السادس:

رُوي عن بهلول قال: بينا أنا ذات يومٍ في بعض شوارع البصرة، وإذا بالصبيان يلعبون بالجوز واللوز، وإذا بصبيّ ينظر إليهم ويبكي، فقلت: هذا صبيٌّ يتحسّر على ما في أيدي الصبيان ولا شيء معه، فقلت: أي بنيّ، ما يبكيك؟ أشتري لك ما تلعب به! فرفع بصره إليّ وقال: «يا قليل العقل، ما للّعب خُلقنا!». فقلت: فلمَ إذاً خلقنا؟! قال: «للعلم والعبادة». قلت: من أين لك ذاك، بارك الله فيك؟ قال: «مِن قوله (تعالى): «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ» ((3))». قلت: يا بُنيّ، أراك حكيماً،

ص: 311


1- في المتن: (بيت الفتنة).
2- الخرائج للراوندي: 1 / 259 ح 4، بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 30 ح 21.
3- سورة المؤمنون: 115.

فعِظْني وأوجز. فأنشأ يقول:

«أرى الدنيا تَجَهَّر بانطلاقِ***مشمّرةً على قدمٍ وساقِ

فلا الدنيا بباقيةٍ لحيٍّ***ولا الحيّ على الدنيا بباقِ

كأنّ الموت والحدَثان فيها***إلى نفس الفتى فرسا سباقِ

كأنّ الموت والحدَثان فيها***إلى نفس الفتى فرسا سباقِ

فيا مغرور بالدنيا رُويداً***ومنها خُذ لنفسك بالوثاقِ»

ثمّ رمق السماء بعينيه ودموعه تتحدّر على خدَّيه، وأنشأ يقول:

«يا

مَن إليه المبتهل

يا

من عليه المتّكَل

يا مَن

إذا ما آملٌ

يرجوه

لم يخطُ الأمل»

قال: فلمّا أتمّ كلامه خرّ مغشيّاً عليه، فرفعتُ رأسه إلى حِجري، ونفضت التراب عن وجهه، فلمّا أفاق قلت له: أي بنيّ، ما نزل بك وأنت صبيٌّ صغير لم يكتب عليك ذنب؟! قال: «إليك عنّي يا بهلول، إنّي رأيتُ والدتي توقد النار بالحطب الكبار، فلا يتّقد إلّا بالصغار، وأنا أخشى أن أكون من صغار حطب جهنّم». قلت له: أي بنيّ، أراك حكيماً، فعِظْني. فأنشأ يقول:

«غفلتُ وحادي الموت في أثري يحدو***وإن لم أُرِحْ يوماً فلابدّ أن أغدو

أُنعِّمُ جسمي باللِّباس ولينه***وليس لجسمي من لباس البِلا بُدُّ

كأنّي به قد مُدّ في برزخ البَلا***ومن فوقه رَدْمٌ ومن تحته لحدُ

وقد ذهبَتْ منّي المحاسنُ وانمحتْ***ولم يبقَ فوق العظم لحمٌ ولا جِلْدُ

أرى العمر قد ولَّى ولمْ أُدْرِك المُنى***وليس معي زادٌ وفي سفري بُعْدُ

وقد كنتُ جاهرت المهيمنَ عاصياً***وأُحدِثُ أحداثاً وليس لها وُدُّ

ص: 312

وأرخيت دون الناس سِتْراً من الحيا***وما خِفت من سرّي غداً عنده يَبدو

بلى،خِفْتُه، لكن وَثِقْتُ بحلمِه***وأنْ ليس يعفو غيرُه، فَلَه الحمدُ

فلولم يكن شيءٌ سوى الموت والبلا***ولم يكُ من ربّي وعيدٌ ولا وعدُ

لكان لنا في الموت شُغلٌ، وفي البلا***عن اللّهو، لكن زال عن رأينا الرشدُ

عس-ى غافر الزلّات يغفر زلَّتي***فقديغفرُ المولى إذا أذنبَ العبدُ

أناعبد سوءٍ خُنْت مولاي عهده***كذلك عبد السوء ليس له عهدُ

فكيف إذا حرّقتَ بالنار جثّتي***ونارُك لا يقوى لها الحَجَر الصلْدُ

أنا الفرد عند الموت والفرد في البلا***وأُبعثُ فرداً، فارحم الفردَ يا فردُ»

قال بهلول: فلمّا فرغ من كلامه وقعتُ مغشيّاً علَيّ، وانصرف الصبيّ، فلمّا أفقت ونظرت إلى الصبيان فلم أره معهم، فقلت لهم: مَن يكون ذلك الغلام؟ قالوا: وما عرفتَه؟ قلت: لا. قالوا: ذلك من أولاد الحسين بن عليّ ابن أبي طالب رضی الله عنهم. قال: فقلت: قد عجبتُ من أن تكون هذه الثمرة إلّا من تلك الشجرة ((1)).

السابع:

عن (جامع الأخبار): رُوي أنّ رجلاً فاسقاً كان في بني إسرائيل، وعجزت أهل بلدته من فسقه وفجوره، فتضرّعوا إلى الله (تعالى)، فأوحى

ص: 313


1- شرح إحقاق الحقّ: 29 / 65 -- عن: روض الرياحين.

إلى موسى أن أخرج الشابّ الفاسق عن بلدهم، لئلّا تقع النار عليهم بسببه، فجاء موسى علیه السلام فأخرجه من القرية إلى القرى، فأوحى الله (تعالى) إلى موسى أن يُخرجه منها، فأخرجه موسى.

فخرج الشابّ إلى مغارةٍ ليس فيها خلقٌ ولا طيرٌ ولا زرعٌ ولا وحش، فمرض الشابّ في تلك المغارة، وليس عنده معينٌ يعينه، فوقع على التراب ووضع وجهه عليها، وقال: يا ربّ، لو كانت والدتي عند رأسي لَرحمتني، وبكَت على ذُلّي وغربتي، ولو كان والدي حاضراً لغسّلني وكفّني وواراني، ولو كانت زوجتي وأولادي عندي لَبكوا علَيّ وقالوا: اللّهمّ اغفر لوالدنا الغريب الضعيف العاصي المطرود من بلدٍ إلى بلدٍ ومن قريةٍ إلى مغارة، ثمّ خرج من الدنيا آيساً من كلّ الأشياء، اللهمّ يا ربّ إذا قطعت بي وفرّقت بيني وبين والدي ووالدتي وزوجتي وأولادي، فلا تقطعني يا ربّ.

فأرسل الله إليه حوراء على صفة أُمّه، وحوراء على صفة زوجته، وغلماناً على صفة أولاده، وملكاً على صفة أبيه، فبكوا عليه وجلسوا عنده، فقال الشابّ: هذا والدي ووالدتي حضروا عندي. فطاب قلبه، وصار إلى ربّه.

فأوحى الله إلى موسى: يا موسى، إنّه قد مات وليٌّ من أوليائي في موضع كذا، فاذهب إليه فغسِّلْه وكفّنه وصلِّ عليه وادفنه. فسارموسى علیه السلام إلى ذلك الموضع، فرأى ذلك الشابّ الّذي أخرجه من المدينة ومن القرية بعينه فعرفه، ثمّ رأى الحور العين يبكين عليه، فقال: يا ربّ، أليس هو ذلك

ص: 314

الشابّ الّذي أمرتَني باخراجه من المدينة والقرية؟! فقال الله: يا موسى، هو ذلك الشابّ، إنّي رحمتُه وتجاوزت عنه بأنينه في مرضه، بفرقته عن وطنه وعن ولده ووالدته ووالده وزوجته، واعترافه بذنبه، وطلبه العفو منّي والمغفرة، فأرسلتُ إليه الحوراء على صفة أُمّه، وحوراء على صفة زوجته، وغلماناً على صفة أولاده، وملكاً على صفة والده، وعفوت عنه وغفرت له لغربته وذلّه، واعلم إنّه يا موسى إذا مات الغريب بكت عليه ملائكة السماء وأهل الأرض رحمةً له ولغربته، فكيف لا أرحمه وهو غريبٌ وأنا أرحم الراحمين؟ ((1))

معاشر الشيعة، ويل أهل الكوفة والشام وابن زياد ويزيد الجفاة القساة، الّذين لم يرحموا المظلوم المغموم الّذي اختار بنفسه ورجا مِن ربّه أن يخلع عليه خلعة الذبيح، لينجي الأُمّة من النيران وينقذ الظالمين من الشقاء والحرمان، ويكشف للعالمين قساوة أُولئك الأجلاف الكافرين واستحقاقهم لدرجات الجحيم.

الثامن:

من الندب المرويّة عن الإمام السجّاد علیه السلام ما روى الزهري: «يا نفس، حتّامَ إلى الحياة سكونك، وإلى الدنيا وعمارتها ركونك؟ أما اعتبرتِ بمن

ص: 315


1- شجرة طوبى للحائري: 2 / 446 -- عن: مفتاح البكاء، عن: جامع الأخبار.

مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من ألافك، ومن فجعت به من إخوانك؟

فهم في بطون الأرض بعد ظهورها***محاسنهم فيها بوالٍ دواثرُ

خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم***وساقتهم نحو المنايا المقادرُ

وخلّوا عن الدنيا وما جمعوا لها***وضمتهم تحت التراب الحفائر» ((1))

التاسع:

في (البحار): عن إبراهيم بن أدهم وفتح الموصلي، قال كلّ واحدٍ منهما: كنتُ أسيح في البادية مع القافلة، فعرضَت لي حاجة، فتنحّيت عن القافلة، فإذا أنا بصبيّ يمشي، فقلت: سبحان الله! بادية بيداء وصبيٌّ يمشي؟! فدنوت منه وسلّمت عليه، فردّ علَيّ السلام، فقلت له: إلى أين؟ قال: «أُريد بيت ربّي». فقلت: حبيبي، إنّك صغيرٌ ليس عليك فرضٌ ولا سُنّة. فقال: «يا شيخ، ما رأيتَ مَن هو أصغر سنّاً منّي مات؟». فقلت: أين الزاد والراحلة؟ فقال: «زادي تقواي، وراحلتي رجلاي، وقصدي مولاي». فقلت: ما أرى شيئاً من الطعام معك! فقال: «يا شيخ، هل يُستحسَن أن يدعوك إنسانٌ إلى دعوةٍ فتحمل من بيتك الطعام؟»، قلت: لا. قال: «الّذي دعاني إلى بيته هو

ص: 316


1- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 82، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 11 / 65، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 41 / 404.

يطعمني ويسقيني». فقلت: ارفع رجلك حتّى تُدرك. فقال: «علَيّ الجهاد، وعليه الإبلاغ، أما سمعتَ قوله (تعالى): «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»؟ ((1))». قال: فبينا نحن كذلك إذ أقبل شابٌّ حسن الوجه عليه ثيابٌ بيض حسنة، فعانق الصبيّ وسلّم عليه، فأقبلت على الشابّ وقلت له: أسألك بالّذي حسّن خلقك، مَن هذا الصبيّ؟ فقال: أما تعرفه؟ هذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب! فتركت الشابّ وأقبلت على الصبيّ، وقلت: أسألك بآبائك، مَن هذا الشابّ؟ فقال: «أما تعرفه؟ هذا أخي الخضر، يأتينا كلّ يومٍ فيسلّم علينا». فقلت: أسألك بحقّ آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد؟ قال: «بل أجوز بزاد، وزادي فيها أربعة أشياء». قلت: وما هي؟ قال: «أرى الدنيا كلّها بحذافيرها مملكة الله، وأرى الخلق كلّهم عبيد الله وإماءه وعياله، وأرى الأسباب والأرزاق بيد الله، وأرى قضاء الله نافذاً في كلّ أرض الله». فقلت: نِعم الزاد زادك يا زين العابدين، وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة فكيف مفاوز الدنيا ((2)).

ص: 317


1- سورة العنكبوت: 69.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 38 / 46.

العاشر:

في كتاب (مسكّن الفؤاد): عن أبي قدامة الشامي قال: كنت أميراً على جيشٍ في بعض الغزوات، فدخلت بعض البلدان، ودعوت الناس للغزاة، ورغّبتهم في الجهاد، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها، ثمتفرّق الناس، وركبت فرسي وسرت إلى منزلي، فإذا أنا بامرأةٍ من أحسن الناس وجهاً تنادي: يا أبا قدامة. فمضيت ولم أُجب، فقالت: ما هكذا كان الصالحون! فوقفت، فجاءت ودفعت إليّ رقعةً وخرقةً مشدودة، وانصرفت باكية، فنظرت في الرقعة، وإذا فيها مكتوب: أنت دعوتنا إلى الجهاد، ورغّبتنا في الثواب، ولا قدرة لي على ذلك، فقطعت أحسن ما فيّ، وهما ضفيرتاي، وأرسلتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك، لعلّ الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله، فيغفر لي.

فلمّا كان صبيحة القتال، فإذا بغلامٍ بين يدي الصفوف يقاتل حاسراً، فتقدّمت إليه وقلت: يا غلام، أنت فتىً غرّ راجل، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤك بأرجلها، فارجع عن موضعك هذا. فقال: أتأمرني بالرجوع وقد قال الله (تعالى): «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ»؟ ((1)) وقرأ الآية إلى آخرها.

ص: 318


1- سورة الأنفال: 15.

قال: فحملته على هجينٍ كان معي، فقال: يا أبا قدامة، أقرضني ثلاثة أسهم. فقلت: أهذا وقت قرض؟ فما زال يلحّ علَيّ حتّى قلت: بشرط إن مَنّ الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك. قال: نعم. فأعطيتُه ثلاثة أسهم، فوضع سهماً في قوسه فرمى به فقتل روميّاً، ثمّ رمى بالآخر فقتل روميّاً، ثمّ رمى بالآخر، وقال: السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودّع. فجاءه سهمٌ فوقع بين عينيه، فوضع رأسه على قربوس سرجه، فتقدّمت إليه وقلت: لا تنسها. فقال: نعم، ولكن لي إليك حاجة، إذا دخلت المدينة فآتِ والدتي وسلّم خُرجي إليها،وأخبرها، فهي الّتي أعطتك شعرها لتقيّد به فرسك، فسلّم عليها، فهي العام الأوّل أُصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي. ثمّ مات، فحفرت له ودفنته.

فلمّا هممت بالانصراف عن قبره قذفَته الأرض فألقَته على ظهرها، فقال أصحابه: غلامٌ غرّ، ولعلّه خرج بغير إذن أُمّه. فقلت: إنّ الأرض لَتقبل مَن هو شرٌّ من هذا. فقمت وصلّيت ركعتين، ودعوت الله، وسمعت صوتاً يقول: يا أبا قدامة، اترك وليّ الله. فما برحت حتّى نزلت عليه طيورٌ فأكلته.

فلمّا أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته، فلمّا قرعت الباب خرجت أُخته إليّ، فلمّا رأتني عادت إلى أُمّها وقالت: يا أُمّاه، هذا أبو قدامة وليس معه أخي، وقد أُصبنا في العام الأوّل بأبي، وفي هذا العام بأخي. فخرجت أُمّه فقالت: أمعزّياً أم مهنّئاً؟ فقلت: ما معنى هذا؟ فقالت: إن كان ابني مات فعزّني، وإن كان استُشهد فهنّئني. فقلت: لا، بل قد مات شهيداً.

ص: 319

فقالت له: العلامة، فهل رأيتَها؟ فقلت: نعم، لم تقبله الأرض، ونزلت الطيور فأكلت لحمه، وتركت عظامه فدفنتُها. فقالت: الحمد لله. فسلّمتُ إليها الخرج، ففتحَته وأخرجَت منه مسحاً وغلّاً من حديد، قالت: إنّه كان إذا جنّه الليل لبس هذا المسح، وغلّ نفسه بالغلّ، وناجى مولاه وقال في مناجاته: إلهي، احشرني من حواصل الطيور. فاستجاب الله (سبحانه) دعاءه ((1)).ورُوي أنّ موسى لمّا توجّه إلى مناجاة ربّه اعترضه رجلٌ من عباد الله الصالحين، فقال له: يا موسى، أبلغ ربّك أنّي أُحبّه، وأنا مطيعٌ له. فلمّا فرغ موسى من المناجاة نودي: يا موسى، ألا تبلّغني رسالة عبدي؟ فقال: يا إلهي، أنت العالم بما قال عبدك. فقال ذو الجلال: يا موسى، وأنا أيضاً أُحبّه. فازداد ذلك الرجل في يقين موسى أنّه عبدٌ صالح.

فلمّا رجع موسى من مناجاة ربّه جعل يتفقّد ذلك الرجل في مكانه، فإذا بالأسد قد افترسه، فتعجّب موسى وحزن عليه، وقال: يا إلهي، رجلٌ صالحٌ تحبّه ويحبّك تسلّط عليه كلباً من كلابك يفترسه؟! فأتاه النداء: نعم يا موسى، هكذا أفعل بأحبّائي وأوليائي، ابتليتهم في دار الهوان، وأُسكنهم

ص: 320


1- مسكّن الفؤاد للعاملي: 135 الباب 2 الفصل 6 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف، صفة الصفوة: 4 / 201.

عندي غرفات الجنان ((1)).

ورُوي أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله فوقف بين يديه، فقال: يا رسول الله، إنّي أُحبّ الله. فقال له: «استعدّ للبلاء». فقال: يا رسول الله، وإنّي أُحبّك. فقال: «استعدّ للفقر». فقال: وإنّي أُحبّ عليّ بن أبي طالب. فقال: «استعدّ للأعداء» ((2)).

الحادي عشر:

رُوي أنّ الله (تعالى) قال لموسى علیه السلام: هل عملتَ لي عملاً قطّ؟ قال: صلّيتُ لك وصمت وتصدّقت وذكرت لك. قال الله(تبارك وتعالى): أمّا الصلاة فلك برهان، والصوم جُنّة، والصدقة ظلّ، والذكر نور، فأيّ عملٍ عملت لي؟ قال موسى علیه السلام: دُلّني على العمل الّذي هو لك ((3)). فقال: يا موسى، هل أشبعت جائعاً، أو سقيت عطشاناً، أو كسوت عرياناً، أو أكرمت عالماً، أو نصرت مظلوماً، هذه الأعمال لي.

ص: 321


1- تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 357.
2- تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 357.
3- الدعوات للراوندي: 28 ح 50، جامع الأخبار: 128، تتمّة الخبر فيها: (قال: يا موسى، هل واليتَ لي وليّاً؟ وهل عاديت لي عدوّاً قطّ؟ فعلم موسى أنّ أفضل الأعمال الحبّ في الله والبغض في الله).

الثاني عشر:

رُوي أنّ البارى عزوجل قال لعزرائيل: هل رحمتَ أحداً؟ وهل هبت من أحد؟ فقال: يا ربّ، أنت أعلم.

فقال (سبحانه وتعالى): صدقتَ يا عزرائيل، ولكن أُحبّ أن تقول ذلك.

فقال عزرائيل: إنّي يا ربّ رحمت طفلاً يرتضع ثدي أُمّه، وكان هو وأُمّه في مركبٍ في البحر، فغرق المركب، فأمرتَني أن أقبض روح أُمّه فقبضتُها، وبقي الولد في البحر طايفاً على صدر أُمّه، فرحمته، وإنّي يا ربّ خفت من رجلٍ أمرتَني أن أقبض روحه، وكان ذا سلطانٍ ومملكة وغلمان كثيرة، وهو جالسٌ على سريره في نهاية العافية، فلمّا أردتُ قبض روحه دخلني خوفٌ ورعب.

فقال الباري (سبحانه): يا عزرائيل، الّذي رحمته هو الّذي خفت منه ((1)).

الثالث عشر:

في كتاب (بحار الأنوار): عن سالم بن سلَمة، عن أبي عبد الله

ص: 322


1- منهاج البراعة للخوئي: 6 / 104.

الصادق علیه السلام قال: «كان عليّ بن الحسين مع أصحابه في طريق مكّة، فمرّ به ثعلبٌ وهم يتغدّون، فقال لهم عليّ بن الحسين: هل لكم أن تعطوني موثقاً من الله لا تهيجون هذا الثعلب؟ ودَعوه حتّى يجيئني! فحلفوا له، فقال: يا ثعلب تعال». قال: «فجاء الثعلب حتّى أهلّ بين يديه، فطرح عليه عرقاً، فولّى به يأكله، قال علیه السلام: هل لكم تعطوني موثقاً؟ ودعوه أيضاً فيجيء. فأعطوه، فكلح رجلٌ منهم في وجهه، فخرج يعدو، فقال عليّ بن الحسين: أيّكم الّذي أخفر ذمّتي؟ فقال الرجل: أنا يا ابن رسول الله، كلحت في وجهه ولم أدرِ، فأستغفر الله. فسكت» ((1)).

الرابع عشر:

في (بحار الأنوار): عن حمران بن أعين قال: كان أبو محمّد عليّ بن الحسين علیه السلام قاعداً في جماعةٍ من أصحابه، إذ جاءته ظبيةٌ فبصبصت وضربت بيديها، فقال أبو محمّد: «أتدرون ما تقول الظبية؟»، قالوا: لا. قال: «تزعم أنّ فلان بن فلان رجلاً من قريش اصطاد خشفاً لها في هذا اليوم، وإنّما جاءت إليّ تسألني أن أسأله أن يضع الخشف بين يديها فترضعه»، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام لأصحابه: «قوموا بنا إليه»،فقاموا بأجمعهم، فأتوه فخرج إليهم، قال: فداك أبي وأُمّي، ما حاجتك؟ فقال: «أسألك بحقّي عليك إلّا أخرجتَ إليّ هذه الخشف الّتي اصطدتها اليوم»، فأخرجَها، فوضعها بين يدي أُمّها

ص: 323


1- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 24 ح 7.

فأرضعتها، ثمّ قال عليّ بن الحسين علیه السلام: «أسألك يا فلان لمّا وهبتَ لي هذه الخشف»، قال: قد فعلت. قال: فأرسل الخشف مع الظبية، فمضت الظبية، فبصبصت وحرّكت ذنَبها، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام: «أتدرون ما تقول الظبية؟»، قالوا: لا. قال: «إنّها تقول: ردّ الله عليكم كلَّ غائبٍ لكم، وغفر لعليّ بن الحسين كما ردّ علَيّ ولدي» ((1)).

ص: 324


1- بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 26.

خاتمة: في ما تحمّله بعض السادة والشيعة من الجَور والظلم من أعداء آل محمّد

[زيد الشهيد]

عن الثُّماليّ قال: كنتُ أزور عليّ بن الحسين في كلّ سنةٍ مرّةً في وقت الحجّ، فأتيتُه سنةً من ذاك، وإذا على فخذيه صبيّ، فقعدتُ إليه، وجاء الصبيّ فوقع على عتبة الباب فانشجّ، فوثب إليه عليّ بن الحسين علیه السلام مهرولاً، فجعل ينشّف دمه بثوبه ويقول له: «يا بُنيّ، أُعيذك بالله أن تكون المصلوب في الكناسة».

قلت: بأبي أنت وأُمّي، أيّ كناسة؟! قال: «كناسة الكوفة». قلت: جُعلتُ فداك، ويكون ذلك؟! قال: «إي والّذي بعث محمّداً بالحقّ، إنْ عشتَ بعدي لَترينّ هذا الغلام في ناحيةٍ من نواحي الكوفة مقتولاً مدفوناً منبوشاً مسلوباً مسحوباً مصلوباً في الكناسة، ثمّ ينزل فيُحرق ويدقّ ويذرى في البرّ».

ص: 325

قلت: جُعلتُ فداك، وما اسم هذا الغلام؟ قال: «هذا ابني زيد».

ثمّ دمعَت عيناه، ثمّ قال: «ألا أُحدّثك بحدث ابني هذا؟ بينا أنا ليلة ساجد وراكع إذ ذهب بي النوم من بعض حالاتي، فرأيتُكأنّي في الجنّة، وكأنّ رسول الله صلی الله علیه وآله وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين قد زوّجوني جاريةً من حور العين، فواقعتُها، فاغتسلت عند سدرة المنتهى، وولّيتُ وهاتفٌ بي يهتف: ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، ليهنئك زيد. فاستيقظتُ فأصبت جنابة، فقمت فتطهّرت للصلاة وصلّيت صلاة الفجر، فدقّ الباب وقيل لي: على الباب رجلٌ يطلبك. فخرجت، فإذا أنا برجلٍ معه جاريةٌ ملفوفٌ كُمّها، على يده مخمرةٌ بخمار، فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أردتُ عليّ بن الحسين علیه السلام. قلت: أنا عليّ بن الحسين. فقال: أنا رسول المختار ابن أبي عُبيد الثقفيّ، يُقرئك السلام ويقول: وقعَت هذه الجارية في ناحيتنا، فاشتريتها بستّمئة دينار، وهذه ستّمئة دينارٍ فاستعن بها على دهرك. ودفع إليّ كتاباً. فأدخلتُ الرجل والجارية، وكتبتُ له جواب كتابه، وتثبّت الرجل، ثمّ قلت للجارية: ما اسمكِ؟ قالت: حوراء. فهيّؤوها لي، وبتُّ بها عروساً، فعلقت بهذا الغلام، فسمّيتُه زيداً، وهو هذا، سترى ما قلت لك».

قال أبو حمزة: فوَاللهِ ما لبثتُ إلّا برهةً حتّى رأيت زيداً بالكوفة في دار معاوية بن إسحاق، فأتيتُه فسلّمت عليه، ثمّ قلت: جُعلتُ فداك، ما أقدمك هذا البلد؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكنت أختلف إليه، فجئت إليه ليلة النصف من شعبان فسلّمت عليه، وكان ينتقل في دور بارق وبني هلال، فلمّا جلست عنده قال: يا أبا حمزة، تقوم حتّى نزور قبر

ص: 326

أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام قلت: نعم، جُعلت فداك.

ثمّ ساق أبو حمزة الحديث حتّى قال: أتينا الذكوات البيض، فقال: هذا قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام. ثمّ رجعنا،فكان مِن أمره ما كان، فوَاللهِ لقد رأيتُه مقتولاً مدفوناً منبوشاً مسلوباً مسحوباً مصلوباً، قد أُحرق ودُقّ في الهواوين وذُرّي في العريض من أسفل العاقول ((1)).

وفي (المنتخب): روى فضلة عن بعض الأخبارين قال: سألتُ خالد ابن فضله عن فضل زيد بن زين العابدين علیه السلام، فقال: أيّ رجلٍ كان. فقلت: وما علمت عن فضله؟ قال: كان يبكي من خشية الله (تعالى) حتّى تختلط دموعه بدمه طول ليله، حتّى اعتقد كثيرٌ من الناس فيه الإمامة، وكان سبب اعتقادهم ذلك منه لخروجه بالسيف يدعو بالرضى من آل محمّد علیهم السلام، فظنّوه يريد بذلك نفسه، ولم يكن يريدها، لمعرفته باستحقاق من قبله، وكان سبب خروجه الطلب بدم جدّه الحسين علیه السلام.

وأنّه دخل يوماً على هِشام بن عبد الملك، وقد كان جمع له هشام بني أُميّة، وأمرهم أن يتضايقوا في المجلس حتّى لا يتمكّن زيدٌ من الوصول إلى قربه، فوقف زيد مقابله وقال له: يا هشام، ليس أحدٌ من عباد الله فوق أن يوصى بتقوى الله في عباده، وأنا أُوصيك بتقوى الله، فاتّقِه.

ص: 327


1- فرحة الغريّ لابن طاووس: 116، بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 183 ح 48.

فقال هشام: يا زيد، أنت المؤهّل نفسك للخلافة، وأنت الراجي لها؟! وما أنت وذاك، لا أُمّ لك، وإنّما أنت ابن أَمة!

فقال له زيد: إنّي لا أعلم أحداً أعظم عند الله من نبيّ بعثه، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غايةٍ لم يبعث الله إسماعيل نبيّاً وهو ابنأَمة، فالنبوّة أعظم أم الخلافة؟ وبعد، فما يقصر في رجلٍ جدّه رسول الله وهو ابن عليّ ابن أبي طالب أن يكون ابن أَمة؟

قال: فنهض هشام مغضباً، ودعا قهرمانه وقال: واللهِ لَآتينّ هذا بعسكرٍ يضيق به الفضاء.

وخرج زيد وهو يقول: لم يكره قومٌ قطّ حرّ السيوف إلّا ذلّوا.

ثمّ إنّه توجّه إلى الكوفة، فاجتمع عليه أهلها وبايعوه على الحرب معه، فنقضوا ببيعته وسلّموه لعدوّه، فقُتل (رحمة الله عليه) وصُلب في موضعٍ يُقال له: الكناس، وبقي مصلوباً بينهم أربع سنوات، لا يُنكر أحدٌ منهم بيدٍ ولا لسان، وقد عشعشت الفاختاة في جوفه، وقد خانوا به أهل الكوفة ونقضوا بيعته كما خانوا آباءه وأجداده من قبل، ألا لعنة الله على القوم الظالمين.

قال: فلمّا بلغ قتله إلى الصادق علیه السلام حزن عليه حزناً عظيماً، وجعل يئنّ مِن وَجْده عليه، وفرّق من ماله صدقةً عنه وعمّن أُصيب معه من أصحابه، لكلّ بيتٍ منهم ألف دينار.

وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر صفر سنة عشرين ومئة

ص: 328

من الهجرة ((1)).

وروى الشيخ الصدوق في (الأمالي)، مسنداً عن حمزة بن حمران قال: دخلتُ إلى الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام، فقال لي: «يا حمزة، مِن أين أقبلت؟»، قلت: من الكوفة.

قال: فبكى علیه السلام حتّى بلّت دموعه لحيته، فقلت له: يا ابنرسول الله، ما لَك أكثرتَ البكاء؟! فقال: «ذكرتُ عمّي زيداً وما صُنع به، فبكيت». فقلت له: وما الّذي ذكرت منه؟ فقال: «ذكرت مقتله، وقد أصاب جبينه سهم، فجاءه ابنه يحيى فانكبّ عليه وقال له: أبشِرْ يا أبتاه؛ فإنّك ترد على رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام. قال: أجل يا بُنيّ. ثمّ دعا بحدّادٍ فنزع السهم من جبينه، فكانت نفسه معه، فجيء به إلى ساقيةٍ تجري عند بستان زائدة، فحُفر له فيها ودُفن وأُجري عليه الماء، وكان معهم غلامٌ سنديّ لبعضهم، فذهب إلى يوسف بن عمر من الغد فأخبره بدفنهم إيّاه، فأخرجه يوسف بن عمر، فصلبه في الكناسة أربع سنين، ثمّ أمر به فأُحرق بالنار وذُرّي في الرياح، فلعن الله قاتله وخاذله، وإلى الله (جلّ اسمه) أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيّه بعد موته، وبه نستعين على عدوّنا، وهو خير مستعان» ((2)).

وفي (المنتخب): وقُتل زيد بن عليّ بن الحسين علیه السلام على يد نصر بن

ص: 329


1- المنتخب للطريحي: 2 / 388 المجلس 8 الباب 1.
2- الأمالي للصدوق: 392 المجلس 62 ح 3.

خُزيمة الأسدي، وصلبه يوسف بن عمر بالكناسة (اسم موضعٍ الكوفة) عرياناً، فكسى من بطنه جلدةً سترت عورته، وبقي مصلوباً أربع سنوات، وكان لا يقدر أحدٌ أن يندب عليه، وألقوا امرأة زيد بن عليّ على المزبلة، بعدما دُقّت بالضرب حتّى ماتت ((1)).

[غلامٌ من وُلد الحسن علیه السلام]

وروى ابن بابويه أنّه لمّا بنى المنصور الأبنية ببغداد، جعل يطلب العلويّة طلباً شديداً، ويجعل مَن ظفر به منهم في الأسطوانات المجوّفة المبنيّة من الجصّ والآجر.

فظفر ذات يومٍ بغلامٍ متّهَمٍ حسن الوجه عليه شعرٌ أسود من وُلد الحسن بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فسلّمه إلى البنّاء الّذي كان يبني له، وأمره أن يجعله في جوف أُسطوانةٍ ويبني عليه، ووكّل عليه من ثقاته مَن يراعي ذلك حتّى يجعله في جوف أُسطوانةٍ بمشهده، فجعله البنّاء في جوف أُسطوانة، فدخلَته رقّةٌ عليه ورحمةٌ له، فترك في الأُسطوانة فُرجةً يدخل منها الروح، فقال للغلام: لا بأس عليك، فاصبر فإنّي سأُخرجك من جوف هذه الأُسطوانة إذا جنّ الليل.

ص: 330


1- المنتخب للطريحي: 1 / 7 المجلس 1 الباب 1.

فلمّا جنّ الليل جاء البنّاء في ظلمةٍ فأخرج ذلك العلويّ من جوف تلك الأُسطوانة، وقال له: اتّقِ الله في دمي ودم الفعَلَة الّذين معي، وغيّب شخصك، فإنّي إنّما أخرجتُك في ظلمة هذه الليلة من جوف هذه الأُسطوانة لأنّي خفت إن تركتك في جوفها أن يكون جدّك رسول الله صلی الله علیه واله يوم القيامة خصمي بين يدَي الله عزوجل. ثم أخذ شعره بآلات الجصّاصين كما أمكن، وقال: غيّب شخصك وانجُ بنفسك، ولا ترجع إلى أُمّك.

فقال الغلام: فإن كان هذا هكذا فعرّفْ أُمّي أنّي قد نجوت وهربت، لتطيب نفسها ويقلّ جزعها وبكاؤها، وإن لم يكن لعودي إليها وجه.

فهرب الغلام، ولا يُدرى أين قصد من وجه أرض الله (تعالى)، ولا إلى أي بلدٍ وقع، قال ذلك البنّاء: وقد كان الغلام عرّفني مكان أُمّهوأعطاني العلامة، فانتهيتُ إليها في الموضع الّذي دلّني عليه، فسمعت دويّاً كدويّ النحل من البكاء، فعلمتُ أنّها أُمّه، فدنوت منها وعرّفتها خبر ابنها، وأعطيتها شعره، وانصرفت ((1)).

ألا لعنة الله على الظالمين، وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون. اللّهمّ العن أوّل ظالمٍ ظلم حقّ محمّدٍ وآل محمّد، وآخر تابعٍ له على ذلك، اللّهمّ العن العصابة الّتي جاهدَت الحسين علیه السلام، وشايعت وبايعت وتابعت على قتله، اللّهمّ العنهم جميعاً.

ص: 331


1- عيون أخبار الرضا علیه السلام: 1 / 111 الباب 9 ح 2.

[الحسين شهيد فخّ]

واعلم أنّ دعبل قد أشار في قصيدته إلى قبورٍ في فخّ ((1))، وفخّ -- بفتح الفاء وتشديد الخاء المنقوطة -- موضعٌ على فرسخٍ من مكّة المكرّمة، على طريق المدينة، وجدّة فيها قبور الشهداء الصالحين، وحولها سور.

ومجمل قصّة فخّ الحسين: هو الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن ابن الحسن بن عليّ علیه السلام ، وأُمّه زينب بنت بنت عبد الله بن الحسن، وخرج في أيّام موسى الهادي بن محمّد المهديّ بن أبي جعفر المنصور، وكان خروجه بالمدينة في ذي القعدة سنة تسع وستّين ومئة ((2)) ((3)).وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب (مقاتل الطالبيّين): كان سبب خروج الحسين أنّ الهادي ولّى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي، فاستخلف عليها رجلاً من وُلد عمر بن الخطّاب يُعرف بعبد العزيز، فحمل على الطالبيّين وأساء إليهم، وطالبهم بالعرض كلّ يومٍ في المقصورة، ووافى أوائل الحاجّ، وقدم من الشيعة نحوٌ من سبعين رجلاً، ولقوا حسيناً وغيره، فبلغ ذلك العمري، وأغلظ أمر العرض وألجأهم إلى الخروج، فجمع الحسين

ص: 332


1- في (بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 257): قبورٌ بكوفانٍ وأُخرى بطيبةٍ وأُخرى بفخٍّ نالها صلواتي
2- في المتن: (مئة وستّين).
3- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 161.

يحيى وسليمان وإدريس بني عبد الله بن الحسن وعبد الله بن الحسن الأفطس وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا وعمر بن الحسن بن عليّ بن الحسن المثلّث وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن المثنّى وعبد الله بن جعفر الصادق علیه السلام ، ووجّهوا إلى فتيانٍ من فتيانهم ومواليهم فاجتمعوا ستّةً وعشرين رجلاً من وُلد علي علیه السلام وعشرةً من الحاجّ وجماعةً من الموالي.

فلمّا أذّن المؤذّن الصبح دخلوا المسجد ونادوا: أجد أجد، وصعد الأفطس المنارة وجبر المؤذّن على قول: حيّ على خير العمل، فلمّا سمعه العمري أحسّ بالشرّ ودُهش، ومضى هارباً على وجهه يسعى ويضرط حتّى نجا، وصلّى الحسين بالناس الصبح، ولم يتخلّف عنه أحدٌ من الطالبيّين إلّا الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن وموسى بن جعفر علیه السلام.

فخطب بعد الصلاة وقال بعد الحمد والثناء: أنا ابن رسول الله على منبر رسول الله وفي حرم رسول الله، أدعوكم إلى سُنّة رسول الله صلی الله علیه وآله. أيّها الناس، أتطلبون آثار رسول الله فيالحجر والعود تمسحون بذلك، وتضيّعون بضعةً منه؟

قالوا: فأقبل حمّاد البربري -- وكان مسلحةً للسلطان بالمدينة -- في السلاح، ومعه أصحابه حتّى وافوا باب المسجد، فقصده يحيى بن عبد الله وفي يده السيف، فأراد حمّاد أن ينزل فبدره يحيى فضربه على جبينه، وعليه البيضة والمغفر والقلنسوة، فقطع ذلك كلّه وأطار قحف رأسه، وسقط عن دابّته، وحمل على أصحابه فتفرّقوا وانهزموا، وحجّ في تلك السنة مبارك

ص: 333

التركي، فبدأ بالمدينة، فبلغه خبر الحسين، فبعث إليه من الليل: أنّي والله ما أُحبّ أن تبتلى بي ولا أُبتلى بك، فابعث الليلة إليّ نفراً من أصحابك ولو عشرةً يبيتون عسكري، حتّى أنهزم وأعتل بالبيات. ففعل ذلك الحسين، ووجّه عشرةً من أصحابه فجعجعوا بمبارك، وصبحوا في نواحي عسكره، فهرب وذهب إلى مكّة ((1)).

وروى الشيخ الكلينيّ أنّه لمّا خرج الحسين بن عليّ المقتول بفخّ واحتوى على المدينة، دعا موسى بن جعفر إلى البيعة، فأتاه فقال له: «يا ابن عمّ، لا تكلّفني ما كلّف ابن عمّك عمَّك أبا عبد الله، فيخرج منّي ما لا أُريد كما خرج من أبي عبد الله ما لم يكن يريد». فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً، فإن أردتَه دخلتَ فيه، وإن كرهتَه لم أحملك عليه، والله المستعان. ثمّ ودّعه، فقال له أبو الحسن موسى بن جعفر حين ودّعه: «يا ابن عمّ، إنّك مقتول، فأجدّ الضراب، فإنّ القوم فسّاق، يُظهرون إيماناً ويسترون شركاً، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، أحتسبكم عند الله منعصبة». ثمّ خرج الحسين، وكان من أمره ما كان، قُتلوا كلّهم كما قال علیه السلام ((2)).

وقال صاحب (مقاتل الطالبيّين): وحجّ في تلك السنة العبّاس بن محمّد وسليمان بن أبي جعفر وموسى بن عيسى، فصار مبارك معهم، واعتلّ

ص: 334


1- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 161، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 372 وما بعدها.
2- الكافي للكليني: 1 / 366 ح 18.

عليهم بالبيات، وخرج الحسين قاصداً إلى مكّة، ومعه مَن تبعه من أهله ومواليه وأصحابه، وهم زهاء ثلاثمئة، واستخلف رجلاً على المدينة، فلمّا صاروا بفخّ تلقّتهم الجيوش، فعرض العبّاس على الحسين الأمان والعفو والصلة، فأبى ذلك أشدّ الإباء، وكانت قادة الجيوش العبّاس وموسى وجعفر ومحمّد ابنا سليمان ومبارك التركي والحسن الحاجب وحسين بن يقطين، فالتقوا يوم التروية وقت الصلاة الصبح.

فكان أوّل مَن بدأهم موسى، فحملوا عليه، فاستطرد لهم شيئاً حتّى انحدروا في الوادي، وحمل عليهم محمّد بن سليمان مِن خلفهم، فطحنهم طحنةً واحدةً حتّى قتل أكثر أصحاب الحسين، وجعلت المسوّدة تصيح بالحسين: يا حسين، لك الأمان! فيقول: لا أمان أُريد. ويحمل عليهم حتّى قُتل، وقُتل معه سليمان بن عبد الله بن الحسن وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن، وأصابت الحسن بن محمّد نشّابةٌ في عينه، فتركها وجعل يقاتل أشدّ القتال حتّى أمنوه، ثمّ قتلوه ((1))، وقُتل ذلك اليوم أكثر السادة الحسنيّة.

ورُوي عن الإمام محمّد التقيّ الجواد علیه السلام قال: «لم يكنلنا بعد الطفّ مصرعٌ أعظم من فخّ» ((2)).

ص: 335


1- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 164، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 376.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 165.

وجاء الجند بالرؤوس إلى موسى والعبّاس، وعندهما جماعةٌ من وُلد الحسن والحسين، فلم يسألا أحداً منهم إلّا موسى بن جعفر علیه السلام ، فقالا: هذا رأس حسين. قال: «نعم، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله». فلم يجيبوه بشيء، وحُملت الأسرى إلى الهادي، فأمر بقتلهم، ومات في ذلك اليوم ((1)).

ورُوي عن جماعةٍ أنّ محمّد بن سليمان لمّا حضرته الوفاة جعلوا يلقّنونه الشهادة، وهو يقول:

ألا ليت أُمّي لم تلدني، ولم أكن***لقيتُ حسيناً يوم فخٍّ ولا الحسن

فجعل يردّدها حتّى مات ((2)).

ورُوي في كتاب (المقاتل): سُمع على مياه غطفان كلّها ليلة قُتل الحسين صاحب فخّ ((3)) نوح الجنّ.

وعن أبي جعفر محمّد بن عليّ علیه السلام قال: «مرّ النبيّ صلی الله علیه وآله بفخّ، فنزل، فصلّى ركعة، فلمّا صلّى الثانية بكى وهو في الصلاة، فلمّا رأى الناس النبيّ صلی الله علیه وآله يبكي بكوا، فلمّا انصرف قال: ما يُبكيكم؟! قالوا: لمّا رأيناك تبكي بكينا يا رسول الله. قال: نزل علَيّ جبرئيل لمّاصليتُ الركعة الأُولى، فقال لي: يا محمّد، إنّ رجلاً من

ص: 336


1- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 164، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 376.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 165، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 376.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 169، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 385.

وُلدك يُقتَل في هذا المكان، وأجر الشهيد معه أجر شهيدَين» ((1)).

ورُوي أيضاً عن الصادق علیه السلام أنّه صلّى في فخّ ركعتين، وقال: «يُقتل هاهنا رجلٌ من أهل بيتي، في عصابةٍ تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنّة» ((2)).

[ميثم التمّار]

وروى الشيخ المفيد أنّ ميثم التمّار كان عبداً لامرأةٍ من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين علیه السلام منها وأعتقه، وقال له: «ما اسمك؟»، قال: سالم. قال: «أخبرني رسول الله صلی الله علیه وآله أنّ اسمك الّذي سمّاك به أبواك في العجم: مِيثم»، قال: صدق الله ورسوله وصدقتَ يا أمير المؤمنين، واللهِ إنّه لَاسمي. قال: «فارجع

ص: 337


1- بحار الأنوار للمجلسي: 48 / 170.
2- في (بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 170): عن النضر بن قرواش قال: أكريتُ جعفرَ ابن محمّد؟ع؟ من المدينة، فلمّا رحلنا من بطن مر قال لي: «يا نضر، إذا انتهيت إلى فخّ فأعلِمْني». قلت: أوَلستَ تعرفه؟ قال: «بلى، ولكن أخشى أن تغلبني عيني». فلمّا انتهينا إلى فخّ دنوتُ من المحمل، فإذا هو نائم، فتنحنحتُ فلم ينتبه، فحرّكتُ المحمل فجلس، فقلت: قد بلغت. فقال: «حلّ محملي»، ثمّ قال: «صِلِ القطار»، فوصلتُه، ثمّ تنحّيتُ به عن الجادّة، فأنخت بعيره، فقال: «ناولني الإداوة والركوة»، فتوضّأ وصلّى، ثمّ ركب، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، رأيتك قد صنعت شيئاً، أفهو من مناسك الحجّ؟ قال: «لا، ولكن يُقتَل هاهنا رجلٌ من أهل بيتي، في عصابةٍ تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنّة».

إلى اسمك الّذي سمّاك به رسول الله صلی الله علیه وآله، ودَعْ سالماً». فرجع إلى مِيثم، واكتنى بأبي سالم ((1)).

وقد كان أطلعه عليٌّ علیه السلام على علمٍ كثيرٍ وأسرارٍ خفيّةٍ من أسرار الوصيّة، فكان ميثم يحدّث ببعض ذلك، فيشكّ فيه قومٌ من أهل الكوفة، وينسبون عليّاً علیه السلام إلى المخرقة والإيهام والتدليس، حتّى قال له يوماً بمحضرٍ من خلقٍ كثيرٍ من أصحابه وفيهم الشاكّ والمخلص: «إنّك تؤخَذ بعدي فتُصلَب، وتُطعَن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً فيخضّب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، وتُصلَب على باب دار عمرو بن حريث عاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبةً وأقربهم من المطهرة، وامضِ حتّى أُريك النخلة الّتي تُصلَب على جذعها»، فأراه إيّاها، فكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها، ويقول: بوركتِ من نخلة، لكِ خلقتُ ولي غُذّيتِ. ولم يزل يتعاهدها حتّى قُطعَت، وحتّى عرف الموضع الّذي يُصلَب عليها بالكوفة.

قال: وكان يلقى عمرو بن حريث فيقول له: إنّي مجاورك، فأحسِن جواري. فيقول له عمرو: أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم؟ وهو لا يعلم ما يريد.

وحجّ في السنة الّتي قُتل فيها، فدخل على أُمّ سلمة رضی الله عنها، فقالت: مَن أنت؟ قال: أنا ميثم. قالت: واللهِ لربّما سمعتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يوصي بك عليّاً

ص: 338


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 323.

في جوف الليل. فسألها عن الحسين، قالت: هو في حائطٍ له.قال: أخبريه أنّي قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء الله ((1)).

فدعَت [أُمُّ سلَمة] بطيبٍ فطيّبَت لحيته، فقال لها: أما إنّها ستُخضَب بدم. قالت: مَن أنبأك هذا؟ قال أنبأني سيّدي. [فبكت أُمّ سلمة] وقالت: إنّه ليس بسيّدك وحدك، هو سيّدي وسيّد المسلمين أجمعين. ثمّ ودّعته.

فقدم الكوفة، فأُخذ وأُدخل على عُبيد الله بن زياد، وقيل له: هذا كان مِن آثر الناس عند أبي تراب. قال: ويحكم، هذا الأعجمي؟! قالوا: نعم. فقال له عبيد الله: أين ربّك؟ قال: بالمرصاد. قال: قد بلغني اختصاص أبي ترابٍ لك. قال: قد كان بعض ذلك، فما تريد؟ قال: وإنّه لَيقال: إنّه قد أخبرك بما سيلقاك. قال: نعم، إنّه أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة، وأنا أقصرهم خشبةً وأقربهم من المطهرة. قال: لَأُخالفنّه. قال: ويحك! كيف تخالفه؟ إنّما أخبر عن رسول الله صلی الله علیه وآله، وأخبر رسول الله صلی الله علیه وآله عن جبرئيل، وأخبر جبرئيل عن الله، فكيف تخالف هؤلاء؟ أما والله لقد عرفتُ الموضع الّذي أُصلَب فيه أين هو من الكوفة، وإنّي لَأوّل خلق الله أُلجَم في الإسلام بلجامٍ كما يُلجَم الخيل.

فحبسه، وحبس معه المختار بن أبي عُبيدة الثقفي، فقال ميثم للمختار

ص: 339


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 323.

-- وهما في حبس ابن زياد -- : إنّك تفلت، وتخرج ثائراً بدم الحسين علیه السلام ، فتقتل هذا الجبّار الّذي نحن في سجنه ((1)).فلمّا دعا عُبيد الله بالمختار ليقتله، طلع بريدٌ بكتاب يزيد إلى عُبيد الله يأمره بتخلية سبيله، فخلّاه، وأمر بميثم أن يُصلَب، فأُخرج، فقال له رجلٌ لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم؟ فتبسّم وقال وهو يومئ إلى النخلة: لها خلقتُ ولي غُذّيت. فلمّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، قال عمرو: قد كان والله يقول: إنّي مجاورك. فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره ((2)).

فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم ومخازي بني أُميّة وهو مصلوبٌ على الخشبة، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد. فقال: ألجموه. فأُلجم، فكان أوّل خلق الله أُلجم في الإسلام، فلمّا كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دماً ((3))، فلمّا كان يوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحربة، فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً ((4)).

وفي (روضة الواعظين) وغيره: رُوي عن أبي الحسن الرضا، عن أبيه،

ص: 340


1- بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 344.
2- الإرشاد للمفيد: 1 / 325.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 345.
4- الإرشاد للمفيد: 1 / 325.

عن آبائه (صلوات الله عليهم)، قال: «أتى ميثم التمّار دار أمير المؤمنين علیه السلام ، فقيل له: إنّه نائم. فنادى بأعلى صوته: انتبه أيّها النائم، فوَاللهِ لَتُخضبنّ لحيتك من رأسك. فانتبه أمير المؤمنين علیه السلام ، فقال: أدخلوا ميثماً. فقال: أيّها النائم، والله لَتخضبنّ لحيتك من رأسك. فقال: صدقت،وأنت واللهِ لَيقطّعنّ يداك ورجلاك ولسانك، ولَتقطعنّ النخلة الّتي في الكناسة، فتشقّ أربع قطع، فتصلب أنت على ربعها، وحِجْر بن عَديّ على ربعها، ومحمّد بن أكتم على ربعها، وخالد بن مسعود على ربعها.

قال ميثم: فشككت في نفسي، وقلت: إنّ عليّاً لَيخبرنا بالغيب! فقلت له: أوَ كائنٌ ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إي وربّ الكعبة، كذا عهده إليّ النبيّ صلی الله علیه وآله. قال: فقلت: لمَ يُفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال: لَيأخذنّك العُتلّ الزنيم ابن الأَمة الفاجرة عُبيد الله بن زياد. قال: وكان يخرج إلى الجبّانة وأنا معه، فيمرّ بالنخلة، فيقول لي: يا ميثم، إنّ لك ولها شأناً من الشأن.

قال: فلمّا ولي عُبيد الله بن زياد الكوفة ودخلها، تعلّق علمه بالنخلة الّتي بالكناسة، فتخرق فتطيّر من ذلك، فأمر بقطعها، فاشتراها رجلٌ من النجّارين، فشقّها أربع قطع. قال ميثم: فقلت لصالح ابني: فخذ مسماراً من حديدٍ فانقش عليه اسمي واسم أبي، ودقّه في بعض تلك الأجذاع.

قال: فلمّا مضى بعد ذلك أيّام أتوني قومٌ من أهل السوق، فقالوا: يا ميثم، انهض معنا إلى الأمير نشتكي إليه عامل السوق، فنسأله أن يعزله عنّا ويولّي علينا غيره. قال: وكنت خطيب القوم، فنصت لي وأعجبه منطقي، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير، تعرف هذا المتكلّم؟ قال: ومَن هو؟ قال: ميثم التمّار

ص: 341

الكذّاب مولى الكذّاب عليّ بن أبي طالب. قال: فاستوى جالساً، فقال لي: ما تقول؟ فقلت: كذب، أصلح الله الأمير، بل أنا الصادق مولى الصادق عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنينحقّاً. فقال لي: لَتبرأنّ من عليّ ولَتذكرنّ مساويه، وتتولّى عثمان وتذكر محاسنه، أو لَأقطّعنّ يديك ورجليك ولَأصلبنّك. فبكيت، فقال لي: بكيت من القول دون الفعل! فقلت: واللهِ ما بكيت من القول ولا من الفعل، ولكنّي بكيت من شكٍّ كان دخلني يوم أخبرني سيّدي ومولاي. فقال لي: وما قال لك؟ قال: فقلت: أتيتُه الباب، فقيل لي: إنّه نائم. فناديت: انتبه أيّها النائم، فوَاللهِ لَتخضبنّ لحيتك من رأسك. فقال: صدقت، وأنت واللهِ لَيقطعنّ يداك ورجلاك ولسانك، ولَتصلبنّ. فقلت: ومَن يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال: يأخذك العُتلّ الزنيم ابن الأَمة الفاجرة عُبيد الله بن زياد. قال: فامتلأ غيظاً، ثمّ قال لي: والله لَأُقطعنّ يديك ورجليك، ولَأدعنّ لسانك حتّى أكذبك وأكذب مولاك.

فأمر به فقُطعَت يداه ورجلاه، ثمّ أُخرج، وأمر به أن يُصلب، فنادى بأعلى صوته: أيّها الناس، مَن أراد أن يسمع الحديث المكنون عن عليّ بن أبي طالب. قال: فاجتمع الناس، وأقبل يحدّثهم بالعجائب. قال: وخرج عمرو بن حريث وهو يريد منزله، فقال: ما هذه الجماعة؟ قال: ميثم التمّار يحدّث الناس عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام. قال: فانصرف مسرعاً، فقال: أصلح الله الأمير، بادر فابعث إلى هذا مَن يقطع لسانه، فإنّي لستُ آمن أن يتغيّر قلوب أهل الكوفة فيخرجوا عليك. فالتفت إلى حرسيّ فوق رأسه فقال: اذهب فاقطع لسانه.قال: فأتاه الحرسيّ وقال له: يا ميثم. قال: ما تشاء؟ قال: أخرِجْ لسانك، فقد أمرني الأمير بقطعه. قال ميثم: ألا زعم ابن الأَمة الفاجرة أنّه يكذبني ويكذب مولاي؟ هاك لساني! قال: فقطع لسانه،

ص: 342

وتشحّط ساعةً في دمه، ثمّ مات، وأمر به فصُلب.

قال صالح: فمضيت بعد ذلك بأيّام، فإذا هو قد صُلب على الربع الّذي كتبت ودققت فيه المسمار» ((1)).

ورُوي أنّه اجتمع سبعةٌ من التمّارين فحملوه ليلاً، والحرّاس يحرسونه وقد أوقدوا النار، فحالت النار بينهم وبينهم، حتّى انتهوا به إلى بعض ماء في مراد فدفنوه فيه، فأصبح، وبعث الخيل فلم يجد شيئاً ((2)).

قال المؤلّف: اجتمع التمّارون وحملتهم الغَيرة على ميثم لمجرّد أنّهم يشاركونه في المهنة، والحال أنّ ثمّة مَن يدّعي الإسلام وقد ترك بدن ريحانة النبي مبضَّعاً إرباً إرباً على الصعيد بكربلاء، فلو لم تحرّكهم الغيرة والحميّة وهم ليسوا مسلمين لَكان عليهم أن يدفنوه كما دفنوا جيَفَهم، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.

ورُوي أنّ ميثم لقي ابن عبّاس في بيته، فسلّم عليه، فقال: يا ابن عبّاس، سَلْني ما شئتَ من تفسير القرآن، فإنّي قرأت تنزيله على أمير المؤمنين وعلّمَني تأويله. فقال: يا جارية، هاتي الدواة والقرطاس. فأقبل يكتب، فقال: يا ابن عبّاس، كيف بك إذا رأيتني مصلوباً تاسع تسعة،

ص: 343


1- بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 131، روضة الواعظين للفتّال: 2 / 288.
2- أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 129 ح 12، اختيار معرفة الرجال: 1 / 295 ح 138.

أقصرهم خشبة وأقربهم بالمطهرة؟ فقال ابن عبّاس: فتكهّن أيضاً. وخرق الكتاب، فقال: احتفظْ بما سمعتَ منّي، فإن يكُ ما أقوللك حقّاً أمسكتَه، وإن يكُ باطلاً خرقته. فقدم الكوفة ((1))، فكان ما قال.

ورُوي أنّه كان ميثم التمّار يمرّ بعريف عُبيد الله بن زياد، فيقول له: يا فلان، كأنّي بك وقد دعاك دعيّ بني أُميّة وابن دعيّها يطلبني منك، فتقول: هو بمكّة، فيقول: ما أدري ما تقول، ولابدّ لك أن تأتي به، فتخرج إلى القادسيّة فتقيم بها أيّاماً، فإذا قدمتُ إليك ذهبتَ بي إليه حتّى يقتلني، وأُصلَب على باب دار عمرو بن حريث ... ((2)).

ثمّ خرج ميثم إلى مكّة، فأرسل الطاغوت عبيد الله بن زياد (لعنه الله) عريف ميثم يطلبه منه، فأخبره أنّه بمكّة، فقال: لئن لم تأتِني به لَأقتلنّك. فأجّله أجلاً.

وخرج العريف إلى القادسيّة ينظر ميثم، فلمّا قدم ميثم أخذ بيده فأتى به إلى ابن زياد (لعنه الله)، فلمّا أدخله عليه ((3))، فقيل: هذا كان من آثر الناس عند عليّ. قال: ويحكم! هذا الأعجمي؟! قيل له: نعم. قال له عبيد

ص: 344


1- تظلّم الزهراء للقزويني: 507.
2- الهداية الكبرى للخصيبي: 133، الخرائج للراوندي: 1 / 229.
3- الهداية الكبرى للخصيبي: 133.

الله: أين ربّك؟ قال: بالمرصاد لكلّ ظالم، وأنت أحد الظلَمة. قال: إنّك على عجمتك لَتبلغ الّذي تريد، ما أخبرك صاحبك أنّي فاعلٌ بك؟ ((1)) فجرى بينهما كلام، وأمر بميثم أن يُصلَب..

فلمّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث. قال عمرو: قد كان والله يقول: إنّي مجاورك. فلمّا صُلب أمرجاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره، فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد. فقال: ألجموه..

فلمّا كان يوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحربة، فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمُه وأنفه دماً ((2)).

وفي (البحار): عن أبي خالد التمّار قال: كنتُ مع ميثم التمّار بالفرات يوم الجمعة، فهبّت ريحٌ وهو في سفينةٍ من سُفن الرمان، قال: فخرج فنظر إلى الريح، فقال: شدّوا برأس سفينتكم، إنّ هذا ريحٌ عاصف، مات معاوية الساعة! قال: فلمّا كانت الجمعة المقبلة قدم بريدٌ من الشام، فلقيتُه فاستخبرتُه، فقلت له: يا عبد الله، ما الخبر؟ قال: الناس على أحسن حال، تُوفّي أمير المؤمنين وبايع الناس يزيد. قال: قلت: أيّ يومٍ توفُي؟ قال: يوم

ص: 345


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 324.
2- الإرشاد للمفيد: 1 / 325.

الجمعة ((1)).

وروى في (رجال الكشّي) قال: مرّ ميثم التمّار على فرسٍ له، فاستقبل حبيب بن مظاهر الأسديّ عند مجلس بني أسد، فتحدّثا حتّى اختلفت أعناقُ فرسَيهما، ثمّ قال حبيب: لَكأنّي بشيخٍ أصلع ضخم البطن يبيع البطّيخ عند دار الرزق قد صُلب في حُبّ أهل بيت نبيّه صلی الله علیه وآله، ويُبقَر بطنه على الخشبة. فقال ميثم: وإنّي لَأعرف رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرة ابن بنت نبيّه ويُقتَل،ويُجال برأسه بالكوفة. ثمّ افترقا.

فقال أهل المجلس: ما رأينا أحداً أكذب من هذين. قال: فلم يفترق أهل المجلس حتّى أقبل رُشَيد الهجريّ فطلبهما، فسأل أهل المجلس عنهما، فقالوا: افترقا، وسمعناهما يقولان كذا وكذا. فقال رشيد: رحم الله ميثماً، نسي: ويُزاد في عطاء الّذي يجيء بالرأس مئة درهم. ثمّ أدبر. فقال القوم: هذا واللهِ أكذبهم.

فقال القوم: واللهِ ما ذهبَت الأيّام والليالي حتّى رأيناه مصلوباً على باب دار عمرو بن حريث، وجيء برأس حبيب بن مظاهر وقد قُتل مع الحسين، ورأينا كلَّ ما قالوا.

وكان حبيب من السبعين الرجال الّذين نصروا الحسين علیه السلام ، ولقوا جبال الحديد، واستقبلوا الرماح بصدورهم والسيوفَ بوجوههم، وهم يُعرض

ص: 346


1- بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 128 ح 10، اختيار معرفة الرجال: 1 / 293 ح 135.

عليهم الأمان والأموال فيأبون، فيقولون: لا عذر لنا عند رسول الله إن قُتل الحسين ومنّا عينٌ تطرف. حتّى قُتلوا حوله.

ولقد مزح حبيب بن مظاهر الأسديّ، فقال له يزيد بن حُصَين الهمدانيّ ((1)) -- وكان يُقال له: سيّد القرّاء -- : يا أخي، ليس هذه بساعة ضحك. قال: فأيّ موضعٍ أحقّ مِن هذا بالسرور؟ واللهِ ما هو إلّا أن تميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين ((2)).

[رشيد الهجري]

اشارة

وفي (روضة الواعظين): رُوي أنّ أمير المؤمنين علیه السلام خرج يوماً إلى بستان البري -- موضعٌ في ظهر الكوفة -- ومعه أصحابه، فجلس تحت نخلة، ثمّ أمر بنخلةٍ فلُقطَت، فأُنزل منها رطبٌ فوُضع بين أيديهم، فقال رشيد الهجري: يا أمير المؤمنين، ما أطيب هذا الرطب! فقال: «يا رشيد، أما إنّك تُصلب على جذعها».

قال رشيد: فكنت أختلف إليها طرفَي النهار أسقيها، ومضى أمير المؤمنين علیه السلام. قال رشيد: فجئتها يوماً وقد قُطع سعفها، قلت: اقترب أجلي! ثمّ جئت يوماً فجاء العريف فقال: أجِبْ الأمير. فأتيته، فلمّا دخلت القصر

ص: 347


1- في المتن: (بُرَير الهمداني).
2- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 92 ح 33، اختيار معرفة الرجال: 1 / 292 ح 133.

إذا بخشبٍ ملقى، ثمّ جئت يوماً آخر فإذا النصف الآخَر قد جُعل زرنوقاً يستقى الماء عليه، فقلت: ما كذبني خليلي. فأتاني العريف فقال: أجب الأمير. فأتيته، فلمّا دخلت القصر إذا الخشب ملقى، وإذا فيه الزرنوق، فجئت حتّى ضربت الزرنوق برجلي، ثمّ قلت: لك غُذّيت ولي أُنبتّ.

ثمّ أُدخلت على عُبيد الله بن زياد، فقال: هاتِ من كذب صاحبك. قلت: واللهِ ما أنا بكذّاب، ولقد أخبرني أنّك تقطع يدي ورجلي ولساني. فقال: إذاً نكذبه، اقطع يده ورجله وأخرجوه.

فلمّا حُمل إلى أهله أقبل يحدّث الناس بالعظائم، وهو يقول: سلوني، فإنّ للقوم عندي طلبةٌ لم يقضوها. فدخل رجلٌ على ابن زياد فقال له: ما صنعت؟ قطعت يدَه ورجله وهو يحدّث الناس بالعظائم! قال: فأرسل إليه، فردّوه وقد انتهى إلى بابه، فردّوه، فأمر بقطعلسانه ويديه ورجليه، وأمر بصلبه ((1)).

[خبر بنت رشيد]

في (أمالي) الشيخ الطوسيّ: عن أبي حسّان العجليّ قال: لقيتُ أَمة الله بنت راشد الهجريّ، فقلت لها: أخبريني بما سمعتِ من أبيك. قالت: سمعتُه يقول:

ص: 348


1- روضة الواعظين للفتّال: 2 / 287.

قال لي حبيبي أمير المؤمنين علیه السلام: «يا راشد، كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيّ بني أُميّة، فقطع يديك ورجليك ولسانك؟». فقلت: يا أمير المؤمنين، أيكون آخر ذلك إلى الجنّة؟ قال: «نعم يا راشد، وأنت معي في الدنيا والآخرة».

قالت: فوَاللهِ ما ذهبَت الأيّام حتى أرسل إليه الدعيّ عبيد الله بن زياد، فدعاه إلى البراءة منه، فقال له ابن زياد: فبأيّ ميتةٍ قال لك صاحبُك تموت؟ قال: خبّرني خليلي (صلوات الله عليه) أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أتبرّأ، فتقدّمني فتقطع يدي ورجلي ولساني. فقال: واللهِ لَأكذبنّ صاحبك، قدِّموه واقطعوا يده ورجله واتركوا لسانه. فقطعوه، ثمّ حملوه إلى منزلنا.

فقلت له: يا أبتِ جُعلتُ فداك، هل تجد لما أصابك ألماً؟ قال: لا والله يا بُنيّة، إلّا كالزحام بين الناس.

ثمّ دخل عليه جيرانه ومعارفه يتوجّعون له، فقال: آتوني بصحيفةٍ ودواةٍ أذكر لكم ما يكون ممّا أعلمنيه مولاي أمير المؤمنين علیه السلام. فأتوه بصحيفةٍ ودواة، فجعل يذكر ويُملي عليهم أخبار الملاحم والكائنات، ويُسندها إلى أمير المؤمنين علیه السلام ، فبلغذلك ابن زياد، فأرسل إليه الحجّام حتّى قطع لسانه، فمات من ليلته تلك.

وكان أمير المؤمنين علیه السلام يسمّيه: راشد المبتلى، وكان قد ألقى إليه علم

ص: 349

البلايا والمنايا، فكان يلقى الرجل ويقول له: يا فلان بن فلان، تموت ميتة كذا، وأنت يا فلان تُقتَل قتلة كذا، فيكون الأمر كما قاله راشد رحمه الله ((1)).

وعن زياد بن النضر الحارثي قال: كنتُ عند زيادٍ إذ أُتي برشيد الهجري، فقال له زياد: ما قال لك صاحبك -- يعني عليّاً علیه السلام -- إنّا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني. فقال زياد: أمَ والله لَأكذبنّ حديثه، خلّوا سبيله. فلمّا أراد أن يخرج قال زياد: واللهِ ما نجد له شيئاً شرّاً ممّا قال صاحبُه، اقطعوا يديه ورجليه واصلبوه. فقال رشيد: هيهات، قد بقي لي عندكم شيءٌ أخبرني به أمير المؤمنين علیه السلام. قال زياد: اقطعوا لسانه. فقال رشيد: الآن والله جاء تصديق خبر أمير المؤمنين علیه السلام.

وهذا حديثٌ قد نقله المؤالف والمخالف ((2)).

[مزرع بن عبد الله]

وفي (الإرشاد) للمفيد: عن أبي العالية قال: حدّثني مزرع بن عبد الله قال: سمعتُ أمير المؤمنين علیه السلام يقول: «أمَ واللهِ لَيقبلنجيشٌ، حتّى إذا كان بالبيداء خُسف بهم». فقلت له: إنّك لَتحدّثني بالغيب! قال: احفظ ما أقول

ص: 350


1- بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 121 الباب 122 ح 1، الأمالي للطوسي: 165 المجلس 6ح 276.
2- الإرشاد للمفيد: 1 / 325.

لك، واللهِ لَيكوننّ ما خبّرني به أمير المؤمنين علیه السلام ، ولَيؤخذن رجلٌ فلَيُقتلنّ ولَيُصلبنّ بين شرفتين من شُرف هذا المسجد. قلت: إنّك لَتحدّثني بالغيب! قال: حدّثني الثقة المأمون عليّ بن أبي طالب علیه السلام.

قال أبو العالية: فما أتت علينا جمعةٌ حتّى أُخذ مزرع فقُتل وصُلب بين الشرفتين، قال: وقد كان حدّثني بثالثةٍ فنسيتُها ((1)).

[الكميل بن زياد النخعي]

وروى الشيخ المفيد في (الإرشاد) أيضاً، عن جرير، عن المغيرة قال: لمّا ولي الحجّاج طلب كميل بن زياد، فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم، فلمّا رأى كميل ذلك قال: أنا شيخٌ كبيرٌ قد نفد عمري، لا ينبغي أن أحرم قومي عطيّاتهم. فخرج، فدفع بيده إلى الحجّاج.

فلمّا رآه قال له: لقد كنتُ أُحبّ أن أجد عليك سبيلاً. فقال له كميل: لا تصرف علَيّ أنيابك ولا تهدم علَيّ، فواللهِ ما بقي من عمري إلّا مثل كواسل الغبار، فاقضِ ما أنت قاض، فإنّ الموعد الله، وبعد القتل الحساب، ولقد خبّرني أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام أنّك قاتلي. قال: فقال له الحجّاج: الحجّة عليك إذن. فقال كميل: ذاك إن كان القضاء إليك. قال:

ص: 351


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 326.

بلى، قد كنت فيمن قتل عثمان بن عفّان، اضربوا عنقه. فضُربت عنقُه ((1)).

وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون

ورُوي في (الإرشاد) أيضاً أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: أُحبّ أن أُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب، فأتقرّب إلى الله بدمه. فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبةً لأبي تراب من قنبر مولاه.

فبعث في طلبه فأُتي به، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم. قال: أبو همدان؟ قال: نعم. قال مولى عليّ بن أبي طالب؟ قال: اَلله مولاي، وأمير المؤمنين عليٌّ وليّ نعمتي. قال: ابرأْ من دِينه. قال: فإذا برئتُ من دينه تدلّني على دينٍ غيره أفضل منه؟ فقال: إنّي قاتلك، فاختر أيَّ قتلةٍ أحبّ إليك. قال: قد صيّرتُ ذلك إليك. قال: ولمَ؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلّا قتلتُك مثلها، ولقد خبّرني أمير المؤمنين علیه السلام أنّ منيّتي تكون ذبحاً ظلماً بغير حقّ. قال: فأمر به فذُبح ((2)).

وفي (البحار) أنّ قنبراً مولى أمير المؤمنين علیه السلام دخل على الحجّاج بن يوسف، فقال له: ما الّذي كنتَ تلي من عليّ بن أبي طالب؟ فقال: كنتُ

ص: 352


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 327.
2- الإرشاد للمفيد: 1 / 328.

أُوضّيه. فقال له: ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟ فقال: كان يتلو هذه الآية: «فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ *فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ((1)). فقال الحجّاج: أظنُّه كان يتأوّلها علينا. قال: نعم. فقال: ما أنت صانعٌ إذا ضربتُ علاوتك؟ قال: إذن أسعد وتشقى. فأمر به ((2)).

[سعيد بن جُبير]

وفي (حياة الحيوان): قال عون بن أبي شدّاد العبدي: بلغني أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي لمّا ذُكر له سعيد بن جُبير (رحمة اللَّه تعالى عليه) بعد قتل عبد الرحمان بن الأشعث، أرسل إليه قائداً من أهل الشأم من خاصّة أصحابه، فبينما هم يطلبون إذا هم براهبٍ في صومعةٍ له، فسألوه عنه، فقال الراهب: صِفُوه لي. فوصفوه له، فدلّهم عليه، فانطلقوا، فوجدوه ساجداً يناجي ربّه (تعالى) بأعلى صوته، فدنوا منه وسلّموا عليه، فرفع رأسه، فأتمّ بقيّة صلاته، ثمّ ردّ عليهم السلام، فقالوا له: إنّ الحجّاج أرسل إليك فأجِبْه. فقال: ولابدّ من الإجابة؟ فقالوا: لابدّ. فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلی الله علیه وآله.

ص: 353


1- سورة الأنعام: 44 و45.
2- بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 135، اختيار معرفة الرجال: 1 / 290 ح 130.

ثمّ قام يمشي معهم حتّى انتهوا إلى دير الراهب، فقال الراهب: يا معشر الفرسان، أصبتم صاحبكم؟ قالوا: نعم. فقال لهم: اصعدوا الدير، فإنّ اللبوة والأسد يأويان حول الدير، فعجِّلوا الدخول قبل المساء. ففعلوا ذلك، وأبى سعيد رضی الله عنه أن يدخل الدير! فقالوا: ما نراك إلّا تريد الهرب منّا؟ قال: لا، ولكنّي لا أدخل منزلمشركٍ أبداً. فقالوا: إن لا ندعك فإنّ السباع تقتلك. قال سعيد: فإنّ معي ربّي يصرفها عنّي، ويجعلها حرّاساً حولي تحرسني من كلّ سوء، إن شاء اللَّه (تعالى). قالوا: فأنت من الأنبياء؟ قال: ما أنا من الأنبياء، ولكنّي عبدٌ من عباد اللَّه خاطىءٌ مذنب. قالوا له: فاحلف لنا أنّك لا تبرح. فحلف لهم.

فقال لهم الراهب: اصعدوا الدير، وأوتروا القِسيّ لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح، فإنّه كره الدخول علَيّ في الصومعة. فدخلوا، وأوتروا القِسيّ، فإذا هم بلبوةٍ قد أقبلَت، فلمّا دنت من سعيد بن جُبيرٍ تحكّكت به وتمسّحت به، ثمّ ربضت قريباً منه، وأقبل الأسد فصنع مثل ذلك، فلمّا رأى الراهب ذلك دخلَت في قلبه هيبة، فلمّا أصبحوا نزلوا إليه، فسأله الراهب عن شرائع دِينه وسنن نبيّه صلی الله علیه وآله، فقرّر له سعيد ذلك كلّه، فأسلم الراهب وحسن إسلامه.

وأقبل القوم على سعيدٍ يعتذرون إليه ويقبّلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطأه بالليل يصلّون عليه، ويقولون: يا سعيد، حلّفنا الحجّاج بالطلاق والعتاق إن نحن رأيناك لا ندعك حتّى نُشخصك إليه، فمُرنا بما

ص: 354

شئت. فقال سعيد: امضوا لشأنكم، فإنّي لائذٌ بخالقي، ولا رادّ لقضاء ربّي.

فساروا حتّى وصلوا إلى واسط، فلمّا انتهوا إليها قال لهم سعيد رضی الله عنه: يا معشر القوم، قد تحرّمت بكم وصحبتكم، ولستُ أشكّ أنّ أجلي قد قرب وحضر، وأنّ المدّة قد انقضت ودنت، فدعوني الليلة آخذ أهبّة الموت، وأستعدّ لمنكرٍ ونكير، وأذكر عذاب القبر وما يُحثى علَيّ من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الّذي تريدون. فقال بعضهم: لا نريد أثراً بعد عين. وقالبعضهم: إنّكم قد بلغتم أمنكم، واستوجبتم جوائزكم من الأمير، فلا تعجزوا عنه. وقال بعضهم: هو علَيّ، أدفعه إليكم إن شاء اللَّه (تعالى). فنظروا إلى سعيد وقد دمعَت عيناه واغبرّ لونه، وكان لم يأكل ولم يشرب ولم يضحك منذ لقوه وصحبوه، فقالوا بأجمعهم: يا خير أهل الأرض، ليتنا لم نعرفك ولم نُرسَل لك، الويل لنا، كيف ابتلينا بك! فاعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر، فإنّه القاضي الأكبر، والعادلُ الّذي لا يجوز. فلمّا فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم، قال كفيله: أسألك باللَّه يا سعيد إلّا ما زوّدتنا من دعائك وكلامك، فإنّا لن نلقي مثلك أبداً. فدعا لهم سعيد رضی الله عنه، ثمّ خلّوا سبيله.

فغسل رأسه ومدرعته وكساءه، وأقبل على الصلاة والدعاء والاستعداد للموت ليله كلّه، وهم مختفون الليل كلّه، فلمّا انشقّ عمود الصبح جاءهم سعيد بن جُبير رضی الله عنه فقرع الباب، فقالوا: صاحبكم وربِّ الكعبة. فنزلوا إليه، فبكى وبكوا معه طويلاً، ثمّ ذهبوا به إلى الحجّاج، فدخل عليه المتلمّس

ص: 355

فسلّم عليه، وبشّره بقدوم سعيد بن جبير.

فلمّا مَثُل بين يديه قال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جُبير. فقال: بل أنت شقيّ بن كسير. قال سعيد: بل أُمّي كانت أعلم باسمي منك. فقال الحجّاج: شقيت أنت وشقيَت أُمُّك. فقال سعيد: الغيب يعلمه غيرُك. قال الحجّاج: لَأُبدلنّك بالدنيا ناراً تلظّى. قال: لو علمتُ أنّ بيدك لاتّخذتُك إلهاً. قال: فما قولك في محمّد صلی الله علیه وآله قال: نبيّ الرحمة. قال: فما قولك في عليّ، أفي الجنّة هو أَم النار؟ قال: لو دخلتُهما وعرفتُ أهلهما عرفتُ مَن فيهما. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لستُ عليهم بوكيل. قال: فأيّهم أعجب إليك؟ قال:أرضاهم لخالقه. قال: فأيّهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الّذي يعلم سرّهم ونجواهم. قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوقٌ خُلق من الطين، والطين تأكله النار؟ قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستوِ القلوب.

قال: ثمّ إنّ الحجّاج أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت وغير ذلك من الجواهر، فوُضعَت بين يدَي سعيد، فقال سعيد رضی الله عنه: إن كنتَ جمعت هذا لتفدى به من فزع يوم القيامة فصالح، وإلّا ففزعةٌ واحدةٌ تذهل كلّ مرضعةٍ عما أرضعت، لا خير في شيءٍ جُمع للدنيا إلّا ما طاب وزكا.

ثمّ دعا الحجّاج بآلات اللهو، فضُربت بين يدَي سعيد، فبكى سعيد، فقال الحجّاج: ويلك يا سعيد. فقال سعيد: الويل لمن زُحزح عن الجنّة وأُدخل النار.

ص: 356

فقال: يا سعيد، أيّ قتلةٍ تريد أن أقتلك بها؟ قال: اختر لنفسك يا حجّاج، فوَاللَّهِ لا تقتلني قتلةً إلّا قتلك اللَّه مثلها في الآخرة. قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو من اللَّه فنعم، وأمّا منك أنت فلا. فقال: اذهبوا به فاقتلوه.

فلما أُخرج من الباب ضحك، فأُخبر الحجّاج بذلك، فأمر بردّه، فقال: ما أضحكك وقد بلغني أنّ لك أربعين سنةً لم تضحك؟! قال: ضحكت عجباً من جرأتك على اللَّه، ومن حِلم اللَّه عليك. فأمر بالنطع فبُسط بين يديه، وقال: اقتلوه. فقال سعيد: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» ((1))، ثمّ قال: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِوالأَرْضَ حَنِيفاً وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ((2)). قال: وجّهوه لغير القبلة. فقال سعيد: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الله» ((3)). فقال: كبّوه لوجهه. فقال: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وفِيها نُعِيدُكُمْ ومِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» ((4)). فقال الحجّاج: اذبحوه! فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ثمّ قال: اللّهم لا تسلّطه على أحدٍ يقتله بعدي. فذُبح على النطع (رحمة اللَّه تعالى عليه)، فكان رأسه

ص: 357


1- سورة الأنبياء: 35.
2- سورة الأنعام: 79.
3- سورة البقرة: 115.
4- سورة طه: 55.

يقول بعد قطعه: لا إله إلّا اللَّه، مراراً، وذلك في شعبان سنة خمسٍ وتسعين.

وكان عمر سعيد تسعاً وأربعين سنة، وعاش الحجّاج بعده خمس عشرة ليلة، ولم يسلَّط على قتل أحدٍ بعده ((1)).

وفي بعض الكتب أنّ سعيد بن جبير آخر من قتله الحجّاج ((2)).

وكان سعيد يأتمّ بعليّ بن الحسين، وكان أمير المؤمنين عليّ علیه السلام يُثني عليه، وما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر ((3)).

ورُوي أنّه لمّا أُدخل عليه قال له الحجّاج: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. قال: بل شقيّ بن كسير. قال: أُمّي سمّتني سعيداً. قال: شقيتَ أنت وأُمُّك. قال: الغيب يعلمه غيرُك. قال له الحجّاج: أما واللهلَأُبدلنّك من دنياك ناراً تلظّى. قال سعيد: لو علمتُ أنّ ذلك إليك ما اتّخذتُ إلهاً غيرك.

ثمّ قال له الحجّاج: ما تقول في رسول الله صلی الله علیه وآله قال: نبيٌّ مصطفى، خيرُ الباقين وخير الماضين. قال: فما تقول في أبي بكرٍ الصدّيق؟ قال: ثاني اثنين إذ هما في الغار، أعزّ به الدين وجمع به بعد الفرقة. قال: وما تقول في عمر بن الخطّاب؟ قال: فاروق الله وخيرته من خلقه، أحبّ الله أن يعزّ الدين بأحد الرجلين، فكان أحقّهما بالخيرة والفضيلة. قال: فما تقول في عثمان؟ قال:

ص: 358


1- حياة الحيوان للدميري: 2 / 426.
2- أُنظُر: رياض الأبرار: 2 / 63، مجمع البحرين: 2 / 287.
3- روضة الواعظين للفتّال: 290.

مجهّز جيش العُسرة، والمشتري بيتاً في الجنّة، والمقتول ظلماً. قال: فما تقول في عليّ بن أبي طالب؟ قال: أوّلهم إسلاماً، تزوّج بنت رسول الله صلی الله علیه وآله الّتي هي أحبّ بناته. قال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رسول الله صلی الله علیه وآله. قال: فما تقول في الخلفاء منذ كان رسول الله صلی الله علیه وآله إلى الآن؟ قال: سيجزون بأعمالهم، فمسرورٌ ومثبور، لستُ عليهم بوكيل. قال: فما تقول في عبد الملك ابن مروان؟ قال: إن يكن محسناً فعند الله ثواب إحسانه، وإن يكن مسيئاً فلن يعجز الله. قال: فما تقول في؟ قال: أنت أعلم بنفسك. قال: بثّ في علمك. قال: إذن أسوؤك ولا أسرّك. قال: بث. قال: نعم، ظهر منك جَورٌ في حدّ الله وجرأةٌ على معاصيه بقتلك أولياء الله. قال: واللهِ لَأقطّعنّك قطعاً، ولَأُفرقنّ أعضاءك عضواً عضواً. قال: إذن تُفسد علَيّ دنياي وأُفسد عليك آخرتك، والقصاص أمامك. قال: الويل لك من الله. قال: الويل لمن زُحزح عن الجنّة وأُدخل النار. قال: اذهبوا به فاضربوا عنقه. قال سعيد: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، أستحفظكها حتّى ألقاك يوم القيامة.ولمّا ذهبوا به ليُقتَل تبسّم، فقال له الحجّاج: ممَّ ضحكت؟ قال: من جرأتك على الله عزوجل. فقال الحجّاج: أضجِعوه للذبح. فأُضجع، فقال: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأَرْضَ». فقال الحجّاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة. فقرأ سعيد: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الله». فقال: كبّوه على وجهه.

ص: 359

فقرأ سعيد: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وفِيها نُعِيدُكُمْ ومِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى». فذُبح من قفاه ((1)).

قال المؤلّف: ما أشبه شهادة سعيد بشهادة سيّد الشهداء علیه السلام، إذ ذبحه الشمر اللعين من القفا.

وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون.

[في بعض أحوال الحجّاج (لعنه الله)]

ورُوي عن الشافعيّ أنّه قال: عاش الحجّاج بعد قتل سعيد أربعين يوماً، وقيل: خمسة عشر يوماً ((2))، وقيل: ثلاثة أيّام ((3))، ولم يفرغ من قتله حتّى خولط في عقله ((4))، وكان يُغمى عليه ثمّ يفيق ((5))، وكان إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول: يا عدوّ الله، فيمَ قتلتني؟ فيقول: ما لي ولسعيد بن جُبير، ما لي ولسعيد بن جبير!((6))

ص: 360


1- المنتظم لابن الجوزي: 7 / 8، الفتوح لابن أعثم: 7 / 106، الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 61.
2- أُنظُر: البداية والنهاية لابن كثير: 9 / 177، المنتظم لابن الجوزي: 7 / 9.
3- أُنظُر: المنتظم لابن الجوزي: 7 / 9.
4- أُنظُر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 2 / 63، أنساب الأشراف للبلاذري: 7 / 364.
5- أُنظُر: تاريخ الإسلام للذهبي: 6 / 369.
6- تاريخ الطبري: 5 / 262.

وذُكر أنّ الحجّاج في مدّة مرضه كان إذا نام رأى سعيد بن جُبير آخذاً بمجامع ثوبه، ويقول له: يا عدوّ اللَّه، فيمَ قتلتني؟ فيستيقظ مذعوراً ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير! ((1))

وقيل: وقعت الآكلة في بطنه، فأخذ الطبيب لحماً وجعله في خيطٍ وأرسله في حلقه، ثمّ استخرجه وقد لصق الدودُ به، فعلم أنّه ليس بناج ((2)).

وفي (مجمع البحرين) عند ذكر الجبّارين الّذين قصدوا الكوفة بسوءٍ فأهلكهم الله، قال: ومنهم الحجّاج، تولّدت في بطنه الحيّات، واحترق دُبره حتّى هلك ((3)).

قال المسعودي: وُلد الحجّاج بن يوسف مشوَّهاً لا دبر له، فثُقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثديَ أُمّه أو غيرها، فأعياهم أمره، فيقال: إنّ الشيطان تصوّر لهم في صورة الحارث بن كلدة، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: ابنٌ وُلد ليوسف من القارعة، وكان اسمها، وقد أبى أن يقبل ثدي أُمّه أو غيرها. فقال: اذبحوا جَدْياً أسود وأولِغوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به

ص: 361


1- موسوعة طبقات الفقهاء: 1 / 372، البداية والنهاية لابن كثير: 9 / 115، تاريخ الطبري: 5 / 263.
2- المنتظم لابن الجوزي: 7 / 3.
3- مجمع البحرين للطريحي: 3 / 240.

كذلك، فإذا كان في اليوم الثالث فاذبحوا له تَيساً أسود وأولغوه دمه، ثمّ اذبحوا له أسود سالخاً فأولغوه دمه واطلو به وجهه، فإنّهيقبل الثدي في اليوم الرابع. قال: ففعلوا به ذلك، فكان بعدُ لا يصبر عن سفك الدماء ((1)).

ونقل البعض أنّ الحجّاج كان مخنّثاً، وكان يأخذ الخنفساء ويجعلها على مقعدته لتعضّ ذلك الموضع فتسكن بعض علّته.

و من قصته أنّه كان يوماً يصلّي على سجّادة، فجاءت خنفساء تدبّ إليه، فقال: نحّوا هذه عنّي، فإنها وذحة الشيطان ((2)).

وكان في عشرين سنةً مدّة ولايته سفّاكاً لدماء الطالبيّين، وفتّاكاً للسادة العلويّين، ساعياً سيّد الساجدين إلى عبد الملك بن مروان، هتّاكاً للنساء الهاشميّات وبنات الفاطميّات.

ذُكر في كتب السيَر اتّفاقاً منهم على أنّه بلغ مِن قتله صبراً سوى مَن قتله في الحرب مئة ألفٍ وعشرين ألفاً، فلمّا مات قيل: كان في محبسه ثمانون ألفاً، خمسة آلافٍ من الرجال الزهّاد وخير كلّ وادٍ وبلاد، وثلاثون ألفاً من النساء المحرّمات وقانتات السادات، يريد أن يقتلهم عن آخِرهم فلم يتيسّر له ((3)).

ص: 362


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 125.
2- مجمع البحرين للطريحي: 2 / 423.
3- تظلّم الزهراء للقزويني: 531، مجمع البحرين للطريحي: 2 / 287.

ونقل في (نوادر الصالحين) أنّه وُجد في سجنه مئة ألفٍ وأربعة آلاف رجل وعشرون ألف امرأة، منها أربعة آلاف نسوة عرات، وكان محبس الرجال والنسوة واحداً، وكان حائط محوطاً لا سقف له، فإذا عمد المسجونون إلى الجدران يستظلّون بها من حرّ الشمس رمتهم الحرس بالحجارة والأثلب، وكان يطعمهم خبز الشعير مخلوطاً بالملح والرماد، وكان لا يلبث الرجل في سجنه حتّى يسودّويصير كأنّه زنجي، حتّى إنّ غلاماً حُبس فيه فجاءت إليه أُمّه بعد أيّامٍ تتعرّف خبره، فلمّا تقدّم إليها أنكرته وقالت: ليس هذا ابني، هذا بعض الزنوج. فقال: لا والله يا أُمّاه، أنتِ فلانة، وإنّي فلان. فلمّا عرفته شهقت شهقةً كانت فيها نفسها ((1)).

ونقل أنّه جاء يوماً مسجداً، فضجّ أهل السجن ضجّةً شديدة، فاستخبر، فقيل: أهل السجن يضجّون من حرّ الرمضاء. فقال: قولوا لهم: اخسؤوا فيها ولا تكلِّمون ((2)).

ونقل إنّه لمّا نصب الحجّاج المنجنيق لرمي الكعبة، جاءت صاعقةٌ حرقت المنجنيق، فتقاعد أصحابه عن الرمي، فقال الحجّاج: لا عليكم من ذلك، فإنّ هذه كناء القربان دلّت على أنّ فعلكم متقبّل ((3)).

ص: 363


1- تظلّم الزهراء للقزويني: 531، مجمع البحرين للطريحي: 2 / 287.
2- تظلّم الزهراء للقزويني: 532.
3- تظلّم الزهراء للقزويني: 532، مجمع البحرين للطريحي: 2 / 287.

وفي (المنتخب): عن الشعبيّ الحافظ لكتاب الله (تعالى) أنّه قال: استدعاني الحجّاج بن يوسف في يوم عيد الضحيّة، فقال لي: أيّها الشيخ، أيّ يومٍ هذا؟ فقلت: هذا يوم الضحيّة. قال: بمَ يتقرّب الناس في مثل هذا اليوم؟ فقلت: بالأضحية والصدقة وأفعال البرّ والتقوى. فقال: اعلم أنّي قد عزمتُ أن أُضحّي برجلٍ حسينيّ.

قال الشعبي: فبينما هو يخاطبني إذ سمعت من خلفي صوتاً لسلسلةٍ وحديد، فخشيت أن ألتفت فيستخفنّي، وإذا قد مثل بين يديه رجلٌ علوي، وفي عنقه سلسلة وفي رجليه قيد من حديد، فقال له الحجّاج: ألست فلان ابن فلان العلويّ؟ قال: نعم، أنا ذلك الرجل.فقال له: أنت القائل: إنّ الحسن والحسين من ذريّة رسول الله؟ قال: ما قلت ولا أقول، ولكن أقول: إنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله، وإنّهما دخلا في ظهره وخرجا من صلبه على رغم أنفك يا حجّاج. قال: وكان متّكئاً على مسندةٍ فاستوى جالساً، وقد اشتدّ غيظه وغضبه وانتفخت أوداجه حتّى تقطّعت أزرار بردته، فدعا ببردةٍ غيرها فلبسها، ثمّ قال للرجل: يا ويلك، إن تأتيني بدليلٍ من القرآن يدلّ أنّ الحسن والحسين ولدا رسول الله دخلا في ظهره وخرجا من صلبه، وإلّا قتلتك في هذا الحين أشرّ قتلة، وإن أتيتني بما يدلّ على ذلك أعطيتك هذه البردة الّتي بيدي وخلّيتُ سبيلك.

قال: وكنتُ حافظاً كتاب الله (تعالى) كلّه وأعرف وعده ووعيده وناسخه ومنسوخه، فلم تخطر على بالي آيةً تدلّ على ذلك، فحزنتُ وقلتُ

ص: 364

في نفسي: يعزّ والله علَيّ ذهاب هذا الرجل العلوي. قال: فابتدأ الرجل يقرأ الآية، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فقطع عليه الحجّاج قراءته وقال: لعلّك تريد أن تحتجّ علَيّ بآية المباهلة، وهي قوله (تعالى): «قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ» ((1)). فقال العلوي: هي والله حجّةٌ مؤكّدةٌ معتمدة، ولكنّي آتيك بغيرها. ثمّ ابتدأ يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، «وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى» ((2))، وسكت، فقال له الحجّاج: فلمَ لاقلت: «وعيسى»؟ أنسيتَ عيسى؟ فقال: نعم، صدقتَ يا حجّاج، فبأيّ شيءٍ دخل عيسى في صلب نوح علیه السلام وليس له أب؟ فقال له الحجّاج: إنّه دخل في صلب نوحٍ من حيث أُمّه. فقال العلوي: وكذلك الحسن والحسين، دخلا صلب رسول الله بأُمّهما فاطمة الزهراء! قال: فبقيَ الحجّاج كأنّما أُلقِم حجراً.

فقال له الحجّاج: ما الدليل على أنّ الحسن والحسين إمامان؟ فقال العلوي: يا حجّاج، لقد ثبتت لهما الإمامة بشهادة النبيّ في حقّهما، لأنّه قال في حقّهما: «ولداي هذان إمامان فاضلان، إن قاما وإن قعدا، تميل عليهما الأعداء، فيسفكون دمهما ويسبون حرمهما»، ولقد شهد النبيّ لهما بالإمامة

ص: 365


1- سورة آل عمران: 61.
2- سورة الأنعام: 84 و85.

أيضاً، حيث قال: «ابني هذا -- يعني الحسين -- إمامٌ ابن إمامٍ أخو إمامٍ أبو أئمّةٍ تسعة». فقال الحجّاج: وكم عمر الحسين في دار الدنيا؟ فقال: ستٌّ وخمسون سنة. فقال له: وفي أيّ يوم قُتل؟ قال: يوم العاشر في شهر محرّم بين الظهر والعصر. فقال له: ومَن قتله؟ فقال: يا حجّاج، لقد جنّد الجنودَ ابنُ زيادٍ بأمر اللعين يزيد، فلمّا اصطفّت العساكر لقتاله فقتلوا حُماته وأنصاره وأطفاله وبقيَ فريداً، فبينما هو يستغيث فلا يُغاث ويستجير فلا يُجار، يطلب جرعةً من الماء ليطفيء بها حرّ الظمأ، فبينما هو واقفٌ يستغيث إلى ربّه جاءه سنان فطعنه بسنانه، ورماه خولي بسهمٍ ميشومٍ فوقع في لبّته، وسقط عن ظهر جواده إلى الأرض يجول في دمه، فجاءه الشمر (لعنه الله) فاجتزّ رأسه بحسامه، ورفعه فوق قناته، وأخذ قميصه إسحاق الحضرمي، وأخذ سيفه قيس النهشلي، وأخذ بغلته حارث الكندي، وأخذ خاتمه زيد بن ناجية الشعبي، وأحاط القوم بخيامه، وعاثوا في باقي أثاثه، وأسبوا حريمه ونساءه.فقال الحجّاج: هكذا جرى عليهم يا علويّ، واللهِ لو لم تأتيني بهذا الدليل من القرآن بصحّة إمامتهما لَأخذت الّذي فيه عيناك، ولقد نجّاك الله (تعالى) ممّا عزمتُ عليه من قتلك، ولكن خُذ هذه البردة، لا بارك الله لك فيها. فأخذها العلويّ وهو يقول: هذا من عطاء الله وفضله، لا من عطائك يا حجّاج.

ثمّ إنّ العلويّ بكى وجعل يقول:

ص: 366

صلّى الإلهُ ومَن يحفّ بعرشه***والطيّبون على النبيّ الناصح

وعلى قرابته الّذين تهضّموا ((1))***بالنائبات وكلّ خطبٍ فادح ((2))

طلبوا الحقوق،فأُبعدوا عن دارهم***وعوى عليهم كلّ كلبٍ نابح ((3))

فعذاب ربّي دائماً متداولاً***يغدوا على أعدائهم متصابح

وحُكي أنّ الحجّاج بن يوسف كان جالساً في قبّة الخضراء، وعنده وجوه العراق، إذ أتى صبيٌّ من الخوارج في عمر عشر سنين له ذوابةٌ طويلة، فدخل ولم يسلّم، بل نظر إلى القبّة يميناً وشمالاً وقرأ آية: «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ» ((4)). وكان الحجّاج متّكأً فاستوى جالساً، وقال: يا غلام، إنّي لَأُريك عقلاً وذهناً،أفحفظتَ القرآن؟ قال: أوَ خفت على القرآن حتّى أحفظه؟ قال: أفجمعت القرآن؟ قال: أوَ كان متفرّقاً حتّى أجمعه؟ قال: أفأحكمت القرآن؟ قال: أوَ ليس الله أنزله حكماً؟ قال الحجّاج: إذاً استظهرت القرآن؟ قال: معاذ الله أن أجعل القرآن وراء ظهري. قال له: ويلك، فماذا أقول؟ قال: الويل لك، قد أوعيت القرآن في صدرك؟ فقال

ص: 367


1- في المطبوع من (المنتخب): (نهضوا).
2- في المتن: (قادح).
3- المنتخب للطريحي: 2 / 477 المجلس 10 الباب 3.
4- سورة الشعراء: 128 -- 130.

الحجّاج: فاقرأني شيئاً من القرآن. فاستفتح الغلام وقال: أعوذ بالله منك ومن الشيطان الرجيم، إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً. قال: ويلك، إنّه: يدخلون. قال الغلام: قد كانوا يدخلون، فأمّا اليوم قد صاروا يخرجون. قال: ولمَ ذلك؟ قال: بسوء فعلك بهم. قال: ويلك، هل عرفت المخاطب لك؟ قال: نعم، شيطان الثقيف الحجّاج. قال: ويلك، مَن أبوك؟ قال: الّذي زرعني. قال: فمن أُمّك؟ قال: الّتي ولدتني. قال: وأين وُلدت؟ قال: في بعض الفلات. قال: أين نشأت؟ قال: في بعض البراري. قال: ويلك، مجنونٌ أنت فنعالجك؟ قال: لو كنت مجنوناً لماوصلت إليك وما وقفت بين يديك كأنّي فيمن يرجو فضلك ويخاف عقابك.

قال الحجّاج: فما تقول في أمير المؤمنين؟ قال: رحم الله أبا الحسن. قال: إنّما أعني عبد الملك بن مروان. قال: على الفاسق الفاجر لعنة الله. قال: ويلك، بما يستحقّ اللّعنة؟ قال: والله ما أنكر حقّه، غير أنّه أخطأ خطيئةً ملئت السماوات والأرض. قال: وما هي؟ قال: استعماله إيّاك على رعيّه، تستبيح أموالهم وتستحلّ دماءَهم.

فالتفت الحجّاج إلى أصحابه وقال: ما تشيرون في أمر هذا الغلام؟ قالوا: سفك دمه، فقد خلع الطاعة وفارق الجماعة. فقال الغلام: جلساء أخيك خيرٌ من جلسائك. قال: أخي محمّد بن يوسف.قال: الفاسق ما أعنيه، إنّما أعني أخاك فرعون، إنّه قال لجلسائه: ماذا تأمرون في موسى؟

ص: 368

قالوا: أرجه وأخاه. وهؤلاء أمروك بقتلي، إذاً والله أقوم عليك الحجّة غداً بين يدَي الله (تعالى) ملك الجبّارين ومذلّ المستكبرين.

قال الحجّاج: يا غلام، قيّد ألفاظك وتقرّ لسانك، فإنّي أخاف عليك بادرة الأمر، فقد أمرت لك بأربعة آلاف درهمٍ تستعين بها. فقال الغلام: لا حاجة لي في هذا، بيّض الله وجهك وأعلى كعبَيك. فقال الحجّاج لجلسائه: أتعلمون ما أراد؟ قالوا: الأمير أعلم! قال: أمّا قوله: بيّض الله وجهك، فأراد بها الغمّة والبرص، وأعلى كعبَيك: أراد بها التعليق والصلب. ثمّ التفت إلى الغلام وقال: ما تقول فيما قلت؟ قال: لك الله من منافقٍ ما أفهمك.

فقال الحجّاج: يا حرسيّ، اضرب عنقه. قال رجلٌ من القوم يُقال له: الرقاشي: هَبْهُ لي، أصلح الله الأمير. قال: هو لك، لا بارك الله لك فيه. فقال الغلام: لا أدري أيّكما أحمق، الواهب أجلاً قد حضر أم المستوهب أجلاً لم يحضر. قال الرقاشي: استنقذتك من القتل، فكافيتني بهذا الكلام! فقال الغلام: هنيئاً لي الشهادة إن أدركَتني السعادة، يا عجباً من بلاد الفنك، وأرجع إلى أهلي صغراً بلا شيء، القتل أحبّ إليّ. قال الحجّاج: قد أمرنا لك بمئة ألف درهم، وقد عفونا عنك بحداثة سنّك وصفاء ذهنك، وإيّاك والجرأة على أرباب الأمر بعد هذه، فتقع بمن لا يعفو عنك، ولئن رأيتك في شيءٍ من عملي لَأضربنّ عنقك. فقال الغلام: العفو بيد الله لا بيدك، والشكر له لا لك، لا يجمع الله بيني وبينك أو يلقي السامريّ وموسى.

ص: 369

ثمّ خرج، وانتظره الخدّام على أثره، فقال لهم: دعوه، فما رأيتُأشجع منه قلباً ولا أفصح لساناً، فلا والله ما وجدت مثله، وعسى أن لا يجد مثلي ((1)).

وحُكي أنّ الحجّاج (لعنه الله) كان في الصيد، وابتعد عن العسكر فعطش، فصعد على تلٍّ فرأى أعرابيّاً قد جلس هناك، ويأخذ الدوابّ عن حرفته والجمال يرتعون حوله، فلمّا رأت الجمال الحجّاج فرّوا منه، فرفع الأعرابيّ رأسه يغيض، قال: مَن هذا الخارج من البادية مع الثياب المضيئة؟ فإنّ عليه لعنة الله. وسكت الحجّاج ولم يقل شيئاً، ثمّ قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال الأعرابيّ: لا سلام عليك ولا رحمة الله ولا بركاته. فقال الحجّاج: اسقني. فقال: انزل واشرب ساغراً ذليلاً واله، إنّي لستُ خادماً لأحد.

فنزل الحجّاج عن المركوب فشرب، ثمّ يركب فقال: يا أعرابيّ، مَن خير الخلق؟ قال: محمّدٌ رسول الله، برغم أنفك. فقال الحجّاج: ما تقول في حقّ عليّ بن أبي طالب. قال: لا يتحمّل القم اسمه من كرمه وعظمته، فإنّه أخ الرسول ووصيّه على عمى عينك.

ثمّ سأل الحجّاج: ما تقول في حقّ عبد الملك بن مروان؟ فسكت الأعرابيّ ولم يقل شيئاً، فقال الحجّاج: قل جوابي. فقال: بئس الرجل هو. فقال الحجّاج: لمَ؟ فقال: لأنّه برز منه خطأٌ قد ملأ المشرق والمغرب. فقال

ص: 370


1- معدن البكاء للمؤلف (مصورة): 337.

الحجّاج: ما هذا الخطأ؟ قال: فإنّه جعل هذا الفاسق الفاجر الحجّاج الظالم أميراً على المسلمين. فسكت الحجّاج ولم يقل شيئاً.

فإذا طار طيراً وصوّت صوتاً فتوجّه الأعرابيّ وجهه إلى الحجّاج فقال: يخبرني هذا الطير أنّه يصل عسكر أنت أميرهم. وكانافي هذا الكلام إذ وصل العسكر، وسلّموا على الحجّاج، فتغيّر وجه الأعرابيّ لمّا رأى ذلك، فأمر الحجّاج بمن يحفظ جماله، وأخذه معه إلى منزله في الغد، أمر الحجّاج بالمائدة وجمع الناس، ثمّ أمر بإحضار الأعرابيّ، فلمّا دخل قال: السلام علَيّ ورحمة الله وبركاته. فقال الحجّاج: لا أقول في الجواب كما قلت، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، أتأكل الطعام؟ فقال: إنّ الطعام لك، فإن أذنت لي فآكل. فقال: أنت مأذون.

فجلس الأعرابيّ ومدّ يده وقال: بسم الله، إن شاء الله أن يكون ما يتوجّه بعد الطعام خيراً. فضحك الحجّاج، فقال للحاضرين: أتعرفون ما وصل من هذا الرجل علَيّ في الأمس؟ فقال الأعرابيّ: أصلح الله الأمير، لا تُفشِ السرّ الّذي مضى بيني وبينك. فقال الحجّاج: اختر إمّا أن تقيم معي فأجعلك خاصّتي، أو أُرسلك إلى عبد الملك وأُخبره باقلته. فقال الأعرابيّ: إنّ هنا شقّاً ثالثاً. فقال: ما هو؟ قال: أن تخلّيني حتّى أذهب إلى بلادي مع سلامة، حتّى لا تريني ولا أراك. فضحك الحجّاج، فأمر له بألف دينارٍ

ص: 371

وأرسله إلى قبيلته ((1)).

وعن (فرحة الغريّ): روى هشام الكلبيّ، عن أبيه قال: أدركتُ بني أود وهم يعلّمون أبناءهم وحرمهم سبّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وفيهم رجلٌ من رهط عبد الله بن إدريس بن هاني، فدخل على الحجّاج بن يوسف يوماً فكلّمه بكلام، فأغلظه الحجّاج في الجواب، فقال له: لا تقل هذا أيّها الأمير، فلا لقريش ولا لثقيف منقبةٌيعتدّون بها إلّا ونحن نعتدّ مثلها. قال له: وما منّا قبلكم؟ قال: ما ينقص عثمان ولا يذكر بسوءٍ في نادينا قطّ. قال: هذه منقبة. قال: وما رأي بنا خارجيّ قطّ. قال: ومنقبة. قال: وما شهد منّا مع أبي تراب مشاهدة الأرجل واحدٌ فأسقطه ذلك عندنا وأخمله، فما له عندنا قدرٌ ولا قيمة. قال: ومنقبة. قال: وما أراد منّا رجلٌ قطّ أن يتزوّج امرأةً إلّا سأل عنها: هل تحبّ أبا تراب فتذكره بخير؟ فإن قيل: إنّها تفعل ذلك، اجتنبها فلم يتزوّجها. قال: ومنقبة. قال: وما وُلد فينا ذكرٌ فسُمّي عليّاً ولا حسناً ولا حسيناً، ولا ولدت فينا جاريةٌ فسُميّت فاطمة. قال: ومنقبة. قال: ونذرت امرأةٌ منّا حين أقبل الحسين إلى العراق أن قتله الله أن تنحر عشر جزر، فلمّا أقبل وفت بنذرها. قال: ودعا رجلٌ منّا إلى البراءة من عليّ ولعنه فقال: نعم، وأزيدكم حسناً وحسيناً. قال: ومنقبة. قال: وما بالكوفة ملّاحة إلّا ملاحة بني أود. فضحك الحجّاج.

ص: 372


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 339.

قال هشام الكلبيّ: قال لي أبي: فسلبهم الله ملاحتهم. إلى آخر الحكاية ((1)).

[حكاية محمّد بن يوسف أخو الحجّاج]

وعن وهب بن منيّة قال: كان محمّد بن يوسف أخو الحجّاج بن يوسف من أشدّ الناس بغضاً لأمير المؤمنين وأعظمهم وقيعةً فيه، وكان أميراً على اليمن من قِبل عبد الملك بن مروان، وكان لا يرني منبراً خطيباً على عهده ولا يبتدئ أحدٌ في مجلسه كلاماً إلّا جعل مفتاح قوله سبّ عليّ علیه السلام.قال وهب: رسوله قد طرق بابي ليلاً، فقال: أجب الأمير. فقلت: لماذا دعاني؟ فقال: لا أعلم. فأوجست منه خيفة، قلت: فلمَ يدعوني في الليل إلّا لبلاء! فقلت: أمهِلني حتّى أُوصي أهلي. قال: لا سبيل إلى ذلك. فانطلقت معه، حتّى دخلت على محمّد بن يوسف، فإذا هو جالسٌ في فرشه، قال لمّا رآني: ما لَك يا وهب؟ لمَ لا تدخل علينا؟ فاعتذرت إليه بالكبر والضعف، قال: إنّك قد علمتَ ما صنع أبو تراب بالخلفاء الثلاثة، قتل عثمان بن عفّان، وفعل يوم البصرة مع أُمّ المؤمنين ومع أهل الشام بصفّين، فأنا آمرك أن تقوم به في الناس إذا امتلأت بهم في داري في كلّ

ص: 373


1- معدن البكاء للمؤلّف (مصوّرة): 329، فرحة الغري: 22، بحار الأنوار للمجلسي: 46 / 119.

يومٍ مقاماً، يهدى إليك مثلك ومن العلماء وذوي الرأي من الوقيعة فيه بسيّء القول ومنكره، وربّما تشحذ به نيّات الناس في منقصته وبغضه، وتبعتهم على سبّه والبراءة منه ولفته، حتّى أُعطيتك جميع ما تريد من العطايا والصلة، وأن تكون مع ذلك أوّل داخلٍ علَيّ وآخر خارجٍ من داري. فقلت: أيّها الأمير، ما لا أفعل ذلك أبداً، لأنّ الرسول صلی الله علیه وآله قال: وقولوا في موتاكم خيراً، ونهى عن سبّ الأموات، وأمر بحبّ عليّ علیه السلام ، فقال: «مَن أحبّ عليّاً علیه السلام أحبّه الله، ومن أبغض عليّاً أبغضه الله، ومن سبّ عليّاً سبّه الله، ومن أهانه أهانه الله يوم القيامة وعذّبه عذاباً أليماً». فلمّا سمع ذلك منّي غضب واحمرّ عيناه، وقال: أظنّك ترابيّاً. قلت: أجل، من التراب خُلقتُ وإلى التراب أعود. قال: ودع ذلك، والله لم تفعل ما أمرتك به في غدٍ على رغم أنفك. قلت: لا أفعل ذلك وإن قطّعني إرباً إرباً. ثمّ حبسني عنده، فلمّا أصبحني أقبل على الحرسة وقال: أخبروا عليه الناس. فانطلق الحرسة، وجاؤوا بالناس والملأ امتلأت داره، قال: دونكم والخبيث.قال: فوقفت أمامه، ودعا بالسيّاط، وأمرني بما كان قد أمرني به، فأجبت بمثل ما كنتُ أُجبته، قال: اضرباه، فضرباني حتّى أعيوا، وقد أُغميَ علَيّ، وحُملت إلى الحبس والدم يتفجّر من الضرب، وأمر بكبشٍ فذُبح، وألفي علَيّ إهانةً يريد سبقني بذلك، فلمّا كان من الغد دعاني بملأ من الناس وقال: أيّها المشرك، تدارك نفسك وابرأ من أبي تراب. فأجبته بالقول الأوّل، فصنع ما صنع بالأمس، ثمّ دعاني في اليوم الثالث، فجائني رجلان

ص: 374

فأقاماني، فلم أستطع قياماً، فأخذوا بعضدي واسكاني، ودعا بالسوط وأمرني بالبراءة من عليّ

علیه السلام وولده علیهم السلام، وقال: لا عطر بعد عروس، هذا اليوم الثالث، فإن برأت من أبي تراب وإلّا داويناك بالسيف غذا. فرضيت بالموت، وقلت: أيّها الأمير، تأمرني بسبّ مَن قال فيه رسول الله صلی الله علیه وآله: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»! فقام وقعد، فقال: كذبت وكذب مَن حدّثك هذا، اضربوهه بالسياط قبل السيف، لأنّ في السيف راحة. فضُربت حتّى أُغمي علَيّ، وحُملت وأنا لا أشعر إلى حبسه على أن يقتلني في غدٍ بالسيف، فقضيت، فرأيت في المنام أمير المؤمنين علیه السلام ومعه الحسن والحسين علیهما السلام، فأردت أن أشكو إليهم ما من الضرب والبلاء، فلم أقدر من الضعف، فبكيت إليه، فقال: لا بأس عليك ولا ضرر بعدها. ثمّ دنى منّي ومسح يده علَيّ من فرقي إلى قدمي، وقال علیه السلام: يهلك عدوّ الله عن قريب، ويجزيه الله حيّاً وميّتاً.

قال: فاستيقظت وأنا لم أحسّ شيئاً، كأنّني لم ألق رمداً قطّ، ولم أشعر إلّا ماء، وقد هجم الشرط في الحبس وجاؤوني يحملوني إلى محمّد بن يوسف (لعنه الله)، فقلت: إليكم عنّي. وقمت معهم أمشيعلى قدميّ، فجعلوا يتعجّبون منّي، فدخلت عليه وإذا به داء الخناق، ويتناول الجدار برأسه فيغمى عليه، ثمّ يفيق وهو يقول: يا أمير المؤمنين، ما لي ولك! وعلى صوته، فلمّا نظرني أعرض عنّي، وقال: اطلقا عنه ويحكما، ليمضي حيث يشاء. فانطلقاني، فقد أمرني أمير المؤمنين.

ص: 375

قال: فما لبث غير ثلاثو وهلك، فلمّا جهّزوه وحفروا قبره وأقبلوا به ليدفنوه، أبصروا في قبره ثعباناً أسود، حتّى امتدّ في وسط القبر بطوله، فأرادوا قتله أو طرده فلم يستطيعوا ذلك، فتركوه، وحفروا قبراً آخر، فأبصروا فيه الثعبان كما كان في القبر الأوّل، فحفروا ستّة قبور، وكان الحال في ذلك واحداً، فدفنوه في القبر السادس وهم فزعون أن ينزل القبر منهم أحد، فرأوا الثعبان قد التقمه ودخل في أكفانه، فهالوا عليه التراب وانصرفوا ((1)).

[مدّة مُلك بني أُميّة]

وفي (المنتخب): أنّه كانت الدولة لبني أُميّة ألف شهر، وكانوا لا يزالون يأمرون الخطباء بسبّ عليّ بن أبي طالب على رؤوس المنابر، (حتّى أنّ خطيباً من خطبائهم بمصر لنسي اللعنة في الخطبة، فلمّا ذكرها قضاها في الطريق، فبُني في ذلك الموضع مسجدٌ وسمّوه مسجد الذكر، ويتبرّكون به) ((2)).

فأوّل مَن تأمّر منهم معاوية (عليه اللعنة)، ومدّة خلافته عشرونسنة، ثمّ تخلّف من بعده ولده يزيد (عليه اللعنة) ثلاثة سنين وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً، ثمّ تخلّف من بعده معاوية بن يزيد شهراً واحداً وأحد عشر يوماً،

ص: 376


1- المناقب للعلوي: 133.
2- التعجّب من أغلاط العامة: 118، الغارات: 2 / 843، فرحة الغري: 25.

وترك الخلافة خوفاً من عذاب الله، واعترف بظلم آبائه وعرّف الناس ذلك وهو قائمٌ على المنبر، حتّى أنّ أُمّه لامته على ذلك، فقالت له: ليتك كنت حيضةً ولم تكن بشراً، أتعزل نفسك عن منصب آبائك؟! فقال لها: يا أُمّاه، وأنا والله وددتُ أن أكون حيضة، ولا أطأ موطئاً لست له بأهل، ولا ألقى الله عزوجل بظلم آل محمّد.

ثمّ تخلّف من بعده عبد الملك بن مروان (عليه اللعنة) إحدى وعشرين سنة وشهراً، ثمّ تخلّف من بعده الوليد بن عبد الملك بن مروان (عليه اللعنة) إحدى وعشرين سنة وشهراً، ثمّ تخلّف من بعده الوليد بن عبد الملك تسع سنين وثمانية أشهر ويوماً واحداً، ثمّ تخلّف من بعده أخوه هشام ابن عبد الملك تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيّام، ثمّ تخلّف مروان الحمار خمس سنين وشهراً وثلاثة عشر يوماً، فملك بنو أُميّة ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، يكون المجموع ألف شهر، وهم مع ذلك يسبّون عليّاً علیه السلام. ثمّ تخلّف عمر بن عبد العزيز، وأبطل السبّ عن عليّ ((1)).

[حكاية قتل ستّين علويّاً]

وفي (العيون) مسنداً عن عبد الله البزّاز النيسابوريّ، وكان مسنّاً، قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطاليّ الطوسيّ معاملة،فرحلت إليه في

ص: 377


1- المنتخب للطريحي: 2 / 389 المجلس 8 الباب 1.

بعض الأيّام، فبلغه خبر قدومي، فاستحضرني للوقت وعلَيّ ثياب السفر لم أُغيّرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلمّا دخلت عليه رأيته في بيتٍ يجري فيه الماء، فسلّمت عليه وجلست، فأُتي بطستٍ وإبريقٍ وغسل يديه، ثمّ أمرني فغسلت يدي، فأُحضرَت المائدة، وذهب عنّي أنّي صايم وأنّي في شهر رمضان، ثمّ ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: ما لَك لا تأكل؟ فقلت: أيّها الأمير، هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا علّة توجب الإفطار، ولعلّ الأمير عذر في ذلك أو علّة توجب الإفطار. فقال: ما علّة توجب الإفطار، وإنّي لَصحيح البدن.

ثمّ دمعَت عيناه وبكة، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيّها الأمير؟ فقال: أنفذ إليّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض اللّيل أن أجب أمير المؤمنين، فلمّا دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة توقد وسيفاً أخضر مسلولاً، وبين يديه خادمٌ واقف، فلمّا قمت بين يديه رافع راسه فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال. فأطرق، ثمّ أذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتّى عاد الرسول إليّ وقال: أجب أمير المؤمنين. فقلت في نفسي: إنّا لله، أخاف على نفسي أن يكون قد عزم على قتلي، وإنّه لمّا رآني استحيى منّي. فعدت إلى بمن يديه، فرفع رأسه إليّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد. فتبسّم ضاحكاً، ثمّ أذن لي في الانصراف، فلمّا دخلت لم ألبث أن عاد إليّ الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين. فحضرت بين يديه وهو على حاله، فرفع

ص: 378

رأسه إليّ فقال لي: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين. فضحك، ثمّ قال: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك هذا الخادم. فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء إلى بيتٍ بابه مغلق ففتحه، فإذا فيه بئرٌ في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيتٍ منها، فإذا فيهم عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب، شيوخ وكهول وشبّان مقيّدون، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء. وكانوا كلّهم علويّة من وُلد عليّ وفاطمة، فجعل يُخرج إليّ واحداً بعد واحدٍ فأضرب عنقه، حتّى أتيت على آخرهم، ثمّ رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر، ثمّ فتح باب بيتٍ آخَر فإذا فيه عشرون نفساً من العلويّة من وُلد عليّ وفاطمة مقيّدون، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء. فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمي به في تلك البئر، حتّى أتيت على آخرهم، ثمّ فتح باب البيت الثالث، فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد عليّ وفاطمة مقيّدون، عليهم الشعور والذوائب، فقال: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضاً. فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه، فيرمى به في تلك البئر، حتّى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم، وبقي شيخٌ منهم عليه شعر، فقال: تبّاً لك يا ميشوم، أيّ عذرٍ لك يوم القيامة إذا قدمت على جدّنا رسول الله صلی الله علیه وآله وقد قتلت من أولاده ستّين نفساً قد ولدهم عليّ وفاطمة علیهما السلام فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر إليّ الخادم مغضباً وهدّدني، فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته، ورمى به

ص: 379

في تلك البئر، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستّين نفساً من وُلدرسول الله، فما ينفعني صومي ولا صلاتي، وأنا لأشكّ أنّي مخلّدٌ في النار ((1)).

[في بعض أحوال المتوكّل العبّاسي (لعنه الله)]

رُوي أنّ المتوكّل من خلفاء بني العبّاس كان تحت ملكه (بسُرّ مَن رأى)، فاستدعى الإمام عليّ الهادي إلى مجلسه، وأعرض عليه جميع عساكره وحجّابه ونوّابه وأرباب دولته؛ ليرهبه بهم، وأمر كلّ فارسٍ مِن جنده أن يملأ مخلاة فرسه تراباً ويطرحه في مكانٍ واحد، فصار كالجبل العظيم، وسمّاه: (تلّ المخالي)، وهو حتّى الآن موجودٌ بسرّ من رأى.

قال: ثمّ إنّ المتوكّل أخذ بيد الإمام عليّ الهادي علیه السلام وصعد معه إلى الجبل، وقال له: ما أصعدتُك معي إلى هنا إلّا لترى خيولي وعسكري وقومي وجندي. وكان قد ألبس عسكره الدروع المجلية واعتلوا بالرماح الخطّيّة وتقلّدوا بالسيوف الهنديّة، وأمرهم أن يعرضوا على الإمام الهادي بأحسن زينةٍ وأتمّ عدّةٍ وأعظم هيبة، وهو مع ذلك جالسٌ مع الإمام علیه السلام ، فقال له الإمام علیه السلام: «يا خليفة الزمان، أتحبّ أن أعرض عليك عسكري كما عرضتَ علَيّ عسكرك؟»، فقال المتوكّل: ومِن أين لك عسكرٌ مثل عسكري؟! فإن كان لك عسكرٌ فأرينه! فقال له: «انظر يميناً»، فنظر، فرأى الملائكة بعدد

ص: 380


1- عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 1 / 109 الباب 9 ح 1.

الرمل والنمل، وهم محيطون بالدنيا بصور مختلفة، وبأيديهمحِرابٌ من نار، لا يحصي عددهم إلّا الله (تعالى)، فغشي الخليفة من شدّة رعبٍ دخله منهم، فلمّا أفاق من غشيته قال له الإمام: «يا خليفة الزمان، إنّا نحن لا نشاجركم على زينة الدنيا وزخارفها، وإنّا نحن مشغولون عنكم بأُمور الآخرة» ((1)).

وقد هلك هذا اللعين وفي جهنّم سلك بدعاء، كما روى السيّد ابن طاووس وغيره: كان المتوكّل يحظي الفتح بن خاقان عنده، وقرّبه منه دون الناس جميعاً ودون ولده وأهله، أراد أن يبيّن موضعه عندهم، فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم والوزراء والأُمراء والقوّاد وسائر العساكر ووجوه الناس أن يزيّنوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عددهم وذخائرهم، ويخرجوا مشاة بين يديه، وأن لا يركب أحدٌ إلّا هو والفتح بن خاقان خاصّة بسُرّ مَن رأى، ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رجالة، وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ، وأخرجوا في جملتها الأشراف أبا الحسن عليّ بن محمّد؟ع؟، وشقّ عليه ما لقيه من الحرّ والزحمة.

قال زرافة: فأقبلتُ إليه وقلت له: يا سيّدي، يعزّ واللهِ علَيّ ما تلقى من هذه الطغاة، وما قد تكلّفته من المشقّة. وأخذتُ بيده، فتوكّأ علَيّ وقال: «يا زرافة، ما ناقة صالح عند الله بأكرم منّي»، أو قال: «بأعظم قدراً منّي»، أو قال: «في هذا العالم مِن قُلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود، لمّا عُقرت الناقة صاح

ص: 381


1- المنتخب للطريحي: 2 / 241 المجلس 1 الباب 3.

الفصيل الى الله (تعالى)».

فلمّا انصرفتُ إلى داري، ولولدي مؤدّبٌ يتشيّع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك،وتجارينا الحديث وما جرى من ركوب المتوكّل والفتح ومشي الأشراف وذوي الاقتدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدتُه من أبي الحسن عليّ بن محمّد علیه السلام وما سمعتُه عن قوله: «ما ناقة صالح عندي بأعظم قدراً منّي»، وكان المؤدّب يأكل معي، فرفع يده وقال: باللهِ إنّك سمعتَ هذا اللفظ منه؟! فقلت له: واللهِ سمعتُه يقول. فقال لي: اعلم أنّ المتوكّل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيّام ويهلك، فانظر في أمرك، وأحرز ما تريد إحرازه، وتأهّب لأمرك كي لا يفجأكم هلاك هذا الرجل، فتهلك أموالكم بحادثةٍ تحدث أو سببٍ يجري. فقلت له: مِن أين لك؟! فقال: أما قرأتَ القرآن في قصّة صالح علیه السلام والناقة، وقوله (تعالى): «تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» ((1))؟ ولا يجوز أن يبطل قول الإمام.

قال زرافة: فوَاللهِ ما جاء اليوم الثالث حتّى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكّل، فقتلوه وقطّعوه والفتح بن الخاقان جميعاً قطعاً، حتّى لم يُعرَف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته، فلقيت

ص: 382


1- سورة هود: 65.

الإمام أبا الحسن علیه السلام بعد ذلك وعرّفتُه ما جرى مع المؤدّب وما قاله، فقال: «صدق» ((1)).

روى الشيخ الطوسي عن أبي الفضل: إنّ المنتصر سمع أباهيشتم فاطمة علیها السلام، فسأل رجلاً من الناس عن ذلك، فقال له: قد وجب عليه القتل، إلّا أنه مَن قتل أباه لم يطل له عمر. قال: ما أُبالي إذا أطعتُ الله بقتله أن لا يطول لي عمر. فقتله، وعاش بعده سبعة أشهر ((2)).

وفي (المنتخب): إنّ المتوكّل قتل يعقوب بن السكّيت -- الأديب --، وسبب قتله أنّه كان مُعلّماً للمُعين والمؤيّد ابنَي المتوكّل، إذ أقبل فقال له: يا يعقوب، أهُما أحبّ إليك أم الحسن والحسين؟ فقال: واللهِ إنّ قنبراً غلام عليٍّ خيرٌ منهما ومن أبيهما. فقال المتوكّل: سلّوا لسانه من قفاه. فسلّوه، فمات رحمه الله علیه.

ومثله دعبل الخُزاعي.

وانتهت بالمُتوكّل العداوة لأهل البيت علیهم السلام, إلى أن أمر بهجو عليّ وفاطمة وأولادها علیهم السلام, فهجاهم ابن المُعتزّ وابن الجهم وابن سكرة وآل أبي حفصة ونحوهم (لعنهم الله جميعاً).

ص: 383


1- مهج الدعوات لابن طاووس: 266، الهداية الكبرى للخصيبي: 321، عيون المعجزات للطبري: 133.
2- الأمالي للطوسي: 328، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 478.

وصار من أمر المتوكّل إلى أن أمر بهدم البناء على قبر الحسين علیه السلام, وإحراق مقابر قريش، وفي ذلك أنشد حيث قال:

قام الخليفة من بني العبّاسِ***بخلاف أمر إلهه في الناسِ

ضاها بهتك حريم آل محمّدٍ***سفهاً فعال أُميّة الأرجاسِ

واللهِ ما فعلت أُميّة فيهم***معشار ما فعلوا بنو العبّاسِ

ما قتلهم عندي بأعظم مأتماً***من حرقهم من بعد في الأرماسِ ((1))

وفي (أمالي) الشيخ الطوسي مسنداً عن القاسم بن أحمد بنمعمّر الأسديّ الكوفي، وكان له علمٌ بالسيرة وأيّام الناس، قال: بلغ المتوكّلَ جعفر ابن المعتصم أنّ أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين علیه السلام ، فيصير إلى قبره منهم خلقٌ كثير، فأنفذ قائداً من قوّاده وضمّ إليه كتفاً من الجند كثيراً؛ ليشعب قبر الحسين علیه السلام ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره.

فخرج القائد إلى الطفّ، وعمل بما أُمر، وذلك في سنة سبعٍ وثلاثين ومئتين، فثار أهل السواد به، واجتمعوا عليه وقالوا: لو قُتِلنا عن آخِرنا لما أمسك مَن بقي منّا عن زيارته. ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة، فورد كتاب المتوكّل إلى القائد بالكفّ عنهم والمسير إلى الكوفة، مُظهِراً أنّ مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى

ص: 384


1- المنتخب للطريحي: 1 / 9 المجلس 1 الباب 1.

المصر.

فمضى الأمر على ذلك حتّى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكّل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين علیه السلام ، وأنّه قد كثر جمعهم كذلك، وصار لهم سوقٌ كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثيرٍ من الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمّة ممّن زار قبر الحسين، ونبش القبر وحرث أرضه، وانقطع الناس عن الزيارة، وعمل على تتبّع آل أبي طالب علیهم السلام والشيعة رضی الله عنهم، فقُتل ولم يتمّ له ما قدّر.

ورُوي أيضاً عن عبد الله بن دانية الطوري قال: حججتُ سنة سبعٍ وأربعين ومئتين، فلمّا صدرت من الحجّ صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام على حال خيفةٍ من السلطان، وزرته، ثمّ توجّهت إلى زيارة الحسين علیه السلام ، فإذا هو قد حُرثَت أرضه ومخر فيها الماء، وأرسلت الثيران العواملفي الأرض، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم، حتّى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً، فتُضرَب بالعصيّ الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها، ولا تطأ القبر بوجهٍ ولا سبب، فما أمكنني الزيارة، فتوجّهتُ إلى بغداد وأنا أقول في ذلك:

تاللهِ إن كانت أُميّةُ قد أتت***قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقدأتاك بنو أبيه بمثلها***هذا لَعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا***في قتله، فتتبّعوه رميما

ص: 385

فلمّا قدمت بغداد سمعت الهائعة، فقلت: ما الخبر؟ قالوا: سقط الطائر بقتل جعفر المتوكّل. فعجّبتُ لذلك، وقلت: إلهي، ليلةً بليلة! ((1))

وعن محمّد بن جعفر بن محمّد بن فرج الرخجي قال: حدّثني أبي، عن عمّه عمر بن فرج قال: أنفذني المتوكّل في تخريب قبر الحسين علیه السلام ، فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فمُرّ بها على القبور، فمرّت عليها كلّها، فلمّا بلغت قبر الحسين علیه السلام لم تمرّ عليه.

قال عمّي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي، فما زلت أضربها حتّى تكسّرت العصا في يدي، فوَاللهِ ما جازت على قبره ولا تخطّته.

قال لنا محمّد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الانحراف عن آل محمّد صلی الله علیه وآله، فأنا أبرأ إلى الله منه، وكان جدّي أخوه محمّد بن فرج شديد المودّة لهم، فأنا أتولّاه لذلك ((2)).وفي (أمالي) الطوسي: عن إبراهيم الديزج قال: بعثني المتوكّل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين علیه السلام ، وكتب معي إلى جعفر بن محمّد بن عمّار القاضي: أُعلمك أنّي قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين، فإذا قرأتَ كتابي فقف على الأمر حتّى تعرف فعَل أو لم يفعل.

قال الديزج: فعرفني جعفر بن محمّد بن عمّار ما كتب به إليه، ففعلتُ

ص: 386


1- الأمالي للطوسي: 328 المجلس 11 ح 656 و657.
2- الأمالي للطوسي: 325 المجلس 11 ح 652.

ما أمرني به جعفر بن محمّد بن عمّار، ثمّ أتيته، فقال لي: ما صنعت؟ فقلت: قد فعلت ما أمرت به، فلم أرَ شيئاً ولم أجد شيئاً. فقال لي: أفلا عمقته؟ قلت: قد فعلت، وما رأيت. فكتب إلى السلطان: إنّ إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً، وأمرتُه فمخره بالماء وكربه بالبقر.

قال أبو علي العماري: فحدّثني إبراهيم الديزج، وسألتُه عن صورة الأمر، فقال لي: أتيت في خاصّة غلماني فقط، وإنّي نبشت فوجدت باريةً جديدةً وعليها بدن الحسين بن عليّ، ووجدت منه رائحة المسك، فتركت البارية على حالتها، وبدن الحسين على البارية، وأمرت بطرح التراب عليه، وأطلقت عليه الماء، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه، فلم تطأه البقر، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعَت عنه، فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلّظة لئن ذكر أحدٌ هذا لَأقتلنّه ((1)).

وفيه أيضاً مسنداً عن أبي عبد الله الباقطاني قال: ضمّني عبيدالله بن يحيى بن خاقان إلى هارون المعري، وكان قائداً من قوّاد السلطان، أكتب له، وكان بدنه كلّه أبيض شديد البياض، حتّى يديه ورجليه كانا كذلك، وكان وجهه أسود شديد السواد كأنّه القير، وكان يتفقّأ مع ذلك مدّةً منتنة.

قال: فلمّا آنس بي سألتُه عن سواد وجهه، فأبى أن يخبرني، ثمّ إنّه

ص: 387


1- الأمالي للطوسي: 326 المجلس 11 ح 653.

مرض مرضه الّذي مات فيه، فقعدت فسألته، فرأيته كأنّه يحبّ أن يكتم عليه، فضمنت له الكتمان، فحدّثني، قال: وجّهَني المتوكّل أنا والديزج لنبش قبر الحسين علیه السلام وإجراء الماء عليه، فلمّا عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله صلی الله علیه وآله في المنام، فقال: «لا تخرج مع الديزج، ولا تفعل ما أُمرتم به في قبر الحسين». فلمّا أصبحنا جاؤوا يستحثّونني في المسير، فسرت معهم حتّى وافينا كربلاء، وفعلنا ما أمرنا به المتوكّل، فرأيت النبيّ صلی الله علیه وآله في المنام، فقال: «ألم آمرك ألّا تخرج معهم ولا تفعل فعلهم؟ فلم تقبل حتّى فعلتَ ما فعلوا!»، ثمّ لطمني وتفل في وجهي، فصار وجهي مسودّاً كما ترى، وجسمي على حالته الأُولى ((1)).

وفيه أيضاً مسنداً عن أبي برزة الفضل بن محمّد بن عبد الحميد قال: دخلت على إبراهيم الديزج -- وكنت جاره -- أعوده في مرضه الّذي مات فيه، فوجدتُه بحال سوء، وإذا هو كالمدهوش وعنده الطبيب، فسألته عن حاله، وكانت بيني وبينه خلطة وأُنس يوجب الثقة بي والانبساط إليّ، فكاتمني حاله، وأشار لي إلى الطبيب،فشعر الطبيب بإشارته، ولم يعرف مِن حاله ما يصف له من الدواء ما يستعمله، فقام فخرج، وخلا الموضع، فسألتُه عن حاله، فقال: أُخبرك واللهِ -- وأستغفر الله -- أنّ المتوكّل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين علیه السلام ، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر، فوافيت

ص: 388


1- الأمالي للطوسي: 326 المجلس 11 ح 654.

الناحية مساءً، معنا الفعلة والروزكاريّون معهم المساحي والمرور، فتقدّمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه، فطرحت نفسي لِما نالني من تعب السفر ونمت، فذهب بي النوم، فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية، وجعل الغلمان ينبّهونني، فقمت وأنا ذَعِر، فقلت للغلمان: ما شأنكم؟! قالوا: أعجب شأن! قلت: وما ذاك؟ قالوا: إنّ بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر، وهم يرموننا مع ذلك بالنشّاب. فقمت معهم لأتبيّن الأمر، فوجدتُه كما وصفوا، وكان ذلك في أوّل الليل من ليالي البيض، فقلت: ارموهم. فرموا، فعادت سهامنا إلينا، فما سقط سهمٌ منها إلّا في صاحبه الّذي رمى به فقتله، فاستوحشت لذلك وجزعت، وأخذَتني الحمّى والقشعريرة، ورحلت عن القبر لوقتي، ووطّنت نفسي على أن يقتلني المتوكّل، لما لم أبلغ في القبر جميع ما تقدّم إليّ به.

قال أبو برزة: فقلت له: قد كفيت ما تحذر من المتوكّل، قد قُتل بارحة الأُولى، وأعان عليه في قتله المنتصر. فقال لي: قد سمعت بذلك، وقد نالني في جسمي ما لا أرجو معه البقاء. قال أبو برزة: كان هذا في أوّل النهار، فما أمسى الديزج حتّى مات ((1)).وفي بعض الكتب أنّ الحراث حرث سبع عشرة مرّة، والقبر يرجع على حاله، فلما نظر الحراث إلى ذلك آمن بالله، وحلّ القبر، فأخبر المتوكّل فأمر

ص: 389


1- الأمالي للطوسي: 327 المجلس 11 ح 655.

بقتله ((1)).

وفي (المنتخب): ورُوي أنّ المتوكّل من خلفاء بني العبّاس، كان كثير العداوة شديد البغض لأهل بيت الرسول، وهو الّذي أمر الحارثين بحرث قبر الحسين علیه السلام ، وأن يجروا عليه الماء من نهر العلقمي، بحيث لا يبقى له أثرٌ ولا أحد يقف له على خبر، وتوعّد الناس بالقتل لِمَن زار قبره، وجعل رصداً من أجناده، وأوصاهم: كلّ مَن وجدتموه يريد زيارة الحسين فاقتلوه. يريد بذلك إطفاء نور الله وإخفاء آثار ذرّيّة رسول الله.

فبلغ الخبر إلى رجلٍ من أهل الخير يُقال له: زيد المجنون، ولكنّه ذو عقلٍ شديدٍ ورأي رشيد، وإنّما لُقّب بالمجنون لأنّه أفحم كلّ لبيب، وقطع حجّة كلّ أديب، وكان لا يعبأ من الجواب ولا يملّ من الخطاب، فسمع بخراب قبر الحسين وحرث مكانه، فعظم ذلك عليه واشتدّ حزنه وتجدّد مصابه بسيّده الحسين علیه السلام ، وكان يومئذٍ بمصر، فلمّا غلب عليه الوجد والغرام لحرث قبر الإمام علیه السلام ، خرج من مصر ماشياً هائماً على وجهه شاكياً وجده إلى ربّه، وبقي حزيناً كئيباً حتّى بلغ الكوفة.

وكان البهلول يومئذٍ بالكوفة، فلقيه زيد المجنون وسلّم عليه، فردّ عليه السلام، فقال له البهلول: مِن أين لك معرفتي ولم ترني قطّ؟فقال زيد: يا

ص: 390


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 61 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 401.

هذا، اعلم أنّ قلوب المؤمنين جنودٌ مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

فقال له البهلول: يا زيد، ما الّذي أخرجك من بلادك بغير دابّةٍ ولا مركب؟! فقال: والله ما خرجت إلّا من شدّة وجدي وحزني، وقد بلغني أنّ هذا اللعين أمر بحرث قبر الحسين علیه السلام وخراب بنيانه وقتل زوّاره، فهذا الّذي أخرجني من موطني ونغّص عيشي، وأجرى دموعي وأقلّ هجوعي. فقال البهلول: وأنا والله كذلك. فقال له: قم بنا نمضي إلى كربلاء؛ لنشاهد قبور أولاد عليٍّ المُرتضى.

قال: فأخذ كلٌّ بيد صاحبه حتّى وصلا إلى قبر الحسين، وإذا هو على حاله لم يتغيّر، وقد هدموا بنيانه، وكلّما أجروا عليه الماء غار وحار واستدار بقدرة العزيز الجبّار، ولم يصل قطرة واحدة إلى قبر الحسين علیه السلام ، وكان القبر الشريف إذا جاءه الماء ترتفع أرضه بإذن الله (تعالى)، فتعجّب زيد المجنون ممّا شاهده، وقال: انظر يا بهلول، «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» ((1)).

قال: ولم يزل المتوكّل يأمر بحرث قبر الحسين مدّة عشرين سنة، والقبر على حاله لم يتغيّر ولا تعلوه قطرةٌ من الماء، فلمّا نظر الحارث إلى ذلك قال:

ص: 391


1- سورة التوبة: 32.

آمنتُ بالله، وبمُحمّدٍ رسول الله، واللهِ لَأهربنّ على وجهي وأهيمُفي البراري، ولا أحرث قبر الحسين ابن بنت رسول الله، وإنّ لي مدّة عشرين سنةً أنظر آيات الله وأُشاهد براهين آل بيت رسول الله، ولا أتّعظ ولا أعتبر!

ثمّ إنّه حل الثيران وطرح الفدان، وأقبل يمشي نحو زيد المجنون، وقال له: مِن أين أقبلت يا شيخ؟ قال: من مصر. فقال له: ولأيّ شيءٍ جئت إلى هنا؟ وإنّي أخشى عليك من القتل. فبكى زيدٌ وقال: والله قد بلغني حرث قبر الحسين علیه السلام ، فأحزنني ذلك وهيّج حزني ووجدي. فانكبّ الحارث على أقدام زيد يقبّلهما، وهو يقول: فداك أبي وأُمّي! فواللهِ يا شيخ مِن حين ما أقبلتَ إليّ أقبلَت إليّ الرحمة واستنار قلبي بنور الله، وإنّي آمنتُ بالله ورسوله، وإنّ لي مدّة عشرين سنةً وأنا أحرث هذه الأرض، وكلّما أجريت الماء إلى قبر الحسين غار وحار واستدار ولم تصل إلى قبر الحسين منه قطرة، وكأنّي كنت في سُكر وأفقت الآن ببركة قدومك إليّ.

فبكى زيد، وتمثّل بهذه الأبيات:

تاللهِ إن كانت أُميّة قد أتت***قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله***هذا لَعمرك قبره مهدوما

أسِفوا على أن لا يكونوا شاركوا***في قتله، فتتبّعوه رميما

فبكى الحارث وقال: يا زيد، قد أيقظتَني من رقدتي، وأرشدتني من غفلتي، وها أنا الآن ماضٍ إلى المتوكّل بسُرّ مَن رأى أُعرّفه بصورة الحال، إن

ص: 392

شاء أن يقتلني وإن شاء يتركني. فقال له زيد: وأنا أيضاً أسير معك إليه، وأُساعدك على ذلك.قال: فلمّا دخل الحارث إلى المتوكّل وأخبره بما شاهد من برهان قبر الحسين علیه السلام ، استشاط غيظاً وازداد بغضاً لأهل بيت رسول الله، وأمر بقتل الحارث، وأمر أن يُشدّ حبلٌ في رجليه ويُسحَب على وجهه في الأسواق، ثمّ يُصلب في مجتمع الناس؛ ليكون عبرةً لِمَن اعتبر، ولا يبقى أحدٌ يذكر أهل البيت بخيرٍ أبداً.

أمّا زيد المجنون، فإنّه ازداد حزنه واشتدّ عزاؤه وطال بكاؤه، وصبر حتّى أنزلوه من الصلب وألقوه على مزبلةٍ هناك، فجاء إليه زيد، فاحتمله إلى دجلة، وغسّله وكفّنه وصلّى عليه ودفنه، وبقيَ ثلاثة أيّامٍ لا يفارق قبره، وهو يتلو كتاب الله عنده.

فبينما هو ذات يومٍ جالس، إذ سمع صراخاً عالياً ونوحاً شجيّاً وبكاءً عظيماً، ونساءً بكثرةٍ منشرات الشعور مشقّقات الجيوب مسودات الوجوه، ورجالاً بكثرةٍ يندبون بالويل والثبور، والناس كافّةً في اضطرابٍ شديد، وإذا بجنازةٍ محمولةٍ على أعناق الرجال، وقد نُشرت لها الأعلام والرايات، والناس من حولها أفواجاً قد انسدّت الطرق من الرجال والنساء. قال زيد: فظننت أنّ المتوكّل قد مات، فتقدّمت إلى رجلٍ منهم وقلت له: مَن يكون هذا الميّت؟ فقال: هذه جنازة جارية المتوكّل، وهي جاريةٌ سوداء حبشيّة، وكان اسمها ريحانة، وكان يحبّها حبّاً شديداً. ثمّ إنّهم عملوا لها شأناً عظيماً،

ص: 393

ودفنوها في قبرٍ جديد، وفرشوا فيه الورد والرياحين والمسك والعنبر، وبنوا عليها قبّةً عالية، فلمّا نظر زيد إلى ذلك، إزدادت أشجانه وتصاعدت نيرانه، وجعل يلطم وجهه ويمزّق أطماره، وحثى التراب على رأسه وهو يقول: وا ويلاه، وا أسفاه عليك يا حسين! أتُقتَل بالطفّ غريباً وحيداً ظمآناً شهيداً، وتُسبى نساؤك وبناتك وعيالك، وتُذبح أطفالك، ولم يبكِ عليك أحدٌ من الناس، وتُدفن بغيرغسلٍ ولا كفن، ويُحرث بعد ذلك قبرك؛ ليطفؤوا نورك، وأنت ابن عليّ المُرتضى، وابن فاطمة الزهراء، ويكون هذا الشأن العظيم لموت جاريةٍ سوداء، ولم يكن الحزن والبكا لابن مُحمّدٍ المصطفى؟!

قال: ولم يزل يبكي وينوح حتّى غشي عليه، والناس كافّةً ينظرون إليه، فمنهم مَن رقّ له، ومنهم من جثى عليه، فلمّا أفاق من غشوته أنشأ يقول:

أيُحرث بالطفّ قبر الحسين***ويُعمَر قبر بني الزانيةْ؟!

لعلّ الزمان بهم قد يعود***ويأتي بدولتهم ثانيةْ

ألا لعن اللهُ أهل الفساد***ومَن يأمن الدنية الفانيةْ

قال: ثمّ إنّ زيداً كتب هذه الأبيات في ورقة، وسلّمها لبعض حجّاب المتوكّل، قال: فلمّا قرأها اشتدّ غيظه، وأمر بإحضاره فأُحضر، وجرى بينهما من الوعظ والتوبيخ ما أغاظه، حتّى أمر بقتله، فلمّا مثل بين يديه سأله عن أبي تراب: مَن هو؟ استحقاراً له، فقال: واللهِ إنّك عارفٌ به وبفضله

ص: 394

وشرفه وحسبه ونسبه، فواللهِ ما يجحد فضلَه إلّا كلّ كافرٍ مرتابٍ، ولا يبغضه إلّا كلّ منافقٍ كذّاب. وشرع يعدّد فضله ومناقبه، حتّى ذكر منها ما أغاظ المتوكّل، فأمر بحبسه فحُبس، فلمّا أسدل الظلام وهجع، جاء إلى المتوكّل هاتفٌ ورفسه برجله، وقال له: قُم وأخرج زيداً، وإلّا أهلكك الله عاجلاً. فقام هو بنفسه وأخرج زيداً من حبسه، وخلع عليه خلعةً سنيّة، وقال له: اطلب ما تريد. قال: أُريد عمارة قبر الحسين، وأن لا يتعرّض أحدٌ بزوّاره. فأمر له بذلك،فخرج من عنده فرحاً مسروراً، وجعل يدور في البلدان وهو يقول: مَن أراد زيارة قبر الحسين فله الأمان طول الأزمان ((1)).

وفي (أمالي) الشيخ الطوسي: يحيى بن المغيرة الرازي قال: كنتُ عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجلٌ من أهل العراق، فسأله جرير عن خبر الناس، فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين علیه السلام ، وأمر أن تُقطَع السدرة الّتي فيه فقُطعَت.

قال: فرفع جرير يديه فقال: اَلله أكبر، جاءنا فيه حديثٌ عن رسول الله صلی الله علیه واله أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً، فلم نقف على معناه حتّى الآن، لأنّ القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين علیه السلام حتّى لا يقف الناس على قبره ((2)).

ص: 395


1- المنتخب للطريحي: 2 / 331 المجلس 2 الباب 3.
2- الأمالي للطوسي: 325 المجلس 11 ح 651.

وفي (أمالي) الشيخ الطوسي: عن أحمد بن ميثم بن أبي نعيم قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، أملاه علَيّ في منزله، قال: خرجتُ أيّام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة من منزلي، فلقيني أبو بكر بن عيّاش، فقال لي: امضِ بنا يا يحيى إلى هذا. فلم أدرِ مَن يعني، وكنتُ أُجلّ أبا بكرٍ عن مراجعة، وكان راكباً حماراً له، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه، فلمّا صِرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم التفت إليّ فقال لي: يا ابن الحماني، إنّما جررتك معي وجشّمتك معي أن تمشي خلفي لأُسمعك ما أقول لهذا الطاغية. قال: فقلت: من هو يا أبا بكر؟ قال: هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى. فسكتُّ عنه، ومضى وأنا أتبعه، حتّى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى وبصُر به الحاجب وتبيّنه، وكان الناسينزلون عند الرحبة، فلم ينزل أبو بكر هناك، وكان عليه يومئذٍ قميصٌ وإزار وهو محلول الإزار.

قال: فدخل على حمار، وناداني: تعالَ يا ابن الحماني. فمنعني الحاجب، فزجره أبو بكر، وقال له: أتمنعه يا فاعل وهو معي؟ فتركني، فما زال يسير على حماره حتّى دخل الإيوان، فبصر بنا موسى وهو قاعدٌ في صدر الإيوان على سريره، وبجنبي السرير رجالٌ متسلّحون، وكذلك كانوا يصنعون، فلمّا أن رآه موسى رحّب به وقرّبه وأقعده على سريره، ومُنعتُ أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه، فلمّا استقرّ أبو بكرٍ على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف، فناداني: تعالَ ويحك! فصرتُ إليه ونعلي في رجلي، وعلَيّ قميصٌ

ص: 396

وإزار، فأجلسني بين يديه، فالتفت إليه موسى فقال: هذا رجلٌ تكلّمنا فيه؟ قال: لا، ولكنّي جئتُ به شاهداً عليك. قال: في ماذا؟ قال: إنّي رأيتُك وما صنعتَ بهذا القبر. قال: أيّ قبر؟ قال: قبر الحسين بن عليّ ابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله.

وكان موسى قد وجّه إليه مَن كربه وكرب جميع أرض الحائر، وحرثها وزرع الزرع فيها، فانتفخ موسى حتّى كاد أن ينقد، ثمّ قال: وما أنت وذا؟ قال: اسمع حتّى أُخبرك، اعلم أنّي رأيتُ في منامي كأنّي خرجتُ إلى قومي بني غاضرة، فلمّا صرت بقنطرة الكوفة اعترضني خنازير عشرة تريدني، فأغاثني الله برجلٍ كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عنّي، فمضيت لوجهي، فلمّا صرت إلى شاهي ضللت الطريق، فرأيت هناك عجوزاً، فقالت لي: أين تريد أيّها الشيخ؟ قلت: أُريد الغاضريّة. قالت لي: تبطن هذا الوادي، فإنّك إذا أتيت آخره اتّضح لك الطريق.فمضيتُ ففعلت ذلك، فلمّا صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخٍ كبيرٍ جالس هناك، فقلت: من أين أنت أيّها الشيخ؟ فقال لي: أنا من أهل هذه القرية. فقلت: كم تعدّ من السنين؟ فقال: ما أحفظ ما مضى من سنّي وعمري، ولكن أبعد ذكري أنّي رأيت الحسين بن علي علیهما السلام ومَن كان معه من أهله ومَن تبعه يُمنَعون الماء الّذي تراه، ولا يُمنع الكلاب ولا الوحوش شربه. فاستفظعت ذلك، وقلت له: ويحك! أنت رأيت هذا؟! قال: إي والّذي سمك السماء، لقد رأيت هذا أيّها الشيخ وعاينته، وإنّك وأصحابك هم

ص: 397

الّذين يعينون على ما قد رأينا ممّا أقرح عيون المسلمين، إن كان في الدنيا مسلم. فقلت: ويحك، وما هو؟ قال: حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه. قلت: ما أجرى إليه؟ قال: أيكرب قبر ابن النبي صلی الله علیه وآله وتحرث أرضه؟ قلت: وأين القبر؟ قال: ها هو ذا أنت واقفٌ في أرضه، فأمّا القبر فقد عمي عن أن يعرف موضعه.

قال أبو بكر بن عيّاش: وما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قطّ ولا أتيته في طول عمري، فقلت: مَن لي بمعرفته؟ فمضى معي الشيخ حتّى وقف بي على حَيرٍ له بابٌ وآذن، وإذا جماعةٌ كثيرةٌ على الباب، فقلت للآذن: أُريد الدخول على ابن رسول الله صلی الله علیه وآله. فقال: لا تقدر على الوصول في هذا الوقت. قلت: ولمَ؟ قال: هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمّد رسول الله، ومعهما جبرئيل وميكائيل في رعيلٍ من الملائكة كثير.

قال أبو بكر بن عيّاش: فانتبهت، وقد دخلني روعٌ شديدٌ وحزنٌ وكآبة، ومضت بي الأيّام حتّى كدت أن أنسى المنام، ثمّ اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدَينٍ كان لي على رجلٍ منهم، فخرجتُ وأنا لا أذكر الحديث، حتّى إذ صرت بقنطرة الكوفة لقينيعشرةٌ من اللصوص، فحين رأيتهم ذكرت الحديث، ورعبت من خشيتي لهم، فقالوا لي: ألقِ ما معك وانجُ بنفسك. وكانت معي نفيقة، فقلت: ويحكم، أنا أبو بكر بن عيّاش، وإنّما خرجتُ في طلب دَينٍ لي، واللهِ والله لا تقطعوني عن طلب دَيني وتضرّوا بي في نفقتي، فإنّي شديد الإضاقة. فنادى رجلٌ منهم: مولاي وربِّ الكعبة، لا

ص: 398

يعرض له. ثمّ قال لبعض فتيانهم: كن معه حتّى تصير به إلى الطريق الأيمن.

قال أبو بكر: فجعلت أتذكّر ما رأيتُه في المنام، وأتعجّب من تأويل الخنازير، حتّى صرت إلى نينوى، فرأيتُ -- واللهِ الّذي لا إله إلّا هو -- الشيخَ الّذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته، رأيته في اليقظة كما رأيتُه في المنام سواء، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا، فقلت: لا إله إلّا الله، ما كان هذا إلّا وحياً. ثمّ سألته كمسألتي إيّاه في المنام، فأجابني، ثمّ قال لي: امضِ بنا. فمضيت، فوقفت معه على الموضع وهو مكروب، فلم يفتني شيءٌ في منامي إلّا الآذن والحير، فإنّي لم أر حيراً ولم أر آذِناً.

فاتّقِ الله أيّها الرجل، فإنّي قد آليتُ على نفسي ألّا أدع إذاعة هذا الحديث، ولا زيارة ذلك الموضع وقصده وإعظامه، فإنّ موضعاً يأتيه إبراهيم ومحمّد وجبرئيل وميكائيل علیهم السلام لَحقيقٌ بأن يُرغَب في إتيانه وزيارته، فإنّ أبا حُصين حدّثني أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال: «مَن رآني في المنام فإيّاي رأى، فإنّ الشيطان لا يتشبّه بي».

فقال له موسى: إنّما أمسكتُ عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة الّتي ظهرت منك، وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنّك تتحدّث بهذا لَأضربنّ عنقك وعنق هذا الّذي جئتَ به شاهداً علَيّ.فقال أبو بكر: إذن يمنعني اللهُ وإيّاه منك، فإنّي إنّما أردتُ الله بما كلّمتك به.

فقال له: أتراجعني يا عاصي؟ وشتمه، فقال له: اسكت، أخزاك الله

ص: 399

وقطع لسانك. فأرعد موسى على سريره، ثمّ قال: خذوه. فأُخذ الشيخ عن السرير، وأُخذت أنا، فوَاللهِ لقد مرّ بنا من السحب والجرّ والضرب ما ظننتُ أنّنا لا نكثر الأحياء أبداً، وكان أشدّ ما مرّ بي من ذلك أنّ رأسي كان يجرّ على الصخر، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، وموسى يقول: اقتلوهما بني كذا وكذا، بالزاني لا يكنّى، وأبو بكر يقول له: أمسِك، قطع الله لسانك وانتقم منك، اللّهمّ إيّاك أردنا، ولولد وليّك غضبنا، وعليك توكّلنا.

فصيّر بنا جميعاً إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلّا قليلاً، فالتفت إليّ أبو بكر ورأى ثيابي قد خرقت وسالت دمائي، فقال: يا حماني، قد قضينا لله حقّاً، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله. فما لبثنا إلّا مقدار غداءةٍ ونومةٍ حتّى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد، فدخلنا عليه فإذا هو في سردابٍ له يشبه الدور سعةً وكبراً، فتعبنا في المشي إليه تعباً شديداً، وكان أبو بكر إذا تعب في مشيه جلس يسيراً، ثمّ يقول: اللّهمّ إنّ هذا فيك فلا تنسَه. فلمّا دخلنا على موسى وإذا هو على سريرٍ له، فحين بصر بنا قال: لا حيّا الله ولا قرّب من جاهلٍ أحمقٍ يتعرّض لما يكره، ويلك يا دعيّ، ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم؟ فقال له أبو بكر: قد سمعت كلامك، والله حسبك. فقال له: اخرج، قبّحك الله، واللهِ لئن بلغني أنّ هذا الحديث شاع أو ذُكر عنك لَأضربنّ عنقك.ثمّ التفت إليّ وقال: يا كلب، وشتمني، وقال: إيّاك ثمّ إيّاك أن تُظهِر

ص: 400

هذا، فإنّه إنّما خُيّل لهذا الشيخ الأحمق شيطانٌ يلعب به في منامه، اخرجا، عليكما لعنة الله وغضبه. فخرجنا، وقد يئسنا من الحياة، فلمّا وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره، فلمّا أراد أن يدخل منزله التفت إليّ وقال: احفظ هذا الحديث وأثبِتْه عندك، ولا تحدّثنّ هؤلاء الرعاع، ولكن حدِّثْ به أهل العقول والدين ((1)).

وعن أبي موسى بن عبد العزيز قال: لقيني يوحنّا بن سراقيون النصراني المتطبّب في شارع أبي أحمد، فاستوقفني وقال لي: بحقّ نبيّك ودينك، مَن هذا الّذي يزور قبره قومٌ منكم بناحية قصر ابن هبيرة؟ مَن هو؟ مِن أصحاب نبيّكم؟ قلت: ليس هو من أصحابه، هو ابن بنته، فما دعاك إلى المسألة عنه؟! فقال: له عندي حديثٌ طريف. فقلت: حدِّثْني به.

فقال: وجّه إليّ سابور الكبير الخادم الرشيديّ في الليل، فصرتُ إليه، فقال لي: تعال معي. فمضى وأنا معه حتّى دخلنا على موسى بن عيسى الهاشمي، فوجدناه زائل العقل متّكئاً على وسادة، وإذا بين يديه طستٌ فيها حشو جوفه، وكان الرشيد استحضره من الكوفة، فأقبل سابور على خادمٍ كان من خاصّة موسى، فقال له: ويحك، ما خبره؟ فقال له: أُخبرك أنّه كان من ساعةٍ جالساً وحوله ندماؤه، وهو من أصحّ الناس جسماً وأطيبهم نفساً، إذ جرى ذكر الحسين بن علي علیه السلام. قال يوحنّا: هذا الّذي سألتك

ص: 401


1- الأمالي للطوسي: 321 المجلس 11 ح 650.

عنه.

فقال موسى: إنّ الرافضة لَتغلو فيه، حتّى إنّهم فيما عرفت يجعلون تربته دواءً يتداوون به. فقال له رجلٌ من بني هاشم كان حاضراً: قد كانت بي علّةٌ غليظة، فتعالجت لها بكلّ علاج فما نفعني، حتّى وصف لي كاتبي أن آخذ من هذه التربة، فأخذتُها فنفعني الله بها وزال عنّي ما كنت أجده. قال: فبقي عندك منها شيء؟ قال: نعم. فوجّه فجاؤوه منها بقطعة، فناولها موسى بن عيسى، فأخذها موسى فاستدخلها دبره، استهزاءً بمن تداوى بها واحتقاراً وتصغيراً لهذا الرجل الّذي هذه تربته -- يعني الحسين علیه السلام --، فما هو إلّا أن استدخلها دبره حتّى صاح: النار النار! الطست الطست! فجئناه بالطست، فأخرج فيها ما ترى، فانصرف الندماء، وصار المجلس مأتماً.

فأقبل علَيّ سابور فقال: انظر هل لك فيه حيلة؟ فدعوت بشمعة، فنظرت فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده خرج منه في الطست، فنظرت إلى أمرٍ عظيم، فقلت: ما لأحدٍ في هذا صنع، إلّا أن يكون لعيسى الّذي كان يحيي الموتى. فقال لي سابور: صدقت، ولكن كن هاهنا في الدار إلى أن يتبيّن ما يكون من أمره. فبتّ عندهم، وهو بتلك الحال ما رفع رأسه، فمات وقت السحر.

قال محمّد بن موسى: قال لي موسى بن سريع: كان يوحنّا يزور قبر

ص: 402

الحسين علیه السلام وهو على دينه، ثمّ أسلم بعد هذا وحسنإسلامه ((1)).

وفي (أمالي) الطوسي: عن محمّد الأزدي قال: صلّيتُ في جامع المدينة، وإلى جانبي رجلان على أحدهما ثياب السفر، فقال أحدهما لصاحبه: يا فلان، أما علمتَ أنّ طين قبر الحسين علیه السلام شفاءٌ من كلّ داء؟ وذلك أنّه كان بي وجع الجوف، فتعالجت بكلّ دواءٍ فلم أجد فيه عافية، وخفت على نفسي وأيست منها، وكانت عندنا امرأةٌ من أهل الكوفة عجوزٌ كبيرة، فدخلَت علَيّ وأنا في أشدّ ما بي من العلّة، فقالت لي: يا سالم، ما أرى علّتك كلّ يومٍ إلا زائدة. فقلت لها: نعم. قالت: فهل لك أن أُعالجك فتبرأ بإذن الله عزوجل. فقلت لها: ما أنا إلى شيءٍ أحوج منّي إلى هذا. فسقتني ماءً في قدح، فسكتت عنّي العلّة وبرئت حتّى كأن لم تكن بي علّةٌ قطّ.

فلمّا كان بعد أشهر دخلَت علَيّ العجوز، فقلت لها: باللهِ عليكِ يا سلمة -- وكان اسمها سلمة --، بماذا داويتني؟ فقالت: بواحدةٍ ممّا في هذه السبحة -- من سبحةٍ كانت في يدها --. فقلت: وما هذه السبحة؟ فقالت: إنّها من طين قبر الحسين علیه السلام. فقلت لها: يا رافضيّة، داويتني بطين قبر الحسين؟ فخرجَت من عندي مغضبة، ورجعت والله علّتي كأشدّ ما كانت، وأنا أُقاسي منها الجهد والبلاء، وقد والله خشيت على نفسي، ثمّ أذّن المؤذّن

ص: 403


1- الأمالي للطوسي: 320 المجلس 11 ح 649.

فقاما يصلّيان، وغابا عنّي ((1)).

وفي (المناقب) لابن شهرآشوب: أخذ المسترشد من مال الحائروكربلاء، وقال: إنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة. وأنفق على العسكر، فلمّا خرج قُتل هو وابنه الراشد ((2)).

وعن الأعمش قال: أحدث رجلٌ على قبر الحسين علیه السلام ، فأصابه وأهل بيته جنونٌ وجذامٌ وبرص، وهم يتوارثون الجذام ((3)).

ص: 404


1- الأمالي للطوسي: 319 مج11 ح 648.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب، تحقيق السيّد علي أشرف: 496 / 5 الفصل 15، بحار الأنوار للمجلسي: 401 / 45 الباب 50 ح 11.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 61 / 10 الفصل 3، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 244 / 14، المعجم الكبير للطبراني: 120 / 3 رقم2860.

تنبيهات

الأوّل:

في كتاب (التبر المذاب)، ومصنّفه من العامّة، عن كتاب (العقايق): لمّا اشتدّ المرض بسيّدة نساء العالمين، والّذي نزل إلى منزلها الملائكة المقرّبين، الزهرة البتول، سلالة الرسول بنت خاتم الأنبياء، زوجة عليّ المرتضى (صلوات الله عليهم أجمعين)، دخل عليها عليّ علیه السلام وعندها ولداها قرّة عين الرسول وثمرة فؤاد الإمام المأمول، وكان تحت رأسها مخدّة من جلد كبش، وفراشها من وبر جملٍ محشوّة بالحلفا، وليس عندها شراب، لسانها لا يفتر عن ذِكر ربّ العالمين، فقالت له: يا ابن عمّي وفَرَج همّي وغمّي، يا مخلوقاً من طينة أبي، ويا باب مدينة علم النبيّ، ويا زوجي في الدنيا والآخرة، يا صاحب السلالة الطاهرة، أُوصيك من بعدي بحفظ هذين الولدين، هما قرّة عيني، وكانا قرّة عين الرسول، وكفاهما ما لقياه من فراق جدّهما، وقد أردف ذلك فراق أُمّهما، ولا تمنعهما من زيارة قبري، فإنّ قلبي معهما، واعلم أنّك لا تحتاج إلى وصيّة، وأنّي راضيةٌ عنك، فهل أنت راضٍ عنّي؟ خدمتك جهدي وطاقتي، وأعنتك على دنياك مقدار قوّتي، وطحنت الشعير

ص: 405

بالنهار، واستقيت بالقربة بالليل، وبعد ذلك فإنّي أعترف بالتقصير في حقّك، فسامحني يا ابن عمّي، فإنّ أمامنا عقبةٌ لايقطعها إلّا المخفّون.

فبكى علي علیه السلام وقال: يا بنت المصطفى، يا سيّدة النساء، روحي لروحكِ الفداء، يا بنت البشير النذير، ومَن أرسله رحمةً للعالمين.

فلمّا عرفَت الرضى من المرتضى قالت: إذا فرغت من أمري ووضعتني في قبري فخُذ تلك القارورة وذلك الحقّ، وضعهما في لحدي. ثمّ دعت بهما فأُحضرا بين يديها، فقال لها: يا سيّدة النساء، ما الّذي في هذه القارورة؟ هل هو من ماء زمزم؟ فقالت: إنّي سمعت أبي صلی الله علیه وآله يقول: إنّ الدمعة تطفي غضب الربّ، وإنّ القبر لا يكون روضةً من رياض الجنّة إلّا أن يكون العبد قد بكى من خيفة الله (تعالى)، وقد علم العزيز الجبّار أنّي بكيت خوفاً بهذه الّدموع الّتي في القارورة في الأسحار خيفةً من الله (تعالى) وخوفاً من النار، وقد جعلتُ هذه الدموع ذخيرةً في قبري أجدها يوم حشري.

فبكى عليٌّ علیه السلام ، فجعلَت تأخذ من دموعه وتمسح به وجهها وتقول: لو بكى محزونٌ في أُمّةٍ لرحم الله (تعالى) تلك الأُمّة، وإنّك يا ابن عمّي لمحزونٌ لفراقي، ودمعة المحزون إذا وقعت على أُمّةٍ خصّها الله بالرحمة، فكيف إذا وقعت على أُمّةٍ وقد وضعتها على وجهي طمعاً في الرحمة، فإنّي أمة الله وبنت رسول الله. فأخذت في البكاء، فبكى الحسن والحسين علیهما السلام.

ثمّ فتحت الحقّ، وإذا فيه حريرة خضراء، وفي الحريرة ورقة بيضاء، فيها أسطر مكتوبة والنور يلمع منها، فقال: ما هذا يا بنت خديجة الكبرى؟

ص: 406

قالت: سفينة النجاة، ويا ابن عمّ رسول الله، هذا الحقّ وديعةمَن جاء بالحقّ، وذلك أنّه لمّا زوّجني بك أخبرني أنّ عقد ملاكي كان تحت شجرة طوبى، وجاء النثار من شجرة المنتهى، وكان موقعه في جنان الرضى، وكان النثار حللاً من الدرّ على الحور العين، فهي عندهم ذخيرة في مقاصيرهم إلى أن يبعث المؤمنين من قبورهم.

(قال المؤلّف: أعتذر إليكم معاشر الشيعة، إنّ درّاً من هذا النثار وجد في زمان والد الشيخ البهائي. قال بهاء الدين في (الكشكول): إنّ أباه حسين بن عبد الصمد الحارثيّ وجد في مسجد الكوفة فصّ عقيقٍ ((1)) مكتوب عليه:

أنا درٌّ من السما نثروني***يوم تزويج والد السبطين

كنتُ أصفى من اللُّجين بياضاً***صبغَتني دماء نحر الحسين ((2))

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله).

فلمّا كانت تلك الليلة الّتي رفعت فيها إليك، لم يكن عندي غير قميصين، أحدهما جديد والآخر مرقّع، فبينما على سجادتي على حسب عادتي إذ طرق الباب سائل، وله وسائل، فقال: يا أهل بيت النبوّة ومعدن الخير والفتوة، قد جرت العادة في الناس بقصد بيوت الأعراس، لأنّها لا تخلو

ص: 407


1- في المتن: (درّاً أحمر عليه خطّ لا يشبه خطّ الآدميّين).
2- زهر الربيع للجزائري: 26.

من طعامٍ لمن حضر من الخاصّ والعام، وإن كان عندكم قميصٌ خلق فإنّي به جدير، لأنّي رجلٌ فقير، يا أهل بيت أحمد، فقيركم عاري الجسد. فعمدت إلى القميص الجديد فدفعته إليه طلباً للمزيد، فلمّا أصحبت عندك بالقميص الخلق دخل رسول الله صلی الله علیهوآله وسلّم، ونور وجهه قد أشرق، فقال: يا بنيّة، أليس قد كان قميص جديد من أجود الخام، لمَ لا تلبسيه بين يدَي الإمام؟ قلت: ألستَ القائل: أو تصدقت فأبقيت، وأخبرته الخبر، فقال سيّد البشر: نِعم ما فعلتِ، ولو لبست الجديد لأجل بعلك وتصدّقت بالعتيق حصل بالحالين التوفيق، الأوّل من جانب الفقير الثاني من صايم الهجير. فقلت: إنّ علياً قد رضي. قال: صدقت، ولقد حظى.

ثمّ قلت: يا رسول الله، بك اهتدينا واقتدينا، إنّك لمّا تزوّجت بأُمّي خديجة الكبرى وأنفقت جميع ما أعطتك في طاعة المولى، حتّى أفضت بك الحال أن وقف ببابك بعض السؤّال فأعطيته قميصك والتحفت بالحصير، وأنت بالجنّة مخصوصٌ وليس لك شبهٌ ولا نظير، حتّى نزل عليك: «وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً» ((1)). فبكى النبي؟ص صلی الله علیه وآله، ثمّ ضمّني إليه، فنزل جبرئيل علیه السلام وقال: إنّ الله يقرئك السلام، ويقول: إقرأ فاطمة السلام، وقل لها تطلب منّي ما شاءت ولو طلبت ما في الخضراء والغبراء،

ص: 408


1- سورة الإسراء: 29.

وبشّرها أنّني أُحبّها. فقال: يا بنيّة، ربّك يسلّم عليكِ ويقول لك: اطلبي ما شئت. فقلت: يا رسول الله، قد شغلني لذّة خدمته عن مسألته، لا حاجة لي غير النظر إلى وجهه الكريم في دار السلام. فقال: يا بنيّة، ارفعي يدَيكِ. فرفعتُ يدي، ورفع يداه حتّى بان بياض إبطيه، ثمّ قال: اللّهمّ اغفر لأُمّتي. وأنا أقول: آمين، فجاء جبرئيل برسالةٍ من الجليل: قد غفرتُ لعصاة أمّتك ممّن في قلبه محبّة فاطمةومحبّة أبيها وبعلها وولديها (صلّى الله عليهم وسلّم). أُريد بهذا سجلّاً، فأمر الله (تعالى) جبرئيل أن يأخذ سندسةً خضراء وسندسةً بيضاء، وكان الكاتب هو: كتب ربّكم على نفسه الرحمة، وشهد جبرئيل وميكائيل وشهد رسول الله صلی الله علیه واله، وقال: يا بنيّة يكون هذا الكتاب في الحقّ، فإذا كان يوم موتك فعليك بالوصيّة أن يوضع في لحدك، فإذا قام الناس في القيامة وانقطع المذنبون وسحبتهم الزبانية إلى النار، فسلّمي الوديعة إليّ حتّى أطلب ما أنعم الله به علَيّ وعليك، فأنت وأبوكِ رحمةً للعالمين ((1)).

الثاني:

ورُوي فيه أيضاً: إنّ النبي صلی الله علیه وآله أمر أُسامة أن يدعو أبا بكر وعمر، ثمّ دعا بفاطمة علیها السلام وقال: يا بنيّة، هذا وقت حملك إلى بعلك عليّ الوليّ المخلوق

ص: 409


1- التبر المذاب للخافي (مصوّرة): 126 وما بعدها.

من طينة النبي. قالت: الأمر لله ولرسوله. قال: فأحضري جهازك يا بتول. فدخلتُ البيت باكية، وأخرجت رحا لطيفة وقطعة من وطيفة وجلد شاة وحصراً من الخوص، ومخدّة من جلد محشوّة ليفاً وإزاراً مرقعاً، وقصعة خشب ونعلاً وسواكاً، وقالت: يا رسول الله، هذا جميع ما تملك فاطمة. فقال صلی الله علیه وآله: احملوا جهاز اليتيمة الطهر البتول ابنة خاتم النبيّين، نِعم القرينة تسير إلى نِعم القرين. ثمّ نظر إلى الصحابة بطرفه، وحمله الرحا على كتفه، وحمل أبو بكر الحصير، وحمل عمر المخدّة، وحمل أُسامة القصعة،ولبست فاطمة النعل والإزار، وأخذت السواك بيدها، وقال جبرئيل: وأنا أفرش أجنحتي قدّامكم إلى بيتها. وسبق أُسامة إلى بيت علي علیه السلام ، قال: وافتكرت فيما معنا، فبكيت، فسمع النبي صلی الله علیه وآله فقال: ما يبكيك؟ قلت: بكيت لفقر فاطمة. فقال: يا أُسامة، هذا لمن يموت كثير ((1)).

الثالث:

نقل أنّ ملكاً صالحاً في خراسان كان على عهد رسول الله، وكان عنده ولدٌ واحد، فلمّا مرض ودنت منه الوفاة أوصى لولده وقال: سأدفع لك عشرة بدرات، في كلّ بدرةٍ ألف دينار، تحملها إلى النبيّ إذا أنا متّ. ودفع إليه بدرةً أُخرى فيها ألف دينار، وقال: تعطيها لمن يدلّك على رسول الله.

ص: 410


1- التبر المذاب للخافي (مصوّرة): 128 -- 129.

فلمّا مات الملك وفرغ الولد من مراسيم العزاء، حمل البدرات على بعيرٍ فاره، وانطلق مسرعاً حتّى وصل المدينة، وكان يوم عيد الفطر، فنزل في بستانٍ على مشارف المدينة، فاستراح ساعةً وغسل يديه ووجهه، ثمّ ركب بعيره وخرج لعلّه يصادف مَن يسأله عن النبيّ، فما ابتعد كثيراً عن ذلك البستان حتّى مرّ بثلاثة نفر، شيخين وشابّ، فسألهم عن النبيّ وقال: مَن دلّني على النبيّ أعطيتُه هذه البدرة. وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود ومِن أعداء رسول الله صلی الله علیه وآله، فلمّا سمعوا بالبدرة قالوا فيما بينهم: لابدّ أن يكون حمل البعير من هذه البدرات أيضاً، فاتّفقوا على قتله، فقالواله: أيّها الشابّ، إنّ اليوم يوم عيد الفطر، وقد خرج النبيّ إلى الصحراء ليصلّي هناك، فانزل هنا، فإذا رجع النبيّ من الصلاة مرّ مِن هنا، فاخرج معه إلى المدينة.

فنزل الشابّ عندهم، وكان متعباً من وعثاء السفر فنام، فبادر اليهود الثلاثة إلى حمل البعير ففتحوه، وأخذوا البدرات، وخافوا أن يطالبهم بها أو يخبر عنهم إن استيقظ من نومه، فدبّروا قتله لئلّا يفضحهم، فبادر إليه أحدهم وحمل عليه بسيفٍ بتّارٍ فقطع رأسه، فلمّا نظر البعير إلى صاحبه وما جرى عليه جعل يرغو ويحنّ ويلطّخ وجهه وجبينه بدم صاحبه ويصرخ ويضجّ، وفرّ مولولاً إلى الصحراء، فمرّ وهو في تلك الحالة مضمّخاً بالدماء وهو يرغو رغاءً عالياً في الموضع الّذي كان فيه رسول الله صلی الله علیه وآله، وقد فرغ النبيّ من صلاته وعزم على الرجوع، فسمعوا رغاء البعير، فالتفتوا إليه فرأوه

ص: 411

والدماء تصبغ رأسه وجوانبه، فدنا البعير من النبيّ وطأطأ رأسه على قدمَي النبي صلی الله علیه وآله، وضرب برأسه الأرض وهو يستغيث بالنبي لينصر صاحبه، فقال النبي: لهذا البعير حكاية، وهو يتظلّم. فقام معه ليستجلي الأمر، وتبعه أصحابه، حتّى وصلوا إلى المكان الّذي قُتل فيه صاحبه ابن الملك، فوجدوا الشابّ مقتولاً، وثلاثةً من اليهود مشغولين بعدّ ما في البدرات، فالتفت النبي إلى أمير المؤمنين عليّ وقال: أرأيت يا عليّ ما فعل هؤلاء بصاحب هذا البعير مِن ظلم؟

ثمّ أمر فجيء له بالثلاثة، فسألهم عن قاتل الشابّ فلم يجدوا بُدّاً من الإقرار، فقالوا: يا رسول الله، بيّتنا هذا الشابّ، وسرق منّا هذه الأموال عنوة، فطلبناه، فلمّا أصبناه هنا أبى أن يردّ علينا أموالنا،فقاتلنا فدفعناه عن أنفسنا فقتلناه.

فأطرق النبيّ صلی الله علیه وآله، فهبط الأمين جبرئيل وقال: يا رسول الله، الله يقرئك السلام ويقول: سَل البعير، فإنّه سيخبرك ويبيّن الحقّ لأصحابك. فسأله النبيّ وقال: انطق بإذن الله، وأخبرنا بما جرى على هذا الشابّ المقتول. فنطق البعير بإذن الله وقال: يا رسول الله، هذا الشابّ هو ابن ملك خراسان. وقصّ عليه القصّة.

فرفع النبيّ عمامته وحسر عن رأسه وقال: إلهي، أسألك بالسماوات العُلى والأرضون السفلى، وبعرشك الأعظم وبالكرسيّ واللوح والقلم والشمس والقمر والجنّة والنار، أحيِ هذا الشابّ المقتول حتّى يخبر ما جرى

ص: 412

عليه. فسمع هاتفاً من السماء يقول: يا محمّد، الأمر عظيم والشفعاء قليل، فاستشفع فازدد من الشفعاء. فرفع النبيّ يده إلى السماء وقال: إلهي، أُقسم عليك بحقّ آدم ونوح وجدّي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وزكريّا وصالح وشعيب وهود ويونس وإدريس وشيث وموسى وعيسى وداوود وسليمان ودانيال وعزير وهارون أن تحيي هذا الشابّ حتّى يظهر أمره. فأوحى الله إليه: يا محمّد، لا أجيبك حتّى تضمّ إلى هؤلاء اسمك وأسماء آلك الطيّبين. فرفع النبيّ يديه إلى خالق الأشياء ومحيي الأموات، وقال لخواصّ أصحابه: أمّنوا على دعائي، ثمّ قال: يا ربّ العالمين، أُقسم عليك بجاه الأنبياء العظام والملائكة الكرام، وبحقّ محمّدٍ وأنت المحمود، وبحقّ عليّ وأنت الأعلى، وبحقّ فاطمة وأنت فاطر السماوات والأرض، وبحقّ الحسن وأنت المحسن، وبحقّ الحسين يا ذا الإحسان، تفضّل علينا وأحي لنا هذا الشاب حتّى ينتقم من قاتله.

فما أتمّ النبيّ دعاءه وذكر اسم الخامس من أصحاب الكساء حتّىأحيى الله ذلك الشابّ، ففتح عينيه، فسجد النبيّ، فلمّا قام من سجوده قال: أيّها الشابّ، أخبرنا بقصّتك، ومَن أنت ومن أين جئت وماذا جرى عليك؟ فعرّف الشاب نفسه، وقصّ قصّته، فأخذ النبيّ المال منه، ودعاه للإسلام، واشترط عليه أن يعفو عن قاتليه، ويدفع إليهم المال الّذي وعدهم، فأبى اليهود، فأمر النبيّ بقتلهم، فقتلوهم.

ورجع النبيّ إلى المدينة ومعه الشاب، وأخذ الأموال ففرّقها في فقراء

ص: 413

المدينة ومساكينها، وبقي الشابّ في المدينة ريثما تعلّم دينه، ثمّ عاد إلى بلده فوصلها بعد سنة، فرفعوه على العرش وصار ملكاً هناك ((1)).

قال المؤلّف: ما أشبه هذه القصّة بقصّة فرس الإمام الحسين حينما لطّخ نفسه بدم الحسين وأسرع إلى الخيام محمحماً يصهل: الظليمة الظليمة، من أُمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها. فأعلم سكّان سرادق العزّ الغرباء بشهادته، ليت كان النبيّ المختار وحيدر الكرار في تلك الساعة لينتقموا من قتلة سيّد الشهداء المظلوم كما انتقموا لابن ملك خراسان.

الرابع:

روي أنّ النبيّ كان جالساً في المسجد فدخل عليه الحسن والحسين، وقد هبّت ريحٌ مغبرة شديدة فاغبرّ شعريهما، فلمّا رأى النبيّ الغبار على مفرقيهما وشعرهما اغتمّ غمّاً شديداً، فقام إلىحجرة فاطمة الزهراء علیها السلام وقال لفاطمة: آتيني بماءٍ اغسل شعر قرّتَي عيني، فإنّي لا أُطيق النظر إلى شعرهما مغبرّان. فأحضرت فاطمة الزهراء ماءً وطشتاً.

فبينا هم كذلك إذ هبط الأمين جبرئيل وقال: يا رسول الله، ربّك يقرؤك السلام ويقول: كما أنّك لا تطيق أن ترى شعر ولديك مغبرّاً، فكذلك أنا، ولكن يليق بهما أن تغسلهما ماء الدنيا. ثمّ قال جبرئيل: يا رسول الله، إنّ

ص: 414


1- أُنظُر: تحفة المجالس: 11 المعجزة 10.

الله أمرني أن آتيهما بماء السلسبيل. فقال النبي صلی الله علیه وآله: امضِ لما أُمرت به.

فعرج جبرئيل، ثمّ هبط من ساعته ومعه طشتٌ وإبريقٌ فيه من ماء السلسبيل، فدعا النبيّ صلی الله علیه وآله الحسن علیه السلام، فرفع عماته وفرق شعره، فدفع نصفه إلى فاطمة وأخذ النصف الآخر بيده، وجعل جبرئيل يصبّ الماء وفاطمة الزهراء تغسل حتّى فرغَت، ثمّ التفت إلى الحسين فقال: إليّ يا حسين، فرفع عمامته وجمع شعره بيده، ولم يشرك معه فاطمة، وقال: يا أخي يا جبرئيل صبّ. فصبّ جبرئيل ماء السلسبيل، وغسل النبي صلی الله علیه وآله شعر المظلوم، فنظر النبي صلی الله علیه وآله إلى جبرئيل فرآه ينظر إلى شعر الحسين وهو يبكي، فقال: يا أخي يا جبرئيل، غسلنا شعر الحسن فسررت، وغسلنا شعر الحسين فحزنت وبكيت! فقال: يا رسول الله، غسلت رأس الحسين فذكرت أمراً هو من السرّ المكنون وهو واقع حتماً. فقال النبي صلی الله علیه وآله: لقد حزنت لحزنك يا جبرئيل، فلو أخبرتني.

فقال: يا رسول الله، ذكرت ما سيجري على رأسه وشعره وفرقه، يا رسول الله، إنّ هذا الشعر الّذي أبى الله ورسولهوجبرئيل أمين وحي الله أن يروه مغبرّاً، وأبى الله أن يغسل بماء الدنيا، سيأتي اليوم الّذي سيحتزّ بسيف الجفاء والضغينة ويُرفع على السنان، ويخضب هذا الشعر من دم نحره

ص: 415

ويفيض عليه الدم من فوق الرمح ويرمل بالتراب والغبار ((1)).

ولنعم ما قال محتشم:

پس بر سنان کنند سري را که جبرئيل

شويد غبار وگيسويش از آب سلسبيل

الخامس:

في كتاب (بشارة المصطفى) بحذف الإسناد، قال: دخل رسول الله صلی الله علیه وآله على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فرحاً مسروراً مستبشراً، فسلّم عليه فرد عليه السلام، فقال علي علیه السلام: يا رسول الله، ما رأيتك أقبلت علَيّ مثل هذا اليوم! فقال: حبيبي وقرّة عيني، أتيتك أُبشّرك، إعلم أنّ هذه الساعة نزل علَيّ جبرئيل الأمين وقال: الحقّ (جلّ جلاله) يقرئك السلام ويقول لك: بشّر عليّاً علیه السلام أنّ شيعته الطائع والعاصي منهم من أهل الجنّة.

فلمّا سمع مقالته خرّ لله ساجداً، فلمّا رفع رأسه رفع يديه إلى السماء ثمّ قال: اشهدوا الله علَيّ أنّي قد وهبتُ لشيعتي نصف حسناتي. فقالت فاطمة الزهراء: يا ربّ، اشهد علَيّ بأنّي قد وهبت لشيعة عليّ بن أبي طالب نصف حسناتي. قال الحسن علیه السلام:يا ربّ، اشهد علَيّ أنّي قد وهبت لشيعة علي ابن أبي طالب نصف حسناتي. قال الحسين علیه السلام: يا ربّ، اشهد أنّي قد

ص: 416


1- بحر المصائب وكنز الغرائب للتبريزي (مصوّرة): 1 / 134 الفصل التاسع.

وهبت لشيعة عليّ بن أبي طالب نصف حسناتي. فقال النبي صلی الله علیه وآله: ما أنتم بأكرم منّي، اشهد علَيّ يا ربّ أنّي قد وهبتُ لشيعة عليّ بن أبي طالب علیه السلام نصف حسناتي. فهبط الأمين جبرئيل علیه السلام وقال: يا محمّد، إنّ الله (تعالى) يقول: ما أنتم أكرم منّي، إنّي قد غفرت لشيعة عليّ بن أبي طالب علیه السلام ومحبّيه ذنوبهم جميعاً، ولو كانت مثل زبد البحر ورمل البر وورق الشجر ((1)).

* * * * *

ختمنا هذا الكتاب (مخزن البكاء) بهذه البشارة العظمى والعطيّة الكبرى، والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

«فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ((2)).

التاريخ به إتمامٌ لتأليفه، شهر شوّال المکرم، سنة 1256، کتبه المذنب الحقير الفقير المحتاج الى عفو ربّه الباري، قد بلغ المقابلة مع نسخة الفصل من البداية الى النهاية أبو القاسم بن أسد الله، مع دقّة النظر في سطوره وکلماته بقدر البشريّة.

الحمد لله ربّ العالمين، اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا.

ص: 417


1- غاية المرام للبحراني: 6 / 89 ح 48، الأربعين للماحوزي: 107.
2- سورة التوبة: 111.

ص: 418

محتويات الكتاب

المجلس العاشر: في بيان ما وقع بعد الداهية العظمى والمصيبة الكبرى إلى أن خرج الأسرى من كربلاء 5

تنبيهات.. 53

الأوّل: 53

الثاني: 57

الثالث: 61

الرابع: 62

الخامس: 63

السادس: 67

السابع: 68

الثامن: 69

المجلس الحادي عشر: في خروج أهل البيت من كربلاء وورودهم مع الرؤوس إلى الكوفة 73

[عودةٌ إلى الحديث] 82

[خطبة السيّدة الحوراء] 89

[دخول أهل البيت إلى المجلس العام] 108

[إلى السجن] 121

ص: 419

[خطبة ابن زياد وشهادة عبد الله بن عفيف الأزدي] 128

[جندب بن عبد الله الأزدي] 133

المجلس الثاني عشر: في كتاب ابن زياد ليزيد ووالي المدينة ووقائع طريق الشام 135

تنبيهات.. 157

الأوّل: 157

الثاني: 163

الثالث: 164

الرابع: 165

الخامس: 166

السادس: 169

السابع: 170

المجلس الثالث عشر: في ورود الرؤوس والسبايا إلى الشام، وجملة من الكرامات والأحداث الواقعة في الشام 173

[خطبة السيّدة فخر المخدّرات زينب] 206

[جاريةٌ في بيت يزيد] 219

[الجاثليق ورأس الجالوت] 221

[عبد الوهّاب النصراني] 224

[رسول ملِك الروم] 227

[شهادة بنت الحسين علیه السلام في خربة الشام] 236

[خطبة الإمام السجاد علیه السلام] 240

ص: 420

[رؤيا هند] 248

[رؤيا سكينة] 249

المجلس الرابع عشر: في رجوع أهل البيت من الشام وورودهم إلى مدينة سيّد الأنام 261

[لقاء محمّد ابن الحنفيّة] 277

[خروج أُمّ لقمان] 278

[مأتم الرباب] 279

[مأتم الهاشميّات] 279

[ما جرى على الرأس المقدّس] 282

[مع النعمان بن بشير] 285

[حزن الإمام السجّاد] 287

تنبيهات.. 293

الأوّل: 293

الثاني: 299

الثالث: 302

الرابع: 305

الخامس: 307

السادس: 311

السابع: 313

الثامن: 315

التاسع: 316

ص: 421

العاشر: 318

الحادي عشر: 321

الثاني عشر: 322

الثالث عشر: 322

الرابع عشر: 323

خاتمة: في ما تحمّله بعض السادة والشيعة من الجَور والظلم من أعداء آل محمّد 325

[زيد الشهيد] 325

[غلامٌ من وُلد الحسن علیه السلام] 330

[الحسين شهيد فخّ] 332

[ميثم التمّار] 337

[رشيد الهجري] 347

[خبر بنت رشيد] 348

[مزرع بن عبد الله] 350

[الكميل بن زياد النخعي] 351

[قنبر مولى أمير المؤمنين علیه السلام] 352

[سعيد بن جُبير] 353

[في بعض أحوال الحجّاج (لعنه الله)] 360

[حكاية محمّد بن يوسف أخو الحجّاج] 373

[مدّة مُلك بني أُميّة] 376

[حكاية قتل ستّين علويّاً] 377

ص: 422

[في بعض أحوال المتوكّل العبّاسي (لعنه الله)] 380

تنبيهات.. 405

الأوّل: 405

الثاني: 409

الثالث: 410

الرابع: 414

الخامس: 416

ص: 423

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.