مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام المجلد 2

اشارة

سرشناسه:برغانی، محمدصالح بن محمد، -1271؟ق.

عنوان قراردادی:مخزن البکاء. عربی

عنوان و نام پديدآور:مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام/ محمدصالح البرغانی؛ ترجمه و تحقیق السیدعلی السیدجمال اشرف الحسینی.

مشخصات نشر:قم: طوبای محبت، 1441 ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:دوره 978-600-366-200-1 : ؛ ج.1 978-600-366-201-8 : ؛ ج.2 978-600-366-202-5 : ؛ ج.3 978-600-366-203-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ اول: 1399)(فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق -- احادیث

موضوع:Hosayn ibn Ali, Imam III, 625 - 680 -- Hadiths

موضوع:واقعه کربلا، 61ق -- احادیث

موضوع:Karbala, Battle of, Karbala, Iraq, 680 -- Hadiths

شناسه افزوده:حسینی، سیدعلی جمال، مترجم

رده بندی کنگره:BP41/5

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:6099609

وضعيت ركورد:فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

مخزن البكاء في مقتل سيّد الشهداء علیه السلام

تأليف: محمّد صالح البرغاني

ترجمة وتحقيق: السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

المجلس الأوّل: في بيان خروج سيّد الشهداء من المدينة المنوّرة ونزوله في مكّة المكرّمة

روى الشيخ المفيد: لمّا مات الحسن بن علي علیه السلام، تحرّكَت الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين علیه السلامفي خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة، فإنْ مات معاوية نظر في ذلك ((1)).

وروى ابن بابَوَيه عن الإمام زين العابدين علیه السلام قال: «لمّا حضرَت معاويةَ الوفاة، دعا ابنه يزيد (لعنه الله) فأجلسَه بين يديه، فقال له: يا بُنيّ، إنّي قد ذلّلتُ لك الرقاب الصعاب، ووطّدتُ لك البلاد، وجعلتُ المُلك وما فيه لك

ص: 5


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 32.

طُعمة، وإنّي أخشى عليك من ثلاثة نفَرٍ يخالفون عليك بجُهدهم، وهم: عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وعبد الله بنالزبير، والحسين بن علي، فأمّا عبد الله بن عمر فهو معك، فالزمه ولا تدَعْه، وأمّا عبد الله بن الزبير فقطِّعْه إنْ ظفَرْت به إرباً إرباً، فإنّه يجثو لك كما يجثو الأسد لفريسته، ويواربك مواربة الثعلب للكلب، وأمّا الحسين علیه السلام فقد عرفتَ حظَّه من رسول الله صلی الله علیه واله، وهو من لحم رسول الله ودمه، وقد علمتَ لا محالة أنّ أهل العراق سيُخرجونه إليهم ثمّ يخذلونه ويضيّعونه، فإن ظفرتَ به فاعرف حقَّه ومنزلته من رسول الله صلی الله علیه وآله، ولا تؤاخذه بفعله، ومع ذلك فإنّ لنا به خلطةً ورحماً، وإيّاك أن تناله بسوءٍ ويرى منك مكروهاً» ((1)).

قال المؤلف: كان غرض معاوية من هذه النصائح حفظ مُلكه وسلطانه، لأنّه يعلم أنّ قتل الحسين علیه السلام سيُطيح بعرشه فلا يستقيم له سلطان، وينحرف الناسُ عنه جميعاً.

وفي (الإرشاد): فلمّا مات معاوية، وذلك للنصف من رجب سنة ستّين من الهجرة، كتب يزيد إلى الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان -- وكان على المدينة من قِبَل معاوية -- أن يأخذ الحسين علیه السلام بالبيعة له، ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك ((2)).

وفي (الملهوف): فإن أبى عليك فاضربْ عُنقه وابعث إليّ برأسه ((3)).

ص: 6


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 151 المجلس 30 ح 1.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 32.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 22.

وفي رواية محمّد بن أبي طالب: فلمّا ورد الكتاب على الوليد وقرأه، عظم ذلك عليه، ثمّ قال: لا والله، لا يراني الله بقتل ابن نبيّهولو جعل يزيدُ لي الدنيا بما فيها ((1)).

وفي (الملهوف): فأحضر الوليد مروان، واستشاره في أمر الحسين علیه السلام، فقال: إنّه لا يقبل، ولو كنتُ مكانك لَضربتُ عنقه. فقال الوليد: ليتني لم أكُ شيئاً مذكوراً ((2)).

وفي (الإرشاد): فأنفذ الوليدُ إلى الحسين علیه السلامفي الليل فاستدعاه، فعرف الحسين الّذي أراد، فدعا جماعة (ثلاثين) ((3)) من مواليه وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم: «إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولستُ آمَنُ أن يكلّفني فيه أمراً لا أُجيبه إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي، فإذا دخلتُ إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه منّي».

فصار الحسين علیه السلام إلى الوليد، فوجد عنده مروان بن الحكم، فنعى الوليدُ إليه معاوية، فاسترجع الحسين علیه السلام ، ثمّ قرأ كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة منه له، فقال له الحسين: «إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى أُبايعه جهراً فيعرف الناس ذلك». فقال الوليد له: أجل. فقال

ص: 7


1- ([1]) تسلية المجالس لمحمد بن أبي طالب: 2 / 154.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 22.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 22.

الحسين علیه السلام: «فتصبح وترى رأيك في ذلك». فقال له الوليد: انصرفْ على اسم الله حتّى تأتينا مع جماعة الناس.

فقال له مروان: واللهِ لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرتَ منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يُبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلكالحسين

علیه السلاموقال: «أنت يا ابن الزرقاء تقتلني أو هو؟ كذبتَ واللهِ وأثمت!» ((1)).

وفي (اللهوف): فقال الحسين علیه السلام: «أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدنُ الرسالة، ومختلَف الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسقٌ شاربُ الخمر قاتلُ النفس المحرّمة مُعلِنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع بمثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة» ((2)).

وفي (المناقب): فقام مروان وجرّد سيفه وقال: مُر سيّافك أن يضرب عنقه قبل أن يخرج من الدار، ودمُه في عنقي. وارتفعت الصيحة، فهجم تسعة عشر رجلاً من أهل بيته وقد انتضوا خناجرهم، فخرج الحسين معهم ((3)).

وفي (الإرشاد): فقال مروان للوليد: عصيتَني، لا والله لا يمكّنك مثلها من

ص: 8


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 32.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 23.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 142.

نفسه أبداً. فقال له الوليد: الويح لغيرك يا مروان، إنّك اخترت لي الّتي فيها هلاك ديني، واللهِ ما أُحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه مِن مال الدنيا ومُلكها وأنّي قتلتُ حسيناً، سبحان الله! أقتل حسيناً أنْ قال: لا أُبايع؟ واللهِ إنّي لأظنّ أن امرءاً يُحاسَب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبتَ فيما صنعت. يقول هذا وهو غير الحامد لهفي رأيه ((1)).

وأصبح الحسين علیه السلام ، فخرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان فقال له: يا أبا عبد الله، إنّي لك ناصح، فأطعني ترشد. فقال الحسين علیه السلام: «وما ذاك؟ قل حتّى أسمع». فقال مروان: إنّي آمرك ببيعة يزيد بن معاوية، فإنّه خيرٌ لك في دينك ودنياك. فقال الحسين علیه السلام: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بُليَت الأُمّة براعٍ مثل يزيد، ولقد سمعتُ جدّي رسول الله؟ص؟ يقول: الخلافة محرَّمةٌ على آل أبي سفيان». وطال الحديث بينه وبين مروان، حتّى انصرف مروان وهو غضبان ((2)).

وروى أحد إخوان الإمام علیه السلام قال: لمّا امتنع أخي الحسين علیه السلام عن البيعة ليزيد بالمدينة، دخلتُ عليه فوجدتُه خالياً، فقلت له: جُعلتُ فداك يا أبا عبد الله، حدّثَني أخوك أبو محمّدٍ الحسن عن أبيه علیه السلام .. ثمّ سبقني

ص: 9


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 34.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 24.

الدمعة وعلا شهيقي، فضمَّني إليه وقال: «حدّثَك أنّي مقتول؟»، فقلت: حوشيت يا ابن رسول الله. فقال: «سألتُك بحقّ أبيك، بقتلي خبّرك؟»، فقلت: نعم، فلولا ناولتَ وبايعت. فقال: «حدثَني أبي أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله أخبره بقتله وقتلي، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته، فتظنّ أنّك علمتَ ما لم أعلمه؟ وأنّه لا أُعطي الدنيّة من نفسي أبداً، ولتلقيَنّ فاطمةُ أباها شاكيةً ما لقيَت ذريّتُها مِن أُمّته، ولا يدخل الجنّةَ أحدٌآذاها في ذريّتها» ((1)).

وروى محمّد بن أبي طالب قال: خرج الحسين علیه السلام من منزله ذات ليلة، وأقبل إلى قبر جدّه صلی الله علیه وآله، فقال: «السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة، فرخُك وابن فرختك، وسبطك الّذي خلفتَني في أُمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم قد خذلوني، وضيّعوني ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك».

قال: ثمّ قام فصفّ قدميه، فلم يزل راكعاً ساجداً.

قال: وأرسل الوليد إلى منزل الحسين علیه السلام لينظر أخرَجَ من المدينة أم لا، فلم يُصِبْه في منزله، فقال: الحمد لله الّذي خرج ولم يبتلني اللهُ بدمه.

قال: ورجع الحسين إلى منزله عند الصبح.

قال: فلمّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً، وصلّى ركعات، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول: «اللّهمّ هذا قبر نبيّك محمّد، وأنا ابن بنت نبيّك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ إنّي أُحبّ المعروف وأُنكِر المنكر، وأنا

ص: 10


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 26.

أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ [هذا] القبر ومَن فيه، إلّا اخترتَ لي ما هو لك رضىً ولرسولك رضى». قال: ثمّ جعل يبكي عند القبر، حتّى إذا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى، فإذا هو برسول الله صلی الله علیه وآله قد أقبل في كتيبةٍ من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه، حتّى ضمّ الحسينَ إلى صدره وقبّل بين عينيه، وقال: «حبيبي يا حسين،كأنّي أراك عن قريبٍ مرمَّلاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كربلاء، بين عصابةٍ من أُمّتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى، وظمآن لا تُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة. حبيبي يا حسين، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قَدِموا علَيّ، وهم مشتاقون إليك، وإنّ لك في الجنان لَدرجات لن تنالها إلّا بالشهادة».

قال: فجعل الحسين علیه السلام في منامه ينظر إلى جدّه ويقول: «يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا، فخُذْني إليك وأدخِلْني معك في قبرك». فقال له رسول الله صلی الله علیه وآله: «لابدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى تُرزَق الشهادة، وما قد كتب اللهُ لك فيها من الثواب العظيم، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشَرون يوم القيامة في زُمرةٍ واحدةٍ حتّى تدخلوا الجنّة».

قال: فانتبه الحسين علیه السلام من نومه فزعاً مرعوباً، فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطّلب، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرقٍ ولا مغربٍ قومٌ أشدّ غمّاً من أهل بيت رسول الله صلی الله علیه وآله، ولا أكثر باكٍ ولا باكيةً منهم ((1)).

ص: 11


1- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 154.

وتهيّأ الحسين علیه السلام للخروج من المدينة، ومضى في جوف الليل إلى قبر أُمّه فودّعها.

وفي بعض الكتب: فوقف على القبر وقال: «السلام عليكِ يا أُمّاه، هذا حسينك جاء يودّعك، وهذه آخر زيارته لكِ». فإذا النداء من القبر: «وعليك السلام يا مظلوم الأُمّ، ويا شهيد الأُمّ،ويا غريب الأُمّ». فخنقَته العَبرة وبكى، حتّى لم يعد يُطِق الكلام ((1)).

وفي رواية محمّد بن أبي طالب: ومضى في جوف الليل إلى قبر أُمّه علیها السلام فودّعها، ثمّ مضى إلى قبر أخيه الحسن علیه السلام ففعل كذلك، ثمّ رجع إلى منزله وقت الصبح.

فأقبل إليه أخوه محمّد ابن الحنفيّة وقال: يا أخي، أنت أحبُّ الخلق إليّ وأعزّهم علَيّ، ولستُ والله أدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق، وليس أحدٌ أحقّ بها منك؛ لأنك مزاج مائي و نفسي وروحي وبصري، وكبير أهل بيتي، ومَن وجبَت طاعته في عنقي، لأنّ الله (تبارك وتعالى) قد شرّفك علَيّ وجعلك من سادات أهل الجنّة، وأُريد أن أُشير عليك، فاقبل منّي.

فقال الحسين علیه السلام: «يا أخي، قل ما بدا لك».

ص: 12


1- ([1]) روضة الشهداء للكاشفي: 201، مهيّج الأحزان لليزدي: 49 ذكر خروج الحسين علیه السلام من المدينة إلى مكّة -- بترجمة: السيّد علي أشرف، وانظر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 329.

فقال: أُشير عليك أن تتنحّى عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت، وتبعث رسلك إلى الناس تدعوهم إلى بيعتك، فإن بايعك الناس حمَدْت الله على ذلك وقمت فيهم بما كان رسول الله صلی الله علیه واله يقوم به فيهم، حتّى يتوفّاك الله وهو عنك راض، والمؤمنون عنك راضون كما رضوا عن أبيك وأخيك، وإن اجتمع الناس على غيرك حمدتَ الله على ذلك وسكتّ ولزمت منزلك، فإنّي خائفٌ عليك أن تدخل مصراً من الأمصار أو تأتي جماعةً من الناس، فيقتتلون، فتكون طائفةٌ منهم معك وطائفةٌ عليك، فتُقتَل بينهم.

فقال الحسين علیه السلام: «فإلى أين أذهب؟».قال: تخرج إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك، وإن تكن الأُخرى خرجتَ إلى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمأنّت بك الدار [فذاك]، وإلّا لحقتَ بالرمال وشعوب الجبال، وجزتَ من بلدٍ إلى بلد، حتّى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.

قال: فقال الحسين علیه السلام: «يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لَ-ما بايعتُ يزيد بن معاوية» ((1)).

فقطع محمّد ابن الحنفيّة الكلام وبكى، فبكى [معه] الحسين علیه السلام ساعة، ثمّ قال: «يا أخي، جزاك الله خيراً، فقد نصحتَ وأشرت بالصواب، وأنا

ص: 13


1- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 156.

عازمٌ على الخروج إلى مكّة، وقد تهيأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ممّن أمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأمّا أنت يا أخي فما عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عيناً عليهم، لا تُخفِ عنّي شيئاً من أُمورهم» ((1)).

ثمّ دعا الحسين علیه السلام بدواةٍ وبياض، وكتب هذه الوصيّة لأخيه محمّد رضی الله عنه: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحسينُ بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه محمّد المعروف بابن الحنفيّة، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ مِن عند الحقّ، وأنّ الجنّة والنار حقّ، وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور، وأنّي لم أخرج أشِراً ولابطراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي؟ص؟، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي محمّدٍ صلی الله علیه واله وأبي عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، ومَن ردّ علَيّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ [و يحكم بيني وبينهم] وهو خير الحاكمين، وهذه وصيّتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكّلتُ وإليه أُنيب» ((2)). ثمّ طوى الحسين الكتاب وختمه بخاتمه ودفعه إلى أخيه محمّد ((3)).

وفي (كامل الزيارة)، عن محمّد بن عليّ الباقر علیه السلام قال: «لمّا همّ الحسين علیه السلام بالشخوص عن المدينة، أقبلَت نساء بني عبد المطّلب فاجتمعن للنياحة، حتّى

ص: 14


1- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 160.
2- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 161.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 329.

مشى فيهنّ الحسين علیه السلام، فقال: أُنشدكنّ الله أن تُبدين هذا الأمر معصيةً لله ولرسوله. فقالت له نساء بني عبد المطّلب: فلِمَن نستبقي النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله صلی الله علیه واله وعليٌّ وفاطمة ورقيّة وزينب وأُمّ كلثوم، فننشدك الله -- جعلنا اللهُ فداك من الموت -- يا حبيب الأبرار من أهل القبور. وأقبلَت بعضُ عمّاته تبكي وتقول: أشهد يا حسين، لقد سمعتُ الجنّ ناحت بنوحك وهم يقولون:

فإنّ قتيل الطفّ مِن آل هاشمٍ***أذلّ رقاباً من قريش فذلّتِ

حبيب رسول الله لم يكُ فاحشاً***أبانت مصيبتك الأُنوف وجلّتِ

وقلن أيضاً:

أبكي حسيناً سيّداً***ولقتله شاب الشعر

ولقتله زُلزلتمُ***ولقتله انكسف القمر

واحمرّت آفاق السما***ءِ من العشيّة والسحَر

وتغبّرت شمس البلاد***بهم وأظلمت الكُوَر

ذاك ابن فاطمة المصا***بُ به الخلائق والبشر

أورثتنا ذُلّاً به***جدع الأُنوف مع الغرر»

((1))

وفي (بحار الأنوار): لمّا عزم على الخروج من المدينة، أتته أُمُّ سلَمة رضی الله عنها فقالت: يا بُنيّ، لا تُحزنّي بخروجك إلى العراق، فإنّي سمعتُ جدّك يقول:

ص: 15


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 96 الباب 29 ح 9.

«يُقتَل ولدي الحسين بأرض العراق في أرضٍ يُقال لها: كربلاء». فقال لها: «يا أُمّاه، وأنا واللهِ أعلم ذلك، وإنّي مقتولٌ لا محالة، وليس لي من هذا بُدّ، وإنّي والله لَأعرف اليوم الّذي أُقتَل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة الّتي أُدفَن فيها، وإنّي أعرف مَن يُقتَل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردتِ يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي». ثمّ أشار علیه السلام إلى جهة كربلاء فانخفضَت الأرض، حتّى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده، فعند ذلك بكت أُمّ سلَمة بكاءً شديداً، وسلّمت أمره إلى الله، فقال لها: «يا أُمّاه، قد شاء الله عزوجل أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيَّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراًولا معيناً».

وفي روايةٍ أُخرى: قالت أُمّ سلَمة: وعندي تربةٌ دفعها إليّ جدّك في قارورة. فقال: «والله إنّي مقتولٌ كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً». ثمّ أخذ تربةً فجعلها في قارورةٍ وأعطاها إيّاها، وقال: «اجعليها مع قارورة جدّي، فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت» ((1)).

ورُوي عن الإمام زين العابدين علیه السلام أنّه قال: «وحمل أخواته على المحامل، وابنته، وابن أخيه القاسم بن الحسن بن علي علیه السلام، ثمّ سار في أحد وعشرين رجلاً من أصحابه وأهل بيته، منهم: أبو بكر بن عليّ، ومحمّد بن عليّ، وعثمان بن عليّ،

ص: 16


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 331.

والعبّاس بن عليّ، وعبد الله بن مسلم بن عقيل، وعليّ بن الحسين الأكبر، وعليّ بن الحسين الأصغر علیهم السلام» ((1)).

وروى أبو مِخنف، عن عمّار، عن سكينة بنت الحسين علیه السلام قالت: لمّا خرجنا من المدينة، ما كان أحدٌ أشدّ خوفاً منّا أهل البيت ((2)).

وروى الشيخ المفيد قال: فسار الحسين علیه السلام إلى مكّة وهو يقرأ: «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِالظَّالِمِينَ» ((3))، ولزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبتَ الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير؛ لئلّا يلحقك الطلب. فقال: «لا والله، لا أُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض» ((4)).

وذكر شيخنا المفيد بإسناده إلى أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «لمّا سار أبو عبد الله علیه السلام من المدينة، لقيَه أفواجٌ من الملائكة المسوّمة والمردفة، في أيديهم الحِراب، على نُجبٍ من نجب الجنّة، فسلّموا عليه وقالوا: يا حجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه، إنّ الله سبحانه أمدّ جدّك صلی الله علیه وآله بنا في مواطن كثيرة، وإنّ الله أمدّك بنا. فقال لهم: الموعد حفرتي وبقعتي الّتي أُستشهَد فيها، وهي كربلاء، فإذا وردتها فأْتوني. فقالوا: يا حجّة الله، مُرنا نسمع ونطع، فهل تخشى من عدوٍّ يلقاك فنكون

ص: 17


1- ([2]) الأمالي للصدوق: 152، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 313.
2- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 321، مقتل أبي مخنف (المشهور): 15.
3- ([1]) سورة القصص: 21.
4- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 35.

معك؟ فقال: لا سبيل لهم علَيّ ولا يلقوني بكريهةٍ أو أصل إلى بقعتي.

و أتته أفواج مسلمي الجنّ، فقالوا: يا سيّدنا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا بأمرك وما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوٍّ لك وأنت بمكانك لَكفيناك ذلك. فجزاهم الحسين خيراً، وقال لهم: أما قرأتم كتاب الله المنزل على جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله: «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» ((1))، وقال سبحانه: «لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىمَضَاجِعِهِمْ» ((2))؟ وإذا أقمتُ بمكاني فبماذا يُبتلى هذا الخلق المتعوس، وبماذا يُختبَرون؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء، وقد اختارها الله (تعالى) [لي] يوم دحا الأرض، وجعلها معقلاً لشيعتنا، وتكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة؟ ولكن تحضرون يوم السبت، وهو يوم عاشوراء الّذي في آخره أُقتَل، ولا يبقى بعدي مطلوبٌ من أهلي ونسبي وإخوتي وأهل بيتي، ويُسار برأسي إلى يزيد (لعنه الله).

فقالت الجنّ: نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه لو لا أنّ أمرك طاعةٌ وأنّه لا يجوز لنا مخالفتك، قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك. فقال لهم علیه السلام : نحن والله أقدر عليهم منكم، ولكن ليهلك مَن هلك عن بيّنةٍ ويحيى مَن حيّ عن بينة» ((3)).

ص: 18


1- ([3]) سورة النساء: 78.
2- ([1]) سورة آل عمران: 154.
3- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 232 -- عن كتاب مولد النبي صلی الله علیه وآله ومولد الأوصياء (صلوات الله عليهم) للمفيد، اللهوف لابن طاووس: 66.

وروى الشيخ المفيد: لمّا دخل الحسين مكّة، كان دخوله إليها ليلة الجمعة لثلاثٍ مضين من شعبان، دخلها وهو يقرأ: «وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ» ((1))، ثمّ نزلها، وأقبل أهلها يختلفون إليه ومَن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة، فهو قائمٌ يصلّي عندها ويطوف، ويأتي الحسينَ علیه السلام فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين ويأتيه بين كلّ يومين مرّة، وهو أثقل خلق الله على ابنالزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين علیه السلام في البلد، وأنّ الحسين أطوع في الناس منه وأجلّ.

و بلغ أهلَ الكوفة هلاك معاوية، فأرجفوا بيزيد، وعرفوا خبر الحسين علیه السلام وامتناعه من بيعته، وما كان من ابن الزبير في ذلك وخروجهما إلى مكّة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صُرَد، فذكروا هلاك معاوية، فحمدوا الله عليه.

فقال سليمان: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسينا قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فأعلِمُوه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه. قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه، ونقتل أنفسنا دونه.

ص: 19


1- ([3]) سورة القصص: 22.

قال: فكتبوا:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن علي علیه السلام من سليمان بن صُرَد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.

فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعد، فالحمد لله الّذي قصم عدوّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود.

إنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ؛ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجمع معه في جمعة، ولانخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك أقبلتَ إلينا أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام إن شاء الله.

ثمّ سرّحوا الكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، وأمروهما بالنجاء، فخرجا مسرعَين حتّى قَدِما على الحسين علیه السلام بمكّة لعشرٍ مضين من شهر رمضان.

ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مسهّر الصيداويّ وعبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ وعمارة بن عبد

ص: 20

السلولي إلى الحسين علیه السلام ، ومعهم نحوٌ من مئة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة.

ثمّ لبثوا يومين آخرين، وسرّحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليٍّ من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أمّا بعد، فحيّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل، والسلام.

وكتب شبث بن ربعي وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ومحمّد بن عمرو التيمي: أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار، فإذا شئتَ فاقدِمْ على جندٍ لك مجنَّد، والسلام ((1)).

قال المؤلف: آه! وا غمّاه يا أبا عبد الله! إنّ أكثر هؤلاءالأشخاص الّذين كاتبوا الإمام علیه السلام حاربوه في كربلاء، كاتبوه أوّلاً، حتّى إذا أخرجوه من أرضه ودياره عدَوْ عليه قبل أن يصل إلى ديارهم، فسلّوا سيوفهم في وجهه، وشرعوا الرماح في نحره، وخرجوا الى قتاله.

وكان عمرو بن الحجّاج وعروة بن قيس وشبث بن ربعيّ الّذين كتبوا

ص: 21


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 35.

له: فقد أخضرت الجنات وأينعت الثمار، فإذا شئتَ فأقبِلْ على جندٍ لك مجنّدة.. كانوا من أُمراء عسكر ابن سعد، كان عمرو بن الحجّاج على ميمنة عسكر عمر بن سعد ((1))، وكان عروة بن قيس على الخيّالة ((2))، وكان يزيد ابن الحارث على ألفَي فارس، وكان شبث بن ربعيّ على الرجّالة ((3))، وكان عمرو بن الحجّاج على المشرعة في أربعة آلاف، منع الحسينَ وأصحابه عن الماء ((4))، وهو الّذي نقض الشرط بين ابن سعد والإمام الحسين علیه السلام في القتال مبارزة، فصاح المعلون بالناس: يا حمقى، أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين، لا يبرز منكم إليهم أحدٌ إلّا قتلوه على قلّتهم، والله لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لَقتلتموهم. فقال له عمر بن سعد (لعنه الله): الرأي ما رأيت، فأرسِلْ في الناس مَن يعزم عليهم أن لا يبارزهمرجلٌ منهم. وقال: لو خرجتم إليهم وحداناً لَأتوا عليكم مبارزة ((5)).

ودنا هذا اللعين عمرو بن الحجّاج من أصحاب الحسين علیه السلام ، فقال: يا

ص: 22


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 4.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 4.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 4.
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
5- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 19.

أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين وخالف الإمام. فقال الحسين علیه السلام: «يا ابن الحجّاج، أعلَيّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتُّم عليه؟ واللهِ لتعلمنّ أيّنا المارق من الدين ومَن هو أَولى بصلي النار» ((1)).

وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ اللعين هذا هو الّذي كان في أربعة آلاف رجلٍ على الشريعة، فحمل عليهم الإمام الحسين وأقحم الفرس على الفرات، فلما أولغ الفرس برأسه ليشرب قال علیه السلام: «أنت عطشان، وأنا عطشان، واللهِ لا ذُقتُ الماء حتّى تشرب»، فلمّا سمع الفرس كلام الحسين علیه السلام شال رأسه ولم يشرب، فقال الحسين علیه السلام: «فأنا أشرب»، فمدّ الحسين علیه السلام يده فغرف من الماء، فقال ملعون: يا أبا عبد الله، تتلذّذ بشرب الماء وقد هُتكت حرمك؟! فنفض الماء من يده وحمل على القوم فكشفهم ((2)).

وما أقوى قول الشاعر الّذي يقول بلسان حال زينب علیها السلام: أخي، كان خماري على رأسي ما دامت عمامتك على رأسك، فلمّا سلبواعمامتك سُلب منّي خماري.

وعمرو بن الحجّاج اللعين هذا هو الّذي نادى: يا حسين، هذا الماء يلغ فيه الكلاب، ويشرب منه خنازير السواد والذئاب، وما تذوق منه -- واللهِ --

ص: 23


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 19.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.

قطرةً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم! ((1))

قال صاحب (التِّبر المذاب) -- وهو من المخالفين -- : وكان سماع مثل هذا أشدّ عليه من منع الماء ((2)).

وعمرو بن الحجّاج اللعين هذا جاء إلى الإمام المظلوم لمّا سقط عن ظهر فرسه يخور في دمه، فأقبل إليه ونزل عن فرسه ليقطع رأسه الشريف، فلمّا دنا منه ونظر إلى عينيه ولّى مدبراً، ورجع راجعاً وركب فرسه وعاد، فقال له شمر بن ذي الجوشن: رجعتَ عمّا عزمت؟ قال اللعين: نظرتُ إلى عينيه، فإنّهما عينا رسول الله، وما أحببتُ أن ألقى الله بدمه!!! ((3))

وخرجَت زينب بنت علي علیه السلام وقرطاها يجولان بين أُذنيها، وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض، يا عمر بن سعد، أيُقتَل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ ودموع عمر تسيل على خدَّيه ولحيته المشؤومة، وهو يصرف وجهه عنها ((4)).

أمّا ابن هاني فكان من آخِر الرسل الّذين حملوا كتباً للحسين منقِبل

ص: 24


1- ([1]) أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 182.
2- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب، للخافي الشافعي: 140 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف.
3- ([3]) وسيلة الدارين للزنجاني: 326، معالي السبطين للحائري: 2 / 42.
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55.

الكوفيّين، لمّا جاؤوا به إلى المختار قال له المختار: لعنك الله، ألم تكن رسولاً حملتَ الكتب للحسين بمكّة مع قيس بن مسهر الصيداوي، فلمَ تنكّرتَ له في كربلاء وأنكرت كلّ شيء؟ قال ابن هاني: غرّني الشيطان أيّها الأمير!

وکان الأحمر بن نشط واقفاً على رأس المختار، فقال له: يا أحمر، وهبتك ثواب الثأر منه. ففرح أحمد فرحاً شديداً، واستعجل حتّى عثر وسقط، فضحك الأمير ومَن حوله، فنهض الأحمر وجرّد سيفه وقطّعه إرباً ((1)).

أمّا يزيد بن الحارث، فإنّه لمّا جيء به إلى المختار قال له: الحمد لله الّذي أمكنني منك يا عدوّ الله. فقال يزيد: ماذا فعلتُ حتّى تحمد الله أن مكّنك منّي؟ قال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله، يا معلون، كتبتَ للإمام الحسين أن أقدِمْ، قد اخضرّت الجنّات وأينعت الثمار، فلمّا أجاب تنكّرتَ وأنكرت، وخرجتَ إلى حربه في ألفين فارسٍ فقاتلته حتّى قُتِل، فهل تعرف جنايةً أعظم ممّا فعلت؟!

ثمّ سأله المختار: أين مغفرك الّذي كنت تلبسه وترتجز بأراجيزك الفارغة؟ فأنكره الملعون، فأمر المختار أن يشدّ بالك-مّاشة، فشُدّ بها، حتّى أقرّ واعترف، فأمر الأمير أن تؤجَّج نارٌ حاميةٌ ويُطرح فيها المغفر حتّى احمرّ، ثمّ نُزعَت عنه ملابسه، ورفع أطراف المغفر بالك-مّاشة، وطوّق بها عنقه وألصقه

ص: 25


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 160.

بجلده، فجعل يصرخ ويصيح ويركض ويتمرّغ بالأرض، والمغفر يزداد التصاقاً به، حتّى نزع جلدَه وتناثر لحمُه.

ثمّ أمر بابنه -- وكان غايةً في الحسن والجمال -- فطعنه في خاصرته، ولطّخ يديده بدمه.

ثمّ أحضروا ثمانيةً من الّذين ضربوا الإمام الحسين علیه السلام بالسيوف وطعنوه بالرماح، فقال المختار: لمَ خرجتم إلى كربلاء أيّها الأدعياء؟ قالوا: خرجنا مُكرَهين مجبورين! قال: لمَ لا فررتم في تلك الصحراء المفتوحة؟ قالوا: كانت الطرق مضبوطة، فخشينا أن نُقتَل إذا هربنا. قال المختار: كتبتم إلى الحسين علیه السلام تدعوه للقدوم إلى العراق، ثمّ خذلتموه وتركتم نصرته وقاتلتموه! فسكتوا، فقال: إنّكم لم تُؤمِنوا بالله ورسوله واليوم الآخِر. فأمر بسكك الحديد فأحميت في النار حتّى احمرّت، وقطّعوهم بها ((1)).

ثمّ أحضروا أحمد بن أبي شعران بين يدَي المختار، فقال له: يا ابن الفاعلة، كتبتَ إلى الإمام الحسين علیه السلام ، ثمّ لم تفِ ونكثتَ ولم تنصره، ولم تكتفِ بذلك حتّى خرجتَ لحربه وقاتلته؟ فأمر فأُلقي في كورة الآجُر.

أمّا شبث بن ربعيّ، لمّا توسّط العبّاس علیه السلام الميدان وقف وقال: يا عمر ابن سعد، هذا الحسين ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول: إنّكم قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمّه، وبقيَ فريداً مع أولاده وهم عطاشا، قد أحرق الظمأ

ص: 26


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 183.

قلوبهم، فاسقوه شربةً من الماء. فخرج شبث بن ربعيّ (لعنه الله) فجاء نحو العبّاس وقال: يا ابن أبي تراب، قل لأخيك: لو كانكلّ وجه الأرض ماءً وهو تحت أيدينا، ما أسقيناكم منه قطرةً إلّا أن تدخلوا في بيعة يزيد ((1)).

وشبث هذا اللعين دنا من الإمام الغريب المظلوم وهو يمدّ يمنياً ويقبض شمالاً، مرمَّلاً بدمائه، وبيده سيفٌ ليجتزّ رأسه، فرمقه علیه السلام بطَرْفه، فرمى السيف من يده وولّى هارباً، وهو ينادي: معاذ الله يا حُسين أن ألقى أباك بدمك ((2)).

أجل، كانت هذه السهام والرماح والسيوف والعصيّ والمقالع والحجارة الثمارَ اليانعة الّتي أتحفتم بها الغريب المظلوم، وهذا هو الجند الّذي أخبرتم عنه: (جندٌ لك مجنّدة)!!

از آب هم مضايقه كردند كوفيان

خوش داشتند حرمت مهمان كربلا

في كتاب (عوالم العلوم)، عن كتاب (النوادر) لعليّ بن أسباط، عن بعض أصحابه رواه، قال: إنّ أبا جعفر علیه السلام قال: «كان أبي مبطوناً يوم قُتِل أبوه علیه السلام ، وكان في الخيمة، وكنتُ أرى موالينا كيف يختلفون معه، يتبعونه بالماء، يشدّ على الميمنة مرّةً وعلى الميسرة مرّةً وعلى القلب مرّة، ولقد قتلوه قتلةً نهى رسول الله صلی الله علیه وآله أن يُقتَل بها الكلاب، ولقد قُتِل بالسيف والسنان وبالحجارة وبالخشب

ص: 27


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 312.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 451، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 82.

وبالعصا، ولقد أوطؤوه الخيل بعد ذلك» ((1)).أعتذر إليكم أيّها الشيعة الكرام، فقد أفلت زمام القلم من يدي، فاضطررتُ -- لسوء الحظّ -- إلى تحرير بعض ما ارتكبه هؤلاء الملاعين الّذين كتبوا للإمام وخذلوه، فأوجعتُ قلوبكم.

أجل، كان هؤلاء يكاتبون الإمام المظلوم من الكوفة، وهو علیه السلام مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم، فورد عليه في يومٍ واحدٍ ستّمئة كتاب، وتواترت الكتب حتّى اجتمع عنده في نوبٍ متفرّقةٍ اثنا عشر ألف كتاب، كما في (الملهوف) ((2)).

ثمّ كتب الإمام علیه السلام جواب آخر الكتب الواصلة إليه:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى الملإ من المسلمين والمؤمنين.

أمّا بعد، فإن هانئاً وسعيداً قَدِما علَيّ بكتبكم، وكانا آخرَ مَن قدم علَيّ مِن رسلكم، وقد فهمتُ كلَّ الّذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم أنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ.

وإنّي باعثٌ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي مِن أهل بيتي، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمَت به رسلُكم وقرأتُ في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلَعمري ما الإمام إلّا الحاكم

ص: 28


1- ([3]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 317 ح 9، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 91 ح 30.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 35.

بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله. والسلام» ((1)).

ص: 29


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 38، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 173.

ص: 30

المجلس الثاني: في بيان إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة وبيان شهادته علیه السلام

لمّا اجتمعَت الرسلُ والكتب عند الإمام الحسين علیه السلام ، دعا الإمامُ ابنَ عمّه مسلم بن عقيل، وكان مميَّزاً عن غيره بالتدبير والصلاح والعقل والشجاعة، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعُمارة بن عبد السلولي ((1)) وعبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ، وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك ((2)).

فأقبل مسلم حتّى أتى المدينة، فصلّى في مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله، وودّع

ص: 31


1- ([1]) في المتن: (وعمارة بن عبد الله)، وهو كذلك في (مناقب آل أبي طالب) لابن شهرآشوب: 10 / 145.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 39.

مَن أحبّ مِن أهله، ثم استأجر دليلَين من قيس، فأقبلا به يتنكّبان الطريق، فضلّا، وأصابهم عطشٌ شديد فعجزا عن السير، فأومئا لهإلى سنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك، فسلك مسلم ذلك السنن، ومات الدليلان عطشاً.

فكتب مسلم بن عقيل رحمه الله من الموضع المعروف بالمضيق مع قيس بن مسهر: أمّا بعد، فإنّني أقبلتُ من المدينة مع دليلين لي، فجارا عن الطريق فضلّا، واشتدّ علينا العطش فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلم ننجُ إلّا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكانٍ يُدعى: المضيق، من بطن الخبت، وقد تطيّرتُ مِن وجهي هذا، فإن رأيتَ أعفيتَني منه وبعثتَ غيري، والسلام.

فكتب إليه الحسين بن علي علیهما السلام: أمّا بعد، فقد خشيتُ أن لا يكون حملَك على الكتاب إليّ في الاستعفاء من الوجه الّذي وجّهتُك له إلّا الجبن، فامضِ لوجهك الّذي وجّهتُك له، والسلام.

فلمّا قرأ مسلم الكتاب قال: أمّا هذا فلستُ أتخوّفه على نفسي.

فأقبل حتّى مرّ بماءٍ لطيء، فنزل به، ثمّ ارتحل منه، فإذا رجلٌ يرمي الصيد، فنظر إليه قد رمى ظبياً حين أشرف له فصرعه، فقال مسلم: نقتل عدوَّنا إن شاء الله.

ثمّ أقبل حتّى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عُبيد، وأقبلَت

ص: 32

الشيعة تختلف إليه، فكلّما اجتمع إليه منهم جماعةٌ قرأ عليهم كتاب الحسين بن علي علیه السلام ، وهم يبكون ((1)).

فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري ((2))، فحمد الله وأثنى عليه،وذكر النبيّ صلی الله علیه وآله فصلّى عليه، وأقبل على مسلم علیه السلام وقال: إنّي لستُ أعلم ما في قلوب الناس، ولكن أُخبرك بما في نفسي، إذا دعوتموني أجبتكم، وأضرب بسيفي عدوَّكم حتّى ألقى الله عزوجل . ثمّ جلس.

وقام حبيب بن مظاهر رحمه الله وقال له: يرحمك الله، قد قضيتَ ما عليك، وأنا والله على مثل ذلك.

وجعل أهل الكوفة يدخلون عليه عشرةً بعد عشرة، وعشرين بعد عشرين، وأقلّ وأكثر، حتّى بايعه ((3)) -- برواية الشيخ المفيد -- ثمانية عشر ألفاً ((4))، وفي رواية أبي مخنف: ثمانون ألف رجل ((5)).

قال المفيد: فكتب مسلم رحمه الله إلى الحسين علیه السلام يُخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً، ويأمره بالقدوم.

ص: 33


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 39، روضة الواعظين للفتّال: 173.
2- ([2]) في المتن: (عبّاس بن حبيب الشاكريّ)، وفي المقتل المشهور: (عابس البكري).
3- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مِخنَف (المشهور): 20.
4- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 41، روضة الواعظين للفتّال: 173.
5- ([3]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 21.

وجعلَت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل رضی الله عنه، حتّى عُلم مكانه، فبلغ النعمان بن بشير ذلك، وكان والياً على الكوفة من قِبل معاوية فأقرّه يزيد عليها، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها يهلك الرجال، وتُسفَك الدماء، وتُغتصَب الأموال، إنّي لا أُقاتل مَن لا يقاتلني، ولا آتي على مَن لم يأتِ علَيّ، ولا أُنبّه نائمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوَاللهِ الّذي لا إله غيره لَأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكمناصر، أما إنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يرديه الباطل.

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرميّ حليف بني أُميّة، فقال: إنّه لا يصلح ما ترى إلّا الغشم، إنّ هذا الّذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين. فقال له النعمان: [لئن] أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبّ إليّ مِن أن أكون من الأعزّين في معصية الله. ثمّ نزل.

وخرج عبد الله بن مسلم، فكتب إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة، فبايعَته الشيعةُ للحسين بن عليّ، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً، ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيفٌ أو هو يتضعّف.

ص: 34

ثمّ كتب إليه عمارة بن عقبة بنحوٍ من كتابه، ثمّ كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثل ذلك.

فلمّا وصلَت الكتب إلى يزيد دعا سرجون مولى معاوية، فقال: ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد وجّه إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان بن بشير ضعفٌ وقولٌ سيّء، فمن ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عُبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيتَ معاوية لو نُشر لك حيّاً، أما كنتَ آخذاً برأيه؟ قال: نعم. قال: فأخرجَ سرجون عهدَ عُبيد الله بن زياد على الكوفة، وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَين إلى عُبيد الله بن زياد. فقال له يزيد: أفعل، ابعث بعهد عبيد الله إليه.

ثمّ دعا مسلمَ بن عمرو الباهليّ، وكتب إلى عبيد الله بن زياد معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي مِن أهل الكوفة يخبروني أنّ ابن عقيلبها يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا، حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة، حتّى تُثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام.

وسلّم إليه عهده على الكوفة، فسار مسلم بن عمرو حتّى قدم على عبيد الله بالبصرة، فأوصل إليه العهد والكتاب، فأمر عبيد الله بالجهاز من وقته، والمسير والتهيّؤ إلى الكوفة من الغد ((1)).

ص: 35


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 41، روضة الواعظين للفتّال: 173.

وكان الحسين علیه السلام قد كتب إلى جماعةٍ من أشراف البصرة كتاباً مع مولىً له اسمه: سليمان، ويُكنّى: أبا رزين، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم: يزيد بن مسعود النهشليّ، والمنذر بن الجارود العبديّ.

فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّا حضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون فيكم موضعي وحسَبي منكم؟ فقالوا: بخٍّ بخ، أنت واللهِ فقَرة الظهر ورأس الفخر، حلَلْتَ في الشرف وسطاً، وتقدّمتَ فيه فرطاً. قال: فإنّي قد جمعتكم لأمرٍ أُريد أن أُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه. فقالوا: إنّا واللهِ نمنحك النصيحة، ونجهد لك الرأي، فقل حتّى نسمع.

فقال: إنّ معاوية مات، فأهوِنْ به واللهِ هالكاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعَت أركانُ الظلم، وقد كان أحدث بيعةً عقد بها أمراً ظنّ أنه قد أحكمه، وهيهات، والّذي أراد اجتهد واللهِ ففشل، وشاور فخذل، وقد قام ابنه يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضىًمنهم، مع قصر حلمٍ وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدميه، فأُقسم بالله قسماً مبروراً، لَجهادُه على الدين أفضل من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يوصَف وعلمٌ لا ينزف، وهو أَولى بهذا الأمر؛ لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير، ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّة، وإمام قومٍ وجبَت لله به الحجّة وبلغت به الموعظة، فلا تعشُوا عن نور الحقّ، ولا تسكعوا في وهدة

ص: 36

الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلی الله علیه واله ونصرته، والله لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلّا أورثه اللهُ الذلّ في وُلده والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لامتها، وادّرعتُ لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمت، ومن يهرب لم يفت، فأحسنوا -- رحمكم الله -- ردّ الجواب.

فتكلّمَت بنو حنظلة فقالوا: أبا خالد، نحن نبلُ كنانتك وفرسان عشيرتك، إن رميتَ بنا أصبت، وإن غزوت بنا فتحت، لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى والله شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك والله بأسيافنا، ونقيك بأبداننا إذا شئت، فافعل.

وتكلّمَت بنو سعيد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج من رأيك، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال، فحمدنا أمرنا، وبقيَ عزّنا فينا، فأمهلنا نراجع المشورة ونأتيك برأينا.

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وخلفاؤك، لا نرضى إن غضبت، ولا نوطن إن ظعنت، والأمر إليك،فادعنا نجبك، وأْمُرنا نطعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: والله يا بني سعد لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً، ولا زال سيفكم فيكم.

ثمّ كتب إلى الحسين علیه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابك، وفهمتُ ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من

ص: 37

طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لا يُخلي الأرضَ قطّ من عاملٍ عليها بخير، أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه ووديعته في أرضه، تفرّعتُم من زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ، سعدت بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها وكظّها، وقد ذلّلت لك بني سعد، وغسلت درن صدورها بماء سحابة مُزنٍ حين استهمل برقها فلمع.

فلمّا قرأ الحسين علیه السلام الكتاب قال: «ما لَك؟ آمنك الله يوم الخوف، أعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر».

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين علیه السلام ، بلغه قتله قبل أن يسير، فجزع من انقطاعه عنه.

وأمّا المنذر بن الجارود، فإنّه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيد الله بن زياد، لأنّ المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيد الله بن زياد، وكانت بحرية بنت المنذر زوجةً لعبيد الله بن زياد، فأخذ عبيد الله بن زياد الرسول فصلبه، ثمّ صعد المنبر فخطب، وتوعّد أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف تلك الليلة، فلمّا أصبحاستناب عليهم أخاه عثمان بن زياد، وأسرع هو إلى قصر الكوفة ((1)).

ص: 38


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 38 وما بعدها.

فلمّا أشرف على الكوفة نزل، حتّى أمسى ليلاً، فظنّ أهلُها أنّه الحسين علیه السلام ، ودخلها ممّا يلي النجف، فقالت امرأة: اَلله أكبر، ابن رسول الله وربِّ الكعبة. فتصايح الناس، قالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً. وازدحموا عليه حتّى أخذوا بذنَب دابّته، وظنُّهم أنّه الحسين ((1)).

وروى المفيد قال: وأقبل ابن زيادٍ إلى الكوفة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته، حتّى دخل الكوفة وعليه عمامةٌ سوداء وهو متلثّم، والناس قد بلغهم إقبال الحسين علیه السلام إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا حين رأوا عبيد الله أنّه الحسين علیه السلام ، فأخذ لا يمرّ على جماعةٍ من الناس إلّا سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمتَ خير مقدم. فرأى مِن تباشرهم بالحسين ما ساءه، فقال مسلم ابن عمرو لمّا أكثروا: تأخّروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد ((2)). فلمّا عرفوا أنّه ابن زيادٍ تفرّقوا عنه ((3)).

فسار حتّى وافى القصر، فأغلق النعمان بن بشير عليه وعلى حامّته، فناداه بعض مَن كان معه ليفتح لهم الباب، فاطلع إليه النعمان وهو يظنّه الحسين، فقال: أُنشدك الله إلّا تنحّيت، واللهِ ما أنا مسلّمٌإليك أمانتي، وما

ص: 39


1- ([2]) مثير الأحزان لابن نما: 30.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 43.
3- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 45.

لي في قتالك من أرب. فجعل لا يكلّمه، ثمّ إنّه دنا، وتدلّى النعمان من شُرفٍ فجعل يكلّمه، فقال: افتح، لا فتحت، فقد طال ليلك. وسمعها إنسانٌ خلفه، فنكص إلى القوم الّذين اتّبعوه من أهل الكوفة على أنّه الحسين، فقال: أي قوم، ابنُ مرجانة والّذي لا إله غيره. ففتح له النعمان، ودخل، وضربوا الباب في وجوه الناس، فانفضّوا ((1)).

وأصبح، فنادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فخرج إليهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين ولّاني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاءِ محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البرّ، وسوطي وسيفي على مَن ترك أمري وخالف عهدي، فلْيُبقِ امرؤٌ على نفسه، الصدق ينبي عنك لا الوعيد.

ثمّ نزل، وأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً، فقال: اكتبوا إلى العرفاء ومَن فيكم من طلبة يزيد وأهل الريب الّذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن يجيء بهم لنا فبرئ، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا منهم مخالف ولا يبغ علينا منهم باغ، فمن لم يفعل برئت منه الذمّة، وحلالٌ لنا دمه وماله، وأيّما عريفٍ وُجد في عرافته من بغية يزيد أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلغيَت تلك العرافة من العطاء.

ص: 40


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 43.

ولمّا سمع مسلم بن عقيل رحمه الله بمجيء عبيد الله بن زياد الكوفة ومقالته الّتي قالها وما أخذ به العرفاء والناس، خرج من دار المختار، حتّى انتهى إلى دار هانئ بن عروة فدخلها، وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ على تستّرٍ واستخفاءٍ من عبيد الله، وتواصوا بالكتمان ((1))، وبايعوه، حتّى بايعه خمسة وعشرون ألف رجل، فعزم على الخروج، فقال هاني: لا تعجل ((2)).

وكان شريك بن الأعور الهمدانيّ جاء من البصرة مع عبيد الله بن زياد، فمرض، فنزل في دار هاني بن عروة أيّاماً، ثمّ قال لمسلم: إنّ عبيد الله يعودني، وإنّي مطاوله الحديث، فاخرج إليه بسيفك فاقتله، وعلامتك أن أقول: اسقوني ماءً ((3)).

فلمّا جاء ابن زيادٍ لعيادة شريك، همّ مسلم بالخروج، فتعلّقَت به امرأةٌ قالت: ناشدتك الله إن قتلتَ ابن زيادٍ في دارنا. وبكت في وجهه، فرمى السيف وجلس، قال هانئ: يا ويلها، قتلتني وقتلَت نفسها، والّذي فررتُ منه وقعتُ فيه.. كما في رواية ابن نما ((4)).

فلمّا طال سؤاله وتأخّر مسلم، ورأى شريك أنّ أحداً لا يخرج، فخشيَ

ص: 41


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 43.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 180.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 234.
4- ([4]) مثير الأحزان لابن نما: 32.

أن يفوته، فأخذ يقول:

ما

الانتظار لسلمى أن يحيّيها

كأس المنيّة بالتعجيل إسقوهافتوهّم ابن زيادٍ وخرج ((1)).

فدعا ابن زياد مولىً له يُقال له: معقل، فقال: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثمّ اطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه، فإذا ظفرتَ بواحدٍ منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقل لهم: استعينوا بها على حرب عدوّكم، وأعلِمْهم أنّك منهم، فإنّك لو قد أعطيتَها إيّاهم لقد اطمأنّوا إليك ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئاً من أخبارهم، ثم اغدُ عليهم ورُحْ حتّى تعرف مستقرّ مسلم بن عقيل وتدخل عليه.

ففعل ذلك، وجاء حتّى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسديّ في المسجد الأعظم وهو يصلّي، فسمع قوماً يقولون: هذا يبايع للحسين، فجاء فجلس إلى جنبه حتّى فرغ من صلاته، ثمّ قال: يا عبد الله، إنّي امرؤٌ من أهل الشام، أنعم الله علَيّ بحبّ أهل هذا البيت وحبّ مَن أحبّهم. وتباكى له، وقال: معي ثلاثة آلاف درهمٍ أردتُ بها لقاء رجلٍ منهم بلغني أنّه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله، فكنتُ أُريد لقاءه، فلم أجد أحداً يدلّني عليه ولا أعرف مكانه، فإنّي لَجالسٌ في المسجد الآن إذ سمعتُ نفراً من المؤمنين يقولون: هذا رجلٌ له علمٌ بأهل هذا البيت، وإنّي أتيتك لتقبض

ص: 42


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 234.

منّي هذا المال وتُدخلَني على صاحبك، فإنّما أنا أخٌ من إخوانك وثقةٌ عليك، وإن شئتَ أخذتَ بيعتي له قبل لقائه.

فقال له مسلم بن عوسجة رحمه الله : أحمد الله على لقائك إيّاي، فقد سرّني ذلك، لتنال الّذي تحبّ، ولينصر الله بك أهل بيت نبيّه علیه السلام ، ولقد ساءني معرفة الناس إيّاي بهذا الأمر قبل أن يتمّ؛ مخافة هذا الطاغية وسطوته. فقال له معقل: لا يكون إلّا خيراً،خُذ البيعة علَيّ. فأخذ بيعته، وأخذ عليه المواثيق المغلّظة لَيناصحنّ ولَيكتمنّ، فأعطاه من ذلك ما رضي به، ثمّ قال له: اختلف إليّ أياماً في منزلي، فأنا طالبٌ لك الإذن على صاحبك. فأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الإذن فأُذن له، فأخذ مسلم بن عقيل رضی الله عنه بيعته، وأمر أبا ثمامة الصائديّ فقبض المال منه، وهو الّذي كان يقبض أموالهم وما يعين به بعضهم بعضاً ويشتري لهم السلاح، وكان بصيراً ومِن فرسان العرب ووجوه الشيعة.

و أقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، وهو أول داخلٍ وآخر خارج، حتّى فهم ما احتاج إليه ابن زياد مِن أمرهم، وكان يخبره به وقتاً فوقتاً ((1)).

و خاف هانئ بن عروة عبيدَ الله بن زياد على نفسه، فانقطع من حضور مجلسه وتمارض، فقال ابن زيادٍ لجلسائه: ما لي لا أرى هانئاً؟ فقالوا: هو شاكٍ. فقال: لو علمتُ بمرضه لعُدته. ودعا محمّدَ بن الأشعث

ص: 43


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 45.

وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وكانت رويحة بنت عمرو تحت هانئ بن عروة، وهي أُمّ يحيى بن هانئ، فقال لهم: ما يمنع هانئ بن عروة من إتياننا؟ فقالوا: ما ندري، وقد قيل إنّه يشتكي. قال: قد بلغني أنّه قد برأ، وهو يجلس على باب داره، فالقوه، ومُروه ألّا يدع ما عليه مِن حقّنا، فإنّي لا أُحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.

فأتوه حتّى وقفوا عليه عشيّة، وهو جالسٌ على بابه، فقالوا: ما يمنعك من لقاء الأمير؟ فإنّه قد ذكرك، وقال: لو أعلم أنّه شاكٍ لعُدتُه.فقال لهم: الشكوى تمنعني. فقالوا له: قد بلغه أنّك تجلس كلّ عشيّةٍ على باب دارك، وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لمّا ركبتَ معنا. فدعا بثيابه فلبسها، ثمّ دعا ببغلته فركبها، حتّى إذا دنا من القصر كأنّ نفسه أحسّت ببعض الّذي كان، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن أخي، إنّي واللهِ لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟ قال: أي عمّ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلاً. ولم يكن حسّان يعلم في أيّ شيءٍ بعث إليه عبيد الله ((1)).

فجاء هانئ حتّى دخل على ابن زيادٍ ومعه القوم، فلمّا طلع قال ابن زياد: أتتك بحائن ((2)) رجلاه. فلمّا دنا من ابن زيادٍ -- وعنده شُرَيح

ص: 44


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 47.
2- ([2]) في المتن: (بخائن).

القاضي -- التفت نحوه فقال: إيهٍ يا هانئ بن عروة، ما هذه الأُمور الّتي تربّص في دارك ليزيد؟ جئتَ بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى علَيّ؟ فقال: ما فعلت. قال: بلى قد فعلت. فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هانئ إلّا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زيادٍ معقلاً ذلك اللعين، فجاء حتّى وقف بين يديه، فقال: أتعرف هذا؟ قال: نعم. وعلم هانئ عند ذلك أنّه كان عيناً عليهم، وأنّه قد أتاه بأخبارهم، فقال: اسمع منّي وصدِّقْ مقالتي، فواللهِ لا كذبت، والله ما دعوتُه إلى منزلي ولا علمتُ بشيءٍ من أمره، حتّى جاءني يسألني النزول، فاستحييتُ من ردّه، ودخلني من ذلك ذِمام، فضيّفتُه وآويتُه، وقد كان من أمره ماكان بلغك، فإن شئتَ أن أُعطيك الآن موثقاً مغلَّظاً ألّا أبغيك سوءاً ولا غائلة، ولآتينّك حتّى أضع يدي في يدك، وإن شئتَ أعطيتُك رهينةً تكون في يدك حتّى آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره. فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني أبداً حتّى تأتيني به. قال: لا والله، لا آتيك به أبداً، أجيئك بضيفي تقتله؟! قال: والله لَتأتينِّ به. قال: لا والله، لا آتيك به ((1)).

فلمّا كثر الكلام بينهما، قام مسلم بن عمرو الباهليّ فقال: أصلح الله الأمير، خلِّني وإيّاه حتّى أُكلّمَه. فقام فخلا به ناحيةً من ابن زياد، وهما منه

ص: 45


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 48.

بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان، فقال له مسلم: يا هانئ، إنّي أُنشدك اللهَ أن تقتل نفسك وأن تُدخِل البلاء على عشيرتك، فوَاللهِ إنّي لَأنفَسُ بك عن القتل، إنّ هذا الرجل ابن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه، فإنّه ليس عليك بذلك مخزاةٌ ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان. فقال هانئ: واللهِ إنّ علَيّ في ذلك لَلخزي [الخزي] والعار، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيحٌ، أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان؟! والله لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصرٌ لم أدفعه حتّى أموت دونه. فأخذ يناشده وهو يقول: والله لا أدفعه أبداً.

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه منّي. فأُدنيَ منه، فقال: والله لَتأتيني به أو لأضربنّ عنقك. فقال هانئ: إذن والله تكثر البارقة حول دارك! فقال ابن زياد: وا لهفاه عليك، أبالبارقة تخوّفني؟ وهو يظنّأنّ عشيرته سيمنعونه، ثمّ قال: أدنوه منّي. فأُدني، فاعترض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب وجهه وأنفه وجبينه وخدَّه حتّى كسر أنفه وسيّل الدماء على ثيابه ونثر لحم خده وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب ((1)).. فضربه هانئ بسيفٍ كان عنده فقطع أطماره، وجرحه جرحاً منكراً، فاعترضه معقل (لعنه الله) فقطع وجهه بالسيف، فجعل هانئ يضرب بهم يميناً وشمالاً، حتّى قتل

ص: 46


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 50، تاريخ الطبري: 5 / 365.

من القوم رجالاً ((1)).

وفي رواية أبي مِخنَف: قتل منهم اثني عشر رجلاً ((2)).

وفي (المنتخب): قال هاني: والله، لو كانت رجلي على طفلٍ من أطفال أهل البيت ما رفعتُها حتّى تُقطع ((3)).

وفي رواية المفيد: وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطيّ، وجاذبه الرجل ومنعه، فقال عبيد الله: أحروريٌّ سائر اليوم؟ قد حلّ لنا دمك! جرّوه. فجرّوه، فألقوه في بيتٍ من بيوت الدار، وأغلقوا عليه بابه، فقال: اجعلوا عليه حرساً. ففُعِل ذلك به.

فقام إليه حسّان بن أسماء فقال: أرُسُل غدرٍ سائر اليوم؟ أمرتَنا أن نجيئك بالرجل، حتّى إذا جئناك به هشّمتَ وجهه وسيّلتَ دماءَه على لحيته، وزعمت أنّك تقتله. فقال له عبيد الله: وإنّك لَهاهنا؟ فأمربه فلُهِز وتُعتِع، ثمّ أُجلس ناحية، فقال محمّد بن الأشعث: قد رضينا بما رآه الأمير، لنا كان أو علينا، إنّما الأمير مؤدِّب.

وبلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانئاً قد قُتِل، فأقبل في مِذحج حتّى أحاط

ص: 47


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 415 المجلس 9.
2- ([3]) في (مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 29): (وقتل منهم خمسةً وعشرين ملعوناً).
3- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 415 المجلس 9، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف: 29.

بالقصر، ومعه جمعٌ عظيم، ثمّ نادى: أنا عمرو بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعةً ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم قُتِل، فأعظَموا ذلك. فقيل لعبيد الله بن زياد: هذه مذحج بالباب. فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبهم فانظر إليه، ثمّ اخرج وأعلِمْهم أنّه حيٌّ لم يُقتَل. فدخل، فنظر شريح إليه، فقال هانئ لمّا رأى شريحاً: يا لله، يا لَلمسلمين، أهلَكَت عشيرتي؟ أين أهل الدين؟ أين أهل البصر؟ والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجّة على باب القصر، فقال: إنّي لَأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل علَيّ عشرة نفرٍ أنقذوني. فلمّا سمع كلامه شريح خرج إليهم فقال لهم: إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم، أمرني بالدخول إليه، فأتيتُه فنظرتُ إليه، فأمرني أن ألقاكم وأن أُعلِمكم أنّه حيّ، وأنّ الّذي بلغكم من قتله باطل. فقال عمرو بن الحجّاج وأصحابه: أما إذ لم يُقتَل فالحمد لله. ثمّ انصرفوا.

وخرج عُبيد الله بن زياد، فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه، فقال: أمّا بعد، أيّها الناس، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم، ولا تفرّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتقتلوا وتجفوا وتحربوا، إنّ أخاك مَن صدَقَك، وقد أعذر من أنذر. ثمّ ذهب لينزل، فما نزل عن المنبر حتّى دخلت النظّارة المسجد من قِبل باب التمّارين، يشتدّون ويقولون: قد جاء ابن عقيل، قد جاء ابن عقيل! فدخل عُبيد الله القصر مسرعاً وأغلق أبوابه.قال عبد الله بن حازم: أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما

ص: 48

فعل هانئ، فلمّا حُبس وضُرب ركبتُ فرسي، فكنتُ أوّلَ أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر، فإذا نسوةٌ لمراد مجتمعاتٍ ينادين: يا عَبرتاه، يا ثكلاه، فدخلتُ على مسلم بن عقيل فأخبرتُه، فأمرني أن أُنادي في أصحابه، وقد ملأ بهم الدور حوله، وكانوا فيها أربعة آلاف رجل، فناديت: يا منصور أمِتْ! فتنادى أهل الكوفة، واجتمعوا عليه، فعقد مسلم لرؤوس الأرباع على القبائل كندة ومذحج وأسد وتميم وهمدان، وتداعى الناس واجتمعوا، فما لبثنا إلّا قليلاً حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، وما زالوا يتوثّبون حتّى المساء، فضاق بعُبيد الله أمره، وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر، وليس معه في القصر إلّا ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته وخاصّته، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قِبل الباب الّذي يلي دار الروميّين، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم، وهم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم، ويفترون على عُبيد الله وعلى أبيه.

ودعا ابن زياد كثير بن شهاب، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل، ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمانٍ لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع الذهلي وشبث بن ربعيّ التميمي وحجّار بن أبجر العجليّ وشمر ابن ذي الجوشن العامريّ، وحبس باقي وجوه الناس عنده؛ استيحاشاً

ص: 49

إليهم، لقلّة عدد مَن معه من الناس.

فخرج كثير بن شهاب يخذّل الناس عن ابن عقيل، وخرج محمّد بن الأشعث حتّى وقف عند دور بني عمارة، فبعث ابن عقيل إلى محمّد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمان بن شريح الشبامي، فلمّا رأى ابن الأشعث كثرة مَن أتاه تأخّر عن مكانه، وجعل محمّد بن الأشعث وكثير بن شهاب والقعقاع بن شور الذهليّ وشبث بن ربعيّ يردّون الناس عن اللحوق بمسلم ويخوّفونهم السلطان، حتّى اجتمع إليهم عددٌ كثيرٌ من قومهم وغيرهم، فصاروا إلى ابن زياد من قِبل دار الروميّين، ودخل القوم معهم، فقال له كثير بن شهاب: أصلح الله الأمير، معك في القصر ناسٌ كثيرٌ من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إليهم. فأبى عبيد الله، وعقد لشبث بن ربعي لواءً فأخرجه.

وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتّى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم، ثمّ أشرفوا على الناس، فمنَّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوّفوا أهل العصيان الحرمان والعقوبة، وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم، وتكلم كثير حتّى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيّها الناس، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشرّ ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلَت، وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن تممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريّتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي الشام، وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهدَ بالغائب،

ص: 50

حتّى لا تبقى له بقيّةٌ من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جنَت أيديها. وتكلّم الأشراف بنحوٍ من ذلك.فلمّا سمع الناس مقالهم أخذوا يتفرّقون، وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك. ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشرّ؟ انصرف! فيذهب به فينصرف، فما زالوا يتفرّقون، حتّى أمسى ابن عقيلٍ وصلّى المغرب وما معه إلّا ثلاثون نفساً في المسجد، فلمّا رأى أنّه قد أمسى وما معه إلّا أُولئك النفر خرج من المسجد متوجّهاً نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان، فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق، ولا يدلّه على منزله ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ.

فمضى على وجهه متلدّداً في أزقّة الكوفة، لا يدري أين يذهب، حتّى خرج إلى دُور بني جبلّة من كِندة، فمشى حتّى انتهى إلى باب امرأةٍ يُقال لها: طوعة، أُمّ ولد، كانت للأشعث بن قيس فأعتقها، فتزوّجها أسيد الحضرميّ فولدت له بلالاً، وكان بلال قد خرج مع الناس، فأُمّه قائمةٌ تنتظره، فسلّم عليها ابن عقيلٍ فردّت عليه، فقال لها: يا أَمة الله، اسقيني ماءً. فسقَته، وجلس، وأدخلت الإناء، ثمّ خرجَت فقالت: يا عبد الله، ألم تشرب؟ قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك. فسكت، ثمّ أعادت مثل ذلك، فسكت، ثمّ قالت له في الثالثة: سبحان الله! يا عبد الله، قم -- عافاك الله -- إلى أهلك، فإنّه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أُحلّه لك. فقام وقال: يا أَمة الله،

ص: 51

ما لي في هذا المصر منزلٌ ولا عشيرة، فهل لكِ في أجرٍ ومعروف، لعلّي مكافئك بعد اليوم. فقالت: يا عبد الله، وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني. قالت: أنت مسلم؟! قال: نعم. قالت: ادخل. فدخل بيتاً في دارها غير البيت الّذي تكون فيه، وفرشَت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.ولم يكن بأسرع أن جاء ابنها، فرآها تُكثِر الدخول في البيت والخروج منه، فقال لها: واللهِ إنّه لَيريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه، إنّ لكِ لَشأناً. قالت: يا بُنيّ، الهُ عن هذا. قال: والله لَتخبرينني. قالت: أقبِلْ على شأنك ولا تسألني عن شيء. فألحّ عليها، فقالت: يا بُنيّ، لا تخبرنّ أحداً من الناس بشيءٍ ممّا أُخبرك به. قال: نعم. فأخذَت عليه الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت ((1)).

فلمّا أصبح الصباح إذا بالمرأة قد جاءت إلى مسلم بماءٍ ليتوضّأ، وقالت له: يا مولاي، ما رأيتُك رقدتَ في هذه الليلة. فقال لها: اعلمي أنّي رقدتُ رقدة، فرأيتُ في منامي عمّي أمير المؤمنين وهو يقول: «الوحاء الوحاء، العجل العجل»، وما أظنّ إلّا أنّه آخر أيّامي من الدنيا ((2)).

ص: 52


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 50، إعلام الورى للطبرسي: 227.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 415 المجلس 9.

ولمّا تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل، خرج ابن زيادٍ فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا قُبيل العتمة، وأمر فنودي: ألا برئت الذمّةُ من رجلٍ من الشرط والعرفاء والمناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلّا في المسجد. فلم يكن إلّا ساعةً حتّى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مناديه فأقام الصلاة، وأقام الحرس خلفه، وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحدٌ يغتاله، وصلّى بالناس، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم منالخلاف والشقاق، فبرئت ذمّة الله من رجلٍ وجدناه في داره، ومَن جاء به فله ديته.

اتّقوا الله عبادَ الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً.

يا حُصَين بن نمير، ثكلتك أُمّك إن ضاع باب سكّةٍ من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلّطتُك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصد على أهل السكك، وأصبِ-حْ غداً فاستبرأ الدور وجُس خلالها، حتّى تأتيني بهذا الرجل.

وكان الحصين بن نمير على شرطه، وهو من بني تميم ((1)).

فلمّا أصبح جلس مجلسه، وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل محمّد بن الأشعث، فقال: مرحباً بمن لا يستغشّ ولا يُتّهَم. ثمّ أقعده إلى جنبه.

ص: 53


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 56.

وأصبح ابن تلك العجوز، فغدا إلى عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند أُمّه، فأقبل عبد الرحمان حتّى أتى أباه -- وهو عند ابن زياد -- فسارّه ((1)).

ثمّ إنّ ابن زيادٍ دعا بمحمّد بن الأشعث الكنديّ، وضمّ إليه ألف فارس وخمسمئة راجل، وأمرهم بالانطلاق إلى مسلم، فسار ابن الأشعث حتّى وصل الدار، ولمّا سمعَت المرأة صهيل الخيل وقعقعة اللجم أقبلَت إلى مسلم وأخبرته بذلك، فلبس درعه وشدّ وسطه وجعل يدير عينيه، فقالت المرأة: ما لي أراك تهيّأت للموت؟ فقال: ما طلبه القوم غيري، وأنا أخاف أن يهجموا علَيّ في الدار ولا يكون ليفسحةٌ ولا مجال. ثمّ إنّه عمد إلى الباب وخرج إلى القوم، فقاتلهم قتالاً عظيماً ((2)).

وفي رواية (المناقب): قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً ((3)).

وفي رواية أبي مخنف: قاتلهم قتالاً شديداً، وقتل منهم مئةً وثمانين ((4)) فارساً، وانهزم الباقون ((5)).

ص: 54


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 57.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 319.
4- ([3]) في المتن: (مئة وخمسين).
5- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 33.

قال عمرو بن دينار: لقد كان من قوّته -- يعني مسلماً -- إنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت، إلى أن قُتل بالكوفة ((1)).

وفي (المنتخب): فلمّا نظر ابن الأشعث إلى ذلك، أنفذ إلى ابن زيادٍ يستمدّه بالخيل والرجال، فأنفذ إليه ابن زياد يقول: ثكلتك أُمّك، رجلٌ واحدٌ يقتل منكم هذه المقتلة العظيمة، فكيف لو أرسلتك إلى مَن هو أشدّ منه قوّةً وبأساً؟! يعني الحسين، فبعث إليه الجواب: عساك أرسلتني إلى بقّالٍ من بقاقيل الكوفة أو إلى جرمقانٍ من جرامقة الكوفة، وإنّما أرسلتني إلى سيفٍ من أسياف محمّد بن عبد الله. فلمّا بلغ ذلك ابن زياد أمدّه بالعسكر الكثير، فلمّا رأى مسلم ذلك رجع إلى الدار، وتهيّأ وحمل عليهم، حتّى قتل كثيراً منهم، وصار جلده كالقنفذ من كثرة النبل، فبعث [ابن الأشعث] (1) إلى ابن زيادٍ يستمدّه بالجند والرجال، فأرسل إليه بذلك، وقال لهم: يا ويلكم! أعطوه الأمان، وإلّاأفناكم عن آخِركم. فنادوه بالأمان ((2))، ثمّ حملوا عليه.

وفي رواية المفيد: ثمّ عادوا إليه، فشدّ عليهم كذلك، فاختلف هو وبكر ابن حمران الأحمريّ، فضرب فم مسلم فشقّ شفته العليا، وأسرع السيف في السفلى، ونصلت له ثنيّتاه، وضربه مسلم في رأسه ضربةً منكرة، وثنّاه

ص: 55


1- ([5]) مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 214، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 354.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.

بأُخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار في أطنان القصب ثمّ يلقونها عليه من فوق البيت، فلمّا رأى ذلك خرج عليهم مُصلِتاً بسيفه في السكّة، فقال له محمّد بن الأشعث: لك الأمان، لا تقتل نفسك. وهو يقاتلهم ويقول:

أقسمتُ

لا أُقتَل إلّا حرّا***إنّي رأيتُ الموت شيئاً نُكرا

ويجعل البارد سخناً مُرّا***ردّ شعاع الشمس فاستقرّا

كلّ امرئٍ يوماً مُلاقٍ شرّا***أخاف أن أُكذَب أو أُغَرّا

فقال له محمّد بن الأشعث: إنك لا تُكذَب ولا تغرّ، فلا تجزع، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضائريك. وكان قد أُثخن بالحجارة وعجز عن القتال، فانبهر وأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فأعاد ابن الأشعث عليه القول: لك الأمان، فقال: آمِنٌ أنا؟ قال: نعم. فقال للقوم الّذين معه: لي الأمان؟ فقال القوم له: نعم ((1)).

وقال ابن طاووس: فقال مسلم: وأيّ أمانٍ للغدَرة الفجَرة؟ ثمّ أقبليقاتلهم ويرتجز، وتكاثروا عليه بعد أن أُثخن بالجراح، فطعنه رجلٌ مِن خلفه فخرّ إلى الأرض ((2)).

ص: 56


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 58.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 54.

وفي (المنتخب): فقال لهم: لا أمان لكم يا أعداء الله وأعداء رسوله. ثمّ حمل عليهم فقاتلهم، ثمّ إنّهم احتالوا عليه وحفروا له حفرةً عميقةً في وسط الطريق، وأخفوا رأسها بالدغل والتراب، ثمّ انطردوا بين يديه فوقع بتلك الحفرة، وأحاطوا به، فضربه ابن الأشعث على محاسن وجهه، فلعب السيف في عرنين أنفه ومحاجر عينيه، حتّى بقيت أضراسه تلعب في فمه، فأوثقوه وأخذوه ((1)) أسيراً.

وأُتيَ ببغلةٍ فحُمِل عليها، فاجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه، فكأنّه عند ذلك أيس من نفسه ودمعت عيناه، ثمّ قال: هذا أوّل الغدر. قال له محمّد ابن الأشعث: أرجو أن لا يكون عليك بأس. فقال: وما هو إلّا الرجاء، أين أمانكم؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وبكى، فقال له عُبيد الله بن العبّاس السلَميّ: إنّ مَن يطلب مثل الّذي تطلب إذا نزل به مثل الّذي نزل بك لم يبكِ. قال: إنّي واللهِ ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثي، وإن كنتُ لم أُحبّ لها طرفة عينٍ تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي للحسين علیه السلام وآل الحسين.

ثمّ أقبل على محمّد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إنّي أراك واللهِ ستعجز عن أماني، فهل عندك خيرٌ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني أن يبلغ حسيناً، فإنّي لا أراه إلّا قد خرج إليكم اليوم مُقبِلاً، أو هو خارجٌ غداً

ص: 57


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.

وأهل بيته، ويقول له: إنّ ابن عقيل بعثني إليك، وهو أسيرٌ في أيدي القوم، لا يرى أنّه يُمسي حتّى يُقتَل، وهو يقول: ارجع، فداك أبي وأُمّي بأهل بيتك، ولا يغرّك أهل الكوفة، فإنّهم أصحاب أبيك الّذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل، إنّ أهل الكوفة قد كذبوك، وليس لمكذوبٍ رأي. فقال ابن الأشعث: واللهِ لأفعلنّ، ولأُعلِمَنّ ابن زيادٍ أنّي قد آمنتُك.

وأقبل ابن الأشعث بابن عقيلٍ إلى باب القصر، فاستأذن فأُذِن له، فدخل على ابن زيادٍ فأخبره خبرَ ابن عقيل وضربَ بكرٍ إيّاه وما كان من أمانه له، فقال له عبيد الله: وما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه! إنّما أرسلناك لتأتينا به. فسكت ابن الأشعث، وانتُهي بابن عقيل إلى باب القصر وقد اشتدّ به العطش ((1)).

وفي (المنتخب): وكان له يومان ما شرب الماء ((2)).

وفي رواية المفيد: وكان على باب القصر ناسٌ جلوسٌ ينتظرون الإذن، وإذا قلّةٌ باردةٌ موضوعةٌ على الباب، فقال مسلم: اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها؟ لا والله لا تذوق منها قطرةً أبداً، حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له ابن عقيل: ويلك! مَن أنت؟ قال: أنا من عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششتَه، وأطاعه إذ خالفتَه،

ص: 58


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 59.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.

أنا مسلم بن عمرو الباهليّ. فقال له ابن عقيل: لأُمّك الثكل، ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك، أنت يا ابن باهلة أَولى بالحميم والخلودفي نار جهنّم منّي ((1)).

قال المؤلّف: لمّا وصلتُ إلى هذا المقام، اشتعلَت الآهاتُ في صدري، وجرى دمعي على محاسني، وتلكّأ قلمي، وانعطف يحرّر حديثاً يقدح سماعه في قلوب الشيعة الشرر ويحرقها بالجمر، ويُجري الدموع على محاسن المخلصين، كما جرّبت ذلك مراراً.

روى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن هلال بن نافع قال: إنّي كنتُ واقفاً مع أصحاب عمر بن سعد (لعنه الله)، إذ صرخ صارخٌ: أبشِرْ أيّها الأمير، فهذا شمر قتل الحسين علیه السلام. قال: فخرجتُ بين الصفَّين، فوقفتُ عليه وإنّه علیه السلام لَيجود بنفسه، فوَاللهِ ما رأيتُ قطّ قتيلاً مضمَّخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نورُ وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله، فاستسقى في تلك الحال ماءً، فسمعتُ رجلاً يقول: واللهِ لا تذوق الماء حتّى تَرِد الحامية فتشرب من حميمها. فسمعتُه يقول: «يا ويلك! أنا لا أرد الحامية ولا أشرب من حميمها، بل أرد على جدّي رسول الله؟ص؟، وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وأشرب من ماء غير آسن، وأشكو إليه ما ارتكبتُم منّي وفعلتم بي». قال: فغضبوا بأجمعهم، حتّى كأنّ الله لم يجعل في

ص: 59


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 60.

قلب أحدٍ منهم من الرحمة شيئاً، فاجتزّوا رأسه وإنّه لَيكلّمهم، فتعجّبتُ مِن قلّة رحمتهم، وقلت: والله لا أُجامعكم على أمرٍ أبداً ((1)).

رُوي عن الباقر علیه السلام قال: «لقد قُتِل بالسيف والسنان،وبالحجارة وبالخشب وبالعصا» ((2)).

اين انتقام گر نفتادي به روز حشر***با اين عمل معاملة دهر چون شدي

وفي (الأمالي) للصدوق، عن ابن عبّاسٍ قال: قال عليٌّ علیه السلام لرسول الله صلی الله علیه وآله: «يا رسول الله، إنّك لَتحبّ عقيلاً!». قال: «إي والله، إنّي لَأُحبّه حبَّين: حبّاً له، وحبّاً لحبّ أبي طالبٍ له، وإنّ ولده لَمقتولٌ في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون»، ثمّ بكى رسول الله صلی الله علیه وآله حتّى جرت دموعه على صدره، ثمّ قال: «إلى الله أشكو ما تلقى عترتي مِن بعدي» ((3)).

أجل، روى المفيد قال: ثمّ جلس فتساند إلى حائط.

وبعث عمرو بن حريث غلاماً له، فجاءه بقُلّةٍ عليها منديلٌ وقدح، فصبّ فيه ماءً، فقال له: اشرب، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً مِن فيه

ص: 60


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 128.
2- ([1]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 317 ح 9.
3- ([2]) الأمالي للصدوق: 128 المجلس 27 ح 3.

فلا يقدر أن يشرب، ففعل ذلك مرّةً ومرّتين، فلمّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيّتاه في القدح، فقال: الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم شربتُه.

وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه، فلمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة ((1))، فقال له القوم: سلِّمْ على الأمير. فقال: السلام على مَناتّبع الهُدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى. فضحك ابن زياد، فقال له بعض الحجبة: أما ترى الأمير يضحك في وجهك؟ فلِمَ لا تسلّم عليه بالإمارة؟ فقال مسلم: والله ما لي أميرٌ غير الحسين بن عليّ علیه السلام ، وإنّما يُسلِّم عليه بالإمارة مَن يخاف منه الموت ((2)). فقال له ابن زياد: لَعمري لَتُقتلنّ. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدَعْني أُوصي إلى بعض قومي. قال: افعل.

فنظر مسلم إلى جلسائه، وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نُجح حاجتي، وهي سرّ. فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عُبيد الله: لمَ تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟ فقام معه، فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد ((3))، فقال له: أوّل وصيّتي: فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً

ص: 61


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 60.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 416 المجلس 9.
3- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 60.

رسول الله، وأنّ عليّاً وليّ الله ووصيّ رسوله وخليفته في أُمّته، وثانياً: تأخذ درعي تبيعه، وتقضي عنّي سبعمئة درهم استقرضتُها منذ دخلت إلى مصركم هذا، [و]ثالثاً: أن تكتب إلى سيّدي الحسين يرجع، ولا يأتي إلى بلدكم فيصيبه ما أصابني، فقد بلغني أنّه توجّه بأهله وأولاده إلى الكوفة ((1))، فإذا قُتلتُ فاستوهب جثّتي من ابن زيادٍ فوارها ((2)).

وفي (المنتخب): فقال عمر بن سعد: أمّا ما ذكرتَ من الشهادة،فكلّنا نشهدها، وأمّا ما ذكرتَ من بيع الدرع وقضاء الدَّين، فذلك إلينا، إن شئنا قضيناه وإن شئنا لم نقضِ، وأمّا ما ذكرت من أمر الحسين، فلابدّ أن يقدم علينا ونُذيقه الموت غصّةً بعد غصّة. ثمّ إنّ ابن زياد سمع بذلك، فقال: قبّحك الله من مستودَعٍ سرّاً، وحيث أنّك أفشيتَ سرّه فلا يخرج إلى حرب الحسين غيرك ((3)).

وروى المفيد: قال ابن زياد: أمّا مالك فهو لك ((4)) ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأما جثته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنع بها، وأما حسينٌ فإن هو لم يردنا لم نرده.

ص: 62


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 417 المجلس 9.
2- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 62.
3- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 417 المجلس 9.
4- ([2]) في المتن: (أمّا الدرع فمالُه يفعل به ما يشاء).

ثمّ قال ابن زياد: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وهم جميع، فشتتَّ بينهم وفرّقت كلمتهم، وحملتَ بعضهم على بعض. قال: كلّا، لستُ لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك ((1)) قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناه لنأمر بالعدل وندعوا إلى حكم الكتاب. فقال له ابن زياد -- مفترياً على المولى -- : وما أنت وذاك يا فاسق؟ لمَ لمْ تعمل فيهم بذاك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال: أنا أشرب الخمر؟! أما واللهِ إنّ الله لَيعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق، وأنّك قد قلتَ بغير علم، وأنّي لستُ كما ذكرت، وأنّك أحقّ بشرب الخمر منّي وأَولى بها مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها ويسفك الدم الحرام على الغصب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً. فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونهولم يرك الله له أهلاً. فقال مسلم: فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله؟ فقال ابن زياد: أمير المؤمنين يزيد. فقال مسلم: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكَماً بيننا وبينكم.

فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام من الناس. قال له مسلم: أما إنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن، وإنّك لا تدع سوء القتلة وقُبح الُمثلة وخبث السيرة ولؤم الغلَبة.

ص: 63


1- ([3]) في المتن: (عبد بني علاج من ثقيف).

فأقبل ابن زيادٍ يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلاً علیهم السلام، وأخذ مسلم لا يكلّمه ((1)).

ثمّ أمر بمسلم أن يُصعَد به إلى أعلى القصر ويُرمى منه منكساً على رأسه، فعند ذلك بكى مسلم على فراق الحسين علیه السلام ، وقال:

جزى الله عنّا قومنا شرَّ ما جزى***شِرار الموالي، بل أعقّ وأظلمُ

همُ منعونا حقَّنا، وتظاهروا***علينا، ورامونا نذلّ ونرغمُ

وغاروا علينا يسفكون دماءنا***فحسبهمُ اللهُ العظيمُ المعظَّمُ

ونحن بنو المختار، لا شيء مثلنا***نبيٌّ صدوقٌ مكرمٌ ومكرّمُ ((2))

فقال ابن زياد: أين هذا الّذي ضرب ابن عقيل رأسَه بالسيف؟ فدُعي بكر بن حمران الأحمريّ، فقال له: اصعد، فلْتكن أنت الّذي تضرب عنقه. فصعد به وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي علىرسوله، ويقول: اللّهمّ احكُمْ بيننا وبين قومٍ غرّونا وكذبونا وخذلونا ((3)).

وفي خبرٍ أنّه توجّه نحو المدينة ((4)) وقال: السلام عليك يا ابن رسول

ص: 64


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 61.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 417 المجلس 9.
3- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 63.
4- ([2]) في (روضة الشهداء): (نحو مكّة).

الله، هل تعلم بما جرى على ابن عمّك؟ ((1)) فإنّه سيجري عليك مثله ((2))!

وبرواية أبي مخنف: نادى عمر بن سعد: يا ويلكم، ألقوه في المهالك ((3)).

فتقدّم بكر بن حمران مسرعاً وقال: سآخذ ثاري منك. ثمّ ضربه ضربةً لم تُغنِ شيئاً، فضربه الثانية فقتله، ورمى بجثّته المطهّرة إلى الأرض ((4))، ونزل مذعوراً، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ فقال: أيّها الأمير، رأيتُ ساعة قتلته رجلاً أسود سيّء الوجه حذائي، عاضّاً علىإصبعه، أو قال: على شفته، ففزعتُ منه فزعاً لم أفزعه قطّ. فقال ابن زياد (لعنه الله): لعلّك دُهشت ((5)).

ص: 65


1- ([3]) روضة الشهداء: 229، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 77.
2- ([4]) في (روضة الشهداء): (إلّا أنّي لا أخشاهم في طريق الحقّ).
3- ([5]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 78.
4- ([6]) في (تاريخ الطبريّ: 5 / 378) وغيره: قال أبو مخنف: حدّثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة قال: نزل الأحمريّ بكير بن حمران الّذي قتل مسلماً، فقال له ابن زياد: قتلتَه؟ قال: نعم. قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يكبّر ويسبّح ويستغفر، فلمّا أدنيتُه لأقتله قال: اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ كذبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا. فقلت له: ادنُ منّي، الحمد لله الّذي أقادني منك. فضربتُه ضربةً لم تُغنِ شيئاً، فقال: أما ترى في خدشٍ تخدشنيه وفاءً من دمك أيّها العبد؟ فقال ابن زياد: أوَ فخراً عند الموت؟ قال: ثمّ ضربتُه الثانية، فقتلته.
5- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 58، الفتوح لابن أعثم: 5 / 103.

وفي بعض الأخبار: لمّا أراد الشقيّ (لعنه الله) أن يهوي على عنقه بالسيف، يبست يده واستولى عليه الذهول، فسارعوا إلى ابن زيادٍ بالخبر، فاستدعاه وبعث رجلاً آخر، فتراءت له صورة المصطفى صلی الله علیه وآله وهو واقف، فصعق ومات، فأرسل بعده رجلاً شاميّاً فقتله ((1)).

فلمّا قُتل مسلم علیه السلام وانتقل إلى رياض الجِنان، أمر ابنُ زيادٍ بهانئ في الحال فقال: أخرِجوه إلى السوق فاضربوا عنقه. فأُخرج هانئ حتّى انتُهي به إلى مكانٍ من السوق كان يُباع فيه الغنم، وهو مكتوف، فجعل يقول: وا مِذحجاه ولا مذحج لي اليوم، يا مذحجاه، يا مذحجاه، وأين مذحج؟ فلمّا رأى أنّ أحداً لا ينصره، جذب يده فنزعها من الكِتاف، ثمّ قال: أما من عصاً أو سكّينٍ أو حجَرٍ أو عظمٍ يحاجز به رجلٌ عن نفسه؟! ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً، ثمّ قيل له: امدد عنقك. فقال: ما أنا بها سخي، وما أنا بمعينكم على نفسي! فضربه مولىً لعُبيد الله تركيّ، يُقال له: رشيد، بالسيف فلم يصنع شيئاً، فقال هانئ: إلى الله المعاد، اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك. ثمّ ضربه أُخرى فقتله ((2)).

ثمّ كتب ابن زيادٍ إلى يزيد كتاباً شرح فيه ما جرى له مع مسلم وهاني، وأرسل برأسيهما مع الكتاب، فلمّا قرأ يزيد الكتاب فرحفرحاً شديداً، وأمر

ص: 66


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 230.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 64.

أن تُصلَب الرؤوس على باب دمشق ((1))، وكتب إلى ابن زيادٍ كتابَ شُكره وأثنى عليه، وقال: إنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنّة واقتل على التهمة، واكتب إليّ فيما يحدث من خبرٍ إن شاء الله ((2)).

وكان خروج مسلم بن عقيل بالكوفة -- في رواية المفيد -- يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستّين، وقتله يوم الأربعاء لتسعٍ خلَون منه يوم عرفة ((3)).

ص: 67


1- ([1]) الفتوح لابن أعثم: 5 / 108.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 66.
3- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 66.

ص: 68

المجلس الثالث: في بيان شهادة ولدَي مسلم بن عقيل علیهم السلام

روى الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي)، عن أبي محمّد شيخ لأهل الكوفة قال:

لمّا قُتل الحسين بن علي علیه السلام ، أُسر من معسكره غلامان صغيران، فأُتي بهما عُبيد الله بن زياد، فدعا سجّاناً له فقال: خُذْ هذين الغلامين إليك، فمِن طيب الطعام فلا تطعمهما، ومن البارد فلا تسقهما، وضيّق عليهما سجنهما.

وكان الغلامان يصومان النهار، فإذا جنّهما الليل أتيا بقرصين من شعيرٍ وكوز من ماء القراح، فلمّا طال بالغلامين المكث حتّى صارا في السنة، قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، قد طال بنا مكثنا، ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا، فإذا جاء الشيخ فأعلِمْه مكاننا وتقرَّب إليه بمحمّد صلی الله علیه وآله، لعلّه

ص: 69

يوسع علينا في طعامنا ويزيدنا في شرابنا.

فلمّا جنّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعيرٍ وكوزٍ من ماء القراح، فقال له الغلام الصغير: يا شيخ، أتعرف محمّداً؟ قال:فكيف لا أعرف محمّداً، وهو نبيّي. قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟ قال: وكيف لا أعرف جعفراً، وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء. قال: أفتعرف عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: وكيف لا أعرف عليّاً، وهو ابن عمّ نبيّي وأخو نبيّي. قال له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه واله، ونحن من وُلد مسلم بن عقيل بن أبي طالب بيدك أُسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيّقتَ علينا سجننا. فانكبّ الشيخ على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء يا عترة نبيّ الله المصطفى، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح، فخُذا أيّ طريقٍ شئتما.

فلمّا جنّهما الليل أتاهما بقرصين من شعيرٍ وكوزٍ من ماء القراح، ووقفهما على الطريق، وقال لهما: سيرا يا حبيبَيّ الليلَ واكمِنا النهار، حتّى يجعل الله عزوجل لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً. ففعل الغلامان ذلك، فلمّا جنّهما الليل انتهيا إلى عجوزٍ على باب، فقالا لها: يا عجوز، إنّا غلامان صغيران غريبان حَدِثان غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جنّنا، أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق. فقالت لهما: فمَن أنتما يا حبيبَيّ؟ فقد شممت الروائح كلّها، فما شممتُ رائحةً أطيب من رائحتكما! فقالا لها: يا

ص: 70

عجوز، نحن من عترة نبيّكِ محمّد صلی الله علیه وآله، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل. قالت العجوز: يا حبيبَيّ، إنّ لي ختناً فاسقاً قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد، أتخوّفُ أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما. قالا: سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق. فقالت: سآتيكما بطعام. ثمّ أتتهما بطعامٍ فأكلا وشربا، ولمّا وَلِجا الفراش قال الصغير للكبير: يا أخي، إنّا نرجو أن نكون قد أمنّاليلتنا هذه، فتعالَ حتّى أُعانقك وتعانقني، وأشمّ رائحتك وتشمّ رائحتي قبل أن يفرّق الموت بيننا. ففعل الغلامان ذلك، واعتنقا وناما.

فلمّا كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتّى قرع الباب قرعاً خفيفاً، فقالت العجوز: مَن هذا؟ قال: أنا فلان. قالت: ما الّذي أطرقك هذه الساعة وليس هذا لك بوقت؟ قال: ويحكِ! افتحي الباب قبل أن يطير عقلي وتنشقّ مرارتي في جوفي، جهد البلاء قد نزل بي. قالت: ويحك، ما الّذي نزل بك؟ قال: هرب غلامان صغيران من عسكر عبيد الله ابن زياد، فنادى الأمير في معسكره: مَن جاء برأس واحدٍ منهما فله ألف درهم، ومن جاء برأسهما فله ألفا درهم. فقد أتعبتُ وتعبت ولم يصل في يدي شيء. فقالت العجوز: يا ختني، احذر أن يكون محمّدٌ خصمك في القيامة! قال: ويحكِ، إنّ الدنيا محرص عليها. فقالت: وما تصنع بالدنيا وليس معها آخرة؟ قال: إنّي لَأراك تحامين عنهما، كأنّ عندك من طلب الأمير شيء، فقومي، فإنّ الأمير يدعوكِ. قالت: ما يصنع الأمير بي؟ وإنّما أنا

ص: 71

عجوزٌ في هذه البريّة. قال: إنّما لي الطلب، افتحي لي الباب حتّى أريح وأستريح، فإذا أصبحتُ فكّرتُ في أيّ الطريق آخذ في طلبهما.

ففتحَت له الباب، وأتته بطعامٍ وشراب، فأكل وشرب، فلمّا كان في بعض الليل سمع غطيط الغلامين في جوف الليل، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، ويخور كما يخور الثور، ويلمس بكفّه جدار البيت حتّى وقعَت يدُه على جنب الغلام الصغير، فقال له: مَن هذا؟ قال: أمّا أنا فصاحب المنزل، فمن أنتما؟ فأقبل الصغير يحرّك الكبير ويقول: قم يا حبيبي، فقد والله وقعنا فيما كنّا نحاذره. قال لهما: مَن أنتما؟ قالا له: يا شيخ، إنْ نحن صدقناك فلَنا الأمان؟ قال: نعم. قالا: أمان الله وأمان رسوله، وذمّة الله وذمّة رسول الله؟ قال: نعم. قالا:ومحمّد بن عبد الله على ذلك من الشاهدين! قال: نعم. قالا: واللهُ على ما نقول وكيلٌ وشهيد! قال: نعم. قالا له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه وآله، هربنا من سجن عُبيد الله بن زياد من القتل. فقال لهما: من الموت هربتما وإلى الموت وقعتما، الحمد لله الّذي أظفرني بكما ((1)).

وفي (المنتخب): ثمّ إنّه لطم الأكبر منهما لطمةً أكبّه على الأرض حتّى تهشّم وجهه وأسنانه من شدّة الضربة، وسال الدم من وجهه وأسنانه، ثمّ إنّه كتّفهما كتافاً وثيقاً، فلمّا نظرا إلى ما فعل به [خ ل: بهم] اللعين قالا: ما

ص: 72


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 83 المجلس 19.

لك يا هذا تفعل بنا هذا الفعل، وامرأتك قد أضافتنا وأكرمتنا وأنت هكذا تفعل بنا؟ أما تخاف الله فينا؟ أما تراعي يُتمنا وقربنا من رسول الله؟ فلم يعبأ اللعين بكلامهما، ولا رحمهما ولا رقّ لهما، ثمّ دفعهما إلى خارج البيت، وبقيا مكتّفين إلى الفجر، وهما يتوادعان ويبكيان لما جرى عليهما ((1)).

وفي رواية الصدوق: فلمّا انفجر عمود الصبح، دعا غلاماً له أسود يُقال له: فليح، فقال: خُذ هذين الغلامين فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، واضرب أعناقهما وائتني برؤوسهما؛ لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفَي درهم. فحمل الغلام السيف فمضى بهما ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلّا غير بعيدٍ حتّى قال أحد الغلامين: يا أسود، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذّن رسول الله صلی الله علیه وآله. قال: إنّ مولاي قد أمرني بقتلكما، فمَن أنتما؟!قالا له: يا أسود، نحن من عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه وآله، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد (لعنه الله) من القتل، أضافتنا عجوزكم هذه، ويريد مولاك قتلنا. فانكبّ الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبيّ الله المصطفى، واللهِ لا يكون محمّدٌ صلی الله علیه و آله خصمي في القيامة. ثمّ عدا فرمى بالسيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر إلى الجانب الآخر، فصاح به مولاه: يا غلام، عصيتني. فقال: يا مولاي، إنّما أطعتُك ما دمتَ لا تعصي الله، فإذا عصيتَ

ص: 73


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 374 المجلس 7.

الله فأنا منك بريءٌ في الدنيا والآخرة.

فدعا ابنه فقال: يا بُنيّ، إنّما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك، والدنيا محرص عليها، فخُذ هذين الغلامين إليك فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، فاضرب أعناقهما وائتني برؤوسهما؛ لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفَي درهم. فأخذ الغلام السيف ومشى أمام الغلامين، فما مضى [خ ل: فما مضيا] إلّا غير بعيدٍ حتّى قال أحد الغلامين: يا شابّ، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنّم. فقال: يا حبيبَيّ، فمن أنتما؟! قالا: من عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه وآله، يريد والدك قتلنا. فانكبّ الغلام على أقدامهما يقبّلهما ويقول لهما مقالة الأسود، ورمى بالسيف ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر، فصاح به أبوه: يا بُنيّ، عصيتني. قال: لئن أطيع اللهَ وأعصيك أحبّ إليّ مِن أن أعصي الله وأطيعك.

قال الشيخ: لا يلي قتلكما أحدٌ غيري! وأخذ السيف و مشى أمامهما، فلمّا صار إلى شاطئ الفرات سلّ السيف من جِفنه، فلمّا نظر الغلامان إلى السيف مسلولاً اغرورقت أعينهما، وقالا له: ياشيخ، انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا، ولا ترد أن يكون محمّدٌ خصمك في القيامة غداً. فقال: لا، ولكن أقتلكما وأذهب برؤوسكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفَين. فقالا له: يا شيخ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: ما لكما من رسول الله قرابة! قالا له: يا شيخ، فائتِ بنا إلى عبيد الله بن زياد حتّى يحكم فينا بأمره. قال: ما بي إلى ذلك سبيل، إلّا التقرّب إليه بدمكما. قالا

ص: 74

له: يا شيخ، أما ترحم صِغَر سنّنا؟ قال: ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً. قالا: يا شيخ، إن كان ولا بدّ، فدَعْنا نصلّي ركعات. قال: فصلِّيا ما شئتما، إن نفعتكما الصلاة! فصلّى الغلامان أربع ركعات، ثمّ رفعا طرْفَيهما إلى السماء فناديا: يا حيّ يا حكيم، يا أحكم الحاكمين، احكُم بيننا وبينه بالحقّ. فقام إلى الأكبر فضرب عنقه، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة، وأقبل الغلام الصغير يتمرّغ في دم أخيه وهو يقول: حتّى ألقى رسول الله صلی الله علیه وآله وأنا مختضبٌ بدم أخي ((1)).

وفي (المنتخب): فصاح أخوه، وجعل يتمرّغ بدم أخيه وهو ينادي: وا أخاه، وا قلّة ناصراه، وا غربتاه! ((2))

وفي رواية الصدوق: فقال: لا عليك، سوف أُلحِقك بأخيك. ثمّ قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه، وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة، ورمى ببدنهما في الماء وهما يقطران دماً ((3)).قال المؤلّف: انظروا أيّها الشيعة! أهذا هو أجر الرسالة ومودّة ذوي القربى الّتي أوجبها الله (تعالى) في كتابه، أن تظلِم هذه الأُمّة المتعوسة البائسة أهلَ بيته، ويقتلونهم ويضطهدونهم؟! ولا يكتفون بذلك، فيجعلون رأس

ص: 75


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 85 المجلس 19.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 375 المجلس 7.
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 87 المجلس 19.

هذين الفتيين في المخلاة! آهٍ من جفاء الظالمين الجائرين!

خطر ببالي حديثاً مؤلماً يحترق له القلب، رواه في (التبر المذاب) عن الواقديّ قال: لمّا حمل الشمر رأس الحسين علیه السلام جعله في مخلاة، وذهب به إلى منزله، فوضعه على التراب، وجعل عليه أُجانة، فخرجت امرأته ليلاً فرأت نوراً ساطعاً عند الرأس إلى عنان السماء، فجاءت إلى الأُجانة فسمعَت أنيناً تحتها، فجاءت إلى شمر (لعنه الله) وقالت: رأيتُ كذا وكذا، فأيّ شيءٍ تحت الأجانة؟ قال: رأس خارجيّ قتلتُه، وأُريد أذهب به إلى يزيد ليعطيني عليه مالاً كثيراً. قالت: ومَن يكون؟ قال: الحسين بن علي علیهما السلام. فصاحت وخرّت مغشيّة، فلمّا أفاقت قالت: يا شرّ المجوس، أما خفتَ من إله الأرض والسماء؟!

ثمّ خرجَت من عنده باكية، ورفعت الرأس وقبّلته، ووضعته في حجرها، ودعت نساء يساعدنها بالبكاء عليه، وقالت: لعن الله قاتلك.

فلمّا جنّ الليل غلبها النوم، فرأت كأنّ الحائط قد انشقّ بنصفين، وغشي البيت نور، وجاءت سحابة، فإذا فيها امرأتان، فأخذتا الرأس وبكتا، فسألت عنهما، فقيل: إنّهما خديجة وفاطمة. ثمّ رأت رجالاً وفي وسطهم إنسانٌ وجهه كالقمر ليلة تمّه، فسألت عنه، فقيل: محمّد صلی الله علیه وآله، وعن يمينه حمزة وجعفر وأصحابه، فبكوا وقبّلوا الرأس. ثمّ جاءت خديجة وفاطمة إلى امرأة الشمر وقالتا لها: تمنّي ما شئتِ، فإنّ لكِ عندنا منّة ويداً بما فعلت، فإن أردتِ أنتكوني من رفقائنا في الجنّة فأصلحي أمرك، فإنّا منتظروك.

ص: 76

وانتبهت من النوم ورأس الحسين علیه السلام في حِجرها.

وجاء الشمر (لعنه الله) لطلب الرأس فلم تدفعه إليه، وقالت له: يا عدوّ الله، طلِّقني، فإنّك يهودي، والله لا أكون معك أبداً. فطلّقها، فقالت: والله لا أدفع إليك هذا الرأس أو تقتلني. فضربها ضربةً كانت منيّتها فيها، وعجّل الله بروحها إلى الجنّة ((1)).

ترسم جزاي قاتل او چون رقم زنند***يك باره بر جريده رحمت قلم زنند

ثمّ إنّ القاتل الملعون مرّ حتّى أتى بهما عبيد الله بن زياد، وهو قاعدٌ على كرسيٍّ له وبيده قضيب خيزران، فوضع الرأسين بين يديه، فلمّا نظر إليهما قام ثمّ قعد ثلاثاً، ثمّ قال: الويل لك، أين ظفرت بهما؟ قال: أضافتهما عجوزٌ لنا. قال: فما عرفتَ حقّ الضيافة؟ قال: لا. قال: فأيّ شيءٍ قالا لك؟ قال: قالا: يا شيخ، اذهب بنا إلى السوق فبِعْنا فانتفع بأثماننا، فلا ترد أن يكون محمّد صلی الله علیه وآله خصمك في القيامة. قال: فأيّ شيءٍ قلتَ لهما؟ قال: قلت: لا، ولكن أقتلكما وأنطلق برأسكما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ ألفَي درهم. قال: فأيّ شيءٍ قالا لك؟ قال: قالا: ائتِ بنا إلى عبيد الله بن زيادٍ حتّى يحكم فينا بأمره. قال: فأيّ شيءٍ قلت؟ قال: قلت: ليس إلى

ص: 77


1- ([1]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 222 -- تحقيق: السيّد علي أشرف.

ذلك سبيل، إلّا التقرّب إليه بدمكما. قال: أفلا جئتني بهما حيَّين،فكنتُ أُضاعف لك الجائزة وأجعلها أربعة آلاف درهم! قال: ما رأيتُ إلى ذلك سبيلاً، إلّا التقرب إليك بدمهما. قال: فأيّ شيءٍ قالا لك أيضاً؟ قال: قالا: يا شيخ، احفظ قرابتنا من رسول الله. قال: فأيّ شيءٍ قلتَ لهما؟ قال: قلت: ما لكما من رسول الله من قرابة. قال: ويلك! فأيّ شيءٍ قالا لك أيضاً؟ قالا: يا شيخ، ارحم صغر سنّنا. قال: فما رحمتهما؟ قال: قلت: ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئاً. قال: ويلك! فأيّ شيءٍ قالا لك أيضاً؟ قال: قالا: دعنا نصلّي ركعات، فقلت: فصلّيا ما شئتما إن نفعَتكما الصلاة، فصلّى الغلامان أربع ركعات. قال: فأيّ شيءٍ قالا في آخر صلاتهما؟ قال: رفعا طرفَيهما إلى السماء وقالا: يا حيّ يا حكيم، يا أحكم الحاكمين، احكم بيننا وبينه بالحقّ. قال عبيد الله بن زياد: فإنّ أحكم الحاكمين قد حكم بينكم! مَن للفاسق؟ قال: فانتدب له رجلٌ من أهل الشام فقال: أنا له ((1)).

وفي (المنتخب): ثمّ نظر ابن زيادٍ إلى ندمائه، وكان فيهم محبٌّ لأهل البيت، وقال له: خُذ هذا الملعون وسِرْ به إلى موضعٍ قُتِل فيه الغلامين، واضرب عنقه، ولا تدع أن يختلط دمُه بدمهما، وخُذ هذين الرأسين وارمهما في موضعٍ رُمي به أبدانما.

ص: 78


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 87 المجلس 19.

قال: فأخذه وسار به وهو يقول: والله لو أعطاني ابن زيادٍ جميع سلطنته، ما قبلتُ هذه العطيّة. وكان كلّما مرّ بقبيلةٍ أراهم الرأسين وحكى لهم بالقصّة، وما يريد يفعل بذلك اللعين، ثمّ سار به إلى موضع قُتل فيه الغلامان، فقتله بعد أن عذّبه بقطع عينيه وقطع أُذنيه ويديه ورجليه، ورمى بالرأسين في الفرات.

قال: فخرجت الأبدان، ورُكّبَت الرؤوس عليها بقدرة الله(تعالى)، ثمّ تحاضنا وغاصا في الفرات.

ثمّ إنّ ذلك الرجل المحبّ أتى بالرأس -- رأس ذلك اللعين -- فنصبه على قناة، وجعل الصبيان يرجمونه بالحجارة. ألا لعنة الله على القوم الظالمين «وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» ((1)) ((2)).

ص: 79


1- ([1]) سورة الشعراء: 227.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 376 المجلس 7.

ص: 80

المجلس الرابع: في بيان توجّه الإمام الحسين علیه السلام إلى العراق

روى الشيخ المفيد قال: وكان توجُّه الحسين علیه السلام من مكّة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة، وهو يوم التروية، بعد مقامه بمكّة بقيّة شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليالٍ خلون من ذي الحجّة، سنة ستّين، وكان قد اجتمع إليه مدّة مقامه بمكّة نفرٌ من أهل الحجاز ونفرٌ من أهل البصرة، انضافوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسين علیه السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ مِن إحرامه وجعلها عمرة، لأنه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقبَض عليه بمكّة فينفذ إلى يزيد بن معاوية ((1)).

ص: 81


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 67.

وذلك لأنّ يزيد (لعنه الله) -- كما في (المنتخب) -- أنفذ عمر بنسعد بن العاص في عسكرٍ عظيم، وولّاه أمر الموسم وأمّره على الحاجّ كلّه، وكان قد أوصاه بقبض الحسين علیه السلام سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة. ثمّ إنّه (لعنه الله) دسّ مع الحجّاج في تلك السنة ثلاثين رجُلاً من شياطين بني أُميّة، وأمرهم بقتل الحسين على كلّ حالٍ اتّفق، فلمّا علم الحسين بذلك حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرةً مفردة ((1)).

قال المؤلّف: التأمّل في هذا الأمر يُعَدّ مِن جملة المصائب الّتي نزلت بقلب المولى وشيعته، وذلك لأنّ الناس يتوجّهون من أقاصي البلدان ويتحمّلون الصعاب ويقطعون الجبال والسهول والوديان ليشهدوا مكّة وعرَفة والمشعر ومنى أيّام التروية وعرفة والعيد وأيّام التشريق، فإذا دخلوا الحرم أمِنوا، وكلُّ مَن في الحرم آمِنٌ حتّى لو كان من طيور الجوّ، بَيد أنّ مَن خُلقَت مِن أجله مكّة والحرم لا يأمن على نفسه من جَور الجائرين وغدر الظالمين، فلا يُتِمّ حجّه، ويخرج يوم التروية ليلة عرفة مِن مكّة، ويتوجّه إلى العراق دامع العين باكياً!

يا أُمّةً باءَت بقتل هُداتها***أفمن على قَتل الهُداة هداكِ؟!

بئس الجزاءُ لأحمدٍ في آله***وبنيه يوم الطفّ كان جزاكِ

وروى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن أبي محمّد الواقديّ

ص: 82


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 424.

وزرارة بن خلج: لقينا الحسين بن عليٍّ علیه السلام قبل أن يخرج إلى العراق، فأخبرناه ضعف الناس بالكوفة وأنّ قلوبهم معهوسيوفهم عليه، فأومأ بيده نحو السماء ففُتحَت أبواب السماء، ونزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلّا الله عزوجل، فقال: «لولا تقارب الأشياء وهبوط الأجَل لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا ولدي علي علیه السلام » ((1)).

وروى الشيخ حسين بن عصفور عن كتاب (الثاقب في المناقب)، عن جابر بن عبد الله رضی الله عنه قال: لمّا عزم الحسين بن عليّ علیها السلام على الخروج إلى العراق أتيتُه فقلت له: أنت ولد رسول الله صلی الله علیه وآله وأحد سبطَيه، لا أرى إلّا أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن، فإنّه كان موفّقاً راشداً. فقال لي: «يا جابر، قد فعل أخي ذلك بأمر الله وأمر رسوله، وإنّي أيضاً أفعل بأمر الله وأمر رسوله، أتريد أن أستشهد لك رسول الله صلی الله علیه وآله وعليّاً وأخي الحسن بذلك الآن؟»، ثمّ نظرتُ فإذا السماء قد انفتح بابها، وإذا رسول الله وعليٌّ والحسن وحمزة وجعفر وزيد نازلين عنها، حتّى استقرّوا على الأرض، فوثبتُ فزِعاً مذعوراً، فقال لي رسول الله صلی الله علیه وآله: «يا جابر، ألم أقل لك في أمر الحسن قبل الحسين: لا تكون مؤمناً حتّى تكون لأئمتك مسلّماً ولا تكن معترضاً؟ أتريد أن ترى مقعد معاوية ومقعد الحسين ابني ومقعد يزيد قاتله (لعنه الله)؟»، قلت: بلى يا رسول الله. فضرب برجله الأرض فانشقَّت، وظهر بحرٌ فانفلق، ثمّ ضرب فانشقّت، هكذا حتّى

ص: 83


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 62.

انشقّت سبع أرضين وانفلقت سبعة أبحر، فرأيتُ مِن تحت ذلككلّه النار، فيها سلسلة قُرن فيها الوليد بن مغيرة وأبو جهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقُرن بهم مردة الشياطين، فهم أشدّ أهل النار عذاباً، ثمّ قال صلی الله علیه وآله: «ارفع رأسك»، فرفعت، فإذا أبواب السماء متفتّحة، وإذا الجنّة أعلاها، ثمّ صعد رسول الله صلی الله علیهو آله ومَن معه إلى السماء، فلمّا صار في الهواء صاح بالحسين: «يا بُنيّ الحقني»، فلحقه الحسين علیه السلام ، وصعدوا حتّى رأيتُهم دخلوا الجنّة من أعلاها، ثمّ نظر إليّ من هناك رسول الله، وقبض على يد الحسين وقال: «يا جابر، هذا ولدي معي هاهنا، فسلِّم له أمره ولا تشكّ؛ لتكون مؤمناً». قال جابر: فعميَت عيناي إن لم أكن رأيتُ ما قلتُ من رسول الله صلی الله علیه وآله ((1)).

وقال السيّد ابن طاووس: ورُوي أنّه علیه السلام لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال: «الحمد لله، ما شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله، وصلّى الله على رسوله. خُطّ الموتُ على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تتقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجر الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله صلی الله علیه وآله لحمته، وهي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده. مَن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على

ص: 84


1- ([1]) الثاقب في المناقب لابن حمزة: 322 الباب 6 ح 1.

لقاء الله نفسه، فلْيرحل معنا، فإنّني راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله (تعالى)» ((1)).

وروى الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخَب)، أنّ محمّد ابن الحنفيّة لمّا بلغه الخبر أنّ أخاه الحسين خارجٌ من مكّة يريد العراق، كان بين يديه طشتٌ فيه ماءٌ وهو يتوضّأ، فجعل يبكي بكاءً شديداً حتّى سُمع، وكفّ دموعه في الطشت مثل المطر ((2)).

وفي (الصواعق المحرقة): لمّا بلغ محمّد ابن الحنفيّة مسيره، وكان يتوضّأ وبين يديه طشت، بكى حتّى ملأه من دموعه ((3)).

وفي (التبر المذاب): ثمّ نادى: واحسيناه، وا خليفة الماضين وثمال الباقين ((4)).

وفي (المنتخب): ثمّ إنّه صلّى المغرب، ثمّ سار إلى أخيه الحسين علیه السلام ((5)).

وفي (الملهوف): سار محمّد ابن الحنفيّة إلى الحسين علیه السلام في الليلة الّتي

ص: 85


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 60.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 424 المجلس 9.
3- ([3]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 42، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 217، تاريخ الطبري: 5 / 394.
4- ([4]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 42.
5- ([5]) المنتخب للطريحي: 2 / 424 المجلس 9.

أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خِفتُ أن يكون حالُك كحال من مضى، فإن رأيتَ أن تقيم، فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه. فقال: «يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم،فأكون الّذي يُستباح به حرمة هذا البيت». فقال له ابن الحنفيّة: فإن خفتَ ذلك فصِرْ إلى اليمن أو بعض نواحي البَرّ، فإنّك أمنع الناس به ولا يقدر عليك ((1)).

وفي (المنتخب): فقال الحسين: «واللهِ -- يا أخي -- لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه حتّى يقتلوني»، ثمّ قال: «يا أخي، سأنظر فيما قلت» ((2)).

وفي (الملهوف): فلمّا كان في السحَر ارتحل الحسين علیه السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة فأتاه، فأخذ زمام ناقته الّتي ركبها فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتُك؟ قال: «بلى». قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: «أتاني رسول الله صلی الله علیه وآله بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين، اخرج، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً». فقال له ابن الحنفيّة: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: «قد قال لي:

ص: 86


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 63.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 424 المجلس 9.

إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا» ((1)).

وفي (المنتخب): فقال: «يا أخي، إنّ جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله أتاني بعدما فارقتُك وأنا نائم، فضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عينَيّ، وقال: يا حسين، يا قُرّة عيني، اخرج إلى العراق، فإنّ الله عزوجل قد شاء أن يراك قتيلاًمخضَّباً بدمائك». فبكى ابن الحنفيّة بكاءً شديداً، وقال له: يا أخي، إذا كان الحال هكذا، فما معنى حملك هذه النسوة وأنت ماضٍ إلى القتل؟! فقال: «يا أخي، قد قال لي جدّي أيضاً: إنّ الله عزوجل قد شاء أن يراهم سبايا مهتّكات، يُسَقن في أسر الذلّ، وهنّ أيضاً لا يفارقنني ما دمتُ حيّاً». فبكى ابن الحنفيّة بكاءً شديداً، وجعل يقول: أودعتك الله يا حسين، في وداعة الله يا حسين ((2)).

وفي (المناقب): عن ابن عبّاسٍ قال: رأيتُ الحسين قبل أن يتوجّه إلى العراق على باب الكعبة، وكفّ جبرئيل في كفّه، وجبرئيل ينادي: هلمُّوا إلى بيعة الله عزوجل ((3)).

وروى في (الملهوف) قال: وجاءه عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن زبير، فأشارا إليه بالإمساك، فقال لهما: «إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه». قال: فخرج ابن عبّاسٍ وهو يقول: وا حسيناه.

ص: 87


1- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 64.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 424 المجلس 9.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.

ثمّ جاء عبد الله بن عمر، فأشار إليه بصلح أهل الضلال وحذّره من القتل والقتال! فقال له: «يا أبا عبد الرحمان، أما علمتَ أنّ مِن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟ أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً؟ فلم يعجّل الله عليهم، بل أمهلهم، وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ ذي انتقام! اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدعَنّ نصرتي!»((1)).

وروى صاحب (المناقب) قال: عُنّف ابنُ عبّاسٍ ((2)) على تركه الحسين، فقال: إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم.

وقال محمّد ابن الحنفيّة: وإنّ أصحابه عندنا لَ-مكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم ((3)).

ورُوي عن الباقر علیه السلام قال: «إنّ الحسين علیه السلام لمّا توجّه إلى العراق، دعا بقرطاسٍ وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام» ((4)).

ص: 88


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 31.
2- ([2]) في المتن: (ابن مسعود).
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.
4- ([4]) مثير الأحزان لابن نما: 39، دلائل الإمامة للطبري: 77.

ورُوي عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «إنّ الحسين علیه السلام خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبدُ الله بن الزبير، فقال: يا أبا عبد الله، لقد حضر الحجّ وتدَعه وتأتي العراق؟! فقال: يا ابن الزبير، لئن أُدفَن بشاطئ الفرات أحبُّ إليّ مِن أن أُدفَن بفناء الكعبة» ((1)).

قال الإمام علیه السلام ذلك على سبيل الإعجاز، معرِّضاً به، ومُخبِراً له أنّه يُقتَل في مكّة وتُستحلّ به حرمة الكعبة، وهو لم يفهم كلام الإمام أو كان يتجاهله، وكان كما أخبر به الإمام علیه السلام ،وهدم الحجّاجُ الكعبة عليه ((2)).

وقال الشيخ المفيد: فرُوي عن الفرزدق الشاعر أنّه قال: حججتُ بأُمّي في سنة ستّين، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلتُ الحرم إذ لقيتُ الحسين ابن عليّ علیه السلام خارجاً من مكّة معه أسيافه وتراسه، فقلت: لمن هذا القطار؟ فقيل: للحسين بن عليّ. فأتيتُه فسلّمتُ عليه، وقلت له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحبّ، بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحجّ؟ فقال: «لو لم أعجل لأُخذت»، ثمّ قال لي: «مَن أنت؟»، قلت: امرؤٌ مِن العرب. فلا والله ما فتّشني عن أكثر من ذلك، ثمّ قال لي: «أخبِرْني عن الناس خلفك»، فقلت: الخبيرَ سألت، قلوبُ الناس معك وأسيافهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. فقال: «صدقت، لله الأمر، وكلّ

ص: 89


1- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 73 ح 6.
2- ([1]) أُنظُر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20 / 117.

يومٍ ربُّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد مَن كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته»، فقلت له: أجل، بلّغك الله ما تحبّ، وكفاك ما تحذر. وسألتُه عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها، وحرّك راحلته وقال: «السلام عليك»، ثمّ افترقنا.

وكان الحسين بن عليّ علیه السلام لمّا خرج من مكّة اعترضه يحيى بن سعيد ابن العاص ومعه جماعةٌ أرسلهم عمرو بن سعيد ((1)) إليه، فقالوا له: انصرف، إلى أين تذهب؟ فأبى عليهم ومضى،وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قويّاً ((2))، فتركوه، وصاحوا على أثره: ألا تتّقي الله (تعالى)، تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة؟ فقال الحسين علیه السلام : ««لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ»» -- الآية ((3))، وسار (صلوات الله عليه) ((4)).

وفي كتاب (العوالم)، عن راوي حديثه قال: حججت، فتركتُ أصحابي وانطلقت أتعسّف الطريق وحدي، فبينما أنا أسير إذ رفعتُ طرفي إلى أخبيةٍ

ص: 90


1- ([2]) في المتن: (عمر سعيد).
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 67.
3- ([2]) سورة يونس: 41.
4- ([3]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 228.

وفساطيط، فانطلقت نحوها حتّى أتيت أدناها، فقلت: لمَن هذه الأبنية؟ فقالوا: للحسين علیه السلام . قلت: ابن عليٍّ وابن فاطمة علیهما السلام قالوا: نعم. قلت: في أيّها هو؟ قالوا: فى ذلك الفسطاط. فانطلقتُ نحوه، فإذا الحسين علیه السلام مُتّكٍ على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يديه، فسلّمتُ فردّ علَيّ، فقلت: يا ابن رسول الله، بأبي أنت وأُمّي، ما أنزلك في هذه الأرض القفراء الّتي ليس فيها ريف ولا منعة؟! قال: «إنّ هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتلي، فإذا فعلوا ذلك ولم يدَعوا لله محرّماً إلّا انتهكوه بعث الله إليهم مَن يقتلهم، حتّى يكونوا أذلّ من قوم الأَمة» ((1)).

وروى ابن نما قال: إنّ الطرمّاح بن حكم قال: لقيتُ حسيناً وقدامترت لأهلي ميرة، فقلت: أُذكّرك في نفسك، لا يغرنّك أهل الكوفة، فواللهِ لئن دخلتَها لَتقتلنّ، وإنّي لَأخاف أن لا تصل إليها، فإن كنتَ مجمعاً على الحرب فانزل أجأ، فإنّه جبلٌ منيع، واللهِ ما نالنا فيه ذلٌّ قطّ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم. فقال: «إنّ بيني وبين القوم موعداً أكره أن أُخلِفَهم، فإن يدفع الله عنّا فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لابدّ منه ففوزٌ وشهادةٌ إن شاء الله». ثمّ حملتُ الميرة إلى أهلي وأوصيتُهم بأُمورهم، وخرجت

ص: 91


1- ([4]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 218، وفيه: (و في كتاب تاريخ: عن الرياشي، بإسناده عن راوي حديثه قال: حججتُ ...).

أُريد الحسين، فلقيَني سماعة بن زيد النبهاني فأخبرني بقتله، فرجعت ((1)).

وروى السيّد ابن طاووس قال: ثمّ سار حتّى مرّ بالتنعيم، فلقيَ هناك عِيراً تحمل هديّةً قد بعث بها بحير بن ريسان الحِميريّ عامل اليمن إلى يزيد بن معاوية، فأخذ علیه السلام الهديّة؛ لأنّ حكم أُمور المسلمين إليه، وقال لأصحاب الجمال: «مَن أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفّيناه كِراه وأحسنّا معه صحبته، ومَن يحبّ أن يفارقنا أعطينا كِراه بقدر ما قطع من الطريق». فمضى معه قومٌ وامتنع آخَرون ((2)).

قال المؤلّف: يظهر من الأخبار أنّ الإمام علیه السلام مرّ بالمدينة عند خروجه من مكّة متوجّهاً إلى العراق.

وطبق بعض الأخبار: لمّا دخل المدينة أتى قبر رسول الله صلی الله علیه وآله والتزمه، وبكى بكاءً شديداً، فهوّمَت عيناه بالنوم،فرأى جدَّه رسول الله صلی الله علیه وآله وهو يقول: «يا ولدي، العجل العجل، الوحا الوحا، فبادِرْ إلينا، فنحن مشتاقون إليك». فانتبه الحسين علیه السلام قلقاً مشوّقاً إلى جدّه صلی الله علیه وآله.

فدخل إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة وأخبره بما في نفسه، وقال له: «يا أخي، أُريد الرحيل إلى العراق، فإنّي قلقٌ على ابن عمّي مسلم». فقال له محمّد ابن الحنفيّة: ناشدتُك الله يا أخي أن لا تسير إلى قومٍ قتلوا أباك وغدروا

ص: 92


1- ([1]) مثير الأحزان لابن نما: 39.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 69.

بأخيك، فأقِمْ عند حرم جدّك، وإلّا فارجع إلى حرم الله، فإن لك فيه أعواناً كثيرة. فقال له: «لابدّ من المسير إلى العراق». فقال له أخوه: إنّه لَيفجعني ذلك. ثمّ بكى وقال: واللهِ -- يا أخي -- لا أقدر أقبض قائم بسيفي، ولا كعب رمحي، ثمّ لا فرحتُ بعدك أبداً. ثمّ ودّعه وقال: أستودعك الله (تعالى) من شهيدٍ مظلوم ((1)). فودّعه الإمام الحسين علیه السلام ، وسار متوجّهاً إلى العراق، حتّى نزل ذات عرق ((2)).

وروى المفيد قال: وألحقَه عبدُ الله بن جعفر رضی الله عنه بابنَيه: عَون ومحمّد، وكتب على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه: أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لمّا انصرفتَ حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّهتَ له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكتَ اليوم طفئ نور الأرض، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالمسير، فإنّي في أثر كتابي، والسلام.

و صار عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد، فسأله أن يكتبللحسين أماناً ويمنّيه ليرجع عن وجهه، فكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً يمنّيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد، فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه، ودفعا إليه الكتاب وجهدا به في

ص: 93


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 39.
2- ([2]) أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 41.

الرجوع، فقال: «إنّي رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله في المنام، وأمرني بما أنا ماضٍ له». فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: «ما حدّثتُ أحداً بها، ولا أنا محدّثٌ أحداً حتّى ألقى ربّي (جلّ وعزّ)». فلمّا أيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنَيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة.

وتوجّه الحسين علیه السلام نحو العراق، مغذاً لا يلوي على شيء، حتّى نزل ذات عرق ((1)).

وفي رواية الشيخ الصدوق: وسمع عبد الله بن عمر بخروجه، فقدّم راحلته وخرج خلفه مسرعاً، فأدركه في بعض المنازل، فقال: أين تريد يا ابن رسول الله؟ قال: «العراق». قال: مهلاً! ارجع إلى حرم جدّك. فأبى الحسين علیه السلام عليه، فلمّا رأى ابن عمر إباءه قال: يا أبا عبد الله، اكشف لي عن الموضع الّذي كان رسول الله صلی الله علیه وآله يقبّله منك. فكشف الحسين علیه السلام عن سُرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى، وقال: أستودعك الله يا أبا عبد الله، فإنّك مقتولٌ في وجهك هذا ((2)).

قال المؤلّف: لمّا بلغتُ في التأليف إلى هذا المقام، فكّرتُ فيسبب تقبيل النبيّ صلی الله علیه وآله سُرّة أبي عبد الله، فثارت زفرتي وسالت عبرتي، وبادر قلمي إلى تحرير جراحات الإمام المظلوم على سبيل الإجمال وشيءٍ من

ص: 94


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 68.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 153 المجلس 30.

التفصيل.

أمّا الإجمال: قال المحقّق المجلسيّ: وفي روايةٍ أنّه أصابه أربعة آلاف جراحةٍ من السهام، ومئةً وثمانون من السيوف والسنان ((1))، وكانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ ((2)).

أمّا التفصيل: فقد روى في (البحار): لمّا اشتدّ العطش بالحسين علیه السلام ، ناداه رجلٌ فقال له: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنّه بطون الحيّات؟ واللهِ لا تذوقه أو تموت عطشاً ((3)).

وكانت جراح اللسان أشدّ على الإمام من جراحات السيوف والسنان!

ثمّ رماه رجلٌ من القوم يُكنّى أبا الحتوف الجُعفيّ بسهمٍ فوقع السهم في جبهته، فنزعه من جبهته فسالت الدماء على وجهه ولحيته، فقال علیه السلام: «اللّهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللّهمّ أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً».

ثمّ حمل عليهم كالليث المغضب، فجعل لا يلحق منهم أحداً إلّا بعَجَه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كلّ ناحيةٍ وهو يتّقيها بنحرهوصدره،

ص: 95


1- ([1]) عين الحياة للمجلسي: 527، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 347.
2- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 320.
3- ([3]) جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 389، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 78.

ويقول: «يا أُمّة السوء، بئسما خلّفتُم محمّداً في عترته» ((1)).

فوقف علیه السلام يستريح ساعةً وقد ضعف عن القتال، فبينما هو واقفٌ إذ أتاه حجَرٌ فوقع في جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه، فأتاه سهمٌ محدَّدٌ مسمومٌ له ثلاث شُعَب، فوقع السهم على قلبه، فقال الحسين علیه السلام: «بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله»، ورفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي، إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبيٍّ غيره» ((2)).

قال المؤلّف: ربّما كان السهم قد أصاب سُرّته الشريفة الّتي كان يقبّلها النبيّ صلی الله علیه وآله دائماً وطلب عبد الله بن عمر تقبيل ذلك الموضع، بقرينة أنّ هذا السهم كان أشدّ الجراحات وأمضّها، ويشهد لهذا المقال رواية المجلسيّ في (البحار) إذ قال: ثمّ أخذ السهم فأخرجه من قفاه، فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح، فلمّا امتلأَت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة، وما عُرفَت الحمرة في السماء حتّى رمى الحسين علیه السلام بدمه إلى السماء، ثمّ وضع يده ثانياً، فلمّا امتلأَت لطّخ بها رأسه ولحيته، وقال: «هكذا أكون حتّى ألقى جدّي رسول الله وأنا مخضوبٌ بدمي، وأقول: يا رسول الله، قتلني فلانٌ وفلان» ((3)).

ص: 96


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 52.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.

قال المؤلّف: أردتُ أن أُعاود الحديث إلى حيث كنت، ولكنّي رأيت حديثاً يُبكي عيون الشيعة ويترك في قلوب المخلصين جرحين، الجرح الأول: ضربة مالك بن النسر، والجرح الثاني: كلام الإمام المظلوم مع أُخته السيّدة المظلومة زينب.

والحديث المروّع الّذي يُحرق القلوب هو أنّه علیه السلام لمّا ضعف عن القتال فوقف، فكلّما أتاه رجلٌ وانتهى إليه انصرف عنه، حتى جاءه رجلٌ من كندة يقال له: مالك بن اليسر، فشتم الحسين علیه السلام وضربه بالسيف على رأسه، وعليه برنسٌ فامتلأ دماً، فقال له الحسين علیه السلام : «لا أكلتَ بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين»، ثمّ ألقى البرنس ((1))، ودعا بخرقةٍ فشدّ بها رأسه، واستدعا قلنسوةً أُخرى فلبسها واعتمّ عليها ((2)).

فنادى في تلك الحالة: «يا زينب، يا أُمّ كلثوم، يا سكينة، يا رقيّة، يا فاطمة! عليكنّ منّي السلام». فأقبلت زينب فقالت: يا أخي، أيقنتَ بالقتل؟ فقال علیه السلام: «كيف لا أيقن وليس لي معينٌ ولا نصير؟». فقالت: يا أخي، رُدّنا إلى حرم جدّنا. فقال: «هيهات، لو تركت ما ألقيت نفسي في المهلكة، وكأنّكم غير بعيدٍ كالعبيد يسوقونكم أمام الركاب، ويسومونكم سوء العذاب». فلمّا سمعَت زينب بذلك بكت، وجرى الدمع من عينيه وعينيها، ونادت: وا وحدتاه، وا

ص: 97


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
2- ([2]) روضة الواعظين للفتّال: 162، الإرشاد للمفيد: 2 / 110.

قلّة ناصراه، وا سوء منقلباه، وا شؤم صباحاه! فشقّت ثوبها، ونشرت شعرها، ولطمت على وجهها، فقال علیه السلام لها: «مهلاًيا بنت المرتضى، إنّ البكاء طويل».

فأراد علیه السلام أن يخرج من الخيمة، فلصقت به زينب وقالت: مهلاً يا أخي، توقَّفْ حتّى أزود من نظري وداع لا تلاقٍ بعده.

فمهلاً

أخي قبل الممات هنيئةً***لتبرد منّي لوعةٌ وغليلُ

فجعلَت تقبّل يديه ورجليه، وأحَطْن به سائر النسوان يقبّلن يده ورجله ((1)).

فقال لأُخته: «آتيني بثوبٍ عتيقٍ لا يرغب فيه أحدٌ من القوم؛ أجعله تحت ثيابي، لئلّا أُجرَّد منه بعد قتلي». قال: فارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، ثمّ أُوتي بثوب، فخرّقه ومزّقه من أطرافه، وجعله تحت ثيابه، وكان له سروالٌ جديد، فخرقه أيضاً لئلّا يُسلَب منه ((2)).

آه، ووايلاه!

فلما قُتِل، عمد إليه رجلٌ فسلبهما منه، وتركه عرياناً [بالعراء] مجرّداً على الرمضاء، فشُلّت يداه في الحال ((3)).

ص: 98


1- ([1]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 345، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 65.
2- ([2]) مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 67.
3- ([3]) مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 67.

قال المؤلّف: خطر ببالي في هذا المقام لمّا قتل أمير المؤمنين علیه السلام عمْراً، أقبل نحو رسول الله صلی الله علیه وآله ووجهه يتهلّل، فقال له عمر بن الخطّاب: هلّا سلبتَه -- يا عليّ -- درعه؟ فما لأحدٍ درعٌ مثلها! فقال: «إنّي استحيَيْتُ أن أكشف عن سوأة ابنعمّي» ((1)). فلمّا نُعيَ إلى أُخته فقالت: مَن ذا الّذي اجترأ عليه؟ فقالوا: ابن أبي طالب. فقالت: لم يعد يومه على يد كفءٍ كريم، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه. ثمّ أنشأَت تقول:

لو

كان قاتل عمروٍ غير قاتله***لكنتُ أبكي عليه آخر الأبدِ

لكنّ قاتل عمروٍ لا يُعاب به***مَن كان يدعى قديماً بيضة البلَدِ ((2))

أيّها الشيعة الكرام، مع أنّ عمْراً كان كافراً، لم يسلبه الإمام درعه ولم يتركه عارياً، وقد تُرِك سيّد الشهداء وسيّد شباب أهل الجنّة عارياً، مُلق-ىً على الرمضاء تصهره حرارة الشمس.

وكان درع عمرو غالياً ثميناً، وكان لباس سيّد الشهداء عتيقاً لا يطمع فيه أحد، لبسه تحت ثيابه لئلّا يُجرّد، غير أنّ الأنذال الأراذل سلبوه وجرّدوا حتّى ثوبه العتيق!

وامتنعت أُخت عمرو عن البكاء؛ لأنّ قاتله كفؤٌ كريم، فيكف تُمنَع السيّدة زينب عن البكاء وقاتل أخيها المظلوم الغريب أرذل الناس

ص: 99


1- ([1]) كشف الغمّة للإربلي: 1 / 205، الإرشاد للمفيد: 1 / 104.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 1 / 107.

وأنذلهم؟!

وذكرتُ في المقام حديثاً مفجِعاً رأيتُه في (البحار): لمّا قُتل حمزة عمّ النبيّ صلی الله علیه وآله في أُحُد، كان الحليس بن علقمة نظر إلى أبي سفيان وهو على فرسٍ وبيده رمح يجأ به في شدق حمزة، فقال: يا معشر بني كنانة، انظروا إلى مَن يزعم أنّه سيّد قريش ما يصنع بابن عمّه الّذي قد صار لحماً. وأبو سفيان يقول: ذُقْ عقق.فقال أبو سفيان: صدقت، إنّما كانت منّي زلّة، اكتُمها علَيّ ((1)).

آه، وا ويلاه! مِن نذالة ابن زياد وخبثه، حيث كتب إلى عمر بن سعد: فإن قتلتَ حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنّه عاتٍ ظلوم، ولستُ أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن علَيّ قولٌ قد قلتُه: لو قد قتلتُه لَفعلته هذا به ((2)). فانتدب الشقيّ الخبيث عشرة، وأمرهم أن يُجرُوا الخيلَ على البدن المطهَّر لسيّد العرب، فطحنوا ضلوعه بحوافر الخيل ((3)).

وكان من أفجع المصائب تسلّط الأراذل والخبثاء على أعزّة الدهر والشرفاء، حتّى قال الإمام المظلوم في رجزه يوم عاشوراء:

ص: 100


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 97، إعلام الورى للطبرسي: 83.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 390.
3- ([3]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 368، الإرشاد للمفيد: 2 / 113، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 59.

يا لَقومٍ مِن أُناسٍ رُذّلٍ***جمّعوا الجمع لأهل الحرمين ((1))

ما الّذي جرى على السيّدة زينب وهي ترى كلّ هذه المصائب؟! آهٍ يا قلب زينب! أتبكي لبدن أخيها العريان؟ أم لنذالة قاتله؟ أم لعظامه المهشَّمة؟ أم لكبده المفتَّت؟ أم لهمومٍ وغمومٍ وغصصه المتتالية؟ أم لجراحاته الأربعة آلاف ومئة وثمانين من ضرب السيوف وطعن الرماح وإصابة السهام؟

اي زاده زياد نكرد است هيچ كس***نمرود اين عمل كه تو شدّاد كرده اي

ترسم تو را دمي كه به محشر درآورند***از آتش تو دود به محشر برآورند

* * * * *

أعود إلى حديثي السابق، فقد روى السيّد ابن طاووس: ثمّ سار حتّى بلغ ذات عرق، فلقي بشر بن غالب وارداً من العراق، فسأله عن أهلها، فقال: خلّفتُ القلوب معك والسيوف مع بني أُميّة. فقال: «صدق أخو بني أسد، إنّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد» ((2)).

ص: 101


1- ([4]) الاحتجاج للطبرسي: 2 / 25، الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 69.

وروى محمّد بن أبي طالب قال: واتّصل الخبر بالوليد بن عُتبة أمير المدينة بأنّ الحسين علیه السلام توجّه إلى العراق، فكتب إلى ابن زياد: أمّا بعد، فإنّ الحسين قد توجّه إلى العراق، وهو ابن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله، فاحذر -- يا ابن زياد -- أن تأتي إليه بسوءٍ فتهيّج على نفسك [وقومك] أمراً في مدّة الدنيا لا يسدّه شيء، ولا تنساه الخاصّة والعامّة أبداً ما دامت الدنيا. قال: فلم يلتفت ابن زياد إلى كتاب الوليد ((1)).

وفي (الإرشاد): ولمّا بلغ عُبيدَ الله بن زياد إقبال الحسين علیه السلام من مكّة إلى الكوفة، بعث ال-حُصَين بن نُ-مَير صاحب شرطه حتّى نزل القادسيّة، ونظم الخيل ما بين القادسيّة إلى خفان وما بينالقادسية إلى القطقطانة ((2)).

وفي رواية: بعث الحرّ بن يزيد الرياحيّ في ألف فارس ((3)).

وفي (الملهوف): قال الراوي: ثمّ سار حتّى نزل الثعلبيّة وقت الظهيرة، فوضع رأسه فرقد، ثمّ استيقظ فقال: «قد رأيتُ هاتفاً يقول: أنتم تُسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة»، فقال له ابنه عليّ: يا أبه، أفلَسْنا على الحقّ؟ فقال: «بلى يا بُنيّ، والله الّذي إليه مرجع العباد»، فقال: يا أبه، إذن لا نبالي بالموت.

ص: 102


1- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 234.
2- ([1]) الإرشاد: 2 / 69.
3- ([2]) أُنظُر: الإرشاد للمفيد: 78، إعلام الورى للطبرسي: 232.

فقال الحسين علیه السلام: «جزاك الله يا بُنيّ خير ما جزى ولداً عن والد».

ثمّ بات علیه السلام في الموضع المذكور، فلمّا أصبح إذا برجلٍ من الكوفة يُكنّى أبا هرّة الأزديّ قد أتاه فسلّم عليه، ثمّ قال: يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، ما الّذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله فقال الحسين علیه السلام : «ويحك يا أبا هرّة! إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وايمُ الله لَتقتلني الفئةُ الباغية، ولَيُلبسنّهم الله ذُلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، ولَيُسلّطنّ الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ مِن قوم سبإٍ إذ ملكتهم امرأةٌ فحكمت في أموالهم ودمائهم» ((1)).

قال أبو مخنف: قدم إليه في الثعلبيّة رجلٌ نصرانيٌّ ومعه والدته، وقال: السلام عليك يا أبا عبد الله. فردّ عليه السلام، فقال: يا مولاي،أنا رجلٌ نصرانيٌّ قد أحببتُ أن أُجاهد بين يديك، أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ عليّاً أمير المؤمنين وليّ الله. وأسلما هو ووالدته، ولازما الإمام علیه السلام ((2)).

قال المؤلّف: الظاهر أنّ هذا الشخص هو وهب بن عبد الله، واللهُ يهدي لنوره مَن يشاء.

ص: 103


1- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 70.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 148، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 67.

وروى الصدوق قال: فلمّا نزلوا ثعلبيّة ورد عليه رجلٌ يقال له: بشر بن غالب، فقال: يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، أخبِرْني عن قول الله عزوجل: «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» ((1)). قال: «إمامٌ دعا إلى هدىً فأجابوه إليه، وإمامٌ دعا إلى ضلالةٍ فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النار، وهو قوله؟عز؟: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» ((2))» ((3)).

ورُوي أنّه سأله عن أهل الكوفة، فقال: خلّفتُ القلوب معك والسيوف مع بني أُميّة. فقال: «إنّ الله يفعل ما يشاء بقدرته ويحكم ما يريد» ((4)).

وروى الكلينيّ، عن الحكم بن عتيبة قال: لقيَ رجلٌ الحسين بن علي علیه السلام بالثعلبيّة وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلّم عليه، فقال له الحسين علیه السلام: «مِن أيّ البلاد أنت؟»، قال: من أهلالكوفة. قال: «أما واللهِ -- يا أخا أهل الكوفة -- لو لقيتُك بالمدينة لَأريتُك أثر جبرئيل علیه السلام مِن دارنا ونزوله بالوحي على جدّي، يا أخا أهل الكوفة، أفمُستقى الناس العلم من عندنا فعلموا وجهلنا؟ هذا ما لا يكون!» ((5)).

ص: 104


1- ([2]) سورة الإسراء: 71.
2- ([3]) سورة الشورى: 7.
3- ([4]) الأمالي للصدوق: 153.
4- ([5]) أُنظُر: اللهوف لابن طاووس: 69، مثير الأحزان لابن نما: 42، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 367.
5- ([1]) الكافي للكليني: 1 / 398 ح 2.

وفي رواية الصدوق: ثمّ سار حتّى نزل العذيب، فقال فيها قائلة الظهيرة، ثمّ انتبه من نومه باكياً، فقال له ابنه: ما يُبكيك يا أبت؟ فقال: «يا بُنيّ، إنّها ساعةٌ لا تكذب الرؤيا فيها، وإنّه عرضَ لي في منامي عارضٌ فقال: تُسرعون السير والمنايا تسير بكم إلى الجنّة».

ثمّ سار حتّى نزل الرهيمة، فورد عليه رجلٌ من أهل الكوفة يُكنّى أبا هرم، فقال: يا ابن النبيّ، ما الّذي أخرجك من المدينة؟ فقال: «ويحك يا أبا هرم! شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيمُ الله لَيقتلنّي، ثمّ لَيُلبسنّهم الله ذلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، ولَيسلطنّ عليهم مَن يذلّهم».

قال: وبلغ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) الخبر وأنّ الحسين علیه السلام قد نزل الرهيميّة، فأرسل إليه الحرَّ بن يزيد في ألف فارس. قال الحرّ: فلمّا خرجتُ من منزلي متوجّهاً نحو الحسين علیه السلام ، نُوديت ثلاثاً: يا حرّ، أبشِرْ بالجنّة. فالتفتُّ فلم أرَ أحداً، فقلت: ثكلت الحرّ أُمُّه؛ يخرج إلى قتال ابن رسول الله صلی الله علیه وآله ويُبشَّر بالجنّة! ((1)).

وفي (الإرشاد): ولمّا بلغ الحسين علیه السلام الحاجر من بطنالرمّة، بعث قيس ابن مسهر الصيداويّ، ويقال: بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ((2)) إلى أهل الكوفة ((3)).

ص: 105


1- ([2]) الأمالي للصدوق: 153.
2- ([1]) في المتن: (يقطين).
3- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 70.

وفي (الملهوف): وكتب الحسين علیه السلام كتاباً إلى سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ((1)) ورفاعة بن شدّاد وجماعةٍ من الشيعة بالكوفة ((2)).

وفي (الإرشاد): قبل أن يبلغ خبر مسلم بن عقيل إلى الحسين علیه السلام ((3)).

فكتب إليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلامٌ عليكم، فإنّي أحمدُ إليكم اللهَ الّذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيلٍ جاءني يُخبِر فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألتُ الله أن يُحسِن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا، فإنّي قادمٌ عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله».

وكان مسلم كتب إليه قبل أن يُقتَل بسبعٍ وعشرين ليلة، وكتب إليه أهل الكوفة أنّ لك هاهنا مئة ألف سيف، فلا تتأخّر! فأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسين علیه السلام ،حتّى إذا انتهىإلى القادسيّة أخذه ال-حُصين بن نمير ((4)).

ص: 106


1- ([3]) في المتن: (نجية).
2- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 75.
3- ([5]) الإرشاد للمفيد: 2 / 70، وعبارة الشيخ المفيد: و لم يكن علیه السلام عَلِم بخبر مسلم ابن عقيل (رحمة الله عليهما).
4- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 70.

وفي (الملهوف): فلمّا قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير صاحب عبيد الله بن زياد (لعنه الله) ليفتّشه، فأخرج قيسُ الكتابة ومزّقه، فحمله الحصين بن نمير إلى عبيد الله بن زياد، فلمّا مَثُل بين يديه قال له: مَن أنت؟ قال: أنا رجلٌ من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام وابنه. قال: فلماذا خرقتَ الكتاب؟ قال: لئلّا تعلم ما فيه. قال: وممّن الكتاب وإلى مَن؟ قال: من الحسين علیه السلام إلى جماعةٍ من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم. فغضب ابن زيادٍ وقال: والله لا تفارقني حتّى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم، أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن عليّ وأباه وأخاه، وإلّا قطّعتُك إرباً إرباً. فقال قيس: أمّا القوم فلا أُخبرك بأسمائهم، وأمّا لعن الحسين علیه السلام وأبيه وأخيه فأفعل. فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلی الله علیه وآله، وأكثر من الترحّم على عليٍّ والحسن والحسين علیهم السلام، ثمّ لعن عبيد الله بن زيادٍ وأباه ولعن عتاة بني أُميّة عن آخرهم ((1)).

وفي (الإرشاد): ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم ((2)).. وقد خلّفتُه بموضع كذا ((3)) فأجيبوه ((4)).

ص: 107


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 75.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 71.
3- ([4]) في المتن: (في الحاجز).
4- ([5]) اللهوف: 77.

وفي (الإرشاد): ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه، وصلّى ((1)) على عليّ بن أبي طالب ((2)).

وفي (الملهوف): فأُخبِر ابن زيادٍ بذلك، فأمر بإلقائه من أعالي القصر ((3)).

وفي (الإرشاد): رُوي أنّه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه، وبقي به رمق، فجاء رجلٌ يقال له: عبد الملك بن عمير اللخمي، فذبحه، فقيل له في ذلك وعيب عليه، فقال: أردتُ أن أُريحه ((4)).

وفي (الملهوف): فبلغ الحسين علیه السلام موته، فاستعبر بالبكاء، ثمّ قال: «اللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك، إنّك على كلّ شيءٍ قدير» ((5)).

وفي رواية المفيد: ثمّ أقبل الحسين علیه السلام من الحاجر يسير نحو الكوفة، فانتهى إلى ماءٍ من مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدَويّ وهو نازلٌ به، فلمّا رأى الحسين علیه السلام قام إليه فقال: بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول

ص: 108


1- ([1]) في الإرشاد: (و استغفر لعليّ بن أبي طالب علیه السلام وصلّى عليه).
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 71.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 77.
4- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 71.
5- ([5]) اللهوف لابن طاووس: 77.

الله، ما أقدمك؟ واحتمله وأنزله، فقال له الحسين علیه السلام :«كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إليّ أهل العراقيدعونني إلى أنفسهم». فقال له عبد الله بن مطيع: أُذكّرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تُنتهَك، أُنشدك الله في حرمة قريش، أُنشدك الله في حرمة العرب، فواللهِ لئن طلبتَ ما في أيدي بني أُميّة لَيقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً، والله إنّها لَحرمة الإسلام تُنتهَك، وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل، ولا تأتِ الكوفة، ولا تُعرّض نفسك لبني أُميّة. فأبى الحسين علیه السلام إلّا أن يمضي [لأنّه مأمورٌ من الله].

وكان عبيد الله بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة، فلا يدَعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج، وأقبل الحسين علیه السلام بشيءٍ ((1))، حتّى لقيَ الأعراب فسألهم، فقالوا: لا والله ما ندري، غير أنّا لا نستطيع أن نلج أو نخرج. فسار تلقاء وجهه علیه السلام.

وحدّث جماعةٌ من فزارة ومن بجيلة قالوا: كنّا مع زهير بن القَين البجليّ حين أقبلنا من مكّة، فكنّا نساير الحسين علیه السلام ،فلم يكن شيءٌ أبغض إلينا مِن أن ننازله في منزل، فإذا سار الحسين علیه السلام ونزل منزلاً لم نجد بُدّاً من أن ننازله، فنزل الحسين علیه السلام في جانبٍ ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوسٌ نتغذّى من طعامٍ لنا إذ أقبل رسول الحسين علیه السلام حتّى سلّم، ثمّ دخل فقال:

ص: 109


1- ([1]) في الإرشاد: (و أقبل الحسين علیه السلام لا يشعر بشيء)!!!

يا زهير بن القَين، إنّ أبا عبد الله الحسين بعثني إليك لتأتيه. فطرح كلُّ إنسانٍ منّا ما في يده، حتّى كأنّ على رؤوسنا الطير ((1)).

وفي (اللهوف): فقالت له زوجتُه -- وهي ديلم بنت عمرو -- :سبحان الله، أيبعث إليك ابن رسول الله صلی الله علیه وآله ثمّ لا تأتيه؟ فلو أتيتَه فسمعتَ من كلامه. فمضى إليه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فحوّل إلى الحسين علیه السلام ،وقال لامرأته: أنتِ طالق؛ فإنّي لا أُحبّ أن يُصيبك بسببي إلّا خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين علیه السلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي. ثمّ أعطاها مالها، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودّعته، وقالت: كان الله عوناً ومعيناً، خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين علیه السلام .فقال لأصحابه: مَن أحبّ أن يصحبني، وإلّا فهو آخر العهد منّي به ((2)).

وفي (الإرشاد): إنّي سأُحدّثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسيّ؟رضی الله عنه: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم شباب آل محمّدٍ فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا أنا فأستودعكم الله.

ص: 110


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 72.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 72.

قالوا: ثمّ والله ما زال في القوم مع الحسين علیه السلام حتى قُتل ((1)).

وفي (المناقب): ولمّا نزل علیه السلام الخزيميّة أقام بها يوماً وليلة، فلمّا أصبح أقبلَت إليه أُخته زينب فقالت: يا أخي، ألا أُخبرك بشيءٍ سمعتُه البارحة؟ فقال الحسين علیه السلام :«وما ذاك؟»، فقالت: خرجتُ في بعض الليل لقضاء حاجة، فسمعتُ هاتفاً يهتفوهو يقول:

ألا يا عين فاحتفلي بجهدِ***ومَن يبكي على الشهداء بعدي

على قومٍ تسوقهمُ المنايا***بمقدارٍ إلى إنجاز وعدِ

فقال لها الحسين علیه السلام :«يا أُختاه، كلّ الّذي قُضي فهو كائن» ((2)).

و عن راشد بن مزيد قال: شهدتُ الحسين بن علي علیه السلام وصحبته من مكّة حتى أتينا القطقطانة، ثمّ استأذنتُه في الرجوع فأذن لي، فرأيتُه وقد استقبله سبُعٌ عقور، فكلّمه، فوقف له فقال: «ما حال الناس بالكوفة؟»، قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك. قال: «ومَن خلّفتَ بها؟»، قال: ابن زياد، وقد قتل مسلم بن عقيل ((3)).

وفي (المنتخب) أنّه لمّا وصل الحسين علیه السلام في مسيره إلى الكوفة إلى

ص: 111


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 73.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 372، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 324.
3- ([2]) دلائل الإمامة للطبري: 182 ح 99.

منزلٍ اسمه سوق جلس علیه السلام ناحيةً عن الناس، وإذا برجلٍ قد قدم من الكوفة، فسأله الحسين علیه السلام وقال: «ما الخبر؟»، فقال: يا سيّدي، ما خرجتُ من الكوفة حتّى رأيتُ هانياً ومسلماً بن عقيل مقتولَين، وبُعث برأسيهما إلى يزيد. فقال الحسين علیه السلام :«إنّا لله وإنّا إليه راجعون». وسار الرجل، ولم يعلم به أحدٌ من أصحابه.

قال: وكان لمسلم بنتٌ عمرها إحدى عشرة سنة مع الحسين علیهالسلام ،فلمّا قام الحسين من مجلسه جاء إلى الخيمة، فعزّز البنت وقرّبها من منزله، فحسّت البنت بالشرّ؛ لأنّه علیه السلام كان قد مسح على رأسها وناصيتها كما يُفعَل بالأيتام، فقالت: يا عمّ، ما رأيتك قبل هذا اليوم تفعل بي مثل ذلك! أظنّ أنّه قد استُشهد والدي. فلم يتمالك الحسين علیه السلام من البكاء، وقال: «يا ابنتي، أنا أبوكِ وبناتي أخواتك». فصاحت ونادت بالويل، فسمع أولاد مسلم ذلك الكلام، وتنفّسوا الصُّعداء، وبكوا بكاءً شديداً، ورموا بعمائمهم إلى الأرض.

قال: لمّا تأمّل الحُسين علیه السلام هذا الحال وقتل مسلم، وأنّ أهل الكوفة هم الّذين أعانوا على قتل أمير المؤمنين علیه السلام ونهب الحسن وضربه بالخنجر على فخذه، فبكى بكاءً شديداً حتّى اخضلّت لحيته بالدموع ((1)).

ص: 112


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 364 المجلس 7.

وفي رواية: فنظر إلى بني عقيل فقال: «ما ترون؟ فقد قُتِل مسلم!»، فقالوا: والله لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا، أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين علیه السلام وقال: «لا خير في العيش بعد هؤلاء». فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير، فقال له أصحابه: إنّك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمتَ الكوفة لَكان الناس إليك أسرع. فسكت ((1)).

وفي (الإرشاد): فسار حتّى انتهى إلى زبالة، فأتاه خبر عبد اللهبن يقطر، فأخرج إلى الناس ((2)) كتاباً فقرأه عليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فإنّه قد أتانا خبرٌ فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلَنا شيعتنا، فمَن أحبّ منكم الانصراف فلْينصرف غير حَرِجٍ ليس عليه ذمام» ((3)).

وفي روايةٍ أُخرى قال: «فمن كان منكم يصبر على ضرب السيوف وطعن الرماح، وإلّا فلْينصرف من موضعه هذا، فليس عليه من ذمامي شيء». فسكتوا جميعاً، وجعلوا يتفرّقون لأغراض الدنيا يميناً وشمالاً، حتّى لم يبقَ عنده إلّا أهل بيته ومواليه ((4)) الذين ثبتوا معه اعتقاداً ويقيناً.

ص: 113


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 75.
2- ([1]) في المتن: (فجمع أصحابه وقال: ...).
3- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 75.
4- ([3]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 66، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 157.

وقال السيّد ابن طاووس: ثمّ إنّ الحسين علیه السلام سار -- بعد أن سمع خبر مسلم علیه السلام -- قاصداً لما دعاه الله إليه، فلقيَه الفرزدق الشاعر، فسلّم عليه وقال: يا ابن رسول الله علیه السلام كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الّذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته؟ قال: فاستعبر الحسين علیه السلام باكياً، ثمّ قال: «رحم الله مسلماً، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه وبقيَ ما علينا»، ثمّ أنشأ يقول:

«فإن تكن الدنيا تُعدّ نفيسةً***فإنّ ثواب الله أعلى وأنبَلُ

وإن تكن الأبدانُ للموت أُنشئَت***فقَتْلُ امرئٍ بالسيف في الله أفضلُ

وإن تكن الأرزاقُ قِسماً مقدَّراً***فقلّة حرص المرء في السعي أجملُ

وإن تكن الأموالُ للترك جمعُها***فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخل؟» ((1))

وفي (الإرشاد): ثمّ سار حتّى مرّ ببطن العقبة، فنزل عليها، فلقيَه شيخٌ من بني عكرمة يقال له: عمرو بن لوذان، فسأله: أين تريد؟ فقال له الحسين علیه السلام :«الكوفة». فقال الشيخ: أُنشدك الله لمّا انصرفت، فواللهِ ما تقدم إلّا على الأسنة وحدّ السيوف، وإنّ هؤلاء الّذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال الّتي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل! فقال له: «يا عبد الله، ليس يخفى علَيّ الرأي، ولكنّ الله (تعالى) لا يُغلَب على أمره»، ثمّ قال علیه السلام :«واللهِ لا

ص: 114


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 74.

يدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة مِن جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتى يكونوا أذلّ فِرَق الأُمم».

ثمّ سار علیه السلام من بطن العقبة حتّى نزل شراف [خ ل: شرافاً]، فلمّا كان في السحَر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثمّ سار منها حتّى انتصف النهار، فبينا هو يسير إذ كبّر رجلٌ من أصحابه، فقال له الحسين علیه السلام :«اَلله أكبر، لمَ كبّرتَ؟»، قال: رأيتُ النخل. فقال له جماعةٌ من أصحابه: واللهِ إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلةً قط! فقال الحسين علیه السلام :«فما ترونه؟»،قالوا: نراه -- واللهِ -- آذانَ الخيل. قال: «أنا والله أرى ذلك»، ثمّ قال؟ علیه السلام :«ما لنا ملجأٌ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجهٍ واحد؟»، فقلنا: بلى، هذا ذو حسمى إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فإن سبقتَ إليه فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار، ومِلْنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعَت علينا هوادي الخيل، فتبينّاها وعدلنا، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا، كأنّ أسنّتهم اليعاسيب وكأنّ راياتهم أجنحة الطير، فاستبقنا إلى ذي حسمى فسبقناهم إليه، وأمر الحسين علیه السلام بأبنيته فضُربَت.

وجاء القوم زهاء ألف فارسٍ مع الحرّ بن يزيد التميميّ، حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين علیه السلام في حَرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم، فقال الحسين علیه السلام لفتيانه: «اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً». ففعلوا، وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلَت عنه وسقوا

ص: 115

آخَر، حتّى سقوها كلّها.

فقال عليّ بن الطعّان المحاربي: كنتُ مع الحرّ يومئذ، فجئت في آخِر مَن جاء من أصحابه، فلمّا رأى الحسينُ علیه السلام ما بي وبفرسي من العطش قال: «أنِخ الراوية»، والراوية عندي السقاء، ثمّ قال: «يا ابن أخي، أنِخ الجمل»، فأنختُه، فقال: «اشربْ»، فجعلتُ كلّما شربتُ سال الماء من السقاء، فقال الحسين علیه السلام : «اخنث السقاء»، أي: اعطفه، فلم أدرِ كيف أفعل، فقام فخنثه،فشربتُ وسقيت فرسي ((1)).

قال المؤلّف: لمّا بلغتُ إلى هذا المقام، ذكرت حديثاً مُشجِياً أحرق قلبي وأجرى دمعي، رُوي في (بحار الأنوار)، قال: جاء إليه شمر وسنان بن أنس، والحسين علیه السلام بآخر رمَقٍ يلوك لسانه من العطش ويطلب الماء، فرفسه شمر (لعنه الله) برِجله، وقال: يا ابن أبي تراب، ألستَ تزعم أنّ أباك على حوض النبيّ يسقي مَن أحبّه؟ فاصبر حتّى تأخذ الماء من يده. ثمّ قال لسنان: اجتزّ رأسه قفاءً. فقال سنان: واللهِ لا أفعل فيكون جدُّه محمّدٌ صلی الله علیه وآله خصمي. فغضب شمر (لعنه الله)، وجلس على صدر الحسين، وقبض على لحيته وهمّ بقتله ((2)).

وفي (المنتخب): فقال الحسين علیه السلام : «إذا كان لابدّ من قتلي، فاسقني شربةً

ص: 116


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 76.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.

من الماء». فقال له: هيهات، واللهِ لا ذُقتَ قطرةً واحدةً من الماء حتّى تذوق الموت غُصّةً بعد غصّة. فقال له: «ويلك! اكشف لي عن وجهك وبطنك». فكشف له، فإذا هو أبقعٌ أبرص، له صورةٌ تشبه الكلاب والخنازير، فقال الحسين علیه السلام : «صدق جدّي فيما قال»، فقال: وما قال جدّك؟ قال: «يقول لأبي: يا عليّ، يقتل ولدَك هذا رجلٌ أبقع أبرص، أشبه الخلق بالكلاب والخنازير». فغضب الشمر من ذلك ((1)).

وفي (التبر المذاب): فقال: إذا كان جدّك أخبرك بذلك، فلَأقتلنّكأشدّ قتلة. ثمّ جعل يحزّ مذبح الحسين علیه السلام بسيفه، فلم يقطع شيئاً، فقال الحسين علیه السلام : «يا ويلك، أتظنّ أن يقطع سيفُك موضعاً طالما قبّلها رسول الله صلی الله علیه وآله» ((2))

وروى أبو مخنف: فقال له (لعنه الله): يشبّهني جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله بالكلاب؟ واللهِ لَأذبحنّك من القفا. ثم أكبّه على وجهه ((3)).

عُدْ أيّها القلم إلى ما كنتَ تحرّره مِن قبل، فقد أبكيتَ الشيعة وأجريتَ دموعها وارتفعت آهاتها إلى السماء.

ص: 117


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451.
2- ([1]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 161 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف.
3- ([2]) مقتل الحسين؟ علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 146.

ورُوي عن الإمام زين العابدين علیه السلام : «فأمرَ الحسينُ علیه السلام ابنه فأذّن وأقام، وقام الحسين علیه السلام فصلّى بالفريقين جميعاً، فلمّا سلّم وثب الحرّ بن يزيد فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال الحسين علیه السلام : وعليك السلام، مَن أنت يا عبد الله؟ فقال: أنا الحرّ بن يزيد. فقال: يا حرّ، أعلينا أم لنا؟ فقال الحرّ: والله يا ابن رسول الله لقد بُعثتُ لقتالك، وأعوذ بالله أن أُحشَر من قبري وناصيتي مشدودةٌ إلى رِجلي ويدي مغلولةٌ إلى عنقي وأُكَبّ على حرّ وجهي في النار، يا ابن رسول الله، أين تذهب؟ ارجع إلى حرم جدّك، فإنّك مقتول! فقال الحسين علیه السلام ؟

سأمضي، فما بالموت عارٌ على الفتى***إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما»

الأبيات ((1))..

وروى الشيخ المفيد في (الإرشاد)، قال: فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين علیه السلام ،حتى حضرت صلاة الظهر، وأمر الحسين علیه السلام الحجّاج بن مسرور أن يؤذّن، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين علیه السلام في إزارٍ ورداءٍ ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أيّها الناس، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبُكم وقَدِمَت علَيّ رسُلكم أنْ: أَقدِم علينا، فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمَقدمي كارهين انصرفتُ عنكم

ص: 118


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 154.

إلى المكان الّذي جئتُ منه إليكم». فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحدٌ منهم بكلمة.

فقال للمؤذّن: «أقِمْ»، فأقام الصلاة، فقال للحرّ: «أتريد أن تصلّي بأصحابك؟»، قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلّى بهم الحسين ابن عليّ علیه السلام ، ثمّ دخل، فاجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الّذي كان فيه، فدخل خيمةً قد ضُربَت له، واجتمع إليه جماعةٌ من أصحابه، وعاد الباقون إلى صفّهم الّذي كانوا فيه فأعادوه، ثمّ أخذ كلّ رجلٍ منهم بعنان دابّته وجلس في ظلّها.

فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين بن عليّ علیه السلام أنيتهيؤوا للرحيل، ففعلوا، ثمّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، فاستقام الحسين علیه السلام

،فصلّى بالقوم، ثمّ سلّم، وانصرف إليهم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه،ثمّ قال: «أمّا بعد، أيّها الناس، فإنّكم إن تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّدٍ وأَولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان، و إن أبيتُم إلّا كراهيةً لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمَت به علَيّ رسلكم، انصرفت عنكم».

فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل الّتي تذكر. فقال الحسين علیه السلام لبعض أصحابه: «يا عقبة بن سمعان، أخرِجْ الخُرجَين اللذَين فيهما كتبهم إليّ»، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه، فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الّذين كتبوا إليك، وقد أُمِرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نُقدِمك الكوفة على عُبيد الله. فقال له الحسين؟ علیه السلام :«الموت أدنى إليك

ص: 119

من ذلك!»، ثمّ قال لأصحابه: «قوموا فاركبوا»، فركبوا، وانتظر حتّى ركب نساؤهم، فقال لأصحابه: «انصرفوا»، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين علیه السلام للحرّ: «ثكلتك أُمّك، ما تريد؟»، فقال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال الّتي أنت عليها، ما تركتُ ذكر أُمّه بالثكل، كائناً مَن كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يُقدَر عليه. فقال له الحسين علیه السلام :«فما تريد؟»، قال: أُريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله بن زياد. قال: «إذن واللهِ لا أتبعك». قال: إذن واللهِ لا أدَعُك. فترادّاالقول ثلاث مرّات، فلمّا كثر الكلام بينهما قال له الحرّ: إنّي لم أؤمر بقتالك، إنّما أُمرتُ ألّا أُفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيتَ فخُذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة تكون بيني وبينك نصفاً، حتّى أكتب إلى الأمير وتكتب إلى يزيد أو إلى عبيد الله، فلعلّ الله إلى ذلك أن يأتي بأمرٍ يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيءٍ من أمرك، فخذ هاهنا.

فتياسر عن طريق العذيب والقادسيّة، فسار الحسين علیه السلام وسار الحرّ في أصحابه يسايره، وهو يقول له: يا حسين، إنّي أُذكّرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتلنّ. فقال له الحسين علیه السلام :«أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله صلی الله علیه وآله، فخوّفه ابن عمّه وقال: أين تذهب؟ فإنّك مقتول! فقال:

سأمضي، فما بالموت عارٌ على الفتى***إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

ص: 120

وآسى الرجال الصالحين بنفسه***وفارق مثبوراً وباعد مجرما

فإن عشتُ لم أندم، وإن متُّ لم أُلَم***كفى بك ذلّاً أن تعيش وتُرغما»

فلمّا سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه، فكان يسير بأصحابه ناحيةً والحسين علیه السلام في ناحيةٍ أُخرى ((1)).

ثمّ أقبل الحسين علیه السلام على أصحابه وقال: «هل فيكمأحدٌ يعرف الطريق على غير الجادّة؟» فقال الطرمّاح: نعم يا ابن رسول الله، أنا أخبر الطريق. فقال الحسين علیه السلام :«سِرْ بين أيدينا». فسار الطرمّاح، واتّبعه الحسين (صلوات الله عليه) وأصحابُه، وجعل الطرمّاح يرتجز بأبياتٍ فيها مدحٌ لسيّد الشهداء علیه السلام ودعوة لنصرته، حتّى وصل عذيب الهجانات ((2)).

وروى أبو مخنف قال: وسار حتّى وصل عذيب الهجانات، وإذا بأربع نفرٍ قد أقبلوا من ناحية الكوفة، وإذا هم: نافع بن هلال المراديّ، وعمرو الصيداويّ، وسعيد بن أبي ذرّ الغِفاريّ، وعبيد الله المِذحجيّ، فأقبلوا إلى الحسين علیه السلام ، فلمّا نظر الطرمّاح أخذ بزمام ناقة الحسين علیه السلام وأنشأ يرتجز بأبياتٍ يمدح فيها الحسين علیه السلام . قال: فأقبل عليهم الحرّ، فقال له الحسين علیه السلام : «ألم تكن قد عاهدتَني أن لا تتعرّض لأحدٍ من أصحابي؟ فإن كنتَ على ما بيني وبينك، وإلّا نازلتُك في ميدان الحرب». فكفّ عنهم الحرّ.

ص: 121


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 78.
2- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 248.

ثمّ إنّ الحسين علیه السلام استقبلهم، وقال: «أخبِروني، ما وراؤكم بالكوفة؟»، فقالوا: يا ابن رسول الله، أمّا أشراف الناس فقد طمت رؤوسهم بالمال، وأمّا سائر الناس فقلوبهم معك وأسيافهم عليك. فقال: «هل لكم علمٌ برسولي قيس بن مسهر؟»، قالوا: أخذه الحصين بن نمير (لعنه الله)، وبعثه مكتوباً إلى ابن زياد (لعنه الله)، فقتله. فلمّا سمع الحسين علیه السلام ذلك تغرغرت عيناه بالدموع، ثمّ تلى قوله (تعالى): «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّنيَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» ((1))، ثمّ قال: «اللّهمّ اجعل الجنّة لنا ولهم، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك، يا أرحم الراحمين» ((2)).

فأقبل الطرمّاح إلى الحسین علیه السلام ، وأخذ بزمام ناقته وقال له: يا ابن رسول الله، لو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الّذين تراهم لَكفوك، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة من الناس ما لم أُعاين مثلهم قطّ في جمعٍ أكثر منهم، فسألتُ عنهم فقيل: إنّهم جُمعوا ليعرضوا أو يمضوا إلى حرب الحسين علیه السلام، فإن قدرتَ أن لا تقدِم إليهم فافعل ((3)).

قال الراوي: ثمّ سار الحسين علیه السلام

والحرّ يسايره، حتّى أتوا إلى قصر بني مقاتل، وإذا بفسطاطٍ مضروب، فقال الحسين علیه السلام : «لمن هذا الفسطاط؟»،

ص: 122


1- ([1]) سورة الأحزاب: 23.
2- ([2]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 45.
3- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 163، تاريخ الطبري: 4 / 306.

فقيل: لرجلٍ يقطع الطريق، اسمه: عُبيد الله ال-جُعفي. فأرسل إليه، فلمّا حضر بين يديه قال له: «يا هذا، هل لك من توبةٍ تمحّص عنك الذنوب؟»، قال: وما هي يا ابن رسول اللهصلی الله علیه وآله قال: «تنصرنا أهل البيت»، فقال: ما خرجتُ من الكوفة إلّا مخافة أن أُقاتلك بين يدَي ابن زياد (لعنه الله)، ولكن خذ فرسي هذه، فإنّي ما طلبتُ عليها إلّا لحقت، وما هربتُ إلّا نجوت، وسيفي هذا القاطع ورمحي، واعفُ عنّي. فقال له علیه السلام : «إذا بخلتَ علينا بنفسك فلا حاجة لنا بمالك»، ثمّ تلا قوله (تعالى):«وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» ((1)) ((2)).

وفي رواية الصدوق: ثمّ قال علیه السلام : «ولكن فرّ، فلا لنا ولا علينا؛ فإنّه مَن سمع واعيتنا أهل البيت ثمّ لم يجبنا كبّه الله على وجهه في نار جهنّم» ((3)).

وروى أبو مخنف قال: وندم عبيدالله الجعفيّ على قعوده عن نصرة الحسين علیه السلام ، وجعل يضرب يده على الأُخرى ويقول: ما فعلتُ بنفسي! وأنشأ يقول:

فيا لك حسرةً ما دمتُ حيّاً***مردّد بين صدري والتراقي

حسينٌ حيث يطلب نصر مثلي***على أهل العداوة والشقاقِ

ص: 123


1- ([1]) سورة الكهف: 51.
2- ([2]) المقتل لأبي مخنف (المشهور): 47.
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 155.

مع ابن المصطفى، روحي فداه***فويلي يوم توديع الفراقِ

فلو أنّي أُواسيه بنف-سي***لَنلتُ الفوز في يوم التلاقي

لقد فاز الّذي نصروا حسيناً***وخاب الآخَرون ذوو النفاقِ ((1))

وفي كتاب (بحار الأنوار): عن عمرو بن قيس المشرقيّ قال: دخلتُ على الحسين (صلوات الله عليه) أنا وابن عمٍّ لي، وهو في قصر بني مقاتل، فسلّمنا عليه، فقال له ابن عمّي: يا أبا عبد الله، هذا الّذي أرى خضابٌ أو شعرك؟ فقال: «خضاب، والشيب إلينا بنيهاشم يعجل». ثمّ أقبل علينا فقال: «جئتما لنصرتي؟»، فقلت: إنّي رجلٌ كبير السنّ كثير الدَّين كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس، ولا أدري ما يكون، وأكره أن أُضيّع أمانتي. وقال له ابن عمّي مثل ذلك. قال لنا: «فانطلِقا، فلا تسمعا لي واعيةً ولا ترَيا لي سواداً؛ فإنّه مَن سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يُجِبْنا ولم يغثنا كان حقّاً على الله عزوجل أن يكبّه على منخريه في النار» ((2)).

وفي (الإرشاد): ولمّا كان في آخر الليل، أمر فتيانه بالاستقاء من الماء، ثمّ أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل، فقال عقبة بن سمعان: سِرْنا معه ساعة، فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة، ثمّ انتبه وهو يقول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين»، ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً، فأقبل إليه

ص: 124


1- ([4]) متقل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 47، الفتوح لابن أعثم: 5 / 132.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 84 ح 12، ثواب الأعمال للصدوق: 259.

ابنه عليّ بن الحسين علیه السلام على فرسٍ فقال: «ممَّ حمدتَ الله واسترجعت؟»، فقال: «يا بُنيّ، إنّي خفقت خفقةً فعنّ لي فارسٌ على فرسٍ وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تصير إليهم. فعلمتُ أنّها أنفسَنا نُعيَت إلينا». فقال له: «يا أبت لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحقّ؟»، قال: «بلى، والّذي إليه مرجع العباد». قال: «فإنّنا إذاً لا نبالي أن نموت محقّين»، فقال له الحسين علیه السلام : «جزاك الله مِن ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده» ((1)).

وفي كتاب (كامل الزيارة): عن شهاب بن عبد ربّه، عن أبيعبد الله أنّه قال: «لمّا صعد الحسين بن عليّ علیه السلام عقبة البطن قال لأصحابه: ما أراني إلّا مقتولاً. قالوا: وما ذاك يا أبا عبد الله؟ قال: رؤيا رأيتها في المنام. قالوا: وما هي؟ قال: رأيت كلاباً تنهشني، أشدُّها علَيّ كلبٌ أبقع» ((2)).

وعن أبي عبد الله الصادق أيضاً، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسين بن عليّ علیه السلام ، قال: «قال: والّذي نفس حسينٍ بيده، لا ينتهي بني أُميّة ملكُهم حتّى يقتلوني، وهم قاتلي، فلو قد قتلوني لم يصلوا جميعاً أبداً، ولم يأخذوا عطاءً في سبيل الله جميعاً أبداً، إنّ أوّل قتيل هذه الأُمّة أنا وأهل بيتي. والّذي نفس حسينٍ بيده، لا تقوم الساعة وعلى الأرض هاشميٌّ ((3))

ص: 125


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 82.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 75 الباب 23 ح 14.
3- ([2]) ترجم المؤلّف هذه العبارة بقوله: وسيبقى بنو هاشم في عناءٍ ومشقّة حتّى يظهر القائم علیه السلام .

يطرق» ((1)).

وروى الشيخ المفيد، عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «خرجنا مع الحسين علیه السلام ، فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا وقتْلَه، وقال يوما: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا علیه السلام أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل» ((2)).

وفي رواية: «يُهدى رأسي إلى ابن زنا» ((3)).

كاش آن زمان سرادق گردون نگون شدي!***اين خيمة بلند ستون بي ستون شدي!

وروى السيّد ابن طاووس قال: فتياسر الحسين علیه السلام حتّى وصل إلى عذيب الهجانات، فورد كتاب عبيد الله بن زياد (لعنه الله) إلى الحرّ يلومه في أمر الحسين علیه السلام ، ويأمره بالتضييق عليه، فعرض له الحرّ وأصحابه ومنعوه من السير، فقال له الحسين علیه السلام: «ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق؟»، فقال له الحرّ: بلى، ولكنّ كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني فيه بالتضييق، وقد جعل علَيّ عيناً يطالبني بذلك.

ص: 126


1- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 74 الباب 23 ح 13.
2- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 132.
3- ([5]) جلاء العيون للمجلسي: 640.

فقام الحسين علیه السلام خطيباً في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر جدَّه فصلّى عليه، ثمّ قال: «إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد تَرَون، وإنّ الدنيا قد تغيّرَت وتنكّرت وأدبر معروفها، واستمرت حذاء، ولم تبقَ منها إلّا صبابةٌ كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمَل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادةً والحياة مع الظالمين إلّا بَرَماً».

فقام زهير بن القَين وقال: قد سمعنا -- هداك الله يا ابن رسول الله -- مقالتك، ولو كانت الدنيا لنا باقيةً وكنّا فيها مخلَّدين، لَآثرنا النهوض معك على الإقامة.

وقام هلال بن نافع البَجَليّ فقال: واللهِ ما كرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

وقام بُرير بن خُضَيرٍ فقال: واللهِ يا ابن رسول الله لقد مَنّ اللهُبك علينا أن نقاتل بين يديك وتُقطَّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدُّك شفيعنا يوم القيامة ((1)).

فجزّاهم الحسين علیه السلام خيراً ((2)).

وفي (الإرشاد): فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم، فيأتيه الحرّ بن

ص: 127


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 78.
2- ([2]) أُنظُر: جلاء العيون: 643.

يزيد فيردّه وأصحابَه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه ((1)).

وفي (المناقب): فقال له زهير: فسِرْ بنا حتّى ننزل بكربلاء، فإنّها على شاطئ الفرات، فنكون هنالك، فإن قاتلونا قاتلناهم واستعنّا الله عليهم. قال: فدمعَت عينا الحسين علیه السلام ، ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء». ونزل الحسين في موضعه ذلك، ونزل الحرّ بن يزيد حذاءه في ألف فارس، ودعا الحسين بدواةٍ وبيضاء وكتب إلى أشراف الكوفة ((2)).

قال: فجمع الحسين علیه السلام وُلده وإخوته وأهل بيته، ثمّ نظر إليهم فبكى ساعة، ثمّ قال: «اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا، وتعدَّت بنو أُميّة علينا، اللّهمّ فخُذْ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين» ((3)).

وفي (الإرشاد): حتّى انتهوا إلى نِ-ينوى، المكان الّذي نزل بهالحسين علیه السلام ، فإذا راكبٌ على نجيبٍ له عليه السلاح متنكّب قوساً مُقبِل من الكوفة، فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحرّ كتاباً من عبيد

ص: 128


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 82 / 2.
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 381 / 44.
3- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 383 / 44.

الله بن زياد، فإذا فيه: أمّا بعد، فجِعْجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلّا بالعراء في غير حِصنٍ وعلى غير ماء، فقد أمرتُ رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.

فلمّا قرأ الكتاب قال لهم الحرّ: هذا كتاب الأمير عبيد الله، يأمرني أن أُجعجع بكم في المكان الّذي يأتي كتابه، وهذا رسوله، وقد أمره ألّا يفارقني حتّى أُنفذ أمره.

فنظر يزيد بن المهاجر الكناني -- وكان مع الحسين علیه السلام -- إلى رسول ابن زياد فعرفه، فقال له يزيد: ثكلَتك أُمّك، ماذا جئتَ فيه؟ قال: أطعتُ إمامي، ووفيتُ ببيعتي. فقال له ابن المهاجر: بل عصيتَ ربّك، وأطعت إمامك في هلاك نفسك، وكسبت العار والنار، وبئس الإمام إمامك، قال الله (عزّ من قائل): «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ» ((1))، فإمامك منهم.

وأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماءٍ ولا قرية، فقال له الحسين علیه السلام: «دَعْنا -- ويحَك! -- ننزل في هذه القرية أو هذه»، يعني نينوى والغاضريّة، أو هذه يعني شفنة. قال: لا والله ما أستطيع ذلك؛ هذا رجلٌ قد بعث إليّ عيناً علَيّ. فقال زهيربن القَين: إنّي والله ما أراه يكون بعد الّذي

ص: 129


1- ([1]) سورة القصص: 41.

ترون إلّا أشدّ ممّا ترون يا ابن رسول الله، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا بعدهم، فلعمري لَيأتينا بعدهم ما لا قِبَل لنا به. فقال الحسين علیه السلام: «ما كنتُ لأبدأهم بالقتال» ((1)).

وفي (المنتخب): فساروا جميعاً إلى أن انتهوا [إلى] (1) أرض كربلاء، إذ وقف الجواد الّذي تحت الحسين ولم ينبعث من تحته، وكلّما حثّه على المسير لم ينبعث خطوةً واحدة، فنزل عنه وركب غيره فلم ينبعث خطوةً واحدة ((2)).

وروى ابو مخنف قال: فلم ينبعث خطوةً واحدة، ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتّى ركب سبعة أفراس وهنّ على هذا الحال، فلمّا رأى ذلك قال: «يا قوم، ما اسم هذه الأرض؟»، قالوا: أرض الغاضريّة. قال: «فهل لها اسمٌ غير هذا؟»، قالوا: تُسمّى نينوا. قال: «أهَل لها اسمٌ غير هذا؟»، قالوا: شاطئ الفرات. قال: «أهَل لها اسمٌ غير هذا؟»، قالوا: تُسمّى كربلاء. فعند ذلك تنفّس الصعداء وقال: «أرض كربٍ وبلاء»، ثمّ قال: «انزلوا؛ هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تُسفَك دماؤنا، هاهنا واللهِ تُهتَك حريمنا، هاهنا والله تُقتَل رجالنا، هاهنا والله تُذبَح أطفالنا، هاهنا والله تُزار قبورنا، وبهذه التربة وعَدني جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله، ولا خُلف لقوله». ثمّ نزل عن فرسه ((3)).

ص: 130


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 83.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 428 المجلس 9.
3- ([3]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 49، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 256.

وفي (المناقب): فرحل من موضعه حتّى نزل في يوم الأربعاء أو يوم الخميس بكربلاء، وذلك في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين.

ثمّ أقبل على أصحابه فقال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لَعِقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون».

ثمّ قال: «أهذه كربلاء؟»، فقالوا: نعم يا ابن رسول الله. فقال: «هذا موضع كربٍ وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، ومقتل رجالنا، ومسفك دمائنا».

قال: فنزل القوم، وأقبل الحرّ حتّى نزل حذاء الحسين علیه السلام في ألف فارس ((1)).

وروى بعض الثقات قال: إنّ أُمّ كلثوم قالت للحسين علیهما السلام: أخي، ما لي أرى باديةً مهولة، وأشعر أنّ رعباً عظيماً دخل قلبي؟ فقال: «اعلموا أنّي كنتُ مع أبي أمير المؤمنين علیه السلام يوم صفّين، فلمّا بلغنا كربلاء نزل أبي فوضع رأسه على رِجل أخي الحسن فنام ساعة، وقمت أنا إلى جانبه، فانتبه من نومه وهو يبكي بكاءً شديداً، فسأله أخي الحسن عن سبب بكائه، فقال: رأيتُ رؤيا، كأنّ هذه الصحراء بحراً من دم، ورأيت الحسين وقع فيه وهو يفحص بيديه ورجليه ولا يغيثه أحد. ثمّ التفت إليّ وقال: يا أبا عبد الله، كيف تكون إذا وقعَت هاهنا الواقعة؟

ص: 131


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 383، وانظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 329.

فقلت: أصبر» ((1)).

وفي (قرب الإسناد): عن الباقر علیه السلام قال: «مرّ عليٌّ بكربلاء في اثنين من أصحابه»، قال: «فلمّا مرّ بها ترقرقت عيناه للبكاء، ثمّ قال: هذا مناخ ركابهم، وهذا ملقى رحالهم، وهاهنا تُهراق دماؤهم، طوبى لكِ من تربةٍ عليكِ تهراق دماء الأحبّة» ((2)).

وفي (المنتخب): عن الصادق أنّه قال: «لمّا خرج أمير المؤمنين إلى حرب صفّين، فلم يزل سائراً حتّى إذا كان قريباً من كربلاء على مسيرة ميلٍ أو ميلين تقدّم يسير أمام الناس، حتّى إذا صار بمصارع الشهداء (رضوان الله عليهم) قال: أيّها الناس، اعلموا أنّه قُبض في هذه الأرض مئتا نبيّ ومئتا سبطٍ من أولاد الأنبياء، كلّهم شهداء، وأتباعهم معهم استشهدوا معهم. ثمّ إنّه علیه السلام طاف على بغلته في تلك البقعة، ومع ذلك خارجٌ رجليه من الركاب وهو يقول: هنا واللهِ مناخ ركاب ومصارع شهداء، لا يسبقهم بالفضل مَن كان قبلهم، ولا يلحقهم مَن كان بعدهم. ثمّ نزل علیه السلام وجعل يبكي» ((3)).

ولا تنسَ خبر ابن عبّاسٍ في المسير إلى صفّين، وخبر هرثمة المارّ آنفاً.

وفي (المنتخب): ثمّ إنّه نزل عن فرسه، وجلس بعد ذلك يُصلحسيفه وهو يقول:

ص: 132


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 259.
2- ([2]) قرب الإسناد للحِمْيري: 26 ح 87، كامل الزيارات: 269 ح 11.
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 266 المجلس 3.

يا دهرُ أُفٍّ لك من خليلِ***كم لك بالإشراق والأصيلِ

مِن طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ***والدهر لا يقنع بالبديلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي***ومنتهى الأمر إلى الجليلِ

ولم يزل يكرّر هذه الأبيات حتّى سمعت أُخته زينب، فوثبت تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه، وقالت له: يا أخي وقرّة عيني، ليت الموت أعدمَني الحياة، يا خليفة الماضين وثمال الباقين، هذا كلامُ مَن أيقن بالموت، وا ثكلاه! اليوم مات جدّي محمّدٌ المصطفى، وأبي عليٌّ المرتضى، وأُمّي فاطمة الزهراء، وأخي الحسن الرضيّ ((1)).

وفي (الملهوف): فسمعَت زينب بنت فاطمة علیها السلام ذلك، فقالت: يا أخي، هذا كلام مَن أيقن بالقتل! فقال علیه السلام: «نعم يا أُختاه». فقالت زينب: وا ثكلاه، ينعى الحسين علیه السلام إليّ نفْسَه. قال: وبكى النسوة ولطمن الخدود وشققن الجيوب، وجعلَت أُمّ كلثوم تنادي: وا محمّداه، وا عليّاه، وا أُمّاه، وا أخاه، وا حسيناه، وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله. قال: فعزّاها الحسين علیه السلام وقال لها: «يا أُختاه، تعزَّي بعزاء الله، فإنّ سكّان السماوات يفنون، وأهل الأرض كلّهم يموتون، وجميع البريّة يهلكون»، ثمّ قال: «يا أُختاه يا أُمّ كلثوم، وأنتِ يا زينب، وأنتِ يا فاطمة، وأنتِ يا رباب، انظرن إذا أنا قُتلتُ فلا تشققنَ علَيّ جَيباً، ولا

ص: 133


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 428 المجلس 9.

تخمِشْن علَيّ وجهاً، ولا تقُلن هجراً» ((1)).

وفي (المنتخب): قال لها: «يا أُختاه، لا يذهب بحلمك الشيطان، تعزَّي بعزاء الله، فإنّ أهل السماء والأرض يموتون، وكلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه، أبي خيرٌ منّي، وأخي خيرٌ منّي، ولكلّ مسلمٍ برسول الله أُسوة». فقالت: يا أخي، تُقتَل وأنا أنظر إليك؟ فردّت غصّته وتغرغرت عيناه بالدموع، فقالت: يا أخي، ردّنا إلى حرم جدّنا. فقال: «لو تُرك القطا لغفا ونام». قالت: واللهِ -- يا أخي -- لا فرحتُ بعدك أبداً. ثمّ إنّها لطمَت وجهها، وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشيّةً عليها، ثمّ قام الحسين إليها وقال لها: «يا أُختاه، بحقّي عليكِ إذا أنا قُتلتُ فلا تشقّي علَيّ جيباً، ولا تخمشي وجهاً، ولا تدْعِين بالويل والثبور». ثمّ حملها حتّى أدخلَها الخيمة ((2)).

ص: 134


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 81.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 428.

المجلس الخامس: في بيان ما بعد النزول في كربلاء إلى يوم عاشوراء

عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «كتب الحسينُ بن علي علیه السلام إلى محمّد بن علی علیه السلام من كربلاء: بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ علیه السلام إلى محمّد بن علي ومن قِبله من بني هاشم، أمّا بعد، فكأنّ الدنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزل، والسلام» ((1)).

وفي (المناقب): ثم كتب -- الحرّ بن يزيد -- إلى ابن زيادٍ يخبره بنزول الحسين بكربلاء.

و كتب ابن زيادٍ (لعنه الله) إلى الحسين (صلوات الله عليه): أمّا بعد يا حسين، فقد بلغني نزولك بكربلاء، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسّد الوثير ولا أشبع من الخمير أو أُلحقك باللطيف الخبير، أو ترجع إلى

ص: 135


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 75 الباب 23 ح 15.

حكمي وحكم يزيد بن معاوية، والسلام.فلمّا ورد كتابه على الحسين علیه السلام وقرأه، رماه من يده، ثمّ قال: «لا أفلح قومٌ اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق». فقال له الرسول: جواب الكتاب أبا عبد الله! فقال: «ما له عندي جواب؛ لأنّه قد حقّت عليه كلمة العذاب». فرجع الرسول إليه فخبّره بذلك، فغضب عدوُّ الله من ذلك أشدّ الغضب ((1)).

وروى محمّد بن أبي طالب قال: ثمّ جمع ابن زيادٍ الناس في جامع الكوفة، ثمّ خرج فصعد المنبر، ثمّ قال: أيّها الناس، إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون، وهذا يزيد.. -- وجعل يمدح اللعين بما ليس فيه --، وقد زادكم في أرزاقكم مئةً مئة، وأمرني أن أُوفّرها عليكم، وأُخرجَكم إلى حرب عدوّه الحسين، فاسمعوا له وأطيعوا. ثمّ نزل عن المنبر، ووفر للناس العطاء، وأمرهم أن يخرجوا إلى حرب الحسين علیه السلام ((2)).

وفي رواية أبي مخنف: ثمّ إنّ ابن زياد (لعنه الله) نادى: مَن يأتيني برأس الحسين علیه السلام وله مُلك الريّ عشر سنين؟ فقام إليه عمر بن سعد (لعنه الله) وقال: أنا أيّها الأمير. فقال له: امضِ، وخُذ بكظمه، وامنعه من شرب الماء.

ص: 136


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 383، وانظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 331.
2- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 259.

فقال له: أيّها الأمير، أمهِلْني شهراً. فقال: لا أفعل. فقال: عشرة أيّام. فقال: لا أفعل. فنهض من وقته ودخل منزله.

فدخل عليه أولاد المهاجرين والأنصار وقالوا له: يا ابن سعد، تخرج إلى حرب الحسين علیه السلام وأبوك سادس الإسلاموصاحب بيعة الرضوان؟ فقال: لست أرجع عن ذلك. وجعل يفكّر في ولاية الريّ وقتلِ الحسين علیه السلام ، فاختار حرب الحسين علیه السلام ، وأنشأ يقول:

فوَالله ما أدري، وإنّي لَحائرٌ***أُفكّر في أمري على خطرَينِ

أأترك مُلك الريّ، والريّ منيتي؟***أم ارجع مأثوماً بقتل حُسينِ

حسين ابن عمّي، والحوادث جَمّةٌ***لعمري ولي في الريّ قُرّة عينِ

وإنّ إله العرش يغفر زلّتي***ولو كنتُ فيها أظلَمُ الثقلينِ

ألا إنّما الدنيا بخيرٍ معجّلٍ***وما عاقلٌ باع الوجود بدَينِ

يقولون: إنّ الله خالق جنّةٍ***ونارٍ وتعذيبٍ وغلّ يدينِ

فإن صدقوا فيما يقولون، إنّني***أتوبُ إلى الرحمان من سنتينِ

وإن كذبوا فزنا بدنياً عظيمةٍ***ومُلكٍ عقيمٍ دائم الحجلين ((1))

وفي كتاب (التبر المذاب): قال محمّد بن سيرين: وقد ظهرَت كرامات عليّ بن أبي طالب علیهما السلام في عمر بن سعد، فإنّه لقيه يوماً وهو شابّ، فقال

ص: 137


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 50.

له: «كيف بك إذا قمتَ غداً مقاماً تُخيَّر فيه بين الجنّة والنار، فتختار النار؟» ((1)).وفي (المنتخب): فقال له ابن سعد: معاذ الله، أيكون ذلك؟! فقال له علیه السلام : «سيكون ذلك بلا شكّ» ((2)).

وفي (البحار) و(المنتخب): عن ابن مسعودٍ قال: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله في مسجده، إذ دخل علينا فتيةٌ من قريش ومعهم عمر بن سعد (لعنه الله)، فتغيّر لون رسول الله، فقلنا له: يا رسول الله، ما شأنك؟ فقال: «إنّا أهل بيتٍ اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّي ذكرتُ ما يلقى أهل بيتي من أُمّتي من بعدي، مِن قتلٍ وضربٍ وشتمٍ وسبٍّ وتطريدٍ وتشريد، وإنّ أهل بيتي سيُشرّدون ويُطردون ويُقتلون، وإنّ أوّل رأسٍ يُحمَل على رمحٍ في الإسلام رأس ولدي الحسين، أخبرني بذلك أخي جبرائيل عن الربّ الجليل». وكان الحسين حاضراً عند جدّه في ذلك الوقت، فقال: «يا جدّاه، فمَن يقتلني من أُمّتك؟»، فقال: «يقتلك شِرار الناس»، وأشار النبيّ صلی الله علیه وآله إلى عمر بن سعد (لعنه الله)، فصار أصحاب رسول الله إذا رأوا عمر بن سعد داخلاً من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين علیه السلام ((3))

ص: 138


1- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 139 -- بتحقيق السيّد علي أشرف، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 223، تاريخ الإسلام للذهبي: 5 / 195، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 242.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 276 المجلس 3.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 326 المجلس 5، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 19.

وفي (البحار): عن أصبغ بن نباتة قال: بينا أمير المؤمنين علیه السلام يخطب الناس وهو يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني، فواللهِ لا تسألوني عن شيءٍ مضى ولا عن شيءٍ يكون إلّا نبّأتكم به»، فقام إليه سعد بن أبي وقّاص فقال: يا أمير المؤمنين، أخبِرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟ فقال له: «أما والله لقد سألتَنيعن مسألةٍ حدّثَني خليلي رسول الله صلی اللخه علیه وآله أنّك ستسألني عنها، وما في رأسك ولحيتك مِن شعرةٍ إلّا وفي أصلها شيطانٌ جالس، وإنّ في بيتك لَسخلاً يقتل الحسين ابني»، وعمر بن سعد يومئذٍ يدرج بين يديه ((1)).

عبد الله بن شريك العامريّ قال: كنتُ أسمع أصحاب عليٍّ إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين علیه السلام ((2)).

قال المؤلّف: خطر ببالي حديثاً آخَر يخصّ خولّي بن يزيد الأصبحيّ، رواه المفيد في (الإرشاد):

خطب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فقال في خطبته: «سلوني قبل أن تفقدوني، فواللهِ لا تسألوني عن فئةٍ تُضِلّ مئةً وتهدي مئةً إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة». فقام إليه رجلٌ فقال: أخبِرْني كم في رأسي

ص: 139


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 256 ح 5، الأمالي للصدوق: 133 ح 1، كامل الزيارات لابن قولويه: 74 ح 12.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 16، الإرشاد للمفيد: 2 / 131.

ولحيتي من طاقة شعر؟ فقام أمير المؤمنين علیه السلام وقال: «واللهِ لقد حدّثَني خليلي رسول الله صلی الله علیه وآله بما سألتَ عنه، وإنّ على كلّ طاقةِ شعرٍ في رأسك ملَكاً يلعنك، وعلى كلّ طاقة شعرٍ في لحيتك شيطاناً يستفزّك، وإنّ في بيتك لَسخلاً يقتل ابن رسول الله، وآية ذلك مصداق ما خبّرتُك به، ولو لا أنّ الّذي سألتَ عنه يعسر برهانه لَأخبرتك به» ((1)). قال:وكان له ولدٌ صغيرٌ في ذلك الوقت، فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحسين ما كان، نمى الصبيُّ وتجبّر، وتولّى قتل الحسين علیه السلام ، وقيل: إن ذلك الصبيّ كان اسمه خولّى بن يزيد الأصبحيّ، وهو الّذي طعن الحسين برمحه فخرج السنان من ظهره ((2)) -- انتهى كلام صاحب (المنتخب).

ولو شئتَ التعرّف على هذا الملعون أكثر فاعلم ((3)) أنّ هذا الشقيّ كان من أصحاب الألوية في معسكر الأشقياء ((4))، وقتل في كربلاء جماعةً من أصحاب الإمام علیه السلام وأهل بيته، ومنهم: عثمان بن أمير المؤمنين، وكان عمره أحد عشر سنة، فرماه بسهمٍ في جبهته، وأجهز عليه لعينٌ آخَر فاحتزّ

ص: 140


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 1 / 330، الاحتجاج للطبرسي: 1 / 261، إعلام الورى للطبرسي: 174، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 258 ح 7.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 160 المجلس 8.
3- ([2]) في مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 53: و كان خولّى بن يزيد من أقسى الناس قلباً على الحسين علیه السلام.
4- ([3]) أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 63، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 66.

رأسه ((1))، وقتل جعفر بن عليّ -- وعثمان وجعفر إخوة العبّاس لأُمّه -- فرماه بسهمٍ في شقيقته فصرعه ((2)).

ولمّا صُرع الإمام المظلوم ووقع على الأرض، يلوك لسانه من شدّة العطش، وقد أخذ منه نزف الدم والجرحات مأخذاً، ولم يجسر أحدٌ على النزول إليه، فبادر إليه هذا اللعين خولّى بن يزيد ليجتزّرأسه، فرمقه بعينيه فارتعدت فرائصه منه، فلم يجسر عليه وولّى عنه ((3)).

وفي (التبر المذاب): فقال له شمر: فتّ الله في عضدك، ما لَك ترعد؟ فقال: والله لا حاجة لي في قتل ابن بنت رسول الله! فقال الشمر: كلحَت هذه اللحية، لأنها نبتت على غير رجل ((4)).

وهذا اللعين هو وسنان وشمر جاؤوا برأس الحسين علیه السلام إلى ابن سعد وهم يتفاخرون، فقال هذا اللعين: أنا رميتُه بسهم فأرديتُه صريعاً على الأرض، وقال سنان: أنا ضربتُه بالسيف على رأسه، وقال شمر (لعنهم الله):

ص: 141


1- ([4]) أُنظُر: الأمالي للشجري: 1 / 170، الحدائق الورديّة للمحلي: 1 / 120، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 294، الإرشاد للمفيد: 2 / 113.
2- ([5]) أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لبحر العلوم: 317، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 54، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 38.
3- ([1]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 463، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 342.
4- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 161.

أنا حززتُ نحره وقطعت رأسه ((1)).

وهذا الملعون هو الّذي حمل الرأس المقدّس من كربلاء إلى الكوفة على السنان، ونزل به في بيته على فرسخ من الكوفة، ووضع الرأس المقدّس في التنّور، ثمّ حمله في صباح اليوم التالي هديّةً لابن زياد ((2)).

ترسم جزاي قاتل او چون رقم زنند***يك باره بر جريده رحمت قلم زنند

ترسم كزين گناه شفيعان روز حشر***دارند شرم كز گنه خلق دم زنند

قال أبو مخنف: كان أوّل رايةٍ سارت إلى حرب الحسين علیه السلام راية عمر بن سعد (لعنه الله)، ودعا من بعده بعروة بن قيس (لعنه الله)، وضمّ إليه ألفَي فارسٍ وأمره بالمسير، ودعا من بعده سنان بن أنسٍ النخعيّ (لعنه الله)، وعقد له رايةً على أربعة آلاف فارس، ودعا من بعده بالشمر بن ذي الجوشن الضبابي (لعنه الله)، وعقد له رايةً على أربعة آلاف فارس، وعقد رايةً سادسةً إلى خولّى بن يزيد الأصبحي (لعنه الله)، وضمّ إليه ثلاثة آلاف فارس وسار إلى حرب

ص: 142


1- ([3]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 463، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 342.
2- ([4]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 361، مثير الأحزان لابن نما: 45.

الحسين علیه السلام ، وعقد رايةً سابعةً وسلّمها إلى القشعم (لعنه الله)، وضمّ إليه ثلاثة آلاف فارس وسار إلى حرب الحسين علیه السلام ، وعقد رايةً ثامنةً وسلّمها إلى الحصين بن نمير، وضمّ إليه ثمانية آلاف فارسٍ وسار إلى حرب الحسين علیه السلام ، وعقد رايةً تاسعةً وسلّمها إلى أبي قدار الباهلي (لعنه الله)، وضمّ إليه تسعة آلاف فارسٍ وسار إلى حرب الحسين علیه السلام ، وعقد رايةً عاشرةً وسلّمها إلى عامر بن صريمة التميمي، وضمّ إليه ستّة آلاف فارسٍ وسار إلى حرب الحسين علیه السلام ((1)).

وعن محمّد بن أبي طالب: ثمّ أرسل إلى شبث بن ربعيّ أن أقبِلْ إلينا، فإنّا نريد أن نوجّه بك إلى حرب الحسين. فتمارض شبث وأراد أن يعفيه ابن زياد، فأرسل إليه: أمّا بعد، فإنّ رسولي خبّرني بتمارضك، وأخاف أن تكون من الّذين إذا لقوا الّذين آمنوا قالوا:آمنّا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤون! إن كنتَ في طاعتنا فأقبِلْ إلينا مسرعاً. فأقبل إليه شبث بعد العشاء، لئلّا ينظر الملعون إلى وجهه فلا يرى عليه أثر العلّة، فلمّا دخل رحّب به وقرّب مجلسه، وقال: أُحبّ أن تشخص إلى قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد عليه. فقال: أفعل أيّها الأمير ((2)).

وكان اللعين ممّن كتب إلى الإمام الحسين علیه السلام : اخضرّت الجنّات وأينعت الثمار.

ص: 143


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 177، وانظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 80.
2- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 260.

أجل، خرج ليعطي الإمام الغريب النبال والسهام عوض الثمار اليانعة، ويمنع سيّد شباب أهل الجنّة من الماء المباح للكلاب والخنازير!

از آب هم مضايقه كردند كوفيان***خوش داشتند حرمت مهمان كربلا

زآن تشنگان هنوز به عيوق مي رسد***فرياد العطش ز بيابان كربلا

والحمد لله، فإنّ كلّ واحدٍ من هؤلاء وغيرهم قد نال جزاءه في الدنيا قبل الآخرة..

فقد رُوي أنّه جيء بالقشعم إلى المختار وكان على ألفَي فارس، فأمر المختار أن تُقطَع يداه، وعُلّق وضرب العصا حتّى مات، ثمّ أحرق جيفته.

ثمّ جيء بوردان غلام عبيد الله بن زياد، وكان على الرجّالة فيكربلاء، فقال له الأمير: لعنك الله، أين مولاك وإمامك الدعيّ ابن مرجانة؟ فقال وردان: سيأتي قريباً فيقتلك. قال المختار:

سأقتلك عاجلاً. ثمّ أمر به فعُلّق، ومُزّق بدنه بسكك الحديد وكمّاشات الحدّادين، حتّى هلك وعجّل به إلى نار جهنّم.

ثمّ جيء بأبي نصر الشيبانيّ، وقد ألقوا في عنقه حبلاً، وكان على رجّالة شيبان، فسلّم فلم يجبه أحد، فقال إبراهيم بن مالك: ويلك يا شقيّ! لمَ رميتَ خيمة الإمام الحسين بالسهام؟ قال: كنتُ مأموراً. فقال له المختار:

ص: 144

أيّها الدعيّ، لمَ شتمتَ الحسين علیه السلام قال: كان ذلك عن جهلٍ وعدم علم. فأمر المختار بشير بن عبد الله أن يأخذه ويمزّقه تمزيقاً، فأخذه بشير ونفّذ فيه الأمر ((1)).

ثمّ جيء بأبي السلاسل، وكان على رجّالة ابن زياد، فأمر فقُطّعت أقدامه بالفأس، واحتفلوا في الليل فأرسلوه إلى جهنّم ((2)).

ثمّ أرسل المختار زائدةَ بن قدامة إلى دريد ((3)) مولى عمر بن سعد، وأمر أن يقطّعه إرباً، ويهدم داره ويُلقي أهله في البئر ويُعمي البئر، ويأخذ أمواله. قال زائدة: سمعاً وطاعة. فصار إليه، وقتله شرّ قتلةٍ ونفّذ ما أمره به الأمير ((4)).

رُوي عن الإمام الحسن العسكريّ علیه السلام أنّ اليوم الّذيقتل فيه المختار دريد ((5)) بلغ عدد المقتولين في الكوفة ثمانين ألفاً ((6)).

أجل، لقد أرسل اللعين ابن زياد العسكر إثر العسكر، حتّى بلغوا بناءً في المشهور ثلاثين ألفاً ((7)).

ص: 145


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 179.
2- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 188.
3- ([3]) في المتن: (وريد).
4- ([4]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 199.
5- ([1]) في المتن: (وريد).
6- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 199.
7- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 368 و45 / 4، اللهوف لابن طاووس: 119، مثير الأحزان لابن نما: 72.

وعن محمّد بن إسماعيل -- إمام أهل السنّة -- : أربعين ألفاً.

ونُقل عن السيّد ابن طاووس: مئة ألف، وألفين من الخوارج، وثمانية آلاف من يحملون المؤن ويعملون في الإمداد، يجدّدون نعل الخيل ويبرون السهام ويشحذون السيوف.

ويؤيّد ذلك ما رواه أبو مخنف، عن أبي خليق، وكان مشرفاً على عسكر ابن زياد المنكوس، إذ سأله المختار عن عدد عسكر ابن زياد، فقال: كانوا أوّلاً اثنان وعشرون ألفاً، ثمّ تبعهم ستّة آلاف، وانتهوا إلى مئة واثنين وعشرين ألفاً.

قال المختار: كان هؤلاء كلّهم في كربلاء؟! قال أبو خليق: باشر اثنان وعشرون ألفاً القتال ورموا الإمام بالسهام وطعنوه بالرماح، وستّة آلاف كانوا على الفرات من ثلاث جوانب، وكان باقي العسكر أرتالاً تتعاقب من الكوفة إلى كربلاء دون انقطاع، فتكاملوا في كربلاء وقد قُضيَ الأمر.

ذكرنا سابقاً أنّ خيل العسكر الملعون نظمت من القطقطانيّة إلى القادسيّة!قال المختار: بيّن لنا أصناف العسكر من الخيّالة والرجّالة وغيرها. قال أبو خليق: كان اثنان وعشرون ألفاً من عساكر قصر الإمارة، ضُبطَت أسماؤهم في الديوان وهم يتقاضون العطاء، وعليهم قشعم وشمر وشبث بن

ص: 146

ربعيّ ويزيد بن ركاب وأبناء الأشعث وأبو الأشرس والي خراسان ويزيد بن أبحر وحصين بن نمير وسنان بن أنس وقيس بن الضحّاك وسعد بن عبد بن عمر وأبو محنوق ودريد ((1)) مولى عمر بن سعد، وكان المتفرّجون والغوغاء والخدم وحملة الأرزاق زهاء ثمانية آلاف، ومن باقي أصناف أهل الكوفة مثل النجّارين والحدّادين والخبّازين وغيرهم وزعماء شاكر وكندة وخزيمة وبني زهرة وآل زفير وبني حرب وسوق الليل وسوق الشاعة وصرح نمرود وسوق البراتين..

قال المختار: كم كان فيهم من النواحي؟ قال: إثنان وثلاثون ألفاً من البوادي والأعراب من عبّادة وربيعة وسكون وحِميَر وكِندة ودارم وغطعون ومِذحج ويربوع وخزاعة وكلب والنبط، ومن المدائن والبصرة سبعة آلاف، ومن أهل الشام ثلاثون ألفاً، ومن الخوارج ألفان، وعشرة آلاف من خُزيمة والموصل وتكريت وعسقلان والشامات، وألفان من كردان ((2)).

قال المختار: كم عدد الأُمراء فيهم؟ قال: سبعون أميراً، أمير العسكر عمر ابن سعد، وابنه حفص وزيره، وعلى الساقة أبو الحنوق، وكان أبو الأسرش صاحب لواء، وعينه مجويه، وعلىالمساحي أبو أيّوب الغنوي، نقيب العسكر شمر بن ذي الجوشن، وكان على أربعة آلاف فارس، ويزيد بن

ص: 147


1- ([1]) في المتن: (وريد).
2- ([2]) ربما قصد (الأكراد).

ركاب على ألفَي راجل، وكان شبث على أربعة آلاف فارس، وعروة بن قيس على ألفَي راجل، والحرّ بن يزيد على ألف فارس، وعامر بن الطُّفَيل على ألفَي راجل [أربعة آلاف فارس]، وقرّة بن قيس على ألفَي فارس، وابن أبي جويريّة على ألفي فارس، وحكيم بن الطفيل على أربعة آلاف فارس، حمل ابن مالك على ألفي فارس، وسنان بن أنس كاتب العسكر، وأنا المشرف وزياد بن قادر وشبلي بن يزيد الحادي، وخولّي بن يزيد حامل لواء الرجّالة، وخولّي رفع الرأس المقدّس على الرمح، وحِجر الأحجار ورافع بن مالك والنعمان بن ثابت على الفرات، وابن حوبش على الرماة، وعمر بن صبيع الصيداوي على المقاليع ورماة الأحجار، ومحمّد بن الأشعث أمير الأُمراء، وخليفة بن سعد وأخوه قيس على ألفين من الرجّالة، ومنقذ بن مرّة وزيد بن الرقّاد رسولا الفتح ((1)).

وفي بعض النسخ لأبي مخنف: نزلوا على الحسين علیه السلام، وهم سبعون ألف فارسٍ وراجل، كلّهم من أهل الكوفة، ومعهم السيوف الهنديّة والرماح الخطيّة والحِراب المجليّة ((2)).

بل في رواية ابن شهرآشوب: أحاط بالحسين علیه السلام مئةٌ وأربعةٌ وثمانون ألف رجل، وكانوا يرمونه بالنبال. سنأتي على ذكر ذلك في قتاله علیه السلام .

ص: 148


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 231.
2- ([2]) أسرارالشهادة للدربندي: 2 / 178.

قال محمّد بن أبي طالب: ثمّ كتب إليه ابن زياد: إنّي لم أجعل لك علّةً في كثرة الخيل والرجال، فانظر لا أُصبح ولا أُمسي إلّا وخبرك عندي غدوةً وعشيّة. وكان ابن زيادٍ يستحثّ عمر بن سعد على قتال الحسين علیه السلام ، والتأمت العساكر عند عمر بن سعد لستّة أيّامٍ مضين من المحرّم ((1)).

وفي (الملهوف): فضيّقوا على الحسين علیه السلام حتّى نال منه العطش ومِن أصحابه، فقام علیه السلام واتّ-كأ على قائم سيفه، ونادى بأعلى صوته فقال علیه السلام :«أُنشدكم الله، هل تعرفونني؟»، قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله صلی الله علیه وآله وسبطه. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّي رسولُ الله صلی الله علیه وآله»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ أبي عليُّ بن أبي طالب علیه السلام »، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ أُمّي فاطمةُ الزهراء بنتُ محمّدٍ المصطفى صلی الله علیه وآله»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجةُ بنت خُويلد أوّلُ نساء هذه الأُمّة إسلاماً؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ حمزة سيّد الشهداء عمُّ أبي؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جعفراً الطيّار في الجنّة عمّي؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله صلی الله علیه وآله أنا مقلّده؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله صلی الله علیه وآله أنا لابسه؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ عليّاً علیه السلام كان أوّلَ

ص: 149


1- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 260.

القوم إسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً، وأنّه وليّ كلّ مؤمنٍ ومؤمنة؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فبمَ تستحلّون دمي، وأبي صلی الله علیه وآله الذائد عن الحوض، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يد أبي يوم القيامة؟»، قالوا: قد علمنا ذلك كلَّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً.

فلمّا خطب هذه الخطبة وسمع بناته وأُخته زينب كلامه، بكين وندبن ولطمن وارتفعت أصواتهنّ، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وعليّاً ابنه، وقال لهما: «سكّتاهنّ، فلَعمري لَيكثرنّ بكاؤهن» ((1)).

قال المؤلّف: الله يا قلب زينب المكلوم وباقي النسوة، يرَين كلّ هذه المصائب ولا يطلقن حسرةً من أكبادهنّ ولا يرفعن صوتاً ولا يندبن بالعويل، خوفاً من شماتة الأعداء وإثارة غيرة سيّد الشهداء، فيكتمن الآهة في صدورهنّ المكبوتة المزدحة بالآلام والغصص والمصائب المتوالية، ولو افلتت منهنّ زفرةً بسبب هجوم المصائب فارتفعت لهنّ عولةً وطفحت قلوبهنّ بصرخةٍ وتطاير الشرر من أكبادهنّ حسرة، فإنّها تكون سبباً لغصّةٍ جديدة، فإنّ الإمام الغيور لا يرضى أن يسمع الأعداءُ أصوات نسائه، ولا يرضى أن يضبطهنّ وقد هجمَت عليهنّ المصائب من كلّ حدب وصوب، ولكنّهنّ بعد أن سمعن رسالة الإمام الّتي حملها زبدة الناس أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبر، عضضن على الأكباد، وصرن كالطيور كسيرة الأجنحة،

ص: 150


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 86.

يكتمن الصراخ ويتأوّهن بصمت، ويخفين الأنين ويجلسن جلسةالحزين.

وفي (المنتخب) أنّ الحسين لمّا رأى وحدته وفقْدَ عترته وأنصاره، تقدّم على فرسه نحو القوم حتّى واجههم، وقال: «أيّها الناس، انسبوني وانظروا مَن أنا، ثمّ راجعوا أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم سفك دمي وانتهاك حُرمي؟ ألستُ أنا ابن نبيّكم محمّد؟ أما كان موصِياً فيكم لي ولأخي؟ أما أنا سيّد شباب أهل الجنّة؟ أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي وانتهاك حُرمتي؟»، فقالوا: ما نعرف شيئاً ممّا تقول. فقال: «إنّ فيكم مَن لو سألتموه عنّي لَأخبركم إنّه سمع ذلك من جدّي رسول الله فيّ وفي أخي الحسن، سَلُوا زيد بن ثابت والبُراء بن عازب وأنس ابن مالك، فإنّهم يخبرونكم أنّهم سمعوا من جدّي رسول الله فيّ وفي أخي، فإن كنتم تشكّون إنّي لستُ ابن بنت نبيّكم، فواللهِ ما تعمّدتُ الكذب وقد عرفتُ أنّ الله (تعالى) يمقت على الكذب أهلَه ويعذّب مَن استعمله، فواللهِ ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري، ثمّ أنا ابن إمامكم خاصّةً دون غيري، خبّروني هل تطلبوني بقتلٍ قتلتُه منكم، أو بقصاصٍ من جراحة، أو بمالٍ استملكته منكم، أم على سُنّةٍ غيّرتها، أم على شريعة فرض بذاتها؟». قال: فسكتوا، ولم يقبلوا هذا القول منه ((1)).

وقال محمّد بن أبي طالب: وأقبل حبيب بن مظاهر إلى الحسين علیه السلام ، فقال: يا ابن رسول الله، هاهنا حيٌّ من بني أسد بالقرب منّا، أفتأذن لي

ص: 151


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 182 المجلس 9.

بالمصير إليهم [الليلة] فأدعوهم إلى نصرتك؟ فعسى الله أن يدفع بهم الأذى عنك. قال: «قد أذنتُ لك». فخرج حبيب إليهم في جَوف الليل مستنكِراً مستعجلاً حتّى أتى إليهم، فعرفوه أنّه من بني أسد، فقالوا: ما حاجتك يا ابن عمّنا؟ فقال: إنّي قد أتيتكم بخير ما أتى به وافدٌ إلى قوم، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيّكم، فإنّه في عصابةٍ من المؤمنين، الرجل منهم خيرٌ من ألف رجل، لن يخذلوه ولن يُسلموه بيد أعدائه، وهذا عمر بن سعد قد أحاط به، وأنتم قومي وعشيرتي، وقد أتيتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا بها شرف الدنيا والآخرة، فإنّي أُقسم بالله لا يُقتَل أحدٌ منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله صابراً محتسباً إلّا كان رفيقاً لمحمّدٍ صلی الله علیه وآله في علّيّين.

قال: فوثب إليه رجلٌ من بني أسد يقال له: عبد الله بن بشر، فقال: أنا أوّل مَن يجيب إلى هذه الدعوة. ثمّ جعل يرتجز [و يقول]:

قد علم القومُ إذا تواكلوا***وأحجم الفرسان أو تثاقلوا

أنّي شجاعٌ بطلٌ مقاتلُ***كأنّني ليث عرينٍ باسلُ

ثمّ تنادى رجال الحيّ حتى التأم منهم تسعون رجلاً، فأقبلوا يريدون الحسين علیه السلام ، وخرج رجلٌ في ذلك الوقت من الحيّ يُقال له: [فلان] ابن عمرو، حتّى صار إلى عمر بن سعد فأخبره بالحال، فدعا ابنُ سعدٍ برجلٍ من أصحابه يقال له: الأزرق الشامي، وهو الّذي قتله وبنيه قاسم بن

ص: 152

الحسن علیه السلام واحداً بعد واحد، فضمّ إليه أربعمئة فارس ووجّه [به] نحو حيّ بني أسد، فبينا أُولئك القوم قد أقبلوا يريدون عسكر الحسين علیه السلام في جوف الليل إذ استقبلَتهم خيلُ ابنسعدٍ على شاطئ الفرات، وبينهم وبين عسكر الحسين النهر، فناوش القوم بعضهم بعضاً واقتتلوا قتالاً شديداً، وصاح حبيب بن مظاهر بالأزرق: ويلك! ما لَك وما لنا؟ انصرف عنّا ودَعْنا يشقى بنا غيرك. فأبى الأزرق أن يرجع، وعلمَت بنو أسد أنّه لا طاقة لهم بالقوم، فانهزموا راجعين إلى حَيّهم، ثمّ إنّهم ارتحلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يبيتهم، ورجع حبيب بن مظاهر إلى الحسين علیه السلام فخبّره بذلك، فقال علیه السلام : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله».

ورجعت خيل ابن سعدٍ حتى نزلوا على شاطئ الفرات، فحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وأضرّ العطش بالحسين وأصحابه، فأخذ الحسين علیه السلام فأساً وجاء إلى وراء خيمة النساء، فخطا في الأرض تسع عشرة خطوةً نحو القبلة، ثمّ حفر هناك، فنبعت له عينٌ من الماء العذب، فشرب الحسين علیه السلام وشرب الناس بأجمعهم وملؤوا أسقيتهم، ثمّ غارت العين فلم يُرَ لها أثر.

وبلغ ذلك ابن زياد، فأرسل إلى عمر بن سعد: بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء، فيشرب هو وأصحابه، فانظر إذا ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت، وضيّق عليهم، ولا تدَعْهم يذوقوا الماء، وافعل بهم كما فعلوا بالزكيّ عثمان. فعندها ضيّق عليهم عمر بن سعد غاية

ص: 153

التضييق ((1)).وفي (الإرشاد): وبعث [عمر بن سعد] إلى الحسين علیه السلام عروة بن قيس الأحمسيّ فقال له: ائتِه فسلْه: ما الّذي جاء بك؟ وماذا تريد؟

وكان عروة ممّن كتب إلى الحسين علیه السلام ، فاستحيا منه أن يأتيه، فعرض ذلك على الرؤساء الّذين كاتبوه، فكلّهم أبى ذلك وكرهه، فقام إليه كثير بن عبد الله الشعبيّ -- وكان فارساً شجاعاً لا يردّ وجهه شيء -- فقال: أنا أذهب إليه، وواللهِ لئن شئت لَأفتكنّ به. فقال له عمر: ما أُريد أن تفتك به، ولكن ائته فسلْه: ما الّذي جاء بك؟

فأقبل كثير إليه، فلمّا رآه أبو ثمامة الصائديّ قال للحسين علیه السلام: أصلحك الله يا أبا عبد الله، قد جاءك شرُّ أهل الأرض وأجرؤهم على دمٍ وأفتكهم. وقام إليه فقال له: ضع سيفك. قال: لا، ولا كرامة، إنّما أنا رسول، فإن سمعتُم منّي بلّغتكم ما أُرسلتُ به إليكم، وإن أبيتم انصرفتُ عنكم. قال: فإنّي آخذ بقائم سيفك ثمّ تكلّم بحاجتك. قال: لا والله لا تمسّه. فقال له: أخبِرْني بما جئتَ به وأنا أُبلغه عنك، ولا أدعك تدنو منه، فإنّك فاجر. فاستبّا، وانصرف إلى عمر بن سعدٍ فأخبره الخبر ((2)).

قال أبو مخنف: فأنفذ برجُلٍ آخَر من خزيمة، وقال له: امضِ إلى

ص: 154


1- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 260.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 84.

الحسين علیه السلام وقل له: ما الّذي جاء بك إلينا وأقدمَك علينا؟ فأقبل حتّى وقف بإزاء الحسين علیه السلام فنادى، فقال الحسين علیه السلام: «أتعرفون هذا الرجل؟»، فقالوا: هذا رجلٌ فيه الخير، إلّا أنّه شهد هذا الموضع. فقال: «سلوه ما يريد»، فقال:أُريد الدخول على الحسين علیه السلام . فقال له زهير رحمه الله: ألقِ سلاحك وادخل. فقال: حبّاً وكرامة. ثمّ ألقى سلاحه ودخل عليه، فقبّل يديه ورجليه، وقال: يا مولاي، ما الّذي جاء بك إلينا وأقدمك علينا؟ فقال علیه السلام: «كتبكم». فقال: الّذين كاتبوك هم اليوم من خواصّ ابن زياد (لعنه الله). فقال له: «ارجعْ إلى صاحبك وأخبِرْه بذلك». فقال: يا مولاي، مَن الّذي يختار النار على الجنّة؟ فواللهِ ما أُفارقك حتّى ألقى حمامي بين يديك! فقال له الحسين علیه السلام: «واصلك الله كما واصلتَنا بنفسك». ثمّ أقام عند الحسين علیه السلام حتّى قُتل رحمه الله ((1)).

وفي (الإرشاد): فدعا عمر قرّةَ بن قيس الحنظليّ، فقال له: ويحك يا قُرّة! القِ حسيناً فسَلْه ما جاء به وماذا يريد؟ فأتاه قرّة، فلمّا رآه الحسين علیه السلام مقبلاً قال: «أتعرفون هذا؟»، قال له حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجلٌ من حنظلة تميم، وهو ابن أُختنا، وقد كنتُ أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد. فجاء حتّى سلّم على الحسين علیه السلام وأبلغه

ص: 155


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 52، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 182.

رسالة عمر بن سعدٍ إليه، فقال له الحسين: «كتب إليّ أهلُ مِصركم هذا أن أقدم، فأمّا إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم». ثمّ قال حبيب بن مظاهر: ويحك يا قرّة! أين ترجع؟ إلى القوم الظالمين؟ انصر هذا الرجل الّذي بآبائه أيّدك الله بالكرامة. فقال له قرّة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي. قال: فانصرف إلى عمر بن سعدٍ فأخبره الخبر، فقال عمر: أرجو أن يعافيني اللهمن حربه وقتاله.

وكتب إلى عبيد الله بن زياد: بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد: فإنّي حين نزلتُ بالحسين بعثتُ إليه رسلي فسألتُه عمّا أقدمه وماذا يطلب، فقال: كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتَتْني رسلهم يسألونني القدوم، ففعلت، فأمّا إذ كرهوني وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرفٌ عنهم.

قال حسّان بن قائد العبسي: وكنتُ عند عبيد الله حين أتاه هذا الكتاب، فلمّا قرأه قال:

الآن إذ علقَت مخالبُنا به***يرجو النجاة، ولات حين مناصِ

وكتب إلى عمر بن سعد: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه، فإذا فعل هو ذلك رأيْنا رأيَنا، والسلام.

فلمّا ورد الجواب على عمر بن سعد قال: قد خشيتُ أن لا يقبل ابن زيادٍ العافية.

ص: 156

وورد كتاب ابن زيادٍ في الأثر إلى عمر بن سعد أن حُلْ بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرةً كما صُنع بالتقيّ الزكيّ عثمان بن عفّان. فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يستقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيّام.

ونادى عبد الله بن حُصَين الأزديّ -- وكان عداده في بجيلة -- بأعلى صوته: يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء؟ واللهِ لا تذوقون منه قطرةً واحدةً حتّى تموتوا عطشاً. فقال الحسين علیهالسلام : «اللّهمّ اقتله عطشاً، ولا تغفر له أبداً».

قال حميد بن مسلم: واللهِ لعُدته بعد ذلك في مرضه، فواللهِ الّذي لا إله غيره لقد رأيتُه يشرب الماء حتّى يبغر ثمّ يقيئه ويصيح: العطش، العطش! ثمّ يعود فيشرب الماء حتّى يبغر ثمّ يقيئه ويتلظّى عطشاً، فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ نفْسه ((1))، وسقط في سقر.

وفي (التبر المذاب): ونادى عمرو بن الحجّاج (لعنه الله): يا حسين، هذا الماء يلغ فيه الكلاب، ويشرب منه خنازير السواد والذئاب، وما تذوق منه -- واللهِ -- قطرةً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم ((2)).

ص: 157


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 85.
2- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 140 -- بتحقيق السيّد علي أشرف، أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 182.

قال المؤلّف: كان سماع مثل هذا الكلام أشدّ على معدن الكمالات من منع الماء، سيّما من عمرو بن الحجّاج الّذي كتب للإمام المظلوم: اخضرّت الجنّات وأينعت الثمار وطمت الآبار.. فلمّا جاء استقبلوه بالسيوف والرماح والنبال، وكانت هذه هي الثمار اليانعة الّتي أُعدَّت هديّةً لابن رسول الله وقِرىً لضيافته، وقد قال النبيّ صلی الله علیه وآله: «أكرموا الضيف ولو كان كافراً» ((1))، وقد منعوه الماء وهو -- باعتراف عمرو -- مباحٌ للكلاب والخنازير والذئاب.

از آب هم مضايقه كردند كوفيان***خوش داشتند حرمت مهمان كربلا

وبدل كلمات الترحيب الّتي تُدخِل السرور على قلب الضيف،رموه بكلماتٍ تثير الغصّة وتعكّر الصفو، ولَنِعم ما قال الشاعر:

جراحات السِّنان لها التيامٌ***ولا يلتام ما جرح اللسانُ

آن چه زخم زبان كند با مرد***زخم شمشير جان ستان نكند

أجل، إنّ مصيبة الحسين علیه السلام أعظم المصائب المصيبات ((2)).

وقال محمّد بن أبي طالب: ضيّق عليهم عمر بن سعد غاية التضييق،

ص: 158


1- ([3]) جامع الأخبار: 84.
2- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 269 الباب 32 أنّ مصيبته (صلوات الله عليه) كان أعظم المصائب ...

ثمّ دعا بعمرو بن الحجّاج الزبيديّ فضمّ إليه خيلاً عظيمة، وأمره أن ينزل على الشريعة الّتي [هي] حذاء عسكر الحسين.

فنزلوا على الشريعة، فلمّا اشتدّ العطش بالحسين دعا بأخيه العبّاس ابن عليّ، فضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معه عشرين قِربة، فأقبلوا في جوف الليل حتّى دنوا من الفرات، فقال عمرو بن الحجّاج: مَن أنتم؟ فقال رجلٌ من أصحاب الحسين علیه السلام

يُقال له: هلال بن نافع الجمليّ: أنا ابن عمٍّ لك، من أصحاب الحسين، جئتُ أشرب من هذا الماء الّذي منعتمونا إيّاه. فقال عمرو: اشرب هنيئاً. فقال هلال: ويحك! كيف تأمرني أن أشرب والحسين بن عليّ ومَن معه يموتون عطشاً؟! فقال عمرو: صدقت، ولكن أُمِرنا بأمرٍ لابدّ أن ننتهي إليه. فصاح هلال بأصحابه، فدخلوا الفرات، وصاح عمرو بالناس، فاقتتلوا على الماء قتالاً شديداً، فكان قومٌ يقاتلون وقومٌ يملؤون [القِرَب] حتّى ملؤوها، [قُتِل من أصحابعمرو بن الحجّاج جماعة] ولم يُقتَل من أصحاب الحسين أحد، ثمّ رجع القوم إلى معسكرهم، فشرب الحسين ومَن كان معه، ولهذا سُمّيَ العبّاس علیه السلام السقّاء.

ثمّ أرسل الحسين علیه السلام إلى عمر بن سعد (لعنه الله): «إنّي أُريد أن أُكلّمك، فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك». فخرج إليه ابن سعدٍ في عشرين، وخرج إليه الحسين في مثل ذلك، فلمّا التقيا أمر الحسين علیه السلام أصحابه فتنحّوا عنه، فبق-يَ معه أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبر، وأمر عمر

ص: 159

ابن سعد أصحابه فتنحّوا عنه، وبق-يَ معه ابنه حفص وغلامٌ له.

فقال له الحسين علیه السلام: «ويلك يا ابن سعد! أما تتّقي اللهَ الّذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن مَن علمت؟ ذَرْ هؤلاء القوم وكُن معي؛ فإنّه أقرب لك إلى الله (تعالى)». فقال عمر بن سعد: أخاف أن تُهدَم داري. فقال الحسين علیه السلام : «أنا أبنيها لك». فقال: أخاف أن تؤخَذ ضيعتي. فقال الحسين علیه السلام: «إني أخلف عليك البغيبغة» ((1))، وهي عينٌ عظيمةٌ بالحجاز، وكان معاوية أعطاه في ثمنها ألف ألف دينار من الذهب فلم يبعه ((2)). فقال: لي عيالي وأخاف عليهم. ثمّ سكت ولم يجبه إلى شيء، فانصرف عنه الحسين علیه السلام وهو يقول: «ما لَك؟ ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوَاللهِ إنّي لا أرجو أن تأكل من بُرّ العراق إلّا يسيراً». فقال ابن النحس سعد:في الشعير كفايةٌ عن البُرّ. مستهزءاً بذلك القول.

ثمّ رجع ابن سعدٍ إلى معسكره ((3)).

وفي (المنتخب): فجاء بُرير بن خُضير الهمْدانيّ الزاهد العابد، وقال: يا ابن رسول الله، أتأذن لي أن أدخل إلى خيمة هذا الفاسق عمر بن سعد

ص: 160


1- ([1]) في المتن: (البقيعة)، وفي (المنتخب): (البغية)، وفي التسلية: (أنا أخلف عليك خيراً منها مِن مالي بالحجاز).
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 233.
3- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 263.

فأعِظه، فلعلّه يرجع عن غيّه. فقال الحسين علیه السلام : «افعل ما أحببت». فأقبل بُرَير حتّى دخل على عمر بن سعد، فجلس معه ولم يُسلّم عليه، فغضب ابن سعدٍ وقال له: يا أخا همْدان، ما الّذي منعك من السلام علَيّ؟ ألستُ مُسلماً أعرف الله ورسوله؟! فقال له بُرير: لو كنتَ مسلماً تعرف الله ورسوله ما خرجتَ إلى عترة نبيّك محمّد صلی الله علیه وآله تريد قتلهم وسبيهم، وبعد، فهذا ماء الفرات يلوح بصفائه يتلألأ، تشربه الكلاب والخنازير، وهذا الحسين علیه السلام ابن فاطمة الزهراء ونساؤه وعياله وأطفاله يموتون عطشاً، قد حُلتَ بينهم وبين ماء الفرات أن يشربوا منه، وتزعم أنّك تعرف الله ورسوله؟! قال: فأطرق ابن سعدٍ رأسه إلى الأرض ساعة، ثمّ قال: واللهِ يا برير، إنّي لَأعلم علماً يقيناً أنّ كلّ مَن قاتلهم وغصب حقّهم مُخلَّدٌ في النار لا محالة، ولكن يا بُرير، أتشير علَيّ أن أترك ولاية الريّ فتصير لغيري؟ واللهِ ما أجد نفسي تجيبني إلى ذلك أبداً.

قال: فرجع بُرير إلى الحسين علیه السلام وقال له: إنّ عمر بن سعد قد رضيَ بقتلك بولاية الري. فقال الحسين علیه السلام : «لايأكل من بُرّها إلّا قليلاً، ويُذبَح على فراشه». وكان الأمر كما قال الحسين علیه السلام ((1)).

وفي (أخبار الدول) أنّ الإمام الحسين علیه السلام خيّرهم بين ثلاث ((2)).

ص: 161


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 233 المجلس 1.
2- ([2]) قال المؤلّف: فقال الحسين علیه السلام: اختاروا واحدةً من ثلاث: إمّا أن تدَعُوني فألحقُ بالثغور، وإما أن أذهب إلى يزيد، أو أرد إلى المدينة (تاريخ الطبريّ: 5 / 413، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 202). ومن العجيب أن يروي المؤلّف مثل هذا الزيف، ثمّ لا يروي ما ذكره الطبريّ بعد ذلك مباشرة: قال أبو مِخنَف: فأمّا عبد الرحمان بن جُندب، فحدّثني عن عُقبة بن سمعان قال: صحبتُ حسيناً، فخرجتُ معه من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، ولم أُفارقه حتّى قُتِل، وليس من مخاطبته الناس كلمةً بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكرٍ إلى يوم مقتله إلّا وقد سمعتُها، ألا واللهِ ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون مِن أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسيّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، ولكنّه قال: «دَعوني، فلأذهب في هذه الأرض العريضة، حتّى ننظر ما يصير أمر الناس».

وفي (الإرشاد): ثمّ رجع عمر بن سعدٍ إلى مكانه، وكتب إلى عبيد الله ابن زياد: أمّا بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأُمّة، هذا حسينٌ قد أعطاني عهداً أن يرجع إلى المكان الّذي أتى منه، أو أن يسير إلى ثغرٍ من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتيَ أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضىً وللأُمّة صلاح.

فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب ناصحٍ مشفقٍ علىقومه.

فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك

ص: 162

وإلى جنبك؟ واللهِ لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك لَيكوننّ أَولى بالقوّة، ولَتكوننّ أَولى بالضعف والعجز، فلا تُعطِه هذه المنزلة، فإنّها مِن الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبتَ فأنت أَولى بالعقوبة، وإن عفوتَ كان ذلك لك.

قال له ابن زياد: نِعمَ ما رأيت، الرأي رأيك، اخرُجْ بهذا الكتاب إلى عمر ابن سعد، فلْيعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فلْيبعث بهم إليّ سلماً، وإن هم أبَوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطِعْ، وإن أبى أن يقاتلهم فأنت أمير الجيش، واضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.

وكتب إلى عمر بن سعد: أنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لِتطاوله ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتعتذر له، ولا لتكون له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسينٌ وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً، وإن أبَوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم، فإنّهم لذلك مستحقّون، وإن قُتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنّه عاتٍ ظلوم، وليس أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً، ولكن علَيّ قولٌ قد قلتُه لو قتلتُه لفعلتُ هذا به، فإن أنت مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيتَ فاعتزل عملنا وجندنا وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن

ص: 163

وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام ((1)).

وفي (التبر المذاب): وكتب في أسفل الكتاب:

الآن إذ علقت مخالبنا به***يبغي النجاة، ولات حين مناصِ ((2))

فلمّا وصل شمر إلى عمر بن سعد قرأ الكتاب وقال: لا قرّب الله دارك، ولا أدنى مزارك، وقبّح الله ما جئتَ به ((3))، واللهِ إنّي لَأظنُّك أنّك نهيتَه أن يقبل ما كتبتُ به إليه، وأفسدتَ علينا أمرنا قد كنّا رجونا أن يصلح، لا يستسلم والله حسين، إنّ نفس أبيه لَبَين جنبيه. فقال له شمر: أخبِرْني ما أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدوَّه؟ وإلّا فخلِّ بيني وبين الجند والعسكر. قال: لا، لا والله ولا كرامة لك، ولكن أنا أتولّى ذلك، فدونك، فكن أنت على الرجّالة ((4)).

وفي (التبر المذاب): ثمّ بعث [ابنُ سعدٍ الكتاب] إلى الحسين علیه السلام فأخبر الخبر، فقال: «واللهِ لا وضعتُ يدي في يد ابن مرجانة أبداً، وهل هو إلّا الموت والقدوم على ربٍّ كريم؟ والله لقد أخبرني بذلك جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله» ((5)).

وفي (الإرشاد): ونهض عمر بن سعد إلى الحسين عشيّة الخميس لتسعٍ

ص: 164


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 87.
2- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 142.
3- ([3]) أُنظُر: حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 143.
4- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 89.
5- ([5]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 143.

مضين من المحرّم ((1)).وفي (التبر المذاب): إنّ شمر اللعين أخذ من ابن زياد أماناً للعبّاس وعبد الله وجعفر، وأُمّهم أُمّ البنين الكلابيّة، وكان شمر كلابيّاً ((2)).

وذكر ابن جرير: أنّ جرير بن عبد الله ((3)) كانت أُمّ البنين عمّته، فأخذ لهم أماناً من ابن زياد، فسارع شمر وجاء به إلى أصحاب الإمام الغريب ((4)).

وفي (الملهوف): وأقبل شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله) فنادى: أين بنو أُختي -- وعادة العرب يسمّون رجال قبيلة المرأة أخوالاً وأبناءها بني أُخت -- عبدُ الله وجعفر والعبّاس وعثمان؟ فقال الحسين علیه السلام : «أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم»، فقالوا له: ما شأنك؟ فقال: يا بني أُختي، أنتم آمِنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين علیه السلام ، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. قال: فناداه العبّاس بن عليّ علیه السلام : تبَّت يداك ولعن ما جئتَ به من أمانك يا عدوّ الله، أتأمرنا أن نترك أخانا وسيّدنا الحسين ابن فاطمة علیه السلام وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟! قال: فرجع الشمر

ص: 165


1- ([6]) الإرشاد للمفيد: 2 / 89.
2- ([1]) أُنظُر: حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 144.
3- ([2]) في المتن: (روى جرير بن عبد الله).
4- ([3]) أُنظُر: تاريخ الطبري: 4 / 314، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 142.

(لعنه الله) إلى عسكره مغضباً ((1)).

وفي (الإرشاد): ثمّ نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي وأبشري. فركب الناس، ثمّ زحف نحوهم بعد العصر، وحسين علیه السلام جالسٌ أمام بيته محتبٍ بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعَت أُخته الصيحة، فدنت من أخيها فقالت: يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين علیه السلام رأسه، فقال: «إنّي رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله الساعة في المنام، فقال لي: إنّك تروح إلينا»، فلطمَت أُختُه وجهها ونادت بالويل، فقال لها: «ليس لكِ الويل يا أُخيّة، اسكتي رحمكِ الله».

وقال له العبّاس بن عليّ (رحمة الله عليه): يا أخي أتاك القوم! فنهض، ثمّ قال: «يا عبّاس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم، وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم».

فأتاهم العبّاس في نحوٍ من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر، فقال لهم العبّاس: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه، أو نناجزكم. قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا، وقالوا: القِه فأعلمه، ثمّ القنا بما يقول لك. فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين علیه السلام يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم

ص: 166


1- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 88.

ويكفّونهم عن قتال الحسين.

فجاء العبّاس إلى الحسين علیه السلام فأخبره بما قال القوم، فقال: «ارجعْ إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى الغدوة وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد أُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابهوالدعاء والاستغفار». فمضى العباس إلى القوم ((1))، فقبل ابن سعد.

وفي (المنتخب): فقال ابن سعدٍ للشمر: ما تقول؟ فقال: أمّا أنا فلو كنتُ الأمير لم أُنظِره ((2)).

وفي (الملهوف): فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي: والله لو أنّهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لَأجبناهم، فكيف وهم آل محمّد صلی الله علیه وآله فأجابوهم إلى ذلك ((3)).

وفي (الإرشاد): ورجع [العبّاس] مِن عندهم ومعه رسولٌ مِن قِبل عمر ابن سعد يقول: إنّا قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا عُبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم. وانصرف ((4)).

وفي (الملهوف): وجلس الحسين علیه السلام فرقد، ثمّ استيقظ فقال: «يا أُختاه، إنّي رأيت الساعة جدّي محمّداً صلی الله علیه وآله وأبي عليّاً وأُمّي فاطمة وأخي الحسن، وهم

ص: 167


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 89.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 429 المجلس 9.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 89.
4- ([4]) الإرشاد: 2 / 91.

يقولون: يا حسين، إنّك رائحٌ إلينا عن قريب». فلطمَت زينب وجهها وصاحت وبكت، فقال لها الحسين علیه السلام: «مهلاً، لا تشمتي القوم بنا!» ((1)).

ص: 168


1- ([5]) اللهوف لابن طاووس: 90.

المجلس السادس: في بيان أحداث ليلة عاشوراء الأليمة إلى وقت وقوع القتال

اشاره

لا أقمرَت ليلةٌ صارت صبيحتها***بدور آل رسول الله في خسفِ

لا أشرقت شمسُ يومٍ صار في نحده***شموس آل رسول الله في كسفِ

روى ابن قولويه، عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «كان رسول الله صلی الله علیه وآله إذا دخل الحسين علیه السلام جذبه إليه، ثمّ يقول لأمير المؤمنين علیه السلام: أمسِكْه. ثمّ يقع عليه فيقبّله ويبكي، يقول: يا أبتِ لمَ تبكي؟ فيقول: يا بُنيّ، أُقبّل موضع السيوف منك. قال: يا أبتِ وأُقتَل؟ قال: إي والله، وأبوك وأخوك وأنت. قال: يا أبتِ فمصارعنا شتّى؟ قال: نعم يا بُنيّ. قال: فمَن يزورنا من أُمّتك؟ قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلّا الصدّيقون مِن أُمّتي» ((1)).

ص: 169


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 70 الباب 22 ح 4.

وروى ابن نما، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: لمّا اشتدّ برسول الله صلی الله علیه وآله مرضه الّذي مات فيه، وقد ضمّ الحسين علیه السلام إلى صدره يسيل من عرقه عليه، وهو يجود بنفسه ويقول: «ما لي وليزيد؟ لا بارك الله فيه، اللّهمّ العن يزيد». ثمّ غُشي عليه طويلاً وأفاق، وجعل يقبّل الحسين وعيناه تذرفان ويقول: «أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدَي الله عزوجل» ((1)).

وعن ابن عبّاسٍ قال: دخلتُ على النبيّ صلی الله علیه وآله والحسن على عاتقه والحسين على فخذه يلثمهما ويقبّلهما، ويقول: «اللّهمّ والِ مَن والاهما، وعادِ مَن عاداهما»، ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، كأنّي به وقد خُضبَت شيبتُه من دمه، يدعو فلا يُجاب، ويَستنصر فلا يُنصر». قلت: فمن يفعل ذلك يا رسول الله؟! قال: «شرار أُمّتي، ما لَهم؟ لا أنالهم الله شفاعتي» ((2)).

وقال الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد): فجمع الحسين علیه السلام أصحابه عند قرب المساء. قال عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام: «فدنوتُ منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقهّتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي،

ص: 170


1- ([1]) مثير الأحزان لابن نما: 22.
2- ([2]) كفاية الأثر للخزّاز: 16، بحار الأنوار للمجلسي: 36 / 285 ح 107.

ولا أهلَ بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي لَأظنّ أنّه آخر يومٍ لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل قد غشيَكم فاتّخذوه جملاً» ((1)).

وفي (الملهوف): «ولْيأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يريدون غيري».

فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بذلك القول العبّاسُ بن عليّ علیه السلام ، ثمّ تابعوه.

ثمّ نظر إلى بني عقيلٍ فقال: «حسبُكم من القتل بصاحبكم مسلم، اذهبوا فقد أذنتُ لكم» ((2)).

وفي (الإرشاد): قالوا: سبحان الله! فما يقول الناس؟ يقولون: إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهمٍ ولم نطعن معهم برمحٍ ولم نضرب معهم بسيفٍ ولا ندري ما صنعوا؟! لا واللهِ ما نفعل ذلك، ولكن تفديك [خ ل: نفديك] أنفسنا وأموالنا وأهلونا [خ ل: أهلينا] ونقاتل معك، حتّى نَرِد موردك، فقبّح الله العيش بعدك ((3)).

ص: 171


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 91.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 91.
3- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 92.

وفي (الملهوف): ثمّ قام مسلم بن عوسجة وقال: نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك، وقد أحاط بك هذا العدوّ؟ لا والله، لا يراني الله أبداًوأنا أفعل ذلك، حتّى أكسر في صدورهم رمحي وأُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمته بيدي، ولو لم يكن لي سلاحٌ أُقاتلهم به لَقذفتُهم بالحجارة، ولم أفارقك أو أموت معك ((1)).

وفي (الإرشاد): فقال: أنخلّي عنك؟ ولما نعذر إلى الله (سبحانه) في أداء حقّك؟ أما والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي، ولو لم يكن معي سلاحٌ أُقاتلهم به لَقذفتُهم بالحجارة، واللهِ لا نخلّيك حتّى يعلم الله أن قد حفظنا غَيبة رسول الله صلی الله علیه وآله فيك، والله لو علمتُ أنّي أُقتَل ثمّ أحيا ثمّ أُحرق ثمّ أحيا ثمّ أُذرّى، يُفعَل ذلك بي سبعين مرّةً، ما فارقتُك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدة، ثمّ هي الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبداً؟ ((2)).

وفي (الملهوف): وقام سعيد بن عبد الله الحنفيّ فقال: لا والله يا ابن رسول الله، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد صلی الله علیه وآله، ولو علمتُ أنّي أُقتَل فيك ثمّ أحيا ثمّ أُخرَج حيّاً ثمّ أُذرّى، يُفعَل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتُك حتّى ألقى حِمامي دونك، وكيف لا أفعل

ص: 172


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 91.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 92.

ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ ثمّ أنال الكرامة الّتي لا انقضاء لها أبداً؟

ثمّ قام زهير بن القَين وقال: واللهِ يا ابن رسول الله لَوددتُ أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة، وأنّ الله (تعالى) قد دفع القتل عنك وعنهؤلاء الفتية من إخوانك ووُلدك وأهل بيتك ((1)).

وفي روايةٍ أُخرى قال: لا والله، لا يكون ذلك أبداً، أترك ابن رسول الله أسيراً في يد الأعداء وأنجو؟! لا أراني الله ذلك اليوم ((2)).

وفي (الملهوف): وتكلّم جماعةٌ من أصحابه بنحو ذلك، وقالوا: أنفُسُنا لك الفداء، نقيك بأيدينا ووجوهنا، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا وقضينا ما علينا.

وقيل لمحمّد بن بشير الحضرميّ في تلك الحال: قد أُسر ابنك بثغر الريّ. فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنتُ أُحبّ أن يُؤسَر وأنا أبقى بعده. فسمع الحسين علیه السلام قوله، فقال: «رحمك الله، أنت في حِلٍّ مِن بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك»، فقال: أكلَتني السباع حيّاً إن فارقتك. وفي روايةٍ قال: وأخذلك مع قلّة الأعوان؟! لا يكون هذا أبداً ((3)). قال: «فاعطِ ابنك هذه

ص: 173


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 92.
2- ([2]) المزار الكبير لابن المشهدي: 493، إقبال الأعمال لابن طاووس: 2 / 576، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 71.
3- ([3]) المزار الكبير لابن المشهدي: 493، إقبال الأعمال لابن طاووس: 2 / 576، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 70.

الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه»، فأعطاه خمسة أثوابٍ قيمتها ألف دينار ((1)).

وقال المسعوديّ في كتاب (مروج الذهب): فعدل الحسين إلى كربلاء، وهو في مقدار ألف فارسٍ من أهل بيته وأصحابه ونحو مئةراجل ((2)).

وعن كتاب (نور العيون): عن سكينة بنت الحسين علیهما السلام: أنّها كانت ليلةً مُقمِرةً كنت جالسةً في الفسطاط، فإذا سمعتُ صوت البكاء عن خلف الفسطاط، فسكتُّ خوفاً من اطّلاع الأخوات وسائر النسوة، فخرجتُ وقلبي لا يشهد بالخير، وكنتُ أمشي وأضرب قدمي على ذيلي وأسقط، وأقوم، فرأيتُ أبي جالساً وأصحابه حوله، فسمعتُ أبي يقول لهم: أنتم جئتم معي لعلمكم بأنّي أذهب إلى جماعةٍ بايعوني قلباً ولساناً، والآن تجدونهم قد استحوذ عليهم الشيطان ونسوا الله، والآن لم يكن لهم مقصدٌ سوى قتلي وقتل مَن يجاهد بين يدَيّ، وسبي حريمي بعد سلبهم، وأخاف أن لا تعلموا ذلك، أو تعملوا ولا تتفرّقوا للحياء منّي، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت علیهم السلام، فكلّ مَن يكره نصرتنا فلْيذهب في هذه الليلة الساترة، ومَن نصرنا بنفسه فيكون معنا في الدرجات العالية من الجِنان، فقد أخبرني

ص: 174


1- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 93.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 74 ح 4 -- عن: المروج.

جدّي: أنّ ولدي الحسين علیه السلام يُقتَل بطف كربلا غريباً وحيداً عطشاناً، فمن نصره فقد نصرني ونصر ولده القائم، ومَن نصرنا بلسانه فإنّه في حزبنا في القيامة. قالت سكينة: والله ما أتمّ كلامه إلّا وتفرّق القوم من نحو عشرة وعشرين، فلم يبقَ معه إلّا ما ينقص عن الثمانين ويزيد عن السبعين، فنظرتُ إلى أبي فوجدتُه قد نكّس رأسه في حزنٍ وكرب، فلمّا رأيت ذلك فخنقتني العَبرة، فرددتها ولزمت السكوت، وتوجّهت إلى السماء وقلت: اللّهمّ إنّهمخذلونا فاخذلهم، ولا تجب دعائهم، ولا تجعل لهم في الأرض مسكناً، وسلّط عليهم الفقر، ولا تنلهم شفاعة جدّي.

فرجعتُ إلى الفسطاط، وتنهمل دموعي، فنظرَت عمّتي أُمُّ كلثوم إليّ، فقالت: ما لكِ؟ فقصصتُ القصّة لها، فلمّا سمعَت ذلك فنادت: وا جدّاه، وا عليّاه، وا حسناه، وا حسيناه، وا قلّة ناصراه! ولا أدري كيف لنا المخلص من أيدي الأعادي، وليت الأعادي يرضون أن يقتلونا بدلاً عن أخي. فاجتمعت النساء من بكائها، فبكين، وسمع أبي بكائهنّ، فخرج من الفسطاط باكياً، فدخل على فسطاطهنّ، فقال: ما هذا البكاء؟ فقربت عمّتي وقالت: يا أخي، رُدَّنا إلى حرم جدّنا. فقال: كيف لي ذلك مع كثرة الأعادي؟ فقالت: أجل، ذكّرهم محلّ جدّك وأبيك وجدّتك وأخيك. فقال: ذكّرتُهم فلم يدّكروا، ووعظتهم فلم يتّعظوا ولم يسمعوا قولي، وليس لهم رأيٌ سوى قتلي، ولابدّ أن تروني على الثرى جديلاً، ولكن أُوصيكم بالصبر والتقوى، وذلك أخبر به جدّكم، ولا خُلف لوعده، وأسلمكم على مَن لو

ص: 175

هتك الستر لم يستره أحد ((1)).

وعن الإمام الحسن العسكريّ علیه السلام: «لمّا أحاط العسكر بسيّد الشهداء قال علیه السلام لعسكره: أنتم من بيعتي في حِلّ، فالحقوا بعشائركم ومواليكم. وقال لأهل بيته: قد جعلتكم في حِلٍّ من مفارقتي، فإنّكم لا تطيقونهم لتضاعف أعدادهم وقواهم، وما المقصود غيري، فدعوني والقوم، فإنّ الله عزوجل يعينني ولا يخليني من [حُسن] نظره، كعادته فيأسلافنا الطيّبين. فأمّا عسكره ففارقوه، وأمّا أهله [و] الأدنون من أقربائه فأبوا، وقالوا: لا نفارقك، ويحلّ بنا ما يحلّ بك، ويحزننا ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وإنّا أقرب ما نكون إلى الله إذا كنّا معك. فقال لهم: فإن كنتم قد وطّنتُم أنفسكم على ما وطّنتُ نفسي عليه، فاعلموا أنّ الله إنّما يهب المنازل الشريفة لعباده [لصبرهم] باحتمال المكاره، وأنّ الله وإن كان خصّني مع مَن مضى مِن أهلي الّذين أنا آخرهم بقاءً في الدنيا من الكرامات بما يسهل معها علَيّ احتمال الكريهات، فإنّ لكم شطر ذلك من كرامات الله (تعالى)، واعلموا أنّ الدنيا حُلوها ومُرّها حلم، والانتباه في الآخرة، والفائز مَن فاز فيها، والشقيّ مَن شقيَ فيها» ((2)).

وفي كتاب (الخرائج): عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «قال الحسين علیه السلام لأصحابه قبل أن يُقتَل: إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال لي: يا بُنيّ، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين، وهي أرضٌ تُدعى: عمورا، وإنّك

ص: 176


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 222، معالي السبطين للحائري: 1 / 338.
2- ([1]) تفسير الإمام العسكري علیه السلام : 218 ح 1، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 91 ح 29.

تُستشهَد بها ويستشهَد معك جماعةٌ من أصحابك، لا يجدون ألم مسّ الحديد. وتلا: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ» ((1))، يكون الحرب برداً وسلاماً عليك وعليهم، فأبشِروا، فوَاللهِ لئن قتلونا فإنّا نَرِدُ على نبيّنا» ((2)).وفي (الخرائج) أيضاً: عن الثُّماليّ قال: قال عليّ بن الحسين علیه السلام : «كنتُ مع أبي في الليلة الّتي قُتِل في صبيحتها، فقال لأصحابه: هذا الليل فاتّخِذوه جُنّة، فإنّ القوم إنّما يريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم، وأنتم في حِلٍّ وسعة. فقالوا: والله لا يكون هذا أبداً. فقال: إنّكم تُقتَلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل. قالوا: الحمد لله الّذي شرّفَنا بالقتل معك. ثمّ دعا فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا. فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة، وهو يقول لهم: هذا منزلك يا فلان. فكان الرجل يستقبل الرماح والسيوف بصدره ووجهه ليصل إلى منزلته من الجنّة» ((3)).

وفي (عِلل الشرائع): عن عمارة، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قلت له: أخبِرْني عن أصحاب الحسين وإقدامهم على الموت. فقال: «إنّهم كُشف لهم الغطاء حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يُقدِم على القتل ليبادر إلى

ص: 177


1- ([2]) سورة إبراهيم: 69.
2- ([3]) الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 848، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 80 ح 6.
3- ([1]) الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 847، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 298 ح 3.

حوراء يعانقها وإلى مكانه من الجنّة» ((1)).

وعن الإمام زين العابدين علیه السلام: «ثمّ إنّ الحسين علیه السلام أمر بحفيرةٍ فحُفرَت حول عسكره شبه الخندق، وأمر فحُشيَت حطباً، وأرسل عليّاً ابنه علیه السلام في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء وهم على وجلٍ شديد..ثمّ قال لأصحابه: قوموا فاشربوا من الماء، يكن آخر زادكم، وتوضّؤوا واغتسلوا، واغسلوا ثيابكم لتكون أكفانكم» ((2)).

وفي (الملهوف): وبات الحسين علیه السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دَويٌّ كدويّ النحل، ما بين راكعٍ وساجدٍ وقائمٍ وقاعد، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً ((3)).

وروى الشيخ المفيد عن الإمام زين العابدين

علیه السلام قال: «إنّي لَجالسٌ في تلك العشيّة الّتي قُتل أبي في صبيحتها، وعندي عمّتي زينب تمرّضني، إذ اعتزل أبي في خِباءٍ له، وعنده جُوين مولى أبي ذرّ الغِفاريّ، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:

يا دهرُ أُفٍّ لك من خليلِ***كم لك بالإشراق والأصيلِ

مِن صاحبٍ أو طالبٍ قتيلِ***والدهرُ لا يقنع بالبديلِ

ص: 178


1- ([2]) علل الشرائع للصدوق: 1 / 229، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 297 الباب 35 ح 1.
2- ([1]) الأمالي للصدوق: 156 في حديثٍ طويل.
3- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 94.

وإنّما الأمر إلى الجليل***وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتّى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العَبرة، فرددتُها ولزمت السكوت، وعلمت أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي، فإنّها سمعَت ما سمعَت وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقّة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنّها لَحاسرة حتّى انتهت إليه، فقالت: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أُمّيفاطمة وأبي عليّ وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي.

فنظر إليها الحسين علیه السلام فقال لها: يا أُخيّة، لا يذهبنّ حلمك الشيطان. وترقرقَت عيناه بالدموع، وقال: لو تُرك القطاة لَنام. فقالت: يا ويلتاه، أفتغتصب نفسك اغتصاباً؟ فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي. ثمّ لطمت وجهها وهوت إلى جيبها فشقّته، وخرّت مغشيّاً عليها، فقام إليها الحسين علیه السلام فصبّ على وجهها الماء، وقال لها: يا أُختاه، اتّقي الله وتعزَّي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأنّ كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجه الله الّذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون، وهو فردٌ وحده، أبي خيرٌ منّي، وأُمّي خيرٌ منّي، وأخي خيرٌ منّي، ولي ولكلّ مسلمٍ برسول الله صلی الله علیه وآله أُسوة. فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أُخيّة، إنّي أقسمتُ فأبِرّي قسَمي، لا تشقّي علَيّ جيباً، ولا تخمشي علَيّ وجهاً، ولا تدْعي علَيّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت. ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي» ((1)).

ص: 179


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 93.

قال المؤلّف: نقلتُ فيما مضى حديثاً قريباً من هذا الحديث، ومقتضى الخبرَين أنّ الحدَث وقع مرّتين: إحداهما في اليوم الثاني من المحرّم كما يظهر ممّا رواه السيّد ابن طاووس ((1)) وغيره، والأُخرى ليلة عاشوراء.

وفي (الإرشاد): ثمّ خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرّب بعضهم بيوتهم من بعض، وأن يُدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلون القوم من وجهٍ واحدٍ والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم قد حفّت بهم، إلّا الوجه الّذي يأتيهم منه عدوّهم، ورجع علیه السلام إلى مكانه، فقام الليل كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابه كذلك يصلّونويدعون ويستغفرون.

قال الضحّاك بن عبد الله: ومرّ بنا خيلٌ لابن سعدٍ يحرسنا، وإنّ حسيناً لَيقرأ: «وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» ((2))، فسمعها من تلك الخيل رجلٌ يقال له: عبد الله ابن سمير، وكان مضحاكاً، وكان شجاعاً بطلاً فارساً فاتكاً شريفاً، فقال: نحن وربِّ الكعبة الطيّبون، ميّزنا منكم. فقال له بُرير بن خضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله من الطيّبين؟ فقال له: مَن أنت؟ ويلك! قال: أنا برير بن

ص: 180


1- ([2]) أُنظُر: اللهوف لابن طاووس: 81، مثير الأحزان لابن نما: 49.
2- ([1]) سورة آل عمران: 178 و179.

خضير. فتسابّا ((1)).

قال المؤلّف: انظروا كيف أعمى الله بصيرة هؤلاء حتّى حسبوا أنفسهم طيّبيين، وهم من الشجرة الملعونة، وخاطبوا بهذا الخطاب أصحاب سيّد شباب أهل الجنّة، «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ» ((2)).

وقال صاحب (المناقب): فلمّا كان وقت السحَر خفق الحسين برأسه خفقة، ثمّ استيقظ فقال: «أتعلمون ما رأيتُ في منامي الساعة؟»، فقالوا: وما الّذي رأيتَ يا ابن رسول الله؟ فقال: «رأيتُ كأنّ كلاباً قد شدّت علَيّ لتنهشني، وفيها كلبٌ أبقع رأيتُه أشدّها علَيّ، وأظنّ أنّ الّذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص منبين هؤلاء القوم، ثمّ إنّي رأيت بعد ذلك جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله ومعه جماعة من أصحابه، وهو يقول لي: يا بُنيّ، أنت شهيد آل محمّد، وقد استبشر بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى، فلْيكن إفطارك عندي الليلة، عجِّلْ ولا تؤخّر، فهذا ملَكٌ قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورةٍ خضراء. فهذا ما رأيت، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا، لا شكّ في ذلك» ((3)).

وفي (الملهوف): فلمّا كان الغداة أمر الحسين علیه السلام بفسطاطٍ فضُرب، فأمر بجفنةٍ فيها مسك كثير وجعل عندها نورة، ثمّ دخل ليطلي، فرُوي أنّ بُرير

ص: 181


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 94.
2- ([3]) سورة النور: 40.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 3 -- عن: مناقب آل أبي طالب.

ابن خُضير الهمْدانيّ وعبد الرحمان بن عبد ربّه الأنصاريّ وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعده، فجعل بُرير يضاحك عبد الرحمان، فقال له عبد الرحمان: يا برير، أتضحك؟ ما هذه ساعة ضحكٍ ولا باطل. فقال برير: لقد علم قومي أنّني ما أحببتُ الباطل كهلاً ولا شابّاً، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه، فوَاللهِ ما هو إلّا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعةً ثمّ نعانق الحور العين ((1)).

وقال الشيخ المفيد (عليه الرحمة): عن عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام أنّه قال: «لمّا صبحت الخيل الحسين، رفع يديه وقال: اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقةٌ وعدّة، كم مِن همٍّ يضعف فيهالفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلتُه بك وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمّن سواك، ففرّجتَه وكشفته، وأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة» ((2)).

وفي (كامل الزيارة): عن الحلبيّ قال: سمعتُ أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الحسين علیه السلام صلّى بأصحابه الغداة، ثمّ التفت إليهم فقال: إنّ الله قد أذن في قتلكم، فعليكم بالصبر» ((3)).

ص: 182


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 95.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 96.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 73 الباب 23 ح 8.

وفي روايةٍ أُخرى قال علیه السلام : «أشهد أنّه قد أذن في قتلكم، فاتّقوا الله واصبروا» ((1)).

وفي (الملهوف): فبعث الحسين علیه السلام برير بن خضير فوعظهم ((2)).

وفي (بحار الأنوار): فقال: يا قوم، اتّقوا الله، فإنّ ثِقل محمّدٍ قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذريّته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم، وما الّذي تريدون أن تصنعوه بهم؟ فقالوا: نريد أن نمكّن منهم الأمير ابن زياد، فيرى رأيه فيهم.

فقال لهم بُرير: أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الّذي جاؤوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة! أنسيتم كتبكم وعهودكم الّتي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟! يا ويلكم! أدَعوتم أهل بيت نبيّكموزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم، حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئس ما خلفتم نبيّكم في ذريّته، ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة، فبئس القوم أنتم. فقال له نفر منهم: يا هذا، ما ندري ما تقول.

فقال بُرير: الحمد لله الّذي زادني فيكم بصيرة. اللّهمّ إنّي أبرأ إليك مِن فعال هؤلاء القوم، اللّهمّ ألقِ بأسهم بينهم، حتّى يلقوك وأنت عليهم

ص: 183


1- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 73 الباب 23 ح 7.
2- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 58.

غضبان. فجعل القوم يرمونه بالسهام ((1)).

وفي (العوالم): فرجع بُرير إلى ورائه.

وتقدّم الحسين علیه السلام حتّى وقف بإزاء القوم، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السيل، ونظر إلى ابن سعدٍ واقفاً في صناديد الكوفة، فقال: «الحمد لله الّذي خلق الدنيا فجعلها دار فناءٍ وزوال، متصرّفةً بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرّته، والشقيّ مَن فتنته، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا؛ فإنّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتخيّب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتُم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنِعم الربُّ ربّنا، وبئس العبد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّد صلی الله علیه وآله، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولِ-ما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قومٌ كفروا بعد إيمانهم، فبُعداً للقوم الظالمين».فقال عمر: ويلكم! كلّموه، فإنّه ابن أبيه، واللهِ لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لَما انقطع ولما حصر، فكلِّموه.

فتقدم شمر (لعنه الله) فقال: يا حسين، ما هذا الّذي تقول؟ أفهِمْنا حتّى نفهم.

فقال: «أقول: اتّقوا الله ربَّكم ولا تقتلوني، فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ولا انتهاك

ص: 184


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 5.

حرمتي، فإنّي ابنُ بنت نبيّكم، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم، ولعلّه قد بلغكم قول نبيّكم صلی الله علیه وآله: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة».. إلى آخر ما سيأتي برواية المفيد ((1)).

وروى صاحب (المناقب) بإسناده عن عبد الله بن الحسن قال: لمّا عبّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين بن عليّ علیه السلام ، ورتّبهم مراتبهم وأقام الرايات في مواضعها، وعبّأ أصحاب الميمنة والميسرة، فقال لأصحاب القلب: اثبتوا.

وأحاطوا بالحسين من كلّ جانبٍ حتّى جعلوه في مثل الحلقة، فخرج علیه السلام حتّى أتى الناس، فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا، حتّى قال لهم: «ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي؟ وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي، فقد مُلئَت بطونكم من الحرام وطُبع على قلوبكم، ويلكم! ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟». فتلاومأصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا: أنصِتوا له ((2)).

قال المؤلّف: هل تملك عبرتك أيّها الشيعي، وهل تكتم زفرةً ملتهبةً تثور من كبدك المحترق على إمامك؟! أرأيت كيف ضاق الأمر بأشرف الخلق،

ص: 185


1- ([1]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 249.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 8 -- عن: مناقب آل أبي طالب.

حتّى صار يطلب من هؤلاء الأرجاس الأراذل أن ينصتوا له لحظةً ليعظهم، وهم يرفعون أصواتهم ويكثروا لغطهم وصياحهم لئلّا يسمعوا موعظته؟! يا لَلحسرة أن يبتلي شريف قوم بالأراذل والأوباش والخبثاء، إنّها لَمصيبةٌ من أشدّ المصائب وعدوان من أعظم العدوان!

وفي (اللهوف): فركب الحسين علیه السلام ناقته، وقيل: فرسه، فاستنصتهم فأنصتوا، فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله، وصلّى على محمّدٍ صلی الله علیه وآله وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأبلغ في المقال، ثمّ قال: «تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترَحاً، حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سلَلتُم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل، أفشوهٌ فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم؟ فهلّا لكم الويلات، تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرامي [الرأي] لمّا يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيَرة الدُّبى، وتداعيتم إليها كتهافُت الفراش، فسحقاً لكم يا عبيد الأُمّة، وشُذّاذ الأحزاب، ونبَذَة الكتاب، ومحرّفي الكَلِم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن، أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟ أجل والله،غدرٌ فيكم قديمٌ وشجَت إليه أُصولكم، وتأزّرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر، شجاً للناظر وأكلةً للغاصب، ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت وأُنوفٌ حميّةٌ ونفوسٌ أبيّة، مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الأُسرة مع قلّة العدد وخذلة الناصر». ثمّ أوصل

ص: 186

كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي:

«فإنْ نَهزِم فهزّامون قِدماً***وإنْ نُغلَب فغيرُ مُغلَّبينا

وما إن طبّنا جُبنٌ، ولكن***منايانا ودولة آخَرينا

إذا ما الموت رفع عن أُناسٍ***كلاكله أناخ بآخَرينا

فأفنى ذلكم سرواة [سروات] قومي***كما أفنى القرون الأوّلينا

فلو خَلدَ الملوكُ إذاً خلدنا***ولو بقيَ الكرامُ إذاً بقينا

فقل للشامتين بنا: أفيقوا***سيلقى الشامتون كما لقينا

ثمّ أيمُ الله لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يُركَب الفرس، حتّى تدور بكم دَور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدّي، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غُمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّي توكّلتُ على الله ربّي وربّكم، ما من دابّةٍ إلّا هو آخذٌ بناصيتها، إنّ ربّي علىصراطٍ مستقيم. اللّهمّ احبِسْ عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيفٍ فيسومهم كأساً مصبَّرة، فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربُّنا، عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير». ثمّ نزل علیه السلام ((1)).

ثمّ قال: «يا عمر، أنت تقتلني وتزعم أنّ الدعيّ ابن الدعيّ يولّيك الريّ وجرجان، واللهِ لا تتهنّأ بذلك أبداً، عهدٌ معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنّك لا تفرح بعدي بدنياً ولا آخرة، ولَكأنّي برأسك على قصبةٍ قد نُصبَت بالكوفة، يتراماه

ص: 187


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 96.

الصبيان بالحجارة ويتّخذونه غرضاً بينهم».

فاغتاظ عمر بن سعد من كلامه، ثمّ صرف وجهه عنه ونادى بأصحابه: ما تنتظرون؟ احملوا عليه بأجمعكم ((1)).

قال المؤلّف: الحمد لله! لم يصل الملعون ابن سعد إلى بغيته بدعاء الإمام المظلوم علیه السلام عليه، فخسر الدنيا والآخرة، فقد جاؤوا بالملعون الغدّار إلى المختار مكتوف اليدَين مشجوج الرأس، فقال له المختار: أيّها الشيخ الزاهد! أين صارت ولاية الريّ؟! أتذكر حينما قال لك الإمام في كربلاء: إنّك لا تأكل من بُرّ العراق، قلت مستهزءاً: في الشعير كفاية؟! فالحمد لله إنّك لم تأكل من بُرّ العراق! أيّها الدعيّ، لم تبقَ لك دنياً ولا آخرة، خرجتَ إلى حرب الحسين وقد لبست للحرب بزّتها، ونشرت مرسوم ولاية الريّ على رأسك، والآن صرت زاهداً!! أما فكّرت في أمرك؟! عدَوت على قرّة عينالمصطفى وابن عليّ المرتضى وثمرة فؤاد فاطمة الزهراء، فمنعت عنه الماء وقتلته ظامياً.

فأمر فنُصب لعين النشأتين، وقال له: أيّها الشقيّ! أولستَ أنت الّذي وضعت السهم في كبد القوس وناديت: اشهدوا لي عند أمير المؤمنين يزيد وعند الأمير الجليل عُبيد الله بن زياد أنّي أوّل مَن رمى الحسين علیه السلام ثمّ

ص: 188


1- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 278.

وضع المختار سهماً في كبد القوس وقال: أيّها الناس، اشهدوا لي في القيامة بين يدي الله ورسوله أنّي أوّل مَن رمى عمر بن سعد. ثمّ رماه رميةً عنيفةً في عينه الوقحة حتّى خرجت من قفاه، فجعل اللعين يصرخ كأنّه حمارٌ ينهق، ثمّ قال: أبعِدوه عنّي واقتلوه خارجاً؛ فإنّه نجسٌ مشؤوم. فأُخرِج الخبيث وقُتل، فلمّا جاؤوا برأسه إلى المختار تلا قوله (تعالى): «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ((1)).

ثمّ جيء له بولده الأكبر حفص، فقال له: أتعرف لمَن هذا الرأس؟ فلمّا نظر إليه صرخ صرخةً ووقع مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قال له المختار: يا ابن الأُخت، هل بكيتَ يوم قُتل الإمام الحسين؟ع؟ بأمر أبيك؟ قال: لا. قال: صدقت، ولو قلتَ غير هذا لَكنت كاذباً، لقد كنت ذلك اليوم تحرّض أباك على القتال وتقول له: لا يستبدل العاقل النقد بالنسيئة، ابن زياد يعطيك نقداً. إنّك ملعونٌ كأبيك، فلا ينبغي لك أن تتركه وحيداً في جهنّم.

ثمّ أمر فقُتل، ووُضع رأسه إلى جنب رأس أبيه، فتعفّنت جثّة ابن سعد فوراً وتدوّدَت، حتّى خرج أهل أربعين بيت من حولها من شدّةجيفتها، فأخبروا المختار بذلك، فأمر أن تحرق، وأمر برأسه فحُمل على قصبة، وجعل الصبيان يرمونها بالأحجار ((2)).

ص: 189


1- ([1]) سورة الأنعام: 45.
2- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 225.

ورُوي أنّ الل----عي------ن مُ------س-----خ ب---ص----ورة ك------ل-----ب ((1))، وج------ع--ل يدور ((2)) في ولاية الريّ ((3)).

أجل، لقد نصح الإمام المظلوم ذلك الملعون المطرود في خطبته وغير خطبته، فلم ينتفع، ولم يتّعظ قلبه الأشدّ قساوةً من الصمّ الصياخيد، فتهيّأ الإمام السعيد علیه السلام للقتال مع عدّةٍ قليلةٍ من أنصاره وأهل بيته.

ص: 190


1- ([2]) في (بحار الأنوار: 45 / 312) في حديثٍ عن الصادق علیه السلام : «واللهِ لقد أُتيَ بعمر بن سعدٍ بعدما قُتِل، وإنّه لَفي صورة قردٍ في عنقه سلسلة، فجعل يعرف أهل الدار وهم لا يعرفونه، والله لا يذهب الأيّام حتى يمسخ عدوّنا مسخاً ظاهراً، حتّى إنّ الرجل منهم لَيُمسَخ في حياته قرداً أو خنزيراً، ومن ورائهم عذابٌ غليظ، ومن ورائهم جهنّم وساءت مصيراً». قال المجلسيّ: بيان: هذا خبرٌ غريب، ولم يُنكره السيّد في الجواب، وأجاب بما حاصله أنّا ننكر تعلّق الروح بجسدٍ آخَر، ولا ننكر تغيّر جسمه إلى صورةٍ أُخرى. وأقول: يمكن حمله على التغيير في الجسد المثاليّ أو أجزاء جسده الأصليّ إلى الصور القبيحة، وقد مرّ بعض القول في ذلك.
2- ([3]) في (أنساب النواصب) للخادم الاسترباديّ ما ترجمته: وفي بعض الروايات أنّ ابن سعدٍ الشقيّ الملعون مُسخ بصورة كلبٍ سائب، يدور في الريّ يطلب الماء فلم يبلغه أبداً، حتّى يُسقى من حميم جهنّم.
3- ([4]) أنساب النواصب: 451.

عدد أصحاب الإمام الحسين علیه السلام

رُوي عن الإمام محمّد الباقر علیه السلام : أنّهم كانوا خمسةً وأربعين فارساً ومئة راجل ((1)).

وفي (المناقب): وكان جميع أصحاب الحسين اثنين وثمانين رجلاً، منهم الفرسان اثنان وثلاثون فارساً، ولم يكن لهم من السلاح إلّا السيف والرمح ((2)).

تعبئة العسكرَين

في (الإرشاد): وأصبح الحسين بن علي علیه السلام ، فعبّأ أصحابه بعد صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، فجعل زُهير بن القَين في ميمنة أصحابه، وحبيبَ بنَ مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العبّاس أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطبٍ وقصبٍ كان من وراء البيوت أن يُترك في خندقٍ كان قد حفر هناك وأن يحرق بالنار؛ مخافة أن يأتوهم من ورائهم.

وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم.. فعبّأ أصحابه، وخرج فيمن معه

ص: 191


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 100.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 333.

من الناس نحو الحسين علیه السلام ، وكان على ميمنته عمرو بن الحجّاج، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس، وعلى الرجّالة شبث بن ربعيّ، وأعطى الراية دُرَيداًمولاه ((1)).

ورُوي أنّ من أصحاب الألوية: خولّي، وحرملة، وأبو أيّوب الغَنَويّ كان على المساحي، ومحمّد بن الأشعث على الرماة، وعمرو بن صبيح كان على أصحاب المقاليع ورماة الحجارة.

وفي بعض الروايات غير المشهورة أنّ مجموع عسكر الشقاء كان مئةً واثنان وعشرون ألفاً، خرجوا لحرب الحسين متعاقبين ثمانون ألف فارس، واثنان وأربعون راجل، واثنان وعشرون من أفراد قصر الإمارة، وثمانية آلاف من المتفرّجين والمعاندين والخدم وأصحاب الصنعة، من قبيل النجّار والحدّاد والحذّاء والقدّاح والخبّاز، وعرفاء الكوفة من الشاكريّة وكِندة وخزيمة ومسجد بني زهرة وسوق الليل وسوق الناقة وسوق البرنين، ومن القبائل عبادة وربيعة وسكون وحمير وكندة ودارم ومعطون وجشم ومذحج ويربوع وخزاعة والنبط، ومن المدائن والبصرة سبعة آلاف، ومن الشام ثلاثون ألفاً، ومن الخوارج ألفين، وألفاً من الموصل وتكريت وساباط، وألفاً من الأكراد ((2)).

ص: 192


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 95.
2- ([2]) أُنظُر: مصارع الشهداء: 103 و104، تذكرة الشهداء للكاشاني: 132 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.

قال المؤلّف: لو تنظر بعين البصيرة ترى من جهةٍ مئةً واثنين وعشرين الفاً بكامل العدّة، كلّهم جاء لحرب سيّد شباب أهل الجنّة وسفكِ دمه المقدّس، وفي الجهة الأُخرى قرّة عين فاطمة الزهراء يقف بإزاء هذا السيل الممتدّ في إثنين وثلاثين وأربعين راجل، يستغيث فلا يُغاث، ويستنصر فلا يُنصَر، بل لا يَنصت إلى كلامهأحد، ألا يتقطع قلبك أسىً وتجري دموعك دماً ويزفر صدرك شرراً وجمراً؟ يا رسول الله!

اين

شاه كم سپاه كه با خيل اشك [و] آه***خرگه از اين جهان زده بيرون حسين تو است

* * * * *

أجل، قال في (الإرشاد): وأقبل القوم يجولون حول بيوت الحسين علیه السلام ، فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الّذي كان أُلقيَ فيه، فنادى شمر بن ذي الجوشن (عليه اللعنة) بأعلى صوته: يا حسين، أتعجّلتَ النار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين علیه السلام: «مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن»، فقال له: نعم. فقال له: «يا ابن راعية المعزى، أنت أَولى بها صليّاً».

ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهمٍ فمنعه الحسين علیه السلام من ذلك، فقال له: دعني حتّى أرميه، فإنّه الفاسق من عظماء الجبّارين، وقد أمكن

ص: 193

الله منه. فقال له الحسين علیه السلام :«لا ترمِه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم» ((1)).

ثمّ دعا الحسين علیه السلام براحلته فركبها، ونادى بأعلى صوته: «يا أهل العراق»، وجُلّهم يسمعون، فقال: «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم علَيّ،وحتّى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصَف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّ وليّي اللهُ الّذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين»، ثمّ حمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله، وصلّى على النبيّ صلی الله علیه وآله وعلى ملائكة الله وأنبيائه، فلم يُسمَع متكلّمٌ قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقٍ منه، ثمّ قال: «أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله بما جاء به مِن عند ربّه؟ أوَليس حمزة سيّد الشهداء عمّي؟ أوليس جعفر الطيّار في الجنّة بجناحين عمّي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدقتموني بما أقول، وهو الحقّ، واللهِ ما تعمّدت كذباً منذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإنّ فيكم مَن لو سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأبا سعيدٍ الخدريّ، وسهل بن سعد الساعديّ، وزيد بن أرقم، وأنس ابن مالك، يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلی الله علیه وآله لي ولأخي، أما في هذا

ص: 194


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 96 / 2.

حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟».

فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري ما تقول. فقال له حبيب بن مظاهر: واللهِ إنّي لَأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق، ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال لهم الحسين علیه السلام : «فإن كنتم في شكٍّ من هذا،أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوَاللهِ ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم! أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلتُه، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟».

فأخذوا لا يكلّمونه، فنادى: «يا شبث بن ربعيّ، يا حَجّار بن أبجر، يا قيس ابن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جُندٍ لك مجنّد؟».

فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمّك، فإنّهم لم يرُوك إلّا ما تحبّ. فقال له الحسين: «لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»، ثمّ نادى: «يا عباد الله، إنّي عُذتُ بربّي وربِّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّرٍ لا يؤمن بيوم الحساب».

ثمّ إنّه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه ((1))، وأعرضوا عن سماع مواعظ سيّد البطحاء، وجعلوا يرمون قبلة

ص: 195


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 96 وما بعدها.

العالمين بالسهام، فجرحوا بذلك قلوب شيعته.

روى قاضي زاده كره رودي أنّه جيء بشبث بن ربعيّ إلى المختار، فقال له: أتعرفني يا ملعون؟ قال: نعم أعرفك، أنت المختار بن أبي عُبيدة الثقفي. قال: لمَ خرجتَ إلى كربلاء وفعلتَ الّذي فعلت، وكتبتَ إلى الإمام علیه السلام : قد أينعت الثمار واخضرّت الجنان، ثمّ لم تفِ بعهدك؟ قال: كنتُ مأموراً، عملتُ ما أُمرتُ به.فأمر المختار فسُمّر بأربعة مسامير، وأمر فغرز في عينيه مسمارين آخَرين خرجا من قفاه ونبتا في الأرض، وكان اللعين لا زال حيّاً، فأمر المختار أن تُقطع يداه ورجلاه، ثمّ أُحرق ((1))، والحمد لله.

* * * * *

أجل، روى أبو مخنف قال: فخرج إليهم زهير بن القين رحمه الله ونادى بأعلى صوته: أيّها الناس، إنّ حقّ المسلم على المسلم النصيحة، ونحن وأنتم على دينٍ واحد، وقد ابتلانا الله بذريّة نبيّهصلی الله علیه وآله لينظر ما نحن وأنتم صانعون، وأنا أدعوكم إلى نصرته وخذلان الطغاة.

فلمّا سمعوا كلام زهيرٍ رحمه الله قالوا: لن نبرح حتّى نقتل صاحبكم ومن يتابعه، أو يبايع ليزيد (لعنه الله).

فقال لهم زهير رحمه الله: عبادَ الله، إنّ الدنيا دار فناءٍ وزوال، متصرّفةٌ بأهلها من حالٍ إلى حال، فالمغرور مَن اغترّ بها وركن إليها، وإنّ الحسين علیه السلام أحقُّ

ص: 196


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 160.

بالنصرة والمودّة من ابن سميّة، فإن أنتم لم تنصروه فلا تقاتلوه، وخلّوا بينه وبين يزيد (لعنه الله)، لعلّه يرضى منه بدون قتله.

قال: فرماه الشمر (لعنه الله) سهماً، وقال له: امسكْ عنّا، فقد أبرمتَنا بكثرة كلامك.

فقال له زهير رحمه الله: يا ابن البوّال على عقبيه! إنّما أنت بهيمة، فأبشِرْ بالنار، والعذاب الأليم.

فقال له الشمر: إنّي قاتلُك وقاتل صاحبك.فقال له زهير رحمه الله: يا ويلك! أتخوّفني بالقتل مع الحسين علیه السلام ، وهو أحبّ إليّ من الحياة معكم؟

ثمّ أقبل على أصحابه وقال: معاشرَ المهاجرين والأنصار، لا يغرنّكم كلام هذا الكلب الملعون وأشباهه، فإنّه لا ينال شفاعة محمّدٍ صلی الله علیه وآله قطّ، إنّ قوماً قتلوا ذريّته وقتلوا من نصرهم فإنّهم في جهنّم خالدون أبداً.

قال: فجاء رجلٌ من أصحاب الحسين علیه السلام إلى زهير رحمه الله وقال له: إنّ الحسين علیه السلام يقول لك: «أقبِلْ، فلَعمري لقد نصحت وتكلّمت». فرجع زهير رحمه الله ((1)).

وفي رواية الصدوق: وأقبل رجلٌ من عسكر عمر بن سعدٍ على فرسٍ له، يُقال له: ابن أبي جويريّة المُزني، فلمّا نظر إلى النار تتّقد صفق بيده ونادى: يا حسين وأصحاب الحسين، أبشِروا بالنار، فقد تعجّلتُموها في

ص: 197


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 55.

الدنيا. فقال الحسين علیه السلام: «مَن الرجل؟»، فقيل: ابن أبي جويريّة المزني. فقال الحسين علیه السلام : «اللّهمّ أذِقْه عذاب النار في الدنيا». فنفر به فرسُه فألقاه في تلك النار، فاحترق.

ثمّ برز من عسكر عمر بن سعدٍ رجلٌ آخَر، يقال له: تميم بن ال-حُصين الفزاريّ، فنادى: يا حسين ويا أصحاب الحسين، أما ترون إلى ماء الفرات يلوح كأنّه بطون الحيّات [الحيتان]؟ واللهِ لا ذقتم منه قطرةً حتّى تذوقوا الموت جزعاً. فقال الحسين علیه السلام : «مَن الرجل؟»، فقيل: تميم بن حُصين. فقال الحسين علیه السلام: «هذا وأبوه من أهل النار. اللّهمّ اقتل هذا عطشاً في هذااليوم». قال: فخنقه العطش حتّى سقط عن فرسه، فوطئته الخيل بسنابكها، فمات.

ثمّ أقبل آخَر مِن عسكر عمر بن سعد، يقال له: محمّد بن أشعث بن قيس الكنديّ، فقال: يا حسين ابن فاطمة، أيّة حرمةٍ لك من رسول الله ليست لغيرك؟ قال الحسين علیه السلام : «هذه الآية: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيّةً» -- الآية ((1))»، ثمّ قال: «واللهِ إنّ محمّداً لمِن آل إبراهيم، وإنّ العترة الهادية لمن آل محمّد. مَن الرجل؟»، فقيل: محمّد بن أشعث بن قيس الكنديّ. فرفع الحسين علیه السلام رأسه إلى السماء فقال: «اللّهمّ

ص: 198


1- ([1]) سورة آل عمران: 33.

أرِ محمّدَ بن الأشعث ذُلّاً في هذا اليوم، لا تُعزّه بعد هذا اليوم أبداً». فعرض له عارض، فخرج من العسكر يتبرّز، فسلّط الله عليه عقرباً فلذعه، فمات باديَ العورة.

فبلغ العطش من الحسين علیه السلام وأصحابه، فدخل عليه رجلٌ من شيعته يقال له: يزيد بن الحصين الهمدانيّ، فقال: يا ابن رسول الله، أتأذن لي فأخرج إليهم فأُكلّمهم؟ فأذن له، فخرج إليهم فقال: يا معشر الناس، إنّ الله عزوجل بعث محمّداً بالحقّ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها، وقد حِيل بينه وبين ابنه. فقالوا: يا يزيد، فقد أكثرتَ الكلام فاكفُف، فوَاللهِ لَيعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله! فقال الحسين: «اقعد يا يزيد».ثمّ وثب الحسين علیه السلام متوكّئاً على سيفه، فنادى بأعلى صوته فقال: «أُنشدكم الله، هل تعرفوني؟»، قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّي رسولُ الله صلی الله علیه وآله»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ أُمّي فاطمةُ بنت محمّد؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ أبي عليُّ بن أبي طالب؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجةُ بنت خُويلد أوّل نساء هذه الأُمّة إسلاماً»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ سيّد الشهداء حمزةُ عمّ أبي»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فأُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جعفر الطيّار في الجنّة عمّي؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فأُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذا سيف

ص: 199

رسول الله وأنا متقلّده؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فأُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فأُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ عليّاً كان أوّلهم إسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً، وأنّه وليّ كلّ مؤمنٍ ومؤمنة؟»، قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فبمَ تستحلّون دمي، وأبي الذائد عن الحوض غداً، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يد جدّي يوم القيامة؟»، قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً!

فأخذ الحسين علیه السلام بطرف لحيته -- وهو يومئذٍ ابنُ سبعٍ وخمسين سنة -- ثمّ قال: «اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا: عُزَيرٌ ابن الله، واشتدّ غضب الله على النصارى حينقالوا: المسيح ابن الله، واشتدّ غضب الله على المجوس حين عبدوا النار من دون الله، واشتدّ غضب الله على قومٍ قتلوا نبيّهم، واشتدّ غضب الله على هذه العصابة الّذين يريدون قتل ابن نبيّهم» ((1)).

وفي (التبر المذاب): قال الواقديّ وهشام بن محمّد: لمّا رآهم الحسين علیه السلام مصرّين على قتله، أخذ المصحف ونشره ونادى: «بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله؟ص؟. يا قوم، بمَ تستحلّون دمي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم؟ ألم يبلغكم قول جدّي فيّ وفي أخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ إن لم تصدقوني فاسألوا جابراً وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدريّ، واللهِ ما تعمّدتُ كذباً منذ

ص: 200


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 157 وما بعدها.

علمتُ أنّ الله (تعالى) يمقت أهله، واللهِ ما بين المشرق والمغرب ابن نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم».

فقال الشمر (لعنه الله تعالى): الساعة تَرِد الهاوية.

فقال الحسين علیه السلام : «الله أكبر! أخبرني جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله كأنّ كلباً ولغ في دماء أهل بيتي، وما أخالك إلّا إيّاك».

فقال الشمر (لعنه الله تعالى): أنا أعبد الله على حرفٍ إن كنت أدري ما تقول ((1)).

وفي (المنتخب): لمّا التقى العسكران وامتاز الرجال منالفرسان، واشتدّ الجدال بين العسكرين إلى أن علا النهار، فاشتدّ العطش بالحسين وأصحابه، فدعا بأخيه العباس وقال له: «اجمع أهل بيتك واحفر بئراً». ففعلوا ذلك فطمّوها، ثمّ حفروا أُخرى فطمّوها، فتزايد العطش عليهم ((2)).

ألا لعنة الله على الظالمين.

ص: 201


1- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 152، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 227.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 430 المجلس 9.

ص: 202

المجلس السابع: في ذكر مبارزات أصحاب الإمام وأهل بيته

ومنهم: القاسم بن الحسن علیه السلام

إعلم أنّ ذكر واقعة كربلاء الأليمة ليست خاصّةً بالكتاب والسُّنّة في هذه الأُمّة، بل هي مذكورةٌ في كتب الأنبياء السابقين أيضاً..

منها ما نُقل عن كتابٍ شعيا: ستأتي عصابةٌ إلى صحراء قاحلة، لا ماء فيها ولا كلاء، فتفنى الأُسرة، وتبكي السماء والأرض والنجوم، وينوح الملكوت، ويظلمّ العالَم، وتُسحَق الأجساد اللطيفة المقدّسة، وتصهر الشمسُ النساء، ويلصق لسان الرضيع بلهاته من العطش، ويضحى الفتيان القتلى مرمَّلين، ويُؤسَر الأطفال، كأنّ وجوههم البدور الطالعة، فتقّشر وجوههم من حرارة الشمس، فيطوفون بهم في الشوارع والأزقّة، ليتصدّق عليهم الناس بالخبز والماء، وتبكي النساء على صدورهنّ، إذ يدرّ فيها اللبن

ص: 203

بعد أن يُذبَح رضعانهنّ، فابكوا أيّها الخلائق على الأغصان المقطوعة..ونُقل عن زبور داوود علیه السلام: مِن أجل غصب الزعامة يُيتِمون أولاد النبيّ الخاتم، ويأسرون نساءه، ويزعجونهم ويخرجونهم من ديارهم، ويبتلونهم بالغربة، فيستنصر أولادُه عند هجوم الأعداء عليهم فلا يُنصَرون.

ونُقل عن كتاب نحمان [نجمان] الممتحن، يعني الإمام الحسين الّذي يُبتلى أثناء الزفاف ويُذبح بخنجر الجفاء من القفا على ساحل النهر، يعني الفرات، وتحرق خيامه الملوّنة الّتي يسكنها ذريّة ذلك النبيّ صلی الله علیه وآله.

وستّة من الفتيان -- يعني ستّة من أولاد أمير المؤمنين علیه السلام ، وفي قولٍ: الإمام الحسين وأولاده عليّ الأكبر وعليّ الأصغر، والقاسم وعبد الله وأبو بكر أبناء الإمام الحسن علیه السلام ، وفي قولٍ: ولدا السيّدة زينب علیها السلام عبد الله وأبو بكر -- يواجهون الصعاب تلو الصعاب، ويتحمّلون أنواع المضايقات والمآسي والمرارات، حتّى يستأصلوا جميعاً، ويبقى ذوو القربى المعزّزون بلا حفاظ ولا حماة.

أمّا كيفيّة الإخبار بالإيحاء إلى الطفل: فحُكي أنّ رجلاً صالحاً من علماء اليهود من بني إسرائيل، وكان مستجاب الدعوة، وكانت له زوجةٌ صالحةٌ يقال لها: راحيل، وكانت عقيماً لا تلد، وكانت تتوسّل إلى الله وتتضرّع أن يرزقها ولداً، حتّى رقّ لها قلب زوجها، فدعيا الله فاستجاب الله لهما ورزقهما ولداً بعد ستّة أشهر، فلمّا وضعته سجد، ثمّ رفع رأسه وأخذ يخبر بأخبار غريبة ويتكلّم بكلماتٍ عجيبة، من قبيل أنّ هذه السماء الّتي

ص: 204

ترونها إن هي إلّا حجابٌ واحدٌ من تسعمئة وخمسين حجاباً فوقها، وإنّ فيها كيت وكيت وكذا وكذا، فوضع الأب يده على فمهوصاح فيه: يا نحمان، اسكتْ ولا تتكلّم.

فانقطع كلامه اثنى عشر سنة، فاضطربت الأُمّ، والتفت الزوج لاضطرابها، وقال: إنّكِ تريدينه يتكلّم، ولكنّه يتكلّم بما يستوحش منه الناس ويخافونه! فألحّت عليه أن يدعو الله له ليتكلّم، فدعا الله فتكلّم الصبيّ، فقال له الأب: قل ما تشاء، ولكن تكلّم كلاماً مُجمَلاً مبهَماً لا يعرفه الناس. فأخبر نحمان عن خمسة موارد من الوحي، وكان أكثرها يشير إلى قدوم خاتم الأنبياء وبعض المصائب الّتي ستجري على سيّد الشهداء، ومن جملة ما أشار إليه من مصائبه علیه السلام قال: شبتا شيعا ومشيتاقا ومعقا عيقار عصا مترصا وناصا وحلسا ويسا قفيصا متعسّر فاعل بدسا دسفا كصرفا بتردنا نتبيصا لهوبا صبوعا نصبيعا تسرفا وميدمعا بديعا بشوعا نستعشعا.

يعني: ستّة فتيان منهم يلقون شدّةً ومصاعب، الشدّة فوق الشدّة والعسر بعد العسر، ويبتلون بألوان العذاب وأنواع الضيق، هم والمتمسّكون بهم، ويُذبَحون من القفا بخنجر الجفاء إلى جنب نهرٍ في الصحراء، وتهدم خيمة الزفاف، وتحرق الخيام الّتي يسكنها الأولاد والذريّة، وينكشف القوم الّذين كانوا في العزّ والجلال.

لا يخفى أنّ المراد بالستّة المذكورين آنفاً، والمراد بالمتمسّكين أنصاره علیه السلام ، والمراد بالذبح من القفا الإشارة إلى ذبحه علیه السلام ، والزفاف عرس

ص: 205

القاسم، والنهر الفرات، والصحراء كربلاء، والخيم المحروقة إشارة إلى حرق خيامه علیه السلام ، والانكشاف إشارة إلى الأسر والسبي.

وروى الشيخ الطوسيّ بإسناده عن رسول الله صلی الله علیه وآله قال: «للشهيد سبع خصالٍ من الله: أوّل قطرةٍ من دمهمغفورٌ له كلّ ذنب. والثانية: يقع رأسه في حِجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه تقولان: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما. والثالثة: يُكسى من كسوة الجنّة. والرابعة: يبتدره خَزَنة الجنّة بكل ريحٍ طيّبة أيّهم يأخذه معه. والخامسة: أن يرى منزلته. والسادسة: يُقال لروحه: اسرح في الجنّة حيث شئت. والسابعة: أن ينظر في وجه الله، وإنّها لَراحةٌ لكلّ نبيّ وشهيد» ((1)).

وعن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «بينما أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام يخطب الناس ويحضهم على الجهاد، إذ قام إليه شابٌّ فقال: يا أمير المؤمنين، أخبِرني عن فضل الغزاة في سبيل الله.

فقال عليّ علیه السلام : كنتُ رديف رسول الله صلی الله علیه وآله على ناقته العضباء ونحن قافلون من غزوة ذات السلاسل، فسألتُه عمّا سألتَني عنه، فقال: إنّ الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله لهم براءةً من النار، فإذا تجهّزوا لغزوهم باهى الله (تعالى) بهم الملائكة، فإذا ودّعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحيّة من سلخها، ويوكّل الله عزوجل بهم بكلّ رجلٍ منهم أربعين ألف ملَكٍ يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يعمل حسنةً إلّا ضُعّفَت له،

ص: 206


1- ([1]) تهذيب الأحكام للطوسي: 6 / 121 ح 3.

ويُكتَب له كلّ يوم عبادة ألف رجلٍ يعبدون الله ألف سنة، كلّ سنةٍ ثلاث مئةٍ وستّون يوماً، واليوم مثل عمر الدنيا، وإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إيّاهم، فإذا برزوا لعدوّهم وأُشرعت الأسنّة وفوقت السهام وتقدّم الرجل إلى الرجل، حفّتهم الملائكة بأجنحتهم، ويدعون الله لهم بالنصر والتثبيت، فينادي منادي الجنّة تحت ظلال السيوف، فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنةٍ أوضربةٍ لم يصل إلى الأرض حتّى يبعث الله عزوجل زوجته من الحور العين فتبشّره بما أعدّ الله له من الكرامة، فإذا وصل إلى الأرض تقول له: مرحباً بالروح الطيّبة الّتي أُخرجَت من البدن الطيّب، أبشِرْ؛ فإنّ لك ما لا عين رأت ولا أُذُن سمعَت ولا خطر على قلب بشر. ويقول الله عزوجل: أنا خليفته في أهله، ومَن أرضاهم فقد أرضاني، ومَن أسخطهم فقد أسخطني. ويجعل الله روحه في حواصل طيرٍ خُضر تسرح في الجنّة حيث تشاء، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلَّقة بالعرش، ويعطى الرجل منهم سبعين غرفةً من غرف الفردوس ما بين صنعاء والشام، يملأ نورها ما بين الخافقين، في كلّ غرفةٍ سبعون باباً، على كلّ بابٍ سبعون مصراعاً من ذهب، على كلّ بابٍ ستور مسبلة، في كلّ غرفةٍ سبعون خيمة، في كلّ خيمةٍ سبعون سريراً من ذهب، قوائمها الدرّ والزبرجد، موصولة بقضبان من زمرّد، على كلّ سريرٍ أربعون فرشاً غلظ، كلّ فراش أربعون ذراعاً، على كلّ فراشٍ زوجةٌ من الحور العين عُرباً أتراباً.

فقال الشابّ: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن العربة.

قال: هي الغنجة الرضيّة المرضيّة الشهيّة، لها سبعون ألف وصيف وسبعون

ص: 207

ألف وصيفة، صفر الحُليّ، بيض الوجوه، عليهم تيجان اللؤلؤ، على رقابهم المناديل، بأيديهم الأكوبة والأباريق، وإذا كان يوم القيامة يخرج مِن قبره شاهراً سيفه تشخب أوداجه دماً، اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يخطو في عرصة القيامة، فوَالّذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم لِما يرون من بهائهم، حتّى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها، ويشفع الرجل منهم سبعين ألفاً من أهل بيته وجيرته، حتّى إنّ الجارين يختصمان أيّهما أقرب، فيقعدون معه ومع إبراهيم على مائدة الخُلد، فينظرونإلى الله (تعالى) في كلّ بكرةٍ وعشيّة» ((1)).

قال المؤلّف: يعني ينظر إلى رحمة الله ورضاه، أو ينظر إلى النبيّ وآله كلّ بكرةٍ وعشيّة.

ولمّا كان للشهادة هذا الفضل العظيم، بادر أنصار الحسين إلى الشهادة، وقد خُيّر الإمامُ المظلوم بين الشهادة والسلامة من دون أن ينقص من أجره شيء، فاختار الشهادة.

روى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن مولانا الصادق علیه السلام أنّه قال: «سمعتُ أبي يقول: لمّا التقى الحسين علیه السلام وعمر بن سعد (لعنه الله) وقامت الحرب، أنزل الله (تعالى) النصر حتّى رفرف على رأس الحسين علیه السلام ، ثمّ خُيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله، فاختار لقاء الله» ((2)).

ص: 208


1- ([1]) صحيفة الرضا علیه السلام: 91، بحار الأنوار للمجلسي: 97 / 12 ح 27.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 101.

فتقدّم عمر بن سعد فرمى نحو عسكر الحسين علیه السلام بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَن رمى. وأقبلَت السهام من القوم كأنّها القطر، فقال علیه السلام لأصحابه: «قوموا -- رحمكم الله -- إلى الموت الّذي لابدّ منه، فإنّ هذه السهام رسُلُ القوم إليكم».

فاقتتلوا ساعةً من النهار حملةً وحملة، حتّى قُتل من أصحاب الحسين علیه السلام جماعة.

قال: فعندها ضرب الحسين علیه السلام بيده إلى لحيته وجعل يقول: «اشتدّ غضب الله (تعالى) على اليهود إذ جعلوا له ولداً،واشتدّ غضب الله على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ((1))، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتدّ غضبه على قومٍ اتّفقَت كلمتُهم على قتل ابن بنت نبيّهم، أما واللهِ لا أُجيبهم إلى شيءٍ ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضَّبٌ بدمي» ((2)).

ثمّ صاح علیه السلام : «أما مِن مغيثٍ يغيثنا لوجه الله؟ أما مِن ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله؟» ((3)).

وعن أبي مِخنف: وجعل ينادي: «وا محمّداه، وا أبا القاسماه، وا جدّاه، وا عليّاه، وا حسناه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا عبّاساه!»، ثمّ نادى: «يا قوم، أما مِن

ص: 209


1- ([1]) يعني: الأب والابن وروح القدس -- منه رحمه الله.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 100.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 102.

مُجيرٍ يجيرنا؟ أما من معينٍ يعيننا؟ أما من طالب الجنّة ينصرنا؟ أما من خائفٍ من عذاب الله فيذبّ عنّا؟»، فبكى بكاءً شديداً وهو يقول:

«أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشمٍ***كفاني بهذا مفخراً حين أفخرُ

وفاطمةٌ أُمّي، وجدّي محمّدٌ***وعمّي هو الطيّار في الخُلد جعفرُ

بنا ظهر الإسلام بعد خموده***ونحن سراج الله في الأرض نزهرُ

وشيعتنا في الخلق أكرم شيعةٍ***ومبغضنا يوم القيامة يخسرُ» ((1))وشيعتنا في

الخلق أكرم شيعةٍ

ومبغضنا يوم القيامة يخسرُ» ((2))

قال أبو مخنف رحمه الله: فوقع كلامه علیه السلام في مسامع قلب الحرّ ((3)).

وفي (التبر المذاب): ثمّ نادى الحسين علیه السلام: «يا أهل الكوفة، ويا شبث بن ربعيّ، ويا حجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث! ألم تكتبوا إليّ؟» فقالوا: ما ندري ما تقول.

وكان الحرّ بن يزيد الرياحيّ من ساداتهم، فقال له: بلى واللهِ لقد كاتبناك، ونحن الّذين أقدمناك، فأبعد اللهُ الباطل وأهله، واللهِ لا أختار الدنيا على الآخرة ((4)).

وفي (الإرشاد): فلمّا رأى الحرُّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين علیه السلام ، قال لعمر بن سعد: أي عمر، أمقاتلٌ أنت هذا الرجل؟ قال:

ص: 210


1- ([4]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 314.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 314.
3- ([2]) أُنظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 74.
4- ([3]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب: 151.

إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي! قال: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى؟ قال عمر: أما لو كان الأمر إليّ لَفعلت، ولكنّ أميرك قد أبى.

فأقبل الحرّ حتى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجلٌ من قومه يُقال له: قرّة بن قيس، فقال له: يا قرّة، هل سقيتَ فرسك اليوم؟ قال: لا. قال: فما تريد أن تسقيه؟ قال قرّة: فظننتُ واللهِ أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال، ويكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لمأسقِه، وأنا منطلقٌ فأسقيه. فاعتزل ذلك المكان الّذي كان فيه، فواللهِ لو أنّه أطلعني على الّذي يريد لَخرجتُ معه إلى الحسين بن عليّ علیهما السلام ((1)).

قال المؤلف: عذرٌ أقبح من الذنب، ومَن لم يجعل اللهُ له نوراً فما له من نور.

وقال أبو مخنف: فأقبل الحرّ على ابن عمٍّ له يُقال: قرّة بن قيس، وقال له: يا ابن عمّ، ألا ترى إلى الحسين علیه السلام يستجير فلا يُجار، ويستغيث فلا يُغاث؟ فهل لك أن نذهب إليه ونقاتل بين يديه ونفديه بأرواحنا؟ فلعلّنا نفوز بالشهادة ونكون في زمرته يوم القيامة! فقال له: لا حاجة لي في ذلك.

وأقبل على ولده وقال له: يا بُنيّ، لا صبر لي على النار، ولا على غضب الجبّار، ولا أن يكون غداً خصمي أحمد المختار، يا بُنيّ، أما ترى الحسين علیه السلام يستغيث فلا يُغاث، ويستجير فلا يُجار؟ يا بُنيّ، سِرْ بنا إليه

ص: 211


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 99.

نقاتل بين يديه، فلعلّنا نفوز بالشهادة ونكون من أهل السعادة ((1)). فقال له ولده: لستُ مخالفك يا أباه فيما تأمرني به ((2)).

وفي (الإرشاد): فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فلم يُجبْه، وأخذه مثل الأفكل، وهي الرعدة، فقال له المهاجر: إنّ أمرك لَمريب، واللهِ ما رأيتُ منك في موقفٍ قطّ مثل هذا، ولو قيل لي: مَن أشجعأهل الكوفة؟ ما عدَوتُك، فما هذا الّذي أرى منك؟! فقال له الحرّ: إنّي والله أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فوَاللهِ لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعتُ وحرقت ((3)).

وفي (الملهوف): ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين علیه السلام ، ويده على رأسه وهو يقول: اللّهمّ إليك أنبتُ فتُب علَيّ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيّك ((4)).

قال أبو مخنف: فجعل الحرّ يقبّل الأرض بين يدَي الحسين، فقال له: «ارفع رأسك يا شيخ»، فرفعه رأسه ((5)).

ص: 212


1- ([2]) متقل الحسين علیه السلام لأبي مِخنَف (المشهور): 75.
2- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 315.
3- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 99.
4- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 102.
5- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 216، وانظُر: مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 74.

وروى المفيد: فقال للحسين علیه السلام: جُعلتُ فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الّذي حبستُك عن الرجوع وسايرتُك في الطريق وجعجعتُ بك في هذا المكان، وما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضتَه عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، واللهِ لو علمتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبتُ منك الّذي ركبت، وإنّي تائبٌ إلى الله (تعالى) ممّا صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الحسين علیه السلام: «نعم، يتوبُ الله عليك، فانزل». قال: فأنا لك فارساً خيرٌ منّي راجلاً، أُقاتلهم على فرسي ساعةً وإلى النزول ما يصير آخِر أمري ((1)).

وروى ابن نما: أنّه قال للحسين علیه السلام: لمّا وجّهني عُبيدالله إليك، خرجتُ من القصر فنُوديت مِن خلفي: أبشِرْ يا حرّ بخير. فالتفتُّ فلم أرَ أحداً، فقلت: والله ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسين علیه السلام وما أحدّث نفسي باتّباعك. فقال علیه السلام : «لقد أصبتَ أجراً وخيراً» ((2)).

وحُكي أنّ الحرّ قال للإمام الحسين علیه السلام : يا ابن رسول الله، رأيتُ أبي في المنام فقال لي: أين تذهب هذه الأيام؟ فقلت: أذهب لأقطع الطريق على الحسين. فصاح بي أبي وقال: وا ويلاه، ما أنت يا ولدي وابن رسول الله؟

ص: 213


1- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 99.
2- ([1]) مثير الأحزان لابن نما: 59.

إن شئتَ أن تدخل جهنّم فاخرج لحربه، وإن شئتَ أن تنجو من الخلود في نار جهنّم فانصره وجاهد أعداءه ((1)).

قال أبو مخنف: ثمّ إنّ الحرّ أقبل على ولده وقال: يا بُنيّ، احملْ على أعداء الله وأعداء رسوله. فحمل الغلام، ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم أربعةً وعشرين رجلاً، ثمّ قُتل رحمه الله.

فلمّا نظر إليه أبوه فرح فرحاً شديداً، وقال: الحمد لله الّذي استشهد ولدي بين يدَي الحسين علیه السلام .

قال: يا مولاي، بحقّ جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله لمّا أذنت لي بالبراز إلى هؤلاء القوم، فقد كنتُ أوّلَ مَن خرج عليك، أُحبّ أن أُقتَل بين يديك. فقال له الحسين علیه السلام : «ابرز، وقل: لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم». فبرز نحو القوم، وجال وصال، وأشهر نفسه بين الفريقين ((2)).وفي (الإرشاد): ثمّ قال: يا أهل الكوفة، لأُمّكم الهبَل والعبَر، أدعوتم هذا العبد الصالح، حتّى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنّكم قاتلو أنفسكم دونه، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به مِن كلّ جانبٍ لتمنعوه التوجّه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم، لا يملك لنفسه نفعاً، ولا يدفع عنها ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله

ص: 214


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 278.
2- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 316 / 2، أُنظُر: المقتل لأبي مخنف (المشهور): 76.

عن ماء الفرات الجاري، يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه؟! فهاهم قد صرعهم العطش! بئس ما خلّفتم محمّداً في ذريّته، لا سقاكم الله يوم الظمإ الأكبر ((1)).

وفي (التبر المذاب): وإذا لم تنصروه ولم تفوا له بما حلفتم عليه، فدَعُوه يمضي حيث شاء مِن بلاد الله، أما أنتم بالله مؤمنون، وبنبوّة جدّه صلی الله علیه وآله مصدّقون، وبالمعاد موقنون؟! ((2))

وفي (الإرشاد): فحمل عليه رجالٌ يرمون بالنبل، فأقبل حتّى وقف أمام الحسين علیه السلام.

ونادى عمر بن سعد: يا دريد، أدنِ رايتك. فأدناها، ثمّ وضع سهمه في كبد قوسه، ثمّ رمى وقال: اشهدوا أنّي أوّل مَن رمى. ثمّ ارتمى الناس وتبارزوا ((3)).

وفي (الأمالي) للصدوق: قال: يا ابن رسول الله، أتأذن لي فأُقاتل عنك؟ فأذن له، فبرز وهو يقول:

أضرب في أعناقكم بالسيفِ***عن خير مَن حلّ بلادَ الخيفِ

فقتل منهم ثمانية عشر رجلاً ((4)).

ص: 215


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 100.
2- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 160.
3- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 101.
4- ([1]) الأمالي للصدوق: 159.

قال أبو مخنف: وقال: يا أعداء الله (تعالى) وأعداء رسوله! كتبتم إلى الحسين علیه السلام وزعمتم أنّكم لَتنصرونه، فلمّا جاءكم وثبتم عليه لتقتلوه، وغررتم به، لا أنالكم الله شفاعة جدّه يوم القيامة. ثمّ حمل على القوم وأنشأ يقول:

أميري إمامٌ، غادرٌ وابنُ غادرٍ***إذا كنت قاتلت الحسين ابن فاطمةْ

ونف-سي على خذلانه واعتزاله***وبيعة هذا الناكث العهد لازمةْ

فوا حسرتا ألّا أكون نصرتُه***ألا كلّ نفسٍ لا تسدّد لائمةْ

أهمّ مراراً أن أسير بحجفلٍ***إلى فئةٍ زاغت عن الحقّ ظالمةْ

فكفّوا، وإلّا زرتكم بكتائبٍ***أشدّ عليكم من زحوف الديالمةْ

سقى الله أرواح الّذين توازروا***على نصره سقياً من الغيث دائمةْ

وقفتُ على أجسادهم وطلولهم***وكان الحشا ينقدّ والعين ساجمةْ

لَعمري، لقد كانوا مصاليت في الوغى***سراعاً إلى الهيجا أُسوداً ضراغمةْ

ثمّ حمل على القوم، وجدّل أبطالاً، ورجع إلى مقامه، وأنشأ يقول:

هو الموت، فاصنع -- ويكَ -- ما أنت صانعُ***وأنت بكأس الموت لا شكّ جارعُ

وحامِ عن ابن المصطفى وحريمه***لعلّك تلقى حصد ما أنت زارعُ

لقد خاب قومٌ خالفوا اللهَ ربّهم***يريدون هدم الدين، والدينُ شارعُ

يريدون عمداً قتل آل محمّدٍ***وجدُّهمُ يوم القيامة شافعُ

ثمّ حمل على القوم وقال: يا أهل الكوفة، دعوتموه وزعمتم أنّكم تنصروه، فأحطتم به من كلّ جانبٍ ومكان على أنكم تقتلوه ظلماً وعدوانا، ومنعتموه

ص: 216

من التوجّه في بلاد الله العريضة، فأصبح في أيديكم أسيراً، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، ومنعتم أولاده من شرب الماء الّذي تشرب منه اليهود والنصارى والكلاب والخنازير، بئس ما صنعتم وخلّفتم محمّداً صلی الله علیه وآله في ذريّته، ما لكم؟! لا سقاكم الله يوم الظمإ الأكبر! ألا تتوبوا وترجعوا عمّا أنتم عليه؟ وأنشأ يقول:

أغشاكمُ ضرباً بحدّ السيفِ***ضربَ غلامٍ لم يخف من حيفِ

أنصرُ مَن حَلّ بأرض الخيف***نسل عليّ الطهر مقري الضيفِ

ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم خمسين رجلاً. قال عمر بن سعد: يا ويلكم! ارشقوه بالنبل والسهام. ففعلوا ذلك، وجعلوا يرشقون حتّى جعلوه كالقنفذ ((1)).ورُوي أنّ الحرّ لمّا لحق بالحسين علیه السلام ، قال رجلٌ من بني تميم يُقال له: يزيد بن سفيان: أما واللهِ لو لقيتُ الحرّ حين خرج لَأتبعتُه السنان. فبينا هو يقاتل، وإنّ فرسه لمضروب على أُذُنيه وحاجبه، وإنّ الدماء لَتسيل، إذ قال ال-حُصين بن نُمير: يا يزيد، هذا الحرّ الّذي كنتَ تتمنّاه، فهل لك به؟ قال: نعم. وخرج إليه، فما لبث الحرّ أن قتله وقتل أربعين فارساً وراجلاً ((2)).

ص: 217


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 218، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 76 -- عن: أبي مخنف.
2- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 10، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 319.

ورُوي أنّه التفت إلى الإمام الحسين علیه السلام وقال: أرضيتَ عنّي يا ابن رسول الله؟ فقال الحسين علیه السلام : «نعم، وأنت حرٌّ كما سمّتكَ أُمُّك». فجعل الحرّ يقاتل الأشرار، ويدفع عن ابن النبيّ المختار ((1)).

وفي (الإرشاد): فحمل شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله) على أهل الميسرة، فثبتوا له فطاعنوه، وحمل على الحسين وأصحابه من كلّ جانب، وقاتلهم أصحاب الحسين قتالاً شديداً، فأخذت خيلهم تحمل، وإنّما هي اثنان وثلاثون فارساً، فلا تحمل على جانبٍ من خيل الكوفة إلّا كشفته، فلمّا رأى ذلك عروة بن قيس -- وهو على خيل أهل الكوفة -- بعث إلى عمر ابن سعد: أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعثْ إليهم الرجال والرماة. فبعث عليهم بالرماة، فعقر بالحرّ بن يزيد فرسه، فنزل عنه وجعل يقول:

إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ

أشجع من ذي لبدٍ هزبرِويضربهم بسيفه، وتكاثروا عليه، فاشترك في قتله أيّوب بن مسرح ورجلٌ آخَر من فرسان أهل الكوفة ((2)).

ورُوي أنّه طُعن برمحٍ في صدره فشقّ صدره، فنادى: أدركني يا ابن

ص: 218


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 279.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 104.

رسول الله! ((1))

وفي رواية الصدوق: فأتاه الحسين علیه السلام ودمه يشخب، فقال: «بخٍ بخٍ يا حرّ، أنت حرٌّ كما سُمّيتَ في الدنيا والآخرة»، ثمّ أنشأ الحسين يقول:

«لَنِعم الحُرّ حرّ بني رياحِ***ونعم الحرّ عند مختلَفِ الرماحِ

ونعم الحرّ إذ نادى حسيناً***فجاد بنفسه عند الصباحِ»

((2))

وفي بعض الكتب أضاف بعد البيتين المذكورين:

«ونِعم الحرّ في رهج المنايا***إذ الأبطال تخفق بالصفاحِ

فيا ربِّ أضفه في الجنانِ***وزوّجه مع الحور المِلاحِ

لقد فاز الّذي نصروا حسيناً***وباتوا بالهداية والفلاحِ»

((3))وفي (الملهوف): فحُمِل إلى الحسين علیه السلام ، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: «أنت الحرّ كما سمّتك أُمّك، حرّاً في الدنيا والآخرة» ((4)).

ثمّ برز بعد الحرّ أخوه مصعب، فاستأذن سيّدَ الشهداء علیه السلام ، ثمّ حمل على أهل الكوفة حملةً ثقيلةً وقاتل قتالاً شديداً، حتّى قُتل.

وكان للحرّ غلام، فلمّا رأى مولاه الحرّ وأخاه مصعب مجدّلَين، ثارت

ص: 219


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 280.
2- ([3]) الأمالي للصدوق: 160، روضة الواعظين: 1 / 186.
3- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 78، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 321.
4- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 104.

حميّته وصار كالمارد، فحمل على جيش ابن سعدٍ يميناً وشمالاً يقتل منهم من أصابه بسيفه، حتّى وصل إلى الحسين علیه السلام ، فاعتذر إليه وقال: يا ابن رسول الله، إنّي أعتذر إليك أن قتلتَ القوم قبل استئذانك، فإنّي ما تمالكتُ نفسي مذ رأيتُ مقتل هؤلاء الأحرار، والآن فأْذَن لي حتّى أُقاتل المعاندين وأنال الشهادة بين يديك. فدعا له الحسين علیه السلام بخير، فركب فرسه، واقتحم الميدان يقاتل، فقتل جماعةً من الفرسان، ثمّ قُتِل والتحق بمولاه في الرفيق الأعلى ((1)).

وفي (الإرشاد): فبرز يسار مولى زياد بن أبي سفيان، وبرز إليه عبد الله ابن عمير، فقال له يسار: مَن أنت؟ فانتسب له، فقال: لست أعرفك، ليخرج إليّ زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر. فقال له عبدالله بن عمير: يا ابن الفاعلة، وبك رغبةٌ عن مبارزة أحدٍ من الناس؟! ثمّ شدّ عليه فضربه بسيفه حتّى برد، فإنّه لَمشتغلٌ بضربه إذ شدّ عليه سالم مولى عبيد الله بن زياد، فصاحوا به: قد رهقك العبد! فلم يشعر حتّى غشيه، فبدره ضربةً اتّقاها ابن عمير بكفّه اليسرى فأطارت أصابع كفّه، ثمّ شدّ عليه فضربه حتّى قتله، وأقبل -- وقد قتلهما جميعاً -- وهو يرتجز ويقول:

ص: 220


1- ([2]) ناسخ التواريخ لسپهر: 2 / 384 -- ترجمة: السيّد علي أشرف، روضة الشهداء للكاشفي: 281.

إن تنكروني فأنا ابنُ كلبِ***إنّي امرؤٌ ذو مرةٍ وعضبِ

ولست بالخوّار عند النكبِ

وحمل عمرو بن الحجّاج على ميمنة أصحاب الحسين علیه السلام فيمن كان معه من أهل الكوفة، فلمّا دنا من الحسين علیه السلام جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تُقدِم خيلُهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع فرشقهم أصحاب الحسين علیه السلام بالنبل، فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا منهم آخرين.

وجاء رجلٌ من بني تميم يُقال له: عبد الله بن حوزة، فأقدم على عسكر الحسين علیه السلام ، فناداه القوم: إلى أين؟ ثكلتك أُمّك! فقال: إنّي أقدِمُ على ربٍّ رحيمٍ وشفيعٍ مُطاع. فقال الحسين علیه السلام لأصحابه: «مَن هذا؟»، قيل: هذا ابن حوزة. قال: «اللّهمّ حُزه إلى النار»، فاضطربت به فرسه في جدولٍ فوقع، وتعلّقت رجله اليسرى بالركاب وارتفعت اليمنى، فشدّ عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى فطارت، وعدا به فرسُه يضرب برأسه كلّ حجَرٍ وكلّ شجر، حتّى مات وعجّل الله بروحه إلى النار((1)).

وفي (البحار): وكان كلّ مَن أراد الخروج ودّع الحسين علیه السلام وقال: السلام عليك يا ابن رسول الله. فيجيبه: «وعليك السلام، ونحن خلفك»، ويقرأ علیه السلام: «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» ((2)).

ص: 221


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 101.
2- ([2]) سورة الأحزاب: 23.

ثمّ برز بُرَير بن خُضَير الهمدانيّ بعد الحرّ، وكان من عباد الله الصالحين، فبرز وهو يقول:

أنا بُريرٌ وأبي خضير***ليثٌ يروع الأُسدَ عند الزئر

يعرف فينا الخيرَ أهلُ الخير***أضربكم ولا أرى من ضير

كذاك فعل الخير من بُرير

وجعل يحمل على القوم وهو يقول: اقتربوا منّي يا قتَلَة المؤمنين، اقتربوا منّي يا قتَلَة أولاد البدريّين، اقتربوا منّي يا قتَلَة أولاد رسول ربّ العالمين وذريّته الباقين! وكان برير أقرأ أهل زمانه، فلم يزل يقاتل حتّى قتل ثلاثين رجلاً، فبرز إليه رجلٌ يقال له: يزيد بن معقل، فقال لبرير: أشهدُ أنّك مِن المضلّين. فقال له برير: هلمّ فلْندعُ اللهَ أن يلعن الكاذبَ منّا، وأن يقتل المُحقُّ منّا المبطل. فتصاولا، فضرب يزيد لبرير ضربةً خفيفةً لم يعمل شيئاً، وضربه برير ضربةً قدّت المِغفر ووصلت إلى دماغه فسقط قتيلاً. قال: فحمل رجلٌ من أصحاب ابن زياد فقتل بريراً رحمه الله، وكان يُقال لقاتله: بحير ابنأوس الضبّي، فجال في ميدان الحرب وجعل يقول:

سلي تُخبَري عنّي وأنتِ ذميمةٌ***غداة حسينٌ والرماح شوارعُ

ألم آتِ أقصى ما كرهتُ ولم يحل***غداة الوغى والروع ما أنا صانعُ

معي مزني لم تخنه كعوبه***وأبيض مشحوذ الغرارين قاطعُ

فجردته في عصبةٍ ليس دينهم***كديني، وإنّي بعد ذاك لَقانعُ

ص: 222

وقد صبروا للطعن والضرب حسّراً***وقد جالدوا لو أنّ ذلك نافعُ

فأبلِغْ عُبيدَ الله إذ ما لقيتُه***بأنّي مطيعٌ للخليفة سامعُ

قتلتُ بُريراً، ثمّ جلت لهمّةٍ***غداة الوغى لمّا دعا مَن يقارعُ

قال: ثمّ ذُكر له بعد ذلك أنّ بُريراً كان من عباد الله الصالحين، وجاءه ابنُ عمٍّ له وقال: ويحك يا بحير! قتلتَ بُرير بن خُضير، فبأيّ وجهٍ تلقى ربَّك غداً؟ قال: فندم الشقيّ، وأنشأ يقول:

فلو شاء ربّي ما شهدتُ قتالَهم***ولا جعل النعماء عند ابن جائرِ

لقد كان ذا عاراً علَيّ وسُبّةً***يعير بها الأبناء عند المعاشرِ

فيا ليت أنّي كنتُ في الرحم حيضةً***ويوم حسينٍ كنتُ ضمن المقابرِ

فيا سوأتا، ماذا أقول لخالقي***وما حُجّتي يوم الحساب القماطرِ؟

فيا سوأتا، ماذا أقول لخالقي***وما حُجّتي يوم الحساب القماطرِ؟

ثمّ برز من بعده وهب بن عبد الله بن حبّاب الكلبيّ، وقد كانت معه أُمّه يومئذ، فقالت: قُمْ يا بُنيّ فانصر ابنَ بنت رسول الله. فقال: أفعل يا أُمّاه ولا أُقصّر ((1)).

وفي بعض المقاتل: أنّه ذهب يستأذن أُمّه، فقال: لو أذنتِ لي أن أذهب إلى هذه الحرّة، فإنّها ابتلَت بطريقتنا، وهي جديدة عهدٍ بالعرس، ولم تذُقْ طعماً لحياةٍ معنا، فأُسلّيها وأُطيّب خاطرها. فقالت له أُمّه: اذهبْ، ولكن

ص: 223


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 15.

احذر أن تصدّك عن قصدك وتحرمك من حظّك، فتُحرَم من الخلود في النعيم المقيم. فقال لها: اطمئنّي يا أُمّاه، ليس في قلبي شيءٌ سوى الحبّ والوفاء لابن خاتم الأنبياء.

فأقبل الى زوجته وتحدّث لها عن غربة ابن فاطمة، وقال لها: أترضين أن أفديه بنفسي ليكون جدُّه محمّد صلی الله علیه وآله شفيعنا غداً يوم القيامة، ونُرضي أُمَّه فاطمة وأباه عليّاً علیهما السلام فتحسّرت زوجته وقالت: ليتَ لي ألف نفسٍ أفدي بها الحسين علیه السلام ، ولو كان القتال مباحاً للنساء لَقاتلتُ معك وفديتُه بنفسي، ولكن قم معي لنقف بين يديه، فإنّي أُريد أن تشرط لي أَمامه أن لا تدخل الجنّة غداً يوم القيامة حتّى تُدخِلني معك. فقام إلى الإمام علیه السلام وتعاهدا عنده.

ثمّ التفتت إلى الإمام علیه السلام وقالت: يا ابن رسول اللّه صلی الله علیه وآله، اجعلْني في حرمك وسلّمني إلى أهل بيتك،لأنال شرف خدمتهم، وأن أكون أَمَةً لهم، ويصيبني ما يصيبهم، وأكون في حمايتهم وعصمتهم فلا يتعرّض لي الأجانب، وأكون في صيانة عفافهم مصونة الجانب. فبكى الإمام الحسين علیه السلام وقال لها: «ادخُلي في حرمي»، فدخلَت مع حرمه.

واستأذن وهب فأذن له، فخرج على فرسه متدرّعاً بلامته، حاملاً رمحاً خطيّةً في يده اليمنى ودرعاً مكيّةً على عاتقه الأيسر، وهو يرتجز:

ص: 224

أميري حسينٌ ونِعم الأمير***له لمعةٌ كالسراج المنير ((1))

وفي (البحار): فبرز وهو يقول:

إن تُنكروني فأنا ابنُ الكلبِ***سوف تَرَوني وتَرَون ضربي

وحملَتي وصولتي في الحربِ***أُدركُ ثأري بعد ثأر صحبي

وأدفع الكربَ أمام الكربِ***ليس جهادي في الوغى باللعبِ

ثمّ حمل، فلم يزل يقاتل حتّى قتل منهم جماعة، فرجع إلى أُمّه وامرأتِه فوقف عليهما، فقال: يا أُمّاه، أرضيتِ؟ فقالت: ما رضيتُ أو تُقتَل بين يدَي الحسين علیه السلام. فقالت امرأته: باللهِ لا تفجعْني في نفسك. فقالت: أُمّه، يا بُنيّ، لا تقبل قولها وارجع فقاتِل بين يدَي ابن رسول الله، فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدَي الله. فرجع قائلاً:

إنّي زعيمٌ لكِ أُمَّ وهبِ***بالطعن فيهم تارةً والضربِ

ضربَ غلامٍ مؤمنٍ بالربّ***حتّى يُذيق القومَ مُرَّ الحربِ

إنّي امرؤٌ ذو مِرّةٍ وعصبِ***ولستُ بالخوّار عند النكبِ

حسبي إلهي مِن عليمٍ حسبي

فلم يزل يقاتل، فأخذَت امرأتُه عموداً وأقبلَت نحوه وهي تقول: فداك

ص: 225


1- ([1]) تذكرة الشهداء للكاشاني: 179 -- بترجمة: السيّد علي أشرف، روضة الشهداء للكاشفي: 289.

أبي وأُمّي، قاتِلْ دون الطيّبين حرمِ رسول الله. فأقبَلَ كي يردّها إلى النساء، فأخذَت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود أو أموت معك. فقال الحسين: «جُزيتم مِن أهل بيتي ((1)) خيراً، ارجعي إلى النساء، رحمكِ الله»، فانصرفَت، وجعل يُقاتل حتى قُتِل رضوان الله علیه((2)).

وفي رواية: إنّ أُمّه كانت تشجّعه وتنادي بصوتٍ عالي: فداك أبي وأُمّي، قاتِلْ دون الطيّبين حرمِ رسول الله، وانصر الحسين حتّى تموت وتكون في الجنّة من الخالدين. فنظر إليها الحسين علیه السلام فبكى، وقال: «جُزيتم من ذريّة النبيّ خيراً، قضيتم ما عليكم من نصرتهم، وأدّيتِ حقّ أهل بيت رسول الله، أبشري أيّتها الصالحة أنتِ وابنك في أعلى درجات الجنّة مع النبيّالمصطفى».

ثمّ قاتل وهب قتال الأبطال، فضاق العسكر بقتاله، فنادى عمر بن سعد: احملوا عليه حملة رجلٍ واحد! فتكاثروا عليه وأحاطوا به من كلّ مكان، وهو يقاتلهم، حتّى قتل الكثير من أبطالهم وشجعانهم.

وفي رواية أبي مخنف: وقعَت به سبعون ضربةً وطعنةً ونبلة، وجعلوه وجواده كالقنفذ من كثرة النبل والسهام، فانجدل صريعاً يخور في دمه ((3)).

ورُوي أنّه جعل يقاتل حتّى أُخِذ أسيراً، فأُتي به إلى عمر بن سعد

ص: 226


1- ([1]) في المتن: (بيت).
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 16.
3- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 326.

(لعنه الله)، فقال: ما أشدّ صولتك؟! ثمّ أمر بضرب عنقه، فضُرب، ورُمي برأسه إلى عسكر الحسين علیه السلام ، فأخذت أُمُّه الرأس فقبّلَته ووضعَته في حِجرها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه وتقول: الحمد لله الّذي بيّض وجهي بشهادتك يا ولدي بين يدَي أبي عبد الله الحسين علیه السلام. وبكت بكاءً شديداً، ثمّ قالت: يا أُمّة السوء! أشهد أنّ اليهود في بيَعها والنصارى في كنائسها خيرٌ منكم.

ثمّ رمَت برأس ولدها نحو القوم فأصابت به رجلاً فقتلته، ثمّ شدّت بعمود الفسطاط فقتلت رجلين، فقال لها الحسين علیه السلام : «ارجعي يا أُمّ وهب، أنتِ وابنك مع رسول اللهصلی الله علیه وآله، فإنّ الجهاد مرفوعٌ عن النساء». فرجعَت وهي تقول: إلهي، لا تقطع رجائي. فقال لها الحسين علیه السلام : «لا يقطع الله رجاءَكِ يا أُمّ وهب» ((1)).وفي (البحار): قال: فذهبَت امرأته تمسح الدم عن وجهه، فبصُر بها شمر، فأمر غلاماً له فضربها بعمودٍ كان معه فشدخها وقتلها، وهي أوّل امرأةٍ قُتلَت في عسكر الحسين.

ورأيتُ حديثاً أنّ وهب هذا كان نصرانيّاً فأسلم هو وأُمّه على يدَي الحسين ((2)).

ص: 227


1- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 326، معالي السبطين للحائري: 1 / 385، وانظُر: تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 287.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 17.

وفي (البحار): ثمّ برز من بعده عمرو بن خالد الأزديّ وهو يقول:

إليكِ يا نفسُ إلى الرحمانِ***فأبشري بالروح والريحانِ

اليوم تُجزَين على الإحسانِ***قد كان منكِ غابر الزمانِ

ما خُطّ في اللوح لدى الديّانِ***لا تجرعي، فكلّ حيٍّ فاني

والصبر أحظى لكِ بالأماني***يا معشر الأزد بني قحطانِ

ثمّ قاتل حتّى قُتِل ((1))، ونال السعادة بالشهادة.

وفي (المناقب): ثمّ تقدّم ابنُه خالد بن عمرو وهو يرتجز ويقول:

صبراً على الموت بني قحطانِ***كي ما تكونوا في رضى الرحمانِ

ذي المجد والعزّة والبرهانِ***وذي العُلى والطَّول والإحسانِ

يا أبتا، قد صرت في الجنانِ***في قصر ربٍّ حسن البنيانِ

ثمّ تقدّم، فلم يزل يقاتل حتّى قُتِل ((2)) وفاز بالشهادة.

وقال محمّد بن أبي طالب: ثمّ برز من بعده سعد بن حنظلة التميميّ وهو يقول:

صبراً على الأسياف والأسنّةْ***صبراً عليها لدخول الجنّةْ

وحور عينٍ ناعماتٍ هُنّه***لمَن يريد الفوز لا بالظنّةْ

يا نفسُ للراحة فاجهدنّه***وفي طلاب الخير فارغبنّه

ص: 228


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 18.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 18، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 340.

ثمّ حمل وقاتل قتالاً شديداً، ثمّ قُتِل رضوان الله علیه.

وخرج من بعده عُمير بن عبد الله المِذحجيّ وهو يرتجز ويقول:

قد علمَت سعد وحيّ مِذحج***أنّي لدى الهيجاء ليث محرج

أعلو بسيفي هامة المدجّج***وأترك القرن لدى التعرّج

فريسة الضبع الأزل الأعرج

ولم يزل يقاتل حتّى قتله مسلم الضبابيّ وعبد الله البجَلي ((1)).

وفي (الإرشاد): وبرز نافع بن هلال وهو يقول:

أنا ابنُ هلال البجَلي***أنا على دين علي

فبرز إليه مزاحم بن حريث فقال له: أنا على دين عثمان. فقال له نافع: أنت على دين الشيطان! وحمل عليه فقتله.

فصاح عمرو بن الحجّاج بالناس: يا حمقى! أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً مستميتين، لا يبرز إليهممنكم أحد، فإنّهم قليلٌ وقلّ ما يبقون، واللهِ لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لَقتلتموهم. فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأيُ ما رأيت. فأرسل في الناس مَن يعزم عليهم ألّا يبارز رجلٌ منكم رجلاً منهم ((2)).

ص: 229


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 18، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 288.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 102.

وقال: لو خرجتم إليهم وحداناً لَأتوا عليكم مبارزة.

ودنا عمرو بن الحجّاج من أصحاب الحسين علیه السلام فقال: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين وخالف الإمام. فقال الحسين علیه السلام : «يا ابن الحجّاج، أعلَيّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتُّم عليه؟! والله لَتعلمنّ أيّنا المارق من الدين ومَن هو أَولى بصلي النار» ((1)).

وفي (الإرشاد): ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على الحسين علیه السلام من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة ((2)).

قال المؤلّف: كان هذا الملعون عمرو بن الحجاج ممّن كتب إلى الإمام المظلوم: اخضرّ الجناب وأينعت الثمار، أقدِمْ على جُندٍ لك مجنّدة ((3)).

أجل، كانت سهامكم ورماحكم وسيوفكم ثماراً يانعة، وكان الصحارى المخضرّة ما سفكتم من دم المظلوم الغريب على تلك الصحراء، فلمّا قارب الإمام بلدكم خرجتم لاستقباله، وكان أوّل قِراكم للضيف العزيز أن منعتموه الماء، وقتلتموه وأصحابهالمظلومين ظمأى عطشانين، أفكان هذا أجر الرسالة الّتي أُمرتم بها من مودّة قربى النبيّ وآله؟ بئس الأُمة كنتم، لعنة الله

ص: 230


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 19.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 103، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 19.
3- ([4]) أُنظر: الإرشاد للمفيد: 2 / 36، مثير الأحزان لابن نما: 25.

عليكم وعلى مَن رضي بفعالكم.

أجل، في (المناقب): ثمّ برز من بعد عمير بن عبد الله مسلم بن عوسجة ((1))، وكان من زعماء عسكر سيّد الشهداء علیه السلام، وكان شجاعاً شريفاً زعيماً من مشاهير الدهر، وأصحابِ أمير المؤمنين علیه السلام ، جاهد بين يديه، وأبدى بطولةً ورجولةً في الدفاع عنه علیه السلام.

قيل: إنّ أمير المؤمنين كان يدعوه: «أخي»، وقد قرأ القرآن على الإمام عدّة مرات.

قال شبث بن ربعي: لَرُبّ موقفٍ له في المسلمين كريم، لقد رأيتُه يوم آذربيجان قتل ستّةً من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين.

برز يقاتل وهو يرتجز ويقول:

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد***من فرع قومٍ من ذرى بني أسد

فمن بغانا حائدٌ عن الرشد***وكافرٌ بدين جبّارٍ صمد

ثمّ تقدّم يطلب مبارزاً، فجعل القوم يتقدّمون لحربه، وهو يلحقهم بالجحيم واحداً بعد واحد، حتّى قتل منهم خمسين، فتكاثروا عليه وهو يقاتل، فقتل منهم ستّةً قبل أن يسقط الى الأرض من كثرة الجراحات وبه

ص: 231


1- ([1]) في مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 341 ذكر شهادة مسلم بن عوسجة بعد شهادة عبد الله المِذحجيّ.

رمَق، فنادى: أدركني يا ابن رسول اللّه ((1)).

وفي (اللهوف): فمشى إليه الحسين علیه السلام -- وبه رمق -- ومعه حبيب بن مظاهر، فقال له الحسين علیه السلام : «رحمك الله يا مسلم، «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» ((2))». ودنا منه حبيب وقال: عزّ علَيّ مصرعُك يا مسلم، أبشِرْ بالجنّة. فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله. ثمّ قال له حبيب: لو لا أنّني أعلم أنّي في الأثر لَأحببتُ أن توصي إليّ بكلّ ما أهمّك. فقال له مسلم: فإنّي أُوصيك بهذا -- وأشار إلى الحسين علیه السلام --، فقاتِلْ دونه حتّى تموت. فقال له حبيب: لَأنعمنّك عيناً. ثمّ مات رضوان الله علیه ((3)) وحلّقت روحه إلى ديار الخلد.

وروى محمّد بن أبي طالب قال: قال: فصاحت جاريةٌ له: يا سيّداه، يا ابن عوسجتاه.

فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين: قتلنا مسلم بن عوسجة. فقال شبث بن ربعيّ لبعض من حوله: ثكلتكم أُمّهاتكم، أما إنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذلّون عزّكم، أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة؟ أما والّذي أسلمت له، لَرُبّ موقفٍ له في المسلمين كريم، لقد رأيتُه يوم

ص: 232


1- ([1]) روضة الشهداء للكاشفي: 296.
2- ([2]) سورة الأحزاب: 23.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 106.

آذربيجان قتل ستّةً من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين((1)).

وفي (البحار): فدعا عمر بن سعد بال-حُصين بن نمير في خمسمئةٍ من الرماة، فاقتبلوا حتّى دنوا من الحسين وأصحابه، فرشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وقاتلوهم حتّى انتصف النهار، واشتدّ القتال، ولم يقدروا أن يأتوهم إلّا من جانبٍ واحد؛ لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض، فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوّضوها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلّلون فيشدّون على الرجل يعرض وينهب، فيرمونه عن قريبٍ فيصرعونه فيقتلونه.

فقال ابن سعد: أحرقوها بالنار! فأضرموا فيها، فقال الحسين علیه السلام : «دعوهم يحرقوها؛ فإنّهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم»، فكان كما قال علیه السلام.

وقيل: أتاه شبث بن ربعيّ وقال: أفزعنا النساء، ثكلتك أُمّك. فاستحيا، وأخذوا لا يقاتلونهم إلّا من وجهٍ واحد ((2)).

وقال أبو مخنف: وحمل شمر (لعنه الله) حتى طعن فسطاط النساء، وقال: علَيّ بالنار حتّى أُحرق بيوت الظالمين. فحمل أصحاب الحسين علیه السلام وقالوا: يا ويلك يا شمر! تحرق حرم رسول الله صلی الله علیه وآله قال: نعم.

ص: 233


1- ([1]) تسلية الجالس لابن أبي طالب: 2 / 289، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 20.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 20، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 290.

فرفع الحسين علیه السلام طرفه إلى السماء وقال: «اللّهمّ لايعجزك شمر أن تحرق جسده في النار يوم القيامة». فغضب شمر وقال: ويلكم! احملوا عليهم حملة رجلٍ واحدٍ حتّى تبيدوهم عن آخرهم. فحملوا عليهم، فتفرّقوا عن أيمانهم وعن شمائلهم، وجعلوا يرشقونهم بالنبل والسهام، حتّى صاروا بين طريحٍ وجريحٍ وذبيح ((1)).

وجاءهم شمر بن ذي الجوشن في أصحابه، فحمل عليهم زهير بن القَين رحمه الله في عشرة رجالٍ من أصحاب الحسين فكشفهم عن البيوت، وعطف عليهم شمر بن ذي الجوشن فقتل من القوم وردّ الباقين إلى مواضعهم ((2)).

وفي (البحار): وشدّ أصحاب زهير بن القين فقتلوا أبا عذرة الضبابيّ من أصحاب شمر، فلم يزل يُقتَل من أصحاب الحسين الواحد والاثنان فيبين ذلك فيهم لقلّتهم، ويُقتَل من أصحاب عمر العشرة فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم ((3)).

وفي (الإرشاد): واشتدّ القتال والتحم، وكثر القتل والجراح في أصحاب

ص: 234


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 330، وانظُر: جُمل أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 402.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 105.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 21.

أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، إلى أن زالت الشمس ((1)).

وفي (البحار): فلمّا رأى ذلك أبو ثمامة الصيداويّ قال للحسين علیه السلام : يا أبا عبد الله، نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوامنك، ولا والله لا تُقتَل حتى أُقتَل دونك، وأُحبّ أن ألقى الله ربّي وقد صلّيتُ هذه الصلاة. فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: «ذكرتَ الصلاة، جعلك الله من المصلّين، نعم هذا أوّل وقتها»، ثمّ قال: «سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي» ((2)).

قال أبو مخنف: فأذّن الحسين علیه السلام بنفسه، فلمّا فرغ من الأذان نادى: «يا ويلك يا عمر بن سعد! أنسيتَ شرايع الإسلام؟ ألا تقف عن الحرب حتّى نصلّي وتصلّون، ونعود إلى الحرب؟»، فلم يُجبْه، فنادى الحسين علیه السلام: «استحوذ عليه الشيطان».

فنادى ال-حُصين بن نُمير (لعنه الله): يا حسين، صلِّ ما بدا لك، فإنّ الله لا يقبل صلاتك. فقال له حبيب بن مظاهر -- وكان واقفاً بين يدَي الحسين علیه السلام -- : ثكلَتك أُمّك وعدموك قومُك، وكيف لا تُقبَل صلاة ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله وتُقبل صلاتك يا ابن الخمّارة!

فغضب الحصين حين ذكر أُمّه، وبرز نحوه، وعند ذلك يقول:

دونك ضرب السيف يا حبيبُ***وافاك ليثٌ بطلٌ مُجيبُ

ص: 235


1- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 105.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 21.

في كفّه مهنَّدٌ قضيبُ***كأنّه من لمعه حليبُ

ثمّ نادى: يا حبيب، ابرز إلى ميدان الحرب.

قال: فسلّم حبيب على الحسين علیه السلام وودّعه، وقال: واللهِ يا مولاي إنّي أرجو أن لا تنقضي صلاتك إلّا وأنا أُصلّي في الجنّة،وأقرأ جدّك وأباك وأُمّك وأخاك عنك السلام ((1)).

وفي بعض الأخبار: إنّ حبيب كان شيخاً كبيراً، صحب النبيّ صلی الله علیه وآله وسمع منه أحاديث كثيرة، وصحب أمير المؤمنين علیه السلام ولازمه، وكان حافظاً للقرآن، وكان لا ينام بعد صلاة العتمة حتّى الفجر يتلو القرآن، فلمّا طلب الإذن من الإمام الحسين علیه السلام قال له: «يا حبيب، إنّك الذكرى من جدّي، وإنّي آنس بك، وأنت شيخٌ كبيرٌ أجهد السنّ». فبكى حبيب وقال: يا ابن رسول الله، أُريد أن يبيضّ وجهي عند جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله، ويرضى عنّي أبوك، وتراني أُمّك فيمن نصرك، وأُريد أن أُحشَر يوم القيامة في المستشهدين بين يديك. فلمّا رأى منه الإمام هذا الإصرار أذن له وهو في أشدّ الحزن والحسرة عليه ((2)).

قال أبو مخنف: ثمّ برز (رضوان الله عليه) وهو يقول:

أنا حبيبٌ وأبي مظاهر***وفارس الهيجاء ليث قسور

ص: 236


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 331، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 65، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 70.
2- ([2]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 304.

وفي يميني صارمٌ مذكّر***وأنتم ذو عددٍ وأكثر

ونحن منكم في الحروب أصبر***أيضاً وفي كلّ الأُمور أقدر

واللهُ أعلى حُجّةً وأظهر***وفيكمُ نار الجحيم تسعر

ثمّ حمل على الحصين (لعنه الله) وضايقه في مجاله، وضربه على أُمّ رأسه، وقطع خيشوم جواده، وأرداه إلى الأرض، وهمّ أنيأخذ رأسه، فحمل عليه أصحابه واستنقذوه من يده ((1)).

وفي (المناقب): وقاتل قتالاً شديداً وهو يرتجز ((2)).

وعن محمّد بن أبي طالب: قتل اثنين وستّين رجلاً ((3)).

وفي (المناقب): ثمّ حمل عليه رجلٌ من بني تميم فطعنه، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير (لعنه الله) على رأسه بالسيف، فوقع ((4)) إلى الأرض ثانية.

قيل: نادى: يا ابن رسول الله أدركني! فركب الإمام الحسين علیه السلام فرسه

ص: 237


1- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 66.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 26، وانظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 346.
3- ([3]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 296، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 346.
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 26.

فأدركه وبه رمَق، ففتح عينه ونظر إلى وجه الحسين علیه السلام نظرةً وقال: يا ابن رسول الله، هل عندك وصيّة إلى جدّك وأبيك أُبلّغها عنك؟ ثمّ قال: لله الحمد والمنّة أن خُضّبَت شيبتي بدمي. فبكى الإمام وقال: «يا حبيب، أبشِرْ بالجنّة، وإنّا على الأثر». فرحل حبيب بالبشارة إلى دار السرور، وسلّم روحه إلى بارئها ((1)).

قال محمّد بن أبي طالب: احتزّ رأسه الحصين بن نمير، وعلّقرأسه في عنق فرسه ((2)).

وفي (المناقب): نزل إليه التميمي الّذي طعنه، فاجتزّ رأسه.. فقال الحسين علیه السلام : «عند الله أحتسب نفسي وحُماة أصحابي» ((3)).

و قيل: بل قتله رجلٌ يُقال له: بديل بن صريم، وأخذ رأسه فعلّقه في عنق فرسه، فلمّا دخل مكّة ((4)) رآه ابن حبيب، وهو غلامٌ غير مراهق،

ص: 238


1- ([5]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 305.
2- ([1]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 296، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 26.
4- ([3]) كذا في المتن و(البحار) و(العوالم) و(الدمعة الساكبة) للبهبهانيّ و(الأسرار) للدربنديّ، ولعلّه تصحيف، فقد ورد بلفظ (الكوفة) في (مقتل الحسين علیه السلام ) للخوارزمي: 2 / 19، وبتفصيل انتقام القاسم بن حبيب من حامل رأس أبيه أيّام مصعب بن الزبير في: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 403، أنساب الأشراف: 3 / 195، تاريخ الطبري: 5 / 440، نفَس المهموم للقمّي: 271، الكامل لابن الأثير: 3 / 291، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 183.

فوثب إليه فقتله، وأخذ رأسه ((1)) ودفنه في مكّة!!!

قيل: إنّ في مكّة موضعٌ يُعرف بمزار رأس حبيب ((2)).

في (المنتخب): رُوي أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان يوماً مع جماعةٍ من أصحابه مارّاً في بعض الطرق، وإذا هُم بصبيانٍ يلعبون في ذلك الطريق، فجلس النبيّ عند صبيٍّ منهم وجعل يُقبّل مابين عينيه ويلاطفه، ثمّ أقعده في حِجره، وهو مع ذلك يُكثِر تقبيله، فقال له بعض الأصحاب: يا رسول الله، ما نعرف هذا الصبيّ الّذي قد شرّفتَه بتقبيلك وجلوسك عنده وأجلسته في حجرك، ولا نعلم ابن مَن هو! فقال النبيّ: «يا أصحابي، لا تلوموني؛ فإنّي رأيتُ هذا الصبيّ يوماً يلعب مع الحسين، ورأيتُه يرفع التراب من تحت أقدامه ويمسح به وجهه وعينيه مع صغر سِنّه، فأنا من ذلك اليوم بقيت أُحبّ هذا الصبيّ، حيث إنّه يحبّ ولدي الحسين، فأجبتُه لحبّ الحسين، وفي يوم القيامة أكون شفيعاً له ولأبيه ولأُمّه كرامةً له، ولقد أخبرني جبرائيل أنّه يكون هذا الصبيّ من أهل الخير والصلاح، ويكون من أنصار الحسين

ص: 239


1- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27، عوالم العلوم للبحراني: 17 / 270.
2- ([5]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 305.

في وقعة كربلاء، فلأجل هذا أحببته وأكرمته كرامةً للحسين علیه السلام » ((1)).

حُكي عن بعض الثقات أنّ هذا الصبيّ كان حبيب بن مظاهر الأسديّ المدفون في رواقٍ مستقلّ.

قال أبو مخنف: فلمّا قُتِل حبيب بان الانكسار في وجه الحسين علیه السلام ، فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((2)).

فقام زهير بن القين وقال: بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، ما هذا الانكسار الّذي أراه منك؟ ألسنا على الحقّ؟ قال: «بلى وإلهِ الخلق، إنّي أعلم علماً يقيناً أنّي وإيّاكم على الحقّ والهدى الّذي يرضى به الله ورسوله». قال: فما بالك لا تريد لنا القتل حتّى نصير إلى الجنّة ونعيمها يا مولاي، وإلىربٍّ غفورٍ رحيم، أتأذن لي بالبراز إليهم؟ قال: «ابرز، شكر الله لك فعالك ورفع مقامك».

فبرز زهير بن القين، وأنشأ يقول:

أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القَينِ***وفي يميني مرهف الحدَّينِ

أذبّ بالسيف عن الحسينِ***ابنِ عليّ الطاهر الجدَّينِ

أضربكم ضرب غلامٍ زينِ***اليوم يق-ضي الدَّينَ أهلُ الدَّينِ

ونشتفى من قتل أهل الشَّينِ***بأبيضٍ وأسمرٍ ودينِ

ص: 240


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 196 المجلس 10.
2- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 333.

ثمّ حمل على القوم، فقتل منهم [أربعةً و] عشرين رجلاً، وخشيَ أن تفوته الصلاة، فرجع وقال: يا مولاي، إنّي خشيتُ أن تفوتني الصلاة معك، فصلِّ بنا ((1)).

وفي (البحار): فقال الإمام الحسين علیه السلام لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله: «تقدّما أمامي حتّى أُصلّي الظهر»، فتقدّما أمامه في نحوٍ من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف.

ورُوي أنّ سعيد بن عبد الله الحنفيّ تقدّم أمام الحسين، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل، كلّما أخذ الحسين علیه السلام يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمى به حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللّهمّ العنهم لعن عادٍ وثمود، اللّهمّ أبلغ نبيّك السلام عنّي، وأبلغه ما لقيتُ من ألم الجراح، فإنّي أردتُ بذلك نصرة ذريّة نبيّك. ثمّ مات رضوان الله علیه، فوُجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوفوطعن الرماح.

وقيل: صلّى الحسين علیه السلام وأصحابه فرادى بالإيماء ((2)).

قال أبو مخنف: فصلّى مولانا أبو عبد الله الحسين علیه السلام بأصحابه صلاة الظهر، فلمّا فرغ عن الصلاة حرّضهم على القتال، وقال: «يا كرام، هذه الجنّة قد فتحت أبوابها، واتّصلَت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله صلی الله علیه وآله والشهداء

ص: 241


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 334.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 21.

الّذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم، ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيّه، وذبّوا عن حرم رسول الله صلی الله علیه وآله وحرم ذريّته».

ثمّ صاح بنسائه: «اُخرجن»، فخرجن منشرات الشعور، مهتّكات الجيوب، يبكين ويقلن: يا معاشر المسلمين، ويا عصبة الموحّدين، اَلله الله في ذريّة نبيّكم، غاروا عليهم، وحاموا عنهم. ثمّ صاح الحسين علیه السلام : «يا أُمّة التنزيل، ويا حفظة القرآن، حاموا عن هؤلاء الحريم، ولا تفشلوا عنهم». فلمّا سمعوا كلام الحسين علیه السلام بكوا بكاءً شديداً، ثمّ قالوا: يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، نفوسنا دون نفسك الفداء، ودماؤنا دون دمك الوقاء، واللهِ لا يصل إليك واليهنّ سوءٌ وفينا عِرقٌ يضرب.

فقال الإمام علیه السلام : «جزاكم الله عنّا خيراً، وأبشروا بالجنّة، والقدومِ على جدّي محمّدٍ المصطفى، وأبي عليّ المرتضى، وأُمّي فاطمة الزهراء، وأخي الحسن علیه السلام ، وجعفر الطيّار، والشهداء الّذين قُتلوا مع جدّي رسول اللهصلی الله علیه وآله وأبي عليّ المرتضى علیه السلام ، وكلّهم مشتاقون إليكم».

فلمّا سمع زهير هذا من الإمام علیه السلام ، برز إلى القوم وهو ينشد هذه الأبيات:

أقدِمْ حسيناً هادياً مهديّا***اليوم تلقى جدَّك النبيّا

مع الحسن والمرت-ضى عليّا***وذا الجناحين الفتى الكميّا

والله قد صيّرني وليّا***سبحانه لا زال وحدانيّا

ص: 242

في حبكم أُقاتل الدعيّا ((1))

ثمّ حمل على الأشقياء، فقتل منهم تسعة عشر رجلاً ((2)) وعجّل بهم إلى جهنّم والنيران.

وفي (البحار): برز زهير وهو يرتجز ويقول:

أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القَينِ***أذودكم بالسيف عن حُسينِ

إنّ حسيناً أحدُ السبطينِ***من عترة البرّ التقيّ الزينِ

ذاك رسول الله غير المين***أضربكم ولا أرى من شَينِ

يا ليت نفسي قُسمَت قسمينِ ((3))

وقال محمّد بن أبي طالب: فقاتل حتّى قَتل مئةً وعشرين رجلاً، فشدّ عليه كثير بن عبد الله الشعبيّ ومهاجر بن أوس التميميّ فقتلاه،فقال الحسين علیه السلام حين صُرع زهير: «لا يبعدك الله يا زهير، ولعن قاتلك لعْنَ الّذين مُسخوا قردةً وخنازير» ((4)).

وفي (البحار): بعد شهادة سعيد بن عبد الله، ثمّ خرج عبد الرحمان بن عبد الله اليزني وهو يقول:

ص: 243


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 335، وانظُر: ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 71.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 160.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25.
4- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 295.

أنا ابن عبد الله من آل يزَنْ***ديني على دين حسينٍ وحسنْ

أضربكم ضرب فتىً من اليمنْ***أرجو بذاك الفوز عند المؤتمنْ

ثمّ حمل فقاتل حتى قُتل ((1)).

وفي (اللهوف): فخرج عمرو بن قرطة الأنصاريّ، فاستأذن الحسينَ علیه السلام فأذن له ((2)).

وفي (المناقب): برز وهو يرتجز:

قد علمَت كتيبةُ الأنصارِ***أنّي سأحمي حوزة الذمارِ

ضرب غلامٍ غير نكس شاري***دون حسينٍ مهجتي وداري ((3))

وفي (الملهوف): فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء، وبالغ في خدمة سلطان السماء، حتّى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد، وجمع بين سدادٍ وجهاد، وكان لا يأتي إلى الحسين علیه السلام سهمٌإلّا اتّقاه بيده، ولا سيفٌ إلّا تلقّاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين علیه السلام سوءٌ حتّى أُثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسين علیه السلام وقال: يا ابن رسول الله صلی الله علیه وآله، أوَفيت؟ فقال: «نعم، أنت أمامي في الجنّة، فاقرأْ رسول الله عنّي السلام، وأعلِمْه أنّي في الأثر». فقاتلَ

ص: 244


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.
2- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 107.
3- ([4]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 350، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.

حتّى قُتل رضوان الله علیه.

ثمّ برز جون مولى أبي ذرّ، وكان عبداً أسود، فقال له الحسين علیه السلام: «أنت في إذنٍ منّي، فإنّما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتلِ بطريقنا». فقال: يا ابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحس قِصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! واللهِ إنّ ريحي لمنتن، وإنّ حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفّس علَيّ بالجنّة، فتطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيضّ وجهي، لا والله لا أُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم ((1)).

ثمّ برز للقتال وهو ينشد ويقول:

كيف يرى الكفّار ضرب الأسودِ***بالسيف، ضرباً عن بني محمّدِ

أذبّ عنهم باللسان واليدِ***أرجو به الجنّة يوم الموردِ

ثمّ قاتل حتّى قُتل، فوقف عليه الحسين علیه السلام وقال: «اللّهمّ بيّضْ وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمّدٍ وآل محمّد».

ورُوي عن الباقر علیه السلام ، عن عليّ بن الحسين علیه السلام أنّ الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى، فوجدواجوناً بعد عشرة أيّام يفوح منه رائحة المسك رضوان الله علیه ((2)).

ثمّ برز عمرو بن خالد الصيداويّ، فقال للحسين علیه السلام: يا أبا عبد الله،

ص: 245


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 107، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.

جُعلتُ فداك، قد هممتُ أن ألحق بأصحابك، وكرهتُ أن أتخلّف فأراك وحيداً بين أهلك قتيلاً. فقال له الحسين علیه السلام : «تقدّم، فإنّا لاحقون بك عن ساعة». فتقدّم فقاتل حتّى قُتل رضوان الله علیه ((1)).

وجاء حنظلة بن أسعد الشاميّ فوقف بين يدَي الحسين علیه السلام يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره، وأخذ ينادي -- وهي نصيحة مؤمن آل فرعون -- : يا قوم، إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والّذين من بعدهم، وما الله يريد ظلماً للعباد، ويا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد، يوم تولّون مدبرين ما لكم من الله من عاصم، يا قوم، لا تقتلوا حسيناً، فيسحتكم الله بعذاب، وقد خاب مَن افترى ((2)).

وفي (المناقب): فقال له الحسين: «يا ابن سعد، إنّهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتَهم إليه من الحقّ، ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟»، قال: صدقت، جُعلتُ فداك، أفلا نروح إلى ربّنا فنلحق بإخواننا؟ فقال له: «رُحْ إلى ما هو خيرٌ لك من الدنياوما فيها، وإلى مُلكٍ لا يبلى». فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك، وجمع بيننا وبينك في جنّته. قال: «آمين،

ص: 246


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 109.
2- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 109، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 22.

آمين» ((1)).

وفي (اللهوف): فتقدّم فقاتل قتال الأبطال، وصبر على احتمال الأهوال، حتّى قُتل رضوان الله علیه ((2)).

وتقدّم سُويد بن عمرو بن أبي المطاع، وكان شريفاً كثير الصلاة، فقاتل قتال الأسد الباسل، وبالغ في الصبر على الخطب النازل، حتّى سقط بين القتلى وقد أُثخن بالجراح، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتّى سمعهم يقولون: قُتل الحسين علیه السلام ، فتحامل، وأخرج من خُفّه سكّيناً وجعل يقاتلهم بها حتّى قُتل رضوان الله علیه((3)).

وفي (المناقب): فخرج يحيى بن سُليم المازنيّ وهو يرتجز.. ثمّ حمل فقاتل حتى قُتل.

ثمّ خرج من بعده قُرّة بن أبي قُرّة الغِفاريّ وهو يرتجز.. ثمّ حمل فقاتل حتى قُتل.

وخرج من بعده مالك بن أنس المالكيّ ((4))، وهو يرتجز ويقول:

قد علمَت مالكها والدودان***والخندفيّون وقيس عيلان

ص: 247


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 23.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 110.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 111.
4- ([4]) كذا في المتن و(البحار)، وفي (مناقب آل أبي طالب): (الكاهليّ).

بأنّ قومي آفة الأقران***لدى الوغى وسادة الفرسان

مباشرو الموت بطعنٍ آن***لسنا نرى العجز عن الطعان

آل عليّ شيعة الرحمان***آل زيادٍ شيعة الشيطان

ثمّ حمل فقاتل حتّى قُتل ((1)).

وقال ابن نما: اسمه أنس بن حارث الكاهليّ ((2)).

و في (المناقب): ثمّ خرج من بعده عمرو بن مطاع الجُعفي وهو يرتجز.. ثمّ حمل فقاتل حتّى قُتل ((3)).

وفي (البحار): ثمّ خرج الحجّاج بن مسروق، وهو مؤذّن الحسين علیه السلام ، ويقول:

أَقدِم حسين هادياً مهديّا***اَليوم تلقى جدّك النبيّا

ثمّ أباك ذا الندا عليّا***ذاك الّذي نعرفه وصيّا

والحسن الخير الرضي الوليّا***وذا الجناحين الفتى الكميّا

وأسد الله الشهيد الحيّا

ص: 248


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 342، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 24.
2- ([2]) مثير الأحزان لابن نما: 63، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 343، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25.

ثمّ حمل فقاتل حتّى قُتل ((1)).

قال أبو مخنف: وبرز هلال بن نافع ((2)) البجَليّ، وكان قد ربّاهأمير المؤمنين علیه السلام ، وكان من الفرسان المعروفة والشجعان الموصوفة، ورامياً بالنبل، وكان يكتب اسمه واسم أبيه في النبلة ويرمي بها من كبد قوسه، فلم تخطُ عدوّه، فجعل في كبد قوسه نبلة، وأنشأ يرتجز ... ثمّ حمل على القوم ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم رجالاً وجدّل أبطالاً ((3)).

وفي (البحار): فلم يزل يرميهم حتّى فُنيَت سهامه، ثمّ ضرب يده إلى سيفه فاستلّه وجعل يقول:

أنا الغلام اليمنيّ البجَلي***ديني على دين حسينٍ وعلي

إنْ أُقتَل اليوم فهذا أملي***فذاك رأيي وأُلاقي عملي

فقتل ثلاثة عشر رجلاً، فكسروا عضديه وأُخِذ أسيراً، فقام إليه (الدعيّ) شمر فضرب عنقه ((4)).

ص: 249


1- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 25.
2- ([5]) اختُلف في اسمه: (هلال بن نافع) أو (نافع بن هلال)، والثاني هو المشهور، ومنهم مَن قال بالتعدّد.
3- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 341، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 108.
4- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27.

ثمّ برز إبراهيم بن الحصين وارتجز.. ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم سبعين رجلاً وقُتِل ((1)).

وبرز المعلّا بن المعلّا، وكان معروفاً بالشدّة والبأس والصعوبة والمراس، وأنشأ يقول:

أنا المعلّا وأنا ابن البجَلي***ديني على دين الحسين بن علي

أضربكم بصارمٍ لم يفللِ***واللهُ ربّي حافظي من زللِ

وناصري، ثمّ مزكّي عملي***يوم معادي، وبه توكّلي

ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قَتل من القوم أربعةً وعشرين رجلاً، ثمّ أخذوه أسيراً وأوقفوه بين يدَي ابن سعد (لعنه الله)، فقال: لله درّك من رجل، ما أشدّ نصرتك لصاحبك. ثمّ ضرب عنقه ((2)).

وبرز الطرمّاح بن عَديّ، وقاتل قتالاً شديداً ثمّ قُتل ((3)).

ثمّ برز المعلّى بن حنظلة الغفاري، وجعل يقاتل حتّى انكسر رمحه في يده، فانتضى سيفه، وجعل يضاربهم حتّى كَلّ ساعدُه، وقتل منهم مقتلةً عظيمة، فكبا به جواده فرماه على وجهه إلى الأرض، فداروا به من كلّ

ص: 250


1- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 342، وفي مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 350: (فقتل منهم أربعةً وثمانين رجلاً).
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 342 -- عن: أبي مِخنف.
3- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 342.

جانبٍ ومكان، وقتلوه ضرباً وطعنا ((1))، رحمة الله عليه ورضوانه.

وبرز جابر بن عروة الغفاريّ، وكان شيخاً كبيراً قد شهد مع رسول الله صلی الله علیه وآله يوم بدرٍ وحُنين، وجعل يشدّ وسطه بالعمامة، ودعا بعصابةٍ حمراء فعصّب بها حاجبيه ورفعها عن عينيه، والحسين علیه السلام ينظر إليه وهو يقول: «شكر الله لك فعالك يا شيخ».

ثمّ حمل على القوم وهو يقول:

قد علمَت حقّاً بنو غفارِ***وخندفٍ ثمّ بنو نزارِ

ينصرنا لأحمد المختارِ***يا قوم حاموا عن بني الأطهارِ

الطيّبين السادة الأبرارِ***صلّى عليهم خالق الأشجارِ

ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم ستّين رجلاً، ثمّ استُشهد بين يدَي الإمام ((2)).

وبرز من بعده مالك بن داوود وهو ينشد ويقول:

إليكم من بطل ضرغامِ***ضرب فتىً يحمي عن الإمامِ

يرجو ثواب الملِك العلّامِ***سبحانه مقدّر الأعوامِ

ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قتل من القوم خمسة عشر

ص: 251


1- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 342.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 343، مقتل الحسين علیه السلام المشهور لأبي مخنف: 73 وفيه: (قتل ثمانين فارساً).

رجلاً، ثمّ قُتل ((1)).

وفي (البحار)، عن محمّد بن أبي طالب: ثمّ خرج شابٌّ قُتل أبوه في المعركة، وكانت أُمّه معه، فقالت له أُمّه: اخرج يا بُنيّ وقاتل بين يدَي ابن رسول الله. فخرج، فقال الحسين: «هذا شابٌّ قُتل أبوه، ولعلّ أُمّه تكره خروجه»، فقال الشابّ: أُمّي أمرتني بذلك! فبرز وهو يقول:

أميري حسينٌ ونعم الأمير***سرورُ فؤاد البشير النذير

عليٌّ وفاطمةٌ والداه***فهل تعلمون له من نظير؟

له طلعةٌ مثل شمس الضحى***له غُرّةٌ مثل بدرٍ منير

وقاتل حتى قُتل وجُزّ رأسه ورُمي به إلى عسكر الحسين علیه السلام ، فحملَت أُمّه رأسه وقالت: أحسنت يا بُنيّ، يا سرور قلبي ويا قرّة عيني. ثمّ رمت برأس ابنها رجلاً فقتلَته، وأخذت عمود خيمته وحملت عليهم وهي تقول:

أنا عجوزٌ سيّدي ضعيفةْ***خاويةٌ باليةٌ نحيفةْ

أضربكم بضربةٍ عنيفةْ***دون بني فاطمة الشريفةْ

وضربت رجلين فقتلتهما، فأمر الحسين علیه السلام بصرفها، ودعا لها ((2)).

ثم برز جُنادة بن الحرث الأنصاريّ وهو يقول:

ص: 252


1- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 343، مقتل الحسين علیه السلام المشهور لأبي مخنف: 74.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 27، تسلیة المجالس لابن أبي طالب: 2 / 297.

أضِقِ الخناق من ابن هندٍ وارمه***من عامه بفوارس الأنصارِ

ومهاجرين مخضِّبين رماحهم***تحت العجاجة من دم الكفّارِ

خضبت على عهد النبيّ محمّدٍ***فاليوم تُخضَب من دم الفجّارِ

واليوم تُخضب من دماء أراذلٍ***رفضوا القران لنصرة الأشرارِ

طلبوا بثأرهمُ ببدرٍ إذ أتوا***بالمرهفات وبالقنا الخطّارِ

والله ربّي لا أزال مضارباً***في الفاسقين بمرهفٍ بتّارِ ((1))

ثمّ خرج عبد الرحمان بن عروة فقال:

قد علمَت حقّاً بنو غفارِ***وخندفٍ بعد بني نزارِ

لنضر بنّ معشر الفجّارِ***بكلّ عضبٍ ذكر بتّارِ

يا قوم ذودوا عن بني الأخيارِ***بالمشرفيّ والقنا الخطّارِ

ثمّ قاتل حتى قُتل ((2)).

ص: 253


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 347، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 28، وفي (البحار) وغيره الأبيات لعمرو بن جُنادة، أمّا جُنادة نفسه فقد ارتجز بقوله -- كما في (مناقب آل أبي طالب) و(البحار) وغيرهما: أنا جنادٌ وأنا ابن الحارث***لستُ بخوّارٍ ولا بناكث عن بيعتي حتّى يرثني وارث***اليوم شلوي في الصعيد ماكث
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 28.

و جاء عابس بن أبي شبيب الشاكريّ معه شوذب مولى شاكر، وقال: يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع؟ قال: ما أصنع؟ أُقاتل حتّى أُقتَل! قال: ذاك الظنّ بك، فتقدّمْ بين يدَي أبي عبد الله حتّى يحتسبك كما احتسب غيرَك، فإنّ هذا يومٌ ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكلّ ما نقدر عليه، فإنّه لا عمل بعد اليوم، وإنّما هو الحساب.

فتقدّم فسلّم على الحسين علیه السلام ، وقال: يا أبا عبد الله، أما والله ما أمسى على وجه الأرض قريبٌ ولا بعيدٌ أعزّ علَيّ ولا أحبّ إليّ منك، ولو قدرتُ على أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيءٍ أعزّعلَيّ مِن نفسي ودمي لَفعلت، السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّي على هداك وهدى أبيك. ثمّ مضى بالسيف نحوهم.

قال ربيع بن تميم: فلمّا رأيتُه مُقبلاً عرفتُه، وقد كنتُ شاهدتُه في المغازي، وكان أشجع الناس، فقلت: أيّها الناس، هذا أسد الأُسود، هذا ابن أبي شبيب، لا يخرجنّ إليه أحدٌ منكم! فأخذ ينادي: ألا رجل، ألا رجل؟ فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة مِن كلّ جانب. فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثمّ شدّ على الناس، فوَاللهِ لقد رأيت يطرد أكثر من مئتين من الناس ((1)).

قال الربيع: كان بيني وبين عابس صداقة، قلت: يا عابس، أما تتحاذر

ص: 254


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 29، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 345.

تخوض بحر الحرب مكشوف الرأس؟ فقال عابس ما مضمونه: ما أصاب المحبّ في طريق حبيبه سهل ((1)).

ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب، فقُتل، فرأيت رأسه في أيدي رجالٍ ذوي عدّة، هذا يقول: أنا قتلتُه، والآخَر يقول كذلك، فقال عمر بن سعد: لا تختصموا، هذا لم يقتله إنسانٌ واحد. حتّى فرّق بينهم بهذا القول ((2)).

ثمّ جاءه عبد الله وعبد الرحمان الغفاريّان، فقالا: يا أبا عبد الله، السلام عليك، إنّه جئنا لنُقتَل بين يديك وندفع عنك. فقال: «مرحباً بكما، ادنُوا منّي»، فدنوَا منه وهما يبكيان، فقال: «يا ابنَي أخي،ما يُبكيكما؟ فوَاللهِ إنّي لَأرجو أن تكونا بعد ساعةٍ قريرَي العين». فقالا: جعلنا الله فداك، واللهِ ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك، نراك قد أُحيط بك ولا نقدر على أن ننفعك. فقال: «جزاكما الله -- يا ابنَي أخي -- بوجدكما من ذلك ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أحسن جزاء المتّقين». ثمّ استقدما وقالا: السلام عليك يا ابن رسول الله. فقال: «وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته». فقاتَلا حتّى قُتلا ((3)).

ص: 255


1- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 307، وفيه ضمّن هذا المعنى في أبياتٍ من الشعر على لسان عابس رضوان الله علیه.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 29.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 29.

قال: ثمّ خرج غلامٌ تركيٌّ كان للحسين علیه السلام ، وكان قارئاً للقرآن ((1)).

ورُوي أنّه لمّا استأذن من الإمام علیه السلام قال له علیه السلام: «إنّي قد وهبتُك لوَلَدي زين العابدين علیه السلام ، فاطلب الرخصة منه».

فجاء الى الإمام السجاد علیه السلام فقال: إنّي استأذنتُ أباك للبراز، فقال: إنّ أمري بيدك، فلو أذنتَ لي سيّدي حتى أُضحّي بنفسي دون أبيك. فقال له الإمام السجّاد علیه السلام : «إنّي قد أعتقتُك، ولك أن تختار ما تحبّ».

فجاء الغلام الى الإمام الهمام علیه السلام فحكى له ما جرى، ثمّ استأذن فأذن له، فجاء الى خيمة النساء وقال: يا سيّدات الخدر والعزّة والكرامة، خدمتكم مدّةً من الزمان، فأرجو أن تعذروني، وتجعلوني في حِلٍّ من كلّ تقصيرٍ بدا منّي، وأن لا تنسوني في القيامة.فلمّا سمع النساء قوله ارتفعت أصواتهنّ بالبكاء، فودّعهم، وخرج الى الميدان وهو يرتجز، فأمر الإمام السجّاد علیه السلام فرفعوا له طرف الخيمة لينظر إلى غلامه كيف يقاتل ((2)).

وفي (المناقب): فجعل يقاتل ويرتجز ويقول:

البحر من طعني وضربي يصطلي***والجوّ من سهمي ونبلي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي***ينشقّ قلب الحاسد المبجّلِ

ص: 256


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 30.
2- ([1]) روضة الشهداء للكاشفي: 308.

فقتل جماعة، ثمّ سقط صريعاً، فجاءه الحسين علیه السلام فبكى، ووضع خدّه على خدّه، ففتح عينه فرأى الحسين علیه السلام ، فتبسّم، ثمّ صار إلى ربّه ((1)).

ثمّ رماهم يزيد بن زياد بن الشعثاء بثمانية أسهم، ما أخطأ منها بخمسة أسهم، وكان كلّما رمى قال الحسين علیه السلام : «اللّهمّ سدِّدْ رميته، واجعل ثوابه الجنّة». فحملوا عليه فقتلوه ((2)).

قيل: إنّ المختار قال لأبي عمارة: لمَ تتغافل عن قاتل ابن الشعثاء؟ وهو طارق بن أبي زبالة، فقال أبو عمارة: أيّها الأمير، إنّ طارق أخو زوجتي، وأنا عازمٌ على أخذه، غير أنّ امرأتي تخفيه عنّي وتتوسّل بي أن أتركه. قال الأمير: لابدّ مِن إحضاره! فأحضره أبو عمارة، فجعل يتوسّل بالأمير ويطلب العفو، فقال المختار: لا تحزن، سأُطلقك الساعة. ثمّ قال لبشير الجلّاد: قطّعه أمامي آراباً.ففعل بشير، وعجّل الله له العقوبة في الدنيا ((3)).

و قال ابن نما: حدّث مهران مولى بني كاهل، قال: شهدتُ كربلاء مع الحسين علیه السلام ، فرأيتُ رجلاً يقاتل قتالاً شديداً، لا يحمل على قومٍ إلّا كشفهم، ثمّ يرجع إلى الحسين علیه السلام ويرتجز ويقول:

أبشِرْ هديت الرشد تلقى أحمدا***في جنّة الفردوس تعلو صعدا

ص: 257


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 348.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 30.
3- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 171.

فقلت: مَن هذا؟! فقالوا: أبو عمرو النهشلي، وقيل: الخثعمي، فاعترضه عامر بن نهشل أحد بني اللات من ثعلبة فقتله واجتزّ رأسه، وكان أبو عمرو هذا متهجّداً كثير الصلاة.

وخرج يزيد بن مهاجر فقتل خمسةً من أصحاب عمر بالنشّاب، وصار مع الحسين علیه السلام وهو يقول:

أنا يزيدٌ وأبي المهاجر***كأنّني ليثٌ بغيل خادر

يا ربّ إنّي للحسين ناصر***ولابن سعدٍ تاركٌ وهاجر ((1))

وفي (البحار): وتقدّم سيف بن أبي الحارث بن سريع ومالك بن عبد الله بن سريع الجابريّان --- بطنٌ من همدان، يقال لهم: بنو جابر -- أمام الحسين علیه السلام ، ثمّ التقيا فقالا: عليك السلام يا ابن رسول الله. فقال: «عليكما السلام». ثمّ قاتلا حتّى قُتلا ((2)).

ورُوي أنّه خرج من كبد الصحراء رجلٌ كالبرق اللامع والبدر الساطع، مدجَّجٌ بالسلاح، ممتطياً صهوة الجواد، فجال في الميدان يميناً وشمالاً، فلمّا فرغ من المطاردة والجولان في الميدان نادى: أنا هاشم بن عُتبة بن أبي وقّاص، ابن عمّ عمر بن سعد. ثمّ استقبل الإمام الحسين علیه السلام وقال: السلام

ص: 258


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 30، مثير الأحزان لابن نما: 57، 61.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 31.

عليك يا ابن رسول الله، إن كان هوى ابن عمّي عمر بن سعد في حربك، فإنّي جئتُ لأفديك بروحي، وأطلب الإذن للقتال، لأُقتَل بين يديك وأُحشَر في المستشهدين في سبيلك. فدعا له الإمام، وأذن له.

فاستقبل ميدان الحرب والطعن والضرب، وقال: لا أُريد من هذا الجيش غير ابن عمّي عمر بن سعد. فلمّا سمع الملعون أخذَته رعدة وارتعشت أوصاله الخبيثة خوفاً وفرقاً؛ لأنّه كان يعرف شجاعة هاشم، فالتفت إلى معسكره وقال: يا فرسان الكوفة والشام، إنّ هذا الفارس ابن عمّي، وليس من المصلحة أن أخرج إلى مبارزته، فمَن منكم يبرز إليه ويأتيني برأسه؟ فتقدّم سمعان ((1)) بن مقاتل -- وهو أمير حلب، وكان مغروراً بشجاعته، وقد أقبل في زهاء ألف فارسٍ لمعاضدة ابن زياد -- فقال: أنا له.

فبرز الملعون حتّى وقف أمام هاشم وقال: يا عظيم العرب، أيّ حمقٍ هذا؟! تترك مال الدنيا وجاهها، وتلقي نفسك إلى التهلكة!! قال هاشم: يا لكع، يا ساف، أيّ إنصافٍ هذا أن تترك النعيم المقيم وتستبدله بزخارف الدينا الزائلة وبهرجها الفاني، وتجرّد سيفك للفاسق الفاجر يزيد على ابن رسول الله؟! وهل يفعل ذلك مَن يؤمنبالله واليوم الآخر؟

فأراد سمعان أن يفوه بكلامٍ آخر، فصرخ هاشم ولكز فرسه وحمل عليه، فاستقبله سمعان برمحٍ سدّده إلى صدره، فراغ عنها هاشم، ثمّ ضربه

ص: 259


1- ([1]) في المتن: (شمعان) في المواضع كلّها، وما أثبتناه من (روضة الشهداء).

بالسيف ضربةً قدّته حتّى بلغت ظهر الفرس، فارتفع التكبير في معسكر الإمام الحسين علیه السلام ، فحمل النعمان (أخو سمعان) بالألف فارس الّذين كانوا تحت إمرة سمعان على هاشم، فألقى نفسه في لهوات الحرب، وهجم عليهم يضربهم يميناً وشمالاً ويرمي رؤوسهم على الأرض كأوراق الخريف المتساقطة.

فلمّا رأى الإمام الحسين علیه السلام هاشماً يقاتل ألف فارس، انتدب إليه أخاه الفضل بن عليّ في تسعة نفر مدداً وردءاً لهاشم، فلمّا رأى ابن سعد الخبيث خروج العشرة لنجدة هاشم، انتدب ألفاً وأمرهم أن يقطعوا عليهم ويمنعوهم لئلّا يقتربوا من هاشم ويدفعوا عنه، فاعترض الألف أُولئك العشرة، ووقع بينهم قتالٌ عظيم، واشتعلت نار الحرب واستعر أوارها وارتفع قتامها، والفضل بن عليّ يجول في الميدان يحصد الرؤوس ويرمي الجثث على الأرض، وقتل منهم مقتلةً عظيمةً، حتّى رموا فرسه بسهمٍ وعقروا به، واحتوشوه وأصحابه التسعة، وتكاثروا عليهم حتّى قتلوهم أجمعين، وبادروا إلى هاشم وأحاطوا به مع مَن سبقهم، والنعمان بن مقاتل يصرخ فيهم: عجّلوا الانتقام، وخذوا منه ثار أخي!

بينا هم كذلك إذ بادر هاشم إلى النعمان، وتناوله من ظهره واختطفه من فوق سرج فرسه وضرب به الأرض ضربةً فتهشّمت عظامه، وعجّل بروحه إلى جهنّم.

ثمّ تقدّم هاشم إلى حامل اللواء، فضربه بالسيف ضربةً على أُمّرأسه

ص: 260

فسقط عن فرسه يخور بدمه، فلمّا رأى القوم فعل هاشم تنادوا: الحذر الحذر! وعزموا على الفرار، فجاءهم المدد الألف فارس الّذين أرسلهم عمر ابن سعد، فتكاثروا على الضيغم الهصور وأحاطوا بالبطل الغيور، فأثخنوه جراحاً، فضعف عن القتال وغلبه العطش، فخرّ إلى الأرض وقال: يا ابن رسول الله، الحمد لله الّذي رزقني الشهادة في سبيلك. ثمّ حلّقَت روحُه إلى رياض الرضوان ولحق بمنزلته في الجِنان ((1)).

ثمّ قال محمّد بن أبي طالب وغيره: وكان يأتي الحسين علیه السلام الرجل بعد الرجل فيقول: السلام عليك يا ابن رسول الله. فيجيبه الحسين ويقول: «وعليك السلام، ونحن خلفك»، ثمّ يقرأ: «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ» ((2))، حتّى قُتلوا عن آخرهم ((3)).

لله كم بدرِ سعدٍ في التراب ثوى***وأنجمٍ في عراض الطفّ قد أفلوا

وكم وجوهٍ لقد أبلى محاسنها***حرُّ الظما وهجير الشمس والذبلُ

وكم رؤوسٍ على الأرماح قد رفعَت***ومن بخيع دمائها شيبها عطلُ

وفي (البحار): ولمّا قُتل أصحاب الحسين ولم يبقَ إلّا أهل بيته،وهم وُلد عليٍّ ووُلد جعفر ووُلد عقيل ووُلد الحسن ووُلده علیه السلام ، اجتمعوا يودّع

ص: 261


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 300.
2- ([2]) سورة الأحزاب: 23.
3- ([3]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 300، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 31.

بعضهم بعضاً، وعزموا على الحرب، فأوّل مَن برز من أهل بيته عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وأُمّه رقيّة بنت أمير المؤمنين علیه السلام ((1)).

قال أبو مخنف: فوقف بإزاء الحسين علیه السلام ، ثمّ قال: يا سيّدي، ائذن لي بالبراز. فقال علیه السلام : «كفاك وكفى أهلك من القتل والثكل». فقال عبد الله: يا عمّ، بأيّ وجهٍ ألقى الله (سبحانه) ورسوله، وقد أسلمت سيّدي ومولاي للقتال؟! واللهِ ما كان ذلك أبداً ((2)). ثمّ برز يقاتل.

وفي (البحار): برز وهو يرتجز ويقول:

اليوم ألقى مسلماً، وهو أبي***وفتيةً بادوا على دين النبي

ليسوا بقومٍ عُرفوا بالكذبِ***لكن خيارٌ وكرام النسبِ

مِن هاشم السادات أهل الحسبِ ((3))

ثمّ حمل على الأشقياء.

وقال محمّد بن أبي طالب: فقاتل حتّى قتل ثمانيةً وتسعين رجلاً في ثلاث حملات ((4)).

ص: 262


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32.
2- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 248 -- عن أبي مخنف.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 351.
4- ([4]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 302، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32.

وفي (الإرشاد): ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يُقال له: عمرو ابن صبيح عبدَ الله بن مسلم بن عقيل رحمه الله بسهم، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه، فأصاب السهم كفَّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخَر برمحه فطعنه في قلبه فقتله ((1)).

فلمّا نظر الحسين إلى ذلك أقبل إليه وكشفهم عنه وحمله على جواده، وأقبل به إلى الخيمة فطرحه فيها، ثمّ رجع إلى أصحابه وقال: «يا قوم، احملوا بارك الله فيكم وبادروا إلى الجنّة، ودار الأمان خيرٌ من دار الهوان» ((2)).

وفي (البحار): برز بعد عبد الله محمّدُ بن مسلم بن عقيل، أُمّه أُمّ ولد، قتله -- فيما رويناه عن أبي جعفر محمّد الباقر علیه السلام -- أبو جرهم الأزديّ ((3)) ولقيط بن إياس الجُهنيّ ((4)).

وقال محمّد بن أبي طالب وغيره: ثمّ خرج من بعده جعفر بن عقيل، وهو يرتجز ويقول:

أنا الغلام الأبطحيّ الطالبي***من معشرٍ في هاشمٍ وغالبِ

ونحن حقّاً سادة الذوائبِ***هذا حسينٌ أطيبُ الأطايبِ

ص: 263


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 107.
2- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 349 -- عن: أبي مِخنف.
3- ([3]) في المتن: (الأسدي).
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32.

من عترة البرّ التقيّ العاقبِ ((1))قال أبو مخنف: وهو يقول:

يا معشر الكهول والشبّانِ***أضربكم بالسف والسِّنانِ

أُرضي بذاك خالقَ الإنسانِ***ثمّ رسول الملِكِ الديّانِ

ثمّ حمل على القوم، ولم يزل يقاتل حتّى قَتل منهم خمسةً وأربعين رجلاً، ثمّ قتله بِشر بن سوط الهمداني، وقيل: عروة بن عبد الله الخثعمي ((2)).

فعند ذلك جعل الحسين ينظر يميناً وشمالاً فلم يرَ أحداً، فبكى بكاءً شديداً، وجعل ينادي: «وا محمّداه، وا أبا القاسماه، وا جدّاه، وا عليّاه، وا حسناه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا عبّاساه!»، ثمّ نادى: «يا قوم! أما مِن مُجيرٍ يجيرنا، أما من معينٍ يعيننا، أما من طالب الجنة ينصرنا، أما من خائفٍ من عذاب الله فيذبّ عنّا؟»، فبكى بكاءً شديداً وهو يقول:

أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشمٍ***كفاني بهذا مفخَراً حين أفخرُ

وفاطمةٌ أُمّي، وجدّي محمّدٌ***وعمّي هو الطيّار في الخلد

جعفرُ بنا ظهر الإسلام بعد خموده***ونحن سراج الله في الأرض نزهرُ

وشيعتنا في الخلق أكرم شيعةٍ***ومبغضنا يوم القيامة يخسَرُ ((3))

ص: 264


1- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 32.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 349 -- عن: أبي مخنف.
3- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 350 -- عن: أبي مخنف.

وفي (البحار): ثمّ خرج من بعده أخوه عبد الرحمان بن عقيل،وهو يقول:

أبي عقيلٌ، فاعرفوا مكاني***من هاشمٍ وهاشم إخواني

كهول صدقٍ سادة الأقرانِ***هذا حسينٌ شامخ البنيان

وسيّد الشيب مع الشبّانِ

فقتل سبعة عشر فارساً، ثمّ قتله عثمان بن خالد الجُهني ((1)).

وقيل: إنّ أبا عمرو جاء إلى المختار أيّام ولايته، ونادى: البشارة البشارة، جاؤوا بابن خالد قاتل عبد الرحمان بن عقيل. فقال المختار: من أين جاؤوا به؟ قال: أخذه شعر بن شعر من طريق البصرة. وكان راكباً على فرس عبد الرحمان، فلمّا جاؤوا بالفرس ضجّ الناس ولعنوه، فأمر الأمير أن يُشَدّ بين عمودين ويُضرَب، فبينا هم كذلك إذ دخل أبو عمرو وهو آخذٌ بيد غلامٍ كأنّ وجهه البدر في ليلة تمامه وكماله، له وفرة، وهما يبكيان، فسأله المختار: مَن يكون هذا الغلام؟ قال أبو عمرو: هذا ابن عبد الرحمان بن عقيل!

فلمّا سمع المختار ذلك قام من مكانه فوراً، ومشى إلى الغلام فضمّه إليه، وبكى بكاءً شديداً، ثمّ أجلسه إلى جنبه، وقال: ما تفعل في الكوفة يا نور عيني؟ قال: أيّها الأمير، اسمي القاسم، دخلتُ الكوفة منذ ثلاثة أيّام.

ص: 265


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 33.

قال المختار: أتيتها وحدك أم كان معك أحدٌ غيرك؟ قال: جئت مع أُمّي وثلاثٍ من أخواتي! لقد قتلوا والدي، فلمّا أرسل يزيد مسلمبن عقبة إلى المدينة فاستباحها ثلاثة أيّام وقَتل في مسجد النبيّ صلی الله علیه وآله خلقاً كثيراً، حتّى بلغَت الدماء منبر النبيّ صلی الله علیه وآله وضريحه المقدّس، وهدم أشقياءُ بني أُميّة بيوتنا وأغلقوا علينا أبواب الرزق والمعاش، فمات الكثير منّا من الجوع والفقر، فحاصرنا الفقر والقلق، وصرنا نقضي أوقاتنا بمشقّةٍ وعُسر، حتّى صرنا في تلك الديار بمنزلة اليهود، بل كان اليهود عند أصحاب معاوية وآل مروان أفضل حالاً منّا، وسمعنا أنّ الله وفّقك لطلب ثار الإمام الحسين وصرتَ أمير العراقيين، فخرجنا إلى العراق لعلّ الله يفرّج عنّا ونأمن من جور الأعداء وأذاهم، فسمعتُ اليوم أنّهم جاؤوا بقاتل أبي، فجئت لأقتصّ منه. فقال المختار: يا نور عيني وعيني العالمين، هذا قاتل أبيك بين يديك، افعلْ به ما تشاء.

ثمّ أمر أن يُعطى القاسم سكّيناً، فأخذها القاسم، وطعن بها صدر اللعين طعنةً مزّق صدره حتّى بلغ سُرّته، ثمّ أمر المختار فخلعوا على القاسم خلعةً من رأسه حتّى قدمَيه، وأعطاه ثلاثة آلاف دينار ذهب، وأرسل ألفَي دينار ذهبٍ إلى أُمّه وأخواته، وأعطاه إبراهيم ألفَي درهم، وأكرمه الأشراف كلٌّ حسب قدره، وحدّدوا له داراً، ونقلوا أهل بيت عبد الرحمان إلى تلك

ص: 266

الدار، وكانوا يأتونهم برزقهم بكرةً وعشيّاً ((1)).

وجيء بعبد الله الأسديّ وعروة بن كامل إلى المختار، وكانا قد اشتركا في قتل عبد الرحمان بن عقيل بن أبي طالب ((2)).

وقتل عبدَ الله بن عقيل بن أبي طالب عثمانُ بن خالد بن أشيمالجهني وبشرُ بن حوط القابضي، وعبد الله الأكبر بن عقيل قتله عثمان بن خالد الجهني ورجلٌ من همدان، ومحمّد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب قتله لقيط بن ياسر الجهني ((3)).

وذكر محمّد بن عليّ بن حمزة ((4)) أنّه قتل في هذا اليوم جعفر بن محمّد بن عقيل وعليّ بن عقيل ((5)).

ثمّ وصلت النوبة إلى أولاد عبد الله بن جعفر الطيّار، وأُمّهم -- كما صرّح به بعض الثقات -- السيّدة زينب علیها السلام ((6)).

ص: 267


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 196.
2- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 163.
3- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 33.
4- ([2]) في المتن: (أبي حمزة).
5- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 33.
6- ([4]) كامل البهائي للطبري: 647 الباب 28 الفصل 6، وانظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 60، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 150، روضة الشهداء للكاشفي: 315.

في (البحار): وخرج من بعده محمّد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو يقول:

نشكو إلى الله من العدوانِ***قتال قومٍ في الردى عميانِ

قد تركوا معالم القرآنِ***ومحكمَ التنزيل والتبيانِ

وأظهروا الكفر مع الطغيانِ

ثمّ قاتل حتّى قتل عشرة أنفُس، ثمّ قتله عامر بن نهشل التميمي.

ثمّ خرج من بعده عون بن عبد الله بن جعفر، وهو يقول:

إن تُنكروني فأنا ابن جعفر***شهيد صدقٍ في الجنان أزهر

يطير فيها بجناحٍ أخضر***كفى بهذا شرفاً في المحشر

ثمّ قاتل حتّى قَتل من القوم ثلاثة فوارس وثمانية عشر راجلاً، ثمّ قتله عبد الله بن بطّة الطائي ((1)).

وقال أبو الفرج: أنّ عبيد الله بن عبد الله بن جعفر قُتل مع الحسين علیه السلام بالطفّ ((2)).

ثمّ تقدّم أولاد الإمام الحسن علیه السلام:

روى أبو مخنف، عن حميد بن مسلم: أنّ الحسين علیه السلام بعد قتل أصحابه جعل ينادي: «وا غُربتاه، وا قلّة ناصراه! أما مِن معينٍ يعيننا؟ أما من ناصرٍ

ص: 268


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 34.
2- ([2]) مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 61، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 34.

ينصرنا؟ أما من ذابٍّ يذبّ عنّا؟». فخرج إليه غلامان كأنّهما قمران: أحمد، والآخَر القاسم بن الحسن علیه السلام ، وهما يقولان: لبّيك لبّيك، مُرنا بأمرك، صلّى الله عليك. فقال لهما: «حاميا عن حرم جدّكما رسول الله صلی الله علیه وآله» ((1)).

ثمّ برز القاسم بن الحسن علیهما السلام.

وفي (البحار): وهو غلامٌ صغيرٌ لم يبلغ الحلُم، فلمّا نظر الحسين إليه قد برز اعتنقه وجعلا يبكيان حتّى غُشي عليهما، ثمّ استأذن الحسينَ علیه السلام في المبارزة، فأبى الحسين أن يأذن له، فلم يزل الغلام يقبّل يدَيه ورجليه ((2)).وروى الشيخ الطريحيّ في كتابه (المنتخَب): جاء القاسم بن الحسن وقال: يا عمّ، الإجازة لأمضي إلى هؤلاء الكفرة. فقال له الحسين: «يا ابن الأخ، أنت من أخي علامة، وأُريد أن تبقى لأتسلّى بك»، ولم يُعطِه إجازةً للبراز، فجلس مهموماً مغموماً باكي العين حزين القلب، وأجاز الحسين إخوته للبراز ولم يجزه، فجلس القاسم متألّماً، ووضع رأسه على رجلَيه، وذكر أنّ أباه قد ربط له عوذةً في كتفه الأيمن وقال له: «إذا أصابك أل-مٌ وهمّ، فعليك بحلّ العوذة وقراءتها وفهم معناها، واعمل بكلّ ما تراه مكتوباً فيها»، فقال القاسم لنفسه: مضى سنينٌ علَيّ ولم يُصبني من مثل هذا الألم. فحلّ العوذة وفضّها، ونظر إلى كتابتها، وإذا فيها: «يا ولدي قاسم، أُوصيك: إنّك إذا رأيتَ عمَّك

ص: 269


1- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 379 -- عن: أبي مخنف.
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 34.

الحسين علیه السلام في كربلاء وقد أحاطت به الأعداء، فلا تترك البراز والجهاد لأعداء رسول الله، ولا تبخل عليه بروحك، وكلّما نهاك عن البراز عاودْه ليأذن لك في البراز، لتحضى في السعادة الأبديّة».

فقام القاسم من ساعته، وأتى إلى الحسين علیه السلام وعرض ما كتب الحسن على عمّه الحسين، فلمّا قرأ الحسين العوذة بكى بكاءً شديداً، ونادى بالويل والثبور، وتنفّس الصُّعَداء، وقال: «يا ابن الأخ، هذه الوصيّة لك من أبيك، وعندي وصيّةٌ أُخرى منه لك، ولابدّ من إنفاذها». فمسك الحسين علیه السلام على يد القاسم وأدخله الخيمة، وطلب عوناً وعبّاساً، وقال لأُمّ القاسم: «ليس للقاسم ثيابٌ جُدُد؟»، قالت: لا. فقال لأُخته زينب: «ايتيني بالصندوق»، فأتَتْه به ووُضع بين يديه، ففتحه وأخرج منه قباء الحسن وألبسه القاسم، ولفّ على رأسه عمامة الحسن, ومسك بيدابنته الّتي كانت مُسمّاةً للقاسم فعقد له عليها، وأفرد له خيمة، وأخذ بيد البنت ووضعها بيد القاسم وخرج عنهما، فعاد القاسم ينظر إلى ابنة عمّه ويبكي، إلى أن سمع الأعداء يقولون: هل من مبارز؟ فرمى بيد زوجته وأراد الخروج، وهي تقول له: ما يخطر ببالك، وما الّذي تريد أن تفعله؟ قال لها: أُريد ملاقاة الأعداء، فإنّهم يطلبون البراز، وإنّي أُريد ملاقاتهم. فلزمَتْه ابنةُ عمّه، فقال لها: خلّي ذيلي، فإنّ عرسنا أخّرناه إلى الآخرة. فصاحت وناحت، وأنّت من قلبٍ حزين، ودموعها جاريةٌ على خدّيها وهي تقول: يا قاسم، أنت تقول: عرسنا أخّرناه إلى الآخرة، وفي القيامة بأيّ شيءٍ أعرفك، وفي أيّ

ص: 270

مكانٍ أراك؟ فمسك القاسم يده وضربها على ردنه وقطعها، وقال: يا بنت العمّ، اعرفيني بهذه الرُّدن المقطوعة. قال: فانفجع أهل البيت بالبكاء لفعل القاسم، وبكوا بكاءً شديداً، ونادوا بالويل والثبور.

فلمّا رأى الحسين أنّ القاسم يريد البراز، قال له: «يا ولدي، أتمشي برجلك إلى الموت؟»، قال: وكيف -- يا عمّ -- وأنت بين الأعداء وحيداً فريداً، لم تجد محامياً ولا صديقاً؟! روحي لروحك الفداء، ونفسي لنفسك الوقاء! ثمّ إنّ الحُسين

علیه السلام شقّ أزياق القاسم، وقطع عمامته نصفين ثمّ أدلاها على وجهه، ثمّ ألبسه ثيابه بصورة الكفن، وشدّ سيفه بوسط القاسم، وأرسله إلى المعركة.

ثمّ إنّ القاسم قدم إلى عمر بن سعد وقال: يا عمر، أما تخاف الله؟ أما تراقب الله يا أعمى القلب؟! أما تراعي رسول الله صلی اله علیه وآله فقال عمر بن سعد: أما كفاكم التجبّر؟ أما تطيعون يزيد؟ فقال القاسم: لا جزاك الله خيراً، تدّعي الإسلام وآل رسول الله عطاشى ظماء، قد اسودّت الدنيا بأعينهم.

فوقف هنيهة، فما رأى أحداً يقدم إليه، فرجع إلى الخيمة، فسمعصوت ابنة عمّه تبكي، فقال لها: ها أنا جئتك. فنهضَت قائمةً على قدميها وقالت: مرحباً بالعزيز، الحمد لله الّذي أراني وجهك قبل الموت. فنزل القاسم في الخيمة، وقال: يا بنت العمّ، ما لي اصطبارٌ أن أجلس معكِ والكفّار يطلبون البراز. فودّعها وخرج، وركب جواده وحماه في حومة الميدان، ثمّ طلب المبارزة، فجاء إليه رجلٌ يُعدّ بألف فارس، فقتله القاسم، وكان له أربعة

ص: 271

أولادٍ مقتولين، فضرب القاسم فرسه بسوطٍ وعاد يقتل بالفرسان، إلى أن ضعفت قوّته، فهمّ بالرجوع إلى الخيمة، وإذا بالأزرق الشاميّ قد قطع عليه الطريق وعارضه، فضربه القاسم على أُمّ رأسه فقتله، وسار القاسم إلى الحسين وقال: يا عمّاه، العطش العطش! أدركني بشربةٍ من الماء. فصبّره الحسين، وأعطاه خاتمه وقال: «حطّه في فمك ومصّه».

قال القاسم: فلمّا وضعتُه في فمي، كأنّه عين ماء، فارتويتُ وانقلبتُ إلى الميدان ((1)).

وفي (البحار): فخرج ودموعه تسيل على خدَّيه، وهو يقول:

إن تُنكروني فأنا ابن الحسن***سبط النبيّ المصطفى والمؤتمن

هذا حسينٌ كالأسير المرتهن***بين أُناسٍ لا سُقوا صوب المزن ((2))

وفي (المناقب): قال:

إنّي أنا القاسمُ من نسل علي***نحن وبيتِ الله أَولي بالنبي

من شمر ذي الجوشن أو ابن الدعي ((3))

وفي رواية الصدوق:

لاتجزعي نفس-ي، فكلٌّ فانِ***اليوم تلقين ذُري الجِنانِ((4))

ص: 272


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 365 المجلس 7.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 34.
3- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 354.
4- ([2]) الأمالي للصدوق: 163، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 321.

وفي (البحار): وكان وجهه كفلقة القمر، فقاتل قتالاً شديداً حتّى قَتل على صغره خمسةً وثلاثين ((1)) رجلاً ((2)).

وفي رواية أبي مِخنف: قتل ستّين رجلاً ((3)).

وفي خبرٍ أنّ القاسم جعل همّته على حامل اللواء في معسكر الكفر والشقاء، فأحاطوا به ورموه بالنبل من كلّ الجهات ((4)).

قال حميد بن مسلم: كنتُ في عسكر ابن سعد، فكنت أنظر إلى هذا الغلام عليه قميصٌ وإزارٌ ونعلان، قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنّه كان اليسرى، فقال عمرو بن سعد الأزديّ: واللهِ لَأشدّنّ عليه. فقلت: سبحان الله! وما تريد بذلك؟ والله لو ضربني ما بسطتُ إليه يدي، يكفيه هؤلاء الّذين تراهم قد احتوشوه. قال: والله لَأفعلنّ. فشدّ عليه، فما ولّى حتى ضرب رأسه بالسيف ووقع الغلام لوجهه ((5)).

وفي روايةٍ أُخرى: رماه الأشقياء بأحجار الجفاء، وهم ينادون:اقتلوا ابن الخارجيّ هذا! ثمّ إنّ سعيد بن عمرو شقّ بطنه، ويحيى بن وهب طعنه

ص: 273


1- ([3]) في المتن: (ثلاثين رجلاً).
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.
3- ([5]) ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 77 -- عن: أبي مخنف.
4- ([6]) روضة الشهداء للكاشفي: 328، المنتخب للطريحي: 2 / 374 المجلس 7.
5- ([7]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.

بالرمح ((1)).

وفي (المنتخب): فضربه شيبة بن سعد الشاميّ بالرمح على ظهره فأخرجه من صدره، فوقع القاسم يخور بدمه، ونادى: يا عمّ أدركني! ((2))

قال ((3)): فجاء الحسين كالصقر المنقضّ، فتخلّل الصفوف، وشدّ شدّة الليث الحرب، فضرب عمْراً قاتله بالسيف، فاتّقاه بيده فأطنّها من المرفق، فصاح، ثمّ تنحّى عنه، وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمْراً من الحسين، فاستقبلَته بصدورها وجرحته بحوافرها ووطأته ((4)) (يعني وطأت ابن الأمير المظلوم ابن الإمام علیهما السلام).

وجهد الأشقياء أن يستنقذوا قاتل القاسم من يد الإمام فلم يقدروا حتّى قتله، كما في (المنتخَب) ((5)).

قال المؤلّف:

لما بلغتُ هذا الموضع، ارتفعَت آهاتي وجرت دموعي من آماقي؛ إذ خطر ببالي تلك اللحظة الّتي وقع فيها المظلوم على الصعيد، يستغيث فلا يُغاث،

ص: 274


1- ([1]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 315.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 366 المجلس 7.
3- ([3]) في المتن: (قال حميد).
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.
5- ([5]) المنتخب للطريحي: 2 / 366 المجلس 7.

ويستنصر فلا يُنصَر، فضجّت الملائكة إلى الله (تعالى) وقالت: يا ربّ، يُفعَل هذا بالحسين صفيِّك وابن نبيّك؟! قال: فأقام الله لهم ظلّ القائم علیه السلام وقال: بهذا أنتقم له من ظالميه! ((1))

اللّهمّ عجّلْ فرَجَه، وسهِّلْ مخرجه، بجاه محمّدٍ وآل محمّد.

أجل، بعد أن انتقم الإمام المظلوم للقاسم فقتل قاتله، جاء إلى القاسم، فرأى ذلك الفتى الغريب قد هشّمَت عوادي الأعادي بدنه الشريف، فصار في حالٍ لا يمكن أن يوصَف:

قد

أوطؤوه الصافنات، فصدره ال-***-مضمار للأصدار والأبرادِ

محطوم جسمٍ، هشّمت أضلاعه***وكسير ظهرٍ من خيول زيادِ

قال حميد بن مسلم: فانجلت الغبرة، فإذا بالحسين قائمٌ على رأس الغلام وهو يفحص برجله ((2)).

قال أبو مخنف: فقال الحسين: «يعزّ واللهِ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا يعينك، أو يعينك فلا يُغني عنك، بُعداً لقومٍ قتلوك ((3))، صوتٌ واللهِ كثر

ص: 275


1- ([1]) أُنظُر: الكافي للكليني: 1 / 465 ح 3، الأمالي للطوسي: 418، دلائل الإمامة للطبري: 239، علل الشرائع للصدوق: 1 / 160، اللهوف لابن طاووس: 127، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 221 ح 3.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 35.

واتره وقلّ ناصره»، ثمّ احتمله ((1)).قال حميد بن مسلم: فكأنّي أنظر إلى رجلَي الغلام يخطّان في الأرض، وقد وضع صدره على صدره، فقلت في نفسي: ما يصنع؟ فجاء حتّى ألقاه بين القتلى من أهل بيته ((2)).

وفي (المنتخب): وحمل القاسمَ إلى الخيمة فوضعه فيها، ففتح القاسم عينه فرأى الحسين قد احتضنه وهو يبكي ويقول: «يا ولدي، لعن الله قاتليك، يعزّ والله على عمّك أن تدعوه وأنت مقتول، يا بُنيّ، قتلوك الكفّار، كأنّهم ما عرفوا مَن جدّك وأبوك». ثمّ إنّ الحسين علیه السلام بكى بكاءً شديداً، وجعلت ابنة عمّه تبكي، وجميع مَن كان منهم لطموا الخدود وشقّوا الجيوب ونادوا بالويل والثبور ((3)).

قال حميد: ثمّ قال: «اَللّهمّ أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُغادِرْ منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً. صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً» ((4)).

ص: 276


1- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 170، الإرشاد للمفيد: 2 / 106، إعلام الورى للطبرسي: 246، مثير الأحزان لابن نما: 19.
2- ([1]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 170، الإرشاد للمفيد: 2 / 106، إعلام الورى للطبرسي: 246، مثير الأحزان لابن نما: 19.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 366 المجلس 7.
4- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 36.

قال المؤلّف:

تفيد الرواية السابقة أنّ القاسم لم يبلغ الحلُم، وأنّ الإمام المظلوم حمله إلى الخيمة وصدره على صدره ورجلاه تخطّان الأرض، ولا يمكن تصوّر هذه الحالة إلّا أن يقال أنّ ظهر الإمام قد انحنى من شدّة المصيبة وأضحى كالوتَد من الغمّ والهمّ والحزن، وهو حالٌ يدركه تماماً مَن ابتُلي بفقد شابٍّ عزيز، سيّما إذا كان غريباً يتيماًمظلوماً، وديعةً وذكرى من أخيه الحبيب الحنون، وهو عرّيسٌ قد انقلب عرسه إلى يأسٍ وحرمان، ونداءٍ بالويل والثبور، وارتفعت فيه آهات الأُمّهات وندبة النساء. وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.

قال أبو مخنف: ثمّ برز أحمد بن الحسن أخو القاسم، وله من العمر ستّة عشر سنة، وهو يقول:

إنّي أنا نجل الإمام ابن علي***نحن وبيتِ الله أولاد النبي

أضربكم بالسيف حتّى يلتوي***أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

ضرب غلامٍ هاشميٍّ علوي***حتّى تولّوا عن قتال ابن علي ((1))

ص: 277


1- ([1]) في المتن: إنّي أنا نجل الإمام ابن عليّ***نحن وبيتِ الله أَولي بالنبي أضربكم بالسيف حتّي يلتوي***أطعنكم عن دين جدّي وأبي واللهِ لايحكم فينا ابن الدعي

قال: ثمّ حمل على القوم، فقاتل حتّى قتل منهم ثمانين رجلاً أو يزيدون، ثمّ رجع إلى الحسين علیه السلام وقد غارت عيناه في أُمّ رأسه، وهو ينادي: يا عمّاه! هل من شربةٍ أتقوّى بها على أعداء الله وأعداء رسوله؟ فقال له: «يا ابن أخي، اصبِرْ قليلاً، تلقى جدّك محمّداً المصطفى يسقيك شربةً لا ظمأ بعدها». فرجع الغلام وهو يقول:

إصبِرْ قليلاً، فالمُنى بعد العطش***فإنّ روحي بالجهاد تنكمش

لا أرهب الموت إذا الموت دهش***ولم أكن عند اللقا ذات رعش

ثمّ حمل على القوم فقتل منهم جماعة، وأنشأ يقول:

إليكم من بني المختار ضرباً***يشيب لوقعه رأس الرضيعِ

نبيد معاشر الفجّار جمعاً***بكلّ مهنّدٍ عضبٍ قطيعِ

ثمّ حمل على القوم فقتل منهم جماعة، وألحقه الله بأخيه إلى الجنّة ((1)).

ثمّ خرج عبد الله بن الحسن الّذي ذكرناه أوّلاً، وهو الأصحّ أنّه برز بعد القاسم، وهو يقول:

إن تُنكروني فأنا بن حيدرةْ***ضرغام آجامٍ وليث قسورةْ

أكيلكم بالسيف كيل السندرةْ***على الأعادي مثل ريح صرصرةْ

ص: 278


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 383، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 77 -- عن: أبي مخنف، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 318، شرح الشافية لابن أمير الحاج: 369.

فقتل أربعة عشر رجلاً، ثمّ قتله هانئ بن ثبيت ((1)) الحضرميّ (لعنه الله) ((2)).

وكان أبو جعفر الباقر علیه السلام يذكر أنّ حرملة بن كاهل الأسديّ قتله ((3)).

ثمّ برز أبو بكر ابن الإمام الحسن علیهما السلام فقتل جماعة، ثمّضربه عبد الله ابن عقبة الغنَويّ فقتله، وقيل: قتله عقبة الغنوي ((4)).

إخوة الإمام الحسين علیهم السلام

في (البحار): ثمّ تقدمَت إخوة الحسين عازمين على أن يموتوا دونه، فأوّل مَن خرج منهم أبو بكر بن عليّ، واسمه: عُبيد الله، وأُمّه ليلى بنت مسعود بن خالد بن ربعي التميميّة، فتقدم وهو يرتجز:

شيخي عليٌّ ذو الفخار الأطولِ***من هاشم الصدق الكريم المفضلِ

هذا حسين ابن النبيّ المرسَلِ***عنه نحامي بالحسام المصقلِ

تفديه نفسي من أخٍ مبجَّلِ

ص: 279


1- ([2]) في المتن: (شيث).
2- ([3]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 279، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 305.
3- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 36 -- عن: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج.
4- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 36.

فلم يزل يقاتل حتّى قتله زحر بن بدر ((1)) النخعيّ، وقيل: عبيد الله ((2)) ابن عقبة الغنوي ((3)).

قيل: إنّ أمرأتين جاءتا إلى المختار ومعهما عبد الله بن منشار! قد أوثقتاه كتافاً، وقالتا: هذا عبد الله بن منشار قاتل أبي بكر بن عليّ، وطلب منّا تزويده بملابس وعباءة نسائيّة ليرتديها ويهرب من الكوفة، فنيّمناه، ثمّ هجمنا عليه سويّةً فأوثقناه كتافاً وقدناه إليك. فأمر المختار أن يُدفَع لكلّ واحدةٍ منهنّ نصف أموال عبد الله، وردّهن إلىأقاربهنّ.

ثمّ التفت المختار إليه وقال: يا ابن منشار، أتذكرني؟! إنّي أنا المختار الّذي قيّدني ابن زياد، فجئتَني وبصقتَ في وجهي! فجعل عبد الله يتوسّل توسّل العاجز الذليل، فقال الأمير: واللهِ لَأصلبنّك عرياناً، تصهرك الشمس حتّى تموت. ثم أمر فنفّذوا فيه الأمر وقتلوه بهذا العذاب، والحمد لله ((4)).

ثمّ برز من بعده أخوه عمر بن عليّ وهو يقول:

أضربكم ولا أرى فيكم زحر***ذاك الشقيّ بالنبيّ قد كفر

يا زحر يا زحر تدان من عمر***لعلّك اليوم تبوأ من سقر

ص: 280


1- ([2]) في المتن: (زجر بن بحر النخعي).
2- ([3]) في المتن: (عبد الله).
3- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 36.
4- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 168.

شرّ مكانٍ في حريقٍ وسعر***لأنك الجاحد يا شرّ البشر

ثمّ حمل على زحر قاتل أخيه فقتله، واستقبل القوم وجعل يضرب بسيفه ضرباً منكراً وهو يقول:

خلّوا عداه الله خلواً عن عمر***خلّوا عن الليث العبوس المكفهر

يضربكم بسيفه ولا يفر***وليس فيها كالجبان المنجحر ((1))

وفي (الإرشاد): فلمّا رأى العبّاس بن علي (رحمة الله عليه) كثرة القتلى في أهله، قال لإخوته من أُمّه -- وهم: عبد الله، وجعفر،وعثمان -- : يا بني أُمّي، تقدَّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنّه لا وُلد لكم ((2)).

وفي (البحار): ثمّ برز من بعده أخوه عثمان بن عليّ، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، ورُوي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال: «إنّما سمّيتُه باسم أخي عثمان بن مظعون»، وأُمّه أُمّ البنين بنت حزام بن خالد من بني كلاب، وهو يقول:

إني أنا عثمان ذو المفاخر***شيخي عليٌّ ذو الفعال الظاهر

وإبن عمٍّ للنبيّ الطاهر***أخي حسينٌ خيرة الأخاير

وسيّد الكبار والأصاغر***بعد الرسول والوصيّ الناصر

ص: 281


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 37.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 109.

فرماه خولّي بن يزيد الأصبحيّ على جبينه فسقط عن فرسه، وجزّ رأسه رجلٌ من بني أبان بن حازم ((1)).

ثمّ برز من بعده أخوه جعفر بن علي، وهو ابن تسع عشرة سنة، وأُمّه أُمّ البنين أيضاً، وهو يقول:

إنّي أنا جعفر ذو المعالي***إبنُ عليّ الخير ذو النوالِ

حسبي بعمّي شرفاً وخالي***أحمي حسيناً ذي الندى المفضالِ

ثمّ قاتل، فرماه خولي الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينه ((2)).ثمّ برز أخوه عبد الله بن عليّ، وهو ابن خمس عشرة سنة ((3))، فقال العبّاس بن عليّ لأخيه من أبيه وأُمّه عبد الله بن عليّ: تقدَّمْ بين يدي حتّى أراك وأحتسبك، فإنّه لا وُلد لك. فتقدّم بين يديه وهو يقول:

أنا ابن ذي النجدة والإفضالِ***ذاك عليُّ الخير ذو الفعالِ

سيف رسول الله ذو النكالِ***في كلّ قومٍ ظاهر الأهوالِ

وشدّ عليه هانئ بن ثبيت ((4)) الحضرميّ فقتله ((5)).

ص: 282


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 37.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 38.
3- ([1]) في البحار: (وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة).
4- ([2]) في المتن: (شيث).
5- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 38 بتصرّفٍ يسير.

وتقدّم محمّد [الأصغر] بن عليّ بن أبي طالب، فقاتل حتّى قتله رجلٌ من تميم من بني أبان بن دارم.

وقيل: قُتل يومئذٍ إبراهيم بن عليّ بن أبي طالب.

وقيل: قُتل عبيد الله بن عليّ مع الحسين يوم الطفّ ((1)).

والظاهر أنّ عُبيد الله هذا هو نفسه أبو بكر بن عليّ المذكور آنِفاً، إذ أنّ أبا بكرٍ اسمه عُبيد الله أيضاً!!!

ويظهر من كلام صاحب الأمر (في زيارة الناحية) أنّ خمسةً من إخوة الإمام قُتلوا في الطفّ، وهم: العبّاس، وجعفر، وعثمان، ومحمّد، وعبد الله ((2)) (صلوات الله عليهم أجمعين).

ص: 283


1- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 39.
2- ([5]) أُنظُر: الإقبال لابن طاووس: 574، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 66.

ص: 284

المجلس الثامن: في ذكر شهادة العبّاس وعليّ الأكبر وعليّ الأصغر

اشارة

روى أبو حمزة الثماليّ، قال: نظر عليُّ بن الحسين سيّد العابدين إلى عُبيد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فاستعبر، ثمّ قال: «ما مِن يومٍ أشدّ على رسول الله صلی الله علیه وآله مِن يوم أُحُد؛ قُتِل فيه عمُّه حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة؛ قُتل فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالب»، ثمّ قال علیه السلام: «ولا يوم كيوم الحسين؛ ازدلف إليه ثلاثون ألف رجلٍ يزعمون أنّهم مِن هذه الأُمّة، كلٌّ يتقرّب إلى الله عزوجل بدمه، وهو بالله يذكّرهم فلا يتّعظون، حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً»، ثمّ قال علیه السلام : «رحم الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطعَت يداه، فأبدل الله عزوجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب علیه السلام ، وإنّ للعباس عند الله عزوجل منزلةً يغبطه

ص: 285

بها جميع الشهداء يوم القيامة» ((1)).

وفي البحار: كان العبّاس بن عليّ يُكنّى: أبا الفضل، وأُمّه أُمّ البنين بنت حزام الكلابيّة أيضاً، وهو أكبر وُلدها، وكان رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهَّم ورجلاه يخطّان في الأرض، وكان يُقال له: قمر بني هاشم، وكان لواء الحسين علیه السلام معه ((2)).

وفي (المنتخَب): أنّ العبّاس بن عليّ علیه السلام كان حامل لواء أخيه الحسين علیه السلام ، فلمّا رأى جميع عسكر الحسين علیه السلام قُتلوا وإخوانه وبنو عمّه، بكى وأنّ إلى لقاء ربّه اشتاق وحنّ، فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين علیه السلام وقال: يا أخي، هل رخصة؟ فبكى الحسين علیه السلام بكاءً شديداً حتّى ابتلّت لحيتُه المباركة بالدموع، ثمّ قال: «يا أخي، كنتَ العلامةَ من عسكري ومجمع عددنا، فإذا أنت غدوتَ يؤولُ جمعُنا إلى الشتات وعمارتنا تنبعث إلى الخراب». فقال العبّاس: فداك روح أخيك يا سيّدي، قد ضاق صدري من حياة الدنيا، وأُريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين. فقال الحسين علیه السلام: «إذا غدوتَ إلى الجهاد، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء». فلمّا أجاز الحسين علیه السلام أخاه العبّاس للبراز، برز كالجبل العظيم وقلبه كالطّود الجسيم؛ لأنّه كان فارساً هماماً وبطلاً ضرغاماً، وكان جسوراً على الطعن والضرب في

ص: 286


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 298 ح 4، الأمالي للصدوق: 463 المجلس 70 ح 10.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 39.

ميدان الكفاح والحرب، فلمّا توسّط الميدان وقف وقال: يا عمربن سعد، هذا الحسين ابن بنت رسول الله صلی الله علیه وآله يقول: إنّكم قتلتم أصحابه وإخوته وبني عمّه، وبقيَ فريداً مع أولاده وهم عُطاشى قد أحرق الظمأُ قلوبهم، فاسقوه شربةً من الماء؛ لأنّ أطفاله وعياله وصلوا إلى الهلاك، وهو مع ذلك يقول لكم: دعوني أخرج إلى أطراف الروم والهند، وأُخلّي لكم الحجاز والعراق، والشرط لكم إنّ غداً في القيامة لا أُخاصمكم عند الله حتّى يفعل الله بكم ما يريد.

فلمّا أوصل العبّاس إليهم الكلام عن أخيه، فمنهم مَن سكت ولم يرد جواباً، ومنهم من جلس يبكي، فخرج الشمر وشبث بن ربعيّ (لعنهما الله)، فجاء نحو العبّاس وقال: يا ابن أبي تراب، قُل لأخيك: لو كان كلّ وجه الأرض ماءً وهو تحت أيدينا، ما أسقيناكم منه قطرةً، إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد. فتبسّم العبّاس، ومضى إلى أخيه الحسين وعرض عليه ما قالوا، فطأطأ رأسه إلى الأرض وبكى حتّى بلّ أزياقه، فسمع الحسين علیه السلام الأطفال ينادون: العطش، فلمّا سمع العبّاس ذلك رمق بطرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيّدي، أُريد اعتدّ بعدّتي وأملأ لهؤلاء الأطفال قربةً من الماء.

فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة في كتفه ((1)) وتوجّه نحو الفرات.

قال أبو مِخنف: فأنشأ يرتجز ويقول:

ص: 287


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 305 المجلس 4.

أُقاتل اليوم بقلبٍ مهتدِ***أذبّ عن سبط النبيّ أحمدِ

أضربكم بالصارم المهنَّدِ***حتّى تحيدوا عن قتال سيّدي

إنّي أنا العبّاس ذو التودّدِ***نسل عليّ الطاهر المؤيَّدِ ((1))

ثمّ حمل على القوم، فمنعه الموكَّلون بالفرات من أخذ الماء.

ورُوي أنّ رجلاً من بني دارم قال: ويلكم! حُولوا بينه وبين الفرات ولا تُمكّنوه من الماء. فقال الحسين علیه السلام : «اللّهمّ أظمِئْه». فغضب الدارميّ، ورماه بسهمٍ فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين علیه السلام السهم، وبسط يده تحت حنكه فامتلأَت راحتاه بالدم، فرمى به ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعَل بابن بنت نبيّك» ((2)).

وفي (المنتخَب): وكان قد جعل عمر بن سعد (لعنه الله تعالى) أربعة آلاف خارجيّ موكَّلين على الماء، لا يدَعون أحداً من أصحاب الحسين يشربون منه، فلمّا رأوا العبّاس قاصداً إلى الفرات أحاطوا به من كلّ جانبٍ ومكان، فقال لهم: يا قوم، أنتم كفرةٌ أم مُسلمون؟ هل يجوز في مذهبكم أو في دينكم أن تمنعوا الحسين وعياله شرب الماء، والكلاب والخنازير يشربون منه، والحسين مع أطفاله وأهل بيته يموتون من العطش؟ أما تذكرون

ص: 288


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 508 / 2، المقتل لأبي مخنف (المشهور): 57.
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 109 / 2.

عطش القيامة؟! فلمّا سمعوا كلام العباس وقف خمسمئة رجلٍ ورموه بالنبل والسهام، فحمل عليهم ((1)).

وفي (البحار): وجعل يقول:لا

أرهبُ الموتَ إذا الموت رقا***حتّى أُواري في المصاليت لُقى

نف-سي لنفس المصطفى الطهروِقا***إنّي أنا العبّاس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشرّ يوم الملتقى ((2))

قيل: فقتل من القوم أربعمئة كافر، وفرّق الباقين يميناً وشمالاً وكشفهم عن المشرعة، وأقحم فرسه الفرات وملأ كفّه ماءً، فتذكّر عطش الإمام المظلوم وأهل بيته، فرمى الماء.

وفي (المنتخَب): فرمى الماء من يده وقال: واللهِ لا أشربه وأخي الحسين علیه السلام وعياله وأطفاله عُطاشى، لا كان ذلك أبداً ((3)).

ثمّ أنشأ يقول:

يا نفسُ هوني، فالحسين معطش***وبنوه والحرم المطهّر أجمعُ

واللهِ لم أشرب من الماءِ قطرةً***وأخي حسينٌ في العراق مضيَّعُ ((4))

ص: 289


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 306 المجلس 4.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
4- ([3]) مهيّج الأحزان لليزدي: 402، تذكرة الشهداء للكاشاني: 319 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.

ثمّ ملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن وهمز فرسه، وأراد أن يُوصل الماء إلى الخيمة ((1)).

قال أبو مخنف: خرج وهو يرتجز ويقول:

يا نفسُ من بعد الحسين هوني***فبعده لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسين شاربُ المنون***وتشربين بارد المعينِ؟!

هيهات! ما هذا فعال ديني***ولا فعال صادق اليقينِ ((2))

ثمّ صعد من المشرعة، فأخذه النبل من كلّ مكانٍ حتّى صارت درعُه كالقنفذ ((3)).

وفي (المنتخَب): فاجتمع عليه القوم، فحمل عليهم فتفرّقوا عنه، وصار نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق، فحاربهم محاربةً عظيمة، فصادفه نوفل الأزرق وضربه على يده اليمنى فبراها ((4)).

وفي (البحار): فأخذ السيف بشماله وحمل وهو يرتجز:

ص: 290


1- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
2- ([1]) في المتن: (أمينِ).
3- ([2]) مقتل الحسين؟ع؟ لأبي مخنف (المشهور): 57، أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 508.
4- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.

واللهِ إن قطعتُمُ يميني***إنّي أُحامي أبداً عن دِيني

وعن إمامٍ صادق اليقينِ***نجلِ النبيّ الطاهر الأمينِ ((1))

ورُوي أنّه قتل بيدٍ واحدةٍ مئةَ رجُل.

وفي (البحار): فقاتل حتّى ضعف، فكمن له الحكم بن الطفيل الطائيّ من وراء نخلةٍ فضربه على شماله ((2)).

وفي (المنتخب): فبرا كتفه الأيسر من الزند ((3)).وفي (البحار): فقال:

يا نفسُ لا تخشَي من الكفّارِ***وأبشِري برحمة الجبّارِ

مع النبيّ السيّد المختارِ***قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلِهم يا ربّ حرَّ النارِ ((4))

وفي (المنتخب): فحمل القربة بأسنانه ((5)).

ورُوي أنّه أخذ السيف بفيه، وحمل عليهم ويداه ينضحان دماً ((6)).

ص: 291


1- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.
2- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.
3- ([6]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
4- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40.
5- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
6- ([3]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 57.

فقاتل حتّى ضعف عن القتال، وغايته إيصال الماء إلى الخيمة والنساء والأطفال، فحملوا عليه جميعاً، وجاء سهمٌ فأصاب القربة فأُريق ماؤها ((1)).

وفي (البحار): ثمّ جاءه سهمٌ آخَر فأصاب صدره ((2)).

وقال أبو مخنف: فضربه رجلٌ منهم بعمودٍ من حديد ففلق هامته، وخرّ صريعاً إلى الأرض يخور بدمه، وهو ينادي: يا أبا عبد الله، عليك منّي السلام ((3)).

وروي أنّه نادى: يا أخا، أدرِكْ أخاك ((4)).

فلمّا رأى الحسين أخاه وقد انصرع، صرخ: «وا أخاه، واعبّاساه، مهجة قلباه! يعزّ واللهِ علَيّ فراقك» ((5))، وبكى بكاءً شديداً.

وفي (البحار): فقال الحسين علیه السلام : «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي» ((6)).

كسروا بقتلك ظهر سبطِ محمّدٍ***وبكسره انكسرت قوى الإسلامِ

قطعوا بقطع يدَيك أيدي السبط وان-***-قطعت به أيدي النبيّ السامي

ص: 292


1- ([4]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 335.
2- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42، المنتخب للطريحي: 2 / 307 المجلس 4.
3- ([6]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 59.
4- ([7]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 335.
5- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 431 المجلس 9.
6- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42.

وفي (المنتخب): فبكى الإمام المظلوم حتّى أُغمي عليه ((1)).

قال أبو مخنف: وحمله على ظهر جواده، وأقبل به إلى الخيمة وطرحه، وبكى عليه بكاءً شديداً، حتّى بكى جميع مَن كان حاضراَ، وقال (صلوات الله عليه): «جزاك الله من أخٍ خيراً، لقد جاهدتَ في الله حقّ جهاده» ((2)).

قال المؤلّف:

دلّ خبر أبي مخنف على أنّ الإمام الحسين علیه السلام نقل أبا الفضل العبّاس إلى الخيمة، وظاهر رواية (البحار) ((3)) وغيره أنّه لم ينقله.

بل إنّ ظاهر بعض الأخبار تفيد أنّ كثرة الجراحات في بدنالمظلوم جعلَته أشلاء بحيث لا يمكن نقله، فقد رُوي عن محمّد بن أنس أنّه قال: كنتُ عند الإمام الحسين حين ارتفع صوت العبّاس مستغيثاً: يا أخي، أدرِكْ أخاك! فلمّا سمع الإمام صوت أخيه الحنون بكى، فلمّا رأيتُ بكاء الحسين وسمعتُ صوت العبّاس سارعتُ إلى الموضع، فرأيت العبّاس مرمَّلاً بالدماء مقطَّع الأعضاء، قد حلّقت روحه المقدّسة إلى جنان الخلد، فألقيتُ نفسي على بدنه المضرّج بالدماء، وارتفع منّي العويل واشتدّ البكاء، فبينا أنا كذلك إذ رأيتُ جماعةً من الفرسان والرجّالة أحاطوا بالبدن المقدّس الغارق بالدم،

ص: 293


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 431 المجلس 9.
2- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 59.
3- ([5]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 41، الإرشاد للمفيد: 2 / 110، وغيرهما.

وحملوا عليه بالرماح حملةً واحدةً حتّى قطّعوا لحم أعضائه إرباً إرباً ((1)).

وفي (البحار): فلمّا رآه الحسين؟ع؟ صريعاً على شاطئ الفرات، بكى وأنشأ يقول:

تعدَّيتُمُ يا شرّ قومٍ ببغيكم***وخالفتُمُ دين النبيّ محمّدِ

أما كان خير الرسل أوصاكمُ بنا***أما نحن من نجل النبيّ المسدّدِ؟

أما كانت الزهراء أُمّي دونكم***أما كان مِن خير البريّة أحمدِ؟

لُعنتم وأُخزيتم بما قد جنيتُمُ***فسوف تلاقوا حرّ نارٍ توقَّدِ ((2))

وعن القاسم بن أصبغ بن نُباتة قال: رأيتُ رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه، وكنتُ أعرفه جميلاً شديد البياض، فقلت له: ماكِدتُ أعرفك! قال: إنّي قتلتُ شابّاً أمرد مع الحسين، بين عينيه أثر السجود، فما نمتُ ليلةً منذ قتلتُه إلّا أتاني فيأخذ بتلابيبي حتّى يأتي جهنّم فيدفعني فيها، فأصيح، فما يبقى أحدٌ في الحيّ إلّا سمع صياحي. قال: والمقتول العبّاس بن عليّ ((3)).

وفي كتاب (التبر المذاب): وحكى هشام بن محمّد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعيّ قال: لمّا أُتي بالرؤوس إلى الكوفة، إذا بفارسٍ أحسن

ص: 294


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 336.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 41.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 306، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 86.

الناس وجهاً قد علّق في لبب فرسه رأس غلامٍ أمرد كأنّه القمر ليلة تمامه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض، فقلت له: رأس مَن هذا؟ فقال: هذا رأس العبّاس بن علي. قلت: ومَن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسديّ. قال: فلبثتُ أيّاماً وإذا بحرملة ووجهه أشدّ سواداً من القار، فقلت له: لقد رأيتُك يوم حملتَ الرأس وما في العرب أنضر وجهاً منك، وما أرى اليوم لا أقبح ولا أسود وجهاً منك! فبكى وقال: واللهِ منذ حملتُ الرأس وإلى اليوم ما تمرّ علَيّ ليلةً إلّا واثنان يأخذان بضبعي، ثمّ ينتهيان بي إلى نارٍ تأجّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى ((1)).

عن الإمام جعفر الصادق: «كانت أُمّ البنين أُمّ هؤلاء الأربعة الإخوة القتلى (العبّاس وجعفر وعثمان وعبد الله) تخرج إلى البقيع، فتندب بنيها أشجى ندبةٍ وأحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك، فلا يزاليسمع ندبتها ويبكي» ((2)).

قال المؤلّف:

كان تأثير شهادة العبّاس على الإمام الحسين أعظم من شهادة جميع الأنصار، وذلك أنّ الإمام تذكّر حنانه ومحبّته وفداءه، من قبيل:

ص: 295


1- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 218، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 281.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 40، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 59.

تقديم أبي الفضل إخوانه من أُمّه الواحد تلو الآخَر أمامه إلى ميدان الحرب، ثمّ إنّه بقيَ حتّى صكّ سمعَه استغاثةُ الصبية والنساء وصراخهنّ، وهنّ ينادين: العطش العطش، فحمل قربته متعجّلاً وأقدم إلى الميدان مُسرِعاً، والعطش قد أحرق كبده حتّى صار كصالية الغضا، فرفع كفّاً من الماء ليشرب فتذكّر عطش الحسين وأهل بيته، فرمى الماء، وجدّ وبذل غاية المجهود ليوصل الماء إلى تلك الخيام ليروي غليل الصبية والأيتام، حتّى قُطعَت يداه، فأخذ القربة بأسنانه وساق فرسه ودافع العدوّ لِيوصل الماء إلى تلك الأكباد الحرّى.

فكانت هذه الصور تطوف في خاطر الإمام، فيبكي ويندب أخاه، وقد اشتدّ به الوجد على أخيه حتّى أُغمي عليه من شدّة الألم، وقد زادت شهادة العبّاس من وحدة الإمام الغريب وراكمت عليه الهموم والغموم، حتّى صاح: «الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي».

ويشهد لذلك -- أي: لقول الإمام هذه الكلمة عند شهادة العبّاس دون غيره -- ما رواه الشيخ المفيد (عليه الرحمة) في كتاب (الإرشاد)، وهي أقرب الروايات في بيان الواقع وإظهار السداد، قال:

فلمّا رأى العبّاس بن عليّ (رحمة الله عليه) كثرة القتلى فيأهله، قال لإخوته من أُمّه -- وهم: عبد الله، وجعفر، وعثمان -- : يا بَني أُمّي، تقدَّموا حتّى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله، فإنّه لا وُلد لكم.

فتقدّم عبدُ الله فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهانئ بن ثُبيت

ص: 296

الحضرميّ ضربتين، فقتله هانئ (لعنه الله). وتقدّم بعده جعفر بن علي رحمه الله، فقتله أيضاً هانئ. وتعمّد خولّي بن يزيد الأصبحيّ عثمانَ بن عليّ رضی الله عنه، وقد قام مقام إخوته، فرماه بسهمٍ فصرعه، وشدّ عليه رجلٌ من بني دارم فاحتزّ رأسه.

وحملَت الجماعة على الحسين علیه السلام فغلبوه على عسكره، واشتدّ به العطش، فركب المسنّاة ((1)) يريد الفرات، وبين يدَيه العبّاس أخوه، فاعترضَته خيلُ ابن سعد، وفيهم رجلٌ من بني دارم، فقال لهم: ويلكم، حُولوا بينه وبين الفرات ولا تمكّنوه من الماء. فقال الحسين علیه السلام: «اللّهمّ أظمِئْه». فغضب الدارميّ، ورماه بسهمٍ فأثبته في حنكه، فانتزع الحسين علیه السلام السهم، وبسط يده تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدم فرمى به، ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يُفعَل بابن بنت نبيّك».

ثمّ رجع إلى مكانه وقد اشتدّ به العطش، وأحاط القوم بالعبّاس فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتّى قُتِل رضوان الله علیه، وكان المتولّي لقتله زيد بن ورقاء الحنفيّ وحكيم بن الطفيل السنبسيّ، بعد أن أُثخن بالجراح فلم يستطع حراكاً ((2)).

ص: 297


1- ([1]) المسنّاة: ترابٌ عالٍ يحجز بين النهر والأرض الزراعيّة (تاج العروس: 10 / 185 مادّة سنى).
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 109.

قال المؤلّف:

يفيد هذا الحديث أنّ الإمام المظلوم قصد الفرات، ولم يكن معه سوى أخيه العبّاس يقاتل أمامه ويذبّ عنه ويقيه ويفدي الإمام العطشان بنفسه، بعد أن قضى كلُّ مَن معه حتّى المولى الأمير عليّ الأكبر، كما نصّت على ذلك روايةٌ أُخرى، ولذلك كان العبّاس قد شاهد كلّ ما جرى على الإمام من مصائب، إلّا مصيبة الطفل الرضيع، فهو شريكه في كلّ الهموم والغموم إلى تلك الساعة، وقد شاهد العبّاس وحدة المظلوم وغربته وبقاءَه وحيداً فريداً بين أُولئك الأوغاد الأدعياء، إذ لم يبقَ أحدٌ من المضحّين غيره، وكان هذا سبباً ومنشأً للكثير من الغموم والهموم والاهتمام بالنسبة للإمام ولأبي الفضل العبّاس، وكان العبّاس آخِر مَن بقي مع الإمام الغريب، مع كلّ ما فيه من محبّةٍ وإخاءٍ ووفاءٍ وتضحية، وكان ظهر إمام الناس مسنداً وقويّاً بزبدة الناس، فلمّا استشهد انكسر ظهر الإمام عالي المقام، فقال تلك القولة العظيمة، وبكى بكاءً شديداً حتّى أُغميَ عليه من شدّة المصيبة والألم.

ولَنعم ما قال الشاعر:

أحقّ الناس أن تبكي عليه***فتىً أبكى الحسينَ بكربلاءِ

أخوه وابنُ والده عليٍّ***أبو الفضل المضرَّج بالدماءِ

ص: 298

ومَن واساه، لا يثنيه شيءٌ***وجاد له على الظماء بماءِ ((1))

حُكي أنّه لمّا جاؤوا بحجر الأحجار إلى المختار قال: الشكر للهالّذي بلّغني أُمنيتي فيه، فإنّ هذا الملعون وأباه ورافع بن النعمان وثابت كانوا حرّاساً على الفرات في أربعة آلاف فارس، منعوا العبّاس منه وقطعوا يديه. ثمّ أمر الأمير أن تُقطَع مفاصله، وصبّوا في حلقه رطلاً من السرب، وكانوا يصبّون زيت النفط المغليّ على جروحه حتّى هلك (لعنه الله).

وفي (المناقب) لابن شهرآشوب -- بعد ذِكر شهادة القاسم بن الحسن والعبّاس -- قال: ثمّ برز قاسم بن الحسين وهو يرتجز ويقول:

إن تُنكروني فأنا ابن حيدره***ضرغام آجامٍ وليث قسوره

على الأعادي مثل ريحٍ صرصره***أكيلكم بالسيف كيل السندره ((2))

وقال بعضهم: وفيه غرابة ((3)).

قال المؤلّف:

ينبغي تحرير كلّ ما ورد في ذكر مصائب الإمام العالي المقام، ليطّلع عليها الشيعة الكرام ويعرفوا ما جرى على إمامهم العطشان في تلك الصحراء القاحلة المقفرة، وما تحمّله قلبُه المقدّس من مصائب، فيتيقّنوا أنّ مصيبته

ص: 299


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 118.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 359، بحار الأنور: 45 / 42.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42.

أعظم المصائب على الإطلاق ((1)).

وقد عزمتُ -- أنا الأقلّ -- أن أبيّن مصيبة شبيه النبيّ عليّ الأكبر، وأكشف عن مدى الجراحات الّتي أصابت قلب الإمام العالي المقام جراء مصيبة ابن وليّ الله، دعاني التدقيق إلى ذكر بعضالأحاديث المُشجية لقلوب الشيعة قبل الدخول في ذكر مصيبته المُحرقة للقلوب.

وعن عليّ بن عيسى صاحب (كشف الغمّة)، عن أُمّ سلَمة قالت: كان رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يومٍ عندي، وقد حمى الوطيس، وقد دخل إلى بيتي، وفرشتُ له حصيراً، إذ انطرح متّكِئاً، فجاء الحسين علیه السلام فدخل وهو مُلقىً على ظهره، فقال: «هنا يا حسين»، فوقع على صدره، وجعل يلاعبه وهو يسيح على بطنه.

قالت أُمّ سلَمة: فنظرتُ من شقّ الباب، وهو على صدره يلاعبه، فقلت: لا حول ولا قوّة إلّا بالله! يوم صدر المصطفى ويوم وجه الثرى، إنّ هذا لَعجب.

قالت: ثمّ غبتُ عنه ساعة، وعُدت إلى الباب فرأيتُ النبيّ صلی الله علیه وآله وهو مغموم، وقد غمض عينيه عنه، وفي وجهه نوعٌ من العبوس، فقلت: لا شكّ إنّ الحسين علیه السلام قد شطّ على النبيّ صلی الله علیه وآله لصبوته، فدخلتُ عليه، وفي يده شيءٌ ينظر إليه وهو يبكي، فقلت: بأبي وأُمّي، جُعلتُ فداك يا رسول

ص: 300


1- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 269 الباب 32 ح 1.

الله،مالي أراك باكياً حزيناً؟ ما الخبر؟ قال: «إنّ جبرئيل علیه السلام نزل علَيّ في هذه الساعة، وأخبرني أنّ ولدي هذا سيُقتَل».

فقلت: وكيف؟ وأين؟ قال: «بعد أبيه وأُمّه، في أرضٍ تُسمّى: كربلا، وإن اخترتِ أن أُريكِ من ترابها قبضة»، فغاب عنّي، وجاءني بهذه القبضة وقال: «هذا من تربته»، قال: «خذيها واحفظيها عندكِ في تلك الزجاجة، وانظري إليها، فاذا رايتها قد صارت دماً عبيطاً فاعلمي أنّ ولدي الحسين علیه السلام في تلك الساعة قد قُتِل».قالت أُمّ سلَمة: ففعلتُ ما أمرني، وعلّقتُها في جانب البيت، حتّى قُبض النبيّ صلی الله علیه وآله وجرى ما جرى، فلمّا خرج الحسين علیه السلام من المدينة إلى العراق أتيته لأُودّعه، فقال: «يا أُمّ سلَمة، توصي في الزجاجة». فبقيتُ أترقّبها وأنظر فيها اليوم المرّتين والثلاث.

فلمّا كان يوم العاشر من المحرّم قرب الزوال أخذَتني سِنةٌ من النوم، فنمتُ هنيئة، فرأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله في منامي، وإذا هو أشعث أغبر وعلى كريمته الغبار والتراب، فقلت: بأبي وأُمّي، ما لي أراك يا رسول الله مغبرّاً أشعث؟! ما هذا الغبار والتراب الّذي أراه على كريمتك ووجهك؟ فقال لي: «يا أُمّ سلَمة، لم أزل هذه الليلة أحفر قبر ولدي الحسين علیه السلام وقبور أصحابه، وهذا أوان فراغي من تجهيز ولدي الحسين علیه السلام وأصحابه، قُتلوا بكربلاء».

فانتبهتُ فزعةً مرعوبة، وقمت فنظرت إلى القارورة، وإذا بها دماً عبيطاً، فعلمتُ أنّ الحسين علیه السلام قد قُتِل. قالت: واللهِ ما كذبني الوحي ولا كذبني

ص: 301

رسول الله صلی الله علیه وآله. قالت: فجعلتُ أصيح: وا إبناه، وا قرّة عيناه، وا حبيباه، وا حسيناه، وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله! قالت: حتّى اجتمع الناس عندي، فقالوا: ما الخبر؟ فاعلمتُهم، فجعلوا ينادون: وا سيّداه، وا مظلوماه! والله ما كذبت، فأُرّخ ذلك اليوم فكان يوم قتل الحسين علیه السلام .

قالت: فلما كان السحر سمع أهل المدينة نوح الجنّ على الحسين علیه السلام ، وجاءت منهم جنّيّةٌ تقول:

ألا يا عينُ فانهملي بجهدي***فمَن يبكي على الشهداء بعدي

على رهطٍ تقودُهُمُ المنايا***إلى متكبّرٍ في الملك وغدِ

فأجابتها جنّيّةٌ أُخرى:

مسح النبيُّ جبينه***وله بريقٌ في الخدود

أبواه من أعلى قريش***وجدّه خير الجدود

زحفوا عليه بالقنا***شرّ البريّة والوفود

قتلوه ظلماً، ويلهم!***سكنوا به نار الخلود

فلما سمع أهل المدينة ذلك حثوا التراب على رؤوسهم، ونادوا: وا حسيناه، وا ابن بنت نبيّاه! ومضوا إلى قبر رسول اللهصلی الله علیه وآله يعزّونه بولده الحسين علیه السلام ، ثمّ إنّهم أقاموا عزاه ثلاثة أيّام.

قالت أُمّ سلَمة: فلمّا كان الليل طار رقادي وكثر سهادي، وأنا متفكّرةٌ في أمر الحسين علیه السلام ، فبينما أنا كذلك وإذا بقائلٍ يقول:

ص: 302

إنّ الرماح الواردين صدورها***دون الحسين تقاتل التنزيلا

فكأنّما بك يا ابن بنت محمّدٍ***قتلوا جهاراً عامدين رسولا ((1))

وفي (كامل الزيارة): عن عبد الله بن حمّاد البصريّ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لي: «إنّ عندكم -- أو قال: في قربكم -- لَفضيلةٌ ما أُوتي أحدٌ مثلها، وما أحسبكم تعرفونها كُنهمعرفتها، ولا تحافظون عليها ولا على القيام بها، وإنّ لها لَأهلاً خاصّة قد سُمّوا لها وأُعطوها بلا حولٍ منهم ولا قوّة، إلّا ما كان من صنع الله لهم وسعادة حباهم بها ورحمة ورأفة وتقدُّم». قلت: جُعلتُ فداك، وما هذا الّذي وصفتَ ولم تسمِّه؟ قال: «زيارة جدّي الحسين علیه السلام ، فإنّه غريبٌ بأرض غربة، يبكيه مَن زاره، ويحزن له من لم يزره، ويحترق له مَن لم يشهده، ويرحمه مَن نظر إلى قبر ابنه عند رجلَيه في أرض فلاةٍ ولا حميم قُربه ولا قريب، ثمّ مُنع الحقّ، وتوازر عليه أهل الردّة حتّى قتلوه وضيّعوه، وعرضوه للسباع ومنعوه شرب ماء الفرات الّذي يشربه الكلاب، وضيّعوا حقّ رسول الله صلی الله علیه وآله ووصيّته به وبأهل بيته، فأمسى مجفوّاً في حفرته صريعاً بين قرابته وشيعته بين أطباق التراب، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه والمنزل الّذي لا يأتيه إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان وعرفه حقّنا».

فقلت له: جُعلتُ فداك، قد كنتُ آتيه، حتّى بُليتُ بالسلطان وفي حفظ أموالهم، وأنا عندهم مشهور، فتركت للتقيّة إتيانه، وأنا أعرف ما في

ص: 303


1- ([1]) مدينة المعاجز للبحراني: 4 / 192.

إتيانه من الخير.

فقال: «هل تدري ما فضل مَن أتاه وما له عندنا من جزيل الخير؟»، فقلت: لا. فقال: «أمّا الفضل فيباهيه ملائكة السماء، وأمّا ما له عندنا فالترحّم عليه كلّ صباحٍ ومساء، ولقد حدّثَني أبي أنّه لم يخلُ مكانه منذ قُتِل مِن مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة أو من الجنّ أو من الإنس أو من الوحش، وما مِن شيءٍ إلّا وهو يغبط زائره ويتمسّح به، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره».ثمّ قال: «بلغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ونساء يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمن بين قارئٍ يقرأ وقاصّ يقصّ ونادبٍ يندب وقائلٍ يقول المراثي»، فقلت له: نعم، جُعلتُ فداك، قد شهدتُ بعض ما تصف. فقال: «الحمد لله الّذي جعل في الناس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا مَن يطعن عليهم من قرابتنا أو غيرهم يهدرونهم ويقبّحون ما يصنعون» ((1)).

وفي كتاب (الإرشاد): لمّا ارتحل الإمام الحسين من قصر بني مقاتل، فقال عقبة بن سمعان: سِرْنا معه ساعة، فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة، ثمّ انتبه وهو يقول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين»، ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً، فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين علیه السلام على فرسٍ فقال:

ص: 304


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 74 ح 21، كامل الزيارات لابن قولويه: 324 الباب 108 ح 1.

ممَّ حمدتَ الله واسترجعت؟ فقال: «يا بُنيّ، إنّي خفقتُ خفقة، فعَنَّ لي فارسٌ على فرسٍ وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تصير إليهم. فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيَت إلينا». فقال له: يا أبت، لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحقّ؟ قال: «بلى، والّذي إليه مرجع العباد». قال: فإنّنا إذاً لا نبالي أن نموت محقّين. فقال له الحسين علیه السلام : «جزاك الله من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده» ((1)).قال الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخَب): رُوي أنّه لمّا قُتل العبّاس، تدافعت الرجال على أصحاب الحسين علیه السلام ، فلمّا نظر ذلك نادى: «يا قوم، أما مِن مجيرٍ يُجيرنا؟ أما مِن مغيثٍ يغيثنا؟ أما من طالب حقٍّ فينصرنا؟ أما من خائفٍ من النار فيذّب عنّا؟ أما من أحدٍ يأتينا بشربةٍ من الماء لهذا الطفل؛ فإنّه لا يطيق الظمأ؟»، فقام إليه ولده الأكبر ((2)).

وفي (البحار): وهو يومئذٍ ابن ثماني عشرة سنة، ويقال: ابن خمسٍ وعشرين سنة ((3)).

وفي (اللهوف): وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ((4)).

ص: 305


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 82، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 379، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 180.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 431 المجلس 9.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 359.
4- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 112.

وفي (البحار): كان أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسول الله، وكانوا إذا اشتاقوا إلى النبيّ نظروا إلى وجهه ((1)).

ولم یُعقّب، وکان يُكنّى: أبا الحسن، وأُمّه: ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي.

ورُوي أنّ معاوية قال: مَن أحقّ الناس بهذا الأمر؟ قالوا: أنت. قال: لا، أَولى الناس بهذا الأمر عليّ بن الحسين بن عليّ؛ جدُّه رسول الله، وفيه شجاعة بني هاشم، وسخاء بني أُميّة!!! وزهو ثقيف ((2)).

وكان أمير المؤمنين يحبّه حبّاً شديداً ويمدحه، وأنشأ شعراً فيمدحه.

وفي (الملهوف): فاستأذن أباه في القتال ((3)).

ورُوي أنّ النساء والحرم لمّا علموا وسمعن استئذان عليّ الأكبر، دُرنَ حوله كالحلقة، أُمّه وأخواته وعمّاته، وقلن له: ارحم غربتنا ولا تعجّل بالخروج إلى الميدان، فإنّنا لا طاقة لنا على فراقك.

فلمّا ألحّ المولى الأمير عليّ الأكبر على أبيه في طلب الإذن، أذن له الإمام المظلوم ((4)).

ص: 306


1- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 43.
2- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 45، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 55.
3- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 112.
4- ([2]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 336.

وفي (الملهوف): فأذن له، ثمّ نظر إليه نظر آيسٍ منه، وأرخى علیه السلام عينه وبكى ((1)).

وفي (البحار): ورفع الحسين سبّابته نحو السماء وقال: «اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك، كنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إلى وجهه، اللّهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقْهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدَوا علينا يقاتلوننا».

ثمّ صاح الحسين بعمر بن سعد: «ما لَك؟ قطع الله رحمك، ولا بارك الله لك في أمرك، وسلّط عليك مَن يذبحك بعدي على فراشك كما قطعتَ رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلی الله علیه وآله»، ثمّ رفع الحسين علیه السلام صوته وتلا: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَعَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ((2)).

ثمّ حمل عليّ بن الحسين على القوم وهو يقول:

أنا عليّ بن الحسين بن علي***مِن عُصبةٍ جدّ أبيهم النبي

و اللهِ لا يحكم فينا ابن الدعي***أطعنكم بالرمح حتّى ينثني

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي***ضربَ غلامٍ هاشميٍّ علوي

ص: 307


1- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 112.
2- ([1]) سورة آل عمران: 33 و34.

فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ الناس من كثرة مَن قتل منهم ((1)).

قال حميد بن مسلم: ما رأيتُ أشبه منه برسول الله ((2))، وقد حمل على القوم حملاتٍ عديدة في الميمنة والميسرة، وعجّل بروح الكثير من الأشرار إلى جهنّم وبئس القرار، حتّى ضجّ القوم من كثرة ما قتل منهم، كما في (البحار).

ورُوي أنّه قتل على عطشه مئةً وعشرين رجلاً، ثمّ رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة، فقال: يا أبه، العطش قد قتلني، وثقل الحديد أجهدني، فهل إلى شربةٍ من ماء سبيلٍ أتقوّى بها على الأعداء؟ فبكى الحسين علیه السلام (لهف قلبي على قلب الإمام، وقد ازداد غمّاً على غمومه في هذا الموقف) وقال: «يا بُنيّ، يعزّ على محمّدٍ وعلى عليّ بن أبي طالب وعلَيّ أن تدعوهم فلايجيبوك، وتستغيث بهم فلا يغيثوك» ((3)).

وعن حميد بن مسلم: فقال: يا أباه، أثقلني الحديد، وأخنقني العطش. فبكى الحسين علیه السلام وقال: «وا غوثاه! يا بُنيّ اصبر قليلاً، يسقيك جدّك شربةً لا ظمأ بعدها» ((4)).

ص: 308


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 42.
2- ([3]) لم نعثر عليه فيما توفّر لدينا من مصادر، وما قيمة شهادة هذا الوغد الدنيّ بعد شهادة سيّد شباب أهل الجنّة؟!
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 43.
4- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 329.

وفي (البحار): «يا بُنيّ، هاتِ لسانك»، فأخذ بلسانه فمصّه، ودفع إليه خاتمه وقال: «أمسِكْه في فيك، وارجع إلى قتال عدوّك، فإنّي أرجو أنّك لا تُمسي حتّى يسقيك جدُّك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً» ((1)).

وفي رواية: «فعُدْ، بارك الله فيك» ((2)).

فداءً لعينك الدامعة وقلبك المكلوم وآهاتك الملتهبة يا حسين يا مظلوم، وأنت تتجرّع كلّ هذه الغصص والأحزان والمصائب، وتفتّت كبدك وتحرق قلبك، لتكون شفيعاً لذنوب الشيعة.

اي تشنه لب غريب بي غسل وكفن***سر داده به راه عاصيان بر دشمن

اي كاش نمي شدي تو آن روز شهيد***ما را همه مي بود به دوزخ مسكن

وفي (الملهوف): فبكى الحسين علیه السلام وقال: «وا غوثاه يا بُنيّ، قاتِلْ قليلاً، فما أسرع ما تلقى جدَّك محمّداً صلی الله علیه وآله فيسقيك بكأسه الأَوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً». فرجعإلى موقف النزال، وقاتل أعظم القتال ((3)).

وفي (البحار): فرجع إلى القتال وهو يقول:

ص: 309


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 43.
2- ([4]) أسرار الشهادة للدربندي: 369.
3- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 113.

الحرب قد بانت لها الحقائق***وظهرت من بعدها مصادق

واللهِ ربِّ العرش لا نفارق***جموعَكم أو تغمد البوارق

فلم يزل حتّى قتل (ثمانين، وكان مجموع قتلاه) تمام المئتين ((1)).

وفي الإرشاد: فشدّ على الناس وهو يقول:

أنا عليّ بن الحسين بن علي***نحن وبيتِ الله أَولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي***أضرب بالسيف أُحامي

عن أبي ضرب غلام هاشمي قرشي

ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتّقون قتله، فبصُرَ به مُرّة بن منقذ العبديّ، فقال: علَيّ آثام العرب إنْ مرّ بي يفعل مثل ذلك إنْ لم أُثكِلْه أباه. فمرّ يشدّ على الناس كما مرّ في الأوّل، فاعترضه مُرّة بن منقذ فطعنه، فصُرع ((2)).

وفي (البحار): رُمي بسهمٍ فوقع في حلقه فخرقه، وأقبل يتقلّبفي دمه ((3)).

ثمّ ضربه منقذ بن مرّة العبديّ على مفرق رأسه ضربةً صرعَته، وضربه

ص: 310


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 43، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 360.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 106.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 45، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 116.

الناس بأسيافهم، ثمّ اعتنق فرسه، فصار طريق الفرس من بين ((1)) عسكر الأعداء فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً ((2)).

قال حميد بن مسلم: فخرّ عن ظهر جواده إلى الأرض، ثمّ استوى جالساً وهو ينادي: يا أباه! عليك منّي السلام ((3))، هذا جدّي محمّدُ المصطفى، وهذا جدّي عليُّ المرتضى، وهذه جدّتي فاطمةُ الزهراء، وهذه جدّتي خديجة، وهم إليك مشتاقون ((4)).

وفي (البحار): فلمّا بلغَت الروح التراقي قال رافعاً صوته: يا أبتاه! هذا جدّي رسولُ الله صلی الله علیه وآله قد سقاني بكأسه الأَوفى شربةً لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول: العجل العجل؛ فإنّ لك كأساً مذخورةً حتّى تشربها الساعة ((5)).

وفي (المنتخب): لمّا قُتل عليّ بن الحسين في طفّ كربلاء، أقبل عليه

ص: 311


1- ([2]) في (البحار): (فاحتمله الفرس إلى)، وعبارة المؤلّف أجمل وأكثر دقّةً ممّا ورد في المصادر التاريخيّة؛ إذ أنّ المولى الأمير كان يقاتل الأعداء، ومن الطبيعيّ أن يحتمله الفرس ليردّه إلى الخيمة فيمرّ بعسكر الأعداء، ولا ضرورة لاعتبار الفرس قد ضلّ الطريق وحمله إلى الأعداء، كيف والفرس العادي المدرَّب لا يفعل ذلك بصاحبه، فكيف بفرسٍ من أفراس النبيّ؟!
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.
3- ([4]) أسرار الشهادة للدربندي: 370.
4- ([5]) المنتخب للطريحي: 2 / 444، أسرار الشهادة للدربندي: 370.
5- ([6]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.

الحسين وعليه جبّة خزٍّ دكناء وعمامة موردة وقد أرخى لها غرّتين ((1)).

فأقبل الحسين وفرّق القوم عنه، وصاح بأعلى صوته، فتصارخن النساء، فقال لهنّ الحسين: «اسكتن؛ فإنّ البكاء أمامكنّ».

فأخذ رأس ولده ووضعه في حِجره، وجعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: «قتلوك يا بُنيّ!» ((2)).

وفي (الملهوف): فجاء الحسين علیه السلام حتّى وقف عليه، ووضع خدّه على خدّه، وقال: «قتل الله قوماً قتلوك، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول» ((3)).

وفي (الإرشاد): وانهملَت عيناه بالدموع، ثمّ قال: «على الدنيا بعدك العفاء» ((4)).

قال أبو مخنف: ثمّ قال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»، ثمّ قال: «يا ولدي، أمّا أنت فقد استرحتَ مِن همّ الدنيا وغمّها وشدائدها، وصرتَ إلى رَوحٍ وريحان، وقد بقيَ أبوك (لهما وغمّهما)، وما أسرع اللحوق بك» ((5)).

ص: 312


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 438 المجلس 9.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 432 المجلس 9.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 114.
4- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 106.
5- ([5]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 328.

لله قلبك يا أبا عبد الله! لله قلبك المغموم، وآهاتك الملتهبة،ودموعك الساكبة أيّها المظلوم، أيّ مصائبك أذكر لشيعتك؟ أُقسم بالله العظيم لو تصوّر الشيعة هذه الحالة، إذ الإمام المظلوم يضع رأس ولده المفضوخ وهو في ربيعه الثامن عشر في حِجره، وهو أشبه الناس برسول الله صلی الله علیه وآله، ويمسح الدم والتراب عنه، ويضع وجهه المنوَّر على وجه ولده المضرّج بالدماء، وهو يقول: «قتلوك يا بُنيّ!»، فلو كان قلب الشيعيّ من حجرٍ لَتفجّر دمعاً من سماع هذا الخبر، ولو لم تنهمل عيناك بالدموع من سماع هذا الخبر فإنّك لا تستطيع أن تحبس دموعك وأنت تسمع ما سأتلوه عليك من الخبر المفجِع الّذي رواه في (بحار الأنوار)، عن حميد بن مسلم قال:

فكأنّي أنظر إلى امرأةٍ خرجَت مسرعة، كأنّها الشمس الطالعة، تنادي بالويل والثبور، وتقول: يا حبيباه، يا ثمرة فؤاداه، يا نور عيناه! فسألتُ عنها، فقيل: هي زينب بنت عليّ علیه السلام. وجاءت وانكبّت عليه، فجاء الحسين فأخذ بيدها فردّها إلى الفسطاط ((1)).

ورُوي عن عمارة بن واقد أنّه قال: رأيتُ إمرأةً خرجَت من فسطاط الحسين علیه السلام ، كأنّها البدر الطالع، وهي تنادي: وا ولداه، وا قتيلاه، وا قلّة ناصراه، وا غريباه، وا مهجة قلباه! ليتني كنتُ قبل هذا اليوم عمياء، ليتني وُسّدتُ الثرى. وجاءت وانكبّت عليه، فجاء الحسين علیه السلام فأخذ بيدها،

ص: 313


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.

وستر وجهها بعبائه، وألقى عباءته عليها، فردّها الى الفسطاط ((1)).وأقبل علیه السلام بفتيانه وقال: «احملوا أخاكم»، فحملوه من مصرعه، فجاؤوا به حتّى وضعوه عند الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أَمامه ((2)).

روى الشيخ المفيد رحمه الله، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ قال: لمّا استُشهد عليّ بن الحسين علیهما السلام، رجع الحسين علیه السلام الى الخيمة باكي العين آيِساً من الحياة، فلمّا دنا من خيم النساء خرجَت اليه سكينة علیها السلام وقالت: يا أبة، ما لي أراك تنعى نفسك وتدير طرفك؟ أين أخي عليّ؟ فبكى الحسين علیه السلام وقال: «بُنيّة، قتلوه اللئام!». فلمّا سمعَت قتل أخيها صاحت بحرقة قلبها، وقالت: وا أخاه، وا مهجة قلباه، وا عليّاه! وأرادت أن تخرج من الخباء، فأخذها الحسين علیه السلام وقال: «يا بنتاه، اتّقي اللّهَ واستعملي الصبر». قالت: أبتاه، كيف تصبر مَن قُتِل أخوها وشُرّد أبوها؟ فقال الحسين علیه السلام: «إنّا للّه وإنّا اليه راجعون» ((3)).

حُكي أنّه جيء بالحكم بن الغنَويّ أيّام ولاية المختار، فأحضروه بين

ص: 314


1- ([2]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف: 90، تذكرة الشهداء للكاشاني: 267، أمواج البكاء: 117 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.
3- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 370، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 328، تذكرة الشهداء للكاشاني: 268، معالي السبطين للحائري: 378.

يدَي الأمير الناصع النسب والمقدار، فقال: ويلك يا ابن الزنا! أنت الّذي رميتَ عليّ الأكبر بسهمٍ فقتلتَه؟ فأنكر، فأمر به فطُرح أرضاً وشقّت خاصرته وأُخرج كبده وألقم منه، وقطّعوا يديه ورجليهوأحرقوه وهو حيّ.

ثمّ جاؤوا بناعم ((1)) بن مُرّة العبديّ إلى المختار، فبصق في وجهه وقال: أيّها الدعيّ، لمَ قتلتَ عليّ الأكبر؟ فقال: لم أقتله، وإنّما قتله أخي منقذ! قال الأمير: كأنّي لا أعلم أنّك وأخاك اختلفتما حتّى جرحك أخوك، ودخلتما على ابن زيادٍ تتنازعان كلٌّ يزعم أنّه قتله! ثمّ أمر فقطّعت قدماه وسُلخَت فروة رأسه، ثمّ أمر فقطّعت يداه ورجلاه وهو يصرخ، ثمّ طُعن في جنبه، واستخرج كبده وأحرقه بالنار وهو حيّ.

ثمّ جيء بمنقذ بن مرّة العبديّ، فأمر المختار أن تقرع طبول البشرى، وجعل الحضّار يلعنونه، ثمّ قال الأمير: ويلك يا ملعون! أنت الّذي قتلتَ ابن النبيّ وافتخرت بذلك؟! لماذا قتلتَ عليّ الأكبر؟ وأين عنك ابن زياد الرجس النجس؟ يا ملعون! كيف كنت تسبّ أهل البيت وتؤذيهم بالكلام وتضحك وتستهزئ؟ فقال منقذ: أيّها الأمير، لم أكن وحدي، بل كان معي ألف فارس! قال المختار: صدقت، لعنك الله، لو لم يكن معك ألف فارسٍ لما أستطعتَ قتله. ثمّ أمر فطُرح على الأرض، وأجرى الخيل عليه تسحقه بحوافرها وتدوسه بسنابكها، وطُعن بالرماح وضرب بالسيوف حتّى قطعوه

ص: 315


1- ([1]) في نسخة: (عمر).

إرباً إرباً.

وفي رواية: كان ذلك مع ابن منقذ ((1)).

شهادة عبد الله بن مسلم بن عقيل

ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعد يُقال له: عمرو بن صبيح عبدَ الله بن مسلم بن عقيل رحمه الله بسهم، فوضع عبد الله يده على جبهته يتّقيه، فأصاب السهم كفّه ونفذ إلى جبهته فسمّرها به فلم يستطع تحريكها، ثمّ انتحى عليه آخَر برمحه فطعنه في قلبه فقتله ((2)).

حُكي أنّه جيء بزياد بن قادر قاتل عبد الله بن مسلم إلى المختار، فقال له: يا ملعون، بأيّ قتلةٍ قتلتَ عبد الله؟ أخبِرْني كي أقتلك مثلها! قال: رميتُه بسهم في عينه فخرج من قفاه، وخرّ صريعاً، فلمّا حززتُ رأسه عرفت أنّه عبد الله بن مسلم. فأمر به فصُلب، ورُمي بسهمٍ في عينه حتّى خرج من قفاه، ثمّ نصبه للسهام غرضاً، فرُمي أكثر من ألف سهم، ثمّ أُحرق

ص: 316


1- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 188، 190، 199.
2- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 107، إعلام الورى للطبرسي: 241، مثير الأحزان لابن نما: 67، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 44.

بالنار، والحمد لله ((1)).

* * * * *

ثمّ خرج غلامٌ (وبيده عمود) من تلك الأبنية، وفي أُذنيه درّتان، وهو مذعور، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وقرطاه يتذبذبان، فحمل عليه هانئ بن ثبيت ((2)) (لعنه الله) فقتله، فصارت شهربانو تنظر إليه ولاتتكلّم كالمدهوشة ((3)).

اين انتقام گر نفتادي به روز حشر***با اين عمل معاملة دهر چون شدي

* * * * *

ثمّ التفت الحسين عن يمينه فلم يرَ أحداً من الرجال، والتفت عن يساره فلم ير أحداً ((4)).

رُوي أنّ الإمام نادى لإتمام الحجّة: «هل من راحمٍ يرحم آل الرسول المختار؟ هل من ناصرٍ ينصر الذريّة الأطهار؟ هل من مُجيرٍ لأبناء البتول؟ هل من ذابٍّ يذبّ

ص: 317


1- ([2]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 200.
2- ([3]) في المتن: (بعيث).
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 45.
4- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 45.

عن حرم الرسول؟ ((1)) هل من موحّدٍ يخاف الله فينا، هل من مغيثٍ يرجو الله بإغاثتنا؟ هل من معينٍ يرجو ما عند الله في إعانتنا؟»، فارتفعَت أصوات النساء بالعويل ((2)).

وفي (البحار): فخرج عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام ، وكان مريضاً لا يقدر أن يُقِلّ سيفه، وأُمّ كلثوم تنادي خلفه: يا بُنيّ ارجع! فقال: «يا عمّتاه، ذريني أُقاتل بين يدَي ابن رسول الله». فقال الحسين علیه السلام : «يا أُمّ كلثوم، خُذيه لئلّا تبقى الأرض خاليةٌ من نسل آل محمّد صلی الله علیه وآله».

ولمّا فُجع الحسين بأهل بيته ووُلده، ولم يبقَ غيره وغير النساءوالذراري، نادى: «هل من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو الله في إغاثتنا؟». وارتفعَت أصوات النساء بالعويل، فتقدّم علیه السلام إلى باب الخيمة ((3)).

وفي (الملهوف): فتقدّم إلى الخيمة وقال لزينب: «ناوليني ولدي الصغير حتّى أُودّعه» ((4)).

وفي (الإرشاد): فأُتيَ بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل، فأجلسه في

ص: 318


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 388.
2- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 116.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 46.
4- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 115.

حِجره ((1)).

قال أبو مخنف: وكان له من العمر ستّة أشهر ((2)).

وفي (البحار): فجعل يقبّله وهو يقول: «ويلٌ لهؤلاء القوم إذا كان جدّك محمّد المصطفى خصمهم» ((3)).

ورُوي أنّ السيّدة زينب قالت له: إنّ هذا الطفل له ثلاثة أيّام ما شرب الماء، فاطلب له شربةً من الماء. فأخذ الطفل وتوجّه نحو القوم، وقال: «يا قوم، قد قتلتُم أخي وأولادي وأنصاري، وقد نقضتم بيعتي، فاتركوني حتّى أرجع الى حرم جدّي، فاسقوني شربةً من الماء، فما بقيَ غيرُ النساء وهذا الطفل، وليس يهم مَن يقاتلكم، ويلكم! اسقوا هذا الرضيع، أما ترونه كيف يتلظّىعطشاً من غير ذنبٍ أتاه اليكم؟» ((4)).

وفي (الملهوف): فبينا هو يكلّمهم، فرماه حرملة بن الكاهل الأسديّ (لعنه الله تعالى) بسهمٍ فوقع في نحره فذبحه، فقال لزينب: «خُذيه». (ثمّ استخرج السهم من نحره)، ثمّ تلقّى الدم بكفَّيه، فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء، ثمّ قال: «هوّنَ علَيّ ما نزل بي أنّه بعين الله».

ص: 319


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 108.
2- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 83.
3- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 46.
4- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي: 499، مقتل الحسين؟ع؟ لأبي مخنف (المشهور): 83.

قال الباقر علیه السلام : «فلم يسقط من ذلك الدم قطرةٌ إلى الأرض» ((1)).

ثمّ تلقّى الدم بكفَّيه مرّةً ثانية، ورفع طرفه إلى السماء وقال: «صبراً على البلاء»، ثمّ رفع طرفه إلى السماء وقال: «اللّهمّ إنّك ترى ما يُصنَع بنا، وما نتحمّله من بلاءٍ في هذه الدنيا، اللّهمّ فاجعله ذخيرةً لنا في آخرتنا» ((2)).

قال أبو مخنف: ثمّ قال: «اللّهمّ إنّي أُشهدك على هؤلاء القوم، فإنّهم نذروا أن لا يتركوا أحداً من ذريّة نبيّك» ((3)).

اين انتقام گر نفتادي به روز حشر***با اين عمل معاملة دهر چون شدي

وفي (المنتخب): فجعل أبوه الحسين علیه السلام يلقي الدم من نحره ويرمي به إلى السماء، فلا يسقط منه قطرة، وهو مع ذلك يبديالشكاية إلى الله (تعالى) ويبكي ويقول: «قتل الله قوماً قتلوك يا بُنيّ، ما أجرأهم على انتهاك حُرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا» ((4)).

وفي (البحار): ثمّ قال: «لا يكون أهون عليك من فصيل، اللّهمّ إنْ كنتَ

ص: 320


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 117.
2- ([3]) مهيج الأحزان لليزدي: 500.
3- ([4]) المقتل لأبي مخنف (المشهور): 83.
4- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 38 المجلس 2.

حبستَ عنّا النصر، فاجعل ذلك لِما هو خيرٌ لنا» ((1)).

وفي (الإرشاد): فتلقّى الحسين علیه السلام دمه، فلمّا ملأ كفّه صبّه في الأرض، ثمّ قال: «ربِّ إن تكن حبستَ عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لِما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين». ثمّ حمله حتّى وضعه مع قتلى أهله ((2)).

وفي (التبر المذاب): فجعل الحسين يبكي ويقول: «اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا، فقتلونا». فنُودي من الهوا: دَعْه يا حسين؛ فإنّ له مرضعاً في الجنّة ((3)).

قال حميد بن مسلم: كنتُ في معسكر ابن زياد، فرأيتُ الطفل مذبوحاً على يدَي سيّد الشهداء علیه السلام ، ورأيتُ إمرأةً خرجَت من خيمة النساء غطّى نورها شعاع الشمس، تجرّ أذيالها، تقوم مرّةً وتقع أُخرى، وهي تنادي: وا ولداه، وا قتيلاه، وا مهجة قلباه! فجاءت حتّى ألقت بنفسها على الطفل، وخرج معها من الخيمة عدّةٌ منالبنات حتّى ألقين بأنفسهنّ على الطفل، وكان الحسين علیه السلام يكلّم القوم، فلمّا سمع أصواتهنّ رجع الى تلك السيّدة فوعظها وصبّرها وسلّاها وأرجعها الى الخيمة، فسألتُ عنها، فقيل لي: هذه

ص: 321


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 47.
2- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 108.
3- ([4]) تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 144، نفَس المهموم للقمّي: 350.

أُمّ كلثوم، وسألتُ عن البنات معها، فقيل: فاطمة وسكينة ورقيّة ((1)).

ونزل عن فرسه، وحفر للصبيّ بجفن سيفه، ورمّله بدمه ودفنه ((2)).

قال المؤلّف: قوله مخاطباً ربّ العزّة والكبرياء: «لا يكون أهون عليك من فصيل»، إشارة إلى أنّه ناقة الله وابنه فصيلها، وقد أوصى رسول الله أن يحسنوا إلى الناقة ولا يمنعوها الماء، تماماً كما فعل النبيّ صالح حينما أوصى أُمّته، قال الله (تعالى) في سورة الشمس: «فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا» ((3))، فكذلك كذّبت هذه الأُمّة نبيّها وجفَت ناقة الله الأوّل ((4))، وقد قال النبيّ في قاتله: «أشقى الأوّلين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود» ((5)).

وناقة الله الثاني: الإمام الحسن علیه السلام ، قتلوه بالسم جفاءً.

وناقة الله الثالث: الإمام الحسين علیه السلام ، رموه بالسهام وضربوه بالسيوف حتّى صُرع إلى الأرض، والحال أنّ هذه الناقة لمتضرّهم أيّ ضرر، بل على

ص: 322


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 402 _ عن: مهيّج الأحزان لليزدي.
2- ([2]) الاحتجاج للطبرسي: 2 / 301، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 49، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 26.
3- ([3]) سورة الشمس: 13 و14.
4- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 24 / 72 الباب 30 ح 6.
5- ([5]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 190 الباب 126 ح 1.

العكس كان فيها لهم أعظم المنافع للدين والدنيا، وسنذكر كلاماً في ذلك أكثر تفصيلاً فيما يلي من تذنيبات.

أمّا وجه دفن سيّد الشهداء (ناقة الله) لابنه عليّ الأصغر (فصيل الناقة) دون سائر الشهداء، فربّما كان سببه أنّ هذا الطفل المظلوم لم يملك حولاً ولا قوّةً ولا طولاً للدفاع عن نفسه بأيّ نوعٍ من أنواع الدفاع حتّى لو كان باللسان، بخلاف سائر الشهداء، فإنّهم دافعوا عن أنفسهم في الجملة ولو باللسان، فردّوا كلام الظالمين الركيك بكلامٍ قويّ رصين غليظ، ولا شكّ أنّ مَن كان حاله كحال هذا الطفل لا يدفع عن نفسه ضرّاً ولا يجلب لنفسه نفعاً، فيقع عليه مثل هذا الظلم يكون محلّاً للشفقة والعطف والرحمة أكثر، كما يكون ظالمه محلّاً لسخط الله القويّ القهّار وغضبه وانتقامه أكثر.

فالظالمون قد استحقّوا النقمة والعذاب لِما فعلوه بعليّ الأصغر، بحيث لو كان هذا الظلم قد وقع في الأُمم السابقة لَأخذهم الغضب الإلهيّ القهّار فوراً، ولَنزل عليهم العذاب عاجلاً، بيد أنّ هذه الأُمّة مرحومةٌ بسبب تحمّل النبيّ وأوصيائه للمشاقّ والمكاره باختيارهم، لذا لم ينزل العذاب الفوري.

بيد أنّ غضب القهر الإلهيّ كاد يتفجّر على أُولئك الظالمين الّذي ارتكبوا الجناية في حقّ هذا الصغير الرضيع، بحيث لو كانوا قد ارتكبوا أيّ جريمةٍ أُخرى في حقّه لَنزل عليهم العذاب بغتة، والإمام المظلوم يعلم أنّ أُولئك الظلَمة المجرمين سيُجرون الخيل فيما بعد على سائر أجساد الشهداء الطاهرة، وهذا الفعل وإن كان شنيعاً في حقّ الجميع، بيد أنّه كان أعظم

ص: 323

شناعةً في حقّ هذا الطفل الرضيع الّذي لا يطيق الدفاع عن نفسه بأيّ نوعٍ من أنواع الدفاع، وهو محلٌّ للعطف والرحمة في جميع الأديان وعند جميع البشر، ولمّا كان الإمام مظهراً لرحمة الله الواسعة على العالمين، ترحّم على هذه الأُمّة المتعوسة فدفن بدن رضيعه المرمّل بالدماء، لئلّا يرتكب الجناة هذه الجريمة فلا يمهلهم الغضب الإلهيّ ويسحتهم فوراً بعذابٍ سحيق.

أمّا سحق بدن الإمام بالخيل فإنّه أشدّ وأعظم من الجميع، بَيد أنّ الغضب والسخط يقابله اللطف والرحمة عند الإمام، والقاعدة المطّردة تتلخّص في قوله: «يا مَن سبقت رحمتُه غضبَه» ((1)).

وخلاصة الكلام: إنّ ظلم هذا الطفل الرضيع أفضع من ظلم سائر الشهداء الآخَرين، ومنشأٌ لتفجّر بحار غضب القهر الإلهيّ، فلو أنّهم ارتكبوا الجناية وأجرَوا الخيل على الأبدان المقدّسة فطحنوا عظام الرضيع وهشّموا أضلاعه وفرموا لحمه بسنابك الخيل، وهو طفلٌ لا يطيق الدفع عن نفسه لا باليد ولا باللسان، وهو يختلف عن سائر الشهداء الّذين دافعوا عن أنفسهم باللسان فصدّوا هجوم القوم، بل دافعوا عن أنفسهم بالسيف والسنان وعجّلوا بأرواح الكثيرين إلى جهنّم.

فربّما كان هذا سبباً في تعجيل العقوبة لهم وشمولهم باشتعال نار القهر

ص: 324


1- ([1]) المزار للمفيد: 161 دعاء يوم عرفة، المزار لابن المشهدي: 454، إقبال الأعمال لابن طاووس: 2 / 108، بحار الأنوار: 91 / 239.

الجبّاريّ القهّاريّ، لأنّ تحقّق هذه الظليمة في هذا الطفل الرضيع سبط النبيّ أعظم مِن تحقّقها في أُولئك المظلومين الّذين يستطيعونالدفاع عن أنفسهم في الجملة ولو بالكلام، وقد خصّ سيّد الشهداء هذه المصيبة بالذكر من بين المصائب العِظام الأُخرى في وصيّته حين قال:

«شيعتي، ما إن شربتُم***ماء عذبٍ فاذكروني

أو سمعتم بغريبٍ***أو شهيدٍ فاندنوبي

وأنا السبط الّذي مِن***غير جُرمٍ قتلوني

وبجرد الخيل بعد ال-***-قتل عمداً سحقوني»

ثمّ إنّه اقتصر في مقام ذكر الظليمة وما ارتكبه الأعداء الظلَمة في حقّه وحقّ أنصاره وأهل بيته على ذِكر ظليمة الطفل الرضيع عليّ الأصغر بالخصوص، فقال:

«ليتكم في يوم عا***شورا جميعاً تنظروني

كيف أستسقي لطفلي***فأبَوا أن يرحموني

وسقَوه سهمَ بغيٍ***عِوَض الماء المعينِ

يا لَرزءٍ ومصابٍ***هدّ أركان الحجونِ

ويلهم قد جرحوا قل-***-ب رسول الثقلينِ

فالعنوهم ما استطعتم***شيعتي في كلّ حينِ» ((1))

ص: 325


1- ([1]) أُنظُر: الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 375.

ويُحتمَل أن تكون علّة دفن عليّ الأصغر من دون سائر الشهداء أنّ الإمام كان عالماً أنّ أبدان الشهداء ستبقى بلا دفنٍ عدّة أيّام، وقدبقيَ بعضهم عشرة أيّامٍ على الصعيد قبل أن يُدفَن ((1))، وانكشاف الأبدان المقدّسة لعيون الناظرين سيّما بدن هذا الرضيع البريء يكون مدعاةً للسخط والقهر الإلهيّ أكثر ممّا لو كانت محجوبةً عنها أعين النظّار، لهذا دفن الإمام بدن الرضيع المضرّج بالدماء لئلّا يكون عرضةً لأعين الناظرين.

ويحتمل أن يكون سبب دفنه أنّ الإمام كان يعلم أنّ رؤوس الشهداء ستُفصَل عن أبدانهم وتُرفَع على الرماح يُطاف بها في البلدان، فإذا رفعوا رأس هذا الطفل الرضيع (ستّة أشهر) من بلدٍ إلى بلدٍ وشاهده الفجّار والأخيار والعبيد والأحرار من أُمّة النبيّ المختار وسائر فرق الكفّار، وهم جميعاً يرون رأس رضيعٍ بريءٍ لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً ولا يمكنه القتال، وهو محصَّنٌ بالعصمة والطفولة والبراءة، فإنّ ذلك يؤدّي إلى الحنق والغيظ عند الناظر، ويؤدّي إلى زيادة فضائح هذه الأُمّة والارتداد وتشدّد الكفّار بالعناد، واشتداد غضب الله القهّار الجبّار على ما فعله الأنذال الفجّار، فشملهم الإمام الحسين علیه السلام برحمته الواسعة، فدفن الياقوتة الحمراء، ولم يترك ذلك البدن المضرَّج بالدماء عرضةً لفعلة أُولئك الأجلاف الحقراء.

ص: 326


1- ([1]) أُنظُر: مثير الأحزان لابن نما: 1 / 105، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 23.

ويُحتمَل أن يكون سبب دفنه أنّ بدنه لطيف وجثّته صغيرة، وهو طفلٌ صغير، فإذا تردّد القوم في ساحة المعركة وهبّت الرياح وهاج العسكر، وأجروا على الأبدان الطاهرة الخيل، فإنّ بدنه المقدّس سرعان ما يتناثر ويُمحى أثره، فدفنه الإمام المظلوم حفاظاً عليه.ويُحتمَل أن يكون سبب دفنه شفقة الإمام على أُمّه الرباب وشقيقته سكينة وباقي النساء، وكان الإمام يحبّهما حبّاً شديداً، وقد ذكرنا فيما مضى أنّ الإمام حينما جاء بالطفل خرجت النسوة من الخيمة ومعهنّ الرباب وسكينة، وألقين بأنفسهنّ عليه وبكين بكاءً شديداً وارتفع منهنّ العويل، فأشفق الإمام عليهنّ ورحمهنّ، فدفنه لئلّا يبقى بين أيديهن فيُهلِكن أنفسهنّ في مصابه والبكاء عليه، سيّما إذا عرفنا أنّ محبّة الأُمّ لطفلها الرضيع ورقّتها عليه تكون أشدّ من سائر أولادها، وكلّما كان عجز الولد أكثر يشتدّ حبّ والديه وإخوته وأخواته له ويتأثّرون بما يصيبه من ظلمٍ أكثر، ويشهد لذلك سؤال الإمام زين العابدين علیه السلام من المنهال عن حرملة بن كاهل قاتل الطفل الرضيع دون غيره من قتَلَة الشهداء ودعاؤه عليه.

روى الشيخ الطوسيّ، عن المنهال بن عمرو قال: دخلتُ على عليّ بن الحسين منصرفي من مكّة، فقال لي: «يا منهال، ما صنع حرملة بن كاهل الأسديّ؟»، فقلت: تركتُه حيّاً بالكوفة. قال: فرفع يديه جميعاً ثمّ قال علیه السلام : «اللّهمّ أذِقْه حرّ الحديد، اللّهمّ أذِقْه حرّ الحديد، اللّهمّ أذِقْه حرّ النار».

قال المنهال: فقدمتُ الكوفة، وقد ظهر المختار بن أبي عُبيدة الثقفيّ،

ص: 327

وكان لي صديقاً، فكنتُ في منزلي أيّاماً حتّى انقطع الناس عنّي، وركبتُ إليه فلقيتُه خارجاً من داره، فقال: يا منهال، لم تأتِنا في ولايتنا هذه، ولم تهنّئنا بها، ولم تشركنا فيها! فأعلمتُه أنّي كنتُ بمكّة، وأنّي قد جئتك الآن. وسايرته ونحن نتحدّث، حتّى أتى الكناس فوقف وقوفاً كأنّه ينظر شيئاً، وقد كان أُخبر بمكان حرملة بن كاهل فوجّه في طلبه، فلم يلبث أن جاء قومٌ يركضون وقومٌ يشتدّون، حتّى قالوا:أيّها الأمير البشارة! قد أُخذ حرملة بن كاهل. فما لبثنا أن جيء به، فلمّا نظر إليه المختار قال لحرملة: الحمد لله الّذي مكّنني منك. ثمّ قال: الجزّار، الجزّار! فأُتيَ بجزّار، فقال له: اقطع يديه. فقُطِعتا، ثمّ قال له: اقطع رجلَيه. فقُطعتا، ثمّ قال: النار، النار! فأُتيَ بنارٍ وقصب فأُلقي عليه، فاشتعل فيه النار، فقلت: سبحان الله! فقال لي: يا منهال، إنّ التسبيح لَ-حَسن، ففيمَ سبّحت؟ فقلت: أيّها الأمير، دخلتُ في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على عليّ بن الحسين علیه السلام ، فقال لي: «يا منهال، ما فعل حرملة بن كاهل الأسديّ؟»، فقلت: تركتُه حيّاً بالكوفة. فرفع يديه جميعاً فقال: «اللّهمّ أذِقْه حرّ الحديد، اللّهمّ أذقه حرّ الحديد، اللّهمّ أذقه حرّ النار». فقال لي المختار: أسمعت عليّ بن الحسين علیه السلام يقول هذا؟ فقلت: [و]اللهِ لقد سمعتُه يقول هذا. قال: فنزل عن دابّته، وصلّى ركعتين فأطال السجود، ثمّ قام فركب، وقد احترق حرملة، وركبتُ معه وسرنا، فحاذيتُ داري، فقلت: أيّها الأمير، إنْ رأيتَ أن تشرّفني وتكرمني وتنزل عندي وتحرم بطعامي. فقال: يا منهال، تُعلمني أنّ عليّ بن الحسين دعا بأربع دعواتٍ

ص: 328

فأجابه الله على يدَيّ، ثمّ تأمرني أن آكل؟! هذا يوم صومٍ شكراً لله عزوجل على ما فعلتُه بتوفيقه ((1)).

* * * * *

لمّا كان ذِكر مصيبة الطفل الرضيع أشدّ المصائب وأكثرها حرقةً وغمّاً وإثارةً للزفرة الملتهبة، وقد رويَت بنحوٍ آخَر، فلا بأسبذكرها هنا حسب الرواية الأُخرى، لتجري دموع الشيعة كقطرات المطر المدرار.

قال الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخَب):

رُويَ أنّه لمّا قُتل العبّاس تدافعَت الرجال على أصحاب الحسين علیه السلام ، فلمّا نظر ذلك نادى: «يا قوم، أما مِن مجيرٍ يجيرنا؟ أما مِن مغيثٍ يغيثنا؟ أما مِن طالب حقٍّ فينصرنا؟ أما من خائفٍ من النار فيذبّ عنّا؟ أما من أحدٍ يأتينا بشربةٍ من الماء لهذا الطفل؛ فإنّه لا يطيق الظمأ؟».

فقام إليه ولده الأكبر -- وكان له من العمر سبعة عشر سنة -- فقال: أنا آتيك بالماء يا سيّدي. فقال: امضِ، بارك الله فيك.

قال: فأخذ الركوة بيده، ثمّ اقتحم الشريعة وملأ الركوة، وأقبل بها نحو أبيه، فقال: يا أبة، الماء لِمَن طلب، اسقِ أخي، وإن بقيَ شيءٌ فصُبّه علَيّ، فإنّي والله عطشان. فبكى الحسين ((2)).

ص: 329


1- ([1]) الأمالي للطوسي: 238 ح 15، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 332 الباب 49 ح 1.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 431 المجلس 9.

حُكي أنّهم جاؤوا بهاني بن بعيث ((1)) إلى المختار، فقال له: يا لعين، ألستَ الّذي رمى طفلاً رضيعاً حمله الإمام الحسين وهو يستسقي الماء له، فرميتَه بسهمٍ فذبحتَه من الأُذن إلى الأُذن؟ فقال: لا والله.

ثمّ أمر المختار الجلّاد فضربه بمسمارٍ في أُذنه حتّى خرج من الأُذن الأُخرى، ثمّ قُطعت يداه وهو حيٌّ فنزف، حتّى أُقحم في جهنّم وبئس المصير، ولله الحمد ((2)).

ص: 330


1- ([2]) يذكر المؤلّف حسب المتابعة (هاني بن ثُبيت) باسم (هاني بن بعيث).
2- ([3]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 239.

المجلس التاسع: في بيان جهاد سيّد الشهداء (روحي فداه) وقتل عبد الله بن الحسين وعبد الله بن الحسن

اشارة

في كتاب (التهذيب): عن الإمام محمّد الباقر علیه السلام: «يخرج القائم علیه السلام يوم السبت يوم عاشوراء، اليوم الّذي قُتِل فيه الحسين» ((1)).

وعن جعفر بن محمّد علیه السلام قال: «كان رسول الله صلی الله علیه وآله كثيراً ما يتفل يوم عاشوراء في أفواه أطفال المراضع من وُلد فاطمة علیها السلام من ريقه، ويقول: لا تُطعِموهم شيئاً إلى الليل. وكانوا يروون من ريق رسول الله صلیالله علیه وآله». قال: «وكانت الوحش

ص: 331


1- ([1]) تهذيب الأحكام للطوسي: 4 / 333 ح 112، الخرائج والجرائح للراوندي: 3 / 1159، كمال الدين للصدوق: 2 / 653.

تصوم يوم عاشوراء على عهد داوود علیه السلام » ((1)).

و في حديث مناجاة موسى علیه السلام وقد قال: يا ربّ، لمَ فضّلتَ أُمّة محمّدٍ صلی الله علیه وآله على سائر الأُمم؟ فقال الله (تعالى): «فضّلتُهم لعشر خصال». قال موسى: وما تلك الخصال الّتي يعملونها حتّى آمر بني إسرائيل يعملونها؟ قال الله (تعالى): «الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والجهاد، والجمعة، والجماعة، والقرآن، والعلم، والعاشوراء». قال موسى: يا ربّ، وما العاشوراء؟ قال: «البكاء والتباكي على سبط محمّدٍ صلی الله علیه وآله والمرثيّة والعزاء على مصيبة ولد المصطفى. يا موسى، ما مِن عبدٍ من عبيدي في ذلك الزمان بكى أو تباكى وتعزّى على ولد المصطفى، إلّا وكانت له الجنّة ثابتاً فيها، وما مِن عبدٍ أنفق من ماله في محبّة ابن بنت نبيّه طعاماً وغير ذلك درهماً أو ديناراً، إلّا وباركتُ له في دار الدنيا الدرهم بسبعين، وكان معافاً في الجنّة، وغفرتُ له ذنوبه. وعزّتي وجلالي، ما مِن رجلٍ أو امرأةٍ سال دمع عينيه في يوم عاشوراء وغيره قطرةً واحدة، إلّا وكتبتُ له أجر مئة شهيد» ((2)).

وعن الإمام جعفر الصادق علیه السلام: «إذا كان يوم العاشر من المُحرّم تنزل الملائكة من السماء، ومع كلّ ملَكٍ منهم قارورةٌ من البلّور الأبيض، ويدورون في كلّ بيتٍ ومجلس؛ يبكون فيه على الحسين علیه السلام ، فيجمعون دموعهم في تلك

ص: 332


1- ([1]) تهذيب الأحكام: 4 / 333 ح 113.
2- ([2]) مجمع البحرين للطريحي: 3 / 405.

القوارير، فإذا كان يوم القيامة فتلتهب نار جهنّم، فيضربون من تلك الدموع على النار فتهرب النار عن الباكي على الحسين مسيرة ستّين ((1)) ألف فرسخ» ((2)).

ونقل الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخَب) قال: إنّ الحسين علیه السلام لمّا كان في موقف كربلاء، أتَتْه أفواجٌ من الجنّ الطيّارة وقالوا له: نحن أنصارك، فمرنا بما تشاء، فلو أمرتَنا بقتل عدوٍّ لكم لَفعلنا. فجزّاهم خيراً، وقال لهم: «إنّي لا أُخالف قول جدّي رسول الله حيث أمرني بالقدوم عليه عاجلاً، وإنّي الآن قد رقدت ساعةً فرأيتُ جدّي رسول الله قد ضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عينَيّ، وقال لي: يا حسين، إنّ الله عزوجل شاء أن يراك مقتولاً ملطَّخاً بدمائك مخضّباً شيبتك بدمائك مذبوحاً من قفاك، وقد شاء الله أن يرى حرمك سبايا على أقتاب المطايا. وإنّي واللهِ سأصبر، حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين» ((3)).

وروى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن الشيخ المفيد، بإسناده إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّدٍ الصادق علیه السلام قال: «لمّا سار أبو عبد الله الحسين بن عليّ علیه السلام من مكّة ليدخل المدينة، لقيه أفواجٌ من الملائكة المسوّمين والمردفين، في أيديهم الحِراب، على نُ-جَبٍ من نُ-جَب الجنّة، فسلّموا عليه وقالوا: يا حُجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه، إنّ الله عزوجل أمدّ جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله بنا في مواطن كثيرة، وإنّ الله أمدّك بنا. فقال لهم: الموعد حفرتي وبقعتي الّتي أُستَشهد

ص: 333


1- ([1]) في المتن: (ستّمئة ألف).
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 449 المجلس 10.
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 450 المجلس 10.

فيها، وهي كربلاء، فإذا وردتُها فأْتوني. فقالوا: يا حجّة الله، إنّ الله أمرنا أن نسمع لك ونطيع، فهل تخشى مِن عدوٍّ يلقاك فنكون معك؟ فقال: لا سبيل لهم علَيّ ولا يلقوني بكريهةٍ أو أصل إلى بقعتي.

وأتَتْه أفواجٌ من مؤمني الجنّ فقالوا له: يا مولانا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا بما تشاء، فلو أمرتَنا بقتل كلّ عدوٍّ لك وأنت بمكانك لَكفيناك ذلك. فجزّاهم خيراً وقال لهم: أما قرأتم كتاب الله المنزَل على جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله في قوله: «قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ» ((1))، فإذا أقمتُ في مكاني فبما يُمتحَن هذا الخلق المتعوس وبماذا يُختبَرون؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي وقد اختارها الله (تعالى) يوم دحى الأرض وجعلها معقلاً لشيعتنا ومحبّينا، تقبل أعمالهم وصلواتهم ويجاب دعاؤهم، وتسكن شيعتنا فتكون لهم أماناً في الدنيا وفي الآخرة، ولكن تحضرون يوم السبت، وهو يوم عاشوراء -- وفي غير هذه الرواية: يوم الجمعة -- الّذي في آخره أُقتَل ولا يبقى بعدي مطلوبٌ من أهلي ونسبي وإخواني وأهل بيتي، ويُسار رأسي إلى يزيد بن معاوية (لعنهما الله). فقالت الجنّ: نحن واللهِ -- يا حبيب الله وابن حبيبه -- لو لا أنّ أمرك طاعة وأنّه لا يجوز لنا مخالفتك لخالفناك، وقتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك. فقال لهم علیه السلام: ونحن واللهِ أقدر عليهم منكم، ولكن ليهلك مَن هلك عن بيّنةٍ ويحيى من حَيّ عن بيّنة» ((2)).

ص: 334


1- ([1]) سورة آل عمران: 154.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 66، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 330.

وروى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن مولانا الصادق علیه السلام أنّه قال: «سمعتُ أبي يقول: لمّا التقى الحسين؟ع؟ وعمر بن سعد (لعنه الله) وقامت الحرب، أنزل الله (تعالى) النصر حتّى رفرف على رأس الحسين علیهالسلام ، ثمّ خُيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله، فاختار لقاء الله» ((1)).

وروى الشيخ الصدوق، عن أبي جعفرٍ الثاني، عن آبائه علیهم السلام، قال: «قال عليّ بن الحسين علیه السلام: لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن عليّ بن أبي طالب، نظر إليه مَن كان معه فإذا هو بخلافهم، لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرَت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم، وكان الحسين علیه السلام وبعض مَن معه من خصائصه تشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا، لا يُبالي بالموت! فقال لهم الحسين علیه السلام : صبراً بني الكرام، فما الموت إلّا قنطرةٌ تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجنٍ إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلّا كمَن ينتقل من قصرٍ إلى سجنٍ وعذاب، إنّ أبي حدّثني عن رسول الله صلی الله علیه وآله: أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم. ما كذبت ولا كذبت» ((2)).

فداءً لصدق كلامك، وهموم قلبك وآهاتك الملتهبة، وعيونك الدامعة، يا حسين يا مظلوم!

ص: 335


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 101، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 12.
2- ([2]) معاني الأخبار للصدوق: 288، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 297 الباب 35 ح 2.

وعن الحسين بن خارجة، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: كنّا عنده فذكرنا الحسين بن عليّ (عليه السلام، وعلى قاتله لعنة الله)، فبكى أبو عبد الله علیه السلام وبكينا. قال: ثمّ رفع رأسه فقال:«قال الحسين بن علي علیه السلام: أنا قتيل العَبرة، لا يذكرني مؤمنٌ إلّا بكى» ((1)).

أيّها الإخوة المؤمنون، لا تظنّوا أنّ البكاء على الإمام المظلوم خاصٌّ بكم، فقد بكى الملائكة المقرّبون على مصيبته دائماً وأقاموا مأتمه، وقد أقام آدم مأتمه في الجنّة.

وروى ابن قولويه عن الصادق علیه السلام قال: «قال عليٌّ للحسين: يا أبا عبد الله، أُسوةٌ أنت قدماً. فقال: جُعلتُ فداك، ما حالي؟ قال: علمتَ ما جهلوا، وسينتفع عالمٌ بما علم، يا بُنيّ اسمع وأبصر من قبل أن يأتيك، فوَالّذي نفسي بيده لَيسفكنّ بنو أُميّة دمك، ثمّ لا يريدونك عن دينك ولا ينسونك ذكر ربّك. فقال الحسين علیه السلام: والّذي نفسي بيده حسبي، وأقررتُ بما أنزل الله وأُصدّق نبيّ الله ولا أُكذّب قول أبي» ((2)).

وفي زيارة الناحية المقدّسة: «وأُقيمت لك المآتم في أعلى علّيّين، ولطمَت عليك الحور العين» ((3)).

ص: 336


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 3 و6، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 279 الباب 34.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 71 الباب 23 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 241.
3- ([3]) المزار لابن المشهدي: 506.

وفي الزيارة المخصوصة في الأوّل من رجب والنصف من شعبان: «أشهد لقد اقشعرَّت لدمائكم أظلّة العرش مع أظلّة الخلائق، وسكّان الجنان والبرّ والبحر» ((1)).

وفي حديثٍ آخَر: قال الراوي: فقلت: وأيّ شيءٍ الظلال؟ فقالعلیه السلام : «ألم ترَ إلى ظِلّك في الشمس؟ شيئاً وليس بشيء!» ((2)).

يفيد هذا الحديث أنّ هذه المصيبة قد أثّرت في المجرّدات أيضاً، وكلّما كان اللطافة أكثر كان التأثير أشدّ.

وفي زيارة رجب دلالةٌ على أنّ أهل الجنّة قد أقاموا العزاء له أيضاً، وكيف لا يكون كذلك وقد رُوي أنّ الجنّة والحور العين خُلقَتا من نور الحسين علیه السلام المقدّس ((3))، فكيف ترتوي الحور وتفرح والحسين يحترق كبده من الظمأ وينادي: وا عطشاه؟ وكيف يتنعّمنَ على أسرّة السرور ويبتنَ من فوق الحشايا والحسين مرميٌّ على الصعيد مجرّداً؟

رُوي عن رسول الله صلی الله علیه وآله في حديث المعراج أنّه قال: «ثمّ تقدمت أمامه فإذا أنا بتفّاح، فأخذتُ تفّاحةً ففلقتُها، فخرجَت منها حوراء كأنّ مقاديم النسور

ص: 337


1- ([4]) إقبال الأعمال لابن طاووس: 712، المصباح للكفعمي: 491، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 336 الباب 26 ح 1.
2- ([1]) الكافي للكليني: 1 / 436 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 64 ح 16.
3- ([2]) أُنظُر: الفضائل: 128، بحار الأنوار للمجلسي: 54 / 192.

أشفار عينيها، فقلت: لمَن أنتِ؟ فبكت، ثمّ قالت: لابنك الحسين» ((1)).

در بارگاه قدس كه جاي ملال نيست***سرهاي قدسيان همه بر زانوي غم است

جن ملك بر آدميان نوحه مي كنند***گويا عزاي أشرف أولاد آدم است

أجل، بكت كلّ الأشياء من المجرّدات والماديّات والأرضين والسماوات والقلم واللوح والعرش والكرسيّ والجنّة والنار والحور والولدان، وغيرها من سائر الموجودات على مظلومية سيّد الشهداء، بل قال البعض: إنّ كلّ بكاءٍ على حقٍّ يرجع في الحقيقة إلى البكاء على الحسين المظلوم، وكلّ حجرٍ يتدحرج من جبلٍ أو طفل يبكي أو طير يصدح أو اصفرار يصيب شجرةً أو تصدّع في جدار أو احمرار في السماء أو موج في بحر أو غبار في صحراء أو رعد في السماء إنّما هو حزنٌ على الحسين المظلوم ونياحةٌ على مصيبته، ومطر السحاب دموعٌ مسكوبةٌ على الحسين المظلوم، لأنّ الموجودات جميعاً من بركات وجوده المقدّس، وهي طرّاً انعكاسٌ عن شعاعه، وإنّما تنزل الرحمة بواسطته وهو وسيلة الفيض، فكلّ ما يصيبه إنّما يصيب العالم، وانكساف الشمس ينشأ من انكساف الشعاع، وصفاؤها ينشأ من صفاء الشعاع، ولذلك قالوا: بُنيَ الوجود على الاسم الأعظم، فإذا حرك حرك جميع

ص: 338


1- ([3]) كشف الغمّة للإربلي: 1 / 459، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 298.

العالم، وهم مظاهر الأسماء الحسنى ((1))، وفي الحديث: ليس لله آيةٌ أعظم منهم ((2)).

ولَنعم ما قال الشاعر:

فما آيةٌ لله أكبر منهمُ***فهم آيةٌ من دونها كلّ آيةِ

و ما نعمةٌ إلّا وهم أولياؤها***فهم نعمةٌ منها أتت كلُّ نعمةِ

لهم خلق الله العوالم كلَّها***وحكمهمُ فيها بها من خليفةِ

سرى سرّهم في الكائنات جميعها***فمن سرّهم لم يخلُ مثقال ذرّةِ

فمثَلهم مثل الشمس، ومثل شيعتهم مثل الشعاع، ومثل عدوّهم مثل الظلّ والشعاع من الشمس.

وقيل: الشيعة اشتقاقٌ من الشعاع ((3)).

والظلّ ليس من الشمس، لكنّه لا وجود له بدون الشمس، فقوام الظلّ بالشمس، وجميع ذرّات الوجود من النور والظلمة والحسن والقبيح والسعيد والشقيّ لا ينعم بخلعة الوجود إلّا بهم وبسببهم، فطينة كلّ الأشياء توجد إمّا من طينتهم أو بسبب طينتهم، ولولاهم لا وجود للأشياء، وهم الاسم الّذي وردت الإشارة إليه في الدعاء: «اللّهمّ إنّي أسألك باسمك الّذي

ص: 339


1- ([1]) أُنظُر: الكافي للكليني: 1 / 143 ح 4.
2- ([2]) أُنظُر: الكافي للكليني: 1 / 207 ح 3، بصائر الدرجات للصفار: 76 ح 3.
3- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 25 / 23.

اشرقَت به السماوات والأرضون» ((1)).

ورُوي أنّ رجلاً سأل الإمام: قد يكون الإنسان في إحيان كثيرة مهموماً مغموماً حزيناً، من دون أن يعرف لذلك سبباً! فقال: لأنّ قلب إمام الزمان يكون مهموماً في ذلك الوقت.

فيلزم أن تفنى كلّ ذرّات الوجود، وتنهدم السماوات والأرضين، وتتناثر الكواكب والنجوم، ويفسد الكون كلّه عند شهادة الإمام المظلوم، وهي إنّما بقيَت لمكان وجود الإمام زين العابدين علیه السلام.

أجل، انقلاب حالة سيّد الشهداء وحالة الإمام زين العابدين في حين شهادة الإمام المظلوم سبّب انقلاباً في الكون، وانكسفت الشمس واظلمّ الهواء حتّى بدت الكواكب ((2))، والحال أنّ القاعدة فيانكساف الشمس أنّه يكون في الثامن والعشرين من الشهر.

وكذا هاجت الب--حار وتزلزلَت الجبال ((3))، ومطرت السماء دماً ورماداً ((4))، واظلمّ الهواء وهبّت ريحٌ سوداء، وانقلب الكون حسيراً، حتّى

ص: 340


1- ([2]) أُنظُر: إقبال الأعمال لابن طاووس: 481، المصباح للكفعمي: 550.
2- ([3]) أُنظُر: السنن الكبرى للبيهقي: 3 / 337، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 114، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 227، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 102، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216 ح 39، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33.
3- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 206 الباب 40 ح 13.
4- ([2]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 202 الباب 40 ح 4.

ظنّ الناس أنّ الساعة آتيةٌ والقيامة قد قامت، ومات الكثيرون من شدّة الخوف ((1)).

نعم، لمّا كانوا هم الأصل بعد الذات المقدّسة الّتي هي مبدأ الموجودات، وكلّ شيءٍ في الوجود فرعٌ لهم، فإذا تزلزل الأصل لابدّ أن يتزلزل الفرع، لذا فقد بكت كلّ ذرات الوجود لمصائبه، حتّى خيل العدوّ بكت عند وداع العائلة، وهي تحوم في المصرع حتّى جرت دموعها على حوافرها ((2))، بل إنّ الأعداء الأشقياء -- وهم أضلّ من الأنعام -- بكوا حين وقوع الشهادة والغارة على الحرم ((3))، وبكاؤهم ناشيءٌ من تلك الطينة الطيّبة الّتي كانت أصلاً في خلق جميع المخلوقات، ومنها هؤلاء الّذين ركبت هيئتهم في الظاهر على شكل الإنسان، وقد خلقهم الله ليكونوا أُنساً لشيعتهم في الدنيا.تبيّن أن ذرّات الكون جميعاً بكت على سيّد الشهداء والمظلومين وناحت عليه، كلٌّ بحسبه وبالشكل المناسب له.

ولَنعم ما قيل:

ص: 341


1- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 57، روضة الشهداء للكاشفي: 353.
2- ([4]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 457 المجلس 10.
3- ([5]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55، المنتخب للطريحي: 2 / 455 المجلس 10.

گر چشم روزگار بر او فاش مي گريست***خون مي گذشت از سر ايوان كربلا

وقد فصّل بعض العرفاء هذا المعنى في أبيات، فقال:

كلّ انكسارٍ خضوع به***وكل صوتٍ فهو نوح الهوا

ما في الوجود معجمٌ لم يكن***إلّا عرته حيرةٌ في استوا

فطبّق الدنيا مصابٌ حوى***لما سيأتي أبداً أو أتى

فكلّ رطبٍ ينتهي ذابلاً***وذي قوى يعتريه النوى

أما ترى النخلة في قبة***ذات انفطارٍ وانشقاق فشى؟

ما سعفة فيها انتهت أخبرت***إلّا لها حزن إمامي شوى

أما ترى الأثل وأهدى به***عند الرياح ذا حنين علا

أما ترى الآفاق مغبرّة***والشمس حمراء بكرةً أو مسا

أما سمعتَ الرعد يبكي له***البرّ والسحب بقطرٍ همى

أما ترى النحل له رقة***في طيرانه شديد البكا؟

فكلّ بقعةٍ بها قبره***وكربلا كلّ مكانٍ تُرى

وكلّ يومٍ يومه دائماً***تقصّ شرب الماء على مَن رعى

السيف يفري نحره باكياً***والرمح ينعى قائماً وانثنى

تبكيه جرد جاريات على***جثمانه وإن تدق القرى

والله ما رأيت شيئاً أبداً***في الكون إلّا ببكاءٍ تلا

ص: 342

ويشهد لهذا المعنى خطبة الإمام زين العابدين على مشارف المدينة بعد رجوعه من الشام، قال فيها: «أيّها الناس، فأيّ رجالاتٍ منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّة عينٍ منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها والحيتان ولجج البحار والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون» ((1)).

وبيان هذا المطلب إجمالاً بأن يقال: إنّ الإمام المظلوم مظهر الخشوع والخضوع، وكلّ خضوع وخشوع في ذرّات الوجود إنّما هو من فاضل طينته وفيض وجوده، بل هو مظهر جميع الخصال الحميدة، وأيّ خصلةٍ حسنةٍ إنّما هي من فاضل طينته وفيض وجوده، بواسطةٍ أو بأكثر من واسطة.

فكلّ شيءٍ في الوجود من سماوات وأرضين ومن فيها وسكّان البحار والجمادات والحيوانات كلّها تبكي المظلوم، وبكاؤها على نوعين: معنوي وصوري.

أمّا البكاء المعنوي، فإنّ كلّ موجود من الممكنات ذات الهيئة والصورة فإنّه في يبكي على الإمام المظلوم في حالته الوجدانيّة الأوليّة وضميره العميق، حتّى المنافقين والشياطين وعلّيّين وسجّين، وهي على أشكال، فبعضهم يرى في نفسه ضعفاً نسبةً إلى موضوعٍ ما أو شعوراً بالحاجة أو

ص: 343


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 148.

ميلاً إلى شيءٍ ما أو خوفاً من شيءٍ ما أو أملاً ورجاءً بشيءٍ ما أو غمّاً من فوت شيءٍ ما أو توقّعاً لأمر محبوب يحصل في المستقبل أو محذوراً يتوقّاه أو يخشاه في المستقبل، هذا وغيره من الأُمور ممّا هو نحوه كلّه يعدّ بكاءً معنويّاً أو تباكياً باعتبار جمود عين طبيعته وعدم إمكان جريان الدموع السائلة في ذلك.

أمّا البكاء الصوري، وهو جريان الدموع من العيون، فإنّ المحبّ يبكي والمبغض يبكي، بيد أنّ المبغض لا يبكي إلّا أن يغفل عن بغضه ولو إلى حين، فإنّه إذا كان ملتفتاً إلى بغضه وحقده يستحيل عليه البكاء، لأنّ قلبه يكون مقفلاً لا يمكنه استقبال الخير بحال.

أمّا في حال غفلته عن شقاقه المبعد له عن رحمة الله فإنّه إذا تذكّر ما ورد على الإمام المظلوم وأهل بيته وأنصاره سيبكي، وقد بكى الكثيرون على هذا النحو، من قبيل خولي الأصبحي (لعنه الله) الّذي سلب الصدّيقة الصغرى زينب الكبرى وأخذ ما كان على العيال والأطفال وجرّ النطع من تحت السيّد السجّاد، وهو يبكي فقالت له السيّدة زينب: لعنك الله، هتكتنا وأنت مع ذلك تبكي؟! قال: أبكي ((1)) ممّا جرى عليكم أهل

ص: 344


1- ([1]) لا يبعد أن يكون بكاء رؤوس العسكر وكبراء القوم والمباشرين في ارتكاب الجنايات من قبيل عمر بن سعد وخولي وأمثالهم بكاء فرح وشماتة، وليس بكاء رقّةٍ ورحمة، وما صدر عنهم من أقوالٍ تحمل على الشماتة والاستهزاء، من قبيل قوله: أبكي ممّا جرى عليكم أهل البيت.

البيت ((1)).

وبالجملة، فإنّ كلّ شيءٍ يبكي على الإمام المظلوم، إلّا إذا كانمن المنافقين وهو ملتفتٌ إلى عداوته ومصرٌّ على بغضه وحقده، فإنّه والحال هذه يكون مطروداً من رحمة الله الّتي وسعَت كلّ شيء وبعيد عن الخير كلّ الخير.

قال بعض العرفاء: والحاصل أنّ كلّ شيءٍ يبكي على الحسين علیه السلام ، تبكيه الرياح بهفيفها، والنار بتلهّبها، والماء بجريانه وأمواجه وجوده، والشمس والقمر والنجوم بتغيّراتها من حمرةٍ وصفرةٍ وكسوفٍ وخسوف، والجبال بارتفاعها وانهدادها، والجدران بتفطّرها وانهدامها، والنبات بتغيّره واصفراره ويبسه، والآفاق بتكرّرها واغبرارها وحمرتها وصفرتها، وتبكيه التجارة بخسارتها وكسادها، والعيون بتكدّرها، والمعادن بفسادها، والأسعار بغلائها، والأشجار بموتها وبقلّة ثمرها وبسقوط ورقها وبيبس أغصانها واصفرار ورقها.

أما سمعتَ بكاء الأواني حين تنكسر من الچيني والخزف؟ أما سمعت الطيور تصدح في أعشاشها واضطراب الأشجار وحفيفها وأمواج البحار وبكاء الأطفال الصغار؟ أما سمعت بكاء الأسفار بسبب انعدام الأمن في

ص: 345


1- ([2]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 455 المجلس 10.

الصحاري والقفار؟ أما سمعت الليل يبكي بظلمته على الإمام المظلوم والنهار بضيائه؟ أما رأيت انفطار الأحجار وتساقطها وجزر البحار وقلّة الأمطار وغلاء الأسعار وفساد الأفكار واختلاف الأنظار وقصر الأعمار؟

آه، ثمّ آه، ثمّ آه، ما أذكره لك إنّما هو على سبيل الإجمال، يدركه من جعل له لقلبه عينان فذكّره بآيات الكتاب تذكيراً مجملاً بصريحالبيان، فقال: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَ-كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» ((1))، وقد قال الإمام في ذيل هذه الآية في زيارة الجامعة الصغيرة المذكورة في آخر (مصباح) الشيخ: «يسبّح الله بأسمائه جميع خلقه» ((2)).

وهذا يعني أنّ كلّ شيءٍ يسبّح الله بالبكاء على سيّد الشهداء (عليه أفضل الصلاة والسلام) -- انتهى كلام ذلك العارف.

وبالجملة، فإنّ جميع العالم يبكي في مصيبة الإمام المظلوم، وقد ظهر بكاء الكثير من الأجسام بنحوٍ شوهد ورأته العيون، مثل بكاء السماء ((3)) والأرض دماً، وجريان الدم من أغصان الأشجار ((4))، وجريان الدم من

ص: 346


1- ([1]) سورة الإسراء: 44.
2- ([2]) مصباح المتهجّد: 289.
3- ([3]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 31 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 202 الباب 40 ح 4.
4- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 233 الباب 42 ح 1.

شجرةٍ في رودبار قزوين في قرية زرآباد، وقد رأيتُها أنا بنفسي والدم يجري منها ليلة عاشوراء، وهي شجرةٌ معمّرةٌ قديمة تقع بالقرب من قبر أحد أولاد الأئمة، يحكى أنّها كانت أيّام شهادة المولى سيّد الشهداء وتناقل الناس سماعاً أنّ أحد تلك الطيور الّتي وقع في دم سيّد الشهداء بعد شهادته فمرّغت نفسها بالدم ثمّ انطلقت إلى الأصقاع لتخبر عن شهادته في الآفاق حطّ على هذه الشجرة، ومنذ عاشوراء تلك السنة تجري الدماء من تلك الشجرة بمقدار الدم السائح من ذبح طير، وتجري في كلّ سنة من عدّة أغصان، ثمّ تجفّ تلك الأغصان وتيبس، وفي السنة الّتي حضرت عندها جرت الدماءمن ساقها القريب من القبر الشريف، ويحضر في كلّ عام آلاف المعزّين وتحدث ضجّة ويقام العزاء بما لا يسع المقام لتقريره ((1)).

وقد مررت في طريقٍ إلى حجّ بيت الله الحرام بمدينة حلَب، وكان ثَمّة مسجدٌ بين البساتين يسمّى مسجد الحسين، فلمّا دخلتُ المسجد رأيتُ في صحن المسجد ستارةً منسدلةً على حجَرٍ منصوب على الحائط، مقعّر بمقدارٍ تدخل فيه الرقبة، وفي وسطه أثرين بمقدار الشريانيين الأصليَّين، في الرقبة دمٌ منجمد.

سألتُ خادم المسجد عن الصخرة والدم، قال: حينما حملوا رأس سيّد الشهداء إلى الشام مرّوا بهذا المنزل ووضعوه على هذا الحجر، فأثّر في الحجر

ص: 347


1- ([1]) توجد في مكتبتنا عدّة كتب موثّقة بالصور عن هذه الشجرة.

وصارت فيها هذه الحفرة، وصار أثر هذين الشريانين من موضع أثر أوداج الرأس المقدّس، ولَطالما سمعتُ من هذا الصحن صوت قراءة القرآن دائماً، فإذا كان ليلة عاشوراء ومرّ الوقت إلى بعد منتصف الليل يظهر نورٌ من وسط الصحن هذا، ثمّ يمرّ حتّى يدخل وسط الحفرة في هذه الصخرة، ويخرج من موضع أثر الشريانين دمٌ لا يقترب منه أحد، فيجمد ويجفّ، وإنّي أخدم في هذا المسجد منذ سبع أو ثمان سنين، وأرى ذلك الدم في سحَر كلّ عاشوراء، وقد رآه مَن كان قبلي من الخدّام في هذا المسجد.

فلمّا خرجتُ من المسجد وتوسّطتُ سوق حماة سألتُ بعض الكسبة في البلد عن ذلك، فقالوا: إنّ هذا أمرٌ معروفٌ مشهور.

وحُكي أنّ جبلاً في بعض بلاد الروم فيه صورة أسدٍ منحوت من الصخر، وفي كلّ سنةٍ في يوم عاشوراء يسيل من عينَي الأسدعينان من الدم تبقى تسيل حتّى الليل، فيجتمع سكّان المنطقة ويقيمون المأتم والعزاء على أهل البيت ((1)).

وحُكي أيضاً أنّ القوم لمّا أرادوا أن يدخلوا الموصل، أرسلوا إلى عامله أن يهيّئ لهم الزاد والعلوفة، وأن يزيّن لهم البلدة، فاتّفق أهل الموصل أن يهيّؤا لهم ما أرادوا، وأن يستدعوا منهم أن لا يدخلوا البلدة بل ينزلون خارجها ويسيرون من غير أن يدخلوا فيها، فنزلوا ظاهر البلد على فرسخ

ص: 348


1- ([1]) أُنظُر: رياض الشهادة: 2 / 232 المجلس 12.

منها، ووضعوا الرأس الشريف على صخرة، فقطرت عليها قطرة دمٍ من الرأس المكرّم، فصارت تشعّ، ويغلي منها الدم كلّ سنةٍ في يوم عاشوراء، وكان الناس يجتمعون عندها من الأطراف ويقيمون مراسم العزاء والمآتم في كلّ عاشوراء، وبقي هذا إلى أيّام عبد الملك بن مروان، فأمر بنقل الحجر، فلم يُرَ بعد ذلك منه أثر، ولكن بنوا على ذلك المقام قُبّةً سمّوها مشهد النقطة ((1)).

وروى ابن قولويه عن رجلٍ من أهل بيت المقدس أنّه قال: واللهِ لقد عرفنا أهل بيت المقدس ونواحيها عشية قتل الحسين بن عليّ. قلت: وكيف ذلك؟ قال: ما رفعنا حجراً ولا مدراً وصخراً إلّا ورأينا تحتها دماً يغلي، واحمرّت الحيطان كالعلق، ومطرنا ثلاثة أيّام دماً عبيطاً، وسمعنا منادياً ينادي في جوف الليل يقول:

أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعة جدّه يوم الحسابِ؟

معاذ الله، لا نلتم يقيناً***شفاعة أحمد وأبي ترابِ

قتلتم خير من ركب المطايا***وخير الشيب طرّاً والشبابِ

وانكسفت الشمس ثلاثاً ثمّ تجلّت عنها، وانشبكت النجوم، فلمّا كان من الغد أُرجفنا بقتله، فلم يأتِ علينا كثير شيءٍ حتّى نُعي إلينا

ص: 349


1- ([2]) نفَس المهموم للقمّي: 425، روضة الشهداء للكاشفي: 386.

الحسين ((1)).

وروى ابن شهرآشوب: عن نصرة الأزديّة قالت: لمّا قُتل الحسين علیه السلام أمطرت السماء دماً، وحبابنا وجرارنا صارت مملوةً دماً ((2)).

وعن أبي عبد الله الصادق: «إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم» ((3)).

وعن أُمّ سليم ((4)) قالت: لمّا قُتل الحسين مطرت السماء مطراً كالدم، احمرّت منه البيوت والحيطان ((5)).

وعن الثعلبيّ أخبرنا أنّ حمرة أطراف السماء لم تكن قبل قتل الحسين ((6)).

ص: 350


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 204 الباب 40 ح 6، كامل الزيارات لابن قولويه: 77 الباب 24 ح 2.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، إعلام الورى للطبرسي: 220، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 215 ح 38.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 206 ح 13، كامل الزيارات لابن قولويه: 80 ح 6، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 32.
4- ([4]) في المتن: (أُمّ سلَمة).
5- ([5]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 32، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 215.
6- ([6]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 32، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 217 ح 40.

وعن أبي قبيل: لمّا قُتل الحسين بن عليّ علیه السلام كسفت الشمس كسفةً بدت الكواكب نصف النهار، حتّى ظننّا أنّها هي ((1)). يعني الساعة وقيام القيامة.

عن أُمّ حيّان قالت: يوم قُتل الحسين أظلمت علينا ثلاثاً، ولم يمسّ أحدٌ من زعفرانهم شيئاً فجعله على وجهه إلّا احترق، ولم يُقلَب حجرٌ ببيت المقدس إلّا أصبح تحته دماً عبيطاً ((2)).

وروى ابن قولويه عن امرأةٍ صالحةٍ من أهل الكوفة أنّها أدركت الحسين ابن عليّ حين قُتل (صلوات الله عليه)، قالت: فمكثنا سنةً وتسعة أشهر والسماء مثل العلقة مثل الدم، ما تُرى الشمس ((3)).

أيضاً عن جماعةٍ من أهل الكوفة: لمّا قُتل الحسين بن عليّ علیه السلام أمطرت السماء تراباً أحمر ((4)).

ص: 351


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216 ح 39.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216، نقلها المؤلّف بتصرّف.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 89 الباب 28 ح 5، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 210 ح 19.
4- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 90 الباب 28 ح 11، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 211 ح 25.

ورُوي أيضاً عن عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «إنّ السماء لم تبكِ منذ وُضعَت إلّا على يحيى بن زكريّا والحسين بن عليّ علیه السلام ». قلت: أيّ شيءٍ بكاؤها؟ قال: «كانت إذا استقبلت بالثوب وقع على الثوب شبه أثر البراغيث من الدم» ((1)).وعن الإمام الصادق، عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «إنّ السماء لم تبكِ منذ وضعت إلّا على يحيى بن زكريّا والحسين بن عليّ علیه السلام ». قلت: أيّ شيءٍ بكاؤها؟ قال: «كانت إذا استقبلتَ بالثوب وقع على الثوب شبه أثر البراغيث من الدم» ((2)).

وعن الحارث الأعور قال: قال عليّ علیه السلام: «بأبي وأُمّي الحسين المقتول بظهر الكوفة، واللهِ كأنّي أنظر إلى الوحش مادّةً أعناقها على قبره من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلاً حتّى الصباح، فإذا كان كذلك فإيّاكم والجفاء!» ((3)).

والخلاصة: إنّ الأخبار الدالّة على بكاء الأشياء على الإمام المظلوم كثيرة، فكيف يملك دمعه ويتمنّع عن البكاء عليه، ولمَ لا يتأسّى بالأنبياء

ص: 352


1- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 90 الباب 28 ح 12، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 211 ح 26.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 93 الباب 28 ح 21، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 213 ح 31.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 79 الباب 26 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 205 الباب 40 ح 9.

والأولياء؟ فهذا الصفيّ آدم كان يبكي على الإمام المظلوم بكاء الثكلى ((1))، والنبيّ نوح بكى وجرت دموعه كحبّات المطر المنهمر ((2)).

لمّا نظر إبراهيم إلى ملكوت السماوات رأى خمسة أنوار مقدّسة تحيط بالعرش الإلهيّ الأعظم، فسأل عن أسماء تلك الأنوار، فقيل:محمّد بن عبد الله وأوصياؤه وابنته. فقال: يا ربّ، ما لي إذا نظرتُ إلى هذه الأنوار سُررتُ وسُري عنّي، وإذا نظرت إلى النور الخامس منها يداخلني الهمّ والغمّ ويكون قلبي مهموماً مغموماً؟ قال: يا إبراهيم، إنك لا تعلم أيّ ظلمٍ سيظلمون به صاحب هذا النور المقدّس. فلمّا سمع طرفاً من مصائبه حزن حزناً شديداً واغتمّ وتنغّص عيشه ((3)).

وعن الصادق في قول الله عزوجل: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ» ((4))، قال: «حسب فرأى ما يحلّ بالحسين علیه السلام ، فقال: إنّي سقيمٌ؛ لما يحلّ بالحسين» ((5)).

ص: 353


1- ([3]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 245 ح 44.
2- ([4]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 230، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 79.
3- ([1]) أمواج البكاء: 20.
4- ([2]) سورة الصافّات: 88 و89.
5- ([3]) الكافي للكليني: 1 / 465 ح 5، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 220 الباب 28 ح 12.

ولمّا سأل زكريّا عن تأويل «كهيعص» ((1))، قيل: الكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة الطاهرة، والياء يزيد وهو ظالم الحسين، والعين عطشه، والصاد صبره. فلمّا سمع ذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، ومنع فيهنّ الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكان يرثيه: إلهي، أتفجع خير جميع خلقك بولده؟ إلهي، أتنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه؟ إلهي، أتلبس عليّاً وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي، أتحلّ كربة هذه المصيبة بساحتهما؟ ثمّ كان يقول: إلهي، ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه، ثمّ افجعني به كما تفجع محمّداًحبيبك بولده. فرزقه الله يحيى وفجعه به، حيث كان يحيى يقول للملك الزاني كلّما مرّ عليه: أيّها الملك، إنّ هذا العمل الّذي ترتكبه حرامٌ لا يحلّ لك. فسكر يوماً وطلبت منه المرأة الزانية أن يحمل لها رأس يحيى المظلوم في طشت، فأمر به فذُبح وحُمل إليه رأسه في طشت، فجعل يتكلّم ويقول: اتّقِ الله واترك هذا العمل، فإنّه لا يحلّ لك. فلمّا قتلوه وجرى دمه على الأرض جعل دمه يغلي.

ورُوي أنّ قطرةً من دمه سقطت على الأرض فصارت تغلي، وكلّما أهالوا عليها التراب لم تهدأ، فلا زالوا يهيلون التراب عليها وهي تظهر من تحت

ص: 354


1- ([4]) سورة مريم: 1.

التراب وتغلي حتّى صار تلّاً عظيماً، حتّى قتل بخت نصّر سبعين ألفاً من بني إسرائيل على ذلك التلّ حتّى سكن الدم ((1)).

ولمّا كذّبوا إسماعيل صادق الوعد وسلخوا فروة رأسه، غضب الله عليهم له، فوجّه إليه سطاطائيل ملك العذاب فقال له: يا إسماعيل، أنا سطاطائيل ملك العذاب، وجّهني ربُّ العزّة إليك لأُعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئت. فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك يا سطاطائيل. فأوحى الله إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال إسماعيل: يا ربّ، إنّك أخذت الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّدٍ بالنبوّة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرت خلقك بما تفعل أُمّته بالحسين بن عليّ علیه السلام من بعد نبيّها، وإنّك وعدتَ الحسين أن تكرّه إلى الدنيا حتّى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربّ أن تكرّني إلى الدنيا حتّى أنتقم ممّن فعل ذلك بي ما فعل كما تكرّالحسين. فوعد الله إسماعيل بن حزقيل ذلك، فهو يكرّ مع الحسين بن عليّ ((2)).

وفي الحديث الصحيح أنّ موسى بن عمران لمّا التقى الخضر فسلّم عليه وأجاب، وتعجّب وهو بأرضٍ ليس بها سلام، فقال: مَن أنت؟ قال: موسى.

ص: 355


1- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 223، و14 / 181.
2- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 237.

فقال: ابن عمران الّذي كلمه الله؟ قال: نعم. قال: فما جاء بك؟ قال: أتيتك على أن تعلّمني. قال: إنّي وُكّلت بأمرٍ لا تطيقه. فحدّثه عن آل محمّدٍ وعن بلائهم وعمّا يصيبهم، حتّى اشتدّ بكاؤهما، وذكر له فضل محمّدٍ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، وما أُعطوا وما ابتُلوا به، فجعل يقول: يا ليتني من أُمّة محمّد ((1)).

ورُوي أنّه لمّا تشاجر موسى والخضر علیهما السلام في قضيّة السفينة والغلام والجدار ورجع موسى إلى قومه، سأله أخوه هارون عمّا استعمله [استعلمه] من الخضر علیه السلام في السفينة وشاهده من عجائب البحر، قال: بينما أنا والخضر على شاطئ البحر إذ سقط بين أيدينا طائر أخذ في منقاره قطرة من ماء البحر ورمى بها نحو المشرق، ثمّ أخذ ثانيةً ورمى بها نحو المغرب، ثمّ أخذ ثالثةً ورمى بها نحو السماء، ثمّ أخذ رابعةً ورمى بها نحو الأرض، ثمّ أخذ خامسةً وألقاها في البحر، فبُهت الخضر وأنا. قال موسى: فسألت الخضر عن ذلك فلم يجب، وإذا نحن بصيّاد يصطاد فنظر إلينا وقال:ما لي أراكما في فكرٍ وتعجّب؟ فقلنا في أمر الطائر. فقال: أنا رجلٌ صيّاد وقد علمت إشارته، وأنتما نبيّان لا تعلمان؟! قلنا: ما نعلم إلّا ما علمنا الله عزوجل. قال: هذا طائر في البحر يُسمّى مسلم، لأنّه إذا صاح يقول في صياحه: مسلم، وأشار بذلك إلى أنّه يأتي في آخر الزمان نبيٌّ يكون علم أهل المشرق والمغرب وأهل

ص: 356


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 13 / 301 ح 21، تفسير العيّاشي: 2 / 329 ح 41.

السماء والأرض عند علمه مثل هذه القطرة الملقاة في البحر، ويرث علمه ابنُ عمّه ووصيّه. فسكن ما كنّا فيه من المشاجرة، واستقلّ كلّ واحدٍ منّا علمه بعد أن كنّا به معجبين ومشينا، ثمّ غاب الصيّاد عنّا، فعلمنا أنه ملَكٌ بعثه الله عزوجل إلينا يعرّفنا بنقصنا حيث ادّعينا الكمال ((1)).

وعن وهب بن منبه قال: إنّ موسى علیه السلام نظر ليلة الخطاب إلى كلّ شجرةٍ في الطور وكلّ حجرٍ ونباتٍ تنطق بذكر محمّد واثني عشر وصيّاً له مِن بعده، فقال موسى: إلهي، لا أرى شيئاً خلقتَه إلّا وهو ناطقٌ بذكر محمّدٍ وأوصيائه الاثني عشر، فما منزلة هؤلاء عندك؟ قال: يا ابن عمران، إنّي خلقتُهم قبل خلق الأنوار، وجعلتهم في خزانة قدسي يرتعون في رياض مشيّتي ويتنسّمون من روح جبروتي ويشاهدون أقطار ملكوتي، حتّى إذا شئت مشيّتي أنفذت قضائي وقدري، يا ابن عمران، إنّي سبقتُ بهم استباقي حتّى أُزخرف بهم جناني، يا ابن عمران، تمسّك بذكرهم، فإنّهم خزنة علمي وعَيبة حكمتي ومعدن نوري. قال حسين بن علوان: فذكرت ذلك لجعفر بن محمّد علیه السلام فقال: «حقٌّ ذلك»((2)).

يا ربّ! أين سرحت أيّها القلم؟ أين كنت وأين وصلت؟ والعذر أيّها الشيعة أنّي إذا ذكرتُ فضائل محمّدٍ وآل محمّد لا أتمالك، وإذا ذكرت

ص: 357


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 26 / 213 ح 12، المحتضر للحلّي: 100.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 51 / 149 ح 25.

مصائبهم تشبّ في قلبي نيران المصاب، فأُواسي أنبياء الله في هذا العزاء، وقد اشتهرت قصّة بكاء عيسى وحوارييه في كربلاء ((1)).

ولمّا دفعَت مريم ابنها عيسى الى الرجل الصبّاغ فأعطاه الكرابيس والخيوط ليصبغها -- وكان عيسى طفلاً --، جعلها كلّها في إناءٍ واحدٍ وصبغها جميعاً بلون السواد، ولم يكن اختياره لهذا اللون إلّا حزناً على مصيبة سيّد الشهداء الحسين علیه السلام ، لأنّ عيسى وإن كان صغيراً إلّا أنّه كان في المهد نبيّاً، فلا يتصوّر في حقّه أنّه يفعل فعلاً عبثيّاً ((2)).

وربّما ترنّم محتشم بهذه الحكاية فنظمها في شعره:

يك باره جامه در خم گردون به نيل***زد چون اين خبر به عيس-ى گردون نشين رسيد

* * * * *

أمّا بكاء نبيّنا الأكرم وأمير المؤمنين وسائر الأئمة الميامين فيمصيبة سيّد الشهداء وحزنهم عليه، فرواياتها خارجةٌ عن حدّ الإحصاء.

وأمّا بكاء فاطمة الزهراء في مصيبة الإمام المظلوم، فلسان القلم أبكم يعجز عن بيانه، بل يستحيل تصوّر الإحاطة ببيانه في الكتب والدفاتر.

ص: 358


1- ([2]) أُنظُر: الأمالي للصدوق: 598، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 253، كمال الدين للصدوق: 532، الخرائج للراوندي: 3 / 1143.
2- ([3]) مهيّج الأحزان لليزدي: 475.

فنقتصر في المقام على ذكر حديث أبي بصير عن الصادق: «إنّ فاطمة لَتبكيه، وتشهق فتزفر جهنّم زفرةً لو لا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها وقد استعدّوا لذلك، مخافة أن يخرج منها عُنقٌ أو يشرد دخانها فيحرق أهل الأرض، فيكبحونها ما دامت باكية، ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافةً على أهل الأرض، فلا تسكن حتّى يسكن صوت فاطمة، وإنّ البحار تكاد أن تنفتق فيدخل بعضها على بعض، وما منها قطرة إلّا بها ملَكٌ موكّل، فإذا سمع الملك صوتها أطفأ نارها بأجنحته وحبس بعضها على بعض مخافةً على الدنيا ومَن فيها ومَن على الأرض، فلا تزال الملائكة مشفقين، يبكون لبكائها ويدعون الله ويتضرّعون إليه، ويتضرّع أهل العرش ومَن حوله، وترتفع أصوات من الملائكة بالتقديس لله مخافة على أهل الأرض، ولو أنّ صوتاً من أصواتهم يصل إلى الأرض لَصعق أهل الأرض وتقلّعت الجبال وزلزلت الأرض بأهلها».

قلت: جُعلت فداك، إنّ هذا الأمر عظيم! قال: «غيره أعظم منه ما لم تسمعه»، ثمّ قال: «يا أبا بصير، أما تحبّ أن تكون فيمن يسعد فاطمة؟»، فبكيت حين قالها، فما قدرت على المنطق وما قدرت على كلامي من البكاء، ثمّ قام إلى المصلّى يدعو، وخرجت من عنده على تلك الحال، فما انتفعت بطعامٍ وما جاءني النوم،وأصبحت صائماً وجلاً، حتّى أتيتُه، فلمّا رأيته قد سكن سكنتُ وحمدت الله حيث لم تنزل بي عقوبة ((1)).

ص: 359


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 82 الباب 26 ح 7، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 208 الباب 40 ح 14.

أمّا بكاء المظلوم نفسه على مظلوميّته، وذكر كيفيته وعدد مرّاته، فهو خارجٌ عن قدرة البشر ((1))، بَيد أنّنا نقتصر في المقام على بيان حديثٍ منقول عن سلمان الفارسي أنّه مرّ في أزقّة المدينة فرأى الأطفال يلعبون، والحسين علیه السلام جالس جانباً على التراب جلسة الحزين، وهو يبكي بكاءً شديداً ودموعه تتحدّر كأنّها المزن. قال سلمان: فجئت حتّى وقفتُ عنده وقلت له: جعلت فداك يا سيّدي وابن سيّدي، ممّ بكاؤك؟ وأنت تجلس هذه الجلسة على التراب، فهل تعرّض لك هؤلاءالصبيان بسوء؟ فلمّا سمع الحسين علیه السلام منّي هذا الكلام رفع رأسه ونظر إليّ بعينٍ حزينةٍ وأشار إليّ بيده أن دَعْ هذا السؤال ولا تسألني يا سلمان، فإنّه يشقّ على قلبي أن أتكلّم بهذا. قال سلمان: فقلت: يا سيّدي، أما سمعت جدّك رسول اللَّه صلی الله علیه وآله يقول: «سلمان منّا أهل البيت»؟ فلماذا لا تحدّثني بما في قلبك يا سيّدي ومولاي؟

فلما سمع منّي هذا الكلام بكى، وقال: يا سلمان، إنّ اللَّه عزوجل أوحى إلى جبرئيل علیه السلام أن يخبر جدّي بما سيجري علَيّ في كربلاء، وقال: إنّ أهل الكوفة سيذبحوني بخنجر الجفاء، ويفرّقون بين رأسي وبدني، ويقتلون أطفالي وأولادي،ويتركون أبدانهم بلاغُسلٍ ولا كفنٍ على الرمضاء،

ص: 360


1- ([2]) أُنظُر: كتاب أمواج البكاء في مواضع بكاء سيّد الشهداء، للبسطامي -- ترجمة: السيّد علي أشرف.

ويحملون ولدي عليّ زين العابدين مع البقيّة من عيالي على النياق الهزيلة بلاء وطاء سبايا، يطوفون بهم من بلدٍ الى بلد، ويسكنونهم في خرابة، ويعرضون أطفالي حتّى يطمع الطامع فيهم فيستوهبهم للخدمة، يا سلمان كلّما تذكرت ذلك شقّ على قلبي ذلك.

قال سلمان: فقلت: يا سيّدي المظلوم، جُعلت فداك، لمَ لا تطلب من جدّك وأبيك أن يدعوَا اللَّه ليدفع عنك هذا البلاء؟ فقال: يا سلمان، أنا رضيتُ بهذه المصيبة العظمى، لأكون شفيعاً لأُمّة جدّي يوم الجزاء.

فقلت: ويكون ذلك في زمانٍ يكون فيه جدّك وأبوك؟ فبكى الحسين علیه السلام وقال: يا سلمان، يكون ذلك في زمانٍ خالٍ من جدّي وأبي وأُمّي وأخي. قلت: جُعلت فداك يا سيّدي ومولاي، فمن يقيم عليكم العزاء ومن يبكي عليكم؟! فقال: يا سلمان، سيهيّئ اللَّه لنا شيعة رجالاً ونساءً، يبكون علينا ويبذلون أموالهم وأرواحهم في إقامة مأتمنا وزيارة قبورنا.

فقلت: يا سيّدي، أيّ سرٍّ في ذلك؟ يقتلكم بعض الناس ويقطعون رؤوسكم ويرفعونها على الرماح ويسبون عيالكم ويُنزلون بكم ألوان الظلم والجور، ويبكي عليكم آخرون ويبذلون أموالهم وأرواحهم فيكم! فقال: يا سلمان، إنّ الذين يبكون علينا قومٌ خلقهم اللَّه من طينتنا، ولذلك أحبّونا وبذلوا أموالهم وأرواحهم فينا، وهم يبكون علينا، يقصدون زيارة قبورنا من البعيد والقريب، ونأتيهم نحن في أوّل ليلةٍ من ليالي القبر فنزورهم وندفع عنهم أهوال تلك الليلة ونؤنسهم، واذا ماتوا تقيم أُمّنا فاطمة العزاء عليهم

ص: 361

إلى يوم القيامة، فتشفع لهم وتُدخلهم الجنّة ((1)).

فيا مؤمناً في زعمه متشيّعاً***ولا مؤمن إلّا الّذي قد تشيّعا

أتفرح في يومٍ به ذبح العدى***إمامك؟ فاعفر عفر خدّيك لاكعا

ويألف في عاشور جنبك مضجعاً***وترب الفلا أضحى لمولاك مضجعا؟

أتضحك منك الثغر من بعد أن***عدا به ثغر مولاك الحسين مقرّعا؟

أينهب فيه رحل آل محمّدٍ***وبيتك فيه لايزال موسّعا؟

فيا ليت سمعي صمّ عن ذكر قتله***ويا ليت لم يخلق لي الله مسمعا

سأبكي دماً بعد الدموع لفقده***وإن لم يكن يترك لي الحزن مدمعا

وفي كتاب (الخصائص)!! عن الصادق: «كان أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله اثني عشر ألفاً، ثمانية آلاف من المدينة وألفان من مكّة وألفان من الطلقاء، ولم يُرَ فيهم قدريّ ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نسمع ((2)) خبر الحسين» ((3)).

وقال أبو ذرّ الغِفاري: إنّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكّان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء من قتله، لَبكيتم واللهِ حتّى

ص: 362


1- ([1]) أمواج البكاء للبسطامي: 55.
2- ([2]) في (الخصال): (نأكل خبز الخمير).
3- ([3]) الخصال للصدوق: 2 / 639 ح 15.

تزهق أنفسكم ((1)).

واعلم أنّ الشيخ الطريحيّ روى في كتاب (المنتخب) قال: ثمّ إنّ الحسين علیه السلام نظر إلى اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته صرعى، فالتفت إلى الخيمة ونادى: «يا سكينة، يا فاطمة، يا زينب، يا أُمّ كلثوم، عليكنّ منّي السلام» ((2)).

وسكينة الّتي ذكرها ابنتُه من الرباب، واسم سكينة: أمينة، وإنّما غلب عليها سكينة، وهي أُخت عليّ الأصغر ((3))، وأُمّه الرباب بنت إمرئ القيس، وهي الّتي يقول فيها أبو عبد الله الحسين:

لَعمرك إنّني لَأُحبّ داراً***تكون بها سكينةُ والربابُ

أُحبّهما وأبذل جُلّ مالي***وليس لعاتبٍ عندي عتابُ ((4))

فلمّا أحسّت سكينة أنّ أباها يودّعهم، فنادته سكينة: يا أبة، استسلمت للموت؟ فقال: «كيف لا يستسلم مَن لا ناصر له ولا معين؟». فقالت: يا أبة، رُدّنا إلى حرم جدّنا. فقال: «هيهات، لو تُرك القطا ((5)) لنام».

ص: 363


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 73 الباب 23 ح 11، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 219 ح 47.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 440 المجلس 9، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 47.
3- ([3]) في (البحار) و(مقاتل الطالبيّين) واللفظ لهما: (عبد الله بن الحسين).
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 47 -- عن: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63.
5- ([5]) القطا: اسم طائرٍ يضع بيضه في الصحراء القاحلة الجرداء، ولا يأوي إلى الأشجار والجبال، يحمل الماء من أماكن بعيدة، يحتفظ به في حوصلته حتّى يوصله إلى فراخه، فإذا قرب من فراخه صاح: قطا قطا، لهذا سُمّي طائر القطا، يطلبه الصيّادون بشدّة، فيبقى هذا الطائر من الليل إلى الصباح في قلقٍ وانزعاج خوفاً من الصيّاد. وقد شبّه الإمام علیه السلام بكلامه هذا الموقف، إذ ترك أولاده وعياله في الصحراء القاحلة الجرداء وهو يطلب لهم الماء من مكانٍ بعيد، والصيّادون يترقّبونه فيمنعونه من النوم طيلة الليل. والعرب تضرب بذلك مثلاً لمَن وقع في أمرٍ مكروهٍ مضطرّاً له، من غير أن يكون هو قد أراده، وكذا كان حال الإمام (من المتن).

فتصارخن النساء، فسكّتهنّ الحسين ((1)).

ثمّ وثب على قدميه ببردة رسول الله والتحف بها، وأفرغ عليه درعه الفاضل وتقلّد سيفه، واستوى على متن جواده وهو غائصٌ في الحديد، فأقبل على أُمّ كلثوم وقال لها: «أُوصيكِ يا أُخيّه بنفسكِ خيراً، وإنّي بارزٌ إلى هؤلاء القوم». فأقبلَت سكينة وهي صارخة، وكان يحبّها حبّاً شديداً، فضمّها إلى صدره ومسح دموعها بكُمّه، وقال:

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي***منكِ البكاء إذا الحمامُ دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً***ما دام منّي الروحُ في جثماني

فإذا قُتلتُ، فأنتِ أَولى بالّذي***تأتينه يا خيرةَ النسوانِ

ص: 364


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 440 المجلس 9.

ثمّ قال لأُخته: «آتيني بثوبٍ عتيقٍ لا يرغب فيه أحدٌ من القوم؛ أجعله تحت ثيابي، لئلّا أُجرّد منه بعد قتلي» ((1)).

وزاد في (المناقب): «فإنّي مقتولٌ مسلوب» ((2)). فارتفعَت أصوات النساء بالبكاء والنحيب ((3)).فقال لهنّ الحسين علیه السلام : «مهلاً، فإنّ البكاء أمامكنّ» ((4)).

فأتوه بتبّانٍ فأبى أن يلبسه، وقال: «هذا لباس أهل الذلّة» ((5)).

وفي (المناقب): قال: «هذا لباس أهل الذمّة». ثمّ أتوه بشيءٍ أوسع منه دون السراويل وفوق التبّان، فلبسه ((6)).

وفي (المنتخب): ثمّ أُوتي بثوبٍ فخرّقه ومزّقه من أطرافه، وجعله تحت ثيابه، وكان له سروالٌ جديدٌ فخرّقه أيضاً؛ لئلّا يُسلَب منه ((7)).

ص: 365


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 438 المجلس 9.
2- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 361.
3- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
4- ([1]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 337.
5- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 408، اللهوف لابن طاووس: 121.
6- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 361، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 117 الرقم 2850، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 221، إعلام الورى: 1 / 468، تاريخ الطبري: 4 / 345.
7- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله! هؤلاء شيعتك لا يمكنهم أن يتصوّروا هذا الموقف ولا يتحمّلون ذلك، فماذا جرى على أخواتك وبناتك ونسائك المفجوعات، وهنّ ينظرن إليك وأنت في هذه الحالة؟

افسانه اي كه كس نتواند شنيدنش

يا رب بر اهل بيت چه آمد زديدنش؟

والأعظم من هذه المصيبة ما رواه الشيخ الطريحي فقال: فلمّا قُتل، عمد إليه رجلٌ فسلبهما منه، وتركه عرياناً بالعراء مجرّداً علىالرمضاء، فشُلّت يداه في الحال، وحلّ به العذاب والنكال ((1)).

والأعظم حينما نظرت السيّدة زينب إلى بدنه العريان، فتذكّرت أنّ الإمام المظلوم طلب ثوباً عتيقاً فلبسه تحت ثيابه لئلّا يُسلَب، ومع ذلك فإنّ الأراذل سلبوه وتركوا بدنه المقدّس عرياناً.

وربّما تذكرت في تلك اللحظة مواقف أبيها الحنون مع أعدائه المشركين، وهو يقول لقنبر: «يا قنبر، لا تعرِّ فرائسي» ((2))!

ومنها: أنّه حينما برز لقتال عمرو بن عبد ودّ، ضربه عمرو على رأسه فشجّ رأسه، فقال أمير المؤمنين: «ضربني ضربةً ظننتُ أنّ السماء انطبقَت على

ص: 366


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
2- ([2]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 332 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني، بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 73.

الأرض؛ لثقل سيفه»، ثمّ ضربه الإمام ضربةً وجلس على صدره ليحتزّ رأسه، فتجاسر اللعين على الإمام وسبّه، فمكث الإمام قليلاً حتّى سكن غضبه، ثمّ احتزّ رأسه خالصاً محض الإخلاص لله (تعالى) ((1)).

وفي (كنز الفوائد): قال عمرو بن ودّ: يا عليّ، قد جلستَ منّي مجلساً عظيماً، فإذا قتلتني فلا تسلبني حِليتي. فقال له أمير المؤمنين علیه السلام: «هي أهون علَيّ مِن ذلك» ((2)).

فلمّا قتل عليُّ بن أبي طالب علیه السلام عَمْراً، أقبل نحو رسول الله صلی اله علیه وآله ووجهه يتهلّل، فقال له عمر بنالخطّاب: هلّا سلبتَه يا عليّ درعه، فإنّه ليس تكون للعرب درعٌ مثلها. فقال أمير المؤمنين علیه السلام: «إنّي استحيتُ أن أكشف عن سوأة ابن عمّي» ((3)).

وجاءت أُخت عمرو ورأته في سلبه، فلم تحزن، وقالت: إنّما قتله كريم ((4)).

ص: 367


1- ([3]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 323 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني، بحار الأنوار للمجلسي: 41 / 51.
2- ([4]) كنز الفوائد: 1 / 298.
3- ([1]) الإرشاد للمفيد: 1 / 104، إرشاد القلوب للديلمي: 2 / 245، كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 205، بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 204.
4- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 2 / 118، بحار الأنور: 41 / 73.

ورُوي أنّه لمّا قتل عليّ بن أبي طالب علیه السلام عمرو بن عبد ودّ، نُعي إلى أُخته، فقالت: مَن ذا الّذي اجترأ عليه؟! فقالوا: ابن أبي طالب. فقالت: لم يعد يومه على يد كفءٍ كريم، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيّته على يد كفءٍ كريم قومه، ما سمعتُ أفخر من هذا يا بني عامر. ثمّ أنشأت تقول:

لو كان قاتل عمروٍ غير قاتله***لَكنتُ أبكي عليه آخر الأبدِ

لكنّ قاتل عمروٍ لا يُعاب به***مَن كان يدعى قديماً بيضة البلدِ ((1))

ثمّ قالت: واللهِ لا ثأرت قريش بأخي ما حنت النيب ((2)).

آهٍ لقلب السيّدة زينب المفجوع، وآهاتها الحرّى! ما الّذي جرى عليها وهي تتصوّر موقف أبيها حيدر الكرار مع أعدائه الكفّار، ومافعله هؤلاء الأنذال الأشرار مع بدن زبدة الأخيار وحبيب النبيّ المختار، إذ سلبوا الثياب العتيقة الّتي فزرها ولبسها تحت ثيابه لئلّا يجرّد، فجرّدوه منها!!

والحال أنّ أمير المؤمنين ترك درع عمرو عليه، وهو درعٌ لم يكن عند أحدٍ من العرب مثله، فضلاً عن ثيابه! ولمّا جاءت أُخت عمرو ورأت ثيابه عليه

ص: 368


1- ([3]) الإرشاد للمفيد: 1 / 107، إرشاد القلوب للديلمي: 2 / 245، كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 206، بحار الأنوار للمجلسي: 2 / 260.
2- ([4]) الإرشاد للمفيد: 1 / 109، كشف الغمّة للإربلي: 1 / 207، بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 261.

كان ذلك سلوةً لها وعزاء، فمنعت نفسها من البكاء والنياحة، لأنّها رأت أخاها مقتولاً بيد كفؤٍ كريم.

فيا ساعد الله قلب السيّدة زينب، كيف كانت تسلّي نفسها وتعزّي قلبها وتكفّ دمعها وتمتنع عن البكاء وهي ترى أخاها شنف العرش وقد قتله شرّيرٌ نذلٌ هابطٌ حقيرٌ ذليلٌ أبرصٌ يشبه الكلب والخنزير؟ ((1))

وترى مثل هذا الجاني النذل الخبيث الحقير الذليل الّذي سلب ثوبه العتيق المفزر وتركه مجرّداً!

وقد ضرب الإمام عَمْراً على فخذه ثمّ احتزّ رأسه، وقد قُتل الإمام المظلوم بأربعة آلاف جراحةٍ من السهامٍ ومئةٍ وثمانين جراحة بين ضربة سيف وطعنة رمح! ثمّ احتُزّ رأسه من القفا!! ((2))

قُتل عمرو ولم يُمنَع الماء، ولم يكن جائعاً ولا ظمئاناً، ولم يُقتل اثنان وسبعون من أولاده وإخوانه وأهل بيته وأنصاره، ولم يُترك حرمه ونساؤه وعياله بين الأعداء! وقد ابتُلي الإمام المظلوم بكلّ تلكالمصائب والمحَن!

فكيف تملك السيّدة المخدّرة زينب الكبرى عَبرتها، وتمنع نفسها عن النياحة والبكاء والعويل؟

ص: 369


1- ([1]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 84.
2- ([2]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 452.

وكيف يملك الشيعة عبراتهم ويمنعون أنفسهم عن البكاء، وهم يرون هذه المصائب؟ وبأيّ شيءٍ يعزّي الشيعي نفسه ويسلّي قلبه؟ ألا يسمع بآذان قلبه أنين فاطمة الزهراء ونياحتها على فلذة كبدها، الّتي تضجّ لها ملائكة السماوات وتستعدّ الملائكة الموكّلة بالبحار وتتميّز جهنم غيضاً وغضباً على قتلة الإمام المظلوم، فتكبحها زبانيتها؟ كما مرّ بينانه في خبر أبي بصير.

أجل، كلّما يخطر على القلب أنّ الإمام المظلوم لبس تحت ثيابه ثوباً مفزراً لئلّا يُجرّد، ثمّ سلبه أُولئك الأراذل الأنذال ذلك الثوب وتركوا بدنه المقطّع الأعضاء ملقىً على الرمضاء مجرّداً تصهره الشمس، كان حريّاً بك أن تجزع وتهلع وتفزع، وتجري دموعك وتطلق زفرتك.

ولَنعم ما قال الشاعر:

مَن مُخبر الزهراء أنّ حسينها***بين الورى عارٍ على تلعائها

ورؤوس أبناها على سمر القنا***وبناتها تُهدى إلى شاماتها

يا فاطم الزهراء، قومي واندبي***أسراكِ في أشراك ذُلّ عدائها

ثمّ ودّع الإمام المظلوم أهله وأولاده وداع مفارقٍ لا يعود ((1))،فارتفع صرخات: الفراق الفراق، الوداع الوداع، فزلزلت الصحراء وأحدثت ضجّة ولوعة لا يمكن وصفها.

ص: 370


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 10.

ثمّ دعا الإمامَ السجّاد زين العابدين، ودفع إليه أسرار الإمامة والخلافة، واستخلفه على الوصاية والإمامة من بعده.

ولمّا صار إلى العراق استودع أُمَّ سلَمة رضی الله عنها الكتب والوصيّة، فلمّا رجع عليّ بن الحسين علیه السلام دفعَتها إليه ((1)).

وقال الإمام الباقر -- في حديث -- : «ثمّ إنّ حسيناً حضره الّذي حضره، فدعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين علیه السلام ، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيّةً ظاهرة، وكان عليّ بن الحسين علیه السلام مبطوناً، لا يرون إلّا أنّه لما به، فدفعَت فاطمة الكتاب إلى عليّ بن الحسين، ثمّ صار واللهِ ذلك الكتاب إلينا» ((2)).

ثمّ إنّ الإمام المظلوم عزم على الشهادة، فتقدّم إلى الميدان مشتاقاً إلى لقاء ربّه.

رُوي أنّ المخدّرات تراكضن، فأحطنَ به وترامَين على أيدي الفرس ورجليه، فتمسّكن بها وهنّ يبكين ويبدين النياحة.

سرگشته بانوان حرم گرد شاه دين***چون دختران نعش به پيرامُن جدي

فأحطن بالإمام كأنّهنّ بنات النعش، وارتفعت أصواتهنّ بالبكاء والعويل، فجعل غريب كربلاء ينظر يميناً وشمالاً في حالةٍ لا يطيق النظر إليها

ص: 371


1- ([1]) الكافي للكليني: 1 / 304 ح 3.
2- ([2]) الكافي للكليني: 1 / 291 ح 6.

الأعداء، ثمّ بكى الغريب ساعة، ثمّ أمرهم بالصبر، ووعدهم بالثواب والأجر، وأمرهم بلبس أُزُرهم، وقال لهم: «استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله (تعالى) حافظكم وحاميكم، فأنتم وديعتي عنده، وهو خليفتي عليكم وهو نِعم الوكيل» ((1)).

ولسان حال الإمام المظلوم يخاطب أُخته السيّدة زينب:

لا تلطمي يا بنتَ فاطم ((2)) خدّك من***قتلي وقد غمرت أعضاك أشجانُ

ولا تشقي علَيّ الجيب صارخةً***فالشقّ كشف ونشر الشعر خذلانُ

لكن إذ انصعت في الرمضاء منجدلاً***وانحطّ من شامخ المعروف بنياني

حنّي حنين حمام الأيك نادبةً***واستمطري الدمع حيث السحب إيمانُ

وإن تفرّقَت الأيتامُ فانتدبي***لجمعها، فالجزا في البعث غفرانُ

فإن يشقّ عليها سَير قائدها***فاسترفقيه وإن غارتك احسانُ

واستسقِ من خصمكِ الماء إن شكَت عطشاً***فربّما رقّ، إنّ الشطّ ملآنُ

هذا عليٌّ أبوها إن دعت باب***والمؤمنون لها في الله إخوانُ

ثمّ إنّ الإمام المظلوم تقدّم إلى الميدان بآهاتٍ ملتهبةٍ ودموعٍ ساكبةٍ وشوقٍ للقاء الله، وخاطب القوم لإتمام الحجّة عليهم، فقال --كما في رواية

ص: 372


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 344.
2- ([2]) في المتن: (الزهراء).

(المناقب) -- :

«يا أهل الكوفة! قبحاً لكم وترَحاً، وبؤساً لكم وتعساً، حين استصرختمونا ولهين فأتيناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفاً كان في أيماننا، وحششتم لأعدائكم من غير عدلٍ أفشوه فيكم ولا ذنبٍ كان منّا إليكم، فهلّا لكم الويلات، إذ كرهتمونا تركتمونا، والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصد، لكنّكم أسرعتم إلى بيعتنا كسرع الدبا، وتهافتُّم إليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها سفهاً وضلة وفتكاً لطواغيت الأُمّة وبقيّة الأحزاب ونبذة الكتاب، ثمّ أنتم تتخاذلون عنّا وتقتلوننا، ألا لعنة الله على الظالمين» ((1)).

ورُوي أنّه قال: «يا قوم، أما تخافون الله الّذي يميت ويُحيي، ويُذهب بالليل مظلماً ويأتي بالنهار مبصراً؟ فإن كنتم تؤمنون بالله وبرسوله، وهو جدّي، ولا تنكرون المعاد، فلا تظلموني ولا تجورون علَيّ! أوَلستُ سبط المصطفى محمّد؟ أوَلستُ ابن أسد الله؟ أوَليست أُمّي سيّدة النساء وأفضلهنّ، وهي مريم هذه الأُمّة؟ أوَ لم يقبّلني نبيّكم مراراً ويحملني على عاتقه كراراً ويجعل خدّه على خدّي؟ أوَ لم يطلب لي الغزالة من الصحراء؟ ألم يقل النبيّ مراراً: حسين مني وأنا من حسين؟ وقال: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة؟ أوَلستُ ابن فاطمة بنت نبيّكم الّتي قال فيها: فاطمة بضعة منّي، مَن آذاها فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله؟ أما تحزن أُمّي فاطمة إذارأتني بهذا الحال؟ أوَليست هذه عمامة رسول الله على رأسي؟

ص: 373


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 362، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 300، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 83.

أليست هذا مغفره علَيّ؟ أليس هذا سيف أسد الله بيدي؟ أوَليس هذا درع حمزة سيّد الشهداء على عاتقي؟ فارجعوا إلى أنفسكم وحاسبوها، بماذا ستجيبون غداً يوم القيامة جدّي وأبي وأُمّي إذا أوقفوكم للخصومة؟ لقد قتلتم أصحابي وإخوتي وأبناء إخوتي وأبنائي وأهل بيتي وأنصاري، وأنتم تريدون الآن قتلي! فإن كان ذلك للتسلّط والولاية، فلا تسدّوا علَيّ الطريق، ودعوني آخذ عيالي وأطفالي وأذهب إلى الحبشة أو الترك، واسقوا هؤلاء النسوة والأطفال الأبرياء وهم ذريّة نبيّكم قليلاً من الماء؛ ليطفي نار أكبادهم».

فارتفعت من عسكر ابن سعد الصيحة، وارتفع البكاء والعويل، حتّى كادت العساكر تنقضّ على أُمرائها، فانبرى الأشقياء منهم -- أمثال شمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي -- فنادوا: يا ابن أبي تراب، لا تطيل على نفسك المقام، انزل على حكم ابن زياد وبايع يزيد، وإلّا فإنّك ستموت عطشاً! فقال الإمام: «هيهات، إنّي لا أُبايع فاسقاً» ((1)).

رُوي عن الإمام زين العابدين أنّه قال: «فرجع أبي إلى الخيمة وهو يبكي، فخرجَت إليه السيّدة زينب وهي تجرّ أذيالها، والحسرة والحزن يلفع كيانها، فقالت له: هذا كلام مَن أيقن بالقتل! فقال لها: أي أُخيّة، كيف لايوقن بالقتل مَن لا معين له ولا مجير؟! ثمّ اختنق أبي بعبرته، فرأته السيّدة زينبودموعه تسيل، فنادت: وا ثكلاه! ينعى الحسين نفسه! وا محمّداه، وا عليّاه، وا فاطمتاه، وا حسناه، وا حسيناه!».

ص: 374


1- ([1]) أُنظُر: رياض الشهادة: 2 / 243 المجلس 12، روضة الشهداء للكاشفي: 345.

وفي (بحار الأنوار): ثمّ قام الحسين علیه السلام وركب فرسه، وتقدّم إلى القتال:

«كفر القوم وقدماً رغبوا***عن ثواب الله ربّ الثقلين

قتلوا القومُ عليّاً وابنَه***حسنَ الخير كريم الأبوين

حنَقاً منهم، وقالوا أجمعوا:***احشروا الناس إلى حرب الحسين

يا لَقومٍ من أُناسٍ رُذّلٍ***جمع الجمع لأهل الحرمين

ثمّ ساروا وتواصوا كلّهم***باجتياحي لرضاء الملحدين

لم يخافوا اللهَ في سفك دمي***لعُبيد الله نسل الكافرين

وابن سعدٍ قد رماني عنوةً***بجنود كوكوف الهاطلين

لا لش-يءٍ كان منّي قبل ذا***غير فخري بضياء النيّرين

بعليّ الخير من بعد النبي***والنبيّ القرشيّ الوالدين

خيرة الله من الخلق أبي***ثمّ أُمّي، فأنا ابنُ الخيّرَين

فضّة قد خلُصَت من ذهبٍ***فأنا الفضّة وابن الذهبَين

فضّة قد خلُصَت من ذهبٍ***فأنا الفضّة وابن الذهبَين

مَن له جدٌّ كجدّي في الورى***أو كشيخي، فأنا ابن العلمَين

فاطم الزهراء أُمّي وأبي***قاصم الكفر ببدرٍ وحُنين

عبَدَ اللهَ غلاماً يافعاً***وقريش يعبدون الوثنين

يعبدون اللّات والعُزّى معاً***وعليٌّ كان صلّى القبلتين

فأبي شمسٌ وأُمّي قمرٌ***فأنا الكوكب وابن القمرَين

وله في يوم أُحدٍ وقعة***شفت الغلّ بفضّ العسكرين

ثمّ في الأحزاب والفتح معاً***كان فيها حتف أهل الفيلقين

ص: 375

في سبيل الله ماذا صنعَت***أُمّة السوء معاً بالعترتين

عترة البرّ النبيّ المصطفى***وعليّ الورد يوم الجحفلين» ((1))

وقد وردت الأبيات في بعض كتب المقاتل بزياداتٍ ذكرها في (معدن البكاء) ((2)).

وفي (البحار): ثمّ وقف علیه السلام قبالة القوم وسيفه مصلتٌ في يده آيساً من الحياة عازماً على الموت، وهو يقول:

«أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشمٍ***كفاني بهذا مفخراً حين أفخرُ

وجدّي رسول الله أكرم مَن م-ضى***ونحن سراج الله في الخلق نزهرُ

و فاطم أُمّي من سلالة أحمدٍ***وعمّي يُدعى ذا الجناحين جعفرُ

وفينا كتاب الله أُنزل صادقاً***وفينا الهدى والوحي بالخير يُذكَرُ

ونحن أمان الله للناس كلّهم***نسر بهذا في الأنام ونجهرُ

ونحن ولاة الحوض، نسقي ولاتنا***بكأس رسول الله ما ليس يُنكَرُ

وشيعتنا في الناس أكرم شيعةٍ***ومبغضنا يوم القيامة يخسرُ ((3))

فطوبي لعبدٍ زارنا بعد موتنا***بجنة عدنٍ صفوها لا يكدّرُ» ((4))

ص: 376


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 47، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 301.
2- ([2]) أُنظُر: معدن البكاء لمحمّد صالح القزويني: 215 (مصوّرة).
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 48.
4- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 49، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 301.

وفي (المنتخب) أنّ الحسين لمّا رأى وحدته وفقد عترته وأنصاره، تقدّم على فرسه نحو القوم حتّى واجههم، وقال: «أيّها النّاس، انسبوني وانظروا مَن أنا، ثمّ راجعوا أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم سفك دمي وانتهاك حُرمي؟ ألستُ أنا ابن نبيّكم محمّد؟ أما كان موصياً فيكم لي ولأخي؟ أما أنا سيّد شباب أهل الجنّة؟ أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي وانتهاك حُرمتي؟». فقالوا: ما نعرف شيئاً ممّا تقول. فقال: «إنّ فيكم مَن لو سألتموه عنّي لَأخبركم إنّه سمع ذلك من جدّيرسول الله فيّ وفي أخي الحسن، سلوا زيد بن ثابت والبراء بن عازب وأنس ابن مالك، فإنّهم يخبرونكم أنّهم سمعوا من جدّي رسول الله فيّ وفي أخي، فإن كنتم تشكّون إنّي لست ابن بنت نبيّكم، فوَاللهِ ما تعمّدتُ الكذب وقد عرفتُ أنّ الله (تعالى) يمقت على الكذب أهله ويعذّب مَن استعمله، فوَاللهِ ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري، ثمّ أنا ابن إمامكم خاصّة دون غيري، خبّروني هلى تطلبوني بقتل قتلته منكم، أو بقصاص من جراحة، أو بمالٍ استملكته منكم، أم على سنّةٍ غيّرتها، أم على شريعة فرض بدّلتها؟» ((1)).

وفي رواية أبي مخنف: «أم على شريعةٍ غيّرتها؟ أم على حقٍّ تركته؟ أم على بيعةٍ نكثتها؟»، فقالوا له: نقاتلك بغضاً منّا لأبيك وما فعله بأشياخنا يوم بدرٍ وحُنين. فلمّا سمع كلامهم حمل عليهم، فقتل منهم خمسمئة فارس ((2)).

ص: 377


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 182 المجلس 9.
2- ([2]) أُنظُر: ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 80، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 85.

وفي (المنتخب): ثمّ إنّ الحسين علیه السلام أقبل على عمر بن سعد، وقال له: «أُخيّرك في ثلاث خصال»، قال: وما هي؟ قال: «تتركني حتّى أرجع إلى المدينة إلى حرم جدّي رسول الله»، قال: ما لي إلى ذلك سبيل. قال: «اسقوني شربةً من الماء، فقد نشفت كبدي من الظمأ»، فقال: ولا إلى الثانية سبيل. قال: «وإن كان لابدّ من قتلي، فلْيبرز إليّ رجلٌ بعد رجل»، فقال: ذلك لك ((1)).لله مظلوميّتك ووحدتك وغربتك يا أبا عبد الله! كيف يمكن للشيعيّ أن يحبس دمعه وهو يسمع أنّ الإمام المظلوم يلحّ على ابن سعد اللعين أن يبرز إليه رجلٌ بعد رجل، ليقاتلهم على كثرتهم، فيقبل الجلف الصلف ثمّ لا يفي له بذلك، ويأمر العسكر كلّه بالهجوم عليه حملة رجلٍ واحد ((2))، لعنة الله عليه في الدارين.

وفي (البحار): ثمّ إنّ الإمام المظلوم أنشأ هذه الأبيات، وهي من إنشائه وليس لأحدٍ مثلها:

«فإن تكن الدنيا تُعَدّ نفيسةً***فإنّ ثواب الله أعلى وأنبلُ

وإن تكن الأبدان للموت أُنشأت***فقتل امرئٍ بالسيف في الله أفضلُ

ص: 378


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
2- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50، المنتخب للطريحي: 2 / 450 المجلس 10.

وإن تكن الأرزاق قسماً مقدَّراً***فقلّة سعي المرء في الكسب أجملُ

وإن تكن الأموال للترك جمعها***فما بال متروكٍ به المرء يبخلُ»

ثمّ إنّه دعا الناس إلى البراز، فلم يزل يقتل كلّ مَن دنا منه من عيون الرجال حتّى قتل منهم مقتلةً عظيمة ((1)).

وفي (الملهوف): فلم يزل يقتل كلّ مَن برز إليه حتّى قتل مقتلةً عظيمة، وهو في ذلك يقول:

«اَلقتل أَولى من ركوب العارِ

والعارُ

أَولى من دخول النارِ»

((2))«اَلقتل أَولى من ركوب العارِ

والعارُ

أَولى من دخول النارِ»

((3))

قال محمّد بن أبي طالب:

ولم يزل يقاتل حتّى قتل ألف رجلٍ وتسعمئة رجلٍ وخمسين رجلاً، سوى المجروحين ((4)).

وفي (البحار): ثمّ حمل علیه السلام على الميمنة، وقال: «الموتُ خيرٌ من ركوب العار».

ثمّ على الميسرة وهو يقول:

ص: 379


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 49.
2- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 119، مثير الأحزان لابن نما: 72، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50.
3- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 119، مثير الأحزان لابن نما: 72، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50.
4- ([2]) تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 318، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 365، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50.

«أنا الحسين بن علي***آليتُ أن لا أنثني

أحمي عيالات أبي***أمض-ي على دين النبي» ((1))

ورُوي أنّه كان يحمل على القوم ويصرخ فيهم صرخات حيدر الكرّار، فقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة، وقلب القلب على الجناحين، يدخل في أوساطهم ويخرج من أعراضهم، ويروي الأرض من دمائهم، فيتساقطون كأوراق الشجر في الخريف من طعنات رمحه وبعجات سيفه، حتّى قتل منهم أربعمئة بين فارسٍ وراجل ((2)).

قال السيّد ابن طاووس: قال بعض الرواة: فوَاللهِ ما رأيتُ مكثوراً قطّ قد قُتل وُلده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، وإنكانت الرجال لَتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فينكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيه الذئب، ولقد كان يحمل فيهم ولقد تكملوا ثلاثين ألفاً، فيُهزَمون بين يدَيه كأنّهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ((3)).

عن حميد بن مسلم قال: واللهِ لقد رأيتُ شيبه مخضوبةً بالدم، ودرعه

ص: 380


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 49.
2- ([4]) أُنظُر: جلاء العيون: 685.
3- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 119، مثير الأحزان لابن نما: 72، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 188، إعلام الورى للطبرسي: 249، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 50.

بان عليه بنياناً، وليس يُرى للناظرين، وهو إذا شدّ عليهم انكشفوا من بين يديه انكشاف الغنم إذا شدّ عليها الذئب ((1)).

قال الشاعر:

فشدّ عليهم وهو نجل الأسد***يا لها شدّة خافت بكلّ منافقِ

فبعض محبّيه يشبّه حاله***بوصف، وعندي الوصف غير مطابقِ

إذا شاء يفني كان عزريل خادماً***له صادراً من أمره بالمخافقِ

ولمّا دعا الأرواح لبّت مطيعةً***وتحريكهم عنه بحكم الوثائقِ

ورُوي أنّ المولى حمل على الأشرار يضرب فيهم يميناً وشمالاً وفي كلّ جهة، حتّى أفنى خلقاً كثيراً منهم وعجّل بهم إلى جهنّم وسقر، فلمّا نظر الشمر (لعنه الله) إلى ذلك قال لعمر بن سعد: أيّها الأمير، واللهِ لو برز إلى الحسين أهل الأرض لَأفناهم عن آخرهم((2))، ما رأيتُ رجلاً يُقتَل بنوه وإخوته وأصحابه أربط جأشاً من الحسين، ولا شكّ في ذلك، فإنّه ضلعٌ من أضلاع النبوّة ((3)).

فقال ابن سعد: فماذا نفعل؟ قال الشمر (لعنه الله): فالرأي أن نفترق عليه ثلاث فرق, فرقةٌ تهجم على خيامه وعياله، وفرقةٌ بالسيوف والرماح،

ص: 381


1- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 13 المجلس 13.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 450.
3- ([2]) مهيّج الأحزان لليزدي: 360.

وفرقةٌ بالنبل تحيط به من كلّ جانب.

فعدل اللعين النحس عن شرطه ورضيَ قول الشمر، فأمر فرقةً بالهجوم على خيام الحسين وحرمه، ثمّ أمر الباقين أن يفترقوا فرقتين، فرقة بالسيوف والرماح وفرقة بالنبال والأحجار، فحملوا على الإمام المظلوم من كلّ جانب، وملؤوا الأرض عليه خيلاً ورجالاً، لهفي على ذلك الجسم المتعب الخضيب! ((1))

ثمّ إنّ الإمام المظلوم حمل عليهم بكبده المفتّت من الظمأ وشفاهه الذابلات من العطش.

وفي (المنتخب): وجعل الحسين يحمل تارةً على الميمنة وأُخرى على الميسرة، حتّى قتل -- على ما نُقل -- ما يزيد على عشرة آلاف فارس، ولا يبين فيهم لكثرتهم، حتّى أثخنوه بالجراح ((2)).

وفي رواية ابن شهرآشوب: فقال عمر بن سعد لقومه: الويل لكم! أتدرون مَن تبارزون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب،فاحمِلوا عليه من كلّ جانب ((3)). فحملوا عليه مئة وثمانون وأربعة!! فأحاطوا بالفريد الوحيد، ورموه بالسهام، وحالوا بينه وبين رحله، وتوجّهوا إلى

ص: 382


1- ([3]) أُنظُر: مهيّج الأحزان لليزدي: 360 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 450 المجلس 10.
3- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 365 الفصل 9.

الخيام ((1)).

وفي (الملهوف): فحالوا بينه وبين رحله، فصاح: «ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دِينٌ وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرُباً كما تزعمون!». قال: فناداه شمر (لعنه الله): ما تقول يا ابن فاطمة؟ فقال: «إنّي أقول: أُقاتلكم وتقاتلونني، والنساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرّض لحرمي ما دمتُ حيّاً». فقال شمر (لعنه الله): لك ذلك يا ابن فاطمة ((2)).

وفي (البحار): ثمّ صاح شمر: إليكم عن حرم الرجل، فاقصدوه في نفسه، فلَعمري لهو كفوٌ كريم ((3)).

فداءً لغَيرتك يا سيّدي المظلوم! ما استطعتَ النظر إلى الأعداء يحوطون بعيالك ونسائك وبناتك وأخواتك، ليتك تنظر إليهنّ وأُختك زينب وباقي أخواتك وبناتك ونسائك يندبن ويصرخن بين القتلىوالشهداء حواسر،

ص: 383


1- ([2]) في مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 365 الفصل 9: (فحملوا بالطعن مئةٌ وثمانون، وأربعة آلاف بالسهام)، وفي الأسرار للدربندي: 14 / 3 المجلس 13 -- عن: مناقب آل أبي طالب: (فحملوا بالطعن مئةٌ وثمانون وأربعة آلاف، فرموه بالسهام، فحالوا بينه وبين رحله).
2- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 120، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
3- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.

وقد أحاطت بهنّ الأعداء والفرسان، وهنّ ينحن ويندبن حتّى بكى لبكائهنّ الأعداء!! وبكت الخيل حتّى جرت دموعها على حوافرها، ثمّ إنّ الأشقياء أجبروهنّ على ترك الأجساد الطاهرة، وجرّوا سكينة وفرّقوا بينها وبين بدنك المقدّس بالقسوة والعنف، وأركبوهنّ على النياق.

ولَنِعم ما قيل على لسان الحوراء زينب تخاطب أخاها: أخي، كان خماري على رأسي ما دامت عمامتك على رأسك، فمذ سلبوك عمامتك سلبوا منّي خماري!

أجل، لم يُطِق الإمام المظلوم أن يرى أحداً يقترب من خيامه وعياله أو يسيء إليهنّ ما دام على قيد الحياة وكان به رمق، وقد مرّ بنا أنّه خطب القوم قبل يوم عاشوراء وقد اشتدّ به العطش، فذكر حسَبَه ونسَبه، وقال في آخر خطبته: «فبمَ تستحلّون دمي؟»، قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً.

فلمّا خطب هذه الخطبة وسمعن بناتُه وأُخته زينب كلامه بكين وندبن ولطمن، وارتفعت أصواتهنّ، فجاشت غيرة المولى الغيور، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وعليّاً ابنه وقال لهما: «سكّتاهنّ، فلَعمري لَيكثرنّ بكاؤهنّ» ((1)).

وكذا فعل الإمام الغيور حينما مدّ يده فغرف من الماء، فقال فارس: يا أبا عبد الله، تتلذّذ بشرب الماء وقد هُتكَت حرمك؟! فنفض الماء من يده،

ص: 384


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 87.

وحمل على القوم فكشفهم عن الخيمة ((1)).

أجل، هكذا كانت الحقيقة، إذ كانت الملاحف والمقانع والأُزر على رؤوس الأهل والعيال ما دامت العمامة على رأس سيّد الشهداء وكان به رمق، فلمّا سُلبَت عمامة الإمام المظلوم سُلبَت الحوراء ملحفتها وخمارها!!

أجل، قصده القوم وهو في ذلك يطلب شربةً من ماء، فكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتّى أحالوه عنه ((2)).

وفي روايةٍ أنّ الإمام العطشان رجع إلى عياله وأطفاله، فسمع صوت ابنته سكينة مرتفعاً بالبكاء، فقال لها:

«لا تُحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً***ما دام منّي الروح في جثماني

فإذا قُتلتُ فأنتِ أَولى بالّذي***تبكينه، يا خِيرةَ النسوانِ»

ثمّ اجتمع عليه نساؤه وعياله وبناته، وأحطنَ به وجعلن يبكين ويندبن وحدته وغربته، فعزّاهنّ وسلّاهنّ، ثمّ اتّجه إلى ميدان القتال ((3)).

وفي (نور الأئ-مّة) أنّه لمّا أراد أن يحمل عليهم، فإذا علا غبارٌ ظهر منه شخصٌ مهيبٌ على مركبٍ عجيب، وسلّم على الإمام علیه السلام وعلى جدّه وأبيه وأُمّه، فرد عليه السلام وقال: «مَن أنت وتسلّم في هذه الحالة على المظلوم

ص: 385


1- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
3- ([3]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 348.

الغريب؟!»، فقال: يا ابن رسول الله، أنا زعفر الزاهد سلطان الجنّ، وعسكري في هذه البادية، ولقد أعطى أبوك حين غزا مع الجنّ في بئر العلم السلطنة لأبي، وبعد وفاته قد انتقلَت إليّ، فأْذَنْ لنا أن نحارب مع أعدائك هؤلاء. قال علیه السلام : «لا، فإنّكم ترونهم ولا يرونكم». قال: فنحن نتصوّر بصورهم، إن قُتلنا كنّا شهداء في سبيلك. فقال: «جزاك الله خيراً يا زعفر، فإنّي قد سئمت من الدنيا، ورأيتُ في الطيف أنّي ألقى الله في هذا اليوم شهيداً مجدّلاً، فارجع ولا تتعرّض لهؤلاء القوم»، فرجع.

ثمّ توجّه إلى المحاربة، فطلب منهم المبارزة، فخرج تميم بن قحطبة -- وهو من أُمراء الشام -- وقال: يا ابن عليّ، إلى متى الخصومة؟ فقد قُتل أولادك وأقرباؤك ومواليك، فأنت بعد تضرب بالسيف مع عشرين ألفاً! فقال علیه السلام : «أنا جئتُ إلى محاربتكم أم أنتم جئتم إلى محاربتي؟ أنا منعت الطريق عنكم أم أنتم منعتموه عنّي؟ وقد قتلتم إخواني وأولادي، وليس بيني وبينكم إلّا السيف، فلا تكثر المقال، فتقدّمْ إليّ حتّى أرى ما عندك». فصاح صيحة، وسَلّ السيف وضرب عنقه، فتبعّد خمسين ذراعاً.

فخاف العسكر من ضربه علیه السلام ، فصاح يزيد الأبطحيّ عليهم: إنّكم عجزتم عن رجلٍ واحدٍ وتفرّون؟ ثمّ جاء بين يدَي الإمام علیه السلام ، وكان مشهوراً بالشجاعة، فلمّا رآه عسكر عمر بن سعد في قِباله أظهروا البشارة والسرور، لكن خاف أهل البيت منه حين رأوه تجاهه، فصاح علیه السلام عليه: «ألا تعرفني، فتجئني في قبالي كمَن لا خوف له؟»، فلم يجبه، وسَلّ السيف، فسبقه علیه السلام

ص: 386

وضرب على وسطه بالسيف فقدّه نصفين ((1)).

كتاب فاطمة العليلة

لمّا كانت مصيبة إمام العالمين يوم عاشوراء أعظم مصائب الثقلين إلى يوم الدين، فلابدّ من وصول كتاب فاطمة الصغرى إلى سيّد الشهداء في هذا الوقت الحرج، فتزيد في لهيب النيران في قلب الإمام وقلوب أهل بيته، وتُبقي جمرتها في قلوب الشيعة تلسعها إلى يوم القيامة.

وكانت هذه الغصّة الأليمة كالتالي:

عن بعض كتب المقتل: وكان له بنتٌ تسمّى بفاطمة، وكانت حين خروجه من المدينة مريضة، جعلها عند أُمّ سلَمة، وكانت كلّ يومٍ تجيء خلف الباب لعلّها تجد مَن كان له اطّلاعٌ بحال والدها.

لمّا طال زمان الفراق ولم يصل الخبر من والدها، اشتغلَت بالبكاء وتراكمت عليها الأحزان، وكتبت كتاباً لوالدها تبيّن فيها حالها، فلمّا فرغت من كتابتها واشتغلت بالنوح والبكاء لفرقة والدها وغيره، فإذا أعرابيّ سمع بكاءها فتأثّر من بكائها، فبكى ساعة، ثمّ علم أنّ الباكية بنت الإمام وبكاؤها لفراقه علیه السلام ، فنادى بصوتٍ عال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة

ص: 387


1- ([1]) روضة الشهداء للكاشفي: 346 -- عن: نور الأئمّة، أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 13 المجلس 13.

ومعدن الرسالة، أنا رجلٌ من البادية، أُريد الرواح إلى كربلاء،فهل لكم حاجة؟

فلمّا سمعته فاطمة جاءت خلف الباب، وردّت جواب سلامه، وقالت: يا أعرابيّ، أنا بنت الحسين علیه السلام ، فإنّه لمّا عزم إلى كربلاء كنت مريضة، فسلّمني إلى جدّتي أُمّ سلمة زوجة رسول الله صلی الله علیه وآله، فالآن لم تبقَ لي طاقةٌ من هجرانه، وكتبت كتابةً وأُريد مَن يوصلها إليه.

فأخذها الأعرابيّ منها، ففي يوم عاشوراء وقت المحاربة بلغ إلى كربلاء وسلّمها إليه علیه السلام ، فلمّا فتحها واطّلع على مضمونها، بكى بكاءً شديداً، ثمّ جاء عند أهل البيت وقرأها لهنّ، فبكين بكاءً شديداً.

و لم يظهر حال الأعرابيّ أنّه كان ملكاً أو بشراً، وصار شهيداً أم لا ((1)).

ولا يبعد أن يكون ملَكاً من ملائكة الرحمان أوصل كتابها إلى الإمام في ذلك الوقت العصيب، ليهيّج قلوب الشيعة ويزيد في لوعتهم، ويكون سبباً في زيادة تعظيم الإمام.

أجل، حمل الإمام الهمام على أُولئك الكفرة اللئام، فقلب أوّلهم على آخرهم، فانكشفوا بين يديه يدقّ بعضهم بعضاً ((2)).

ص: 388


1- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 12 المجلس 13.
2- ([2]) أُنظُر: مهيّج الأحزان لليزدي: 357 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.

روى ابن شهرآشوب قال: إنّ الحسين حمل على الأعور السلَميّ وعمرو ابن الحجاج الزبيديّ، وكانا في أربعة آلاف رجلٍ على الشريعة، وأقحم الفرس على الفرات ((1)).ورُوي أنّه كادت أن تطلع روحه من شدّة العطش، وكذا كان حال الفرس، فلمّا أولغ الفرس برأسه ليشرب.. ((2)).

وفي (المناقب): فلمّا أولغ الفرس برأسه ليشرب، قال علیه السلام : «أنت عطشانٌ وأنا عطشان، واللهِ لا أذوق الماء حتّى تشرب!». فلمّا سمع الفرس كلام الحسين شال رأسه ولم يشرب، كأنّه فهم الكلام ((3))، فقال الحسين: «اشربْ، فأنا أشرب»، فمدّ الحسين يده فغرف من الماء ((4)).

وفي (البحار): إنّ رجلاً من كلب رماه بسهمٍ فشكّ شدقه، فقال

ص: 389


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 44 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
2- ([1]) أُنظُر: مهيّج الأحزان لليزدي: 357.
3- ([2]) بل قد فهم الكلام على التحقيق، ولا أدري لمَ لا يُقال: (لأنّه فهم الكلام)، أو (وقد فهم الكلام)، أو أيّ عبارةٍ أُخرى تؤكّد على تحقّق الفهم، أمّا الّذي لم يفهم كلام سيّد الشهداء الحسين علیه السلام فهو شمر وأصحابه الّذي يقول: ما ندري ما تقول يا ابن فاطمة، أفهِمْنا حتّى نفهم!!
4- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 44 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.

الحسين علیه السلام: «لا أرواك الله». فعطش الرجل حتّى ألقى نفسه في الفرات وشرب حتّى مات ((1)).

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله، كيف يلذّ شيعتك الماء بعد سماعهم هذا الحديث؟!

في (كامل الزيارة): عن داوود الرقّي قال: كنتُ عند أبي عبد الله علیه السلام إذا استسقى الماء، فلّما شربه رأيتُه قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: «يا داوود، لعن الله قاتلالحسين؟ع؟، فما مِن عبدٍ شرب الماء فذكر الحسين علیه السلام ولعن قاتله، إلّا كتب الله له مئة ألف حسنة، وحطّ عنه مئة ألف سيّئة، ورفع له مئة ألف درجة، وكأنّما أعتق مئة ألف نسمة، وحشره الله (تعالى) يوم القيامة ثلج الفؤاد» ((2)).

فداءً لقدرك ومنزلتك يا مظلوم كربلاء، كلّ هذا الأجر والثواب من ربّ الأرباب لمن ذكرك عند شرب الماء ولعن قاتلك! فلا يسوغ للشيعيّ أن يشرب الماء ولا يذكر الشفاه الذابلات في عرصات كربلاء، ولا يحترق بنيران

ص: 390


1- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 300، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 39 الفصل 3، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 107.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 106 الباب 34 ح 1، الكافي للكليني: 6 / 391 ح 6، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 170، جامع الأخبار: 177، الأمالي للصدوق: 142، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 303 ح 16.

الغموم والهموم، ولا يُجري دموعه كما فعل الصادق.

بل بقطع النظر عن ملاحظة الثواب، يتحتّم على زمرة أُولي الألباب أن يلهبوا أكبادهم بنيران الحزن على شفاه أبي عبد الله الذابلات من العطش، ويشبّوا قلوبهم بلهب نار السهم المشؤوم الّذي أصاب حنكه الشريف لمّا أراد شرب الماء، فيتصاعد من قلوبهم وأكبادهم الدخان والبخار، فيجتمع في رؤوسهم ويجري دمعاً من آماقهم وعيونهم، تأسّياً بالإمام الشهيد المظلوم وولده الصادق، بل تأسّياً بجميع الأنبياء والأوصياء والأولياء.

أعتذر إليكم أيّها الشيعة، فإنّي لمّا بلغت في تأليفي إلى هذا المقام ثارت زفرتي وجرت عبرتي، وصرت كأنّي مسلوب الإرادة فتوقّفت عن الاستمرار في حديثي، والآن أعود إلى حيث كنت من حديثٍ يقطع حبائل الصبر ويسلب سكون المحبّ.

إصابة فخذه بسهم

أيّها الشيعي! لو أنّ قلبك من حجرٍ لما أطقت سماع ما سأذكره لك، ولا أستطع معه صبراً، إذ يقول الحقّ (تعالى) في القرآن المجيد: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا

يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا

ص: 391

يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ((1)).

ثمّ إنّ الحسين علیه السلام لمّا همّ ليشرب، رماه الحُصَين بن نُمير (لعنه الله) بسهم، فوقع في فخذه، فنزع السهم وتلقّى الدم بيده، ورمى به نحو السماء وقال: «يا ربّ، إليك المشتكى في قومٍ أراقوا دمي، ومنعوني شرب الماء». ثمّ إنّه علیه السلام هَمّ ليشرب ثانياً، فنادى عمر بن سعد (لعنه الله): لئن شرب الحسين

علیه السلام من الماء ليفنيكم عن آخركم ((2)).

وفي (المناقب): فمدّ الحسين يده فغرف من الماء، فقال فارس -- لعين -- : يا أبا عبد الله، تتلذّذ بشرب الماء وقد هُتكَت حرمتك؟ -- وبالرغم من شدّة عطشه وجراحاته ونزف السهم الّذي أصابه، غير أنّه مظهر غيرة ربّ الأرباب -- فنفض الماء من يده، وحمل على القوم فكشفهم، فإذا الخيمة سالمة ((3)).

قيل: إنّه حين خرج من الماء ووصل إلى الخيمة قتل أربعمئةرجلٍ من أُولئك الأوغاد ((4)).

ص: 392


1- ([1]) سورة البقرة: 74.
2- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 344، روضة الشهداء للكاشفي: 349.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 45 الفصل 3، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51.
4- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 18 المجلس 13 -- عن: كتاب رياض الشهادة للقزويني.

نُقل أنّ الإمام لمّا ودّع عياله وأراد التوجّه نحو الميدان، ودّع إحدى بناته، وكان لها من العمر ثلاث سنين، فقبّلها وضمّها إلى صدره، فصاحت البنت من شدّة العطش: يا أبتاه، العطش العطش! فقال: «اصبري يا بُنيّة حتّى آتيكِ بالماء». ثمّ توجّه إلى الميدان، فلمّا نادى هذا اللعين، وترك سيّد الشهداء الماء وقصد الخيمة مسرعاً، فسمعت هذه الطفلة بعودة أبيها، فبادرت لاستقباله وقالت: يا أبتاه، لعلك أتيتني بالماء! فبكى الإمام بكاءً شديداً، وقال: «واللهِ يعزّ علَيّ تلهّفك». ثمّ جعل إصبعه المبارك في فمها، وسلّاها ومسح على رأسها ووجهها، فلمّا عزم على الخروج من الخيمة تعلّقت به وأخذت بأذياله، فقال لها: «يا نور عيني، سأطلب لكِ من هؤلاء القوم قليلاً من الماء».

فلمّا توجّه نحو الميدان، نادى سيّد الساجدين علیه السلام : «يا أبة، توقَّفْ حتّى أُودّعك».

فخرج النساء من سرادق العصمة، وطُفن به كالفراشات إذا طافت حول الشمعة، فسلّاهنّ الحسين علیه السلام وصبّرهن، وذكّرهنّ بثواب اللّه وبما أعدّ اللّه لهنّ من الأجر، فارتفعت صرخات: الوداع الوداع، الفراق الفراق، من النساء، وهنّ يودّعنَ وليّهنّ ويعلمن أنّهنّ سيبقين بعده بلا حامٍ ولا نصير.

ص: 393

ثمّ إنّه ذهب باكي العين إلى ولده المريض زين العابدين علیهالسلام ، فضمّه وقبّله، وسلّمه ودائع الإمامة وأوصاه.

ثمّ رجع الى النساء وقد اجتمعن حوله بأكبادٍ محترقة وقلوبٍ منكسرة وعيونٍ عبرى، يعلوهنّ الاضطراب بما لا يمكن أن يتصوّره مخلوق، ولا يحرّره أيّ قلم، ولا يبيّنه أيّ لسان، فأمرهنّ بالصبر والسكون، وأمرهنّ أن يلبسن ثياباً استعداداً للأسر، وقال لهم: «استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ اللّه حافظكم وحاميكم، وسيُنجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم الى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء، ويعوّضكم اللّه عن هذه البليّة أنواع النعم والكرامة، فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص من قدركم، فلا تخمشن علَيّ وجهاً، ولا تشققن علَيّ جيباً، ولا تدعين بالويل والثبور، ولا أمنعكنّ عن البكاء، فإنّكنّ من بعدي غريبات ثكالى» ((1)).

ثم إنّه علیه السلام حمل عليهم كالليث المغضب، وتوجّه الى الفرات مرّةً ثانية لشدّة ما به من العطش، فركب المسنّاة، فاعترضته خيل ابن سعد، فحمل على الميمنة والميسرة، وقتل منهم مقتلةً عظيمة ((2)).

ولَنعم ما قال الشاعر:

لهفي عليه وقد أحاط به العدى***والبيض تبرق والخيول صواهلُ

ص: 394


1- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي ترجمة السيّد علي أشرف: 358 المجلس 10.
2- ([2]) مهيّج الأحزان لليزدي: 359.

ويقول وهو يجود بينهمُ وقد***فقد النصير وثمّ تمّ الخاذلُ

هل مسعدٌ، هل ماجدٌ، هل ناصرٌ***هل ذائدٌ، هل فارسٌ، هل راجلُ

هل راغبٌ، هل راهبٌ، هل هاربٌ ((1))***هل ناصحٌ، هل راشدٌ، هل عاقلُ

يأتي إلينا ناصراً ومحامياً***فيرى لنا حقّاً نفاه الباطلُ؟

ثمّ إنّه لمّا وصل إلى الفرات ملأ ركوةً ليشرب، فرماه رجلٌ من بني دارم يُقال له: زرعة بن شريك بسهمٍ فأصابه في حنكه، فسقطت الركوة من يده من شدّة الإصابة ((2)).

ورُوي أنّه انتزع السهم، وبسط يديه تحت حنكه حتّى امتلأت راحتاه بالدم، ثمّ رمى به نحو السماء ((3)).

ص: 395


1- ([1]) يعني: هارباً من عذاب الله، كما ترجمها المؤلّف.
2- ([2]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 40 الفصل 3، عوالم العلوم: 17 / 615، أنساب الأشراف: 3 / 201، حياة الإمام الحسين؟ع؟ من التبر المذاب للحافي: 157، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 301.
3- ([3]) أُنظُر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 40 الفصل 3، تاريخ الطبري: 4 / 343، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 223، مثير الأحزان لابن نما: 53، ذخائر العقبى للطبري: 144، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 430، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 331، حياة الإمام الحسين؟ع؟ من التبر المذاب للخافي: 157، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 301.

نُقل أنّ هذا الملعون كان يصيح من الحرّ في بطنه والبرد في ظهره، وبين يديه المراوح والثلج وخلفه الكانون، وهو يقول: اسقوني، أهلكني العطش! فيؤتى بعسٍّ عظيمٍ فيه السويق والماء واللبن، لو شربه خمسة لَكفاهم، فيشربه ويعود فيقول: اسقوني، أهلكني العطش! فانقدّ بطنه ((1)) وهلك، وفي وديان جهنّم سلك.أمّا المولى الغريب فقد شدّ جرحه بخرقة، ورجع إلى الميدان ((2)).

و عن (أخبار الدول): فاشتدّ العطش بالحسين علیه السلام ، فمنعوه من الماء، ثمّ حصل له شربة ماء، فلمّا أهوى بأن يشرب رماه حُصَين بن نُمير (لعنه الله) بسهمٍ من حنكه، فصار الماء دماً، فرفع يده إلى السماء فقال: «اللّهمّ أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذَرْ على الأرض منهم أحداً» ((3)).

وفي (بحار الأنوار): وجعل الحسين علیه السلام يطلب الماء، وشمر يقول له: واللهِ لا ترده أو ترد النار. فقال له رجل: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنّه بطون الحيتان، والله لا تذوقه أو تموت عطشاً. فقال الحسين علیه السلام «اللّهمّ أمِتْه

ص: 396


1- ([4]) مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 2 / 91، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 310، الصواعق المحرقة لابن حجر: 118، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 40 الفصل 3.
2- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي: 360.
3- ([2]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 19 المجلس 13 -- عن: أخبار الدول.

عطشاً». قال: واللهِ لقد كان هذا الرجل يقول: اسقوني ماءً! فيُؤتى بماءٍ فيشرب حتّى يخرج مِن فيه، ثمّ يقول: اسقوني، قتلني العطش! فلم يزل كذلك حتّى هلك ((1))، وفي سقر الجحيم سلك.

ونُقل أنّه جيء بعبد الله بن الحصين إلى المختار، فقال له: يا عدوّ الله، أنت الذي كنت تقول للإمام الحسين: لا تذوق من الماء قطرةً حتّى تبايع وتنزل على حكمنا؟ لم تكن ذلك اليوم تفكّر في مثل هذا الموقف؟! فأطرق عبد الله برأسه إلى الأرض وهو ساكت، فأمر فوضعوا صنارتين (كلابتين)، إحداهما في فكّه الأعلىوالأُخرى في حنكه، وقطعوا رأسه النتن بهذه الطريقة، وعجّلوا به إلى جهنّم وبئس المصير، والحمد لله ربّ العالمين.

وجيء بطلحة بن الركاب، فقال له المختار: أيّها الدعيّ، مَن أنت حتّى تحول بين الإمام الحسين وبين الماء؟ لمَ منعته من الماء؟! فسكت الخبيث، فأمر المختار فسُملت عيناه، وأُلقي على المزابل حتّى هلك.

ثمّ جيء بخمسة نفر، وهم: هارون بن عبّاد، ووردان بن أحمد الساباطي، وخالد بن نوفل، وشعيب بن غزوان، والحرث بن سهل، فقال المختار: أوَلستم السقّائين في كربلاء، كنتم تحملون القِرَب وتسقون عسكر الأعداء، وترشّون الماء على الأرض لئلّا يُثار الغبار ويلتصق بالأبدان خيول أصحابكم، ثمّ منعتموه عن أهل البيت؟ فأمر فصبّوا الزيت المغليّ في حلق

ص: 397


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 51، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 86.

الحرث ووردان، وقطعوا أيدي وأرجل الثلاثة الآخرون، وضرب كلّ واحدٍ منهم ألف سوطٍ حتّى هلك وفي وديان جهنّم سلك.

ثمّ جيء بأبي الميمون حجر بن الأحجار، وكان من القتَلة الملاعين، وكان من الحرس على الفرات، فلمّا رآه المختار شكر الله كثيراً، وأمر فضُربَت طبول البشارة، ثمّ قال: يا ويلك، يا شقيّ الأشقياء ودعيّ الأدعياء، لمَ خرجتَ إلى كربلاء، وأنزلت بآل البيت الكرام كلّ ذاك البلاء، وهتكت حرمة رسول الله؟ فتردّد الكلام بينهم، فقال المختار: أما تخاف منّي؟ قال حجر: أنت أمير، لا خير في وجهك، وشرّك يقدم خيرك ... فقال الأمير: سأُخيفك خوفاً تعرفني به وتعلم مَن أنا! قال حجر: نحن فعلنا ما أردنا، فافعل أنت ما تريد! فأمر المختار فوضعوا قدراً فيه ماءٌ على النار فغلى حتّى ذهب ثُلثه، ثمّ قال: اسمك حجر، والحجر صلبٌ صلد، أُريد أن تلينصلابتك. ثمّ أمر به فوُضع في القدر حتّى طُبخ ((1)).

ثمّ جيء بزيد بن يسار، وكان قد سبّ سيّد شباب أهل الجنّة، فأمر المختار فشكّ بصنّارة (كلّاب) في حنكه، وعلّق منها في وسط الكوفة، وبقي هكذا حتّى أكل الغراب عينيه.

ثمّ جيء بنعمان بن ثابت، فقال المختار: أنت الّذي كنتَ على ماء الفرات حارساً؟ فسكت اللعين، فأمر أن يُضرَب رأسه بالهراوات الضخمة،

ص: 398


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 161 و173 و175.

وتُكسر رجليه بالفأس، حتّى هلك وفي جهنّم سلك.

ثمّ جيء برافع بن مالك، وكان على كتيبةٍ على الفرات، وكان ممّن حال بين عسكر الحسين وبين الماء، فأمر المختار فعلّق بكلّابين (صنّارتين) شكّت في عاتقه، وضُرب ألف سوط، فطلب ماءً، فأُذيب رطلٌ من الرصاص وصُبّ في حلقه، فهلك وفي جهنّم سلك ((1)).

وجيء بعمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وكان على الفرات، وكان أوّل مَن ضرب سيّد الشهداء بسيف، فلعنه الأمير ولعنه مَن كان حاضراً، ثمّ أمر المختار فدُقّت يداه بالفأس من الساعد، ثمّ قُطعت، ثمّ أُحرق.

ثمّ جيء بسيف وأبي بكر وشاكر، فقال المختار: ما لكم قتلتم الإمام الحسين؟ فقالوا: كان قد خرج على إمام زمانه يزيد، فاستحقّ ذلك!!! فأمر المختار فدُفنوا ثلاثتهم أحياءً.

وقد حضرني في المقام حكايةٌ تثير الزفرة وتُجري العَبرة،وتسلب الإنسان راحته ودعته ووقاره، فقد حُكي أنّ شابّاً من الأنصار يقول:

رأيت في سوق الكوفة رجلاً يقرف الناظر إليه ويتقزّز، فحاولتُ الابتعاد منه، فتبعني مسرعاً واستجدى منّي، وقال: إنّي جائعٌ فأطعِمْني. فقلت له: لا أُطعمك حتّى تخبرني خبرك. فأطرق برأسه ومشى معي، وقال:

سأُخبرك قبل أن تسألني، أنا إسحاق بن حنوة، كنتُ في عسكر ابن

ص: 399


1- ([2]) أُنظُر: كتاب سرور المؤمنين: 189 -- 190.

زيادٍ اللعين، فخرجتُ إلى كربلاء مع عمر بن سعد، فوكّلني بالماء، فجهدت جُهدي لمنع الحسين وأصحابه عن الماء يوم تاسوعاء وعاشوراء حتّى لا يذوقوا منه قطرة.

فسمعت في الليل الحسين يكلّم أخاه العبّاس ويقول: «يا أخي، إذا انقضى الليل وجاء النهار وبلغ الوقت الظهر، فإنّ العيال والأطفال سيموتون عطشاً». فلمّا سمع العبّاس كلام أخيه جرت دموعه أنهاراً، وقال: لا تحزن يا أخي ولا تغتمّ، فلو كان بيني وبين الفرات بحراً من نارٍ فإنّي سأقتحمه، لعلّي أحمل شيئاً من الماء إليهم.

فلمّا سمعتُ كلامهما خشيتُ أن نُغلَب، فقصدت عمر بن سعد أستمدّه، فأمر أربعة آلافٍ فجعلهم على الماء زيادةً على مَن كان، ليحفظوا الماء ويمنعوهم أشدّ المنع.

فلمّا انقضت ليلة العاشر وطلعت الشمس، رأيتُ العبّاس كأنّه حيدر الكرّار، يحمل سيفه البتّار ويحصد رؤوس عسكر الأشرار، حتّى أقحم فرسه الفرات، ثمّ نزل إلى الماء وملأ القربة وركب فرسه، فحرّضتُ عليه الأربعة آلاف لنمنعه من إيصال الماء، فهجمنا عليه حملة رجلٍ واحد، حتّى قُطعَت يده اليمنى، فجعل يقاتلبالأُخرى، ويتعجّل المسير نحو الخيام، فحرّضتُ العسكر، حتّى قُطعَت يده اليسرى، فأخذ القربة بأسنانه وانحدر نحو المخيّم يروم إيصال الماء إلى العطاشى، فوضعت سهماً في كبد قوسي ورميتُ به الطائر الكسير الجناحين، فأصاب السهم القربة فأُريق ماؤها، فوقف معدن

ص: 400

الأميل آيساً، وأخرج رجليه من الركاب، واستغاث بأخيه، فلمّا سمع الإمام الحسين صوته فعجّل الإمام إليه، فرآه بتلك الحالة، وعزم على حمله، فحملنا عليه لنمنعه.

ولم يقترب بعد أبي الفضل أحدٌ من الماء، حتّى حمل سلطان المظلومين وسيّد الشهداء بنفسه، فتفرّق القوم بين يديه كالجراد المنتشر، وهو يشدّ عليه كالليث الغضبان، فوصل إلى الفرات وأقحم فرسه الماء، فوقف العسكر ينظر إليه، فرأيتُه وسمعتُه بأُذني وهو يخاطب فرسه ويقول: «أنت عطشان وأنا عطشان، فواللهِ لا أشرب حتّى تشرب». فذكرتُ أنّ قوله (تعالى): «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» ((1)) نزلَت في أبيه، فقلتُ في نفسي: حقّاً إنّ هذا الشبل من ذاك الأسد، كيف يؤثر على نفسه ويأبى أن يشرب.

ثمّ رأيتُ الفرس يرفع رأسه ويأبى أن يشرب حتّى يشرب الإمام، فلمّا رأى الإمام أنّ الفرس لا يشرب حتّى يشرب هو، مدّ يده إلى الماء واغترف منه غرفةً بكفّه ليشرب، فكّرتُ في حيلةٍ أمنعه من شرب الماء، فرفعتُ صوتي منادياً: يا حسين، أتشرب الماء وقد هجم القوم على الخيام؟ فتصايح العسكر بما قلت، فلمّا سمع معدنالغيرة نداء القوم رمى الماء من كفّه وقصد الخيام، فوجدها سالمة، فصفقنا وتصافقنا بأكفّنا متصافحين،

ص: 401


1- ([1]) سورة الحشر: 9.

وضحكنا ضحكاً عالياً، ونحن ننادي: يا حسين! هل شربت الماء؟!

قال الشابّ الأنصاريّ: لمّا سمعتُ من المعلون هذه الحكاية، قلت له: سأدخل الدار وآتيك بالطعام. فدخلتُ الدار وحملتُ سيفي لأضرب عنقه، فقال اللعين: أهكذا تفعل مع الضيف؟ فقلت: أيّها الكافر الضالّ، ألم يكن الحسين ضيفاً عندكم في كربلاء، فجرّدتم عليه سيوفكم، وقطعتم رأسه باثني عشرة ضربة، فقتلتموه جائعاً عطشاناً؟!

ثمّ ضربتُه ضربةً كانت فيها منيّته، ثمّ أحرقتُ جسده النتن، وتمنّيت أن يكون عملي هذا ذخراً ليغفر به ربّي الكريم ويرحمني.

ورُوي عن ابن عُيينة قال: أدركتُ من قتلَة الحسين رجُلَين، أمّا أحدهما فإنّه طال ذَكَره حتّى كان يلفّه، وفي روايةٍ: كان يحمله على عاتقه، وأمّا الآخر فإنّه كان يستقبل الراوية فيشربها إلى آخرها ولا يُروى، وذلك أنّه نظر إلى الحسين وقد أهوى إلى فيه بماءٍ وهو يشرب، فرماه بسهم، فقال الحسين علیه السلام: «لا أرواك الله من الماء في دنياك ولا في آخرتك» ((1)).

ورُوي أنّه لمّا آيَسَ من الماء، وأنّه لا يذوق الماء إلاّ أن يشرب الماء الطهور من يد جدّه وأبيه، قال:

ص: 402


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 300، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 38 الفصل 3، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 119 الرقم 285، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 234.

«شيعتي مهما شربتم***ماء عذبٍ فاذكروني

أو سمعتم بغريبٍ***أو شهيدٍ فاندبوني» ((1))

عن كتاب (فتوحات القدس) ما مضمونه: إنّ الحسين علیه السلام لمّا اشتدّ به العطش، جاءه رجلٌ سياح ومعه آنيةٌ من الخشب مملوءةٌ من الماء، فناوله إيّاها، فأخذها الحسين علیه السلام من يده وصبّه على الأرض، وقال: «أيّها السياح، أتزعم أنّا لا نقدر على الماء؟ انظر». فلمّا نظر رأى أنهاراً جارية، فملأ الحسين علیه السلام آنيته من الحصى وناوله إيّاها، فإذا الحصى قد انقلبت بالجواهر الفريدة ((2)).

وفي (البحار): ثمّ رماه رجلٌ من القوم يُكنّى أبا الحتوف الجُعفيّ بسهم، فوقع السهم في جبهته، فنزعه من جبهته فسالت الدماء على وجهه ولحيته، فقال علیه السلام: «اللّهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة، اللّهمّ أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذَرْ على وجه الأرض منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً».

ثمّ حمل عليهم كالليث المغضب، فجعل لا يلحق منهم أحداً إلّا بعَجَه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كلّ ناحيةٍ وهو يتّقيها بنحره وصدره، ويقول: «يا أُمّة السوء، بئسما خلفتم محمّداً في عترته، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله، بل يهون عليكم عند قتلكم إيّاي، وأيمُ الله إنّي

ص: 403


1- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي: 360 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 344، أنساب النواصب: 435.

لَأرجو أن يكرمني ربّي بالشهادة بهوانكم، ثمّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون».

قال: فصاح به الحُصَين بن مالك السكونيّ فقال: يا ابن فاطمة، وبماذا ينتقم لك منّا؟ قال: «يلقي بأسكم بينكم، ويسفك دماءكم، ثمّ يصبّ عليكم العذاب الأليم». ثمّ لم يزل يقاتل حتّى أصابته جراحاتٌ عظيمة ((1)).

ورُوي أنّه أصابته ألف وتسعمئة جراحة ((2))، وفي رواية العلّامة المجلسي: أُصيب بأربعة آلاف جراحةٍ من السهام، ومئة وثمانين جراحة بين طعنة رمح وضربة سيف ((3)).

ورُوي أنّه كانت السهام في درعه كالشوك في جلد القنفذ، ورُوي أنّها كانت كلّها في مقدمه ((4)).

وفي (البحار): فوقف علیه السلام يستريح ساعةً وقد ضعف عن القتال، فبينما هو واقفٌ إذ أتاه حجرٌ فوقع في جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه، فأتاه سهمٌ محدَّدٌ مسمومٌ له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره، وفي بعض الروايات: على قلبه، فقال الحسين علیه السلام: «بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله»، ورفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي، إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً

ص: 404


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 52.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 52.
3- ([3]) أُنظُر: عين الحياة للمجلسي: 527.
4- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 52.

ليس على وجه الأرض ابن نبيّ غيره»، ثمّ أخذ السهمفأخرجه من قفاه، فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح، فلمّا امتلأَت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة، وما عُرفت الحمرة في السماء حتّى رمى الحسين علیه السلام بدمه إلى السماء، ثمّ وضع يده ثانياً، فلمّا امتلأَت لطّخ بها رأسه ولحيته، وقال: «هكذا أكون حتّى ألقى جدّي رسول الله وأنا مخضوبٌ بدمي، وأقول: يا رسول الله، قتلني فلانٌ وفلان» ((1)).

وفي كتاب (الملهوف): فأتاه سهمٌ مسمومٌ له ثلاث شعب فوقع على قلبه، فقال علیه السلام: «بسم الله وبالله، وعلى ملّة رسول الله صلی الله علیه وآله»، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي، أنت تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ غيره»، ثمّ أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كأنّه ميزاب ((2)).

فيا

ليت ذاك النحر كان بمنحري***ويا ليت هذا السهم كان بمهجتي

ومقتضى الجمع بين الخبرَين أنّ هذا السهم المثلّث المسموم الّذي أصاب قلب سيّد الشهداء غير السهم المثلّث المسموم الّذي أصاب صدره الشريف، وإذا كان ولابدّ أن يكون سهماً واحداً فالظاهر أنّ رواية السيّد ابن

ص: 405


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 120، مثير الأحزان لابن نما: 73، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.

طاووس هي الأقرب للواقع.

ويشهد لذلك ما رواه الشيخ الصدوق في حديث، قال: وسمع عبدالله ابن عمر بخروجه، فقدم راحلته وخرج خلفه مسرعاً، فأدركه في بعض المنازل، فقال: أين تريد يا ابن رسول الله؟ قال: «العراق». قال: مهلاً، ارجع إلى حرم جدّك. فأبى الحسين علیه السلام عليه، فلمّا رأى ابن عمر إباءه قال: يا أبا عبد الله، اكشِفْ لي عن الموضع الّذي كان رسول الله صلی الله علیه وآله يقبّله منك. فكشف الحسين علیه السلام عن سُرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى، وقال: أستودعك الله يا أبا عبد الله، فإنّك مقتولٌ في وجهك هذا ((1)).

قال المؤلّف: تقبيل النبيّ لهذا الموضع من بدنه الشريف دائماً يشهد بأنّ هذا هو الموضع الّذي أصابه السهم المثلّث المسموم، فأخرجه سيّد الشهداء من قفاه، فجرى الدم كالميزاب.

ثمّ قال السيّد ابن طاووس: فضعف عن القتال ووقف، فكلّما أتاه رجلٌ انصرف عنه كراهة أن يلقى الله بدمه، حتّى جاءه رجلٌ من كِندة يقال له: مالك بن اليسر، فشتم الحسين علیه السلام وضربه على رأسه الشريف بالسيف، فقطع البرنس ((2)) ووصل السيف إلى رأسه، فامتلأ البرنس

ص: 406


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 153، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 313.
2- ([2]) البُرْنُس: كلّ ثوبٍ رأسه منه مُلْتَزِقٌ به، دُرَّاعَةً كان أَو مِمْطَراً أَو جُبَّة، والبُرْنُس قَلَنْسُوَةٌ طويلة، وكان النُّسّاكُ يلبسونها في صدر الإسلام (لسان العرب: مادّة برنس).

دماً ((1)).

وروى المجلسيّ قال: جاءه رجلٌ من كِندة يقال له: مالك بن اليسر، فشتم الحسين علیه السلام، وضربه بالسيف على رأسه، وعليه بُرنسٌ فامتلأ دماً، فقال له الحسين علیه السلام : «لا أكلتَبها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين» ((2)).

ثمّ إنّ الكندي أخذ البرنس وجاء به إلى الكوفة بعد الواقعة.

وفي المنتخب: فأقبل الكندي بالبرنس إلى منزله، فقال لزوجته: هذا برنس الحسين، فاغسليه من الدم. فبكت وقالت له: ويلك! قتلتَ الحسين وسلبت برنسه؟! واللهِ لا صبحتُك أبداً. فوثب إليها ليلطمها، فانحرفت عن اللطمة فأصابت يده الباب الّتي في الدار، فدخل مسمارٌ في يده، فعملت عليه حتّى قُطعَت من وقته ((3)).

وفي (البحار): فلمّا قدم بعد الوقعة على امرأته، فجعل يغسل الدم عنه، فقالت له امرأته: أتدخل بيتي بسلب ابن رسول الله؟ اخرج عنّي، حشى الله قبرك ناراً. فلم يزل بعد ذلك فقيراً بأسوء حال، ويبست يداه، وكانتا في الشتاء ينضحان دماً وفي الصيف تصيران يابستين كأنّهما

ص: 407


1- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 121، مثير الأحزان لابن نما: 73.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.

عودان ((1)).

ثمّ ألقى الإمام المظلوم العمامة على الأرض، ورُوي أنّه جاء الى الخيام بعد أن أخذ البرنس منه، ودعا بخرقةٍ فجىء بها اليه، فشدّ بها جراح رأسه بيده الكريمة، واستدعى بقلنسوةٍ فلبسها، واعتمّ عليها بعمامة، ونادى: «يا زينب، يا أُمّ كلثوم، يا رقيّة، يا فاطمة، عليكنّ منّي السلام».

فتقدّمت أُخته زينب علیها السلام فقالت: يا أخي، أيقنتَ بالقتل؟ فقال علیه السلام : «كيف لا أُيقن وليس لي معينٌ ولا نصير؟».فقالت زينب علیها السلام: يا أخي، رُدّنا الى حرم جدّنا. فقال علیه السلام : «هيهات هيهات، وكأنّي بكم غير بعيدٍ كالعبيد، يسوقونكم أمام الركاب، ويسومونكم سوء العذاب».

فلمّا سمعت مخدّرة أمير المؤمنين علیه السلام هذا الكلام جرت دموعها ونادت: وا وحدتاه، وا قلّة ناصراه، وا شؤم صباحاه! ثمّ أهوت على جيبها فشقَّته، والى شعرها فنشرته، ولطمت وجهها، فلمّا نظر إليها الحسين علیه السلام وهي بتلك الحالة قال: «مهلاً يا بنت المرتضى، إنّ البكاء طويل».

ثمّ قام الحسين علیه السلام يخرج من الخيمة، فألقت زينب علیها السلام بنفسها عليه وتعلّقت به، وهي تقول: مهلاً يا أخي، توقّف حتى أتزوّد من نظري إليك، فهذا وداعٌ لا تلاقٍ بعده.

فمهلاً

أخي قبل الممات هنيئةً***لتبرد منّي لوعةٌ وغليلُ

ص: 408


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.

فجعلَت تقبّل يديه ورجليه، واجتمعت حول المتعَب الجريح والعطشان الحريب كلُّ النساء، هذه تقبّل يده، وأُخرى تقبّل رجله، وأُخرى تشمّه، وهنّ يندبن بالويل والثبور، فدعا الحسين علیه السلام بثوبٍ يلبسه تحت ثيابه ...

ثمّ خرج الحسين علیه السلام من الخيمة متوجّهاً إلى الميدان ((1)).

وفي (المناقب): ولمّا ضعف علیه السلام نادى شمر: ما وقوفكم، وما تنتظرون بالرجل؟ قد أثخنته الجراح والسهام، احملوا عليه، ثكلتكم أُمّهاتكم. فحملوا عليه من كلّ جانب، فرماه الحُصَين بن تميمفي فيه، وأبو أيّوب الغنَويّ بسهمٍ في حلقه، وضربه زرعة بن شريك التميميّ على كتفه، وكان قد طعنه سنان بن أنس النخعيّ في صدره، وطعنه صالح بن وهب المُزنيّ على خاصرته، فوقع علیه السلام إلى الأرض على خدّه الأيمن ((2)).

بلند مرتبه شاهي ز صدر زين افتاد***اگر غلط نكنم عرش بر زمين افتاد

أهوى، فكبرت الصفوف برغمه***وبرغم كلّ مكّبرٍ ومهلّلِ

عجباً من السبع الطرائق كيف لم***تنشقّ، والأرضين لم تتزلزلِ

ص: 409


1- ([1]) مهيّج الأحزان لليزدي: 365 -- بترجمة السيّد علي أشرف.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 366، الإرشاد للمفيد: 2 / 114، روضة الواعظين للفتّال: 189، الفتوح لابن أعثم: 5 / 118، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 486، تاريخ الطبري: 4 / 347.

أسفاً عليه، وللكواكب كيف لم***تنقضّ، و الأفلاك لم تتعطّلِ؟ ((1))

وفي (البحار): ثمّ استوى جالساً، ونزع السهم من حلقه ((2)).

وفي (الملهوف): ثمّ قام علیه السلام ((3)).

وفي (المناقب): وأخذ دمه بكفَّيه وصبّه على رأسه مراراً ((4)).

وفي (البحار): ثمّ دنا عمر بن سعد من الحسين ((5)).قال حميد بن مسلم: وخرجَت زينب بنت عليّ علیه السلام وقرطاها يجولان بين أُذنيها ((6)).

قال السيّد ابن طاووس: وخرجت زينب من باب الفسطاط، وهي تنادي: وا أخاه، وا سيّداه، وا أهل بيتاه، ليت السماء أطبقَت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل ((7)).

ص: 410


1- ([2]) مهيّج الأحزان لليزدي: 366.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55.
3- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 124.
4- ([5]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 366 الفصل 9.
5- ([6]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 366 الفصل 9.
6- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55.
7- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 124.

وفي (البحار): وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض، يا عمر بن سعد، أيُقتَل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ ودموع عمر تسيل على خدَّيه ((1)) ولحيته، وهو يصرف وجهه عنها ((2)).

ويظهر من بكاء هذا الملعون سرّ الحديث المكنون الّذي يشير إلى بكاء المحبّين والأخيار والمعاندين والأشرار على مصيبة إمامالأبرار، بل بكاه كلّ الأشياء والأنهار والأشجار والجمادات والمجرّدات والجنّة والنار ((3)).

ص: 411


1- ([3]) في (الإرشاد للمفيد: 2 / 112): (وخرجَت أُخته زينب إلى باب الفسطاط، فنادت عمر بن سعد بن أبي وقّاص: ويحك يا عمر! أيُقتَل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فلم يُجِبْها عمر بشيء، فنادت: ويحكم، أما فيكم مسلم؟ فلم يُجبها أحدٌ بشيء). كان خروج السيّدة المخدّرة إلى باب الفسطاط، وليس من باب الفسطاط، وليس فيه جريان دموع الخبيث الرجس عمر بن سعد، وعلى فرض أنّه قد جرت دموعه على خدَّيه فليس ذاك لحزنه على أبي عبد الله أو غيرةً على السيّدة الصدّيقة الصغرى، ولا يمكن أن نتصوّره إلّا أن تكون دموع فرحٍ وشماتةٍ بقتل سيّد الشهداء وإبراز عرض النبيّ وعقيلة الهاشميّين ومخدّرة أمير المؤمنين وأُخت الحسن والحسين بين الأعداء، إذ (برزَت تخاطب شامتاً ملعوناً)، على تفصيلٍ لا يسعه هذا الهامش، وإن كان الوجه الّذي سيذكره المؤلّف وجيهٌ من حيث أنّه يفسّر بكاء هذا اللعين بالبكاء التكوينيّ.
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55.
3- ([1]) في (كامل الزيارت لابن قولويه: 80 الباب 26 ح 3): حدّثني محمّد بن جعفر القرشيّ الرزّاز، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن الحسن بن عليّ بن عثمان، عن عبد الجبّار النهاوندي، عن أبي سعيد، عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة ويونس بن ظبيان وأبي سلَمة السرّاج والمفضّل بن عمر، كلّهم قالوا: سمعنا أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ أبا عبد الله الحسين بن عليّ علیه السلام لمّا مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ ومَن ينقلب عليهنّ، والجنّة والنار، وما خلق ربُّنا وما يُرى وما لا يُرى».

فأنت أيّها الشيعيّ لا تقصّر في إبراز محبّتك، وأنت تعتقد أنّك فاضل طينة الإمام، والحال أنّ عمر بن سعد اللعين القاسي القلب الجلف الجافي جرت دموعه على وجهه النحس ولحيته المشؤومة، فكيف ترى حالة تلك المظلومة وهي تنادي: وا أخاه، وا سيّداه! وأنت تحبس دمعتك وتتمالك نفسك ولا تثير زفرتك؟!

وفي (الإرشاد): فلم يجبها عمر بشيء، فنادت: ويحكم! أما فيكم مسلم؟ فلم يُجبها أحدٌ بشيء ((1)).

وإعراضهم عنها بحيث لم يجبها أحدٌ مصيبةٌ ما أعظمها من مصيبة، وحرقةٌ ما أشدّها من حرقة!

وفي (الملهوف) قال: وصاح شمر بأصحابه: ما تنتظرون بالرجل؟ قال: وحملوا عليه من كلّ جانب، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى، وضرب الحسين علیه السلام زرعة فصرعه، وضربه آخَر على عاتقه المقدّس

ص: 412


1- ([2]) الإرشاد للمفيد: 2 / 112.

بالسيف ضربةً كبا علیه السلام بها لوجهه ((1)).

شُلّت يدك أيّها اللعين الجاني، ضربتَ الإمام هذه الضربة ولم تضربها في قلوبنا معاشر الشيعة.

معاشر الشيعة! أُريد أن أكتب بقيّة التأليف وأنا أُمانع دموعي وزفراتي أن لا تمنع قلمي من الكتابة وذِكر ما فعله سنان بقدوة العالم، والّذي دعاني للاستمرار أنّي نصحت نفسي ووعظتها أنّ في ذكر هذه المصائب رضى صاحب الشريعة، فتمالكت بنحو ما دمع عيني، وسكنت بمقدارٍ يسمح لقلمي تحرير المصيبة.

كان الإمام المظلوم قد أعيا، وجعل ينوء ويكبّ، فطعنه سنان بن أنس النخعيّ في ترقوته، ثمّ انتزع الرمح فطعنه في بواني صدره، ثمّ رماه سنان أيضاً بسهمٍ فوقع في نحره، فسقط علیه السلام ، وجلس قاعداً، فنزع السهم من نحره، وقرن كفَّيه جميعاً، فكلّما امتلأتا من دمائه خضّب بهما رأسه ولحيته، وهو يقول: «هكذا ألقى الله مخضَّباً بدمي، مغصوباً علَيّ حقّي» ((2)).

الأمان الأمان يا معاشر الشيعة! شُلّت يد سنان الخؤون الجبان، الّذي أورد هذه الجراحات على بدن إمام الإنس والجانّ، ونور عينَي نبيّ آخِر الزمان، وسرور قلب أمير المؤمنين وفلذة كبد سيّدة النسوان، لقد أحرق

ص: 413


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 125.
2- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 125.

قلوب الشيعة والمؤمنين إلى يوم الوقوف بين يدَي الربّ الديّان.

رُوي عن أبي مخنف أنّ سِنان الغدّار حينما جيء به إلى المختار، قال له: لعنك الله يا أشقى الأشقياء ويا ابن الزوانيالأدعياء، قتلتَ ابن رسول الله ورُحت تفتخر بذلك؟!

ثمّ أمر فجيء بولده -- وكان من قبل قد شارك في إلقاء القبض على (كثير) -- وطلب كثير، فلمّا وقف بين يدَي الأمير قال: تعرف هذا الولد؟ قال: الحمد لله، رأيتُه في القَيد والأصفاد. قال الأمير: أهديتك ثواب قطع رأسه المشؤوم عند أقدام أبيه. فجرّد كثير خنجره، وطرح اللعين عند رجلَي سنان وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بمحبّة الحسين. ثمّ ذبحه، فتنفّس سنان الصعداء وبكى، فقال له الأمير: احترق قلبك يا ابن الزانية؟!

وكان الأُمراء جميعاً قد جرّدوا سيوفهم ليقتلوه الخبيث، وارتفعت الضجّة، فسأل المختار عن ذلك، فقال الحجّاب: جاء أهل الكوفة يطلبون من الأمير أن يوكل قتل سنان إليهم، لينالوا ثواب قتله.

فأمر الأمير أن يُدفَع إلى أهل الكوفة، فأخذوه وقطّعوه إرباً إرباً، ثمّ أحرقوه وذرّوا رماده، والحمد لله ربّ العالمين ((1)).

وفي خبرٍ عن أبي مخنف: وخرّ صريعاً مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق من

ص: 414


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 213 -- 215.

غشوته وثب ليقوم علیه السلام للقتال، فلم يقدر ((1)).

وعن كتاب (أخبار الدول وآثار الأول)، وهو أنّه قد بقي سيّد الشهداء (روحي له الفداء) زماناً، كلّما انتهى إليه رجلٌ منهم انصرف عنه ولم يتولَّ قتله، فحمل صبيّاً صغيراً من أولاده اسمه عبد الله، وقبّله، فأخذه رجلٌ من بني أسد فذبحه، فتلقّى الحسين علیهالسلام دمه في يده وألقاه نحو السماء، وقال: «يا ربّ، إن تكن حبستَ عنّا النصر من السماء، فاجعَلْه لنا خيراً، وانتقم من الظالمين» ((2)).

وفي (الملهوف): فلبثوا هنيئةً، ثمّ عادوا إليه وأحاطوا به، فخرج عبد الله ابن الحسن بن عليّ علیه السلام -- وهو غلامٌ لم يراهق -- من عند النساء، يشتدّ حتّى وقف إلى جنب الحسين ((3)).

ورُوي أنّه لحقَته زينب بنت عليّ علیه السلام لتحبسه، فقال الحسين علیه السلام : «احبسيه يا أُختي»، فأبى وامتنع امتناعاً شديداً ((4)).

وفي (الملهوف): فقال: لا واللهِ لا أُفارق عمّي ((5)).

ص: 415


1- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 350.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 2 / 617 -- عن: أخبار الدول.
3- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 122، الإرشاد للمفيد: 2 / 110.
4- ([3]) الإرشاد للمفيد: 2 / 110، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
5- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 122.

معاشرَ الشيعة!

إنّ مَن يحضره الموت ويكون في حال سكراته قبل الممات، يطلب أهله وأقرباءه وأصدقاءه ومحبّيه ليحضروا عنده، ويدعو بناته وأخواته ونساءه ليحوطوا به، إلّا الإمام المظلوم، فإنّه كان يأمرهم بالابتعاد عنه والبقاء في الخيام، بما فيها من آلامٍ وهمومٍ وغمومٍ وتعرّضٍ للسبي والسلب والنيران؛ لئلّا يُقتَل الأطفال وتتعرّض النساء لعيون الأعداء الأنذال.

فداءً لكلّ مصيبةٍ من مصائبك يا أبا عبد الله!

فأهوى بحر بن كعب، وقيل: حرملة بن كاهل إلى الحسين علیه السلام بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة! أتقتل عمّي؟فضربه بالسيف، فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد، فإذا هي معلّقة، فنادى الغلام: يا أُمّاه! ((1)) وقيل: فنادى: يا عمّاه! ((2))

ربّما كان نداؤه: (يا أُمّاه) أقوى، بلحاظ عادة الأطفال وشدّة أُنسهم وتعلّقهم بأُمّهاتهم، ويقوى نداؤه: (يا عمّاه)، بلحاظ شدّة محبّة الإمام وشفقته وحنوّه على الأيتام مطقاً، وعلى أيتام أخيه الإمام الحسن بالخصوص، ويشهد لذلك أنّ الإمام أُغميَ عليه حينما تقدّم القاسم

ص: 416


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 122، الإرشاد للمفيد: 2 / 110، إعلام الورى للطبرسي: 249، مثير الأحزان لابن نما: 73، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 53.
2- ([2]) مثير الأحزان لابن نما: 73.

ليستأذنه للقتال، واعتبار أنّ أولاد الإمام الحسن وديعة عند سيّد شباب أهل الجنان، سيّما إذا لاحظنا أنّ هذا الغلام كان في الخيام بين النساء والعيال، ولكنّه خرج إلى عمّه لشدّة محبّته، ولم يلتفت إليهنّ، وإنّما كان يقصد عمّه على الخصوص.

وفي رواية: كان عبد الله بن الحسن الزكيّ واقفاً بإزار الخيمة، وهو يسمع وداع عمّه الحسين، فخرج في أثره وهو يبكي ويقول: واللهِ لا أُفارق عمّي ((1)).

ولا يبعد أن يكون الغلام قد نادى: يا عمّاه، ويا أُمّاه ((2)).

ورُوي أنّه نادى: يا أُمّاه. فخرجت أُمّه من الخيام حافيةً حاسرة، وهي تنادي: وا ولداه، ويا نور عياناه ((3)).فأخذه الحسين وضمّه إلى صدره ((4))، وفي (الملهوف): فأخذه الحسين علیه السلام فضمّه إليه، وقال: «يا ابن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإنّ الله يُلحقك بآبائك الصالحين». فرماه حرملة بن كاهل بسهمٍ فذبحه وهو في حِجر عمّه الحسين ((5)).

ص: 417


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
2- ([4]) أُنظُر: الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 354.
3- ([5]) مهيّج الأحزان لليزدي: 367.
4- ([1]) تاريخ الطبري: 5 / 450، نفَس المهموم للقمّي: 359.
5- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 122، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 54.

وفي (المنتخب): فصاحت زينب: وا ابن أخاه، ليت الموت أعدمني الحياة، ليت السماء أطبقَت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل ((1)).

وفي (الإرشاد): ثمّ رفع الحسين علیه السلام يده وقال: «اللّهمّ إن متّعتَهم إلى حين، ففرّقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا فقتلونا» ((2)).

حُكي عن أبي خليق أنّه قال للمختار: لمّا أحاطوا بالإمام وحاصروه، أصابوه باثني عشر ألف جراحة، وكانت جراحاته كلّها في مقدّمه، وكانت جراحاته العظيمة اثنين وسبعين جرحاً، وقد أصابه أبو الحنوق بسهمٍ في جبهته، ووضربه عبد الله بن الحُصين بسيفٍ على رأسه، ورماه شبث بن ربيع!! بسهمٍ مثلّثٍ مسمومٍ في صدره، رماه أبو أيّوب الغنوي بسهمٍ في حلقه، وضربه زرعة بن شريك على يده، ورماه الحُصين بن نمير السكوني بسهمٍ في فمه،وطعنه سنان بن أنس برمحٍ في ظهره فكبا لوجهه، وأصابه حريم بن الأحجار بسهمٍ في فمه، وضربه مالك على رأسه فخضّب عمامته بالدم، وطعنه صالح بن وهب برمحٍ في خاصرته، وضربه إسحاق بن الأشعث بالسيف على يده اليسرى، وأصابه أبو الأشرس بسهمٍ في ساعده،

ص: 418


1- ([3]) المنتتخب للطريحي: 2 / 439 المجلس 9.
2- ([4]) الإرشاد للمفيد: 2 / 11، مثير الأحزان لابن نما: 56.

وصكّ عامر بن الطفيل!!! وجهه بحجر.

فلمّا سمع المختار وسائر الأُمراء والأعوان هذا الكلام، ارتفع منهم العويل والضجيج والبكاء ((1)).

وقد ذكرنا فيما مضى عن العلّامة المجلسي أنّ بدن الإمام أُصيب بأربعة آلاف جراحةٍ من السهام، ومئةٍ وثمانين من ضرب السيوف وطعن الرماح ((2)).

وفي (الملهوف): ثمّ إنّ شمر بن ذي الجوشن حمل على فسطاط الحسين فطعنه بالرمح، ثمّ قال: علَيّ بالنار أُحرقه على مَن فيه. فقال له الحسين علیه السلام: «يا ابن ذي الجوشن، أنت الداعي بالنار لتحرق على أهلي؟ أحرقك الله بالنار». وجاء شبث فوبّخه، فاستحيا ((3)) وانصرف ((4)).

فداءً لمظلوميّتك يا أبا عبد الله، كم تجرّعتَ من جراحات اللسان وجراحات السنان؟!وفي (المنتخب): إنّ خولّى بن يزيد الأصبحي طعن الحسين برمحه،

ص: 419


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 234.
2- ([2]) أُنظُر: الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 347.
3- ([3]) ترجمها المؤلّف: (فتأثّر)، والحقّ أنّ مثل هؤلاء المخلوقات لا يعرفون الحياء، وليس هو من شيَمهم، وفي تعبير المؤرّخين بالاستحياء عن شمر وأمثاله تسامحٌ مخلٌّ وغفلة.
4- ([4]) اللهوف لابن طاووس: 123، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 54.

فخرج السنان من ظهره ((1))، وبقي أثرها في قلوب الشيعة إلى يوم القيامة.

وقال أبو مخنف: وبقي الحسين مكبوباً على الأرض ملطّخاً بدمه ثلاث ساعاتٍ من النهار، رامقاً بطرفه إلى السماء، وهو يقول: «صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين» ((2)).

وضجّت الملائكة إلى اللّه عزوجل بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيّدنا، أتغفل عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك؟! فأوحى اللّه عزوجل إليهم: «قرّوا ملائكتي، فوَ عزّتي وجلالي، لَأنتقمنّ منهم ولو بعد حين». ثمّ كشف اللّه عزوجل عن الأئ-مّة من وُلد الحسين علیه السلام للملائكة، فسُرّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائمٌ يصلّي، فقال اللّه عزوجل: «بذلك القائم أنتقم منهم» ((3)).

اللّهمّ عجِّلْ فرجه، لينتقم للمظلوم من أُولئك الكفرة، يشفي غليل قلوب المؤمنين.

أجل، بينا كان الإمام المظلوم في تلك الحال، مرمَّلاً بالدماء،يناجي ربّه

ص: 420


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 160 المجلس 8.
2- ([2]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 355، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 82 -- عن: أبي مخنف، ناسخ التواريخ لسپهر: 1 / 455 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
3- ([3]) علل الشرائع للصدوق: 1 / 160 الباب 129، دلائل الإمامة للطبري: 239، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 221 الباب 41 ح 3.

ويستغيث به، وقد أمن أن لا بداء وآيَسَ من الحياة ومن الماء، إذ نزل اليه رجلٌ من الرجّالة ليحتزّ رأسه، فنظر إليه الإمام من بعيدٍ وقال له: «ارجع، فلستَ قاتلي، فلا تبتلِ بي فتكون من أصحاب الجحيم». فبكى الرجل وقال: يا ابن رسول اللّه، أنت في هذه الحالة وتخاف أن ندخل بسببك إلى جهنّم؟! فهزّ السيف الّذي كان في يده لقتل الحسين علیه السلام ، ثمّ توجّه نحو عمر ابن سعد، فقال له عمر: هل قتلتَ الحسين؟ فقال: بل جئتُ لأقتلك! وحمل على عمر ليقتله، فاحتوشه القوم، فالتفت إلى الإمام وقال: إشهد يا مولاي أنّي أُقتَل في حبّك. فقال له الإمام: «أبشِرْ، فإنّا نشفع لك». ثمّ إنّهم قتلوه ((1)).

فغضب عمر بن سعد (لعنه الله)، ثمّ قال لرجلٍ عن يمينه: انزلْ -- ويحك -- إلى الحسين فأرِحْه ((2)).

وفي (المنتخب): وبادر إليه خولّى بن يزيد ليجتز رأسه، فرمقه بعينيه، فارتعدت فرائصه منه فلم يجسر عليه وولّى عنه ((3)).

وفي التبر المذاب: فقال له شمر: فتّ الله في عضدك، ما لَك ترعد؟

ص: 421


1- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 351، تذكرة الشهداء للكاشاني: 393 -- بترجمة: السيّد علي أشرف.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.

فقال: والله لا حاجة لي في قتل ابن بنت رسول الله ((1)). فقال الشمر: كلحت هذه اللحية، لأنّها نبتت على غير رجل ((2)).

وفي (المنتخَب): ثمّ ابتدر إليه أربعون فارساً، كلٌّ يريد قطع رأسه، وعمر ابن سعد (لعنه الله) يقول: عجِّلوا عليه، عجّلوا عليه ((3)).

فنزل عمرو بن الحجّاج عن فرسه وأقبل نحو الحسين علیه السلام ، فنظر علیه السلام إليه، فارتعد وركب فرسه وولّى.

فقال له شمر: ثكلَتك أُمّك، لمَ رجعتَ عن قتله؟ فقال: يا ويلك، إنّه فتح عينيه في وجهي، فأشبهتا عينَي رسول اللّه صلی الله علیه وآله، ولا أُريد أن أبتلي بدمه ((4)).

قال حميد بن مسلم: وخرجَت زينب بنت عليّ علیها السلام، وقرطاها يجولان بين أُذنيها، وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الأرض، يا عمر بن سعد، أيُقتَل أبو عبد اللّه وأنت تنظر إليه؟ ودموع عمر تسيل على خدَّيه ولحيته ((5)).

ص: 422


1- ([1]) عذّبه الله عذاباً يستغيث منه أهل النار، إن كان يعرف لابن بنت رسول الله حرمة وأنّه لا حاجة له بقتله، فلماذا قاتله وحمل رأسه إلى ابن الأَمة الفاجرة؟!
2- ([2]) حياة الإمام الحسين؟ع؟ من كتاب التبر المذاب للخافي: 161.
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
4- ([4]) مهيج الأحزان لليزدي: 369.
5- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 55، مهيّج الأحزان لليزدي: 370، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 22.

ولا يبعد أن تكون السيّد المخدّرة قد خرجَت وتكلّمَت مع ابن سعدٍ مرّتين، فالمصيبة مصيبة الحسين، فكيف تطيق تلك المخدّرة البقاء في الخيمة؟!وفي (المنتخَب): فدنا إليه شِبث بن ربعيّ وبيده سيفٌ ليجتز رأسه، فرمقه علیه السلام بطرفه، فرمى السيف من يده وولّى هارباً، وهو ينادي: معاذ الله يا حسين أن ألقى أباك بدمك ((1)).

فأقبل إليه رجلٌ قبيح الخلقة كوسج اللحية أبرص اللون، يُقال له: سنان ((2)).

قال أبو مخنف: فقال سنان لشبث: لمَ ما قتلتَه؟ ثكلتك أُمّك! قال شبث: يا سنان، إنّه قد فتح عينيه في وجهي، فشبّهتُهما بعينَي رسول الله.

ثمّ دنا منه سنان، ففتح عينيه في وجهه، فارتعدَت يده وسقط السيف منها وولّى هارباً ((3)).

وفي (المنتخب): ولّى هارباً وهو يقول: ما لَك يا عمر بن سعد؟ غضب اللهُ عليك، أردتَ أن يكون مُحمّدٌ خصمي! ((4))

ص: 423


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
3- ([3]) ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 83 -- عن: أبي مخنف.
4- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.

فأقبل إليه الشمر (لعنه الله)، وقال: يا سنان، ثكلتك أُمّك، ما أرجعك عن قتله؟ فقال: يا ويلك، إنّه فتح في وجهي عينيه، فذكرتُ شجاعة أبيه، فذهلت عن قتله. فقال الشمر: يا ويلك، إنّك لَجبانٌ في الحرب، هلمّ إليّ بالسيف، فوَاللهِ ما أحدٌ أحقّ منّي بدم الحسين ((1)). ثمّ نزل عن ظهر جواده.

وفي (المنتخب): فنادى ابن سعد: مَن يأتيني برأسه وله ما يتهنّىبه؟ فقال الشمر: أنا أيها الأمير. فقال: أسرع، ولك الجائزة العظمى. فأقبل إلى الحسين، وقد كان غُشيَ عليه ((2)).

وفي (البحار): جاء إليه شمر وسنان بن أنس، والحسين علیه السلام بآخر رمَقٍ يلوك لسانه من العطش ويطلب الماء، فرفسه شمر (لعنه الله) برجله، وقال: يا ابن أبي تراب، ألستَ تزعم أنّ أباك على حوض النبيّ يسقي مَن أحبّه؟ فاصبِرْ حتّى تأخذ الماء من يده. ثمّ قال لسنان: اجتزّ رأسه قفاءً. فقال سنان: واللهِ لا أفعل فيكون جدّه محمّد صلی الله علیه وآله خصمي. فغضب شمر (لعنه الله)، وجلس على صدر الحسين، وقبض على لحيته، وهَمّ بقتله، فضحك الحسين ((3)).

ص: 424


1- ([5]) مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف: 88 -- 93، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 83 -- عن: أبي مخنف.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.

وفي (المنتخب): فحسّ به علیه السلام وقال: «يا ويلك، مَن أنت؟ فقد ارتقيتَ مرتقىً عظيماً!»، فقال هو: الشمر. فقال له: «ويلك! مَن أنا؟!»، فقال: أنت الحسين بن عليّ وابن فاطمة الزهراء، وجدّك محمّد المصطفى. فقال الحسين: «ويلك! إذا عرفتَ هذا حسَبي ونسَبي، فلِمَ تقتلني؟!»، فقال الشمر: إنْ لم أقتلك فمَن يأخذ الجائزة من يزيد؟ فقال علیه السلام : «أيّما أحبّ إليك، الجائزة من يزيد أو شفاعة جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله»، فقال اللعين: دانقٌ من الجائزة أحَبُّ إليّ منك ومن جدّك ((1)).

ورُوي أنّ الإمام المظلوم خاطب الشمر لإتمام الحجّة عليه، فقالالحسين علیه السلام: «يا شمر، أتعلم أيّ يومٍ هذا وأيّ ساعةٍ هذه؟»، قال: اليوم الجمعة يوم عاشوراء، والساعة الّتي يصلّي الناس فيها ويخطب الائمّة على المنابر خطبة الجمعة. فقال علیه السلام: «هذه الساعة يخطب فيها أئ-مّة الجمعة على المنابر باسم جدّي، ويصلّون ويثنون عليه، وأنت ترتكب هذا الظلم والإثم؟ يا شمر، إنّ رسول الله كان يضع وجهه على صدري، وأنت تجلس عليه؟ وكان يقبّلني في نحري، وأنت تضربه بالسيف؟ واعلم أنّ روح زكريّا عن يميني، وروح يحيى عن شمالي» ((2)).

وكان سيّد شباب أهل الجنّة في تلك الحالة يلوك لسانه من العطش ((3)).

ص: 425


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
2- ([1]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 352، تذكرة الشهداء للكاشاني: 396.
3- ([2]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.

فشدّد الإمام في إتمام الحجّة على اللعين. قال أبو مخنف: فقال له: «إذا كان لابدّ من قتلي فاسقني شربةً من الماء»، فقال: هيهات هيهات! واللهِ ما تذوق الماء أو تذوق الموت غصّةً بعد غصة، وجُرعةً بعد جرعة. فقال له: «ويلك! اكشِفْ لي عن وجهك وبطنك»، فكشف له، فإذا هو أبقعٌ أبرص، له صورةٌ تشبه الكلاب والخنازير، فقال الحسين: «صدق جدّي فيما قال»، فقال: وما قال جدّك؟ قال: «يقول لأبي: يا عليّ، يقتل ولدَك هذا رجلٌ أبقعٌ أبرص، أشبه الخلق بالكلاب والخنازير»، فغضب الشمر من ذلك ((1)).

وفي (التبر المذاب): فقال: إذا كان جدّك أخبرك بذلك، فلأقتلنّك أشدّقتلة!

ثمّ جعل يحزّ مذبح الحسين بسيفه، فلم يقطع شيئاً، فقال الحسين: «يا ويلك! أتظنّ أن يقطع سيفك موضعاً طالما قبّله رسول الله؟» ((2)).

قال أبو مخنف: فغضب الشمر من ذلك، وقال: تشبّهني بالكلاب والخنازير؟ فو الله لَأذبحنّك من قفاك. ثمّ قلبه على وجهه وجعل يقطع أوداجه ((3)).

ورُوي أنّه كان يناجي ربّه ويقول: «إلهي وسيّدي، وفيتُ بعهدي»، فنودي: أبشِرْ، فسأُشفّعك في المذنبين حتّى ترضى. فقال: «الآن طاب لي

ص: 426


1- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 451 المجلس 10.
2- ([1]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من كتاب التبر المذاب للخافي: 161.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 2 / 452 المجلس 10.

الموت» ((1)).

آه، وا ويلاه، وا مصيبتاه.. ثمّ إنّ شمر الدعيّ (لعنه الله) جعل حدّ السيف على رقبة الإمام المظلوم من القفا.

لله مظلوميّتك يا أبا عبد الله، الّتي جعلت جدّك يتفضّل ويقول: «مَن تباكى في مصيبتك وجبَت له الجنّة» ((2)).

ص: 427


1- ([3]) تذكرة الشهداء للكاشاني: 398، رياض الشهادة: 2 / 262 المجلس 12.
2- ([4]) في (كامل الزيارات لابن قولويه: 105 الباب 33 ح 2): عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لي: «يا أبا عمارة، أنشِدْني في الحسين علیه السلام ». قال: فأنشدتُه، فبكى، ثمّ أنشدتُه، فبكى، ثمّ أنشدتُه، فبكى. قال: فوَاللهِ ما زلتُ أُنشده ويبكي حتّى سمعتُ البكاء من الدار، فقال لي: «يا أبا عمارة، مَن أنشد في الحسين علیه السلام شعراً فأبكى خمسين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين علیه السلام شعراً فأبكى واحداً فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين علیه السلام شعراً فبكى فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنّة». وفيه أيضاً: 105 الباب 33 ح 4: عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن أنشد في الحسين علیه السلام بيت شعرٍ فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنّة، ومن أنشد في الحسين بيتاً فبكى وأبكى تسعة فله ولهم الجنّة»، فلم يزل حتّى قال: «من أنشد في الحسين بيتاً فبكى» وأظنه قال: «أو تباكى فله الجنّة». وفي (بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 288): قال ابن طاووس: رُوي عن آل الرسول علیه السلام أنّهم قالوا: «مَن بكى وأبكى فينا مئةً فله الجنّة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنّة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنّة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنّة، ومن بكى وأبكى واحداً فله الجنّة، ومن تباكى فله الجنّة».

كيف يطيق المحبّ أن يتصوّر الشمر في غضبه وحقده يقلب الإمام المظلوم، ويضع حدّ سيفه المشؤوم على رقبة الإمام من القفا، ثمّ لا يسيل دمعه؟ ولو كان قلبه كالحجارة لَانشقّ لهذا المنظر وتفجّرت من عينيه الدموع!

وكيف لا يبكي المحبّ وقد بكى الأعداء؟ وينبغي أن يكون قلب الشيعيّ أرقّ من الزهور والأوراد إذا بضّعها المشرط، فتجري دموعه لا إراديّاً، فإن لم تجرِ دموعك فاعلم أنّك مبتلىً بقساوة القلب، وسببه خوضك في ما لا يعنيك ولا يهمّك ولا ينفعك، فاحفظ لسانك عن غير ذكر الله والأُمور الّتي تهمّك وتعنيك، وامسح على رؤوس الأيتام، فإنّها تعالج قساوة القلب ((1))، فإذا مسحت على رأس اليتيم تذكّر أيتام الإمام الحسين وحزنهم وغربتهم، فإنّ الدمع سينهمر فوراًمن عينيك، وستعرف معنى الحديث الّذي ذكرناه في علاج قساوة القلب بالمسح على رؤوس الأيتام ((2)).

ص: 428


1- ([1]) مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 1 / 188: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «مَن أنكر منكم قساوة قلبه، فلْيُدنِ يتيماً فيلاطفه ولْيمسح رأسه، يلين قلبه بإذن الله عزوجل، فإنّ لليتيم حقّاً».
2- ([1]) أُنظُر للمزيد في بحث قساوة القلب وعلاجه: المنتقى من دار السلام، للسيّد علي أشرف، الجزء الثاني.

عودٌ إلى الحديث السابق

أين كنت أيّها القلم وأين سرحت؟ فارجع إلى ما كنت فيه، إذ أكبّ الشمر الدعيّ بدن أبي عبد الله (روحي وأرواح العالمين له الفداء) على وجهه، وجعل حدّ سيفه على قفاه.

كاش آن زمان سرادق گردون نگون شدي***وين خرگه بلند ستون بي ستون شدي

كاش آن زمان كه اين حركت كرد آسمان***سيماب وار روي زمين بي سكون شدي

كاش آن زمان كه كشتي آل نبي شكست***عالم تمام غرقة درياي خون شدي

كاش آن زمان درآمدي از كوه تا به كوه***سيل سيه كه روي زمين قيره گون شدي

كاش آن زمان كه پيكر او شد درون خاك***جان جهانيان همه از تن برون شدي

آه، وا ويلاه، وا مصيبتاه!

قال أبو مخنف: ثمّ جعل يضرب بسيفه مذبح خامس أصحاب الكساء وقرّة عين محمّدٍ المصطفى وعليّ المرتضى وفلذة كبد فاطمة الزهراء الحسين سيّد الشهداء، وهو يقول:

ص: 429

أقتلك اليوم ونف-سي تعلما***علماً يقيناً ليس فيه مزعما

أنّ أباك مذ نشا مكرَّما***بعد النبيّ المصطفي المعظّما

وخير من لبّى معاً وأكرما***أقتلك اليوم وسوف أندما

أصلى بقتلك في غدٍ جهنّما ((1))

وكلّما قطع منه عضواً نادى: «وا محمّداه، وا جدّاه، وا أبا القاسماه، وا عليّاه، وا أبتاه، وا حسناه، وا جعفراه، وا حمزتاه، وا عقيلاه، وا عبّاساه، وا قتيلاه، وا غربتاه، وا قلّة ناصراه! أأُقتَل مظلوماً وجدّي محمّد المصطفى؟ أأُقتَل عطشاناً وأبي عليٌّ المرتضى؟ أأُقتَل مسلوباً وأُمّي فاطمة الزهراء؟ أأُذبَح غريباً وجدّتي خديجة الكبرى؟» ((2)).وفي (المناقب): فضربه بسيفه اثنتي عشرة ضربة، ثمّ جزّ رأسه ((3)).

وفي (التبر المذاب): احتزّ رأس الحسين، ورفعه -- كالشمس -- فوق رمحٍ طويل، وهو يقول: واللهِ إنّي قد أبنت رأسك وأعلم أنّك ابن بنت رسول الله وخير الناس جدّاً وأباً وأُمّاً وخالاً وعمّاً ((4)).

ص: 430


1- ([1]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 161، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 359.
2- ([2]) أُنظُر: المنتخب للطريحي: 2 / 451، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 359.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.
4- ([2]) حياة الإمام الحسين علیه السلام من التبر المذاب للخافي: 162، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 102، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56.

روى البلاذريّ أنّ رأس الحسين كان أوّل رأسٍ رُفع على السنان ((1)).

وفي (المنتخب): فلمّا احتز الملعون رأسه شاله في قناة، فكبّر وكبّر العسكر معه ((2)).

آه، واويلاه!

ويكبّرون بأن قُتلت، وإنّما***قتلوا بك التكبير والتهليلا

وفي خبر أبي مخنف: وكبّر العسكر ثلاث تكبيرات، وتزلزلت الأرض، وأظلم الشرق والغرب ((3)).

روى البيهقي قال: لمّا قُتل الحسين بن علي علیهما السلام كسفتالشمس كسفةً بدت الكواكب نصف النهار ((4)).

قال أبو مخنف: وقطر ((5)) السماء دماً، ونادى منادٍ من السماء: قُتل والله

ص: 431


1- ([3]) في (تاريخ الطبري: 4 / 297): عن زرّ بن حبيش قال: أوّل رأسٍ رُفع على خشبةٍ رأس الحسين علیه السلام. وانظر: كشف الغمّة: 2 / 55، الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / خ 483، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 83.
2- ([4]) المنتخب للطريحي: 2 / 452 المجلس 10.
3- ([5]) الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 359، مقتل الحسين علیه السلام لأبي مخنف (المشهور): 93.
4- ([1]) السنن الكبرى للبيهقي: 3 / 337.
5- ([2]) في المتن: (وقطرت سبع قطراتٍ دمٌ من السماء).

الإمام ابن الإمام أخو الإمام، قُتل والله الهمام ابن الهمام، الحسين بن عليّ ابن أبي طالب علیه السلام ((1)).

وفي (البحار): لما قتلوا الحسين بن علي علیه السلام أمر الله عزوجل ملكاً ينادي: أيّتها الأُمّة الظالمة القاتلة عترة نبيّها، لا وفّقكم الله لصومٍ ولا فطر. وفي حديثٍ آخَر لفطرٍ ولا أضحى ((2)).

قال أبو عبد الله الصادق: «لا جَرَم والله، ما وُفّقوا ولا يوفّقون أبداً، حتّى يقوم ثائر الحسين» ((3)).

وفي (البحار): إنّ الملَك الّذي جاء إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وأخبره بقتل الحسين بن عليّ كان ملك البحار، وذلك أنّ ملَكاً من ملائكة الفردوس نزل على البحر ونشر أجنحته عليها، ثمّ صاح صيحةً وقال: يا أهل البحار، البسوا أثواب الحزن، فإنّ فرخ الرسول مذبوح! ثمّ حمل من تربته في أجنحته إلى السماوات، فلم يلقَ ملَكاً فيها إلّا شمّها وصار عنده لها أثر، ولعَنَ قتَلَته وأشياعهموأتباعهم ((4)).

ص: 432


1- ([3]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 79 المجلس 15، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 359.
2- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 218، الكافي للكليني: 4 / 169، علل الشرائع للصدوق: 2 / 76.
3- ([5]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 217، مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 1 / 62.
4- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 221 ح 5، كامل الزيارات لابن قولويه: 67 الباب 21 ح 3.

وفي (الملهوف): فارتفعت في السماء في ذلك الوقت غبرةٌ شديدةٌ سوداء مظلمة، فيها ريحٌ حمراء لا تُرى فيها عينٌ ولا أثر، حتّى ظنّ القوم أنّ العذاب قد جاءهم ((1)).

ورُوي أنّ ريحاً عاصفاً هبّ في تلك الساعة، مات لهولها خلقٌ كثير.

وفي (بحار الأنوار): عن الصادق: «لمّا قُتل الحسين علیه السلام سمع أهلُنا قائلاً بالمدينة يقول: اليوم نزل البلاء على هذه الأُمّة، فلا يرون فرحاً حتّى يقوم قائمكم، فيشفي صدوركم ويقتل عدوّكم، وينال بالوتر أوتاراً. ففزعوا منه وقالوا: إنّ لهذا القول لحادثٍ قد حدث ما نعرفه. فأتاهم بعد ذلك خبر الحسين وقتله، فحسبوا ذلك فإذا هي تلك الليلة الّتي تكلّم فيها المتكلّم». فقلت له: جُعلت فداك، إلى متى أنتم ونحن في هذا القتل والخوف والشدّة؟ فقال: «حتّى مات سبعون فرخاً، أخو أب، ويدخل وقت السبعين، فإذا دخل وقت السبعين أقبلَت الآيات تترى كأنها نظام، فمَن أدرك ذلك قرّت عينه، إنّ الحسين لمّا قُتل أتاهم آتٍ وهم في المعسكر، فصرخ فزبر، فقال لهم: وكيف لا أصرخ ورسول الله قائمٌ ينظر إلى الأرض مرّةً وينظر إلى حربكم مرّة، وأنا أخاف أن يدعو الله على أهل الأرض فأهلك فيهم؟ فقال بعضهم لبعض: هذا إنسانٌ مجنون. فقال التوّابون: تالله ماصنعنا بأنفسنا؟ قتلنا لابن سميّة سيّد شباب أهل الجنّة. فخرجوا على عُبيد الله بن زياد، فكان مِن أمرهم الّذي كان». قال: قلت له: جُعلت فداك، مَن هذا الصارخ؟ قال: «ما نراه إلّا

ص: 433


1- ([2]) اللهوف لابن طاووس: 127.

جبرئيل، أما إنّه لو أذن له فيهم لَصاح بهم صيحةً يخطف منها أرواحهم مِن أبدانهم إلى النار، ولكن أمهل لهم ليزدادوا إثماً، ولهم عذابٌ أليم» ((1)).

قال السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف): روى هلال بن نافع قال: إنّي كنتُ واقفاً مع أصحاب عمر بن سعد (لعنه الله)، إذ صرخ صارخ: أبشِرْ أيّها الأمير، فهذا شمر قَتَل الحسين علیه السلام . قال: فخرجتُ بين الصفَّين، فوقفتُ عليه وإنّه علیه السلام لَيجود بنفسه، فوَاللهِ ما رأيتُ قطّ قتيلاً مضمَّخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله، فاستسقى في تلك الحال ماءً، فسمعتُ رجلاً يقول: واللهِ لا تذوق الماء حتّى تَرِد الحامية فتشرب من حميمها. فسمعتُه يقول: «يا ويلك! أنا لا أرد الحامية ولا أشرب من حميمها، بل أردُ على جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله، وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وأشرب من ماءٍ غير آسِن، وأشكو إليه ما ارتكبتُم منّي وفعلتم بي». قال: فغضبوا بأجمعهم، حتّى كأنّ الله لم يجعل في قلب أحدٍ منهم من الرحمة شيئاً، فاجتزّوا رأسه وإنّه لَيكلّمهم، فتعجّبتُ من قلّة رحمتهم وقلت: واللهِ لا أُجامعكم على أمرٍأبداً ((2)).

وقال الإمام الباقر: «ولقد قتلوه قتلةً نهى رسول الله صلی الله علیه وآله أن يُقتَل بها الكلاب،

ص: 434


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 172 ح 21، كامل الزيارات لابن قولويه: 336 الباب 108 ح 14.
2- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 128.

لقد قُتِل بالسيف والسنان وبالحجارة وبالخشب وبالعصا، ولقد أوطؤوه الخيل بعد ذلك» ((1)).

حُكي أنّه لمّا جاؤوا بليث بن عنان الشاكريّ وسعد بن عبد الله الحنفي!!! وعمر بن مذر إلى المختار، قال لهم: أوَلستم أنتم الّذي ضربتم بدن الإمام الحسين بالسياط؟ فقالوا: لا والله. فأشار إلى الجلّادين فعلّقوهم، وضربوا كلّ واحدٍ منهم ألف سوط، ثمّ جعلوهم غرضاً للسهام حتّى تمزّقت أجسادهم واضمحلّت، ثمّ جمعوا لهم القصب فأشعلوه ناراً وأحرقوهم ((2)).

ثمّ جيء بشافع بن عبد الله، وكان على ألفَي فارس، فلمّا رآه المختار فرح فرحاً شديداً، وقال: لعنك الله أيّها الأحول يا ابن الفاعلة، الحمد لله الّذي مكّنني منك، لمَ خرجتَ إلى كربلاء؟ فسكت، فقال له: لمَ لا تردّ يا ابن الزانية؟ قال: وبماذا أردّ؟ لقد خرجتُ مُكرَهاً! قال: خرجتَ مكرهاً، فلمَ ضربتَ الإمام المظلوم بالسيف؟ فأمر به فأُدني منه، وكان في يده عصا، فضربه على وجهه وفمه حتّى هشمهما، وأمر به فعُلّق وخلع كتفه.

وجيء بسعد بن عُبادة!!! وعثمان بن أُميّة إلى المختار، فقال لهما: لمَ قتلتما ابن رسول الله أيّها الدعيّان؟ قالا: لم نقتله نحن، وإنّماقتله شمر وسنان! فقال لهما: شهدتُما مقتله وشاركتما في قتله، وأعنتما وشايعتما

ص: 435


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 91.
2- ([3]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 171.

وبايعتما على قتله، ثمّ تقولان: لم نقتله؟ فأمر بهما فشُرّحت لحومهما بالسفود وهُشّمت عظامهما، فطلبا الماء، فأُغليَ لهما زيت النفط وصُبّ في حلقهما، ثمّ أُحرقا.

وجيء بالحارث بن بشير، فقال له المختار: أوَلستَ الّذي شتمت الإمام الحسين؟ فأنكر ذلك، فأمر به فشقّوا فمه ومزّقوه.

ونُقل أنّ المختار سأل من أبي خليق عن الأشخاص الّذي رموا الإمام بالحجارة، فقال: إسحاق بن حويط، والأخنس بن مرثد، وحكم وعامر ابنا الطفيل، وبكر بن عامر، وعمر بن صبيع، وسالم بن حسبة، ومنقذ وناعم ابنا مرّة، ويزيد بن الحارث، وهاني بن ثبيت، وسعد بن حجر الأحجار، ويزيد النهشلي، ووريد (دريد) مولى عمر بن سعد ((1)).

* * * * *

قال الإمام الصادق: «إنّه مرّ بالحسين بن عليّ خمسون ألف ملَكٍ وهو يُقتَل، فعرجوا إلى السماء، فأوحى الله إليهم: مررتم بابن حبيبي وهو يُقتَل فلم تنصروه؟ فاهبِطوا إلى الأرض فاسكنوا عند قبره شعثاً غبراً إلى أن تقوم الساعة» ((2)).

وفي (بحار الأنوار): قال أبو ذرّ، وهو يومئذٍ قد أخرجه عثمان إلى الربذة،

ص: 436


1- ([1]) أُنظُر: سرور المؤمنين: 191 وما بعدها.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 226 ح 20، كامل الزيارات لابن قولويه: 115 الباب 93 ح 6.

فقال له الناس: يا أبا ذرّ، أبشِرْ، فهذا قليلٌ في الله. فقال: ما أيسر هذا، ولكن كيف أنتم إذا قُتل الحسين بن عليّ قتلاً -- أو قال: ذُبح ذبحاً --؟ واللهِ لا يكون في الإسلام بعد قتل الخليفة أعظم قتيلاً منه، وإنّ الله سيسلّ سيفه على هذه الأُمّة لا يغمده أبداً، ويبعث ناقماً من ذرّيّته فينتقم من الناس، وإنّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكّان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء من قتله لَبكيتم واللهِ حتى تزهق أنفسكم، وما من سماءٍ يمرّ به روح الحسين علیه السلام إلّا فزع له سبعون ألف ملَك، يقومون قياماً ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة، وما من سحابةٍ تمرّ وترعد وتبرق إلّا لعنت قاتله، وما من يومٍ إلّا وتعرض روحه على رسول الله فيلتقيان ((1)).

وفي (بحار الأنوار): عن الإمام جعفر الصادق: «إنّ الحسين علیه السلام لمّا قُتل عجّت السماوات والأرض ومَن عليهما والملائكة، فقالوا: يا ربّنا، ائذن لنا في هلاك الخلق حتّى نجدهم من جديد الأرض بما استحلّوا حرمتك وقتلوا صفوتك. فأوحى الله إليهم: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي اسكنوا. ثمّ كشف حجاباً من الحجُب، فإذا خلفه محمّدٌ واثنا عشر وصيّاً له علیه السلام ، ثمّ أخذ بيد فلان القائم من بينهم، فقال: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي، بهذا أنتصر لهذا. قالها ثلاث مرّات» ((2)).

ص: 437


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 219 ح 47، كامل الزيارات لابن قولويه: 73 الباب 23 ح 11.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 228 ح 23، الكافي للكليني: 1 / 534.

وفي رواية: إنّ الله (تبارك وتعالى) قال للملائكة: إنّي قتلتُ بدم يحيى ابن زكريّا سبعين ألفاً، وإنّي أقتل بدم الحسين ابن فاطمة سبعين ألفاً وسبعين ألفاً ((1)) مِن بني أُميّة على يد القائم المهديّ، ولهم في القيامة عذابٌ أليم.

قال الإمام الصادق: «إنّ الحسين لمّا وُلد أمر الله جبرئيل أن يهبط في سبعين ألف ((2)) من الملائكة فيهنّيء رسول الله، فهبط جبرئيل، فمرّ على جزيرةٍ في البحر فيها ملَكٌ يُقال له: (فطرس)، فكان من الحمَلَة» ((3)).

وفي (البصائر): إنّ الله عرض ولاية أمير المؤمنين فقبلها الملائكة، وأباها ملَكٌ يُقال له: فطرس، فكسر الله جناحه ((4))، وألقاه في جزيرةٍ من جزائر البحر.

وفي رواية الشيخ الطوسي: إنّ الله (تعالى) خيّره من عذابه في الدنيا أو الآخرة، فاختار عذاب الدنيا، وكان معلَّقاً بأشفار عينَيه في جزيرةٍ في البحر لا يمرّ به حيوان، وتحته دخانٌ مُنتنٌ غير منقطع ((5)).

ص: 438


1- ([1]) أُنظُر: شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 168 ح 1112، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 429.
2- ([2]) في (البصائر): «سبعين ألفاً»، وفي غيره: «في ألف».
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 94 الفصل 6، الأمالي للصدوق: 137، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 243.
4- ([4]) بصائر الدرجات للصفار: 68 ح 7.
5- ([5]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 95 الفصل 6، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 244.

فعبد الله سبعمئة عام ((1))، وهو في ذلك العذاب.

وقيل: إنّ جبرئيل نظر إلى ملَكٍ يبكي بكاءً شديداً، فدنا منه فعرفه أنّه فطرس، وكان من ملائكة السماء الثالثة، وكان على قبيلٍ من سبعين ألف من الملائكة، فسأله جبرئيل عن حاله، فحكى له قصّته ((2)).

وفي (بصائر الدرجات): فقال له فطرس: يا جبرئيل، إلى أين تذهب؟ قال: بعثني الله محمّداً يهنّئهم بمولودٍ وُلد في هذه الليلة. فقال له فطرس: احملْني معك، وسَلْ محمّداً يدعو لي. فقال له جبرئيل: اركب جناحي. فركب جناحه، فأتى محمّداً صلی الله علیه واله فدخل عليه وهنّأه، فقال له: يا رسول الله صلی الله علیه وآله، إنّ فطرس بيني وبينه أُخوّة، وسألني أن أسألك أن تدعو الله له أن يردّ عليه جناحه. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله لفطرس: «أتفعل؟»، قال: نعم. فعرض عليه رسول الله صلی الله علیه وآله ولاية أمير المؤمنين علیه السلام فقبلها، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «شأنك بالمهد فتمسَّحْ به وتمرّغْ فيه». قال: فمضى فطرس فمشى إلى مهد الحسين بن عليّ، ورسول الله يدعو له. قال: قال رسول الله: «فنظرتُ إلى ريشه وإنّه لَيطلع ويجري منه الدم ويطول، حتّى لحق بجناحه الآخَر، وعرج مع جبرئيل إلى

ص: 439


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 94 الفصل 6، الأمالي للصدوق: 201 المجلس 28 ح 215.
2- ([2]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 193.

السماء وصار إلى موضعه» ((1)).وفي رواية: فقال: يارسول الله، أما إنّ أُمّتك ستقتله، وله علَيّ مكافأة، لا يزوره زائرٌ إلّا بلّغتُه عنه، ولا يسلّم مسلِّمٌ إلّا أبلغتُه سلامه، ولا يصلّي عليه مصلٍّ إلا أبلغتُه صلاته. ثمّ ارتفع ((2)).

وفي رواية: لمّا قُتل الإمام الحسين قال فطرس: يا ربّ، لو أذنتَ لي حتّى أهبط وأُقاتل أعداءه مع أصحابي. فجاء الخطاب: إذا فاتك ذلك فاهبط في السبعين ألف ملَكٍ من قبيلك الّذي معك، ولازِمْ قبره، وابكوه كلّ صباحٍ ومساء، واجعلوا ثواب بكائكم للباكين عليه. فهبط فطرس والملائكة الّذين معه، فهم في كربلاء يفعلون ما أُمروا به إلى يوم القيامة ((3)).

وفي (بحار الأنوار): عن الإمام جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جده علیه السلام قال: «قال النبيّ صلی الله علیه وآله : ليلة أُسري بي إلى السماء فبلغتُ السماء الخامسة، نظرت إلى صورة عليّ بن أبي طالب، فقلت: حبيبي جبرئيل، ما هذه الصورة؟ فقال جبرئيل:

ص: 440


1- ([3]) بصائر الدرجات للصفار: 68 ح 7.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 95 الفصل 6، الأمالي للصدوق: 201 المجلس 28 ح 215، روضة الواعظين للفتّال: 155، كامل الزيارات لابن قولويه: 141 باب 21 ح 165، الثاقب في المناقب: 339 ح 284.
3- ([2]) أُنظُر: روضة الشهداء للكاشفي: 193.

يا محمّد، اشتهت الملائكة أن ينظروا إلى صورة عليّ، فقالوا: ربَّنا، إنّ بني آدم في دنياهم يتمتّعون غدوةً وعشيّةً بالنظر إلى عليّ بن أبي طالب حبيب حبيبك محمّد؟ص؟ وخليفته ووصيّه وأمينه، فمتِّعْنا بصورته قدر ما تمتّع أهل الدنيا به. فصوّر لهم صورته من نور قدسه عزوجل، فعليٌّعلیه السلام بين أيديهم ليلاً ونهاراً، يزورونه وينظرون إليه غدوةً وعشيّة».

قال: فأخبرني الأعمش، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه علیه السلام قال: «فلمّا ضربه اللعين ابن ملجم على رأسه صارت تلك الضربة في صورته الّتي في السماء، فالملائكة ينظرون إليه غدوةً وعشيّة، يلعنون قاتله ابن ملجم، فلمّا قُتل الحسين ابن عليّ (صلوات الله عليه) هبطت الملائكة وحملَته حتّى أوقفته مع صورة عليّ في السماء الخامسة، فكلّما هبطت الملائكة من السماوات من عُلا وصعدت ملائكة السماء الدنيا فمن فوقها إلى السماء الخامسة لزيارة صورة عليّ علیه السلام والنظر إليه وإلى الحسين بن عليّ متشحّطاً بدمه، لعنوا يزيد وابن زياد وقاتل الحسين بن علي (صلوات الله عليه) إلى يوم القيامة».

قال الأعمش: قال لي الصادق علیه السلام: «هذا من مكنون العلم ومخزونه، لا تُخرجه إلّا إلى أهله» ((1)).

ص: 441


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 228 ح 24.

الاختلاف في المباشر للقتل

إختلفوا في تشخيص القاتل المباشر، ففي رواية الصدوق: سنان ((1))، وفي رواية (المناقب): خولّى بن يزيد الأصبحي ((2))،والمشهور: الشمر((3)).

ص: 442


1- ([2]) الأمالي للصدوق: 163، مثير الأحزان لابن نما: 57، ذخائر العقبى للطبري: 146، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 194، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 117 الرقم 2852، الاستيعاب لابن عبد البر: 1 / 393، الثقات لابن حبّان: 2 / 390، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 249، أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21، الجوهرة في النسب للبرّي: 44، المنتخَب من ذيل المذيّل للطبري: 25، تاريخ الطبري: 4 / 358، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 91، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 265، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 2 / 842، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 79، نظم درر السمطين للزرندي: 216، الإكمال في أسماء الرجال للتبريزي: 44، جواهر المطالب لابن الدمشقي: 2 / 270.
2- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 367 الفصل 9، الإرشاد للمفيد: 2 / 114، روضة الواعظين للفتّال: 189، الفتوح لابن أعثم: 5 / 118، إعلام الورى للطبرسي: 1 / 468، تاريخ الطبري: 4 / 347.
3- ([1]) أُنظُر المصادر الّتي ذكرت سنان (عليه اللعنة)، وأضف إلى ذلك: معارج الوصول للزرندي: 95، الإرشاد للمفيد: 2 / 112، الإصابة لابن حجر: 6 / 276، تاريخ مدينة دمشق: 23 / 190، صبح الأعشى: 13 / 234، روضة الواعظين للفتّال: 189، تاج المواليد للطبرسي: 31، عمدة الطالب لابن عنبة: 192، عمدة القاري للعيني: 16 / 240، تاريخ خليفة بن خياط: 179، جلاء العيون للمجلسي: 689، المنتخب للطريحي: 2 / 452، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 56، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 83، وأكثر كتب الشيعة على ذلك، وهو المشهور عندهم، وهو الوارد في زيارة الناحية المقدّسة.

وقال بعضهم: الأظهر أنّ الثلاثة (لعنهم الله) اشتركوا في قتله ((1)).

وممّا يؤيّده كلام أبي مخنف: إنّ سنان بن أنس وخولّى بن يزيد الأصبحيّ والشمر بن ذي الجوشن (لعنهم الله) أقبلوا ومعهم رأس الحسين، ومضوا به إلى عمر بن سعد (لعنه الله) وهم يتحدّثون، فخولّى يقول: أنا ضربتُه بسهمٍ فأرديتُه عن جواده إلى الإرض، وسنان يقول: أنا ضربتُه بالسيف ففلقتُ هامته، والشمر يقول: أناأبنت رأسه عن بدنه ((2)).

فداءً لغربتك ومظلوميّتك ونحرك المنحور وكبدك الظمآن!

رُوي أنّ جبرئيل هبط على النبيّ وهو يقبّل الحسين -- وكان له من العمر أربع سنوات -- في نحره ويضمّه إلى صدره، فقال جبرئيل: أتحّبه يا رسول الله؟ فقال النبي: «وكيف لا أُحبّه وهو قرّة عيني؟!». وكان في عنق الحسين تعويذ قد أثّر في عنقه فصار خطّاً، وكان جبرئيل يطيل النظر إلى الأثر ويهزّ رأسه، فسأله النبيّ عن ذلك، فبكى جبرئيل بكاءً شديداً، وقال: يا رسول الله، سيُذبح ابنك هذا في كربلاء، ويمرّ الخنجر من فوق هذا الأثر، فيُغسّل

ص: 443


1- ([2]) جلاء العيون للمجلسي: 690، جلاء العيون لشبّر: 2 / 255 الفصل 14.
2- ([1]) أسرار الشهادة للدربندي: 3 / 72 المجلس 14.

جسمه ويرمّل بالدماء، وتحزن له قلوب أهل بيته. فبكى النبيّ بكاءً عالياً.

ورُوي عن الإمام جعفر الصادق أنّ القيامة إذا قامت يؤتى برجلٍ في المحشر، فتكون صحيفته خاليةً من الحسنات، فيؤمر به إلى جهنّم، فيسلك إليها يائساً، فيأتي النداء من ربّ الأرباب: «إلى أين يا عبدي؟»، فيقول: إلى جهنّم، لأنّي مستحقٌّ للعذاب. فيقول: «إنّ لك عندنا أمانة»، فيأمر، فيأتون بدُرّةٍ يضىء شعاعها عرصات القيامة، فيقول: يا ربّ، ما كان لي درّةٌ كهذه! فيأتي النداء: «إنّها قطرة الدمع الّتي ذرفتَها في مصيبة الحسين بن عليّ علیهما السلام، أخذناها منك وأودعناها في أصداف رحمتنا، تربو لتنفعك يوم حسرتك وحاجتك وافتقارك، ونحن نشتريها منك، فخُذها الى الأنبياء يقيّمونها». فيأخذها إلى آدم صفيّ الله ويقول له: يا أبانا، ثمّن لنا هذه الدرّة؟ فيقول: لا أُقدّر لها ثمناً، خُذها إلى نوح النبي.فيأخذها، فيقول نوح: لا أُقدّر لها ثمناً، خُذها إلى إبراهيم الخليل يثمّنها لك. فيقول إبراهيم: لا أُقدّر لها ثمناً، خُذها إلى إسماعيل. فيأخذها إلى الأنبياء فيتداولونها يداً بيد، حتّى تصل إلى خاتم الأنبياء، فيقول: «خُذها إلى عليٍّ أمير المؤمنين علیه السلام»، فيقول أمير المؤمنين عليّ علیه السلام: «خُذها إلى ولدي الحسين علیه السلام »، فإذا وصل إلى الحسين تحنّن عليه، وأتى به إلى عرش الرحمان وقال: «إلهي، قيمتها أن تهب لي هذا العبد وأباه وأُمّه وتحشرهم معي»، فيأتي النداء: «إنّا وهبناه وأباه وأُمّه لك، وجعناهم جيرانك في

ص: 444

الجنّة» ((1)).

إحذروا معاشر الشيعة أن تستبعدوا ذلك وتغفلوا عن فضل الله على أهل بيت الرسالة، فتحرموا أنفسكم من الفيوضات الربّانيّة.

ورُوي عن داوود الرقّي قال: كنتُ عند أبي عبد الله علیه السلام إذا استسقى الماء، فلمّا شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: «يا داوود، لعن الله قاتل الحسين علیه السلام ، فما مِن عبدٍ شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله إلّا كتب الله له مئة ألف حسنة، وحطّ عنه مئة ألف سيّئة، ورفع له مئة ألف درجة، وكأنما أعتق مئة ألف نسمة، وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد» ((2)).

فإذا كان ذِكر الحسين ولعن قتله عند شرب الماء يجرّ كلّ هذاالثواب، فلماذا تستبعد أن يكون هذا الأجر والثواب من الربّ الرحيم الكريم لقطرة الدمع الجارية عند ذكر مصيبته؟

ألا تعلم أنّ البكاء على الإمام المظلوم يُدخِل السرور على خاتم الأنبياء؟ فلا شك أنّ الإمام الحسين أحبّ إلى النبيّ من عمّه حمزة، وكان يسعد بالبكاء على عمّه ويحزن أن لا يُبكى عليه، أما سمعتَ ما حدث في معركة أُحُد إذ رجع الأنصار والمهاجرون يبكون شهداءهم، فمرّ على دار حمزة،

ص: 445


1- ([1]) أُنظُر: تظلّم الزهراء للقزويني: 68، تذكرة الشهداء للكاشاني: 74.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 303 ح 16، الكافي للكليني: 6 / 391، كامل الزيارات لابن قولويه: 106 الباب 34.

فقال: «أمّا حمزة فلا بواكي له هاهنا»، يعني أنّ حمزة غريبٌ في هذا البلد، فمن يشفق على غربته ويبكي له؟ فلمّا سمع الأنصار ذلك وعلموا أنّ حزن النبيّ على غربة حمزة، ذهبوا إلى نسائهم وأمروهنّ أن يخرجن إلى دار حمزة يبكينه، ثمّ يرجعن إلى بيوتهنّ فيبكين شهدائهنّ، فخرج النساء إلى دار حمزة، وبقين يندبنه ويبكين عليه حتّى منتصف الليل، فلمّا سمع النبيّ أصواتهنّ سأل عن ذلك، فقيل: نساء الأنصار يبكين عمّك حمزة، فقال النبي: «رضيَ الله عنهنّ وعن أولادهنّ» ((1)).

معاشرَ الشيعة! إذا كان هذا كلام النبيّ في مصيبة عمّه حمزة، فماذا سيكون كلامه في الباكين على مصيبة ابنه الحسين المظلوم، الّذي لا يُقاس بمظلوميّته مظلوميّة حمزة؟ «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ».

ص: 446


1- ([1]) أُنظُر: مسكّن الفؤاد: 107، بحار الأنوار للمجلسي: 20 / 89.

محتويات الكتاب

المجلس الأوّل: في بيان خروج سيّد الشهداء من المدينة المنوّرة ونزوله في مكّة المكرّمة 5

المجلس الثاني: في بيان إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة وبيان شهادته علیه السلام 31

المجلس الثالث: في بيان شهادة ولدَي مسلم بن عقيل علیهم السلام 69

المجلس الرابع: في بيان توجّه الإمام الحسين علیه السلام إلى العراق. 81

المجلس الخامس: في بيان ما بعد النزول في كربلاء إلى يوم عاشوراء. 135

المجلس السادس: في بيان أحداث ليلة عاشوراء الأليمة إلى وقت وقوع القتال 169

[عدد أصحاب الإمام الحسين علیه السلام] 191

[تعبئة العسكرَين] 191

المجلس السابع: في ذكر مبارزات أصحاب الإمام وأهل بيته 203

ومنهم: القاسم بن الحسن علیه السلام. 203

إخوة الإمام الحسين علیهم السلام 279

ص: 447

المجلس الثامن: في ذكر شهادة العبّاس وعليّ الأكبر وعليّ الأصغر. 285

[شهادة عبد الله بن مسلم بن عقيل] 316

المجلس التاسع: في بيان جهاد سيّد الشهداء (روحي فداه) وقتل عبد الله ابن الحسين وعبد الله بن الحسن 331

كتاب فاطمة العليلة. 387

[إصابة فخذه بسهم] 391

[عودٌ إلى الحديث السابق] 429

[الاختلاف في المباشر للقتل] 442

ص: 448

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.