فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال المجلد 4

اشارة

سرشناسه : مغنیه، محمدجواد، 1904 - 1979م.

عنوان و نام پديدآور : فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال/ محمدجواد مغنیه.

مشخصات نشر : قم: موسسه انصاریان للطباعه والنشر، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 6 ج. (در سه مجلد).

شابک : دوره 9644380541 : ؛ ج. 1 9644382374 : ؛ ج.2 9644382374 : ؛ ج. 3 9644382382 : ؛ ج.4 9644382382 : ؛ ج. 5 9644382390 : ؛ ج.6 9644382390 : ؛ ج.6،چاپ سوم: 964-8716-09-9

يادداشت : عربی.

يادداشت : مصحح چاپ قبلی کتاب حاضر دارالاعتصام بوده است.

يادداشت : کتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشران مختلف منتشر شده است.

يادداشت : چاپ ششم: 1383.

يادداشت : ج.1-6 (چاپ هشتم: 1388) (فیپا).

يادداشت : ج. 1-2 و 3 - 4 (چاپ دوم: 1421ق. = 1379).

يادداشت : ج. 5 (چاپ پنجم: 1425ق. = 1383).

يادداشت : ج.5و6(چاپ دوم: 1421ق.=1379).

يادداشت : ج.5 و 6 (چاپ هفتم: 1385).

يادداشت : ج. 5 و 6 (چاپ هشتم: 1430ق. = 2009 م.= 1388).

يادداشت : ج.6(چاپ سوم: 1428ق.=1386).

یادداشت : کتابنامه.

مندرجات : ج. 4. فی احکام المعاملات.- 5. فی الغصب و احیاءالموات والوقف والحجر والاقرار والشهادات والزواج و غیر ذلک.- ج. 6. فی الطلاق والظهار والایلاء واللعان والقضاء والوصایا والمواریث والعتوبات.

موضوع : جعفر بن محمد (ع)، امام ششم، 83 - 148 ق. -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

شناسه افزوده : دار الاعتصام للطباعة و النشر

رده بندی کنگره : BP183/5/م 6ف 7 1379

رده بندی دیویی : 297/342

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4834

ص :1

اشارة

فقه الامام جعفر الصادق: عرض و استدلال

محمدجواد مغنیه

ص :2

القرض و الدين

اشارة

ص:3

ص:4

بين القرض و الدين:

يشترك الدّين مع القرض في أن كلا منهما يتوقف الانتفاع به على استهلاكه،و أنّه حق ثابت في الذمة،و يفترق القرض عن الدين في أن العين المقترضة تسدد بمثلها في الجنس و الصفات،فإذا استقرضت نقدا ثبت في ذمتك للمقرض نقد مثله،و كذلك إذا استقرضت طعاما أو شرابا،و ما إليه،و على هذا ينحصر القرض في المثليات دون القيميات.

أمّا الدين فيثبت في الذمة بسبب من الأسباب الموجبة له،كالقرض و البيع و الإيجار و الزواج و الخلع و الجنابة و النفقة و الحوالة،و ما إلى ذاك،و على هذا يكون الدين أعم من القرض،و يقضي بمثله ان كان مثليا،و بقيمته ان كان قيميا.

و الدائن هو صاحب الدين،و المدين و المديون بمعنى واحد،و الغريم يشمل الدائن و المدين،و لا يتعين إلاّ بالقرينة.

كراهية الدين:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا يستقرض الإنسان على ظهره إلاّ و عنده وفاء، و لو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة و اللقمتين،و التمرة و التمرتين إلاّ أن يكون له ولي يقضي دينه من بعده.

و حمل الفقهاء هذه الرواية على كراهية الدين إلاّ مع الحاجة،أو يكون له مال يرجع إليه عند الوفاء و السداد،أو ولي يفي عنه.و إذا لم يكن شيء من ذلك فالأفضل أن يتقبل الصدقة،بل يتصدى لها،و لا يتعرض للدين خوفا على حقوق

ص:5

الناس من الضياع.

و قال بعض الفقهاء:يحرم الاقتراض،مع العجز عن الوفاء.و رد صاحب الجواهر هذا القول بأنه مخالف لظاهر النصوص،و فتاوى الفقهاء الذين أجازوا الدين،حتى و لو لم يكن للمستقرض مقابل،و قدرة على الوفاء.

نية القضاء:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:من استدان دينا،فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق.و من كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من اللّه حافظان يعينانه على أداء أمانته،فإن قصرت نيته عن الأداء قصرت عنه المعونة بقدر ما قصر من نيته.

و بهذا أفتى الفقهاء،و قالوا:لما كان الوفاء واجبا كان العزم عليه كذلك.

ثواب الدائن:

قال الإمام الصادق عليه السّلام:لأن أقرض قرضا أحب إليّ من أن أتصدق بمثله.

و قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من أقرض مؤمنا ينتظر به ميسرة كان ماله زكاة، و كان هو في صلاة الملائكة،حتى يؤدى إليه.

و قال:مكتوب على باب الجنة الصدقة بعشرة،و القرض بثمانية عشر، و انما صار القرض أفضل من الصدقة لأن المستقرض لا يستقرض إلاّ من حاجة، و قد تطلب الصدقة من غير حاجة إليها.

و أضاف الشهيد الثاني إلى هذا ان درهم القرض يعود إلى صاحبه فيقرضه ثانية،فيتنفع به الناس،و درهم الصدقة لا يعود،فينقطع النفع.

ص:6

كتابة الدين:

قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:من ذهب حقّه على غير بينة لم يؤجر.

و قال:لا تستجاب دعوة لرجل كان له مال فأدانه من غير بينة،ان اللّه سبحانه يقول له:أ لم آمرك بالشهادة؟ و حمل الفقهاء الآية و الرواية على استحباب الكتابة دون الوجوب،بل ان كثيرا منهم لم يتعرضوا لحكم الكتابة إطلاقا في باب الدين.

العقد:

الدين من العقود التي تحتاج إلى الإيجاب من الدائن،و القبول من المدين، و يتحقق كل منهما بكل ما دل عليه من قول أو فعل (2)قال صاحب الجواهر:

«الظاهر دخول المعاطاة فيه،بل هو أولى من البيع،و السيرة فيه أتم».

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و صاحب مفتاح الكرامة إلى أن الملك يتحقق بالعقد و قبض العين،و لا يتوقف على التصرف،و قال البعض:لا يتحقق إلاّ مع التصرف.

و يرد هذا القول بأن التصرف شرط زائد،و الأصل يقتضي عدمه،و بأن

ص:7


1- البقرة:282. [1]
2- للعقد معنيان:خاص،و هو الإيجاب و القبول باللفظ،و عام،و هو كل ما دل على توافق الإرادتين على شيء واحد،سواء أ كانت الدلالة باللفظ أو بالفعل،و نحن-في الغالب-نطلق العقد في هذا الكتاب بالمعنى العام لا بالمعنى الخاص.

الملك هو المسوغ للتصرف فكيف يكون سببا له؟.قال صاحب الجواهر:

«لو لا الإجماع لاتجه القول بحصول الملك بمجرد العقد من غير حاجة إلى القبض،كما هو الشأن في غيره من العقود.و لكن مفهوم الدين لا يتحقق من غير القبض».

و تسأل:هل الدين من العقود الجائزة،بحيث يجوز للدائن أن يرجع بالعين،و ينتزعها من يد المدين بعد أن يقبضها،و قبل أن يتصرف بها؟.

و يستدعي الجواب عن هذا التساؤل التفصيل على الوجه التالي:

1-أن يرجع الدائن بعد العقد،و قبل القبض،و ما من شك أن له العدول و الرجوع،لأن تمليك العين في الدين لا يتحقق إلاّ بعد القبض،و لا يجوز للمدين أن يقبض العين إلاّ بإذن الدائن فعقد الدين في هذه الصورة جائز.

2-أن يحاول الدائن الرجوع بعد العقد و القبض،و قبل التصرف،و قد ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الدائن لا يحق له ذلك،لأن المدين قد ملك العين بالقبض،و وجب عليه مثلها في ذمته،و الأصل عدم خروجها عن ملكه،و عليه يكون العقد لازما من جانب الدائن،و جائزا من جانب المدين،حيث يجوز له إرجاع العين لصاحبها قبل أن يتصرف بها، و ليس له أن يأبى و يمتنع عن قبولها.

3-أن يطالب الدائن ببدل العين بعد أن يتصرف بها المدين،و لم يكن قد أخذ التأجيل شرطا في العقد،و بديهة أن للدائن تمام الحق بالمطالبة بالبدل في هذه الصورة متى شاء و أراد،ما دام حقه ثابتا في ذمة المدين،كما أن للمدين دفع البدل متى شاء،و تكون النتيجة ان العقد جائز من الجانبين بالقياس إلى بدل العين،و عدم وجوب الإمهال و الانتظار في دفعه،أو

ص:8

المطالبة به.

4-أن يكون التأجيل إلى أمد شرطا في العقد،و بعد أن يتصرف المدين يطالبه الدائن بالبدل،و قد ذهب المشهور إلى أن شرط الأجل غير لازم،و ان للدائن أن يطالب المدين قبل حلول الأجل،لأن هذا الشرط عند المشهور مجرد وعد لا يجب الوفاء به،و لأن الدائن محسن،و ما على المحسنين من سبيل.

قال صاحب الجواهر:«لا أجد خلافا في ذلك قبل الكاشاني».أجل،إذا اشترط التأجيل ضمن عقد لازم وجب الانتظار،كما لو باعه شيئا على أن يقرضه إلى أمد،فيصبح التأجيل لازما تبعا للزوم العقد،تماما كما لو باع الدار،و اشترط أن يسكنها سنة،فتكون السكنى،و الحال هذي،حقا كالثمن.

و قال جماعة،منهم السيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة:بل يلزم الشرط،و يجب الانتظار إلى حلول الأجل،حتى و لو لم يشترط التأجيل في عقد لازم.

و نحن مع هؤلاء،لقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و الدين عقد،فيجب الوفاء به،و بجميع متعلقاته،و يستأنس له بقوله تعالى إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فإن فيه إشارة إلى أن للأجل أثره.و لو جازت المطالبة قبل حلول الأجل لكان ذكر الأجل و عدمه سواء،و هو خلاف المعهود من طريقة العرف.

هذا،إلى أن المدين إنما أقدم على الاستدانة بشرط التأجيل و الانتظار،و لو أجزنا مضايقته قبل الأمد المضروب لألزمناه بما لم يلزم به نفسه.و ليس من شك أن هذا إساءة،لا إحسان.

و يأتي في الفقرة التالية ما يدل على أن للدائن أن يترك جزءا من دينه ليعجله المدين قبل الأجل،و لو كان الانتظار غير لازم لكان الدائن في غنى عن

ص:9

ذلك.

نعم،لو اجله بعد انعقاد العقد و تمامه لم يلزم التأجيل،سواء أ كان الدين الثابت قرضا أو مهرا أو ثمن مبيع،أو غيره،لأنه شرط ابتدائي لا يجب الوفاء به، و لأن المدين أقدم على أن يطالب بالحق متى شاء صاحبه.

و قد تلخص أن عقد الدين ليس لازما بقول مطلق،و لا جائزا كذلك،بل يكون جائزا من جانب الدائن و المدين قبل القبض،و من جانب المدين دون الدائن بعد القبض و قبل التصرف و جائز من الجانبين بعد التصرف بالنسبة إلى الأجل المضروب،حيث لا يجب الالتزام به عند المشهور،و يجب عندنا بالقياس إلى الدائن.

تعجيل الدين بإسقاط بعضه:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يكون له دين على آخر،فيقول له قبل أن يحل الأجل:عجل النصف من حقي على أن أضع عنك النصف،أ يحل ذلك؟ قال:نعم.

و سئل أيضا عن الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى،فيأتيه غريمه، و يقول له:انقدني كذا و كذا،و أضع عنك بقيته؟قال:لا أرى بأسا،انّه لم يزد على رأس المال.

و في هذا إشعار بأنّه إذا اشترط الانتظار لزم الوفاء بالشرط،و إلاّ كان الدائن في غنى عن الحط من دينه.

و لا يجوز تأجيل المعجل بشرط الزيادة،لأنه ربا محرم.

و إذا رضي المدين أن يعجل ما عليه من الدين المؤجل قبل الأوان فله أن

ص:10

يعدل-مثلا-إذا اشترى بنسيئة،أو تزوج بمؤجل،ثم رضي المشتري أو الزوج أن يعجل المؤجل،و يسقط الأجل فله بعد الرضا بإسقاط الأجل أن يعدل،و يرجع إلى الأجل،و ليس لصاحب الدين أن يطالبه قبل الأمد المضروب،محتجا برضاه.لأن مجرد الرضا ليس عقدا لازما،و لا تابعا لعقد لازم،و إنما هو وعد و كفى.

الشروط:

يشترط في الدين بالإضافة إلى العقد و القبض أمور (1):

1-أن يكون كل من الدائن و المدين أهلا للتصرف بالبلوغ و العقل.

2-أن يكون الدائن مالكا،أو مأذونا،كما هو الشأن في جميع التصرفات.

3-أن تكون العين قابلة للتمليك و التملك،و معلومة بالجنس و الوصف،تماما كالمبيع،لأن الجهل بالعين يتعذر معه الوفاء،و يسبب النزاع.

شرط المنفعة:

سبق في الجزء الثالث فصل الربا،فقرة«فساد المعاملة الربوية».

و فقرة«ربا القرض»أن الدين مع شرط النفع ربا محرم،و مفسد للمعاملة، لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«كل قرض يجر منفعة فهو حرام».

و سبق أيضا ان الزيادة و المنفعة،تبرعا و من غير شرط،تجوز،لأن خير

ص:11


1- الشروط بالمعنى الخاص لا تشمل الأركان،كالإيجاب و القبول،لأن الركن داخل في نفس الماهية،و الشرط خارج عنها،و الشرط بالمعنى العام يشمل الأركان،و نحن نطلق الشروط في أبحاث الكتاب و نريد بها المعنى العام.

الناس أحسنهم قضاء،كما قال الإمام الصادق عليه السّلام.

و قال صاحب الجواهر:«الأقوى حرمة القرض بشرط البيع محاباة-أي بأقل من القيمة-أو الإيجار،أو غير ذلك من العقود فضلا عن الهبة و نحوها،لأنه يجر النفع المحرم فتوى و نصا».

المماطلة مع القدرة:

تحرم المماطلة بالوفاء،مع القدرة،كما تحرم مضايقة المدين،مع الإعسار،قال تعالى وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ .و قال الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لي الواجد يحل عرضه و عقوبته.و اللي المماطلة.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما لا يحل لغريمك أن يمطلك،و هو موسر كذلك لا يحل لك أن تعسره إذا علمت أنّه معسر.

و إذا لم تجز المطالبة مع العسر فبالأولى عدم جواز الحبس،و من المشهور:

المفلسون لا يحبسون.قال الإمام الصادق عليه السّلام:انّ عليا عليه السّلام كان يحبس في الدين، فإذا تبين له إفلاس الرجل و حاجته خلى سبيله،حتى يستفيد مالا،و استعدت امرأة على زوجها عنده،لأنه لم ينفق عليها،و كان معسرا،فأبى أن يحبسه،و قال:

ان مع العسر يسرا.

صورة الوفاء:

كل ما تساوت أجزاؤه و صفاته يرد مثله عند الوفاء،كالحنطة و الشعير لأن الثابت في الذمة المثل،لا القيمة،و لا فرق في ذلك بين أن تبقى قيمته على ما كانت حين القرض،أو تزيد،أو تنقص.أجل،إذا تعذر وجود مثله عند الوفاء

ص:12

وجبت قيمته السوقية في هذا الحين،لا عند القرض،لأن الذمة تبقى مشغولة بالمثل إلى حين الوفاء،و عنده تنتقل إلى القيمة.

و كل ما تفاوت أجزاؤه و صفاته كالحيوان تثبت قيمته السوقية يوم القرض، أي اليوم الذي تسلم فيه المقترض العين.

السعي في قضاء الدين:

ذهب المشهور إلى أن على المدين أن يسعى في قضاء ديونه،تماما كما يجب عليه أن يسعى من أجل قوته،و قوت ما يعيل،لأن كل ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب.

وفاء بعض الدين:

إذا أراد المدين أن يسدد بعض الدين،فهل للدائن أن يمتنع،و يقول:لا أقبل إلاّ الجميع دفعة واحدة؟.

الجواب:ليس له ذلك،بل يأخذ الميسور،و يطالب بالباقي،حتى و لو كان قد أعطى المال للمدين دفعة واحدة،لأنه ليس من باب تعدد الصفقة،بل الجزء هنا تماما كالكل في أن كلا منهما حق يجب أخذه،و لا يرتبط وجود أحدهما بالآخر.

وفاء الدين من الدية:

سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قتل،و عليه دين،و لم يترك مالا،فأخذ أهله الدية من قاتله،أ عليهم ان يقضوا دينه؟قال:نعم.

ص:13

و جميع الفقهاء أفتوا بعدم الفرق بين الدية و سائر أعيان التركة،من حيث تعلق الدين بها،سواء أ كان القتل خطأ أو عمدا.

و قال جماعة:إذا قتل المدين عمدا فليس لأوليائه القود من القاتل إلاّ بعد أن يضمنوا المال لأربابه،و في ذلك رواية عن أهل البيت عليهم السّلام.

الوفاء من بيت المال:

اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن من استدان في غير معصية،و عجز عن الوفاء تسدد ديونه من بيت المال،قال الإمام عليه السّلام:من طلب هذا الرزق من حله، ليعود به على نفسه و عياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه،فان غلب عليه فليستدن على اللّه،و على رسوله ما يقوت به عياله.

و قد نص القرآن الكريم على ذلك في الآية 60 من سورة التوبة إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

و الغارمون قوم وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه.

مستثنيات الدين:

يجب على المدين أن يبيع جميع ما يملك في وفاء ديونه،و يستثني له دار السكنى،و قوت يوم و ليلة له و لعياله،و ثيابه و ثيابهم،و كتب العلم ان كان من أهله،و ان لم يفعل حجر عليه الحاكم الشرعي،و باع أملاكه بالشروط المذكورة في باب الحجر.

و يدل على استثناء البيت قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا يخرج الرجل من

ص:14

مسقط رأسه بالدين.

و قال صاحب الحدائق:لم أقف على نص في استثناء ما عدا البيت،و لكنه المشهور،و لعل المستند فيه الضرورة و الحاجة.

مجهول المالك:

إذا استدان من شخص،ثم غاب الدائن بحث عنه المدين ما استطاع،فان لم يعرف له عينا،و لا أثرا،و لا وكيلا،و لا وليا،و لا وارثا تصدق بالدين عن صاحبه،كما هو الحكم في مجهول المالك،لأن المورد من أفراده و مصاديقه.

و بهذه المناسبة نشير إلى الفرق بين اللقطة،و مجهول المالك،و رد المظالم.

اللقطة هي المال الضائع الذي لا يد لأحد عليه،أما حكمها فان كانت قيمتها دون الدرهم فان للملتقط أن يتملكها دون تعريف،و ان كانت قيمتها درهما فما فوق عرّفها سنة كاملة،فان لم يظفر بصاحبها تخير بين أن يتصدق بها على أن يضمنها إذا ظهر المالك،و بين إبقائها في يده أمانة،و بين أن يتملكها بشرط الضمان أيضا،و ان تلتقط من غير الحرم،و يأتي التفصيل في باب اللقطة ان شاء اللّه.

أمّا مجهول المالك فهو كل ما استقر في ذمتك من مال الغير،أو كان عينا خارجية استوليت عليها،و لا تعرف صاحب المال الذي استقر في ذمتك،و لا صاحب العين التي في يدك،على شريطة أن لا تكون قد التقطتها،و من مجهول المالك ما يؤخذ من الغاصب و السلطان الظالم،لأنهما قد أخذا من صاحب اليد.

و لا فرق في المالك المجهول بين من عرفته أولا،ثم جهلته،و بين من جهلته من

ص:15

أول الأمر،كما لو كنت في مكان مع شخص تجهل هويته،ثم ذهب،و ترك بعض أمتعته نسيانا.

أمّا المظالم فقال صاحب مفتاح الكرامة في الجزء:17/5:ان مجهول المالك،و رد المظالم شيء واحد على ما هو المشهور.

و قال صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة:لا يشترط تسليم مجهول المالك إلى الحاكم الشرعي،بل يتصدق به عن صاحبه بعد اليأس من معرفته، و على هذا فتوى الفقهاء،و النصوص عن أهل البيت عليهم السّلام و منها أن الإمام عليه السّلام سئل عمن وجد متاع شخص معه،و لم يعرف صاحبه؟قال:إذا كان كذلك فبعه و تصدق به.و هذا النص الصريح يدل على ان مجهول المالك لا يشترط فيه اذن الحاكم،و لا العدالة في المعطي،و لا المعطى (1).

قسمة الدين:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن قسمة الدين لا تصح.

و مثال ذلك أن يكون لاثنين دين في ذمة زيد و عمرو،فيتراضيان على أن يكون ما في ذمة زيد لأحدهما،و ما في ذمة عمرو للآخر،و قد منع الفقهاء من ذلك، و قالوا:الحاصل من الدين لهما،و الهالك عليهما،و استدلوا بأن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجلين بينهما مال،منه دين،و منه عين،فاقتسما العين و الدين،فحصل

ص:16


1- بقيت مسألة هامة،و هي ما إذا عرف صاحب المال بعد التصدق عنه،و طالب به المتصدق،فهل يضمن،و يجب عليه أن يدفع له العوض من المثل و القيمة؟و القاعدة تقتضي عدم الضمان لأن التصدق كان باذن من الشرع،و سنتكلم عن ذلك و عن أعراض الإنسان عن ماله في باب اللقطة إن شاء اللّه.

الذي لأحدهما دون الآخر،أ يرد على صاحبه؟ قال:نعم.

سقوط النقد:

إذا كان الدين من نوع النقد الذي له قيمة بنفسه،كالذهب و الفضة،ثم أسقطته الدولة،و أبطلت التعامل به،إذا كان كذلك وجب دفع المثل،و ان كان النقد من نوع الورق الذي لا قيمة له إلاّ باعتبار الدولة وجب على المدين الوفاء بالنقد الجاري،و تقدر القيمة يوم سقوط النقد،لأن المدين يبقى مطلوبا بالنقد الأول،و مسؤولا عنه إلى حين إسقاطه،و في هذا الحين تتحول المسؤولية من النقد القديم إلى النقد الجديد.

الموت ينقض الأجل:

اتفقوا على أن الدين المؤجل يصير حالا بموت المدين،لأن الميت لا ذمة له،و الوارث غير مسؤول،لأن الإنسان لا يؤاخذ بموت غيره،فيتعين تعلق الدين بأعيان التركة منذ وفاة المدين،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كان على رجل دين إلى أجل،و مات حل الأجل.

و إذا مات الدائن ينتقل المال الذي اشتغلت به ذمة المدين إلى الورثة، و يبقى الأجل على ما كان عملا بالاستصحاب.

التنجيم:

التنجيم أن يوزع الدين على أقساط تستوفي في أوقات معينة،و هو صحيح

ص:17

و جائزا شرعا،و لكن إذا اشترط الدائن على المدين أنّه إذا تأخر عن أداء قسط في حينه تحل بقية الأقساط فلا يجب العمل بهذا الشرط.و سبق الكلام عن ذلك في الجزء الثالث فصل النقد و النسيئة فقرة التأجيل.

و الكلام عن التنجيم إنما يتم بناء على ما اخترناه من أن شرط التأجيل في الدين يجب الوفاء به،أمّا على قول المشهور من عدم وجوب الوفاء فلا موضوع للكلام عنه.

مرور الزمن:

صرح أكثر الفقهاء بأن الحق لا يسقط بترك المطالبة به،مهما طال الزمن، لأنه متى ثبت بسبب شرعي لا يسقط إلاّ بمسقط شرعي،و مرور الزمن ليس من الأسباب المسقطة في الشريعة.

و نقل صاحب الحدائق في المجلد الخامس آخر باب الدين عن الشيخ الصدوق:«ان من ترك دارا أو عقارا أو أرضا في يد غيره فلم يتكلم و لم يطالب، و لم يخاصم في ذلك عشر سنين فلا حق له و يدل عليه ما روي عن الإمام عليه السلام ان الأرض للّه جعلها وقفا على عباده،فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية بغير سبب أو علة أخرجت من يده،و دفعت الى غيره،و من ترك مطالبة حق له عشر سنين فلا حق له.و هذا صريح في أن ترك المطالبة بالحق عشر سنين يسقط من الأساس».و به يظهر أن قول الصدوق قريب مما عليه الشرائع الوضعية-ثم قال صاحب الحدائق-و بالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الاشكال.

و وجه الاشكال ان الرواية شاذة،لم يعمل بها غير الصدوق(ت 381 ه) و قد طعن جماعة بسندها.و غرضنا من الإشارة إلى الرواية و قول الصدوق التنبيه

ص:18

إلى أن في الشريعة الإسلامية أثرا و جذورا لمرور الزمن الذي أقرته و أخذت به الشرائع الوضعية.

المقاصة:

إذا اقترض منك شخص شيئا،و اقترضت أنت منه ما يتحد مع ما اقترض جنسا و وصفا كان ما أخذته منه وفاء لتمام حقك ان ساواه في الكم،و ان نقص سقط منه بمقدار ما أخذت،و ان زاد كنت مسؤولا عن الزيادة.و ليس هذا من المقاصة في شيء،لأن كلا القرضين كان بإرادة الطرفين،و يسمى تهاترا إن اتفقا بالجنس و الوصف و الكم.

و ان اقترضت منه من غير جنس ما اقترض منك،كما لو أخذ نقدا، و أخذت طعاما،ثم امتنع عن وفائك،و ارضائك جاز لك أن تحتسب ما في ذمتك له من الطعام عوضا عما لك في ذمته من النقد،على أن تعتبر سعر الطعام يوم المعاوضة و المبادلة،لا يوم القبض.أجل،إذا أعطاك الطعام بداعي الوفاء اعتبرت السعر يوم القبض،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل له دين على آخر،و لما حل الأجل أعطاه طعاما أو قطنا دون أن يذكرا السعر،و بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع سعر ما أعطاه أو نقص،فأي سعر يحسب؟قال يحسب السعر وقت الدفع.

و إذا جحدك المدين،أو ماطل جاز لك أن تأخذ من ماله بكل سبيل مقدار حقك،دون تعد،لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (1).

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده،ثم

ص:19


1- البقرة:194. [1]

يظفر من ماله بقدر الذي جحد،أ يأخذه،و ان لم يعلم الجاحد بذلك؟قال:نعم.

و الفقهاء يسمون هذا مقاصة،و سنعقد لها فصلا مستقلا ان شاء اللّه في آخر باب القضاء.و لا يجب على من يقتص حقه من الممتنع أن يستأذن الحاكم الشرعي،لعدم الدليل على وجوب الاذن،و لإطلاق الأدلة التي رخصت بالمقاصة.

و تسأل:هل يجوز للفقير المحتاج أن يختلس من مال مانع الزكاة،لأنه من المستحقين لها؟ الجواب:كلا،لأن الزكاة تثبت في أموال الأغنياء للفقراء بوجه عام،لا لإنسان بالخصوص،حتى تجوز المقاصة،و بكلمة الدين ملك خاص،و الزكاة ملك عام،و الفرق بينهما واضح.

ص:20

الرهن

اشارة

ص:21

ص:22

معنى الرهن:

للرهن معان في اللغة،منها الحبس،قال تعالى كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ .و قال كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ .و هو الأصل لقول الفقهاء:ان الرهن وثيقة لدين المرتهن.

جواز الارتهان:

و الارتهان جائز كتابا و سنة و إجماعا،قال تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام لمن سأله عن الرهن:استوثق من مالك ما استطعت.

و يصح الارتهان في السفر و الحضر،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف فيه بيننا.و روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رهن درعه عند يهودي،و هو حاضر بالمدينة».

و للرهن أركان،و هي الصيغة،و المرهون،أي محل الرهن،و الحق الثابت على الراهن،و الرّاهن،و المرتهن،و لهذه العناوين أحكام،و فيما يلي التفصيل:

ص:23


1- البقرة:283. [1]

العقد:

الرهن يحتاج إلى عقد،و يعتبر في عقده ما يعتبر في غيره من الإيجاب من الراهن و القبول من المرتهن قولا أو فعلا،و تكفي الإشارة المفهمة،مع العجز عن النطق،أما الكتابة فلا يبعد كفايتها مع القصد،حتى و لو كان الكاتب قادرا على التلفظ،قال صاحب الحدائق في أول باب الرهن ما نصه بالحرف:«مال بعض المحققين إلى الاكتفاء بالإشارة و الكتابة المفهمين،مع القدرة على اللفظ،لأن الغرض فهم ذلك،فحيثما وجد كفى».

القبض:

هل عقد الرهن لا يتم إلاّ بالقبض،بحيث يكون القبض شرطا لانعقاده و صحته،و مع عدمه فلا عقد من الأساس،تماما كما هو الشأن في الصدقة،و الهبة و العارية،و القرض،أو أن العقد ليس شرطا في صحة عقد الرهن،و لا لزومه، تماما كما هي الحال في عقد البيع،أو هو شرط في لزوم العقد من جانب الراهن، لا في صحته و انعقاده؟ و للفقهاء في ذلك أقوال ثلاثة (1)و أصحها أن القبض ليس بشرط إطلاقا، لا في صحة الرهن و لا في لزومه،لأن عقد الرهن كغيره من العقود يتم بالإيجاب و القبول،و متى انعقد كان لازما بحكم قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و حديث «المؤمنون عند شروطهم»و لا يتوقف لزومه على القبض و لا على غير القبض،

ص:24


1- قال صاحب الجواهر: [1]لقد ظن أكثر الفقهاء ان في هذه المسألة قولين إلاّ أن من تتبعها يرى أنّها ثلاثة أقوال:الأول:عدم دخل القبض في الصحة و اللزوم.الثاني:توقف الصحة عليه.الثالث: توقف اللزوم عليه دون الصحة.

لعدم الدليل على شيء من ذلك.

أمّا آية وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ أمّا هذه الآية فلا تدل من قريب أو بعيد على وجوب القبض،لأنها تعرضت لحكم الدين في السفر،لا لحكم الرهن،و ما يشترط فيه،و إنما ذكرت الرهان على سبيل الإرشاد،مع عدم وجود الكاتب.و بديهة أن هذا شيء،و ان القبض شرط في الرهن شيء آخر.

و أمّا ما روي أن الإمام الباقر أبا الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام قال:«لا رهن إلاّ مقبوض»فقد أجيب عن هذه الرواية بضعف السند،و بأنّها للإرشاد تماما كالآية الكريمة،و لذا اعرض عنها جماعة من كبار الفقهاء القدامى و الجدد،منهم الشيخ المفيد،و الشهيد الأول،و العلامة الحلي،و المحقق صاحب الشرائع.

و تسأل:ان الرهن وثيقة للدين،كما سبق في تعريفه،و كيف يستوثق الراهن من ماله،مع عدم القبض؟و بكلمة،آية فائدة من الرهن ما دام قبض المرهون ليس شرطا فيه؟.

و نجيب بأن الغاية من الرهن حبس الشيء المرهون،و منع الراهن من التصرف فيه بالبيع و نحوه،ليتمكن المرتهن من استيفاء حقه من المرهون عند الاقتضاء،و ليس من شك أن هذه الغاية تتحقق من غير قبض،و ان كان تحققها آكد و أوثق.و بالاختصار ان الراهن محجر عليه بالنسبة إلى المرهون كالمفلس، فكما لا يشترط القبض في صحة التحجير على المفلس كذلك لا يشترط في الرهن.

و على ما اخترناه من أن القبض ليس شرطا في صحة الرهن،و لا في لزومه من جانب الراهن فلا يبقى موضوع للفروع التي بناها الفقهاء على وجوب

ص:25

القبض،لأن سقوط الأصل يستدعي سقوط الفرع.و من الفروع التي بنوها على لزوم القبض عدم صحة قبض المرهون من غير اذن الراهن،و عدم وجوب استمرار القبض،و غياب المرهون عن مجلس الرهن،و ما إلى ذاك مما يبتني على شرطية القبض.

الرهن مطلق غير مقيد:

الدين يصح أن يكون مطلقا،و أن يكون مؤقتا،أما الرهن فلا يصح فيه التوقيت بحال،و من هنا اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر على أن شرط الأجل في الرهن فاسد،و مفسد للعقد،سواء أ كان الدين مؤقتا،أو غير مؤقت، لأن الغاية من الرهن الاستيثاق للدين،و التوقيت يتنافى مع الاستيثاق،إذ قد لا يتيسر الوفاء في الأمد المضروب،فينتهي الرهن،و يبقى الدين من غير وثيقة، و هو خلاف القصد،فيتعين بقاء الرهن و استمراره إلى أداء الدين،أو إبراء الراهن منه،أو إسقاط الراهن حقه في الرهانة.

الرهن المشروط بغير الأجل:

قد يقع الرهن مجردا عن كل شرط،و قد يكون مشروطا،و الشرط في الرهن منه صحيح،كاشتراط أن يكون المرهون في يد الراهن،أو في يد أمين، و اشتراط المرتهن أن يبيع المرهون،و يستوفي دينه منه (1)و من الشرط ما يكون

ص:26


1- عبر أكثر الفقهاء هنا بقولهم:ان يشترط المرتهن لنفسه الوكالة في بيع المرهون،و أشكل عليهم من أشكل بأن الوكالة لا تتحقق بمجرد جعلها شرطا في العقد،فيرجع اشتراطها،اذن،إلى اشتراط أن يقيم الراهن المرتهن وكيلا،و قد يفعل الراهن ذلك،و قد لا يفعل،و إذا لم ينصبه وكيلا يكون للمرتهن الحق في فسخ الرهن لتخلف الشرط،و عليه فلا يتحقق الغرض المطلوب،إلى غير ذلك من طول الكلام و عرضه لذا عدلنا من شرط الوكالة في البيع إلى شرط الحق في البيع، و يسمى هذا بشرط النتيجة،أي أنّه لم يشترط الوكالة بالذات،و لكن اشترط النتيجة المترتبة عليها.

فاسدا غير مفسد للرهن،كاشتراط أن لا يباع المرهون إلاّ بالثمن الذي يريده الراهن،و ان زاد عن القيمة السوقية أضعافا،و منه ما يكون فاسدا و مفسدا،كما إذا اشترط المرتهن أن يكون المرهون مبيعا له ان لم يؤد الراهن الحق،قال صاحب الجواهر:اتفق الفقهاء قولا واحدا على فساد الشرط و الرهن،لأن الأصل عدم انتقال العين عن ملك صاحبها،و لأن الشيء الواحد لا يكون مرهونا و مبيعا في آن واحد،و لأن البيع لا يوجد إلاّ بوجود سببه و هو الصيغة،مع سائر الشروط.

هذا بالقياس إلى فساد الشرط،أمّا فساد الرهن فلأنه قد حدد بعدم الأداء، و سبق أن لا يحدد بشيء،و انما ينحل حكما بالأداء أو الإبراء من الحق.أمّا كيف يستوفي المرتهن حقه من المرهون فيأتي البيان في فقرة«تعذر الوفاء من غير المرهون».

المرهون:

ذهب المشهور إلى أن المرهون يجب أن يكون عينا يصح تملكها و بيعها، و يمكن تسليمها،و ان تكون معلومة غير مجهولة،تماما كالمبيع.

فلا يصح على ما قالوه رهن ما في الذمة من الدين،لأنه أمر كلي لا وجود له في الخارج،فلا يمكن قبضه.و هذا يتم بناء على أن القبض شرط في الرهن،أمّا على ما اخترناه من عدم شرطية القبض فلا مانع أن تستدين،و ترهن ما لك في

ص:27

ذمة الغير إذا كان حالا غير مؤجل،و يحبس هذا الدين لحساب الراهن،تماما كما هو الشأن في المفلس.

و لا يصح رهن المنافع إطلاقا،سواء أ قلنا بأن القبض شرط،أو لم نقل،لأن المنفعة تحصل بالتدريج شيئا فشيئا،و لا يمكن الاستيلاء عليها إلاّ باستهلاكها، و عليه فلا يتحقق المقصود من الرهن،أي استيفاء الدين من المرهون عند تعذر الوفاء من الراهن.

و أيضا لا يصح رهن ما لا يمكن إقباضه،كالطير في السماء،و السمك في الماء.

و أجمعوا على صحة رهن حصة شائعة مثل أن يرهن نصف داره،أو أرضه،أو يرهن سهمه في عقار شراكة بينه و بين آخر،سواء أرهنه من شريكه،أو من غيره،و سواء أ كان المرهون مما يقبل القسمة،أو لا يقبلها.

و أيضا أجمعوا على أن للإنسان أن يستعير مال الغير،و يرهنه على الدين بإذنه،على شريطة أن يبين له جنس الدين و مقداره و أجله،فإن خالف المستعير فللمالك فسخ الرهن،و استرجاع المرهون.

الحق:

المراد بالحق هنا ما يؤخذ المرهون من أجله.و لا شك في جواز أخذ الرهن على الدين الثابت في الذمة معجلا كان أو مؤجلا،قرضا كان،أو ثمن مبيع، أو عوض إيجار،أو مهرا،سابقا كان الدين على الرهن،أو مقارنا له،كما لو قال:

بعتك هذا بعشرة على أن ترهنني كذا،و لا يصح أن يرهن أولا،ثم يستدين،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بيننا.لأن الرهن وثيقة للمال،و لا يعقل

ص:28

الاستيثاق قبل حصول المال».

و من أجل هذا ذهب المشهور إلى عدم صحة الرهن على مال الجعالة قبل تمام العمل-مثلا-إذا قال:من عمل كذا أعطيته كذا فلا يصح أن يرهن على ما يستحقه العامل بعد العمل،إذ المفروض أنّه لم يثبت له في الذمة قبل العمل.

و تسأل:هل يصح الرهن على العين كما يصح على الدين؟فإذا وضعت امانة عند إنسان أو استأجر منك سيارة-مثلا-أو أخذها بقصد التجربة ليشتريها، و هو المعبر عنه عند الفقهاء بالسوم،و ما إلى ذاك،فهل يصح أن يرهن عندك شيئا يستوثق به على مالك إذا تعدى أو فرط المستأجر أو المجرب أو المستعير أو المتأمن.

اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب الحدائق على أن الوديعة و العارية غير المضمونة لا يصح الرهن من أجلها،و اختلفوا في غيرهما،فمن قائل بصحة الرهن،و قائل بعدم الصحة،و قال صاحب الجواهر بالصحة،ما عدا الرهن من أجل الوديعة و العارية غير المضمونة،لأن أدلة الرهن عامة تشمل العين و الدين خرج منها الوديعة و العارية المذكورة بالإجماع،فيبقى غيرهما مدلولا لعموم الرهن،و تترتب عليه جميع أحكامه،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يشتري الحيوان أو الطعام سلما-بيع السلم ما يكون الثمن معجلا، و المثمن مؤجلا-و يؤخذ الرهن على ما دفع من مال؟فقال الإمام:نعم،استوثق من مالك ما استطعت.

زيادة الدين:

يجوز أن يستدين الراهن من المرتهن ثانية،و يجعل مجموع الدين الأول

ص:29

و الثاني على المرهون الأول،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بيننا.كما لو رهن المبلغ من أول الأمر،و لا حاجة إلى إبطال الرهانة الأولى،ثم التجديد».

ما يسرع إليه الفساد:

إذا كان المرهون من النوع الذي يسرع الفساد إليه راجع المرتهن الراهن في أمره إذا خشي هلاكه،فإن تعذر الرجوع إليه رجع إلى الحاكم الشرعي،فإن تعذر تولى المرتهن عملية البيع بنفسه،مع الحرص التام على حق الراهن،و يأتي البيان بوجه أشمل.

شروط الراهن و المرتهن:

يشترط في كل من الراهن و المرتهن أن يكون أهلا للتصرفات المالية، فرهن المجنون و الصبي غير المميز لغو،و كذلك رهن المكره و السكران،و رهن المحجر لسفه،أو فلس يتوقف على اجازة من له الإجازة،و يجوز للولي و الوصي أن يرهنا مال من لهما عليه حق الرعاية إذا دعت المصلحة،و أيضا يجوز لهما إقراض ماله و الرهانة عليه،مع المصلحة،و مثل له بعض الفقهاء أن يكون للقاصر حنطة و شبهها،و يخشى من تلفها،و لا راغب فيها إلاّ قرضا،أو الشراء نسيئة، فيبيعها الولي أو يقرضها مع الرهن،و دونه إذا كان الغريم أمينا.

تصرف الراهن و المرتهن:

و يشترك الراهن و المرتهن في أن كلا منهما ممنوع من التصرف في المرهون إلاّ بإذن الآخر،أما منع المرتهن فواضح،لأن المرهون ليس ملكا له،

ص:30

و أما منع الراهن فلأن الغاية من الرهن الاستيثاق للدين،و لا يتم ذلك إلاّ برفع سلطة الراهن عن المرهون،و منعه من بيعه و إيجاره،و غيره من التصرفات التي تتنافى مع الاستيثاق.

و إذا أذن المرتهن للراهن ببيع المرهون بطل الرهن من الأساس،و لا يكون الثمن رهنا كالمثمن،بل يحتاج ذلك إلى رهن جديد،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف و لا إشكال.

المرتهن أولى من سائر الغرماء:

إذا كان على الراهن ديون تستغرق أمواله أو تزيد،و حجر الحاكم عليه، فالمرتهن أحق في المرهون من باقي الغرماء على المشهور بين الفقهاء،فإن زاد ثمن المرهون عن الدين وزع الزائد على الغرماء،و ان نقص ضرب الراهن معهم فيما بقي له من الدين،و قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام ان سبيل المرتهن سبيل غيره من أصحاب الدين،و لا يستأثر دونهم بالمرهون.و لكن المشهور أعرضوا و أهملوا هذه الرواية،و ما كان في مضمونها،لضعف السند،أو تأويل المتن.

تلف المرهون:

المرهون أمانة في يد المرتهن لا يضمنه إلاّ مع التعدي أو التفريط.

و ان تلف المرهون بسبب المرتهن فعليه ضمانه،و يكون الحكم ما قاله الإمام الصادق عليه السّلام:«ان كان ثمن الرهن أكثر من مال المرتهن فعليه أن يؤدي الفضل-أي الزيادة-إلى الراهن،و ان كان أقل فعلى الراهن أن يؤدي الفضل إلى المرتهن،و ان كان سواء فليس عليه شيء».

ص:31

و ان هلك المرهون بآفة قاهرة بطل الرهن،لارتفاع موضوعه،و يطالب المرتهن الراهن بدينه،و لا يسقط بهلاك الرهن.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا ضاع الرهن فهو من مال الراهن،و يرتجع المرتهن بماله عليه.و سئل عن الرجل يرهن الغلام،فتصيبه الآفة على من يكون؟قال الإمام عليه السّلام:على مولاه،أ رأيت لو قتل قتيلا على من يكون؟قال السائل:في عنق العبد.ثم قال الإمام عليه السّلام:أ رأيت لو كان ثمنه مائة،فصار مأتين،لمن يكون؟قال السائل:لمولاه.قال الإمام عليه السّلام:

و كذلك يكون عليه ماله.

و إذا أتلفه أجنبي أخذ منه البدل،و يكون رهنا كالأصل،لأن البدل حكمه حكم المبدل منه،و الذي يخاصم الجاني،و يرفع عليه الدعوى هو الراهن،و ليس له أن يعفو عن الجاني إلاّ بعد إرضاء المرتهن،و ان امتنع الراهن عن مخاصمة الجاني فللمرتهن أن يخاصمه،لتعلق حقه بالمجني عليه.

منافع المرهون:

اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن المرهون إذا كان له منافع فهي للراهن، سواء أ كانت حين الرهن،أو تجددت بعده،منفصلة كانت عن المرهون،أو متصلة به،لأن العين ملك له،فتتبعها المنفعة،و اختلفوا:هل تدخل المنافع في الرهن،بحيث تكون مرهونة أيضا كالأصل،أو لا تدخل،أو يفصل بين أنواع المنافع؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق،و صاحب الجواهر إلى الفرق بين المنافع التي تكون موجودة حين عقد الرهن فتخرج إلاّ مع شرط الدخول،و بين المنافع المتجددة بعد العقد فتدخل إلاّ مع شرط الخروج.

ص:32

و ذهب جماعة من كبار الفقهاء،منهم صاحب الجواهر إلى عدم دخول المنافع في الرهن إطلاقا،المتجدد منها،و غير المتجدد إلاّ مع الشرط،قال صاحب الجواهر:«لعدم الدليل الشرعي على الدخول،و لأن الأصل تسلط المالك على ملكه».

و الذي نراه أن هذه المسألة ليست من الأحكام الشرعية في شيء،كي يرجع في أمرها إلى الشارع،أو المتشرعة-أي الفقهاء-لأنها تتعلق في معنى اللفظ،و ما يفهم منه،و المحكم في ذلك العرف دون سواه.

تعذر الوفاء من غير المرهون:

اشارة

سبق أن كلا من الراهن و المرتهن ممنوع من التصرف في المرهون إلاّ بإذن الآخر،و الكلام الآن في حكم ما إذا تعذر وفاء الدين إلاّ من المرهون و فيه تفصيل على الوجه التالي:

1-إذا مات الراهن قبل الوفاء

،و خاف المرتهن على ماله من الضياع لجحود الورثة جاز،في هذي الحال أن يستوفي حقه مما في يده من الرهن دون مراجعة الورثة،فقد سئل الإمام عن رجل مات،و له ورثة،فجاء رجل، و ادعى عليه مالا،و ان عنده رهنا؟قال:ان كان له على الميت مال،و لا بينة له فليأخذ ماله مما في يده،و يرد الباقي على الورثة،و متى أقر بما عنده أخذ به،و طولب بالبينة على دعواه.

و معنى هذا أن للمرتهن أن يكتم أمر الرهن عن الورثة،و لا يقر لهم به،كي لا يؤخذ بظاهر إقراره،و ان له أن يستوفي حقه بنفسه ان خاف عليه الضياع،حتى و لو لم يكن وصيا من الراهن على بيع المرهون،أو على وفاء ديونه.

ص:33

قال صاحب الجواهر:أخذ الفقهاء بهذه الرواية و عملوا بها.

2-يجوز للمرتهن أن يشترط في عقد الرهن بيع المرهون،و استيفاء حقه منه

، و يجوز له مع هذا الشرط أن يبيعه متى شاء ان لم يكن الدين مؤجلا،و ان كان مؤجلا باعه بعد حلول الأجل،و لا يجب عليه أن يراجع الراهن،و لا الحاكم في أمر البيع.

3-إذا لم يشترط المرتهن بيع الرهن في العقد،و امتنع الراهن من الوفاء

لعجز، أو غير عجز رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي،لأنّه ولي الممتنع،و لأنه نصب لفصل الخصومات،و قطع المنازعات،و الحاكم بدوره يلزم الراهن بالبيع مستعملا معه السبل التي يراها من التهديد و التعزير،فإن امتنع الراهن تولى الحاكم أو وكيله بيع الرهن و وفاء الدين.

و ان تعذر وجود الحاكم،أو وجد،و لم يقدر على شيء جاز للمرتهن بعد اليأس أن يبيع المرهون بقيمته،و يستوفي حقه منه،كما يجوز لكل دائن الاستيفاء من مال المدين إذا تمنع عن أداء الحق.

و تسأل:ألا يتنافى هذا مع ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام حيث سئل عن رجل رهن شيئا عند آخر،ثم انطلق فلا يقدر عليه،أ يباع الرهن؟قال:لا حتى يجيء صاحبه؟ و أجاب صاحب الجواهر عن هذه الرواية،و ما في معناها بأنّها تحمل على كراهية البيع،لا على تحريمه،أو على عدم تضرر المرتهن بالصبر و الانتظار إلى حضور الراهن،تحمل على ذلك ان أمكن هذا الحمل،و إلاّ وجب طرح الرواية من رأس،لإعراض الفقهاء أو أكثرهم عنها.

ص:34

وفاء بعض الدين:

قال صاحب مفتاح الكرامة في الجزء الخامس ص 201:«لو أدى الراهن بعض الدين بقي المرهون بكامله رهنا بالدين الباقي،لأن الرهن وقع على كل جزء من الحق بالنظر إلى أن الأغلب تعلق الأغراض باستيفاء الدين عن آخره من الرهن».

و هذه مصادرة و مجرد استحسان من صاحب مفتاح الكرامة.و الذي نراه أن المرتهن ان كان قد اشترط بقاء الرهن إلى آخر جزء من الدين بقي الرهن بحاله،و لا ينفك منه شيء،و ان لم يشترط ذلك،و دفع الراهن بقصد الوفاء، و قبض المرتهن بقصد الاستيفاء انفك من الرهن بقدر ما أدى من الدين عملا بظاهر الحال،و تبعية الرهن للدين في نظر العرف.

و تقدم في فصل الدين فقرة«وفاء بعض الدين»ان الدائن لا يجوز له أن يمتنع عن تسلم بعض حقه،و يفرض على المدين التسديد دفعة واحدة.

نفقة المرهون:

إذا كان المرهون حيوانا،أو غيره مما يحتاج إلى نفقة،الحفظ و الحراسة فالنفقة و جميع التكاليف على الراهن،لأن منافعه له،و الغرم بالغنم،فإذا استوفى المرتهن شيئا من منافع المرهون فعليه اجرة المثل.

و قال جماعة من الفقهاء:إذا أنفق المرتهن على المرهون فله المنفعة بدلا عن الإنفاق،و استدلوا بالحديث الشريف عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«الظهر يركب إذا كان مرهونا،و على الذي يركبه نفقته،و الدر يحلب إذا كان مرهونا، و على الذي يشرب نفقته».

ص:35

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يأخذ الدابة و البعير رهنا،إله أن يركبه؟قال:ان كان يعلفه فله أن يركبه،و ان كان يعلفه صاحبه فليس له أن يركبه.

و أجاب صاحب الجواهر بأن الحديث و الرواية محمولان على اتفاق الراهن و المرتهن على ذلك،و ان لم يمكن الحمل على الاتفاق،أو غيره من معاني التأويل فيتجه طرحهما،لأن الراهن و المرتهن ممنوعان من التصرف إلاّ باتفاقهما معا.

و غير بعيد أن تكون العادة قائمة على ذلك عند ورود النص،فيحمل على الإرشاد إلى العادة المتبعة في ذلك العهد،و هي تباني أهل العرف أن ينفق المرتهن و ينتفع لقاء الإنفاق،فإذا تغيرت العادة فالمحكم الأصل الشرعي القاضي بأن المنفعة للمالك،و النفقة عليه:و ان المرتهن ممنوع من التصرف في المرهون إلاّ بإذن الراهن.

التنازع:

1-إذا كانت العين في يد الدائن فقال:هي رهن عندي على الدين.

و قال مالكها:بل هي وديعة عندك

،فمن هو المدعي؟.و من المنكر؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن المالك منكر،و الدائن مدع،لأن الأصل عدم الارتهان،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجلين اختلفا في مال أنّه قرض أو وديعة،فقال الامام عليه السّلام:القول قول صاحب المال بيمينه.

2-إذا مات المرتهن انتقل حق الرهانة إلى ورثته

،و إذا قال الراهن:لست أمينا من الورثة على المرهون كان له ذلك،فان اتفقا على وضعه عند أمين فذاك، و إلا وضع أمانة عند الحاكم الشرعي،أو من يختاره.

ص:36

3-إذا اتفقا على الرهن،و اختلفا في مقدار الدين

فالقول قول الراهن،لأن الأصل عدم الزيادة،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا اختلفا في الرهن،فقال أحدهما:رهن بألف،و قال الآخر بمئة فعلى صاحب الألف البينة،فان لم تكن له بينة فعلى صاحب المائة اليمين.

4-تقدم أكثر من مرّة أن الراهن لا يجوز له التصرف في المرهون إلاّ بإذن

المرتهن

،فإذا باع الراهن العين المرهونة مدعيا ان المرتهن اذن له بالبيع، و أنكر ذلك المرتهن فالقول قوله مع يمينه،لأن الأصل عدم الاذن،حتى يثبت العكس.

و إذا أذن المرتهن بالبيع،و بعد أن باع الراهن قال المرتهن:رجعت عن الاذن قبل البيع،و أنكر الراهن الرجوع فالقول قول الراهن،لأن الأصل عدم الرجوع،حتى يثبت العكس.

و إذا اتفقا على الاذن و الرجوع عنه،و اختلفا في تقديم البيع على الرجوع، فقال المرتهن:رجعت عن الاذن قبل أن تبيع،فالبيع فاسد.و قال الراهن:بل رجعت بعد البيع فالبيع صحيح،فمن المنكر؟و من المدعي؟ و الذي تستدعيه القواعد أن ينظر:فإن كان تاريخ البيع معلوما،و تاريخ الرجوع مجهولا،كما إذا علمنا أن البيع وقع يوم الجمعة-مثلا-و لم نعلم:هل حصل الرجوع يوم الخميس أو يوم السبت فنستصحب عدم الرجوع إلى يوم السبت،لأنه مجهول التاريخ (1)و نثبت بذلك أن البيع كان مقارنا لعدم الرجوع،

ص:37


1- نستصحب مجهول التاريخ إلى زمن العلم بحدوثه بصرف النظر عن تأخره عن الحادث الآخر الذي علم بتاريخ حدوثه فرارا من الأصل المثبت،و نرتب الآثار على وجود معلوم التاريخ إذا كانت هذه الآثار مترتبة على وجود الحادث المعلوم تاريخه مقارنا لعدم وجود الآخر المسمى هو و نظائره بالموضوعات المركبة من جزءين أحدهما محرز بالوجدان،و الآخر بالاستصحاب،و قد فصلنا ذلك في الجزء الثالث،و على آية حال فان الاستصحاب يجري في مجهول التاريخ إذا علمنا بعدم مقارنة حدوثه لوجود الحادث الآخر،لأن احتمال التقارن كاف في إجراء أصل عدم ترتب الأثر على العقد.و التفصيل في كتب أصول الفقه العقلية ككتاب رسائل الشيخ الأنصاري، و كتاب الجزء الثاني من كفاية الأصول [1]للشيخ الخراساني،و الجزء الثاني من تقرير المرزا النائيني للسيد الخوئي،أو الشيخ محمد علي الخراساني،و هذا البحث المعروف بمجهولي التاريخ من أهم مباحث الأصول و أدقها و أعظمها فائدة،و لم يفهمه من الطلاب إلاّ واحد من مائة فيما اعتقد.و كنت أظن أنّه من مستحدثات العلماء الجدد و اكتشافاتهم،حتى رأيت صاحب الجواهر ينقله عن محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول في آخر باب الرهن المسألة السادسة من المقصد الثالث في النزاع،فأكبرت هذا العظيم،و كدت أقول مع القائلين،و أنا أقرأ له:ما ترك الأوائل للأواخر شيئا. توفي الشهيد الأول سنة 786 ه.

و نحكم بصحة البيع،حتى يثبت العكس،و عليه يكون القول قول الراهن.

و ان كان تاريخ الرجوع معلوما،و تاريخ البيع مجهولا،كأن نعلم أن الرجوع وقع يوم الجمعة،و لم نعلم:هل حصل البيع قبله أو بعده،فنستصحب تأخر البيع عن الرجوع،لأنه مجهول التاريخ،و نثبت بذلك أن الرجوع وقع مقارنا لعدم البيع،و نحكم بفساد البيع،حتى يثبت العكس،و عليه يكون القول قول المرتهن.

و ان لم نعلم بتاريخ البيع،و لا بتاريخ الرجوع،فيكونان من باب مجهولي التاريخ،و يعارض استصحاب عدم حدوث أحدهما عند حدوث الآخر بمثله، و يتكافأ الأصلان،و يتساقطان،و يبقى ما كان على ما كان،و بالتالي،يكون القول قول المرتهن.

و هذا ما تقتضيه القواعد المقررة في علم الأصول،و لكن المشهور بشهادة صاحب الجواهر اعرض عنه،و ذهب إلى أن القول قول المرتهن إطلاقا من غير تفصيل استصحابا لبقاء الرهن،حتى يثبت العكس.

5-إذا اتفقا على وقوع الرهن،و اختلفا في تعيين المرهون

فالقول قول الراهن،

ص:38

مثال ذلك أن يقول الراهن:رهنتك الدار،لا البستان،و يقول المرتهن:بل البستان،لا الدار،فننفي رهانة الدار باعتراف المرتهن،و يكون مدعيا لرهانة البستان فعليه البينة،و مع عدمها يحلف الراهن.

6-إذا كان عليه دينان لشخص واحد،و كان أحد الدينين برهن،و الآخر من

غير رهن

،ثم سدّد أحد الدينين دون الآخر،و اختلف هو و الدائن،فقال المدين:وفيت الدين الذي عليه الرهانة.و قال الدائن:بل الدين الآخر الذي لا رهانة عليه،إذا كان كذلك فالقول قول المدين،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال،لأن الدافع أبصر بنيته التي لا تعلم إلاّ من قبله».

ص:39

ص:40

الضمان

اشارة

ص:41

ص:42

الضمان و الحوالة و الكفالة:

إذا كان لشخص دين في ذمة آخر،و تعهدت أنت للدائن بالوفاء عن المدين دون أن تكون مطلوبا له بشيء كان هذا التعهد ضمانا منك للدين،و أنت ضامن،و الدائن مضمون له،و المدين مضمون عنه.

و إذا كنت مطلوبا للمدين بالمبلغ الذي تعهدت به عنه سمي تعهدك هذا ضمانا،و حوالة أيضا.

و إذا لم تتعهد بمال للدائن،و انما تعهدت بأن تحضر له غريمه،و هو المدين،و تسلمه له عند الطلب كان هذا التعهد ضمانا بالنفس،و كفالة أيضا.

و بهذا يتضح أن للضمان عند الفقهاء معنيين:ضمان بالمعنى الأخص، و هو الالتزام و التعهد بالمال ممن ليس عليه شيء،و ضمان بالمعنى الأعم الذي يشمل الضمان بالمعنى الأخص،و يشمل الحوالة التي هي تعهد بالمال ممن عليه مال للمضمون عنه،و يشمل الكفالة التي هي تعهد بالنفس.و قد أفرد الفقهاء لكل من الضمان بالمعنى الأخص،و الحوالة و الكفالة بابا مستقلا،و بدأوا بالضمان،ثم الحوالة،ثم الكفالة،و نحن نمضي على طريقتهم.

شرعية الضمان:

الضمان مشروع بالإجماع،و الكتاب،و السنة،قال تعالى وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ 1و الزعيم هو الضامن.

ص:43

الضمان مشروع بالإجماع،و الكتاب،و السنة،قال تعالى وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (1)و الزعيم هو الضامن.

و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل مات،و عليه دين،فيضمنه ضامن للغرماء؟قال:إذا رضي به الغرماء فقد برئت ذمته.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:من ضمن لأخيه حاجة لم ينظر اللّه عزّ و جلّ في حاجته حتى يقضيها.

كراهية الضمان و الكفالة:

يكره التعرض و التصدي للضمان و الكفالة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:مالك و للكفالات.أما علمت أنّها أهلكت القرون الأولى!.

و قال:إياكم و الحقوق و اصبروا على النوائب.

و قال:مكتوب في التوراة الكفالة ندامة غرامة.

و ليس من شك أن قوله هذا من باب الإرشاد و النصيحة،لا من باب تأسيس حكم في الشريعة،فهو أشبه بقول من قال:«إياك و حروف الشوك»أي الشركة و الوكالة و الكفالة.فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الأئمة قد يتكلمون بوصفهم من أفراد الناس، كما يتكلمون بصفتهم الشرعية و بيان أحكام الشريعة.

العقد:

للضمان أركان،و هي العقد،و الضامن،و المضمون،و المضمون له، و المضمون عنه،و الحق المضمون.و تتألف صيغة الضمان من الإيجاب من

ص:


1- يوسف:72. [1]

الضامن،و القبول من المضمون له،و يكفي فيهما كل ما دل عليهما (1).

و لا يشترط رضا المضمون عنه،لأن وفاء الدين عن الغير لا يعتبر فيه نية رضا المدين.أجل،رجوع الضامن على المدين بما أداه عنه للدائن يعتبر فيه اذن المدين،كما يأتي.

و قال جماعة من الفقهاء:يشترط في الصيغة التنجيز،و عدم التعليق على شيء،فإذا قال:أنا ضامن إذا لم يف المدين لم يصح،و استدلوا على بطلان الضمان المعلق بأن الضمان لا بد فيه من الرضا،و لا رضا إلاّ مع الجزم،و لا جزم، مع التعليق.

و هذا مجرد استحسان،حيث لا نص على شيء من ذلك،بل هو اعتراف بأن الرضا إذا وجد مع التعليق صح الضمان.و عليه فإذا رأى أهل العرف ان عقد الضمان الدال على الرضا يوجد مع التعليق فإنه يصح و يجب الوفاء به،لقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«المؤمنون عند شروطهم».

و أهل العرف لا يرون أي منافاة بين عقد الضمان و بين التعليق،و يوجبون على من قال للدائن:ان لم يعطك المدين فأنا أعطيك-أن يفي بتعهده،و لو افترض أن مثل هذا لا يصح ضمانا فإنه يصح بطريق آخر،و لو باعتباره عقدا جديدا من العقود غير المسماة التي تكلمنا عنها في الجزء الثالث،و أثبتنا العمل بها تماما كالعقود المسماة،لأنها من مصاديق الأدلة العامة للعقود.

و عقد الضمان لازم من الجانبين:الموجب و القابل،حتى و لو كان الضمان تبرعا،و من غير اذن المضمون عنه،فلا يجوز للضامن أن يقول:عدلت عن

ص:45


1- قال الشيخ النائيني في تعليقه على العروة الوثقى أول باب الضمان:ان الطريق إلى التعهد ينحصر بالقول فقط،و إيجاده بالفعل مجرد فرض لا واقع له إطلاقا.

الضمان،و لا للمضمون له أن يقول للضامن بعد أن قبل و رضي بضمانه:لقد عدلت عن الرضا بضمانك،و سأرجع على المضمون،لا يجوز له ذلك إلاّ إذا تبين إعسار الضامن عند الضمان،فان له،و الحال هذه،الفسخ.أجل،له إسقاط الدين من الأساس،و عندها يرتفع الضمان،لارتفاع موضوعه و محله.

الضامن:

يشترط في الضامن :

1-أن يكون أهلا للتصرفات المالية،فلا يصح ضمان المجنون،و الصبي، و المكره،و السكران،أمّا السفيه فيجوز ضمانه بإجازة الولي،أما ضمان المفلس فجائز إطلاقا،لأنه كاقتراضه يصح،و ان لم يأذن الغرماء.

2-قالوا:ان الضمان بالمعنى الأخص،و هو المبحوث عنه في هذا الفصل يشترط فيه أن لا تكون ذمة الضامن مشغولة بدين للمضمون عنه،و إلاّ يكون التعهد حوالة لا ضمانا بمعناه الخاص.

3-ذهب المشهور إلى أن الضامن يشترط فيه الملاءة،أي القدرة على الوفاء، أو علم المضمون بإعسار الضامن حين الضمان،و هذا شرط في اللزوم، لا في الصحة،فلو قبل المضمون له ثم تبين إعسار الضامن ثبت للمضمون له الحق في فسخ الضمان،و الرجوع على المضمون عنه،لأن لزوم العقد، مع إعسار الضامن يستدعي تضرر المضمون له،فيتدارك الضرر بثبوت الخيار بين الصبر على الضامن،و فسخ العقد،و إذا علم بالإعسار،و رضي به حين العقد فليس له أن يعدل،لأنه أقدم على علم و اختيار،تماما كمن اشترى معيبا مع علمه بالعيب.و إذا عرض العسر بعد الضمان فلا خيار.

ص:46

و إذا ضمن الدين أكثر من واحد،فان ضمنه كلّ بعقد مستقل صح السابق و بطل اللاحق،و ان ضمنه الجميع بعقد واحد يسقط الدين حسب عددهم على السواء.

المضمون له:

يشترط في المضمون له ما يشترط في الضامن من أهليته للتصرفات المالية،و أيضا يشترط رضاه بالضمان،لأنه أحد المتعاقدين،و قبوله جزء من الصيغة،و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا رضي الغرماء برئت ذمة الميت.

و تسأل لقد جيء للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بميت ليصلي عليه،فقال:هل عليه دين؟ قالوا:نعم،ديناران.قال:هل ترك لهما وفاء؟قالوا:لا.فتأخر.فقيل له:لم لا تصلي عليه؟قال:ما تنفعه صلاتي إلاّ ان قام أحدكم فضمنه.فقام الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام،و قيل أبو قتادة فضمن الدينارين،و صلّى عليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقد دل الحديث على أن رضا المضمون له ليس بشرط،حيث صلّى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل أن يرضى الغرماء.

و أجاب جماعة من الفقهاء بأن هذا الحديث قضية في واقعة خاصة لا يتعدى إلى غيرها،و أصح الأجوبة ما قاله صاحب الجواهر من أن رضا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاف واف،لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

و لا بد من تمييز المضمون له عن غيره بما يصح معه القصد،و لا يشترط معرفته بحقيقته و هويته،فإذا رأيت دائنا يطالب مدينا،و قلت للدائن-على غير علم سابق به-:دعه،و أنا ضامن لما في ذمته صح.

و لا يجوز ضمان الدين الذي للسفيه إلاّ بإذن وليه،أما المفلس فديونه

ص:47

محجوزة لحساب الغرماء،فيجوز ضمانها لهم،و لا يجوز ضمانها له.

المضمون عنه:

لا يشترط في المضمون عنه العقل و لا البلوغ و لا الرشد و لا رضاه في الضمان التبرعي،بل و لا حياته،فيصح الضمان عن المجنون و الصبي و السفيه و المفلس و المجهول،لأن الضمان تماما كقضاء الدين لا يعتبر فيه رضا المدين، و لأنّ العقد يتحقق بالإيجاب من الضامن،و الرضا من المضمون له،فتشمله أدلة الوفاء بالعقود.

أجل،لا بد من تمييز المضمون عنه بما يصح معه القصد،و لو بجهة من الجهات،أما إذا كان مجهولا و مرددا بين اثنين أو أكثر فلا يصح،مثل أن يكون لشخص دين على اثنين،فتقول:ضمنت ما في ذمة أحد هذين.

الحق المضمون:

قالوا:يشترط في الحق المضمون أن يكون ثابتا في الذمة،فلا يصح أن تقول لشخص:أعط فلانا على حسابي،و عليّ ضمان ما تعطيه،لأنّه لم يثبت في الذمة شيء يتعلق به الضمان،و قد أجمع الفقهاء على ذلك قولا واحدا.

و لكن العقلاء و أهل العرف يرون مثل هذا القائل مسؤولا و ملزما بتعهده، فما هو طريق الجمع بين بناء العقلاء على صحة هذا التعهد،و إجماع العلماء على فساد الضمان؟ الجواب:ليس من الضروري إذا لم يصح ضمانا مثل قوله:أعط فلانا،و أنا أعطيك عنه أن لا يصح إطلاقا.لأن الصحة لا تنحصر بالضمان،و لا بالعقود

ص:48

المسماة،فالمهم أن يصدق على التعهد اسم العقد حقيقة عند أهل العرف، و التعهد المذكور يصدق عليه اسم العقد كما هو المفروض،فيشمله إلاّ أن تكون تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ،و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و المؤمنون عند شروطهم.

و يجوز ضمان ما ثبت في الذمة ثبوتا جائزا،لا لازما،كالمهر قبل الدخول، و ثمن المبيع في زمن الخيار،لأن تمام المهر لا يستقر إلاّ بالدخول،كما أن ثمن المبيع لا يستقر إلاّ بعد مضي زمن الخيار،مع عدم الفسخ.

و قال الفقهاء:يجوز أن تضمن النفقة السابقة للزوجة،و لا يجوز ضمان النفقة المستقبلة،لأنها غير ثابتة بالفعل،كما أنّها عرضة لعدم الثبوت في المستقبل بالنشوز أو الطلاق أو الموت.

و الذي نراه هو صحة ضمان النفقة المستقبلة،لا لوجود المقتضي فقط، و هو الزوجية،بل لأن هذا التعهد يصدق عليه اسم العقد في نظر العرف،فيشمله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ تماما كما هو الشأن في تعهد من قال:أعط فلانا و أنا أعطيك عنه،أما ان الزوجة عرضة للنشوز و الطلاق و موت الزوج فجوابه ان وجوب الوفاء بكل عقد على حسب مقتضاه،فيجب أن ينفق المتعهد على الزوجة ما دام سبب الإنفاق قائما.

و قال الشيخ أحمد كاشف الغطاء في«وسيلة النجاة»باب الضمان:القول بصحة نفقة الزوجة للمستقبل ليس ببعيد ان لم يكن إجماع.و قال السيد كاظم اليزدي في العروة الوثقى باب الضمان مسألة 38:«لا مانع من ضمان ما لم يجب بعد ثبوت المقتضي،و لا دليل على عدم صحته من نص أو إجماع،و ان اشتهر في الألسن،بل في جملة من الموارد حكموا بصحته.و قال في المسألة 35:لا يبعد صحة ضمان النفقة المستقبلة للزوجة لكفاية وجود المقتضي و هو الزوجية.

ص:49

و لا يشترط في صحة الضمان علم الضامن بمقدار الدين و جنسه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لما حضر محمد بن أسامة الموت دخل عليه بنو هاشم،فقال لهم:لقد عرفتم قرابتي و منزلتي منكم،و عليّ دين أحب أن تقضوه عني،فقال علي بن الحسين عليه السّلام:عليّ دينك كله.

فقد ضمن الإمام عليه السّلام ديون ابن أسامة دون أن يعلم مقدارها،أجل،لا بد من المعرفة بالجنس و المقدار عند الوفاء،لتوقفه عليه.

و لا يلزم الضمان إلاّ بوفاء ما ثبت من الدين بالبينة،أو ما علم به هو بطريق من الطرق،على أن يكون ثابتا وقت الضمان،لا ما يتجدد بعده كما قال الفقهاء، و لا ما يقر به المدين بعد الضمان،لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر وحده،و لا تتعداه إلى غيره.

و إذا كان الضمان مطلقا غير مقيد بوقت من الأوقات يكون تابعا للدين لأنه فرع عنه فيؤجل الوفاء من الضامن ان كان الدين المضمون مؤجلا،و يعجل ان كان معجلا.

و يجوز ضمان الدين الحال بمؤجل،و المؤجل بمعجل،أو بزيادة الأجل، و بكلمة ان كل ما يتفق عليه الضامن و المضمون له فيما يعود إلى التأجيل و التعجيل فهو صحيح و جائز،لأن الأجل حق لمن هو له فيجوز تأخيره،و تقديمه برضا الطرف الآخر،و يجوز له إسقاطه إطلاقا،و في جميع الحالات لا يجوز للضامن أن يرجع على المضمون عنه إلاّ بأمرين:الأول أن يحل أجل الدين، لا أجل الضمان،الثاني أن يؤدي الضامن الدين للمضمون له،فإذا لم يؤده فلا يرجع على المضمون عنه،حتى و لو حل أجل الدين،و إذا لم يحل الأجل فلا يرجع عليه،حتى و لو أدى الدين.

ص:50

و يجوز لكل من الضامن و المضمون اشتراط الخيار مدّة معينة،لعموم أدلة وجوب الوفاء بالشرط.

ضمان الأعيان:

اشارة

قد اتضح مما سبق أن الدين الثابت في الذمة يجوز ضمانه إجماعا و نصا، أما ضمان الأعيان الخارجية فهو على التفصيل التالي:

1-أن تكون العين تحت يد لا يضمن صاحبها إلاّ بالتعدي أو التفريط

، كالوديعة،و المرهون،و مال المضاربة،و العارية من غير الذهب و الفضة، و تسمى هذه الأعيان غير مضمونة،لأن من هي في يده لا يضمن على كل حال.و قد أجمع الفقهاء على عدم صحة ضمانها ما دامت أعيانها قائمة، لأن سبب الضمان لم يتحقق،فيكون ضمانها،و الحال هذي،ضمانا لمال غير مضمون.

2-أن تكون العين في يد يضمن صاحبها على كل حال

،فرّط أو لم يفرط، تعدى أو لم يتعد،كالمغصوب،و المقبوض بالسوم،و بالعقد الفاسد، و عارية الذهب و الفضة،و تسمى هذه أعيانا مضمونة،لأن من هي في يده ضامن على جميع التقادير.و قد اختلف الفقهاء في ضمانها،فذهب جماعة إلى أنّه يجوز لأجنبي أن يتعهد لصاحب العين عمن هي في يده، يتعهد بإرجاعها له،مع بقائها بالذات،و إرجاع بدلها مع التلف،لأن سبب الضمان متحقق،فلا يكون الضمان ضمانا لما لم يجب،و لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«الزعيم غارم»فإنه شامل لكل شيء تعهد به،سواء أ كان الشيء دينا أو عينا،و للأدلة العامة،مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و المؤمنون عند شروطهم.

ص:51

و قال آخرون،و منهم صاحب الجواهر،و صاحب الحدائق:لا يجوز ضمانها،لأن معنى الضمان عند الفقهاء الجعفريين هو انتقال الحق من ذمة إلى ذمة،و هذا شيء،و الالتزام برد العين الخارجية شيء آخر،و بكلمة ان الضمان المبحوث هنا من شؤون الذمم،لا من شؤون الأعيان الخارجية،هذا إلى أن الغاصب و من إليه مكلف شرعا برد العين،و الأحكام الشرعية لا تقبل الضمان الذي هو بمعنى الانتقال من شخص إلى شخص،أجل،يجوز الضمان لو كان معناه ضم ذمة إلى ذمة،حيث يبقى إلزام الغاصب و تكليفه بالرد على ما هو عليه، و لا ينتقل منه إلى سواه،و لكن الفقهاء الجعفريين لا يقولون بذلك،كما تقدم.

3-ان يقع بيع بين اثنين،فيتعهد ثالث بدرك الثمن للمشتري عن البائع

إذا خرج المبيع مستحقا للغير،أو ظهر فساد البيع لفقد شرط من شروطه إذا كان المشتري قد دفع الثمن للبائع،أو يتعهد الثالث للبائع عن المشتري إذا خرج الثمن المعين مستحقا للغير،و يسمى هذا ضمان العهدة،و ضمان الدرك.

و قد أجازه الفقهاء،و استدلوا على جوازه و صحته بسيرة المسلمين قديما و حديثا،و بالحاجة الماسة إليه،إذ لو لا الجواز لوقع الناس في العسر و الحرج.

ضمان درك البناء و الغرس:

إذا اشترى شخص من آخر قطعة أرض-مثلا-و بنى المشتري فيها دارا،أو غرسها بستانا،ثم ظهرت مستحقة للغير،و أزال المالك البناء و الغرس كان درك ذلك على البائع باتفاق الفقهاء جميعا إذا كان المشتري جاهلا بذلك،لأن البائع، و الحال هذي،قد غرر بالمشتري،و المغرور يرجع على من غره.و هل يجوز

ص:52

لثالث أن يضمن للمشتري درك ما يحدث في القطعة إذا خرجت مستحقة للغير.

ذهب المشهور بشهادة صاحب العروة الوثقى إلى عدم صحة هذا الضمان، لأن المشتري لا يستحق شيئا على البائع قبل ازالة البناء و الغرس،حتى يصح الضمان.فيكون-اذن-ضمانا لما لم يجب.

و سبق أكثر من مرّة أن كل ما يصدق عليه اسم العقد عند أهل العرف يصح و يجب الوفاء به،و ان وجوب الوفاء بكل عقد على حسب مقتضاه،و عليه يصح مثل هذا الضمان،و يجب الوفاء به عند ازالة البناء و الغرس،و بهذا أفتى الشهيد الأول و الثاني و صاحب العروة الوثقى.

أمّا ضمان البائع للمشتري درك الثمن،أو درك البناء و الغرس إذا خرج المبيع مستحقا للغير فوجوده و عدمه سواء لأنه ضامن بنفس العقد،بل لو تبرأ من الضمان لم يبرأ.

لا سبيل للمضمون له،على المضمون عنه:

اتفقوا كلمة واحدة بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب الحدائق،و غيرهما على أن شروط الضمان متى تحققت بكاملها انتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن،و لا يجوز للمضمون له أن يطالب المضمون عنه بشيء،لأن الضمان عند الفقهاء الجعفريين انتقال المال من ذمة إلى ذمة،لا ضم ذمة إلى ذمة، المعروف بالتكافل و التضامن،لأن المال الواحد لا تشتغل به ذمتان في آن واحد، و لا ذمة واحدة على سبيل الترديد و عدم التعيين،و يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:«إذا رضي الغرماء برئت ذمة الميت»فإنه صريح في براءة ذمة المضمون عنه بعد الضمان.

ص:53

رجوع الضامن على المضمون عنه:

يرجع الضامن على المضمون عنه بما اداه للمضمون له إذا كان قد ضمن بإذن المضمون عنه،و إلاّ فلا يحق له الرجوع عليه،لأنه متبرع قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك».

و إذا أبرأ المضمون له الضامن من الدين بريء هو و المضمون عنه،و لا يحق للضامن الرجوع على المضمون عنه،لأن استحقاق الرجوع عليه انما يكون مع الأداء عنه و الضمان بإذنه،فإن ضمن بغير اذنه،أو لم يؤد إطلاقا فلا حق له عليه.

و إذا أبرأ المضمون له ذمة المضمون عنه فلا تبرأ ذمة الضامن،لأن المفروض ان المضمون عنه أجنبي عن المضمون له بعد الضمان،فلا يؤثر إبراؤه شيئا إلاّ أن يفهم منه أنّه أراد الإبراء من أصل الدين الذي كان على المضمون عنه، و عليه تبرأ ذمة الضامن من غير شك.

و اتفقوا كلمة واحدة على أن الضامن لا يجوز له الرجوع على المضمون عنه و المطالبة بشيء إلاّ بعد أن يؤدّي الى المضمون له،لأن ذمة المضمون عنه لا تشتغل بشيء إلاّ بعد الأداء،على أن يكون الضمان بإذن من المضمون عنه.

و أيضا اتفقوا على أنّه لا يرجع عليه إلاّ بمقدار ما أداه للمضمون له،على شريطة أن لا يزيد على أصل الدين،و إذا أبرأ المضمون له الضامن من الدين فلا يرجع هذا على المضمون عنه بشيء،و إذا أبرأه من البعض،و أخذ منه البعض رجع عليه بما أدى فقط،و مما استدلوا به على ذلك أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل ضمن عن آخر ضمانا،ثم صالح عليه؟قال:ليس للضامن إلاّ الذي صالح عليه، و إذا دفع الضامن للمضمون له عروضا رجع الضامن على المضمون عنه بقيمة العروض ان كانت بمقدار الدين،أو أقل،و ان زادت عنه رجع بالحق الذي

ص:54

ثبت في ذمته للمضمون له.

ترامي الضمناء:

يصح أن يضمن ثان عن الضامن الأول،و يضمن عن الثاني ثالث،و هكذا، لأنه عقد تام الشروط فيجب الوفاء به،و يرجع الثالث بما اداه على الثاني،و الثاني يرجع على الأول،و الأول على المضمون له الأصيل،و الشروط في الجميع هي الشروط.

مسائل:

1-يجوز للضامن أن يضمن الدين بأقل منه برضا المضمون له

،و لا يرجع الضامن على المضمون عنه مع اذنه في الضمان إلاّ بما أداه،كما سبق.

و أيضا يجوز أن يضمن الدين بأكثر منه،لأن المفروض ان الزيادة لم تقع شرطا في الدين الذي استدانه المضمون عنه،كي تكون من الربا،و لأن للمدين أن يرد الدين بأكثر منه تبرعا من تلقائه،و من هنا لا يجوز للضامن أن يرجع على المضمون عنه إلاّ بأصل الدين،حتى و لو دفع للمضمون له أضعافا.

2-إذا كان اثنان في سفينة،و لأحدهما فيها أمتعة،و قال الآخر لصاحب الأمتعة

الق امتعتك بالبحر،و عليّ ضمانها

،فهل يصح هذا الضمان،بحيث إذا ألقى الأمتعة بالبحر،وجب على الضامن أن يدفع بدلها؟ قال الفقهاء:إذا قال له ذلك للخوف على السفينة من الغرق لمكان الثقل صح الضمان بالإجماع دفعا للضرر،أما مع عدم الخوف فلا يصح الضمان لأنه

ص:55

سفه،و قد أجمع الفقهاء على عدم صحة الضمان لو قال له:مزق ثوبك،أو اجرح نفسك و علي الضمان.و يأتي البيان الأوفى في باب الديات ان شاء اللّه.

3-سبق أن المضمون له لا سبيل له على المضمون عنه

،و لكن إذا دفع هذا له الحق بريء هو و الضامن.قال صاحب الجواهر:«بلا اشكال و لا خلاف».

4-إذا كان الدين الذي ضمنه الضامن مؤجلا إلى أمد معين،و مات الضامن قبل

مضي الأجل

،فإن الدين الذي عليه يصبح معجلا بموته،و يستوفى من تركته،و قدمنا ذلك في باب الدين،و لكن لا يحق لورثة الضامن الرجوع على المضمون عنه إلاّ بعد مضي أجل الدين،لأن الحلول على الضامن بموته لا يستدعي الحلول على المضمون عنه،و كذا لو سقط الضامن من الأجل،و أدى الدين قبل مضيه،فإنه لا يرجع على المضمون عنه إلاّ بعد انقضاء الأجل.

5-إذا ضمن من غير اذن المضمون عنه

،و لكن بعد أن تم الضمان قال المضمون عنه للضامن:ادّعني،فهل يرجع الضامن بما أداه،لمكان الإذن بالأداء؟ الجواب:كلا،لأن سبب الرجوع هو الاذن بالضمان لا الاذن بالأداء،إذ الضمان ينقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن،و عليه يكون المضمون عنه بريئا من الدين،و يكون قوله:ادعني كقول أي بريء لمن عليه ديون للناس:أدّ ما عليك من ديون.

التنازع:

1-إذا اختلف الضامن و المضمون له في مقدار الدين المضمون

،أو في مقدار

ص:56

ما ضمن منه،أو في اشتراط تعجيل المؤجل فالقول قول الضامن،لأن الأصل عدم الزيادة.

و إذا اختلفا في وفاء الحق،أو الإبراء منه كلا أو بعضا،أو في تأجيل الحال فالقول قول المضمون له،لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.

2-إذا اختلف الضامن و المضمون عنه في الاذن

،فقال الضامن:أذنت لي بالضمان عنك،و قال المضمون عنه:كلا،لم آذن فالقول قوله،و على الضامن البينة،و إذا قال الضامن:قد وفيت الدين عنك للمضمون له، و أنكر المضمون عنه الوفاء سئل المضمون له،فان صدق الضامن ألزم المضمون عنه بالأداء،لأن إقرار المضمون له بوصول حقه إليه حجة عليه، و ان أنكر المضمون له الوفاء فعلى الضامن البينة.

3-إذا أنكر الضامن الضمان من الأساس،و أقام المضمون له البينة على

ضمانه

،و استوفى الحق منه كاملا فلا يجوز للضامن ان يطالب المضمون عنه بشيء،لأن إنكاره لأصل الضمان يشكل اعترافا منه بأن المضمون عنه لم يأذن له بالضمان،و سبق أنّه مع عدم الاذن لا يحق له الرجوع عليه.

4-إذا كان عليك دين لشخص،و أذنت لأحد معارفك أن يفي ما عليك من

الدين

من غير أن يكون قد ضمنه للدائن،و بعد أمد قال:قد وفيت عنك تلبية لرغبتك،فإذا أنكرت قوله كان عليك الإثبات بأن الدين باق على ما هو،و عليه اليمين مع العلم بأنه مدع،و أنت المنكر،لأنه أمين بعد الاذن له بالوفاء،و ليس على الأمين إلاّ اليمين.هذا إذا لم يعترف الدائن بالوفاء، و مع اعترافه به لا يبقى موضوع للنزاع و الاختلاف.

ص:57

ص:58

الحوالة

اشارة

ص:59

ص:60

المحيل و المحال و المحال عليه:

إذا كنت مدينا لزيد بمال،و كان عمرو مدينا لك بمال،و أحلت زيدا على عمرو،و رضي زيد بهذا التحويل كنت أنت محيلا،و زيد محالا،و عمرو محالا عليه،و المال محالا به-أذن-الحوالة هي تحويل المال من ذمة مشغولة بدين إلى ذمة أخرى.

مهدنا بهذه الإشارة لتوضيح ما نتعرض إليه فيما يلي.

شرعية الحوالة:

الحوالة مشروعة إجماعا و نصا،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الرجل يحيل الرجل بدراهم،أ يرجع عليه؟قال:لا يرجع عليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس قبل ذلك.

الرضا:

اتفق الفقهاء على أنّه لا بد في الحوالة من رضا المحيل و المحال،أما رضا المحيل فلأن من عليه الدين لا يجبر على وفائه من جهة دون جهة من أمواله،و أما رضا المحال فلأن دينه ثابت في ذمة معينة فلا يتحول إلى غيرها إلاّ برضاه،أما المحال عليه فقد اتفقوا على اعتبار رضاه إذا كان غير مدين للمحيل إطلاقا أو

ص:61

مدينا له بغير جنس المال المحال به،كما لو كان مدينا بحنطة فيحال عليه بنقد، لأن الاستيفاء في هذه الحال،مع عدم الرضا استيفاء للحق من غير من هو عليه.

و اختلفوا في رضا المحال عليه المدين للمحيل بمثل المال المحال به، فذهب المشهور إلى اعتباره أيضا،لأنه لا دليل على صحة الحوالة دون رضاه، و الأصل بقاء ما كان على ما كان من اشتغال ذمة المحيل بدين المحال،و اشتغال ذمة المحال عليه بدين المحيل بعد التحويل من غير رضاه.

و قال أكثر من واحد،لا يعتبر رضا المحال عليه،ما دام مطلوبا للمحيل بمثل ما أحال عليه،لأن الناس مسلطون على أموالهم،سواء أ كانت في الخارج، أو في الذمة،فكما يجوز لصاحب الحق أن يقول لمن هو عليه:أعطه من الحق الذي عليك،و ان يصالح عليه من شاء بما شاء رضي من عليه الحق أو لم يرض كذلك تجوز الحوالة عليه شاء،أو أبى.

و بناء على القول المشهور من اعتبار رضا المحال عليه إطلاقا بريئا كان،أو مدينا بالمثل أو بغيره،بناء على ذلك لا بد من رضا الثلاثة:المحيل،و المحال، و المحال عليه بشتى أقسامه على أن يتم عقد الحوالة بالإيجاب من المحيل، و القبول من المحال فقط،أما رضا المحال عليه فهو شرط لصحة العقد،لا جزء منه،و يصح منه متقدما على العقد،و متأخرا عنه،و مقارنا له.و قيل:ان عقد الحوالة مركب من الإيجاب من المحيل،و من قبولين:أحدهما من المحال، و الآخر من المحال عليه.

و مهما يكن،فإن العلامة الحلي في القواعد قد عرف الحوالة بأنّها عقد شرع لتحويل المال من ذمة إلى أخرى،و عرفها كثيرون غيره بأنّها تحويل المال من ذمة إلى ذمة مشغولة بمثله،و يبتني التعريف الأول على أن الحوالة نتحقق مع

ص:62

براءة ذمة المحال عليه،و يبتني التعريف الثاني على ان الحوالة لا تتحقق إلاّ مع اشتغال ذمة المحال عليه،هذا،مع العلم بأن الجميع على وفاق في أن التعهد من البريء يقع صحيحا،و لكنه يسمى ضمانا و حوالة عند أهل التعريف الأول، و يسمى ضمانا فقط و لا يسمى حوالة عند أهل التعريف الثاني،فالاختلاف-اذن -في الشكل و التسمية،لا في الجوهر.

و هذا ملخص أقوال الفقهاء،أما الناس العاديون فإنهم يفهمون من معنى الحوالة أن المدين يحيل الدائن في وفاء دينه على غيره،و لا يلتفتون إطلاقا إلى أن المحال عليه مطلوب للمحيل،أو غير مطلوب.

الشروط:

1-ان يرضى المحيل،و المحال،و المحال عليه

،حسبما تقدم،أجل،إذا تبرع متبرع عن المحيل بوفاء دينه فلا يشترط رضاه،كائنا من كان المتبرع،لأن وفاء الدين و ضمانه لا يشترط فيه رضا المدين.

2-ذهب المشهور إلى أن الحوالة لا بد أن تكون منجزة غير مغلقة على شيء

تماما

كما هي الحال في الضمان،فإذا قال المحال للمحيل:قبلت التحويل على فلان بشرط إذا لم يدفع لي رجعت عليك بطل الشرط و التحويل، و بقي كل شيء على ما كان.

و يلاحظ بأن هذا ان لم يصح تحويلا فإنه يصح باسم آخر،و المهم أن يصدق على هذا التعهد و أمثاله اسم العقد عند أهل العرف،و متى صدقت التسمية وجب الوفاء،و سبق البيان في فصل الضمان فقرة«الصيغة».

3-أن يكون كل من المحيل و المحال،و المحال عليه أهلا للتصرفات المالية

.

ص:63

أجل،يجوز التحويل من المفلس على البريء من ديونه،لأنه نظير الاقتراض منه الذي يصح باتفاق الفقهاء.

4-أن يكون المال المحال به ثابتا في ذمة المحيل للمحال

،سواء أ كان ثبوته مستقرا،كالقرض و ثمن المبيع اللازم،أو غير مستقر،كمهر الزوجة قبل الدخول و ثمن المبيع في زمن الخيار،فالمهم ان يكون ثابتا في الذمة بأي نحو من أنحاء الثبوت،أمّا إذا لم يكن ثابتا في الذمّة أصلا فيكون وكالة بلفظ التحويل،إذ لا يشترط في الوكالة لفظ خاص،فإذا قال لك قائل غير مدين لك بشيء قال:قد أحلتك بالدين الذي لي على فلان فاقبضه منه كان هذا وكالة بلفظ الحوالة،فإذا قبضت المال يبقى في يدك أمانة لصاحبه.

و لا فرق في الحق المحال به بين أن يكون عينا كالدراهم و الحبوب،أو منفعة كمن استأجر آخر ليوصله بالسيارة إلى بلد معلوم،أو عملا كمن استأجره ليبني له حائطا دون أن يشترط عليه المباشرة بنفسه،فإن الحوالة تصح في ذلك كله.

و تسأل:إذا قال انسان لآخر:أقرضني و خذ عوضه من زيد فرضي المخاطب بالإقراض و الأخذ من زيد،كما رضي زيد بالوفاء،فهل يصح مثل هذا؟و في حال الصحة فمن أي باب يكون،مع العلم بأنه ليس ضمانا بالمعنى الأخص،و لا حوالة،لأن المفروض أن ذمة القائل لم تشتغل بعد بالقرض.

و أجاب السيد صاحب العروة الوثقى:«بأن هذا صحيح من باب الحوالة، لصدق اسمها عليه».

و الأولى في الجواب هو ما سبق مرات من أنّه ليس من الضروري إذا لم يصح حوالة،و لا ضمانا بالمعنى الأخص ان لا يصح إطلاقا،و لو باعتبار آخر،

ص:64

و هو أن يكون هذا تعهدا مستقلا بنفسه،كسائر العقود غير المسماة التي يحكم بصحتها و وجوب الوفاء بها لمجرد صدق اسم العقد عليها في نظر أهل العرف.

و لو اشترط المحال عليه تأجيل الوفاء،و رضي المحال صح،و ان كان الدين حالا.و لو اشترط المحال التعجيل و رضي المحال عليه صح أيضا،و ان كان الدين عليه مؤجلا،عملا بحديث«المؤمنون عند شروطهم».

5-ذهب المشهور إلى أنّه يشترط علم الثلاثة بجنس و مقدار المحال به

بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة إلى أنّه يشترط علم الثلاثة بجنس و مقدار المحال به،لأن الجهل يستدعي الغرر، و يتعذر معه الوفاء،و الأخذ و العطاء.

6-أن يكون المحال عليه قادرا على الوفاء وقت الحوالة

،أو علم المحال بإعسار المحال عليه و رضي بالتحويل،أمّا إذا جهل الإعسار عند التحويل،ثم علم فله حق الفسخ و الرجوع على المحيل.

و إذا كان عند التحويل مليا،ثم تجدد الإعسار فلا فسخ.فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يحيل الرجل على الصيرفي،ثم يتغير حال الصيرفي، أ يرجع على صاحبه إذا أحيل عليه و رضي؟ قال الإمام عليه السّلام:لا.

و المفهوم من تغير حال الصيرفي إفلاسه بعد أن كان مليا عند التحويل.

لزوم الحوالة و براءة ذمة المحيل:

متى تمت الشروط صحت الحوالة،و لزمت بحق الثلاثة،و لا يجوز لواحد منهم العدول عنها،و تبرأ ذمة المحيل من دين المحال،و تشتغل ذمة المحال عليه،و لا يحق للمحال أن يطالب المحيل بشيء،حتى و ان لم يستوف من

ص:65

المحال عليه،لأن معنى الحوالة هو تحويل الدين من ذمة إلى ذمة،كما يدل عليه لفظ الحوالة،و لو بقيت ذمة المحيل مشغولة بالدين لما كان للفظ الحوالة و ما يتفرع عنها أي معنى تدل عليه.هذا،إلى أن الإمام الصادق عليه السّلام قد سئل عن الرجل يحيل الرجل بالمال،أ يرجع عليه؟قال:لا يرجع عليه أبدا إلاّ أن يكون قد أفلس،أي أفلس قبل التحويل.

و قال بعض الفقهاء:لا تبرأ ذمة المحيل،حتى يقول له المحال:قد أبرأت ذمتك من الدين استنادا إلى رواية أهملها الفقهاء.

و إذا كانت ذمة المحال عليه مشغولة للمحيل بمثل ما أداه عنه برئت ذمته من دينه،و إذا كانت مشغولة بغير المثل يتحاسبان.

و يجوز لكل واحد من الثلاثة ان يشترط الخيار في فسخ الحوالة،لعموم أدلة وجوب الوفاء بالشرط.

ترامي الحوالات:

اتفقوا على أن الحوالات يجوز تراميها:و هي أن يتحد المحال،و المال و المحال به،و يتعدد المحال عليه،مثال ذلك أن يكون لك دين على زيد، فيحيلك زيد على عمرو،ثم يحيلك عمرو على خالد،و خالد على إبراهيم، فجميع هذه الحوالات صحيحة،مع الشروط المتقدمة.

التحويل من المشتري و البائع:

إذا بعت متاعا لزيد،و أحالك زيد بالثمن على ثالث،و رضي الجميع بالحوالة،أو أحلت أنت ثالثا على زيد بقبض الثمن منه،ثم رد زيد المبيع عليك

ص:66

بسبب مشروع،فهل تبطل الحوالة؟ و الجواب يستدعي التفصيل بين أن يكون الرد لبطلان البيع من الأساس، كما لو تبين ان المبيع وقف،و بين أن يكون الرد بفسخ البيع لأحد الخيارات،فان كان الرد لبطلان البيع بطلت الحوالة إطلاقا،سواء أ كان المشتري هو الذي أحال البائع على ثالث،أو أن البائع هو الذي أحال الثالث على المشتري،أمّا بطلان الحوالة إذا كان المشتري هو المحيل فواضح،لأن الحوالة انما تصح إذا كان المحيل مدينا للمحال،و قد تبين من بطلان البيع ان المشتري غير مطلوب بشيء للبائع،و أمّا بطلان الحوالة إذا كان البائع هو المحيل،و المشتري هو المحال عليه فلأن التحويل على المشتري انما كان من حيث اشتغال ذمته بالثمن،و قد تبين العكس،فتبطل الحوالة،حتى على القول بجواز الحوالة على البريء،و بكلمة ان التحويل لم يكن على المشتري،حتى و لو كان بريئا،بل كان التحويل على اشتغال ذمته بالثمن التي تبين أنّها غير مشغولة به.

و إن كان الرد بسبب فسخ البيع لا بطلانه صحت الحوالة،لوقوعها في حال اشتغال ذمة المشتري بالثمن،لأن الفسخ لا يبطل البيع من أساسه،بل من حين الفسخ،و المفروض أن التحويل كان قبل الفسخ،و حين صحة البيع،فيكون صحيحا تماما كما لو اشترى البائع بثمن المبيع ثوبا،ثم رد المشتري المبيع بالخيار،فلا يبطل شراء الثوب،و لا يكون ملكا للمشتري،بل يرجع المشتري على البائع بالثمن،ما دام باقيا،و ببدله مع التلف.

و بالإيجاز ان تحويل المشتري للبائع على ثالث،و تحويل البائع للثالث على المشتري يبطل مع بطلان البيع،و يصح مع فسخه،و في حال البطلان يبقى الثمن على ملك المشتري يطالب به أينما كان،و في حال الصحة يرجع المشتري

ص:67

بعد رد المبيع على البائع،حتى و لو كان المشتري قد أحال البائع على ثالث،و لم يكن قد قبض البائع بعد من الثالث،لأن التحويل الصحيح تماما كالاستيفاء (1).

التنازع:

إذا أدى المحال عليه المال المحال به،ثم رجع على المحيل،و طالبه بما أداه عنه،فقال المحيل:ان الذي أديته كان دينا لي في ذمتك،و أنكر المحال ذلك،و قال:كلا،ليس لك علي شيء فالقول قول المحال عليه،و على المحيل البينة،لأن الأصل براءة ذمته،حتى يثبت العكس.أجل،من اشترط لصحة الحوالة أن تكون ذمة المحال عليه مشغولة للمحيل يكون القول قول المحيل، حيث يكون الشك،و الحال هذي،في صحة الحوالة،و أصل الصحة مع المحيل فيكون القول قوله،لا قول المحال عليه الذي يدعي فساد الحوالة،و لكن قد عرفت ان المشهور على خلاف ذلك.

و تسأل:ان المحال عليه يدعي شغل ذمة المحيل،و المحيل ينكر ذلك، و بديهة أن الأصل براءة الذمة،حتى يثبت العكس،و على هذا يكون المحيل منكرا،و المحال عليه مدعيا،حتى و لو لم نشترط لصحة الحوالة شغل ذمة المحال عليه.

و نجيب بأن الشك في شغل ذمة المحيل مسبب و ناشىء عن الشك في

ص:68


1- و فصل جماعة من الفقهاء من جهات أخرى غير الجهة التي ذكرناها،و أطالوا الكلام،و الذي ذكرناه عليه كثيرون من أقطاب الفقه،بخاصة المراجع في هذا القرن،منهم السيد اليزدي و الشيخ النائيني في العروة الوثقى،و السيد أبو الحسن في وسيلة النجاة،و السيد الحكيم في الجزء الثاني من منهاج الصالحين. [1]

شغل ذمة المحال عليه،فإذا أجرينا أصل براءة ذمة المحال عليه ينتفي الشك في براءة ذمة المحيل،و نعلم يقينا بشغل ذمته،لأن الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي،كما تقرر في علم الأصول.

2-إذا كان لشخص عليك دين،و قلت له:وكلتك بقبض ما لي من دين على فلان،و بعد ان قبضه منه قال لك:أحلتني بديني الذي لي عليك،و أردت من لفظ الوكالة الحوالة.و قلت أنت:كلا،اني وكلت،و ما أردت من اللفظ إلاّ مدلوله و معناه الحقيقي،فإذا لم يكن هناك قرينة تعين أحد المعنيين كان القول قولك عملا بظاهر اللفظ.

و إذا قلت له:أحلتك،ثم ادعيت أنّك أردت الوكالة،لا الحوالة انعكس الأمر،و كان القول قوله لنفس السبب.

و إذا لم يجر بينكما لفظ الوكالة،و لا لفظ الحوالة،و انما جرى لفظ آخر،ثم وقع الاختلاف في أنّه وكالة أو حوالة فالقول قول من ينكر الحوالة،و على مدعيها الإثبات،لأن معنى الحوالة-كما سبق-نقل المال من ذمة إلى ذمة،و الأصل عدم النقل،و بقاء المال المقبوض على ملك مالكه،و بقاء الدين في ذمة المدين،حتى يثبت العكس.

ص:69

ص:70

الكفالة

اشارة

ص:71

ص:72

معناها:

الكفالة عند الفقهاء تعهد من الكفيل للمكفول له بإحضار غريمه متى طلبه من الكفيل،كي يستوثق من حضوره،و لا يغيب عند طلبه،قال صاحب الجواهر:

«ان المتيقن من مورد الكفالة التعهد بإحضار النفس المستحق عليها الإحضار بسبب حق،و لو لدعوى المكفول له عليها،نعم لا تصح في الحدود لقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله:«لا كفالة في حد».فالكفالة-اذن-تتعلق بثلاثة أشخاص:كفيل، و مكفول له،و مكفول.

الشروط:

اشارة

يشترط في الكفالة:

1-العقد

،و هو من مقومات الكفالة لا من شروطها (1)و يتحقق بالإيجاب من الكفيل،و القبول من المكفول له،و من هنا أجمع الفقهاء على اعتبار رضاهما،و اختلفوا في رضا المكفول،فذهب المشهور إلى عدم اعتباره، و احتجوا بأن الكفيل كالوكيل،و المكفول كالشيء الموكل عليه،فكما لا

ص:73


1- الفرق بين الركن و الشرط ان ركن الشيء داخل فيه،و جزء منه،و الشرط خارج عنه، و ذكرناهما معا في فقرة واحدة لأن النتيجة واحدة من كل منهما،حيث يلزم من عدمه العدم، و لا يلزم من وجوده الوجود،و هكذا نفعل في بقية الأبواب،للسبب نفسه.

يعتبر رضا الموكل عليه في الوكالة كذلك لا يعتبر رضا المكفول.هذا التعليل قد جاء في كتاب الجواهر،و الحدائق،و مفتاح الكرامة.

و لست أعرف قياسا أو هي من هذا القياس.و الأولى أن يقال:ان من عليه حق للغير فهو ملزم به،و مسؤول عنه،رضى أو لم يرض،و من لا حق عليه للغير لا يصح إلزامه إلاّ برضاه،و بديهة أن الكفيل لا حق عليه قبل الكفالة،و المكفول له هو صاحب الحق،فلا يلزمان إلاّ بما ألزما به أنفسهما،أما المكفول فهو امّا مدين، و امّا مدعى عليه،و المدين مسؤول أمام دائنه،و ملزم بأداء حقه،و المدعى عليه مسؤول أمام المدعي،و ملزم بالحضور في مجلس الحكم،شاء،أو أبى،و من أجل هذا اعتبر رضاهما دون رضاه.

2-ان يكون الكفيل عاقلا بالغا قادرا على إحضار المكفول

،فلا تجوز كفالة الضعيف القوي،لعجزه عن إحضاره،و لا لولي المجنون و الصبي أن يكفل أحدا نيابة عنهما.و يجوز أن يقبل الكفالة لهما،فإذا كان لأحدهما حق على من يخشى تغيبه،و كفله آخر فإن للولي أن يقبل الكفالة لمن له الولاية عليه،إذا توافرت الشروط في الكفيل.

3-أن يكون المكفول معينا

،فلا يصح كفلت أحد هذين،أو كفلت هذا،أو ذاك،لأن الغرض من الكفالة إحضار المكفول بعينه،و يتعذر ذلك مع الجهل به.

4-قال جماعة من الفقهاء:يشترط التنجيز في الكفالة

،فلو قال:أنا كفيل بإحضاره،ان لم يحضر فلا يصح،لأن الكفالة لا بد فيها من الجزم، و لا جزم،مع التعليق.

و تقدم أكثر من مرة أن عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يهدم هذا الشرط إذا صدق اسم

ص:74

العقد عند أهل العرف.

5-ان يكون المكفول مطلوبا بحق من حقوق الناس

من مال،أو عقوبة قصاص،أو الحضور إلى مجلس الحكم للتخاصم في آية دعوى مسموعة.فلا تصح الكفالة في حقوق اللّه سبحانه،لأن المرغوب فيه التساهل فيها،و انّها تدرأ لأدنى شبهة،قال صاحب مفتاح الكرامة في المجلد الخامس ص 430 طبعة أولى:«فإن كانت حقوق اللّه سبحانه، كحد الزنا و السرقة و الشرب لم تصح الكفالة عند علمائنا أجمع،لأن الكفالة للتوثيق،و حقوق اللّه مبنية على الاسقاط،و ينبغي السعي في دفعها- أي عدم إيقاعها-ما أمكن،كما عرّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما عزّ بالرجوع و الإنكار».

و لا يشترط العلم بمقدار المال المطلوب به المكفول،لأن الكفالة تعلقت بإحضاره،لا بالحق الذي في ذمته.

و متى تمت الشروط كانت الكفالة لازمة لا يجوز للكفيل،و لا المكفول له الفسخ و العدول،و يجوز لهما التقايل،و اشتراط الحق في الفسخ أمدا معينا، لعموم أدلة وجوب الوفاء بالشرط.

التعجيل و التأجيل:

اتفقوا على أن الكفالة تصح مؤجلة،و اختلفوا في صحتها معجلة، و المشهور على الصحة،و عدم اشتراط التأجيل،لأن أدلة الكفالة عامة تشمل الحالين،تماما كما هو الشأن في الدين،و يشترط رضا المكفول إذا كان الحق مؤجلا،و الكفالة حالة.

ص:75

و إذا أطلقت الكفالة،و لم تقيد بأجل تكون حالة،و إذا قيدت به يجب أن تكون معينا تعيينا لا يختلف زيادة و لا نقيصة،كما هي الحال في كل قيد.

و إذا كانت حالة وجب على الكفيل إحضار الغريم عند طلب المكفول له، و إذا كانت مؤجلة فليس له أن يطالبه به إلاّ بعد مضي الأجل.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن الكفيل إذا أحضر الغريم قبل الأجل فلا يجب على المكفول أن يتسلمه منه،لأن التسليم غير واجب فالتسلم كذلك،بخاصة إذا كان للمكفول له مانع من تسلمه.

مكان التسليم:

إذا عينا مكانا للتسليم تعين،و لا يبرأ الكفيل لو سلمه في غيره عملا بالشرط،و ان أطلقا الكفالة،و لم يعينا مكانا ينظر:فان انصرف الإطلاق إلى مكان معين كبلد العقد فهو،و ان لم ينصرف إلى بلد خاص،و لا قرينة تدل على التعيين،بحيث يكون مبهما فالقواعد تستدعي بطلان الحوالة،للجهل و الغرر.

انقياد المكفول:

يجب على المكفول ان يحضر مع الكفيل إذا طلبه منه المكفول له في حينه،سواء أ كانت الكفالة بإذن المكفول،أو من غير إذنه،أما الأول فواضح،و أمّا الثاني فلأن الكفيل بمنزلة الأصيل،و من عليه الحق يجب عليه الحضور متى طلبه صاحب الحق،حتى و لو لم يكن مكفولا.

ص:76

تسليم المكفول:

إذا أحضر الكفيل الغريم في الوقت و المكان،و خلى بينه و بين المكفول له يبرأ الكفيل من حق الكفالة،سواء أقبله المكفول له،أو لم يقبله،استوفى حقه منه،أو لم يستوف،لأن الكفالة تعلقت بإحضار الغريم،و قد أحضره،و قام بالتزامه،فلم يبق عليه من سبيل.

و ان امتنع الكفيل عن تسلمه في الوقت و المكان رفع المكفول له الأمر إلى الحاكم.و قال جماعة:ان على الحاكم أن يحبسه،حتى يحضر الغريم،أو يؤدي عنه،و استدلوا بما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام ان عليا أمير المؤمنين عليه السّلام جيء له برجل قد كفل رجلا،فقال:احبسوه،حتى يأتي بصاحبه.

و الحق ان الحاكم لا يجوز له حبس الكفيل فورا،و قبل النظر في أمره،بل يجب عليه قبل كل شيء التثبت و البحث عن حاله،فان كان قادرا على إحضاره، أو الوفاء عنه،و مع ذلك امتنع تمردا و عنادا جاز له حبسه،لأن الكفالة تقتضي إحضار الغريم،أو الأداء عنه مع القدرة،فإن امتنع صدق عليه الحديث الشريف:

«لي الواجد تحل عقوبته».

و ان كان الكفيل عاجزا عن إحضار الغريم،لهرب،و لغيبة منقطعة فلا يجوز أن يطلبه الحاكم و لا غير الحاكم من الكفيل،لأنه تكليف بغير المقدور،و إذا لم يجز التكليف بالإحضار فلا يجوز الحبس من أجله،و متى ثبت عجز الكفيل عن إحضار الغريم:فان كان الحق المطلوب من الغريم مالا،أو يمكن التعويض عنه بمال،و ثبت هذا الحق بالبينة،و كان الكفيل قادرا على الوفاء أمره الحاكم به، فان امتنع جاز حبسه،لأن الكفيل وثيقة على الحق،كالرهن فإذا تعذر الاستيفاء ممن عليه الحق استوفي من الوثيقة،مع الإمكان.

ص:77

أمّا إذا كان الكفيل عاجزا عن الوفاء،أو كان الحق الذي على الغريم لا يمكن التعويض عنه بالمال،كدعوى النسب،و ما إليها فلا يجوز حبسه إطلاقا، بل يجب الصبر و الانتظار إلى حين القدرة.أجل،يجب على الكفيل ان يسعى و يبذل الجهد لإحضار الغريم،و إذا كان غائبا في مكان معلوم،و طلب الكفيل الإمهال بمقدار ما يذهب إليه،و يعود أجيب إلى طلبه بالاتفاق.

و تسأل:لقد ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام أن أمير المؤمنين عليه السّلام كان يحبس الكفيل دون أن يبحث عن حاله،فما هو المصدر لهذا التفصيل؟ و الجواب:ان التفصيل الذي ذكرناه يحتمه العقل و أصول المذهب،أمّا فعل أمير المؤمنين عليه السّلام فإنه محمول على أن الكفيل كان قادرا على إحضار الغريم، و مع ذلك امتنع عنه،و الشاهد على هذا الحمل قبح الظلم،و التكليف بغير المقدور.

رجوع الكفيل على المكفول:

اتفق الفقهاء على أن الكفيل إذا أدى عن الغريم دون أن يأذن له بكفالته و لا الأداء عنه لا يرجع عليه بشيء مما أداه،لأنه متبرع،و إذا أدى عنه بإذنه رجع عليه، و طالبه بما أداه،حتى و لو لم يكن قد أذن له بالكفالة.

و اختلفوا فيما إذا اذن له بالكفالة دون الأداء،فمن قائل بأن الإذن بالكفالة كاف لجواز الرجوع عليه،لأن الإذن بها أذن بالأداء.و من قائل بعدم جواز الرجوع،لأن الكفالة تتعلق بالإحضار،و الأداء متعلق بالمال،و لا ملازمة بين الاثنين.

و الحق ان الاذن بالكفالة لا تأثير له،و ان الكفيل لا يرجع على الغريم بما

ص:78

أداه عنه إلاّ لأحد أمرين:الأول أن يأذن له بالأداء عنه،و في هذه الحالة يرجع عليه،حتى و لو لم يكن قد أذن بالكفالة،الثاني ان يتعذر على الكفيل إحضار الغريم،و ان يريد الحاكم حبس الكفيل إذا لم يؤد عن مكفوله،فيؤدي الحق عنه، ليدفع الضرر عن نفسه،فيرجع عليه أيضا،و ان لم يأذن له بالكفالة،لأنه لا يعد متبرعا.

أما إذا كان قادرا على إحضاره،و مع ذلك لم يحضره،و أدى عنه دون أن يراجعه و يأذن له بالأداء فإنه-و الحال هذي-لا يرجع عليه،حتى و لو كان قد اذن له بالكفالة،لأنه متبرع.

إطلاق الغريم:

إذا كان غريمك في يدك،و قبل أن تستوفي حقك منه جاء آخر،و خلصه منك ضمن إحضاره أو الأداء عنه.و ليست هذه المسألة من الكفالة في شيء، و لكن الفقهاء ذكروها هنا لأن حكمها حكم الكفالة.

و استدلوا على ذلك بأن المطلق سبب لتفويت الحق،و بأن سائلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قتل رجلا عمدا،فرفع إلى الوالي،و سلمه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه،فوثب عليهم قوم،فخلصوا القاتل من أيدي الأولياء؟ فقال الإمام عليه السّلام:يحبس الذين خلصوا القاتل،حتى يأتوا به.قال السائل:فان مات القاتل،و هم في السجن؟قال الإمام عليه السّلام:عليهم الدية يؤدونها جميعا إلى أولياء المقتول.

ص:79

ترامي الكفالات:

يجوز ترامي الكفالات،كما هو الشأن في الضمان و الحوالة،لأن المعيار في صحة الحوالة هو ثبوت الحق على المكفول،و لو كان هذا الحق الكفالة نفسها،و مثال ذلك أن يكفل رجل المدين،ثم يكفل الكفيل ثان،و الكفيل الثاني يكفله ثالث،و هكذا،و إذا أحضر الثالث مكفوله الثاني بريء الثالث وحده،و كان الثاني مسؤولا عن إحضار مكفوله،و إذا أحضر الكفيل الأول الأصيل الذي تعلق الحق به للمكفول له بريء الجميع،لأنهم فروع عنه.

تسليم أحد الكفيلين:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أنه إذا تكفل اثنان رجلا،ثم سلمه أحدهما للمكفول له بريء الثاني أيضا من حق الكفالة،لأن الغرض هو التسليم،و قد حصل،بل لو سلم المكفول نفسه من تلقائه،أو سلمه أجنبي بريء الكفيل،لأن الكفالة ليست بأعظم من الدين،حيث تبرأ ذمة المدين منه،إذا تبرع بالوفاء متبرع.

موت الكفيل و المكفول:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن المكفول إذا مات بريء الكفيل من الكفالة،لارتفاع موضوعها،و أيضا تبطل بموت الكفيل،و لا شيء على ورثته.

أمّا موت المكفول له فلا يبطلها،بل ينتقل الحق إلى ورثته،و لهم مطالبة الكفيل بإحضار الغريم،و إذا نقل المكفول له الحق الذي له على المكفول،نقله

ص:80

إلى غيره ببيع أو صلح أو حوالة بطلت الكفالة،لأن النقل بالإرث غير النقل بالمعاوضة،لأن الإرث يقتضي نقل جميع ما كان للموروث من حق إلى الوارث، أما المعاوضة فتقتصر على ما وقع عليه العقد،و عقد الكفالة كان بين الكفيل و المكفول له،فإذا نقل المكفول له حقه عنه إلى غيره ذهب ركن من أركان العقد، فيبطل لارتفاع موضوعه.

التنازع:

إذا اعترف كل من الكفيل و المكفول له بالكفالة،ثم قال الكفيل للمكفول له:وقعت الكفالة فاسدة،لأنه لا حق لك على المكفول.و قال المكفول له:بل هي صحيحة كان القول قوله بيمينه،لأن الأصل صحة العقد،حتى يثبت العكس.

و إذا حلف المكفول له على صحة الكفالة،و أثبت دينه على المكفول عند الحاكم ألزم به الكفيل،و لا يرجع بما اداه على المكفول،لاعترافه ببراءة ذمته.

و إذا اعترف الكفيل بصحة الكفالة،و لكنه قال للمكفول له:لقد أدى الغريم ما لك عليه من حق،أو قال أبرأته منه و أنكر المكفول ذلك فالقول قول المكفول له أيضا،لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان،و إذا حلف المكفول له اليمين على عدم الأداء و الإبراء سقطت دعوى الكفيل.و إذا رد المكفول له اليمين على الكفيل،و حلف الكفيل سقطت الكفالة فقط،و بقي الحق بين المكفول له و المكفول قائما،لأن الإنسان لا يبرأ بيمين غيره.

و لو ان المكفول جاء بعد انتهاء الدعوى بين الكفيل و المكفول له،و قال للمكفول له:أديتك ما علي،أو قال:أبرأتني منه،فعلى المكفول له أن يحلف أيضا للمكفول على عدم الإبراء و الأداء،و لا يكتفى بيمينه الاولى للكفيل،لأن

ص:81

الهدف من الدعوى الأولى بين الكفيل و المكفول له هو ثبوت الكفالة،و الإبراء و الأداء انما ذكر وسيلة لإبطال الكفالة،و ليسا موضوعا و لا غاية للدعوى،أما الهدف من الدعوى الثانية بين المكفول له و المكفول فهو الإبراء أو الأداء بالذات بصرف النظر عن الكفالة،و بهذا يتضح أنّه لا تلازم بين الدعوتين.

و إذا رد المكفول له اليمين على المكفول،و حلف هذا سقط الحق عنه و عن الكفيل أيضا،لأن الكفالة فرع من ثبوت الحق على المكفول.و بكلمة ان سقوط الحق عن المكفول يستدعي قهرا سقوط الكفالة،أما سقوط الكفالة فلا يستدعي سقوط الحق عن المكفول.

ص:82

الصلح

اشارة

ص:83

ص:84

تعريفه:

عرّف كثير من الفقهاء الصلح بأنه عقد شرع لقطع التنازع بين المتخاصمين بتراضيهما.

و المفهوم من هذا التعريف ان الصلح لا بد فيه من قيام نزاع بين المصطلحين،و انّه لا يصح إذا وقع دون سبق التخاصم و التجاذب،مع أن الفقهاء أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر،و الحدائق،و مفتاح الكرامة،و غيرهم على جواز الصلح و صحته ابتداء دفعا لتخاصم محتمل،قال صاحب الجواهر في أول باب الصلح:«يصح في رفع منازعة متوقعة محتملة،و ان لم تكن سابقة.

فاشتراط السبق في مفهومه غفلة واضحة».و تدل على ذلك الآية الكريمة من سورة النساء وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ .

و غير بعيد أن يكون هذا التعريف مبنيا على الغالب،فإن أكثر ما يكون الصلح بعد الخصومة و المنازعة.و قال أكثر من فقيه:ان الحكمة من تشريع الصلح هي قطع التخاصم،و الذين عرفوا الصلح بذلك نظروا إلى هذه الجهة، و المعروف ان القواعد الحكمية لا يجب اطرادها في جميع الأفراد،كما هو الشأن في العدة،فإن الحكمة من تشريعها استبراء الرحم،و مع ذلك تجب على الزوجة المطلقة التي انقطع عنها الزوج أمدا يعلم فيه باستبراء رحمها،و كما هو الشأن في

ص:85

الجنة فإن اللّه سبحانه خلقها للمتقين،و مع ذلك يدخل فيها غيرهم.

و مهما يكن،فان تعريف الفقهاء للعقد،أي عقد،ليس حدا للحقيقة و بيانها،و انما هو رسم يقصد به تمييز العقد عن غيره بجهة من الجهات،أو بضرب المثل من أوضح أفراده و مصاديقه.

و يتقوم الصلح بالصيغة،و المصطلحين،و العوض الذي اصطلحا عليه، و الشيء المصالح عنه،و هو الذي اختلفا فيه،أو خيف حدوث الاختلاف من أجله.

شرعية الصلح:

ذكر الفقهاء أدلة كثيرة على شرعية الصلح،منها قوله تعالى وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ .و قوله وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما (1).و قوله:

اُدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (2).

و قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحا أحل حراما،أو حرم حلالا.

و قول الإمام الصادق عليه السّلام:لأن أصلح بين الاثنين أحب إليّ من أن أتصدق بدينارين.و قال للقائم على غلته:إذا رأيت منازعة بين اثنين فافتدها من مالي.

و الحق ان شرعية الصلح لا تحتاج إلى دليل،لأنها من ضرورات الدين التي يستدل بها،و لا يستدل لها،و متى احتاج الخير و الصلاح إلى الدليل على شريعتهما و رجحانهما؟.

ص:86


1- الحجرات:9. [1]
2- البقرة:28. [2]

الصلح قائم بنفسه:

يرى بعض أئمة المذاهب ان عقد الصلح غير قائم بنفسه،و انما هو فرع من غيره،و يعتبر بالشيء الذي يقع عليه،فيكون بيعا إذا وقع على مبادلة مال بمال، و هبة إذا تضمن ملك العين بلا عوض،و اجارة إذا وقع على منفعة بعوض، و عارية إذا كانت المنفعة من غير عوض،و إبراء إذا كان على إسقاط دين.

و المشهور بين الفقهاء الجعفريين أن الصلح عقد قائم بنفسه،و منفرد في حكمه،و غير تابع لغيره،لأن الأصل في كل عقد الاستقلال و عدم التبعية،حتى و لو أفاد في بعض الحالات فائدة عقد آخر،فان هذا الالتقاء لا يستدعي ان يكون فرعا عما التقى معه بجهة من الجهات.ان للصلح خصائص كثيرة،يلتقي في بعضها مع بعض العقود،و يفترق عنها جميعا في أنّه صالح لنقل الأعيان و المنافع، و إبراء الذمة،و قطع المنازعات،و أنّه يجوز مع العلم و الجهل،و الإقرار و الإنكار، كما يأتي البيان.و من خصائصه في التشريعات الوضعية أن التوكيل العام لا يشمله،فإذا وكل شخص آخر وكالة عامة فلا يجوز للوكيل أن يوقع الصلح نيابة عن موكله إلاّ بنص خاص.

الشروط:

اشارة

يشترط في الصلح:

1-العقد

و هو من مقوماته و ينعقد بتوافق الإيجاب و القبول،و يصح بكل ما يدل على التراضي،و لا يعتبر فيه لفظ خاص،كما يصح كل من الإيجاب و القبول من كل من المصطلحين.فيصح ان يقول المدعي:صالحتك على ما أدعية عليك بكذا،و يقول المدعى عليه:قبلت.و يصح أن يقول

ص:87

المدعى عليه:صالحتك بكذا على ما تدعيه عليّ،و يقول المدعي:قبلت.

و الأفضل ان يكون الموجب هو المدعي،و القابل هو المدعى عليه.

2-أن يكون كل من المصطلحين أهلا للتصرف في الحق

الذي يقع عليه الصلح من العقل و البلوغ و الرشد.

3-ان يكون محل الصلح

،و هو المصالح عنه و عليه موجودا،و مشروعا لا يحلل حراما،و لا يحرم حلالا.

الجهل بالمصالح عنه:

لا يشترط العلم بما تنازعا فيه،و اصطلحا عنه دينا كان أو عينا،أمكن العلم به،أو تعذر،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجلين كان لكل منهما طعام عند صاحبه،و لا يدري كم هو،فقال كل منهما للآخر:لك ما عندك،و لي ما عندي، قال الإمام عليه السّلام:لا بأس إذا تراضيا،و طابت أنفسهما.

و تسأل:ان الجهل يستلزم الغرر،و الغرر مبطل للمعاملة،و عليه ينبغي بطلان الصلح مع الجهل بالمصالح عنه.

و أجاب صاحب الجواهر عن هذا التساؤل بأن دليل الجواز مع الجهل هو الإجماع،و قول الإمام عليه السّلام:«لا بأس إذا تراضيا بذلك و طابت به أنفسهما»الذي يشمل حالة الجهل مع إمكان العلم و عدمه،و عليه تكون أدلة النهي عن الغرر مختصة بغير الصلح على فرض وجود هذه الأدلة.

و هذا الجواب قريب إلى مقاصد الشريعة،لأن الصلح مبني على التساهل و التسامح،و تنازل المحق عن بعض ما يستحق.فكما لا يشترط في الإسقاط و الإبراء أن يكون الحق معلوما فكذلك الأمر في الصلح.هذا،إلى أن الصلح لو لم

ص:88

يجز مع الجهل بالمتنازع فيه لامتنعت أكثر فوائده.

الإقرار و الإنكار:

يصح الصلح مع الإقرار و الإنكار،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى العمومات»أي عموم أدلة الصلح،كالآية الكريمة:«و الصلح خير».و حديث:«الصلح جائز»و ما إلى ذاك،و فرع الفقهاء على ذلك أن المدعى عليه إذا قال للمدعي:صالحني لم يكن هذا إقرارا منه،لأن الصلح يجتمع مع الإنكار.و ان المدعي إذا أقر بالحق المدعى به يجوز الصلح عليه بقيمته،و بأقل منها و أكثر و بالمساوي،ما دام التراضي متحققا من الطرفين.

و قد فهمت الصلح بين اثنين على شيء خشية التنازع المحتمل،و لم أفهم للصلح وجها مع الإقرار بالحق،لأن المقر ان أداه كاملا يكون هذا وفاء منه،و ان زاد عليه تكون الزيادة هبة،و ان تنازل المقر له عن حقه كلا أو بعضا كان هذا إبراء.و مهما يكن،فالأمر سهل،و النتيجة واحدة،و هي الصحة و الجواز عند الجميع،و لا اختلاف إلاّ بالتسمية.

و إذا وقع الصلح بعد الإنكار فإن كان المدعي مبطلا في دعواه،و عالما بكذبه فيها،و ان المدعى عليه انما صالحه اتقاء للخصومة،و افتداء للدعوى الكاذبة،ان كان كذلك،يصح الصلح ظاهرا.و يبطل واقعا،أي يحرم على المدعي الكاذب أخذ المال الذي وقع الصلح عليه،لأنه أكل للمال بالباطل،مع العلم بأن كل من المصطلحين ملزم قضاء بعقد الصلح.أجل،لو استندت الدعوى إلى شبهة،أو قرينة يخرج المدعي بها عن الكذب يصح الصلح ظاهرا و واقعا،مثال ذلك أن يرى انسان بخط مورثه ان له مالا على فلان،فيقيم الوارث

ص:89

الدعوى عليه بناء على ذلك،و تتجه اليمين على المدعى عليه،فإذا صالح هذا الوارث على إسقاط الدعوى بمال فيأخذه حلالا،لأن للمدعي عليه سبيلا للتخلص من الصلح و دفع المال بحلف اليمين،و مع ذلك اختار الصلح عن رضا و طيب نفس.

و ان كان المدعي محقا في دعواه،و أنكرها المدعى عليه،كي يرضى المحق ببعض حقه،و رضي هذا بالبعض خوفا من فوات الكل،أو دفعا للخصومة و الشقاق يصح الصلح ظاهرا،و يبطل واقعا،و يحرم على المدعى عليه أكل ما تبقى من الحق،لأنه أكل للمال بالباطل،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كان للرجل على الرجل دين،فماطله،حتى مات،ثم صالح ورثته على شيء فالذي أخذه الورثة لهم،و ما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة،فان لم يصالحه على شيء حتى مات،و لم يقض عنه فهو كله للميت يأخذه به.

و سئل حفيده الإمام الرضا عليهما السّلام عن رجل أودع عنده يهودي أو نصراني أربعة آلاف درهم فهلك،أ يجوز للرجل أن يصالح ورثته،و لا يعلمهم كم كان؟ فقال الإمام عليه السّلام:لا يجوز،حتى يخبرهم.

و قال صاحب الجواهر:«لو أن شخصا غصب عينا من آخر،ثم صالحه عليها بمال،تبقى العين على ملك صاحبها،و لا يستثني منها مقدار ما دفع إليه من عوضها،لفساد المعاوضة من الأساس إلاّ إذا رضي المدعي باطنا،و تنازل عن طيب نفس».

و بالإيجاز ان الصلح يصح ظاهرا،و يقطع النزاع،و لا يجوز لأحد الطرفين مطالبة الآخر بشيء،و لكنه لا يغير الواقع عما هو عليه،فعلى من يعلم بشغل ذمته للمصالح الآخر ان يدفع له الحق كاملا،كما أن من أخذ بالصلح شيئا لا حق له فيه

ص:90

يجب عليه إرجاعه إلى صاحبه،فالمعيار لصحة الصلح واقعا هو وصول الحق إلى أهله،لا مجرد صيغة الصلح.

الخيار:

اتفقوا على أن عقد الصلح لازم من الجانبين،لا يجوز لأحدهما العدول عنه إلاّ برضا الطرف الآخر.و أيضا اتفقوا على أن خيار المجلس لا يثبت في الصلح،لأن حديث:«البيعان بالخيار ما لم يفترقا»مختص بالبيع،و اختلفوا فيما عداه من الخيارات.

و بعد ان نقل صاحب مفتاح الكرامة أقوال الفقهاء قال:«ان وقع الصلح على معاوضة دخله خيار الشرط،و ان وقع على إسقاط الدعوى قبل ثبوتها لم يثبت فيه خيار الشرط،لأنّه شرع لقطع المنازعة.و يثبت في الصلح خيار الرؤية و العيب، و خيار التأخير،و ما يفسد ليومه لمكان الضرر.فكان المدار على الضرر.و حيث يجوز الفسخ للعيب فلا أرش».

و قال صاحب الجواهر:«كل خيار يثبت في البيع فإنه يثبت في الصلح إذا كان دليله قاعدة نفي الضرر،أو غيرها مما يصلح لتناول الصلح كخيار الغبن، و تخلف الوصف،و عدم الوفاء بالشرط،و اشتراط الخيار،و نحو ذلك بخلاف ما اختص دليله بالبيع،كخيار المجلس و الحيوان.و لو ظهر في العين عيب يجبر بالفسخ».

و المتحصل من العبارتين ان خيار المجلس و الحيوان لا يثبتان في الصلح، لاختصاص دليلهما في البيع،و يثبت فيه خيار الغبن،و تخلف الوصف، و الشرط،و خيار اشتراط الخيار،و خيار العيب دفعا للضرر الذي تقدم أدلته،

ص:91

و تحكم على جميع الأدلة،حتى أدلة الصلح و لزومه،و لكن الذي انتقلت إليه العين المعيبة بالصلح مع جهله بالعيب يخير بين الفسخ،أو الإمضاء بلا أرش،لأن الضرر الناشئ من العيب يرتفع بجواز الفسخ فقط من غير حاجة إلى الأرش.أمّا ثبوت الأرش في البيع فلدليل خاص،و قد سبق بيانه في الجزء الثالث فصل خيار العيب.

و ليس لنا آية ملاحظة على شيء من ذلك،لأنه وفق الأصول و القواعد إلاّ ما جاء في عبارة مفتاح الكرامة،و هو«أن وقع الصلح على معاوضة دخله خيار الشرط،و ان وقع على إسقاط الدعوى قبل ثبوتها لم يثبت فيه خيار».

حيث لا نرى فرقا في خيار الشرط بين وقوع الصلح على معاوضة و بين وقوعه على إسقاط الدعوى،و أي مانع من أن يقول له:صالحتك بألف على ما أدعية عليك مما لمورثي في ذمتك على شريطة أن لا يتبين أنّه أكثر من ذلك.بل لو لم يشترط ذلك،ثم تبين الغبن الفاحش يثبت له الخيار،لمكان الضرر.

الإقرار لأحد الشريكين:

إذا كانت عين في يد شخص،و ادعاها اثنان بسبب موجب للشركة بينهما، كما لو قالا:هي إرث من أبينا فصدق صاحب اليد أحدهما بمقدار حقّه دون الآخر،إذا كان كذلك يكون المقدار الذي اعترف به لأحدهما شركة بين الاثنين، و لا يختص بالمقر له وحده،لاتحاد السبب،و هو الشركة التي تنطبق على الكل و البعض.

فإذا أجرى الصلح بين من هي في يده،و بين المقر له على النصف،و أخذ هذا العوض فإن أجاز الصلح شريكه الثاني شاركه بالعوض،و ان لم يجز صح

ص:92

الصلح في الربع خاصة،و بطل في الربع الذي هو حصة الشريك،لأن الصلح على مال الغير لا يجوز إلاّ بإذنه.

الصلح القهري:

ذكر الفقهاء في باب الصلح مسائل من تزاحم الحقوق المتنازع فيها،و لا يمكن الجمع بينها كاملة،و لا يحسم التنازع إلاّ بتنازل أحد الطرفين عن تمام حقه،أو تنازل كل منهما عن جزء منه،و مع ذلك قد أصر المتنازعان على عدم التنازل عن شيء،و عندئذ يتولى الحاكم عملية القسمة بينهما قهرا بالعدل و الإنصاف جمعا بين الحقين،حتى كأن المتخاصمين قد اصطلحا على ذلك مختارين،و الفقهاء يسمون هذه القسمة الجبرية بالصلح القهري،و نعرض فيما يلي طرفا من مسائلها،كما جاءت في كتاب الجواهر و الحدائق و مفتاح الكرامة.

مسألة الدرهمين:

اثنان معهما درهمان،فقال أحدهما لصاحبه:هما لي،و ليس لك فيهما شيء.و قال الآخر:هما بيني و بينك،لك درهم،و لي درهم،و لم يصطلحا على شيء و رفعا الأمر إلى الحاكم،فعلى الحاكم أن يعطي درهما و نصف الدرهم لمدعيهما معا،و نصف درهم لمن يدعي أحدهما استنادا إلى أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن ذلك؟فأجاب:أمّا الذي قال:هما بيني و بينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له فيه شيء،و أنّه لصاحبه،و يقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين.

و وجه العدل و الإنصاف في هذه القسمة أنّه لا سبيل إلى غيرها،إذ لو أعطينا

ص:93

كلا منهما درهما لعملنا بقول من يدعي المناصفة،و أهملنا قول مدعيهما معا،و لو لم نعط مدعي المناصفة شيئا لعملنا بقول مدعيهما دون قول الآخر،و كلاهما ترجيح بلا مرجح.فلم يبق إلاّ أن يختص مدعيهما معا بدرهم،لاعتراف صاحبه بأنّه لا حقّ له فيه،و انما التنازع بينهما في درهم واحد،و كل منهما يدعيه لنفسه دون الآخر،فيقسم بينهما بالسوية،و تكون النتيجة أن يأخذ مدعي الدرهمين درهما و نصفا،و مدعي المناصفة نصف درهم.

و تجدر الإشارة إلى ان الحاكم انما يجري هذه القسمة مع عدم البينة لأحد المتنازعين،و بعد أن يحلف مدعي الدرهمين ان صاحبه لا يستحق فيهما شيء، و يحلف أيضا مدعي المناصفة أن الآخر لا يستحق جميع الدرهمين.أما إذا وجدت البينة لأحدهما دون الآخر فيتعين العمل بها،و إذا حلف أحدهما،و نكل الآخر أخذ بقوله.و تجري القسمة التي ذكرناها إذا أقام كل منهما بينة،و لا رجحان لأحدهما عن الأخرى،أو حلفا معا،أو نكلا معا.

و لا يختص هذا الحكم في الدرهمين فقط،بل يجري كذلك في كل عين ادعى أحد المتخاصمين أنّها له وحده،و ادعى الآخر أنّها مناصفة،مع إثبات يد الاثنين على العين.

و مثل ذلك ما إذا استودع رجل آخر درهمين،ثم استودعه ثان درهما واحدا،فوضعه مع الدرهمين،و صادف ان تلف درهم من الثلاثة من غير تفريط، أو تعد من المستودع،فيعطى درهم و نصف الدرهم لصاحب الدرهمين،و نصف درهم لصاحب الدرهم،فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قضى في مثل هذه المسألة لصاحب الدينارين بدينار و نصف،و لصاحب الدينار نصف دينار،و بينا الوجه في ذلك مفصلا في كتاب أصول الإثبات فصل علم الحاكم فقرة«القضاء

ص:94

على خلاف العلم».

مثال آخر:إذا كان لشخص ثوب قيمته عشرون درهما،و لآخر ثوب قيمته ثلاثون،ثم اشتبه الثوبان،و لم يعرف أحدهما من الثاني،و لم يصطلح صاحبا الثوبين على شيء،إذا كان كذلك يباع الثوبان و يأخذ صاحب الثوب الأغلى من الثمن ثلاثة أخماس،و صاحب الثوب الآخر خمسين،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يبضعه الرجل ثلاثين درهما في ثوب،و أخر عشرين درهما في ثوب،فبعث بالثوبين إليهما،و لكن لم يعرف هذا ثوبه،و ذاك ثوبه؟ قال الإمام عليه السّلام:يباع الثوبان،و يعطى الأول ثلاثة أخماس الثمن،و الآخر خمسي الثمن.قال السائل:ان صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين:اختر أيهما شئت.

قال الإمام:قد أنصفه.

الروشن:

الروشن ما يخرج من وجه الحائط،و يشبه الرف،و يسمى في لبنان «بلكونا».و يجوز لصاحب الدار أن يخرج روشنا و ميزابا،و ما إليه فوق الطريق العامة النافذة التي يخرج منها إلى غيرها،و لا يحق لأحد معارضته جارا كان أو غير جار على شريطة أن لا يضر بأحد من المارة لأن هواء الطريق ليس ملكا لمعين، و الكل فيه سواء،و ليس للجار أن يحتج بأن صاحب الدار يشرف عليه من الروشن،لأن الاشراف غير محرم،و انما المحرم هو التطلع،و لو مع عدم الاشراف.أجل،للجار أن يخرج روشنا فوق روشن جاره،أو تحته إذا لم يؤد إلى ظلمة الطريق،أو الإضرار بالمارة.و إذا سقط الروشن فللجار أن يسبق صاحبه،و يضع روشنا مكانه،و ليس للأول منعه،لأنه لم يملك الهواء،و انما

ص:95

كانت له الأولية،بالسبق،فإذا زال الروشن زالت الأولية تماما،كالسبق إلى الأمكنة العامة.

و قال جماعة من الفقهاء:إذا كانت الطريق مقطوعة،أي لا يخرج المار منها إلى غيرها فلا يجوز لأحد إخراج الروشن فيها،و ما إليه إلاّ بإذن سكان هذه الطريق جميعا،و إذا لم يأذنوا،أو أذن البعض دون البعض فلا يجوز أن يخرج شيئا فوق الطريق لأنها ملك الجميع.

أغصان الشجرة و عروقها:

رجل غرس شجرة في أرضه،فامتدت عروقها أو أغصانها إلى ملك الجار، فعلى صاحب الشجرة تفريغ ملك الغير من ماله بكل سبيل،و ان امتنع صاحب الشجرة فللجار أن يتولى ذلك بنفسه على أن يعطف الأغصان إن أمكن،و إلاّ قطعها،و لا يتوقف ذلك على اذن الحاكم الشرعي،لأن سبيل هذا الحكم سبيل دابة دخلت في دار الغير أو زرعه فان له إخراجها دون مراجعة الحاكم.و ليس لصاحب الشجرة أن يحتج،و يقول:هذا تصرف في مالي بلا إذن مني،و لا يجوز التصرف في مال الغير إلاّ بإذنه،ليس له ذلك،لأن هذه القاعدة لا تتأتى في دفع الظلم و الضرر.

و لو افترض أن الأغصان أتلفت شيئا فلا ضمان على صاحبها إلاّ إذا كان هناك تفريط منه،كما لو امتنع هو و منع ملك الأرض من إزالتها،و في حكم الشجرة الجدار المائل إلى ملك الغير.

ص:96

عمارة المشترك:

حائط أو بيت أو عين ماء،و ما إليها شركة بين اثنين أو أكثر،و أصاب الشيء المشترك خلل،و أراد بعض الشركاء عمارته و إصلاحه،و امتنع الآخر،فهل يجبر الممتنع،أو لا؟ للفقهاء في ذلك أقوال،و الذي نراه أن ينظر:فان كان الشيء المشترك قابلا للقسمة كان للشريك طلب الافراز و انتهاء الشركة بالقسمة،و ان لم يكن قابلا للقسمة رفع الشريك الأمر إلى الحاكم باعتباره ولي الممتنع،و الحاكم ينظر بدوره في الأمر فان رأى أن طالب التعمير و الإصلاح يتضرر من تركه أمر شريكه الآخر بالاذن له،فان امتنع اذن له الحاكم لحديث لا ضرر و لا ضرار،و ان لم يتضرر من ترك التعمير وجب عليه الصبر و الانتظار،لأنه مال مشترك،فيمتنع التصرف فيه من غير اذن الشريك،كما هو الشأن في جميع المشتركات إلاّ مع وجود المسوغ، و هو الضرر،و المفروض عدمه.

التنازع على السقف:

دار مؤلفة من طابقين:أرضي لشخص،و علوي لآخر،فتداعيا سقف الأرضي الذي هو أرض للعلوي،فمن يكن المدعي؟و من يكون المنكر؟ قال جماعة من الفقهاء:انّه للعلوي.و قال آخرون:بل يقرع بينهما.و قال صاحب الجواهر:الأقوى الاشتراك بينهما.فان كان لأحدهما بينة دون الآخر فهو له،و إلاّ فإن حلفا معا،أو نكلا معا قسم بينهما،و ان حلف أحدهما،و نكل الآخر فهو للحالف.

ص:97

انتقال الدعوى بالصلح:

نقل صاحب مفتاح الكرامة عن جملة من الفقهاء أنّه إذا ادعى رجل على آخر بدين أو عين،فان لصاحب الدعوى أن يصالح عنها أجنبيا ثالثا ليس طرفا في الدعوى كلية،و تكون النتيجة لهذا الصلح أن يقوم الأجنبي مقام المدعي، و يقول للمدعى عليه:ان الحق الذي عليك لفلان صار مستحقا لي بالصلح،و له أن يقيم البينة على ثبوت هذا الحق،و يطلب اليمين من المدعى عليه إن أنكر، و لا فرق في ذلك بين اعتراف المدعى عليه بالحق قبل الصلح أو عدم اعترافه،و لا بين أن يكون الأجنبي المصالح عالما ثبوت الحق في ذمة المدعى عليه،أو لا.

ص:98

الشركة

اشارة

ص:99

ص:100

معناها:

للشركة معنيان:لغوي،و شرعي،و الأول اجتماع حقوق الملاك في الشيء الواحد على سبيل الشياع فيه و قد يكون سببها اضطراريا كالإرث،أو اختلاط مالين من غير قصد اختلاطا لا يمكن الفصل معه بينهما،و قد يكون السبب اختياريا كما إذا اشترك اثنان في شراء عين،أو قبلاها من الغير بالهبة أو الوصية، أو نصبا معا شبكة أو فخا لهما للاصطياد.

و تسمى هذه الشركة شركة الملك،و شركة الشيوع،و لا شأن بها للفقيه بما هو فقيه،لأن وظيفته هي البحث عن الحكم التكليفي كالوجوب و الحرمة،أو الحكم الوضعي كالصحة و الفساد،و الشركة بمعنى الملك و الشيوع ليست من الحكم التكليفي و لا الوضعي في شيء،لأن الحقوق ان اجتمعت في الشيء تحققت الشركة،و ان لم تجتمع لم تتحقق.أجل،ان شأن الفقيه أن يبين الأحكام المترتبة على شركة الملك من أن ناتج المال المشترك هو للجميع،و ان أحد الشريكين لا يتصرف إلاّ بإذن الآخر،و ان له أن يطالب بالقسمة،و لا يجب عليه الصبر على الشركة،أما بيان معنى المال المشترك و تحديده فليس من اختصاصه كفقيه.

أمّا المعنى الثاني،أي الشرعي الذي يبحث عنه الفقيه فهو عقد بين اثنين أو أكثر أنشِئ ليكون كل من المالين أو الأموال إشاعة بين جميع الشركاء،و الأغلب أن يكون الغرض من شركة العقد هو التجارة.و هذه الشركة هي التي يبحث عنها الفقيه.

ص:101

أقسام الشركة:

اشارة

للشركة أقسام أربعة :

1-شركة العنان،و هي شركة في الأموال

،فيأتي كل من الشريكين بماله، و يمزجه بمال الآخر،و يعملان فيه معا على أن يكون الربح لكل على قدر ماله و الخسارة عليه كذلك،و هذه الشركة جائزة بالإجماع،بل قيل:لا يجوز غيرها.

2-شركة الأبدان

،و هي أن يتفق اثنان أو أكثر على أن يعمل كل واحد بأجر،ثم يقتسمون الأجور بين الجميع حسبما يتفقون عليه،و لا فرق بين أن يكون عمل الجميع من جنس واحد كمحاميين،أو من أكثر من جنس،كمحام و طبيب.و قد اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،و الحدائق،و مفتاح الكرامة على بطلان هذه الشركة،لأن الأصل عدم الشركة،و مجرد التراضي غير كاف ما لم يرد النص على جوازه،كما قال صاحب الجواهر.

و الذي نراه أن أي اتفاق بين اثنين أو أكثر فهو صحيح تترتب عليه جميع أحكامه و آثاره إذا كان المحل أهلا للالتزام به شرعا،أي لا يحرم حالا،أو يحلل حراما.

3-شركة المفاوضة

،و هي أن يلتزم كل منهما للآخر بأن الذي يحصل له من غنم يكون شركة بين الاثنين،و لا يستثني من ذلك إلاّ قوته و ثياب بدنه،و ان ما يلزمه من غرم يكون عليهما معا،و هذه الشركة باطلة أيضا بالإجماع، لأن لكل نفس ما كسبت،و عليها ما اكتسبت.

ص:102

4-شركة الوجوه

،قال صاحب الجواهر،و الحدائق،و مفتاح الكرامة:ان لها أكثر من معنى،و أشهر معانيها أن يجتمع اثنان ممن ليس لهما رأس مال،و يتفقا على أن ما يشتريه أحدهما نسيئة يكون بينهما،ثم يبيعاه، و يؤديا ما على كل،و الزائد بينهما شراكة،و هذه الشركة باطلة ان قصد كلّ الشراء لنفسه،و النتيجة أن يكون الربح له،و الخسارة عليه وحده،أما إذا وكّل كل منهما الآخر بالشراء فإنها تدخل في شركة العنان.و قد جاء في مفتاح الكرامة 392/7:«مما انفردت به الإمامية أن الشركة لا تصح إلاّ في الأموال»و هي شركة العنان،و على هذا فما نذكره من الشروط و الأحكام مختص بالشركة في الأعيان الناشئة عن عقد الشركة بالذات.

الشروط:

1-الصيغة

،و هي من المقومات،و تتحقق بقول كل من الاثنين:اشتركنا في كذا،أو قول أحدهما:شاركتك في كذا،و قبول الآخر،و ما إلى ذلك مما يدل على الشركة بوضوح.

2-ان يكون كل من الشريكين أو الشركاء أهلا للتوكيل و التوكل

،لأنّه لا يتصرف إلاّ بإذن من صاحبه،فيكون وكيلا عنه و موكلا له.

3-أن يكون محل الشركة مالا من الشريكين

،و موجودا بالفعل،و أهلا للالتزام به شرعا،فلا يصح أن يحدثا شركة على مال في الذمة،و لا في الخمر و الخنزير.

4-أن يمتزج المالان مزجا لا يمكن الفصل بينهما

،قال صاحب مفتاح الكرامة:«ان كلمة الفقهاء متفقة على أن المزج شرط في الصحة،فإذا لم

ص:103

يخلطاه لم تصح الشركة».و قال صاحب الجواهر:«التحقيق أن يقال بعد الإجماع على كون الشركة عقدا:ان قول اشتركنا لإنشاء تحقق الشركة، و صيرورة كل من المالين بين الشريكين على الإشاعة إلاّ أنّه يشترط في صحة ذلك تحقق المزج.و متى حصل مزج بقصد إنشاء الشركة من دون قول تحققت،و كانت كالمعاطاة،أما المزج القهري المجرد عن إرادة إنشاء الشركة فلا يترتب عليه ملك كل منهما الحصة المشاعة في نفس الأمر، و انما يفيد الاشتباه في كل أجزاء المال».

و المعنى المتحصل من هذه العبارة أن الشركة الشرعية التي يتكلم الفقيه عنها تتحقق بمزج المالين مع قصد الشركة و ارادتها،سواء أقال الشريكان «اشتركنا»أو لم يقولا،فان قالا كانت الشركة بالعقد،و إلاّ فهي شركة بالمعاطاة، و النتيجة واحدة،أمّا مزج المالين من غير قصد الشركة فلا تتحقق به الشركة الشرعية،لعدم قصدها و ارادتها،و لا الشركة بمعنى الشيوع،لأن كل جزء من المال المختلط امّا أن يكون لهذا،و امّا أن يكون لذاك،لا ان كل جزء هو ملك مشاع بين الاثنين.اذن الشركة شرعا لا توجد بالقصد وحده،و لا بالمزج وحده، بل بهما معا،كما أن المزج لا يحقق الشركة بمعنى الشيوع في نفس الأمر و الواقع، و انما يصير مجموع المالين شركة بين المالكين لعدم إمكان الفصل بين المالين بعد الخلط و الامتزاج.

و إذا باع إنسان حصة شائعة من ماله بحصة من مال الآخر كذلك،أو باعه إياها بثمن،و اشترى بالثمن حصة من الثاني تتحقق الشركة في المالين حتما،و ان لم يتحقق المزج و يتحد المالان،و لكن هذه الشركة ليست محلا للبحث هنا، لأنها تستند إلى غير عقد الشركة.

ص:104

أحكام الشركة:

اشارة

متى توافر في الشركة جميع ما يعتبر فيها صحت،و ترتب عليها الأحكام التالية:

1-الشركة جائزة من الجانبين

،فللشريك أن يرجع عنها،و يطالب بالقسمة متى شاء،لأن الناس مسلطون على أموالهم بشتى أنواع السلطة،و منها إفراز ملكه عن ملك الغير.و لو اشترط التأجيل و تحديد الشركة إلى أمد معين لم يلزم ذلك،و له العدول عنه،لأنه شرط في عقد جائز،و الشرط يتبع المشروط في الحكم.

2-إذا اشترطا أن يكون العمل لأحدهما دون الآخر

،أو أن يعمل كل منهما دون مراجعة الآخر صح،و لكن الشرط غير لازم،فيجوز الرجوع عنه متى شاء الشريك،و ان لم يشترطا ذلك فلا يجوز لأحدهما التصرف في مال الشركة إلاّ بإذن الثاني،لحرمة التصرف في مال الغير،و مجرد الاشتراك لا يدل على اباحة التصرف في مال الشريك.

3-إذا أطلقا عقد الشركة،و لم يبينا مقدار الأسهم

يقسط الربح على أصحاب الأموال بنسبة أموالهم،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يشارك في السلعة؟قال:ان ربح فله،و ان وضع-أي خسر-فعليه.

و قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف في ذلك،سواء أ تساوى الشريكان في العمل،أو تفاوتا فيه،بل الإجماع على ذلك و السنة مستفيضة أو متواترة،مضافا إلى اقتضاء أصول المذهب و قواعده في المشاع ذلك،بل هو مقتضى الأصول العقلية أيضا».

ص:105

و اختلف الفقهاء فيما إذا اشترط أحد الشريكين الزيادة له في الربح مع تساوي المالين،أو اشترط التساوي في الربح و الخسران مع تفاوت المالين،دون أن يكون لمن اشترط الزيادة آية ميزة من نشاط أو أثر في زيادة الأرباح.

فذهب جماعة إلى صحة الشركة و الشرط،و آخرون إلى بطلانهما معا، و ثالث إلى بطلان الشرط فقط،و اختار صاحب الجواهر القول الأول،أي صحة الشركة و الشرط،لأنه شرط عن تراض،و لا يحلل حراما،أو يحرم حلالا،و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل شارك رجلا في جارية له،و قال:ان ربحنا فيها فلك النصف،و ان كانت وضيعة-أي خسارة-فليس عليك شيء؟فقال الإمام عليه السّلام:لا أرى بهذا بأسا إذا طابت نفس صاحب الجارية.

انتهاء الشركة:

فرق بين انتهاء الشركة،و بين انتهاء الاذن للشريك بالتصرف في المال المشترك،فإن الشركة لا تنتهي إلاّ بالقسمة،أو تلف المال،و لا أثر لقول الشركاء، انهينا الشركة ما لم يحصل الافراز.أجل،تنتهي بذلك شركة العقد،لأنه من العقود الجائرة،أمّا شركة الملك و الشيوع فلا.و ينتهي الاذن بالتصرف بانتهاء الشركة،أو بجنون المأذون له،أو موته،أو التحجير عليه لسفه،أو فلس،و تنتقل الشركة إلى الوارث بموت الشريك،و ينوب عنه الولي مع الجنون أو السفه.

ص:106

مسائل:

1-شخص يملك سيارة،فاتفق مع سائق على أن ينقل بها الركاب بالأجرة

، و ما يرزقه اللّه سبحانه يكون بينهما بالسوية أو التفاوت،فهل تصح هذه الشركة،و على تقدير بطلانها فلمن يكون الناتج؟ اتفق الفقهاء،كما جاء في مفتاح الكرامة،على أنّها باطلة،لأنّها انما تصح بالمال من الشريكين،لا من أحدهما فقط،و ليس هذا الاتفاق مضاربة،لأن موضوعها النقود،لا العروض،كما يأتي،و لا إجارة أو جعالة لمكان الجهل بالأجرة.و على هذا،فإذا كان السائق قد أجر السيارة فالأجرة بكاملها لصاحب السيارة،لأنها ناتج ملكه،و عليه أن يدفع للسائق اجرة المثل،لأنه غير متبرع بعمله.

و الحق ان هذا الاتفاق صحيح و جائز،و ليس من الضروري أن ينطبق عليه أحد العقود المسماة،كالشركة،أو الإجارة،أو الجعالة،بل يكفي مجرد التراضي، مع عدم المانع من الشرع أو العقل،أما الجهل بأجرة السائق فغير مانع من الصحة ما دامت معينة في الواقع،و ينتهي الشريكان إلى العلم بها مقدارا و جنسا بعد العمل.

2-من حاز شيئا من المباحات

،كالصيد و الحطب و الحشيش و المياه،و ما إليها بقصد أنّها له و لغيره،فهل يصير هذا الغير شريكا للأول فيما حازه أولا؟ الجواب:إذا كان الأول وكيلا،أو مستأجرا للثاني تحققت الشركة بينهما، و إلاّ كان الجميع لمن حاز،و لا شيء لمن نواه و قصده،قال صاحب الجواهر ما ملخصه:ان السبب لملك المباحات هو الحيازة مع قصدها بصرف النظر عن نية التملك له أو لغيره،فمن حاز شيئا منها بقصد الحيازة فهو له سواء أقصد الملك

ص:107

لنفسه،أو لغيره،أو لم يقصد الملك،أو قصد عدمه،فالمعيار لتملك المباحات، و اختصاصها بالحائز دون غيره هو أن يقصد حيازتها،و كفى.

3-إذا استوفى أحد الشريكين دينا ممن اشترى من مال الشركة نسيئة

شاركه الآخر فيما استوفاه،كما هو الشأن في كل دين مشترك،لأن كل جزء منه مشاع بين الاثنين،و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام تقدم بعضها في فصل الدين.

4-إذا اتفق ثلاثة على أن يشتركوا في معمل للنجارة-مثلا-

على أن يقدم أحدهم المحل و الثاني الأدوات اللازمة،و الثالث العمل بطلت الشركة عند جماعة من الفقهاء ذكره صاحب مفتاح الكرامة (1).

و الحق الصحة و الجواز،لمكان التراضي،و عدم المانع من الشرع و العقل، كما تقدم في المسألة الأولى.

التنازع:

1-إذا كان مال الشركة في يد أحد الشركاء،و ادعى التلف

فالقول قوله بيمينه، لأنّه أمين،و ليس على الأمين إلاّ اليمين،و لا فرق في ذلك بين أن يدعي سببا ظاهرا للتلف،كالحرق و الغرق،أو سببا خفيا،كالسرقة.

و إذا تحقق التلف و اتفقا عليه،و لكن ادعى الطرف الثاني على من المال في يده أنّه فرّط أو اعتدى،و أنكر هذا التعدي و التفريط فالقول قوله بيمينه أيضا، لنفس السبب.

ص:108


1- المثال الذي ذكره صاحب مفتاح الكرامة في:ج 7 باب الشركة هو اتفاق أربعة:يقدم الأول المحل،و الثاني رحى الطحن،و الثالث البغل،و الرابع العمل.

2-إذا اشترى أحد الشريكين شيئا،و قال:اشتريته لنفسي،و قال شريكه،بل

اشتريته لحساب الشركة

،و انما ادعيته لنفسك بعد أن ظهر فيه الربح فالقول قول المشتري بيمينه،و لو قال المشتري:اشتريته لحساب الشركة،و قال شريكه:بل اشتريته لنفسك،و انما ادعيت أنّه للشركة بعد أن ظهر الخسران فالقول قول المشتري أيضا،لأنه أبصر بنيته،قال صاحب الجواهر:«بلا اشكال و لا خلاف».

ص:109

ص:110

القسمة

اشارة

ص:111

ص:112

معناها:

القسمة تمييز أحد النصيبين عن الآخر،و هي قائمة بنفسها،و ليست بيعا و لا صلحا،لأنها لا تفتقر إلى الصيغة،و يجب أن يكون كل نصيب بقدر الآخر، دون زيادة،أو نقصان،و قد يجبر الشريك على القسمة في بعض الحالات، و ليس في البيع شيء من ذلك،قال صاحب الجواهر:«ليست القسمة بيعا،و لا صلحا،و لا غيرهما،سواء أ كان فيها رد،أو لم يكن بلا خلاف،و لا إشكال ضرورة عدم قصد شيء زائد على مفهومها في صحتها.و حينئذ فلا شفعة فيها، و لا خيار مجلس.و لا غير ذلك».

قسمة الإجبار و التراضي:

إذا طلب أحد الشريكين القسمة،و امتنع الآخر ينظر:فان لم تستدع القسمة ضررا على الممتنع،و لا ردا على أحدهما،بحيث تمكن قسمة الشيء المشترك، و تعديل السهام من غير ضم شيء آخر مع بعضها،إذا كان الأمر كذلك يجبر الممتنع على القسمة بالإجماع،إذ يجب إعطاء كل ذي حق حقه متى طلبه،و لا يجوز منعه عنه،و تسمى هذه قسمة إجبار.

و إذا كانت القسمة غير ممكنة،كالاشتراك في جوهرة،أو قطعة سلاح،و ما إليها،بحيث إذا قسمت تلفت،أو كانت القسمة ممكنة،و لكن الشريك لا ينتفع

ص:113

بنصيبه منفردا،كما كان ينتفع به مع الشركة كالغرفة الصغيرة إذا قسمت أصاب كل منهما موضعا ضيقا لا ينتفع به لجهة السكن و لا لغيره،أو أمكنت القسمة و الانتفاع،و لكن لا يمكن تعديل السهام إلاّ بالرد،و ضم مال زائد على المال المشترك،كما لو كان بينهما غرفتان،قيمة إحداهما مائة،و قيمة الأخرى مأتان، فلا بد أن يضم إلى الأولى خمسون يدفعها من يأخذ الثانية لمن يأخذ الأولى،إذا كان كذلك فلا يجبر الشريك على القسمة و القبول،لقاعدة لا ضرر و لا ضرار، و للنهي عن السرف و التبذير،و لأن الضميمة لا تملك إلاّ بالتراضي،و لذا سميت هذه القسمة بقسمة التراضي.

و قال جماعة من الفقهاء:لا تجوز قسمة المال المشترك مع تضرر الشركاء، حتى و لو اتفقوا عليها،لأنه سفه و تضييع للمال،و رد عليهم صاحب الجواهر«بأن هذا مناف لقاعدة تسلط الناس على أموالهم،و ان المالك لا يمنع من التصرف في ملكه،و ان استلزم ذلك نقصا فاحشا في ماله،و الإثم لا يتنافى مع صحة القسمة شرعا».و عليه تصح القسمة مع التراضي،حتى و لو تضرر الشركاء،و لو افترض ان المتضرر من القسمة أحد الشريكين دون الآخر،و طلبها المتضرر أجيب إلى طلبه،و اجبر عليها غير المتضرر،و لو طلبها غير المتضرر من المتضرر فلا يجاب إلى طلبه.و قسمة الإجبار يتولاها الحاكم الشرعي أو من يوكله،و مع تعذرهما فعدول المسلمين،كما هو الشأن في جميع الأمور الحسبية.

قسمة المهاياة:

إذا كان بينهما بستان،أو دار،أو أرض،و اتفقا على أن يكون بعض العين المشتركة في يد أحدهما،و البعض الباقي في يد الآخر،يستثمر كل منهما ما في

ص:114

يده أمدا معينا،أو إلى أن تتم القسمة النهائية،أو اتفقا على أن يستثمر أحدهما العين بكاملها سنة،ثم يستثمرها الآخر سنة صح الاتفاق في الحالين،و تسمى هذه القسمة بالمهاياة،أي الموافقة،و تتلخص بقسمة المنفعة بحسب الزمان،أو بحسب اجزاء العين المشتركة،و يسميها الفلاحون قسمة زراعية.

و إذا طلبها أحد الشريكين،و امتنع الآخر فلا يجبر الممتنع،لأنها بمنزلة المعاوضة التي يعتبر فيها التراضي.

لزوم القسمة:

اشارة

تلزم القسمة،و لا يجوز العدول عنها في الحالات التالية :

1-ان يقتسم الشركاء فيما بينهم من غير قاسم،و لا قرعة

،فمتى رضي كل بقسم معين ألزم به و لا يجوز له العدول بعد الرضا (1).

2-ان يحصل الفرز،و القرعة بالاتفاق بين الجميع

،و لا يعتبر الرضا بعد القرعة،بل يكفي الرضا المقارن لها،قال صاحب الجواهر:«الظاهر عدم اعتبار الرضا بعد القرعة،مع فرض سبق الرضا بها،ضرورة ظهور أدلتها في اقتضاء التمييز و التعيين،فمع حصوله بها لا دليل على العودة».أي أن المستفاد من أدلة القرعة أنّها وسيلة لتعيين الحق و تمييزه عن غيره،فمتى

ص:115


1- جاء في كتاب اللمعة آخر باب القضاء ما نصه بالحرف:«إذا اتفقا على اختصاص كل واحد بسهم لزم من غير قرعة،لصدق القسمة مع التراضي الموجبة لتمييز الحق،و لا فرق بين قسمة الرد و غيرها»و المراد بقسمة الرد أن يدفع أحد الشريكين للآخر عوضا زائدا عن سهمه،كي يتحقق التعادل.

جرت تعين الحق،و إذا تعين انتهت الشركة،و لا تعود إلاّ بدليل،و لا دليل على العودة.

3-أن يختار الشركاء قاسما يميز الحصص

،و يجري القرعة برضا الجميع.

4-ان يرفعوا الأمر إلى الحاكم،و يعين قاسما

،فيجب العمل بقوله بمجرد خروج القرعة،و لا يشترط رضا الشركاء بالقسمة لا قبل القرعة و لا بعدها، و بما أن العمل بقول قاسم الحاكم ملزم للجميع شاءوا أو أبوا وجب أن يكون من أهل الخبرة و العدالة،كما هو الشأن في كل من تجب أطاعته،و لا تشترط العدالة،بل و لا الإسلام في القاسم الذي يختاره الشركاء من تلقائهم.

فتحصل ان القسمة تكون لازمة بعد أن يرضى كل بقسم معين،و ان لم تجر القرعة،و بعد القرعة التي اتفقوا على إجرائها،و بعد القرعة التي يجريها قاسم الحاكم،و ان لم يتفق عليها الشركاء.

الغلط:

لو ظهر الغلط بطلت القسمة،و إذا ادعى الغلط أحدهما،و أنكر الآخر فعلى المنكر اليمين على نفي العلم بالغلط،ان ادعى عليه شريكه العلم به،و إلاّ لم يسمع قوله إلاّ مع البينة.فإن حلف تمت القسمة،و ان نكل بطلت بناء على جواز القضاء بمجرد النكول.

و إذا ظهر لهما بعد القسمة شريك ثالث على سبيل المشاع لم يكن في حسبانهما بطلت القسمة،لأنها لم تقع برضا جميع الشركاء.

و إذا اقتسما عقارين،و أخذ كل منهما عقارا،ثم ظهر أن أحد العقارين كله

ص:116

أو بعضه مستحق لشخص آخر بطلت القسمة،و كذا لو ظهر فيه عيب إلاّ إذا تراضيا على تداركه بالأرش.و إذا بنى في نصيبه دارا،أو غرس فيه شجرا،ثم ظهر مستحقا للغير،و أزال المالك البناء و الغرس فلا يرجع صاحبهما على شريكه، لأن القسمة ليست بيعا،و الشريك لم يغرر به،كي يقال:المغرور يرجع على من غره.

تنبيه:

بقيت مسائل ذكرها الفقهاء في باب القسمة،منها أن الشيء المقسوم تارة تكون أجزاؤه متساوية،و أخرى متفاوتة،و منها قسمة الدار المؤلفة من طابقين أو أكثر،و قسمة البئر و الحمام إلى غير ذلك مما هو من اختصاص المهندسين، لا المتشرعين.ان وظيفة الفقيه أن يبين أن الشريك إذا طلب القسمة فهل على شريكه أن يستجيب،أو لا؟و إذا امتنع فهل للحاكم أن يجبره،أو لا؟و ان القسمة هل هي لازمة أو جائزة؟و ان القاسم هل تعتبر فيه العدالة؟إلى غير ذلك من بيان الأحكام التكليفية و الوضعية،أمّا موضوعات الأحكام فيرجع فيها إلى أهل الخبرة و الاختصاص.لذلك و خوفا من فوات الأهم تركنا التعرض لها،و من أحب الاطلاع عليها فليرجع إلى المجلد السادس من الجواهر،و العاشر من مفتاح الكرامة،باب القضاء.

ص:117

ص:118

كتاب الشفعة

اشارة

ص:119

ص:120

في الشفعة

معناها:

الشفعة في الاصطلاح الشرعي هي استحقاق أحد الشريكين حصة شريكه بسبب انتقالها بالبيع،على أن يتملكها من المشتري،رضي أو لم يرض.مثال ذلك أن يشترك اثنان في عقار،فيبيع أحدهما حصته المشاعة لثالث،فللشريك الثاني أن يتملك الحصة المبيعة من المشتري جبرا عنه بما لزمه من الثمن.

و يخرج بقولنا«أحد الشريكين»ما لو باع بعد أن حصلت القسمة،و تفرد كل شريك بحصته،حيث لا شركة حين البيع،و كذا يخرج ما لو كانت الشركة بين أكثر من اثنين،و بقولنا«انتقالها بالبيع»يخرج ما لو انتقلت بالهبة أو الصداق أو الصلح،و يأتي البيان.

و يسمى الشريك الذي يطالب بالشفعة شفيعا،و المشتري الذي اشترى من الشريك الآخر مشفوعا منه،و العقار المبيع مشفوعا به.

شرعية الشفعة:

الشفعة مشروعة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالشفعة بين الشركاء في الدور و المساكن.

ص:121

المحل:

و هو المشفوع به،أي الشيء الذي تثبت فيه الشفعة،و اتفقوا على أن الشفعة تثبت بالعقارات التي تقبل القسمة،كالأراضي و الدور و البساتين.

و اختلفوا فيما عدا ذلك،فذهب جمع من الفقهاء إلى ثبوتها في كل مبيع منقولا كان أو غير منقول،قابلا للقسمة،أو غير قابل لها،و استدلوا على ذلك بروايات عن أهل البيت عليهم السّلام أعرض عنها و أهملها المشهور،و خصصوا الشفعة بالثوابت التي تقبل القسمة،و نفوها عن المنقولات،و الثوابت التي لا تقبلها،أو لا ينتفع بها بعد القسمة.

و استدلوا على ذلك بدليلين:الأول قول الإمام الصادق عليه السّلام:«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا شفعة في سفينة،و لا نهر،و لا طريق،و لا رحى،و لا حمام».و في رواية ثانية أنّه قال:ليس في الحيوان شفعة.و في ثالثة أن الشفعة لا تكون إلاّ في الأرضين و الدور.قال صاحب الجواهر:«المشهور بين المتأخرين العمل بهذه الروايات،بل اطباقهم على ذلك».

الدليل الثاني:أن الشفعة على خلاف الأصل،لأن من تملك شيئا بالبيع لا ينتزع منه إلاّ برضاه،و القاعدة هي وجوب الاقتصار على موضع اليقين فيما خالف الأصل،و موضوع اليقين من الشفعة هو الثوابت التي لا تقبل القسمة،قال صاحب مفتاح الكرامة:«على هذا استمرت طريقة الناس في معاملاتهم،فإنهم ينكرون ثبوت الشفعة في الثوب و القدر و الإبريق و الفرس و البعير و الحنطة و الشعير و التمر و الملح و الزبيب،فلو ان أحدا اليوم ادعى الشفعة في أمثال ذلك لبادروه بالنكير،أخذوا ذلك يدا عن يد،و هذا يدل على طريقة مستقيمة،و سيرة مستمرة».

ص:122

أمّا الشجرة و الأبنية فإن بيعا تبعا للأرض ثبتت فيهما الشفعة بالإجماع،و ان أفرادا بالبيع دون الأرض فلا شفعة فيهما إلاّ عند من أثبت الشفعة في كل شيء.

الاشتراك في المرافق:

اتفقوا على أن الجار لا شفعة له،لأن النص خصصها بالشريك وحده إلاّ إذا كان الجار خليطا،أي شريكا في المرافق،كالطريق و الشرب،و ذلك أن يكون لعقارين متجاورين ممر خاص،أو شرب مشترك بينهما،فان صاحب كل من العقارين يسمى خليطا للآخر،فإذا باع أحدهما عقاره منضما مع الطريق أو الشرب فلجاره الأخذ بالشفعة،على شريطة أن يكون الشفيع واحدا.و لا فرق بين أن يكون الطريق و الشرب قابلا للقسمة أو غير قابل.أجل،إذا أريد بيع كل من الشرب و الطريق منفردا اعتبرت فيه القابلية للقسمة،و ليس للشفيع أن يختار الطريق أو الشرب دون العقار المبيع،بل يأخذ الجميع أو يترك الجميع.

و تجدر الإشارة إلى أن النص الذي ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام انما جاء في الطريق فقط،و لكن الفقهاء ألحقوا به الشرب المشترك بشهادة صاحب الجواهر، و صاحب مفتاح الكرامة،فلقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن درب فيها دور، و طريقهم واحدة في عرصة،فباع بعضهم منزله من رجل،فهل لشركائه في الطريق أن يأخذوا بالشفعة؟قال الإمام:ان كان باع الدار،و حوّل بابه إلى طريق غير ذلك فلا شفعة لهم،و ان باع الطريق مع الدار فلهم الشفعة.

و هذه الرواية كما ترى تثبت الشفعة للشركاء،و ان زادوا عن اثنين،و لكن المشهور حملوها على الاثنين فقط جمعا بينها و بين قول الإمام عليه السّلام:لا تكون الشفعة إلاّ لشريكين ما لم يقتسما،فإذا صاروا ثلاثة فليس لواحد منهم شفعة.

ص:123

و إذا كانت البئر المشتركة التي لا تقبل القسمة في أرض مشتركة أيضا بين صاحبي البئر،و أمكن التعديل بين الأرض و البئر،بحيث تسلم كل منهما لواحد، و ان لم ينتفع بها على الوجه السابق،و لكن لها منفعة أخرى،إذا كان كذلك،فإنه يثبت للشريك الشفعة.و الحكم كذلك في كل ما لا يقبل القسمة منفردا،و كان معه غيره،و أمكن التعادل بينهما،مع إمكان الانتفاع بكل منهما في جهة من الجهات،كغرفة صغيرة مع حديقة أو حمام،و كدكان صغير مع ساحة،و ما إلى ذلك.

شراكة الوقف:

إذا كان بعض العقار وقفا على الإشاعة،و البعض الآخر ملكا لشخص، و باع المالك حصته،فهل تثبت الشفعة لولي الوقف و أهله؟.

ذهب جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الشرائع و الجواهر،ذهبوا إلى عدم ثبوت الشفعة،حتى و لو كان الموقوف عليه واحدا،لأن الوقف لا مالك له،و انما تملك المنفعة فقط،فأرباب الوقف أشبه بالمستأجر الذي لا شفعة له.

و الخلاصة ان الشفعة عند المشهور تثبت في الدار و البستان و الأرض،و ما إليها من الثوابت التي تقبل القسمة،على أن لا يكون الشريك وقفا.و لا تثبت في المنقولات إطلاقا،و لا في الثابت الذي لا يقبل القسمة،أو يقبلها مع عدم الانتفاع بالمقسوم،إلاّ إذا كان الذي لا يقبل القسمة طريقا أو شربا،و بيع منضما إلى غيره.

الشفيع:

اشارة

سبق أن الشفيع هو الذي يأخذ من المشتري بالشفعة،و يشترط فيه

ص:124

1-أن يكون شريكا في العين وقت البيع

،فلا شفاعة لمستأجر،و لا لجار، و لا للشريك بعد القسمة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«الشفعة لا تكون إلاّ لشريك لم تقاسمه،و في رواية ثانية:لا شفعة إلاّ لشريكين لم يقتسما.

و إذا أرفت الأرف،و حددت الحدود فلا شفعة»و الأرف هي الحدود،و في الحديث الشريف:«قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالشفعة ما لم تؤرف»أي ما لم يقتسم العقار،و يوضع الحد.و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الشفعة في الدور،أي شيء واجب للشريك؟فقال:الشفعة في البيوع إذا كان شريكا.

2-أن يكون قادرا على دفع الثمن،و وفيا غير مماطل

،و لا يمهل أكثر من ثلاثة أيام إلاّ إذا ادعى وجود ماله في بلد آخر،فإنّه يؤجل بمقدار وصوله إليه، و زيادة ثلاثة أيّام،على شريطة أن لا يتضرر المشتري بسبب التأجيل،قال صاحب الجواهر:«لا أجد خلافا بينهم في ذلك،و يدل عليه أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل طلب شفعة أرض،فذهب على أن يحضر المال،فلم يرجع،فكيف يصنع صاحب الأرض إذا أراد بيعها؟أ يبيعها أو ينتظر مجيء شريكه صاحب الشفعة؟قال الإمام عليه السّلام:ان كان معه في المصر فلينتظر به إلى ثلاثة أيّام،فإن أتاه بالمال،و إلاّ فليبع،و بطلت شفعته في الأرض،و ان طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد آخر،فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلد،و ينصرف و زيادة ثلاثة أيّام إذا قدم، فإن وفاه و إلاّ فلا شفعة.

3-أن يكون الشفيع مسلما إذا كان المشتري مسلما

،فغير المسلم تثبت له الشفعة على مثله،حتى و لو كان البائع مسلما،و لا تثبت له على مسلم، حتى و لو كان البائع غير مسلم،و تثبت للمسلم إطلاقا على المسلم و غير

ص:125

المسلم،و استدلوا على ذلك بقول الإمام الصادق عليه السّلام عن جده أمير المؤمنين عليه السّلام:«ليس لليهودي و لا للنصراني شفعة».

4-أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الشفعة لا تثبت إذا تعدد الشركاء

، و زاد الشفيع عن الواحد،و استدلوا عليه بالإضافة إلى ما سبق بقول الإمام عليه السّلام:ان زاد الشريك على اثنين فلا شفعة لأحد منهم.

5-أن لا يأذن الشفيع بالبيع لشريكه

،أو يرفض الشراء إذا عرض عليه،مع قدرته،و ليس هذا من باب إسقاط ما لم يجب،بل هو مقتض لعدم الثبوت على حد تعبير صاحب الجواهر نظير اجازة الوارث لما أوصى به مورثه قبل موته فيما زاد عن الثلث،و يدل عليه أيضا الحديث الشريف:«لا يحل أن يبيع،حتى يستأذن شريكه،فان باع،و لم يأذن فهو أحق به».و معنى هذا أنّه إذا أذن بالبيع فلا حق له،و يأتي البيان الأوفى.

6-قال جماعة من الفقهاء:يشترط علم الشفيع بالثمن و المثمن معا حين

الأخذ بالشفعة

،فلو قال:أخذت بالشفعة بالغا ما بلغ الثمن لم يصح،لأن الشفعة في معنى المعاوضة،و الجهل بالثمن يستدعي الغرر المبطل لها، تماما كالشراء بثمن مجهول.

و ذهب صاحب الجواهر و كثير من كبار الفقهاء إلى أنّه لا دليل من العقل و النقل على وجوب العلم بالثمن حين الأخذ بالشفعة،بل يكفي العلم به عن طريق البينة أو غيرها وقت الدفع،و الغرر انما يبطل البيع فقط،لحديث:«نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن بيع الغرر»و إلحاق الشفعة بالبيع قياس باطل.أجل،إذا تعذر العلم بالثمن حين الأخذ و الدفع،بحيث لا يمكن العلم به بحال بطل الأخذ بالشفعة،لعدم إمكان التسليم،و مثل له صاحب الشرائع و الجواهر بأن يقول

ص:126

المشتري:نسيت مقدار الثمن،و يصدقه الشفيع.

الغائب و المجنون و الصبي و السفيه:

ليس العقل و البلوغ و الرشد من شروط الشفيع،لأن الشفعة حق مبني على الملك،و لا يشترط في الملك العقل و البلوغ و الرشد،و يأخذ للمجنون و الصبي و السفيه بالشفعة القائم على شؤونهم بشرط أن لا يكون في الأخذ مفسدة،و إلاّ لم يصح.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال،لأن الغرض عدم تصرفه على الوجه المشروع،و عليه فإذا أخذ مع المفسدة يكون ضامنا لما دفع من الثمن،و يبقى السهم المأخوذ بالشفعة على ملك المشتري».

و إذا ترك ولي القاصر الأخذ مع وجود المصلحة يبقى حق الشفعة ثابتا، حتى يبلغ الصبي،و يفيق المجنون،و يرشد السفيه،و لو مضى على بيع العقار سنون،قال صاحب الجواهر:

«لا إشكال و لا خلاف في ذلك،و لا ينافيه التراخي،لأن التأخير كان لعذر، و هو الجنون و الصغر،أما تقصير الولي فلا يسقط حقهما الثابت لهما حال قصورهما بالنص و الفتوى،و انما الذي تجدد عند الأهلية و الكمال هو الأخذ لا أصل الحق،بل لو عفا الولي لم يمض عفوه مع فرض المفسدة،حتى و لو كان الذي عفا أبا أو جدا لأب،أما تضرر المشتري بطول الانتظار فإنه لا يسقط حق القاصر بعد أن كان المشتري هو السبب في إدخال الضرر على نفسه-لأنه أقدم على الشراء مع علمه بوجود الشفيع-بل لعل الأقوى جواز تحديد الولي الأخذ، و ان ترك أو عفا سابقا،لبطلان تركه و عفوه فلا يترتب الأثر عليهما».

أمّا الشفيع الغائب فإن علم البيع،و سكت عن الطلب،و لم يحضر و لم

ص:127

يوكل في الأخذ فيسقط حقه في الشفعة،لأن هذا الحق يثبت على الفور كما يأتي.

و إذا لم يعلم بالبيع،أو علم و لم يطالب لعذر مشروع،كما لو جهل بأن له حق الأخذ بالشفعة،فإن حقه يبقى قائما،و ان طال الزمان.و يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:وصي اليتيم بمنزلة أبيه يأخذ له الشفعة إذا كان له رغبة،و للغائب شفعة.

الشفعة مع الشراء بالخيار:

اشارة

إذا اشترى من أحد الشريكين بالخيار،فهل تثبت الشفعة للشريك الثاني في زمن الخيار،أو ينتظر حتى ينتهي أمد الخيار،و يصير البيع لازما،و الجواب على هذا التساؤل يستدعي التفصيل التالي:

1-اتفق الفقهاء بشهادة صاحب المسالك و الحدائق على أن الخيار إذا كان

للمشتري دون البائع

تثبت الشفعة للشريك بنفس العقد،و لا يتوقف ثبوتها على مضي زمن الخيار،لأن المبيع خرج عن ملك البائع،و دخل في ملك المشتري بمجرد العقد،و ان كان الملك متزلزلا،أي في معرض الزوال.

و متى دفع الشفيع الثمن للمشتري،و أخذ منه المبيع يسقط خيار المشتري،لأن الغرض من خياره أن يفسخ العقد و يسترجع الثمن،و قد حصل عليه من الشفيع فلا جدوى من الفسخ-اذن-بل لا موضوع له إطلاقا.

2-اختلفوا فيما إذا كان الخيار للبائع فقط،أو له و للمشتري معا

،فذهب جمع من الفقهاء إلى عدم ثبوت الشفعة،لأن المبيع لم يخرج عن ملك البائع بزعمهم.و قال آخرون،و منهم صاحب الشرائع و الجواهر:ان الشفعة ثابتة مع هذا الخيار،لأن المقتضي لها موجود،و هو إطلاق أدلة الشفعة

ص:128

الشامل لجميع أنواع البيع،حتى البيع بالخيار،و مجرد الخيار لا يصلح للمنع عن ملك المشتري،و انما يجعله متزلزلا في معرض الزوال، و موضوع الشفعة هو الملك بما هو بصرف النظر عن اللزوم و عدمه.

3-إذا باع أحد الشريكين سهمه من زيد-مثلا-ثم باع الشريك الآخر

الذي له الشفعة سهمه من عمرو قبل أن يأخذ بالشفعة

،إذا كان كذلك انتقل حق الشفعة إلى زيد،و صار شفيعا بعد أن كان مشفوعا منه،و أخذ بالشفعة من عمرو ان شاء،لأنه شريكه حقيقة،و لا يحق للذي باع عمرا أن يعارض زيدا بشيء،لأنه صار أجنبيا بعد البيع.و بكلمة ان الشفيع هو الذي يصدق عليه اسم الشريك حين الأخذ بالشفعة،سواء أ صدقت عليه التسمية قبل حصول البيع من أحد الشريكين أو بعده.

لا يملك الشفيع إلاّ بدفع الثمن:

المشتري يملك العين من البائع بمجرد تمام البيع من غير توقف على دفع الثمن،أما الشفيع فيملك بعقد البيع حق التملك،و لا يصير مالكا إلاّ بدفع الثمن.

ثم أن للفقهاء هنا كلاما:في أنّه هل يجب أن يدفع الشفيع الثمن أولا،أو يجب التقابض بينه و بين المشتري دفعة واحدة،و قد أطال صاحب الجواهر و غيره في التحقيق و التدقيق.و رأينا أن المسألة مسألة ثقة فإن وجدت فهي،و إلاّ وضع الثمن عند الحاكم،أو عند أمين يتفقان عليه.

و ليس للشفيع أن يأخذ بعض المبيع،و يدع البعض،بل يأخذ الجميع أو يدع الجميع،قال صاحب الجواهر:«بل لا يبعد أن تكون الشفعة من قبيل حق القصاص الذي لا يقبل التجزئة،و ان رضي الشريك».يريد أنّه لو تراضى الشفيع

ص:129

و الشريك على قسمة المبيع لا يصح و يبطل الاتفاق.

و لست أرى وجها لذلك،فإن مبدأ التراضي حاكم على كل شيء إلاّ إذا حلل حراما،أو حرم حلالا،فإذا رضي الشريك أن يؤجل الثمن صح،و إذا رضي أن يقتسم مع الشفيع صح أيضا،لأن الغرض دفع الضرر عن المشتري،و مع الرضا يرتفع الضرر،بل قد تتفق مصلحته مع التبعيض و التقسيم.

الثمن المثلي و الثمن القيمي:

الثمن الذي يقع عليه العقد بين الشريكين تارة يكون مثليا،كالنقود و الحبوب و ما إليها من المثليات،و تارة يكون قيميا،كالحيوان و الدار.و قد اتفق الفقهاء على أن الثمن ان كان مثليا تثبت الشفعة للشريك،و يتملك بمثل الثمن الواقعي الذي جرى عليه عقد البيع بين البائع و المشتري،سواء أ كان مساويا لقيمة المبيع السوقية،أو كان دونها،أو أكثر منها،لأن الشفيع يملك العين من المشتري بمثل ما ملكها هو من البائع،و لا أثر للزيادة التي تضم صوريا إلى الثمن الحقيقي بقصد منع الشفيع من الأخذ بالشفعة،و الإضرار به،و لكن على الشفيع أن يثبت صوريتها،و ليس على المشتري إذا أنكرها إلاّ اليمين عملا بالظاهر حتى يثبت العكس.أجل،إذا حط البائع من الثمن بعد العقد فلا ينتفع الشفيع بهذا الحط إذا كان هبة من البائع للمشتري،و ينتفع به و يسقط من الثمن حتما إذا كان أرشا و عوضا عن عيب ظهر في المبيع،لأن الثمن الحقيقي هو ما تبقى بعد العقد.

و إذا زاد المشتري على الثمن بعد العقد فلا تلزم الزيادة،و لا يحق للمشتري أن يطالب الشفيع بها،لأنها ليست من الثمن في شيء إلاّ إذا ظهر أن البائع كان مغبونا،و أراد استرجاع المبيع،فأرضاه المشتري بالزيادة،حيث تكون

ص:130

الزيادة و الحال هذي،جزءا من الثمن.

هذا،إذا كان الثمن مثليا،أما إذا كان قيميا فقد اختلف الفقهاء على قولين، أحدهما ان الشفعة تسقط من الأساس،و استدل القائلون بذلك برواية أعرض عنها معظم الفقهاء بشهادة صاحب مفتاح الكرامة.

القول الثاني:ان الشفعة تثبت لو كان الثمن قيميا تماما كما لو كان مثليا، و على هذا أكثر الفقهاء بشهادة صاحب مفتاح الكرامة،و المسالك و الرياض، و استدلوا بأن القيمة تقوم مقام العوض،و بإطلاق أدلة الشفعة الشامل للمثلي و القيمي على السواء.ثم أن المعتبر القيمة وقت البيع،و لا عبرة بالزيادة و النقيصة بعده،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المعروف بين الفقهاء».

المحاباة بالثمن:

اشارة

سبق أن الشفيع يأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد.و هنا فرض جاء في كتاب الجواهر ينبغي التعرض له لدقته و فائدته العلمية،و هو لو باع أحد الشريكين سهمه من شخص قريب منه أو بعيد،و باعه بأقل من ثمن المثل بقصد محاباته و منفعته،كما لو كانت قيمة السهم مأتين،فباعه بمئة،فهل يأخذ الشفيع بالثمن المسمى أو بالقيمة الحقيقية؟و الجواب يستدعي التفصيل على الوجه التالي:

1-ان يبيع،و هو في حال الصحة،أو في مرض الموت

،مع البناء على أن منجزات المريض تخرج من الثلث لا من الأصل،لأن البيع من المنجزات لا من الوصايا،و لكنه في حكمها على الأصح،كما يأتي في محله ان شاء اللّه.إذا كان كذلك يأخذ الشفيع تمام السهم المبيع من المشتري بالثمن

ص:131

الذي وقع عليه العقد،لأن أدلة الشفعة التي قالت:يأخذ الشفيع بالثمن تشمل هذا المورد و لم تفرق بين أن يكون الثمن مساويا للقيمة أو أقل أو أكثر،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال».

2-أن يبيع،و هو في مرض الموت،مع فرض أن الثلث لا يتسع للمحاباة

،كما لو لم يملك البائع إلاّ السهم الذي باعه،و لم تجز الورثة هذا البيع،إذا كان كذلك يكون ثلث المبيع للمشتري محاباة له من البائع،فكأنه أوصى له به، و يأخذ أيضا النصف مقابل الثمن،و هو المائة،لأن المفروض أنّه اشترى بمئة ما قيمته مأتان،و عليه فيملك المشتري النصف و الثلث،و يبقى سدس المبيع للورثة مع المائة التي وقعت ثمنا للعقد.و سبق أن الشفيع يأخذ ما يملكه المشتري،و على هذا يكون مخيرا بين أن يترك الشفعة، و بين أن يأخذ خمسة أسداس المبيع بتمام الثمن الذي وقع عليه عقد البيع، و هو المائة،و بهذا تجد تفسير عبارة الجواهر،و هي:«لو فرض كون قيمة السهم مأتين،فحاباه و باعه بمئة،و ليس له سواه صح البيع في خمسة أسداسه التي هي النصف و الثلث،و بطل في السدس الذي لم يقابله ثمن، فيأخذ الشفيع ان شاء خمسة أسداسه بكل الثمن».

المؤن:

جاء في كتاب الشرائع و الجواهر و المسالك و غيرها من كتب الفقه الرئيسية:«ان الشفيع لا يتحمل شيئا أكثر من الثمن الذي دفعه المشتري للبائع، فأجرة الدلال و الوكيل و غير ذلك من المؤن هي على المشتري لا على الشفيع»و لم يذكر أحد من الفقهاء خلافا في ذلك.و السر أن الأحاديث و الروايات لم تشر إلى

ص:132

المؤن و التكاليف من قريب أو بعيد،و قواعد الشفعة تلزم بالثمن لا بالمؤن.

و يلاحظ بأن المؤن إذا لم تكن من قواعد الشفعة فإنّها من قواعد العدل الذي لا يجيز لأحد أن يكتسب شيئا على حساب غيره،و عليه يكون الشفيع ملزما بالتكاليف الضرورية التي لا بد منها لإتمام البيع.

تأجيل الثمن:

إذا كان عقد البيع ينص على تأجيل الثمن،أو أن يدفع أقساطا،فان الشفيع يستفيد من ذلك،لأن الشفيع يملك كل ما يملكه المشتري،و على الشفيع تقديم كفيل إذا طلب المشتري منه ذلك،حيث لا يجب عليه أن يحتمل نتائج إعسار الشفيع.

و إذا أخذ الشفيع بالثمن المؤجل،ثم مات المشتري قبل أن يحل الأجل فللبائع أن يطالب ورثة المشتري،لأن الميت تحل ديونه المؤجلة بالموت،كما تقدم في باب الدين،و ليس لورثة المشتري الرجوع على الشفيع إلاّ بعد حلول الأجل.

و إذا مات الشفيع قبل حلول الأجل فللمشتري أن يطالب بالثمن ورثة الشفيع،و ليس للبائع الرجوع على الشفيع إلاّ بعد مضي الأجل.

الفور:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق و مفتاح الكرامة إلى أن الشفعة تثبت على الفور،لا على التراخي،فإذا علم الشفيع بالبيع،و لم يبادر إلى طلب الأخذ بالشفعة من غير عذر بطل حقه فيها،لأن التراخي ضرر على المشتري،

ص:133

و لأن الشفعة على خلاف الأصل،فيقتصر منها على موضع اليقين،و هو الطلب حين العلم بالبيع،و ان لم يعلم بمقدار الثمن،و قد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل طلب شفعة فذهب،و لم يحضر؟قال الإمام عليه السّلام:ينتظر ثلاثة أيّام.

و لو كان حق الشفعة ثابتا على التراخي لاستمر إلى ما بعد الثلاثة.

ص:134

تصرفات المشتري

اشارة

سبق أن المشتري يملك المبيع بالعقد،و ان الشفيع له حق التملك عليه، و يتفرع على تملك المشتري أن له أن يتصرف في المبيع كيف شاء،و يتفرع على حق الشفيع للتملك أن يأخذ المبيع بالشفعة،و يبطل تصرفات المشتري.

و لا منافاة في الجمع بين هذين الحقين،فإنهما أشبه بحق الدائنين في تركة الميت المستغرقة للدين،و تملك الورثة لها،فإن لهؤلاء أن يتصرفوا فيما ملكوه من موروثهم،و في الوقت نفسه للدائنين أن يبطلوا تصرف الورثة إذا لم يفوا بديونهم.و مثله الهبة،فإن للواهب حق الرجوع عنها،و للموهوب له حق التصرف في الموهوب قبل الرجوع.

و قد ذكر الفقهاء أمثلة من إبطال الشفيع لتصرفات المشتري،و حكم ما يعرض للمبيع و هو في يده من الهلاك أو الزيادة أو النقصان،و نلخص طرفا منها فيما يلي:

التقايل بين البائع و المشتري:

إذا تقايل البائع و المشتري،و اتفقا على إرجاع المبيع لصاحبه قبل أن يأخذ الشفيع بالشفعة صح التقايل،لأن حق الشفيع سابق على البائع من حيث ان

ص:135

الشفعة استحقت بالعقد،و التقايل متأخر عنه،فتقدم الشفعة عليه،لمكان السبق.

و إذا طرأ نقص على المبيع بعد إرجاعه للبائع فضمانه على المشتري،لأنه كان مسؤولا عما يحدث في المبيع قبل التقايل،فتستمر المسؤولية إلى ما بعده.

هذا ما قاله الفقهاء دون أن ينقلوا الخلاف فيه.و الحق أنّه لا شفعة من رأس مع التقايل،لأن أدلة الشفعة ظاهرة في تملك المشتري للمبيع،و منصرفة عن حالة التقايل،بل ان موضوع الشفعة هو الشريك الحادث،و المفروض عدمه، فتنتفي لانتفاء موضوعها.

تصرف المشتري بالبيع أو الوقف أو الهبة:

إذا باع المشتري السهم الذي اشتراه من الشريك فللشفيع فسخ البيع، و يتخير بين أن يأخذ من المشتري الأول،أو المشتري الثاني،لأن حق الشفيع يثبت و يتعدد بتعدد البيع،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في شيء من ذلك».و إذا أخذ الشفيع من المشتري الأول دفع له الثمن الذي وقع عليه العقد، و بطل البيع الثاني،و إذا أخذ من المشتري الثاني دفع له الثمن الذي اشتراه به بالغا ما بلغ.

و إذا تعددت العقود و تتابعت،حتى تجاوزت الاثنين،فأي عقد أخذ به الشفيع يكون ما قبله صحيحا،و ما بعده باطلا،أما صحة السابق فلأن الرضا بالعقد المتأخر يستدعي الرضا بما تقدم عليه،و أمّا بطلان المتأخر فلان الذي قبله قد زال بالفسخ،فيبطل المتأخر،لأنه متفرع عنه.

و إذا اشترك عقاران في المرافق،كالطريق و الشرب،و بيع أحدهما،و بنى المشتري فيه مسجدا،ثم أخذه الشفيع من المشتري يبطل الوقف،و له أن يهدم

ص:136

المسجد،و كذا إذا كان عقار مشاعا بين اثنين،و باع أحد الشريكين سهمه المشاع، و أخفى المشتري البيع عن الشفيع،و قال له:استوهبت السهم من شريكك، و طلب منه القسمة،و بعد أن تقاسما بنى المشتري مسجدا في سهمه،ثم تبين الواقع للشفيع،فله أن يأخذ المبيع من المشتري،و يهدم المسجد،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده فيه بيننا-أي بين فقهاء المذهب-و لا اشكال،لسبق حق الشفيع،بل عن كتاب المبسوط الإجماع على أن له نقض المسجد إن كان قد بناه».

و إذا وهب المشتري المبيع فللشفيع أخذه،و متى أخذه بطلت الهبة، و يأخذ الشفيع العين اين وجدها،و يدفع الثمن إلى المشتري الواهب،لا إلى الموهوب له،لأن المفروض بطلان الهبة،و إرجاع الأمر إلى ما كان قبلها.

نقص المبيع في يد المشتري:

اشارة

إذا طرأ على المبيع هدم أو عيب،و هو في يد المشتري فالحكم عند الأكثر على التفصيل التالي:

1-أن يتلف المبيع،و لا يبقى له من أثر بآفة سماوية

،فتبطل الشفعة لارتفاع موضوعها.

2-أن ينقص المبيع

،مثل الدار ينهدم بعضها أو كلها،و تبقى الأرض من غير ارادة المشتري و تصرفه،أو فعل أجنبي،و الحكم في ذلك أن يتخير الشفيع بين الأخذ بجميع الثمن،أو ترك الشفعة،سواء أحصل النقص قبل مطالبة الشفيع،أو بعدها،إذ المفروض أن المشتري لم يقم بأي عمل يوجب الضمان فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل اشترى من رجل دارا غير

ص:137

مقسومة،و كان الشريك الآخر غائبا،و لما قبضها المشتري جاء سيل جارف و هدمها،ثم جاء الشريك الغائب،و طلب الشفعة،فأعطاه الشفعة،على أن يعطيه الثمن كاملا،فقال الشريك الشفيع:ضع من الثمن قيمة البناء،فما هو الواجب في ذلك؟قال الإمام عليه السّلام:ليس له إلاّ الشراء و البيع.أي يأخذ الثمن الذي وقع عليه العقد.

3-أن يكون النقص بفعل المشتري

،و لكن قبل مطالبة الشفيع بالشفعة، و الحكم فيه كالصورة الأولى،و هو التخيير بين الأخذ بجميع الثمن أو الترك،لأن المشتري تصرف في ملكه،و لم يعتد،فلا موجب للضمان.

4-أن يكون النقص بسبب المشتري

،و لكن بعد أن طالب الشفيع بالشفعة، و الحكم أن المشتري يضمن النقص،أي يسقط من الثمن ما يقابل النقص الذي أحدثه المشتري،لأن الشفيع قد استحق أخذ المبيع كاملا بالمطالبة، فيكون تصرف المشتري بعدها تعديا منه،و المتعدي ضامن.

زيادة المبيع:

إذا اشترك عقاران في المرافق،كالطريق و الشرب،و بيع أحدهما،و أقام المشتري فيه بناء،أو غرس فيه غرسا،أو أخذه الشفيع بالشفعة،فهل عليه أن يدفع للمشتري عوض البناء و الغرس،أو يجوز له أن يهدم البناء،و يقلع الغرس، و يرمي به إلى المشتري؟ و ليس من شك أن للشفيع و المشتري أن يتفقا و يتراضيا على أن يتملك الشفيع البناء و الغرس لقاء عوض يدفعه للمشتري،أو يبقى البناء و الغرس على ملك المشتري لقاء عوض يدفعه المشتري للشفيع،كما أن للشريك أن يقلع

ص:138

الغرس،و يهدم البناء،و يزيلهما من أرض الشفيع دون أن يستأذنه،لأنه مالك لهما،و للمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء،و لا يحق للشفيع أن يعارضه في شيء من ذلك،و لا أن يمنعه من الدخول و المرور في أرضه للقلع و الهدم،و نقل الأنقاض،لأن ذلك ضروري للتصرف في ملكه،كما أنّه ليس للمشتري أن يطالب الشفيع بشيء مما يتضرر به من الهدم و القلع،لأنه هو الذي أصر عليهما.

لا شك في شيء من ذلك،و انما الشك و الاختلاف فيما إذا أصر الشفيع على هدم البناء و قلع الغرس،و إزالتهما من أرضه،و أصر المشتري بدوره على الامتناع عنها،و لم يمكن التوفيق بين الشفيع و المشتري،و نقل صاحب الجواهر أقوال الفقهاء في ذلك:منها أن الشفيع مخير بين أمرين:امّا أن يسقط الشفعة، و امّا أن يأخذ البناء و الغرس بقيمتهما مستحقين للهدم و القلع لأن المشتري يملكها كذلك (1).

و منها أن الشفيع مخير بين أمور ثلاثة:أن يترك الشفعة،أو يأخذ البناء و الغرس بقيمتها،أو يجبر المشتري على القلع مجانا و دون تعويض،فان أبى قلع الشفيع و هدم.

و منها التخيير بين هذه الأمور الثلاثة على أن يتحمل الشفيع الضرر الذي ينال المشتري بسبب الهدم و القلع،و ذلك بأن يدفع له الشفيع التفاوت بين قيمة الشجر مغروسا،و قيمته مقلوعا،و التفاوت بين قيمة البناء قائما،و قيمة أدواته بعد الهدم،و بهذا قال الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة و كثيرون من كبار

ص:139


1- عبارة صاحب الجواهر هنا مجملة،و هذا نصها بالحرف:«أن يعطي قيمة ما أخذ من المشتري» و فسرناها نحن بأن الشفيع يأخذ الغرس و البناء مستحقين للهدم و القلع.لأن المعنى لا يستقيم إلاّ بهذا التفسير.

الفقهاء،و هو أرجح الأقوال،لأنه يجمع بين الحقين.

النماء:

النماء على نوعين:نماء متصل:كضخامة الشجرة،و تزايد فروعها و أغصانها،و نماء منفصل،كالثمرة على الشجرة،أو سكنى الدار،فإذا تجدد الأول بعد البيع فهو للشفيع،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال ضرورة تبعية ذلك للعين التي تعلق بها حق الشفعة».أما الثاني فهو ما يتجدد منه بعد البيع و قبل الأخذ بالشفعة فهو للمشتري،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف و لا إشكال ضرورة أنّه نماء حدث في ملك المشتري،و أنّه كان متزلزلا.هذا بالإضافة إلى أن النماء الحادث ليس من متعلق البيع الذي ثبت فيه حق الشفعة».

ص:140

مسقطات الشفعة و توريثها و التنازع

المسقطات:

اشارة

تسقط الشفعة بأحد الأسباب التالية:

1-أن يتلف المبيع بتمامه قبل الأخذ بالشفعة

،فتسقط لارتفاع موضوعها،و إذا تلف بعضه بآفة سماوية تخير الشفيع بين ترك الشفعة،أو أخذ الباقي بتمام الثمن الذي وقع عليه العقد،و تقدم الكلام في ذلك في الفصل السابق فقرة:«نقص المبيع في يد المشتري».

2-أن يتنازل الشفيع عن الشفعة بعد البيع

،لأنها حق له،و لكل ذي حق أن يتنازل عن حقه.

3-أن يتنازل عن الشفعة قبل البيع

.و قيل:لا أثر لهذا التنازل،لأنه إسقاط للحق قبل ثبوته.

و نحن مع صاحب الجواهر الذي أسقط الشفعة بهذا التنازل،فقد جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا يحل أن يبيع،حتى يستأذن شريكه،فان باع،و لم يأذن فهو أحق به»و معنى هذا أن الشريك إذا أذن بالبيع فلا شفعة له،لأن الإذن بالبيع يشعر بالإعراض عن الشفعة،فالرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

ص:141

أعطى للشريك الحق بالاذن بالبيع و المنع عنه قبل صدوره،و إذا كان له الحق قبل البيع فله إسقاطه قبل البيع أيضا،قال صاحب الجواهر:«لا ينبغي الإشكال في عدم الشفعة مع صدور البيع مبنيا على أنّه لا شفعة للشريك بإذنه-ثم قال-و يكفي لصحة الإذن تعلق الحق على الوجه الذي سمعته من النص».يريد بالنص الحديث النبوي المذكور.هذا،إلى أن الشفعة إنما شرعت للإرفاق بالشريك، و دفع ما يتوقع من ضرر الدخيل،أي الشريك الجديد،و لا ضرر مع الرضا بترك الشفعة،سواء تقدم على البيع،أو تأخر عنه.

4- ان البائع إذا عرض على الشفيع البيع بثمن معين فرفض الشراء

جاء في كتاب مفتاح الكرامة نقلا عن كتاب المقنعة،و النهاية،و الوسيلة، و جامع الشرائع:«ان البائع إذا عرض على الشفيع البيع بثمن معين فرفض الشراء،و باع الشريك بذلك الثمن،أو زائدا عليه لم يكن لصاحب الشفعة المطالبة بها،أما إذا باع بأقل من الثمن الذي عرضه على الشفيع كان له المطالبة بها».

5-إذا علم بالشفعة

،و لم يبادر إلى الأخذ بها من غير عذر يوجب التأخير، بحيث يعد مقصرا و متوانيا سقط حقه في الشفعة.

6-إذا وقع البيع على ثمن معين

،ثم ظهر انّه مستحق للغير بطلت الشفعة لبطلان عقد البيع الذي هو موضوع الشفعة،و كذلك إذا تلف قبل قبضه.

7-إذا أخرج الشفيع سهمه عن ملكه بالبيع أو الهبة

،و ما إليها بعد أن باع الشريك سقط حقه في الشفعة،سواء أ كان عالما بالبيع أو جاهلا به،لأن ضابط الأخذ بالشفعة أن يكون شريكا حين الأخذ بها،لا قبلها،و لذا لا تثبت الشفعة بعد القسمة،كما تقدم.

8-قال جماعة من الفقهاء:تسقط الشفعة إذا وجدت القرائن

التي تدل على

ص:142

رضا الشفيع بالبيع،مثل أن يشهد البيع،و يسكت،أو يبارك للبائع أو المشتري،أو يكون وكيلا عن الأول في البيع،أو عن الثاني في الشراء،أو يضمن للمشتري درك المبيع إذا ظهر مستحقا للغير،أو يضمن للبائع درك الثمن كذلك.

و يلاحظ بأن الرضا بالبيع شيء،و الرضا بترك الشفعة و الاعراض عنها شيء آخر،و الذي تسقط معه الشفعة هو الرضا الثاني،دون الأول،إذ من الجائز أن يكون غرض الشفيع إيجاد السبب الذي يستحق به الشفعة،كما قال صاحب الجواهر.أجل،إذا دلت القرائن على أنّه أراد من الرضا بالبيع الرضا بترك الشفعة سقطت،و إلاّ فلا أثر للرضا بالبيع من حيث هو.

9-إذا تصالح المشتري و الشفيع على ترك الشفعة لعوض يدفعه الأول

للثاني صح الصلح

،و سقطت الشفعة،لأنها حق مالي كالخيار،فينفذ فيها الصلح،لأن دليله،و هو قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«الصلح جائز»عام للشفعة و لغيرها إذا لم يحلل حراما،أو يحرم حلالا،و إذا اصطلحا على أن يكون عوض الشفعة بعض المبيع صح،لأنه من الصلح الجائز.

توريث الشفعة:

إذا سقطت الشفعة بأحد الأسباب الموجبة،ثم مات الشفيع فلا يحق لورثته المطالبة بها،لأن الساقط لا يعود.أما إذا مات الشفيع،و هو يملك حق الشفعة فقد ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب الحدائق و غيره إلى أن الشفعة تنتقل إلى ورثته،تماما كسائر أمواله،و استدلوا بالآيات و الأحاديث الدالة على أن الوارث يقوم مقام المورث،و منها الحديث الشريف:«ما ترك الميت من حق فهو لوارثه»،

ص:143

و بأن الفقهاء قد أجمعوا على أن حق الخيار،و حق المطالبة بحد القذف و القصاص ينتقل إلى الوارث.و بديهة أن الشفعة في معنى الخيار،فيكون حكمها حكمه في عدم السقوط.

و قال آخرون:تبطل الشفعة بموت الشفيع،و استدلوا برواية ضعيفة،و بأن الشفعة ترتبط وجودا و عدما بالبيع،و ملك الورثة حادث بعد البيع.

و الواقع أن هذا القول ضرب من المغالطة،لأن الورثة يستحقون الشفعة بسبب مورثهم الذي استحقها عند البيع،فحدوث ملك الورثة لا يمنع من سبق الشفعة،و وجودها من قبل،كما لا يمنع كثرة الورثة و تعددهم إذا كان الأصل الأول الذي ورثوا الشفعة منه واحد.

صورة تقسيم الشفعة:

قد يتعدد الورثة،و تكون سهامهم متفاوتة،كما لو ترك الشفيع بنتا و ابنا، فان للبنت في كتاب اللّه سبحانه الثلث،و للابن الثلثين،هذا في الأموال،أما حق الشفعة فهل يقسم كذلك على السهام المفروضة في كتاب اللّه،فيكون للبنت من الشفعة الثلث،و الباقي للابن،أو يقسم على الرؤوس لا على السهام،فيكون لكل من البنت و الابن النصف من الشفعة؟.

اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر على أن كل وارث يستحق من الشفعة باعتبار سهمه من تركة المورث،لا باعتبار نفسه،و ذلك أن جميع الورثة قد ملكوا من المورث،لا من المشتري،و لا فرق بين حق الشفعة و غيرها مما ترك الميت.

ثم أن الشفعة لما كانت واحدة لا تتجزأ فحق الورثة فيها أيضا واحد لا يتجزأ،و عليه،فاما أن يأخذ الورثة المبيع كاملا،و امّا أن يتركوه كذلك.و إذا عفى

ص:144

أحد الورثة،و أسقط نصيبه من الشفعة ينحصر حق الشفعة بمن لم يسقط حقه، و هذا بدوره اما أن يأخذ الجميع،و امّا أن يدع الجميع،و ليس له أن يأخذ بمقدار سهمه فقط حذرا من التبعيض.و بالإيجاز ان حق الشفعة لا يمكن فيه التجزئة بحال،سواء اتحد المستحق،أو تعدد،فإذا كان أكثر من واحد فليس له أن يأخذ بالشفعة ما لم يوافقه الشركاء الباقون،و ان أسقط حقه كان كأنّه لم يكن،و انحصر الحق بمن لم يعف.كل ذلك للفرار من التبعيض و التجزئة.

التنازع:

1-إذا اختلف المشتري و الشفيع في مقدار الثمن

،فقال الأول:اشتريته بألفين.

و قال الثاني:بل بألف،فمن هو المدعي،و من المنكر؟ ينبغي التنبيه قبل كل شيء إلى أن شهادة البائع هنا لا أثر لها،و لا تقبل إطلاقا،سواء أشهد مع المشتري،أو مع الشفيع،لأن المعيار لقبول شهادة الشاهد أن لا يكون الشيء المشهود به من فعله،و بديهة أن الثمن المتنازع عليه قد جرى بين البائع و المشتري،فلا تقبل شهادة فيه.ثم أن وجدت بينة شرعية تثبت قول المشتري،أو الشفيع تعين العمل بها،و إلاّ فقد ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن القول قول المشتري بيمينه،لأنه لا يدعي شيئا على الشفيع،و كل أمنيته أن يترك و شأنه.و من هنا ينطبق عليه تعريف المنكر،و هو ما لو ترك لم يترك.هذا،إلى أن المشتري مالك للمبيع،و يده عليه،و الشفيع يريد انتزاعه منه،و قد تسالم الجميع على أن الأصل أن لا يؤخذ المال ممن هو في يده إلاّ بالبينة.

و تسأل:ان من الأصول المتسالم عليها أيضا ان التخاصم إذا وقع بين اثنين

ص:145

على الأقل و الأكثر أخذ بقول من يدعي الأقل،لأن الأصل عدم الزيادة.

و الجواب:ان هذا الأصل صحيح فيما إذا ادعى أحد المتخاصمين أن له في ذمة الأخر عشرة-مثلا-و قال المدعى عليه:بل لك عليّ خمسة،لا عشرة، فيؤخذ بقول مدعي الأقل،لأصل عدم الزيادة،و هذا أجنبي عما نحن فيه،لأن المفروض أن المشتري لا يدعي شيئا على الشفيع،و انما الشفيع هو الذي يدعي الاستحقاق على المشتري،قال صاحب الجواهر:

«القول قول المشتري بيمينه،لأنه هو الذي ينتزع الشيء من يده،و لأنه هو اعرف بالعقد،و لأنه الغارم،و لأنه ذو اليد،و لأنه الذي يترك لو ترك،و لأن المشتري لا دعوى له على الشفيع،إذ لا يدعي عليه شيئا في ذمته،و لا تحت يده، و انما الشفيع يدعي استحقاق ملكه بالشفعة بالقدر الذي يعترف به الشفيع، و المشتري ينكره،و لا يلزم من قوله اشتريته بالأكثر أن يكون مدعيا،و ان كان خلاف الأصل،لأنه لا يدعي استحقاق ذلك على الشفيع،و لا يطلب تغريمه إياه».

و كل هذا حقّ و صحيح،و مع ذلك ينبغي أن لا يؤخذ بقول المشتري إذا وجدت قرائن تدل على اتهامه،كما لو ذكر ثمنا باهظا جدا،أكثر بكثير من الثمن المألوف و المعتاد.

2-إذا قال المشتري للشفيع:أنا غرست و بنيت بعد أن اشتريت فقال الشفيع:

كلا،بل كان الغرس و البناء قبل أن تشتري

فالقول قول المشتري بيمينه، لأن البناء و الغرس ملك له،و الشفيع يدعي عليه الحق في تملكهما فعليه الإثبات.

3-إذا ادعى أحد الشريكين أنّه باع نصيبه من أجنبي،و أنكر الأجنبي ذلك

،

ص:146

و حلف اليمين سقطت دعوى الشريك،و لكن هل للشريك الثاني أن يطالب شريكه الذي ادعى أنّه باع سهمه أن يطالبه بحق الشفعة،لمكان اعترافه بالبيع؟ قال جماعة من الفقهاء:له ذلك،لحديث:«إقرار العقلاء على أنفسهم جائز».

و ذهب آخرون منهم صاحب الجواهر،إلى عدم ثبوت الشفعة في هذه الحال،لأن ثبوتها فرع من ثبوت البيع،و المفروض عدم ثبوته،و الإجماع و النص صريحان بأن الشفيع يأخذ من المشتري،لا من البائع،أما إقرار البائع بأنه باع الأجنبي فلا أثر له إطلاقا بالنسبة إلى الشفيع،بخاصة بعد أن سقطت دعواه.

4-إذا قال المشتري لمدعي الشفعة:أنت أجنبي،و لست بشريك

،فلا شفعة لك فان كانت يد مدعي الشفعة على المبيع فالإثبات على المشتري،و إلاّ فعلى مدعي الشفعة أن يثبتها بالبينة.

5-سبق أن الشفعة انما تثبت لمن كان شريكا حين البيع،و يخرج سهمه عن

ملكه قبل الأخذ بالشفعة

،و عليه فمن أراد أن يأخذ بالشفعة يجب أن يثبت أنّه كان مالكا عند البيع،و يتفرع على ذلك أن أحد الشريكين إذا باع سهمه من زيد-مثلا-و الشريك الآخر باع سهمه من عمرو،و حصل البيع من الاثنين دفعة واحدة فلا شفعة لأحد المشتريين على الآخر،للتساوي و عدم السبق.و إذا تقدم شراء أحدهما،و تأخر شراء الآخر فالشفعة للسابق على اللاحق.و إذا ادعى السبق كل منهما،و لا بينة تعيّن تاريخ بيعهما،أو بيع أحدهما فكل منهما مدع و منكر في آن واحد،أي يدعي الشفعة لنفسه،و ينفيها عن غيره،و الحكم في المتداعيين هو التحالف،

ص:147

فإذا حلف كل من المشتريين استقر ملكه على ما اشتراه،و تكون النتيجة عدم الشفعة لكل منهما.

و إذا طالب أحدهما بالشفعة دون الآخر فعلى مدعي الشفعة البينة،و على الآخر اليمين،لأن الشرط في ثبوت الشفعة هو سبق ملكية الشفيع،كما أشرنا، و بديهة أن مجرد الشك في وجود الشرط كاف لنفي المشروط.و يكفي أن يحلف المنكر على نفي الشفعة،و لا يطلب منه أن يحلف على أنّه السابق دون غيره،لأن الغرض من الدعوى استحقاق الشفعة،و اليمين على نفي الاستحقاق يحقق الغرض المطلوب.و هكذا في جميع الدعاوي لا يطلب من الحالف إلاّ نفي موضوع الدعوى الذي يراد إثباته.

ص:148

المضاربة

اشارة

ص:149

ص:150

معناها:

إذا اتفق اثنان على أن يكون المال من أحدهما،و العمل بهذا المال في التجارة من الآخر،و على أن يكون الربح بينهما سمي هذا الاتفاق مضاربة، و قراضا،و مقارضة.

و مصدر التسمية بالمضاربة قوله تعالى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ (1).و وجه التسمية بالقراض أن معنى القرض القطع،تقول:

قرضت الشيء،أي قطعته،و صاحب المال هنا يقتطع قدرا من ماله،و يسلمه إلى العامل،أما المقارضة فمعناها المساواة.

و يجوز أن يكون كل من المالك و العامل أكثر من واحد،فيعطي الرجل ماله لاثنين على سبيل المضاربة،أو يعطي الرجلان مالهما لواحد كذلك.

و قد تكررت في كتب الفقه،باب المضاربة هذه العبارة:ان اتفقا على أن يكون المال من أحدهما،و العمل من الآخر،و الربح بينهما فهو مضاربة،و ان اتفقا على أن يكون الربح للعامل و الخسارة عليه،و لا شيء للمالك إلاّ رأس المال فهو قرض المعروف بالدين،و ان اتفقا على أن يكون الربح للمالك،و الخسارة عليه،و لا شيء للعامل إلاّ اجرة المثل أو الأجرة المسماة فهو بضاعة.

ص:151


1- المزمل:20. [1]

و جاء في كتاب الجواهر:«ان المضاربة تلحقها بعض أحكام الوكالة، و الوديعة،و الشركة،و غيرها كالغصب،و أجرة المثل».

شرعية المضاربة:

المضاربة مشروعة إجماعا و نصا،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الرجل يقول لآخر:ابتاع لك متاعا،و الربح بيني و بينك؟قال:لا بأس.

و قال صاحب الجواهر:«المشهور،بل المجمع عليه مشروعية المضاربة، المدلول عليها بقوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ،و بالمتواتر من السنة عند الشيعة و السنة فيما عن بعض الفقهاء أنّها غير مشروعة معلوم البطلان، و واضح الفساد».

المضاربة جائزة غير لازمة:

اتفقوا على أن عقد المضاربة جائز من جانب المالك و العامل،فيجوز لكل منهما الفسخ و العدول قبل الشروع بالعمل و بعده،حصل الربح أو لم يحصل، تحول المال إلى سلعة أو لم يتحول،اشترط فيها وقت معين،أو كانت مطلقة.

قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،و هو الحجة في الخروج عن قاعدة اللزوم».

الشروط:

لا بد في المضاربة من الأمور التالية:

1-الإيجاب من المالك،و القبول من العامل

،و يتحققان بكل ما دلّ عليهما من

ص:152

قول أو فعل.

2-العقل و البلوغ و الاختيار في المالك و العامل

وفقا للقواعد العامة المقررة في شروط المتعاقدين،و قد مر بيانها مفصلا في الجزء الثالث.و أيضا يعتبر فيهما عدم الحجر لسفه،لأن السفيه لا يجوز بيعه،و لا شراؤه،و لا إيجار نفسه،أما التحجير للإفلاس فإنه يخرج المفلس عن أهلية التصرف في ماله،و لا يخرجه عن أهلية التصرف في مال الغير بالنيابة بخاصة إذا عاد عليه بالنفع،فان كان ما يتجدد له من مال فهو في صالحه،و صالح الدائنين.

3-أن لا يكون مال المضاربة دينا

،قال الإمام الصادق عليه السّلام:قال الامام علي أمير المؤمنين عليه السّلام:في رجل له على رجل مال،فتقاضاه-اي طالبه بقضاء الدين-و لا يكون عنده،فيقول صاحب المال:هو عندك مضاربة؟قال:لا يصح،حتى يقضيه.

4-أن يكون مال المضاربة من الذهب و الفضة المسكوكين
اشارة

،كالدرهم و الدنانير.هكذا قال الفقهاء،مع اعترافهم بأنّه لا نص على حصر مال المضاربة بالنقدين.

و الوجه الذي ذكروه لهذا الإجماع يتلخص بأن المضاربة على خلاف الأصل،لأن الأصل في الربح أن يكون تابعا لرأس المال،و كل ما خالف الأصل يقتصر فيه على موضع اليقين،و هو هنا الذهب و الفضة.فقد جاء في الجزء السابع من كتاب مفتاح الكرامة باب القراض صفحة 439:«لا ريب في مخالفة المضاربة للأصل من وجوه،فيقتصر فيما خالفه على المتيقن المجمع عليه-ثم قال صاحب الكتاب المذكور-فما ظنك بإطباق الفقهاء،و أكثر السنة على اشتراط كون مال المضاربة من النقدين».

ص:153

و نجيب عن هذا:
أولا:ان المضاربة على وفق القاعدة

التي دلّ عليها قوله تعالى إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ .و عليه تصح كل مضاربة تقع على نقد رائج مهما كان نوعه.

ثانيا:نحن لا نعتبر الإجماع

الذي علمنا،بل ظننا،بل احتملنا أن مستنده هذا الأصل،أو تلك الآية أو الرواية،بل ندعه جانبا،و ننظر إلى مستنده بالذات،و الإجماع الذي نعتمده هو الإجماع الذي نعلم أنّه كاشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.و بديهة أن الاحتمال لا يجتمع مع العلم.أما القول بأن الإجماع يكشف عن وجود دليل معتبر عند المجمعين،اطلعوا عليه، و خفي علينا فهو كلام لا منشأ له إلاّ حدس قائله.و لو صح لصح قول من قال:ان فتوى الصحابي حجة،لأنه سمع حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و خفي علينا نحن.

ثالثا:ان ما جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام غير مقيد بالنقدين

باعتراف الفقهاء الذين خصصوا المضاربة و حصروها فيهما.من ذلك قوله عليه السّلام:«الذي يعمل به مضاربة له من الربح و ليس عليه من الوضعية شيء إلاّ أن يخالف أمر صاحب المال».فهذه الرواية تشمل كل ما يعمل به مضاربة،سواء أ كان من النقدين،أو من غيرهما،و مثلها كثير.و من هنا قال صاحب الحدائق:«من لا يلتفت إلى دعوى مثل هذه الإجماعات،لعدم ثبوت كونها دليلا شرعيا فإنه لا مانع عنده من الحكم بالجواز في غير النقدين نظرا إلى عموم الأدلة الدالة على جوازه،و تخصيصها يحتاج إلى دليل شرعي و هو غير موجود».

رابعا:لو افترض أن المعاملة في غير النقدين لا تسمى أو لا تصح مضاربة

ص:154

فإنّها تصح جعالة،و النتيجة واحدة،قال صاحب العروة الوثقى ما نصفه بالحرف:«يجوز إيقاع المضاربة بعنوان الجعالة،كأن يقول:إذا اتجرت بهذا المال،و حصل ربح فلك نصفه،فيكون جعالة تفيد فائدة المضاربة، و لا يلزم أن يكون جامعا لشروط المضاربة،فيجوز مع كون رأس المال من غير النقدين،أو دينا،أو مجهولا جهالة لا توجب الغرر».

خامسا:ان الذهب و الفضة يذكران في الغالب تعبيرا عن النقد الرائج في ذلك

العصر

مثل قول الإمام الصادق عليه السّلام:«لا تؤجر الأرض بالحنطة،و لا بالشعير،و لا بالتمر.و لكن بالذهب و الفضة».و لا نعرف فقيها يقول بأن إيجار الأرض لا يصح بالنقد غير الذهب و الفضة،نقول هذا مع العلم بأن الذهب و الفضة لم يردا إطلاقا في روايات المضاربة.

5-أن يكون رأس المال معلوما

،لأن الجهل به يستدعي الجهل بالربح، فيتعذر تمييز الربح عن رأس المال،و تقع المنازعة التي يجب التجنب عنها ما أمكن.

6-أن يكون الربح مشاعا بين المالك و العامل

،فلا يصح اشتراط مقدار معين لأحدهما،كعشرين درهما-مثلا-و البقية للآخر،لأنه يؤدي إلى قطع الشركة،و انتفاء المضاربة من رأس،و يدل على أن الربح لا بد أن يكون مشاعا قول الإمام الصادق عليه السّلام:«الربح بينهما،و الوضيعة على المال».

و ليس من الضروري أن يكون نصيب كل منهما معادلا لنصيب الآخر،بل يجوز التفاوت على نحو الربع و الخمس،و ما إلى هذا مما يتم عليه الاتفاق.

أجل،مع الإطلاق،و عدم بيان الحصة يقسمان الربح مناصفة بينهما،لأنه المعروف بين الناس.

ص:155

7-هل يجب أن يكون رأس المال في يد العامل

،بحيث لا يصح اشتراط أن يساوم و يبيع و يشتري العامل لحساب المضاربة،و يحيل على المالك، تماما كما هو الشأن في أمين الصندوق؟ قال جماعة من الفقهاء:يجب أن يكون المال في يد العامل،ليتمكن من العمل.و قال آخرون:لا يجب،لأن العمل كذلك ممكن و يسير.و أكثر الفقهاء سكتوا عن هذا الشرط،و لم يتعرضوا له سلبا و لا إيجابا قال صاحب مفتاح الكرامة:«الذي يظهر من أكثر الفقهاء أنّهم لا يعتبرون هذا الشرط،حيث يذكرون سائر الشروط و يتركونه».و هو الحق.

ما يشترطه المالك و العامل:

الشروط التي ذكرناها في الفقرة السابقة شروط شرعية من اعتبار الشارع بالذات،بحيث لا تتحقق المضاربة إلاّ بوجودها كاملة،و تنتفي المضاربة بانتفاء أحدهما.و للمالك و العامل أن يضيفا شروطا أخرى يتفقان عليها،على شريطة أن لا تتنافى مع مقتضى العقد و طبيعته،أو تحلل حراما،أو تحرم حلالا شأنها في ذلك شأن سائر العقود.

و على هذا،فإذا اشترط المالك على العامل أن لا يسافر بالمال،أو يسافر به لجهة معينة دون غيرها،أو لا يتاجر إلاّ بنوع خاص من السلع و ما إلى ذاك صح الشرط و وجب الوفاء به.و إذا خالف،و طرأ على المال شيء فضمانه على العامل،لأنه وكيل أو بمنزلة الوكيل على المال،و على الوكيل أن ينفذ أوامر الموكل.و قد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يعمل بالمال مضاربة؟قال:له الربح،و ليس عليه من الوضيعة شيء إلاّ أن يخالف ما أمر صاحب المال.و أيضا

ص:156

سئل عن رجل يعطي المال مضاربة،و ينهى أن يخرج به،فخرج؟قال:يضمن المال،و الربح بينهما.

و تسأل:ان الضمان مع تعدي اذن المالك على وفق القاعدة،أما مشاركة المعتدي مع المالك في الربح فلا وجه له.و هل يستحق شيئا على عمل لم يكن مأذونا به؟ الجواب:ان عدم الاستحقاق مع التعدي هو مقتضي الأصل و الاجتهاد.

و بديهة أنّه لا أصل و لا اجتهاد مع وجود النص.هذا،إلى أنّه بعد حصول الربح قد تبين أن العامل يتعد،لأن المالك عندما ضاربه فإنما ضاربه و شاركه على أساس المصلحة،فكأنه قال له:افعل جميع ما فيه مصلحة المضاربة،حتى و لو منعتك عنه.

شرط النفع زيادة عن الحصة:

قال صاحب العروة الوثقى:«إذا اشترط أحدهما على الآخر في ضمن عقد المضاربة مالا أو عملا،كما لو اشترط المالك على العامل أن يخيط له ثوبا،أو يعطيه درهما،أو نحو ذلك:أو اشترط هذا العامل على المالك فالظاهر صحة الشرط.و كذا إذا اشترط أحدهما على الآخر بيعا أو قرضا أو قراضا،أو بضاعة أو نحو ذلك صح.و دعوى أن القدر المتيقن ما إذا لم يكن من المالك إلاّ رأس المال، و من العامل إلاّ التجارة مدفوعة بأن ذلك من حيث متعلق العقد-أي أن العقد لا يوجب ذلك من حيث هو،و من غير شرط،أما مع الشرط فإنه يقتضيه،و لا ينافيه-و يكفي في صحته عموم أدلة الشرط».

ص:157

توقيت المضاربة:

إذا حددت المضاربة بوقت معين،كما لو قال:ضاربتك بهذا المال إلى سنة،و قبل العامل فهل يصح العقد و الشرط،أو يبطلان معا،أو يصح العقد دون الشرط؟ و للفقهاء في ذلك أقوال ثلاثة.و نحن على رأي صاحب الجواهر،حيث قال:ان أريد من اشتراط الأجل أن تكون المضاربة لازمة قبل مضيه،بحيث لا يجوز للمالك و لا للعامل الرجوع و الفسخ إلاّ بعد الأجل بطل العقد و الشرط،لأنه مناف لمقتضاه و طبيعته،أي الجواز.و ان أريد به أن أي تصرف يصدر من العامل بعد الأجل فهو غير جائز،و ليس من المضاربة المتفق عليها صح الشرط و العقد، لأنه لا يستدعي أي محذور.

و إذا أطلق العقد،و لم يقيد العامل بعمل أو زمان أو مكان خاص تصرف العامل حسبما تقتضيه مصلحة الشركة.

شرط الضمان و الخسارة على العامل:

اتفقوا على أن المال إذا خسر أو هلك منه شيء في يد العامل بلا تعدّ أو تفريط احتسبت الخسارة من الربح ان كان المال قد ربح،فان لم يكن ربح أصلا، أو كان و لم يف بالخسارة احتسبت من رأس المال،و تحملها المالك وحده.قال صاحب الجواهر:«ان الربح وقاية لرأس المال في شرع المضاربة و عرفها».

هذا إذا كان عقد المضاربة مطلقا،و لم يذكر فيه أن العامل يتحمل شيئا من الخسارة أو يضمن المال الهالك،و ان يفرط.أمّا إذا اشترط المالك على العامل أن يتحمل من الخسارة،أو يضمن المال على كل حال،و رضي العامل بالشرط

ص:158

فهل يصح الشرط،أو يقع لغوا؟ قيل:يبطل الشرط و العقد معا،و قيل:يبطل الشرط دون العقد،و قال صاحب الجواهر و صاحب العروة الوثقى:يصح الشرط و العقد.لأن المضاربة منها مطلقة،و هي التي لم تقيد بقيد،و من أحكامها أن تكون الخسارة بشتى أنواعها على المالك،و لا شيء على العامل إلاّ إذا فرط أو اعتدى،و منها مقيدة، و هي التي قيدت بقيد،و منه اشتراط الضمان و المساهمة في الخسارة،و ان لم يفرط.و هذا القيد يتنافى مع المضاربة المطلقة التي لم تقيد بشيء،و لا يتنافى مع طبيعة المضاربة التي هي القاسم المشترك،و القدر الجامع بين المضاربة المطلقة و المقيدة.و بتعبير الفقهاء أن هذا الشرط يتنافى مع العقد المطلق،لا مع مطلق العقد.و عليه فلا مانع مع التمسك لصحة الشرط بحديث:«المؤمنون عند شروطهم».و آية تِجارَةً عَنْ تَراضٍ .

تصرفات العامل:

قال الفقهاء:إذا كان عقد المضاربة مطلقا فلا يجوز للعامل أن يسافر بالمال،أو يستأجر أحدا في عمل المضاربة،و لا أن يبيع أو يشتري نسيئة،و لا أن يبيع بأقل من ثمن المثل،أو يشتري بأكثر منه إلاّ بإذن المالك،فإذا فعل العامل شيئا من ذلك بلا اذن بطل عمله إلاّ إذا أجاز المالك.

و الحق أن المالك إذا قيد التصرف بشيء خاص وجب التقيد به،و ليس للعامل أن يبدل أو يعدّل إلاّ بعد مراجعة المالك،لأن المال له،و الناس مسلطون على أموالهم،و ان خالف انقلبت يده إلى يد ضمان،أما إذا أطلق المالك،و لم يقيد العامل بشيء فللعامل أن يتصرف على أساس المصلحة التي يراها العقلاء،

ص:159

و يهدفون إليها من تصرفاتهم كما عليه أن يمتنع عن كل تصرف يراه ضررا على الشركة.

النفقة:

كل ما ينفقه العامل في ذهابه و إيابه،و ما إلى ذاك مما يعود إلى تدبير الشركة و أغراضها فهو من مالها:على شريطة أن يكون الإنفاق بالمعروف،و كل ما هو خارج عنها و عن مصلحتها فهو من ماله،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«ما أنفق المضارب في سفره فهو من جميع المال،و إذا قدم بلده فما أنفق فمن نصيبه».

و تخصيص مورد الرواية بالسفر لا يجعلها خاصة به،و انما ذكر في باب المثال.

فساد المضاربة:

إذا فسدت المضاربة لسبب من الأسباب كان الربح للمالك،لأنه تبع لماله، و عليه أجرة المثل للعامل،سواء أ كان العامل جاهلا بفساد المضاربة،أو عالما لأن المفروض أنّه عمل باذن المالك،لا وجه التبرع.و قد اتفق الفقهاء على أن فساد العقد الجائز،كالوكالة،و الوديعة و العارية و المضاربة لا يستدعي فساد الاذن، و عبروا عن بقاء الاذن بعد فساد العقد الجائز بالإذن الضمني (1).و اتفقوا أيضا على أن كل عمل غير متبرع به تجب له أجرة المثل،لقاعدة احترام مال الإنسان و عمله.

ص:160


1- من الفروق بين العقود اللازمة،و العقود الجائزة أن العقد اللازم كالبيع إذا فسد ارتفع الإذن،لأن الإذن منوط بسلامة العوض و صحة المبادلة،فإذا لم يسلم العوض و لم تصح المبادلة انتفى الاذن قهرا،أمّا العقد الجائز كالعارية فإن الإذن فيه غير منوط بعوض و مبادلة فإذا فسد العقد يبقى الاذن،لهذا سمى الفقهاء العقود الجائزة بالعقود الإذنية.

ضمان العامل:

لا يضمن العامل شيئا مما يطرأ على المال إلاّ مع التعدي أو التفريط،قال الإمام الباقر أبو الإمام الصادق عليهما السّلام:«من اتجر بمال و اشترط نصف الربح فليس عليه ضمان»و لا فرق في ذلك بين أن يكون عقد المضاربة صحيحا أو فاسدا، لقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده،و تكلمنا عنها مفصلا في الجزء الثالث.

و إذا ادعى المالك أن العامل تعدى أو فرط فعليه البينة،و لا شيء على العامل إلاّ اليمين لأنه أمين.

مسائل:

1-إذا كان في مرض الموت،و أعطى مالا لآخر ليتجر به على سبيل المضاربة

، و لكن اشترط له من الربح أكثر من المعتاد كثلاثة أرباع،أو أربعة أخماس، إذا كان كذلك مضى الشرط،و ليس للورثة حق الاعتراض،سواء قلنا بأن تبرعات المريض تخرج من الأصل أو من الثلث،لأنه لم يفوت شيئا على الورثة،إذ الربح الذي يحصل ليس مالا للمريض،و انما حدث بفعل العامل،و لم يستند حصول الربح إلى مال المريض مباشرة،كالثمرة على الشجرة،و ما إليها.

2-إذا جرى عقد لازم بين اثنين كالبيع،و اشترط أحد المتبايعين على الآخر أن

يعطيه مالا ليتجر به على سبيل المضاربة

لزم الشرط،و يكون من باب الالتزام في التزام،و على من اشترط عليه ذلك أن يفي،فإن خالف كان للآخر خيار الشرط بالقياس إلى العقد اللازم.و لكن إذا دفع له المال لا

ص:161

تصير المضاربة لازمة بذلك،بل يجوز لكل منهما فسخها و العدول عنها.

أجل،إذا اشترط أن تكون المضاربة إلى أمد معين فلا يجوز الفسخ قبل مضي الأمد،لوجوب الوفاء بالشرط الذي أصبح لازما لأنه في ضمن عقد لازم.

3-إذا أهمل العامل و تكاسل عن التجارة

،بحيث مرت به فرص كثيرة،و لم يكترث،و فوّت عليه و على المالك الكثير من الأرباح فلا يستحق المالك عليه شيء غير رأس المال،و ان كان ملاما،بل و آثما في تعطيل مال الغير.

و السر أن العامل لم يتصرف في مال المالك تصرفا يوجب الإضرار به، و انما جمده،و وقف منه موقفا سلبيا،ففوت عليه المنفعة،و تفويت المنفعة شيء،و إدخال الضرر الذي يوجب التغريم شيء آخر.و إذا اشتبهت عليك الحال فقارن بين من أتلف مال غيره،و بين من منع غيره من شراء سلعة تعود عليه بالربح،فإن الأول آثم و ضامن،و الثاني غير ضامن، و مسألتنا من النوع الثاني.

4-إذا اشترى العامل بضاعة بالدين

اشارة

،حيث يجوز له ذلك،ثم هلك مال المضاربة،و لم يبق منه ما يفي بالدين فهل يرجع الدائم على العامل،أو على المالك؟

الجواب:

يخير الدائن صاحب البضاعة بين الرجوع على العامل لأنه هو الذي أجرى معه المعاملة و استدان منه،و بين الرجوع على المالك لأن الدين يثبت في ذمته،إذ المفروض أن الخسارة عليه وحده،و إذا رجع الدائن على العامل رجع هذا بدوره على المالك.

5-ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى أن العامل يملك حصته من الربح بمجرد ظهورها

ص:162

الربح بمجرد ظهورها،و لا تتوقف ملكيته على القسمة،و لا على الانقاص، أي تحويل البضاعة إلى نقود،لأن سبب ملكيته للربح هو نفس الشرط الواقع في ضمن العقد،و بموجب الشرط يملك الربح متى وجد،و تترتب على ملكيته للربح جميع الآثار من كون العامل شريكا مع المالك،و جواز بيع حصته من الربح،و انتقالها إلى الورثة،و من تعلق الخمس و الزكاة و حق الغرماء،و غير ذلك.

و على هذا فان اتفق الطرفان على قسمة الربح مع بقاء المضاربة على رأس المال فلهما ذلك،و إذا طلب أحدهما قسمة الربح فقط،و امتنع الآخر قال العلامة الحلي في القواعد لا يجبر عليها الممتنع.و الذي نراه هو الرجوع إلى الأحكام المقررة في باب الشركة لامتناع الشريك عن القسمة إذا طلبها شريكه.

انتهاء المضاربة:

اشارة

تنتهي المضاربة بأحد الأسباب التالية:

1-أن يفسخ المالك أو العامل

،لأن عقد المضاربة جائز من الجانبين.

2-أن يتلف مال المضاربة قبل أن يباشر العامل بالعمل و يشتري شيئا لحساب

المضاربة

،لانتفاء موضوعها،أما إذا اشترى بضاعة باذن خاص أو عام من المالك،و قبل أن ينقد ثمنها هلك مال المضاربة فعلى المالك أن يدفع ثمنها،و تبقى المضاربة على ما هي،كما قدمنا في الفقرة السابقة المسألة 4.و أيضا تبقى المضاربة إذا أتلف المال أجنبي،و تنتقل إلى العوض الذي يغرمه المتلف.

ص:163

3-ان يموت العامل أو المالك

،لأن الأول بمنزلة الوكيل المأذون،فإذا مات بطل الاذن و الوكالة،و بموت الثاني ينتقل المال إلى ورثته فيحتاج التصرف فيه إلى إذنهم،قال صاحب الجواهر:

«تبطل المضاربة بموت كل منهما،لأنها في معنى الوكالة التي هي كغيرها من العقود الجائزة،نحو العارية و الوديعة،تنفسخ بالموت و الجنون و الإغماء، و نحو ذلك مما يقتضي بطلان الاذن من المالك الذي هو بمنزلة الروح لهذا العقد و شبهه،بل ظاهر الفقهاء في المقام و غيره عدم تأثير إجازة الوارث،أو ولي المالك في حال الجنون و الإغماء،لتصريحهم بالفساد بعروض العوارض».

و إذا كان في مال المضاربة سلعة باعها العامل،بعد موت المالك و حولها إلى نقود،حتى يظهر بذلك ربحه،و لا يجوز أن يشتري بالنقود سلعة أخرى،لأن المفروض انتهاء المضاربة،و بعد أن يأخذ حصته من الربح يدفع الباقي إلى ورثة المالك.

4-أن يعرض الجنون لأحدهما

،لأنه يسلب الإنسان عن أهلية التصرف في ماله و مال غيره.و مثله إذا عرض السفه للمالك و العامل،للسبب نفسه.

أمّا المحجر عليه لفلس فلا يجوز أن يكون مالكا أي أن يضارب بماله، و يجوز أن يكون عاملا،لأن التحجير للإفلاس يخرجه عن أهلية التصرف في أمواله،و لا يخرجه عن أهلية التصرف في مال الغير بالنيابة.

القسمة بعد انتهاء المضاربة:

اشارة

إذا انتهت المضاربة بأحد الأسباب يجري العمل على التفصيل التالي :

1-أن تنتهي المضاربة قبل أن يشرع العامل بالعمل أو بمقدماته

،و الحكم أن

ص:164

يعود المال إلى صاحبه،و لا شيء للعامل،و لا عليه،حتى كأن لم يكن شيء.

2-أن تنتهي المضاربة في أثناء العمل

،و لكن قبل حصول الربح و الحكم تماما كالصورة الأولى:يعود المال إلى صاحبه،و لا شيء للعامل و لا عليه،و قال صاحب الشرائع:«يجب على المالك في مثل هذه الحال أن يدفع للعامل أجرة المثل»و رده صاحب الجواهر:«بأن هذا مناف للمعلوم من شرع المضاربة المبنية على استحقاق العامل من الربح ان حصل،و إلاّ فلا شيء».

3-أن تنتهي المضاربة بعد العمل،و بعد تحويل مال المضاربة كله إلى نقود

، بحيث لا يوجد فيه شيء من البضاعة فإذا كان في المال ربح أخذ العامل حصته حسب الشرط المتفق عليه،و الباقي للمالك،و ان لم يكن ربح يأخذ المالك المال كله،و لا شيء للعامل و لا عليه.

4-إذا انتهت المضاربة،و في المال سلعة ينظر:

فان لم يكن فيها ربح فلا يجوز للعامل أن يتصرف في السلعة إلاّ بإذن المالك،كما أنّه ليس للمالك أن يجبره على بيع السلعة.

و ان كان فيها ربح يكون المالك و العامل شريكين في العين،و على هذا فان اتفقا على قسمتها أو بيعها،أو الانتظار إلى الوقت المناسب فذاك،و ان طلب أحدهما بيعها،و امتنع الآخر فهل يجبر الممتنع على البيع،أو لا؟ للفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال:الأول يجبر.الثاني:لا يجبر.الثالث:يجبر العامل دون المالك.و الحق أن نطبق الأحكام المقررة في باب الشركة لامتناع الشريك عن القسمة إذا طلبها شريكه.

ص:165

التنازع:

1-إذا قال:أعطيتك مالي للمضاربة فأنكر،و قال:كلا لم آخذ منك شيئا

،و بعد أن أثبت المدعي دعواه بالبينة اعترف العامل،و قال:أجل،أخذت المال مضاربة،و لكنه هلك فلا تسمع دعواه،بل يرد قوله بلا بينة،و لا يمين، و يحكم عليه بالمبلغ،لأن إنكاره أولا يشكل اعترافا بأنه كاذب في دعوى التلف.أما إذا لم ينكر،بل اعترف بالمال و ادعى تلفه من غير تعد أو تفريط فالقول قوله بيمينه.و كذا إذا ادعى الخسارة،أو عدم الربح،لأنه أمين،و ليس على الأمين إلاّ اليمين.

و إذا ادعى العامل أنّه ارجع المال،و رده إلى صاحبه فلا يقبل منه إلاّ بالبينة، قال صاحب الجواهر:لعموم الحديث:«البينة على المدعي».و قبول قول العامل بالتلف لا يقتضي قبول قوله في الرد،و ليس في الأدلة ما يقتضي قبول قول الأمين في جميع ما يدعيه على وجه يشمل ما نحن فيه،و القياس على الودعي غير جائز عندنا خصوصا بعد الفرق بينهما،لأن القبض في الوديعة كان لمصلحة المالك فقط،أما القبض في المضاربة فهو لمصلحة المالك و العامل».

2-إذا اختلفا في مقدار رأس المال

،فقال المالك:هو ألفان،و قال العامل:هو ألف فالقول قول العامل بيمينه،مع عدم البينة،لأن الأصل عدم الزيادة.

و إذا اختلفا في شرط زائد على إطلاق العقد،كما لو قال المالك:اشترطت عليك عدم شراء القطن-مثلا-و أنكر العامل،فعلى من يدعي الاشتراط البينة، و اليمين على من أنكر،لأن الأصل عدم الاشتراط،حتى يثبت العكس.

و إذا اختلفا في مقدار حصة العامل من الربح،فقال المالك:هي الربع.

و قال العامل:بل النصف فالقول قول المالك بيمينه مع عدم البينة،لأن الأصل أن

ص:166

يكون الربح تبعا للمال،و ليس للعامل منه إلاّ ما أقر له به المالك،أو ثبت بالبينة.

3-إذا قال العامل للمالك بعد أن ظهر الربح:أخذت المال منك على سبيل

القرض

،لا على الضمان فلا شيء لك من الربح.و قال المالك:بل أعطيتك المال على المضاربة،فلي نصف الربح،إذا كان كذلك فكل منهما مدع و منكر معا،فالمالك يدعي أن المال مضاربة،و ينكر الدين،و العامل يدعي أنّه دين،و ينكر المضاربة.فإن كانت بينة تعين أحد الأمرين عمل بها،و إلاّ فعلى كل منهما أن يحلف اليمين على نفي دعوى الآخر،فان حلف أحدهما،و نكل الآخر أخذ بقول الحالف.و ان حلفا معا،أو نكلا معا سقط قول الاثنين،و عاد كل شيء إلى أصله،حتى كأن لم يكن دين و لا مضاربة.و نتيجة ذلك أن يكون المال و الربح للمالك،و عليه اجرة المثل للعامل إلاّ إذا كانت اجرة المثل أكثر من مجموع الربح فان العامل يأخذ الربح فقط لاعترافه بأنه لا يستحق أكثر منه،و إذا كانت أجرة المثل أقل من نصف الربح فعلى المالك أن يدفع للعامل مقدار نصف الربح،لا أجرة المثل،لأنه يعترف أن العامل يستحق النصف بوصفه مضاربا.و هذا هو معنى قول الفقهاء:يأخذ العامل أكثر الأمرين من أجرة المثل و نصف الربح إلاّ إذا زادت الأجرة عن تمام الربح.

4-إذا اشترى العامل سلعة،و ادعى أنّه اشتراها لنفسه،لا للمضاربة

،و قال له المالك:بل اشتريتها للمضاربة،و انما أدعيتها لك بعد أن ظهر فيها الربح، إذا كان كذلك فالقول قول العامل،لأنه أبصر بنيته التي لا تعلم إلاّ من قبله.

و كذا إذا قال:اشتريت للمضاربة،و قال المالك:بل اشتريت لنفسك،و انما ادعيت الشراء للمضاربة لما ظهرت الخسارة.و الدليل الدليل.

ص:167

ص:168

المزارعة

اشارة

ص:169

ص:170

معناها:

المزارعة نوع من الشركة الزراعية لاستثمار الأرض،يتعاقد عليها المالك و العامل،على أن تكون الأرض من الأول،و العمل من الثاني،و المحصول بينهما بنسبة يتفقان عليها،و إلى هذا يرجع تعريف الفقهاء بأنّها معاملة على الأرض بحصة من نمائها.

فخرج«بالمعاملة على الأرض»المساقاة،فإنها معاملة على الشجر،و خرج «بالحصة»إجارة الأرض للزراعة،إذ لا تصح بحصة من نمائها.

و يسمى العامل في الأرض مزارعا،و المالك رب الأرض.

شرعية المزارعة:

المزارعة مشروعة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس بالمزارعة بالثلث و الربع و الخمس.و قوله:ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما فتح خيبر تركها في أيديهم على النصف.و إلى ذلك كثير،قال صاحب الجواهر:«لا ريب في مشروعية المزارعة عند علماء الإسلام،و النصوص فيها و في المساقاة مستفيضة أو متواترة».

ص:171

المزارعة لازمة:

قال صاحب الجواهر:عقد المزارعة لازم بالإجماع،لقاعدة اللزوم المستفادة من آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و لا ينفسخ عقدها إلاّ بالتقايل،أو باشتراط الخيار،أو بخروج الأرض عن الانتفاع،و لا يبطل بموت أحد المتعاقدين،كما هو الشأن في العقود اللازمة،فإذا مات ربّ الأرض،أو العامل قام وارثه مقامه.

الشروط:

اشارة

يشترط في المزارعة:

1-الإيجاب من صاحب الأرض،و القبول من العامل

،و يتحققان بكل ما دل عليهما من قول أو فعل.

2-أهلية المتعاقدين

لمباشرة العقود العوضية.

3-أن تكون حصة كل منهما من النماء معلومة و مشاعا بينهما بالتساوي أو

بالتفاوت حسب الاتفاق

،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تتقبل الأرض بحصة مسماة-أي كعشرين أو ثلاثين-و لكن بالنصف أو الثلث أو الربع أو الخمس.

و عنه عليه السّلام في رواية أخرى:لا بأس بالمزارعة بالثلث و الربع و الخمس.

و يتفرع على هذا الشرط أنّه لو جعل النماء بكامله لأحدهما،أو شيئا معينا له،كقنطار-مثلا-و الباقي للآخر،أو يختص سهمه بما تنتجه الأرض أولا،أو بجانب خاص منها،أو بالذي يحصل من احدى القطعتين لو وقعت المزارعة على أكثر من واحدة-كل هذه الشروط و ما إليها تفسد المزارعة،و تخرج العقد عن وضعها،لمنافاتها،لاشاعة الحصة التي هي شرط فيها.

ص:172

و قد اختلف الفقهاء في مسألتين تتصلان بهذا الشرط:الأولى إذا اشترطا إخراج مقدار معين من النماء،كالبذر،أو ضريبة السلطان،أو ما يصرف في إصلاح الأرض،أو غير ذلك،و ما زاد فهو بينهما.

و قد ذهب المشهور بشهادة صاحب المسالك إلى عدم الجواز،إذ من الممكن أن لا تنتج الأرض إلاّ المقدار المستثنى،فيبقى الآخر بلا شيء،و هو مناف لما ثبت من وضع المزارعة و قيامها على اشتراك المتعاقدين في النماء على الإشاعة.

و قال جماعة،منهم الشيخ الطوسي من القدامى،و صاحب الجواهر من الجدد،قالوا بالجواز.

و قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة،و السيد الحكيم في منهاج الصالحين:«يجوز هذا الشرط إذا علما أو اطمأنا ببقاء شيء بعد إخراج المقدار،و إلاّ يكون الشرط باطلا».أي أن جواز الشرط و صحته يتوقف على أن يبقى شيء يقتسمانه بعد إخراج المقدار المستثنى.

و يرجع قول هذين السيدين في حقيقته إلى ما ذهب إليه المشهور من المنع خشية أن لا يبقى شيء للآخر،و السيدان أجازا الشرط،مع العلم ببقاء شيء.

المسألة الثانية:إذا اتفقا على أن يعطي أحدهما للآخر مالا،أو يعمل له عملا بالإضافة إلى حصته.

و قد ذهب المشهور إلى صحة الشرط،و وجوب الوفاء به،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المشهور،بل عليه عامة المتأخرين.بل لم يعلم القائل بعدم الجواز».لحديث:«المؤمنون عند شروطهم».و لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ليس لك أن تأخذ منهم شيئا،حتى تشارطهم.

ص:173

4-تعيين الأرض

،فلا تصح المزارعة على احدى القطعتين على الترديد.

أجل،تصح على دونمات معلومات من قطعة معينة،كما لو قال:زارعتك على عشر دونمات من هذه القطعة،و يكون تعيين مكان الدونمات لصاحب الأرض.

5-صلاحية الأرض و أهليتها للزراعة

اشارة

،و لو بالعمل و العلاج.و هذا الشرط بديهي لا يحتاج إلى دليل بعد أن كانت الزراعة هي الموضوع المقصود من الاتفاق.و يجب اعتبار هذا الشرط ابتداء و استدامة،فإذا حدث ما يمنع من الانتفاع بزراعة الأرض كشف ذلك عن بطلان المزارعة من الأساس، لفوات الشرط في المدّة الباقية.و لا شيء على المزارع للمالك و لا على المالك للمزارع،لأن حصتهما انما هي في النماء،و قد تعذر.

و قال صاحب الجواهر:«ان أخذت الزراعة موردا و قيدا للعقد،ثم انكشف عدم صلاحية الأرض يبطل عقد المزارعة،و ان كانت الأرض هي محل العقد و مورده،و الزراعة داعيا لا قيدا يصح العقد،و يكون المزارع بالخيار،لإمكان الانتفاع بالأرض في جهة أخرى».

و يلاحظ:
أولا:ان الزراعة هي نفس الموضوع لعقد المزارعة

،فإذا انتفت انتفى العقد، و لا وجه للتفصيل.

ثانيا:إذا كانت الزراعة داعيا لا قيدا

فالواجب لزوم العقد،و الخيار لا وجه له.

ثالثا:إن الفرق بين القيد و الداعي

،و إن كان صحيحا من الوجهة النظرية و الدقة العقلية،لكنه بعيد عن افهام عامة الناس،و لا يفرّق بينهما إلاّ الخاصة.

و بديهة أن الأحكام الشرعية منزلة على الأفهام العرفية،لا الدقة العقلية.

ص:174

6-تعيين المدة بالأيام أو الأشهر أو السنين

،و يجب أن تتسع لبلوغ الزرع و أدركه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«يتقبل الأرض بشيء معلوم إلى سنين مسماة».

و إذا أطلق،و لم يعين المدّة يحمل الإطلاق على ما عهد و عرف،فان لم يكن عرف بطلت المزارعة.

و تجوز المزارعة على أكثر من عام على شريطة الضبط،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس بقبالة الأرض من أهلها عشر سنين،و أقل من ذلك،و أكثر.

العامل المخالف:

إذا لم يعين المالك نوعا خاصا للزرع تخير العامل أن يزرع أي نوع شاء إذا كان البذر منه.هكذا أطلق كثير من الفقهاء هذا الحكم.و لا بد من التقييد فيما إذا لم يكن هناك قرائن مقامية تعين نوع الزرع،فان وجدت وجب العمل بموجبها، فان الكثير من القطع لا تصلح لزرع جميع الأنواع.

و إذا عين المالك نوعا خاصا كالحنطة تعين،و لا تجوز مخالفته،فان خالف و زرع شعيرا أو عدسا-مثلا-فللمالك الخيار بين الفسخ أو الإمضاء،لعدم الوفاء بالشرط،فإن أمضى أخذ حصته المسماة،و ان فسخ كان الزرع للعامل،و عليه للمالك مثل اجرة الأرض،لأنه انتفع بملك غيره من غير اجارة و لا تبرع من المالك فوجب عليه العوض.بهذا أفتى المحقق الثاني في جامع المقاصد، و الشهيد الثاني في شرح اللمعة،و السيد أبو الحسن في وسيلة النجاة و غيرهم.

و كل مزارعة تقع فاسدة فالزرع لصاحب البذر،لأن النماء يتبع الأصل في الملك،فان كان البذر من العامل فله الزرع بكامله،و عليه أجرة الأرض،و ان كان

ص:175

البذر للمالك فله الزرع،و عليه أجرة العامل،و ان كان منهما فالزرع لكل بنسبة ما أدى من البذر،و على المالك أجرة العمل بقدر ما استوفى من الزرع،و على العامل أجرة الأرض كذلك.

و إذا أهمل العامل المزارعة،و ترك القطعة من غير زرع،حتى مضى الموسم،مع تمكين المالك له من الأرض،و تسليمه إياها،و عدم المانع من زرعها كالثلوج و نحوها،فهل يضمن العامل لصاحب الأرض أجرة المثل،أو لا شيء عليه؟.

للفقهاء في ذلك قولان:الأول،و عليه الأكثر،تلزمه اجرة المثل،لأنه فوت على المالك المنفعة المستحقة له،و لأن العامل في المزارعة إلى مدّة معينة كالمستأجر كذلك،و كما أن على المستأجر أن يدفع الأجرة،حتى و لو لم يستثمر إطلاقا كذلك على المزارع أن يدفعها إذا أهمل.

القول الثاني:لا شيء على المزارع سوى الإثم،لأنه لم يتلف عينا موجودة في الخارج،حتى ينطبق عليه«من أتلف مال غيره فهو له ضامن»و لا وضع يده على شيء كي يصدق حديث«على اليد ما أخذت،حتى تؤدي».و لا شيء سوى عقد المزارعة،و كل ما يقتضيه أن للمالك حصة من النماء على تقدير وجوده، و المفروض أنّه لم يوجد.اذن،فلا شيء للمالك و لا للعامل على الإطلاق.

و يلاحظ بأن موجبات الضمان لا تنحصر بالإتلاف و اليد،فان التسبيب أيضا يوجب الضمان،و بديهة أن المزارع المهمل يصدق عليه عرفا أنّه هو الذي فوت الناتج على المالك،و أنّه هو السبب المانع من الاستيفاء،و هذا كاف واف للحكم عليه بالضمان.

ص:176

للعامل أن يشارك الغير و يزارعه:

يجوز لمن استأجر أرضا أن يعطيها لغيره بالمزارعة،لأن المعيار لصحة المزارعة أن تكون منفعة الأرض مملوكة لمن يزارع عليها،أما ملكية رقبة الأرض فليست بشرط،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا بأس أن تستأجر الأرض بدراهم،و ان تزارع الناس على الثلث،أو الربع،أو أقل،أو أكثر إذا كنت لا تأخذ من الرجل إلاّ ما أخرجت أرضك.

و أيضا يجوز للعامل الذي تقبل الأرض من المالك أن يزارع غيره،أي ينقل حقه بكامله في الزراعة إلى من يشاء،على شريطة أن يكون حق المالك محفوظا.

و أيضا يجوز له أن يشارك في عمل الزراعة من شاء بشيء من حصته.

و الوجه في ذلك أن العامل قد ملك المنفعة بعقد لازم،و الناس مسلطون على أموالهم،فيكون له،و الحال هذي،أن ينقلها كلا أو بعضا إلى غيره،و ليس لأحد أن يعارضه بشيء كما له أن يبيعها،و يتعلق فيها حق الدائنين،و الخمس و الزكاة، و ما إلى ذلك من آثار الملكية.

ذكر هذا الفقهاء في كتبهم دون أن ينقلوا فيه خلافا.أجل،قال جماعة منهم:يجوز ذلك للعامل إذا لم يشترط المالك عليه مباشرة العمل بنفسه،و مع هذا الشرط لا يجوز أن يزارع الغير أو يشاركه.

و لكن لصاحب الجواهر هنا جملة تشعر بأن للعامل أن يزارع و يشارك من أراد،حتى و لو نهاه المالك،و اشترط عليه المباشرة بنفسه،لأن المزارعة ملك للعامل،و الناس مسلطون على أموالهم،و لأن بعض الفقهاء نقل الإجماع على أن البائع لو اشترط على المشتري أن لا يبيع العين التي اشتراها منه لا يجب الوفاء

ص:177

بالشرط،و على هذا،إذا اشترط المالك أن يعمل المزارع بنفسه فلا يجب الوفاء بالشرط.و هذا نص عبارة الجواهر بالحرف:«لكن في صحة هذا الشرط-يريد شرط المالك مباشرة العامل-بحث لعموم:الناس مسلطون على أموالهم،و لما حكي من الإجماع في كتاب البيع على عدم صحة مثل هذا الشرط».

و مهما يكن،فان هذي التفاصيل لم يرد فيها نص بالذات،و انما استخرجت من القواعد العامة،و لم يرد نص إلاّ بخصوص مشاركة العامل لغيره بعد أن باشر العامل،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يبذر في الأرض مائة جريب أو أقل أو أكثر طعاما أو غيره،فيأتيه رجل يقول له:خذ مني ثمن نصف هذا البذر، و نصف نفقتك على أن تشركني فيه؟قال الإمام عليه السّلام:لا بأس.

و لكن تخصيص هذه الرواية بالمشاركة بعد العمل لا يجعلها خاصة،لأن المعيار في جواز المشاركة و المزارعة أن تكون المنفعة ملكا للعامل،و ليس من شك أن العامل قد ملك المنفعة بالعقد لا بالعمل،و لا بظهور الزرع،و عليه فيجوز له أن ينقلها إلى غيره بمجرد وقوع العقد.

ضريبة الأرض:

اتفقوا بشهادة صاحب الحدائق،و مفتاح الكرامة على أن الخراج،أي ضريبة السلطان على الأرض،انما هي على صاحب الأرض،لا على العامل،و لا على الناتج المشترك بينه و بين المالك،لأن الضريبة موضوعة على الأرض نفسها.

أجل،يجوز أن يشترط المالك على العامل أن تكون الضريبة عليه وحده،أو على الناتج،و لا يضر الجهل بمقدار الضريبة التي أخذت شرطا،لأن الجهل الغرر في مثلها مغتفر عرفا و شرعا،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل تكون له الأرض،و عليها

ص:178

خراج معلوم،و ربما زاد،أو نقص،فيدفعها إلى رجل على أن يكفيه خراجها، و يعطيه مأتي درهم في السنة؟قال:لا بأس.

و سئل أيضا عن رجل له ارض من أرض الخراج فيدفعها إلى رجل على أن يعمرها و يصلحها و يؤدي خراجها،و ما كان من فضل فهو بينهما؟قال عليه السّلام:

لا بأس.

و جاء في كتب الحديث و الفقه روايات عن أهل البيت عليهم السّلام تصور ظلم الحكام و جورهم على الفلاحين و المواطنين إلى حد كان الناس يتركون أملاكهم إلى الغير تهربا من الضرائب الفادحة،من تلك الروايات أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل يأتي قرية قد اعتدى السلطان على أهلها،فضعفوا عن القيام بخراجها،و القرية في أيديهم،و لا يدري هي لهم أو لغيرهم،فيدفعونها إليه على أن يؤدي خراجها،فيأخذها منهم.قال الإمام عليه السّلام:لا بأس.إلى غير هذه الرواية كثير،ذكر طرفا منها صاحب الحدائق في المجلد الخامس ص 368.

ثم أن العمل الذي فيه صلاح الزرع و بقاءه،كالحرث و السقي و الصيانة و التنقية من الأعشاب الضارة فهو على العامل،أما ما عدا ذلك:«كشق النهر، و حفر البئر،و تهيئة آلات السقي،و نحو ذلك فلا بد من تعيين كونها على أي منها إلاّ إذا كانت هناك عادة تغني عن التعيين» (1).

البذر:

تقوم المزارعة على أن الأرض من أحدهما،و العمل من الآخر،و يدل على ذلك تعريفها،و عقدها الذي يتكون من الإيجاب من المالك و القبول من العامل.

ص:179


1- وسيلة النجاة [1]للسيد أبو الحسن الأصفهاني.

أما البذر فيجوز أن يكون من المالك وحده،و من العامل كذلك،و منهما بالتساوي أو التفاوت،سواء اتفقت حصة كل من النماء،أو اختلفت،و لا يتعين البذر على أحدهما أو عليهما إلاّ بالنص عليه منهما حين الاتفاق،أو تكون هناك عادة مستقرة فيجب حمل الإطلاق عليها.

و إذا لم يبينا على من يكون البذر،و لا عادة تغني عن البيان فالذي نراه هو بطلان المزارعة لمكان الجهالة.

و قيل:بل يكون البذر على العامل في هذه الحال،لأن الإمام الصادق عليه السّلام لما سئل عن المزارعة قال:«النفقة منك،و الأرض لصاحبها»بزعم أن النفقة تشمل البذر.

و يرد هذا الزعم بأن المزارعة تصح لو كان البذر من صاحب الأرض تماما كما تصح لو كان من العامل،و بديهة أن العام لا يدل على الخاص إلاّ مع القرينة، و حيث لا قرينة كما هو الفرض فتبطل المزارعة للجهالة،و المفهوم من لفظ النفقة الحرث و الحصاد،و ما إليهما.هذا،إلى أن الإمام عليه السّلام قال:و الأرض لصاحبها، و لم يقل و من المالك الأرض.

المزارعة بين أكثر من اثنين:

هل يصح أن تكون المزارعة بين أكثر من اثنين.فالأرض من واحد، و البذر من ثان،و العمل من ثالث،و البقر من رابع-مثلا-؟ قال كثير من الفقهاء لا تصح إلاّ بين اثنين«لأن العقد يتم بالموجب و هو صاحب الأرض،و القابل و هو العامل،فدخول ما زاد يخرج العقد عن وضعه،أو يحتاج إثباته إلى دليل».

ص:180

و يلاحظ بأنه ليس من الضروري إذا تم العقد بين اثنين أن لا يتم بين أكثر، و إلاّ أشكل الأمر في الشركات التي تضم العشرات.أمّا الحاجة إلى الدليل فحق، و لكن ليس من الضروري أن يكون الدليل نصا خاصا على المعاملة بالذات،و إلاّ أشكل الأمر في أكثر المعاملات.فيكفي لصحة المعاملة آية:تجارة عن تراض، و للزومها آية: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .هذا بالإضافة إلى إطلاق أدلة المزارعة الشاملة لما يقع بين اثنين،و أكثر.

مسائل:

1-إذا حددت المزارعة بأمد معين،و انتهى الأمد،و الزرع باق لم يبلغ بعد

، فما هو الحكم؟ قال جماعة من الفقهاء:يحق لصاحب الأرض أن يزيل الزرع من أرضه، سواء أ كان التأخير بتقصير من الزرع،أو لحادث سماوي،كتأخير المياه أو تغير الهواء،لأن حق الزارع قد انتهى بانتهاء الأمد.

و قال صاحب مفتاح الكرامة:ان المحقق الثاني في جامع المقاصد قال:ان كان التأخير بتقصير الزارع فللمالك ازالة الزرع،لأنّه عند الانتهاء يكون الزارع كالغاصب،و ان كان بغير تقصير منه يجب إبقاء الزرع إلى بلوغه و إدراكه.ثم قال صاحب مفتاح الكرامة،و بهذا أفتى الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط،و هو الحق.

و الذي نراه أن المالك لا يحق له أن يزيل الزرع إطلاقا،حتى و لو كان التأخير بتقصير الزارع،لأنه قد تصرف أول ما تصرف بحق و بسبب مشروع.

أجل،عليه أجرة الأرض للمدّة الباقية.أما قياس هذا الزارع على الغاصب فقياس

ص:181

مع الفارق،لأن الغاصب قد أقدم منذ البداية على هدر حقه،و عدم احترام ماله، و لذا تهدم الدار التي يبنيها في أرض الغير بالإجماع،إما الزارع فلم يقدم على شيء من ذلك.و بكلمة ان الغاصب يصدق عليه حديث:لا حق لعرق ظالم،و لا يصدق على الزارع المذكور.

2-إذا كانت لك أرض خربة فيجوز أن تعطيها لآخر على أن يصلحها

،و يكون له ناتجها سنة أو أكثر،و بعدها يكون الناتج بينكما،لكل حصة معلومة.

3-إذا بلغ الزرع،أو ظهر الثمر على الشجر

جاز أن يتقبل الزرع و الثمر رجل بمقدار معين منهما،فان جرت الصيغة بين المالك و المتقبل-أي الضامن بلسان العرف-لزمت المعاملة،و لا يجوز العدول عنها إلاّ باتفاق الطرفين، و إلاّ فحكمها حكم المعاطاة تلزم بالأخذ و الإعطاء،أو بالتصرف على ما سبق في الجزء الثالث.و إذا تبينت الزيادة فهي للمتقبل،و ان ظهر النقصان فعليه،على شرطية أن لا يصاب الزرع و الثمر بآفة تهلكهما قبل الحصاد و القطف،و إلاّ كان حكمها حكم تلف المبيع قبل قبضه من أنّه من مال البائع،كما أن التلف و الهلاك لو حصل بعد الحصاد و القطف فمن مال المتقبل،لأنه بحكم المشتري.

4-إذا انتهى أمد الزراعة،و بعده نبت حب أو أفرخت جذور من متخلفات

الزراعة المشتركة

فإن كان البذر من صاحب الأرض فهو له،و ان كان من العامل فهو له،لأن النماء يتبع البذر،و عليه أجرة الأرض إلاّ إذا كان قد أعرض عما تخلف و بقي،كما هو الغالب.

ص:182

التنازع:

1-إذا اختلفا في المدّة

،فقال أحدهما:وقعت المزارعة لسنة واحدة.

و قال الآخر:بل لسنتين فالقول قول منكر الزيادة مع يمينه،سواء أ كان المالك أو العامل،لأن الأصل عدم استحقاق الزيادة لمن يدعيها.

و إذا اختلفا في مقدار الحصة فالقول قول صاحب البذر مع يمينه،حتى و لو ادعى الزيادة لنفسه،لأن النماء تابع للبذر في الملكية،و الأصل بقاؤه على ملكه، حتى يثبت انتقاله عنه بالإقرار أو البينة،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في شيء من الحكمين».

2-إذا قال الزارع للمالك بعد أن زرع أرضه:لقد أعرتنيها

،فلا تستحق علي شيئا،و قال المالك:بل أجّرتكها بكذا،أو قال:زارعتك عليها بحصة معلومة،و لا بينة تعين أحد الأمرين،فما هو الحكم؟ ذهب المشهور إلى أن صاحب الأرض يحلف على عدم العارية،لأنه منكر لها،و لكن لا تثبت دعواه الإجارة أو المزارعة إلاّ بالبينة.و أيضا يحلف الزارع على نفي المزارعة.و الإجارة،لأنّه منكر لهما،و لكن لا تثبت دعواه العارية إلاّ بالبينة.و متى تحالفا سقطت كل من الدعويين،حتى كأنهما لم تكون من الأساس.و الواجب في مثل هذه الحال أن يختص الزارع بالزرع كله،لأن البذر له و منه،و عليه أن يدفع للمالك أجرة المثل،لأن الإذن له بالتصرف لم يكن على وجه التبرع.أجل،إذا زادت أجرة المثل على الحصة أو الأجرة التي ذكرها المالك استحق خصوص المقدار الذي ادعاه،لاعترافه بأنه لا يستحق أكثر منه.

و قال صاحب مفتاح الكرامة:بل للمالك أجرة المثل على كل حال سواء أ زادت عما يدعيه،أو نقصت،لأن التحالف أسقط أثر دعوى المالك.

ص:183

3-إذا قال الزارع:أعرتنيها.و قال المالك:بل اغتصبتها مني

.حلف المالك وحده على نفي العارية،لأن الأصل بقاء منافع أرضه على ملكه و عدم خروجها عنه بعارية أو بغيرها،و على مدعي العارية البينة،و لا تقبل منه اليمين لأنه مدع، و متى حلف المالك طولب الزارع بأجرة المثل طوال المدّة التي كانت الأرض في يده،و أيضا عليه أن يزيل الزرع،و ان امتنع فللمالك أن يزيله قهرا عنه،و يحمله التكاليف،و عوض الإضرار.

و الفرق بين هذه المسألة و التي قبلها أن الزارع في تلك كان مأذونا بالتصرف باتفاق الطرفين فلا تترتب عليه أحكام الغاصب،أمّا في هذه المسألة فلم يكن الزارع مأذونا،فيؤخذ بأحكام الغاصب لعدم ثبوت الاذن له بالتصرف.

قال صاحب الجواهر:«الزارع هنا كالغاصب الذي تترتب عليه أحكامه،و ليس ثمة إقرار من المالك يلزم به،و عليه فيكفي لترتب أحكام الغاصب عدم تحقق الاذن من المالك الحاصل بيمينه على نفي العارية التي يدعيها الزارع،كما هو واضح».

ص:184

المساقاة

اشارة

ص:185

ص:186

معناها:

المساقاة نوع من الشركة في نماء الشجر يتعاقد عليها المالك و العامل بحصة مشاعة منه،و بهذا نجد تفسير ما قاله الفقهاء في تعريفها من أنّها معاملة على أصول ثابتة-أي الشجر-بحصة من نمائها.

و قد خرج«بأصول»المزارعة التي هي معاملة على إيجاد الزرع،و خرج «بثابتة»الخضروات فإنها ملحقة بالزرع.و خرج«بحصة شائعة من نماء الأصول» الإجارة،لأنها تكون بأجرة معلومة.و خرج أيضا الشجر الذي لا نماء له، كالصفصاف،و يدخل في المساقاة ما ينتفع بورقه،كالتوت و الحناء-كما قيل- و المعيار لما تصح المساقاة عليه أن ينتفع بثمره أو ورقه مع بقاء أصله.

شرعية المساقاة:

لم يرد لفظ المساقاة في الكتاب و السنة بشهادة صاحب الجواهر و غيره، و انما استخرج الفقهاء أحكامها من الخطابات الشرعية،ثم اصطلحوا على تسميتها بالمساقاة،لأن الشجر تكثر حاجته إلى الماء و السقي.هذا،مع العلم بأن المعاملة تصح على البعل من الشجر،تماما كما تصح على السقي منه،لأن معيار الصحة هو العمل الذي يحتاجه الشجر لحمل الثمرة و نضجها،كالتقليم و التطعيم، و حرث الأرض،و تنقيتها من الأعشاب الضارة،و ما إلى ذاك.

ص:187

و المساقاة مشروعة إجماعا،و نصا،و منه أن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن رجل يعطي أرضه،و فيها رمان،أو نخل،أو فاكهة،و يقول:اسق هذا من الماء، أو أعمره،و لك نصف ما أخرج؟قال:لا بأس.

و قال صاحب الجواهر:«المساقاة جائزة بالإجماع من علمائنا،و النصوص متواترة،أو مقطوع بمضمونها».

الشروط:

اشارة

يعتبر في المساقاة :

1-الإيجاب من المالك،و القبول من العامل بكل ما دل عليهما من قول أو

فعل

.و قد مرّ أن الإيجاب و القبول من الأركان.

2-أهلية المتعاقدين

للمعاملات المالية.

3-أن تكون الأصول،و هي الشجر معلومة عند الطرفين

،و كذا الأعمال المطلوبة من العامل يجب ذكرها و تعيينها،فان لم تذكر بالخصوص حملت المعاملة على المعهود عند العرف،فان لم يكن عرف يعين العمل المطلوب من العامل بطلت المعاملة،لمكان الجهل.

4-أن ينتفع بثمرها مع بقاء أصولها

،كالنخل و شجر الفواكه و كرم العنب،أو بورقها،كالتوت و الحناء،أمّا مثل البطيخ و الخيار و الباذنجان و القطن و قصب السكر فلا يدخل في باب المساقاة،و لكن يجوز أن يتفق المالك مع العامل على سقيها و خدمتها بحصة معينة من ناتجها،حيث ينطبق على هذا الاتفاق تجارة عن تراض.قال صاحب العروة الوثقى

ص:188

«لا يبعد الجواز للعمومات-أي مثل تجارة عن تراض-و ان لم تكن من المساقاة المصطلحة،بل لا يبعد الجواز في مطلق الزرع كذلك،فان مقتضى العمومات الصحة بعد كونه من المعاملات العقلانية،و لا يكون من المعاملات الغررية عندهم-أي أن العرف يتسامح في هذا الغرر الناشئ من عدم معرفة أجرة العامل بالضبط-غاية الأمر أنّها ليست من المساقاة المصطلحة».

5-تعيين المدّة

.و لا حد لأكثرها،فيجوز أن تكون لسنوات عديدة،أما القلة فتقدر بمدّة تتسع لحصول الثمر،و يختلف ذلك باختلاف الأشجار.

و إذا حددت مدّة لا تتسع لحصول الثمر فسدت المساقاة،و كان للعامل أجرة المثل إذا عمل.

و إذا قام العامل بكل ما طلب منه،و لم يثمر الشجر لآفة سماوية فلا شيء له،لأنه تماما كالمضارب الخاسر،و إذا ظهرت الثمرة في المدّة المحددة،ثم انتهت قبل نضوج الثمرة فالعامل شريك فيها،لأن سبب الشركة وجود الثمرة لا نضوجها.

6-أن تجري المساقاة قبل نضوج الثمرة

،سواء لم تكن قد ظهرت بعد،أو ظهرت دون أن تنضج،لأنه بعد النضوج لا يبقى موضوع للمساقاة.

المساقاة لازمة:

عقد المساقاة لازم،فلا يجوز لأحد الطرفين فسخه إلاّ برضا الآخر،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده عندنا،للأصل،و عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ».

و إذا مات أحد المتعاقدين قام ورثته مقامه.أجل،إذا اشترط المالك على العامل مباشرة العمل بنفسه،و مات العامل قبل انتهاء العمل كان المالك بالخيار

ص:189

بين فسخ العقد،و بين الرضا بقيام ورثة العامل مقامه.

إهمال العامل:

على العامل أن يقوم بكل ما يلزمه من أعمال،فإن أخل،لعذر،أو لغير عذر تخير المالك بين فسخ العقد،لتخلف الشرط،و بين أن يستأجر عنه من حصته،و يشهد على الاستئجار دفعا للتنازع و التخاصم.و إذا اختار المالك الفسخ،فعلى المالك أن يدفع للعامل اجرة المثل بمقدار ما عمل،ان كان قد عمل.هذا إذا حصل الفسخ قبل أن تظهر الثمرة،أما بعد ظهورها فان للعامل حصته من الثمرة،و عليه للمالك أجرة بقائها على أصولها إلى زمن البلوغ و النضوج.

و إذا احتاج الشجر إلى السقي فأرسل اللّه غمامة استغنى بها عنه سقط السقي عن العامل،و بقيت المساقاة على صحتها و لزومها.

و تقول:ان المساقاة كالإجارة،و بديهة أن الإجارة تبطل إذا انتفى موضوعها،كمن استؤجر لقلع ضرس فانقلع تلقائيا فكذلك ينبغي أن تبطل المساقاة إذا حصلت على الشجر،فنزل المطر،و اكتفى به.

و نقول في الجواب فرق بين الإجارة و المساقاة،لأن المراد من الإجارة مقابلة العوض بالعمل،فإذا انتفى العمل لم يبق للعوض من مقابل،أما المساقاة و المزارعة فإن المقصود منهما حصول الناتج،فمع الاحتياج إلى العمل يقوم به العامل،و ان استغني عنه بفعل اللّه،أو بفعل الغير يسقط عن العامل،و يستحق الحصة-كما قال صاحب الجواهر.

ص:190

فساد المساقاة:

قال صاحب الجواهر:«كل موضع تفسد فيه المساقاة فللعامل أجرة المثل، لاحترام عمل المسلم الواقع باذن من استوفى عمله،و الثمرة لصاحب الأصل- أي الشجرة-لأن النماء تابع له.من غير فرق بين أن يكون العامل عالما بفساد المعاملة حين وقوعها،أو جاهلا،حتى و لو كان فسادها ناشئا من اشتراط كون النماء بكامله للمالك».

و يلاحظ على صاحب الجواهر بأن العامل إذا أقدم على العمل بشرط أن لا يكون له شيء من الناتج يكون متبرعا،و عليه فلا يستحق شيئا.فلا بد-اذن-من استثناء هذه الحال من قاعدة:«كل موضع تفسد فيه المساقاة فللعامل أجرة المثل».

و إذا ظهر أن الشجر مستحق للغير فإن أجاز هذا الغير المعاملة التي أجراها الغاصب مع العامل صحت المساقاة،و عمل بموجبها،و ان لم يجز بطلت،و كان الناتج بكامله للمالك،لأن النماء يتبع الأصل،و على الغاصب الذي أجرى المعاملة مع العامل أن يدفع له أجرة عمله ان كان جاهلا بالغصب،لأنه هو الذي استدعاه للعمل،و غرر به،و لا سبيل للعامل على المالك،لأنه لم يأمره،و لم يأذن له بالعمل في ملكه.

مسائل:

1-لا يتحمل العامل شيئا من الضريبة

التي يضعها السلطان على الشجر إلاّ مع الشرط.

2-يجوز اتحاد المالك

،مع تعدد العامل إذا تمت الشروط و توافرت،و كذا

ص:191

يجوز تعدد المالك،مع اتحاد العامل،كما لو كان البستان لأكثر من واحد، و ساقى أصحابه واحدا.

3-يجوز للعامل أن يستأجر غيره للعمل المطلوب منه

إذا لم يشترط عليه المالك المباشرة بنفسه،و هل يجوز له أن يساقي غيره،مع عدم اشتراط المباشرة،و عدم النهي من المالك؟ للفقهاء في ذلك أقوال.و نحن على رأي صاحب الجواهر الذي قال:

لا يجوز له ذلك،لأن من شروط المساقاة أن يكون الذي يجري المعاملة مع العامل مالكا للشجر،أو وكيلا عن المالك،أو وليا عليه،و ليس لأحد أن يستدل على صحة مغارسة العامل مع غيره ب أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،أو تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ،أو المؤمنون عند شروطهم.لأن هذه و ما إليها مختصة بالأصيل أو الوكيل أو الولي، و لا تشمل الأجنبي.

التنازع:

1-إذا اختلفا في صحة العقد و فساده

فعلى مدعي الفساد البينة،لأن الأصل صحة العقد،حتى يثبت العكس.

2-إذا اختلفا في مقدار حصة العامل

،فقال العامل:هي النصف،و قال المالك:

بل الثلث فالقول قول المالك،لأن الأصل تبعية النماء للملك.

3-إذا اختلفا في أن المساقاة وقعت لسنة أو أكثر

فالقول قول من ينفي الزيادة، لأن الأصل عدمها.

4-إذا ادعى المالك التفريط أو التعدي على العامل،و أنكر العامل

فالقول قوله بيمينه،لأنه منكر بموافقة قوله للأصل،سواء أ كان أمينا أو لم يكن،كما

ص:192

قال صاحب الجواهر.

و إذا ادعى المالك الخيانة و الاختلاس على العامل فهل تسمع دعواه مطلقا، حتى و لو لم يعين المقدار الذي اختلسه،أو لا تسمع إلاّ مع تعيين المبلغ المختلس،لأن الدعوى بالمجهول يجب ردها،و لا يجوز سماعها؟ قال صاحب العروة الوثقى،و صاحب الجواهر:تسمع و لو لم يعين،لعموم حديث:«البينة على من ادعى،و اليمين على من أنكر».

المغارسة:

المغارسة أن يتفق اثنان على أن تكون الأرض من أحدهما يدفعها إلى الآخر،ليغرس فيها نوعا من الشجر على أن يكون بينهما،و قد أجمع الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق على بطلان ذلك،سواء أجعل للغارس جزء من الأرض،أو لم يجعل له منها شيء.

و لم يذكر صاحب الجواهر وجها للبطلان إلاّ أصل الفساد،و هذه عبارته بالحرف:«المغارسة باطلة عندنا،لأن الأصل الفساد».

و قال صاحب العروة الوثقى:«حكي عن الأردبيلي،و صاحب الكفاية الإشكال في هذا الأصل،لإمكان استفادة الصحة من العمومات،و هو في محله ان لم يكن إجماع».و العمومات الموجبة للصحة هي تجارة عن تراض،و المؤمنون عند شروطهم.

و نحن على رأي القائل بالجواز و الصحة ما دام التراضي متحققا من الطرفين،و الشروط سائغة،و غير مجهولة،أمّا الإجماع فليس بشيء بعد أن عرفنا مستنده،و أنّه أصل الفساد،لأن هذا الأصل محكوم بالعمومات،كما قال المحقق

ص:193

الأردبيلي.

و على افتراض عدم صحة هذه المعاملة مغارسة فإنها تصح صلحا،أو غيره من العقود،و ان لم تكن من العقود المسماة،و ذلك أن يجعل نصف الغرس و سقيه و خدمته مدّة معينة لقاء جزء من الأرض،أو لقاء منفعتها أمدا معينا،قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في وسيلة النجاة آخر باب المساقاة:«بعد بطلان المغارسة يمكن التوصل إلى نتيجتها بإدخالها تحت عنوان آخر مشروع،كأن يشتركا في الأصول.ثم يؤجر الغارس نفسه لغرس حصة صاحب الأرض و سقيها و خدمتها مدّة معينة بنصف منفعة الأرض في تلك المدّة،أو نصف عينها».إلى غير ذلك من الطرق السائغة شرعا.

ص:194

الوديعة

اشارة

ص:195

ص:196

معناها:

الوديعة لغة مأخوذة من ودع الشيء إذا سكن و استقر،و تطلق على الشيء المودّع،لاستقراره و عدم الانتفاع به.أمّا المتشرعة و هم الفقهاء فيريدون بالوديعة أن يسلط انسان آخر على عين من ماله ليحفظها له،و يسمى المال وديعة،و بها سمي العقد،و صاحب المال المودع،و الحافظ له الوديع.

شرعيتها:

و هي مشروعة بالإجماع و الكتاب و السنة،قال تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ (1).و قال الإمام علي أمير المؤمنين عليه السّلام:لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم و صومهم،و كثرة حجهم و المعروف و طنطنتهم بالليل،انظروا إلى صدق الحديث و أداء الأمانة.و تواتر هذا المعنى عن أهل البيت عليهم السّلام بأساليب شتى.

الشروط:

اشارة

يعتبر في الوديعة :

1-الإيجاب من المودع،و القبول من الوديع

قولا أو فعلا-و أشرنا أكثر من مرة

ص:197


1- البقرة:283. [1]

أن الإيجاب و القبول من الأركان-و لا يكفي مجرد الاذن من المالك بحفظ المال،بل لا بد من توافق إرادته مع ارادة الوديع على الحفظ،ليتحقق العقد،قال صاحب الجواهر:

«لا إشكال في اعتبار معنى العقد في الوديعة،سواء أ كان ذلك بالقول،أو بالفعل،كما هو الشأن في البيع و الصلح و الإجارة و غيرها من العقود،لا أنّها من الاذن و الإباحة التي لم يلحظ فيها بين الربط بين القصدين و الرضا من الطرفين.

و لو أن صاحب العين طرحها عند من قصد استيداعها منه لم يلزم حفظها،إذا لم يقبلها الوديع بالقول أو بالفعل،لعدم تحقق الوديعة بذلك.و لو تركها الذي لم يقبلها،و ذهب،ثم هلكت فلا ضمان عليه،لأن الأصل عدم الضمان».

2-ان يكون كل من الطرفين أهلا للتعاقدات المالية

،و لو قبل البالغ العاقل الوديعة من الصبي أو المجنون ضمن ما يقبضه منهما من المال،حتى مع التعدي و التفريط،فان قبضه هذا تعد منه،لأنهما ليسا أهلا للإذن،و لا للتعاقد إلاّ إذا كان الصبي مميزا،و مأذونا بالتصرف،بناء على جواز الاذن له بذلك.و قد سبق التحقيق في الجزء الثالث فصل البلوغ،فقرة«عقد الصبي».أجل لو خاف العاقل البالغ أن تهلك العين في يد الصبي أو المجنون جاز له من باب الحسبة أن يأخذ العين منهما لغاية حفظها، و تكون في يده أمانة شرعية،على شريطة أن يردها إلى وليهما لا إليهما.

و إذا استودع إنسان وديعة عند صبي أو مجنون فهلكت لم يضمنا،لأن المودع هو المتلف لماله في الحقيقة،تماما كما لو رماه في البحر،قال صاحب الجواهر:«لا تصح وديعة الطفل و المجنون،لاعتبار الكمال في طرفي العقد، كغير الوديعة من العقود بلا خلاف،بل الإجماع على ذلك.و لا يجوز وضع اليد

ص:198

على الوديعة،بل يضمن القابض منهما،و لا يبرأ بالرد إليهما،لمكان الحجر عليها،.أما لو استودعا فكذلك في البطلان،و لم يضمنا بالإهمال وفاقا للمشهور،لأن المودع عندهما في الحقيقة هو المتلف لماله بإيداعه مثلهما،مع علمه بأنه لا يجب عليهما الحفظ و أداء الأمانة،فسببه في التلف أقوى من تفريطهما فيه».أي أن الصبي و المجنون إذا باشرا إتلاف الوديعة فلا ضمان عليهما،لأن المالك هو الذي سلطهما على ماله،فيكون هو السبب للتلف، و السبب هنا أقوى من المباشر،فيستند الإتلاف إليه،لا إليهما.

3-القبض

،فإن الوديعة لا تتم إلاّ به.

4-قدرة الوديع

على حفظ الوديعة.

5-أن يحفظ الوديع العين بلا اجرة

،و إلاّ كان حكمها حكم الإجارة.

عقد الوديعة جائز:

عقد الوديعة جائز من الجانبين،فيجوز لكل منهما فسخه متى شاء،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك،و هو الحجة في تخصيص آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و غيرها من أدلة اللزوم».

و عليه،فإنها تبطل بواحد من أربعة:

1-بفسخ أحدهما.

2-بموته،لأن العقد حصل بين الطرفين بالذات،و لا عقد مع ورثة المودع، و لا الوديع.

3-جنونه،لأن الجنون ينقل ولاية التصرف إلى غير من أجرى العقد.

4-إغماؤه،و هو بحكم الجنون.

ص:199

و إذا بطل عقد الوديعة لموت المودع أو جنونه أو إغمائه تتحول الوديعة من الأمانة المالكية إلى الأمانة الشرعية.و الفرق بين الأمانتين أن الأمانة المالكية تكون برضا المالك،أما الأمانة الشرعية فهي بغير اذنه و رضاه،و ربما بغير علمه، كالثوب يطيره الريح إلى دار الجار،فيكون في يد الجار أمانة شرعية،تنتفي عنها جميع أحكام الوديعة،و يجب على من هي في يده أن يردها إلى أهلها،أو يعلمهم بها فورا،و لا يجوز له التأخير إلاّ لعذر مشروع،و إذا أخر الرد،أو الإعلام بلا عذر يكون ضامنا،حتى مع عدم التعدي أو التفريط،بل أن التأخير بلا عذر تفريط و إهمال.

حفظ الوديعة:

لقد أوجب الشارع حفظ الوديعة،و ترك كيفية الحفظ إلى العادة و العرف الذي عليه الناس.و بديهة أن حفظ كل شيء بحسبه،فالنقود تحفظ في صندوق مقفل،و الثياب في خزانتها،و الدابة في الإصطبل،و الشاة في المراح،و ما إلى ذاك،و المعيار أن يحفظ الوديع الوديعة بما يحفظ به مال نفسه،بحيث لا يعد في نظر العرف مهملا و لا متعديا.

و قال الفقهاء:إذا اشترط المودع على الوديع أن يضع الوديعة في مكان خاص وجب الاقتصار عليه،لحرمة التصرف بمال الغير من غير إذنه.أجل، يجوز نقلها منه لمصلحة الوديعة،كما لو انهدم المكان المعين،أو اشتعلت النار فيه،و ما إلى ذاك.

ص:200

موجب الضمان:

لا يضمن الوديع إلاّ بالتفريط،أو التعدي،و التفريط أمر سلبي،و هو ترك ما يجب من الحفظ،و التعدي أمر وجودي،و هو التصرف في الوديعة،كالثوب يلبسه،أو يعيره،و الدابة يركبها،و النقود يصرفها أو يقرضها،أو يسافر بها من غير ضرورة،و ما إلى ذاك.

و إذا أراد ظالم أن يسلب الوديعة،و استطاع الوديع أن يدفعه عنها،دون أن يلحقه ضرر وجب عليه ذلك،لأنه مقدمة لحفظ الأمانة الواجبة و مقدمة الواجب واجبة،فان لم يفعل،و أخذ الظالم المال ضمنه الوديع لمكان الإهمال و التقصير.

و إذا أمكن إرضاء الظالم بالبعض،كالنصف-مثلا-وجب على الوديع أن يدفعه له،ليحفظ به النصف الآخر،فان لم يفعل ضمن النصف،لا الجميع،لأن الإهمال و التقصير حصل بالنسبة إلى النصف فقط.

و إذا أقنع الظالم بأن يحلف الوديع أن فلانا لم يستودعه شيئا وجب عليه أن يحلف و ينوي بينه و بين نفسه أنّه لم يستودعه ليلا،ان كان قد استودعه نهارا، و ينوي أنّه لم يستودعه نهارا،ان كان قد استودعه ليلا،فان لم يحلف كان ضامنا، لأن الكذب هنا جائز،لا أنّه محرم،و قد أبيح حفظا للأمانة،و دفعا للظلم.بديهة أن الواجب يسقط إذا انحصرت مقدمته في الحرام.

هذا ما حكم به الفقهاء بقول مطلق،كما جاء في الجواهر،و مفتاح الكرامة و غيرها.و يجب أن يقيد ذلك بما إذا كان الوديع عالما بجواز الكذب،و مع ذلك امتنع عنه حيث يعد،و الحال هذي،مقصرا،أما لو امتنع عن الكذب و الحلف لجهله و اعتقاده بالتحريم،ثم أخذ الظالم المال فان الوديع لا يضمن منه شيئا،لأنه لا يعد مهملا و لا مقصرا في مثل هذه الحال.

ص:201

الإنفاق على الوديعة:

إذا احتاجت الوديعة إلى الإنفاق وجب على الوديع أن ينفق عليها بالمعروف مقدمة لحفظها،و يرجع بما أنفق على المالك،و إذا قصر في شيء من ذلك ضمن،لمكان التفريط،قال صاحب الجواهر:«الظاهر أن هذا مفروغ منه عند الفقهاء.و لكن يجب أن يكون الإنفاق باستئذان من المالك،أو وكيله،فان تعذر رفع الأمر إلى الحاكم،و استأذن منه،فان تعذر أنفق هو،و اشهد على الإنفاق،فإن تعذر الإشهاد أنفق و اقتصر على نية الرجوع بما أنفق على المالك.

و لو كانت الوديعة حيوانا،و قال صاحبه للوديع:لا تنفق عليه،فهل يجب العمل بقوله؟ثم إذا خالف الوديع،و أنفق على الحيوان،فهل يرجع على المالك بالنفقة؟ قال صاحب الجواهر:«لا يسمع قول المالك في ذلك،لأن الحيوان ذو كبد حرّى،و نفس محترمة،فيجب حفظه مراعاة لحق اللّه،و لا يسقط هذا الحق بإسقاط الآدمي.فإذا أنفق عليه الوديع،و الحال هذه،رجع على المالك بما أنفق، و إذا ترك الإنفاق،حتى هلك الحيوان يأثم الوديع بذلك،و لكنه لا يضمن شيئا، لأن المالك هو الذي أسقط الضمان بنهيه عن الإنفاق،فيكون شأنه شأن من أمره بإلقاء ماله في البحر».

رد الوديعة:

يجب على الوديع أن يرد الوديعة إلى صاحبها عند طلبه،قال تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها (1).فإن تأخر عن الرد بلا عذر يكون

ص:202


1- النساء:58. [1]

غاصبا،و تكون يده على العين يد عدوان و ضمان،لانفساخ العقد و ارتفاع الاذن و الرضا بالطلب.

و لو افترض أن المودع غير مسلم،و أنّه حربي يباح ماله وجب أن ترد إليه أمانته،و لا تجوز خيانته بحال،فان حكم الامانة غير حكم سائر أمواله المباحة، و في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:ثلاثة لا عذر فيها لأحد:أداء الأمانة إلى البر و الفاجر،و الوفاء بالعهد إلى البر و الفاجر،و بر الوالدين برين كانا،أو فاجرين.

و منها أنّه عليه السّلام سئل عن رجل يستحل مال بني أمية و دماءهم،و قد أودعه بعضهم وديعة،أ يحل أن يأكلها؟قال عليه السّلام:ردوا الأمانة إلى أهلها،و ان كانوا مجوسا.

و قال عليه السّلام:ان ضارب عليّ بالسيف و قاتله لو ائتمنني،و استنصحني، و استشارني،و قبلت ذلك منه لأديت له الأمانة.

و قال جده علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام:عليكم بأداء الأمانة،فوالذي بعث بالحق محمّدا نبيا لو أن قاتل أبي الحسين عليه السّلام ائتمنني على السيف الذي قتل به أبي لأديته إليه.

و هذه أحكام شرعية،و ليست أخلاقية،و إلزامية،لا استحبابية،لأن الأمانة لها حكم خاص،قال صاحب الجواهر في باب الوديعة:«يجب رد الوديعة،و لو كان المودع كافرا،للنصوص المتواترة الآمرة برد الوديعة و الامانة على صاحبها، و لو كان قاتل علي،و الحسين عليهما السّلام،أو أولاد الأنبياء،أو مجوسا،أو حروريا،و قد عمل الفقهاء بهذه النصوص».

و قال صاحب مفتاح الكرامة:«هذا هو المشهور،و الحجة إطلاق النصوص

ص:203

و الفتوى».

مسائل:

1-إذا أودع اللص ما سرقه عند انسان فلا يجوز له أن يرده إليه

،ان أمن الضرر،و يكون المال المسروق في يده أمانة شرعية،فإن عرف صاحبه رده إليه أو أعلمه به،و ان جهله عرفه سنة كاملة،فان لم يجده تصدق به عن صاحبه،و ان ظهر صاحبه بعد التصدق به كان بالخيار بين أن يقر الصدقة، أو يطالب المتصدق بالعوض،فان طالب بالعوض دفعه إليه المتصدق، و كان أجر الصدقة له.

2-إذا ظهر للوديع أمارات الموت وجب أن يرد الوديعة إلى صاحبه أو وكيله

، و مع التعذر سلمها إلى الحاكم الشرعي،و مع التعذر أوصى بها،و اشهد على الوصية.

3- لو نوى الوديع التصرف في الوديعة،و لم يتصرف فيها

قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في الوسيلة:«لو نوى الوديع التصرف في الوديعة،و لم يتصرف فيها لم يضمن بمجرد النية،و لكن لو نوى الغصبية كأن قصد الاستيلاء عليها و التغلب على مالكها،كسائر الغاصبين ضمنها، لصيرورة يده يد عدوان بعد ما كانت يد استئمان،و لو رجع عن قصده لم يزل الضمان».

و يلاحظ أولا بأنّه لا فرق بين نية التصرف في مال الغير بلا اذنه،و بين نية الغصبية،فان كلا منهما محرم،ثانيا أن النية المجردة عن العمل ليست سببا للضمان،و لا تعديا في نظر العرف،و الشك في نية الغصب هل توجب الضمان أم لا كاف في نفيه،لأن الأصل عدمه.

ص:204

4-إذا تصرف الوديع بالوديعة تصرفا لم يغير منها شيئا،ثم أرجعها إلى مكانها

و حرزها

،كالثوب يلبسه قليلا،أو الكتاب يقرأ بعض صفحاته من غير اذن المودع،إذا كان كذلك يخرج عن حكم الوديع،و يصبح بحكم الغاصب إلاّ إذا أعلم المودع فأقره على ذلك،و جدد له الاستئمان.و المعيار لانقلاب اليد من الأمانة إلى العدوان أن يتصرف في الوديعة نفسها لغير مصلحتها من غير اذن صاحبها،أما مجرد النية و القصد بلا تصرف فليس بشيء.

التنازع:

1-إذا قال له:أودعتك كذا،فأنكر

،و قال:لم تودعني شيئا،فالبينة على المدعي،و اليمين على المنكر.

2-إذا اعترف بالوديعة،و ادعى هلاكها

فذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى الأخذ بقول الوديع،سواء ادعى سببا ظاهرا للتلف، كالحرق و الغرق حيث يمكن إقامة البينة عليهما،أو ادعى سببا خفيا، كالسرقة.و مما استدلوا به على ذلك قول الإمام الصادق عليه السّلام:ليس لك أن تتهم من ائتمنته،و لا تأمن الخائن،و قد جربته.و قوله عليه السّلام:لا يخونك الأمين،و لكن ائتمنت الخائن.أي ليس لك أن تخونه بعد أن اعتبرته أمينا،فإذا خونته فأنت المسؤول وحدك،حيث ائتمنت الخائن،و اخترته لوديعتك و أمانتك.

و هل يقبل قول الوديع بالتلف بلا يمين أو لا بد منها؟ قال صاحب الجواهر:«الأقوى الأخذ بقوله مع اليمين،لحديث:«إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان».و لو أخذ بقوله من غير يمين للزم القضاء بلا

ص:205

بينة،و لا يمين،و هو مناف للحصر في الحديث الشريف.

و إذا صدقه المودع بالتلف،و لكن ادعى عليه التعدي أو التفريط فعلى المودع البينة،و على الوديع اليمين،لأنه أمين،و ما على الأمين إلاّ اليمين.

3-ذهب المشهور إلى أن الوديع إذا قال للمودع:أرجعت إليك الوديعة أخذ بقول الوديع مع يمينه

بشهادة صاحب الجواهر و الحدائق إلى أن الوديع إذا قال للمودع:أرجعت إليك الوديعة أخذ بقول الوديع مع يمينه،لأنه أمين.

و إذا مات المودع،و طالب الوارث بالوديعة،فقال له الوديع:رددتها إليك لم يسمع قوله إلاّ مع البينة،لأن الوارث لم يأتمنه،حتى يكلف بتصديقه،و إذا لم يكن أمينا بالنسبة إلى الوارث كان أصل عدم الرد محكما لا يعارضه شيء،و هو موافق لقول الوارث.

4-إذا أنكر الوديعة من رأس،و لكن بعد أن أثبتها المودع بالبينة اعترف بها

الوديع

،و ادعى أنّها تلفت،إذا كان كذلك فلا تسمع دعوى الوديع،و لا تقبل منه بينة و لا يمين،لأن إنكاره الأول للوديعة يشكل اعترافا ضمنيا بتعديه و خيانته،و بهذا نجد تفسير قول صاحب الجواهر:«قد حصل بإنكاره سبب اشتغال ذمته بالضمان فلا تسمع دعواه،لكون الإنكار كالإقرار منه بالضمان».

5-إذا اعترف بالمال،و ادعى أنّه وديعة عنده،و قد هلك بلا تعد أو تفريط

، و قال صاحب المال:بل أخذته مني قرضا لا وديعة،و عليك الوفاء،حتى و لو هلك بلا تعد أو تفريط،فممن تطلب البينة؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن القول قول المالك بيمينه و على مدعي الوديعة البينة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قال لآخر:لي عليك الف درهم،فقال الرجل:لا،و لكنها وديعة؟فقال الإمام عليه السّلام:القول قول

ص:206

صاحب المال بيمينه.

و سئل حفيده الإمام الرضا عليهما السّلام عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت،فقال الرجل:كانت عندي وديعة،و قال صاحب المال:انما كانت عليك قرضا؟فقال الإمام عليه السّلام:المال لازم له،إلاّ أن يقيم بينة أنّها كانت وديعة.

ص:207

ص:208

العارية

اشارة

ص:209

ص:210

معناها:

العارية أن يعطي المعير عينا من أمواله إلى المستعير غير قابلة للاستهلاك، ليستعملها بلا عوض مدة معينة،أو في غرض معين،على أن يردها إلى صاحبها بعد الاستعمال،و هذا معنى قول الفقهاء:العارية تمليك منفعة العين على وجه التبرع.

و تتميز العارية عن الهبة بأن الهبة تمليك العين،لا المنفعة فقط،و العارية تمليك المنفعة دون العين،و تتميز عن الإجارة بأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض،و العارية تمليك المنفعة بلا عوض،و تتميز عن القرض بأن الشيء الذي يجب رده في القرض هو مثل الشيء لا عينه،أما في العارية فيجب رد عين الشيء لا مثله،و من هنا يجوز قرض المأكولات و المشروبات،و لا تجوز إعارتها،لأن الانتفاع بها يتوقف على استهلاكها.

و يسمى مالك العين معيرا،و المنتفع بها مستعيرا،و العين مستعارة، و معارة.

شرعيتها:

العارية مشروعة بالكتاب و السنة و الإجماع،قال تعالى فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ اَلَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ، وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ .فقد قرن اللّه سبحانه تارك العارية بتارك الصلاة،و نسبهما معا إلى الويل،أي الهلاك، و المراد هنا بالسهو الترك لا النسيان.

ص:211

و جاء في الحديث الشريف:«من منع الماعون جاره منعه اللّه خيره يوم القيامة،و وكله إلى نفسه».

و كلامنا في الوديعة يتناول العقد،و المعير،و المستعير،و الشيء المعار، و مسائل تتصل بها،و بعض صور التنازع.

العقد:

قال بعض الفقهاء:ان انتفاع الضيف بدار مضيفه،و بعض فراشه و آنيته، و ما إليها هو من باب العارية.و رده صاحب الجواهر بأن هذا من الاذن بالتصرف، و اباحة الانتفاع،و ليس من العارية في شيء،لأن العارية:«عقد يعتبر فيه إنشاء الربط بين الإيجاب و القبول،لا الإيقاع الذي يكفي فيه الاذن بالانتفاع من المالك».

و عقد العارية لا يشترط فيه شكل خاص،بل يتحقق بكل ما دل على توافق الإيجاب و القبول،و هو جائز من جانب المعير و المستعير،فان لكل منهما فسخ العقد و انهاءه متى شاء،سواء أ كانت العارية مطلقة،أو مؤقتة بأمد.

و بعد أن حكم الفقهاء بأن عقد العارية جائز تكلموا و أطالوا الكلام في حكم العارية للرهن بعد وقوع الرهن عليها،و عارية الحائط للجار،ليضع عليه أطراف خشب السقف،و عارية الأرض لدفن الميت،أو للبناء،و الغرس،و ما إلى ذلك مما يتضرر المستعير منه برجوع المعير عن العارية التي من شأنها الدوام و الاستمرار.

و يرى أكثر الفقهاء أن عارية الأرض للدفن تكون لازمة بعد الدفن،و لا يجوز الرجوع عنها،لحرمة نبش القبر،و أيضا تكون لازمة إذا أعار عينا من أمواله

ص:212

ليرهنها المستعير،و لكن تكون مضمونة على المستعير الراهن،حتى و لو تلفت من غير تعد أو تفريط،أما عارية الأرض للبناء و الغرس فان للمعير أن يرجع عنها،و يزيل البناء و الغرس بعد أن أعار أرضه لذلك،على أن يضمن الضرر الذي يلحق المستعير من الهدم و القلع.

و قال بعض الفقهاء:ان عقد العارية ينقسم إلى جائز،كعارية الثوب و السيارة،و إلى لازم،كالعارية للرهن و الدفن،و ما إليه.و رده صاحب الجواهر بأن هذا من غرائب الكلام،لأن التقاء عقد مع عقد آخر في بعض الخصائص و الآثار لا يوجب إدخال بعض العقود في بعض إذ العقد الجائز قد يعرض عليه ما يجعله لازما،كالعارية للرهن و الدفن،و لكن هذا عارض خارجي لا يحول العقد عن طبيعته من الجواز إلى اللزوم،كما أن العقد اللازم قد يعرض عليه ما يجعله جائزا،كالبيع بالخيار،و مع ذلك يبقى على طبيعته من اللزوم.

و بتعبير ثان أن عقد العارية يستدعي أن يفسخه و يرجع عنه كل من المعير و المستعير،و لو قبل انقضاء الأجل المعين للعارية.و قد يوجد المعير بإرادته و اختياره سببا يمنعه عن الفسخ،كما لو اذن للمستعير ان يرهن العين المعارة مع علمه بأن الرهن لازم من جانب الراهن،أو يأذن له بإيجارها،و هو يعلم أن الإيجار لازم طوال المدة المعينة،أو يأذن بدفن ميت في أرضه مع علمه بحرمة نبش القبر،أو يأذن بالبناء و الغرس مع علمه بأن مثل هذه العارية دائمة،و أنّه لا عاقل يقدم عليها بلا دوام و استمرار،و هذا السبب الطارئ الذي منع المعير من الفسخ لا يخرج عقد العارية عن الجواز،و هذا ما أراده صاحب الجواهر بقوله:

«ضرورة عدم امتناع فسخ الارتهان الواقع باذن المالك،و حرمة النبش،و الإضرار بالغير برجوع العين لزوم العقد ضرورة إمكان بقائه على الجواز».

ص:213

المعير:

قال العلامة الحلي في كتاب القواعد:

«يشترط أن يكون المعير مالكا للمنفعة،جائز التصرف،فلا تصح عارية الغاصب،و لا المستعير،و لا الصبي،و لا المحجور عليه لسفه أو فلس،و تصح من المستأجر».

تصح من المستأجر،لأنه يملك المنفعة،فله،و الحال هذي،أن يملكها لغيره إلاّ إذا اشترط المؤجر على المستأجر الانتفاع بنفسه،فإنه مع هذا الشرط يحرم عليه أن يعير.و لا تصح العارية من الغاصب و المستعير،للنهي عن التصرف في مال الغير إلاّ باذنه،و لأن شخصية المستعير محل اعتبار في عقد العارية،أما المحجور عليه لسفه أو فلس فلأنه ممنوع من التصرف في أمواله بيعا و إيجارا و رهنا و عارية.

المستعير:

يعتبر في المستعير أن يكون جائز التصرف،فلا تصح استعارة الصبي،و لا المجنون،و ان يكون معينا فلا يصح:أعرت أحد هذين،و ان يكون أهلا للانتفاع بالشيء المعار،فلا تحل استعارة المصحف لغير المسلم،و لا الصيد لمن أحرم للحج أو للعمرة،لأنه يحرم عليه إمساك الصيد إطلاقا،و لو افترض أنّه استعاره وجب عليه إرساله،و ضمان قيمته لصاحبه.

و يجب على المستعير أن يحافظ على الشيء المعار محافظته على أمواله، و ان يستعمله في الوجه الذي حدده المعير،فإن أطلق و لم يعين وجه الاستعمال استعمله في الجهة التي أعد لها بطبيعته،فموسى الحلاقة-مثلا-لا يستعمل

ص:214

لتقليم الأشجار،و لا المصاغ للعب الأطفال.

و إذا استعمل المستعير العارية في وجهها،ثم حدث بها نقص،أو تلف فلا يكون مسؤولا عما يحدث إلاّ مع الشرط،أو كانت العارية من الذهب و الفضة، و تأتي الإشارة.و إذا استعملها في غير وجهها،أو في غير الجهة التي حددها المعير،و حدث فيها شيء فعليه الضمان،و اجرة المثل لما استعملها فيه.

الشيء المعار:

قال صاحب الجواهر:«ان ضابط الشيء المعار أن يصح الانتفاع به شرعا منفعة معتدا بها مع بقاء عينه،كالثوب و الدابة.لا مثل الأطعمة و الأشربة و نحوها مما تكون المنفعة بإتلاف عينها،و لا مثل أواني الذهب و الفضة للأكل و الشرب- حيث يحرم الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضة-و كلب الصيد لأجل اللهو و الطرب بلا خلاف و لا إشكال في ذلك».

و يستفاد من هذه العبارة أن العارية لا تتم إلاّ بقبض العين المعارة،لتوقف الانتفاع عليه.

مسائل:

1-سبق أن المستعير لا يجوز له أن يعير غيره

،فان فعل كان للمالك الرجوع بأجرة المثل على من شاء منهما،لأن كلا منهما قد تصرف بالعين دون اذن صاحبها،فان كان الثاني عالما بالعارية،و رجع المالك عليه فلا يرجع هو على الأول،لأنه غاصب مثله،و ان كان جاهلا رجع على الأول،لأن المغرور يرجع على من غره،و بكلمة ان الضمان يستقر على العالم دون

ص:215

الجاهل.

2-أجمعوا على أن المستعير لا يضمن العارية إلاّ مع التعدي أو التفريط

،أو إذا اشترط عليه المعير الضمان إطلاقا،حتى مع عدم التعدي أو التفريط لحديث:«المؤمنون عند شروطهم».هذا في غير عارية الذهب و الفضة، حيث أجمعوا على أن عاريتهما مضمونة،سواء اشترط المعير الضمان،أو لم يشترط.أجل،إذا اشترط المستعير سقوط الضمان عنه،و قبل المعير أخذ بالشرط،للحديث المتقدم.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنها إلاّ أن يكون قد اشترط عليه.

و قال:ليس على المستعير ضمان إلاّ ما كان من ذهب أو فضة،فإنهما مضمونان،اشترط،أو لم يشترط.

3-إذا فرط،أو تعدى،ينظر:

فان كانت العارية من المثليات،كنسخ الكتاب من طبعة واحدة فعليه مثل العارية،و ان كانت من القيميات فعليه قيمتها حين التلف،لأنه الوقت الذي اشتغلت فيه ذمته بالقيمة.

4-قال صاحب الجواهر:«لا خلاف،و لا إشكال في أن المستعير إذا رد العارية

إلى المالك،أو وكيله

،أو وليه بريء،و لو ردها إلى حرزها الموجود عند صاحبها لم يبرأ من الضمان».

و إذا احتاج الرد إلى مؤنة و نفقة فهي على المستعير،لأنه قبض لمصلحة نفسه،و لأنه يجب عليه رد العين إلى صاحبها،مهما كلف الرد.

ص:216

التنازع:

1-إذا أنكر العارية فالقول قوله بيمينه

،لأنه منكر،و إذا أثبتها المعير بالبينة حكم على المنكر بالضمان،و لو ادعى تلفها بعد إنكارها لا تسمع دعواه، لأن إنكاره الأول يشكل اعترافا بخيانته،كما تقدم في الوديعة.

2-إذا قال المستعير تلفت العارية بلا تعد و لا تفريط فالقول قوله بيمينه

.

و إذا ادعى ردها إلى المعير فأنكر الرد فالقول قول المعير بيمينه،لأن الأصل عدم الرد.و سبق في باب الوديعة أن الوديع إذا ادعى الرد يؤخذ بقوله مع اليمين بعكس المستعير.و الفرق بينهما أن الوديع قبض العين لمصلحة المودع،فهو محسن محض،و ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ،أما المستعير فإنه قبض لمصلحة نفسه.

3-إذا قال المالك:اجرتكها،و قال الذي هي في يده:بل أعرتنيها

،فمن المدعي؟و من المنكر؟ للفقهاء في ذلك أقوال،فمن قائل بأن المالك مدع،و ثان بأنه منكر،و ثالث بأنهما متداعيان،و قال رابع بالقرعة.

و الذي نراه انهما متداعيان،أي أن كلا منهما مدع و منكر معا،فالمالك يدعي الإيجار و ينكر العارية،و الآخر يدعي العارية و ينكر الإيجار،فإن وجد بينة تعين أحد الأمرين عمل بها،و إلاّ فعلى كل منهما أن يحلف اليمين على نفي دعوى الآخر،فيحلف المالك أنّه لم يعر،و يحلف الآخر أنّه لم يستأجر،فإن حلف أحدهما و نكل الآخر أخذ بقول الحالف،و ان حلفا معا،أو نكلا معا سقط قول الاثنين،و عاد كل شيء إلى أصله،حتى كأن لم يكن إيجار و لا عارية.و نتيجة ذلك أن يدفع الآخر الذي استعمل العين و استثمرها اجرة المثل إلى المالك إلاّ إذا

ص:217

كانت اجرة المثل أكثر من الأجرة التي ادعاها المالك،فإنه و الحال هذي،يأخذ الشيء الذي ادعاه،لاعترافه بأنه لا يستحق أكثر منه،و بكلمة يأخذ المالك أقل الأمرين من الأجرة المسماة بزعمه،و اجرة المثل،فان كانت الأجرة المسماة أكثر فله أجرة المثل،و ان كانت اجرة المثل أكثر فله الأجرة المسماة.

4-إذا قال المالك لمن في يده العين:انك اغتصبتها.فقال:بل هي عارية

، فالقول قول المالك بيمينه،لأن المنافع تتبع الأعيان في الملك،و الأصل عدم إباحتها للغير،حتى يثبت العكس.و على المنتفع بالعين ان يدفع لمالكها اجرة المثل.

ص:218

الهبة

اشارة

ص:219

ص:220

معناها:

الهبة في اللغة التبرع و التفضل،و منه قوله تعالى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (1).

و في عرف الفقهاء تمليك مال في الحال بلا عوض.

فخرج«بالتمليك»الوقف،لأنه ليس تمليكا،و«بالمال»خرجت العارية، لأنّها تمليك منفعة،و«في الحال»خرجت الوصية،لأنّها تمليك بعد الموت،و «بلا عوض»خرج البيع،لأنه تمليك بعوض.

الهبة المعوضة:

نبه الفقهاء إلى أن طبيعة الهبة لا تستدعي العوض،و لا عدم العوض،بل يجوز أن تكون معوضة،و غير معوضة،و على هذا فلا مانع أن يهب شخص شيئا لآخر بشرط أن يهب الموهوب له شيئا،أو يقوم بالتزام معين من فعل أو ترك، قال صاحب الجواهر:

«المراد من عدم العوض عدم لزوم ذلك في الهبة،لا عدم جوازه فيها».

و فرق واضح بين عدم اللزوم و الوجوب،و بين عدم الجواز،فان عدم اللزوم

ص:221


1- مريم:4. [1]

لا يتنافى مع وجود العوض،أما عدم الجواز فإنه يأبى وجود العوض إباء كليا.

بين الصدقة و الهبة:

اشارة

تشترك الصدقة مع الهبة في أن كلا منهما تمليك بلا عوض مادي، و

يفترقان من وجوه:

1-أن الصدقة يعتبر فيها نية التقرب إلى اللّه سبحانه

،قال الإمام الصادق عليه السّلام:

«لا صدقة،و لا عتق إلاّ ما أريد به وجه اللّه تعالى».و لا يعتبر ذلك في الهبة.

2-أن الصدقة تلزم بالقبض

،و لا يجوز الرجوع فيها بعده،سواء أ كانت على رحم أو أجنبي،لأن سبيل الصدقة هو ابتغاء ثواب الآخرة،فينال المتصدق عوضا أدبيا يعدل العوض المادي من حيث عدم جواز الرجوع في الهبة المعوضة،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«لا ينبغي لمن أعطى اللّه شيئا أن يرجع فيه».و قد فهم الفقهاء من لفظة لا ينبغي في هذه الرواية التحريم،و عدم الجواز.و قال أيضا:انما مثل الذي يرجع في صدقته كالذي يرجع في قيئه.

3-تجوز الهبة من غير الهاشمي للهاشمي،و لا تجوز الصدقة الواجبة

من غير الهاشمي على الهاشمي إلاّ مع الضرورة.أما الصدقة المستحبة فحكمها حكم الهبة.

4-قال جماعة من الفقهاء تصح صدقة الصبي إذا بلغ عشرا

،لقول الإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليهما السّلام:«إذا أتى على الغلام عشر سنين فيجوز في ماله ما أعتق، أو تصدق،أو أوصى على حد معروف».و لا تجوز هبته بالاتفاق.

و تجدر الإشارة إلى أن الصدقة تجوز على الغني و الفقير،و المسلم و غير

ص:222

المسلم،قال تعالى لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ (1).

و قال رجل للإمام الصادق عليه السّلام:ان أهل البوادي يقتحمون علينا،و فيهم اليهود و النصارى و المجوس،فنتصدق عليهم؟قال:نعم.

الشروط:

اشارة

نذكر في هذه الفقرة الشروط التي لا بد من توافرها في الهبة بشتى أنواعها:

1-الإيجاب من الواهب،و القبول من الموهب له

،و يكفي كل ما دل على التراضي من قول أو فعل،قال صاحب الجواهر:«السيرة القطعية متحققة في المقام على حصول الهبة بالمعاطاة».

و قال السيد اليزدي في الملحقات:«الأقوى كفاية المعاطاة في الهبة،و انها تفيد الملك».

2-أن يكون كل من الواهب و الموهوب له عاقلا بالغا مختارا

،لأن الهبة إيجاب و قبول و قبض،و القاصر و المكره لا يصح إيجابه و لا قبوله و لا قبضه،و للوصي و الولي أن يقبلا الهبة للقاصر،مع المصلحة.

و لا تصح الهبة من المحجر عليه لسفه أو فلس،لأنه ممنوع من التصرفات المالية،و تصح الهبة له.

3-ان يجوز تملك الموهوب له للشيء الموهوب

،فلا تصح هبة المصحف لغير المسلم.

4-لا تصح هبة ما سيوجد

،كالثمرة المتجددة،و ما تحمله الدابة في المستقبل،

ص:223


1- الممتحنة:8. [1]

لأن الهبة تمليك في الحال.قال صاحب مفتاح الكرامة:«و منه يعلم عدم صحة هبة دهن السمسم قبل عصره،و زيت الزيتون قبل استخراجه،و ما يجري مجراه،لأنه في حكم المعدوم.و قد جوزوا الوصية بالمعدوم، كالثمرة المتجددة،لأنها ليست تمليكا في الحال».

5-اتّفقوا على أن القبض شرط

،و لكنهم اختلفوا:هل هو شرط لصحة الهبة، بحيث لا تنعقد إلاّ به،أو هو شرط للزوم،بمعنى أن الهبة تتم و تنعقد بلا قبض؟ و تظهر الثمرة بين القولين من وجوه:الأول أن النماء المتخلل بين العقد و القبض يكون للواهب إذا كان القبض شرطا للصحة و للموهوب ان يكن شرطا للزوم.الثاني أن نفقة الشيء الموهوب ان احتاج إلى نفقة تكون على الواهب ان اعتبرنا القبض شرطا للصحة،و على الموهوب ان اعتبرناه شرطا للزوم.الثالث أن الشيء الموهوب يكون ميراثا ان مات الواهب قبل القبض بناء على أنّه شرط للصحة،امّا بناء على أنّه شرط للزوم يكون الوارث بالخيار،ان شاء أقر هبة مورثة،و ان شاء فسخها.الرابع أن قبض الموهوب له للشيء الموهوب لا يصح إلاّ بإذن الواهب،ان كان القبض شرطا للصحة،و يصح القبض بلا اذنه،ان كان شرطا للزوم.

و قد ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق،و ملحقات العروة إلى أن القبض شرط للصحة،لا للزوم،و ان الهبة لا تنعقد،و لا تتم إلاّ بالقبض،و استدلوا على ذلك بقول الإمام الصادق عليه السّلام:الهبة لا تكون أبدا هبة،حتى يقبضها.و ما خالف هذه الرواية فهو شاذ متروك.

و يتفرع على ذلك أن القبض لا يصح إلاّ بإذن المالك.و يجوز أن يتأخر

ص:224

القبض عن الإيجاب و القبول،و لا يعتبر اتصاله بهما،و لا حصوله في مجلس.

6-اتفقوا على أن الموهوب يجوز أن يكون عينا معلومة في الخارج،و جزءا

مشاعا من عين،و كليا في شيء معين

،كصاع حنطة من هذه الصبرة،حيث لا مانع من القبض في شيء من ذلك.

أما الدين فان كان في ذمة الموهوب له فتصح هبته،و الهبة هنا تفيد فائدة الإبراء الذي لا يشترط فيه القبول عند أكثر الفقهاء.قال صاحب الجواهر:«تصح الهبة لمن عليه الحق بلا خلاف أجده،بل في بعض كتب مشايخنا الاتفاق عليه، و لعله لصحيح معاوية بن عمار عن الإمام الصادق عليه السّلام،قال:سألته عن الرجل يكون له على الرجل دراهم،فيهبها له،إله أن يرجع فيها؟قال:لا».

و لا تصح هبة الدين لغير من هو عليه عند المشهور،لأن القبض شرط في صحة الهبة،و ما في ذمة غير الموهوب له يمتنع قبضه،لأنه كلي،لا وجود له في الخارج.

7-لا يشترط العلم بمقدار الشيء الموهوب

،فيجوز هبة ما في الكيس،و هبة حصة شائعة من عين مجهولة الكم و المقدار،كنصف هذا البستان مع عدم العلم بمساحته.

و قال السيد اليزدي في ملحقات العروة:تجوز هبة الفرد المردد،كأحد هذين.

هل عقد الهبة جائز؟

اشارة

سبق أن الهبة تتم،و تنعقد بالإيجاب و القبول و القبض،و ان القبض شرط في الصحة،لا في اللزوم.أجل،ان قاعدة وجوب الوفاء بالعقد تستدعي أن

ص:225

يكون عقد الهبة بعد القبض لازما إلاّ ما خرج بالدليل كما هو الشأن في جميع العقود،و لكن ثبت النص عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها،و إلاّ فليس.

و هذا النص يخرج الهبة من عموم قاعدة وجوب الوفاء بالعقد،و يجعل القاعدة في الهبة عدم وجوب الوفاء إلاّ ما خرج بالدليل،و قد دل الدليل على خروج الموارد التالية و لزومها (1):

1-ذهب المشهور بشهادة صاحب مفتاح الكرامة،و ملحقات العروة إلى أن

هبة القرابة تلزم بمجرد القبض

،و لا يجوز للواهب القريب الرجوع عن هبته لقريبه،سواء أ كان قد تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب،أو لم يتصرف،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يهب الهبة،أ يرجع فيها ان شاء،أم لا؟قال:تجوز-أي تنفذ-الهبة لذي قرابة،و الذي يثاب من هبته،و يرجع في غير ذلك ان شاء.

و جاء في كتاب الجواهر،و المسالك،و مفتاح الكرامة،و ملحقات العروة، و غيرها أن المراد بالقرابة كل قريب بعدت لحمته،أو قربت،جاز زواجه من الواهب،أو لم يجز،وارثا كان،أو غير وارث،مسلما كان،أو غير مسلم.

2-ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر،و مفتاح الكرامة إلى أن هبة

أحد الزوجين للآخر لا تلزم بالقبض

،بل يجوز لكل منهما الرجوع عنها، و لكن على كراهية.

و قال جماعة،منهم صاحب الجواهر،و صاحب ملحقات العروة،و السيد

ص:226


1- قال صاحب الجواهر:«ان الهبة من العقود اللازمة،و ان اعتراها الجواز في بعض مواردها». و الحق أنّها من العقود الجائزة لما ذكرنا،و لا نحكم بلزوم مورد منها إلاّ بدليل خاص.

الأصفهاني في وسيلة النجاة قالوا:إذا وهب الزوج زوجته،أو الزوجة زوجها فإن الهبة تلزم بمجرد حصول القبض،تماما كما هو الحكم في القرابة النسبية، و استدلوا برواية عن الإمام الصادق عليه السّلام جاء فيها:«لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته،و لا المرأة فيما تهب لزوجها».

3-تلزم الهبة بالقبض إذا كانت بعوض و مقابل

،كما لو فرض الواهب على الموهوب له القيام بالتزام خاص،لمصلحة الواهب أو لمصلحة أجنبي،أو للمصلحة العامة.و لا فرق بين أن يكون العوض قليلا أو كثيرا قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في ذلك مضافا إلى قول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا عوّض صاحب الهبة فليس له أن يرجع».

4-تلزم الهبة إذا هلك الشيء الموهوب بفعل الموهوب له،أو بفعل أجنبي،

أو بآفة سماوية

،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها،و إلاّ فليس.

5-إذا مات الواهب،أو الموهوب له قبل القبض بطلت الهبة

،لأنها لا تنعقد إلاّ به،و إذا مات الواهب بعد القبض فليس لورثته الرجوع،لأن حق الرجوع متصل بشخص الواهب،لا بورثته.و كذا تلزم بموت الموهوب له بعد القبض،حيث ينتقل الملك إلى ورثته فلا يكون الموهوب قائما بعينه.قال السيد اليزدي في ملحقات العروة الوثقى ص 164 طبعة 1344 ه:

«إذا مات الموهوب له بعد القبض سقط جواز الرجوع،لأن المال انتقل إلى ورثته،فليس قائما بعينه،مع أن القدر المعلوم جواز الرجوع على الموهوب له- لا على ورثته-و إذا مات الواهب بعد الإقباض،و قبل الرجوع لزمت الهبة،و ليس لوارثه الرجوع وفاقا للعلامة،و الشهيد،و فخر المحققين،و المحقق الثاني،

ص:227

و تبعهم المحقق القمي للأصل بعد عدم الدليل على الانتقال إلى وارثه.و دعوى أن حق الرجوع الثابت للواهب ينتقل إلى ورثته،كما في حق الخيار مدفوعة بأن جواز الرجوع ليس حقا،حتى يدخل في عموم ما ترك الميت من مال أو حق فهو لوارثه،بل هو حكم شرعي،فليس من متروكات الميت،بل لو شك في كونه حقا أو حكما فهو كذلك-أي لا يورث-لعدم صدق كونه من التركة.و على فرض كونه حقا خاصا فالقدر المتيقن كونه قائما بنفس،فلا يقبل الانتقال،و لا يستفاد من النص إلاّ جواز الرجوع لنفس الواهب».

6-من الأسباب التي تجعل الهبة لازمة أن ينقل الموهوب له الشيء الموهوب

عن ملكه

بالبيع أو الهبة أو الوقف،أو يغيره تغييرا يصدق معه أن العين ليست قائمة بذاتها،كالحنطة يطحنها،و قطعة القماش يفصلها ثوبا،أمّا مجرد لبس الثوب،أو ركوب الدابة فلا يمنع من الرجوع بالهبة.قال الشهيد في اللمعة:ج 1 باب العطية:

«يصح الرجوع بالهبة بعد الإقباض ما لم يتصرف الموهوب له تصرفا متلفا للعين،أو ناقلا للملك،أو مغيرا للعين،كقارة الثوب،و نجارة الخشب، و طحن الحنطة».

و قال صاحب ملحقات العروة:

«أن إجارة الموهوب له العين الموهوبة يخرجها عن كونها قائمة بعينها فلا يجوز للواهب الرجوع معها.و كذا لو رهنها،أو غرس في الأرض أشجارا،أو بنى فيها دارا،أو الورق جعله كتابا،أو سندا.كل ذلك يمنع الواهب من الرجوع عن الهبة،و يجعلها لازمة.و المعيار لجواز الرجوع أن يكون الشيء الموهوب بحاله لم يتغير،فإذا تغير فلا رجوع.

ص:228

في القبض:

قبض الموهوب كقبض المبيع يختلف باختلاف طبيعته،فقبض غير المنقول التخلية بينه و بين الموهوب له،و قبض المنقول التسليم و التسليم يدا بيد، و المعيار أن يكون الشيء الموهوب تحت سلطان الموهوب له،بحيث يتمكن من التصرف فيه دون مانع.

و إذا كان الشيء الموهوب في يد الموهوب له عارية أو وديعة أو غصبا أو مستأجرا فلا يحتاج إلى قبض جديد،و لا إلى مضي زمن يمكن فيه القبض،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده بين المتأخرين و لا إشكال».

و إذا وهب الولي ما في يده للقاصر المولى عليه فلا يحتاج إلى قبض جديد،لأنه من باب تعاقد الإنسان مع نفسه،بحيث يكون موجبا بالأصالة عنه، و قابلا بالنيابة عن غيره.

مسائل:

1-إذا أراد الواهب أن يرجع عن الهبة،حيث يجوز له ذلك فلا يجب عليه أن

يعلم الموهوب له بالرجوع

،فلو أنشأ الرجوع من غير علمه صح.

2-إذا ظهر الشيء الموهوب مستحقا للغير بطلت الهبة

،فإن كان موجودا أخذه المالك و انتهى كل شيء،و ان كان تالفا تخير المالك بين الرجوع على الواهب،أو الرجوع على الموهوب له،فإن رجع على الموهوب له رجع هو بدوره على الواهب ان كان عالما بالغصب فلا يرجع عليه،لأنه غاصب مثله.

3-إذا رجع الواهب في هبته فيما يجوز له الرجوع،و افترض أن تجدد نماء

ص:229

للشيء الموهوب بعد القبض،و قبل الرجوع،فهل يكون هذا النماء للواهب،أو للموهوب له؟ قال الفقهاء:ان كان النماء منفصلا،كالثمرة على الشجرة،و حمل الدابة، و اللبن في الضرع فهو للموهوب له،لأنه حصل في ملكه،إذ المفروض أن الهبة تتم بالعقد و القبض.و ان كان النماء متصلا،كسمن الدابة،و نمو الشجرة فهو للواهب،لأنه جزء لا ينفك عن الشيء الموهب الذي يجوز الرجوع فيه.

و إذا حدث عيب أو نقص في الشيء الموهوب،و رجع الواهب فلا ضمان على الموهوب له،حتى و لو كان النقص و العيب بفعله.

و قال السيد اليزدي في ملحقات العروة:الأقوى أن الواهب لا يجوز له الرجوع إذا نقص الشيء أو زاد زيادة متصلة أو منفصلة،لأن العين،و الحال هذي،لا يصدق عليها أنّها قائمة.

و قريب من ذلك ما جاء في الوسيلة للسيد الأصفهاني،حيث قال:«يحتمل أن يكون النماء المتصل كالسمن مانعا من جواز الرجوع،لعدم كون الموهوب معه-أي مع النماء المتصل-قائما بعينه،و لا يخلو من قوة».

و بكلمة ان الشيء الموهوب إذا كان بحاله لم يتغير يجوز الرجوع فيه إذا كان الموهوب له أجنبيا،و إذا تغير،و لم يبق على حاله فلا يجوز الرجوع.

و الاختلاف بين الفقهاء انما هو في التطبيق و التشخيص،فمن يرى أن الزيادة و النقصان يغيران الشيء عما هو عليه قال بعدم جواز الرجوع،و من لم ير ذلك قال بجواز الرجوع.

و نحن على رأي من قال:ان الزيادة و النقصان يوجبان التغير،و بالتالي لا يجوز الرجوع مع حدوث واحد منهما.

ص:230

السبق و الرماية

اشارة

ص:231

ص:232

المعنى:

السبق بسكون الباء معناه في اللغة المسابقة،و بفتحها معناه المال المبذول للسابق،و في عرف الفقهاء معاملة على اجراء الخيل،و ما يشبهها في حلبة السباق،لمعرفة الأجود منها.

و للرمي في اللغة معان،منها الإلقاء،و في الاصطلاح معاملة على المناضلة بالسهام،ليعلم حذف الرامي،و معرفته بمواقع الرمي.

الشرعية:

و هما مشروعان إجماعا و نصا،و منه ما تواتر عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«لا سبق إلاّ في نصل،أو خف،أو حافر».و فائدتهما التمرن على مباشرة النضال و الاستعداد،لممارسة القتال دفاعا عن الدين و الوطن.

و يدخل في الحافر الخيل و البغال و الحمير،و في الخف الإبل و الفيلة،و في النصل السيف و السهم و الحراب،و اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن هذه الأشياء تجوز المسابقة بها على عوض،لأنها منصوصة،و أيضا اتفقوا على أن المسابقة بغيرها على عوض لا تجوز،كالمسابقة بالمصارعة و السفن و الطيور،و بالعدو على الأرجل،و برفع الأثقال و الأحجار و رميها،و ما إلى ذلك مما لم يرد فيه نص، و اختلفوا في جوازها بلا عوض.

ص:233

فذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى الجواز،و قال البعض بالتحريم،و سبب الاختلاف هو أن الباء من سبق في حديث:«لا سبق إلاّ في نصل أو خف أو حافر»هل هي مفتوحة أو ساكنة،فإن كانت مفتوحة فمعنى الحديث أن المال لا يبذل في المسابقة إلاّ بالخف و الحافر و النصل،و عليه تجوز المسابقة بغير هذه الثلاثة بلا مال و عوض،و ان كانت ساكنة فالحديث ينفي مشروعية المسابقة من الأساس بعوض كانت أو بغير عوض إلاّ في الثلاثة المنصوصة.قال صاحب الجواهر:«فتح الباء هو المشهور-فالحديث اذن-لا يدل إلاّ على عدم مشروعية بذل العوض في غير الثلاثة،فيبقى غيرها على أصل الجواز-أي المسابقة مع عدم العوض-و ان احتملنا الأمرين:فتح الباء و سكونها تسقط دلالة الحديث،و يبقى أصل الجواز».

و نحن على رأي صاحب الجواهر،حيث يرى جواز المسابقة بالمصارعة و بالطيور و السفن،و بالعدو،و رفع الأثقال،و بالكتابة،لمعرفة أي الخطين أجود، و ما إلى ذاك إذا لم تكن بعقد ملزم.و يجوز للسابق أن يأخذ المال من الدافع على سبيل الوعد،بحيث يجوز له الوفاء به،و العدول عنه لعدم الدليل على التحريم، و الأصل الجواز.

قال صاحب الجواهر ما نصه بالحرف:

«ان التحقيق هو الحرمة و عدم الصحة إن أريد إيجاد عقد السبق بذلك،إذ لا ريب في عدم مشروعيته بعوض أو بغير عوض (1)،و لو للأصل،فضلا عن

ص:234


1- لا يشرع مع العوض،لأنه قمار،و لا من غير عوض لانه ليس تمليكا لعين و لا لمنفعة،حتى يكون هبة أو عارية،أو ما أشبه،و ليس في الشريعة الإسلامية عقد خال من التمليك و التملك من سائر وجوهه.

النهي في حديث الحصر-و هو لا سبق إلاّ في نصل أو خف أو حافر-أما فعله لا على وجه كونه عقد سبق فالظاهر جوازه للأصل،و السيرة المستمرة على فعله في جميع الأعصار و الأمصار من العوام و العلماء،و ما روي من مصارعة الحسن و الحسين عليهما السّلام و مكاتبتهما،و التقاطهما حب قلادة أمهما.بل لا يبعد جواز العوض على ذلك،و الوعد به،مع استمرار الرضا،لا على أنّه عوض شرعي».

الأسلحة الحديثة:

و هنا سؤال يفرض نفسه،و هو أن الحديث الشريف أجاز المسابقة بالسهم و الخيل،و ما إليهما استعدادا لدفع العدو،و صده.و بديهة إن العدو لا يتسلح بالسهم،و لا يعتد بالخيل،اذن،لم يبق للأشياء التي نص عليها من موضوع،فهل تجوز المسابقة بالأسلحة الحديثة،كالرمي بالبندقية،و مسابقة السيارات و ما إليهما على عوض،أو أن باب المسابقة يجب إلغاؤه من الفقه كلية؟ و الجواب:ان قوله تعالى وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ (1)يشمل كل قوة ترهب العدو و تخيفه و تصده عن العدوان.و ليس من شك أن العدو لا يخاف إلاّ إذا تسلحنا بنوع سلاحه،أو أقوى منه و أمضى.

و بتعبير ثان انّه لا اعتبار بالحافر و الخف و النصل،و انما الاعتبار بالسلاح المعروف المتداول،و الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انما ذكر هذه الثلاثة،لأنها السلاح المعروف دون غيرها في عصره.و ليس هذا اجتهادا منا في قبال النص،و انما هو اجتهاد صحيح و مركز في تفسير النص يتفق كل الاتفاق مع مقاصد الشريعة

ص:235


1- الأنفال:60. [1]

السمحة الغراء،تماما كالاجتهاد في تفسير قول الإمام عليه السّلام:«لا زكاة إلاّ بحديد»من أن المراد بالحديد الآلة الصلبة المحددة:نحاسا كانت أو فضة أو ذهبا أو حديدا أو فولاذا،و لو جمدنا على ظاهر النص لكانت الذبيحة بسكين النحاس أو الفضة ميتة لا يجوز أكلها،حتى و لو اجتمعت كل الشروط،و لا أحسب أحدا يقول بذلك.و بالإجمال أن الاجتهاد في تفسير النص جائز،كتفسير الحديد بالآلة الصلبة،حسبما ذكرنا،و الاجتهاد في قبال النص محرم،كتحليل أكل الميتة خنقا، و من غير ذبح.

الشروط:

لا بد من تراضي المتسابقين جميعا،و من العقل و البلوغ،و من تعيين المال الذي يبذل للسابق،عينا كان أو دينا.و يجوز أن يكون من المتسابقين فيقول كل لصاحبه:ان سبقتني أعطيتك عشرة،و ان يكون من أحدهما فقط،فيقول له:ان سبقتني فلك مني عشرة،و ان سبقتك فلا شيء لي عليك،و ان يكون من أجنبي و من بيت المال،فتخصص الحكومة مبلغا للمسابقة تشجيعا للشباب على التمرن للحرب،و أيضا يشترط تعيين المسافة ابتداء،و غاية.

و لا بد في الرمي من معرفة الهدف،و عدد السهام أو الطلقات،كعشرين- مثلا-و عدد الإصابات،كعشر منها،و ان تكون آلة الرمي من جنس واحد.و قد أوجب جماعة من الفقهاء وجود المحلل،أي الحكم بين المتسابقين،و هو الخبير الأمين الذي يميز السابق عن غيره إذا تنازع المشتركون في السباق.

ص:236

تنبيه:

إذا فسدت المسابقة لسبب من الأسباب،كجعل الخمر عوضا،أو كون العوض مجهولا فليس للسابق شيء إطلاقا،لا المسمى،و لا أجرة المثل،إذ المفروض أنّه لم يعمل شيئا لغيره،و لم تستوف منه آية منفعة.أما سبقه و غلبته فإنه يرجع إليه وحده،و من هنا قال أكثر من محقق عريق في الفقه:ان المسابقة ليست عقدا من العقود،حيث لا معاوضة فيها،و لا هي تمليك بلا عوض،و لا جعالة على عمل،لأن الغالب لم يعمل شيئا لأحد.فلم يبق إلاّ أن تكون المسابقة معاملة مستقلة برأسها لا تشبه شيئا من المعاملات،و لا يشبهها شيء.

ص:237

ص:238

الوكالة

اشارة

ص:239

ص:240

معناها:

الوكالة بفتح الواو و كسرها معناها في اللغة التفويض،و عند الفقهاء عقد يستنيب به الإنسان غيره عن نفسه في تصرف مملوك له في حياته،و يسمى المستنيب موكّلا،و المستناب وكيلا،و محل الوكالة موكلا به.و بعد تمام الوكالة يصبح تصرف الوكيل فيما وكل به نافذا على الموكل،تماما كما لو باشره بنفسه.

شرعيتها:

الوكالة مشروعة إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا،حتى يعلمه بالخروج منها،كما أعلمه بالدخول فيها.

و قال صاحب الجواهر:«لا ريب في مشروعية عقد الوكالة،بل لعله من ضرورة الدين،فلا حاجة إلى الاستدلال عليه».

في العقد و الوكيل و الموكل:

1- المشهور أن الوكالة من العقود،فيعتبر فيها الإيجاب و القبول

قال السيد اليزدي في ملحقات العروة أول باب الوكالة:«المشهور أن الوكالة من العقود،فيعتبر فيها الإيجاب و القبول،و يتحقق إيجابها بكل لفظ دال على الاستنابة،و قبولها بكل ما يدل على الرضا بذلك من قول أو

ص:241

فعل،بل إيجابها بالقول و الفعل و بالإشارة و الكتابة».

و قال صاحب الشرائع و الجواهر:«لو قال رجل لآخر:هل وكلتني؟فقال:

نعم،أو أشار بالإجابة كفى».

2-أن يكون كل من الموكل و الوكيل عاقلا بالغا مختارا

،و أن لا يكون الموكل محجرا عليه لسفه أو فلس،لأن السفيه و المفلس ممنوعان من التصرف في أموالهما.أجل،لهما التوكيل،و ما إليه مما لا يدخل في التصرفات المالية.

و يجوز أن يكون كل من السفيه و المفلس وكيلا عن الغير،لأنهما ممنوعان من التصرف في أموالهما،لا في أموال الغير،و بتعبير صاحب الجواهر ان المحجر عليه لسفه أو فلس لا يجوز أن يباشر العمل لنفسه،لا أنّه لا يجوز له أن يباشره بنفسه،حتى و لو كان نيابة عن غيره.

3-إذا كان الوكيل محرما للحج،أو للعمرة فلا يجوز له أن يتوكل عن غير

المحرم

في بيع الصيد أو شرائه أو حفظه،و لا في عقد الزواج.

4-ذهب المشهور إلى أن الوكالة يجب أن تكون منجزة غير معلقة

،فإذا قال له:وكلتك ان فعلت كذا،أو ان جاء فلان من سفره،و ما إلى هذا بطلت الوكالة،حيث يشترط أن يكون المتعاقدان على يقين من ترتب الأثر على العقد.و التعليق مناف لليقين و الجزم.

و قد أبطلنا هذا الشرط في الجزء الثالث في فصل شروط العقد،فقرة «التعليق»و أثبتنا بالأرقام أن العقد يصح مع التعليق،و أنّه لا دليل على اعتبار الجزم به،و ان المعيار هو وجود الرضا،و ان الرضا بالمنشإ المعلق تماما كالرضا بالمنشإ المطلق.

و من الغريب ما جاء في مفتاح الكرامة،أول باب الوكالة أن الفقهاء حكموا

ص:242

بصحة الوكالة إذا قال:وكلتك،و شرطت عليك كذا،و ببطلانها إذا قال:وكلتك بشرط كذا،لأن الأول مطلق،و الثاني معلق.و أغرب من هذه التفرقة،و هذا التعليل نسبة ذلك إلى الضوابط الشرعية.و لا أحسب شارعا يقول بذلك،أيا كان نوعه.

محل الوكالة:

اشارة

يعتبر في محل الوكالة،و هو الشيء الموكل فيه ما يلي:

1-أن يكون مملوكا للموكل أصالة،أو ولاية،أو وصاية

،فلو وكل غيره في طلاق امرأة سينكحها،أو بيع عقار سيشتريه أو قبض دين سيستدينه،و ما أشبه لم يصح،لأنه لا يتمكن من فعل ذلك بنفسه فلا ينتظم فيه اقامة غيره.

2-أن يكون الشيء الموكل به معلوما،و لو بجهة من الجهات

،قال السيد اليزدي في الملحقات:

«يشترط في صحة الوكالة عدم الإيهام الموجب للغرر،فلو قال:وكلتك، و لم يبين في أي شيء بطلت الوكالة.و كذا لو قال:وكلتك في أمر من أموري،أو في شيء من أموالي.نعم،لو قال:وكلتك في بيع داري،أو بستاني صح و لا يضر الترديد».

يريد بهذا أن الشيء المبهم من جميع جهاته لا يصح أن يكون محلا للوكالة،أما إذا كان مبينا من جهة،و مجهولا من جهة فلا بأس.

و الحق ان المحكم في ذلك هو العرف،فكل وكالة يراها صحيحة فهي صحيحة شرعا،لأن إطلاق أدلة الوكالة تشملها.

ص:243

3-هل الأصل جواز التوكيل في كل شيء إلاّ ما خرج بالدليل

،بحيث إذا وكل انسان غيره في شيء نحكم بالصحة بمجرد التوكيل دون توقف على دليل خاص،بل الحكم بالبطلان يحتاج إلى نص،أو أن الأصل بطلان الوكالة و عدم صحتها في كل شيء إلاّ ما خرج بالدليل،فمن وكل في شيء فلا نحكم بصحة الوكالة إلاّ إذا ثبت النص على صحتها بالخصوص؟ قال صاحب الجواهر:«يستفاد من كلام الفقهاء أن الأصل جواز الوكالة في كل شيء-ثم قال-و يكفي في إثبات ذلك قول الإمام الصادق عليه السّلام في صحيح ابن سالم:ان الوكيل إذا وكل،ثم قام عن المجلس،فأمره ماض أبدا،و الوكالة ثابتة، و قوله في الصحيحين أيضا:من وكل رجلا عن إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا.فان قوله هذا يتناول كل مورد من الموارد التي تعلقت به الوكالة».

عقد الوكالة جائز:

عقد الوكالة جائز من الجانبين،فللوكيل أن يعزل نفسه،و لو لم يعلم الموكل،و للموكل أن يعزل الوكيل،و لكنه لا ينعزل،و يبقى تصرفه على النفوذ، حتى يبلغه العزل،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:كل من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا،حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها،قال صاحب الجواهر:الإجماع على ذلك.

أجل،ذهب المشهور بشهادة صاحب الملحقات إلى أن الوكالة تصير لازمة إذا أخذت شرطا في ضمن عقد لازم،كما لو باعه شيئا،و اشترط عليه أن يكون وكيلا من قبله في شيء معين،فيصبح وكيلا بمجرد انعقاد العقد،و ليس له أن يعزله،و هذا من باب شرط النتيجة،و هي الأثر المترتب على العقد:و يسمى

ص:244

«التزام في ضمن التزام».أما لو اشترط أن يقيمه وكيلا،أي يجري معه عقد الوكالة ففعل،فان له،و الحال هذي،أن يعزله بعد التوكيل إلاّ إذا اشترط عليه عدم العزل، فيجب عليه الوفاء بالشرط،لحديث«المؤمنون عند شروطهم».

أقسام الوكالة:

تنقسم الوكالة باعتبار محلها و متعلقها إلى عامة،و خاصة،و مثال العامة أن يقول له:أنت وكيلي في كل شيء،فتشمل البيع و الشراء و الإيجار و الهبة و الرهن و المرافعة و التزويج،بل و التطليق،و ما إلى ذلك مما يخص الموكل،و تجوز فيه النيابة.

و الخاصة:أن يقول له:أنت وكيلي في بيع داري،أو تزويجي،و ما أشبه ذلك.و تنقسم الخاصة إلى مطلقة،كقوله:بع داري،و لم يحدد الثمن،و إلى مقيدة،كبعه بألف،و هذه الأقسام صحيحة بكاملها.

وظيفة الوكيل:

على الوكيل أن يحرص بدقة على مصلحة الموكل،و ان لا يتعدى في تصرفه محل الوكالة،فإن فعل كان فضوليا.أجل،إذا دلت القرينة الحالية على التجاوز صح،و نفذ فعله،كما لو قال له الموكل:بع داري بألف،فباعها بألف و مائة،لأن المفهوم هو النهي عن بيعها بالأقل،لا بالأكثر،أو قال له:اشتر لي دار فلان بألف،فاشتراها بتسع مائة،حيث يفهم النهي عن الشراء بالأكثر،لا بالأقل، و إذا أطلق و لم يعين،كما لو قال له:بع داري،أو اشتر لي دارا وجب على الوكيل مراعاة مصلحة الموكل من عدم البيع،أو الشراء بأكثر من ثمن المثل.

ص:245

و ليس للوكيل أن يوكل غيره إلاّ بتصريح خاص من الموكل،أو بإذن عام، كما لو قال له:فوضت الأمر إليك،فافعل ما شئت.

و لا يجب على الوكيل تسمية الموكل في المعاملات إلاّ في عقد الزواج، لأن الزوجين كالعوضين في البيع لا بد من ذكرهما صراحة.و لو اشترى الوكيل شيئا للموكل في ذمته وجب عليه أن يقصد الموكل بالذات،لأن ما في الذمة لا يتعين إلاّ بالقصد،أما إذا باع الوكيل عينا من أموال موكله فيصح البيع،و يقع للموكل،حتى و لو قصد غيره،لأن البيع يحصل في الواقع لمن يملك العين، و القصد لا يغير الواقع عن واقعه.

و أجمعوا على أن التوكيل في الخصومة لا يشترط فيه رضا الخصم،و أيضا أجمعوا بشهادة صاحب التذكرة على أن الوكيل في الخصومة ليس له أن يقر عن الموكل،أو يصالح،أو يبرئ إلاّ بإذن خاص من الموكل.قال صاحب القواعد، و صاحب مفتاح الكرامة:«ان التوكيل في الخصومة ليس إذنا في الإقرار،و لا الصلح،و لا الإبراء،لعدم دلالة التوكيل على شيء من ذلك،فان وكيل المدعي يملك اقامة الدعوى،و تقديم البينة،و تعديلها،و تحليف الخصم،و طلب الحكم من القاضي على الغريم،و كل ما هو وسيلة لإثبات الحكم،أما وكيل المدعى عليه فيملك الإنكار و الطعن بالشهود.و السعي ما أمكن»أي ما أمكن لرد الدعوى.

و أيضا إطلاق التوكيل في الخصومة ليس إذنا بقبض الحق من الخصم بعد ثبوته،كما أن إطلاق التوكيل في البيع ليس إذنا بقبض الثمن،و لا إطلاق الشراء إذنا بقبض المبيع،لأن الإنسان قد يرى في شخص أهلية المخاصمة،و اجراء المعاملات،و لا يراه أمينا على المال،و بالعكس،قد يراه أمينا على المال غير أهل للخصومة و المعاملات.

ص:246

تعدد الوكلاء:

اشارة

يجوز تعدد الوكلاء في تصرف واحد،أما نفاذ تصرفهم مجتمعين أو منفردين فيقتضي التفصيل التالي:

1-أن يوكل اثنين أو أكثر في شيء واحد

،و يشترط اجتماعهما معا في الرأي، بحيث لا ينفذ تصرف أحدهما دون موافقة الآخر،و عليه فإذا انفرد في التصرف يكون تصرفه لغوا،و إذا مات أحدهما،أو عزل نفسه،أو عزله الموكل تبطل وكالة الآخر،لأن الوكالة مركبة من إرادتهما معا،و المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه.

2-أن يطلق إرادة أحدهما في التصرف،و لا يقيده بإرادة الثاني

،و لكنه يشترط على الثاني أن يتقيد بإرادة الأول،و عليه ينفذ تصرف الأول منفردا،و لا ينفذ تصرف الثاني إلاّ منضما،و هذا الوكيل يسمى وكيلا بالضميمة،و إذا مات الثاني لا تبطل وكالة الأول،أما إذا مات الأول فتبطل وكالة الثاني.

3-ان يصرح الموكل باستقلال كل منهما في التصرف

،و عليه ينفذ تصرفه مطلقا،حتى مع معارضة الآخر.و إذا تصرف كل واحد تصرفا يتنافى مع تصرف الآخر،كما لو كانا وكيلين في بيع عقار،فباعه أحدهما من زيد، و باعه الآخر من عمرو،إذا كان كذلك نفذ البيع السابق،و بطل اللاحق و إذا وقعا في آن واحد بطلا معا.

4-أن يطلق لهما الوكالة

،و لا يبين:هل هي على سبيل الاستقلال،أو الانضمام،كما لو قال:وكلتكما في كذا،أو أنتما وكيلاي في كذا،و الوكالة هنا تحمل على الانضمام،تماما كما لو اشترط اجتماعهما معا.

ص:247

أحكام الوكالة:

1-الوكيل أمين لا يضمن إلاّ بالتعدي أو التفريط

،قال صاحب الجواهر:

«لا خلاف بين المسلمين،و لا إشكال في ذلك،سواء أ كانت الوكالة بجعل- أي بأجرة-أو بغير جعل،لأن الوكيل أمين كغيره من الأمناء الذين قام الدليل على عدم ضمانهم من النص و الإجماع».

و بالمناسبة نذكر رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام،لأن فيها عبرة و عظة،قال محمد بن مرازم:«شهدت الإمام الصادق عليه السّلام،و هو يحاسب وكيلا له،و الوكيل يكثر من قول:و اللّه ما خنت،فقال الإمام عليه السّلام:يا هذا،خيانتك و تضييعك عليّ سواء،الا ان الخيانة شرها عليك،ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:لو أن أحدكم فر من رزقه تبعه،حتى يدركه،كما أنّه ان هرب من أجله تبعه،حتى يدركه،و من خان خيانة حسبت عليه من رزقه،و كتب عليه وزرها».

2-إذا تعدى أو فرط الوكيل يضمن،و لكن وكالته لا تبطل

،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،لعدم التنافي بين الضمان بسبب شرعي،و بين بقاء الوكالة».

3-كل معاملة يتجاوز فيها الوكيل محل الوكالة تقع فضالة عن الموكل

،و تلزم بإجازته،و تلغى مع عدمها.

انتهاء الوكالة:

تنتهي الوكالة بالأمور التالية:

1-إتمام العمل الموكل به.

ص:248

2-موت كل من الوكيل و الموكل،لأن شخصيتهما موضع الاعتبار في الوكالة.

3-الجنون و الإغماء من كل منهما،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،بل في المسالك هو موضع وفاق».

4-إذا حجر على الموكل فيما وكل فيه بعد الوكالة،لأن الوكيل فرع عن الأصيل،فإذا سقط الأصل تبعه الفرع.

5-أن يعزل الموكل الوكيل،و لكنه لا ينعزل إلاّ بعد علمه بالعزل،فكل تصرف يأتي به بعد العزل و قبل العلم-فهو نافذ على الموكل.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل وكل آخر في أمر من الأمور،و اشهد له بذلك شاهدين، و لما خرج الوكيل لإمضاء الأمر قال الموكل:اشهدوا أني عزلته عن الوكالة؟فقال الإمام عليه السّلام:ان كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكل فيه قبل العزل فإن الأمر ماض على ما أمضاه الوكيل،كره الموكل،أم رضي.قال السائل:ان الوكيل قد أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل،أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة،فهل الأمر على ما أمضاه؟قال الإمام عليه السّلام:نعم.

6-أن يعزل الوكيل نفسه،علم الموكل،أو لم يعلم.

7-أن يتصرف الموكل في محل الوكالة قبل أن يتصرف الوكيل.

8-أن يهلك الشيء الموكل به.

9-إذا وكله بشرط أن يكون عادلا فظهر فاسقا تبطل الوكالة من الأساس، و إذا طرأ الفسق بعد العدالة و الوكالة تزول الوكالة بمجرد حدوث الفسق.

ص:249

طرق إثبات الوكالة:

تثبت الوكالة بالطرق التالية:

1-إقرار الموكل.

2-الكتابة المفيدة للعلم،و منها الصك المنظم عند كاتب العدل و غيره من الدوائر الرسمية.

3-شهادة عدلين.و لا تثبت بشاهد و امرأتين،و لا بشاهد و يمين،لأن الوكالة من حيث هي ليست من الحقوق المالية.أجل،تثبت الأجرة على الوكالة بذلك،لأنها من الحقوق المالية.

و إذا اختلفت شهادة الشاهدين في الزمان و المكان ينظر:فان شهدا بالإقرار،لا بإنشاء الوكالة،فقال أحدهما:أقر زيد يوم الجمعة أن عمرا وكيله، و قال الآخر:أقر بذلك أمامي يوم السبت قبلت الشهادة،لأن الاختلاف في زمان الإقرار،أو مكانه لا يستدعي الاختلاف في صدور الوكالة.

و إذا شهدا بإنشاء الوكالة،فقال أحدهما:وكله يوم الجمعة،و قال الآخر:

بل وكله يوم السبت تسقط الشهادة عن الاعتبار،لعدم توافق قول الشاهدين على معنى واحد،و يأتي التفصيل في باب الشهادات ان شاء اللّه.

و لا تثبت الوكالة بموافقة الطرف المقابل في المعاملة،أو في الخصومة لأن إقراره حجة على نفسه،لا على الموكل.

مسائل:

1-على الوكيل أن يسلم ما في يده من مال الموكل إليه عند طلبه

،كما هو

ص:250

الشأن في كل من وضع يده على مال الغير بإذن،أو من غير اذن.و إذا أخر لغير عذر ضمن،حتى و لو تلفت العين بآفة سماوية.

2-إذا وكله في بيع شيء أو شرائه،فترك الوكيل و أهمل يأثم فقط،و لا

يضمن

،تماما كما لو أنكر الوكالة،و هو كاذب في إنكاره.

أجل،لو كان إهمال الوكيل سببا لهلاك الشيء الموكل به عند العرف يكون ضامنا،كما لو كان لإنسان محفظة و ما إليها في عرض الطريق العامة،و وكله في إيصالها إلى البيت،و بعد أن قبل و رضي بذلك تركها و مضى.

و إذا اشترى الشيء الذي وكل بشرائه،و وجد سبب من أسباب الخيار فعليه أن يراعي مصلحة الموكل بكل دقة في الفسخ و الإمضاء،فإن اقتضت مصلحته الفسخ،و لم يفسخ أثم،و لا ضمان عليه،تماما كما لو وكله بالفسخ و لم يفسخ،أو بالبيع،و لم يبع.و ان اقتضت مصلحة الموكل إمضاء الشراء ففسخ فعليه الضمان، لأنه قد أتى بفعل يضر بالموكل،و هو في الوقت نفسه منهي عما أتى به.

3-إذا وكله ان يودع عينا من أمواله عند شخص معين،فقال الوكيل:

أودعتها.و أنكر الشخص ذلك،و حلف

،فهل يضمن الوكيل بالنظر إلى إهماله بعدم الاشهاد على الإيداع؟ اتفقوا بشهادة صاحب الجواهر«على أنّه لا يضمن ضرورة عدم كون ذلك تفريطا في نظر العرف خصوصا في الوديعة المبنية على الخفاء».

و إذا وكله بوفاء دينه،فقال الوكيل:وفيت.و قال الدائن:كلا،فهل يضمن الوكيل،لتركه الاشهاد على الوفاء؟ قال جماعة من الفقهاء:يضمن،و قال آخرون،منهم صاحب الجواهر، و السيد اليزدي في الملحقات،و السيد الأصفهاني في الوسيلة،قالوا:لا يضمن،

ص:251

لعدم صدق التفريط،و مع الشك في أنّه يضمن أو لا؟يحكّم أصل عدم الضمان، هذا،مع العلم بأنّه لا يجب الاشهاد على الإيداع،و لا على الوفاء.

4-قال صاحب ملحقات العروة:

«لا يشترط في الوكيل العدالة،و لا الإسلام

،فيجوز توكيل الفاسق.و كذا يجوز توكيل الكافر،حتى في تزويج المسلم.بل يجوز توكيل المرتد بقسميه- أي الفطري و الملي-لعدم كونه مسلوب العبارة،و لا ينافيه وجوب قتل الفطري- ثم قال في مكان آخر من باب الوكالة-لا بأس للمالك أن يوكل غير الأمين فيما يتعلق بمال نفسه،لا في مال غيره،مثل مال القاصر و الوقف،و نحو ذلك،لأنه مسلط على ماله،لا على مال الغير».

5-إذا اتفق الطرفان على اجرة الوكيل،أو على عدمها

تعين العمل بالاتفاق،و إذا لم يتعرضا لها سلبا و لا إيجابا فللوكيل اجرة المثل إذا لم ينو التبرع، لأن من دعا غيره إلى عمل،و لم يشترط المجان،و لم يكن العامل متبرعا-فعلى من استوفى العمل اجرة المثل،مع عدم التسمية.

التنازع:

1-إذا اختلفا في أصل الوكالة و صدورها فالقول قول المنكر بيمينه

،سواء أ كان المنكر هو المالك،أو غيره،لأن الأصل عدم الوكالة،حتى يثبت العكس.

2-إذا قال الوكيل:تلفت العين من غير تعد،أو تفريط،فأنكر الأصيل

التلف،أو اعترف به

.و لكن ادعى تعدي الوكيل،أو تفريطه فالقول قول الوكيل، لأنه أمين،و ما على الأمين إلاّ اليمين.

3- الوكيل إذا قال للموكل:أرجعت إليك المال الذي كان في يدي من أجل الوكالة،و أنكر الموكل

ذهب المشهور بشهادة صاحب الشرائع و الملحقات إلى أن الوكيل إذا

ص:252

قال للموكل:أرجعت إليك المال الذي كان في يدي من أجل الوكالة،و أنكر الموكل ذلك ينظر:فان كانت الوكالة بأجرة فالقول قول الموكل،لأن الوكيل مدع، و قد قبض لمصلحة نفسه.و ان كانت الوكالة بلا أجرة فالقول قول الوكيل،لأنه محسن قبض لمصلحة الموكل.

و قال جماعة من الفقهاء القول قول الموكل إطلاقا،لأن كل من كان في يده مال لغيره فعليه أن يثبت إيصاله بالبينة إلاّ ما خرج بالدليل،كالوديعة التي تقدم الكلام عنها (1).

4-إذا وكل في شيء،كالبيع أو الشراء،و ما إليهما،فقال الوكيل:بعت أو

اشتريت

كما نصت الوكالة،و أنكر الموكل البيع أو الشراء،و زعم أن الوكيل لم يفعل شيئا مما وكل به فالقول قول الوكيل ما دامت الوكالة قائمة،لأن من ملك شيئا ملك الإقرار به.

5-إذا ادعى الوكالة عن رجل في تزويج امرأة،و أجرى العقد بمهر معين،

فأنكر الرجل التوكيل

،و لا بينة تثبت الوكالة-كان القول قول المنكر بيمينه، و للمرأة أن تتزوج بمن تشاء،مع عدم علمها بصدق المدعي،و على مدعي الوكالة أن يدفع لها نصف المهر،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل قال لآخر:

اخطب لي فلانة،و ما فعلت من شيء و قاولت من صداق و شرطت فذاك رضاي و لازم لي،و لم يشهد،فذهب و خطب،و بذل عنه الصداق،ثم أنكر الرجل ذلك كله؟قال الإمام عليه السّلام:«يغرم-أي مدعي الوكالة-نصف المهر».

ص:253


1- من طريف ما قرأت،و أنا أتتبع مصادر هذه المسألة أن صاحب مفتاح الكرامة نقل كلاما لصاحب الحدائق حول المسألة بالذات،و بعد أن رده صاحب المفتاح بما رآه تمثل بهذا البيت: و ابن اللبون إذا ما لزّ في قرن لم يستطع وصولة البزل القناعيس

6-إذا اتفقا على أصل الوكالة،و اختلفا على محلها

،فقال الوكيل:وكلتني ببيع البستان،و قال المالك:بل ببيع الدار-حلف الموكل على نفي الوكالة ببيع البستان،و تكون النتيجة نفي الوكالة عن البستان و الدار معا:عن البستان،ليمين الموكل،و عن الدار لإنكار الوكيل.

7- الوكيل إذا ادعى الاذن من الموكل بالبيع بثمن معين،أو الشراء له بثمن معين،و أنكر الموكل

ذهب المشهور بشهادة صاحب الحدائق إلى أن الوكيل إذا ادعى الاذن من الموكل بالبيع بثمن معين،أو الشراء له بثمن معين،و أنكر الموكل ذلك القدر كان القول قول الموكل،لأنه أعرف بفعله و مقاصده،و لأن الأصل عدم صدور التوكيل على الوجه الذي يدعيه الوكيل.و بكلمة ان الاختلاف في صفة الوكالة يرجع في الحقيقة إلى الاختلاف في أصل صدورها،و أنّه هل وكله على ثمن معين،أو لا؟و الأصل عدم صدور الوكالة على الثمن الذي ذكره الوكيل.

ص:254

الإجارة

اشارة

ص:255

ص:256

معناها:

الأجر و الأجرة بمعنى واحد لغة و عرفا،كلاهما يعبران عن الجزاء و العوض عن قول أو فعل،أو عن منفعة بيت،أو حانوت أو دابة،أو سيارة،أو ثوب و ما إلى ذلك.

أما الإجارة فمعناها لغة الكراء،و قريب منه المعنى الشرعي،حيث حدد الفقهاء الإجارة بأنّها ما شرعت لتمليك منفعة معلومة بعوض معلوم.

و بقيد المنفعة يخرج البيع،لأنه تمليك العين،و بقيد العوض،تخرج الهبة و الوصية لأنهما بغير عوض.

و تجدر الإشارة-هنا-إلى الفرق بين ملك المنفعة،و حق الانتفاع،فإن ملك المنفعة تختص بالمستأجر وحده،و لا يشاركه فيها أحد،أما حق الانتفاع فهو مجرد الترخيص بالتصرف لجهة معينة،كالمرور في الأسواق و الطرقات، و الجلوس في المساجد و الحدائق العامة،و السباحة في البحار و الأنهار،و ما إلى ذلك مما خصص للمصالح و المنافع العامة.

مشروعية الإجارة:

مشروعية الإجارة،تماما كمشروعية البيع و الزواج لا تحتاج إلى دليل،لأنها من الضرورات التي ليست محلا للاجتهاد و التقليد،و مع ذلك نذكر بعض الآيات

ص:257

للتبرك و التيمن،من ذلك الآية التي أحلت المتعة صراحة،و هي قوله تعالى:

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً (1).و منها آية الرضاع فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (2).أما الآية 32 من سورة الزخرف وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ،أما هذه الآية فقد جاء في تفسيرها أن معنى«سخريا»أن يستسخر بعض الناس البعض الآخر لقاء أجر معين.

و ثبت عن أهل البيت عليهم السّلام أن من الأفضل للإنسان أن يمارس الأعمال الحرة،كالتجارة و ما إليه،و لا يؤجر نفسه لغيره،لأن الإجارة فيها تحديد للرزق.

قال الإمام الصادق عليه السّلام:من أجر نفسه فقد خطر على نفسه الرزق،و كيف لا يخطره،و ما أصابه فيه فهو لربه الذي أجره.أي ما استفاده من ناتج عمله فقد أعطاه لغيره.و في رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:لا يؤاجر الإنسان نفسه،و لكن يسترزق اللّه عزّ و جلّ،و يتجر،فإذا أجر نفسه فقد خطر-أي منع الرزق عن نفسه.

و ليس من شك أن كراهية إيجار الإنسان نفسه ترتفع إذا اضطر لذلك،و لم يجد وسيلة للرزق إلاّ به،فقد أجر الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه ليهودي حين هاجر مع الرسول إلى المدينة،و أبى أن يكون عالة على غيره.

و للإجارة أركان و شروط نذكرها تحت هذا العنوان:

الشروط:

1-العقد

،و يتحقق بكل ما دل على الرضا من الجانبين قولا و فعلا،إيجابا

ص:258


1- النساء:24. [1]
2- الطلاق:6. [2]

و قبولا.

و قال بعض الفقهاء:لا تنعقد الإجارة إلاّ بلفظ خاص،لأنها من العقود اللازمة.و يكفي في ردّ هذا القول أنّه زعم بلا دليل.

2-أن يكون كل من المؤجر و المستأجر بالغا عاقلا رشيدا

،غير محجر عليه لسفه أو فلس،لأن الصغير و المجنون و السفيه و المفلس ممنوعون من التصرفات المالية بشتى أنواعها،تماما كما هو الشأن في البيع.أجل.،يجوز للمفلس أن يؤجر نفسه،لأنه ممنوع من التصرف في أمواله،لا في نفسه.

3-أن تكون العين المستأجرة معلومة لدى الطرفين

،و كذا الجهة التي يستوفيها المستأجر،كسكنى الدار،و زراعة الأرض،و ان تكون المنفعة حلالا و مملوكة للمؤجر،و داخلة تحت قدرته و تصرفه،و ان تستوفي المنفعة مع بقاء العين.فلا تصح اجارة المجهول عينا أو منفعة لمكان الغرر،و لا لغاية محرمة، كإجارة البيت للدعارة أو المقامرة،و لا اجارة مال الغير إلاّ إذا جاز،و لا اجارة ما لا يقدر المالك على تسليمه،كالمال المغصوب،إلاّ إذا كان المستأجر أقوى من الغاصب بحيث يستطيع انتزاعه منه،و لا تصح اجارة الخبز و الفاكهة،و ما إليهما مما لا ينتفع به إلاّ بهلاك عينه.

4-أن تكون العين المستأجرة قابلة للمنفعة التي استؤجرت من أجلها

، فلو أجره أرضا للزراعة دون أن تصلح لها،لعدم إمكان إيصال الماء إليها،أو نحو ذلك-تبطل الإجارة،لأنها أكل للمال بالباطل.

5-تصح إجارة حصة مشاعة من عين معينة

،تماما كما تصح اجارة المقسوم،لإطلاق أدلة الإجارة الشاملة لهما معا،و مجرد الشركة لا توجب المنع، و لا تقيد الأدلة.

ص:259

6-إذا استؤجر الطبيب لقلع ضرس مريض،أو قطع إصبع متأكلة،ثم زال

المرض قبل القلع و القطع

انفسخت الإجارة،أما إذا استؤجر على قطع ضرس صحيح،أو قطع يد سليمة فالإجارة باطلة من الأساس،لمكان الضرر،لأن العقل كما يحكم بقبح الظلم،و الكذب المضر يحكم أيضا بقبح إيلام النفس و إدخال الضرر عليها.

الإجارة عقد زمني:

الإجارة عقد زمني لا بد فيها من قياس المنفعة،و تقديرها بالزمن،و حيث لم يرد النص في الحد الأقصى و لا الحد الأدنى في مدّة الإجارة فيترك التحديد قلة و كثرة لإرادة المتعاقدين على شريطة أن تتسع المدّة للعمل،و ان تبقى العين بعد استثمار منفعتها.قال صاحب التذكرة:«يجوز أن يستأجر لحظة واحدة بشرط الضبط،و مائة ألف سنة-ثم فسر قوله هذا-بأنه يجوز اجارة العين مدّة تبقى فيها، و ان كثرت بشرط الضبط،و هو قول علمائنا أجمع».

فمثل سكنى الدار،و زراعة الأرض تقدر بالأيام و الأشهر و السنين لأن الزمن جزء من المنفعة،و لا قوام لها إلاّ به،أما استئجار الدابة أو السيارة إلى بلد معين فيجب تعيين المكان و الزمن الذي يباشر فيه السفر،و إرجاع العين المستأجرة إلى صاحبها،أما الاستئجار على خياطة البدلة أو صبغها،و نحو ذلك فيكفي ذكر الوقت الذي ينتهي فيه العمل،و إرجاع الثوب إلى مالكه دون ذكر الابتداء بالعمل على ما هو المعروف المألوف.و إذا قال له:خط لي هذا الثوب، و لم يذكر المدة حمل على المتعارف بين الناس،فإن لم يكن عرف يعين المدّة بأسبوع أو أكثر أو أقل فيحمل على التعجيل ما أمكن.

ص:260

الإيجار كل شهر بكذا:

ما هو حكم الشرع في الإيجار الشائع،مثل أجرتك هذا البيت،أو الحانوت كل شهر بكذا،بحيث تكون المنفعة و الأجرة و ابتداء الإجارة كل ذلك معلوم،و لم يجهل إلاّ انتهاء الإجارة فقط؟ قال جماعة من الفقهاء ببطلان الإجارة،حيث أوجبوا العلم بزمن الإجارة بداية و نهاية،و قال آخرون:تصح الإجارة في الشهر الأول،و تبطل فيما بعده، و يثبت على المستأجر أجرة المثل.و جاء في كتاب الجواهر باب الإجارة،و الجزء السابع من مفتاح الكرامة ص 112 طبعة 1336 ه:«في كتاب الخلاف للشيخ، و الغنية لابن زهرة:إذا قال:أجرتك هذه الدار كل شهر بكذا كانت الإجارة صحيحة،و المنع يحتاج إلى دليل،و ان لم يعين آخر المدة.و عن ابن الجنيد أنّه قال:لا بأس أن يستأجر الدار كل شهر بكذا،و كل يوم بكذا،و لا يذكر نهاية الإجارة».

و نحن على هذا الرأي،و من القائلين بالجواز،لأن العقد تام في نظر العرف،فيشمله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و المؤمنون عند شروطهم.و لا يستلزم ذلك أي محذور،فإن الأجرة معلومة،و جهة المنفعة معلومة،و مجرد الجهل بنهاية الإجارة لا يستلزم بطلانها،فليس كل جهل موجب للبطلان أو مؤد للضرر.و قد رأينا العرف يتسامح في مثل ذلك،و يكتفي بالعلم بجزء معلوم من الأجرة مقابل جزء معلوم من العمل.مثل أن يقول المالك للعامل:انقل هذه الأكياس،و لك كذا عن كل كيس،أو هذه الأحجار،و لك عن كل حجر درهم،و ما إلى ذاك فان مثل هذا شائع و معروف مع جهلهم بعدد الأكياس و الأحجار،و مجموع الأجرة

ص:261

عليهما (1).

و نقل صاحب الحدائق عن المحقق الأردبيلي و عن صاحب الكفاية الميل إلى صحة الإجارة إذا قال:آجرتك كل شهر بكذا،ثم قال صاحب الحدائق:و هو جيد.

سؤال ثان:إذا قال له:أجرتك الدار،و الحانوت كل شهر بكذا فمتى تنتهي الإجارة؟و في أي وقت يجوز للمالك،أو للمستأجر أن يفسخ الإيجار،و ينهي مدته؟مع العلم بأن الإجارة من العقود اللازمة التي لا تفسخ قبل انتهاء مدتها إلاّ بإرادة المتعاقدين؟ الجواب:نقل صاحب الجواهر،و صاحب مفتاح الكرامة عن السيد ابن زهرة أنّه أجاب عن ذلك بأن أجرة الشهر تستحق بالدخول فيه،و لا يجوز للمستأجر و لا للمؤجر الفسخ حتى ينقضي الشهر،فإذا انقضى الشهر جاز الفسخ.و مهما يكن،فإن الذين قالوا ببطلان الإجارة إذا لم يعين نهايتها قالوا جميعا:ان ذلك يصح إذا قصد الجعالة،أو الإباحة بعوض،حيث يتحملان من الجعالة ما لا تتحمله الإجارة،و سنذكر في الفصل الآتي الفرق بين الإجارة و الجعالة عند الفقهاء،و ان المستأجر يملك المنفعة في الإجارة،و عليه أن يدفع عوضها على كل حال،حتى و لو لم يستوفيها،أما الجعالة،فإن العوض لا يدفع إلاّ مع الاستيفاء.

الإجارة و القانون:

من المعلوم أن قانون الحكومات في هذا العصر يمنع المالك من إخراج

ص:262


1- ربما يجاب عن هذا،و أمثاله بأنه من باب الجعالة لا الإجارة.و الذي نعتقده أن العرف لا يفرقون بين الجعالة و الإجارة،و يأتي الكلام عن الجعالة مفصلا في الفصل التالي ان شاء اللّه.

المستأجر من ملكه بعد انتهاء أمد الإجارة المتفق عليها بين المؤجر و المستأجر و أيضا يمنعه من زيادة الأجرة.بل ان قانون الإيجار كثيرا ما يعدّل،و يفرض نقصان الأجرة على المؤجر رغم الاتفاق بينه و بين المستأجر على المبلغ المعين.

فهل يجوز للمستأجر العمل بقانون الحكومة،و ان لم يرض المالك؟ ثم ما هو حكم المال الذي يأخذه مستأجر الدكان من المستأجر الثاني، و المعروف عندنا في لبنان باسم الخلوّ،و في العراق باسم«سر القفلية»:هل هو حلال أم حرام؟ و لا بد في الجواب من التفصيل بين جهل المالك بالقانون حين الإيجار، و بين علمه به،فإن أجّر الدار-مثلا-قبل أن تصدر الحكومة قانون الإيجار،أو بعده،و لكنه كان جاهلا به حين أوقع الإجارة مع المستأجر،ان كان كذلك فإن الإيجار ينتهي بانتهاء أمده،و لا يحل للمستأجر العمل بقانون الحكومة،بل يكون حكمه حكم الغاصب إذا سكن و تصرف من غير اذن المالك.

و ان أجر المالك مع علمه بقانون الإيجار،و أنّه لا يحق له أن يخرج المستأجر،حتى و لو انتهت المدّة المضروبة بينه و بين المستأجر،و يعلم أيضا أنّه لا يستطيع زيادة الأجرة مهما ارتفع سعر الإيجار،و ان عليه أن يتقبل كل ما تفرضه الحكومة،ان كان الأمر كذلك يكون الإيجار صحيحا على شرط الحكومة،لأنه قد أقدم عليه بإرادته و اختياره،و يكون ذلك شرطا ضمنيا،أو بمنزلته،تماما كما لو قال المستأجر للمؤجر:استأجرت منك الدار على شرط الحكومة،و على النص الموجود في قانون الإيجار،و قبل المؤجر بذلك.و أي مانع في أن يقول المالك للمستأجر:أجرتك الدار كل سنة بكذا مدّة حياتك،كما يقول له:أسكنتك إياها مدّة حياتك،حيث اجمع الفقهاء على صحة ذلك كما يأتي في باب السكنى

ص:263

و العمرى.بل،يصح أن يقول له:آجرتك إياها كل سنة بكذا على أن يكون انتهاء الإيجار بيدك،ما دام كل من المنفعة و الأجرة،و ابتداء الإيجار معلوما،و مجرد الجهل بنهاية الأجرة لا يستدعي بطلان الإجارة،كما سبق في فقرة«الإيجار كل شهر بكذا».أجل،إذا قال المؤجر للمستأجر:لست أرضى بقانون الحكومة بحال،و انما اجري معك الإيجار على ما يجري بيننا من الاتفاق،بحيث إذا انتهت المدّة المعينة للايجار فعليك تسليم العين المستأجرة،إذا كان الأمر كذلك وجب على المستأجر التقيد بالاتفاق،و لا يجوز له الأخذ و العمل بقانون الحكومة.

و مثل ذلك تماما حكم الخلو الذي يأخذه مستأجر الدكان من المستأجر الثاني،فإن أجر المالك،و هو على علم بذلك جاز الإيجار للثاني و أخذ الخلو منه،لأن إقدامه على ذلك مع علمه بمنزلة الشرط الضمني.هذا،إلى أنّه قد جرت العادة في هذه الأيام أن يأخذ صاحب الدكان خلوا من المستأجر الأول غير الأجرة المتفق عليها لقاء الخلو الذي يأخذه المستأجر الأول من الثاني.و جاء عن الإمام عليه السّلام رواية تشير إلى جواز أخذ الخلو،فقد سئل عن الرجل يرشو الرشوة على ان يتحول عن منزله فيسكنه؟قال:لا بأس به.

و على جميع الأحوال لا يجوز أن يؤجر المستأجر غيره بخلو أو غير خلو، إذا انتهت مدّة إجارته،و كان المالك جاهلا بالقانون عند الإيجار أو كان عالما، و لكنه اشترط على المستأجر أن لا يؤجر غيره.و بكلمة إذا ذكر الشرط صراحة في متن العقد يجب العمل به،و لا ينظر إلى غيره إطلاقا،حتى و لو كان المالك عالما بقانون الإيجار،و مع عدم الشرط ينظر:فإن كان المالك عالما بقانون الإيجار.و أجر،و هو على يقين بأنه سيطبق عليه ألزم به،و ان كان جاهلا بالقانون حين الإيجار فعلى المستأجر أن لا يتصرف إلاّ بإذن المالك و موافقته،و لا يطبق

ص:264

عليه قانون الإيجار بحال.

المرأة الموظفة:

ذكر السيد اليزدي في العروة الوثقى،و السيد الحكيم في المستمسك أن المرأة إذا أجرت نفسها للخدمة مدّة معينة،ثم تزوجت قبل انقضاء المدّة لم تبطل الإجارة،حتى و لو كانت الخدمة منافية لاستمتاع الزوج و حقوقه الزوجية، و لا فرق في ذلك بين أن يكون الزوج عالما بالإيجار حين الزواج أو جاهلا.

و السبب لذلك أنّه قد وجد حقان:حق الخدمة،و حق الزوج،فإن تمكنت الزوجة من القيام بهما معا فذاك،و ان تزاحم الحقان،بحيث لا يمكن الجمع بينهما قدم الحق الأسبق،و هو هنا الخدمة،لأنه إذا تزاحمت الحقوق الشرعية يكون الترجيح للسابق.و عليه فليس للزوج أن يعترض أو يفسخ الإجارة،أو يعتبر الزوجة ناشزة.أجل،إذا أجرت نفسها بعد التزويج ينظر:فإن كانت الإجارة تزاحم حق الزوج فلا تصح إلاّ باذنه و أجازته،و إذا كانت الإجارة على شيء لا يتنافى مع حق الزوج إطلاقا،كما لو أجرت نفسها لقراءة القرآن،أو لحياكة ثوب بالسنارة أو الغزل باليد-مثلا-تصح الإجارة،حتى و لو لم يأذن الزوج.

هذا ما وجدته من أقوال الفقهاء فيما يعود إلى إيجار المرأة نفسها للخدمة، و لم أر أحدا من الفقهاء تعرض لتوظيفها في الوظائف الحكومية،و الشركات التي انتشرت،و كثرت في هذا العصر.و لم يتعرض الفقهاء لها،لأن توظيف المرأة لم يكن معروفا في عهدهم.

و الذي نراه أن من تزوج امرأة موظفة،و كان على علم بذلك حين الزواج فليس له أن يطالبها بترك الوظيفة،حتى و لو كانت مزاحمة لحقه،و إذا طالبها

ص:265

بذلك فلا تجب اجابته،و لا تسقط نفقتها عنه،لأنه أقدم مع العلم،و هذا الاقدام شرط ضمني أو في حكمه على أن تبقى في وظيفتها،بخاصة أن أكثر شباب اليوم يتزوجون الموظفات طمعا في رواتبهن،فإذا حصل بينهما شيء من النزاع طالبها بترك الوظيفة بقصد النكاية و التنكيل.

و ان تزوجها جاهلا بأنّها موظفة ينظر:فإن كان قد اشترط في ضمن العقد أن تكون غير موظفة أمرها بترك الوظيفة،فإن امتنعت كان له الحق في فسخ الزواج،لتخلف الشرط.و ان لم يشترط،و كانت الوظيفة مزاحمة لحقه،و أمرها بالترك فعليها الطاعة و الامتثال،و ان أبت فهي ناشز،تسقط نفقتها،و كفى.و ليس له أن يفسخ،لأن للزواج أحكاما و خصائص تخالف غيره من العقود،بخاصة فيما يعود إلى الفسخ و الإقالة.

و تسأل:لما ذا اعتبرت الموظفة ناشزا إذا أمرها الزوج بترك الوظيفة،مع جهله بأنّها كانت موظفة حين العقد،و لم تعتبر المرأة التي أجرت نفسها قبل الزواج للخدمة ناشزا إذا أمرها الزوج بترك الخدمة؟ الجواب:ان المرأة التي أجرت نفسها للخدمة قبل الزواج ملزمة شرعا بالتأدية و إتمام الخدمة على وجهها بموجب عقد الإيجار،و لا يجوز لها العدول إلاّ برضا المستأجر-بخلاف الموظفة،فإنّها غير ملزمة بمتابعة الوظيفة.بل يجوز لها أن تتركها شرعا متى شاءت،فقياس الموظفة على من أجرت نفسها للخدمة قياس مع وجود الفارق.

ص:266

لزوم الإجارة:

إذا توافرت الشروط في الإجارة لزمت،و لا يجوز للمؤجر أو المستأجر الفسخ و العدول إلاّ برضا الآخر،أو كان له الخيار في الفسخ إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .

و سئل الإمام الكاظم ابن الإمام الصادق عليهما السّلام عن الرجل يكتري من الرجل البيت أو السفينة سنة أو أقل،أو أكثر؟قال:كراه لازم إلى الوقت الذي اكتراه.

بطلان الإجارة:

اشارة

قد تقع الإجارة باطلة منذ البداية،و قد تقع صحيحة ثم يطرأ عليها البطلان لأحد الأسباب قبل انتهاء أمدها.و أشرنا فيما سبق إلى أن الإجارة تقع باطلة إذا كانت الأجرة مجهولة،و المنفعة مجهولة أو محرمة،و اجمع كلمة لموارد الإجارة الباطلة قول الإمام الصادق عليه السّلام:

«أما وجوه الحرام من وجوه الإجارة فنظير أن يؤجر الإنسان على حمل ما يحرم عليه أكله،أو شربه،أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء،أو حفظه،أو لبسه،أو يؤاجر نفسه في هدم مسجد ضرارا،و قتل النفس بغير حل،أو عمل التصاوير-أي التماثيل المحرمة من ذوات الأرواح-و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر،و الخنازير و الميتة،أو شيء من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه من غير جهة الإجارة فيه،و كل أمر ينهى عنه من جهة من الجهات فمحرم على الإنسان إجارة نفسه فيه،أو له،أو شيء منه أو له إلاّ لمنفعة من استأجرته،كالذي يستأجر الأجير يحمل له الميتة ينحيها عن أذاه،أو أذى غيره،و ما أشبه ذلك».

و تبطل الإجارة بعد صحتها،و قبل انتهاء أمدها للأسباب التالية

ص:267

1-إذا هلكت العين المستأجرة و تعذر استيفاء المنفعة المطلوبة منها

، كالدار تستأجر للسكن فتنهدم،و الأرض للزراعة فتغرق،لانتفاء الموضوع إلاّ إذا أسرع المؤجر إلى إعادة العين المستأجرة إلى ما كانت،بحيث لا يفوت شيء من المنفعة على المستأجر.و إذا استوفى بعض المنفعة،ثم هلكت العين صحت الإجارة فيما استوفاه،و بطلت فيما بقي،و توزع الأجرة بالنسبة.

و إذا استأجر أرضا للزرع،فهلك الزرع بآفة سماوية فلا تبطل الإجارة،و لا يحق للمستأجر الرجوع على المؤجر بشيء،لأن الهلاك لحق بمال المستأجر لا بالعين المستأجرة،بل هي على ما كانت لم يطرأ عليها شيء يوجب البطلان أو خيار الفسخ،فقد جاء في كتاب مفتاح الكرامة:«لو اتفق هلاك الزرع في الأرض المستأجرة للزراعة بحريق أو سيل أو جراد أو شدة حر أو برد،أو كثرة مطر أو مسيل سيل،بحيث حصل الغرق للزرع دون الأرض لم يكن للمستأجر الفسخ، و لا حط شيء من الأجرة،لأن الجائحة لحقت مال المستأجر،لا منفعة الأرض» أي أن الأرض بقيت على أهليتها للمنفعة.

2-إذا استأجر سيارة،أو دابة معينة لنقل المتاع من بلد لآخر فهلكت

الدابة،أو خربت السيارة

انفسخت الإجارة،لانتفاء المحل،أما إذا استأجرها لنقل المتاع في الذمة،أي على آية سيارة أو دابة تكون،ثم حمل الأجير المتاع على دابته أو سيارته فهلكت قبل الوفاء فإن الإجارة تبقى على ما هي،و على الأجير أن ينقل المتاع على دابة أو سيارة أخرى،و الفرق بين الصورتين أن الهلاك في الأولى لحق العين المستأجرة بالذات،و في الثانية تعلق الهلاك بالفرد الذي أراد الأجير أن يفي بالإجارة بواسطته،قال صاحب الجواهر.إذا وقعت الإجارة على عين مشخصة تبطل الإجارة،أما إذا كانت كلية،و قد دفع المؤجر فردا،فتلف عند

ص:268

المستأجر فلا تنفسخ الإجارة،بل ينفسخ الوفاء،و يستحق عليه فرد آخر».

3-سبق أنّه إذا استأجره لقلع ضرس،فزال الألم قبل المباشرة بالقلع

انفسخت الإجارة لانعدام الموضوع.و كذا إذا استأجر امرأة لكنس المسجد فحاضت،حيث يحرم عليها الدخول إليه،و المانع الشرعي تماما كالمانع العقلي.

4-إذا استأجر دابة،أو سيارة،لتوصله إلى بلد معين،ثم مرض المستأجر،

و لم يقدر على الركوب

بطلت الإجارة،لتعذر استيفاء المنفعة التي استأجر العين من أجلها،و مجرد قابلية العين للمنفعة في نفسها غير كاف في صحة الإجارة،كما قال السيد الحكيم في المستمسك.

و بالأولى أن تبطل الإجارة إذا كان العذر عاما،مثل أن يستأجر السيارة للسفر إلى بلد فيعم الثلج و تسد الطريق،أو يستأجر دارا في بلد فتتوالى عليه الغارات،و يرحل أهله من الخوف،و ما إلى ذاك مما هو أشبه بتلف العين التي يتعذر استيفاء منفعتها.

5-اختلف الفقهاء في ان موت المؤجر أو المستأجر:هل يبطل الإجارة أو

لا

؟قال صاحب الجواهر:«المشهور بين الفقهاء المتأخرين أنّها لا تبطل بموت أحدهما.لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و الاستصحاب،و كون الإجارة من العقود اللازمة التي من شأنها عدم البطلان بالموت».

و هذا هو الحق،لأن موت أحد المتعاقدين لا يبطل العقد،و انما ينقل آثاره المترتبة عليه إلى الورثة.أجل،إذا استأجره بالذات،كما إذا اشترط عليه أن يبني له بيتا معينا بيده فإن الإجارة تبطل بموت الأجير،لانتفاء المحل و انعدامه، و كذا تبطل الإجارة بموت المستأجر إذا كان الأجير قد شرط أن يعمل له لا لغيره، أما إذا استأجره على أن يبني له بيتا كليا و في الذمة فلا تبطل الإجارة،و على الورثة

ص:269

أو الوصي أن يستأجر على البناء و إتمامه.

6-إذا باع المؤجر العين المستأجرة فلا تبطل الإجارة بالبيع

،بل تنتقل العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة إلى انتهاء أمد الإجارة.و إذا كان المشتري عالما بالإجارة حين الشراء فلا خيار،و ان كان جاهلا فهو بالخيار بين فسخ البيع، و بين إمضائه بلا منفعة مدّة الإجارة.

و كل موضع تبطل فيه الإجارة تجب اجرة المثل عوضا عما استوفاه من المنفعة،لأن البطلان يستدعي رجوع كل شيء إلى ما كان،فالمؤجر يرجع الأجرة المسماة إلى المستأجر،و هذا بدوره يدفع للمؤجر بدل ما استوفاه من ملكه بحسب ما يقدره العرف،سواء أ زاد على المسمى،أو نقص عنه.قال صاحب الجواهر:

«كل موضع يبطل فيه عقد الإجارة تجب فيه اجرة المثل مع استيفاء المنفعة أو بعضها،سواء زادت عن المسمى أو نقصت عنه بلا خلاف أجده فيه في شيء من ذلك،بل قد يظهر من إرسال الفقهاء ذلك إرسال المسلمات أنّه من القطعيات مضافا إلى قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده الشاملة للمقام،و إلى قاعدة احترام مال المسلم،و قاعدة من أتلف مال غيره،و قاعدة على اليد،و لا ضرر، و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل،و نحو ذلك مما يقضي بذلك،ضرورة أنّه مع بطلان العقد يبقى كل من العوضين على ملك صاحبه،فيجب على كل منهما رده بعينه إذا كان موجودا،و رد بدله من المثل أو القيمة ان كان تالفا،لفساد الالتزام بالمسمى بفساد العقد».

و قال جماعة من الفقهاء:ان هذا يتم مع جهل المتعاقدين ببطلان عقد الإجارة،أما مع علمهما بالبطلان فلا يحق لأحدهما الرجوع على الآخر لا بأجرة

ص:270

المثل لما استوفاه من المنفعة،و لا بما دفعه بعنوان الأجرة المسماة،لأنه هو الذي أقدم على هدر ماله،فكان متبرعا أو كالمتبرع بدفعه المال لمن يعلم بأنه غير مستحق له.

و نحن على رأي صاحب الجواهر الذي ردّ على هؤلاء«بأن الشرع نهى عن تناول الحرام،و منه أخذ المال بالإجارة الفاسدة،فتكون اليد عليه عادية ظالمة، تماما كأخذ العوض عن المحرمات.هذا،إلى أن التبرع ليس في قبالة شيء.أما الذي يدفع بعنوان معاملة فاسدة مشتملة على الإيجاب و القبول فليس دفع ماله من التبرع في شيء.ثم قال صاحب الجواهر:«فمن الغريب بعد ذلك كله دعوى صيرورة الفرض،و هو الاقدام على العقد الفاسد،كالهبة و العارية و التبرع لأن مفروض الكلام ان يعامل المدفوع بالمعاملة الفاسدة معاملة الصحيحة دون أدنى فرق و عليه فلا وجه للهبة و التبرع».

فسخ الإجارة بالخيار:

اشارة

الفرق بين بطلان الإجارة،و بين فسخها بأحد الأسباب أن معنى البطلان انعدام العقد،و عدم وجوده من رأس،أما الفسخ فالعقد موجود و لكن أمر رفعه و وضعه بيد صاحب الخيار،ان شاء أمضاه،و ان شاء فسخه.

و صرح جماعة من الفقهاء ان خيار المجلس و الحيوان و التأخير لا يجري شيء منها في الإجارة،لأن أدلة هذه الخيارات الثلاثة مختصة بالبيع فلا تشمل غيرها،و ذكرناها ما يتعلق بذلك مفصلا في الجزء الثالث عند الكلام عن كل واحد من هذه الخيارات الثلاثة.و فيما يلي نشير إلى الخيارات الأخرى التي تجري في الإجارة

ص:271

1-خيار العيب

،فإذا وجد المستأجر عيبا في العين المستأجرة تتفاوت به الأجرة،و لم يكن على علم به حين الإيجار فهو بالخيار بين الفسخ،و بين الإمضاء و الرضا من غير نقصان شيء من الأجرة،و هو المعروف بالأرش،لأن أخذ العوض عن العيوب على خلاف القاعدة،و قد ورد النص بجواز أخذه إذا وجد العيب في المبيع فيجب الاقتصار على مورده،و المسوغ لهذا الخيار هو رفع الضرر عن المستأجر.قال صاحب الجواهر:«ذكر الفقهاء أن العقد انما جرى على هذا المجموع،و هو باق،فاما أن يفسخ،و اما أن يرضى بالجميع-بلا أرش- و انما أثبتنا الأرش في البيع لوجود النص،و لا تقاس عليه الإجارة،أما الضرر الناشئ من العيب فيندفع بالخيار،و هذا هو المعتاد في جبر الضرر الذي سببه لزوم العقد».

و كذا يستقل المستأجر بالخيار إذا حدث العيب،أو اكتشفه بعد أن استوفى بعض المنفعة،لأن الخيار الناشئ عن الضرر لا يسقط بالتصرف مع الجهل بالضرر.هذا،إذا لم يسرع المالك فيتدارك العيب الحادث و يزيله بسرعة،بحيث لا يفوّت شيئا من المنفعة على المستأجر.و إذا اختار الفسخ وزعت الإجارة بالنسبة.

و أيضا يثبت خيار العيب للمؤجر إذا كانت الأجرة عينا شخصية،أمّا إذا كانت الأجرة كلية في الذمة،و لدى الوفاء سلمه المستأجر الفرد المعيب فللمؤجر المطالبة بالبدل،و لا حق له في الفسخ.و كذلك الحكم بالنسبة إلى العين المستأجرة،فإذا استأجر دابة غير معينة توصله إلى بلد خاص،و أتى المؤجر بدابة عرجاء-مثلا-فله المطالبة بإبدالها،و ليس له الفسخ إلاّ إذا وردت الإجارة على الدابة الشخصية بالذات.

ص:272

2-خيار الشرط

،يجوز لكل من المؤجر و المستأجر أن يشترط الخيار لنفسه،و لأجنبي في فسخ عقد الإجارة ضمن مدّة معينة،سواء أوردت الإجارة على العمل كخياطة الثوب،أو على المنفعة كسكنى الدار.و سواء أ تعلق الإيجار بشخص معين بالذات،أو بحصول العمل مطلقا مجردا عن مباشرة شخص بعينه،كالاستئجار على بناء حائط دون أن تحصر المباشرة بفرد خاص.

3-خيار تخلف الشرط

،مثل أن يستأجر الدار،و يشترط على المؤجر بعض الاصلاحات،فإذا امتنع عن الوفاء بالشرط كان للمستأجر الخيار بين فسخ الإجارة،أو إمضائها بلا نقص شيء من الأجرة،و كذا إذا اشترط المؤجر على المستأجر شرطا سائغا مثل أن لا يسكن معه عائلة أخرى،أو لا يستعمله للتجارة، و ما إلى ذاك،فان لم يف المستأجر بالشرط كان المؤجر بالخيار بين فسخ الإجارة،أو إمضائها دون زيادة في الأجرة.

4-خيار تبعض الصفقة

،مثل أن يستأجر دارا من غرفتين فتنهدم إحداهما،فإن بادر المؤجر إلى التعمير و اعادة كل شيء إلى ما كان،بحيث لم يفت شيء من المنفعة على المستأجر فلا خيار،و إلاّ كان المستأجر بالخيار بين فسخ الإجارة،أو إمضائها،و توزيع الأجرة بالنسبة.

5-خيار الغبن

،فإنه يثبت للمغبون مؤجرا كان أو مستأجرا،إلاّ إذا اتفقا على سقوطه.

6-خيار الرؤية

،مثل أن يستأجر دارا،أو أرضا على الوصف و لدى التسليم و التسلم يجد المستأجر أن الوصف يختلف عن الموصوف فيثبت له الخيار،ان شاء فسخ الإجارة،و ان شاء أمضاها دون عوض عن الوصف الفائت، و ايضا يثبت هذا الخيار للمؤجر إذا كانت الأجرة عينا خارجية رضي بها المؤجر

ص:273

اعتمادا على الوصف،ثم تبين العكس،و دليل هذا الخيار قاعدة لا ضرر.

7-خيار الفلس

،يجوز للمؤجر أن يفسخ الإيجار دفعا للضرر إذا أفلس المستأجر،و عجز عن الدفع،و له إبقاء الإجارة،و الانتظار إلى ميسرة.

8-خيار تعذر التسليم

،فان على المؤجر أن يسلم العين المستأجرة بعد عقد الإجارة،و لا يجوز له التأخير بحال إذا كان المستأجر باذلا للأجرة،فإن امتنع المؤجر عن التسليم،و لم يمكن إجباره عليه كان المستأجر بالخيار بين فسخ الإجارة،و الرجوع بالأجرة دفعا للضرر،و بين أن يبقى على الإجارة،و يطالب المؤجر بعوض المنفعة و بدلها.

و قد تكلمنا مفصلا عن هذه الخيارات في الجزء الثالث.و بالإيجاز ان كل خيار يجري في البيع،لقاعدة لا ضرر فإنه يجري في الإجارة أيضا،و كل خيار يجري في البيع لنص خاص به كخيار المجلس و الحيوان فلا يجري في الإجارة.

و هناك خيارات أخرى غير التي ذكرناها قد تجري في الإجارة،قال صاحب الجواهر:«ربما يمر عليك في أثناء المباحث خيار لا يندرج في الخيارات المذكورة،و لا بأس به بعد قيام الدليل عليه لعدم الحصر العقلي،و لا الشرعي في الخيارات المذكورة،كما هو واضح».

من هذه الخيارات ما إذا غصب العين المستأجرة غاصب قبل أن يقبضها المستأجر،حيث يثبت له الخيار بين فسخ الإجارة و الرجوع على المؤجر بما دفعه له،و بين إمضائها و مطالبة الغاصب بعوض المنفعة.أما إذا حصل الغصب بعد ان قبض المستأجر العين فيتعين رجوع المستأجر على الغاصب وحده بالعوض،و ليس له مطالبة المؤجر بشيء،حتى و لو كان قادرا على انتزاع العين و تخليصها من الغاصب،لأن المفروض أن المؤجر قد أدى ما أوجبه عليه عقد

ص:274

الإيجار من التسليم و الإقباض،فيكون تماما كما لو باع عينا،و بعد أن سلمها للمشتري سرقت منه.أجل،لو كان ذلك قبل القبض كان من مال البائع،لحديث «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال البائع»و ألحق الفقهاء الإجارة بالبيع في هذا الحكم.

و«منها»إذا كانت الأجرة عينا مشخصة بذاتها،و قبل قبضها امتزجت أو اشتبهت بغيرها بحيث لا يمكن افرازها و تعيينها،مثل أن يؤجر الدار بهذا الكيس الخاص من الحنطة،و قبل قبضه يختلط بأكياس أخرى من الحنطة مثله تماما، فيصبح صاحب هذا الكيس المشتبه شريكا مع مالك الأكياس بالنسبة،كما أوضحنا ذلك في الجزء الرابع باب الشركة،إذا كان الأمر كذلك يثبت الخيار للمؤجر بين فسخ الإجارة أو إمضائها،و إذا اختار الإمضاء يكون المؤجر شريكا مع غيره.و قد عبر صاحب الجواهر و صاحب العروة الوثقى عن هذا الخيار بخيار الشركة.

و إذا حصل الفسخ بأحد الأسباب قبل استلام العين،و استيفاء شيء من المنفعة فلا شيء على المستأجر،و ان حصل في أثناء المدّة توزّع الأجرة المسماة بالنسبة إلى ما مضى،و ما بقي،فأجرة ما مضى إلى المؤجر،و ما بقي ترجع إلى المستأجر،ان كان قد دفعها.

ص:275

أحكام الإجارة

اشارة

تأجير العين المستأجرة:

إذا تم عقد الإجارة ملك المؤجر الأجرة،و ملك المستأجر المنفعة في إجارة الأعيان كاستئجار الدار للسكنى،و ملك العمل في إجارة الأعمال كالاستئجار للخياطة قال صاحب الجواهر:«تملك المنفعة بنفس العقد كما تملك الأجرة به بلا خلاف،بل الإجماع على ذلك،لأن هذا هو مقتضى العقد،و المراد من إنشائه،بل هو مقتضى ما دل على أن العقد سبب للملك».

و إذا كانت المنفعة ملكا للمستأجر فله أن يتصرف بها بالتنازل عنها لمن يشاء بغير عوض،أو بعوض مساو،أو أقل،أو أكثر من العوض الذي دفعه للمؤجر إلاّ أن يشترط هذا على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه،و يربط الإجارة بشخص المستأجر بالذات،فيجب حينئذ الوفاء بالشرط و لا يجوز للمستأجر أن يهب،أو يؤجر للغير إجماعا،لأن المؤمنين عند شروطهم.هذا ما تقتضيه القواعد العامة،و خرجت بعض الموارد عن هذه القاعدة،لوجود النص،و منها:

1-الإجارة ترد تارة على العمل

،كخياطة الثوب،و ما إليه،و أخرى على منفعة الأعيان كسكنى الدار،و زراعة الأرض،و نحوها،فإذا وردت على العمل جاز لمن التزم العمل و تقبله من الغير بأجر معلوم،و لم يشترط عليه المالك

ص:276

المباشرة بنفسه-جاز تقبيله و تلزيمه إلى الغير بما يساوي الأجرة،و بأكثر منها مطلقا،سواء أحدث في المستأجر عليه حدثا أو لا،و على هذا إجماع الفقهاء.

و لا يجوز تقبيله و تلزيمه من الغير بأقل من الأجرة الأولى إلا أن يأتي الملتزم الأول بعمل،و يحدث شيئا كتفصيل الثوب،و ما إليه.و بكلمة ان الملتزم الأول يجوز له تلزيم العمل إلى غيره بلا ربح،أو بخسارة،و لا يجوز له أن يربح إلاّ إذا عمل عملا في الشيء المستأجر عليه قبل التقبيل و التلزيم-مثلا-إذا استأجر زيد عمرا ليخيط له ثوبا أو يبني له بيتا بعشرة،و لم يشترط عليه أن يباشر العمل بنفسه،فيجوز لعمرو أن يستأجر على خياطة الثوب،أو بناء البيت بعشرة أو بأكثر،و ان لم يأت بأي عمل،و لا يجوز أن يستأجر عليه بتسعة إلاّ إذا فصّل الثوب،أو حفر أساس البيت،و ما إلى ذلك.

قال صاحب المسالك:«هذا قول أكثر الفقهاء».و قال صاحب الحدائق:

«هذا هو المشهور في كلام المتقدمين».و فيه روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام، منها أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل يتقبل عملا فلا يعمل فيه،و يدفعه إلى آخر يربح فيه،قال:لا.و أيضا سئل عن رجل يتقبل الثوب بدرهم،و يسلمه بأقل من ذلك بعد أن يشقه؟قال:لا بأس بذلك.ثم كرر قوله:لا بأس فيما تقبلت من عمل استفضلت فيه.أي عملت فيه،و تركت منه بقية.

و قال جماعة من الفقهاء:يجوز أن يستأجر الأجير غيره على العمل الذي استؤجر بأكثر من الأجرة،حتى و لو لم يعمل أي عمل،و حملوا الروايات الدالة على المنع،حملوها على الكراهة.قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة:«و ما ورد من الروايات دالا على النهي عن الزيادة يحمل على الكراهة جمعا بينها و بين ما دل على الجواز».

ص:277

2-أما إذا وردت الإجارة على المنفعة

كاستئجار البيت للسكن، و الحانوت للتجارة فذهب جماعة من الفقهاء إلى أن المستأجر لا يجوز له أن يؤجرهما إلاّ أن يصلح فيهما شيئا،من تبييض أو دهان،و ما إلى ذلك،و استدلوا عليه بأن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الرجل يتقبل الأرض من الدهاقين، فيؤاجرها بأكثر مما يتقبلها،و يقوم فيها بحظ السلطان؟قال الإمام عليه السّلام:لا بأس به، ان الأرض ليست مثل الأجير،و لا مثل البيت،ان فضل البيت و الأجير حرام.

و أيضا سئل عن الرجل يستأجر الأرض،ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها؟ فقال الإمام عليه السّلام:لا بأس،ان هذا ليس كالحانوت،و لا الأجير،ان فضل الأجير و البيت حرام.

و قال صاحب الجواهر:«أمّا جواز أخذ الزيادة إذا أحدث حدثا فيهما،فلأن مقتضى الأصل هو الجواز،و للإجماع،و لصحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السّلام في رجل يستأجر الدار،ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها؟قال:لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئا.و صحيح آخر للحلبي عن الإمام عليه السّلام أنّه قال:لو أن رجلا استأجر دارا بعشرة دراهم فسكن ثلثيها،و أجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس،و لا يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به إلاّ أن يحدث فيها شيئا».

3-يجوز أن يؤجر الأرض بأكثر مما استأجرها

،سواء أصلح فيها شيئا،أو لا؟و لا يجوز أن يؤجرها لزرع الحنطة أو الشعير بمقدار معين مما يخرج منها، لروايات خاصة عن أهل البيت عليهم السّلام.و من الخير أن نختم هذه الفقرة بقول صاحب مفتاح الكرامة:«ليس في روايات أهل البيت عليهم السّلام على كثرتها ما يدل على جواز إيجار غير الأرض بأكثر مما استأجرها من دون أن يحدث حدثا»أي من دون أن يعمل شيئا،و لو قليلا في العين المستأجرة.

ص:278

موافقة المالك:

قدمنا أن المنفعة تنتقل إلى المستأجر بمجرد انعقاد العقد،و ان له التنازل عنها و تقبيلها إلى من يشاء بعوض و غير عوض إذا لم يشترط عليه المباشرة بنفسه،و يتفرع على ذلك مسألتان:

الأولى:أن المستأجر يحق له أن يؤجر العين لنفس المنفعة التي استؤجرت العين لها دون غيرها إلاّ إذا كانت أقل منها ضررا،فمن اكترى سيارة-مثلا-ليركب فيها خمسة أشخاص فلا يجوز للمستأجر أن يكريها لنقل الأمتعة،أو ليركب فيها ستة،بل ليركب فيها خمسة حسبما جرى عليه الاتفاق،و بالأولى لركوب أربعة.

المسألة الثانية:هل يجوز للمستأجر أن يسلم العين المستأجرة إلى المستأجر الثاني من دون موافقة المالك و اذنه،أو لا بد من الموافقة و الاذن؟ و تظهر النتيجة على فرض اشتراط الموافقة أنّه إذا سلم المستأجر الأول للثاني بلا موافقة المالك يكون ضامنا للعين على كل حال،حتى و لو تلفت من غير تعد أو تفريط،أما إذا لم تكن الموافقة شرطا فلا يضمن العين إلاّ مع التعدي أو التفريط.

و الجواب:أن اذن المالك و موافقته ليس بشرط،إذا لم يكن المؤجر قد اشترط على المستأجر أن لا يؤجر العين إطلاقا،أو أن لا يؤجرها إلاّ بموافقته، لأن جواز الإجارة من الغير يستدعي قهرا جواز تسليم العين للمستأجر الثاني، و إلاّ فلا معنى لجواز الإجارة دون جواز القبض و التسليم،و من هنا قيل:الاذن بالشيء اذن في لوازمه.و قوّى الشهيد الثاني في شرح اللمعة جواز التسليم بغير اذن المالك.هذا،إلى أن الروايات التي أباحت للمستأجر أن يؤجر مطلقة غير مقيدة بإذن المالك و موافقته.

ص:279

و المستأجر الثاني مسؤول عن الأجرة نحو المستأجر الأول،و الأول مسؤول عنها نحو المالك،و كل من المستأجر الأول و الثاني مسؤول نحو المالك عن العين إذا حصل عليها تعد أو تفريط،أي أن المالك مخير في الرجوع على من يشاء منهما.

الأجير المقيد و المشترك:

ينقسم الأجير بالنظر إلى التقييد و الإطلاق إلى مقيد و مطلق،و بتعبير الفقهاء إلى خاص و مشترك،و الأول هو الذي يؤجر جميع منافعه مدّة معينة لشخص آخر،بحيث لا يسوغ له أن يعمل أي شيء لغير المستأجر،سواء أ كان العمل معينا كالموظف للكتابة،فقط،أو كان العمل غير معين كالخادم الذي يعمل ما يأمره مخدومه طوال المدّة التي استؤجر فيها.

أمّا الأجير المشترك فيدخل فيه ثلاثة أقسام:الأوّل أن يستأجر على عمل معين في وقت معين من غير شرط المباشرة،مثل أن يستأجر حمالا لنقل الأمتعة من بيت إلى بيت في يوم معين،سواء أعمل بنفسه،أو أي شخص آخر،فإن المطلوب هو النقل.الثاني أن يستأجر على عمل بشرط أن يباشره بنفسه،و لكن دون أن يذكر أمدا خاصا،مثل أن يخيط له هذا الثوب بنفسه متى شاء.الثالث لا يشترط عليه المباشرة،و لا يعين له مدّة،مثل أن يقول له:أريد خياطة هذا الثوب منك أو ممن تكلفه أنت في أي وقت تراه.

و ليس للأجير الخاص أن يعمل شيئا لنفسه،أو لغيره في الوقت الذي أجر فيه نفسه إلاّ بإذن المستأجر و موافقته،لأن عمل الأجير في هذا الأمد المعين ملك خاص للمستأجر،و إذا كان الأجير مشتركا و مطلقا غير مقيد جاز له أن يعمل

ص:280

لنفسه و لغيره،لأن المستأجر لا يملك منفعته في وقت معين على وجه لا يجوز له العمل لغير من استأجره.و قد سئل الإمام عليه السّلام عن الرجل يستأجر الرجل بأجر معلوم،فيجعله في ضيعته،فيعطيه رجل آخر دراهم،و يقول له:اشتر بها كذا و كذا،و الربح بيني و بينك؟فقال:إذا أذن الذي استأجره فليس به بأس.قال الفقهاء:ان ظاهر هذه الرواية يدل على أن المراد منها الأجير الخاص المقيد، و انّها تدل بالمفهوم على ثبوت البأس مع عدم الاذن و الموافقة.

و إذا عمل الأجير الخاص لغير المستأجر في الوقت الذي استؤجر فيه كان المستأجر بالخيار بين فسخ الإجارة،أو إمضائها،فإن اختار الفسخ،و لم يكن قد عمل الأجير شيئا للمستأجر فلا شيء للأجير،و ان كان قد عمل وزعت الأجرة المسماة،و كان للأجير منها بنسبة ما عمل،و ان امضى،و لم يفسخ يضمن الأجير ما فوّته على المستأجر من عمله،و ينقص من أجرته بقدر ما أضاع من الزمن في العمل لغير المستأجر الأصيل،سواء أ كان قد عمل لغيره،أو لنفسه إلاّ ما يتسامح العرف فيه.

يد المستأجر:

من استأجر دارا ليسكنها،أو دابة ليركبها،أو كتابا ليقرأه،أو ثوبا ليلبسه، و ما إلى ذلك فالعين المستأجرة في يده أمانة لا يضمن هلاكها أو نقصها إلاّ أن يتعدى حقه في الانتفاع بها،أو يقصر في حفظها.و مثال التعدي أن يتجاوز بالدابة أو السيارة المحل الذي استأجرها إليه،أو يحمل عليها ما يخالف الشرط، أو العرف أو يستعمل الدار التي استأجرها للسكن مصنعا أو كاراجا فيضمن في ذلك كله،حتى و لو كان التلف بآفة سماوية،لأنه قد تعدى،تماما كما هي الحال

ص:281

في الغاصب.

و مثال التقصير و التفريط أن يهمل المستأجر العين،و لا يهتم بحفظها بما تقتضيه العادة كالدابة يتركها من غير علف أو ماء،أو يمر بها في المخاطر و المآزق،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل كرى دابته إلى مكان معلوم، فنفقت-نفقت الدابة أي هلكت و ماتت-قال الإمام عليه السّلام:أن كان جاز الشرط فهو ضامن،و ان دخل واديا و لم يوثقها فهو ضامن،و ان سقطت في بئر فهو ضامن، لأنه لم يستوثق منها.

و مورد الرواية،و ان كان الدابة،فإن حكمها يشمل كل عين مستأجرة، و قول الإمام عليه السّلام:«ان كان جاز الشرط»مثال للتعدي،و قوله:«لم يوثقها،و لم يستوثق منها»مثال للتقصير.

و أيضا يضمن العين إذا منعها عن المالك بعد انتهاء الإجارة و طلبها منه، فإذا هلكت أو تضررت فعليه الضمان مطلقا،حتى و لو كان التلف بآفة سماوية، لأنه امتناع من غير حق.

و يضمن المعتدي و المفرط قيمة العين حين التلف لا قبلها،لأن ذمته انما تشتغل بالقيمة عند هلاك العين.أجل،هو مسؤول عن العين من حين التعدي، بمعنى دخولها في ضمانه من ذلك الوقت إلى حين التلف،فيضمن قيمتها عند التلف على الأقوى،كما عبر صاحب الجواهر.

و تسأل:إذا اشترط المؤجر الضمان على المستأجر،مع عدم التعدي و التفريط،فهل يصح هذا الشرط،و يجب الوفاء به؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى صحة العقد و بطلان الشرط، لأنه مخالف للنص الصحيح القائل بعدم ضمان الأمين،و المستأجر أمين.

ص:282

الخياط:

إذا أفسد الخياط الثوب،و النجار الباب،و كل صانع أفسد ما في يده فهو ضامن له متهاونا كان أو غير متهاون،حاذقا كان أو غير حاذق،لأن التلف يستند إليه مباشرة،و من أتلف مال غيره فهو له ضامن،قصد ذلك،أو لم يقصد،لأن الضمان لا يشترط فيه القصد و لا العقل،و لا البلوغ.و يدل عليه قول الإمام الصادق عليه السّلام:«كل عامل أعطيته أجرا على أن يصلح فأفسد فهو ضامن».

أجل،إذا هلكت العين أو تضررت عند العامل كالثوب يحرق أو يسرق من دكان الخياط أو«الكوّاء»بلا تعد منه و تفريط فلا ضمان عليه،لأن الأصل عدم الضمان،و لأنه أمين،و قد دلّ النص على عدم ضمان الأمين.و بكلمة،هناك فرق بين أن تهلك العين بلا تعد من العامل و الصانع،و بدون فعله هو كما لو سرقت من محله،و بين أن تتلف أو تتضرر بفعله و في يده،كالخياط يخطئ في تفصيل البدلة،و الكوّاء في تنظيفها،و النجار في إصلاح الباب،فالأول غير ضامن،لعدم استناد الفعل إليه من قريب أو بعيد،و الثاني ضامن،لاستناده إليه حقيقة،حتى و لو كان من غير قصد.

الحمال:

إذا عثر الحمال،فسقط ما يحمله،و تلف،فهل يضمنه،أو لا؟ للفقهاء فيه قولان،فمن قائل بأنه يضمن،و على هذا أكثر الفقهاء.و من قائل بعدم ضمانه،و من هؤلاء الشيخ النائيني،قال في حاشيته على العروة الوثقى:«الأظهر عدم الضمان،و كونه من التلف دون الإتلاف».و الفرق بينهما أن الإتلاف لا بد من نسبته إلى فاعل،أما التلف فإنه يحدث من غير هذه النسبة،

ص:283

تماما كالموت،و الإماتة.

الطبيب:

من أقدم على تطبيب مريض،و تضرر من جراء خطأه فان لم يكن من أهل الفن و المعرفة بهذه المهنة فهو ضامن بالاتفاق،بل مستأهل للعقوبة،لأنه معتد و متطفل،و ان كان من أهل الاختصاص و الفن فلا يضمن إذا اجتهد و احتاط، و تبرأ مما يحدث،و قبل المريض أو وليه ذلك،لقول أمير المؤمنين عليه السّلام:«من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليه،و إلاّ فهو ضامن».و إلى هذا ذهب صاحب العروة الوثقى و الشيخ النائيني في حاشيته على العروة،و السيد الحكيم في المستمسك،قال هذا السيد ما نصه بالحرف:«هو أي عدم الضمان المشهور،بل لا يعرف الخلاف فيه إلاّ عن الحلي،و بعض آخر».

و ذهب المشهور بشهادة صاحب المستمسك إلى أن من وصف دواء لمريض فشربه و مات بسببه فلا ضمان على الواصف،طبيبا كان أو غير طبيب، و قال صاحب العروة الوثقى:«الأقوى عدم الضمان،و ان قال:الدواء الفلاني نافع للمرض الفلاني فلا ينبغي الإشكال في عدم ضمانه.و كذا لو قال:لو كنت مريضا بمثل هذا المرض لشربت الدواء الفلاني».

الملاح و المكاري و السائق:

ان كلا من الملاح و المكاري و قائد السيارة لا يضمن شيئا مما يهلك في السفينة و على الدابة و في السيارة إلاّ مع التعدي،أو التفريط،فإذا استأجر سفينة أو سيارة لحمل متاع فنقص أو سرق لم يضمن الملاح و قائد السيارة مع عدم التعدي

ص:284

و التفريط إلاّ إذا اشترط عليه ذلك،للنص الخاص،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل استأجر ملاحا،و حمله طعاما في سفينة،و اشترط عليه ان نقص فعليه؟قال الإمام عليه السّلام:جائز.قال السائل:انّه ربما زاد الطعام؟قال الإمام عليه السّلام:هل يدعي الملاح أنّه زاد فيه شيئا؟قال السائل:لا.قال الإمام عليه السّلام:الزيادة لصاحب الطعام، و النقصان على الملاح ان كان قد اشترط عليه ذلك.

الناطور:

إذا استؤجر لحفظ متاع فسرق فلا ضمان عليه إلاّ إذا قصر في الحفظ حسب المعتاد،و قد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل استأجر أجيرا فأقعده على متاعه فسرق؟ قال:هو مؤتمن.أي لا يضمن إلاّ مع التقصير،كما هو الحكم في كل أمين.

و تسأل:هل يستحق الناطور الأجرة بعد سرقة المتاع الذي استؤجر لحفظه؟ قال صاحب الجواهر:«قد يقال:لا أجر له،لعدم حصول العمل المستأجر عليه».و قال صاحب المستمسك:«بل ينبغي أن لا يكون محلا للإشكال»،أي أنّه استؤجر لحفظ المتاع و بقائه،و المفروض أنّه سرق،فلم يبق موضوع للإجارة و لا للأجرة.

اشتراط نقص الأجرة أو عدمها:

قال صاحب الجواهر:«لو استأجره،ليحمل له متاعا إلى موضع معين، و اشترط عليه وصوله إليه في وقت معين،و أنّه ان قصر عنه نقص من أجرته شيئا معينا جاز وفاقا للمشهور،للأصل،و قاعدة«المؤمنون عند شروطهم».أما لو

ص:285

اشترط سقوط الأجرة ان لم يوصله إليه فلم يجز الشرط وفاقا للمشهور،لأنه شرط مناف لمقتضى عقد الإجارة،إذا يرجع المعنى إلى أن الإجارة بلا أجرة، فيكون نحو قولك:أجرتك بلا اجرة،و بفساده يفسد العقد،و إذا فسد العقد كان له أجرة المثل».

التردد في الأجرة و نوع العمل:

إذا قال له:ان خطت هذا الثوب عربيا فلك درهم،و ان خطته افرنجيا فلك درهمان صح من باب الجعالة،لا من باب الإجارة،لأن الجعالة تغتفر فيها الجهالة و الإبهام دون الإجارة.و كذلك إذا قال له:ان خطته اليوم فلك درهمان،و ان خطته غدا فلك درهم واحد،فإنه يصح جعالة لا اجارة،و يأتي الكلام عن الجعالة في الفصل التالي:

مسائل:

1-سبق أن المؤجر يملك الأجرة بعد انعقاد العقد

،أما تسليمها له فلا يجب بذلك،بل ينظر:فان اشترط التأجيل أو التعجيل وجب العمل بالشرط الذي اتفقا عليه،سواء وردت الإجارة على العين،أو على العمل.

و مع الإطلاق و عدم الشرط ينظر أيضا:فإن وقعت الإجارة على العين جاز لكل من المؤجر و المستأجر أن يمتنع عن تسليم ما في يده،حتى يستلم حقه من الآخر،تماما كالمتبايعين،لأن كلا من البيع و الإجارة من عقود المعاوضة.

و ان وقعت الإجارة على العمل كخياطة الثوب فلا يجب تسليم الأجرة إلاّ بعد إكمال العمل،قال صاحب الجواهر

ص:286

«يجب على المؤجر و المستأجر التسليم،لوجوب الوفاء بالعقد،فان تعاسرا أجبرا معا على التقابض،أما لو بذل أحدهما،و امتنع الآخر،و لم يمكن إجباره كان للباذل حبس ما لديه،حتى يدفع إليه العوض قضاء لحق المعاوضة التي بني عليها العقد-ثم قال صاحب الجواهر:و الظاهر الإجماع على عدم استحقاق الأجير تسلم الأجرة قبل العمل ما لم يشترط،أو تكون عادة تقوم مقام الاشتراط».

2-إذا تسلم المستأجر العين المستأجرة،و مضت مدّة الإجارة لزمته

، و وجب عليه دفعها إلى المالك،حتى و لو لم يستوف المنفعة،فمن استأجر دارا ليسكنها،أو سيارة ليركبها أمدا معينا،و مضى الأمد دون أن يسكن الدار،أو يركب السيارة فعليه الأجرة،بل لو تبين فساد الإجارة فعلى المستأجر أجرة المثل،لأن المنفعة فاتت تحت يده،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به، حتى و لو كانت الإجارة فاسدة،و لكن اللازم فيها اجرة المثل».

و إذا بذل المؤجر العين المستأجرة فلم يأخذها المستأجر،حتى مضت المدّة لزمته الأجرة للمالك ان كانت الإجارة صحيحة،و لا شيء عليه ان كانت الإجارة فاسدة،لأنه لم يستوف المنفعة،و لم تفت تحت يده لعدم القبض،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده في ذلك.نعم ليس هنا أجرة المثل،مع فرض فساد الإجارة،لعدم القبض».

3-على المؤجر أن يسلم العين للمستأجر خالية من الأمتعة و العوائق

التي تحول دون الانتفاع بها،قال صاحب مفتاح الكرامة:«لا خلاف بين المسلمين في أنّه يجب تسليم الدار فارغة،ليتحقق الانتفاع بها».

4-ضريبة الحكومة على الأراضي و المسقفات تجب على المالك

لا على

ص:287

المستأجر إلاّ مع الشرط،فمعه يجب أن يدفعها المستأجر،حتى و لو كان جاهلا بمقدارها حين الإجارة،لأن العرف يغتفر و يتسامح بمثل هذه الجهالة.

5-يجوز للأجير أن يجعل لنفسه الخيار بعد الانتهاء من العمل

،ان شاء أمضى الإجارة،و أخذ الأجرة المسماة،و ان شاء فسخها،و طالب بأجرة المثل- مثلا-أجر نفسه لبناء بيت بشيء معين،و اشترط على صاحب البيت أن يكون له الخيار بعد الانتهاء من البناء في أن يقبل بالأجرة المسماة،أو يفسخ الإجارة، و يأخذ أجرة المثل،فإذا انتهى من العمل و أجاز الإجارة أخذ المسمى،و ان فسخ الإجارة طالب بأجرة المثل،و على المؤجر أن يدفعها له،حتى و ان زادت عن المسمى أضعافا،لأن عمله محترم و مضمون بعد أن كان برضا المالك،فإذا بطل المسمى بالفسخ تعين الضمان بأجرة المثل.

6-يجوز الاستئجار لحفر بئر أو قناة

،و لا بد من تقدير الحفر بالمدّة أياما أو أسبوعا أو شهرا أو أكثر أو أقل،أو يقدر الحفر بالوصف طولا و عرضا و عمقا، و إذا انهارت البئر و القناة فإزالة التراب على المؤجر لا المستأجر،كما لو وقع فيها حجر أو دابة،و ما إليها.

و إذا اعترضت الحافر صخرة لم تكن في الحسبان،و تعذر عليه الحفر أو تعسر إلاّ بمشقة و تكاليف أكثر من المعتاد فللأجير فسخ الإجارة،و له من الأجرة المسماة بنسبة ما عمل،ان نصفا فنصف،و ان ثلثا فثلث،قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بين الفقهاء،و لا خلاف».

اتفقوا على أن للزوجة أن تؤجر نفسها للرضاع و غيره من الأعمال السائغة بإذن الزوج و موافقته،و اختلفوا:هل يجوز لها ذلك من غير اذنه؟ و الحق صحة الإجارة منها من غير اذن الزوج لكل عمل لا يتنافى مع

ص:288

الحقوق الزوجية،لأنها و الحال هذي مالكة لمنافعها،و لها أن تتصرف فيها، و تصرفها إلى من تشاء بعوض و غير عوض ما دام العمل لا يتعارض مع حق الغير،و إذا تعارضت الإجارة مع حق الزوج فله فسخها.

8-يجوز استئجار الأرض لجعلها مسجدا أمدا معينا

،و لكن لا يثبت له آثار المسجد من تحريم التنجيس و دخول الجنب و الحائض،لأن شرط المسجد أن يكون موقوفا،و شرط الوقف التأبيد،و لا تأبيد مع الإجارة،كما قال صاحب المسالك،و قال صاحب الجواهر:«مراد الفقهاء من المسجد هنا أنّه محل للسجود،كقولهم يستحب اتخاذ مسجد للصلاة في الدار،و مرادهم اعداد مكان مخصوص للصلاة».

التنازع:

1-إذا اختلفا في أصل الإجارة و وقوعها فالقول قول المنكر بيمينه

،سواء أ كان هو المالك أو المتصرف،ثم ان وقع النزاع قبل استيفاء شيء من المنافع رجع كل شيء إلى ما كان عليه،و ان كان بعد استيفاء المنفعة ينظر:فان كان المنكر هو المالك فله اجرة المثل فقط،فإذا افترض ان اجرة المثل عشرة،و قال المستأجر:استأجرتها باثني عشر فلا يستحق المالك إلاّ عشرة،لاعترافه بعدم استحقاق الزيادة.

و ان كان المنكر هو المتصرف فللمالك أجرة المثل أيضا،و إذا افترض ان اجرة المثل أكثر مما يدعيه المالك من الأجرة فلا يعطي أكثر مما ادعى،لاعترافه بأنه لا يستحق الزائد.

و تسأل:أن المتصرف يعترف بأن الزيادة عن اجرة المثل في الفرض الأول

ص:289

و الثاني هي حق للمالك بينما يعترف المالك صراحة أو ضمنا بأنّها ليست له، فما ذا يصنع بها المتصرف،مع العلم بأنّه لا يجوز له تملكها بموجب اعترافه؟ الجواب:يتعين عليه أحد أمرين:اما أن يدفعها للحاكم الشرعي و يعلمه بالحقيقة،و امّا أن يوصلها إلى المالك بطريق من الطرق،و لو بوضعها في أمواله دون علمه.

2-إذا اختلفا في مقدار الشيء المستأجر

،فقال المالك:أجرتك الدار ما عدا هذه الغرفة،و قال المستأجر:بل الدار بكاملها فالقول قول المالك بيمينه، لأنهما قد اتفقا على سائر الغرف،و اختلفا في الغرفة الزائدة،و الأصل عدم وقوع الإجارة على ما زاد عن مورد الاتفاق.

و قال بعض الفقهاء:هما متداعيان،لأن كلا منهما يدعي ما ينكر الآخر، و ينكر ما يدعيه،فيتحالفان.و رد صاحب المسالك و الجواهر على هذا القائل بأن ضابط التحالف عدم اتفاق المتداعيين على شيء من مورد العقد،كما لو قال أحدهما:أجرتك البيت.و قال الآخر:بل اجرتني الدابة و المفروض أنّهما هنا متفقان على ما عدا الغرفة المعلومة من الدار،فلا مبرر-اذن-للتحالف.

3-إذا اختلفا في مقدار الأجرة فالقول قول المستأجر بيمينه

،لأن الأصل عدم الزيادة،قال صاحب الجواهر و المسالك:و قيل بالتحالف و هو ضعيف.

4-إذا اختلف الأجير و المؤجر في نوع العمل

،مثل أن يدعي الخياط أن المالك طلب منه أن يخيط قطعة القماش قميصا،فأنكر المالك و قال:كلا،بل طلبت منك أن تخيطها سروالا،فمن هو المدعي؟و من هو المنكر؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن القول قول المالك بيمينه، لأن الأصل عدم اذن المالك بما يدعيه الخياط.

ص:290

5-إذا اختلفا في تعيين العين المستأجرة

،فقال المالك:آجرتك البيت.

و قال المستأجر:بل آجرتني الدكان.تحالفا،و بطلت الإجارة كأن لم يكن شيء، تماما كما هي الحال لو اختلفا في تعيين المبيع.

6-إذا اختلفا في شرط زائد فالقول قول المنكر

،لأن الأصل عدم الشيء الزائد،حتى يثبت العكس.

7-إذا اختلفا في صحة الإجارة و فسادها فالقول قول من يدعي الصحة

، لأن الأصل في أفعال العقلاء الذي تسالم عليه الجميع هو الصحة حتى و لو كان مدعي الصحة غير مسلم.

ص:291

ص:292

الجعالة

اشارة

ص:293

ص:294

معناها:

الجعالة و الجعيلة و الجعل بمعنى واحد في اللغة،و هو ما يجعل للإنسان على شيء يفعله،و عند الفقهاء الالتزام بمال معين لقاء عمل لأي عامل كان مجهولا أو معلوما،و صورته مع جهل العامل أن يقول:من فعل لي كذا فله كذا،أو من رد ضالتي الفلانية فله كذا،و صورته مع معرفة العامل أن يقول لمن يعرفه بشخصه:ان فعلت كذا فلك كذا.

الشرعية:

الجعالة مشروعة إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى في الآية 72 من سورة يوسف وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ .

و قيل للإمام الصادق عليه السّلام:ربما أمرنا الرجل فيشتري لنا الأرض و الدار و الغلام و الجارية،و نجعل له جعلا؟قال:لا بأس.

بين الجعالة و الإجارة:

اشارة

فرق بين الجعالة و الإجارة من وجوه:

1-ان الإجارة عقد لازم من الجانبين،أما الجعالة فجائزة

من جانب الجاعل و العامل قبل التلبس بالعمل،و من جانب العامل أيضا إذا كان بعد أن

ص:295

يتلبس بالعمل،فان له الرجوع عنه قبل الإكمال،و لكنه لا يستحق شيئا،لأن الجاعل قد جعل له العوض في مقابل مجموع العمل،لا بعضه.و إذا رجع الجاعل قبل العمل فلا يستحق المجعول له شيئا،لانتفاء الموضوع،و إذا رجع بعد الابتداء بالعمل،و قبل الانتهاء منه فللعامل اجرة عمله،و ان كان بعد الانتهاء فله الجعل بكامله.قال صاحب المكاسب:

«لا خلاف في أن الجعالة من الأمور الجائزة من الطرفين،بمعنى تسلط كل من المالك و العامل على فسخها قبل التلبس بالعمل و بعده،سواء جعلناها عقدا أو إيقاعا،لأنها من حيث عدم اشتراط القبول فيها بمنزلة أمر الغير بعمل له اجرة، فلا يجب المضي فيه من الجانبين،ثم ان كان الفسخ قبل التلبس فلا شيء للعامل، إذ ليس هناك عمل يقابل بعوض،سواء كان الفسخ من قبله،أم من قبل المالك، و ان كان بعد التلبس،و كان الفسخ من العامل فلا شيء له،لأن المالك لم يجعل له العوض إلاّ لمجموع العمل من حيث هو مجموع،فلا يستحق على أبعاضه شيئا، لأن غرض المالك لم يحصل،و قد أسقط العامل حق نفسه،حيث لم يأت بما شرط عليه العوض.و ان كان الفسخ من المالك فعليه للعامل عوض ما عمل،لأنه إنما عمل بعوض لم يسلم له،و لا تقصير من قبله،و الأصل في العمل المحترم الواقع بأمر المالك أن يقابل بالعوض.و هل العوض الواجب له اجرة مثل ما عمل،أم بنسبة ما فعل إلى المجموع من العوض المسمى؟وجهان أظهرهما الثاني-أي بنسبة ما فعل إلى المسمى لا أجرة المثل-لأنه العوض الذي اتفقا عليه».

2-يجوز أن يكون العامل مجهولا في الجعالة

،فتقول:من أصلح هذه القطعة،و أزال منها الأحجار و الأشواك فله كذا،و لا يصح أن تقول:آجرتها لكل

ص:296

من يزرعها بكذا.

3-الأجير يملك الأجرة بنفس العقد في الإجارة

،سواء استعمله المالك، أو تركه بغير عمل،أما في الجعالة فإن الطرف الثاني،و هو المجعول له لا يستحق شيئا إلاّ بعد العمل.

4-يجوز أن يكون الملتزم غير مالك

،مثل أن يقول رجل أجنبي:من رد محفظة فلان فله عليّ كذا،و لا يصح أن يقول:من أجر داره بكذا فعليّ الأجرة.

5-يجوز أن يكون العامل المجعول له صبيا،و سفيها

،أما المستأجر فيشترط فيه البلوغ و الرشد.

6-يجوز في الجعالة أن يكون وصف الشيء الذي جعل المال من أجله

مجهولا بما لا يغتفر في الإجارة

،فإذا قال:من رد دابتي فله كذا صح،و ان لم يبين أنّها فرس أو حمار،و لا يصح أن يقول:أجرتك دابتي دون أن يميزها بالوصف.

الشروط:

اشارة

يعتبر في الجعالة أمور:

1-الصيغة

،و هي كل لفظ يدل على الالتزام بمال لقاء عمل،كقوله:من رد محفظتي فله كذا،أو أي انسان فعل كذا أعطيته كذا،و يصح فيها الإطلاق من حيث الزمان و المكان،كما يصح التقيد بهما أو بأحدهما،مثل أن يقول:من فعل كذا في شهر رمضان،أو يوم الجمعة،أو في بلد كذا،أو الأرض الفلانية.

و لا فرق في القبول بين أن يكون بالفعل أو بالقول،فلو قال إنسان:أنا أفعل.أو باشر بالعمل دون أن يقول شيئا تم العقد.

2-أن ينبذ الجاعل الأجرة أولا،ثم يحصل العمل

،فلو وجد انسان

ص:297

محفظة فالتقطها قبل الجعالة وجب عليه أن يسلمها لصاحبها،و لا يستحق من الجعل شيئا،لأنها أمانة في يده،و عليه أن يردها لمالكها،قال صاحب الجواهر:

«لا أجد خلافا في ذلك».

و من رد الضالة بقصد التبرع فلا شيء له،سواء أ كان ذلك بعد الجعالة،أو قبلها،و سواء أ سمعها العامل،أو لم يسمعها،أما إذا لم يقصد التبرع،و كان الرد بعد الجعالة فيستحقها،حتى و لو لم يسمعها،لأنه مع عدم التبرع و اذن الجاعل- يكون العمل محترما.

3-أن يكون الجاعل أهلا للتعاقد

،تتوافر فيه الشروط العامة من البلوغ و الرشد و القصد و الاختيار،و عدم الحجر،أما العامل فلا يشترط فيه إلاّ إمكان صدور العمل منه مع عدم المانع الشرعي،فيصح العمل من الصبي و السفيه،و قيل يصح من المجنون أيضا.قال السيد أبو الحسن الأصفهاني في الوسيلة:«يجوز أن يكون العامل صبيا مميزا،و لو بغير اذن الولي،بل و لو كان غير مميز أو مجنونا على الأظهر،فجميع هؤلاء يستحقون الجعل المقرر لعملهم».

4-قال العلامة في التذكرة ما نصه بالحرف:يشترط في العمل أن يكون

محللا

فلا تصح الجعالة على محرم،فلو قال:من زنا أو قتل أو سرق،أو ظلم،أو شرب خمرا،أو أكل محرما،أو غصب،أو غير ذلك من الأفعال المحرمة فله كذا لم يصح،و لو فعل المجعول له ذلك لم يستحق العوض،سواء أ كان المجعول له معينا،أو مجهولا،و لا نعلم في ذلك خلافا.و يشترط أن يكون العمل مقصودا للعقلاء،فلو قال:من استقى من ماء دجلة،و رمى الماء في الفرات،أو حفرا نهرا ثم طمه،و غير ذلك مما لم يعده العقلاء مقصودا لم يصح.و يشترط في العمل أن لا يكون واجبا،فلو قال:من صلى الفريضة،أو صام شهر رمضان فله كذا لم

ص:298

يصح،لأن الواجب لا يصح أخذ العوض عليه.

5-أن يكون الجعل معلوما

،تماما كالأجرة في عقد الإجارة،و إذا كان مجهولا تبطل الجعالة،و يثبت للعامل أجرة المثل.أجل،يجوز أن يقول:من رد دابتي فله نصفها أو ربعها.

و إذا قال:من فعل كذا فأنا أرضية،فإن رضي الفاعل بما أعطاه الجاعل فذاك،و إلاّ فللعامل اجرة المثل.

مسائل:

1-إذا قال:من رد محفظتي فله دينار فردها جماعة

كان الجعل لهم بالسوية.

و إذا قال:من دخل داري فله دينار،فدخلها جماعة كان لكل واحد منهم دينار،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف معتد به و لا إشكال».

2-إذا خص الجعالة بإنسان معين

،مثل أن يقول:ان رد زيد محفظتي فله كذا،فإذا ردها غيره فلا شيء له.قال صاحب الجواهر:«لا خلاف أجده في ذلك، لأنه متبرع،حيث لم تبذل الأجرة له».

3-إذا قال:من رد سيارتي فله كذا

فلا يستحق العامل المبلغ المجعول إلاّ بتسليم العين إلى يد المالك،فلو جاء بالسيارة،و تركها امام المنزل،و لم يقبضها المالك،ثم سرقت فلا شيء للعامل.قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده.

نعم،لو صرح الجاعل بما لا يقتضي التسليم،كما لو قال:من أوصلها إلى البلد، أو المنزل استحق العامل الجعل».

4-كل من أمر غيره بعمل،و لم يشارطه عليه

فإنه يستحق على عمله اجرة

ص:299

المثل بالإجماع.

التنازع:

1-قال صاحب الشرائع:إذا عمل شخص لآخر،أو رد له ضالته

،و قال للمالك:أنت أمرتني بالعمل،أو شارطتني عليه،فأنكر المالك ذلك فالقول قوله بيمينه،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده فيه،لأنه منكر،و الأصل عدم الأمر و عدم الشرط».

و يلاحظ بان هذا يتم إذا لم يكن هناك قرينة تفيد الاطمئنان،و تدل على عدم التبرع،كالحمال يحمل المتاع لإنسان،فيدعي عليه صاحب المتاع التبرع، و كأصحاب سيارات الإيجار يدعي الراكب التبرع.و لا أظن عاقلا يطلب البينة من الحمال و صاحب السيارة على ثبوت الإيجار.

2-إذا قال:من رد محفظتي فله كذا فردها له زيد،و طالبه بالجعل

،فقال له الجاعل:لقد كانت المحفظة معك و في يدك قبل أن أنشئ الجعالة،و عليه فلا تستحق شيئا،و قال العامل:بل بحثت عنها،و حصلت عليها بعد الجعالة، فاستحق عليك الجعل كاملا-إذا كان الأمر كذلك فالقول قول المالك بيمينه،لأن الأصل براءة ذمة المالك من الجعل،حتى يثبت العكس.

3-إذا اتفقا على إنشاء الجعالة،و اختلفا في قدر الجعل

-مثلا-قال المالك:جعلت عشرة دراهم للعمل.و قال العامل:بل جعلت عشرين،فمن المدعي؟و من المنكر؟ و للفقهاء خمسة أقوال في ذلك،نقلها صاحب الجواهر و المسالك و مفتاح الكرامة.و أقرب الأقوال-فيما نرى-ما ذهب إليه العلاّمة في القواعد،و الشهيد

ص:300

الأول في اللمعة،و استحسنه أكثر من فقيه،و هو أن القول قول المالك بيمينه،مع عدم البينة للجاعل،فيحلف المالك على نفي الزيادة التي يدعيها العامل،و بديهة أن اليمين لا تثبت العشرة التي يدعيها الجاعل،لأن اليمين تنفي ما يدعيه الخصم، و لا تثبت ما يدعيه الحالف لأن الدعوى انما تثبت بالبينة،و إذا لم تثبت بالبينة، و لم تثبت العشرة التي يدعيها المالك،مع العلم بأن العمل محترم،لأنه كان باذن المالك وجب الأخذ بأقل الأمرين من أجرة المثل،و ما يدعيه العامل،فإن كانت اجرة المثل أكثر مما يدعيه،كما لو افترض أنّها ثلاثون اعطي العامل المبلغ الذي ادعاه،و هو العشرون،لاعترافه بعدم استحقاق الزائد،و براءة ذمة المالك منه، و ان كانت اجرة المثل أقل مما يدعيه العامل كما لو افترض أنّها خمسة عشر فله اجرة المثل فقط.أجل،لو افترض أن ما ادعاه المالك يزيد عن أجرة المثل،كما لو قال:جعلت 18 أعطيت الزيادة عن أجرة المثل للعامل،إذ المفروض ان المالك يعترف بأن العامل يستحقها،و العامل لا ينكرها،بل يدعي استحقاق الأكثر (1).

ص:301


1- لا أدري لما ذا اختلف الفقهاء في هذه المسألة على خمسة أقوال،و أطالوا النقل و الشرح،و لم يفعلوا ذلك في مسألة اختلاف المؤجر و المستأجر في قدر الأجرة الذي أشرنا إليه في الفصل السابق فقرة التنازع رقم 3 مع أن المسألتين من باب واحد؟.و نفرق بين الصورتين بكل حذر و تحفظ بأن النزاع في قدر الأجرة بباب الإجارة يرجع إلى النزاع في أن ما يستحقه المالك على المستأجر:هل هو الأقل أو الأكثر،تماما كمسألة النزاع في مقدار الدين.أما النزاع هنا فإنما وقع في أصل الجعالة و إنشائها عشرة أو عشرين بصرف النظر عن الشخص الذي يستحقها،إذ أن مستحق الجعل حين الجعالة غير معين،اما مستحق الأجرة فمعلوم و معين.نقول هذا،و نستغفر اللّه.

ص:302

اللقطة

اشارة

ص:303

ص:304

في المال المجهول المالك،و رد المظالم،و الإعراض:

من الألفاظ المتداولة في كتب الفقه المال المجهول المالك و رد المظالم، و إعراض المالك عن ملكه،و اللقطة،بضم اللام،و فتح القاف،و قد يقع الاشتباه، و عدم تمييز بعضها عن بعض بالنظر إلى أن كلا من المظالم و اللقطة و المال المجهول المالك لا يعرف صاحبه،كما أن المال الضائع-أي اللقطة-و الذي أعرض عنه صاحبه يجوز أخذه.لذا رأينا من المفيد قبل أن نتكلم عن اللقطة التي نحن بصددها أن نمهد بالإشارة إلى ما أراده الفقهاء من الأسماء الثلاثة،و حكم كل منها ليتضح الفرق بينها و بين اللقطة من جهة،و لأن الفقهاء لم يتكلموا عنها بعنوان مستقل،و انما تعرضوا لها استطرادا للمناسبات.

و المال المجهول المالك يفسر نفسه بنفسه،حيث لا يعرف له مالكا،و هو اما ضائع،و امّا غير ضائع،و الضائع يدخل في باب اللقطة،و غير الضائع،و هو الذي عناه الفقهاء من المال المجهول المالك،لا يجوز أخذه و حيازته،و لكن قد يقع في يدك غفلة و خطأ،كما لو كنت في فندق مع شخص تجهل هويته، فيختلط بعض أمتعته بأمتعتك،ثم يذهب إلى سبيله،و لا تعرف عنه شيئا.و من المجهول المالك أن تستدين مالا من شخص،أو يضع عندك أمانة،ثم يغيب عنك غيبة منقطعة،و تنسى اسمه،و لا تعرف من يرشدك إليه.أو يصل إلى يدك مال من الغاصب و السارق دون أن تعرف له صاحبا،أو تلبس قبعة غيرك أو تأخذ محفظته،أو عصاه ظنا و اشتباها أنّها قبعتك،أو محفظتك،أو عصاك.

و حكم المال المجهول المالك إذا وقع تحت يدك أن تتصدق به عن

ص:305

صاحبه بعد اليأس من معرفته و معرفة من يقوم مقامه،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عمن وجد متاع شخص معه،و لم يعرف صاحبه؟قال:إذا كان كذلك فبعه و تصدق به.

و إذا ظهر صاحبه بعد التصدق به فلا ضمان على المتصدق،لأن اذن الشارع بالصدقة يتنافى مع الحكم بالتغريم،هذا،إلى أن النص لم يشر من قريب أو بعيد إلى ضمان هذا المتصدق،بل قال السيد الحكيم في الجزء السادس من المستمسك ص 596 طبعة 1369 ه ما نصه بالحرف:«ان النصوص الآمرة بالتصدق بمجهول المالك ظاهرة في خلاف الضمان».و قال الشيخ النائيني تعليقا على المسألة 33 من باب الخمس في كتاب العروة الوثقى:«الأقوى عدم الضمان».

أمّا رد المظالم فقال صاحب مفتاح الكرامة:«ان رد المظالم و مجهول المالك شيء واحد على المشهور».و عن الشيخ الأردبيلي أن رد المظالم هو المال الحرام المختلط بالحلال،مع العلم بقدره،و الجهل بصاحبه.

و ليس من شك أن المظالم هي الأموال التي تدخل على الإنسان من غير وجه شرعي،و ان على الظالم أن يردها إلى صاحبها أو من يقوم مقامه ان كانت عينها قائمة،و ان يرد البدل من المثل أو القيمة ان تلفت،و ان جهل صاحبها و من يقوم مقامه تصدق بها عنه.

أما الإعراض فهو أن يترك الإنسان عينا من أمواله مع نية الإعراض،و إذا تركها للخوف،أو لأي سبب من غير إعراض تبقى على ملك مالكها الأول لا يجوز التعرض لها إلاّ إذا كانت بمعرض التلف،فيأخذها بقصد الحفظ و الصيانة، و تكون في يد الآخذ أمانة شرعية،لا يضمنها إلاّ مع التعدي أو التفريط،و متى

ص:306

ترك العين صاحبها بنية الإعراض أصبحت كسائر المباحات،و جاز لغيره حيازتها و تملكها،و إذا طالب بها المالك الأول لا يجب دفعها إليه ان كانت عينها قائمة، و بالأولى أن لا يضمن العوض،مع التلف.

و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،منها ما رواه عبد اللّه بن سنان في الصحيح عن الإمام الصادق عليه السّلام:«من أصاب مالا أو بعيرا في فلاة من الأرض قد كلت،و قامت،و سيبها صاحبها،لما لم تتبعه،فأخذها غيره،فأقام عليها،و أنفق نفقة،حتى أحياها من الكلال،و من الموت فهي له،و لا سبيل له-أي للأول- عليها،و انما هي مثل الشيء المباح».

و قد اتفق الجميع على صحة هذه الرواية،و وصفها صاحب مفتاح الكرامة في باب اللقطة بأنّها الأصل في الحكم،و بأن رواية السكوني عاضدة و مؤيدة لها، و هي:«إذا غرقت السفينة و ما فيها،فأصابه الناس،فما قذف به البحر على ساحله فهو لأهله،و هم-أي أصحاب السفينة-أحق به،و ما غاص عليه الناس،و تركه صاحبه فهو لهم».أي هو لمن استخرجه من البحر.

و رواية ابن سنان هي أوضح الروايات دلالة على الإعراض،و على تملك الشيء المعرض عنه،أما دلالتها على الإعراض فلاشتمالها على لفظة«سيبها» الظاهرة في العين التي لا مالك لها.قال صاحب مجمع البحرين:«كان العربي يقول:إذا رجعت من سفري فناقتي سائبة،و سئل الإمام عليه السّلام عن السائبة؟فقال:

هو الرجل يعتق غلامه فيقول له:اذهب حيث شئت،ليس لي من أمرك شيء».

و قال صاحب الجواهر:«ان مورد الرواية الترك و الإعراض،لا خصوص الاعراض،و لا خصوص الترك».

أمّا تملك الآخذ للشيء الذي أعرض عنه صاحبه فيدل عليه صراحة قول

ص:307

الإمام عليه السّلام:«هي له،و لا سبيل للمالك الأول عليها،و هي مثل الشيء المباح».

و من ملكية الثاني الذي حاز العين نستكشف زوال ملكية الأول عنها،و إلاّ لزم اجتماع ملكين على شيء واحد،و بديهة أن اجتماع المثلين محال،كاجتماع الضدين.و لكن لا بد من الجزم و اليقين بأن الأول أعرض و صرف النظر،و مع الشك في أنّه أعرض أو لم يعرض تبقى العين على ملكه،حتى و لو تركها،لأن الترك أعم من الاعراض،كما صرح بذلك صاحب الجواهر أكثر من مرّة في باب اللقطة.

و إذا زالت ملكية الأول عن العين التي أعرض عنها صاحبها،و ثبتت ملكية الثاني لها بالحيازة بحكم الإمام عليه السّلام و قوله:«هي له و لا سبيل للأول عليها»،إذا كان كذلك لا يبقى موضوع للضمان لو طالب بها المالك الأول.قال صاحب الجواهر في باب اللقطة عند كلامه عن القسم الثاني،و هو التقاط الحيوان،قال ما نصه بالحرف:«أمّا عدم الضمان،فلا ريب فيه و لا إشكال ضرورة ظهور الأدلة في تملكه المنافي للضمان» (1).

و اللقطة بضم اللام،و فتح القاف هي لغة و عرفا كل مال ضائع،أخذ و لا يد لأحد عليه.و لكن توسع الفقهاء في معناها،و عمموها للملقوط الآدمي،حيث قسموا الشيء الملقوط إلى ثلاثة أقسام:إنسان،و حيوان،و مال غير حيوان، و لكل من هذه الثلاثة أحكام تخصه،و يسمى الآدمي الملقوط لقيطا و منبوذا،لأن أهله تركوه و نبذوه خوف الفقر و العار،و سنتكلم عن كل واحد من هذه الثلاثة

ص:308


1- من أحب التوسع في مسألة الاعراض فليرجع إلى المجلد السادس و الأخير من كتاب الجواهر باب اللقطة القسم الثاني،و أول كتاب نخبة الأحاديث للشيخ الكرباسي،و رأينا الذي أوضحناه مع دليله يتفق مع صاحب الجواهر. [1]

بعنوان مستقل تجنبا للاشتباه و الخلط بينها.

و في اللقطة روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:

تعرّف سنة قليلا كان-المال-أو كثيرا،و ما دون الدرهم فلا يعرف.

ص:309

الطفل اللقيط

الصبي المنبوذ:

أشرنا فيما تقدم أن الضائع قد يكون إنسانا،و قد يكون حيوانا،أو مالا غير حيوان،و نتكلم هنا عن الإنسان الضائع،و متى يصح التقاطه،و تثبت عليه للملتقط ولاية الحفظ و الحضانة و الإنفاق.

و قبل كل شيء ينبغي التنبيه إلى أن المراد باللقيط الذي يجوز التقاطه، و تترتب عليه الأحكام هو الذي نبذه أهله،و رموه و أعرضوا عنه لسبب من الأسباب،و لذا سمي منبوذا،أما الصبي الضائع الذي لم ينبذه أهله فلا يجوز التقاطه بالمعنى المصطلح،بل يسلم إلى أهله،فإنهم أولى الناس بحفظه و رعايته، و لا يجوز أن يتقدمهم أحد في ذلك،و كذا الصبي المنبوذ إذا عرفنا له كافلا، كالأب و الجد و الأم،و غيرهم ممن له الحق في حضانته،فإنه يعطى لكافله و حاضنه،و ان امتنع ألزم به قهرا عنه،بل لو التقطه شخص،ثم نبذه،فأخذه آخر ألزم الأول به،قال صاحب الجواهر:

«لو كان للطفل أب أو جد أو أم أو غيرهم ممن تجب عليه حضانته أجبر الموجود منهم على أخذه،لعدم كونه لقيطا،ضرورة وجود الكافل له،و عدم صدق كونه ضائعا عرفا،و كذا لو سبق إليه ملتقط،ثم نبذه فأخذه آخر ألزم الأول

ص:310

به،لتعلق الحكم به،و لا دليل على سقوطه عنه بنبذه».

إذن اللقيط هو الذي اجتمع به أمران:النبذ،و عدم الكافل،فإذا وجد الكافل،حتى و لو كان ملتقطا فلا يصح التقاطه.بقي شيء،و هو هل يصح التقاط كل منبوذ لا كافل له،مميزا كان،أو غير مميز؟ و قد اتفقت كلمة الفقهاء على جواز التقاط الصبي غير المميز،بل أوجبوه وجوبا كفائيا إذا كان في معرض التلف و الهلاك،يسقط عن الكل إذا قام به البعض،و يأثم الجميع إذا علموا به،و قدروا على التقاطه،و تركوه،أمّا إذا لم يخف عليه التلف و الهلاك فيستحب التقاطه.

و أيضا اتفقوا على عدم جواز التقاط البالغ العاقل،لاستقلاله بنفسه،و انتفاء الولاية عليه.أجل،يجب اسعافه إذا كان في معرض الهلاك،تماما كإنقاذ الغريق،و إطعام الجائع المضطر.و لكن وجوب الاسعاف شيء و إجراء أحكام الالتقاط عليه شيء آخر.

و اختلفوا في جواز التقاط الصبي المميز،فقال جماعة من الفقهاء:لا يجوز التقاطه،لأنه لا يسمى لقيطا في نظر العرف،و لأنه في غنى عن الحضانة و التعهد، فكان كالبالغ في حفظ نفسه،و قال آخرون،منهم صاحب الجواهر:يجوز التقاطه،و تجري عليه أحكام اللقيط،لأنه في حاجة الى التربية و التعهد،و ان كان محفوظا في نفسه.

و كل من الدليلين يصادر الآخر،و لا يقدم الحجة.و الحق أن المميز غير البالغ و المجنون لا يجوز التقاطهما،و لا يجري على أحدهما حكم اللقيط،لأن الالتقاط يقتضي الولاية الشرعية للملتقط على اللقيط في الحفظ و التربية،و الأصل عدم ولاية انسان على إنسان،أو عدم تأثير الالتقاط و إيجابه للولاية،أما افتقار

ص:311

الصبي المميز و المجنون إلى من يرعى مصالحهما فحق،و لكن الحاكم الشرعي هو الذي ينصب من يباشر ذلك دون غيره.

أجل،إذا ضاع المجنون أو المميز وجب من باب الحسبة على من رآه أن يبلّغه مأمنه،بل يجب ذلك،حتى و لو كان الضائع بالغا عاقلا.و لكن هذا شيء، و الالتقاط شيء آخر.

و بالإجمال ان أحكام اللقيط تتبع صدق هذا الاسم،لأن الأحكام تبع للأسماء،و ليس كل ضائع،و لا كل من يحتاج إلى اسعاف يقال له لقيط،و الذي يصدق عليه هذا الاسم يقينا هو الطفل غير المميز الذي نبذه أهله،و لا نعلم مكانهم،أما غيره فنشك في صدق اسم اللقيط عليه،و الأصل العدم.

و تجدر الإشارة إلى أن اللقيط لا يجب تعريفه،كما هو الشأن في غيره.

الملتقط:

ينقسم الملتقط باعتبار الشيء الملقوط إلى من يلتقط آدميا،و حيوانيا، و مالا،و المراد به هنا خصوص من يلتقط الصبي الضائع المنبوذ الذي لا كافل له، و يشترط فيمن يلتقطه ما يلي:

1-أن يكون بالغا عاقلا،لأن للملتقط نوعا من الولاية على اللقيط و ليس للصبي و المجنون الأهلية لشيء منها،بل هما في حاجة إلى من يتولى أمرهما.

2-ذهب المشهور بشهادة صاحب مفتاح الكرامة إلى أنّه يشترط في الملتقط أن يكون مسلما إذا كان اللقيط محكوما بإسلامه،كما لو التقط من مكان فيه مسلم يمكن تولده منه،لأن الالتقاط يجعل للملتقط نوعا من الولاية على اللقيط وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً النساء:140.و لأنه لا

ص:312

يؤمن أن يحمله الملتقط على ما يدين به،و عليه فإذا التقطه غير مسلم انتزع منه.

أمّا إذا لم يكن اللقيط بحكم المسلم،كما لو التقط من بلد لا مسلم فيه فيجوز أن يلتقطه المسلم و غير المسلم.

3-قال جماعة من الفقهاء:يشترط في الملتقط الرشد،و قال آخرون:

ليس الرشد بشرط،و ان للسفيه أن يلتقط الصبي المنبوذ.

و نحن مع القائلين بشرط الرشد،لأن الالتقاط يستدعي التصرف المالي، و هو الإنفاق على الملتقط،و السفيه ممنوع عنه.

ولاية الملتقط:

إذا توافرت الشروط في اللقيط و الملتقط تثبت الولاية للثاني على الأول، و الولاية هنا هي أن الملتقط أحق و أولى الناس جميعا بحفظ الطفل و رعايته و حضانته و تربيته و تنشئته،حتى يبلغ و يملك أمره،لا يزاحمه أحد في ذلك إلاّ إذا ظهر من له حق الولاية و الحضانة عليه،كأحد الأبوين،أو الأجداد:أو الأقارب الذين تنتقل إليهم الحضانة عند عدم الأبوين و الأجداد،حيث يخرج الطفل مع وجود واحد من هؤلاء عن عنوان اللقيط الذي لا كافل له.

و إذا عجز الملتقط عن حضانة الطفل و رعايته بالمعروف سلمه إلى الحاكم لأن العجز يسقط التكليف،و الحاكم ولي من لا ولي له.

و إذا تزاحم اثنان على التقاط الطفل قدّم السابق،و مع عدمه يقدم الأصلح للطفل،و مع التساوي في الشروط و المصلحة يقرع بينهما،فمن خرج اسمه كان هو المستحق،قال تعالى وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ آل عمران:44.و إلقاء الأقلام هو القرعة بالذات.

ص:313

و اللقيط حر،فإذا بلغ ملك أمره،و لا سبيل لأحد عليه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«اللقيط لا يشترى و لا يباع.فإن أحب أن يوالي غير الذي رباه والاه».

أي أن اللقيط بعد بلوغه إذا أحب أن يتخذ وليا بضمان الجريرة (1)يرث كل منهما الآخر كان له ذلك،قال صاحب الجواهر:«لا ولاء للملتقط على اللقيط،بل هو سائبة-أي لا سلطان لأحد عليه-يتولى من شاء.و الإجماع على ذلك، للأصل و النصوص،و حصر الولاء في المعتق بقول الامام عليه السّلام:انما الولاء لمن أعتق».

الإنفاق على اللقيط:

أجمعوا على أن الملتقط لا تجب عليه نفقة اللقيط،فان كان له مال،كما لو وجد المال مشدودا في ثيابه،أو تحته أو فوقه أو إلى جانبه أنفق عليه من ماله بإذن الحاكم،إذ لا ولاية للملتقط إلاّ في الكفالة و الحضانة.تماما كالأم التي تملك الحضانة دون الإنفاق مع وجود الأب،فإن تعذر الرجوع إلى الحاكم أو وكيله أنفق عليه بالمعروف.و إذا لم يكن للقيط مال فنفقته من بيت المال،فان تعذر يستعين الملتقط بالمحسنين،فان تعذرت الاستعانة بهم أنفق الملتقط من ماله،و رجع بما أنفق على اللقيط بعد بلوغه و يساره إذا لم ينو التبرع،قال الإمام الصادق عليه السّلام:

المنبوذ حر،فإذا كبر فان شاء توالى الذي التقطه،و إلاّ فيرد عليه النفقة.و سئل عن اللقيطة؟فقال:لا تباع و لا تشترى،و لكن تستخدمها بما أنفقت عليها.

ص:314


1- إذا لم يكن للإنسان وارث فله أن يتعاقد مع آخر مثله لا وارث له،و يقول له:دمك دمي و ثأرك ثاري،أعقل عنك،أي أتحمل دية جنايتك،و تعقل عني،و ترثني وارثك،فإذا تم بينهما هذا التعاقد سمي كل منهما ضامنا لجريرة الآخر،و يكون أولى بميراث صاحبه من بيت المال.

الإقرار ببنوة اللقيط:

كل من أقر ببنوة طفل مجهول النسب،و أمكن تولده منه دون أن يعارضه أحد في ذلك يؤخذ بإقراره،و يعطى الطفل اليه بلا بينة،سواء أ كان الطفل لقيطا أو غير لقيط،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،و لعموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز،و لقول الإمام عليه السّلام:«إذا أقر الرجل بالولد ساعة لم ينف عنه أبدا».

و أيضا يؤخذ بإقرار المرأة بلا بينة إذا ادعت بنوة طفل مجهول النسب،مع إمكان تولده منها،و إذا ادعاه اثنان في آن واحد،و لا بينة لأحدهما أقرع بينهما، و إذا كان أحد المتداعين هو الملتقط فلا يقدم قوله على غيره،لأن اليد امارة على الملك لا على النسب.

ص:315

لقطة الحيوان

الكراهية:

الحيوان الضائع يسمى ضالة،و يجوز التقاطه على كراهية،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا يأوي الضالة إلاّ الضال،و عن الإمام الصادق عليه السّلام أن علي بن الحسين عليهما السّلام كان يقول لأهله:لا تمسوا الضالة.

و ترتفع الكراهية إذا كانت الضالة في معرض الهلاك،بل التقاطها،و الحال هذي،أفضل من تركها،و به يشعر حديث:«هي لك،أو لأخيك،أو للذئب» حيث يومئ إلى الترغيب في أخذها خشية أن يأكلها الذئب،إذ المعنى أنّك ان أخذتها و لم تعرف لها مالكا بعد التعريف و البحث تكون لك،و ان عرفته فقد حفظت مال أخيك،و سلمته إليه،و ان تركتها أكلها الذئب.

الأقسام:

1-أن يوجد في العمران

،أي المحل المأهول،و ذهب المشهور بشهادة صاحب مفتاح الكرامة إلى أن هذا الحيوان لا يجوز أخذه،و وضع اليد عليه،سواء أ كان كبيرا يحفظ نفسه من صغار السباع،أو صغيرا يعجز عن ذلك،لأن الأصل عدم جواز الاستيلاء على مال الغير،و لأن الحيوان محفوظ في العمران،فإن أخذ

ص:316

منه ضمن الآخذ،لأنه غاصب.أجل،لو كان في معرض التلف،لمرض أو نحوه جاز أخذه بنية الحفظ لصاحبه،فإن عرفه سلمه إليه،و إلاّ فإلى الحاكم،لأنه ولي الغائب،و إذا أهمله،و لم يتعرض له،بل تركه حتى هلك فلا ضمان و لا اثم عليه، لأنه ليس نفسا محترمة يجب حفظها و انقاذها،كما هو الشأن في الإنسان.

و تسأل:ان حفظ مال الغير تعاون على البر و التقوى،و اللّه سبحانه قد أمر بهذا التعاون،و الأمر يدل على الوجوب،و عليه فمن تركه فهو آثم؟ و الجواب:ان الأمر بالتعاون على البر ليس واجبا إطلاقا،و لا مستحبا كذلك،بل يختلف وجوبا و استحبابا باختلاف موارده،فيجب كفاية ان كان فيه حفظ نفس محترمة،و يستحب في حفظ مال الغير،و ما إليه.

2-ان يوجد في غير العمران

،و ان يكون من نوع الحيوانات التي تحفظ نفسها من صغار السباع،كالبعير و الفرس و الجاموس و الثور،ان كان كذلك فلا يجوز أخذه و وضع اليد عليه ان كان صحيحا،و ان لم يكن في ماء و كلأ،أو كان غير صحيح،و لكنه في ماء و كلأ يتمكن منهما،قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف أجده،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن البعير؟فقال للسائل ما لك و له؟ خفه حذاؤه،و كرشه سقاؤه،خل عنه (1)؟فمن أخذه في صورة عدم الجواز كان ضامنا بلا خلاف و لا اشكال،لعموم على اليد ما أخذت حتى تؤدي،مع عدم الاذن من الشارع،أو المالك.و إذا رده إلى محله الذي كان فيه لا يبرأ من الضمان.

أجل،إذا سلمه إلى صاحبه،أو إلى الحاكم إذا لم يعرف له صاحبا يبرأ من

ص:317


1- النص مختص بالبعير،و لكن الفقهاء عمموه إلى كل حيوان لا خوف عليه من الهلاك،قال صاحب مفتاح الكرامة:« [1]المستفاد من النصوص ان وجه الحكم في جواز التقاطه و عدمه انما هو الأمن من تلفه بامتناعه من صغار السباع و عدمه».استفاد الفقهاء ذلك من فحوى خفه حذاؤه، و كرشه سقاؤه.

الضمان قطعا».

3-للحيوان الذي يحفظ نفسه ثلاث حالات باعتبار جواز الأخذ و عدمه

.

الأولى أن يكون سليما و في فلاة لا ماء فيها و لا كلأ،الثانية غير سليم،و لكنه في ماء و كلأ،و أشرنا في الرقم السابق إلى حكم هاتين الحالين،و أنّه لا يجوز أخذه، الثالثة غير سليم و في غير ماء و كلأ،و نتكلم الآن عن هذه الحال،و قد عبر الفقهاء عنها بمن ترك بعيرا،أو ما يلحق به لضعفه و عجزه عن متابعته،تركه في فلاة لا ماء فيها و لا كلأ،و أجمعوا إلاّ من شذ بشهادة صاحب الجواهر على جواز أخذه و تملكه،و عدم ضمان الآخذ،كما هو مقتضى التملك.و في ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام،منها قول الإمام الصادق عليه السّلام:ان أمير المؤمنين عليا عليه السّلام قضى في رجل ترك دابته من جهد،قال:ان تركها في ماء و كلأ من غير خوف فهي له، يأخذها-المالك-حيث أصابها،و ان كان تركها في خوف؟و على غير ماء و كلأ فهي لمن أصابها.

فقوله هي لمن أصابها صريح في الدلالة على تملك الواجد لها،قال صاحب الشرائع و الجواهر:

«لو ترك البعير عن جهد في غير ماء و كلأ جاز أخذه،لأنه كالتالف،و يملكه الآخذ،و لا ضمان،لأنه كالمباح،و كذا الدابة-أي الفرس-و البقرة و الحمار،إذا ترك من جهد في غير كلأ أو ماء.أما عدم الضمان فلا خلاف فيه و لا إشكال ضرورة ظهور الأدلة في تملكه المنافي للضمان معه.بل في التنقيح الإجماع عليه،قال-أي صاحب التنقيح-لو أخذ الجائز آخذ فهو له،و لا يجب عليه دفع قيمته للمالك لو ظهر،و ان أقام بينة،أو صدقه الملتقط إجماعا».

ثم أن البعير و ما يلحق به لا يجب تعريفه،بل يجوز التقاطه،و تملكه من

ص:318

غير تعريف إذا اجتمع الشرطان:الأول أن يتركه صاحبه من جهد،الثاني ان يكون الترك في غير ماء و كلأ،و إذا انتفى أحد الشرطين،كما لو ترك من غير جهد،أو من جهد،و لكن في ماء و كلأ فلا يجوز أخذه.قال صاحب مفتاح الكرامة:«ان البعير و ما ضاهاه امّا حرام الأخذ،و امّا جائز بلا تعريف».

4-أجمعوا على أن من وجد شاة في فلاة فله أن يأخذها

بشهادة صاحب الجواهر،و صاحب التذكرة على أن من وجد شاة في فلاة فله أن يأخذها،لأنها لا تمتنع من صغار السباع،فكانت بحكم التالفة.

و ألحق المشهور بشهادة صاحب المسالك بالشاة كل ما لا يمتنع من صغير السباع،كأطفال الإبل و الخيل و الحمير و الدجاج و الإوز.و إذا أخذها الواجد كان مخيرا بين أن يحفظها عنده أمانة شرعية،و بين أن يدفعها إلى الحاكم،و بين ان يتملكها بعد التعريف.

و يدل على هذا التخيير ان الشاة و ما إليها لقطة فله أن يتملكها،و ان يبقيها أمانة في يده،و ان يدفعها إلى الحاكم،لأنه نائب الغائب،و منصوب للمصالح، فان حفظها للمالك،ثم تلفت دون تعد أو تفريط فلا ضمان عليه،لأنه أمين محسن،إذ المفروض أنّه مأذون بالأخذ،و كذا لو سلمها إلى الحاكم،لأنه كالتسليم إلى المالك،أما إذا تملكها فيضمن ان ظهر صاحبها،و طالب بها،و إلاّ فلا شيء على الملتقط،فقد روي عن الإمام عليه السّلام أن جده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن رجل أصاب شاة في الصحراء،هل تحل له؟فقال للسائل:«هي لك،أو لأخيك، أو للذئب،فخذها و عرفها حيث أصبتها،فإن عرفت فردها إلى صاحبها،و ان لم تعرف فكلها،و أنت ضامن لها ان جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردها عليه».

فقوله:«أنت ضامن ان جاء صاحبها»يدل بالمفهوم أن صاحبها ان لم

ص:319

يجيء فلا ضمان،و يؤيد هذا قول الإمام الصادق عليه السّلام في صحيحة الحلبي:«فإن جاء لها طالب،و إلاّ فهي كسبيل ماله».و هذه الصحيحة حجة على صاحب الجواهر،حيث قال:هو ضامن على كل حال،جاء صاحبها،أو لم يجيء؟لأن مجيئه شرط للرد عليه،لا لأصل الضمان،و ان مثل لقطة الشاة،تماما كالدين يؤديه للمالك إذا جاء،و ان يئس منه فحكمه حكم مجهول المالك،أي يتصدق بها عن المالك (1).

تعريف الشاة:

هل يجب تعريف الشاة،و ما إليها؟ سبق أن البعير لا يجب تعريفه،أما الشاة و ما يلحق بها فللفقهاء في وجوب تعريفها قولان،فمن قائل بعدم وجوبه،لأن الأدلة التي أوجبت التعريف منصرفة إلى لقطة الأموال غير الحيوان،و قال آخرون،و منهم صاحب الجواهر بوجوبه، لقول الإمام عليه السّلام:«لا يأكل الضالة إلاّ الضالون إذا لم يعرفوها».و الشاة أظهر أفراد الضالة.و هؤلاء الذين أوجبوا التعريف قالوا:لا بد قبل أن يتصرف الملتقط بالشاة و نحوها أن يحفظ أوصافها كاملة،حتى إذا جاء صاحبها،و اقام البينة على

ص:320


1- ما قاله صاحب الجواهر [1]من الضمان على كل حال هو المشهور،و لكني لم اطمئن إلى مستند الشهرة،و يظهر من السيد الحكيم عدم الركون إليه أيضا،و لكنه توقف،و لم يحكم بالضمان و لا بالعدم،قال في منهاج الصالحين ج 2 باب اللقطة ما نصه بالحرف:« [2]المشهور أن يضمنها بقيمتها، و قيل:لا يضمن،بل عليه دفع القيمة إذا جاء صاحبها من دون اشتغال ذمته بمال،و كلاهما محل اشكال».و قوله دون اشتغال ذمته بمال إشارة إلى الفرق بين الضمان و الغرامة،فإن الضمان أن يثبت المال في ذمة الملتقط قبل مجيء المالك و مطالبته،أمّا الغرامة فأعم،حيث تصدق على دفع العوض للمالك عند المطالبة دون أن تشتغل الذمة من قبل.

ملكيته وفقا للأوصاف دفع إليه قيمتها.

الملتقط:

قدمنا في فصل«الطفل اللقيط»أنّه يشترط فيمن يلتقط الصبي البلوغ و العقل و الرشد و الإسلام إذا كان الصبي محكوما بإسلامه،لأن التقاطه يوجب للملتقط نوعا من الولاية على اللقيط.و بديهة أن فاقد الأهلية يحتاج إلى من يتولى أمره.أما من يلتقط الحيوان فلا يشترط فيه شيء من ذلك،لأن التقاطه مجرد اكتساب للمال،و هو يصح من العاقل و المجنون،و الكبير و الصغير،و الرشيد و السفيه،و المسلم و غير المسلم،و لذا قال كثير من الفقهاء:«لا يشترط في الآخذ إلاّ الأخذ»أي لا يشترط في هذه اللقطة شيئا زائدا على الالتقاط.

و لكن الولي ينتزع الضالة من يد الصغير و المجنون و السفيه كما هو الشأن في سائر أموالهم،و يتولى الوظيفة المطلوبة من التعريف،و ما تستدعيه مصلحة القاصر من تملكه للضالة،و تضمينه إياها،أو إبقائها أمانة شرعية لصاحبها،أو دفعها إلى الحاكم،قال صاحب الجواهر:«لا خلاف في شيء من ذلك».

مسائل:

1-ليس من اللقطة ما يدخل البيوت من الطيور الدواجن

،كالدجاج و الحمام،بل هو من مجهول المالك يبحث صاحب البيت عن المالك في مظان وجوده،و بعد اليأس منه يتصدق به،أو بثمنه عن المالك.

2-إذا صار الحيوان أهليا

،كالغزال،ثم نفر إلى البرية و الجبال،و امتنع على صاحبه فلا يجوز لأحد التقاطه،و لا صيده،لأنه مملوك،و الامتناع لا يخرج

ص:321

عن الملك،و كذا الطير.

3-سبق في أول هذا الفصل أن الحيوان لا يجوز التقاطه من العمران

، و استثنى المشهور بشهادة صاحب الجواهر،و مفتاح الكرامة،استثنوا الشاة و قالوا:يجوز التقاطها من العمران،و على الملتقط أن يحتبسها عنده ثلاثة أيام، و يسأل عن صاحبها،فإن لم يجده باعها،و تصدق عنه بثمنها،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:«جاءني رجل من أهل المدينة،فسألني عن رجل أصاب شاة؟ فأمرته أن يحبسها عنده ثلاثة أيام،و يسأل عن صاحبها،فإن جاء،و إلاّ باعها، و تصدق بثمنها».

قال صاحب الجواهر:«هذا الخبر ضعيف،و غير خاص بالعمران إلاّ أنه منجبر بفتوى كبار الفقهاء.بل نسبه غير واحد إلى الشهرة،بل الى الفقهاء مشعرا بالإجماع».

ص:322

لقطة المال

معناها:

سبق أن معنى اللقطة لغة و عرفا كل مال ضائع أخذ،و لا يد لأحد عليه،و ان الفقهاء توسعوا فيها،و عمموا اللقطة إلى التقاط الآدمي المعبر عنه باللقيط، و قسموها إليه،و إلى لقطة الحيوان،و لقطة المال،و تقدم الكلام عن اللقيط، و لقطة الحيوان،و نتكلم في هذا الفصل عن لقطة المال.

و بديهة أن اللقطة لا تتحقق إلاّ بالأخذ و الالتقاط،فلو أن إنسانا رأى مالا ضائعا،فأخبر به آخر،فالتقطه كان هو الملتقط دون الرائي المخبر.

و الفرق بين اللقطة،و بين المال المجهول المالك ان اسم الضياع ينطبق على الأولى دون الثاني.و يتفرع على هذا أنك إذا رأيت شيئا فظننته لك،و بعد أن أخذته تبين أنّه لغيرك،فإن عرفت صاحبه رددته إليه،و ان لم تعرفه،فإن صدق عليه اسم الضائع،كما لو رأيته في الطريق أو في فلاة فهو لقطة،و إذا لم يصدق عليه اسم الضائع،كما إذا كنت جالسا إلى رجل تجهل هويته،و أمامه«علبة» سجائر-مثلا-فأخذتها ظانا أنّها لك،ثم تبين أنّها للجليس المجهول لديك،إذا كان كذلك فالعلبة من المال المجهول المالك،لا من اللقطة.

ص:323

بين لقطة الحرم و غيرها:

اختلف الفقهاء في المال الضائع في الحرم-أي مكة المكرمة-هل يجوز التقاطه؟و أصح الأقوال القول الذي فصل بين التقاطه بنية التملك و بين التقاطه بنية الإنشاد و البحث عن صاحبه،فمنع الأول و أباح الثاني،لقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا تحل لقطتها-أي مكة-إلاّ لمنشد»أي لمن يعرّف عنها،و ينشد صاحبها.و سأل الفضل بن يسار الإمام الصادق عليه السّلام عن الرجل يجد اللقطة في الحرم؟قال:لا يمسها،و أما أنت فلا بأس،لأنك تعرّفها.

فتعليل الإمام بقوله:لأنك تعرّفها يدل على أن كل من أراد أخذها بنية الإنشاد و التعريف جاز له ذلك،حتى و لو كان المال كثيرا.و إذا أخذ المال من الحرم بقصد التملك فعليه أن يعرفه حولا كاملا،فان لم يعرف له صاحبا تصدق به،فإذا جاء صاحبه بعد التصدق دفع إليه البدل من المثل أو القيمة،فقد سئل الإمام عليه السّلام عمن وجد دينارا في الحرم فأخذه؟قال:بئس ما صنع،ما كان ينبغي له أن يأخذه.قال السائل:قد ابتلي بذلك.قال الإمام عليه السّلام:يعرفه سنة.قال السائل:

قد عرفه،فلم يجد له ناعتا.قال الإمام عليه السّلام:يرجع إلى بلده فيتصدق به على أهل بيت من المسلمين،فان جاء طالبه فهو له ضامن.

أما لقطة غير الحرم فتجوز على كراهية،قال الإمام الصادق عليه السّلام:أفضل ما يستعمله الإنسان في اللقطة إذا وجدها أن لا يأخذها،و لا يتعرض لها،فلو أن الناس تركوا ما يجدونه لجاء صاحبه فأخذه.

أقل من درهم:

إذا كانت اللقطة في غير الحرم،و قيمتها دون الدرهم-أي تعادل ليرة لبنانية

ص:324

على التقريب-جاز تملكها من غير تعريف إجماعا و نصا و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:«ان كانت اللقطة دون الدرهم فهي لك،لا تعرّفها».و قال:لا بأس بلقطة العصا،و الشظاظ-هي قطعة من خشب تستعمل في شد الأحمال-و الوتد و العقال و أشباهه.ليس لهذه طالب.

فان الغالب أن تكون قيمة هذه الأشياء دون الدرهم،و قوله:ليس لها طالب إشارة إلى أن المالك يعرض عنها،و لا يطلبها بحسب العادة.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر،و مفتاح الكرامة إلى أن الملتقط إذا نوى تملك ما لا تبلغ قيمته درهما،ثم ظهر صاحبه فلا يجب رده عليه لا عينا و لا بدلا،لأن قول الإمام عليه السّلام«هي لك لا تعرفها»صريح في التملك.و قال جماعة من الفقهاء يرد العين ان كانت قائمة،و لا يرد بدلها ان كانت هالكة.

درهم فأكثر:

اشارة

إذا كانت اللقطة في غير الحرم،و كانت درهما أو أكثر عينا أو قيمة عرفها الملتقط حولا ان لم يعلم بعدم الجدوى من التعريف،و بعده يتخير بين أمور ثلاثة:

1-ان يتملكها و عليه ضمانها

،أي إذا حضر المالك دفعها إليه ان كانت قائمة،و دفع بدلها ان كانت تالفة،و ليس له أن يتملكها قبل تعريف الحول،فلو نوى التملك قبل مضي الحول ضمنها،و لو مع عدم التعدي أو التفريط،لأنه كالغاصب.قال صاحب الجواهر:«لا إشكال في استفادة جواز تملكها بعد التعريف من النصوص،مضافا إلى الإجماع».من هذه النصوص قول الإمام الصادق عليه السّلام:«تعرفها-أي اللقطة-سنة،فإن وجدت صاحبها،و إلاّ فأنت أحق

ص:325

بها».أي.ان لم يأت صاحبها فلا شيء عليك،و يؤكد ذلك قول الإمام في رواية أخرى:«هي كسائر ماله».

2-ان يتصدق بها الملتقط عن المالك

،و لكن إذا حضر المالك،و لم يقر الصدقة عنه فعلى الملتقط أن يدفع عوضها من المثل أو القيمة،فعن الإمام الصادق عليه السّلام:يعرفها حولا،فإن أصاب صاحبها ردها عليه،و إلاّ تصدق بها،فإن جاء صاحبها بعد ذلك خيّره بين الأجر-أي بين إمضاء الصدقة-و بين الغرم،فإن اختار الأجر فله الأجر و ان اختار الغرم فله الغرم.قال صاحب مفتاح الكرامة:

«الضمان مع الصدقة إذا كره المالك لم يختلف عليه اثنان فيما أجد».و تجدر الإشارة إلى أنّه إذا لم يجيء صاحبها فلا شيء عليه.

3-ان يبقيها الملتقط في يده أمانة شرعية لمالكها

،و عليه فلا يضمنها إلاّ مع التعدي أو التفريط،كما هو شأن الأمانات الشرعية.قال صاحب المسالك:

«يبقيها في يده أمانة في حرز أمثالها،كالوديعة،فلا يضمنها إلاّ مع التعدي أو التفريط،لأنه محسن إلى المالك بحفظ ماله و حراسته،فلا يتعلق به ضمان، لانتفاء السبيل على المحسن».

ما يسرع إليه الفساد:

إذا التقط ما يسرع إليه الفساد،كاللحم و الخبز و الفاكهة و الخضار فالملتقط بالخيار بين أن يتملكه بالقيمة،و يأكله،و بين أن يبيعه،و يحفظ ثمنه أمانة شرعية لصاحبه،و عليه أن يحفظ الخصوصيات و الصفات التي عليها اللحم و ما إليه قبل أن يأكل أو يبيع،ثم يعرفه سنة،مع عدم اليأس من جدوى التعريف،فان جاء المالك دفع الثمن إليه ان باع،و القيمة يوم الأكل ان أكل،و ان لم يجيء فلا شيء عليه.

ص:326

و يدل على جواز الأكل بعد التقويم ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أن أمير المؤمنين عليا عليه السّلام سئل عن سفرة وجدت مطروحة في الطريق،كثير لحمها و خبزها و جبنها،و فيها سكين؟قال:يقوّم ما فيها،و يؤكل،لأنه يفسد،و ليس له بقاء،فان جاء طالبها غرموا له الثمن.قال السائل:يا أمير المؤمنين لا يدرى أ سفرة مسلم،أو سفرة مجوسي؟قال:هم في سعة،حتى يعلموا.

أما جواز بيع الطعام فلأنه قد أبيح اكله للملتقط فيباح له بيعه،و كذا يجوز للملتقط ان يسلم الطعام أو ثمنه للحاكم الشرعي باعتباره ولي الغائب.

الملتقط:

ملتقط المال تماما كملتقط الضالة لا يشترط فيه العقل و لا البلوغ و لا الرشد و لا الإسلام،لأن التقاط المال مجرد اكتساب،و هو يصح من الناقص و الكامل على السواء.و يتولى الأمر عن القاصر الولي،فإن كانت اللقطة دون الدرهم قصد الولي التملك للقاصر،و ان كانت أكثر تخير بين الأمور الثلاثة المتقدمة.

الكنز:

كل مال يوجد في مكان قفر،أو خربة باد أهلها،أو في أرض لا مالك لها، و حصل الاطمئنان ان المال ليس لأهل هذا الزمان فهو لمن وجده بلا تعريف، و لا يجري عليه حكم اللقطة.أجل،يجب إخراج خمسه،كما تقدم في الجزء الثاني باب الخمس،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن الورق-أي الدراهم-يوجد في دار؟ قال:ان كانت معمورة فهي لأهلها،و ان كانت خربة فأنت أحق بما وجدت.

و إذا دلت القرائن و العلامات ان المال لأهل هذا الزمان فهو لقطة يجري

ص:327

عليه حكمها من التملك بلا تعريف ان كانت دون الدرهم،و إلاّ وجب التعريف، ثم التخيير على النحو المتقدم.

في جوف الحيوان و السمكة:

من وجد مالا في جوف حيوان انتقل إليه من غيره،عرض المال على المالك السابق.فإن لم يتعرف عليه فهو لواجده،و ان ادعاه المالك الأول فهو له بلا بينة،لسبق يده على الحيوان،و لأن الإمام سئل عن رجل اشترى جزورا،أو بقرة للأضاحي،فلما ذبحها وجد في جوفها صرة فيها دراهم،أو دنانير،أو جوهرة،لمن يكون ذلك؟فقال:عرّفها البائع،فإن لم يعرفها فالشيء لك، رزقك اللّه إياه.

و من اشترى سمكة فوجد في جوفها لؤلؤة،و ما إليها فهي له،لأنّها قد ملكت بالحيازة،و المحيز قصد تملكها خاصة لجهله بما في بطنها،و لكن قصده لتملك السمكة قصد اللؤلؤة بالتبع.

طرق الإثبات:

لا تعطى اللقطة لمن يدعي ملكيتها إلاّ مع العلم بأنّها له،أو بشاهدي عدل، أو بشاهد و يمين،أو شاهد و امرأتين.

و ذهب المشهور بشهادة صاحب مفتاح الكرامة و المسالك إلى أن المدعي إذا وصفها،و ظن الملتقط صدقه يجوز أن يدفعها إليه،و لكنه لا يجبر على ذلك، قال صاحب الجواهر:«ان يتبرع الملتقط بتسليم اللقطة لمن وصفها لم يمنع،و ان امتنع لم يجبر».

ص:328

و استدلوا على ذلك بما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال:ان جاء ناعتها، فعرف عقاصها-أي الخيط الذي ربطت به-و عددها فادفعها إليه.و قول الإمام عليه السّلام:ان جاءك طالب لا تتهمه رده عليه.

و الحق ان الوصف ليس بشيء ما لم يحصل منه الاطمئنان بالصدق،أما النص المذكور فعلى تقدير ثبوته يحمل على ما إذا حصل من الوصف الوثوق و الاطمئنان.و على هذا،فإذا دفع الملتقط المال إلى الواصف دون أن يطمئن إلى صدقة،ثم جاء آخر،و أقام بينة شرعية أن اللقطة له فعلى الملتقط الضمان،و لكنه إذا دفع للمالك رجع بدوره على الواصف،حيث يستقر الضمان عليه ان تلف المال في يده،و ان كانت عينه قائمة انتزع منه،و اعطي للمالك.

مسائل:

1-يسقط التعريف

،مع اليأس من وجدان المالك،لعدم الجدوى.

2-اللقطة أمانة شرعية في يد الملتقط مدّة التعريف

،لا يضمنها إلاّ مع التعدي أو التفريط.

3-إذا كان للضالة الملتقطة نماء

،كاللبن و الصوف فهو للمالك في زمن التعريف،و بعده أيضا ان لم يقصد الملتقط التملك،و ان قصده بعد التعريف فهو له،لا للمالك.

4-يجوز أن يكون الملتقط أكثر من واحد

،و عليه فإن كانت اللقطة دون الدرهم اقتسماها من غير تعريف،و إلاّ تصدى لتعريفها أحدهما أو كلاهما،أو بتوزيع الحول بينهما،و بعده يجوز ان يتفقا على التملك،أو التصدق،أو الإبقاء أمانة شرعية لصاحبها،و أيضا يجوز أن يختار أحدهما غير ما يختاره الآخر.

ص:329

5-إذا مات الملتقط قام ورثته مقامه

،فان مات قبل حول التعريف أتموه، و ان مات بعده،و كان قد قصد تملك المال الملقوط كان كسائر ما ترك،على شريطة أن يضمنوا للمالك إن وجد،تماما كما هي الحال بالنسبة إلى الملتقط، و ان مات بعد التعريف،و قبل أن يقصد التمليك فالورثة بالخيار بين الأمور الثلاثة من التملك أو التصدق مع الضمان،أو إبقاء المال أمانة شرعية لصاحبه،و ان كان الملتقط قد اختار الامانة لصاحبه تعين على الورثة الالتزام بما اختار مورثهم.

6-قال جميل بن صالح:قلت للإمام الصادق عليه السّلام:رجل وجد في منزله

دينارا

؟قال:أ يدخل في منزله غيره؟قلت:نعم،كثير.قال:هذا لقطة.قلت:

وجد في صندوقه دينارا؟قال:أ يدخل أحد يده في صندوقه غيره،أو يضع فيه شيئا؟قلت:لا،قال:هو له.

و قد أفتى الفقهاء بهذه الرواية،و قالوا:إذا وجد شيئا في داره لا يعلم:هل هو له،أو لغيره ينظر:فان وجد في غرفة الاستقبال التي يتردد عليها زائروه فهو لقطة،و إلاّ فهو له.

ص:330

الصيد

اشارة

ص:331

ص:332

المعنى:

للصيد معنيان:الأول المعنى الذي يفهمه الناس من لفظ الصيد عند إطلاقه، و هو محاولة الاستيلاء على الحيوان الممتنع بحسب أصله،بحريا كان أو بريا، طائرا،أو غير طائر،و هذا الاصطياد جائز إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا المائدة:3.و قوله عز من قائل أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ المائدة:96.و المراد بالسيارة المسافرون.و الصيد بهذا المعنى خارج موضوعا عن هذا الفصل،و يدخل في باب المكاسب من حيث انّه سبب للتملك بالحيازة و الاستيلاء.

المعنى الثاني:أن تزهق روح الحيوان بآلة الصيد نفسها،كالسيف و الرمح و السهم،و الكلب،و ما إلى ذاك،لا بالذبح المعروف المألوف،و هذا المعنى هو المراد و المقصود بالبحث هنا دون غيره.فالفقهاء في هذا الفصل يتجهون بكلامهم و تحقيقاتهم إلى أن الصيد المقتول بسبب اداة من أدوات الصيد:هل هو مذكى ذكاة شرعية يحل أكله تماما كالمذبوح،أو هو ميتة يحرم أكلها؟ و قد مهد الفقهاء لذلك بتقسيم اداة الصيد إلى قسمين:الأول ما كان من نوع الحيوانات،كالكلب و الفهد و الذئب و البازي و الصقر و العقاب و الباشق.الثاني:

من نوع الجوامد،كالسيف و الرمح و السهم،و الفخ و الشبكة و الحبال،و ما إليها، ثم بينوا حكم الصيد بكل منهما على الوجه التالي:

ص:333

الصيد بالحيوان:

أجمعوا كلمة واحدة بشهادة صاحب الجواهر و المسالك،و غيرهما على أن التذكية الشرعية تتحقق بصيد الكلب،مع الشروط الآتية،و ان الصيد إذا خرجت روحه بقتل الكلب يحل اكله تماما كالمذبوح على الوجه المعتبر شرعا إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ المائدة:4.أراد بمكلبين الكلاب المعلمة المدربة على الصيد،و ان مقتولها يحل اكله تماما كالمذكى بالذبح.و في معنى الآية الكريمة روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام تأتي الإشارة إلى بعضها.

و اختلف الفقهاء في صيد غير الكلب من الحيوانات،كالفهد و الصقر،و ما إليهما،فذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر و المسالك إلى أن صيدها ميتة لا يحل أكله إطلاقا،حتى و لو كانت معلمة.و استدلوا على ذلك بالآية المتقدمة، حيث خصصت الجواز بصيد الكلب المعلم،و بأن الامام الصادق عليه السّلام سئل عن صيد البزاة و الصقور،و الكلب و الفهد؟فقال:لا تأكل صيد شيء من هذه إلاّ ما ذكيتم إلاّ الكلب المكلب-اي المعلم-قال السائل:فإن قتله الكلب؟قال الإمام:

كل،لأن اللّه عز و جل يقول وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ .ثم قال الإمام:كل شيء من السباع تمسك على نفسها إلاّ الكلاب المعلمة،فإنّها تمسك على صاحبها.

و في رواية ثانية و صحيحة بشهادة صاحب الجواهر أنّه قال:ليس شيء يؤكل منه مكلب-أي معلم-إلاّ الكلب.و قال:خلاف الكلاب مما يعيده الفهود

ص:334

و الصقور و أشباه ذلك فلا تأكل من صيده إلاّ ما أدركت ذكاته،لأن اللّه عز و جل قال مُكَلِّبِينَ ،فما خلا الكلاب فليس صيده بالذي يؤكل إلاّ أن تدرك ذكاته.

و كل ما خالف هذا النص فهو شاذ متروك.اذن،ما عدا صيد الكلب من الحيوانات لا يحل أكله إلاّ مع الذبح على الوجه الشرعي.

الشروط:

اشارة

يشترط في حلّية صيد الكلب ما يلي:

1-ان يكون معلما

،و المرجع لتمييزه عن غيره أهل الخبرة،و قال الفقهاء:ان تعليم الكلب يتحقق بإرساله إذا أرسله صاحبه،و بزجره إذا زجره، و بعدم الاعتياد على أكل ما يمسك من الصيد-في الغالب-و النادر بحكم العدم.

2-ان يرسله صاحبه بقصد الصيد

،فلو انطلق الكلب من تلقائه،و أتى بالصيد مقتولا فلا يحل،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف أجده،و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن كلب أفلت،و لم يرسله صاحبه فصاد،فأدركه صاحبه،و قد قتله، أ يأكل منه؟قال:لا».

3-ان يكون الصائد الذي يرسل الكلب مسلما،أو بحكمه كالصبي

المميز

،و الصبية المميزة،لأن الإرسال نوع من التذكية،و من شروطها إسلام المذكي.و لا يصح إرسال الصبي غير المميز و لا المجنون،حيث لا شأن لقصدهما.

4-ان يسمي الصائد عند إرسال الكلب،فيقول:اذهب على اسم

،أو بسم اللّه الرحمن الرحيم،و ما إلى ذاك،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك، و النصوص مستفيضة».منها قوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ .و قول الإمام الصادق عليه السّلام:من أرسل كلبه،و لم يسم فلا يأكله.

ص:335

،أو بسم اللّه الرحمن الرحيم،و ما إلى ذاك،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك، و النصوص مستفيضة».منها قوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ .و قول الإمام الصادق عليه السّلام:من أرسل كلبه،و لم يسم فلا يأكله.

و أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه لو ترك التسمية نسيانا لا يحرم الصيد،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:ان كنت ناسيا فكل منه.

و إذا تركها جاهلا بالوجوب فلا يحل الأكل،لأن الأصل عدم التذكية بلا تسمية،خرج النسيان بالنص،فيبقى ما عداه مشمولا للأصل،و سنعود إلى شرط التسمية ان شاء اللّه تعالى في الفصل التالي.

5-أن يدرك الكلب الصيد حيا

،و ان يستند الموت إلى جرح الكلب بالذات،فلو أدركه ميتا لم يحل،و كذا إذا أدركه حيا،و لكن مات بسبب آخر،كما إذا عدا خلفه،حتى أتعبه و مات من الجهد و الإعياء.و بالإجمال لا بد من العلم بأن ذهاب الروح حصل بسبب جرح الكلب،و مع الشك في ذلك يحرم أكل الصيد،لأن الأصل عدم التذكية،حتى يثبت العكس،و سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن الرميّة يجدها صاحبها،أ يأكلها؟قال:ان كان يعلم أن رميته هي التي قتلته فليأكل،قال صاحب الجواهر:«المستفاد من النصوص ان المدار على العلم باستناد القتل إلى السبب المحلل».و السبب المحلل هنا هو أداة الصيد،و من أجل هذا أفتى الفقهاء بأن الصائد لو أرسل كلبه على الصيد فغاب عن عينيه،ثم وجد الصيد ميتا،و الكلب واقف عليه،أفتوا بعدم الحل و تحريم الأكل،إذ من الجائز أن يكون القتل مستندا إلى غير الكلب.

6-ان لا يدرك الصائد الصيد حيا مع الكلب

،أو أدركه حيا،و لكن على الرمق الأخير،بحيث لا يتسع الوقت لذبحه،فإذا اتسع الوقت لذلك،و أهمل حتى مات فلا يحل أكله.

ثم ان الصائد الذي يرسل الكلب يجوز ان يكون أكثر من واحد،كما يجوز

ص:

أن يكون مع الصائد الواحد أكثر من كلب،فإذا قتلت الكلاب صيدا واحدا يحل أكله،على شريطة أن يكون كل واحد منها معلما،قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا وجدت معه كلبا غير معلم فلا تأكل.

و إذا أرسل اثنان كلبا واحدا فعلى كل منهما أن يسمي،فلو سمى أحدهما دون الآخر لم يحل الصيد،و بالإيجاز يشترط في كل من الصائد و الكلب،مع التعدد ما يشترط فيه مع الانفراد.

و تجدر الإشارة إلى أنّه يجب غسل ما عضه الكلب،تماما كما يجب غسل غيره من المتنجسات.أمّا قوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ فإنه لا يتنافى مع وجوب الغسل،لأن الآية مسوقة لبيان حكم صيد الكلب و جواز أكله،لا لبيان الطهارة و عدمها.

الصيد بالآلة:

لا أحد يشك في أن الاصطياد،و محاولة الاستيلاء على الصيد جائز شرعا و عقلا بكل آلة و أداة حجرا كانت أو بندقية،أو سيفا أو رمحا،أو شركا،أو فخا، أو عصا،أو حفرة،أو فهدا،أو ذئبا،أو صقرا،أو أي شيء،و ان الصائد إذا أدرك الصيد حيا ذكاه الذكاة الشرعية،و حل أكله،سواء أ كانت آلة الصيد ملكا له أو اغتصبها من غيره.أجل،عليه أجرة المثل لمالكها،تماما كما هو الشأن في الأعيان المغصوبة.كل هذا محل وفاق،و التساؤل انما هو عن هذه الأدوات الجامدة،كالسيف و الرمح و غيرهما إذا قتل بها الصيد:فهل يحل أكله،بحيث تحصل التذكية الشرعية بقتلها،تماما كما تحصل بقتل الكلب.

و الجواب يستدعي التفصيل بين أنواع آلات الصيد الجامدة،فإن منها ما له

ص:337

حد يصلح للذبح به،كالسيف و السكين و الخنجر،و منها ما ينطلق من آلة اخرى، و له رأس محدد يصلح للقتل بالخرق،كالسهم و النشاب و منها ما له رأس محدد، و لا ينطلق بواسطة أداة أخرى،كالحديدة المحددة المثبتة في رأس العصا،أو العصا يبرى رأسها،حتى يصير محددا يمكن القتل به طعنا لا ضربا،و منها ما لا يصلح للقتل بالحد،و لا بالطعن،و انما يقتل بالثقل و العرض،كالحجر، و العمود،و العصا غير المحددة الرأس.

و يحل الصيد المقتول بالنوع الأول و الثاني،أي السيف و السكين و الرمح و السهم و النشاب المنطلق عن غيره،و لا يشترط في واحد منها أن يجرح أو يخرق الصيد،بل الشرط الأساسي ان يكون القتل مستندا إليه بالذات،قال الشهيد الثاني في المسالك ج 2 باب الصيد:«يحل مقتوله،سواء أمات بجرحه،أم لا، كما لو أصاب معترضا عند فقهائنا،لصحيحة الحلبي،قال:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن الصيد يضربه بالسيف،أو يطعنه برمح،أو يرميه بسهم فيقتله، و قد سمى حين رماه،و لم تصبه الحديدة؟قال:فإن كان السهم الذي رماه هو قتله،فإن أراد-الصائد أن يأكله-فليأكله،و غيرها من الأخبار الكثيرة».

و من هذه الأخبار الكثيرة التي أشار إليها الشهيد أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل لحق حمارا-وحشيا-أو غزالا،فضربه بالسيف،فقطعه نصفين،هل يحل أكله؟ قال:نعم.

أما النوع الثالث،أي مثل العصا المحددة الرأس،أو السهم الذي لم ينطلق من آلة،أما هذا النوع فان خرق اللحم جاز أكل المقتول به،و يحرم ان قتل بالثقل و العرض،قال صاحب المسالك:«يحل مقتوله بشرط ان يخرقه،و ذلك أن يدخل فيه،و لو يسيرا،و يموت بذلك،فلو لم يخرق لم يحل،فقد روي عن

ص:338

عدي بن حاتم أنّه قال:سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن صيد المعراض (1)؟فقال:ان قتل بحده فكل،و ان قتل بثقله فلا تأكل،و روي أيضا عن الإمام الصادق عليه السّلام:إذا رميت بالمعراض فخرق فكل،و ان لم يخرق و اعترض فلا تأكل».

أما النوع الرابع،و هو ما يقتل بالثقل،كالحجر و العمود،و ما إليه فإن مقتوله ميتة لا يحل أكلها،قال صاحب المسالك:«لا يحل مقتوله مطلقا،سواء أخدش، أم لم يخدش،و سواء أقطع بعض الأعضاء،أم لم يقطع،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عما قتل البندق و الحجر،أ يؤكل؟قال:لا».و البندق واحدة بندقة، و هي طينة مدورة مجففة،كالتي يلعب بها الأطفال.

و الخلاصة أن ما يقتل بالسيف و السكين و الرمح و السهم،و ما إليه مما ينطلق بواسطة فهو مذكّى شرعا يحل أكله،على آية صورة وقع القتل عرضا أو خرقا،ما دام القتل مستندا إلى الآلة بالذات،و أيضا كل آلة محدودة الرأس.حتى العصا إذا كانت كذلك يحل المقتول بها،على شريطة أن يكون القتل خرقا لا عرضا.و ما عدا ذلك،كالحجر و العمود و العصا غير المحددة،و الشبكة و الفخ و الحبال فلا يحل ما يقتل به،و انما يتخذ للاستيلاء على الصيد،فإذا أدركه الصائد حيا ذكاه،و أكله،و إلاّ فهو ميتة.

الآلة الحديثة:

هل يحل قتل الصيد بالسلاح الحديث«كالبارودة»و ما إليها بحيث يعد القتل به تذكية،مع اجتماع الشروط،تماما كالقتل بالسيف و الرمح و السهم؟ الجواب:ان كل ما يطلق عليه اسم السلاح إذا قتل به الصيد،مع الشروط

ص:339


1- المعراض خشبة محددة الطرفين ثقيلة الوسط.

الشرعية يحل أكله،و يدل عليه قول الإمام الباقر أبي الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:

«من جرح صيدا بسلاح،و ذكر اسم اللّه عليه،ثم بقي ليلة أو ليلتين لم يأكل منه السبع،و قد علم أن سلاحه هو الذي قتله،فليأكل منه ان شاء».

فلفظ«سلاح و سلاحه»عام يشمل كل ما ينطبق عليه اسم السلاح.و في رواية أخرى أن الإمام عليه السّلام سئل عن الرجل يرمي الصيد فيصرعه،فيبتدره القوم، فيقطعونه؟فقال:كله.و رمي الصيد يشمل الرمي بكل سلاح،لأن حذف المتعلق يدل على العموم (1).

هذا إلى اطمئنان النفس بأن مناط الحل السلاح من حيث هو بصرف النظر عن صفاته الخاصة الراجعة إلى الفرد و النوع.

و قد أفتى السيد أبو الحسن الأصفهاني بحلّيّة ما قتل«بالبارودة»قال في وسيلة النجاة باب الصيد ما نصه بالحرف:«لا يبعد حلية ما قتل بالآلة المعروفة بالتفنك-أي البارودة-إذا سمى الرامي،و اجتمعت سائر الشروط».

و مثله في الجزء الثاني من منهاج الصالحين للسيد الحكيم،حيث قال:«لا يبعد حل الصيد بالبنادق المتعارفة في هذه الأزمنة،و لا سيما إذا كانت محددة مخروطة-أي تبدأ غليظة مستديرة،ثم تدق شيئا فشيئا،حتى تنتهي إلى النقطة الأخيرة من الدقة،كرصاصة البارودة-سواء أ كانت من الحديد،

ص:340


1- يمكن ان يلاحظ على الرواية الأولى التي ذكرت السلاح بأن لفظ السلاح ينصرف إلى المعنى المعروف في عصر الشارع،و انما يحمل لفظ الشارع على المعنى العرفي في عصرنا إذا لم ينصرف إلى المعنى المعهود في عصره.أما الرواية الثانية فيلاحظ بأن حذف المتعلق فيها لا يدل على العموم، لأن الروايات التي ذكرت السيف و الرمح و السهم مبينة أو مخصصة لها،و من هنا قال صاحب الجواهر في أول باب الصيد:ان الأصل عدم التذكية في الصيد المقتول بالسلاح الحديث،مع علمه بوجود الروايتين.

أو الرصاص،أو غيرهما».

و سبق هذين السيدين و غيرهما إلى هذه الفتوى النراقي صاحب المستند عند كلامه في المسألة الخامسة من البحث الثاني باب الصيد.

الشروط:

يشترط لحلية الصيد المقتول بالآلة الجامدة و جواز أكله،بالإضافة إلى أن تكون الآلة سيفا أو رمحا أو سهما،أو محددة الرأس على التفصيل المتقدم- يشترط ما يلي:

1-إسلام الصائد.

2-العقل و التمييز.

3-قصد الصيد،فلو رمى هدفا،لغرض غير الصيد،أو أفلت السهم من يده تلقائيا،فأصاب طائرا،أو غزالا من باب الصدفة فقتل فلا يحل أكله،حتى و لو كان قد سمى و جرى ذكر اللّه على لسانه.و عليه فإذا أدركه حيا،و اتسع الزمان،و ذبحه حل أكله،و إلاّ فهو ميتة.

4-أن يطمئن الصائد إلى أن قتل الصيد يستند إلى الآلة التي رماه بها فلو رمى صيدا فأصابه،و لكنه تردى من شاهق،أو سقط في الماء،و مات،لم يحل.

إذ من الجائز ان يكون الموت مستندا إلى السقوط،أو إليه و إلى الرمي معا.قال الإمام عليه السّلام:لا تأكل الصيد إذا وقع في الماء.و قال:ان رميت الصيد،و هو على جبل،فسقط و مات فلا تأكله.

ص:341

الحيوان الذي يحل صيده:

اشارة

يشترط في الحيوان الذي يحل صيده أمور :

1-أن يقبل التذكية الشرعية

،أمّا ما لا يقبلها،كالمسخ و نجس العين فلا يتحقق به الصيد،و سنتعرض في الفصل التالي«الذباحة»إلى ما يقبل التذكية،و ما لا يقبلها.

2-ان يكون بريا

،أو أنّه كان أهليا ثم نفر إلى البر،و صار متوحشا ممتنعا، كالثور الصائل،و البعير العاصي،و نحوهما،قال الإمام عليه السّلام:إذا امتنع عليك بعير، و أنت تريد أن تنحره،فانطلق منك،فان خشيت ان يستقبلك فضربته بسيف،أو طعنته برمح بعد أن تسمي فكل إلاّ أن تدركه و لم يمت بعد،فذكه.

أمّا الحيوانات المستأنسة،كالبقر و الغنم،و الطيور الدواجن،كالدجاج و الحمام فليست موضوعا للصيد ما دامت طوع الإرادة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل ضرب بسيفه جزورا أو شاة في غير مذبحها،و قد سمى حين ضرب؟فقال:لا يصلح أكل ذبيحة لا تذبح من مذبحها إذا تعمد ذلك،و لم تكن حاله حال اضطرار،فاما إذا اضطر إليه و استصعب عليه ما يريد أن يذبح- فلا بأس بذلك.

3-ان يكون قادرا على الامتناع

،فلا تحل أطفال الحيوانات الصغار التي لا تستطيع العدو،و ان كانت برية،و لا أفراخ الطير التي تعجز عن الطيران،قال الإمام عليه السّلام:إذا رمى رجل صيدا في وكره،فأصاب الطير و الفراخ جميعا فإنّه يأكل الطير،و لا يأكل الفراخ،و ذلك ان الفراخ ليست بصيد ما لم تطر،و انما تؤخذ باليد،و تكون صيدا إذا طارت.

ص:342

مسائل:

1-يملك الحيوان البري،و الطير غير الداجن-بأمور ثلاثة:

1:أن يضع يده عليه مباشرة.2:أن يقع في آلة الصيد،أو في الحفرة التي يحفرها الصياد بهذا القصد.3:أن يضربه بحجر أو خشبة أو آلة،حتى يصبح غير ممتنع و لا قادر على الفرار،على شريطة أن يكون ذلك بقصد الصيد،فلو رماه صدفة و من غير قصد فللآخر أن يأخذه،و لا يحق لأحد أن ينازعه فيه.

2-من تبع حيوانا بسارة أو فرس،حتى أعياه لا يصير ملكا له

إلاّ إذا وضع يده عليه،فلو أخذه غيره قبل ذلك يملكه،لأنه لم يضع يده عليه،و لم يرمه بسهم أو ما إليه.

3-إذا دخل عصفور إلى بيت انسان صدفة فللآخر أن يأخذه

،و ليس لصاحب البيت منعه من ذلك إلاّ من جهة التصرف في بيته.أجل،إذا فتح صاحب البيت الباب،و ألقى الحب لتدخل العصافير،فدخلت فلا يجوز لغيره أن يصطادها.و لو بنى العصفور عشا في حائط إنسان لا يملكه بمجرد ذلك.

4-إذا نصب شبكة للاصطياد فوقع فيها حيوان

،و لكنه كان أقوى من الشبكة فأفلت منها،ثم اصطاده آخر فهو لمن اصطاده،أما لو كانت الشبكة أقوى منه،و أمسكته،بحيث لا يستطيع الخلاص منها إلاّ بمعونة من الخارج،و صادف أن مرّ حيوان به،أو طائر،أو هبت رياح قوية،أو ما إلى ذاك،و تخلص بمعونته، ثم اصطاده آخر،فهو للأول،لأنه تماما كما لو أمسكه بيده،ثم أفلت منه.

و من هنا قال الفقهاء:إذا دخلت سمكة كبيرة في شبكة صغيرة فجرتها، و ذهبت السمكة و معها الشبكة في قلب البحر،و صادف ان دخلت في شبكة كبيرة لا تقوى على الإفلات منها كانت السمكة لصاحب الشبكة الكبيرة،فيأخذ

ص:343

السمكة،و رد الشبكة لأهلها.و الضابط أن تكون الآلة أقوى من الحيوان الذي يقع فيها بحيث تستطيع الآلة أن تمسكه،أما إذا كان الحيوان أو الطائر أقوى من الآلة فلا تتحقق اليد الموجبة للملك.

5-إذا رمى الصيد بشيء فجرحه،و لكنه بقي على قوته،بحيث لم يخرج

عن الامتناع

،سوى أنّه لذعره و خوفه دخل دارا،فأخذه صاحب الدار يكون ملكا له بالأخذ و وضع اليد،لا بدخول الدار،و لا يحق لمن جرحه أن يعارض و يمانع.

و إذا أضعفه،و جعله بحيث لا يقوى على الفرار يكون له،و لا يجوز لأحد أخذه:

و السر ما أشرنا إليه في المسألة السابقة.

6-بعد أن يصبح الصيد في يد الصائد يصير ملكا له

،و إذا أفلت منه يبقى على ملكه،و ان صار ممتنعا.لأن الملك بعد ثبوته لا يزول.أجل،إذا أعرض الصائد،و صرف النظر عنه كلية يصير كالأشياء المباحة تجوز حيازته لمن شاء.

ص:344

الذباحة

اشارة

ص:345

ص:346

معاني التذكية:

للتذكية الشرعية معان شتى،تختلف باختلاف الحيوان،فتذكية الحيوان البري المتوحش تتحقق بآلة الصيد قبل وضع اليد عليه،و تذكية الحيوان الأهلي المستأنس-غير الإبل-بذبحه،و الإبل بنحرها،و السمك بإخراجه من الماء حيا، و الجراد بقبضه،و الجنين بتذكية أمه،و تذكية ما يتعذر ذبحه بجرحه و عقره كيف اتفق من أجزاء بدنه.

و خصصنا الفصل السابق بعنوان الصيد للتذكية بآلاته،و نتكلم في هذا الفصل عن التذكية بسائر المعاني الأخرى،و جعلنا العنوان هنا«الذباحة»مع العلم بأنّها بعض أفراد التذكية تغليبا لها على بقية الأفراد،لأنها الأشهر و الأكثر،و أكثر الفقهاء تكلموا عن التذكية بوجه عام في فصل واحد بعنوان«الصيد و الذباحة».

و أفردنا نحن للصيد فصلا خاصا بالنظر لأهميته.

و قبل كل شيء نمهد بالإشارة إلى أقسام الحيوان باعتبار صلاحيته للتذكية و عدمها.

الحيوان و صلاحية التذكية:

اشارة

ينقسم الحيوان باعتبار صلاحيته للتذكية و عدمها إلى أقسام:

1-كل حيوان يجوز أكله فهو صالح و قابل للتذكية،و هذه الحقيقة تدل

ص:347

على نفسها بنفسها،لأن جواز الأكل يستدعي بذاته قبول التذكية فالدليل الذي دلّ على جواز أكل أي حيوان يدل بذاته على أنّه صالح للتذكية،سواء أ كان الحيوان بحريا أو بريا طائرا أو غير طائر،أهليا أو غير أهلي.

2-كل حيوان نجس العين،كالكلب و الخنزير،فهو غير صالح للتذكية، لا يؤثر الذبح فيه شيئا،بل يبقى بعد الذبح على نجاسته،و تحريم أكله،و هذا لا يحتاج إلى دليل،تماما كصلاحية مأكول اللحم للتذكية.

3-كل ما يؤكل لحمه مما لا نفس سائلة له،كالسمك و الجراد فهو قابل للتذكية و يأتي الكلام عنه.

4-كل ما لا يؤكل لحمه مما لا نفس سائلة له،كالذباب و ما إليه فليس موضوعا للتذكية إطلاقا،إذ المفروض أن أكله لا يحل بوجه،و أنّه طاهر على كل حال،حيا كان أو ميتا.

5-ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الحشرات،و هي التي تسكن باطن الأرض،كالفأرة و الجرذون و ما إليه-ذهبوا إلى أنّها لا تقبل التذكية، و ان ذبحها و موتها حتف الأنف سواء.

6-اتفقوا كلمة واحدة على عدم جواز أكل سباع الحيوانات و الطيور، و هي التي تفترس ما هو أضعف منها،و تتغذى باللحم،كالأسد و النمر و الفهد و الذئب و الثعلب و السنور و الضبع و ابن آوى،و الصقر و البازي و العقاب و الباشق.و أيضا اتفقوا على أنّها طاهرة.

و اختلفوا:هل تقبل التذكية،بحيث تطهر بالذبح،أو لا؟ذهب المشهور إلى أنّها تقبل التذكية،و يطهر لحمها و جلدها بالذبح،أو بالتذكية بآلة الصيد على النحو المتقدم في الفصل السابق،قال صاحب الجواهر:«بل في غاية المراد

ص:348

لا نعلم مخالفا في ذلك،بل عن السرائر الإجماع عليه،لأن الإمام عليه السّلام سئل عن جلود السباع،أ ينتفع بها؟فقال:إذا رميت و سمّيت فانتفع بها-ثم قال صاحب الجواهر-و السيرة مستمرة في جميع الأعصار و الأمصار على استعمال جلودها».

7-جاء في الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام أن الحيوانات الموجودة الآن على هيئة المسوخ كثيرة تزيد على عشرة أنواع،و سنذكرها للمناسبات الآتية.

و من هذه الحيوانات الفيل و الدب و القرد.و قد اتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن لحوم المسوخ كلها محرمة لا يجوز أكلها.

و أيضا اتفقوا إلاّ قليلا منهم على أنّها طاهرة.و اختلفوا:هل تقبل التذكية،أو لا؟و معنى قبولها للتذكية أنّها تبقى على الطهارة بعد الذبح،أما لحمها فلا يحل إطلاقا،و معنى عدم قبولها للتذكية أنّها ميتة بعد الذبح،تماما كما لو ماتت حتف أنفها.

و نقل صاحب الجواهر عن كتاب غاية المراد أن أكثر الفقهاء ذهبوا إلى أنّها تقبل التذكية،و عليه يكون لحمها و جلدها طاهرين بعد الذبح،أو اصطيادها بآلة الصيد المعتبرة شرعا،و قال آخرون:انّها لا تقبل التذكية،و ان ذبحها و موتها حتف الأنف سواء.

أما الحق فبيانه في الفقرة التالية:

هل كل حيوان يقبل التذكية

؟ ان الحكم بأن المسوخ و السباع،و أيضا الحشرات التي لها جلد (1)،ان

ص:349


1- ذهب جماعة من الفقهاء منهم السيد الحكيم إلى أن كل ما له جلد من السباع و الحشرات يقبل التذكية،قال السيد المذكور في الجزء الثاني من منهاج الصالحين [1]باب الذباحة:«الظاهر وقوع الذكاة عليه إذا كان له جلد يمكن الانتفاع به بلبس أو فرش،و نحوهما،و يطهر لحمه و جلده بها، و لا فرق بين السباع كالأسد و النمر و الفهد و الثعلب و غيرها،و بين الحشرات التي تسكن الأرض إذا كان لها جلد مثل ابن عرس و الجرذ،فيجوز استعمال جلدها إذا ذكيت فيما يعتبر فيه الطهارة، فيتخذ ظرفا للسمن و الماء،و لا ينجس ما يلاقيها برطوبة».

الحكم بأن هذه تقبل التذكية أو لا تقبلها-يتوقف على معرفة:هل يوجد في الكتاب و السنة عموم أو إطلاق يدل على أن كل حيوان يقبل التذكية إلاّ ما خرج بالدليل،أو أنّه لا اثر لهذا العموم،أو الإطلاق؟فإذا شككنا في قبول حيوان للتذكية الشرعية فعلينا قبل كل شيء أن ننظر و نبحث في الكتاب و السنة عن هذا العموم،أو الإطلاق،فإن وجدناه حكمنا بقبوله للتذكية استنادا للعموم،و لا يبقى أثر للشك بحكم الشارع في القابلية،كي نرجع إلى أصل عدم صلاحية الحيوان للتذكية،سواء أ كان الحيوان من المسوخ،أو السباع،و عليه يكون طاهرا بعد الذبح،لأن صحة التذكية تستدعي طهارة المذكى على كل حال،سواء أ كان من مأكول اللحم،أو من غيره،أما الأكل من لحمه فيجوز إذا لم يدل الدليل من النص أو الإجماع على التحريم،لقاعدة:كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام.

و أشرنا فيما سبق إلى أن السباع و المسوخ و الحشرات يحرم أكلها بالإجماع، و تأتي زيادة البيان في فصل الأطعمة.

و إذا لم نجد في الكتاب و السنة دليلا على أن كل حيوان يقبل التذكية،فإن أصل عدم قابلية كل حيوان للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل-هو المحكم بالإنفاق.

و مجرد الشك في قابلية الحيوان للتذكية كاف في إجراء هذا الأصل.و عليه يكون الحيوان المشكوك في قابليته لها نجسا و محرما أكله بعد الذبح،لأن ذبحه و موته حتف الأنف سواء،ما دام غير صالح للتذكية.

و بهذا تبين معنا أنّه لا وجه للتساؤل إطلاقا في أنّه:هل الأصل في كل

ص:350

حيوان عدم قبوله للتذكية،أو أن الأصل قبوله لها،لأن هذا الأصل مردد بين أمرين:اما لا يجري إطلاقا،و ذلك إذا افترض وجود عموم أو إطلاق في الكتاب أو السنة يدل على أن كل حيوان يقبل التذكية إلاّ ما خرج،و اما يجري إطلاقا و بالاتفاق،مع عدم وجود هذا العموم أو الإطلاق.

فالواجب-اذن-هو النظر و البحث عن وجود هذا العموم أو الإطلاق في الكتاب أو السنة.و قد ادعى جماعة من الفقهاء أنّه موجود،و استدلوا عليه بإطلاق الآيات و الروايات الواردة في حلية أكل ما أمسك الكلب،و ما ذكر اسم اللّه عليه،و ما يصطاد بالسيف و الرمح،و ما إلى ذلك ما سبق في فصل الصيد،حيث دلت هذه الآيات و الروايات على جواز الأكل من كل ما أمسك الكلب،و ما ذكر اسم اللّه عليه،و ما يصطاد بالسيف و الرمح و السهم من غير تقييد و تفصيل بين حيوان و حيوان،و منه يستكشف قابلية كل حيوان للتذكية.

و الحق أنّه لا عموم و لا إطلاق في هذه الآيات و الروايات،لأنها لم ترد لبيان صلاحية الحيوان للتذكية،أو عدم صلاحيته لها،و انما وردت لبيان أن التذكية الشرعية في مأكول اللحم تتحقق بإمساك الكلب،و بالاصطياد بالسيف،و ما إليه، و بما ذكر اسم اللّه عليه.و بديهة أن أول شرط للتمسك بإطلاق اللفظ و عمومه ان يكون المتكلم قاصدا بيان الجهة التي حمل اللفظ عليها و فسر بها.و بكلمة ان النص قد ورد لبيان حكم التذكية،لا لبيان موضوعها.

و حيث ان الحكم بصحة التذكية يتوقف قبل كل شيء على العلم بأن المحل قابل و صالح لها.و المفروض أنّا نشك بهذه القابلية و الصلاحية،و أنّه لا عموم و لا إطلاق يدل على ثبوتها في كل حيوان-فيكون أصل عدم قبول كل حيوان للتذكية،و الحال هذي،هو المحكم.و عليه،فإذا ذبح الحيوان المشكوك يكون

ص:351

ميتة نجسة لا يجدي ذبحه شيئا.قال الشيخ الأنصاري في كتابه المعروف بالرسائل باب البراءة ما نصه بالحرف:«ان شك في حيوان من جهة الشك في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة،لأصالة عدم التذكية،لأن من شرائطها قابلية المحل،و هي مشكوكة،فيحكم بعدمها،و ان الحيوان ميتة».

و على هذا يكون الأصل في المسوخ و السباع و غيرها من الحيوانات المشكوكة،يكون الأصل عدم قابليتها للتذكية إلاّ ما خرج بدليل شرعي.أجل، يبقى شيء هام،و هو هل هناك دليل شرعي يدل على أن المسوخ و السباع تقبل التذكية الموجبة للطهارة،كما دل الدليل على حرمة أكلها؟و هذا ما سنتعرض له في فصل الأطعمة الذي يلي هذا الفصل مباشرة.

و بعد هذا التمهيد نتكلم عن التذكية بالذبح و النحر،و بالخروج من الماء، و بالقبض،و بالجرح و العقر،و بذكاة الأم،و فيما يلي التفصيل،و نبدأ بالذبح.

و أركانه ثلاثة:الذابح،و آلة الذبح،و صورته.

الذابح:

يشترط في الذابح الإسلام،و لا يشترط أن يكون ذكرا،و لا بالغا،و لا شيعيا،و لا أن يكون غير جنب،أو غير ابن زنا،أو غير أغلف.

فتحل ذبيحة الغلام المميز،و الصبية المميزة،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن ذبيحة المرأة و الغلام،هل تؤكل؟قال:نعم،إذا كانت المرأة مسلمة،و ذكرت اسم اللّه حلت ذبيحتها،و إذا كان الغلام قويا على الذبح،و ذكر اسم اللّه حلت ذبيحته.

و قال الشهيد الثاني في المسالك:«من أوصاف الذابح أن يكون قاصدا إلى

ص:352

الذبح،فالمجنون و الصبي غير المميز و السكران لا يحل ما يذبحونه،لأنه بمنزلة ما لو كان في يد نائم سكين،فانقلب،و قطع حلقوم شاة».

و سئل الإمام عن ذبيحة ابن الزنا؟قال:«لا بأس.و عن ذبيحة الأغلف؟ قال:لا بأس.و قال:لا بأس ان يذبح الرجل،و هو جنب».الأغلف هو الذي لم يختن.

و نقل الإمام الباقر أو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن جده علي أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:من دان بكلمة الإسلام،و صام و صلى فذبيحته حلال لكم إذا ذكر اسم اللّه.

أجل،لا تحل ذبيحة المغالي،و لا من أعلن العداوة لأهل البيت عليهم السّلام،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«ذبيحة الناصب لا تحل».و المغالي اسوأ منه.

و قد توسع السيد الحكيم،و تسامح كثيرا في الأخذ من يد المسلم قال في منهاج الصالحين باب الذباحة:

«لا فرق في المسلم الذي يكون تصرفه امارة على التذكية بين الإمامي و غيره،و بين من يعتقد طهارة الميتة بالدبغ و غيره،و بين من يعتبر الشروط المعتبرة في التذكية كالاستقبال و التسمية،و كون المذكي مسلما،و قطع الأعضاء الأربعة و غير ذلك،و بين من لا يعتبرها».

و قال أيضا:«دهن السمك المجلوب من غير بلاد الإسلام لا يجوز شربه إذا اشتري من غير مسلم،و يجوز شربه إذا اشتري من مسلم،و ان علم أن المسلم أخذه من الكافر».

ص:353

ذبيحة أهل الكتاب:

قال الشهيد الثاني (1)في الجزء الثاني من كتاب المسالك باب الذباحة ما يتلخص بما يلي:

ذهب أكثر الفقهاء إلى تحريم ذبيحة أهل الكتاب،و ذهب ابن أبي عقيل، و أبو علي بن جنيد،و الصدوق أبو جعفر (2)إلى حلية ذبيحتهم،و لكن اشترط الصدوق سماع التسمية عليها،و استدلوا على الحلية بروايات كثيرة و صحيحة عن أهل البيت عليهم السّلام،منها ما جاء في صحيح الحلبي أنّه سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن ذبيحة أهل الكتاب و نسائهم؟فقال:لا بأس.و منها أنّه سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:ما تقول في مجوسي،قال: بسم اللّه ،ثم ذبح؟فقال:كل.

فقيل له:مسلم ذبح،و لم يسم؟فقال:لا تأكل.

ثم قال صاحب المسالك:أمّا الروايات الأخرى التي استدل بها القائلون بالتحريم فالصحيح منها لا دلالة فيه،و غير الصحيح لا عبرة به لو سلمت دلالته.

و قال أيضا:أما القول بأن الكافر لا يعرف اللّه،و لا يذكره على ذبيحته فمن العجيب،لأن الكتابي مقر باللّه،و ما ينسب إليه من التثليث،و ان عزيزا ابن اللّه، و المسيح ابن اللّه،و نحو ذلك-لا يخرجه عن الإقرار باللّه تعالى،و هذه الإلحاقات-

ص:354


1- الشهيد الثاني هو زين الدين العاملي الجبعي،استشهد سنة 966 ه،و هو من أكبر المراجع العلمية الدينية،و كتبه من أهم المصادر لفقه الإمامية،و بعضها مقرر للتدريس من أمد بعيد.
2- ابن أبي عقيل هو الحسن بن علي العماني من علماء القرن الرابع الهجري،و جاء في وصفه أنّه أول من هذب الفقه،و استعمل النظر،و فتق البحث عن الأصول و الفروع،و ابن الجنيد هو محمد بن أحمد الإسكافي من أكابر علماء الإمامية،توفي سنة 381 ه،و الصدوق هو محمد بن علي بن بابويه شيخ الطائفة،و صاحب كتاب«من لا يحضره الفقيه»أحد الكتب الأربعة في الحديث،توفي سنة 381 ه.

أي ابن اللّه،و ما إلى هذا-و ان أوجبت الكفر فلا تقتضي عدم ذكر اللّه،فإنه يذكر اللّه في الجملة،و يقول الحمد للّه،و ذلك كاف في الذكر على الذبيحة.و في فرق المسلمين من ينسب إلى اللّه منكرات،و لا يخرج بذلك عن الإقرار باللّه تعالى.

أمّا صاحب الجواهر فقد اعترف صراحة بصحة الروايات الناطقة بحلية ذبيحة أهل الكتاب،و لكنه حملها على غير ظاهرها و أولها بخلاف ما دلت عليه، و لذلك جزم بتحريم ذبيحتهم.و لكن عبارته في أوّل مباحث الذباحة تدل على أن من فقهاء المذهب من يقول بحلية ذبيحة أهل الكتاب غير الفقهاء الذين ذكرهم صاحب المسالك.قال صاحب الجواهر:«و من الغريب اطناب ثاني الشهيدين في المسالك و بعض اتباعه في تأييد القول بالجواز و اختياره».

و نحن على رأي صاحب المسالك،كما أنّا من القائلين بطهارة أهل الكتاب،و بيّنّا ذلك مفصلا في الجزء الأول،فصل أعيان النجاسات،فقرة«أهل الكتاب».

آلة الذبح:

قال الفقهاء:يشترط ان يكون الذبح بسكين من حديد-و الفولاذ نوع من الحديد-و لا تحل الذبيحة إذا ذبحت بسكين من نحاس،أو ذهب،أو فضة،مع الاختيار و إمكان الذبح بالحديد،قال صاحب الجواهر:«بلا خلاف فيه بيننا».

و استدلوا بأن الإمام الصادق عليه السّلام سئل عن الذبح بالعود،أو الحجر أو القصبة؟ فقال:قال علي عليه السّلام:لا يصلح إلاّ بحديد.و سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن الذبح بالليطة و المروة؟فقال:لا ذكاة إلاّ بحديد.و الليطة قشرة القصب،و المروة الحجر الحاد الذي يقدح الشرار،و هو المعروف عندنا بالصوان.

ص:355

و قالوا:ان لفظ الحديد لا يتناول النحاس و الرصاص و الذهب و الفضة.

و الذي نفهمه نحن من الحديد هنا هو الحديد المعروف،و ما يشبهه من المعدن الشديد الصلب،كالنحاس و الذهب و الفضة.فالمهم ان يكون معدنا في قبال الجسم الصلب-غير المعدن-كالحجر و العود المحدد،و ما إليه.و في الرواية نفسها إيماء إلى هذا الفهم،لأن السؤال وقع عن القصب و الحجر،لا عن النحاس و الذهب و الفضة،فجاء الجواب من الإمام عليه السّلام لنفي الحجر و نحوه، و لإثبات الحديد و شبهه.و عبر الإمام بالحديد،لأنه الفرد الغالب،و هذا النوع من التعبير كثير في كلمات أهل البيت عليهم السّلام.

و ليس هذا اجتهاد منا في قبال النص،بل اجتهاد في تفسير النص.

و الاجتهاد في قبال النص هو أن يقال بجواز الذبح بالحجر و القصب،مع إمكان الذبح بالحديد.

و قد أجاز الفقهاء الذبح بغير الحديد عند تعذر الذبح به،مع الخوف من فوات الذبيحة،و هذه عبارة صاحب الشرائع و الشارح صاحب الجواهر:«إذا لم يوجد الحديد،و خيف فوت الذبيحة جاز الذبح بما يفري أعضاء الذبيح،و لو كان ليطة-أي قصبة-أو خشبة محددة،أو مروة-أي حجر الصوان-أو زجاجة، أو غير ذلك،ما عدا السن و الظفر بلا خلاف.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل لم يكن يحضره سكين،أ يذبح بقصبة؟فقال اذبح بالحجر و بالعظم،أو بالقصبة و بالعود إذا لم تصب الحديدة إذا قطعت الحلقوم،و خرج الدم فلا بأس به».

و تجدر الإشارة إلى أن الفقهاء أجازوا الذبح بالحجر و ما إليه إذا تعذرت السكين من الحديد و جميع المعادن،حتى النحاس و الذهب و الفضة.فالذبح

ص:356

عندهم له مراتب ثلاث تأتي على هذا الترتيب:أولا و قبل كل شيء بسكين من حديد،فان تعذرت فبسكين من سائر المعادن،فان تعذرت فبما تيسر من حجر أو زجاج أو قصب.

صورة الذبح:

اشارة

يكون الذبح صحيحا إذا وقع على الصورة المأمور بها شرعا،و تتحقق هذه الصورة بالشروط التالية بعد قصد الذبح،فإن أخل بأحدها عامدا كانت الذبيحة ميتة.

1-استقبال القبلة

،مع الإمكان إجماعا و نصا،و منه قول الإمام عليه السّلام:إذا أردت أن تذبح ذبيحتك فاستقبل بها القبلة.

فمن ترك الاستقبال عامدا حرمت،و من تركه نسيانا لم تحرم،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن ذبيحة ذبحت لغير القبلة؟فقال:كل،لا بأس بذلك،ما لم يتعمد.

و الجاهل بوجوب الاستقبال تماما كالناسي،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل ذبح ذبيحة،جهل أن يوجهها إلى القبلة؟قال:كل منها.

قال صاحب الجواهر:يستفاد من النص ان الجاهل معذور هنا،و ان صدق عليه التعمد (1).

أمّا من ترك الاستقبال متعمدا،لأنه لا يعتقد بوجوب الاستقبال فقال

ص:357


1- الجاهل على قسمين:جاهل بالحكم،و هو الذي يعرف جهة القبلة،و يجهل وجوب الاستقبال، و جاهل بالموضوع،و هو الذي يعلم بوجوب الاستقبال،و يجهل جهة القبلة،و كلا الجاهلين معذور هنا،مع العلم بأن الفقهاء قالوا:ان الجهل بالموضوع عذر شرعي في كل مورد،و ان الجهل بالحكم ليس بعذر بوجه عام،و لكنهم استثنوا من هذه القاعدة الجاهل بحكم الاستقبال بالذبيحة،لوجود النص.

صاحب الجواهر و المسالك:تحل ذبيحته،لأنه في معنى الجاهل.

و يجب استقبال الذبيحة بمقاديم البدن بكاملها،و لا يكفي الاستقبال بمذبحها فقط،أما الذابح فلا يشترط فيه ذلك بل يستحب،فيجوز أن يذبح، و مقاديم بدنه إلى الغرب،أو الشرق،قال صاحب الجواهر:«هذا هو المستفاد من النصوص المعتضدة بفتوى الفقهاء».

2-محل الذبح

،و هو أربعة أعضاء،يجب قطعها:الأول الحلقوم،و هو مجرى النفس دخولا و خروجا.الثاني المري،و هو مجرى الطعام و الشراب.

الثالث و الرابع الودجان،و هما العرقان الغليظان المحيطان بالحلقوم.

و لا بد من قطع هذه الأعضاء الأربعة بكاملها،فلا يكفي قطع،أو شق بعضها،و أيضا لا بد أن يكون القطع من الامام،أي المكان المعروف بالمذبح، فلا يحل الذبح من مؤخر العنق،لقول الإمام عليه السّلام:«لا يصح أكل ذبيحة لا تذبح من مذبحها».أجل،لو أدخل السكين تحت الأوداج،و قطعها إلى فوق لا تحرم الذبيحة،و لكنه قد فعل ما ينبغي تركه،و إذا قطع من الأوداج الرأس متعمدا فقد أثم.و لكن الذبيحة لا تحرم،قال الإمام الصادق عليه السّلام:لا تكسر الرقبة،حتى يبرد الرأس.و سئل عن رجل ذبح طيرا،و قطع رأسه،أ يؤكل منه؟قال:نعم،و لكن لا يتعمد قطع رأسه.و النهي هنا يدل على التحريم دون الفساد.

و قد رأس جماعة من المتأخرين ان قطع الأوداج الأربعة لا يتحقق على الوجه المطلوب شرعا إلاّ إذا كان الذبح من تحت العقدة المسماة في لسان العرف بالجوزة،بحيث تكون الجوزة مع الرأس.و ليس في النص عين و لا اثر لذلك، و لكن الفقهاء أخذوه عن أهل الخبرة و المعرفة الذين شهدوا له بأن قطع الأوداج الأربعة لا يتم إلاّ ان تكون الجوزة مع الرأس.فإن صح هذا القول وجب أن تكون

ص:358

الجوزة مع الرأس،و إلاّ فلا (1).

و لا بد من الإشارة هنا إلى ما قاله صاحب المسالك من أنّه لا دليل على وجوب قطع الأوداج الأربعة-غير الحلقوم-إلاّ الشهرة فقط،حيث اكتفى النص بذكر الحلقوم،فقد جاء في صحيح الشحام:«إذا قطع الحلقوم،و خرج الدم فلا بأس به».

و أقصى ما استدل به القائلون بقطع الأوداج الأربعة ما جاء في رواية ابن الحجاج عن الإمام عليه السّلام:«إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك».و ردهم صاحب المسالك بأنّه لا تصريح فيها بأسماء الأربعة.

أمّا صاحب الجواهر فقد جزم و أصر على قطع الأربعة،و لكنه لم يجد شيئا يرد به على صاحب المسالك سوى قوله:قامت الشهرة العظيمة،و السيرة القطعية،و أصالة عدم التذكية.

و مهما يكن،فان المهم ان نكون على علم بأن روايات أهل البيت عليهم السّلام لم تنص صراحة إلاّ على الحلقوم،أمّا الثلاثة الباقية فلم يرد لها ذكر صريح في كلام الأئمة الأطهار عليهم السّلام.

و ليس من شك أن قطع الأربعة يوجب اليقين بحلية الذبيحة،أما قطع الحلقوم فقط فلا تركن النفس إليه،بخاصة بعد وجود السيرة و استمرارها منذ القديم على قطع الأربعة.

ص:359


1- قال صاحب الجواهر: [1]بقي شيء كثر السؤال عنه في زماننا،و هو دعوى تعلق الأعضاء الأربعة بالجوزة،فإذا لم يبقها الذابح في الرأس لم يقطع الأربعة أجمع،أو لم يعلم بذلك،و ان قطع نصف الجوزة،و لم أجد لذلك أثر في كلام الفقهاء و لا في النصوص،و المدار على قطعها،و العارفون أولى من غيرهم في معرفة ذلك،و قد أشير إليهم في بعض النصوص بمن يحسن الذبح و يجيده.توفي صاحب الجواهر 1266 ه.

3-تتابع قطع الأوداج الأربعة

،فيقطعها جميعا دفعة واحدة،أو يقطع الواحد تلو الآخر من غير فاصل معتد به،فإذا فصل و تثاقل أمدا أكثر من المعتاد حرمت الذبيحة.

و الحق ان هذا ليس شرطا بذاته،و انما هو متفرع عن شرط استقرار الحياة في الحيوان عند ذبحه،فإذا قطع بعض الأوداج،و انتظر،حتى أشرفت الذبيحة على الموت و قطع الأعضاء الباقية تحرم لأن الشرط في حلية الذبيحة أن يستند موتها إلى قطع جميع الأعضاء،لا إلى قطع بعضها دون البعض.

4-التسمية بقصد انّها على الذبيحة

،فمن تركها عامدا حرمت الذبيحة إجماعا و نصا،و يكفي قول اللّه أكبر ،و الحمد للّه ،و لا إله إلاّ اللّه ،و بسم اللّه ،و ما إليه،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن رجل ذبح،فسبح،أو كبّر،أو هلل،أو حمد اللّه تعالى؟قال:هذا كله من أسماء اللّه تعالى،و لا بأس به.

و لو نسي التسمية لم تحرم الذبيحة إجماعا و نصا،و منه أن الامام الباقر أبا الإمام الصادق عليهما السّلام سئل عن رجل ذبح و لم يسم؟قال:ان كان ناسيا فلا بأس.

و ذهب جماعة من الفقهاء،منهم السيد أبو الحسن الأصفهاني و السيد الحكيم إلى أن الذبيحة تحرم لو ترك الذابح التسمية جهلا بوجوبها،لأن الجهل بالحكم ليس بعذر،و الفارق بين الجهل بوجوب الاستقبال،و الجهل بوجوب التسمية هو النص،حيث صرح بأن الأول عذر،فخرج بذلك عن قاعدة«الجهل بالحكم ليس بعذر»و سكت عن الثاني،فبقي من موارد القاعدة و أفرادها.

5- يكفي في حلية الذبيحة أن يتحرك بعض أطرافها بعد الذبح

قال جماعة من الفقهاء،منهم صاحب الشرائع و الجواهر:يكفي في حلية الذبيحة أن يتحرك بعض أطرافها بعد الذبح،حتى و لو كان الطرف الاذن أو العين،أو يخرج منها الدم معتدلا،أي بقوة و دفع،فإذا تحركت الذبيحة،و خرج

ص:360

الدم متثاقلا لا معتدلا،أو خرج الدم معتدلا و لم تتحرك فهي حلال،و لا تحرم إلاّ إذا اجتمع الأمران معا:عدم الحركة إطلاقا،و خروج الدم متثاقلا-أي سحا.قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا تحرك الذنب،أو طرفت العين،أو الاذن فهو ذكي.و سئل عن رجل ضرب بقرة بفأس،فسقطت،ثم ذبحها؟قال:ان خرج الدم معتدلا فكلوا،و أطعموا،و ان كان خرج خروجا متثاقلا فلا تقربوه.

و الحق ان العبرة بأن نعلم استمرار حياة الذبيحة إلى تمام الذبح من غير فرق بين أن يحصل من وجود الحركة،أو من خروج الدم بقوة،أو من التنفس،أو أي شيء.و ذكر الإمام عليه السّلام الحركة و الدم المعتدل،لأنهما أظهر العلامات على الحياة و أغلبها.

النحر:

النحر مختص بالإبل فقط،فلا تحل بالذبح،و لا يحل غيرها من الحيوانات بالنحر،قال الإمام الصادق عليه السّلام:«كل منحور مذبوح حرام،و كل مذبوح منحور حرام»أي ما ينحر لا يجوز ذبحه،و ما يذبح لا يجوز نحره.

و محل النحر اللبة،و هي المكان المنخفض الكائن بين أصل العنق و الصدر،قال الإمام عليه السّلام:النحر في اللبة،و الذبح في الحلق،أي الحلقوم.

و صورة النحر أن يدخل الناحر سكينا،أو ما إليها من الآلات الحادة في اللبة،و يجوز نحر البعير قائما،و باركا،و مضطجعا على جنبه،على شريطة أن يكون متجها بنحره و جميع مقاديم بدنه إلى القبلة،و أفضل الصور ما جاء في بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام،و هي أن يقام البعير واقفا اتجاه القبلة،و تعقل احدى يديه،و يقف الذي ينحره إلى جنبه متجها إلى القبلة،ثم يضرب في لبته.

ص:361

و جميع الشروط التي ذكرناها في الذابح و آلة الذبح لا بد من توافرها في الناحر،و آلة النحر،بالإضافة إلى وجوب التسمية،و استمرار الحياة إلى إتمام النحر،و ترك الاستقبال هنا نسيانا أو جهلا لا يوجب التحريم،أما التسمية فتركها عن جهل يوجب التحريم،و لا يوجبه النسيان،تماما كما هو الشأن في المذبوح.

و الأولى ترك الذبح بعد النحر خشية أن يستند الموت إليهما معا،مع العلم بأن الموت يجب ان يستند إلى التذكية الشرعية نفسها التي هي النحر في الإبل، و الذبح في غيرها.

مستحبات الذبح و النحر:

يستحب في ذبح الغنم ان يربط اليدين مع احدى الرجلين،و يترك الرجل الأخرى،و ان يمسك صوفه،حتى يبرد،و مثله المعز.

و يستحب في البقر و الجاموس ان يربط القوائم الأربعة.

و يستحب في الإبل ان تنحر قائمة بعد أن يربط احدى يديها إلى الركبتين، و يترك الأخرى.

أما الطير فيستحب إرساله بعد الذبح،حتى يرفرف.

و من المستحبات الأكيدة أن يفعل الذابح الأسهل و يختار ما هو أقل عذابا و ألما للمذبوح،كتحديد الشفرة،و السرعة بالذبح،و ان يسقيه الماء قبل الذبح، فقد جاء في الحديث الشريف:كتب عليكم الإحسان في كل شيء،فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة،و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة،و ليحد أحدكم شفرته،و ليرح ذبيحته.

و يكره أن يقطع الرأس،أو يسلخ الجلد قبل خروج الروح،و ان يذبح

ص:362

حيوان،و حيوان آخر ينظر إليه،و ان يذبح بيده ما رباه من الغنم.

الإخراج من الماء:

قال تعالى وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا النحل:14.

وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا فاطر:12.

الإخراج من الماء تذكية شرعية يختص بالسمك،على شريطة أن يخرج من الماء حيا،و يموت في خارجه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان السمك ذكاته إخراجه من الماء،ثم يترك،حتى يموت من ذات نفسه،و ذلك أنّه ليس له دم- أي سائل-و كذلك الجراد.

و إذا أخرج السمك من الماء حيا،ثم عاد إليه بطريق من الطرق فلا يحل أكله،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن سمك يصاد،ثم يجعل في شيء،ثم يعاد في الماء فيموت فيه؟فقال:لا تأكل،لأنه مات في الذي فيه حياته.

و إذا وثبت سمكة إلى البر فماتت فيه،أو جف الماء و انحسر عنها،فإن أخذت قبل أن تموت فهي حلال،و إلاّ فهي ميتة،فقد سئل الإمام عليه السّلام عن سمكة و ثبت من النهر فوقعت على الجد-أي الشاطئ-فماتت،هل يصلح أكلها؟ فقال:ان أخذتها قبل أن تموت،ثم ماتت فكلها،و ان ماتت قبل ان تأخذها فلا تأكلها.

و سئل عن الذي ينضب عنه الماء من سمك البحر؟قال:لا تأكله.و إذا عطفنا هذه الرواية على الرواية الأولى،و جمعنا بينهما كانت الأولى قيدا للثانية، و يكون معنى الروايتين مجتمعتين هكذا:إذا جف الماء عن السمك،أو وثب إلى

ص:363

خارجه حلّ إن أخذ حيا،و حرم ان أخذ ميتا.و لا يكفي مجرد النظر إليه،و هو يتحرك،من غير أخذ.و وضع اليد عليه،قال صاحب الجواهر:«وفاقا للمشهور شهرة عظيمة».و قال:«و من ذلك يظهر لك أن تذكية السمك إثبات اليد عليه على أن لا يموت في الماء،فهو كحيازة المباح الذي هو بمعنى الصيد».

و إثبات اليد يشمل ما يؤخذ باليد،أو بالشبكة،أو بواسطة حفرة،أو أي شيء،ما دام ينطبق عليه الأخذ حيا،و على هذا،إذا نصب شبكة و دخلها السمك،ثم جف الماء،و مات السمك في الشبكة يحل أكله،حيث يصدق عليه وضع اليد قبل الموت بواسطة الشبكة،و مثله إذا حفر حفرة،و أجرى إليها ماء البحر و النهر بواسطة قناة،و دخلها السمك،ثم جف الماء منها،و مات السمك فإنه يحل،لوضع اليد بسبب الحفرة.أجل،لو مات السمك في ماء الحفرة قبل أن يجف حرم اكله عند المشهور،لأنه مات في الذي فيه حياته،كما جاء في الرواية عن الإمام الصادق عليه السّلام معللا به حرمة أكل السمك الذي مات في الماء.

و إذا أخرج الصائد شبكته من الماء فوجد فيها سمكا ميتا،و آخر حيا حرم الأول،و حل الثاني بالبداهة،و إذا ترك الشبكة في البر،حتى مات الحي،و اشتبه بالميت،فما ذا يصنع؟ ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى حرمة الجميع امتثالا للتكليف بالتجنب عن الحرام،و لا يتحقق الامتثال إلاّ بترك الجميع،فيجب بحكم العقل، تماما كما لو علمت بوجود إناءين:أحدهما طاهر،و الآخر نجس،و لم تميز الطاهر من النجس،فيجب عليك،و الحال هذي،عدم مباشرتهما معا.

و لا يشترط في صيد السمك التسمية،و لا الإسلام،فلو أخرجه غير المسلم من الماء حيا،و مات في خارجه،أو وضع يده عليه حيا بعد أن جف الماء عنه،

ص:364

أو خرج منه تلقائيا حل أكله،سواء أ كان الصائد أو صاحب اليد كتابيا،أو ملحدا، ما دمت تعلم أن يده استولت على السمك،و هو حي،و لا يحل مع الشك،و عدم العلم.فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن صيد الحيتان،ان لم يسم؟فقال:لا بأس، و سئل عن صيد المجوسي للسمك؟فقال:ما كنت لآكله،حتى أنظر إليه.أي حتى اعلم أنّه خرج من الماء حيا.

و بهذا يتضح الفرق بين أخذ اللحوم من يد المسلم،و أخذها من يد غيره، فالأول تؤخذ من يده،حتى تعلم بأنّها ميتة،و الثاني لا تؤخذ من يده،حتى تعلم بأنّها مذكاة.

الجراد و الأخذ:

تتحقق التذكية الشرعية بالنسبة إلى الجراد بمجرد أخذه و الاستيلاء عليه حيا،سواء أ كان ذلك باليد،أو الآلة،و إذا مات قبل أخذه يحرم أكله،و لا تشترط التسمية،و لا الإسلام،تماما كما هو الحكم في السمك،فقد نقل الإمام الصادق عن أبيه عن جده علي أمير المؤمنين عليهم السّلام أن الحيتان و الجراد ذكي كله.و سئل الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق عليه السّلام عن الجراد يصاب ميتا في الماء،أو في الصحراء،أ يؤكل؟قال:لا.و سئل عن الدبا من الجراد-أي الفراخ قبل أن تطير- أ يؤكل؟قال:لا.حتى يستقل بالطيران.

الجنين و امه:

إذا حملت الناقة أو البقرة أو الجاموسة أو الشاة،و ماتت دون أن تذكى، و مات الجنين في بطنها فكل منهما ميتة لا يحل اكله،و إذا ماتت هي،و أخرج

ص:365

الجنين من بطنها حيا ينظر:فان كان تام الخلقة،أي عليه شعر أو وبر،و كانت له، مع ذلك،حياة مستقرة،جاز ذبحه على الوجه الشرعي،و حل اكله بعد الذبح، و ان لم يكن تام الخلقة،و لا حياة له مستقرة فلا يحل أكله،و ان ذبح.

و إذا ذكيت أمه،و كان قد أشعر،أو أوبر،و مات قبل أن يخرج من بطنها حل اكله.و قال كثير من الفقهاء:تجب المبادرة بعد الذبح إلى شق بطن الذبيحة:

و إخراج الجنين منها،حتى و لو لم تمت بعد،و إذا توانى المخرج طويلا،ثم أخرجه ميتا لم يحل.

و المصدر في ذلك كله قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ذكاة الجنين ذكاة أمه (1)و روايات كثيرة في معناه عن أهل البيت عليهم السّلام،قال صاحب الجواهر:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ذكاة الجنين ذكاة أمه،و روي ذلك مستفيضا عن عترته،ففي صحيح يعقوب بن شعيب:سألت الإمام الصادق عليه السّلام عن الحوار-أي ولد الناقة-نذكي امه،أ يؤكل بذكاتها؟قال:إذا كان تاما،و نبت عليه الشعر فكل، و عن سماعة عن الإمام عليه السّلام:سألته عن الشاة،و في بطنها ولد قد أشعر-أي نبت عليه الشعر-قال:ذكاته ذكاة أمه.و سئل الإمام عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ (2).فقال:الجنين في بطن أمه إذا أشعر أو أوبر فذكاته ذكاة أمه».

ص:366


1- الذكاة مبتدأ،و الثانية خبر عنها،و قال بعضهم:ان الثانية منصوبة بنزع الخافض،و التقدير ذكاة الجنين كذكاة امه،أي أنّه يجب أن يذكى،تماما كما تذكى أمه.و قال الشهيد الثاني في اللمعة: «و الصحيح رواية و فتوى أن ذكاة الثانية مرفوعة خبرا عن الأولى».
2- المائدة:2. [1]

عند تعذر الذبح:

إذا نفر حيوان أهلي،و استعصى على صاحبه،و لم يمكن الاستيلاء عليه بوجه،و خاف أن يذهب،و لا يدركه،إذا كان كذلك،جاز له أن يضربه بالسيف أو السكين أو الرمح أو غيره،و إذا مات في هذه الحال،قبل أن يتمكن من ذبحه حل أكله إجماعا و نصا،و منه قول الإمام الصادق عليه السّلام:ان قوما أتوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا:

ان بقرة لنا غلبتنا،و استعصت علينا،فضربناها بالسيف،فأمرهم بأكلها.

و إذا تردى الحيوان في حفرة أو بئر،و تعذر إخراجه حيا،و ذبحه في مكانه على الوجه الشرعي جاز جرحه و طعنه في أي جزء اتفق من بدنه،حتى يموت، و يحل أكله على شريطة أن تتوافر بالضارب و الطاعن شروط الذابح المتقدمة،و ان يسمي،أما استقبال القبلة مع التعذر فليس بشرط،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عما تردى على منخره،فيقطع،و يسمى عليه؟قال:لا بأس به،و أمر بأكله.

و قال:أيما إنسية-أي حيوان أهلي مستأنس-تردت في بئر،فلم يقدر على منحرها،فلينحرها من حيث يقدر،و يسمي اللّه عزّ و جل،و يأكل.

روايات عن أهل البيت عليهم السّلام:

1-سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن شراء اللحم من الأسواق،و لا يدرون ما صنع القصابون؟قال:كل إذا كان ذلك في أسواق المسلمين،فلا تسأل عنه.

و قد فهم صاحب الجواهر من النهي عن السؤال أنّه مكروه،و ان تركه أولى.

2-سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل أصاب سمكة،و في جوفها سمكة؟ قال:يؤكلان جميعا.

ص:367

3-قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان عليا أمير المؤمنين عليه السّلام قال في رجل أبصر طيرا،فتبعه،حتى وقع على شجرة،فجاء رجل فأخذه،قال:للعين ما رأت، و لليد ما أخذت.

4-قال الإمام عليه السّلام:الحوت ذكيّ حيّه و ميته.

قال الفقهاء استنادا إلى هذه الرواية:يجوز أكل السمك حيا.

و سئل الإمام عليه السّلام عن السمك يشوى،و هو حي؟قال:نعم،لا بأس.

ص:368

الأطعمة و الأشربة

اشارة

ص:369

من الآيات و الروايات:

قال تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ (2).

يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً (3).

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (4).

و قال الإمام علي عليه السّلام لبعض أصحابه:أ ترى اللّه أحل لك الطيبات،و هو يكره أن تأخذها؟أنت أهون على اللّه من ذلك.

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.

المأكول و المشروب بوجه عام:

كل الأشياء على الإباحة كتابا و سنة و عقلا و إجماعا مأكولا كانت،أو

ص:370


1- الأنعام:145. [1]
2- الأعراف:32. [2]
3- البقرة:28. [3]
4- البقرة:28. [4]

مشروبا إلاّ ما ورد النص بتحريمه خصوصا،كالميتة و ما إليها،أو عموما،كالأشياء الضارة،و قد يصير الحلال بالذات محرما بالواسطة،كالمغصوب و المتنجس، و المحرم بالذات حلا بالواسطة،كأكل الميتة للمضطر.

و ذكر الفقهاء في هذا الباب كل ما نص الشارع على تحريمه خصوصا و عموما من الأطعمة و الأشربة،و نعرض أقوالهم ملخصة مع أدلتها فيما يلي:

السمك:

اتفقوا بشهادة صاحب المسالك على أن كل حيوان بحري-غير السمك- لا يحل أكله،حتى و لو كان له فلس،أو كان على صورة الحيوان البري الذي يحل أكله.و أيضا اتفقوا أن السمك الذي له فلس حلال أكله.و اختلفوا في السمك الذي لا فلس له،و ذهب الأكثر إلى تحريمه،و استدلوا فيما استدلوا به أن محمد بن مسلم سأل الإمام الباقر أبا الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن السمك الذي لا قشر له ؟فقال:كل ما له قشر من السمك،و ما كان ليس له قشر فلا تأكله.و قال الإمام الصادق عليه السّلام:ان أمير المؤمنين كان يركب بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالكوفة،ثم يمر بسوق الحيتان،و يقول:لا تأكلوا،و لا تبيعوا ما ليس له قشر.

أجل،إذا كان له قشر في الأصل،ثم زال،و هو في الماء جاز أكله،و مثلوا لذلك بنوع من السمك كان يسمى الكنعت،و استدلوا بأن سائلا سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن الحيتان ما يؤكل منها؟فقال:ما كان له قشر.فقال السائل:جعلت فداك،ما تقول في الكنعت؟قال:لا بأس بأكله.قال السائل:ليس لها قشر.قال الإمام:بلى،و لكنها حوت سيئة الخلق،تحتك بكل شيء-فيذهب قشرها-فإذا نظرت في أصل ذنبها وجدت لها قشرا.

ص:371

و ما في جوف السمكة من بيض و غيره يتبع السمكة نفسها في التحليل و التحريم،فان حرم أكلها فالذي في جوفها حرام،و ان كانت حلالا فهو كذلك، قال الإمام الصادق عليه السّلام:إذا كان البيض مما يؤكل لحمه فلا بأس به و بأكله فهو حلال.و قال:كل شيء لحمه حلال فجميع ما كان منه من لبن،أو بيض،أو إنفحة،كل ذلك حلال طيب.

الشك و التردد:

1-إذا وجدت سمكتين:

تعلم بأن أحدهما يحل أكلها،لأن لها فلسا، و أنّها أخذت حية،و تعلم بأن الثانية يحرم أكلها،لأنها غير مذكاة،أو لأنّها من غير فلس،و اشتبه عليك الأمر،و لا سبيل إلى التمييز بينهما،إذا كان كذلك يجب تركهما معا،لأنك قد علمت بوجود الحرام،و أنت ملزم بتركه،و لا يتم تركه إلاّ بترك السمكتين معا،فيتعين عليك الاجتناب عنهما،تماما كما هي الحال في اختلاط الثوب النجس مع الثوب الطاهر.

2-إذا علمت بأن للسمكة فلسا

،و لم تعلم:هل هي مذكاة أخذت حية،أو لا؟فان كانت في يد مسلم حل أكلها،و إلاّ حرم،لأن الأصل عدم التذكية،و هذا هو حكم السمك المعلب.

3-إذا علمت أنّها مذكاة

،و لم تعلم:هل هي من نوع السمك الذي له فلس،فيحل أكلها،أو من النوع الذي لا فلس له فيحرم.إذا كان كذلك حل أكلها، سواء أخذت من يد مسلم،أو غير مسلم،لقول الإمام عليه السّلام:كل شيء لك حلال، حتى تعلم أنّه حرام.

و تسأل:ما الفرق بين العلم بأن للسمكة فلسا مع الجهل بأنّها مذكاة،حيث

ص:372

قلت بالتحريم،و بين العلم بأنّها مذكاة مع الجهل بأن لها فلسا،حيث قلت بالحل؟ الجواب:واضح،و هو الفرق بين العلم بالتذكية و عدمها،فإنه مع العلم بها لا يجري أصل عدم التذكية،لأن موضوعه الشك و الجهل،و عليه تجري قاعدة كل شيء حلال،أمّا مع الجهل بالتذكية فيجري أصل عدمها،و لا يبقى مجال لقاعدة الحلال.

البهائم الأهلية:

أصبح من نافلة القول ان الإبل و البقر و الجاموس و الغنم و المعز،حلال أكلها (1)و يحل أكل الخيل و البغال و الحمير على كراهة،قال صاحب الجواهر:

«للأصل،و النصوص المقطوع بمضمونها،قال محمد بن مسلم:سألت الإمام الباقر أبا الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن لحوم الخيل و البغال و الحمير؟فقال:

حلال،و لكن الناس يعافونها».

و يحرم الكلب و الخنزير،لنجاستهما،و يحرم السنور،لأنه من نوع السباع،و قد ثبت عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:كل ذي ناب من السباع،و مخلب من الطير فهو حرام،قال صاحب الجواهر:«يحرم للنص عليه بخصوصه،و لأنّه سبع كما في بعض النصوص».

البهائم البرية:

أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أن الحيوانات البرية يحل منها

ص:373


1- قال الشهيد الثاني في اللمعة:«و من نسب إلينا تحريم الإبل فقد بهت،نعم،هو مذهب الخطابية، لعنهم اللّه»و الخطابية اتباع محمد بن مقلاص المكنى بأبي الخطاب،و من أقواله«كل من عرف الإمام حل له كل شيء»و كان معاصرا للإمام الصادق عليه السّلام فلعنه و تبرأ منه.

الغزلان و البقر و الغنم و المعز و الحمير المتوحشة،و اليحمور،و هو-على ما قيل- حيوان يشبه الإبل،و يحرم منها السباع،و هي كل حيوان له ظفر،أو ناب يفترس به،قويا كان كالأسد و النمر و الفهد و الذئب،أو ضعيفا كالضبع و ابن آوى.قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك مضافا إلى السيرة المستمرة،و قول الإمام عليه السّلام:لا تأكل من السباع شيئا-ثم قال-و كذا لا خلاف،بل الإجماع على تحريم القنفذ».

و في المجلد الثالث من كتاب الوسائل للحر العاملي باب الأطعمة روايات عن أهل البيت عليهم السّلام جاء فيها:

«قد حرم اللّه لحوم المسوخ.و انّها ثلاثة عشر صنفا:الفيل،و الدب، و الخنزير،و القرد،و الجريث-نوع من السمك-و الضب،و الوطواط، و الدعموص-دويبة سوداء تغوص في الماء،و تكون في العذرات-و العقرب، و العنكبوت،و الأرنب،و سهيل و الزهرة.قال الصدوق:سهيل و الزهرة دابتان من دواب البحر المحيط».

و أيضا في الكتاب المذكور عن الإمام الرضا عليه السّلام:«حرم اللّه الأرنب،لأنها بمنزلة السنور،و لها مخالب كمخالبه،و مخالب سباع الوحش،فجرت مجراها، مع قذارتها في نفسها،و ما يكون منها من الدم،كما يكون من النساء».

الحشرات:

لا يوجد في النص دليل على تحريم الحشرات بوجه هام،و عليه فما كان منها ساما فهو حرام،لمكان الضرر،و ما عداه تشمله قاعدة كل شيء لك حلال، حتى تعلم أنّه حرام.

ص:374

و تقول:ان الفقهاء استدلوا على تحريم الحشرات بأنّها من الخبائث، و الخبائث محرمة بنص القرآن الكريم،و هو قوله تعالى وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ الأعراف:156.

و الجواب ان الشارع لم يبين ما أراد من الخبائث في قوله:«و يحرم عليهم الخبائث»،و قد رأيناه يستعمل لفظ الخبيث في معان شتى،منها الشيطان،كقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:لا تعودوا الخبيث من أنفسكم،و منها الإنسان،كقوله تعالى لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ،و منها الشيء الرديء،لقوله سبحانه وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ ، و منها اللواط،كقوله عز و جل وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ ، و منها البصل و الثوم و الكراث،كحديث:من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقرب مسجدنا،و منها مهر البغي،كحديث مهر البغي خبيث،و ثمن الكلب خبيث،يريد أنّه حرام،و منها الكلمة كقوله تعالى وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ،إلى غير ذلك.

و إذا لم يكن للشارع اصطلاح في معنى الخبيث،و المعنى العرفي غير منضبط يكون اللفظ مجملا،و بديهة أن الواقعة التي ورد النص فيها مجملا تكون بمنزلة ما لا نص فيه إطلاقا.

و قال صاحب الجواهر ما ملخصه:ان معنى قوله تعالى يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ان كل حرام فهو خبيث،و ليس معناه أن كل خبيث فهو حرام،كي يقال بأن لفظ الخبائث مجمل.

و يلاحظ بأن هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة،لأن الخبائث فيها موضوع للتحريم،و ليس التحريم موضوعا للخبائث.هذا،بالإضافة إلى أن قول صاحب الجواهر يخالف ما عليه الإمامية القائلون بأن اللّه نهى عن هذا،لأنه قبيح و خبيث،

ص:375

و أمر بذاك،لأنه طيب و حسن،و يتفق مع قول الأشاعرة القائلين بأن هذا حسن و طيب،لأن اللّه أمر به،و ذاك خبيث و قبيح،لأن اللّه نهى عنه.

الطير:

اشارة

الطيور،كالسمك و البهائم،منها حلال،و منها حرام،و الحرام على أنواع:

1-المفترسة

التي تصطاد غيرها من الطيور،قال الإمام الصادق عليه السّلام:حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كل ذي مخلب من الطير،و المخلب الظفر.و مثل الفقهاء له بالبازي،و الصقر،و العقاب،و الشاهين،و الباشق،و النسر،و الرخمة-طائر من الجوارح كبير الجثة-و البغاث،و هو طائر أصفر بطيء الطيران،قال صاحب الجواهر:«الإجماع على ذلك و في الغراب روايتان:إحداهما تقول بأنه مكروه، و الثانية قالت بالحرمة-و اختار هو الحرمة-لأن الرواية التي حرمت أصح سندا، و معتضدة بغيرها مما دل على الحرمة من نص و إجماع».

2-كل طير صفيفه أكثر من دفيفه يحرم أكله

،و الصفيف بسط الجناحين من غير تحريكهما حين الطيران،و يقابله الدفيف،أي يحرك جناحيه،و هو طائر،فإن تساوى الصفيف و الدفيف،أو كان الدفيف أكثر من الصفيف حل أكله، قال صاحب الجواهر:الإجماع على ذلك مضافا إلى النصوص،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عما يؤكل من الطير؟فقال:كل ما رفّ،و لا تأكل ما صفّ.و في رواية ثانية:ان كان الطير يصف و يدف،و كان دفيفه أكثر من صفيفه أكل،و ان كان صفيفه أكثر من دفيفه فلا يؤكل.

3-كل طير بريا كان أو بحريا ليس له قانصة،و لا حوصلة،و لا صيصة فهو

حرام

،و ما كان له واحد من هذه الثلاث فهو حلال إلاّ أن يثبت النص على تحريمه

ص:376

بالذات،كالطاوس و الوطواط.و الصيصة شوكة خلف رجل الطير خارجة عن الكف،و هذا تلخيص ما قاله صاحب الجواهر:

«الإجماع على ذلك،و النصوص فيه كثيرة منها قول الإمام عليه السّلام:كل من الطير ما كانت له قانصة،أو صيصة،أو حوصلة.و منها القانصة و الحوصلة يمتحن بهما من الطير ما لا يعرف طيرانه،و كل طير مجهول.و المستفاد من مجموع النصوص عموما و خصوصا،و مطلقا و مقيدا،و منطوقا و مفهوما أن للحرمة علامات أربعا:المخلب و أكثرية الصفيف،و انتفاء القانصة و الحوصلة و الصيصة،و المسخ كالوطواط،و ان للحل أربع علامات:أكثرية الدفيف، و الحوصلة و القانصة و الصيصة.و قد توافق النص و الفتوى على عدم الفرق بين طير البر و الماء في العلامات المذكورة،فيؤكل من طير الماء ما وجدت علامة من علامات الحل،حتى و لو كان يأكل السمك،لإطلاق الأدلة،و لأن الإمام الرضا عليه السّلام سئل عن طير الماء ما يأكل السمك منه؟قال:لا بأس به،كله».

و بعد أن ذكر الفقهاء علامات الحلال و الحرام في الطير بوجه العموم،قالوا:

يحل الحمام و الدجاج بشتى اصنافهما،و الدراج و الحجل و القبج و القطا و البط و الكروان و الحباري و الكركي،و العصافير جميعا،و منها البلبل و الزرزور و القبّرة.

البيض:

بيض الطير يتبعه في التحليل و التحريم،فبيض الطير الحرام مثله،و كذا بيض الطير الحلال،و إذا رأيت بيضة،و لم تعلم:هل هو من الحلال،أو الحرام نظرت إلى طرفيها،فان تساويا،بحيث لا يمكن التمييز بينهما فهي حرام،و ان اختلفا،بحيث كان أحد الطرفين عريضا مفرطحا كبيض الدجاج،فهو حلال،قال

ص:377

صاحب الجواهر:«بلا خلاف،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن رجل يدخل الأجمة-أي الشجر الكثير-فيجد فيها بيضا مختلفا،لا يدري أبيض ما يكره من الطير،أو يستحب؟قال:ان فيه علما لا يخفى،انظر إلى كل بيضة تعرف رأسها من أسفلها فكل،و ما سوى ذلك فدعه.و في رواية ثانية:ما كان مثل بيض الدجاج،و على خلقته،احدى رأسيه مفرطح،و إلاّ فلا تأكل.و المفرطح هو العريض».

الحرام بالواسطة:

اشارة

قد يصير الحلال بالذات حراما بالواسطة،طيرا كان أو غيره من الحيوانات.

و قد ذكر الفقهاء لهذا التحريم أسبابا ثلاثة:

1-الجلال

،و هو أن يتغذى الحيوان أو الطير من عذرة الإنسان خاصة دون أن يشرك معها غيرها،يتغذى بها أمدا حتى ينبت عليها لحمه،و يشتد عظمه في نظر العرف،فإذا تغذى من القذارات و النجاسات غير عذرة الإنسان،أو تغذى بها و بغيرها معا فلا يكون جلالا،و قد ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى تحريم لحوم الحيوانات و الطيور الجلالة،لقول الامام الصادق عليه السّلام:لا تأكلوا من لحوم الجلالات،و ان أصابك من عرقها فاغسله.

و يذهب الجلل العارض بالاستبراء،و يحل اكله،و ذلك أن يمنع الحيوان عن العلف النجس،و يعلف بالطاهر إلى أمد يزول معه اسم الجلل عرفا، و يختلف الأمد طولا و قصرا باختلاف الحيوان.و قد روي عن الإمام عليه السّلام أنّه قال:

الناقة الجلالة لا يؤكل لحمها،و لا يشرب لبنها،حتى تغذى أربعين يوما،و البقرة الجلالة لا يؤكل لحمها،و لا يشرب لبنها،حتى تغذى ثلاثين يوما،و الشاة الجلالة

ص:378

لا يؤكل لحمها،و لا يشرب لبنها،حتى تغذى عشرة أيام،و البطة لا يؤكل لحمها حتى تربى خمسة أيام،و الدجاجة ثلاثة أيام.

2-إذا وطأ إنسان دابة ينظر:

فان كانت مما يؤكل كالبقرة و الغنم فيجب أن تذبح،ثم تحرق،و يغرم الواطئ قيمتها للمالك،ان لم يكن هو الفاعل،و ان لم تكن مما يؤكل عادة،كالخيل و الحمير،فيجب إخراجها إلى بلد آخر،و تباع فيه بأي ثمن،و يعطى للواطئ،و يغرم هو بدوره القيمة السوقية لصاحبها،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن الرجل يأتي البهيمة؟قال:يجلد دون الحد،و يغرم قيمة البهيمة لصاحبها،لأنه أفسدها عليه،و تذبح،و تحرق،ان كانت مما يؤكل لحمه،و ان كانت مما يركب ظهره أغرم قيمتها،و جلد دون الحد، و أخرجت من المدينة التي فعل بها إلى بلد آخر،حيث لا يعرف،فيبيعها فيها كيلا يعرفها.

قال صاحب الجواهر:«لا فرق بين ان يكون الواطئ كبيرا،أو صغيرا، عاقلا أو مجنونا،عالما بالتحريم أو جاهلا».

3-إذا شرب الحيوان من لبن خنزيرة

،حتى نبت لحمه،و قوي عظمه حرم لحمه،و لحم نسله،و ان شرب منه دون أن ينبت اللحم و يقوى العظم،أو شرب من لبن كلبة،لا خنزيرة فلا يحرم هو و لا نسله،بل يكون مكروها،قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجده.و قال الشهيد الثاني في المسالك:و فيه نصوص كثيرة لا تخلو من ضعف،و لكن لا رادّ لها.

اشتباه الموطوءة:

قال الفقهاء:إذا وطئت غنمة،ثم دخلت في قطيع الغنم،و لم تعرف قسم

ص:379

القطيع إلى القسمين،ثم أجريت القرعة عليهما،فيسلم القسم الذي لم تخرج عليه القرعة،و تعاد القرعة ثانية على القسم الذي وقعت،و هكذا تعاد القسمة و القرعة،حتى يبقى شاتان،فيقرع بينهما،و تذبح و تحرق الشاة التي عينتها القرعة،و استدلوا على ذلك بروايات عن أهل البيت عليهم السّلام منها أن الإمام عليه السّلام سئل عن رجل أتى على قطيع غنم،فرأى الراعي ينزو على شاة منها،فلما أبصره خلى سبيلها،فدخلت في الغنم.فقال الإمام عليه السّلام:ان عرف الغنمة ذبحها و أحرقها،و ان لم يعرفها قسم الغنم نصفين،و ساهم بينهما-أي أقرع-فإذا وقع السهم على أحد النصفين فقد نجا النصف،و لا يزال كذلك،حتى يبقى شاتان فيقرع بينهما، فأيتهما وقع السهم عليها ذبحت و أحرقت،و نجا سائر الغنم.

الحيوان و شرب الخمر:

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر إلى أن الحيوان إذا شرب الخمر يحرم ما في جوفه فقط من الأمعاء و القلب و الكبد،أما لحمه فحلال،لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا شربت الشاة خمرا،حتى سكرت فذبحت على تلك الحال لا يؤكل ما في بطنها.

قال صاحب الجواهر:و هذه الرواية،و ان كانت خاصة بالشاة دون غيرها، و لكن الحكم يشمل جميع الحيوانات،لعدم القائل بالفرق بين الشاة و غيرها.

و يلاحظ،مع غض النظر عن ضعف الرواية،بأن عدم القول بالفصل ليس دليلا شرعيا إلاّ إذا رجح الإجماع،و مع ذلك فإنّه لا يستدعي سد باب الاجتهاد، فقد رأينا الكثير ممن تأخر،و منهم صاحب الجواهر يقول بما لم يقل به أحد ممن

ص:380

تقدم في العديد من المسائل (1)هذا،إلى أن الرواية خاصة في الشاة التي شربت الخمر و سكرت منه.فتعميم الحكم لكل شاة،حتى و لو لم تسكر،ثم تعميمه لكل حيوان،حتى و لو لم يكن شاة محل نظر و تأمل.

و إذا شرب الحيوان شيئا من النجاسات-غير الخمر-كالبول فلا يحرم لحمه و لا ما في جوفه،بل يغسل جوفه استحبابا،و يؤكل ما فيه من الأمعاء و القلب و الكبد،فقد سئل الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام عن شاة شربت بولا،ثم ذبحت؟قال:يغسل ما في جوفها،ثم لا بأس.

و حمل الفقهاء الأمر بغسل الجوف على الاستحباب،قال صاحب الجواهر:

«بلا خلاف أجده.و كذلك إذا اعتلف الحيوان العذرة،و لم يبلغ حد الجلالة».

الحرام من غير الحيوان:

تكلمنا فيما سبق عما يحل و يحرم من ذوات الأرواح البرية و البحرية، حيث يمكن ضبطها بالعلامات،كالفلس في السمك،و الحوصلة،أو الصيصة، أو القانصة في الطير الحلال،و المخلب في الطير الحرام،و الافتراس في الحيوان، و ما إلى ذلك.و نتكلم عن المحرم مما لا روح فيه مأكولا كان،أو مشروبا،أما الحلال منه فلا حصر له.

و من الفروق بين الحيوان و غيره من حيث التحليل و التحريم ان الحيوان

ص:381


1- اقفل السنة باب الاجتهاد،و سدوه في وجه كل عالم،و ان بلغ أعلى المراتب،و فسروا ذلك بأن الفقيه العالم ليس له أن يرتأي رأيا لا يوافقه عليه أحد ممن تقدم عليه،و فتح الإمامية باب الاجتهاد،و فسروه بأن للفقيه أن يعمل برأيه الذي تكون من الأدلة و الأصول،سواء أوافق غيره، أو خالف.

يجري فيه أصل عدم التذكية إذا شك في قابليته لها،أو في وقوعها بعد العلم بالقابلية.إذا لم يكن اللحم في يد مسلم،و نتيجة هذا الأصل حرمة أكل اللحم المشكوك في غير يد المسلم،أما المشكوك في حله و حرمته من غير الحيوان فتجري فيه قاعدة كل شيء حلال،حتى تعلم الحرام بعينه،و بديهة أن ما تنطبق عليه هذه القاعدة من المصاديق و الافراد لا حصر لها،أما المحرمات من غير الحيوان فيمكن حصرها،و لو على الغالب،كما قال صاحب المسالك.

و على أيّة حال،فقد ذكر الفقهاء في هذا الباب للمحرم خمسة أنواع من الأطعمة:الميتة،و محرمات الذبيحة،و النجاسات،و الطين،و السموم،و خمسة أنواع من الأشربة،و فيما يلي التفصيل.

الميتة:

تحرم الميتة إجماعا و نصا،و منه قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .

و أيضا أجمعوا على أن عشرة أجزاء من الميتة يحل استعمالها،و هي:الصوف، و الشعر،و الوبر،و الريش-و لا يجب غسل شيء من هذه إلاّ إذا قلعت،فيجب غسل أصلها لاتصاله برطوبة بدن الحيوان-و القرن،و الظفر،و الظلف-و هو كالحافر لما يجتر من الحيوانات،كالبقرة و الشاة-و السن،و العظم،و البيض على شريطة أن يكتسي القشر الأعلى الصلب،و إلاّ فهو بحكم الميتة،و الانفحة،و هي معدة الحمل أو الجدي حال ارتضاعه،و تصير كرشا بعد أن يأكل العلف و النبات، و تسمى مجبنة،حيث يصنع الجبن بسببها.

و الأصل في استثناء هذه من الميتة قول الإمام الصادق عليه السّلام:عشرة أشياء من الميتة ذكية:القرن،و الحافر،و العظم،و السن،و الانفحة،و اللبن،و الشعر،

ص:382

و الصوف،و الريش،و البيض.و في رواية ثانية عنه أنّه قال:ان كانت اكتست البيضة الجلد الغليظ فلا بأس بها.و في ثالثة ذكر الوبر،و بديهة ان الشعر و الوبر و الصوف من صنف واحد،و حكمها واحد.

و بالرغم من أن الرواية التي عددت الأصناف العشرة قد ذكرت اللبن من جملتها فان الفقهاء اختلفوا في استثنائه،قال صاحب المسالك:«ذهب الشيخ- يريد الطوسي المعروف بشيخ الطائفة-و أكثر المتقدمين،و جماعة من المتأخرين على أنّه طاهر،للنص على طهارته في الروايات الصحيحة،و منها صحيحة زرارة، قلت للإمام الصادق عليه السّلام:اللبن يكون في ضرع الشاة،و قد ماتت؟قال:لا بأس به».

اختلاط الذكي بالميت:

إذا اختلط المذكى من الحيوان بالميت و لا سبيل إلى التمييز وجب الامتناع من الجميع،امتثالا لوجوب الامتناع من الميتة،و لا يتم هذا الامتثال إلاّ بترك الكل.

و هل يجوز بيع المجموع من الحلال و الحرام المشتبهين،بيعهما ممن يستحل الميتة؟ قال جماعة من الفقهاء:يجوز،و يحل الثمن لقول الإمام الصادق عليه السّلام:إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممن يستحل الميتة،و أكل ثمنه.و أيضا سئل عن رجل كانت له غنم و بقر،فلم يدرك المذكى منها فيعزله،و يعزل الميتة،ثم أن الميتة و المذكى اختلطا،كيف يصنع؟قال:يبيعه ممن يستحل الميتة،فإنه لا بأس به.

قال صاحب الجواهر:«فالمتجه العمل بهذين الخبرين الجامعين لشرائط الحجية خصوصا بعد الشهرة المحكية في مجمع البرهان على العمل بهما».

و تجدر الإشارة إلى أن كل جزء تحله الحياة إذا قطع من حيوان حي فهو

ص:383

بحكم الميتة لا يحل أكله.

محرمات الذبيحة:

اختلف الفقهاء في عدد المحرمات من الذبيحة،فعدها بعضهم ثمانية، و اقتصر الشهيد الثاني على تسعة،و قال الشهيد الأول في اللمعة:يحرم من الذبيحة خمسة عشر شيئا:

1-الدم،و هو غير الدم المتخلف في الذبيحة بعد خروج المعتاد منها.

2-الطحال،جاء في بعض الروايات أن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كان ينهى عن الطحال،فقال له بعض القصابين:يا أمير المؤمنين،ما الكبد و الطحال إلاّ سواء.فقال له:كذبت،اءتوني بإناءين فيهما ماء،و لما جيء بهما قال:شقوا الكبد من وسطه،و الطحال من وسطه،ثم أمر بوضع كل في الماء،فلم يتغير الماء الذي فيه الكبد،و صار الماء الذي فيه الطحال دما.

3-القضيب.

4-الأنثيان،و هما البيضتان.

5-الفرث،و هو الروث،و قد أجمع الفقهاء على تحريم هذه الخمسة بشهادة صاحب الجواهر.

6-المثانة،و هي مجمع البول.

7-المرارة.

8-المشيمة،و هي بيت الولد.

9-الفرج،ظاهره و باطنه.

10-العلباء،و هما عرقان عريضان ممدودان من الرقبة إلى قرب الذنب.

ص:384

11-النخاع،و هو الخيط الأبيض الذي ينظّم خرز سلسلة الظهر.

12-الغدد،المعروفة عندنا بالدرن.

13-ذات الأشاجع،و هي أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف.

14-خرزة الدماغ،و هي حبة في الرأس بقدر الحمصة تميل إلى الغبرة.

15-حدقة العين.

قال الشهيد الثاني معلقا على ذلك:«ان المتيقن تحريمه من هذه:الدم، و الطحال،و الفرث،و الفرج،و القضيب،و الأنثيان،و المثانة،و المرارة، و المشيمة.أما تحريم الباقي فيحتاج إلى دليل،و الأصل يقتضي عدمه،و الروايات يمكن الاستدلال بها على الكراهة لسهولة خطبها».

يريد أن الروايات التي دلت على المنع من غير هذه التسعة ضعيفة لا يمكن الاستدلال بها على التحريم.و من الجائز الاستدلال بها على الكراهة،لأن القول بالكراهة أسهل من القول بالتحريم.و من الروايات التي أشار إليها الشهيد الثاني ما جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه قال:لا يؤكل من الشاة عشرة أشياء:الفرث، و الدم،و الطحال،و النخاع،و العلباء،و الغدد،و القضيب،و الأنثيان،و الحياء، و المرارة.

النجس بالأصل و بالواسطة:

النجس بالأصل ما كانت عينه نجسة،كالدم و البول من ذي النفس السائلة، و ما إليهما مما ذكرنا في الجزء الأول بعنوان«أعيان النجاسات».و النجس بالواسطة ما خالطه شيء من النجاسات،و يسمى المتنجس،و أجمع الفقهاء كلمة واحدة على تحريم أكل النجس و المتنجس.قال صاحب الجواهر:هو من

ص:385

القطعيات،ان لم يكن من الضرورات.

الطين:

جاء عن أهل البيت عليهم السّلام روايات كثيرة تنهى عن أكل الطين،و تشدد في النهي عنه،و في بعضها:«من أكل الطين فقد أشرك في دم نفسه».مما يكشف أن قلة في ذاك العصر كانوا يأكلون الطين،و إلاّ فأي معنى لتخصيص الطين،مع العلم ان أكل التراب و ما إليه محرم،و يؤيد ذلك أن أقوال أهل البيت عليهم السّلام في التحريم و التشدد جاءت أجوبة عما وردهم من الأسئلة،بل في بعضها أن رجلا قال للإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:اني رجل مولع بأكل الطين،فادع اللّه لي بتركه.

و قد أشارت النصوص إلى المضمار التي تترتب على أكل الطين،منها أنّه يورث السقم،و يهيج الداء،و يورث النفاق،و الحكة في الجسد،و البواسير، و يثير داء السوداء،و يذهب بالقوة من الساقين و القدمين.

السموم:

كل شيء ضار فهو حرام إجماعا و عقلا و نصا،و منه قوله تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (1)و قول الإمام الصادق عليه السّلام:كل شيء يكون فيه المضرة على بدن الإنسان من الحبوب و الثمار حرام أكله إلاّ في حال الضرورة.

و كفى بقول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:«لا ضرر و لا ضرار»دليلا قاطعا، و حاكما على أدلة التكاليف الشرعية.

ص:386


1- البقرة:195. [1]

و هنا سؤال يفرض نفسه،و هو:هل الحرام هو ما نعلم و نقطع بوجود الضرر فيه،أو أنّه يشمل الضرر المظنون و المحتمل،بحيث يجب الامتناع عما يحتمل أنّه مضر فضلا عما يقطع أو يظن بضرره؟ ذهب أكثر من الفقهاء،أو الكثير منهم إلى أن الضرر الدنيوي يجب دفعه إذا كان مقطوعا أو مظنونا،أما المحتمل فلا يجب دفعه و الامتناع عنه،و الحق أن كل ما يعد فعله ضررا و تهلكة في نظر العرف فهو حرام،حتى و لو كان محتملا، فضابط التحريم أن لا يكون الفاعل في أمن من الضرر عند العقلاء.

و من نافلة الكلام و فضوله أن نستدل على جواز تناول القليل من المواد السأمة التي يصفها الطبيب للمريض.

الأشربة المحرمة:

اشارة

سبق في فقرة«الحرام من غير الحيوان»في هذا الفصل خمسة أنواع من الأطعمة المحرمة،و خمسة من الأشربة،و تكلمنا عن كل نوع من الأطعمة في فقرة مستقلة،و نتكلم الآن عن الأشربة بأنواعها الخمسة في هذه الفقرة:

1-الخمر

،و المراد به كل مسكر،سواء أصدق عليه اسم الخمر،أو غير اسم الخمر،حتى و لو كان الاسم غريبا عن اللغة العربية،قال الإمام الصادق عليه السّلام:

لم يحرم اللّه الخمر لاسمها،و لكن حرمها لعاقبتها،فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو حرام.و أيضا قيل له:لم حرم اللّه الخمر؟فقال:حرم اللّه الخمر،لفعلها و فسادها،لأن مدمن الخمر تورثه الارتعاش،و تذهب بنوره،و تهدم مروءته، و تحمله أن يجسر على ارتكاب المحارم،و سفك الدماء،و ارتكاب الزنا،و لا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه،و هو لا يعقل ذلك،و لا تزيد شاربها إلاّ كل شر.

ص:387

و قد ثبت تحريم الخمر و انها من الكبائر،تماما كالزنا و السرقة،ثبت ذلك بضرورة الدين،و منكرها غير مسلم،و شاربها عن تهاون،مع العلم بتحريمها فاسق يحد بثمانين جلدة رجلا كان،أو امرأة.

و قال جاهل محتجا لجهله،أو مستهترا بدينه:ان القرآن لم يحرم الخمر.

و نجيب أولا:لقد نهى الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الخمر،و لا فرق بين نهي اللّه،و نهي نبيه بعد قوله تعالى وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا الحشر:7.و من أقوال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخمر أنّه لعن عشرة من أجلها:غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها.

ثانيا:أن اللّه سبحانه وصفها تارة بالإثم،و تارة بأنّها رجس من عمل الشيطان،و يكفي في تحريمها أنّها اثم،و من عمل الشيطان،قال تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ البقرة:210.و قال إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ المائدة:91. (1)و قال:

إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ المائدة:

94.

و من لا يزدجر بهذه النذر البوالغ فلا زاجر له،و لا رادع.و سئل الإمام الرضا عليه السّلام عن تحريم الخمر في كتاب اللّه فقرأ قوله تعالى قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف:32.ثم قرأ قوله سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ .

و إذا عطفنا احدى الآيتين على الأخرى يكون المعنى ان الخمر اثم،و كل

ص:388


1- الميسر [1]القمار،و الأنصاب و الأزلام،القداح،و هي سهام كانوا يجيلونها للقمار.

اثم حرام،فالخمر-اذن-حرام.هذا،إلى أن أحاديث الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي بيان و تفسير لآي الذكر الحكيم وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ النحل:44.

و أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر أن ما يسكر كثيره فقليله حرام،حتى و لو لم يسكر.قال الإمام الصادق عليه السّلام:ما أسكر كثيره فقليله حرام.و قيل له:ما تقول في قدح من السكر يغلب عليه الماء،حتى تذهب عاديته-أي ضرره- و يذهب سكره؟فقال الإمام:لا،و اللّه،و لا قطرة تقطر منه في حب إلاّ أهريق ذلك الحب.و قال:إذا شرب خمر أو مسكر على مائدة حرمت المائدة.و قال:لا تجالسوا شرّاب الخمر،فإن اللعنة إذا نزلت عمت من في المجلس.و من هنا أفتى الفقهاء بتحريم الأكل على مائدة يشرب الخمر عليها.

2-الدم

،قل،أو كثر،إذا كان من حيوان لا يؤكل لحمه سواء أ كانت له نفس سائلة،كالأرنب،و ابن آوى،أو لم تكن،كالضفدع و الوزغ،أما الدم من حيوان مأكول فيحرم بالإجماع إذا كانت له نفس سائلة،كالبقر و الغنم إلاّ ما تخلف في الذبيحة.أما دم الحيوان المأكول الذي لا نفس سائلة له،كالسمك فقد اختلف الفقهاء في حكمه،فمن قائل بالتحريم،و آخر بالتحليل،و ثالث بالتفصيل بين أكله مستقلا فيحرم،و مع السمك فيحل،و الأولى الترك إطلاقا.

3-كل مائع يتنجس بمماسته للنجاسة يحرم شربه

.أجل،لو جمد، كالدبس و السمن أيام الشتاء تلقى النجاسة،و ما لاقته،و يحل الباقي،قال الإمام الباقر أبو الإمام جعفر الصادق عليهما السّلام:إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت،فان كان جامدا فألقها و ما يليها،و كل ما بقي،و ان كان ذائبا فلا تأكله.

و أجمعوا بشهادة صاحب الجواهر على أنّه يجوز بيع الأدهان المتنجسة،

ص:389

و يحل ثمنها،على شريطة إعلام المشتري بذلك،فقد سئل الإمام الصادق عليه السّلام عن سمن أو زيت أو عسل مات فيه جرذ،فقال:أما السمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله،و أما الزيت فيستصبح به.أو يبيعه و يبينه لمن اشتراه،ليستصبح به.

قال صاحب الجواهر،و صاحب المسالك:يجب إعلام المشتري،حتى و لو كان ممن يستحل المتنجس.و هو حق،لتحريم الغش،و إطلاق النص.

4-الأعيان النجسة

،و مثّل لها الفقهاء ببول ما لا يؤكل لحمه.و نحن لا نشك في تحريم جميع الأبوال من جميع الحيوانات المأكولة،و غير المأكولة، لاستخباثها بالفطرة.و كنا في غنى عن هذه الإشارة لو لم يتعرض الفقهاء لها بالتفصيل و التطويل.

5-اللبن يتبع الحيوان

،فإذا حرم أكل لحمه حرم شرب لبنه،كالذئبة و اللبوة و الدبة،و إذا حل أكل لحمه على كراهة فلبنه كذلك،كلبن الخيل و الحمير.

قال صاحب الجواهر:بلا خلاف أجد فيه.

الأكل من مال الغير:

اشارة

لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره بأي نحو من أنحاء التصرف إلاّ بإذنه،و

استثنى الفقهاء من ذلك أمرين:

الأول:الأكل من بيوت الذين ذكرتهم هذه الآية:

وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً (1).

ص:390


1- النور:61. [1]

فيجوز للإنسان أن يأكل من اي بيت من هذه البيوت،دون أن يأذن صاحبها،أو يحرز رضاه بالأكل.و هذا هو الفرق بين هذي البيوت:و بين سواها من مال الغير،حيث لا يجوز تناول شيء منه،و ان قل و حقر إلاّ بالإذن الصريح من المالك،أو العلم برضاه،كما أنّه لا يجوز الأكل من هذه البيوت التي عددتها الآية الكريمة إذا نهى أصحابها عن الأكل،أو علم من القرائن بعدم الرضا و الترخيص.

و المراد بالآباء ما يشمل الأجداد،و بالأمهات ما يشمل الجدات.و المراد بما ملكتم مفاتحه من كانت له السلطة على المال بالولاية أو الوصاية أو الوكالة.

و المراد بالأكل أن يتناول شيئا من الفاكهة،أو الخضار،أو الطعام المعتاد الذي أعد لغداء أو عشاء أصحاب البيت دون الشيء العزيز الذي يدخر لحالات خاصة، فقد سئل الإمام عليه السّلام عما يحل للرجل من بيت أخيه؟قال:المأدوم و التمر.

و تسأل:لما ذا لم تذكر الآية الكريمة بيوت الأبناء؟ و الجواب ان الآية تدل على بيوت الأبناء بمفهوم الموافقة،تماما كما يدلّ قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ على تحريم الشتم و الضرب،و إذا جاز للأخ أن يأكل من بيت أخيه،و للوكيل أن يأكل من المال الموكل به فبالأولى أن يجوز للوالد أن يأكل من بيت ولده.هذا،بالإضافة إلى قول الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«أنت و مالك لأبيك».

الثاني:الأكل مما يمر به من فاكهة،أو خضار،و هو المعروف بحق المارة

، على شريطة أن لا يقصد المرور لأجل الأكل،و ان لا يفسد شيئا مما يمر به من الحقل و البستان،و ان لا يحمل معه شيئا منهما،و ان لا يعلم،أو يظن بعدم رضا المالك.فإذا قصد المرور ليأكل،أو أفسد،أو حمل كان آثما و ضامنا.

ص:391

رائحة المسكر:

قال صاحب الجواهر:«لا خلاف معتد به في أنّه لا يحرم شيء من الأشربة التي يشم منها رائحة المسكر،كرب الرمان و التفاح و السفرجل و التوت و غيرها، لأن كثيره لا يسكر».

فضابط التحريم أن يكون الشراب بذاته موجبا للإسكار و ذهاب العقل إذا تناول الكثير منه،أما مجرد رائحة المسكر،و المادة المسكرة في الشيء فإنها لا توجب التحريم،فالعنب أم الخمرة،و الخل أخوها،و هما من أهنأ و أمرأ الأطعمة و الأشربة في الشريعة.

الضرورات تبيح المحظورات:

اشارة

تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ و أسس يقاس بها كل حكم من أحكام الشريعة من أي نوع كان،و من تلك المبادئ السعة و عدم الضرر و اليسر و عدم الحرج،و هو أصل مطلق غير مقيد،و حاكم غير محكوم،لا ينفيه شيء، و به ينتفي كل شيء يوجب العسر و الحرج إلاّ إذا كان وسيلة لما هو أهم و أعظم، كالجهاد و التضحية في سبيل اللّه جل و عزّ.و قد أعلن القرآن الكريم،و السنة النبوية هذا المبدأ بأساليب شتى.

قال تعالى وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ الحج:78.

يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ البقرة:185.

يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ النساء:27.

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة:3.

وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ الانعام:119.

ص:392

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ البقرة:173.

و من السنة النبوية:«لا ضرر و لا ضرار».«و كلما غلب اللّه عليه فهو أولى بالعذر».أي ان اللّه سبحانه يعذر المغلوب على أمره،لأسباب قاهرة لا قدرة له عليها.قال صاحب الجواهر:«ان هذه القاعدة ينفتح منها ألف باب».

هذا،بالإضافة إلى حكم العقل و الفطرة بأن التكليف بما لا يطاق قبيح من الحكيم العليم.و بعد هذا التمهيد نشير فيما يلي إلى معنى المضطر و الاضطرار الذي يبيح المحرمات،و إلى الترخيص في مقدار التناول منها.

معنى المضطر:

معنى المضطر من حيث هو معروف عند الناس،و ليس للشارع اصطلاح خاص به و لكن المتشرعة،و أعني بهم الفقهاء،قد حددوا المضطر،لا من حيث هو،بل من حيث يسوغ له ارتكاب المحظور و قالوا:ان المضطر هو الذي يخاف التلف على نفسه لو لم يتناول المحرم أو يخشى حدوث المرض،أو زيادته،أو أنّه يؤدي إلى الضعف و الانهيار،أو يخاف الضرر و الأذى على نفس أخرى محترمة،كالحامل تخاف على حملها،و المرضعة على رضيعها،أو أكرهه قوي على أكل أو شرب المحرم،بحيث إذا لم يفعل آذاه في نفسه،أو في ماله،أو في عرضه و شرفه،بل إذا خاف على نفس أخرى محترمة،أو عرضها،أو على مال الغير الذي يجب عليه،كما لو قال له القوي:إذا لم تشرب الخمر فسأقتل فلانا،أو أعتدي على عرضه و شرفه،أو أسلب المال الموجود عندك أمانة،كل ذلك،و ما إليه من المسوغات و المبيحات،قال صاحب الجواهر

ص:393

«الظاهر تحقق الضرر بالخوف على نفس غيره إذا كانت محترمة،كالحامل تخاف على الجنين،و المرضع على الطفل.أو عرض نفس محترمة،أو مال محترم يجب عليه حفظه،أو غير ذلك من الضرر الذي لا يتحمل عادة إذا كان الخوف معتدا به عند العقلاء».

و بالإجمال ان الاضطرار المسوغ لا ينحصر بالخوف من هلاك النفس،بل هناك أشياء أخر يترتب على وقوعها ضرر أشد و أعظم محذورا من إتيان المحظور.أجل،ليس من الاضطرار المسوغ للقتل التهديد به إذا لم يقتل،فإذا قال له:أقتلك ان لم تقتل فلانا فلا يجوز له أن يفعل ذلك،ليدفع الضرر عن نفسه.

الضرورة تقدر بقدرها:

متى تحقق الاضطرار حل للمضطر ان يتناول من الشيء المحظور مقدار ما يرتفع به الضرر،و من هنا اشتهر بين الفقهاء:«الضرورة تقدّر بقدرها»و يدل عليه قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ .و الباغي من يرتكب الحرام من غير ضرورة،و العادي من يضطر إليه،و لكنه يتجاوز مقدار الحاجة الملحة (1).

و قال الإمام الصادق عليه السّلام:أباح اللّه للمضطر-من الحرام-في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلاّ به،فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير.

و تسأل:لو افترض ان المضطر امتنع تنزها عن الحرام،و آثر الضرر،هل يعد عاصيا مستحقا للعقاب،و الحال هذه؟ أجل،هو آثم،لأنه خالف قوله تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ و قد روي عن الإمام عليه السّلام أنّه قال:«من اضطر إلى الميتة و الدم و لحم الخنزير فلم

ص:394


1- كثرت الأقوال في تفسير الباغي و العادي،و الذي ذكرناه هو المفهوم من لفظ الآية و سياقها.

يأكل شيئا من ذلك،حتى يموت فهو كافر».قال صاحب الجواهر:«ان ضعف هذه الرواية يجبره عمل الفقهاء».

و نحن على يقين بان هذا ليس من الورع في شيء،و انما الورع و التقوى في التضحية،و تحمل الضرر،لإعزاز كلمة الحق و الدين لا في الامتناع عن النجس مع الاضطرار إليه.

الاضطرار و حق الغير:

ان الاضطرار يسقط الخطاب التكليفي الذي يترتب الإثم و العقاب على عصيانه،و لا يسقط الخطاب الوضعي الذي هو حق للغير،فمن اضطر إلى التناول من مال غيره لدفع الهلاك جاز له أن يأخذ منه ما يسد الرمق و يحفظ الحياة،طابت نفس المالك،أو أبت،و لكن على المضطر ضمان القيمة.

و إذا مانع صاحب الطعام المضطر جاز له قتاله دفعا للضرر عن نفسه،و نقل صاحب المسالك عن شيخ الطائفة أنّه قال:«إذا امتنع صاحب الطعام عن بذله إلاّ بأكثر من ثمنه،فان كان المضطر قادرا على قتاله قاتله،و ان قتل المضطر فعلى صاحب الطعام الدية،أو القصاص،و ان قتل صاحب الطعام فدمه هدر».

التداوي بالخمر:

قال جماعة من الفقهاء:للمضطر أن يتناول ما يزيل به الضرر من جميع المحرمات إلاّ الخمر،فإنّها لا تحل له بحال،بل لا يجوز التداوي بأدوية فيها شيء من المسكر،و ذهب أكثر الفقهاء بشهادة صاحب المسالك إلى الجواز إذا انحصر الدواء و الشفاء بها«لأن حفظ النفس من التلف واجب،و تركه محرم،

ص:395

و هو أغلظ تحريما من الخمر،فإذا تعارض التحريمان-أي ترك حفظ النفس، و شرب الخمر-وجب ترجيح الأخف،و ترك الأقوى،و لأن تحريم الميتة و لحم الخنزير أفحش و أغلظ من تحريم الخمر فاباحتها للمضطر يوجب إباحة الخمر بطريق أولى».

و اختار صاحب الجواهر جواز التداوي بالخمر،و قال:الأصح الجواز مع الاضطرار.أما الروايات الواردة في تحريمه فيمكن حملها على إمكان التداوي بغير الخمر،و عدم انحصار الدواء فيها.

المائدة و آدابها:

في كتب الفقه و الحديث روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام في آداب المائدة،و بيان النافع و الضار من الأطعمة و الأشربة،و قد جمعها الحر العاملي في المجلد الثالث من كتاب وسائل الشيعة باب الأطعمة و الأشربة،و تبلغ المئات، و لو أخرجت في كتاب مستقل لجاءت في مجلد ضخم،و فيما يلي بعض ما تضمنته تلك الروايات:

يستحب غسل اليدين قبل الطعام و بعده،مع غسل الفم،و ان يفتتح الأكل بالملح،و يختم به،و ان لا يأكل الفاكهة إلاّ بعد غسلها،فعن الإمام عليه السّلام أن لكل ثمرة سما.

و قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:لا تجلس على الطعام إلاّ و أنت جائع،و لا تقم عن الطعام إلاّ و أنت تشتهيه،و جوّد المضغ،و إذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء،فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب.

و قال حفيده الإمام الصادق عليه السّلام:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الطعام إذا جمع

ص:396

ثلاث خصال فقد تم:إذا كان من حلال،و كثرت الأيدي عليه،و سمى في أوّله، و حمد اللّه في آخره.و قال:لا تأكل،و أنت تمشي إلاّ أن تضطر إلى ذلك.و ان يأكل كل انسان مما بين يديه،و لا يتناول شيئا من أمام الآخر إلاّ الفاكهة.

و يكره أكل الطعام حارا،فعن الإمام الصادق عليه السّلام أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قدم إليه طعام حار،فقال:نحوه،حتى يبرد،ان اللّه لم يطعمنا النار.و نهى ان ينفخ في طعام،أو شراب.

و يستحب أكل اللحم على أن لا يدمن عليه،قال الإمام الصادق عليه السّلام:اللحم ينبت اللحم،و من تركه أربعين يوما ساء خلقه.و قال:لا تدمنوا أكل السمك فإنه يذيب الجسد.

و قال:ما استشفى مريض بمثل العسل.و قال:لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل طعاما،أو يشرب شرابا إلاّ قال:اللهم بارك لنا فيه،و أبدلنا خيرا منه إلاّ اللبن فإنه كان يقول:اللهم بارك لنا فيه،و زدنا منه.

و في الأحاديث و الروايات مدح و ترغيب في أكل الفاكهة و الخضار،فعن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليكم بالفواكه في إقبالها،فإنها مصحة للأبدان،و قال الإمام الصادق عليه السّلام:خمسة من فاكهة الجنة:الرمان،و التفاح،و السفرجل، و العنب،و الرطب.و روي عنه أنّه كان يكره تقشير الفاكهة.و قال:الهندباء سيدة البقول.و قال حفيده الإمام الرضا عليه السّلام:السلق شفاء من الأدواء.و قال:كلوا الزيتون،فإنه من شجرة مباركة.و قيل للإمام الصادق عليه السّلام:ان الزيتون يجلب الريح.فقال:لا،بل يطرد الريح.

و نختم هذا الفصل بقوله عز من قائل وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ، وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 1.

ص:397

و نختم هذا الفصل بقوله عز من قائل وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ، وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (1).

قيل:المعروشات ما يزرعه الإنسان،و غير المعروشات ما ينبت من تلقائه في البراري و الجبال،و المتشابه من الفواكه ما يشبه بعضها بعضا في الطعم و اللون و الصورة.

ص:398


1- الانعام:141. [1]

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.