مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام المجلد 1

اشارة

سرشناسه:برغانی، محمدصالح بن محمد، -1271؟ق.

عنوان قراردادی:مخزن البکاء. عربی

عنوان و نام پديدآور:مخزن البکاء فی مقتل سید الشهداء علیه السلام/ محمدصالح البرغانی؛ ترجمه و تحقیق السیدعلی السیدجمال اشرف الحسینی.

مشخصات نشر:قم: طوبای محبت، 1441 ق.= 1399.

مشخصات ظاهری:3 ج.

شابک:دوره 978-600-366-200-1 : ؛ ج.1 978-600-366-201-8 : ؛ ج.2 978-600-366-202-5 : ؛ ج.3 978-600-366-203-2 :

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:ج. 2 و 3 (چاپ اول: 1399)(فیپا).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:حسین بن علی (ع)، امام سوم، 4 - 61ق -- احادیث

موضوع:Hosayn ibn Ali, Imam III, 625 - 680 -- Hadiths

موضوع:واقعه کربلا، 61ق -- احادیث

موضوع:Karbala, Battle of, Karbala, Iraq, 680 -- Hadiths

شناسه افزوده:حسینی، سیدعلی جمال، مترجم

رده بندی کنگره:BP41/5

رده بندی دیویی:297/9534

شماره کتابشناسی ملی:6099609

وضعيت ركورد:فیپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

مخزن البكاء في مقتل سيّد الشهداء علیه السلام

تأليف: محمّد صالح البرغاني

ترجمة وتحقيق: السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

الديباجة

الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو، الملكُ الحقُّ المُبين، المدبِّر بلا وزير، ولا خَلقٌ مِن عباده يستشير، الأوّل غيرُ موصوف، والباقي بعد فناء الخَلْق، العظيمُ الربوبيّة، نورُ السماوات والأرَضِين وفاطرُهما ومبتدعهما، بغير عمَدٍ خلقهما، فاستقرّت الأرَضون بأوتادها فوق الماء، ثمّ علا ربُّنا في السماواتِ العُلى، الرحمنُ على العرش استوى، له ما في السماواتِ وما في الأرض وما بينهما وما تحتَ الثَّرى، فأنا أشهد بأنّك أنت الله، لا رافعَ لِما وضعْتَ ولا واضعَ لما رفعت، ولا مُعزَّ ل-مَن أذلَلْتَ ولا مُذلّ ل-مَن أعزَزْت، ولا مانعَ لما أعطيتَ ولا مُعطيَ لما منعت.(1)

اللّهُمَّ واجْعَلْ شرائفَ صلواتِك ونواميَ بركاتِك، على محمّدٍ عبدِك ورسولك، الخاتِمِ لِ-ما سَبَق والفاتِحِ لِ-ما انْغَلَق، وال-مُعلِنِ الحقَّ بالحقّ، والدافعِ جَيْشاتِ الأباطيل، والدامِغِ صَوْلاتِ الأضاليل، كما حُمِّلَ فاضطَلَع قائماً بأمرِك، مُسْتَوفِزاً في مرضاتِك، غيرَ ناكِلٍ عن قُدُم ولا واهٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافِظاً لعَهْدك، ماضياً على نفاذِ أمرك، حتّى أورى قَبَسَ القابِس،

ص: 5


1- بحار الأنوار للمجلسي: 83 /332 الباب 45.

وأضاءَ الطريقَ للخابِط، وهدِيَتْ به القلوبُ بعد خَوْضاتِ الفتَنِ والآثام، وأقام بمُوضِحاتِ الأعلام ونَيِّراتِ الأحكام، فهو أمينُك ال-مأمون، وخازنُ علمك المخزون، وشهيدُك يوم الدِّين، وبعيثُك بالحقّ، ورسولُك إلى الخَلق .(1)

اللّهمّ وضاعِفْ صلواتِكَ ورحمتَك وبركاتِك على عترة نبيِّك، العترةِ الضائعة الخائفة المستذَلَّة، بقيّةِ الشجرة الطيّبةِ الزاكيةالمباركة، وأَعْلِ اللّهمّ كلمتَهُم، وأفلِجْ حُجّتَهم، واكشِفِ البلاءَ واللّأْواءَ وحَنادِسَ الأباطيل والعمى عنهم، وثبِّتْ قلوبَ شيعتهم وحزبَك على طاعتهم وولايتهم ونص-رتهم ومُوالاتهم، وأعِنْهم وامنحهم الصبرَ على الأذى فيك، واجعل لهم أيّاماً مشهودة، وأوقاتاً محمودةً مسعودة، توشِكُ فيها فرَجَهم، وتُوجِبُ فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمِنتَ لأوليائك في كتابك المنزَل، فإنّك قلتَ -- وقولُك الحقّ -- : )وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَض-ى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْ-رِكُونَ بِي شَيْئاً( .(2)

والْعن اللّهمّ أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّدٍ وآلِ محمّد، وآخرَ تابعٍ له على ذلك، اللّهمّ وأهلِك مَن جعل يومَ قتلِ ابنِ نبيِّك وخيرتك عيداً، واستهَلَّ به

ص: 6


1- نهج البلاغة: 101 الخطبة 72.
2- مصباح المتهجِّد: 785.

فَرَحاً ومَرَحاً، وخُذْ آخرَهم كما أخذتَ أوّلهم، وأضعِفِ اللّهمّ العذابَ والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيّك، وأهلِكْ أشياعَهُم وقادتَهم، وأَبِرْ حُماتهم وجماعتهم .(1)

وصلِّ اللّهمّ على حبيبي ومالك رِقّي وسيّدي وإمامي، الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارَك، والتابع لمرضاة الله، المتحقِّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضلِ ثقات الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقِم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الوليّ الرشيد، الوصيّ السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيّب الوفيّ، الإمام الرضيّ، ذو النسب العَليّ، المُنفِق المليّ، أبو عبد الله الحسين بن عليّ علیهاالسلام..

منبع الأئمّة، شافع الأُمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العُظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومَن كان بالإمامة أحقّ وأولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبيّ الشهيد زكريّا علیه السلام ،الحسين بن عليّ المرتض-ى..

زَين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمّة المهتدين، وبضعة كبد سيّد المرسلين صلی الله علیه وآله،نور العِترة الفاطميّة، وسراج الأنساب العلويّة، وشرف غرس الأحساب الرضويّة، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط،

ص: 7


1- مصباح المتهجِّد: 785.

وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العِتَر، وأجلّ الأُسَر، وأثمر الشجر، وأزهر البدر، معظَّمٌ مكرَّمٌ موقَّر، منظَّفٌ مطهَّر..

أكبر الخلائق في زمانه في النَّفْس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخَلق، وأحسن الخُلق، قطعة النور، ولقلب النبيّ صلی الله علیه وآلهسرور، المنزَّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المِحَن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى المُلك الغالب، الحسين بن عليّ بن أبي طالب..(1)

الّذي حمَلَه ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الّذي اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش الجليل: «الحسين مصباح الهُدى وسفينة النجاة»، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّد الشهداء علیه السلام..(2)

الّذي ذكره الله في اللوح الأخض-ر، فقال: «... وجعلتُ حسيناًخازنَ وحيي، وأكرمتُه بالشهادة، وختمتُ له بالسعادة، فهو أفضل مَن استُشهِد، وأرفعُ الشهداء درجة، جعلتُ كلمتي التامّة معه، والحجّةَ البالغةَ عنده، وبعترته أُثيبُ وأعاقِب» ..(3)

ص: 8


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 113 -- بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسيني.
2- معالي السبطين: 61.
3- كمال الدين: 2 /290 ح 1.

الّذي قال فيه جدُّه المبعوث رحمةً للعالمين صلی الله علیه وآله: «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً».(1)وقال رسول الله صلی الله علیه وآله -- وهو الصادق الأمين -- : «إنّ حُبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبُّه إلّا مؤمنٌ ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حُبَّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً».(2)

فمِن أيِّ المخلوقات كان أُولئك المردة العُتاة، وأبناءُ البغايا الرخيصات، الّذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميّات، ولم يحفظوا النبيّ صلی الله علیه وآله في ذراريه؟!!

قال الإمام سيّد الساجدين علیه السلام: «أيّها الناس، أصبحنا مطرَّدين مشرَّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد تُركٍ وكابل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، )إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ( .(3). فوَالله لو أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله تقدّم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوِصاية بنا لَما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، مِن مصيبةٍ ما أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها، وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا وما بلغ بنا، إنّه عزيزٌ ذو انتقام» .(4)

ص: 9


1- بحار الأنوار للمجلسي: 45 /314.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47، بحار الأنوار للمجلسي: 43 /281 الباب 12.
3- سورة ص: 7.
4- بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 147.

ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الّذي سكن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبعُ والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خَلقِ ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى، سوف لا ولم ولن يسكن؛ لأنّه قتيل الله وابنُ قتيله، وثارُ الله وابنُ ثاره، ووِترُ الله الموتور في السماوات والأرض ((1))، حتّى «يبعث الله قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكربات».

قال الحسين علیه السلام: «يا ولدي يا عليّ، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهديّ» ((2)).

فذلك قائم آل محمّد عجل الله تعالی فرجه الشریف يخرج، فيقتل بدم الحسين بن عليّ علیهما السلام.. «إذا قام قائمنا، انتقمَ لله ولرسوله ولنا أجمعين» ((3)).

وقد بشّ-ر بذلك رسول ربّ العالمين صلی الله علیه و آله، فقال:

«لمّا أُسريَ بي إلى السماء، أوحى إليّ ربّي (جلّ جلاله) فقال: يا محمّد، إنّي اطّلعتُ على الأرض اطلاعةً فاخترتُك منها، فجعلتُك نبيّاً، وشققتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطلعتُ الثانية فاخترتُ منها عليّاً، وجعلتُه وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك وأبا ذريّتك، وشققتُ له اسماً من أسمائي، فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ، وخلقتُ فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضتُ ولايتهم

ص: 10


1- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 151 الباب 18.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 52 / 376.

على الملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرَّبين.

يا محمّد، لو أنّ عبداً عبدني حتّى ينقطع ويصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنتُه جنّتي ولا أظللتُه تحت عرشي.يا محمد، تحبّ أن تراهم؟

قلت: نعم يا ربّ.

فقال عزوجّل: إرفَعْ رأسك. فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بأنوار عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن علي، و(م ح م د) ابن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكبٌ درّي.

قلت: يا ربّ، ومَن هؤلاء؟

قال: هؤلاء الأئمّة، وهذا القائم الّذي يحلّل حلالي ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي، وهو الّذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيُخرِج اللّات والعُزّى طريَّين فيحرقهما، فلَفِتنَةُ الناس يومئذٍ بهما أشدُّ من فتنة العِجل والسامري» ((1)).

وروى عبد الله بن سنان، قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر ابن محمّدٍ علیهما السلام في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسفَ اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممّ

ص: 11


1- ([1]) كمال الدين: 1 /252 الباب 23 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 52 / 379 ح 185.

بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك.

فقال لي: «أوَ في غفلةٍ أنت؟! أما علمتَ أنّ الحسينَ بن عليٍّ أُصيبَ في مثل هذا اليوم؟!».

فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟

فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطِرْه من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كمُلاً، ولْيكُنْ إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلكاليوم تجلّت الهيجاءُ عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمةُ عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله صلی الله علیه و آلهمصرعهم، ولو كان في الدنيا يومئذٍ حيّاً لَكان صلی الله علیه و آله هو المُعزّى بهم».

قال: وبكى أبو عبد الله علیه السلام حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..

ثمّ علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم، إلى أن قال: ثمّ قل:

«اللّهمّ عذِّبِ الفَجَرة الّذين شاقّوا رسولَك، وحاربوا أولياءَك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومَن كان منهم فخبَّ وأوضعَ معهم أو رضي بفعلهم، لعناً كثيراً.

اللّهم وعجِّلْ فرج آل محمّدصلی الله علیه و آله،واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم من أيدي المنافقين المُضلّين والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتِحْ لهم رَوحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم مِن لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً..

اللّهم إنّ كثيراً من الأُمّة ناصبَت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة،

ص: 12

وعكفت على القادة الظلَمَة، وهجرت الكتاب والسُنّة، وعدلت عن الحبلين اللَّذَين أمرتَ بطاعتهما والتمسّكِ بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأَت الأحزاب، وحرّفَت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك وخيرةَ عبادك وحمَلَةَ علمك وورثة حكمتك ووحيك.

اللّهمّ فزلزل أقدام أعدائك وأعداء رسولك وأهل بيت رسولك، اللّهمّ وأَخرِبْ ديارهم، وافلُل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفُتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاء طمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نُكراً، وخُذهم بالسنين والمَثُلات الّتي أهلكتَ بها أعداءَك، إنّك ذو نقمةٍ من المجرمين.

اللّهمّ إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطَّلة، وعترة نبيّك في الأرضهائمة، اللّهمّ فأعِن الحقَّ وأهلَه، واقمع الباطلَ وأهله، ومُنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا وُدّاً، واجعلنا لهم وفداً» ((1)).

والصلاة والسلام على أصحاب الحسين علیهم السلام، الّذين كشف لهم سيّد الشهداء علیه السلام «الغطاء، حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها وإلى مكانه من الجنّة» ((2))، ووعَدَهم ربُّ العزّة

ص: 13


1- ([1]) مصباح المتهجّد: 784، بحار الأنوار للمجلسي: 98 / 305 الباب 24.
2- ([2]) علل الشرائع: 1 / 229 الباب 163 ح 1، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 297 الباب 35 ح 1.

أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم، فقال: )ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ( ((1))، يخاطب بذلك أصحاب الحسين ((2)).

ص: 14


1- ([3]) سورة الإسراء: 6.
2- ([4]) تأويل الآيات الظاهرة: 272.

المؤلّف والكتاب

اشاره

ترجم الشيخَ محمّد صالح البرغانيّ الكثيرُ من العلماء والرجاليّين ((1))، وقد اخترنا ترجمة السيّد حسن الأمين في (مستدركات أعيان الشيعة) ((2))، ولمن أراد الزيادة والمتابعة مراجعة مضانّ ترجمته، وقد ذكر السيّد الأمين في الهامش أنّه اختصر هذه المعلومات عمّا كتبه أحد أحفاد المترجم الأُستاذ عبد الحسين الصالحي، وهو الّذي حقّق كتاب جدّه المترجَم في الفقه وأخرجه باسم (موسوعة البرغانيّ في فقه الشيعة) في عدّة مجلّدات، وذكر موجزاً لتاريخ الأُسرة العلميّ بذكر أشهر رجالها، ملخِّصاً ذلك كلّه عمّا كتبه الأُستاذ الصالحي، وقد ذكرنا المقدّمة العامّة عن الأُسرة وأعرضنا عن ذكر رجالها؛ اختصاراً والتزاماً بما يخصّنا ونحتاجه من تعريف المؤلّف رحمه الله.

ص: 15


1- ([1]) أُنظُر: هديّة العارفين: 2 / 377، إيضاح المكنون: 1 / 304، و2 / 148، أعيان الشيعة: 9 / 369، ريحانة الأدب: 1 / 248، الذريعة: 3 / 41 الرقم 88، و20 / 380 الرقم 3522، و21 / 105 الرقم 4142، الكرام البررة: 2 / 660 الرقم 1199، الأعلام: 6 / 164، مُعجَم المؤلّفين: 10 / 86، مُعجَم المفسّ-رين: 2 / 538، تراث كربلاء: 281، تراجم الرجال: 2 / 727 الرقم 1345.
2- ([2]) مستدركات أعيان الشيعة للسيّد حسن الأمين: 2 /300 وما بعدها.

* * * * *

وُلد المؤلّف في 25 ذي القعدة سنة 1167 في مدينة برغان بإيران، وتُوفّي سنة 1271 ((1)) في كربلاء، ودُفِن في مقبرةٍ خاصّةٍ في الرواق الغربيّ من الروضة الحسينيّة جنب الشبّاك المحاذي للرأس.

هو ابن الشيخ محمّد الشهير ب- (ملائكة)، ابن الشيخ محمّد تقي، ابن الشيخ جعفر الطالقانيّ الموصوف ب- (فرشته)، ابن الشيخ محمّد كاظم الطالقاني.

آل البرغاني

هم من أقدم الأُسَر العلميّة وأشهرها، نبغ منهم العديد من العلماء والفضلاء في مختلف العلوم الإسلاميّة، ويقال أنّهم فرعٌ من آل بويه.

واشتهر هذا البيت -- في القرن العاشر وحتّى النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجريّ -- بآل الطالقاني، وقد زار أحدُ أفاضل أحفادهم الأُستاذ عبد الحسين الصالحيّ طالقان منذ عهدٍ قريب، فوجد على ألواح قبور رجال هذا البيت وعلمائهم منقوش: (... البويهيّ الطالقاني)، وقد هُدِم

ص: 16


1- ([1]) ثمّة اختلافٌ في بعض المعلومات الخاصّة، من قبيل تاريخ الوفاة وما شابه ذلك، أعرضنا عن الخوض فيها، ولمن أحبّ التدقيق والتحقيق مراجعة المضانّ.

قسمٌ من هذه القبور في قزوين وطالقان، ولا يزال بعضها وموقوفاتهم في طالقان وديلمان موجوداً، وعند أحفادهم بعض صكوك هذه الأوقاف.

وينتش-ر أفراد هذا البيت اليوم في كلٍّ مِن العراق وإيرانوأُوروبّا وأمريكا.

واشتهرت هذه الأُسرة بآل البرغانيّ في أواخر القرن الثاني عشر ومطلع القرن الثالث عش-ر الهجري، وأوّل مَن اشتُهر منهم بالبرغانيّ هو الشيخ محمّد المعروف بالملائكة، المتوفّى سنة 1200، بعد تسفيره إلى قرية برغان وفرض الإقامة الإجباريّة عليه فيها، ثمّ أصبح هذا الاسم عنواناً للأُسرة واشتُهروا به حين ذاعت أسماء الأشقّاء الثلاثة: الشيخ محمّد تقي والشيخ محمّد صالح والشيخ ملّا علي البرغانيّين في المحافل الأدبيّة العلميّة في العراق وإيران.

وفي عام 1263 عندما استُشهد الشيخ محمّد تقي البرغاني -- وهو أكبر الإخوة -- في المحراب أثناء أداء صلاة الصبح، اشتُهر هذا البيت بآل الشهيد وآل شهيدي، ثمّ تفرّعت هذه الأُسرة إلى الفروع الثلاثة: آل الصالحي انتساباً إلى المترجَم الشيخ محمّد صالح، وآل الشهيدي انتساباً إلى الشيخ محمّد تقي، وآل العلوي انتساباً إلى الأخ الثالث علي، واحتفظ بعضهم إلى جانب لقبه (الشهيدي) ب- (الشهيديّ الصالحي) و(الشهيديّ العلوي)، تفاخراً بعمّهم الشهيد.

وقد قال عنهم الشيخ آقا بزرگ في كتابه (طبقات أعلام الشيعة): «... وهذه الأُسرة من أشرف بيوت العلم، ومن السلاسل الذهبيّة ... الّتي ظهر فيها غير واحدٍ من أعاظم الفقهاء وأساطين الدين ... في العلم والزعامة

ص: 17

والورع والقداسة ...».

وقال الدكتور حسين علي محفوظ في كتابه (مجموعة تراجم العلماء) عن هذه الأُسرة: «آل البرغاني، من البيوت العلميّة العظيمةالقديمة في العراق وإيران، التي خدمت العلم والدين اثنى عش-ر جيلاً، وهم ينتسبون إلى آل بويه».

وقد أنجبت فروع هذا البيت الثلاثة -- آل صالحي، وآل الشهيدي، وآل العلوي -- في كربلاء وقزوين عدداً من العلماء، فصّلت تراجمهم كتب الرجال المطبوعة والمخطوطة.

وقد أحصى جمعاً من أعلام هذا البيت بقيّتهم الأُستاذ عبد الحسين الصالحي، وذكرهم في كتابه المسمّى (الشموس المضيئة)، وأشار إلى أكثر من خمسين منهم شيخُ (الذريعة) في كتابه (الظليلة).

دراسته

درس أوّلاً في برغان، ثمّ في قزوين، ثمّ في أصفهان، فكان من أساتذته في أصفهان كلٌّ من: الشيخ محمّد البيدآبادي، والشيخ عليّ النوري، والسيّد محمّد مهدي الأصفهاني.

ثمّ انتقل إلى كربلاء والنجف والكاظميّة، فكان من أساتذته فيها: الشيخ باقر البهبهاني، والسيّد حسين المعصومي، والسيّد مهدي بحر العلوم، والشيخ جعفر صاحب (كشف الغطاء)، والشيخ عبد الغنيّ القزويني،

ص: 18

والسيّد مهدي الشهرستاني، والسيّد عليّ الطباطبائي صاحب (الرياض)، والسيّد عبد الله شُبّر، والسيّد محمّد المجاهد، والنراقي.

إستقراره في كربلاء

تنقّل بين كربلاء والنجف وقمّ وخراسان وطهران، ثمّ نفاه فتح علي شاه من إيران إلى العراق، ومنه قصد الحجّ، فسكن الحجازسنين، ثمّ رجع إلى العراق فأقام في النجف، ثمّ رافق الشيخ جعفر صاحب (كشف الغطاء) إلى إيران، حيث تشفّع له الشيخ عند الشاه فوافق على بقائه في إيران على أن لا يسكن طهران، فأقام في قزوين. وعلى أثر أحداث سنة 1263 عاد إلى كربلاء واستقرّ فيها حتّى وفاته.

أولاده

ترك من الأولاد:

1- الشيخ محمّد، وُلد في كربلاء حدود سنة 1205، وتخرّج على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، والسيّد عليّ الطباطبائيّ الحائريّ صاحب (الرياض)، والسيّد محمّد المجاهد، وشريف العلماء، وقُتل في ساحات القتال في أوائل الحرب الإيرانيّة الروسيّة سنة 1240، ونُقل جثمانه إلى قزوين ودُفِن فيها.

وهو غير شقيقه وسميّه الشيخ محمّد الملقَّب بكاشف الأسرار، الآتي ذكره.

ص: 19

2- الشيخ عبد الوهّاب، تخرّج في الفقه والأُصول على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، وقرأ أيضاً على السيّد محمّد المجاهد، وشريف العلماء، وصاحب (الجواهر). وحضر في الحكمة والفلسفة درس الملّا عليّ النوريّ المتوفّى سنة 1246، وبعد وفاته التحق بحوزة الملّا آقا الحكميّ القزويني، ويُعدّ من الطبقة الأُولى من تلامذته.

تُوفّي في 25 ذي الحجّة الحرام سنة 1294، ودُفن في المقبرة العائليّة قرب والده.له مؤلَّفات، منها:

1- (خصائص الأعلام في شرح شرائع الإسلام): في خمسة عش-رة جزءً ضخماً.

2- (مخازن الأُصول): في عشرين مجلّداً ضخماً، في علم أُصول الفقه.

3- ديوان شعر.

4- شرح على (العرشيّة)، لصدر المتألّهين الشيرازي.

هبط طهران في الأواخر، فكان من كبار المراجع، إلى أن تُوفّي فيها.

3- الشيخ حسن، تخرّج في العقليّات على: المولى عليّ النوري، والمولى ملّا آقا الحكميّ القزويني، وحض-ر في الفقه والأُصول على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، وصاحب (الجواهر)، واختصّ بالشيخ مرتض-ى الأنصاريّ، ثمّ هاجر إلى الحجاز، وبعد مناظرةٍ بينه وبين بعض الشيوخ في المدينة فاجأه مَن ضربه على رأسه ليلاً فتُوفّي في اليوم الثاني، وذلك سنة 1281.

ص: 20

له مؤلَّفاتٌ في الفقه والأُصول، ومناسك الحجّ، وحاشية على رسائل ومكاسب أُستاذه في أربع مجلّداتٍ ضخمة.

4- الشيخ حسين، تخرّج في الفقه والأُصول على: والده، وعمّه، وحضر في كربلاء على السيّد إبراهيم القزوينيّ صاحب (الضوابط)، وفي النجف على صاحب (الجواهر)، والشيخ مرتض-ى الأنصاري، وتتلمذ في الحكمة والفلسفة على ملّا آقا الحكميّ القزويني، ثمّ استقرّ في قزوين، وتصدّى للتدريس في المدرسة الصالحيّة.

له مؤلّفاتٌ في الفقه والأُصول، منها: (منهج الرشاد في شرحالإرشاد).

5- الشيخ رضا، تخرّج على: والده، وعمّه، وصاحب (الضوابط)، وصاحب (الجواهر)، والشيخ مرتضى الأنصاري.

من مؤلفاته: (مصباح الأُصول)، (رسالة في الرضاع)، (رسالة في النذر)، (روح النجاة في الكلام والإمامة).

تُوفّي بكربلاء سنة 1308.

6- الشيخ محمّد، الملقَّب بكاشف الأسرار. وُلد في قزوين سنة 1240، وتوفّي حدود سنة 1294.

تخرّج على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، وهاجر إلى العراق فالتحق في كربلاء بحوزة السيّد إبراهيم صاحب (الضوابط)، وفي النجف بحوزة الشيخ محمّد حسن صاحب (الجواهر)، وغيرهم، وأخذ الحكمة والفلسفة من الملّا آقا الحكميّ القزويني.

ص: 21

له رسائل في الفلسفة، وتفسير آية الكرسي.

7- الشيخ موسى، تخرّج في الفقه والأُصول على: والده، وعمّه الشيخ محمّد تقي، والشيخ مرتض-ى الأنصاريّ في النجف، وتتلمذ في الحكمة والفلسفة على المولى ملّا آقا الحكميّ القزوينيّ، وتولّى التدريس في المدرسة الصالحيّة في قزوين.

من مؤلّفاته: (أسرار التنزيل في تفسير القرآن) في مجلّدين ضخمين.

تُوفّي سنة 1298.

8- الشيخ محمّد علي، تخرّج على: والده، وشقيقيه الميرزا عبد الوهّاب، والشيخ حسن، وتتلمذ في العقليّات على المولى ملّا آقا الحكميّ القزويني، وتولّى التدريس في المدرسة الصالحيّة بقزوين، وهو زميل السيّد جمال الدين الأسدآبادي المعروف بالأفغانيّ فيالمدرسة الصالحيّة، وكان بينهما علاقات وثيقة، ثمّ التحق بالأفغانيّ حينما كان في الهند.

من مؤلفاته: (أُصول الفقه) في مجلّدٍ واحد.

تُوفّي سنة 1315.

هؤلاء أولاد المترجَم الذكور، أمّا بناته فاشتهرت منهنّ:

زرّين تاج، المُكنّاة بأُمّ سلمة والشهيرة ب- (قرّة العين)، وهذه تحتاج إلى دراسةٍ مستقلّةٍ مستفيضةٍ لما كان من شأنها في حوادث البابيّة.. ويصفها الأُستاذ عبد الحسين الصالحيّ أحد أحفاد المترجَم بأنّها كانت عالمةً فاضلة، محدِّثةً فقهية، أديبةً كبيرة، حافظةً للقرآن عالمةً بتفسيره وتأويله،

ص: 22

متكلّمةً خطيبة ...

تزوّجها ابن عمّها الشيخ محمّد إمام الجمعة، ورُزقَت منه ثلاثة أولاد ذكور، كلّهم من العلماء، وهم: الشيخ إبراهيم، الشيخ إسماعيل، الشيخ إسحاق.

ويقول الأُستاذ الصالحيّ عن بقيّة بناته الأُخريات:

الحاجّة نرجس: فقيهةٌ محدّثة، حافظةٌ للقرآن، أديبةٌ شاعرة.

والحاجّة زهراء: محدّثة، حافظةٌ للقرآن، أدبيةٌ شاعرة، فقيهةٌ مفسّرة.

والحاجّة فاطمة: مفسّرةٌ محدّثة، حافظةٌ للقرآن، فقيهة، أديبةٌ كبيرة.

تلاميذه

قال صاحب (موسوعة طبقات الفقهاء) ((1)): كان فقيهاً إماميّاً، محدّثاً، مفسّراً، متكلّماً، من أكابر العلماء ...

وقد تلمّذ له وروى عنه جماعة، منهم: ولده الفقيه عبد الوهّاب (المتوفّى حدود 1295 ه-)، وأسد الله بن محمّد صادق البروجرديّ الحائري، وداوود ابن أسد الله بن عبد الله البروجردي، والسيّد عليّ بن إسماعيل الموسويّ القزويني (المتوفّى 1298 ه-).

ص: 23


1- ([1]) أنظر: موسوعة طبقات الفقهاء للسبحاني: 13 / 598 وما بعدها.

مؤلّفاته

وفي (طبقات الفقهاء): وصنّف جملةً من الكتب، منها:

(غنيمة المعاد في شرح الإرشاد) -- أي: إرشاد الأذهان في الفقه، للعلّامة الحلّي -- في أربعة عش-ر مجلّداً، (مسالك الرشاد في شرح الإرشاد) في ثلاثة مجلّدات، (فنّ الفقاهة)، (بدائع الأُصول)، (بحر العرفان ومعدن الإيمان في تفسير القرآن) في سبعة عشر مجلّداً، (مفتاح الجنان في حلّ رموز القرآن) في ثمانية مجلّدات، (مصباح الجَنان لإيضاح أسرار القرآن) في ثلاثة مجلّدات، (كنز الواعظين في أحوال الأئمّة الطاهرين) في أربعة مجلّدات، (الدرّة الثمينة في المواعظ)، (مفتاح البكاء في مصيبة خامس آل العباء) بالفارسيّة، (مخزن البكاء) -- مطبوع -- بالفارسيّة في مقتل سيّد الشهداء الحسين علیه السلام، (كنز المصائب) -- مطبوع -- بالفارسيّة في مصائب الخمسةعلیهم السلام، (كنز الباكين)-- بالفارسيّة -- في مصائب الأئمّة علیهم السلام في أربعة مجلّدات، (مخزن العقائد) في مجلّدين، (شرح الألفيّة في النحو لابن مالك)، (مسلك النجاة) -- بالفارسيّة --، و(مجمع الدُّرَر في اللطائف والحكايات).

وله مصنّفاتٌ أُخرى كثيرة، ذكرها صاحب (الذريعة)..

الكتاب

قال الآقا بزرگ الطهراني: «(مخزن البكاء): في المقتل، للحاج مولى محمّد

ص: 24

صالح البرغاني، أخي الشهيد الثالث المولى محمّد تقيّ ابن الآقا محمّد البرغانيّ القزويني، موجودٌ في خُزانة كتبه المؤلّف بكربلاء، ورأيتُ نسخةً منه بخطّ محمّد يوسف بن محمّد باقر، فرغ من كتابته 1261، وهو فارسيّ، مطبوعٌ في إيران 1285 بقطع كبير، وبعدها، مرتَّبٌ على مقدّمةٍ وأربعة عشر فصلاً، ثمّ أربعة عشر مجلساً وخاتمة» ((1)).

والكتاب يُعدّ مصدراً للكثير من المؤلّفين والعلماء الفرس ممّن تأخّر عنه، اعتماداً على المؤلّف، لما عُرِف به من سعة علمٍ وضبطٍ واختصاصٍ في التأليف في قيام سيّد الشهداء علیه السلام ومقتله.

وهو ينقل عن مصادره مصرِّحاً بها في الغالب، ونادراً ما يعلّق عليها، ويبدو أنّه ينقل من مثل المقتل لأبي مِخنَف (المتداول المشهور) من نسخةٍ متوفّرةٍ لديه غير ما هو مطبوعٌ متداول اليوم، وإن كان قريباً منها.

ص: 25


1- ([1]) الذريعة للآقا بزرگ الطهراني: 20 / 225 الرقم 2685.

ص: 26

مقدِّمة المؤلّف

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

أمّا بعد.. يقول العبد الخاطئ المذنب المحتاج إلى مغفرة ربّه الغني، محمّد صالح البراغاني: لمّا كان البكاء والإبكاء والحزن والتحزين على مصيبة سيّد الشهداء وخامس آل العباء أبي عبد الله الحسين علیه السلام أعظم الأعمال المندوبة وأشرف القُرُبات الشرعيّة بعد الفرائض، فإنّي -- أنا قليل البضاعة وكثير الإضاعة -- بعد الفراغ من (غنيمة المعاد) و(مسلك الراشدين) اشتغلتُ بتأليف (معدن البكاء)، ولمّا كان هذا الكتاب باللغة العربية لم ينفع عوامّ ((1)) العجم كثيراً، فأضفتُ على مجالسه قليلاً من المقدّمات

ص: 27


1- ([1]) تعبير «العوامّ» عن عموم الشيعة وضعفائهم فيه قساوةٌ ومجانبةٌ لأدب التخاطب بين أولياء الله وأحبّاء الرحمان، وقد استخدم الأئمّة علیهم السلام هذا المصطلح للتعبير عن المخالفين، وكذا كان دأب علماء الطائفة المُحقّة في العصور المتقدّمة.

والملحقات، وكتبتُه باللغة الفارسيّة، وسمّيتُه: (منبع البكاء).

ثمّ لاحظتُ أنّ المقصود إنّما هو البكاء والإبكاء، وتحصيل ذلك يتوقّف على ذِكر بعض الأحاديث الّتي تُهيّء المستمعين للبكاء والذاكرين على الإبكاء، فش-رعتُ في تأليف كتابي هذا المشتمل على الكثير من الأخبار المهيّجة المورِثة للبكاء في مأتم عزاء سيّدالشهداء علیه السلام.

ولمّا كان الاكتفاء في المقام بذكر أيّ خبرٍ أو أثرٍ يهيّج الحزن ويُثير العَبرة ويَستدرّ الدمعة، ما لم يترتّب عليه حُكماً من الأحكام الش-رعيّة، فإنّنا لم نتصدَّ في المقام للتدقيق في الأخبار وتصحيح المسألة، واقتصرنا على ذكر الأخبار واكتفينا بوجودها في الكتب المعتمَدة، وعمدنا في أغلب المواضع إلى ذِكر الكتب الّتي نقلنا عنها الخبر.

ولمّا كان هذا الكتاب خُزانةً لا تنزف للذاكرين، وجوهراً ثميناً للباكين، لهذا سمّيتُه:

(مخزن البكاء في مصيبة سيّد الشهداء علیه السلام)

وهو يشتمل على مقدّمة وأربعة عشر مجلساً وخاتمة.

أمّا المقدّمة، ففيها ثمان خطب:

ص: 28

الخُطَب

الخطبة الأُولى:

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي جعل محبّته في قلوب أوليائه، حتّی خلعوا أثواب البقاء وقرعوا أبواب اللقاء، وعرّفهم لذائذ قربه، حتّی تنافسوا في التقدّم إلى الحتوف وأصبحوا نهب الرماح والسيوف، والصلاة والسلام علی محمّدٍ وآله، خصوصاً علی ولده المظلوم الطريد، والمغموم الشهيد، جريح الكفَرَة، وطريح الفَجَرة، المحزوز الرأس من القفا، المُهمَل على الرمضاء، المندوب عليه في السماوات، البالغة فجيعتُه إلى الس-رادقات، المشقّقة عليه جيوب المخدّرات، المنشورة عليه شعور النائحات، الرامق بطرفه إلی بنيه وبناته، اللاحظ بعينه حين ذبحه إلی أخواته ونسائه، الناظرة إليه عين فاطمة وأبيه، الشاخص إليه طرف جدّه وأخيه، مقتول أولاد الزنا، سيّدنا أبي عبد الله.

ص: 29

فوا حسرتاه على تلك الأجسام المرمَّلة بالدماء، والأفواه اليابسة من الظماء! ووا لهفاه علی الأعضاء المقطَّعات، والنسوة المأسورات، والأيدي المغلولات، والأعناق المكبَّلات! فوا ويلاه عمّافعله الظالمون وارتكبه الجاهلون، )وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ( ((1)).

أمّا بعد..

فيا سماء جرت هذا الأُمور على***مثل الحسين، فمُوري بعده موري

وأنتِ يا أرض سيري بعده قِطَعاً***ويا جبال علی وجه الثرى سيري

أين الرسول عن الشبل الحسين وقد***أمس-ی مزار قطعان اليعافيرِ؟

أين الرسول من الرأس الكريم علی***رأس السنان يخالي؟ بدر ديجورِ

أين الرسول وثغرٌ كان يرشفه***تدقّه بقضيبٍ كفّ مخمورِ؟

أين الرسول ومُهر السبط منقلَبٌ***يعدو بسرجٍ إلی الفسطاط مكسورِ؟

أين الرسول عن الأيتام تندبه***مثل النجوم علی النوق الحدابيرِ

خَطبٌ تزعزع منه الدين واضطربت***قواعدُ المجدِ في الأعراف والطُّورِ

ص: 30


1- ([1]) سورة الشعراء: 227.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الراحم علی الشهداء لبذل مهجتهم، وعلی الأرامل واليتامى بعَبرتهم، وعلی المسلوبين العرايا لضجّتهم، وعلی المهتوكي الخبايا لأنّتهم، فله الحمد علی أحسن قضائه في أوليائه، وله المجد علی أحسن قدره في أصفيائه.

والصلاة والسلام علی سيّدنا محمّدٍ وآله، خصوصاً علی مَن أزعجوه عن الأوطان، وضيّقوا عليه المكان، وقتلوه وأصحابه كالأضاحي، ونصبوا رأسه علی العوالي، وسبوا نساءَه كالإماء والذراري، وساروا بهنّ في القِفار والبراري، ونهبوا أمواله، وأيتموا أطفاله، وكسروا ظهره، ورضّضوا صدره، قتيلِ الأعداء، وأسيرِ المحنة والبلاء، مسلوب العمامة والرداء، المخضَّب الشيب من الدماء، المذبوح بسيف الجفاء من القفاء، الشهيد العطشان، المدفون بلا أكفان، المعفَّر الخدَّين، المقطوع الوَدَجين، سيّدِنا أبي عبد الله الحسين علیه السلام. لعنة الله علی قاتليه وظالميه والندّام ((1))، من أوّل الدهر إلی

ص: 31


1- ([1]) يقصد -- كما ترجمه المؤلّف نفسُه -- الّذين قتلوا سيّد الشهداء علیه السلام وندموا على فعلتهم.

يوم القيامة.

أمّا بعد..

قُمْ يا رسول الله وانظُر ما جری***في كربلا لبنيك من خُصَمائها

فلقد غدوا طعم الردى بيد العدی***قتلی وأسری في السبا كإمائها

هذا الحسين بها علی عفر الثری***في حلّةٍ حُمر نسج دمائها

مقطوعُ رأسٍ، هُشّمت أظلاعه***عريان من أثوابه بعرائها

حيكت له قمصان تُربٍ أغبرٍ***من مور أرياح الفلا وهوائها

هذا الّذي قد كنتَ تلثمُ نحرَه***أمس-ی نحيراً مِن حدود ضبائها

من بعد حِجرك يا رسول الله قد***أُلقي طريحاً في ثری رمضائها

هذا وجثّته الش-ريفة قد غدَت***للصافنات تجولُ في أعضائها

ونساؤه تُسبی الإماء وتقاد في***الأغلال من أُسرائها

يا قوم، ما ذنب الصغار لتُنزِلوا***بهمُ الصَّغار وتُعلِنوا بأذائها

ويلكم ما يُشفِ غِلّ صدوركم***قتلَ الموالي اليوم من كبرائها؟

ص: 32

الخطبة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي جعل حزبَه من الغالبين، وأولياءه من الفائزين، وشهداءه من الرابحين، وأصفياءه من المكرَّمين، وخلصاءه من الآمنين، والصلاة والسلام علی محمّدٍ وآله الغرّ الميامين، خصوصاً علی الّذي أُريق دمه في محبّته، واستُبيح حرمه في نص-رته، وعلی الوجوه المعفَّرة، والأيدي المقطوعة، والرؤوس المرفوعة، والأفواه اليابسة، والأبدان المرضَّضة، والصدور المحطَّمة، والأضلاع المنكس-رة، والأبدان السليبة العارية، والأجساد البالية، والأعضاء المقطَّعة، والدماء السائلة، والعيون الباكية، والبطون الجائعة، والشفاه الذابلة، ولعنة الله علی الظلمة الكفَرَة، والطُّغاة الحسدة، المنتهكين لحُرمة الرسول، المفتكين في ذرّيّة البتول، بغير ذنبٍ أذنبوه ولا جرمٍ اجترموه، اللّهمّ عذّبهم عذاباً أليماً والعنهم لعناً كثيراً.

أمّا بعد..

أُفٍّ

لعيني كيف تلتذّ الكری***وجفونهم لم تكتحلْ برُقادِ

أُفٍّ لقلبي بالزُّلال شرابه***وقلوبهم بلظى الهجيرِ صوادي

أُفٍّ لجسمي كيف يهناه الوطي***وجسومهم ما وُطّئَت بمهادِ

ص: 33

بأبي وأُمّي الهاشميّات الّتي***قد هُشّمت بالقيد والأصفادِ

يُس-ری بهنّ علی المطايا حُسّ-رٌ***شعثاً بغير وطاً علی الأعوادِ

ترنوا إلی رأس الحسين وتشتكي***ما نالها من معش-ر الأوغادِ

أأُخيّ، بعد العِزّ عَزّ نصيرُنا***فعزاؤنا يبدو مدى الآبادِ

أأُخيّ يا روحي وروح مس-رّتي***وقرين أقراحي محلّ وِدادي

قُم وانظُر الأولاد في ذُلّ السبا***والسبَّ للآباء والأجدادِ

هل نظرة يا واحدي أُطفي بها***ما أشتكيه من لظى الإبعاد

ص: 34

الخطبة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي أعظم مصيبتنا بمصيبة مَن جعل في تربته الشفاء، وتحت قبّته إجابة الدعاء، وفي ذرّيّته الأئمّة النجباء، والصلاة والسلام علی زين مكّة ومنی، وفخر زمزم والصفا، محمّدٍ المصطفی وعلی آله النُّجَباء، خصوصاً علی شبله الكريم، وصاحب الرزء الجسيم، الّذي ناح عليه آدمُ في جنّة النعيم، ونوحُ في الطوفان العميم، وإبراهيمُ )فَقَالَ: إِنّي سَقِيم( ((1))، وإسماعيلُ بعد الذبح العظيم، فقال الله لهم: أجرُكم حزنُكم وبكاؤكم على الحسين أعظم من ذبح إسماعيل، وبكی عليه موسی الكليم، وعيسی الرحيم، وكان أمرُه أعجب من أصحاب الكهف والرقيم، الّذي نهبوا ماله، وأيتموا أطفاله، وأسّروا عياله، وداروا برأسه في البلاد بين العباد.

فآهٍ من رُزءٍ عظيم، ثمّ لم يُسمَع مثلها في الأقاليم، كيف لا؟! فإنّ الشيب خضيب، والخدّ تريب، والجسد سليب، والثغر مقروعٌ بالقضيب، والوَدَج مقطوع، والرأس مرفوع، والجسد موضوع، ومن الدفن ممنوع، والقلب ظمآن

ص: 35


1- ([1]) سورة الصافّات: 89.

والماء في الفرات ملآن، الّذي بكت لمصابه السماوات العُلی، وزُلزلت لفقده الأرضون السفلی، غريب الغرباء، الحسين المظلوم أبو عبد الله علیه السلام.

أمّا بعد..

أعَلى سنان سِنانُ يرفع رأسه***بين الملا؟ يا ليت فاطم حاضرةْ

ذبحَ الحسين، فأيُّ عيش يُصطفی***أم أيّ نفسٍ بعده متباشرةْ؟

والخيل أجروها عليه، فمزّقَتْ***منه بواطنه ورضّت ظاهره

لهفي لزينب واليتامی حولها***تبکي عليهم وهي ولهى ناشرةْ

تدعو بفاطمة البتول بصوتها***يا أُمّنا، يا ليت عينكِ ناظرةْ

لترَي حسيناً نورَ عينك ما لقی***من بعد فقدك مِن عُصاة غادرةْ

ذبحوه ذبح الشاة ظلماً ظامياً***تسدوا عليه صافنات الغابرةْ

سلبوا بناتك جهرةً يا أُمّنا***فوجوهها بين الأعادي سافرةْ

وبنات هندٍ في القصور أعزّةً***مخبيّةً تحت الخدور الساترةْ

وبنوك أسری في القفار أذلّةً***من غير ما سترٌ عليها، حاسرةْ

ويزيد في تخت الخلافة جالسٌ***وحسين في حرّ الشموس الساعرةْ

ص: 36

الخطبة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي أبكانا بمصيبة مَن بكی عليه آدم في الجنّة، ونوحُ في السفينة، وإبراهيم إذ خرّ عن فرسه وشُجّ رأسُه في أرضٍ مارية، وإسماعيل حين لم يش-رب غنمُه من الفرات في جنبالمش-رعة، وموسی حين دخل الحسَكُ في رجليه وسال دمُه في الغاضريّة، وسليمان حين دارت بساطه في الأرض الشريفة، وعيسی حين سدّ الأسدُ في الكربلاء طريقه، ومحمّدٌ حين غاب عن أُمّ سَلَمة ورجع ويدُه من دم المظلوم مضمومة، وعليٌّ حين ذهب إلی صفّين غير مرّة، وفاطمة في كلّ يومٍ وليلة، والحسن حين مال لونه إلی الخضرة، وتذكّر حديث المعراج والقصرين في الجنّة، والحسين حين قال: «أنا قتيل العَبرة».

والصلاة والسلام علی سيّد الإنس والجانّ وعلی آله، خصوصاً علی سبطه العطشان، والأسير الحيران، قليل الأنصار والأعوان، كثير الأشجان والأحزان، السليب العريان، والذبيح الظمآن، الّذي نعشه العِيدان، وكافوره تراب حوافر الفرسان، وقبره قلوب أهل الإيمان، أبي عبد الله الحسين علیه السلام، المدفون بلا غُسلٍ ولا أكفان.

ص: 37

فآهٍ فآه علی النسوة المأسورات، والعلويّات البارزات، والخدود الملطّمات، والأيدي المغلولات، والأعناق المكبَّلات، والعيون الباكيات، ولعنة الله علی مقاتليهم ومعانديهم، من أوّل الدهر إلی يوم العرصات.

أمّا بعد..

لهفی علی ربّات خدرٍ أُبرزَت***بعد الستور لكلّ عبدٍ أكوَعِ

أسفي علی فتيان أحمد أصبحت***يُس-ری بهنّ لكلّ قَفرٍ بلقعِ

لهفي علی تلك الحرائر، والعدى***قهراً تجاز بهنّ فضل البُرقعِ

لم أنسَ لا واللهِ زينب إذ مشت***وهي الوَقور إليه مش-يَ المُس-رعِ

أأُخيّ،أعظم ما أُلاقيه من ال-***-بلوی فراقك، يا ابن أُمّي فاسمعِ

أأخيّ، ما لك من بناتك مُعرِضاً***والكلُّ منك بمنظرٍ وبمَسمعِ؟

أأُخيّ، هل لك رجعةٌ تحيي بها***أرواحنا؟ هيهات، ما مِن مرجعِ

أأُخيّ، لو قَبِل العِدی منّي الفدی***لفدتك منّا أنفسٌ لم تجزعِ

ص: 38

الخطبة السادسة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي جعلَنا من أُمّة أشرف الناس في الحَسَب والنسَب، وأعلاهم في الحِلم والأدب، وأعظمهم في المصيبة والتعب، وأجلّهم في العناء والنَّصَب، محمّدٍ أشرف المقرّبين ونُخبة المرسلين.

والصلاة والسلام عليه وآله المظلومين، خصوصاً علی سبطه الممنوع من الماء المَعين، الشهيد الطعين، مذبوح القفا، مقطَّع الأعضاء، مسلوب الرداء، محروق الخباء، شديد العناء، عظيم البلاء، قليل الرعاء ((1))، قتيل الظماء، منزوع الحذاء، المطروح علی الرمضاء، الّذي بكت عليه ملائكة الأرض والسماء في كلّ صباحٍ ومساء، سيّدنا الحسين المظلوم أبي عبد الله علیه السلام.

فوَا أسفاه ممّا جری علی البنين والبنات، وهم ما بين مَن تخمش وجهها بيديها، ومَن تنزع قرطها من أُذنيها، وبين من يستجير فلا يُجار، ويستغيث فلا يُغاث، ويستنصر فلا يُنصَر، ويستعين فلا يُعان، ولعنة الله علی ظالميهم

ص: 39


1- ([1]) يقصد -- كما ذكر في ترجمته للخطبة -- : قليل مَن رعى حقّه.

أجمعين، من أوّل الدهر إلی يوم الدين.

أمّا بعد..

بنفس-يَ مجروح الجوارح، آيساً***من النصر، خلوٌ ظهره من ظهيرها

بنفس-يَ محزوز الوريد معفَّراً***علی ظمأٍ من فوق حرّ صخورها

يتوقُ إلی ماء الفرات، ودونه***حدود شفارٍ أحدقت بشفيرها

قضی ظامياً، والماء يلمع طامياً***وغودر مقتولاً دُوَين غديرها

أيُقتَل خيرُ الخلق أُمّاً ووالداً***وأكرمُ خلق الله وابن نذيرها

ويُمنَع من ماء الفرات، ويغتدي***وحوشُ الفلا ريّانةً من غديرها

يديرها علی رأس السنان برأسه***سنانٌ، ألا شلّت يمين مديرها

ويؤتی بزين العابدين مكبَّلاً***أسيراً، ألا روحي الفدا لأسيرها

أيمش-ي يزيدٌ رافلاً في حريره***ويُمسي حسينٌ عارياً في حرورها؟

ودار بني صخر بن هندٍ أنيسةٌ***بنشد أغانيها وسكب خمورها

ودار عليٍّ والبتول وأحمد***وشبّرها مولی الوری وشُبيرها

معالمها تبكي على علمائها***وزائرها يبكي لفقد مزورها

ص: 40

الخطبة السابعة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي أمرَنا بالسلام والصلاة علی أشرف الكائنات،ونهانا عن التفرّد بهما عليه من غير ضمّ الآل إليه، وحيث كنّا مأمورين فنحن المنقادون، قائلين: الصلاة والسلام عليك وآلِك، خصوصاً علی مَن مصصتَ لعابه كالسكرة، ومصّ لعابك في البين، فلذا خصصتَه بخطاب: «حسين منّي وأنا من حسين».

السلام علی عليّ بن الحسين، العليل المكروب الحزين، زين العابدين علیه السلام، وعلی عليّ بن الحسين الذبيح الطعين، وعلی عليّ بن الحسين المذبوح بالنشاب، الملقی علی يدَي الباب ((1)).

والسلام علی العبّاس والقاسم، وسائر المجاهدين، وعلی الأبدان الضعيفة ((2)) في عبادة الله، والدماء السائلة في سبيل الله، والدموع السائلة من خشية الله.

السلام علی زينب التقيّة، وعلی سكينة المسبيّة، وعلی فاطمة ورقيّة،

ص: 41


1- ([1]) يقصد: الأب.
2- ([2]) يقصد: الأبدان الّتي أنهكها وأتعبها أصحابها في عبادة الله.

وعلی البنات الهاشميّة، والسادات العلويّة.

السلام علی الأبدان السليبة، والأجسام التريبة، والخدود المعفَّرة، والجسوم المخضَّبة، والأعضاء المقطَّعة.

السلام علی جميع مَن سُفِك دمُه لوجه الله في أرض مارية، وعلی جميع مَن بكی أو حزن في هذه الرزيّة.

آهٍ! مِن مصيبةٍ أدمعت عيون الأنام، وأحرقت قلوب الخاصّ والعامّ، ولعنة الله علی الطُّغاة الفجَرة، من أوّل الدهر إلی قيام القيامة.

أمّا بعد..أُفٍّ

لعيني، كيف تلتذّ الكری***وجفونهم لم تكتحل برقادِ؟

أُفٍّ لقلبي بالزلال شرابه***وقلوبهم بلظى الهجير صوادي

أُفٍّ لجسمي، كيف يهنأه الوطی***وجسومهم ما وُطّئت بمهادِ؟

بأبي وأُمّي الهاشميّات الّتي***قد هُشّمت بالقيد والأصفادِ

يُسری بهنّ علی المطايا حُسّ-راً***شُعثاً بغير وطاً علی الأعوادِ

ترنوا إلی رأس الحسين وتشتكي***ما نالها من معش-ر الأوغادِ

قم وانظر الأولاد في ذُلّ السبا***والسبَّ للآباء والأجدادِ

هل نظرة يا واحدي أُطفي بها***ما أشتكيه من لظى الأبعادِ

ص: 42

الخطبة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الّذي جعلَنا من أُمّة النور المبين، والكتاب المستبين، محمّدٍ صاحب الشريعة الغرّاء، والمحجّة البيضاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلی آله.

خصوصاً علی شبله صاحب المحَن الهائلات، والدموع الهاطلات، والعيون الساهرات، والشفاه الذابلات، والأكبادالظامئات، والنحور الداميات، والدماء الجاريات، والأبدان الباليات! والأجسام العاريات، الّذي زوّاره السهام النافذات، وعوّاده السيوف القاطعات، وطبيبه الرماح الثاقبات، ودواؤه الدماء السائلات، وأكفانه عثيرة الصافنات، وندّابه البنات الحاسرات، وشيّاعه الأرامل البارزات، وهو سليل خير البريّات وأشرف الموجودات، الّذي رضّضته الخيولُ العاديات، وصاحبِ المصيبة الّتي لم يُسمَع مثلها في القرون الخاليات والأيّام السالفات، سيّدنا الأمين، وإمامنا المبين، حسين بن أمير المؤمنين علیهما السلام، ولعنة الله علی مقاتليهم وظالميهم، أبد الآبدين.

أمّا بعد..

ص: 43

يا حاديَ الأضعان رفقاً بالأُولی***كانوا من العليا بدورَ سمائها

أوَ ما علمتَ بمن تحت ركابها***ناديك يا أولي الوری بشفائها

في الركب أولاد الرسول وفاطم ال-***-زهرا البتول الطهر ستّ نسائها

فيه الفواطم للخدود لواطمٌ***ثكلی، تنادي الغوث من ضرّائها

في الركب زينُ العابدين مكبَّلاً***ذو مقلةٍ عبری تسحّ بمائها

دَنِفٌ عليلٌ ذو غليلٍ، زاده***غلُّ اليدين كآبةً لعنائها

ص: 44

الفصل الأوّل: في ذِكر بعض الآيات، وبيان جملةٍ من القصص والحكايات

تأويل كهيعص

روى الطبرسيّ في كتاب (الاحتجاج)، عن سعد بن عبد الله القمّيّ الأشعريّ قال: بُليتُ بأشدّ النواصب منازعة، فقال لي يوماً -- بعدما ناظرتُه -- : تبّاً لك ولأصحابك! أنتم معاشر الروافض تقصدون المهاجرين والأنصار بالطعن عليهم، وبالجحود لمحبّة النبيّ لهم، فالصدّيق هو فوق الصحابة بسبب سبق الإسلام، ألا تعلمون أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله إنّما ذهب به ليلة الغار لأنّه خاف عليه كما خاف على نفسه، ولِما علم أنّه يكون الخليفة في أُمّته، وأراد أن يصون نفسه كما يصون خاصّة نفسه، كي لا يختلّ حال الدِّين من بعده ويكون الإسلام منتظماً؟ وقد أقام عليّاً على فراشه لِما كان في علمه أنّه لو قُتل لا يختلّ الإسلام بقتله، لأنّه يكون من الصحابة مَن يقوم مقامه، لا جرَم لم يبالِ من قتله!

ص: 45

قال سعد: إنّي قلتُ على ذلك أجوبة، لكنّها غير مُسكِتة.

ثمّ قال: معاشرَ الروافض، تقولون: أنّ (الأوّل والثاني) كانا ينافقان، وتستدلّون على ذلك بليلة العقبة. ثمّ قال لي: أخبِرْني عنإسلامهما، كان مِن طوعٍ ورغبة، أو كان عن إكراهٍ وإجبار؟

فاحترزتُ عن جواب ذلك، وقلت مع نفسي: إن كنتُ أجبتُه بأنّه كان عن إكراهٍ وإجبار، لم يكن في ذلك الوقت للإسلام قوّةٌ حتّى يكون إسلامهما بإكراهٍ وقهر، فرجعتُ عن هذا الخصم على حالٍ ينقطع كبدي، فأخذتُ طوماراً وكتبتُ بضعاً وأربعين مسألة من المسائل الغامضة الّتي لم يكن عندي جوابها، فقلت: أدفعها إلى صاحب مولاي أبي محمّد الحسن ابن عليّ علیهما السلام -- الّذي كان في قمّ -- أحمد بن إسحاق، فلمّا طلبتُه كان هو قد ذهب، فمشيتُ على أثره فأدركته، وقلت الحال معه.

فقال لي: جِئْ معي إلى سُرّ مَن رأى حتّى نسأل عن هذه المسائل مولانا الحسن بن علي علیهما السلام.

فذهبتُ معه إلى سُرّ مَن رأى، ثمّ جئنا إلى باب دار مولانا علیه السلام،فاستأذنّا عليه فأذن لنا، فدخلنا الدار، وكان مع أحمد بن إسحاق جرابٌ قد ستره بكساءٍ طبري، وكان فيه مئةٌ وستّون صرّة من الذهب والورق، على كلّ واحدةٍ منها خاتَم صاحبها الّذي دفعها إليه، ولمّا دخلنا ووقع أعيننا على أبي محمّد الحسن العسكري علیه السلام كان وجهه كالقمر ليلة البدر، وقد رأينا على فخذه غلاماً يشبه المشتري في الحُسن والجمال، وكان على رأسه ذؤابتان،

ص: 46

وكان بين يديه رمّانٌ من الذهب قد حُلّي بالفصوص والجواهر الثمينة، قد أهداه واحدٌ من رؤساء البص-رة، وكان في يده قلمٌ يكتب به شيئاً على قرطاس، فكلّما أراد أن يكتب شيئاً أخذ الغلام يده فألقى الرمان حتّى يذهب الغلام إليه ويجئ به، فلمّا ترك يده يكتب ما شاء.

ثمّ فتح أحمد بن إسحاق الكساء، ووضع الجراب بين يدَي العسكريّ علیه السلام، فنظر العسكريّ إلى الغلام فقال: «فُضَّالخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك!».

فقال: «يا مولاي، أيجوز أن أمدّ يداً طاهرةً إلى هدايا نخسةٍ وأموالٍ رجسة؟!»، ثمّ قال: «يا ابن إسحاق، أخرِجْ ما في الجراب، ليميز بين الحلال والحرام!».

ثمّ أخرج صرّة، فقال الغلام: «هذا (لفلان ابن فلان) من محلّة (كذا) بقم، مشتملٌ على اثنين وسبعين ديناراً، فيها من ثمن حجرةٍ باعها، وكانت إرثاً عن أبيه خمسة وأربعون ديناراً، ومن أثمان سبعة أثواب أربعة عش-ر ديناراً، وفيه من أُجرة الحوانيت ثلاثة دنانير».

فقال مولانا علیه السلام:«صدقتَ يا بُنيّ، دُلّ الرجل على الحرام منها».

فقال الغلام: «في هذه العين دينار بسكّة الري، تاريخه في سنة (كذا)، قد ذهب نصفُ نقشه عنه، وثلاثة أقطاعٍ قراضة بالوزن (دانق ونصف) في هذه الصرّة، الحرام هذا القدر؛ فإنّ صاحب هذه الص-رّة في سنة (كذا) في شهر (كذا) كان له عند نسّاجٍ -- وهو من جُملة جيرانه -- مَنٌّ وربع، فأتى على ذلك زمانٌ كثير، فسرقه سارقٌ مِن عنده، فأخبره النسّاج بذلك، فما صدّقه وأخذ الغرامة بغزل أدقّ منه مبلغ منٍّ

ص: 47

ونصف، ثمّ أمر حتّى نُسج منه ثوب، وهذا الدينار والقراضة من ثمنه»، ثمّ حلّ عقدها فوجد الدينار والقراضة كما أخبر.

ثمّ أخرجتُ صرّةً أُخرى، فقال الغلام: «هذا (لفلان ابن فلان) من المحلّة (الفلانيّة) بقم، والعين فيها (خمسون ديناراً)، ولا ينبغي لنا أن نُدني أيدينا إليها». قال: «لمَ؟»، فقال: «مِن أجل أنّهذه الدنانير ثمن الحنطة، وكانت هذه الحنطة بينه وبين حرّاثٍ له، فأخذ نصيبه بكيلٍ كاملٍ وأعطى نصيبه بكيلٍ ناقص». فقال مولانا الحسن بن عليّ علیهما السلام: «صدقتَ يا بُنيّ!».

قال: «يا ابن إسحاق، إحملْ هذه الصرور، وبلِّغْ أصحابها وأوصِ بتبليغها إلى أصحابها، فإنّه لا حاجة بنا إليها».

ثمّ قال: «جِئْ إليّ بثوب تلك العجوز».

فقال أحمد بن إسحاق: كان ذلك في حقيبةٍ فنسيتُه. ثمّ مشى أحمد بن إسحاق ليجيء بذلك، فنظر إليّ مولانا أبو محمّد العسكري علیه السلام وقال: «ما جاء بك يا سعد؟»، فقلت: شوّقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا.

قال: «المسائلُ الّتي أردتَ أن تسأل عنها؟»، قلت: على حالها يا مولاي.

قال: «فاسأَلْ قُرّةَ عيني -- وأومى إلى الغلام -- عمّا بدا لك».

فقلت: يا مولانا وابن مولانا، رُوي لنا أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين، حتّى أنّه بعث يوم الجمل رسولاً إلى عائشة وقال: «إنّكِ أدخلتِ الهلاك على الإسلام وأهله بالغشّ الّذي حصل منك، وأوردتِ أولادك في موضع الهلاك بالجهالة، فإن امتنعتِ وإلّا طلقتُك». فأخبِرْنا يا مولاي عن

ص: 48

معنى الطلاق الّذي فوّض حكمه رسولُ الله صلی الله علیه وآله إلى أمير المؤمنين علیه السلام

فقال: «إنّ الله (تقدّس اسمه) عظّم شأن نسا النبی صلی الله علیه وآله ،ءفخصّهنّ لشرف الأُمّهات، فقال رسول الله يا أبا الحسن، صلی الله علیه وآله : إنّ هذا شرفٌ باقٍ ما دُمنَ للهعلى طاعة، فأيّتهنّ عصت الله بعدي بالخروج عليك فطلِّقْها مِن الأزواج وأسقِطْها مِن شرف أُميّة المؤمنين».

ثمّ قلت: أخبِرْني عن الفاحشة المبيّنة الّتي إذا فعلَت المرأةُ ذلك يجوز لبعلها أن يُخرِجها من بيته في أيّام عُدّتها.

فقال علیه السلام: «تلك الفاحشة السُّحق وليست بالزنا؛ لأنّها إذا زنت يُقام عليها الحدّ، وليس لمَن أراد تزويجها أن يمتنع من العقد عليها لأجل الحدّ الّذي أُقيم عليها، وأمّا إذا ساحقت فيجب عليها الرجم، والرجم هو الخزي، ومَن أمر الله (تعالى) برجمها فقد أخزاها، ليس لأحدٍ أن يقربها».

ثمّ قلت: أخبِرْني -- يا ابن رسول الله -- عن قول الله (تعالى) لنبيّه موسى علیه السلام: )فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى( ((1))، فإنّ فقهاء الفريقين يزعمون أنّها كانت من إهاب الميتة!

فقال علیه السلام: «مَن قال ذلك فقد افترى على موسى واستجهله في نبوّته؛ لأنّه ما خلا الأمر فيها من خطبين: إمّا أن كانت صلاة موسى فيها جائزة أو غير جائزة، فإن كانت صلاة موسى جائزة فيها فجاز لموسى أن يكون لابسها في تلك البقعة وإن

ص: 49


1- ([1]) سورة طه: 12.

كانت مقدّسةً مطهّرة، وإن كانت صلاته غير جائزة فيها فقد أوجب أنّ موسى لم يعرف الحلال والحرام ولم يعلم ما جازت الصلاة فيه ممّا لم يجز، وهذا كفر ».

قلت: فأخبِرْني يا مولاي عن التأويل فيها.

قال: «إنّ موسى علیه السلام كان بالوادي المقدَّس، فقال: يا ربّ، إنّي أخلصتُ لك المحبّة منّي، وغسلتُ قلبي عمّن سواك.وكان شديد الحبّ لأهله، فقال الله (تبارك وتعالى): )فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ(، أي: انزع حبَّ أهلك من قلبك إن كانت محبّتك لي خالصةً، وقلبك من المَيل إلى مَن سواي مغسولاً».

فقلت: أخبِرني عن تأويل )كهيعص( ((1)).

قال: «هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبدَه زكريّا، ثمّ قصَّها على محمّد صلی الله علیه وآله ،وذلك: أنّ زكريّا علیه السلام سأل ربّه أن يعلّمه الأسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها، فكان زكريّا إذا ذكر محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن سرى عنه همُّه وانجلى كربه، وإذا ذكر اسم الحسين؟ع؟ خنقته العَبرة ووقعت عليه البُهرة ((2)).

فقال - ذات يوم -: إلهي، ما بالي إذا ذكرتُ أربعاً منهم تسلَّيتُ بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟! فأنبأه الله (تبارك وتعالى) عن قصّته فقال: )كهيعص(، فالكاف: اسم (كربلاء)، والهاء: (هلاك العترة)،

ص: 50


1- ([1]) سورة مريم: 1.
2- ([2]) البُهر -- بالضمّ -- : تتابع النفَس، يعتري الإنسان عند السعي الشديد والعَدْو والمرض الشديد (مجمع البحرين: بَهَر).

والياء: (يزيد) وهو ظالم الحسين، والعَين: (عطشه)، والصاد: (صبره).

فلمّا سمع بذلك زكريّا علیه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، ومنع فيهنّ الناسَ من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكان يرثيه:

إلهي، أتفجع خير جميع خَلقك بوَلَده؟

إلهي، أتُنزل بلوى هذه الرزيّة بفَنائه؟

إلهي، أتُلبِس عليّاً وفاطمة ثوب هذه المصيبة؟

إلهي، تحلّ كربة هذه المصيبة بساحتهما؟

ثمّ كان يقول: إلهي، ارزقني وَلداً تُقرّ به عيني على الكِبر، فإذارزقتنيه فافتنّي بحبّه، ثمّ افجعني به كما تفجع محمّداً حبيبك بوَلَده.

فرزقه الله يحيى، وفجعه به، وكان حمل يحيى ستّة أشهر وحمل الحسين كذلك».

فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلّة الّتي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم؟ قال: «مصلحٌ أو مُفسِد؟»، فقلت: مصلح. قال: «هل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسِد بعد أن لا يعلم أحدٌ ما يخطر ببال غيره مِن صلاحٍ أو فساد؟»، قلت: بلى، قال: «فهي العلّة، أيّدتُها لك ببرهانٍ يقبل ذلك عقلك»، قلت: نعم.

قال: «أخبِرْني عن الرسل الّذين اصطفاهم الله وأنزل عليهم الكتب وأيّدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الأُمم، فأهدى إلى ثبت الاختيار، ومنهم موسى وعيسى، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذ هما على المنافق بالاختيار أن يقع خيرتهما وهما يظنّان أنّه مؤمن؟»، قلت: لا، قال: «فهذا موسى كليم الله -- مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه -- اختار مِن أعيان قومه ووجوه عسكره

ص: 51

لميقات ربّه سبعين رجلاً ممّن لم يشكّ في إيمانهم وإخلاصهم، فوقع خيرته على المنافقين. قال الله عزو جل:)وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا( -- الآية ((1))، فلمّا وجَدْنا اختيارَ مَن قد اصطفاه الله للنبوّة واقعاً على الأفسد دون الأصلح وهو يظنّ أنّه الأصلح دون الأفسد، عَلِمنا أنْ لا اختيار لمن لا يعلم ما تُخفي الصدور وما تُكنّ الضمائر وينصرف عنه السرائر، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادواأهل الصلاح».

ثمّ قال مولانا علیه السلام: «يا سعد، مَن ادّعى: أنّ النبيّ صلی الله علیه وآله -- وهو خصمك -- ذهب بمُختار هذه الأُمّة مع نفسه إلى الغار، فإنّه خاف عليه كما خاف على نفسه لِما علم أنّه الخليفة من بعده على أُمّته، لأنّه لم يكن من حُكم الاختفاء أن يذهب بغيره معه، وإنّما أقام عليّاً على مبيته لأنّه علم أنّه إن قُتل لا يكون من الخلل بقتله ما يكون بقتل أبي بكر، لأنّه يكون لعليٍّ مَن يقوم مقامه في الأُمور.. لمَ لا تنقض عليه بقولك: أوَ لستم تقولون: أنّ النبيّ صلی الله علیه وآله قال: (إنّ الخلافة من بعدي ثلاثون سنة)، وصيّرها موقوفةً على أعمار هؤلاء الأربعة: (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي)، فإنّهم كانوا على مذهبكم خلفاء رسول الله؟ فإنّ خصمك لم يجد بُداً من قوله: بلى».

قلت له: فإذا كان الأمر كذلك، فكما أبو بكر الخليفة من بعده كان هذه الثلاثة خلفاء أُمّته من بعده، فلمَ ذهب بخليفةٍ واحد -- وهو أبو بكر -- إلى الغار ولم يذهب بهذه الثلاثة؟ فعلى هذا الأساس يكون النبيّ صلی الله علیه وآله مستخفّاً بهم دون أبي بكر، فإنّه يجب عليه أن يفعل بهم ما فعل بأبي بكر، فلمّا لم

ص: 52


1- ([1]) سورة الأعراف: 155.

يفعل ذلك بهم يكون متهاوناً بحقوقهم وتاركاً للشفقة عليهم بعد أن كان يجب أن يفعل بهم جميعاً على ترتيب خلافتهم ما فعل بأبي بكر..

«وأمّا ما قال لك الخصم بأنّهما أسلما طوعاً أو كرهاً، لمَ لمْ تقل: بل إنّهما أسلما طمعاً، وذلك أنّهما يخالطان مع اليهود ويخبران بخروج محمّد صلی الله علیه وآله واستيلائه على العرب من التوراة والكتب المقدّسة وملاحم قصّة محمّد صلی الله علیه وآله ويقولون لهما: يكون استيلاؤه على العربكاستيلاء (بخت نصر) على بني إسرائيل، إلّا أنّه يدّعي النبوّة ولا يكون من النبوّة في شيء. فلمّا ظهر أمرُ رسول الله فساعدا معه على شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، طمعاً أن يجدا من جهة ولاية رسول الله ولاية بلدٍ إذا انتظم أمره وحسن باله واستقامت ولايته، فلمّا أَيِسا من ذلك وافقا مع أمثالهما ليلة العقبة وتلثّما مثل مَن تلثّم منهم، فنفروا بدابّة رسول الله لتُسقِطه ويصير هالكاً بسقوطه بعد أن صعد العقبة فيمن صعد، فحفظ الله (تعالى) نبيَّه من كيدهم ولم يقدروا أن يفعلوا شيئاً، وكان حالهما كحال طلحة والزبير إذ جاءا عليّاً علیه السلام وبايعاه طمعاً أن تكون لكلّ واحدٍ منهما ولاية، فلمّا لم يكن ذلك وأيسا من الولاية نكثا بيعته وخرجا عليه، حتّى آل أمرُ كلّ واحدٍ منهما إلى ما يؤول أمر مَن ينكث العهود والمواثيق».

ثمّ قام مولانا الحسن بن عليّ علیهما السلام لصلاته، وقام القائم معه، فرجعتُ مِن عندهما وطلبتُ أحمد بن إسحاق، فاستقبلني باكياً، فقلت: ما أبطأك وما أبكاك؟ قال: قد فقدتُ الثوب الّذي سألني مولاي إحضاره، قلت: لا بأس عليك، فأخبِرْه!

ص: 53

فدخل عليه، وانصرف من عنده متبسماً وهو يصلّي على محمّدٍ وأهل بيته، فقلت: ما الخبر؟ فقال: وجدتُ الثوب مبسوطاً تحت قدمَي مولانا علیه السلام يصلّي عليه.

قال سعد: فحمدنا الله (جلّ ذِكره) على ذلك، وجعلنا نختلف بعد ذلك اليوم إلى منزل مولانا علیه السلام أيّاماً فلا نرى الغلام بين يديه، فلمّا كان يوم الوداع دخلتُ أنا وأحمد بن إسحاق وكهلان من أهل بلدنا، فانتصب أحمد ابن إسحاق بين يديه قائماً وقال: يا ابنرسول الله، قد دَنَت الرحلة واشتدّت المحنة، فنحن نسأل الله أن يصلّي على المصطفى جدّك، وعلى المرتضى أبيك، وعلى سيّدة النساء أُمّك فاطمة الزهراء، وعلى سيّدَي شباب أهل الجنّة عمِّك وأبيك، وعلى الأئمّة من بعدهما آبائك، وأن يصلّي عليك وعلى وَلَدك، ونرغب إليه أن يُعلي كعبَك ويكبتَ عدوَّك، ولا جعل الله هذا آخر عهدنا من لقائك.

قال: فلمّا قال هذه الكلمة استعبر مولانا علیه السلام حتّى استهملت دموعُه وتقاطرت عبراته، ثمّ قال: «يا ابن إسحاق، لا تكلف في دعائك شطَطاً، فإنّك مُلاقٍ الله في صدرك هذا». فخرّ أحمد مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قال: سألتُك بالله وبحرمة جدّك إلّا ما شرّفتَني بخرقةٍ أجعلها كفناً. فأدخَلَ مولانا يده تحت البساط فأخرج ثلاثة عشر درهماً، فقال: «خُذْها، ولا تُنفِق على نفسك غيرها، فإنّك لن تُعدَم ما سألت، والله لا يضيع أجر المحسنين».

قال سعد: فلمّا صِرْنا بعد منصرفنا من حضرة مولانا علیه السلام من حلوان

ص: 54

على ثلاثة فراسخ، حُمَّ أحمد بن إسحاق وثارت عليه علّةٌ صعبة أيس من حياته بها، فلمّا وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات، دعا أحمد بن إسحاق رجلاً من أهل بلده كان قاطناً بها، ثمّ قال: تفرّقوا عنّي هذه الليلة واتركوني وحدي! فانصرفنا عنه ورجع كلُّ واحدٍ إلى مرقده.

قال سعد: فلمّا حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكرة، ففتحتُ عيني فإذا أنار بكافور الخادم خادم مولانا أبي محمّد وهو يقول: أحسن الله بالخير عزاكم، وختم بالمحبوب رزيتكم، قد فرغنامن غسل صاحبكم ومن تكفينه، فقوموا لدفنه، فإنّه مِن أكرمكم محلّاً عند سيّدكم. ثمّ غاب عن أعيننا، فاجتمعنا على رأسه بالبكاء والنحيب والعويل، حتّى قضينا حقّه وفرغنا من أمره رحمه الله((1)).

بين يحيى والإمام الحسين علیهما السلام

روى ابن شهرآشوب، عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين علیهما السلام قال: «خرجنا مع الحسين علیه السلام، فما نزل منزلاً ولا ارتحل عنه إلّا وذكر يحيى بن زكريّا، وقال يوماً: مِن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ((2))، فكان دمه يغلي حتّى بعث الله عليهم بخت نصر، فقتل عليه سبعين

ص: 55


1- ([1]) الاحتجاج للطبرسي: 2 / 268، كمال الدين للصدوق: 455.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 133 بتحقيق: السيّد علي أشرف، الإرشاد للمفيد: 2 / 132، أعلام الورى للطبرسي: 1 / 429، تفسير مجمع البيان للطبرسي: 6 / 405.

ألفاً حتّى سكن. يا ولدي يا علي، واللهِ لا يسكن دمي حتّى يبعث المهديَّ اللهُ، فيقتل على دمي من المنافقين الكفَرة الفسقة سبعين ألفاً» ((1)).

تأويل:وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ

روى الشيخ الكلينيّ في (الكافي)، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير أنّه سمع أبا جعفر وأبا عبد الله علیهما السلام يذكران أنّه «لمّا كان يوم التورية قال جبرئيل لإبراهيم علیهما السلام:تروّه من الماء. فسُمّيَت التورية. ثم أتى منى فأباته بها، ثمّ غدا به إلى عرفات فضرب خباه بنمرة دون عرفة، فبنى مسجداً بأحجارٍ بيض، وكان يُعرَف أثر مسجد إبراهيم، حتّى أدخل في هذا المسجد الّذي بنمرة حيث يصلّي الإمام يوم عرفة، فصلّى بها الظهر والعصر، ثمّ عمد به إلى عرفات فقال: هذه عرفات، فاعرِفْ بها مناسكك، واعترِفْ بذنبك. فسُمّي عرفات، ثمّ أفاض إلى المزدلفة، فسُمّيَت المزدلفة لأنّه ازدلف إليها، ثمّ قام على المشعر الحرام فأمره الله أن يذبح ابنه، وقد رأى فيه شمائله وخلائقه وأنس ما كان إليه، فلمّا أصبح أفاض من المشعر إلى منى، فقال لأُمّه: زوري البيت أنتِ. واحتبس الغلام، فقال: يا بُنيّ، هاتِ الحمار والسكّين حتى أُقرّب القربان». فقال أبان: فقلت لأبي بصير: ما أراد بالحمار والسكّين؟ قال: أراد أن يذبحه، ثمّ يحمله فيجهزه ويدفنه.

ص: 56


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 134، تفسير القمّي: 1 / 88.

قال: «فجاء الغلام بالحمار والسكّين، فقال: يا أبتِ أين القربان؟ قال: ربّك يعلم أين هو يا بُنيّ، أنت واللهِ هو، إنّ الله قد أمرني بذبحك فانظُرْ ماذا ترى؟ قال: )يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(» ((1)). قال: «فلمّا عزم على الذبح قال: يا أبت خمّر وجهي وشُدّ وَثاقي، قال: يا بُنيّ، الوثاق مع الذبح؟! واللهِ لا أجمعهما عليك اليوم». قال أبو جعفر علیه السلام: «فطرح له قرطان الحمار، ثمّ أضجعه عليه، وأخذ المُديَة فوضعها على حَلقه».

قال: «فأقبل شيخٌ فقال: ما تريد من هذا الغلام؟ قال: أُريد أن أذبحه، فقال: سبحان الله، غلامٌ لم يعصِ الله طرفة عينتذبحه؟ فقال: نعم، إنّ الله قد أمرني بذبحه، فقال: بل ربّك نهاك عن ذبحه، وإنّما أمرك بهذا الشيطانُ في منامك، قال: ويلك! الكلام الّذي سمعت هو الّذي بلغ بي ما ترى، لا والله لا أُكلّمُك. ثمّ عزم على الذبح، فقال الشيخ: يا إبراهيم، إنّك إمامٌ يُقتدى بك، فإن ذبحتَ وَلدك ذبَحَ الناس أولادهم، فمهلاً. فأبى أن يكلّمه».

قال أبو بصير: سمعتُ أبا جعفر علیه السلام يقول: «فأضجعه عند الجمرة الوُسطى، ثمّ أخذ المُديَة فوضعها على حلقه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ثمّ انتحى عليه، فقلبها جبرئيل علیه السلام عن حلقه، فنظر إبراهيم فإذا هي مقلوبة، فقلبها إبراهيم على خدّها وقلبها جبرئيل على قفاها، ففعل ذلك مِراراً، ثمّ نُوديَ مِن ميسرة مسجد الخِيف: يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا. واجتر الغلام من تحته، وتناول جبرئيل الكبش مِن قُلة ثبير فوضعه تحته، وخرج الشيخ الخبيث حتّى لحق بالعجوز حين نظرت إلى البيت

ص: 57


1- ([1]) سورة الصافّات: 102.

والبيت في وسط الوادي، فقال: ما شيخ رأيتُه بمنى! فنعت نعت إبراهيم، قالت: ذاك بعلي، قال: فما وصيف رأيتُه معه، ونعت نعته، قالت: ذاك ابني، قال: فإنّي رأيتُه أضجعه وأخذ المُديَة ليذبحه، قالت: كلّا، ما رأيت إبراهيم إلّا أرحم الناس، وكيف رأيتَه يذبح ابنه؟ قال: وربِّ السماء والأرض، وربِّ هذه البُنية لقد رأيتُه أضجعه وأخذ المدية ليذبحه، قالت: لمَ؟! قال: زعم أنّ ربّه أمره بذبحه، قالت: فحقّ له أن يطيع ربّه».

قال: «فلما قَضَت مناسكها فرقت أن يكون قد نزل في ابنها شيء، فكأنّي أنظر إليها مُسرعةً في الوادي واضعةً يدها على رأسها وهي تقول: ربِّ لا تؤاخذني بما عملت بأُمّ إسماعيل». قال: «فلمّا جاءت سارة فأخبرت الخبر، قامت إلى ابنها تنظر،فإذا أثر السكّين خُدوشاً في حلقه، ففزعت واشتكت، وكان بدءُ مرضها الّذي هلكت فيه» ((1)) ...

فداء جزع إبراهيم علیه السلام

في كتاب (عيون أخبار الرضا علیه السلام)، عن الفضل بن شاذان قال: سمعتُ الرضا علیه السلام يقول: «لمّا أمر الله (تبارك وتعالى) إبراهيم علیه السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبشَ الّذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم علیه السلام أن يكون يذبح ابنه إسماعيل علیه السلام بيده وأنّه لم يُؤمَر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع قلب الوالد الّذي يذبح أعزّ وُلده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب،

ص: 58


1- ([1]) الكافي للكليني: 4 / 207.

فأوحى الله عزوجل إليه: يا إبراهيم، مَن أحبُّ خلقي إليك؟ فقال: يا ربّ، ما خلقتَ خلقاً هو أحبّ إليَّ مِن حبيبك محمّدصلی الله علیه و آله فأوحى الله عزوجل إليه: يا إبراهيم، أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟ قال: بل هو أحبّ إليّ من نفس-ي، قال: فوَلَده أحبُّ إليك أو وَلدك؟ قال: بل وَلَده! قال: فذبْحُ وَلده ظلماً على أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي، قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفةً تزعم أنّها مِن أُمّة محمّد صلی الله علیه وآله ستقتل الحسين علیه السلام ابنه من بعده ظلماً وعُدواناً كما يُذبَح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم علیه السلام لذلك وتوجّع قلبُه، وأقبل يبكي، فأوحىالله عزوجل إليه: يا إبراهيم، قد فديتُ جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحتَه بيدك بجزعك على الحسين علیه السلام وقتله، وأوجبتُ لك أرفعَ درجات أهل الثواب على المصائب. فذلك قول الله عزوجل: )وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(» ((1)).

قال المؤلّف:

اختلفت الأخبار في الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق، والأوّل أظهر. قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «أنا ابن الذبيحَين»، يعني إسماعيل وعبد الله ((2)).

ص: 59


1- ([1]) عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 1 / 187 الباب 17.
2- ([2]) أُنظر: عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 1 / 189 الباب 18.

الذبيح الثاني: عبد الله أبو النبيّ صلی الله علیه وآله

قد عرفتَ قصّةَ ذبح إسماعيل، أمّا ذبح عبد الله: فقد روى المجلسيّ في (البحار) قال: لمّا قَدِم عبد المطّلب إلى مكّة وسوده أهل مكّة عليهم، كبر ذلك على عَدِيّ بن نوفل، إذ مال الناسُ إلى عبد المطّلب وكبر ذلك عليه، فلمّا كان بعض الأيام تناسبا وتقاولا ووقع الخصام، فقال عَديّ بن نوفل لعبد المطّلب: أمسِكْ عليك ما أعطيناك، ولا يغرّنّك ما خوّلناك، فإنّما أنت غلامٌ من غِلمان قومك، ليس لك ولدٌ ولا مساعد، فبمَ تستطيلُ علينا؟ ولقد كنتَ في يثرب وحيداً حتّى جاء بك عمُّك إلينا وقدم بك علينا، فصار لك كلام.فغضب عبد المطّلب لذلك وقال له: يا ويلك! تعيّرني بقلّة الولد؟ لله علَيّ عهدٌ وميثاق لازم لَئن رزقني اللهُ عشرة أولادٍ ذكوراً وزاد عليهم لأنحرنّ أحدَهم؛ إكراماً وإجلالاً لحقّه، وطلباً بثأري بالوفاء. اللّهمّ فكثِّرْ لي العيال، ولا تشمُت بي أحداً، إنّك أنت الفردُ الصمَد. ولا أعايُن بمثل قولك أبداً.

ثمّ مض-ى، وأخذ في خِطبة النساء والتزويج حرصاً على الأولاد، ثمّ تزوّج بستّ نساء، فرُزِق منهنّ عشرة أولاد ...

فأولاد عبد المطّلب: الحارث، وأبو لهب، والعبّاس، وضِرار، وحمزة، والمقوم، والحجل، والزبير، وأبو طالب، وعبد الله.

فلمّا كملت لعبد المطّلب عشرة أولاد ذكوراً، ووُلِد له الحارث فصاروا

ص: 60

أحد عشر ولداً ذكراً، فذكر نذرَه الّذي نذر والعهدَ الّذي عاهد: لئن بلغَت أولادي أحدَ عشر ولداً ذكوراً لَأُقرّبنّ أحدهم لوجه الله (تعالى).

فجمع عبدُ المطّلب أولاده بين يديه، وصنع لهم طعاماً، وجمعهم حوله، واغتمّ لذلك غمّاً شديداً، ثمّ قال لهم: يا أولادي، إنّكم كنتم تعلمون أنّكم عندي بمنزلةٍ واحدة، وأنتم الحدَقة من العين والروح بين الجنبَين، ولو أنّ أحدكم أصابته شوكة لَساءني ذلك، ولكنّ حقّ الله أوجبُ من حقّكم، وقد عاهدتُه ونذرتُ له متى رزقني الله أحدَ عشر وَلداً ذكراً لأنحرنّ أحدَهم قرباناً، وقد أعطاني ما سألتُه، وبقي الآن ما عاهدتُه، وقد جمعتُكم لأشاوركم، فما أنتم قائلون؟

فجعل بعضهم ينظر إلى بعض، وهم سكوتٌ لا يتكلّمون، فأوّل مَن تكلّم منهم عبدُ الله أبو رسول الله صلی الله علیه وآله ، وكان أصغر أولاده، فقال: يا أبت أنت الحاكمُ علينا، ونحن أولادك وفيطَوع يدك، وحقُّ الله أوجبُ مِن حقّنا وأمرُه أوجبُ من أمرنا، ونحن لك طائعون وصابرون على حُكم الله وحُكمك، وقد رضينا بأمر الله وأمرك، وصبرنا على حُكم الله وحكمك، ونعوذ بالله من مخالفتك.

وكان لعبد الله في ذلك اليوم إحدى عشر سنة، فلمّا سمع أبوه كلامَه بكى بكاءً شديداً حتّى بلّ لحيتَه من دموعه، ثمّ قال لهم: يا أولادي، ما الّذي تقولون؟ فقالوا له: سمعنا وأطعنا، فافعَلْ ما بدا لك ولو نحرتَنا عن آخرِنا، فكيف واحداً منّا! فشكرهم على مقالتهم، ثمّ قال لهم: يا بَنيّ، امضُوا

ص: 61

إلى أُمّهاتكم وأخبروهنّ بما قلتُ لكم، وقولوا لهنّ يغسلنكم ويكحلنكم ويطيبنكم، والبسوا أفخر ثيابكم، وودّعوا أُمّهاتكم وداع مَن لا يرجع أبداً.

فتفرّقوا إلى أُمّهاتهم، وأخبروهنّ بما قال لهم أبوهم، ففاضت لأجل ذلك العيون وترادفت الأحزان.

قال: ثمّ إنّ عبد المطّلب بات تلك الليلة مهموماً مغموماً، لم يطعم طعاماً ولم يشرب شراباً، ولم يُغمِض عيناً حتّى طلع الفجر، ثمّ لبس أفخر أثوابه، وتردّى برداء آدم؟ع؟، وتنعَّلَ بنعل شيث علیه السلام، وتختّم بخاتَم نوح علیه السلام، وأخذ بيده خنجراً ماضياً ليذبح به بعض أولاده، وخرج يناديهم مِن عند أُمّهاتهم واحداً واحداً، فأقبلوا إليه مُسرعين وقد تزيّنوا بأحسن الزينة، فلم يتأخّر غيرُ عبد الله، لأنّه كان أصغرهم، فسألهم عنه فقالوا: لا نعلمه منهم أحد، فخرج إليه بنفسه حتّى ورد منزل فاطمة زوجته، فأخذ بيده، فتعلّقَت به أُمّه، فجعل أبوه يجذبه منها وهي تجذبه منه، وهو يريد أباه، وهو يقول: يا أُمّاه اتركيني أمض-ي مع أبي ليفعل بي ما يُريد. فتركَته، وشقّت جيبَها وصرخت وقالت: لَفعلُك يا أبا الحارث فعلٌ لم يفعَلْه أحدٌغيرُك، فكيف تطيب نفسُك بذبح ولدك؟! وإن كان ولا بدّ مِن ذلك فخلِّ عبد الله؛ لأنّه طفلٌ صغير، وارحمه لأجل صِغَره ولأجل هذا النور الّذي في غُرّته. فلم يكترث بكلامها، ثمّ جذبه من يدها، فقامت عند ذلك تودّعه، فضمّته إلى صدرها، وقالت: حاشاك يا ربّ أن يطفأ نورُك، وقد قلَّتْ حيلتي فيك يا ولدي، وا حزنا عليك يا ولدي، ليتني قبل غَيبتك عنّي وقبل ذبحك

ص: 62

يا ولدي غُيّبتُ تحت الثرى، لئلّا أرى فيك ما أرى، ولكنّ ذلك بالرغم منّي لا بالرضا سَوقُك مِن عندي من غير اختياري. فلمّا سمع ذلك أبوه بكى بكاءً شديداً حتّى غُشي عليه وتغيّر لونه، فقال عبد الله لأُمّه: دعيني أمضي مع أبي، فإن اختارني ربّي كنتُ راضياً سامحاً ببذل روحي له، وإن كان غير ذلك عُدتُ إليكِ.

فأطلقَتْه أُمّه، فمش-ى وراء أبيه وجُملة أولاده إلى الكعبة، فارتفعت الأصوات من كلّ ناحية، وأقبلوا ينظرون ما يصنع عبد المطّلب بأولاده، وأقبلَت اليهود والكَهَنة وقالوا: لعلّه يذبح الّذي نخافه.

ثمّ عزم على القُرعة بينهم، وجاء بهم جميعاً للمنحر، وبيده خنجرٌ يلوح الموتُ مِن جوانبه، ثمّ نادى بأعلى صوته -- يُسمِع القريبَ والبعيد -- وقال: اللّهمّ ربَّ هذا البيت والحرم والحطيم وزمزم، وربَّ الملائكة الكرام، وربَّ جُملة الأنام، اكشِفْ عنّا بنورك الظلام، بحقّ ما جرى به القلم، اللّهمّ إنّك خلقتَ الخلقَ بقدرتك، وأمرتهم بعبادتك، لا مانع منك إلّا أنت، وإنّما يحتاج الضعيفُ إلى القويّ، والفقيرُ إلى الغني، يا ربّ وأنت تعلم أنّي نذرتُ نذراً وعاهدتُك عهداً على إنْ وهبتني عشرة أولاد ذكور لَأُقرّبنّ لوجهك الكريم واحداً منهم، وها أنا وهم بين يديك، فاختر منهم مَن أحببت، اللّهمّ كما قضيتَ وأمضيتَ فاجعله في الكبار ولا تجعله في الصغار؛ لأنّ الكبير أصبر علىالبلاء من الصغير، والصغير أَولى بالرحمة، اللّهمّ ربَّ البيت والأستار، والركنِ والأحجار، وساطح الأرض ومُجري البحار، ومرسل السحاب

ص: 63

والأمطار، اصرف البلاء عن الصغار.

ثمّ دعا بصاحب الجرائد فقدّها فقذفها، وكتب على كلّ واحدةٍ اسمَ وَلَد، وساق أولاد عبد المطّلب وقصد بهم الكعبة، فأخذَت أُمّهاتهم في الصراخ والنياح والشقّ للجيوب، كلُّ واحدةٍ تبكي على ولدها، وجميعُ الناس يبكون لبكائهم، وجعل عبدُ المطّلب يقوم مرّةً ويقعد أُخرى، وهو يدعو: يا ربِّ أسرعْ في قضائك.

فتطاولت الأعناق، وفاضت العَبَرات، واشتدّت الحسرات، فبينما هم في ذلك وإذا بصاحب القداح قد خرج من الكعبة وهو قابضٌ على عبد الله أبي رسول الله صلی الله علیه وآله، وقد جعل رداءَه في عُنقه وهو يجرّه، وقد زالت النَّضارة من وجهه واصفرّ لونُه وارتعدت فرائصه، وقال له: يا عبد المطّلب، هذا وَلَدك قد خرج عليه السهم، فإن شئتَ فاذبحه أو اتركه.

فلمّا سمع كلامه خرّ مغشيّاً عليه ووقع إلى الأرض، وخرج بقيّةُ أولاده من الكعبة وهم يبكون على أخيهم، وكان أشدَّهم عليه حزناً أبو طالب؛ لأنّه شقيقه من أُمّه وأبيه، وكان لا يصبر عنه ساعةً واحدة، وكان يُقبّل غُرّته وموضع النور من وجهه ويقول: يا أخي، ليتني لا أموت حتّى أرى وَلَدك الوارثَ لهذا النور الّذي فضّله اللهُ على الخلق أجمعين، الّذي يَغسلُ الأرض من الدنس، ويُزيل دولة الأوثان ويُبطل كهانة الكُهّان.

ثمّ لمّا أفاق عبد المطّلب سمع البكاء من الرجال والنساء من كلّ ناحية، فنظر وإذا فاطمة بنت عمرو أُمّ عبد الله وهي تحثو الترابعلى وجهها

ص: 64

وتضرب على صدرها، فلمّا نظر إليها عبدُ المطّلب لم يجِدْ صبراً، وقبض على يد وَلده وأراد أن يذبحه، فتعلّقت به ساداتُ قريش وبنو عبد مَناف، فصاح بهم صيحةً منكرة وقال: يا ويلكم! لستُم أشفق على وَلدي منّي، ولكن أُمض-ي حُكمَ ربّي. وأبو طالبٍ متعلّقٌ بأذيال عبد الله، وهو يبكي ويقول لأبيه: اُترك أخي واذبحني مكانه، فإنّي راضٍ أن أكون قُربانك لربّك، فقال عبد المطّلب: ما كنتُ بالّذي أتعرّض على ربّي وأُخالف حكمه، فهو الآمِر وأنا المأمور.

ثمّ اجتمع أكابر قومه وعشيرته وقالوا له: يا عبد المطّلب، عُدْ إلى صاحب القِداح مرّةً ثانية، فعس-ى أن يقع السهمُ في غيره ويقضي الله ما فيه الفرَج. فعاد ثانية، فعاد السهم على عبد الله، فقال عبد المطّلب: قُضي الأمر وربِّ الكعبة.

ثمّ ساق ولده عبدَ الله إلى المنحر، والناس من ورائه صفوف، فلمّا وصل المنحر عَقَل رجليه، فعند ذلك ضربت أُمُّه وجهها ونشرت شعرها ومزّقت أثوابها، ثمّ أضجَعَه وهو ذاهلٌ لا يدري ما يصنع ممّا بقلبه من الحُزن، فلمّا رأته أُمّه أنّه لا محالة عازمٌ على ذبحه مضَت مُسرعةً إلى قومها، وهي قد اضطربت جوارحها لمّا رأت عبد المطّلب قد أضجع عبد الله وَلَده ليذبحه، وهو لا يسمع عذل عاذلٍ ولا قول قائل، وضجّت الملائكةُ بالتسبيح ونشرت أجنحتها، ونادى جبرئيل، وتضرّع إسرافيل، وهم يستغيثون إلى ربّهم، فقال الله: يا ملائكتي، إنّي بكلّ شيءٍ عليم، وقد ابتليتُ عبدي لأنظر

ص: 65

صبره على حُكمي.

فبينما عبد المطّلب كذلك إذ أتاه عشرة رجال عُراة حفاة، في أيديهم السيوف، وحالوا بينه وبين وَلَده، فقال لهم: ما شأنكم؟ قالوا له: لا ندَعك تذبح ابن أُختنا ولو قتلتنا عن آخرنا، ولقد كلّفتَ هذه المرأة ما لا تُطيق، ونحن أخواله من بني مخزوم. فلمّا رآهم قد حالوا بينه وبين ولده رفع رأسه إلى السماء وقال: يا ربّ، قد منعوني أن أُمضِ-ي حكمك وأُوفي بعهدك، فاحكم بيني وبينهم بالحقّ وأنت خيرُ الحاكمين ((1)).

وفي رواية (العيون) أنّ عاتكة بنت عبد المطّلب اقترحت عليه أن يقرع بين الإبل وعبد الله حتّى يرضى الربّ، فقرّروا ذلك ((2)).

وفي رواية (البحار): وأقبل عبد المطّلب على ولده يقبّله، فقال عبد الله: يعزّ علَيّ يا أبتاه شقاءك من أجلي وحزنك علي.

ثم أمر عبد المطّلب أن يُخرَج كلّ ما معه من الإبل فأُحضِرَت، وأرسل إلى بني عمّه أن يأتوا بالإبل على قدر طاقتهم، وقال: إن أراد الله بي خيراً وقاني في ولدي، وإن كان غير ذلك فحكمه ماض. فجعل أهل مكّة يسوقون له كلّ ما معهم من الإبل، وأقبل عبد المطّلب على فاطمة أُمّ عبد الله، وقد أقرحت عيناها بالبكاء، فأخبرها بذلك ففرحت وقالت: أرجو من

ص: 66


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 15 / 76 وما بعدها.
2- ([2]) أُنظُر: عيون أخبار الرضا؟ع؟: 1 / 190 الباب 18.

ربّي أن يقبل منّي الفداء ويسامحني في ولدي.

وكانت ذات يَسارٍ ومالٍ كثير، وكانت أُمّها سرحانة زوجة عمرو المخزومي، وكانت كثيرة الأموال والذخائر، وكان لها جِمالٌ تسافر إلى العراق، وجِمالٌ تسافر إلى الشام، فقالت: علَيّ بمالي ومال أُمّي،ولو طلب منّي ربّي ألف ناقةٍ لقدّمتُها إليه وعلَيّ الزيادة. فشكرها عبد المطّلب وقال: أرجو أن يكون في مالي ما يُرضي ربّي ويفرّج كربي.

وأمّا الناس بمكّة ففي فرحٍ وسرور، وبات عبد المطّلب فرحاً مسروراً، ثمّ أقبل إلى الكعبة وطاف بها سبعاً، وهو يسأل الله (تعالى) أن يفرّج عنه، فلمّا طلع الصباح أمر رُعاة الإبل أن يُحضروها، فأحضروها، وأخذ عبد المطّلب ابنه فطيّبه وزيّنه وألبسه أفخر أثوابه، وأقبل به إلى الكعبة، وفي يده الحبل والسكّين، فلمّا رأته أُمّه فاطمة قالت: يا عبد المطّلب، ارمِ ما في يدك حتّى يطمئنّ قلبي، قال: إنّي قاصدٌ إلى ربّي أسأله أن يقبل منّي الفداء في وَلَدي، فإن نفدت أموالي وأموال قومي ركبتُ جوادي وخرجتُ إلى كسرى وقيصر وملوك الهند والصين مستطعماً على وجهي حتّى أُرضي ربّي، وأنا أرجو أن يفديه كما فدا أبي إسماعيل من الذبح.

وسار إلى الكعبة والناس حوله ينظرون، فقال لهم: يا معاشر مَن حضر، إيّاكم أن تعودوا إليّ في وَلَدي كما فعلتُم بالأمس وتحولوا بيني وبين ذبح ولدي.

ثمّ إنّه قدّم عشرةً من الإبل وأوقفها، وتعلّق بأستار الكعبة وقال: اللّهمّ

ص: 67

أمرك نافذ.

ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال عبد المطّلب: لربّي القضاء. فزاد على الإبل عشرة، وأمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال أشراف قريش: لو قدمتَ غيرك يا عبد المطّلب لكان خيراً، فإنّا نخش-ى أن يكون ربّك ساخطاً عليك، فقال لهم: إن كان الأمر كما زعمتُم فالمُس-يء أَولى بالاعتذار، ثمّ قال: اللّهمّ إن كاندعائي عنك قد حُجِب من كثرة الذنوب، فإنّك غفّار الذنوب كاشف الكروب، تكرّم علَيّ بفضلك وإحسانك. ثمّ زاد عشرة أُخرى من الإبل، ورمق بطرفه نحو السماء وقال: اللّهمّ أنت تعلم السرَّ وأخفى، وأنت بالمنظر الأعلى، اصرِفْ عنّا البلاء كما صرفتَه عن إبراهيم الّذي وفى. ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال عبد المطلب: إن هذا لَشيءٌ يُراد، ثمّ قال: لعلّ بعد العُسر يسراً. ثمّ أضاف إلى الثلاثين عَشرة أُخرى فقال:

يا ربّ هذا البيتِ والعبادِ***إنّ بُنيَّ أقربُ الأولادِ

وحبَّه في السمع والفؤادِ***وأُمَّه صارخةٌ تُنادي

فوقِّهِ مِن شفرة الحدادِ***فإنّه كالبدر في البلادِ

ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال عبد المطّلب: كيف أبذل فيك يا وَلَدي الفداء وقد حكم فيك

ص: 68

الربُّ بما يشاء؟ ثم أضاف إلى الأربعين عشرةً أُخرى، وأمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقالت أُمّه: يا عبد المطّلب، أُريد منك أن تتركني أسألُ الله في وَلدي، فعسى أن يرحمني ويرحم ضعفي وحالتي هذه. فقامت فاطمة وأضافت إلى الخمسين عشرةً أُخرى، وقالت: يا ربّ، رزقتَني وَلداً وقد حسدني عليه أكثرُ الناس وعاندني فيه، وقد رجوتُه أن يكون لي سنداً وعضداً، وأن يوسدني في لحدي، ويكون ذكري بعدي، فعارضني فيه أمرك، وأنت تعلم يا ربّ إنّه أحبّ أولادي إليّوأكرمهم لديّ، وإنّي يا ربّ فديتُه بهذه الفداء، فاقبلها ولا تشمت بي الأعداء. ثم أمرت صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فقال عبد المطّلب: إنّ لكلّ شيءٍ دليلاً ونهاية، وهذا الأمر ليس لي ولا لكِ فيه حيلة، فلا تعودي إلى التعرّض في أمري. ثمّ أضاف إلى الستّين عشرةً أُخرى، فقال: اللّهمّ منك المنعُ ومنك العطاء، وأمرك نافذٌ كما تشاء، وقد تعرّضتُ عليك بجهلي وقبيح عملي، فلا تؤاخِذْني ولا تُخيّب أملي. ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهمُ على عبد الله، فعند ذلك ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، فقال عبد المطّلب: ما بعد المنع إلّا العطاء، وما بعد الشدّة إلّا الرخاء، وأنت عالمُ السرّ وأخفى. ثمّ ضمّ إلى السبعين عشرةً أُخرى، وأمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فأخذ عبد المطّلب الحبل والسكّين بيده، وهمّ الناسُ أن يمنعوه مثل المرّة الأُولى، فقال لهم: أقسمتُ بالله إن عارضني في وَلَدي

ص: 69

أحدٌ لَأضربنّ نفسي بهذا السكّين وأذبح نفس-ي، أُتركوني حتّى أُنفذ حكم ربّي، فأنا عبده، ووَلَدي عبده، يفعل بنا ما يشاء ويحكم ما يُريد. فأمسك الناس عنه، ثمّ أضاف إلى الثمانين عشرةً وجعل يقول: يا ربّ إليك المرجع، وأنت ترى وتسمع. ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على عبد الله، فوقع عبد المطّلب مغشيّاً عليه، فلمّا أفاق قال: وا غوثاه إليك يا ربّ. وجذب ابنه للذبح، وضجّت الناس بالبكاء والعويل رجالاً ونساءً.

فعند ذلك صاح عبد الله في وِثاقه وقال: يا أبت أما تستحيي من الله؟ كم تردّ أمره وتلحّ عليه؟! هلمّ إليّ فانحرني، فإنّي قد خجلتُ مِن تعرّضك إلى ربّك في حقّي، فإنّي صابرٌ على قضائه وحُكمه،وإن كنتَ يا أبتِ لا تقدرُ على ذلك من رقّة قلبك علَيّ يا أبتاه، فخُذ بيدي ورجلي واربطهما بعضهما إلى بعض، وغَطِّ وجهي لئلّا ترى عينُك عيني، واقبض ثيابك عن دمي لكيلا تتلطّخ بالدم فتكون إذا لبستَ أثوابك تذكّركَ الحزن علَيّ يا أبت، وأُوصيك يا أبتاه بأُمّي خيراً، فإنّي أعلم أنّها بعدي هالكة لا محالة مِن أجل حزنها علَيّ، فسكّنها وسكّن دمعتها، وإنّي أعلمُ أنّها لا تلتذّ بعدي بعيش، وأُوصيك بنفسك خيراً، فإن خفتَ ذلك فغمّض عينيك، فإنّك تجدني صابراً.

ثمّ قال عبد المطّلب: يعزّ علَيّ يا ولدي كلامك هذا. ثمّ بكى حتّى اخضلّت لحيته بالدموع، ثمّ قال: يا قوم، ما تقولون؟ كيف أتعرّض على

ص: 70

ربّي في قضائه؟ وإنّي أخاف أن ينتقم منّي! ثمّ قام ونهض إلى الكعبة، فطاف بها سبعاً، ودعا الله، ومرّغ وجهه وزاد في دعائه، وقال: يا ربّ امضِ أمرك، فإنّي راغبٌ في رضاك.

ثمّ زاد على الإبل عشرةً فصارت مئة، وقال: مَن أكثر قرع الباب يُوشَك أن يُفتَح له، ثمّ قال: ربّ ارحم تضرّعي وتوسّلي وكبري. ثمّ أمر صاحبَ القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم على الإبل، فنزع الناس عبدَ الله من يد أبيه، وأقبلت الناس من كلّ مكانٍ يهنئونه بالخلاص، وأقبلت أُمّه وهي تعثر في أذيالها، فأخذت ولدها وقبّلته وضمّته إلى صدرها، ثمّ قالت: الحمد لله الّذي لم يبتلني بذبحك، ولم يشمت بي الأعداء وأهل العناد.

فبينما هم كذلك إذ سمعوا هاتفاً من داخل الكعبة وهو يقول: قد قبل الله منكم الفداء، وقد قرب خروجُ المصطفى. فقالت قريش: بخٍّ بخٍّ لك يا أبا الحارث، هتفَت بك وبابنك الهواتف.

وهمّ الناس بذبح الإبل، فقال عبد المطّلب: مهلاً! أُراجع ربّي مرّةًأُخرى، فإنّ هذه القِداح تُصيب وتُخطئ، وقد خرجَت على ولدي تسع مرّاتٍ متواليات وهذه مرّة واحدة، فلا أدري ما يكون من الثانية، أُتركوني أُعاود ربّي مرّةً واحدة، فقالوا له: افعلْ ما تريد.

ثمّ إنّه استقبل الكعبة وقال: اللّهمّ سامعُ الدعاء، وسابغ النعم، ومعدن الجود والكرم، فإن كنتَ يا مولاي مننتَ علَيّ بوَلَدي هِبةً منك، فأظهِرْ لنا برهانه مرّةً ثانية. ثمّ أمر صاحب القِداح أن يضربها، فضربها، فخرج السهم

ص: 71

على الإبل.

فأخذت فاطمة ولدها وذهبت به إلى بيتها، وأتى إليه الناس مِن كلّ جانبٍ ومكانٍ سحيق وفجٍّ عميق، يهنّؤونها بمنّة الله عليها.

ثمّ أمر عبد المطّلب أن تُنحَر الإبل، فنُحرَت عن آخرها، وتناهبها الناس، وقال لهم: لا تمنعوا منها الوحوش والطير. وانصرف.

فجَرَت سُنّةٌ في الدية مئةٌ من الإبل إلى هذا الزمان ((1)).

ص: 72


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 15 / 86 وما بعدها.

الفصل الثاني: في قصّة أبي ذرّ، وبكاء السماء والأرض دماً، ومصيبة المظلوم

روى ابن أبي الحديد في سبب نفي عثمان أبا ذرّ إلى الشام، قال:

إنّ عثمان لمّا أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمئة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مئة ألف درهم، جعل أبو ذرّ يقول: بشّر الكانزين بعذابٍ أليم. ويتلو قول الله (تعالى): )وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ((1)). فرفع ذلك مروان إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذرّ نائلاً مولاه أن انتَهِ عمّا يبلغني عنك، فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله، وعيب من ترك أمر الله؟ فوَ الله لئن أُرضي اللهَ بسخط عثمان أحبّ إليّ وخيرٌ لي مِن أن أُسخط الله برضاه. فأغضب عثمانَ ذلك، وأحفظه فتصابر.

ص: 73


1- ([1]) سورة التوبة: 34.

وقال يوماً: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك. فقال له أبو ذرّ: يا ابن اليهوديَّين،أتعلّمنا ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي، إلحَقْ بالشام. فأخرجَه إليها، فكان أبو ذرّ يُنكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية ثلاثمئة دينار، فقال أبو ذر: إن كانت هذه من عطائي الّذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتُها، وإن كانت صلةً فلا حاجة لي فيها. وردّها عليه.

وبنى معاوية الخضراءَ بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية، إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهو الإسراف.

وكان أبو ذرّ (رحمه الله تعالى) يقول: واللهِ لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سُنّة نبيّه، والله إنّي لَأرى حقّاً يُطفَأ وباطلاً يحيا، وصادقاً مكذَّباً، وأثَرةً بغير تُقىً وصالحاً مستأثَراً عليه. فقال حبيب بن مسلمة الفهريّ لمعاوية: إنّ أبا ذرّ لَمفسدٌ عليكم الشام، فتدارك أهلَه إن كانت لكم حاجة فيه ((1)).

وعن جلام بن جندل الغِفاريّ قال: كنتُ غلاماً لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان، فجئتُ إليه يوماً أسأله عن حال عملي، إذ سمعتُ صارخاً على باب داره يقول: أتتكم القطار تحمل النار! اللّهمّ العن

ص: 74


1- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3 / 54.

الآمرين بالمعروف التاركين له، اللّهمّ العن الناهين عن المنكر المرتكبين له. فازبأرّ معاوية وتغيّر لونه، وقال: يا جلام، أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللّهمّ لا. قال: من عذيري من جُندُب بن جُنادة يأتينا كلّ يومٍ فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت. ثمّ قال: أدخِلُوه علَيّ. فجي ء بأبي ذرّ بين قومٍ يقودونه حتّى وقف بين يديه، فقال له معاوية:يا عدوَّ الله وعدوّ رسوله، تأتينا في كلّ يومٍ فتصنع ما تصنع، أما أنّي لو كنتُ قاتل رجلٍ من أصحاب محمّدٍ من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لَقتلتُك، ولكنّي أستأذنُ فيك. قال جلام: وكنتُ أُحبّ أن أرى أبا ذر؛ لأنه رجلٌ من قومي، فالتفتُّ إليه، فإذا رجلٌ أسمر، ضرب من الرجال، خفيف العارضين، في ظهره جنأ، فأقبلَ على معاوية وقال: ما أنا بعدوٍّ لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله، أظهرتُما الإسلام وأبطنتُما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلی الله علیه و آله ودعا عليك مرّات، ألا تشبع؟ سمعتُ رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: «إذا وَليَ الأُمّة الأعيَنُ الواسعُ البلعوم الّذي يأكل ولا يشبع، فلْتأخذ الأُمة حذرها منه». فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل! أخبرَني بذلك رسول الله صلی الله علیه و آله ، وسمعتُه يقول -- وقد مررتُ به -- : «اللّهمّ العنْه، ولا تُشبِعْه إلّا بالتراب»، وسمعتُه صلی الله علیه و آله يقول: «أُست معاوية في النار»، فضحك معاوية وأمر بحبسه ((1)).

وروى الشيخ المفيد عن بعض أهل الشام: لمّا أخرج عثمان أبا ذرّ

ص: 75


1- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8 / 257.

الغِفاريّ رحمه الله من المدينة إلى الشام، كان يقوم في كلّ يومٍ فيعظ الناسَ، ويأمرهم بالتمسّك بطاعة الله ويحذّرهم من ارتكاب معاصيه، ويروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله ما سمعه منه في فضائل أهل بيته (عليه وعليهم السلام)، ويحضّهم على التمسّك بعترته، فكتب معاوية إلى عثمان: أمّا بعد، فإنّ أبا ذرّ يصبح إذاأصبح ويُمسي إذا أمسى وجماعة من الناس كثيرة عنده، فيقول كيت وكيت، فإن كان لك حاجة في الناس قبلي فأقدِمْ أبا ذر إليك؛ فإنّي أخاف أن يُفسِد الناس عليك، والسلام. فكتب إليه عثمان: أمّا بعد، فأشخِصْ إليّ أبا ذر حين تنظر في كتابي هذا، والسلام. فبعث معاوية إلى أبي ذر فدعاه، وأقرأه كتاب عثمان، وقال له: النجا الساعة. فخرج أبو ذر إلى راحلته فشدّها بكورها وأنساعها، فاجتمع إليه الناس فقالوا له: يا أبا ذر، رحمك الله، أين تريد؟ قال: أخرجوني إليكم غضباً علَيّ، وأخرجوني منكم إليهم الآن عبثاً بي، ولا يزال هذا الأمر فيما أرى شأنهم فيما بيني وبينهم حتّى يستريح برّ أو يستراح من فاجر. ومضى، وسمع الناس بمخرجه فاتّبعوه حتّى خرج من دمشق، فساروا معه حتّى انتهى إلى دِير مرّان فنزل، ونزل معه الناس، فاستقدم فصلّى بهم، ثمّ قال: أيّها الناس، إنّي مُوصيكم بما ينفعكم، وتارك الخطب والتشقيق، احمدوا الله؟عز؟. قالوا: الحمد لله. قال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله. فأجابوه بمثل ما قال، فقال: أشهد أنّ البعث حقّ، وأنّ الجنّة حقّ، وأنّ النار حقّ، وأُقرُّ بما جاء من عند الله، فاشهدوا علَيّ بذلك. قالوا: نحن على ذلك مِن الشاهدين.

ص: 76

قال: ليبشَّر مَن مات منكم على هذه الخصال برحمة الله وكرامته، ما لم يكن للمجرمين ظهيراً، ولا لأعمال الظلَمة مصلحاً، ولا لهم معيناً، أيّها الناس، اجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضباً لله عزوجل إذا عُصيَ في الأرض، ولا ترضوا أئمّتكم بسخط الله، وإن أحدثوا ما لا تعرفون فجانبوهم وازرؤوا عليهم، وإن عُذّبتم وحُرمتم وسُيّرتم؛ حتّى يرضى الله عزوجل، فإنّ الله أعلى وأجلّ، لا ينبغي أن يسخط برضى المخلوقين، غفر الله لي ولكم، أستودعكم اللهوأقرأُ عليكم السلام ورحمة الله. فناداه الناس أن سلّم الله عليك ورحمك يا أبا ذر، يا صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله ، ألا نردّك إن كان هؤلاء القوم أخرجوك؟ ألا نمنعك؟ فقال لهم: ارجعوا، رحمكم الله، فإنّي أصبَرُ منكم على البلوى، وإيّاكم والفرقة والاختلاف ((1)). فمضى حتّى دخل المدينة.

وروى المجلسيّ عن أرباب السيرة المعتمدة أنّ أبا ذرّ دخل الشام أيّام عمر، وبقي هناك إلى أيّام عثمان، فلمّا بلغه ما فعله عثمان من قبائح الأعمال وضرْبَه عمّاراً، جعل يذمّ عثمان ويطعن عليه بلسانه على رؤوس الأشهاد، ويفضحه بقبيح أفعاله، وكان يذمّ معاوية ويفضحه ويؤنّبه على أعماله الشنيعة، ويرغّب الناس بولاية الحقّ وخليفة الصدق أمير المؤمنين؟ع؟، فمال الناس إلى التشيّع --- والمشهور أنّ شيعة الشام وجبل عامل اليوم من بركات أبي ذر --، فكتب معاوية إلى عثمان يُخبره بالحال،

ص: 77


1- ([1]) الأمالي للمفيد: 162.

وأنّه إن بقي أياماً فسيُفسِد عليه الشام ويحرفهم عن ولايته، فكتب عثمان إلى معاوية أن احمل أبا ذر على نابٍ صعبة وقتَب، ثمّ ابعث معه مَن ينجش به نجشاً ((1)) عنيفاً، لا يدعه ينام الليل والنهار، حتّى لا يذكرنا بعدها.

فحمله معاوية على ناقة صعبة عليها قتب، ما على القتب إلّا مسح، ثمّ بعث معه مَن يسيّره سيراً عنيفاً، وكان أبو ذر رجلاً طوالاً نحيفاً، وقد أثّرت فيه الشيخوخة وغزاه الشيب في رأسه ومحاسنه، فما لبث إلّا قليلاً حتّى سقط ما يلي القتب من لحم فخذيه وقرح،وكان على هذا الحال من شدّة السير وأذى المركب والوجع والجهد حتّى دخل المدينة.

فلمّا دنى من عثمان نظر إليه اللعين وقال: لا أنعم الله بك عيناً يا جُندُب. فقال أبو ذر: أنا جُندُب، وسمّاني رسول الله : صلی الله علیه و آله عبد الله، فاخترتُ اسم رسول الله الّذي سمّاني رسول الله به على اسمي. فقال له عثمان: أنت الّذي تزعم أنّا نقول أنّ يد الله مغلولة، وأنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء؟! فقال أبو ذر: لو كنتم لا تزعمون لَأنفقتم مال الله على عباده، ولكنّي أشهدُ لَسمعتُ رسول الله يقول: صلی الله علیه و آله إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دخلاً، ثمّ يُريح الله العبادَ منهم ((2)).

وروى عليّ بن إبراهيم قال: دخل أبو ذر على عثمان، وكان عليلاً متوكّئاً

ص: 78


1- ([2]) النجش: الإسراع.
2- ([1]) عين الحياة للمجلسي: 11.

على عصاه، وبين يدَي عثمان مئة ألف درهم قد حُملت إليه من بعض النواحي، وأصحابه حوله ينظرون إليه ويطمعون أن يقسّمها فيهم، فقال أبو ذر لعثمان: ما هذا المال؟ فقال عثمان: مئة ألف درهم حُملت إليّ من بعض النواحي، أُريد أضمّ إليها مثلها، ثمّ أرى فيها رأيي. فقال أبو ذر: يا عثمان، أيّما أكثر، مئة ألف درهم أو أربعة دنانير؟ فقال عثمان: بل مئة ألف درهم. قال: أما تذكر أنا وأنت وقد دخلنا على رسول الله صلی الله علیه و آله عشيّاً فرأيناه كئيباً حزيناً، فسلّمنا عليه فلم يردّ علينا السلام، فلمّا أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكاً مستبشراً، فقلنا له: بآبائنا وأُمّهاتنا، دخلنا إليك البارحة فرأيناك كئيباً حزيناً، ثمّ عُدنا إليك اليوم فرأيناك فرحاً مستبشراً!فقال: «نعم، كان قد بقيَ عندي مِن في ء المسلمين أربعة دنانير لم أكن قسمتُها، وخفتُ أن يُدركني الموت وهي عندي، وقد قسمتُها اليوم واسترحتُ منها». فنظر عثمان إلى كعب الأحبار وقال له: يا أبا إسحاق، ما تقول في رجلٍ أدّى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيئاً؟ فقال: لا، ولو اتّخذ لبنةً من ذهبٍ ولبنةً من فضّةٍ ما وجب عليه شي ء. فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب، ثمّ قال له: يا ابن اليهوديّة الكافرة، ما أنت والنظر في أحكام المسلمين! قول الله أصدق من قولك حيث قال: )الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ

ص: 79

وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ( ((1)). فقال عثمان: يا أبا ذرّ، إنّك شيخٌ قد خَرِفتَ وذهب عقلك، ولو لا صحبتك لرسول الله لَقتلتُك. فقال: كذبتَ يا عثمان، أخبرَني حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: «لا يفتنونك يا أبا ذرّ ولا يقتلونك»، وأمّا عقلي فقد بقيَ منه ما أحفظه حديثاً سمعتُه من رسول الله صلی الله علیه و آله فيك وفي قومك. فقال: وما سمعتَ من رسول الله صلی الله علیه و آله فيّ وفي قومي؟! قال: سمعتُ يقول: «إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثون [ثلاثين] رجلاً، صيّروا مال الله دولاً، وكتاب الله دغلاً، وعباده خولاً، والفاسقين حزباً، والصالحين حرباً». فقال عثمان: يا معشر أصحاب محمّد، هل سمع أحدٌ منكم هذا مِن رسول الله؟ فقالوا: لا، ما سمعنا هذا منرسول الله. فقال عثمان: ادعُ عليّاً. فجاء أمير المؤمنين علیه السلام، فقال له عثمان: يا أبا الحسن، أُنظُر ما يقول هذا الشيخ الكذّاب. فقال أمير المؤمنين: مَهْ يا عثمان، لا تقل كذّاب؛ فإنّي سمعتُ رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: «ما أظلّت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراءُ على ذي لهجةٍ (اللهجة: اللسان) أصدقُ مِن أبي ذرّ». فقال أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله : صدق أبو ذر، وقد سمعنا هذا من رسول الله صلی الله علیه و آله . فبكى أبو ذر عند ذلك، فقال: ويلكم، كلّكم قد مدّ عنقه إلى هذا المال ظننتُم أنّي أكذب على رسول الله صلی الله علیه و آله . ثمّ نظر إليهم فقال: مَن خيركم؟ فقالوا: من خيرنا؟ فقال: أنا. فقالوا: أنت تقول إنّك خيرنا؟! قال: نعم، خلّفتُ حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله في

ص: 80


1- ([1]) سورة التوبة:34 و35.

هذه الجُبّة وهو عنّي راض، وأنتم قد أحدثتم أحداثاً كثيرة، واللهُ سائلكم عن ذلك ولا يسألني.

فقال عثمان: يا أبا ذر، أسألك بحقّ رسول الله صلی الله علیه و آله إلّا ما أخبرتَني عن شي ءٍ أسألك عنه. فقال أبو ذر: واللهِ لو لم تسألني بحقّ محمّدٍ رسول الله صلی الله علیه و آله أيضاً لَأخبرتُك. فقال: أيُّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها؟ فقال: مكّة حرم الله وحرم رسول الله، أعبد الله فيها حتّى يأتيني الموت. فقال: لا ولا كرامة لك. قال: المدينة حرم رسول الله صلی الله علیه و آله. قال: لا ولا كرامة لك. فسكت أبو ذر، فقال عثمان: أيّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها؟ قال: الربذة الّتي كنتُ فيها على غير دين الإسلام. فقال عثمان: سِرْ إليها ... ((1)).وفي رواية المفيد: لمّا قدم أبو ذر على عثمان، قال: أخبِرْني أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال: مهاجري. فقال: لستَ بمجاوري. قال: فألحقُ بحرم الله فأكون فيه. قال: لا. قال: فالكوفة أرضٌ بها أصحاب رسول الله؟ص؟. قال: لا. قال: فلستَ بمختارٍ غيرهنّ. فأمره بالمسير إلى الربذة، فقال: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال لي: «إسمع وأطع، وانفذ حيث قادوك، ولو لعبدٍ حبشيّ مجدع» ((2)).

وفي روايةٍ أُخرى: قدم على عثمان، فلمّا دخل عليه قال له: لا قرب الله بعمرو عيناً. فقال أبو ذر: والله ما سمّاني أبواي عمروا، ولكن لا قرّب الله

ص: 81


1- ([1]) تفسير القمّي: 1 / 51.
2- ([1]) الأمالي للطوسي: 710 المجلس 42، بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 404.

مَن عصاه وخالف أمره وارتكب هواه. فقام إليه كعب الأحبار فقال له: ألا تتقي اللهَ يا شيخ؟ تجبه أمير المؤمنين!!! بهذا الكلام. فرفع أبو ذر عصاً كانت في يده فضرب بها رأس كعب، ثمّ قال له: يا ابن اليهوديَّين، ما كلامك مع المسلمين؟ فوَالله ما خرجَت اليهوديّةُ من قلبك بعد. فقال عثمان: واللهِ لا جمعتني وإياك دار، قد خرفتَ وذهب عقلك، أخرِجُوه من بين يدَيّ حتّى تُركبوه قتب ناقته بغير وطاء، ثمّ انجوا به الناقة وتعتعوه حتّى تُوصلوه الربذة، فانزلوه بها من غير أنيسٍ حتّى يقضي الله فيه ما هو قاض. فأخرجوه متعتعاً ملهوزاً بالعصيّ، وتقدّم ألّا يشيّعه أحدٌ من الناس، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فبكى حتّى بلّ لحيته بدموعه، ثمّ قال: «أهكذا يُصنَع بصاحب رسول الله صلی الله علیه و آله إنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((1)).وفي رواية الكليني، قال: لمّا سيّر عثمان أبا ذر إلى الربذة، شيّعه أمير المؤمنين وعقيل والحسن والحسين علیهم السلام وعمّار بن ياسر رضی الله، فلمّا كان عند الوداع قال أمير المؤمنين؟ع؟: «يا أبا ذر، إنّك إنّما غضبت لله عزوجل، فارجُ مَن غضبتَ له، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتَهم على دِينك، فأرحلوك عن الفناء وامتحنوك بالبلاء، وو اللهِ لو كانت السماوات والأرض على عبدٍ رتقاً ثمّ اتّقى الله عزوجل جعل له منها مخرجاً، فلا يُؤنسك إلّا الحقّ ولا يوحشك إلّا الباطل». ثمّ تكلّم عقيل فقال: يا أبا ذر، أنت تعلم أنّا نحبّك، ونحن نعلم أنّك تحبّنا، وأنت قد

ص: 82


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 397.

حفظتَ فينا ما ضيّع الناس إلّا القليل، فثوابك على الله عزوجل، ولذلك أخرجك المخرجون وسيّرك المسيّرون، فثوابك على الله عزوجل، فاتّقِ الله، واعلم أنّ استعفاءك البلاء من الجزع، واستبطاءك العافية من اليأس، فدع اليأس والجزع، وقُل: حسبيَ الله ونعم الوكيل. ثمّ تكلّم الحسن علیه السلام فقال: «يا عمّاه، إنّ القوم قد أتوا إليك ما قد ترى، وإنّ الله عزوجل بالمنظر الأعلى، فدعْ عنك ذِكر الدنيا بذكر فراقها، وشدّة ما يرد عليك لرخاء ما بعدها، واصبِرْ حتّى تلقى نبيَّك صلی الله علیه و آله وهو عنك راضٍ إن شاء الله». ثمّ تكلّم الحسين علیه السلام فقال: «يا عمّاه، إنّ الله (تبارك وتعالى) قادرٌ أن يغيّر ما ترى، وهو كلّ يومٍ في شأن، إنّ القوم منعوك دنياهم ومنعتَهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك وما أحوجهم إلى ما منعتهم، فعليك بالصبر، فإنّ الخير في الصبر، والصبر من الكرم، ودع الجزع، فإنّ الجزع لا يُغنيك». ثمّ تكلّم عمار رضی الله عنه فقال: يا أبا ذر، أوحش اللهمَن أوحشك، وأخاف مَن أخافك، إنّه واللهِ ما منع الناس أن يقولوا الحقّ إلّا الركون إلى الدنيا والحبّ لها، ألا إنّما الطاعة مع الجماعة والمُلك لمن غلب عليه، وإنّ هؤلاء القوم دعوا الناس إلى دنياهم فأجابوهم إليها ووهبوا لهم دينهم، فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ثمّ تكلّم أبو ذر رضی الله عنه فقال: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بأبي وأُمّي هذه الوجوه، فإنّي إذا رأيتُكم ذكرتُ رسول الله صلی الله علیه و آله بكم، وما لي بالمدينة شجَن لأسكن غيركم، وإنّه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام، فآلى أن يسيّرني إلى بلدة، فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة، فزعم أنّه يخاف أن أُفسد على أخيه

ص: 83

الناس بالكوفة، وآلى بالله لَيسيّرني إلى بلدةٍ لا أرى فيها أنيساً ولا أسمع بها حسيساً، وإنّي واللهِ ما أُريد إلّا الله عزوجل صاحباً، وما لي مع الله وحشة، حسبيَ الله، لا إله إلا هو عليه توكّلتُ وهو ربّ العرش العظيم، وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين ((1)).

وفي روايةٍ أُخرى: فلمّا بصر بهم أبو ذرّرحمه الله حنّ إليهم وبكى عليهم، وقال: بأبي وجوه إذا رأيتُها ذكرتُ بها رسول الله صلی الله علیه و آله وشملتني البركة برؤيتها. ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال: اللّهمّ إنّي أُحبّهم، ولو قُطّعتُ إرباً إرباً في محبّتهم ما زلتُ عنها؛ ابتغاء وجهك والدار الآخرة، فارجعوا رحمكم الله، واللهُ أسألُ أن يخلفني فيكم أحسن الخلافة. فودّعه القوم ورجعوا وهم يبكون على فراقه ((2)).وروى ابن أبي الحديد، عن ابن عبّاس قال: لمّا أُخرج أبو ذر إلى الربذة، أمر عثمان فنودي في الناس ألّا يكلّم أحدٌ أبا ذر ولا يشيّعه، وأمر مروانَ بن الحكم أن يخرج به، فخرج به، وتحاماه الناس إلّا عليّ بن أبي طالب؟ع؟ وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً

علیهما السلام وعمّاراً، فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه، فجعل الحسن علیه السلام يكلّم أبا ذر، فقال له مروان: إيهاً يا حسن، ألا تعلم أنّ أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم

ص: 84


1- ([1]) الكافي: 8 / 206 ح 251.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 397.

فاعلم ذلك! فحمل عليٌّ علیه السلام على مروان، فضرب بالسوط بين أُذنَي راحلته وقال: «تنحَّ، لحاك الله إلى النار». فرجع مروان مغضباً إلى عثمان فأخبره الخبر، فتلظّى على عليّ علیه السلام... ((1)).

فلمّا رجع القوم قالوا لأمير المؤمنين علیه السلام: إنّ عثمان غضب عليك. فقال: غضب الفرس على لجامه.

فجاء عليٌّ علیه السلام إلى عثمان، فقال له: ما حملك على ردّ رسولي وتصغير أمري؟ فقال عليٌّ علیه السلام: «أمّا رسولك فأراد أن يردّ وجهي فرددتُه، وأمّا أمرك فلم أصغّره». قال: أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذرّ؟ قال: «أوَ كلّما أمرتَ بأمر معصية أطعناك فيه؟!» ((2)).

فدار بينهما كلام خشن، فغضب الإمام علیه السلام وقام فخرج من المجلس، فأرسل عثمان جماعةً من الصحابة فأصلحوا بينهما((3)).

وروى البرقي، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «رُئي أبو ذر يسقي حماراً بالربذة، فقال له بعض الناس: أوَ ما لك -- يا أبا ذرّ -- مَن يسقي لك هذا الحمار؟ فقال: سمعتُ رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: ما مِن دابّةٍ إلّا وهي تسأل كلّ صباح: اللّهمّ ارزقني مليكاً صالحاً، يُشبعني من العلف، ويرويني من الماء، ولا يكلّفني فوق طاقتي. فأنا أُحبّ

ص: 85


1- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8 / 253.
2- ([2]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8 / 254.
3- ([1]) أُنظر تفصيل الكلام في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8 / 254.

أن أسقيه بنفسي» ((1)).

وروى الشيخ المفيد: لمّا أخرج عثمانُ أبا ذرّ إلى الربذة، وأقام مدّةً ثمّ أتى إلى المدينة، فدخل على عثمان والناس عنده سماطين، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّك أخرجتني من أرضي إلى أرضٍ ليس بها زرع ولا ضرع إلّا شُوَيهات، وليس لي خادم إلّا محرّرة، ولا ظلٌّ يُظلّني إلّا ظلّ شجرة، فأعطِني خادماً وغُنَيماتٍ أعش فيها. فحوّل وجهه عنه، فتحوّل عنه إلى السماط الآخر فقال مثل ذلك، فقال له حبيب بن سلَمة: لك عندي يا أبا ذر ألف درهم وخادم وخمس مئة شاة. قال أبو ذر: أعطِ خادمك وألفك وشويهاتك مَن هو أحوج إلى ذلك منّي، فإنّي إنّما أسأل حقّي في كتاب الله. فجاء عليٌّ علیه السلام، فقال له عثمان: ألا تغني عنّا سفيهك هذا! قال: «أيّ سفيه؟!». قال: أبو ذر. قال عليٌّ علیه السلام: «ليس بسفيه، سمعتُ رسول الله؟ص؟ يقول: ما أظلّت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجةٍ من أبي ذرّ. أنزله بمنزلة مؤمن آل فرعون، إن يك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعضالذي يعدكم» ((2)).

وروى عليّ بن إبراهيم والشيخ الكلينيّ أنّه لمّا سيّر عثمان أبا ذر إلى الربذة فمات بها ابنه ذر، فوقف على قبره فقال: رحمك الله يا ذر، لقد كنتَ

ص: 86


1- ([2]) المحاسن للبرقي: 2 / 626.
2- ([1]) الأمالي للطوسي: 710 المجلس 42، بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 404.

كريم الخُلُق بارّاً بالوالدين، وما علَيّ في موتك من غضاضة، وما بي إلى غير الله من حاجة، وقد شغلني الاهتمام لك عن الاغتمام بك، ولو لا هول المطّلع لأحببتُ أن أكون مكانك، فليت شعري ما قالوا لك وما قلتَ لهم؟ ثمّ رفع يده فقال: اللّهمّ إنّك فرضتَ لك عليه حقوقاً، وفرضتَ لي عليه حقوقاً، فإنّي قد وهبتُ له ما فرضتَ لي عليه من حقوقي، فهبْ له ما فرضتَ عليه من حقوقك، فإنّك أَولى بالحقّ وأكرم منّي.

وكانت لأبي ذر غنيمات يعيش هو وعياله منها، فأصابها داء يُقال له: النقاز، فماتت كلّها، فأصاب أبا ذر وابنته الجوع، فماتت أهله، فقالت ابنته: أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيّامٍ لم نأكل شيئاً. فقال لي أبي: يا بنيّة، قومي بنا إلى الرمل نطلب القت -- وهو نبتٌ له حبّ --. فصرنا إلى الرمل فلم نجد شيئاً، فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه، ورأيتُ عينه قد انقلبت، فبكيت وقلت له: يا أبت كيف أصنع بك وأنا وحيدة؟ فقال: يا بنتي، لا تخافي، فإنّي إذا متُّ جاءك من أهل العراق مَن يكفيكِ أمري، فإنّه أخبرَني حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله في غزوة تبوك فقال: «يا أبا ذر، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتُبعَث وحدك، وتدخل الجنّة وحدك، يسعد بك أقوامٌ من أهل العراق يتولّون غُسلك وتجهيزك ودفنك». فإذا أنامتُّ فمدّي الكساء على وجهي، ثم اقعدي على طريق العراق، فإذا أقبل ركبٌ فقومي إليهم وقولي: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله قد تُوفّي.

قال: فدخل إليه قومٌ من أهل الربذة، فقالوا: يا أبا ذر، ما تشتكي؟

ص: 87

قال: ذنوبي. قالوا: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربّي. قالوا: فهل لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قالت ابنته: فلمّا عاين الموت سمعتُه يقول: مرحباً بحبيبٍ أتى على فاقة، لا أفلح مَن ندم، اللّهمّ خنقني خناقك، فوَحقّك إنّك لَتعلم أنّي أُحبّ لقاءك.

قالت ابنته: فلمّا مات مددتُ الكساء على وجهه، ثمّ قعدتُ على طريق العراق، فجاء نفر فقلتُ لهم: يا معشر المسلمين، هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله قد تُوفّي. فنزلوا، ومشوا يبكون، فجاؤوا فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه. وكان فيهم الأشتر، فرُوي أنّه قال: دفنتُه في حُلّةٍ كانت معي قيمتها أربعة آلاف درهم ((1)).

روى أحمد بن أعثم الكوفي أنّ الّذين حضروا تجهيز أبي ذر جماعة، منهم: الأحنف بن قيس التميمي، وصعصعة بن صوحان العَبدي، وخارجة بن الصلت التميمي، وعبد الله بن مسلمة التميمي، وبلال ((2)) بن مالك المزني، وجرير بن عبد الله البَجَلي، والأسود بن يزيد بن قيس النخَعي، وعلقمة بن قيس بن يزيد النخعي، وتاسع القوم الأشتر، واسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي ((3)).

وروى الشيخ الكشّي [محمّد بن] علقمة بن الأسود النخعي، قال:

ص: 88


1- ([1]) تفسير القمّي: 1 / 295.
2- ([2]) في المتن: (هلال).
3- ([3]) الفتوح لابن أعثم: 2 / 377.

خرجتُ في رهطٍ أُريد الحج، منهم مالك بن الحارث الأشتر وعبد الله بن الفضل التَّيمي ورفاعة بن شدّاد البجلي، حتّى قدمنا الربذة، فإذا امرأة على قارعة الطريق تقول: عبادَ الله المسلمين، هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله قد هلك غريباً، ليس لي أحدٌ يعينني عليه. قال: فنظر بعضنا إلى بعض، وحمدنا الله على ما ساق إلينا، واسترجعنا على عظيم المصيبة، ثمّ أقبلنا معها فجهّزناه، وتنافسنا في كفنه حتّى خرج من بيننا بالسواء، ثمّ تعاونّا على غسله حتّى فرغنا منه، ثم قدّمنا مالكاً الأشتر فصلّى بنا عليه، ثمّ دفنّاه، فقام الأشتر على قبره ثمّ قال: اللّهمّ هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله ، عبَدَك في العابدين وجاهد فيك المشركين، لم يُغيّر ولم يبدّل، لكنّه رأى منكراً فغيّره بلسانه وقلبه، حتّى جُفي ونُفي وحُرِم واحتُقِر، ثمّ مات وحيداً غريباً، اللّهمّ فاقصم مَن حرمه ونفاه مِن مهاجره وحرم رسولك صلی الله علیه و آله . قال: فرفعنا أيدينا جميعاً وقلنا: آمين. ثمّ قدّمت الشاة الّتي صنعت، فقالت: إنّها قد أقسم عليكم أن لا تبرحوا حتّى تتغدّوا. فتغدّينا وارتحلنا ((1)).

وروى عليّ بن إبراهيم والكلينيّ: قالت ابنته: فكنتُ أُصلّي بصلاته وأصوم بصيامه، فبينما أنا ذات ليلةٍ نائمة عند قبره إذ سمعتُه يتهجّد بالقرآن في نومي كما كان يتهجّد به في حياته، فقلت: يا أبت ما ذا فعل بك ربّك؟ فقال: يا بُنيّة، قدمتُ على ربٍّ كريم، فرضي عنّي ورضيتُ عنه، وأكرمني

ص: 89


1- ([1]) إختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): 65 ح 118.

وحباني، فاعملي فلا تغترّي ((1)).

في كثيرٍ من كتب التاريخ ذكروا زوجة أبي ذر بدل ابنته ((2)).

قال المؤلّف:

حضر أبا ذر بعض المسلمين، فغسّلوه وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه.. أما كان للسيّدة زينب الكبرى مَن يغيثها، ويغيث السيّدة السكينة وباقي نساء أهل البيت علیهم السلام، الّذين اجتمعوا على جسد أبي عبد الله الحسين المقطَّع إرباً إرباً -- في رواية المجلسيّ: أصابه أربعة آلاف جُراحةٍ من السهام، ومئةٌ وثمانون من السيف والسِّنان ((3)) -- فيجهّزه ويدفنه؟! وهم يتلون قول الله (تعالى): {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ((4))، بل على العكس، بدل المودّة سلبوا قميصه العتيق الّذي كان يلبسه تحت ثيابه، وقطعوا إصبعه ليسلبوا خاتمه، وقعطوا يده ليسرقوا تكّة سراويله! {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ

ص: 90


1- ([1]) تفسير القمّي: 1 / 296، بحار الأنوار للمجلسي: 22 / 430.
2- ([2]) الفتوح لابن أعثم: 2 / 377، عين الحياة للمجلسي: 19.
3- ([3]) عين الحياة للمجلسي: 527، معالي السبطَين للحائري: 2 / 32.
4- ([4]) سورة الشورى: 23.

مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ((1))، {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَىالظَّالِمِينَ} ((2)).

وروى ابن قولويه، عن رجلٍ من أهل بيت المقدس أنّه قال: واللهِ لقد عرفنا أهل بيت المقدس ونواحيها عشيّة قتل الحسين بن عليّ علیه السلام. قلت: وكيف ذاك؟ قال: ما رفعنا حجراً ولا مدراً ولا صخراً إلّا ورأينا تحتها دماً عبيطاً يغلي، واحمرّت الحيطان كالعلق، ومطر ثلاثة أيّام دماً عبيطاً، وسمعنا منادياً يُنادي في جوف الليل يقول:

أترجو أُمّةٌ قتلَت حسيناً***شفاعةَ جدّه يوم الحسابِ؟

معاذ الله! لا نلتم يقيناً***شفاعةَ أحمدٍ وأبي ترابِ

قتلتم خير مَن ركب المطايا***وخير الشِّيب طرّاً والشبابِ

وانكسفت الشمس ثلاثة أيّام، ثمّ تجلّت عنها، وانشبكت النجوم، فلمّا كان من غدٍ أرجفنا بقتله، فلم يأتِ علينا كثير شيءٍ حتّى نُعي إلينا الحسين علیه السلام ((3)).

ورُوي عن الزهريّ قال: لمّا قُتل الحسين علیه السلام، لم يبقَ في بيت المقدس حصاةٌ إلّا وُجد تحتها دمٌ عبيط ((4)).

ورُوي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال: «بكت الإنسُ والجنّ والطير والوحش

ص: 91


1- ([5]) سورة الشعراء: 227.
2- ([1]) سورة هود: 18.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 77 ح 2.
4- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 77 ح 3.

على الحسين بن علي علیهما السلام حتّى ذرفت دموعها»((1)).

وروى ابن قولويه قال: خرج أمير المؤمنين علیه السلام فجلس في المسجد واجتمع أصحابه حوله، وجاء الحسين علیه السلام حتّى قام بين يدَيه، فوضع يده على رأسه فقال: «يا بُنيّ، إنّ الله عبّر أقواماً بالقرآن فقال: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} ((2))، وأيم الله ليقتلنّك بعدي، ثمّ تبكيك السماء والأرض» ((3)).

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الحسين علیه السلام بكى لقتله السماء والأرض واحمرّتا» ((4)).

وفي روايةٍ أُخرى، عن عبد الله بن هلال قال: سمعتُ أبا عبد الله؟ع؟ يقول: «إنّ السماء بكت على الحسين بن عليّ ويحيى بن زكريّا، ولم تبكِ على أحدٍ غيرهما». قلت: وما بكاؤها؟ قال: «مكثَت أربعين يوماً تطلع كشمسٍ بحمرة وتغرب بحمرة». قلت: فذاك بكاؤها؟ قال: «نعم» ((5)).

ورُوي أيضاً عن امرأةٍ صالحة من أهل الكوفة قالت أنّها: أدركتُ

ص: 92


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 79 ح 1.
2- ([2]) سورة الدخان: 29.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 88 ح 2.
4- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 88 ح 3.
5- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 88 ح 4.

الحسين بن عليّ حين قُتِل، فمكثنا سنةً وتسعة أشهر والسماء مثل العلقة مثل الدم، ما تُرى الشمس ((1)).ورُوي أيضاً عن جماعةٍ من أهل الكوفة قالوا: لمّا قُتل الحسين بن عليّ علیه السلام أمطرت السماء تراباً أحمر ((2)).

ورُوي أيضاً عن عليّ بن الحسين علیه السلام قال: «إنّ السماء لم تبكِ منذ وضعت إلّا على يحيى بن زكريّا والحسين بن عليّ علیهما السلام». قلت: أيُّ شيءٍ كان بكاؤها؟ قال: «كانت إذا استقبلت بثوبٍ وقع على الثوب شبه أثر البراغيث من الدم» ((3)).

ورُوي أيضاً عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «كان الذي قتل الحسين ابن عليّ علیه السلام ولد زنا، والذي قتل يحيى بن زكريّا ولد زنا»، وقد قال: «احمرّت السماء حين قتل الحسين بن عليّ سَنة»، ثمّ قال: «بكت السماء والأرض على الحسين بن عليّ وعلى يحيى بن زكريّا، وحمرتها بكاؤها» ((4)).

وروى ابن شهرآشوب، عن نضرة الأزديّة: لمّا قُتل الحسين أمطرت السماء دماً، وحِبابنا وجِرارنا صارت مملوءةً دماً ((5)).

ص: 93


1- ([6]) كامل الزيارات لابن قولويه: 88 ح 5.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 90 ح 11.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 90 ح 12.
4- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 93 ح 21.
5- ([4]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 31 بتحقيق السيّد علي أشرف، الثِّقات لابن حِبّان: 5 / 487، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 227.

وقال قرطة ((1)) بن عبيد الله مطرت السماء يوماً نصف النهار على شملة بيضاء، فنظرتُ فإذا هو دم، وذهبَت الإبل إلى الوادي للشرب فإذا هو دم، وإذا هو اليوم الّذي قُتل فيه الحسين علیه السلام((2)).

وقال الصادق علیه السلام : «بكت السماء على الحسين أربعين يوماً بالدم» ((3)).

وعن أُمّ سليم قالت: لمّا قُتل الحسين علیه السلام مطرت السماء مطراً كالدمّ، احمرّت منه البيوت والحيطان ((4)).

وروى الثعلبيُّ وغيره: لم تُرَ هذه الحمرة في السماء إلّا بعد قتل الحسين (صلوات الله عليه) ((5)).

وعن (تاريخ النسوي)، عن الأسود بن قيس: لمّا قُتِل الحسين ارتفعت حمرة من قِبل المشرق وحمرة من قبل المغرب، فكادتا تلتقيان في كبد السماء ستّة أشهر ((6)).

ص: 94


1- ([5]) في المتن: (غرفة).
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 31 بتحقيق السيّد علي أشرف.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 31 بتحقيق السيّد علي أشرف.
4- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 32 بتحقيق السيّد علي أشرف، تاريخ الإسلام للذهبي: 5 / 16، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 288.
5- ([4]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 219 -- عن: الإرشاد للمفيد: 236.
6- ([5]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 167 ح 1104، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 226.

وعن أبي قبيل: لمّا قُتل الحسين بن علي علیه السلام كسفت الشمس كسفة بدت الكواكب نصف النهار، حتّى ظننّا أنّها هي ((1)) (يعني القيامة).

وعن أُمّ حيّان قالت: يوم قتل الحسين أظلمت علينا ثلاثاً.. ولميقلب حجرٌ ببيت المقدس إلّا أصبح تحته دماً عبيطاً ((2)).

وروى الشيخ الطوسي، عن عمّار بن أبي عمّار قال: أمطرت السماء يوم قتل الحسين علیه السلام دماً عبيطاً ((3)).

قال المؤلّف:

في قزوين في قرية زر آباد شجرة (جنار) يجري منها دم عبيط كلّ سنة ليلة عاشوراء، وقد رأيتُها، وسمعتُ أنّ الدم يجري منها أحياناً نادرة يوم عاشوراء أيضاً.

ومررتُ في سفر الحجّ على (حماة)، فرأيتُ في بساتينها مسجداً يسمّى (مسجد الحسين علیه السلام)، ورأيتُ في صحن المسجد حائطاً نُصب فيه حجر منحرف، ورأيتُ وسط

ص: 95


1- ([6]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 33، السنن الكبرى للبيهقي: 3 / 337، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 114 الرقم 2838، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 227، مقتل الحسين؟ع؟ للخوارزمي: 2 / 102.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 216، الأمالي للطوسي: 330 المجلس 11.

الحجر دماً متجمّداً، فسألتُ الخادم عنه فقال: كلّ عامٍ يسيل من هذا الحجر دم عبيط ليلة عاشوراء، وإنّي أخدم في هذا المسجد منذ سبع أو ثمان سنوات وأنا أرى ذلك بعيني، وقد سمعتُ ذلك ممّن كان قبلي، وإنّي لَأسمع من هذا المكان تلاوة القرآن كراراً. فلمّا خرجتُ من المسجد سألتُ بعض أهل حماة فقالوا: إنّ هذا الأمر معروفٌمشهور.

وفي كتاب (المقتل) لأحد علماء الإثني عشريّة: عن ابن عبّاس قال: صلّينا مع رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يوم صلاة الصبح في مسجده الآن، فلمّا فرغنا من التعقيب التفت إلينا بوجهه الكريم كأنه البدر في ليلة تمامه، واستند على محرابه، وجعل يعظنا بالحديث الغريب ويشوّقنا إلى الجنّة ويحذّرنا من النيران، ونحن به مسرورون مغبوطون، وإذا به قد رفع رأسه وتهلّل وجهه، فنظرنا وإذا بالحسنين مقبلَين عليه، وكفّ يمين الحسن علیه السلام بيسار الحسين علیه السلام وهما يقولان: «مَن مثلنا وقد جعل الله جدَّنا أشرف أهل السماوات والأرض، وأبونا بعده خير أهل المشرق والمغرب، وأُمّنا سيّدةٌ على جميع نساء العالمين، وجدّتنا أُمّ المؤمنين، ونحن سيّدا شباب أهل الجنّة؟».

قال ابن عبّاس: وزاد سرورنا واستبشرنا بعد ذلك، وكلٌّ منّا يهنّئ صاحبه على الولاية لهم والبراءة من أعدائهم، فنظرنا نحو رسول الله صلی الله علیه و آله وإذا بدموعه تجري على خدّيه، فقلنا: سبحان الله! هذا وقت فرحٍ وسرور،

ص: 96

فكيف هذا البكاء من رسول الله صلی الله علیه وآله فأردنا أن نسأله، وإذا به قد ابتدأَنا يقول: «يعزّيني الله على ما تلقيان مِن بعدي -- يا وَلدَيّ -- من الإهانة والأذى»، ثمّ التفت إلينا وقال: «ويعزّي كلّ مَن أدرك منكم ما سيجري عليهما، وليصبر الله شيعتنا وشيعة أبيه وأُمّه الّذي سيأتي بعدنا ويسمعون ما سيلقيان»، وزاد بكاؤه، وإذا به قد دعاهما وحطّهما في حِجره، وأجلس الحسن علیه السلام على فخذه الأيمن والحسين علیه السلام على فخذه الأيسر، فقال: «بأبي أبوكما، وبأُمّي أُمّكما»، وقبّلالحسنَ علیه السلام في فمه الشريف وأطال الشمّ بعدها، وقبّل الحسينَ علیه السلام في نحره بعد أن شمّه طويلاً، فتساقطت دموعه وبكى، وبكينا لبكائه ولا علم لنا بذلك.

فما كان إلّا ساعةً وإذا بالحسين علیه السلام قد قام ومضى إلى أُمّه باكياً مغموماً، فلمّا دخل عليها ورأته باكياً قامت إليه تمسح دمعه بكُمّها، وأسكتته وهي تبكي لبكائه وتقول: «فداك أُمّك، ما يُبكيك؟!»، فاشتدّ بكاؤه علیه السلام ، وبكت فاطمة لبكائه وقالت: «يا قرّة عيني وثمرة فؤادي! ما الّذي يُبكيك؟ لا أبكى الله لك عيناً، ما بالك يا حشاشة قلبي؟!»، قال: «خيراً يا أُمّاه»، قالت: «بحقّي عليك وبحقّ جدّك وأبيك إلّا ما أخبرتني»، فقال لها: «يا أُمّاه، كأنّ جدّي ملّني من كثرة تردّدي إليه»، قالت: «فداك نفسي، لماذا؟»، قال: «يا أُمّاه، جئتُ أنا وأخي إلى جدّنا لنزوره، فأتيناه وهو في المسجد وأبي وأصحابه من حوله مجتمعون، فدعى الحسن وأجلسه على فخذه الأيمن، وأجلسني على فخذه الأيسر، ثمّ لم يرضَ بذلك حتّى قبّل الحسن في فمه بعد أن شمّه طويلاً، وأما أنا فأعرض

ص: 97

عن فمي وقبّلني في نحري، فلو أحبَّني ولم يبغضني لقبّلني مثل أخي! هل في فمي شيءٌ يكرهه يا أُمّاه؟ شُمّيه أنتِ». قالت الزهراء: «هيهات يا ولدي! واللهِ العظيم ما في قلبه مقدار حبّة خردل من بغضك»، فقال: «يا أُمّاه! كيف لا يكون ذلك وقد عمل هذا؟»، قالت: «واللهِ -- يا ولدي -- إنّي سمعتُه كثيراً يقول: حسين منّي وأنا منه، ألا ومَن آذى شعرةً من حسين فقد آذاني. أما تذكر يا ولدي لمّا تصارعتما بين يديه جعل يقول: إيهاً يا حسن! فقلتُ له: كيف يا أبتاه تُنهِض الكبير علىالصغير؟! فقال: يا بنتاه! هذا جبرئيل يُنهِض الحسين، وأنا أُنهض الحسن. وإنّه -- يا ولدي -- مرّ يوماً جدُّك على منزلي وأنت تبكي في المهد، فدخل أبي وقال لي: سكّتيه يا فاطمة، ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني؟ وكذلك الملائكة بكاؤه يؤذيهم! وقال مراراً: اللّهمّ إنّي أُحبّه وأحبّ مَن يحبّه. فكيف يا ولدي تلك؟ لكن سِرْ بنا إلى جدّك». فأخذَت بيد الحسين وهي تجرّ أذيالها وهما يبكيان، حتّى أتت إلى باب المسجد.

قال ابن عبّاس: فلمّا رأينا فاطمة مُقبلةً انصرف كلّ واحد منّا إلى زاويةٍ مِن زوايا المسجد، فما رأت غير الإمام والنبي صلی الله علیه و آله، فلمّا رآها النبيّ تنفّس الصعداء وبكى كمداً، فجرت دموعه على خدَّيه حتّى بلت كُمّيه، فقالت: «السلام عليك يا أبتاه»، فقال: «وعليكِ السلام يا فاطمة ورحمة الله وبركاته»، قالت له: «يا سيّدي، كيف تكسر خاطر الحسين؟ أما قلتَ أنّه ريحانتي الّتي أرتاح إليها؟! أما قلتَ: هو زين السماوات والأرض؟! أما قلتَ: أشمّ رائحة الجنّة من الحسين؟»، قال: «نعم يا بنتاه، هكذا قلت»، قالت: «أجل، كيف ما قبّلتَه كأخيه الحسن؟ وقد أتاني باكياً، فلم أزل أُسكته فلم يسكت، وأُسلّيه فلم يتسلّ،

ص: 98

وأُعزّيه فلم يتعزّ!»، قال: «يا بنتاه، هذا سرٌّ أخاف عليكِ إذا سمعتيه ينكدر عيشُك وينكسر قلبك»، قالت: «بحقّك يا أبتاه أن لا تخفيه علَيّ»، فبكى وقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون. يا بنتاه يا فاطمة! هذا أخي جبرئيل أخبرني عن الملِكِ الجليل أن لا بدّ للحسن أن يموت مسموماً، تسمّه زوجته بنت الأشعث بن القيس الكوفيّ (لعنه الله)، فشممتُه بموضع سمّه، والحسين يموت منحوراً بسيف الشمر بن ذي الجوشن الضبابيّالكوفي، فشممتُه بعد تقبيلي موضع نحره». فلمّا سمعَت ذلك بكت بكاءً عالياً، وبكينا لبكائها، ولطمت على وجهها، وحثت الترابَ على رأسها، ودارت حولها نساءُ المدينة من المهاجرين والأنصار، فعلى النحيب، وارتجّ المسجد بمن فيه حتّى خِلنا أنّ الجنّ تبكي معنا، فقالت: «يا أبتاه، بأيّ أرضٍ يصدر عليه هذا؟ في المدينة أم في غيرها؟»، قال: «في أرضٍ تُسمّى كربلاء»، فقالت: «يا أبتاه، صِفْ لي سبب قتله»، فبكى النبيّ صلی الله علیه وآله وقال: «يا فاطمة، مصيبته أعظم من كلّ مصيبة، إعلَمي أنّه يدعوه أهل الكوفة في كتبهم أن أقبِلْ إلينا، فأنت الخليفة علينا مِن الله ورسوله، فإذا أتاهم كذّبوه، وقتلوه عطشاناً غريباً وحيداً، يناديهم: أما مِن نصيرٍ ينصرنا؟ أما مِن مجيرٍ يجيرنا؟ فلم يُجبْه أحد، فيُذبَح كما يُذبَح الكبش، وتُقتَل أنصاره وبنوه وبنو أخيه، وتُعلّى رؤوسهم على العوالي، وتُؤخَذ بناته ونساؤه سبايا حواسر، يُطاف بهنّ في الأمصار كأنهنّ مِن سبايا الكفّار»، فعندها نادت فاطمة: «وا حسيناه! وا مهجة قلباه! وا غريباه!»، فبكى كلُّ مَن كان حاضراً من الأنصار. قالت فاطمة: «أنا أكون أجهّزه وأكفّنه وأدفنه؟»، قال: «يكون ذلك في زمنٍ خالٍ منّي ومنكِ ومن أبيه ومن أخيه». قالت

ص: 99

فاطمة: «يا أبتاه، في أيّ شهرٍ يُقتل؟»، قال: «بشهرٍ يُسمّى المحرّم، في اليوم العاشر منه، وفيه تحرّم الكفرة السلاح، ومِن أُمّتي تقتل ولدي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة». قالت: «يا أبتاه! أجل، مَن يغسّله؟ ومَن يكفّنه؟ ومَن يصلّي عليه ويدفنه؟»، قال: «يا فاطمة، يبقى جسده على التراب تصهره الشمس، وهو في العراء ورأسه على القناة». فاعولتبعدها حزناً، وصاحت: «وا ولداه، وا حسرتاه!». فصاح الحسين علیه السلام: «يا جدّاه، رزئي عظيم، وخطبي جَسيم»، فبكى، وبكى جدّه وأبوه وأُمّه وأخوه ومَن حضر.

فبينا هم يتصارخون، وإذا بجبرئيل الأمين هبط من الربّ الجليل وقال: يا محمّد، العليّ الأعلى يُقرؤك السلام ويخصّك بالتحيّة والإكرام، ويقول لك: سكّتْ فاطمة الزهراء، فقد أبكت الملائكةَ في السماء، فوَعزّتي وجلالي، إنّي لَأخلُق لها شيعةً طاهرين مطهَّرين، يُنفِقون أموالهم على عزاء الحسين، ويُتعِبون أبدانهم وأرواحهم على زيارته، ويُقيمون عزاءه في مجالسهم، ويسكبون الدموع، ويقلّلون الهجوع، ليس لهم مِن ذلك رجوع، ويتناكحون ويتزاوجون ((1)) المطهَّرات، ويؤتون بكلّ طاهرٍ موال، ويأتون ((2)) إلى مشهده الشريف من كلّ مؤمنٍ لطيف، إلى أن يقوم القائم الحجّة ابن الحسن، فيأخذ بثاره وثار كلّ مظلوم إلى أن تقوم الساعة، ألا بشّرْ مَن زاره

ص: 100


1- ([1]) في (التظلّم): (ويتناسلون أطائب طاهرين مطهّرين).
2- ([2]) في المتن: (إمّا مجاورٌ له أو مال الرجوع إلی مشهده).

بعد مماته: كتب الله له بكلّ خطوةٍ يخطوها حجّةً مقبولة، ألا ومَن أنفق درهماً على عزائه وزيارته تاجرت له الملائكة إلى يوم القيامة فيما ينفقه، ويعطى بكلّ درهمٍ سبعين حسنة، وبنى الله له قصراً في الجنّة، ألا ومَن ذكر مصابه وبكا عليه حُفظَت دموعه في قوارير من زجاج، فإذا كان يوم القيامة فتلتهب نار جهنّم، فيقال له: يا وليّ الله! خُذْ هذه دموعك الّتي سفكتَها في دار الدنيا على مولاك الحسين علیه السلام وعُتقت من النار، فيضربون من تلك الدموع قطره على النار فتهرب النار عنه مسيرة خمسمئة عام.فعند ذلك توجّه النبي صلی الله علیه وآله، فقالت الزهراء: «فما تهلّلت يا أبتاه، فرحاً هذا أم حزناً؟»، فأخبرها النبيّ بقول جبرئيل، فسجدت لله شكراً.

فقال الحسين علیه السلام : «فما يكون جزاؤهم عندك يا جدّاه؟»، فقال له: «يا قرّة عيني، أشفعُ لهم عند الله لذنوبهم، وقد أعطاني الله الشفاعة في القيامة». فنظر الحسين إلى أبيه وقال له: «أنت -- يا أباه -- فما تجازيهم؟»، فقال: «أمّا أنا فأسقيهم من الحوض الكوثر». ثمّ نظر الحسين إلى أخيه الحسن علیه السلام فقال: «وأنت -- يا أخاه -- فماذا تجازيهم؟»، فقال الحسن: «يا أخي، أُحرّم على نفسي دخول الجنّة، لن أدخلها حتّى يكونوا معي، لا أدخل قبلهم». فعندها قالت الزهراء: «فوَعزّة ربّي وحقِّ أبي وبعلي، لَأقفنّ على باب الجنّة برأسٍ مكشوفٍ ودمعٍ مذروف، حتى يشفّعني إلهي فيهم، فلا أدخل الجنّة حتّى يدخلوا». فقال الحسين علیه السلام :«وحقّ جدّي وأبي أن لا أطلب من ربّي إلّا أن يجعل قصورهم حذاء

ص: 101

قصري في الجنّة» ((1)).

ص: 102


1- ([1]) تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 48 -- 52.

الفصل الثالث: في ذكر مرور الأنبياء والأوصياء بصحراء كربلاء، وذكر جملةٍ من القصص والأخبار

[آدم علیه السلام في كربلاء]

روى الشيخ الطريحيّ في (المنتخب) أنّ آدم علیه السلام لمّا هبط إلى الأرض لم يرَ حوّاء، فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلاء، فاعتلّ وأعاق وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الّذي قُتِل فيه الحسين علیه السلام حتّى سال الدم من رجله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: «إلهي، هل حدث منّي ذنبٌ آخَر فعاقبتني به؟ فإنّي طفت جميع الأرض، ما أصابني سوءٌ مثل ما أصابني في هذه الأرض!»، فأوحى الله إليه: «يا آدم، ما حدث منك ذنب، ولكن يُقتَل في هذه الأرض ولدك الحسين علیه السلام ظلماً، فسال دمك موافقةً لدمه». فقال آدم: «يا ربّ!

ص: 103

أيكون الحسين نبيّاً؟»، قال: «لا، ولكنّه سبط النبيّ محمّد». فقال: «ومَن القاتل له؟»، قال: «قاتله يزيد». فقال آدم: «فأيّشيءٍ أصنع يا جبرئيل؟»، فقال: «العَنْه يا آدم»، فلعنه أربع مرّات، ومشى خطواتٍ إلى جبل عرفات فوجد حوّاء هناك ((1)).

[نوح علیه السلام وسفينته وكربلاء]

في كتاب (العوالم)، عن (الخرائج): أنس بن مالك، عن النبيّ صلی الله علیه وآله أنّه قال: «لمّا أراد الله أن يهلك قوم نوح علیه السلام ، أوحى إليه أن شقّ ألواح الساج، فلمّا شقّها لم يدرِ ما يصنع بها، فهبط جبرئيل، فأراه هيئة السفينة، ومعه تابوت بها مئة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار، فسمّر بالمسامير كلّها السفينة، إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمارٍ فأشرق بيده وأضاء كما يضي ء الكوكب الدُّرّيّ في أُفق السماء، فتحيّر نوح علیه السلام ، فأنطق الله ذلك المسمار بلسان طلقٍ ذلقٍ فقال: أنا على اسم خير الأنبياء محمّد بن عبد الله. فهبط جبرئيل علیه السلام ، فقال له: «ما هذا المسمار الّذي ما رأيتُ مثلَه؟»، فقال: «هذا باسم سيّد الأنبياء محمّد بن عبدالله صلی الله علیه وآله، أسمِرْه على أوّلها على جانب السفينة الأيمن». ثمّ ضرب بيده إلى مسمارٍ ثانٍ فأشرق وأنار،

ص: 104


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 48، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 84، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 242، الأنوار النعمانيّة للجزائري: 3 / 260.

فقال نوح علیه السلام: «وما هذا المسمار؟»، فقال: «هذا مسمار أخيه وابن عمّه سيّد الأوصياء عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فأسمِرْه على جانب السفينة الأيسر في أوّلها». ثمّ ضرب بيده إلى مسمارٍ ثالثٍ فزهر وأشرق وأنار، فقال [جبرئيل]:«هذا مسمار فاطمة علیها السلام، فأسمِرْه إلى جانب مسمار أبيها». ثمّ ضرب بيده إلى مسمارٍ رابعٍ فزهر وأنار، فقال: «هذا مسمار الحسن علیه السلام ، فأسمِرْه إلى جانب مسمار أبيه». ثمّ ضرب بيده إلى مسمارٍ خامسٍ فزهر وأنار وأظهر النداوة، فقال جبرئيل علیه السلام : «هذا مسمار الحسين علیه السلام ، فأسمِرْه إلى الجانب الأيسر من مسمار أبيه». فقال نوح علیه السلام «يا جبرئيل، ما هذه النداوة؟!»، فقال: «هذا الدم»، فذكر قصّة الحسين علیه السلام وما تعمل الأُمّة به. لعن الله قاتله وظالمه وخاذله ((1)).

وفي كتاب (المنتخب) أنّ نوحاً علیه السلام لمّا ركب في السفينة طافت به جميع الدنيا، فلمّا مرّت بكربلاء أخذته الأرض، وخاف نوحٌ الغرق، فدعا ربّه وقال: «إلهي، طفت جميع الدنيا وما أصابني فزعٌ مثل ما أصابني في هذه الأرض!»، فنزل جبرئيل وقال: «يا نوح، في هذا الموضع يُقتَل الحسين علیه السلام سبط محمّدٍ خاتم الأنبياء وابن خاتم الأوصياء». فقال: «ومَن القاتل له يا جبرئيل؟»، قال: «قاتله لعين أهل سبع سماوات وسبع أرضين». فلعنه نوحٌ أربع مرّات، فسارت السفينة حتّى بلغت الجودي واستقرّت عليه ((2)).

ص: 105


1- ([1]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 105، نوادر المعجزات للطبري: 64، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 230.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 48، تظلّم الزهراء؟عها؟ للقزويني: 84، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 243.

[إبراهيم علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ إبراهيم مرّ في أرض كربلاء وهو راكبٌ فرساً، فعثرت به وسقط إبراهيم علیه السلام وشُجّ رأسه وسال دمه، فأخذ في الاستغفار، وقال: «إلهي، أيّ شيءٍ حدث منّي؟»، فنزل إليه جبرئيل وقال: «يا إبراهيم، ما حدث منك ذنب، ولكن هنا يُقتَل سبط خاتم الأنبياء وابن خاتم الأوصياء، فسال دمُك موافقةً لدمه». قال: «يا جبرئيل، ومَن يكون قاتله؟»، قال: «لعين أهل السماوات والأرض، والقلم جرى على اللوح بلعنه بغير إذن ربّه، فأوحى الله (تعالى) إلى القلم أنّك استحققتَ الثناء بهذا اللعن»، فرفع إبراهيم علیه السلام يديه ولعن يزيد لعناً كثيراً، وأمّن فرسه بلسانٍ فصيح، فقال إبراهيم لفرسه: «أيّ شيءٍ عرفتَ حتّى تؤمّن على دعائي؟»، فقال: يا إبراهيم، أنا أفتخر بركوبك علَيّ، فلمّا عثرت وسقطتَ عن ظهري عظمت خجلتي، وكان سبب ذلك من يزيد ((1)).

[إسماعيل علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ إسماعيل علیه السلام كانت أغنامه ترعى بشطّ الفرات، فأخبره الراعي أنّها لا تشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يوماً، فسأل ربَّه عن

ص: 106


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 49، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 84، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 243.

سبب ذلك، فنزل جبرئيل علیه السلام وقال: «يا إسماعيل، سَلْ غنمَك فإنّها تُجيبك عن سبب ذلك». فقال: «لمَ لا تشربين منهذا الماء؟»، فقالت بلسانٍ فصيح: قد بلغَنا أنّ وَلدك الحسين علیه السلام سبط محمّدٍ يُقتَل عطشاناً، فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حُزناً عليه. فسألَها عن قاتله، فقالت: يقتله لعين أهل السماوات والأرضين والخلائق أجمعين. فقال إسماعيل: «اللّهمّ العَنْ قاتل الحسين» ((1)).

[موسى علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ موسى كان ذات يومٍ سائراً ومعه يوشع بن نون، فلمّا جاء إلى أرض كربلاء انخرق نعله وانقطع شراكه، ودخل الحسك في رجلَيه وسال دمه، فقال: «إلهي، أيّ شيءٍ حدَث منّي؟»، فأوحى الله إليه أن هنا يُقتَل الحسين، وهنا يُسفَك دمك موافقةً لدمه، فقال: «ربّ، ومَن يكون الحسين؟»، فقيل له: هو سبط محمّدٍ المصطفى، وابن عليّ المرتضى. فقال: «ومَن يكون قاتله؟»، فقيل: هو لعين السمك في البحار، والوحوش في القفار، والطير في الهواء. فرفع موسى يديه ولعن يزيد ودعا عليه، وأمّن يوشع بن نون على دعائه، ومضى لشأنه ((2)).

ص: 107


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 49، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 85، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 243.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 49، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 85، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 244.

[سليمان علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ سليمان علیه السلام كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء، فمرّ ذات يومٍ -- وهو سائرٌ -- في أرض كربلاء، فأدارتالريح بساطه ثلاث دوراتٍ حتّى خاف السقوط، فسكنت الريح ونزل البساط في أرض كربلاء، فقال سليمان للريح: «لمَ سكنتي؟!»، فقالت: إنّ هنا يُقتَل الحسين علیه السلام . فقال: «ومَن يكون الحسين؟»، قالت: هو سبط محمّدٍ المختار، وابن عليّ الكرّار. فقال: «ومَن قاتله؟»، قالت: لعين أهل السماوات والأرض، يزيد. فرفع سليمان يديه ولعنه ودعا عليه، وأمّن دعاءه الإنس والجنّ، فهبّت الريح وسار البساط ((1)).

[عيسى علیه السلام في كربلاء]

ورُوي أنّ عيسى علیه السلام كان سائحاً في البراري ومعه الحواريّون، فمرّوا بكربلاء، فرأوا أسداً كاسراً قد أخذ الطريق، فتقدّم عيسى إلى الأسد وقال له: «لمَ جلستَ في هذا الطريق ولا تدعنا نمرّ فيه؟»، فقال الأسد بلسانٍ فصيح: إنّي لم أدَعْ لكم الطريق حتّى تلعنوا يزيد قاتل الحسين. فقال عيسى: «ومَن

ص: 108


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 50، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 86، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 244.

يكون الحسين؟»، قال: سبط محمّدٍ النبيّ الأُمّي، وابن عليّ الولي. قال: «ومَن قاتله؟»، قال: قاتله لعين الوحوش والذئاب والسباع أجمع، خصوصاً أيّام عاشوراء. فرفع عيسى علیه السلام يديه، ولعن يزيد ودعا عليه، وأمّن الحواريّون على دعائه، فتنحّى الأسد عن طريقهم ومشوا لشأنهم ((1)).

[النبيّ الخاتم صلی الله علیه و آله في كربلاء]

روى الشيخ المفيد عن أُمّ سلَمة أنّها قالت: خرج رسول الله صلی الله علیه وآله من عندنا ذات ليلة، فغاب عنّا طويلاً، ثمّ جاءنا وهو أشعثٌ أغبر، ويده مضمومة، فقلت له: يا رسول الله، مالي أراك أشعثاً مغبرّاً؟ فقال: «أُسريَ بي في هذا الوقت إلى موضعٍ من العراق، يُقال له: كربلاء، فأُريتُ فيه مصرع الحسين ابني وجماعةٍ من وُلدي وأهل بيتي، فلم أزل ألقط دماءهم، فها هي في يدي»، وبسطها إليّ، فقال: «خُذيها واحتفظي بها». فأخذتُها، فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعتُه في قارورةٍ وسددتُ رأسها واحتفظتُ بها.

فلمّا خرج الحسين علیه السلام من مكّة متوجّهاً نحو العراق، كنتُ أُخرج تلك القارورة في كلّ يومٍ وليلة، فأشمّها وأنظر إليها، ثمّ أبكي لمصابه، فلمّا كان اليوم العاشر من المحرّم -- وهو اليوم الّذي قُتل فيه الحسين علیه السلام -- أخرجتُها في

ص: 109


1- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 50، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 86، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 244.

أوّل النهار وهي بحالها، ثمّ عُدتُ إليها آخر النهار فإذا هي دمٌ عبيط، فضججتُ في بيتي وبكيت، وكظمتُ غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيُسرعوا بالشماتة، فلم أزلْ حافظةً للوقت واليوم حتّى جاء الناعي ينعاه، فحقّق ما رأيت ((1)).

وفي كتاب (الخرائج) أنّه علیه السلام لمّا أراد العراق قالت له أُمّ سلَمة: لا تخرج إلى العراق؛ فقد سمعتُ رسولَ الله صلی الله علیه وآله يقول: «يُقتَل ابني الحسين بأرض العراق»، وعندي تربةٌدفعها إليّ في قارورة. فقال: «واللهِ إنّي مقتولٌ كذلك، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً، وإن أحببتِ أن أُريكِ مضجعي ومصرعَ أصحابي»، ثمّ مسح بيده على وجهها، ففسح الله في بصرها حتّى أراها ذلك كلَّه، وأخذ تربةً فأعطاها من تلك التربة أيضاً في قارورةٍ أُخرى، وقال علیه السلام: «فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قُتلت». فقالت أُمّ سلمة: فلمّا كان يوم عاشوراء نظرتُ إلى القارورتين بعد الظهر، فإذا هما قد فاضتا دماً. فصاحت. ولم يُقلَب في ذلك اليوم حجرٌ ولا مدر إلّا وُجِد تحته دمٌ عبيط ((2)).

وروى الشيخ المفيد، عن الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام قال: «أصبحَت يوماً أُمّ سلَمة (رحمها الله) تبكي، فقيل لها: ممَّ بكاؤك؟ فقالت: لقد قُتِل ابني

ص: 110


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 133، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 239.
2- ([1]) الخرائج للراوندي: 1 / 254.

الحسين علیه السلام الليلة؛ وذلك أنّني ما رأيتُ رسول الله؟ص؟ منذ قُبِض إلّا الليلة، فرأيتُه شاحباً كئيباً. قالت: فقلت: ما لي أراك يا رسول الله شاحباً كئيباً؟ قال: ما زلتُ اللّيلة أحفر قبوراً للحسين وأصحابه علیهم السلام» ((1)).

وفي كتاب (المناقب)، عن ابن عبّاسٍ قال: رأيتُ النبيَّ صلی الله علیه وآله -- فيما يرى النائم بنصف النهار قائل -- أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقال: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، ما هذا؟! قال: «دم الحسين وأصحابه، فلم أزل ألتقطه منذ اليوم». فأحصينا ذلك اليوم، فوجدوه قُتِل في ذلك اليوم علیه السلام ((2)).وفي (الأمالي) للشيخ الطوسي، عن ابن عبّاس قال: بينا أنا راقدٌ في منزلي إذ سمعتُ صراخاً عظيماً عالياً من بيت أُمّ سلَمة زوج النبيّ صلی الله علیه وآله، فخرجتُ يتوجّه بي قائدي إلى منزلها، وأقبل أهلُ المدينة إليها الرجال والنساء، فلمّا انتهيتُ إليها قلتُ: يا أُمّ المؤمنين، ما لكِ تصرخين وتغوثين؟ فلم تُجبني، وأقبلَت على النسوة الهاشميّات وقالت: يا بنات عبد المطّلب، أسعديني وابكين معي؛ فقد قُتِل والله سيّدكنّ وسيّد شباب أهل الجنّة، قد واللهِ قُتل سبط رسول الله وريحانته الحسين. فقلت: يا أُمّ المؤمنين، ومِن أين علمتِ ذلك؟ قالت: رأيتُ رسول الله في المنام الساعة شعثاً مذعوراً،

ص: 111


1- ([2]) الأمالي للمفيد: 319 المجلس 38 ح 6، الأمالي للطوسي: 90 المجلس 3.
2- ([3]) فضائل الصحابة لابن حنبل: 2 / 779، المُسنَد لابن حنبل: 1 / 238، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 228.

فسألتُه عن شأنه ذلك، فقال: «قُتِل ابني الحسين علیه السلام وأهل بيته اليوم، فدفنتهم، والساعة فرغتُ من دفنهم». قالت: فقمتُ حتّى دخلتُ البيت، وأنا لا أكاد أن أعقل، فنظرتُ فإذا بتربة الحسين الّتي أتى بها جبرئيل من كربلاء، فقال: «إذا صارت هذه التربة دماً فقد قُتل ابنُك»، وأعطانيها النبيّ فقال: «اجعل [اجعلي] هذه التربة في زجاجة -- أو قال: في قارورة --، ولْتكن عندكِ، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين». فرأيتُ القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور. قال: فأخذَت أُمّ سلَمة من ذلك الدمّ فلطّخَت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحةً على الحسين علیه السلام ، فجاءت الركبان بخبره وأنّه قُتِل في ذلك اليوم.

قال عمرو بن ثابت: إنّي دخلتُ على أبي جعفر محمّد بن عليّ منزله، فسألتُه عن هذا الحديث وذكرتُ له رواية سعيد بن جُبَير هذاالحديث عن عبد الله بن عبّاس، فقال أبو جعفر علیه السلام ((1)): «حدّثنيه عمر بن أبي سلَمة عن أُمّه أُمّ سلَمة» ((2)).

وفي كتاب (العوالم) أنّ سَلمى المدنيّة قالت: دفع رسول الله صلی الله علیه و آله إلى أُمّ سلَمة قارورة فيها رملٌ من الطفّ، وقال لها: «إذا تحوّل هذا دماً عبيطاً فعند ذلك يُقتَل الحسين». قالت سلمى: فارتفعت واعيةٌ من حجرة أُمّ سلمة،

ص: 112


1- ([1]) في المتن: (فقال أبو جعفر الباقر علیه السلام : «هو حقّ»).
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 231، الأمالي للطوسي: 315 المجلس 11.

فكنتُ أوّل مَن أتاها، فقلت: ما دهاكِ يا أُمّ المؤمنين؟! قالت: رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله في المنام والتراب على رأسه، فقلت: ما لك؟ فقال: «وثب الناس على ابني فقتلوه، وقد شهدتُه قتيلاً الساعة». فاقشعرّ جلدي، فوثبتُ إلى القارورة فوجدتُها تفور دماً. قالت سلمى: فرأيتُها موضوعةً بين يديها ((1)).

أمير المؤمنين علیه السلام في كربلاء

[الإمام الحسين علیه السلام يسقي عطاشى صفّين]

في (المنتخب): عبد الله بن قيس بن ورقة: كنتُ ممّن غزا مع أمير المؤمنين عليّ علیه السلام في صفّين، وقد أخذ أبو أيّوبالأعور السلَميّ الماء وحرزه عن الناس، فشكى المسلمون العطش، فأرسل فوارس على كشفه

ص: 113


1- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 232، العوالم للبحراني: 17 / 508.

فانصرفوا خائبين، فضاق صدره، فقال له ولدُه الحسين علیه السلام : «أمضي إليه يا أبتاه؟»، فقال: «امضِ يا ولدي». فمضى مع فوارس، فهزم أبا أيّوب عن الماء وبنى خيمته وحطّ فوارسه، وأتى إلى إبيه وأخبره، فبكى عليّ علیه السلام ، فقيل له: ما يُبكيك يا أمير المؤمنين، وهذا أوّل فتحٍ بوجه الحسين؟! قال: «صحيح يا قوم، ولكن سيُقتل عطشاناً بطفّ كربلاء، حتّى تنفر فرسه وتحمحم وتقول: الظليمة الظليمة مِن أُمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها» ((1)).

اشارة

روى الشيخ الصدوق في (الأمالي)، عن ابن عبّاسٍ قال: كنتُ مع أمير المؤمنين علیه السلام في خروجه [في خرجته] إلى صفّين، فلمّا نزل بنِينوى -- وهو شطّ الفرات -- قال بأعلى صوته: «يا ابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟»، قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين. فقال علیه السلام: «لو عرفتَه كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي». قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيتُه وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً، وهو يقول: «أوه أوه، ما لي ولآلأبي سفيان! ما لي ولآل حربٍ حزب الشيطان وأولياء الكفر؟ صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقيَ أبوك مثل الّذي تلقى منهم». ثمّ دعا بماءٍ فتوضّأ وضوءه للصلاة، فصلّى ما شاء الله أن يصلّي، ثمّ ذكر نحو كلامه الأول، إلّا أنّه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة، ثمّ انتبه فقال: «يا ابن عبّاس»، فقلت: ها أنا ذا، فقال: «ألا أُحدّثك بما رأيتُ في منامي آنفاً عند رقدتي؟»، فقلت: نامت عيناك ورأيتَ خيراً يا أمير

ص: 114


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 300، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 266.

المؤمنين، قال: «رأيتُ كأنّي برجالٍ قد نزلوا من السماء، معهم أعلامٌ بيض، قد تقلّدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطوا حول هذه الأرض خطّة، ثمّ رأيتُ كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدمٍ عبيط، وكأنّي بالحسين سخيلي وفرخي ومضغتي ومخّي قد غرق فيه، يستغيث فلا يُغاث، وكأنّ الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آل الرسول، فإنّكم تُقتَلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنّة -- يا أبا عبد الله -- إليك مشتاقة. ثمّ يعزّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشِرْ، فقد أقرّ الله به عينك يوم القيامة، يوم يقوم الناس لربّ العالمين. ثمّ انتبهتُ هكذا. والّذي نفس عليٍّ بيده لقد حدّثني الصادق المصدَّق أبو القاسم صلی الله علیه وآله أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كربٍ وبلاء، يُدفَن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً من وُلدي ووُلد فاطمة، وإنّها لَفي السماوات معروفة، تُذكَر: أرض كربٍ وبلاء، كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس».

ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، اطلُبْ لي حولها بعر الظباء، فوَالله ما كذبتُ ولا كُذّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران». قالابن عبّاس: فطلبتُها، فوجدتُها مجتمعة، فناديتُه: يا أمير المؤمنين، قد أصبتُها على الصفة الّتي وصفتَها لي! فقال علي علیه السلام: «صدق الله ورسوله»، ثمّ قام علیه السلام يهرول إليها، فحملها وشمّها وقال: «هيَ هيَ بعينها، أتعلم -- يا ابن عبّاس -- ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمّها عيسى ابن مريم علیه السلام ، وذلك أنّه مرّ بها ومعه الحواريّون، فرأى هاهنا الظباء مجتمعةً وهي تبكي، فجلس عيسى علیه السلام وجلس الحواريّون معه، فبكى وبكى الحواريّون وهم لا يدرون لمَ جلس ولمَ بكى؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يُبكيك؟! قال: أتعلمون أيّ

ص: 115

أرضٍ هذه؟ قالوا: لا، قال: هذه أرضٌ يُقتَل فيها فرخ الرسول أحمد وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أُمّي، ويُلحَد فيها طينة أطيب من المسك، لأنّها طينة الفرخ المستشهَد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول أنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك، وزعمت أنّها آمنةً في هذه الأرض. ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها، وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها. اللّهمّ فأبقِها أبداً حتّى يشمّها أبوه، فيكون له عزاءً وسلوة». قال: «فبقيَت إلى يوم الناس هذا، وقد اصفرّت لطول زمنها، وهذه أرض كربٍ وبلاء»، ثمّ قال بأعلى صوته: «يا ربَّ عيسى ابن مريم، لا تبارِك في قتلته والمعين عليه والخاذل له».

ثمّ بكى بكاءً طويلاً، وبكينا معه، حتّى سقط لوجهه وغُشيَ عليه طويلاً، ثمّ أفاق، فأخذ البعر فصرَّه في ردائه، وأمرني أن أصرّها كذلك، ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، إذا رأيتَها تنفجر دماً عبيطاًويسيل منها دمٌ عبيط، فاعلم أنّ أبا عبد الله قد قُتِل بها ودُفِن». قال ابن عبّاس: فوَاللهِ لقد كنتُ أحفظها أشدّ من حفظي لبعض ما افترض الله عزوجل علَيّ، وأنا لا أحلّها من طرف كُمّي، فبينما أنا نائمٌ في البيت إذ انتبهتُ فإذا هي تسيل دماً عبيطاً، وكان كُمّي قد امتلأ دماً عبيطاً، فجلستُ وأنا باكٍ وقلت: قد قُتل واللهِ الحسين، والله ما كذبني عليٌّ قطّ في حديثٍ حدّثني، ولا أخبرني بشيءٍ قطّ أنّه يكون إلّا كان كذلك؛ لأنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان يُخبره بأشياء لا يُخبِر بها غيره. ففزعتُ وخرجت، وذلك عند الفجر، فرأيتُ -- واللهِ -- المدينة كأنّها ضباب لا يستبين

ص: 116

منها أثر عين، ثمّ طلعت الشمس فرأيتُ كأنّها منكسفة، ورأيتُ كأنّ حيطان المدينة عليها دمٌ عبيط، فجلستُ وأنا باك، فقلت: قد قُتِل واللهِ الحسين. وسمعتُ صوتاً من ناحية البيت وهو يقول:

اصبروا آل الرسول***قُتِل الفرخُ النحول

نزل الروح الأمين***ببكاءٍ وعويل

ثمّ بكى بأعلى صوته وبكيت، فأثبتُّ عندي تلك الساعة، وكان شهر المحرم يوم عاشوراء لعشرٍ مضين منه، فوجدتُه قُتل -- يوم ورد علينا خبره وتاريخه -- كذلك، فحدّثتُ هذا الحديث أُولئك الّذين كانوا معه، فقالوا: واللهِ لقد سمعنا ما سمعتَ ونحن في المعركة، ولا ندري ما هو، فكنّا نرى أنّه الخضر علیه السلام ((1)).

وروى الشيخ الصدوق أيضاً في (الأمالي): هرثمة بن أبي مسلم قال: غزونا مع عليّ بن أبي طالب علیه السلام صفّين، فلمّا انصرفنا نزل كربلاء فصلّى بها الغداة، ثم رفع إليه من تربتها فشمّها، ثمّ قال:«واهاً لكِ أيّتها التربة، لَيُحشرنّ منكِ قومٌ يدخلون الجنّة بغير حساب».

فرجع هرثمة إلى زوجته -- وكانت شيعةً لعليّ علیه السلام ، فقال: ألا أُحدّثك عن وليّكِ أبي الحسن؟ نزل بكربلاء فصلّى، ثمّ رفع إليه من تربتها فقال: «واهاً لكِ أيّتها التربة، لَيُحشرنّ منكِ أقوامٌ يدخلون الجنّة بغير حساب». قالت: أيّها

ص: 117


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 597 المجلس 87 ح 5.

الرجل، فإنّ أمير المؤمنين لم يقل إلّا حقّاً.

فلمّا قدم الحسين علیه السلام ، قال هرثمة: كنتُ في البعث الّذين بعثهم عُبيد الله بن زياد، فلمّا رأيتُ المنزل والشجر ذكرتُ الحديث، فجلستُ على بعيري، ثمّ صرتُ إلى الحسين علیه السلام ، فسلّمتُ عليه فأخبرتُه بما سمعتُ مِن أبيه في ذلك المنزل الّذي نزل به الحسين علیه السلام ، فقال: «معنا أنت أم علينا؟»، فقلت: لا معك ولا عليك، خلّفتُ صبيةً أخاف عليهم عبيدَ الله بن زياد. قال: «فامضِ حيث لا ترى لنا مقتلاً ولا تسمع لنا صوتاً، فوَالّذي نفس الحسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحدٌ فلا يعيننا إلّا كبّه الله لوجهه في جهنّم» ((1)).

وروى الحِميريّ في (قُرب الإسناد)، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه قال: «مرّ عليٌّ بكربلاء في اثنين من أصحابه»، قال: «فلمّا مرّ بها ترقرقت عيناه للبكاء، ثمّ قال: هذا مناخ ركابهم، وهذا ملقى رحالهم ((2))، وهاهنا تهراق دماؤهم، طوبى لكِ من تربةٍ عليكِ تهراق دماء الأحبّة» ((3)).وروى الشيخ الطريحيّ في كتاب (المنتخب) قال: خرج أمير المؤمنين علیه السلام يسير بالناس، حتّى إذا كان من كربلاء على مسيرة ميل أو ميلين فتقدّم بين أيديهم، حتّى إذا صار بمصارع الشهداء قال: «قُبض فيها

ص: 118


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 136 المجلس 38 ح 6.
2- ([2]) في المتن: (وهذا ملتقی رجالهم).
3- ([3]) قُرب الإسناد للحِميري: 26 ح 87.

مئتا نبيّ ومئتا وصيّ ومئتا سبط شهداء بأتباعهم»، فطاف بها على بغلته خارجاً رِجلاه من الركاب، وأنشأ يقول: «مناخ ركابٍ ومصارع شهداء، لا يسبقهم مَن كان قبلهم ولا يلحقهم مَن كان بعدهم» ((1)).

وروى الواقدي: لمّا مرّ عليٌّ علیه السلام بكربلاء في مسيره إلى صفّين وحاذى نِينوى -- قرية على الفرات --، وقف ونادى صاحب مطهرته: «أخبر أبا عبد الله، ما يقال لهذه الأرض؟»، فقال: كربلاء. فبكى حتّى بلّ الأرض من دموعه، ثمّ قال: «دخلتُ على رسول الله وهو يبكي، فقلتُ له: ما يُبكيك؟ فقال: كان عندي جبرئيل آنفاً، وأخبرَني أنّ ولدي الحسين يُقتل بشطّ الفرات بموضعٍ يُقال له كربلاء، ثمّ قبض جبرئيل قبضةً من تراب أشمّني إيّاها، فلم أملك عينَيّ أن فاضتا» ((2)).

إبن الحنفيّة والحسنان في صفّين

[توبة الزبرقان على يدَي الحسين علیه السلام]

في بعض الكتب المعتبرة أنّ الزبرقان بن بدر كان من جيش معاوية في صفّين، وكان موصوفاً بالشجاعة، وكان النبيّ صلی الله علیه وآله قد جعله على الصدقات، فخرج أيّام عمر بن الخطّاب إلى الشام في بعض المغازي، ثمّ استوطن هناك، وكان في صفّين فخرج يطلب مبارزاً، فاستأذن الحسينُ؟ع؟ أباه أمير المؤمنين علیه السلام ، فأذن له، فبكى إخوته وأشفقوا عليه.

فلمّا برز إليه الحسين علیه السلام قال الزبرقان: مَن أنت؟ فانتسب له قرّة عين البتول، قال الزبرقان: يا ابن رسول الله، لو طعنتَني بالرمح ومزّقتَ أحشائي

ص: 119


1- ([1]) تهذيب الأحكام للطوسي: 6 / 73، المنتخب للطريحي: 2 / 266، الخرائج للراوندي: 1 / 183، كامل الزيارات لابن قولويه: 270 ح 12.
2- ([2]) تذكرة خواصّ الأُمّة لسبط ابن الجوزي: 225، الصواعق المحرقة لابن حجر: 115، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 12.

لما نظرتُ إليك شزراً، كيف وقد رأيتُ النبيَّ صلی الله علیه وآله يلثم ثغرك غير مرّة! قال: «إذا كنتَ تعلم ذلك فلماذا اخترت معاوية علينا؟»، قال الزبرقان: لو سألتَ أمير المؤمنين يعفو عنّي ويغسل ذنوبي وجُرمي بسحائب رحمته وإحسانه ويمنّ عليّ بعفوه. فقبل منه الحسين علیه السلام ، فتشرّف الزبرقان بتقبيل ركاب المنصور المظفَّر، وقال: إنّي أوّل مَن غرّني زخارف الشيطان وطرد من رحمة الرحمان، أملي أن تشملني بلطف عنايتك. فعفا الإمام عن زلّات الزبرقان ((1)).

[بكاء النبيّ صلی الله علیه وآله في مصيبة سيّد الشهداء علیه السلام]

في كتاب (المنتخب)، عن اُمّ سلمة قالت: كان رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يومٍ معي، فبينما هو راقدٌ على الفراش جاعلٌ رجله اليمنى على اليسرى وهو على قفاه، وإذا بالحسين علیه السلام -- وهو ابن ثلاث سنين وأشهر -- أتى إليه، فلمّا رآه صلی الله علیه وآله قال: «مرحباً بقرّة عيني، مرحباً بثمرة فؤادي». ولم يزل يمشي حتّى ركب

ص: 120


1- ([1]) في (المعيار والموازنة للاسكافي: 150): قالوا: ثمّ أقبل رجلٌ من أهل الشام يُقال له: الزبرقان به الحكم، وكان سيّد أهل الشام، فطلب البراز، فخرج إليه الحسن ابن عليّ بن أبي طالب، فقال له الزبرقان: مَن أنت؟ قال: «أنا الحسن بن عليّ». فقال له: انصرف يا بُنيّ، فوَالله لقد نظرتُ إلى رسول الله صلی الله علیه وآله مقبلاً من ناحية (قبا) يسير على ناقةٍ له، وإنّك يومئذٍ لقُدّامه، فما كنتُ لألقى رسول الله صلی الله علیه وآله بدمك. فانصرف الزبرقان.

على صدر جدّه، فأبطأ، فخشيتُ أنّ النبيّ تعب، فأحببتُ أُنحّيه عنه، فقال: «دَعيه يا اُمّ سلمة، متى أراد الانحدار ينحدر، واعلمي مَن آذى منه شعرةً فقد آذاني». قالت: فتركتُه ومضيت، فما رجعتُ إلّا ورسول الله يبكي، فعجبتُ من بعد الضحك والفرح، فقربتُ منه وقلت: يا سيّدي، ما يُبكيك؟ لا أبكى الله عينك! وهو ينظر لشيءٍ بيده ويبكي، قال: «ما تنظرين؟»، فنظرتُ وإذا بيده تربة، فقلت: ما هي؟ قال: «أتاني بها جبرائيل هذه الساعة، وقال لي: يا رسول الله، هذه طينةٌ من أرض كربلاء، وهي طينة ولدك الحسين وتربته التي يُدفَن فيها. فصيّريها عندكِ في قارورة، فإذا رأيتِها قد صارت دماً عبيطاً فاعلمي أنّ ولدي الحسين قد قُتل، وسيصير ذلك مِن بعدي وبعد أبيه وأُمّه وجدّته وأخيه».

قالت: فبكيت، وأخذتُها من يده وائتمرت بما أمرني، وإذا لها رائحة كأنّها المسك الأذفر، فما مضت الأيّام والسنون إلّا وقد سافر الحسين إلى أرض كربلاء، فحسّ قلبي بالشرّ، وصرتُ كلّ يومٍ اتجسّس القارورة، فبينما أنا كذلك وإذا بالقارورة انقلبت دماً عبيطاً، فعلمتُ أنّ الحسين قد قُتِل، فجعلتُ أنوح وأبكي يومي كلَّه إلى الليل، ولم اتهنَّ بطعامٍ ولا منام إلى طائفةٍ من الليل، فأخذني النعاس، وإذا أنا بالطيف برسول الله صلی الله علیه وآله مُقبل وعلى رأسه ولحيته دمٌ كثير، فجعلتُ انفضه بكمّي وأقول: نفسي لنفسك الفداء! متى أهملتَ نفسك هكذا يا رسول الله؟! مِن أين لك هذا التراب؟ قال: «هذه الساعة فرغتُ مِن دفن ولدي الحسين».

قالت أُمّ سلمة: فانتبهتُ مرعوبةً لم أملك على نفسي، فصحت: وا

ص: 121

حسيناه! وا ولداه! وا مهجة قلباه! حتّى علا نحيبي، فأقبلَت إليّنساء الهاشميّات وغيرهن، وقلنَ: ما الخبر يا أُمّ المؤمنين؟! فحكيتُ لهنّ بالقصّة، فعلا الصراخ وقام النياح، وصار كأنّه حين ممات رسول الله صلی الله علیه وآله، وسعين إلى قبره مشقوقة الجيب ومكشوفة الرأس، فصحنَ: يا رسول الله، قُتِل الحسين! فوَاللهِ الّذي لا إله إلّا هو، فقد حسسنا كأنّ القبر يموجُ بصاحبه حتّى تحركت الأرضُ مِن تحتنا، فخشينا أنّها تسيخ بنا، فانحرفنا بين مشقوقة الجيب ومنشورة الشعر وباكية العين ((1)).

وروى ابن بابويه، عن أبي جعفرٍ علیه السلام ((2)) قال: «كان النبيُّ في بيت أُمّ سلَمة، فقال لها: لا يدخل علَيّ أحد. فجاء الحسين علیه السلام -- وهو طفل --، فما ملكَت معه شيئاً حتّى دخل على النبيّ صلی الله علیه وآله، فدخلَت أُمّ سلَمة على أثره، فإذا الحسين على صدره، وإذا النبيّ صلی الله علیه وآله يبكي، وإذا في يده شي ء يقبّله، فقال النبيّ صلی الله علیه وآله: يا أُمّ سلَمة، إنّ هذا جبرئيل يُخبرني أنّ هذا مقتول، وهذه التربة الّتي يُقتَل عليها، فضعيه عندكِ، فإذا صارت دماً فقد قُتِل حبيبي. فقالت أُمّ سلَمة: يا رسول الله، سَلِ اللهَ أن يدفع ذلك عنه. قال: قد فعلت، فأوحى اللهُ عزوجل إليّ أنّ له درجة لا ينالها أحدٌ من المخلوقين، وأنّ له شيعة يشفعون فيُشفَّعون، وأنّ المهديّ من وُلده، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين وشيعته، هم والله الفائزون يوم القيامة» ((3)).

ص: 122


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 330 المجلس 5 الباب 3.
2- ([2]) في المتن: (عن الصادق علیه السلام).
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 139 المجلس 29 ح 3، وهو في بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 225 عن الصادق علیه السلام.

ص: 123

اشارة

في (المنتخب): وعن ابن عبّاسٍ قال: لمّا كنّا في حرب صفّين، إذ دعا عليٌّ ابنه محمّد ابن الحنفيّة وقال له: «يا بُنيّ، شد على عسكر معاوية». ففعل ما أمره أبوه، وحمل على ميمنة عسكر معاوية فكشفهم، ثمّ رجع إلى أبيه وقد جُرح، فقال له: يا أبي، العطش العطش! فسقاه جُرعةً من الماء، ثمّ صبّ الباقي بين درعه وجلده، فوَاللهِ لقد رأيتُ علق الدمّ يخرج من الدرع، ثمّ أمهله ساعة، ثمّ قال له: «يا بُنيّ، شد على الميسرة». فحمل على ميسرة عسكر معاوية فكشفهم، ثمّ رجع وبه جُراحات وهو يقول: الماء الماء يا أبتاه! فسقاه جرعةً من الماء، وصبّ باقي الماء بين درعه وجلده، ثمّ قال له: «يا بُنيّ، شد على القلب». فحمل عليهم فكشفهم وقتل منهمفُرساناً، ثمّ رجع

ص: 124

إلى أبيه وهو يبكي وقد أثقلَته الجروح، فقام إليه أبوه وقبّل ما بين عينيه، وقال له: «فِداك أبوك، فقد سررتني واللهِ يا بُنيّ بجهادك هذا بين يدَي، فما يُبكيك، أفرحٌ أم جزع؟»، فقال: يا أبتي، كيف لا أبكي وقد عرّضتَني للموت ثلاث مرّات فسلّمني الله، وها أنا مجرح كما ترى؟ وكلّما رجعتُ إليك لتمهلني عن الحرب ساعة فما تمهلني، وهذان أخواي الحسن والحسين ما تأمرهما بشيءٍ من الحرب! فقام إليه أمير المؤمنين وقبّل وجهه، وقال له: «يا بُنيّ، أنت ابني، وهذان ابنا رسول الله، أفلا أصونهما من القتل؟»، فقال: بلى يا أبتاه، جعلني الله فداك وفداهما من كلّ سوء ((1)).

الفصل الرابع: في ذكر حديث لَعْيا وصلصائيل ودردائيل وفطر، وغيرها من الأخبار

[لعيا]

في كتاب (المنتخب)، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا أراد الله أن يهب لفاطمة الزهراء، وكان في رجب في اثني عشر ليلة خلت منه، فلمّا وقعت في طلقها، أوحى الله عزوجل إلى لعيا، وهي حوراء من الجنّة، وأهل الجنان إذا أرادوا أن ينظروا إلى شيءٍ حسن نظروا إلى لعيا، قال: ولها سبعون ألف وصيفة، وسبعون ألف قصر، وسبعون ألف مقصورة، وسبعون ألف غرفة مكلَّلة بأنواع الجواهر والمرجان، وقصر لعيا أعلا من تلك القصور ومن كلّ القصور في الجنّة، إذا أشرفت على الجنّة نظرَت جميع ما فيها وأضاءت الجنّة من ضوء خدّها وجبينها، فأوحى الله إليها أن اهبطي إلى دار الدنيا، إلى بنت حبيبي محمّد، فآنِسي لها، فأوحى الله إلى رضوان خازن الجنان أن

ص: 125


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 173.

زخرِف الجنّة وزيّنها؛ كرامةً لمولودٍ يُولَد في دار الدنيا، وأوحىالله إلى الملائكة أن قوموا صفوفاً بالتسبيح والتقديس والثناء على الله (تعالى)، وأوحى إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن اهبطوا إلى الأرض في قنديلٍ من الملائكة. قال ابن عبّاس: والقنديل ألف ألف ملَك، فبينما هبطوا من سماءٍ إلى سماء، إذا في السماء الرابعة ملَكٌ يُقال له: صلصائيل، له سبعون ألف جناح قد نشرها من المشرق إلى المغرب، وهو شاخصٌ نحو العرش؛ لأنّه ذكر في نفسه فقال: ترى الله يعلم ما في قرار هذا البحر، وما يسير في ظلمة الليل وضوء النهار؟ فعلم الله (تعالى) في نفسه، فأوحى الله إليه أن أقِمْ مكانك، لا تركع ولا تسجد؛ عقوبةً لك لِما فكّرت.

قال: فهبطت لعيا على فاطمة، وقالت لها: مرحباً بكِ يا بنت محمّد، كيف حالك؟ قالت علیها السلام لها: «بخير». ولحق فاطمة الحياء من لعيا، لم تدري ما تفرش لها، فبينما هي متفكّرة إذ هبطت حوراء من الجنّة ومعها درنوك من درانيك الجنّة فبسطَته في منزل فاطمة، فجلست عليه لعيا.

ثمّ إنّ فاطمة علیها السلام ولدت الحسين علیه السلام في وقت الفجر، فقبّلته لعيا، وقطعت سُرّته، ونشّفته بمنديل من مناديل الجنّة، وقبّلت عينَيه وتفلت في فيه، وقالت له: بارك الله فيك مِن مولودٍ وبارك في والدَيك. وهنّأت الملائكةُ جبرائيل، وهنّأ جبرائيل محمّداً سبعة أيّام بلياليها، فلمّا كان في اليوم السابع قال جبرائيل: يا محمّد، آتِنا بابنك هذا حتّى نراه. قال: فدخل النبيّ صلی الله علیه وآله على فاطمة، فأخذ الحسينَ وهو ملفوفٌ بقطعة صوفٍ صفراء،

ص: 126

فأتى به إلى جبرائيل، فحلّه وقبّله بين عينيه وتفل في فيه، وقال: بارك الله فيك مِن مولود وبارك في والديك، يا صريع كربلاء! ونظر إلى الحسين وبكى، وبكى النبيّ صلی الله علیه وآله، وبكتالملائكة، وقال جبرائيل: إقرأْ فاطمةَ ابنتك السلام، وقُل لها تُسمّيه الحسين، فقد سمّاه الله (جلّ إسمه)، وإنّما سُمّي الحُسين لأنّه لم يكُن في زمانه أحسن منه وجهاً. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «يا جبرائيل، تهنّيني وتبكي؟!»، قال: نعم يا محمّد، آجرك الله في مولودك هذا. فقال صلی الله علیه وآله : «يا حبيبي جبرائيل، ومَن يقتله؟»، قال: شراذمة من أُمّتك، يرجون شفاعتك، لا أنالهم الله ذلك. فقال النبيّ صلی الله علیه وآله: «خابت أُمّةٌ قتلَت ابن بنت نبيّها»، قال جبرائيل: خابت، ثمّ خابت من رحمة الله، وخاضت في عذاب الله.

ودخل النبيّ صلی الله علیه وآله على فاطمة، فأقرأَها من الله السلام، وقال لها: «يا بُنيّة، سمّيه الحُسين، فقد سمّاه الله الحسين»، فقالت: «مِن مولاي السلام، وإليه يعود السلام، والسلام على جبرائيل». وهنّأها النبيّ وبكى، فقالت: «يا أبتاه، تهنّئني وتبكي؟!»، قال: «نعم يا بُنيّة، آجركِ الله في مولودك هذا». فشهقَت شهقةً وأخذت في البكاء، وساعدتها لعيا ووصائفها، وقالت: «يا أبتاه، مَن يقتل ولدي وقرّة عيني وثمرة فؤادي؟»، قال: «شراذمة من أُمّتي، يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله ذلك». قالت فاطمة: «خابت أُمّةٌ قتلَت ابنَ بنت نبيّها -- قالت لعيا: خابت، ثمّ خابت من رحمة الله، وخابت في عذابه -- يا أبتاه، اقرأ جبرائيل عنّي السلام، وقُلْ له: في أيّ موضعٍ يُقتَل؟»، قال: «في موضعٍ يُقال له: كربلاء، فإذا

ص: 127

نادى الحسين لم يُجِبْه أحدٌ منهم، فعلى القاعد من نصرته لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا إنّه لن يُقتَل حتّى يخرج مِن صُلبه تسعة من الأئمّة -- ثمّ سمّاهم بأسمائهم إلىآخرهم --، وهو الّذي يخرج آخر الزمان مع عيسى ابن مريم، فهؤلاء مصابيح الرحمان وعروة السلام، محبُّهم يدخل الجنّة، ومبغضهم يدخل النار».

قال: وعرج جبرائيل وعرج الملائكة وعرجت لعيا، فبقيَ الملك صلصائيل، فقال: يا حبيبي، أقامَت القيامةُ على أهل الأرض؟ قال: لا، ولكن هبطنا إلى الأرض فهنَّئنا محمّداً بولده الحسين. قال: حبيبي جبرائيل، فاهبِطْ إلى الأرض، فقل له: يا محمّد، اشفع إلى ربّك في الرضا عنّي؛ فإنّك صاحب الشفاعة. قال: فقام النبيّ صلی الله علیه وآله ودعا بالحسين علیه السلام، فرفعه بكلتا يديه إلى السماء وقال: اللّهمّ بحقّ مولودي هذا عليك إلّا رضيتَ على الملَك. فإذا النداء مِن قِبل العرش: «يا محمّد، قد فعلت، وقدرك كبيرٌ عظيم». قال ابن عبّاس: والّذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، إنّ صلصائيل يفخر على الملائكة أنّه عتيق الحسين، ولعيا تفخر على الحور العين بأنّها قابلة الحسين ((1)).

ص: 128


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 146 المجلس 3.

[صلصائيل]

في كتاب (الغَيبة) ((1)): المفضَّل بن عمر، عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «كان ملَكٌ بين المؤمنين يُقال له: صلصائيل، بعثه الله في بعثٍ فأبطأ، فسلبه ريشه ودقّ جناحَيه وأسكنه في جزيرةٍ من جزائر البحر إلى ليلة وُلد الحسين علیه السلام ،فنزلت الملائكة واستأذنت الله في تهنئة جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله وتهنئة أمير المؤمنين علیه السلام وفاطمة علیه السلام ،فأذن الله لهم، فنزلوا أفواجاً من العرش ومن سماءٍ سماء، فمرّوا بصلصائيل وهو مُلقىً بالجزيرة، فلمّا نظروا إليه وقفوا فقال لهم: يا ملائكة ربّي، إلى أين تريدون، وفيمَ هبطتُم؟ فقالت له الملائكة: يا صلصائيل، قد وُلد في هذه الليلة أكرم مولودٍ وُلد في الدنيا بعد جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وأبيه عليّ وأُمّه فاطمة وأخيه الحسن، وهو الحسين، وقد استأذنّا الله في تهنئة حبيبه محمّد صلی الله علیه وآله لولده فأذن لنا. فقال صلصائيل: يا ملائكة الله، إنّي أسألكم بالله ربّنا وربّكم وبحبيبه محمّدٍ صلی الله علیه وآله وبهذا المولود أن تحملوني معكم إلى حبيب الله وتسألونه وأسأله أن يسأل الله بحقّ هذا المولود الّذي وهبه الله له أن يغفر لي خطيئتي ويجبر كسر جناحي ويردّني إلى مقامي مع الملائكة المقرَّبين. فحملوه وجاؤوا به إلى رسول الله صلی الله علیه وآله، فهنّئوه بابنه الحسين علیه السلام ، وقصّوا عليه قصّة الملَك، وسألوه مسألة الله والإقسام عليه بحقّ الحسين علیه السلام أن يغفر له خطيئته ويجبر كسر جناحه ويردّه إلى مقامه مع الملائكة المقرَّبين، فقام رسول الله صلی الله علیه وآله فدخل على فاطمة علیه السلام فقال لها: ناوليني ابني الحسين.

ص: 129


1- ([2]) قال العلّامة المجلسي: في حديث المفضَّل بطوله الّذي يأتي بإسناده في كتاب الغَيبة عن الصادق علیه السلام ..

فأخرجَته إليه مقموطاً، يناغي جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله، فخرج به إلى الملائكة، فحمله على بطن كفّه، فهلّلوا وكبّروا وحمدوا الله (تعالى) وأثنوا عليه، فتوجّه به إلى القبلة نحو السماء فقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ ابنيَ الحسين أن تغفر لصلصائيل خطيئته، وتجبر كسر جناحه، وتردّه إلىمقامه مع الملائكة المقرّبين. فتقبّل الله (تعالى) من النبيّ صلی الله علیه وآله ما أقسم به عليه، وغفر لصلصائيل خطيئته، وجبر كسر جناحه، وردّه إلى مقامه مع الملائكة المقرَّبين» ((1)).

قال المؤلّف:

يحتمل أن يكون صلصائيل هذا ملَكٌ آخَر غير الّذي ذُكِر في حديث لعيا.

[دردائيل]

في كتاب (إكمال الدين)، عن مجاهد قال: قال ابن عبّاس: سمعتُ رسولَ الله صلی الله علیه وآله يقول: «إنّ لله (تبارك وتعالى) ملَكاً يُقال له: دردائيل، كان له ستّة عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح هواء، والهواء كما بين السماء إلى الأرض، فجعل يوماً يقول في نفسه: أفَوق ربّنا (جلّ جلاله) شيء؟ فعَلِم الله (تبارك وتعالى) ما قال، فزاده أجنحةً مثلها فصار له اثنان وثلاثون ألف جناح، ثمّ أوحى الله عزوجل إليه أن طِرْ، فطار مقدار خمسين عاماً فلم ينل رأس قائمةٍ من قوام العرش، فلمّا علم الله عزوجل إتعابه أوحى إليه: أيّها الملَك، عُدْ إلى مكانك، فأنا عظيمٌ فوق كلّ عظيم،

ص: 130


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 259.

وليس فوقي شيء، ولا أُوصَف بمكان. فسلبه الله أجنحته ومقامه من صفوف الملائكة.

فلمّا وُلد الحسين بن عليّ علیه السلام -- وكان مولده عشيّةالخميس ليلة الجمعة -- أوحى الله عزوجل إلى مالك خازن النار أن أخمِد النيران على أهلها لكرامة مولودٍ وُلد لمحمّد، وأوحى إلى رضوان خازن الجنان أن زَخرِف الجنان وطيّبها لكرامة مولودٍ وُلد لمحمّدٍ في دار الدنيا، وأوحى الله (تبارك وتعالى) إلى حور العين: تزينَّ وتزاورنَ لكرامة مولودٍ وُلد لمحمّدٍ في دار الدنيا، وأوحى الله عزوجل إلى الملائكة أن قوموا صفوفاً بالتسبيح والتحميد والتمجيد والتكبير لكرامة مولودٍ وُلد لمحمّدٍ في دار الدنيا، وأوحى الله (تبارك وتعالى) إلى جبرئيل علیه السلام أن اهبط إلى نبيّي محمّدٍ في ألف قبيل -- والقبيل ألف ألف من الملائكة -- على خيول بلق مسرَجةٍ ملجمة، عليها قباب الدرّ والياقوت، ومعهم ملائكةٌ يُقال لهم: الروحانيّون، بأيديهم أطباق من نور، أن هنّئوا محمّداً بمولود، وأخبِرْه يا جبرئيل أنّي قد سمّيتُه الحسين، وهنّئْه، وعزِّه وقل له: يا محمّد، يقتله شرار أُمّتك على شرار الدوابّ، فويلٌ للقاتل، وويلٌ للسائق، وويلٌ للقائد، قاتلُ الحسين أنا منه بريءٌ وهو منّي بريء؛ لأنه لا يأتي يوم القيامة أحدٌ إلّا وقاتل الحسين علیه السلام أعظم جرماً منه، قاتل الحسين يدخل النار يوم القيامة مع الّذين يزعمون أنّ مع الله إلهاً آخَر، والنار أشوق إلى قاتل الحسين ممّن أطاع الله إلى الجنّة».

قال: فبينا جبرئيل علیه السلام يهبط من السماء إلى الأرض إذ مرّ بدردائيل، فقال له دردائيل: يا جبرئيل، ما هذه الليلة في السماء؟ هل قامت القيامة على أهل الدنيا؟ قال: لا، ولكن وُلد لمحمّدٍ مولودٌ في دار الدنيا، وقد بعثني

ص: 131

الله عزوجل إليه لأُهنّئه بمولوده. فقال الملَك: يا جبرئيل، بالّذي خلقك وخلقني، إذا هبطتَ إلى محمّدٍ فأقرأه منّي السلام، وقل له:بحقّ هذا المولود عليك إلّا ما سألتَ ربَّك أن يرضى عنّي، فيردّ علَيّ أجنحتي ومقامي من صفوف الملائكة. فهبط جبرئيل علیه السلام على النبيّ صلی الله علیه وآله، فهنّأه كما أمره الله عزوجل، وعزّاه، فقال له النبيّ صلی الله علیه وآله: «تقتله أُمّتي؟!»، فقال له: نعم يا محمّد. فقال النبيّ صلی الله علیه وآله: «ما هؤلاء بأُمّتي، أنا بريءٌ منهم، واللهُ عزوجل بريءٌ منهم»، قال جبرئيل: وأنا بريءٌ منهم يا محمّد. فدخل النبيّ صلی الله علیه وآله على فاطمة علیه السلام فهنّأَها وعزّاها، فبكت فاطمة علیه السلام وقالت: «يا ليتني لم ألِدْه، قاتل الحسين في النار»، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «وأنا أشهدُ بذلك يا فاطمة، ولكنّه لا يُقتَل حتّى يكون منه إمام، يكون منه الأئمّة الهادية بعده»، ثمّ قال صلی الله علیه وآله: «والأئمّة بعدي: الهادي عليّ، والمهتدي الحسن، والناصر الحسين، والمنصور عليّ بن الحسين، والشافع محمّد بن عليّ، والنفاع جعفر ابن محمّد، والأمين موسى بن جعفر، والرضا عليّ بن موسى، والفعال محمّد بن عليّ، والمؤتمن عليّ بن محمّد، والعلام الحسن بن عليّ، ومَن يصلّي خلفه عيسى ابن مريم علیه السلام القائم علیه السلام »، فسكتَت فاطمه علیه السلام من البكاء.

ثمّ أخبر جبرئيل علیه السلام النبيَّ صلی الله علیه وآله بقصّة الملَك وما أُصيب به. قال ابن عبّاس: فأخذ النبيّ صلی الله علیه وآله الحسينَ علیه السلام وهو ملفوفٌ في خرق من صوف، فأشار به إلى السماء ثمّ قال: «اللّهمّ بحقّ هذا المولود عليك، لا بل بحقّك عليه وعلى جدّه محمّدٍ وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، إن كان للحسين بن عليّ ابن فاطمة عندك قدر فارضَ عن دردائيل، وردَّ عليه أجنحته ومقامه من صفوف

ص: 132

الملائكة». فاستجاب الله دعاءه وغفر للملَك، وردّ عليه أجنحته وردّه إلى صفوف الملائكة، فالملَك لا يُعرَف في الجنّة إلّا بأن يقال: هذا مولى الحسين ابن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله ((1)).

[فطرس]

روى الشيخ الصدوق في (الأمالي)، عن إبراهيم بن شعيب الميثميّ قال: سمعتُ الصادق أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الحسين بن عليّ علیه السلام لمّا وُلد أمر الله عزوجل جبرئيل أن يهبط في ألفٍ من الملائكة فيهنّي رسول الله صلی الله علیه وآله من الله ومن جبرئيل»، قال: «فهبط جبرئيل، فمرّ على جزيرةٍ في البحر فيها ملَكٌ يقال له: فطرس، كان من الحملَة بعثه الله عزوجل في شيءٍ فأبطأَ عليه فكسر جناحه وألقاه في تلك الجزيرة» ((2)).

وفي رواية أبي جعفر الطوسي في (مصباح الأنوار): أنّ الله (تعالى) كان خيّره من عذابه في الدنيا أو في الآخرة، فاختار عذاب الدنيا، وكان معلَّقاً بأشفار عينَيه في جزيرةٍ في البحر لا يمرّ به حيوان، وتحته دخان مُنتِن غير منقطع ((3)).

ص: 133


1- ([1]) كمال الدين للصدوق: 1 / 282 الباب 26 ح 36.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 137 المجلس 28 ح 8، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 243.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 95 بتحقيق السيّد علي أشرف، تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 128.

«فعبَد الله (تبارك وتعالى) فيها سبعمئة عام حتّى وُلد الحسين بن عليّ علیه السلام ، فقال الملَك لجبرئيل: يا جبرئيل، أين تريد؟ قال: إنّ الله عزوجل أنعمَ على محمّدٍ بنعمة، فبُعثتُ أهنّئه من الله ومنّي. فقال: يا جبرئيل، احملْني معك لعلّ محمّداً صلی الله علیه وآله يدعو لي». قال: «فحمله»، قال: «فلمّا دخل جبرئيل على النبيّ صلی الله علیه وآله هنّأَه من الله عزوجل ومنه، وأخبره بحال فطرس، فقال النبيّ صلی الله علیه وآله : قُل له: تمسَّحْ بهذا المولود وعُد إلى مكانك». قال: «فتمسّح فطرس بالحسين بن عليّ علیه السلام وارتفع، فقال: يا رسول الله، أما إنّ أُمّتك ستقتله، وله علَيّ مكافأة أن لا يزوره زائرٌ إلّا أبلغتُه عنه، ولا يسلّمُ عليه مس-لمٌ إلّا أبلغتُ-ه سلام-ه، ولا يصلّ-ي عليه مُص-لٍّ إلّا أبلغتُ-ه صلاته. ثمّ ارتفع» ((1)).

ورُوي أنّه عرج إلى موضعه وهو يقول: مَن مثلي وأنا عتاقة الحسين بن عليّ وفاطمة وجدّه أحمد الحاشر؟ ((2))

وفي كتاب (بصائر الدرجات) مسنداً عن الأزهر البطيخي، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الله عرض ولاية أمير المؤمنين فقبلها الملائكة، وأباها ملَكٌ يُقال لها [له]: فطرس، فكسر الله جناحه، فلمّا وُلد الحسين بن عليّ علیه السلام بعث الله جبرئيل في سبعين ألف ملَكٍ إلى محمّدٍ صلی الله علیه وآله يهنّئهم بولادته، فمرّ بفطرس، فقال له فطرس: يا جبرئيل، إلى أين تذهب؟ قال: بعثني الله محمّداً يهنّئهم بمولودٍ وُلد في هذه الليلة.

ص: 134


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 137 المجلس 28 ح 8، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 243.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 96.

فقال له فطرس: احمِلْني معك، وسَل محمّداً يدعو لي. فقال له جبرئيل: اركب جناحي. فركب جناحه، فأتى محمّداً صلی الله علیه وآله فدخل عليه وهنّأَه، فقال له: يا رسول الله، إنّ فطرس بيني وبينه أُخوّة، وسألني أن أسألك أن تدعو الله له أن يردّ عليه جناحه. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله لفطرس: أتفعل؟ قال: نعم. فعرض عليه رسول الله صلی الله علیه وآله ولاية أمير المؤمنين علیه السلام فقبلها، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله : شأنك بالمهد فتمسَّح به وتمرّغ فيه. قال: فمضى فطرس فمشى إلى مهد الحسين بن عليّ ورسول الله يدعو له». قال: «قال رسول الله: فنظرتُ إلى ريشه وإنّه لَيطلع ويجري منه الدم ويطول حتّى لحق بجناحه الآخر، وعرج مع جبرئيل إلى السماء وصار إلى موضعه» ((1)).

ورُوي أنّ فطرس كان من ملائكة السماء الثالثة على قبيلٍ من سبعين ألف ملَك، فأعاده الله إلى مكانه ببركة الإمام الحسين علیه السلام، فلمّا قُتِل الحسين علیه السلام علم بذلك فطرس، فقال: إلهي، لو أمرتَني ومَن معي أن نقاتل مع الحسين علیه السلام! فجاءه الخطاب: اهبِطْ مع سبعين ألف ملَكٍ الّذين معك، فالزموا قبره، وابكوا عنده كلّ صباحٍ ومساء، واهدوا ثواب بكائكم لمَن يبكي على مصيبته. فهبط فطرس ومَن معه إلى أرض كربلاء، وهم مشغولون بما أُمِروا به إلى يوم القيامة ((2)).

ص: 135


1- ([1]) بصائر الدرجات للصفّار: 68 الباب 6 ح 7.
2- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 193.

[ما مِن ملَكٍ إلّا ونزل يعزّي النبيّ صلی الله علیه وآله ]

في (كامل الزيارات)، عن عبد الرحمان الغَنَويّ، [عن سليمان] قال: وهل بقيَ في السماوات ملَكٌ لم ينزل إلى رسول الله صلی الله علیه وآله يعزّيه بوَلده الحسين علیه السلام، ويُخبره بثواب الله إيّاه، ويحمل إليه تربته مصروعاً عليها مذبوحاً مقتولاً جريحاً طريحاً مخذولاً؟ فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «اللّهمّ اخذُل مَن خذله، واقتل من قتله، واذبح من ذبحه، ولا تمتّعه بما طلب».

قال عبد الرحمان: فوَالله لقد عوجل الملعون يزيد، ولم يتمتّع -- بعد قتله -- بما طلب. قال عبد الرحمان: ولقد أُخِذ مغافصة، بات سكران وأصبح ميّتاً متغيّراً كأنّه مطليٌّ بقار، أُخِذ على أسف، وما بقي أحدٌ ممّن تابعه على قتله أو كان في محاربته إلّا أصابه جنونٌ أو جذام أو برص، وصار ذلك وراثةً في نسلهم ((1)).

[ملَكٌ من ملائكة الصفيح الأعلى]

رُوي في (عوالم العلوم) أنّ ملَكاً من ملائكة الصفيح الأعلى اشتاق لرؤية النبيّ صلی الله علیه وآله ، واستأذن ربَّه بالنزول إلى الأرض لزيارته، وكان ذلك الملَك لم ينزل إلى الأرض أبداً منذ خُلقَت، فلمّا أراد النزول أوحى الله (تعالى) إليه يقول: «أيّها الملَك، أخبِرْ رسول الله أنّ رجلاً من أُمّته اسمه يزيد يقتل فرخه الطاهر

ص: 136


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 61 الباب 17 ح 6.

ابن الطاهرة نظيرة البتول مريم بنت عمران»، فقال الملَك: لقد نزلتُ إلى الأرض وأنا مسرورٌ برؤية نبيِّك محمّد صلی اللهعلیه وآله ، فكيف أُخبره بهذا الخبر الفظيع؟ وإنّني لَأستحيي منه أن أفجعه بقتل ولده، فليتني لم أنزلْ إلى الأرض. قال: فنُوديَ الملَك من فوق رأسه أن افعَلْ ما أُمرتَ به.

فدخل الملَك إلى رسول الله صلی الله علیه وآله ونشر أجنحته بين يديه، وقال: يا رسول الله، اعلمْ أنّي قد استأذنتُ ربّي في النزول إلى الأرض شوقاً لرؤيتك وزيارتك، فليتَ ربّي كان حطّم أجنحتي ولم آتكَ بهذا الخبر، ولكن لابدّ مِن انفاذ أمر ربّي عزوجل: اعلمْ يا محمّد أنّ رجلاً من أُمّتك اسمه يزيد، زاده الله لعناً في الدنيا وعذاباً في الآخرة، يقتل فرخك الطاهر ابن الطاهرة، ولن يتمتّع قاتلُه في الدنيا من بعده إلّا قليلاً، ويأخذه الله مقاصاً له على سوء عمله، ويكون مخلَّداً في النار.

فبكى النبيّ صلی الله علیه وآله بكاءً شديداً، وقال: «أيّها الملَك، هل تفلح أُمّةٌ بقتل وَلدي وفرخ ابنتي؟»، فقال: لا يا محمّد، بل يرميهم الله باختلاف قلوبهم وألسنتهم في دار الدنيا، ولهم في الآخرة عذابٌ أليم ((1)).

[ملَكٌ من ملائكة الفردوس الأعلى]

في (المنتخب): روى شرحبيل بن أبي عون أنّه قال: لمّا وُلد

ص: 137


1- ([1]) عوالم العلوم للبحراني: 17 / 599.

الحسين علیه السلام، هبط ملَكٌ من ملائكة الفردوس الأعلى ونزل إلى البحر الأعظم، ونادى في أقطار السماوات والأرض: يا عباد الله، البسوا ثوب الأحزان، واظهِروا التفجّع والأشجان؛ فإنّ فرخ محمّدٍ مذبوحٌ مظلومٌ مقهور.ثمّ جاء ذلك الملَك إلى النبيّ صلی الله علیه وآله وقال: يا حبيب الله، يُقتَل على هذه الأرض قومٌ من أهل بيتك، تقتلهم فرقةٌ باغيةٌ من أُمّتك، ظالمة معتدية فاسقة، يقتلون فرخك الحسين ابن ابنتك الطاهرة، يقتلوه بأرض كربلاء، وهذه تربته. ثمّ ناوله قبضةً من أرض كربلاء، وقال له: يا محمّد، احفَظْ هذه التربةَ عندك حتّى تراها وقد تغيّرت واحمرّت وصارت كالدم، فاعلم أنّ ولدك الحسين قد قُتِل.

ثمّ إنّ ذلك الملَك حمَل من تربة الحسين علیه السلام على بعض أجنحته وصعد إلى السماء بها، فلم يبقَ ملَكٌ في السماء إلّا وشمّ تربة الحسين علیه السلام وتبرّك بها.

قال: ولمّا أخذ النبيّ صلی الله علیه وآله تربة الحسين علیه السلام، جعل يشمّها ويبكي وهو يقول: «قتل الله قاتلك يا حسين،وأصلاه في نار الجحيم..». ثمّ دفع تلك التربة من تربة الحسين إلى زوجته أُمّ سلمة ... ((1)).

وروى ابن قولويه أنّ الملك الّذي جاء إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وأخبره بقتل الحسين بن عليّ علیه السلام كان ملَك البحار، وذلك أنّ ملَكاً من ملائكة الفردوس

ص: 138


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 62 المجلس 4.

نزل على البحر فنشر أجنحته عليها، ثمّ صاح صيحةً وقال: يا أهل البحار، البسوا أثواب الحزن؛ فإنّ فرخَ رسول الله صلی الله علیه وآله مذبوح. ثمّ حمَل من تربته في أجنحته إلى السماوات، فلم يبقَ ملَكٌ فيها إلّا شمّها وصار عنده لها أثر، ولعنَ قتلته وأشياعهم وأتباعهم ((1)).

[ملَك المطر]

في (أمالي الطوسي)، عن أنس بن مالك أنّ ملَك المطر استأذن أن يأتي رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال النبيّ صلی الله علیه وآله لأُمّ سلَمة: «املِكي علينا الباب؛ لا يدخل علينا أحد!». فجاء الحسين علیه السلام ليدخل فمنعَته، فوثب حتّى دخل، فجعل يثب على منكبَي رسول الله صلی الله علیه وآله ويقعد عليهما، فقال له الملك: أتحبّه؟ قال: صلی الله علیه وآله «نعم». قال: فإنّ أُمّتك ستقتله، فإن شئتَ أريتُك المكانَ الّذي يُقتَل به. فمدّ يده فإذا طينة حمراء، فأخذَتها أُمّ سلَمة فصيّرتها إلى طرف خمارها ((2)).

[جبرائيل]

روى الشيخ الطوسيّ في (الأمالي)، عن أبي بصير، عن أبي عبد

ص: 139


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 67 الباب 21 ح 2.
2- ([1]) الأمالي للطوسي: 329 المجلس 11 ح 105.

الله علیه السلام، قال: سمعتُه يقول: «بينا الحسين عند رسول الله صلی الله علیه وآله إذ أتاه جبرئيل علیه السلام، فقال: يا محمّد، أتحبّه؟ قال: نعم. قال: أما إنّ أُمّتَك ستقتلُه. فحزن رسول الله صلی الله علیه وآله لذلك حزناً شديداً، فقال جبرئيل علیه السلام: أيسرّك أن أُريكَ التربة الّتي يُقتَل فيها؟ قال: نعم». قال: «فخسف جبرئيل علیه السلام ما بين مجلس رسول الله صلی الله علیه وآله إلى كربلاء حتّى التقت القطعتان هكذا -- وجمع بين السبّابتين --، فتناول بجناحَيه من التربة فناولها لرسول الله، صلی الله علیه وآله ثمّ دحاالأرض مِن طرف العين، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله : طوبى لكِ مِن تربة، وطوبى لمَن يُقتَل فيك» ((1)).

[ميكائيل]

روى الشيخ الطوسيّ في (الأمالي) أيضاً، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس بن مالك أنّ عظيماً من عظماء الملائكة استأذن ربَّه عزوجل في زيارة النبيّ صلی الله علیه وآله ، فأذن له، فبينما هو عنده إذ دخل عليه الحسين علیه السلام، فقبّله النبيّ صلی الله علیه وآله وأجلسَه في حِجره، فقال له الملَك: أتحبّه؟ قال: «أجل، أشدَّ الحبّ، إنّه ابني». قال له: إنّ أُمّتك ستقتله، قال: «أُمّتي تقتل ابني هذا؟!»، قال: نعم، وإن شئتَ أريتُك من التربة الّتي يُقتَل عليها، قال: «نعم». فأراه تربةً حمراء طيّبة الريح، فقال: إذا صارت هذه التربة دماً عبيطاً فهو علامة قتل ابنك هذا.

ص: 140


1- ([1]) الأمالي للطوسي: 314 المجلس 11 ح 85.

قال سالم بن أبي الجعد: أُخبرتُ أنّ الملَك كان ميكائيل علیه السلام((1)).

[جبرئيل علیه السلام]

في (المنتخب)، عن الصحابة الأخيار، قال: رأيتُ النبي صلی الله علیه وآله يمصّ لعاب الحسين كما يمصّ الرجل السكّرة، وهو يقول: «حُسين منّي وأنا من حُسين، أحبَّ الله مَن أحبّ حسيناً، وأبغض الله مَن أبغض حسيناً، حسين سبطٌ من الأسباط، لعنالله قاتله». فنزل جبرائيل وقال: يا محمّد، إنّ الله قتل بيحيى ابن زكريّا سبعين ألفاً من المنافقين، وسيقتل بابن ابنتك الحسين سبعين ألفاً من الكافرين وسبعين ألفاً من المُعتدين ((2)).

وفي (أمالي الطوسي)، عن زينب بنت جحش قالت: كان رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يومٍ عندي نائماً، فجاء الحسين علیه السلام، فجعلت أُعلّله مخافة أن يوقظ النبيّ صلی الله علیه وآله ، فغفلتُ عنه فدخل، واتبعتُه فوجدتُه وقد قعد على بطن النبيّ صلی الله علیه وآله ، فوضع زبيبته في سُرّة رسول الله صلی الله علیه وآله فجعل يبول عليه، فأردتُ

ص: 141


1- ([2]) الأمالي للطوسي: 214 المجلس 11 ح 86.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 54 المجلس 3. وتتمّة الخبر في المصدر: وإنّ قاتل الحسين في تابوتٍ من نار , ويكون عليه نصفُ عذاب أهل الدنيا, وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار, وهو منكَّس على أُمّ رأسه في قعر جهنّم, وله ريحٌ يتعوّذ أهل النار من شدّة نتنها, وهو فيها خالدٌ ذائق العذاب الأليم، لا يفتر عنه, ويُسقى من حميم جهنّم.

أن آخذه عنه، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله : «دَعي ابني -- يا زينب -- حتّى يفرغ من بوله»، فلمّا فرغ توضّأ النبيّ صلی الله علیه وآله وقام يصلّي، فلمّا سجد ارتحله الحسين علیه السلام، فلبث النبيّ صلی الله علیه وآله بحاله حتّى نزل، فلمّا قام عاد الحسين علیه السلام، فحمله حتّى فرغ من صلاته، فبسط النبيّ صلی الله علیه وآله يده وجعل يقول: «أرِني، أرني يا جبرئيل».

فقلت: يا رسول الله، لقد رأيتُك اليوم صنعتَ شيئاً ما رأيتُك صنعتَه قط! قال: «نعم، جاءني علیه السلام فعزّاني في ابني الحسين، وأخبرني أنّ أُمّتي تقتله، وأتاني بتربةٍ حمراء» ((1)).وفي كتاب (المنتخب)، عن أُمّ سلَمة زوجة النبيّ صلی الله علیه وآله قالت: دخل علَيّ رسول الله ذات يوم، ودخل في أثره الحسن والحسين علیهما السلام وجلسا إلى جانبَيه، فأخذ الحسن على ركبته اليُمنى والحسين على ركبته اليسرى، وجعل يُقبّل هذا تارةً وهذا أُخرى، وإذا بجبرائيل قد نزل وقال: يا رسول الله، إنّك لَتحبّ الحسن والحسين. فقال: «وكيف لا أُحبّهما، وهما ريحانتايَ من الدنيا وقُرّتا عيني؟». فقال جبرائيل: يا نبيّ الله، إنّ اللهَ قد حكم عليهما بأمرٍ فاصبِرْ له. فقال: «وما هو يا أخي؟». فقال: قد حكم على هذا الحسن أن يموت مسموماً، وعلى هذا الحسين أن يموت مذبوحاً، وإنّ لكلّ نبيّ دعوة مستجابة، فإن شئتَ كانت دعوتك لولديك الحسن والحسين، فادعُ الله

ص: 142


1- ([2]) الأمالي للطوسي: 316 المجلس 1 ح 88.

أن يسلّمهما من السمّ والقتل، وإن شئتَ كانت مصيبتهما ذخيرةً في شفاعتك للعصاة من أُمّتك يوم القيامة. فقال النبيّ صلی الله علیه وآله: «يا أخي جبرائيل، أنا راضٍ بحكم ربّي، لا أُريد إلّا ما يُريده، وقد أحببتُ أن تكون دعوتي ذخيرةً لشفاعتي في العُصاة من أُمّتي، ويقضي الله في وَلدَيّ ما يشاء» ((1)).

وفي (كامل الزيارات)، عن الصادق علیه السلام: «لمّا أن هبط جبرئيل علیه السلام على رسول الله صلی الله علیه وآله بقتل الحسين علیه السلام، أخذ بيد عليّ فخلا به مليّاً من النهار، فغلبَتهما العَبرة، فلم يتفرّقا حتّى هبط عليهما جبرئيل علیه السلام -- أو قال: رسول ربّ العالمين -- فقال لهما: ربُّكما يُقرؤكما السلام ويقول: عزمتُ عليكما لما صبرتما». قال:«فصبرا» ((2)).

وروى ابن قولويه، عن ابن عبّاسٍ قال: الملَك الّذي جاء إلى محمّدٍ صلی الله علیه وآله يُخبره بقتل الحسين علیه السلام كان جبرئيل علیه السلام الروح الأمين، منشورَ الأجنحة باكياً صارخاً، قد حمل من تربة الحسين علیه السلام وهي تفوح كالمسك، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «وتُفلح أُمّتي تقتل فرخي -- أو قال: فرخ ابنتي --؟!»، فقال جبرئيل: يضربها الله بالاختلاف، فتختلف قلوبهم ((3)).

ص: 143


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 83 المجلس 5.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 55 الباب 16 ح 1.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 61 الباب 17 ح 7.

[الإخبار بشهادته علیه السلام]

وفي (كفاية الأثر)، عن ابن عبّاسٍ قال: دخلتُ على النبيّ صلی الله علیه وآله ، والحسن على عاتقه والحسين على فخذه يلثمهما ويقبّلهما ويقول: «اللّهمّ والِ مَن والاهما، وعادِ مَن عاداهما». ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، كأنّي به وقد خضبت شيبته مِن دمه، يدعو فلا يُجاب ويُستنصَر فلا يُنصَر». قلت: مَن يفعل ذلك يا رسول الله؟! قال: «شِرار أُمّتي، ما لهم؟ لا أنالهم الله شفاعتي» ((1)).

وفي كتاب (مثير الأحزان)، عن ابن عبّاس أنّه قال: لمّا اشتدّ برسول الله صلی الله علیه وآله مرضه الّذي مات فيه، وقد ضمّ الحسين علیه السلام إلى صدره، يسيل من عرقه عليه وهو يجود بنفسه ويقول: «ما لي وليزيد؟ لا بارك الله فيه! اللّهمّ العنيزيد». ثمّ غُشي عليه طويلاً وأفاق، وجعل يقبّل الحسين وعيناه تذرفان ويقول: «أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدَي الله عزوجل» ((2)).

وروى ابن قولويه، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «بينما رسول الله صلی الله علیه وآله في منزل فاطمة والحسين في حِجره، إذ بكى وخرّ ساجداً، ثمّ قال: يا فاطمة يا بنت محمّد، إنّ العليّ الأعلى تراءى لي في بيتكِ هذا في ساعتي هذه في أحسن صورة وأهيإ هيئة، فقال لي: يا محمّد، أتحبّ الحسين؟ قلت: يا ربّ، قرّة عيني وريحانتي وثمرة فؤادي وجلدة ما بين عينَيّ. فقال لي: يا محمّد -- ووضع يده على رأس

ص: 144


1- ([3]) كفاية الأثر للخزّاز: 16.
2- ([1]) مثير الأحزان لابن نما: 22.

الحسين علیه السلام --، بورك مِن مولودٍ عليه بركاتي وصلواتي ورحمتي ورضواني، ونقمتي ولعنتي وسخطي وعذابي وخزيي ونكالي على مَن قتله وناصبه وناواه ونازعه، أما إنّه سيّد الشهداء مِن الأوّلين والآخِرين في الدنيا والآخرة، وسيّد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين، وأبوه أفضل منه وخير، فاقرأْه السلام وبشِّرْه بأنّه راية الهدى ومنار أوليائي وحفيظي وشهيدي على خلقي وخازن علمي وحجّتي على أهل السماوات وأهل الأرضين والثقلين الجنّ والإنس» ((1)).

وفي (أمالي الصدوق)، عن ابن عبّاسٍ قال: إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن علیه السلام، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: «إليّ إليّ يا بُني»، فما زال يُدنيه حتّىأجلسه على فخذه اليمنى، ثمّ أقبل الحسين علیه السلام، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: «إليّ إليّ يا بُني»، فما زال يُدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليسرى، ثمّ أقبلَت فاطمة علیها السلام، فلمّا رآها بكى، ثمّ قال: «إليّ إليّ يا بُنيّة»، فأجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين علیه السلام، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال: «إليّ إليّ يا أخي»، فما زال يُدنيه حتّى أجلسه إلى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى واحداً مِن هؤلاء إلّا بكيت! أوَ ما فيهم مَن تُسرّ برؤيته؟ فقال صلی الله علیه وآله: «والّذي بعثني بالنبوّة واصطفاني على جميع البريّة، إنّي وإيّاهم لَأكرم الخلق على الله عزوجل، وما على وجه الأرض نسَمة أحبّ إليّ منهم، أمّا عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فإنّه أخي وشقيقي، وصاحب الأمر

ص: 145


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 70 الباب 22 ح 6.

بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كلّ مسلم وإمام كلّ مؤمن وقائد كلّ تقيّ، وهو وصيّي وخليفتي على أهلي وأُمّتي في حياتي وبعد موتي، محبّه محبّي ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أُمّتي مرحومة، وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة، وإنّي بكيتُ حين أقبل لأنّي ذكرتُ غدر الأُمة به بعدي، حتّى إنّه لَيُزال عن مقعدي وقد جعله الله له بعدي، ثمّ لا يزال الأمر به حتّى يُضرَب على قرنه ضربةً تُخضب منها لحيته في أفضل الشهور، شهر رمضان الّذي أُنزِل فيه القرآن هدىً للناس وبيّناتٍ مِن الهدى والفرقان. وأمّا ابنتي فاطمة، فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعةٌ منّي، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي الّتي بين جنبَيّ، وهي الحوراء الإنسيّة، متى قامت في محرابها بينيدَي ربّها (جلّ جلاله) ظهر نورها لملائكة السماء كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزوجل لملائكته: يا ملائكتي، انظُروا إلى أَمَتي فاطمة سيّدة إمائي قائمةً بين يدَيّ، ترتعد فرائصها مِن خيفتي، وقد أقبلَت بقلبها على عبادتي، أُشهدُكم أنّي قد آمنتُ شيعتَها من النار. وإنّي لمّا رأيتُها ذكرتُ ما يُصنَع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذلّ بيتها، وانتهكت حرمتها، وغُصبَت حقّها، ومُنعَت إرثها، وكُسِر جنبها [و كُسرت جنبتها]، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمّداه، فلا تُجاب، وتستغيث فلا تُغاث، فلا تزال بعدي محزونةً مكروبةً باكية، تتذكّر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة، وتتذكر فراقي أُخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل لِفقد صوتي الّذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدتُ بالقرآن، ثمّ ترى نفسها ذليلةً بعد أن كانت في أيّام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله (تعالى ذكره) بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريمَ بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إنّ الله اصطفاكِ وطهّركِ

ص: 146

واصطفاكِ على نساء العالمين، يا فاطمةُ اقنُتي لربّكِ واسجُدي واركعي مع الراكعين. ثمّ يبتدئ بها الوجع فتمرض، فيبعث الله عزوجل إليها مريم بنت عمران تمرّضها وتؤنسها في علّتها، فتقول عند ذلك: يا ربّ، إنّي قد سئمتُ الحياة وتبرمتُ بأهل الدنيا، فألحِقْني بأبي. فيُلحقها اللهُ عزوجل بي، فتكون أوّلَ مَن يلحقني من أهل بيتي، فتقدم علَيّ محزونةً مكروبةً مغمومةً مغصوبةً مقتولة، فأقولُ عند ذلك: اللّهمّ العَنْ مَن ظلمها، وعاقِبْ مَن غصبها، وذلّل مَن أذلّها، وخلِّدْ في نارك مَن ضرب جنبها حتّى ألقت ولدها. فتقول الملائكة عند ذلك: آمين. وأمّا الحسن، فإنّه ابني ووَلدي، وبضعةٌ منّي، وقُرّةعيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وحُجّة الله على الأُمة، أمره أمري وقوله قولي، مَن تبعه فإنّه منّي ومَن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا نظرتُ إليه تذكّرتُ ما يجري عليه من الذلّ بعدي، فلا يزال الأمر به حتّى يُقتَل بالسمّ ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبعُ الشداد لموته، ويبكيه كلُّ شيء، حتّى الطير في جوّ السماء والحيتان في جَوف الماء، فمَن بكاه لم تعمَ عينُه يوم تعمى العيون، ومن حزن عليه لم يحزن قلبُه يوم تحزن القلوب، ومَن زاره في بقيعه ثبتت قدمه على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام. وأمّا الحسين، فإنّه منّي، وهو ابني ووَلدي، وخيرُ الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين ومولى المؤمنين، وخليفة ربّ العالمين، وغياث المستغيثين وكهف المستجيرين، وحُجّة الله على خلقه أجمعين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وباب نجاة الأُمة، أمره أمري وطاعته طاعتي، مَن تبعه فإنّه منّي، ومَن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا رأيتُه تذكرتُ ما يُصنَع به بعدي، كأنّي به وقد استجار بحرمي وقربي فلا يُجار، فأضمّه في منامه إلى صدري، وآمره بالرحلة عن دار هجرتي، وأُبشّره بالشهادة، فيرتحل عنها إلى أرض

ص: 147

مقتله وموضع مصرعه، أرضِ كربٍ وبلاء وقتلٍ وفناء، تنصره عصابةٌ من المسلمين، أُولئك مِن سادة شهداء أُمّتي يوم القيامة، كأنّي أنظر إليه وقد رُميَ بسهمٍ فخرّ عن فرسه صريعاً، ثمّ يُذبَح كما يُذبَح الكبش مظلوماً».

ثمّ بكى رسول الله صلی الله علیه وآله ، وبكى مَن حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثمّ قال صلی الله علیه وآله -- وهو يقول -- : «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهلُ بيتي بعدي». ثمّدخل منزله ((1)).

وروى ابن بابويه أيضاً، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: «بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله صلی الله علیه وآله ، إذ التفت إلينا فبكى، فقلت: ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال: أبكي ممّا يُصنَع بكم بعدي. فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أبكي مِن ضربتك على القرن، ولطم فاطمة خدّها، وطعنة الحسن في الفخذ والسمّ الّذي يُسقى، وقتل الحسين». قال: «فبكى أهل البيت جميعاً، فقلت: يا رسول الله، ما خلقَنا ربُّنا إلّا للبلاء. قال: أبشِرْ يا عليّ، فإنّ الله عزوجل قد عهد إليّ أنّه لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» ((2)).

وروى ابن قولويه، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «لمّا أُسريَ بالنبيّ صلی الله علیه وآله إلى السماء، قيل له: إنّ الله (تبارك وتعالى) يختبرك في ثلاث لينظر كيف صبرك. قال: أُسلّم لأمرك يا ربّ، ولا قوّة لي على الصبر إلّا بك، فما هنّ؟ قيل له: أوّلهنّ الجوع والأثرة على نفسك وعلى أهلك لأهل الحاجة. قال: قبلتُ يا ربّ ورضيتُ

ص: 148


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 112 المجلس 24 ح 2.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 134 المجلس 28 ح 2.

وسلّمت، ومنك التوفيق والصبر. وأمّا الثانية فالتكذيب والخوف الشديد، وبذلك مهجتك في محاربة أهل الكفر بمالك ونفسك، والصبر على ما يُصيبك منهم من الأذى ومن أهل النفاق، والألم في الحرب والجراح. قال: قبلتُ يا ربّ ورضيتُ وسلّمت، ومنك التوفيق والصبر. وأمّا الثالثة فما يلقى أهلبيتك من بعدك من القتل، أمّا أخوك عليّ فيلقى من أُمّتك الشتم والتعنيف والتوبيخ والحرمان والجحد [والجهد] والظلم، وآخر ذلك القتل. فقال: يا ربّ قبلتُ ورضيت، ومنك التوفيق والصبر. وأمّا ابنتك فتُظلَم وتُحرَم ويُؤخَذ حقّها غصباً الّذي تجعله لها، وتُضرَب وهي حامل، ويُدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن، ثمّ يمسّها هوان وذلّ، ثمّ لا تجد مانعاً، وتطرح ما في بطنها من الضرب، وتموت من ذلك الضرب. قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قبلتُ يا ربّ وسلّمت، ومنك التوفيق والصبر [للصبر]. ويكون لها مِن أخيك ابنان، يُقتَل أحدهما غدراً، ويُسلَب ويُطعَن، تفعل به ذلك أُمّتك. قلت: يا ربّ قبلتُ وسلّمت، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ومنك التوفيق للصبر. وأمّا ابنها الآخَر فتدعوه أُمّتك للجهاد، ثمّ يقتلونه صبراً، ويقتلون وُلده ومَن معه من أهل بيته، ثمّ يسلبون حرمه، فيستعين بي وقد مضى القضاء منّي فيه بالشهادة له ولمَن معه، ويكون قتله حُجّةً على مَن بين قطريها، فيبكيه أهلُ السماوات وأهل الأرضين جزعاً عليه، وتبكيه ملائكةٌ لم يُدرِكوا نصرته، ثمّ أُخرِج مِن صلبه ذكراً، به أنصرك، وإنّ شبحه عندي تحت العرش -- وفي نُسخةٍ أُخرى: ثمّ أُخرج من صلبه ذكراً، أنتصر له به، وإنّ شبحه عندي تحت العرش --، يملأ الأرض بالعدل ويطبقها بالقسط، يسير معه الرعب، يقتل حتّى يُشكّ فيه. قلت: إنّا لله. فقيل: ارفع رأسك. فنظرتُ إلى رجلٍ أحسن الناس صورةً وأطيبهم ريحاً، والنور يسطع من بين عينيه

ص: 149

ومن فوقه ومن تحته، فدعوتُه فأقبل إليّ، وعليه ثياب النور وسيماء كلّ خير، حتّى قبّل بين عينَيّ، ونظرتُ إلىالملائكة قد حفّوا به، لا يحصيهم إلّا الله عزوجل، فقلت: يا ربّ، لمن يغضب هذا؟ ولمن أعددتَ هؤلاء؟ وقد وعدتَني النصر فيهم، فأنا أنتظره منك، وهؤلاء أهلي وأهل بيتي، وقد أخبرتَني ممّا يلقون من بعدي، ولئن [ولو] شئتَ لأعطيتني النصر فيهم على مَن بغى عليهم، وقد سلّمتُ وقبلتُ ورضيت، ومنك التوفيق والرضا والعون على الصبر. فقيل لي: أمّا أخوك، فجزاؤه عندي جنّة المأوى نزلاً بصبره، أُفلح [أُفلج] حجّته على الخلائق يوم البعث، وأُوليه حوضك يسقي منه أولياءَكم ويمنع منه أعداءكم، وأجعل عليه جهنّم برداً وسلاماً، يُدخِلها ويُخرِج مَن كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من المودّة، وأجعل منزلتكم في درجةٍ واحدةٍ في الجنّة. وأمّا ابنك المخذول المقتول وابنك المغدور المقتول صبراً، فإنّهما ممّا أُزيّن بهما عرشي، ولهما من الكرامة سوى ذلك ممّا لا يخطر على قلب بشر لما أصابهما من البلاء، فعلَيّ فتوكّل، ولكلّ مَن أتى قبره من الخلق من الكرامة، لأنّ زوّاره زوّارك، وزوّارك زوّاري، وعلَيّ كرامة زوّاري [زائري]، وأنا أُعطيه ما سأل، وأجزيه جزاءً يغبطه مَن نظر إلى عظمتي إيّاه وما أعددتُ له من كرامتي. وأمّا ابنتك، فإنّي أُوقفها عند عرشي، فيقال لها: إنّ الله قد حكّمكِ في خلقه، فمن ظلمكِ وظلم وُلدكِ فاحكمي فيه بما أحببت، فإنّي أُجيز حكومتكِ فيهم. فتشهد العرصة، فإذا وقف مَن ظلمها أمرت به إلى النار، فيقول الظالم: وا حسرتاه على ما فرّطتُ في جنب الله، ويتمنّى الكرّة، ويعضّ الظالم على يديه ويقول: يا ليتني اتّخذتُ مع الرسول سبيلاً، يا ويلتى، ليتني لم أتّخِذْ فلاناً خليلاً. وقال: حتّى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين، فبئس القرين. ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتُم أنّكم في العذاب مشتركون. فيقول الظالم: أنت تحكم

ص: 150

بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون، أو الحكم لغيرك؟ فيقال لهم: ألا لعنة الله على الظالمين، الّذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، وهم بالآخرة هم كافرون. وأوّل مَن يحكم فيهم محسن بن علي علیه السلام وفي قاتله، ثمّ في قنفذ، فيؤتيان هو وصاحبه، فيُضربان بسياط من نار، لو وقع سوطٌ منها على البحار لغلت من مشرقها إلى مغربها، ولو وُضعت على جبال الدنيا لذابت حتّى تصير رماداً، فيُضرَبان بها، ثمّ يجثو أمير المؤمنين علیه السلام بين يدَي الله للخصومة مع الرابع، فيدخل الثلاثة في جُبّ فيُطبَق عليهم، لا يراهم أحدٌ ولا يرون أحداً، فيقول الّذين كانوا في ولايتهم: ربّنا أرنا الّذين أضلّانا من الجنّ والإنس، نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين. قال الله عزوجل: ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتُم أنّكم في العذاب مشتركون. فعند ذلك ينادون بالويل والثبور، ويأتيان الحوض فيسألان عن أمير المؤمنين علیه السلام، ومعهم حفظة، فيقولان: اعفُ عنّا، واسقِنا وتخلّصنا [خلّصنا]. فيقال لهم: فلمّا رأوه زلفةً سيئت وجوه الذين كفروا، وقيل: هذا الذي كنتم به تدّعون بإمرة المؤمنين، ارجعوا ظماءً مظمئين إلى النار، فما شرابكم إلّا الحميم والغِسلين، وما تنفعكم شفاعة الشافعين» ((1)).

وروى ابن قولويه، عن أبي عبد الله الجدليّ قال: دخلتُ على أمير المؤمنين، والحسين علیه السلام إلى جنبه، فضرب بيده على كتف الحسين علیه السلام، ثمّ قال: «إنّ هذا يُقتَل، ولا ينصرهأحد». قال: قلت: يا أمير المؤمنين، واللهِ إنّ تلك

ص: 151


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 332 الباب 108 ح 12.

لحياة سوء ((1)). قال: «إنّ ذلك لَكائن» ((2)).

وعن هانئ بن هانئ، عن عليّ علیه السلام قال: «لَيقتل الحسين قتلاً، وإنّي لَأعرف تربة الأرض الّتي يُقتَل عليها قريباً من النهرين» ((3)).

وعن أبي عبد الله الصادق علیه السلام قال: «قال عليٌّ علیه السلام للحسين علیه السلام : يا أبا عبد الله، أُسوةٌ أنت قدماً. فقال: جُعلتُ فداك، ما حالي؟ قال: علمتَ ما جهلوا، وسينتفع عالمٌ بما علم، يا بُنيّ اسمع وأبصِر من قبل أن يأتيك، فوَالّذي نفسي بيده لَيسفكنّ بنو أُميّة دمَك، ثمّ لا يزيلونك عن دينك ولا يُنسونك ذكر ربّك. فقال الحسين: والّذي نفسي بيده، حسبي، أقررتُ بما أنزل الله، وأُصدّق قول نبيّ الله، ولا أُكذّب قول أبي» ((4)).

وفي كتاب (كامل الزيارات)، عن الحارث الأعور قال: قال عليٌّ علیه السلام: «بأبي وأُمّيَ الحسين المقتول بظهر الكوفة، واللهِ كأنّي أنظر إلى الوحوش مادّةً أعناقها على قبره من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلاً حتّى الصباح، فإذا كان ذلك فإيّاكم والجفاء» ((5)). يعني: لا تتركوا زيارته.

ص: 152


1- ([1]) ترجمها المؤلّف: إنّ الحياة تلك الأيام لَحياة سوء.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 71 الباب 23 ح 1.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 71 الباب 23 ح 3.
4- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 71 الباب 23 ح 2.
5- ([5]) كامل الزيارات: 79 الباب 26 ح 2.

وروى الشيخ المفيد، عن إسماعيل بن زياد ((1)) قال: إنّ عليّاً علیه السلام قال للبراء بن عازب يوماً: «يا براء، يُقتَل ابني الحسين علیه السلام وأنت حيٌّ لا تنصره». فلمّا قُتِل الحسين بن عليّ علیه السلام كان البراء بن عازب يقول: صدق واللهِ عليّ ابن أبي طالب؛ قُتِل الحسين ولم أنصره. ثمّ يُظهِر الحسرة على ذلك والندم ((2)).

وفي تفسير (فرات بن إبراهيم)،عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «كان الحسين علیه السلام مع أُمّه تحمله، فأخذه النبيّ صلی الله علیه وآله وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك، وأهلك اللهُ المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين مَن أعان عليك. قالت فاطمة [الزهراء علیه السلام]: يا أبتِ أيّ شيءٍ تقول؟! قال: يا بنتاه، ذكرتُ [ذكرته] ما يصيب بعدي وبعدكِ من الأذى والظلم [و الغدر] والبغي، وهو يومئذٍ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادَون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم. قالت: يا أبت، وأنّى [وأيّ -- وأين] هذا الموضع الّذي تصف؟ قال: موضعٌ يُقال له: كربلاء، وهي دار كربٍ وبلاءٍ علينا وعلى الأُمّة، يخرج [عليهم] شرار أُمّتي، وإنّ أحدهم لو [ولو أنّ أحدهم -- لو أن] يشفع [شفع] له مَن في السماوات والأرضين ما شُفّعوا فيه، وهم المخلَّدون في النار. قالت: يا أبه، فيُقتَل؟! قال: نعم يا بنتاه، وما قُتِل قتلته أحدٌ كان قبله، وتبكيه السماوات والأرضون والملائكة [والوحش] والنباتات والبحار والجبال، ولو يُؤذَن لها [ما بقي] على الأرض متنفَّس،

ص: 153


1- ([1]) في المتن: (عن البراء بن عازب).
2- ([2]) الإرشاد للمفيد: 1 / 331.

ويأتيه قومٌ من محبّينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقّنا [لحقّنا] منهم، وليس على ظهر الأرض أحدٌ يلتفت إليه غيرهم، أُولئك مصابيح في ظلمات الجور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً، أعرفهم إذا وردوا علَيّ بسيماهم، وكلّ أهل دِينٍ [يطلبون أئمّتهم وهم] يطلبونا [و] لا يطلبون غيرنا، وهم قوام الأرض، وبهم ينزل الغيث. فقالت فاطمة [الزهراء] علیها السلام: يا أبت، إنّا لله. وبكت، فقال لها: يا بنتاه، إنّ أهل الجِنان هم الشهداء في الدنيا، بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة، يقاتِلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتَلون، وعداً عليه حقّاً [الحقّ]، فما عند الله خيرٌ من الدنيا وما فيها، [و ما فيها] قتلة أهون من ميتته مَن كتب عليه القتل، خرج إلى مضجعه، ومَن لم يُقتَل فسوف يموت، يا فاطمة بنت محمّد، أما تحبين أن تأمرين غداً [بأمرٍ] فتُطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون ابنُك من حملة العرش؟ أما ترضين [أن يكون] أبوك يأتونه [يأتيه] يسألونه الشفاعة؟ أما ترضين أن يكون بعلُك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض، فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟ أما ترضين أن يكون بعلُك قسيمَ [الجنة و] النار، يأمر النار فتطيعه، يُخرِج منها مَن يشاء ويترك من يشاء؟ أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء، ينظرون إليكِ وإلى ما تأمرين به، وينظرون إلى بعلكِ [و] قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله؟ فما ترين الله صانع بقاتل وَلدك وقاتليك إذا أفلحتِ [فلجت] حجته على الخلائق وأمرت النار أن تطيعه؟ أما ترضين أن تكون الملائكة تبكي لابنك ويأسف عليه كلّ شيء؟ أما ترضين أن يكون من أتاه زائراً في ضمان الله، ويكون من أتاه بمنزلة منحجّ إلى بيت [الله الحرام] واعتمر، ولم يخلو [يخل] من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً، وإن بقي لم تزل الحفظَة تدعو له ما بقي، ولم يزل

ص: 154

في حفظ الله وأمنه حتّى يفارق الدنيا؟ قالت: يا أبتِ سلّمتُ ورضيتُ وتوكّلتُ على الله. فمسح على قلبها ومسح [على] عينيها، فقال: إنّي وبعلكِ وأنتِ وابناك في مكانٍ تقرّ عيناك ويفرح قلبك» ((1)).

ص: 155


1- ([1]) تفسير فرات: 171.

ص: 156

الفصل الخامس: في بيان مَن بكى أو أبكى أو تباكى

روى السيّد ابن طاووس في كتاب (الملهوف)، عن الباقر علیه السلام أنّه قال: «كان زين العابدين علیه السلام يقول: أيّما مؤمنٍ زرفت عيناه لقتل الحسين علیه السلام حتّى تسيل على خدّه بوّأه الله غرفاً في الجنّة يسكنها أحقاباً، وأيّما مؤمنٍ دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه فيما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا بوّأه الله منزل صدق، وأيّما مؤمنٍ مسّه أذىً فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه يوم القيامة من سخط النار».

ورُوي عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «مَن ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر».

ورُوي أيضاً عن آل الرسول علیهم السلام أنّهم قالوا: «مَن بكى أو أبكى فينا مئة ضمنّا له على الله الجنّة، ومَن بكى أو أبكى خمسين فله الجنّة، ومَن بكى أو أبكى ثلاثين فله الجنّة، ومَن بكى أو أبكى عشرة فله الجنّة، ومَن بكى أو أبكى واحداً

ص: 157

فله الجنّة، ومَن تباكى فله الجنّة» ((1)).

وفي (أمالي الصدوق)، عن الحسن بن عليّ بن فضّال قال: قال الرضا علیه السلام: «مَن تذكّر مصابنا وبكى لما ارتُكِب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومَن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينُه يوم تبكي العيون، ومَن جلس مجلساً يُحيا فيه أمرُنا لم يمت قلبُه يوم تموت القلوب» ((2)).

وفيه أيضاً، عن أبي بصير، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن آبائه علیه السلام ، قال: «قال أبو عبد الله الحسين بن عليّ علیه السلام : أنا قتيل العَبرة، لا يذكرني مؤمنٌ إلّا استعبر» ((3)).

وفي (كامل الزيارة)، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: كنّا عنده فذكرنا الحسين (عليه السلام، وعلى قاتله لعنة الله)، فبكى أبو عبد الله علیه السلام وبكينا، قال: ثمّ رفع رأسه فقال: «قال الحسين علیه السلام: أنا قتيل العَبرة؛ لا يذكرني مؤمنٌ إلّا بكى» ((4)).

وفيه، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «نظر أمير المؤمنين إلى الحسين، علیه السلام فقال: يا عَبرة كلّ مؤمن. فقال: أنا يا أبتاه؟! قال: نعم يا بُنيّ» ((5)).

ص: 158


1- ([1]) اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس: 9 -- 10.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 73 المجلس 17 ح 4.
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 137 المجلس 28 ح 7.
4- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 6.
5- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 1.

وفيه، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال الحسين علیه السلام : أنا قتيل العَبرة، قُتلتُ مكروباً، وحَقيقٌ علَيّ أن لايأتيني مكروبٌ قطّ إلّا ردّه الله وأقلبه إلى أهله مسروراً» ((1)).

وفي (كامل الزيارة) أيضاً، عن أبي عمارة المنشد قال: ما ذُكِر الحسين علیه السلام عند أبي عبد الله علیه السلام في يومٍ قطّ فرُئيَ أبو عبد الله علیه السلام متبسماً في ذلك اليوم إلى الليل، وكان علیه السلام يقول: «الحسين علیه السلام عَبرة كلّ مؤمن» ((2)).

وفي (الخصال)، عن أمير المؤمنين علیه السلام : «إنّ الله (تبارك وتعالى) اطّلع إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعةً ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أُولئك منّا وإلينا» ((3)).

وقال علیه السلام : «كلّ عينٍ يوم القيامة باكية، وكلّ عينٍ يوم القيامة ساهرة، إلّا عينُ مَن اختصّه الله بكرامته وبكى على ما يُنتهَك من الحسين وآل محمّد علیهما السلام» ((4)).

وروى الشيخ المفيد في كتاب (المجالس)، عن الربيع بن المنذر، عن

ص: 159


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 7.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 108 الباب 36 ح 2.
3- ([3]) الخصال للصدوق: 2 / 635.
4- ([4]) الخصال للصدوق: 2 / 625.

أبيه، عن الحسين بن عليّ علیه السلام قال: «ما مِن عبدٍ قطرت عيناه فينا قطرةً أو دمعت عيناه فينا دمعة، إلّا بوّأه الله بها في الجنّة حقباً». قال أحمد بن يحيى الأودي: فرأيتُ الحسين بن عليّ علیه السلام في المنام، فقلت: حدّثَني مخول بن إبراهيم عن الربيع بن المنذر عن أبيه عنك أنّك قلت: «ما مِن عبدٍ قطرت عيناه فينا قطرةً أو دمعت عيناه فينا دمعة، إلّا بوّأه الله بها فيالجنّة حقباً». قال: «نعم». قلت: سقط الإسناد بيني وبينك ((1)).

وروى الشيخ الطوسيّ في (الأمالي)، عن أبان بن تغلب ((2))، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد علیهما السلام قال: «نفَسُ المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّنا جهادٌ في سبيل الله». ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «يجب أن يُكتَب هذا الحديث بالذهب» ((3)).

وفيه أيضاً، عن محمّد بن أبي عمارة الكوفيّ قال: سمعتُ جعفر بن محمّد علیهما السلام يقول: «مَن دمعت عينه دمعةً لدمٍ سُفِك لنا، أو حقٍّ لنا أُنقِصناه، أو عرضٍ انتُهِك لنا أو لأحدٍ من شيعتنا، بوّأه الله (تعالى) بها في الجنّة حُقباً» ((4)).

وفي (كامل الزيارة)، عن فُضَيل بن فضالة، عن أبي عبد الله علیه السلام قال:

ص: 160


1- ([1]) الأمالي للمفيد: 340 المجلس 40 ح 6، الأمالي للطوسي: 116 المجلس 4 ح 35.
2- ([2]) في المتن: (ثعلب).
3- ([3]) الأمالي للطوسي: 115 المجلس 4 ح 32.
4- ([4]) الأمالي للطوسي: 194 المجلس 7 ح 32.

«مَن ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه، حرّم اللهُ وجهه على النار» ((1)).

وفيه أيضاً، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لكلّ سرٍّ ((2))ثواب، إلّا الدمعة فينا» ((3)).

قال المؤلّف:

لعلّ المقصود أنّ إخفاء أيّ مصيبةٍ والصبر عليها يستوجب الثواب، إلّا البكاء على الحسين علیه السلام. أو المراد أنّ أيّ سرٍّ له ثوابٌ من حيث كونه سرّاً أكثر من العلانية، إلّا البكاء على الحسين علیه السلام فإنّ ثواب الإسرار بالبكاء عليه أقلّ أو مساوٍ للإعلان عنه، وربما كانت أفضليّة الإعلان في ذلك أنّ البكاء لا يحتمل الرياء، فيتأسّى الناس به ويتحزّنون بالنظر إليه.

وفي كتاب (كامل الزيارة)، عن أبي هارون المكفوف قال: قال أبو عبد الله علیه السلام -- في حديثٍ طويلٍ له -- : «ومَن ذُكِر الحسين علیه السلام عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب، كان ثواب-ه على الله عزوجل ولم ي-رضَ له بدون

ص: 161


1- ([5]) كامل الزيارات لابن قولويه: 104 الباب 32 ح 10.
2- ([6]) في النسخة المطبوعة: (شيء) بدل (سرّ)، وما أثبتناه من (بحار الأنوار) عن (كامل الزيارات)، وكذا هي نسخة المؤلّف عن (الكامل)، لذا ترجمها: لكلّ بكاءٍ في السرّ.
3- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 106 الباب 33 ح 6.

الجنّة» ((1)).

وفيه أيضاً، عن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: سمعتُه يقول: «إنّ البكاء والجزع مكروهٌ للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي علیه السلام ، فإنّه فيه مأجور» ((2)).

وروى الشيخ الطوسيّ في كتابه (الأمالي)، عن محمّد بن مسلمقال: سمعتُ أبا عبد الله جعفر بن محمّد علیهما السلام يقول: «إنّ الحسين بن عليّ علیهما السلام عند ربّه عزوجل ينظر إلى موضع معسكره ومَن حلّه من الشهداء معه، وينظر إلى زوّاره، وهو أعرف بحالهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وبدرجاتهم ومنزلتهم عند الله عزوجل من أحدكم بولده، وإنّه لَيرى مَن يبكيه فيستغفر له، ويسأل آباءه علیهم السلام أن يستغفروا له، ويقول: لو يعلم زائري ما أعدّ الله له لكان فرحه أكثر من جزعه. وإنّ زائره لَينقلب وما عليه من ذنب» ((3)).

وفي كتاب (المنتخب)، رُوي عن الصادق علیه السلام أنّه إذا هلّ هلال عاشور اشتدّ حزنُه وعظم بكاؤه على مصاب جدّه الحسين علیه السلام ، والناس يأتون إليه مِن كُلّ جانبٍ ومكانٍ يُعزّونه بالحسين، ويبكون وينوحون على مصاب الحسين علیه السلام ، فإذا فرغوا من البكاء يقول لهم: «أيّها الناس، اعلموا أنّ الحسين

ص: 162


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 100 الباب 32 ح 3.
2- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 100 الباب 32 ح 2.
3- ([1]) الأمالي للطوسي: 54 المجلس 2 ح 43.

حيٌّ عند ربّه يُرزَق من حيث يشاء، وهو علیه السلام دائماً ينظر إلى موضع عسكره ومصرعه ومَن حلّ فيه من الشهداء، وينظر إلى زوّاره والباكين عليه والمقيمين العزاء عليه، وهو أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وبدرجاتهم ومنازلهم في الجنّة، وإنّه لَيرى مَن يبكي عليه فيستغفر له، ويسأل جدّه وأباه وأُمّه وأخاه أن يستغفروا للباكين على مصابه والمقيمين عزاءه، ويقول: لو يعلم زائري والباكي علَيّ ما له من الأجر عند الله (تعالى)، لكان فرحه أكثر من جزعه، وأنّ زائري والباكي علَيّ لينقلب إلى أهله مسروراً، وما يقوممن مجلسه إلّا وما عليه ذنب، وصار كيوم ولدته أُمّه» ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن عبد الله بن بكير قال: حججتُ مع أبي عبد الله علیه السلام -- في حديثٍ طويل --، فقلت: يا ابن رسول الله، لو نُبِش قبر الحسين بن عليّ علیه السلام ، هل كان يُصاب في قبره شيء؟ فقال: «يا ابن بكير، ما أعظم مسائلك! إنّ الحسين علیه السلام مع أبيه وأُمّه وأخيه في منزل رسول الله صلی الله علیه وآله، ومعه يُرزقون ويحبرون، وإنّه لَعن يمين العرش متعلّقٌ به، يقول: يا ربِّ أنجزْ لي ما وعدتني. وإنّه لَينظر إلى زوّاره، وإنّه أعرف بهم وبأسمائهم وأسماء آبائهم وما في رحالهم من أحدهم بولده، وإنّه لَينظر إلى مَن يبكيه فيستغفر له، ويسأل أباه الاستغفار له، ويقول: أيّها الباكي، لو علمتَ ما أعدّ الله لك لَفرحتَ أكثر ممّا حزنت. وإنّه لَيستغفر له مِن كلّ ذنبٍ وخطيئة» ((2)).

وروى ابن قولويه أيضاً في كتاب (كامل الزيارة)، عن مسمع بن عبد

ص: 163


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 39 المجلس 2.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 103 الباب 32 ح 7.

الملك كردين البصريّ قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: «يا مسمع، أنت مِن أهل العراق، أما تأتي قبر الحسين علیه السلام »، قلت: لا؛ أنا رجلٌ مشهورٌ عند أهل البصرة، وعندنا مَن يتبع هوى هذا الخليفة، وعدوّنا كثيرٌ من أهل القبائل من النصّاب وغيرهم، ولستُ آمنهم أن يرفعوا حالي عند وُلد سليمان فيمثّلون بي. قال لي: «أفما تذكر ما صُنِع به؟»، قلت: نعم. قال: «فتجزع؟»،قلت: إي والله، وأستعبر لذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك علَيّ، فأمتنع من الطعام حتّى يستبين ذلك في وجهي. قال: «رحم الله دمعتك، أما إنّك مِن الّذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والّذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنّا، أما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيّتهم ملَك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، ولَملَك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمةً لك من الأُمّ الشفيقة على ولدها». قال: ثمّ استعبر، واستعبرتُ معه، فقال: «الحمد لله الّذي فضلَنا على خلقه بالرحمة، وخصّنا أهل البيت بالرحمة. يا مسمع، إنّ الأرض والسماء لَتبكي منذ قتل أمير المؤمنين علیه السلام رحمةً لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموعُ الملائكة منذ قتلنا، وما بكى أحدٌ رحمةً لنا ولما لقينا إلّا رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خدّه فلو أنّ قطرةً من دموعه سقطت في جهنّم لَأطفأت حرّها حتّى لا يوجَد لها حرّ، وإنّ الموجع لنا قلبه لَيفرح يوم يرانا عند موته فرحةً لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض، وإنّ الكوثر لَيفرح بمحبّنا إذا ورد عليه حتّى إنّه لَيذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه، يا مسمع، مَن شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً، ولم

ص: 164

يستقِ بعدها أبداً، وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل، أحلى من العسل، وألين من الزبد، وأصفى من الدمع، وأذكى من العنبر، يخرج من تسنيم، ويمرّ بأنهار الجنان يجري على رضراض الدرّ والياقوت، فيه من القدحان أكثر من عدد نجوم السماء، يوجَد ريحه من مسيرة ألف عام، قدحانه من الذهب والفضّة وألوان الجوهر، يفوح في وجهالشارب منه كلّ فائحة، حتّى يقول الشارب منه: يا ليتني تُركتُ هاهنا، لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه تحويلاً. أما إنّك -- يا ابن كردين -- ممّن تُروى منه، وما من عينٍ بكت لنا إلّا نعمت بالنظر إلى الكوثر، وسقيت منه من أحبّنا، وإنّ الشارب منه لَيُعطى من اللذّة والطعم والشهوة له أكثر ممّا يعطاه مَن هو دونه في حبّنا، وإنّ على الكوثر أمير المؤمنين علیه السلام ، وفي يده عصاً مِن عوسج، يحطم بها أعداءنا، فيقول الرجل منهم: إنّي أشهد الشهادتين، فيقول: انطلقْ إلى إمامك فلان فاسألْه أن يشفع لك، فيقول: تبرّأَ منّي إمامي الّذي تذكره، فيقول: ارجع إلى ورائك فقل للّذي كنت تتولّاه وتقدّمه على الخلق، فاسأله إذا كان خير الخلق عندك أن يشفع لك، فإنّ خير الخلق مَن يشفع [حقيقٌ أن لا يردّ إذا شُفّع]، فيقول: إنّي أهلك عطشاً! فيقول له: زادك الله ظمأً، وزادك الله عطشاً». قلت: جُعلتُ فداك، وكيف يقدر على الدنوّ من الحوض ولم يقدر عليه غيره؟ فقال: «وَرِعَ عن أشياء قبيحة، وكفّ عن شتمنا أهل البيت إذا ذُكِرنا، وترك أشياء اجترى عليها غيرُه، وليس ذلك لحبّنا ولا لهوىً منه لنا، ولكنّ ذلك لشدّة اجتهاده في عبادته وتديّنه ولِما قد شغَل نفسَه به عن ذكر الناس، فأمّا قلبه فمنافق، ودينه النصب واتّباعه أهل

ص: 165

النصب وولاية الماضين وتقديمه لهما على كلّ أحد» ((1)).

وفي (كامل الزيارة) أيضاً، عن زرارة قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «يا زرارة، إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم، وإنّ الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإنّالشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحُمرة، وإنّ الجبال تقطّعَت وانتثرت، وإنّ البحار تفجّرت، وإنّ الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين علیه السلام ، وما اختضبَت منّا امرأةٌ ولا ادّهنَت ولا اكتحلت ولا رجّلت حتّى أتانا رأس عبيد الله بن زياد، وما زلنا في عَبرةٍ بعده، وكان جدّي إذا ذكره بكى حتّى تملأ عيناه لحيته، وحتّى يبكي لبكائه رحمةً له مَن رآه، وإنّ الملائكة الّذين عند قبره لَيبكون، فيبكي لبكائهم كلُّ مَن في الهواء والسماء من الملائكة، ولقد خرجت نفسُه علیه السلام فزفرت جهنّمُ زفرةً كادت الأرض تنشقّ لزفرتها، ولقد خرجت نفسُ عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية فشهقت جهنّم شهقةً لو لا أنّ الله حبسها بخزّانها لَأحرقت مَن على ظهر الأرض من فورها، ولو يُؤذَن لها ما بقيَ شيءٌ إلّا ابتلعته، ولكنّها مأمورة مصفودة، ولقد عتَت على الخُزّان غير مرّة، حتّى أتاها جبرئيل فضربها بجناحه فسكنت، وإنّها لَتبكيه وتندبه، وإنّها لَتتلظّى على قاتله، ولولا مَن على الأرض مِن حجج الله لَنقضت الأرض وأكفأت بما عليها، وما تكثر الزلازل إلّا عند اقتراب الساعة، وما مِن عينٍ أحبّ إلى الله ولا عَبرةٍ مِن عينٍ بكت ودمعت عليه، وما مِن باكٍ يبكيه إلّا وقد وصل فاطمةعلیها السلام وأسعدها عليه، ووصل رسول الله، وأدّى حقَّنا، وما مِن عبدٍ يُحشَر إلّا وعيناه باكية، إلّا الباكين على جدّي

ص: 166


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 101 الباب 32 ح 6.

الحسين علیه السلام ، فإنّه يُحشَر وعينه قريرة، والبشارة تلقّاه، والسرور بيّنٌ على وجهه، والخلق في الفزع وهم آمنون، والخلق يُعرَضون وهم حُدّاث الحسين علیه السلام تحت العرش وفي ظلّ العرش، لا يخافون سوء يوم الحساب، يُقاللهم: ادخلوا الجنّة، فيأبون، ويختارون مجلسه وحديثه، وإنّ الحور لَترسل إليهم أنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلَّدين، فما يرفعون رؤوسهم إليهم لِما يرون في مجلسهم من السرور والكرامة، وإنّ أعداءهم من بين مسحوبٍ بناصيته إلى النار ومِن قائلٍ: فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميم، وإنّهم لَيرون منزلهم، وما يقدرون أن يدنوا إليهم ولا يصلون إليهم، وإنّ الملائكة لَتأتيهم بالرسالة من أزواجهم ومن خدّامهم على ما أُعطوا من الكرامة، فيقولون: نأتيكم إن شاء الله، فيرجعون إلى أزواجهم بمقالاتهم، فيزدادون إليهم شوقاً إذا هم خبّروهم بما هم فيه من الكرامة وقربهم من الحسين علیه السلام ، فيقولون: الحمد لله الّذي كفانا الفزع الأكبر وأهوال القيامة ونجّانا ممّا كنّا نخاف، ويؤتون بالمراكب والرحال على النجائب، فيستوون عليها، وهم في الثناء على الله والحمد لله والصلاة على محمّدٍ وآله حتّى ينتهوا إلى منازلهم» ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن أبي بصيرٍ قال: كنتُ عند أبي عبد الله علیه السلام أُحدّثه، فدخل عليه ابنه، فقال له: «مرحباً»، وضمّه وقبّله، وقال: «حقّر الله مَن حقّركم، وانتقم ممّن وتركم، وخذل الله مَن خذلكم، ولعن الله مَن قتلكم، وكان الله لكم وليّاً وحافظاً وناصراً، فقد طال بكاء النساء وبكاء الأنبياء والصدّيقين والشهداء وملائكة السماء». ثمّ بكى، وقال: «يا أبا بصير، إذا نظرتُ إلى وُلد

ص: 167


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 81 الباب 26 ح 6.

الحسين أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وإليهم. يا أبا بصير، إنّ فاطمة علیها السلام لَتبكيه وتشهق، فتزفر جهنّمزفرةً لو لا أنّ الخَزَنة يسمعون بكاءها وقد استعدّوا لذلك مخافة أن يخرج منها عُنق أو يشرد دخانها فيُحرِق أهل الأرض، فيحفظونها [فيكبحونها] ما دامت باكية، ويزجرونها ويوثقون من أبوابها مخافةً على أهل الأرض، فلا تسكن حتّى يسكن صوت فاطمة الزهراء، وإنّ البحار تكاد أن تنفتق فيدخل بعضها على بعض، وما منها قطرة إلّا بها ملَك موكّل، فإذا سمع الملَك صوتها أطفأ نارها بأجنحته، وحبس بعضها على بعض مخافةً على الدنيا وما فيها ومَن على الأرض، فلا تزال الملائكة مشفقين يبكونه لبكائها، ويدعون الله ويتضرّعون إليه ويتضرّع أهل العرش ومَن حوله، وترتفع أصواتٌ من الملائكة بالتقديس لله مخافةً على أهل الأرض، ولو أنّ صوتاً من أصواتهم يصل إلى الأرض لَصُعِق أهل الأرض وتقطّعت الجبال وزُلزِلت الأرض بأهلها». قلت: جُعلتُ فداك، إنّ هذا الأمر عظيم! قال: «غيره أعظم منه ما لم تسمعه»، ثمّ قال لي: «يا أبا بصير، أما تحبّ أن تكون فيمن يسعد فاطمة علیها السلام»، فبكيتُ حين قالها، فما قدرتُ على المنطق وما قدر على كلامي من البكاء، ثمّ قام إلى المصلّى يدعو، فخرجتُ مِن عنده على تلك الحال، فما انتفعتُ بطعامٍ وما جاءني النوم، وأصبحتُ صائماً وَجِلاً حتّى أتيتُه، فلمّا رأيتُه قد سكن سكنت، وحمدتُ الله حيث لم تنزل بي عقوبة ((1)).

ص: 168


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 82 الباب 26 ح 7.

وفي (كامل الزيارة)، عن عبد الملك بن مقرن، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إذا زرتم أبا عبد الله علیه السلام فالزموا الصمت إلّا مِن خير، وإنّ ملائكة الليل والنهار مِن الحَفَظةتحضر الملائكة الّذين بالحائر فتصافحهم، فلا يجيبونها مِن شدّة البكاء، فينتظرونهم حتّى تزول الشمس وحتّى ينور الفجر، ثمّ يكلّمونهم ويسألونهم عن أشياء مِن أمر السماء، فأمّا ما بين هذين الوقتين فإنّهم لا ينطقون ولا يفترون عن البكاء والدعاء، ولا يشغلونهم في هذين الوقتين عن أصحابهم، فإنّما شغلهم بكم إذا نطقتُم». قلت: جُعلتُ فداك، وما الّذي يسألونهم عنه؟ وأيّهم يسأل صاحبه، الحَفَظة أو أهل الحائر؟ قال: «أهل الحائر يسألون الحفَظة؛ لأنّ أهل الحائر من الملائكة لا يبرحون، والحفظة تنزل وتصعد». قلت: فما ترى يسألونهم عنه؟ قال: «إنّهم يمرّون -- إذا عرجوا -- بإسماعيل صاحب الهواء، فربّما وافقوا النبيّ صلی الله علیه وآله وعنده فاطمة الزهراء والحسن والحسين والأئمّة مَن مضى منهم، فيسألونهم عن أشياء ومَن حضر منكم الحائر، ويقولون: بشّروهم بدعائكم، فتقول الحفَظَة: كيف نبشّرهم وهم لا يسمعون كلامنا؟! فيقولون لهم: باركوا عليهم وادعوا لهم عنّا، فهي البشارة منّا، فإذا انصرفوا فحفّوهم بأجنحتكم حتّى يحسّوا مكانكم، وإنّا نستودعهم الّذي لا تضيع ودائعه، ولو يعلمون ما في زيارته من الخير ويعلم ذلك الناس لاقتتلوا على زيارته بالسيوف، ولَباعوا أموالهم في إتيانه، وإنّ فاطمة علیها السلام إذا نظرت إليهم ومعها ألف نبيّ وألف صدّيق وألف شهيد ومن الكروبيّين ألف ألف يُسعِدونها على البكاء، وإنّها لَتشهق شهقةً فلا يبقى في السماوات ملَكٌ إلّا بكى رحمةً لصوتها، وما تسكن حتّى يأتيها النبيّ صلی الله علیه وآله [أبوها]

ص: 169

فيقول: يا بُنيّة، قد أبكيتِ أهل السماوات وشغلتِهم عن التسبيح والتقديس، فكُفّي حتّى يُقدّسوا، فإنّ الله بالغ أمره.وإنّها لَتنظر إلى مَن حضر منكم فتسأل الله لهم من كلّ خير، ولا تزهدوا في إتيانه؛ فإنّ الخير في إتيانه أكثر من أن يُحصى» ((1)).

ورُوي عن جارود بن المنذر، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «ما امتشطَت فينا هاشميّةٌ ولا اختضبَت حتّى بعث إلينا المختار برؤوس الّذين قتلوا الحسين (صلوات الله عليه)» ((2)).

وفي حديثٍ آخَر، عن جعفر بن محمّدٍ الصادق علیهما السلام أنّه قال: «ما اكتحلَت هاشميّةٌ ولا اختضبَت، ولا رُئيَ في دار هاشميّ دخان خمس حجج، حتّى قُتِل عبيد الله بن زياد (لعنه الله)» ((3)).

وفي حديثٍ آخَر، عن فاطمة بنت عليّ: «ما تحنّأت امرأةٌ منّا ولا أجالت في عينها مِرْوداً ولا امتشطَت، حتّى بعث المختارُ رأسَ عُبيد الله بن زياد» ((4)).

وروى الصدوق في (الأمالي)، عن الريّان بن شبيب قال: دخلتُ على الرضا علیه السلام في أوّل يومٍ من المحرّم، فقال لي: «يا ابن شبيب، أصائمٌ أنت؟»، فقلت: لا، فقال: «إنّ هذا اليوم هو اليوم الّذي دعا فيه زكريّا علیه السلام

ربّه عزوجل، فقال: ربِّ هبْ لي من لدنك ذريّةً طيّبة، إنّك سميع الدعاء. فاستجاب الله له، وأمر

ص: 170


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 86 الباب 27 ح 16.
2- ([2]) رجال الكشّي: 127، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 344.
3- ([3]) ذَوب النضّار لابن نما الحلّي: 144، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 286.
4- ([4]) ذوب النضّار لابن نما الحلّي: 144، بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 286.

الملائكة فنادت زكريّا وهو قائمٌ يصلّي في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيى، فمَن صام هذا اليوم ثمّ دعا الله؟عز؟استجاب الله له كما استجاب لزكريّا علیه السلام »، ثمّ قال: «يا ابن شبيب، إنّ المحرّم هو الشهر الّذي كان أهل الجاهليّة فيما مضى يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأُمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيّها صلی الله علیه وآله، لقد قتلوا في هذا الشهر ذرّيّته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثِقله، فلا غفر الله لهم ذلك أبداً. يا ابن شبيب، إن كنتَ باكياً لشيءٍ فابكِ للحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فإنّه ذُبح كما يُذبَح الكبش، وقُتِل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره، فوجدوه قد قُتِل فهم، عند قبره شُعثٌ غبرٌ إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين. يا ابن شبيب، لقد حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه علیه السلام أنّه لمّا قُتِل الحسين جدّي علیه السلام مطرت السماء دماً وتراباً أحمر. يا ابن شبيب، إن بكيتَ على الحسين علیه السلام حتّى تصير دموعك على خدَّيك، غفر اللهُ لك كلَّ ذنبٍ أذنبتَه، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً. يا ابن شبيب، إن سرّك أن تلقى الله عزوجل ولا ذنب عليك، فزُر الحسين علیه السلام. يا ابن شبيب، إن سرّك أن تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة مع النبيّ وآله صلی الله علیه وآله، فالعن قتَلَة الحسين. يا ابن شبيب، إن سرّك أن تكون لك من الثواب مثل ما لمن استُشهِد مع الحسين علیه السلام ، فقل متى ما ذكرتَه: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً. يا ابن شبيب، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى من الجنان، فاحزَنْ لحزننا وافرح

ص: 171

لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أنّ رجلاً تولّى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة» ((1)).

وفي كتاب (قُرب الإسناد)، عن بكر بن محمّد، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لفُضَيل: «تجلسون وتحدّثون؟»، قال: نعم، جُعلتُ فداك. قال: «إنّ تلك المجالس أُحبّها، فأحيوا أمرَنا يا فُضَيل، فرحم اللهُ مَن أحيا أمرنا. يا فُضَيل، مَن ذكرَنا أو ذُكِرنا عنده فخرج مِن عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر» ((2)).

وعن جعفر بن محمّد علیه السلام قال: «نفَس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّه جهادٌ في سبيل الله». ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «يجب أن يُكتَب هذا الحديث بماء الذهب».

وعنه علیه السلام أنّه قال: «رحم الله شيعتَنا، إنّهم أُوذوا فينا ولم نود [نؤذَ] (1) فيهم، شيعتنا منّا، قد خُلِقوا مِن فاضل طينتنا وعُجِنوا بنور ولايتنا، رضوا بنا أئمّةً ورضينا بهم شيعة، يُصيبهم مصابنا ويُبكيهم ما أصابنا، ويُحزنهم حزننا ويسرّهم سرورنا، ونحن أيضاً نتألّم لتألّمهم، ونطّلع على أحوالهم، فهم معنا، لا يفارقونا ولا نفارقهم؛ لأنّ مرجع العبد إلى سيّده ومعوّله على مولاه، فهم يهجرون مَن عادانا، ويجهرون بمدح مَن والانا، ويباعدون مَن آذانا. اللّهمّ أحيي شيعتنا في دولتنا، وابقِهِم في مُلكنا، اللّهمّ ملكتنا، اللّهمّ إنّ شيعتنا منّا ومضافين إلينا، فمَن ذكر مصابنا وبكى لأجلنا

ص: 172


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 127 المجلس 27 ح 5.
2- ([2]) قرب الإسناد للحِميَري: 36 ح 117.

أو تباكى استحى الله أن يُعذّبه بالنار» ((1)).

وفي كتاب (المنتخب): وعن الباقر علیه السلام ((2)) أنّه قال: «رحم الله شيعتنا، لقد شاركونا بطول الحزن على مصاب جدّي الحسين علیه السلام » ((3)).

وفي كتاب (الأمالي) للصدوق: عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضا علیه السلام: «إنّ المحرّم شهرٌ كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستُحلَّت فيه دماؤنا، وهُتِك فيه حرمتنا، وسُبيَ فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرِمَت النيران في مضاربنا، وانتُهِب ما فيها من ثِقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله حرمة في أمرنا، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا ((4))، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء، وأورثتنا يا أرض كربٍ وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مِثل الحسين فلْيبكِ الباكون، فإنّ البكاء يحطّ الذنوب العظام». ثمّ قال علیه السلام: «كان أبي علیه السلام إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيّام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الّذي قُتِل فيه الحسين علیه السلام » ((5)).

وفي كتاب (المنتخب)، عن دعبل الخُزاعيّ قال: دخلتُ على سيّدي

ص: 173


1- ([1]) المنتخَب للطريحي: 2 / 262 المجلس 2.
2- ([2]) في المتن: (عن الصادق علیه السلام).
3- ([3]) المنتخب للطريحي: 2 / 448 المجلس 10.
4- ([4]) في المتن: (عيوننا).
5- ([5]) الأمالي للصدوق: 128 المجلس 27 ح 2.

ومولاي عليّ بن موسى الرضا علیه السلام في مثل هذه الأيام، فرأيتُه جالساً جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه مِن حوله، فلمّا رآني مُقبِلاً قال لي: «مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه»، ثمّ إنّه وسّع لي وأجلسني إلى جانبه، ثمّ قال لي: «يا دعبل، أُحبّ أن تنشدني شعراً، فإنّ هذه الأيّام أيّام حزنٍ كانت علينا أهل البيت، وأيّام سرورٍ كانت على أعدائنا، خصوصاً بني أُميّة. يا دعبل، مَن بكى أو أبكى على مصابنا ولو كان واحداً أجره على الله. يا دعبل، مَن ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لما أصابنا مِن أعدائنا، حشره الله معنا في زُمرتنا. يادعبل، مَن بكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتّة». ثمّ إنّه علیه السلام نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين علیه السلام ، ثمّ التفت إليّ وقال: «يا دعبل، ارثِ الحسين، فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمتَ حيّاً، فلا تقصِّر عن نصرتنا ما استطعت».

قال دعبل: فاستعبرتُ وسالت عبرتي، وأنشأتُ أقول:

أفاطمُ لو خِلتِ الحسينَ مجدَّلاً***وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ

إذاً لَلطمتِ الخدَّ فاطمُ عنده***وأجريتِ دمعَ العين في الوَجَناتِ

أفاطمُ قومي يا ابنةَ الخيرِ واندُبي***نجومَ سماواتٍ بأرض فَلاتِ

قبورٌ بكوفانٍ وأُخرى بطَيبةٍ***وأُخرى بفخٍّ نالها صلواتِ

قبورٌ ببطن النهر من جَنب كربلا***مُعرَّسُهم فيها بشطّ فراتِ

قبورٌ ببطن النهر من جَنب كربلا***مُعرَّسُهم فيها بشطّ فراتِ

تُوفّوا عُطاشى بالعَرى فليتني***تُوفّيتُ فيهم قبل حين وفاةِ

ص: 174

إلى الله أشكو لوعةً عند ذكرهم***سقتني بكأس الثكل والصعقاتِ

إذا فخروا يوماً أتوا بمحمّدٍ***وجبريل والقرآن والسوَراتِ

وعدّوا عليّاً ذا المناقبِ والعُلى***وفاطمةَ الزهراءِ خير بناتِ

وحمزةَ والعبّاس ذا الدِّين والتُّقى***وجعفرها الطيّار في الحُجُباتِ

أُولئك مشؤومون هنداً وحربها***سميّة من نوكى ومن قذرات ((1))

همُ منعوا الآباء مِن أخذ حقّهم***وهم تركوا الأبناء رهن شتاتِ

سأبكيهمُ ما حجّ للهِ راكبٌ***وما ناح قِمريٌّ على الشجراتِ

فيا عين إبكيهم وجودي بعبرةٍ***فقد آن للتسكاب والهملاتِ

بناتُ زيادٍ في القصور مصونةٌ***وآلُ رسول الله منهتكاتِ

وآلُ زيادٍ في الحصون منيعةٌ***وآل رسول الله في الفلَواتِ

ديار رسول الله أصبحن بلقعاً***وآل زيادٍ تسكن الحُجُراتِ

وآل رسول الله نُحفٌ جسومهم***وآل زيادٍ غلّظ القصراتِ

وآل رسول الله تُدمى نحورهم***وآل زيادٍ ربّة الحجلاتِ

ص: 175


1- ([1]) كانت أُمّ زياد وجدّة عُبيد الله بن زياد سوداء مُنتنة من ذوات الأعلام المشهورات بالزنا، وزعم معاوية أنّ أبا سفيان زنا بسُميّة فأولدها زياداً (من المتن). (أُنظُر: أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 192، مُروج الذهب للمسعودي: 3 / 6، رجال الكشّي: 50، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 309).

وآل رسول الله تُسبى حريمهم***وآل زيادٍ آمِنُوا السرباتِ

إذا وُتروا مدّوا إلى واتريهمُ***أكفّاً عن الأوتار منقبضاتِ

سأبكيهمُ ما درّ في الأرض شارقٌ***ونادى منادي الخير للصلواتِ

وما طلعت شمسٌ وحان غروبها***وبالليل أبكيهم وبالغدوات ((1))

وفي كتاب (العيون)، عن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: دخل دعبل بن عليّ الخزاعيّ رحمه الله على عليّ بن موسى الرضا علیه السلام بمَرْو، فقال له: يا ابن رسول الله، إنّي قد قلتُ فيكَ قصيدة، وآليتُ على نفسي أن لا أُنشدها أحداً قبلك. فقال علیه السلام: «هاتها». فأنشدَه:

مدارسُ آياتٍ خلَت مِن تلاوةٍ***ومنزلُ وحي مقفر العرصاتِ

فلمّا بلغ إلى قوله:

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً***وأيديهمُ من فيئهم صَفِراتِ

بكى أبو الحسن الرضا علیه السلام ، وقال له: «صدقتَ يا خزاعي».

فلمّا بلغ إلى قوله:

إذا

وُتِروا مدّوا إلى واتريهمُ

أكفّاً عن الأوتار منقبضاتِ

جعل أبو الحسن علیه السلام يقلّب كفَّيه ويقول: «أجل والله، منقبضات».

فلمّا بلغ إلى قوله:

ص: 176


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 27 المجلس 2.

لقد خِفتُ في الدنيا وأيّام سعيها***وإنّي لَأرجو الأمنَ بعد وفاتي

قال الرضا علیه السلام: «آمنك اللهُ يومَ الفزع الأكبر».

فلمّا انتهى إلى قوله:

وقبرٌ ببغدادٍ لنفسٍ زكيّةٍ***تضمّنها الرحمان في الغرفاتِ

قال له الرضا علیه السلام: «أفلا أُلحقُ لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟»، فقال: بلى يا ابن رسول الله. فقال علیه السلام :

«وقبرٌ بطوسٍ يا لها مِن مصيبةٍ***توقّدُ في الأحشاءِ بالحُرقاتِ

إلى الحشر حتّى يبعث اللهُ قائماً***يفرّجُ عنّا الهمَّ والكُرُباتِ»

فقال دعبل: يا ابن رسول الله، هذا القبر الّذي بطوس قبر مَن هو؟! فقال الرضا علیه السلام : «قبري، ولا تنقضي الأيّام والليالي حتّى تصير طوس مختلَف شيعتي وزوّاري، ألا فمَن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له».

ثمّ نهض الرضا علیه السلام بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة وأمره أن لا يبرح من موضعه، فدخل الدار، فلمّا كان بعد ساعةٍ خرج الخادمُ إليه بمئة دينار رضويّة، فقال له: يقول لك مولاي: «اجعلْها في نفقتك»، فقال دعبل: واللهِ ما لهذا جئت، ولا قلتُ هذه القصيدة طمعاً في شيءٍ يصل إليّ. ورَدّ الصرّة، وسأل ثوباً من ثياب الرضا علیه السلام ليتبرّك ويتشرّف به، فأنفذ إليه الرضا علیه السلام جُبّة خزّ مع الصرّة، وقال للخادم: «قُل له: خُذْ هذه الصرّة؛ فإنّك

ص: 177

ستحتاج إليها، ولا تراجعني فيها».

فأخذ دعبل الصرّة والجبّة، وانصرف وسار من مَرو في قافلة، فلمّا بلغ ميان قوهان وقع عليهم اللصوص، فأخذوا القافلة بأسرها وكتفوا أهلها، وكان دعبل فيمن كتف، وملك اللصوص القافلة وجعلوا يقسّمونها بينهم، فقال رجلٌ من القوم متمثّلاً بقول دعبل في قصيدته:

أرى

فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديهمُ مِن فيئهم صفراتِ

فسمعه دعبل، فقال له: لمَن هذا البيت؟ فقال: لرجلٍ من خزاعة يُقال له: دعبل بن عليّ. قال: فأنا دعبل قائلُ هذه القصيدة الّتي منها هذا البيت. فوثب الرجل إلى رئيسهم، وكان يصلّي على رأس تلّ،وكان من الشيعة، فأخبره، فجاء بنفسه حتّى وقف على دعبل وقال له: أنت دعبل؟ فقال: نعم، فقال له: أنشِدْني القصيدة. فأنشدها، فحلّ كِتافه وكِتاف جميع أهل القافلة، وردّ إليهم جميعَ ما أخذ منهم لكرامة دعبل.

وسار دعبل حتّى وصل إلى قم، فسأله أهلُ قم أن يُنشدهم القصيدة، فأمرهم أن يجتمعوا في المسجد الجامع، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فأنشدهم القصيدة، فوصله الناس من المال والخلع بشيءٍ كثير، واتّصل بهم خبر الجُبّة، فسألوه أن يبيعها منهم بألف دينار، فامتنع من ذلك، فقالوا له: فبِعْنا شيئاً منها بألف دينار. فأبى عليهم.

وسار عن قم، فلمّا خرج من رستاق البلد لحق به قومٌ من أحداث

ص: 178

العرب، وأخذوا الجُبّة منه، فرجع دعبل إلى قم وسألهم ردّ الجُبّة، فامتنع الأحداث مِن ذلك وعصوا المشايخ في أمرها، فقالوا لدعبل: لا سبيل لك إلى الجُبّة، فخذ ثمنها ألف دينار. فأبى عليهم، فلمّا يئس من ردّهم الجُبّة سألهم أن يدفعوا إليه شيئاً منها، فأجابوه إلى ذلك وأعطوه بعضها، ودفعوا إليه ثمن باقيها ألف دينار.

وانصرف دعبل إلى وطنه، فوجد اللصوص قد أخذوا جميع ما كان في منزله، فباع المئة الدينار الّتي كان الرضا علیه السلام وصله بها، فباع من الشيعة كلّ دينارٍ بمئة درهم، فحصل في يده عشرة آلاف درهم، فذكر قول الرضا علیه السلام: «إنّك ستحتاج إلى الدنانير».

وكانت له جاريةٌ لها من قلبه محلّ، فرمدت عينُها رمداً عظيماً، فأدخل أهل الطبّ عليها، فنظروا إليها فقالوا: أمّا العَين اليمنى فليس لنا فيها حيلة وقد ذهبت، وأمّا اليسرى فنحن نعالجها ونجتهد، ونرجو أن تسلم. فاغتمّ لذلك دعبل غمّاً شديداً، وجزع عليها جزعاً عظيماً،ثمّ إنّه ذكر ما كان معه من وصلة الجُبّة، فمسحها على عينَي الجارية وعصّبها بعصابةٍ منها مِن أوّل الليل، فأصبحت وعيناها أصحّ ما كانتا قبل ببركة أبي الحسن الرضا علیه السلام ((1)).

وفي كتاب (المنتخب): عليّ بن دعبل بن عليّ الخزاعيّ يقول: لمّا أن

ص: 179


1- ([1]) عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 2 / 263 الباب 66 ح 34.

حضرت أبي الوفاة، تغيّر لونُه وانعقد لسانه واسودّ وجهه، فكدت الرجوع مِن مذهبه، فرأيتُه بعد ثلاثة أيّام فيما يرى النائم وعليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء، فقلت له: يا أبتِ ما فعل اللهُ بك؟ فقال: يا بُنيّ، إنّ الّذي رأيتَه من اسوداد وجهي وانعقاد لساني كان من شربي الخمر في دار الدنيا، ولم أزلْ كذلك حتّى لقيتُ رسول الله صلیالله علیه وآله وعليه ثيابٌ بيض وقلنسوة بيضاء، فقال لي: «أنت دعبل؟»، قلت: نعم يا رسول الله. قال: «فأنشِدْني قولَك في أولادي»، فأنشدتُه قولي:

لا أضحكَ اللهُ سنَّ الدهرِ إن ضحكَت***وآل أحمد مظلومون قد قُهِروا

مُشرَّدون نُفوا عن عُقر دارهمُ***كأنّهم قد جنوا ما ليس يُغتفَرُ

قال: فقال لي: «أحسنت»، وشفع فيّ، وأعطاني ثيابه، وها هي -- وأشار إلى ثياب بدنه ((1)).

وفي (المنتخب) أيضاً، عن الثقاة، عن أبي محمّد الكوفي، عن دعبل بن محمّد الخزاعيّ رحمه الله قال: لمّا انصرفتُ عن أبي الحسن الرضا علیه السلام بقصيدتي التائيّة، نزلتُ في الري، وإنّيفي ليلةٍ من الليالي وأنا أصيغ قصيدةً وقد ذهب من الليل شطره، فإذا طارق يطرق الباب، فقلت: مَن هذا؟ فقال: أخٌ لك. فبدرتُ إلى الباب ففتحتُه، فدخل شخصٌ اقشعرّ منه بدني وذهلَت منه نفسي، فجلس ناحيةً وقال لي: لا ترع، أنا أخوك من الجنّ، وُلدتُ في

ص: 180


1- ([2]) عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 2 / 266 ح 36.

اللّيلة الّتي وُلدتَ فيها ونشأتُ معك، وإنّي جئتُ أُحدّثك بما يسرّك ويقوّي نفسك وبصيرتك. قال: فرجعَت نفسي وسكن قلبي، فقال: يا دعبل، إنّي كنتُ مِن أشدّ خلق الله بُغضاً وعداوةً لعليّ بن أبي طالب، فخرجتُ في نفَرٍ من الجنّ المردة العُتاة، فمررنا بنفرٍ يريدون زيارة قبر الحسين علیه السلام ، قد جنّهم الليل، فهممنا بهم، وإذا ملائكة تزجرنا من السماء وملائكةٌ من الأرض تزجر عنهم هوامّها، فكأنّي كنتُ نائماً فانتبهتُ أو غافلاً فتيقّظت، وعلمتُ أنّ ذلك لعنايةٍ بهم من الله (تعالى) لمكان مَن قصدوا له وتشرّفوا بزيارته، فأحدثتُ توبةً وجدّدتُ نيّة، زرتُ مع القوم ووقفتُ بوقوفهم ودعوتُ بدعائهم، وحججتُ بحجّهم تلك السنة، وزرتُ قبر النبيّ صلی الله علیه وآله، ومررتُ برجلٍ حوله جماعة، فقلت: مَن هذا؟ فقالوا: هذا ابن رسول الله الصادق. قال: فدنوتُ منه وسلّمتُ عليه، فقال لي: «مرحباً بك يا أهل العراق، أتذكرُ ليلتك ببطن كربلاء وما رأيتَ من كرامة الله (تعالى) لأوليائنا؟ إنّ الله قد قبل توبتك وغفر خطيئتك». فقلت: الحمد لله الّذي مَنّ علَيّ بكم، ونوّر قلبي بنور هدايتكم، وجعلني من المعتصمين بحبل ولايتكم، فحدِّثْني يا ابن رسول الله بحديثٍ أنصرفُ به إلى أهلي وقومي. فقال: «نعم، حدّثني أبي محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين، عن أبيه عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: قال لي رسول الله: يا عليّ، الجنّة مُحرَّمة على الأنبياء حتّى أدخلها أنا،وعلى الأوصياء حتّى تدخلها أنت، وعلى الأُمم حتّى تدخلها أُمّتي، حتّى يقرّوا بولايتك ويدينوا بإمامتك. يا عليّ، والّذي بعثني بالحقّ، لا يدخل الجنّة أحدٌ إلّا مَن أخذ منك بنسبٍ

ص: 181

أو سبب». ثمّ قال: خُذها يا دعبل، فلَن تسمع بمثلها مِن مثلي أبداً. ثمّ ابتلعته الأرض فلم أره ((1)).

وفي (المنتخب) رُوي أنّه لمّا أخبر النبيّ صلی الله علیه وآله ابنتَه فاطمة بقتل ولدها الحسين وما يجري عليه من المحن، بكت فاطمة علیها السلام بكاءاً شديداً، وقالت: «يا أبي، متى يكون ذلك؟»، قال صلی الله علیه وآله: «في زمانٍ خالٍ منّي ومنكِ ومِن عليّ». فاشتدّ بكاؤها، وقالت: «يا أبة، فمَن يبكي عليه؟ ومَن يلتزم بإقامة العزاء له؟»، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «يا فاطمة، إنّ نساء أُمّتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلّ سنة، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنتِ للنساء وأنا أشفع للرجال، وكلّ مَن بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخَلْناه الجنّة. يا فاطمة، كلُّ عينٍ باكيةٌ يوم القيامة، إلّا عين بكت على مصاب الحسين، فإنّها ضاحكةٌ مستبشرة بنعيم الجنّة» ((2)).

وفي (المنتخب) أيضاً، رُوي أنّ فاطمة الزهراء علیها السلام ندبت ولدها الحسين من قبل أن تحمل به، ولقد ندبته بالغريب العطشان، البعيد عن الأوطان، الظامي اللهفان، المدفون بلا غُسلٍ ولا أكفان، ثمّ قالت لأبيها: «يا رسول الله، مَن يبكي على وَلديالحسين مِن بعدي؟»، فنزل جبرائيل من الربّ الجليل يقول: إنّ الله (تعالى) يُنشئُ له شيعةً تندبه جيلاً بعد جيل. فلمّا سمعَت

ص: 182


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 208 المجلس 3.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 29 المجلس 2.

كلام جبرائيل سكن بعضُ ما كان عندها من الوجل ((1)).

وفي كتاب (رياض الأبرار)، عن كتاب (النصوص): الكُمَيت بن أبي المستهلّ قال: دخلتُ على سيّدي أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر علیه السلام ، فقلت: يا ابن رسول الله، إنّي قد قلتُ فيكم أبياتاً، أفتأذنُ لي في إنشادها؟ فقال: «إنّها أيّام البيض!»، قلت: فهو فيكم خاصّة، قال: «هات»، فأنشأتُ أقول:

أضحكَني الدهرُ وأبكاني***والدهرُ ذو صرفٍ وألوانِ

لِتسعةٍ بالطفّ قد غودروا***صاروا جميعاً رهنَ أكفانِ

فبكى علیه السلام ، وبكى أبو عبد الله، وسمعتُ جاريةً تبكي من وراء الخباء، فلمّا بلغتُ إلى قولي:

وستّة لا يتجارى بهم***بنو عقيلٍ خير فتيانِ

ثمّ عليّ الخير مولاكم***ذكرهمُ هيّج أحزاني

فبكى، ثمّ قال علیه السلام: «ما مِن رجلٍ ذَكرَنا أو ذُكِرنا عنده فخرج من عينيه ماء ولو قدر مثل جناح البعوضة، إلّا بنى الله له بيتاً في الجنّة، وجعل ذلك حجاباً بينه وبين النار».

فلمّا بلغتُ إلى قولي:

مَن كان مسروراً بما مسّكم***أو شامتاً يوماً من الآنِ

ص: 183


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 107 المجلس 6.

فقد ذللتُم بعد عزٍّ فما***أدفعُ ضيماً حين يغشاني

أخذ بيدي وقال: «اللّهمّ اغفِر للكميت ما تقدّمَ مِن ذنبه وما تأخّر».

فلمّا بلغتُ إلى قولي:

متى يقوم الحقّ فيكم، متى***يقوم مهديّكمُ الثاني؟

قال: «سريعاً إن شاء الله، سريعاً»، ثمّ قال: «يا أبا المستهل، إنّ قائمنا هو التاسع من وُلد الحسين، لأنّ الأئمّة بعد رسول الله صلی الله علیه وآله اثنا عشر، وهو القائم». قلت: يا سيّدي، فمَن هؤلاء الاثنا عشر؟ قال: «أوّلهم عليّ بن أبي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعد الحسين عليّ بن الحسين، وأنا، ثمّ بعدي هذا -- ووضع يده على كتف جعفر --»، قلت: فمَن بعد هذا؟ قال: «ابنه موسى، وبعد موسى ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه محمّد، وبعد محمّد ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه الحسن، وهو أبو القائم الّذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً ويشفي صدور شيعتنا». قلت: فمتى يخرج يا ابن رسول الله؟ قال: «لقد سُئل رسول الله صلی الله علیه وآله عن ذلك، فقال: إنّما مَثله كمَثل الساعة، لا تأتيكم إلّا بغتة» ((1)).

وفي كتاب (كامل الزيارة)، عن أبي هارون المكفوف قال: دخلتُ على أبي عبد الله علیه السلام ، فقال لي: «أنشِدني»، فأنشدتُه، فقال: «لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره!». قال: فأنشدتُه:

أُمرُرْ على جَدَث الحسين***فقُل لأعظمه الزكيّةْ

ص: 184


1- ([1]) كفاية الأثر للخزّاز: 248، بحار الأنوار للمجلسي: 36 / 390.

قال: فلمّا بكى أمسكتُ أنا، فقال: «مر»، فمررت. قال: ثمّ قال: «زدني، زدني»، قال: فأنشدتُه:

يا مريمُ قومي فاندبي مولاكِ***وعلى الحسينِ فأسعِدي ببكاكِ

قال: فبكى، وتهايج النساء. قال: فلمّا أن سكتنَ قال لي: «يا أبا هارون، مَن أنشد في الحسين علیه السلام فأبكى عشرة فله الجنّة»، ثمّ جعل يُنقِص واحداً واحداً حتّى بلغ الواحد، فقال: «مَن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة»، ثمّ قال: «مَن ذكره فبكى فله الجنّة!» ((1)).

وفي (أمالي الصدوق)، عن أبي عمّار المنشد، عن أبي عبد الله، قال: قال لي: «يا أبا عمّار، أنشِدني في الحسين بن عليّ علیه السلام ». قال: فأنشدتُه فبكى، ثمّ أنشدتُه فبكى، قال: فوَاللهِ ما زلتُ أُنشدُه ويبكي، حتّى سمعتُ البكاء من الدار. قال: فقال لي: «يا أبا عمّار، مَن أنشد في الحسين بن عليّ علیه السلام فأبكى خمسين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرين فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنّة» ((2)).

وروى الشيخ الكشّي في (رجاله)، عن زيد الشحّام قال: كنّا عند أبي

ص: 185


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 105 الباب 33 ح 5.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 141 المجلس 29 ح 6.

عبد الله علیه السلام ونحن جماعة من الكوفيّين، فدخل جعفر بن عفّان على أبي عبد الله علیه السلام ، فقرّبه وأدناه، ثمّ قال: «يا جعفر!»، قال: لبّيك، جعلني الله فداك. قال: «بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين علیه السلام وتجيد»، فقال له: نعم، جعلني الله فداك. فقال: «قُل»، فأنشده علیه السلام ومَن حوله حتّى صارت له الدموع على وجهه ولحيته، ثمّ قال: «يا جعفر، واللهِ لقد شهدَك ملائكةُ الله المقرَّبون هاهنا، يسمعون قولك في الحسين علیه السلام ، ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر، ولقد أوجب الله (تعالى) لك يا جعفر في ساعته الجنّة بأسرها وغفر الله لك»، فقال: «يا جعفر، ألا أُزيدك!»، قال: نعم يا سيّدي. قال: «ما مِن أحدٍ قال في الحسين علیه السلام شعراً فبكى وأبكى به، إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له» ((1)).

وعن بعض الثقاة، عن السيّد علي الحسيني قال: كنتُ مجاوراً في مشهد مولاي عليّ بن موسى الرضا علیه السلام مع جماعةٍ من المؤمنين، فلمّا كان اليوم العاشر من شهر عاشوراء ابتدأ رجلٌ من أصحابنا يقرأ مقتل الحسين علیه السلام ، فوردت روايةٌ عن الباقر علیه السلام أنّه قال: «مَن ذرفت عيناه على مصاب الحسين ولو مثل جناح البعوضة، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»، وكان في المجلس معنا جاهلٌ مركّب يدّعي العلم ولا يعرفه، فقال: ليس هذا بصحيح، والعقل لا يعتقده. وكثر البحث بيننا، وافترقنا عن ذلك المجلس وهو مصرٌّ على العناد في تكذيب الحديث، فنام ذلك الرجل تلك

ص: 186


1- ([1]) رجال الكشّي: 289 ح 508.

الليلة، فرأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت وحُشِر الناس في صعيد صفصف لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وقد نُصبَت الموازين وامتدّ الصراط ووُضع الحساب ونُشرت الكتب وأُسعرت النيران وزُخرفت الجنان، واشتدّ الحرّ عليه، وإذا هو قد عطش عطشاً شديداً، وبقيَ يطلب الماء فلا يجده، فالتفت يميناً وشمالاً وإذا هو بحوضٍ عظيم الطول والعرض. قال: قلتُ في نفسي: هذا هو الكوثر، فإذا فيه ماءٌ أبرد من الثلج وأحلى من العذب، وإذا عند الحوض رجلان وامرأة، أنوارهم تُشرِق على الخلائق، ومع ذلك لبسهم السواد وهم باكون محزونون، فقلت: مَن هؤلاء؟ فقيل لي: هذا محمّد المصطفى، وهذا الإمام عليّ المرتضى، وهذه الطاهرة فاطمة الزهراء. فقلت: ما لي أراهم لابسين السواد وباكين ومحزونين؟! فقيل لي: أليس هذا يوم عاشوراء، يوم مقتل الحسين؟ فهم محزونون لأجل ذلك! قال: فدنوتُ إلى سيّدة النساء فاطمة وقلتُ لها: يا بنت رسول الله، إنّي عطشان! فنظرَت إليّ شزراً وقالت لي: «أنت الّذي تُنكر فضل البكاء على مصاب ولدي الحسين ومهجة قلبي وقرّة عيني الشهيد المقتول ظلماً وعدواناً؟ لعن الله قاتليه وظالميه ومانعيه من شرب الماء». قال الرجل: فانتبهتُ من نومي فزعاً مرعوباً، واستغفرتُ الله كثيراً، وندمتُ على ما كان منّي، وأتيت إلى أصحابي الّذين كنتُ معهم وخبّرتُ برؤياي، وتُبتُ إلى الله عزوجل ((1)).

ص: 187


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 293 ح 38.

وروى الشيخ الطوسي، عن معاوية بن وهب قال: كنتُ جالساًعند جعفر بن محمّد علیهما السلام، إذ جاء شيخٌ قد انحنى من الكبر، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال له أبو عبد الله: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يا شيخ ادنُ منّي»، فدنا منه، فقبّل يده فبكى، فقال له أبو عبد الله علیه السلام : «وما يُبكيك يا شيخ؟»، قال له: يا ابن رسول الله، أنا مقيمٌ على رجاءٍ منكم منذ نحوٍ من مئة سنة، أقول هذه السنة وهذا الشهر وهذا اليوم، ولا أراه فيكم، فتلومني أن أبكي! قال: فبكى أبو عبد الله علیه السلام ، ثمّ قال: «يا شيخ، إن أُخّرَت منيّتك كنتَ معنا، وإن عُجّلَت كنت يوم القيامة مع ثِقل رسول الله صلی الله علیه وآله». فقال الشيخ: ما أُبالي ما فاتني بعد هذا يا ابن رسول الله. فقال له أبو عبد الله علیه السلام: «يا شيخ، إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال: إنّي تاركٌ فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتابَ الله المُنزَل، وعترتي أهل بيتي. تجيءُ وأنت معنا يوم القيامة».

قال: «يا شيخ، ما أحسبُك مِن أهل الكوفة»، قال: لا. قال: «فمِن أين أنت؟»، قال: مِن سوادها، جُعلتُ فداك. قال: «أين أنت من قبر جدّي المظلوم الحسين علیه السلام »، قال: إنّي لَقريبٌ منه. قال: «كيف إتيانك له؟»، قال: إنّي لَآتيه وأُكثِر. قال: «يا شيخ، ذاك دمٌ يطلب الله (تعالى) به، ما أُصيبَ وُلد فاطمة ولا يُصابون بمثل الحسين علیه السلام ، ولقد قُتِل علیه السلام في سبعة عشر مِن أهل بيته، نصحوا لله وصبروا في جنب الله، فجزاهم أحسن جزاء الصابرين، إنّه إذا كان يوم القيامة أقبل رسول الله صلی الله علیه وآله ومعه الحسين علیه السلام ويده على رأسه يقطر دماً، فيقول: يا ربّ، سَل

ص: 188

أُمّتي فيمَ قتلوا ولدي»، وقال علیه السلام: «كلّ الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين علیه السلام » ((1)).

ص: 189


1- ([1]) الأمالي للطوسي: 161 المجلس 6 ح 20.

ص: 190

الفصل السادس: في ثواب زيارته علیه السلام وفضل كربلاء وغير ذلك

في كتاب (المنتخب): جابر الجُعفيّ يرويه عن أبي عبد الله، ثمّ قال: «يا جابر، كم بينكم وبين قبر الحسين علیه السلام »، قال: قلت: يوم وبعض آخر. قال: فقال لي: «أتزوره؟»، قال: قلت: نعم. قال: «ألا أُفرّحك؟ ألا أُبشّرك بثوابه؟»، قلت: بلى، جُعلتُ فداك! قال: «إنّ الرجل منكم لَيتهيّأُ لزيارته فتباشرُ به أهل السماء، فإذا خرج مِن باب منزله راكباً أو ماشياً وكّل الله عزوجل به أربعين ألفاً من الملائكة، يُصلّون عليه حتّى يوافي قبر الحسين علیه السلام ، وثواب كلّ قدَمٍ يرفعها كثواب المتشحّط بدمه في سبيل الله، فإذا سلّمتَ على القبر فاستلِمْه بيدك وقل: السلام عليك يا حُجّة الله في أرضه. ثمّ انهض إلى صلاتك، فإنّ الله (تعالى) يُصلّي عليك وملائكته حتّى تفرغ من صلاتك، ولك بكلّ ركعةٍ تركعها عنده ثواب مَن حجّ ألف حجّة واعتمر ألف عُمرة وأعتق ألف رقبة، وكمَن وقف في سبيل الله ألف مرّةً مع نبيّ

ص: 191

مرسَل، فإذا أنت قمتَ من عند القبر نادى منادٍ لو سمعتَ مقالته لأفنيتَ عمرك عند قبر الحسين علیه السلام ، وهو يقول: طوبى لك أيّها العبد، لقد غنمتَ وسلمت، قد غفر الله لك ما سلف، فاستأنِف العمل»، قال: «فإن مات من عامه أو من ليلته أو من يومه، لم يقبض روحه إلّا الله (تعالى)»، قال: «ويقوم معه الملائكة يُسبّحون ويُصلّون عليه حتّى يوافي منزله، فتقول الملائكة: ربّنا، عبدك وافى قبر وليّك، وقد وافى منزله، فأين نذهب؟ فيأتيهم النداءُ مِن قِبل السماء: يا ملائكتي، قِفوا بباب عبدي، فسبّحوني وقدّسوني وهلّلوني، واكتبوا ذلك في حسناته إلى يوم وفاته. فإذا تُوفّي ذلك العبد، شهدوا غسله وكفنه والصلاة عليه، ثمّ يقولون: ربّنا، وكّلتنا بباب عبدك وتُوفّي، فأين نذهب؟ فيأتيهم النداء: يا ملائكتي، قِفوا بقبر عبدي، فسبّحوني وقدّسوني وهلّلوني، واكتبوا ذلك في حسناته إلى يوم القيامة» ((1)).

وفي كتاب (كامل الزيارة)، عن عبد الله بن محمّد الصنعاني، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «كان رسول الله صلی الله علیه وآله إذا دخل الحسين علیه السلام جذبه إليه، ثمّ يقول لأمير المؤمنين علیه السلام: أمسِكْه. ثمّ يقع عليه فيقبّله ويبكي، يقول: يا أبتِ لمَ تبكي؟ فيقول: يا بُنيّ، أُقبّل موضع السيوف منك. قال: يا أبت، وأُقتَل؟! قال: إي والله، وأبوك وأخوك وأنت. قال: يا أبت، فمصارعنا شتّى؟ قال: نعم يا بُنيّ. قال: فمَن يزورنا من أُمّتك؟ قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلّا الصدّيقون مِن أُمّتي» ((2)).وفي كتاب (البحار)، عن عروة بن الزبير قال: سمعتُ أبا ذرّ، وهو يومئذٍ

ص: 192


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 68 المجلس 4.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 70 الباب 22 ح 4.

قد أخرجه عثمان إلى الربذة، فقال له الناس: يا أبا ذر، أبشِرْ، فهذا قليلٌ في الله. فقال: ما أيسر هذا، ولكن كيف أنتم إذا قُتِل الحسين بن عليّ قتلاً -- أو قال: ذُبح ذبحاً --؟ واللهِ لا يكون في الإسلام بعد قتل الخليفة أعظم قتيلاً منه، وإنّ الله سيسلّ سيفه على هذه الأُمّة لا يغمده أبداً، ويبعث ناقماً مِن ذرّيّته فينتقم من الناس، وإنّكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار وسكّان الجبال في الغياض والآكام وأهل السماء مِن قتله لبكيتم واللهِ حتّى تزهق أنفسكم، وما مِن سماءٍ يمرّ به روح الحسين علیه السلام إلّا فزع له سبعون ألف ملَك، يقومون قياماً ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة، وما من سحابةٍ تمرّ وترعد وتبرق إلّا لعنت قاتله، وما مِن يومٍ إلّا وتعرض روحه على رسول الله فيلتقيان ((1)).

وفي (البحار) أيضاً، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله الصادق علیه السلام: «إنّ أربعة آلاف ملَكٍ هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن علي علیه السلام ، فلم يُؤذَن لهم في القتال، فرجعوا في الاستئذان وهبطوا وقد قُتِل الحسين علیه السلام ، فهم عند قبره شُعثٌ غُبر يبكونه إلى يوم القيامة، ورئيسهم ملَكٌ يقال له: منصور» ((2)).

ص: 193


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 219 ح 47 -- عن: كامل الزيارات لابن قولويه: 74.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 220 الباب 41 ح 2، الأمالي للصدوق: 638 المجلس 92 ح 7.

وفي (البحار)، عن الثُّماليّ قال: قلتُ لأبي جعفر علیه السلام : يا ابن رسول الله، ألستُم كلّكم قائمين بالحقّ؟ قال: «بلى». قلت: فلمَ سُمّي القائم قائماً؟ قال: «لمّا قُتِل جدّي الحسين ضجّت الملائكة إلى الله عزوجل بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيّدنا، أتغفل عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك مِن خلقك؟! فأوحى الله (عزّ وجل) إليهم: قرّوا ملائكتي، فوَعزّتي وجلالي لَأنتقمنّ منهم ولو بعد حين. ثمّ كشف الله عزوجل عن الأئمّة من وُلد الحسين علیه السلام للملائكة، فسُرّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائمٌ يصلّي، فقال الله (عزّ وجل): بذلك القائم أنتقمُ منهم» ((1)).

وفي (البحار) أيضاً، عن كرّام قال: حلفتُ فيما بيني وبين نفسي أن لا آكل طعاماً بنهارٍ أبداً حتّى يقوم قائم آل محمّد، فدخلتُ على أبي عبد الله، قال: فقلت له: رجلٌ من شيعتكم جعل الله عليه أن لا يأكل طعاماً بنهارٍ أبداً حتّى يقوم قائم آل محمّد. قال: «فصُمْ إذاً يا كرام، ولا تصم العيدين ولا ثلاثة التشريق ولا إذا كنت مسافراً ولا مريضاً، فإنّ الحسين علیه السلام لمّا قُتِل عجّت السماوات والأرض ومَن عليهما والملائكة، فقالوا: يا ربّنا، ائذن لنا في هلاك الخلق حتّى نجدهم من جديد الأرض بما استحلّوا حرمتك وقتلوا صفوتك. فأوحى الله إليهم: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي، اسكنوا. ثمّ كشف حجاباً من الحُجُب فإذا خلفه محمّد واثنا عشر وصيّاً له علیه السلام ، ثمّ أخذ بيد فلان القائم من بينهم فقال: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي، بهذا أنتصر لهذا. قالها ثلاث مرّات» ((2)).

ص: 194


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 221، علل الشرائع للصدوق: 1 / 154.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 228، الكافي للكليني: 1 / 534.

وفي (البحار) أيضاً، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «وكّل الله بالحسين بن عليّ سبعين ألف ملَك، يصلّون عليه كلّ يوم، شعثاً غبراً منذ يوم قُتِل إلى ما شاء الله»، يعني بذلك قيام القائم علیه السلام ((1)).

وفيه أيضاً، عن الثُّماليّ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الله وكّل بقبر الحسين أربعة آلاف ملَك، شعثٌ غبر، يبكونه من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، وإذا زالت الشمس هبط أربعة آلاف ملَك وصعد أربعة آلاف ملَك، فلم يزل يبكونه حتّى يطلع الفجر» ((2)).

وفيه أيضاً، عن أبي بصير، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «أربعة آلاف ملَكٍ شعثٌ غبرٌ يبكون الحسين إلى يوم القيامة، فلا يأتيه أحدٌ إلّا استقبلوه، ولا يمرض أحدٌ إلّا عادوه، ولا يموت أحدٌ إلّا شهدوه» ((3)).

وفيه أيضاً، عن صفوان الجمّال، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: سألتُه -- في طريق المدينة ونحن نريد مكّة -- فقلت: يا ابن رسول الله، ما لي أراك كئيباً حزيناً منكسراً؟ فقال: «لو تسمع ما أسمع لَشغلك عن مساءلتي». فقلت: وما الّذي تسمع؟! قال: «ابتهال الملائكة إلى الله (جلّ وعزّ) على قتلَة أمير المؤمنين وقتلة الحسين علیه السلام ، ونوح الجنّ، وبكاء الملائكة الّذين حوله وشدّة

ص: 195


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 222 ح 9.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 223 ح 15.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 223 ح 14.

جزعهم، فمَن يتهنّأ مع هذا بطعامٍ أو شرابٍ أو نوم؟» ((1)).

وفيه أيضاً، عن إسحاق بن عمّار قال: قلتُ لأبي عبد الله علیه السلام: إنّي كنتُ بالحيرة ليلة عرفة، وكنتُ أُصلّي، وثمّ نحوٌ من خمسين ألفاً من الناس جميلةٍ وجوههم طيّبةٍ أرواحهم وأقبلوا يصلّون بالليل أجمع، فلمّا طلع الفجر سجدت، ثمّ رفعتُ رأسي فلم أرَ منهم أحداً! فقال لي أبو عبد الله علیه السلام: «إنّه مرّ بالحسين بن عليّ خمسون ألف ملَكٍ وهو يُقتَل، فعرجوا إلى السماء، فأوحى الله إليهم: مررتُم بابن حبيبي وهو يُقتَل فلم تنصروه، فاهبطوا إلى الأرض فاسكنوا عند قبره شُعثاً غُبراً إلى أن تقوم الساعة» ((2)).

وفي كتاب (كامل الزيارة)، عن بكر بن محمّد، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «وكّل الله بقبر الحسين علیه السلام سبعين ألف ملكاً [ملَك]، شُعثاً غُبراً يبكونه إلى يوم القيامة، يصلّون عنده الصلاة الواحدة مِن صلاتهم [مِن صلاة أحدهم] تعدل ألف صلاةٍ من صلاة الآدميّين، يكون ثواب صلاتهم وأجر ذلك لمن زار قبره» ((3)).

وفي (كامل الزيارة)، عن عبد الله ((4)) بن حمّاد البصري، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال لي: «إنّ عندكم -- أو قال: في قُربكم -- لَفضيلة ما أُوتيَ أحدٌ مثلها، وما أحسبكم تعرفونها كُنه معرفتها، ولا تُحافظون عليها ولا على القيام بها،

ص: 196


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 226 ح 19.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 226 ح 20.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 86 الباب 27 ح 14.
4- ([4]) في المتن: (عبد الرحمان).

وإنّ لها لَأهلاً خاصّة قد سُمّوا لها وأُعطوها بلا حولٍ منهمولا قوّة، إلّا ما كان مِن صنع الله لهم وسعادةٍ حباهم الله بها ورحمةٍ ورأفةٍ وتقدُّم!». قلت: جُعلتُ فداك، وما هذا الّذي وصفتَ لنا ولم تسمِّه؟! قال: «زيارة جدّي الحسين بن عليّ علیه السلام ، فإنّه غريبٌ بأرض غربة، يبكيه مَن زاره، ويحزن له مَن لم يزره، ويحترق له مَن لم يشهده، ويرحمه مَن نظر إلى قبر ابنه عند رجله في أرض فلاةٍ لا حميم قربه ولا قريب، ثمّ مُنع الحقّ وتوازر عليه أهل الردّة، حتّى قتلوه وضيّعوه وعرّضوه للسباع، ومنعوه شرب ماء الفرات الّذي يشربه الكلاب، وضيّعوا حقّ رسول الله صلی الله علیه وآله ووصيّته به وبأهل بيته، فأمسى مجفوّاً في حفرته، صريعاً بين قرابته وشيعته بين أطباق التراب، قد أوحش قربه في الوحدة والبُعد عن جدّه والمنزل الّذي لا يأتيه إلّا مَن امتحن الله قلبه للإيمان وعرّفه حقّنا». فقلت له: جُعلتُ فداك، قد كنتُ آتيه حتّى بُليتُ بالسلطان وفي حفظ أموالهم، وأنا عندهم مشهور، فتركتُ للتقيّة إتيانه، وأنا أعرف ما في إتيانه من الخير. فقال: «هل تدري ما فضل مَن أتاه، وما له عندنا من جزيل الخير؟»، فقلت: لا. فقال: «أمّا الفضل فيباهيه ملائكة السماء، وأمّا ما له عندنا فالترحُّم عليه كلّ صباحٍ ومساء، ولقد حدّثني أبي أنّه لم يخلُ مكانُه منذ قُتِل مِن مُصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة أو من الجنّ أو من الإنس أو من الوحش، وما من شيءٍ إلّا وهو يغبط زائره ويتمسّح به، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره علیه السلام ». ثمّ قال: «بلَغني أنّ قوماً يأتونه من نواحي الكوفة، وناساً [أُناساً] من غيرهم، ونساء يندبنه، وذلك في النصف من شعبان، فمِن بين قارئٍ يقرأ وقاصٍّ يقصّ ونادبٍ يندب وقائلٍ يقول المراثي»، فقلت: نعم، جُعلتُ فداك، قد

ص: 197

شهدتُ بعضَ ما تصف. فقال: «الحمد لله الّذي جعل في الناس مَن يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل عدوّنا مَن يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهدونهم [يهدّدونهم] ويقبّحون ما يصنعون» ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، مُسنداً عن جابر، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «قال أمير المؤمنين علیه السلام : زارنا رسول الله صلی الله علیه وآله، وقد أهدت لنا أُمّ أيمن لبناً وزبداً وتمراً، فقدّمنا منه فأكل، ثمّ قام إلى زاوية البيت فصلّى ركعات [ركعتان] [ركعتين]، فلمّا كان في آخر سجوده بكى بكاءً شديداً، فلم يسأله أحدٌ منّا إجلالاً وإعظاماً له، فقام الحسين علیه السلام وقعد في حِجره فقال: يا أبت، لقد دخلتَ بيتنا فما سُررنا بشيءٍ كسرورنا بدخولك، ثمّ بكيتَ بكاءً غمّنا، فما أبكاك؟ فقال: يا بُنيّ، أتاني جبرئيل علیه السلام آنفاً، فأخبرني أنّكم قتلى وأنّ مصارعكم شتّى. فقال: يا أبت، فما لمَن زار قبورنا على تشتّتها؟ فقال: يا بُنيّ، أُولئك طوائفُ مِن أُمّتي، يزورونكم فيلتمسون بذلك البركة، وحَقيقٌ علَيّ أن آتيهم يوم القيامة حتّى أُخلّصَهم من أهوال الساعة ومِن ذنوبهم، ويسكنهم الله الجنّة» ((2)).

وفي كتاب (المنتخب)، عن سُليمان الأعمش أنّه قال: كنتُ نازلاً بالكوفة، وكان لي جار، وكنتُ آتي إليه وأجلس عنده، فأتيتُ ليلة الجمعة إليه، فقلت له: يا هذا، ما تقول في زيارة الحسين علیه السلام قال لي: هي بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ذي ضلالةٍ في النار. قال سليمان: فقمتُ مِن عنده

ص: 198


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 324 الباب 108 ح 1.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 58 الباب 16 ح 6.

وأنا ممتلئٌ عليه غيظاً، فقلتُ في نفسي: إذا كان وقت السحَر آتيه وأُحدّثه شيئاً من فضائل الحسين علیه السلام ، فإن أصرّ على العناد قتلتُه. قال سليمان: فلمّا كان وقت السحَر أتيتُه وقرعتُ عليه الباب ودعوتُه باسمه، فإذا بزوجته تقول: إنه قصد إلى زيارة الحسين مِن أوّل الليل.

قال سليمان: فسرتُ في أثره إلى زيارة الحسين علیه السلام ، فلمّا دخلتُ إلى القبر فإذا أنا بالشيخ ساجدٌ لله عزوجل، وهو يدعو ويبكي في سجوده، ويسأله التوبة والمغفرة، ثمّ رفع رأسه بعد زمانٍ طويلٍ فرآني قريباً منه، فقلت: يا شيخ، بالأمس كنتَ تقول: زيارة الحسين بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضلالة بالنار، واليوم أتيت تزوره؟! فقال: يا سليمان، لا تلُمني، فإنّي ما كنتُ أُثبتُ لأهل البيت إمامة حتّى كانت ليلتي تلك، فرأيتُ رؤيا هالتني وروّعتني. فقلت له: ما رأيتَ أيّها الشيخ؟ قال: رأيتُ رجُلاً جليل القدر، لا بالطويل الشاهق ولا بالقصير اللاصق، لا أقدر أن أصفه من عظم جلاله وجماله وبهائه وكماله، وهو مع أقوام يحفّون به حفيفاً ويزفّونه زفيفاً، وبين يديه فارس وعلى رأسه تاج، وللتاج أربعة أركان، وفي كلّ ركنٍ جوهرة تضيء من مسيرة ثلاثة أيّام، فقلتُ لبعض خدّامه: مَن هذا؟ فقال: هذا محمّد المصطفى. قلت: ومَن هذا الآخر؟ فقال: عليّ المرتضى، وصيّ رسول الله. ثمّ مددتُ نظري، فإذا أنا بناقةٍ من نور وعليها هودج من نور وفيه امرأتان، والناقة تطير بين السماء والأرض، فقلت: لِمَن هذه الناقة؟ فقال:

ص: 199

لخديجة الكبرى وفاطمة الزهراء. فقلت: ومَن هذا الغلام؟ فقال: هذا الحسن بن عليّ. فقلت: وإلى أين يريدون بأجمعهم؟ فقال: لزيارةالمقتول ظُلماً شهيد كربلاء الحسين بن عليّ المرتضى. ثمّ إنّي قصدتُ نحو الهودج الّذي فيه فاطمة الزهراء، وإذا أنا برقاع مكتوبة تتساقط من السماء، فسألتُ: ما هذه الرقاع؟ فقال: فيها أمان من النار لزوّار الحسين علیه السلام في ليلة الجمعة. فطلبتُ منه رقعة، فقال لي: إنّك تقول زيارته بدعة، فإنّك لا تنلها حتّى تزور الحسين وتعتقد فضله وشرفه. فانتبهتُ من نومي فزعاً مرعوباً، وقصدتُ مِن وقتي وساعتي إلى زيارة سيّدي الحسين علیه السلام ، وأنا تائبٌ إلى الله (تعالى)، فوَالله -- يا سليمان -- لا أُفارق قبر الحسين علیه السلام حتّى تُفارق روحي جسدي ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثُّماليّ قال: خرجتُ في آخر زمان بني مروان إلى زيارة قبر الحسين علیه السلام مستخفياً من أهل الشام، حتّى انتهيتُ إلى كربلاء فاختفيتُ في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلتُ نحو القبر، فلمّا دنوتُ منه أقبل نحوي رجل، فقال لي: انصرِفْ مأجوراً؛ فإنّك لا تصل إليه، فرجعتُ فزعاً، حتّى إذا كاد يطلع الفجر أقبلتُ نحوه، حتّى إذا دنوتُ منه خرج إليّ الرجل فقال لي: يا هذا، إنّك لا تصل إليه. فقلت له: عافاك الله، ولمَ لا أصل إليه وقد أقبلتُ

ص: 200


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 189 المجلس 9.

من الكوفة أُريد زيارته؟! فلا تحل بيني وبينه، عافاك الله! وأنا أخاف إن أُصبِح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني هاهنا. قال: فقال لي: اصبِرْ قليلاً، فإنّ موسى بن عمران علیه السلام سأل الله أن يأذن له في زيارة قبر الحسين بن عليّ، فأذن له، فهبط من السماء في سبعين ألف ملَك، فهم بحضرته مِن أوّل الليل ينتظرون طلوعالفجر، ثمّ يعرجون إلى السماء. قال: فقلتُ له: فمَن أنت؟ عافاك الله! قال: أنا من الملائكة الّذين أُمِروا بحرس قبر الحسين علیه السلام والاستغفار لزوّاره. فانصرفتُ وقد كاد أن يطير عقلي لِما سمعتُ منه. قال: فأقبلتُ لمّا طلع الفجر نحوه، فلم يحل بيني وبينه أحد، فدنوتُ مِن القبر وسلّمتُ عليه ودعوتُ الله على قتلته، وصلّيتُ الصبح، وأقبلتُ مُسرعاً مخافة أهل الشام ((1)).

وفي (كامل الزيارة) أيضاً، عن يونس، عن الرضا علیه السلام قال: «مَن زار قبر الحسين علیه السلام فقد حجّ واعتمر». قال: قلت: يُطرَح عنه حجّة الإسلام؟! قال: «لا، هي حجّة الضعيف حتّى يقوى ويحجّ إلى بيت الله الحرام، أما علمتَ أنّ البيت يطوف به كلّ يوم سبعون ألف ملَك، حتّى إذا أدركهم الليل صعدوا ونزلوا غيرهم فطافوا بالبيت حتّى الصباح، وإنّ الحسين علیه السلام لَأكرم على الله من البيت، وإنّه في وقت كلّ صلاةٍ لَينزل عليه سبعون ألف ملَك شُعثٌ غُبر، لا تقع عليهم النوبة إلى

ص: 201


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 111 الباب 38 ح 2.

يوم القيامة» ((1)).

وفيه أيضاً، عن عنبسة بن مصعب، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام

حتّى يموت، كان منتقص الدين منتقص الإيمان، وإن دخل الجنّة كان دون المؤمنين في الجنّة» ((2)).وفيه، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام وهو يزعم أنّه لنا شيعة حتّى يموت، فليس هو لنا بشيعة، وإن كان من أهل الجنّة فهو من ضيفان أهل الجنّة» ((3)).

وفيه، عن منصور بن حازم قال: سمعناه يقول: «مَن أتى عليه حولٌ لم يأتِ قبر الحسين علیه السلام ، أنقص [نقّص] الله من عمره حولاً، ولو قلت: إنّ أحدكم لَيموت قبل أجله بثلاثين سنة، لكنت صادقاً؛ وذلك لأنكم تتركون زيارة الحسين علیه السلام ، فلا تدَعوا زيارته؛ يمدّ الله في أعماركم ويزيد في أرزاقكم، وإذا تركتُم زيارته نقّص الله من أعماركم وأرزاقكم، فتنافسوا في زيارته، ولا تدَعوا ذلك، فإنّ الحسين شاهدٌ لكم في ذلك عند الله وعند رسوله وعند فاطمة وعند أمير المؤمنين» ((4)).

وفي (المنتخب)، روى محمّد بن إسماعيل، عن موسى بن القاسم الحضرميّ قال: ورد أبو عبد الله الصادق من المدينة إلى الكوفة في أوّل ولاية

ص: 202


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 159 الباب 65 ح 6.
2- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 193 الباب 78 ح 2.
3- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 193 الباب 78 ح 3.
4- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 151 الباب 61 ح 2.

أبي جعفر العبّاسي، فقال علیه السلام: «يا موسى، إذهَب إلى الطريق الأعظم فقِفْ هُنيئة، فإنّه سيأتيك رجلٌ من ناحية القادسيّة، فإذا دنا منك فقل له: هنا رجلٌ مِن وُلد رسول الله صلی الله علیه وآله يدعوك. فإنّه يُسرّ بذلك وسيجيء معك». قال موسى: فمضيتُ ووقفتُ على الطريق، وكان الحَرّ شديداً، فمددتُ بصري في الفلاة، فنظرتُ شيئاً مُقبِلاً من بعيد، فتأمّلتُه وإذاهو رجلٌ على بعير، فلمّا دنا مني قلتُ له: يا هذا، إنّ هنا رجلٌ مِن وُلد رسول الله صلی الله علیه وآله يدعوك، وقد وصف لي بجميع صفاتك. فزاد إعجابه وسُرّ بذلك، وقال: اذهَبْ بنا إليه. قال: فجاء الرجلُ حتّى أناخ بعيره على باب خيمة الصادق علیه السلام ، ودخل إليه وسلّم عليه وقبّل يديه ورجليه، فقال الصادق: «مِن أين أقبلت؟»، فقال: مِن أقصى بلاد اليمن. فقال له: «أنت من وضع كذا وكذا؟»، قال: نعم. قال: «فيما جئت؟»، قال: جئتُ لزيارة الحسين علیه السلام فقال له الصادق علیه السلام: «جئتَ مِن غير حجّةٍ ليس إلّا للزيارة؟»، قال: نعم، إلّا أن أُصلّي عند قبره ركعتين وأزوره وأسلّم عليه وأرجع إلى أهلي. فقال له الصادق علیه السلام: «وما ترَون من زيارته؟»، قال: إنّا نرى من زيارته البركة والشفاء والعافية في أنفسنا وأهالينا وأولادنا ومعائشنا وأموالنا وقضاء حوائجنا. فقال له الصادق علیه السلام : «أفلا تحبّ أن أزيدك مِن فضل زيارته يا أخا اليمن؟»، فقال: إي والله، زِدْني يا ابن رسول الله. فقال: «اعلمْ أنّ زيارة الحسين علیه السلام تعدل حجّةً مبرورةً مقبولةً زاكيةً مع رسول الله صلی الله علیه وآله». فتعجّب الرجل من ذلك، فقال الصادق علیه السلام: «لا

ص: 203

تعجَبْ يا أخا اليمن، بل تعدل حجّتين متقبّلَتين زاكيتين مع رسول الله صلی الله علیه وآله». فتعجّب الرجل من ذلك. قال: فلم يزل الصادق علیه السلام يزيده من فضل زيارته حتّى قال له: «تعدل ثلاثين حجّةً مبرورةً مقبولةً زاكيةً مع رسول الله صلی الله علیه وآله»، فقال الرجل: إذا كان هذا فضل زيارة الحسين علیه السلام ، فوَالله لا أُفارقه حتّى أموت. قال: ولم يزل الرجل لائذاًبقبر الحسين علیه السلام حتّى أتاه الموت ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «كان الحسين بن عليّ علیه السلام ذات يومٍ في حِجر النبيّ صلی الله علیه وآله يلاعبه ويضاحكه، فقالت عائشة: يا رسول الله، ما أشدّ إعجابك بهذا الصبيّ! فقال لها: ويلكِ، وكيف لا أُحبّه ولا أُعجَب به وهو ثمرة فؤادي وقُرّة عيني؟ أما إنّ أُمّتي ستقتلُه، فمَن زاره بعد وفاته كتب الله له حجّةً من حججي. قالت: يا رسول الله، حجّةً مِن حججك؟! قال: نعم، حجّتين من حججي. قالت: يا رسول الله، حجّتين من حججك؟!! قال: نعم، وأربعة». قال: «فلم تزل تزاده [تراده] ويزيد ويضعّف، حتّى بلغ تسعين حجّةً من حجج رسول الله؟ص؟ بأعمارها» ((2)).

وفيه، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «لو يعلم الناس ما في زيارة قبر الحسين علیه السلام مِن الفضل لَماتوا شوقاً وتقطّعت أنفسهم عليه حسرات».

ص: 204


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 225 المجلس 1.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 68 الباب 22ح 1.

قلت: وما فيه؟ قال: «مَن أتاه تشوّقاً كتب الله له ألف حجّةً متقبّلة وألف عمرةٍ مبرورة، وأجر ألف شهيدٍ من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقةٍ مقبولة، وثواب ألف نسَمةٍ أُريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظاً سنته مِن كلّ آفةٍ أهونها الشيطان، ووُكّل به ملَكٌ كريمٌ يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدمه، فإن مات سنته حضرَته ملائكة الرحمة، يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له،ويُفسَح له في قبره مدّ بصره، ويُؤمنه الله مِن ضغطة القبر ومن مُنكرٍ ونكير أن يروّعانه [يروّعاه]، ويُفتَح له بابٌ إلى الجنّة، ويُعطى كتابه بيمينه، ويُعطى له يوم القيامة نوراً [نور]، يضي ء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي منادٍ: هذا مَن زار الحسين شوقاً إليه. فلا يبقى أحدٌ يوم القيامة إلّا تمنّى يومئذٍ أنّه كان مِن زوّار الحسين علیه السلام » ((1)).

وفيه أيضاً، عن عبد الله بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قلتُ له: ما لمَن أتى قبر الحسين بن عليّ علیه السلام زائراً عارفاً بحقّه غيرَ مُستنكفٍ ولا مستكبر؟ قال: «يُكتَب له ألف حجّةٍ مقبولة، وألف عُمرةٍ مبرورة، وإن كان شقيّاً كُتب سعيداً، ولم يزل يخوض في رحمة الله» ((2)).

وفيه أيضاً، عن حُذيفة بن منصور قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «كم

ص: 205


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 142 الباب 56 ح 3.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 145 الباب 57 ح 3.

حججت؟»، قلت: تسعة عشر. قال: فقال: «أما إنّك لو أتممتَ إحدى وعشرين حجّةً لَكنتَ كمن زار الحسين علیه السلام » ((1)).

وعن شهاب، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: سألني فقال: «يا شهاب، كم حججتَ مِن حجّة؟»، فقلت: تسعة عشر حجّة. فقال لي: «تمّمها عشرين حجّةً تُحسَب لك بزيارة الحسين؟علیه السلام » ((2)).

وفيه، عن الرضا علیه السلام يقول لأبي: «مَن زار الحسين بن عليّ علیه السلام عارفاً بحقّه، كان مِن محدّثي الله فوق عرشه»، ثمّ قرأ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} ((3)) ((4)).

وفيه، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ: أين زوّار الحسين بن عليّ؟ فيقوم عُنقٌ من الناس لا يحصيهم إلّا الله (تعالى)، فيقول لهم: ما أردتم بزيارة قبر الحسين علیه السلام فيقولون: يا ربّ، أتيناه حُبّاً لرسول الله وحبّاً لعليّ وفاطمة، ورحمةً له ممّا ارتُكِب منه. فيقال لهم: هذا محمّدٌ وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين، فالحقوا بهم، فأنتم معهم في درجتهم، الحقوا بلواء رسول الله. فينطلقون إلى لواء رسول الله، فيكونون في ظِلّه، واللّواء في يد عليّ علیه السلام ، حتّى يدخلون [يدخلوا]

ص: 206


1- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 162 الباب 66 ح 4.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 162 الباب 66 ح 3.
3- ([2]) سورة القمر: 54 و55.
4- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 141 الباب 54 ح 17.

الجنّة جميعاً، فيكونون أمام اللواء وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه» ((1)).

وفيه، عن الحسين بن محمّد القمّيّ قال: قال لي الرضا علیه السلام: «مَن زار قبر أبي ببغداد كان كمن زار رسول الله صلی الله علیه وآله وأمير المؤمنين، إلّا أنّ لرسول الله وأمير المؤمنين فضلهما». قال: ثمّ قال لي: «مَن زار قبر أبي عبد اللهبشطّ الفرات كان كمن زار الله فوق كرسيّه» ((2)).

وعن ابن سنان قال: قلتُ لأبي عبد الله علیه السلام: جُعلتُ فِداك، إنّ أباك كان يقول في الحجّ يُحسَب له بكلّ درهمٍ أنفقه ألف درهم، فما لمَن يُنفِق في المسير إلى أبيك الحسين علیه السلام فقال: «يا ابن سنان، يُحسَب له بالدرهم ألف وألف -- حتّى عدّ عشرة --، ويُرفَع له من الدرجات مثلها، ورضا الله خيرٌ له، ودعاء محمّدٍ صلی الله علیه وآله ودعاء أمير المؤمنين والأئمّة خيرٌ له» ((3)).

وفي (هِداية الأُمّة)، تأليف الشيخ الحرّ العامليّ: قال الصادق علیه السلام في زيارة الحسين علیه السلام: «إنّه لَيجلب الرزق على العبد فيخلف عليه ما أنفق، ويجعل له بكلّ درهمٍ أنفقه عشرة آلاف درهم» ((4)).

ورُوي: «وله بكلّ درهمٍ أنفقه عشرة آلاف مدينةٍ له في كتابٍ محفوظ» ((5)).

ص: 207


1- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 141 الباب 55 ح 1.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 148 الباب 59 ح 7.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 128باب 46 ح 4.
4- ([3]) هداية الأُمّة للحرّ العاملي: 5 / 483 ح 48.
5- ([4]) هداية الأُمّة للحرّ العاملي: 5 / 483 ح 49.

وفي (كامل الزيارة)، عن يسار، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن كان مُعسِراً فلم يتهيّأ له حجّة الإسلام، فلْيأتِ قبرَ الحسين علیه السلام ولْيعرّف عنده، فذلك يجزيه عن حجّة الإسلام، أما إنّي لا أقول يجزي ذلك عن حجّة الإسلام إلّا للمعسر، فأمّا الموسر إذا كان قد حجّ حجّة الإسلام فأراد أن يتنفّل بالحجّ أو العُمرة ومنعه من ذلك شغل دنياً أو عائقٌ فأتىقبر الحسين علیه السلام في يوم عرفة، أجزأه ذلك عن أداء الحجّ أو العمرة، وضاعف الله له ذلك أضعافاً مضاعفة». قال: قلت: كم تعدل حجّةً وكم تعدل عمرة؟ قال: «لا يُحصى ذلك». قال: قلت: مئة؟ قال: «ومَن يحصي ذلك!». قلت: ألف [ألفاً]؟ قال: «وأكثر». ثمّ قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} ((1))، {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ((2)) ((3)).

وفي (تهذيب الأحكام)، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «مَن زار قبر الحسين علیه السلام يوم عرفة، كتب الله له ألف ألف حجّةٍ مع القائم علیه السلام ، وألف ألف عُمرةٍ مع رسول الله صلی الله علیه وآله، وعتْقَ ألف ألف نسمة، وحملان ألف ألف فرسٍ في سبيل الله، وسمّاه الله عزوجل: عبدي الصدّيق، آمن بوعدي. وقالت الملائكة: فلان صدّيق، زكّاه الله مِن فوق عرشه. وسُمّيَ في الأرض كرّوبيّاً» ((4)).

وفي (كامل الزيارة)، عن ابن أبي يعفور قال: سمعتُ أبا عبد الله علیه السلام

ص: 208


1- ([1]) سورة إبراهيم: 34.
2- ([2]) سورة البقرة: 115.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 173 الباب 70 ح 12.
4- ([4]) تهذيب الأحكام للطوسي: 6 / 49 الباب 16 ح 28.

يقول لرجلٍ من مواليه: «يا فلان، أتزور قبر أبي عبد الله الحسين بن علي علیه السلام »، قال: نعم، إنّي أزوره بين ثلاث سنين أو سنتين مرّة. فقال له -- وهو مصفرّ الوجه -- : «أما واللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو زرتَه لكان أفضل لك ممّا أنت فيه». فقالله: جُعلتُ فداك، أكلّ هذا الفضل؟! فقال: «نعم والله، لو أنّي حدّثتُكم بفضل زيارته وبفضل قبره لَتركتم الحجّ رأساً وما حجّ منكم أحد. ويحك! أما تعلم أنّ الله اتّخذ [بفضل قبره] كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يتّخذ مكّة حرماً؟». قال ابن أبي يعفور: فقلتُ له: قد فرض الله على الناس حجّ البيت ولم يذكر زيارة قبر الحسين علیه السلام فقال: «وإن كان كذلك، فإنّ هذا شيءٌ جعله الله هكذا، أما سمعتَ قول أبي أمير المؤمنين علیه السلام حيث يقول: إنّ باطن القدَم أحقّ بالمسح من ظاهر القدم، ولكنّ الله فرض هذا على العباد؟ أوَ ما علمتَ أنّ الموقف لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم، ولكنّ الله صنع ذلك في غير الحرم؟» ((1)).

وفي (كامل الزيارة)، عن أبان بن تغلب قال: قال لي جعفر بن محمّد: «يا أبان، متى عهدك بقبر الحسين علیه السلام »، قلت: لا والله يا ابن رسول الله، ما لي به عهد منذ حين. فقال: «سبحان الله العظيم، وأنت من رؤساء الشيعة تترك زيارة الحسين علیه السلام لا تزوره! مَن زار الحسين علیه السلام كتب الله له بكلّ خطوةٍ حسنة، ومحا عنه بكلّ خطوةٍ سيّئة، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. يا أبان، لقد قُتِل الحسين علیه السلام فهبط على قبره سبعون ألف ملَك شُعثٌ غُبر، يبكون عليه وينوحون

ص: 209


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 266 الباب 88 ح 2.

عليه إلى يوم القيامة» ((1)).

وعن صفوان الجمّال، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الرجل إذا خرج مِن منزله يريد زيارة الحسين علیه السلامشيّعته سبعمئة ملَكٍ من فوق رأسه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى يُبلِغوه مأمنه، فإذا زار الحسين علیه السلام ناداه مناد: قد غُفِر لك، فاستأنف العمل. ثمّ يرجعون معه مشيّعين له إلى منزله، فإذا صاروا إلى منزله قالوا: نستودعك الله. فلا يزالون يزورونه إلى يوم مماته، ثمّ يزورون قبر الحسين علیه السلام في كلّ يوم، وثواب ذلك للرجل» ((2)).

وعن محمّد بن أحمد بن داوود بن عقبة قال: كان جارٌ لي يُعرَف بعليّ ابن محمّد، قال: كنتُ أزور الحسين علیه السلام في كلّ شهر، ثم علت سنّي وضعف جسمي فانقطعتُ عن الحسين علیه السلام مرّة، ثمّ إنّي خرجتُ في زيارتي إيّاه ماشياً فوصلتُ في أيّام، فسلّمتُ وصلّيتُ ركعتَي الزيارة، ونمت، فرأيتُ الحسين علیه السلام قد خرج من القبر وقال لي: «يا علي، لمَ جفوتني وكنتَ لي برّاً؟»، فقلت: يا سيّدي، ضعف جسمي وقصرت خطاي، ووقع لي أنّها آخِر سنّي، فأتيتُك في أيّام، وقد رُويَ عنك شيءٌ أُحبّ أن أسمعه منك. فقال علیه السلام : «قل»، فقلت: رُويَ عنك: «مَن زارني في حياته زُرتُه بعد وفاته». قال: «نعم، قلتُ ذلك، وإن وجدتُه في النار أخرجتُه» ((3)).

ص: 210


1- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 331 الباب 108 ح 8.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 190 الباب 77 ح 4.
3- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 16 / 98 ح 19.

وفي (كامل الزيارة)، عن ابن سنان، عن أبي عبد الله علیه السلام ،قال: سمعتُه يقول: «قبر الحسين بن عليّ علیه السلام عشرون ذراعاً في عشرين ذراعاً مكسّراً روضةٌ من رياض الجنّة، وفيه [ومنه] معراج الملائكة إلى السماء، وليس مِنملَكٍ مقرّبٍ ولا نبيّ مرسَلٍ إلّا وهو يسأل الله أن يزوره، ففوجٌ يهبط وفوجٌ يصعد» ((1)).

وعن عمر بن يزيد بيّاع السابريّ، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ أرض الكعبة قالت: مَن مثلي وقد بنى الله بيته [بُنيَ بيتُ الله] على ظهري، ويأتيني الناس مِن كلّ فجّ عميق، وجُعلتُ حرم الله وأمنه؟ فأوحى الله إليها أن كفّي وقرّي، فوَعزّتي وجلالي ما فضل ما فُضّلتِ به فيما أُعطيَت به أرضُ كربلاء إلّا بمنزلة الإبرة غُرسَت [غُمِسَت] في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضّلتُكِ، ولولا ما تضمّنَته أرض كربلاء لَما خلقتُكِ ولا خلقتُ البيت الّذي افتخرتِ به، فقرّي واستقرّي وكوني دنيّاً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكفٍ ولا مستكبرٍ لأرض كربلاء، وإلّا سختُ بكِ وهويتُ بكِ في نار جهنّم!» ((2)).

وعن ثابت، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «خلق الله (تبارك وتعالى) أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، وقدّسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدَّسةً مباركة، ولا تزال كذلك حتّى يجعلها الله أفضل أرضٍ في الجنّة وأفضل منزلٍ ومسكن، يُسكِن الله فيه أولياءه في الجنّة» ((3)).

ص: 211


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 112 الباب 38 ح 3.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 3.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 4.

وعن أبي الجارود قال: قال عليّ بن الحسين علیه السلام: «اتّخذ اللهُ أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرماً بأربعةٍ وعشرين ألف عام، وأنّهإذا زلزل الله (تبارك وتعالى) الأرض وسيّرها رُفعَت كما هي بتربتها نورانيّةً صافية، فجُعلَت في أفضل روضةٍ من رياض الجنّة وأفضل مسكنٍ في الجنّة لا يسكنها إلّا النبيّون والمرسلون -- أو قال: أُولوا العزم من الرسل --، وإنّها لَتزهر بين رياض الجنّة كما يزهر الكوكب الدُّرّي بين الكواكب لأهل الأرض، يغشي نورها أبصار أهل الجنّة جميعاً، وهي تنادي: أنا أرض الله المقدّسة الطيّبة المباركة الّتي تضمّنت سيّد الشهداء وسيّد شباب أهل الجنّة» ((1)).

وقال أبو جعفر علیه السلام : «الغاضريّة هي البقعة الّتي كلّم الله فيها موسى بن عمران علیه السلام ، وناجى نوحاً فيها، وهي أكرم أرض الله عليه، ولو لا ذلك ما استودع الله فيها أولياءه وأنبياءه، فزوروا قبورنا بالغاضريّة» ((2)).

وقال أبو عبد الله علیه السلام : «الغاضريّة تربةٌ من بيت المقدس» ((3)).

وعن حمّاد بن أيّوب، عن أبي عبد الله، علیه السلام عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله:يُقبَر ابني بأرضٍ يُقال لها: كربلاء، هي البقعة الّتي كانت فيها قبّة الإسلام الّتي نجّى الله عليها المؤمنين الّذين آمنوا مع نوح

ص: 212


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 5.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 6.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 7.

في الطوفان» ((1)).وعن يحيى، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «زُوروا كربلاء ولا تقطعوه، فإنّ خير أولاد الأنبياء ضمنته، ألا وإنّ الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جدّي الحسين علیه السلام ، وما مِن ليلةٍ تمضي إلّا وجبرائيل وميكائيل يزورانه، فاجتهد يا يحيى أن لا تُفقَد من ذلك الموطن» ((2)).

وعن صفوان الجمّال قال: سمعتُ أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الله (تبارك وتعالى) فضّل الأرضين والمياه بعضَها على بعض، فمنها ما تفاخرت ومنها ما بغت، فما من ماءٍ ولا أرض إلّا عوقبت لتركها التواضع لله، حتّى سلّط الله المشركين على الكعبة، وأرسل إلى زمزم ماءً مالحاً حتّى أفسد طعمه، وإنّ أرض كربلاء وماء الفرات أوّل أرضٍ وأوّل ماءٍ قدّس الله (تبارك وتعالى)، فبارك الله عليهما، فقال لها: تكلَّمي بما فضّلكِ الله (تعالى)، فقد تفاخرت الأرضون والمياه بعضها على بعض. قالت: أنا أرض الله المقدَّسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي، ولا فخر، بل خاضعة ذليلة لمن فعل بي ذلك، ولا فخر على مَن دوني، بل شكراً لله. فأكرمَها وزاد في تواضعها [وزادها لتواضعها]، وشكرها الله بالحسين علیه السلام وأصحابه». ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «مَن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبّر وضعه الله (تعالى)» ((3)).

ص: 213


1- ([4]) كامل الزيارات لابن قولويه: 267 الباب 88 ح 8.
2- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 269 الباب 88 ح 10.
3- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 271 الباب 88 ح 15.

وعن الأصبغ بن نباتة قال: لمّا ضُرب أمير المؤمنين علیه السلام الضربة الّتي كانت وفاته فيها، اجتمع إليه الناس ببابالقصر، وكانوا يريدون قتل ابن ملجم (لعنه الله)، قال: فخرج الحسين علیه السلام وقال: «معاشرَ الناس، إنّ أبي أوصاني أن أترك قاتله إلى يوم وفاته، قال: فإن كان له الوفاة، وإلّا نظر هو في حقّه. فانصرِفوا، رحمكم الله». قال: فانصرفَ الناس، ولم أنصرف.

قال: وخرج ثانية، وقال: «يا أصبغ، أما سمعتَ قولي عن قول أمير المؤمنين علیه السلام »، قلت: بلى، ولكنّي إذا رأيتُ حاله أحببتُ النظر إليه، فأسمعُ منه حديثاً، فاستأذِنْ لي، رحمك الله. فدخل، ولم يلبث أن خرج وقال: «ادخل»، فدخلت، فإذا أمير المؤمنين علیه السلام معصّبٌ بعصابةٍ صفراء، وقد علا صفرة في وجهه على تلك العصابة، فإذا هو يرفع فخذاً ويضع أُخرى مِن شدّة الضربة وكثرة السمّ، فقال لي: «يا أصبغ، أما سمعتَ قول الحسين علیه السلام عن قولي؟»، قلت: بلى يا أمير المؤمنين، ولكنّي رأيتُك في حالة، فأحببتُ النظر إليك وأن أسمع منك حديثاً. فقال لي: «اقعد، فلا أراك تسمع منّي حديثاً بعد يومك هذا. اعلم -- يا أصبغ -- أنّي أتيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله عائداً كما جئتَ إليّ الساعة، فقال لي صلی الله علیه وآله: اخرُج يا أبا الحسن فنادِ بالناس: الصلاة جامعة، واصعد منبري، وقم دون مقامي بمرقاة، و قُل للناس: ألا مَن عقَّ والديه فلعنة الله عليه، ألا من أبِقَ من مواليه فلعنة الله عليه، ألا من ظلم أجيراً أُجرته فلعنة الله عليه. يا أصبغ، فقلتُ ما أمرني به حبيبي رسول الله؟ص؟، فقام مِن أقصى المسجد رجلٌ وقال: يا أبا الحسن، تكلّمتَ بثلاث كلماتٍ وأوجزتهنّ، فاشرحهنّ لنا. فلم أردد جواباً، حتّى أتيتُ رسول

ص: 214

الله صلی الله علیه وآله و قلتُ له ما قال الرجل».

فقال الأصبغ: فأخذ بيدي عليٌّ علیه السلام وقال: «يا أصبغ، ابسِطْ يدك»، فبسطتُ يدي، فتناول إصبعاً من أصابع يدي وقال: «يا أصبغ، كذا تناول رسول الله صلی الله علیه واله إصبعاً من أصابع يدي كما تناولتُ إصبعا من (أصابعك)، ثمّ قال: يا أبا الحسن، ألا وإنّي وأنت أبوا هذه الأُمة، فمن عقّنا فلعنة الله عليه، ألا وإنّي وأنت مولَيا هذه الأُمة، فعلى من أبق عنّا لعنة الله، ألا وإنّي وأنت أجيرا هذه الأُمة، فمن ظلمنا أُجرتنا فلعنة الله عليه». قال: «فقل: آمين»، فقلت: آمين.

ثمّ قال الأصبغ: ثمّ أُغميَ عليه علیه السلام ، ثمّ أفاق، قال لي: «أقاعداً أنت يا أصبغ؟»، فقلت: نعم يا مولاي، فقال: «أزيدك حديثاً آخر؟»، قلت: نعم يا مولاي، زادك الله مزيد خير. قال: «يا أصبغ، لقيني رسول الله صلی الله علیه وآله في بعض طرقات المدينة وأنا مغمومٌ قد بيّن الغمّ في وجهي، فقال: يا أبا الحسن، أراك مغموماً! ألا أُحدّثك بحديثٍ لا تغتمّ بعده أبداً؟ فقلت: نعم. قال: إذا كان يوم القيامة نصب الله لي منبراً يعلو منابر النبيّين والشهداء، ثمّ يأمرني الله أن أصعد فوقه، ثمّ يأمرك الله تصعد فوقه دوني بمرقاة، ثمّ يأمر الله ملكين فيجلسان دونك بمرقاة، فإذا استقللنا على المنبر فلا يبقى أحدٌ من الأولين [و]الآخِرين إلّا يرانا، فينادي الملَك الّذي دونك بمرقاة: معاشرَ الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي، أنا رضوان خازن الجِنان، ألا إنّ الله بفضله وكرمه وجلاله أمرني أن أدفع مفاتيح الجنّة إلى محمّد صلی الله علیه وآله، وأنّ محمّداً قد أمرني أن أدفعها إلى عليّ بن أبي طالب علیه السلام . ثمّ بعد ذلك يقول الملَك الّذي تحت ذلك الملَك بمرقاة، فيقول منادياً

ص: 215

يسمع أهل الموقف: معاشرَ الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي، أنا مالك خازن النيران، ألا إنّ الله بفضله ومَنّه وكرمه قد أمرني أن أدفع مفاتيح النار إلى محمّد صلی الله علیه وآله، وأنّ محمّداً صلی الله علیه وآله قد أمرني أن أدفعها إلى عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، فاشهدوا لي عليه أنّه قد أخذ مفاتيح الجِنان والنيران. ثمّ قال: يا عليّ، فتأخذُ بحجزتي، وأهلُ بيتك يأخذون بحجزتك، وشيعتك يأخذون بحجزة أهل بيتك». قال: «وصفقتُ بكلتا يدَيّ وقلت: إلى الجنّة يا رسول الله؟ قال: إي وربّ الكعبة».

قال الأصبغ: فلم أسمع من مولاي علیه السلام دون هذين الحديثين، ثمّ توفّي علیه السلام ((1)).

وفي كتاب (الطُرَف)، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه علیهم السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: أمرني رسول الله صلی الله علیه وآله أن أخرج فأُنادي في الناس: ألا مَن ظلم أجيراً أجره فعليه

ص: 216


1- ([1]) الروضة لابن شاذان: 132 ح 116.

لعنة الله، ألا مَن توالى غير مواليه فعليه لعنة الله، ألا ومَن سبّ أبويه فعليه لعنة الله. قال عليّ بن أبي طالب علیه السلام: فخرجتُ فناديتُ في الناس كما أمرني النبيّ صلی الله علیه وآله، فقال لي عمر بن الخطّاب: هل لِما ناديتَ به من تفسير؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: فقام عمر وجماعته مِن أصحاب النبيّ صلی الله علیه وآله، فدخلوا عليه، فقال عمر:يا رسول الله، هل لِما نادى عليٌّ مِن تفسير؟ قال صلی الله علیه وآله: نعم، أمرتُه أن ينادي: ألا مَن ظلم أجيراً أجرَه فعليه لعنة الله، والله يقول: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ((1))، فمَن ظلَمَنا فعليه لعنة الله، وأمرتُه أن ينادي: مَن توالى غير مواليه فعليه لعنة الله، والله يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ((2))، فمَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، ومَن توالى غير عليّ وذرّيّته؟عهم؟ فعليه لعنة الله، وأمرتُه أن ينادي: ومَن سبَّ أبويه فعليه لعنة الله، وإنّي أُشهِدُ الله وأُشهِدكم أنّي وعليّاً أبوا المؤمنين، فمَن سبّ أحدَنا فعليه لعنة الله. فلما خرجوا قال عمر: يا أصحاب محمّد، ما أكّد النبيّ لعليّ في الولاية ولا في غدير خُمّ ولا في غيره أشدّ مِن تأكيده في يومنا هذا» ((3)).

وفي كتاب (الطُرَف) أنّ النبيّ صلی الله علیه وآله قال: «يا علي، ما أنت صانعٌ لو تأمّر القوم عليك مِن بعدي وتقدّموك، وبعثوا إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة، ثمّ لُبّبتَ بثوبك، وتُقاد كما يُقاد الشارد من الإبل مرموماً مخذولاً محزوناً مهموماً؟ أبعد ذلك تصبر وتنقاد لهم أم لا؟».

قال: فلمّا سمعَت فاطمة ما قال رسول الله صلی الله علیه وآله صرخَت فاطمة وبكت، فبكى رسول الله صلی الله علیه وآلهلبكائها، وقال: «يا بُنيّة، لا تبكين ولا تؤذين جلساءك مِن الملائكة، هذا جبرئيل يبكي لبكائك، وميكائيل وصاحب صور الله إسرافيل، يا بُنيّة لا تبكين، فقد بكت السماوات والأرض لبكائك».

ص: 217


1- ([1]) سورة الشورى: 23.
2- ([2]) سورة الأحزاب: 6.
3- ([3]) الطُرَف للسيّد ابن طاووس: 187.

فقال عليّ علیه السلام : «يا رسول الله، أنقاد للقوم وأصبر -- كما أمرتَني -- على ما أصابني، من غير بيعةٍ لهم، ما لم أصب أعواناً عليهم لم أُناظر القوم». فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «اللّهمّ اشهد».

فقال: «يا علي، ما أنت صانعٌ بالقرآن والعزائم والفرائض؟»، فقال: «يا رسول الله، أجمعُه، ثمّ آتيهم به، فإن قبلوه وإلّا أشهدتُ الله وأشهدتُك عليهم»، قال صلی الله علیه وآله: «اللّهمّ اشهد» ((1)).

ص: 218


1- الطرف لابن طاووس: 199.

الفصل السابع: في جملةٍ من مناقبه وفضائله علیه السلام

اشارة

رُوي في كتاب (المنتخب) أنّ النبيّ خرج من المدينة غازياً وأخذ معه عليّاً، وبقي الحسن والحسين علیهما السلام عند أُمّهما لأنّهما صغيران، فخرج الحسين علیه السلام ذات يومٍ مِن دار أُمّه يمشي في شوارع المدينة، وكان عمره يومئذ ثلاث سنين، فوقع بين نخيل وبساتين حول المدينة، فجعل يسير في جوانبها ويتفرّج في مضاربها، فمرّ عليه يهوديّ يُقال له: صالح بن رقعة اليهودي، فأخذه إلى بيته وأخفاه عن أُمّه، حتّى بلغ النهار إلى وقت العصر والحسين لم يتبيّن له أثر، فقاد قلب فاطمة بالهمّ والحزن على ولدها الحسين علیه السلام ، فصارت تخرج من دارها إلى باب مسجد النبيّ صلی الله علیه وآله سبعين مرّة، فلم ترَ أحداً تبعثه في طلب الحسين علیه السلام

ثمّ أقبلَت إلى ولدها الحسن علیه السلام وقالت له: «يا مُهجة قلبي وقُرّة عيني، قُم فاطلب أخاك الحسين، فإنّ قلبي يحترق من فراقه». فقام الحسن وخرج من المدينة، وأتى إلى دورٍ حولهانخلٌ كثير، وجعل يُنادي: «يا حُسين بن عليّ، يا

ص: 219

قرّة عين النبي! أين أنت يا أخي؟». قال: فبينما الحسن يُنادي إذ بدا له غزالةً في تلك الساعة، فألهم الله الحسن أن يسأل الغزالة، فقال: «يا ظبية، هل رأيتِ أخي حُسيناً؟»، فأنطق الله الغزالة ببركات رسول الله، وقالت: يا حسن، يا نور عين المُصطفى وسرور قلب المُرتضى ويا مُهجة فؤاد الزهراء، اعلَمْ أنّ أخاك أخذه صالح اليهوديّ وأخفاه في بيته. فسار الحسن حتّى أتى دار اليهودي، فناداه فخرج صالح، فقال له الحسن: «إليّ الحسين من دارك وسلِّمْه إليّ، وإلّا أقول لأُمّي تدعو عليك في أوقات السحَر، وتسأل ربّها حتّى لا يبقى على وجه الأرض يهودي، ثمّ أقول لأبي يضرب بحسامه لجمعكم حتّى يُلحقكم بدار البوار، وأقول لجدّي يسأل الله (سبحانه) أن لا يدَع يهودياً إلّا وقد فارق روحه». فتحيّر صالحُ اليهوديّ من كلام الحسن، وقال له: يا صبي، مَن أُمّك؟ فقال: «أُمّي الزهراء بنت محمّد المُصطفى، قلادة الصفوة ودُرّة صَدَف العصمة، وعزّة جمال العالم والحكمة، وهي نقطة دائرة المناقب والمفاخر، ولمعةٌ من أنوار المحامد والمآثر، خمرة طينة وجودها من تفّاحةٍ من تفّاح الجنّة، وكتب الله في صحيفتها عتقَ عصاة الأُمّة، وهي أُمّ السادة النجباء، وسيّدة النساء، البتول العذراء، فاطمة الزهراء علیها السلام». فقال اليهودي: أمّا أُمّك فعرفتها، فمَن أبوك؟ فقال الحسن علیه السلام : «إنّ أبي أسد الله الغالب، عليّ بن أبي طالب، الضارب بالسيفَين، والطاعن بالرمحين، والمصلّي مع النبيّ في القبلتين، والمُفدي نفسه لسيّد الثقلين، أبو الحسن والحسين». فقال صالح: يا صبي، قد عرفتُ أباك، فمَن جدّك؟فقال: «جدّي [درّةٌ] من صف [صدف] الجليل، وثمرةٌ من شجرة إبراهيم الخليل،

ص: 220

الكوكب الدرّي، والنور المضيء من مصباح التبجيل المعلَّقة في عرش الجليل، سيّد الكونين، ورسول الثقلين، ونظام الدارَين، وفخر العالمين، ومُقتدى الحرمين، وإمام المشرقين والمغربين، وجدّ السبطين، أنا الحسن وأخي الحسين!».

قال: فلمّا فرغ الحسن من تعداد مناقبه، انجلى صداه الكفر عن قلب صالح، وهملت عيناه بالدموع، وجعل ينظر كالمتحيّر، متعجّباً من حُسن منطقه وصغر سنّه وجودة فهمه، ثمّ قال: يا ثمرة فؤاد المُصطفى، ويا نور عين المُرتضى، ويا سرور صدر الزهراء، يا حسن، أخبِرْني مِن قبل أن أُسلّم إليك أخاك عن أحكام دين الإسلام، حتّى أُذعن لك وأنقاد إلى الإسلام. ثمّ إنّ الحسن عرض عليه أحكام الإسلام، وعرّفه الحلال والحرام، فأسلم صالح وأحسن الإسلام على يد الإمام، وسلّمه أخاه الحسين، ثمّ نثر على رأسيهما طبقاً من الذهب والفضّة، وتصدّق به على الفقراء والمساكين ببركة الحسن والحسين علیهما السلام.

ثمّ إنّ الحسن أخذ بيد أخيه الحسين وأتيا إلى أُمّهما، فلمّا رأتهما اطمأنّ قلبها وزاد سرورها بولديها.

قال: فلمّا كان اليوم الثاني، أقبل صالح ومعه سبعون رجُلاً من رهطه وأقاربه، وقد دخلوا جميعهم في الإسلام على يد الإمام ابن الإمام أخى الإمام (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ثمّ تقدّم صالح إلى الباب -- باب الزهراء -- رافعاً صوته بالثناء للسادة الأُمناء، وجعل يمرّغ وجهه وشيبته على عتبة دار فاطمة، وهو يقول: يا بنت محمّدٍالمُصطفى، عملتُ سوءاً بابنكِ، وآذيتُ

ص: 221

ولدك، وأنا على فعلي نادم، فاصفحي عن ذنبي. فأرسلَت إليه فاطمة تقول: «يا صالح، أمّا أنا فقد غفرتُ عنك مِن حقّي ونصيبي، وصفحتُ عمّا سوّءتَني به، لكنّهما ابناي وابنا عليّ المُرتضى، فاعتذِرْ إليه ممّا آذيتَ ابنه».

ثمّ إنّ صالحاً انتظر عليّاً حتّى أتى من سفره، وعرض عليه حاله، واعترف عنده بما جرى له، وبكى بين يديه واعتذر ممّا أساء إليه، فقال له: «يا صالح، أمّا أنا فقد رضيتُ عنك، وصفحتُ عن ذنبك، لكنّ هؤلاء ابناي وريحانتا رسول الله صلی الله علیه وآله، فامضِ إليه واعتذرْ ممّا أسأتَ بولده».

قال: فأتى صالح إلى رسول الله صلی الله علیه و آله باكياً حزيناً، وقال: يا سيّد المُرسلين، أنت قد أُرسلتَ رحمةً للعالمين، وإنّي قد أسأتُ وأخطأت، وإنّي قد سرقتُ ولدك الحسين، وأدخلتُه داري وأخفيتُه عن أخيه وأُمّه، وقد سوّءتُهما في ذلك، وأنا الآن قد فارقتُ الكفر ودخلتُ في دين الإسلام. فقال له النبيّ صلی الله علیه وآله: «أمّا أنا فقد رضيتُ عنك وصفحتُ عن جُرمِك، لكن يجب عليك أن تعتذر إلى الله وتستغفره ممّا أسأتَ به قُرّة عين الّسول ومهجة فؤاد البتول، حتّى يعفو الله عنك (سبحانه)».

قال: فلم يزل صالح يستغفر ربّه ويتوسّل إليه، ويتضرّع بين يديه في أسحار الليل وأوقات الصلوات، حتّى نزل جبرائيل إلى النبيّ بأحسن التبجيل، وهو يقول: يا محمّد، قد صفح الله عن جرم صالح حيث دخل في دين الإسلام على يد الإمام ابن الإمام (عليهم أفضل الصلوات

ص: 222

والسلام) ((1)).

وروى الشيخ المفيد في كتاب (الأمالي) ((2))، قال الرضا علیه السلام: «عري الحسن والحسين، وأدركهما العيد، فقالا لأُمّهما: قد زيّنوا صبيان المدينة إلّا نحن، فما لكِ لا تزيّنينا؟ فقالت: ثيابكما عند الخيّاط، فإذا أتاني زيّنتُكما. فلمّا كانت ليلة العيد أعادا القول على أُمّهما، فبكت ورحمتهما، فقالت لهما ما قالت في الأُولى، فردّا عليها، فلمّا أخذ الظلام قرع الباب قارع، فقالت فاطمة: مَن هذا؟ قال: يا بنت رسول الله، أنا الخيّاط جئتُ بالثياب. ففتحت الباب، فإذا رجلٌ ومعه مِن لباس العيد. قالت فاطمة: واللهِ لم أرَ رجلاً أهيب شيمةً منه. فناولها منديلاً مشدوداً، ثمّ انصرف، فدخلت فاطمة ففتحت المنديل، فإذا فيه قميصان ودرّاعتان وسروالان ورداءان وعمّامتان وخُفّان أسودان معقبان بحمرة، فأيقظتهما وألبستهما، ودخل رسول الله وهما مزيَّنان، فحملهما وقبّلهما، ثمّ قال: رأيتِ الخيّاط؟ قالت: نعم يا رسول الله، والّذي أنفذته من الثياب. قال: يا بُنيّة، ما هو خيّاط، إنّما هو رضوان خازن الجنّة. قالت فاطمة: فمن أخبرك يا رسول الله؟ قال: ما عرج حتّى جاءني وأخبرني بذلك» ((3)).

وفي كتاب (المنتخب) وغيره، عن بعض الثُّقاة الأخيار أنّ الحسن والحسين علیهما السلام دخلا يوم عيدٍ على حُجرة جدّهما رسول الله صلی الله علیه وآله، فقالا: «يا

ص: 223


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 163 المجلس 8.
2- ([2]) في (المناقب): (أبو عبد الله المفيد النَّيسابوريّ في أماليه).
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 73/9

جدّاه، اليوم يوم العيد، وقد تزيّن أولاد العرب بألوان اللباس ولبسوا جديد الثياب، وليس لنا ثوبٌ جديد، وقد توجّهنا لجنابك لنأخذ عيديّتنا منك، ولا نريد سوى ثيابٍ نلبسها». فتأمّل النبيّ صلی الله علیه و آله إلى حالهما وبكى، ولم يكن عنده في البيت ثيابٌ تليق بهما، ولا رأى أن يمنعهما فيكسر خاطرهما، فتوجّه إلى الأحديّة وعرض الحال على الحضرة الصمديّة، وقال: «إلهي، اجبرْ قلبهما وقلب أُمّهما». فنزل جبرائيل من السماء تلك الحال، ومعه حلّتان بيضاوتان من حُلل الجنّة، فسُرّ النبي صلی الله علیه وآله، وقال لهما: «يا سيّدَي شباب أهل الجنّة، هاكما أثوابكما، خاطهما خيّاط القدرة على طولكما، أتتكما مخيّطةً من عالم الغيب». فلمّا رأيا الخُلَع بيضاً قالا: «يا جدّاه، كيف هذا وجميع صبيان العرب لابسون ألوان الثياب؟!». فأطرق النبيّ صلی الله علیه وآله ساعةً متفكّراً في أمرهما، فقال جبرائيل: يا محمّد، طِبْ نفساً وقُر عيناً، إنّ صابغ صبغة الله عزوجل يقضي لهما هذا الأمر، ويفرّح قلوبهما بأيّ لونٍ شاء، فأْمُر -- يا محمّد -- بإحضار الطشت والإبريق. فحضرا، فقال جبرائيل: يا رسول الله، أنا أصبّ الماء على هذه الخُلَع، وأنت تفركهما بيدك، فتصبغ بأيّ لونٍ شاءا. فوضع النبيّ حُلّة الحسن في الطشت، فأخذ جبرائيل يصبّ الماء، ثمّ أقبل النبيّ على الحسن وقال: «يا قُرّة عيني، بأيّ لونٍ تريد حُلّتك؟»، فقال: «أُريدها خضراء». ففركها النبيّ صلی الله علیه وآله بيده في ذلك الماء، فأخذت بقدرة الله لوناً أخضر فائقاً كالزبرجد الأخضر، فأخرجها النبيّ صلی الله علیه وآله وأعطاها للحسن فلبسها، ثمّ وضع حُلّة الحسين علیه السلام في الطشت، وأخذ جبرائيل يصبّ الماء، فالتفت النبيّ إلى نحو الحسين -- وكان

ص: 224

له من العمر خمس سنين -- وقال له: «يا قرّة عيني، أيّ لونٍ تريد حلّتك؟»، فقال الحسين علیه السلام : «يا جدّاه، أُريدها حمراء». ففركها النبيّ بيده في ذلك الماء، فصارت حمراء كالياقوت الأحمر، فلبسها الحسين، فسُرّ النبيّ صلی الله علیه وآله بذلك، وتوجّه الحسن والحسين إلى أُمّهما فرحَين مسرورَين، فبكى جبرائيل لمّا شاهد تلك الحال، فقال النبيّ صلی اله علیه وآله: «يا أخي، في مِثل هذا اليوم الّذي فرح فيه ولداي تبكي وتحزن؟! فبالله عليك إلّا ما أخبرتني!»، فقال جبرائيل: اعلَمْ -- يا رسول الله -- أنّ اختيار ابنَيك على اختلاف اللّون، فلا بدّ للحسن أن يسقوه السمّ ويخضرّ لون جسده من عظم السمّ، ولابدّ للحسين أن يقتلوه ويذبحوه ويُخضَّب بدنه من دمه. فبكى النبيّ صلی الله علیه وآله وزاد حزنه لذلك ((1)).

وفي (المنتخب)، روى هِشام بن عروة، عن أُمّ سلمة أنّها قالت: رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يُلبس ولده الحسين علیه السلام حُلّةً ليست من ثياب أهل الدنيا، وهو يُدخِل أزرار الحسين بعضها ببعض، فقلت له: يا رسول الله، ما هذه الحُلّة؟! فقال: «هذه هديّةٌ أهداها إليّ ربّي لأجل الحسين، وإنّ لحمتها من زغب جناح جبرائيل، وها أنا أُلبسه إيّاها وأُزيّنه بها، فإنّ اليوم يوم الزينة، وأنا أُحبّه» ((2)).

وفي كتاب (المنتخب) أنّ فاطمة علیها السلام جاءت إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وهي

ص: 225


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 121 المجلس 6.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 122 المجلس 6.

تبكي، فقال: «ما يُبكيكِ؟»، فقالت: «ضاع منّي الحسين فلا أجده». فقام النبيّ صلی الله علیه وآله، واغرورقت عيناه، وذهب ليطلبه، فلقيه يهوديّ فقال: يا محمّد، ما لَك تبكي؟ فقال: «ضاع ابني». فقال: لا تحزن، فإنّي رأيتُه على تلّ كذا نائماً. فقصده النبيّ صلی الله علیه وآله، واليهوديّ معه، فلمّا قرب من التلّ رأى ضبّاً بفمه غصن أخضر يروح به إلى الحسين، فلمّا رأى الضبّ النبيّ قال بلسانٍ فصيح: السلام عليك يا زين القيامة. وشهد له بشهادة الحقّ، ثمّ قال: لم أرَ أهل بيتٍ أكثر بركةً مِن أهل بيتك؛ لأنّ وَلدي ضاع منّي ثلاث سنين، فطفتُ العالم أطلبه فلم أجده، فببركة ولدك وجدّته الآن فأُكافيه. ثمّ قال ولد الضبّ: يا رسول الله، أخذَني السيل فادخلَني البحر، ثمّ ضربَت بيَ الأمواج إلى أن وقعتُ بجزيرة كذا، فلم أجدْ سبيلاً ومخرجاً منها، حتّى أهبّ الله ريحاً فأخذَتني وألقَتني في هذا الموضع عند أبي. فقال صلی الله علیه وآله: «مِن تلك الجزيرة إلى هاهنا ألف فرسخ». فأسلم اليهوديّ وقال: أشهدُ أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله ((1)).

وفي (المنتخب)، رُويَ عن سلمان الفارسي قال: اُهديَ إلى النبيّ صلی الله علیه وآله قطف من العنب في غير أوانه، فقال لي: «يا سلمان، آتِيني بولدي الحسن والحُسين؛ ليأكلا معي من هذا العنب». قال سلمان الفارسي: فذهبتُ أطرق عليهما منزل أُمّهما فلم أرهما، فأتيتُ منزل أُختهما أُمّ كلثوم فلم أرهما،

ص: 226


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 98 المجلس 5.

فجئتُ فخبّرت النبيّ بذلك، فاضطرب ووثب قائماً وهو يقول: «وا ولداه! وا قرّة عيناه! مَن يرشدني عليهما فله على اللهالجنّة». فنزل جبرائيل من السماء وقال: يا محمّد، على مَ هذا الانزعاج؟ فقال: «على ولديَّ الحسن والحسين، فإنّي خائفٌ عليهما من كيد اليهود». فقال جبرائيل: يا محمّد، بل خِفْ عليهما من كيد المنافقين؛ فإنّ كيدهم أشدّ من كيد اليهود، واعلم -- يا محمّد -- إنّ ابنيك الحسن والحسين نائمان في حديقة أبي الدحداح. فسار مِن وقته وساعته إلى الحديقة وأنا معه حتّى دخلنا الحديقة، وإذا هما نائمان وقد اعتنق أحدهما الآخر، وثعبانٌ في فيه طاقة ريحان يروح بها وجهيهما، فلمّا رأى الثعبانُ النبيَّ صلی الله علیه وآله ألق ما كان في فيه، وقال: السلام عليك يا رسول الله، لستُ أنا ثعباناً، ولكنّي ملَكٌ من ملائكة الله المكروبين، غفلتُ عن ذكر ربّي طرفة عين، فغضب علَيّ ربّي ومسخني ثعبان كما ترى، وطردني من السماء إلى الأرض، ولي منذ سنين كثيرة أقصد كريماً على الله فأسأله أن يشفع لي عند ربّي؛ عسى أن يرحمني ويعيدني ملَكاً كما كنتُ أوّلاً، إنّه على كلّ شيءٍ قدير. قال: فجثى النبي صلی الله علیه وآله يقبّلهما حتّى استيقظا، فجلسا على ركبتَي النبي صلی الله علیه وآله ، فقال لهما النبي صلی الله علیه وآله: «انظُرا يا ولدَيّ، هذا ملَكٌ من ملائكة الله المكروبين، قد غفل عن ذكر ربّه طرفة عينٍ فجعله اللهُ هكذا، وأنا مستشفعٌ إلى الله (تعالى) بكما، فاشفعا له». فوثب الحسنُ والحسين علیهما السلام فأسبغا الوضوء وصلّيا ركعتين، وقالا: «اَللّهمّ بحقّ جدّنا الجليل الحبيب محمّدٍ المصطفى، وبأبينا

ص: 227

عليّ المرتضى، وبأُمّنا فاطمة الزهراء، إلّا ما رددتَه إلى حالته الأُولى». قال: فما استتمّ دعاؤهما وإذا بجبرائيل قد نزل من السماء في رهطٍ من الملائكة، وبشّر ذلك برضى الله عليه وبردّهإلى سيرته الأُولى، ثمّ ارتفعوا به إلى السماء وهم يُسبّحون الله (تعالى)، ثمّ رجع جبرائيل علیه السلام إلى النبي صلی الله علیه وآله وهو مُبتسمٌ وقال: يا رسول الله، إنّ ذلك الملَك يفتخر على ملائكة السبع السماوات، ويقول لهم: مَن مثلي وأنا في شفاعة السيّدَين السبطَين؟ ((1))

وفي بعض الكتب: كان النبي صلی الله علیه وآله جالساً في بيت فاطمة علیها السلام والحسن على فخذه الأيمن والحسين على فخذه الأيسر، فنزل جبرئيل معه عنقود عنبٍ من الجنّة وقال: يا محمّد، العليّ الأعلى يُقرئك السلام ويخصّك بالتحيّة والإكرام، ويأمرك أن تقسم هذا العنقود بين ولديك الحسن والحسين. فأخذه النبيّ صلی الله علیه وآله وقسمه بينهما، وجعل حصّة الحسن أكثر من حصّة الحسين، فنظر الحسين إلى جدّه وقال: «يا نبيّ الله، السلام عليك، حضرتني أبياتٌ من الشعر، تأذن لي بإنشاده؟»، قال النبي: «هاتها يا أبا عبد الله». فأنشد الحسين علیه السلام:

«ليس لي بعد إلهي***ملجأ إلّا إليك

أنت كنزي أنت ذخري***فاز مَن صلّى عليك

تجعل الأكثر للأك***بر والأمر إليك

ص: 228


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 255 المجلس 2.

تجعل العنقود شطرين***وسهمي في يديك

كلّنا أولاد بنتك***كلّنا تفّاحتيك

إنّما أهناك عيناك***فداوي مقلتيك

إن كحلت الفرد منها***هاجت الأُخري عليك

لا تعوّدني عقوقك***لا تحزنني عليك

لا تفضّله علَيّ***بالّذي أوحي إليك»

فقال الحسن علیه السلام: «يا رسول الله، أعطِه حصّتي». فأمر النبي بميزانٍ فوُزن العنقود نصفين متساويين، وقسّمه بينهما (صلوات الله عليهم أجمعين) ((1)).

وفي كتاب (مثير الأحزان) عن أخبار (تاريخ البلاذري)، حدّث محمّد ابن يزيد المبرد النحويّ في إسنادٍ ذكره، قال: انصرف النبي صلی الله علیه وآله إلى منزل فاطمة، فرآها قائمةً خلف بابها، فقال: «ما بال حبيبتي هاهنا؟»، فقالت: «ابناك خرجا غدوة، وقد غبي علَيّ خبرهما». فمضى رسول الله صلی الله علیه وآله يقفو آثارهما حتّى صار إلى كهف جبل، فوجدهما نائمين وحيّة مطوّقة عند رأسهما، فأخذ حَجرا وأهوى إليها، فقالت: السلام عليك يا رسول الله، واللهِ ما نمتُ عند رأسهما إلّا حراسةً لهما. فدعا لهما بخير، ثمّ حمل الحسن على كتفه اليمنى والحسين على كتفه اليسرى، فنزل جبرئيل فأخذ الحسين وحمله، فكانا بعد ذلك يفتخران، فيقول الحسن: «حملَني خيرُ أهل الأرض»، ويقول

ص: 229


1- ([1]) لم نعثر عليه فيما توفّر لدينا من المصادر.

الحسين: «حملَني خيرُ أهل السماء» ((1)).

وفي كتاب (الخرائج)، عن المقداد بن الأسود أنّ النبي صلی اللهعلیه وآله خرج في طلب الحسن والحسين علیه السلام وقد خرجا من البيت، وأنا معه، فرأيتُ أفعى على الأرض، فلمّا أحسّت وطء النبي صلی الله علیه وآله قامت فنظرت، وكانت أعلى من النخلة وأضخم من البكر، متبصبصةً تخرج من أفواهها النار، فهالني ذلك، فلما رأت رسولَ الله صلی الله علیه وآله صارت كأنّها خيط، فالتفت إليّ رسولُ الله صلی الله علیه وآله فقال: «لا تدري ما تقول يا أخا كِندة!»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «تقول: الحمد لله الّذي لم يُمِتني حتّى جعلني حارساً لابنَي رسول الله». فجرت في الرمل، رمل الشعاب، فنظرتُ إلى شجرةٍ، وأنا أعرف ذلك الموضع ما رأيتُ فيه شجرةً قطّ قبل يومي ولا رأيتُها، ولقد أتيتها بعد ذلك اليوم أطلب الشجرة فلم أجِدْها، وكانت الشجرة أظلَّتهما بورق.

وجلس النبي صلی الله علیه وآله بينهما، فبدأ بالحسن فوضع رأسه على فخذه الأيمن، ثمّ بالحسين فوضع رأسه على فخذه الأيسر، ثمّ جعل يُرخي لسانه في فم الحسين، فانتبه الحسين فقال: «يا أبه»، ثمّ عاد في نومه، وانتبه الحسن فقال: «يا أبه»، وعاد في نومه، فقلت: كأنّ الحسين أكبر، فقال النبي صلی الله علیه وآله : «إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفةً مكتومة، سَلْ أُمّه عنه». فلمّا انتبها حملهما على منكبيه.

ص: 230


1- ([2]) مثير الأحزان لابن نما: 21.

ثمّ أتيتُ أنا فاطمةَ فوقفتُ بالباب، فأتت حمامة وقالت: يا أخا كِندة، فقلت: مَن أعلمكِ أنّي بالباب؟! قالت: أخبرَتني سيّدتي أنّ رجلاً بالباب مِن كِندة، مِن أطيبها إخباراً يسألني عن موضع قرّة عيني. فكبر ذلك عندي، فولّيتُها ظهري كما كنتُ أفعل حين أدخل على رسول الله في منزل أُمّ سلَمة، فقلت لفاطمة: ما منزلة الحسين؟ قالت: «إنّه لمّا ولدتُ الحسن أمرني أبي أن لا ألبس ثوباً أجدفيه اللذّة حتّى أفطمه، فأتاني أبي زائراً، فنظر إلى الحسن وهو يمصّ النوى، قال: فطمتيه؟ قلت: نعم، قال: إذا أحبّ عليٌّ الاشتمال فلا تمنعيه؛ فإنّي أرى في مَقدم وجهكِ ضوءاً ونوراً، وذلك أنّكِ ستلدين حُجّةً لهذا الخلق وحجّةً على ذا الخلق. فلمّا أن تمّ الشهر من حملي وجدتُ في بطني سُخنة، فقلتُ لأبي ذلك، فدعا بتورٍ من ماءٍ فتكلّم عليه وتفل فيه، وقال: اشربي، فشربت، فطرد الله عنّي ما كنتُ أجد، وصرتُ في الأربعين من الأيام فوجدتُ دبيباً في ظهري كدبيب النمل بين الجِلدة والثوب، فلم أزلْ على ذلك حتّى تمّ الشهر [الثاني] فوجدتُ الاضطراب والحركة، فوَالله لقد تحرّك في بطني وأنا بعيدةٌ عن المطعم والمشرب، فعصمني الله عنهما كأنّي شربتُ منا لبناً، حتّى تمّ الثلاثة و[أنا] أجد الخير والزيادة في منزلي، فلمّا صرتُ في الأربعة آنس الله به وحشتي، ولزمتُ المسجد لا أبرح منه إلّا لحاجةٍ تظهر لي، فكنتُ في الزيادة والخفّة في ظاهري وباطني حتّى أكملت الخمسة، فلمّا أن دخلتُ الستّة كنتُ لا أحتاج في الليلة الظلماء إلى مصباح، وجعلت أسمعُ

ص: 231

إذا خلَوتُ بنفسي في مصلّاي التسبيحَ والتقديس [في بطني]، فلمّا مضى من الستّة تسع ((1)) ازددتُ قوّة، وكنتُ ضعيفة اللذات، فذكرتُ ذلك لأُمّ سلَمة، فشدّ اللهُ بها أزري، فلمّا زادت العشر ((2)) من الستّة وغلبتني عيني، أتاني آتٍ في منامي فمسح جناحه على ظهري، ففزعتُ وقمتُ وأسبغت الوضوء فصلّيتُ ركعتين، ثمّ غلبتني عيني فأتاني آتٍ فيمنامي وعليه ثيابٌ بيض، فجلس عند رأسي فنفخ في وجهي وفي قفاي، فقمتُ وأنا خائفة، فأسبغت الوضوء وأدّيت أربعاً، ثمّ غلبتني عيني فأتاني آتٍ في منامي فأقعدني ورقاني وعوّذني، فأصبحت، وكان يوم أُمّ سلَمة المباركة، فدخلتُ في ثوب حمامة، ثمّ أتيتُ أُمّ سلَمة، فنظر النبي صلی الله علیه وآله إلى وجهي، ورأيتُ أثر السرور في وجهه فذهب عنّي ما كنتُ أجد، وحكيتُ ذلك للنبي صلی الله علیه وآله، فقال: أبشري، أمّا الأوّل فخليلي عزرائيل الموكَّل بأرحام النساء يفتحها، وأمّا الثاني فخليلي ميكائيل الموكَّل بأرحام أهل بيتي نفخ فيك. فقلت: نعم». قالت: «ثمّ ضمّني إلى نفسه، فقال: أمّا الثالث فأخي جبرئيل يقيمه الله بولدك. فرجعتُ فأنزلتُه في تمام الستّة» ((3)) ((4)).

ص: 232


1- ([1]) ترجمها المؤلّف: (فلمّا مضت الشهر التاسع).
2- ([2]) ترجمها المؤلّف: (فلمّا مضى العاشر).
3- ([1]) الخرائج للراوندي: 2 / 841.
4- ([2]) بحار الأنوار: 43 / 271 ح 39. قال العلّامة المجلسي: ولا يخفى تنافي الأخبار الواردة في مدّة الحمل، وأخبار الستّة أكثر وأقوى.

قال المؤلف:

وإن كان في الحديث (سنة تسعون)!!! ((1)) ولكن مقتضى الجمع بين الأخبار أنّ الستّة بالتاء، فسقطت نقطةٌ بسهو النسّاخ، وتحمل كلمة التسع والعشر على الأيام والليالي ((2)).وروى الشيخ الصدوق في كتاب (الأمالي)، عن زيد الشحّام، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ الباقر، عن أبيه علیه السلام قال: «مرض النبي صلی الله علیه وآله المرضة الّتي عُوفيَ منها، فعادته فاطمة علیها السلام سيّدة النساء، ومعها الحسن والحسين، قد أخذَت الحسن بيدها اليمنى وأخذت الحسين بيدها اليسرى، وهما يمشيان وفاطمة بينهما حتّى دخلوا منزل عائشة، فقعد الحسن علیه السلام على جانب رسول الله الأيمن والحسينُ على جانب رسول الله الأيسر، فأقبلا يغمزان ما يليهما من بدن رسول الله صلی الله علیه وآله ، فما أفاق النبي صلی الله علیه وآله من نومه، فقالت فاطمة للحسن والحسين: حبيبَيّ، إنّ جدّكما قد غفا، فانصرِفا ساعتكما هذه ودعاه حتّى يفيق وترجعان إليه. فقالا: لسنا ببارحين في وقتنا هذا. فاضطجع الحسنُ على عضد النبيّ صلی الله علیه وآله الأيمن والحسين على عضده الأيسر فغفيا، وانتبها قبل أن ينتبه النبي صلی الله علیه وآله ، وقد كانت فاطمة علیها السلام لمّا ناما انصرفَت إلى منزلها، فقالا لعائشة: ما

ص: 233


1- ([3]) كذا.
2- ([4]) هذا كلّه وفق نسخة المؤلف (السنة)، أمّا الموجود في المطبوع: (الستّة).

فعلَت أُمُّنا؟ قالت: لمّا نمتما رجعَت إلى منزلها. فخرجا في ليلةٍ ظلماء مدلهمّةٍ ذات رعدٍ وبرق، وقد أرخت السماء عزاليها، فسطع لهما نور، فلم يزالا يمشيان في ذلك النور والحسن قابضٌ بيده اليمنى على يد الحسين اليسرى، وهما يتماشيان ويتحدّثان حتّى أتيا حديقة بني النجّار، فلمّا بلغا الحديقة حارا، فبقيا لا يعلمان أين يأخذان، فقال الحسن للحسين: إنّا قد حرنا وبقينا على حالتنا هذه، وما ندري أين نسلك، فلا عليك أن ننام في وقتنا هذا حتّى نُصبح. فقال لهالحسين علیه السلام: دونك يا أخي، فافعلْ ما ترى. فاضطجعا جميعاً، واعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه وناما، وانتبه النبي صلی الله علیه وآله من نومته الّتي نامها، فطلبهما في منزل فاطمة فلم يكونا فيه وافتقدهما، فقام علیه السلام قائماً على رجليه وهو يقول: إلهي وسيّدي ومولاي، هذان شبلاي خرجا من المخمصة والمجاعة، اللّهمّ أنت وكيلي عليهما. فسطع للنبيّ نور، فلم يزل يمضي في ذلك النور حتّى أتى حديقة بني النجّار، فإذا هما نائمان قد اعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وقد تقشّعت السماء فوقهما كطبق، فهي تمطر كأشدّ مطرٍ ما رآه الناس قطّ، وقد منع الله عزوجل المطر منهما في البقعة الّتي هما فيها نائمان لا يمطر عليهما قطرة، وقد اكتنفتهما حيّةٌ لها شعرات كآجام القصب وجناحان، جناح قد غطّت به الحسن وجناح قد غطّت به الحسين، فلمّا أن بصر بهما النبيّ تنحنح، فانسابت الحيّة وهي تقول: اللّهمّ إنّي أُشهِدُك وأُشهِد ملائكتك أنّ هذين شبلا نبيّك، قد حفظتُهما عليه ودفعتُهما إليه سالمَين صحيحَين. فقال لها النبی صلی الله علیه وآله : أيّتها الحيّة، ممّن أنتِ؟ قالت: أنا رسول الجنّ إليك. قال: وأيّ الجنّ؟ قالت: جنّ نصيبين، نفرٌ مِن بني مليح، نسينا آيةً من كتاب الله عزوجل فبعثوني إليك لتعلّمنا ما نسينا من كتاب الله، فلمّا بلغتُ هذا الموضع سمعتُ منادياً ينادي: أيّتها الحيّة،

ص: 234

هذان شبلا رسول الله، فاحفظيهما من الآفات والعاهات، ومن طوارق الليل والنهار. فقد حفظتُهما وسلّمتُهما إليك سالمَين صحيحين. وأخذت الحيّة الآيةَ وانصرفَت، وأخذ النبي صلی الله علیه وآله الحسنَ فوضعه على عاتقه الأيمن، ووضع الحسينَ على عاتقه الأيسر، وخرج عليٌّ علیه السلامفلحق برسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال له بعض أصحابه: بأبي أنت وأُمّي، ادفَعْ إليّ أحد شبلَيك أُخفّف عنك، فقال: امضِ، فقد سمع الله كلامك وعرف مقامك. وتلقّاه آخَر فقال: بأبي أنت وأُمّي، ادفَعْ إليّ أحد شبليك أُخفّف عنك، فقال: امضِ، فقد سمع الله كلامك وعرف مقامك. فتلقّاه عليٌّ علیه السلام فقال: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، ادفَعْ لي أحد شبلَيّ وشبليك حتّى أُخفّف عنك. فالتفت النبي صلی الله علیه وآله إلى الحسن فقال: يا حسن، هل تمضي إلى كتف أبيك؟ فقال له: واللهِ يا جدّاه إنّ كتفك لَأحبُّ إليّ مِن كتف أبي. ثمّ التفت إلى الحسين علیه السلام فقال: يا حسين، هل تمضي إلى كتف أبيك؟ فقال له: واللهِ يا جدّاه إنّي لَأقول لك كما قال أخي الحسن، إنّ كتفك لَأحبّ إليّ مِن كتف أبي. فأقبل بهما إلى منزل فاطمة علیها السلام وقد ادّخرت لهما تميرات، فوضعتها بين أيديهما، فأكلا وشبعا وفرحا، فقال لهما النبي صلی الله علیه وآله : قوما الآن فاصطرعا. فقاما ليصطرعا، وقد خرجَت فاطمة في بعض حاجتها، فدخلت، فسمعت النبيّ وهو يقول: إيهٍ يا حسن شدّ على الحسين فاصرعه، فقالت له: يا أبت وا عجباه! أتشجّع هذا على هذا؟ أتشجّع الكبير على الصغير؟! فقال لها: يا بُنيّة، أما ترضين أن أقول أنا: يا حسن شدّ على الحسين فاصرعه، وهذا حبيبي جبرئيل يقول: يا حسين شدّ على الحسن فاصرعه؟» ((1)).

ص: 235


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 443 المجلس 68 ح 8.

وفي (بحار الأنوار)، عن ابن عبّاسٍ قال: بينما نحن عند رسول الله صلی الله علیه وآله إذ أقبلت فاطمة علیها السلام تبكي، فقاللها النبي صلی الله علیه وآله : «ما يُبكيكِ؟»، قالت: «يا رسول الله، إنّ الحسن والحسين خرجا، فوَاللهِ ما أدري أين سلكا»، فقال النبي صلی الله علیه وآله : «لا تبكين [تبكي]، فداكِ أبوك، فإنّ الله عزوجل خلقهما وهو أرحم بهما. اللّهمّ إنْ كانا أخذا في بَرٍّ فاحفظهما، وإن كانا أخذا في بحرٍ فسلّمهما». فهبط جبرئيل علیه السلام فقال: يا أحمد، لا تغتمّ ولا تحزن، هما فاضلان في الدنيا فاضلان في الآخرة، وأبوهما خيرٌ منهما، وهما في حظيرة بني النجّار نائمَين، وقد وكّل اللهُ بهما ملَكاً يحفظهما. قال ابن عبّاس: فقام رسول الله صلی الله علیه وآله وقمنا معه حتّى أتينا حظيرة بني النجّار، فإذا الحسن معانقٌ الحسين، وإذا الملَك قد غطّاهما بأحد جناحيه، فحمل النبيُّ صلی الله علیه وآله الحسن وأخذ الحسين الملك، والناس يرون أنّه حاملهما، فقال له أبو بكر وأبو أيّوب الأنصاريّ: يا رسول الله، ألا نخفّف عنك بأحد الصبيَّين؟ فقال: «دعاهما؛ فإنّهما فاضلان في الدنيا فاضلان في الآخرة، وأبوهما خيرٌ منهما»، ثمّ قال: «واللهِ لَأُشرّفنّهما اليوم بما شرّفهما الله». فخطب فقال: «يا أيّها الناس، ألا أُخبركم بخير الناس جدّاً وجدّة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الحسن والحسين؛ جدّهما رسول الله، وجدّتهما خديجة بنت خُويلد. ألا أُخبركم أيّها الناس بخير الناس أباً وأُمّاً؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الحسن والحسين؛ أبوهما عليّ بن أبي طالب، وأُمّهما فاطمة بنت محمّد. ألا أُخبركم أيّها الناس بخير الناس عمّاً وعمّة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الحسن والحسين؛ عمّهما جعفر بن أبي طالب، وعمّتهما أُمّ هاني بنت أبي طالب.

ص: 236

ألا يا أيّها الناس، ألا أُخبركم بخير الناس خالاً وخالة؟»،قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الحسن والحسين؛ خالهما القاسم ابن رسول الله، وخالتهما زينب بنت رسول الله صلی الله علیه وآله . ألا إنّ أباهما في الجنّة، وأُمّهما في الجنّة، وجدّهما في الجنّة، وجدّتهما في الجنّة، وخالهما في الجنّة، وخالتهما في الجنّة، وعمّهما في الجنّة، وعمّتهما في الجنّة، وهما في الجنّة، ومَن أحبّهما في الجنّة، ومَن أحبّ مَن أحبّهما في الجنّة» ((1)).

وفي كتاب (المنتخب)، عن عبد الله بن العبّاس قال: كُنّا مع رسول الله صلی الله علیه وآله وإذا بفاطمة الزهراء قد أقبلَت تبكي، فقال لها رسول الله صلی الله علیه وآله : «ما يُبكيكِ يا فاطمة؟»، فقالت: «يا أبه، إنّ الحسن والحسين قد غابا عنّي هذا اليوم، وقد طلبتُهما في بيوتك فلم أجدهما ولا أدري أين هما، وإنّ عليّاً راح إلى الدالية منذ خمسة أيّام يسقي بستاناً له». إذ أبو بكر قائمٌ بين يدي النبي صلی الله علیه وآله ، فقال صلی الله علیه وآله له: «يا أبا بكر، اطلبْ لي قرّة عيني»، ثمّ قال: «يا عمر، ويا سلمان، ويا أبا ذرّ، ويا فلان ويا فلان، قوموا فاطلبوا قرّة عيني». قال: فأحصينا على رسول الله صلی الله علیه وآله أنّه وجد سبعين رجُلاً في طلبهما، فغابوا ساعة ورجعوا ولم يصيبوهما، فاغتمّ النّبي صلی الله علیه وآله غمّاً شديداً، فوقف عند باب المسجد وقال: «اللّهمّ، بحقّ إبراهيم خليلك، وبحقّ آدم صفيّك، إن كان قرّتا عيني وثمرتا فؤادي أخذا برّاً أو بحراً، فاحفظهما وسلّمهما من كلّ سوءٍ يا أرحم الراحمين». فإذا بجبرائيل علیه السلام قد هبط من السماء وقال: يا رسول الله، لا تحزنْ ولا تغتمّ؛ فإنّ الحسن والحسين

ص: 237


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 303.

فاضلان في الدنيا والآخرة، وقد وكّل الله بهما ملَكاً يحفظهما إن ناما أو قعدا أو قاما، وهما في حضيرة بني النجّار. ففرح النبيُّ بذلك، وسار وجبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله والمسلمون من حوله، حتّى دخلوا حضيرة بني النجّار، وذلك الموكّل بهما قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما، وعلى كلّ واحدٍ منهما دراعةٌ من صوف، والمداد على شفتيهما، وإذا الحسن مُعانق الحسين وهما نائمان، فجثي النبي على ركبتيه، ولم يزل يقبّلهما حتّى استيقظا، فحمل النبي الحسين علیه السلام وحمل جبرائيل الحسن، وخرج النبي من الحضيرة وهو يقول: «معاشرَ الناس، اعلموا أنّ مَن أبغضهما فهو في النار، ومَن أحبّهما فهو في الجنّة، ومن كرمهما على الله (تعالى) سمّاهما في التوراة شُبّراً وشبيراً» ((1)).

وروى كتاب (المنتخب) أنّ أعرابياً أتى الرسولَ فقال له: يا رسول الله، لقد صدتُ خشفة غزالة، وأتيتُ بها إليك هديّةً لولديك الحسن والحسين. فقبلها النبيُّ ودعا له بالخير، فإذا الحسن واقفٌ عند جدّه، فرغب إليها، وأعطاها إيّاه، فمضى ساعة إلّا والحسين قد أقبل، فرأى الخشفة عند أخيه يلعب بها، فقال: «يا أخي، مِن أين لك هذه الخشفة؟»، فقال الحسن: «أعطانيها جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله ». فسار الحسين مُسرِعاً إلى جدّه، فقال: «يا جدّاه، أعطيتَ أخي خشفةً يلعب بها ولم تعطني مثلها!»، وجعل يكرّر القول على

ص: 238


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 263 المجلس 8.

جدّه وهو ساكت، لكنّه يسلّي خاطره ويلاطفه بشيءٍ من الكلام، حتّى أفضى من أمر الحسين إلى أن همّ يبكي، فبينما هو كذلك، إذ نحن بصياحٍ قد ارتفع عند باب المسجد، فنظرنا فإذا ظبية ومعها خشفها، ومن خلفها ذئبةٌ تسوقها إلى رسول الله وتضربها بأحد أطرافها حتّى أتت بها إلى النبي، ثمّ نطقت الغزالة بلسانٍ فصيحٍ وقالت: يا رسول الله، قد كانت لي خشفتان، إحداهما صادها الصيّاد وأتى بها إليك، وبقيَت لي هذه الأُخرى وأنا بها مسرورة، وإنّي كنتُ الآن أُرضعها، فسمعتُ قائلاً يقول: أسرعي، أسرعي يا غزالة بخشفك إلى النبي صلی الله علیه وآله وأوصليه سريعاً؛ لأنّ الحسين واقفٌ بين يدَي جدّه وقد همّ أن يبكي، والملائكةُ بأجمعهم قد رفعوا رؤوسهم من صوامع العبادة، ولو بكى الحسين لَبكت الملائكة المقرّبون لبكائه. وسمعتُ أيضاً قائلاً يقول: أسرعي يا غزالة قبل جريان الدموع على خدّ الحسين، فإن لم تفعلي سلّطتُ عليكِ هذه الذئبة تأكلك مع خشفك. فأتيتُ بخشفي إليك يا رسول الله، وقطعتُ مسافةً بعيدة، لكن طويت الأرض حتّى أتيتك سريعة، وأنا أحمد الله ربّي كيف جئتك قبل جريان دموع الحسين على خدّه. فارتفع التكبير والتهليل من الأصحاب، ودعا النبي صلی الله علیه وآله للغزالة بالخير والبركة، وأخذ الحسين الخشفة وأتى بها إلى أُمّه الزهراء علیها السلام، فسُرّت بذلك سروراً عظيماً ((1)).

ص: 239


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 123 المجلس 6.

وروى القطب الراوندي في كتاب (الخرائج)، عن مندل، عن هارون بن خارجة، عن الصادق علیه السلام، عن آبائه علیهم السلام، قال: «إنّ الحسين علیه السلام إذا أراد أن ينفذ غلمانهفي بعض أُموره قال لهم: لا تخرجوا يوم كذا واخرجوا يوم كذا؛ فإنّكم إن خالفتموني قُطع عليكم. فخالفوه مرّةً وخرجوا، فقتلهم اللصوص وأخذوا ما معهم، واتّصل الخبر بالحسين علیه السلام، فقال: لقد حذّرتُهم فلم يقبلوا منّي. ثمّ قام من ساعته ودخل على الوالي، فقال الوالي: يا أبا عبد الله، بلغني قتلُ غلمانك، فآجرك الله فيهم. فقال الحسين علیه السلام : فإنّي أدلّك على من قتلهم، فاشدُدْ يدك بهم. قال: أوَتعرفهم يا ابن رسول الله؟! قال: نعم، كما أعرفك، وهذا منهم -- وأشار بيده إلى رجلٍ واقفٍ بين يدَي الوالي --، فقال الرجل: ومِن أين قصدتَني بهذا، ومِن أين تعرف أنّي منهم؟ فقال له الحسين علیه السلام : إنْ أنا صدقتُك تصدقني؟ فقال الرجل: نعم والله لَأصدقنّك. فقال: خرجتَ ومعك فلان وفلان -- وذكرهم كلَّهم --، فمنهم أربعةٌ مِن مَوالي المدينة، والباقون من حبشان المدينة. فقال الوالي للرجل: وربِّ القبر والمنبر لَتصدقنّي أو لَأهرأنّ لحمك بالسياط! فقال الرجل: واللهِ ما كذب الحسينُ وقد صدق، وكأنّه ك--ان معن--ا. فجمعهم الوال-ي جميعاً، فأقرّوا جميعاً فضرب أعناقهم» ((1)).

[هروب الحمّى من الحسين علیه السلام]

وفي (رجال الكشّي)، عن حمران بن أعيَن أنّه قال: سمعتُ أبا عبد

ص: 240


1- ([1]) الخرائج للراوندي: 1 / 246.

الله علیه السلام يحدّث عن آبائه علیه السلام أنّ رجلاً كان من شيعة أمير المؤمنين علیه السلام مريضاً شديد الحمّى، فعادهالحسين بن علي علیه السلام ، فلمّا دخل باب الدار طارت الحمّى عن الرجل، فقال له: قد رضيتُ بما أُوتيتم به حقّاً حقّاً، والحمّى تهرب منكم. فقال: «واللهِ ما خلق اللهُ شيئاً إلّا وقد أمره بالطاعة لنا يا كباسة». قال: فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول: لبيك، قال: «أليس أمير المؤمنين أمركِ ألّا تقربي إلّا عدوّاً، أو مُذنباً لكي تكون كفّارةً لذنوبه؟ فما بال هذا؟». وكان الرجل المريض عبد الله بن شدّاد بن الهاد الليثي ((1)).

[رجلٌ تحّرش بامرأةٍ في الطواف فلصقت يده، وخلّصه الحسين علیه السلام ]

وفي كتاب (التهذيب)، عن أيّوب بن أعين، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ امرأةً كانت تطوف وخلفها رجل، فأخرجت ذراعها، فقال بيده حتّى وضعها على ذراعها، فأثبت الله يده في ذراعها حتّى قطع الطواف، وأرسل إلى الأمير، واجتمع الناس، وأرسل إلى الفقهاء، فجعلوا يقولون: اقطع يده، فهو الّذي جنى الجناية! فقال: هاهنا أحدٌ مِن وُلد محمّدٍ رسول الله صلی الله علیه وآله فقالوا: نعم، الحسين بن علي علیه السلام

قدم اللّيلة. فأرسل إليه فدعاه، فقال: انظر ما لقيا ذان. فاستقبل القبلة ورفع يديه، فمكث طويلاً يدعو، ثمّ جاء إليها حتّى خلّص يده من يدها، فقال الأمير: ألا نعاقبه

ص: 241


1- ([1]) رجال الكشّي: 87 ح 141، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 23.

بما صنع؟ فقال: لا» ((1)).

[أمر الغلام الصغير فنطق بإذن الله]

وفي كتاب (المناقب)، عن صفوان بن مهران قال: سمعتُ الصادق علیه السلام يقول: «رجلان اختصما في زمن الحسين علیه السلام في امرأةٍ وولدها، فقال هذا لي وقال هذا لي، فمرّ بهما الحسين علیه السلام فقال لهما: في ماذا تمرجان؟ ((2)) قال أحدهما: إنّ الامرأة لي، فقال للمدّعي الأوّل: اقعد، فقعد، وكان الغلام رضيعاً، فقال الحسين: يا هذه اصدقي من قبل أن يهتك الله سترك! فقالت: هذا زوجي، والولد له ولا أعرف هذا. فقال علیه السلام: يا غلام ما تقول هذه؟ انطقْ بإذن الله (تعالى). فقال له: ما أنا لهذا ولا لهذا، وما أبي إلّا راعٍ لآل فلان. فأمر علیه السلام برجمها». قال جعفر علیه السلام : «فلم يسمع أحدٌ نطق ذلك الغلام بعدها» ((3)).

وفي كتاب (الخرائج)، عن يحيى ابن أُمّ الطويل قال: كنّا عند الحسين علیه السلام إذ دخل عليه شابٌّ يبكي، فقال له الحسين: «ما يُبكيك؟»، قال: إنّ والدتي تُوفّيَت في هذه الساعة، ولم توصِ ولها مال، وكانت قد

ص: 242


1- ([2]) تهذيب الأحكام للطوسي: 5 / 470 الباب 26، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 24.
2- ([1]) المرج: الخلط، ومرج الناس: اختلطوا، والمرج: الفتنة المشكلة، ومرج الأمير رعيّته: إذا تركهم يظلم بعضهم بعضاً.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 25.

أمرتني أن لا أُحدث في أمرها شيئاً حتّى أُعلمك خبرها. فقال الحسين علیه السلام : «قوموا بنا حتّى نصير إلى هذه الحرّة». فقمنا معه حتّى انتهينا إلى باب البيت الّذي فيه المرأة وهي مسجّاة، فأشرف على البيت، ودعا الله ليحييها حتّى تُوصي بما تحبّ منوصيّتها، فأحياها الله، وإذا المرأة جلست وهي تتشهّد، ثمّ نظرَت إلى الحسين علیه السلام فقالت: ادخل البيت يا مولاي ومُرني بأمرك. فدخل وجلس على مخدّة، ثمّ قال لها: «وصّي، يرحمكِ الله». فقالت: يا ابن رسول الله، إنّ لي من المال كذا وكذا في مكان كذا وكذا، وقد جعلتُ ثُلثه إليك لتضعه حيث شئت من أوليائك، والثلثان لابني هذا إن علمتَ أنّه مِن مواليك وأوليائك، وإن كان مخالفاً فخذه إليك، فلا حقّ للمخالفين في أموال المؤمنين. ثمّ سألَته أن يُصلّي عليها وأن يتولّى أمرها، ثمّ صارت المرأة ميّتةً كما كانت ((1)).

[إرائة الأصبغ مخاطبة النبي

صلی الله علیه وآله لأبي دون]

وفي كتاب (المناقب)، عن الأصبغ بن نباتة قال: سألتُ الحسين علیه السلام فقلت: سيّدي، أسألك عن شي ءٍ أنا به موقن، وأنّه مِن سرّ الله، وأنت المسرور إليه ذلك السرّ. فقال: «يا أصبغ، أتريد أن ترى مخاطبة رسول الله لأبي دون يوم مسجد قبا؟»، قال: هذا الّذي أردت. قال: «قُم». فإذا أنا وهو

ص: 243


1- ([1]) الخرائج للراوندي: 1 / 245 الباب 4 ح 1.

بالكوفة، فنظرتُ فإذا المسجد من قبل أن يرتدّ إليّ بصري، فتبسّم في وجهي، فقال: «يا أصبغ، إنّ سليمان بن داوود أُعطيَ الريح غدوّها شهرٌ ورواحها شهر، وأنا قد أُعطيت أكثر ممّا أُعطي سليمان»، فقلت: صدقتَ واللهِ يا ابن رسول الله. فقال: «نحن الّذين عندنا علم الكتاب وبيان ما فيه، وليس لأحدٍ مِنخلقه ما عندنا؛ لأنا أهل سرّ الله»، فتبسّم في وجهي ثمّ قال: «نحنُ آل الله، ووَرثة رسوله». فقلت: الحمد لله على ذلك. ثمّ قال لي: «ادخل»، فدخلت، فإذا أنا برسول الله صلی الله علیه وآله محتبٍ في المحراب بردائه، فنظرتُ فإذا أنا بأمير المؤمنين قابضٌ على تلابيب الأعسر، فرأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يعضّ على الأنامل وهو يقول: «بئس الخلَف خلّفتَني أنت وأصحابك، عليكم لعنة الله ولعنتي!» ((1)).

[كفّ جبرائيل في كفّه]

وفي (المناقب)، عن ابن عبّاسٍ قال: رأيتُ الحسين -- قبل أن يتوجّه إلى العراق -- على باب الكعبة، وكفّ جبرئيل في كفّه، وجبرئيل ينادي: هلمّوا إلى بيعة الله (عزّ وجل) ((2)).

وعُنّف ابن عبّاسٍ على تركه الحسين، فقال: إنّ أصحاب الحسين لم

ص: 244


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 26.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.

ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم ((1)).

وقال محمّد ابن الحنفيّة: وإنّ أصحابه عندنا لَمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم ((2)).وفي (المنتخب)، عن طاووس اليماني أنّ الحسين بن عليّ كان إذا جلس في المكان المُظلم يهتدي إليه الناس ببياض جبينه ونحره، وإنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كثيراً ما يقبّل الحُسين علیه السلام بنحره وجبهته، وإنّ جبرائيل علیه السلام نزل يوماً إلى الأرض فوجد الزّهراء نائمةً والحسين في مهده يبكي على جاري عادة الأطفال مع أُمّهاتهم، فجلس جبرائيل عند الحسين وجعل يناغيه ويُسكته عن البكاء ويسلّيه، ولم يزل كذلك حتّى استيقظت فاطمة علیها السلام من منامها، فسمعَت إنساناً يُناغي الحسين، فالتفتت إليه ولم ترَ أحداً، فأعلمها أبوها رسول الله أنّ جبرائيل كان يُناغي الحُسين ((3)).

وفي (مسند السيّد البتول)، عن حذيفة قال: سمعتُ الحسين بن علي علیه السلام يقول: «والله لَيجتمعنّ على قتلي طغاة بني أُميّة، ويقدمهم عمر بن سعد»، وذلك في حياة النبي صلی الله علیه وآله ، فقلت له: أنبأك بهذا رسول الله؟ فقال: «لا». فقال: فأتيتُ النبيَّ فأخبرتُه، فقال: «علمي علمه، وعلمه علمي، لأنّا

ص: 245


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.
2- ([4]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27.
3- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 198 المجلس 10.

نعلم بالكائن قبل كينونته» ((1)).

وعن راشد بن مزيد قال: شهدتُ الحسين بن علي علیه السلام وصَحبتُه من مكّة حتّى أتينا القطقطانة، ثمّ استأذنتُه في الرجوع فأذن لي، فرأيته وقد استقبله سبعٌ عقور، فكلّمه، فوقف له فقال: «ما حال الناس بالكوفة؟»، قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك. قال: «ومَن خلّفتَ بها؟»، قال: ابن زياد، وقد قتل مسلم بن عقيل. قال: «وأينتريد؟»، قال: عدن. قال له: «أيّها السبع، هل عرفتَ ماء الكوفة؟»، قال: ما علمنا مِن علمك إلّا ما زوّدتَنا. ثمّ انصرف وهو يقول: «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ((2))، قال: «كرامة مِن وليٍّ وابن ولي» ((3)).

وعن الحارث بن وكيدة قال: كنتُ فيمن حمل رأس الحسين، فسمعتُه يقرأ سورة الكهف، فجعلتُ أشكّ في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله، فقال لي: «يا ابن وكيدة، أما علمتَ أنّا معشر الأئمّة أحياءٌ عند ربّنا نُرزَق؟».

قال: فقلتُ في نفسي: أسرق رأسه، فنادى: «يا ابن وكيدة، ليس لك إلى ذاك سبيل، سفكهم دمي أعظم عند الله من تسييرهم رأسي، فذَرْهم «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ» ((4))» ((5)).

ص: 246


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 186 ح 14.
2- ([1]) سورة فُصّلت: 46.
3- ([2]) دلائل الإمامة للطبري: 183 ح 99.
4- ([3]) سورة غافر: 70 و71.
5- ([4]) دلائل الإمامة للطبري: 188 ح 108.

وعن المفضّل بن عمر قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «لمّا مُنع الحسين (صلوات الله عليه) وأصحابه الماء نادى فيهم: مَن كان ظمآن فليجيء. فأتاه أصحابه رجلاً رجلاً، فجعل إبهامه في راحة واحدهم، فلم يزل يشرب الرجل بعد الرجل حتّى ارتووا كلُّهم، فقال بعضهم لبعض: والله لقد شربتُ شراباً ما شربه أحدٌ من العالمين في دار الدنيا. فلمّا قاتلوا الحسين، وكان في اليوم الثالث عند المغرب، أقعد الحسين رجلاً رجلاً منهم فيسمّيهم بأسماء آبائهم، فيجيبه الرجل بعد الرجل فيقعدون حوله، ثمّ يدعو بالمائدة فيُطعمهم ويأكل معهم منطعام الجنّة ويسقيهم من شرابها».

ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «واللهِ لقد رآهم عدّةٌ من الكوفيّين، ولقد كرّر عليهم لو عقلوا».

قال: «ثمّ أرسلهم، فعاد كلُّ واحدٍ منهم إلى بلاده، ثمّ أتى جبل رضوى، فلا يبقى أحدٌ من المؤمنين إلّا أتاه، وهو على سريرٍ من نور، قد حفّ به إبراهيم وموسى وعيسى وجميع الأنبياء، ومن ورائهم المؤمنون، ومن ورائهم الملائكة، ينظرون ما يقول الحسين (صلوات الله عليه)»، قال: «فهُم بهذه الحال إلى أن يقوم القائم علیه السلام، فإذا قام القائم وافوا فيما بينهم الحسين علیه السلام حتّى يأتي كربلاء، فلا يبقى أحدٌ سماويٌّ ولا أرضيّ من المؤمنين إلّا حفّ به، يزوره ويصافحه ويقعد معه على السرير. يا مفضّل، هذه والله الرفعةُ الّتي ليس فوقها شيءٌ ولا دونها شي ء، ولا وراءها لطالبٍ مطلب» ((1)).

ص: 247


1- ([1]) دلائل الإمامة للطبري: 189 ح 109.

قال المؤلّف:

الظاهر أنّ المراد باليوم الثالث: اليوم الثالث عشر من المحرّم، والمراد من زيارة الله والمصافحة والمجالسة: زيارة رسول الله، كما يُشعِر بذلك ما ورد في تفسير قوله (تعالى): «فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ» ((1))، أو كناية عن كمال القرب الحاصل للمولى بسبب اختياره الشهادةوسائر المصائب الأُخرى، والعلم عند الله.

وروى الشيخ الصدوق في (الأمالي)، عن المفضّل بن عمر، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه علیه السلام أنّ الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام دخل يوماً إلى الحسن علیه السلام، فلمّا نظر إليه بكى، فقال له: «ما يُبكيك يا أبا عبد الله؟»، قال: «أبكي لما يُصنَع بك». فقال له الحسن علیه السلام : «إنّ الّذي يُؤتى إليّ سُمٌّ يُدسّ إليّ فأُقتَل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنّهم مِن أُمّة جدّنا محمّد صلی الله علیه وآله وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني أُميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلُّ شيء، حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار» ((2)).

ص: 248


1- ([2]) سورة الزخرف: 55.
2- ([1]) الأمالي للصدوق: 115 المجلس 24 ح 3.

وعن بعض الكتب المعتبرة، عن هند بنت الجون قالت: نزل رسول الله صلی الله علیه وآله بخيمة خالتها أُمّ معبد، ومعه أصحابٌ له، فكان من أمره في الشاة ما قد عرفه الناس، فقال في الخيمة هو وأصحابه حتّى أبرد، وكان يومٌ قائظٌ شديدٌ حرّه، فلمّا قام من رقدته دعا بماءٍ فغسل يديه فأنقاهما، ثمّ مضمض فاه، ومجه على عوسجةٍ كانت إلى جنب خيمة خالتها ثلاث مرّات، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه وذراعيه، ثمّ مسح برأسه ورجليه، وقال: «لهذه العوسجة شأن». ثمّ فعل مَن كان معه من أصحابه مثل ذلك، ثمّ قام فصلّى ركعتين، فعجبتُ وفتيات الحيّ من ذلك، وما كان عهدنا ولارأينا مصلّياً قبله.

فلمّا كان من الغد أصبحنا وقد علت العوسجة حتّى صارت كأعظم دوحة عادية وأبهى، وخضد الله شوكها، وساخت عروقها، وكثرت أفنانها، واخضرّ ساقها وورقها، ثمّ أثمرت بعد ذلك وأينعت بثمرٍ كأعظم ما يكون من الكمأة في لون الورس المسحوق ورائحة العنبر وطعم الشهد، واللهِ ما أكل منها جائعٌ إلّا شبع، ولا ظمآن إلّا روي، ولا سقيم إلّا برأ، ولا ذو حاجةٍ وفاقةٍ إلّا استغنى، ولا أكل من ورقها بعيرٌ ولا ناقة ولا شاة إلّا سمنت ودرّ لبنها، ورأينا النماء والبركة في أموالنا منذ يوم نزل، وأخصبت بلادنا وأمرعت، فكنّا نسمّي تلك الشجرة: المباركة، وكان ينتابنا من حولنا من أهل البوادي يستظلّون بها، ويتزوّدون من ورقها في الأسفار، ويحملون معهم في الأرض

ص: 249

القفار، فيقوم لهم مقام الطعام والشراب.

فلم تزل كذلك وعلى ذلك أصبحنا ذات يومٍ وقد تساقط ثمارها واصفرّ ورقها، فأحزننا ذلك وفرقنا له، فما كان إلّا قليل حتّى جاء نعي رسول الله، فإذا هو قد قُبض ذلك اليوم، فكانت بعد ذلك تُثمر ثمراً دون ذلك في العظم والطعم والرائحة، فأقامت على ذلك ثلاثين سنة.

فلمّا كانت ذات يوم أصبحنا وإذا بها قد تشوّكت من أوّلها إلى آخرها، فذهبت نضارة عيدانها، وتساقط جميع ثمرها، فما كان إلّا يسيراً حتّى وافى مقتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فما أثمرت بعد ذلك لا قليلاً ولا كثيراً، وانقطع ثمرها، ولم نزل ومن حولنا نأخذ من ورقها ونداوي مرضانا بها ونستشفي به من أسقامنا، فأقامت على ذلك بُرهة طويلة.ثمّ أصبحنا ذات يومٍ فإذا بها قد انبعثت من ساقها دماً عبيطاً جارياً، وورقها ذابلة تقطر دماً كماء اللحم، فقلنا أن قد حدث عظيمة، فبتنا ليلتنا فزعين مهمومين نتوقّع الداهية، فلمّا أظلم الليل علينا سمعنا بكاءً وعويلاً من تحتها وجلَبَةً شديدة ورجّة، وسمعنا صوت باكيةٍ تقول:

أيا ابن النبيّ ويا ابن الوصي***ويا مَن بقيّة ساداتنا الأكرمينا

ثمّ كثرت الرنّات والأصوات، فلم نفهم كثيراً ممّا كانوا يقولون، فأتانا بعد ذلك قتل الحسين علیه السلام، ويبست الشجرة وجفّت، فكسرتها الرياح والأمطار بعد ذلك، فذهبت واندرس أثرها.

ص: 250

قال عبد الله بن محمّد الأنصاري: فلقيتُ دعبل بن عليّ الخزاعي بمدينة الرسول، فحدّثتُه بهذا الحديث فلم يُنكره، وقال: حدّثني أبي، عن جدّي، عن أُمّه سعيدة بنت مالك الخزاعيّة أنّها أدركَت تلك الشجرة، فأكلَت من ثمرها على عهد عليّ بن أبي طالب علیه السلام ، وأنّها سمعت تلك الليلة نوح الجنّ، فحفظت من جنّيّةٍ منهن:

يا ابن الشهيد ويا شهيداً عمّه***خير العمومة جعفر الطيّارُ

عجباً لمصقولٍ أصابك حدّه***في الوجه منك وقد علاه غبارُ

[قال دعبل: فقلتُ في قصيدتي:

زُرْ خيرَ قبرٍ بالعراق يُزارُ***واعصِ الحمارَ، فمن نهاك حمارُ

لمَ لا أزورك يا حسين لك الفدا***قومي ومَن عطفت عليه نزارُ

ولكَ المودّة في قلوب ذوي النهى***وعلى عدوّك مقتةٌ ودمارُ

يا ابن الشهيد ويا شهيداً عمّه***خير العمومة جعفر الطيّار] ((1))

في كتاب (المناقب): عمرو بن دينار قال: دخل الحسين على أُسامة بن زيدٍ وهو مريض، وهو يقول: وا غمّاه! فقال له الحسين علیه السلام: «وما غمّك يا أخي؟»، قال: دَيني، وهو ستّون ألف درهم. فقال الحسين: «هو علَيّ»، قال إنّي أخشى أن أموت، فقال الحسين: «لن تموت حتّى أقضيها عنك». قال:

ص: 251


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 233 ح 1.

فقضاها قبل موته، وكان علیه السلام يقول: «شرّ خصال الملوك: الجُبن من الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء» ((1)).

و في كتاب (أُنس المجلس) أنّ الفرزدق أتى الحسين علیه السلام لمّا أخرجه مروان من المدينة، فأعطاه علیه السلام أربعمئة دينار، فقيل له: إنّه شاعرٌ فاسقٌ مشهر! فقال علیه السلام : «إنّ خير مالك ما وقيتَ به عرضك» ((2)).

شعيب بن عبد الرحمان الخزاعيّ ((3)) قال: وُجد على ظهر الحسين بن عليٍّ يوم الطفّ أثر، فسألوا زين العابدين عن ذلك، فقال:«هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين» ((4)).

في (المناقب) أيضاً: إنّ عبد الرحمان السلَمي علّم ولد الحسين الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه ألف دينار وألف حُلّة، وحشا فاه دُرّاً، فقيل له في ذلك، قال: «وأين يقع هذا من عطائه؟»، يعني تعليمه.

وأنشد الحسين علیه السلام:

«إذا جادت الدنيا عليك فجُدْ بها***على الناس طُرّاً قبل أن تتفلّتِ

ص: 252


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 67، الأمالي لأبي علي القالي: 1 / 201، المجالسة وجواهر العلم للدينوري: 1 / 336.
2- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 67، مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا: 130 الرقم 433، ربيع الأبرار للزمخشري: 1 / 459.
3- ([4]) في المتن: (عبد الرحمان الخزاعي).
4- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 69.

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلَت***ولا البخل يُبقيها إذا ما تولّتِ» ((1))

وفي (المناقب): قدم أعرابيُّ المدينة، فسأل عن أكرم الناس بها فدُلَّ على الحسين علیه السلام ، فدخل المسجد فوجده مصلّياً، فوقف بإزائه وأنشأ:

لم يخب الآن مَن رجاك ومَن***حرّك مِن دون بابك الحلقةْ

أنت جوادٌ وأنت معتمدٌ***أبوك قد كان قاتلُ الفسقةْ

لو لا الّذي كان من أوائلكم***كانت علينا الجحيم منطبقةْ

قال: فسلّم الحسين علیه السلام وقال: «يا قنبر، هل بقي شيءٌ مِن مال الحجاز؟»، قال: نعم، أربعة آلاف دينار. فقال: «هاتها،قد جاء مَن هو أحقّ بها منّا». ثمّ نزع بُردَيه ولفّ الدنانير فيهما، وأخرج يده من شِقّ الباب حياءً من الأعرابي، وأنشأ:

«خُذها، فإنّي إليك معتذرٌ***واعلم بأنّي عليك ذو شفقةْ

لو كان في سيرنا الغداة عصاً***أمست سمانا عليك مندفقةْ

لكنّ ريب الزمان ذو غِيَرٍ***والكفّ منّي قليلة النفقةْ»

قال: فأخذها الأعرابيّ وبكى، فقال له: «لعلّك استقللت ما أعطيناك!»، قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك؟!

وهو المرويّ عن الحسن بن علي علیهما السلام ((2)).

ص: 253


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 69.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 68.

في (البحار)، عن (جامع الأخبار) في أسانيد أخطب خوارزم أورده في كتابٍ له في مقتل آل الرسول أنّ أعرابيّاً جاء إلى الحسين بن علي علیه السلام، فقال: يا ابن رسول الله، قد ضمنتُ ديةً كاملةً وعجزتُ عن أدائه، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس، وما رأيتُ أكرم من أهل بيت رسول الله صلی الله علیه وآله. فقال الحسين: «يا أخا العرب، أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبتَ عن واحدةٍ أعطيتُك ثُلث المال، وإن أجبتَ عن اثنتين أعطيتُك ثُلثَي المال، وإن أجبتَ عن الكلّ أعطيتُك الكلّ». فقال الأعرابي: يا ابن رسول الله، أمثلك يسأل عن مثلي وأنت من أهل العلم والشرف؟ فقال الحسين علیه السلام : «بلى، سمعتُ جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله يقول: المعروف بقدرالمعرفة». فقال الأعرابي: سَلْ عمّا بدا لك، فإن أجبتُ وإلّا تعلّمتُ منك، ولا قوّة إلّا بالله. فقال الحسين علیه السلام : «أيّ الأعمال أفضل؟»، فقال الأعرابي: الإيمان بالله. فقال الحسين علیه السلام : «فما النجاة من المهلكة؟»، فقال الأعرابي: الثقة بالله. فقال الحسين علیه السلام: «فما يزين الرجل؟»، فقال الأعرابي: علمٌ معه حلم. فقال: «فإن أخطأه ذلك؟»، فقال: مالٌ معه مروءة. فقال: «فإن أخطأه ذلك؟»، فقال: فقرٌ معه صبر. فقال الحسين علیه السلام : «فإن أخطأه ذلك؟»، فقال الأعرابي: فصاعقةٌ تنزل من السماء وتُحرقه، فإنّه أهلٌ لذلك. فضحك الحسين علیه السلام ورمى بصرّةٍ إليه فيه ألف دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌّ قيمته مائتا درهم، وقال: «يا أعرابي، أعطِ الذهب إلى غرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك». فأخذ الأعرابي وقال: «اللَّهُ أَعْلَمُ

ص: 254

حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» ((1)) ((2)).

وروى في كتاب (المنتخب) أنّ الحسين علیه السلام كان جالساً بمسجد جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله، وذلك بعد وفاة أخيه الحسن علیه السلام ، وكان عبد الله بن الزبير جالساً في ناحية المسجد وعُتبة بن أبي سفيان في ناحيةٍ أُخرى، فجاء أعرابي على ناقةٍ حمراء فعلقها بباب المسجد ودخل، فوقف على عُتبة بن أبي سفيان وسلّم عليه، فردّ عليه السلام، فقال له الأعرابي: اعلم إنّي قتلتُ ابن عمٍّ لي عمداً، وطُولبنا بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئاً؟ فرفع رأسه إلى غلامه وقال: ادفع إليه مئة درهم. فقام الأعرابيمغضباً وانتهره وقال: ما أُريد إلّا الدية تماماً! ثمّ تركه، وأتى عبد الله بن الزبير وقال له: إنّي قتلتُ ابن عمٍّ لي، وقد طولبت بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئاً؟ فقال لغلامه: ادفع إليه مئتي درهم. فقام الأعرابي مغضباً وقال: ما أُريد إلّا الدية تماماً! ثمّ تركه، وأتى إلى الحسين فسلّم عليه، وقال له: يا ابن رسول الله، إنّي قتلتُ ابن عمٍّ لي، وقد طولبت بالدية، فهل لك أن تعطيني شيئاً؟ فقال له: «يا أعرابي، نحن قومٌ لا نعطي المعروف إلّا قدر المعرفة». فقال له: سَلْ ما تريد يا ابن رسول الله. فقال له الحسين علیه السلام : «ما النجاة من الهلكة؟»، قال: التوكّل على الله عزوجل. فقال له: «ما أروع الهمّة؟»، قال: الثقة بالله. فقال له: «وما يتحصّن

ص: 255


1- ([1]) سورة الأنعام: 124.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 196 ح 11، جامع الأخبار: 137.

به العبد؟»، قال: محبّتكم أهل البيت. فقال: «ما أزين ما يتزيّن به الرجل؟»، قال: عِلمٌ وعملٌ يزيّنه حلم. فقال له: «فإن أخطأ ذلك كلَّه؟»، قال: فعقلٌ يزيّنه تقاء. فقال له: «فإن أخطأ ذلك كلّه؟»، قال: سخاءٌ يزيّنه حُسن خُلُق. فقال له: «فإن أخطأ ذلك؟»، قال: شجاعةٌ يزيّنها ترك عجب. قال: «فإن أخطأ ذلك؟»، قال: واللهِ -- يا ابن رسول الله -- إن أخطأ هذه الخصال فالموت له خيرٌ من الحياة. فأمر الحسين له بعشرة آلاف درهم، وقال له: «هذه لقضاء دَينك، وعشرة آلاف درهم أُخرى تلمّ بها شعثك وتحسن بها حالك وتنفق بها على عيالك». فأنشأ الأعرابي يقول:

طربتُ وما هاج لي مغبقُ***ولا بي مقامٌ ولا معشقُ

ولكن طربتُ لآل الرسول***فلذّ ليَ الشعرُ والمنطقُ

همُ الأكرمون همُ الأنجبون***نجوم السماء بهم تُشرِقُ

سبقتَ الأنام إلى المكرمات***وأنت الجوادُ فلا تُلحَقُ

أبوك الّذي ساد بالمكرمات***فقصّر عن سبقه السُّبّقُ

بكم فتح الله باب الرشاد***وباب العثار بكم تُغلَقُ ((1))

وفي (أمالي المفيد)، ذكر ابن طلحة أنّ أعرابيّاً قطع القِفار إلى الحسن ليكلّمه في عويص العربيّة، فأشار بعضُ مَن حضر أن يبدأ بالحسين، فسلّم وقال: جئتُك من الهرقل والجعلل والأثيم وألهمهم، ثمّ قال:

ص: 256


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 202 الباب 2.

هفا قلبي إلى الهيفِ***وقد ودّع شرحيه

وقد كان البقاء غضّاً***بجراري ذيليه

علالات ولذّات***فيا سقيا لعصريه

فلمّا علم الشيب***من الرأس نطاقيه

وأمس-ى قد عناني من-***-ه تجديد خضابيه

تسلّيتُ عن اللهو***وألقيتُ قناعيه

فلو يعلم ذو رأيٍ***أصيلٍ فيه رأييه

لألفى غيره منه***له في كر عصريه

فارتجل الحسين علیه السلام:

«فما رسمٌ سجا فيه***محا آية رسميه

سفود درج الذيلين***في نوعا قناعيه

ومود جرصف تترى***على تلبيد نوعيه

ودلاج من المزن***دنا نوء سماكيه

إلى مثعنجر الودق***بجرد من خلاليه

وقد أحمد برقاه***فلا ذم لبرقيه

وقد جلّل رعداه***فلا ذمّ لرعديه

نجيح الرعد شجاج***إذا أرخى نطاقيه

ص: 257

فأضحى دارساً قفراً***لبينونة أهليه»

فقال الأعرابي: ما رأيتُ أعربَ منه كلاماً ولا أذرب منه لساناً. فقال الحسن في أخيه:

غلاماً كرّم الرحمان***بالتطهير جدَّيه

كساه القمر القمقام***من نور سنائيه

ولو عدّد طماح***نفجنا عن عداديه

وقد أرضيت من شعري***وقومت عروضيه

فقال الأعرابي: بأبي أنتما وأُمّي، بارك الله فيكما، فلقد انصرفتُ وأنا مُحبٍّ لكما راضٍ عنكما ((1)).

[مفاخرته مع أبيه علیهما السلام]

وفي كتاب (منتخب آثار أمير المؤمنين علیه السلام ) أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان جالساً ذات يوم وعنده الإمام عليّ بن أبي طالب، إذ دخل الحسين علیه السلام ، فأخذه النبي صلی الله علیه وآله وجعله في حِجره، وقبّل بين عينيه وقبّل شفتيه، وكان للحسين ستّ سنين، فقال علي علیه السلام : «يا رسول الله، أتحبّ وَلدي الحسين؟»، قال صلی الله علیه وآله: «وكيف لا أُحبّه وهو عضوٌ من أعضائي؟». فقال علیه السلام : «يا رسول الله، أيّنا أحبّ إليك، أنا أم حسين؟»، فقال الحسين: «يا أبت! مَن كان أعلى شرفاً كان أحبّ إلى النبيّ وأقرب إليه منزلة». قال علي علیه السلام : «أتفاخرني يا حسين؟»، قال: «نعم يا أبتاه، إن شئت».

فقال علي علیه السلام: «أنا أمير المؤمنين، أنا لسان الصادقين، أنا وزير المصطفى».. حتّى عدّ مِن مناقبه نيفاً وسبعين منقبة ((2))، ثمّ سكت، فقال النبي صلی الله علیه واله

ص: 258


1- ([1]) الصراط المستقيم لابن يونس العاملي: 2 / 172.
2- ([2]) في (الفضائل لابن شاذان: 83): فقال له الإمام علي علیه السلام : «يا حسين، أنا أمير المؤمنين، أنا لسان الصادقين، أنا وزير المصطفى، أنا خازن علم الله ومختاره من خلقه، أنا قائد السابقين إلى الجنّة، أنا قاضي الدَّين عن رسول الله صلی الله علیه وآله، أنا الّذي عمّه سيّدٌ في الجنّة، أنا الّذي أخوه جعفر الطيّار في الجنّة عند الملائكة، أنا قاضي الرسول، أنا آخذٌ له باليمين، أنا حامل سورة التنزيل إلى أهل مكّة بأمر الله (تعالى)، أنا الّذي اختارني الله (تعالى) من خلقه، أنا حبل الله المتين الّذي أمر الله (تعالى) خلقَه أن يعتصموا به في قوله تعالى: «واعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جميعاً»، أنا نجم الله الزاهر، أنا الّذي تزوره ملائكة السماوات، أنا الناطق، أنا حُجّة الله (تعالى) على خلقه، أنا يد الله القويّة، أنا وجه الله (تعالى) في السماوات، أنا جنب الله الظاهر، أنا الّذي قال الله (سبحانه وتعالى) فيَّ وفي حقّي: «بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ* لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون»، أنا عروة الله الوثقى الّتي لا انفصام لها، والله سميعٌ عليم، أنا باب الله الّذي يُؤتى منه، أنا علم الله على الصراط، أنا بيت الله، مَن دخله كان آمناً، فمَن تمسّكَ بولايتي ومحبّتي أَمِن من النار، أنا قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، أنا قاتل الكافرين، أنا أبو اليتامى، أنا كهف الأرامل، أنا «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ» عن ولايتي يوم القيامة، قوله (تعالى): «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»، أنا نعمة الله (تعالى) الّتي أنعم اللهُ بها على خلقه، أنا الّذي قال الله (تعالى) فيَّ وفي حقّي: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً»، فمَن أحبّني كان مسلماً مؤمناً كامل الدِّين، أنا الّذي بيَ اهتديتُم، أنا الّذي قال الله (تبارك وتعالى) فيَّ وفي عدوّي: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُون»، أي: عن ولايتي يوم القيامة، أنا النبأ العظيم الّذي أكمل اللهُ (تعالى) به الدين يوم غدير خُمٍّ وخيبر، أنا الّذي قال رسول الله صلی الله علیه وآله فيَّ: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه»، أنا صلاة المؤمن، أنا حيَّ على الصلاة، أنا حيَّ على الفلاح، أنا حيَّ على [خير] العمل، أنا الّذي نزل على أعدائي: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ واقِعٍ* لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِع»، بمعنى: مَن أنكر ولايتي، وهو النعمان بن الحارث اليهوديّ (لعنه الله تعالى)، أنا داعي الأنام إلى الحوض، فهل داعي المؤمنين غيري؟ أنا أبو الأئمّة الطاهرين من وُلدي، أنا ميزان القسط ليوم القيامة، أنا يعسوب الدين، أنا قائدُ المؤمنين إلى الخيرات والغفران إلى ربّي، أنا الّذي أصحاب يوم القيامة مِن أوليائي المبرّأون من أعدائي، وعند الموت لا يخافون ولا يحزنون، وفي قبورهم لا يُعذَّبون، وهم الشهداء والصدّيقون، وعند ربّهم يفرحون، أنا الّذي شيعتي متوثّقون أن لا يوادّوا مَن حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أنا الّذي شيعتي يدخلون الجنّة بغير حساب، أنا الّذي عندي ديوان الشيعة بأسمائهم، أنا عَون المؤمنين وشفيعٌ لهم عند ربّ العالَمين، أنا الضارب بالسيفين، أنا الطاعن بالرمحين، أنا قاتل الكافرين يوم بدرٍ وحُنَين، أنا مُردي الكُماة يوم أُحُد، أنا ضارب ابن عبد ودّ (لعنه الله تعالى) يوم الأحزاب، أنا قاتل عمرٍو ومرحب، أنا قاتل فرسان خيبر، أنا الّذي قال فيَّ الأمين جبرئيل علیه السلام : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي، أنا صاحب فتح مكّة، أنا كاسر اللّات والعزّى، أنا الهادم هُبَل الأعلى ومَناة الثالثة الأُخرى، أنا علَوتُ على كتف النبيّ صلی الله علیه وآله وكسرتُ الأصنام، أنا الّذي كسرتُ يغوث ويعوق ونسراً، أنا الّذي قاتلتُ الكافرين في سبيل الله، أنا الّذي تصدّق بالخاتَم، أنا الّذي نمتُ على فراش النبيّ؟ص؟ ووقيتُه بنفسي من المشركين، أنا الّذي يخافُ الجنَّ مِن بأسي، أنا الّذي به يُعبَد الله، أنا ترجمان الله، أنا علم الله، أنا عَيبة علم رسول الله صلی الله علیه وآله، أنا قاتل أهل الجمل وصفّين بعد رسول الله، أنا قسيمُ الجنّة والنار».

ص: 259

للحسين: «أسمعتَ يا أبا عبد الله، هو عُشر عشير معشار ما قاله من فضائله، ومن ألف ألف فضيلة، وهو فوق ذلك وأعلى».

فقال الحسين علیه السلام : «الحمد لله الّذي فضَّلَنا على كثيرٍ من عباده المؤمنين، وعلى جميع المخلوقين»، ثمّ قال: «أمّا ما ذكرتَ يا أمير المؤمنين وأنت فيه صادقٌ

ص: 260

أمين». فقال النبي صلی الله علیه وآله: «أُذكُر أنت يا ولدي فضائلك».

فقال الحسين: «أنا الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وجدّي محمّد المصطفى سيّد بني آدم أجمعين، لا رَيب فيه. يا علي، أُمّي أفضل مِن أُمّك عند الله وعند الناس أجمعين، وجدّي خيرٌ مِن جدّك للحسين: «أسمعتَ يا أبا عبد الله، هو عُشر عشير معشار ما قاله من فضائله، ومن ألف ألف فضيلة، وهو فوق ذلك وأعلى».

فقال الحسين علیه السلام : «الحمد لله الّذي فضَّلَنا على كثيرٍ من عباده المؤمنين، وعلى جميع المخلوقين»، ثمّ قال: «أمّا ما ذكرتَ يا أمير المؤمنين وأنت فيه صادقٌ أمين». فقال النبي صلی الله علیه وآله: «أُذكُر أنت يا ولدي فضائلك».

فقال الحسين: «أنا الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأُمّي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وجدّي محمّد المصطفى سيّد بني آدم أجمعين، لا رَيب فيه. يا علي، أُمّي أفضل مِن أُمّك عند الله وعند الناس أجمعين، وجدّي خيرٌ مِن جدّكوأفضل عند الله وعند الناس أجمعين، وأنا في المهد ناغاني جبرائيل، وتلقّاني إسرافيل، يا علي، أنت عند الله أفضل منّي، وأنا أفخرُ منك بالآباء والأُمّهات والأجداد».

ثمّ إنّه علیه السلام اعتنق أباه يُقبّله، وعليٌّ أيضاً يقبّله ويقول: «زادك الله شرفاً وتعظيماً وفخراً وعلماً وحلماً، ولعن الله ظالميك يا أبا عبد الله» ((1)).

* * * * *

في كتاب (المنتخب)، روى جمعٌ من الصحابة قالوا: دخل النبيّ دار فاطمة فقال: «يا فاطمة، إنّ أباكِ اليوم ضيفكِ»، فقالت: «يا أبة، إنّ الحسن والحسين يطالباني بشيءٍ من الزاد، فلم أجد لهما شيئاً يقتاتان به». ثمّ إنّ النبيّ دخل وجلس مع عليّ والحسن والحسين وفاطمة علیهم السلام:وفاطمة مُتحيّرة ما تدري كيف تصنع، ثمّ إنّ النبي نظر إلى السماء ساعة، وإذا بجبرائيل قد نزل وقال: يا محمّد، العليّ الأعلى يقرؤك السلام ويخصّك بالتحيّة والإكرام، ويقول لك: قُل لعليّ وفاطمة والحسن والحسين: أيّ شيءٍ يشتهون مِن فواكه الجنّة؟ فقال النبي: «يا عليّ ويا فاطمة ويا حسن ويا حسين، إنّ ربّ العزّة

ص: 261


1- ([1]) تظلّم الزهراء علیها السلامللقزويني: 15 -- عن كتاب: منتخب آثار أمير المؤمنين علیه السلام.

عَلِم أنّكم جياع، فأيّ شيءٍ تشتهون من فواكه الجنّة؟». فأمسَكوا عن الكلام ولم يردّوا جواباً حياءً من النبي صلی الله علیه وآله، فقال الحسين علیه السلام: «عن إذنك يا أباه يا أمير المؤمنين، وعن إذنكِ يا أُمّاه يا سيّدة نساء العالمين، وعن إذنك يا أخاه الحسن الزكي، أختار لكم شيئاً من فواكه الجنّة؟»،فقالوا جميعاً علیهم السلام: «قُل يا حسين ما شئت، فقد رضينا بما تختاره لنا»، فقال: «يا رسول الله، قُل لجبرائيل إنّا نشتهي رُطَباً جنيّاً»، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «قد علم الله ذلك»، ثمّ قال: «يا فاطمة، قومي ادخلي البيت وأحضِري إلينا ما فيه». فدخلَت، فرأت فيه طبقاً من البلّور مُغطّىً بمنديل من السُّندس الأخضر، وفيه رُطب جنيّ في غير أوانه، فقال النبي: «أنّى لكِ هذا؟!»، قالت: «هو مِن عند الله، إنّ الله يرزق مَن يشاء بغير حساب» -- كما قالت بنت عمران --، فقام النبيّ وتناوله منها وقدّمه بين أيديهم، ثمّ قال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، ثمّ أخذ رطبةً فوضعها في فم الحسين، فقال: «هنيئاً مريئاً يا حسين»، ثمّ أخذ رطبةً فوضعها في فم الحسن، وقال: «هنيئاً مريئاً يا حسن»، ثمّ أخذ رطبةً ثالثةً فوضعها في فم فاطمة الزهراء، وقال: «هنيئاً مريئاً لكِ يا فاطمة الزهراء»، ثمّ أخذ رطبةً رابعةً فوضعها في فم عليّ، وقال: «هنيئاً مريئاً لك يا عليّ»، ثمّ ناول عليّاً رطبةً أُخرى والنبي يقول له: «هنيئاً لك يا عليّ»، ثمّ وثب النبي قائماً ثمّ جلس، ثمّ أكلوا جميعاً من ذلك الرطب، فلمّا اكتفوا وشبعوا ارتفعت المائدةُ إلى السماء بإذن الله (تعالى)، فقالت فاطمة: «يا أبة، لقد رأيتُ اليوم منك عجباً!»، فقال: «يا فاطمة، أمّا الرطبة الأُولى الّتي وضعتُها في فم الحسين وقلتُ له: هنيئاً يا حسين،

ص: 262

فإنّي سمعتُ ميكائيل وإسرافيل يقولان: هنيئاً لك يا حسين، فقلتُ أيضاً موافقاً لهما بالقول: هنيئاً لك يا حسين، ثمّ أخذتُ الثانية فوضعتُها في فم الحسن، فسمعتُ جبرائيل وميكائيل يقولان: هنيئاً لك يا حسن، فقلتُ أنا موافقاً لهما في القول، ثمّ أخذتُ الثالثة فوضعتُها في فمكِ يا فاطمة، فسمعتُالحور العين مسرورين مشرفين علينا من الجنان، وهنّ يقلنَ: هنيئاً لكِ يا فاطمة، فقلتُ موافقاً لهنّ بالقول، ولمّا أخذتُ الرابعة فوضعتُها في فم عليّ، سمعتُ النداء من الحقّ (سبحانه وتعالى) يقول: هنيئاً مريئاً لك يا عليّ، فقلتُ موافقاً لقول الله عزوجل، ثمّ ناولتُ عليّاً رطبةً أُخرى، ثمّ أُخرى، وأنا أسمع صوت الحقّ (سبحانه وتعالى) يقول: هنيئاً مريئاً لك يا عليّ، ثمّ قمتُ إجلالاً لربّ العزّة (جلّ جلاله)، فسمعتُه يقول: يا محمّد، وعزّتي وجلالي، لو ناولتَ عليّاً من هذه الساعة إلى يوم القيامة رُطبةً رُطبة، لقلتُ له هنيئاً مريئاً بغير انقطاع» ((1)).

* * * * *

في كتاب (المنتخب)، عن أُمّ سلَمة أنّ الحسن والحسين دخلا على رسول الله صلی الله علیه وآله، وكان عنده جبرائيل علیه السلام ، فجعلا يدوران حوله يشبّهانه بدحية الكلبي، فجعل جبرائيل يُومي بيده نحو السماء كالمُتناوِل شيئاً، فإذا بيد جبرائيل تفّاحة وسفرجلة ورمّانة، فناولهما الجميع، فتهلّلت وجوهُهما فرحاً وسعيا إلى جدّهما، فقبّلهما وقال لهما: «إذهبا إلى منزلكما، وابدؤوا

ص: 263


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 21 المجلس 1.

بأبيكما»، ففعلا كما أمرهما جدّهما، ولم يأكلوا منها شيئاً حتّى جاء النبي إليهم، فجلسوا جميعاً وأكلوا حتّى شبعوا، ولم يزالوا يأكلون من ذلك السفرجل والتفّاح والرمّان وهو يرجع كما كان أوّلاً، حتّى قُبض النبيّ ضلی الله علیه وآله، ولم يلحقه التغيير والنقصان في مدّة أيّام حياة فاطمة علیها السلام.قال الحسين علیه السلام: «فلمّا تُوفّيت أُمّي فاطمة فقدنا الرمّان وبقي التفّاح والسفرجل أيّام حياة أبي، فلمّا استُشهد أبي عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقدنا السفرجل وبقي التفّاح علَيّ إلى وقت مُنعتُ فيه شرب الماء، فكنتُ أشمّها إذا عطشتُ فيسكن لهيب عطشي، فلمّا دنا أجلي رأيتُها قد تغيّرَت فأيقنتُ بالفناء».

قال عليّ بن الحسين: «سمعتُ أبي يقول ذلك قبل مقتله بساعة، فلمّا قضى نحبه وُجِد ريح التفّاح في مصرعه، فالتمستُ التفّاحة فلم أجد لها أثراً، فبقي ريحُها بعد مقتله علیه السلام ، ولقد زرتُ قبره فشممتُ منه رائحة التفّاح تفوح من قبره (صلوات الله عليه)، فمَن أراد ذلك من شيعتنا الصالحين الزائرين قبر الحسين فيلتمس ذلك في أوقات السَّحَر، فإنّه يجد رائحة التفّاح عند قبر الحسين إن كان مُخلِصاً موالياً صادقاً» ((1)).

قال المؤلّف:

لقد اتّفق لي مِراراً أنّي شممتُ رائحة التفّاح مِن قبره المبارك في ذلك الوقت.

ص: 264


1- ([1]) المنتخَب للطريحي: 1 / 157 المجلس 8.

[وقوفه علیه السلام على قبر جدّته خديجة علیها السلام]

في كتاب (عيون المجالس) أنّه ساير أنسَ بن مالك، فأتى قبر خديجة فبكى، ثمّ قال: «اذهبْ عنّي». قال أنس: فاستخفيتُ عنه،فلمّا طال وقوفه في الصلاة سمعتُه قائلاً:

«يا ربّ يا ربّ أنت مولاه***فارحم عُبيداً إليك ملجاهُ

يا ذا المعالي عليك معتمدي***طوبى لمن كنتَ أنت مولاهُ

ص: 265

طوبى لمن كان خائفاً أرقاً***يشكو إلى ذي الجلال بلواهُ

وما به علّةٌ ولا سقم***أكثر من حبّه لمولاهُ

إذا اشتكى بثّه وغصّته***أجابه الله ثمّ لبّاهُ

إذا ابتلي بالظلام مبتهلاً***أكرمه اللهُ ثمّ أدناهُ»

فنودي:

«لبّيك لبّيك أنت في كنفي***وكلّ ما قلتَ قد علمناهُ

صوتك تشتاقه ملائكتي***فحسبك الصوتُ قد سمعناهُ

دُعاك عندي يجولُ في حُجُبٍ***فحسبك الستر قد سفرناهُ

لو هبّت الريحُ في جوانبه***خرّ صريعاً لما تغشّاهُ

سلني بلا رغبةٍ ولا رهبٍ***ولا حسابٍ، إنّي أنا اللهُ» ((1))

وفي (روضة الواعظين) أنّ فاطمة أتت بابنيها الحسن والحسين إلى رسول اللهصلی الله علیه وآله، قالت: «هذان ابناك، فورِّثْهما شيئاً»، قال: «أمّا الحسن فإنّ له هيبتي وسؤددي، وأمّا الحسين فإنّ له جرأتي وجودي» ((2)).

ص: 266


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 77 -- عن: عيون المجالس.
2- ([1]) روضة الواعظين للفتّال النيسابوري: 1 / 156، كشف الغُمّة للأربلي: 1 / 516، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 88.

[أجاب دعوة المساكين]

روى الشهرستاني في كتاب (المناقب) أنه علیه السلام مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً ((1)) لهم على كساء، فسلّم عليهم، فدعوهإلى طعامهم، فجلس معهم وقال: «لو لا أنّه صدقة لَأكلتُ معكم»، ثمّ قال: «قوموا إلى منزلي»، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم ((2)).

أعتق غلاماً ليهوديٍّ كان يواكل كلباً طلباً للسرور

في الكتاب المذكور أيضاً، رُوي عن الحسين بن علي علیه السلام أنّه قال: «صحّ عندي قول النبيّ: أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه. فإنّي رأيتُ غلاماً يؤاكل كلباً، فقلتُ له في ذلك، فقال: يا ابن رسول الله، إنّي مغمومٌ أطلب سروراً بسروره؛ لأنّ صاحبي يهودي أُريد أُفارقه». فأتى الحسين علیه السلام إلى صاحبه بمائتي دينار ثمناً له، فقال اليهودي: الغلام فِدىً لخُطاك، وهذا البستان له، ورددتُ عليك المال. فقال علیه السلام : «وأنا قد وهبتُ لك المال»، فقال: قبلتُ المال ووهبتُه للغلام. فقال الحسين: «أعتقتُ الغلام ووهبتُه له جميعاً». فقالت امرأته: قد أسلمت، ووهبتُ زوجي مهري. فقال اليهودي: وأنا أيضاً أسلمتُ وأعطيتُها هذه الدار ((3)).

ص: 267


1- ([2]) ترجمها المؤلّف: (لحم البعير).
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 70، الجوهرة في النسب للبري: 39.
3- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 97.

* * * * *

في كتاب (مناقب آل أبي طالب): وروى الحسن البصري، قال: كان الحسين سيّداً زاهداً ورعاً صالحاً ناصحاً حسن الخلق، فذهب ذات يومٍ مع أصحابه إلى بستانٍ له، وكان في ذلك البستان غلامٌ له يقال له: صافي، فلمّا قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل خبزاً،فنظر الحسين إليه وجلس مستتراً ببعض النخل، فكان الغلام يرفع الرغيف فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه، فتعجّب الحسين علیه السلام من فعل الغلام، فلمّا فرغ من الأكل قال: الحمد لله ربّ العالمين، اللّهمّ اغفِرْ لي ولسيّدي، وبارك له كما باركتَ على أبويه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

فقام الحسين علیه السلام وقال: «يا صافي»، فقام الغلام فزعاً، فقال: يا سيّدي وسيّد المؤمنين إلى يوم القيامة، إنّي ما رأيتُك، فاعفُ عنّي. فقال الحسين علیه السلام : «اجعلني في حِلٍّ يا صافي؛ لأنّي دخلتُ بستانك بغير إذنك». فقال صافي: يا سيّدي، بفضلك وكرمك وسؤددك تقول هذا.

فقال الحسين علیه السلام : «إنّي رأيتُك ترمي بنصف الرغيف إلى الكلب وتأكل نصفه، فما معنى ذلك؟»، فقال الغلام: إنّ [هذا] الكلب ينظر إليّ حين أكلي، فإنّي أستحي منه يا سيّدي لنظره إليّ، وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء، وأنا عبدك وهذا كلبك نأكل من رزقك معاً.

فبكى الحسين علیه السلام وقال: «إن كان كذلك فأنت عتيق لله، ووهبتُ لك ألفَي دينار بطيبةٍ من قلبي»، فقال الغلام: إن أعتقتني لله فإنّي أُريد القيام

ص: 268

ببستانك. فقال الحسين: «إنّ الكريم إذا تكلّم بالكلام ينبغي له أن يصدقه بالفعل، وأنا قلت حين دخلت البستان: اجعلني في حِلٍّ فإنّي دخلتُ بستانك بغير إذنك، فصدقتُ قولي، ووهبتُ البستان لك بما فيه، غير أنّ أصحابي هؤلاء جاؤوا لأكل الثمار والرطب، فاجعلهم أضيافاً لك، وأكرِمْهم لأجلي، أكرمَك اللهُ يوم القيامة وبارك لك في حُسن خُلقك وأدبك». فقال الغلام:إن كنتَ أوهبت لي بستانك، فإنّي قد سبلته لأصحابك وشيعتك ((1)).

* * * * *

في كتاب (بغية العقول): سأل رجلٌ الحسينَ علیه السلام حاجة، فقال (صلوات الله عليه): «يا هذا، سؤالك إيّاي يعظم لديّ، ومعرفتي بما يجب لك يكبر علَيّ، ويدي تعجز عن نيلك ممّا أنت أهله، والكثير في ذات الله قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلتَ الميسور دفعتَ عنّي مؤونة الاحتيال لك والاهتمام لِما أتكلّف من واجب حقّك».

فقال الرجل: يا ابن رسول الله، أقبلُ [اليسير]، وأشكر العطيّة، وأعذرُ على المنع. فدعا الحسين علیه السلام بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتّى استقصاها، ثمّ قال: «هاتِ الفاضل من الثلاثمئة ألف»، فأحضر خمسين ألفاً من الدراهم، فقال: «ما فعلت الخمسمئة دينار؟»، قال: هي عندي. قال:

ص: 269


1- ([1]) تسلية المجالس لمحمّد بن أبي طالب: 2 / 104، مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 153.

«أحضِرْها»، فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل، فقال: «هاتِ مَن يحمل معك هذا المال»، فأتاه بالحمّالين، فدفع الحسين إليهم رداءه لكراء حملهم حتّى حملوه معه، فقال مولىً له: واللهِ لم يبقَ عندنا درهمٌ واحد. قال: «لكنّي أرجو أن يكون لي بفعلي هذا عند الله أجرٌ عظيم» ((1)).

* * * * *

في كتاب (بغية الطلّاب)، عن (الفضائل) للخوارزمي: قيل: خرجالحسن علیه السلام في سفرٍ فأضلّ طريقه ليلاً، فمرّ براعي غنم، فنزل عنده وألطفه وبات عنده، فلمّا أصبح دلّه على الطريق، فقال له الحسن علیه السلام: «إنّي ماضٍ إلى ضيعتي، ثمّ أعود إلى المدينة»، ووقّت له وقتاً، قال: «تأتيني فيه»، فلمّا جاء الوقت شُغِل الحسن بشيءٍ من أُموره عن قدوم المدينة، فجاء الراعي، وكان عبداً لرجلٍ من أهل المدينة، فصار إلى أبي عبد الله الحسين علیه السلام وهو يظنّه الحسن، فقال: يا مولاي، أنا العبد الّذي بتَّ عندي ليلة كذا، وأمرتَني أن أصير إليك في هذا الوقت. وأراه علامات عرف الحسين علیه السلام أنّه كان الحسن علیه السلام ، فقال الحسين علیه السلام : «لمَن أنت؟»، فقال: لفلان، قال: «كم غنمك؟»، قال: ثلاثمئة. فأرسل علیه السلام إلى الرجل فرغّبه حتى باعه الغنم والعبد، فأعتقه، ووهب له الغنم مكافأةً عمّا صنع بأخيه، وقال: «إنّ الّذي

ص: 270


1- ([2]) تسلية المجالس لمحمّد بن أبي طالب: 2 / 102، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 153.

بات عندك أخي، وقد كافيتُك بفعلك به» ((1)).

* * * * *

في كتاب (بغية الطلّاب): خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر ((2)) حجّاجاً، ففاتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فمرّوا بعجوزٍ في خِباءٍ لها، فقالوا: هل من شراب؟ فقالت: نعم. فأناخوا بها، وليس لها إلّا شُوَيهة في كسر الخيمة، فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك، وقالوا لها: هل مِن طعام؟ قالت: لا، إلّا هذه الشاة، فليذبحنّهاأحدُكم حتّى أُهيّئ لكم شيئاً تأكلون. فقام إليها أحدُهم فذبحها وكشطها، ثمّ هيّأت لهم طعاماً فأكلوا، ثمّ أقاموا حتّى أبردوا، فلمّا ارتحلوا قالوا لها: نحن نفرٌ من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمّي بنا؛ فإنّا صانعون إليكِ خيراً. ثمّ ارتحلوا، وأقبل زوجُها وأخبرته عن القوم والشاة، فغضب الرجل وقال: ويحكِ! تذبحين شاتي لأقوامٍ لا تعرفينهم، ثمّ تقولين نفرٌ من قريش. ثمّ بعد مدّةٍ ألجأتهم الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلاها وجعلا ينقلان البعير إليها ويبيعانه ويعيشان منه، فمرّت العجوز في بعض سكك المدينة، فإذا الحسن علیه السلام على باب داره جالس، فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث

ص: 271


1- ([1]) تسلية المجالس لمحمّد بن أبي طالب: 2 / 104، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 153.
2- ([2]) ذكر المؤلّف الإمامين الحسن والحسين علیهما السلام فقط.

غلامه فردّها، فقال لها: «يا أمة الله، تعرفيني؟»، قالت: لا، قال: «أنا ضيفكِ يوم كذا»، فقالت العجوز: بأبي أنتَ وأُمّي. فأمر الحسن علیه السلام فاشترى لها من شاء الصدقة ألف شاة، وأمر لها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى أخيه الحسين علیه السلام ، فقال: «بكم وصلكِ أخي الحسن؟»، فقالت: بألف شاة وألف دينار. فأمر لها بمثل ذلك، ثمّ بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر علیه السلام ، فقال: بكم وصلكِ الحسن والحسين علیهما السلام فقالت: بألفَي دينار وألفَي شاة. فأمر لها عبد الله بألفَي شاةٍ وألفي دينار، وقال: لو بدأتِ بي لَأتعبتُهما. فرجعت العجوز إلى زوجها بذلك ((1)).

* * * * *في بعض الكتب المعتبرة: كان في الموصل طبيبٌ مروانيّ يخدم معاوية، وكان يقول أيّام خلافة الإمام الحسين علیه السلام: إمامنا يزيد بن معاوية. وكان له جارٌ من شيعة أهل البيت علیهم السلام يقول: إمامنا الحسين بن علي علیهما السلام.

فقال له الشيعيّ يوماً: لا تقل بإمامة يزيد؛ فإنّه فاسقٌ فاجرٌ ظالمٌ عاصي، وأبوه معاوية وجدّه أبو سفيان ظَلَمةٌ أشقياء، وقُلْ بإمامة الحسين ابن علي؛ فإنّه مُتّصفٌ بجميع الخصال الحميدة، وأقلّ ما يُقال في صفاته أنّه أوقف ماله على الفقراء والمحتاجين والأرامل والأيتام، ويزيد ليس كذلك.

ص: 272


1- ([1]) كشف الغمّة للأربلي: 1 / 559، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 384، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 150، إحياء العلوم للغزالي: 3 / 249.

لم يقبل منه الطبيب علانية، ولكنّه أضمر في نفسه أن يختبر كلام الشيعي، فإن كان صادقاً في قوله تشيّع.

ثم إنّ الطبيب كانت له جارةٌ أرملةٌ عندها طفلٌ يتيم، فمرضت، فأرسلَت ولدها إلى الطبيب ليعالجها، فقال الطبيب للغلام: ينفع لعلاج أُمّك كبد الفرس. فقال اليتيم: مِن أين آتيك بكبد الفرس؟! فقال الطبيب: صِرْ الى الحسين بن عليّ واطلُبْ منه ذلك. وكان الطبيب يريد أن يختبر كرم الإمام وخُلقه ورحمته.

فذهب اليتيم إلى الإمام علیه السلام وشكى له حال أُمّه وما وصف لها الطبيب، فأمر الإمام بفرسٍ فذُبحَت وأخرج كبدها ودفعها إلى اليتيم، فأخذها اليتيم وانصرف إلى الطبيب، فقال: ما كان لون الفرس؟ قال: اللون الكذائي الّذي طلبتَه، قال: لا ينفع كبد الفرس بهذا اللون، أحضِرْ كبد فرسٍ بلون كذا. فذهب اليتيم إلى الإمام مرّةً ثانيةً وحكى له قول الطبيب، فأمر الإمام بفرسٍ أُخرى فذُبحَت واستخرج كبدها ودفعها إلى اليتيم، فتعلّل له الطبيب وطلب لوناً آخَر، حتّى فعل ذلك خمس مرّات، وفي كلّ مرّةٍ يذبح الإمام فرساً باللون المطلوبويدفع له كبدها.

فلمّا شاهد الطبيبُ حُسنَ خُلق الإمام وكرمه ورحمته، قام وتوجّه إلى باب الإمام الحسين علیه السلام ، وطلب المُلازمين للإمام أن يأخذوه إلى حظيرة الأفراس، فأخذوه، فرأى خمسة أفراسٍ مذبوحة، فسألهم: لمَ ذُبحَت؟ قالوا:

ص: 273

ذُبحَت من أجل يتيم وصف الطبيب كبدَها لأُمّه.

فخرج الطبيب وجلس على باب دار الإمام علیه السلام، فلمّا خرج الإمامُ وقع على قدمَيه المباركتين يقبّلهما ويعتذر إليه، وصار من شيعته المخلصين، فسأله الإمام عن سبب إيمانه وإخلاصه، فأخبره بحال اليتيم وأُمّه، وأنّه كان يختبر رحمة الإمام وكرمه وسخائه.

فقال له: «قُم معي حتّى أُريك ما هو أعظم من ذلك!». فرفع الإمام علیه السلام يديه بالدعاء وقال: «اللّهمّ أَحيي هذه الأفراس الّتي ذبحتُها في رضاك ورضا أوليائك، بحقّ منزلتنا عندك وبحقّ جدّي محمّد صلی الله علیه وآله المصطفى وأبي عليٍّ المرتضى وأُمّي فاطمة الزهراء، إنّك على كلّ شيءٍ قدير». فما أتمّ الإمامُ دعاءه حتّى أحيى اللهُ الأفراس، فقامت على قوائمها ((1)).

[بينه وبين أخيه ابن الحنفيّة!]

حدّث الصوليّ عن الصادق علیه السلام في خبرٍ أنّه جرى بينه وبين محمّد ابن الحنفيّة كلام، فكتب ابنُ الحنفيّة إلى الحسين: أمّا بعديا أخي، فإنّ أبي وأباك عليّ، لا تفضلني فيه ولا أفضلك، وأُمّك فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله، ولو كان ملءُ الأرض ذهباً ملك أُمّي ما وفَت بأُمّك، فإذا قرأتَ كتابي هذا فصِرْ إليّ حتّى تترضّاني، فإنّك أحقُّ بالفضل منّي، والسلام عليكم ورحمة

ص: 274


1- ([1]) تحفة المجالس: 188 المقصد 5 المعجزة 2.

الله وبركاته. ففعل الحسين علیه السلام ذلك، فلم يجرِ بعد ذلك بينهما شيء ((1)).

[مشيه إلى بيت الله الحرام]

في كتاب (المناقب)، عن عبد الله بن عُبيد أبو عُمَير ((2)): لقد حجّ الحسين بن علي خمساً وعشرين حجّةً ماشياً، وإنّ النجائب تُقاد معه ((3)).

وروى الشيخ المفيد عن طريق المخالفين، أنّ الحسن والحسين كانا يمشيان إلى الحجّ، فلم يمرّا براكبٍ إلّا نزل يمشي، فثقل ذلك على بعضهم، فقال سعد بن أبي وقّاص للحسن: يا أبا محمّد، إنّ المشيَ قد ثقل على جماعةٍ ممّن معك من الناس، إذا رأوكما تمشيان لم تطب أنفسهم أن يركبوا، فلمَ ما ركبتما؟ فقال الحسن: «لا نركب، قد جعلنا على أنفسنا المشيَ إلى بيت الله الحرام علىأقدامنا، ولكنّا نتنكّب عن الطريق»، فأخذا جانباً من الناس ((4)).

ص: 275


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 70، شعب الإيمان للبيهقي: 6 / 316، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 54 / 333.
2- ([2]) في المتن: (ابن أبي عُمَير).
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 77، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي: 4 / 541 الرقم 3، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 115، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 180.
4- ([1]) الإرشاد للمفيد: 2 / 129، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 99، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 111 ح 1046.

* * * * *

في كتاب (الدلائل) تصنيف عبد الله بن جعفر الحِميَري، عن الصادق أبي عبد الله علیه السلام قال: «خرج الحسين بن عليّ إلى مكّة سنةً ماشياً، فورمت قدماه، فقال له بعضُ مواليه: لو ركبتَ ليسكن عنك هذا الورم، فقال: كلّا، إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك أسودٌ ومعه دهن، فاشتره منه ولا تُماسكه. فقال له مولاه: بأبي أنت وأُمّي، ما قُدّامنا منزلٌ فيه أحدٌ يبيع هذا الدواء! فقال: بلى، أمامك دون المنزل. فسار ميلاً فإذا هو بالأسود، فقال الحسين لمولاه: دونك الرجل، فخُذ منه الدهن. فأخذ منه الدهن وأعطاه الثمن، فقال له الغلام: لمَن أردتَ هذا الدهن؟ فقال: للحسين بن علي علیه السلام ، فقال: انطلِقْ به إليه. فصار الأسود نحوه، فقال: يا ابن رسول الله، إنّي مولاك، لا آخذُ له ثمناً، ولكن ادعُ اللهَ أن يرزقني ولداً ذكراً سويّاً يحبّكم أهل البيت، فإنّي خلّفتُ امرأتي تمخض. فقال: انطلِقْ إلى منزلك، فإنّ الله قد وهب لك ولداً ذكراً سويّاً، فولدَت غلاماً سويّاً. ثمّ رجع الأسود إلى الحسين، ودعا له بالخير بولادة الغلام له، وإنّ الحسين علیه السلام قد مسح رجلَيه فما قام من موضعه حتّى زال ذلك الورم» ((1)).

[نزاعه مع والي المدينة]

في (المناقب) أنّه كان بين الحسين وبين الوليد بن عُقبة منازعةٌ في

ص: 276


1- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 185 ح 13 -- عن: كتاب النجوم من كتاب الدلائل لعبد الله بن جعفر الحِميَري.

ضَيعة، فتناول الحسين علیه السلام عمامة الوليد عن رأسه وشدّها في عنقه، وهو يومئذٍ والٍ على المدينة، فقال مروان: باللهِ ما رأيتُ كاليوم جرأة رجلٍ على أميره! فقال الوليد: واللهِ ما قلتَ هذا غضباً لي، ولكنّك حسدتني على حِلمي عنه، وإنّما كانت الضيعة له، فقال الحسين: «الضيعة لك يا وليد»، وقام ((1)).

[حسين سبطٌ من الأسباط]

رُوي في (المنتخب) أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله خرج مع أصحابه إلى طعامٍ دُعوا له، فتقدّم رسول الله أمام القوم والحسين مع غلمانٍ يلعب، فأراد رسول الله أن يأخذه، فطفق يفرّ هاهنا مرّةً وهاهنا مرّة، فجعل رسول الله أيضاً يضاحكه حتّى أخذه، قال: فوضع إحدى يديه تحت فاه والأُخرى تحت ذِقنه، فوضع فاه على فيه فقبّله، وقال: «حُسين منّي وأنا من حُسين، أحبَّ الله مَن أحبّ حُسيناً، حُسينٌ سبطٌ من الأسباط» ((2)).

ص: 277


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 74، السيرة لابن هشام: 1 / 87، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 63 / 210.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 108 المجلس 6.

[مَن أحبّني فلْيُحبّ هذين]

في (المنتخب) أيضاً: كان الحسن والحسين يأتيان رسول الله وهو في الصلاة فيثبان عليه، فإذا نُهيا عن ذلك أشار بيده: دعوهما، فإذا قضى الصلاة ضمّهما وقال: «مَن أحبّني فلْيُحبّ هذين» ((1)).

* * * * *

في (المنتخب): رُوي عن أُمّ أيمن (رضي الله عنها) قالت: مضيتُ ذات يومٍ إلى منزل ستّي ومولاتي فاطمة الزهراء علیها السلام لأزورها في منزلها، وكان يوماً حارّاً من أيّام الصيف، فأتيتُ إلى باب دارها، وإذا أنا بالباب مُغلَق، فنظرتُ مِن سقوف الباب وإذا بفاطمة الزهراء علیها السلام نائمةٌ عند الرحى، ورأيتُ الرحى تطحن البُرّ وهي تدور من غير يدٍ تديرها، والمهد أيضاً إلى جانبها والحسين علیه السلام نائمٌ فيه، والمهد يهتزّ ولم أرَ مَن يهزّه، ورأيت كفّاً يُسبّح لله (تعالى) قريباً من كفّ فاطمة الزهراء. قالت أُمّ أيمن: فتعجّبتُ من ذلك، فتركتُها ومضيت إلى سيّدي رسول الله صلی الله علیه وآله وسلّمتُ عليه وقلت له: يا رسول الله، إنّي رأيت عَجَباً ما رأيتُ مثله أبداً! فقال لي: «ما رأيتِ يا أُمّ أيمن؟»، فقلت: إنّي قصدتُ منزل ستّي فاطمة الزهراء، فلقيتُ البابَ مُغلَقاً، وإذا بالرحى تطحن البُرّ وهي تدور من غير يدٍ تُديرها، ورأيتُ مهد الحسين علیه السلام يهتزّ من غير يدٍ تهزّه، ورأيتُ كفّاً يُسبّح لله (تعالى) قريباً من كفّ فاطمة ولم

ص: 278


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 112 المجلس 6.

أرَ شخصه، فتعجّبتُ من ذلك يا سيّدي. فقال: «يا أُمّ أيمن،اعلمي أنّ فاطمة الزهراء صائمة، وهي متعبةٌ جائعة، والزمان قيّض، فألقى الله عليها النعاس فنامت، فسبحان مَن لا ينام، فوكّل اللهُ ملَكاً يطحن عنها قوت عيالها، وأرسل الله ملَكاً آخر يهزّ مهد ولدها الحسين لئلا يُزعجها من نومها، ووكّل الله ملَكاً آخَر يُسبّح لله عزوجل قريباً من كفّ فاطمة، يكون ثواب تسبيحه لها؛ لأنّ فاطمة لم تفتر عن ذكر الله عزوجل، فإذا نامت جعل اللهُ ثواب تسبيح ذلك الملَك لفاطمة». فقلت: يا رسول الله، أخبِرني مَن يكون الطحّان؟ ومَن الذي يهزّ مهد الحسين ويناغيه؟ ومَن يُسبّح؟ فتبسّم النبيّ صلی الله علیه وآله ضاحكاً وقال: «أمّا الطحّان فجبرائيل، وأمّا الّذي يهزّ مهد الحسين فهو ميكائيل، وأمّا الملَك المُسبِّح فهو إسرافيل» ((1)).

[جبرئيل يُلهيه حتّى تستيقظ أُمّه]

في (المناقب) أنّ جبرئيل نزل يوماً فوجد الزهراء نائمة والحسين قلقاً على عادة الأطفال مع أُمّهاتهم، فقعد جبرئيل يُلهيه عن البكاء حتّى استيقظَت، فأعلمها رسول الله صلی الله علیه وآله بذلك ((2)).

* * * * *

في (المنتخب): افتخر إسرافيل على جبرائيل، فقال: إنّي مِن حَملَة

ص: 279


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 240 المجلس 1.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 96.

العرش، وصاحب الصُّور والنفخة، وأنا أقربُ الملائكة إلىحضرة الجلال. فقال جبرائيل: أنا خيرٌ منك. قال: لماذا؟ قال: أنا أمين الله على وحيه، وصاحب الكسوف والخسوف والزلازل والرسائل. فاختصما إلى الله (تعالى)، فأوحى إليهما أن «اسكُتا، فوَعزّتي وجلالي لقد خلقتُ مَن هو خيرٌ منكما، انظُرا إلى ساق العرش». فنظروا وإذا على ساق العرش: لا إله إلّا الله، محمّدٌ رسول الله، عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين خير خلق الله. فقال جبرائيل: بحقّهم عليك إلّا ما جعلتَني خادماً لهم. فقال: «لك ذلك». فافتخر جبرائيل على الملائكة أجمع لمّا صار خادماً لهم، فقال: مَن مثلي وأنا خادم آل محمّد؟ فانكسرت الملائكة أن يفاخروه ((1)).

* * * * *

في (نصوص المعجزات) مُسنَداً عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر علیهما السلام قال: «خرج الحسن والحسين حتّى أتيا نخل العجوة للخلاء، فهويا إلى مكان، وولّى كلُّ واحدٍ منهما بظهره إلى صاحبه، فرمى الله بينهما بجدارٍ يستر أحدهما عن صاحبه، فلما قضيا حاجتهما ذهب الجدار وارتفع عن موضعه، وصار في الموضع عينُ ماءٍ وجنّتان، فتوضئا وقضيا ما أرادا، ثمّ انطلقا حتّى صارا في بعض الطريق عرض لهما رجلٌ فظٌّ غليظ، فقال لهما: ما خفتما عدوّكما، مِن أين جئتما؟ فقالا إنّهما جاءا من الخلاء، فهمّ بهما، فسمعوا صوتاً يقول: يا شيطان، أتريد أن تناوي

ص: 280


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 285 المجلس 3.

ابنَي محمّد؟ وقد علمتَ بالأمس ما فعلت، وناويتَ أُمّهما، وأحدثتَ في دين الله وسلكتَ عن الطريق. وأغلظ له الحسينأيضاً، فهوى بيده ليضرب به وجه الحسين فأيبسها الله من منكبه، فأهوى باليسرى ففعل الله به مثل ذلك، فقال: أسألكما بحقّ أبيكما وجدّكما لما دعوتما الله أن يطلقني. فقال الحسين: اللّهمّ أطلِقْه، واجعل له في هذا عِبرة، واجعل ذلك عليه حُجّة. فأطلق اللهُ يده، فانطلق قدّامهما حتّى أتيا عليّاً، وأقبل عليه بالخصومة، فقال: أين دسستهما؟ وكان هذا بعد يوم السقيفة بقليل، فقال علي علیه السلام : ما خرجا إلّا للخلاء. وجذب رجلٌ منهم عليّاً حتّى شقّ رداءه، فقال الحسين للرجل: لا أخرجك الله من الدنيا حتّى تُبتلى بالدياثة في أهلك ووُلدك. وقد كان الرجل قاد ابنته إلى رجلٍ من العراق، فلمّا خرجا إلى منزلهما قال الحسين للحسن: سمعتُ جدّي يقول: إنّما مثلكما مثل يونس، إذ أخرجه الله من بطن الحوت وألقاه بظهر الأرض، وأنبت عليه شجرةً من يقطين، وأخرج له عيناً من تحتها، فكان يأكل من اليقطين ويشرب من ماء العين. وسمعتُ جدّي يقول: أمّا العين فلكم، وأمّا اليقطين فأنتم عنه أغنياء، وقد قال الله في يونس: «وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى حِينٍ» ((1)). ولسنا نحتاج إلى اليقطين، ولكن علم الله حاجتنا إلى العين فأخرجها لنا، وسنُرسَل إلى أكثر من ذلك فيكفرون ويتمتّعون إلى حين. فقال الحسن: قد سمعتُ هذا» ((2)).

ص: 281


1- ([1]) سورة الصافّات: 147 و148.
2- ([2]) الخرائج للراوندي: 2 / 845، بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 274، الثاقب في المناقب لابن حمزة: 329 الفصل 4.

* * * * *

[إخباره مروان بسقوط ردائه..]

في كتاب (المناقب): عن الكلبي ((1)) أنّه قال مروان للحسين: لولا فخركم بفاطمة بمَ كنتم تفخرون علينا؟ فوثب الحسينُ فقبض على حلقه فعَصَره، ولوى عمامته في عنقه حتّى غُشي عليه، ثمّ تركه، ثمّ تكلّم وقال في آخر كلامه: «واللهِ ما بين جابرسا وجابلقا رجلٌ ممّن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك إذ كان، وعلامة قولي فيك أنّك إذا غضبتَ سقط رداؤك عن منكبك». قال: فوَاللهِ ما قام مروان من مجلسه حتّى غضب فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه ((2)).

[جوابه لابن العاص]

في (المناقب)، عن (محاسن) البرقي: قال عمرو بن العاص للحسين علیه السلام : يا ابن علي، ما بالُ أولادنا أكثر من أولادكم؟ فقال علیه السلام:

«بغاث الطير أكثرها فراخاً***وأُمّ الصقر مقلاةٌ نَزورُ»

فقال: ما بالُ الشيب إلى شواربنا أسرع منه في شواربكم؟ فقال علیه السلام :

ص: 282


1- ([1]) في المتن: (محمّد بن السائب).
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 23، الاحتجاج للطبرسي: 2 / 24.

«إنّ نساءكم نساء بخرة، فإذا دنا أحدُكم من امرأته نكهت في وجهه فيشيب منه شاربه». فقال: ما بالُ لحاكم أوفرمن لحانا؟ فقال؟ع؟: ««وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدَاً» ((1))». فقال معاوية: بحقّي عليك إلّا سكتّ، فإنّه ابن عليّ بن أبي طالب. فقال:

«إنْ عادت العقربُ عُدنا لها***وكانت النعلُ لها حاضرةْ

قد علم العقربُ واستيقنَتْ***أنْ لا لها دُنياً ولا آخرة» ((2))

* * * * *

في (المنتخب): عن أبي سلَمَة قال: حججتُ مع عمر بن الخطّاب، فلمّا صرنا بالأبطح فإذا بأعرابي قد أقبل علينا، فقال: يا عمر، إنّي خرجتُ من منزلي وأنا حاجٌّ مُحرِم، فأصبتُ بيض النعام، فاجتنيتُ وشويت وأكلت، فما يجب علَيّ؟ قال: ما يحضرني في ذلك شيء، فاجلس لعلّ الله يُفرّج عنك ببعض أصحاب محمّد صلی الله علیه وآله. فإذا بأمير المؤمنين علیه السلام قد أقبل والحسين يتلوه، فقال عمر: يا أعرابي، هذا عليّ بن أبي طالب، فدونك ومسألتك. فقام الأعرابي فسأله، فقال عليّ علیه السلام: «يا أعرابي، سَلْ هذا الغلام عندك» (يعني: الحسين علیه السلام)، فقال الأعرابي: إنّما يُحيلني كلُّ واحدٍ منكم على الآخَر. فأشار الناس إليه: ويحك! هذا ابن رسول الله فاسأله. فقال الأعرابي: يا ابن رسول

ص: 283


1- ([1]) سورة الأعراف: 58.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 72.

الله، إنّي خرجتُ مِن بيتي حاجّاً مُحرِماً. وقصّ عليه القصّة، فقال الحسين علیه السلام : «ألك إبل؟»، قال: نعم. قال: «خُذ بعددالبَيض الّذي أصبتَ نوقاً فاضربها بالفحولة، فما فضلت فاهدها إلى بيت الله الحرام». فقال عمر: يا حسين، النوق يزلقن! فقال الحسين: «يا عمر، إنّ البيض يمرقن»، فقال: صدقتَ وبررت. فقام عليّ علیه السلام وضمّه إلى صدره، وقال: ««ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ((1))» ((2)).

[خِطبة الإمام علیه السلام بنت عثمان، وخِطبة يزيد (لعنه الله) بنت ابن جعفر]

في (المناقب): عن عبد الملك بن عُمير والحاكم والعبّاس قالوا: خطب الحسن ((3)) عائشة بنت عثمان، فقال مروان: أُزوّجها عبد الله بن الزبير.

ثمّ إنّ معاوية كتب إلى مروان -- وهو عامله على الحجاز -- يأمره أن يخطب أُمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد، فأبى عبد الله بن جعفر، فأخبره بذلك، فقال عبد الله: إنّ أمرها ليس إليّ، إنّما هو إلى سيّدنا الحسين، وهو خالها. فأُخبر الحسين بذلك، فقال: «أستخير الله (تعالى)، اللّهمّ

ص: 284


1- ([1]) سورة آل عمران: 34.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 43 المجلس 3.
3- ([3]) في المتن: (الحسين علیه السلام).

وفّق لهذه الجارية رضاك من آل محمّد».

فلمّا اجتمع الناس في مسجد رسول الله، أقبل مروان حتّى جلس إلى الحسين علیه السلام ، وعنده من الجلّة، وقال: إنّ أمير المؤمنين أمرني بذلك، وأن أجعل مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، مع صلح مابين هذين الحيّين، مع قضاء دَينه، واعلم أنّ مَن يغبطكم بيزيد أكثر ممّن يغبطه بكم، والعجب كيف يستمهر يزيد وهو كفؤ مَن لا كفؤ له، وبوجهه يُستسقى الغمام، فردّ خيراً يا أبا عبد الله.

فقال الحسين علیه السلام : «الحمد لله الّذي اختارنا لنفسه، وارتضانا لدِينه، واصطفانا على خلقه»، إلى آخر كلامه.. ثمّ قال: «يا مروان، قد قلتَ فسمعنا، أمّا قولك: مهرها حكم أبيها بالغاً ما بلغ، فلَعمري لو أردنا ذلك ما عدَونا سُنّة رسول الله في بناته ونسائه وأهل بيته، وهو اثنتا عشرة أوقية، يكون أربعمئة وثمانين درهماً. وأمّا قولك: مع قضاء دَين أبيها، فمتى كُنّ نساؤنا يقضين عنّا ديوننا؟ وأمّا صلح ما بين هذين الحيّين، فإنّا قومٌ عاديناكم في الله، ولم نكن نصالحكم للدنيا، فلَعمري فلقد أعيا النسب، فكيف السبب! وأمّا قولك: العجب ليزيد كيف يستمهر، فقد استمهر مَن هو خيرٌ من يزيد ومن أب يزيد ومن جدّ يزيد. وأمّا قولك: إنّ يزيد كفؤ مَن لا كفؤ له، فمَن كان كفؤه قبل اليوم فهو كفؤه اليوم، ما زادته إمارته في الكفاءة شيئاً. وأمّا قولك: بوجهه يُستسقى الغمام، فإنّما كان ذلك بوجه رسول الله صلی الله علیه وآله. وأمّا قولك: مَن يغبطنا به أكثر ممّن يغبطه بنا، فإنّما يغبطنا به أهلُ الجهل، ويغبطه بنا أهلُ العقل». ثمّ قال بعد كلام: «فاشهدوا جميعاً أنّي قد زوّجتُ أُمّ

ص: 285

كلثوم بنت عبد الله بن جعفر مِن ابن عمّها القاسم بن محمّد بن جعفر على أربعمئة وثمانين درهماً، وقد نحلتُها ضَيعتي بالمدينة -- أو قال: أرضي بالعقيق --، وإنّ غُلّتها في السنة ثمانية آلاف دينار، ففيها لهما غنىً إن شاء الله».

قال: فتغيّر وجه مروان وقال: أغدراً يا بني هاشم؟ تأبون إلّاالعداوة. فذكّره الحسين علیه السلام خطبة الحسن عائشة وفعله، ثمّ قال: «فأين موضع الغدر يا مروان؟».

فقال مروان:

أردنا صهركم لنجدّ وُدّاً***قد اخلقه به حدثُ الزمانِ

فلمّا جئتكم فجبهتموني***وبُحتم بالضمير من الشنانِ

فأجابه ذكوان مولى بني هاشم:

أماط اللهُ منهم كلَّ رجسٍ***وطهّرهم بذلك في المثاني

فما لهمُ سواهم من نظيرٍ***ولا كفؤٌ هناك ولا مُداني

أيجعل كلّ جبارٍ عنيدٍ***إلى الأخيار من أهل الجنانِ؟

ثم إنّه كان الحسين علیه السلام تزوّج ((1)) بعائشة بنت عثمان ((2)).

ص: 286


1- ([1]) لم نجدها في أزواج سيّد الشهداء الحسين علیه السلام.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 226.

[توبة فاحشة ونجاتها بسبب مأتم الحسين علیه السلام ]

في (المنتخب) أنّ امرأةً ذات فحش كانت معهودةً بالمدينة، ولها جار، وكان مواظباً على مأتم الحسين علیه السلام ، وكان عنده ذات يومٍ رجالٌ ينشدون ويبكون على الحسين علیه السلام ، وأمر لهم باصطناع طعام، فدخلت المرأة الفاحشة تريد ناراً، وإذا بالنار قد انطفت من غفلتهم عنها، فعالجتها تلك الفاحشة بالنفخ ساعةً طويلةحتّى اتسخت يداها وذرفت عيناها، فلمّا اتّقدَت أخذَت منها ومضت لقضاء مآربها، فلمّا صار الظهر -- وكان الوقت صيفاً -- فوقدت، وكان لها عادةً بالقيلولة ساعة، وإذا هي ترى طَيفاً، كأنّ القيامة قامت، وإذا بزبانية جهنّم يسحبونها بسلاسل من نار وهم يقولون: يا زانية، غضب الله عليكِ وأمرنا نُلقيك في قعر جهنّم. وهي تستغيث وتستجير فلا تُجار، قالت: واللهِ لقد صرتُ على شفير جهنّم، وإذا برجلٍ أقبل يصيح بهم: خلُّوها. قالوا: يا ابن رسول الله، وما سببه؟ قال: «نعم، دخلَت على قومٍ يعملون عزائي، وقد أوقدَت لهم ناراً يعملون بها طعاماً». فقالوا: كرامةً لك يا ابن الشافع والساقي. قالت: فقلت: مَن أنت الّذي مَنّ اللهُ علَيّ بك؟ قال: «أنا الحسين بن عليّ». فانتبهتُ وأنا مذهولة، ومضيتُ إلى المجلس قبل أن يتفرّقون، فحكيتُ لهم فتعجّبوا، وقام البكاء والعويل، وتبتُ على أيديهم من فعل القبيح ((1)).

ص: 287


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 240 المجلس 10.

ص: 288

الفصل الثامن: في ذكر حديث كعب وبشار، ورؤيا هند، وغيرها من الأخبار المُورثة للبكاء

[قصّة عليّ بن محمّد شفيع]

قال عليّ بن محمّد شفيع في مقدّمة كتاب (محترق القلوب): كنتُ في أوائل شبابي حينما بلغتُ سنّ الثانية والعشرين من العمر مرضتُ مرضاً شديداً مدّةً طويلة، حتّى تخلّى عنّي الأطباء ويئس منّي الأقرباء، فدُهشتُ وفزعت لذلك، وأُغمي علَيّ، فرأيتُ وأنا في حال الإغماء أميرَ المؤمنين وفاطمة الزهراء علیهما السلام شرّفوني، فسألتُ أمير المؤمنين علیه السلام عدّة مسائل وفزتُ بنيل الأجوبة، ثمّ قال لي أمير المؤمنين علیه السلام: «إنّا جئنا لشفائك».

وكان من جملة ما سألتُه سؤالاً عن واقعة كربلاء، فبادرت السيّدة

ص: 289

فاطمة الزهراء فأجابتني بالفارسيّة وقالت: «أقِمْ مأتم ولدي الحسين؛ فإنّ في كلّ دمعةٍ تدرّ أو تستدرّها يغفر الله لسبعينظهراً من آبائك».

قال مؤلّف الكتاب المذكور: لَعمري لقد شمّرتُ عن ساعد الجدّ منذ أن سمعتُ هذه الكلمات، فعزمتُ على تأليف كتابي هذا المشتمل على بعض صور الظلم والجَور الصادر من هذه الأُمّة المشؤومة في حقّ الحسين الشهيد والذرّيّة المظلومة، وجمعتُ الناس كلّ عامٍ جماعةً بعد جماعة، ونقلت لهم تلك الوقائع المؤلمة، فسالت دموعهم على خدودهم المنوّرة.

[خبر كعب الأحبار]

في (المنتخب): عن كعب الأحبار حين أسلم في أيّام خلافة عمر بن الخطاب، وجعل الناس يسألونه عن الملاحم الّتي تظهر في آخر الزمان، فصار كعب يخبرهم بأنواع الأخبار والملاحم والفتن الّتي تظهر في العالم، ثمّ قال: وأعظمها فتنةً وأشدّها مصيبةً لا تُنسى إلى أبد الآبدين، مصيبة الحسين علیه السلام ، وهي الفساد الّذي ذكره الله (تعالى) في كتابه المجيد حيث قال: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ» ((1)). وإنّما فُتح الفساد بقتل هابيل بن آدم، وخُتم بقتل الحسين علیه السلام ، أوَ لا تعلمون أنّه تُفتح يوم قتله أبواب السماوات، ويؤذن للسماء بالبكاء فتبكي دماً؟ فرأيتم

ص: 290


1- ([1]) سورة الروم: 41.

الحمرة في السماء قد ارتفعت فاعلموا أنّ السماء تبكي حُسيناً.

فقيل: يا كعب، لِمَ لا تفعل السماء كذلك ولا تبكي دماً لقتل الأنبياء ممّن كان أفضل من الحسين؟ فقال: ويحكم! إنّ قتل الحسين أمرٌ عظيم، وإنّه ابن سيّد المرسلين، وإنّه يُقتَل علانيةً مبارزةً ظُلماًوعدواناً، ولا تُحفظ فيه وصيّة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله، وهو مزاج مائه وبضعةٌ من لحمه، يُذبَح بعرصة كربلاء، فوَالّذي نفس كعبٍ بيده لَتبكينّه زمرةٌ من الملائكة في السماوات السبع، لا يقطعون بكاءهم عليه إلى آخر الدهر، وإنّ البقعة الّتي يُدفَن فيها خير البقاع، وما من نبيٍّ إلّا ويأتي إليها ويزورها ويبكي على مصابه، ولكربلاء في كلّ يومٍ زيارةٌ من الملائكة والجنّ والإنس، فإذا كانت ليلة الجمعة ينزل إليها تسعون ألف ملَك، يبكون على الحسين ويذكرون فضله، وإنّه يُسمّى في السماء حسيناً المذبوح، وفي الأرض أبا عبد الله المقتول -- وفي (البحار): الفرخ الأزهر المظلوم --، وإنّه يوم قتله تنكسف الشمس بالنهار، ومن الليل ينخسف القمر، وتدوم الظُلمة على الناس ثلاثة أيّام، وتمطر السماء دماً، وتدكدك الجبال وتغطمط البحار، ولو لا بقيّةٌ من ذرّيّته وطائفةٌ من شيعته الّذين يطلبون بدمه ويأخذون بثاره لَصبّ اللهُ عليهم ناراً من السماء أحرقت الأرضَ ومَن عليها.

ثمّ قال كعب: يا قوم، كأنّكم تتعجّبون بما أُحدّثكم فيه مِن أمر الحسين علیه السلام ، وإنّ الله (تعالى) لم يترك شيئاً كان أو يكون من أوّل الدهر إلى آخِره إلّا وقد فسّره لموسى علیه السلام ، وما نسمة خُلقت إلّا وقد رُفعت إلى آدم علیه السلام

ص: 291

في عالم الذرّ وعُرضت عليه، ولقد عُرضت عليه هذه الأُمّة، ونظر إليها وإلى اختلافها وتكالبها على هذه الدنيا الدنيّة، فقال آدم: «يا ربّ، ما لهذه الأُمّة الزكيّة وبلاء الدنيا وهم أفضل الأُمم؟!»، فقال له: «يا آدم، إنّهم اختلفوا فاختلفت قلوبُهم، وسيُظهِرون الفساد في الأرض كفساد قابيل حين قتل هابيل، وإنّهم يقتلون فرخ حبيبي محمّدٍ المصطفى». ثمّ مثّل لآدم علیهالسلام مقتل الحسين ومصرعه، ووثوب أُمّة جدّه عليه، فنظر إليهم فرآهم مسودّةً وجوههم، فقال: «يا ربّ، أبسط عليهم الانتقام كما قتلوا فرخ نبيك الكريم (عليه أفضل الصلاة)» ((1)).

وفي كتاب (الأمالي) للصدوق: عن سالم بن أبي جعدة قال: سمعتُ كعب الأحبار يقول: إنّ في كتابنا أنّ رجلاً مِن وُلد محمّدٍ رسول الله صلی الله علیه وآله يُقتَل، ولا يجفّ عَرَق دوابّ أصحابه حتّى يدخلوا الجنّة فيُعانقوا الحور العين. فمرّ بنا الحسن علیه السلام ، فقلنا: هو هذا؟ قال: لا. فمرّ بنا الحسين علیه السلام ، فقلنا: هو هذا؟ قال: نعم ((2)).

[البومة]

في (كامل الزيارة): عن الحسين بن علي بن صاعد البربري -- قيّماً لقبر الرضا علیه السلام -- قال: حدّثني أبي، قال: دخلتُ على الرضا علیه السلام ، فقال لي: «ترى

ص: 292


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 54 المجلس 3.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 140 المجلس 29 ح 4.

هذه البوم، ما يقول الناس؟»، قال: قلت: جُعلتُ فداك، جئنا نسألك. فقال: «هذه البومة كانت على عهد جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله تأوي المنازل والقصور والدور، وكانت إذا أكل الناس الطعام تطير وتقع أمامهم، فيُرمى إليها بالطعام وتُسقى وترجع إلى مكانها، فلمّا قُتل الحسين علیه السلام خرجَت مِن العمران إلى الخراب والجبال والبراري، وقالت: بئس الأُمّة أنتم؛ قتلتم ابنَ بنت نبيّكم، ولا آمنكم علىنفسي» ((1)).

وفي حديثٍ آخَر: «فلا تزال نهارها صائمةً حزينةً حتّى يجنّها الليل، فإذا جَنّها الليل فلا تزال ترنّ [ترثِ] على الحسين علیه السلام حتّى تُصبِح» ((2)).

[مَن شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله]

في (كامل الزيارة): عن داوود الرقّي قال: كنتُ عند أبي عبد الله علیه السلام إذا استسقى الماء، فلمّا شربه رأيتُه قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: «يا داوود، لعن الله قاتلَ الحسين علیه السلام ، فما مِن عبدٍ شرب الماء فذكر الحسين علیه السلام ولعن قاتله إلّا كتب الله له مئة ألف حسنة، وحطّ عنه مئة ألف سيّئة، ورفع له مئة ألف درجة، وكأنّما أعتق مئة ألف نسَمَة، وحشره الله (تعالى) يوم القيامة ثَلِج الفؤاد» ((3)).

ص: 293


1- ([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 99 الباب 31 ح 2.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 99 الباب 31 ح 1.
3- ([3]) كامل الزيارات لابن قولويه: 106 الباب 34 ح 1، الكافي: 6 / 391 ح 6، الأمالي للصدوق: 142 المجلس 29 ح 7، جامع الأخبار: 177.

[النبي صلی الله علیه وآله يحبّ صبيّاً لأنّه يحبّ الحسين علیه السلام]

في كتاب (البصائر) أنّ رسول الله كان يوماً مع جماعةٍ من أصحابه مارّاً في بعض الطريق، وإذا هم بصبيانٍ يلعبون في ذلك الطريق، فجلس النبي صلی الله علیه وآله عند صبيٍّ منهم وجعليُقبّل ما بين عينيه ويلاطفه، ثمّ أقعده على حِجره، وكان يُكثر تقبيله، فسُئل عن علّة ذلك، فقال صلی الله علیه وآله: «إنّي رأيتُ هذا الصبيّ يوماً يلعب مع الحسين، ورأيتُه يرفع التراب من تحت قدميه ويمسح به وجهه وعينيه، فأنا أُحبّه لحبّه لولدي الحسين، ولقد أخبرني جبرئيل أنّه يكون من أنصاره في وقعة كربلاء» ((1)).

* * * * *

في (المنتخب): روى بشّار بن عبد الله، قال: دخلتُ على مولاي الصادق علیه السلام، وهو يومئذٍ مُقيمٌ بالكوفة، فرأيتُ قدّامه طبقاً فيه رُطب وهو يأكل منه، فقال لي: «يا بشّار، ادنُ فكُلْ معي من هذا الرطب». فقلت: هنّاك الله به وجعلني فداك. فقال لي: «لِمَ لا تأكُل؟»، فقلت: إنّي في همٍّ عظيمٍ مِن شيءٍ رأيتُه الآن في طريقي هذا، قد أوجع قلبي وأهاج حزني. فقال لي: «بحقّي عليك إلّا ما أخبرتَني بما رأيت»، فقلت: يا مولاي، رأيتُ ظالماً يضرب امرأةً

ص: 294


1- ([1]) تظلّم الزهراء للقزويني: 111. قال: روى الفاضل في (البصائر)..، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 242 ح 36.

ويسوقها إلى الحبس، وهي تنادي: المُستغاث بالله وبرسول الله. ولم يغثها أحدٌ من الناس. فقال: «ولِمَ فُعِل بها ذلك؟»، فقلت: سمعتُ من الناس يقولون: إنّها عثرت بحجرٍ وهي تمشي، فقالت: لعن الله ظالميكِ يا فاطمة الزهراء. فسمعها هذا الجلواز فصنع بها ما سمعت. قال: فقطع الصادق علیه السلام أكلَه وتظاهر حزنه، ولم يزل يبكي حتّى ابتلّ منديله ولحيته، وقال لي: «نغّصتَ علَيّ يا بشّار، قُم بنا إلى مسجد سهيل؛ لندعوا الله عزوجل ونسألهخلاص هذه المرأة». قال: ووجّه بعضَ أصحابه إلى باب السلطان وقال له: «لا تبرحْ حتّى تأتيني بالخبر الصحيح، فإن حدث في المرأة حَدَثٌ سِرْ إلينا حيث كُنّا». فسرنا إلى مسجد السهلة، وصلّى كلٌّ منّا ركعتين لله عزوجل، ثمّ رفع الصادق علیه السلام يديه بالدعاء وابتهل إلى الله (تعالى) بالثناء، ثمّ خرّ ساجداً لله ساعة، ثمّ رفع رأسه وقال: «الحمد لله، قُم يا بشّار، أُطلقَت المرأة». فبينما نحن على الطريق إذ أتانا الرجل الّذي وجّهه الصادق إلى باب السلطان، فقال له: «ما الخبر؟»، فقال: أُطلقت المرأة، فقال: «كيف كان إطلاقها؟»، قال: كنتُ واقفاً عند باب السلطان إذ خرج الحاجب، فدعا المرأةَ وقال لها: ما الّذي تكلّمتِ به؟ قالت: عثرتُ بحَجرٍ فقلت: لعن الله ظالميكِ يا فاطمة الزهراء، ففُعِل بي ما ترون. قال: فناولها مئتي درهم وقال: خُذي هذا المال واجعلى السلطان في حِلّ. فأبَتْ أن تأخذها، وانصرفت إلى منزلها. فقال الصادق علیه السلام: «أبت أن تأخذها وهي واللهِ محتاجةٌ إليها». ثمّ إنّه علیه السلام أخرج من جيبه صرّة فيها سبعة دنانير لم يكن عنده غيرها، وقال لي: «إذهب أنت يا بشّار إلى منزلها، واقرأها عنّي

ص: 295

السلام، وادفع إليها هذه الدنانير». فقال: فمضيتُ إليها وأقرأتُها منه السلام، فقالت: باللهِ عليك، أقرأَني مولاي الصادق السلام؟ فقلت: إي والله. فخرّت ساجدةً لله ساعة، ورفعت رأسها وقالت: أقرأني مولاي السلام؟ فقلت: نعم. فسجدت لله شكراً، حتّى فعلَت ذلك ثلاث مرّات، فقلت لها: يا أَمة الله، خُذي ما أرسلَه إليكِ سيّدي، وأبشري بالجنّة. فأخذَت واستبشرت، وشكرته على ذلك، وقالت: يا بشّار، اسألْه أن يستوهب أَمة الله من الله (تعالى). قال: فرجعتُ إليه وحدّثته بما جرى، فجعل يبكي ويقول: «غفر الله لها»((1)).

[أسلم يهوديٌّ لمّا رأى من محبّة النبي صلی الله علیه وآله للحسين علیه السلام]

عن الليث بن سعد أنّ النبي صلی الله علیه وآله كان يصلّي يوماً في فئةٍ والحسين صغيرٌ بالقرب منه، وكان النبيّ إذا سجد جاء الحسين فركب ظهره، ثمّ حرّك رجليه وقال: حل حل، وإذا أراد رسول الله أن يرفع رأسه أخذه فوضعه إلى جانبه، فإذا سجد عاد على ظهره وقال: حل حل ((2))، فلم يزل يفعل ذلك حتّى فرغ النبيّ من صلاته، فقال يهودي: يا محمّد، إنّكم لَتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن! فقال النبي: «أما لو كنتم تؤمنون بالله وبرسوله لَرحمتم

ص: 296


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 44 المجلس 3.
2- ([2]) كلمة يقولها العربيّ يسوق بها الإبل (من المتن).

الصبيان»، قال: فإني أُؤمن بالله وبرسوله. فأسلم لما رأى كرمه من عظم قدره ((1)).

* * * * *

في (المنتخب): رُوي عن عبد الله بن عمر قال: رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يخطب على المنبر إذ أقبل الحسين مِن عند أُمّه وهو طفلٌ صغير، فوطأ الحسين علیه السلام على ذيل ثوبه فكبى وسقط على وجهه، فبكى، فنزل النبيّ إليه وضمّه إلى صدرهوسكّته من البكاء، وقال: «قاتل الله الشيطان! إنّ الولد لَفتنة، والّذي نفسي بيده لمّا كبى ابني هذا رأيتُ كأنّ فؤادي قد وهى منّي»؛ لأنّه صلی الله علیه وآله كان رحيم القلب سريع الدمعة، كما قال (تعالى): «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» ((2)) ((3)).

* * * * *

في (المنتخب): عن أبي السعادات قال: خرج النبيّ صلی الله علیه وآله من بيت عائشة، فمرّ على باب دار ابنته فاطمة الزهراء علیها السلام، فسمع الحسين يبكي، فقال لها: «يا فاطمة سكّتيه، ألم تعلمي أنّ بكاءه يؤذيني؟» ((4)). أخذه إليه

ص: 297


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 86، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 87 ح 1013.
2- ([1]) سورة الأحزاب: 43.
3- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 85 المجلس 5.
4- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 84، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 116 الرقم 2847، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 171.

ومسح الدموع عن عينيه، وقبّله وضمّه إليه (صلوات الله وسلامه عليه) ((1)).

قال المؤلّف:

فكيف ولو رآه مُلقىً على الرمضاء مذبوحاً من القفا، مرمَّلاً بالدماء، يتلظّى من الظماء، والشمر جاثٍ على صدره، وأولغ السيف في نحره، وهو يستغيث فلا يُغاث، ويستجير فلا يُجار؟!! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ((2)).

* * * * *روى ابن شهرآشوب عن طريق المخالفين أنّه سمع رسولُ الله صلی الله علیه وآله بكاء الحسن والحسين وهو على المنبر، فقام فزعاً، ثمّ قال: أيّها الناس، ما الولد إلّا فتنة، لقد قمتُ إليهما وما معي عقلي ((3)).

وروى عن طريقهم أيضاً: كان رسول الله يخطب على المنبر، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله

ص: 298


1- ([4]) المنتخب للطريحي: 1 / 85 المجلس 5.
2- ([5]) المنتخب: 1 / 85 المجلس 5.
3- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 55، المصنَّف لابن أبي شيبة الكوفي: 7 / 513 الرقم 12.

من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثمّ قال: «أولادنا أكبادنا يمشون على الأرض» ((1)).

[حوريّة سيّد الشهداء]

في (تفسير فرات) مسنداً عن حُذَيفة في حديث ليلة المعراج، قال صلی الله علیه وآله: «أخذ جبرئيل علیه السلام بيدي فأدخلني الجنّة وأنا مسرور، فإذا أنا بشجرةٍ من نورٍ مكلَّلَةً بالنور، في أصلها ملكان يطويان الحُليّ والحُلل إلى يوم القيامة، ثمّ تقدمَت أمامي فإذا أنا بتفّاحٍ لم أرَ تفّاحاً هو أعظم منه، فأخذتُ واحدةً ففلقتُها، فخرجَت علَيّ منها حُوراً كأنّ أجفانها مقاديم أجنحة النسور، فقلت: لمن أنتِ؟ فبكت وقالت: لابنك المقتول ظُلماً، الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام. ثمّ تقدمَت أمامي،فإذا أنا برطبٍ ألين من الزبد وأحلى من العسل، فأخذتُ رطبةً فأكلتُها وأنا أشتهيها، فتحوّلَت الرطبة نطفةً في صُلبي، فلمّا هبطتُ إلى الأرض واقعتُ خديجة فحملَت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسيّة، فإذا أنا اشتقتُ إلى رائحة الجنّة شممتُ رائحة ابنتي فاطمة علیها السلام» ((2)).

ص: 299


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 55 (جمع المؤلّف خبرين في لفظٍ واحد).
2- ([1]) تفسير فرات الكوفي: 75 ح 49، كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 459.

[قصر سيّد الشهداء في الجنّة]

في كتاب (العوالم): رُوي أنّ الحسن علیه السلام لمّا دنت وفاتُه ونفدت أيامه وجرى السمُّ في بدنه، تغيّر لونه واخضرّ، فقال له الحسين علیه السلام «ما لي أرى لونك [مائلاً] إلى الخضرة؟»، فبكى الحسن وقال: «يا أخي، لقد صحّ حديثُ جدّي فيّ وفيك»، ثمّ اعتنقه طويلاً وبكيا كثيراً.

فسُئل عن ذلك، فقال: «أخبرني جدّي قال: لمّا دخلتُ ليلة المعراج روضات الجنان، ومررتُ على منازل أهل الإيمان، رأيتُ قصرَين عاليَين متجاورَين على صفةٍ واحدة، [إلّا أنّ] أحدهما من الزبرجد الأخضر، والآخر من الياقوت الأحمر، فقلت: يا جبرئيل، لمَن هذان القصران؟ فقال: أحدهما للحسن علیه السلام ، والآخَر للحسين علیه السلام . فقلت: يا جبرئيل، فلمَ لم يكونا على لونٍ واحد؟ فسكت ولم يردّ جواباً، فقلت: لمَ لا تتكلّم؟ قال علیه السلام : حياءً منك. فقلتُ له: سألتُك باللهِ إلّا ما أخبرتَني، فقال: أمّا خُضرة قصر الحسن علیه السلام فإنّه يموت بالسمّ ويخضرّ لونُه عند موته، وأمّا حمرة قصر الحسين علیه السلام فإنّه يُقتَل ويحمرّ وجهه بالدم».فعند ذلك بكيا، وضجّ الحاضرون بالبكاء والنحيب ((1)).

ص: 300


1- ([1]) العوالم للبحراني: 17 / 121 الباب 4 ح 2، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 145 ح 13.

[لمّا قُتِل الحسين كتب دمه على الأرض]

قال السيّد نعمة الله في كتاب (زهر الربيع): وجدنا في نهر تُستَر صخرةً صغيرةً صفراء أخرجها الحفّارون من تحت الأرض، وعليها مكتوبٌ بخطٍّ مِن لونها: (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلّا الله، محمّدٌ رسول الله، عليٌّ وليّ الله، لمّا قُتِل الحسين بن عليّ بن أبي طالب بكربلاء كتب دمُه على أرضٍ حصباء: وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ مُنقلَبٍ ينقلبون) ((1)).

[فصّ عقيقٍ مكتوبٌ عليه]

ذكر بهاء الدين في (الكشكول) أنّ أباه حسين بن عبد الصمد الحارثي وجد في مسجد الكوفة فصّ عقيقٍ مكتوبٌ عليه:

أنا درٌّ من السما نثروني***يوم تزويج والد السبطينِ

كنتُ أصفى من اللُّجَين بياضاً***صبغتني دماء نحر الحسينِ ((2))

[فديتُ مَن فديتُه بابني إبراهيم]

في (المناقب) لابن شهرآشوب: عن ابن عبّاسٍ قال: كنتُ عندالنبيّ صلی الله علیه وآله وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم وعلى فخذه الأيمن الحسين بن

ص: 301


1- ([2]) زهر الربيع لنعمة الله الجزائري: 12.
2- ([3]) زهر الربيع لنعمة الله الجزائري: 12.

علي، وهو تارةً يُقبّل هذا وتارة يقبّل هذا، إذ هبط جبرئيل بوحيٍ مِن ربّ العالمين، فلمّا سرى عنه قال: «أتاني جبرئيل من ربّي، فقال: يا محمّد، إنّ ربك يقرأ عليك السلام ويقول: لستُ أجمعهما، فافدِ أحدَهما بصاحبه». فنظر النبيّ إلى إبراهيم فبكى وقال: «إنّ إبراهيم أُمّه أَمة، ومتى مات لم يحزن عليه غيري، وأُمّ الحسين فاطمة، وأبوه عليّ ابن عمّي لحمي ودمي، ومتى مات حزنَت ابنتي وحزن ابن عمّي وحزنتُ أنا عليه، وأنا أُؤثر حزني على حزنهما يا جبرئيل، يقبض إبراهيم، فديتُه بالحسين». قال: فقُبِض بعد ثلاث، فكان النبيّ إذا رأى الحسين مُقبِلاً قبّله وضمّه إلى صدره ورشف ثناياه، وقال: «فديتُ مَن فديتُه بابني إبراهيم» ((1)).

[جواب ابن عمر لعراقيٍّ سأله عن دم البعوض]

في (أمالي) الصدوق: عن ابن أبي نعيم قال: شهدتُ ابن عمر، وأتاه رجلٌ فسأله عن دم البعوضة، فقال: ممّن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا! يسألني عن دم البعوضة وقد قتلوا ابن رسول الله! وسمعتُ رسول الله يقول: «إنّ-هما ريحانتَ--يّ من الدني--ا»، يعني: الحسن والحسين علیهما السلام ((2)).

ص: 302


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 121، تاريخ بغداد: 2 / 200، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 52 / 324.
2- ([2]) الأمالي للصدوق: 143 المجلس 29 ح 12.

[محبّيه ومحبّي محبّيه في الجنّة]

في (الأمالي) أيضاً: عن حُذَيفة بن اليمان قال: رأيتُ النبيّ صلی الله علیه وآله آخِذاً بيد الحسين بن علي علیه السلام وهو يقول: «يا أيّها الناس، هذا الحسين بن عليٍّ فاعرفوه، فوَالّذي نفسي بيده إنّه لَفي الجنّة، ومحبّيه في الجنّة، ومحبّي محبّيه في الجنّة» ((1)).

[محبّه لم تلفح وجهه النار]

في (كامل الزيارة): عن أبي ذرّ الغِفاريّ قال: رأيتُ رسول الله صلی الله علیه وآله يقبّل الحسن والحسين علیهما السلام وهو يقول: «مَن أحبّ الحسن والحسين علیهما السلام وذريّتهما مُخلِصاً، لم تلفح النارُ وجهه ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج، إلّا أن يكون ذنبه ذنباً يُخرجه من الإيمان» ((2)).

* * * * *

في كتاب (قُرب الإسناد)، مسنداً عن الحسن أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله أُتي بالحسين بن عليّ علیه السلام فوُضع في حِجره، فبال عليه، فأخذ فقال: لا تزرموا ابني. ثمّ دعا بماءٍ فصبّه عليه ((3)).

ص: 303


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 596 المجلس 87 ح 4.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 51 الباب 14 ح 4.
3- ([3]) معاني الأخبار للصدوق: 211 ح 1.

* * * * *

في كتاب (الملهوف): عن أُمّ الفضل زوجة العبّاس [في حديث]:جئتُ بالحسين يوماً إلى النبي صلی الله علیه وآله فوضعتُه في حِجره، فبينما هو يقبّله فبال، فقطرت من بوله قطرة على ثوب النبي صلی الله علیه وآله ، فقرصتُه فبكى، فقال النبي صلی الله علیه وآله -- كالمغضب -- : مهلاً يا أُمّ الفضل! فهذا ثوبي يُغسَل، وقد أوجعتِ ابني. قالت: فتركتُه في حِجره وقمتُ لآتيه بماء، فجئتُ فوجدته صلی الله علیه وآله يبكي، فقلت: ممّ بكاؤك يا رسول الله؟! فقال صلی الله علیه وآله: إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ أُمّتي تقتل وَلَدي هذا، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ((1)).

[سنّة التكبير في الصلاة ببركة الحسين علیه السلام]

روى الشيخ الطوسيّ عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان في الصلاة، وإلى جانبه الحسين بن علي علیه السلام، فكبّر رسول الله صلی الله علیه وآله فلم يحر الحسين بالتكبير، ثمّ كبّر رسول الله صلی الله علیه وآله فلم يحر الحسين علیه السلام التكبير، ولم يزل رسول الله صلی الله علیه وآله يكبّر ويعالج الحسين علیه السلام التكبير فلم يحر، حتّى أكمل سبع تكبيرات، فأحار الحسين علیه السلام التكبير في السابعة»، فقال أبو عبد الله علیه السلام: «فصارت سُنّة» ((2)).

ص: 304


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 14.
2- ([2]) تهذيب الأحكام للطوسي: 2 / 67 ح 243، علل الشرائع للصدوق: 2 / 331 الباب 30 ح 1، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 94.

[أتركب ظهراً حمله رسول الله]

في (المناقب) لابن شهرآشوب: قال أبو رافع: كنتُ أُلاعب الحسين علیه السلام وهو صبيّ بالمداحي ((1))، فإذا أصابَت مدحاتي مدحاته قلت: احملني، فيقول: أتركب ظهراً حمَلَه رسول الله صلی الله علیه وآله فأتركه، فإذا أصابت مدحاته مدحاتي قلت: لا أحملك كما لم تحملني، فيقول: أما ترضى أن تحمل بدناً حمله رسول الله؟ فأحمله ((2)).

[تكلّم ببعض فضائلهم فدُهش الرجل ووله]

في (المناقب): عبد العزيز بن كثير أنّ قوماً أتوا إلى الحسين وقالوا: حدِّثنا بفضائلكم، قال: «لا تطيقون، وانحازوا عنّي لأُشير إلى بعضكم، فإن أطاق سأُحدّثكم»، فتباعَدوا عنه، فكان يتكلّمُ مع أحدهم حتّى دُهش ووله وجعل يهيم ولا يُجيب أحداً، وانصرفوا عنه ((3)).

ص: 305


1- ([1]) في (مناقب آل أبي طالب): المدحاة: لعب الأحجار في الحفيرات.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 87، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 154، بشارة المصطفى: 221.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 25.

[استسقاؤه لأهل الكوفة]

في (عيون المعجزات)، مسنداً عن الصادق علیه السلام، عن أبيه، عن جدّه علیه السلام قال: «جاء أهل الكوفة إلى عليّ علیه السلام فشكوا إليه إمساك المطر، وقالوا له: استسقِ لنا. فقالللحسين علیه السلام: قم واستسق. فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي، وقال: اللّهمّ مُعطي الخيرات، ومُنزِل البركات، أرسل السماء علينا مِدراراً، واسقنا غيثاً مغزاراً واسعاً غدقاً مجلّلاً سحّاً سفوحاً ثِجاجاً، تُنفّس به الضعف من عبادك، وتُحيي به الميت من بلادك، آمين ربّ العالمين. فما فرغ علیه السلام من دعائه حتّى غاث الله غيثاً نعته علیه السلام، وأقبل أعرابي من بعض نواحي الكوفة فقال: تركتُ الأودية والآكام يموج بعضهم في بعض» ((1)).

* * * * *

عن ابن عباس قال: عطش المُسلمون في مدينة الرسول في بعض السنين عطشاً شديداً، حتّى أنّهم عادوا لا يجدون الماء في المدينة، فجاءت فاطمة الزهراء بولديها الحسن والحسين علیهما السلام إلى رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقالت: «يا أبتي، إنّ ابني الحسن والحسين صغيران لا يتحمّلان العطش». فدعا النبي صلی الله علیه وآله بالحسن فأعطاه لسانه حتّى رُوي، ثمّ دعا بالحسين فأعطاه أيضاً لسانه فمصّه حتّى رُوي، فلمّا رويا وضعهما على ركبتيه وجعل يُقبّل هذا مرّةً وهذا أُخرى، ثمّ يلثم هذا لثمةً وهذا لثمة، ثمّ يضع لسانه الشريف في أفواههما،

ص: 306


1- ([1]) عيون المعجزات لابن عبد الوهّاب: 64.

وهو معهما في غبطة ونعمة، فبينما هم كذلك إذ هبط الأمين جبرائيل بالتحية من الربّ الجليل إلى النبي صلی الله علیه وآله، فقال: يا محمّد، ربّك يقرؤك السلام ويقول: «إنّ هذا ولدك الحسن يموت مسموماً مظلوماً، وهذا ولدك الحسين يموت عطشاناً مذبوحاً». فقال: «يا أخي جبرائيل، مَن يفعل ذلك بهما؟»، قال:قومٌ مِن بني أُميّة يزعمون أنّهم من أُمّتك، يقتلون أبناء صفوتك، ويشرّدون ذرّيّتك. فقال: «يا جبرائيل، هل تفلح أُمّةٌ تفعل هذا بذرّيّتي؟»، قال: لا والله، بل يبليهم الله في الدنيا بمَن يقتل أولادهم ويسفك دماءهم ويستحيي نساءهم، ولهم في الآخرة عذابٌ أليم، طعامهم الزقّوم وشرابهم الصديد، ولهم في درك الجحيم عذابٌ مكيد، ويُقال لجهنّم: هل امتلأتِ؟ فتقول: هل من مزيد؟ ثمّ قال جبرائيل علیه السلام: يا محمّد، إنّ الله عزوجل حمد نفسه عند هلاك الظالمين، حيث قال: «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ((1)). قال: فجعل النبيّ صلی الله علیه وآله تارةً ينظر إلى الحسن وتارةً ينظر إلى الحسين، وعيناه تهملان من الدموع، ويقول: «لعن الله قاتلكما، ولعن الله مَن غصبكما حقّكما من الأوّلين والآخرين» ((2)).

* * * * *

في (بصائر الدرجات): عن صالح بن ميثم الأسديّ قال: دخلتُ أنا

ص: 307


1- ([1]) سورة الأنعام: 45.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 187 المجلس 9.

وعباية بن ربعي على امرأةٍ في بني والبة قد احترق وجهها من السجود، فقال لها عباية: يا حبّابة، هذا ابن أخيكِ. قالت: وأيّ أخٍ؟ قال: صالح بن ميثم. قالت: ابن أخي واللهِ حقّاً، يا ابن أخي، ألا أُحدّثك حديثاً سمعتُه من الحسين بن علي علیه السلام قال: قلت: بلى يا عمّة. قالت: كنتُ زوّارة الحسين ابن علي علیه السلام، قالت: فحدث بين عينَيّ وَضَح، فشقّ ذلك علَيّ واحتبستُ عليه أيّاماً، فسألعنّي: «ما فعلَت حبّابة الوالبيّة؟»، فقالوا: إنّها حدث [بها حدثٌ] بين عينيها. فقال لأصحابه: «قوموا إليها». فجاء مع أصحابه حتّى دخل علَيّ وأنا في مسجدي هذا، فقال: «يا حبّابة، ما أبطأ بكِ علَيّ؟»، قلت: يا ابن رسول الله، ما ذاك الّذي منعني إن لم أكن اضطررتُ إلى المجي ء إليك اضطراراً، لكن حدث هذا بي. قال: [قالت:] فكشفَت القناع، فتفل عليه الحسين بن علي علیه السلام، فقال: «يا حبّابة، أحدِثي لله شكراً؛ فإنّ الله قد درأه عنكِ». قالت: فخررتُ ساجدة، قالت: فقال: «يا حبّابة، ارفعي رأسكِ وانظُري في مرآتك». قالت: فرفعتُ رأسي فلم أحسّ منه شيئاً. قال: فحمدَت الله ((1)).

* * * * *

في كتاب (الخرائج): عن جابر الجُعفي، عن زين العابدين علیه السلام قال: «أقبل أعرابيٌّ إلى المدينة ليختبر الحسين علیه السلام لِما ذُكر له من دلائله، فلمّا صار بقرب

ص: 308


1- ([1]) بصائر الدرجات للصفّار: 270 الباب 2 ح 6.

المدينة خضخض ودخل المدينة، فدخل على الحسين وهو جُنُب، فقال له أبو عبد الله الحسين علیه السلام: أما تستحيي يا أعرابي أن تدخل إلى إمامك وأنت جُنب؟ وقال: أنتم معاشر العرب إذا خلوتم خضخضتم. فقال الأعرابي: يا مولاي، قد بلغتُ حاجتي ممّا جئتُ فيه. فخرج مِن عنده فاغتسل ورجع إليه، فسأله عمّا كان في قلبه» ((1)).

[تأويل رؤيا هند]

في كتاب (المناقب): عن ابن عبّاس: سألَت هند عائشة أن تسأل النبيّ تعبير رؤيا، فقال صلی الله علیه وآله: «قولي لها فلْتقصص رؤياها»، فقالت: رأيتُ كأنّ الشمس قد طلعت مِن فوقي، والقمر قد خرج من مخرجي، وكأنّ كوكباً قد خرج من القمر أسود، فشدّ على شمسٍ خرجت من الشمس أصغر من الشمس، فابتلعها فاسودّ الأُفق لابتلاعها، ثمّ رأيتُ كواكب بدت من السماء وكواكب مسودّة في الأرض، إلّا أنّ المسودّة أحاطت بأُفق الأرض مِن كلّ مكان. فاكتحلت عين رسول الله بدموعه، ثم قال: «هي هند! أُخرجي يا عدوّة الله -- مرّتين --، فقد جدّدتِ علَيّ أحزاني، ونعيتِ إليّ أحبابي». فلمّا خرجَت قال: «اللّهمّ العنها والعن نسلها». فسُئل عن تعبيرها، فقال: «أمّا الشمس الّتي طلعت عليها فعليّ بن أبي طالب، والكوكب الّذي خرج من القمر أسود فهو معاوية، مفتونٌ فاسقٌ جاحدٌ لله، وتلك الظلمة الّتي زعمَت ورأت كوكباً

ص: 309


1- ([2]) الخرائج للراوندي: 1 / 246 ح 2.

يخرج من القمر أسود فشدّ على شمسٍ خرجَت من الشمس أصغر من الشمس فابتلعتها فاسودّت فذلك ابني الحسين، يقتله ابن معاوية فتسودّ الشمس ويظلمّ الأُفق، وأمّا الكواكب المسودّة في الأرض أحاطت الأرض مِن كلّ مكانٍ فتلك بنو أُميّة» ((1)).

وفي (المنتخب): قالت هند: إنّي رأيتُ في نومي شمساً مُشرِقةً على الدنيا كلِّها، فوُلد من تلك الشمس قمر، فأشرق نورُه على الدنيا كلّها، ثمّ وُلد ذلك القمر نجمان زاهران، قد أزهر من نورهماالمشرق والمغرب، فبينما أنا كذلك إذ بدت سحابةٌ سوداء مُظلِمة كأنّها الليل المُظلِم، فوُلد من تلك السحابة السوداء حيّةٌ رقطاء، فدبّت الحيّة إلى النجمين فابتلعتهما، فجعلوا الناس يبكون ويتأسّفون على ذينك النجمين.

قال: فجاءت عائشة إلى النبي صلی الله علیه وآله وقصّت الرؤيا عليه، فلمّا سمع النبي صلی الله علیه وآله كلامها تغيّر لونه واستعبر وبكى، فقال: «يا عائشة، أمّا الشمس المُشرقة فأنا، وأمّا القمر فهي فاطمة ابنتي، وأمّا النجمان فهما الحسن والحسين؟عهما؟، وأمّا السحابة السوداء فهي معاوية، وأمّا الحيّة الرقطاء فهي يزيد ابن معاوية» ((2)).

* * * * *

في كتاب (البحار)، مسنداً عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله علیه السلام

ص: 310


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 87.
2- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 221 المجلس 1.

قال: «بينا رسول الله صلی الله علیه وآله في منزل فاطمة والحسين في حِجره، إذ بكى وخرّ ساجداً، ثمّ قال: يا فاطمة يا بنت محمّد، إنّ العليّ الأعلى تراءى لي في بيتكِ هذا ساعتي هذه في أحسن صورةٍ وأهيإ هيئة، وقال لي: يا محمّد، أتحبّ الحسين؟ فقلت: نعم؛ قرّة عيني وريحانتي وثمرة فؤادي وجلدة ما بين عيني. فقال لي: يا محمّد -- ووضع يده على رأس الحسين --، بُورك مِن مولودٍ عليه بركاتي وصلواتي ورحمتي ورضواني، ولعنتي وسخطي وعذابي وخزيي ونكالي على مَن قتله وناصبه وناواه ونازعه، أما إنّه سيّد الشهداء من الأولين والآخِرين في الدنيا والآخرة، وسيّد شباب أهل الجنّة منالخلق أجمعين، وأبوه أفضل منه وخير، فاقرأْه السلام، وبشِّرْه بأنّه راية الهدى ومنار أوليائي وحفيظي وشهيدي على خلقي وخازن علمي وحُجّتي على أهل السماوات وأهل الأرضين والثقلين الجنّ والإنس» ((1)).

* * * * *

في كتاب (البحار)، مسنداً عن الأعمش، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه علیهم السلام قال: «قال النبيّ صلی الله علیه وآله: ليلة أُسري بي إلى السماء فبلغتُ السماء الخامسة، نظرتُ إلى صورة عليّ بن أبي طالب، فقلت: حبيبي جبرئيل، ما هذه الصورة؟ فقال جبرئيل: يا محمّد، اشتهت الملائكة أن ينظروا إلى صورة علي، فقالوا: ربّنا، إنّ بني آدم في دنياهم يتمتّعون غدوةً وعشيّةً بالنظر إلى عليّ بن أبي طالب، حبيبِ حبيبك محمّد صلی الله علیه وآله وخليفته ووصيّه وأمينه، فمتّعْنا بصورته قدر ما

ص: 311


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 238 ح 29، كامل الزيارات لابن قولويه: 67 الباب 21 ح 1.

تمتّع أهل الدنيا به. فصوّرَ لهم صورته من نور قدسه عزوجل، فعليٌّ علیه السلام بين أيديهم ليلاً ونهاراً، يزورونه وينظرون إليه غدوةً وعشيّة».

قال: فأخبرني الأعمش، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه علیه السلام قال: «فلمّا ضربه اللعين ابنُ ملجم على رأسه، صارت تلك الضربة في صورته الّتي في السماء، فالملائكة ينظرون إليه غدوةً وعشيّة، يلعنون قاتله ابن ملجم، فلمّا قُتل الحسين ابن عليّ (صلوات الله عليه) هبطت الملائكة وحملته حتّىأوقفته مع صورة عليٍّ في السماء الخامسة، فكلّما هبطت الملائكةُ من السماوات من علا وصعدت ملائكة السماء الدنيا فمن فوقها إلى السماء الخامسة لزيارة صورة علي علیه السلام والنظر إليه وإلى الحسين بن عليّ متشحّطاً بدمه، لعنوا يزيد وابن زياد وقاتل الحسين بن علي (صلوات الله عليه) إلى يوم القيامة».

قال الأعمش: قال لي الصادق علیه السلام : «هذا مِن مكنون العلم ومخزونه، لا تُخرِجه إلّا إلى أهله» ((1)).

* * * * *

في (المناقب) لابن شهرآشوب و(أمالي) المفيد: النيشابوري أنّ زرّ النائحة رأت فاطمة علیه السلام فيما يرى النائم أنّها وقعت على قبر الحسين تبكي، وأمرتها أن تُنشد:

أيّها العينان فيضا***واستهلّا لا تغيضا

ص: 312


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 228 ح 24 -- عن: المحتضر لابن فهد الحلّي: 146.

وابكيا بالطفّ مَيْتاً***ترك الصدر رضيضا

لم أُمرّضه قتيلاً***لا ولا كان مريضا ((1))

[جام البلّور الأحمر]

في (المناقب) بسند المخالفين، عن ابن عبّاسٍ وغيره: كنّا جلوساًمع النبيّ إذ هبط عليه جبرئيل ومعه جامٌ من البلّور الأحمر مملوءاً مسكاً وعنبراً، فقال له: السلام عليك، الله يقرأ عليك السلام ويحيّيك بهذه التحيّة، ويأمرك أن تُحيّي بها عليّاً وولَديه. فلمّا صارت في كفّ النبيّ هلّلَت ثلاثاً وكبّرت ثلاثاً، ثمّ قالت بلسانٍ ذَرِب: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى} ((2)). فاشتمّها النبي صلی الله علیه وآله، ثمّ حيّا بها عليّاً، فلمّا صارت في كفّ عليّ قالت: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيِم. إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُه} -- الآية ((3)). فاشتمّها علي، وحيّا بها الحسن، فلمّا صارت في كفّ الحسن قالت: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} -- الآية ((4)). فاشتمّها الحسن، وحيّا بها الحسين، فلمّا صارت في كفّ الحسين

ص: 313


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 59.
2- ([1]) سورة طه: 1 و2.
3- ([2]) سورة المائدة: 55.
4- ([3]) سورة النبأ: 1 و2.

قالت: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ((1)). ثمّ رُدّت إلى النبي، فقالت: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ((2))، فلم أدرِ على السماء صعدَت أم في الأرض نزلت بقدرة الله (تعالى) ((3)).

[نزول ملَكٍ على صفة الطير على يدَي الحسنين]

في (المناقب) عن طرق المخالفين أنّ ملَكاً نزل من السماء على صفة الطير فقعد على يد النبي، فسلّم عليه بالنبوّة، وعلى يد عليٍّ فسلّم عليه بالوصيّة، وعلى يد الحسن والحسين فسلّم عليهما بالخلافة، فقال رسول الله: «لمَ لمْ تقعد على يد فلان؟»، فقال: أنا لا أقعد في أرضٍ عُصي عليها الله، فكيف أقعد على يدٍ عصت الله؟ ((4))

* * * * *

في (حلية الأولياء) و(مسند أحمد) وغيرها من كتب العامّة: قال النبيّ -- في خبر -- : «أما رأيت العارض الّذي عرض لي؟»، قلت: بلى. قال: «ذاك ملَكٌ

ص: 314


1- ([4]) سورة الشورى: 23.
2- ([5]) سورة النور: 35.
3- ([6]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 75، الأمالي للطوسي: 256 ح 738.
4- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 77.

لم يهبط إلى الأرض قبل الساعة، فاستأذن الله (تعالى) أن يسلّم علَيّ، ويبشّرني أنّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، وأنّ فاطمة سيّده نساء أهل الجنّة» ((1)).

* * * * *

إبن بابويه وغيره وكتب المخالفين: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إذا كان يوم القيامة زُيّن عرش ربّ العالمين بكلّ زينة، ثمّ يؤتى بمنبرين من نور طولهما مئة ميل، فيوضع أحدهما عن يمين العرش والآخَر عن يسار العرش، ثمّ يُؤتى بالحسن والحسين علیهما السلام، فيقوم الحسن على أحدهماوالحسين على الآخر، يزيّن الربُّ (تبارك وتعالى) بهما عرشه كما يزيّن المرأةَ قرطاها» ((2)).

* * * * *

في (كشف الغُمّة) عن كتب المخالفين: كانت لآل رسول الله صلی الله علیه وآله قطيفةٌ ((3)) يجلس عليها جبرئيل، لا يجلس عليها غيره، وإذا خرج طُويَت، وكان إذا عرج انتفض فيسقط من زغب ريشه، فيقوم فيتبعه ويجعله في

ص: 315


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 84، المصنَّف لابن أبي شيبة الكوفي: 7 / 512 الرقم 3، المستدرك للحاكم: 3 / 381، كتاب ابن حبّان: 15 / 413.
2- ([1]) الأمالي للصدوق: 112 المجلس 24 ح 1، روضة الواعظين للفتّال: 1 / 157، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 87، معاني الأخبار للصدوق: 206.
3- ([2]) القطيفة: الدثار المخمّل، والجمع: قطائف.

تمائم ((1)) الحسن والحسين ((2)).

* * * * *

روى ابن شهرآشوب، عن ابن مسعود ((3)) قال: حمل رسولُ الله الحسن والحسين على ظهره، الحسن على أضلاعه اليمنى والحسين على أضلاعه اليسرى، ثمّ مشى وقال: «نِعمَ المطيّ مطيّكما، ونِعم الراكبان أنتما، وأبوكما خيرٌ منكما» ((4)).* * * * *

في (كشف الغُمّة): عن جابر بن عبد الله رضی الله قال: دخلتُ على النبي صلی الله علیه وآله وهو يمشي على أربع والحسن والحسين على ظهره، ويقول: «نِعمَ الجمل جملكما، ونِعم الجملان أنتما» ((5)).

ص: 316


1- ([3]) التميمة: خرزاتٌ كانت العرب تعلّقها على أولادهم يتّقون بها العين، وهي أيضاً عوذةٌ تعلَّق على الإنسان، ومنه شعر أبي الأسود الدؤلي في عليّ بن الحسين علیهما السلام: وإنّ غلاماً بين كسرى وهاشمٍ لَأكرمُ مَن نِيطت عليه التمائمُ
2- ([4]) كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 549.
3- ([5]) في المتن: (عن جابر).
4- ([6]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 63، شواهد التنزيل للحَسَكاني: 1 / 455.
5- ([1]) كشف الغُمّة للإربلي: 1 / 526، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 62، المعجَم الكبير للطبراني: 3 / 52 الرقم 2661، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 13 / 216.

* * * * *

في (المناقب): عن عمر بن الخطّاب قال: رأيتُ الحسن والحسين على عاتقَي رسول الله صلی الله علیه وآله، فقلت: نِعمَ الفرس لكما. فقال رسول الله: «ونِعمَ الفارسان هما» ((1)).

قال المؤلّف:

ذكرتُ في الفصل السابع حديث (المنتخَب) ونزول اللباس للحسنين، وأنّ الحسن اختار اللون الأخضر والحسين اختار اللون الأحمر، ثمّ عثرتُ على حديثٍ آخَر ستسمعه بعد قليل، ولكنّي لم أجرء أن أُورده؛ لأنّي لم أجد تتمّته في الكتب المعتبرة، فلمّا وقفتُ على حديث ابن شهرآشوب في (المناقب) و(كشف الغُمّة) شجّعنيأن أذكر الحديث الذي سأذكره فيما يلي:

في بعض الكتب، عن بعض الثقات الأخيار أنّ الحسن والحسين علیهما السلام دخلا يوم عيدٍ على حجرة جدّهما رسول الله صلی الله علیه وآله، فقالا: «يا جدّاه! اليوم يوم العيد، وقد تزيّن أولاد العرب بألوان اللباس ولبسوا جديد الثياب، وليس لنا ثوبٌ

ص: 317


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 63، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 162، الكامل لابن عدي: 2 / 362.

جديد، وقد توجَّهنا لجنابك لنأخذ عيديّتنا منك، ولا نريد سوى ثيابٍ نلبسها». فتأمّل النبيّ صلی الله علیه وآله إلى حالهما وبكى، ولم يكن عنده في البيت ثيابٌ تليق بهما، ولا رأى أن يمنعهما فيكسر خاطرهما، فتوجّه إلى الأحديّة وعرض الحال على الحضرة الصمديّة، وقال: «إلهي، اجبر قلبهما وقلب أُمّهما».

فنزل جبرئيل من السماء تلك الحال، ومعه حُلّتان بيضاوتان من حُلل الجنّة، فسُرّ النبيّ صلی الله علیه وآله وقال لهما: «يا سيّدَي شباب أهل الجنّة، هاكما أثوابكما، خاطهما خيّاطُ القدرة على طولكما، أتتكما مخيطةً مِن عالم الغيب».

فلمّا رأيا الخُلَع بيضاً قالا: «يا جدّاه، كيف هذا وجميع الصبيان العرب لابسون ألوان الثياب؟». فأطرق النبي صلی الله علیه وآله ساعةً متفكّراً في أمرهما، فقال جبرئيل: يا محمّد، طبْ نفساً وقرّ عيناً، إنّ صابغ صبغة الله عزوجل يقضي لهما هذا الأمر ويفرّح قلوبهما بأيّ لونٍ شاء، فأْمُرْ يا محمّد بإحضار الطشت والإبريق. فحضرا، فقال جبرئيل: يا رسول الله، أنا أصبّ الماء على هذه الخلع، وأنت تفركهما بيدك، فتصبغ بأيّ لونٍ شاءا. فوضع النبيّ حُلّة الحسن في الطشت، فأخذ جبرئيل يصبّ الماء، ثمّ أقبل النبيّ على الحسن وقال: «يا قُرّة عيني، بأيّ لونٍ تريد حلّتك؟»، فقال: «أُريدها خضراء». ففركها النبي صلی الله علیه وآله بيده في ذلكالماء، فأخذت بقدرة الله لوناً أخضر فائقاً كالزبرجد الأخضر، فأخرجها النبي صلی الله علیه وآله وأعطاها للحسن، فلبسها، ثمّ وضع حُلّة الحسين علیه السلام في الطشت، وأخذ جبرئيل يصبّ الماء، فالتفت (النبيّ) إلى نحو الحسين -- وكان له من العمر خمس سنين -- وقال له: «يا قرّة عيني، أيّ لونٍ

ص: 318

تريد حُلّتك؟»، فقال الحسين علیه السلام: «يا جدّاه، أُريدها حمراء». ففركها النبيّ بيده في ذلك الماء، فصارت حمراء كالياقوت الأحمر، فلبسها الحسين، فسُرّ النبي صلی الله علیه وآله بذلك، وتوجّه الحسن والحسين إلى أُمّهما فرحين مسرورين.. ((1)).

أمّا ذيل الحديث، فقد ذكر صاحب الكتاب المذكور، قال بلفظ المشهور أنّهما قالا: «يا جدّ، أطفال العرب عندهم نياقٌ يركبونها، ونحن نريد نياق نركبها»، فقال لهما: «يا ريحانتَيّ، أكون لكما جَمَل». ثمّ حمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخَر على عاتقه الأيسر، قالا: «إنّ للجمل زِمام!»، فأعطى النبي صلی الله علیه وآله إحدى ظفيرتيه للحسن والأُخرى للحسين، وقال: «هذا الزمام». قالا: «إنّ الجمَل أطفال العرب يقول: عف عف!»، فالتفت النبي صلی الله علیه وآله إلى الحسن فقال: «العفو العفو»، والتفت إلى الحسين فقال: «العفو العفو»، فهبط جبرئيل وقال: يا محمّد، لو فعلتَ ذلك مرّةً أُخرى لانطفأَت النار.

ولمّا كان باطن قوله (تعالى) في سورة الشمس: {نَاقَةَ اللَّهِ} مؤوّل بالإمام -- كما سيأتي في أواخر الكتاب فيالتذنيب الأوّل --، فلا يبعد صدور مثل هذه الحركات من فخر الكائنات لبيان عظمتهما وشرفهما، سيّما إذا لاحظنا أنّ مولانا جعفر الصادق علیه السلام قال -- كما في (بحار

ص: 319


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 222، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 245 ح 45.

العلوم) -- : إنّي ابن الباقر، وهو إمام الحقّ، وهو ابن العابد الإمام بالصدق، وهو ابن الحسين بضعة نبيّ الثقلين، ابن عليّ وأخي الحسن، وهو الّذي ركب على عُنق رسول الله صلی الله علیه وآله يوم العيد، وقال لرسولنا: قُل يا جدّي: عف عف! وهو صوت الإبل، وقال رسولنا صلی الله علیه وآله: عف عف لرضائه. وهما الشهيدان الإمامان الفاضلان العادلان، ابنا سيّد الأُمّة من الجنّ والناس والملَك، وهو إمام الحقّ بالصدق من غير واسطةٍ بينه وبين رسولنا صلی الله علیه وآله ، فإذا كنتُ مِن نسبٍ كذا فما هو قلته إلّا وهو حقٌّ وصدقٌ من الله ورسوله، وما اخترعتُه مِن فؤادي.. إلى آخر ما قال.

ففي هذا الحديث يصرّح أنّ الإمام الحسين علیه السلام ركب على عُنق النبيّ صلی الله علیه وآله يوم العيد، وقال لرسولنا: قُل يا جدّي: عف عف! وهو صوت الإبل،وقال رسولنا صلی الله علیه وآله: عف عف لرضائه..

[تسبيح الرمّان والعنب]

في (تفسير الثعلبي): عن جعفر بن محمّد، عن أبيه علیه السلام قال: «مرض النبي صلی الله علیه وآله ، فأتاه جبرئيل بطبقٍ فيه رمّان وعنب، فأكل النبي منه فسبّح، ثمّ

ص: 320

دخل عليه الحسن والحسين، فتناولا منه فسبّح الرمّان والعنب، ثمّ دخل علي، فتناول منه فسبّح أيضاً، ثمّ دخل رجلٌ من أصحابه، فأكل فلم يُسبّح، فقال جبرئيل: إنما يأكل هذا نبيٌّ أو وصيٌّ أو ولد نبي ((1)).

* * * * *

عن ابن عبّاسٍ قال: كنتُ جالساً بين يدَي رسول الله صلی الله علیه وآله ذات يومٍ وبين يديه عليّ بن أبي طالب علیه السلام وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام، إذ هبط عليه جبرئيل وبيده تفّاحة، فحيّا بها النبي صلی الله علیه وآله ، وحيّا بها النبيّ عليّاً، فتحيّا بها علي علیه السلام وردّها إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فتحيّا بها النبي وحيّا بها الحسن علیها السلام، فقبلها وردّها إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فتحيّا بها النبي وحيّا بها الحسين، فتحيّا بها الحسين وقبلها وردّها إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فتحيّا بها النبي صلی الله علیه وآله وحيّا بها فاطمة، فقبلتها وردّتها إلى النبي صلی الله علیه وآله ، وتحيّا بها النبي صلی الله علیه وآله ثانيةً وحيّابها عليّاً علیه السلام، فتحيّا بها علي علیه السلام ثانية، فلمّا همّ أن يردّها إلى النبي صلی الله علیه وآله سقطت التفاحة من أطراف أنامله فانفلقت بنصفين، فسطع منها نورٌ حتّى بلغ سماء الدنيا، وإذا عليه سطران مكتوبان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه تحيّةٌ من الله عزوجل إلى محمّدٍ المصطفى وعليّ المرتضى وفاطمة الزهراء والحسن والحسين سبطَي رسول الله صلی الله علیه وآله ، وأمانٌ لمحبّيهم يوم القيامة من النار ((2)).

ص: 321


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 73، تفسير الثعلبي: 6 / 103، الخرائج للراوندي: 1 / 48 ح 65.
2- ([1]) الأمالي للصدوق: 596 المجلس 87 ح 3، مئة منقبةٍ لابن شاذان: 26 م 8.

[جواب الحسنين على مسألةٍ عجز عنها ابن الزبير وابن عثمان]

روى ابن شهرآشوب قال: استفتى أعرابيٌّ عبدَ الله بن الزبير وعمر بن عثمان، فتواكلا، فقال: اتّقيا الله، فإنّي أتيتكما مسترشداً، أمواكلة في الدِّين! فأشارا عليه بالحسن والحسين، فأفتياه، فأنشأ أبياتاً، منها:

جعل الله حرّ وجهيكما***نعلين سبتاً يطؤهما الحسنانِ ((1))

[علّما شيخاً كيف يُحسِن الوضوء]

وروى أيضاً أنّ الحسن والحسين مرّا على شيخٍ يتوضّأ ولا يُحسِن، فأخذا بالتنازع، يقول كلّ واحدٍ منهما: أنت لا تُحسِن الوضوء!فقالا: «أيّها الشيخ، كُن حَكَماً بيننا، يتوضّأُ كلّ واحدٍ منّا سويّة»، ثمّ قالا: «أيُّنا يُحسِن؟»، قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكنّ هذا الشيخ الجاهل هو الّذي لم يكن يُحسِن، وقد تعلّم الآن منكما وتاب على يدَيكما ببركتكما وشفقتكما على أُمّة جدّكما ((2)).

[ما تكلّم الحسين بين يدَي الحسن]

وروى أيضاً عن الباقر علیه السلام قال: «ما تكلّم الحسين بين يدَي الحسن؛

ص: 322


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 99.
2- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 101.

إعظاماً له، ولا تكلّم محمّدُ بن الحنفيّة بين يدَي الحسين؛ إعظاماً له» ((1)).

* * * * *

إبن شاذان بإسناده عن زاذان، عن سلمان قال: أتيتُ النبي صلی الله علیه وآله فسلّمتُ عليه، ثمّ دخلتُ على فاطمة علیها السلام فسلّمتُ عليها، فقالت: «يا أبا عبد الله، هذان الحسن والحسين جائعان يبكيان، خُذ بأيديهما فاخرج بهما إلى جدّهما». فأخذتُ بأيديهما وحملتُهما حتّى أتيت بهما إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فقال: «ما لكما يا حبيباي؟»، قالا: «نشتهي طعاماً يا رسول الله»، فقال النبي صلی الله علیه وآله : «اللّهمّ أطعِمْهما» -- ثلاثاً --. قال: فنظرتُ فإذا سفرجلة في يد رسول الله صلی الله علیه وآله شبيهة بقلة من قلال هجر، أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد، ففركها صلی الله علیه وآلهبإبهامه فصيّرها نصفين، ثمّ دفع نصفها إلى الحسن وإلى الحسين نصفها، فجعلتُ أنظر إلى النصفين في أيديهما وأنا أشتهيها، فقال لي: «يا سلمان، أتشتهيها؟»، فقلت: نعم يا رسول الله. قال: «يا سلمان، هذا طعامٌ من الجنّة، لا يأكله أحدٌ حتّى ينجو من النار والحساب، وإنّك لَعلى خير» ((2)).

* * * * *

روى عبد الحميد بن ميكائيل، عن يوسف بن منصور، بإسناده عن

ص: 323


1- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 101.
2- ([1]) مئة منقبةٍ لابن شاذان: 161 م 87.

عائشة قالت: كان رسول الله صلی الله علیه وآله جائعاً لا يقدر على ما يأكل، فقال لي: «هاتي رداي»، فقلت: أين تريد؟ قال: «إلى فاطمة ابنتي، فأنظرُ إلى الحسن والحسين فيذهب بعض ما بي من الجوع». فخرج حتّى دخل على فاطمة علیها السلام، فقال: «يا فاطمة أين ابناي؟»، فقالت: «يا رسول الله، خرجا من الجوع وهما يبكيان». فخرج النبي صلی الله علیه وآله في طلبهما، فرأى أبا الدرداء، فقال: «يا عويمر، هل رأيت ابنَيّ؟»، قال: نعم يا رسول الله، هما نائمان في ظلّ حائط بني جدعان. فانطلق النبي، فضمّهما وهما يبكيان وهو يمسح الدموع عنهما، فقال له أبو الدرداء: دعني أحملهما، فقال: «يا أبا الدرداء، دعني أمسح الدموع عنهما، فوَالّذي بعثني بالحق نبيّاً لو قطر قطرة في الأرض لبقيت المجاعة في أُمّتي إلى يوم القيامة». ثمّ حملهما وهما يبكيان وهو يبكي، فجاء جبرئيل فقال: السلام عليك يا محمّد، ربّ العزّة (جلّ جلاله) يقرئك السلام ويقول: «ما هذا الجزع؟»،فقال النبي صلی الله علیه وآله : «يا جبرئيل، ما أبكي جزعاً، بل أبكي من ذلّ الدنيا». فقال جبرئيل: إنّ الله (تعالى) يقول: «أيسرّك أن أُحوّل لك أُحُداً ذهباً ولا ينقص لك ممّا عندي شي ء؟»، قال: «لا»، قال: لمَ؟ قال: «لأنّ الله (تعالى) لم يحبّ الدنيا، ولو أحبّها لَما جعل للكافر أكملها». فقال جبرئيل علیه السلام: يا محمّد، ادعُ بالجفنة المنكوسة الّتي في ناحية البيت. قال: فدعا بها، فلمّا حُملت فإذا فيها ثريد ولحمٌ كثير، فقال: كُلْ يا محمّد، وأطعِم ابنيك وأهل بيتك. قال: فأكلوا فشبعوا، قال: ثمّ أرسل بها إليّ، فأكلوا وشبعوا وهو على حالها، قال: ما رأيتُ جفنةً أعظم بركةً منها، فرفعت عنهم، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «والّذي بعثَني بالحقّ،

ص: 324

لو سكتُّ لَتداولها فقراء أُمّتي إلى يوم القيامة» ((1)).

[إمساك ابن عبّاس الركاب لهما]

في حديث مدرك بن أبي زياد، قلت لابن عبّاس وقد أمسك للحسن والحسين بالركاب وسوّى عليهما: أنت أسنُّ منهما، تمسك لهما بالركاب! فقال: يا لُكَع، وما تدري مَن هذان؟ هذان ابنا رسول الله، أوَليس ممّا أنعم الله به علَيّ أن أُمسِك لهما وأُسوّي عليهما؟ ((2))

[إستجار مذنبٌ بهما فأطلقه النبي صلی الله علیه وآله]

في (المناقب) لابن شهرآشوب: عن محمّد بن علي علیه السلام أنّه قال: «أذنب رجلٌ ذنباً في حياة رسول الله، فتغيَّب، حتّى وجد الحسن والحسين في طريقٍ خالٍ فأخذهما، فاحتملهما على عاتقَيه وأتى بهما النبي، فقال: يا رسول الله، إنّي مستجيرٌ بالله وبهما! فضحك رسول الله حتّى ردّ يده إلى فمه، ثمّ قال للرجل: اذهب وأنت طليق، وقال للحسن والحسين: قد شفّعتُكما فيه أي فتيان. فأنزل الله (تعالى): {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ

ص: 325


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 309.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 101، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 13 / 239.

تَوَّابًا رَحِيمًا}» ((1)) ((2)).

* * * * *

وفي (التحفة): عن الأربعين، رُوي أنّ أمير المؤمنين كان جالساً في البيت، وأجلس الإمام الحسن على فخذه الأيمن والإمام الحسين على فخذه الأيسر، وكان عمر أحدهما أربع سنين والآخر أقلّ من ذلك، فالتفت أمير المؤمنين إلى الحسين فقال له: «يا بُني، قل: واحد»، فقال: «واحد»، فقال: «قل: إثنان»، قال: «أستحي أن أقول باللسان الّذي قلتُ واحد: اثنان! فالاثنان شرك، والشرك كفر، والكفر خالدٌ في النار، والتوحيد مقام المؤمنين الموحّدين، ومحلّ أهل الإيمان الجنّة خالدين فيها». فلمّا سمعه أمير المؤمنين أُعجب به إعجاباً شديداً وقبّل وجهه، ثمّ قال الإمام الحسين علیه السلام: «يا أبة أتحبّنا؟»، قال: «نعم يا بُني»، قال:«يا أبتاه، حبّان لا يجتمعان في قلب المؤمن: حبّ الله وحبّ الأولاد». فتعجّب أمير المؤمنين من كلامه، فوضعه على الأرض، وتوجّه إلى النبي صلی الله علیه وآله فروى له ما قاله الحسين علیه السلام، فقبّل النبيُّ وجه الحسين علیه السلام وقال: «حبّكم مِن حبّ الله ((3)) وفي طوله» ((4)) ((5)).

ص: 326


1- ([1]) سورة النساء: 64.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 100، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 117 ح 1061.
3- ([1]) عبارة المؤلّف هي: (وقال: «حبّكم صوريّ، وحبّ الله معنوي»).
4- ([2]) تحفة المجالس: 190 المقصد 5 المعجزة 5.
5- ([3]) روى الميرزا النوريّ في (المستدرك: 15 / 215) مجموعة الشهيد: قيل: لمّا كان العبّاس وزينب ولدَيّ علي علیهم السلام صغيرين، قال علي علیه السلام للعباس: «قُل: واحد»، فقال: واحد، فقال: «قل: اثنان»، قال: أستحي أن أقول باللّسان الّذي قلتُ واحد: اثنان. فقبّل عليٌّ علیه السلام عينَيه، ثمّ التفت إلى زينب -- وكانت على يساره والعبّاس عن يمينه --، فقالت: يا أبتاه أتحبّنا؟ قال: «نعم يا بني، أولادنا أكبادنا»، فقالت: يا أبتاه، حُبّان لا يجتمعان في قلب المؤمن: حبّ الله وحبّ الأولاد، وإن كان لابدّ لنا فالشفقة لنا والحبّ لله خالصاً. فازداد عليٌّ علیه السلام بهما حبّاً. وقيل: بل القائل الحسين علیه السلام.

[أعرابيٌّ ضلّ بعيره فدلّه عليه]

أيضاً عن عبد الله بن عبّاس قال: كنتُ جالساً عند الحسين علیه السلام، فجاءه أعرابي وقال: ضلّ بعيري وليس لي غيره، وأنت ابن رسول الله، أرشِدْني إليه. فقال: «إذهب إلى موضع كذا، فإنّه فيه، وفي مقابله أسد». فذهب إلى ذلك الموضع فوجده كما قال علیه السلام ((1)).

* * * * *

قال الحسن البصري: كان يُجالسنا شيخٌ نصيب منه ريحالقطران، فسألناه عن ذلك، فقال: إنّي كنتُ فيمن منع الحسين بن عليٍّ عن الماء، فرأيتُ في منامي كأنّ الناس قد حُشروا، فعطشتُ عطشاً شديداً، فطلبت الماء، فإذا النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام على الحوض،

ص: 327


1- ([4]) إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 591 ح 85، تحفة المجالس: 190 المقصد 5 المعجزة 6.

فاستسقيتُ من رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال: «اسقوه»، فلم يسقني أحد، فقال ثانياً، فلم يسقني أحد، فقال ثالثاً، فقيل: يا رسول الله، إنّه ممّن منع الحسين من الماء! فقال: «اسقوه قطراناً». فأصبحتُ أبول القطران، ولا آكلُ طعاماً إلّا وجدتُ منه رائحة القطران، ولا أذوق شراباً إلّا صار في فمي قطراناً ((1)).

قال الحسن: فصرفتُه واعتذرتُ منه أن يجالسنا بعد ذلك، فما مرّ زمانٌ حتّى مات.

[رُفع إلى السماء لتزوره الملائكة]

في كتاب (مرآة الجنان): رُوي أنّ فاطمة؟عها؟ أقبلت إلى أبيها رسول اللَّه صلی الله علیه وآله باكيةً في المسجد وهي تقول: «يا أبة، وضعتُ الحسين علیه السلام في مهده وأخذتُ في طحن الحَبّ ساعة، فافتقدتُه ولم أجده في مهده». فهبط الأمين جبرائيل وقال: يا رسول اللَّه، أبلغ فاطمة السلام وقل لها: فلتقرّ عينها، فإنّ الحسين علیه السلام لم يُصبْه شي ء، وهو من المقرَّبين. فقال رسول اللَّه صلی الله علیه وآله: «وأين الحسين علیه السلام»، قال جبرائيل: لمّا هبطتُ وهبط معي جماعةٌ من الملائكة لنهنّئك بولادة الحسين، وعرجوا إلى السماء، افتخروا على سائر الملائكة بأنّهم قدزاروا الحسين، فقالت الملائكة: يا ربّنا، ائذن لنا في زيارة

ص: 328


1- ([1]) مقتل الحسین علیه السلام للخوارزمي: 2 / 103.

الحسين علیه السلام. فأمرني اللَّه (تعالى) أن أرفع الحسين علیه السلام إلى السماء لتزوره الملائكة، فرفعتُه، وزارته الملائكة وابتهجب بذلك، والآن رددتُه وهو في مهده في مئة ألفٍ من الروح والراحة والنور والسرور. فلمّا سمعَت فاطمة ذلك ابتهجت وسُرّت غاية السرور، فرجعت من ساعتها إلى البيت فوجدته نائماً في المهد كأنّه البدر ليلة تمامه وكماله، فاحتضنته وقبّلَته، وشكرت الله (تعالى) وقالت: «{الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}» ((1)) ((2)).

[إستشار الحسينَ في الزواج فخالفه]

رُوي أنّ رجلاً صار إلى الحسين علیه السلام، فقال: جئتُك أستشيرك في تزويجي فلانة. فقال: «لا أُحبّ ذلك». وكانت كثيرة المال، وكان الرجل أيضاً مُكثِراً، فخالف الحسين فتزوّج بها، فلم يلبث الرجل حتّى افتقر، فقال له الحسين علیه السلام: «قد أشرتُ إليك، فخلِّ سبيلها؛ فإنّ الله يعوّضك خيراً منها»، ثمّ قال: «وعليك بفلانة فتزوّجْها». فما مضت سنة حتّى كثر مالُه، وولدت له ذكراً

ص: 329


1- ([1]) سورة فاطر: 34.
2- ([2]) تحفة المجالس: 203 المقصد الخامس، معالي السبطين للحائري: 1 / 83 الفصل 1 المجلس 2.

وأُنثى، ورأى منها ما أحبّ ((1)).

[سبع حُصيّاتٍ سبّحنَ في يده]

عن زيد بن أرقمٍ قال: سبع حُصيّاتٍ سبّحنَ في كفّ رسول الله صلی الله علیه وآله ، فوضعها في يد الحسن بن عليٍّ علیه السلام فسبّحن كما سبّحنَ في كفّه، ثمّ وضعها في كفّ الحسين علیه السلام فسبّحن في كفّه، وكلّ مَن حضر من الصحابة أخذ الحصيّات ولم يسبّحن في أيديهم، فسُئل علیه السلام عن ذلك، فقال: «الحصى لا يسبّحنَ إلّا في كفّ نبيٍّ أو وصيّ نبي» ((2)).

[قصّة أحد ملوك بني مروان نذر أن يقتل زوّار الحسين]

في (تحفة المجالس) أيضاً أنّ أحد ملوك بني مروان نذر إن رزقه الله ولداً يقتل زوّار الحسين أينما ثَقِفهم، فشاء الله أن يرزقه ولداً، ولكنّ الأجل لم يمهله ليفي بنذره، فأوصى إلى ولده بذلك، فلمّا كبر ولده بلّغوه بالوصيّة، فعزم على قتل كلّ مَن يزور الحسين علیه السلام أينما وجده.

وفي ذات ليلةٍ رأى في الرؤيا كأنّ القيامة قامت، وكانت مجاميع من الملائكة الغِلاظ الشِّداد يأخذون جماعةً يجرّونهم جرّاً عنيفاً إلى جهنّم،

ص: 330


1- ([1]) الخرائج للراوندي: 1 / 248، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 182.
2- ([2]) إثبات الهداة للحرّ العاملي: 4 / 24 ح 20.

ويعرضونهم واحداً واحداً على النبي صلی الله علیه وآلهفيذكرون ذنوبهم بالتفصيل، فيأمر بهم النبي صلی الله علیه وآله إلى جهنّم.

ثمّ جاؤوا برجلٍ إلى النبي صلی الله علیه وآله فذكروا قبائحه وذنوبه، فكانت ذنوبُه تفوق ذنوب العاصين جميعاً، ولم تبقَ معصيةٌ إلّا ارتكبها ولا نهيٌ إلّا خالفه، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «إنّ صحيفته سوداء، ولم يترك ذنباً إلّا اقترفه ولا سيّئةً إلّا أتى بها، فهو من الهالكين، لولا أنّ له حالاً لا تعلمونه أنتم حرّمه الله بها على النار». قالوا: يا رسول الله، وما هو حاله الّذي لا نعلمه نحن؟! قال: «مرّ هذا الرجل بأرض كربلاء، فأصاب جسمه شيئاً من غبارها، وقد حرّم الله النار على جسمٍ أصابه غبار تراب كربلاء». قالت الملائكة: يا رسول الله، إنّه مذنبٌ عظيم الذنب، ندخله في عينٍ فنغسل عنه غبار كربلاء ثمّ نُلقيه في جهنّم! قال النبي صلی الله علیه وآله: «إذا غسلتم عنه غبار كربلاء، فإنّه نظر إلى قبر ولدي الحسين علیه السلام، والنظرة لا تُغسَل ولا تُمحى من عينه، فكيف تلقونه في جهنّم؟ وكيف تحرقه النار؟». فخلّت ملائكة العذاب عنه، واستقبلته ملائكة الرحمة فأدخلوه الجنّة بغير حساب.

فاستيقظ ابن السلطان فَزِعاً مرعوباً من نومه، فعزم على التوبة، وقصد كربلاء زائراً، وصار يُرغّب الناس في زيارة سيّد الشهداء علیه السلام، ويخدم زوّار الحسين علیه السلام خدمةً عظيمة ويرعاهم رعايةً حميمة، وبقيَ كذلك ما دام

ص: 331

حيّاً ((1)).* * * * *

في الكتاب المذكور أيضاً: إذا قامت القيامة وجمع الله الخلائق في المحشر، أُعطيَ لكلٍّ كتابه بيده، إن كان فيه الحسنات فرح واستبشر، وإن كان فيه السيّئات خجل منه فندم على ما صنع، فيأتيه النداء من بين يديه ومن خلفه: «يا ملائكة العذاب، خُذوه إلى نار جهنّم». فيبقى متحيّراً بينهم لا يستطيع كلاماً ولا يردّ جواباً، فإذا النداء من قِبل الله (تعالى): «قِفوا يا ملائكتي بهذا العبد؛ فإنّ له عندي أمانة». يأمر الله العزيز الغفّار أن «اعطوا الأمانة لهذا العبد الحيران المذنب، فأنا أشتري منه هذه الدرّة بأغلى ثمنٍ دون قيمة».

قال: فيقول الله (تعالى) للملائكة: «اجمعوا كلّ الأنبياء والأوصياء حتّى يقوّموا هذه الدرّة بأحسن قيمةٍ وأغلى ثمن». قال: فعند ذلك تجمع الملائكة الأنبياء والأوصياء، فيأتي النداء من قِبل الله (تعالى): «يا ملائكتي، اعطوا هذه الدرّة لآدم الصفيّ يقوّمها لعبدي المذنب»، فيقدِم آدم علیه السلام ويأخذ الدرّة ويقول: «إلهي وسيّدي، أنت الكريم الغفّار ذو الجلال والإكرام، قيمة هذه الدرّة أن تكفيه وتُنجيه من نار جهنّم وعرصاتِ الموقف وأهواله»، فيقول الله (جلّ جلاله): «يا آدم، قليل ما قوّمتها، يا ملائكتي أعطوها لنوح النبيّ يقوّمها»، فيحضر لها نوح علیه السلام فيقول: «إلهي يا كريم يا غفّار، قيمتها أن تكفي صاحبها شرّ

ص: 332


1- ([1]) تحفة المجالس: 210 المقصد 5 خاتمة المطلب الأوّل.

الحساب والعقاب، وعطش القيامة وتبعاتها، وتنجيه من جميع أحوالها»، فيأتيه الجواب من قِبل الله (تعالى): «يا نوح، قليل ما قوّمتها به»، فيأمر الله (تعالى) بإحضار خليله إبراهيم علیهالسلامأن يقوّم الدرّة، قال: فيقول إبراهيم علیه السلام: «إلهي وسيّدي، أنت القادر الكريم الرحيم، قيمتها أن تسهّل على صاحبها أهوال القيامة، وتجعله في ظلّ عرشك، وتُسكنه في جِنانك، وتعطيه من كرمك».

قال: فلم يبقَ نبيٌّ ولا وصيٌّ ولا ملَكٌ مقرَّب إلّا وقوّمها، فيقول الله (تعالى): «قليل ما قوّمتموها به، وما هذه قيمتها»، إلى أن ينتهي النبيّون إلى خاتم الأنبياء وسيّد أهل السماوات والأرض محمدٍ صلی الله علیه وآله سيّد الأنبياء والمرسلين، فيأتيه النداء من قِبل الله (تعالى): «يا محمّد، أنت قوّم هذه الدرّة لهذا العبد العاصي بثمنٍ غالٍ أغلى ما يكون، فأنا أشتريها بها منه»، فعندها يقول رسول الله صلی الله علیه وآله : «يا ربّ، أسألك وأنت العالم بنطقي، ثمّ هذه الدرّة الّتي أمرتَني أن أقوّمها لهذا العبد العاصي من أين أتته؟ ومن أين حصلَت له؟ وفي أيّ كسبٍ رزقتَه إيّاها؟»، فيقول الله (تعالى): «يا حبيبي يا محمّد، اعلمْ أنّ هذا العبد العاصي قد مرّ على جماعةٍ وهم جالسون يذكرون مصاب الحسين علیه السلام ، ويبكون ويندبون عليه، وينوحون على ما أصابه من القتل والضرب والنهب والسلب والأسر وصلب الرؤوس في أسنّة الرماح، وشهرة نسائه في كلّ بلدةٍ ومكان، وبكى على تقييد ولده وقُرّة عينه عليّ بن الحسين السجّاد زين العابدين، فبكى حتّى خرج من عينه الدموع، وأمرتُ ملائكتي أن ينتفوا دموعه من خدّيه كلّما جرت قطرة، فصوّرتها بقوّتي وقدرتي هذه الدرّة، وأمرتُ الملائكة أن يحفظوها، وجعلتُها ذخراً له وسبباً لنجاته في

ص: 333

هذا اليوم، فقوّمها يا حبيبي يا رسول الله صلی الله علیه وآله ».فلمّا تمّ الكلام من العزيز العلّام خرّ النبي صلی الله علیه وآله ساجداً وقال: «يا ربّ العالمين، ويا مالك يوم الدين، ويا غافر المذنبين، أنت أكرم الأكرمين، ورحمتك سبقَت غضبَك على المذنبين، إذا كان هذا العبد العاصي حصل هذه الدرّة الّتي لا نظير لها في دار الدنيا، وقد وجدتَ عند هذا العاصي بسبب بكائه على ولدي الحسين بن علي بن أبي طالب وابن بنتي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وأنت قد تشفقّتَ عليه بها، وأنت تريد أن تشتريها منه بأغلى ثمن، فيتباهى بالحسين بن علي، فأرسلْ له بأن يحضر في هذا المكان، ودَعْه هو يقوّمها لهذا العبد العاصي كما هو حصّلها بسببه، كذلك هو يقوّمها له وهو يعرف ثمنها غاية المعرفة».

فعند ذلك يأتي النداء من قِبل الله (تعالى): «يا ملائكتي، أحضِروا لي عبدي وحبيبي وقرّة عين نبيّي أبا عبد الله الحسين، ليقوّم هذه الدرّة لهذا العبد العاصي، حتّى أغفر له وأُدخله جنّتي عِوض ما حزن وبكى على مصابه وجرت دموعه لأجله، فصوّرتُ دموعه هذه الدرّة من فضلي، وجعلتُها سبباً لنجاته من النار، فقوّمْها يا أبا عبد الله، فإنّه من أهل النار، وكان قد عمل عمل أهل النار مدّة حياته».

فلمّا سمع الحسين علیه السلام هذا الكلام، نظر إلى العبد وهو واقفٌ بين يدَي الملائكة الغِلاظ الشداد، وينظر إلى الدرّة وصنعها، فيقول لذلك العبد: «لا تخفْ ولا تحزنْ ولا تجزع، وأبشِر -- وهو خجلان --، فأْتوني بها ملائكةَ الله»، وإذا هي صرّةٌ من الحرير أخضر من سندس الجنّة معقودة، فيحلّ عقدها، فيراها

ص: 334

درّةً في غاية الصفاء ونهاية الضياء، لم يوجَد مثلها في خزائنالملوك والسلاطين، ولا ملكها أحدٌ من المخلوقين، فيتعجّب كلُّ مَن يراها. فيأتيه النداء من قِبل الله (تعالى): «بِعْها على عبدي بأغلى ثمن، فأنا أشتريها منك، فإنّك حصّلتها في دار الدنيا من دموع عينك وبكائك على الحسين الشهيد العطشان، نور عين رسول الله وابن وليّه ووصيّه وناصره، وسرور فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وتأمّلتَ في ذلك المجلس، وبكيتَ وحزنت، وخرجَت من عيونك الدموع، فإنّي أمرتُ الملائكة أن يحفظوها بقوارير الجنّة، ولا يضيّعوا منها شيئاً حتّى أُجازيك بها يوم القيامة، فأنا الربّ الكريم الغفّار، كرامةً لابن الرسول الأوّاب، وابن ساقي يوم الحساب عليّ بن أبي طالب».

فعند ذلك يأمر الله الحسين علیه السلام فيقول له: «قوّم هذه الدرّة لهذا العبد الزائر والباكي عليك بثمنٍ غال»، فيقول الحسين علیه السلام: «يا ربّ، قيمة هذه الدرّة أن تُنجي صاحبَها من جميع الأهوال، والعبور على الصراط، وتدفع عنه كلّ عذابٍ وحسابٍ وعطش، وقيمتها أن تسقيه من حوض الكوثر شربةً لا ظمأ بعدها، وتدخله الجنّة، وتجعل قصره مجاوراً لقصري ولمن أنفق ماله وأتعب نفسه وزار قبري وأحبّني وأقام عزائي وذكري وذكر قتلي ومصيبتي». فيأتي الجواب من الله (تعالى): «يا حسين، إنّي قبلتُ ما ذكرت، وأعطيتُك ما تريد، فافعل ما شئت، فأنت الشافع وابن الشافع له ولمن تريد». والحمد لله ربّ العالمين ((1)).

ص: 335


1- ([1]) تظلّم الزهراء علیها السلام للقزويني: 67، تحفة المجالس: 216 المقصد 5 المطلب 2.

* * * * *

في الكتاب المذكور: كان في بغداد رجلٌ ثريّ فاسق فاجر خمّار، أتلف عمره في الأعمال القبيحة وارتكاب الذنوب، فلمّا حضرته الوفاة أوصى أن يجهَّز بعد الموت ويغسَّل ويكفَّن ويصلّى عليه، ثمّ يُنقَل جثمانُه إلى النجف ليدفَن في جوار أمير المؤمنين علیه السلام؛ لعلّ الله يهبه لأمير المؤمنين ويغفر ببركته ذنوبه ويعفو عنه ويشمله برحمته. أوصى وصيّته ثم سلّم روحه إلى بارئها، فبادر أقرباؤه وأرحامه القريبين منه إلى تنفيذ وصيّته، فجهّزوه وعزموا على حمل جنازته إلى النجف الأشرف.

في تلك الليلة رأى بعض خدّام حرم أمير المؤمنين علیه السلام في عالم الرؤيا الإمام أمير المؤمنين علیه السلام جالساً في ضريحه، ثمّ دعا جميع الخدّام وقال لهم: «غداً صباحاً يأتي جماعةٌ بجنازة رجلٍ فاسق، فامنعوهم من دفنه في النجف؛ فإنّ ذنوبه بعدد الرمل والحصى وأوراق الشجر وقطرات المطر».

قال الإمام علیه السلام ذلك ثمّ اختفى، فلمّا أصبح الصباح حضر جميعُ الخدم، فحدّث بعضهم البعض ما رأى في عالم الرؤيا، فتبيّن أنّهم جميعاً رأوا نفس الرؤيا، فحملوا جميعاً العصيّ والحجارة وخرجوا إلى سور البلد ينتظرون الجنازة، فمضت مدّةً طويلةً ولم تأتِ الجنازة، فتعجّبوا من تخلّفها، وكانوا يفكّرون في سبب التأخير وعدم تحقّق الرؤيا.

وكان من قضاء الله وقدره أن تاهت الجماعة القادمة مع الجنازة وضلّت الطريق في ظلمة الليل البهيم، فلم يشعروا إلّا أنّهم في صحراء كربلاء، فباتوا

ص: 336

هناك حتّى أصبح الصباح، توجّهوا إلى النجف الأشرف، فلمّا جنّ الليل رأى خدّام الروضة العلويّة المقدّسة أمير المؤمنين فيالرؤيا مرّةً ثانية، فدعاهم جميعاً وقال لهم: «إذا أصبح الصباح اخرجوا لاستقبال الجنازة الّتي منعتكم البارحة من دفنها عندي، فأكرموها واحترموها، واتركوها مدّةً في الروضة عند الضريح، ثمّ ادفنوها في أفضل مكان».

فتعجّبوا من سماع هذا الكلام من الإمام، وكيف نهاهم البارحة عن دفنها عنده وهو اليوم يأمر بإكرامها ودفنها في أفضل مكان؟! وعرضوا ذلك على الإمام علیه السلام وسألوه عن سبب ذلك، فقال: «تاه المشيّعون البارحة، فمرّوا بكربلاء، فأصاب الجنازةَ من غبار كربلاء، فغفر الله له جميع ذنوبه وعفا عنه، وشملَه برحمته الواسعة ببركة تربة كربلاء، إكراماً لولدي الحسين علیه السلام».

فلمّا أصبح الصباح خرج الخدّام جميعاً خارج المدينة، فاستقبلوا الجنازة وحملوها معزّزةً مكرّمةً محترمة، حتّى دخلوا بها إلى الروضة المقدّسة، ثمّ دفنوها في أفضل مكان، وحدّثوا المشيّعين بما جرى وما رأوا جميعاً ((1)).

ص: 337


1- ([1]) تحفة المجالس: 218 المقصد 5 المطلب 3.

ص: 338

الفصل التاسع: في بيان حديث المفضّل

روى الشيخ حسن بن سليمان في كتاب (منتخب البصائر)، عن المفضّل بن عمر ((1)) قال: سألتُ سيّدي أبا عبد الله الصادق علیه السلام، قال: «حاش لله أن يوقّت له وقت [وقتاً] أو توقّت شيعتنا». قال: قلت: يا مولاي، ولمَ ذلك؟ قال: «لأنه هو الساعة الّتي قال الله (تعالى) فيها: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا»، وقوله: «قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» ((2))، وقوله: «عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» ((3)

ص: 339


1- ([1]) للحديث المرويّ في (المختصر) و(البحار) والمتن عن (المختصر) تتمّة في (الهداية الكبرى)، لذا نقلنا النصّ من (الهداية) باعتبار أنّه عنون الباب به، فربّما لم تتوفر نسخة (الهداية) عنده، ولما في التتمة من ثمرات وفوائد عظيمة.
2- ([2]) سورة الأعراف: 187.
3- ([3]) سورة لقمان: 34.

ولم يقل أحدٌ دونه، وقوله: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ»((1))، وقوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» ((2))، وقوله: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا» ((3)).. «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ» ((4))».

قلت: يا مولاي، ما معنى «يُمَارُون»؟ قال: «يقولون: متى وُلد؟ ومَن رآه؟ وأين هو؟ وأين يكون؟ ومتى يظهر؟ كلّ ذلك استعجالاً لأمر الله وشكّاً في قضائه وقدرته، أُولئك الّذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، وإنّ للكافرين لشَرّ مآب».

قال المفضّل: يا مولاي، فلا يُوقَّت له وقت؟! قال: «يا مفضّل، لا توقّتْ؛ فمَن وقَّتَ لمهديّنا وقتاً فقد شارك الله في علمه، وادّعى أنّه يُظهره على أمره، وما لله سرٌّ إلّا وقد وقع إلى هذا الخلق المنكوس الضالّ عن الله الراغب عن أولياء الله، وما لله خُزانةٌ هي أحصن سرّاً عندهم أكبر من جهلهم به، وإنّما ألقي قوله إليهم لتكون لله الحجة عليهم».

قال المفضّل: يا سيّدي، فكيف بدو ظهور المهديّ (إليه التسليم)؟ قال:

ص: 340


1- ([1]) سورة محمّد صلی الله علیه وآله: 18.
2- ([2]) سورة القمر: 1.
3- ([3]) سورة الأحزاب: 63.
4- ([4]) سورة الشورى: 18.

«يا مفضّل، يظهر في سنةٍ يكشف لستر أمره، ويعلو ذكره، ويُنادى باسمه وكنيته ونسبه، ويكثر ذلك في أفواه المحقّين والمبطلين والموافقين والمخالفين، لتلزمهم الحجّة لمعرفتهم به على أنّنا نصصنا ودللنا عليه ونسبناه وسمّيناهوكنّيناه، سميّ جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وكنيته، لئلّا يقول الناس: ما عرفنا اسمه ولا كناه ولا نسبه! والله لَيحقن الإفصاح به وباسمه وكنيته على ألسنتهم، حتّى يكون كتسمية بعضهم لبعض، كلّ ذلك للزوم الحجّة عليهم، ثمّ يُظهر الله كما وعد جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله في قوله (عزّ من قائل): «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ((1))».

قال المفضّل: قلت: وما تأويل قوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»؟ قال: «هو قول الله (تعالى): «قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ» ((2))، كما قال الله؟عز؟: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ» ((3)).. «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» ((4))».

قال المفضّل: فقلت: يا سيّدي، والدين الّذي أتى به آدمُ ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد هو الإسلام؟ قال: «نعم يا مفضّل، هو الإسلام لا غير».

ص: 341


1- ([1]) سورة التوبة: 33.
2- ([2]) سورة البقرة: 193.
3- ([3]) سورة آل عمران: 19.
4- ([4]) سورة آل عمران: 85.

قلت: فنجده في كتاب الله؟ قال: «نعم، مِن أوّله إلى آخره، وهذه الآية منه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»، وقوله عزوجل: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» ((1))، وفي قصّة إبراهيم وإسماعيل: «وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةًمُسْلِمَةً لَكَ» ((2))، وقوله في قصّة فرعون: «حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ((3))، وفي قصّة سليمان وبلقيس قالت: «وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ((4))، وقول عيسى للحواريّين: «مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ((5))، وقوله (تعالى): «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ((6))، وقوله في قصّة لوط: «فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ((7))، ولوط قبل إبراهيم، وقوله: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا» وإلى

ص: 342


1- ([5]) سورة الحج: 78.
2- ([1]) سورة البقرة: 128.
3- ([2]) سورة يونس: 90.
4- ([3]) سورة النمل: 44.
5- ([4]) سورة آل عمران: 52.
6- ([5]) سورة آل عمران: 83.
7- ([6]) سورة الذاريات: 36.

قوله: «لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ((1))، وقوله: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ» إلى قوله: «إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ((2))».

قال المفضّل: يا مولاي، كم الملل؟ قال: «يا مفضّل، الملل أربعة، وهي الشرائع». قال المفضّل: يا سيّدي، المجوس لمَ سُمّوا مجوساً؟ قال: «لأنهم تمجّسوا في السريانية، وادّعوا على آدموابنه شيث هبة الله أنّه أطلق لهم نكاح الأُمّهات والأخوات والعمّات والخالات والبنات والمحرّمات من النساء، وأنّه أمرهم أن يصلّوا للشمس حيث وقفت من السماء، ولم يجعلوا لصلاتهم وقتاً، و إنّما هو افتراءٌ على الله الكذب وعلى آدم وشيث». قال المفضّل: يا سيّدي، فلمَ سُمّوا قوم موسى اليهود؟ قال: «لقول الله عنهم: «هُدْنَا إِلَيْكَ» ((3))، أي: أهديتنا إليك». قال: والنصارى لمَ سُمّوا نصارى؟ قال: «لقول عيسى: يا بني إسرائيل، «مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ» ((4))، فتسمّوا نصارى لنصرة دين الله». قال المفضّل: ولمَ سمّوا الصابئون؟ قال: «لأنهم صبوا إلى تعطيل الأنبياء والرسل والملل والشرائع، وقالوا: كلّ ما جاء به هؤلاء باطل! وجحدوا توحيد الله، ونبوّةَ الأنبياء والرسل والأوصياء، فهم بلا شريعةٍ ولا كتابٍ ولا رسول،

ص: 343


1- ([7]) سورة البقرة: 136.
2- ([8]) سورة البقرة: 133.
3- ([1]) سورة الأعراف: 156.
4- ([2]) سورة آل عمران: 52.

وهم معطّلة العالَم».

قال المفضّل: يا سيّدي، ففي أيّ بقعةٍ يظهر المهدي؟ قال الصادق علیه السلام: «لا تراه عينٌ بوقت ظهوره، ولا رأته كلّ عين، فمَن قال لكم غير هذا فكذّبوه!».

قال المفضّل: يا سيّدي، وفي أيّ وقتٍ ولادته؟ قال: «بلى، وبل والله لا يُرى من ساعة ولادته إلى ساعة وفاة أبيه، سنتين وسبعة أشهر، أوّلها وقت الفجر من ليلة يوم الجمعة لثمان ليالٍ خلت من شهر شعبان، لثمان ليالٍ خلت من شهر ربيع الأول، من سنة ستّين ومئتين، ثمّ يُرى بالمدينة الّتي تُبنى بشاطئالدجلة، بناها المتكبّر الجبّار المسمّى باسم جعفر العيار، المتلقّب المتوكّل، وهو المتأكّل (لعنه الله)، يدعو [يدعى] مدينة سامرّا ستّة سنين، يرى شخصه المؤمن المحقّ ولا يرى شخصه المشكّ [الشاكّ] المرتاب، وينفذ فيها أمره ونهيه، ويغيب عنها، ويظهر بالقصر بصاريا بجانب حرم مدينة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، فيلقاه هناك المؤمن بالقصر، وبعده لا تراه كلّ عين».

قال المفضّل: يا سيّدي، فمَن يخاطبه؟ ولمن يخاطب؟ قال الصادق محمّد بن نصير: «في يوم غيبته بصاريا، ثمّ يظهر بمكّة، والله يا مفضّل كأنّي أنظر إليه وهو داخلٌ مكّة، وعليه بُردة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، وعلى رأسه عمامة صفراء، وفي رجله نعل رسول الله المخصوفة، وفي يده هراوة يسوق بين يديه عنوزاً عجافاً، حتّى يقبل بها نحو البيت، وليس أحد يوقّته، ويظهر وهو شابّ غرنوق».

فقال له المفضّل: يا سيّدي، يعود شابّاً ويظهر في شيعته؟! قال: «سبحان الله، وهل يغرب عليك؟ يظهر كيف شاء وبأيّ صورةٍ إذا جاءه الأمر من الله

ص: 344

(جلّ ذكره)».

قال المفضّل: يا سيّدي، فيمن يظهر وكيف يظهر؟ قال: «يا مفضّل، يظهر وحده، ويأتي البيت وحده، فإذا نامت العيون ووسق الليل نزل جبرائيل وميكائيل والملائكة صفوفاً، فيقول له جبريل: يا سيّدي، قولك مقبول، وأمرك جائز. ويمسح يده على وجهه ويقول: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَاالْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» ((1)). ثمّ يقف بين الركن والمقام، ويصرخ صرخةً ويقول: معاشرَ نقبائي وأهلَ خاصّتي ومَن ذخرهم الله لظهوري على وجه الأرض، ائتوني طائعين. فتورد صيحته عليهم وهم في محاريبهم وعلى فُرشهم، وهم في شرق الأرض وغربها، فيسمعوا صيحةً واحدةً في أُذن رجلٍ واحد، فيجيؤوا نحوه، ولا يمضي لهم إلّا كلمح البصر حتّى يكونوا بين يديه بين الركن والمقام، فيأمر الله النورَ أن يصير عموداً من الأرض إلى السماء، فيستضي ء به كلَّ مؤمنٍ على وجه الأرض، ويدخل عليه نوره في بيته فتفرح نفوسُ المؤمنين بذلك النور، وهم لا يعلمون بظهور قائمنا القائم علیه السلام، ثمّ تصبح نقباؤه بين يديه، وهم ثلاثمئة وثلاثة عشر نفراً بعدد أصحاب رسول الله صلی الله علیه وآله بيوم بدر».

قال المفضّل: قلت: يا سيّدي، والاثنان وسبعون رجلاً أصحاب أبي عبد الله الحسين بن علي علیه السلام يظهرون معهم؟ قال: «يظهر معهم الحسين بن علي باثني عشر ألف صدّيقٍ من شيعته، وعليه عمامةٌ سوداء».

ص: 345


1- ([1]) سورة الزمر: 74.

فقال المفضّل: يا سيّدي، فنقباء القائم (إليه التسليم) بايعوه قبل قيامه؟ قال: «يا مفضّل، كلّ بيعةٍ قبل ظهور القائم فهي كفرٌ ونفاقٌ وخديعة، لعن الله المبايع لها، بل -- يا مفضّل -- يسند القائم ظهره إلى كعبة البيت الحرام، ويمدّ يده المباركة فتُرى بيضاء من غير سوء، فيقول: هذه يد الله، وعن الله، وبأمر الله. ثمّ يتلو هذه الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُاللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا» ((1)). وأوّل مَن يقبّل يده جبريل علیه السلام، ثمّ يبايعه وتبايعه الملائكة ونقباء الحقّ، ثمّ النجباء، ويصبح الناس بمكّة فيقولون: مَن هذا الّذي بجانب الكعبة؟ وما هذا الخلق الّذي معه؟ وما هذه الآية الّتي رأيناها بهذه الليلة ولم نرَ مثلها؟! فيقول بعضهم لبعض: انظروا هل تعرفون أحداً ممّن معه؟ فيقولون: لا نعرف منهم إلّا أربعةً من أهل مكّة وأربعةً من أهل المدينة، وهم فلانٌ وفلان، يعدّونهم بأسمائهم، ويكون ذلك اليوم أوّل طلوع الشمس بيضاء نقيّة، فإذا طلعَت وابيضّت صاح صائحٌ بالخلائق من عين الشمس بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ يسمعه مَن في السماوات والأرض: يا معاشر الخلائق، هذا مهديُّ آل محمّد -- ويسمّيه باسم جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، ويكنّيه بكنيته، وينسبه إلى أبيه الحسن الحادي عشر -- فاتّبعوه تهتدوا، ولا تخالفوه فتضلّوا. فأوّل مَن يلبّي نداءه الملائكة، ثمّ الجنّ، ثمّ النقباء، ويقولون: سمعنا وأطعنا. ولم يبقَ ذو أُذُنٍ إلّا سمع ذلك النداء، وتُقبِل الخلقُ من البدو والحضَر والبرّ والبحر، يحدّث بعضُهم بعضاً، ويفهّم بعضهم بعضاً ما سمعوه في نهارهم بذلك

ص: 346


1- ([1]) سورة الفتح: 10.

اليوم، فإذا زالت الشمس للغروب صرخ صارخٌ من مغاربها: يا معاشر الخلائق، لقد ظهر ربُّكم من الوادي اليابس من أرض فلسطين -- وهو عثمان بن عنبسة الأمويّ مِن وُلد يزيد بن معاوية (لعنهم الله) --، فاتّبعوه تهتدوا، ولا تخالفوه فتضلّوا. فتردّ عليه الجنّ والنقباء قوله ويكذّبونه، ويقولون: سمعنا وعصينا. ولا يبقى ذو شكٍّ ولا مرتابٌ ولا منافق ولاكافر الأصل في النداء الثاني، ويُسنِد القائم ظهره إلى الكعبة ويقول: معاشرَ الخلائق، ألا مَن أراد أن ينظر إلى إبراهيم وإسماعيل فها أنا إبراهيم، ومَن أراد أن ينظر إلى موسى ويوشع فها أنا موسى، ومَن أراد أن ينظر إلى عيسى وشمعون فها أنا عيسى، ومن أراد أن ينظر إلى محمّد صلی الله علیه وآله وأمير المؤمنين آليا فها أنا محمّد، ومَن أراد أن ينظر إلى الأئمّة مِن وُلد الحسين فها أنا هم واحداً بعد واحد، فها أنا هم، فلْينظر إليّ ويسألني، فإنّي نبيٌّ بما نُبّؤوا به وما لم يُنبَّؤوا، ألا مَن كان يقرأ الصحف والكتب فلْيسمع إليّ. ثمّ يبتدء بالصحف الّتي أنزلها الله على آدم وشيث فيقرأها، فتقول أُمّة آدم: هذه والله الصحف حقّاً، ولقد قرأ ما لم نكن نعلمه منها وما أُخفيَ عنّا، وما كان أُسقِط وبُدّل وحُرّف. ويقرأ صحف نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور، فتقول أُمّتهم: هذه والله كما نزلَت، والتوراة الجامعة والزبور التامّ والإنجيل الكامل، وإنّها أضعاف ما قرأنا. ثمّ يتلو القرآن، فيقول المسلمون: هذا والله القرآن حقّاً الّذي أنزله الله على محمّد، فما أُسقِط ولا بُدّل ولا حُرّف، ولعن الله مَن أسقطه وبدّله وحرّفه. ثمّ تظهر الدابّة بين الركن والمقام، فتُكتَب في وجه المؤمن: مؤمن، وفي وجه الكافر: كافر، ثمّ يُقبِل على القائم رجلٌ وجهه إلى قفاه وقفاه إلى صدره، ويقف بين يديه فيقول: أنا وأخي بشير أمرني ملَكٌ من الملائكة أن ألحق بك وأُبشّرك بهلاك السفيانيّ بالبيداء. فيقول له القائم: بيّن قصّتك وقصّةَ أخيك نذير.

ص: 347

فيقول الرجل: كنتُ وأخي نذير في جيش السفيانيّ، فخرّبنا الدنيا من دمشق إلى الزوراء وتركناهم حمماً، وخرّبنا الكوفة، وخرّبنا المدينة وروثت أبغالُنا في مسجد رسول الله،وخرجنا منها نريد مكّة، وعددنا ثلاثمئة ألف رجلٍ نريد مكّة والمدينة وخراب البيت العتيق وقتل أهله، فلمّا صرنا بالبيداء عرسنا بها، فصاح صائح: يا بيداء بيدي بالقوم الكافرين! فانفجرَت الأرضُ وابتلعت ذلك الجيش، فوَاللهِ ما بقيَ على الأرض عِقال ناقة ولا سواه غيري وأخي نذير، فإذا بملَكٍ قد ضرب وجوهنا إلى وراء كما ترانا، وقال لأخي: ويلك يا نذير، أنذر الملعونَ بدمشق بظهور مهديّ آل محمّد، وإنّ الله قد أهلك جيشه بالبيداء، وقال لي: يا بشير، الحقْ بالمهديّ بمكّة فبشّره بهلاك السفيانيّ وتُبْ على يده، فإنّه يقبل توبتك. فيمرّ القائم يده على وجهه فيردّه سويّاً كما كان، ويبايعه ويسير معه».

قال المفضّل: يا سيّدي، وتظهر الملائكة والجنّ للناس؟ قال: «إي والله يا مفضّل، ويخالطونهم كما يكون الرجل مع جماعته وأهله».

قلت: يا سيّدي، ويسيرون معه؟ قال: «إي والله، ولَينزلنّ أرض الهجرة ما بين الكوفة والنجف، وعدد أصحابه ستّة وأربعون ألفاً من الملائكة وستّة آلاف من الجنّ، بهم ينصره الله ويفتح على يده».

قال المفضّل: يا سيّدي، فما يصنع بأهل مكّة؟ قال: «يدعوهم بالحكم والموعظة الحسنة فيطيعونه، ويستخلف فيهم من أهل بيته، ويخرج يريد المدينة». قال المفضّل: يا سيّدي، فما يصنع بالبيت؟ قال: «ينقضه، ولا يدَع منه إلّا القواعد الّتي هي أوّل بيتٍ وُضع للناس ببكّة في عهد آدم، والّذي رفعه إبراهيم

ص: 348

وإسماعيل، وإنّ الّذي بنا بعدهم لا بناه نبيٌّ ولا وصي، ثمّ يبنيه كما يشاء، ويغيّر آثار الظلَمة بمكّة والمدينة والعراقوسائر الأقاليم، ولَيهدمنّ مسجد الكوفة ويبنيه على بنائه الأوّل، وليهدمنّ القصر العتيق، ملعونٌ مَن بناه».

قال المفضّل: يا سيّدي، يُقيم بمكّة؟ قال: «لا، بل يستخلف فيها رجلاً من أهله، فإذا سار منها وثبوا عليه وقتلوه، فيرجع إليهم فيأتوا مهطعين مقنّعي رؤوسهم، يبكون ويتضرّعون ويقولون: يا مهديّ آل محمّدٍ التوبة. فيعظهم وينذرهم ويحذّرهم، ثم يستخلف فيهم خليفةً ويسير عنهم، فيثبون عليه بعده ويقتلونه، فيرجع إليهم فيخرجون إليه مجززين النواصي، ويضجّون ويبكون ويقولون: يا مهديّ آل محمّد، غلبَت علينا شِقوتنا، فاقبل منّا توبتنا يا أهل بيت الرحمة. فيعظهم ويحذّرهم، ويستخلف فيهم خليفة، ويسير فيثبون عليه بعده ويقتلونه، فيرد إليهم أنصاره من الجنّ والنقباء، فيقول: ارجعوا إليهم، لا تبقوا منهم أحداً إلّا مَن وسم وجهه بالإيمان، فلو لا رحمة الله وسعت كلَّ شي ء -- وأنا تلك الرحمة -- لَرجعتُ إليهم معكم، فقد قطعوا الإعذار والإنذار بين الله وبيني وبينهم. فيرجعون إليهم، فوَالله لا يُسلم من المئة منهم واحد، واللهِ ولا من الألف واحد».

قال المفضّل: قلت: يا سيّدي، فأين يكون دار المهديّ ومجمع المؤمنين؟ قال: «يكون مُلكه بالكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله مقسم غنائم المسلمين مسجد السهلة، وموضع خلوته الذكوات البيض من الغريَّين».

قال المفضّل: وتكون المؤمنون بالكوفة؟ قال: «إي والله يا مفضّل، لا يبقى مؤمنٌ إلّا كان فيها وجرى إليها، ولَيبلغنّ مربط مجال فرسٍ ألف درهم والله، ومربط

ص: 349

شاةٍ ألف درهم والله، ولَيودّنّ كثيرٌ من الناس أنّهميشترون شبراً من أرض السبيع بواحد ذهب، والسبيع: خطّة من خطط همدان، ولَتصيرنّ الكوفة أربعة وخمسين ميلاً، ولَتخافنّ قصورها كربلا، ولتصيرنّ كربلا معقلاً ومقاماً تعكف فيه الملائكة والمنون، ولَيكوننّ شأنٌ عظيم، ويكون فيها البركات ما لو وقف فيها مؤمنٌ ودعا ربّه بدعوةٍ واحدةٍ لَأعطاه مثل مُلك الدنيا ألف مرّة». ثمّ تنفّس أبو عبد الله وقال: «يا مفضّل، إنّ بقاع الأرض تفاخرَت، ففخرت كعبةُ البيت الحرام على البقعة بكربلاء، فأوحى الله: اسكتي يا كعبة البيت الحرام، فلا تفخري عليها؛ فإنّها البقعة المباركة الّتي نُوديَ موسى منها من الشجرة، وإنّها الربوة الّتي أوت إليها مريم والمسيح، وإنّها الدالية الّتي غُسّل فيها رأس الحسين، وفيها غسلت مريم لعيسى واغتسلت من ولادتها، وإنّها آخر بقعةٍ يخرج الرسول منها في وقت غَيبته، ولَيكوننّ لشيعتنا فيها حياةٌ لظهور قائمنا».

قال المفضّل: يا سيّدي، إلى أين يسير المهدي؟ قال: «إلى مدينة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، فإذا وردها كان له فيها مقامٌ عجيب، يظهر سرور المؤمنين وحزن الكافرين». قال المفضّل: يا سيّدي، ما هو ذلك؟ قال: «يردُ قبر جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ويقول: يا معاشر الخلائق، هذا قبر جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله فيقولون: نعم يا مهديّ آل محمّد. فيقول: مَن معه في القبر؟ فيقولون: ضجيعاه وصاحباه أبو بكرٍ وعمر. فيقول -- وهو أعلم بهم مِن الخلق جميعاً -- : ومَن أبو بكرٍ وعمر؟ وكيف دُفنا من دون كلّ الخلق مع جدّي رسول الله؟ فعسى المدفون غيرهما! فيقولون: يا مهديّ آل محمّد، ما هاهنا غيرهما، وإنّما دُفنا لأنّهما خليفتاه وأبوا زوجتيه. فيقول للخلق بعد ثلاثة أيّام: أخرجوهما. فيخرجاغضَّين طريَّين، لم تتغير خلقتهما، ولم تشحب

ص: 350

ألوانهما، فيقول: هل فيكم رجلٌ يعرفهما؟ فيقولون: نعرفهما بالصفة ونشبّههم، لأن ليس هنا غيرهم. فيقول: هل فيكم أحدٌ يقول غير هذا ويشكّ فيهما؟ فيقولون: لا. فيؤخّر إخراجهما ثلاثة أيّام، ثم ينتشر الخبر في الناس، فيفتتن مَن والاهما بذلك الحديث، ويجتمع الناس، ويحضر المهديّ ويكشف الجدار عن القبرين، ويقول للنقباء: ابحثوا عنهما وانبشوهما. فيبحثون بأيديهم إلى أن يصلوا إليهما، فيُخرجاهما»، قال: «كهيئتهما في الدنيا، فتكشف عنهما أكفانهما، ويأمر برفعهما على دوحةٍ يابسةٍ ناخرة، ويُصلبان عليها، فتحيى الشجرة وتنبع وتورِق ويطول فرعها، فيقول المرتابون من أهل شيعتهما: هذا والله الشرف العظيم الباذخ حقّاً، ولقد فزنا بمحبّتهما، ويخسر مَن أخفى في نفسه مقياس حَبّة من محبّتهما. فيحضرونهما ويرونهما، ويفتتنون بهما، وينادي منادي المهدي: كلّ مَن أحبّ صاحبَي رسول الله صلی الله علیه وآله وضجيعيه فلْينفرد. فيجتاز الخلق حزبين: مُوالٍ لهما، ومتبرّئٌ منهما، فيعرض المهديّ عليهم البراءة منهما، فيقولون: يا مهديّ آل محمّد، نحن لا نتبرّأ منهما ولم نعلم أنّ لهما عند الله وعندك هذه المنزلة، وهذا الّذي قد بدا لنا من فضلهما نتبرّأ الساعة منهما، وقد رأينا منهما ما رأينا في هذا الوقت من طراوتهما وغضاضتهما وحياة هذه الشجرة بهما؟ بلى والله نتبرّأ منك لنبشك لهما وصلبك إيّاهما. فيأمر ريحاً سوداء فتهبّ عليهم، فتجعلهم كأعجازٍ نخل خاوية، ثمّ يأمر بإنزالهما فينزلان إليه، فيحييان، ويأمر الخلائق بالاجتماع، ثمّ يقصّ عليهم قصص أفعالهما في كل كورٍ ودور، حتّى يقصّعليهم قتل هابيل بن آدم، وجمع النار لإبراهيم، وطرح يوسف في الجُبّ، وحبس يونس ببطن الحوت، وقتل يحيى، وصلب عيسى، وحرق جرجيس ودانيال، وضرب سلمان الفارسي، وإشعال النار على باب أمير

ص: 351

المؤمنين، وسُمّ الحسن، وضرب الصدّيقة فاطمة بسوط قُنفذ، ورفسه في بطنها وإسقاطها مُحسناً، وقتل الحسين، وذبح أطفاله وبني عمّه وأنصاره، وسبي ذراري رسول الله صلی الله علیه وآله ، وإهراق دماء آل الرسول، ودم كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، ونكاح كلّ فرجٍ حرام، وأكل كلّ سُحتٍ وفاحشة وإثم وظلم وجور من عهد آدم إلى وقت قائمنا، كلّه يعدّه عليهم ويلزمهم إيّاه، فيعترفان به، ثمّ يأمر بهما فيقتصّ منهما في ذلك الوقت بمظالم مَن حضر، ثمّ يصلبهما على الشجرة، ويأمر ناراً تخرج من الأرض تحرقهما، ثمّ يأمر ريحاً تنسفهما في اليمّ نسفاً».

قال المفضّل: يا سيّدي، وذلك هو آخر عذابهم؟! قال: «هيهات يا مفضّل، واللهِ لَيردان، ويحضر السيّد محمّد الأكبر رسول الله، والصدّيق الأعظم أمير المؤمنين، وفاطمة والحسن والحسين، والأئمة إمامٌ بعد إمام، وكلّ مَن محض الإيمان محضاً ومحض الكفر محضاً، وليقتصنّ منهم بجميع المظالم، حتّى إنّهما لَيقتلان كلّ يومٍ ألف قتلة، ويَرِدان إلى ما شاء الله من عذابهما، ثمّ يسير المهديّ إلى الكوفة، وينزل ما بينها وبين النجف، وعدد أصحابه في ذلك اليوم ستّة وأربعون ألفاً من الملائكة وستّة آلاف من الجنّ، والنقباء ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً».قال المفضّل: يا سيّدي، كيف تكون دار الفاسقين الزوراء ((1)) في ذلك

ص: 352


1- ([1]) قال المؤلّف: فسّر غيرُ واحدٍ الزوراءَ ببغداد، ولكن ورد في روضة (الكافي) عن معاوية بن وهب قال: تمثّل أبو عبد الله؟ع؟ ببيت شعر لابن أبي عقب: «ويُنحَر بالزوراء منهم لدى الضحى ثمانون ألفاً مثل ما تُنحر البدن» [و روى غيره: البزل]. ثمّ قال لي: «تعرف الزوراء؟»، قال: قلت: جُعلت فداك، يقولون: إنّها بغداد. قال: «لا»، ثمّ قال علیه السلام : «دخلتَ الريّ؟»، قلت: نعم، قال: «أتيت سوق الدوابّ؟»، قلت: نعم، قال: «رأيتَ الجبل الأسود عن يمين الطريق؟ تلك الزوراء، يُقتَل فيها ثمانون ألفاً، منهم ثمانون رجلاً من وُلد فلان، كلّهم يصلح للخلافة»، قلت: ومَن يقتلهم جُعلت فداك؟ قال: «يقتلهم أولاد العجم» (الكافي: 8 / 177 ح 198). وفي (غيبة) النعماني في حديث كعب: ثمّ يظهر بعد غَيبته مع طلوع النجم الأحمر وخراب الزوراء، وهي الري، وخسف المزورة، وهي بغداد، وخروج السفياني، وحرب وُلد العبّاس مع فتيان أرمينية وآذربيجان، تلك حربٌ يُقتَل فيها أُلوفٌ وأُلوف، كلٌّ يقبض على سيفٍ محلّى، تخفق عليه راياتٌ سود، تلك حربٌ يشوبها الموت الأحمر والطاعون الأغبر (الغيبة للنعماني: 147 ح 4). فلا يبعد -- بناءاً على ما ورد في مضمون هذين الحديث -- أن يكون المراد بالزواء الري (من المتن).

اليوم والوقت؟ قال: «في لعنة الله وسخطه وبطشه تحرقهم الفتن، وتتركهم حِمماً، الويل لها ولمن بها كلّ الويل من الرايات الصفر ومن رايات الغرب ومن كلب الجزيرة ومن الراية التي تسير إليها من كلّ قريبٍ وبعيد، والله لَينزلنّ فيها من صنوف العذاب ما لا عين رأت ولا أُذُنٌ سمعت بمثله، ولا يكون طوفان أهلها إلّا السيف، الويل عند ذلك كلّ الويل لمَن اتّخذها مسكناً، فإنّ المقيم بها لشقائه، والخارج منها يرحمه الله. واللهِ يا مفضّل لَيتنافس أمرها في الدنيا -- يعني الكوفة -- حتّى يُقال: إنّها هي الدنيا، وإنّ دورها وقصورها هي الجنّة،وإنّ نساءها هي الحور العين، وإنّ ولدانها الولدان، ولَيظنّ الناس أنّ الله لم يقسّم رزق العباد إلّا بها، ولَتظهر بغداد الزور والافتراء على الله ورسوله، والحكم بغير كتاب وشهادة الزور وشرب الخمر

ص: 353

وركوب الفسق والفجور وأكل السحت وسفك الدماء ما لم يكن في الدنيا إلّا دونه، ثم يخربها الله بتلك الفتن والرايات، حتّى لَيمرّ عليها المارّ فيقول: هاهنا كانت الزوراء».

قال المفضّل: ثمّ ماذا يا سيّدي؟ قال: «ثمّ يخرج الحسني الفتى الصبيح من نحو الديلم، يصيح بصوتٍ فصيح: يا آل أحمد، أجيبوا الملهوف والمنادي من حول الضريح. فتجيبه كنوز الله بالطاقات، كنوزاً وأيّ كنوز، ليست من فضّةٍ ولا من ذهب، بل هي رجالٌ كزبر الحديد، كأنّي أنظر إليهم على البراذين الشهب في أيديهم الحِراب، يتعاوون شوقاً للحرب كما تتعاوى الذئاب، أميرهم رجلٌ من تميم يقال له: شعيب بن صالح، فيقبل الحسنيّ إليهم، وجهه كدارة البدر يريع الناس جمالاً، أنيقاً، فيعفي على أثر الظلمة، فيأخذ بسيفه الكبير والصغير والعظيم والرضيع، ثمّ يسير بتلك الرايات كلّها حتّى يرد الكوفة، وقد صفا أكثر الأرض، فيجعلها معقلاً، ويتّصل به وبأصحابه خبر المهدي علیه السلام، فيقولون: يا ابن رسول الله، مَن هذا الّذي نزل بساحتنا؟ فيقول: اخرجوا بنا إليه حتّى ننظره مَن هو وما يريد. واللهِ ويعلم أنّه المهدي، وأنّه يعرفه، وأنّه لم يرد بذلك الأمر إلّا له، فيخرج الحسني في أمرٍ عظيم، بين يديه أربعة آلاف رجل، وفي أعناقهم المصاحف وعلى ظهورهم المسوح الشعر، يقال لهم: الزيديّة، فيقبل الحسني حتّى ينزل بالقرب من المهدي، ثمّ يقول الرجل لأصحابه: اسألوا عن هذاالرجل مَن هو وما يريد؟ فيخرج بعض أصحاب الحسني إلى عسكر المهدي، ويقول: يا أيّها العسكر الجميل، مَن أنتم؟ حيّاكم الله، ومَن صاحبكم هذا؟ وما تريدون؟ فيقول له أصحاب المهدي: هذا وليّ الله مهديّ آل محمّد، ونحن أنصاره من الملائكة والإنس والجنّ. فيقول أصحاب الحسني: يا سيّدنا،

ص: 354

ما تسمع ما يقول هؤلاء في صاحبهم؟ فيقول الحسني: خلّوا بيني وبين القوم، فأنا هل أتيت على هذا حتّى أنظر وينظروا. فيخرج الحسني من عسكره، ويخرج المهدي علیه السلام، ويقفان بين العسكرين، فيقول له الحسني: إن كنتَ مهديّ آل محمّدٍ فأين هراوة جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله وخاتمه وبردته ودرعه الفاضل وعمامته السحاب وفرسه البرقوع وناقته العضباء وبغلته الدلدل وحماره اليعفور ونجيبه البراق وتاجه السني والمصحف الّذي جمعه أمير المؤمنين علیه السلام بغير تبديلٍ ولا تغيير؟». قال المفضّل: يا سيّدي، فهذا كلّه في السفط؟ قال: «يا مفضّل، وتركات جميع النبيّين، حتّى عصاة آدم، وآلة نوح، وتركة هود وصالح، ومجمع إبراهيم، وصاع يوسف، ومكائيل شعيب وميراثه، وعصا موسى، وتابوت الّذي فيه بقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، ودرع داوود وعصاته، وخاتم سليمان وتاجه، وإنجيل عيسى، وميراث النبيّين والمرسلين، في ذلك السفط، فيقول الحسني: هذا بعض ما قد رأيت، وأنا أسألك أن تغرس هراوة جدّك رسول الله صلی الله علیه وآله في هذا الحجر الصفا، وتسأل الله أن ينبتها فيها. وهو لا يريد بذلك إلّا أن يُري أصحابه فضل المهدي (إليه التسليم) حتّى يطيعوهويبايعوه، فيأخذ المهدي الهراوة بيده ويغرسها في الحجر، فتنبت فيه، وتعلو وتفرغ [تفرع] وتورق حتّى تظلّ عسكر المهدي والحسني، فيقول الحسني: الله أكبر، مُدّ يدَك يا ابن رسول الله حتّى أُبايعك. فيمدّ يده فيبايعه، ويبايعه سائر عسكر الحسني، إلّا الأربعة آلاف أصحاب المصاحف والمسوح الشعر المعروفين بالزيديّة، فيقولون: ما هذا إلّا سحرٌ عظيم! فتختلط العسكران، ويُقبِل المهدي على الطائفة المنحرفة فيعظهم ويدعيهم [يدعوهم] ثلاثة أيّام، فلم يزدادوا إلّا طغياناً وكفراً، فيأمر بقتلهم، كأنّي أنظر إليهم وقد ذُبحوا على مصاحفهم وتمرّغوا

ص: 355

بدمائهم، فيُقبِل بعض أصحاب المهديّ لأخذ تلك المصاحف، فيقول لهم المهدي: دعوها، تكن عليهم حسرةً كما بدّلوها وغيّروها ولم يعملوا بما فيها».

قال المفضّل: ثمّ ماذا يا سيّدي؟ قال: «ثمّ تثور رجاله إلى سرايا السفياني بدمشق، فيأخذونه ويذبحونه على الصخرة، ثمّ يظهر الحسين علیه السلام في اثني عشر ألف صدّيق واثنين وسبعين رجاله بكربلاء، فيا لك عندها من كَرّةٍ زهراء ورجعة بيضاء، ثمّ يخرج الصدّيق الأكبر أمير المؤمنين (إليه التسليم)، وتُنصَب له القبّة على النجف وتقام أركانها، ركنٌ بهجر وركن بصنعاء اليمن وركن بطَيبة، وهي مدينة النبي صلی الله علیه وآله ، فكأنّي أنظرُ إليها ومصابيحها تشرق بالسماء والأرض أضوى من الشمس والقمر، فعندها تُبلى السرائر، و«تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ» ((1)) -- إلى آخر الآية، ثمّ يظهر الصدّيقالأكبر الأجلّ السيّد محمّد صلی الله علیه وآله في أنصاره إليه ومَن آمن به وصدّق واستُشهد معه، ويحضر مكذّبوه والشاكّون فيه أنّه ساحرٌ وكاهنٌ ومجنون ومعلّم وشاعر وناعق عن هذا ومَن حاربه وقاتله؛ حتّى يقتصّ منهم بالحقّ ويجاوزوا [يجازوا] بأفعالهم من وقت رسول الله صلی الله علیه وآله إلى ظهور المهدي مع إمامٍ إمامٍ ووقتٍ وقت، ويحقّ تأويل هذه الآية: «وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ» ((2))»، قال: «ضلالٌ ووبال، لعنهما الله، فينبشا ويحييا».

قال المفضّل: قلت: يا سيّدي، فرسول الله أين يكون؟ وأمير المؤمنين؟ قال: «إنّ رسول الله وأمير المؤمنين لابدّ أن يطئا الأرض، واللهِ حتّى يورثاها، إي والله

ص: 356


1- ([1]) سورة الحجّ: 2.
2- ([1]) سورة القصص: 6.

ما في الظلمات ولا في قعر البحار حتّى لا يبقى موضع قدمٍ إلّا وطئاه وأقاما فيه الدين الواصب، واللهِ فكأنّي أنظر إلينا -- يا مفضّل -- معاشر الأئمّة ونحن بين يدَي جدّنا رسول الله صلی الله علیه وآله نشكوا إليه ما نزل بنا من الأُمّة بعده، وما نالنا من التكذيب والردّ علينا وسبّنا ولعننا وتخويفنا بالقتل، وقصد طواغيتهم الولاة لأُمورهم إيّانا من دون الأُمّة، وترحيلنا عن حرمه إلى ديار ملكهم، وقتلهم إيّانا بالحبس وبالسمّ وبالكيد العظيم، فيبكي رسول الله صلی الله علیه وآله ويقول: يا بَنيّ، ما نزل بكم إلّا ما نزل بجدّكم قبلكم، ولو علمَت طواغيتهم وولاتهم أنّ الحق والهدى والإيمان والوصيّة والإمامة في غيركم لَطلبوه. ثمّ تبتدئ فاطمة علیها السلام بشكوى ما نالهامن أبي بكرٍ وعمر من أخذ فدك منها، ومشيها إليهم في مجمع الأنصار والمهاجرين، وخطابها إلى أبي بكر في أمر فدك وما ردّ عليها من قوله: إنّ الأنبياء لا وارث لهم، واحتجاجها عليه بقول الله عزوجل بقصّة زكريا ويحيى: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» ((1))، وقوله بقصّة داوود وسليمان: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ» ((2))، وقول عمر لها: هاتي صحيفتكِ الّتي ذكرتِ أنّ أباكِ كتبها لك على فدك. وإخراجها الصحيفة، وأخذ عمر إيّاها منها ونشره لها على رؤوس الأشهاد من قريش والمهاجرين والأنصار وسائر العرب، وتفله فيها وعركه لها وتمزيقه إيّاها، وبكاءها ورجوعها إلى قبر أبيها صلی الله علیه وآله باكيةً تمشي على رمضاء وقد أقلقتها، واستغاثتها بأبيها وتمثّلها بقول رقيّة بنت صفيّة:

ص: 357


1- ([1]) سورة مريم: 5 و6.
2- ([2]) سورة النمل: 16.

قد كان بعدك أنباء وهينمة***لو كنتَ شاهدها لم تكثر الخطبُ

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها***واختلّ أهلك واختلّت بها الريبُ

أبدى رجالٌ لنا ما في صدورهم***لمّا نأيتَ وحالت دونك الحجبُ

لكلّ قومٍ لهم قربى ومنزلةٌ***عند الإله عن الأدنين مقتربُ

يا ليت بعدك كان الموتُ حلّ بنا***أملوا أُناس ففازوا بالّذي طلبوا

يا ليت بعدك كان الموتُ حلّ بنا***أملوا أُناس ففازوا بالّذي طلبوا

وتقصّ عليه قصّة أبي بكر، وإنفاذ خالد بن الوليد وقنفذ وعمر جميعاً لإخراج أمير المؤمنين علیه السلام من بيته إلى البيعة في سقيفة بني ساعدة، واشتغال أمير المؤمنين، وضمّ أزواج رسول الله وتعزيتهن، وجمع القرآن وتأليفه، وإنجاز عداته، وهي ثمانون ألف درهم باع فيها تالده وطارفه وقضاها عنه، وقول عمر له: اخرج يا عليّ إلى ما أجمع عليه المسلمون من البيعة لأمر أبي بكر، فما لك أن تخرج عمّا اجتمعنا عليه، فإن لم تفعل قتلناك! وقول فضّة جارية فاطمة علیه السلام: إنّ أمير المؤمنين عنكم مشغول، والحقّ له لو أنصفتموه واتّقيتم الله ورسوله. وسبّ عمر لها، وجمع الحطب الجزل على النار لإحراق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب ورقيّة وأُمّ كلثوم وفضّة، وإضرامهم النار على الباب، وخروج فاطمة علیها السلام وخطابها لهم من وراء الباب، وقولها: ويحك يا عمر، ما هذه الجرأة على الله ورسوله؟! تريد أن تقطع نسله من الدنيا وتفنيه، وتطفئ نور الله، والله متمّ نوره. وانتهاره لها، وقوله: كفّي يا فاطمة، فلو أنّ محمّداً حاضر والملائكة تأتيه بالأمر والنهي والوحي من الله، وما علَيّ إلّا كأحد المسلمين، فاختاري إن شئتِ خروجه إلى بيعة أبي بكر، وإلّا أُحرقكم بالنار جميعاً. وقولها له: يا شقيّ عَدِي، هذا رسول الله لم يبل له جبين في قبره ولا مسّ

ص: 358

الثرى أكفانه. ثمّ قالت وهي باكية: اللّهمّ إليك نشكو فقد نبيّك ورسولك وصفيّك، وارتدادَ أُمّته، ومنعهم إيّانا حقّنا الّذي جعلتَه لنا في كتابك المنزل على نبيّك بلسانه. وانتهار عمر لها وخالد بن الوليد، وقولهم: دعي عنكِ يا فاطمة حماقة النساء، فكم يجمع الله لكم النبوّة والرسالة [الخلافة]. وأخذ النار في خشب الباب، وأدخل قنفذ (لعنه الله) يده يروم فتح الباب، وضرب عمر لها بسوط أبي بكر على عضدها حتّى صار كالدملج الأسود المحترق، وأنينها من ذلك وبكاها، وركل عمر الباب برجله حتّى أصاب بطنها وهي حاملة بمحسن لستّة أشهر وإسقاطها، وصرختها عند رجوع الباب، وهجوم عمر وقنفذ وخالد، وصفقة عمر على خدّها حتّى أبرى قرطها تحت خمارها فانتثر، وهي تجهر بالبكاء تقول: يا أبتاه يا رسول الله، ابنتك فاطمة تُضرَب ويُقتَل جنين في بطنها وتصفق يا أبتاه، ويسقف خدّ لما لها كنت تصونه من ضيم الهوان يصلإليه من فوق الخمار، وضربها بيدها على الخمار لتكشفه، ورفعها ناصيتها إلى السماء تدعو إلى الله، وخروج أمير المؤمنين من داخل البيت محمرّ العينين دائر الحدقتين حاسراً، حتّى ألقى ملاءته عليها وضمّها لصدره، وقال: يا ابنة رسول الله، قد علمتِ أنّ الله بعث أباكِ رحمةً للعالمين، فالله الله أن تكشفي أو ترفعي ناصيتكِ، فوَاللهِ يا فاطمة لئن فعلتِ ذلك لا يُبقي الله على الأرض مَن يشهد أنّ محمّداً رسول الله، ولا موسى ولا عيسى ولا إبراهيم ولا نوح [نوحاً] ولا آدم، ولا دابّةً تمشي على وجه الأرض ولا طائراً يطير في السماء إلّا هلك. ثمّ قال إلى ابن الخطّاب: لك الويل كلَّ الويل بالكيل من يومك هذا وما بعده وما يليه، اخرُجْ قبل أن أُخرِج سيفي ذا الفقار فأفني غابر الأُمّة. فخرج عمر وخالد بن الوليد وقنفذ وعبد الرحمان ابن أبي بكر وصاروا مِن خارج الدار، فصاح أمير المؤمنين بفضّة: إليكِ

ص: 359

مولاتك، فأقبِلي منها ما يقبل النساء وقد جاءها المخاض من الرفسة، وردّه [ردّ] الباب فسقطت [فأسقطت] محسناً عليه قتيلاً. وعرفت أمير المؤمنين (إليه التسليم)، فقال لها: يا فضّة، لقد عرفه رسول الله صلی الله علیه وآله ، وعرفني، وعرف فاطمة، وعرف الحسن، وعرف الحسين اليوم بهذا الفعل، ونحن في نور الأظلّة أنوارٌ عن يمين العرش، فوارِيه بقعر البيت، فإنّه لاحقٌ بجدّه رسول الله صلی الله علیه وآله. وتشكو حمل أمير المؤمنين لها في سواد الليل، والحسن والحسين وزينب وأُمّ كلثوم إلى دور المهاجرين والأنصار، يذكّره بالله ورسوله وعهده الّذي بايعوا الله ورسوله عليه في أربع مواطن في حياة رسول الله صلی الله علیه وآله ، وتسليمهم عليه بإمرة المؤمنين جميعهم، فكلٌّ يعِدُه النصرة ليومه المقبل، فلمّا أصبح قعد جمعُهم عنده. ثمّ يشكو إليه أمير المؤمنين المحَن السبعة الّتي امتُحن بها بعده، ونقضَ المهاجرين والأنصار قولهم لمّا تنازعت قريش في الإمامة والخلافة، قد منع لصاحب هذا الأمر حقّه، فإذا مُنع فنحن أَولى به من قريش الّذين قتلوا رسول الله صلی الله علیه وآله وكبسوه في فراشه حتّى خرج منهم هارباً إلى الغار إلى المدينة، فآويناه ونصرناه وهاجرنا إليه، فقالت الأنصار، حتّى قال من الحزبين: منّا أميرٌ ومنكم أمير. فأقام عمر أربعين شاهداً قسّامةً شهدوا على رسول الله زوراً وبهتاناً أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قال: الأئمّة من قريش،فأطيعوهم ما أطاعوا الله، فإن عصوا فالحوهم لحيَ هذا القضيب. ورميَ القضيب من يده، فكانت أوّل قسّامة زورٍ شهدت في الإسلام على رسول الله صلی الله علیه وآله ، وإن رقبوا الأمر إلى أبي بكر وجاؤوا يدعوني إلى بيعته، فامتنعتُ إذ لا ناصر لي، وقد علم الله ورسوله أن لو نصرني سبعةٌ من سائر المسلمين لما وسعني القعود، فوثبوا علَيّ وفعلوا بابنتك يا رسول الله ما شكيتُه إليك، وأنت أعلم به، ثمّ جاؤوا بي فأخرجوني من داري مُكرَهاً، وثلبوني، وكان مِن

ص: 360

قصّتي فيهم مثل قصّة هارون مع بني إسرائيل، وقولي كقوله لموسى: «ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ((1))، وقوله: «يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» ((2))، فصبرتُ محتسباً راضياً، وكانت الحجّة عليهم في خلافي ونقض عهدي الّذي عاهدتَهم عليه يا رسول الله، واحتملتُ ما لم يحتمل وصيٌّ من نبيٍّ من سائر الأنبياء والأوصياء في الأُمم، حتّى قتلوني بضربة عبد الرحمان بن ملجم، وكان الله الرقيب عليهم في نقضهم بيعتي، وخروج طلحة والزبير بعائشة إلى مكّة يظهران الحجّ والعُمرة، وسَيرهم بها ناقضين لبيعتي إلى البصرة، وخروجي إليهم وتخويفي إيّاهم بما جئتُ به يا رسول الله من كتاب الله، ومقامهم على حربي وقتالي، وصبري عليهم وإعذاري وإنذاري، وهم يأبون إلّا السيف، فحاكمتُهم إلى الله بعد أن ألزمتُهم الحجّة، فنصرني اللهُ عليهم بعد أن قتل أكابر المهاجرين والأنصار والتابعين بالإحسان، وهرقت دماء عشرين ألف [ألفاً] من المسلمين، وقطعت سبعون كفّاً على زمام الجمَل من سبعين رئيساً، كلّما قُطعَت كفٌّ قبض عليه آخر، ثمّ لقيت من ابن هند معاوية بن صخر أدهى وأمرّ ممّا لقيتُ في غزواتك يا رسول الله بعدك من أصحاب الجمل، على أنّ حرب الجمل كان أشنع الحرب الّتي لقيتُها وأهولها وأعظمها، فسرتُ من دار هجرتي الكوفة إلى حرب معاوية، ومعيسبعمئة من أنصارك يا رسول الله وأربعة من دونه في ديوانك، ولها

ص: 361


1- ([1]) سورة الأعراف: 150.
2- ([2]) سورة طه: 94.

ستّين [ستّون] ألف رجلٍ من أهل العراقَين الكوفة والبصرة وأخلاط الناس، فكان بعون الله وعلمك يا رسول الله جهادي بهم وصبري عليهم، حتّى إذا وهنوا وتنازعوا وتفاشلوا مكر بأصحابي ابن هند وشانئك الأبتر عمرو، ورفع المصاحف على الأسنّة، ونادى: يا إخواننا من الإسلام، ندعوكم إلى كتاب الله وإلى الحكومة، ونصون دماءنا ودماءكم. وأصغى أهلُ الشبهات والشكوك والظنون ومَن في قلبه مرضٌ مِن أصحابي إلى ذلك، وقالوا بأجمعهم: لا يحلّ لنا قتال مَن دعانا إلى كتاب الله. وقلتُ لهم ما قد علمته، وأنت يا رسول الله علّمتَني إياه مِن علم الله أنّ القوم لم يرفعوا المصاحف إلّا عند رهبهم وظهورنا عليهم، فأبى المنافقون من أصحابي إلّا الكفّ عنهم وترك قتالهم، فوعظتُهم وحرّضتُهم وحفظتهم، وبيّنت لهم أمرهم وأنّها حيلة عليهم، فرموا أسلحتهم، واجتمعوا أصحاب معاوية في زهاء عشرين ألفاً، وقالوا لي كلمة رجلٍ واحد: دعْنا نُحاكِم القوم إلى كتاب الله. فقلت لهم: على أنّني أحكم به منكم ومن معاوية. فقال معاوية: لا يحكم عليٌّ ولا أحكم به، فإنّه لا يرضى ولا أرضى، ولا يسلّم إليّ ولا أُسلّم إليه. فقلت إلى ابني الحسن: الصر لا شككت في نفسي، وفضلت ابني علَي، فقالوا لي: ابنك أنت وأنت ابنك، فقلت: عبد الله بن العبّاس، فقالوا: لا يحكم بيننا مضريّ! واختاروا علَيّ وليَ الاختيار عليهم، وتحكّموا وأنا الحاكم، وقالوا: إن لم ترضَ نحكّم مَن نشاء أخذنا الّذي فيه عيناك. ثمّ اختاروا أن يحكّموا، يكتبوا إلى عبد الله بن قيس الأشعري، وهو منعزلٌ عنّا، فسيّروه وقدّموه، وتركوا معاوية قد حكّم عمراً، ورضوا هم بعبد الله بن قيس الأشعري، وحكموا بما أرادوا، ووصفوا عبد الله بن قيس بالفضل، والجبلة عباء عن مكر عمرو ما كانت إّلا مواطأةً وخدعةً أظهرها عمرو [و] عبد الله، فزعموا أنّ عبد الله عزلني، وأنّ عمراً أثبت

ص: 362

معاوية وألزموني عند قعود جمعهم عنّي واجتماعهم وأهل الشام، وإن كتبت بيني وبين معاوية إلى أجلٍ معلوم، وانكفأت معصياً غير مطاع إلى الكوفة، أظهر لعني معاوية على منابر الشام وسائر أعماله، ولُعنتُ أنا وابناك يا رسول الله، الحسن والحسين، وعبد الله بن العبّاس وعمّاربن ياسر ومالك الأشتر شهد أيام بني أُميّة كلّهم على المنابر وفي جوامع الصلاة ومساجدها وفي الأسواق وعلى الطرق والمسالك جهراً لا سرّاً، وخرج علَيّ المارقون من أصحابي المطالبون لي بالتحكيم يوم المصاحف، فقالوا: قد غيّرتَ وكفرت، وبدّلتَ وخالفتَ الله في تركنا ورأينا وإجابتك لنا، إلى أن حكمنا عليك الرجال. فكان لي ولهم بحروراء موقف دفعتُ لهم فيه عن قتالهم، وأنظرتهم حولاً كاملاً، ثمّ خرجتُ بعد انقضاء الهدنة أُريد معاوية بمن أطاعني من المسلمين، فخرج أصحابي المارقون علَيّ بالنهروان، فلقوا رجلاً من صلحاء المسلمين وعبّادهم ومَن قاتل معي يوم الجمل وصفّين، يقال له: عبد الله ابن خبّاب، وذبحوه وزوجته وطفلاً له على دم خنزير، وقالوا: ما ذبحنا هؤلاء وهذا الخنزير إلّا واحد، وهذا فعلنا بعليٍّ وسائر أصحابه، حتّى يُقرّ أنّه قد كفر وغيّر وبدّل، ثمّ يتوب ونقبل توبته. فعدلتُ إليهم وخاطبتُهم بالنهروان، فاحتجّوا علَيّ واحتججتُ عليهم، فكان احتجاجهم باطلاً وكان احتجاجي حقّاً».

قال الحسين بن حمدان: ويعيد أمير المؤمنين احتجاجهم عليه واحتجاجه عليهم على رسول الله صلی الله علیه وآله، فلم أعده، لأنّ شرحه قد تقدّم.

ورجع الحديث إلى قول الصادق علیه السلام للمفضّل، قال: «يقول أمير المؤمنين علیه السلام: والله يا رسول الله ما رضوا بتكذيبي ونقض بيعتي والخلاف علَيّ وقتالي واستحلال دمي ولعني قروا، فإنّي أمرت الأُمّة بما أمرتَني به من تربيع الأظافير،

ص: 363

ونهيتهم عن تدويرها، فذكروا أنّي إنّما ربعتها لأنّي أتسلّق على مشارب أزواجك يا رسول الله فآتي منهنّ الفاحشة، وكنتُ أبيع الخمر بعهدك وبعدك، وكنت أغل الفي ء في جميع غزواتك وأستبدّ به دونك ودون المسلمين، ولم يبقوا عضيهةً ولا شبهةً ولا فاحشةً إلّا نسبوها إلي، وزعموا أنّي لو استحقّيتُ الخلافة لَما قدّمت علَيّ في حياتك أبا بكرٍ فيالصلاة، ولقد علمتَ يا رسول الله أنّ عائشة أمرت بلالاً -- وأنت في وعك مرضك --، وقد نادى بلال في الصلاة، فأسرعَت كاذبةً عليك يا رسول الله فقالت: إنّ رسول الله يأمرك أن تقدّم أبا بكر، فراجع بذلك بلال، وكلٌّ يقول له مثل قولها، فرجع بلال إلى المسجد فقال: إنّ مُخبراً أخبرني عن رسول الله صلی الله علیه وآله أنّه أمر بتقديمك يا أبا بكر في الصلاة. ورجعت عائشة من الباب نكرت، وقلت لها يا رسول الله: ويلكِ يا حُميراء! ما الّذي جنيت؟ أمرتِ عنّي بتقديم أبيك في الصلاة! فقالت: قد كان بعض ذلك يا رسول الله. فقمتَ ويدك اليمنى علَيّ واليسرى على الفضل بن العبّاس، معجِّلاً لا تستقرّ قدماك على الأرض، حتّى دخلتَ المسجد ولحقت أبا بكرٍ قد قام مقامك في الصلاة، فأخرجتَه وصلّيتَ بالناس، فوالله لقد تكلّم المنافقون بفضل أبي بكر حتّى تقدم للصلاة بعهدك يا رسول الله، فاحتججتُ عليهم لمّا أظهروا ذلك بعد وفاتك، فلم أدَعْ لهم فيها اعتلالاً ولا مذهباً ولا حجّة ينقلون بها، وثنيت وقلت: إن زعمتم أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله من تقديم أبي بكر في الصلاة لأنّه أفضل الأُمّة عنده، فلما خرجه عن فضل ندبه إليه، وإن زعمتُم أنّ رسول الله أمر بذلك وهو مثقل عن النهضة، فلما وجد الحقّ فسارع فلم يسعه القعود؟ فالحجّة عليك في إسقاط أبي بكر! وإن زعمتم أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله أوقفه عن يمينه دون الصفوف، فقد كان رسول الله صلی الله علیه وآله وأبو بكر إمام المسلمين في تلك الصلاة، فهذا لا يكون، وإن

ص: 364

زعمتُم أنّه أوقفه عن شماله، فقد كان أبو بكر إمام رسول الله، لأنّ الإمام إذا صلّى برجلٍ واحدٍ فمقامه عن يمينه لا عنشماله، وإن زعمتم أنّه أوقفه بينه وبين الصفّ الأول، فقد كان رسول الله إمام أبي بكر، وأبو بكر إمام المسلمين، وهذا الأمر لا يكون، ولا يقوم رجلٌ واحدٌ في الصلاة إلّا إمام الصلاة، وإن زعمتم أنّه أقامه في الصف الأول، فما فضله على جميع الصف الأول؟ وإن زعمتم أنّ رسول الله أقامه في الصف الأول مسمعاً فيه التكبير في الصلاة، لأنه كان في حال ضيقه من العلّة لا يسمع سائر مَن في المسجد، فقد كفّرتم أبا بكر وحبطتم عمله؛ لأنّ الله عزوجل يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ» ((1)). والله ما ذاك يا رسول الله إلّا أنّني لم أجد ناصراً من المسلمين على نصرة دين الله، ولقد دعوتُهم كما أخبرتكم الموفّقة فاطمة أنّني حملتُها وذريتها إلى دور المهاجرين والأنصار، أُذكّرهم بأيام الله وما أخذته عليهم يا رسول الله بأمر الله من العهد والميثاق لي في أربعة مواطن، وتسليمهم علَيّ بإمرة المؤمنين بعهدك، فيعدوني النصرة ليلاً ويقعدون عنّي نهاراً، حتّى إذا جاءني ثقات أصحابك باكين استنهضوني ويقولون على أنّهم أنصاري على إظهار دين الله، امتحنتهم بحلق رؤوسهم وإشهار سيوفهم على عواتقهم ومسيرهم إلى باب داري، فتأخّر جمعهم عنّي، فما صحّ لي منهم إلّا ثلاث نفر، وآخر لم يتمّ حلق رأسه ولا أشهر سيفه، وهم والله أحبابك وأنجابك وأصحابك، وهم: سلمان والمقداد وأبو ذرّ وعمّار الّذي لم يتمّ حلق رأسه ولا أشهر سيفه، ولَأُخرجتُ

ص: 365


1- ([1]) سورة الحُجُرات: 2.

مكرهاً إلى سقيفة بني ساعدة أُقاد إليها كما تُقاد صعبة الإبل، فلم أر لي ولا ناصراً إلّا الزبير بن العوّام، فإنّه شهر سيفه في أوساطهم وعضّ على نواجذه، وقال: والله لا غمدتُه أو تقطَّع يدي، أما ترضون أن غصبتم عليّاً حقّه ونقضتم عهده وعهد الله ومبايعتكم له، حتّى جئتم به يبايعكم؟! فوثب عمر وخالد وتمام أربعين رجلاً، كلّاً يجتهد في أخذ السيف من يده، وطرحوه إلى الأرض صريعاً، وأخذوا السيف من يده، فلمّا انتهوا بي إلى عتيق وردتُ على موردٍ لم يسعني معه السكوت بعد أن كظمتُ غيظي وحفظتُ نفسي وربطتُ جأشي، وقلت للناس جميعاً: إنّما أنا فريضة فرضها الله طاعتي ورسوله صلی الله علیه وآله على الأُمّة، فإذا نقضوا عهد الله ورسوله وخالفَتني الأُمّة لم يكن علَيّ أن أدعوهم إلى طاعتي ثانية وما لي فيهم ناصرٌ ولا معين. وصبرتُ كما أدّبني الله بما أدّبك يا رسول الله في قوله (جلّ مِن قائل): «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» -- الآية ((1))، وقوله: «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ» ((2))، وحقّ يا رسول الله تأويل هذه الآية الّتي أنزلها في الأُمة من بعدك في قوله (عزّ من قائل): «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ((3))».

قال المفضّل: يا سيّدي فما تأويل هذه الآية: «أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ

ص: 366


1- ([1]) سورة الأحقاف: 35.
2- ([2]) سورة النحل: 127.
3- ([3]) سورة آل عمران: 144.

عَلَى أَعْقَابِكُمْ»؟ فإنّ كثيراً من الناس يقولون: إنّ الله لا يعلم بموت عبدٍ ولا بقتل، وبعضهم يقول: أفإن مات محمّدٌ أو قُتل بما يموت به العالم على ثبت. قال الصادق علیه السلام: «لو ردّوا ما لا يعلمونه إلينا ولم يفتروا فيه الكذب ولم يتأوّلوه من عند أنفسهم، لَبيّنّا لهم الحقّ فيه. يا مفضّل، إنّ الله عالمٌ لا بعلم، وإنّما تأويل الآية: إن مات أو قُتِل بما يموت به العالم، فإنّهما ميتتان لا ثالثة لهما، الموت بلا قتل والقتل بالسيف، وبما يُقتَل به من سائر الأشياء، أما ترى أنّ الأُمّة ارتدّت ونقضت وغيّرت وبدّلت بين موت رسول الله صلی الله علیه وآله وقتل أمير المؤمنين علیه السلام، ثمّ جرى الآخرون كما جرى الأولون؟».

قال الحسين بن حمدان: وقصّ أمير المؤمنين على رسول الله قصصاً طويلة، لم أعدها لئلّا يطول شرح الكتاب.

وعاد الحديث إلى الحسن علیه السلام.

روى المفضّل عن الصادق، قال: «ويقوم الحسن إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ويقول: يا جدّاه، كنتُ مع أمير المؤمنين بالكوفة في دار هجرته، حتّى استُشهد بضربة عبد الرحمان بن ملجم، فوصّاني بما وصيتَه به يا جدّاه، وبلغ معاوية قتل أبي، فأنفذ الدعيَّ عُبيد الله بن زياد إلى الكوفة في مئةٍ وخمسين ألف مقاتل، وأمره بالقبض علَيّ وعلى أخي الحسين وسائر إخوتي وأهل بيتي وشيعتي وموالينا، وأن يأخذ علينا جميعاً البيعة لمعاوية، فمن تأبّى منّا ضرب عنقه ويُسيّر إلى معاوية رأسه، فلمّا علمتُ ذلك من فعل معاوية خرجتُ من داري ودخلت جامع الصلاة، ورقيت المنبر، واجتمع الناس حتّى لم يبقَ موضع قدمٍ في المسجد، وتكاتفوا حتّى ركب

ص: 367

بعضهم بعضاً، فحمدتُ الله وأثنيت عليه، وقلت: معاشرَ الناس، عفَت الديار ومُحيَت الآثار، وقلّ الاصطبار فلا إقرار على همزات الشياطين والخائنين الساعة، وضحت البراهين وتفصّلت الآيات، وبانت المشكلات، ولقد كنّا نتوقّع إتمام هذه الآية بتأويلها: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ» -- إلى آخر الآية، فقد مات والله جدّي رسولُ الله وأبي علیهما السلام، وصاح الوسواس الخنّاس، ودخل الشكُّ في قلوب الناس، ونعق ناعق الفتنة، وخالفتهم السنّة، فيا لها من فتنةٍ صمّاء بكماء عمياء، لا يسمع لداعيها، ولا يجاب مناديها، ولا يخالف واليها، ظهرت ظلمة النفاق، وسيرت آيات أهل الشقاق، وتكاملت جيوش أهل العراق المراق بين الشام والعراق، هلمّوا رحمكم الله إلى الإصباح والنور الوضّاح والعالم الجحجاح، إلى النور الذي لا يطفى، والحقّ الذي لا يخفى، يا أيّها الناس تيقّظوا من رقدة الغفلة، ومن برهة الوسنة، وتكاثف الظلمة، ومن نقصان الهمّة، فوَالّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة، لئن قام لي منكم عُصبة بقلوبٍ صافية ونيّاتٍ مخلصة لا يكون فيها شوب ولا نفاق ولا نيّة فراق، لَجاهدنا بالسيف قدماً قدماً، ولأصفن من السيف جوانبها ومن الرماح أطرافها ومن الخيل سنابكها، فتكلّموا رحمكم الله. فكأنّما أُلجموا بلجام الصمت، ابن الصرد وبنو الجارود ثلاثة وعمرو بن الحمِق الخزاعي وحجر بن عدي الكندي والطرمّاح بن عطارد السعدي وهاني بن عروة السدوسي والمختار بن أبي عبيد الثقفي وشدّاد بن عباد الكاهلي ومحمّد بن عطارد الباهلي وتمام العشرين من همدان، فقالوا لي: يا ابن رسول الله، ما نملك غير أنفسنا وسيوفنا، وها نحن بين يديك لأمرك طائعين، وعن رأيك صادرين، مُرنابما شئت. فنظرتُ يمنةً ويسرة، فلم أرَ أحداً غيرهم، فقلت لهم: لي أُسوةٌ بجدّي

ص: 368

رسول الله صلی الله علیه وآله حين عبد الله سرّاً وهو يومئذٍ في تسعة وثلاثين رجلاً، فلمّا أكمل الله له أربعين صاروا في عدة، فأظهر أمر الله، فلو كان معي عدتهم جاهدتُ في الله حقّ جهاده. ثمّ رفعتُ رأسي نحو السماء وقلت: اللّهمّ إنّي قد دعوتُ وأنذرت وصوبت ونبهت، فكانوا عن إجابة الداعي غافلين، وعن نصرته قاعدين، وعن طاعته مقصّرين، ولأعدائه ناصرين، اللّهمّ فأنزِلْ عليهم رجزك وبأسك الّذي لا يُرَدّ عن القوم الظالمين. ونزلتُ عن المنبر، وأمرت أوليائي وأهل بيتي فشدّوا رواحلكم، وخرجتُ من الكوفة راحلاً إلى المدينة، هذا يا جدّاه بعد أن دعوتُ سائر الأُمّة وخاطبتُهم بعد قتل أمير المؤمنين إلى ما دعاهم إليه هو وخاطبهم بعدك يا رسول الله، جارياً على سنّتك ومنهاجك وسنن أمير المؤمنين ومنهاجه في الموعظة الحسنة والترفّق والخطاب الجميل والتخويف بالله والتحذير من سخطه وعذابه والترغيب في رحمته ورضوانه وصفحه وغفرانه لمن وفى بما عاهد عليه الله، ورغّبتهم في نصرة الدين وموافقة الحقّ والوقوف بين أمر الله ونهيه، فرأيتُ أنفُسَهم مريضةً وقلوبَهم نائبةً فاسدة، قد غلب الران عليها، فجاؤوني يقولون: إنّ معاوية قد سيّر سراياه إلى نحو الأنبار والكوفة، وشنّت غاراتُه على المسلمين، وقتل منهم مَن لم يقاتله وقتل النساء والأطفال. فأعلمتُهم أنّه لا وفاء لهم ولا نصر فيهم، وأنّهم قد أسرّوا الدعوة وأخلدوا الرفاهة وأحبّوا الدنيا وتناسوا الآخرة، فقالوا: معاذ الله يا ابن رسول الله أن نكون كما ذكرت، فادعُ لنا اللهبالسداد والرشاد. فأنفذتُ معهم رجالاً وجيوشاً، وعرفتهم أنّهم يجيبون إلى معاوية وينقضون عهدي وبيعتي، ويبيعوني بالخطر اليسير، ويقبلون منهم الرشى والتقليدات، فزعموا أنّهم لا يفعلون، فما مضى منهم أحدٌ إلّا فعل ما أخبرتُهم به من أخذ رشى معاوية وتقليده، ونفذ إليه عادياً فأقضى

ص: 369

مخالفاً، فلما كثرت غارات معاوية في أطراف العراق فجاؤوني فعاهدوني عهداً مجدّداً وبيعةً مجدّدة، وسرتُ معهم من الكوفة إلى المدائن بشاطئ الدجلة، فدسّ معاوية إلى زيد بن سنان أخي جرير بن عبد الله مالاً ورشاه إيّاه على قتلي، فخرج إليّ ليلاً وأنا في فسطاطٍ لي أٌصلّي، والناس نيام، فرماني بحربةٍ فأثبتها بجسَدي، فنبهت العسكر، ورأوا الحربة تهتزّ في أعضائي، وأمرت بطلب زيدٍ (لعنه الله) فخرج إلى الشام هارباً إلى معاوية، فرجعتُ جريحاً وخرجتُ عند قعود الأُمّة عنّي إلى المدينة إلى حرمك يا جدّاه، فلقيتُ من معاوية وسائر بني أُميّة وعراتهم، فأسأل الله أن لا يضيع لي أجره ولا يحرمني ثوابه، ثمّ دسّ معاوية إلى جعدة ابنة محمّد بن الأشعث بن قيس الكندي (لعنهم الله) فبذل لها مئة ألف درهم، وضمن لها إقطاع عشر قُرىً، وأنفذ إليها سُمّاً سمّتني به فمتّ.

ثمّ يقوم الحسين علیه السلام مخضَّباً بدمائه، فيقبل في اثني عشر ألف صدّيقٍ كلّهم شهداء وقُتلوا في سبيل الله من ذرّيّة رسول الله صلی الله علیه وآله ومن شيعتهم ومواليهم وأنصارهم، وكلّهم مضرَّجون بدمائهم، فإذا رآه رسول الله صلی الله علیه وآله فبكت أهل السماوات والأرض ومَن عليها، ويقف أمير المؤمنين والحسن عن يمينه وفاطمة عن شماله، ويُقبل الحسين ويضمّه رسول الله إلى صدره ويقول: ياحسين، فديتُك، قرّت عيناك وعيناي فيك. وعن يمين الحسين حمزة بن عبد المطّلب، وعن شماله جعفر بن أبي طالب، وأمامه أبو عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب، ويأتي محسن مخضّباً بدمه تحمله خديجة ابنة خويلد وفاطمة ابنة أسد -- وهما جدّتاه -- وجمانة عمّته ابنة أبي طالب وأسماء ابنة عميس صارخات، وأيديهن على خدودهنّ ونواصيهنّ منتشرة والملائكة تسترهن بأجنحتها، وأُمّه فاطمة تصيح وتقول: «هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ

ص: 370

تُوعَدُونَ» ((1))، وجبرائيل يصيح ويقول: مظلوم، فانتصر. فيأخذ رسول الله صلی الله علیه وآله محسن [محسناً] على يده ويرفعه إلى السماء وهو يقول: إلهي، صبرنا في الدنيا احتساباً، وهذا اليوم «تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا» ((2))».

قال: ثمّ بكى الصادق وقال: «يا مفضّل، لو قلت عيناً بكت ما في الدموع من ثواب، وإنّما نرجو إن بكينا الدماء أن ثاب به». فبكى المفضّل طويلاً، ثمّ قال: يا ابن رسول الله، إنّ يومكم في القصاص لَأعظم من يوم محنتكم. فقال له الصادق: «ولا كيوم محنتنا بكربلا، وإن كان كيوم السقيفة وإحراق الباب على أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأُمّ كلثوم وفضّة وقتل محسن بالرفسة لَأعظم وأمرّ؛ لأنه أصل يوم الفراش».

قال المفضّل: يا مولاي، أسأل؟ قال: «اسألْ». قال: يا مولاي، «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ». قال: «يا مفضّل، تقولالعامّة: إنّها في كل ّ جنينٍ من أولاد الناس يُقتَل مظلوماً». قال المفضّل: نعم يا مولاي، هكذا يقول أكثرهم. قال: «ويلهم! من أين لهم هذه الآية؟ هي لنا خاصّة في الكتاب، وهي محسن علیه السلام، لأنّه منّا، وقال الله (تعالى): «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» ((3))، وإنّما هي من أسماء المودّة، فمِن أين إلى كلّ جنينٍ من أولاد الناس؟

ص: 371


1- ([1]) سورة الأنبياء: 103.
2- ([2]) سورة آل عمران: 30.
3- ([1]) سورة الشورى: 23.

وهل في المودّة والقربى غيرنا يا مفضّل؟». قال: صدقتَ يا مولاي، ثمّ ماذا؟ قال: «فتضربُ سيّدةُ نساء العالمين فاطمة يدها إلى ناصيتها وتقول: اللّهمّ أنجِزْ وعدك وموعدك فيمن ظلمني وضربني وجرّعني ثكل أولادي. ثمّ تلبّيها ملائكة السماء السبع وحملة العرش وسكّان الهواء ومَن في الدنيا وبين أطباق الثرى، صائحين صارخين بصيحتها وصراخها إلى الله، فلا يبقى أحدٌ ممّن قاتلنا ولا أحبّ قتالنا وظلمنا ورضي بغضبنا وبهضمنا ومنعنا حقّنا الّذي جعله الله لنا إلّا قُتِل في ذلك اليوم، كلّ واحدٍ ألف قتلة، ويذوق في كلّ قتلةٍ من العذاب ما ذاقه من ألم القتل سائر مَن قُتل من أهل الدنيا، مِن دون من قُتل في سبيل الله فإنّه لا يذوق الموت، وهو كما قال الله عزوجل: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»» ((1)).

قال المفضّل: يا سيّدي، فإنّ مَن يستبشرون [من] شيعتكم مَن لا يُقرّ بالرجعة، وأنّكم لا تكرّون بعد الموت ولا يكرّ أعداؤكم حتّى تقتصّوا منهم بالحقّ! فقال: «ويلهم! ما سمعوا قول جدّنا رسولالله صلی الله علیه وآله وجميع الأئمة علیهم السلام ونحن نقول: مَن لم يُثبِت إمامتنا ويحلّ متعتنا ويقول [يقل] برجعتنا فليس منّا؟ وما سمعوا قول الله (تعالى): «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ((2))؟». قال المفضّل: يا مولاي، ما العذابُ الأدنى وما العذاب

ص: 372


1- ([2]) سورة آل عمران: 169 و170.
2- ([1]) سورة السجدة: 21.

الأكبر؟ قال علیه السلام: «العذاب الأدنى: عذاب الرجعة، والعذاب الأكبر: عذاب يوم القيامة، الّذي يبدَّل فيه الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار».

قال المفضّل: يا مولاي، فإمامتكم ثابتةٌ عند شيعتكم، ونحن نعلم أنّكم اختيار الله في قوله: «نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ» ((1))، وقوله: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» ((2))، وقوله: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ((3)). قال: «يا مفضّل، فأين نحن من هذه الآية؟»، قال: «يا مفضّل قول الله (تعالى): «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» ((4))، وقوله: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» ((5))، وقول إبراهيم: «رَبِّ ... اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ» ((6))، وقد علمنا أنّ رسول الله؟ص؟ وأميرالمؤمنين علیه السلام ما عبدا صنماً ولا وثناً ولا أشركا بالله طرفة عين، وقوله: «إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا

ص: 373


1- ([2]) سورة الأنعام: 83.
2- ([3]) سورة الأنعام: 124.
3- ([4]) سورة آل عمران: 33 و34.
4- ([5]) سورة آل عمران: 68.
5- ([6]) سورة الحجّ: 78.
6- ([7]) سورة إبراهيم: 35.

يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ((1))، والعهد هو الإمامة».

قال المفضّل: يا مولاي، لا تمتحنّي ولا تختبرني ولا تبتليني، فمِن علمكم علمت، ومن فضل الله عليكم أخذت. قال: «صدقتَ يا مفضّل، لولا اعترافك بنعمة الله عليك في ذلك لما كنت باب الهدى، فأين -- يا مفضّل -- الآيات من القرآن فيه أنّ الكافر ظالم؟»، قال: نعم يا مولاي، قوله: «الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ((2))، وقوله: الكافرون «هُمُ الفاسِقُوُنَ»، ومَن كفر وفسق وظلم لا يجعله الله للناس إماماً. قال: «أحسنت يا مفضّل، فمِن أين قلت برجعتنا ومقصّرة شيعتنا إنّ معنى الرجعة أن يردّ الله إلينا ملك الدنيا فيجعله للمهدي؟ ويحهم! متى سلبنا المُلك حتّى يرد إلينا؟». قال المفضّل: لا والله يا مولاي، ما سُلبتُموه ولا سلبوه؛ لأنه مُلك النبوّة والرسالة والوصيّة والإمامة.

قال الصادق علیه السلام: «يا مفضّل، لو تدبر القرآنَ شيعتُنا لما شكّوا في فضلنا، أما سمعوا قول الله (جلّ مِن قائل): «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ((3))؟ فأخذ إبراهيمُ أربعة أطيارٍفذبحها وقطّعها، وأخلط [خلط] لحومها

ص: 374


1- ([1]) سورة البقرة: 124.
2- ([2]) سورة البقرة: 254.
3- ([3]) سورة البقرة: 260.

وريشها حتّى صارت قبضةً واحدة، ثمّ قسّمها أربعة أجزاء، وجعلها على أربعة أجبال، ودعاها فأجابته، وأقرّت وأيقنت بوحدانيّة وبرسالة إبراهيم بصورها الأولية. ومثل قوله في كتابه العزيز: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ((1))، وقوله في طوائف من بني إسرائيل: الّذين خرجوا من ديارهم هاربين حذر الموت إلى البراري والمغاور، فحظروا على أنفسهم حظائر، وقالوا: قد حرزنا أنفسنا من الموت، وهم زهاء ثلاثين ألف رجل وامرأة وطفل، فقال لهم الله موتوا، فماتوا كهيئة نفسٍ واحدة وصاروا رفاتاً، فمرّ عليهم حزقيل ابن العجوز، فتأمّل أمرهم وناجى ربَّه في أمرهم، وقصّ عليه قصّتهم، وقال: إلهي وسيّدي، قد أريتَهم قدرتك أنّك أمتّهم وجعلتهم رفاتاً، فأرهم قدرتك وأن تحييهم حتّى أدعوهم إليك، ووفّقهم للإيمان بك وتصديقي. فأوحى الله إليه: يا حزقيل، هذا يومٌ شريفٌ عظيم القدر، وقد آليتُ به أن لا يسألني مؤمن حاجةً إلّا قضيتُها له، وهو يوم نوروز، فخُذ الماء ورشّه عليهم، فإنّهم يحيون بإذني. فرشّ عليهم الماء، فأحياهم الله بأسرهم، فأقبلوا إلى حزقيل مؤمنين باللهمصدّقين، وهم الّذين قال الله فيهم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ

ص: 375


1- ([1]) سورة البقرة: 259.

الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ» ((1))، وقوله في قصّة عيسى: «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» ((2)). هذا يا مفضّل ما أقمنا به الشاهد من كتاب الله لشيعتنا ممّا يعرفونه في الكتاب ولا يجهلونه، ولئلّا يقولوا: ألا إنّ الله لا يُحيي الموتى في الدنيا ويردّهم إلينا، ولزمهم الحجّة مِن الله إذا أعطى أنبياءه ورسله الصالحين من عباده، فنحن بفضله علينا أَولى، فأعطانا ما أُعطوا ويزاد عليه. وما سمعوا -- ويحهم -- قول الله (تعالى): «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا»؟» ((3)).

قال المفضّل: يا مولاي، فما تأويل: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا»؟ قال: «والله الرجعة الأُولى، ويوم القيامة العظمى يا مفضّل. وما سمعوا قوله (تعالى): «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» -- الآية ((4))، والله يا مفضّل إنّ تأويل هذه الآية فينا، إنّ فرعون وهامان وجنودهما هم أبو بكر

ص: 376


1- ([1]) سورة البقرة: 243.
2- ([2]) سورة آل عمران: 49.
3- ([3]) سورة الإسراء: 5 و6.
4- ([4]) سورة القصص: 5.

وعمر وشيعتهم».

قال المفضّل: يا مولاي، فالمتعة حلالٌ مطلق، والشاهد بها قوله (تعالى) في النساء المزوّجات بالولادة والشهود: «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا» ((1))، أي: مشهوداً، والمعروف هو المستشهد بالولاء والشهود، وإنّما احتاج إلى الوليّ والشهود في النكاح، ليثبت النسل ويصحّ النسب ويستحقّ الميراث، وقوله: «وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا» ((2))، وجعل الطلاق لا للرجال في المتعة للنساء المزوّجات، لعلّة النساء على غير جائز إلّا بشاهدين عادلين ذوي عدلٍ من المسلمين، وقال في سائر الشهادات على الدماء والفروج والأموال والأملاك: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ» ((3))، وبيّن الطلاق (عزّ ذكره) فقال (تعالى): «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّ-هَ رَبَّكُمْ» ((4))، ولو كانت المطلقة تبين

ص: 377


1- ([1]) سورة البقرة: 235.
2- ([2]) سورة النساء: 4.
3- ([3]) سورة البقرة: 282.
4- ([4]) سورة الطلاق: 1.

بثلاث تطليقات يجمعها كلمة واحدة وأكثر منها وأقل، كما قال الله (تعالى): «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّ-هَ رَبَّكُمْ» إلى قوله: «وَتِلْكَحُدُودُ اللَّ-هِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّ-هِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّ-هَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّ-هِ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّ-هِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»، وقوله عزوجل: « لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّ-هَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا» هو نكر يقع بين الزوج والزوجة، فتطلق التطليقة الأُولى بشهادة ذوي عدل، وحرر وقت التطليق وهو آخر القروء، والقروء هو الحيض، والطلاق يجب عند آخر النطفة تنزل بيضاء بعد الحمرة والصفرة أول التطليقة الثانية والثالثة، وما يُحدث الله بينهما عطفاً، وذلك ما كرهاه، وقوله: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّ-هُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّ-هِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّ-هُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ((1))، هذا يقوله تعالى أنّ المبعولة [للبعولة] مراجعة النساء من تطليقة إلى تطليقة إن أرادوا إصلاحاً، وللنساء مراجعة للرجال في مثل ذلك، ثم بيّن (تبارك وتعالى) فقال: «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» ((2)) في الثالثة، فإن

ص: 378


1- ([1]) سورة البقرة: 228.
2- ([2]) سورة البقرة: 229.

طلق الثالثة وبانت فهو قوله: «فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ» ((1))، ثم يكون كسائر الخطاب، والمتعة التي حلّلها الله في كتابه وأطلقها الرسول عن الله لسائر المسلمينفهي قوله: «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّ-هِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّ-هَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا» ((2))، والفرق بين المزوجة والممتعة أنّ للمزوجة صداقاً وللممتعة أجرة، فتمتع سائر المسلمين في عهد رسول الله صلی الله علیه وآله في الحج وغيره وأيام أبي بكر وأربع سنين من أيام عمر، حتّى دخل على أُخته عفراء فوجد في حجرها طفلاً تُرضعه من ثديها، فقال: يا أُختي، ما هذا؟! فقالت له: ابني من أحشائي. ولم تكن متبعّلة، فقال لها: من أين ذلك؟ فقالت: تمتّعت. فكشفَت عن ثديها فنظر إلى درة اللبن في في الطفل فاغتضب، فكشف عن ثديها وأرعد وأربد لونه، وأخذ الطفل على يده مغضباً وخرج ومشى حتى أتى المسجد، فرقي المنبر وقال: نادوا في الناس، في غير وقت الصلاة، فعلم المسلمون أنّ ذلك لأمرٍ يريده عمر، فحضروا، فقال: معاشر الناس من المهاجرين والأنصار وأولاد قحطان، مَن منكم يحبّ أن يرى المحرمات من

ص: 379


1- ([3]) سورة البقرة: 230.
2- ([1]) سورة النساء: 24.

النساء كهذا الطفل قد خرج من بطن أُمّه وسقته لبنها، وهي غير متبعّلة؟ فقال بعض القوم: ما يحبّ هذا يا أمير المؤمنين. فقال: ألستم تعلمون أنّ أُختي عفراء من حنتمة أُمّي وأبي الخطّاب أنها غير متبعّلة؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين. قال: فإنّي دخلتُ الساعة فوجدتُ هذا الطفل في حجرها، فناشدتها: مِن أين لكِ هذا؟ قالت: ابني من أحشائي، ورأيتُ درّ اللبن من ثديها، فقلت: من أين لكِ هذا؟فقالت: تمتعت! فاعلموا معاشرَ الناس أنّ هذه المتعة كانت حلالاً في عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وبعده، وقد رأيتُ تحريمها، فمن أتاها ضربت جنبيه بالسوط. ولم يكن في القوم منكر لقوله ولا رادّ عليه، ولا قائل: أيّ رسولٍ بعد رسول الله، وأيّ كتابٍ بعد كتاب الله عزوجل ولا يقبل خلافك على الله ورسوله وكتابه، بل سلّموا ورضوا.

قال المفضّل: يا مولاي، فما شرائطها؟ قال: «يا مفضّل، سبعون شرطاً، مَن خالف منها شرطاً واحداً أظلم نفسه». قال: فقلت: يا سيّدي، فأعرض عليك ما علمتُه منكم فيها؟ قال الصادق علیه السلام: «قل يا مفضّل، على أنك قد علمت الفرق بين المزوّجة والممتعة بها ممّا تلوتُه عليك». قال: «المزوّجة لها صداقٌ ونحلة، والمتمتّعة أُجرة، فهذا فرق بينهما». قال المفضل: نعم يا مولاي، قد علمتُ ذلك. فقال: «قل يا مفضّل»، قال: يا مولاي، قد أمرتمونا لا نتمتّع بباغيةٍ ولا مشهورة بالفساد، ولا مجنونة أن تدعو المتعة إلى الفاحشة، فإن أجابت قد حرم الاستمتاع بها، تُسأل أفارغة هي أم مشغولة ببعل أم بحمل أم بعدّة، فإن شغلت بواحدة من هذه الثلاثة فلا تحل، وإن حلّت فتقول لها: متّعيني

ص: 380

نفسكِ على كتاب الله وسنّة نبيّه نكاحاً غير مسافح أجلاً معلوماً بأُجرةٍ معلومة، وهي ساعة أو يوم أو يومان أو شهر أو سنة أو ما دون ذلك أو ما أكثر، والأجرة ما تراضيا عليه من حلقة خاتم أو شسع نعال أو شق ثمرة [تمرة] أو إلى ما فوق ذلك من الدراهم والدنانير أو غرض [عرض] ترضى به، فإن وهبت حلّت له كالصداق الموهوب من النساء المزوّجات الّتي قال الله فيهن: «فَإِنطِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا» ((1)).

رجع الحديث إلى تمام الخطبة بالقول: على أن لا ترثني [ترثيني] ولا أرثك، وعلى أنّ الماء مائي أضعه حيث شئت، وعليكِ الاستبراء أربعون يوماً أو محيض أو أجد ما كان من عدد الأيام، فإذا قالت: نعم، أعدت القول ثانية، وعقد النكاح به، فإنما أحببت وهي أحبت الاستزادة في الأجل، وفيه ما رويناه عنكم قولكم: لَإخراجنا فرج [فرجاً] من حرام إلى حرام حلال أحبّ إلينا من تركه على الحرام، ومن قولكم: إذا كانت تعقل قولها فعليها ما تولّت من الأخيار [الإخبار] عن نفسها، ولا جناح عليك. وقول أمير المؤمنين: لعن الله ابن الخطّاب، فلولاه ما زنا إلّا شقي أو شقية؛ لأنه كان يكون للمسلمين غنىً في عمل المتعة عن الزنى. وروينا عنكم أنكم قلتم: أنّ الفرق بين الزوجة والممتَّع بها أنّ للمتمتع أن يعتزل عن المتعة، وليس للمزوج أن يعزل عن الزوجة، إنّ الله قال: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ

ص: 381


1- ([1]) سورة النساء: 4.

الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّ-هَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّ-هُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ» ((1))، إنّ في كتاب الله لَكفارة عنكم أنّ من عزل نطفةً من رحم مزوجة فدية النطفة عشر دنانير كفارة، وإنّ في شرط المتعة أنّ المال يضعه حيث يشاء من المتمتَّع بها، فإن وُضعت في الرحم فخُلق منه ولدٌ كان لاحقاً بأبيه.

قال الصادق علیه السلام: «يا مفضّل، حدثني أبي عن أبيهعن جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله قال: إنّ الله أخذ الميثاق على ماء أوليائه المؤمنون [المؤمنين] لا يعلق منه فرج من متعة، وأنه أحد محن المؤمن الّذي تبين إيمانه من كفره إذا علق منه فرج من متعة. و قال رسول الله صلی الله علیه وآله: ولد المتعة حرام، وإنّ الأحرى للمؤمن لا يضيع النطفة في فرج المتعة».

قال المفضل: يا مولاي، فإنّ عبد الله بن الزبير سبّ عبد الله بن العبّاس سبّاً كان فيه قوله: أما ترون رجلاً قد أعمى الله قلبه كما أعمى عينه ويفتي في المتعة، ويقول: إنها حلال! فسمعه عبد الله بن العبّاس، قال لقائده: قف بي على الجماعة الّتي فيها عبد الله بن الزبير. فأوقفه وقال له: يا ابن الزبير، سل أسماء بنت أبي بكر، فإنّها تُنبئك أنّ أباك عوسجة الأسدي استمتع بها ببردتين يمانيتين، فحملت بك، فأنت أوّل مولودٍ في الإسلام من المتعة، وقد قال النبي صلی الله علیه وآله: لا ولد المتعة حرام. فقال

ص: 382


1- ([2]) سورة البقرة: 204 و205.

الصادق علیه السلام: «والله يا مفضّل لقد صدق عبد الله بن العبّاس في قوله لعبد الله بن الزبير».

قال المفضل: قد روى بعض شيعتكم أنكم قلتم: إنّ حدود المتعة أشهر من راية البيطار، وأنكم قلتم لأهل المدينة: هبوا لنا التمتع بالمدينة. قال الصادق: «يا مفضّل، إنما قلنا: هبوا لنا التمتع بالمدينة، وتمتعوا حيث شئتم من الأرض لا خوفاً عليكم من شيعة ابن الخطّاب أن يضربوا جنوبهم بالسياط، فحرزناها باستيائها بها منهم بالمدينة».

قال المفضل: وروت شيعتكم عنكم أنّ محمّد بن سنان الأسدي تمتع بامرأة، فلما تمطاها وجد في أحشائها تركلاً، فرفع نفسه عنهاوقام قلقاً ودخل على جدك علي بن الحسين علیه السلام وقال له: يا مولاي، تمتّعت بامرأةٍ وكان من قصّتي وقصّتها كيت وكيت، قلت: ما هذا التركل؟ فجعلَت رجلها بصدري وقالت لي: قم، فما أنت بأديب ولا بعالم، أما سمعتَ قول الله (تعالى): «لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» ((1))؟ قال الصادق علیه السلام: «هذا سرف من شيعتنا علينا، ومن يكذب علينا فليس منّا، والله ما أرسل رسوله إلّا بالحقّ ولا جاء إلّا بالصدق، ولا يحكي إلّا عن الله ومن عند الله وبكتاب الله، فلا تتّبعوا أهواءكم ولا ترخصوا لأنفسكم فيحرم عليكم ما أحلّ لكم، والله يا مفضّل ما هو إلّا دين الحقّ، وما شرائط المتعة إلّا ما قدّمتُ ذِكره لك، فذر الغاوين وازجر نفسك عن هواها».

ص: 383


1- ([1]) سورة المائدة: 101.

قال المفضل: ثمّ ماذا يا مولاي؟ قال: «ثمّ يقوم زين العابدين عليّ بن الحسين ومحمّد الباقر علیهما السلام فيشكوان إلى جدّنا رسول الله صلی الله علیه وآله ما نالهما من بني أُميّة وما رُوّعا به من القتل، ثمّ أقوم أنا فأشكو إلى جدّي رسول الله ما جرى علَيّ من طاغية الأُمّة الملقَّب بالمنصور، حيث أفضت الخلافة إليه، فإنّه عرضني على الموت والقتل، ولقد دخلتُ عليه وقد رحلني عن المدينة إلى دار ملكه بالكوفة مغسّلاً مكفناً مراراً، فأراه من قدرته ما ردعه عنّي ومنعه من قتلي». قال: «ثمّ يقوم ابني موسى يشكو إلى جدّه رسول الله ما لقيه من الضليل هارون الرشيد وتسييره من المدينة إلى طريق البصرة متجنباً طريق الكوفة؛ لأنه قال: أهل الكوفة شيعة آل محمّد وأهل البصرة أعداؤهم، وقد صدق (لعنه الله). وحدّثنيالباقر عن أبيه عليّ ابن الحسين، يرفعه إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله قال: طينة أُمّتي من مدينتي، وطينة شيعتنا من الكوفة، وطينة أعدائنا من البصرة. ويقصّ فعله وحبسه إياه في دار السنديّ بن شاهك صاحب شرطته بالزوراء، وما يعرض عليه من القتل، وقد تقدم ذكره، وما فعل الرشيد به إلى أن مات».

و رجع الحديث إلى الصادق علیه السلام، قال: «ويقوم عليّ بن موسى علیه السلام فيشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ما نزل به، وتسيير المأمون إياه من المدينة إلى طوس بخراسان من طريق البصرة من الأهواز، ويقصّ عليه قصّته إلى أن قتله بالسم، وقد تقدّم ذكره وما فعل به».

وعاد الحديث إلى الصادق علیه السلام، قال: «ويقوم محمّد بن علي بن موسى علیه السلام ويشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ما نزل به من المأمون، إلى أن قتله بالغلمان»، كما

ص: 384

جاء ذكره.

وعاد الحديث إلى الصادق علیه السلام، قال: «ويقوم عليّ بن محمّد فيشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله تسيير جعفر المتوكّل إياه، وابنه الحسن من المدينة إلى مدينةٍ بناها على الدجلة، تُدعى بسامرا، وما جرى عليه منه إلى أن قتل المتوكل ومات عليّ بن محمّد»، قال: «ويقوم الحسن بن عليّ الحادي عشر من الأئمة علیهم السلام ويشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وما لقيه من المعتز، وهو الزبير بن جعفر المتوكل، ومن أحمد بن فتيان، وهو المعتمد، إلى أنمات الحسن. ويقوم الخامس بعد السابع، وهو المهدي، يشكو إلى جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله ، وكنيته: محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي ابن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیهم السلام، وعليه قميص رسول الله بدم رسول الله يوم كُسر رباعيّته، والملائكة تحفّه حتى يقف بين يدَي جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله فيقول له: يا جدّاه، نصصتَ علَيّ ودللت، ونسبتني وسميتني، فجحدتني الأُمة أُمّة، الكفر وتمارت فيَّ وقالوا: ما وُلد ولا كان، وأين هو ومتى كان وأين يكون؟ وقد مات وهلك، ولم يعقّب أبوه! واستعجلوا ما أخّره الله إلى هذا الوقت المعلوم، فصبرتُ محتسباً، وقد أذن الله لي يا جدّاه فيما أمر. فيقول رسول الله؟ صلی الله علیه وآله: «الْحَمْدُ لِلَّ-هِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» ((1))، ويقول: قد جاء نصر الله والفتح، وحقّ قوله (تعالى): «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ

ص: 385


1- ([1]) سورة الزمر: 74.

كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ((1))، ويقرأ: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّ-هُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» ((2))»، فقال الصادق علیه السلام: «إنّ الله (تعالى) «عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَ-ٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُالْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» ((3))، وكذلك يا مفضّل لما أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم، عرضوا تلك الذرية على جدّنا رسول الله وعلينا إمام بعد إمام إلى مهديّنا الثاني عشر من أمير المؤمنين، سميّ جدّه وكنيّه محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى ابني، وعرض علينا أعمالهم، فرأينا لهم ذنوباً وخطايا، فبكى جدنا رسول الله صلی الله علیه وآله وبكينا رحمةً لشيعتنا أن يدعو لنا بنا ولهم ذنوب مشهورة بين الخلائق إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: اللّهمّ اغفر ذنوب شيعة أخي وأولاده الأوصياء منه، وما تقدّم منها وما تأخر ليوم القيامة، ولا تفضحني بين النبيّين والمرسلين في شيعتنا، فحمله الله إياها وغفرها جميعاً، وهذا تأويل: «إنّا فَتَحْنا لَكَ» الآية».

قال المفضّل: فبكيت بكاءً طويلاً، وقلت: يا سيّدي، هذا بفضل الله

ص: 386


1- ([2]) سورة التوبة: 33.
2- ([3]) سورة الفتح: 1 و2.
3- ([1]) سورة البقرة: 31 -- 33.

وفضلكم. قال الصادق علیه السلام: «هذا بفضل الله علينا فيكم يا مفضّل، وهل علمت مَن شيعتنا؟»، قال المفضّل: مَن تقول؟ فقال: «والله ما هم إلّا أنت وأمثالك، ولا تحدّث بهذا الحديث أصحاب الرخص من شيعتنا، فيتكلّموا على هذا الفضل ويتركوا العمل به، فلا يغني عنهم من الله شيئاً؛ لأننا كما قال الله (تعالى): «لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْخَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ»» ((1)).

قال المفضّل: يا مولاي، بقي لي «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ((2))، ما كان رسول الله يظهر على الدين كلّه؟ قال: «يا مفضّل، ظهر عليه علماً ولم يظهر علمه عليه، ولو كان ظهر عليه ما كانت مجوسيّة ولا يهوديّة ولا جاهليّة ولا عبدة الأصنام والأوثان ولا صابئة ولا نصرانية ولا فرقة ولا خلافة ولا شكّ ولا شرك ولا أُولوا العزّة ولا عبد الشمس والقمر والنجوم ولا النار ولا الحجارة، وإنّما قوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» في هذا اليوم، وهذا المهدي، وهذه الرجعة، وقوله: «قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ» ((3))».

قال المفضّل: ثمّ ماذا؟ قال الصادق علیه السلام: «يقول رسول الله صلی الله علیه وآله لأمير المؤمنين: فديتك يا أبا الحسن، أنت ضربتهم بسيف الله عن هذا الدين، فاضربهم الآن عليه عوداً. ويسير في هذه الدنيا يسير جبالها وأقدار أرضها ويطأها قدماً قدماً،

ص: 387


1- ([1]) سورة الأنبياء: 28.
2- ([2]) سورة التوبة: 33.
3- ([3]) سورة البقرة: 193.

حتّى يصفّي الأرض من القوم الظالمين، ويقول للمهدي: سر بالملائكة وخلصاء الجنّ والإنس ونقبائك المختارين ومَن سمع وأطاع الله لنا، فاحمل خيلك في الهواء، فإنها تركض كما تركض على الأرض، واحملها على وجه الماء في البحار والأمصار، فإنها تركض بحوافرها عليه فلا يبلّ لها حافر، وإنها تسير مع الطير وتسبق كلّ شيء، فخذ بثأرك وثأرناواقتصّ بمظالمنا منهم، وأظهِرْ حقّنا وأزهق الباطل، فإنّها دولة لا ليل فيه ولا ظلمة ولا قتام، ومن تضعه أهل الجنّة في الجنّة يقول لفاطمة والحسن والحسين وسائر الأئمة: فينا انظروا إلى ما فضّلكم الله به وجعل لكم عقبى الدار، فأكثروا من شكره واشفعوا لشيعتكم، فإنكم لا تزالون ترون هذه الأرض في هذه الرجعة منكرة مقشعرة إلى أن لا يبقى عليها شاكّ ولا مرتاب ولا مشرك ولا رادّ ولا مخالف ولا متكبّر ولا جاحد إلّا طاهر مطهّر، ويقعد الملك والشرائع، ويصير الدين لله واصباً، فإذا صفت جرت أنهارها بالماء واللبن والعسل والخمر بغير بلاء ولا غائلة، وتفتح أبواب السماء بالبرّ وتمطر السماء خيرها، وتُخرج الأرض كنوزها وتعظم البرة حتّى تصير حمل بعير، ويجتمع الإنسان والسبع والطير والحيّة وسائر من يدبّ في بقعةٍ واحدة، فلا يوحش بعضهم بعضاً، بل يؤنسه ونحادثه، ويشرب الذئب والشاة من موردٍ واحد، ويصدران كما يصدر الرجلان المتواخيان في الله من وردهم، وتخرج الفتاة العاتق والعجوز العاقر وعلى رأسها مكيال من دقيق أو بُرّ أو سويق، وتبلغ حيث شاءت من الأرض ولا يمسّها نصبٌ ولا لغوب، وترتفع الأمراض والأسقام، ويستغني المؤمن عن قصّ شعره وتقليم أظافره وغسل أثوابه، وعن حمام وحجّام وعن طبٍّ وطبيب، ويُفصح عن كلّ ذي نطقٍ من البشر والدوابّ والطير والهوامّ والدبيب، وتُفقد جميع اللغات ولم يبقَ إلّا اللغة العربيّة بإفصاح لسانٍ واحد، ولا يخرج المؤمن من الدنيا

ص: 388

حتّى يرى من صلبه ألف ولدٍ ذكرٍ مؤمن موحّدٍ تقي».

قال المفضّل: يا مولاي، فماذا يصنع أمير المؤمنين بدواً؟ قال: «يصنع والله ما قاله بخطبته: وأيام لا تكون الدنيا إلى شابغرنوق، ولأقفنّ في كلّ موقفٍ كان لي وعلَي، ولأتركنّ ظالمي وناصبي شقيّ تَيم وعَديّ للمهديّ من وُلدي، حتّى يتولّى نبشهما وعذابهما وإحراقهما ونسفهما في اليمّ نسفاً، ولأركضنّ برجلي في رحبة جامع الكوفة، فأُخرج منها اثني عشر ألف صدّيقٍ من شيعتي مكتوبٌ على تلك البيض أسماؤهم وأنسابهم وقبائلهم وعشائرهم، ولأسيرنّ من دار هجرتي الكوفة حتّى أُفني العالم قدماً قدماً بسيفي ذي الفقار، حتّى آتي جبل الديلم فأصعده، وأستهلّ طريقه وأقطع خبره، ولآتينّ بلقاء الهند وبيضاء الصين الّتي كلتا جواريها حور العين، ولآتينّ مصر وأعقد على نيلها جسراً، ولأنصبنّ على مجراها منبراً، ولأخطبنّ عليه خطبة طوبى لمن عرفني فيها ولم يشكّ فيّ، والويل والعويل والنار والثبور لمن جهل أو تجاهل أو نسي أو تناسى أو أنكر أو تناكر، ولآتينّ جابلقا وجابرصا، ولأنصبنّ رحى الحرب وأطحن بها العالم طحن الرحى لباب البر، ولآتينّ كوراً، ولأسبكنّ الخلق فيها سبك خالص التبر وحرق اللجين، ولألقطنهم على وجه الأرض وشواهق الجبال وبطون الأودية والمغارات وأطباق الثرى التقاط الديك سمين الحب من يابسه وعجفه، ولأقتلنّ الروم والصقالب والقبط والحبش والعراق والكرد والأرمن والقلف والهمج والغلف والأعابد والبزغز والزغزغ والقردة والخنازير وعبدة الطاغوت، فهم الشراة والناصبة والمرجية والبتريّة والجهميّة والمقصّرة والمرتفعة».

قال المفضّل: قلت للصادق علیه السلام: يا مولاي، مَن المقصّرة والمرتفعة؟ قال: «يا مفضّل، المقصّرة: هم الّذين هداهم الله إلى فضل علمنا وأفضى إليهم سرّنا،

ص: 389

فشكّوا فينا وأنكروا فضلنا، وقالوا: لم يكن الله ليعطيهم سلطانه ومعرفته! وأما المرتفعة: هم الّذين يرتفعون بمحبّتنا وولايتنا أهل البيت، وأظهروه بغير حقيقة، وليس هم منّا ولا نحن منهم ولا أئمتهم، أُولئك يُعذَّبون بعذاب الأُمم الطاغية حتّى لا يبقى نوعٌ من العذاب إلّا وعُذبوا به».

قال المفضّل: يا مولاي، أليس قد روينا عنكم أنّكم قلتم: الغالي نردّه إلينا والتالي نُلحقه بنا؟ قال: «يا مفضّل، ظننتَ أنّ التالي هم المقصّرة؟»، قال: كذا ظننتُ يا سيّدي. قال: «كلّا، التالي هم من خيار شيعتنا القائلين بفضلنا المستمسكين بحبل الله وحبلنا، الّذين يزدادون بفضلنا علماً، وإذا ورد على أحدهم خبرٌ قبله وعمل به ولم يشكّ فيه، فإن لم يُطقه ردّه إلينا ولم يَردّ علينا، فذلك هو التالي! وأما الغالي فليس، فقد اتّخذنا أرباباً من دون الله، وإنّما اقتدى بقولنا إذ جعلونا عبيداً مربوبين مرزوقين، فقولوا بفضلنا ما شئتم فلن تُدركوه».

قال المفضّل: يا مولاي، إنّ الغالي من ذكر أنكم أرباباً [أرباب] عند الشيعة من دون الله؟ قال: «ويحك يا مفضّل! ما قال أحدٌ فينا إلّا عبد الله بن سبأ وأصحابه العشرة الّذين حرقهم أمير المؤمنين في النار بالكوفة، وموضع إحراقهم يُعرف بصحراء الأُخدود، وكذا عذّبهم أمير المؤمنين بعذاب الله، وهو النار عاجلاً، وهي لهم آجلاً. ويحك يا مفضّل! إنّ الغالي في محبّتنا نردّه إلينا ويثبت ويستجيب ولا يرجع، والمقصّرة تدعوه إلى الإلحاق بنا والإقرار بما فضّلنا الله به، فلا يثبت ولا يستجيب ولا يلحق بنا؛ لأنهم لمّا رأونا نفعل أفعال النبيّين قبلنا ممّا ذكرهم الله في كتابه وقصّ قصصهم وما فرض إليهم من قدرته وسلطانه، حتّى خلقوا وأحيوا

ص: 390

ورزقوا وأبرؤوا الأكمه والأبرص ونبّؤوا الناس بما يأكلون ويشربون ويدّخرون في بيوتهم ويعلمون ما كان وما يكون إلى يوم القيامة بإذن الله، وسلّموا إلى النبيّين أفعالهم وما وصفهم الله، وأقرّوا لهم بذلك وجحدوا بغياً علينا وحسداً لنا على ما جعله الله لنا وفينا وما أعطاه الله لسائر النبيّين والمرسلين والصالحين وازدادنا من فضله ما لم يعطهم إيّاه، وقالوا: ما أُعطي النبيّون هذه القدرة الّتي أظهرها إنّما صدّقناها وأنزل بها لأنّ الله أنزلها بكتابه، ولو علموا -- ويحهم -- أنّ الله ما أعطاه من فضله شيئاً إلّا أنزله بسائر كتبه وصفنا به، ولكنّ أعداؤنا لا يعلموه، وإذا سمعوا فضلنا أنكروه وصدّوا عنه واستكبروا، وهم لا يشكّون في آدم علیه السلام لمّا رأوا [رأى] أسماءنا مكتوبة على سرادق العرش، قال: إلهي وسيّدي، خلقتَ خلقاً قبلي، وهو أحبّ إليك منّي. قال الله: يا آدم، نعم، لولا هؤلاء الأسماء المكتوبة على سرادق العرش ما خلقتُ سماءً مبنيّةً ولا أرضاً مدحيّةً ولا ملكاً مقرّب [مقرباً] ولا نبيّاً مرسَلاً، ولا خلقتُك يا آدم. قال: إلهي، ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك يا آدم، فاستبشر وأكثر من حمد الله وشكره. وقال: بحقّهم يا ربّ اغفر خطيئتي. فكنّا واللهِ الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فاجتباه وتاب عليه وهداه، وإنّهم لَيروون أنّ الله خلقنا نوراً واحداً قبل أن يخلق خلقاً ودنياً وآخرةً وجنّةً وناراً بأربعة آلاف عام، نُسبّح الله ونقدّسه ونهلّله ونكبّره».

قال المفضّل: يا سيّدي، هل بذلك شاهدٌ من كتاب الله؟ قال: «نعم، هو قوله (تعالى): «لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» إلى قوله: «وَقَالُوا اتَّخَذَ

ص: 391

الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» ((1)). ويحك يا مفضّل! ألستم تعلمون أنّ مَن في السماوات هم الملائكة، ومَن في الأرض هم الجانّ والبشر وكلّ ذي حركة؟ فمَن الّذين فيهم ومَن عنده الّذين قد خرجوا من جملة الملائكة؟». قال المفضّل: مَن تقول يا مولاي؟ قال: «يا مفضّل، و«مَن» نحن الّذين كنّا عنده ولا كون قبلنا، ولا حدوث سماءٍ ولا أرضٍ ولا ملكٍ ولا نبيٍّ ولا رسول». قال المفضّل: فبكيت وقلت: يا ابن رسول الله، هذا واللهِ الحقّ المبين، وهل نجد في كلامكم والأخبار المرويّة عنكم شاهداً بما وجدتني [أوجدتني] في كتاب الله؟ قال: «نعم، في خطبة أمير المؤمنين علیه السلام يوم ضرب سلمان بالمدينة وخروجه إلى الجبانة وخروج أمير المؤمنين (إليه التسليم) إليه، وقوله: اسأل يا سلسل سبيلك، لا تجهل، اسألني يا سلمان أُنبئك البيان أوضحك البرهان. فقال سلمان: يا أمير المؤمنين، أودعني الحياة وأهلي [أهلني] الخطوة [الحظوة]، إنّ للرشاد [الرشاد] إذا بلغ نزح بغزيته، وهذا اليوم مواضي ختم المقادير. ثمّ تنفّس أمير المؤمنين صعداً وقال: الحمد لله مدهّر الدهور وقاضي الأُمور ومالك يوم النشور، الّذي كنّا بكينونيته قبل الحلول في التمكين، وقبل مواقع صفات التمكين في التكوين كائنين غير مكونين، ناسبين غير متناسبين، أزليين لا موجودين ولا محدودين منه بدونا وإليه نعود، لأنّ الدهر فينا قسمت حدوده، ولنا أخذت عهوده،

ص: 392


1- ([1]) سورة الأنبياء: 19 -- 29.

وإلينا ترد شهوده، فإذا استدارت ألوف الأدوار وتطاول الليل والنهار وقامت العلامة الوفرة والسامة والقامة الأسمر الأضخم والعالم غير معلم والخبير أيضاً يعلم، قد ساقتهم الفسقات واستوغلت بهم الحيرات ولبتهم الضلالات وتشتتت بهم الطرقات، فلا يجير مناص إلّا إلى حرم الله، سيؤخذ لنا بالقصاص من عرف غيبتنا ثمّ شهدنا، نحن أشبه بمشابيهنا والأعلون، موالينا كالصخرة من الجبال المتهابة، نحن القدرة ونحن الجانب ونحن العروة الوثقى، محمّد العرش عرش الله على الخلائق، ونحن الكرسي، وأُصول العلم، ألا لعن الله السالف والتالف وفسقة الجزيرة ومن أواها ينبوعاً، أنا باب المقام وحُجّة الخصام ودابّة الأرض وفصل القضا وصاحب العصا وسدرة المنتهى وسفينة النجاة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها ضلّ وهوى، ألم يقيم [يقم] الدعائم في تخوم أقطار الأكناف، ولا من أغمد فساطيط أصحاب الأعلى كواهل أنوارنا، نحن العمل ومحبتنا الثواب وولايتنا فصل الخطاب، ونحن حجبة الحجاب، فإذا استدار الفلك قلتم: بأيّ وادٍ سلَك؟ قلتم: مات أو هلك، أو في أيّ وادٍ سلك؟ فنادى إلى الله تتّخذ الروم النجاة ومنجدة، لأنّ المطيع هو السامع، والسامع العامل، والعامل هو العالم، والعالم هو الساتر، والساتر هو الكاتم، والمولى هو الحاسد، فغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون، من طرفي الحبل المتين إلى قرار ذات المعين، إلى سبطة التمكين، إلى وراء بيضاء الصين، إلى مصارع مطارح قبور الطالقانيّين، إلى قرن ياسر وأصحاب سنين الأعلين العالمين الأعظمين، إلى كتمة أسرار طواسين، إلى البيداء الغبرة الّتي حدّها الثرى الّتي قواعدها جوانبها إلى ثرى الأرض السابعة السفلى، كذاالخالق لما يشاء، سبحانه وتعالى عمّا يُشركون».

ص: 393

قال المفضّل: إنّ هذا الكلام عظيم يا سيّدي، تحار فيه العقول، فثبّتني ثبّتك الله، وعرّفني ما معنى قول أمير المؤمنين الّذي كنّا بكينونيته في التمكين؟ قال الصادق: «نعم يا مفضّل، الّذي كنّا بكينونيته في القدم والأزل: هو المكوّن ونحن المكان، وهو المُنشئ ونحن الشيء، وهو الخالق ونحن المخلوقون، و هو الربّ ونحن المربوبون، وهو المعنى ونحن أسماؤه المعاني، وهو المحتجِب ونحن حجبه قبل الحلول في التمكين، ممكنين لا نحول ولا نزول، وقبل مواضع صفات تمكين التكوين، قبل أن نوصف بالبشرية والصور والأجسام والأشخاص، ممكن مكون كائنين لا مكونين كائنين عنده أنواراً لا مكونين أجسام، وصور ناسلين لا متناسلين محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف إلى آدم، والحسن والحسين من أمير المؤمنين وفاطمة من محمّد، وعليّ من الحسين ومحمّد من عليّ وجعفر من محمّد وموسى من جعفر وعليّ من موسى ومحمّد من عليّ وعليّ من محمّد والحسن من عليّ ومحمّد من الحسن، بهذا النسب لا متناسلين ذوات أجسام ولا صور ولا مثال، إلّا أنوار نسمع الله ربّنا ونطيع، يسبّح نفسه فنسبّحه ويهلّلها فنهلّله ويكبّرها فنكبّره ويقدّسها فنقدّسه ويمجّدها فنمجّده في ستّة أكوان منها ما شاء من المدة، وقوله: أزليّين لا موجودين: وكنا أزليين قبل الخلق لا موجودين أجساماً ولا صوراً».

قال المفضّل: يا سيّدي، ومتى هذه الأكوان؟ قال: «يا مفضّل، أمّا الكون الأول نوراني لا غير ونحن فيه، والكون الثاني جوهري لا غير ونحن فيه، والكون الثالث هوائي لا غيرونحن فيه، والكون الرابع مائي لا غير ونحن فيه، والكون

ص: 394

الخامس ناري لا غير ونحن فيه، والكون السادس ترابي لا غير، فأظلّة ودُور ثمّ سماء مبنية وأرض مدحية فيها الجان الذي خلقه الله من مارج من نار إلى أن خلق الله آدم من التراب».

قال المفضّل: يا سيّدي، فهل كان في هذه الأكوان خلقاً [خلق] منها في كلّ كون؟ قال: «نعم يا مفضّل».

قال المفضّل: يا سيّدي، فهل نجد الخلق الّذي كان فيها ونعرفهم؟ قال: «نعم، ما من كونٍ إلّا وفيه نوري وجوهري وهوائي ومائي وناري وترابي، يا مفضّل، تحب أن أقرب عليك وأُريك أنّ فيك من هذه الستّة أكوان؟ اعلم أنّه خلقك وخلق هذه البشر وكلّ ذي حركةٍ من لحم ودم»، قال: يا سيّدي، أين ذلك؟ قال: «يا مفضّل، الّذي من الكون النوراني نور في ناظريك، وناظرك بمقدار حبّة عدس، ثمّ ترى بها ما دركاه من السماء والهوام والأرض ومَن عليها، وفيك من الكون الجوهري يُحسن ويعقل وينظر، وهو ملك الجسد، وفيك من الكون الهوائي الهواء الذي منه نفسك وحركاتك وأنفاسك المتردّدة في جسدك، وفيك من الكون المائي رطوبة ريقك ودموع عينيك وما يخرج من نفسك والسبيلين اللذين هما منك، وفيك من الكون الناري النار الّتي في تراكيب جسدك، وهو المنضج المنفذ مأكلك ومشاربك وما يرد إلى معدتك، وهو الذي إذا حكت بعض ببعض كدت أن تقدح ناراً، وبتلك الحرارة تمت حركاتك، ولو لا الحرارة لكنت جماداً، وفيك من الكون الترابي عظمك ولحمك ودمك وجلدك وعروقك ومفاصلك وعصبك وتمام كمية جسمك». قال المفضّل: يا مولاي، إنّي لَأحسب أنّ شيعتك لو غلَت كلّ الغلوّ فيكمتهتدي إلى

ص: 395

وصف يسير ممّا فضلكم الله به من هذا العلم الجليل.

قال الصادق علیه السلام: «ما لَك يا مفضّل لا تسأل عن تفصيل الأكوان الستّة؟»، قلت: يا مولاي، بهرني والله عظيم ما سمعتُه من السؤال. قال الصادق: «نحن كنّا في الكون النوراني لا غير، وفي الجوهري لا غير، وفي الهوائي خلق وهم جيل من الملائكة، أما سمعتَ قول جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله يقول: لا يوقعنّ أحدكم بوله من عالي جبل ولا من سطح بيت ولا من رأس رابية ولا في ماء؛ فإن للهواء سكاناً وللماء سكاناً؟».

قال المفضّل: نعم يا مولاي، ممّا خلق أهل الماء؟ قال: «خلقهم بصورٍ وأجسام نطقوا بثلاث وعشرين لغة، وقامت فيهم النذر والرسل والأمر والنهي، وصارت فيهم ولادات ونسل، وكونهم الذي يقول: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ((1))».

قال المفضّل: نعم يا مولاي، فالجانّ؟ قال الصادق علیه السلام: «لمّا خلق الله السماوات والأرض أسكن خلق الماء في البحار والأنهار والينابيع ومناقع الماء حيث كانت من الأرض، وأسكن الجانّ الّذي خلقه من مارج من نار، فقامت فيهم النذر والرسل ونطقوا بأربعة وعشرين لغة، وأمر إبليس بالسجود لآدم، والسجود هو الطاعة لا الصلاة، فأبى واستكبر وقال: لا أسجد لبشر؛ خلقتني من نارٍ وخلقته من طين. فافتخر على آدم وعصى الله وقاس -- ويله -- النار بالنور، وظنّ أنّ النار أفضل، ولو علم أنّ النور الّذي في آدم -- وهو الروح الّتينفخها الله فيه -- كان أفضل من النار الّتي خلق منها إبليس لفسد قياسه».

ص: 396


1- ([1]) سورة هود: 7.

قال المفضّل: يا مولاي، أوَليس يقال: إنّ إبليس من الملائكة؟ قال: «بلى يا مفضّل، هو من الملائكة، لا الروحانية ولا النورانية، ولا سكّان السماوات، ومعنى ملائكة هو اسم واحد فيصرف، فهو ملك ومالك ومملوك، هذا كلّه اسمٌ واحد، وكان أملاك الأرض، أما سمعتَ قول الله (تعالى):«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» ((1))، وقوله (تعالى): «وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ» ((2))، وقال: «يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ» ((3))، وقوله: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا» ((4))».

قال المفضّل: نعم يا سيّدي، علمتُ وفهمت، فكيف كانت الأظلّة؟ قال: «أما سمعتَ قول الله (تعالى): «أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا» ((5))؟ يا مفضّل، إنّ الله (سبحانه وتعالى) أوّل ما خلق النورَ الظلّي»، قلت: وممّا خلقه؟

ص: 397


1- ([1]) سورة الكهف: 50.
2- ([2]) سورة الحجر: 27.
3- ([3]) سورة الرحمان: 33.
4- ([4]) سورة الجنّ: 1 و2.
5- ([5]) سورة الفرقان: 45 و46.

قال: «خلقه من مشيئته، ثمّ قسّمه أظلّة، ألم تسمع قول الله (تعالى): «أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا»؟ خلقه قبل أن يخلق سماءً وأرضاً وعرشاً وماءً، ثمّ قسّمه أظلّة، فنظرت الأظلّة بعضها إلى بعض، فرأت نفسها فعرفت أنهم كوّنوا بعد أن لم يكونوا، وأُلهموا من المعرفة هذا المقدار، ولم يلهموا معرفة شيءٍ سواه من الخير والشر، ثمّ إنّ الله أدّبهم»، قال: كيف أدّبهم؟ قال: «سبّح نفسه فسبّحوه، وحمد نفسه فحمدوه، ولولا ذلك لم يكن أحدٌ يعرفه ولا يدري كيف يُثني عليه ويشكره، فلم تزل الأظلّة تحمده وتهلّله، فمكثوا على ذلك سبعة آلاف سنة، فنشكر الله ذلك لهم، فخلق من تسبيحهم السماء السابعة، ثمّ خلق الأظلّة أشباحاً، وجعلها لباساً للأظلّة، وخلق من تسبيح نفسه الحجاب الأعلى»، ثمّ تلا: ««وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ» ((1))، الوحي يعني الأظلّة، أو من وراء حجاب يعني الأشباح الّتي خُلقت من تسبيح الأظلّة، ثم خلق لهم الجنّة السابعة والسماء السابعة، وهي أعلى الجنان، ثمّ خلق آدم الأول، وأخذ عليه الميثاق وعلى ذريّته، فقال لهم: مَن ربّكم؟ قالوا: سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتَنا، فقال للحجاب الّذي خلقه من تسبيح نفسه: أنبئهم بأسمائهم ومِن أيّ شيءٍ خُلقوا، فأنبأهم الحجاب في ذلك، فكان الحجاب الأول يعلّمهم، فمن هناك وجبت الحُجّة على الخلق. ثمّ إنّ الله خلق على مثال ذلك سبعة آدم، وخلق لكلّ آدمٍ سماءً وجنّة،

ص: 398


1- ([1]) سورة الشورى: 51.

فجعل الأول مَن أجاب لأخذ الميثاق الأول، ثمّ الثاني واحداً بعد واحدٍ يفضل الأول في الأول، وخلق النور الثاني أفضل من الثالث، وخلق الأظلّة من إرادته على ما شاء، ثمّ أدّبهم على مثال الأول، وخلق لهم السماء الثانية والجنّة الثانية، وقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء ... قالوا: سبحانك لا علم لنا إلّا ما علمتَنا، فقال للحجاب الثاني: أنبئهم بأسمائهم ومِن أيّ شيءٍ خُلقوا، وأخذ من أهل السماء الثانية الميثاق للحجاب الثاني»، ثمّ قرأ: ««وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» ((1))، وهو الحجاب الأول»، ثمّ تلا: ««وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» ((2))، ثمّ خلق النور الثالث على مثال ما خلق النور الأول والثاني من الأظلّة والأشباح، والسماء والجنّة، وخلق الحجاب الثالث ورأسه كما رأس الحجاب الثاني، وأخذ ميثاقهم له، وأنبأهم كما أنبأ أهل السماء الثانية، فأجابوا على ما أجابوا، وكذلك بقيّة الأنوار والسماوات، وأضعفهم السابع، وإنّ ذلك أنّه أقلّهم نوراً وأرقّهم إيماناً ويقيناً. و خلق السماوات كلّها من سبعة أنوار، وجعل كلّ نورٍ متقدّم أفضل من صاحبه لسابقته في الإجابة، وذلك مقدار ذلك خمسين ألف سنة، وخلق في كلّ سماءٍ جنّةً وعيناً، وإنما احتملت كلّ سماءٍ أهلها وصارت قطباً لهم لأنّ الله خلقها من أعمالهم، والعيون السبعة الّتي في الجنان فإنها خُلقت من علوم أهلها، ثمّ خلق سبعة أيام، لكلّ سماءٍ يوماً، ثمّ خلق للأرواح أبداناً من نور».

وممّا أتى في الحديث الصحيح عن رسول الله أنه كان جالساً في محرابه

ص: 399


1- ([1]) سورة البقرة: 63.
2- ([2]) سورة البقرة: 189.

ووجهه كدارة البدر في وقت الاكتمال وكانت محدقة، من حوله الأنصار والمهاجرين ومَن آمن في نبوّته، فقام زيد بن حارثة وسعد بن مالك وقالا: يا رسول الله، سمعناك بالأمس تأتي بذكر الحسين بن علي وأبيه أمير المؤمنين، فقال صلی الله علیه وآله: «فسوف يظهر من قبائل ولدي الحسين ونسله إمامٌ يقال له: الإمام محمّد بن الحسن بن علي، وسوف تظهر قبيلة من نسله لا يحصى عددهم، وفي أيديهم السيوف المضريّة والخوَد الداوودية والثياب العدنانية، وهم يقيمون في نصرة ولدي الحسين، كأنهم معنا، وكأني أنظر إليهم يقدمون في سلك الكوفة بشعارهم مكلّلة، ويأخذون بثارات الحسين بن علي وأبيه أمير المؤمنين».

و يرجع الحديث إلى الصادق علیه السلام أنه قال: «يا مفضّل، فقد قال جدّي رسول الله صلی الله علیه وآله وذكرهم رجلاً رجلاً في خطبته، وكأني واعيها وناظرها يا مفضّل: حديثنا أهل البيت صعبٌ مستصعب غريب مستغرب، لا يحمله إلّا ملَكٌ مقرّب أو نبيٌّ مرسل أو عبدٌ مؤمن امتحن الله قلبه في العلم والإيمان. فقام إليه الأصبغ بن نباته فقال: فرّج عن شيعتك يا أمير المؤمنين بعلم هذا الصعب المستصعب الغريب المستغرب، قال: نعم يا أصبغ، إنّ الصعب هو المؤاساة، والمستصعب هو المساواة. قال الأصبغ: يا أمير المؤمنين، كيف المواساة والمساواة؟ قال: تواسي أخاك المؤمن من كلّ شيءٍ رزقك الله إيّاه، ولا تحرمه، ولا تمتحنه في دينه، فإذا امتحنته فوجدته حقيقي الإيمان مخلص التوحيد لزمتك مساواته، وهو أن تساويه في كلّ ما تملكه صغيراً كان أوكبيراً، تالداً أو طارفاً، وحتّى والله في الإبرة، فهذا والله هو المساواة والمواساة.

وقال أمير المؤمنين في خطبته المبرهنة: إنّ حديثنا أهل البيت صعبٌ

ص: 400

مستصعَب غريبٌ مستغرب، لا يحمله إلّا ملَكٌ مقرّب ولا نبيٌّ مرسل ولا عبدٌ امتحن قلبه بالإيمان، إلّا ما شاء الله وشئنا. فقام إليه إبراهيم بن الحسن الأزديّ فقال: يا أمير المؤمنين، بالّذي فضّلك الله بما فضّل به رسول الله صلی الله علیه وآله على العالمين، إنّ حُرمة أوليائك تحرزنا من أعدائك أن يسمعوا ما لا يستحقّوا علمه منك. قال أمير المؤمنين: يا إبراهيم، قد بلّغ الرسول وأقام البرهان والدليل ولزمه الحجّة، وبقت [بقيت] المجازاة، فاسئل يا إبراهيم. فقال: يا أمير المؤمنين، مَن هو الملك المقرّب والنبيّ المرسل والعبد الّذي امتحن الله قلبه للإيمان؟ لمَ لا يحملونه؟ قال: يا إبراهيم، أمّا الملَك المقرّب الّذي لم يحمل حديثنا كان من المؤمنين، يقال له: صلصائيل، نظر إلى بعض ما فضّلنا الله به ولم يطق حمله وشكّ فيه، فأهبطه الله من جواره ودقّ جناحه وأسكنه في جزائر البحر، وهو عند الناس أنه سهى وغفل عن تسبيحه فعاقبه الله في هذه العقوبة إلى الليلة التي وُلد فيها الحسين ابني، فإنّ الملائكة استأذنت الله في تهنئة جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وتهنئة أُمّه فاطمة، فأذن الله لهم، فنزلوا أفواجاً من العرش ومن سماءٍ إلى سماء، فمرّ منهم ملك وفوج من الملائكة بصلصائيل وهو مُلقىً في الجزيرة، فلما نظر إليهم وهو باكٍ حزين مستقيل الله فوقفوا ينظرون إليه، فقال لهم: يا ملائكة، إلى ما تريدون وفيما أهبطتم به؟ فقال لهالملك: يا صلصائيل، يُولَد في هذه الليلة أكرم مولد [مولود] في الدنيا بعد جدّه رسول الله صلی الله علیه وآله وعلى أبيه علي وعلى أُمّه فاطمة وأخيه الحسن، وقد استأذنّا الله في تهنئة جدّه محمّدٍ به فأذن لنا، فقال صلصائيل: يا ملائكة الله ربّي وربّكم، وأسئلكم به وبحبيبه محمّدٍ وبهذا المولود الكريم تأخذوني معكم إلى حبيب الله، وتسألونه وأسأله بحقّ هذا المولود الّذي أوهبه [وهب] الله له أن يغفر لي خطيئتي ويجبر كسري ويردّني إلى

ص: 401

مقامي مع الملائكة المقرّبين. فحملوه وأتوا إلى رسول الله صلی الله علیه وآله وهنّئوه بابنه الحسين، وقصّوا عليه قصّة الملك صلصائيل، وسألوه بجاه الله والإقسام عليه بحقّ الحسين أن يغفر خطيئته ويجبر كسر جناحه ويردّه إلى مقامه مع الملائكة المقرّبين، فقام رسول الله صلی الله علیه وآله ودخل على فاطمة علیها السلام فقال لها: يا موافقة [موفّقة]، ائتيني بابني الحسين. فأخرجَته إلى جدّه مقمّطاً يناغي، إلى أن أتت جدّه رسول الله، فأخذه وخرج به إلى الملائكة يحمله على بطن كفّه، وهلّلوا وكبّروا وحمدوا الله وأثنوا عليه في تهنئة رسول الله صلی الله علیه وآله ، فتوجّه به إلى القبلة ورفعه نحو السماء وقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ هذا ابني الحسين عليك أن تغفر لصلصائيل الملك خطيئته، وتجبر كسر جناحه، وتردّه إلى مقامه مع الملائكة المقرّبين. فهبط جبرائيل علیه السلام فقال: يا رسول الله، ربّك يُقرئك السلام ويقول لك: قد غفرتُ خطيئته وجبرتُ كسر جناحه، وردّيته إلى مقامه مع الملائكة، واجعلته [جعلته] مولى الحسين بن علي ابن فاطمة ابنتك يا محمّد، كرامةً لك وإلى الملائكة علیهم السلام، فاجبرت [فجبرت] كسر جناحه. فرجعت الملائكة وصلصائيلمعها إلى مقامه، فهو يُعرف بصلصائيل مولى الحسين بن علي علیه السلام. والنبيّ المرسَل فهو يونس بن متّى، فكان من قصّته أنه تنبأ بنبوته بأن ولائنا معقود بتوحيد الله (جلّ ذكره)، ولا يقبل الله من موحّدٍ توحيده إلّا بولايتنا ولا ينعقد إلّا بتوحيد الله (جلّ ذكره)، فشكّ فينا ولم يقرّ بأن ذلك شك يلحقه سخطٌ من الله (جلّ ذكره)، فكان كما قال الله (تعالى): «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ»» ((1)).

ص: 402


1- ([1]) سورة الأنبياء: 87.

قال المفضّل: يا سيّدي، وكان يونس في توبته يظنّ أنّ الله لا يقدر عليه؟! فقال: «يا مفضّل، إنما ظنّ أن لا يقدر عليه بشكّه فيما فضّلنا الله به، فسخط عليه وعاقبه، فكان من قصته ما قصّه الله في كتابه للعبد الّذي امتحن الله قلبه للإيمان».

قال المفضّل للصادق: يا سيّدي، إنّي أسألك أن تسأل الله أن يثبّتني وسائر شيعتك المخلصين لكم على ما فضّلكم الله به، ولا يجعلنا به شاكّين ولا مرتابين. قال الصادق: «يا مفضّل، قد فعلت، ولو لا دعاؤنا ما ثبتم».

قال المفضّل: يا مولاي، إنّي أُحبّ أن تفيدني شاهداً من كتاب الله عزوجل على ما فرضه الله لكم من سلطانه وقدرته. قال الصادق علیه السلام: «يا مفضّل، القرآن وسائر الكتب تنطق به لو كنتم تعلمون، فإنّي أُبيّن لكم ما هو في حقّنا في كتابه، وقوله: «فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» ((1))، «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَاوَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ * وَقَوْمَ نُوحٍ

ص: 403


1- ([2]) سورة الحِجر: 57 و58.

مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» ((1)). وإنّما هذا قول الرسول المفوَّض إليه، وهو المفوِّض إلينا ذلك العلم، لقول الله (تبارك وتعالى)، نحن نفعل منه بما يأمرنا بفعله، وهذا القول إشارة منّا إليه، وسنراه بينه وبين عباده ولا ملائكة بأكرم عنده منّا ولا أوثق».

قال المفضّل: يا سيّدي، مثل هذا في القرآن كثير! قال: «نعم يا مفضّل، ما كان في القرآن: أنزلنا، وإنّا جعلنا، وإنّا أرسلنا، وإنّا أوحينا، فهو قول الأنبياء والرسل المخوّلين في بسائط ملكوت السماء وتخوم الأرض، فهم نحن، ولا خلق الله شيء [شيئاً] بأكرم منّا عنده، وقد شرحتُه لك يا مفضّل هذا، فاشكر الله واحمده ولا تنسى [تنسَ] فضله، إنّ فضله كان عليك كبيراً، وما كان في كتابه العزيز: أنا وإيّاي، وخلقت، ورزقت، وأمتُّ، وأحييتُ، وأبديتُ، وأنشأتُ، وسوّيتُ، وأطعمتُ،وأرسلت، فهي من نطق ذاته إلينا يا مفضّل، ومثل هذا كثير، ولقد آتيناك من لدنّا ذكراً» ((2)).

ص: 404


1- ([1]) سورة الذاريات: 33 -- 51.
2- ([1]) أُنظر: الهداية الكبرى للحضيني: 392، مختصر بصائر الدرجات للحلّي: 433، بحار الأنوار للمجلسي: 1 / 53 الباب 28.

الفصل العاشر: في بدو نوره وبعض الآيات النازلة في ولادته علیه السلام وغير ذلك

في (العوالم)، عن كتاب (المحتضر) للحسن بن سليمان: من كتاب السيّد حسن بن كبش، ممّا أخذه من المقتضب، مسنداً عن سلمان الفارسيّ رحمه الله قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «يا سلمان، خلقني الله من صفوة نوره، فدعاني فأطعتُه، وخلق من نوري عليّاً، فدعاه (إلى طاعته) فأطاعه، وخلق من نوري ونور عليٍّ فاطمة، فدعاها فأطاعته، وخلق منّي ومن عليٍّ و(من) فاطمة الحسن والحسين، فدعاهما فأطاعاه، فسمّانا الله عزوجل بخمسة أسماء من أسمائه، فالله المحمود وأنا محمّد، والله العلي وهذا علي، والله فاطر وهذه فاطمة، ولله الإحسان وهذا الحسن، والله المحسن وهذا الحسين علیه السلام، ثمّ خلق [منّا و] من نور الحسين علیه السلام تسعة أئمة، فدعاهم فأطاعوه قبل أن يخلق الله [عزّ وجلّ] سماءً مبنيّةً أو أرضاً مدحيّة أو

ص: 405

هواءً أو ماءً أو ملكاً، أو بشراً، وكنّا بعلمه أنواراً نسبّحهونسمع له ونطيع» ((1)).

وعن (كنز الفوائد)، عن ابن مسعود [في حديث]: قال النبي صلی الله علیه وآله: «يا ابن مسعود، إنّ الله خلقني وخلق عليّاً والحسن والحسين من نور قدسه، فلمّا أراد أن يُنشئ الصنعة فتق نوري وخلق منه السماوات والأرض، وأنا والله أجلُّ من السماوات والأرض، وفتق نور عليٍّ وخلق منه العرش والكرسي، وعليٌّ والله أجلّ من العرش والكرسي، وفتق نور الحسن وخلق منه الحور العين والملائكة، والحسن والله أجلّ من الحور العين والملائكة، وفتق نور الحسين وخلق منه اللوح والقلم، والحسين والله أجلّ من اللوح والقلم» ((2)).

وعن كتاب (المختصر) أيضاً، عن كتاب (نهج التحقيق)، مسنداً عن جابر، عن أبي جعفر علیه السلام، قال: قال: «إنّ الله (تعالى) خلق أربعة عشر نوراً من نور عظمته قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا». فقيل له: يا ابن رسول الله، عُدّهم بأسمائهم، فمَن هؤلاء الأربعة عشر نوراً؟ فقال: «محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وتسعة من ولد الحسين، وتاسعهم قائمهم»، ثمّ عدّهم بأسمائهم، ثمّ قال: «نحن والله الأوصياء الخلفاء من بعد رسول الله صلی الله علیه وآله » ((3)).

ص: 406


1- ([1]) العوالم للبحراني: 5 / 17 ح 1، مقتضب الأثر للجوهري: 6.
2- ([2]) تأويل الآيات الظاهرة للاسترآبادي: 592، بحار الأنوار للمجلسي: 36 / 73 ح 24.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 5 / 25 ح 7، المحتضر لابن فهد الحلي: 129.

وروى صاحب (الدرّ الثمين) في تفسير قوله (تعالى): «فَتَلَقَّىآدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ» ((1))، أنّه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمة علیهم السلام، فلقّنه جبرئيل: قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ علي، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن والحسين، ومنك الإحسان. فلمّا ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عَبرتي. قال جبرئيل: ولدك هذا يُصاب بمصيبةٍ تصغر عندها المصائب. فقال: يا أخي، وما هي؟ قال: يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً، ليس له ناصرٌ ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: «وا عطشاه، وا قلّة ناصراه»، حتّى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يُجبه أحدٌ إلّا بالسيوف وشرب الحتوف، فيُذبَح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحلَه أعداؤه، وتُشهَر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان، ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنّان. فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى ((2)).

روى صاحب (زهرة الكمال)، قال: لمّا أُخرج آدم علیه السلام من الجنّة، انحدر ببلدةٍ من بلاد الهند تُسمّى سرانديب، وبقيَ يبكي على مصيبته مدّةً طويلة، حتّى نُقل أنّه ظهرت لمحاكيه ولم يبقَ لها لحمٌ بفيه، فمنّ عليه الملك الجليل بإرسال جبرائيل، فكشف له عن بصره حتّى أراه ساق العرش، فرأى أنواراً

ص: 407


1- ([1]) سورة البقرة: 37.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 245 ح 44.

ساطعةً كالنجوم اللامعة، فتلاها، وإذا هي: مُحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من وُلده علیهم السلام، حصناً مَن دخله كان آمناً. فقال: يا أخي جبرائيل، هل خلق الله خلقاً أكرم منّي؟ قال:نعم. قال: متى خُلقوا؟ قال: قبل خلق السماوات والأرضين وقبلك بألفَي عام، ولولاهم ما خلقك الله (تعالى)، وهم من وُلدك. فقال: اللّهمّ يا مَن شرّفت هذا الوالد على الولد، اغفر لي خطيئتي. فغفر له ((1)).

وفي (تحفة المجالس): لمّا خلق الله آدم خلق حوّاء من ضلعه الأيسر لتكون له أُنساً، فخرجا يمشيان في الجنّة، فرأيا صورتهما في أوراق أشجار الجنّة، فتبخترا في الجنّة، وقال أحدهما للآخر: ما خلق الله خلقاً هو أحسن منّا! فأوحى الله إلى جبرئيل: «ائتِ بعبدَيّ الفردوس الأعلى»، فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلى قصرٍ عظيمٍ من ياقوتةٍ حمراء، جدرانه من زمرّدٍ أخضر، سقفه من لؤلؤ، فرشه من زمرّد، منقوش بأنواع الجوهر والذهب، وباب القصر موصود، قالا: يا جبرئيل، مَن داخل هذا القصر؟ ما سِرّه؟ قال جبرئيل: لا أعلم، ولكنّي أعلم أنّ نجماً يظهر كلّ ثلاثين ألف سنة، وقد رأيتُه ثلاثين ألف مرّة، وأنا لا أدري ماذا في هذا القصر ولا زال بابه موصود. فتوجّه آدم إلى الله قاضي الحاجات وقال: إلهي، علّمني مَن في هذا القصر؟! فجاء النداء: افتح لهم باب القصر. ففتح جبرئيل، فدخلا في

ص: 408


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 1 / 139 المجلس 7.

القصر، فرأوا جاريةً على عرشٍ من ياقوتةٍ حمراء، وهي من الجمال والجلال والكمال بحيث لا تقوى العينُ الباصرة النظر إليها، وعلى رأسها تاجٌ من نور أخضر، وعلى صدرها عِقدٌ من زبرجدٍ أخضر، وفي أُذنيها قرطين من الدرّ والؤلؤ تشعّ نوراً، وحول العرش كواكب منيرة ومئة ألف حوريّة كأنّها البدور الساطعة واقفة أيديهنّ على صدورهن برسم التعظيم والاحترام، لا يلتفتن يميناً ولا شمالاً حشمةً وحياءاً، فلمّا نظر آدم وحوّاء سجدا وقالا: لا يسوغ لناالوقوف بين يدَي هذه الجارية.

رُوي أنّ أول سجدةٍ سجدها آدميّ كانت سجدة آدم وحوّاء في القصر.

قال جبرئيل: يا آدم! أتعرف مَن هذه الجارية؟ قال: لا، قال: هذه بنت أفضل العالمين النبيّ الخاتم، الّذي خلقك الله وخلق كلّ المخلوقات من أجله، وهو المخاطَب ب-- : «لولاك لما خلقتُ الأفلاك». قال آدم: فما هذا التاج على رأسها؟ قال جبرئيل: يا آدم، هذا شبح ذات محمّدٍ أبيها. قال: فما هذا العِقد من الذهب والزبرجد في عنقها؟ قال: هذا زوجها وقرينها. قال: فما هذان القرطان المشعّان؟ قال: ولداها العزيزان الحسن والحسين. قال آدم: فمَن هم هؤلاء؟ قال: هم من وُلدك، لو لم يكونوا لما كنتَ ولا كانت حوّاء ولا كان مُلكٌ ولا ملكوت ولا عرش ولا كرسي ولا ملائكة في السماوات السبع والأرضين، لولاهم لما خلق الله الخلق، تعلّم أسماءهم فإنّها تنفعك. قال آدم: يا جبرئيل، فما هي أسماؤهم؟ قال: محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. فكرّر آدم الأسماء وحفظها في قلبه، ثمّ قال: يا جبرئيل، بقيَ شيء؟ قال

ص: 409

جبرئيل: وما هو؟ قال: القرطان، أحدهما أخضر والآخر أحمر، فما سرّ ذلك؟

فبكى جبرئيل وقال: اعلم يا آدم إنّ في ذريتك جمعٌ من أهل الكفر والنفاق والحسد والضلال، يجتمعون على قتل هذين المظلومين، يقتلون أحدهما بالسمّ الزُّعاف، والآخر بسيف الجَور والجفاء، فيخضرّ الأول ويُضرّج الآخر بدمه. فبكى آدم وحوّاء بكاءاً شديداً، وارتفع نحيبهما -- قيل: وكان ذلك أوّل بكاءٍ للبشر --، وبكى لبكائهما ملائكة السماوات السبع والجنان الثمان ورضوان والحور العين،وبقي آدم وحوّاء ذلك اليوم في عزاء، وأمر الله عزوجل صفوف الملائكة أن تذهب لتعزّي آدم وحوّاء وتسلّيهما وتشاركهما في العزاء، وتنسيهما المصيبة لينعما في نعيم الجنّة.

أمّا إبليس اللعين المطرود بسبب تمرّده وعصيانه لأمر السجود لآدم، فإنّه كان يتربّص بآدم ويبليه ويغرّه، فجاء إلى الحيّة والطاووس، وكانت الأُولى على باب الجنّة الأُولى والثاني على باب الجنّة الثانية، فخادعهما حتّى دخل الجنّة، ودنى من حوّاء فرغّبها في الأكل من الشجرة الممنوعة، وقال: إنّها شجرةٌ تحمل أنواع الثمار اللذيذة اللطيفة، ولا تحمل شجرةٌ في الجنّة مثل ثمارها طعماً. فقالت حوّاء: سمعتُ من آدم أنّنا مُنعنا من الأكل من هذه الشجرة. فقال: لم ينهكما الله عن هذه الشجرة، وإنّي لَصادق، ولو ذقتِ من ثمارها لعلمتِ صدقي. فدلّس على حوّاء حتّى أكلَت منها، ثمّ اختفى، فلمّا جاء آدم قصّت عليه القصّة، فأكل منها آدم، فسقط عنه تاج الكرامة، وأصابه مغَصٌ في أحشائه وألمٌ شديدٌ في بطنه، ونُزع عنه لباس السندس

ص: 410

والاستبرق، ونُزع عن حوّاء لباس الكرامة، وتعرايا، وتعرض لهما الملائكة، فاستحى آدم واضطرب وهو يسمع من كلّ ناحيةٍ خطاب: فعصى آدم ربّه فغوي! فبكى، وكان هذا البكاء الثاني لآدم، فوضع يديه على عورتيه ولم يجد ساتراً، فنظر إلى أوراق أشجار الجنّة فوجدها عريضةً تستر عورته، فلمّا اقترب منها ليأخذ من أوراقها كانت الأشجار تبتعد منه وتتمنّع عليه وتتطاول حتّى لا يأخذ من أوراقها، فاقترب من شجرة التين، فرحمته وأشفقَت عليه بعد أن رأت فيه آثار الحياء والتذلّل بعد أن كان في تلك العظمة والجلالة، فتدلّت عليه بأغصانها، فأخذ منها أربعة أوراق -- وقيل: ورقتين --،فوضع إحداهما من أمامه والأُخرى من خلفه، ودعا لشجرة التين وانصرف، فاستجاب الله لدعائه، لأنّ الله يجيب دعوة النادمين على المعاصي، فخاطب الله شجرة التين وقال: «لمَ مكّنتي آدم من أوراقك وقد امتنعَت عنه جميع أشجار الجنّة؟»، فقالت: يا مالك ويا ملك يا معبودي، رأيتُك تُعزّ آدم وتكرمه وتعظّم حرمته، ثمّ رأيتُه في الذلّة والاستكانة، فرحمتُه ومكّنتُه من أوراقي لرعاية حرمتك فيه، فإن كنتُ قد أخطأتُ فاغفر لي وارحمني. فجاء الخطاب من ربّ الأرباب: «أيّتها الشجرة، غفرتُ لكِ ذنبك بفضلي، لأنّكِ عظّمتي حرمتي فيه، وجعلتُ ثمرتكِ حلوة، وحرّمتُكِ على النار».

ثمّ إنّ آدم بعد أن ستر عورته أركبوه على الحيّة، وأركبوا حوّاء على الطاووس، اللّذَين تسبّبا في إغوائهما، وأُخرجا من الجنّة، فأُهبط آدم على جبل سرنديب في الهند، وأُهبطت حوّاء أطراف الحجاز قريباً من اليمن،

ص: 411

وكانت المسافة بينهما مقدار خمسين ألفاً وسبعمئة فرسخ.

فلمّا نزل آدم على السرنديب تفرّغ للبكاء والنياحة مدّة مئتَي سنة -- وبروايةٍ أصحّ: أربعين سنة --، وكان البكاء غذاؤه وشرابه، لا يهدأ ليلاً ونهاراً، وقد أظلمت الدنيا في عينيه، فأثّر فيه الجوع والعطش والسهر والهموم والغموم حتّى ضعف ونحف جسمه، فضجّ الملائكة في السماوات السبع والأرضين إلى الله، وتضرّعوا إليه وتوسّلوا وقالوا: إلهنا وسيّدنا، إنّك ستّارٌ غفّارٌ رحيمٌ كريم، إنّك خلقتَ آدم لغرضٍ ما، فاغفر لنا إن تجرأنا وبادرنا بهذا القول، فإنّ طمعنا في كرمك ورحمتك ومغفرتك.

فلمّا قال الملائكة ذلك تداركته رحمة الله، فصدر الخطاب إلىجبرئيل: أدركْ آدم. فهبط جبرئيل في الحال على جبل سرنديب، فوجد آدم بين الموت والحياة في الرمق الأخير، لا يقوى على حركة، وقد ذاب لحمه وأظلمت عينيه، وقد جرى نهران من دموعه وتخدّد وجهُه من كثرة البكاء وتشقّق جلده حتّى بان عظمه، فقال جبرئيل: يا آدم. فعرف آدمُ صوت جبرئيل، ولكنّه لم يردّ حياءاً، فناداه جبرئيل مرّةً أُخرى شفقةً ورحمة: يا آدم، أتذكر تلك الأسماء المقدّسة الّتي علّمتُك إيّاها في جنّة الفردوس؟ فقال آدم: يا جبرئيل، وهل يذكر أحدٌ شيئاً وهو في هذا الحال؟ فعلّمه جبرئيل الأسماء ثانية، فقال آدم: إلهي، ارحم ذلّي ومسكنتي، واغفر ذنبي وخطيئتي بحقّ محمّدٍ وعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين. ثمّ بكى حتّى أُغمي عليه،

ص: 412

«فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ((1)).

فما أتمّ آدم الكلمات حتّى جاء الخطاب إلى جبرئيل: «بشّر آدم أنّي قبلتُ توبته وغفرتُ له»، فبشّره جبرئيل أنّ الله قبل توبته ببركة الأسماء الّتي ذكرتَها وتشفّعت بها، فسجد آدم سجدةً طويلة حتّى بان بياض الصبح، وأحسّ أنّ أعضاءه وقوّته عادت إليه، فسجد مرّةً أُخرى، فلمّا رفع رأسه سأل جبرئيل: كانت الدنيا مظلمة، فكيف صارت مضيئة؟ قال جبرئيل: اسودّت الدنيا واظلمّت الآفاق من معصيتك، فلمّا قُبلَت توبتُك عاد الضياء إلى الدنيا، فجُعل لبني آدم ركعتين قربةً إلى الله مكان السجدتين اللتين سجدهما آدم علیه السلام.ثم إنّ جبرئيل جاء بآدم إلى عرفات ودفع إليه حوّاء، وإنّما سُمّيت عرفة عرفة لأنّ آدم وحوّاء تعارفا هناك ((2)) ((3)).

ص: 413


1- ([1]) سورة البقرة: 37.
2- ([1]) تحفة المجالس: 175 المقصد 3.
3- ([2]) في (كشف الغُمّة للأربلي: 1 / 456) و(بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 52) وغيرهما: وروى ابن خالويه في كتاب الآل، قال: حدّثني أبو عبد الله الحنبلي، قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن قضاعة، قال: حدّثنا أبو معاذ عبدان بن محمّد، قال: حدّثني مولاي أبو محمّد الحسن بن علي، عن أبيه عليّ بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن علي، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه عليّ بن أبي طالب دعلیهم السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: لمّا خلق الله آدم وحوّا تبخترا في الجنّة، فقال آدم لحوّا: ما خلق الله خلقاً هو أحسن منّا. فأوحى الله إلى جبرئيل: ائتِ بعبدَيّ الفردوس الأعلى. فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلى جاريةٍ على درنوكٍ من درانيك الجنّة وعلى رأسها تاجٌ من نور، وفي أُذنيها قرطان من نور، قد أشرقت الجنان من نور وجهها، فقال آدم: حبيبي جبرئيل، مَن هذه الجارية الّتي قد أشرقت الجنان من حُسن وجهها؟ فقال: هذه فاطمة بنت محمّد، نبيٍّ من وُلدك يكونُ في آخر الزمان. قال: فما هذا التاج الّذي على رأسها؟ قال: بعلها عليّ بن أبي طالب علیه السلام. قال: فما القرطان اللّذان في أُذنيها؟ قال: ولداها الحسن والحسين. قال آدم: حبيبي، أُخلقوا قبلي؟ قال: هم موجودون في غامض علم الله قبل أن تُخلَق بأربعة آلاف سنة.

وفي بعض الكتب أنّ الله رحم آدم علیه السلام بعد ارتكابه خلاف الأُولى لثلاث خصال: الأولى: الحياء، والثانية، البكاء، والثالثة: الدعاء.

أمّا حياؤه: فإنّه بعد أن هبط على سرنديب لم يرفع رأسه ثلاثمئة سنة حياءاً، ولم تكن خطيئته أكثر من مخالفته الأُولى.

أمّا بكاؤه: فقد رُوي في (عيون أخبار الرضا علیه السلام): خرجمن عينه اليمنى مثل الدجلة، والعين الأُخرى مثل الفرات ((1)) ((2))..

ورُوي أنّه بكى مئتَي سنةٍ حتّى صار على خدَّيه مثل النهرين العجاجين العظيمين من الدموع، وكانت طيور السماء تشرب من دموعه،

ص: 414


1- ([1]) عيون أخبار الرضا علیه السلام: 1 / 243.
2- ([2]) روضة الشهداء للكاشفي: 19.

ويقول بعضها لبعض: أيّ ماء عذبٍ هذا، لم نشرب مثله قطّ! فكان آدم يظنّ أنّ الطيور تعرّض به، ويقول: بلغ بي الأمر أن تستهزأ الطيور من دموعي، فجاءه الخطاب من ربّ الأرباب: يا آدم، صدقَت الطيور، إنّي لم أخلق جوهراً أنفس من دموع المحتاجين المتوسّلين ((1)).

أمّا دعاؤه: فقد جاءه جبرئيل وقال: يا آدم، إذا أردتَ التوبة فتوسّل بأسماء الخمسة أصحاب الكساء. فلقّنه جبرئيل: قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحق علي، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحق الحسن والحسين، ومنك الإحسان، أسألك أن تغفر لي. فلما ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي! قال جبرئيل: يا صفيّ الله، ولدك هذا يُصاب بمصيبةٍ تصغر عندها المصايب، يُقتَل عطشاناً غريباً فريداً ليس له ناصرٌ ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: «وا عطشاه، وا قلّة ناصراه»، حتّى يحول العطشُ بينه وبين السماء كالدخان، فلم يجبه أحدٌ إلّا بالسيوف وشرب الحتوف، فيُذبَح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحلَه أعداؤه، وتُشهر رؤوسهم هو وأنصارهفي البلدان ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنّان. فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى ((2)).

ص: 415


1- ([3]) روضة الشهداء: 19.
2- ([1]) أُنظُر: بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 245 ح 44.

وروى في (تحفة المجالس) ((1))، قال سلمان: مررتُ يوماً ببيت سيّدة النساء فاطمة الزهراء، فسمعتُها تأنّ وتشكو الجوع وشدّة التعب من الطحن بالرحى، فانكسر قلبي وبكيتُ حتّى جرت دموعي، فاستأذنتها للدخول، فقالت فضّة: يا سلمان، إنّ سيّدة النساء ابنة رسول الله من وراء الباب، عليها اليسير من الثياب. فأخذتُ عباءتي فرميتُ بها داخل الباب، فدخلت، فإذا أنا بفاطمة جالسة، قدّامها رحىً تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دمٌ سائل، والحسين في ناحية الدار يبكي، فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفاك وهذه فضّة. فقالت: «أوصاني رسول الله صلی الله علیه وآله أن تكون

ص: 416


1- ([2]) في (الخرائج والجرائح للراوندي: 2 / 530 ح 6): رُوي أنّ سلمان قال: كانت فاطمة علیها السلام جالسة قدّامها رحىً تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دمٌ سائل، والحسين في ناحية الدار يتضوّر من الجوع، فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفاك وهذه فضّة. فقالت: «أوصاني رسول الله صلی الله علیه وآله أن تكون الخدمة لها يوماً، فكان أمس يوم خدمتها». قال سلمان: قلت: إنّي مولى عتاقة، إمّا أنا أطحن الشعير أو أُسكت الحسين لكِ. فقالت: «أنا بتسكينه أرفق، وأنت تطحن الشعير». فطحنتُ شيئاً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصلّيت مع رسول الله صلی الله علیه وآله، فلمّا فرغتُ قلت لعلي: ما رأيت؟ فبكى وخرج، ثمّ عاد فتبسّم، فسأله عن ذلك رسول الله صلی الله علیه وآله، قال: «دخلتُ على فاطمة وهي مستلقية لقفاها والحسين نائمٌ على صدرها، وقُدّامها رحىً تدور من غير يد». فتبسّم رسول الله صلی الله علیه وآله وقال: «يا علي، أما علمتَ أنّ لله ملائكةً سيّارةً في الأرض، يخدمون محمّداً وآل محمد إلى أن تقوم الساعة؟».

الخدمة لها يوماً ولي يوماً، فكان أمس يوم خدمتها، واليوميوم خدمتي».

فحانت منّي التفاتة، فإذا أنا بالحسين في ناحيةٍ من الدار يتضوّر ويبكي، فقلت: يا سيّدة نساء العالمين، فاختاري إحدى الخصلتين: إمّا أن أطحن لك الشعير، أو أُسكت لكِ الحسين. قالت: يا أبا عبد الله، أنا أُسكته؛ فإنّي أرفق، وأنت تطحن الشعير.

قال: فجلستُ حتّى طحنتُ جزءً من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيتُ حتّى صلّيتُ مع رسول الله، فلمّا فرغتُ من الصلاة أتيتُ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وقلت: أنت هاهنا وفاطمة قد دبرت كفاها من طحن الشعير؟! فقام وإنّ دموعه لَتحدر على لحيته، وإنّ رسول الله صلی الله علیه وآله لَينظر إليه حتّى خرج من باب المسجد، فلم يمكث إلّا قليلاً فإذا هو قد رجع يتبسّم من غير أن تستبين أسنانه، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: «يا حبيبي، خرجتَ وأنت باكٍ ورجعت وأنت ضاحك!»، قال: «نعم، بأبي أنت وأُمّي، دخلتُ الدار وإذا فاطمة نائمة مستلقية لقفاها، والحسين نائم في المهد والمهد يتحرّك، وقدّامها الرحى تدور من غير يد، وسمعتُ هاتفاً يقول:

إنّ في الجنّة نهراً من لبن***لعليٍّ وحسينٍ وحسن»

فتبسم رسول الله صلی الله علیه وآله ، ثمّ قال: «يا علي، أُبشّرك أنّ هذا النهر لك ولشيعتك»، ثمّ قال: «علمتَ مَن كان يهزّ المهد؟»، قال: «الله ورسوله أعلم»، قال صلی الله علیه وآله: «إنّ الّذي يهزّ المهد جبرئيل، والّذي يطحن بالرحى ملائكة خلقهم الله يخدمون محمّداً وآل محمّدٍ إلى أن تقوم الساعة» ((1)).

ص: 417


1- ([1]) تحفة المجالس: 174 المقصد3 المعجزة 14.

وروى ابن بابويه، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام: «إنّجبرئيل علیه السلام نزل على محمّدٍ صلی الله علیه وآله وما وُلد الحسين بعد، فقال له: يولد لك غلامٌ تقتله أُمّتك من بعدك. فقال: يا جبرئيل، لا حاجة لي فيه. فخاطبه ثلاثاً، ثمّ دعا عليّاً فقال له: إنّ جبرئيل علیه السلام يخبرني عن الله عزوجل أنه يولد لك غلامٌ تقتله أُمّتك من بعدك. فقال: لا حاجة لي فيه يا رسول الله. فخاطب عليّاً علیه السلام ثلاثاً، ثمّ قال: إنّه يكون فيه وفي وُلده الإمامة والوراثة والخزانة. فأرسل إلى فاطمة علیها السلام أنّ الله يُبشّركِ بغلامٍ تقتله أُمّتي من بعدي. فقالت فاطمة: ليس لي حاجة فيه يا أبه. فخاطبها ثلاثاً، ثمّ أرسل إليها: لابدّ أن يكون فيه الإمامة والوراثة والخزانة. فقالت له: رضيتُ عن الله عزوجل، فعلقت وحملت بالحسين، فحملت ستّة أشهر ثمّ وضعَته، ولم يعش مولودٌ قطّ لستّة أشهر غير الحسين بن علي وعيسى ابن مريم علیه السلام، فكفلته أُمّ سلَمة، وكان رسول الله يأتيه في كلّ يومٍ فيضع لسانه في فم الحسين علیه السلام فيمصّه حتى يروى، فأنبت الله (تعالى) لحمه من لحم رسول الله صلی الله علیه وآله ، ولم يرضع من فاطمة علیها السلام ولا من غيرها لبناً قطّ، فلمّا أنزل الله (تبارك وتعالى) فيه: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» ((1))، فلو قال: أصلح لي ذرّيتي، كانوا كلّهم أئمّة، لكن خص هكذا» ((2)).

ص: 418


1- ([1]) سورة الأحقاف: 15.
2- ([2]) علل الشرائع للصدوق: 1 / 205 الباب 156 ح 3.

روى عليّ بن إبراهيم في قوله: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا» ((1))، قال: الإحسان رسول الله صلی الله علیه وآله ، وقوله: «بِوَالِدَيْهِ» إنّما عنى الحسن والحسين علیها السلام ((2)).

قال المؤلّف:

إنّما عبّر عن الإمامين علیهما السلام بالوالدين؛ لأنّ الإمام كالوالد للرعيّة في الشفقة عليهم ووجوب طاعتهم له، وكون حياتهم بالعلم والإيمان بسببه، فقوله: «إِحْسَاناً» نُصب على العلّة، أي: وصّينا كلّ إنسانٍ بإكرام الإمامين للرسول ولانتسابهما إليه ((3)).

وروى علي بن إبراهيم، عن سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لمّا حملت فاطمة بالحسين، جاء جبرئيل علیه السلام إلى رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: إنّ فاطمة ستلد ولداً تقتله أُمّتك من بعدك. فلما حملت فاطمة بالحسين كرهت حمله، وحين وضعته كرهت وضعه»، ثمّ قال أبو عبد الله علیه السلام: «هل رأيتم في الدنيا أُمّاً تلد غلاماً فتكرهه؟! ولكنّها كرهته لأنها علمت أنّه سيُقتَل!». قال: «وفيه نزلت هذه الآية: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ

ص: 419


1- ([1]) سورة الأحقاف: 15.
2- ([2]) تفسير القمّي: 2 / 397.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 43 / 247.

وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا» ((1))» ((2)).

وفي (أمالي الصدوق) مسنداً عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «وأقبل جيران أُمّ أيمن إلى رسول الله صلی الله علیه وآله فقالوا: يا رسول الله، إنّ أُمّ أيمن لم تنم البارحة من البكاء، لم تزل تبكي حتّى أصبحَت». قال: «فبعث رسول الله صلی الله علیه وآله إلى أُمّ أيمن، فجاءته، فقال لها: يا أُمّ أيمن، لا أبكى الله عينَيك، إنّ جيرانك أتوني وأخبروني أنّكِ لم تزلي الليل تبكين أجمع، فلا أبكى الله عينك، ما الّذي أبكاكِ؟ قالت: يا رسول الله، رأيتُ رؤياً عظيمة شديدة، فلم أزل أبكي الليل أجمع. فقال لها رسول الله صلی الله علیه وآله: فقصّيها على رسول الله، فإنّ الله ورسوله أعلم. فقالت: تعظم علَيّ أن أتكلّم بها. فقال لها: إنّ الرؤيا ليست على ما تُرى، فقصّيها على رسول الله. قالت: رأيتُ في ليلتي هذه كأنّ بعض أعضائك ملقىً في بيتي. فقال لها رسول الله: نامت عينك يا أُمّ أيمن، تلد فاطمةُ الحسين، فتربّينه وتلينه، فيكون بعض أعضائي في بيتك. فلمّا ولدت فاطمة الحسين علیه السلام فكان يوم السابع أمر رسول الله صلی الله علیه وآله فحلق رأسه وتصدّق بوزن شعره فضّة وعقّ عنه، ثمّ هيّأته أُمّ أيمن ولفّته في بُرد رسول الله صلی الله علیه وآله ، ثمّ أقبلَت به إلى رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال صلی الله علیه وآله: مرحباً بالحامل والمحمول، يا أُمّ أيمن هذا تأويل رؤياك» ((3)).

وفي (أمالي الطوسي)، عن الإمام الرضا علیه السلام، عن عليّبن الحسين علیه السلام

ص: 420


1- ([1]) سورة الأحقاف: 15.
2- ([2]) كامل الزيارات لابن قولويه: 55 الباب 26 ح 2.
3- ([3]) الأمالي للصدوق: 82 المجلس 19 ح 1.

قال: «حدثَتني أسماءُ بنت عميس الخثعمية، قالت: قبلتُ جدّتك فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه وآله بالحسن والحسين علیهما السلام، قالت: فلمّا ولدَت الحسنَ علیه السلام جاء النبيّ صلی الله علیه وآله فقال: يا أسماء، هاتي ابني. قالت: فدفعتُه إليه في خِرقةٍ صفراء، فرمى بها وقال: ألم أعهد إليكنّ أن لا تلفّوا المولود في خرقةٍ صفراء؟ ودعا بخرقةٍ بيضاء فلفّه فيها، ثمّ أذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في أُذنه اليسرى، وقال لعلي علیه السلام: بمَ سمّيتَ ابنك هذا؟ قال: ما كنتُ لأسبقك باسمه يا رسول الله. قال: وأنا ما كنتُ لأسبق ربّي عزوجل. قال: فهبط جبرئيل فقال: إنّ الله عزوجل يقرأ عليك السلام، ويقول لك: يا محمّد، عليٌّ منك بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدك، فسمِّ ابنك باسم ابن هارون. قال النبي صلی الله علیه وآله : يا جبرئيل، وما اسمُ ابن هارون؟ قال جبرئيل: شُبّر. قال: وما شُبّر؟ قال: الحسن. قالت أسماء: فسمّاه الحسن.

قالت أسماء: فلمّا ولدَت فاطمةُ الحسين علیهما السلام نفستُها به، فجاءني النبي صلی الله علیه وآله فقال: هلمّي ابني يا أسماء. فدفعتُه إليه في خرقةٍ بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسن علیه السلام، قالت: وبكى رسول الله صلی الله علیه وآله ، ثمّ قال: إنّه سيكون لك حديث، اللّهمّ العن قاتله، لا تُعلمي فاطمة بذلك. قالت: فلمّا كان يوم سابعه جاءني النبي صلی الله علیه وآله فقال: هلمّي ابني. فأتيتُه به، ففعل به كما فعل بالحسن علیه السلام، وعقّ عنه كما عقّ عن الحسن كبشاً أملح، وأعطى القابلة رجلاً، وحلق رأسه، وتصدّق بوزنالشعر ورقاً، وخلق رأسه بالخلوق، وقال: إنّ الدم من فعل الجاهلية. قالت: ثمّ وضعه في حِجره، ثمّ قال: يا أبا عبد الله، عزيز علَيّ. ثمّ بكى، فقلت: بأبي أنت وأُمّي، فعلتَ في هذا اليوم وفي اليوم الأول، فما هو؟! فقال: أبكي على ابني هذا، تقتله فئةٌ باغيةٌ كافرةٌ من بني أُميّة، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجلٌ يثلم الدين ويكفر

ص: 421

بالله العظيم. ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم في ذريّته، اللهم أحبّهما وأحبّ من يحبّهما، والعن من يبغضهما مل ء السماء والأرض» ((1)).

وفي بعض الأخبار: سمّى وُلده حسناً وحسيناً ومحسناً المسقط شهيداً من بطن أُمّه، سُمّوا باسم وُلد هارون: شُبّر وشبير ومشبّر، لأنّ عليّاً علیه السلام بمنزلة هارون ((2)).

وفي كتاب (عيون المعجزات) روى أنّ فاطمة علیها السلام ولدت الحسن والحسين من فخذها الأيسر، ورُوي أنّ مريم علیها السلام ولدت المسيح علیه السلام من فخذها الأيمن ((3)).

وفيه أيضاً رُوي أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله قام إلى الحسين وأخذه، فكان يسبّح ويهلّل ويمجّد ((4)).

وفي (الأمالي) للصدوق، عن صفيّة بنت عبد المطّلب قالت: لمّا سقط الحسين علیه السلام من بطن أُمّه فدفعتُه إلى النبي صلی الله علیه وآله ، فوضع النبيُّ لسانه في فيه [فمه] وأقبل الحسين علىلسان رسول الله يمصّه، قالت: وما كنتُ أحسب رسول الله يغذوه إلّا لبناً أو عسلاً، قالت: فبال الحسين عليه، فقبّل النبيّ

ص: 422


1- ([1]) الأمالي للطوسي: 367 المجلس 13 ح 32.
2- ([2]) أُنظُر: المسترشد للطبري: 448.
3- ([3]) عيون المعجزات لابن عبد الوهّاب: 59.
4- ([4]) عيون المعجزات لابن عبد الوهّاب: 64.

بين عينيه، ثمّ دفعه إليّ وهو يبكي ويقول: لعن الله قوماً هم قاتلوك يا بُني، يقولها ثلاثاً. قالت فقلت فداك أبي وأمي ومن يقتله قال بقية الفئة الباغية من بني أمية لعنهم الله((1)).

وفي كتاب (المناقب)، برة ابنة أُميّة الخزاعي قالت: لمّا حملَت فاطمة بالحسن خرج النبي صلی الله علیه وآله في بعض وجوهه، فقال لها: «إنكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا تُرضعيه حتّى أصير إليكِ». قالت: فدخلتُ على فاطمة حين ولدت الحسن وله ثلاثٌ ما أرضعَته، فقلت لها: أعطنيه حتّى أُرضعه، فقالت: «كلّا». ثمّ أدركتها رقّة الأُمّهات، فأرضعَته، فلمّا جاء النبي صلی الله علیه وآله قال لها: «ماذا صنعتِ؟»، قالت: «أدركني عليه رقّة الأُمّهات فأرضعتُه»، فقال: «أبى الله عزوجل إلّا ما أراد». فلمّا حملَت بالحسين قال لها: «يا فاطمة، إنكِ ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا تُرضعيه حتّى أجي ء إليكِ ولو أقمتُ شهراً!»، قالت: «أفعلُ ذلك». وخرج رسول الله صلی الله علیه وآله في بعض وجوهه، فولدت فاطمة الحسين علیه السلام، فما أرضعَته حتّى جاء رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال لها: «ماذا صنعتِ؟»، قالت: «ما أرضعتُه». فأخذه، فجعل لسانه في فمه، فجعل الحسين يمصّ، حتّى قال النبي صلی الله علیه وآله : «إيهاً حسين، إيهاً حسين»، ثمّ قال: «أبى الله إلّا ما يُريد، هيَ فيك وفي وُلدك»، يعني الإمامة. ولمّا مُنع الماء من الحسين علیهالسلام أخذ سهماً وعدّ فوق خيام النساء تسع خطوات، فحفر الموضع

ص: 423


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 136 المجلس 28 ح 5.

فنبع ماء طيّب، فشربوا وملؤوا قِربهم ((1)) ((2)).

وفي (المناقب) أيضاً، عن أبي الفضل أنّه اعتلّت فاطمة لمّا ولدت الحسين وجفّ لبنها، فطلب رسول الله مُرضعاً فلم يجد، فكان يأتيه فيُلقمه إبهامه فيمصّها، ويجعل الله له في إبهام رسول الله رزقاً يغذوه. ويُقال: بل كان رسول الله يُدخل لسانه في فيه فيغرّه كما يغرّ الطير فرخه، فيجعل الله له في ذلك رزقاً، ففعل ذلك أربعين يوماً وليلة، فنبت لحمه من لحم رسول الله صلی الله علیه وآله ((3)).

وفي (الكافي) بسنده عن الصادق علیه السلام [في حديث]: «لم يرضع الحسين من فاطمة علیها السلام ولا من أُنثى، كان يُؤتى به النبي فيضع إبهامه في فيه، فيمصّ منها ما يكفيها اليومين والثلاث، فنبت لحم الحسين علیه السلام من لحم رسول الله ودمه، ولم يولد لستّة أشهر إلّا عيسى ابن مريم علیه السلام والحسين بن علي علیهما السلام» ((4)).

في (الملهوف): كان مولد الحسين علیه السلام لخمس ليالٍ خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وقيل: اليوم الثالث منه، وقيل: في أواخر شهر ربيع

ص: 424


1- ([1]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 22.
2- ([2]) الخبر عامّي ولا ينتهي إلى معصوم، وما كانت سيّدة النساء علیها السلام لتعصي سيّد الأنبياء صلی الله علیه و آله، فما ورد في الخبر ممّا يوافق عصمة الطاهرة البتول ويُخبر عن منقبةٍ للسبطين سيّدَي شباب أهل الجنّة قبلناه.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 21.
4- ([4]) الكافي: 1 / 465، كامل الزيارات لابن قولويه: 57 الباب 16 ح 4.

الأول سنة ثلاثٍ من الهجرة، وروي غير ذلك ((1)).

وقال المجلسي: الأشهَر بين الشيعة أنّه وُلد في المدينة يوم الخميس الثالث من شعبان سنة أربع للهجرة ((2)).

وفي (الملهوف): قالت أُمّ الفضل زوجة العبّاس: رأيتُ في منامي قبل مولده كأنّ قطعةً من لحم رسول الله صلی الله علیه وآله قُطعَت فوُضعَت في حِجري، ففسّرت ذلك على رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال: «[يا أُمّ الفضل، رأيتِ خيراً،] إن صدَقَت رؤياك فإنّ فاطمة ستلد غلاماً وأدفعه إليكِ لتُرضعيه». قالت: فجرى الأمر على ذلك، فجئتُ به يوماً إليه فوضعتُه في حِجره، فبينما هو يقبّله فبال، فقطرت من بوله قطرةً على ثوب النبي صلی الله علیه وآله ، فقرصتُه فبكى، فقال النبي صلی الله علیه وآله كالمغضب: «مهلاً يا أُمّ الفضل، فهذا ثوبي يُغسَل، وقد أوجعتِ ابني!». قالت: فتركتُه في حِجره وقمتُ لآتيه بماء، فجئتُ فوجدتُه صلی الله علیه وآله يبكي، فقلت: ممّ بكاؤك يا رسول الله؟ فقال صلی الله علیه وآله : «إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ أُمّتي تقتل ولدي هذا، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة» ((3)).

وروى ابن بابويه أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله أُتي بالحسين بن علي علیه السلام فوُضع في حِجره، فبال عليه، فأخذ فقال: «لا تزرموا ابني». ثمّ دعا بماءٍ فصبّه

ص: 425


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 13.
2- ([2]) أُنظُر: جلاء العيون: 476 الباب 5 الفصل 1، بحار الأنوار: 98 / 101.
3- ([3]) اللهوف لابن طاووس: 14.

عليه ((1)).

وروى في (الملهوف) قال: فلمّا أتت على الحسين علیه السلام من مولده سنة كاملة، هبط على رسول الله صلی الله علیه وآله اثنا عشر ملَكاً، أحدهم على صورة الأسد، والثاني على صورة الثور، والثالث على صورة التنّين، والرابع على صورة وُلد آدم، والثمانية الباقون على صور شتّى، محمرّةً وجوههم باكيةً عيونهم، قد نشروا أجنحتهم وهم يقولون: يا محمّد صلی الله علیه وآله ، سينزل بولدك الحسين ابن فاطمة علیه السلام ما نزل بهابيل من قابيل، وسيُعطى مثل أجر هابيل، ويحمل على قاتله مثل وزر قابيل. ولم يبقَ في السماوات ملَكٌ مقرّب إلّا ونزل إلى النبي صلی الله علیه وآله ، كلٌّ يقرئه السلام ويعزّيه في الحسين علیه السلام، ويُخبره بثواب ما يُعطى، ويعرض عليه تربته، والنبي صلی الله علیه وآله يقول: «اللّهمّ اخذل مَن خذله، واقتل مَن قتله، ولا تمتّعه بما طلبه».

قال: فلمّا أتى على الحسين علیه السلام من مولده سنتان، خرج النبي صلی الله علیه وآله

في سفرٍ له، فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه، فسئل عن ذلك، فقال: «هذا جبرئيل علیه السلام يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يُقال لها: كربلاء، يُقتل عليها ولدي الحسين ابن فاطمة علیه السلام». فقيل له: مَن يقتله يا رسول الله؟! فقال صلی الله علیه وآله : «رجلٌ اسمه يزيد (لعنه الله)، وكأنّي أنظر إلى مصرعه ومدفنه». ثمّ رجع من سفره ذلك مغموماً، فصعد المنبر فخطب ووعظ، والحسن

ص: 426


1- ([1]) معاني الأخبار للصدوق: 211 ح 1.

والحسين علیهماالسلام بين يديه، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن علیه السلام ويده اليسرى على رأس الحسين علیه السلام، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللّهمّ إنّ محمّداً عبدك ونبيّك، وهذان أطائب عترتي وخيار ذريّتي وأُرومتي ومَن أُخلّفهما في أُمّتي، وقد أخبرني جبرئيل علیه السلام أنّ ولدي هذا مقتول مخذول، اللّهمّ فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشهداء، اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله». قال: فضجّ الناس في المسجد بالبكاء والنحيب، فقال النبي صلی الله علیه وآله: «أتبكونه ولا تنصرونه؟!».

ثمّ رجع صلی الله علیه وآله وهو متغيّر اللون محمرّ الوجه، فخطب خطبةً أُخرى موجزة وعيناه تهملان دموعاً، ثمّ قال: «أيّها الناس، إنّي قد خلّفتُ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي وأُرومتي ومزاج مائي وثمرة فؤادي ومهجتي، لن يفترقا حتّى يَرِدا علَيّ الحوض، ألا وإنّي أنتظرهما، وإنّي لا أسألكم في ذلك إلّا ما أمرني ربّي، أمرني أن أسألكم المودّة في القربى، فانظروا ألا تلقوني غداً على الحوض وقد أبغضتم عترتي وظلمتموهم، ألا وإنّه سترد علَيّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأُمّة: الأُولى رايةٌ سوداء مظلمة، وقد فزعت له الملائكة، فتقف علَيّ، فأقول: مَن أنتم؟ فينسون ذكري، ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب، فأقول لهم: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم، فيقولون: نحن من أُمّتك يا أحمد، فأقول لهم: كيف خلفتموني من بعدي في أهلي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فضيّعناه، وأمّا عترتك فحرصنا على أن نبيدهم عن آخرهم عن جديد الأرض. فأُولّي عنهم وجهي، فيصدرون ظماءً عطاشا، مسودّةً وجوههم. ثمّ ترد علَيّ رايةٌ أُخرى أشدّ سواداً من

ص: 427

الأُولى، فأقول لهم: كيف خلفتموني في الثقلين الأكبر والأصغر، كتاب ربّي وعترتي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فخالفنا، وأمّا الأصغر فخذلناهم ومزّقناهم كلّ ممزّق، فأقول: إليكم عنّي. فيصدرون ظماءً عطاشا مسودّاً وجوههم. ثمّ ترد علَيّ رايةٌ أُخرى، تلمع وجوههم نوراً، فأقول لهم: مَن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى، نحن أُمّة محمّد صلی الله علیه وآله ، ونحن بقيّة أهل الحقّ، حملنا كتاب ربّنا، فأحللنا حلاله وحرّمنا حرامه، وأحببنا ذريّة نبيّنا محمّد صلی الله علیه وآله ، فنصرناهم من كلّ ما نصرنا منه أنفسنا، وقاتلنا معهم مَن ناواهم، فأقول لهم: أبشروا، فأنا نبيّكم محمّد صلی الله علیه وآله ، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتُم. ثمّ أسقيهم من حوضي، فيصدرون مرويّين مستبشرين، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبد الآبدين».

قال: وكان الناس يتعاودون ذكر قتل الحسين علیه السلام ويستعظمونه ويرتقبون قدومه ((1)).

وفي (البحار) و(المنتخب)، عن ابن مسعودٍ قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله في مسجده، إذ دخل علينا فتيةٌ من قريش ومعهم عمر بن سعد (لعنه الله)، فتغيّر لون رسول الله، فقلنا له: يا رسول الله، ما شأنك؟ فقال: «إنّا أهل بيتٍ اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّي ذكرتُ ما يلقى أهل بيتي من أُمّتي من بعدي من قتلٍ وضربٍ وشتمٍ وسبٍّ وتطريدٍ وتشريد، وإنّ أهل بيتي سيُشرّدون ويُطردون ويُقتلون، وإنّ أوّل رأسٍ يُحمَل على رمحٍ في الإسلام رأس ولدي الحسين، أخبرني بذلك أخيجبرائيل عن الربّ الجليل». وكان الحسين حاضراً

ص: 428


1- ([1]) اللهوف لابن طاووس: 15.

عند جدّه في ذلك الوقت، فقال: «يا جدّاه، فمَن يقتلني من اُمّتك؟»، فقال: «يقتلك شرار الناس»، وأشار النبي صلی الله علیه وآله إلى عمر بن سعد (لعنه الله)، فصار أصحاب رسول الله إذا رأوا عمر بن سعد داخلاً من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحُسين علیه السلام((1))

وفي (البحار) مسنداً عن ابن نباتة قال: بينا أمير المؤمنين علیه السلام يخطب الناس وهو يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو الله لا تسألوني عن شيءٍ مضى ولا عن شيءٍ يكون إلّا نبّأتكم به»، فقام إليه سعد بن أبي وقّاص فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟ فقال له: «أما والله لقد سألتني عن مسألةٍ حدّثني خليلي رسول الله صلی الله علیه وآله أنّك ستسألني عنها، وما في رأسك ولحيتك من شعرةٍ إلّا وفي أصلها شيطانٌ جالس، وإنّ في بيتك لَسخلاً يقتل الحسين ابني»، وعمر بن سعد يومئذٍ يدرج بين يديه ((2)).

وروى المفيد في (الإرشاد) وغيره: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، فقال في خطبته: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو الله لا تسألوني عن فئةٍ تضلّ مئة وتهدي مئة إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة». فقام إليه رجلٌ فقال: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟ فقام أمير المؤمنين علیه السلام وقال: «والله لقد حدّثني خليلي رسول الله صلیالله علیه وآله بما سألتَ عنه، وإنّ

ص: 429


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 326 المجلس 5، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 19.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 42 / 146 الباب 124 ح 6، الأمالي للصدوق: 133.

على كلّ طاقة شعرٍ في رأسك ملَكاً يلعنك، وعلى كل طاقة شعر في لحيتك شيطاناً يستفزّك، وإنّ في بيتك لَسخلاً يقتل ابن رسول الله، وآية ذلك مصداق ما خبّرتك به، ولولا أنّ الّذي سألتَ عنه يعسر برهانه لَأخبرتك به، ولكنّ آية ذلك ما نبّأتُ به عن لعنتك وسخلك الملعون» ((1)).

وفي (المنتخب) قال: وكان له ولدٌ صغير في ذلك الوقت، فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحسين ما كان، نمى الصبيّ وتجبّر وتولّى قتل الحسين علیه السلام. وقيل: إنّ ذلك الصبيّ كان اسمه خولّى بن يزيد الأصبحي، وهو الّذي طعن الحسين برمحه فخرج السنان من ظهره، فسقط الحسين على وجهه يخور في دمه ويشكو إلى ربّه: «أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ» ((2)).

وفي (البحار): عبد الله بن شُريك العامريّ قال: كنتُ أسمع أصحاب عليٍّ إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين. وذلك قبل أن يُقتَل بزمانٍ طويل ((3)).

وفي (البحار) أيضاً: سالم بن أبي حفصة قال: قال عمر بن سعد

ص: 430


1- ([1]) الإرشاد للمفيد: 1 / 330، الاحتجاج للطبرسي: 1 / 261، إعلام الورى للطبرسي: 175، خصائص الائمّة: 62، شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد: 2 / 286، كشف اليقين: 75، نهج الحقّ: 241، بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 258.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 1 / 160 المجلس 8.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 19، الإرشاد للمفيد: 2 / 131، كشف الغُمّة للإربلي: 2 / 9.

للحسين علیه السلام: يا أبا عبد الله، إنّ قبلنا ناساً سفهاءيزعمون أنّي أقتلك! فقال له الحسين: «إنّهم ليسوا سفهاء، ولكنّهم حلماء، أما إنّه يقرّ عيني أن لا تأكل بُرّ العراق بعدي إلّا قليلاً» ((1)).

وفي (البحار) أيضاً مسنداً: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنّ موسى بن عمران علیه السلام سأل ربّه عزوجل فقال: يا رب، إنّ أخي هارون مات، فاغفر له. فأوحى الله عزوجل إليه: يا موسى، لو سألتني في الأولين والآخرين لَأجبتك، ما خلا قاتل الحسين بن عليّ، فإنّي أنتقم له من قاتله» ((2)).

وفي (المنتخب) أنّ موسى بن عمران رآه إسرائيلي مستعجلاً، وقد كسته الصفرة واعترى بدنه الضعف وحكم بفرائصه الرجف، وقد اقشعرّ جسمه وغارت عيناه ونحف؛ لأنّه كان إذا دعاه ربّه للمُناجاة يصير عليه ذلك من خيفة الله (تعالى)، فعرفه إسرائيلي وهو ممّن آمن به، فقال له: يا نبيّ الله، أذنبتُ ذنباً عظيماً، فاسألْ ربّك أن يعفو عنّي. فأنعم، وسار، فلمّا ناجى ربّه قال له: «يا ربّ العالمين، أسألك وأنت العالم قبل نطقي به»، فقال (تعالى): «يا موسى، ما تسألني أُعطيك، وما تريد أُبلّغك». قال: «ربّي، إنّ فلاناً عبدك إسرائيلي أذنب ذنباً ويسألك العفو»، قال: «يا موسى، أعفو عمّن استغفرني، إلّا قاتل

ص: 431


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 263 ح 20، الإرشاد للمفيد: 2 / 131، كشف الغمّة للإربلي: 2 / 9.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 300 ح 4، عيون أخبار الرضا علیه السلام: 2 / 47 ح 179، اللهوف لابن طاووس: 140.

الحسين». قال موسى: «يا ربّ، مَن الحسين؟»، قال له:«الّذي مرّ ذكره عليك بجانب الطور». قال: «ربّ، ومَن يقتله؟»، قال: «يقتله أُمّة جدّه الباغية الطاغية في أرض كربلاء، وتنفر فرسه وتحمحم وتصهل وتقول في صهيلها: الظليمة الظليمة، من أُمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها. فيبقى مُلقىً على الرمال من غير غُسلٍ ولا كفن، ويُنهَب رحله وتُسبى نساؤه في البلدان، ويُقتل ناصروه وتُشهر رؤوسهم مع رأسه على أطراف الرماح. يا موسى، صغيرهم يميته العطش، وكبيرهم جلده منكمش، يستغيثون ولا ناصر، ويستجيرون ولا خافر». قال: فبكى موسى وقال: «يا ربّ، ما لقاتليه من العذاب؟»، قال: «يا موسى، عذابٌ يستغيث منه أهل النار بالنار، لا تنالهم رحمتي ولا شفاعة جدّه، ولو لم تكن كرامةٌ له لخسفت بهم الأرض». قال موسى: «برئتُ إليك اللّهمّ منهم وممّن رضيَ بفعالهم». فقال (سبحانه): «يا موسى، كتبتُ رحمةً لتابعيه من عبادي، واعلم أنّه مَن بكى عليه وأبكى أو تباكى، حرّمتُ جسده على النار» ((1)).

ص: 432


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 284 المجلس 3.

الفصل الحادي عشر: في بيان صوم عاشوراء، وعلّة عدم منع القاتلين وعدم مسخ الأعداء وغير ذلك

في (الكافي)، عن أبان، عن عبد الملك قال: سألتُ أبا عبد الله علیه السلام عن صوم تاسوعاء وعاشوراء من شهر المحرّم، فقال: «تاسوعاء يوم حوصر فيه الحسين علیه السلام وأصحابه (رضي الله عنهم) بكربلاء، واجتمع عليه خيلُ أهل الشام وأناخوا عليه، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها، واستضعفوا فيه الحسين (صلوات الله عليه) وأصحابَه (رضي الله عنهم)، وأيقنوا أن لا يأتي الحسين علیه السلام ناصرٌ ولا يمدّه أهل العراق، بأبي المستضعف الغريب»، ثمّ قال: «وأمّا يوم عاشوراء فيومٌ أُصيب فيه الحسين علیه السلام صريعاً بين أصحابه، وأصحابه صرعى حوله عُراة، أفصومٌ يكون في ذلك اليوم؟! كلّا وربِّ البيت الحرام، ما هو يوم صوم، وما هو إلّا يوم حزنٍ ومصيبةٍ دخلَت على أهل السماء وأهل الأرض وجميع

ص: 433

المؤمنين، ويوم فرحٍ وسرورٍ لابن مرجانة وآل زياد وأهل الشام، غضب الله عليهم وعلى ذريّاتهم، وذلك يومٌ بكت عليه جميعُ بقاع الأرض خلا بقعة الشام، فمن صامه أو تبرّك به حشره الله مع آل زياد ممسوخ القلب مسخوط عليه، ومن ادّخر إلى منزله ذخيرةً أعقبه الله (تعالى) نفاقاً في قلبه إلى يوم يلقاه، وانتزع البركة عنه وعن أهل بيته ووُلده، وشاركه الشيطان في جميع ذلك» ((1)).

وفي (أمالي الصدوق) بإسناده عن جبلّة المكيّة قالت: سمعتُ الميثم التمّار (قدّس الله روحه) يقول: والله لَتقتلنّ هذه الأُمّة ابنَ نبيّها في المحرّم لعشرٍ مضين منه، ولَيتّخذنّ أعداءُ الله ذلك اليوم يوم بركة، وإنّ ذلك لكائن، قد سبق في علم الله (تعالى ذكره)، أعلمُ ذلك بعهدٍ عهده إليّ مولاي أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، ولقد أخبرني أنّه يبكي عليه كلُّ شيء، حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار والطير في جو السماء، وتبكي عليه الشمسُ والقمر والنجوم والسماء والأرض ومؤمنو الإنس والجنّ وجميع ملائكة السماوات ورضوان ومالك وحملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً. ثمّ قال: وجبت لعنة الله على قتلة الحسين علیه السلام كما وجبت على المشركين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخَر، وكما وجبت على اليهود والنصارى والمجوس. قالت جبلّة، فقلت له: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناسُ ذلك اليوم الّذي يُقتَل فيه الحسين بن علي علیه السلام يوم بركة؟! فبكى ميثم (رضوان الله

ص: 434


1- ([1]) الكافي للكليني: 4 / 147 ح 7.

عليه)، ثمّ قال: سيزعمون بحديثٍ يضعونه أنّه اليوم الّذي تاب الله فيه على آدم علیه السلام، وإنّما تاب الله على آدم علیه السلامفي ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الّذي قبل الله فيه توبة داوود، وإنّما قبل الله توبته في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الّذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنّما أخرجه الله من بطن الحوت في ذي القعدة، ويزعمون أنّه اليوم الّذي استوت فيه سفينة نوحٍ على الجودي، وإنّما استوت على الجوديّ يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الّذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل، وإنّما كان ذلك في شهر ربيع الأول. ثمّ قال ميثم: يا جبلة، اعلمي أنّ الحسين بن عليٍّ سيّدُ الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة، يا جبلّة، إذا نظرتِ إلى الشمس حمراء كأنّها دمٌ عبيط فاعلمي أنّ سيّدكِ الحسين قد قُتِل. قالت جبلة: فخرجتُ ذات يومٍ فرأيتُ الشمس على الحيطان كأنّه الملاحف المعصفرة، فصحتُ حينئذٍ وبكيت وقلت: قد والله قُتل سيّدنا الحسين بن علي علیهما السلام ((1)).

وفيه أيضاً، عن ابن فضّال، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا قال: «مَن ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء، قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه، جعل الله عزوجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره وقرّت بنا في الجنان عينُه، ومَن سمّى يوم عاشوراء يوم بركةٍ وادّخر فيه لمنزله

ص: 435


1- ([1]) الأمالي للصدوق: 126 المجلس 27 ح 1.

شيئاً، لم يبارَك له فيما ادّخر، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعُبيد الله بن زياد وعمر ابن سعد (لعنهم الله) إلى أسفل درك من النار» ((1)).وروى الشيخ الطوسي في (المصباح)، عن عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر بن محمّد علیه السلام في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممَّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك! فقال لي: «أوَفي غفلةٍ أنت؟ أما علمتَ أنّ الحسين بن عليٍّ أُصيب في مثل هذا اليوم؟». فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟ فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صومٍ كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعةٍ على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاءُ عن آل رسول الله وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله صلی الله علیه وآله مصرعهم، ولو كان في الدنيا يومئذٍ حيّاً لَكان صلی الله علیه وآله هو المعزّى بهم». قال: وبكى أبو عبد الله علیه السلام حتّى اخضلّت لحيتُه بدموعه، ثمّ قال: «إنّ الله (جلّ ذكره) لمّا خلق النور خلقه يوم الجمعة في تقديره في أوّل يومٍ من شهر رمضان، وخلق الظلمة في يوم الأربعاء يوم عاشوراء في مثل ذلك -- يعني يوم العاشر من شهر المحرّم -- في تقديره، وجعل لكلٍّ منهما شرعةً ومنهاجاً» ((2))..

وفي (علل الشرائع) بإسناده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: قلت

ص: 436


1- ([2]) الأمالي للصدوق: 126 المجلس 27 ح 4.
2- ([1]) مصباح المتهجّد للطوسي: 2 / 782.

لأبي عبد الله جعفر بن محمّدٍ الصادق علیه السلام: يا ابن رسول الله، كيف صار يوم عاشوراء يوم مصيبةٍ وغمّ وجزع وبكاءدون اليوم الّذي قُبض فيه رسول الله صلی الله علیه وآله ، واليوم الّذي ماتت فيه فاطمة علیه السلام، واليوم الّذي قُتل فيه أمير المؤمنين علیه السلام، واليوم الّذي قُتل فيه الحسن علیه السلام بالسمّ؟ فقال: «إنّ يوم الحسين علیه السلام أعظم مصيبة من جميع سائر الأيام؛ وذلك أنّ أصحاب الكساء الّذي كانوا أكرم الخلق على الله (تعالى) كانوا خمسة، فلمّا مضى عنهم النبي صلی الله علیه وآله بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام، فكان فيهم للناس عزاءٌ وسلوة، فلمّا مضت فاطمة علیه السلام كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين للناس عزاءٌ وسلوة، فلمّا مضى منهم أمير المؤمنين علیه السلام كان للناس في الحسن والحسين عزاءٌ وسلوة، فلمّا مضى الحسن علیه السلام كان للناس في الحسين علیه السلام عزاءٌ وسلوة، فلمّا قُتل الحسين علیه السلام لم يكن بقيَ من أهل الكساء أحدٌ للناس فيه بعده عزاءٌ وسلوة، فكان ذهابه كذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم، فلذلك صار يومه أعظم مصيبة». قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: فقلتُ له: يا ابن رسول الله، فلمَ لم يكن للناس في عليّ بن الحسين عزاءٌ وسلوةٌ مثل ما كان لهم في آبائه علیه السلام فقال: «بلى، إنّ عليّ بن الحسين كان سيّدَ العابدين وإماماً وحُجّةً على الخلق بعد آبائه الماضين، ولكنّه لم يلقَ رسول الله صلی الله علیه وآله ولم يسمع منه، وكان علمه وراثةً عن أبيه عن جدّه عن النبي صلی الله علیه وآله ، وكان أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام قد شاهدهم الناس مع رسول الله صلی الله علیه وآله في أحوالٍ في آنٍ يتوالى، فكانوا متى نظروا إلى أحدٍ منهم تذكّروا حاله مع رسول الله صلی الله علیه وآله وقول رسول الله له وفيه، فلمّا مضوا فقَدَ الناسُ

ص: 437

مشاهدة الأكرمين على الله عزوجل، ولم يكن في أحدٍ منهم فقْدُ جميعهم إلّا في فقد الحسين علیه السلام، لأنه مضى آخرهم، فلذلك صار يومه أعظم الأيام مصيبة».

قال عبد الله بن الفضل الهاشمي: فقلت له: يا ابن رسول الله، فكيف سمّت العامّةُ يوم عاشوراء يوم بركة؟ فبكى علیه السلام ثمّ قال: «لمّا قُتل الحسين علیه السلام تقرّب الناس بالشام إلى يزيد، فوضعوا له الأخبار وأخذوا عليه الجوائز من الأموال، فكان ممّا وضعوا له أمر هذا اليوم وأنّه يوم بركة، ليعدل الناسُ فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن إلى الفرح والسرور والتبرك والاستعداد فيه، حكَمَ الله ما بيننا وبينهم». قال: ثمّ قال علیه السلام: «يا ابن عم، وإنّ ذلك لَأقلّ ضرراً على الإسلام وأهله وضعه قومٌ انتحلوا مودّتنا وزعموا أنهم يدينون بموالاتنا ويقولون بإمامتنا، زعموا أنّ الحسين علیه السلام لم يُقتَل وأنّه شُبّه للناس أمره كعيسى ابن مريم، فلا لائمة إذن على بني أُميّة ولا عتب على زعمهم. يا ابن عم، مَن زعم أنّ الحسين علیه السلام لم يُقتَل فقد كذّب رسول الله صلی الله علیه وآله وعليّاً وكذّب من بعده الأئمة علیهم السلام في إخبارهم بقتله، ومَن كذّبهم فهو كافرٌ بالله العظيم ودمُه مباحٌ لكلّ مَن سمع ذلك منه». قال عبد الله ابن الفضل: فقلت له: يا ابن رسول الله، فما تقول في قومٍ من شيعتك يقولون به؟ فقال علیه السلام: «ما هؤلاء من شيعتي، وإنّي بريءٌ منهم، كذا وكذا وكذا وكذا، إبطال القرآن والجنّة والنار».

قال: فقلت: فقول الله (تعالى): «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي

ص: 438

السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ» ((1))، قال: «إنّ أُولئك مُسخوا ثلاثة أيّامٍ ثمّ ماتوا، ولم يتناسلوا، وإنّ القردة اليوم مثل أُولئك، وكذلك الخنازير وسائر المسوخ، ما وُجد منها اليوم من شيءٍ فهو مثله، لا يحلّ أن يؤكل لحمه»، ثمّ قال؟ع؟: «لعن الله الغُلاة والمفوّضة؛ فإنّهم صغّروا عصيان الله وكفروا به وأشركوا وضلّوا وأضلّوا فراراً من إقامة الفرائض وأداء الحقوق» ((2)).

وروى ابن بابويه، عن أبي الصلت الهرويّ قال: قلتُ للرضا علیه السلام: يا ابن رسول الله، إنّ في سواد الكوفة قوماً يزعمون أنّ النبي صلی الله علیه وآله لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: «كذبوا (لعنهم الله)، إنّ الّذي لا يسهو هو الله الّذي لا إله إلّا هو». قال: قلت: يا ابن رسول الله، وفيهم قوماً يزعمون أنّ الحسين بن علي علیه السلام لم يُقتَل، وأنّه أُلقي شبهه على حنظلة بن أسعد الشامي، وأنّه رُفع إلى السماء كما رُفع عيسى ابن مريم علیه السلام، ويحتجّون بهذه الآية: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» ((3))، فقال: «كذبوا، عليهم غضب الله ولعنته، وكفروا بتكذيبهم لنبيّ الله صلی الله علیه وآله في إخباره بأنّ الحسين بن علي علیه السلام سيُقتَل. واللهِ لقد قُتل الحسين علیه السلام وقُتل مَن كان خيراً من الحسين: أمير المؤمنين، والحسن ابن علي علیه السلام، وما منّا إلّا مقتول، وإنّي والله لَمقتولٌ بالسمّ باغتيال مَن يغتالني،

ص: 439


1- ([1]) سورة البقرة: 65.
2- ([2]) علل الشرائع للصدوق: 1 / 225 الباب 62 ح 1.
3- ([3]) سورة النساء: 141.

أعرفُ ذلك بعهدٍ معهودٍ إليّ من رسول الله صلی الله علیه وآله ، أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين عزوجل. وأما قول الله عزوجل: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»، فإنّه يقول: لن يجعل الله لكافرٍ على مؤمنٍ حُجّة، ولقد أخبر الله عزوجل عن كفّارٍ قتلوا النبيّين بغير الحقّ، ومع قتلهم إيّاهم لن يجعل الله لهم على أنبيائه علیهم السلام سبيلاً من طريق الحجّة» ((1)).

وفي كتاب (الاحتجاج)، عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: كنتُ عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضی الله عنه مع جماعةٍ منهم عليّ بن عيسى القصري، فقام إليه رجلٌ فقال له: أُريد أن أسألك عن شيء. فقال له: سَلْ عمّا بدا لك. فقال الرجل: أخبِرْني عن الحسين بن علي علیه السلام أهو وليّ الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قاتله (لعنه الله) أهو عدوّ لله؟ قال: نعم. قال الرجل: فهل يجوز أن يسلّط اللهُ عزوجل عدوَّه على وليّه؟ فقال أبو القاسم (قدّس الله روحه): إفهَمْ عنّي ما أقول لك، اعلم أنّ الله (تعالى) لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان ولا يشافههم بالكلام، ولكنّه (جلّت عظمتُه) يبعث إليهم من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم، ولو بعث إليهم رسُلاً من غير صنفهم وصوّرهم لَنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم، فلمّا جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم: أنتم بشرٌ مثلنا، لا نقبل منكم حتّى تأتونا بشيءٍ نعجز من أن نأتي بمثله،

ص: 440


1- ([1]) عيون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق: 2 / 203 ح 5.

فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه، فجعل الله عزوجل لهم المعجزات الّتي يعجز الخلق عنها، فمنهم مَن جاءبالطوفان بعد الإعذار والإنذار، فغرق جميعُ مَن طغى وتمرّد، ومنهم مَن أُلقي في النار فكانت عليه برداً وسلاماً، ومنهم مَن أخرج من الحجر الصلب الناقةَ وأجرى من ضرعها لبناً، ومنهم من فلق له البحر وفجّر له من العيون وجعل له العصا اليابسة ثعباناً تلقف ما يأفكون، ومنهم مَن أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله، وأنبأهم بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم، ومنهم من انشقّ له القمر وكلّمَته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك، فلمّا أتوا بمثل ذلك وعجز الخلقُ عن أُممهم مِن أن يأتوا بمثله كان من تقدير الله (جلّ جلاله) ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حالٍ غالبين وأُخرى مغلوبين، وفي حالٍ قاهرين وأُخرى مقهورين، ولو جعلهم الله في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتّخذهم الناسُ آلهةً من دون الله عزوجل،ولمّا عرف فضل صبّرهم على البلاء والمحن والاختبار، ولكنّه جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم؛ ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبّرين، وليعلم العباد أنّ لهم علیهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبّرهم فيعبدوه ويطيعوا رسُلَه، وتكون حُجّة الله ثابتةً على مَن تجاوز الحدّ فيهم وادّعى لهم الربوبيّة، أو عاند وخالف وعصى وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل، وليهلك مَن هلك عن بيّنةٍ ويحيى مَن حيّ عن بيّنة. قال محمّد بن

ص: 441

إبراهيم بن إسحاق رحمه الله: فعُدت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رحمه الله في الغد وأنا أقول في نفسي: أتُراه ذكر لنا ما ذكر يوم أمس مِن عند نفسه؟ فابتدأني وقال: يا محمّد بن إبراهيم، لئن أخرّ من السماء فتختطفني الطير أو تهوي بيَ الريح فيمكانٍ سحيق أحبُّ إليّ مِن أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل ومسموعٌ من الحجّة (صلوات الله عليه وسلامه) ((1)).

وروى في (الخصال) بإسناده عن عمارة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه علیه السلام قال: «إنّ أيّوب علیه السلام ابتُلي من غير ذنب، وإنّ الأنبياء لا يُذنبون، لأنهم معصومون مطهّرون، لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً»، وقال علیه السلام: «إنّ أيّوب علیه السلام مع جميع ما ابتُلي به لم ينتن له رائحةٌ ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدة من دمٍ ولا قيح، ولا استقذره أحدٌ رآه، ولا استوحش منه أحدٌ شاهده، ولا يدود شيءٌ من جسده، وهكذا يصنع الله عزوجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه، وإنّما اجتنبه الناسُ لفقره وضعفه في ظاهر أمره، لجهلهم بما له عند ربّه (تعالى ذكره) من التأييد والفرج، وقد قال النبي صلی الله علیه وآله : أعظمُ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل. وإنّما ابتلاه الله عزوجل بالبلاء العظيم الّذي يهون معه على جميع الناس لئلّا يدّعوا له الربوبيّة إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، ليستدلوا بذلك على أنّ الثواب من الله (تعالى

ص: 442


1- ([1]) الاحتجاج للطبرسي: 2 / 471، علل الشرائع للصدوق: 1 / 241.

ذكره) على ضربين: استحقاق واختصاص، ولئلّا يحتقروا ضعيفاً لضعفه، ولا فقيراً لفقره، ولا مريضاً لمرضه، وليعلموا أنّه يُسقِم مَن يشاء ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء بأيّسببٍ شاء، ويجعل ذلك عِبرةً لمن يشاء وشقاوةً لمن يشاء وسعادةً لمن يشاء، وهو في جميع ذلك عدلٌ في قضائه وحكيمٌ في أفعاله، لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم، ولا قوّة لهم إلّا به» ((1)).

وروى ابن بابويه والحِمْيَري، عن عليّ بن رئاب قال: سألتُ أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عزوجل: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ» ((2))، أرأيتَ ما أصاب عليّاً وأهلَ بيته هو بما كسبَت أيديهم، وهم أهل بيت طهارةٍ معصومون؟! فقال: «إنّ رسول الله صلی الله علیه وآله كان يتوب إلى الله عزوجل ويستغفره في كلّ يومٍ وليلةٍ مئة مرّةٍ من غير ذنب! إنّ الله عزوجل يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب» ((3)).

وروى الصفّار، عن ضريس، قال: قال: سمعتُ أبا جعفر علیه السلام يقول وأُناسٌ من أصحابه حوله: «إنّي أعجب من قومٍ يتولّوننا ويجعلوننا أئمةً ويصفون بأنّ طاعتنا عليهم مفترضةٌ كطاعة الله، ثمّ يكسرون حُجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصون حقّنا ويعيبون ذلك علينا مَن أعطاه الله برهان حقّ

ص: 443


1- ([1]) الخصال للصدوق: 2 / 399 ح 108.
2- ([2]) سورة الشورى: 30.
3- ([3]) معاني الأخبار للصدوق: 383 ح 15، الكافي للكليني: 2 / 450، تفسير القمّي: 2 / 277.

معرفتنا والتسليم لأمرنا، أترون أنّ الله (تبارك وتعالى) افترض طاعة أوليائه على عباده ثمّ يُخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم موادّ العلم فيما يرد عليهمممّا فيه قِوام دينهم؟». فقال له حِمران: جُعلتُ فداك يا أبا جعفر، رأيت ما كان من أمر قيام عليّ بن أبي طالب علیه السلام والحسن والحسين علیهما السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله وما أُصيبوا به مِن قِبل [قتل] الطواغيت إيّاهم والظفر بهم، حتّى قُتلوا وغُلبوا! فقال أبو جعفر علیه السلام: «يا حِمران، إنّ الله (تبارك وتعالى) قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه، فتقدّم [فبتقدّم] على [علمٍ من] رسول الله إليهم في ذلك قام عليٌّ والحسن والحسين علیهم السلام، ويعلم [بعلمٍ] صمت مَن صمت منّا، ولو أنّهم -- يا حمران -- حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله وإظهار الطواغيت عليهم سألوا اللهَ دفعَ ذلك عنهم وألحّوا فيه في إزالة مُلك الطواغيت، إذاً لَأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثمّ كان انقضاء مدّة الطواغيت وذهاب مُلكهم أسرعَ مِن سلكٍ منظوم انقطع فتبدّد، وما كان الّذي أصابهم من ذلك -- يا حمران -- لذنبٍ اقترفوه ولا لعقوبة معصيةٍ خالفوا الله فيها، ولكن لمنازل وكرامةٍ من الله أراد أن يبلغها [يبلغوها]، فلا تذهبنّ فيهم المذاهب بك» ((1)).

وفي روضة (الكافي) مسنداً عن الصادق علیه السلام: «ثلاثةٌ هم شِرار الخلق ابتُلي بهم خيار الخلق: أبو سفيان أحدهم، قاتلَ رسول الله صلی الله علیه وآله وعاداه، ومعاوية قاتلَ عليّاً علیه السلام وعاداه، ويزيد بن معاوية (لعنه الله) قاتلَ الحسين بن علي علیه السلام وعاداه

ص: 444


1- ([1]) بصائر الدرجات للصفّار: 124 الباب 5 ح 3، الكافي للكليني: 1 / 261.

حتّى قتله» ((1)).وفيه أيضاً، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الأشعث بن قيس شَرِك في دم أمير المؤمنين علیه السلام، وابنتَه جُعدة سمّت الحسن علیه السلام، ومحمّد ابنه شرك في دم الحسين علیه السلام» ((2)).

وفي (إرشاد) الديلمي، عن حمزة الثُّمالي، عن أبي جعفرٍ الباقر علیه السلام قال: «لمّا أراد أمير المؤمنين أن يسير إلى الخوارج بالنهروان، واستفزّ أهلَ الكوفة وأمرهم أن يعسكروا بالميدان، فتخلّف عنهم شبَث بنُ ربعيّ والأشعث بن قيس الكندي وجرير بن عبد الله البجَلي وعمرو بن حريث، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أتأذن لنا أن نقضيَ حوائجنا ونصنع ما نريد، ثمّ نلحق بك؟ فقال لهم: فعلتموها، سوءةً لكم من مشايخ، والله ما لكم تتخلّفون عنها حاجة، ولكنكم تتّخذون سفرةً وتخرجون إلى النزهة، فتأمرون وتجلسون وتنظرون في منظرٍ تتنحّون عن الجادّة، وتبسط سفرتكم بين أيديكم فتأكلون من طعامكم، ويمر ضبٌّ فتأمرون غلمانكم فيصطادونه لكم ويأتونكم به، فتخلعوني وتبايعون الضبّ وتجعلونه إمامكم دوني، واعلموا أنّي سمعتُ أخي رسولَ الله صلی الله علیه وآله يقول: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليخلو كلُّ قومٍ بمَن كانوا يأتمّون به في الحياة الدنيا. فمَن أقبح وجوهاً منكم وأنتم تحيلون أخا رسول الله صلی الله علیه وآله وابن عمّه وصهره، وتنقضون ميثاقه الّذي أخذه الله ورسوله عليكم، وتُحشرون يوم القيامة وإمامكم الضبّ؟ وهو قول الله عزوجل: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ

ص: 445


1- ([2]) الكافي للكليني: 8 / 234 ح 311.
2- ([1]) الكافي للكليني: 8 / 167 ح 187.

بِإِمَامِهِمْ» ((1)). فقالوا: والله يا أمير المؤمنين ما نريد إلّا أننقضي حوائجنا ونلحق بك. فولّى عنهم وهو يقول: عليكم الدمار والبوار، واللهِ ما يكون إلّا ما قلتُ لكم، وما قلتُ إلّا حقّاً. ومضى أمير المؤمنين علیه السلام ، حتّى إذا صار بالمدائن خرج إلى الخورنق، وهيّئوا طعاماً في سفره وبسطوها في الموضع، وجلسوا يأكلون ويشربون الخمر، فمرّ بهم ضبّ، فأمروا غلمانهم فاصطادوه وأتوهم به، فخلعوا أميرَ المؤمنين وبايعوه، وبسط لهم الضبّ يده، فقالوا: أنت واللهِ إمامُنا، ما بيعتنا لك ولعليّ بن أبي طالبٍ إلّا واحدة، وإنّك لَأحبّ إلينا منه. فكان كما قال أمير المؤمنين علیه السلام ، وكان القوم كما قال الله (تعالى): «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» ((2)). ثمّ لحقوا به، فقال لهم لمّا وردوا عليه: فعلتم يا أعداءَ الله وأعداء رسوله وأعداء أمير المؤمنين ما أخبرتُكم به؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ما فعلناه. فقال: والله لَيبعثنكم الله مع إمامكم. قالوا: قد أفلحنا يا أمير المؤمنين، إذاً بعثنا الله معك. فقال: كيف تكونوا [تكونون] معي وقد خلعتموني وبايعتم الضبّ؟ والله لكأني أنظر إليكم يوم القيامة والضبّ يسوقكم إلى النار. فحلفوا له بالله إنّا ما فعلنا ولا خلعناك ولا بايعنا الضب. فلما رأوه يكذّبهم ولا يقبل منهم أقرّوا له، وقالوا: اغفرْ لنا ذنوبنا. قال: والله لا غفرتُ لكم ذنوبكم، وقد اخترتم مسخاً مسخه الله وجعله آيةً للعالمين، وكذّبتم رسول الله صلی الله علیه وآله، وقد حدّثَني بحديثكم عن جبرائيل عن الله (سبحانه)، فبُعداً لكم وسحقاً. ثمّ قال: لئن كان مع رسول الله صلی الله علیه وآله منافقون، فإنّ معي منافقون [منافقين]، وأنتم هم! أما والله يا شبث بن

ص: 446


1- ([2]) سورة الإسراء: 71.
2- ([1]) سورة الكهف: 50.

ربعي وأنت يا عمرو بن حريث ومحمّد ابنك وأنت يا أشعث بن قيس لَتقتلنّ ابني الحسين علیه السلام، هكذا حدّثني حبيبي رسول الله صلی الله علیه وآله، فالويل لمن رسول الله خصمه وفاطمة بنت محمّد. فلمّا قُتل الحسين بن علي علیه السلامكان شبث بن ربعي وعمرو بن حريث ومحمّد بن الأشعث فيمن سار إليه من الكوفة وقاتلوه بكربلاء حتّى قتلوه» ((1)).

وفي (المناقب)، رُوي أنّ الحسين علیه السلام دعا: «اللّهم إنّا أهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته، فاقصم مَن ظلمَنا وغصبَنا حقّنا، إنّك سميعٌ قريب». فقال محمّد ابن الأشعث: وأيّ قرابةٍ بينك وبين محمّد؟ فقرأ الحسين علیه السلام: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ((2))، ثمّ قال: «اللّهمّ أرني فيه في هذا اليوم ذُلّاً عاجلاً». فبرز ابن الأشعث للحاجة، فلسعته عقرب على ذَكَره فسقط وهو يستغيث ويتقلّب على حدثه ((3)).

ص: 447


1- ([1]) إرشاد القلوب للديلمي: 2 / 275.
2- ([2]) سورة آل عمران: 33.
3- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 44، مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي: 1 / 352.

ص: 448

الفصل الثاني عشر: في بيان مسخ الأعداء ونسب بني أميّة وغير ذلك

في (العوالم)، عن السيّد المرتضى رضی الله عنه، عن خبرٍ روى النعماني في كتاب التسلّي، عن الصادق علیه السلام أنّه قال: «إذا احتضر الكافر حضره رسول الله صلی الله علیه وآله وعليٌّ (صلوات الله عليه) وجبرئيل وملَك الموت، فيدنو إليه علي علیه السلام فيقول: يا رسول الله، إنّ هذا كان يُبغضنا أهل البيت فأبغِضْه، فيقول رسول الله صلی الله علیه وآله: يا جبرئيل، إنّ هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فابغضه، فيقول جبرئيل لملك الموت: إنّ هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيته فابغضه وأعنِفْ به. فيدنو منه ملَك الموت فيقول: يا عبد الله، أخذتَ فكاك رقبتك؟ أخذتَ أمان براءتك؟ تمسّكتَ بالعصمة الكبرى في دار الحياة الدنيا؟ فيقول: وما هي؟! فيقول: ولاية عليّ ابن أبي طالب. فيقول: ما أعرفها ولا أعتقد بها. فيقول له جبرئيل: يا عدوّ الله، وما كنتَ تعتقد؟ فيقول له جبرئيل: أبشِرْ يا عدوّ الله بسخط الله وعذابه في النار، أمّا ما كنتَ ترجو فقد فاتك، وأمّا الّذي كنتَ تخاف قد نزل بك. ثمّ يسلّ نفسَه سلّاً عنيفاً،

ص: 449

ثمّ يُوكِل بروحه مئة شيطان كلّهم يُبصق في وجهه ويتأذّى بريحه، فإذا وُضع في قبره فُتح له بابٌ من أبواب النار، يدخل إليه من فوح ريحها ولهبها، ثمّ إنّه يُؤتى بروحه إلى جبال برهوت، ثمّ إنّه يصير في المركبات بعد أن يجري في كلّ سنخٍ مسخوط عليه، حتّى يقوم قائمنا أهل البيت، فيبعثه الله فيضرب عنقه، وذلك قوله: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» ((1))، والله لقد أُتيَ بعمر بن سعدٍ بعدما قُتل، وإنّه لَفي صورة قرد، في عنقه سلسلة، فجعل يعرف أهل الدار وهم لا يعرفونه، والله لا يذهب الأيام حتى يمسخ عدوّنا مسخاً ظاهراً، حتّى أنّ الرجل منهم لَيُمسَخ في حياته قرداً أو خنزيراً، ومن ورائهم عذابٌ غليظٌ، ومن ورائهم جهنّم وساءت مصيراً» ((2)).

وفي (الكافي)، عن الصادق علیه السلام: «كان معاوية صاحب السلسلة الّتي قال الله (تعالى): «فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ» ((3))، وكان فرعونَ هذه الأُمّة» ((4)).

ص: 450


1- ([1]) سورة غافر: 11.
2- ([2]) العوالم للبحراني: 17 / 623. قال البحراني: هذا خبرٌ غريب، ولم ينكره السيّد في الجواب، وأجاب بما حاصله: إنّا ننكر تعلّق الروح بجسدٍ آخر، ولا ننكر تغيّر جسمه إلى صورةٍ أُخرى. وأقول: يمكن حمله على التغيير في الجسد المثالي أو أجزاء جسده الأصليّ إلى الصور القبيحة، وسيأتي بعض القول في ذلك إن شاء الله في كتاب المعاد.
3- ([3]) سورة الحاقّة: 33.
4- ([4]) الكافي للكليني: 2 / 243 ح 1.

وفي (البصائر)، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال:«كنتُ خلف أبي وهو على بغلته، فنفرَت بغلتُه، فإذا رجل شيخ في عنقه سلسلة ورجلٌ يتبعه، فقال: يا عليّ بن الحسين، اسقني اسقني. فقال الرجل: لا تُسقِه، لا سقاه الله»، قال: «وكان الشيخ معاوية» ((1)).

وفيه أيضاً، عن عليّ بن المغيرة قال: نزل أبو جعفر علیه السلام بوادي ضجنان، فقال ثلاث مرّات: «لا غفر الله لك»، ثمّ قال لأصحابه: «أتدرون لمَ قلتُ ما قلت؟»، قالوا: لمَ قلت؟ جعلنا الله فداك! قال: «مرّ معاوية يجرّ سلسلة، قد أدلى لسانه، يسألني أن أستغفر له، وإنّه يُقال: هذا وادي ضجنان من أودية جهنّم» ((2)).

في تفسير عليّ بن إبراهيم، في سورة الحاقّة في تفسير قوله: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ»، قال: نزلَت في معاوية، «فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ»، يعني الموت، «مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ»، يعني ماله الّذي جمعه، «هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ»، أي: حُجّته، فيقال: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ»، أي: أسكنوه، «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ» ((3))، قال: معنى السلسلة السبعين ذراعاً في

ص: 451


1- ([1]) بصائر الدرجات للصفار: 285 الباب 7 ح 1، الاختصاص للمفيد: 275.
2- ([2]) بصائر الدرجات للصفار: 285 الباب 7 ح 3.
3- ([3]) سورة الحاقّة: 25 -- 32.

الباطن، هم الجبابرة السبعون ((1)).

وفيه أيضاً، عن الصادق علیه السلام: «لو أنّ حلقة من السلسلة الّتي طولها سبعون ذراعاً وُضعَت على الدنيا، لَذابت الدنيا من حرّها» ((2)).وفي (عقاب الأعمال) مسنداً عن عبد الله بن كثير الأرجاني ((3)) قال: صحبتُ أبا عبد الله علیه السلام في طريق مكّة من المدينة، فنزل منزلاً يقال له: عسفان، ثمّ مررنا بجبلٍ أسود على يسار الطريق وحش، فقلت: يا ابن رسول الله، ما أوحش هذا الجبل، ما رأيتُ في الطريق جبلاً مثله! فقال: «يا ابن كثير، أتدري أيّ جبلٍ هذا؟ هذا جبلٌ يقال له: الكمد، وهو على وادي [وادٍ] من أودية جهنّم، فيه قتلَةُ الحسين علیه السلام ، استودعهم الله، يجري من تحته مياه جهنّم من الغسلين والصديد والحميم، وما يخرج من طينة خَبال، وما يخرج من الهاوية، وما يخرج من العسير، وما مررتُ بهذا الجبل في مسيري فوقفتُ إلّا رأيتُهما يستغيثان ويتضرّعان، وإنّي لَأنظر إلى قتلة أبي فأقول لهما: إنّما فعلوه لما استمالوا، لم ترحمونا إذ وُلّيتم، وقتلتمونا وحرمتمونا، ووثبتم على حقّنا واستبددتم بالأمر دوننا، فلا يرحم الله من يرحمكما، ذوقا وبال ما صنعتما، وما الله بظلّامٍ للعبيد» ((4)).

ص: 452


1- ([4]) تفسير القمّي: 2 / 384.
2- ([5]) تفسير القمّي: 2 / 81.
3- ([1]) في المتن: (عبد الله بن بكير).
4- ([2]) ثواب الأعمال وعقاب الأعمال للصدوق: 218، المحتضر: 125، الاختصاص: 343، كامل الزيارات: 326 الباب 108 ح 2.

وفي (المنتخب): لمّا جمع ابن زياد (لعنه الله تعالى) قومه لحرب الحُسين علیه السلام ، كانوا سبعين ألف فارس، فقال ابن زياد: أيّها الناس، مَن منكم يتولّى قتل الحُسين وله ولاية أيّ بلدٍ شاء؟ فلم يجبه أحدٌ منهم، فاستدعى بعمر بن سعد (لعنه الله) وقال له: أُريد أن تتولّى حرب الحسين بنفسك. فقال له: أعفني من ذلك. فقال ابن زياد: قد أعفيتُك يا عمر، فاردُدْ علينا عهدنا الّذي كتبناه إليك بولاية الريّ.فقال عمر: أمهلني اللّيلة. فقال له: قد أمهلتُك. فانصرف عمر بن سعد إلى منزله، وجعل يستشير قومه وإخوانه ومَن يثق به من إخوانه، فلم يشر عليه أحدٌ بذلك، وكان عند عمر بن سعد رجلٌ من أهل الخير يُقال له: كامل، وكان صديقاً لأبيه من قبله، فقال له: يا عمر، ما لي أراك بهيئةٍ وحركة؟ فما الّذي أنت عازمٌ عليه؟! وكان كامل كاسمه ذا رأيٍ وعقلٍ ودينٍ كامل، فقال له ابن سعد (لعنه الله): إنّي قد وُلّيت أمر هذا الجيش في حرب الحسين، وإنّما قتله عندي وأهل بيته كآكلة آكلٍ أو كشربة ماء، وإذا قتلتُه خرجتُ إلى مُلك الري. فقال له كامل: أُفٍّ لك يا عمر بن سعد! تريد تقتل الحسين ابن بنت رسول الله؟! أُفٍّ لك ولدينك يا عمر! أسفهت الحقّ وضللت الهُدى؟ أما تعلم إلى حرب مَن تخرج ولِمَن تُقاتل؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون، واللهِ لو أُعطيتُ الدنيا وما فيها على قتل رجلٍ واحدٍ من أُمّة مُحمّدٍ لَما فعلت، فكيف تُريد قتل الحسين ابن بنت رسول الله؟! وما الّذي تقول غداً لرسول الله إذا وردتَ عليه وقد قتلتَ وَلده وقرّة عينه وثمرة فؤاده، ابنَ سيّدة نساء العالمين

ص: 453

وابنَ سيّد الوصيّين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين، وإنّه في زماننا بمنزلة جدّه في زمانه، وطاعته فرضٌ علينا كطاعته، وإنّه باب الجنّة والنار؟ فاختر لنفسك ما أنت مختار، وإنّي أشهد بالله إنْ حاربتَه أو قتلتَه أو أعنت عليه أو على قتله، لا تلبث في الدنيا بعده إلّا قليلاً. فقال له عمر بن سعد: فبالموت تخوّفني؟! وإنّي إذا فرغتُ من قتله أكون أميراً على سبعين ألف فارس، وأتولّى مُلك الري.

فقال له كامل: إنّي أُحدّثك بحديثٍ صحيح، أرجو لك فيه النجاة إن وُفّقت لقبوله، اعلم إنّي سافرتُ مع أبيك سعد إلى الشام،فانقطعَت بي مطيّتي عن أصحابي وتهتُ وعطشت، فلاح لي دير راهب، فملتُ إليه ونزلت عن فرسي وأتيت إلى باب الدير لأشرب ماء، فأشرف علَيّ راهبٌ من ذلك الدير وقال: ما تريد؟ فقلت له: إنّي عطشان. فقال لي: أنت من أُمّة هذا النبيّ الّذي يقتل بعضُهم بعضاً على حُبّ الدنيا مكالَبة، ويتنافسون فيها على حطامها؟ فقلت له: أنا من الأُمّة المرحومة، أُمّة محمّدٍ صلی الله علیه وآله. فقال: إنّكم أشرّ أُمّة، فالويل لكم يوم القيامة وقد عدوتم إلى عترة نبيّكم، تسبون نساءه وتنهبون أمواله! فقلت له: يا راهب، نحن نفعل ذلك؟ قال: نعم، وإنّكم إذا فعلتم ذلك عجّت السماوات والأرضون والبحارُ والجبال والبراري والقفار والوحوش والأطيار باللعنة على قاتله، ثمّ لا يلبث قاتلُه في الدنيا إلّا قليلاً، ثمّ يظهر رجلٌ يطلب بثأره، فلا يدع أحداً أُشرك في دمه إلّا قتله وعجّل الله بروحه إلى النار. ثمّ قال الراهب: إنّي لا أرى لك قرابةً من قاتل

ص: 454

هذا ابن الطيّب، والله إنّي لو أدركتُ أيّامه لَوقيتُه في نفسي من حرّ السيوف. فقلت: يا راهب، إنّي أُعيذ نفسي أن أكون ممّن يُقاتل ابن بنت رسول الله. فقال: إن لم تكن أنت فرجلٌ قريبٌ منك، وإنّ قاتله عليه نصفُ عذاب أهل النار، وإنّ عذابه أشدّ عذاباً من عذاب فرعون وهامان. ثمّ ردّ الباب في وجهي ودخل يعبد الله (تعالى)، وأبى أن يسقيني الماء.

قال كامل: فركبتُ فرسي ولحقت أصحابي، فقال لي أبوك سعد: ما أبطأك عنّا يا كامل؟ فحدّثتُه بما سمعتُه من الراهب، فقال لي: صدقت. ثمّ إنّ سعداً أخبرني أنّه نزل بدير هذا الراهب مرّةً من قبل، فأخبره أنّه هو الرجل ابن بنت رسول الله، فخاف أبوك سعدٌ من ذلك وخشيَ أن تكون أنت قاتله، فأبعدك عنه وأقصاك، فاحذرْ ياعمر أن تخرج عليه؛ يكون عليك نصف عذاب أهل النار. قال: فبلغ الخبر إلى ابن زياد، فاستدعى بكامل وقطع لسانه، فعاش يوم أو بعض يوم ومات (رحمه الله تعالى) ((1)).

وفي (المنتخب): رُوي أنّ عليّ بن أبي طالب علیه السلام لقيَ عمر بن سعد يوماً، فقال له: «كيف تكون إذا قمتَ مقاماً تتخيّر فيه بين الجنّة والنار، فتختار لنفسك النار؟»، فقال له: معاذ الله، أيكون ذلك؟! فقال له علیه السلام : «سيكون ذلك بلا شك» ((2)).

ص: 455


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 274 المجلس 3.
2- ([2]) المنتخب للطريحي: 275 / 2 المجلس 3.

وروي في (المناقب): وكان قد كتب لعمر منشوراً بالري، فجعل يقول:

فوالله ما أدري، وإنّي لَواقفٌ***أُفكّر في أمري على خطرَينِ

أأترك ملك الري، والريُّ مُنيتي***أم ارجعُ مذموماً بقتل حسينِ

ففي قتله النار الّتي ليس دونها***حجابٌ، ومُلك الريّ قُرّة عيني ((1))

وفي (العيون) مسنداً عن الرضا علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام، قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنّ قاتل الحسين بن علي علیه السلام في تابوتٍ من نار، عليه نصفُ عذاب أهل الدنيا، وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار، منكّس فيالنار حتّى يقع في قعر جهنّم، وله ريحٌ يتعوّذ أهل النار إلى ربّهم من شدّة نتنه، وهو فيها خالدٌ ذائق العذاب الأليم مع جميع مَن شايع على قتله، كلّما نضجَت جلودُهم بدّل الله عزوجل عليهم الجلود، حتّى يذوقوا العذاب الأليم، لا يفتر عنهم ساعة، ويُسقَون من حميم جهنّم، فالويل لهم من عذاب الله (تعالى) في النار» ((2)).

وفي (الكافي) مسنداً عن السكوني، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «اتّخِذوا الحمام الراعبيّة في بيوتكم؛ فإنّها تلعن قتلَةَ الحسين بن علي ، علیه السلام ولعن الله قاتله» ((3)).

وفيه أيضاً، عن داوود بن فرقد قال: كنتُ جالساً في بيت أبي عبد

ص: 456


1- ([3]) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 331، الفتوح لابن أعثم: 5 / 85.
2- ([1]) عيون أخبار الرضا؟ع؟ للصدوق: 2 / 47 الباب 31 ح 178.
3- ([2]) الكافي للكليني: 6 / 547 ح 13.

الله علیه السلام ، فنظرتُ إلى حمامٍ راعبي يقرقر طويلاً، فنظر إليّ أبو عبد الله علیه السلام فقال: «يا داوود، تدري ما يقول هذا الطير؟»، قلت: لا والله، جُعلتُ فداك. قال: «يدعو على قتلَة الحسين علیه السلام ، فاتّخذوا في منازلكم» ((1)).

وفي (البحار): إنّ ميسون بنت بجدل الكلبيّة أمكنت عبد أبيها عن نفسها، فحملت يزيد (لعنه الله)، وإلى هذا أشار النسّابة الكلبيّ بقوله:

فإن يكن الزمانُ أتى علينا***بقتل الترك والموت الوحي

فقد قتل الدعيُّ وعبدُ كلبٍ***بأرض الطفّ أولادَ النبي

أراد بالدعيّ: عبيدَ الله بن زياد (لعنه الله)، فإنّ أباه زياد ابن سميّة، كانت أُمّه سميّة مشهورة بالزنا، ووُلد على فراش أبي عُبيد عبد بني علاج من ثقيف، فادّعى معاوية أنّ أبا سفيان زنى بأُمّ زياد فأولدها زياداً وإنّه أخوه، فصار اسمه الدعيّ، وكانت عائشة تسمّيه: زياد ابن أبيه؛ لأنّه ليس له أبٌ معروف. ومراده بعبد كلب: يزيد بن معاوية، لأنّه من عبد بجدل الكلبي.

وأمّا عمر بن سعد (لعنه الله) فقد نسبوا أباه سعداً إلى غير أبيه، وإنّه من رجلٍ من بني عذرة، كان خدناً لأُمّه، ويشهد بذلك قول معاوية (لعنه الله) حين قال سعدٌ لمعاوية: أنا أحقّ بهذا الأمر منك، فقال له معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عذرة. وضرط له ((2)).

ص: 457


1- ([3]) الكافي للكليني: 6 / 547 ح 10.
2- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 44 / 309.

وفي (المنتخب): أمّا يزيد (عليه اللعنة) فإنّه كان جبّاراً عنيداً، خبيث الولادة: «وَالّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلّا نَكِداً» ((1)). وقد مرّ قول الحُسين علیه السلام فيه وفي أبيه أنّهما شُركاء الشيطان.

وأمّا عُبيد الله بن زياد، أُمّه: مرجانة، وأبوه: زياد دعيّ لأبي سفيان، وكان يُسمّى بين الناس: زياد بن أبيه؛ لأنّه لا يُعرف له أب، وكانت أُمّه سوداء نتنة الرائحة يُقال لها: سميّة، وكانت عاهرة ذات علم تُعرف به، وقد وطأها أبو سفيان وهو سكران، فعلقت منه بزياد على فراش بعلها، فدعاها أبو سفيان سرّاً، فلمّا آل الأمر إلى معاوية قرّبه إليه وأدناه ورفع منزلته، وعلاه واستخلفه في بلاد الأهواز، وأمّره على ثلاثمئة ألف فارس، وأمره بحرب الحسن علیه السلام ، ولم يزل يحاربه زماناً طويلاً حتّى دسّ إليه سمّاً فقتله، فماتمسموماً (رحمة الله عليه).

ولمّا آل الأمر إلى يزيد بن معاوية (لعنه الله تعالى)، جعل عُبيد الله بن زياد أميراً على الكوفة، وأمره بقتل الحسين علیه السلام ، فجهّز العساكر والجنود، وحالوا بينه وبين ماء الفرات، حتّى أنّهم قتلوه عطشاناً مظلوماً، وذبحوا أطفاله وسبوا عياله، ففعل ابن زياد (لعنه الله) أضعاف ما فعل يزيد (عليه اللعنة)، «وَالّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلّا نَكِداً». وأمّا هند بنت عتبة، عتبة (عليه اللعنة) قتله حمزة عمّ رسول الله، وكان عتبة أميراً في زمن الجاهليّة، وهو

ص: 458


1- ([2]) سورة الأعراف: 58.

الّذي حارب النبي في وقعة أُحد حرباً عظيماً، حتّى إنّه انكسر عسكر النبي صلی الله علیه وآله وشاع الخبر إلى المدينة بقتل النبي، ورفع الصراخ بالمدينة أنّه قُتل النبي، فانخشعت القلوب وبكت العيون وحزن الأقرباء، وبكت السماء، وفرح الأعداء، وكانت هند -- جدّة يزيد -- واقفة تضرب بالدفّ من شدّة فرحتها بقتل النّبي صلی الله علیه وآله، «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» ((1)).

وكان عُتبة (لعنه الله تعالى)، وهو الّذي رمى النبيّ بحجرٍ فكسر رباعيّته، وشقّ شفتيه، وشجّ رأسه الشريف، فوثب حمزةُ عمّ النبيّ فقتل عُتبة، فجاءت هند بنت عتبة لوحشي بهبةٍ على أن يقتل لها رسول الله، أو أن يقتل عليّاً أو حمزة، فقال لها وحشي: أمّا رسول الله فلا سبيل لي عليه؛ لأنّ أصحابه حافّين مِن حوله، وأمّا عليّ بن أبي طالب فإنّه إذا حارب فهو أحذرُ من الذئب وأروغ من الثعلب، ولا طاقة لي به، وأمّا حمزة فإنّي أقدر عليه؛ لأنّه إذا حارب وهاجفي الحرب، لم يعُد يُبصِر ما بين يديه وما خلفه. قال: فلمّا هاج حمزة في الحرب، كَمِن وحشيُّ وضربه على أُمّ رأسه فقتله، فخرّ صريعاً إلى الأرض، فجاءت هند بنت عتبة (عليهما اللعنة) ووقفت على جسد حمزة، وجذعت أُذنيه وأنفه، وشقّت بطنه، وقطعت أصابعه ونظمتها بخيطٍ وجعلتها قلادةً في عُنقها، ثمّ أخرجت كبد حمزة وأخذت منه قطعةً بأسنانها ومضغَتها؛ حنقاً منها عليه، وأرادت بلعها فلم تقدر على

ص: 459


1- ([1]) سورة التوبة: 32.

بلعها، فقذفتها، لأنّ الله (تعالى) صان كبد حمزة أن يحلّ في معدةٍ تُحرَق بالنار، فهل سمعتم أو رأيتم امرأةً أكلت كبد إنسانٍ غير هند (لعنها الله تعالى) ((1))؟!

وفي (إحقاق الحقّ)، عن طريق المخالفين، هشام بن محمّد بن السايب الكلبي في كتاب (المثالب)، فقال: كان معاوية لأربعة: لعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، ولمسافر بن عمر، ولأبي سفيان، ولرجلٍ آخَر سمّاه، قال: وكانت هند أُمّه من المعلّمات، وكان أحبّ الرجال إليه السودان، وكانت إذا ولدت أسود قتلَته، وأمّا حمامة فهي بعض جدّات معاوية، كان لها راية بذي المجاز، يعني من ذي الغايات في الزنا، وادّعى معاوية أُخوّة زياد، وكان له مدّعٍ يُقال له: أبو عبيد عبد بني علاج من ثقيف، فأقدم معاوية على تكذيب ذلك، مع أنّ الرجل زياد أُولد على فراشه، وادّعى معاويةُ أنّ أبا سفيان زنا بوالدة زياد وهي عند زوجها المذكور، وأنّ زياداً من أبي سفيان ((2)).

وعن إسماعيل بن عليّ السمعانيّ ((3)) الحنفي، أنّ مسافر بنعمرو بن أُميّة بن عبد شمس كان ذا جمالٍ وسخاءٍ، عشق هنداً، وجامعها سفاحاً،

ص: 460


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 213 / 1 المجلس 10.
2- ([2]) إحقاق الحقّ للتُّستري: 263.
3- ([3]) في المتن: (سمان).

فاشتهر ذلك في قريش، وحملَت هند، فلمّا ظهر السفّاح هرب مسافر من أبيها عُتبة إلى الحيرة، وكان فيها سلطان العرب عمرو بن هند، وطلب عتبة (أبو هند) أبا سفيان، ووعده بمالٍ كثير، وزوّجه ابنته هند، فوضعَت بعد ثلاثة أشهر معاوية، ثمّ ورد أبو سفيان على عمرو بن هند أمير العرب، فسأله مسافر عن حال هند، فقال: إنّي تزوّجتُها، فمرض ومات ((1)).

وقال الزمخشريّ في كتاب (ربيع الأبرار): كان معاوية يُعزى إلى أربعة: إلى مسافر بن أبي عمرو، وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة، وإلى العبّاس بن عبد المطّلب، وإلى الصباح مغنٍّ كان لعمارة بن الوليد، قال: وقد كان أبو سفيان دميماً قصيراً، وكان الصباح عسيفاً لأبي سفيان شابّاً وسيماً، فدعته هندُ إلى نفسها فغشيَها.

وقالوا: إنّ عُتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضاً، وقالوا: إنّها كرهَت أن تدَعْه في منزلها، فخرجت إلى أجيادٍ فوضعَته هناك، وفي هذا المعنى يقول حسّان أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة رسول الله صلی الله علیه وآله قبل عام الفتح:

لمَن الصبيّ بجانب البطحا***في الترب ملقىً غير ذي مهدِ

نجلت به بيضاء آنسة***من عبد شمسٍ صلتة الخدّ ((2))نجلت به بيضاء آنسة من عبد شمسٍ صلتة الخدّ ((3))

وذكر الزمخشريّ في كتاب (ربيع الأبرار) قال: كانت النابغة أُمّ عمرو بن

ص: 461


1- ([1]) نهج الحقّ للحلّي: 312.
2- ([2]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 336.
3- ([1]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 336.

العاص أَمةً لرجلٍ من عنزة، فسُبيَت، فاشتراها عبد الله بن جدعان التَّيميّ بمكّة، فكانت بغيّاً، ثمّ أعتقها، فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطّلب وأُميّة ابن خلف الجمحي وهشام بن المغيرة المخزومي وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل السهمي في طُهرٍ واحد، فولدت عمراً، فادّعاه كلّهم، فحكمت أُمّه فيه فقالت: هو من العاص بن وائل، وذاك لأنّ العاص بن وائل كان يُنفق عليها كثيراً. قالوا: وكان أشبه بأبي سفيان، وفي ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب في عمرو بن العاص:

أبوك أبو سفيان لا شكّ قد بدت***لنا فيك منه بيّنات الشمائلِ ((1))

وقال القطب الشيرازي في (نزهة القلوب): أولاد الزنا نجب، لأنّ الرجل يزني بشهوته ونشاطه فيخرج الولد كاملاً، وما يكون من الحلال فمِن تصنُّع الرجل إلى المرأة، ولهذا كان عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان من دُهاة الناس. ثمّ ساق الكلام في بيان نسبهما على ما سيأتي من كتاب (ربيع الأبرار)، ثمّ زاد على ذلك وقال: ومنهم زياد ابن أبيه، وفيه يقول الشاعر:

ألا أبلغْ معاوية بن حربٍ***مغلغلةً من الرجل اليماني

أتغضب أن يُقال: أبوك عفٌّ***وترضى أن يكون أبوك زانِ؟ ((2))

أتغضب أن يُقال: أبوك عفٌّ***وترضى أن يكون أبوك زانِ؟ ((3))

وقال السيّد نور الله التُّستريّ في كتاب (إحقاق الحقّ): أنّ بنو أُميّة

ص: 462


1- ([2]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6 / 283.
2- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 33 / 199.
3- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 33 / 199.

ليسوا من قريش، فكان لعبد شمس بن عبد مناف عبدٌ رومي، يُقال به: أُميّة، فنُسِب إلى عبد شمس، وقيل: أُميّة بن عبد شمس، ونسبت عامّةُ النسّابين الغير العارفين بحقايق الأنساب بني أُميّة إلى قريش، وأصلهم من الروم، وذلك أنّ العرب كان مِن سيرتهم أن يُلحَق الرجل بنسبه عبدُه، وكان ذلك جازاً عندهم، وقد وُجد ذلك من وجوه كريمة في العرب، ولما ذكرناه لمّا افتخر معاوية في بعض كتاباته إلى علي علیه السلام بالصحبة والقرشيّة، كتب علیه السلام في جوابه ما هذه صورته: «لكن ليس المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللحيق» ((1)).

وفي (الصافي) في تفسير سورة الروم: قُرئ في الشواذ: (غَلبَت) بالفتح، و(سيُغلَبون) بالضمّ، وعليه بناء ما في كتاب الاستغاثة لابن ميثم، قال: لقد روينا من طريق علماء أهل البيت في أسرارهم وعلومهم الّتي خرجت منهم إلى علماء شيعتهم أنّ قوماً يُنسَبون إلى قريش، وليسوا من قريش بحقيقة النسب، وهذا ممّا لا يعرفه إلّا معدن النبوّة وورثة علم الرسالة، وذلك مثل بني أُميّة، ذكروا أنّهم ليسوا من قريش، وأنّ أصلهم من الروم، وفيهم تأويل هذه الآية: «ألم * غُلِبَتِ الرُّوُمُ»، معناه أنّهم غُلبوا على المُلك، وسيغلبهم على ذلك بنو العبّاس ((2)).

ص: 463


1- ([2]) إحقاق الحقّ للتستري: 249.
2- ([1]) تفسير الصافي: 4 / 127.

وفي (أمالي) الشيخ الطوسيّ، مسنداً عن الحسين بن أبي فاختة قال: كنتُ أنا وأبو سَلَمة السرّاج ويونس بن يعقوب والفُضَيل بن يسار عند أبي عبد الله جعفر بن محمّد علیهما السلام، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، إنّي أحضر مجالس هؤلاء القوم، فأذكركم في نفسي، فأيّ شيءٍ أقول؟ فقال: «يا حسين، إذا حضرتَ مجالسهم فقل: اللّهمّ أرِنا الرخاء والسرور. فإنّك تأتي على ما تريد». قال: فقلتُ: جُعلتُ فداك، إنّي أذكر الحسين بن علي علیهما السلام، فأيّ شيءٍ أقول إذا ذكرتُه؟ فقال: «قل: صلّى الله عليك يا أبا عبد الله. تكرّرها ثلاثاً». ثمّ أقبل علينا وقال: «إنّ أبا عبد الله الحسين علیه السلام لمّا قُتِل بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن يتقلّبُ في الجنّة والنار، وما يُرى وما لا يُرى، إلّا ثلاثة أشياء فإنّها لم تبكِ عليه!»، فقلت: جُعلتُ فداك، وما هذه الثلاثة أشياء الّتي لم تبكِ عليه؟ فقال: «البصرة، ودمشق، وآل الحكَم بن أبي العاص» ((1)).

ص: 464


1- ([2]) الأمالي للطوسي: 54 المجلس 2 ح 42.

الفصل الثالث عشر: في كتاب عمر إلى معاوية وغير ذلك

في كتاب (البحار)، عن (دلائل الإمامة)، بإسناده عن سعيد بن المسيّب قال: لمّا قُتِل الحسين بن عليّ (صلوات الله عليهما) وورد نعيُه إلى المدينة، وورد الأخبار بجزّ رأسه وحمله إلى يزيد بن معاوية، وقتلِ ثمانية عشر من أهل بيته وثلاثٍ وخمسين رجلاً من شيعته، وقتلِ عليٍّ ابنه بين يديه وهو طفلٌ بنشّابة، وسبي ذراريه، أُقيمَت المآتم عند أزواج النبيّ صلی الله علیه وآله في منزل أُمّ سلمة (رضي الله عنها) وفي دور المهاجرين والأنصار، قال: فخرج عبد الله بن عمر بن الخطّاب صارخاً من داره لاطماً وجهه شاقّاً جيبه، يقول: يا معشر بني هاشم وقريش والمهاجرين والأنصار! يُستحلّ هذا من رسول الله صلی الله علیه وآله في أهله وذريّته وأنتم أحياء تُرزقون؟! لا قرار دون يزيد.

وخرج من المدينة تحت ليله، لا يرد مدينةً إلّا صرخ فيها واستنفر أهلَها على يزيد، وأخباره يُكتَب بها إلى يزيد، فلم يمرّ بملإٍ من الناس إلّا لعنه وسمع كلامه، وقالوا: هذا عبد الله بن عمر ابن خليفة رسول الله صلی الله علیه وآله وهو يُنكِر

ص: 465

فعل يزيد بأهل بيت رسول الله صلی الله علیه وآله ويستنفر الناس على يزيد، وإنّ مَن لم يُجبْه لا دين له ولا إسلام. واضطرب الشام بمن فيه، وورد دمشق، وأتى باب اللعين يزيد في خلقٍ من الناس يتلونه، فدخل آذِنُ يزيد إليه فأخبره بوروده ويده على أُمّ رأسه والناس يهرعون إليه قُدّامه ووراءه، فقال يزيد: فورةٌ مِن فورات أبي محمّد، وعن قليلٍ يفيق منها. فأذن له وحده!

فدخل صارخاً يقول: لا أدخل يا أمير المؤمنين! وقد فعلتَ بأهل بيت محمّدٍ صلی الله علیه وآله ما لو تمكنَتِ التركُ والروم ما استحلّوا ما استحللت، ولا فعلوا ما فعلت، قم عن هذا البساط حتّى يختار المسلمون مَن هو أحقُّ به منك.

فرحّب به يزيد، وتطاول له وضمّه إليه، وقال له: يا أبا محمّد، اسكُنْ من فورتك واعقل، وانظر بعينك واسمع بأُذنك، ما تقول في أبيك عمر بن الخطّاب؟ أكان هادياً مهديّاً خليفة رسول الله صلی الله علیه وآله وناصره ومصاهره بأُختك حفصة، والّذي قال: لا يُعبَد الله سرّاً؟! فقال عبد الله: هو كما وصفت، فأيّ شيءٍ تقول فيه؟

قال: أبوك قلّد أبي أمر الشام، أم أبي قلّد أباك خلافة رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: أبي قلّد أباك الشام.

قال: يا أبا محمّد، أفترضى به وبعهده إلى أبي أو ما ترضاه؟ قال: بل أرضى. قال: أفترضى بأبيك؟ قال: نعم!

فضرب يزيد بيده على يد عبد الله بن عمر وقال له: قُم -- يا أبا محمّد -- حتّى تقرأ. فقام معه حتّى ورد خزانةً من خزائنه فدخلها، ودعا بصندوقٍ

ص: 466

ففتحه، واستخرج منه تابوتاً مقفَلاً مختوماً، فاستخرج منه طوماراً لطيفاً في خرقة حرير سوداء، فأخذ الطومار بيده ونشره، ثمّقال: يا أبا محمّد، هذا خطّ أبيك؟ قال: إي والله. فأخذه من يده فقبّلَه، فقال له: اقرأ! فقرأه ابنُ عمر، فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم. إنّ الّذي أكرهَنا بالسيف على الإقرار به فأقررنا، والصدورُ وَغِرة، والأنفُس واجفة، والنيّات والبصائر شائكةٌ ممّا كانت عليه من جَحْدنا ما دعانا إليه وأطعناه فيه رفعاً لسيوفه عنّا، وتكاثره بالحيّ علينا من اليمن، وتعاضد مَن سمع به ممّن ترك دينه وما كان عليه آباؤه في قريش، فبهُبَلٍ أُقسم والأصنامِ والأوثان واللّات والعُزّى، ما جحدها عمر مذ عبدها! ولا عبد للكعبة ربّاً! ولا صدّق لمحمّدٍ صلی الله علیه وآله قولاً، ولا ألقى السلام إلّا للحيلة عليه وإيقاع البطش به! فإنّه قد أتانا بسحرٍ عظيم، وزاد في سحره على سحر بني إسرائيل مع موسى وهارون وداوود وسليمان وابن أُمّه عيسى، ولقد أتانا بكلّ ما أتَوا به من السحر، وزاد عليهم ما لو أنّهم شهدوه لَأقرّوا له بأنّه سيّد السحرة.

فخُذ يا ابن أبي سفيان سُنّة قومك واتّباع ملّتك، والوفاء بما كان عليه سلفك مِن جحد هذه البُنية، الّتي يقولون إنّ لها ربّاً أمرهم بإتيانها والسعي حولها وجعلها لهم قبلة، فأقرّوا بالصلاة والحجّ الّذي جعلوه ركناً، وزعموا أنّه لله اختلقوا، فكان ممّن أعان محمّداً منهم هذا الفارسيّ الطمطاني [خ ل: الطمطماني] روزبه، وقالوا: إنّه أُوحيَ إليه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي

ص: 467

بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ» ((1))، وقولهم: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ» ((2))، وجعلوا صلاتهم للحجارة، فما الّذي أنكره علينا لو لا سحره من عبادتنا للأصنام والأوثان واللّات والعزّى، وهي من الحجارة والخشب والنحاس والفضّة والذهب؟! لا -- واللات والعزّى -- ما وجدنا سبباً للخروج عمّا عندنا، وإن سحروا وموّهوا، فانظر بعينٍ مُبصرة، واسمع بأُذُنٍ واعية، وتأمّل بقلبك وعقلك ما هم فيه، واشكر اللات والعزّى واستخلاف السيّد الرشيد عتيق بن عبد العزّى على أُمّة محمّدٍ وتحكّمه في أموالهم ودمائهم وشريعتهم وأنفسهم وحلالهم وحرامهم، وجبايات الحقوق الّتي زعموا أنّهم يجبونها لربّهم ليقيموا بها أنصارهم وأعوانهم، فعاش شديداً رشيداً، يخضع جهراً ويشتدّ سرّاً، ولا يجد حيلةً غير معاشرة القوم.

ولقد وثبتُ وثبةً على شهاب بني هاشم الثاقب، وقرنها الزاهر، وعلَمها الناصر، وعدّتها وعددها، المسمّى بحيدرة، المصاهر لمحمّدٍ على المرأة الّتي جعلوها سيّدة نساء العالمين، يسمّونها: فاطمة، حتّى أتيتُ دار عليٍّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين وابنتيهما زينب وأُمّ كلثوم، والأَمة المدعوّة بفضّة، ومعي خالد بن وليد وقنفذ مولى أبي بكر ومَن صحب من خواصّنا،

ص: 468


1- ([1]) سورة آل عمران: 96.
2- ([1]) سورة البقرة: 144.

فقرعتُ الباب عليهم قرعاً شديداً، فأجابتني الأَمة، فقلتُ لها: قولي لعلي: دع الأباطيل ولا تلج نفسك إلى طمع الخلافة، فليس الأمر لك، الأمر لمَن اختاره المسلمون واجتمعوا عليه.

وربِّ اللات والعزّى لو كان الأمر والرأي لأبي بكرٍ لفشل عنالوصول إلى ما وصل إليه من خلافة ابن أبي كبشة ((1))، لكنّي أبديتُ لها صفحتي، وأظهرتُ لها بصري، وقلتُ للحيّين نزار وقحطان بعد أن قلتُ لهم: ليس الخلافة إلّا في قريش، فأطيعوهم ما أطاعوا الله، وإنّما قلتُ ذلك لما سبق من ابن أبي طالب من وثوبه واستيثاره بالدماء الّتي سفكها في غزوات محمّدٍ وقضاء ديونه، وهي ثمانون ألف درهم، وإنجاز عِداته، وجمع القرآن، فقضاها على تليده وطارفه، وقول المهاجرين والأنصار لمّا قلت: إنّ الإمامة في قريش، قالوا: هو الأصلع البطين، أمير المؤمنين، عليّ بن أبي طالب، الّذي أخذ رسول الله صلی الله علیه وآله البيعة له على أهل ملّته، وسلّمنا له بإمرة المؤمنين في أربعة مواطن، فإن كنتم نسيتموها معشرَ قريش فما نسيناها، وليست البيعة

ص: 469


1- ([1]) يعني النبيّ محمّد صلی الله علیه وآله، وكان المشركون يقولون للنبيّ صلی الله علیه وآله: ابن أبي كبشة، شبّهوه بأبي كبشة، رجلٌ من خزاعة، خالف قريشاً في عبادة الأصنام، أو هي كنية وهب بن عبد مناف جدّه صلی الله علیه وآله من قِبل أُمّه، لأنّه كان نزع إليه في الشبَه، أو كنية زوج حليمة السعديّة، أو كنية عمّ ولدها، والعلم عند الله -- من المتن (القاموس للفيروزآبادي: 2 / 285).

ولا الإمامة والخلافة والوصيّة إلّا حقّاً مفروضاً وأمراً صحيحاً، لا تبرّعاً ولا ادّعاءً. فكذّبناهم، وأقمتُ أربعين رجلاً شهدوا على محمّدٍ أنّ الإمامة بالاختيار، فعند ذلك قال الأنصار: نحن أحقّ من قريش؛ لأنا آوينا ونصرنا، وهاجر الناس إلينا، فإذا كان دفع مَن كان الأمر له فليس هذا الأمر لكم دوننا. وقال قوم: منّا أميرٌ ومنكم أمير. قلنا لهم: قد شهدوا أربعون رجلاً أنّ الأئمّة من قريش. فقبل قومٌ وأنكر آخرون، وتنازعوا، فقلت -- والجمع يسمعون -- : ألا أكبرناسنّاً وأكثرنا ليناً. قالوا: فمن تقول؟ قلت: أبو بكر، الّذي قدّمه رسول الله صلی الله علیه وآله في الصلاة، وجلس معه في العريش يوم بدر يشاوره ويأخذ برأيه، وكان صاحبه في الغار، وزوج ابنته عائشة الّتي سمّاها: أُمّ المؤمنين. فأقبل بنو هاشم يتميّزون غيظاً، وعاضدهم الزبير وسيفه مشهور، وقال: لا يبايَع إلّا علي، أو لا أملك رقبة قائمة سيفي هذا. فقلت: يا زبير، صرختك سكَنٌ من بني هاشم، أُمّك صفيّة بنت عبد المطّلب. فقال: ذلك واللهِ الشرف الباذخ والفخر الفاخر، يا ابن حنتمة ويا ابن صهاك! اسكُتْ لا أُمّ لك. فقال قولاً، فوثب أربعون رجلاً ممّن حضر سقيفة بني ساعدة على الزبير، فوَاللهِ ما قدرنا على أخذ سيفه من يده حتّى وسّدناه الأرض، ولم نرَ له علينا ناصراً.

فوثبتُ إلى أبي بكرٍ فصافحتُه وعاقدتُه البيعة، وتلاني عثمان بن عفّان، وسائر مَن حضر غير الزبير، وقلنا له: بايعْ أو نقتلك! ثمّ كففتُ عنه الناس، فقلت له: أمهلوه، فما غضب إلّا نخوةً لبني هاشم. وأخذتُ أبا بكرٍ

ص: 470

بيده فأقمتُه، وهو يرتعد، قد اختلط عقله، فأزعجتُه إلى منبر محمّدٍ إزعاجاً، فقال لي: يا أبا حفص، أخاف وثبة عليّ. فقلتُ له: إنّ عليّاً عنك مشغول. وأعانني على ذلك أبو عبيدة بن الجرّاح، كان يمدّه بيده إلى المنبر وأنا أُزعجه من ورائه كالتيس إلى شفار الجاذر، متهوناً، فقام عليه مدهوشاً، فقلت له: اخطب! فأغلق عليه، وتثبت فدُهش، وتلجلج وغمض، فعضضتُ على كفّي غيظاً، وقلت له: قل ما سنح لك. فلم يأتِ خيراً ولا معروفاً، فأردتُ أن أحطّه عن المنبر وأقوم مقامه، فكرهتُ تكذيب الناس لي بما قلتُ فيه، وقد سألني الجمهور منهم: كيف قلتَ من فضله ما قلت؟ ما الّذي سمعتَهمن رسول الله صلی الله علیه وآله في أبي بكر؟ فقلت لهم: قد قلت: سمعتُ من فضله على لسان رسول الله ما لو وددت [خ ل: لَوددت] أنّي شعرةً في صدره، ولي حكاية، فقلت: قل وإلّا فانزل. فتبيّنها واللهِ في وجهي، وعلم أنّه لو نزل لرقيتُ وقلتُ ما لا يهتدي إلى قوله، فقال بصوتٍ ضعيفٍ عليل: وليتُكم ولستُ بخيركم وعليٌّ فيكم، واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني -- وما أراد به سواي --، فإذا زللت فقوّموني، لا أقع في شعوركم وأبشاركم، وأستغفر الله لي ولكم. ونزل، فأخذتُ بيده -- وأعين الناس ترمقه -- وغمزتُ يده غمزاً، ثمّ أجلستُه، وقدّمت الناس إلى بيعته وصحبته لأُرهبه، وكلّ مَن ينكر بيعته ويقول: ما فعل عليّ بن أبي طالب؟ فأقول: خلعها من عنقه وجعلها طاعة المسلمين، قلة خلافٍ عليهم في اختيارهم، فصار جليس بيته. فبايعوا وهم كارهون.

ص: 471

فلمّا فشَت بيعتُه علمنا أنّ عليّاً يحمل فاطمة والحسن والحسين إلى دور المهاجرين والأنصار يذكّرهم بيعته علينا في أربعة مواطن ويستنفرهم، فيَعِدونه النصرة ليلاً ويقعدون عنه نهاراً، فأتيتُ داره مستيشراً لإخراجه منها، فقالت الأَمة فضّة -- وقد قلت لها: قولي لعليٍّ يخرج إلى بيعة أبي بكر، فقد اجتمع عليه المسلمون، فقالت -- : إنّ أمير المؤمنين علیه السلام مشغول. فقلت: خلّي عنكِ هذا وقولي له يخرج، وإلّا دخلنا عليه وأخرجناه كرهاً. فخرجت فاطمة فوقفت من وراء الباب، فقالت: «أيّها الضالّون المكذّبون! ماذا تقولون؟ وأيّ شيءٍ تريدون؟»، فقلت: يا فاطمة! فقالت فاطمة: «ما تشاء يا عمر؟!»، فقلت: ما بالُ ابنُ عمّكِ قد أوردك للجواب وجلس من وراء الحجاب؟ فقالت لي: «طغيانك -- يا شقيّ -- أخرجني، وألزمك الحجّة وكلَّ ضالٍّ غوي». فقلت: دعي عنكِ الأباطيلوأساطير النساء، وقولي لعليٍّ يخرج. فقالت: «لا حُبٌّ ولا كرامة، أبحزب الشيطان تخوّفني يا عمر؟! وكان حزب الشيطان ضعيفاً». فقلت: إن لم يخرج جئتُ بالحطب الجزل وأضرمتُها ناراً على أهل هذا البيت، وأُحرق من فيه، أو يُقاد عليٌّ إلى البيعة. وأخذتُ سوط قنفذ فضربت، وقلت لخالد ابن الوليد: أنت ورجالنا هلمّوا في جمع الحطب، فقلت: إنّي مضرمها. فقالت: «يا عدوّ الله وعدوّ رسوله وعدوّ أمير المؤمنين»، فضربَت فاطمةُ يديها من الباب تمنعني من فتحه، فرُمتُه فتصعّب علَيّ، فضربتُ كفَّيها بالسوط فألّمها، فسمعتُ لها زفيراً وبكاءً، فكدتُ أن ألين وأنقلب عن الباب، فذكرتُ أحقاد عليٍّ وولوعه في دماء صناديد العرب، وكيدَ محمّدٍ وسحره، فركلتُ الباب،

ص: 472

وقد ألصقَت أحشاءها بالباب تترسه، وسمعتها وقد صرخت صرخةً حسبتها قد جعلت أعلى المدينة أسفلها، وقالت: «يا أبتاه، يا رسول الله، هكذا كان يُفعَل بحبيبتك وابنتك، آه! يا فضّةُ إليكِ فخذيني، فقد واللهِ قُتِل ما في أحشائي من حمل»، وسمعتها تمخض وهي مستندةً إلى الجدار، فدفعتُ الباب ودخلت، فأقبلَت إليّ بوجهٍ أغشى بصري، فصفقتُ صفقةً على خدَّيها من ظاهر الخمار، فانقطع قرطُها وتناثرت إلى الأرض، وخرج عليّ، فلمّا أحسستُ به أسرعتُ إلى خارج الدار، وقلت لخالد وقنفذ ومَن معهما: نجوتُ من أمرٍ عظيم! وفي روايةٍ أُخرى: قد جنيتُ جنايةً عظيمةً لا آمن على نفسي، وهذا عليٌّ قد برز من البيت، وما لي ولكم جميعاً به طاقة.

فخرج عليّ، وقد ضربَت يديها إلى ناصيتها لتكشف عنها وتستغيث بالله العظيم ما نزل بها، فأسبل عليٌّ عليها مُلاءتها، وقال لها: «يا بنت رسول الله، إنّ الله بعث أباكِ رحمةً للعالمين،وايمُ الله لئن كشفتِ عن ناصيتِك سائلةً إلى ربّكِ ليُهلِك هذا الخلق لَأجابك، حتّى لا يُبقي على الأرض منهم بشراً، لأنكِ وأباكِ أعظم عند الله من نوح علیه السلام الّذي غرق من أجله بالطوفان جميعُ مَن على وجه الأرض وتحت السماء إلّا من كان في السفينة، وأهلك قومَ هودٍ بتكذيبهم له، وأهلك عاداً بريحٍ صرصر، وأنتِ وأبوكِ أعظم قدراً من هود، وعذّب ثمود -- وهي اثنا عشر ألفاً -- بعقر الناقة والفصيل، فكوني يا سيّدة النساء رحمةً على هذا الخلق المنكوس، ولا تكوني عذاباً». واشتدّ بها المخاض، ودخلَت البيت، فأسقطت سقطاً سمّاه علي: محسناً.

ص: 473

وجمعتُ جمعاً كثيراً، لا مكاثرةً لعليّ، ولكن ليُشَدّ بهم قلبي، وجئتُ -- وهو محاصَرٌ -- فاستخرجتُه من داره مُكرَهاً مغصوباً، وسقْتُه إلى البيعة سوقاً، وإنّي لَأعلم علماً يقيناً لا شكّ فيه لو اجتهدتُ أنا وجميعُ مَن على الأرض جميعاً على قهره ما قهرناه، ولكن لهناتٍ كانت في نفسه أعلمها ولا أقولها.

فلمّا انتهيتُ إلى سقيفة بني ساعدة، قام أبو بكرٍ ومَن بحضرته يستهزؤون بعلي، فقال علي: «يا عمر، أتحبّ أن أُعجّل لك ما أخرته سواءً عنك؟»، فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فسمعَني -- واللهِ -- خالد بن الوليد، فأسرع إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: ما لي ولعمر؟ ثلاثاً، والناس يسمعون، ولمّا دخل السقيفة صبا أبو بكرٍ إليه، فقلت له: قد بايعتَ يا أبا الحسن! فانصرف، فأشهدُ ما بايعه ولا مدّ يده إليه، وكرهتُ أن أطالبه بالبيعة فيعجّل لي ما أخّره عنّي، وودّ أبو بكرٍ أنّه لم يرَ عليّاً في ذلك المكان؛ جزعاً وخوفاً منه.

ورجع عليٌّ من السقيفة، وسألنا عنه فقالوا: مضى إلى قبرمحمّد، فجلس إليه، فقمتُ أنا وأبو بكرٍ إليه، وجئنا نسعى وأبو بكر يقول: ويلك يا عمر، ما الّذي صنعتَ بفاطمة؟ هذا واللهِ الخسران المبين. فقلت: إنّ أعظم ما عليك أنّه ما بايعَنا، ولا أثق أن تتثاقل المسلمون عنه. فقال: فما تصنع؟ فقلت: تُظهِر أنّه قد بايعك عند قبر محمّد. فأتيناه، وقد جعل القبر قبلة، مسنِداً كفّه على تربته، وحوله سلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار وحُذيفة بن

ص: 474

اليمان، فجلسنا بإزائه، وأوعزتُ إلى أبي بكرٍ أن يضع يده على مثل ما وضع عليٌّ يده ويقرّبها من يده، ففعل ذلك، وأخذتُ بيد أبي بكر لأمسحها على يده وأقول: قد بايع، فقبض عليٌّ يده، فقمت أنا وأبو بكر مولّياً، وأنا أقول: جزى الله عليّاً خيراً، فإنّه لم يمنعك البيعة لمّا حضرتَ قبر رسول الله صلی الله علیه وآله. فوثب من دون الجماعة أبو ذرّ جُندُب بن جنادة الغِفاريّ، وهو يصيح ويقول: والله -- يا عدوّ الله -- ما بايع عليٌّ عتيقاً. ولم يزل كلّما لقينا قوماً وأقبلنا على قومٍ نخبرهم ببيعته وأبو ذرّ يكذّبنا، واللهِ ما بايعَنا في خلافة أبي بكرٍ ولا في خلافتي، ولا يبايع لمن بعدي، ولا بايع من أصحابه اثنا عشر رجلاً، لا لأبي بكرٍ ولا لي، فمن فعل -- يا معاوية -- فعلي واستشار أحقاده السالفة غيري؟!

وأمّا أنت وأبوك أبو سفيان وأخوك عُتبة، فأعرفُ ما كان منكم في تكذيب محمّدٍ صلی الله علیه وآله وكيده، وإدارة الدوائر بمكّة، وطلبته في جبل حرّى لقتله، وتألّف الأحزاب وجمعهم عليه، وركوب أبيك الجمل وقد قاد الأحزاب، وقول محمّد: «لعن الله الراكب والقائد والسائق»، وكان أبوك الراكب، وأخوك عتبة القائد، وأنت السائق. ولم أنسَ أُمَّك هنداً وقد بذلت لوحشيّ ما بذلت، حتّى تكمن لحمزة الّذي دعَوه أسد الرحمان في أرضه، وطعنه بالحربة، ففلقفؤاده وشقّ عنه، وأخذ كبده فحمله إلى أُمّك، فزعم محمّدٌ بسحره أنّه لمّا أدخلَته فاها لتأكله صار جلموداً فلفظته مِن فيها، فسمّاها محمّدٌ وأصحابه: آكلة الأكباد، وقولها في شعرها لاعتداء محمّدٍ ومقاتليه:

ص: 475

نحن بنات طارق***نمشي على النمارق

كالدرّ في المخانق***والمسك في المفارق

إن يُقبلوا نعانق***أو يُدبروا نفارق

فراق غير وامق

ونسوتها في الثياب الصفر المرئية، مبديات وجوههنّ ومعاصمهنّ ورؤوسهنّ، يحرصن على قتال محمّد. إنّكم لم تُسلموا طوعاً، وإنّما أسلمتم كرهاً يوم فتح مكّة، فجعلكم طلقاء، وجعل أخي زيداً وعقيلاً أخا عليّ بن أبي طالب والعبّاس عمّهم مثلهم، وكان من أبيك في نفسه، فقال: واللهِ -- يا ابن أبي كبشة -- لَأملأنّها عليك خيلاً ورجلاً، وأحول بينك وبين هذه الأعداء. فقال محمّد -- ويؤذن للناس أنّه علم ما في نفسه -- : «أو يكفي الله شرّك يا أبا سفيان!»، وهو يري الناس أن لا يعلوها أحدٌ غيري، وعليٌّ ومَن يليه من أهل بيته، فبطل سحره وخاب سعيه، وعلاها أبو بكر، وعلوتها بعده، وأرجو أن تكونوا معاشر بني أُميّة عيدان أطنابها، فمِن ذلك قد وليتُك وقلّدتُك إباحة مُلكها، وعرفتك فيها، وخالفت قوله فيكم، وما أُبالي من تأليف شعره ونثره أنّه قال: يوحى إليّ منزّلٌ من ربّي، في قوله: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ» ((1))، فزعم أنّها أنتم يا بني أُميّة،فبيّن عداوته حيث

ص: 476


1- ([1]) سورة الإسراء: 60.

ملك، كما لم يزل هاشم وبنوه أعداء بني عبد شمس، وأنا -- مع تذكيري إيّاك يا معاوية وشرحي لك ما قد شرحتُه -- ناصحٌ لك ومشفِقٌ عليك من ضيق عطنك وحرج صدرك وقلّة حلمك، أن تعجل فيما وصّيتُك به ومكّنتُك منه من شريعة محمّد صلی الله علیه وآله وأُمّته أن تُبدي لهم مطالبته بطعنٍ أو شماتةٍ بموت، أو ردّاً عليه فيما أتى به أو استصغاراً لما أتى به، فتكون من الهالكين، فتخفض ما رفعتُ وتهدمَ ما بنيت، واحذر كلّ الحذر حيث دخلتَ على محمّدٍ مسجده ومنبره، وصدِّقْ محمّداً في كلّ ما أتى به، وأورده ظاهراً، وأظهِر التحرّز والواقعة في رعيّتك، وأوسعهم حلماً، وأعمّهم بروائح العطايا، وعليك بإقامة الحدود فيهم، وتضعيف الجناية منهم لسبباً [خ ل: لسبب] محمّدٍ من مالك ورزقك، ولا تُرهم أنّك تدع لله حقّاً، ولا تنقض فرضاً، ولا تغيّر لمحمّدٍ سُنّة، فتفسد علينا الأُمّة، بل خذهم من مأمنهم، واقتلهم بأيديهم، وأبِدْهم بسيوفهم، وتطاولهم ولا تناجزهم، ولِنْ لهم ولا تبخس عليهم، وافسح لهم في مجلسك، وشرّفهم في مقعدك، وتوصّل إلى قتلهم برئيسهم، وأظهِر البِشر والبشاشة، بل اكظم غيظك واعفُ عنهم يحبّوك ويطيعوك، فما آمَنُ علينا وعليك ثورة عليٍّ وشبليه الحسن والحسين، فإن أمكنك في عدّةٍ من الأُمّة فبادر، ولا تقنع بصغار الأُمور، واقصد بعظيمها، واحفظ وصيّتي إليك وعهدي، وأخفِهِ ولا تُبدِه، وامتثل أمري ونهيي، وانهض بطاعتي، وإيّاك والخلاف علَيّ، واسلك طريق أسلافك، واطلب بثارك، واقتصّ آثارهم، فقد أخرجتُ إليك بسرّي وجهري، وشفّعتُ هذا بقولي:

ص: 477

معاويَ إنّ القوم جلّت أُمورُهم***بدعوة من عمّ البرية بالوتري

صبوت إلى دينٍ لهم، فأرابني***فأبعِدْ بدينٍ قد قصمت به ظهري

وإن أنسَ لا أنس الوليد وشيبةً***وعُتبة والعاص السريع لدى بدرِ

وتحت شِغاف القلب لدغٌ لفقدهم***أبو حكَمٍ، أعني الضئيل من الفقري

أُولئك فاطلب -- يا معاويَ -- ثارهم***بنصل سيوف الهند والأسل السمري

وصِلْ برجال الشام في معشر همُ***الأسد والباقون في أكم الوعري

توسّل إلى التخليط في الملّة الّتي***أتانا به الماضي المسموه بالسحري

وطالب بأحقادٍ مضت لك، مُظهراً***لعلّة دينٍ عمَّ كلَّ بني النضرِ

فلستَ تنال الثار إلّا بدينهم***فتقتل بسيف القوم جيد بني عمري

لهذا لقد ولّيتُك الشام راجياً***وأنت جديرٌ أن تؤول إلى صخري

قال: فلمّا قرأ عبد الله بن عمر هذا العهد، قام إلى يزيد فقبّل رأسه، وقال: الحمد لله -- يا أمير المؤمنين! -- على قتلك الشاري ابن الشاري، واللهِ ما أخرج أبي إليّ بما أخرج إلى أبيك، واللهِ لا رآني أحدٌ من رهط محمّدٍ بحيث يحبّ ويرضى. فأحسن جائزته وبرّه، وردّه مكرّماً، فخرج عبد الله بن عمر من عنده ضاحكاً، فقال له الناس: ما قال لك؟ قال: قولاً صادقاً، لَوددتُ أنّي كنتُ مشاركه فيه. وسار راجعاً إلى المدينة، وكان جوابه لمَن يلقاه هذا

ص: 478

الجواب ((1)).

ويروى أنّه أخرج يزيد (لعنه الله) إلى عبد الله بن عمر كتاباً فيه عهد عثمان بن عفّان، فيه أغلظ من هذا وأدهى وأعظم من العهد الّذي كتبه عمر لمعاوية، فلمّا قرأ عبد الله العهد الآخَر قام فقبّل رأس يزيد (لعنهما الله)، وقال: الحمد لله على قتلك الشاري ابن الشاري، واعلم أنّ والدي عمر أخرج إليّ مِن سرّه بمثل هذا الّذي أخرجه إلى أبيك معاوية، ولا أرى أحداً من رهط محمّدٍ وأهله وشيعته بعد يومي هذا إلّا غير منطوٍ لهم على خيرٍ أبداً. فقال يزيد: أفيه شرح الخفا يا ابن عمر؟ ((2))

وروى البلاذريّ قال: لمّا قُتِل الحسين علیه السلام، كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد، فقد عظمَت الرزيّة، وجلّت المصيبة، وحدث في الإسلام حدثٌ عظيم، ولا يوم كيوم الحسين. فكتب إليه يزيد: أمّا بعد يا أحمق، فإنّنا جئنا إلى بيوتٍ منجّدةٍ، وفُرُشٍ ممهّدة، ووسائد منضّدة، فقاتلنا عنها، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن كان الحق لغيرنا فأبوك أوّل مَن سنّ هذا وابتزّ واستأثر بالحقّ على أهله ((3)).

وعن عبد الله بن عمر قال: كنتُ عند رسول الله صلی الله علیه وآله فسمعتُه يقول:

ص: 479


1- ([1]) بحار الأنوار للمجلسي: 30 / 287 ح 151.
2- ([2]) بحار الأنوار للمجلسي: 30 / 299 ح 151.
3- ([3]) بحار الأنوار للمجلسي: 45 / 328.

«يدخل عليكم رجلٌ يستنّ بغير سنّتي»، فما أتمّ النبيُّ صلیالله علیه وآله كلامه حتّى دخل معاوية فجلس معنا، فقام النبيّ صلی الله علیه وآله فخطب، فأخذ معاوية بيد ابنه وقام فخرج ولم يستمع الخطبة، فقال النبيّ صلی الله علیه وآله : «لعن الله القائد والمقود» ((1))، يعني بالأوّل معاوية، وبالثاني ابنه يزيد، إذ كان معاوية يقود ابنه.

ص: 480


1- ([1]) في (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 15 / 175) وغيره: ممّا ورد من ذلك في السُّنّة ورواه ثقات الأُمّة قول رسول الله صلی الله علیه وآله فيه وقد رآه -- أي: أبا سفيان -- مقبلاً على حمارٍ ومعاوية يقوده ويزيد يسوقه: «لعن الله الراكب والقائد والسائق»..

الفصل الرابع عشر: في ذكر حديث زيد النسّاج

روى الشيخ الطريحي في كتاب (المنتخب)، عن زيد النسّاج قال: كان لي جارٌ، وهو شيخٌ كبيرٌ عليه آثار النُّسك والصلاح، وكان يدخل إلى بيته ويعتزل عن الناس ولا يخرج إلّا يوم الجمعة.

قال زيد النسّاج: فمضيتُ يوم الجمعة إلى زيارة زين العابدين صلی الله علیه وآله ، فدخلت إلى مشهده، وإذا أنا بالشيخ الّذي هو جاري قد أخذ من البئر ماءً وهو يريد أن يغتسل الجمعة والزيارة، فلمّا نزع ثيابه، وإذا في ظهره ضربة عظيمة فتْحَتُها أكثر من شبر، وهي تسيل قيحاً ودماً، فاشمأزّ قلبي منها، فحانت منه التفاتةً فرآني، فخَجِل، فقال لي: أنت زيد النسّاج؟ فقلت: نعم. فقال لي: يا بُنيّ، عاونّي على غُسلي. فقلت: لا والله لا أُعاونك حتّى تُخبرني بقصّة هذه الضربة الّتي بين كتفَيك، ومن كفّ مَن خرجت، وأيّ شيءٍ كان سببها؟ فقال لي: يا زيد، أُخبرك بها بشرط أن لا تحدّث بها أحداً من الناس إلّا بعد موتي. فقلت: لك ذلك. فقال: عاونّي على غسلي، فإذا لبستُ أطماري حدّثتُك بقصّتي. قال زيد: فساعدته، فاغتسل ولبس

ص: 481

ثيابه، وجلس في الشمس وجلستُ إلى جانبه، وقلت له: حدِّثْني.

فقال لي: اعلمْ إنّا كنّا عشرة أنفُسٍ قد تواخينا على الباطلوتوافقنا على قطع الطريق وارتكاب الآثام، وكانت بيننا نوبة نديرها في كلّ ليلةٍ على واحدٍ منّا، ليصنع لنا طعاماً نفيساً وخمراً عتيقاً وغير ذلك، فلمّا كانت الليلة التّاسعة وكنّا قد تعشّينا عند واحدٍ من أصحابنا وشربنا الخمر، ثمّ تفرّقنا وجئتُ إلى منزلي وهدوتُ ونمت، أيقظَتْني زوجتي وقالت لي: إنّ الليلة الآتية نوبتها عليك، ولا في البيت عندنا حبّة من الحنطة. قال: فانتبهتُ وقد طار السُّكر من رأسي، وقلت: كيف أعمل؟ وما الحيلة؟ وإلى أين أتوجّه؟ فقالت لي زوجتي: الليلة ليلة الجمعة، ولا يخلو مشهد مولانا عليّ بن أبي طالب من زوّارٍ يأتون إليه يزورونه، فقم وامضِ وأكمِنْ على الطريق، فلابدّ أن ترى أحداً فتأخذ ثيابه فتبيعها وتشتري شيئاً من الطعام، لتتمّ مروّتك عند أصحابك وتكافيهم على صنيعهم.

قال: فقمت، وأخذتُ سيفي وجحفتي ومضيتُ مبادراً، وكمَنْتُ في الخندق الّذي في ظهر الكوفة، وكانت ليلةً مُظلمةً ذات رعدٍ وبرق، فأبرقَتْ برقة فإذا أنا بشخصين مقبلَين من ناحية الكوفة، فلمّا قربا منّي برقَتْ برقة أُخرى فإذا هُما امرأتان، فقلت في نفسي: في مثل هذه الساعة تأتي امرأتان! ففرحت، ووثبتُ إليهما وقلت لهما: اطرحا ثيابكما سريعاً. ففزعتا منّي، ونزعتا ثيابهما، فحسست عليهما حُليّاً، فقلت لهما: وانزعا الحُليّ الّتي عليكما سريعاً. فطرحتاه، فأبرقت السماءُ برقةً أُخرى فإذا إحداهما عجوزٌ، والأُخرى شابّة من أحسن النساء وجهاً، كأنّها ظبية قنّاص أو درّة غوّاص،

ص: 482

فوسوس لي الشيطان على أن أفعل بها القبيح، وقلت في نفسي: مثل هذه الشابّة الّتي لا يوجد مثلها حصلت عندي في هذا الموضع وأُخلّيها؟ فراودتُها عن نفسها، فقالت العجوز: يا هذا، أنت في حِلٍّ ممّا أخذتَه منّا مِن الثياب والحُليّ، فخلِّنا نمضي إلى أهلنا، فواللهِ أنّها بنت يتيمةٍ من أُمّها وأبيها، وأنا خالتها، وفي هذه الليلة القابلة تُزَفّإلى بعلها، وإنّها قالت لي: يا خالة، إنّ الليلة القابلة أُزفّ إلى ابن عمّي، وأنا والله راغبةٌ في زيارة سيّدي عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وإنّي إذا مضيتُ إلى بعلي رُبّما لا يأذن لي بزيارته. فلمّا كانت هذه الليلة الجمعة خرجتُ بها لأزوّرها مولاها وسيّدها أمير المؤمنين، فبالله عليك لا تهتك سترها ولا تفضِ ختمها ولا تفضحها بين قومها. فقلتُ لها: إليكِ عنّي. وضربتُها وجعلت أدور حول الصبيّة وهي تلوذ بالعجوز، وهي عريانة ما عليها غير السروال، وهي في تلك الحال تعقد تكّتها وتوثّقها عقداً، فدفعتُ العجوز عن الجارية وصرعتُها إلى الأرض، وجلستُ على صدرها ومسكت يديها بيدٍ واحدة، وجعلت أحلّ عقد التكّة باليد الأُخرى، وهي تضطرب تحتي كالسمكة في يد الصيّاد، وهي تقول: المستغاث بك يا الله! المستغاث بك يا عليّ بن أبي طالب، خلِّصْني من يد هذا الظالم!

قال: فواللهِ ما استتمّ كلامُها إلّا وأحسّ حافر فرسٍ خلفي، فقلتُ في نفسي: هذا فارسٌ واحدٌ وأنا أقوى منه. وكانت لي قوّةٌ زائدة، وكنت لا أهاب الرجال قليلاً أو كثيراً، فلمّا دنى منّي فإذا عليه ثيابٌ بيضٌ وتحته فرسٌ أشهب تفوح منه رائحة المسك، فقال لي: يا ويلك، خلِّ المرأة! فقلت له: اذهب لشأنك، فأنت نجوتَ بنفسك وتريد تنجي غيرك. قال: فغضب

ص: 483

من قولي، ونفحني بذبال سيفه بشيءٍ قليل، فوقعتُ مغشيّاً علَيّ لا أدري أنا في الأرض أو في غيرها، وانعقد لساني وذهبَت قوّتي، لكنّي أسمع الصوت وأعي الكلام، فقال لهما: قوما البسا ثيابكما، وخُذا حُليّكما وانصرفا لشأنكما. فقالت العجوز: فمَن أنت، يرحمك الله وقد مَنّ الله علينا بك؟ وإنّي أُريد أن توصلنا إلى زيارة سيّدنا عليّ بن أبي طالب. قال: فتبسّم في وجوههما وقال لهما: أنا عليّ بن أبي طالب، ارجعا إلى أهلكما فقد قبلتُ زيارتكما. قال: فقامتالعجوز والصبيّة، وقبّلا يديه ورجلَيه، وانصرفا في سرورٍ وعافية.

قال الرجل: فأفقتُ من غشوتي، وانطلق لساني، فقلت له: يا سيّدي، أنا تائبٌ إلى الله على يدك، وإنّي لا عُدتُ أدخل معصيةً أبداً. فقال: إنْ تبتَ تاب الله عليك. فقلت له: تبت، واللهُ على ما أقول شهيد. ثمّ قلت له: يا سيّدي، إن تركتني في هذه الضربة هلكتُ بلا شكّ. قال: فرجع إليّ، وأخذ بيده قبضةً من تراب، ثمّ وضعها على الضربة ومسح بيده الشريفة عليها، فالتحمت بقدرة الله تعالى.

قال زيد النسّاج: فقلت له: كيف التحمَت وهذا حالها؟! فقال لي: والله إنّها كانت ضربةً مهولةً أعظم ممّا تراه الآن، ولكنّها بقيَت موعظةً لمن يسمع ويرى. ولا شكّ أنّ عليّاً والأئمّة علیهم السلام أحياءٌ عند ربّهم يُرزَقون ((1)).

ص: 484


1- ([1]) المنتخب للطريحي: 2 / 400 المجلس 8.

محتويات الكتاب

الديباجة 5

المؤلّف والكتاب.. 15

آل البرغاني 16

دراسته. 18

إستقراره في كربلاء. 19

أولاده 19

تلاميذه 23

مؤلّفاته. 24

الكتاب.. 24

[مقدِّمة المؤلّف] 27

[الخُطَب] 29

[الخطبة] الأُولى.. 29

الخطبة الثانية. 31

الخطبة الثالثة. 33

الخطبة الرابعة. 35

الخطبة الخامسة. 37

ص: 485

الخطبة السادسة. 39

الخطبة السابعة. 41

الخطبة الثامنة. 43

الفصل الأوّل: في ذِكر بعض الآيات، وبيان جملةٍ من القصص والحكايات 45

[تأويل )كهيعص(] 45

[بين يحيى والإمام الحسين علیهما السلام] 55

[تأويل: )وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(] 56

[فداء جزع إبراهيم علیه السلام] 58

[الذبيح الثاني: عبد الله أبو النبيّ صلی الله علیه وآله ] 60

الفصل الثاني: في قصّة أبي ذرّ، وبكاء السماء والأرض دماً، ومصيبة المظلوم 73

الفصل الثالث: في ذكر مرور الأنبياء والأوصياء بصحراء كربلاء، وذكر جملةٍ من القصص والأخبار 103

[آدم علیه السلام في كربلاء] 103

[نوح علیه السلام وسفينته وكربلاء] 104

[إبراهيم علیه السلام في كربلاء] 106

[إسماعيل علیه السلام في كربلاء] 106

[موسى علیه السلام في كربلاء] 107

[سليمان علیه السلام في كربلاء] 108

[عيسى علیه السلام في كربلاء] 108

[النبيّ الخاتم صلی الله علیه وآله في كربلاء] 109

ص: 486

[أمير المؤمنين علیه السلام في كربلاء] 113

[الإمام الحسين علیه السلام يسقي عطاشى صفّين] 118

[إبن الحنفيّة والحسنان في صفّين] 119

[توبة الزبرقان على يدَي الحسين علیه السلام ] 120

[بكاء النبيّ صلی الله علیه وآله في مصيبة سيّد الشهداء علیه السلام] 121

الفصل الرابع: في ذكر حديث لَعْيا وصلصائيل ودردائيل وفطر، وغيرها من الأخبار 125

[لعيا] 125

[صلصائيل] 129

[دردائيل] 130

[فطرس] 133

[ما مِن ملَكٍ إلّا ونزل يعزّي النبيّ صلی الله علیه وآله] 136

[ملَكٌ من ملائكة الصفيح الأعلى] 136

[ملَكٌ من ملائكة الفردوس الأعلى] 137

[ملَك المطر] 139

[جبرائيل] 139

[ميكائيل] 140

[جبرئيل علیه السلام ] 141

[الإخبار بشهادته علیه السلام ] 144

الفصل الخامس: في بيان مَن بكى أو أبكى أو تباكى. 157

ص: 487

الفصل السادس: في ثواب زيارته علیه السلام وفضل كربلاء وغير ذلك 191

الفصل السابع: في جملةٍ من مناقبه وفضائله علیه السلام 219

[هروب الحمّى من الحسين علیه السلام ] 240

[رجلٌ تحّرش بامرأةٍ في الطواف فلصقت يده، وخلّصه الحسين علیه السلام] 241

[أمر الغلام الصغير فنطق بإذن الله] 242

[إرائة الأصبغ مخاطبة النبي صلی الله علیه وآله لأبي دون] 243

[كفّ جبرائيل في كفّه] 244

[وقوفه علیه السلام على قبر جدّته خديجة علیها السلام] 258

[مفاخرته مع أبيه علیهما السلام] 260

[أجاب دعوة المساكين] 267

أعتق غلاماً ليهوديٍّ كان يواكل كلباً طلباً للسرور. 267

[بينه وبين أخيه ابن الحنفيّة!] 274

[مشيه إلى بيت الله الحرام] 275

[نزاعه مع والي المدينة] 276

[حسين سبطٌ من الأسباط] 277

[مَن أحبّني فلْيُحبّ هذين] 278

[جبرئيل يُلهيه حتّى تستيقظ أُمّه] 279

[إخباره مروان بسقوط ردائه..] 282

[جوابه لابن العاص] 282

[خِطبة الإمام علیه السلام بنت عثمان، وخِطبة يزيد (لعنه الله) بنت ابن جعفر] 284

[توبة فاحشة ونجاتها بسبب مأتم الحسين علیه السلام ] 287

ص: 488

الفصل الثامن: في ذكر حديث كعب وبشار، ورؤيا هند، وغيرها من الأخبار المُورثة للبكاء 289

[قصّة عليّ بن محمّد شفيع] 289

[خبر كعب الأحبار] 290

[البومة] 292

[مَن شرب الماء فذكر الحسين ولعن قاتله] 293

[النبي؟ص؟ يحبّ صبيّاً لأنّه يحبّ الحسين علیه السلام] 294

[أسلم يهوديٌّ لمّا رأى من محبّة النبي صلی الله علیه وآله للحسين علیه السلام ] 296

[حوريّة سيّد الشهداء] 299

[قصر سيّد الشهداء في الجنّة] 300

[لمّا قُتِل الحسين كتب دمه على الأرض] 301

[فصّ عقيقٍ مكتوبٌ عليه] 301

[فديتُ مَن فديتُه بابني إبراهيم] 301

[جواب ابن عمر لعراقيٍّ سأله عن دم البعوض] 302

[محبّيه ومحبّي محبّيه في الجنّة] 303

[محبّه لم تلفح وجهه النار] 303

[سنّة التكبير في الصلاة ببركة الحسين علیه السلام ] 304

[أتركب ظهراً حمله رسول الله صلی الله علیه وآله] 305

[تكلّم ببعض فضائلهم فدُهش الرجل ووله] 305

[استسقاؤه لأهل الكوفة] 306

[تأويل رؤيا هند] 309

ص: 489

[جام البلّور الأحمر] 313

[نزول ملَكٍ على صفة الطير على يدَي الحسنين] 314

[تسبيح الرمّان والعنب] 320

[جواب الحسنين على مسألةٍ عجز عنها ابن الزبير وابن عثمان] 322

[علّما شيخاً كيف يُحسِن الوضوء] 322

[ما تكلّم الحسين بين يدَي الحسن] 322

[إمساك ابن عبّاس الركاب لهما] 325

[إستجار مذنبٌ بهما فأطلقه النبي صلی الله علیه وآله] 325

[أعرابيٌّ ضلّ بعيره فدلّه عليه] 327

[رُفع إلى السماء لتزوره الملائكة] 328

[إستشار الحسينَ في الزواج فخالفه] 329

[سبع حُصيّاتٍ سبّحنَ في يده] 330

[قصّة أحد ملوك بني مروان نذر أن يقتل زوّار الحسين] 330

الفصل التاسع: في بيان حديث المفضّل. 339

الفصل العاشر: في بدو نوره وبعض الآيات النازلة في ولادته علیه السلام وغير ذلك 405

الفصل الحادي عشر: في بيان صوم عاشوراء، وعلّة عدم منع القاتلين وعدم مسخ الأعداء وغير ذلك 433

الفصل الثاني عشر: في بيان مسخ الأعداء ونسب بني أميّة وغير ذلك. 449

الفصل الثالث عشر: في كتاب عمر إلى معاوية وغير ذلك. 465

الفصل الرابع عشر: في ذكر حديث زيد النسّاج. 481

ص: 490

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.