الانوار النعمانیه المجلد 3

اشارة

سرشناسه:جزایری، نعمت الله بن عبدالله، ق 1112 - 1050

عنوان قراردادی:[الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه]

عنوان و نام پديدآور:الانوار النعمانیه/ تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

مشخصات نشر:بیروت - لبنان - دارالقاریء 1429

مشخصات ظاهری:4ج

عنوان دیگر:الانوار النعمانیه فی بیان معرفه النشاه الانسانیه

موضوع:اسلام -- مسائل متفرقه

موضوع:ادبیات عربی -- مجموعه ها

موضوع:احادیث شیعه -- قرن ق 12

ص :1

ادامة الباب الثاني

الانوار النعمانیه

تالیف نعمه الله الموسوی الجزائری

ص :2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

نور يكشف عن احوال الغيبة

و فيه اقسامها المحظورة و الجايزة و ذكر التوبة منه و علاجه و ما يلحقه من المناسبات اعلم وفقك اللّه تعالى ان الغيبة من أعظم الكبائر و قد توعد عليها النار و مع هذا فهي ذنب قد طمّت بليّته الخاص و العام و قد احترز و اعن غيره و لم يحترز و اعنه و ذلك لأمور:

احدها الغفلة عن تحريمه و ما ورد فيه من الوعد و الوعيد و لآيات و الرّوايات و هذا هو السبب الأقل لأهل الغفلات.

و ثانيها انّ مثل هذه المعصية لا يخل بمراتب الناس و لا يسقط محلهم عندهم لخفاء هذا النوع من المنكر على من يرومون المنزلة عنده من اهل الجهالات و ايضا فإن الناس كلّهم في بلاء من هذه المصيبة و لو وسوس اليهم الشيطان ان اشربوا الخمر او زنوا بالمحصنات ما أطاعوه لظهور فحشه عند العامة و لو راجعوا عقولهم لوجدوا انّ الغيبة اشدّ نكالا و عذابا و تقبيحا من ذنوب كثيرة خصوصا ممّا كان حقه للّه تعالى وحده.

و ثالثها موافقة الناس في مجالسهم كما سيأتي بيانه ان شاء اللّه تعالى.

و اما تعريفها في الأصطلاح فقد ذكر له اثنان احدهما مشهوري و هو ذكر الأنسان حال غيبته بما يكره نسبته اليه مما يعد نقصا في العرف بقصد الأنتقاص و الذم،و ثانيها و هو الذي عوّلنا عليه في شرح الصحيفة انها التعرض لإنسان معين و ما في حكمه بما يكون فيه بحيث لو سمعه لغضب و يعد في العرف نقصا و يكون قاصدا لذلك النقص سواء كان ذلك التّعرض بالقول او الإشارة او الكناية او الكتابة،و التقيد بالمعين لإخراج مثل قولك في هذا البلد رجل فاسق و امّا عمر و فاسق فإنه امّا غيبة لأحدهما كما قيل و يترتب عليه ذنب واحد و امّا غيبة لكليهما فيكون عليه ذنبان و هو الأصحّ لغضبهما عند سماع هذا القول و اخراج مثل هذا القول عن الغيبة كما قيل به فاسد،و قولنا بما يكون فيه لإخراج البهتان و التهمة فانهما اشد ذنبا من الغيبة،و التقيد بكونه نقصا لإخراج مثل نسبة عبادة او نحوها الى غائب بحيث لو سمعها لغضب فانّه لا يعد غيبة.

و قولنا و يكون قاصدا لذلك النقص لإخراج ذكر العيب عند الطبيب مثلا او لإستدعاء المرحمة من السلطان في حق الزمن و الأعمى بذكر نقصانهما فانّه لا يعد غيبة و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ترون ما الغيبة؟فقالوا اللّه اعلم و رسوله أعلم،قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أ رأيت ان كان في أخي ما أقول؟قال ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته،و ان لم يكن فيه فقد بهّته،

ص:3

و ذكر عنده رجل فقالوا ما أعجزه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اغتبتم صاحبكم فقالوا يا رسول اللّه قلنا ما فيه قال ان قلتم ما ليس فيه فقد بهّتموه،و قد شبهت في القرآن بلحم الميتة فقال و لا يغتب بعضكم بعضا أ يحب احدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه.

و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّ المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه، و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اياكم و الغيبة فان الغيبة اشد من الزنا ان الرجل قد يزني فيتوب فيتوب اللّه عليه و ان صاحب الغيبة لا يغفر له حى يغفر صاحبه،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مررت ليلة اسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم،فقلت يا جبرئيل من هؤلاء؟فقال هؤلاء يغتابون النّاس و يقعون في اعراضهم و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم فانه من تتبع عورة اخيه تتبع اللّه عورته يفضحه في جوفق بيته.

و خطب عليه السّلام ذات يوم فذكر الربا أعظم عند اللّه في الخطيئة من ستّ و ثلاثين زنية يزنيها الرجل،و في حديث آخر يزنيها الرجل بمحارمه في جوف الكعبة،ثم قال و انّ أربى الربا عرض الرجل المسلم و روي انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر بصوم يوم و قال لا يفطرن أحد حتى آذن له،فصام الناس حتى اذا أمسوا جعل الرجل يجيء فيقول يا رسول اللّه ظللت صائما فاذن لي لأفطرن فاذن له و الرّجل و الرجل حتى جاء رجل فقال يا رسول اللّه فتاتان من اهلي ظللتا صائمتين و انهما تستحيان فاذن لهما ان تفطرا،فأعرض عنه ثم عاوده فأعرض عنه،ثم عاوده فقال انهما لم تصوما و كيف صام من ظل هذا اليوم يأكل لحوم الناس؟اذهب فمرهما ان كانتا صائمتين ان تستقيئا فرجع اليهما فأخبرهما،فاستقائا،فقاءت كل واحدة منها علقة من دم،فرجع الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال و الذي نفس محمّد بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار.

و في رواية انه لما أعرض عنه جائه بعد ذلك و قال يا رسول اللّه انهما و اللّه لقد ماتا او كادتا ان تموتا،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيتوني بهما،فجاءتا،فدعى بقدح فقال لأحدهما قيئي فقاءت من قيح و دم صديد حتى ملأت القدح،و قال للأخرى قيئي فقاءت كذلك، فقال ان هاتين صامتا عما احل اللّه لهما و افطرتا على ما حرم اللّه عليهما جلست احديهما على الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس،و روي انه من أكل لحم اخيه في الدنيا قرب اليه لحمه في الآخرة،فقيل له ميتا كما أكلته حيا،فيأكله و يكلح،و لمّا رجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم الرجل في الزنا قال رجل لصاحبه هذا اقعص كما يقعص الكلب،فمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معها بجيفة فقال انهشا منها،فقالا يا رسول اللّه ننهش جيفة؟فقال ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه.

ص:4

و قال الصادق عليه السّلام الغيبة حرام على كل مسلم،و انها لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب،و قد اوحى اللّه عز و جل الى موسى بن عمران انّ المغتاب اذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة،و ان لم يتب فهو اول من يدخل النّار،و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال من أغتاب مسلما او مسلمة لم يقبل اللّه صلاته و لا صيامه أربعين يوما و ليلة الاّ ان يغفر له صاحبه،و من أغتاب مسلما في شهر رمضان لم يؤجر على صيامه.

و قال عليه السّلام يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي اللّه و يدفع اليه كتابه فلا يرى حسناته،فيقول الهي ليس هذا كتابي،فانّي لا أرى فيه طاعتي،فيقال له ان ربك لا يضل و لا ينسى،ذهب عملك بأغتياب الناس ثم يؤتى بآخر فيدفع اليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول يا الهي ما هذا كتابي فاني ما عملت هذه الطاعات،فيقال ان فلانا اغتابك فدفعت حسناته اليك،و قال عليه السّلام كذب من زعم انّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم الناس بالغيبة اجتنب الغيبة فانّها إدام كلاب اهل النار.

و قال عليه السّلام عذاب القبر من النميمة و الغيبة و الكذب،و روي ان عيسى عليه السّلام مرّ و الحواريّون على جيفة كلب،فقال الحواريون ما أنتن هذه،فقال عيسى عليه السّلام ما أشدّ بياض أسنانه،كأنه ينهاهم عن غيبة الكلب و ينبههم على انه لا يذكر من خلق اللّه الاّ أحسنه،و قد قيل في السبب الموجب للتّشديد في أمر الغيبة و أنها أعظم من كثير من المعاصي هو أشتمالها على المفاسد الكلية المنافية لغرض الحكيم سبحانه،بخلاف باقي المعاصي فانها مستلزمة لمفاسد جزئية، و بيان ذلك ان المقاصد المهمة للشارع إجتماع النفوس على همّ واحد و طريقة واحدة،و هي سلوك سبيل اللّه بسائر وجوه الأوامر و النّواهي،و لا يتم ذلك الا بالتعاون و التعاضد بين ابناء النّوع الأنساني،و ذلك يتوقف على إجتماع همّهم و تصافي بواطنهم،و اجتماعهم على الألفة و المحبة حتى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه،و لن يتم ذلك الا بنفي الضّغائن و الأحقاد و الحسد، و كانت الغيبة مفرقة بينهم فكانت مستلزمة لنقيض غرض الشارع من خلق العالم و ما فيه.

و اما تفصيل اقسامها فهي كما عرفت التّعرض للمؤمن بما يكرهه بنقصان،و ذلك النقصان إما في بدنه،او نسبه او خلقه بضم الخاء،او فعله،او قوله او دينه او دنياه او ثوبه او داره او دابته،و قد أشار الصادق عليه السّلام الى ذلك مجملا بقوله وجوه الغيبة يقع بذكر عيب في الخلق،و الفعل و المعاملة و المذهب و الجهل و أشباهه فالبدن كذكرك فيه العمش و الحول و العمى و جميع ما يكرهه من الأوصاف.

و اما النسب فان يقول ابوه زان او فاسق او حائك او اسكاف او نحو ذلك ممّا يكرهه كيف كان،و اما الخلق فأن يقول انّه سيء الخلق خسيس متكبر شديد الغضب و نحو ذلك،و اما

ص:5

افعاله المتعلقة بالدين فكقولك قليل الأدب،متهاون بالناس كثير الأكل اذا دخل المجلس يجلس في غير موضعه،و اما في ثوبه فكقولك انه واسع الكم،طويل الذيل وسخ الثياب و نحو ذلك،و هذا لا يكون مقصورا على اللسان بل يجري في الكناية و الأشارة و الغمز و الرموز،و من ذلك ما روي عن عائشة انها قالت دخلت علينا امرأة،فلما ولّت اومأت بيدي أي قصيرة،فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إغتبتها،و من ذلك تقليد الأعرج في مشيته،او كما يمشي الغير بل هو اشد من الغيبة، لأنّه أعظم في التصوير و التفهيم،و كذلك الغيبة بالكتاب فان الكتاب كما قيل أحد اللسانين،و من ذلك كما قاله الشهيد الثاني طاب ثراه ذكر المصنف شخصا معينا و تهجين كلامه في الكتاب الا ان يقترن به شيء من الأعذار المحوجة الى ذكره كمسائل الأجتهاد التي لا يتم الغرض من الفتوى و اقامة الدّليل على المطلوب الاّ بتزييف كلام الغير و نحو ذلك،و يجب الأقتصار على ما يندفع به الحاجة.

و قد بقي افراد خفية من الغيبة،الفرد الأول ممّا يستعمله أهل العلم و المعرفة المرائين، فأنّهم يفهمون المقصود على صنعة أهل الصلاح و يظهرون التعفف عن الغيبة و لا يدرون،لجهلهم انهم جمعوا بين الرياء و الغيبة،و ذلك مثل ان يذكر عنده إنسان فيقول الحمد للّه الذي لم يبتلينا بحب الرّئاسة او بحب الدنيا،و يقول نعوذ باللّه من قلة الحياء او من سوء التوفيق،او نسأل اللّه ان يعصمنا من كذا،بل مجرد الحمد على شيء اذا علم اتصاف المحدث عنه بما نافيه و نحو ذلك،فانه يغتابه بلفظ الدّعاء و سمة أهل الصلاح،و انّما قصد ان يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغيبة و الرياء و دعوى الخلاص من الزذائل و هو عنوان الوقوع فيها.

الثاني ان يقدم من يريد غيبته فيقول ما أحسن أحوال فلان ما كان يقصر في العبادات و لكن قد اعتراه فتر و ابتلي بما نبلي به كلّنا و هو قلّة الصبر،فيذكر نفسه بالذّم و مقصوده ان يذّم غيره و ان يمدح نفسه بالتّشبّه بالصالحين في ذم أنفسهم،فيكون مغتابا مرائيا مزكيا نفسه،فيجمع بين ثلاث فواحش و هو ان يظن لجهله انّه من الصالحين المتعففين عن الغيبة،هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل اذا أشتغلوا بالعلم او العمل من غير ان يتفطّنوا الطريق،الثالث ان يذكر ذاكر عيب الأنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين فيقول سبحان اللّه ما أعجب هذا حتى يصغي الغافل الى المغتاب و يعلم ما يقوله فيذكر اللّه،و يستعمل اسمه آلة في تحقيق خبثه و باطله و هو يمنّ على اللّه بذكره جهلا و غرورا.

الرابع ان يقول جرى لصاحبنا او صديقنا كذا تاب اللّه علينا و عليه،يظهر الدعاء له و التألم و الصداقة و الصحبة و اللّه مطّلع على خبث سريرته،و هو لا يدري انّه قد تعرض لمقت أعظم ممّا يتعرض له الجهّال اذا جاهروا بالغيبة،الخامس الأصغاء الى الغيبة على سبيل التعجب

ص:6

فانّه انّما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة،فيزيد فيها لأستخراج الغيبة منه بهذا الطريق،فيقول عجبت ممّا ذكرته ما كنت أعرف من فلان ذلك،يريد بذلك تصديق المغتاب و استدعاء الزيادة منه باللّطف و التصديق بها غيبة بل الأصغاء اليها بل السكوت عند سماعها، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المستمع احد المغتابين و ذلك انّ احدهما يتكيّف لسانه بها و الآخر يتكيّف سمعه بها،فالمستمع لا يخرج من اثم الغيبة الاّ بأن ينكر بلسانه،فان خاف فبقلبه و ان قدر على القيام او قطع الكلام بكلام غيره فلم يفعله لزمه و لو قال بلسانه اسكت و هو يشهي ذلك بقلبه فذلك نفاق و فاحشة أخرى زائدة لا تخرجه عن الأثم ما لم يكرهه بقلبه.

و قد روى عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انه قال من اذل عنده مؤمن و هو يقدر على ان ينصره فلم ينصره اذله اللّه يوم القيامه على روس الاشهاد(الخلائق خ)و قال صلّى اللّه عليه و آله من رد عن عرض اخيه بالغيب كان حتما على اللّه ان يرد عن عرضه يوم القيامه،و قال صلى اللّه عليه و آله من رد عن عرض اخيه بالغيب كان حتما على اللّه ان يعتقه من النار،و روى الصدوق ره باسناده الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال من تطول على اخيه في غيبة سمعها منه في مجلس فردها عنه رد اللّه عنه ألف باب من الشر في الدنيا وى الآخرة،و ان هو لم يردها و هو قادر على ردها كان عليه كوزر من أغتابه سبعين مرة.

و اما العلاج الذي يمنع الأنسان عن الغيبة فأعلم ان مساوىء الأخلاق انما تعالج بمعجون العلم و العمل و انما علاج كل علة بمضاد سببه فلنذكر اسباب الغيبة اولا ثم نذكر علاج كف اللسان عنها على وجه يناسب علاج تلك الأسباب،فنقول جملة ما ذكروه من الأسباب الباعثة على الغيبة عشرة أشياء،و قد أشار الصادق عليه السّلام اليها إجمالا بقوله الغيبة تتنوع بعشرة انواع،شفاء غيض،و مساعدة قوم،و تصديق خبر بلا كشفه،و التبري من عيب،و سوءظن و حسد و سخرية و تعجب و تبرم و تزين.

و اما تفصيلها اولها تشفي الغيظ و ذلك اذا جرى سبب غضب فاذا هاج الغضب تشفى بذكر مساوئه و سبق اللسان اليه بالطبع ان لم يكن دين و ورع(دينا و ورعا)،و قد يمنع من تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن و يصير عقدا ثانيا،فيكون سببا لذكر المساوىء، فالحقد و الغضب هما البواعث العظيمة على الغيبة،الثاني موافقة الأقران و مجالسة الرفقاء و مساعدتهم على الكلام فانهم اذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى انه لو انكر او قطع المجلس استثقلوه و نفروا عنه فيساعدهم،و يرى ذلك من حسن المعاشرة و يظن انه مجاملة في الصحبة و قد يغضب رفقاؤه فيحتاج الى ان يغضب لغضبهم اظهارا للمساهمة في السراء و الضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوىء،الثالث ان يستشعر من أنسان انه سيقصده و يطول لسانه او يشهد

ص:7

عليه بشهادة فيبادر قبل ذاك و يطعن فيه ليسقط أثر شهادته و فعله او يبتدي بذكر ما فيه صادقا ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول و يستشهد به و يقول ما من عادتي الكذب فاني اخبرتكم بكذا و كذا من أحواله فكان كما قلت،الرابع أ ينسب الى شيء فيريد ان يتبرىء منه فيذكر الذي فعله و كان حقه ان يبري نفسه و لا يذكر الذي فعله و لا ينسب غيره اليه او يذكر غيره بانه كان مشاركا له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه الخامس ارادة التصنع و المباهاة و هو ان يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول فلان جاهل و فهمه ركيك،و غرضه ان يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه و يوهم انه افضل منه او يحذر ان يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه بذلك السادس الحسد و هو انه ربم لاحد من ثني الناس عليه و يحبونه فيريد زوال تلك النعمة عنه فلا يجد سبيل اليه الا بالقدح فيه فيريد ان يسقط محله عند الناس حتى يكفوا عن اكرامه و الثناء عليه السابع اللعب و الهزل و المطايبة و تزيين الوقت بالضحك فيذكر غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة و التعجب و التعجيب، الثامن السخرية و الأستهزاء استحقارا له فان ذلك قد يجري في الحضور فيجري ايضا في الغيبة و منشأة التكبر استصغار المستهزىء به التاسع و هو مأخذ دقيق ربما يقع فيه الخواص و هو ان يغتم بسبب ما يبتلى به احد فيقول يا مسكين فلان قد غمني امره و يذكر سبب الغم و يكون صادقا في اهتمامه و يلهيه الغم عن ذكر اسمه فيذكره بما يكرهه فيصير به مغتابا فيكون غمه و رحمته خيرا و لكن ساقه الى شر من حيث لا يدري و الترحم و التغمم ممكن من دون ذكر اسمه و نسبته الى ما يكره فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه و ترحمه العاشر الغضب للّه تعالى فانه قد يغضب على منكر قارفه فيظهر غضبه و يذكر اسمه على غير وجه النهي عن المنكر و كان الواجب ان يظهر غضبه عليه على ذلك الوجه خاصة و هذا مما يقع فيه الخواص ايضا فانهم يظنون ان الغضب اذا كان للّه تعالى كان عذرا كيف كان و ليس كذلك و اما علاجات هذه الأمور فهي امران مجمل و مفصل اما الأول فبان يعلم انه تعرض لسخط اللّه تعالى و نقل حسناته الى ميزان غيره و يشتغل في تدبير عيوب نفسه عن عيوب غيره و ان كان ذما خلقيا فالذم له ذم للخالق،من ذم صنعه فقد ذم الصانع،قال رجل لبعض الحكماء يا قبيح فقال ما كان خلق وجهي الي فأحسنه و روي ان نوحا عليه السّلام مر على كلب اجرب فقال ما هذا الكلب؟فنطق الكلب و قال يا نوح هكذا خلقني ربي فان قدرت ان تغير صورتي باحسن من هذه الصورة فافعل،فتندم"فندم"على ما قال و بكى على هذه المقالة اربعين سنة فسمّاه اللّه نوحا و كان اسمه عبد الملك او عبد الجبار و اما الثاني فهو ان ينظر الى السبب الباعث له على الغيبة و يعالجه فان علاج العلة يقطع شينها و قد عرفت الأسباب الباعثة اما الغضب فيعالجه بان يقول ان امضيت غضبي عليه لعل اللّه تعالى يمضي علي بسبب الغيبة اذ نهاني عنها و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان لجنهم بابا لا يدخله الا

ص:8

من شفى غيضه بمعصية اللّه و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كظم غيظا و هو يقدر ان يمضيه دعاه اللّه يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء و في بعض كتب اللّه يا أبن آدم اذكرني حين تغضب اذكرك حين اغضب فلا امحقك حين امحق و اما الموافقة فبان تعلم ان اللّه تعالى يغضب عليك اذا طلبت سخطه في رضاء المخلوقين فكيف ترضى لنفسك ان توقر غيرك و تحقّر مولاك فتترك رضاه لرضاهم الا ان يكون غضبك للّه تعالى و ذلك لا يوجب ان تذكر المغضوب عليهم بسوء بل ينبغي ان تغضب للّه ايضا على رفقائك اذ ذكروه بالسوء فانهم عصوا ربك بأفحش الذنوب و هو الغيبة و اما تنزيه النفس بنسبة الخيانة الى الغير حيث يستغني عن ذكر الغير فيعالجه بأن يعرف ان التعرض لمقت الخالق اشد من التعرض لمقت الخلق و انت بالغيبة متعرض لسخط اللّه تعالى يقينا و لا تدري انك تتخلص من سخط الناس ام لا فتخلّص نفسك في الدّنيا بالتوهم و تهلك في الآخرة و نخسر حسناتك بالحقيقة و تحصل ذم اللّه تعالى لك نقدا و تنتظر دفع ذمّ الخلق نسية و هذا غاية الجهل و الخذلان.

و اما عذرك كقولك انّي ان اكلت الحرام ففلان يأكل و ان فعلت كذا فلان يفعل و ان قصرت في كذا من الطاعة ففلان مقصّر و نحو ذلك فهذا جهل لأنّك تعتذر بالإقتداء بمن لا يجوز الأقتداء به،فانّ من خالف أمر اللّه تعالى لا يقتدي به كائنا من كان،و لو دخل غيرك النار و انت تقدر على ان تدخلها لم توافقه و لو وافقته سفه عقلك فما ذكرته غيبة و زيادة معصية اضفتها ما أعتذرت عنه و سجلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك و غباوتك و كنت كالشاة تنظر الى الغير تردّي نفسه من الجبل فهي ايضا تردّي نفسها،و لو كان لها لسان و صرّحت بالعذر و قالت الغير اكيس منّي و قد اهلك نفسه فكذلك افعل لكنت تضحك جهلها،و حالك مثل حالها ثم لا تتعجّب و لا تضحك من نفسك.

و اما قصدك المباهاة و تزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك فينبغي ان تعلم بما ذكرته أبطلت فضلك عند اللّه تعالى و انت من إعتقاد الناس فضلك على خطر و ربما نقص إعتقادهم فيك اذا عرفوك بثلب الناس (1)و اما الغيبة للحسد و هو جمع بين عذابين لأنّك حسدته على نعمة الدنيا و كنت معذّبا بالحسد فما قنعت بذلك حتى أضفت اليه عذاب الآخرة فكنت خاسرا في الدّنيا فجعلت نفسك خاسرا في الآخرة لتجمع بين النّكالين،فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك و أهديت اليه حسنتك فاذا انت صديقه و عدوّ نفسك،اذ لا تضره غيبتك و تضرك و تنفعه لأنتقال حسناتك اليه و سيئآته اليك،فقد جمعت الى خبث الحسد جهل الحماقة و ربّما

ص:9


1- (1) (ثلبه ثلبا)عابه و لامه.اغتابه،سبه.طرده.

يكون حسدك و قدحك فيه سبب إنتشار فضله،فقد قي و اذا اراد اللّه نشر فضيلة طويت اتاح لها لسان حسود

و قد جاء في الرواية عن امير المؤمنين عليه السّلام انّ من اغتابك فهو اصدق اصدقائك، و ذلك انّه رجّحك على نفسه بأن رضي بدخول النار و رضي لك بدخول الجنة فمن آثرك على نفسه فهو الصديق،و في حديث آخر أنه أتعب نفسه بالصيام و القيام و وضع ذلك في طبق مغشي و أرسله اليك هدية بدل ما أغتابك فكيف لا يكون صديقك و قال رجل لعابد انّي قد رق قلبي لك هذا اليوم و رحمك،فقال ممّ؟فقال من استغابة الناس لك،فقال سمعت مني يوما انّي استغبت احدا منهم،فقال لا،فقال غذن فارحمهم فهم محل الرحمة.

اما الأستهزاء فمقصودك منه اخزاء غيرك عند الناس باخزاء نفسك عند اللّه تعالى و عند الملائكة،فلو تفكّرت في حسرتك و خجلتك و خزيك يوم تحمل سيئات من استهزأت به و تساق به الى النار لأدهشك ذلك عن اخزاء صاحبك،و لو عرفت حالك لعرفت انك انت المضحكة فانك سخرت به عند نفر قليل و عرضّت نفسك لأن يأخذ بيدك في القيامة على ملإ من الناس و يسوقك كما يساق الحمار الى النار مستهزئا بك و فرحا بخزيك،و اما الرحمة له على اثمه فهو حسن و لكن حسدك ابليس فاستنطقك بما ينقل من حسناتك اليه ما هو أكثر من رحمتك فيكون جبرا لإثم المرحوم فتصير انت المرحوم لا هو اذ حبط أجرك و نقصت حسناتك.

و اما الأعذار المسوغة للغيبة فقد حصرها الأصحاب رضوان اللّه عليهم في عشرة الأول التظلّم كأن يتظلّم من قاض ظلمه عند من يرجو منه ازالة ظلمه،فانّه يجوز له ان ينسب القاضي الى الظلم،اذ لا يمكن استيفاء حقه الا به فقد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لصاحب الحق مقال و قال مطل الواجد يحلّ عقوبته و عرضه.

الثاني الأستعانة على تغيير المنكر و رد العاصي الى منهج الصلاح،و هذا يرجع الى النّية و القصد.

الثالث الأستفتاء كما تقول للمفتي قد ظلمني أبي و أخي فكيف طريقي في الخلاص و الأولى هنا التعريض بأن يقول ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه،و قد روي ان هندا قالت للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ابا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا و ولدي أ فأخذ من غير علمه؟فقال خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف،فذكرت الشحّ و الظّلم و لم يزجرها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذ كان قصدها الأستفتاء.

الرابع تحذير المسلم من الوقوع في الخطر و الشّرّ و نصح المستبشر فاذا رأيت متفقها يتلبس بما ليس من أهله فلك ان تنبّه الناس على نقصه و قصوره عمّا يؤهل نفسه له و كذا اذا رأيت رجلا

ص:10

يتردد الى فاسق يخفي امره وفت عليه من الوقوع بسبب الصّحبة بما لا يوافق الشّرع فلك ان تنبهّهم على فسقه مهما كان،و كذلك اذا كان في العبد عيب فلك ان تحدّثه بعيوبه و لكن تقتصر في كل عيب على محل الحاجة و لا تذكر العيب الآخر الّذي لا مدخل له في التحذير،و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ ترعوون عن ذكر الفاجر حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه تحذره الناس،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفاطمة بنت قيس حين شاورته في خطّابها أما معاوية فرجل ملوك لا مال له،و أما ابو جهم فلا يضع العصا عن عاتفة.

الخامس الجرح و التعديل للشاهد و الراوي،و من ثم وضع العلماء كتب الرّجال و ذكروا اسباب الجرح لكن يشترط ان يكون القصد فيه صحيحا.

السادس ان يكون المقول فيه مخستحقا لتظاهره بسببه كالفاسق المتجاهر بفسقه بحيث لا يستنكف من ان يذكر بذلك الفعل الّذي يرتكبه،فيذكر بما هو فيه لا بغيره،قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له،و ظاهر الخبر جواز غيبته ان استنكف من ذكر ذلك الذنب و ان يكون معنى الحديث انّ من نزع جلباب الحياء لا غيبة له يعني انّ ما يقال فيه لا يدخل في الغيبة و لا يطلق عليه لفظها الا انّها غيبة جائزة،و في جواز أغتياب مطلق الفاسق إحتمال ناش من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا غيبة لفاسق و رد بمعنى اصل الحديث، و بحمله على فاسق خاص،او بحمله على النبي و ان كان بصورة الخبر،و هذا هو الأجود الا ان يتعلق بذلك غرض ديني و مقصد صحيح يعود على المغتاب بأن يرجو إرتداعه عن معصيته بذلك،فيلحق بباب النهي عن المنكر.

السابع ان يكون الأنسان معروفا باسم يفصح عن عيبه كالأعرج و الأعمش فلا إثم على من يقول ذلك،فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التّعريف و لإنّه صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد ان صار مشهورا به.

الثامن لو اطلع العدد الذين ثبت بهم الحدّ او التّعزيز على فاحشة جاز ذكرها عند الحكّام بصورة الشهادة في حضرة الفاعل و غيبته و لا يجوز التّعرض اليها في غير ذلك الاّ ان يتّجه فيه أحد الوجوه الأخرى.

التاسع قيل اذا علم اثنان من رجل معصيته شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز لأنّه لا يؤثّر عند السّامع شيئا و ان كان الأولى تنزيه النفس و اللّسان عن ذلك لغرض من الأغراض المذكورة و خصوصا مع أحتمال نسيان المقول لتلك المعصية او خوف استتارها عنهما.

ص:11

العاشر اذا سمع احد مغتابا لآخر و هو لا يعلم استحقاق المقول عنه فيحمل فعل القائل على الصّحة ما لم يعلم فساده لأنّ ردعه يستلزم انتهاك حرمته و هو ان احد المحرمين و الأولى التّنبيه على ذلك الى ان يتحقّق المحتاج منه لعموم الأدلّة و ترك الأستفصال فيها و هو دليل ارادة العموم حذرا من الأغراء بالجهل،و لأنّ ذلك لو تمّ لتمشى فيمن يعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة الى السامع لإحتمال إطّلاع القائل على ما يوجب تسويغ مقاله و هو يهدم قاعدة النبي عن الغيبة، و هذا الفرد مستثنى من جهة سماع الغيبة،و بالجملة فأمر الغيبة في غاية الأشكال و على اللّه الأتكال،بقي الكلام في كفارة الغيبة.

اعلم ان الواجب على المغتاب ان يندم و يتوب و يتأسف على افعل ليخرج من حق اللّه تعالى ثم يستحلّ المغتاب ليحلّه فيخرج عن مظلمته،و ينبغي ان يستحلّه و هو حزين نادم و الاّ فالمرائي قد يطلب المحالة فيكون عليه ذنب آخر،و قد ورد في كفّارتها حديثان احدهما قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم كفّارة من أغتبته ان تستغفر له،و في حديث آخر كلّما ذكرته،و معنى قوله كلّما ذكرته يعني كلما ذكرته على طريق الغيبة،او كلّما عنّ في خاطرك او جرى ذكره على لسانك بعد المحالة الأولى،الثاني قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض او مال فليستحللها(فليحتلّها خ)منه قبل ان يأتي يوم ليس هناك دينار و لا درهم يؤخذ من حسناته فان لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فيزيد على سيّئاته،و جمع بين الحديثين شيخنا الشهيد الثاني قدّس اللّه روحه يحمل الأستغفار على من لم يبلغ غيبة المغتاب فينبغي الأقتصار على الدّعاء له و الأستغفار لأنّ في محالته إثارة للفتنة و جلبا للضغائن،و في حكم من لم يبلغه من لم يقدر على الوصول اليه لموت او غيبة،و حمل المحالة على من يمكن التّوصّل اليه مع بلوغه الغيبة،أقول و يمكن الجمع بينهما بوجهين.

احدهما ان الأستغفار له كفّارة معجّلة تكون مقارنة للغيبة و المحالة متأخّرة عنه فيجب عليه المبادرة بذاك لعدم توقّفه على التّمكن و عدمه و المحالة اذا تمكن بعد هذا فيكون الواجب اثنين لا واحدا كما هو مذكور في القول الأول.

الثاني حمل الأستغفار على الأستحباب،و الواجب انما المحالة لا غير،و اذا جاء الى المغتاب فينبغي ان لا يظهر له الكلام الذي اغتابه خوفا من اثارة الشحناء و تجديد العداوة،بل يقول له يا أخي لك عليّ حقوق عرضية و أريد تحالني منها و نحو ذلك من العبارات المجملة،و يستحب للمتعذر اليه قبول العذر و المحالة استحبابا مؤكّدا،قال اللّه تعالى خُذِ الْعَفْوَ الآية،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا جبرئيل ما هذا العفو؟فقال ان اللّه يأمرك ان تعفو عمّن ظلمك، و تصل من قطعك،و تعطي من حرمك.

ص:12

و روي عن بعضهم انّ رجلا قال لقد اغتابك فلان،فبعث اليه طبقا من الرطب و قال بلغني انّك قد أهديت اليّ حسناتك فأردت ان أكافئك عليها،فاعذرني فاني لا اقدر ان أكافئك على التمام،و لا فرق بين غيبة الصغير و الكبير و الحي و الميت و الذكر و الأنثى،و ليكن الأستغفار و الدّعاء على حسب ما يليق بحاله،فيدعو للصّغير بالهداية و للميّت بالرحمة و المغفرة و نحو ذلك، و لا يسقط الحق بإباحة عرضه للنّاس لأنّه عفو عمّا يجب،و لقد صرّح الفقهاء بأنّ من أباح قذف نفسه لم يسقط حقّه من حدّه،و ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ يعجز احدكم ان يكون كأبي ضمضم،كان اذا خرج من بيته قال اللّهم اني تصدّقت بعرضي على الناس،معناه انّي لا اطلب مظلمته في القيامة و لا أخاصم عليها لا انّ غيبته صارت بذلك حلالا،و يجب النّية لها كباقي الكفارات.

نور يكشف عن الحسد و النميمة و لواحقهما

اعلم ان الحسد من اعضل (1)الأدواء و أكبر المعاصي و أفسدها للقلب،و كفى به شرّا انّه اول خطيئة عصي اللّه تعالى بها،و ذلك هو حسد ابليس لأبينا آدم عليه السّلام فاستمرت تلك البلية الى يوم القيامة،و قد امر اللّه تعالى نبيه بالإستعاذة منه فقال مِنْ شَرِّ حٰاسِدٍ إِذٰا حَسَدَ ،بعد ان استعاذ من اليطان و الساحر فأنزله منزلتهما،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب (2).

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ستّة يدخلون النار قبل الحساب بستّة،الأمراء بالجور، و العرب بالعصبية،و الدّهاقين بالكبر،و التّجار بالخيانة،و اهل الرستاق بالجهالة،و العلماء بالحسد، و في حديث آخر ان الحسد عشرة اجزاء منها تسعة بين العلماء و واحد في الناس و لهم من ذلك الجرء و الحظّ الأوفر،و قال عليه السّلام لا يخلو المؤمن من شيطان يغويه،و منافق يقفو اثره،و مؤمن يحسده،اما انّه اشد عليه،و ذلك انّه يقول القول فيه فيصدق.

و عن داود الرقيّ قال سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول اتّقوا اللّه و لا يحسد بعضكم بعضا انّ عيسى بن مريم عليه السّلام كان من شرائعه السيح في البلاد فخرج فخرج في بعض سيحه و معه رجل من أصحابه قصير،و كان كثير اللزوم لعيسى فلما انتهى عيسى الى البحر فقال بسم اللّه بصحّة يقين منه فمشى على ظهر الماء،فقال الرجل القصير حين نظر الى عيسى جاز بسم اللّه بصحّة يقين منه فمشى على الماء و لحق بعيسى عليه السّلام فدخله العجب بنفسه،فقال هذا

ص:13


1- (1)أي من أعيا الأدواء.
2- (2) حسد المرء يأكل الحسنات و ان اعتاد على كسبها سنوات.

عيسى روح اللّه يمشي على الماء و انا امشي على الماء فما فضله عليّ،قال فرمس في الماء فاستغاث بعيسى عليه السّلام فتناوله من الماء فأخرجه ثم قال له ما قلت يا قصير؟قال قلت هذا روح اللّه يمشي على الماء فدخلني من ذلك عجب،فقال له عيسى لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك اللّه فيه فمقتك اللّه على ما قلت فتب الى اللّه تعالى ممّ قلت قال فتاب الرجل و عاد الى مرتبه التي وضعه اللّه فيها،فاتقوا اللّه و لا يحسدن بعضكم بعضا و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاد الفقر ان يكون كفرا،و كاد الحسد ان يغلب القدر،و قال الصادق عليه السّلام انّ المؤمن يغبط و لا يحسد،و ان المنافق يحسد و لا يغبط،و في خبر معاذ الطويل ان صلاة الحاسد ترد من السماء الخامسة،و قال الصادق عليه السّلام الحاسد مضرّ بنفسه قبل ان يضرّ بالمحسود كإبليس اورث بحسده له اللّعنة و لآدم عليه السّلام الأجتباء و الهدى و الرّفع الى محل حقائق العهد و الأصطفاء، فكن محسودا و لا تكن حاسدا فانّ ميزان الحاسد ابدا خفيف يثقل ميزان المحسود،و الرزق مقسوم فما ذا ينفع الحسد الحاسد،و ما يضرّ المحسود الحسد،و الحسد يهيج خمسة اشياء:

احدها افساد الطّاعات لما عرفت من انه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب،و الثاني فعل المعاصي و الشرور،و الثالث التعب و الغم من غير فائدة بل مع كل وزر،و الرابع الحرمان و الخذلان فلا يكاد يظفر بمراد و لا ينصر على عدوّ،و كيف يظفر بمراده و مراده زوال نعم اللّه عن عباده،و كيف ينصر على اعدائه و هم عباد اللّه الّذين ساق اليهم النعم لتأهّلهم لها.

فان قلت قد ظهر من هذه الأخبار و الكلمات انّ الحاسد لا يضر المحسود و لا يكون حسده باعثا لزوال نعم اللّه سبحانه فكيف يجمع هذا مع قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاد الحسد ان يغلب القدر،فانّ ظاهره انّ للحسد تأثيرا شديدا في أمر المحسود و زوال النّعمة عنه،قلت وجه الجمع انّ الحاسد و ان كان سببا في زوال تلك النعمة عن المحسود كتأثير العين الصّائبة الاّ انه ينقل المحسود من نعمة حقيرة الى نعمة جزيلة،امّا في الدّنيا بأن يكون الحاسد مثلا سببا في زوال نعمة تأتي المحسود من بعض إخوانه،فأوقع الحاسد امورا منعت من وصول تلك النعمة اليه كما يتفق في كثير من الأوقات،فاذا كان كذلك ساق اللّه سبحانه تلك النعمة اليه من محل آخر بناء على ما عرفت من انّ الرزق مقسوم،و من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه و اجملوا في الطلب،و امّا في الآخرة و الأمور المتعلقة بها فقد يكون حسد الحاسد باعثا لإرتقاء درجات المحسود كما في حكاية ابليس لآدم عليه السّلام فانه انما ارتقى الى درجة الأصطفاء و العصمة بأعماله العظيمة التي وقعت بعد الحسد اذا عرفت هذا فأعلم انه قد بقي هنا امور:الأول حقيقة الحسد هو انبعاث القوة الشهوية الى تمني مال الغير او حاله التي هو عليها و زوالها عن ذلك الغير و هو مستلزم لحركة القوة الغضبية و لذلك قال علي عليه السّلام الحاسد

ص:14

مغتاظ على من لا ذنب له و قد اتفق العقلاء على ان الحسد مع انه رذيلة عظيمة للنفس فهو من الأسباب العظيمة لخراب العالم اذا كان الحاسد كثيرا ما يكون حركاته و سعيه في هلاك ارباب الفضائل و اهل الشرف و الأموال الذين تقوم بوجودهم عمارة الأرض اذ لا يتعلق الحسد بغيرهم من اهل الخسة و الفقر.

و اما الغبطة المحمودة فهي انّك لا تتمنى زوال تلك النعمة عنه و لكّنك تشتهي لنفسك مثلها كما قال الصادق عليه السّلام انّما نغبطكم يا أهل العراق على الأرز.

الثاني في الأسباب المثيرة للحسد و قد حصروها في سبعة:العداوة و التعزز و التكبر و التعجب و الخوف من فوت المقاصد و حب الرئاسة و خبث النفس و بخلها فانه انما يكره النعمة عليه اما لأنه عدوه لا يريد له الخير و هذا لا يختص بالأمثال و اما لأنه يخاف ان يتكبر بالنعمة عليه و هو لا يطيق احتمال كبره و عظمته لعزة نفسه و هو المراد بالتعزز و اما ان يكون في طبعه ان يتكبر على المحسود و يتمنع ذلك عليه بنعمته و هو المراد بالتكبّر و اما ان تكون النعمة عظيمة و المنصب كبيرا و يتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة و هو التعجب و اما ان يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمته بأن يتواصل به الى مزاحمته في اغراضه و اما أن يكون لحب الرئاسة التي تبتنى على الأختصاص بنعمة لا يساوي فيها،و اما ان لا يكون بسبب من هذا الأسباب بل بخبث النّفس و شحّتها بالخير لعباد اللّه.

و قد أشار سبحانه الى السّبب الأوّل بقوله وَدُّوا مٰا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ و الى الثالثة بقوله(لو انزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ،)أي كان لا يثقل علينا الأنقياد لأنهم قالوا كيف يتقدم علينا غلام يتيم،و الى الرابعة بقوله مٰا أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا، و أعظم الأسباب فساد الخامس و السادس لتعلقهما غالبا بعلماء السوء و مناط الخامس يرجع الى متزاحمين على مطلوب واحد و من هذا الباب تحاسد الضّرات في التّزاحم على مقاصد الزوجية.

الثالث في بيان الدواء الّذي ينقي مرض الحسد عن القلب الا بالعلم و العمل،و العلم النافع لغرض الحسد هو ان يعلم يقينا ان الحسد ضرر عليك في الدنيا و الدين و لا ضرر به على المحسود في الدنيا و لا في الدين بل ينتفع به فيها فيه و مهما عرفت هذا عن بصير و لم تكن عدوّ نفسك و صديق عدوّك فارقت الحسد لا محالة و ما أحسن ما قيل:

لا مات أعداؤك بل خلدوا حتى يروا منك الذي يكمد

لا زلت محسودا على نعمة فانّما الكامل من يحسد

ص:15

و في هذا الحديث انّ اهل الجنة ثلاثة المحسن و المحب له و الكاف عنه،أي من يكف عنه الأذى و الحد و البغض،هذا مجمل الكلام في الحسد.

و اما النميمة فهي نقل قول الغير الى المقول فيه كما تقول فلان تكلم فيك بكذا و كذا سواء كان نقل ذلك بالقول ام بالكتابة ام بالإشارة و الرمز،و ذلك انّ النقل كثيرا ما يكون متعلّقه نقصانا او عيبا في المحكي عنه موجبا لكراهته و إعراضه عنه فيكون راجعا الى الغيبة ايضا،فقد جمع بين معصية الغيبة و النّميمة،و هي من المعاصي العظيمة لأنّها توجب العداوة بين الأحباب و تهدم حصول الألفة بين الأقارب و الأنساب و من ثم قال سبحانه هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ ، و قال عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ ، قال بعض العلماء دلّت هذه الآية على انّ من لم يكتم الحديث و مشى بالنّميمة ولد زنا لأنّ الزنيم هو الدعي،و قال تعالى في امرأة نوح و لوط فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلاَ النّٰارَ مَعَ الدّٰاخِلِينَ، و كانت امرأة لوط تخبر بالضّيفان،و امرأة نوح تخبر بأنّه مجنون، و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان اللّه تعالى لما خلق الجنة قال لها تكلمي،قالت سعد من دخلني،قال الجبّار جل جلاله و عزتي و جلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس،لا يسكن فيك مدمن خمر،و لا مصر على الزنا،و لا قتّات و هو النّمام،و لا ديّوث و لا شرطيّ،و لا مخنّث،و لا قاطع رحم،و لا الذي يقول على عهد ان لم افعل كذا و كذا ثم لم يف به.

و روي ان موسى عليه السّلام استسقى لبني اسرائيل حين اصابهم قحط،فأوحى اللّه تعالى انّي لا استجيب لك و لا لمن معك و فيكم نمّام قد أصرّ على النميمة،قال موسى عليه السّلام من هو يا رب حتى نخرجه من بيننا؟فقال يا موسى أنهاكم عن النميمة و أكون نمّاما فتابوا بأجمعهم فسقوا،و روي ان رجلا أتّبع حكيما سبعمأة فرسخ في سبع كلمات فلمّا قدم عليه قال انّي جئتك للذّي أتاك من العلم،أخبرني من السماء و ما أثقل منها،و عن الأرض و ما أوسع منها،و عن الحجارة و ما أقسى منها،و عن النار و ما أحرّ منها،و عن الزمهرير و ما أبرد عنه،و عن البحر و ما أغنى منه،و عن اليتيم و ما أذلّ منه،فقال البهتان على البرى اثقل من السماوات،و الحق اوسع من الأرضين،و القلب القانع أغنى من البحر،و الحرص و الحسد أحرّ من النار،و الحاجة الى القريب اذا لم ينجح أبرد من الزّمهرير،و قلب الكافر أقسى من الحجر،و النّمام اذا بام أمره أذلّ من اليتيم.

و في بعض الكتب ان رجلا اراد ان يشتري عبدا فقال له صاحبه انّه لا عيب فيه سوى النميمة،فقال لا علي من نميمته،فاشتراه فبقي عنده،فأتى يوما لإمرأة مولاه فقال مولاي لا يحبك فان قدرت ان تأخذي شعرة من لحيته حتى أقرأ عليها شيئا من الأسماء و التعويذات فانه يعود الى محبتك،فرضيت و قالت اذا نام أقطع من لحيته شعرة بالموسى فأتى الى مولاه و قال يا مولاي

ص:16

الواجب ان انصحك اعلم ان امرأتك أظهرت لي انها تريد ان تذبحك اذا نمت بالموسى،فان لم تصدق فتناوم هذا اليوم حتى تنظر ما تفعل فلمّا تناوم أقبلت المرأة و معها الموسى تريد قطع الشّعرة،فلمّا دنت الى الرجل قام و أخذ لها السيف فضربها به حتى قتلها،فسمع أهلها فأتوا الى الرّجل و قتلوه و ثارت الفتنة بين القبائل حتى قتل منهم أناس كثيرة،و من هذا احل اللّه الكذب في الأصلاح بين الناس و بغض الصدق فيه،فقال عليه السّلام المصلح ليس بكذاب،مع ان الكذب من اقبح المعاصي حتى انه سأل عليه السّلام ان المؤمن هل يزني؟فقال ان المؤمن يزني و يلوط و يسرق و يشرب الخمر و يفعل الكبائر لكنه لا يكذب،فجعل الكذب أعظم من هذه الذنوب و الوجه فيه ظاهر،و هو انّ المفسدة التي تترتب عليه أعظم من غيرها،فإنّ بها سفك المهج و خوض اللّجج كما عرفت،قال بعض بعض المحققين كل من حملت اليه النّميمة فعليه ستّة امور:

الاول ان لا يصدقه لان النمام فاسق و هو مردود الشهادة قال اللّه تعالى ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهاله

الثاني ان ينهاه عن ذلك و ينصحه و يقبح له فعله؛قال اللّه تعالى و امر بالمعروف و انه عن المنكر،الثالث ان يبغضه في اللّه تعالى فانه بغيض عند اللّه؛الرابع ان لا تظن بأخيك السوء بمجرد قوله،لقوله تعالى اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ بل يثبت حتى يتحقق الحال.

الخامس ان لا يحملك ما حكي لك على التجسس و البحث لقوله تعالى وَ لاٰ تَجَسَّسُوا،

السادس ان لا ترضى لنفسك بما نهيت النّمام عنه فلا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي كذا و كذا فتكون به نماما و مغتابا و قد تكون أتيت بما عنه نهيت،و روي انّ رجلا أتى امير المؤمنين عليه السّلام يسعى اليه برجل،فقال يا هذا نحن نسأل لما قلت فان كنت صادقا مقتناك،و ان كنت كاذبا عاقبناك،و ان شئت ان نقيلك اقلناك،قال اقلني يا أمير المؤمنين.و روي ان حكيما من الحكماء زار بعض اخوانه فأخبره بخبر عن غيره،فقال له الحكيم قد أبطأت في الزيارة و أتيتني بثلاث جنايات،بغّضت اليّ أخي،و شغلت قلبي الفارغ،و اتّهمت نفسك الأمينة.

خاتمة هذا النّور في ذكر ذي اللّسانين و هو الذ يتردد بين الأثنين سيّما المتعاديين و يكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه،و قلّ ما يخلو عنه من يشاهد متعاديين،و ذلك عين النفاق،و هو من الكبائر المتوعد عليها النار،و روى عمار بن ياسر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان له و جهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة،و روى الصدوق ره بإسناده الى علي عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعا لسانه في قفاه و آخر من قدّامه يلتهبان نارا ثمّ يلهبان جسده،ثمّ يقال هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين و ذا لسانين

ص:17

يعرف بذلك يوم القيامة،و يتحقق كونه ذا الّلسانين يعرف بذلك يوم القيامة،و يتحقق كونه ذا اللسانين كما قال شيخنا الأجلّ الشّيخ زين الدّين بأمور:

منها ان ينقل كلام كل واحد الى الآخر و هو مع ذلك نميمة و زيادة،فان النميمة يتحقق بالنقل من احد الجانبين فقط،و منها ان يحسن لكل واحد منها ما هو عليه من المعادات مع صاحبه و ان لم ينقل بينهما كلاما،و منها ان يعد كل واحد منهما بأن ينصره و يساعده و منها ان يثني على كل واحد منهما في معاداته،و اولى منه ان يثني عليه في وجهه و اذا خرج من عنده ذم،و الذي ينبغي له اما ان يسكت او يثني على المحق منها في حضوره و غيبته و بين يدي عدوه،و لا يتحقق اللسانان بالدخول على المتعاديين و مجاملة كل واحد منهما مع صدقه في المجاملة،و ان الواحد قد يصادق المتعاديين و لكن صداقة ضعيفة لا تصل الى حد الأخوة،اذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة العدو كما هو المشهور من ان الأصدقاء ثلاثة الصديق،و صديق الصديق،و عدو العدو، و الأعداء ثلاثة العدو و عدو الصديق،و صديق العدو.

فان قيل كثيرا ما يتفق لنا اختلاف اللسانين مع الأمراء و اعداء الدين فهل يكون ذلك داخلا في النهي و النفاق كما ورد من انه سأل بعض الصحابة ان ندخل على امراءنا فنقول القول فاذا خرجنا قلنا غيره،قلنا ان كان القائل مستغنيبا عن الدخول على الأمير و عن مخالطة العدو الديني و أختار الأجتماع معه و الصحبة له اختيار طلبا للجاه و المال زيادة على القدر الضّروري فهو ذو لسانين و منافق كما ذكره الصحابي،و عليه يحمل الخبر،و ان كان محتاجا الى ذلك اتقاء ضرورة فهو معذور لا حرج عليه،فانّ اتقاء الشر جائز،قال ابو الدّرداء انّا لنشّ في وجوه أقوام و ان قلوبنا لتبغضهم،و روي انّه مر رجل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال بئس رجل العشيرة،فلمّا دخل عليه أقبل عليه فقيل له في ذلك،فقال انّ شرّ النّاس الّذي يكرم اتقاء شرّه، و أكثر التحقيقات التي في هذين النّورين قد أخذنا من كلام شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه.

نور في الكبر و الفخر و علاجاتهما و ما يناسب ذلك

اعلم وفقك اللّه تعالى انّ الغرض الذّاتي من خلق الإنسان انّما هو الأطاعة و القيام بوظائف العبودية،قال تعالى وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ و ليس المثل الاّ كمولى يشتري عبدا فإنه ليس العلّة في شرائه الاّ ان يأتي برسوم العبودية و لوازمها،و حينئذ فإرتقاؤه في درجات الكمال انّما يكون بإرتقائه في درجات العبودية سواء كان نبيا او غيره،و من هذا فضّلت مرتبة العبودية على مرتبة النبوة و الرّسالة،فقال تعالى مخبرا عن غاية قرب نبيّه و تمام التنويه باسمه

ص:18

سُبْحٰانَ الَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى و لم يقل في هذا المقام أسرى برسوله،مع انّها الحالة الّتي امتاز بها عن سائر الأمة.

و وجه ذلك انّ العبودية نسبة بين العبد و مولاه و الرّسالة نسبة بين النبي و أمتّه و هو كونه رسولا اليهم،و لا ريب في اشرفيّة النسبة الأولى لمكان طرفيها،و لأنها النسبة المقصودة بالذات، و أما الرسالة و ما شابهها فهي نسبة عرضية لا ذاتية،و من ذلك كانت الأولى هي المقدمة في الوجودين فانّه عزّ و جلّ لم يرسله الى الأمة الاّ بعد اربعين سنة،و هي مدة سيره في تحصيل كمال العبودية فانه ترقى فيها حتى اخبر عنه بقوله فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ ، و لما كمل في تلك الدرجة أهبه منها الى درجة سافلة و هي الرسالة،فقال عزّ من قائل(انا انزلنا اليكم ذكرا رسولا) ففي قوله انزلنا اشارة الى هذا الإنزال المعنوي و هو من درجة الى درجة،و ليس المراد الأنزال الحسي لأنّه لم يكن في السماء حتى ينزل الى الأرض بل كان بين ظهرانيهم و ما كان أشق هذا الأنزال عليه لأنه كان في الدرجة الأولى يحاكي جناب القدس في عالم الملكوت،و قد صار هذا لشيء عجاب،فانّهم كانوا يعبدون ثلاثمائة و ستين صنما،و لما أنزل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اليهم أمرهم بالتوحيد فاظهروا هذا التعجب من قوله،و قد حصل له من ردّهم عليه مقالته تعب عظيم و ألم جسيم،و تعب القلب اشدّ من ضرب السيوف لأنّه من ربّى اربعين سنة في حجر جبرئيل عليه السّلام و كان المعلم له رب الملكوت فأدّبه بآدابه و اطّلعه على مراتب جبروته،ثم تنزل من هذا كله حتى أمر بمعاشرة أجلاف العرب و اهل ترك الأدب مع فرط روحانيّتة و لطافة قدسيته كان عليه هذا أثقل من الجبال الرواسي لو لا امره سبحانه له بمثله.

و في الروايات ان سليمان عليه السّلام لما أراد تأديب الهدهد أمر به فحبس مع الحدأة في قفص واحد،فلما رأى حاله معها طلب من سليمان ان يخرجه من القفص و ان يعذّبه في كلّ ما أراد من أنواع العذاب فقد كان أخف عليه،و من هنا قال سبحانه مَنْ تُدْخِلِ النّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ، و لم يقل فقد أحرقته او عذبته،و ذلك انّ الخزي عذاب الروح و الإحراق عذاب البدن و عذاب الروح اشدّ و افضع لو كانوا يشعرون،و روي ايضا انه سأل عليه السّلام عن الحمل الثقيل يحمله الرجل رأسه فلا يثقل عليه كثيرا و يرى الرجل المكروه يجلس على بعد من الأنسان و يكون ثقله و مشقّته عليه أعظم من ذلك الحمل الثقيل فقال عليه السّلام انّ الحمل الثقيل يحمله البدن و الرجل المكروه تحمله الروح و هي انّ من الذنوب ذنوبا قد تناهت في العظم فلا يكفّرها الا الهمّ و الغمّ و الصّبر على المصائب و ذلك لأنّه عذاب الروح فيكون مكفر الذنوب البدن او شهواته الحيوانيّة و اذا حقّقت هذا.

ص:19

فاعلم ان الناس كلهم بل كل اصناف المخلوقات متساوون في العبودية لأنّ مولاهم واحد فهم من قبيل ان يكون سلطان عنده انواع من العبيد فليس للأبيض ان يفخر على الأسود في أصل العبودية،و من هذا جاء الحديث انّ اللّه سبحانه أوحى الى موسى عليه السّلام اذا جئت للمناجاة فاصحب معك من تكون خير منه،فنزل عن الناس و شرع في أصناف الحيوانات حتى مرّ بكلب اجرب،فقال أصحب هذا فجعل في عنقه حبلا ثم مرّ به،فلما كان في بعض الطريق شمر الحبل و ارسله،فلما جاء الى مناجاة الرب سبحانه قال يا موسى اين ما أمرتك به؟قال يا رب لم اجده، فقال تعالى و عزّتي و جلالي لو أتيتني بأحد لمحوتك من ديوان النبوة،فهذا الحديث و ما روي في معناه منزّل على ما ذكرناه،و الاّ فلا خلاف في انّ كلّ نبي بعث في زمانه فهو افضل و اشرف من اهل زمانه و كذلك الناس يتفاوتون في الفضل و الشّرف على قدر خدمتهم لمولاهم،فيكون هذا الشرف عارضيّا و مع هذا فلا ينبغي للعبد ان يفتخر على غيره به و ذلك لأنّه شيء قد ألزم به و هو واجب عليه،فينبغي له ان يكل الفخر و المدح الى مولاه بأن يكون هو الذي يباهي به و يظهر شرفه.

و في الحديث ان اللّه تعالى يباهي الملائكة و يفاخرهم بأقوام،منهم رجل صار في قفر من الأرض ليس معه أحد فيقوم يؤذّن و يقيم للصلاة فيقول سبحانه أنظروا يا ملائكتي الى عبدي هذا قام يذكرني في هذه الفلاة من الأرض،و رجل قام الى صلاة الليل فأخذه النّعاس و هو ساجد فيقول سبحانه انظروا الى عبدي روحه عندي في قبضتي و بدنه ساجد لي و رجل لم يقم لصلاة الليل لعارض،ثمّ اذا جاء النهار قام يقضيها،الى غير ذلك فيكون المولى هو المادح لهم و المثني عليهم،و لهم الفخر الواقع في نفس الأمر،و في الدّيوان المنسوب الى مولانا امير المؤمنين عليه السّلام:

الناس من جهة التّمثال اكفاء أبوهم آدم و الأمّ حواء

فان لم يكن في أصلهم شرف يفاخرون به فالطّين و الماء

ما الفخر الاّ لأهل العلم انّهم على الهدى لمن استهدى أدلاّء

و قيمة المرء ما قد كان يحسنه و الجاهلون لأهل العلم أعداء

نعم اذا اراد الأنسان بيان احواله اذا كانت مجهولة لغرض من الأغراض الشرعية جاز له و ان كان فيه عبارات الفخر،لكن لا يكون الفخر و الكبر مقصودين له كما كان يستعمله قدماء علمائنا من ذكرهم مدائحهم و معالي منابتهم في كل عنوان،و من هذا جاء في الحديث قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم انا خير الخلق و لا فخر،و أنا أفصح العرب و لا فخر،الى غير ذلك و مقصوده عليه السّلام اظهار بيان شيء من شأنه عند جهّال الناس لا الفخر،و لهذا بالغ في نفيه بلا الجنسيّة،

ص:20

و الكبر و الفخر ليسا من مساوىء الأخلاق بل من أشرف الصفات و الحالات و هما من صفات الأكرام له سبحانه و تعالى،و مما إختصا به فلا يجوز لأحد ان ينازعه في أخصّ صفاته.

قال ابو جعفر عليه السّلام العزّ رداء اللّه و الكبر إزاره فمن تناول شئا منه أكبّه اللّه في جهنّم،و في الحديث القدسي العزّ ازاري و الكبرياء ردائي فمن نازعنيهما ادخله ناري و لا ابالي، فهما بالنسبة الينا صفات ذم لأنهما ثوبان مغصوبان قد لبسنا هما و الثوب المغصوب يحرم استعماله في جميع الأحوال حتّى من انّ المراد المساواة في أصل العبودية،و يجوز ان يكون هذا الحديث منزّلا على ارادة المؤمنين و المسلمين،كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما ترك الأيمان لذي شرف شرفاء،فإنهم كانوا يتكبرون و يفخرون في أعصار الجاهليّة حتى بلغ بهم الحال الى ان الرجل العظيم منهم اذا كان له بنت انتظر بها حتى اذا بلغت مبالغ النساء زيّنها و حلاّها بأنواع الحليّ و الحلل و اخذها الى المقابر و حفر لها او دفنها فيه و هي في عالم الحياة،و ذلك لأنّه ليس لها كفوّ بزعمه حتّى يزوّجها منه،فنفي سبحانه هذه المقالة عليهم بقوله وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ .

و قد حكى عمر بن الخطاب فيما روي عنه انّه قال:أدركني الرقّة على ابنة لي في أعصار الجاهلية،و ذلك انّي امرت بأن يحفر لها قبر لأدفنها فيه،فلمّا أتيت بها الى القبر،كان الحفّار يخرج التراب من القبر فتناولت منه التراب،فعلّق بعض التراب بلحيته،فأخذت البنت تنفضه منها فرققت لها،ثم دفنتها و هي حية،فلمّا جاء الأسلام أبطل تلك الأمور و عطّلها،حتّى انه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صعد المنبر يوما و ذكر ما كانوا به يتفاخرون و يتكبرون فقال:انه موضوع تحت قدمي الى يوم القيامة،و لم ينزل من المنبر حتّى زوّج بنت صفية ابنة عبد المطلب من المقداد مع انّه كان افقر الناس حالا و أقلهم مالا،و قد ساوى بينهم في أعزّ الأمور و أنفسها و هو أمر الدّماء، فقال:صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلمين اخوة تتكافأ دمائهم و يسعى بذمتهم ادناهم،فاذا كان دم السلطان و الكنّاس على حدّ سواء يقتل هذا بهذا فانّي للسلطان و الفخر و التكّبّر على الكنّاس.

و امّا حطّ دية العبيد عن الأحرار فلكون الغالب فيهم النّشو و النماء على ملل الكفر و حالاتهم،و أما نقصان المرأة عن الرجل فلنقصان عقلها و دينها،اما العقل فهو انّ شهادة إمرأتين شهادة رجل واحد،و امّا الدين فهو انّ المرأة تمكث زمانا لا تصلي فيه و لا تصوم لمكان حيضها، و ايضا فإن الأنسان اذا تفكر في مبادىء أحواله و أواخرها ذلّت عنده نفسه و لم يدخلها في ميدان الفخر و الكبر،و لهذا قال امير المؤمنين عليه السّلام:ابن آدم اني لك و الفخر فانّ اولك جيفة و آخرك جيفة و في الدنيا حامل الجيف،و لينظر الى احوال هذه الجيف فانّها ليست كجيف الحيوانات،اما الجيفة الأولى فهي المني فقد غلّظ الشارع نجاستها حتى فهم بعض الأصحاب من

ص:21

تغليظه ان تطهير الثياب و الأبدان منها يحتاج الى الغسل مرتين،كما ورد في ازالة البول ايضا و انّها يخرج من طريقين نجسين بالبول فيكون حاله ضمّ نجاسة الى نجاسة،و اما الجيفة الأخيرة و هي ميتته فإنها أخسّ و أخبث من ميتة الكلب و النزير،و ذلك ان كل من مس ميتة الكلب لم يوجب الشارع عليه غسلا و اما من مسّ جلد الميت فقد أوجب عليه تطهير كلّ بدنه مبالغة في خبث جيفته و في اجتناب الناس له،حتى يعتبر الأحياء برؤية الأموات،و قد ألقى أيضا على جيفته و هو في عالم الحياة فهي اظهر من ان تذكر،و حاله في الدّنيا أخسّ من حمار قد حمل جوالقا من العذرة.

و العجب انّه لو مرّ على مثل هذا الحمار لتنفّس منه و بعد عنه و لعن الحمار و شم صاحبه و لم يتفكر في انّ هذا البلاء الذي قد اصاب الحمار انّما هو منه و الاّ فالحمار أنّى له و العذرة،فها قد تراوحا على الجوالق،فقد كان الحامل له اوّلا هذا الرجل الظّريف الذي يقبض الآن على انفه منه،ثمّ لمّا عجز عن حمله و لم يطقه رمى ذلك الجوالق على الحمار الفقير فأخذ الحمار ليبعد عنه، فذلك الجوالق قد تراوح عليه حماران إن كنت تعقل.

و قد رأيت بخطّ شيخنا الشيخ بهاء الدين قدّس اللّه زكيّ تربته هذين البيتين و هما من قوله:

و ثورين أحاطا بهذا الورى فثور الثّريّا و ثور الثّرى

فهم(و هم)فوق هذا و من بين ذا حمير مسرّحة في القرى

و لعمرك انّهم اخس من الحمير و الثيران،فقد حكى سبحانه عن جماعة قصروا في القيام بوظائف العبوديّة فقال:و ان هم الاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلا،و ذلك انّ الأنعام تهرب من الضار لها و تقبل على من قصد ايصال النفع اليها بخلاف الأنسان فأنّه يهرب عمّن قصد نفعه و هو الذي ربّاه صغيرا و رزقه كبيرا،و يقبل من أراد ضرره و هم شياطين الجنّ و الأنس،فقد قال سبحانه وَ اللّٰهُ يَدْعُوا إِلىٰ دٰارِ السَّلاٰمِ و انت تهرب عمن يدعوك الى دار السّلم و تقبل على من يدعوك الى طبقات النيران،و في الحديث انّ اهل النّار اذا دخلوها دخل الشيطان فيوضع له منبر من نار و يلبس ثيابا من نار،كما قال سبحانه فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيٰابٌ مِنْ نٰارٍ فيرقى فوق المنبر ثم يأخذ في السخرية و الأستهزاء على من تحت منبره،فتضجّ اهل النار بلعنه و سبه،فيقول لهم أنصتوا لكلامي،فيقول أيّها الجهّال ان اللّه تعالى ارسل اليكم مائة ألف نبي و أربعة و عشرين ألف نبي يدعونكم الى تلك الجنّة العالية فلم تقبلوا قولهم و أنا دعوتكم وحدي الى هذه النار الشّديدة العذاب فأطعتموني فلا تلوموني و لوموا أنفسكم.

ص:22

و اما لأن الأنعام تعرف بيت صاحبها فتغدوا عليه و تروح و تسرح و تجيء فحالها أحسن من حالك،و ذلك انّك تهرب من المساجد و البيت و الكعبة و من اولياء اللّه و أحبائه و إمّا لأن الأنعام قد قامت بوظائف ما خلقت له فانّ الثور انّما خلق للحرث و الفرس للركوب و نحو ذلك و لم يحصل منها تقصير في هذه الغايات،و امّا انت فانّما خلقت للعبادة و لم تأت بشيء منها فهي أهدى منك و أحسن حالا،و لو تفكّرت أيها الفاخر المتكبّر لرأيت انّ اول من سبقك بهذه الخصلة القبيحة هو امامك الشيطان حيث أبى عن السجود بقوله له خلقتني من نار و خلقته من طين،فانّه نظر الى ان جوهر النار و ان ارتفع سنانها في الهوى و شبّت لكنه لحظة واحدة ثم لا يحصل منها بعد الاّ الرماد الذي لا ينتفع به،و أمّا التراب فهو و ان كان موضوعا تحت الأقدام لكنه بسبب هذا التواضع قد صار مادة لأنواع الورد و الريحان و كل خير فهو اذن اشرف من النّار و انفع منها،فقد غلط في القياس كما سبق تحقيقه،و قد تقدّم في وظائف الصلوات ان اللّه سبحانه انما جعل موسى كليمه لأنّه اذا فرغ من الصلاة عفّر خديه على التراب،فانظر الى شرف التراب كيف ترقت بسببه الأنبياء الى مراتب القدس و مكالمة الحقّ.

و روي ان اللّه تعالى اوحى الى موسى عليه السّلام فقال:أ تدري لم رزقتك النبوة؟فقال:

يا رب انت اعلم به مني،فقال:تذكر اليوم الّذي كنت ترعى الغنم بالموضع الفلاني فعدت شاة فعدوت خلفها،فلمّا لحقتها لم تضربها و قلت أتعبتني و أتعبت نفسك،فحين رأيت منك تلك الشفقة على ذلك الحيوان رزقتك النبوة،و بالجملة فليس الفخر و الشرف الاّ لمن شرّفته الطّاعة، كما قال في الحديث القدسي:ليس الشّريف الا من شرّفته طاعتي.

و فيه ايضا ان الناس يطلبون اشياء في اشياء فلا يجدونها لأنّي وضعتها في غيرها يطلبون العلم في الوطن فلا يجدونه لأنّي وضعته في الغربة،و يطلبون الغنى في جمع المال فلا يجدونه لأنّي وضعته في القناعة،و يطلبون العزّ بخدمة السّلطان فلا يجدونه لأنّي وضعته بخدمتي،و من هذا قال سبحانه إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ و لم يقل ان أكرمكم أتقاكم،اشارة الى ما حققناه من انّ الفخر و الشّرف انّما ينبغي ان يكون هو الذي يفعله بالأنسان و ينشر مدائحه و يرقّيه فوق درجات المعالي من غير ان يكون الأنسان هو المتولّي لذلك،و ناهيك بالتكبر ذما بعد الناس عن صاحبه بالذل فهو لا يحبهم و هم لا يحبّونه و ذمّه على ألسنة الخلائق و ان اللّه يبتليه في أغلب الأوقا بالذلّ و الهوان فانّ الصادقين عليهما السّلام قد مثّلوا الدنيا ببيت سقفه مخفوض (1)فالدّاخل اليه لا بدّ له

ص:23


1- (1) .خفضه خفضا ضد رفعه.

من ان يطأطأ رأسه عند الدخول و من فع رأسه تلك الحالة شجّه السّقف و أخرج دمه و رمى بعمامته من فوق رأسه و فضحه بين الأقران الذّين كان يريد التّرفّع اليهم.

و جاء عن الصادق عليه السّلام انّه قال لبعض تلاميذه يوما:أيّ شيء تعلّمت مني؟قال يا مولاي:ثمان مسائل،قال عليه السّلام:قصّها عليّ لأعرفها،قال:الأولى رأيت كل محبوب يفارق محبوبه عند الموت فصرفت همي الى من لا يفارقني و هو فعل الخير،قال:احسنت و اللّه الثانية رأيت قوما يفخرون بالحسب و آخرين بالمال و الولد و اذا ذلك لا فخر،و رأيت الفخر العظيم قوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ فاجتهدت ان اكون عند اللّه كريما قال:احسنت و اللّه،الثالثة قال:رأيت الناس في هولهم و طربهم و سمعت قوله تعالى وَ أَمّٰا مَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوىٰ فاجتهدت في صرف الهوى عن نفسي حتى استقرت على طاعة اللّه تعالى،قال:احسنت و اللّه،الرابعة قال:رأيت كل من وجد شيئا يكرم عنده إجتهد في حفظه، و سمعت قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ فأحببت المضاعفة و لم أر أحفظ ممّا يكون عنده،فكلّما وجدت شيئا يكرم عندي وجّهت به اليه ليكون زخر الى وقت حاجتي اليه قال:احسنت و اللّه.

الخامسة قال:رأيت حسد الناس بعضهم لبعض،و سمعت قوله تعالى نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ فلما عرفت ان رحمة اللّه خير ممّا يجمعون ما حسدت أحدا و لا تأسفّت على ما فاتني،قال:احسنت،السادسة قال:رأيت عداوة(الناس يعاندون)الناس بعضهم لبعض في دار الدنيا،و سمعت قول اللّه تعالى انّ الشّيطان لكم عدوّ مبين فاشتغلت بعداوة الشيطان عن عداوة غيره،قال:احسنت،السابعة قال:رأيت كدح الناس و اجتهادهم في طلب الرزق و سمعت قوله تعالى وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ مٰا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فعلمت ان وعده حق و قوله صدق فسكنت الى قوله و وعده و رضيت بقوله و اشتغلت بماله عليّ عمّا لي عنده قال:احسنت و اللّه،الثامنة قال:رأيت قوما يتّكلون على ابدانهم و قوما على كثرة اموالهم و قوما على خلق مثلهم و سمعت قوله تعالى وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً فاتكلت على اللّه و زال اتكالي عن غيره،فقال:و اللّه انّ التوراة و الأنجيل و الزّبور و الفرقان و سائر الكتب مشحونة بهذه المسائل.

و اعظم اسباب التكبر الغنى و جمع الأموال،و روي ان اول من سك الدّراهم و الدنانير النمرود،فأول درهم و دينار سكّهما الصائغ اخذهما الشيطان و قبلهما و وضعهما على عينيه،

ص:24

و قال:انال ما أريد من الناس بهذين،فكان كما قال،و من هنا قال عليه السّلام:انّ اللّه يبغض الشيخ الزاني،و الفقير المتكبر،و ذلك لعدم وجود الداعي فيهما و هو الشّهوة و المال،و في بعض التّواريخ انّه قد سأل الفضل بن يحيى البرمكي عن سبب التكبر الذي كان يفعله مع النّاس و من اين أخذه،فقال:اخذته من فلان و هو رجل من أقارب الخليفة،و ذلك انّ الخليفة جعلني عاملا على قم و توابعها و كان لي من يكرهني عند الخليفة،فقالوا له:ينبغي ان تأخذ منه خراج هذه السنة قبل ان يمضي الى قم فأتتني غلمان الخليفة و الخراج كان مالا جزيلا فقال لي ابي:إمض الى فلان و قل له انّ ابي يقرأ عليك السّلام و تقول القصّة كذا و كذا،فان حصل شيء تقرضنا حتى نأتي بالخراج فمضيت اليه و وجدته جالسا وحده متكيا على محجّر،فسلّمت عليه و لم ينظر اليّ فتندّمت على المجيء اليه فقلت له ما قال لي ابي فلم يكلّمني فخرجت و لم أحك ماجرى لأبي، فلما كان قد مضى ساعة و اذا الجمال محملة بتلك الأموال معها غلمانه،و اذا هي تفي بالخراج و فوقه،فأوصلناها الى خزانة الخليفة،فلمّا جمعت الخراج أتيت بها الى بغداد حملت الجمال تلك الأموال و تقدّمتها فرأيته جالسا على تلك الهيئة فلما رأى الجمال قال:ما هذه الجمال؟فقلت هذه الأموال التي استقرضها أبي منك،فقلت انّي كنت خزّانا لأبيك،خذ أموالك و امض،فلم يكلمني غير هذه الكلمة،فأتيت بالأموال فأعجبني تكبره لأنّه مشفوع بالكرم.

و اما حال المتكبر في الآخرة فهو شنيع فضيع،قال عليه السّلام:يحشر المتكبرون يوم القيامة بصورة الذرّ تطأهم الخلائق بأرجلها حتى يفرغ اللّه من الحساب،فهذا الهوان و الذلّ بأزاء ما راموه في الدنيا من الفخر و الكبر لم يحصّلوه.

بقي الكلام في معناه و في تحقيقه فقد روى الكليني(ره)في الصّحيح مسندا الى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليه السّلام قال:لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من الكبر،قال:فاسترجعت،فقال:ما لك تسترجع؟قلت لما سمعت منك،فقال ليس حيث تذهب انّما هو الجحود،و قال الصادق عليه السّلام الكبر ان تغمص (1)الناس:و تسفه الحق و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ان اعظم الكبر غمص الخلق و سفه الحقّ،قال:قلت و ما غمص الخلق و سفه الحق؟قال:يجهل الحق و يطعن على أهله،فمن فعل ذلك فقد نازع اللّه تعالى ردائه و عن عمر بن يزيد عن ابيه قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام انّني آكل الطعام الطّيب،و أشم الريح الطيبة،و أركب الدابة الفارحة،و يتبعني الغلام،فترى في هذا شيئا من التجبّر فلا افعله، فأطرق ابو عبد اللّه عليه السّلام ثم قال:انّما الجبار الملعون من غمص الناس جهل الحق،قال:

ص:25


1- (1) غمصه احتقره،رجل غمص عيوب.

عمر فقلت اما الحق فلا اجهل و الغمص لا ادري ما هو؟قال:من حقّر الناس و تجبر عليهم فذلك الجبّار،و الغمص بالغين المعجمة و الصّاد المهملة هو تحقير الناس،أقول دلت هذه الأخبار على ان الكبر المتوعد عليه هو تحقير الناس و عدم قبول الحق فيدخل في هذا أمور:

الأول ما يقع في مناظرة بين ارباب العلم فان الغالب من احوالهم انّه يريد كل واحد منهم إقحام خصمه ليترفّع عليه في المجالس،و اذا ظهر له انّ كلام خصمه حق ردّه و لم يقبله منه لئلا يظهر للناس انّه قد أفلج،فمثل هذا المناظر يدخل في تعريف هذا المتكبر و لأنّه رد الحق بعد ما ظهر له انّه حق،و ايضا فقد حقّر قائله حيث زعم الناس انّه هذا الرجل المبطل هو المحقّ و ذلك المحق هو المبطل.

و من هنا المولى الصالح العالم عبد اللّه التستري اذا سأل التّقي الورع المولى احمد الأردبيلي عن مسئلة و تكلما فيها سكت الأردبيلي في أثناء الكلام،او قال حتى أراجعها في الكتب،ثم أخذ بيد التستري و يخرجان من النجف الأشرف الى خارج البلد فاذا انفردا قال المولى الأردبيلي:هات يا أخي تلك المسئلة،فيتكلم فيها و يحققها الأردبيلي على ما يريد المولى التستري، فيسأله فيقول يا أخي هذا التحقيق لم لا تكلّمت به هناك لمّا سألتك؟فيقول له ان كلامنا كان بين الناس،و لعل كان فيه تنافس و طلب الظفر منك او منّي و الآن لا أحد معنا الاّ سبحانه.

الثاني في التواضعات بأن يقوم لبعض الناس على وجه التعظيم و لا يقوم للبعض الآخر على وجه التّحقير بأن يخطر بباله انّ هذا لا يستأهل التعظيم و القيام له،امّا لو كان بعض الناس يتوقع التعظيم و الآخر لا يتوقعه و لا يطلبه من ذلك الرجل بل ربما شق عليه تواضعه له فالظاهر انّ تركه له لا يعد من باب التكبر و الفخر،و كذا في باب السّلام و التحيّات فانّ كثيرا من الناس اذا تلاقوا مع اخوانهم لا يبتدؤنهم بالسلام عمدا و قصدا و يحقّرونهم و يبخلون عليهم بالسلام، و يطلبون ان يكون المبتدي بالسلام هو ذلك الرجل الذي حقّروه،مع قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا علي كل من لقيته فسلّم عليه،و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ من المنجيات من عذاب اللّه تعالى إفشاء السّلام،و قوله ان البخيل من بخل بالسلام،و ما ورد من انّ ثواب المسلّم أكثر من ثواب الرادّ للسلام مع انّ الأول مستحب و الثاني واجب،فهذا من المواضع المستثناة من القاعدة الكلية و هي انّ الثواب الواجب أزيد من ثواب المستحب،و من المستثنى ايضا إنظار المعسر و إبراؤه من الدين،فانّ الأول واجب و الثاني مستحب،و الثاني يفضل على الأول في الثّواب.

و منها الصلاة المعادة بالجماعة بالنسبة الى الأولى،و قد عدّ منها الصلاة و في الأماكن الشّريفة و البقاع فانّه افضل من الصلاة في غيره،قال شيخنا البهائي(ره)و يمكن المناقشة في حكاية إنظار المعسر فانّ الواجب عدم مطالبته سواء حصل في ضمن الأنظار او الأبراء لكن حصوله في

ص:26

ضمن الأبراء أفضل الواجبين،و قس عليه المناقشة في حكاية الصلاة في البقاع الشريفة بل هي فيه أظهر انتهى،أقول يمكن رفع المناقشة بأن الواجب في المعسر ليس هو عدم المطالبة مطلقا بل عدم المطالبة الى وقت الأيسار فالواجب انّما هو هذا الفرد،و امّا عدم المطالبة مطلقا فليس هو بواجب بل مستحب فيدخل في جملة الأفراد،و امّا المناقشة في الأخير فجوابها ان مراد القائل بها انّ الصلاة النّافلة في الأماكن الشريفة تفضل على الصلاة الواجبة في غيرها كما وردت في الأخبار، و ليس المراد به الصلاة الواجبة الواقعة في البقاع الشريفة كما لا يخفى،و قد روى الشيخ ره في الصحيح عم معاوية بن عمّار قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام رجلان افتتحا الصلاة في ساعة واحدة فتلا هذا القرآن فكانت تلاوته اكثر من دعائه،و دعا هذا فكان دعاؤه اكثر من تلاوته،ثمّ انصرفا في ساعة واحدة فأيّهما أفضل،قال:كل فيه فضل كل حسن،قلت اني قد علمت انّ كلا حسن و انّ كلا فيه فضل،فقال:الدعاء أفضل أما سمعت قول اللّه عز و جل وَ قٰالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ هي و اللّه العبادة هي و اللّه أفضل الحديث،و قد جعل بعضهم هذا الفرد الخاص من جملة الأفراد المستثناة فردّ عليه شيخنا البهائي طاب ثراه بقوله ما تضمنه من تفضيل الدعاء على قراءة القرآن في الصلاة لا يدلّ على تفضيل المستحبّ على الواجب فلعل المراد بالقراة ما عدا القراءة الواجبة ان قلنا باستحباب السورة او المراد بالدعاء القنوت ان قلنا بوجوبه و ان اريد بالقراءة و الدعاء الواقعان بعد الصلاة في تعقيبها فلا إشكال،هذه كلامه و لا يخفى ما فيه اذ القول بوجوب القنوت نادر،كما ان القول بأستحباب السورة خلاف المشهور،و قد خطر بالبال جواب عن أصل السؤال،و حاصله انّ قراءة السورة و ان وصف بالوجوب من حيث حصول القراءة في ضمنها لكنّها توصف بالأستحباب ايضا من حيث الطول و القصر و غيرهما من الأعتبارات،و من ثم قال الأصحاب رضوان اللّه عليهم تبعا للأخبار:يستحب قراءة سورة كذا فهي من حيث انّها سورة طويلة توصف بالحكمين الوجوب و الأستحباب لكن كل واحد بأعتبار فيكون عليه السّلام قد فضل الدّعاء المستحب على قراءة السورة مثلا لكن لا من حيث الوجوب وجهته،بل من جهة الأستحباب و اعتباره اذ السورة الطويلة مثلا يثاب عليها صاحبها مرتين،مرّة لحصول الواجب في ضمنها و مرة اخرى بكونها أطول من غيرها فتكون مستحبة،و بالجملة فهو تفضيل مستحب على مثله،و هذا كلام وقع في البين فلنرجع الى تمام كلامنا السابق فنقول:

انّه قد تعارف في بعض البلاد ان يسلّم زيد مثلا على عمر ابتداء فلو ترك عمر و الأبتدار بالتسليم نظرا الى الرسوم المتعارفة لا من جهة التّحقير فالظّاهر انّه لا بأس به نعم قد فوّت على

ص:27

نفسه مزيد الثواب،و العلة في توفير ثواب المسلم على المجيب انّ المسلم هو السبب في حصيل الثواب للمجيب فمن هذا زاد عليه.

الأمر الثالث في الجلوس في المجالس و التّصدّر فيها و تحقير الفقير بحيث لا يرضى الغير بجلوسه في قرب منه،كما روي عن الصادق عليه السّلام قال:جاء رجل موسر الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نقيّ الثوب فجلس الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فجاء رجل معسر درن (1)الثّوب فجلس الى جنب الموسر،فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:خفت ان يمسك من فقره شيء،قال:لا خفت ان يصيبه من غناك شيء،قال لا،قال:فخفت ان يوسخ ثيابك،قال لا،قال:فما حملك على ما صنعت؟فقال يا رسول اللّه انّ لي قريبا(ينا)يزيّن لي كلّ قبيح و يقبح لي كل حسن،فقد جلت له نصف مالي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للمعسر أتقبل؟قال:لا،فقال له الرجل و لم؟قال اخاف ان يدخلني ما دخلك،فهذا ايضا نوع من انواع العجب و أفراده.

الأمر الرابع في المحاورات و المكالمات،فان كثيرا من الناس من يعبّر عن نفسه بالعبارات الموجبة للتعظيم و التكبر كأن يقول انا أمرت و أنا نهيت الى غير ذلك من العبارات الظاهرة في الفخر و التعظيم،و قد روي ان رجلا جاء الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدّق عليه الباب، فقال من بالباب؟فقال انا فغضب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله،فخرج و هو يقول من القائل أنا و هي لا تليق الاّ باللّه الّذي يقول أنا الجبار أنا القهّار أنا الخالق،ثم قال:صلّى اللّه عليه و آله و سلم ان في رأس كل واحد من الناس سلسلتين،فواحدة من رأسه الى العرش و طرفها في يد ملك جالس هناك،و الأخرى تنتهي الى تحت الأرض و طرفها في يد ملك هناك ايضا،فاذا تواضع للّه قال اللّه سبحانه للملك الذي في العرش قد واضع فلان فارفعه بين الناس حتى تكون مرتبته الى العرش،و اذا تكبّر قال اللّه سبحانه للملك الآخر أخفضه بين الناس و اهبط درجته حتّى ينتهي حاله الى ما تحت الثّرى.

الأمر الخامس في تبختره في المشي إمّا بأن يضرب الأرض برجله كأنّه يريد أن يخرقها،او يمشي الهوينا (2)متبخترا متخيّلا في المشي جاذبا عنقه،و ربّما قلب عمامته فوق وجهه كما يفعله المتكبرون،كأنّه يريد ان يبلغ السماء حتى ان الأرض تخاطبه و تقول يا متكبر تمشي على وجهي بهذه الطريقة فأنا أتقاضى منك اذا وصلت الى بطني،فاذا مات قالت له الأرض هذا الكلام ايضا،ثم تضغطه ضغطة شديدة حتى تخرج مخ رأسه من تحت أظافير رجليه.و روي انّ ذا النون

ص:28


1- (1) درن درنا الثوب:علاه الوسخ.الدرين الثوب البالي.
2- (2) الهوينا التؤدة و الرفق،و هي تصغير الهوني و الهوني تأنيث الأهون.

المصري رأى(رجلا خ)عبدا اسود متزرّا بأزار يتبختر عند البيت في جماعة من أتباعه،فقال من انت و ما هذا التبختر؟قال كيف لا أتبختر و أنا عبد ملك مكة،قال ذو النون فأنا بالتّبختر أولى لي منك فإنّي عبد ملك الناس و يوم الدين،و بالجملة فأنواع التكبّر كثيرة و أكثرها يرجع الى القصد و النية،و كلها تشترك في ذلك العذاب الشديد نعوذ باللّه من سيئات الأعمال و مساوىء الأخلاق.

نور يكشف عن تحريم معونة الظالمين مطلقا

اعلم ايّدك اللّه و سددك و الى كل خير وفقك و ارشدك ان المقصود من ايجاد هذا العالم انّما هو التّعاون على البر و التقوى و قضاء مآرب بعضهم بعضا حتّى يتم أمر الأجتماع و الأئتلاف، و من ثمّ ورد الحث على مثل هذا حتّى في الأمور القليلة،فقال سبحانه فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاٰتِهِمْ سٰاهُونَ ، اَلَّذِينَ هُمْ يُرٰاؤُنَ ، وَ يَمْنَعُونَ الْمٰاعُونَ و المراد بالماعون الالآت التي يحتاج اليها الجيران و المؤمنون مثل الظروف و الفروش و الفأس و المسحاة و غيرها،فقرن من منع جيرانه و إخوانه من إعارة هذه الأمور بالمرائي الذي جعل له الويل،و هو واد في جهنم،و في ظاهره دلالة على وجوب اعارة هذه الالآت،و حيث انعقد الأجماع على الأستحباب قلنا به و الاّ فالقول بالوجوب لا يخلو من وجه خصوصا اذا استلزم الهوان به و قصد تحقيره و مذلته،فان القول بتحريم المنع قوي جدا،لما عرفت في النور السابق،و لا ريب ان الظلم و التّعدي ممّا يخل بنظام نوع الأنسان، اذ فيه تفريق ما أجتمع و من ثم وقع في الشّرع الأمر بالأخذ على يدي الظالم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:أنصر أخاك ظالما كان او مظلوما،فقيل يا رسول اللّه ننصره مظلوما فما بالنا ننصره ظالما؟فقال:خذوا على يديه و امنعوه عن الظلم فهذه نصرتكم لأخيكم،و كما حرّم الظلم حرّم معونة الظالمين أمّا الذي له مدخل في الظلم فقد انعقد الأجماع على تحريمه،مثل ان يكون صاحب سيف أو سوط عند الظالمين،أو يكون يكتب لهم المظالم او يبعثونه في تحصيلها،الى غير ذلك،اما الذي لا مدخل له في الظلم كالخيّاط يخيط لهم ثيابهم و البنّاء يبني لهم المنازل،او النّجار او الحدّاد و نحوهم فالمشهور بين الأصحاب هو عدم تحريمه،و ناقشهم فيه شيخنا البهائي طاب ثراه و ذهب الى تحريم معونة الظالمين مطلقا،و هو الذي أخترناه في شرح الصحيفة،و لنذكر هنا بعض من الدلائل.

منها قوله تعالى وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ فالركون هو مطلق الميل سواء كان بالقلب او اللسان او الأعضاء و الجوارح أو المعونة او نحوها،فاذا كان بالقلب كان فيه موادّة

ص:29

الظالم،و قد أخبر سبحانه عن أقوام و نعى عليهم هذه الزلّة فقال يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ و لا ريب ان الظالم ممّن نصب الحرب مع اللّه تعالى،و اذا كان باللسان او بغيره من الأعضاء كان فيه مع الموادة الأعانة المحرمة،فيكون قد أتى بحرامين مغلّظين،و قد نفى سبحانه في هذه الآية معونة الظالمين مطلقا،و عقّبها بدخول النار على طريق العذاب،اذ لم يقل و لا تركنوا الى الذين ظلموا فتدخلوا النار،و ذلك انّ دخول النار لا يستلزم مسيّها و العذاب فيها.

روى شيخنا الكليني طاب ثراه عن الوصا في قال:سمعت ابا جعفر عليه السّلام يقول انّ فيما ناجى اللّه عبده موسى عليه السّلام قال:انّ لي عبادا أبيحهم جنتي و أحكمهم فيها،قال:

يا رب و من هؤلاء الذين تبيحهم جنّتك و تحكمهم فيها؟قال:من أدخل على مؤمن سرورا،ثمّ قال:انّ مؤمنا كان في مملكة جبار فولع به،فهرب منه الى دار الشرك،فنزل برجل من أهل الشرك فأظلّه و أرفقه و أضافه،فلمّا حضره الموت أوحى اللّه عز و جل اليه و عزّتي و جلالي لو كان لك في جنتي مسكن لأسكنتك فيها،و لكنها محرمة على من مات بي مشركا،و لكن يا نار هيديه و لا تؤذيه، و يؤتى برزقه طرفي النهار قلت من الجنة؟قال:من حيث شاء اللّه و قوله هيديه على ما في القاموس معناه أصلحي أحواله،فهذا قد دخل النار و لم تمسه،فانظر الى عظم شأن المؤمن عند اللّه سبحانه حيث أدخل المشرك الكافر جنته لأجل ضيافة المؤمن مرّة واحد،فمن أحب المؤمن و أضافه كساه و دمه كيف يكون حاله عند اللّه سبحانه و تعالى.

و روي عن الصادق عليه السّلام قال:انّ اللّه يأمر بأدخال جماعة الى النّار،و يقول لمالك يا مالك قل للنار لا تحرق لهم أيديا لأنهم كانوا يرفعونها الى اوقات الصلوات،و قل للنار لا تحرق لهم وجوها لأنهم كانوا يسبغون الوضوء،و قل للنّار و لا تحرق لهم أرجلا لأنّهم كانوا يمشون بها الى المساجد،فيأتي اليهم مالك فيقول لهم يا أشقياء ما كانت أعمالكم التي دخلتم بها النار؟ فيقولون انّا كنّا نعمل لغير اللّه،فتخطف النار قلوبهم،فهؤلاء ايضا لا تمس النار لهم ابدانا.

و منها ما رواه الشيخ في الحسن عن بن ابي يعفور قال:كنت عند ابي عبد اللّه عليه السّلام اذ دخل عليه رجل من أصحابه،فقال له:أصلحك اللّه انّه ربّما أصاب الرجل منّا الضّيق او الشّدة فيدعى الى البناء فيبنيه او النّهر بكريه و المسناة يصلحها فما تقول في ذلك؟فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام:ما أحب انّي عقدت لهم عقدة،او وكيت لهم وكاء و انّ لي ما بين لابتيها لا و لا مدة بقلم،انّ اعوان الظالمين يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللّه بين العباد،و هذا صريح في تحريم اعانتهم بالمباحات فان شدّا لوكاء و أمثاله ممّا لا مدخل له في الظلم كما قاله العلماء في المثال.

و منها ما رواه الكليني قدس اللّه روحه عن علي بن ابي حمزة قال:كان لي صديق من كتاب بني اميّة،فقال:استأذن لي على ابي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام،

ص:30

فاستأذنت له فأذن له،فلمّا دخل و سلّم جلس،ثمّ قال:جعلت فداك انّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا و أغمضت في مطالبه،فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام:لو لا انّ بني اميّة وجدوا من يكتب لهم و يجيء لهم الفيء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا، و لو تركهم الناس و ما في ايديهم ما وجدوا شيئا الاّ ما وقع في ايديهم الحديث و هو شامل للمباح و المحرم بل و المستحب ايضا لمكان قوله و يشهد جماعتهم،و قد أغرب العلاّمة(ره)في التذكرة حيث أستدلّ بهذه الأخبار على ما ذهب اليه من تخصيص التحريم بمعونتهم بالمحرّم.

و منها ما رواه أهل كتب الرجال عند ترجمة صفوان بن مهران روى الكشّي عن الحسن بن علي بن فضال قال:حدثني صفوان بن مهران الجمّال قال:دخلت على ابي الحسن الأول عليه السّلام،فقال لي:يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا،فقلت أي شيء جعلت فداك؟قال:اكراهك جمالك من هذا الرجل،يعني هارون،قلت و اللّه ما أكريته أشرا و لا بطرا و لا للصيد و لا للهو،و لكن أكريته لهذا الطريق يعني طريق مكّة،و لا أتولاّه بنفسي و لكن ابعث معه غلماني،فقال لي:يا صفوان أيقع كراك عليهم قلت نعم جعلت فداك،قال:فقال لي أ تحبّ بقاءهم حتى يخرج كراك عليهم قلت نعم،قال فمن احب بقاءهم فهو منهم،و من كان منهم كان ورد النار،قال:صفوان فذهبت و بعت جمالي عن آخرها فبلغ ذلك هارون،فدعاني فقال لي:يا صفوان بلغني انّك بعت جمالك؟قلت نعم،فقال:و لم؟قلت انا شيخ كبير و انّ الغلمان لا يقوم بالأعمال،فقال:هيهات هيهات انّي لأعلم من أشار اليك بهذا موسى بن جعفر،قلت ما لي و لموسى بن جعفر،فقال:دع هذا عنك فو اللّه لو لا حسن صحبتك لقتلتك،و هذا الحديث أبلغ من الأخبار السابقة فانّه بظاهره يعطي تحريم معونتهم حتى في الأمر الواجب كسفر مكة و أمثاله.

و منها ما سنح بالبال و هو انّ الأمور التي ذكروها و قسّموها قسمين و جعلوا منها ماله مدخل في الظلم،و منها ما ليس كذلك ليس على ما ينبغي فانّ الأمور الّتي ذكروها ممّا لها مدخل في الظلم كلّها،و ذلك انّ الخياطة و البنائية و نحوهما من الأمور التي جعلوها من القسم الثاني لو تركها أهلها لأقلع الظالمون عمّا هم فيه،و ذلك انّ الخيّاط لو ترك الخياطة ثياب الظالمين و البناء ترك بناء منازلهم لبقوا بلا منزل و لا ثياب و كذا باقي الحرف و أهل الكسب،فدل على ان كل هذه الأمور ممّا لها مدخل في الظلم لكن بعضها أقرب الى الظلم من بعض،كالكتابة في ديوانهم فانها اقرب الى الظلم من الحدادة و الخياطة،و من ثم صارت الكتابة معونة في العرف دون الثانية و الا فالكل من واد واحد مع انّك قد عرفت انّ الأمور التي جعلوها من القسم الثاني يجب تحريمها من جهة اخرى ايضا و هي انها مستلزمة لوداد من حاد اللّه و رسوله فهو حرام على كل وجه،و منها

ص:31

انه يرد على التخصيص اعتراض و هو ان اعانة كل احد بالمحرم محرمة سواء كانت اعانة الظالمين ام غيرهم،بل فعل المحرم في نفسه حرام سواء كانت اعانة او غيرها.

قال شيخنا البهائي(ره):و اما ما ينقل عن بعض الأكابر من انّ خياطا قال له:انّي اخيط للسلطان ثيابه فهل تراني داخلا بهذا في أعوان الظلمة؟فقال:الدّاخل في اعوان الظلمة من يبيعك الأبر و الخيوط و أمّا أنت فمن الظلمة أنفسهم فالظّاهر انه محمول على نهاية المبالغة في الأحتراز عنهم و الأجتناب عن تعاطي امورهم و الاّ فالأمر مشكل جدا انتهى.

أقول و على ما ذكرناه لا يكون هذا من باب المبالغة و لا من نهايتها لأنّ بيّاع الأبر و الخيوط اذا علم انّ الخيّاط يخيط ثياب الظالم لا يجوز له ان يبيع منه،و لو أصرّ الناس كلهم على هذا لتعطلت أمور الخياط فترك الخياطة،و اذا ترك الخياطة أقلعوا عن الظلم و عزلوا أنفسهم عمّا ليس لهم من المناصب الجليلة،و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:اذا كان يوم القيامة ناد مناد أين الظلمة و أشباه الظلمة حتى من برى لهم قلما او لاق لهم دواة (1)قال فيجتمعون في تابوت من حديد ثم يرمى بهم في جهنم،اذا تحققت هذا كلّه فاعلم انّه قد بقي الكلام في مقامين:

الأول في تحقيق معنى الظالم الذي يحرم ماونته مطلقا او على وجه،فنقول:المفهوم من الكتاب و السنة انّ للظالم اطلاقات،منها اطلاقة على الكفّار و المشركين قال:سبحانه الا ان اَلْكٰافِرُونَ هُمُ الظّٰالِمُونَ و منها اطلاقة على كل من خالف مذهب الأمامية حيث انهم ظلموا عليا عليه السّلام حقّه بقولهم انّ غيره أفضل منه،و ترتيبهم الخلفاء على ما ذكروه،و منها اطلاقة على حكامهم و سلاطينهم حيث ظلموا الأئمة عليهم السّلام مناصبهم و ظلموا الرعية و ظلموا أنفسهم أيضا،فأبو بكر و عمر و عثمان من الظالمين بالأمور المذكورة كلّها،و منها اطلاقة على كل سلاطين الجور الذي لم يكن لهم اذن من الأمام عليه السّلام لا عموما و لا خصوصا كالمجتهدين و ان كان اولئك السلاطين من الشّيعة قد حكموا بالجور لا بالعدل،و منها اطلاقة على كل من يحكم بجور سواء كان في الأحكام الشرعية ام غيرها سواء كان منّا او منهم،فيدخل فيه القضاة و أهل الفتوى من الفريقين.

و منها اطلاقة على البالغ في انتهاك الذنوب حيث انّه ظلم نفسه،و آيات القرآن متكثّرة بهذا الأطلاق كقوله(الا من ظلم نفسه) و قوله اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الى غير ذلك،فيدخل فيه جميع أهل المعاصي من جميع فرق الأسلام و ان كان من الشيعة،و الشّائع في العرف اطلاقه على اهل الحكم الذين يحكمون بالجور سواء كانوا منّا او من غيرنا و سواء كان حكمهم في الأحكام

ص:32


1- (1) لقت الدواة أصلحت مدادها.

الشرعية ام في الأحكام العرفية،فيكون مخصوصا في الحكّام و القضاة،و لا يبعد ارادة المعاني كلّها فإنّك قد عرفت ما ورد من الأخبار الواردة في عقاب من أعان تارك الصلاة او سلّم عليها و تبسّم في وجهه و كذا شارب الخمر و قاطع الرحم و غير ذلك من الذنوب المغلّظة،و حينئذ فيحرم اعانة كل هؤلاء بما يسمى اعانة عرفا كما قاله بعض المحققين او بكل ما أطلق عليه الأعانة لغة كما هو الأولى،و في هذا بلية عامّة لعموم البلوى به،و ذلك ان قضاة الشيعة خصوصا في هذه الأعصار الغالب عليهم الجهالة بالأحكام الشّرعية و أخذ الرشاوى و العمل بالأحكام موافقا لمن كان لهم اليه ميل من الخصمين،فقد شاهدنا بعض القضاة اذا وردت عليه الدعوى يحكم بها بعد أخذ الرشوة،فقال رجل من الصلحاء:لو ان هذا الخصم الآخر أعطاك أكثر من ذلك الرجل كيف كنت توجه له الحكم،قال:لو أعطاني أكثر لكان قلت كذا و كذا،فصوّر صورة لم تكن تخطر على خاطر الشّيطان،و قد يكون القاضي رجلا يتجنب الرشاوي لكن ليس له أهليّة الفتاوى في الأحكام،فهذا ايضا من قضاة الجور و ان قضى بحق اتفاقا،بل و لو قضى بحق من وجه الكتاب الفقهي لأنّ المشهور بين علمائنا رضوان اللّه اللّه عليهم انّه لا يجوز تقليد الميت،فانّ الخلاف موجود في أكثر مسائل الفقه،و لو طالع كتابا آخر كان قد رأى مذهبا آخر و هلّم جرّا،بل و لو طالع كتابا آخر لصاحب هذا الكتاب لوجه الأختلاف كما لا يخفى على من تتّبع كتب العلامة قدّس اللّه روحه،فانّه قلّما ذهب في كتابين الى اجتهاد واحد بل له في كتاب واحد اجتهادات مختلفة.

و بالجملة فاعانة مثل هؤلاء القضاة معونة الظالمين أيضا،و من جملة اعانتهم الأختلاف الى مجالسهم الذي يحصل منه ترويج أقوالهم و اقبال عوام الناس عليهم قائلين لو لم يكن هذا القاضي من أهل هذا المنصب لما قصده فلان و جلس معه و لم ينكر عليه،و من الأعانة ايضا السّعي له عند السلطان او من نصّبه لنصب القضاة و كذا قرضه الدّراهم ليستعين بها على اتمام اموره، و من الأعانة المحرمة الأختلاف اليه في الدعاوى و أخذ الأموال بحكمه و ان كان حقّا،روى شيخنا الكليني عن عمر بن حنظلة قال:سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما الى السلطان او الى القضاة أ يحلّ ذلك؟قال:من تحاكم اليهم في حق او باطل فانّما تحاكم الى الطّاغوت،و ما يحكم له فانّما يأخذ سحتاوان كان حقا ثابتا له،لأنّه أخذ بحبكم الطاغوت و قد أمر اللّه أن يكفر به،قال:اللّه عز و جلّ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ قلت كيف يصنعان،قال:ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا،و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانّي قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكم فلم يقبل منه فانما استخف بحكم اللّه و علينا ردّ،و الراد علينا الرادّ على اللّه،

ص:33

و هما على حد الشرك باللّه،قلت فان كان كل واحد أختار رجلا من أصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما و كلاهما اختلف في حديثكم قال:الحكم ما حكم به أعدلهما و أوفقههما و أصدقهما في الحديث،و أورعهما و لا يلتفت الى ما يحكم به الآخر،قال:قلت فانّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد(لا تفضل واحدا)منهما على صاحبه،قال:

فقال ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكمنا به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشّاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك،فانّ المجمع عليه لا ريب فيه،و انّما الأمور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع،و أمر بين غيه فيجتنب،و أمر مشكل يردّ علمه الى اللّه تعالى و الى رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:حلال بيّن و حرام بيّن،و شبهات بين ذلك،فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات،و من أخذ الشّبهات ارتكب المحرمات و هلك من حيث لا يعلم.

قلت فان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم،قال:ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنة و خالف العامّة فيؤخذ به و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السنة و وافق العامة،قلت جعلت فداك أ رأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنّة و وجدنا الخبرين موافقا للعامة ففيه الرشاد،قلت جعلت فداك فان وافقهما الخبران جميعا قال:ينظر الى ما هم اليه أميل حكّامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر،قلت فان وافق حكّامهم الخبرين جميعا،قال:ان كان ذلك فارجه حتى تلقى امامك فانّ الوقوف عند الشبهات خير من الأقتحام في الهلكات.

و قوله عليه السّلام قد روى حديثنا و قوله حلالنا و حرامنا و ان كان مصدرا مضافا فيفيد الموم الاّ ان القرينة دالّة على انّ المراد بعض الأحاديث لكن ليس المراد الأحاديث المتعلّقة بخصوص تلك الدعوى،بل المراد ما يتعلق بالأحكام غيرها ايضا،و ذلك مثل رواة الحديث في الصدر السالف،و فائدة روايته للأحاديث العمل بها في تلك الدعوى الواردة عليه،فلو كان ممّن روى الأحاديث لكن لم يعمل بها اعتبارا بالأغراض الدنيوية كان من قضاة الجور ايضا،و قوله عليه السّلام فانّي قد جعلته عليكم حاكما ممّا استدل به الأصحاب على انّ المجتهدين منصوبون من قبله عليه السّلام للقضاء فهم و كلاؤه و المعبّرون عنه في هذه الأعصار.

اقول بل فيه دلالة ايضا على انّ من روى الأحاديث و عرف مواقعها كان له منصب القضاء و ان لم يكن مجتهدا بالمعنى الجديد للمجتهد،فانّ المعنى المعروف منه في الصّدر السالف هو بذل جهده و طاقته في دراية الأحكام و الأطلاع عليها حتّى ان قول الحلبيّين(ره)بوجوب الأجتهاد عينا يرجع الى هذا لا الى الأجتهاد الأصطلاحي كما لا يخفى و قوله عليه السّلام المجمع عليه من أصحابك الظاهر انّ المراد بهذا الأجماع الأتفاق في نقل الرواية لا الأتفاق في الفتوى كما ذهب

ص:34

اليه جماعة من الأصحاب بقرينة ما سيأتي،و لأنّ الكلام انّما هي في تعارض الروايات و ترجيحها لا في تعارض الأقوال.

و قوله عليه السّلام و شبهات بين ذلك الظّاهر ان المراد بالشبهات هنا ما تعارض فيه الدليلان من غير اهتداء الى التّرجيح بينهما كما يقع كثيرا في كتب الحديث،و قوله عليه السّلام ما خالف العامة ففيه الرشاد ممّا لا ريب فيه حتى انّه روي انّ رجلا من أهل الأهواز كتب اليه عليه السّلام و هو في المدينة انّه ربما أشكل علينا الحكم في المسئلة التي يحتاج اليها و لا تصل الأيدي اليك في كل وقت فما ذا تصنع؟فكتب اليه عليه السّلام اذا كان الحال على ما ذكرت فأت القاضي البلد و سله عن تلك المسئلة،فما قال:لك فخذ بخلافه فان الخير(الحقّ خ)في خلافهم.

و قوله عليه السّلام ينظر الى ما هم عليه أميل(اه)مشكل بالنّظر الينا و ذلك انّ اعصارهم عليهم السّلام مختلفة فقد كان في عصر كل امام و زمان كل سلطان من سلاطين الجور من فتاوى الفقهاء الأربعة و من يحذو حذوهم قول واحد و قد خفي علينا في هذه الأعصار المشهور من تلك الأقوال في أزمانهم،فانّ أقاويل ابي ابي حنيفة قد كانت مشهورة في اعصار بعض الخلفاء و أقوال مالك كانت مشهورة في بعض الأعصار ايضا و كذا أقوال الشافعي و الحنبلي ثم احتاج حمل الأخبار على التقية الى تفحّص تام عن أقوال الفقهاء الأربعة التي كانت مشهورة في أعصار ذلك الأمام عليه السّلام الذي نقل الحديث عنه،فالمجتهد يحتاج الى الأطّلاع على هذا و ان كان متعسرا، و قوله عليه السّلام فارجه،الهاء ضمير المفعول أي أخّر ذلك الأمر حتى تلقى امامك،و في حديث آخر قال:اذا كان ذلك فأيّهما أخذت به من باب التّسليم وسعك،وجه الجمع بينهما اما ان يحمل هذا على ما اذا كان الأمام عليه السّلام ظاهرا يتمكن من الوصول اليه كما يدل عليه قرينه المقال و ذاك(لك)على مثل هذه الأعصار،و اما ان يحمل هذا التأخير على ما اذا كانت الأخبار الواردة في المعاملات و حقوق النّاس،و الأخذ بأيّهما شاء يكون محمولا على احكام العبادات،و هذا هو الذي فهمه شيخ الطائفة(ره)و جعله وجها للجمع بين هذين الخبرين،و امّا ان يحمل الأرجاء على ما اذا أمكن الأحتياط فيه كأكثر مسائل العبادات،و الأخذ بأيهما شاء على ما اذا لم يكن فيه ذلك،كما اذا ترددّ الحكم بين الوجوب و التّحريم،و بالجملة فالقاضي يحتاج الى اطّلاع على كل ما في هذا الحديث و من لم يكن كذلك لم يكن أهلا للقضاء،فلا يجوز ان يجعل قاضيا و لا يجوز التّحاكم اليه،بل و لا الجلوس عنده،روى الشيخ قدّس اللّه روحه عن محمّد بن مسلم قال:مرّ بي ابو جعفر عليه السّلام و ابو عبد اللّه عليه السّلام و انا جالس عند قاض بالمدينة فدخلت عليه من الغد،فقال لي:ما مجلس رأيتك فيه أمس،قال:قلت جعلت فداك انّ هذا القاضي لي مكرم فربما جلست اليه،فقال لي:و ما يؤمنك ان تنزل اللّعنة فتعم من في المجلس.

ص:35

و اما السلاطين و الأمراء الجائرون سواء كانوا من العامة او الخاصة فالتردّد اليهم و الأختلاف الى مجالسهما ذا لم يكن لضرورة شرعية فيه المعونة و الوداد،و الحضور أوقات حكم الظلم فقد اشتمل على ثلاث محرّمات مغلّظة.

الأمر الثاني في جواز أكل طعامهم و قبول عطاياهم اعلم ان المنقول من اطوار الأئمة عليهم السّلام انهم كانوا يأكلون طعامهم و يقبلون اموالهم،و قد ذكر الفقهاء رضوان اللّه عليهم انّ عطايا الحكّام حلالة على الآخذ لها و ان كان الأثم على الحكام،كما قال:عليه السّلام لك المهنّا و عليهم الوزر،نعم قيدوها بما اذا لم تعلم بعينها انها من مال فلان،أقول قد دلّت الأخبار الكثيرة على انّ ما يأخذ السلاطين الجور باسم الخراج و المقاسمة و ان كان اقل او اكثر من القدر الواجبى الذي يأخذه الأمام يجوز شراؤه من العمّال و ان كانت عند صاحبه و علل في الرواية بأنك اذا لم تأخذه أنت لم يرجعوه الى صاحبه بلا بأس لشرائه منهم و قبول عطيته منهم و ان علم صاحبه،نعم اذا أخذ الحاكم و السّلطان شيئا زائدا على القدر المقرر كالجرائم و نحوها فاذا اعطاها احد لا يجوز له أخذها،و حينئذ فقولهم جوائز الظالم حلال اذا لم تعلم بعينها ان ارادوا به الجوائز التي يعطونها الناس و يأخذونها من مال الخراج فالظاهر جواز أخذها و ان علم صاحبها بعينه، و لا فرق بين الجائر من الطرفين بل ذهب شيخنا الشهيد الثاني قدس اللّه روحه الى انّ ما يأخذه السلطان الجائر منهم اقرب الى الحل و الأباحة ممّا يأخذه الجائر منا،و ذلك انّهم يزعمون انّ الأولى الأمر المأمور بإطاعتهم في الكتاب العزيز في قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ هم السلاطين و الحكّام فهم يجب اطاعتهم عندهم و يجب دفع مال الخراج اليهم فكلّما يأخذونه من الرعايا يزعمون انّه حلال عليهم و الرّعية ايضا تعتقد انّه يجب عليهم دفعه اليهم فالآخذ و المأخوذ منه يزعمون انّه حلال.

و قد قال عليه السّلام:ديّنوهم بما دانوا به انفسهم أي الزموهم و عاملوهم بما أعتقدوا حقيّته في دينهم كأوانهم من اليهود و النصارى فانّ الجزية اذا أخذت منهم أجريت عليهم(عليها) أحكامهم بخلاف ما يأخذه سلطان الشيعة من الرّعايا فانّه يعتقد انّه ظالم يأخذه،و كذلك اعتقاد المأخوذ منهم من رعايا الشّيعة،و لو أعتقد ذلك السلطان انّه حلال له لم يكن من الشيعة الأمامية لأن اولي الأمر المأمور باطاعتهم انما هم الأئمّة المعصومين من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و امّا في هذه الأعصار فلمّا لم يكن الأمام عليه السّلام ظاهرا كان نوابه و قوّامه هم من الفقهاء و المحدّثون بما عرفت في مقولة عمر بن حنظلة من قوله عليه السّلام في شأن من روى احاديثهم و عرف حلالهم و حرامهم فاني قد جعلته عليكم حاكما و حرم(تحريم)الردّ عليه و عدم قبول قوله فالآخذ هنا و المأخوذ منه يعتقد ان هذا المأخوذ باسم الخراج و المقاسمة حرام،لكن اكثر الأصحاب

ص:36

رضوان اللّه عليهم نظروا الى اطلاق الأخبار او عمومها الواردة بإباحة ما يعطيه الجائر من غير فرق بين ان يكون من الشيعة او من غيرهم فأطلقوا الحكم نعم يمكن ان يقال انّ عمّال السّلطان اذا لم يأخذوا الا ما تعارف أخذ السّلطان له من الخراج و المقاسمة كان بالنسبة اليهم اقرب الى الأباحة،و ذلك لأنهم اذا لم يأخذوه من الرّعايا بعث السّلطان لغيرهم لكن اين يوجد مثل هذا العامل قبّح اللّه الجميع،و ذلك انّ اهل الجور من الحكّام و القضاة لو عزلوا انفسهم و رفعوا ايديهم عن هذه المناصب لوجب على الأمام عليه السّلام ان يظهر حتى لا تعطّل امور المسلمين و لا يختل نظام الكون،لكن لمّا جرى نظام الدنيا و تمشى على هذا الوجه و ان كان اكثره على البطلان تأخّر أمره عليه السّلام الى ان يأذن اللّه سبحانه به عجّل اللّه فرجه بحق محمّد و آله.

نور يكشف عن الكذب و عن عظم خطره و عن توابعه و لواحقه

اعلم وفقك اللّه تعالى ان الكذب من أعظم الذنوب حتّى انّه قد روي انّ المؤمن يزني و يلوط و يسرق،و يشرب الخمر لكنّه لا يكذب،فيكون قبحه في الشرع أشدّ من قبح الزّنا و شرب الخمر،و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال:المؤمن اذا كذب من غير عذر لعنه سبعون ألف ملك،و خرج من قلبه نتن حتّى يبلغ العرش فتلعنه حملة العرش و كتب اللّه عليه بتلك الكذبة سبعين زنية اهونها كمن يزني مع امه.

روى الكليني طاب ثراه في الصحيح عن ابي جعفر عليه السّلام قال:ان اللّه تعالى جعل للشّر اقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشّراب،و الكذب شرّ(أشرّخ)من الشّراب،و ذلك لأنّ المفاسد المترتبة على الكذب أزيد من مفاسد الشّراب،لأنّ الكذبة الواحدة ينشأ منها أهراق الدماء بغير حق و نهب الأموال و لأنّ الغالب في الكذب وروده في حق النّاس و الشراب حق اللّه سبحانه و هو بالعفو اولى و أحرى،و لأنّه يسلب الأيمان و يمنعه من الأستقرار في القلب و الشّراب انّما يمنع من قبول الصلاة اربعين يوما لمكان بقاءه في الجوف هذه المدة،قال امير المؤمنين عليه السّلام:لا يجد عبد طعم الأيمان حتى يترك الكذب هزله و جدّه،و لأنّ الكاذب قد لا يصدق في القول فتختل اموره بل أمور غيره لأنه يحتاج اليه في الشّهادات و الأقرارات و الوكالات و المعاملات،و قال عليه السّلام:ينبغي للرجل المسلم ان يجتنب مؤاخاة الكذب،فانّه يكذب حتى يجيء بالصدق فلا يصدّق.

و اما شارب الخمر فتوبته اذا احتيج اليه في هذه الأمور ان يقول استغفر اللّه و يظهر النّدامة،و الكذّاب لو قال:هذا لم يصدّق،و يحصل الريب لحاكم الشرع عند اداء الشّهادة و نحوها،و شهادة المرتاب فيه لا تقبل شرعا،لأنّ النتيجة الحاصلة من الكذب انّما هالبخل لأنّ

ص:37

أقوى دواعي الكذب و أسبابه انّما هو دناءة الهمّة و الحرص و الخسّة،و النّتيجة الحاصلة من الشّراب انّما هو علوّ الهمّة و إعانة الناس بأنواع العطايا و ان كان عطاء في غير محلّه لكنّه اولى من البخل،و قد يصل الى المستحق أحيانا،و لأنّ الغالب على أهل الشراب الخجالة و الحياء من الناس لعلمهم بقبح ذنبهم،و الكذّاب عند نفسه ليس خجلا و لا له حياء من الناس و لا ندامة،و لأنّ الشّراب ربّما يتداوى به عن بعض الأمراض كما أشير اليه في قوله سبحانه وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ و من ثمّ جوّز بعض فقهائنا التّداوي به عند الضّرورات،و الذي يرجّح في النّظر هو عدم جواز التّداوي بالمحرمات لقوله عليه السّلام ما جعل اللّه الشفاء في حرام قطّ و ما في معناه،و ما دلّ من الأخبار على جواز التّداوي به محمول على التقية،و اما الكذب فليس فيه سوى محض الضرر مع ان شارب الخمر قرن بعابد الصّنم في قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ، و قدّم فيه الخمر للإهتمام بتحريمه.

و قال عليه السّلام:شارب الخمر كعابد الوثن،و من بات سكرانا بات عروسا للشيطان، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:و الذي بعثني بالحق نبيّا ان شارب الخمر يموت عطشانا،و يمكث في القبر عطشانا،و يبعث يوم القيامة عطشانا،و ينادي و اعطشاه ألف سنة،فيؤتى بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب،فينضح وجهه و تتناثر أسنانه و عيناه في ذلك الأناء فليس له بدّ من ان يشرب فيصهر ما في بطنه،و من كان في قلبه آية من القرآن ثم صب عليه الخمر يأتي كل حرف يوم القيامة فيخاصمه بين يدي اللّه عز و جل،و من كان له القرآن خصما كان اللّه خصما و من كان اللّه له خصما كان في النار.

و قال عليه السّلام:من بات سكرانا عاين ملك الموت سكرانا،و دخل القبر سكرانا، فوقف بين يدي اللّه سكرانا،فيقول اللّه تعالى مالك؟فيقول انا سكران فيقول اللّه تعالى أ بهذا امرتك اذهبوا به الى السكران،فيذهب الى جبل وسط جهنّم في عين تجري مدّمة (1)و دما و لا يكون طعامه و شرابه الاّ منه،و عنه عليه السّلام من أطعم شارب الخمر لقمة من الطعام او شربة من الماء سلّط اللّه عليه في قبره حيات و عقارب طول اسنانها مائة ذراع و أطعمه من صديد جهنم يوم القيامة،و من قضى حاجته فكأنما قتل ألف مؤمن،او هدم الكعبة ألف مرة،و من سلّم عليه لعنه سبعون ألف ملك،و قال عليه السّلام:لعن اللّه شارب الخمر،و عاصرها و ساقيها و حاملها و المحمول عليها.

ص:38


1- (1) بالكسر و تشديد المهملة ما يجتمع في الجرح من القيح الغليظ منه.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:ما من أحد يبيت سكرانا الاّ كان للشيطان عروسا الى الصباح فاذا أصبح وجب عليه ان يغتسل من الجنابة،فان لم يغتسل لم يقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا،و لا يمشي على وجه الأرض أبغض الى اللّه من شارب الخمر،و قال عليه السّلام:

من سلّم على شارب الخمر،او عانقه او صافحه أحبط اللّه عليه عمل اربعين سنة.

فان قلت اذا كان هذا حاله فكيف صار غيره أقبح منه في العرف العام،قلت الذنب اذا كان مأنوسا كثير الأستعمال ربّما ارتفع قبحه من الأنظار بخلاف غيره من المعاصي،و لذا ترى اللواط مع انه أفحش الذنوب غير قبيح في بعض البلاد أهل الخلاف لإطباق الأكثر على فعله مع انه حرام عندهم،و لهذا لم يجعل الشارع للكذب حدّا شرعيا كالشّراب و نحوه اذ هو كثير في محاورات الناس،و ايضا فإثباته لا يخلو من نوع اشكال،و ذلك ان الكاذب يمكنه التّخلص من كذبه بوجوه كثيرة مع قوله عليه السّلام ادرؤا الحدود بالشبهات.

و اعلم ان الكذب على قسمين،جليّ و خفي،فاما الجلي فهو أقسام أوّلها الكذب على اللّه و على رسوله و الأئمة عليهم السّلام،و هذا يقع على وجوه الوجه الأول ان يقول قال:اللّه كذا،و قال:الرسول كذا،و قال:الأمام كذا،فيكذب عليهم في حكم شرعي او غيره،و هذا يقع من علماء السوء كثيرا،و لقد كذّب على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حياته و بعد موته حتى وضعوا من الأكاذيب أديانا مختلفة،و ليت شعري ما كان دين النبي،أ هو دين أبي حنيفة؟ام الشافعيّ أم المالكي ام الحنبلي؟و لا يقدرون ان يقولوا ان دينه كان واحا منها نعم يمكنهم ان يقولوا انّ دين ابي حنيفة كان نقيض دين النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه كان يجلس في مسجد الكوفة و يقول في فتواه قال:علي و أنا أقول،و دين علي هو دين النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلا ريب،و هذا الوجه من الكذب يقع من كلّ أحد حتّى من المؤمنين و الشّيعة.

الوجه الثاني ما أعتاده الناس في المحاورات من قولهم اللّه يعلم،و الرسول او الأمام انّي ما فعلت ذلك الشيء،او فعلته و هو كذب،و من هذا روي انّ الرجل اذا قال:اللّه يعلم و هو كاذب يقول اللّه سبحانه للملائكة يا ملائكتي انظروا الى عبدي لم يجد أحدا أعجز مني يحيل هذه الكذبة عليه حتى أحالها على علمي،فأنا أفعل به كذا و كذا من الهوان و العذاب.

الوجه الثالث ان يكذب ثم يروّج كذبه بالحلف باللّه او النبي او الأمام عليه السّلام و هذا يقال له الكذب باللّه و هو الذي يذر الدّيار بلاقع من أهلها،و هو حالقة الدّين يعني انّه يحلق الدّين و يمحوه كما يمحو الموسى الشعر،و في الرواية لا تحلف باللّه لا صادقا و لا كاذبا،نعم روي في حديث آخر انّ الدّعوى اذا كانت ثلاثين درهما و احتاجت الى المين فله الخيار في الحلف و ان كانت أقل فلا يحلف،و الوجهان الأولان بل الثلاثة هي التّي تضر بالوضوء و الصوم،روى الشيخ(ره)انّ

ص:39

ابي بصير قال:سمعت ابا عبد اللّه عليه السّلام يقول الكذبة تنقض الوضوء و تفطر الصائم،قال:

قلت هلكنا،قال:ليس حيث تذهب انّما ذلك الكذب على اللّه و على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على الأئمة عليهم السّلام،و منه ذهب الشيخان و المرتضى الى انّه مفسد للصوم و يجب به القضاء و الكفارة،و اما الوضوء فقال الشيخ قدّس اللّه روحه:المراد انّه ينقض كماله و ثوابه،و وجهه الذى يستحق به الثواب،و ما صار اليه المرتضى(ره)لا يخلو من وجه لما رواه الشيخ عن سماعه قال:سألته عن رجل كذب في شهر رمضان،فقال:قد أفطروا عليه قضاؤه و هو صائم يقضي صومه و وضوئه اذا تعمّد،و الحمل على الأستحباب غير محتاج اليه،لعدم وجود المعارض.

القسم الثاني الكذب على الناس لغرض من الأغرض الدّنيوية،بل قد لا يكون لغرض كمن اعتاده فكأنّه طبع عليه و هذا هو الذي ورد فيه انّه ينقض الدين و المروة و يذهب ماء الوجه و لعذاب الآخرة أشدّ نكالا لو كانوا يعلمون.

القسم الثالث الجائز المشروع و هو كما سبق اذا ترتب عليه غرض أخروي كإصلاح ذات البين بل لا يسمى كذبا،قال الصادق عليه السّلام:الكلأ ثلاثة:صدق،كذب و أصلاح بين الناس، قيل له جعلت فداك ما الأصلاح بين الناس؟قال:تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه فتلقاه فتقول سمعت من فلان قال:فيك من الخير كذا و كذا خلاف ما سمعت منه و يجوز الكذب في الحرب لمخادعة العدو و كان علي عليه السّلام في حرب صفين ينادي بأعلى صوته و اللّه لأقتلن معاوية،ثم يقول سرا ان شاء اللّه،فقال له رجل كان من خواصّه:كيف هذا يا أمير المؤمنين؟قال:

الحرب خدعة،انّ عسكري اذا سمع هذا الكلام منّي جدوا في الجهاد لعلمهم بأني لم أكذب،ثم أقول خفية ان شاء اللّه سبحانه،مع انّ قسمه عليه السّلام على قتل معاوية سيكون في زمن ظهور المهدي عليه السّلام،فانّه يخرج معاوية و يقتله قتلات متعددة،و كذلك الكذب على الزوجة،فانّه جائز ايضا اذا واعدها بوعد ثم لم يف به،روى الكليني نوّر اللّه ضريحه عن عيسى بن حسان قال:سمعت ابا عبد اللّه يقول كل كذب مسئول عنه صاحبه يوما الا كذب في ثلاثة:رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه،او رجل اصلح بين أثنين يلقي هذا غير ما يلقي هذا يريد بذلك أصلاح ما بينهما،او رجل وعد أهله شيئا و هو لا يريد أن يتمّ لهم.

و قال:لي يوما واحدا من مشايخي المجتهدين و كان كثير المطايبة و المزاح يا بني ينبغي لصاحب الزوجة ان يكون فخذه و جفن عينيه منه في ألم شديد،و ذلك أنّه اذا أراد الخروج من المنزل قالت له إمرأته:هات لنا الشيء الفلاني،فيضع يده على عينه للوعدة لها،فاذا رجع الى المنزل و لم يأت بشيء قالت له:اين الشيء الفلاني؟فعند ذلك يضرب يده على فخذه و يقول انّي نسيت و لم أذكر،فيكون هذان العضوان منه في الألم دائما.

ص:40

القسم الثاني هو الكذب الخفي و تحقيقه يتوقف على تمهيد المقدمة،و هي انّ اللّه عزّ شأنه قد كلّف العباد في عالم الأرواح و عالم الأشباح و قبلوا تكاليفه و سيّما هذا العالم فانّهم ذاكرون له و يدّعون في ذلك النسيان،كما قال ابن عباس:سميت إنسانا لأنّك ناسي،و هو نسيت لما جرى في عالم الأرواح،و جملة التكاليف هو التصديق بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أعظمها الأوامر و النواهي،و من دخل تحت قلم التكليف فقد أقرّ ظاهرا و باطنا بإلتزام الشرائع و لوازمها من الأحكام،فالصادق في هذا الإقرار من بقي على حالة واحدة و لم يتلوث بمخالفة الأوامر و النواهي،و من تلوّث فيها و ارتكب ما يخالف اعترافه الأوّل فقد كذّب نفسه في ذلك الأعتراف و في قوله أتوب الى اللّه فإنّ أتوب معناه ارجع اليه عما فعلته،فمن قال:هذه الكلمة في هذا اليوم و ارتكب شيئا من النواهي في غد فقد كذب و هذا الكذب أقبح من غيره حيث انّه كذب مع اللّه و ملائكته الكاتبين و أنبيائه المقرّبين و عباده الصّالحين.

و من هذا جاء الحديث ان رجلا اتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طلب منه ان يأمره بأنفع الأعمال فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:اصدق و لا تكذب و اعمل من المعاصي ما شئت،فاستعجب الرجل من هذا القول و قبله،فلما رجع قال:النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينه الا عن الكذب فانا آتي فلانة و كانت امرأة جميلة،فلما مضى الى بيتها ليزني بها تفكر في نفسه و قال:اذا خرجت من عندها و لقيني احد و سألني اين كنت و ما كنت تعمل؟فان صدقته في القول صار امري عظيما و ان كذبت فقد نهيت عنه،فرجع الى منزله ثم طلب ان يفعل ذنبا آخر و فكّر مثل هذا فأقلع عن جميع المعاصي،اذا عرفت هذا فأعلم ان من الكذب الخفي ما نواجه ربنا و المطّلع على سرائرنا و ضمائرنا كل يوم و أقله عشر مرات،و ذلك انّا نقف بين يديه و نقول الحمد لك ايها المربي لنا الرحمن الرحيم بنا،المالك لأمورنا في يوم الوفود عليك فنحن نخصك بالعبادة و نخصك بالأستعانة بك فنحن لا نعبد غيرك و لا نستعين الا بك،و العبادة هي الا طاعة و الأنقياد فانظر و تفكر و قل كيف أصدق في هذا المقال و انا أطيع غيره ممن نهاني عن اطاعته، و الأنقياد لهم،و من جملتهم عدوه و عدوك الشيطان فالمصر منا على اطاعته و هم الأكثرون خصوصا حال الصلاة كيف يكون صادقا في اياك نعبد و من جملة معبوديك نفسك الأمارة بالقبائح التي لا تقصر عن الشيطان و هواك المردي لك،و من الجملة ايضا معبوديك من أهل الدنيا كالسلطان و الحاكم و عمالهما و عبيدهما و عبيد عبيدهما و كلابهما و دوابهما و امائما و من تتوهم انتسابه اليهما فما أكثر ما جعلت لربك من الشركاء و المعبودين و لقد أحسن ابن عباس حيث قال:

في قوله تعالى و لا تتخذوا الهين اثنين انه تعالى نهاك عن الأثنين

ص:41

و انت اتخذت الأثنين فما أقل حيائك و من معبوديك ايضا القصاص عليك كما قال عليه السّلام:من استمع الى قائل فقد عبده فان كان يحدث عن اللّه فقد عبد اللّه و ان كان يحدث عن الشيطان فقد عبد الشيطان،و المراد بتحديثه عن الشيطان نقله الحكايات الكذب او هجاء المؤمنين او غيبتهم او نحو ذلك،فما تعارف في هذه الاعصار من نقل حكايات اهل القصص التي وضعوها كقصة رستم و عنتر،و حمزه و اشباهها فالسامع لها عابد للشيطان و لعلك تظن ان العباده انما هي الصلاة و اضربها و هذا ظن غلط فانك قد سمعت قوله تعالى في شأن اهل الكتابين إهل احبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللّه،قال عليه السّلام:و اللّه ما صلوا لهم و ما صاموا لهم ولوا دعوهم اليهما ما قبلوا و لكن احلوا لهم حراما،و حرموا عليهم حلالا فقبلوا أقوالهم فمن قال:إنهم اربابا لهم و قال تعالى مَنِ اتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ فقد جعل سبحانه إرادات النفس و أمنياتها الباطله إلها،فأنت أيها المصلي اذا كان لك كل هؤلاء الالهه و المعبودين كيف لم تجر على مواجهة واحد منها بالكذب،و ما تجرئت الا على جنابه تعالى تقول لا أعبد إلا أنت و لا أطيع أحد سواك ،فكأنك ظننت ان هذا أعجز من جميع الهتك حتى خصصته بالكذب عليه دون باقي آلهتك، و يجوز ان يكون الوجه فيه انك قصرت عبادتك الصادقه عليها،و ذلك انها و ان كان آلهه متعدده الا أنها ترجع الى أصل واحد حتى القصاص الذي يقص عليك الأباطيل فقد روى ان النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم لما أتى بالقران معجزة و فيه القصص الماضية و الأخبارات قال:كفار قريش انا نقدر على مثل هذا و كان جماعة منهم يرجون في التجارات الى بلاد العجم فسمعوهم عن عنتر و امثاله،فكتبوا تلك القصص و عرّبوها و آتوا بها الى مكة ليعارضوا بها قصص القرآن فنزل قوله تعالى ذاما لهم وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ فقد كانوا يبذلون الأموال لمن ينقل اليهم قصة من تلك القصص الكاذبة ليفتنوا الناس عن متابعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن هذا القرآن ليس بإعجازه للقدرة على الأتيان بمثله،و أنى لهم ذلك و اما قولك اياك نستعين على طريق الحصر فأنت أكذب فيه من الأول لأنك اذا رجعت الى وجدانك و حالاتك ترى انك تستعين غيره في كل امورك،و تجعله سبحانه آخر من تستعين به فإنك اذا جبهت من عند المخلوقين و أيست من الأستعانة بهم بعد ما ألتمستها رجعت و قلت الحكم للّه نستعين باللّه و هذا احد معاني قول مولانا زين العابدين عليه السّلام في دعاء الصحيفة اللهم يا منتهى مطلب الحاجات و لو استعنت به اولا كفاك مهماتك و لم يحوجك الى أمثالك و نقل الثقاة ان محمود بن عمر الخوارزمي لما صنّف تفسيره الكشّاف حمله و أتى به الى الغزالي ليمده بالألطاف و الأنصاف فلما جلس عنده و نقل له سبب مجيئه اليه قال له الغزالي:كيف فسرت اياك نستعين فقال:قلت ان تقديم المفعول يفيد الأنحصار فقال:اذا انت من علماء القشر فرجع الخوارزمي نادما على ما فعل،و لو تأملّت بهذا الكذب الخفي لوجدته أضرّ بأحوالك من ذلك الكذب الجلي

ص:42

و ذلك ان هذا يمنعك من قبول الطاعات و من التأهل للقيام على بساط المناجاة و يورثك الحسرة و الندامة و يوردك المهالك يوم القيامة و لو انصفت من نفسك لعلمت انك لو واجهت واحدا من الناس و قلت له انا لا أتردد الا الى بيتك و لا لي صديق سواك مع علمك بأنه يعلم انك تردد الى كل احد اكثر من ترددك الى بيته و لك اصدقاء كثيرون سواه لكنت عند نفسك جلا من هذا الكذب الذي واجهت به صديقك تستحي ان تواجه به مرة اخرى بعد مضي زمان طويل،و انت هيهنا اذا كان اول النهار قلت اياك نستعين و ما مضى من النهار الا اقله حتى جاء وقت الظهر فقمت بين يديه و قلت اياك نستعين و انت قبل ذلك القول و بين هذين القولين رجعت في مهماتك الى غيره و استعنت بعاجز مثلك على تمشيتها و ما علمت ان امورك كلها بيده سبحانه يمضيها على حسب ارادته و مشيته و من استعنت بهم فانّهم عباد مسخرون بتوفيقه تعالى لقضاء حوائجك ليس حالهم الاّ كحال قلم الكريم الذي كتب لك به النّوال و العطا،فشرعت تمدح القلم و تستعين به و تركت الإستعانة بذلك الرّجل الكريم،ما صدر هذا الاّ من جهل و قلّة تأمّل و قصر نظر في عميقات الأمور.

و في الحديث القدسي انّ الرجل اذا أعجلته الحاجة فخفّف من صلاته لتداركها قال:اللّه سبحانه و تعالى انظروا يا ملائكتي الى عبدي كيف خفّف صلاته ليتدلرك حوائجه أ يظن انّ قضاء حوائجه اليّ،و قد أوحى اللّه يا دنيا اخدمي من خدمني،و في الحديث انّ السّارق كلّ السّارق من سرق من صلاته،و ذلك بتخفيفها و حذف شيء من واجباتها،و قد دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسجد فرأى رجلا يصلي و يستعجل في صلاته فقال:نقر كنقر الغراب،لئن مات هذا الرجل ليموت على غير سنّتي.

و تفكّر ايضا بأنه اذا طلبك رجل من اخوانك لقضاء حاجة من الحاجات فقبلت التماسه، فأسرعت في الأتيان بها على الوجه الذي ارادها منك،ثمّ في أثناءها خطر على بالك انّ لي بعض الحوائج،فشرعت في تمام تلك الحاجة على غير الوجه الذي اراده منك و هو بمرئى منك و مسمع أما كان ذلك الصّديق يغضب منك و يعتب عليك،و يقول لك يا أخي هذه اللّحظة الواحدة ما كنّا نستحقها عندك و لو أرجعت الينا أغراضك و حوائجك لكنّا نقضيها لك أحسن من قضائك أنت لها،فقد فوّت حاجتك و حاجتنا،فأنت قد أغضبت صديقك و عطّلت حاجتك ما هذا الاّ سفه، و قلّة رشد.

نور يكشف عن الربا و احكامه و لواحقه

ص:43

اعلم وفقك اللّه تعالى انّ اللّه سبحانه قد رغّب في القرض و جعل ثوابه أزيد من ثواب التّصدّق،و ذلك انّ الروايات جاءت انّ الصّدقة الدّرهم منها بعشر،و درهم القرض ثمانية عشر، و ذلك انّ درهم القرض يرجع الى صاحبه فيقرضه مرة اخرى و يوسّع به على مؤمن آخر،و من هنا جاءت الآيات و الأخبار مؤكدة بتحريم الرّبا فقال سبحانه في سورة البقرة اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لاٰ يَقُومُونَ إِلاّٰ كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ و قال أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:الرّبا سبعون جزء أيسرها مثل ان ينكح الرجل أمّه في بيت اللّه الحرام،يا علي درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت اللّه الحرام،و قال بلفظ آخر:للربا سبعون بابا أهونها عند اللّه كالذي ينكح امه،و قال عليه السّلام:كلّ رباء شرك،و قال عليه السّلام:كلّ ربوا اعظم عند اللّه تعالى من سبعين زنية كلّها بذات محرم،و قال عليه السّلام:لعن اللّه الربا و آكله و مؤكله و كاتبه و شاهديه،و قال امير المؤمنين عليه السّلام:معاشر الناس الفقه ثم المتجر،و الرّبا في هذه الدنيا أخفى من دبيب النّمل على الصفا و قال عليه السّلام:لم يتفقّه في دينه ثمّ اتّجر ارتطم في الربا ثم ارتطم،و هذا كله انّما جا من قبل طلب الأحسان و هو القرض،فيكون تحريم الربا سوطا يسوق الناس الى القرض و تعاطيه.

و قال الصادق عليه السّلام:الربا رباء ان رباء يؤكل،و رباء لا يؤكل،فأمّا الرباء الذي يؤكل فهديتك الى الرجل تطلب منه الثواب،أي الجزاء افضل منها،فذلك الرباء الذي يؤكل، و هو قوله تعالى وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوٰالِ النّٰاسِ فَلاٰ يَرْبُوا عِنْدَ اللّٰهِ و اما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى اللّه تعالى عنه،و أوعد عليه النار،و قد تعارف عند بعض الناس لدفع الربا بعض الحيل الشرعيّة و لا بأس به لقوله عليه السّلام في جواب من سأل عن مثل هذا نعم الشيء الفرار من الحرام الى الحلال،خصوصا من مثل هذا الحرام الذي قال فيه عليه السّلام:لعن اللّه الربا و آكله، و مؤكله و كاتبه و شاهديه فشرّك بينهم في الأثم حسما لمادّة الفساد.

و اعلم ان الربا يجري في اكثر ما يحتاج اليه الأنسان من الغلاّت و الدّراهم و ما دخل تحت الكيل و الوزن و يكون على طريق التفاضل،و الزيادة الحكميّة عندهم كالزيادة العينيّة في التحريم، و قد استثنوا من هذا الحكم جواز ابتياع درهم بدرهم مع اشتراط صياغة خاتم استنادا الى ما رواه الشيخ،عن ابي الصبّاح قال:سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن الرّجل يقول للصّائغ صغ لي هذا الخاتم،و أبدل لك درهما طازجا بدرهم غلة،قال:لا بأس،و قد عمل بها الشيخ(ره)البيع المذكور و عدّاها الى اشتراط غير الخاتم،و كذلك ابن ادريس الاّ انّه نظر الى انّ الصياغة ليست زيادة عينيّة و الممتنع في الرّبا هي خاصّة،قال:شيخنا الشهيد قدس اللّه روحه و أجود ما نزلت عليه الرّواية انّها تضمنت ابدال درهم طازج بدرهم غلة مع شرط الصّياغة من جانب الغلّة،و مع ذلك

ص:44

لا يتحقق الزيادة لأنّ الطّازج على ما ذكره بعض أهل اللّغة و الفقهاء الدّرهم الخالص و الغلّة غيره و هي المغشوش،و قد يطلق على المكسرة و لكن هنا يتم مع التفسير الأول لأنّ الزيادة الحكميّة مع المغشوش و هي تقابل بما زاد في المغشوش،هذا كلامه(ره)و قد تكلّمنا على ايضاح معنى هذا الحديث و على كلام اصحابنا هذا في شرحنا على تهذيب الحديث بما لا مزيد عليه،و لنقتصر هنا على بعضه فنقول.

انّ هذه الرّواية لا تصلح سندا لما قالوه من الحكم الجزئي المخرج عن القاعدة الكليّة بل القاعدة على حالها من تحريم الزيادة الحكمية مطلقا،و ذلك لوجوه:الأول انّ ظاهر هذا الخبر كون مثل هذا قد وقع بلفظ التبديل و هو نوع مراضاة يتعاطاه الناس في معاملاتهم و محاوراتهم فليس هو بيعا حتى يجوز فيه مثل هذا.

الثاني ان قوله ابدل لك درهما طازجا بدرهم غلة ظاهر في انّ الدّرهم الطّازج انّما هو من مال الصّائغ و الدّرهم الغلة من مال الرّجل الذي يقول،و هذا كما يقال في العرف اكتب لي هذا الكتاب و أبدل لك كتاب الشرائع بكتاب الأرشاد،فانّه صريح في انّ كتاب الشرائع انما هو من مال الكاتب لا من مال القائل،و كتاب الأرشاد من مال القائل،و حينئذ فدرهم الغلة انّما هو الدّرهم العتيق المكسر لكنّه بالوزن يزيد على الدّرهم الطازج الذي هو معرب تازة كما هو المتعارف في هذه الأعصار و غيرها على تجديد الدّراهم او تغييرها عن هيئتها الأولى،و حينئذ فتفاوت الدّراهم الطّازج و هو كونه جديد الضرب رائجا في المعاملات مرغوبا اليه يقابل تلك الزيادة العينية التي في الدّرهم العتيق الذي هو درهم الغلة،فتكون الزيادة العينية بإزاء الزّيادة الحكميّة و الدّرهم مقابل الدّرهم فلا تفال بينهما.

الثالث ان المعهود المتعارف هو انّ الدّرهم الجديد انّما هو عند الصائغ لا عند غيره فهو يريد ان يبدله بذلك الدّرهم الثقيل الوزن،و يوضح هذا المعنى ان الشيخ(ره)في التهذيب قد روى خبرا قبل هذا من الصّحيح،عن الحلبي قال:سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يستقرض الدّراهم البيض عددا ثمّ سودا وزنا،و قد عرف انّها أثقل ممّا أخذ،و تطيب نفسه ان يجعل فضلها له،فقال:لا بأس اذا لم يكن قد شرط له،لو وهب له كلّها صلح له،فانّ الظاهر انّ المراد بالدّراهم البيض هي الجديدة الطّازجية و السّود هي الغلّة المقابلة لها،و قد صرّح بأن السود أثقل وزنا منها و انّها تعطى بدل القرض لأجل مقابلة الأحسان بالإحسان.

نور يكشف عن الكفر و عن حقيقة الشرك و اقسامه و توابعه المتعلقة به

ص:45

اعلم ان الكفر في اللغة هو الستر و منه قيل للليل كافر لأنّه يستر ما أظهره نور النهار،و قيل للكافر لأنه ستر ما أنعم اللّه تعالى عليه من المعارف الإلهيّه و الأنوار الرّبانيّة و النعم الجليّة و الخفيّة، و اما في اصطلاح فقهائنا رضوان اللّه عليهم فالكافر من جحد ما علم من دين الأسلام ضرورة، كمن انكر الصلاة او الصوم و الحج و نحوها أمّا من انكر ما علم من دين الشّيعة بالضرورة لا من دين الأسلام كتقديم امير المؤمنين عليه السّلام بالخلافة و الفضيلة و تكفير من تخلّف محلّه فهو ليس بمؤمن لكنّه لا يخرج عندهم ن الأسلام الذي عليه المناكحات و الطّهارات و إحقان الدماء و الأموال، و أما في اصطلاح أهل البيت عليه السّلام فالكفر يطلق على امور.

روى الكليني طاب ثراه عن الزّبري عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال:قلت أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب اللّه عزّ و جلّ،قال:الكفر في كتاب اللّه عزّ و جلّ على مسة اوجه فمنها كفر الجحود،و الجحود على وجهين،فالكفر بترك ما أمر اللّه تعالى،و كفر البراءة و كفر النعم،فامّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية،و هو قول من يقول لا ربّ و لا جنّة و لا نار،و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدّهرية،و هم الذين يقولون و ما يهلكنا الا الدهر و هو دين وضعوه لأنفسهم بالأستحسان منهم على غير تثبت و لا تحقيق لشيء ممّا يقولون،قال اللّه إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَظُنُّونَ انّ ذلك كما يقولون،و قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ يعني بتوحيد اللّه فهذا احد وجوه الكفر،و اما الوجه الآخر من الجحود على معرفته فيه فهو ان يجحد الجاحد و هو يعلم انّه حقّ قد استقرّ(استيقن)عنده و قد قال اللّه وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا و قال اللّه عز و جل و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلمّا جائهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين فهذا تفسير وجهي الجحود.

و الوجه الثالث من الكفر كفر النعمة و ذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ،وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ و قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ و قال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لاٰ تَكْفُرُونِ .

الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه تعالى و هو قول اللّه تعالى وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَكُمْ لاٰ تَسْفِكُونَ دِمٰاءَكُمْ وَ لاٰ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ ،ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ، ثُمَّ أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيٰارِهِمْ تَظٰاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ ،وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسٰارىٰ تُفٰادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرٰاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتٰابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فكفرهم بترك ما أمر اللّه به و نسبهم الى الأيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم

ص:46

عنده،قال فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ إِلاّٰ خِزْيٌ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ الْعَذٰابِ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ .

و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة،و ذلك قوله تعالى يحكي قول ابراهيم كَفَرْنٰا بِكُمْ وَ بَدٰا بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةُ وَ الْبَغْضٰاءُ أَبَداً حَتّٰى تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ يعني تبرّأنا منكم،و قال يذكر ابليس و تبرّئه من أوليائه الأنس يوم القيامة انّي كفرت بما أشركتموني من قبل،و قال انما اتخذتم من دون اللّه اوثانا مودّة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا،يعني يتبرأ بعضكم من بعض،اذا عرفت هذا ظهر لك معنى الكفر الواقع في الأخبار على فعل بعض المحرمات و ترك بعض الواجبات،مثل ما ورد انّ تارك الحج كافر،و تارك الصلاة كافر، و مرتكب الغيبة كافر و تارك الزكاة كافر الى غير ذلك،و كلّها داخلة تحت هذه الأفراد المذكورة للكفر،فلا تظن انّ الكفر له معنى واحد حتى يشكل عليك الأمر بتلك الأطلاقات كما أشكل على بعض الأعلام،فتقصى بحمل الترك على الترك من وجه الأستحلال و ظاهر كثير من الأخبار يأباه.

و اما الشرك فهو على ثلاثة أقسام شرك جلي،و شرك خفي،و شرك أخفى،امّا الشّرك الجلي فهو ما ذهب اليه أهل الأوثان و عبّاد الأصنام أو الشمس و القمر و شيء من المخلوقات حيث عبدوها و سمّوها آلهة،و قالوا في العلّة التي من أجلها ردّوا كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الأمر بالتوحيد أجعل الألهة الها واحدا انّ هذا لشيء عجاب،ثمّ قالوا ما نعبدهم الاّ ليقربونا الى اللّه زلفا،فهم لم ينكروا الصّانع لكن لم يوحدوه،فهؤلاء و ما يعبدون حصب جهنّم و حطبها، و قال تعالى فَاتَّقُوا النّٰارَ الَّتِي وَقُودُهَا النّٰاسُ وَ الْحِجٰارَةُ فقيل المراد بالحجارة الأصنام التي كانوا ينحتونها من الأحجار،كقوله عليه السّلام المرء من أحبّ،و لو انّ أحدا أحب حجرا حشره اللّه معه،فهم محشرون مع تلك الأحجار كما جا في الرواية،و في رواية أخرى انّ المراد بالحجارة هنا جبال من كبريت لا ضوء لنارها،و انّما هو دخان اسود فيه رائحة الكبريت،و في الحديث انّه يخرج كلّ واحد من زبانية جهنم و على عاتقه جبل من كبريت فيأتي المحشر و يسوق جماعة من العصاة امامه،فاذا قارب بهم شفير جهنّم و ما هم فيها و رمى ذلك الجبل فوقهم حتّى تتوقد النار عليهم من فوقهم و من تحت ارجلهم.

و امّا أوّل من وضع الأصنام و عبادتها فروي انّ اولاد أوصياء ادريس عليه السّلام قد كان اهل زمانهم يحبّونهم حبّا شديدا،فلمّا ما تواشق ذلك على قومهم فجاءهم ابليس لعنه اللّه تعالى فقال اتّخذ لكم اصناما على صورهم فتنظرون اليهم و تأنسون بهم و تعبدون اللّه،فأعدّ لهم أصناما على مثالهم،فكانوا يعبدون اللّه عز و جل و ينظرون الى تلك الأصنام فلما جاء الشتاء و الأمطار

ص:47

ادخلوا الأصنام البيوت فلم يزالوا يعبدون اللّه عز و جل حتّى هلك القرن و نشأ أولادهم،فأتى الشيطان اليهم و قال لهم انّ آباءكم كانوا يعبدون هذه الأصنام،فعبدوها من دون اللّه عزّ و جلّ فذلك قول اللّه تبارك و تعالى وَ لاٰ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاٰ سُوٰاعاً الآية.

و امّا عبادة النيران فقال الصادق عليه السّلام:انّ قابيل لمّا رأى النّار قد قبلت قربان هابيل قال له ابليس:انّ هابيل كان يعبد النار،فقال قابيل:لا أعبد النّار التي عبدها هابيل و لكن اعبد نارا أخرى و أقرّب قربانا لها فتقبل قرباني،فبنى بيت النار فقرّب لها القربان و لم يكن له علم بربه عزّ و جلّ و لم يرث منه ولده الاّ عبادة النيران و امّا الشمس و القمر ففي الرّوايات انّه يؤتى بهما في عرصات القيامة كثورين عقورين فيأمر اللّه بهما حتّى يرميا في النّار لمكان عبادة النّاس لهما.

و اما الشرك الخفي فقد تقدم في الريا تحقيقه و انّ من جملة افراده الرّيا،و ذلك انّك شرّكت غير اللّه معه في عبادتك فهذا هو معنى الشرك بعينه بل هو اخس منه،و ذلك أنّ أهل عبادة الأصنام قد عبدوا أمورا موجودة و أعيانا حاضرة أمامهم،و امّا انت في حال الريا فقد عبدت امورا موهومة تخيلتها في قوتك الوهمية،و هو انّي اذا أطلت الصلاة في حضور فلان فربّما اثنى عليّ و ربّما اوصلني احسانه،و في غالب الأوقات انّه لا يحصل له ما تخيّله فلا يبقى له سوى تعب القوة المتخيّلة و القوة الوهمية فاذن اهل عبادة الأصنام أعلم منك و أفهم،و ايضا فأن أهل الأصنام قد أتوا الى ملّة و دين وجدوا عليها آباءهم قد استحسنوها و زيّن لهم الشيطان أعمالهم حتّى انّهم كانوا يعجبون من خلاف الأشراك كما سمعت في قوله تعالى أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلٰهاً وٰاحِداً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عُجٰابٌ فهم يتعجبون منّا كيف نعبد الها واحدا و نترك الألهة المتعددة.

و بالجملة فهم يعبدون ما ثبت عندهم استحقاقه للعبادة أخذا من أسلافهم،و اما أنت ايّها المرائي فقد نشوت على فطرة التوحيد و سمعت من آبائك انّه لا يجوز ان يشرك مع اللّه غيره في العبادة و فهمت هذا المعنى و اعتقدت حرمته و مع هذا أقبلت عليه بكلّلك و صرفت اليه مجامع لبك، فأهل عبادة الأصنام جهّال و أنت أجهل منهم،حيث انهم عبدوا ما استحسنوا و انت عبدت ما أستقبحته و ايضا فإنّ أهل الأصنام انّما عبد كل جماعة منهم صنما واحدا،كما روى انّه كان في أعصار الجاهلية لكل قبيلة صنم يعبدونه و قد كان معلّقة في الكعبة مثل ودّ و سواع و يغوث و يعوق و نسر،فهم يحبون ذلك الصنم و يعظّمونه و لا يعظمون صنما غيره،حتى انه نقل من محبتهم لها الأعاجيب الغريبة و الحكايات العجيبة،كما روي ان أهل الهند اتّخذوا بيت صنم و وضعوا في سقفه و فرشه و جدرانه الأربعة حجر المغناطيس،و وضعوا فيما بينهن صنما من حديد،فبقي معلقا بينهنّ لتجاذبهنّ له و كثر في أهل الهند محبّوه و عاشقوه،و كان يفتح لهم بابه في كل سنة مرة فيزدحمون اليه و يطلون أجسادهم بالشّمع من القرن الى القدم،فيجيء أحدهم و يجعل بين يديه

ص:48

شمع موقد بالنار و الناس في النّظارة فعند رؤية الصنم توقد النّار على رأسه فيحترق بالتدريج من قرنه الى قدمه و هو يصبر على عشق الصّنم فيقتسم الناس رماده صرّة للتبرك،لصدقه في دعوى محبّة الصنم،و يعلمون الكاذب بفراره و عدم صبره على النار في سبيله فيقتلونه.

و ايضا قد نقل لنا متواترا في هذه الأعصار انّ جماعة من أهل الهند ممّن يعبد النار اذا مات الرجل منهم أحرقوه في النار،و عمدوا الى زوجته و زيّنوها و حلّوها بأنواع الحلي و الحلل و أتى بها أهلها و قومها الى تلك النار فرمت بنفسها في تلك النار حتى لا تبقى بعد زوجها،و ان خافت من تلك النار قال أهلها:انّها ارتدت عن الدين و خافت من المعبود الذي هو النار، فيحللونها على المسلمين و كل من حضر من المسلمين يأخذها منهم،فهم يحبون النار هكذا و امّا انت ايّها المرائي ففي يومك الواحد بل ساعتك الواحدة تعبد الجماعات المتكثرة،و ذلك ان كل من توهمت في جانبه جلب نفع او دفع ضرر او ثناء او توقير عكفت على اشراكه مع اللّه تعالى في العبادة(و انت خ ل)ككثير غرّة يعشق كل جميلة يراها او يسمع بها حتى عاب الشعراء و أهل العشق عليه ذلك فقالوا كثير ما هذا التقلّب في الهوى.

و بالجملة فأهل الأصنام في عبادتها اوثق منك و أثبت قدما فاعتبروا يا أولي الأبصار و ايضا فإن أهل الأصنام انّما عبدوا آلهة و لم يستحيوا من اظهار عبادتها بل يفرحون باظهارها و اما انت فلو قيل لك أشركت في عبادة ربك زيدا او عمر و احلفت و أقسمت و برأت نفسك ممّا نسب اليك، فأنت تعبد من لا تحب الأنتساب اليه و هم يعبدون من يمتدحون بالإنتساب اليه،فمعبودهم على هذا أحسن من معبودك،و ايضا انك قد عرفت انّ اهل الأصنام انّما يعبدونها لا لأنها النّافعة الضّارة بل لأنها تقرّبهم الى اللّه تعالى الذي هو النافع الحقيقي و انت ايّها المرائي قد عبدت غير اللّه سبحانه بزعمك انّه النافع و المعطي و لا يخاطر ببالك حالة الريا الا قصر ما طلبته من الحالات عليه، فمن هذا ايضا صار عبّاد الأصنام أفهم منك و أكثر شعورا.

و اما الشرك الأخفى فهو امور:منها ان تغيّر شيئا بالإعتقاد عمّا هو عليه و ذلك انّك قد عرفت انّ اللّه سبحانه قد وضع كلّ شيء في محله و مقرّه فمن أتى يغير شيئا و ان كان حقيرا كان مشركا،و هذا معنى ما رواه بريد العجلي عن ابي جعفر عليه السّلام قال:سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركا،قال:فقال:من قال للنواة أنّها حصاة و للحصاة انّها نواة ثم دان به،قال شيخنا البهائي رحمه اللّه تعالى:لعل مراده عليه السّلام من اعتقد شيئا من الدين و لم يكن كذلك في الواقع فهو ادنى الشّرك و لو كان مثل اعتقاد انّ النّواة حصاة و انّ الحصاة نواة ثم دان به،و قد دخل ابو حنيفة و اضرابه من فقائهم تحت هذا النّوع من شرك على ما عرفت من انه يقول علي(كذا)و أنا أقول(كذا)لكن هذا من أفراد الشرك الجلي الاّ انّه لمّا خفي حاله على اكثر النّاس

ص:49

ادرجناه تحت الشّرك الأخفى و الخفي،و يدخل تحت هذا ايضا من كذب متعمدا في الأحكام الشرعية مثل علماء السوء و محدثيهم الذين أكثروا الكذب على اللّه و رسوله فهم مشركون ايضا، و كذلك من كذب من علماء الشيعة في المسائل الشرعيّة و تكلم بلا وقوف و لا تثبت و انّما توهّمه او تعمده لئلا يقال انّه جاهل،و كذلك من أفتى الناس و ليس هو بأهل الفتوى فانّه و الحال هذا قد نهي عن الخوض في الفتاوي،فاذا أفتى فقد أشرك من حيث لا يشعر،و من هنا صار الشرك دقيقا جدا.

و منها الطّاعة فانّك قد علمت انّ الذي يجب طاعته هو اللّه سبحانه او من امر بطاعته مثل حججه عليهم السّلام فمن أطاع غير من فرض اللّه طاعته فقد صار مشركا لأنّه باللّه الا و هم مشركون قال:يطيع الشّيطان من حيث لا يعلم فيشرك،و قد دخل تحت هذا الفرد من الأشراك سائر مخالفينا من العامّة و غيرهم،و ذلك لأنّهم ألزموا أنفسهم طاعة الطّواغيت و الجوابيت و من امر اللّه ان يكفروا به،فقد صاروا شركاء اللّه حيث اوجبوا ما لم يوجب و اشركوا فيه ايضا من جهة انّ من أوجب طاعته لم يوجبوها هم،و من هنا روى عميرة عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال:سمعته يقول أمر الناس بمعرفتنا و الردّ الينا و التّسليم لنا،ثمّ قال:و ان صاموا و صلّوا و شهدوا ان لا اله الا اللّه و جعلوا في انفسهم ان لا يردّوا الينا كانوا بذلك من المشركين.

و منها المعارضة و الأنكار على الحكم الألهيّة كما يصدر من عوام الناس كثيرا إمّا باللّسان أو بالقلب،و اليه الأشارة بقوله عليه السّلام لو انّ قوما عبدوا اللّه وحده لا شريك له و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و حجوا البيت و صاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه اللّه او صنعه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الا صنع خلاف الذي صنع،أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين،ثم تلا هذه الآية فَلاٰ وَ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاٰ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً و حينئذ فما يقول جهّال الناس و عوامهم لو انّ اللّه أغناني لكان هو الأحسن او لو انّ اللّه فعل بزيد كذا و كذا لكان هو الأصلح و نحو ذلك من العبارات المشتملة بظاهرها على الأعتراض من باب الشرك و أحد أنواعه:فان اسباب المحبة.

و منها الأشراك معه في المحبة كما سيأتي انشاء اللّه تعالى كلّها راجعة اليه فيجب ان يكون هو المحبوب لا غير و لا يكون في القلب غيره و هو بيته و منزله كما سمعت في الحديث القدسي.

من قوله لم تسعن ارضي و لا سمائي و لا كرسييّ و انّما وسعني قلب عبدي المؤمن فلا يكون في هذا البيت الاّ هو او من انتسب اليه و هو من أمر بودادهم مثل الأئمّة الطاهرين و العلماء و أولاد الرجل و أقاربه ممّن أمر سبحانه بعطفهم و الميل اليهم فمحبّة هؤلاء راجعة الى حبّه سبحانه كما جاء في الحديث،امّا اذا تجاوز القدر المأمور به صار شركا و من هذا جاء في الكتب ان

ص:50

اللّه سبحانه انّما غيّب الصّديق عن ابيه يعقوب لمكان افراطه في حبّه حتى انّه اذا ادخل البيت غير صاحبه و قد سأل الصادق عليه السّلام عن العشق فقال تلك قلوب خلت من محبّة اللّه فأذاقها اللّه حلاوة غيره.

و بالجملة فالإفراط في المحبّة على القدر المأمور به يكون شركا لأنّه قد أشرك مع اللّه غيره في الحب و الوداد من هنا جاء الأمر منه سبحانه بخلع حبّ الدنيا عن القلب و قد جاء في الرواية في قول ابراهيم عليه السّلام ربّ أرني كيف تحيي الموتى الآية انّ اللّه عزّ و جلّ امر ابراهيم ان يزور عبدا من عباده الصالحين فزاره فلمّا كلّمه قال له:انّ للّه تعالى في الدنيا عبدا يقال له ابراهيم اتّخذه خليلا فقال ابراهيم و ما علامة ذلك العبد؟قال:يحيي له الموتى،قال:او لم تؤمن؟قال:بلى و لكن ليطمئن قلبي على الخلّة،و يقال انّه اراد ان يكون له في ذلك معجزة كما كانت للرّسل و انّ ابراهيم سأل ربه عزّ و جلّ ان يحيي له الميّت فأمره اللّه عزّ و جلّ ان يميت لأجله الحي سواء بسواء و هو انّه امره بذبح ابنه اسماعيل و انّ اللّه عزّ و جلّ امر ابراهيم بذبح أربعة من الطير:طاووسا و نسرا و ديكا و بطّا،فالطّاووس يريد به زينة الدّنيا،و النّسر يريد به الأمل الطّويل،و البطّ يريد به الحرص،و الدّيك يريد به الشهوة و يقول عزّ و جل ان اردت ان يحيي قلب و تطمئن معي فأخرج عن هذه الأشياء الأربعة فإذا كانت هذه الأشياء في قلب فإنّه لا يطمئن معي،و روي عن العالم عليه السّلام في تفسير قوله تعالى فاخلع نعليك انّك بالواد المقدّس انّ المراد انزع حبّ قلبك عن أهلك فإنّ الزوجة تشبه بالنّعل و النّعل الآخر هم الأولاد فقد أمر حالة اللّقاء(لقائه خ ل)مع المحبوب الحقيقي بخلع ما سواه من الأحباب،و أمّا ايضاح هذه الطّيور الأربعة.

فاعلم انّ الطّاووس طائر معروف و هو يحبّ الزهو بنفسه و الخيلاء و الإعجاب بريشه و عقدة لذنبه كالطّاق لا سيّما اذا كانت الأنثى ناظرة اليه و قيل أعجب الأمور انّه مع حسنه يتشأم به و قيل انّ السبب فيه انّه ادخل ابليس الى الجنّة فأخرج آدم منها فصار سببا لخلو الدّار من أهلها فلذاكره النّاس اقامته في الدّور.

و روي ان آدم عليه السّلام لمّا غرس الكرمة جاء ابليس فذبح عليها طاووسا فشربت دمه فلمّا طلعت اوراقها ذبح عليها قردا فربت دمه،فلمّا طلعت ثمرتها ذبح عليها اسد فشربت دمه، فلمّا انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيرا فشربت دمه فلهذا شارب الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة،و ذلك انّه اول ما يشربها و تدب في أعضائه يزهو لونه و يحسن كما يحسن الطّاووس و اذا جاء مبادىء السكر لعب و صفق و رقص كما يفعل القرد،و اذا قوي سكره جاء بصفة الأسد فيعبث و يهتزي بما لا فائدة فيه ثم ينقعص كما ينقعص الخنزير و يطلب النوم و يخل عزم قوته،و امّا النّسر فهو من أطول الطّير عمرا يقال انّه يعمر ألف سنة و سمّي نسرا لأنّه ينسر الشيء و يبتلعه.

ص:51

و عن الحسن عليه السّلام انّه يقول في صياحه عش ما شئت فإنّ الموت ملاقيك و زعم قوم انّ الأنثى من هذا الصّنف تبيض من نظر الذكر اليها و هي لا تحضن و انّما تبيض في الأماكن العالية الضاحية للشمس فيقوم حرّ الشّمس للبيض مقام الحضن و هو حاد البصر يرى الجيفة من أربعائة فرسخ و كذلك حاسّة شمّه لكن قيل انّه اذا شمّ الطيب مات لوقته و ليس في سباع الطّير اكبر جثة منه و مع هذا قالوا انّه اقواها جناحا حتى انه يطير ما بين المشرق و المغرب في يوم واحد اذا وقع على الجيفة و عليها عقيان تأخّرن عنه و كل الجوارحه تخافه،و اذا وقع على الجيفة و أكل منها امتلأ و لم يستطع الطّيران ختّى يثب و ثبات يرفع بها نفسه طبقة في الهوى حتى يدخل تحت الرّيح و ربّما صاده الضعيف من الناس في هذه الحالة،و هو اشدّ الطّير حزنا على فراق الفه و اذا فارق احدهما الآخر مات حزنا و كمدا و في الروايات عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ النّسر سيّد الطيور،و من هذا ذكروا في خواصه انّ من حمل معه قلب النّسر كان محبوبا و مهابا مقضي الحاجة عند السّلطان و غيره و لا يضره سبع ابدا.

و امّا البط و حرصه على الماء و على إلتقاط الحبّ اينما كان فهو ظاهر مشهور و امّا الدّيك و شهوته خصوصا للجماع فظاهر و ذلك انّه ربّما كان في المحلة الواسعة الثيرة الدّجاج ديك فيكفي لكل تلك الدجاج،و من خصاله الحميدة انّه لا يؤثر واحدة على واحدة و قد أمر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يتعلم الناس من الدّيك خصالا:الشجاعة و الغيرة و الكرم و كثرة الجماع و يعجبني نقل كلام ذكره شيخنا الشيخ بهاء الدين قدس اللّه روحه و هو انّ النفس الأنسانية واقعة بين القوة الشهوانية و القوة العاقلة فبالأولى تحرصعلى تناول اللّذات البدنيّة البهيميّة كالغذاء و السّفاد و الّغالب و سائر اللّذات العاجلة الفانية و بالأخرى تحرص على تناول العلوم الحقيقية و الخصال الحميدة المؤديّة الى السعادات الباقية الأبدية و الى هاتين القوتين اشار سبحانه بقوله و هديناه النّجدين،و بقوله تعالى إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ السَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً فان جعلت الشّهوة منقادة للعقل فقد فزت فوزا عظيما و أهتديت صراطا مستقيما و ان سلّطت الشّهوة على العقل و جعلته منقادا لها ساعيا في استنباط الحيل المؤديّة الى مراداتها هلكت يقينا و خسرت خسرانا مبينا،و اعلم انّك نسخة مختصرة من العالم فيك بسائطه و مركباته و مادياته و مجرّداته بل انت العالم الكبير بل الأكبر كما قال أمير المؤمنين و سيّد الموحدين عليه الصلاة و السّلام:

دوائك فيك و ما تبصر و داؤك منك و ما تشعر

و تزعم انّك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر

و انت الكتاب المبين الذي بأسطاره يظهر المضمر

ص:52

و ما من شيء الاّ و انت تشبهه من وجه لكنّ الغالب عليك اربعة اوصاف:الملكية و السبعية و البهيميّة و الشّيطانية فمن حيث الملكي تتعاطى أفعال الملائكة من عبادة اللّه سبحانه و تعالى و طاعته و التّفرب اليه و من حيث الغضب(السبعيّة خ)تتعاطى أفعال السبّاع من العداوة و البغضاء و الهجوم على النّاس بالضّرب و الشّتم،و من حيث الشّهوة تتعاطى أفعال البهائم من الشّره و الشبق و الحرص و من حيث الشّيطانية تتعاطى افعال الشّياطين فتستنبط وجوه الشّر و تتوصل الى الأغراض بالمكر و الحيل فكان المجتمع في اهابك ايّها الأنسان ملك و كلب و خنزير و شيطان فالملك هو العبادة و الكلب هو الغضب و الخنزير هو الشهوة و الشيطان هو المكر و الحيل، فان اشتغلت بجهاد هذه الثلاثة بالبصيرة النّافذة و كسرت شرّه هذه الخنزير بتسلّط الكلب عليه اذ بالغضب تنكسر سورة الشهوة و اذللت الكلب بتسليط الخنزير و جعلت الكل في مملكة العدل مقهورين تحت السياسة اعتدل الأمر و ظهر العدل في مملكة البدن و جرى الكل على الصراط المستقيم،و ان لم تجاهدهم قهروك و استخدموك فلا تزال في استنباط الحيل و تدقيق الفكر في تحصيل مطلوبات الخنزير و مرادات الكلب فتكون دائما في عبادة كلب و خنزير.

و هذا حال أكثر النّاس الذين همّتهم مصروفة الى البطن و الفرج و مناقشة الخلق و معاداتهم و العجب منك انّك تنكر على عبّاد الأصنام عبادتهم لها و لو كشف الغطا عنك و كوشفت بحقيقة حالك و مثّل لك ما يمثل للمكاشفين امّا في النوم او في اليقظة لرأيت نفسك قائما بين يدي خنزير مشمرا ذيلك في خدمتك ساجدا له مرة و راكعا له أخرى منتظرا لإشارته و أمره فمهما طلب الخنزير شيئا من شهواته توجهت على الفور الى تحصيل مطلوبه و احضار مشتهياته و لأبصرت نفسك جائيا بين يدي كلب عقور عابدا له مطيعا لما يلتمسه مدققا للفكر في الحيل الموصلة الى طاعته و انت بذلك ساع فيما يرضى الشيطان و يسره فانّه هو الذي يهيّج الكلب و الخنزير و يبعثهما على استخدامك،فأنت من هذا الوجه عابد للّشيطان و جنوده و مندرج في المخاطبين المعاتبين يوم القيامة بقوله أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰا بَنِي آدَمَ أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا الشَّيْطٰانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ .

فليراقب كل عبد حركاته و سكناته و سكوته و نطقه و قيامه و قعوده لئلا يكون ساعيا طول عمره في عبادة هؤلاء،فهذا غاية الظّلم حيث صيّر المالك مملوكا و السيّد عبدا و الرئيس مرؤسا،اذا العقل هو المستحق للسّيادة و الرئاسة و الأستيلاء و هو قد سخّره لخدمة هؤلاء و سلّطهم عليه و حكمهم فيه،قال بعض المفسرين عند قوله تعالى وَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قد سخّر لك الكون و ما فيه لئلا يسخر منك شيء و تكون مسخّرا لمن سخّر لك الكل فان جعلت نفسك مسخّرة لما في الكون في الكون اسيرة للذّات الفانية

ص:53

فقد جهلت فضل اللّه لديك و كفرت نعمته عليك اذ خلقك عبدا لنفسه حرا من الكل فاستعبدك الكلّ و لم تشتغل بعبودية الحق بحال انتهى و ما أحسن قول رابعة العدوية:

لك ألف معبود مطاع أمره دون الأله و تدّعى التوحيدا

و من افراد الشرك قول الناس فيما تعارف بينهم لو لا فلان هذه السّنة او هذا الشّهر لمت انا و أولادي او لم أعش الى هذا الوقت و نحو ذلك ممّا يؤدي معناه،و ذلك انّ هذا قول من غفل عن اللّه سبحانه و عن كونه هو الرّزاق و انّه هو الذي سخّر ذلك الرجل و هيأ له الأسباب التي يتوصل بها الى احسانك فهو ليس الا كالالة في ايصال ذلك النفع اليك،فان اللّه تعالى لو لم يعطه مالا و لم يجعل في قلبه الشّفقة عليك و لم يأمره بصلة أمثالك لما رأيت منه شيئا من الإحسان و كذلك اذا لم يتكلّم بهذا الكلام لكنّه كان من عقيدته و ممّا ارتكز في خياله فانّه ايضا من الشّرك الأخفى لأنّ هذا الأعتقاد الفاسد منه ليس الاّ كإعتقاد من عظم الأوثان و خضع لها لأنها الّتي وصل النّفع اليه و تدفع الضرر عنه.

و بالجملة فأنواع الشرك و أفراده أكثر من ان تحصى و قوله سبحانه وَ لاٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً متناول لأنواع الشرك و افراده،فان قلت اذا كان كلّ ما ذكرت من الشرك لمنهي عنه لا ينفعك أحد منّا،ان التلبس بفرد من افراده اذا اعطيناه الأنصاف مع قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ فكيف حالنا عند الورود على اللّه و كيف نرجوا منه المغفرة مع ما أسمعنا من هذا الكلام و قطع آمالنا منه.

قلت و ان كان الحال على ما ذكرت من عدم الخلوّ من أحد أفراده لكن اللّه سبحانه قد جرت عادته الرّبانية بتوفيق المؤمن للتوبة من ذلك الذنب و النّدامة عليه و معرفته و لو بعد حين بأنّ المنعم الحقيقي ليس الا هو تعالى شأنه،و من ألطافه به عدم توفيق الناس في غالب الأوقات لقضاء حوائجه حتى يرجع الى اللّه عند الأياس منهم و يلجأ اليه و يندم على ما أشرك به في جنب اللّه و يعرف انّه ليس الملجأ الاّ اليه كما قال مولانا الأمام زين العابدين عليه السّلام يا كهفي حين تعييني المذاهب يعني به التّرددات الى الخلق و الذّهاب اليهم فإذا أعيت عليه الحيل و لم ينتفع بتلك التّرددات إعترف بهذا المعنى.

و في الحديث ان اللّه سبحانه يرمي عبده المؤمن بالنّعاس اذا أراد القيام للصلاة فيصبح و هو ماقت لنفسه زار عليها و هو من ألطاف اللّه سبحانه لئلا يعجب بعمله،و حينئذ فالنوم خير له من العبادة فهو سبحانه الّذي أنامه عن صلاة الليل لئلاّ يعجب بأعماله و هو الذي لم يوفّق الناس للإحسان اليه حتى يكون مأيوسا منهم فيرجع الى اللّه و يطلب ما طلب منه تعالى و يندم على الأقبال الّذي صدر منه على الناس فانظر هنا كيف صار منع الألطاف الطافا.

ص:54

نور يكشف عن عقوق الوالدين و عما توعد عليه من العذاب و ما يتبعه من قطيعة الرحم

اعلم ان اللّه تعالى قد أكثر في كتابه من الوصية بالوالدين حتّى انّه ذكره في سبع آيات.

الأولى قوله تعالى في سورة البقرة وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ لاٰ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّٰهَ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ ذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً.

الثانية قوله تعالى في سورة النساء وَ اعْبُدُوا اللّٰهَ وَ لاٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً.

الثالثة قوله سبحانه في سورة الأنعام قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً.

الرابعة قوله تعالى في سورة بني اسرائيل وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلاٰهُمٰا فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلاً كَرِيماً(23) وَ اخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً.

الخامسة قوله تعالى في سورة العنكبوت وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ لِتُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاٰ تُطِعْهُمٰا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

السادسة قوله عز من قائل في سورة لقمان وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوٰالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.

السابعة قوله تعالى في سورة الأحقاف وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً فانظر الى هذه الآيات كيف قرن فيها بين النهي عن الشّرك و بين النهي عن عقوق الوالدين اشارة الى انه في درجة الشرك في الخلود في العذاب،و من هذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم:يقال للبار بوالديه اعمل ما شئت سأغفر لك و يقال للعاقّ لوالديه أعمل ما شئت فإنّي لا أغفر لك،و في هذا اشارة الى ان البرّ بالوالدين لا يضر معه سيئة فكل ما عمل من السّيئات تكفره تلك الحسنة و كذا في جانب العقوق فأنّ العاق كل ما عمل من خير لا ينفعه و هو متلبس بالعقوق لوالديه و ذلك انّه تعالى قرن رضاه برضاهما و عقوقه بعقوقهما،و في الحديث انّ ريح الجنة ليشم من مسيرة خمسمائة عام و لا يشمّه عاق الوالدين،و في وصاياه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام يا علي خلق اللّه عزّ و جلّ الجنّة من لبنتين لبنة من ذهب و لبنة من فضة و جعل حيطانها الياقوت و سقفها الزبرجد و حصاها اللّؤلو و ترابها الزعفران و المسك الأذفر ثمّ قال لها تكلّمي فقالت لا اله الا اللّه الحيّ القيوم قد سعد من يدخلني قال اللّه جل جلاله و عزتي و جلالي لا يدخلها مد من خمر و لا نمّام و لا ديّوث و لا شرطي و لا مخنّث و لا عشّار و لا قاطع رحم و لا قدريّ،و الشرطي

ص:55

منسوب الى الشّرط كصرد طائفة من اعوان الظالمين سمّوا بذلك لأنّهم علموا بعلامات يعرفون بها.

و قوله و لا عشّار المراد به من يأخذ العشر او أقل او أكثر من غير حقّ سواء أخذه في البلد او الصحراء،و قوله و لا قاطع رحم سيأتي تحقيق الرحم و لكن من أقرب الأرحام الوالدين،و قوله و لا قدري المراد به الأشاعرة الذين ذهبوا الى انّ كل الأفعال مقدورة له سبحانه و العبد ليس له قدرة على شيء.

و اعلم ان البر بالوالدين له فوائد في الدّنيا و الآخرة و العقوق يبطلها امّا الدنيا فمن فوائده انّه يؤخّر الأجل و يزيد في العمر،و العقوق يقرب الأجل و في الرواية انّه ربّما كان قد بقي من عمر الأنسان ثلاث سنين ثم انّه يحسن الى والديه و يصل ارحامه فيؤخره اللّه ثلاثين سنة و انّ منهم من يبقى من عمره ثلاثون سنة ثم انّه يقطع أرحامه او يعق والديه فيمحو اللّه سبحانه الثلاثين و يثبت مكانها ثلاث سنين و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأيت في المنام رجلا قد أتاه ملك الموت لقبض روحه فجاء برّه بوالديه فمنعه منه.

و قال الصادق عليه السّلام من احب ان يخفف اللّه عنه سكرات الموت فليكن بقرابته وصولا و بوالديه بارا فاذا كان كذلك هوّن اللّه عليه سكرات الموت و لم يصبه في حياته فقر أبدا، و في الرواية انّه دخل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على شاب و هو في سكرات الموت و قد تعسر عليه قبض الرّوح فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له يا فلان فأجابه فقال ما ترى قال أرى أسودين قد دخلا عليّ و هما واقفان امامي فأنا خائف منهما فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألهذا الشاب ام؟فقيل نعم فأتت أمه فقالت انا فقال لها أراضية أنت عن ابنك هذا ام ساخطة عليه؟فقالت بل أنا ساخطة عليه و الآن رضيت عنه لأجلك فغشي على الشاب فلمّا أفاق قال له ما رأيت قال رأيت يا رسول اللّه خرج الأسود و دخل عليّ ابيضان و انا فرحان برؤيتهما ثم انّه مات من ساعته.

و في حديث آخر انّ رجلا مات على عهده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لمّا دفنوه لفظته الأرض و لم تقبله فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ ام هذا الرجل ساخطة عليه فأمرها بالرضاء عنه حتى قبلته الأرض.

و روي عن العسكري عليه السّلام قال عاش نوح عليه السّلام ألفين و خمسمائة سنة و كان يوما في السّفينة نائما فهبّت ريح فكشفت عورته فضحك حام و يافث فزجرهما سام عليه السّلام و نهاهما عن الضّحك و كان كلّما غطّى سام شيئا تكفه الريح كشفه حام و يافث فانتبه نوح عليه السّلام فرآهم(هماط)و هم يضحكون،فقال ما هذا؟فأخبره سام بما كان فرفع نوح عليه السّلام يده الى السماء يدعو و يقول اللهم غير ماء صلب حام حتّى لا يولد له الا السّودان اللّهم غيّر ماء

ص:56

صلب يافث فغيّر اللّه ماء صلبيهما فجميع السّودان حيث كانوا من حام و جميع التّرك و الصّقالية و يأجوج و مأجوج و الصّين من يافث حيث كانوا و جميع البيض سواهم من سام و قال نوح عليه السّلام لحام و يافث جعل اللّه ذرّيتكما ملكا لذرية سام الى يوم القيمة لأنّه برّني و عققتماني فلا زالت سمة عقوقكما في ذريتكما ظاهرة و سمة البرّ في ذرية سام ظاهرة ما بقيت الدنيا.

و اما فوائده في الآخرة و هي السّعادة كل السّعادة قال الصادق عليه السّلام بينا موسى بن عمران يناجي ربّه عزّ و جل اذ رأى رجلا تحت ظلّ عرش اللّه فقال يا رب من هذا الذي قد أظلّه عرشك؟فقال هذا كان بارا بوالديه و لم يمش بالنّميمة.

و أما العقوق فقال الصادق عليه السّلام ادنى العقوق اف و لو علم اللّه تعالى شيئا أهون منه لنهى عنه و قال عليه السّلام من نظر الى ابويه نظر ماقت و هما ظالمان له لم يقبل اللّه له صلاة و من العقوق ان ينظر الرجل الى والديه فيحدّ النّظر اليهما و قال عليه السّلام انّ ابي عليه السّلام نظر الى ابن يمشي متّكأ على ذراع الأب قال فما كلّمه ابي عليه السّلام مقتا له حتى فارق الدنيا و روي عنه عليه السّلام في قوله تعالى فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا قال ان أضجراك فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما ان ضرباك قال و قل لهما قولا كريما قال ان ضرباك فقل لهما غفر اللّه لكما فذلك منك قول كريم ثم قال و اخفض لهما جناح الذّل من الرّحمة قال لا تملأ عينيك من النّظر اليهما الاّ برحمة لهما و رأفة و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يدك فوق ايديهما و لا تقدّم قدامها.

و روى محمّد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السّلام قال انّ العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما و لا يستغفر لهما فيكتبه اللّه عزّ و جلذ عاقا و انّه ليكون عاقا في حياتهما غير بار فاذا ماتا قضى دينهما و استغفر لهما فيكتبه اللّه عز و جل بارا و قال عليه السّلام ثلاثة لم يجعل اللّه عز و جل للعبد فيهن رخصة اداء الأمانة الى البر و الفاجر و الوفاء بالعهد للبرّ و الفاجر و بر الوالدين برّين كانا او فاجرين،و عن الزهري قال كان علي بن الحسين عليه السّلام لا يأكل مع امه و كان ابرّ النّاس بامه فقيل له في ذلك؟فقال اخاف ان آكل معها فتسبق عينها الى شيء من الطعام و انا لا أعلم فآكله فأكون قد عققتها.

و روى الشيخ عن محمّد بن مسلم عن احدهما عليهما السّلام قال لمّا زوّج علي بن الحسين عليه السّلام امّه مولاه و تزّوج هو مولاته كتب اليه عبد الملك بن مروان كتابا يلومه فيه و يقول انك وضعت شرفك و حسبك،فكتب اليه علي بن الحسين عليه السّلام انّ اللّه تعالى رفع بالإسلام كلّ خسيسة و أتم به الناقصة و اذهب به اللّوم فلا لوم على مسلم و انّما اللّوم لوم الجاهليّة و امّا تزويج امّي فانّما أردت بذلك برها فلمّا انتهى الكتاب الى عبد الملك قال لقد صنع علي بن

ص:57

الحسين أمرين ما كان يصنعهما احد الا اتّضع الاّ علي بن الحسين عليه السّلام فانه بذلك ازداد شرفا.

فان قلت كيف يوطن الشيعي نفسه على انّ امّ علي بن الحسين عليه السّلام و هي شهربانو بنت يزدجرد ملك العجم بعد شهادة الحسين عليه السّلام تزوّجت بمولى من الموالي اما معتق او غير معتق و هل النفس تقبل مثل هذا و ان كان جائزا في الشريعة،قلت قد روى الصدرق نور اللّه ضريحه عن الرضا عليه السّلام انّ شهربانو امّ علي بن الحسين عليه السّلام قد ما تتفي نفاسها به و كانت للحسين عليه السّلام أمة مدخولة فسلّمه اليها و كانت هي التي تولّت تربيته و كان يقول لها امي و يحترمها ذاك الأحترام و هي التي زوجها مولاه و المراد به واحد من الشيعة و خواصّه لإطلاق المولى عليه ايضا.

و قد روى التصريح به في حديث آخر و في بعض الروايات انها ألقت نفسها في الفرات في وقت شهادة الحسين عليه السّلام خوفا من يزيد لأنّه كان يكره العجم،و قيل انّ علي بن الحسين عليه السّلام اركبها جملا في تلك الواقعة الهائلة و قال لها كوني على ظهره اين مضى فقيل انه مضى بها الى الري و الآن فيه بقعة يزورها الناس و يقولون هذا قبر امّ علي بن الحسين عليهما السّلام و لكن الاعتماد على ما روي عن الرضا عليه السّلام اذا عرفت هذا.

فاعلم ان حقوق الأم اعظم من حقوق الأب و لهذا أفردها سبحانه في الآيتين الأخيرتين بما به تستحق توقير التعظيم بقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ و بقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً و من هذا جاء في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال له رجل يا رسول اللّه من أحق الناس بحسن صحابتي؟قال امّك قال ثم من؟قال امّك قال ثم من قال ابوك ذكر الأم مرتين و في رواية اخرى ثلاثا قال بعض العلماء هذا يدل على انّ للأم ثلثي بر الابن على الرواية الأولى او ثلاثة ارباعه على الرواية الثانية و للأب امّا الثلث او الربع و ينبغي ان يحقق الأنسان انّه مهما بالغ في برّهما و خدمتهما فهو لا يكون قد أتى بحقهما.

كما روي ان رجلا أتى الى الصادق عليه السّلام فقال له انّي خدمت ابوي حتى كبر سنّهما فصرت اخدمهما كما تخدم الأطفال فهل اتيت بحقهما؟فقال عليه السّلام لا و ذلك انّهما خدماك و هما يحبّان بقاك و انت تخدمهما و تكره بقاءهما،و لكن روي عن سدير الصّيرفي قال قلت لأبي جعفر الباقر عليه السّلام هل يجزي الولد والده؟قال ليس له جزاء الا في خصلتين ان يكون الوالد مملوكا فيشتريه فيعتقه او يكون عليه دين فيقضيه عنه.

بقي الكلام في تحقيق الوالدين الذين ورد في تلك الآيات الأمر ببرّهما و طاعتهما فنقول انّ الذي ورد في الأخبار عنهم عليهم السّلام أطلاقهما على معان ثلاثة الأول ان المراد بالوالدين

ص:58

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علي عليه السّلام قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انا و علي ابوا هذه الأمة و نحن الولدان المأمور ببرّنا في آيات الكتاب و ذلك انّ الأبوين سببان في ايجاد الولد و اما هما عليهما السّلام فهما السببان الاعظمان كما قال تعالى في الحديث القدسي لولاك ما خلقت الافلاك فهما السببان في إيجاد العالمين فيكون مدخليتهما في وجود الابن أعظم من مدخلية الاب في وجود الابن و من هذا كان صلّى اللّه عليه و آله هو اب المؤمنين و زوجاته امهاتهم

و في الروايات الغربيه ان عليا عليه السّلام صعد على منبر الكوفة فقال الفاظا معناها ان المراد بالوالدين في قوله تعالى و بالوالدين احسانا انا و رسول اللّه،فقام رجل من أهل المسجد فقال له يا ابن ابي طالب سحرت اهل الحجاز و أتيت تسحر أهل العراق بتأويلك القرآن فرمقه عليه السّلام بطرفه فاذا هو قد صار غرابا ابقع فطار من بين القوم و وقع على حائطا لمسجد يزعق و الناس ينظرون اليه فقال بعضهم لبعض قد بلغ من سحر ابن ابي طالب انّه يمسخ الرجال و اللّه لئن لم تعاجلوه بالقتل لصنع بكم ما صنع بصاحبكم و كان عدة القوم ثلاثين ألفا،فتعاقدوا على انّه اذا جاء الى صلاة الجمعة و فرغ من الخطبة و نزل و سجد نبادر اليه بسيوفنا كلّها فنضربه بها حتّى لا يعرف له قاتل،فلمّا أتى يوم الجمعة تقلّدوا بسيوفهم و أتوا الى المسجد،فلمّا سجد في الركعة الأولى أقبض كلّ واحد منهم قائمة سيفه ليخرجهمن جفنه،فما أتى في ايديهم سوى قبضات السيوف،فلمّا فرغوا من الصلاة قام عليه السّلام و تخطّى القوم و أتى الى منزله،فنظروا و اذا سيوفهم ليس الاّ القبضة و الجفن و لم يروا حديدة السيف فتعجبوا.

و كان بعض مواليه عليه السّلام معهم،قال فأتيته عليه السّلام في بيته و حكيت له كيد القوم و تسويلهم و ما جرى عليهم من فقد سيوفهم،فقال لي عليه السّلام اذا كان غدا فتعال الينا اول النهار فأتيته في الغد،فقال لي اخرج الى ظهر الكوفة حتى تبلغ الى موضع كذا و كذا فاذا وصلت اليه ترى قافلة مقبلة يقدمها رجل على بغلة،فتقدّم عليه و قل له انّ امير المؤمنين عليه السّلام أرسلني اليك و هو يقول سلّم اليّ هذه القافلة و ارجع سالما،فلمّا بلغت الى ذلك الموضع رأيت ذلك الرجل يقدم القافلة فقلت له ما قال لي،فقال هذه القافلة خذها اليه و ارجع فأتيت بالقافلة اليه عليه السّلام فطرحت تلك الأحمال عنده و لم أدر ما فيها.

فقال عليه السّلام ادع فلانا يعني جماعة من شيعته و مواليه فدعوتهم فلمّا أتوا اليه قال اخرج ما في هذه الحمول،فلما خليتها فاذا حدايد السيوف،فعددتها فاذا هي ثلاثون ألفا،فقسمها بين مواليه و شيعته و خرجوا لبيعها في الاسواق و باعوا على اولئك القوم فعرفوها و أشتروها بأغلى ثمن،فأتيت اليه و قلت له يا امير المؤمنين ما هذه السيوف فقال هي سيوفهم،و ذلك انها لما

ص:59

ارادوا المكر أرسل اللّه اليهم ألفا من الملئكه فأخذ كل ملك بسيف واحد من القوم و جمعوها و أتوا بها مع ذلك الرجل الذي رأيته

هذا المناقب لا قعبان من لبن شيبت بماء فصارت بعد أبوالا

فاين هذا من الرجل العالم الذي يقول كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات تحت الحجال و صاحبه الذي يقول ان لي شيطانا يعتريني اذا ملت فعدلوني،و بالجمله فالابوان عليهما السّلام فمن برهما استحق ثواب الابرار،و من عقهما كان من أهل العقوق.

الثاني ان المراد بالأب من علّم الأنسان العلوم الدينية فانّه قد هداه و أنقذه من النار،فهو قد أحيا قلبه و نوّره بأنوار المعارف الألهية و قد قال تعالى وَ مَنْ أَحْيٰاهٰا فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا النّٰاسَ جَمِيعاً قال من أنقذها من ظلالة الى هدى،و هذا شأن المعلم فهو الأب الثاني لأنه كان سببا في حياته الباقية و الأب سبب في حياته الفانية،و حينئذ فيجب عليه ان يبره فان عقه بواحد من أنواع العقوق كان من أهل الذنوب و الآثام.

و كان في أصفهان رجل عالم من مجتهدينا رأيناه و قرأنا عليه و قد كان في أول تحصيله يقرأ عند مجتهد آخر فلما نشأ ذلك التلميذ أنكر قراءته على ذلك الشيخ،و لم يقرّ له بالفضل،فبلغ الأستاذ قوله فدعا عليه و قال اللهم اسلبه كل ما قرأ عندي و أخذه مني،فسلبه اللّه الحافظة بعد ما كان مشهورا بالحفظ فصار لا يحفظ مسئلة على خاطره،بل لا بدّ له في كل مسئلة من مراجعة كتبه و مؤلفاته و هو الآن موجود في اصفهان و نحن نحمد اللّه على توفيقه لنا لبرّ المشايخ و القيام بوظائف دمتهم و الأستغفار لهم أحياء و أمواتا و رضّاهم عنا.

و اما تلاميذنا فمنهم من آذانا غاية الإيذاء،و عقنا نهاية العقوق،فنحن نقول اللهم قابل اسائته الينا بالإحسان،و قابل عقوقه لنا ببرك به،و وفقه لكل خير بحق محمّد و آله الطّاهرين، و لا تستبعد ما جرى على ذلك الفاضل من سلب اللّه سبحانه ما منحه من المسائل فانه قد روي عنه عليه السّلام انّ العلم يهتف بالعمل فان اجابه و الا إرتحل عنه،و لا ريب ان البر للمعلم من أعظم الأعمال و أقواها،فحيث لم يقم به ارتحل عنه العلم ارتحالا بعيدا.

الثالث المراد بهما هذان الأبوان و ان علوا،فالجدّاب و ان علا و كذا الجّدة و كما يجب على الولد البر بوالديه فكذلك يجب على الوالدين البرّ بأولادهما،قال عليه السّلام يلزم الأباء من العقوق لأولادهم ما يلزم الأولاد من العقوق لأباءهم،و قال عليه السّلام لعن اللّه و الدين حملا ولدهما على عقوقهما،فينبغي للآباء أن يحسن الى الأولاد كما هو المشاهد في هذه الأعصار،و ممّا يتعلق بالأولاد من مسائل الفقه تأكيدا لحقوق الأبوين تحريم السفر المباح بغير إذنهما،و كذا السفر المندوب،و اما لو كان واجبا كالسفر لطلب العلم فان أمكن تحصيله عندهم كتحصيله في السفر فلا

ص:60

يجوز حينئذ الا بإذنهما،و ان لم يكن مطلقا،او أمكن على وجه ناقص جاز السفر مطلقا و المراد بالعلم الذي يجب له السفر الواجب علم الكلام و الفقه و الحديث و التّفسير أمّا غيره كحكمة الأبدان و حكمة الفلاسفة و النّجوم و نحوها فلا يجوز له السّفر الا بإذنهما.

و اما مقدمات العلوم الواجبة كعلم العربية و نحوه فالظّاهر جواز السّفر له ايضا بغير اذنهما كالعلم الواجب،و ذلك لأنّ علم النحو او نحوه قد صار جزء من العلم الواجب لشدّة توقّفه عليه، و انّ من كان لا اطلاع له على علوم العربية لم يحصّل العلوم الواجبة على وجه يكمل الأنتفاع بتحصيله،و منه ايضا ما قاله بعض الأعلام من انّه يجب طاعتهما في كل فعل و ان كان شبهة،فلو أمراه بالأكل معهما من مال يعتقده شبهة الأكل وجب له أكله فليؤخّر الصلاة و ليطعهما لما قلناه، و يجوز لهما منعه عن صلاة الجماعة و لكن لا مطلقا بل اذا شقّ عليهما مخالفته كالسّعي في ظلمة الليل الى العشاء و الصّبح،و كالسّعي في الأوقات الحارّة و الباردة.

و منه ايضا ما قاله جماعة من الأصحاب و هو انّهما لو دعواه في الصّلاة النافلة قطعها،لما صح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ امرأة نادت ابنها و هو في صومعة،فقالت يا جريح فقال اللّهم امي و صلاتي،فقالت لا تموت حتى تنظر في وجوه المؤمنات،و في بعض الروايات انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لو كان جريح فقيها لعلم انّ اجابة أمّه أفضل من صلاته،و منه ايضا ترك الصّوم ندبا الا بإذن الأب و لم أقف على نصّ في الأم.

و منه ايضا ترك اليمين و العهد الا بإذنه ايضا ما لم يكن في فعل واجب او ترك محرم،و لم أقف في النّذر على نصّ خاص الا ان يقال هو يمين يدخل في النهي عن اليمين الا بإذنه.

بقي الكلام في تحقيق الرحم المأمور بصلته في الكتاب و السنة،و الكلام هنا يقع في أمور:

الأول الرحم؟قال اكثر علمائنا المراد به المعروف بنسبه و ان بعد،و ان كان بعضه آكد من بعض ذكرا او انثى،و قصر بعض العامة له على من يحرم نكاحهم لا وجه له مع ما ورد في الروايات،و روي في تفسير قوله تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ ، فعن علي عليه السّلام انّها نزلت في بني اميّة،و هو يدل على تسمية القرابة المتباعدة رحما،و قد روي في حديث انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا عرج الى السّماء رأى رحما معلقة بالعرش تشكو من رحمها،فسألت كم بينها و بين القرابة؟فقيل انّها تلتقي معها بعد سبعين أبا، و الظاهر انّ مثل هذا من باب التأكيد و من باب الأستحباب.

الثاني بمن الصلة؟قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلوا ارحامكم و لو بالسّلام،ففيه تنبيه على ان السّلام صلة،و لا ريب انه مع فقر بعض الأرحام و هم العمود ان يجب الصلة بالمال و يستحب لباقي الأقارب و يتأكد في الوارث و هو قدر النّفقة،و مع الغنى فبالهدية في بعض الأحيان

ص:61

بنفسه او برسوله،و اعظم الصلة ما كان بالنّفس،و فيه اخبار كثيرة،ثم بدفع الضّرر عنها،ثم يجلب النّفع اليها،ثم بصلة من يجب نفقته و ان لم يكن رحما للواصل كزوجة الأب و الأخ و مولاه و أدناها السّلام بنفسه،ثم برسوله،و الدعاء بظهر الغيب و الثّناء في المحضر.

الثالث ما الصّلة التي يخرج به عن القطيعة؟و الجواب المرجع في ذلك الى العرف لأنّه ليس حقيقة شرعية و لا لغوية،و هو يختلف بإختلاف العادات و بعد المنازل و قربها.

الرابع هل الصلة واجبة او مستحبة؟قال شيخنا الشهيد قدس اللّه روحه أنها تنقسم الى الواجب و هو ما يخرج به عن القطيعة،فان قطيعة الرحم معصية بل قيل هي من الكبائر و المستحب ما زاد على ذلك.

نور في حب الدنيا و اسبابه و علاماته

اعلم وفقك اللّه اننا قد اسلفنا لك بيان الدنيا التي قال فيها الأنبياء عليهم السّلام حبّها رأس كل خطيئة،و ان المراد بها الحالة التي تبعدك عن جناب مولاك و ان كانت الصلاة و سائر الطاعات،فانها اذا وقعت لا بقصد الأخلاص كانت رياء يقصد بها التّقرب الى المخلوقين فيكون من أرفاد الدنيا،و ان المال و ان كثر اذا قصد به التّوسعة على الأخوان كان من أهم المطالب الأخروية،و كذلك الجاه و الأعتبار فانّه قد يطلب لقضاء حوائج المؤمنين الذي عرفت ان قضاء الحاجة واحدة منها أفضل عند اللّه من عشر طوافات بالبيت مع انّ ثواب كل طواف يكتب له ستة الآف حسنة،و يمحي عنه ستة الآف سيئة،و يرفع له ستة الآف درجة،و ليس من ذنب يصدر من ابن آدم الاّ كان منتهيا الى حب الدّنيا و مسبّبا عنه.

روى الكليني طاب ثراه عن محمّد بن مسلم بن عبيد اللّه (1)قال سأل علي بن الحسين عليه السّلام أي الأعمال أفضل عند اللّه تعالى؟قال ما من عمل بعد معرفة اللّه تعالى و معرفة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من بغض الدّنيا،و انّ لذلك شعبا كثيرة و للمعاصي شعبا،فأول ما عصي اللّه تعالى به الكبر معصية ابليس حير ابى و استكبر و كان من الكافرين،ثم الحرص و هي معصية آدم و حواء حين قال اللّه تعالى لهما فَكُلاٰ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ الظّٰالِمِينَ فأخذا ما لا حاجة له اليه،ثم الحسد و هي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعّب من ذلك حب النساء،و حب الدنيا،و حب الرئاسة،و حب الراحة،و حب الكلام و حب

ص:62


1- (1) .هو الزهري المدني المعروف بابن شهاب و اسم جده(عبيد اللّه).

العلو و الثّروة فصرن سبع خصال،فاجتمعن كلّهن في حب الدنيا،فقالت الأنبياء و العلماء بعد معرفة ذلك حب الدّنيا رأس كل خطيئة،و الدّنيا دنياء ان دنيا بلاغ،و دنيا ملعونة.

و بالجملة فهي سبب لكل المعاصي،قال الصادق عليه السّلام انّ الشيطان يدير ابن آدم في كل شيء فاذا أعياه جشم له (1)عند المال فاذا أخذ(فأخذ)برقبته،و امّا جمع المال بقصد التّوسعة على العيال و الأخوان و ان كان هذا كما عرفت ليس من امور الدنيا الا انّ الأولى ان يقتصر على هذه النّية،ففي الحديث انّ المؤمن اذا قال ان آتاني اللّه مالا أفعل كذا و كذا من أمور الخير أعطاه اللّه ثواب ما نواه و ان لم يعطه المال ليفعله،امّا اذا وجد بالسّعي و حصل ذلك المال فهو فيه على أخطار.

منها انّ المال الكثير قلّما يجتمع من حلال كما قال الصادق عليه السّلام ما أجتمعت عشرة الآف من حلال قط،و منها انّه عند اجتماعها كثيرا ما يعرض له اهمال الحقوق الواجبة كما قال عليه السّلام لا تتعرّضوا لجمع الأموال فانّه كلّما كثرت الأموال كثرت الحقوق بها،و إخراج الحقوق عسر جدا لما روي عنه عليه السّلام انّ درهم الصّدقة يفك بين لحيي سبعمائة شيطان كلّهم يعضون عليه بأضراسهم،و من ذا الذي يكون له من قوة الأيمان ما يقابلهم الاّ القليل.

و روي ان رجلا عابدا كان جالسا مع العبّاد فقرأ احدهم هذا الحديث،فقال ذلك العابد أنا هذه السّاعة امضي الى منزلي و أتصدّق بصدقة و أرى كيف الشّياطين تمنعني،فخرج مبادرا الى المنزل فدخله و أتى الى الحنطة و بسط عباه فأخذ بها حنطة يتصدّق بها فرأته زوجته فقالت له اين تريد بهذه الحنطة و نحن في هذه السنة المجدبة،لعلّك تريد ان تهلك أولادك جوعا،فسوّلت له الأباطيل حتّى ندم و رمى بالحنطة،و أتى الى اصحابه فقالوا له لعلّك تصدّقت بشيء و لعل الشّياطين لم يحضروك،فقال انّ الشّياطين لم يحضروا و لكن كانت أمّهم حاضرة،فقامت مقامهم في المنع يعني به زوجته،و لا شك في انّ الواحدة منهنّ تعادل الآفا من الشّياطين،و من هنا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاوروهن و خالفوهنّ،و كان هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يفعل مثل ذلك،و في الحديث انّه ما أيس الشّيطان من بني آدم الاّ أتاهم من قبل النّساء و هن من أعظم فخوخه و مصائده،و قد بيّنا سابقا ان كل فتنة وقعت في العالم فانّما جاءت من قبلهنّ،و ذلك ان الفتنة الأولى و هي أكل آدم من الشجرة و إخراجه الى الأرض انّما جاء من قبل حوّاء لأنّ آدم لمّا يقبل وساوس الشّيطان وسوس الى حواء فجاءت الى آدم فكلّمته في أمر الأكل من الشّجرة حتى حملته عليه،و امّا الفتنة الأخيرة التّي نشأ منها خراب العالم و هي غصب خلافة أمير المؤمنين عليه

ص:63


1- (1) جشم الأمر تكلفه على مشقة و تجشم فلانا من بين القوم أي اختاره و قصد قصده.

السّلام و إستظهارهم و اتّفاقهم على عداوته فانّما جاء من قبل عائشة و عداوتها و حسدها لفاطمة عليها السّلام بسبب انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يظهر المحبّة لها و لولديها فغارت من هذا عائشة و أضمرت العداوة لها ثمّ أظهرتها،فتخطّت تلك العداوة من النّساء الى الرجال فبغض عليا عليه السّلام ابو بكر و عمر ففعلا ما فعلا و فعلت عائشة بعدها ما فعلت.

و منها انّه ربما تسبّب بجمع الأموال الى إهلاك نفسه ابتداء قبل الظّفر بمطلوبه منه،كما روي انّ المسيح عليه السّلام خرج يوما الى البريّة و معه ثلاثة من أصحابه،فلمّا توسّعوا في البرية رأوا لبنة ذهب مطروحة في الطريق،فقال عيسى عليه السّلام هذا الذي أهلك من كان قبلكم ايّاكم و محبّة هذا،فمضوا عنها فما مضى ساعة حتى قال واحد منهم يا روح اللّه ائذن لي في الرجوع الى البلد فانّي أجد الألم،فاذن له فأتى الى تلك اللّبنة ليأخذها فجلس عندها.

فقال الثاني يا روح اللّه ائذن لي في الرجوع فأذن له و كذلك الثّالث،فاجتمعوا عند تلك اللبنة ليأخذوها فاتّفقوا على أخذها،فقالوا نحن جياع فليمض واحد منا الى البلد ليشتري لنا طعاما حتى تدخل البلد،فمضى واحد فأتى الى السوق و اشترى طعاما فقال في نفسه انّي أجعل فوقه سمّا فيأكلاه فيموتا فتبقى تلك اللّبنة الذهب لي وحدي فوضع في الطّعام سمّا،و اما الآخران فتعاقدا(هدا)على ان يقتلاه و يأخذا اللبنة،فلمّا جاء بالطّعام بادروا اليه و قتلاه و جلسا يأكلان الطعام فما أكلا الا قليلا حتى ماتا فصاروا كلّهم امواتا عند تلك اللبنة،فلمّا رجع عيسى عليه السّلام مرّ على تلك اللّبنة فرأى أصحابه أمواتا،فعلم انّ تلك اللّبنة هي التي قتلهم،فدعى اللّه سبحانه فأحياهم لأجله فقال لهم أما قلت لكم انّ هذا هو الذي أهلك من كان قبلكم فتركوا اللّبنة و مضوا.

و حكي ان رجلا عارفا سافر وحده و معه كيس من الدراهم،فلمّا توسّع في البرية توهم من حمل تلك الدّراهم و خاف على نفسه القتل فأخذ بالكيس و رماه و مشى على فراغ بال و اطمئنان خاطر،و قد كان رجل يمشي في ذلك الطّريق على أثره فوجد ذلك الكيس فرفعه و حمله معه فلحق بذلك العارف،فسأله و قال يا أخي أ هذا الطّريق أمن أم لا؟فقال له العارف ان كان الذي رميته انا رفعته انت فهو غير أمن و ان كان تركته فالطّريق أمن،و كثيرا ما رأينا رجالا ركبوا البحار و خاطروا بالأنفس و تحملوا مشاق السفر الطويل و صرفوا أكثر أعمارهم في تحصيل الأموال فلمّا حصّلوها و رجعوا الى بلادهم عجل عليهم الموت قبل الوصول اليها بيوم او يومين او أقل فأكلها بعده أعداؤه املا زوج امرأته او نحوه،و ربّما حصل من تلك الأموال النّدامتان،امّا ندامة الدّنيا فبخروجه من تلك الأموال و مفارقته لها عند الموت و كذلك في حال الحياة ايضا فان صاحب المال تعبان القلب من وجوه كثيرة.

ص:64

و قد كان لنا أخ صالح فسافر الى بلاد الهند و أتى معه بما يقرب من ألفي درهم فأتى الينا و نحن في شيراز في المدرسة المنصوريّة في عشر السّتين بعد الألف فأخذنا له حجرة في المدرسة و بقي معنا و وضع تلك الدّراهم معه في الحجرة،و كان من خفيف نومهانّ كلّ من يمشي في صحن المدرسة هو يستيقظ من نومه خوفا عليها،و كنّا نخرج معه من المدرسة الى البساتين او نحوها و نأتي اليه قبل الخروج حتّى يجعل القفل العظيم على الحجرة و نحن معه فاذا انتهينا الى البستان و جلسنا قام ذلك الشّيخ فنقول له اين؟فيقول الى المدرسة أخاف ان اكون قد نسيت حجرتي من غير قفل.

فنقول له انّا قد رأيناك قفلتها فلم يقبل منّا،و هذا كان حاله مدّة من الزمان فلمّا أنفقها من يده صرنا نجيء اليه و هو نائم و ندقّ الباب دقا عنيفا فما يستيقظ،و صار يترك الحجرة هكذا من غير قفل،فعلمنا انّ الدّراهم خرجت من يده و كان الحال على ما علمناه.

و اما الندامة الأخروية فقال عليه السّلام ويل لمن رأى حسناته في ميزان غيره و ذلك انذه يتعب باله في جمع المال و لا ينفعه في سبيل اللّه فيأتي بعده من يتصدّق به و يصل المؤمنين فيكون ثوابه يوم القيامة في ميزان غيره،فيا لها حسرة عظمى و شقاوة كبرى،و ان أنفقها الوارث في غير حقّها عوقب عليها و كان لذلك الرجل الذي جمعها و لم ينفقها فيما أمر به حظّ وافر من عذابها.

و قد كان في زماننا رجل صالح و كان في خدمة سلطان الهند خرم شاه،و كان مداخله من الأموال في كل سنة تقرب من أربعمائة ألف دينار و كان ينفقها في سبيل اللّه،فسمع السّلطان بذلك فطلبه يوما و قال له يا فلان ينبغي للإنسان ان يكون له حظّ من حب المال،و أنا سمعت بأنّك ما تحب المال،فقال ذلك الرجل ايّها السّلطان و اللّه انّي لحريص على حب المال و ما أحد من خواصّك أحرص مني.

و ذلك اني اريد ان آخذ كلّ أموالي معي و لا أبقي منها شيئا،و النّاس يريدون يبقونها بعدهم فأي حريص أحرص مني،فقال له صدقت،و من هذا كلّه و الخوف منه مال الأولياء الى ارادة الفقر،فقال عليه السّلام اذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين و اذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته،إنا للّه و انا اليه راجعون.

و في الروايات انّ عيسى عليه السّلام لما رفعه اللّه الى السماء الرّابعة زارته الملائكة فوجدوا عليه قميصا مرقّعا برقع كثيرة فضجّوا و قالوا الهنا ليس يساوي عبدك عيسى عندك ثوبا صحيحا؟ فنودوا ان فتّشوا عيسى،ففتشوه فوجدوا في قميصه أبرة يرقع بها ما يخترق منه،فقال تعالى فو عزتي و جلالي لو لا ابرته لرفعته الى السّماء السّابعة،و في الأنجيل انّ عيسى عليه السّلام قال اللّهم ارزقني غدوة رغيفا من شعير،و عشيّة رغيفا من شعير،و لا ترزقني فوق ذلك فاطغى.

ص:65

و قال الصادق عليه السّلام انّ اللّه عزّ و جلّ ليعتذر الى عبده المحوج كان في الدنيا كما يعتذر الأخ الى أخيه فيقول و عزتي و جلالي ما أفقرتك لهو ان كان بك عليّ فارفع هذا الغطاء فأنظر ما عوّضتك عن الدّنيا،فيكشف له عن بصره فينظر ما عوّضه اللّه عزّ و جلّ عن الدّنيا فيقول ما ضرّبي يا رب ما زويت عنّي مع ما عوّضتني،و الى هذا الحديث و أمثاله نظر العقلاء فأختاروا بيع هذه الدّنيا الدنيّة بما عند اللّه سبحانه.

روى هشام بن الحكم انّ رجلا من اهل الجبل أتى ابا عبد اللّه عليه السّلام و معه عشرة آلاف درهم و قال له اشتر لي دارا انزلها اذا قدمت و عيالي ثم مضى الى مكّة،فلمّا حجّ و انصرف انزله الصادق عليه السّلام غب داره،و قال اشتريت لك دارا بالفردوس الأعلى،حدّها الأول الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الثاني الى علي عليه السّلام و الثالث الى الحسن عليه السّلام و الرابع الى الحسين و كتبت الصّك به،فلمّا سمع الرّجل بذلك قالت رضيت،ففرق الصادق عليه السّلام تلك الدّنانير على أولاد الحسن و الحسين عليهما السّلام و انصرف الرجل، فلمّا وصل الى منزله اعتلّ علّة الموت،فلمّا حضرته الوفاة جمع أهل بيته و حلفهم ان يجعلوا الصّك معه في قبره ففعلوا ذلك،فلمّا اصبحوا و غدوا الى قبره وجدوا الصّك على ظهر قبره و على ظهره و في لي و لي اللّه جعفر بن محمّد بما وعدني.

و رأيت في كتاب عوالي اللئالي حديثا و هو انّ رجلا غنيا أراد المسير الى مكة فهيّأ لها ما يحتاج اليه المسافر فركب يوما في بعض حوائجه،فمر بطريق و رأى امرأة علويّة قد أقبلت الى دجاجة ميتة منبوذة في الطريق لتأخذها.

فقال لها هذه ميتة فلم تأخذيها؟قالت الحاجة تضطر الأنسان الى هذا،فأخذها معه الى المنزل و دفع اليها كلّ ما هيّأة للسفر و ترك الحج في تلك السنة،فلما رجع الحاج مضى اليهم ليزورهم و كل من دخل عليه قال له أحدهم رأيناك يا فلان بعرفات،و يقول الآخر رأيناك بالمشعر، و هكذا فتعجّب الرجل فأتى الى الأمام عليه السّلام و حكى له فقال نعم انّ اللّه سبحانه أرسل ملكا على صورتك ليحجّ عنك،و هو ذا يحجّ عنك في كلّ سنة،فانظر كيف فاز بثواب الصّدقة و الحجّ.

و بينبغي للإنسان ان يقدم امور آخرته على امور دنياه فانّك قد تحققت انّ في جمع الأموال الأخطار الكثيرة،حكى عن بعض الصالحين انّه سأل عن توبته،فقال انّي كنت رجلا دهقانا فاجتمع عليّ اشغال ليلة من الليالي كنت احتاج الى ان اسقي زرعا،و كنت حملت حنطة الى الطّاحون،فوثب حماري و ضل فقلت ان اشتغلت بطلب الحمار فاتني سقي الزرع،و ان اشتغلت بالسقي ضاع الطّحن و الحمار،و كان ذلك ليلة الجمعة و بين قريتي و الجامع مسافة بعيدة.

ص:66

فقلت اترك هذه الأمور كلّها و امضي الى صلاة الجمعة،فمضيت و صليت فلمّا انصرفت و مررت بالزرع فاذا هو قد سقي،فقلت من سقاه؟فقيل انّ جارك أراد ان يسقي زرعه فغلبته عيناه و انتبق السّكر فدخل الماء زرعك،فلمّا وافيت باب الدار اذا انا بالحمار على المعلف،فقلت من ردّ هذه الحمار؟فقالوا صال عليه الذئب فالتجأ الى البيت،فلمّا دخلت الدّار اذا أنا بالدقيق موضوع هناك،فقلت كيف سبب هذا؟فقالوا انّ الطحّان طحن هذا بالغلط فلمّا علم انّه لك ردّه الى منزلك،فقلت ما أصدق ما قيل من كان للّه كان اللّه له،و من أصلح للّه أمرا أصلح اللّه أموره.

و ينبغي للعاقل ان يتفكّر في الأمثال التي ضربها عليهم السّلام للدّنيا،منها ما رواه الصّدوق(ره)باسناده الى الحرث الأعور قال بينا أنا أسير مع أمير المؤمنين عليه السّلام يا حارث الحيرة اذ نحن بدير انّي يضرب النّاقوس،قال فقال علي بن ابي طالب يا حارث أ تدري ما يقول هذا الناقوس؟قلت اللّه و رسوله و ابن عم رسوله أعلم،قال انّه يضرب مثل الدنيا و خرابها و يقول:لا اله الا اللّه حقّا حقّا صدقا صدقا،انّ الدّنيا قد غرّتنا و شغلتنا و استهوتنا و استغوتنا،يا ابن الدنيا مهلا مهلا،يا ابن الدنيا دقا دقا،يا ابن الدنيا جمعا جمعا تفنى الدنيا قرنا قرنا،ما من يوم يمضي عنّا الاّ أوهى منّا ركنا قد ضيّعنا دارا تبقى و استوطنا دارا تفنى لسنا ندري ما فرّطنا الا لو قدمنا،قال الحرث يا أمير المؤمنين النّصارى يعلمون ذلك؟قال لو علموا ذلك لما اتّخذوا المسيح إلها من دون اللّه.

قال فذهبت الى الدّير فقلت له بحق المسيح لمّا ضربت بالنّاقوس على الجهة التي تضربها، قال فأخذ يضرب و أنا أقول حرفا حرفا حتّى اذا بلغ الى موضع قوله الا لو قدمنا فقال بحق نبيكم من أخبركم بهذا؟فقلت الرجل الذي كان معنا امس،قال و هل بينه و بين النبي من قرابة،قلت هو ابن عمه،قال بحق نبيكم اسمع هذا من نبيكم قال قلت نعم،فأسلم ثمّ قال لي و اللّه انّي وجد في التوراة انّه يكون في آخر الأنبياء نبي و هو يفسر ما يقول الناقوس.

و منها قول الباقر عليه السّلام مثل الحريص على الدّنيا كمثل دودة القزّ كلمّا ازدادت على نفسها لفّا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما،فانظر الى حسن هذا المثال بل حال الأنسان أسوء من حال دودة القز و ذلك انّ دودة القز ان ماتت غما في الذي نسجته على نفسها لكنها لا تموت بالكليّة و لهذا اذا بقيت في القزّ مدة مديدة تحرّكت في بطن القزة و قرضت و خرجت منها بصورة طائر حسن الصورة و ما ذلك الاّ لأنّها جهدت في خراب ما نسجت و لا تموت في بطن القزة الاّ اذا وضعت القزة في الشمس الحارة،و اما الأنسان اذا نسج على نفسه بمتاع غرور الدّنيا تعذر عليه الخروج فيبقى في المجلس الضّيق الى ان تأتيه شمس القيامة فتحرقه.

ص:67

و منها قول الصادق عليه السّلام انّ في كتاب علي عليه السّلام انّما مثل الدنيا كمثل الحيّة ما ألين مسّها و في جوفها السّم الناقع،يحذرها العاقل و يهوى اليها الصبي الجاهل و هذا المثل كالأول و ذلك انّ الصّبي انّما ينظر الى ظاهرها و في ظاهرها من النقوش و الخطوط فيهوى اليها الصبي بل الحيّة خير من الدنيا و ذلك انّها و ان كان في جوفها السم الناقع الضّار لكن يخرج منها خرزة سوداء مدورة تنفع للسع الحيّات،و ذلك انّها توضع على موضع اللدغة فتجذب السم و تقلعه من البدن،فهي نافعة من هذه الجهة مع انّها انّما تضرّ من آذاها.

حكى لي ثقة من أصدقائي انّه كان عندهم حية في البيت فكان عندها فراخ،قال فأردنا أن ننظر اليها يوما،فلمّا خرجت بادرنا الى فراخها فوضعناها تحت قدر و خرجنا من البيت،فلمّا أتت الى فراها فلم ترها عمدت الى البيت و جالته على الفراخ فلم تجدها،فلمّا أيست منها أتت الى لبن في البيت فدخلت فيه و شربت منه و قاءته حتى صار أصفر من السّم،و خرجت من البيت فعمدنا الى فراخها و وضعناها في موضعها فأتت مرة اخرى،فلمّا رأتها أتت الى ذلك اللبن و دخلت فيه و خرجت عنه فوضعت نفسها على التراب و دخلت على اللبن و هكذا حتى صار ذلك اللبن مثل لون التراب و مضت عنه حتى لا نشربه،و اما الدنيا فإنها تلسع كل احد و منها قوله عليه السّلام الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله و منها قوله عليه السّلام الدنيا كمثل البيت قد انخفض سقفه فكل من دخل اليه لا بد و ان يطأطأ رأسه و متى رفعه شجه السقف و الداخل الى الدنيا حاله هكذا بل هو اسوأ حالا.

و منها ما نقله الصدوق طاب ثراه عن بعض الحكماء في تشبيه اغترار الأنسان بالدنيا و غفلته عن الموت و الأهوال و انهماكه في لذات الدنيا الممزوجة بالكدورات بشخص مدل في بئر مشدود وسطه بحبل و في اسفل ذلك البئر ثعبان عظيم متوجه اليه منتظر سقوطه فاتح فاه لألتقاطه، و في أعلى ذلك البئر جرذان أبيض و أسود لا يزالان يقرضان ذلك الحبل شيئا فشيئا و لا يفتران على قرضه انا من الأناة،و ذلك الشخص مع انه يشاهد ذلك الثعبان و يرى انقراض الحبل انا فأنا قد أقبل على قليل عسى القد لطّخ به جدار ذلك البئر و امتزج بترابه و اجتمع عليه زنابير كثيرة و هو مشغول بلطعه منهمك في ملتذ بما أصاب منه لتلك الزنابير عليه قد صرف باله غير ملتفت الى ما فوقه و ما تحته فالبئر هو الدنيا و الحبل هو العمر و الثعبان الفاتح فاه هو الموت و الجرذان الليل و النهار القارضان للأعمار،و العسل المختلط بالتراب هو لذات الدنيا الممزوجة بالكدورات و الآلام و الزنابير هم ابناء الدنيا المتزاحمون عليها و هذا المثل كالأمثال السابقة في الأنطباق على الممثل له.

ص:68

و بالجملة فالعاقل من تفكر في كلام امير المؤمنين عليه السّلام فانه كان عارفا بداء الدنيا و دواءها و من ثم قال ابو جعفر عليه السّلام كان امير المؤمنين عليه السّلام بالكوفة اذا صلى العشاء الآخر ينادي ثلاث مرات حتى يسمع اهل المسجد ايها الناس تجهزوا رحمكم اللّه فقد نودي فيكم بالرحيل فما التعرج على الدنيا بعد النداء فيها بالرحيل تجهزوا رحمكم اللّه و انتقلوا بأفضل ما بحضرتكم من الزاد و هو التقوى،و اعلموا ان طريقكم الى المعاد و ممركم على الصراط،و الهول الأعظم أمامكم و على طريقكم عقبة كئود و منازل مهولة مخوفة لا بد لكم من الممر عليها و الوقوف بها فأما برحمة من اللّه فنجّاه من هولها و عظّم خطرها و فضاعت منظرها و مختبرها و اما بهلكه ليس لها بعدها انجبار و اي مثل للدنيا اعظم من أمثاله سبحانه و له الأمثال العليا قال في سورة الحديد أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلاٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطٰاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰانٌ وَ مَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ الْغُرُورِ و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مالي و الدنيا انما مثلي و الدنيا كمثل راكب قال(من القيلولة)في ظل شجرة في يوم صيف ثم راح و تركها.

و في وصية لقمان لأبنه على ما قال الصادق عليه السّلام ان الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير،فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه،و حشوها الأيمان و شراعها التوكل و قيمها العقل و دليلها العلم و سكانها الصبر و من أجل هذا ورد الحث على التفكر لأنه يؤدي الى مقت الدنيا و الرغبة عنها،و روى الحسن الصيقل قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عما يروي الناس تفكر ساعة خير من قيام ليلة،قلت كيف يتفكّر قال يمر بالخربة او بالدار فيقول اين ساكنوه اين بانوه مالك لا تتكلمين،و قال الرضا عليه السّلام ليس العبادة بكثرة الصلاة و الصوم انما العبادة التّفكر في امر اللّه عز و جل و ذلك ان بالتّفكر يقصر الأمل فاذا قصر الأمل كثر العمل و اقوى اسباب حب الدنيا و الميل اليها انما يجيء من جهة طول الأمل فان الأمل يزيد على العمر بكثير.

روي عن ابن مسعود قال خط النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ربعا و خط خطا في الوسط خارجا منه و خط خططا صغارا الى هذا الذي في الوسط،فقال هذا الأنسان و هذا أجله محيطا به و هذا هو الخط الذي هو خارج أمله و هذه الخطط الصغار الأغراض فانى أخطأه هذا نهشه هذا و هذه صورته:

ص:69

و اما من قصر امله في الدنيا فهي لا تغره،روي ان عيسى عليه السّلام صعد جبلا فرأى شخصا يعبد اللّه تعالى في حر الشمس فقال له لم لا تستظل؟فقال يا نبي اللّه انّي سمعت من الأنبياء انّي لا أعيش أكثر من سبعمائة سنة فلم أجد من عقلي ان اشتغل بالبناء،فقال عليه السّلام انّي لأخبرك بما يعجبك،قال فما ذا؟قال يكون في آخر الزمان قوم لا تنتهي عمر أحدهم الى أكثر من مائة سنة و هم يبنون الدور و القصور و يتّخذون الحدائق و البساتين و يأملون أمل عمر ألف سنة، قال الشيخ فو اللّه اني لو أدركت زمانهم لجعلت عمري في سجدة واحدة،ثمّ قال لعيسى عليه السّلام ادخل هذا الكهف حتى ترى عجبا فدخل فرأى سريرا من حجر و عليه ميّت و على رأسه لوح من حجر مكتوب عليه أنا فلان الملك أنا الذي عمرت ألف سنة،و بنيت ألف مدينة، و تزوجت بألف بكر،و هزمت ألف عسكر ثم كان مصيري الى هذا فاعتبروا يا أولي الألباب.

و في الحديث ان سليمان عليه السّلام مرّ على رجل يعمل بمسحاته فوقف قربه فقال اللهم انزع من قلبه آمال الدنيا،فنزعها اللّه سبحانه فألقى الرجل مسحاته و جلس،ثمّ قال بعد ساعة اللهم الق في قلبه الأمل،فقام الى مسحاته و حرث،فتقدّم اليه سليمان عليه السّلام و قال له يا عبد اللّه كيف جلست ثم قمت؟قال قد فكرت انّ هذا الذي أحرثه لعلي لا أبقى الى أوانه فلم أزرعه فجلست،ثمّ فكرت بأن الأنسان لا بد له من خير يعيش به في الدنيا ثم قمت الى مسحاتي.

و من أعظم أسبابه أيضا حب الأولاد قال اللّه تعالى أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ و قد كان رجل يقول عند أمير المؤمنين عليه السّلام اللهم اني اعوذ بك من الفتن،فقال عليه السّلام لا تقل هذا فان أولادك من الفتن و تلا هذه الآية،و لكن قل اللهم اني أعوذ بك من مضلاّت الفتن، و في الرواية ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يوما يخطب على المنبر فجاء الحسنان عليهما السّلام و عليهما ثياب جديدة،فعثر الحسين عليه السّلام في ذيل ثوبه فلمّا رآه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطع الخطبة و سقط عليهما و حملهما و أجلسهما معه فوق المنبر،و قال صدق اللّه حيث

ص:70

قال أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ و اللّه لما رأيت الحسين عثر بطرف ثوبه لم أملك نفسي حتى وقعت عليه.

و اسباب الميل الى الدنيا اكثر من ان تحصى و دواء الكل واحد و هو التّفكر في فنائها و سرعة زوالها و تقلّب أحوالها،فمن عجائب تقلبها انّ رجلا من الخلفاء العباسيّة جعلوه خليفة يوما واحدا،و قد عزلوه في اليوم الآخر و أخذوا ما عنده فاحتاج ذلك اليوم الى ان يقف على باب المسجد و يتكفّف الناس،و كان يقول لهم ارحموا من كان بالأمس أميركم و اليوم سائلكم،و كل ما نال فيها المؤمن من المراتب فهي سجنه بالنّظر الى ما أعدّ له في الجنان،فالميل الى مثل هذا لا يكون عن رأى سديد،روي انّه خرج الحسن عليه السّلام من داره في حلّة فاخرة و بزّة طاهرة ثم ركب بغلة فارهة غير قطوف و صار مكتنفا من حاشيته و حاشيه بصفوف،فعرض له في طريقه من محاويج اليهود رجل قد أنهكته العلة و ارتكبته الذلة،فاستوقف الحسن عليه السّلام و قال يا ابن رسول اللّه أنصفني،فقال عليه السّلام في أي شيء؟فقال جدك يقول الدنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر و انا كافر فما ارى الدنيا الا جنّة تتنعم بها و تستلذ بها و ما أراها الاّ سجنا لي قد أهلكني ضرّها و أتلفني فقرها،فلمّا سمع الحسن عليه السّلام كلامه أوضح لليهودي خطاء ظنه،و قال يا شيخ لو نظرت الى ما أعدّ لي و للمؤمنين في الدّار الآخرة ممّا لا عين رأت و لا أذن سمعت لعلمت اني قبل انتقالي اليه هذه الدنيا في سجن ضيق مع ما أنا فيه،و لو نظرت الى ما أعد اللّه لك و لكل كافر في الدار الآخرة من سعير نار الجحيم و نكال العذاب المقيم لرأيت أنّك قبل مصيرك اليه الآن في نعمة واسعة و جنّة جامعة،و مأحسن قول الشاعر:

يا خاطب الدنيا الدّنية انّها شرك الرّدى و قرارة الأكدار

دنيا اذا ما أضحكت في يومها أبكت غذا تعسا لها من دار

غاراتها لا تنقضي و أسيرها لا يفتدى بعظائم الأخطار

و قول الآخر:

هي الدنيا تقول بملأ فيها حذار حذار من بطشي و فتكي

فلا يغرركم حسن ابتسامي فقولي مضحك و الفعل مبكي

و الدنيا اما مأخوذة من الدناءة و هي الخسة او من الدنو و هو القرب لقربها بالنظر الى الآخرة،و هذا المعنى الثاني هو الذي حمل الناس على مساوىء الأعمال حيث زعموا انّها نقد و الآخرة نسيئة و قدّموا النقد على النسيئة و لم ينظروا الى قول الخبير امير المؤمنين عليه السّلام لو

ص:71

كانت الدنيا ذهبا و الآخرة خزفا لأخترت خزف الآخرة على ذهب الدنيا لأنّه خزف باق و ذهب الدنيا فان،فكيف و الآخرة ذهب و الدنيا خزف فان.

و رأيت في كتاب تفسير انّ ملكا من ملوك اليونان استعمل على ملبسه جارية أدبها بعض الحكماء فألبسته يوما ثيابه و أرته المرآة فرآى في لحيته شعرة بيضاء،فاستدعى بالمقراض فقصها، فأخذتها الأمة فقبلتها و وضعتها عال(قال)و اصغت اذنها اليها فقال الملك لأي شيء تصغين اليها؟ فقالت اني اسمع هذه المبتلاة تفقد كرامة قرب الملك تقول قولا عجبا،قال و ما هو؟قالت ما يجتري لساني على النطق به،قال قولي امنته ما لزمت الحكمة،فقالت انها تقول ايها الملك المسلّط الى امد قريب انّي خفت بطشك بي فلم اظهر حتى عهدت الى بناتي ان يأخذن بثاري،و كأنّك بهن قد خرجن عليك فأما ان يعجلن الفتك بك و امّا ان ينقصن شهوتك و قوتك و صحتك،حتى تجد الموت،فقال اكتبي كلامك فكتبته فبقي يتدبر فنبذ ملكه و خرج سائحا قال الشاعر:

يا ويح من فقد الشباب و غيّرت منه مفارق رأسه بخضاب

يرجو عمارة وجهه بخضابه و مصير كل عمارة لخراب

انّي وجدت أجلّ كلّ رزية فقد الشّباب و فرقة الأحباب

و من اسباب الدنيا و الميل اليها النساء و اطاعتهن،روي ان رجلا من بني اسرائيل رأى في المنام انّه خيّر ثلاث دعوات مستجابات بأن يصرفها حيث يشاء،فشاور امرأته في محلّ الصرف فرأت ان يصرف واحدة منها في حسنها و جمالها ليزيد حسن المعاشرة بينهما،فصرفها في ذلك فصارت جميلة فيما بين بني اسرائيل فاشتهر امرها الى ان غصبها ملك ظالم،فدعى الرجل غيرة بأن يصيّرها اللّه تعالى على صورة كلب فصارت كلبا أسود و جاءت الى زوجها و تضرعت اليه مدة حتى رق قلبه و دعى بأن يصيرها اللّه تعالى على صورتها الأولى،فصارت الدعوات الثلاث فيها،و هي كما كانت بشؤم المشاورة معها.

و حكي انّ خسروا لملك أتى اليه رجل بسمكة كبيرة فأمر له بأربعة الآف درهم،فقالت شيرين فكيف تصنع اذا احتقر من أعطيته شيئا من حشمك و قال أعطاني ما أعطى الصيّاد او اقل، فقال خسرو الملك انّى الرجوع عن الهبة قبيح خصوصا من الملوك،فقالت شيرين التدبير ان تدعوه،و تقول له هذه السّمكة ذكر ام انثى فان قال ذكر ام انثى فان قال ذكر فنقول انما أردت أنثى،و ان قال أنثى فتقول له انما أردت ذكرا،فاستدعاه فسأله عن ذلك،فقال ايها الملك انّها خنثى لا ذكر و لا انثى فاستحسن جوابه و أمر له بأربعة الآف درهم اخرى،فلمّا تسلم الصّياد ثمانية الآف درهم من الخزان و رجع سقط منها في الطريق درهم فاشتغل بأخذه،فقالت شيرين للملك

ص:72

أنظر الى خسّته و غلبة حرصه فاستدعاه و سأله عن غرضه في اشتغاله بأخذ الدرهم الساقط فقال ايها الملك كان عليه اسمك و حكمك فخفت ان يطأه أحد برجله غافلا عنه،فاستحسن ايضا جوابه و أمر له بأربعة الآف درهم أخرى،و ذهب الصياد باثني عشر ألف درهم،و أمر الملك مناديا ينادي الأمن دبّر أمره برأى النساء خسر درهما او درهمين،و العجب انّ بعض المذنبين قد أيس من رحمة اللّه و باع حظّه الأوفر بهذه الدّنيا الدنية.

و روى الصدوق باسناده الى البزاز و قال كان بيني و بين حميد بن قحطبة الدوسي (1)معاملة فرحلت اليه في بعض الأيّام فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت و على ثياب السفر لم أغيرهما و ذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر،فلما دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلمت عليه و جلست،فأتى بطشت و ابريق فغسل يديه ثم أمرني فغسلت يدي،و أخضرت المائدة و ذهب عنّي انّي صائم و انّي في شهر رمضان فأمسكت يدي،فقال حميد مالك لا تأكل؟ثم ذكرت فقلت ايها الأمير هذا شهر رمضان و لست بمريض و لابي علة توجب الأفطار و انّي صحيح البدن، ثم دمعت عيناه و بكى،فقلت له بعد ما فرغ من طعامه ما يبكيك ايها الأمير؟قال أنفذ الى هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل ان اجب،فلما دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتّقد و سيفا مسلولا و بين يديه خادم واقف،فلمّا قمت بين يديه رفع رأسه اليّ فقال لي كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟فقلت بالنفس و المال،فأطرق ثم اذن لي بالإنصراف فلم ألبث في منزلي حتّى عاد الرسول اليّ و قال اجب امير المؤمنين،فقلت في نفسي انا للّه و انا اليه راجعون أخاف ان يكون قد عزم على قتلي و انّه لمّا رآني استحيا مني،فعدت الى بين يديه فرفع رأسه فقال كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟فقلت بالنّفس و المال و الأهل و الولد،فتبسم ضاحكا ثم اذن لي بالإنصراف فلمّا دخلت منزلي لم ألبث ان عاد اليّ الرسول فقال اجب امير المؤمنين،فحضرت بين يديه و هو على حاله، فرقه رأسه اليّ فقال كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟فقلت بالنّفس و المال و الأهل و الولد والدين، فضحك ثم قال لي خذ هذا السّيف و امتثل ما يأمرك به هذا الخادم،قال فتناول الخادم السيف و ناولينه و جاء بي الى بيت بابه مغلق ففتحه فاذا فيه بئر في وسطه ثلاث بيوت ابوابها مغلقة ففتح بابا منها فاذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور و الذّوائب،شيوخ و كهول و شبّان مقيدون.

فقال انّ امير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء و كانوا كلهم علوية من ولد علي و فاطمة عليهما السّلام،فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد فأضرب عنقه حتّى أتيت على آخرهم ثم رمى بأجسادهم و رؤوسهم في تلك البئر،ثم فتح باب بيت آخر فاذا فيه ايضا عشرون نفسا من العلويّة

ص:73


1- (1) .هو حميد بن قحطبة الطائي الطوسي،في بعض النسخ المطبوعة(الدوسي)و في بعضها و كذا في المخطوطة(الطوسي)و في عيون اخبار الرضا(ع)ايضا( [1]الطائي الطوسي)و في بعض المواضع(حميد)بالتصغير.

من ولد علي و فاطمة عليهما السّلام مقيّدون،فقال لي انّ امير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ايضا فجعل يخرج اليّ واحدا واحدا فأضرب عنقه و يرمي به في تلك البئر حتى اتيت على آخرهم،ثم فتح باب بيت ثالث فاذا فيه مثلهم عشرون نفسا من ولد علي و فاطمة عليهما السّلام مقيّدون عليهم الشّعور و الذّوائب،فقال ان امير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ايضا فجعل يخرج اليّ واحدا بعد واحد فأضرب عنقه فيرمى به في تلك البئر حتى اتيت على تعة عشر نفسا منهم و بقي شيخ منهم عليه شعر،فقال تبّا لك يا مشؤوم ايّ عذر لك يوم القيامة اذا قدمت على جدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد قتلت من اولاده ستين نفسا قد ولدهم علي و فاطمة عليهما السّلام، فارتعشت يدي و ارتعدت فرائصي فنظر الى الخادم مغضبا و زبرني فأتيت على ذلك الشيخ ايضا فقتله و رمى به في تلك البئر،فاذا كان فعلي هذا و قد قتلت ستين نفسا من ولد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فما ينفعني صومي و صلاتي و انا لا اشك اني مخلّد في النار،قال الصدوق طاب ثراه و للمنصور مثل هذه الفعلة في ذرية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

اقول هذا الرجل و ان افرط و تعدّى الحدّ في فعلته هذه من قتل هذه الذرية الطاهرة الاّ انه ما كان ينبغي له الأياس من رحمة اللّه بل كان يجب عليه الندامة و مداومة الأستغفار و الذكر لعل اللّه يرضى عنه خصومه كما جاء في الرواية ان امرأة قتلت ولدها ثم ندمت فأتت الى النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم نادمة على فعلها طالبة للتوبة،فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو قتلت في يومك سبعين نبيا ثم ندمت على ما فعلت و عرف اللّه منك التوبة لتاب عليك و رحمك،نعم مثل هؤلاء الجماعة لا يوفّق منهم للتوبة الاّ القليل،أ لا ترى الى الوحشي و هو قاتل الحمزة لمّا ظهرت منه امارات التوبة و النّدامة قبل اللّه توبته،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حمزة و قاتله في الجنة، و الشيطان مع ما هو عليه من الضلال لم ييأس من الرحمة (1)كما جاء في الرواية عن الصادق عليه السّلام قال ان امرأة من الجن يقال لها عفراء و كانت تنتاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتسمع من كلامه فتأتي صالحي الجن فيسلمون على يديها و فقدها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سأل عنها جبرئيل عليه السّلام فقال انّها زارت اختا لها تحبّها في اللّه تعالى،فقال عليه السّلام طوبى للمتحابين في اللّه ان اللّه تبارك و تعالى خلق في الجنة عمودا من ياقوتة حمراء عليها سبعون ألف

ص:74


1- (1) روى الكليني ره في الكافي [1]باسناده مضمرا كانه قال اعطى التائبين ثلاث خصال لو اعطي خصلة منها جميع اهل السماوات و الأرض لنجوا بها و هو قوله عز و جل: إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فمن احبه الله لم يعذبه الحديث. و لكن هذا الرجل كما ذكره الصنف(ره)لم يوفق للتوبة و طبع على قلبه و جائه اليأس من رحمة اللّه بسبب تلك الجناية التي اوردها على الذرية الطيبة و اليأس من روح اللّه تعالى من الكبائر الموبقة.

قصر،في كل قصر سبعون ألف غرفة خلقها اللّه عز و جل للمتحابين في اللّه،و جاءت عفراء فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا عفراء اين كنت؟فقالت زرت اختا لي،فقال طوبى للمتحابين في اللّه و المتزايرين يا عفراء أي شيء رأيت؟قالت رأيت عجائب كثيرة،قال فأعجب ما رأيت؟قالت رأيت ابليس في البحر الأخضر على صخرة بيضاء مادّا يديه الى السماء و هو يقول الهي اذا بروت قسمك و ادخلتني نار جهنم فأسألك بحق محمّد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين الاّ خاصتني منها و حشرتني معهم،فقلت يا حارث ما هذه الأسماء التي تدعوه بها؟فقال رأيتها على ساق العرش من قبل ان يخلق اللّه عز و جل آدم بسبعة آلاف سنة فعلمت انّها اكرم الخلق على اللّه فأنا أسأله بحقّهم،فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اللّه لو أقسم أهل الأرض بهذه الأسماء لأجابهم اللّه تعالى.

فان قلت ما فائدة دعاء الشيطان هذا مع انّه من الخالدين في النار و العذاب،قلت يجوز لأجل هذا الدعاء ان ينقله اللّه تعالى في طبقات النار من طبقة حارة الى ما هو أخفّ منها فيكون قد خلّصه من تلك النار التي كان فيها،فان للنار سبع طبقات و لكل طبقة انواع و اهوال من العذاب، و يجوز ان يخلّصه اللّه سبحانه من النّار لحظة ثمّ يعود اليها مخلدا فيها،و يجوز ان يكون المراد من أهل الأرض من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أقسم أهل الأرض من كان له قابلية استجابة الدعاء ممن أتصف بالأيمان و الأسلام.

و الأحسن هو ان يقال انّ الكلام على ظاهره من ان كل من دعى اللّه من أهل الأرض بهذه الأسماء اجابه اللّه تعالى سواء كان الداعي مؤمنا او كافرا او شيطانا لكن اجابة الدعاء عبارة عن الجزاء الذي يكون بازائه سواء كان ذلك المدعو به او غيره،و الشيطان و غيره اذا دعوا اللّه سبحانه بهذه الأسماء جاراهم اللّه سبحانه عليه امّا في الدنيا بتوسعتها و نحوه،و اما في الآخرة بتخفيف عذاب و نحوه،فيصدق من هذا انّ اللّه تعالى أجابهم على الدّعاء.

و في الأخبار المعتبرة انّ رجلا عصى اللّه تعالى و قتل تسعة و تسعين رجلا بغير حق فلمّا مضت عليه مدة ندم و قال أريد التوبة فأتى الى رجل عابد و حكى له ما صنع من القتل و قال اريد التوبة،فقال له ذلك العابد لا توبة لك و حالك على هذا،فلما قال له هذا الكلام عمد الرجل الى ذلك العابد فقتله فبقي مدة،ثم أتى الى رجل عالم فقال له انّي قتلت مائة فهل لي من توبة؟فقال نعم اقصد ارض كذا فانّ فيها نبيا او عالما فامض اليه و تب على يديه،فمضى عليه فلما كان في عرض الطريق أتى أجله فأتته لقبض روحه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب فتنازعتا في قبض روحه فقالت ملائكة الرحمة نحن نقبض روحه لأنّه قصد ارض التوبة،و قالت ملائكة العذاب نحن نقبض روحه لأنه لم يتب بعد،فأوحى اللّه تعالى اليهم ام اذرعوا الأرض و انظروا الى أي

ص:75

ارض هو اقرب،فلمّا مسحوا الأرض وجدوه الى ارض التوبة أقرب بذراع او بشبر فتبادرت اليه ملائكة الرحمة فقبضوا روحه في خبر آخر انّ الملائكة لمّا قصدوا الى مساحة ارض التّوبة فطويت بعد ما كانت ابعد من تلك الأرض و هذا حاله مع المذنبين.

و بالجملة فكل بلاء الأنسان و مصائبه انّما هو من الدنيا و الميل اليها حتى انّه سأل بعض العارفين عن الطّريق الى اللّه تعالى فقال خطوتان و قد وصلت خطوة على النّفس و خطوة على الدنيا،فسمع بعض أهل العرفان هذا الكلام فقال طوّل ما قصر اللّه بل خطوة على النّفس و قد وصلت لأنّ الدنيا تصير حجابا للعبد بواسطة النّفس و هو تعالى الستّار على عبده.

روي انّ بعض الأنبياء سرق له حمار فقال الهي أنا نبيك سرق حماري فأطلعني عليه، فأوحى اللّه تعالى انّ الرجل الذي سرق حمارك سألني ان استره و أنا لا أردّه و لا أردّك فخذ منّي حمارا آخر حتى لا يفتضح ذلك الرجل،و بالجملة فاستقصاء الكلام في الدنيا و تقلباتها و أحوالها يحتاج الى تأليف كتاب منفرد،نعم انّ من جملة الدّنيا اسباب الميل اليها لذاتها فلا بأس بذكرها في نور على حده.

نور في لذات الدنيا بانواعها

و بيان انّه لا لذة في الدّنيا و انّ ما فيها من اللّذات انّما هو دفع آفة بآفة اخرى

اعلم ان الدنيا كما عرفت بيت ضيق مظلم قد اجتمعت فيه انواع المخلوقات و اصنافها ففيه الحيات و العقارب و السباع و الذئاب الضّواري و كلها قد قصدت ابن آدم و هو معها في ذلك البيت الضيق و هو يراها قاصدة اليه،و قد وضع امامه شيء من الخبز ليأكله،فيأكل و ينظر الى ما معه في ذلك المنزل الضّيق من الأفاعي و السّباع و العقارب و هي جوعانة و ليس لها شيء تأكله سوى لحوم ابن آدم،فالأنسان من الجوع يأكل ما أمامه من الخبز لكنه ينظر الى ما معه من السّباع في حال أكله مترقّبا حين بعد حين لوصولها اليه،و اهلاكها اياه،فمن كان هذا حاله كيف يلتذّ بأكل ام بشرب ام بنكاح ام بلباس،و لو فتحت عيني قلبك الذي تبصر به لوجدت حالك في الدنيا هو هذا بل انت اسوء حالا،اما العقارب فهم اقاربك الذين منهم من يتمنى موتك للميراث،و منهم من يريده حسدا لك حيث فضّلت عليهم امّا بامور دنيوية او اخروية،و منهم من يريد يتزوج بزوجتك بعدك الى غير ذلك من الأغراض،و يا ليتهم مثل العقارب فان الأغلب في العقرب و اشباهه انّما يلدغ اذا اوذي و تعدى الأنسان عليه مع انّ لدغته تبرى في يوم واحد و امّا الأقارب و ما يصل اليك في كل يوم من أنواع لسعهم و أذّيتهم فهو مما لا غاية له و لا نهاية لأمده الى الموت.

ص:76

و اما الحيات فهم اخوانك الذي قال فيهم امير المؤمنين انّهم جواسيس العيوب و من الحيّات ايضا شياطين الجنّ و الأنس الذين صرفوا لياليهم و أيّامهم في الفكر لإرادة مخادعك و اضلالك و القائك الى حيات جهنم و أفاعيها التي ورد في الخبر لو انّ حيّة منها ظهرت الى الدنيا و نفخت فيها لما بقي فيها شجر و لا مدر و لا جبل الاّ ذاب من سمّها.

و امّا السّباع فهي مصائب الدّنيا و دواهيها الحادثة يوما بعد يوم و ساعة بعد ساعة و نفسا بعد نفس كالهموم و الأحزان و الأمراض و فقد الأحبة الذي جعله امير المؤمنين عليه السّلام عديلا ليوم القيامة فقال لو لا هول المطلع و فراق الأحبة لأردنا الموت،و أهول من هذا كلّه تذكرت الموت و سأبعده من الأهوال فانّي لا أظن احدا كان في لذة و ذكر الموت ثم تمت له اللّذة.

حكى صاحب نزهة الأبرار انّ الرشيد زخرف مجلسه يوما و بالغ فيه و صنع طعاما كثيرا ثم وجّه الى ابي العتاهية فأتاه فقال له صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدّنيا فأنشأ يقول:

عش ما بدا لك سالما في ظل شاهقة القصور

فقال احسنت فقال:

فاذا النفوس تقعقعت (1) في ضيق حشرجة الصّدور

فهناك تعلم موقنا ما كنت الا في غرور

فبكى هارون الرشيد،فقال الفضل بن يحيى بعث اليك امير المؤمنين لتسرّه فأحزنته،فقال هارون الرشيد دعه فانّه رآنا في عمى فكره ان يزيدنا عمى،و لذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اكثروا ذكر هادم اللّذات،و حكي ان الحجاج كان عنده جاريتان جميلتان و كان معجبا بهما مولعا بعشقهما،فقال ان الناس يقولون ما تمّ فرح لأحد الى اللّيل و ها أنا ذا أجلس بمجلس الطرب الى اللّيل،فلمّا كان الغد هيأ في مجلسه أحسن ما يكون و تخلّى عن الناس بخواصه و تلك الجواري، فلمّا مضى بعض النهار أمر بالشراب فشرب هو و من كان في ذلك المجلس و شربت جارية من تلك الجواري فاختنقت بالشراب و ماتت من ساعتها فبكى عليها بكاء كثيرا و مضى عامة ذلك اليوم بالحزن،فكان يوم سروره يوم عزاه و مصيبته،اذا عرفت هذا كله.

فاعلم انّ اللذات الواقعة في هذه الدّنيا ثلاث:الأولى اللّذة الحسية و هي قضاء الشهوتين:البطن و الفرج و توابعهما،و هذه اللّذة أدون اللّذات الثلاث و أحقرها،الثانية اللّذة الخيالية و هي الحاصلة من الأستعلاء و الرئاسة و نحوهما،الثالثة اللّذة العقلية و هي الحاصلة بسبب معرفة الأشياء و الوقوف على حقائقها و وجه الحصر ان الأنسان أوّل ما يحسن و يشعر باللّذة الأولى

ص:77


1- (1) تقعقع اضطرب و تحرك.صوت عند التحرك.

لظهورها في بادي الرأي،ثم اذا توغل فيها و قضى و طره منها سمت نفسه الى المرتبة الثانية و هي حب الرئاسة و نفوذ الأمر و النهي،فاذا توغل فيها و رزق الوقوف على ما فيها من الآفات و البليات ترقى منها الى الثالثة و هي العالية الحاصلة من ادراك حقائق الأشياء كما هي بقدر الطّاقة الشّبرية فلنتكلم في كل واحدة من هذه اللّذات و ما تشتمل عليه ليظهر لك ما ذكرناه في عنوان النور.

القسم الأول الكلام في اللّذة الحسيّة اعلم انّ مطالب الخلق من الأحوال المخصوصة (المحسوسة)محصورة في نوعين احدهما دفع الألم و الثاني تحصيل اللّذة،اما دفع الألم الحسيّة فقد توصلوا اليه بطرق احدهما لبس الثّياب و ذلك لأن جلد الأنسان لطيف يتأثر من الحر و البرد فاحتاج الى دفع هذا الألم الى لبس الثياب و بالحقيقة لبس الثواب ضرر لأنه اتعاب للبدن لكن لبس الثوب يدفع مضرة أعلى من هذه المضرة كما عرفت،فهو من باب دفع الضرر بالضّرر، و مثاله ما حكي انّ بعض الناس دخل على ابراهيم بن سيّار النّظام المتكلم فرأى في يده قدحا من الدّواء المرّ فسأله عن حاله فانشد:

أصبحت في دار بليّات أدفع آفات بآفات

و ثانيها بناء الدّور و المساكن و المقصود منه انّ الأنسان خلق في ممرّ الآفات،فاذا كان بغير بيت خاف على نفسه و ماله و ولده و من يعنوه فاذا بنى البيت أمن من تلك الآفات،و اما الذي يترتب على بناء البيت من التعب و بذل ماء الوجه و معاداة الجيران و التّوصّل منه الى إعانة الظالمين فظاهر فهذا ايضا من باب دفع آفة بآفة فلا لذّة فيه فان قلت قد يكون مع الأنسان من الثّياب ما يدفع الحر و البرد فيتأنّق في لبس الثّياب الفاخرة تحصيلا للذّة لا لدفع الألم،و كذا القول في البيوت و بنائها فلا يكون من باب دفع الألآم،قلت اذا تأملت حقّ التأمل ترى هذا ايضا من ذاك و ذلك لأنّ لبس الثوب الفاخر انّما يكون بعد منازعة النفس و طلبها إيّاه و تشوّقها عليه و تعبها في طلبه فيكون هذا ألما نفسانيّا يدفع بتلك الثّياب الفاخرة،و من ثمّ لو لبس الأغنياء الثّوب الفاخر انما يكون بعد منازعة النفس و طلبها ايّاه و تشوقها عليه و تعبها في طلبه فيكون هذا ألما نفسانيّا يدفع بتلك الثياب الفاخرة،و من ثم لو لبس الأغنياء الثوب الثّوب الفاخر لمن هو ادنى منهم لم يلتذّوا عند لبسه،و كذا في جانب المأكل و المسكن و المنكح و ما ذاك الاّ لأنّ نفوسهم لم تطلبه منهم و لم تنازعهم على تحصيله،و من ثمّ لمّا كانت ملاذّ الجنة تحصل بمجرد الخطور في البال من غير مجاذبة مع النّفس فتكون لذة محضة لا دفع ألم حسّي و نفسي.

و امّا الطرق الموصلة الى تحصيل اللّذات فهي قضاء شهوة البطن و قضاء شهوة الفرج، و قبل ان نبين ما فيها من الدناءة و الخسة و الإهانة و التّشبه بالبهائم نذكر مقدّمة:و هي انّ البلغاء و الأكابر اذا أراد الخوض في تحقير الدنيا يرجع حاصل كلامهم الى امور:

ص:78

الأول انّها فانية فيجب على العاقل اجتنابها،فهو اشارة الى انّها في نفسها لذيذة و طيّبة لكنها فانية.

الثاني قولهم انّ طيّباتها ممزوجة بالألآم و راحتها بالكدورات،و هذا ايضا كالأول اشارة الى انّ فيها لذات طيبة لكن المانع للعاقل من ارتكابها ذلك المزج.

الثالث قولهم انّ الأراذل من الناس مشاركون الأفاضل في هذه اللّذات و الراحات بل يزيدون عليهم فيها أضعافا كثيرة حتى انّ العقلاء قد تحيّروا في هذا فقالوا:

كم عاقل أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة و صير العالم النّحرير زنديقا

و الأنصاف انّ صاحب هذا البيت و أمثاله لم يتفكروا في صنع اللّه تعالى و لم يدروا انّ الأرزاق على قسمين،قسم منها ما هو رزق للرّوح كالعلوم و المعارف،و قسم منها ما هو رزق للبدن كالمأكل و الملابس و المناكح،فمن رزق من الأوّل حرم من الثاني و كذا العكس،فمن أرادهما معا كان عديم الأنصاف،و لو نظرت الى جاهل جمع من الأموال ما لا يحصى و أراد ان يبدلك ماله بعلمك حتى يكون لك جهله و حماقته لما رضيت و لما قبلت و اذا كان الحال على هذا المنوال فلا ينبغي ان يصير العالم النّحرير زنديقا.

و بالجملة فقول الأكابر ذلك يدل على انّ حالات الدنيا و ان كانت لذّات لكن يجب تركه لرذالة الشركاء و دنائتهم،و أمّا الحكماء فإنهم قالوا ان هذه الأحوال ليست في أنفسها سعادات و لا خير بل هي أحوال خسيسة و مطالب دنيّة في ذواتها،و اذا كان الأمر كذلك فيكون الكلام دائر على امرين،احدهما ان تلك الأحوال خسيسة في نفسها،و ثانيها انّها و ان كانت احوالا شريفة الاّ انّه يلزمها لوازم مكروهة،امّا بيان الأمر الأول فيجيء على انواع.

النوع الأول أنّا رأينا الأنسان كلما كثر جوعه كان التذاذه بالأكل أتمّ،و كلّما كان عهده بالوقاع أطول كان التذاذه ايضا به أكمل،و لا شك انّ الجوع و الأحتياج الى الوقاع ألمان شديدان فلمّا رأينا انّه كلّما كانت هذه الألام أشدّ كان دفعها ألذّ و أطيب غلب على الظّن انّه لا معنى لهذه اللذات و الرّاحات الاّ مجرّد دفع تلك الألام السّابقة،أ لا ترى انّ من جلس في الحمام الحار و غلب استيلاء الحرارة عليه فاذا فتح الباب و دخل عليه نسيم بارد فانّ الأنسان يستلذّ ذلك الهواء البارد استلذاذا في الغاية و ما ذلك الاّ لأنّه عظم تألّمه بسبب الهواء الحارّ في الحمام،فلما وصل اليه النسيم البارد زال عنه تلك الحرارة المؤلمة فعلم منه انّه لا حاصل لتلك اللّذات الحسية الاّ دفع تلك

ص:79

الألام،فيدلّ على انّ هذه الأحوال التي يتخيل انّها لذات في أنفسها ليست لذات بل لا حاصل لها سوى دفع تلك الألام.

الثاني انّ مع المعلوم بالبديهة انّه كلّما كان شهوة الفوز بالشيء أقوى و أكمل كانت اللّذة الحاصلة بسبب وجدانه أقوى و أكمل،فان لم تحصل تلك الشهوة لم تحصل اللذة بوجدانه،أ لا ترى انّ من رمى قلادة الدّر الى الكلب و العظم الى الأنسان فانّه لم تحصل اللّذة لواحد منهما، و اذا عكس حصلت اللّذة فثبت انه كلما كانت الحاجة الى الشيء أشدّ كان الفوز به ألذّ،فثبت انّ مقدار اللّذة الحاصلة في الحال مساوية لمقدار المضرة الحاصلة بسبب الأحتياج اليه في الماضي،و اذا كان الأمر كذلك فحينئذ تتقابل اللّذة الحاصلة في الحال بالألم الحاصل في الماضي و اذا تقابلا تساقطا فصار كأنّه لم يوجد.

الثالث في بيان انّ هذه اللّذات الحسية خسيسة جدا و ذلك انّها بأسرها لا تحصل الاّ بواسطة مخامرة رطوبات عفنة مستقذرة،امّا لذّة الأكل فالأمر فيها ظاهر لأنّ الأنسان لا يلتذ بالطّعام الاّ اذا وضعه في فمه و لا شك انّ ذلك الطعام يمتزج بريق الفم و يختلط به و هو في نفسه شيء مستقذر،و الدّليل عليه انّ تلك اللقمة الممضوغة لو سقطت من الفم فانّ الأنسان يستقذرها و لا يمكنه ان يردّها الى فمه،و ذلك يدل على انّ اللذة الحاصلة من الطعام لا تحصل الاّ عند انعجان ذلك الطّعام و اختلاط اجزائه بتلك الرطوبات المستقذرة فهذا يدلّ على انّ العاقل انّما يقدم على الأكل لا لأنه يعدّه سعادة و بهجة بل لأجل انّه خلق محتاجا اليه و لو لا احتاج اليه لما قدم عليه،و قد انشد عبد القاهر النّحوي هذا البيت:

لو لا قضاء جرى نزّهت انملتي عن ان تلمّ بمأكول و مشروب

و امّا لذة الجماع فخاستها اظهر من ان تحتاج الى البيان،و الدليل عليه انّ أخسّ أعضاء الإنسان هذه الأعضاء المخصوصة و لذلك سترها اللّه تحت الثياب و ان أظهروا غيرها و هذه الأعضاء لا تفيد اللّذة الاّ عند الممّاسة و التلطّخ بتلك الرّطوبات المتولّدة في داخل الأعضاء و تمام اللّذة انّما يحصل بانفصال النّطفة و هي ايضا رطوبة عفنة فلا تكون من جنس الخيرات و السعادات بل يكون الأنسان كالمضطرّ اليها فاذا دفع تلك الآلام و الأرجاع استراح فيظنّ انّها خيرات و لذّات و ليس كذلك،و لذلك ترى الأنسان اذا فرغ من الجماع اخذه فتور البدن و ضعف القوة و ندم على ما فعل،و كان رجل من الظّرفاء يقول لو حصل عندي الشاهدان العادلان عند فراغي من الجماع لطلّقت زوجتي للكراهة الحاصلة لي بعد قضاء الوطر منها.

الرابع في خساسة تلك الأحوال انّ العقلاء اذا رأوا رجلا أكولا ذمّوه و نسبوه الى طبيعة الحيوانات،اما اذا قلل الأكل و الشّرب عظّموه و نسبوه الى طبيعة الملائكة.

ص:80

الخامس انّ اللّذة الحاصلة عند الأكل لذّة ضعيفة جدّا و كمالها انّما يحصل في اللّقمة الأولى و الثانية عند حصول الجوع الشّديد فاذا فتر الجوع فأتت الرّغبة فضعف الألتذاذ بالأكل، فثبت انّ زمان حصول هذه اللّذة زمان قليل،و لذا تقول الناس يقولون ان اللّه تعالى رفع اللّذة عن اطعمة الأغنياء و ودّعها في اطعمة الفقراء و ذلك ان الأغنياء لا يشتد جوعهم فلا يلتذّون بالطعام بخلاف الفقراء.

السادس انذ هذه اللّذات حقيرة جدا و ذلك لأنّ اللّذات الجسمانية المرغوب فيها كثيرة جدّا و الحاصل منها ليس الا القليل،و ذلك يوجب التّعب الشّديد و ذلك لأنّ الأنسان يبصر بعينه جميع ما في المبصرات و اذا أبصر شيئا فقد يميل طبعه اليه فيصير ذلك سببا لإشتداد رغبته في تحصيله،و كذلك القول في القوة السّامعة فانّها تسمع اشياء كثيرة تميل اليها و تتألم من سماع القبيح.

و بالجملة فالقلب بمنزلة المرآة المنصوبة على جدار و كان ذلك الجدار ممرا لأكثر موجودات هذا العالم و كلّما مرّ به شيء ظهر من ذلك الشيء فيه أثر،فان كان موافقا مال طبعه اليه فان لم يقدر على تحصيله تألّم قلبه،فثبت بهذا الطريق انّ قلبه لا بدّ و ان يكون ابدا مستغرقا في الهموم و الآلام،و اما الفرح فانّما يحصل اذا حصل المطلوب و دفع المكروه و ذلك قليل في جنب كثير، فثبت انّ الغالب على هذا العالم هو الهموم و الأحزان،و امّا اللّذة فقليلة جدا و من المعلوم ان النادر في جنب الراجح كالمعدوم بالنسبة الى الموجود،و الذي يؤيد هذا و يؤكده ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه رأى جابر بن عبد اللّه و قد تنفّس الصعداء ففقال يا جابر علام تنفسك اعلى الدنيا؟فقال جابر نعم،فقال يا جابر ملاذ الدّنيا سبعة:المأكول و المشروب و الملبوس و المنكوح و المركوب و المشموم و المسموع،فألذ المأكولات العسل و هو من فضل الذّباب،و أجل المشروب الماء و كفى بإباحته و سياحته على وجه الأرض،و أعلى الملبوسات الديباج و هو من لعاب دودة،و أعلى المنكوحات النساء و هو مبال في مبال،و انّما يراد أحسن ما في المرأة لأقبح ما فيها و أعلى المركوبات الخيل و هن قواتل،و أجلّ المشمومات المسك و هو دم من سرّة دابّة و أجل المسموعات الغناء و الترنم و هو اثم،فما هذه صفته كيف يتنافس عليه،قال جابر بن عبد اللّه فو اللّه ما خطرت الدنيا بعد على قلبي.

القسم الثاني الكلام في اللّذات الخياليّة و هي لذّة الرئاسة و نحوها و يدل خسّتها أمور:

الأول كل احد يجب ان يكون هو الرئيس للغير و ان يكون كل من سواه تحت قدرته و تحت تصرفه و حكمه،و ذلك لأنّ كون الأنسان قادرا على الغير نافذ التصرف فيه صفة الكمال محبوبة لذواتها،و كونه مقدورا للغير و محلا لتصرف الغير صفة النقص و صفة النقص مبغوضة

ص:81

لذاتها،فثبت انّ طبع كل احد يحمله على ان يكون هو الرئيس لغيره و هو المتصرف في غيره،و ان يمنع غيره من ان يكون رئيسا حاكما عليه،و اذا كان كذلك فالساعي في تحصيل الرئاسة لذلك الأنسان المعين ليس الاّ ذلك الأنسان،و اما كل من سواه فانهم يسعون في إبطال تلك الرئاسة و في اعدامها و اذا كان كذلك فذلك الأنسان الواحد هو السّاعي في حصول تلك الرئاسة،و اما جميع اهل المشرق و المغرب فكلهم يسعون في ابطالها و دفعها و اعدامها،و المطلوب الذي يقل السّاعي في تحصيله و يكثر الساعي في ابطاله يكون صعب الحصول جدا،و كل ما كان كذلك كان السّعي في طلبه منشأ للهموم و الأحزان و كان العقل مانعا من طلبه و حاكما بوجوب الأحتراز عنه.

و اما اعوان السلاطين و أشباههم فهم انّما يحبون الرئاسة للسلطان اذا علموا تعذر الوصول اليها مع انّ سعيهم انّما هو في نفع انفسهم و لأجل طلب الرئاسة على غيره.

الثاني انّ الرئاسة لا تقف على حد فقبل الوصول اليها هو في ألم طلبها فاذا فاز بها يكون في ألم طلب الزيادة عليها حتى ينصرف(يصرف ظ)عمره في ألم الطّلب كما هو المشاهد من أحوال الحكّام و السلاطين.

الثالث انّ الشيء كلّما كان ألذّ كانت الرغبة في تحصيله أشد(اكثر ظ)و كانت الرغبة في ازالة العوائق عنها اشد و حصول الرئاسة للغير من اشد الأشياء عائقا عن حصولها فكانت الرغبة في ابطال ذلك العائق اعظم الرغبات،فثبت ان كل من رغب في تحصيل الرئاسة فقد رغب الناس في قتله و قوى ميلهم الى افنائه و ابطاله،و من شاهد الأمراء و الملوك عرف انّ الأمر هكذا،لكن من المعلوم انّ الحياة أصل لجميع النعم و الرئاسة فضيلة زائدة،فكلما كان السعي في طلب هذه الفضيلة الزائدة يوجب السعي في ابطال الأصل كان باطلا لأنّ كلّ فرع أفضى الى بطلان الأصل كان باطلا.

الرابع انّ الأنسان اما يمون افضل من غيره او مساويا له او اقل حالا منه فان كان افضل من غيره فكونه أفضل حالة مكروهة لذلك الغير فذلك الغير يسعى بكل ما يقدر عليه في ابطال تلك الفضيلة عن الراجح،فان كان ذلك الرجحان بصفة قابلة للزوال مثل كونه ملكا حاكما فالأعداء يسعون في ابطالها و ازالتها بأقصى ما يقدرون عليه،و ان كان ذلك الرجحان بصفة لا يمكن ازالتها مثل العلم فهيهنا للأعداء طريقان:

احدهما انّهم ان امكنهم اخفاء تلك الفضيلة بطريق من الطرق فعلوه،و ذلك بإلقاء الشّبهات في كلامه و تشويش دلائله.

ص:82

و الثاني انّهم ان عجزوا عنه نسبوه الى انواع القبائح ليصير اتصافه بتلك القبائح و الفضائح مانعا من حصول صفة الكمال له و التّجربة يدلّ على انّ الرجل الكامل لا بدّ و ان يكون مبتلى بهذه الأحوال.

و اما ان كان مساويا لغيره فالوحدانية صفة كمال و صفة الكمال محبوبة لذاتها و الشّركة صفة نقص و النقص مكروه لذاته،و اذا ثبت هذا فالشركاء يسعون بأقصى الوجوه في ابطال الشركة و اظهار انه افضل و أكمل من ذلك الشخص الذي يعتقد فيه كونه شريكا له،و ذلك السعي يكون تارة بالقاء الشبهات في كونه موصوفا بتلك الفضيلة التي فيها وقعت الشركة،و تارة بادّعاء كونه موصوفا بصفة من صفات القبح و النّقصان ليصير ذلك مانعا من كون ذلك الغير شريكا له في الفضيلة،و امّا اذا كان أدون حالا من غيره فهذا الشّخص لا يلتفت اليه بل الأطباء قالوا انّه متى صار عضو من الأعضاء ضعيفا فانّ الأعضاء القوية ترسل اليه جميع الفضلات.

الخامس ان الأنسان امّا ان يكون في الألم او في اللّذة و يكون اليا عنهما،فان كان في الألم و المضرّة فلا شك انه حالة منفردة مكروهة،و ان كان في الخيرة و اللّذة فلا شك انّه عالم بأحوال هذه الدنيا غير باقية بل هي سريعة الزوال مشرفة على الأنقراض و الأنقضاء فكلما كانت الحالة التي يكون الإنسان فيها ألذّ و أطيب كان خوف الزوال أشدّ ايلاما للقلب و اعظم تأثيرا في هذا المعنى،و امّا ان كان الأنسان خاليا عن الألم و اللّذة فانّه يكون كالمعطل الباطل و هذه الحالة مكروهة،و هذا الوجه مجرب عند العقلاء و أشارت اليه الشعراء حتى ان بعضهم طلب ايام الفراق و كره ايّام الوصال لعدم دوام حالات الزمان و اموره.

السادس انّ شعور الأنسان بالكيفيات المحسوسة انّما يكون حال حدوثها له امّا حال بقائها فلا شعور بها فاللذات الحاصلة من هذه المحسوسات لا يحصل في حال الشعور بها و حال حصول الشعور بها ليس الا حال حدوثها ينتج ان الألتذاذ بهذه المحسوسات لا يحصل الا حال حدوثها فاذا لم يحصل الألتذاذ في حال البقاء و الطّبع طالب اللذة صار طالبا لشيء آخر فعلى هذا لو انّ الأنسان ملك خزائن الأرض كلها فإلتذاذه بها لا يكون الا حال حدوثه ثم عند الفراغ يطلب شيئا آخر و يحاول تحصيل الزيادة و بسبب ذلك الطلب و الحرص يحصل في قلبه ألم الشّوق و مضرة الطلب،فثبت انّ هذا البلاء ممّا لا سبيل الى دفعه.

السابع ان الأنسان اذا فتح باب الحرص على نفسه فقد ينتهي ذلك الى ان يصير طالبا للجمع بين الضدين و مثاله انّ القدرة صفة كمال و هي محبوبة بالذات و الأستغناء عن الغير صفة كمال فتكون محبوبة بالذات،اذا عرفت هذا فنقول:انّ الرجل اذا مال الى طبعه الى السخاوة و الجود فهذه السخاوة من حيث انها تدل على انّ قلبه غير ملتفت الى حب المال صارت كأنها

ص:83

مطلوبة و من حيث انها تقضي خروج المال من يده و خروج المال عن اليد يوجب نقصانا في القدرة الحاصلة بسبب المال و النقصان في القدرة مكروه صارت السخاوة من هذه الجهة مكروهة منفردة و جميع الخلق موصوفون بهذه البليّة،و لأجل ميل الطبع الى حصول المدح و الثناء و التعظيم يحبون الجود و السخاوة،و لأجل فوت القدرة الحاصلة بسبب ذلك المال يبغضونه،فلهذا السبب بقي كل الخلق في موقف المعارضة و الترجيح،فمنهم من ترجّح عنده ذلك الجانب فيبذل المال،و منهم من المعارضة و الترجيح،فمنهم من ترجّح عنده ذلك الجانب فيبذل المال،و منهم من ترجّح عنده الجانب الثاني فيمنع،و منهم من بلغ في الجهالة الى حيث يريد الجمع بين الوجهين فيعد الناس بالجود و السخاوة و المروّة و الكرم طمعا منه في انّه ربّما فاز لهذا المعنى بالمدح و الثناء ثم انّه عند حضور الوقت لا يفي به فحينئذ يقع في الفضائح،و اذا تأملت احوال أهل الدنيا علمت انّهم بأسرهم داخلون تحت البلاء المتولّد من هذه القضيّة،اما في الكثير منه او القليل.

الثامن انّ الأنسان امّا ان يسد باب الأنعام على الغير و اما ان لا يسده و في كل واحد من هذين الطّرفين آفات كثيرة،امّا آفات القسم الأول فامور:

أولها انّ كل من اشتهر عند الناس بالبعد من الخير و النفع أبغضوه،و كل من صار بغيضا عند الكلّ فوصول الآفة اليه أسرع من كل شيء.

و ثانيها انّ الناس اذا عرفوا منه تلك الصفة بغضوه و لم يلتفتوا اليه،و كل من علم من الناس انّهم انّما ينظرون اليه بعين المقت و الأزراء فانّه يضيق قلبه و تتألم روحه،و ثالثها انّه اذا لم يظهر منه خير صار كالجماد و كالعدم و هذه حالة منفردة جدا.

و امّا القسم الثاني فآفاته كثيرة ايضا منها انّ ايصال الخير الى الكل محال فلا بد من ايصاله الى البعض دون البعض و ذلك يصيره سببا للعداوة الشديدة فانّه يقول له لم منعتني خيرك و أوصلته الى غيري،و منها انّ الذي وصل اليه الخير مرّة يلتذّ بذلك الخير و الألتذاذ سبب للطلب فيبقى ابدا طامعا في ذلك الرجل و ايصال الخير اليه في كل حين و ساعة متعذر فيصير ذلك سببا للعداوة الشديدة،و لهذا قيل اتق شر من احسنت اليه،و منها انّ المقدار الذي وصل اليه من الخير يصير معتادا بالوفاء و يصير كالأمر المستحق فيقع في قلبه طلب الزيادة عليه فيصير ذلك سببا قويا في العداوة،فثبت ان على التقديرين أعني باب سدّ الخيرات و فتحها لا يسلم الأنسان عن الضرر، و للإشارة الى هذه الأحوال قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لقريش لا تسعوا الناس بأموالكم و لكن سعوهم بأخلاقكم.

ص:84

التاسع انّ الأنسان امّا ان تفرغ جميع الخلق و يعتزل عنهم و اما ان يخالطهم و يصاحبهم و على كلا التقديرين فالضرر لازم،اما الأول فلأن الأنسان مدني الطبع و ما لم يجتمع مع الجمع العظيم فانّ مصالحه لا تنتظم.

و امّا الثاني ففي معاشرة النّاس ارتكاب الغيبة و النميمة و الرياء و سائر اسباب مهالك الدارين.العاشر انّ الأنسان اما ان يعيش في الدنيا خاليا عن الزوجة و الولد او معهما و كل واحد من القسمين سبب لحصول الآفات و البليّات،امّا مع الزوجة و الولد فلا يحتاج الى البيان،امّا الزوجة و هي كما قال سبحانه لإبراهيم عليه السّلام انّ مثلها كالضّلع الأعوج فدعه اعوجاجه و استمتع به مع انّ الأفعى التي تكون مغع الأنسان تلدغه ساعة بعد ساعة أسهل و أخف على الأنسان من امرءة السوء،و قال بعضهم انّه لا امرأة في الدنيا الا و هي امرأة سوء لكنهنّ يتفاوتن في مراتب السوء،و نقل اخلاقهنّ و ذمائم أفعالهن يحوج الى تأليف عشرة آلاف كتاب بل أزيد.

و امّا الولد فان كان جيدا كان خوف موته ينغض(ينقص خ)جميع الطيّبات،و ان كان رديّا تألم القلب عند حياته تألما يزيد على كل الآلام و الآفات،و من ذلك روى انّ عليا عليه السّلام رأى رجلا و معه ولده لا تحبّه فانّه ان عاش كدّك و ان مات هدك (1)و ان كان خاليا عنهما فمشقّته ظاهرة ايضا.

الحادي عشر انّ هذه الحياة هل هي طيبة لذيذة في نفسها او ليست كذلك،و القسم الأول باطل لأنّ الشيء الطيّب المستلذ كلّما كانت مشاهدته أكثر كان الألتذاذ به أقوى و أكمل فكان يجب ان يكون الأنسان الفارغ عن كل الأعمال و الأقوال المراقب لمرور الساعات و الأوقات عليه حال كونه حيّا يعظم التذاذه لذلك لأنّه على هذا التقدير يشاهد اللّذيذ المشتهى و هذا باطل لأن المعطل عن كل الأعمال يضيق قلبه و لا يمكنه تحمل ذلك،و لذلك صار الملوك يشغلون أنفسهم بالصيد و اللّعب حذرا من التّعطيل و كذا غيرهم،و امّا ان لا يكون الحياة لذيذة في نفسها فهذا ايضا باطل و ذلك لأنّ كلّ حيوان يكره الموت و يفرّ منه و اذا تخيّل نزول الموت به دفعه على اقوى الوجوه.

الثاني عشر انّ الأنسان امّا ان يكون رئيسا على الغير او لا يكون و في كل واحد من القسمين انواع من الآفات،اما القسم الأول فنقول انّ الرئاسة انّما تكون لذيذة اذا كان احوال الخدم واقعة على وفق ارادة الرئيس و كلّما كان عدد الخدم اكثر كانت ارادات الرئيس اكثر، و كلما كانت الأرادات اكثر كانت الآلام الحاصلة بسبب فوت تلك المرادات اكثر لكن من المعلوم

ص:85


1- (1) هدك هدكا البناء:هدمه.

انّ حصول المرادات الجسمانية ابدا كالممتنع لأنّ اجسام هذا العالم مبينيّة على التغيير و التبدل و سرعة الأنقضاء فانّها كالزيبق تتبدل من حال الى حال،فثبت انّه كلّما كانت الرئاسة اكثر و اعظم كانت الحسرات و الزفرات و الغموم و الهموم أقوى و أكثر.

و امّا القسم الثاني و هو ان لا يكون رئيسا فهو(اماظ)ان يكون معطلا محروما و امّا ان يكون خادما ضعيفا و كلاهما منفزان.

الثالث عشر انّ حصول الرئاسة اما ان يكون مع العدل او يكون مع الظّلم و كلاهما منفران،امّا مع العدل فهو متعذر لأنّه يقتضي تسليم الرئاسة الى من هو الأحقّ بها،و اما مع الظلم فهو موجب لتحقير الدنيا و عذاب الآخرة.

الرابع عشر انّه لا يمكن اجراء الرئاسة على الظّاهر الاّ مع الكذب و التزوير فان الرئيس الكامل لو شافه كل أحد بأنّك لا تستحق عندي الا القدر الفلاني من التعظيم و انّك دون فلان و فلان لتشوشت رئاسته و اختلت ولايته بل لا بد و ان يقول لأكثر اصحابه انّك أفضل الناس و أكمل اصحابي عليّ و عليك اعتمادي و هو يعلم انّ كل هذا القول زور و بهتان.

الخامس عشر انّ الرئاسة لا تحصل الاّ بالأتفاق الكثير و هو لا يمكن الاّ بالمال الكثير و لا ريب في انّ تحصيله شاقّ فلو لم يكن للرئيس من المشاق الاّ تعلق قلبه بتحصيل الأموال الكثيرة و صونها عن اللصوص و السرّاق لكفى ذلك تعبا و مشقة فكيف و انّه يحتاج الى تحصيل تلك الأموال من غير حلها فيستحق اللّعن،و كل من اعطاه منها شيئا يستقلّه بالنظر الى ما يتوقع منه، فيستحق منه الطعن فتكون حاله دائرة بين اللّعن و الطّعن.

السادس عشر انّ هذا الرئيس امّا ان يكون حسن المعاشرة طيّب الخلق غير مهيب،او يكون هناك مهيبا معظما،اما الأول فبأنه اختلط معهم لم يحتشموه و لم يبق له في قلوبهم وقع و لا ينقادون له،و هذا من اسباب زوال الملك،و امّا الثاني فانّهم اذا خافوه ربّما قصدوا قتله فلا بدّ له حينئذ من التوسط بين الحالتين و هو غير معلوم و مقداره غير مضبوط،فربّما وقع الغلط من الرئيس في موارده فمن ثم يكون الرئيس دائما في مقام الخوف.

السابع عشر انّ ذلك الرئيس امّا ان يساوي بين جميع اصحابه في العطيّة او يفضل بعضهم على بعض و في كليهما زوال الرئاسة كما لا يخفى.

الثامن عشر حقيقة الرئاسة انّ ذلك الرجل يلتزم باصلاح جميع مهمات الخلق و عقل الأنسان لا يفي باصلاح مصالح نفسه فكيف يفي باصلاح مهمات الخلق العظيم.

القسم الثالث في اللّذات العقلية الحاصلة بسبب العلوم،اعلم انّ العلوم امّا عقلية و امّا وضعية،فأما العلوم الوضعية فلا ينتفع بها الاّ بسبب مصالح الحياة الجسمانية،و التبع لا يكون

ص:86

اكمل من الأصل لما قد سبق من خساسة الحياة الجسمانية و من هنا ترى انّ اكثر العلوم التي ترى الخلق مقبلين عليها علوم خسيسة فانّه لا فائدة فيها الاّ اعانة المصالح الدنيوية،و اما العلوم العقلية و هي امّا ان تكون مطلوبة لذاتها او لغيرها.

الثاني كالمنطق و شرفه مرتب على شرف ذلك الغير،و الأول هو معرفة الاله و هو أشرف العلوم و لكن من ذا الذي الى عتبة تلك الحضرة العلية و من ذا الذي شمّ رائحة تلك الحديقة الزاهرة فحاصل العقول كلّها ظنون و خيالات و منتهى الأمر أوهام و حسبانات.

قال الرازي هذه الأشياء المسمّاة بالبراهين لو كانت في أنفسها براهين لكان كل من سمعها و وقف عليها وجب ان يقبلها و ان لا ينكرها أصلا،و حيث نرى انّ الذي يسميّه احد الخصمين برهانا فانّ الخصم الثاني يسمعه و يعرفه و لا يفيد له ظنّا ضعيفا علمنا انّ هذه الأشياء ليست في أنفسها براهين بل هي مقدمات ضعيفة انضافت العصبية و المحبّة يحتجّ فتخيل بعضهم كونه برهانا مع انّ الأمر في نفسه ليس كذلك،و ايضا فالمشبّه يحتجّ على القول بالتشبيه بحجة و يزعم انّ تلك الحجة أفادته الجزم و اليقين،فاما ان يقال انّ كل واحدة من هاتين الحجتين صحيحة فحينئذ يلزم صدق النّقيضين و هو باطل،و امّا ان يقال احديهما صحيحة و الأخرى فاسدة الاّ انه متى كان الأمر كذلك كانت مقدمة واحدة من مقدمات تلك الحجة باطلة في نفسها مع انّ الذي تمسك بتلك الحجة جزم بصحة تلك المقدمة ابتداء فهذا يدل على انّ العقل يجزم بصحة الفاسدة جزما ابتداء فاذا كان الأمر كذلك كان العقل غير مقبول القول في البديهيات،و اذا كان كذلك فحينئذ تنسدّ جميع الدلائل.

فان قالوا العقل انّما جزم بصحة ذلك الفاسد لشبهة متقدمة،فنقول قد حصل في تلك الشّبهة المتقدمة مقدّمة فاسدة،فان كان ذلك لشبهة اخرى لزم التسلسل،و ان كان ابتداء فقد توجّه الطّعن،و ايضا فانّا نرى الدلائل القوية في بعض المسائل العقلية متعارضة مثل مسئلة الجوهر الفرد،فانا نقول كلّ متحيز فانّ يمينه غير يساره و كلما كان كذلك فهو منقسم،ينتج ان كل متحيز منقسم ثم نقول الآن الحاضر غير منقسم و الا لم يكن كلّه حاضرا بل بعضه،و اذا كان غير منقسم كان أول عدمه في آن آخر متصل بآن وجوده فلزم تتالي الأنات و يلزم منه كون الجسم مركبا من اجزاء لا تتجزى،فهذان الدّليلان متعارضان و لا نجد جوابا شافيا عن احدهما،و نعلم ان احد الكلامين مشتمل على مقدمة باطلة و قد جزم العقل بصحتها ابدا فصار العقل مطعونا فيه.

ثمّ أخذ في تفصيل هذه الوجوه بكلام طويل فظهر من هذا كلّه انّ اللّذات الحسيّة خسيسة و اللّذات الخيالية مستحقرة،و اما اللّذات العقلية فلا سبيل الى الوصول اليها و القرب منها و التّعلق بها على انّا نقول انّ المناقضة في الأستدلال و في تعارض الدليلين العقليين يكون موجودا بالنّسبته

ص:87

الى الشخص الواحد،فانّا اذا نظرنا في تحصيل مجهول رتّبنا له مقدمات نزعم انّها بديهية،فلما نظرنا في تلك المقدمات و حصل عقيب ذلك النّظر اعتقاد سمينا ذلك الأعتقاد علما،ثم ينكشف لنا بعده بطلان ذلك الأعتقاد و فساده مع ترتب ذلك الأعتقاد على المقدمات التي كانت بزعمنا بديهية،فعلم من هذا انّ حال غيرنا نافي الأستدلال مثل حالنا،و الغلط الذي يعرض لغيرنا فكيف يحصل لنا الجرم من تلك الحجج و البراهين اذا عرفت هذا كله.

فاعلم ان هيهنا بحث شريف حققناه في شرحنا على تهذيب الحديث و لا بأس بالإشارة هنا ايضا الى مجمله و حاصله انّ اكثر الأصحاب قد تبعوا جماعة من مخالفينا من أهل الرّأي و القياس و من أهل علم الطّبيعة و الفلاسفة و غيرهم من الذين اعتمدوا على العقول و استدلالاتها و طرحوا ما جاءت به الأنبياء عليهم السّلام حيث لم يأت على وفق عقولهم،حتى انّه نقل ان عيسى عليه السّلام لمّا دعى افلاطون الى التصديق بما جاء به أجاب بأنّ عيسى رسول الى ضعفاء العقول و امّا انا و امثالي فلسنا نحتاج في المعرفة الى ارسال الأنبياء و الحاصل انّهم ما اعتمدوا في شيء من امورهم الا على العقل فتابعهم بعض اصحابنا و ان لم يعترفوا بالمتابعة،فقالوا انّه اذا تعارض الدليل العقلي و النقلي طرحنا النقلي او تأولناه الى ما يرجع الى العقل،و من هنا تراهم في مسائل الأصول يذهبون الى اشياء كثيرة قد قامت الدّلائل النّقلية على خلافها لوجود ما تخيّلوا انّه دليل عقلي كقولهم بنفسي الإحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محله من مقدمات لا تفيد ظنّا فضلا عن العلم،و سنذكرها ان شاء اللّه تعالى في انوار القيامة مع وجود الدلائل من الكتاب و السنّة على انّ الأحباط الذي هو الموازنة بين الأعمال و اسقاط المتقابلين و ابقاء الرجحان حق لا شك فيه و لا ريب يعتريه،و مثل قولهم ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يحصل له الأسهاء من اللّه تعالى في صلاة قط تعويلا على ما قالوه من انّه لو جاز منه السهو في الصلاة لجاز عليه في الأحكام مع وجود الدلائل الكثيرة من الأحاديث الصحاح و الحسان و الموثقات و الضعفاء و المجاهيل على حصول مثل هذا الأسهاء،و علل في تلك الروايات بأنّه رحمة للأمة لئلا يعبر الناس بعضهم بعضا بالسّهو،و سنحقق هذه المسئلة في نور من هذا الكتاب ان شاء اللّه تعالى الى غير ذلك من مسائل الأصول.

و اما مسائل الفروع فمدارهم على طرح الدّلائل النقلية و القول بما أدّت اليه الأستحسانات العقلية،و اذا علموا بالدلائل النّقلية يذكرون اولا الدلائل العقلية ثم يجعلون دليل النّقل مؤيدا لها و عاضدا ايّاها،فيكون المدار و الأصل انّما هو العقل و هذا منظور فيه لأنّا نسألهم عن معنى الدّليل الذي جعلوه أصلا في الأصولين و في الفروع فنقول ان اردتم به ما كان مقبولا عند عامة العقول فلا يثبت و لا يبقى لكم دليل عقلي،و ذلك كما تحققت من ان العقول مختلفة في

ص:88

مراتب الأدراك و ليس لها حدّ تقف عنده،فمن ثم ترى كلاّ من اللاحقين تتكلم على دلائل السابقين و ينقصه و يأتي بدلائل اخرى على ما ذهب اليه،و لذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامة العقلاء و الأفاضل و ان كان المطلوب متحدا،فانّ جماعة من المحققين قد اعترفوا بأنه لم يتم دليل من الدلائل على اثبات الواجب،و ذلك انّ الدلائل التي ذكروها مبنية على بطلان التسلسل و لم يتم برهان على بطلانه فاذا لم يتم دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجهت الى الأستدلال عليه كافة الخلائق فكيف يتم على غيره ممّا توجهت اليه آحاد المحققين و ان كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدل به و اعتقاده فلا يجوز لنا تكفير الحكماء و الزنادقة و لا تفسيق المعتزلة و الأشاعرة و لا الطعن على من ذهب الى مذهب يخالف ما نحن عليه،و ذلك انّ اهل كل مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب الى دلائل كثيرة من العقل و كانت مقبولة في عقولهم معلومة لهم و لم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر او دلائل النقل و كلاهما لا يصلح للمعارضة على ما قلتم لأنّ الدليل النّقلي يجب امّا تأويله او طرحه و دليل العقل لهذا الشخص لا يكون حجة على غيره لأن عنده مثله و يجب عليه العمل بذاك،مع انّ الأصحاب رضوان اللّه عليهم ذهبوا الى تكفير الفلاسفة و من يحذوا حذوهم و تفسيق اكثر طوائف الأسلام،و ما ذاك الا لأنهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل و لم يعدوها من دلائل العقل.

فان قلت فعلى ما ذكرت من عدم الأعتماد على الدليل العقلي فلا يكون معتبرا بوجه من الوجوه،قلت بل الدّليل العقلي ينبغي تقسيمه الى اقسام ثلاثة:

الأول كان بديهيا ظاهرا في البداهة و لا يعارضه آخر مثل الواحد نصف الأثنين و ما في درجته من البديهيات.

الثاني ما كان دليلا عقليا نقلي الاّ انّ ذلك العقلي قد تعاضد مع نقلي آخر فهذا ايضا يترجّح على الدّليل النّقلي عند التّعارض و لكنّ التعارض في الحقيقة انّما هو بين النقليات،و ذلك كما دلّ الدليل العقلي على انّه تعالى ليس في مكان،و دل قوله تعالى الرحمن على العرش استوى،على المكان ظاهرا فيجب ترجيح ذلك العقلي لتأيّده بالنّقليات الدالة على انّه تعالى منزّه عن الكون و المكان.

الثالث ما تعارض فيه محض العقل و النقل من غير تأيّد بالنّقل فهذا لا نرجّح فيه العقل بل نعمل بالنقل و لا تستغرب مثل هذا فانه مدلول الأخبار الصحيحة الصّريحة فيه،و ذلك انّهم عليهم السّلام قد نهوا عن الأعتماد على العقول لأنّها ضعيفة لا تدرك الأحكام و لا عللها و ما حصل محققوا أصحابنا رضوان اللّه عليهم دلائلهم العقلية الاّ بسبب ورود النّقل بمضمونها فأيّدوا النقل بذلك

ص:89

الدليل لكنّهم في كثير من المواضع يهملون مثل هذا و يعوّلون على العقل و يطرحون النّقل لأجله، و الحاصل انّ لذات الدنيا هذه كلّها خيالات،و لذا قال الرازي:

نهاية أقدام العقول عقال و اكثر سعي العالمين ضلال

و ارواحنا في وحشة من جسومنا و حاصل دنيانا أذى و وبال

و لم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى ان جمعنا فيه قيل و قال

و كم قد رأينا من رجال و دولة فبادوا جميعا مسرعين و زالوا

و كم من جبال قد علت شرفاتها رجال فزالوا و الجبال جبال

فهذه احوال الذّات المحللة و امّا لذاتها المحرمة فعليها عقاب الدارين.

و اما الزنا فقد تقدم بعض احواله،و روي عن الباقر عليه السّلام انّه قال لا يزني الزاني و هو مؤمن و لا يسرق السارق و هو مؤمن،و معناه في حديث آخر انّ روح الأيمان تفارقه ما دام على بطن المرأة فاذا قام من بطنها رجعت اليه،و امّا وباله الراجع اليه فهو انّ الزاني على ما روي انّه لا يزني الاّ و قد زنى به او يزنى به و ان زنى بأولاد الناس او لاط بهم زني بأولاده و ليط بهم،و ان زنى بنساء الناس زنى بامرأته.

روي انّه كان في زمن داود عليه السّلام رجل فاسق،فأتى يوما الى امرأة فجبرها على الزنا فلمّا قعد على بطنها ألهمت تلك المرأة ان قالت له أنت تزني بي و في هذه السّاعة رجل يزني بإمرأتك،فقام و مضى الى بيته فرأى رجلا يزني بإمرأته فاخذه الى داود عليه السّلام و حكى له انّه كان يزني بامرأته فأوحى اللّه تعالى اليه يا داود قل له كما تدين تدان شعر:

كما يدين الفتى يوما يدان به من يزرع الثوم لم يحصد ريحانا

و ذلك كله مع النّدامة التي يلحقه بعد الفراغ من الزنا ان كان له شيء من الأيمان.

و امّا الخمر و ما ورد فيه من الوعيد في الكتاب و السنة فهو كثير حتى انّ اللّه تعالى قرن الخمر بعبادة الصنم،فقال انّما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه،و في الحديث انّ شارب الخمر كعابد الوثن،و قال عليه السّلام لعن اللّه الخمر و غارسها و ساقيها و المحمولة اليه و مشتريها و بائعها و آكل ثمنها.

و عن امير المؤمنين عليه السّلام لو انّ قطرة من الخمر قطرت في بئر و نزح ماء من ذلك البئر و سقى به أرض فأنبتت حشيشا و يبس ذلك الحشيش،ثمّ انّ شاة رعت من ذلك الحشيش فاختلط فيه قطيع غنم و اشتبهت ثم ذبحت تلك الشّياه كلّها لم آكل من لحومها شيئا و قال عليه السّلام لا تجالسوا شارب الخمر و لا تزوّجوه و لا تزوّجوا اليه،و ان مرض فلا تعودوه و ان مات فلا

ص:90

تشيعوه،و ان شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسوّدا وجهه مزرقة عيناه،مائلا شدقه سائلا لعابه، دالعا لسانه من قفاه.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر،و قد روي ايضا تحريم النظر الى الخمر،و لكونه من الخبائث المحرّمة ورد عنه عليه السّلام انّ من ترك شرب الخمر لغير وجه اللّه تعالى بل حفظا لبدنه او عرضه سقاه اللّه تعالى من الرحيق المختوم،مع انّ الذنوب لا يثاب عليها تاركها الاّ اذا كان الترك لوجه اللّه تعالى.

و اعلم انّه على ما يحكى عنه شاربوه من ان فيه النتن و العفونة،و انّ الجرعة عنه اذا وصلت الى الحلقوم و انتهت الى الجوف تكون كجرّة السكّين من الحلق الى الجوف لو كان حلالا لما شربه أحد مع هذه الأوصاف التي عدوها فيه،لكن الشّيطان يقوي عزائم اوليائه،مع ما روي من قوله عليه السّلام من بات سكرانا بات عروسا للشّيطان فمن كان الشّيطان يلوط به فيا سوء حاله و يا حزن باله.

و امّا السّرقة فالمهانة المرتبة عليها ظاهرة،حتى انّ اليد التي قيمتها خمسمائة دينار قد أذلها اللّه سبحانه في باب السرقة حتى انّه امر بقطعها بربع الدنيا،فقال المعري شعرا (1)معترضا به على الحكمة الألهية و ذلك انّه قيل فيه الزّندقة:

يد بخمس مئين عسجد فديت ما بالها قطعت في ربع دينار

فأجابه المرتضى طيّب اللّه ثراه:

حراسة النفس(عز الأمانة خ)أغلاها و أرخصها خيانة المال(ذل الخيانة خ)فافهم حكمة

الباري

و حكي ان رجلا اخرج من السجن في رجله قيد و هو يسأل الناس،فقال الأنسان اعطني كسوة خبز،فقال لو قنعت بالكسرة لما وضع القيد في رجلك،و أمثال هذه المعاصي هي فخوخ (2)الشيطان و مصائده.

ص:91


1- (1) .ابو العلا احمد بن عبد اللّه بن سليمان بن محمد بن سليمان المعري ولد بمعرة النعمان في عام(363)ه و توفي عام(449)ه و البيت الأول كما صرّح هو نفسه في كتابه(لزوم ما لا يلزم)هو هذا البيت: تناقض ما لنا الا السكوت به و ان نعوذ بمولانا متن النار ثم يقول يد بخمس مئين الخ فما في بعض الكتب ان البيت الأول هو قوله: يد بخمس الخ لا وجه له-انظر لزوم ما لا يلزم ج 1 ص 391 ط 2 مصر سنة(1348)ه ق.
2- (2) الفخ آلة يصاد بها جمع فخاخ و فخوخ و يقال:وثب فلان من فخ الشيطان أي تاب.

كما روي ان ابليس كان يأتي الأنبياء عليهم السّلام من لدن آدم الى ان بعث اللّه المسيح عليه السّلام يتحدث عندهم و يسائلهم و لم يكن بأحذ منهم أشدّ أنسا منه بيحيى بن زكريا عليه السّلام فقال له يحيى يا أبا مرة أحب ان تعرض عليّ مصائدك و فخوخك التي تصايد(تصطاد خ) بها بني آدم،فقال لها بليس حبا و كرامة و واعده لعذ،فلمّا اصبح يحيى عليه السّلام قعد في بيته ينتظر الموعد و أغلق عليه أغلاقا فما شعر حتى اتى اليه من خوخة (1)كانت في بيته،فاذا وجهه صورة وجه القردة،و جسده على صورة الخنزير،و اذا عيناه مشقوقتان طولا و فمه مشقوق طولا، و اذا اسنانه عظم واحد بلا ذقن و لا لحية،و له اربعة ايد:يدان في صدره،و يدان في منكبه و اذا عراقيبه (2)قوادمه و اصابعه خلفه و عليه قباء و قد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط معلقة بين احمر و اصفر و اخضر و جميع الألوان،اذا بيده جرس عظيم و على رأسه بيضة،و اذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاب،فلما تأمله يحيى عليه السّلام قال له ما هذه المنطقة التي في وسطك؟فقال هذه المجوسيّة التي سننتها و زيّنتها لهم،فقال له ما هذه الخيوط الألوان؟قال هذه اصباغ النساء لا تزال المرأة تصبغ الصّبغ حتى تقع مع لونها فيفتتن الناس بها،فقال له فما هذا الجرس الذي بيدك؟قال مجمع كل لذة من طنبور و بربط و مغرفة و طبل و ناي و صرناي،و انّ القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فأحرّك الجرس فيما بينهم فاذا سمعوه استخفهم الطرب،فمن بين من يرقص،و من يفرقع اصابعه و من بين من يشق ثيابه.

فقال و اي الأشياء اقر لعينك؟قال النساء هنّ فخوخي و مصائدي فانّي اذا اجتمعت على دعوات الصالحين و لعناتهم صرت الى النساء فطاب نفسي بهن فقال له يحيى عليه السّلام فما هذه البيضة التي على رأسك؟قال بها اتوقى دعوات المؤمنين،قال فما هذه الحديدة التي ارى فيها؟ قال بهذه أقلّب قلوب الصالحين،قال يحيى عليه السّلام فهل ظفرت بي ساعة قطّ؟قال لا و لكن فيك خصلة تعجبني،قال يحيى فما هي؟قال انت رجل أكول فاذا أفطرت أكلت و شبعت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك و قيامك بالليل،قال يحيى عليه السّلام فانّي أعطي اللّه عهدا اني لا اشبع من الطّعام حتى القاه،قال له ابليس و انا أعطي اللّه عهدا انّي لا انصح مسلما حتى ألقاه،ثم خرج فما عاد اليه بعد ذلك فهذه فخوخه.

و اما دواء جراحاته فروى الفضل بن شاذان في تفسير مولانا الحسن العسكري عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آلافا ذكروا امّة محمد محمد و آله عند نوائبكم و شدائدكم لينصر اللّه به ملائكتكم على الشّياطين الذين يقصدونكم،فانّ كل منكم معه ملك عن

ص:92


1- (1) الخوخة كوة تؤدي الضوء الى البيت،الباب الصغير في الباب الكبير.
2- (2) المرقوب عصب غليظ فوق العقب.ج عراقيب.

يمينه يكتب حسناته،و ملك عن يساره يكتب سيئاته،و معه شيطانان من عند ابليس يغويانه،فمن يجد منكم وسواسا في قلبه و ذكر و قال لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم و صلّى اللّه على محمد و آله الطّيبين الطاهرين خنس (1)الشيطانان فأتيا الى ابليس فشكواه و قالا له قد أعيانا أمره فامددنا بالمردة،فلا يزال يمددها بألف مارد،فيأتونه فكلّما راموه و ذكر اللّه و صلى على محمد و آله الطيبين لم يجدوا عليه طريقا و لا منفذ قالوا لإبليس ليس له غير انّك تباشر بجنودك فتغلبه و تغويه،فيقصد ابليس بجنوده،فيقول اللّه تعالى للملائكة هذا ابليس قد قصد عبدي فلانا او امتي فلانة بجنوده فقبلوه،فيقابلهم بازاء كل شيطان رجيم منهم مائة ألف ملك و هم على افراس من نار بأيديهم سيوف من نار و رماح من نار و قسي و نشاشيب و سكاكين و اسلحتهم من نار،فلا يزالون يخرجونهم و يقتلونهم بها و يأسرون ابليس فيضعون عليه الأسلحة،فيقول يا رب وعدك وعدك قد أجلتني الى يوم الوقت المعلوم،فيقول اللّه عز و جل للملائكة وعدته لأميته و لم اعده ان لا أسلط عليه السلاح و العذاب و الآلام اشتفوا منه ضربا بأسلحتكم فانّي لا اميته،فيثخنونه بالجراحات ثم يدعون فلا يزال سخين العين على نفسه و اولاده المقتلين(المتقدمين خ)و لا يندمل شيء من جراحاته الا بسماع اصوات المشركين بكفرهم،و ان بقي على طاعة اللّه و ذكره و الصلاة على محمد و آله بقي على ابليس تلك الجراحات،و ان زال العبد عن ذلك و انهمك في مخالفة اللّه عز و جل و معاصيه اندملت جراحات ابليس،ثم قوى ذلك العبد حتى يلجمه و يسرجه على ظهره و يركبه ثم ينزل عنه و يقول ظهره لنا الآن متى اردنا نركبه،و هذا الملعون قد تصدى لإضلال المؤمنين في بلدانهم قبل خلقهم.

روى الصدوق ره باسناده قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما اسرى بي الى السماء حملني جبرئيل عليه السّلام على كتفه الأيمن فنظرت الى بقعة بأرض الجبل حمراء أحسن لونا من الزعفران،أطيب ريحا من المسك،فاذا فيها شيخ على رأسه برنس،فقلت لجبرئيل ما هذه البقعة الحمراء؟قال بقعة شيعتك و شيعة وصيّك علي،فقلت من الشيخ صاحب البرنس؟قال ابليس،قلت فما يريد منهم،قال يريد ان يصدهم عن ولاية امير المؤمنين عليه السّلام و يدعوهم الى الفسق و الفجور،فقلت يا جبرئيل أ هو بنا اليهم،فاهوى بنا اليهم اسرع من البرق الخاطف، فقلت قم يا ملعون فشارك اعدائهم في اموالهم و اولادهم و نسائهم فانّ شيعتي و شيعة علي ليس لك عليهم سلطان فسميت تلك البلاد قم لذلك.

ص:93


1- (1) خنس عنه تأخر و تنحى و انقبض.

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس لك عليهم سلطان يعني به التّسلط الذي يخرجهم به من الأيمان الى الكفر كما هو حاله مع غيرهم،و امّا ايقاعهم في المعاصي فلا يقال له سلطان و ذلك لأنّهم يتداركونه بأمور كثيرة.

كما روي ان رجلا اتى الصادق عليه السّلام فقال له انّ جماعة من مواليك و شيعتك قد انهمكوا في المعاصي فما حالهم في القيامة،فقال عليه السّلام يتوبون بعد المعصية فيغفر اللّه لهم، فقال ربّما لم يتوبوا،فقال انّ اللّه سبحانه يبتليهم بالأوجاع و الأمراض و نقص من الأموال و الأولاد ليكون كفّارة لذنوبهم،فقال الرجل ربّما لم يبتلوا بهذه،فقال لعلهم يبتلون بسلطان جائر يؤذيهم فيكون كفّارة لذنوبهم،فقال ربّما لم يكن ذلك قال عليه السّلام فان لم يكن ذلك ابتلوا بجار يؤذيهم فيكون كفارة لذنوبهم،قال ربّما لم يكن ذلك،قال ان لم يكن ذلك فقد يبتلون بامرأة سوء تؤذيهم فيكون ايذاء تلك الزوجة كفارة لذنوبهم،فقال ربّما لم يكن ذلك فغضب عليه السّلام فقال اذا لم يكن واحد من هذا كله ادركتهم شفاعتنا و ينجيهم من أهوال القيامة رغما على انفك.

أقول ما أدري ما يقول الناظر في هذه المكفرات للذنوب من انّ ايّها اعظم مصيبة على الأنسان،قال بعض المحققين أشد هؤلاء هو زوجة السّوء أخت الشّيطان و امّه،و لما أتى جبرئيل عليه السّلام الى لوط لعذاب امته و صنعت امرأة لوط ما صنعت من اخبار فساق امته بأن عند لوط ضيفانا،قال جبرئيل له يا لوط انت نبي فكيف يكون هذه امرأتك؟فقال له لوط عليه السّلام يا جبرئيل انّ اللّه سبحانه أوحى اليّ ان يا لوط لا بدّ لكل واحد من اوليائي من شخص يؤذيه في الدنيا لرفع درجته في الجنّة فاختر من شئت،فاخترت ان يكون المؤذي لي زوجتي،و اختياره عليه السّلام لها اشارة الى ما قلناه من انّها اعظم مصيبة من كل المصائب و لهذا اختارها لوط عليه السّلام لأنّ الأنبياء لا يختارون الاّ ما كان اكثر ثوابا و أشقّ و أشدّ من غيره فلو كان هناك مصيبة او هائلة تعادلها لطلبها لوط عليه السّلام،و هكذا وقع مثل هذا لنوح عليه السّلام حتى ضرب اللّه سبحانه مثل تلك المرأتين في القرآن اشارة الى هاتين المرأتين و هما زوجتا نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقد صنعتا صنعا يزيد على صنع المرأتين الأوليين،لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجري في هذه الأمة ما جرى في الأمم السابقة حذو النّعل بالنّعل و القذّة بالقذّة.

و في الروايات عن علي عليه السّلام قال كنت جالسا عند الكعبة فاذا شيخ محدود ب، فقال يا رسول اللّه ادع لي بالمغفرة،فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاب سعيك يا شيخ و ضلّ عملك قال علي عليه السّلام فلمّا ولّى قلت يا رسول اللّه من هذا؟قال ابليس لعنه اللّه، فعدوت خلفه حتّى لحقته و صرعته الى الأرض و جلست على صدره،و وضعت يدي على حلقه

ص:94

لأخنقه،فقال لي لا تفعل يا ابا الحسن فانّي من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم،و اللّه يا علي لأحبك جدا و ما أبغضك احد الا شرّكت اباه في امّه فصار ولد زنا،فضحكت و خلّيت سبيله،هذا كان دأب الشّيطان في التردد الى الأنبياء عليهم السّلام و سؤالاتهم.

روى الصدوق قدس اللّه روحه باسناده الى الصادق عليه السّلام قال انّ ابليس قال لعيسى بن مريم عليه السّلام أ يقدر ربك على ان يدخل الأرض بيضة لا تصغر الأرض و لا تكبر البيضة؟فقال عيسى عليه السّلام ويلك انّ اللّه لا يوصف العجز و من أقدر ممّن يلطف الأرض و يعظم البيضة،و هذا الحديث يبيّن معنى الحديث الّذي رواه الكليني ره عن محمد بن اسحاق قال ان عبد اللّه الدّيصاني سأل هشام بن الحكم فقال له أ لك رب؟فقال بلى،قال أقادر هو؟قال نعم قادر قاهر،قال يقدر ان يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تكبر البيضة و لا تصغر الدّنيا؟قال هشام النّظرة فقال له قد أنظرتك حولا،ثم خرج عنه فركب هشام الى ابي عبد اللّه عليه السّلام فاستأذن عليه فأذن له،فقال له يا ابن رسول اللّه أتاني عبد اللّه الدّيصاني بمسئلة ليس المعول فيها الاّ على اللّه و عليك،فقال له ابو عبد اللّه عليه السّلام عمّا ذا سألك قال فقال لي كيت و كيت،فقال ابو عبد اللّه عليه السّلام يا هشام كم حواسك؟قال خمس قال قال ايّها أصغر قال الناظر،قال و كم قدر الناظر؟قال مثل العدسة او اقل منها،فقال يا هشام فأنظر امامك و فوقك و اخبرني بما ترى؟ فقال ارى سماء و أرضا و دورا و قصورا و براري و جبالا و انهارا،فقال له ابو عبد اللّه عليه السّلام انّ الذي قدر ان يدخل الذي تراه العدسة او اقل منها قادر ان يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا و لا تكبر البيضة،فأكبّ هشام عليه و قبّل رأسه و رجليه و قال حسبي يا ابن رسول اللّه و انصرف الى منزله،و بمضمون الحديث الأول روي عن الصادق عليه السّلام قال قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام هل يقدر ربّك ان يدخل الدنيا في بيضة من غير ان تصغر الدنيا او تكبر البيضة،قال انّ اللّه تبارك و تعالى لا ينسب الى العجز و الذي سألت لا يكون.

و روى البزنطي عن الرضا عليه السّلام قال سأله رجل هل يقدر ربك ان يجعل السماوات و الأرض و ما بينهما في بيضة؟فقال نعم و في اصغر من البيضة،و قد جعلها في عينك و هي أقل من البيضة لأنّك اذا فتحتها عاينت السماء و الأرض و ما بينهما و لو شاء لأعماك عنها.

أقول حديث عيسى و حديث امير المؤمنين عليه السّلام يدلاّن على انّ مثل هذا لا يكون و هذا لا يقدح في القدرة الكاملة،و ذلك انه محال في نفسه فلاحظ له من الشيئية التي اتصف سبحانه بانه على كل شيء قدير،و قد قرر المحققون ان شرط صدور الأثر قدرة الفاعل و قابلية الأثر للصدور و الأمور المحالة لا قابلية لها فالنقص انما هو فيها لا في القدرة لأن الأثر ما لم يكن ممكنا لم يدخل في حيز الوجود،أ لا ترى انه تعالى لم يتصف بالقدرة على خلق الشريك لعدم قابلية

ص:95

الشريك لأن يدخل في عالم الموجودات و كذلك انه تعالى لا يكذب و لا يظلم و ليس هو لعدم القدرة بل لعدم قابليتها للصدور فهذا محال بالنظر الى الغير و ما نحن فيه محال بالنظر الى نفسه و الى هذا اشار عيسى بن مريم عليه السّلام بقوله و من اقدر ممن يلطف الأرض اه،يعني انه تلطيف الأرض و ترقيقها حتى تدخل في البيضة و ان كان امرا عظيما لكنه لكنّه لما اتصف بالإمكان جرى تحت القدرة الكاملة و اما حديث الصادق و الرضا عليهما السّلام فيمكن حملهما على وجوه:

الأول ان الأئمة عليهم السّلام قد أوتوا جوامع الكلم و تكليم الناس على قدر عقولهم و اجابة السائل بما يرضيه و مصلحة الأحوال،و لمّا كان صلاح الحال و الوقت اقتضى الجواب الأقناعي لأنّه يرضي الخصم و يكسر شبهته أجابا عليهما السّلام به،و لو قالا لا يكون ما سألت لبقي السائل على عناده كما هو المعتاد غي هذه الأعصار.

الثاني ان الدّيصاني سأل الأدخال من غير التفات الى ادخال الكبير او صورته،فأجابه عليهما السّلام بأنّ لهذا النحو من الأدخال مصداقا و هو ادخال الصورة المحسوسة المقدّرة بالمقدار الكبير بنحو الوجود الظلّي في الحاسة،و لا استحالة فيه اذ كون الصورة الكبيرة فيه بالوجود الظلي لا يوجب اتصافها بالمقدار الكبير،و لما كان منظور السائل ما يشمل هذا النحو من الأدخال لم يقل بعد ما سمع الجواب مرادي الأدخال العيني.

الثالث ما قيل انّ المراد انّ من قدر على هذا الأدخال قدر على ذلك الأدخال لأنه من بابه فيكون حكاية العدسة من باب التنظير و هو بعيد لعدم موافقته لحديثي عيسى و امير المؤمنين عليه السّلام الا بإرتكاب تكلّف في معنى قول امير المؤمنين عليه السّلام و الذي سألت لا يكون بأنّ يكون بمعنى يوجد،يعني ان الذي سألت عنه و ان كان ممكنا لكنّه لا يوجد اذ ليس كل ممكن يدخل في حيز الوجود،لما عرفت و هذه المسئلة تسمى المسئلة الشّيطانيّة و ذلك ان الشيطان اول من اخترعها لإمتحان الأنبياء عليهم السّلام،و حاشا حجج اللّه سبحانه عن العجز و الأفحام،مع انّه قد حصل له من هذا السؤال ما اعمى عينه و ذلك انّه ورد في الرواية انّ الشّيطان اول ما سأل بها ادريس عليه السّلام فأتى اليه و هو يخيط في مجسد الكوفة (1)و قال له يا ادريس أ يقدر ربك ان يدخل الدنيا في بيضة من غير ان تكبر البيضة و تصغر الدنيا؟فقال له ادريس عليه السّلام ادن مني حتى اجيبك،فلمّا دنى منه أهوى بالابرة التي يخيط بها الى عينه فعورها،قال ربي قادر على هذا فصار الشّيطان اعور من ذلك اليوم،عليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس اجمعين،و لعنة اللّه على كل عدو من الأعداء الى يوم الدين بحق محمد و آله الغر الميامين الطيبين الطاهرين هذا تمام الكلام في الجزء

ص:96


1- (1) في النسخ المطبوعة(مجلس الكوفة)و الصحيح:مسجد الكوفة)كما في النسخة المخطوطة.

الأول لنذكر المنجيات و توابعها بأنوار اخرى و الحمد للّه رب العالمين و صلّى اللّه على محمد و آله الطاهرين.

هذا آخر المجلد الأول من الكتاب و يليه المجلد الثاني على حسب تجزأة السيد المصنف رحمه اللّه تعالى.

ص:97

ص:98

بسم اللّه الرحمن الرحيم

يقول العبد المذنب الجاني نعمت اللّه الحسيني الجزائري هذا المجلد الثاني من كتابه الأنوار النعمانية شرعنا في تأليفه بعد الفراغ من المجلد الأول و نرجو من اللّه سبحانه ان يوفقنا لإتمامه و ان يجعله ذخيرة لإكرامه بحق محمد و آله الطاهرين.

نور في التوبة و ما يتعلق بها من الأحكام و المعارف

اعلم ان اللّه سبحانه قد مدح التّوابين في كتابه العزيز في آيات كثيرة و كفى بها قوله سبحانه انّ اللّه يحب التّوابين و يحب المتطهرين،فلا درجة اعظم من محبّة اللّه تعالى،و ذلك انّها اقصى الدرجات و الأنبياء و الأولياء انّما هي غاية سعيهم لا غيرها من الجنة و مراتبها،فانّ الجنة و ما أعدّ فيها من النعيم انّما هي مقاصد التّجار و غاياتهم و الاّ فأهل الهمم العالية و المطالب الغالية انّما يطلبون محبته و رضاه.

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال بكى شعيب من حب اللّه عز و جل حتى عمى فرد اللّه عز و جل عليه بصره،ثم بكى حتى عمى فرد اللّه عزّ و جل عليه بصره،ثمّ بكى حتى عمى فرّد اللّه عزّ و جل عليه بصره،فلمّا كانت الرابعة أوحى اللّه اليه يا شعيب الى متى يكون هذا ابدأ منك،ان يكن هذا خوفا من النّار فقد احررتك(اجرتك خ)و ان يكون شوقا الى الجنة فقد ابحتك،قال الهي و سيدي انت تعلم انّي ما بكيت خوفا من نارك و لا شوقا الى جنّتك و لكن عقد حبك على قلبي فلست اصبر أو أراك،فأوحى اللّه جل جلاله اليه امّا اذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران.

قال الصدوق طاب ثراه يعني بذلك لا أزال أبكي او أراك قد قبلتني حبيبا،و لا يخفى انّ ما قاله ره ان كان قد وجده في حديث فلا لا بأس به و الا فلا يحتاج الى صرف الكلام عن ظاهره لأنّ معناه لا أقطع البكاء الى ان أراك بعد الموت،و حاصله الى ان اموت و ذلك انّ لقاء اللّه سبحانه انّما يكون بعد الموت،و الظّاهر انّ الذي حمله ره على هذا التأويل هو قول شعيب عليه السّلام أو اراك فانّ الرؤية ممتنعة عليه سبحانه و لكن هذا المجاز مشهور و قد وقع في القرآن و السنة كثيرا قال اللّه تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ و قال امير المؤمنين عليه السّلام كيف أعبد ربّا لم أره.

و بالجملة فالمحبّة انّما هي نهاية الدرجات و قد منحه سبحانه للتّائبين،و قال الصادق عليه السّلام لمّا نزلت هذه الآية وَ الَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّٰهُ و لم يصروا على ما فعلوا و هم يعلمون،صعد ابليس جبلا

ص:99

بمكة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته،فاجتمعوا اليه،فقالوا يا سيّدنا لم دعوتنا؟ قال نزلت هذه الآية فمن لها،قال عفريت من الشّيطان انا لها بكذا و كذا،قال لست لها،فقام آخر فقال مثل ذلك،قال لست لها،قال الوسواس الخنّاس انالها،قال بما ذا؟قال اعدهم و أمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فاذا واقعوا الخطيئة انسيتهم الأستغفار فقال انت لها فوكله بها الى يوم القيامة،و قد عرفت ان اللّه تعالى يحب المؤمن المفتن التواب،و قال عليه السّلام ويل لمن غلبت آحاده عشراته و ذلك انّ الواحد من الحسنات بعشر و واحدة السيئات بواحدة و قال عليه السّلام لا تأتون يوم القيامة الا و تحت كل ذنب استغفار يكون مكتوبا في صحائف اعمالكم،و قال الأمام ابو عبد اللّه جعفر الصادق عليه السّلام اذا تاب العبد توبة نصوحا احبه اللّه فستر عليه في الدنيا و الآخرة،فقلت و كيف يستر عليه؟قال ينسى ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب،و يوحي الى جوارحه ان اكتمي عليه ذنوبه و يوحي الى بقاع الأرض ان اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب فليق اللّه حين يلقاه و ليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب و عنه عليه السّلام ما من عبد مؤمن مذنب الا أجلّه اللّه عز و جل سبع ساعات من النها فان هو تاب لم يكتب عليه شيء و ان هو لم يفعل كتب عليه سيئة فآتاه عباد البصري فقال له بلغنا انك قلت ما من عبد يذنب ذنبا الا اجله اللّه سبع ساعات من النهار فقال ليس هكذا قلت و لكن قلت ما من مؤمن و كذلك كان قولي و في خبر آخر ان المؤمن يذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له و لو لم يكن في التوبة الا سروره سبحانه تكفي بها فضلا و شرفا على سائر الأعمال روي عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال اللّه افرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في ارض دوية (1)مهلكة معه راحلته عليها طعامه و شرابه،فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ و قد ذهب راحلته،فطلبها حتى اذا اشتدّ عليه الحر و العطش و ما شاء اللّه قال ارجع الى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى اموت،فرجع و وضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فاذا راحلته عنده عليها زاده و شرابه،فاللّه أشدّ فرحا بتوبة العبد المؤمن هذا براحلته.

و تحقيق الكلام في التوبة يتم ببيان امور،الأول في وجوبها على العبد و في وجوب قبولها عليه تعالى،اما الوجوب على العبد سمعا فهو مجمع عليه،و انّما الخلاف في وجوبها عقلا،فأثبتته المعتزلة و هو الحق لأنه دفع ضرر و هو واجب عقلا،و لأنّ النّدم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح،و ذهب جماعة الى وجوبها عن الصغائر سمعا لا عقلا،و لعلهم نظروا الى ظاهر قوله

ص:100


1- (1) أي البرية.

تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ فاذا كانت السيئات مكفرة فلا يترتب عليها ضرر يجب دفعه و لكن حكاية الندم على القبيح تعم القسمين.

و اما الوجوب الفوري فعليه المعتزلة و اصحابنا الأمامية،و ذلك لأنّ المعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان فان كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم و ما يضره من المأكولات في كل حال و على الفور فالخائف من هلاك الأبد اولى بأن يجب عليه ذلك،و ان كان متناول السم اذا ندم يجب عليه ان يتقا على سبيل الفور تلافيا لبدن المشرف على هلاك لا يفوت عليه الاّ هذه الدنيا الفانية فمتناول سموم الدين و هي الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها ليتدارك النّعيم المقيم و الملك العظيم و في فواته العذاب المقيم،فالبدار البدار الى التوبة قبل ان تعمل سموم الذنوب بروح الأيمان عملا يجاوز الأمر اختبار الأطباء و لا ينفع بعده الأحتماء فلا ينجح بعد ذلك وعظ الواعظين،و يدخل في قوله وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ و لا يعزّنّك اطلاق لفظ المؤمن على هذا فانّ نيران الذنوب اذا أكلت الفروع أكلت الأصل لأنّه لا استمرار لبقاء الأصل بدون الفرع و من سوّف التوبة يكون على خطرين.

الأول ان يعاجله الأجل فلا يبقى له وقت تدارك التوبة،كما قال تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنِي إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قال بعض المفسرين ان المحتضر يقول عند كشف الغطاء يا ملك الموت أخّرني يوما اعتذر فيه الى ربي و اتوب اليه و اتزود صالحا،فيقول فنيت الأيام،فيقول اخرني ساعة،فيقول فنيت الساعات،فيغلق عنه باب التوبة و يغرغر بروحه الى النار و يتجرع غصة اليأس و حسرة الندامة،و ربما عدل به شياطين العديلة و من ثم استحب تلقين المحتضر كلمات الفرج لتطرد عنه شياطين العديلة التي تعدله عن الأيمان الى الكفر.

الثاني ان تتراكم الذنوب على قلبه الى ان تصير طيعا فلا يقبل المحو،فانّ كل معصية يفعلها الأنسان يحصل منها ظلمة في قلبه فاذا تراكمت اسود القلب،و عبّر عنه بالقلب المنكوس و القلب الأسود.

كما روي عن الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال كان ابي يقول ما من شيء أفسد للقلب ليواقع الخطيئة فلا يزال به حتى يغلب عليه فيصير أعلاه أسفله،فاذا آل أمره الى هذا الحال صارت ذنوبه مزيّنة في نظره فلا يرغب في التّوبة بل ربما زادت في تلك المعاصي،و من هذا ذهب جماعة من المسلمين الى انّه لو أخّر التوبة ساعة واحدة حصل له اثم آخر يجب التوبة منه ايضا،ففي ساعتين اربع ذنوب و هكذا فيكون عليه في اليوم الواحد آلاف من الذنوب.

ص:101

و امّا وجوب قبول التوبة عليه سبحانه بحيث لو عاقب على الذنب بعد التوبة كان ظالما، او هو تفضل يفعله سبحانه كرما منه و رحمة بعباده فيه خلاف،فالمعتزلة على الأول،و الأشاعرة على الثاني،و اليه ذهب الطّوسي و العلاّمة و توقف فيه صاحب التّجريد و ظاهر الأخبار و كلام الأئمة الطاهرين عليهم السّلام يدل على الثاني سيما كلام مولانا زين العابدين عليه السّلام في السادس عشر من ادعية الصحيفة يا الهي لو بكيت اليك حتى تسقط اشفار عيني،و انتحبت حتى ينقطع صوتي،و قمت لك حتى تنتشر قدماي،و ركعت لك حتى ينخلع صلبي،و سجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي،و أكلت تراب الأرض طول عمري شربت ماء الرماد آخر دهري و ذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني ثم لم ارفع طرفي الى آفاق السماء استحياء منك استوجب بذلك محو سيّئة واحدة من سيئاتي و امثال هذا.

و قد استدلوا على وجوب القبول بأن السيد اذا ابق عبده شهرا مثلا ثم رجع نادما كمال الندم متأسفا على ما وقع منه عازما ان لا يعود ابدا ثم انّ المولى لم يقبل توبته بل كان مصرا على عقابه فانّ العقلاء يذمونه،و اجيب عنه بأن السيد لو قرر معه انّه متى ابق مدّة كذا عاقبه العقاب الفلاني فانه اذا رجع و عاقبه السيد ذلك العقاب الذي قرره فانه لا يستحق بذلك الذم من العقلاء، و ما نحن فيه من هذا القبيل.

و فيه نظر و ذلك انّ الذي نحن فيه هو ان السيد اذا قال عند الناس و كتب الى العبد الأبق بانك اذا رجعت عليك الأمان و لا اعاقبك على هذا الأباق لأنّ اسباب الأباق و دواعيه كانت موجودة في الدار و البلاد،فاذا رجع ذلك العبد و بعد رجوعه عذبه المولى لعدّه العقلاء من المذمومين و ما نحن فيه من هذا القبيل،فانه سبحانه قد اكثر من الكلام على قبول التوبة و على اسقاط الذنب عندها،و الأولى في الأستدلال ان يقع على هذا النّمط و كأنّه مراد المستدل و ان لم يصرح به.

الأمر الثاني في حقيقة التوبة،و قد اختلف فيها الأخبار و الأقوال،اما الأخبار فمنها ما روي عن الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه توبته،ثم قال ان السنمة لكثير،من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته،ثم قال ان الشهر لكثير من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّه توبته،ثم قال الجمعة لكثير من تاب قبل موته بيوم قبل اللّه توبته،ثم قال ان يوما لكثير من تاب قبل ان يعاين قبل اللّه توبته.

و منها ما رواه السيد رضى في نهج البلاغة من كلام امير المؤمنين عليه السّلام انّ قائلا قال بحضرته استغفر اللّه فقال له عليه السّلام ثكلتك امّك أ تدري ما الأستغفار؟انّ الأستغفار درجة

ص:102

العلّيين و هو اسم واقع على ست معان،اولها الندم على ما مضى،الثاني العزم على ترك العود اليه ابدا،الثالث ان تؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه املس ليس عليك تبعة،الرابع ان تعمد الى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها،الخامس ان تعمد الى اللّحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد،السادس ان تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

و منها ما رواه الكليني طاب ثراه باسناده الى الصادق عليه السّلام قال ما من مؤمن يقارف في يومه و ليلته اربعين كبيرة فيقول و هو نادم استغفر اللّه الذي لا اله الا هو الحي القيّوم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الأكرام و أسأله ان يصلي على محمد و آل محمد و ان يتوب علي الا غفر اللّه عز و جل له،و لا خير فيمن يقارف في يوم اكثر من اربعين كبيرة،و منها ما روي في الأخبار انّ التوبة هي الندم على ما سلف و العزم على ان لا يعود،الى غير ذلك من الأخبار.

و اما الأقوال فمنها ما قيل ان التوبة ذوبان الحشا لما سبق من الفحشاء،و منها انّها نار في القلب تلتهب و تصدع في الكبد لا ينشعب،و منها ما قيل انّها خلع لباس الجفا و نشر بساط الوفا، و منها ما قيل انّها تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة،و منها ما قيل انها رجوع الأبق عن الجرم السابق،و الكلام الجامع في هذا الباب ما قاله صاحب الأحياء و هو ان التوبة لا تحصل الا بحصول امور ثلاثة:اولها معرفة ضرر الذنوب و كونها حجابا بين العبد و محبوبه و سموما قاتلة لمن يباشرها فاذا عرف ذلك و تيقنه حصل له من ذلك حالة ثانية هي التألم لفوات المحبوب و التأسف من فعل الذنوب و هذا التألم و التأسف هو المعبر عنه بالندم و اذا غلب هذا الألم حصل له حالة ثالثة هي القصد الى امور ثلاثة تعلق بالحال و الأستقبال و المضي فالمتعلق بالحال هو ترك ما هو مقيم عليه من الذنوب و المتعلق بالأستقبال هو العزم على عدم العود اليها الى آخر العمر و المتعلق بالماضي تلافي ما يمكن تلافيه من قضاء الفوائت و الخروج من المظالم فهذه الثلاثة اعني المعرفة و الندم و القصد الى المذكورات امور مترتبة في الحصول و قد يطلق على مجموعها اسم التوبة و كثيرا ما يطلق على الثاني اعني الندم وحده و يجعل المعرفة مقدمة لها و ذلك القصد ثمرة متأخرة عنها و قد يطلق على مجموع الندم و العزم انتهى.

اقول و من هنا اختلفت الأخبار و الأقوال و للإختلاف وجه ألطف و ادق من هذا و هو ان للتوبة درجات و مراتب و فوائد مختلفة فاقل درجاتها احباط العذاب المترتب على ذلك الذنب و هذا هو المراد من التوبة قبل المعاينة الواقعة في الحديث الأول و اعلى درجاتها و فوائدها اسقاط العقاب و الفوز باعلى الكرامات مع الملائكة المقربين و الأنبياء المرسلين و العباد الصالحين و هذا لا يكون بمجرد التوبة قبل المعاينة بل لا بد فيه من اتعاب البدن و اعمالها في الأعمال و هذا هو التوبة

ص:103

في حديث نهج البلاغة و عليها يحمل ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال التائب اذا لم يستبن عليه اثر التوبة فليس بتائب يرضي الخصماء و يعيد الصلوات و يتواضع بين الخلائق و يقي نفسه عن الشهوات و يهزل رقبته بصيام النهار و يصفر لونه بقيام الليل و يخمض بطنه بقلة الأكل و يقوس ظهره من مخافة النار و يذيب عظامه شوقا الى الجنة و يرق قلبه من هول ملك الموت و يجفف جلده على بدنه بتفكر الآخرة فهذا اثر التوبة فاذا رأيتم العبد على هذه الصفة فهو تائب ناصح لنفسه.

و عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال جاءت امرأة الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت يا نبي اللّه امرأة قتلت ولدها هل لها من توبة؟فقال لها و الذي نفس محمد بيده لو انها قتلت سبعين نبيا ثم تابت و ندمت و يعرف اللّه من قلبها انّها لا ترجع الى المعصية ابدا لقبل اللّه توبتها و عفى عنها،فانّ باب التّوبة مفتوح ما بين المشرق و المغرب و انّ التّائب كمن لا ذنب له.

و اما اوسط درجاتها و فوائدها فهي كثيره متفاوتة فمن تاب قبل موته بسنة و تلافى في تلك السنة مساوىء اعماله و أقبل على ما يوجب تصحيح آماله كان له من الدرجة أعلى ممّن تاب قبل موته بشهر،و كذا من تاب قبل موته بشهر بالنّسبة الى من تاب قبل موته بجمعة،و هكذا و مقصودهم عليهم السّلام ترغيب الخلائق في التّوبة و بيان انّ التوبة مقبولة في كل حين الا ان يغرغر بروحه و تعاين الموت و اسبابه،فانّ الأمور تصير عندها ضرورية و يكون حينئذ ملجأة الى التوبة،فمن هذا أغلق عنه بابها.

قال بعض المفسرين و من لطف اللّه بالعباد ان امر قابض الأرواح بالإبتداء في نزعها من اصابع الرجلين ثم يصعد شيئا فشيئا الى ان يصل الى الصّدر ثم ينتهي الى الحلق ليتمكن في هذه المهلة من الأقبال بالقلب على اللّه و الوصية و التوبة ما لم يعاين و الأستحلال و ذكر اللّه سبحانه فيخرج روحه و ذكر اللّه على لسانه فيرجى بذلك حسن خاتمته وفّقنا اللّه و ايّاكم للتوبة.

فان قلت ذكرت ان الندم و هو تألم القلب اما هو التّوبة او اعظم اجزائها،و هذا التألم لا يكون بالأختيار فكيف يوصف بالوجوب،قلت ان سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب و التفكر فيما يترتب على ذلك الذّنب من العقاب،فكلما تفكر و حقّق العلم زادت نيران قلبه و اشتعلت، و تحقيق هذا العلم و زيادة التفكر امران اختياران فمن هذا وصف التألم بالوجوب لمكان الأختيار في اسبابه،فصار الحاصل هو ان العاقل التائب ينبغي ان يكون توبته ممّا يوجب المقامات العالية، بل ذكر بعض المحققين انّ التوبة واجبة في الأوقات على جميع الأشخاص،و ذلك انّ الأنسان لا يخلو عن اتّباع الشهوات و كل شهوة فعلها يرتفع منها ظلمة الى القلب كما يرتفع من نفس

ص:104

الأنسان ظلمة الى وجه المرآة الصقيلة،فان تراكمة ظلمة الشهوات،صارت رينا كما قال تعالى كَلاّٰ بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ .

و اذا تراكم الرين صار طبعا على القلب كالخبث على وجه المرأة،و لا يكفي في ازالة اتباع،(اطباع خ)تلك الشهوات تركها في المستقبل،بل لا بدّ من محو تلك الآثار التي انطبعت في القلب،كما لا يكفي في ظهور الصورة في المرآة قطع الأنفاس و البخارات المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الآثار،و كما يرتفع الى القلب ظلمة من المعاصي و الشهوات فيرتفع اليه نور من الطاعات،فيمحي ظلمة المعصية بنور الطاعة،و اليه الأشارة بقوله عليه السّلام اتبع السيّئة الحسنة تمحها،فاذن لا يستغني العبد في حال من الأحوال عن محو آثار السيّئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضادها و هذا الواجب ليس من باب الواجب الشرعي الذي يلزم من وجوبه في كل الأوقات تعطيل المعائش و المكاسب و خراب الدنيا،بل هو الواجب المعنى الثاني و هو الوجوب الشرطي كما يقال الوضوء واجب لصلاة النافلة يعني لا يمكن التوصل الى فعل النافلة الا به،فكذا ما نحن فيه،و هو انّه لا يمكن التوصل الى درجات المقرّبين الاّ به فمن ارادها توصّل الى تحصيلها به،و من رضى لنفسه بالدرجات الناقصة كان كمن اقتصر على الصلاة الواجبة و ترك النافلة،فليس عليه عذاب و انّما حرم من جزيل الثواب.

و للنظر الى هذا رفض الأولياء ملاذ الدنيا بالكلية،حتى انه روي ان عيسى عليه السّلام توسّد في منامه حجرا فجاء اليه الشّيطان فقال له أما كنت تركت الدنيا للآخرة،فقال نعم و ما الذي حدث؟قال توسدك بهذا الحجر تنعم بالدنيا فلم لا تضع رأسك على الأرض،فرمى عيسى عليه السّلام الحجر و وضع رأسه على الأرض،فكان رميه الحجر توبة عن ذلك التّنعم مع انّه ليس واجبا،و كذلك نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا ثنّي له الكساء الذي ينام عليه فلمّا اصبح قال انّ هذا منعني عن المبادرة الى القيام للعبادة.

و لقد صدق ابو سليمان الداراني حيث قال لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره الا على فوت ما مضى منه في غير الطّاعة لكان خليقا ان يجزيه ذلك الى الممات،فكيف من يشتغل فيما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله،و ذلك ان العاقل اذا ملك جوهرة نفيسة و ضاعت منه بكى على ضياعها،فان صار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه اشد،و كل ساعة من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها و لا بدل عنها،فاذا ضيّعتها في الغفلة فقد خسرت خسرانا مبينا،روي ان ملك الموت اذا ظهر للعبد اعلمه انّه قد بقي من عمره ساعة،و انّه لا يستأخر عنها فيبدو للعبد من الأسف ما لو كانت له الدنيا كلها لخرج منها على ان يضم الى الساعة ساعة اخرى يتدارك تفريطه فيها فلا يجد اليه سبيلا،و هو اول ما يظهر من معاني قوله عز و جل و حيل بينهم و بين ما يشتهون.

ص:105

والى ما ذكرنا من الدرجات اشار ذو النون المصري حيث قال ان اللّه عز و جل عباد نصبوا اشجار الخطايا نصب روامق القلوب،و سقوها بماء التوبة،فأثمرت ندما و حزنا فجنوا من غير جنون و تبدلوا من غير عيّ و لا بكم،و انهم هم البلغاء الفصحاء العارفون باللّه عز و جل و رسوله،ثم شربوا بكأس الصفا فورثوا الصبر على طول البلاء تولّهت قلوبهم في الملكوت و جالت افكارهم في حجب الجبروت،و استظلوا تحت رواق الندم،و قرأوا صحيفة الخطايا فأورثوا انفسهم الجزع حتى و صلوا الى علو الزهد بسلّم الورع،فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا و استلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة و عروة السلامة،و سرحت ارواحهم في العلى حتى اناخوا في رياض النعيم و خاضوا في بحر الحياة،و ردموا خنادق الجزع،و عبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم،و استقوا من غدير الحكمة و ركبوا سفينة الفطنة،و أقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى و صلوا الى رياض الراحة و معدن العز و الكرامة،فانظر رحمك اللّه الى غاية التوبة و انّها أي غاية.

و في كتاب الشيخ ورام انّ ذا النون المصري قال مررت ببعض الأطبّاء و حوله جماعة من النساء و الرجال بأيديهم قوارير الماء و هو يصف لكل واحد منهم ما يوافقه فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ عليّ السّلام،فقلت له صف لي دواء الذنوب يرحمك اللّه،فأطرق الى الأرض ساعة و كان الطّيب عاقلا ثم رفع رأسه،فقال يافتى ان أنا وصفت لك تفهم؟فقلت نعم ان شاء اللّه تعالى، فقال لي خد عروق الفقر و ورق الصّبر،و اهليلج الخشوع و ابليلج التواضع،ألق الجميع في هاون التّوبة ثم اسحقه بدستج التقوى،ثم ألقه في طبخير التوفيق و صب عليه من ماء الخوف،و اوقد تحته نار المحبة و حركه بأصطام الحكمة حتى يرغى،ثم أفرغه في جام الرضا و روحه بمروحة الحمد حتى يبرد،ثم أفرغه في قدح المناجاة ثم أفرجه بماء التوكل و حركه بملعقة الأستغفار،ثم اشربه و تمضمض بعده بماء الورع،فاذا انت فعلت هذا فانّك لا تعود الى ذنب ابدا.

و هذه التوبة هي التي اشار اليها امير المؤمنين عليه السّلام في ذلك الحديث فقال عليه السّلام ان العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة،قيل كيف ذلك يا رسول اللّه؟قال يكون نصب عينيه تائبا فارّا منه حتى يدخل الجنة،و روي انه كان في بني اسرائيل شاب عبد اللّه عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فسائه ذلك،فقال الهي اطعتك عشرين سنة و عصيتك عشرين سنة،فان رجعت اليك أ تقبلني؟فسمع قائلا يقول أجبتنا فأجبناك،و تركتنا فتركنك،و عصيتنا فأمهلناك و ان رجعت الينا قبلناك.

و اعلم ان التائبين العالمين هم الفائزون،و ذلك انّ الناس ينقسمون في الآخرة بالضرورة الى اربعة اقسام:الها لكون،و المعذبون،و الناجون،و الفائزون،و مثاله من الدنيا ان يستولي ملك

ص:106

من الملوك على اقليم فيقتل بعضهم فهم من الهالكين،و يعذّب بعضهم فلا يقتلهم فهم من المعذبين،و يخلي بعضهم فهم الناجون،و يخلّع على بعضهم فهم الفائزون فان فان كانت الملك عادلا لم يقسمهم كذلك الا بالأستحقاق فلا يقتل الا معاندا له في الملك و لا يعذّب الا من قصّر في خدمته مع الأعتراف بملكه،و لا يخلّي الا معترفا له بالدولة لكنّه لم يخدمه ليخلع عليه،و لا يخلع الا على من خدمه،و كل واحدة من هذه الدرجات الأربع متفاوتة و ذلك لتفاوت انواع العذاب و الفوز:

الرتبة الأولى الهلاك:و هم الأيسون من الرحمة الصادرة منه سبحانه،و هم المعاندون المكذّبون.

الرتبة الثانية المعذبون:و هذه رتبة من تحلّى بأصل الأيمان و لكن قصر في الوفاء بمقتضاه و هو انّه قد تابع هواه و شهواته و ارادته.

الرتبة الثالثة النّاجون:و هي السلامة دون السعادة و لعل هذه الرتبة هي رتبة المجانين و البلهاء و نحوهم.

الرابعة الفائزون:و هم العارفون العاملون فهؤلاء هم السابقون و هم الذين كان قصدهم هو سبحانه لا جنّة و لا خلاصا من نار،و لذلك قيل لرابعة العدوية كيف رغبتك في الجنة فقالت الجار ثم الدار.

الأمر الثالث في قبول التوبة للتجزي كأن يتوب عن ذنب و لم يتب عن ذنب،فقال بعضهم انّ هذه التوبة غير مقبولة و ذلك انّ التوبة عن الذنب انما تصح لقبح ذلك الذنب و قبح الذنوب كلها علّة مشتركة بينها،فمن تاب عن ذنب و هو مرتكب غيره يكون كالكاشف عن انّ التوبة عن ذلك الذنب لا لقبحه بل لعلة اخرى،و ايضا فانّ اللّه سبحانه قد مدح التّوابين و قال انّه يحبهم و من احبه اللّه سبحانه لم يعذّبه،و من ارتكابه للذّنوب الآخر يستحق التّعذيب و العفو غير واجب.

و قال بعض الأعلام بقبول مثل هذه التوبة و لعله الظاهر من الآيات و الأخبار و حسن الأعتبار،و التحقيق ان نقول قول من قال انّ التوبة لا يصلح تجزّيها ان عني به انّ ترك بعض الذنوب لا يفيد اصلا بل وجوده كعدمه فهذا خطأ لأنّ كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب كما انّ قلتها سبب لقلته،و نقول لمن قال يصح ان اردت به ان التوبة عن بعض الذنوب يوجب قبولا يوصل الى النجاة و الفوز كان هذا ايضا خطأ فان الفوز كما عرفت انّما يكون بترك الجميع،و يقال في دليل من قال لا يصح و هو انّ التوبة عبارة عن الندم و المعاصي كلها اوجاع و آلام فلا معنى لتوجّعه من ألم دون ألم فان العلّة شاملة لهما،و لو جاز هذا لجاز ان يتوب من شرب الخمر من

ص:107

احد الدّنين دون الآخر،فان استحال ذلك من حيث ان المعصية في الخمرين واحد و انّما الدّنان ظروف فكذلك اعيان المعاصي آلات للمعصية و المصيبة من حيث هي مخالفة لأمر واحد،فيقال على هذا انّ التوبة عن بعض الذنوب اما ان يكون عن الكبائر دون الصغائر أوعن عن الصغائر دون الكبائر او عن كبيرة دون كبيرة.

امّا الأول فممكن من جهة علمه بأشدّية عذابها،كمن جنى على ابن السّلطان و على دابّته فانّه يعلم انّ الأول أشدّ جرما فيخاف منه اكثر،و قد كثر التائبون في الأعصار و ليس احد معصوما من الذنوب سوى أهل العصمة عليهم السّلام.

و اما الثاني فهو ممكن ايضا لأنّ لذّة نفسه في الكبيرة أشدّ من خوفه منها،و اما الصغائر فليس له لذّة نفس فيها فيكون خوفه منها اكثر من لذّته بها.

و اما الثالث فجائز ايضا لإعتقاده انّ بعض الكبائر أشدّ و أغلظ عند اللّه تعالى.

الأمر الرابع في اسباب عظم الصغيرة و هي تكون بأمور:الأول الأصارا و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم لا صغيرة مع الأصرار و لا كبيرة مع الأستغفار،فكبيرة واحدة ارجى للعفو من صغيرة تداوم عليها،و مثال ذلك قطرات الماء تقع على الحجر على توال فتؤثر فيه و ذلك القدر من الماء لو صبّ عليه دفعة واحدة لم يؤثر لأن الصغيرة كلّما دامت عظمت في اظلام القلب، و الكبيرة قلما يتصور الأتيان بها من دون صغائر تكتنفها فانّ الزاني قلّما يزني بغتة بل يحتاج الى المراودة و باقي المقدّمات.

الثاني استصغار الذنب فانّه اذا استعظمه صغر عند اللّه و اذا استصغره عظم عند اللّه لأن استعظامه يدل على كراهية القلب فلا يتأثر منه،و استصغاره يدلّ على شدة الألفة به و هو يوجب تأثر القلب به،الثالث السّرور بالصغيرة فانّها تكبر عند ذلك كما يقول القائل رأيتني كيف خجلت فلانا او كيف نفقت عليه الكاسد،لأنّه ينبغي ان يكون في حزن من غلبة الشّيطان عليه.

الرابع ان يتهاون بستر اللّه عليه و حلمه عنه و امهاله له و لا يدري انّه انّما امهل مقتا له ليزداد دائما،فيظن ان تمكينه من المعاصي عناية من اللّه عز و جل به،فيكون ذلك لأمنه من مكر اللّه و جهله بمكامن الغرور،الخامس اظهار الذنب فانّ هذا منه خيانة(جناية خ)على ستر اللّه الذي اسد له عليه و تحريك لرغبة السامعين في ذلك الذنب،فهما جنايتان انضمتا الى جناية،فان اضيف اليه حمل الغير على ذلك الفعل كان له اربع جنايات،و في الحديث كلّ الناس معاف الاّ المجاهرين يبيت احدهم على ذنب قد ستر اللّه عليه فيصبح و يكشف ستر اللّه و يتحدث به،و ذلك لأنّ من صفاته ستر القبيح،السادس ان يكون المذنب عالما مقتدى به فانّه قد يموت العالم و يبقى

ص:108

شرّه،قال ابن عباس ويل للعالم من الأتباع يزل زلّة فيرجع عنها و يحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق.

بقي الكلام في موجبات الأصرار على الذنوب و في مزيلاته اعلم انّ موجباته اربعة،اولها انّ العقاب الموعود غائب ليس بحاضر و النّفس جبلت على عدم التأثر بالآجل و هذا لا يكون الا من ضعف الأيمان،الثاني انّ اللذات الباعثة على الذنوب لذاتها ناجزة و هي آخذة بالمخنق و قد قوى و استولى بسبب الأعتياد،و العادة طبيعة خامسة،و التّروع عن العاجل الى الآجل شديد على النّفس كما قال سبحانه كَلاّٰ بَلْ تُحِبُّونَ الْعٰاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ .

و في الرواية انه تعالى خلق النّار فقال لجبرئيل اذهب فانظر اليها،فذهب فنظر اليها فقال و عزّتك خشيت الا يبقى احد الا دخلها،و خلق الجنّة فقال لجبرئيل اذهب فانظر اليها،فذهب فنظر اليها فقال و عزتك لا يسمع بها احد الاّ دخلها،فحفّها بالمكاره فقال لجبرئيل اذهب فانظر اليها،فذهب فنظر اليها فقال و عزّتك خشيت ان لا يدخلها احد،فاذن كون الشهوة مرهقة في الحال و كون العقاب متأخرا سببان في الأسترسال.

الثالث انّه ما من مؤمن مذنب الا و الغالب على عزمه التوبة و تكقير السيئات بالحسنات و طول الأمل غالب على الطّباع فلا يزال يسوّف التّوبة و التكفير فمن حيث رجائه توفيق التّوبة ربّما يقدم عليه مع الأيمان،الرابع انّ المؤمن يعتقد انّ عفو اللّه تعالى مباح للمذنبين فيذنب اعتمادا عليه.

و امّا علاج هذه الأمور الأربعة و مزيلها فهو الفكر في كل واحد منها،امّا الأول فبأن تتفكر و تقول انّ ما هو آت يأتي و ما أقرب غدا للناظرين و الموت اقرب منه،و المتأخر اذا وقع صار ناجزا،و يفكّر انّه في الدنيا يركب البحار و يقطع القفار لأجل الربح الذي يظن حصوله و احتياجه اليه،و لو اخبره طبيب نصراني بضرر الماء البارد لتركه خوفا من الموت مع انّ ألمه لحظة واحدة فكيف لا يقلع عن الذنب باخبار الأنبياء عليهم السّلام انّ ألمه يبقى أبد الآباد،و كل يوم من الآخرة بمقدار خمسين ألف سنة من ايّام الدنيا و بهذا التّفكر يعالج اللّذة الغالبة عليه و يقول اذا لم أقدر على ترك هذه اللّذات الفانية في هذه الأيام القلائل فكيف اقدر على ذلك ابد الآباد،و اذا كنت لا اقدر على مفارقة زخارف الدنيا مع كدورتها فكيف اصبر على مفارقة النّعيم.

و اما تسويف التوبة فعلاجه بالفكر في انّ اكثر صياح اهل النار من التّسويف لأنّ المسوف يبني الأمر على ما ليس اليه و هو البقاء فلعلّه لا يبقى،و ان بقي فلا يقدر عليه في هذا الحال،فليت شعري فهل عجز في الحال الا لغلبة الشهوة و الشهوة لا تفارقه بل تقوى كل يوم و هو يضعف،فاذا كان وقت قوته و ضعفها لا يقدر عليها فكيف يقدر عليها اذا انعكس عليه الأمر فيكون مثاله مثل

ص:109

من احتاج الى قلع شجرة صغيرة لا تنقلع الا بمشقة شديدة فقال اؤخّرها ثمّ أعود اليها و هو يعلم انّها كلّما بقيت ازداد رسوخها و هو كلّما زاد عمره ضعفت قوّته فلا حماقة اعظم من حماقته.

و اما انتظار عفو اللّه فعلاجه الفكر في انّ العفو ليس بواجب على اللّه فهو كمن أنفق جميع ماله و ترك نفسه و عياله فقراء فينتظر انّ اللّه سيطلعه على كنز من الكنوز في أرض خربة و هذا ايضا حماقة.

و ما احسن كلاما وقع الينا من سيدنا المرتضى نور اللّه ضريحه،و حاصله الأعتراض على الأنسان بأنّه اذا أذنب ذنبا يقول نرجو عفو اللّه فيعتمد على العفو مع انّه تعالى لم يوجبه على نفسه،و الذي اوجبه على نفسه و هو ايصال الرزق لم يصدّق اللّه فيه و لم يعتمد عليه،فيطلبه في البراري و البحار و هو تعالى يقول وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اللّٰهِ رِزْقُهٰا فهو سبحانه قد ضمن ايصال الرزق الى كل واحد فكيف لا تعتمد عليه فيما ضمنه لك و اعتمدت عليه فيما لم يوجبه على نفسه،و لو ضمن لك ألف دينار رجل نصراني له بعض الأعتبار بين التجار كنت تصدّقه و تعتمد على ضمانه فكيف لا تعتمد على ضمان من له خزائن السماوات و الأرض ما هذا الا سفه و جهل.

فان قيل هذا موقوف على الفكر فما بال القلوب هجرت الفاكر و ما علاج القلوب لردّها اليه،قلنا المانع لها منه امران احدهما انّ الفكر في مقدمات الآخرة لداع مؤلم للقلب فينفر القلب عنه و يتلذذ بالفكر في امور الدنيا على سبيل التّفرج و الأستراحة،و ثانيهما انّ الفكر مشغول بلذات الدنيا في كل حين فصار عقله مسخّرا لشهوة(لشهوته خ ل)فهو مشغول بتدبير حيلته،و امّا علاجهما فبأن يقول لقلبه اذا تألمت من الفكر في أمور الآخرة فكيف لا تخاف من الألم على ورودها عليك و مواقعتها لك و نظير هذه التّفكرات.

اذا عرفت هذا فاعلم انّ الإصرار امّا فعلي و هو المداومة على نوع واحد من الصغائر بلا توبة او الأكثار من جنس الصغائر بلا توبة،و اما حكمي و هو العزم على فعل الصغيرة بعد الفراغ منها،امّا من فعل الصغيرة و لم يخطر بباله بعدها توبة و لا عزم على فعلها فالظّاهر انّه غير مصر، و لعلّه ممّا تكفّره الأعمال الصالحة من الوضوء و الصلاة و الصيام كما ورد في الأخبار.

الأمر الخامس الذنب ان لم يستتبع امرا آخر يلزم الأتيان به كفى الندم و العزم على عدم العود اليه ابدا كلبس الحرير و ان تبعه امر آخر من حقوق اللّه او الناس وجب ذلك الأمر ايضا كالعتق في الكفارة و قضاء الفوائت،و ان كان حدّا فهو مخيّر بين ان يتوب عنه بينه و بين ربه و هو الأولى و بين ان يقرّبه عند حاكم الشرع ليقيم عليه الحدّ.

ص:110

و امّا حقوق الناس المالية فيجب تبرئة الذّمة منها بقدر الأمكان،فان مات صاحب الحق وجب الدفع الى ورثته في جميع الطبقات،و ان بقي الى يوم القيامة ففيه أقوال ثلاثة:الأول انه لآخر وارث و لو بالعموم كالأمام،الثاني انّه ينتقل الى اللّه سبحانه الثالث انّه لصاحبه الأول و هذا هو الأصح،لما روي في الصحيح عن عمر بن يزيد عن الصادق عليه السّلام قال اذا كان للرّجل دين فمطله حتى مات ثمّ صالح ورثته على شيء فالذي أخذ الورثة لهم و ما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة و ان هم لم يصالحهم على شيء حتى مات و لم يقض عنه فهو للميت يأخذه منه.

و امّا حقوق النّاس الغير المالي فان كان اضلالا وجب الأرشاد،و ان كان قصاصا وجب اعلام المستحق له و تمكينه من استيفائه فيقول انا الذي قتلت اباك مثلا فان شئت فاعف عني،و ان كان حدا كما في القذف فان كان المستحق له عالما بصدور ما يوجبه وجب التمكين ايضا و ان كان جاهلا به ففي وجوب الأعلام خلاف ينشأ من انّه حق آدمي فلا يسقط الا باسقاطه،و من كون الأعلام تجديدا للأذى و تنبيها على ما يوجب البغضاء،و كلام المحقق الطوسي و تلميذه العلاّمة يعطي عدم وجود الأعلام في هذه الصورة و هذه المذكورات من قضاء الفوائت و اداء الحقوق و التمكين من القصاص و الحد لا دخل لها في حقيقة التوبة و انّما هي واجبات برأسها و التوبة صحيحة بدونها لكنّها تصير بها أكمل و أتم.

خاتمة هذا البحث في التوبة المؤقتة و التوبة المجملة،و اما الأولى فهو كأن يتوب عن الذنوب سنة،و في صحّتها خلاف و الأولى عدم الصّحة لأنّك قد تحقّقت انّ العزم على العود في المستقبل دائما من اجزائها و هذا مناف له،و امّا الثانية فكأن يتوب عن الذنوب على الإجمال و هو ذاكر للتفصيل فقد توقف في صحّتها الواجا نصير الدين الطّوسي،و القول بالصّحة غير بعيد لعد قيام الدليل على وجوب التفصيل.

نور في الحب و درجاته و علاماته و توابعه و ما يتعلق بذلك

اعلم ايدك اللّه سبحانه ان لفظ الحب ممّا قد اشتهر في الكتاب و السنة و على ألسنة الناس، و قد وصف اللّه تعالى به نفسه فقال يحبّهم و يحبّونه،و قد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحب للّه من شرط الأيمان في أخبار كثيرة،قال ابو رزين العقيلي يا رسول اللّه ما الأيمان؟قال ان يكون اللّه و رسول اللّه احبّ اليك ممّا سواهما.

و في حديث آخر لا يؤمن احدكم حتى يكون اللّه و رسوله احب اليه ممّا سواها قال يا رسول اللّه انّي احبك،فقال عليه السّلام استعد للفقر،فقال اني احب اللّه،فقال استعدّ للبلاء،

ص:111

و الحب هو ميل الطّبع الى الشيء الملتذ فان تأكد ذلك الميل و قوى سمّي عشقا،و البغض عبارة عن نفر الطبع عن المؤلم المتعب فاذا قوى سمّي مقتا،و حيث انّ الحب مقول بالإشراك بين حب اللّه سبحانه و بين حب النّاس لمحبوبهم مع انّ محلّهما واحد و هو القلب فلا بأس بالإشارة الى بيان مراتبه و تطبيق كل مرتبة من مراتب حب اللّه تعالى،لما اشتهر من قولهم المجاز قنطرة الحقيقة،و لأن الألفة بهذه المراتب مألوفة لأكثر الناس بخلاف مراتب حبّه تعالى فانّها ليست مأنوسة الاّ لمن ارتضاه اللّه تعالى.

فاعلم اولا ان الحب على ما عرّفه بعضهم هو ايثار المحبوب على سائر المصحوب و قيل هو ميلك اليه بكلّيتك و ايثارك له على نفسك و موافقتك له سرا او جهرا،و قيل المحبة محو المحب بصفاته و ايثار المحبوب بذاته،و قيل هي هتك الأستار و كشف الأسرار و قيل هو محو الأشباح و ذوب الأرواح،و في بعض الكتب القديمة الحب سرّ روحاني يهوي من عالم الغيب الى القلب، و لذلك سمّي هوى،من هوى يهوي اذا سقط،و يسمى بالحب لوصوله الى حبّة القلب التي هي منبع الحياة،و اذا اتصل بها سرى مع الحياة في جميع اجزاء البدن و اثبت في كل جزء صورة المحبوب.

كما حكي عن الحلاّج انّه لمّا قطعت اطرافه كتب في مواقع الدم اللّه للّه قال هو:

ما قدّ لي عضو و لا مفصل الا و فيه لتكم ذكر

و هكذا حكي عن زليخا انّها افتصدت فارتسم من دمها على الأرض يوسف يوسف و امّا ما اشتهر من قولهم:مجاز قنطرة الحقيقة فقد اشار اليه الشّيخ كمال الدّين عبد الرزاق في شرح منازل السّائرين،حيث قال العشق النظيف أقوى في تلطيف السر،و الأعداد للعشق الحقيقي فانّه يجعل الهموم همّا واحدا و يقطع توزع الخاطر و تفرّقه،و يلذذ خدمة المحبوب و يسهل التّعب و المشقة في طاعته،بخلاف العشق المنبعث من غلبة سلطان الشهوة فانّه وسواس و سعى في تحصيل لذّات النّفس و على هذين النّوعين يبني مدح العشق الصوري و ذمّه في كلام بعض العرفاء من الحكماء.

و هذه التعاريف كلها حق و تكثّرها انّما جاء من جهة تعدّد مراتبه و درجاته،و هي على تكثرها قد حصرت في خمسة:أولها الأستحسان و هو يتولد من النّظر و السّماع و لا يزال يقوى بطول التّفكر في محاسن المحبوب و صفاته الجميلة،و ثانيها المودة و هي الميل اليه و الألفة بشخصه و الأئتلاف الروحاني معه،و ثالثها الخلة و هي تمكن محبّة المحبوب من قلب المحب و استكشاف سرائره.

و رابعها العشق و هو الأفراط في المحبة حتى لا يخلوا العاشق من تخيّل المعشوق و ذكره لا يغيب عن خاطره فعند ذلك تشتغل النّفس عن استخدام القوة الشهوانية و النفسانية فتمتنع عن

ص:112

الطعام و الشّراب لعدم الشهوة و من النوم لإستضرار الدماغ،و خامسها الوله و هو ان لا يوجد في قلب العاشق غير صورة المعشوق و لا ترضى نفسه الا به.

امّا المرتبة الأولى فأهلها كثيرون و هي أكثر،و امّا الدرجة الثانية فهي مشتملة على الأئتلاف الروحاني،و قد تقدم في انوار الملكوت انّ اللّه سبحانه لمّا خلق الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة أوقعت بينها الموافقة و المنافرة في عالم الأرواح،و لمّا قدمت الى هذا العالم و حلت منازل الأبدان و اشتغلت بتعمير هذا المنزل نسيت ما وقع منها في قديم الزمان و سوالف الأيام فلا تذكر محبوبها من غيره لكنها اذا رأته في هذا العالم انعكست اشعتها العلميّة و تحرّكت نحو تلك الألفة القديمة و مالت اليه،حتى ان الرائي اذا رأى رجلا لم يره في هذا العالم أصلا يميل اليه من ساءته و يظن انّه رآه و يقول اين رأيت هذا الرجل و هو لم يره الاّ في عالم الأرواح،و هذا هو الذي اراده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قوله الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر اختلف.

و هذه المرتبة ان وقعت في محبّات الناس،او محبات أهل اللّه يرى الأنسان نفسه غير مختار في تحصيلها و ذلك انّها تحصّل نفسها قبل تحصيلك اياها،نعم زيادتها قوّة و ضعفا ربما كان للإنسان فيه اختيار بسبب طول المعاشرة و الأطلاع على ما يوجب مزيد الألفة و الوداد.

و من هذه محبّة الأمامية لأهل البيت عليهم السّلام فانّ الأنسان اذا اعطى الأنصاف من نفسه و فكّر علم انّ حبهم ممّا تداخل القلوب و العروق،و امتزج باللحم حتّى لم يبق فيه اختيار لأحد منهم،فانّك ترى الطفل اذا نشأ و عرف نفسه ألهم من جانب اللّه سبحانه الميل الى اهل البيت و حبّهم و لعن مبغضيهم و ان لم يذكر له ابوه و امه مثل هذا فان قلت لا يثاب المرء الا على ما كان له فيه اختيار،و ذلك انّ حبهم مأمور به في قوله تعالى قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ فيكون داخلا في الأحكام،و قد تقرر انّ ما لم يدخل تحت الأختيار من الأفعال الكسبية لا يكون داخلا في الأحكام الخمسة و لا يثاب عليه فاعله،قلت الجواب عن هذه الشّبهة من وجوه:

الأول بناء على ما عرفت من قدم التخالف و التوالف و انّه كان في عالم الأرواح و كان هناك كمال الأختيار،و قد اشتمل ذلك العالم على انواع التكاليف من دخول نار اوقدها اللّه سبحانه،و امر الفريقين بدخولها فدخلها أهل اليمين و هم نحن،فصارت عليهم بردا و سلاما، و أبى أهل الشمال و هم مخالفونا و قالوا لا طاقة لنا بدخولها فقال تعالى الى ناري و لا ابالي،و حينئذ فحبّنا لهم عليهم السّلام في هذا العالم تعارف و تجديد لما وقع في العالم الأول و هو عالم الأختيار فيرجع الى الأختيار.

ص:113

الثاني انّ سببه اختياري و هو تحقيق أحوالهم و الأطلاع على بعض محاسنهم و ما آتاهم اللّه تعالى من درجات الكمال فيدخل تحت الأختيار لدخول سببه كما تقدم في ندم التوبة.

الثالث انّ اللّه سبحانه اذا فطر المؤمن على جبلة من الخير و انشأة عليها لعلمه بأنه أهل لها تفضّل عليه بالثواب،فيكون من باب الثواب التّفضلي لا الأستحقاقي،فانّ الأنسان اذا فكر في اكثر الصفات يرى ان الجبلة او الفطرة لها مدخل عظيم فيها،و انّه من نعمه سبحانه التي نشأ الخلق عليها،و امّا كمالها و فروعها فمن اختياره و سعيه و امّا محبة اهل اللّه من المؤمنين و الصلحاء فهو و ان لم يدخل تحت الأختيار ايضا الا انّ اسبابه و دواعيه ممّا حصّلها بسعيه و كدّه بسبب الأيمان و ارتكابه الأعمال،و انّه جعل نفسه من جنس الصالحين و الجنس الى الجنس أميل.

امّا الدرجة الثالثة و هي الخلة فانّما يحصل التمكن الذي فيها من مصادفته الخالي و ذلك انّ القلب حصن البدن فمن دخله ملك مالك البدن و جرت علي او امره و نواهيه جميع جنوده و عساكره و هي الأعضاء و الدّواعي و الأرادات،فاذا كان ذلك الحصن خاليا و دخله سلطان من غير احتياج الى معركة و حرب كان تمكّنه فيه اكثر،و مال الى احداث الآثار فيه لظنّه انّه بيته و منزله،و لا يدخل اليه ما يعارضه و ينازعه فيه،و من ذلك ترى الحبّ اذا وقع و في ايّام الشباب و وقت الطفولة يكون تمكنه في القلوب اشدّ و اعظم ممّا وقع في وقت آخر

أتاني هواها قبل ان اعرف الهتتوى و صادف قلبا خاليا فتمكنا

فيه المتعاندات

قد صيغ قلبي على مقدار حبكم فما لغير هواكم فيه متسع

و هذه الدرجة في الحب الحقيقي هي درجة الخليل عليه السّلام و به سمّي الخليل مأخوذ من الخلال كأنّ المحبوب قد تداخل في خلال الحبيب و اعماق بدنه،و ذلك انّ الخليل عليه السّلام لمّا خيف عليه من النّمرود فمضت به امّه الى كهف جبل و ألقته في مغارته،و صارت تختلف اليه في كل اربعين يوما مرّة و ربّما كان أزيد،و كان اللّه سبحانه هو الذي تولى تربيته،فلمّا نشأ رأى انه لا أحد متكفل به سواه تعالى فلم يشغل قلبه بحب الآباء و الأمهات لأجتنابهم له و بعدهم عنه فكان قلبا خاليا قد صادف ذلك الهوى فتمكن فيه،و كذا وقع مثل هذا لنبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث انه تعالى اوقعه في اليتم و إنه و لم ير له مربّيا سواه تعالى فصغر على الحب و كبر عليه و لم يجعل سبحانه لأحد من ابويه حقا عليه،فمن هذا سلبه ابويه من صغره كما ورد في الروايات.

و اما المرتبة الرابعة و هي العشق فاشتقاقه من العشقة و هو نبت يلتف على الشجرة من أصلها الى فرعها،فهو محيط بها كما انّ العشق محيط بمجامع القلب،و اما اشتغال النفس بهذه

ص:114

المرتبة عن قواها الشهوانية و عن النوم فانما جاء من فرط نار المحبة الكامنة في القلب الشّاغلة له عمّا عداه،حتى انّه في هذه الحالة ربّما اشتغل قلبه و حسّه عن آلام البدن و اوجاعها.

حكى شيخنا البهائي طاب ثراه في حاشية العالية على تفسير القاضي انّ رجلا يهوديا كان عنده جارية و كان مفرطا في حبها و متعشقا لها،فمرضت يوما و احتاجت الى طبخ طعام لمكان المرض،فوضع القدر فلما قرب اشتواء الطعام احتاج الى سوطه،فأخذ المغرفة و شرع يسوطه فكان هو يسوط الطعام و الجارية تأن،فلمّا سمع انينها اشتغل قلبه بها فوقعت المغرفة من يده و صار يسوط القدر بيده و لم يحسن به حتى تساقط لحم يده فلما سكنت من الأنين و رجع اليه عقله رأى انه كان يسوط القدر بيده،و مثل هذه الحالة قد كانت في الحب الحقيقي،و ذلك ان امير المؤمنين عليه السّلام لمّا كانت النصال تلج في بدنه من الحروب كان الجرّاح يخرجها منه اذا اشتغل بالصلاة لعدم احساسه بها ذلك الوقت لإشتغال قلبه بعالم القدس و مالك(ملك خ)الجبروت (1).

و رأيت في عشر السبعين بعد الألف لمّا كنت بشيراز رجلا عريانا و الناس خلفه في حوش عمارة السيد احمد بن موسى الكاظم عليه السّلام،فرأيته في كل واحدة من يديه سكينا و هو يضرب بهما صدره و يقطع بهما لحم بدنه و دماؤه تجري،فسألت عن حاله فقالوا كان يهوى شخصا و قد أشخصه اهله الى بعض البلدان فما يدري اين ذهب،و هكذا كانت عشّاق اللّه سبحانه،فقد ورد في الأخبار ان العباد من بني اسرائيل اذا بلغوا في العبادة عمد العابد منهم الى سلسلة من الحديد و أخرجها من ترقوته و شدّ بها الى احد اساطين المسجد لئلا يخرج من منزل حبيبه الى غيره،و في هذه المرتبة ايضا من جهة الف النفس بصورة المحبوب قد يرى غيره بصورته لأنّه لا صورة في خياله غير صورة محبوبه.

حكى لي اوثق مشايخي باصفهان ليلة من الليالي انّه قد كان له صديق و قد كان يهوى صاحبا له،فاتفق انّ اهله ارسلوه ببضاعة الى بلدة ببهبهان،فلمّا زمضت له ايّام له لم يملك الصبر عنه فسافر الى تلك البلدة،فحكي انّه لما دخل بهبهان كانت ليلة الجمعة و كان الناس يخرجون الى قبور موتاهم لزيارتهم،قال فرأيت مجمعا من الناس فجلست معهم حتى أسأل عن احوال ذلك الصاحب و أهتدي الى منزله،ثم أخذت في تخيّل صورته فنظرت الى يدي و اذا هي بصورة يده، و الى اعضائي كلها فما رأيت شيئا من اعضائي و جوارحي الاّ و هي على صورة اعضائه فغرقت في بحر التعجب،فلما دخلت البلد و سألت عنه قيل لي في مجمع من الناس مجتمعين في بيت رجل للضيافة فدخلت عليهم و نظرت اليه فرأيته في تلك الصورة التي رأيت نفسي عليها،فلما شاهدت

ص:115


1- (1) هذه القضية مشهورة بين الشيعة في حق امير المؤمنين عليه السّلام سلام اللّه عليه كما صرح بشهرتها بينهم العلامة القاشاني(ره)في كتابه النفيس المحجة البيضاء في القسم المخطوط منه الموجود في مكتبتنا.

من نفسي هذا الحال رجعت الى اصفهان،و هذه الحكاية كان الشيخ ادام اللّه ايّام سلامته اذا تذاكرنا مذاهب الصوفية و قولهم بالحدود و الأتحاد و هو ان اللّه يحل بكل المخلوقات يكذّبهم و يقول انّ مثل هذا الأتحاد الخيالي ممكن،و لبعض اصحابنا:

علمت لمذهب التوحيد حقا و كنت ابطل رأى الأتحاد

الى ان بنت يا روحي بروحي و شخصك يا فؤادي في فؤادي

و هذا ايضا من الأتّحادات الشّعرية الخيالية،و اظن انّ الشعرين المشهورين بالأشكال من هذا الباب و هما هذان:

رأت قمر السماء فذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين

كلانا ناظر قمر و لكن رأيت بعينها و رأت بعيني

يعني اننا اتحدنا في ذلك الوقت فصارت عيني عينها و عينها عيني،و ذلك من المبالغات الشّعرية او من التّصورات الخيالية،و قد ذكر له أهل تلك الصّناعة وجوها كثيرة حتى انّ بعضهم قد صنّف فيه مقدّمة و ذكر له سبعين معنى تقريبا،و لنذكر بعض ما قالوه و هو معان:

اولها ان معناه انها أي المحبوبة كانت تنظر الى القمر الحقيقي في السماء و انا انظر الى القمر المجازي الذي هو وجهها بأنه قمر حقيقي لأن عينها تنظر الى القمر الحقيقي،ثم قال و رأت بعيني يعني انها رأت القمر الحقيقي بعيني أي نظرت اليه بانه قمر مجازا و انه في الواقع الحقيقي لأنها نظرت بعيني و انا انظر اليه على انه مجاز بالنّسبة اليها و لا يخفى في هذا الوجه من التّكلف.

و ثانيها ما قاله الوالي تغمده اللّه برحمته و كان عالما شاعرا اديبا صالحا عفيفا عابدا و كان حاكما على بلاد العرب كالحويزة و ما والاها،و قد كنّا نحن بشوشتر فكان كل سنة يرسل الينا المكاتيب و الرسائل و يرغبنا و يحثنا على الوصول الى حضرته و قد أبطأنا عليه بعض المرات،فكتب الينا مكتوبا و هذه الأبيات من جملته:

يا أخا بشرنا تأخّرت عنا قد أسأنا ببعد عهدك ظنا

كم تمنيت لي صديقا صدوقا فاذا انت ذلك المتمنى

فبغصن الصبا لما تثني و بعد الصبا و ان بان عنا

كن جوابي لكي تردّ شبابي لا تقل للرسول كان و كنا

ص:116

و قد كان اكثر المصنفات في فنون العلوم و كان يحفظ من القصائد مع كبر سنه ما لا يعد لأنه كان يحفظ اكثر الدّواوين على خاطره،و له ديوان نفيس و ما كنّا نسمع في مجلسه شيئا سوى روى جدنا عن جبرئيل عن الباري،و قد انتقل الى جوار ربه و رحمته سنة الثامنة (1)و الخمسين بعد الألف،و جلس في الملك بعده ابنه الكبير وفقه اللّه تعالى و الأسم الشريف لذلك المرحوم هو السيد علي خان بن السيد خلف بن السيد مطلب الذي اسلمت الكفار على ايديهم و استبصرت المخالفون في أعصار دولتهم:

نسب كان عليه من شمس الضحى نورا و من فلق الصّباح عمودا

و حاصل المعنى بتوقفه على البيتين و هو انّها رأت قمرا في السماء ببهجة و استحسان فأذكرتني ليالي كنت أو أصلها بالرقمتين لما كانت مساعدة بالوصل و تنظر الي بتوجه و تودد،ثم قال كلانا ناظر قمرا و هو القمر الحقيقي و لكن رأيت بعينها في هذه الحالة التي هي معرضة عنّا و صادّة فيه،و رأت بعيني في حال نظري اليها باستحسان و توجّه فأنا انظر الى القمر الحقيقي معرضا عنه اذا طلبتي غيره،و هي تنظر اليه بتوجّه منها اذ مطلبها النّظر اليه.

و ثالثها كون معناه انّ الرجل اذا نظر الى الشيء ينظر اليه شزرا (2)و المرأة اذا نظرت تنظر فتورا لمكان الحياء و الخجل،و لكن هنا لما نظرت الى القمر الحقيقي نظرت شزرا لعدم حيائها منه، و هو لما نظر الى القمر المجازي و هو وجهها نظر اليه بحياء و فتور،فقد صار وصف كل واحد منهما للآخر.

و رابعها انّها نظرت الى قمر السماء و نظرت انا الى قمر وجهها فأنا نظرت الى قمر كالقمر الذي رأته هي بعينها،يعني ان وجهها قد صار قمرا حقيقيا،فأنا أنظر بعينها يعني مثل الذي تنظره عينها و هو القمر الحقيقي،و هي تنظر الى قمر حقيقي بعيني،أي بالعين التي نظرت بها الى القمر الذي هو وجهها،و قيل فيه معان كثيرة.

و نظير هذا في مراتب الحقيقة ما روي عن الأمام ابي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السّلام قال في حديث الأسراء انّ عبدي ليتقرب اليّ بالنوافل حتى احبه،فاذا احببته كنت سمعه الذي يبصر به،و لسانه الذي ينطق به،و يده،التي يبطش بها،ان دعاني اجبته و ان سألني أعطيته، و لقد هلك جماعة من الصوفية في هذا الحديث حيث حملوه على ظاهره،فذهبوا منه الى الأتحاد المعروف بينهم،و هذا كفر منهم و الحاد في ذات اللّه،و معناه الذي يمكن ايصاله الى الأفهام هو انّ العبد اذا تقرّب الى اللّه عز و جل تقرّب اليه ايضا،كما قال من تقرب اليّ شبرا تقربت اليه ذراعا،

ص:117


1- (1) في النسخة المخطوطة:الثانية.
2- (2) الشزر بالفتح فالسكون نظر الغضبان بمؤخر العينين يقال نظر اليه شزرا أي نظر غضب.

و من تقرب اليّ ذراعا تقربت اليه باعا،فاذا وقعت المقاربة منحه اللّه الألطاف الألهية حتى لا يكون عاملا الا بما كان موافقا لرضاه فهو سبحانه الذي يتصرف في اعضائه و جوارحه و يجريها في مجرى طاعته و ارادته،فهو الذي يسمعه و هو الذي ينصب عينيه لمشاهدة آثاره و عالم ملكوته،و هو تعالى الذي ينطق لسانه بكلماته و عباداته الى غير ذلك.

و هذه المرتبة تسمى عند السالكين الفناء في اللّه و سيأتي تحقيقها ان شاء اللّه تعالى عند تحقيق مراتب السلوك،و الى ما ذكرنا يشير كلام سيد السالكين مولانا امير المؤمنين عليه السّلام ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانيّة بل قلعتها بقوة ربّنيّة،و ذلك انه عليه السّلام قد أفنى قوّته البشرية في الطاعات و العبادات فأعطاه تعالى قوة ربّانية بها قدر على ما يعجز عنه قوة البشر،و من هذا قال عليه السّلام عرفت اللّه بفسخ العزائم،و قال ايضا ان قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء،و من نظائر ما سبق ما ذكره ابن الجوزي في تاريخه.

قال لمّا تزوجت ليلى جاء المجنون الى زوجها و هو يصطلي في يوم شاة فوقف و قال له:

بربك هل ضممت اليك ليلى قبيل الصبح او قبّلت فاها

و هل رفّت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها

فقال اللهم اذ خلقتني فنعم،فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر فما فارقهما حتى سقط مغشيا عليه،فسقط الجمر مع لحم راحتيه و توفي سنة سبعين من الهجرة.

و حكى بعض الثقاة قال اجتزت في بعض اسفاري بحي بني عذرة،فنزلت في بعض بيوته، فرأيت جارية قد ألبست من الجمال حلية الكمال فأعجبني حسنها و كلامها،فخرجت في بعض الأيام ادور في الحي و اذا انا بشاب حسن الوجه و عليه أثر الوجد و أضعف من الهلال و انحف من الخلال،و هو يوقد نارا تحت قدر و يردد ابياتا و دموعه تجري على خدّيه،فمّما حفظت منه قوله:

فلا عنك لي صبر و لا فيك حيلة و لا عنك لي بدّ و لا عنك مهرب

و لي ألف باب قد عرفت طريقها و لكن بلا قلب الى اين اذهب

فلو كان لي قلبان عشت بواحد و أفردت قلبا في هواك يعذب

فسألت عن الشاب و شأنه،فقيل يهوى الجارية التي انت نازل في بيتها و هي محتجبة عنه منذ اعوام،قال فرجعت الى البيت و ذكرت لها ما رأيت،فقالت ذاك ابن عمي،فقلت لها يا هذه للضّيف حرمة فنشدتك باللّه الا ما متّعته بالنظر اليك في يومك هذه،فقالت صلاح حاله في ان لا يراني،قال فحسبت ان امتناعها ظنّة منها،فما زلت اقسم عليها حتى أظهرت القبول و هي

ص:118

متكرهة،فقلت لها انجزي وعدك الآن فداك ابي و امي،فقالت تقدمني فاني ناهضة اثرك، فاسرعت نحو الغلام فقلت له ابشر بحضور من تريد فانّها مقبلة نحوك الآن،فبينما انا اتكلم معه اذ خرجت من خبائها مقبلة تجرّ اذيالها و قد اثارت الريح غبار اقدامها حتى ستر الغبار شخصها، فقلت للشاب ها هي قد أقبلت،فلما نظر الغبار صعق و خر على النار لوجهه فما اقعدته حتى اخذت النار من صدره و وجهه،فرجعت الجارية و هي تقول من لا يطيق مشاهدة غبار نعالنا كيف يطيق مشاهدة جمالنا.

و نظير هذه في عالم الحقيقة قوله تعالى وَ لٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ الآية، و نقل في كتاب مصارع العشّاق ان كثير عزة قال اعجب و ألذ ما مرّ عليّ في حب عزة انّه كان معه ركب يريدون الحج،و قد اتفق ان في ذلك الركب عزة مع زوجها و كان كثير لا يعلم بهما،فبينما هو ذات يوم في الطريق قاعد يبري و اذا عزة واقفة على رأسه فطار لبّه لما نظر اليها و صار يبري اصابعه بالشفرة و الدم يسيل من يده و هو لا يحس به،و كان زوجها باعثها تشتري سمنا فأظهرت غرة لكثير انها تريد سمنا و كان عنده ظرف،فقام وصب لها في الأناء فأمتلأ و فاض و وقع في الأرض،فلما نظرت غرة الى الدم يسيل من اصابعه قطعت قطعة من مقنعتها و عصبت بها يده و مضت الى زوجها فرآها على حالة منكرة،فسألها فأخفت عليه حالها حتى ألحّ عليها فأخبرته بما كان،فقبضها من يدها و أوجعها و أتى بها الى قدام كثير،و قال لها اشتميه و سبيه حتى اسمع فقابلت كثيرا و أخذت في شتمه و سبّه و زوجها يسمع فقال كثير:

يكلّفها الخنزير شتمي و ما بها هوآئي و لكن الكميل استدلت

هنيئا مريئا غير داء مخامر لغرة من اعراضنا ما استحلّت

و من النظائر في عالم الحقيقة ان رجلا كان ورده يا اللّه،فكان يقولها كل اوقاته فلمّا قتل جرى دمه على الأرض مكتوبا فيه يا اللّه يا اللّه اينما جرى،و ما ذلك الا لإختلاط محبّته تعالى و ممازجتها بلحمه و دمه،و في عالم الشهود قد نقل ايضا مثله و هي انّ زليخا قد احتجمت يوما فلما وقع الدم على الأرض كان مكتوبا فيه يوسف يوسف اينما سال.

و حكي ايضا في التفاسير انها غضبت على يوسف عليه السّلام يوما فأمرت خادمها بأن يضربه اسواطا و هي تسمع صوت السوط،فكان الخادم يوقع الأسواط على الأرض و يضرب الأرض و هي تسمع فخطر بخاطر الخادم ان يضربه سوطا واحدا حتى يرى الأثر على بدنهفلا تكذبه زليخا في ضرب الأسواط،فضربه سوطا فخرجت زليخا من خدرها و صاحت به كفّ عن

ص:119

الضرب فهذا السوط الذي ضربته الآن قد وقع ألمه في قلبي،و كأنّك ضربتني أنا لا يوسف،فأمنت على الخادم فحكى لها كيفية الضرب و انّه كان على الأرض الاّ ذلك السوط.

و قد سبق ان زليخا قعدت يوما على ممر يوسف فلما اخبرتها جاريتها بدنوه منها قالت يا يوسف بحق الذي اعزك و اذلني ان تقف ساعة و لا تغيب عني،فقال يا زليخا اين مالك و جمالك؟قالت ذهبا في سبيلك،فقال و اين عيناك؟فقالت ذهبتا بالبكاء على فراقك،فقال و اين عشقك؟قالت في صدري كما كان،قال فأين برهانك؟قالت ناولني سوطك،فناولها اياه فتأوهّت و نفخت فيه فأحترق السوط من نفسها،فألقاه يوسف من يده و صرف عنان الفرس فرارا،فقالت يا يوسف انك بدعوى الرجولية لم تكن مثل هذه المرأة فاني حفظت تلك النار في صدري منذ اربعين سنة و لم انهزم كأنهزامك.

و من احكام هذه المرتبة في عالم الشّهود ما ذكره شرّاح كتاب المعنى عند ذكره في بحث لو الشّرطية قول الهذلي:

و لو تلتقي اصداؤنا بعد موتنا و من دون رمسينا من الأرض سبسب

لظل صدا صوتي و ان كنت رمّة لصوت صدا ليلي يهشّ و يطرب

و الأصداء جمع صدا و هو الذي يجيبك مثل صوتك في الجبال،و الرّمس تراب القبر، و السبسب المفازة،و الرمة العظام البالية،ثم نقل بعد هذا قول توبة:

و لو ان ليلى الأخيلية سلّمت عليّ و دوني جندل و صفائح

لسلّمت تسليم البشاشة او زقى اليها صدى من جانب القبر صائح

و الصفائح الحجار العراض تكون على القبر،و زقى أي صاح،قال الشرّاح ذكر صاحب كتابا لجليس و الأنيس قال مرّت ليلى الأخيلية و معها زوجها قرب قبر توبة،فقال لها يا ليلى هذا قبر توبة فسلمي عليه،قالت و ما تريد منه قال اريد تكذيبه أ ليس هو الذي يقول و لو انّ ليلى الأخيلية الشّعر،فلا و اللّه ما برحت حتى تسلمي عليه فقالت السّلام عليك يا توبة أ لست القائل و لو انّ ليلى الأخيلية سلّمت فأين ما قلت؟فاذا طائر كان هناك فخرج من القبر حتى ضرب بصدرها فشهقت شهقة فماتت،فدفنت الى جانب قبره فنبتت على قبره شجرة،و على قبرها شجرة فطالتا فالتفتا فانظر الى فرط المحبة كيف اثّر فيهما و سرى منهما الى شجرتيهما حتى تلاقتا،و الظاهر ان تلاقيهما عيانا يشعر بتلاقي روحي اهل الحب بيانا و ما ذلك الا لأن عشقهما كان عفيفا،و من هذا الباب قول المجنون:

ص:120

و لو وقفت ليلى بقبري و قد عفت معالمه و استفتحت بسلام

لحنّت اليها بالتحية رمّتي و رنّت بترجيع السّلام عظامي

و لذا نقل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه من قال من عشق فعفّ فمات دخل الجنّة، و في كتاب رياض النّعيم عن ابراهيم بن نفطويه النحوي قال دخلت على محمد بن داود الأصفهاني صاحب المذهب في مرضه الذي مات فيه،فقلت كيف تجدك؟فقال حب من تعلم اورثني ما ترى قلت ما منعك منه مع القدرة عليه،فقال الأستمتاع على وجهين النظر المباح و اللّذة المحظورة،و اما النظر المباح فقد منعني منها ما بلغني عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم انه قال من عشق و كتم و عفّ غفر اللّه له و أدخله الجنّة قال ثمّ انّه أنشدني أبياتا لنفسه فلمّا انتهى الى قوله:

ان يكن عيب خده من عذار له فعيب العيون شعر الجتفون

فقلت له انت تنفي القياس في الفقه و تثبته في الشعر،فقال غلبة الهوى و ملكة النفوس و دعوا اليه قال و مات في ليلته.

و حكى بعض الصلحاء قال رأيت الغزالي في البرية و عليه موقعة و بيده ركوة و عصا، فقلت ايها الأمام أ ليس تدريس العلم ببغداد خيرا من هذا؟فنظر اليّ نظر الأزراء و قال لمّا بزغ بدر السعادة من فلك الأرادة و جنحت شمس الأصول الى مغارب الوصول:

تركت هوى ليلى و سعدى بمنزل و عدت الى مصحوب اول منزل

و نادت بي الأشواق مهلا فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل

و لذا نقل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال من عشق فعف فمات دخل الجنة، و حكي عن العشاق السبعة مثل ذلك،ذكر جامع ديوان المجنون انّه دخل يوما على ليلى و كان يحاكيها فأتى زوجها فعمدت الى المجنون و ادخلته تحت ثيابها و جلست،فلمّا خرج زوجها أخرجته من تحت الثياب فقالت له ما رأيت تحت الثياب؟قال و حقك دخلت أعمى و خرجت أعمى،و قد كان غمض عينيه حتى لا ينظر الى بدنها،و هذا ايضا علامة دوام الحب و الا فالحب اذا نكح فسد.

و قد شاهدنا من ارتكب اعظم المشاق في باب العشق و المحبة و لكن ذكر حكاياتهم يفضي الى تطويل الكتاب،و قد ذكر بعض أهل التاريخ انّ كثير عزّة كان رافضيّا و كان خلفاء بني امية

ص:121

يعرفون ذلك منه،دخل على عبد الملك بن مروان يوما فقال نشدتك بحق علي بن ابي طالب عليه السّلام هل رأيت أعسق منك؟

فقال نعم بينما اسير في الفلوات اذ انا برجل قد نصب حبائله،فقلت ما أجلسك هنا؟قال أهلكني و أهلي الجوع فنصبت حبائلي لأصيب لهم و لنفسي ما يكفينا يومنا هذا،فقلت أ رأيت أن أقمت فأصبت صيدا تجعل لي جزء،قال نعم،فبينما نحن كذلك اذ وقعت عليه ظبية فخرجنا مبتدرين فأسرع اليها فحلّها و أطلقها،فقلت له ما حملك على هذا؟قال دخلني عليها رقّة لشبهها بليلى و أنشأ يقول:

أيا شبه ليلى لا تراعي فانني لك اليوم من وحشية لصديق

أقول و قد أطلقتها من وثاقها لأنت لليلى لو عرفت عتيق

فعيناك عيناها و جيدك جيدها و لكن عظم الساق منك دقيق

و لما اسرعت في العدو جعل يقول:

اذهبي في كلاءة الرحمن انت مني في ذمة و امان

لا تخافي من ان تحاجي بسوء ما تغني الحمام في الأغصان

اقول و نظير هذا في عالم الحقيقة انّ الرجل الذي كان يضحك منه فرعون لما تشبه بموسى عليه السّلام في الملبس و دخل على فرعون يقلّد على موسى في اقواله و افعاله و قد غضب منه موسى،و لمّا اغرق اللّه فرعون و جنوده و كان فيهم ذلك الرجل فلم يغرقه اللّه سبحانه،فقال موسى يا رب ان هذا الرجل أغاضني فلم لم تغرقه؟فقال يا موسى انّه تشبّه بك في الثياب و الكلام فأنجبته لما تشبّه بأحبابي.

و حكى بعض الثقاة انّه كان رجل يهودي ابن واحد من السلاطين قد سمّاه فأفرط في حبه و منعه عن اشغاله،فترك معاشه و جعل نفسه سقّاء في باب بيت السلطان حتى يراه كلما خرج فبقي على هذا مدّة،ثم ان بعض خواص ذلك الولد اخبره عن حال ذلك الرجل و افراطه في عشقه، فقال ذلك الولد اظن ذلك الرجل كاذبا في دعواه،فقالوا اختبره ان اردت تصديق مقاله،ثم انّه ركب يوما و خرج الى الصّيد و امر ذلك الرجل ان يجيء معه الى الصحراء فلما بلغ الى محل الصيد رمى سهما و قال لذلك الرجل امض الى هذا السهم و انظر اين وقع فاجلس عنده،فمضى الرجل الى السهم و اخذه و قبله و جلس نتظرا لولد السلطان،فرجع و معه خواصه الى البلد و لم يخرج بعد الى تلك الصحراء حتى مضى اربعون سنة فاتفق انه خرج يوما الى تلك الصحراء فرأى رجلا قد

ص:122

اخذه العمر و هو جالس و بيده سهم،فسأله عن حاله فقص قصّته فعرفه ابن السلطان فقال له تعرفني؟فنظر الرجل اليه فقال اعرفك و انا مقيم على ما أمرتني به و لا أحول عنه الى الموت قضاء لأمرك لما كنت حبيبا،فأراد منه المجيء الى البلد فلم يقبل فبقي و كان هناك قبره.

و نظيره في عالم الحقيقة ما رواه الصدوق باسناده الى الصادق عليه السّلام قال انّ اسماعيل الذي قال اللّه عز و جل في كتابه وَ اذْكُرْ فِي الْكِتٰابِ إِسْمٰاعِيلَ إِنَّهُ كٰانَ صٰادِقَ الْوَعْدِ وَ كٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا لم يكن اسماعيل بن ابراهيم،بل نبيا من الأنبياء بعثه اللّه عز و جل الى قومه،فأخذوه فسلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك الموت،فقال ان اللّه عز و جل بعثني اليك فمرني بما شئت، فقال لي اسوة بما يصنع بالحسين عليه السّلام،و قد وعد رجلا على ضحوة فاشتّدت الشمس عليه،فقال اصحابه يا رسول اللّه لو انّك تحوّلت الى الظّل،قال قد وعدته الى هيهنا و ان لم يجيء كان منه المحشر،و في خبر آخر انّه وعد رجلا فجلس له حولا ينتظره فانّ انتظاره عليه السّلام انّما جاء من قبل الأمر به من جهة ذلك المحبوب الحقيقي فهو تعظيم له في الحقيقة لا لذلك الرجل.

فان قلت اذا آل الأمر الى مرتبة العشق و المحبة أ فيجوز ان يكون في ذلك الحصن أعني القلب غيره سبحانه؟قلت نعم و لكن ذلك الغير يكون اعوانه و اتباعه و احبابه فيصدق ان ليس في ذلك الحصن غيره كما يصدق ان ليس غير السلطان في الحصن الظّاهري،مع ان السلطان وحده لا يجوز ان يكون فيه وحده بدون الأتباع و الأعوان و الجنود.نعم ليس فيه ما يعارض ذلك السلطان و لا يكون مناسبا له و يكون اجنبيا عنه و كذلك القلب فانّه اذا كان فيه حب اللّه و حب من احبّه اللّه صدق انه ليس في القلب حب غير اللّه لما عرفت،و من هذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في دعائه اللّهم ارزقني حبّك و حب ما يقربني الى حبك و اجعلك أحب اليّ من الماء البارد.

و قد كان ذلك في اكثر اهل العشق هذا العشق فانّهم كانوا يحنون الى من له أدنى نسبة الى محبوبهم كالدّيار و المنازل و الأقارب و الجيران حتى كلاب الحي:

رأى المجنون في البيداء كلبا فجرّ له من الأحسان ذيلا

فلاموه على ما صار منه و قالوا ألم أنلت الكلب نيلا

فقال لهم دعوني انّ عيني رأته مرة في حيّ ليلى

و كذلك الديار فانّ ما قرب من دار الحبيب يمون عندهم كداره:

لا تقولوا دارها بشترقي نجد كل نجد للعامريّة دار

و قوله الرّضي ره:

عارضا بي ركب الحجاز أسايل(أسائله) متى عهدهم بأيّام جمع

ص:123

و اتملا حديث من سكن الخيف و لا تكتباها الا بدمعي

فاني ان ارى الدّيار بطرفي فلعلي ارى الديار بسمعي

و كما انّ السلطان المستقرّ في الحصن يحتاج في بقائه في ذلك الحصن الى الماء و الزّاد و اللّباس و سائر ما يحتاج اليه في المعاش فكذلك القلب،فانّ ابن آدم قد خلق أجوف يحتاج الى المأكل و المشرب الى غير ذلك مما يحفظ البدن،و لا يهتم الأنسان في تحصيل شيء الاّ اذا أحبّه و علم انّ فيه مصلحة،فحينئذ فحب الزوجة و الولد و المال و الأقارب و الأعوان اذا كان لغرض ديني لا ينافي حبّ اللّه تعالى بل يؤكده و يقرّره،امّا المال ففيه معاونة المحاويج و الفقراء من اهل اللّه،و اما الزوجة فهي لباس الرجل السّاتر له و بها يحصل له التّعفف عن ارتكاب المحرمات.

و اما الأولاد فالمصالح الأخروية المترتبة على وجودهم اكثر من ان تحصى،روي انّ نبيا من الأنبياء مرّ على قبر يعذّب صاحبه ثم مرّ عليه بعد مدّة فلم يكن يعذّب فسأله أصحابه عن رفع العذاب عنه،فقال انّه خلف ولدا فجاءت به امه الى المعلم،فلقّنه بسم اللّه الرحمن الرحيم فاستحى اللّه ان يعذب رجلا و ابنه يقول بسم اللّه الرحمن الرحيم.

و اما الأقارب فهم من اعظم النّعم حتى لو كانوا اعداء،فان الصادق عليه السّلام قال أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح أي المعادى،و بالجملة فحب هؤلاء و امثالهم لمثل هذه المصالح لا ينافي حب اللّه تعالى بل يجتمع معه و يكون معاونا على بقائه و استمراره،روي انّه عليه السّلام سأل رجل من الشّيعة فقالوا له يا رسول اللّه قد تخلّى عن الدنيا و أقبل على العبادة، قال فمن اين يأكل؟قالوا له أخر يعطيه،فقال انّ ثواب ذلك الأخ اكثر من ثوابه مع عبادته،و هذا اشارة الى ما ذكرناه،امّا اذا احبّ الولد لغرض دنيوي و كذا المال ليتوصل به الى الأغراض الفاسدة فهذا ممّا لا يجتمع مع حب اللّه سبحانه.

فان قلت فاذا احب هذه المذكورات لا للغرض الأول و لا للغرض الثاني بل لأن الطبيعة البشرية اقتضته فانّك ترى انّ الرجل يحب اطفاله و اقاربه و لا يخطر بخاطره شيء من الأغراض أ فيكون مثل هذا مضادا لحب اللّه سبحانه أم غير مضادّ له.

قلت الحق انّ مثل هذا لا يضاده،و ذلك انّ مثل هذه المحبّات يكون بها بقاء النّوع الأنساني،و لولاها لما عطفت الأمّ على الولد و آثرته على نفسها و وقته الحر و البرد و كذلك الرجل على ولده فتكون هذه المحبات منه تعالى لإنتظام النّوع و قد صرّحت بمثل هذه الأخبار،روي انّ اللّه تعالى خلق المحبّة على مائة جزء فقسم واحدا منها بين الخلق و به يحبّ الرجل ولده و الأمّ طفلها،و أبقى منها تسعة و تسعين جزء يرحم بها الخلائق يوم القيامة.

ص:124

نعم الذي يجب هنا ان يجعل حب اللّه سبحانه سلطان ذلك الحصن،و هذه المحبّات من العساكر و الأتباع لا ان يجعل واحدة منها هي الرئيس و يكون محبته تعالى من التّوابع كما هو الموجود في اكثر الناس،و الى هذا الأشارة بما روي من انّ الحسن عليه السّلام قال يوما لجده صلى اللّه عليه و آله و سلّم أ يجتمع محبتان في قلب واحد؟فقال لإبني،فقال أ تحب أبي؟قال نعم،قال أ فتحب امي؟قال نعم،قال أ فتحب أخي؟قال نعم،قال أ فتحبني انا؟قال نعم،قال أ فتحب اللّه تعالى؟قال نعم،قال الحسن عليه السّلام فكيف اجتمعت هذه المحبّات كلها و أنت قلت لا يجتمع محبتان في قلب واحد،فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا بني ان احبكم يرجع الى حب اللّه تعالى في قطب القلب و حبّكم كالخطوط التّي هي حوله،فهذا الحب كلّه واحد و تفصيله ما ذكرنا،و على هذا ينحل الإعتراض الذي اورده بعض القاصرين على قول الشاعر:

محى حبها حب الأولى كن قبلها و حلّت محلا لم يكن حل من قبل

و وجه الأعتراض بانه اذا كان حبها قد محى حب من تقدمها على انّ القلب كان محلا لغيرها لكن حبها اخرج ذلك الغير،فما معنى قوله و حلت مكانا لم يكن منزولا قبلها،و الجواب ان حب من كان قبلها كان محلّه اطراف القلب و جوانبه،و لمّا أتى هذا الحب أخرج تلك المحبّات من كل الأطراف و استقر في وسط القلب الذي لم يكن محلا لأحد قبله،و قد كانت الشعراء اذا أرادوا ان يدعوا على احد سواء ادعيتهم عليه ان يكون مشغولا بحب محبوب يكون ذلك المحبوب مشغولا بحب غيره كما قال بعض الشعراء:

من قصر الليل اذا زرتني أشكو و تشكين من الطّول

عدو عينيك و شأنيهما أصبح مشغولا بمشغول

فقوله اذا زرتني ظرف متعلق بأشكو،و معناه أنّك ايّتها المحبوبة اذا زرتني اشكو أنا من قصر الليل،و انت تشكين من طوله،ثمّ دعا علي بعض من يبغض عينيها و يشنأهما بأنّه يصبح مشغولا بمحبوب يكون ذلك المحبوب مشغولا بغيره و ليس اضرّ على العاشق من هذا لأنه و ان قربت داره لكنّه غير نافع بعد ان لا يكون له وداد:

على ان قرب الدار ليس بنافع اذا كان من تهواه ليس بذي ودّ

و قد يمثلون مثل هذا الحبيب بما قال:

كالعيسن في البيداء يقتلها الظماء و الماء فوق ظهورها محمول

و قال شيخنا الحويزي قدس اللّه روحه:

فلا تعجب لهجر من حبيب قريب الدار مرجو الوصال

ص:125

فحكم الجملتين الفصل قطعا و بينهما كمال الأتّصال

و نظير هذا في عالم الحقيقة شيء عجيب و هو انّه سبحانه و له المثل الأعلى قد تحبّب الينا بأنواع المحبات و نحن مشغولون عنه في غيره من آلهتنا التي هي النّفس و الهوى و الشّهوات و الأرادات حتى انّه تأسف على أحوالنا فقال يٰا حَسْرَةً عَلَى الْعِبٰادِ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فهو قد تأسف علينا تأسف المحب على المحبوب كما يقول احدنا اذا تأسف على محبوب له قد أتى بما يحصل له من الضرر يا حسرتي على حبيبي فلان كيف أتى بهذا الفعل حتى يحصل له منه ما حصل،و في الحديث القدسي يا ابن آدم أتحبب اليك بالإحسان و تتبغض اليّ بالمعاصي، خيري اليك نازل و شرّك اليّ صاعد حتى كأنّ لك المنة عليّ و أنا المحتاج اليك.

فان قلت ذكرت ان صاحب هذه المرتبة يشتغل عن استعمال القوة الشهوانيّة و القوة النّفسانية فما للأنبياء و أوصياءهم و الأولياء ممّن حصّل هذه المنزلة لم يمنعوا أنفسهم عن القوّتين بل كانت القوة الشّهوانية فيهم اكثر منها في غيرهم،فقد نقل انّ سليمان عليه السّلام كان يصحب معه البساط ألف امرأة منكوحة منها سبعمأة من الأماء،و ثلاثمائة من الحرائر،و قيل انّه كان يطوف عليهنّ في ليلة،و امّا نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد مات عن تسع و قد اكثر من الزوجات، و كذلك الأئمة صلوات اللّه عليهم،و اما القوة الأخرى فروي انّ الحسن و الصادق عليهما السّلام و كذلك الرضا عليه السّلام كانوا يتأنقون في المأكل و الملبس و الشرب مع انّ تلك الدرجة لم يبلغ كمالها أحد سواهم،قلت هاتان اللذتان الواقعتان في هذا العالم على قسمين:

القسم الأول ما نوقعه نحن منهما لداعي الشّهوة المرّكبة في الأبدان و لأجل الألتذاذ و طلبا للأولاد و التكاثر،و من هنا ترى الزاني لا يزني الاّ ان يكون على لذة منه،بل قيل ان الزنا ألذ عند اهله من الحلال،و حكى صاحب الكشكول ان رجلا كانت له امرأة و كان يتركها و يمضي الى الزنا فقالت له امرأته يوما ايّها الرجل عندك حلال طيب فتدعه و تمضي الى الزنا،فقال لها امّا قولك حلال فنعم و امّا قولك طيّب فلا،و فيه ايضا ان رجلا كان يلوط بالأولاد فعاتبته امرأته و قالت انّ الذي تطلبه من الغلمان عندي انا الفرد الأحسن،فقال نعم عندك منه الأحسن لكن الذي عندك له جار مؤذ و هو غير حسن فنحن نترك ما عندك لكراهة جاره،فانظر الى هذا الرجل قبّحه اللّه كيف اجابها،و لعلّه صادق باعتقاده،و ذلك لأن النفس حريصة على ما منعت عنه مع معاونة الشيطاطين و تسويلاتهم و اين هؤلاء من جميل العاشق.

ص:126

كما روي انّه بثينة دخلت يوما على عبد الملك بن مروان فقال يا بثينة ما أرى شيئا ممّا كان يقول جميل،فقالت يا أمير المؤمنين انّه كان يرنوا لي بعينين ليستا في رأسك،قال فكيف صادفته في عفّته،قال كما وصف نفسه:

لا و الذي تسجد الجباه له مالي بما دون ثوبها خبر

و لا بفيها و لا هممت بها ما كان الاّ الحديث و النظر

و عن ابي سهل الساعدي قال دخلت على جميل و بوجهه آثار الموت،فقال لي ابا سهل انّ رجلا يلقى اللّه و لم يسفك دما حراما و لم يشرب خمرا و لم يأت بفاحشة أ ترجو له،قلت أي و اللّه فمن هو؟قال انّي لأرجو ان أكون ذلك،فذكرت بثينة فقال انّي لفي آخر يوم من الدّنيا و أول يوم من الآخرة لا نالتني شفاعة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان كنت حدّثت نفسي بريبة قطّ.

و اما القليل منا فربما ضموا الى الدّواعي المذكورة سابقا الأستنان بسنة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما سمع فيه من مراتب المثوبات،روي ان سليمان عليه السّلام مرّ يوما بعصفور يقول لزوجته ادني مني حتى اجامعك لعل اللّه يرزقنا ولدا ذكرا يذكر اللّه تعالى فانّا كبرنا، فتعجب سليمان عليه السّلام و قال هذه النيّة خير من مملكتي.

و اما احباؤه عليه السّلام فهم انّما يأتون هذه الشّهوات و المستلذات لا للدّواعي التي فينا بل لأنه تعالى امرهم باستعمالها،فهي و ان كانت لذيذة في الحس عندنا الا انّ اعظم لذّتها في المعنى عندهم،لأنّهم لا يستلذون الاّ بما فيه رضى محبوبهم،و من ثم يستلذوا من المحرمات استلذاذ غيرهم منّا،و من هذا قال امير المؤمنين عليه السّلام لو ادخلتني نارك لم اقل انّها نار،و أقول انّها جنّتي لأنّ جنتي رضاك فاينما أنزلتني أعرف ان رضاك فيه:

و هجره اعظم من ناره و وصله أطيب من جنّته

و قال له سلمان الفارسي رضي اللّه عنه يا أمير المؤمنين أ تحب الموت أم الحياة؟فقال لا أحبّ الا ما أحبه لي مولاي،و امّا طلب الجنان و الخلاص من النّيران فانّما هو مقصد التجار و العبيد كأمثالنا،و ذلك لأنّ طلب النعمة و اللّذة يكون على وجوه ثلاثة اعلاها ان يكون لذته بالمنعم لا بالنعمة و لا بالأنعام،و مثاله من المشاهدات ان السلطان اذا اراد الخروج الى سفر فأنعم بفرس على انسان فيتصور ان لذّة المنعم عليه و فرحه بالفرس على وجوه ثلاثة:

الأول ان يفرح بالفرس من حيث انّها مال،و لو وجدها في الصحراء لكان يفرح بها ذلك الفرح فهذا فرح من لا حظّ له في السلطان.

ص:127

الثاني ان يفرح به لا من حيث انّه فرس بل من حيث يستدلّ به على عناية الملك و شفقته حتى لو أعطاها غير الملك لم يفرح بها أصلا لعدم احتياجه الى الفرس.

الثالث ان يفرح به و يستلذ به ليركب و يخرج في خدمة الملك و يتحمل مشقة السّفر لينال بخدمته رتبة القرب منه فيرتقي الى درجة الوزراء،ثم انه ليس يريد من الوزارة نفس الوزارة بل مشاهدة الملك و القرب منه،حتى لو خير بين القرب دون الوزارة و بين الوزارة دون القرب لأختار القرب،فهذه ثلاث درجات،فالأولى درجة الجهّال و اكثر الناس الذين يفرحون بالأموال و النّعم لكونها أموالا،و لا فرق عندهم في تحصيلها من يد نبي من الأنبياء او مجوسيّ من المجوس، و امّا الدرجة الثانية فهي درجة الأحباب و الأخلاّء الذين يفرحون بنعم اللّه و لذات الدنيا من حيث انّه يقدر بها على التوصّل الى القرب منه و النزول في جواره.

و قد روي ان واحدا من الصّحابة دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاذا هو شاد حجرا على بطنه من الجوع،و هو مستلق على قفاه لا يقدر على الجلوس و هو يقول:اللهم انّي اعوذ بك من نوم يضجع على الفراش و يشغلني عن طاعتك فهم عليهم السّلام انّما يريدون الأكل ليقووا بها على الطاعة و الخدمة لمحبوبهم.

و اما المرتبة الخامسة و هي الوله و الهيام و ان لا يكون في القلب و الخيال سوى ذلك المشوق فهذه آخر المراتب،و هذه آخر مراتب الخليل عليه السّلام كما قال عليه السّلام انّما سمي ابراهيم لأنّه برّ فهام،يعني انّه هام في الحب حتى انّه لم يكن له شغل و لم يكن في قلبه احد سوى ذلك الحبيب،و هذه درجة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام و هي التي أشار علي بن الحسين عليهما السّلام الى طلبها بقوله و فرّغ قلبي لمحبتك،يعني يكون فارغا من محبة كل احد و يكون مقصورا عليك وحدك،قال بعضهم رأيت امرأة مستقبلة البيت في غاية الضرّ و النحافة رافعة يديها تدعو،فقلت لها هل من حاجة؟قالت حاجتي ان تنادي بالموقف بقولي:

تزود كل الناس زادا يقيهم و ما التي زاد و السّلام على نفسي

ففعلت فاذا بفتى منهوك،فقال انا الزاد فمضيت معه اليها فما زادت على النظر و البكاء، ثم قالت له انصرف مصاحبا،فقلت ما علمت ان لقائكما يقتصر على هذا،فقالت امسك اما علمت انّ ركوب العار و دخول النّار شديد.

قيل لإعرابي ما بلغ من حبك لفلانة؟قال اني لأذكرها و بيني و بينها عقبة الطائف فأجد من ذكرها رائحة المسك،و سأل الرشيد رجلا ما اشد ما يكون من العشق قال ان يكون ريح البصل منه احبّ من ريح المسك من غيره.

ص:128

عبد اللّه بن عجلان الهذلي أحد العشاق المذكورين تزوّجت عشيقته فرأى أثر كفها على ثوب زوجها فمات كمدا،و زار على بن عبيدة الريحاني جارية كان يهواها و عنده اخوانه،فحان وقت الظهر فبادروا الى الصلاة و هما يتحدّثان،فأطالا حتى كادت الصلاة تفوت،فقيل يا ابا الحسن الصلاة،فقال رويدك حتى تزول الشمس،يعني تذهب المرأة،ابو العينا اضحكني بائع رمان يقول وقعت من فوق جبل الهوى الى بحار الحب طرطب،عشق رجل امرأة فقيل له ما بلغ من عشقك لها؟قال كنت ارى القمر على سطحها أحسن منه على سطوح الناس،ليلى العامريّة مع قيس:

لم يكن المجنون في حاله الاّ و قد كنت كما كانا

لكنه باح بسرّ الهوى و انّني قد دنت كتمانا

و في الرواية انّ سليمان عليه السّلام رأى عصفورا يقول لعصفورته لم تمنعيني نفسك و لو شئت أخذت قبة سليمان بمنقاري فألقيتها في البحر،فتبسم سليمان من كلامه،ثم دعى بهما فقال للعصفور أ تطيق ان تفعل ذلك،فقال لا يا رسول اللّه و لكن المرء قد يزيّن نفسه و يعظّمها عند زوجته،و المحب لا يلام على ما يقول،فقال سليمان عليه السّلام للعصفورة لم تمنعيه من نفسك و هو يحبك؟فقالت يا نبي اللّه انّه ليس محبا و لكنه محب مدع لأنه يحب معي غيري،فأثّر كلام العصفورة في قلب سليمان عليه السّلام و بكى بكاء شديدا و احتجب عن الناس اربعين يوما يدعو اللّه ان يفرغ قلبه لمحبّته و ان لا يخالطها بمحبّة غيره،اذا تحقّقت هذا كله فاعلم ان أهل دعوى محبّة اللّه كثيرون و الدعوى لا تصدق الا بالشاهد و الشواهد هنا و ان كان كثيرة الاّ انّ اظهرها و أقواها أمور ثلاثة:

الأول النّحول و السقم و الذبول،لأنها صفات العاشق سيّما العاشق الذي يكون من الوصال في شكّ و من الحبيب على حذر،فانّ نار الحب اذا اشتعلت بالقلب سرى تأثيرها الى باقي الأعضاء لأنّها جنوده و توابعه،و النّقص الداخلي على السّلطان يدخل على الرّعية.

و روي انّه قال رجل لسيد العاشقين امير المؤمنين عليه السّلام ما بال وجهك تعلوه الأنوار و أنت على هذا الحسن و الجمال،و غيرك من العبّاد و أهل الحب على حال عظيم من أصفرار الوجه و نحول البدن و ضعف القوة،فقال عليه السّلام أولئك العباد و الأحباب أحبوا حبيبا و هم لا يعرفون حالهم عنده أراض عنهم ام غير راض،و لا يعلمون انّه قبل خدمتهم ام لا،و اما انا فقد عرفت حالي عنده،و انّي راض عنه و هو راض عني،فصار خاطري مطمئنا فلا يصفر وجهي

ص:129

و لا ينحل بدني،و ان اردت وصف حال المحبين فانظر في احوال يحيى بن زكريا عليهما السّلام تجد حالا غريبا و طرازا عجيبا.

روينا بالأسانيد الكثيرة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال كان من زهد يحيى بن زكريا عليهما السّلام انّه أتى بيت المقدس فنظر الى المجتهدين من الأحبار و الرهبان عليهم مدارع الشعر و برانس الصوف،و اذا هم قد خرقوا تراقيهم و تركوا فيها السلاسل و شدّوها الى سواري المسجد، فلمّا نظر الى ذلك أتى امه فقال يا أماه انسجي لي مدرعة من شعر،و برنسا من صوف حتى آتي بيت المقدس فأعبد اللّه مع الأحبار و الرهبان،فقالت له امّه حتى يأتي نبي اللّه فاوامره في ذلك، فلما دخل زكريا عليه السّلام أخبرته بمقالة يحيى،فقال له زكريا يا بني ما يدعوك الى هذا و انّما أنت صبي صغير،فقال له يا ابه اما رأيت من هو اصغر سنا من قد ذاق طعم الموت،قال بلى،ثم قال لأمه انسجي له مدرعة من شعر و برنسا من صوف،ففعلت فتدرع بالمدرعة على بدنه و وضع البرنس على رأسه،فأقبل يعبد اللّه عز و جل مع الأحبار حتى اكلت مدرعة الشعر لحمه،فنظر يوما الى ما قد نحل من جسمه،فأوحى اللّه عز و جل اليه أ تبكي على ما قد نحل من جسمك؟ و عزتي و جلالي لو اطّلعت الى النار اطلاعة لتدرعت مدرعة الحديد فضلا عن المنسوج،فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدّيه،ثم بدا للناظرين اضراسه فبلغ ذلك امه،فدخلت عليه و أقبل زكريا و اجتمع الأحبار و الرهبان فأخبروه بذهاب لحم خدّيه،و قال ما شعرت بذلك.

فقال زكريا ما يدعوك الى هذا انّما سألت ربّي ان يهبك لي لتقرّ بك عيني،قال انت امرتني بذلك يا ابه،قال و متى ذلك يا بني؟قال أ لست القائل ان بين الجنة و النار لعقبة لا يجوزها الا البكّاؤن من خشية اللّه تعالى،قال نعم فجد و اجتهد فشأنك غير شأني،فقام يحيى فنفض مدرعته فأخذته امه فقالت أ تأذن لي يا بني ان اتّخذ لك قطعتي لبود تواريان اضراسك،و ينشفان دموعه، حتى ابتلتا من دموع عينيه،فحسر عن ذراعيه ثمّ أخذهما فعصرهما فتحدّر الدموع من بين اصابعه،فنظر زكريا الى ابنه و الى دموع عينيه فرفع رأسه الى السماء فقال اللهم هذا ابني و هذه دموع عينيه و أنت ارحم الراحمين.

و كان زكريا عليه السّلام اذا أراد ان يعظ بني اسرائيل يلتفت يمينا و شمالا فاذا رأى يحيى لا يذكر جنة و لا نارا،فجلس ذات يوم يعظ بني اسرائيل و أقبل يحيى فلف رأسه بعباه و جلس في غمار الناس و التفت زكريا يمينا و شمالا فلم ير يحيى،فأنشأ يقول حدّثني حبيبي جبرئيل عليه السّلام عن اللّه عز و جل انّ في جهنم جبلا يقال له السكران في اصل ذلك الجبل واد يقال له الغضبان يغضب لغضب الرحمن تبارك و تعالى،في ذلك الوادي جبّ قامته مأة عام،في ذلك الجبّ توابيت من نار،في تلك التوابيت صناديق من نار و أغلال من نار،فرفع يحيى رأسه و قال

ص:130

وا غفلتاه من السّكران ثم أقبل هائما على وجهه،فقام زكريا عليه السّلام من مجلسه فدخل على ام يحيى فقال يا ام يحيى فاطلبي يحيى فانّي اخاف ان لا تراه الا و قد ذاق الموت،فقامت و خرجت في طلبه حتى مرّت بفتيان من بني اسرائيل،فقالوا لها يا ام يحيى اين تريدين؟قالت اريد ان اطلب ولدي يحيى ذكرت النّار عنده فهام على وجهه،فمضت ام يحيى و الفتية معها حتى مرت براعي غنم،فقالت له يا راعي هل رأيت شابا من صفة كذا و كذا،فقال لها لعلك تطلبين يحيى بن زكريا، قالت نعم ولدي ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه،فقال اني تركته السّاعة على عقبة ثنية كذا و كذا ناقعا قدميه في الماء رافعا بصره الى السماء يقول و عزّتك يا مولاي لاذقت بارد الشّراب حتى انظر الى منزلتي منك،فأقبلت امه فلمّا رأته أمه دنت منه فأخذت برأسه و وضعته بين ثدييها و هي تناشده باللّه ان ينطلق معها الى المنزل،فانطلق معها حتى أتى المنزل.

فقالت له ام يحيى هل لك ان تخلع مدرعة الشّعر و تلبس مدرعة الصّوف فانّه ألين ففعل و طبخت له عدسا فأكل و استلقى فنام فذهب به النوم فلم يقم صلاته،فنودي في منامه يا يحيى بن زكريا أردت دارا خيرا من داري و جوارا خيرا من جواري،فاستيقظ فقام،فقال يا رب أقلني عثرتي،الهي فو عزّتك لا أستظل بظل سوى بيت المقدس،و قال لأمه ناوليني مدرعة الشّعر، فتقدمت امه فدفعت اليه المدرعة و تعلّقت به،فقال لها زكريا يا ام يحيى دعيه فانّ ولدي قد كشف له عن قناع قلبه و لن ينتفع بالعيش،فقام يحيى فلبس مدرعته و وضع البرنس على رأسه ثم أتى بيت المقدس فجعل يعبد اللّه عز و جل مع الأحبار حتى كان من امره ما كان.

اقول فهذا حال يحيى لأنّه كان محبا،و في الرواية ان عيسى عليه السّلام مرّ بثلاثة نفرات قد نحلت ابدانهم و تغيّرت ألوانهم فقال لهم ما لذي بلغ بكم؟قالوا الخوف من النار،فقال حقّ على اللّه ان يؤمن الخائف،ثم جاوزهم الى ثلاثة آخرين فاذا أشدّ نحولا و تغيّرا كان على وجوههم المرآى من النور،فقال ما الذي بلغ بكم؟قالوا نحب اللّه عزّ و جل،فقال انتم المقرّبون انتم المقرّبون، كيف لا و هذا مشاهد في العالم المجازي،فلقد شاهدنا من خلّى قلبه عن حب اللّه فأذاقه حب غيره نحيلا ضعيفا عديم القوة.

و قد بالغ الشعراء كل مبالغة في وصف نحول العاشق،فقال بعضهم:

و لو انّني علّقت في رجل نملة لسارت و لم تعلم بأني علقت

و لو نمت في عين البعوض معارضا لما علمت في أي زاوية نمت

و لو وضعوني وسط حبة خردل لبانت خوافيها الجميع و لا بنت

و قال ابو الطيب:

ص:131

كفى بجسمي نحولا انني رجل لو لا مخاطبتي اياك لم ترني

و قال الخباز البلدي:

كمل الهوى صعب و لكنّني بليت بالأصعب من أصعبه

أنحلني الحب فلو زج بي في مقلة الوسنان لم ينتبه

و كان لي فيما مضى خاتم و اليوم لو شئت تمنطقت به

و قد نسبوا هذه الأبيات للعلامة الحلي طاب ثراه:

لي غي محبته شهود اربع و شهود كل قضية اثنان

خفقان قلبي و اضطراب مفاصلي و شحوب (1)لوني و اعتقال لساني

و في امالي الزجاج عن ابو بكر بن شقير النحوي قال اخبرنا احمد بن عبيد قال خبّرت عن هشام بن عروة عن ابيه عن النعمان بن بشير،قال بعثني عثمان او معاوية على صدقات بني عذرة فصدقتهم و ارتحلت عنهم،فلمّا ظننت انّي قطعت بلادهم رفع لي بيت فقصدته،فاذا بفنائه شاب مستلق على قفاه لم يبق منه الا عظم على جلد،فلمّا أحس بي ترنّم بصوت ضعيف،و أنشأ يقول:

جعلت لعراف اليمامة حكمه و عرّاف هجران هما شفتاني

فقالوا نعم نشفي من الدّاء كلّه و قاما مع العوّاد يبتدراني

فما تركا من رقية يعلمانها و لا سلوة الا و قد سقياني

فقالا شفاك اللّه و اللّه مالنا بما ضمنت منك الضلوع يدان

ثم خفت فنظرت فاذا في صدر البيت عجوز،فقلت لها يا هذه اخرجي الى هذا الفتى فاني اظنه قد مات،فقالت و انا أظن ذاك ايضا و اللّه ما سمعت له انّه منذ سنة الاّ اليوم فانه قال في أوّله:

من كان من امهاتي باكيا شجني فانّني قد أراني اليوم مقبوضا

يسمعينه(يسمعنينه خ)فاني غير سامعه اذا علوت على الأعواد معروضا

ص:132


1- (1) شحب شحوبا لونه:تغير من جوع او مرض او نحوهما.

ثم خرجت فاذا هو ميت فغسلته و كفنته و صليت عليه و دفنته،ثم قلت للعجوز من هذا؟ فقالت هذا قتيل الحب عروة بن خزام.

الثاني من العلامات السهر و القلق و الأضطراب عند ذكره و ان لا يشتغل بغيره،اما السهر فلأنه طريق العاشق من جهة نار الهجران و انتظار لوقت الوصال سيما الليل الستّار،و في الحديث القدسي يا موسى كذب من زعم انّه يحبني و هو نيام طول ليله،أ ليس كل حبيب يحب الخلوة مع حبيبه،يا ابن عمران لو رأيت الذين يصلون لي في الدّجى و قد مثلت نفسي بين أعينهم يخاطبوني و قد جللت عن المشاهدة،و يكلموني و قد عززت عن الحضور،يا ابن عمران هب لي من عينك الدموع و من قلبك الخشوع ثم ادعني في ظلم الليالي تجدني قريبا مجيبا،و سأل عليه السّلام مال بال المتهجدين في الأسحار من أحسن الناس وجوها؟قال لأنهم خلوا بربهم فكساهم من حلل انواره،و ذلك انك ترى القائمين في الأسحار على هيئة من الحسن المعنوي و ان لم يكن فيهم هذا الحسن الظاهري و ما ذلك الا لتلك الخلوة مع الحبيب.

و في الحديث القدسي يا احمد ليس من قال اني احب اللّه تعالى احبني حتى يأخذ من ابليس قوتا و يلبس دونا(درنا خ)و ينام سجودا و يطيل قعودا،و يلزم صمتا و يتوكّل عليّ و يبكي كثيرا،و يقل ضحكا و يخالف هواه،و يتّخذ المسجد بيتا و العلم صاحبا،و الزهد جليسا،و العلماء احبابا و الفقراء رفقاء،و يطلب رضائي و يفر من سخطي و يهرب من المخلوقين هربا،و يفر من المعاصي فرارا و يشتغل بذكري اشتغالا فيكثر التسبيح دائما و يكون بالوعد صادقا و بالعهد وافيا، و يكون طاهرا و في الصلاة زاكيا،و في الفرائض مجتهدا و فيما عندي من الثواب راغبا،و من عذابي راهبا مشفقا و لأحبابي قرينا و جليسا.

و اما القلق و الأضطراب فهي من لوازم العاشق اذا ذكر محبوبه كما قال عز من قائل في صفات اهل الأيمان إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ و ذلك ان العاشق تتحرك نار وجده و تشب عند ذكر المعشوق و كذلك أكثر عروقه و أعضائه،و من هذا استدل الطبيب الحاذق على معرفة المعشوق عند كتمان العاشق هواه،و قد وقع في قرب اعصارنا مثل هذا و هو انّ شابا من أولاد الأكابر قد عشق امرأة في بعض بلاد الهند،و اتّفق ان اباه اراد السفر الى منزله في اصفهان فأتى بذلك الولد معه و قد كان ذلك الولد يكتم ذلك الحب،فلمّا وصلا الى اصفهان زاد شوقه و التهبت نار فراقه و بقي يصفر وجهه و ينحل بدنه يوما فيوما و لا يدري ما علته حتى ضعف عن حركة المشي فبقي نائما على الفراش،و قد أعيت الأطباء عن علاجه و معرفة علته فأتوا اليه بطبيب حاذق و تأمّله فقبض على نبضه و قال يا صبي مرضك من الشيء الفلاني ام من الشيء الفلاني،فجعل يعد عليه الأمراض حتى بلغ الى العشق،فلما عده تحرك النبض حركة شديدة

ص:133

فعرف انّ علته العشق ثم شرع يعد له البلدان بأنّ معشوقك في البلد الفلاني ام في البلد الفلاني حتى ذكر تلك البلدة فتحرك النبض ايضا مثل تلك الحركة ايضا،فأمر الطبيب بإحضار من يعرف اهل تلك اليلدة فلمّا حضرت عدّ له نساء تلك البلدة و بناتها،فلما انتهى الى تلك المرأة تحرك النبض أشدّ من الحركتين الأوليين فعلم ان محبوبته تلك المرأة،فتوصّلوا الى تحصيلها.

و اما في العالم الحقيقي فقد كان الخليل عليه السّلام يسمع ازير صدره عند ذكر اللّه على ميل،و كان صدره يغلي كغليان القدر،و اما عدم الأشتغال بغيره فهي عادة العاشقين و اعمال الجوارح تظهر ما يجن القلب و ذلك انّ نار المحبة كامنة فيه،فان وقعت نار محبة القلب في عود او بخور فاحت رائحته على الأعضاء و عرف منها ورود تلك النار الكامنة على ذلك الجسم الطيّب، و ان وقعت تلك النار في خرقة بالية ظهرت رائحتها المنتنة من الأعضاء و الجوارح لأنّها كما عرفت من خدمه و توابعه فهي التي تظهر ما أضمره القلب كدموع العاشق،فانّه اذا أراد كتمان الهوى نمّت عليه الدموع و أظهرت ما كتم:

كتمت الهوى في القلب حتى ختمته فباحت بع العينان و الدّمع مطرق

و من كان ذا عشق و ان كان جاحدا فانّ الهوى في عينه حين ينطق

أ لا ترى انك لو جلست مع رجل لم تعرف حاله و لم تطلع على باطن امره و ما أجنّه في قلبه فاذا اردت ان تعرف فحاوره في انواع المكالمات و انظر الى ميله الى أي نوع يتكلم به فاعلم انّ ما في قلبه هو حب ذلك الشيء،و ذلك انك ترى أهل الدراهم و الدّنانير لا يحبون منك حديثا الا اذا اشتمل على مقالتها و بين أحوالها و ما يترتب عليها من النّفع الدنيوي فتعلم من هذا ان محبوبه هو هذا لا غير،و كذلك انواع العشق و هذه قاعدة يضطر على فعلها الأنسان حتى انّه لو تكلّف اظهار غير محبوبه سبقه اللسان اليه و مالت الجوارح الى خلاف ما تكلّفه،و هذا شأن حب العالمين، و ما أحسن قول رابعة العدوية في العالم الحقيقي:

أحبك حبين حب الهوى و حبا لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواكا

و اما الذي انت اهل له فكشفك للحجب حتى اراكا

فلا الحمد في ذا و لا في ذاك لي و لكن لك الحمد في ذا و ذاكا

ص:134

و ينظر الى هذا قول بعض العارفين انّي أقول يا رب يا اللّه فأجد ذلك أثقل على قلبي من الجبال،لأنّ النّداء يكون من وراء حجاب،و هل رأيت جليسا ينادي جليسه،و قد أشار بعضهم الى مثل هذا حيث قال:

كانت لقلبي أهواء مفرّقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

فصار يحصدني من كان أحسده و صرت مولى الورى اذ صرت مولائي

تركت للناس دنياهم و دينهم شغلا بذكرك يا ديني و دنيائي

و ذلك ان لذة الذكر أعلى من كل لذة لأنّه من واردات القلوب،و لذات القلب أعظم من لذات الحواس في النّشأتين،لأن الجنة معدن تمتع الحواس فاما القلب فلذته في لقاء اللّه فقط و مثاله في اطوار الخلق في لذاتهم ما نذكرهم،و هو ان الصبي في اول حركته و تمييزه يظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب و اللهو حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر الأشياء،ثم يظهر بعده لذة الوقاع و شهوة النساء فيترك بها جميع ما قبلها في الوصول اليها،ثم يظهر له لذة الرئاسة و العلو و التكابر و هي آخر لذات الدنيا و أقواها كما قال تعالى اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ الآية ثم بعد هذا يظهر له غريزة اخرى يدرك بها لذة معرفة اللّه تعالى و معرفة افعاله فيستقر معها جميع ما قبلها و كل متأخّر فهو اقوى و هذا هو الأخير اذ يظهر حب اللعب في سن التمييز و حب النساء و الزينة في سن البلوغ و حب الرئاسة بعد العشرين و حب العلوم بعد الأربعين و هي الغاية العليا و كما ان الصبي يضحك على من يترك اللعب و يشتغل بملاعبة النساء و طلب الرئاسة،و كذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرئاسة و يشتغل بمعرفة اللّه تعالى و العارفون يقولون ان تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون،و لكن الأشغال بمعرفة اللّه تعالى يقتضي ان لا يصدر منه شيء من المعاصي و لقد احسن ابن المبارك في قوله حتى ان الصادق عليه السّلام تمثل به:

تعصي الأله و انت تذكر حبه هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته ان المحب لمن يحب مطيع

و روي عن ذي النون المصري انه قال خرجت يوما من وادي كنعان،فلما علوت الوادي فاذا انا بسواد مقبل عليّ و هو يقول و بدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون و يبكي،فلما قرب اليّ فاذا هي امرأة عليها جبة صوف و بيدها ركوة فقالت من انت غير فزعة مني،فقلت رجل غريب، فقالت يا هذا هل توجد مع اللّه غربة قال فبكيت من قولها فقالت ما الذي ابكاك قلت قد وقع

ص:135

الدواء على داء قد قرح فاسرع في نجاحه،قالت فان كنت صادقا فلم بكيت قلت يرحمك اللّه الصادق لا يبكي،قالت لا و لم ذاك؟قالت لأن البكاء راحة القلب،قال ذو النون فبقيت و اللّه متحيرا من قولها،اقول و نظير هذا في عالم الشهود ان مجنون ليلى كان ربما اتاها و خلى بها،فاذا جاء زوجها ادخلته تحت ثيابها لئلا يراه احد فاذا اخرجه قالت له ما رأيت تحت الثياب قال و حقك اني دخلت اعمى و خرجت اعمى،فكان يغمض عينيه خوفا من ان يقع نظره على بدنها فتبرد نار العشق،و هكذا كان احوال العشاق السبعة،نعم روى الزجاج في اماليه عن ابي عبد اللّه بن الملك النحوي قال حدّثنا الزبير بن بكار قال روي ان عزة على ام البنين فقالت لها ان سألتك عن شيء تصدقيني؟قالت نعم،قالت اقسمت عليك باي شيء وعدت كثيرا حين يقول:

قضى كل ذي دين فوفي في غريمه و عزة ممطول تعني غريمها

قالت وعدته قبله فمطلته سنة،فلما ألحّ بالتقاضي هجرته،فمضني و اياه مضيق بعد حين فاستحيت منه فقلت حيّاك اللّه يا جمل(جميل خ)و لم احيّه،فتبسم و أنشأ يقول:

حيتك بعد الهجر و انصرفت فحيء ويحك من حياك يا جمل

ليت التحية كانت لي فأشكرها مكان يا جمل حييت يا رجل

و هو على تقاضيه الى الآن قالت ام البنين باللّه الا قضيتها و على اتمها،اقول ما كان من كثير رحمه اللّه يجوز مثل هذا بل كان الواجب عليه ما فعل جميل من الصنع الجميل،فان قلت ذكرت ان من افرط في المحبة شغل قلبه المحبوب و صار وقت الذكر له لا يخطر على خاطره الا ذلك الحبيب فكيف احس امير المؤمنين عليه السّلام بسؤال السائل حتى تصدّق بالخاتم مع انه عليه السّلام كان لم يحس بألم اخراج النصال من بدنه اذا كان في الصلاة،قلت الذي ينافي الأقبال القلبي عن جنابه تعالى هو التذكّر لأمور الدنيا و الشّغل بها و التوجه الى سؤال ذلك السائل لم يكن من ذلك الباب و ذلك ان السائل لما سأل و لم يجبه احد قال اللهم اشهدك اني سألت في مسجد نبيك فلم يجبني احد بشيء فانكسر خاطره فتدارك ذلك الأنكسار بالإشارة اليه بالخاتم الذي كان سببا لوصوله الى اقتسام صفات الربوبية بقوله تعالى إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ فهو انتقال من عالم صفات الربوبية اعني تولي الأمور العامة و رجوع اختيارها اليه،كما رجعت الى اللّه تعالى و رسوله و لا رتبة اعلى منه سوى ما تفرد به سبحانه من لوازم الألهية.

بل روي في بعض الأخبار ان ذلك السائل كان ملكا ارسله اللّه في صورة رجل سائل الى مسجد النبي صلّى اللّه عليه و آله امتحانا للصحابة بمثل هذا التكليف،بل روى ايضا ان ذلك

ص:136

السائل كان جبرئيل عليه السّلام و روي ان ابا بكر قال تصدّقت بخواتيم كثيرة و انا في الصلاة لينزل فيّ ما نزل في علي بن ابي طالب فلم ينزل و لقد احسن ابن الجوزي في وصف هذا الحال منه عليه السّلام:

يسقي و يشرب لا تلهيه سكرته عن النديم و لا يلهو عن الكأس

اطاعه سكره حتى تمكن من فعل الصحاة فهذا اعظم الناس

و تقدم الأشارة الى هذه فان قلت اذا كان هذا الحبيب سبحانه احسن الأحبّاء و أبقاها أقبلها و أزينها و أملحها و أكثرها ميلا الى العاشقين فلم هجرته العشاق؟و لم اقبلوا على الفرار منه؟و على ارتكاب خلاف اقواله (1)قلت سببه ان القلوب التي هي معدن هذا السر العظيم قد ابتليت بأعظم الأمراض،و المريض اذا استولى عليه الألم يجد في ذوقة الحلو مرا و الطيب خبيثا و لا يجد الشيء على حاله الا اذا صحّ من ذلك الوجع.

ثم اعلم ان امراض القلب كثيرة و انواعها مختلفة كأمراض البدن بل ازيد و كل مرض يحتاج الى دواء و ليس كل مريض الأحتماء من شيء و لا ينفعه كل دواء،بل لكل علة خاصة علم خاص و علاج خاص و وزانة من الدين ان كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة و ارتكاب كل ذنب بل لكل مؤمن ذنب مخصوص او ذنوب مخصوصة و انما حاجته في الحال مرهقة الى العلم بانها ذنوب ثم الى العلم بآفاتها و قد ضررها في الدين ثم الى العلم بكيفية التوصل الى الصبر عنها ثم الى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها فهذه علوم مخصوصة اختص بها اطباء الدين و هم العلماء ورثة الأنبياء فالعاصي ان علم عصيانه فعليه طلب العلاج من الطبيب و هو العالم،و ان كان لا يدري ان ما يرتكبه ذنب فعلى العالم ان يعرفه ذلك،و لذلك وجب ان يتكفّل كل عالم باقليم او بلدة او محلة او مشهد فيعلم اهلها دينهم و يميز ما يضرهم عما ينفعهم و ما يشقيهم عما يسعدهم و لا ينبغي ان يصبر الى ان يسأل منه بل ينبغي ان يتصدى لدعوة الناس الى نفسه فانهم ورثة الأنبياء،و الأنبياء عليهم السّلام ما تركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادون في مجامعهم و يدورون في ابوابهم بالأبتداء و يطلبون واحدا واحد للإرشاد فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم كما ان الذي ظهر على وجهه برص و لا مرآة معه لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره و هذا فرض على العلماء كافة و على السلاطين ان يرتبوا في كل قرية و كل محلة فقيها متبينا يعلم الناس دينهم فانّ الخلق لا يولدون الا جهّالا فلا بد من تبليغ الدعوة اليهم في الأصل و الفرع.

ص:137


1- (1) و في الحديث ان اللّه تعالى اذا احب عبدا القى محبته الى الماء فلا يشربه احد الا احبه و اذا ابغض عبدا القى بغضه في الماء فلا يشربه احد الا ابغضه منه عفى عنه.

روي عنه عليه السّلام قال ان اللّه تعالى لم يأخذ على الجهّال ان يتعلموا حتى اخذ اولا على العلماء ان يعلموهم،فالدنيا دار مرضى اذ ليس في بطن الأرض الا ميت و لا على ظهرها الا سقيم،و مرض القلوب اكثر من مرض الأبدان و العلماء اطباء و السلاطين قوام دار المرضى و كل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم سلم الى السلطان ليكف شرّه (1)كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي او الذي غلب عليه الجنون الى القيم ليقيده في السلاسل و الأغلال و يكف شرّه عن ساءر الناس و انما صار مرض القلوب اكثر من مرض الأبدان لوجوه ثلاثة:

احدها ان المريض لا يدري انه مريض،و ثانيها ان مرض الأبدان عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه،و ما بعد الموت غير مشاهد فقلت النفر عن الذنوب و ان علمها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على اللّه في مرض القلب و يجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال و الثالث و هو الداء العضال فقد الطبيب فان الأطباء هم العلماء و قد مرضوا مرضا شديدا عجزوا عن علاجه و صارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانه فاضطروا الى اغواء الخلق و الأساة اليهم بما يزيدهم مرض لأن الداء المهلك هو حب الدنيا و قد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق فيه استنكافا من ان يقال لهم فما بالكم تأمرون بالعلاج و تنسون انفسكم فبهذا السبب عم الداء و عظم الوباء و انقطع الدواء و هلك الخلق لفقد الأطباء بل اشتغل اكثر الأطباء بفنون الأغواء فليتهم اذ لم ينصحوا لم يغشوا و اذ لم يصلحوا لم يفسدوا،و ليتهم سكتوا و ما نطقوا فانهم اذا تكلموا لم يهمهم في مواعضهم سوى ما يستميل قلوب الأعوام الى الرجاء و ذكر دلائل الرحمة لأن ذلك ألذ في الأسماع و أخف على الطباع،فينصرف الخلق عن مجالس الوعظ و قد استفادوا مزيد جرأة على المعاصي،و مزيد ثقة بفضل اللّه عز و جل و مهما كان الطبيب جاهلا او خائنا اهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه.

فالرجاء و الخوف دواءان و لكن لشخصين متضاديّ العلة،اما الذي غلب عليه لخوف حتى هجر الدنيا بالكلية فينكسر صورة اسرافه في الخوف بذكر اسباب الرجاء ليعود الى الأعتدال و كذا المصر على الذنوب المشتهي للتوبة الممتنع عنها بحكم القنوط و اليأس استعظاما لذنوبه التي سبقت يعالج ايضا بأسباب الرجاء حتى يطمع التوبة فيتوب فاما معالجة المغرور المنهمك في المعاصي بذكر اسباب الرجاء فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلبا للشفاء،و ذلك من دأب الجهّال و الأغبياء،فاذن فساد الأطباء هي المعضلة التي لا تقبل الدواء اصلا اعاذنا اللّه و اياكم من الأمور المبعدة عن جناب الحق انه على ما يشاء قدير.

ص:138


1- (1) كيف يكون حال الناس و لا سيما الجهال اذا صار السلاطين و القوام من اهل البدع و الأهواء و صاروا من اسباب العار و الشنار على الأسلام و اما الأطباء فصاروا مرضى و من اهل لدنيا كما في زماننا هذا

نور في الصبر و أقسامه و محاله و فوائده و ما يتعلق به من المناسبات

اعلم وفقك اللّه تعالى ان القرآن و الحديث قد اكثرا مدحه حتى انه سبحانه وصف الصابرين بأوصاف و ذكر الصبر في القرآن في نيف و سبعين موضعا و أضاف اكثر الخيرات و الدرجات الى الصبر و جعلها ثمرة له فقال عز و جل وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لما صبروا و قال وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنىٰ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ بِمٰا صَبَرُوا و قال إِنَّمٰا يُوَفَّى الصّٰابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ الى غير ذلك من الآيات،و قال الصادق عليه السّلام الصبر من الأيمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك اذا ذهب الصبر ذهب الأيمان و قال عليه السّلام اذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه و الزكوة عن يساره،و البر مظل عليه،و يتنحى الصبر ناحيه،فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مسائلته قال الصبر للصلوة و الزكوة و البر دونكم صاحبكم فإن عجزتم عنه فانا دونه و روى عنه صلّى اللّه عليه و آله انه قال الصبر ثلاثه:صبر عند المصيبه،و صبر على الطاعه،و صبر عن المعصيه فمن صبر عند المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب اللّه له ثلثمائة درجه،ما بين الدرجة الى الدرجة كما بين السماء الى الارض،و من صبر على الطاعة كتب اللّه له ستمائة درجة،و ما بين الدرجة الى الدرجة كما بين تخوم الارض الى العرش،و من صبر عن المعصية كتب اللّه له تسعمائة درجة و ما بين الدرجة الى الدرجة كما بين تخوم الارض الى منتهى العرش،و قال الصادق عليه السّلام انا صبرنا و شيعتنا أصبر منا،قيل له كيف صار شيعتكم أصبر منكم؟قال لأنا نصبر على ما نعلم و شيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون، و قال صلّى اللّه عليه و آله الصبر نصف الإيمان،فان قلت ما معنى كونه نصف الايمان؟قلت قد ذكر له الغزالي في إحيائه وجهين الاول ان الايمان يطلق على التصديقات و الأعمال جميعا فيكون للإيمان ركنان احدهما اليقين و الآخر الصبر،و المراد باليقين المعرف القطعية،و المراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين،اذ اليقين يعرّفه انّ المعصية ضارة و الطاعة نافعة و لا يمكن ترك المعصية و المواظبة على الطّاعة الاّ بالصبر فيكون الصبر نصف الأيمان بهذا الأعتبار،و لهذا جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بينهما فقال من اقلّ ما أوتيتم اليقين و عزيمة الصبر.

الوجه الثاني ان يراد من الأيمان ما ينفع في الدنيا و الآخرة او يضر فيهما و له بالإضافة الى ما يضرّه حال الصبر و بالإضافة الى ما ينفعه حال الشكر،فيكون الشكر احد شطري الأيمان بهذا الأعتبار كما كان اليقين أحد الشطرين بالإعتبار الأول،و بهذا النّظر قال بعض الصحابة الأيمان نصفان نصف صبر و نصف شكر،و لمّا كان الصبر صبرا عن بواعث الهوى بثبات باعث الدين و كان باعث الهوى قسمين باعث من حيث الشهوة،و باعث من جهة الغضب،و الشهوة لطلب

ص:139

اللّذيذ و الغضب للهرب من المؤلم،و كان الصوم صبرا من مقتضى الشهوة فقط و هو شهوة البطن و الفرج دون مقتضى الغضب،قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا الأعتبار الصوم لأنّ كمال الصّبر بالصّبر عن دواعي الشهوة و دواعي الغضب جميعا فيكون الصّوم بهذا الأعتبار ربع الأيمان.

و اعلم ان محامد الأخلاق كلها ترجع الى الصبر لكن له اسم بكل واحد من موارده،فان كان صبرا عن شهوة البطن و الفرج سمّي عفة،و ان كان على احتمال مكروه اختلف اساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر،فان كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر و يضاد الجزع،و ان كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس و يضادّه البطر،و ان كان في حرب و مقاتلة سمي شجاعة و يضاده الجبن،و ان كان في كظم الغيظ و الغضب سمي حلما و يضاده السفه،و ان كان في نائبة من نوائب الزمان سمي سعة الصدر و يضاده الضّجر و التبرم و ضيق الصدر،و ان كان في اخفاء كلام سمي كتمان السّر،و ان كان عن فضول العيش سمي زهدا و يضاده الحرص،و ان كان صبرا على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة و يضاده الشّره،و من جهة دخول هذه المحاسن في الصبر لما سأل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الأيمان قال هو الصبر لأنه اكثر اعماله و اعزّها كما قال الحجّ عرفة،و قد جمع اللّه ذلك فسمي الكل صبرا فقال تعالى و الصابرين في البأساء أي المصيبة و الضراء أي الفقر،و حين البأس أي المحاربة،اولئك الذين صدقولا و اولئك هم المتقون، و بعضهم ظن انّ هذه احوال مختلفة في ذواتها و حقائقها نظرا الى تعدد الأسامي و الصواب ما عرفت.

و اما الموارد المحتاجة الى الصبر فأنواع،اولها ما يوافق الهوى و هو الصحة و السلامة و المال و الجاه و كثرة العشيرة و اتّساع الأسباب و جميع ملاذّ الدنيا و ما أحوج العبد الى الصبر عن هذه الأمور فانّه ان لم يضبط نفسه عن الركون اليها الإنهماك في الملاذ المباحة أخرجه ذلك الى البطر و الطّغيان فانّ الأنسان ليطغى ان رآه استغنى و الرجل كل الرجل من يصبر على العافية،و ثانيها الطّاعة و الصبر عليها شديد لأنّ النّفس بطبعها تنفر عن العبوديّة و تشتهي الربوبيّة،و لذلك قيل ما من نفس الاّ و هي مضمرة ما أظهره فرعون من قوله انا ربكم الأعلى و لكن فرعون وجد له مجالا فأظهر اذ استخفّ قومه فأطاعوه،و ما من أحد الاّ و هو يدّعى ذلك مع عبده و خادمه و نحوهما و ان كان ممتنعا من اظهاره فانّ امتعاظه و غيضه عند تقصيرهم في خدمته و استبعاده ذلك ليس يصدر الاّ من اظهار الكبر و منازعة الربوبيّة في رداء الكبرياء،فان العبوديّة شاقّة على النفس مطلقا.

ص:140

ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة،و منها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، و منها ما يكره ذلك بسبب جميعها كالحج و الجهاد و هذه الأمور تحتاج الصّبر قبل العمل و حاله و بعده،امّا قبله فبأن يصيّر نفسه على تصحيح النّية و الأخلاص عن شوائب الرياء و دواعي الآفات،و هذا يحتاج الى صبر شديد على ما تقدم في تحقيق النّية و هو الذي قصر تعالى امره عليه في قوله وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ و امّا حالة العمل فلئلا يغفل عن ذكر اللّه تعالى في اثناء عمله و يدوم على شروط العمل الى آخره،و اما بعد الفراغ فيحتاج الى الصبر عن إفشائه و التّظاهر به للرياء و السمعة و عن كل ما يحبط اجره.

و ثالثها المعاصي و ما أحوج العبد الى الصبر عنها،و ذلك انّ المعاصي خصوصا الكذب و الغيبة مألوفة بالعادة فان العادة طبيعة خامسة(خاصة ج)و اذا انضافت الى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند اللّه عز و جل،و كلما كان الذنب ألذّ على النفس كان الصبر عنه أثقل كالصبر على الغيبة و استحقار النفس فان ظاهره غيبة و باطنه ثناء على النفس،فللنفس فيه شهوتان نفي الغير و اثبات نفسه و بهما يتم له الربوبيّة التي في طبعه و هي ضدّ ما امر به من العبودية،و رابعها ما لا يرتبط هجومه بإختياره كما اوذي بفعل او قول او جنى عليه في نفسه او ماله فالصبر على ذلك بترك المكافأة تارة يكون واجبا،و تارة يكون فضيلة،خامسها ما لا يدخل تحت الأختيار أوله و لا آخره كالمصائب مثل موت الأعزّة و هلاك الأموال و زوال الصحة بالمرض و عمى العين و فساد الأعضاء،و الصبر على هذا لا يخلو من اشكال،و حيث انتهى بنا الحال الى هذا فلا بأس ببسط الكلام في هذا المقام.

فنقول ان شيخنا الشهيد الثاني نور اللّه ضريحه قد كتب رسالة و سمّاها مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة و الأولاد،و قد نظمها على سلك غريب و نمط عجيب الا انها لا تخلو من بعض الزوائد (1)فأحببنا تحرير دلائلها و ان تضيف اليها ما سنح بالبال و نضيف اليها بعض الأخبار، فنقول اعلم اوّلا انّه قد ثبت انّ العقل هو الآلة التي بها عرف اللّه تعالى و صدق الرّسل و التزم أحكام الشّرائع،و مثله كالنور في الظلمة يزيد و ينقص،فينبغي لمن رزقه اللّه العقل ان يعمل بمقتضاه و يجعله حاكما له و عليه و يراجعه فيما يرشده اليه فيكشف له الرضا بالقضاء سيّما بفراق الأحباب من وجوه كثيرة.

ص:141


1- (1) .رسالة لطيفة شريفة ليس فيها بعض الزوائد و فرغ شيخنا الشهيد الثاني قدس سره من تأليفها سنة(954)ه و سبب تصنيفه لها كثرة ما توفى له من الأولاد بحيث لم يبق منهم احد الا الشيخ حسن صاحب المعالم العلامة المحقق الشهير و كان لا يثق بحياته و قد استشهد و هو ابن اربع سنين او سبع سنين و هذه الرسالة مطبوعة سنة(1342)ه في النجف الأشرف.

منها انّه اذا نظر الى عدله و حكمته و شفقته بخلقه ان اخرجهم من العدم الى الوجود و فعل بهم ما هو الأصلح لهم في كل افعاله،و لا شك انّ الموت من جملة ذلك فيكون هو الأصلح بهم، فان حدثتك نفسك مثل رعاع النّاس اذا مات لهم ميّت قالوا انّ الصلاح في بقائه،فلو كان قد بقي لربّى أطفاله و لقام بأمور عياله،و ربّما قالوا انّ موت هذا باعث الى موت ذلك الفقير لأنّه كان يصله و يعطيه،و هذه الكلمات الواهية هي الشّرك الخفي على ما تقدّم بيانه،و ان تيقّن انّه الصلاح لكن لم تطمئن نفسه و لم تسكن روعته فهو الحمق الجلي النّاشىء عن الغفلة في شأن الحكمة القديمة،حتى روي انّ العبد ليدعوا اللّه ان يرحمه و يجيب دعاه في امثال ذلك،فيقول اللّه تعالى لملائكته كيف ارحمه من شيء به أرحمه.

و منها انّه اذا تدبر في احوال الرسل و صدقهم فيما قالوا و سمع ما وعدوا به من الثّواب على كل فرد من انواع المصائب سهل عليه موقعه،و علم ان في ذلك تمام السّعادة،و ينبغي ان يمثل العاقل انّه لو دهمه أمر عظيم أو سبع او حية و كان عنده أعز أولاده و كان بحضرته نبي من الأنبياء و أخبره انّك ان افديت به سلمت انت و ولدك،و ان لم تفعل عطبت و لا يعلم هل يعطب ولدك أم يسلم،أ يشك عاقل انّ الأفتداء بالولد الذي يتحقق به سلامتهما هو عين المصلحة.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال لعثمان بن مظعون و قد مات ولده و اشتدّ حزنه عليه يا ابن مظعون انّ الجنة ثمانية ابواب،و للنار سبعة ابواب أ فما يسرك ان يتأتي بابا الا وجدت ابنك الى جنبه آخذ بحجرتك يستشفع لك الى ربك حتى يشفعه اللّه تعالى.

و منها ان الأغلب انّ الولد انّما يراد امّا لنفع الدنيا او الآخرة،و منفعته على تقدير موته معلومة و على تقدير بقائه موهومة،بل المظنون عدمها لأنّ الزمان قد هرم و شنا كما قيل:

أتى الزمتان بنوه في شبيبته فسرّهم و اتيناه على الهرم

و أجابه بعض مشايخنا:

هم على كل حال أدركوا هرما و نحن جئناه بعد الشّيب و العدم

و تأمل اكثر الخلق هل تجد احدا منهم نافعا لأبويه الا القليل حتى اذا رأيت واحدا فعدّ ألوفا بخلافه،فإلحاقك ولدك الواحد بالفرد النادر عين الغفلة،هذا اذا كنت تريد ان تجعله وليّا صالحا فكيف و انت لا تريده الا ليرث منك البيت و البستان و الصخرة و الميزان،فدعه من هذا الميراث الخسيس و اجعله ممّن يرث الفردوس الأعلى في جوار اولاد الأنبياء عليهم السّلام مربّا ان كان صغيرا في حجرة سارة حتى لو كان مرادك ان تورثه علمك و كتبك فاذكر انّ ذلك لو تمّ لك فما وعدت من ثوابه أكثر من هذا.

ص:142

قال الصادق عليه السّلام ولد واحد يقدمه الرجل افضل من سبعين ولدا يبقون بعده يدركون القائم عليه السّلام،و اعتبر المثل و هو انّه قيل انّ رجلا فقيرا معه ولد عزيز عليه و عليه خلقان الثياب قد اسكنه في خرب مقفرة ذات سباع و حيّات،فاطلع عليه رجل حكيم ذو ثروة و قصور عالية،فأرسل اليه بعض غلمانه رحمة له،و قال له انّ سيدي يقول لك انّي رحمتك من هذه الخربة و رحمت ولدك و قد تلطّفت عليك بهذا القصر،ينزل به ولدك و يوكل عليه جارية كريمة تقوم بخدمته الى ان تقضي انت اغراضك و تجيء اليه و تسكن معه،فقال ذلك الرجل انا لا ارضى بمفارقة ولدي لا لعدم وثوقي بمولاك بل اعتقد انّه صادق و لكن طبعي اقتضى ذلك، و ما أريد ان أخالفه فما كنت ايّها السّامع تقول هذا الرجل تعدّه من الأغبياء فلا تقع في خلق لا ترضاه لغيرك.

و اعلم ان لسع الأفاعي و اعظم آفات الدنيا لا نسبه لها الى ادنى هول من اهوال الآخرة، فما ظنّك بتوبيخ يكون مقداره ألف سنة او أضعافه،و منها انه ينبغي ان يفكر في انّ الجزع يشتمل على عدم الرضاء بالقضاء،و في ذلك التعرض لذمّ اللّه تعالى حيث قال لم يرض بقضائي و لم يصبر على بلائي فليعبد ربا سواي،و قال موسى عليه السّلام دلّني على امر فيه رضاك،قال انّ رضائي في رضاءك بقضائي،و أوحى اللّه تعالى الى داود عليه السّلام يا داود تريد و أريد و انّما يكون ما أريد فان سلّمت لما أريد كفيتك ما تريد،و ان لم تسلم لما اريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون الاّ ما أريد.

و منها ان ينظر صاحب المصيبة الى انّه في دار قد طبعت على الكدر و العناء و جبلت على المصائب و البلاء فما يقع فيها من ذلك فهو بموجب طبيعتها،و ان وقع خلاف ذلك فهو على خلاف العادة،و قد نزل على الأولياء من المحن و الشدائد ما تعجز عن حمله الجبال و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل،كيف لا و هي سجن المؤمن و جنّة الكافر،و متى حصل فيهم محبوب كانت آلامه تزيد على لذاته بأضعاف مضاعفة،و أقل حسراته الفراق الذي يفتّ الأكباد،فكلما نظرت في الدنيا انّه شراب فهو سراب،و عماراتها و ان علت الى خراب:

له ملك ينادي كلّ يوم لدوا للموت و ابنوا للخراب

و في الحديث انّ عبادي يطلبون مني ما لا أخلقه و هو الرّاحة في الدنيا،و يدعون طلب ما خلقته و هو النّعيم المقيم و لقد احسن بعض الفضلاء حيث رثى ابنه:

طبعت على كدر و انت تريدها صفوا من الأقذار و الأكدار

و مكلّف الأيّام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

ص:143

و اذا رجوت المستحيل فانّما تبني البناء على شفير هار

روي عن علي عليه السّلام ان صبرت جرى عليك القضاء و انت مأجور و ان جزعت جرى عليك القضاء و انت مأزور،فاغتنم شبابك قبل هرمك و صحتك قبل سقمك،و اجعل الموت نصب عينيك و استعدّ له بصالح العمل،ودع الأشتغال بغيرك فانّ الأمر يأتي اليك دونه و قال علي عليه السّلام انّ اشدّ ما أخاف عليكم خصلتان اتّباع الهوى و طول الأمل،فامّا اتباع الهوى فانه يعدل عن الحق،و اما طول الأمل فانّه يورث الحب للدنيا.

و أوحى اللّه سبحانه الى بعض الصدّيقين ان لي عبادا من عبادي يحبّوني و احبهم و يشتاقون اليّ و اشتاق اليهم،و يذكروني و اذكرهم،فان اخذت طريقهم احببتك و ان عدلت عنهم مقتك،قال يا رب و ما علامتهم؟قال يراعون الظلال بالنهار كما يراعى الشفيق غنمه،و يحنون الى غروب الشمس كما تحن الطير الى اوكارها عند الغروب فاذا جنّهم الليل و اختلط الظلام و فرشت الفرش و نصبت الأسرة و خلا كلّ بحبيبه،نصبوا لي اقدامهم،و فرشوا لي وجوههم و ناجوني بكلامي،و تملقوني بانعامي،فبين صارخ و باك و بين متأوه و شاك و بين قائم و قاعد،و بين راكع و ساجد بعيني ما يتحمّلون من أجلي،و بسمعي ما يشكون من حبي،اول ما أعطيهم ثلاثا:اقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عنّي كما أخبر عنهم،و الثاني لو كانت السماوات و الأرض و ما فيهما من موازينهم لأستقللتها لهم،و الثالث أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أريد ان أعطيه اذا عرفت هذا فلنتكلم الآن في امور:

الأول في بيان الأعواض الحاصلة من موت الأولاد و ما يقرب من هذا المراد،اعلم انّ اللّه سبحانه عدل حكيم لا يليق بكمال ذاته ان ينزل بعبده المؤمن في دار الدنيا شيئا من البلاء و ان قل ثم لا يعوّضه عنه ما يزيد عليه اذ لو لم يعطه شيئا كان ظالما،و لو عوضه بقدره كان عابثا،و قد تظافرت بذلك الأخبار النّبوية و منها(فيها خ)انّ المؤمن لو يعلم ما أعد اللّه تعالى له على البلاء لتمنى انّه في دار الدنيا قرض بالمقاريض،و روي هذا الحديث عن السّلمي ازيد من ثلاثين صحابيّا،روى الصدوق رع باسناده الى السّلمي قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقوا ايّما رجل قدّم ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث او امرأة قدّمت ثلاثة اولاد فهم حجاب يسترونه من النّار،و الحنث بكسر الحاء الذّنب و المراد لم يبلغوا السنّ الذي يكتب عليهم فيه الذنب.

و قال الصادق عليه السّلام ولد واحد يقدّمه الرجل افضل من سبعين يخلفونه من بعده كلّهم قد ركب الخيل و قاتل في سبيل اللّه تعالى،و قال عليه السّلام ثواب المؤمن من ولده الجنّة صبر او لم يصبر،و قال عليه السّلام ولد يقدّمه الرجل افضل من سبعين ولدا يبقون بعده يدركون

ص:144

القائم عليه السّلام،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ العبد اذا سبقت له من اللّه تعالى منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه اللّه تعالى في جسده او في ماله او في ولده ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من اللّه عز و جل،و قال ايضا خمس ما أثقلهن في الميزان:لا اله الا اللّه و اللّه اكبر و الحمد للّه،و الولد الصالح بتوفى للمرء المسلم فيحتسبه،أي يعدّه حسبة و كفاية عند اللّه عز و جل،و قال عليه السّلام تزوجوا فاني مكاثر بكم الأمم حتى انّ السّقط ليظل محبنطئا على باب الجنة،فيقال له ادخل فيقولا لا ادخل حتى يدخل ابواي و السّقط مثلّث السّين و الكسر أكثر هو الذي يسقط من بطن امّه قبل اتمامه،و محبنطئا بالهمز و تركه و هو المتغضّب المستبطي للشيء.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سوداء ولود خير من حسناء لم تلد انّي مكاثر بكم الأمم حتى انّ السّقط ليظل محبنطئا على باب الجنة فيقال له أدخل الجنّة يقول أنا و أبواي،فيقول له و انت و أبواك،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النفساء يجرها ولدها يوم القيامة بسررها الى الجنة، النّفساء بضم النون و فتح الفاء (1)المرأة اذا ولدت،و السّرر بفتح السين ما تقطعه القابلة من من سرّة المولود التي هي موضع القطع،و كأنّه يريد الولد الذي لم تقطع سرته،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم من قدّم من صلبه ذكرا لم يبلغ الحنث كان أفضل من ان يخلف من بعده مائة كلّهم يجاهدون في سبيل اللّه تعالى لا تسكن روعتهم الى يوم القيامة،و قال ايضا لئن أقدم سقطا أحبّ اليّ من ان اخلف مائة فارس كلهم يقاتل في سبيل اللّه تعالى،و قال اذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنّة بأيديهم الشّراب،قال فيقول النّاس لهم اسقونا اسقورنا فيقولون ابوينا ابوينا.

و روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا كام يوم القيامة نودي في اطفال المسلمين ان اخرجوا من قبوركم فيخرجون من قبورهم،ثم ينادى فيهم ان امضوا الى الجنة زمرا فيقلون ربنا و والدينا معنا،ثم ينادى فيهم الثانية ان امضوا الى الجنة زمرا فيقولون ربنا و والدينا معنا فيقال في الثالثة ان امضوا الى الجنة زمرا فيقولون ربنا و والدينا معنا،فيقول في الرابعة و والديكم معكم فيثوب(فيسرع خ)كلّ طفل الى ابويه فيأخذون بأيديهم فيدخلون الجنة،فهم اعرف بآبائهم و أمّهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم،و عن انس انّ رجلا كان يجيء بصبي له معه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انه مات والده فقوموا الى اخينا نعزيه،فلما دخل عليه اذا الرجل حزين و به كآبة،فقال يا رسول اللّه كنت ارجوه لكبر سني و ضعفي،فقال يا رسول اللّه

ص:145


1- (1) و بفتح النون و سكون الفاء و بفتحها ايضا.

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امّا يسرّك ان يكون يوم القيامة بازائك يقال له ادخل الجنة فيقول رب و أبواي و لا يزال يشفع حتى يشفع اللّه تعالى فيكم و يدخلكم جميعا الجنة.

و عن انس ايضا قال توفي ابن لعثمان بن مظعون ره فاشتدّ حزنه عليه حتى اتّخذ في داره مسجدا يتعبد فيه،فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا عثمان انّ اللّه عزّ و جلّ لم يكتب علينا الرهبانيّة،انما رهبانيّة امتي الجهاد في سبيل اللّه تعالى يا عثمان بن مظعون انّ للجنة ثمانية ابواب و للنار سبعة ابواب أ فما يسرك ان لا تأتي بابا منها الا وجدت ابنك الى جنبه آخذا بحجرتك يستشفع لك الى ربك عز و جل،قال فقيل يا رسول اللّه و لنا في افراطنا ما لعثمان؟قال نعم لمن صبر منكم و احتسب،الحجزة بضم الحاء المهملة و الزاء موضع شدّ الأزار،ثم قيل للأزار حجزة،و عن قرة بن اياس انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يختلف اليه رجل من الأنصار مع ابن له فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم يا فلان تحبه؟قال نعم يا رسول اللّه احبك كما أحبه،ففقده النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا يا رسول اللّه مات ابنه،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اما يرضى اولا ترضى ان لا تأتي يوم القيامة بابا من ابواب الجنة الا جاء يسعى حتّى يفتحه لك،فقال رجل يا رسول اللّه له وحده ام لكلّنا؟فقال بل لكلّكم.

و روى البيهقي انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان اذا جلس تحلق اليه نفر من اصحابه و فيهم رجل له بنيّ صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه الى ان هلك ذلك الصبي فامتنع الرجل من الحلقة ان يحضرها تذكرا له و حزنا عليه،قال ففقده النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال مالي لا أرى فلانا؟قالوا يا رسول اللّه بنيّه الذي رأيته هلك فمنعه الحزن عليه و الذّكر له ان يحضر الحلقة فلقيه نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسأله عن بنيّه فأخبره انّه هلك،فعزاه و قال يا فلان ايّما كان احب اليك ان تمتّع عمرك اولا تأتي غدا بابا من ابواب الجنة الا وجدته قد سبقك اليه ففتحه لك،قال يا نبي اللّه لا بل يسبقني الى باب الجنة احب اليّ قال فذاك لك،فقام رجل من الأنصار فقال يا رسول اللّه أ هذا لهذا خاصة ام من هلك له طفل من المسلمين كان ذلك له؟قال بل من هلك له طفل من المسلمين كان له ذلك.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى لملائكته أ قبضتم ولد عبدي؟فيقولون نعم،فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟فيقولون نعم،فيقول ما ذا قال عبدي؟فيقلون حمدك و استرجع فيقول اللّه تعالى أبنوا لعبدي بيتا في الجنة و سمّوه بيت الحمد،و عن جابر بن سمرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من دفن ثلاثة فصبر عليهم و احتسب وجبت له الجنة،فقالت امّ ايمن و اثنين،فقال من دفن اثنين فصبر عليهما و احتسبهما وجبت له الجنة،

ص:146

فقالت ام ايمن و واحد فسكت و امسك،ثم قال يا ام ايمن من دفن واحد فصبر عليه و احتسب وجبت له الجنة.

و عن ابن مسعود قال دخل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعزيها بإبنها قال بلغني انّك جزعت جزعا شديدا،قالت و ما يمنعني يا رسول اللّه و قد تركني عجوزا رقوبا،فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لست بالرقوب انما الرقوب التي تتوفى و ليس لها فرط و لا يستطيع الناس ان يعودون عليها من إفراطهم فتلك الرقوب،و الرقوب بفتح الراء التي لا يولد لها ولد و لا يعيش لها هذا بحسب اللغة و قد خصّه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما ذكر،و عن زيد بن اسلم قال مات ولد لداود عليه السّلام فحزن عليه حزنا كثيرا فأوحى اللّه تعالى الى داود ما كان يعدل هذا الولد عندك؟قال يا رب كان يعدله هذا الولد عندي ملأ الأرض ذهبا،قال فلك عندي يوم القيامة ملأ الأرض ثوابا.

و عن داود بن ابي هند قال رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت و كأن الناس يدعون الى الحساب،قال فقرب الى الميزان فوضعت حسناتي في كفة و سيئاتي في كفه فرجّحت السيئات على الحسنات،فبينا انا مغموم اذ اتيت بمنديل او كالخرقة البيضاء فوضعت مع حسناتي فرجّحت فقيل لي تدري ما هذا؟قلت لا،قال هذا سقط كان لك قلت فانّه كان لي ابنة،فقيل لي ابنتك ليست لك لأنك كنت تتمنى موتها،و عن ابي شوذب ان رجلا كان له ابن صغير لم يبلغ الحلم فأرسل الى قومه فقال انّ لي اليكم حاجة قالوا ما هي؟قال انّي اريد ان ادعوا على ابني هذا ان يقبضه اللّه و تؤمنون على دعائي،فسألوه عن ذلك فأخبرهم انّه رأى في نومه كأن الناس قد حمعوا ليوم القيامة و أصابهم عطش شديد.فاذا الولدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق و فيهم ابن اخ له، فالتمس منه انه يسقني فأبى و قال يا عم لا نسقي الا الآباء فأحببت انّ اللّه يجعل ولدي هذا فرطا لي،فدعا و أمّنوا فلم يلبث الصبي حتى مات.

و عن محمد بن خلف قال كان لإبراهيم الحربي ابن له أحد عشر سنة قد حفظ القرآن و لقنه أبوه العلم فمات،فأتيته لأعزيه فقال لي كنت اشتهي موته،فقلت يا اب اسحاق أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد انحب و حفظ القرآن و لقنته الحديث و الفقه،قال نعم ثم قال رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت و كأن صبيانا بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس يسقونهم و كان اليوم حار شديد،فقلت لأحدهم اسقني من هذا الماء،قال فنظر اليّ و قال لي لست انت ابي، قلت فأنّى شيء انتم؟قال و نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا و خلّفنا آباءنا،فنستقبلهم فنسقيهم الماء،فلهذا تمنيت موته.

ص:147

و روى الغزالي في الأحتيء انّ بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج برهة من دهره فيأبى،قال فانتبه من نومه ذات يوم و قال زوّجوني فزوّجوه،فسأل عن ذلك فقال لعل اللّه تعالى يرزقني ولدا يقبضه فيكون لي مقدّمة في الآخرة،ثم قال رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت و كأنّي في جملة الخلائق في الموقف و بي من العطش ما كاد أن يقطع عنقي و كذا الخلائق من شدّة العطش و الكرب،فنحن كذلك و اذا ولدان يتخللون الجمع،عليهم قناديل من نور و بأيديهم أباريق من فضة و أكواب من ذهب و هم يسقون الواحد بعد الواحد،و يتخللون الجمع و يجاوزون اكثر الناس،فمددت يدي الى أحدهم فقلت اسقني فقد اجهدني العطش،فقال ليس لك فينا ولد انّما نسقي آبائنا فقلت و من انتم؟قالوا نحن من مات من اطفال المسلمين.

و حكى الشيخ ابو عبد اللّه في كتاب مصباح الظلام عن بعض الثّقاة انّ رجلا أوصى بعض أصحابه ممن حج يقرأ سلامه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يدفن رقعة مختومة له عند رأسه الشّريف،ففعل ذلك فلمّا رجع من حجه أكرمه الرجل و قال له من اين علمت بتبليغها قبل ان أحدّثك فأنشأ يحدثه،قال لي اخ مات و ترك ابنا صغيرا فربيته و احسنت تربيته ثم مات قبل ان يبلغ الحلم،فلمّا كان ذات ليلة رأيت في المنام كأنّ القيامة قد قامت و الحشر قد وقع و الناس قد اشتد بهم العطش من شدّة الجهد و بيد ابن اخي ماء،فالتمست ان يسقيني فأبى و قال ابي احق به منك،فعظم عليّ ذلك و انتبهت فزعا،فلمّا اصبحت تصدقت بجملة دنانير و سألت اللّه تعالى ان يرزقني ولدا ذكرا فرزقته،و اتفق سفرك فكتبت لك تلك الرقعة و مضمونها التوسل بالنبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم الى اللّه عز و جل في قبوله مني رجاء ان اجده يوم الفزع الأكبر،فلم يلبث ان حمّ و مات و كان ذلك يوم وصولك فعلمت انك بلّغت الرسالة.

و من كتاب النوم و الرؤيا لأبي صقر الموصلي حدّثني عن علي بن الحسين بن جعفر حدّثني ابي حدثني بعض اصحابنا ممّن اثق به قال أتيت المدينة ليلا فنمت في البقيع بين اربعة قبور عند قبر محفور،فرأيت في منامي اربعة اطفال قد خرجوا من تلك القبور و هم يقولون:

أنعم اللّه بالحبيبة عينا و بمسراك يا اميم الينا

عجبا ما عجبت من ضغطة القبر و مفداك يا اميم الينا

فقلت انّ لهذه الأبيات لسانا و اقمت حتى طلعت الشّمس،فاذا جنازة قد اقبلت فقلت من هذه؟قالوا امرأة من أهل المدينة،فقلت اسمها اميمة؟قالوا نعم،قلت قدمت فرطا؟قالوا نعم اربعة اولاد فأخبرتهم الخبر،و أنشد بعض الأفاضل:

عطيّته اذا أعطى سرورا فان سلب الذي اعطى اثابا

ص:148

فأي النعمتين أعد فضلا و أحمد عند عقباها أيابا

أنعمته التي كانت سرورا ام الأخرى التي جلبت ثوابا

الأمر الثاني في الصبر و قد عرفت معناه،و اما اقسامه فهي ثلاثة:أحدها صبر العوام و هو حبس النّفس على وجه التّجلد و اظهار الثبات في النّائبات ليكون حاله عند الناس مرضيّة:يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون،و ثانيها صبر الزهّاد و العبّاد و أهل التقوى لتوقّع ثواب الآخرة،انّما يوغى الصابرون أجرهم بغير حساب و ثالثها صبر العارفين فانّ لبعضهم التذاذا بالمكروه لتصورهم انّ معبودهم خصّهم به من دون النّاس و صاروا ملحوظين بشريف نظره، وَ بَشِّرِ الصّٰابِرِينَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ، و هذا النوع يخص باسم الرضا،و الأول لا ثواب عليه بل هو رياء محض،و الصّبر عند الأطلاق يحمل على القسم الثاني.

و عن الحسن عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال انّ في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى،يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا يرفع لهم ديوان و لا ينصب لهم ميزان يصب عليهم الأجر صبا و قرأ إِنَّمٰا يُوَفَّى الصّٰابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ و عن انس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال اللّه عز و جل اذا وجهت الى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه او ماله او ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة ان انصب له ميزانا او انشر له ديوانا،و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر و الصبر عند الصّدمة الأولى أعظم و عظم الأجر على قدر المصيبة،و من استرجع بعد المصيبة جدّد اللّه له أجرها كيوم أصيب بها،و سأل رجل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال ما يحبط الأجر في المصيبة؟فقال تصفيق الرجل بيمينه عن شماله،و الصبر عند الصدمة الأولى فمن رضى فله الرضا،و من سخط فعليه السّخط.

و عن ام سلمة زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالت أتاني ابو سلمة يوما من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قولا سررت به،قال لا يصيب احد من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول اللهم اجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منها الا فعل ذلك به،قالت ام سلمة فحفظت ذلك منه فلمّا توفى ابو سلمة استرجعت و قلت اللهم أجرني في مصيبتي و اخلف لي خيرا منه،ثم رجعت الى نفسي فقلت من اين يحصل خير من ابي سلمة فلما انقضت عدتي استأذن عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انا ادبغ اهابا،فغسلت يدي من القرظ و اذنت له فوضعت له و سادة أدم

ص:149

و حشوها ليف،فقعد عليها فخطبني الى نفسي،فلما فرغ من مقالته قلت ما بي ان لا يكون بك الرّغبة و لكنّي امرأة في غير شديدة فأخاف ترى مني شيئا يعذبني اللّه عليه،و انا امرأة قد دخلت في السن و انا ذات عيال،فقال أمّا ذكرت من السن فقد اصابني مثل الذي اصابك،و امّا ما ذكرت من العيال فانّما عيالك عيالي قالت فقد سلمت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزوجها، فقالت ام سلمة (1)فقد ابدلني اللّه بأبي سلمة خيرا منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و عن الحسين بن علي بن ابي طالب عليه السّلام انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال من اصابته مصيبة فقال اذا ذكرها انّا للّه و انّا اليه راجعون جدّد اللّه له أجرها مثل ما كان له يوم اصابته،و عن جابر عن الباقر عليه السّلام قال اشد الجزع الصّراخ بالويل و العويل و لطم الوجه و جزّ الشعر،و من اقام النواحة فقد ترك الصّبر و من صبر و استرجع و حمد اللّه جلّ ذكره فقد رضى بما صنع اللّه و وقع اجره على اللّه جل و عز و من لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء و هو ذميم و أحبط اللّه عز و جل اجره،و عن موسى الكاظم عليه السّلام قال ضرب الرجل على فخذه عند المصيبة احباط اجره،و عن اسحاق بن عمار عن الصادق عليه السّلام قال يا اسحاق لا تعدّنّ مصيبة أعطيت عليها الصبر و استوجبت عليها من اللّه عز و جل الثواب،انما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها و ثوابها اذا لم يصبر عند نزولها.

الأمر الثالث في نبذ من أحوال السلف عند موت ابنائهم و أحبائهم قال ابو الأحوص دخلنا على ابن مسعود رضي اللّه عنه و عنده ثلاثة بنين له و هم غلمان كأنهم الدّنانير حسنا فجعلنا نتعجب من حسنهم،فقال كأنكم تغبطوني بهم،قلنا أي و اللّه،بمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم،فرفع رأسه الى سقف بيت قصير قد عشعش فيه الخطّاف و باض،فقال و الذي نفسي بيده لئن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم أحبّ اليّ من ان اسقط عشّ هذا الخطّاف و ينكسر بيضه،يعني حرصا على الثواب.

و كان عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه يقري الناس في المسجد جاثيا على ركبتيه اذ جاءت امّ ولده بابن له يقال له محمد،فقامت على باب المسجد ثم اشارت له الى ابيه،فأقبل فأفرج له القوم حتى جلس في حجره،ثم جعل يقول مرحبا بسمي من هو خير منه و يقبله حتى يكاد يزدرد ريقه،ثم قال و اللّه لموتك و موت اخوتك أهون عليّ من عدتكم من هذا الذبان،فقيل له لم تتمنى هذا؟فقال اللهم غفرا انّكم تسألوني و لا أستطيع الا ان اخبركم كم اريد بهذا الخير،اما انا فأحرز أجورهم و أتخوف عليهم سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يأتي عليكم

ص:150


1- (1) ام سلمة ام المؤمنين اسمها هند بنت ابي امية هي افضل ازواج رسول اللّه(ص)بعد خديجة ام المؤمنين سلام اللّه عليها.

زمان يغبط الرجل بخفة الحال ما يغبط اليوم بكثرة المال و الولد،و كان ابو ذر رضي اللّه عنه لا يعيش له ولد،فقيل له انّك امرء لا يبقى لك ولد،فقال الحمد للّه الذي يأخذهم من دار الدّنيا و يذخرهم في دار البقاء.

و مات لعبد اللّه بن عامر المازني رضي اللّه عنه في الطاعون الحارف سبع بنين في يوم واحد فقال اني مسلم مسلم،و عن عبد الرحمن بن غنمة قال دخلنا على معاذ و هو قاعد عند رأس ابن له و هو يجود بنفسه،فما ملكنا انفسنا ان ذرفت اعيننا و انتحب بعضنا،فزجره معاذ و قال مه فو اللّه لعلم اللّه برضاي لهذا احب اليّ من كلّ غزوة غزوتها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم،فاني سمعته يقول من كان له ابن عليه عزيز و به ضنينا و مات فصبر على مصيبته و احتسبه أبدل اللّه الميت دارا خيرا من داره و قرارا خيرا من قراره،و أبدل المصاب الصلاة و الرحمة و المغفرة و الرّضوان،فما برحنا حتى قضى الغلام حين اخذ المنادي لصلاة الظهر فرحنا نريد الصلاة فما جئنا الاّ و قد غسّله و كفّنه،و جاء رجل بسريره غير منتظر لشهود الأخوان و لجمع الجيران،فلمّا بلغنا ذلك تلاحقنا و قلنا يغفر اللّه لك يا ابا عبد الرحمن هلاّ انتظرتنا حتى نفرغ من صلواتنا و نشهد ابن اخينا،فقال امرنا ان لا ننتظر موتانا ساعة ماتوا من ليل او نهار،قال فنزل في القبر و انزل معه آخر فلمّا اراد الخروج ناولته بيدي لأنتشطه من القبر،فأبى و قال ما أدع ذلك لفضل قوتي و لكن اكره ان يرى الجاهل انّ ذلك منّي جزع و استرخاء عند المصيبة،ثمّ أتى مجلسه و دعى بدهن فادهن و بكحل فاكتحل و ببردة فلبسها و اكثر في يومه ذلك من التبسّم ينوي به ما ينوي،ثمّ قال انا للّه و انا اليه راجعون،في اللّه خلف عن كل هالك و عزاء من كل مصيبة، و درك لكل ما فات.

و روي ان قوما كانوا عند علي بن الحسين عليهما السّلام فاستعجل خادم بشوي يشوي(خ)في التّنور،فأقبل مسرعا فسقط من يده لعلي بن الحسين عليه السّلام،فأصاب رأسه فقتله فوثب علي بن الحسين عليه السّلام فلمّا رأى ابنه ميّتا قال للغلام انت حرّ اما انك لم تتعمده و أخذ في جهاز ابنه.

و عن الأحنف بن قيس قال تعلّموا الحلم و الصبر فانّي تعلمته،فقيل ممن؟قال من قيس بن عاصم،قيل و ما بلغ من حلمه؟قال كنّا قعودا عنده اذ أتى بأبنه مقتولا و بقاتله مكبولا فما حلّ حبوته و لا قطع حديثه حتى فرغ،ثم التفت الى قاتل ابنه فقال يا ابن أخي ما حملك على ما فعلت؟ قال غضبت،قال او كلما غضبت قتلت أهنت نفسك و عصيت ربك و أقللت عددك،اذهب فقد اعتقتك،ثم التفت اليه بنيه فقال يا بنيّ اعمدوا الى اخيكم غسلوه و كفنوه فاذا فرغتم منه فأتوني به

ص:151

حتى اصلّي عليه،فلمّا دفنوه قال ان امه ليست منكم و هي من قوم آخرين فلا أرآها ترضى بما صنعتم فاعطوها ديته من مالي.

و قدم الى بعض الخلفاء قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير،فسأله عن عينيه،فقال بتّ ليلة في بطن واد و لم اعلم عبسيا يزيد ماله على مالي،فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من أهل و مال و ولد غير بعير و صبي مولود و كان البعير صعبا فشرد فوضعت الصبي و اتّبعت البعير فلم أجاوز الاّ قليلا حتى سمعت صيحة ابني،فرجعت و رأس الذئب في بطنه و هو يأكله و لحقت البعير لأحبسه فبعجني رجلا و ذهب بعيني،فأصبحت لا مال لي و لا أهل و لا ولد و لا بصر،و قال ابو علي الرازي صحبت الفضل بن عباس ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا و لا مبتسما الا يوم مات ابنه عليّ، فقلت له في ذلك فقال ان اللّه سبحانه أحب أمرا فأحببت ما أحب اللّه عز و جل.

و اصيب عمر بن كعب الهندي بتستر فكتموا أباه الخبر،ثم بلغه فلم يجزع،و قال الحمد للّه الذي جعل من صلبي من أصيب شهيدا،ثم استشهد له ابن بجرجان،فلمّا بلغه الخبر قال الحمد للّه الذي توفّى مني شهيدا.

و روى البيهقي انّ عبد اللّه بن مطرف مات فخرج ابوه مطرف على قومه في ثياب حسنة و قد أدهن،فغضبوا و قال يموت عبد اللّه و تخرج في ثياب حسنة مدهنا،قال أ فأستكين لها لها و قد وعدني ربّي تبارك و تعالى عليها ثلاث خصال هي أحب اليّ من الدنيا كلها قال اللّه تعالى اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ ، أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، و دعا رجل من قريش اخوانا فجمعهم على طعام و ضربت ابنا له دابّة بعضهم فمات،فأخفى ذلك عن القوم و قال لأهله لا أعلمن صاحت منكم صائحة و بكت باكية،و أقبل على اخوانه حتى فرغوا من طعامه،ثمّ أخذ في جهاز الصبي فلم يفجأهم الا بسريره،فأرتاعوا و سألوه عن أمره فأخبرهم فعجبوا من صبره و كرمه.

و ذكر ان رجلا من اليمامة دفن ثلاثة رجال من ولده ثمّ اجتبى فنادى قومه يتحدّث كأن لم يفقد احدا،فقيل له في ذلك؟فقال ليسوا في الموت ببديع و لا انا في المصيبة بأوحد،و لا جدوى للجزع فعلام تلوموني؟و أسند ابو العباس مسروق عن الأوزاعي قال حدّثني بعض الحكماء قال خرجت و انا اريد الرّباط حتى اذا كنت بعريش مصر اذ انا بمظلّة و فيها رجل قد ذهبت عيناه و استرسلت يداه و رجلاه،و هو يقول لك الحمد سيّدي و مولاي اللّهمّ انّي احمدك حمدا يوافى محامد خلقك كفضلك على سائر خلقك اذ فضّلتني على كثير ممّن خلقت تفضيلا،فقلت و اللّه لأسألنه،فدنوت و سلمت عليه،فرد عليّ السّلام فقلت له رحمك اللّه اني أسألك عن شيء أ تخبرني به ام لا؟فقال ان كان عندي منه علم اخبرتك به،فقلت رحمك اللّه على أي فضيلة من

ص:152

فضائل تشكره؟فقال او ليس ترى ما قد صنع بي،قلت بلى،فقال و اللّه لو ان اللّه تبارك و تعالى اصب على نار تحرقنا،و امر الجبال فدمرتنا،و امر البحار فغرقتنا،و أمر الأرض فخسفت بي ما ازددت فيه سبحانه الا حبا،و لا ازددت له الا شكرا،و ان لي اليك حاجة أ فتقضيها لي؟فقلت نعم قل ما تشاء فقال بني لي كان يتعاهدنا اوقات صلواتي و يطعمني عند افطاري،و قد فقدته منذ امس فانظر هل تجده لي؟قال فقلت في نفسي ان في قضاء حاجته لقربة الى اللّه عز و جل،و قمت و خرجت في طلبه حتى اذا صرت بين كثبان الرمال اذا انا بسبع قد افترس الغلام يأكله،فقلت انا للّه و انا اليه راجعون كيف اتى هذا العبد الصالح بخبر ابنه؟قال فأتيته فسلمت عليه فقلت رحمك اللّه ان سألتك عن شيء أ تخبرني به؟فقال ان كان عندي منه علم اخبرتك؟قال قلت انت اكرم على اللّه تعالى و اقرب منزلة او نبي اللّه ايوب عليه السّلام،فقال بل ايوب اكرم على اللّه تعالى مني و اعظم عند اللّه تعالى منزلة مني،فقلت انه ابتلاه اللّه فصبر حتى استوحش منه من كان يأنس به،و كان غرضا لمرار الطريق،اعلم ان ابنك الذي اخبرتنا به و سألتي اطلبه لك افترسه السبع، فأعظم اللّه اجرك،فقال الحمد للّه الذ لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا،ثم شهق شهقة و سقط على وجهه فسجلت ساعة ثم حركته فاذا هو ميت،فقلت انا للّه و انا اليه راجعون كيف اعمل في امره،و من يعينني على غسله و كفنه و حفر قبره و دفنه؟فبينا انا كذلك اذ انا بركب يريدون الرباط، فأشرت عليهم فأقبلوا نحوي حتى وقفوا علي،فقالوا من انت و ما هذا؟فأخبرتهم بقصتي،فعقلوا رواحلهم حتى غسلناه بماء البحر و كفنّاه بأثواب كانت معهم،و تقدمت و صليت عليه مع الجماعة و دفناه في مظلته و جلست عند قبره انسابه و أقرأ القرآن الى ان مضى من الليل ساعات؟فغفوت غفوة فرأيت صاحبي في أحسن صورة و اجمل زي في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائما يتلو القرآن،فقلت له الست صاحبي،قلت فما الذي صيرك الى ما أرى؟فقال اعلم انني وردت مع الصابرين للّه عز و جل لم ينالوها الا بالصبر و الشكر عند الرخاء و انتبهت.

و روي بينما عمر بن عبد العزيز ذات يوم جالس اذا تاه ابنه 9 عبد الملك،فقال اللّه اللّه في مظالم بني ابيك فلان و فلان و فلان فو اللّه لوددت ان القدور قد غلت بي و بك فيما يرضى اللّه و انطلق فاتبعه ابوه بصره و قال اني لأعرف خير احواله،قالوا و ما خير أحواله؟ان يموت فأحتسبه، و لما دخل عليه ابوه في مرضه فقال كيف تجدك قال اجدني في الموت فاحتسبني يا ابه فان ثواب اللّه عز و جل خير لك من مني،فقال و اللّه يا بني لئن تكون في ميزاني احب اليّ من ان اكون في ميزانك؟فقال ابنه لئن يكون ما تحب أحب اليّ من ان يكون ما أحب،فلما مات وقف على قبره و قال رحمك اللّه يا بني لقد كنت سارّا مولدا و بارا ناشيا و ما أحب اني دعوتك فأحببتني،و مات ابن له آخر قبل عبد الملك فجاء فقعد عند رأسه و كشف الثوب عن وجهه و جعل ينظر اليه

ص:153

و يستدمع،فجاء ابنه عبد الملك فقال ليشغلك ما أقل من الموت عمن هو في شغل حلا لديك،فكأن قد لحقت ابنك و ساويته تحت التراب بوجهك فبكى عمر.

الأمر الرابع في صبر بعض النساء روي عن معاوية بن قرة قال كان ابو طلحة يحب ابنه حبا شديدا فمرض فخافت ام سليم على ابي طلحة الجزع حين قرب موت الأبن،فبعثه الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما خرج ابو طلحة من داره توفي الولد فسجته(فسبجته خ)(فغطته خ) ام سليم بثوب و عزلته في ناحية من البيت،ثم تقدمت الى اهل بيتها و قالت لهم لا تخبروا ابا طلحة بشيء ثم انها صنعت طعاما ثم مست شيئا من الطيب فجاء ابو طلحة من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقال ما فعل ابني؟فقالت له هدأت نفسه،ثم قال هل لنا ما نأكل فقامت فقربت اليه الطعام ثم تعرضت فوقع عليها فلما أطمأن قالت له يا ابا طلحة أ تغضب من وديعة كانت عندنا فرددناها الى اهلها؟فقال سبحان اللّه لا؟فقالت ابنك كان عندنا وديعة فقبضه اللّه تعالى،فقال ابو طلحة فانا أحق بالبصر منك،ثم قام من مكانه فاغتسل و صلى ركعتين ثم انطلق الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاخبره بصنيعتها فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بارك اللّه لكما في وقعتكما،ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحمد للّه الذي جعل في امتي مثل صابرة بني اسرائيل،فقيل يا رسول اللّه ما كان من صبرها؟فقال كان في بني اسرائيل امرأة و كان لها زوج و لها منه غلامان،فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس،ففعلت و اجتمع الناس في داره فانطلق الغلامان يلعبان فوقعا في بئر كان في الدار فكرهت ان تنقص على زوجها الضيافة فادخلتهما البيت و سجتهما(سبجتهما خ)بثوب فلما فرغوا دخل زوجها فقال اين ابناي؟قالت هما في البيت و انها كانت مسحت بشيء من الطين و تعرضت للرجل حتى وقع عليها ثم قال اين ابناي؟قالت هما في البيت فناداهما ابوهما فخرجا يسعيان فقالت المرأة سبحان اللّه و اللّه لقد كانا ميتين و لكن اللّه تعالى احياهما بالصبر.

و روي في مناجاة برخ الأسود الذي امر اللّه تعالى كليمه موسى عليه السّلام يسأله يستسقي لبني اسرائيل بعد ان قحطوا سبع سنين،و خرج موسى عليه السّلام ليستسقي لهم في سبعين ألفا فأوحى اللّه تعالى اليه كيف استجيب لهم و قد اظلّت عليهم ذنوبهم و سرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين و يؤمنون مكري ارجع الى عبد من عبادي يقال له برخ يخرج حتى استجيب له،فسأل عنه موسى عليه السّلام فلما يعرف فينا موسى عليه السّلام ذات يوم يمشي في طريق فاذا هم بعبد الأسود بين عينه تراب من اثر السجود،في شملة قد عقدها على عنقه،فعرفه موسى عليه السّلام بنور اللّه تعالى فسلّم عليه فقال ما اسمك؟قال اسمي برخ،فقال ان انت طلبتنا منذ حين،اخرج استسق لنا فخرج فقال في كلامه ما هذا من فعالك و ما هذا من حلمك

ص:154

و ما الذي بدا لك انقضت عليه غيومك ام عاندت الرياح عن طاعتك؟ام نفد ما عندك ام اشتد غضبك على المذنبين؟الست غفارا قبل خلق الخطائين،خلقت الرحمة و امرت بالعطف ام ترينا انك ممتنع ان نخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟فما برح برخ حتى اخضلّت بنو اسرائيل بالقطر،فلما رجع برخ استقبله موسى عليه السّلام فقال كيف رأيتني حين خاصمت ربي؟كيف ان انصفنا؟

و عن ابي قدامة الشامي قال كنت اميرا على الجيش في بعض الغزوات،فدخلت بعض البلدان فدعوت الناس و رغبتهم في الجهاد و ذكرت فضل الشهادة و ما لأهلها،ثم تفرق الناس و ركبت فرسي الى منزلي و اذا انا بامرأة من احسن الناس،ينادي يا ابا قدامة فمضيت و لم اجب، فقالت ما هكذا كان الصالحون،فوقفت فجاءت فدفعت الى رقعة مشدودة و انصرفت باكية، فنظرت في الرقعة فاذا فيها مكتوب انت دعوتنا الى الجهاد و رغبتنا في الثواب و لا قدرة لي على ذلك فقطعت احسن ما في،و هما ظفيزتاي و انفذتهما اليك لتجعلهما قيد فرسك لعل اللّه تعالى يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغر لي،فلمّا كان صبيحة القتال فاذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل خاسرا،فتقدمت اليه فقلت يافتى غلام عزّ راجل و لا آمن ان تجول الخيل فتطأك بأرجلها فارجع عن موضعك هذا.

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاٰ تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبٰارَ و قرأ الآية الى آخرها فحملته على هجين (1)كان معي فقال يا ابا قدامة أقرضني ثلاثة اسهم،فقلت هذا وقت قرض؟فما زال يلح عليّ حتى قلت بشرط ان منّ اللّه عليك بالشهادة أكون في شفاعتك،قال نعم،فأعطيته ثلاثة اسهم،فوضع سهما في قوسه و رمى به فقتل روميّا،ثم رمى بالآخر فقتل روميّا،و قال السّلام عليك يا ابا قدامة سلام مودع،فجاءه سهم فوقع بين عينيه فوضع رأسه على قربوس سرجه،فتقدمت اليه فقلت لا تنسها،فقال نعم و لكن لي اليك حاجة اذا دخلت المدينة فأت والدتي و سلّم خرجي اليها و أخبرها،فهي التي اعطتك شعرها لتقيد به فرسك،و سلّم عليها فهي العام الأول أصيبت بوالدي و في هذا العام بي،ثم مات فحفرت له و دفنته فلمّا هممت بالإنصراف عن قبره قذفته الأرض فألقته على ظهرها،فقال أصحابه،غلام عزّ و لعله خرج بغير اذن امه فقلت انّ الأرض لتقبل من هو شر من هذا،فقمت و صلّيت ركعتين و دعوت اللّه تعالى فسمعت صوتا يقول يا ابا قدامة أترك وليّ اللّه تعالى،فما برحت حتة نزلت عليه الطيور فأكلته،فلما أتيت المدينة ذهبت الى دار والدته،فلما قرعت الباب خرجت اخته اليّ،فلما رأتني عادت الى امها و قالت يا اماه هذا ابو قدامة و ليس معه اخي و قد اصبنا في العام الأول بابي و في هذا العام بأخي،

ص:155


1- (1) فرس و برذونة هجين أي غير عتيق او الهجين من الخيل الذي ولدته برذونة من حصاني عربي جمع هجن و هواجن ايضا.

فخرجت أمّه فقالت أ معزيّا ام مهنيا؟فقلت ما معنى هذا؟قالت ان كان مات فعزني،و ان كان قتل فهنّني،و ان كان قتل فهنّني،فقلت لا بل مات شهيدا،فقالت له علامة فهل رأيتها،قلت نعم لم تقبله الأرض و نزلت الطيور فأكلت لحمه و تركت عظامه فدفنتها فقالت الحمد للّه،فسلّمت اليها الخرج ففتحته و أخرجت منه مسحا و غلا من حديد،و قالت انّه كان اذا جنّه الليل لبس هذا المسح و غلّ نفسه بهذا الغل و ناجى مولاه،و نادى في مناجاته الهي احشرني من حواصل الطيور، فاستجاب اللّه سبحانه دعاه رحمه اللّه.

و قال ابان بن تغلب(ره)دخلت على امرأة و قد نزل بابنها الموت،فقامت اليه و غمضته(قمصته و سبجتّه خ)و سجته،ثم قالت يا بني ما لجزع فيما لا يزول و ما البكاء فيما ينزل غدا يا بني تذوق و ما ذاق ابوك و ستذوقه من بعد امك،و ان اعظم الرّاحة لهذا الجسد النوم و النوم أخو الموت فما عليك ان كنت نائما على فراشك او على غيره و انّ غدا السؤال و الجنة و النار،فان كنت من اهل الجنة فما ضرّك الموت،و ان كنت من اهل النار فما تنفعك الحياة و لو كنت اطول الناس عمرا،و اللّه يا بني لو لا انّ الموت أشرف الأشياء لإبن آدم لما أمات اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبقى عدوه ابليس.

و عن المبرّد انّه خرج الى اليمن فنزل على امرأة لها مال كثير و رقيق و ولد و حال حسنة فأقام عندها،فلمّا اراد الرحيل قال أ لك حاجة؟قالت نعم كلّما نزلت هذه البلاد فانزل عليّ،ثم انّه غاب اعواما ثم نزل عليها فوجدها قد ذهب مالها و رقيقها و مات ولدها و باعت منزلها و هي مسرورة ضاحكة،فقال لها أ تضحكين مع ما قد نزلت بك؟فقالت يا عبد اللّه كنت في حال النّعمة في احزان كثيرة فعلمت انّها من قلّة الشكر فأنا اليوم في هذه الحالة أضحك شكر اللّه تعالى على ما أعطاني من الصّبر.

و عن مسلم بن يسار قال قدمت البحرين فأضافتني امرأة لها بنون و رقيق و مال و يسار و كنت اراها محزونة فغبت عنها مدّة طويلة ثم اتيت فلم أرى ببابها انسانا،فأستأذنت عليها فاذا هي ضاحكة مسرورة،فقلت لها ما شأنك؟قالت انّك لمّا غبت عنّا لم نرسل شيئا في البحر الا غرق،و لا في البرّ شيئا الا عطب،و ذهب الرقيق و مات البنون،فقلت لها يرحمك اللّه رأيتك محزونة في ذلك اليوم،فقالت نعم انّي لما كنت فيما كنت فيه من سعة الدنيا خشيت ان يكون اللّه تعالى قد عجّل لي حسناتي في الدنيا فلما ذهب مالي و ولدي و رقيقي رجوت ان يكون اللّه تعالى قد ذخر لي عنده شيئا.

و روى البيهقي عن ذى النون المصري قال كنت في الطّواف فاذا انا بجاريتين قد اقبلتا و أنشأت احديهما تقول:

ص:156

صبرت و كان الصبر خير مغبة و هل جزع منّي يجدي فأجزع

صبرت على ما لو تحمل بعضه جبال برضوي أصبحت تتصدع

ملكت دموع العين ثمّ رددتها الى ناضري و العين في القلب تدمع

فقلت ممّن ذا يا جارية؟فقالت من مصيبة نالتني لم تصب احدا قط،قلت و ما هي؟قالت كان لي شبلان يلعبان امامي و كان ابوهما ضحّى بكبشين،فقال احدهما لأخيه يا أخي أريك كيف ضحّى ابوك بكبشه؟فقام و أخذ شفرة فنحره و هرب القاتل،فدخل ابوهما فقلت انّ ابنك قتل اخاه و هرب،فخرج في طلبه فوجده قد افترسه السبع،فرجع الأب فمات في الطريق عطشا و جوعا.

الأمر الخامس في الرصا قد عرفت انّه ثمرة المحبّة بل كلّ كمال فهو ثمرتها فانّها لمّا كانت فرع المعرفة استلزم تصوّر رحمته رجاه و تصوّر هيبته الخشية،و مع عدم الوصول الى المطلوب الشوق،و مع الوصول الأنس،و مع افراط الأنس الأنبساط و مع مطالعة عنايته التّوكل،و مع استحسان ما يصدر عنه الرضا،و مع تصور قصور نفسه في جنب كماله و كمال احاطة محبوبه و قدرته عليه التّسليم اليه،و الرضى أعظم كلّ المراتب.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا كان يوم القيامة انبت اللّه لطائفة من امتي اجنحة فيطيرون من قبورهم الى الجنان يسرحون فيها و يتنعمون كيف يشاؤون،فتقول لهم الملائكة هل رأيتم الحساب؟فيقولون ما رأينا حسابا،فتقول هل جزتم الصراط؟فيقولون ما رأينا صراطا، فتقول هل رأيتم جهنم؟فيقولون ما رأينا شيئا،فتقول الملائكة من امّة من انتم؟فيقولون من امة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فيقولون ناشدناكم اللّه تعالى حدثونا ما كانت اعمالكم في الدنيا؟ فيقولون خصلتان كانتا فينا فبلّغنا اللّه تعالى هذه المنزلة بفضل رحمته،فيقولون كنا اذا خلونا نستحي ان نعصيه،و نرضى باليسر ممّا قسم لنا،فتقول الملائكة حقّ لكم هذا.

و في بعض الأخبار ان نبيا قال له امّته سل لنا ربك أمرا اذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فأوحى اللّه تعالى اليه قل لهم يرضون عنّي حتى ارض عنهم،و نظيره ما روي عن نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلم انّه قال من احب ان يعلم ماله عند اللّه عزّ و جل فلينظر ما للّه عز و جل عنده،فانّ اللّه تعالى ينزل العبد منه حيث انزله العبد من نفسه،و في اخبار داود عليه السّلام ما لأوليائي و من اوليائي ان يكونوا روحانيّين لا يغتمّون.

و روي انّ موسى عليه السّلام قال يا رب دلّني على امر فيه رضاك حتى اعمله،فأوحى اللّه تعالى اليه انّ رضائي في كرهك و انت لا تصبر على ما تكره،قال يا رب دلني عليه قال فانّ

ص:157

رضائي في رضاك بقضائي،و في مناجاة من نبي أي رب ايّ خلقك احب اليك؟قال من اذا اخذت حبيبه سالمني،قال فأيّ خلق انت عليه ساخط؟قال من يستخيرني في الأمر فاذا قضيت له سخط قضائي.

و روي ان جابر بن عند اللّه الأنصاري رضي اللّه عنه أبتلي في آخر عمره بضعف الهرم و العجز فرآه محمد الباقر عليهما السّلام فسأله عن حاله،فقال انا في حالة أحبّ فيها الشّيخوخة على الشباب و المرض على الصحة و الموت على الحياة،فقال الباقر عليه السّلام اما انا فان جعلني اللّه شيخا أحب الشيخوخة،و ان أماتني أحب الموت،و ان ابقاني أحب البقاء،فلمّا سمع جابر هذا الكلام قبّل وجهه و قال صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فانه قال ستدرك لي ولدا اسمه اسمي يبقر العلم بقرا كما يبقر الثّور الأرض،و لذلك سمّى باقر علم الأولين و الآخرين أي شاقه.

و روى(و ورد خ)في الأسرائيليات انّ عابدا عبد اللّه تعالى دهرا طويلا فراى في المنام فلانة رفيقتك في الجنة،فسأل عنها و استضافها ثلاثا لينظر الى عملها فكان يبيت قائما و تبيت نائمة و يظل ائما و تظلل مفطرة،فقال لها أما لك عمل غير ما رأيت؟فقالت ما هو غير ما رأيت و لا أعرف غيره،فلم يزل يقول تذكري حتى قالت خصيلة واحدة هي ان كنت في شدّة لم أتمن ان اكون في رخاء،و ان كنت في مرض لم اتمن ان اكون في صحة و ان كنت في الشمس لم اتمنّ ان اكون في الظّل،فوضع العابد يديه على رأسه و قال أ هذه خصيلة،هذه و اللّه خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.

و اما درجات الرضا فثلاثة:الأولى ان ينظر الى موقع البلاء و الفعل الذي يقتضي الرضا و يدرك موقعه و يحسّ بألمه،و لكن يكون راضيا به بل راغبا فيه مريدا له بعقله و ان كان كارها له بطبعه طلبا لثواب اللّه تعالى و الفوز بالجنة التي عرضها السماوات و الأرض و قد أعدّت للمتقين، و هذا القسم من الرضا هو رضاء المتقين،و مثاله مثال من يلتمس الفصد و الحجامة من الطّبيب العالم بتفاصيل امراضه و ما فيه صلاحه فانّه يدرك ألم ذلك الفعل الا انّه راض به و راغب فيه و متقلّد من الفصاد منّة عظيمة،و مثله من يسافر في طلب الربح فانّه يدرك مشقة السفر و لكن حبه لثمرة سفره طيّب عنده مشقة السفر و جعله راضيا به،و مهما اصابه بليّة من اللّه تعالى و كان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به و رغب فيه و أحبّه و شكر اللّه عليه.

الثانية ان يدرك الألم كذلك و لكنه احب لكونه مراد محبوبه و رضاه،فان غلب عليه الحب كان جميع مراده و هواه ما فيه رضاء محبوبه،الثالثة ان يبطل احساسه بالألم حتى يجري عليه المؤلم و لا يحس و يصيبه جراحة و لا يدرك ألمه،مثاله الرّجل المحارب فانّه في حال غضبه او حال

ص:158

خوفه قد يصيبه جراحة و هو لا يحس بها حتى اذا رأى الدّم استدلّ به على الجراحة،و ذلك لأنّ القلب اذا صار مستغرقا بأمر من الأمور لم يدرك ما عداه،و العشق من أعظم المشاغل،و كما يقوي حب الصور الجميلة الظاهرة المدركة بحاسة البصر كذلك يقوي حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبيّة و جلالها لا يقاس بها جلال،فمن انكشف له شيء منه فقد بهره بحيث يدهش و يغشى عليه فلا يحسّ بما يجري عليه.

كما روي انّ امرأة عثرت فانقطع ظفرها فضحكت،فقيل لها اما تجدين الوجع فقالت انّ لذّة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه،و كان بعضهم يعالج غيره من علّة فنزلت به فلم يعالج نفسه،فقيل له في ذلك فقال ضرب الحبيب لا يوجع.

و لمّا اشتدّ البلاء على ايوب عليه السّلام،قالت امرأته الا تدعو ربّك فيكشف ما بك؟ فقال لها يا امرأة انّي عشت في الملك و الرّخاء سبعين سنة و انا اريد ان اعيش مثلها في البلاء لعلي كنت اديت شكرها ما أنعم اللّه عليّ،و اولى بالصبر على ما أبلى،و روي انّ يونس عليه السّلام قال لجبرئيل دلّني على أعبد أهل الأرض،فدلّه على رجل قطع الجذام يديه و رجليه و ذهب ببصره و سمعه و هو يقول الهي متّعتني بها ما شئت و سلبتني ما شئت،و أيقنت لي فيك الأمل يا برّ يا وصول.

و روي انّ موسى عليه السّلام مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج قد تناثر لحمه من الجذام،و هو يقول الحمد للّه الذي عافاني ممّا ابتلى به كثيرا من خلقه،فقال له عيسى عليه السّلام يا هذا و اي شيء من البلاء أراه مصروفا عنك،فقال يا روح اللّه انا خير ممّن لم يجعل اللّه في قلبه من معرفته،فقال له صدقت هات يدك فناوله يده،فاذا هو احسن الناس وجها و أفضلهم هيئة قد أذهب اللّه عنه ما كان،به فصحب عيسى عليه السّلام و تعبّد معه.

قال بعضهم قصدت عبادان في بدايتي فاذا انا برجل اعمى مجذوم قد صرع،و النمل تأكل لحمه و وضعته في حجري،و أنا أردّد الكلام،فلمّا أفاق قال من هذا الفضولي الذي يدخا بيني و بين ربي،فو حقّه لو قطعني اربا اربا ما أزددت له الا حبا.

و روي عن بعضهم و كان قاسى المرض ستين سنة،فلمّا اشتدّ حاله دخل عليه بنوه،فقالوا له أ تريد ان تموت حتى تستريح مما انت فيه،قال لا،قالوا فما تريد؟قال ما لي ارادة انّما أنا عبد و للسيد الأرادة في عبده و الحكم في أمره،و قيل اشتدّ المرض بفتح الموصلي و أصابه مع مرضه الفقر و الجهد،فقال الهي و سيدي ابتليتني بالمرض و الفقر فهذه فعالكم بالأنبياء و الرسل فكيف لي ان اؤديّ شكر ما أنعمت بع عليّ،و قيل لرابعة العدوية متى يكون العبد راضيا عن اللّه تعالى؟فقالت

ص:159

اذا كان سروره بالمصيبة كسروره بالنعمة،و قيل لها يوما كيف شوقك الى الجنة؟فقالت الجار ثم الدار.

الأمر السادس في البكاء كاعلم ان البكاء بمجرّده غير مناف للصبر و لا للرضا بالقضاء و انّما هو طبيعة بشرية و جبلة انسانية،فلا حرج في ابرازها ما لم تشتمل على احوال تؤذن بالسخط و تذهب بالأجر:من شق الثوب و لطم الوجه و ضرب الفخذ و غيرها و اوّل من بكى آدم عليه السّلام على ولده هابيل و رثاه بأبيات مشهورة قد تقدّمت و ان خفي شيء فلا يخفى حال يعقوب عليه السّلام فانّه بكى حتّى ابيضّت عيناه.

و عن مولانا الصادق عليه السّلام قال انّ زين العابدين عليه السّلام بكى على ابيه اربعين سنة صلئما نهاره و قائما ليله،فاذا حضر الأفطار جاء غلامه بطعامه و شرابه فيضعه بين يديه، فيقول كل يا مولاي،فيقول قتل ابن رسول اللّه جائعا،قتل ابن رسول اللّه عطشانا،فلا يزال يكرر ذلك حتى يبل طعامه من دموعه،فلم يزل كذلك حتى لحق باللّه عزّ و جلّ.

و روي عن بعض مواليه انّه قال برز يوما الى الصحراء فتبعته،فوجدته قد سجد على احجار خشنة،فوقفت و انا اسمع شهيقه و بكاه و أحصيت عليه ألف مرة و هو يقول كلا اله الا اللّه حقّا حقا،لا اله الا اللّه تعبّدا ورقا،لا اله الا اللّه ايمانا و صدقا،ثم رفع رأسه من سجوده و انّ(فاذا خ)لحيته و وجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه،فقلت يا سيدي أما آن لحزنك ان ينقضي،لبكائك ان يقل؟فقال لي ويحك انّ يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم كان نبيّا ابن نبي و له اثنى عشر ولدا فغيّب اللّه واحدا منهم فشاب رأسه من الحزن و احدودب ظهره من الغم و ذهب بصره من البكاء و ابنه حي في دار الدنيا و أنا رأيت ابي و اخي و سبعة عشر من اهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني و يقل بكائي.

و عن جابر بن عند اللّه رضي اللّه عنه قال أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيد عبد الرحمن بن عوف فأتى ابراهيم و هو يجود بنفسه،فوضعه في حجره فقال له يا بني انّي لا أملك لك من اللّه شيئا،و ذرفت عيناه،فقال له عبد الرحمن يا رسول اللّه تبكي أما أنت نهيتنا عن البكاء؟فقال انّما نهيت عن النوح و عن صوتين أحمقين فاجرين:صوت عند نغمة لعب و لهو و مزامير شيطان،و صوت عند مصيبة خمش وجوه،و شق جيوب وزنه شيطان انّما هذه رحمة، و من لا يرحم لا يرحم،لو لا انّه أمر حق و وعد صدق و سبيل نائبة(ثابتة خ)و انّ آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنّا حزنا أشدّ من هذا،و انّا بك لمحزونون تبكي العين و تدمع القلب و لا نقول ما يسخط الرب عز و جل.

ص:160

و عن ابي امامة قال جاء رجل الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين توفى ابنه و عيناه تدمعان فقال يا نبي اللّه على هذا السخل،و الذي بعثك بالحق نبيا لقد دفنت اثنى عشر ولدا في الجاهليّة كلّهم أشبّ منه أدسّه في التراب (1)فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما ذا ان كانت الرحمة ذهبت منك،يحزن القلب و تدمع العين و لا نقول ما يسخط الرب،و أنا على ابراهيم لمحزون،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم مات ابراهيم ما كان من حزن في القلب او في العين فانّها هو رحمة،و ما كان من حزن باللسان و اليد فهو من الشيطان.

و روي انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا مات عثمان بن مظعون كشف الثوب عن وجهه، ثم قبّله بين عينيه ثم بكى طويلا،فلمّا رفع السّرير قال طوباك يا عثمان لم تلبسك الدنيا و لم تلبسها؟و لما أصيب جعفر بن ابي طالب رضي اللّه عنه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسماء رضى اللّه عنها،فقال لها اخرجي لي ولد جعفر فخرجوا اليه فضمهم اليه و شمّهم و دمعت عيناه فقالت يا رسول اللّه اصيب جعفر؟قال نعم أصيب الندم.

قال عبد اللّه بن جعفر أحفظ حين دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على امي فنعى لها ابي و نظرت اليه و هو يمسح على رأسي و رأس أخي و عيناه تهرقان الدموع حتى تقطر على لحيته،ثم قال اللهم ان جعفر قد قدم الى احسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت احدا من عبادك في ذريته،ثم قال يا اسما الا أبشرك قالت بلى بأبي و امي،فقال انّ اللّه عز و جل جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة.

و عن ابي عبد اللّه عليه السّلام عن ابيه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا جائته وفات جعفر بن ابي طالب و زيد بن حارثة كان اذا دخل بيته بكى عليهما جدا و قال كان يحدثاني و يؤنساني فجاء الموت فذهب بهما،و عن خالد بن سلمة قال لمّا جاء نعي زيد بن حارثة أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزل زيد فخرجت اليه بنية زيد،فلمّا رأت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمشت في وجهه،فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال هاه هاه،فقيل يا رسول اللّه ما هذا؟فقال شوق الحبيب الى حبيبه.

و لما انصرف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أحد راجعا الى المدينة لقيته حمنة بنت حجش،فنعى لها الناس اخاها فاسترجعت و استغفرت له،ثم نعى لها خالها حمزة فاسترجعت و استغفرت له،ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت و ولولت،فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم ان زوج المرأة منها لبمكان لما رأى صبرها على(عن)اخيها و خالها و صياحها

ص:161


1- (1) دس الشيء و فيه ادخله فيه و اخفاه.

على زوجها ثم مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على دور من دور الأنصار من بني عبد الأشهل فسمع البكاء و النوائح على قتلاهم فذرفت عيناه و بكى،ثم قال لكن حمزة لا بواكي له، فلمّا رجع سعد بن معاذ و اسيد بن خضير الى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم ان يذهبن فيبكين على عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكاءهن على حمزة خرج اليهن و هنّ على باب مسجده يبكين،فقال لهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ارجعن يرحمكن اللّه فقد آسيتن بأنفسكن.

و روى الشيخ باسناده الى الصادق عليه السّلام انّ ابراهيم خليل الرحمن سأل ربه ان يرزقه اللّه ابنة تبكيه بعد موته،و عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس منا من صرب الخدود و شق الجيوب،و عن ابي امامة انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعن الخامشة وجهها و الشّاقة جيبها و الدّاعية بالويل و الثّبور،و عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده قال كبر مقتا عند اللّه الأكل من غير جوع،و النوم من غير سهر،و الضحك من غير عجب،و الرّنة عند المصيبة،و المزمار عند النغمة،و عن الباقر عليه السّلام أشدّ الجزع الصّراخ بالويل و العويل و لطم الوجه و الصدرور و جز الشعر،و من اقام النوائح فقد ترك الصبر و من صبر و استرجع و حمد اللّه جل ذكره فقد رضي بما صنع اللّه تعالى و وقع أجره على اللّه عز و جل و من لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء و هو ذميم و احبط اللّه عزّ و جلّ اجره.

و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اربع من كن فيه كان في نور اللّه الأعظم:من كان عصمة أمره شهادة ان لا اله الا اللّه و انّي رسول اللّه،و من اذا اصابته مصيبة قال انا للّه و انا اليه راجعون،و من اذا اصاب خيرا قال الحمد للّه،و من اذا اصاب خطيئة قال استغفر اللّه و اتوب اليه.

و قال الباقر عليه السّلام ما من مؤمن يصاب بمصيبة في الدنيا فيسترجع عند المصيبة و يصبر حين تفجأه المصيبة الا غفر اللّه له ما مضى من ذنوبه الا الكبائر التي اوجب اللّه تعالى عليها النار، و كلما ذكر مصيبة فيما يستقبل من عمره فاسترجع عندها و حمد اللّه عز و جل الا غفر اللّه له كل ذنب اكتسبه فيما فيما بين الأسترجاعين الا الكبائر من الذنوب رواهما الصدوق،و اسند الكليني الثاني الى معروف بن خرّبوذ عن الصادق عليه السّلام و لم يستثن من الكبائر.

و روى الترمذي باسناده الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال اذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى لملائكته أ قبضتم ولد عبدي؟فيقولون نعم،فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟فيقولون نعم فيقول ما ذا قال عبدي؟فيقولون حمدك و استرجع،فيقول اللّه تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سمّوه بيت الحمد و نحوه رواه الكليني عن الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ص:162

و يجوز النوح بالكلام الحسن و تعداد الفضائل مع اعتماد الصدق،لأنّ فاطمة عليهما السّلام فعلته في قولها يا أبتاه من ربّه ما أدناه،يا أبتاه الى جبرئيل انعاه،يا ابتاه أجاب ربه لما دعاه.

و روي انها قبضت قبضة من تراب قبره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوضعتها على عينيها و أنشدت:

ما ذا علي من شم تربة احمد الاّ يشم مدى الزمان غواليا

صبّت علي مصائب لو انها صبّت على الأيام صرن لياليا

و روى ابن بابويه انّ الباقر عليه السّلام أوصى ان يندب في المواسم عشر سنين،و روى يونس بن يعقوب عن الصادق عليه السّلام قال قال لي ابي يا جعفر فرق من مالي كذا و كذا على نوادب يندبني عشر سنين بمنى ايّام مني،قال الأصحاب و المراد بذلك تنبيه الناس على فضائله و اظهارها ليقتدى بها و تعلم ما كان عليه اهل هذا البيت عليهم السّلام لتبقى آثارهم لزوال التقية بعد الموت،و عن ابي سعيد الخدري قال لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النائحة و المستمعة.

الأمر السابع في التعزية و ما شابهها:روي ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال من عزّى مصابا فله مثل اجره من غير ان ينقص من اجره شيئا،و من كفّن مسلما كساه اللّه من سندس و استبرق و حرير،و من حفر قبرا لمسلم بنى اللّه عز و جل له بيتا في الجنة و من أنظر معسرا أظله اللّه في ظله يوم لا ظل الا ظله،و سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن التّصافح في التعزية،فقال هو سكن للمؤمن و من عزّى مصابا فله مثل اجره،و عن ابي برزة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة.

و روي ان داود عليه السّلام قال الهي ما جزاء من يعزي الحزين و المصاب ابتغاء مرضاتك؟قال جزاؤه ان اكسوه رداء من ارديه الأيمان أستره به من النار و أدخله به الجنة،قال يا الهي فما جزاء من شيّع الجنائو ابتغاء مرضاتك؟قال جزاؤه ان يشيّعه الملائكة يوم يموت الى قبره،و ان أصلّي على روحه في الأرواح،و قال موسى عليه السّلام الهي ما لمعزّي الثكلى من الأجر قال اظلّه تحت ظلي يوم لا ظل الا ظلي.

و اما كيفيتها فقد تقدم خبر المصافحة فيها،و اما ما يقال فيها فما يتفق من بعض الكلمات، و يروى من الأخبار المؤدية الى السلوة،و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا عزّى قال آجركم و رحمكم،و اذا هنّا قال بارك اللّه لكم و بارك عليكم،و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال في مرض موته ايها الناس ايما عبد من امتي اصيب بمصيبة من بعدي فليتعزّ بمصيبة بي عن

ص:163

المصيبة التي تصيبه بغيري،فانّ احدا من امتي لن يصاب بمصيبة بعدي اشدّ عليه من مصيبتي، و روى انّه كان في بني اسرائيل رجل فقيه عالم مجتهد و كانت له امرأة و كان بها معجبا،فماتت فوجد عليها وجدا شديدا حتى خلى في بيت و أغلق على نفسه و احتجب عن الناس،فلم يكن يدخل عليه احد،ثمّ انّ امرأة من بني اسرائيل سمعت به فجائته،فقالت لي اليه حاجة استفتيه فيها ليس يجزيني الاّ ان أشافهه بها،فذهب الناس و لزمت الباب فأخبر،فاذن لها فقالت استفتيك في أمر فيه أ فأردّه اليهم؟قال نعم و اللّه قالت انه قد مكث عندي زمانا طويلا قال ذلك احق لردك اياه،قالت رحمك اللّه أ فتأسف على ما أعارك اللّه عز و جل ثم أخذه منك و هو احق به منك فأبصر ما كان فيه و نفعه اللّه بقولها.

و عن ابي الدرداء قال كان لسليمان بن داود عليه السّلام ابن يحبه حبا شديدا،فمات فحزن عليه حزنا شديدا،فبعث اللّه اليه ملكين في هيئة البشر،فقال ما انتما قالا خصمان،قال اجلسا بمنزلة الخصوم فقال احدهما اني زرعت زرعا فأتى هذا فأفسده فقال سليمان ما تقول يا هذا؟قال اصلحك اللّه انه زرع في الطريق و اني مررت به فنظرت يمينا و شمالا فاذا الزرع، فركبت قارعة الطريق فكان في ذلك فساد زرعه،فقال سليمان عليه السّلام ما حملك على ان تزرع في الطريق اما علمت ان الطريق سبيل الناس؟و لا بد للناس ان يسلكوا سبيلهم،فقال له احد الملكين او ما علمت يا سليمان ان الموت سبيل الناس و لا بد للناس ان يسلكوا سبيلهم،قال فكأنما كشف عن سليمان عليه السّلام الغطاء و لم يجزع على ولد بعد ذلك،و رواه ابن ابي الدنيا.

و روى ايضا ان قاضيا كان في بني اسرائيل مات له ابن فجزع عليه و صاح،فلقيه رجلان، فقالا له اقض بيننا،فقال من هذا فررت،فقال احدهما ان هذا مر بغنمه على زرعي فأفسده فقال الآخر ان هذا زرع بين الجبل و النهر و لم يكن لي طريق غيره فقال له القاضي انت حين زرعت بين الجبل و النهر أ لم تعلم أنه طريق الناس؟فقال له الرجل فانت حين ولد لك أ لم تعلم انه يموت فارجع الى قضائك؟ثم عرجا و كانا ملكين.

و روي انه كان بمكة مقعدان لهما ابن شاب فكان اذا نفلهما فاتى بهما المسجد فكان يكتسب عليهما يوما،فاذا كان المساء احتملهما فأقبل بهما،فأفتقدهما النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فسأل عنهما،فقيل مات ابنهما،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو ترك احد ترك ابن المقعدين رواه الطبراني،و روي عن بعض العابدات انها قالت ما اصابني من مصيبة فاذكر معها النار الا صارت في عيني اصغر من التراب.

و روى عبد الرحمن بن الحجاج قال ذكر عند ابي عبد اللّه عليه السّلام البلاء و ما يختص اللّه عز و جل به المؤمن،فقال سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اشد الناس بلاء في

ص:164

الدنيا؟فقال النبيون،ثم الأمثل فالأمثل و يبتلى المؤمن بعد على قدر ايمانه و حسن اعماله فمن صحّ ايمانه و حسن عمله اشتدّ بلاؤه،و من سخف ايمانه و ضعف عمله قل بلاؤه،و عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال ان للّه عز و جل عبادا في الأرض من خالص عباده ما ينزل من السماء تحف الى الأرض الا صرفها عنهم الى غيرهم،و لا بلية الا صرفها اليهم و عن ابي جعفر الباقر عليه السّلام قال ان اللّه تبارك و تعالى اذا احب عبدا غته بالبلاء غتا و ثجه(بجه)بالبلاء ثجا(بجا)فاذا دعاه قال لبيك عبدي لئن عجلت لك ما سألت اني على ذلك لقادر و لكن ادخرت لك فما ادخرت لك خير لك.

و عن حمران عن ابي جعفر عليه السّلام قال ان اللّه عز و جل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل اهله بالهدية من الغيبة،و يحميه من الدنيا كما يحمي الطبيب المريض،و عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال دعي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الى طعام فلما دخل منزل الرجل نظر الى دجاجة فوق حائط قد باضت فوقعت البيضة على وتد في الحائط فثبتت عليه و لم تسقط و لم تنكسر فتعجب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منها فقال له الرجل اعجبت من هذه البيضة فو الذي بعثك بالحق ما رزيت قط،فنهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم يأكل من طعامه شيئا،و قال من لم يرز فما للّه فيه من حاجة.

و روينا بالأسناد الى اسحاق بن عمار قال ان ابا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام كتب الى عبد اللّه بن الحسن (1)حين حمل هو و اهل بيته يعزيه على ما صار بسم اللّه الرحمن الرحيم الى الخلف الصالح و الذرية الطيبة من ولد اخيه و ابن عمه،اما بعد فلأن كنت قد تفرت انت و اهل بيتك ممن حمل معك بما اصابكم ما انفردت بالحزن و الغيظ و الكآبة و اليم وجع القلب دوني،و قد نالني من ذلك من الجزع و القلق و من المصيبة مثل ما نالك،و لأن رجعت الى اللّه عز و جل به للمتقين من الصبر و حسن العزاء حين يقول لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فانك باعيننا و حين يقول فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاٰ تَكُنْ كَصٰاحِبِ الْحُوتِ و حين يقول لنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين مثل بحمزة وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّٰابِرِينَ فصبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،و لم يعاقب و حين يقول وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْهٰا لاٰ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعٰاقِبَةُ لِلتَّقْوىٰ ،و حين يقول اَلَّذِينَ إِذٰا

ص:165


1- (1) هو عبد اللّه الملقب بالمض ابن الحسن المثنى بن الأمام الحسن المجتبى(ع)و انما سمي المحض لأن اباه الحسن بن الأمام الحسن(ع)و امه فاطمة بنت الحسين و كان شيخ بني هاشم في زمانه ذكره الشيخ(ره)في رجاله من اصحاب الصادق(ع)و قال هاشمي مدني تابعي(1 ه)قتل رضوان اللّه عليه في مجلس المنصور الدوانيقي بالهاشمية سنة(145)ه و هو ابن(75)انظر مقاتل الطالبيين لأبي الفرج ص 184 ط مصر.

أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ و حين يقول إِنَّمٰا يُوَفَّى الصّٰابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ و حين يقول لقمان لأبنه وَ اصْبِرْ عَلىٰ مٰا أَصٰابَكَ إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ و حين يقول عن موسى قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّٰهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ و حين يقول اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ و حين يقول وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوٰالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَرٰاتِ وَ بَشِّرِ الصّٰابِرِينَ و حين يقول وَ الصّٰابِرِينَ وَ الصّٰابِرٰاتِ و حين يقول وَ اصْبِرْ حَتّٰى يَحْكُمَ اللّٰهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحٰاكِمِينَ و أمثال ذلك من القرآن كثير.

و اعلم أي عم ان اللّه جل و عز لم يبال بضر الدنيا لوليه ساعة قط و لا شيء أحب اليه من الضرر و الجهد و اللأواء (1)مع الصبر و انه تبارك و تعالى لم يبال بنعيم الدنيا لعدوّه ساعة قط،و لو لا ذلك ما كان اعداؤه يقتلون اولياء اللّه و يحيفونهم(يخيفوخ)و يمنعونهم و اعدؤه آمنون مطمئنون عالون ظاهرون و لو لا ذلك ما قتل زكريا و يحيى بن زكريا ظلما و عدوانا في بغي من البغايا،و لو لا ذلك ما قتل جدك علي بن ابي طالب عليه السّلام لما قام بأمر اللّه جل و عز ظلما و عمك الحسين بن فاطمة صلّى اللّه عليهما ظلما و اضطهادا و عدوانا،و لو لا ذلك ما قال اللّه عز و جل في كتابه وَ لَوْ لاٰ أَنْ يَكُونَ النّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً لَجَعَلْنٰا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعٰارِجَ عَلَيْهٰا يَظْهَرُونَ و لو لا ذلك لما قال في كتابه أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرٰاتِ بَلْ لاٰ يَشْعُرُونَ

و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:لو لا ان يحزن المؤمن لجعلت للكافر عصابة من حديد فلا يصدع رأسه ابدا و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:ان الدنيا لا تساوي عند اللّه عز و جل جناح بعوضة و لو لا ذلك ما سقي كافر منها شربة ماء و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:لو ان مؤمنا على قلة جبل لبعث اللّه له كافرا او منافقا يؤذيه و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:انه اذا احب اللّه قوما او احب عبدا صب عليه البلاء صبا فلا يخرج من غم الا وقع في غم و لو لا ذلك لما جاء في الحديث:ما من جرعتين احب الى اللّه عز و جل ان يجرعها عبده المؤمن في الدنيا من جرعة غيظ كظم عليها و جرعة حزن عند مصيبة صبر عليها بحسن عزاء و احتساب،و لو لا ذلك لما كان اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدعون على من ظلمهم بطول العمر و صحة البدن و كثرة المال و الولد،و لو لا ذلك ما بلغنا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا خص رجلا بالترحم

ص:166


1- (1) للأواء الشدة و المحنة.

و الأستغفار استشهد فعليكم يا عم و ابن عم و بني عمومتي و اخوتي بالصبر و الرضا و التسليم و التفويض الى اللّه عز و جل و الرضا و الصبر على قضائه،و التمسك بطاعته و النزول عند امره افرغ اللّه علينا و عليكم الصبر و ختم لنا و لكم بالسعادة و ابعدكم و ايانا من كل هلكة بحوله و قوته انه سميع قريب و صلّى اللّه على صفوته من خلقه محمد النبي و اهل بيته،هذا آخر التعزية بلفظها كما في كتاب التتمات و المهمات،و حيث انتهى بنا الحال الى هنا فلا بأس بالإشارة الى الداهية العظمى و المصيبة الكبرى و هي واقعة الطفوف فان المصائب و ان جلّت فهي بالنسبة اليها حقيرة.

نور في بعض احوال واقعة الطفوف و شهادة مولانا ابي عبد اللّه الحسين(علیه السلام)

اعلم ايدك اللّه ان البلاء انما كتب على المؤمن و ان الدنيا ليست بدار ثواب و لا بدار عقاب لم يرض سبحانه بأن يجعل ثواب المؤمن فيها و لا عقاب الكافر فيها و ذلك لقلة ايامها و نقصان الأعمار فيها و من ثم بعث الدواهي و المصائب فيها الى احبابه و اقاربه و لا مصيبة مثل مصيبة مولانا الحسين عليه السّلام فانها هدت اركان الدين و صدعت قواعد الشرع المبين و ابكت الأجفان و اقرحت القلوب و لعمري انها المصيبة التي يتسلّى بها المؤمن عن كل مصاب و الداهية المنسية له مفارقة الخلان و الأحباب،و اعلم اولا ان جماعة من مخالفينا(اورد واهنا شبهه ظ)بل و ربما قاله بعض الجهّال منا و هو ان الحسين عليه السّلام كان عالما بأن يجري عليه ما جرى قبل مسيره الى العراق فلم سار اليها حتى صار كالمعين على نفسه؟و هذه شبهة ركيكة و الجواب عنها من وجوه:

الأول ان الأمام اذا وجد الأعوان وجب عليه القيام بأمر الجهاد و لا يجوز له التقاعد عنه لظنه بهم الخذلان له كما لم يجز للأنبياء عليهم السّلام ترك الجهاد لهذه المظنة بل قاموا بالدعوة حتى اصيبوا من الأمة بالمصائب العظام،كما وقع لأولي العزم و غيرهم استتماما لحجة اللّه تعالى على الخلائق،و من ثم اسدى اليهم مولانا الحسين عليه السّلام كمال الحجة في اثناء المحاربة و العلم الواقعي الذي ظهر لهم و خفي على غيرهم مما لا يجوز العمل عليه في الأحكام الظاهرة،و لهذا كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحكم بين المتداعين بظاهر الشريعة و يجعل الحق لمن توجه له الحكم في الظاهر و ان كان يعلم ان الحق للخصم الآخر في الواقع و نفس الأمر،و كان يقول انكم تأتوني و أحدكم يعرب حجته و يفصح عنها فأخذ له الحق نظرا الى ظاهر الشريعة و لكنّي انما اقطع له جذوة من نار جهنم.

الوجه الثاني انه عليه السّلام لو لم يسر الى العراق لما تركوه و لو ذهب الى المكان البعيد، كما روي ان اخاه محمد بن الحنفية لجقه الى عرفات و اشار عليه بان يلحق الرمال من اليمين حتى ينظر بواطن اهل العراق،فقال له يا أخي نعم ما رأيت من الصلاح و لكن هؤلاء القوم ما يسكتون

ص:167

عن طلبي اينما ذهبت حتى يسفكوا دمي،فعند ذلك يلبسهم اللّه ذل الدنيا و الآخرة و ما خرج من مكة الا خائفا من القتل (1).

الثالث ان الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام قد خصهم اللّه تعالى بانواع من التكاليف فلعل هذا و هو الا لقاء الى التهلكة منها نظرا الى الحكم المصالح الألهية،و من ثم روي انه لو لم يقم عليه السّلام بالجهاد الذي قام به لما استتم حجة الشيعة و ذلك ان المخالفين لنا يقولون ان سكون علي عليه السّلام عن المتخلفين دليل على رضاه عنهم و الا فما يمنعه عن الجهاد و هو اشجع الشجعان؟فنقول لهم ان الذي منعه هو الخوف على نفسه الا تروا الى مولانا الحسين عليه السّلام لما قام يطلب حقه كيف جرى عليه من المصائب و البلوى فان قلت كيف لم يبايع عليه السّلام ليزيد حتى لا يصل اليه ذلك الضرر،قلت هذا مجرد كلام و المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين و ذلك انه عليه السّلام رأى اخاه الحسن عليه السّلام لما سالم معاوية كيف فعل به اولا و كيف غدر به آخرا حتى قتله مسموما فما كان يصنع ابنه يزيد مع الحسين عليه السّلام الا اسوأ من هذا،لأن معاوية كان فيه الدهاء و ما كان يتجرأ على قتل الحسين عليه السّلام ظاهرا و لهذا اوصى عند موته ليزيد انك تظفر بالحسين فلا تقتله و اذكر فيه القرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اما السير و التواريخ الواردة بكيفية شهادته عليه السّلام فهي على تكثرها لم تستوف المصائب التي جرت عليه و على اهل بيته من بعده و اصحابه الذين قتلوا معه و لنشر الى طرف منها فانا قد استوفيناها في المجلد الثاني من كتابنا الموسوم بنوادر الأخبار روى الصدوق طاب ثراه مسندا الى الرضا عليه السّلام قال كان ابي صلوات اللّه عليه و آله اذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا و كانت الكآبة تغلبه حتى تمضي منه عشرة ايام فاذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته و حزنه و بكائه، و كان يقول هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين عليه السّلام.

اقول يظهر من هذا الخبر و مما روي بمعناه ان ما يفعله عوامنا في عشرة ايام المحرم من اجتناب اكثر الملاذ و التشبّه بأهل المصيبة في المأكل و الملبس و دخول الحمام و ترك حلق الرأس و غير ذلك ليس هو بدعة بل هو ثواب جزيل و اشتراك لأهل البيت عليهم السّلام في مصابهم و روينا بالأسناد الى ابن محمود قال الرضا عليه السّلام ان المحرم شهر كان اهل الجاهلية يحرمون فيه القتال

ص:168


1- (1) و قد امر يزيد لعنه اللّه بقبضه(ع)او قتله فانه انفذ عمر بن سعيد بن العاص من المدينة الى مكة في عسكر عظيم و ولاة امر الموسم و امره على الحاج كلهم فحج بالناس و اوصاه بقبض الحسين(ع)سرا و ان لم يتمكن منه يقتله و امره ان يناجز الحسين(ع)القتال ان هو ناجزه فلما كان يوم التروية قدم عمر بن سعيد الى مكة في جند كثيف ثم ان يزيد دس مع الحاج في تلك السنة ثلاثين رجلا من شياطين بني امية و امرهم بقبض الحسين(ع)على أي حال اتفق فلما علم الحسين(ع)عزم على التوجه الى العراق.

فاستحلت فيه دماؤنا و هتكت فيه حرمتنا و سبي فيه ذرارينا و نساؤنا و اضرمت النيران في مضاربنا و انتهب ما فيه من ثقلنا و لم يرعوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرمة في امرنا ان امر الحسين عليه السّلام اسهر جفوننا و اسبل دموعنا و اذل عزيزنا يا أرض كرب و بلاء اورثتنا الكرب و البلاء الى يوم الأنقضاء فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فان البكاء عليه يحط الذنوب العظام و روينا ان الريان بن شبيب قال دخلت على الرضا عليه السّلام في اول يوم من المحرم فقال لي يا ابن شبيب أصائم انت فقلت لا فقال هذا هو اليوم الذي دعا فيه زكريا عليه السّلام ربه عز و جل فقال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة انك سميع الدعاء،فاستجاب اللّه له و امر الملائكة فنادت زكريا و هو قائم يصلي في المحراب ان اللّه يبشرك بيحيى فمن صام هذا اليوم ثم دعى اللّه عز و جل استجاب له كما استجاب لزكريا عليه السّلام ثم قال يا ابن شبيب ان المحرم هو الشهر الذي كان اهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم و القتال لحرمته فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها و لا حرمة نبيها لقد قتلوا في هذا الشهر ذريّته و سبوا نساءه و انتهبوا ثقله فلا غفر اللّه ذلك لهم ابدا يا ابن شبيب ان كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن علي بن ابي طالب عليه السّلام فانه ذبح كما يذبح الكبش و قتل معه من اهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض شبيه و لقد بكت الماوات السبع و الأرضون لقتله لقد نزل الى الأرض من الملائكة اربع الآف لنصره فوجدوه قد قتل فهم عند قبره شعث غبر الى ان يقوم القائم فيكونون(فهم يكونون خ)من انصاره و شيعته و شعارهم يا لثارات الحسين عليه السّلام.

يا ابن شبيب لقد حدثني ابي عن ابيه عن جده انه لما قتل جدي الحسين عليه السّلام امطرت السماوات دما و ترابا احمر يا ابن شبيب ان بكيت على الحسين حتى تصير دموعك على خديك غفر اللّه لك كل ذنب اذنبته صغيرا كان او كبيرا قليلا كان او كثيرا يا ابن شبيب ان سرك ان تلقى اللّه عز و جل و لا ذنب عليك فزر الحسين عليه السّلام،يا ابن شبيب ان سرك ان يكون لك من الثواب ما لمن استشهد مع الحسين عليه السّلام فقل متى ذكرته يا ليتني كنت معهم فافوز فوزا عظيما يا ابن شبيب ان سرك ان تكون معنا في الدرجات العلى في الجنات فاحزن لحزننا و افرح لفرحنا و عليك بولايتنا فلو ان رجلا تولى حجرا لحشره اللّه يوم القيامة معه و روينا مسندا عن اشياخ لبني سليم قالوا غزونا بلاد الروم فدخلنا كنيسة من كنائسهم فوجدنا فيها مكتوبا:

أ يرجوا معشرا قتلوا حسينا شفاعة جده يوم الحساب

فقال فسألنا كم هذا في كنيستكم؟فقالوا قيل ان يبعث نبيكم بثلاثمائة عام و روينا مسندا الى هرثمة بن ابي مسلم قال غزونا مع علي بن ابي طالب عليه السّلام صفين فلما انصرفنا نزل بكربلاء فصلى بها الغداة ثم رفع اليه من تربتها فشمها ثم قال واها لك ايتها التربة ليحشرن منك

ص:169

قوم يدخلون الجنة بغير حساب فرجع هرثمة الى زوجته و كانت شيعية لعلي عليه السّلام فقال الا احدثك عن وليك ابا الحسن نزل بكربلاء فصلى ثم رفع اليه من تربتها فشمها،ثم قال واها لك ايتها التربة ليحشرن منك اقوام يدخلون الجنة بغير حساب،قالت المرأة ايّها الرجل فان امير المؤمنين عليه السّلام لم يقل الا حقا،فلما قدم الحسين عليه السّلام قال هرثمة كنت في البعث الذي بعثهم عبيد اللّه بن زياد،فلما رأيت المنزل و الشجر ذكرت الحديث فجلست على بعيري ثم صرت الى الحسين عليه السّلام فسلمت عليه فأخبرته بما سمعت من ابيه في ذلك المنزل الذي نزل به الحسين عليه السّلام،فقال امعنا انت ام علينا؟فقلت لا معك و لا عليك خلّفت صبية اخاف عليهم من عبيد اللّه بن زياد،قال فامض حيث لا ترى لنا مقتلا و لا تسمع لنا صوتا فو الذي نفس الحسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا احد فلا يعيننا الا اكبه اللّه على وجهه في جهنم،و قال عليه السّلام انا قتيل العبرة و لا يذكرني مؤمن الا استعبر.

و روينا مسندا الى مولانا الصادق عليه السّلام قال انّ ام سلمة أصبحت يوما تبكي،فقيل لها مالك؟فقالت لقد قتلت ابني الحسين و ما رأيت رسول اللّه عليه السّلام منذ مات الا الليلة، و لا اراني الا و قد اصبت بابني،قال و جاءت الجنيّة منهم تقول:

الا يا عين فانهملي بجهد فمن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا الى متحيّر في ملك عبدي

و روينا مسندا الى مولانا الباقر عليه السّلام قال كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في بيت ام سلمة رضي اللّه عنها فقال لها لا يدخل على احد،فجاء الحسين عليه السّلام و هو طفل فما ملكت معه شيئا حتى دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فدخلت ام سلمة على اثره، فاذا الحسين على صدره و اذا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تبكي،و اذا في يده شيء يقلبه فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا ام سلمة ان هذا جبرئيل يخبرني ان هذا مقتول و هذه التربة التي يقتل عليها فضعيه عندك فاذا صارت دما فقد قتل حبيبي،فقالت ام سلمة يا رسول اللّه سل اللّه ان يدفع ذلك عنه،قال قد فعلت فأوحى اللّه عز و جل اليّ ان له درجة لا ينالها احد من المخلوقين و ان له شيعة يشفعون فيشفعون و ان المهدي من ولده،فطوبى لمن كان من اولياء الحسين عليه السّلام و شيعتهم و اللّه فائزون.

و عن كعب الأحبار قال ان في كتابنا ان رجلا من ولد محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقتل و لا يجف عرق دواب اصحابه حتى يدخلوا الجنة فيعانقوا الحور العين فمر بنا الحسن عليه السّلام فقلنا هو هذا قال لا فمر بنا الحسين عليه السّلام فقلنا هو هذا قال نعم.

ص:170

و روينا مسندا الى الصادق عليه السّلام قال البكاؤن خمسة:آدم و يعقوب و يوسف و فاطمة بنت محمد و علي بن الحسين فاما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية و اما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره و اما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به اهل السجن فقالوا اما تبكي بالنهار و تسكت بالليل و اما تبكي بالليل و تسكت بالنهار فصالحهم على واحد منها و اما فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليها السّلام فبكت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى تأذى بها اهل المدينة و قالوا لها قد آذيتينا بكثرة بكاك فكانت تخرج الى مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف و اما علي بن الحسين عليه السّلام فبكى على مصائب ابيه الحسين عليه السّلام عشرين سنة او اربعين سنة و ما وضع بين يديه طعام الا بكى حتى قال له مولى له جعلت فداك يا ابن رسول اللّه اني اخاف عليك ان تكون من الهالكين،قال انما اشكوا بثي و حزني الى اللّه و اعلم من اللّه ما لا تعلمون اني لم اذكر مصرع بني فاطمة الا خنقتني لذلك العبرة.

و روينا مسندا الى ابي عمار المنشد عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال قال لي يا ابا عمار انشدني في الحسين بن علي عليه السّلام قال فانشدته فبكى ثم انشدته فبكى قال فما زلت انشده و هو يبكي حتى سمعت البكاء من الدار،قال فقال لي يا ابا عمار من انشد في الحسين بن علي شعرا فابكى خمسين فله الجنة،و من انشد في الحسين شعرا فأبكى ثلاثين فله الجنة و من انشد في الحسين فابكى عشرين فله الجنة و من انشد في الحسين فابكى عشرة فله الجنة و من انشد في الحسين فابكى واحدا فله الجنة و من انشد في الحسين فتباكى فله الجنة.

و روينا مسندا الى داود الرقي قال كنت عند ابا عبد اللّه عليه السّلام اذا استسقى الماء فلما شربه رأيته قد استعبر و اغرورقت عيناه بدموعه،ثم قال يا داود لعن اللّه قاتل الحسين فما انقص ذكر الحسين للعيش،اني ما شربت ماء باردا الا و ذكرت الحسين و ما من احد شرب الماء فذكر الحسين عليه السّلام و لعن قاتله الا كتب اللّه له مائة ألف حسنة و محى عنه مائة ألف سيئة و رفع له مائة ألف درجة،و كأنما اعتق ألف نسمة و حشره اللّه تعالى يوم القيامة بلج الوجه.

و روينا مسندا الى ابن ابي نعيم قال شهدت ابن عمر فأتاه رجلا فسأله عن دم البعوضة قال من انت؟قال من اهل العراق،قال فانظر الى هذا يسألني عن دم البعوضة و قد قتلوا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول للحسن و الحسين انتما ريحانتاي من الدنيا.

و روينا مسندا الى الصادق عليه السّلام في حديث طويل وصف فيه مقتل الحسين عليه السّلام قال ثم وثب الحسين عليه السّلام بعد مقتل اكثر اصحابه متوكيا على سيفه فنادى بأعلى

ص:171

صوته قال انشدكم اللّه هل تعرفوني قالوا نعم انت ابن رسول اللّه و سبطه قال انشدكم اللّه هل تعرفون(تعلمون خ)ان علي بن ابي طالب ابي؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم اللّه هل تعلمون ان فاطمة امي بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم هل تعلمون ان جدتي خديجة بنت خويلد اول نساء هذه الأمة اسلاما؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم ان سيد الشهداء حمزة عمي و عم ابي؟قالوا نعم اللهم قال انشدكم اللّه هل تعلمون ان الطيار في الجنة عمي؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم اللّه ان هذا سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انا متقلده؟قالوا اللهم نعم قال انشدكم اللّه هل تعلمون ان هذه عمامة رسول اللّه و انا متعمم بها؟ قالوا اللهم نعم قال انشدكم اللّه تعلمون ان عليا كان اولهم اسلاما و اعلمهم علما و اعظمهم حلما و انه و لي كل مؤمن و مؤمنة؟قالوا اللهم نعم قال فبم تستحلون دمي و ابى الذائد عن الحوض غدا يذود عنه كما يذاد البعير الصار على الماء،و لواء الحمد في يد جدي يوم القيامة قالوا لقد علمنا ذلك كله و نحن غير تاركين حتى تذوق الموت عطشا فأخذ الحسين عليه السّلام بطرف لحيته و هو يومئذ ابن سبعة و خمسين سنة ثم قال اشتد غضب اللّه على المجوس حين عبدوا النار دون اللّه، و اشتد غضب اللّه على اليهود حين قالوا عزير ابن اللّه و اشتد غضب اللّه على النصارى حين قالوا المسيح ابن اللّه و اشتد غضب اللّه على قوم قتلوا نبيهم و اشتد غضب اللّه على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيهم.

ثم قال و نظر الحسين عليه السّلام يمينا و شمالا فلم ير احدا،فرفع رأسه الى السماء فقال اللهم انك ترى ما صنع بولد نبيك،و حال بنو كلاب بينه و بين الماء و رمى بسهم فوقع في نحره و خرّ على فرسه،فأخذ السهم و رمى به،و جعل يتلقى الدم بكفه فلمّا امتلأت لطخ بها رأسه و لحيته و هو يقول ألقى اللّه عز و جل و أنا مظلوم متلطخ بدمي ثم خر على خدّه الأيسر صريعا فأقبل عدو اللّه سنان بن انس و شمر بن ذي الجوشن العامري في رجال من اهل الشام حتى وقفوا على رأس الحسين عليه السّلام،فقال بعضهم لبعض اريحوا الرجل فنزل سنان بن انس لعنه اللّه و أخذ بلحية الحسين عليه السّلام و جعل يضرب السيف في حلقه و هو يقول انّي لأجتزّ رأسك و انا اعلم انّك ابن رسول اللّه خير الناس اما و ابا.

و اقبل فرس الحسين عليه السّلام حتى لطخ عرفه(غرّته خ)و ناصيته بدم الحسين عليه السّلام و جعل يركض و يصهل،فسمع بنات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صهيله،فخرجن فاذا الفرس بلا راكب فعرفن انّ حسينا قد قتل،و خرجت امّ كلثوم بنت الحسين عليه السّلام واضعة يدها على رأسها تندب و تقول:وا محمداه هذا الحسين بالعراء قد سلب العمامة و الرداء،و أقبل ابن

ص:172

سنان لعنه اللّه حتى ادخل رأس الحسين عليه السّلام على عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه،و هو يترنّم و يقول:

املأ ركابي فضة و ذهبا اني قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس امّا و ابا و خيرهم اذ ينسبون نسبا

فقال له عبيد اللّه بن زياد ويحك فاذا علمت انّه خير الناس اما و ابا لم قتلته اذا فأمر به فضرب عنقه و عجّل اللّه بروحه الى النار،و ارسل ابن زياد لعنه اللّه الى ام كلثوم بنت الحسين عليه السّلام فقال الحمد للّه الذي قتل رجالكم فكيف ترون ما يفعل بكم؟فقالت يا ابن زياد لئن قرت عينك بقتل الحسين عليه السّلام فطال ما قرّت عين جده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به و كان يقبله و يلثم شفتيه و يضعه على عاتقه،يا ابن زياد أعدّ لجده جوابا فانّه خصمك.

و روينا مسندا الى الباقر عليه السّلام أصيب الحسين بن علي عليهما السّلام و وجد فيه ثلاثمائة و بضع و عشرون طعنة:برمح او ضربة بسيف او رمية بسهم،و روي انها كانت في مقدمه لأنه عليه السّلام لا يولي.

و روينا عن فاطمة بنت الحسين عليه السّلام قالت دخلت الغارة علينا الفسطاط و انا جارية صغيرة و في رجلي خلخالان من ذهب،فجعل رجل يفض الخلخالين من رجلي و هو يبكي،فقلنا ما يبكيك يا عدو اللّه؟فقال كيف لا ابكي و انا اسلب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فقلت لا تسلبني،قال اخاف ان يجيء غيري فيأخذه،قالت هي و انتبهوا ما في الأفنية حتى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا،و عن فاطمة بنت علي عليها السّلام ان يزيد لعنه اللّه امر بنساء الحسين عليه السّلام فحبس مع علي بن الحسين عليهما السّلام في محبس لا يكنهم من حرّ و لا برد حتى تقشرت وجوههم،و لم يرفع في بيت المقدس حجر على وجه الأرض الا و قد وجد في تحته دم عبيط،و نظر الناس الى الشمس على الحيطان حمراء كانّها الملاحف المصفرة الى ان (1)خرج علي بن الحسين عليه السّلام بالنسوة و ردّ رأس الحسين عليه السّلام الى كربلا و روينا مسندا الى الصادق عليه السّلام قال لمّا ضرب الحسين عليه السّلام بالسيف ثم ابتدر ليقطع رأسه نادى مناد من قبل رب العزة تبارك و تعالى من بطنان العرش،فقال ايتها الأمة المتحيرة الظالمة بعد نبيها لا وفقكم اللّه لا ضحى و لا فطر،ثم قال ابو عبد اللّه عليه السّلام لا جرم و اللّه ما وفقوا و لا يوفقون ابدا حتى يقوم ثائر الحسين عليه السّلام،أقول لعل المراد انهم لا يوفقون

ص:173


1- (1) ان كان لفظ:(رد)بصيغة الماضي كما هو الظاهر يدل الخبر على مجيء اهل البيت(ع)الى كربلاء.

لمثوبات هذين اليومين و ما أعد اللّه فيها من الووبة للعاصين و التجاوز عن جرم المجرمين و ان حملته على اشتباه الأهلة في زمن دولة بني امية فلا بعد فيه.

و روينا مسندا الى الرضا عليه السّلام قال قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة و معها ثياب مصبوغة بالدماء،تتعلق بقائمة من قوائم العرش تقول يا أحكم الحاكمين احكم بيني و بين قاتل ولدي،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يحكم لأبنتي و رب الكعبة.

و بالإسناد الى ابن عباس قال كنت مع امير المؤمنين عليه السّلام في خروجه الى صفين فلما نزل نينوى و هو شط الفرات قال بأعلى صوته يا ابن عباس أ تعرف هذا الموضع؟قلت له ما أعرفه يا أمير المؤمنين فقال علي عليه السّلام لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي قال فبكى طويلا حتى اخضلت لحيته و سالت الدموع على صدره و بكينا معه و هو يقول او اوه و لآل ابي سفيان مالي و لال حرب حزب الشيطان و أولياء الكفر؟صبرا ابا عبد اللّه فقد لقي ابوك مثل الذي تلقى(تلقاه خ)ثم دعى بماء فتوضأ وضوء الصلاة فصلى ما شاء اللّه ان يصلي ثم ذكر نحو كلامه الأول الا انه نعس عند انقضاء صلاته و كلامه بساعة ثم انتبه فقال يا ابن عباس فقلت ها انا ذا فقال الا احدثك بما رأيت في منامي آنفا عند رقدتي فقلت نامت عيناك و رأيت خيرا يا امير المؤمنين قال رأيت كأني برجال قد نزلوا معهم اعلام بيض قد تقلدوا بسيوفهم و هي بيض تلمع و قد خطوا حول هذه الأرض خطة ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها و الأرض تضطرب بدم عبيط،و كأنني بالحسين عليه السّلام سخلي و فرخي و مضغتي و مخي قد غرق فيه فيستغيث فلا يغاث و كأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه و يقولون صبرا آل الرسول فانكم تقتلون على يدي شرار الناس،و هذه الجنة يا ابا عبد اللّه اليك مشتاقة ثم يعزونني و يقولون له يا ابا الحسن ابشر فقد اقر اللّه به عينك يوم يقوم الناس لرب العالمين ثم انتبهت هكذا.

و روي ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ذات يوم جالسا و حوله عليا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام فقال لهم كيف بكم اذا كنتم صرعى و قبوركم شتى؟فقال له الحسين عليه السّلام أ نموت موتا او نقتل قتلا فقال بل تقتل يا بني ظلما و يقتل اخوك ظلما و تشرد ذراريكم في الأرض،فقال الحسين عليه السّلام و من يقتلنا يا رسول اللّه قال شرار الناس قال فهل يزورنا بعد قتلنا احد قال نعم يا بني طائفة من امتي يريدون بزيارتكم بري و وصلتي فاذا كان يوم القيامة جئتها الى المواقف حتى آخذ بأعضادها فأخلصها من أهواله و شدائده.

و روى سالم بن ابي حفصة قال قال عمر بن سعد للحسين عليه السّلام يا ابا عبد اللّه ان قبلنا ناس سفهاء يزعمون اني اقتلك فقال له الحسين عليه السّلام انهم ليسوا بسفهاء

ص:174

و لكنهم حلماء اما انه يقر عيني انك لا تأكل بري العراق بعدي الا قليلا و روينا عن سعد الأسكاف قال قال ابو جعفر عليه السّلام كان قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا و كان قاتل الحسين بن علي عليه السّلام ولد زنا و لم تحمر السماء الا لهما قال و خرجنا مع الحسين عليه السّلام فما نزل لنا(نزل خ) منزلا و ارتحل عنه الا ذكر يحيى بن زكريا و قال يوما من الأيام ان من هوان الدنيا على اللّه عز و جل ان رأس يحيى بن زكريا أهدى الى بغي من بغايا بني اسرائيل،و عن عاصم عن ذر قال اول رأس حمل في الأسلام على رمح هو رأس الحسين بن علي عليه السّلام فلم أر باكيا و باكية اكثر من ذلك اليوم.

و عن ابن عباس قال رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النّوم اشعث أغبر معه قارورتان فيهما دم عبيط،فقلت يا رسول اللّه ما هذا؟فقال دم الحسين و أصحابه و لم أزل ألتقطه منذ اليوم،قال فحسب ذلك اليوم و اذا هو يوم قتل الحسين عليه السّلام،و عن الكندي قال لمّا قتل الحسين عليه السّلام مكثنا سبعة يام اذا صلينا العصر نظرنا الى الشّمس على الحيطان كأنها ملاحف مصفرة من شدّة حمرتها،و ضربت الكواكب بعضها بعضا.

و روي انه لما اصبح ابن زياد لعنه اللّه بعث برأس الحسين عليه السّلام فدير به في سكك الكوفة كلها و قبائلها.

فروي عن زيد بن ارقم انّه قال مر به و هو على رمح و انا في غرفة فيها فلما حاذاني سمعته يقرأ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحٰابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كٰانُوا مِنْ آيٰاتِنٰا عَجَباً فوقف و اللّه شعري و ناديت رأسك و اللّه يا ابن رسول اللّه و أمرك أعجب و أعجب،و عن ابي حباب قال لقيت رجلا من طي فقلت له بلغني انكم تسمعون نوح الجن على الحسين،قال نعم قلت ما الذي سمعت؟قال سمعتهم يقولون:

مسح الرسول جبينه فله بريق في الخدود أبواه من عليا قريش جده خير الجدود

و قال ديك الجن يرثي الحسين عليه السّلام:

و يكبرون بأن قتلت و انما قتلوا بك التّكبير و التهليلا

و روي عن رجل اسدي قال كنت زارعا على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني امية فرأيت عجائب لا أقدر احكي الا بعضها،و هو اذا هبّت الأرياح تمر عليّ نفخات كنفخات المسك و العنبر و اذا سكنت ارى نجوما تنزل من السماء الى الأرض و ترقى من الأرض الى السماء و انا منفرد مع عيالي و لا أرى أحدا أسأله عن ذلك،و قبل غروب الشمس يقبل اسد من القبلة فأوليّ عنه الى منزلي،فاذا اصبح الصبّاح أراه مستقبل القبلة ذاهبا،فقلت في نفسي حكت عساكر بن زياد هؤلاء خوارج قد خرجوا على عبيد اللّه بن زياد فأمر بقتلهم و أرى منهم ما لم أر من سائر

ص:175

القتلى،فو اللّه هذه الليلة لا بدّ من المساهرة في هذه الأرض لأبصر هذا الأسد يأكل من هذه الجثث ام لا،فلما صار غروب الشمس و اذا به اقبل فخفته فاذا هو هائل المنظر،فارتعبت منه و هممت ان انهزم عنه فثبطت نفسي و راجعتها و هو يتخطى القتلى حتى وقف على جسد كأنّه الشمس اذا طلعت تحت الغمام،فبرك عليه،فقلت يأكل منه و اذا به يمرغ وجهه على ذلك الجسد و هو يهمهم و يدمدم و دموعه تجري على خديه،فقلت اللّه اكبر ما هذه الأعجوبة فجعلت احرسه حتى اعترك الظلام و اذا الشموع معلقة فملأت الأرض فزادني عجبا،اذا أنا اسمع بكاء و نحيبا ساعة،و اذا بلطم مفجع لكن لم أر أشخاصا فقصدت تلك الأصوات فخيل لي انّي وقعت عليها فأصغيت سمعي زمانا،فاذا هو تحت الأرض و فهمت من ناع فيهم يقول وا حسيناه و اماماه فاقشعر جلدي و طار لبي،فقربت من الباكي و اقسمت عليه باللّه و برسوله من تكون؟فقال انا نساء من الجن،فقلت و ما شأنكن؟فقالت في كل يوم و ليلة هذا عزاؤنا على الحسين العطشان المجدل على الزملاء،فقلت هذا الحسين الذي عنده الأسد،فقالت نعم،قالت انت تعرف هذا الأسد؟قلت لا،قالت هذا ابوه علي بن ابي طالب فهممت ان ارجع و دموعي تجري على خديّ حزنا عليه، و اذا برجال لم أر أطول منهم ذو اسلحة كثيرة،فكاد فؤادي ان يطير،و اذا بهم قائل يقول فارجع فرجعت خائفا،و قيل هذا الرجل هو الذي دفن الحسين عليه السّلام.

و روينا عن علي بن الحسين عليهما السّلام قال لما وفدنا على يزيد بن معاوية لعنهما اللّه تعالى أتوا بحبال و ربطونا مثل الأغنام؛و كان الحبل بعنقي و عنق أم كلثوم و بكتف زينب و سكينة و البنات تساق كلما قصرن عن المشي ضربنا(بن)حتى أوقفونا بين يدي يزيد،فتقدمت إليه و هو على سرير مملكته،و قلت له ما ظنك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو يرانا على هذه الصفة؟فبكى و بكى كل من كان حاضرا في مجلسه فأمر بالحبال فقطعت من أعناقنا و أكتافنا و روي عن المنهال بن عمر قال بينما أتمشى في السوق من دمشق و إذا أنا بعلي بن الحسين عليه السّلام يتوكأ على عصا و رجلاه كأنهما قصبتان و الدم يسيل من ساقيه،و الصفرة قد أزدادت من عليه فخنقتني العبرة فأعترضته و قلت كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟قال فبكى و قال كيف حال من أصبح أسيرا ليزيد بن معاوية،و نسائي الى الآن ما شبعن بطهور لهن و لا كسين رؤسهن نائحات الليل و النهار و نحن يا منهال كمثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبنائهم و يستحيون نسائهم ؛أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمدا عربيّ؛و أمست قريش تفتخر على العرب بأن محمدا منهم،و أمسينا معشر أهل البيت مغصوبين مقتلين مشردين؛ما يدعونا إليه مرة إلا نظن القتل إنّا للّه و إنّا إليه راجعون،قلت سيدي و إلى أين تريد؟قال المحبس الذي نحن فيه ليس له سقف و الشمس تصهرنا به و لا نرى الهوى فأفر منه لضعف بدني سويعة،و أرجع خشية على النساء

ص:176

فبينما هو يخاطبني و أخاطبه و إذا بإمرأة تناديه،فتركني و رجع اليها فحققت النظر إليها و إذا بها زينب بنت علي عليه السّلام تدعوه إلى أين تمضي يا قرة عيني؟فرجع و انحرفت عنه؛و لم أزل أذكره و أبكي.

و روي عن الطرماح بن عدي رضب اللّه عنه قال كنت من قتلاء كربلاء و قد بقي فيّ رمق من الحياة؛و لو حلفت لكنت صادقا إذ رأيت بعد عشرات متتابعات عشرين فارسا لهم نور شعشعاني و كلهم ذو ثياب بيض يفوح منها رائحة المسك و العنبر،فقلت في نفسي هذا ابن زياد و قد أقبل بطلب جسد الحسين عليه السّلام ليمثل به،فجاؤا حتى نزلوا بين القتلى ثم أن المتقدم أتى إلى الحسين و جلس عنده و أجلسه و سنده إلى صدره و أومى إلى نحو الكوفة بيده فما ردها إلا و بها رأس الحسين عليه السّلام،فركبه على الجسد كما كان أولا فطار عقلي و قلت ليس ابن زياد قادرا على هذا فتأملته فإذا هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؛فقال السّلام عليك يا ولدي فقال و عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته يا جداه،قال كيف ولدي قتلوك؟أ تراهم ما عرفوك و من الماء منعوك و عن حرم جدكّ أحرجوك ويلهم أ لا أخبرتهم بحسبك عسى يرقوا بحالك،فبكى و قال يا جداه أخبرتكم فقالوا نعرفك حق المعرفة و لكن نقتلك ظلما و عدوانا فقال عليه السّلام يا أبي آدم و يا أبي نوح،و يا أبي إبراهيم؛و يا أخي إسماعيل،و يا أخي موسى،و يا أخي عيسى، فأجابوه بالتلبية:أنظروا إلى ما فعلت أشقى أمتي من بعدي بعترتي،و لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة فقالوا آمين اللهم آمين،فجعلوا يبكون و يعزون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زمانا طويلا،و هو يحث التراب على رأسه و شيبته الطاهرة و الحسين يقص عليه ما صدر و ما عملوه فيه حتى غشي عليه من البكاء و أنا أسمعهم و أشاهدهم،ففارقوه و انطرح كما كان ميتا اولا.و روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ذات يوم جالسا و غذا بالحسين عليه السّلام مقبلا طفلا، فأخذه على فخذه الأيمن،و أتى بولده إبراهيم فوضعه على فخذه الأيسر و جعل يقبل هذا على فمه و هذا بحلقه و شفتيه و هو مشغوف بهما،فإذا جبرئيل قد انحدر عليه و قال يا محمد إنّ اللّه تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما و لكنه عز و جل يريد يأخذ روح أحدهما فأختر أيهما شئت،فقال في نفسه إذا مات إبراهيم بكيت أنا وحدي و إذا مات الحسين بكيت عليه انا و علي و فاطمة،يا أخي جبرئيل موت إبراهيم خير لي فمات بعد ثلاثة ايام،فكان بعد ذلك كلما جاء الحسين عليه السّلام قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهلا و سهلا و مرحبا بمن فديته بولدي إبراهيم.

و روي أن الحريم لمّا أدخلن في السبي إلى يزيد بن ماوية لعنه اللّه كان يطاع فيهن و يسأل عن كل واحدة بعينها و هن مربقات بحبل طويل و زجر بن قيس لعنه اللّه يجرهن حتى اقبلت امرأة كانت تستر وجهها بزندها لأنها لم يكن لها خرقة تستر بها وجهها،فقال من هذه التي ليس لها

ص:177

ستر؟قالوا سكينة بنت الحسين؛قال انت سكينة؟فسالت دموعها على خدّها و أختنقت بعبرتها فسكت عنها حتى كادت تطلع روحها من البكاء،فقال لها و ما يبكيك؟قالت كيف لا تبكي من ليس لها ستر تستر وجهها و رأسها عنك و عن جلسائك،فبكى يزيد و أهل مجلسه؛ثم قال لعن اللّه عبيد اللّه بن زياد ما اقسى قلبه على آل الرسول،ثم أقبل إليها و قال إرحعي مع النسوة حتى آمر بكن بأمري فقالت يا يزيد إنّ بكائي أكثره من طيف رأيته الليلة،قال قصيه علي فأمر السائق في الوقوف،فقالت إني لم أنم منذ قتل ابي الحسين لأني لم أتمكن من الركوب على ظهر أدبر أعجف هذا،و كلما عثر بي يقهرني هذا زجر بن قيس بالسوط،فلم أر من يخلصني منه فلعنه يزيد و جلسائه؛ثم قالت رقدت الليلة و إذا أرى قصرا من نور شرايفه الياقوت و اركانه من الزبرجد و أبوابه من العود القماري،فبينا انا أنظر إليه و إذا ببابه قد فتحت فخرج منها خمس مشايخ يقدمهم وصيف (1)فتقدمت إليه فقلت له لمن هذا القصر؟فقال لأبيك الحسين؛فقلت و من هؤلاء المشايخ؟فقال هذا آدم،و ذاك نوح؛و هذا إبراهيم،و(هذا)موسى و(هذا)عيسى فبينما انا أنظر إلى كلامه و إلى القصر إذ أقبل رجل قمري الوجه قابضا على لحيته هما و أسفا حزينا كئيبا فقلت و من هذا؟قال أما تعرفيه؟فقلت لا قال هذا جدك المصطفى،فدنوت منه و قلت يا جداه قتلت و اللّه رجالنا؛و ذبحت أطفالنا و هتكت حريمنا؛يا جدنا لو رأيتنا على الأقتاب بغير وطاء و لا غطاء و لا حجاب ينظر إلينا البر و الفاجر لرأيت أمرا عظيما و خطبا جسيما،فأحنى علي و ضمني إلى صدره و بكى بكاءا شديدا،و أنا احكيه(حاكيه خ)بهذا و أمثاله،فقالت لي تلك الأنبياء غضي من صوتك يا بنت الصفوة فقد اوجعت قلوبنا و قلب سيدنا و ابكيته و ابكيتنا.

فأخذ الوصيف بيدي و أدخلني إلى القصر و إذا بخمس نسوة و بينهن امرأة ناشرة شعرها على كتفيها و عليها ثياب سود،و بيدها ثوب مضمخ بالدّم،إذا قامت قمن لقيامها،و إذا جلست جلسن معها لجلوسها،لاطمة خدّيها جارية دمعتها و هي تنوح و النساء تجيبها بذلك فقلت للوصيف و من هؤلاء النسوة؟فقالت يا سكينة هذه حوّى،و هذه مريم و التي عندها آسيا بنت مزاحم،و هذه أم موسى؛و خديجة الكبرى،فقلت و صاحبة القميص المضرج بالدماء،قال جدتك فاطمة الزهراء؛فدنوت منها فقلت السّلام عليك يا جدتاه،و رفعت رأسها و قالت سكينة ؟قلت نعم،فقامت لاطمة معولة فقالت أدن مني فضمتني إلى صدرها،فقلت يا جدتي على صغر سني أيتمت،فقالت و اويلتا و امهجة قلباه من أحنا عليكن من بعد القتل،من جمعكن عن الشتات آن الرحيل أخبريني يا سكينة عن حال العليل،فقلت يا جدتاه مرارا كثيرة أرادوا قتله

ص:178


1- (1) قد يطلق الوصيف على الخادم غلاما كان أو جارية.

فدفعهم منه علته لأنه مكبوب على وجهه،سلبوه ثيابه لا يطيق النهوض و لو تراه عينك حين اركبوه على ظهر اعجل ادبر و قيدوا عنقه بقيد ثقيل؛فبكى فقلنا له ما يبكيك؟قال إذا رأيت قيدي هذا ذكرت أغلال أهل النار،فسألناهم بفكه فقيدوا رجله من تحت بطن الناقة و إذا بفخذه يسيل دما و قيحا،باكيا نهاره و ليله إن نظر إلى رأس أبيه و رأس الأنصار مشهرين،و إن نظر إلينا عاريات مكشفات،فكلما رأى ذلك إزداد البكاء،فلطمت على وجهها و نادت و اولداه وا ضيعتاه هكذا صدر عليكم من بعدنا،ثمّ إنها قالت و بجسد القتيل من غسله من كفنّه من صلى عليه من دفنه من زاره؟فقلت لم يكن له غسل غير دموعنا،و كفنته السّوافي من رمالها؛و رحلنا عنه و زوارها الطير و الوحش؛فنادت و احسناه و اولداه و اقلة ناصراه هذا و النساء باكيات معولات لإعوالها،ثم نظرن إليّ و قلن له مهلا يا بنت الصفوة لقد أهلكت سيدتنا و أهلكتنا،فانتبهت من رقدتي هذه و يزيد و جلستوه و أمراء بني أمية يبكون،فأمرهن بالأنصراف فانصرفن.

روينا في تفسير قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه أنه رأى ساق العرش و الأسماء عليه،فلقنه جبرئيل،فقال قل:يا حميد بحق محمد يا علي بحق علي يا فاطر بحق فاطمة يا محسن بحق الحسن،يا صاحب(قديم خ)الإحسان بحق الحسين؛فسالت دموعه و انخشع قلبه، و قال يا أخي جبرئيل في ذكرى الخامس ينخشع قلبي و تسيل عبرتي،قال جبرئيل ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب،فقال يا أخي و ما هي؟قال يقتل عطشانا غريبا وحيدا فريدا ؛ليس له ناصر و لا معين و لو تراه يا آدم ينادي و اعطشاه و اقلة ناصراه حتى يحول العطش بينه و بين السماء كالدخان فلم يجبه أحد إلا بالسيوف و شرب الحتوف فيذبح ذبح(كما يذبح خ)الشاة من قفاه و يشهر رؤوسهم هو و أنصاره في البلدان و معهم تؤخذ النسوان،سبق يأخي في علم الواحد المنان،فبكى مع جبرئيل بكاء المثكولة و الثكيل.

و روينا حديث الجمال لعنه اللّه بإسناده(نا)إلى سعيد بن المسيّب قال لما استشهد مولانا أبو عبد اللّه الحسين عليه السّلام و حج الناس من قابل دخلت على مولاي علي بن الحسين عليه السّلام فقلت له يا مولاي قد قرب الحج فما تأمرني؟فقال إمض عاى نيتك فحج فحججت فبينما أنا أطوف في الكعبة و إذا برجل مقطوع اليدين و وجهه كقطع الليل المظلم و هو متعلق بأستار الكعبة و هو يقول اللهم رب هذا البيت الحرام إغفر لي و ما أحسبك تفعل في سكان سماواتك و أرضك و جميع ما خلقت لعظم جرمي،و قال سعيد بن المسيّب فشغلت و شغل الناس عن الطواف حتى حف به الناس و اجتمعنا عليه؛فقلت أيا ويلك لو كنت إبليس لما كان ينبغي لك أن تيأس من رحمة اللّه فما أنت و ما ذنبك؟فبكى و قال يا قوم أنا أعرف بنفسي و ذنبي و ما جنيت فقالوا له تذكره لنا فقال أنا كنت جمالا لأبي عبد اللّه عليه السّلام لما خرج من المدينة إلى العراق و كنت

ص:179

اراه إذا أراد الوضوء للصلاة يضع سراويله عندي،فأرى تكة تغشي الابصار بحسن إشراقها و ألوانها،و كنت أتمناها أن تكون لي؛إلى أن صرنا بكربلاء فقتل الحسين عليه السّلام و هي معه؛ فدفنت نفسي في مكان من الأرض فلم أطلب أنا و أمثالي،فلما جن الليل خرجت من مكاني فرأيت في تلك المعركة نورا لا ظلمة،و نهارا لا ليلا،و القتلى مطروحون(حين)على وجه الأرض،فذكرت لحيتي و شقائي التّكّة فقلت و اللّه لأطلبن الحسين عليه السّلام و أرجو أن تكون التّكّة في سراويله فآخذها،و لم أزل أنظر في وجوه القتلى حتى أتيت إلى الحسين عليه السّلام، فوجدته مكبوبا على وجهه و هو جثة بلا رأس و نوره مشرق مرمل بدمائه و الرياح سافية عليه، هذا و اللّه الحسين عليه السّلام،فنظرت إلى سراويله كما كنت أراها،فدنوت منه فضربت يدي إلى التّكّة لآخذها،فإذا هو قد عقدها عقدا كثيرة فلم أزل أحلها حتى حللت عقدة منها فمد يده اليمنى و قبض على التّكّة فلم أقدر على أخذ يده عنها و لا أصل إليها،فدعتني النفس الملعونة إلى أن أطلب شيئا أقطع به يده فوجدت قطعة سيف مطروح فاخذتها،فلم أزل أجزّ يده حتى فصلتها عن زنده،ثم نحّيتها عن التّكّة،فمددت يدي إلى التّكّة لأحلها فمد يده اليسرى فقبض عليها فلم أقدر على أخذها،فأخذت قطعة السيف و قطعتها بها،فمددت يدي إلى التّكّة لآخذها و إذا بالأرض ترجف و السماء تهتزّ و إذا بغلبة(بغلغلة)عظيمة و بكاء و نداء،يقول يا ابناه يا مقتولاه وا ذبيحاه،وا حسيناه وا غريباه،يا بني قتلوك و ما عرفوك و من شرب الماء منعوك؛و ما عرفوا جدك و أباك،فلما رأيت ذلك صعقت و رميت نفسي بين القتلى و إذا بثلاث نفر و امراة تقول:

ألا يا نور عيني يا حسينا فمن قطع اليسار مع اليمينا

و من أرادك في البيداء طريحا و من أيتم بناتك و البنينا

و من سلب الثياب أيا حبيبي و يا ذخري و يا عيني اليمينا

عفيرا بالتراب بغير رأس خضيب النّحر متلول الجبينا

فمن أوصيت بعدك باليتامى و من لسكينة حصنا حصينا

و من للثاكلات و للضيّاعا(للصبايا) لقد أضحوا بأيدي الكافرينا

يعز علي ان ألقاك ملقى بلا غسل و لا كفن رهينا

أيا روحي لقد طوّلت حزني لقتلك يا ابن خير العالمينا

لمقتله بكت املاك ربي و حور العين يبكي و الأمينا

لقد أورثتني حزنا طويلا على طول الليالي و السّنينا

فآه لما جرى لك يا حبيبي نساؤك حاسرات مجررينا

ص:180

فنوحوا و اندبوا مولا قتيلا حبيب رسول رب العالمينا

و قد امتلأت الأرض و حولها خلايق وقوفا؛و قد امتلأت الأرض بصور الناس و أجنحة الملائكة،و إذا بواحد منهم يقول يا إبناه يا حسين فدائك جدك و أبوك و امك و اخوك،و إذا بالحسين عليه السّلام و رأسه على بدنه،و هو يقول يا جداه يا رسول اللّه،و يا أبتاه يا امير المؤمنين ،و يا أماه يا فاطمة الزهراء،و يا أخاه المقتول بالسم قبلي،عليكم مني السّلام،ثمّ إنه بكى و قال يا جداه قتلوا و اللّه رجالنا يا جداه سلبوا و اللّه نسائنا يا جداه؛نهبوا و اللّه رحالنا يا جداه ذبحوا و اللّه أطفالنا يا جداه،يعز و اللّه عليك أن ترى رحالنا و ما فعل الكفار بنا و إذا بهم قد جلسوا حوله يبكون على ما أصابهم من الكفار و فاطمة تقول يا اباه يا رسول اللّه أما ترى ما فعل أمتك بولدي، أ تأذن لي أن آخذ من دم شيبه و اخضب به ناصيتي و القى اللّه عزّ و جلّ و أنا متخضبة(مختضبة) بدم ولدي الحسين؟فقال لها خذي و نأخذ يا فاطمة،فرأيتهم يأخذون من دم شيبه و تمسح به فاطمة ناصيتها و النبي و علي و الحسن يمسحون به نحورهم و صدورهم و أيديهم إلى المرافق، و سمعت فاطمة الزهراء تقول و هي مقروحة الفؤاد يا بني من الذي قطع رأسك الشريف؛يا بنيّ من ذا الذي رضّ لصدرك العفيف،يا بني من ذا الذي أيتم أطفالك،يا بني من ذا الذي قتل رجالك،قال و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول له فديتك يا حسين يعز عليّ و اللّه ان أراك مقطوع الرأس،مرمل الجبين؛دامي النحر مكبوبا على قفاك قد كستك الذواري من الرمل(مول)و أنت طريح مقتول مقطوع الكفين،يا بني من قطع يدك اليمنى و ثنى باليسرى؟ فقال يا جداه كان معي جمّال من المدينة و كان يراني إذا وضعت سراويلي للوضوء فيتمنّى أن يكون له؛فما منعني أن أدفعها إليه إلاّ لعلمي أنّه صاحب هذا الفعل فلما قتلت خرج يطلبني من بين القتلى،فوجدني جثة بلا رأس فتفقد سراويلي فوجد فأى التّكّة و قد كنت عقدتها عقدا كثيرة ،فضرب يده ألى التّكّة فحلّ عقدة منها فمددت يدي اليمنى فقبضت على التّكّة،فطلب المعركة فوجد قطعة سيف فقطع به يميني ثمّ حلّ عقدة أخرى فقبضت على التّكّة بيدي اليسرى لئلا يحلها فتنكشف عورتي،فجزّ يدي اليسرى؛فلما أراد حلّ التّكّة حسّ بك فرمى نفسه بين القتلى،فلما سمع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلام الحسين عليه السّلام بكى بكاءا شديدا و أتى بين القتلى إلى أن وقف نحوي و قال:ما لي و مالك يا جمّال،تقطع أيدا طالما قبّلها جبرئيل عليه السّلام و ملائكة اللّه أجمعين و تبرّكت بها أهل السماوات و الأرض،أما كفاك ما صنع به الملاعين من الذلّ و الهوان،هتكوا نساءه بعد الخدر و انسباك السّتور و قد سلبهن الأعداء و سود اللّه وجهك يا جمّال في الدنيا و الآخرة،و قطع اللّه يديك و رجليك و جعلك في حزب من سفك دماءنا

ص:181

و جزاؤك على اللّه،فما أستتم دعاؤه حتى شلت يداي و حسبت بوجهي كأنه ألبس قطعا من الليل مظلما،و بقيت على هذه الحالة،فجئت إلى هذا البيت أستشفع و أنا أعلم أنّه لا يغفر لي أبدا فلم يبق في مكة أحد إلا و سمع حديثه و تقرب إلى اللّه بلعنه،و كل يقول حسبك ما جنيت بالعين.

و روينا أنّ آدم عليه السّلام لمّا نزل إلى الأرض فلم ير حوّاء فصار يطوف الأرض في طلبها ؛فمرّ بكربلاء فأعتلّ و ضاق صدره من غير سبب،و عثر في الموضع الذي قتل فيه الحسين عليه السّلام حتى سال الدم من رجله؛فرفع رأسه إلى السماء و قال إلهى هل حدث مني ذنب آخر فعاقبتني به؟فإني طفت جميع الأرض فما أصابني ما أصابني في هذه الأرض،فأوحى اللّه إليه يا آدم ما حدث منك ذنب و لكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلما فسال دمك موافقة لدم الحسين،فقال آدم يا رب أ يكون الحسين نبيا؟قال لا و لكنه سبط النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم،و قال من القاتل له؟قال قاتله يزيد لعين أهل السماوات و اهل الأرض،قال آدم فأي شيء أصنع يا جبرئيل؟فقال إلعنه،فلعنه آدم أربع مرات و مشى أربع خطوات إلى جبل عرفات بقدرة رافع السماوات فوجد حوّى هناك.

و إنّ نوحا عليه السّلام ركب في السفينة و طافت به جميع الدنيا،فلما مرت السفينة بكربلاء أخذته إلى الأرض و خاف نوح من الغرق؛فدعى ربّه و قال إلهي هل حدث مني ذنب؟فإنّي طفت جميع الدنيا فما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض،فنزل إليه جبرئيل و قال له يا نوح في هذا الموضع يقتل الحسين سبط محمد خاتم الأنبياء و ابن خاتم الأوصياء،قال و من القاتل له يا جبرئيل؟قال قاتله لعين أهل السماوات السبع و الأرضين السبع،فلعنه نوح عليه السّلام،أربع مرات فسارت السفينة حتى بلغت الجودى و استقرّت عليه.

و إنّ إبراهيم عليه السّلام مرّ في أرض كربلاء و هو راكب فرسا فعثر الفرس و سقط إبراهيم و شجّ رأسه و سال دمه،فأخذ في الإستغفار و قال إلهي أي شيء حدث منّي؟فنزل جبرئيل و قال يا إبراهيم ما حدث منك ذنب و لكن هنا يقتل سبط خاتم الأنبياء و ابن خاتم الأوصياء فسال دمك موافقة لدمه.قال يا جبرئيل و من يكون قاتله؟قال قاتله لعين أهل السماوات و الأرضين،و القلم جرى على اللوح بلعنه بغير إذن ربّه،فأوحى اللّه تعالى إلى القلم أنّك استحققت الثناء بهذا اللّعن،فرفع إبراهيم عليه السّلام يده و لعن يزيد لعنا كثيرا و أمّن فرسه بلسان فصيح،فقال إبراهيم عليه السّلام لفرسه أي شيء عرفت حتى تؤمّن على إبراهيم؟فقال يا إبراهيم؟فقال يا إبراهيم أنا أفتخر بركوبك عليّ؛فلما عثرت و سقطت عن ظهري عظمت خجلتي و كان سبب ذلك من يزيد لعنه اللّه تعالى.

ص:182

و إنّ إسماعيل عليه السّلام كانت أغنامه ترعى بشط الفرات فأخبره الراعي أنّها لا تشرب من هذه المشرعة منذ كذا يوما،فسأل ربه عن سبب ذلك،فنزل جبرئيل عليه السّلام و قال يا إسماعيل إسأل غنمك فإنّها تجيبك عن سبب امتناعها من شرب الماء،فقال لها لم لا تشربين من هذا الماء؟فقالت بلسان فصيح قد بلغنا أنّ ولدك الحسين يقتل هنا عطشانا فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حزنا عليه،فسأل عن قاتله؛فقالت يقتله،لعين أهل السماوات و الأرضين و الخلائق أجمعين،فقال إسماعيل عليه السّلام اللهم إلعن قاتل الحسين عليه السّلام و إنّ موسى عليه السّلام كان ذات يوم سائرا و معه يوشع بن نون،فلما جاء إلى أرض كربلاء إنخرق نعله و انقطع شراكه دخل الخسك في رجليه و سال دمه،فقال إلهي أيّ حدث مني؟فأوحى اللّه إليه أنّ هنا يقتل الحسين عليه السّلام و هنا يسفك دمه فسال دمك موافقة لدمه،فقال ربّ و من يكون الحسين؟فقيل هو سبط محمد المصطفى و ابن علي المرتضى فقال و من يكون قاتله؟فقال هو لعين السمك في البحار و الوحوش في القفار و الطيور في الهوى،فرفع موسى يده و لعن(قال إلهي إلعن)يزيد و دعا عليه و أمّن يوشع بن نون على دعاءه و مضى لشأنه؛

و إنّ سليمان عليه السّلام كان يجلس على بساطه و يسير بالهواء؛فمر ذات يوم و هو سائر في أرض كربلاء فدارت الريح بساطه ثلاث دورات حتى خافوا السقوط،فسكنت الريح و نزل البساط في الأرض كربلاء؛فقال سليمان لللائح لم سكنت؟فقالت إنّ هنا يقتل الحسين عليه السّلام؛فقال و من يكون الحسين؟قالت هو سبط محمد المختار و ابن علي الكرار قال و من قاتله ؟قالت يقتله لعين أهل السماوات و الأرض،فرفع يده سليمان و لعن يزيد و أمّن دعاءه الإنس و الجنّ فهبت الريح و سار البساط

و إنّ عيسى عليه السّلام كان سايحا في البراري و معه الحواريون فمرّ بأرض كربلاء فرأى أسدا كاشرا قد أخذ الطريق،فتقدم عيسى عليه السّلام إلى الأسد و قال له لم جلست في هذا الطريق و لا تدعنا نمر؟فقال الأسد بلسان فصيح إنّي لم أدع بكم الطريق حتى تلعنوا يزيد قاتل الحسين عليه السّلام،فقال عيسى عليه السّلام و من يكون الحسين؟قال هو سبط محمد النبي الأمّي و ابن علي الولي،قال و من القاتل له؟قال قاتله لعين الوحوش و الذئاب و السباع أجمع خصوصا في أيام عاشوراء؛فرفع عيسى عليه السّلام يده و لعن يزيد و دعا عليه و أمّن الحواريين على دعاءه فتنحى الأسد عن طريقهم و مضوا لشأنهم.

و روى الكليني طاب ثراه بإسناده إلى إدريسبن عبد اللّه الأودي قال لمّا قتل الحسين عليه السّلام أراد القوم أن يوطئوه الخيل،فقالت فضة لزينب يا سيدتي إنّ سفينة و هو مولى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنكسرت به سفينة في البحر فطاف على خشبة من الماء فخرج إلى

ص:183

جزيرة،فرأى أسدا مقبلا فأتى الأسد و قال يا أبا الحرث أنا مولى رسول اللّه؛فهمهم بين يديه حتى أوقفه على الطريق،و الأسد رابض في ناحية فدعني أمضي إليه و أعلمه ما هم صانعون غدا ،قال فمضيت إليه،فقالت يا أبا الحرث؛فرفع رأسه ثمّ قالت أ تدري ما يريدون يعملوا(يفعلوا) غدا بأبي عبد اللّه عليه السّلام؟يريدون أن يوطئوا الخيل ظهره،قال فمشى حتى وضع يديه على جسد الحسين عليه السّلام،فأقبلت الخيل فلما نظروا إليه قال لهم عمر بن سعد لعنه اللّه هذه فتنة لا تثيروها إنصرفوا فانصرفوا.

قال مؤلف هذا الكتاب عفى اللّه عنه قد تقدّم أنّهم أوطأوه الخيل،و لا منافاة بينهما لجواز أن يكون في يوم مجيء الأسد لم يوطأوه الخيل و أوطأوه بعد ذلك،و في إرشاد المفيد ره، أنّه لما ام يبق احد مع الحسين عليه السّلام دعا بسراويل يمان يلمع فيه البصر ففرزه(فغرزه)لكيلا يسلب من بعد قتله،فلمّا قتل عمد بحر بن كلب فسلبه السراويل و تركه مجردا،و كانت يدا بحر بن كعب ييبسان في الصيف كأنهما عودان:و يرطبان في الشتاء فينضحان دما و قيحا ألى أن أهلكه اللّه تعالى؛و الأخبار الواردة بهذا المضمون كثيرة جدا.

و امّا من قتل مع الحسين عليه السّلام من أهل بيته فقال شيخنا المفيد نوّر اللّه ضريحه هم ثمانية عشر:و هم العبّاس و عبد اللّه و جعفر و عثمان بنو أمير المؤمنين عليه السّلام؛أمّهم أم البنين بنت حزام الكلابية؛و عبيد اله و أبو بكر ابنا أمير المؤمنين عليه السّلام؛أمّهما ليلى الثقفية،و علي و عبد اللّه إبنا الحسين بن علي عليه السّلام؛و القاسم و أبو بكر و عبد اللّه بنو الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السّلام؛و عبد اللّه و جعفر و عبد الرحمن بنو عقيل بن أبي طالب و عبد اللّه بن مسلم بن عقيل و محمد بن عقيل بن أبي طالب عليه السّلام و محمد و عون ابنا عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب،فهؤلاء ثمانية عشر نفسا من بني هاشم و هم كلهم مدفونون مما يلي رجلي الحسين عليه السّلام إلاّ العبّاس فإنّه دفن موضع قتله.

و أما أصحاب الحسين عليه السّلام الذين قتلوا معه فإنّهم دفنوا حوله؛و لسنا نحصل لهم أجداثا على التحقيق و التفصيل غير أنّا لا نشك في أنّ الحائر محيط بهم،هذا كلامه ره،اقول قد ترك ره ذكر الحر فإنه من الشهداء و ليس هو ممّا يحيط به الحاير الشريف بل هو بعيد عن قبر مولانا الحسين عليه السّلام بفرسخ و أزيد و قبره الآن معروف يزوره بعض النّاس،و بعض الخواص من الشيعة و العلماء يترك زيارته،بل ربما سمعت بعض محدثي الشيعة لعنه و الطعن عليه تعويلا على أنّه قطع عليه بالأرتداد الفطري،و مثل هذا المرتد عند الأكثر لا تقبل توبته،و ما نقل من قبور الحسين عليه السّلام لها منقول بأخبار الآحاد و هو لا يعارض الإجماع،و أمّا أنا فقد أوردت

ص:184

بعض الكلمات المناسبة لهذا المقام في شرح تهذيب الحديث و لا بأس هنا بالإشارة إلى نبذة منه و هو يتم ببيان أمور:

الأول في تحقيق معنى المرتد؛فنقول الذي قاله اصحابنا رضوان اللّه عليهم أنّ المرتد هو ما أنكر ما علم ثبوته من الدين صرورة أو إثبات ما علم نفيه كذلك،أو يفعل ذلك صريحا كالسجود للصنم و نحوه،و إلقاء المصحف في القاذورات،و على هذا فالمرتد أكثر من غيره، و ذلك إنّه ما من يوم إلا و أكثر الناس يتهم اللّه قضاءه و عدله؛و غير ذلك مما يوجب الإرتداد،نعم ربّما ظهر من بعض الأخبار أنّه يشترط في مثله العلم بكونه من ضروريات الدين،و على هذا فلعل الجاهل معذور حتى يعرف و يلقي العالم إليه الحكم الشرعي لإمكان الجهل بالضروريات لكثير من النّاس؛خصوصا أهل القرى و الصحارى،و يؤيده قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النّاس في سعة مما لم يعلموا فإذا عرفت هذا فنقول:

أنّ الحر لمّا خرج من الكوفة ما كان قصده القتال مع الحسين عليه السّلام و إنّما أمره عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه بأن يأتي به إلى الكوفة؛و إمّا منعه له عن الرجوع إلى المدينة بعد أن طلب الحسين عليه السّلام أن يأذن له فيه فقد كان جاهلا بأنّ مثل هذا يخرج من الدين و يكون الرجل مرتدا به،و من ثمّ لما رجع إلى الحسين عليه السّلام و تاب حلف بأنّي ما كنت أعلم أنّ القوم يفعلون بك هذا،و قد كان صادقا في يمينه،و حينئذ فالذي صدر منه نوع من أنواع الكبائر فلما تاب منها قبل الحسين عليه السّلام توبته منها،و يؤيده أنّ كثيرا من الشيعة و من أقارب الأئمة عليهم السّلام كانوا يؤذون أئمتهم عليهم السّلام بأنواع الأذى مثل العبّاس أخو الرضا عليه السّلام و مثل اقارب مولانا الصادق عليه السّلام؛و قد كان جماعة منهم يسعون بقتلهم و إهانتهم عند خلفاء الجور و مع هذا كله إذا أراد أحد من الشيعة أن يذكرهم بسوء في مجالس الأئمة عليهم السّلام يغضبون عليهم السّلام،و يبالغون في نفيه؛و يقولون إنّ هؤلاء أقاربنا دعونا معهم لا تتعرضوا لهم بسوء من كلام خبيث و غيره؛فالذي صدر من الحر على تقدير العلم منه مثل الذي صدر من هؤلاء مع أنّ الأئمة عليهم السّلام قبلوا حالهم قبل التوبة فكيف لو تابوا.

الثاني أنّ المراد من الدين المأخوذ في التعريف إنّما هو دين الإسلام على ما صرّحوا به لا دين الشيعة فقط؛و ذلك أنّه لو كان المراد بالمرتد من أنكر ما علم ثبوته من دين الشيعة ضرورة لكان مخالفونا كلهم مرتدين في هذه الدنيا،لأنّ كون علي بن أبي طالب عليه السّلام هو الخليفة الأول بالنّص و الأستحقاق ممّا ثبت من دين الشيعة ضرورة،فكان يجب أن يحكم على كافة أهل الخلاف بالأرتداد و المصرح به من علمائنا بخلافه في هذه الدنيا،أمّا في الآخرة فعذابهم أشد من المرتد و غيره،و حينئذ منع الحسين عليه السّلام عن الرجوع إلى المدينة و إن كان حراما إلا أنّه ليس

ص:185

ضروريا من دين الإسلام و لا يقول مخالفونا بكفر مثل هذا،نعم قالوا بكفر كل من خرج على إمام عادل و حاربه و الحرّ في وقت الحرب كان لإمام عليه السّلام لا عليه،فلم يصدق عليه من هذه الجهة أيضا إسم الإرتداد.

الثالث أنّ قولهم أنّ المرتد الفطري غير مقبول التوبة لا نقبله على إطلاقه،بل نقول أنّ توبته مقبولة فيما بينه و بين اللّه تعالى كما صار إليه شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه،و حينئذ فلو لم يقدر على قتله أو تأخر قتله فتاب صحت توبته و قبلت عباداته و معملاته؛لكن لا تعود إليه زوجته و لا ماله على ما لا يخفى،و أمّا فيما بينه و بين الناس فبأن يقول أنّ ذلك النّاس الذي ثبت عندهم إرتداده إن كان غير الإمام لم يجز له العفو عنه؛كما عفا أمير المؤمنين عليه السّلام عن اهل البصرة و قبل توبة من تاب منهم،و مع أنّهم كانوا مرتديّن عن الفطرة،و كذلك قبل توبة من تاب من أهل النهروان و صفين و سائر حروبه و موارده مع صدق تعريف الإرتداد عليهم بكل الوجوه؛ و من هذا أجاب مخالفونا بزعمهم عن كل ما أوردناه عليهم إلا عن محاربة الصحابة لأمير المؤمنين عليه السّلام فإنّهم لم يقدروا عليه،بل قالوا و إمّا عن حرب الصحابة فنسكت،و بعضهم أحاله على علم اللّه تعالى القديم و إنّه كان مقدرا و علم اللّه بزعمهم هو علة للمعلول و وقوعه،و آخرون قالوا إنّهم تابوا بعد المحاربة إلى غير ذلك من الخرافات البردة و التمويهات الفاسدة.

الرابع قولهم أنّ ارتداده قطعي و توبته ظنّي(ظنية)لا يخفى ما فيه،و ذلك أنّ كل خبر و أثر تضمّن خروجه على الحسين عليه السّلام و منعه له عن الرجوع تضمّن توبته و قبول الحسين عليه السّلام لها و إنّه عليه السّلام رثاه بأبيات من الشعر و هي مشهورة،و في كتب الأحاديث و السير و التواريخ مسطورة،و قد ترحّم عليه بعد قتله،و هذا متواتر نقله الخلف عن السلف في كل عصر و أوان بحيث لا يمكن إنكاره،و لعمرك إنّ الطعن على الحر يؤول إلى الطعن على من قبل توبته و هو مولانا الحسين عليه السّلام؛و هذا هو الإرتداد الظاهر الذي لا يقبل التوبة و أعاذنا اللّه و إيّاكم من الغقدام على مثله و الجرأة عليه.

و لقد حدّثني جماعة من الثقاة أنّ الشاه إسماعيل لمّا ملك بغداد و اتى إلى مشهد الحسين عليه السّلام و سممع من بعض النّاس الطعن على الحر أتى إلى قبره و أمر بنبشه،فنبشوه فرأوه نائما كهيئته لمّا قتل؛و رأوا على رأسه عصابة مشدودا بها رأسه؛فاراد الشاه نوّر اللّه ضريحه أخذ تلك العصابة لما نقل في كتب السير و التأريخ أنّ تلك العصابة هي دسمال الحسين عليه السّلام شدّ به رأس الحر لمّا لمّا أصيب في تلك الواقعة؛و دفن على تلك الهيئة،فلمّا حلوا تلك العصابة جرى الدم(دمه)من رأسه حتى امتلأ منه القبر فلمّا شدوا عليه تلك العصابة إنقطع الدم فلمّا حلوها جرى الدم،و كلما أرادوا أن يعالجوا قطع الدم بغير تلك العصابة لم يمكنهم،فتبين لهم حسن

ص:186

حاله،فأمر فبني على قبره بناء و عين له خادما يخدم ققبره؛و الذي يجود بنفسه في ذلك الوقت الضيق و يقدم على القتل و على أن يفدي الحسين عليه السّلام بنفسه لا شكّ في أنّ حاله من أحسن الأحوال.

الخامس إنّ الذي يظهر من هذه الأخبار المعتبرة الصحيحة كما قاله الشهيد الثاني عطر اللّه مرقده هو أنّ الإرتداد كله قسم واحد و إنّه يستتاب صاحبه فإن تاب و إلا قتل،و هذا مذهب ابن جنيد طاب ثراه و الاخبار بإطلاقها أو عمومها دالة عليه و لم يدل على المشهور من التفصيل سوى رواية عمّار الساباطي و هي على ضعفها لا تقوم بتقليد الأخبار الصحيحة المتكثرة،فيكون وقت منع الحر للحسين عليه السّلام إلى وقت رجوعه إليه هو زمن الإستتابة فتاب و قبلت توبته، و بالجملة فالقول بأنّ توبة المرتد الفطري غير مقبولة حتى بينه و بين اللّه تعالى مشكل جدا،و اللّه الهادي إلى سواء السبيل.

نور في الفقر و الزهد و التوكل

الحمد للّه الذي تسبح له الرمال و يسجد له الظلال؛و يتدكدك من هيبته الجبال خلق الإنسان من الطين اللازب و الصلصال،و زيّن صورته بأحسن تقويم و أتمّ إعتداله؛و عصم قلبه بنور الهداية عن ورطات الضلال،و أذن له في قرع باب الخدمة بالغدوّ و الآصال،ثمّ كحّل بصيرة المخلص في خدمته بنور العبرة حتى لاحظ بضياءه حضرة الجلالة فلاح له من البهجة و الفلاح و البهاء و الكمال ما أستقبح دون مبادىء إشراقه كل حسن و جمال،و استثقل ما صرفه عن مشاهدته و ملازمته غاية الإستثقال و تمثل له طاهر الدنيا في صورة امرأة جميلة تميس و تختار، و انكشف له باطنها عن عجوز شوهاء عجنت من طينة الخزي و ضربت في قالب النكال،و هي متلفقة بجلبابها لتخفي قبائح أسرارها بلطائف السحر و الإحتيال؛و قد بصبت حبائلها في مدارج الرجال فهي تقتنصهم بضروب المكر و الإغتيال،ثمّ لا تجتري معهم بالخلف في مواعيد الوصال بل تقيدهم مع قطع الوصال بالسلاسل و الأغلال،و تبديهم بأنواع البلايا و الانكال،فلمذا إنكشف للعارفين منها قبائح الأسرار و الأفعال زهدوا فيما زهد المبغض لها؛فتركوا التفاخر و التكاثر بالأموال،و أقبلوا بكنه هممهم على حضرة الجلالة منها بوصال ليس له انفصال؛و مشاهدة أبدية لا يتريها فناء و لا زوال،و الصلاة على سيدنا محمد سند الأنبياء و على آله و خير آل.

أمّا بعد فإنّ الدنيا عدوة اللّه تعالى بغرورها ظلّ من ظل،و بمكرها زلّ من زل،فحبها رأس الخطيئات السيئات و بغضها أم الطاعات و رأس القربات،و قد قدمنا الكلام في بيان معناها و الآن نتكلم في تحقيق هذه الأمور الثلاثة:

ص:187

امّا الفقر فهو عبارة عن إنزواء الدنيا عن العبد و أمّا الزهد فهو إنزواء العبد عن الدنيا، و أمّا التوكل فهو تفويض العبد أموره إلى مولاه بعد أن فعل ما أوجب عليه من الأسباب،و ذلك كقول الصادق عليه السّلام التوكل أن تعقل بعيرك ثمّ تقول توكلت على اللّه في حفظه،يعني لا يكون إعتمادك في حفظه على العقال،فكم من جمل قد سرق بعقاله،و لا تترك العقال إعتمادا على التوكل فإنّ العقال جزء من مفهوم التوكل و من أكمل شروطه؛فأمّا الفقر فهو فقد ما هو محتاج إليه،فأمّا فقد ما لا حاجة إليه فلا يسمى فقرا،فدل كهذا على أنّ ماسى اللّه فهو فقير لإحتياجه إليه في دوام الوجود؛فالغنى المطلق ليس إلا هو تعالى شأنه؛و الذي أردنا بيانه هنا هو الإحتياج إلى المال و فاقده يدور على خمسة أحوال:

الأولى و هي العليا أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه و تأذّى به و هرب من أهله مبغضا له،و هذا هو الزهد،الثانية أن يكون بحيث لا يرغب فيه و لا يكرهه و هذا هو الرضا،الثالثة أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبته له فيه و لكن لم تبلغ رغبته لأن ينهض بل إن أتاه من غير طلب أخذه،و هذا يسمى قانعا إذ أقنع نفسه بالموجود حتى ترك الطلب.

الرابعة أن يكون تركه للطلب لعجزه و إلا فهو راغب فيه رغبة لوجود سبيلا إلى طلبه و لو بالتعب لطلبه؛و صاحب هذه الحالة يسمّى الحريص،الخامسة أن يكون ما فقده من المال مضطرا إليه كالجائع الفاقد للخبز؛و تسمى هذه لحالة مضطرا.

فأعلى هذه الأحوال هو الزهد،نعم إذا انضمّ الزهد إلى الإضطرار كان هو الأعلى؛ و فوق هذه الحالات كلها حالة أخرى أعلى من الزهد:و هي أن يستوي عنده وجود المال و فقده، و تسمى هذه الحالة غناء النفس و هي التي أشار إليها المسيح عليه السّلام بقوله خادمي يداي، و دابتي رجلاي،و فراشي الأرض و وسادي الحجر،و دفئي في الشتاء مشارق الأرض و سراجي بالليل القمر،و أدامي الجوع،و شعاري الخوف،و لباسي الصوف،و فاكهتي و ريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش و الأنعام،أبيت و ليس لي شيء؛و أصبح و ليس لي شيء؛و ليس على وجه الأرض أحد اغنى مني،و الزهد الذي هو أعلى درجة الأبرار ذنب بالنسبة إلى صاحب هذه المرتبة السادسة،لقول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسنات الأبرار سيئات المقربين.

و قد حقق هذا المعنى بعض أرباب القلوب بأنّ الكاره للدنيا و هي درجة الزهد مشغول بكراهتها كما أنّ الراغب فيها مشغول بها،و الشغل بما سوى اللّه حجاب عنه،لأنّ لا حجاب بينك و بينه سوى شغلك بغيره،كما قال عليه السّلام يا من كان الحاجب للعباد عنه هم العباد، يعني به أنّ الحاجب للعباد عن اللّه سبحانه هو أنفسهم و ما أقترفوه من المعاصي و أتوابه من الشغل بغيره؛فكل مشغول عن اللّه بغيره سواء كان يحب الدنيا أو يبغضها يكون ذلك الشاغل حاجبا له

ص:188

عن ذلك الجناب،و كثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق و المعشوق فإن إلتفت قلب العاشق إلى الرقيب و إلى بغضه و استثقاله فهو في حالة اشتغال قلبه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه؛و لو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق و لم يلتفت إليه،فكما أنّ النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق و نقص فيه فكذا النظر إلى غير المحبوب لبغضه شرك فيه و نقص،و لكنّ أحدهما أخفّ من الآخر،بل الكمال في أن لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب؛بغضا و حبّا،فإنّه لا يجتمع في القلب حبّان في حالة واحدة فلا يجتمع أيضا بغض و حب في حالة واحدة؛فالمشغول ببعض الدنيا غافل عن اللّه تعالى كالمشغول بحبها إلا أن المشغول بحبها غافل و هو في غفلته سألك في طريق البعد و المشغول ببعضها غافل لكنه سالك في طريق القرب، فالكمال له متوقع؛و مثالهما كرجلين في طريق الحج مشغولين بعلف الناقة و ركوبها لكن أحدهما مستقبل القبلة و اليخر مستدبرها،فكلاهما محجوب عن الكعبة إلا أنّ الأول يرجى له الوصول بخلاف الثاني فالاول حاله محمودة بالنظر إلى الثاني و إن كانت ناقصة بالنسبة إلى من هو مقيم على الإعتكاف في الكعبة،و لذلك قيل من زهد في الدنيا و اقتصر عليه فقد استعجل الراحة،فظهر من هذا كله أنّ الزهد الذي هو عدم الرغبة في الدنيا كمال بالإضافة إلى الراضي و القانع و الحريص نقصان بالنسبة إلى غناء النفس.

و اعلم أنّ اسم الفقر يطلق على المراتب الخمسة الأولى؛و أما السادسة فإن أطلق عليها اسم الفقر فإنما يراد بها الفقر إلى اللّه سبحانه لأنّه معنى من معاني الفقير،و حينئذ لا منافاة بين قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللهم إني أعوذ بك من الفقر،و قوله كاد الفقر أن يكون كفرا؛و بين قوله اللهم أحيني مسكينا و امتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين إذ فقر المضطر هو الذي إستعاذ منه،و الإفتقار إلى اللّه عز و جلّ هو الذي سأله،فلا منافاة.

أقول و الأولى في رفع المنافاة التفريع على ما سبق؛و هو أن من درجات الفقر و إطلاقاته و حالاته الإضطرار و هو شدة ما يحتاج إليه من الأموال و المعايش و منه أيضا درجة الرضا؛و هو كما عرفت أن يكون بحيث لا يرغب منه و لا يكرهه،فيكون كل واحد من الحديثين منزّلا على درجة من درجات الفقر.

أمّا حديث الإستعاذة من الفقر فهو منزّل على درحة الإضطرار،فإنّ الإنسان ربما لم يقدر معها على القيام بوظائف العبودية كما تقدم من أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاع في بعض أوقاته فاضطجع على قفاه و لم يتمكن من القيام للصلاة،فكان يقول اللهم إني أعوذ بك من جوع يضجعني على الفراش و ينسيني ذكرك،و هذا المعنى هو المراد من قول مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام صارعت كل شيء فغلبته،و صارعني الفقر فغلبني.

ص:189

و روي أنّه لمّا جاء إعرابي إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال إنّي مأخوذ بثلاث علل:علّة النفس،و علّة الفقر،و علّة الجهل،فأجابه أمير المؤمنين عليه السّلام و قال يا أخا العرب علّة النفس تعرض على الطبيب،و علّة الجهل تعرض على العالم؛و علة الفقر تعرض على الكريم؛فقال الأعرابي يا أمير المؤمنين أنت الكريم و أنت العالم و أنت الطبيب؛فأمر له أمير المؤمنين عليه السّلام بأن يعطى من بيت المال ثلاثة آلاف درهم،و قال تنفق ألفا بعلة النفس،و ألفا بعلة الجهل،و ألفا بعلة الفقر.

و أمّا الدرجة التي طلبها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهي درجة القناعة و الرضا المشار إليها بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللهم ارزق آل محمد الكفاف،و قوله اللهم لا تعطني قليلا فأشقى و لا كثيرا فأطغى و الشقاء هنا بمعنى التعب من باب قوله تعالى طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، نزلت بعد أن كان يصلي عليه السّلام كل الليل فورمت قدماه و تعب من جهة العبادة،و هو المراد أيضا من قوله عليه السّلام إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين،و إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته،و إنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

و من هذا الباب ما رواه شيخنا الكليني(ره)عن النوفلي(ره)رفعه إلى علي بن الحسين عليه السّلام قال مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم براعي إبل فبعث يستسقيه،فقال أمّا ما في ضروعها فصبوح الحي،و أما ما في آنيتها فغبوقهم،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللهم أكثر ماله و ولده ثمّ مرّ براعي غنم فبعث يستسقيه،فجلب له ما في ضروعها و أكفأ ما في إنائه في إناء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعث إليه بشاة؛فقال هذا ما عندنا و إن احببت أن نزيدك زوّدناك،قال فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللهم ارزقه الكفاف،فقال له بعض أصحابه يا رسول اللّه دعوت للذي ردّك بعاء عامتنا نحبه و دعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكرهه،فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما قلّ و كفى خير من ما كثر و ألهى، اللهم ارزق محمدا و آل محمد الكفاف.

و روي عن عمران بن حصين أنّه قال كانت لي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزلة و جاء فقال يا عمران إنّ لك عندنا منزلة و جاها فهل لك في عبادة فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت نعم بأبي أنت و أمي يا رسول اللّه؛فقام و قمت معه حتى وقف بباب فاطمة عليها السّلام فقرع الباب و قال السّلام عليكم أدخل،فقالت فاطمة أدخل يا رسول اللّه؛قال أنا و من معي؟قالت و من معك يا رسول اللّه؟قال عمران قالت فاطمة و الذي بعثك بالحق نبيا ما عليّ إلا عباءة قال اصنعي بها هكذا و هكذا اشار بيده؛قالت هذا جسدي فقد واريته فكيف برأسي؟فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلفه فقال شدي بها على رأسك،ثم أذنت له،

ص:190

فدخل فقال السّلام عليكم يا بنتاه كيف أصبحت؟قالت أصبحت و اللّه وجعة و زادني وجعا على ما بي أنّي لست أقدر على طعام آكله فقد أضرني الجوع،فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال لا تجزعي يا بنتاه و اللّه ما ذقت طعاما منذ ثلاث،و إنّي لأكرم على اللّه منك و لو سألت ربي لأطعمني و لكني آثرت الآخرة على الدنيا،ثمّ ضرب بيده على منكبها و قال لها أبشرى فو اللّه إنّك لسيدة نساء أهل الجنّة،قالت فأين آسية امرأة فرعون و مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد؟قال آسية سيدة نساء عالمها،و مريم سيدة نساء عالمها،و خديجة سيدة نساء عالمها،و أنت سيدة نساء عالمك إنّكن في بيوت من قصب لا أذى فيها و لا صخب و لا نصب،ثمّ؛قال لها اقنعي بابن عمك فو اللّه لقد زوجتك سيدا في الدنيا و سيدا في الآخرة روى هذا الحديث الغزالي و غيره؛و مع هذا ذهبوا إلى عايشة أفضل من فاطمة،و هذا ليس بأوّل قارورة كسرت في الأسلام.

و عن أبي الدرداء قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول يدخل فقراء المسلمين الجنّة قبل الأغنياء بخمسئة عام حتى أن الرجل من الأغنياء يدخل في غماره فبأخذ بيده فيستخرج،و جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبى عليه أن يقبلها و طلب إليه الرجل؛فقال أ تريد أن أمحو إسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف لا أفعل،و قل أبو الدرداء ما من احد إلا و في عقله نقص؛و ذلك أنّه إذا أتته الدنيا بالزيادة ظلّ فرحا مسرورا،و الليل و النهار دائبان في هدم عمره ثمّ لا يحزنه ذلك،ويح ابن آدم ما ينفعه مال يزيد و عمر ينقص،و يصدق هذا أن الرجل إذا كان له عند أحد دين أو عطاء مقرر و يكون موزعا على الشهور كيف تراه يحب أن يقض الأشهر و السنون حتى يحل وقت الدين و العطاء مع أنّ ما يذهب من عمره لم يرجع إليه أبدا،مفقود المال يمكن رجوعه فهذا أيضا من نقصان العقل.

فقال الحسن عليه السّلام لعن اللّه أقواما أقسم اللّه عز و جل لهم ثمّ لم يصدقوه ثمّ قرأ و في السماء رزقكم و ما توعدون فورب السماء و الأرض،و كان ابو ذر رضي اللّه عنه يوما جالسا فأته امرأة،فقالت له تجلس بين هؤلاء و اللّه ما في البيت هفّة و لا سفة (1)فقال يا هذه إنّ بين أيدينا عقبة كؤدا لا ينجو منها إلا كل مخف،فرجعت و هي راضية،و بروى أن اللّه عز و جل قال في بعض الكتب المنزلة يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت فإذا أنا أعطيتك منها القوت و جعلت حسابها على غير كفأنا محسن إليك.

و عن أنس بن مالك قال بعث الفقراء رسولا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال إني رسول الفقراء إليك،فقال مرحبا بك و بمن جئت من عندهم قوم أحبهم،قالوا

ص:191


1- (1) يقال:ما في بيتك هفة و لا سفة أب لا مشروب في بيتك و لا مأكول.

يا رسول اللّه إنّ الأغنياء ذهبوا بالحسنة يحجون و لا نقدر عليه و إذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلّغ عني الفقراء إنّ لمن صبر و احتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء أمّا خصلة واحدة فإنّ في الجنة غرفا ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر اهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير،او مؤمن فقير،و الثانية يدخل الفقراء الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم و هو خمسمائة عام؛الثالثة إذا قال الغني سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله الا اللّه و اللّه أكبر؛فقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير و إن أنفق فيها عشرة آلاف درهم؛و كذلك أعمال البر كلها؛فرجعا اليهم فقالوا رضينا رضينا.

فإن قلت كيف فضل تسبيح الفقراء على تسبيح الأغنياء مع أنّ كلا منهما طاعة له تعالى كما هو المفروض و ليس في لأحدهما رياء،قلت الجواب عن هذا من وجوه الأول أن أفضل أفراد الغني هو الذي ينفق في سبيل اللّه تعالى واجباته و مستحبانه و مع هذا فصاحبه في أمن من الدنيا مستشعرا راحة بذله و هو مما يورث الإنس لهذا العالم و الوحشة من الآخرة؛و بقدر ما يستأنس العبد بالدنيا يستوحش من الآخرة لأنّهما كالمشرق و المغرب بقدر ما تقرب من أحدهما تبتعد من الآخر؛و مهما إنقطعت اسباب الأنس بالدنيا تجافى القلوب عن الدنيا و زهرتها؛و القلب إذا تجافى عن ما سوى اللّه عز و جل و كان مؤمنا باللّه إنصرف لا محالة إلى اللّه،إذ لا يتصور قلب فارغ، و ليس في الوجود إلا اللّه،فمن أقبل على غيره تجافى عنه و من أقبل عليه تجافى عن غيره؛ فالغني قلبه مشغول بماله و محبته كامنة فيه كمون النار في الأحجار،فعلاقة الفقير و أنسه في الدنيا أضعف و بقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته و عباداته،فإن حركات اللسان ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الإنس بالمذكور،فلا يكون تأثيره في إثارة الأنس في قلب فارغ من غير المذكور كتأثيره في قلب مشغول،و لذلك قيل مثل من تعبد في طلب الدنيا مثل من يطفى النار بالحلفاء،و مثل من يغسل يده من الغمر بالسمك و من دخل السوق فرأى شيئا يشتهيه فصبر و احتسب كان خيرا له من ألف دينار أنفقها كلها في سبيل اللّه عز و جلّ.

الثاني أنّ داعي الفقير إلى العبادة غايب و داعي الغنى حاضر لأنّ من دواعيه إلى العبادة إتمام النعمة عليه فهو ناظر إلى قوله تعالى و لئن شكرتم لازيدنكم؛فداعي الغني الذي ينشطه على العبادة حاضر موجود بخلاف الفقير فإنّه لا داعي له كذلك،فاعتماده على غايب دليل على قوة إيمانه و وفور إخلاصه.

الثالث أنّ مثل الفقير العابد و الغني العابد مثل مولى له مملوكان فخلع على احدهما و كساه و لم يخلع على الآخر و لم يكسه و كلاهما مشغول بخدمته؛فلا ريب أنّ خدمة ذلك العبد

ص:192

الذي لم يخلع عليه و لم يعطه شيئا كثيرا أقبل عند اهل العقل و الكمال من خدمة الآخر؛و هذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى الوجهين الأولين.

و لنرجع إلى الكلام الأول فنقول:للفقير قانون شرعي في باطنه و ظاهره و مخالطته و أفعاله، امّا الباطن فأن لا يكون فيه كراهة لما أورده اللّه سبحانه عليه من الفقر يعني لا يكون كارها له من حيث أنّه فعل اللّه سبحانه،و إن كان كارها له من حيث التألّم به و ذلك كالحجّام فإنّ المحجوم و إن كان كره فعله من حيث الألم لكن من حيث أنّه فعل الحجّام براد له،و يرى أنّ للحجّام المنّة عليه بذلك؛و هذا المعنى واجب و نقيضه حرام محبط للأجر،و ألى هذا الاشارة بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا معشر الفقراء اعطوا اللّه الرضا من قلوبكم تضفروا بثواب فقركم،و إلا فلا؛و ارفع من هذا أن لا يكون كارها للفقر بل يكون راضيا به،و أعلى منهما أن يكون طالبا لعلمه بغوائل الغنى.

و روي عن على عليه السّلام أنّ للّه عقوبات و مثوبات بالفقر فمن علامات الفقر إذا كان مثوبة إن يحسن عليه خلقه،و يطيع به ربّه و لا يشكو حاله و يشكر اللّه تعالى على فقره،و من علامة ان يكون عقوبة ان يسوء عليه خلقه و يعصي ربّه و يكثر الشكاية،و يتصخت القضاء،و هذا يدل على أن الفقر المحمود ذلك الفرد إذ قيل ما أعطي عبد شيئا من الدنيا إلا قيل له خذه على ثلاثة أثلاث:شغل،و همّ،و طول حساب و أمّا الظاهر فبأن يظهر التعفف و التجمل و لا يظهر الفقر و الشكوى؛ففي الحديث أنّ اللّه تعالى يحب الفقير المتعفف أبا العيال،و إذا أراد إظهاره فلا بظهر إلا لأخ في الأيمان لأنّ الشكوى إليه ربّما ترتب عليها بعض الفوائد،و لا بدّ من شكوى إلى ذي صبابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع،و لأن المحن و زحمات القلوب ربما كان القلب لا يطيق تحملها كما لا يطيق تحمل غيرها.

روي عن جابر بن يزيد الجعفي قل حدثني أبو جعفر عليه السّلام سبعين ألف حديث لم أحدث بها احدا و لن أحدث بها أحدا أبدا،قال جابر قلت لأبي جعفر عليه السّلام جعلت فداك إنّك قد حمّلتني وقرا عظيما بما حدثتني به من سركم الذي لا أحدث به أحدا فربّما جاش في صدري حتى يأخني منه شبه الجنون،قال يا جابر إذا كان كذلك فاخرج إلى الجبّانة فاحفر حفيرة و دلّ رأسك فيها ثمّ قل حدّثني محمد بن على بكذا و كذا؛فإنّ الأرض تحمل حديثنا،فإذا كانت القلوب لا تطيق حمل العلوم مع كونها لذة محضة فكيف تطيق حمل أثقال الهموم و الغموم التي صرعت مثل أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله عليه السّلام صارعني الفقر فغلبني (1)

ص:193


1- (1) ينسب إلى أمير المؤمنين(ع)قوله:

روى أخطب خوارزم إنّ إعرابيا جاء إلى الحسين عليه السّلام و قال يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد ضمنت دية كاملة و عجزت عن ادائه فقلت في نفسي أسأل أكرم النّاس،و ما رأيت أكرم من اهل بيت رسول اللّه؛فقال الحسين عليه السّلام يا اخا العرب اسألك عن ثلاث مسائل فإن أجبتك عن واحدة أعطيتك ثلث المال،و إن اجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال،و إن اجبت عن الكل أعطيتك الكل،فقال الإعرابي يا ابن رسول اللّه أمثلك يسأل مثلي و انت من أهل بيت العلم و الشرف،فقال الحسين عليه السّلام بلى سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول المعروف بقدر المعرفة؛فقال الإعرابي سل عمّا بدا لك فإن أجبت و إلا تعلمته منك،و لا قوة إلا باللّه،فقال الحسين عليه السّلام فما النجاة عن الهلكة؟فقال الإعرابي الثقة باللّه فقال الحسين عليه السّلام فما يزين الرجل؟فقال الإعرابي علم معه حلم، فقال فإن اخطأ ذلك،فقال مال معه مبرة،فقال فإن اخطأ ذلك فقال فقر معه صبر،فقال الحسين عليه السّلام فإن أخطأ ذلك،فقال الإعرابي فصاعقة تنزل من السماء و تحرقه فإنّه اهل لذلك،فضحك الحسين عليه السّلام و رمى إليه بصرّة فيها ألف دينار؛و أعطاه خاتمه و فيه فص قيمته مائتا درهم،و قال يا إعرابي إعط الذهب ألى غرمائك و اصرف الخاتم في نفقتك فاخذ الإعراب و قال اللّه أعلم حيث يجعل رسالته.

و امّا في مخالطته فبأن لا يتواضع لغني لاجل غناه بل يتكبر عليه لاجله؛روي عن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام انه قال ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب اللّه تعالى و أحسن منه تيه (1)الفقير على الغني ثقة باللّه عز و جل فهذه رتبة و أدون منها أن لا يرغب في مخالطة الأغنياء لأنّ ذلك من مباديء الطمع،قال بعضهم و إذا خالط الفقير الأغنياء فاعلم أنّه مراء و إذا خالط السلطان فاعلم أنّه لص و أما اذا في أفعاله فبأن لا يفتر عن العبادات بسبب الفقر و لا يمتنع عن التصدق الممكن،ففي الرواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم درهم من الصدقة أفضل عند اللّه تعالى من مائة ألف درهم،قيل و كيف يا رسول اللّه؟فقال أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف فتصدّق بها و أخرج رجل درهما لا يملك غيرهما طيبة به نفسه؛فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب المائة ألف،و قد تقدمت الرواية في ذلك الفقير الذي حمل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمرة واحدة فوضعها على تمور الصدقة؛فأنزل اللّه سبحانه قرآنا في مدائحة.

ص:194


1- (1) تاه تيها تكبّر

و ينبغي ان لا يدخره مالا بل ياخذ قدر الحاجة و يخرج الباقي و الإدخار على ثلاث مراتب ؛أحدهما أن لا يدخر إلا ليومه و ليلته و هي درجة الصدّقين،و الثانية أن يدخر لأربعين يوما لأن ما زاد داخل في طول الأمل كما فهمه العلماء من ميعاد اللّه تعالى لموسى عليه السّلام و هذه رتبة المتقين:و الثالثة أن يدخر لسنة و هي رتبة الصالحين،قال الصادق عليه السّلام إنّ النفس اذا احرزت قوت سنتها أستقرت و ما زاد على ذلك فهو همّ و غمّ و خروج عن الوثوق بفضل اللّه سبحانه.

و امّا آداب الفقير في قبوله للعطاء بغير سؤال فهو ثلثه أيضا،الأول لا يلاحظ الفقير نفس المال و هو كونه حلالا خاليا عن الشبهات فأنّ البعد عن الشبهات درجة الصالحين،الثاني ان يلاحظ غرض المعطي و هو أمّا أن تطيب قلب الفقير و طلب محبته و هو الهدية،أو الثواب و الصدقة و الزكاة او الذكر و الرياء و السمعة أمّا على التجرد أو ممزوجا ببقية الأغراض،أما الأول و هو الهدية فلا بأس بقبولها فإن قبولها سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:و لكن ينبغي أن لا يكون فيها منّة؛فإنّ علم أنّ بعضها مما يعظم فيه المنّة فليرد البعض دون البعض.

فقد أهدي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمن و أقط و كبش،فقبل السمن و الأقط و رد الكبش و كان يقبل من بعض الناس و يرد على بعض،حتى قال لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو ثقفي أو دوسي،و أمّا إذا كان غرض المعطي الثواب المجرد كصدقة أو زكاة فعلى الفقير أن ينظر في صفات نفسه أنّه هل هو من اهل الإستحقاق لها أم لا،و إن كانت صدقة و كان يعطيه لدينه و لظاهره من الصلاح فلينظر هو إلى باطن نفسه فإن كان مقارفا(متقا)لمعصية في السر و يعلم انّ المعطي لو علم ذلك لنفر طبعه و لما تقرب إلى اللّه تعالى بالتصدق عليه فهذا حرام كما قيل،و ذلك كما لو عطى هو لظنّه أنه عالم أو علوي و لم يكن فإنّ أخذه لا شك في حرمته، و قد يكون غرض المعطي الشهرة و الرياء فينبغي للفقير ان لا يأخذ لئلا يكون معينا له على ذلك الغرض الفاسد،و عوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة؛فقال إنّما أردت صلتهم إشفاقا و نصحا لهم لأنّهم يذكرون ذلك و يحبون أنت يعلم يعلم به فتذهب اموالهم و تحبط اجورهم؛فإذا علم الفقير هذه الأمور و خلّو ذلك المال منها فليأخذ ما أعطوه؛كما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ما المعطي من سعة بأعظم اجرا من اليخذ إذا كان محتاجا،و من أتاه شيء من هذا المال من غير مسألة و لا إستشراق فإنّما هو رزق ساقه اللّه إليه.

و قال الصادق عليه السّلام تارك أخذ الزكاة و قد وجبت له كتارك دفعها و قد وجبت عليه ،و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا حق لابن آدم إلا في ثلاث:طعام يقيم صلبه

ص:195

و ثوب يواري عورته؛و بيت يكنّه،فما زاد فهو حساب؛فإذا أنت في أخذ الحاجة من هذه الثلث مثاب،و فيما زاد عليه إن لم تعص اللّه متعرض و إن عصيت اللّه تعالى فأنت متعرض للعذاب.

و اعلم أن السؤال من غير حاجة مما لا يبعد القول بتحريمه لانّه لا ينفك عن ثلاث أمور محرمة؛الأول إظهار الشكوى من اللّه تعالى كما أنّ العبد المملو لو سأل لكان سؤاله تشنيعا على سيده فكذا سؤال العبد تشنيعا على اللّه تعالى؛و هذا ينبغي أن يحرم و لا يحل إلا لضرورة كالميتة،و الثاني إنّ فيه إذلال السائل نفسه لغير مولاه و ليس للمولى ان يذل نفسه إلا للّه إلا لضرورة؛و كان الباقر عليه السّلام إذا أعطى الفقراء أعطاهم من تحت حجاب فقيل له في ذلك فقال لئلا أرى ذل السؤال في وجوه السائلين و قال الصادق عليه السّلام إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام بعث إلى رجل خمسة أو ساق من تمر و كان ذلك الرجل ممن يرجى رفده و كان لا يسأل عليا عليه السّلام و لا غيره شيئا،فقال رجل لأمير المؤمنين عليه السّلام و اللّه ما سألك فلان شيئا و لكان يجزيه من الخمسة الأوساق وسق واحد،فقال له يا أمير المؤمنين عليه السّلام لا كثر اللّه في المؤمنين مثلك،اعطي أنا و تبخل أنت به،إذا انا لم أعط الذي يرجوني إلا من بعد مسألتي ثمّ أعطيته بعد المسألة فلم اعط إلا ثمن ما أخذت منه،و ذلك لأنّي عرضته لان يبذل لي وجهه الذي يعفره في التراب لربي و لربه عز و جل عند تعبده له،و طلب حوايجه إليه فمن فعل هذا باخيه المسلم و قد عرف أنّه موضع لصلته و معروفه فلم يصدق اللّه عز و جل في دعاءه له حيث يتمنى له الجنة بلسانه و يبخل عليه بالحطام من ماله،و ذلك أنّ العبد قد يقول اللهم اغفر للمؤمنين و المؤمنات فإذا دعى له بالمغفرة فقد طلب له الجنة فما أنصف من فعل هذا بالقول و لم يحققه بالفعل.

و روى صاحب كشف الغمّة أنّ رجلا جاء إلى الحسين عليه السّلام و سأله حاجة فقال له يا هذا حق سؤالك يعظم لديّ و ممعرفتي بما يجب لك تكبر لدي،و يدي تعجز عن نيلك بما أنت اهله،و الكثير في ذات اللّه عز و جل قليل،و ما في ملكي وفاء لشكرك،فإن قبلت الميسور و رفعت عني معونة الاهتمام لما أتكلفه من واجبك فعلت،فقال يا ابن رسول اللّه أقبل القليل و أشكر العطية و اعذر على المنع؛فدعا الحسن عليه السّلام بوكيله و جعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها،فقال هاتي الفاضل من الثلاثمائة الف درهم فاحضر خمسين ألفا؛قال فما فعل الخمسمائة دينار؟قال هي عندي قال أحضرها؛فأحضرها فاحضرها فدفع الدراهم و الدنانير إلى الرجل و قال هات من يحملها فاتاه بحمّالين فدفع الحسن عليه السّلام إليه رداءه لكري الحمّالين، فقال مواليه ما عندنا درهم،فقال لكني أرجو أن يكون لي عند اللّه أجر عظيم.

ص:196

و روى أيضا عن المدايني قال خرج الحسن و الحين عليهما السّلام،و عبد اللّه بن جعفر حجّاجا ففاتهم اثقالهم؛فجاعوا و عطشوا فموا بعجوز،فقالوا هل من شراب؟قالت نعم؛ فأناخوا و ليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة؛فقالت إحلبوها و امتذقوا لبنها،ففعلوا ذلك و قالوا لها هل من طعام؟قالت لا إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهييء لكم شيئا تأكلون فذبوحها فهيأت لهم طعاما فأكلوه؛فلما ارتحلوا قالوا نحننفر من قريش نريد هذا الوجه،فإذا رجعنا سالمين فألّمي بنا فإنّا صانعون إليك خيرا ثمّ ارتحلوا فأقبل زوجها فغضب على صنعها،ثمّ بعد مدة ألجأتهم الحاجة إلى دخول المدينة،فجعلا يبيعان البعر و يعيشان منه فمرت العجوز في بعض سكك المدينة فإذا الحسن عليه السّلام على باب داره جالس،فعرف العجوز و هي له منكرة ،فبعث له غلامها فردها،فقال يا أمة اللّه تعرفيني؟قالت لا،قال انا ضيفك يوم كذا،فقالت العجوز بأبي أنت و أمي فأمر الحسن عليه السّلام فاشترى لها من شاة الصدقة ألف شاة،و أمر لها بألف دينار و بعث معها غلامه إلى أخيه الحسين عليه السّلام،فقال بكم وصلك أخي الحسن؟ فقالت بألف شاة و ألف دينار فامر لها بمثل ذلك؛ثمّ بعث بها مع غلامه إلى عبد اللّه بن جعفر، فقال بكم وصلك الحسن و الحسين عليهما السّلام؟فقالت بألفي دينار و ألفي شاة فامر لها عبد اللّه بألفي شاة و الفي دينار،و قال لوبد أبي لأتعيتهما فرجعت العجوز إلى زوجها بذلك و في بعض كتب العربية انّ شاعرا أتى معن بن زايدة و هو في قصر إمارته فلم يجد إليه سبيلا،فرأى نهرا يجري إلى داخل القصر؛فكتب هذا البيت بقرطاسة و وضعها على خشبة و سيّرها الماء حتى ادخلها القصر؛فاتفق أن معنا كان جالسا على شاطيء النهر فرأى الخشبة و عليها القرطاسة،فأخذها و قرأ ما فيها و هو:

أيا جود معن ناج معنا بحاجتي فليس إلى معن سواك شفيع

فخرج من قصره و استدعاه فأتى به فقال أنت الذي كتبت هذا الشعر؟فقال نعم،فأمر له بمائة ألف درهم؛فأخذها و مضى إلى الخان،فلمّا كان اليوم الثاني طلبه و اخرج القرطاسة و قرأ ذلك الشعر و أمر له بمائة ألف درهم،و بقي على هذا الحال خمسة أيّام،ثمّ أن ذلك الشاعر خاف من ندامته على الدراهم فأخذها و مضى بها إلى البلد فطلبه اليوم السادس،فقيل له إنّه سافر فقال و اللّه إنّ طالع خزانتي أقوى من طالعه فو اللّه لو بقي في البلد لأعطيته كل درهم و دينار في خزانتي؛فانظر إلى هذه السخاوة الجيدة.

الأمر الثالث في السؤال أنّه لا ينفك عن إيذاء المسئول غالبا؛لأنّه ربّما لا تسمح له نفسه بالبذل عن طيبة قلب فإن بذل حياء من السائل و رياء فلعله يكون حراما على الآخذ،و إن منع ربما استحى من المنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء،ففي البذل نقصان ما له و في المنع نقصان

ص:197

جاهه و كلاهما مؤذييان و السائل هو السبب في الأيذاء و الأيذاء حرام إلا لضرورة،و قد اتضح بهذه الأمور الثلاثة معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسألة النّاس من الفواحش مأحلّ من الفواحش غيرها فسمّاها فاحشة،و لا شك أنّما الفاحشة تباح عند الضرورة فقط.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من سال عن غنى فإنّما يستكثر من جمر جهنّم،و من سأل و له ما يعينه جاء يوم القيامة و وجهه عظم يتقعقع ليس عليه لحم،و ما أحسن قول بعض العارفين بأنّ الفقير إذا أخذ مع علمه بأن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين و لولاه لما ابتدأه به يكون ذلك الأخذ حراما بلا خلاف فيه بين الأمة و حكمه حكم الآخذ من غيره بالضرب إذ لا فرق بين أن يضرب جلده بسياط الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء و خوف الملام، و ضرب الباطن أشد نكاية في قلوب العقلاء؛و لا يجوز ان يقال هو في الظاهر رضي به و مدار الأحكام الشرعية على الظواهر،لأن الفرق بين الصورتين ظاهر لا يخفى،نعم الإطلاع على البواطن عسر جدا لأن السائل ربما ظن أن المعطي راض و هو غير راض،و من جهة هذا ترك المتقون السؤال رأسا؛و لكن قرائن الاحوال ربما أطلعت السائل على بواطن بعض النّاس دون البعض،فإذا احتاج إلى السؤال فلا يسأل إلا من قامت له القرينة على حسن باطنه و إنّ عطاءه خال من الأمور،اما إذا علم السائل أو الوالي بأن المعطي إنّما اعطاه لفقره او لإضطراره الشديد كأن لا يجد طعام ليلة أو أكثر أو أقل و كان عنده أزيد مما ظنّ به المعطي و اعطاه لتلك الحالة فقد جزم أهل التحقيق بأنّ ذلك الطعام أو المال حرام على السائل و يجب عليها و على الوالي أن يرجعه إلى أهله،فإن لم يعرفوه تصدق لهم به على المساكين او صرفه في وجه من وجوه مصالح المسلمين،و ينزل أخذ السائل مع إظهار الحاجة كاذبا كأخذ العلوي بقوله إني علوي و هو كاذب؛ فإنّه لا يملك ما ياخذ،و كأخذ الصوفي و الصالح الذي يعطي لصلاحه و هو في الباطن يقترف معصية لو عرفها المعطي ما اعطاه.

و اما الشيء الذي يطلبه السائل فهو دائر بين أحوال أربعة أما أن يكون مضطرا إليه أو محتاجا إليه حاجة شديدة أو خفيفة او لا حاجة به إليه،أما المضطر إليه كسؤال الجائع عند الخوف على نفسه فهو واجب إلا أن يكون قادرا على الكسب و هو غير مشغول بتحصيل العلم بحيث يستغرق وقته فيه،و أما الذي لا حاجة به إلى السؤال فسؤاله حرام قطعا،و أمّا شدة الإحتياج كمن له جبة و لا قميص له تحتها في الشتاء و هو يتأذى بالبرد لكن لا يبلغ تأذيه الضرر فهنا الأولى ترك السؤال،و إذا سأل هذا ينبغي له الصدق في سؤاله كأن يقول ليس تحت جبتّي قميص و البرد يؤذيني و انا أطيقه و لكن يشق عليّ و أما الحاجة الخفيفة فمثل سؤاله قميصا يلبسه فوق ثيابه عند خروجه ليستر الخروق من ثيابه عن أعين الناس،و من يسأل إلإدام و هو قادر على

ص:198

الخبز،أو أن يسأل كراء الفرس في الطريق و هو قادر على كراء الحمار فقد قيل إن كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام،و إن لم يكن و كان فيه شيء من المحذورات الثلاثة من الشكوى أو الذل أو إيذاء المسئول فهو حرام؛لأنّ مثل هذه الحاجة لا تصلح لأن يباح بها مثل هذه المحذورات،و إن لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع الكراهة.

فإن قلت كيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحذورات؟قلت ذكر له بعض أهل السلوك طريقا:و حاصله أنّ دفع الشكوى أن يظهر الشكر للّه عند السؤال و الإستغناء عن الخلق فلا يسأل سؤال محتاج و لكن يقول أنا مستغن بما أملكه و لكن نفسي تطالبني بهذا؛فيخرج به عن حد الشكوى،و أما الخروج عن حد الذل فبأن يسأل شخصا لا ينقصه ذلك في عينه و لا يحتقره بسبب سؤاله،و أما إيذاء المسئول فسبيل الخروج عنه هو أن لا يعين شخصا حين السؤال بل يلقي الكلام مجملا بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرعا بصدق الرغبة و أما إذا سأل معينا فينبغي أن لا يصرح بل يعرض تعريضا يبقى له سبيل إلى التغافل إن أراد؛فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه ذفلك دليل على رغبته به و ينبغي للسائل أن يسأل من لا يستحي منه لو رده أو تغافل عنه فإنّ الحياء من السائل يؤذي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه قد سبق في الخبر تحريم السؤال عن ظهر غنى فما حد الغنى؟ و تحديده لا يخلو من إشكال لإختلاف الأخبار،فقد ورد في الحديث إستغنوا بغناء اللّه تعالى، قالوا و ما هو؟قال غذاء يوم و عشاء ليلة،و في خبر آخر من سأل و له خمسون درهما أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافا،و في حديث آخر أربعون درهما،و ينبغي تنزيل هذه الأخبار على الأحوال المختلفة.

و روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا حق لإبن آدم إلا في ثلاث:طعام يقيم به صلبه؛و ثوب يواري به عورته،و يبت يكنّه،و ما زاد فهو حساب،و ذكر هذه الأجناس الثلاثة مثالا لكثرة الإحتياج إليها و إلا فما بمعناها حكمه حكمها أيضا.

فأما الثواب فيراعى فيه ما يليق بذوي الدين و هو قميص و منديل و سراويل و مداس و الثاني مستغنى عنه؛و ليقس على هذا أثاث البيت،و أما الطعام في اليوم فقدره في الشرع مد و أما المسكن فهو ما يحتاج إليه من غير زينة،و أما بالإضافة إلى الأوقات فما يحتاج إليه من الطعام في الحال مما لا شكّ فيه.

فأما السؤال لما سيأتي فالضابط فيه أنّه إذا كان عنده طعام سنة فالسؤال حرام،و أما إذا كان أقل فله حالات و درجات في الفضل و الفضيلة حتى يبلغ الأربعين يوما فإذا كان عنده طعامها فلا يسأل،و أفضل من هذا كله ترك السؤال إذا كان عنده غداء يومه و عشاءه،و في الحديث

ص:199

القدسي يا ابن آدم كما لا أطلب منك عمل غد في هذا اليوم فلا تطلب أنت منّي رزق غد في هذا اليوم،هذا محصل الكلام في الفقر.

و أما ما يوجبه فروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال عشرون خصلة تورث الفقر،أوله القيام من الفراش للبول عريانا،و الأكل جنبا،و ترك غسل اليدين عند الأكل ؛و إهانة الكسيرة من الخبز،و إحراق الفوم و البصل،و القعود على أفنية البيت،و كنس البيت بالليل و بالثوب،و غسل الأعضاء في موضع الإستنجاء و مسح الأعضاء المغسولة بالمنديل و الكم، و وضع القصاع و الأواني غير المغسولة،و وضع أواني الماء غير مغطاة الرؤوس،و ترك بيوت العنكبوت في المنزل؛و استخفاف الصلاة،و تعجيل الخروج من المسجد؛و البكور إلى التسوق؛ و تأخير الرجوع عنه إلى العشاء،و شراء الخبز من الفقراء؛و اللعن على الأولاد،و الكذب، و خياطة الثوب على البدن و إطفاء السراج بالنفس،و في خبر آخر و البول في الحمّام،و الأكل على الجشاء،و التخلل بالطرفاء و النوم بين العشائين،و النوم قبل طلوع الشمس،ورد السائل الذكر بالليل،و التمشط من قيام،و اليمين الفاجرة،و قطيعة الرحم و أما الزهد فهو إنصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فإذا يستدعي حال الزهد مرغوبا عنه و مرغوبا فيه و شرط المرغوب عنه أن يكون مرغوبا فيه بوجه من الوجوه؛و بالجملة فلا يتصور الزهد إلا بالعدول غير المحبوب إلى الاحب و الذي يرغب عن كل ما سوى اللّه تعالى حتى الفراديس فلا يحب إلا اللّه فهذا هو الزهد المطلق و أما الذي رغب عن الدنيا و لكن طمع في حور العين و قصورها فهذا أيضا زاهد و لكنه دون الأوّل.

و أما الذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض كالذي يترك التوسع في الأكل و لا يترك التجمّل في الزينة فلا يستحق إسم الزهد مطلقا و إن كان زهدا صحيحا كما أنّ التوبة عن بعض المعاصي صحيحة دون البعض الآخر على ما تقدم،فإذن الزهد المبحوث عنه هو الرغبة عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير اللّه تعالى إليه تعالى،و إشترط بعضهم في المرغوب عنه ان يكون مقدورا عليه فإن ترك ما لا يقدر عليه محال؛و قد يقوى اليقين في تلك النشأة حتى يبيع الرجل نفسه كما قال اللّه تعالى إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأنّ لهم الجنّة؛ثمّ بين أنّ صفقتهم رابحة فقال فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به.

و قد ورد في الأخبار أنّ عليا عليه السّلام باع نفسه على اللّه تعالى،و قد اشترط اللّه عليه وقت الشراء الصبر على ما أصابه بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الظالمين،وز إلى ما ذكرنا من أنّه يشترط في الزهد الرغبة عن محبوب إلى أحب منه الإشارة بما روى أنّ رجلا قال في دعاءه اللهم ارني الدنيا كما تراها،فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تقل هكذا و لكن قل اللهم

ص:200

أرني الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك،و ذلك أنّ اللّه تعالى يراها حقيرة كما هي،و امأ العبد فيراها حقيرة في حق نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له؛و هذا هو الزهد فلا بد في الثواب من أن تكون محبوبة له في نفسها حتى يتركها إلى غيرها؛و ليس من الزهد ترك المال و بذله لى سبيل السخاء و الفتوّة و على سبيل استمالة القلوب و إن كان كل ذلك من محاسن العادات و لا مدخل له في العبادات،و إنّما الزهد ان تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة،أما كل نوع من الترك فإنّه يتصور ممن لا يؤمن بالآخرة.

و أما الاخبار الواردة في فضيلة الزهد فكثيرة جدا،ففي الرواية عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم من أصبح و همّه الدنيا شتت اللّه عليه امره و فرّق عليه ضيعته،و جعل فقره بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب اللّه له،و من اصبح و همّه الآخرة جمع اللّه همّه و حفظ عليه ضيعته، و جعل غناه في قلبه و اتته الدنيا و هي راغمة،و قال إبراهيم بن أدهم لشقيق بن إبراهيم حين قدم عليه من خراسان كيف تركت الفقراء من أصحابك؟قال تركتهم إن أعطوا شكروا و إذا منعوا صبروا؛و ظنّ أنّه لمّا وصفهم بترك السؤال فقد أثنى عليهم غاية الثناء،فقال إبراهيم هكذا تركت كلاب بلخ عندنا؛فقال شقيق فكيف الفقراء عندك يا ابا إسحاق؟فقال الفقراء عندنا إن منعوا شكروا و إذا أعطوا أثروا،فقبّل رأسه فقال صدقت يا أستاذ و أمّا تفاصيل الزهد و درجاته بالإضافة ألى نفسه فثلاث:الأولى ان يزهد في الدنيا و هو لها مشته و قلبه إليها مايل و لكنّه يجاهد نفسه و يكفذها؛و هذا يسمى المتزهد و هو مبدأ الزهد،و هذه هي الدرجة السفلى و صاحبها على خطر،فإنّه ربما تغلبه نفسه على العود إلى الدنيا.

الثانية الذي يترك الدنيا طوعا لإستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كالذي يترك درهما لأجل درهمين فإنّه لا يشق عليه ذلك،و هذا الزاهد يلتفت إلى زهده و يظن أنّه ترك شيئا له قدر إلى ما هو أعظم قدرا منه؛و ربّما أعجب بنفسه و زهده.

و الثالثة و هي العليا التي يزهد طوعا و يزهد في زهده و لا يرى أنّه ترك شيئا إذا عرف أنذ الدنيا لا شيء،فيكون عند نفسه كمن ترك خزفة و اخذ جوهرة فإنّه لا يرى أنّ هذا معاوضة و أنّه ترك شيئا بالإضافة إلى اللّه تعالى و إلى نعيم الآخرة؛قيل و مثل من ترك الدنيا للآخرة عند أرباب القلوب و أهل المعرفة مثل من أراد الدخول على السلطان فمنعه كلبه عن الدخول،فرمى إليه لقمة خبز فشغله بها فدخل على السلطان و نال على أعلى درجات القرب منه أ فتراه يقدر أن يمنّ على الملك بأنّي أعطيت كلبك لقمة خبز حتى أنّك بلّغتني هذه الدرجة،فالشيطان كلب على باب اللّه تعالى يمنع النّاس من الدخول مع أنّ الباب مفتوح و الحجاب مرفوع،و الدنيا كلقمة خبز بل

ص:201

أقل بالنسبة إليّ ما أعد اللّه تعالى للزاهدين في دار النعيم؛فكل واحدة من هذه الدرجات لها درجات؛و أمّا إنقسامه بالإضافة إلى المرغوب فيه فثلاث درجات أيضا.

الأولى أن يكون المرغوب فيه النجاة من النّار و من ساير الآلام كأن يسمع أنّ في جهنّم عقارب كالبغال المعلّفة و إنّ فيها حيّات لو نفخت منها حيّة في الدنيا لا ذابت الجبال و الأحجار و لما بقي على وجه الأرض رطب و لا يابس إلا احترق،و إنّ الرجل ليوقف في الحساب حتى و لو وردت مائة بعير عطاشى على عرقه لصدرن رواء؛فهذا زهد الخائفين و سمّى الصادق عليه السّلام عبادة هؤلاء بأنها عبادة العبيد و هو الخوف من عقاب المولى و هذه هي الدرجة السفلى

الثانية ان يزهد رغبة في ثواب اللّه تعالى و اللذات الموعودة في الجنة فهذا زهد الراجين ؛و سمى مولانا الصادق عليه السّلام عباداتهم بأنها عادة التجار؛فهؤلاء لا خطوا مع الخلوص من العذاب نيل الثواب.

الثالثة و هي العليا ان لا يكون له رغبة الا في اللّه تعالى و في رضائه و لقاءه،و هذا هو التوحيد الحقيقي الذي أشار إليه مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله ما عبدتك خوفا من نارك، و لا طمع في جنّتك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدبتك،و هذه الدرجة لا يمكننا نيلها و لو قلبا بألسنتنا أنّ هذه الدرجة هي مقصودنا،لكذّبنا الوجدان،فلسان الحال يكّذب لسان المقال، و إلى هذه الدرجات الإيماء بقوله تعالى قل للذي كفروا ستغلبون و تحشرون إلى جهنّم و بئس المهاد ،ثمّ قال في ذلك السياق الذين اتقوا عند ربهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهرة و رضوان من اللّه،و في موضع آخر يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي اللّه عنهم و رضوا عنه ذلك الفوز العظيم؛و الإشارة إلى القريب و في آية أخرى بعد أن ذكر ما هيأ لهم من مراتب النعيم:و رضوان من اللّه أكبر؛و ذلك لعلمه سبحانه بأختلاف مطالب خلائقه و تشتت طبائعهم.

و روي أنّ عيسى عليه السّلام جلس في ظلّ حايط إنسان فأقامه صاحب الحائط،فقال ما أقمتني أنت إنّما أقامني الذي لم يرض لي أن أتنعم في ظل الحائط.

فإن قلت ذكرت أنّ الزهد ترك ما سوى اللّه تعالى فكيف يتصور ذلك مع الاكل و الشرب و اللبس و مخالطة الناس فإنّ هذا إشتغال بما سوى اللّه؟قلت معنى الإنصراف عن الدنيا و هو الإقبال بالقلب على اللّه تعالى و لا يتصور ذلك إلا بضروريات الحياة؛فإذا كان المقصود بتلك الأمور التوصل إلى جناب الحق تعالى كان الإشتغال بها مثل إشتغال الحاج بإصلاح أحوال ناقته و علفها في طريق الحج،فإنّ الغرض منه التوصل إلى مكّة فهذا مما لا ينافي الزهد و ضروريات الإنسان في حياته كثيرة؛فمنها المطعم و ذلك لأنّ الإنسان لا بدّ له من طعام حلال يقيم به صلبه،

ص:202

و للإنسان في هذا أحوال:الأولى و هو الأعلى(اعلاها)ان يقتصر على قدر دفع الجوع عند شدّة الجوع و دفع المرض فإذا استقلّ بما تناوله لم يدّخر من غذائه لعشائه،الثانية أ،يدّخر لشهر أو لأربعين يوما،الثالثة أن يدّخر لسنة فقط؛و هذه رتبة ضعفاء الزهّاد و من ادّخر لأكثر من ذلك لا يسمّونه زاهدا.

و عن واحدة من زوجات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالت كانت تأتي أربعون ليلة و ما يوقد في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مصباح و لا نار،قيل لها فبم كنتم تعيشون؟ قالت بالأسودين التمر و الماء،و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يركب الحمار و يلبس الصوف؛و ينتعل المخصوف و يلعق اصابعه و يأكل على الأرض،و يقول إنّما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد،و قال عيسى عليه السّلام بحق أقول أنّه من طلب الفردوس و خبز الشعير له و النوم على المزابل مع الكلاب كثير،و كان يقول يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح و البقل البري و خبز الشعير،و إيّاكم و خبز البر فإنّكم لن تقوموا بشكره.

و منها الملبس و أقل درجاته ما يدفع الحر و العبد و يستر العورة و هو كساء يتغطى به و أوسطه قميص و قلنسوة و نعلان،و أعلاه أن يكون معه منديل و سراويل،و ما جاوز هذا من حيث المقدار فهو عنهم متجاوز حد الزهد،و شرطوا في الزاهد أن لا يكون له ثوب يلبسه إذا غسل ثوبه بل يلزمه القعود في البيت،و قيل لسلمان الفارسي رحمه اللّه مالك لا تلبس الجيد من الثياب ؟قال و ما العبد و الثوب الحسن فإذت أعتق فله و اللّه ثياب لا تبلى أبدا.

و منها المسكن و له فيه ثلاث درجات أعلاها أن لا يطلب موضعا خاصا بل يقنع بزوايا المساجد؛و اوسطها أن يطلب موضعا خاصا مثل كوخ مبني من سعف أو من خص أو ما يشبهه؛ و أدناها أن يطلب حجرة مبنية أمّا بشراء أو بأإحارة،و قد اتخذ نوح عليه السّلام بيتا من قصب فقيل له لو بنيت؟فقال هذا لمن يموت كثير.

و منها أثاث البيت و للزهد فيه أيضا درجات و اعلاها حال عيسى عليه السّلام إذ كان لا يصحبه إلا مشط و كوز؛فرأى إنسانا يمشّط لحيته بأصابعه فرمى المشط و رأى آخر يشرب من النهر بكفيه؛فرمى الكوز؛و هذا حكم كل أثاث فإنذه إنّما يراد لمقصود فإذا استغنى عنه فهو وبال في الدنيا و الاخرة،و ما لا يستغني عنه ينبغي أن يقتصر منه على أقل الدرجات و هو الخزف في كل ما يكفي فيه و لا يبالي في ان يكون مكسور الطرف و أوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح في نفسه و لكن يستعمل الآلة الواحدة في مقاصد؛و ادناه أن يكون له بعدد كل حاجة(حالة)آلة من الجنس الخسيس فإن تجاوز هذا القدر خرج عن أبواب الزهد.

ص:203

و دخل رجل على أبي ذر فقال يا أبا ذر ما أرى في بيتك متاعا و لا غير ذلك من الاثاث، فقال إنّ لنا بيتا نوجه صالح متاعنا إليه،فقال إنّه لا بدّ لك من متاع ما دمت هيهنا،فقال،نّ صاحب المنزل لا يدعنا فيه،و فرشت عائشة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فراشا جديدا و قد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينام على عباءة مثنية فما زال يتقلّب ليلته،فلمّا اصبح قال لها أعيدي العباءة الخلقة و نحّي هذا الفراش عني قد أسهرني الليلة.

و منها المنكح و كان أزهد الناس النبي و الأئمّة عليهم السّلام و قد نكحوا النساء،لكن الحق أنّهم كانوا عالمين بعدم شغل النساء لهم عن اللّه سبحانه،و الأولى في الزهد الأقتصار على واحدة طلبا للنسل و حرصا على سنته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما ورد فيه من الثواب، و بالجملة فما يحتاج إليه الأنسان في حفظ الحياة مما لا ينافي الزهد بل يؤكده و يحققه،روي أنّ الخليل أصابته حاجة فذهب إلى صديق له يستقرضه شيئا فلم يقرضه فأوحى اللّه تعالى إليه لو سألت خليلك لأعطاك،فقال يا رب عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسألك منها شيئا؛فأوحى اللّه تعالى ليس الحاجة من الدنيا.

و روى الكليني طاب ثراه انّ رجلا سأل عن علي بن الحسين عليه السّلام عن الزهد فقال عشرة أشياء فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع،و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ،و اعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا،ألا و إنّ الزهد في آية من كتاب اللّه:لكيلا تأسيوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم؛هذا مجمل الكلام في الزهد.

و أمّا التوكل فهو مقام عظيم و مسلك من مسالك الموقنين،و قد صرّحت به الأخبار النبويّة و الآيات القرآنية،قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أنّكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير،تغدو خماصا و تروح بطانا،و اما الخليل عليه السّلام فروي أنّ جبرئيل عليه السّلام جاء إليه و قد رمي إلى النّار من المنجنيق فقال له الك حاجة؟فقال إمّا إليك فلا قال له اسأل ربّك حتى ينجيك من نار نمرود،قال يكفي علمه بحالي عن سؤالي،فرجع جبرئيل فقال تعالى للنار كوني بردا و سلاما على إبراهيم،و هذا كان فائدة توكله على مولاه.

و اعلم أنّه او ادعى رجل دعوى لبّسها على رجل آخر و أراد الرجل المدعى عليه أن يوكل وكيلا في رفع تلبيس دعوى ذلك الرجل الآخر لعلمه أو ظنّه بأنه هو لا يقدر على جواب تلك الدعوى الملبسة فهو يقصد أن يكون في الوكيل نهاية الهداية و القوّة و الفصاحة و الشفقة،أما الهداية فليعرف بها مواقع التلبيس،و أما القوّة فليستجري على التصريح بالحق و لا ياهن و لا يجبن ،و أمّا الفصاحة و هي قدرة اللسان فليكون بها قادرا على حلّ عقدة التلبيس،و أمّا غاية الشفقة فليكون بها باذلا كل مجهوده في حقّه؛فإن كان شاكا في هذه الأربعة أو في واحد أو جوّز أن يكون

ص:204

خصمه أكمل في هذه الأربعة من الوكيل،لم تطمئن نفسه إلى وكيله؛و تتفاوت أحواله في شدّة الثقة و الطمأنينة بحسب تفاوت قوّة إعتقاده لهذه الخصال في وكيله،و إذا وقع في يده مثل هذا الوكيل إعتمد عليه و فوّض كشف ذلك التلبيس إليه،فإذا كان حاله هذا في حال رجل مثله ربما يظن فيه مثل هذه الامور و كان الواقع خلافها فكيف لا يوكل من يعلم أنّه قد بلغ من هذه الخصال الأربع غايتها و هو جناب الحق سبحانه،فيجعله وكيله فيما يعتريه من تلبيسات الشيطان و من ألاسباب التي يحتاج إليها في عالم حياته في كلّ أوان،و ليفهم معنى قوله لا حول و لا قوة إلا باللّه فإذا تفهم هذا المعنى قوي باعث توكله على اللّه تعالى في جميع الأمور،و هذا اليقين حاصل لأكث النّاس؛نعم قد يضعف اليقين بانضمام الأوهام إليه فغنّ القلب قد ينزعج بتبعية الوهم، فإنّ العاقل لو كلّف المنام مع الميت في بيت واحد لربّما جبن قلبه و خاف منه مع علمه بإنّه جماد و أنّه لا فرق بينه و بين الأحجار الموضوعة في البيت،و إذا عرفت هذا فاعلم أنّ لتلك الحالة ثلاث درجات الأولى ما ذكرناه،و هو أن يكون حاله في الثقة على اللّه و الإعتماد على كفالته كحاله في الثقة بالوكيل.

الثانية و هي أقوى أن يكون حاله مع اللّه كحال الطفل مع أمّه فإنّه لا يعرف غيرها و لا يفزع إلى أحد سواها،و إذا رآها تعلق بذيلها و إن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه؛فهو قد وثق بشفقتها ثقة ليست خالية عن نوع إدراك بالتمييز الذي له،و يظنّ أنّه طبع من حيث أنّ الصبي لو طولب بتفصيل هذه الخصال لم يقدر على تلفيق لفظه و لا على إحضاره مفصلا و لكن كل ذلك وراء الإدراك و الفرق بين هذه الدرجة و ما قبلها أنّ هذا متوكل و قد فنى في توكله عن توكله إذ ليس قلبه يلتفت إلى التوكل و حقيقته بل إلى الوكيل،و أما الأول فمتوكل بالتكلف و الكسب و ليس فانيا عن توكله بل له إلتفات إليه و ذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده.

الثالثة و هي القصوى و يأن يرى نفسه بين يدي اللّه تعالى كالميت بين يدي المغسّل فإنّه يقلبه كيف شاء و الإختيار إنّما هو إليه لا غير و هذا يفارق الصبي فإنّ الصبي يفزع إلى أمّه و يصيح إليها بل هذا مثاله مثال من علم أنّه إن ترك الأم فهي لن تتركه و تبتدر بجميع أنواع المنافع،و هذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء إعتمادا على كرمه و عنايته كما نقلنا عن الخليل عليه السّلام و صاحب هذه الرتبة لا يبقى له تدبير في أموره بل اللّه تعالى هو المدبّر لأموره كما قاله أرباب السلوك.

و أما صاحب الدرجة الثانية فينبغي له تدبير ما أمره به الوكيل و إن كان قد ترك تدبير ما أمره به غيره،و من هنا قال الصادق عليه السّلام التوكل هو أن تعقل بعيرك و تتوكّل على اللّه

ص:205

تعالى في حفظه،و أمّا صاحب الدرجة الأولى و هو لا يزال في التدبير من الوكيل و غيره،فظهر بهذا أنّ التوكل لا ينافيه الأعمال بل ربّما يحققه،نعم إذا سعى الإنسان في مجاهدات نفسه حتى بلغ الدرجة الثالثة كان غير محتاج إلى التبير و الأعمال و لكنّه هنا قد عمل أشقّ الأعمال و دبّر فوق كل تدبير و هو المجاهدة مع النفس حتى وطّنها على تلك الدرجة،فهذا غير مناف لما أمر اللّه سبحانه به من السعي لطلب الأرزاق،فإنّ مثل هذا السعي أشدّ من ركوب البحار و قطع القفار كما لا يخفى على من له أدنى إنصاف،و أمّا أعمال المتوكلين فاعلم أن الأسباب التي بها تجلب المنافع ثلاث درجات أيضا مقطوع به و مظنونا ظنّا يوثق به و موهوم و همّا لا تثق به النفس.

الدرجة الأولى المقطوع بها و ذلك مثل الأسباب التي إرتبطت المسببات بها بتقدير اللّه و مشيئته إرتباطا مطردا لا يختلف،كما إذا كان الطعام موضوعا بين يديك و أنت جائع محتاج و لكنّك لست تمد يدك إليه و تقول أنا متوكل و شرط التوكل عدم السعي و مد اليد إلى الطعام سعي و حركة،كذلك مضغة بالأسنان فهذا سفه و جنون و ليس من التوكل في شيء بل التوكل في هذه الصورة هو أن تمدّ يدك و تاكل و يكون توكلك هذا على فضله سبحانه حتى لا تجفّ يدك في الحال، و لا تفلج و ليصيبك ما يفزعك في حال الأكل.

الدرجة الثانية الأسباب التي ليست متعينة لكنّ الغالب أنّ المسببات لا تحصل بدونها كالذي يفارق الأمصار و القوافل و يسافر بالبوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادرا و يكون سفره من غير إستصحاب زاد فهذا ليس شرطا في التوكل بل استصحاب الزاد في البوادي سنّة الولين؛و من هذا كان الخواص إذا سافروا في القفار لا تفارقهم الإبرة و المقراض و الحبل و الركوة،و ذلك لأنّ الأغلب في البوادي أنّها خالية من هذه الأربعة التي يحتاج إليها المسافر،و لو انحاز رجل إلى شعب من شعاب الجبل خال من الماء و الكلأ و الساكن و جلس متوكلا فهو آثم؛كما روي أنّ زاهدا من الزهّاد فارق الأمصار و اقام في سفح جبل سبعا؛و قال لا أسأل أحدا شيئا حتى يأتيني ربي برزقي؛فقعد سبعا فكاد يموت و لم يأته شيء،فقال يا رب إن أحييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي و إلا فاقبضني إليك،فأوحى اللّه تعالى إليه و عزتي لا أرزقنّك حتى تدخل الأمصار و تعقج بين النّاس فدخل المصر و أقام فجاءه هذا بطعام و هذا بشراب فأكل و شرب فأوجس في نفسه من ذلك،فأوحى اللّه تعالى إليه أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا؛أما علمت أن رزق عبدي بأيدي عبادي أحب إلي من بيد قدرتي،فإذن ترك الأسباب مراغم للحكمة لكن الإعتماد على اللّه سبحانه

كما روي أن عيسى عليه السّلام قال انظروا إلى الطير لا تزرع و لا تحصد و لا تدخر و اللّه تعالى يرزقها يوما بيوم فإن قلتم نحن أكبر بطونا فانظروا إلى الأنعام كيف قيض اللّه لها هذا الخلق

ص:206

الدرجة الثالثة ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الأكتساب و وجوهه و ذلك يخرج عن درجات التوكل كلها كما هو الغالب على النّاس؛فإذا ظهر أنّ الأسباب منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها عن التوكل و إلى ما لا يخرج و إن الذي لا يخرج ينقسم إلى مقطوع به و إلى مظنون و المتوكلون في ملابسة هذه الاسباب على ثلاث مقامات؛الاول مقام الخواص و قد مثّله اهل السلوك بالذي يدور في البوادي بغير زاد ثقة بفضل اللّه تعالى عليه في تيسير ما يمسك حياته و لو كان من بقول الارض و حشيشها،المقام الثاني ان يقعد في بيته او في مسجد و لكنه في القرى و الامصار فهذا أضعف من الاول و لكنه ايضا متوكّل لأنه تارك للكسب و الأسباب الظاهرة معتمد على فضل اللّه تعالى في تدبير أموره.

المقام الثالث أن يخرج و يكتسب إكتسابا رفيقا جميلا و هذا المقام هو الممدوح الوارد في الشريعة الذي أراده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله إلا أن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه و أجملوا في الطلب و لا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه من الحرام فإنّ اله سبحانه قسّم الأرزاق بين عباده حلالا و لم يقسّمها حراما،نعم من ترك الكسب إذا كان مستغرقا وقته في العلم أو العبادة كان له وجه في الجملة، مع إنّ الواردة عن الأئمة الطاهرين عليهم السّلام أنّ التكسب للعيال و الأخوان أفضل من العبادة،نعم لا يكون إعتماده على الكسب و على آلاته بل على ذلك الكفيل.

روي أنّ العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر اله إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه،فيصبح كئيبا حزينا يتظنن بجاره و ابن عمّه من شيّعني من دهاني و ما هو إلا رحمة اللّه تعالى بها؛و هذا مجمل الكلام في هذا المقام و اللّه المستعان

خاتمة هذا البحث في الرزق،إعلم أن الذي إتفق عليه أصحابنا رضوان اللّه عليهن و المعتزلة أنّ الرزق هو ما صحّ إنتفاع الحيوان به بالتغذي أو غيره؛فليس لأحد منعه فالحرام على هذا ليس برزق؛و عند الاشاعرة كلما إنتفع به حي سواء كان بالتغذي أو بغيره مباحا كان أو حراما و قال الأشاعرة في الإستدلال لو لم يكن الحرام رزقا لم لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقا، و ليس كذلك لقوله تعالى،و ما من دابّة في الأرض إلا على اللّه رزقها.

و الجواب عن هذا ظاهر و هو أن المغتذي في الدنيا لا يجوز أن يكون مغتذيا بالحرام طول عمره،و ذلك أن أيام الرضاع اللبن ليس بحرام عليه و في كل أوقاته التنفس في الهوى ليس بمحرّم عليه أيضا مع أنّ الرزق على قسمين:منه ما كان غذاء للابدان و منه و هو الأكمل الأعظم ما كان غذاء للأرواح كالعلوم و الكمالات و هذا هو الغذاء الباقي بعد فناء الابدان و غذائها،و بسببه

ص:207

حرم الإعلام من كثرة الغذاء الأبداني لوجود الأرواح عندهم،و على هذا فالعلماء مرزوقون الرزق الأكمل؛و حينئذ فقوله:

كم عالم عالم أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقلاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة و صيّر العالم النحرير زنديقا

مما لا ينبغي و ذلك لأنّ العالم اكثر رزقا من الجاهل و إن كان له ملك كسرى أو قيصر، و من كان له حظ من الإنصاف و كان له نوع اطلاع على بعض العلوم يعلم أنّه لو أتى إليه جاهل سيّما الأحمق و كان عنده من المال ما لا يحصى،و قال أريد أن اعاوضك هذا المال الوافر بهذا العالم القليل الذي تعرفه لم يقبل ذلك العالم بل يرجع عليه ماله و ذلك لأنّ الأموال لذّات خيالية و ما يصل إلى مالكها منها إلا تعب الأرواح و الأبدان و العلم لذّة حقيقية لا يزال يصعد بصاحبه حتى يرقيه فوق مراتب الملوك و السلاطين،و هل رأيت عالما عزل عن سرير علمه؟و كم رأيت سلطانا عزل عن سرير ملكه و تاجر أغرق ماله أو سرق فبقي يتكفف الناس

و نظير هذا ما روي من أن رجلا من فقراء الشيعة أتى إلى الأمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام فشكى إليه الفقر،فقال له عليه السّلام انت من شيعتنا تدعي الفقر شيعتنا كلهم أغنياء،ثمّ قال له يا فلان أنت(إنّ)لك تجارة قد أغنتك؛فقال و ما هي؟قال لو أنّ رجلا غنيا قال لك أعطيك ملأ الدنيا فضة و تحول عن ولاية أهل البيت إلى ولاية غيرهم أ كنت فاعلا قال لا يا ابن رسول اللّه و لو ملأت الدنيا لي ذهبا،فقال عليه السّلام إذن لست فقيرا و أنّما الفقير من ليس له مالك،ثمّ وصله بمال.

و روي انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوما لأصحابه من الفقير؟قالوا الذي لا درهم له و لا دينار؛فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس هذا هو الفقير،و إنّما الفقير الذي يؤتى به في عرصات القيامة ضاربا لهذا و شاتما لهذا و غاضبا من هذا؛فإن كان له شيء من الحسنات أخذت منه و دفعت ألى المضروب و المغصوب منه و المشتوم،و إن لم يكن له حسنات أخذت ذنوبهم و جعلت في عنقه،أقول و ذلك قوله تعالى و ليحملنّ أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم.

و لنرجع إلى ما نحن بصدده،فنقول أن خطبته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجة الوداع قد رواها العامّة و الخاصة و هي صريحة فما ذهبنا إليه غير قابل للتأويل،رواها شيخنا الكليني طاب ثراه بإسناده ألى الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجة الوداع ألا أنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللّه و اجملوا في الطلب،و لا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن

ص:208

تطلبوه بشيء من معصية اللّه،فإنّ اللّه تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسمها حراما ،فمن اتقى اللّه و صبر أتاه رزقه من حله و من هتك حجاب ستر اللّه عز و جل و أخذه من غير حاّه قص به رزق الحلال و حوسب عليه يوم القيامة،و أما ما يترآى من بعض الأخبار التي أطلق عليها لفظ الرزق على الحرام فسبيله التأويل و ارتكاب المجاز جمعا بين الأخبار،مع أنّ اللّه سبحانه قال في كتابه العزيز و مما رزقناهم ينفقون،فمدحهم على هذا الإنفاق و لا مدح لمن أنفق من الحرام.

بقي الكلام في أن الرزق هل ينقص يزيد بتفاوت السعي و نقصانه ام لا؟و ظاهر الأخبار المعتبرة أنّه إذا ضمّ إليه السعي القليل المأمور به كان غير قابل لهما بل لا يصل إليه إلا ما قدّر له، و في دعاء الصحيفة و جعل لكل أرواح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقه لا ينقص من زاده ناقص و لا يزيد من نقص منهم زايد،و في الحديث أنّ أرزاقكم تطلبكم كما تطلبكم آجالكم فلن تفوتوا الأرزاق كما لم تفوتوا الآجال؛نعم لو جلس الرجل في بيته و ترك الطلب فهل يجب على اللّه سبحانه إيصال الرزق إليه أم لا يجب؟قال بعضهم بوجوب القدر الضروري و هو ما يمسك به الحياة ؛و قال بعضهم لا يجب إلا لمن ألقى عنان التوكل إليه لقوله تعالى و من يتوكل على اللّه فهو حسبه، و الحق إنّ مثل هذه الأيصال غير واجب عليه سبحانه،نعم ربما تفضل به و لا مانع من التفضل.

في الحديث أنّه لما نزل قوله تعالى و ما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها قال أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ ربنا قد تكفل بأرزاقنا فلا نتعب في طلبها فغلقوا عليهم الأبواب و جلسوا في بيوتهم،فنزلت آية السعي في مناكب الأرض و أطرافها،ففتحوا الأبواب و سعوا في تحصيل الأرزاق،و من هنا كان المحدّثون من أصحاب النبي و الأئمة عليهم السّلام أهل حرفة و كسب و تجارة؛نعم ذاك زمان و هذا زمان و ذلك أن العلم كان علم الكلام و الحديث و كانت عين الحياة موجودة عندهم يردونها في كل أوقاتهم و لا كانوا مثلنا يحتاجون إلى الاجتهاد في المسائل عند تعارض الأدلّة؛و لا كانوا يحتاجون إلى صرف أكثر أوقاتهم في الفحص عن أحوال العلوم و مقدماتها من العربية و المنطق و اللغة إلى غير ذلك من علوم الإجتهاد الإثنى عشر علما؛و قد اشتهر أن العلم نقطة كثرها الجاهلون و قد قلنا سابقا بدله أن العلم بسيط ركّبه العالمون،فمن هذا لم يسع العلماء في هذه الأعصار الجمع بين الكسب للمعاش و تحصيل العلوم الكثيرة إلى أن يبلغوا درجة الأجتهاد فلا جرم و كلّوا أمور معاشهم إلى خالقهم و هو رازقهم و عليه فليتوكل المتوكلون؛ و قد تتبعنا أكثر موارد الرزق و أسبابه فلم نر سببا أجلب للرزق من الصدقة،فإن الوفاء حاضر و هو عشرة أو سبعون إلى سبعمائة عوض الواحد،فمن أراد تصديق هذا فليتصدق على فقير بدرهم و ينظر كيف يجازيه ربه في ذلك اليوم أو غده مع ما يدّخر له من الأجر الجزيل و الثواب

ص:209

الجميل،و ما أحسن قول الشاعر في شأن أكثر أرزاق الجهّال و سموّ مكانهم؛و فقر العقلاء و اتضاعهم

الدهر كالبحر يعلو وفقه جيف و يستقر بأقصى قعره الدرر

و في السماء نجوم لا عداد لها و ليس يكسف إلا الشمس و القمر

و هذا هو الذي جلب الدواهي إلى العقلاء و نفخ قلوبهم،و قرقر بطونهم و قال بعض مشائخنا من أهل الظرافة:

قلت لنحوي و في بطنه قرقرة ما هذه القرقرة

فقال يا جاهل في نحونا هذا تسمى الضرطة المضمرة

و قال سيدنا المرتضى قدس اله روحه في عتاب الدنيا:

عتبت على الدنيا فقلت إلى متى أكابد ضراهمه ليس ينجلي

اكل شريف قد على بجدوده حرام عليه الرزق غير محلل

فقالت نعم يا ابن الحسين رميتكم بسهم عناد حين طلقني علي

و بالجملة شأن الدنيا و مدارها اعاننا اله و إيّاكم من خدائعها.

نور في احوال الملوك و الولاة و كيفية ما ينبغي لهم من السلوك في أنفسهم و مع رعيتهم

و ما يلحق بهذا

إعلم أيدك اللّه و وفقك أن قوله تعالى تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء؛دليل على أن امور الملك مقدرة في عالم الملكوت،و ذلك أنا رأينا من أتعب نفسه و بذل ماله في تحصيل ملك أو ولاية فلم يصل إليها و بلغه غيره بلا تعب و بذل مال،هذا ما يقتضيه ظاهر لفظها،و أما بطن الآية فقد ورد في الخبر أن المراد بالملك الذي يؤتيه اللّه من يشاء هو الملك الواقعي الذي يكون اللّه تعالى به راضيا و هو ملك آل محمد عليهم السّلام و توابعهم، فهو الملك الذي آتاهم و لم يؤته غيرهم.

قال الصادق عليه السّلام و أما ملك بني أمية فقد غصبوه من آل محمد،و ذلك كما أن الرجل له ثوب فيأتي إليه رجل فغصبه إياه فاللّه تعالى لم يؤته ذلك الثوب و إنّما تعدى في أخذه

ص:210

و غصبه،و حاصل معنى الآية حينئذ أن إعطاء الملك بيدك فمن كان في علمك قابلا له نوهت بإسمه في هذا العالم و قررت أن يكون هو الملك و السلطان كأهل البيت عليهم السّلام و المجتهدين من شيعتهم بعدهم؛و من لم يكن في علمك قابلا للملك كأعداء آل محمد و مخالفيهم نزعته عن الملك و ما أعلمت العباد إلا بعدم استحقاقه للملك؛فإن الخليل عليه السّلام لما جعل ملكا و سلطانا و إماما لكافة الناس أراد إبقاء هذا الملك في ذريته فقال و من ذريتي،فأجابه تعالى لا ينال عهدي الظالمين،فأسمعه في القديم أنّ من كان ظالما كان معزولا عن الملك و الدولة و الإلهية، فلينظر الوالي و الملك الموالين لأهل البيت عليهم السّلام فإن كانوا من أهل الظلم و التعدي كانوا في معزل عن أن يكونوا قد آتاهم اللّه الملك،و إن كانوا من أهل العدل و في مقام قضاء حوائج الشيعة و التحنن على فقرائهم فليعلموا أنه ملك من اللّه سبحانه و دولة ساقها اللّه إليهم فيجب عليهم القيام بشكرها و اعلم أنه ينبغي للولاة و السلاطين أن يجعلوا لهم وقتا خاصا مع ربهم يتضرعون فيه إليه و ينزعون ثياب الملك و يلبسون الثياب الخشنة و يقرون له بالعبودية ليكون كفارة ما أظهروه من الجبروت في حضور الخلايق،و قد نقل أهل السير و التواريخ أن عمر بن عبد العزيز كان له في كل يوم بيت يدخله وحده و يغلق عليه بابه و يلبث فيه كثيرا ثم يخرج منه،فلما توفي و جلس في مكانه يزيد بن عبد الملك سأل خواص بن عبد العزيز عن خزانته؛فقالوا لا نعلم له خزانة و لكن له موضع كان يتفرد به وحده فلعل خزانته تكون هناك،فلما ذهبوا إلى ذلك البيت و فتحوا قفله رأوه بيتا خاليا من الفروش أرضا بيضاء و فيه مكان مفروش بالتراب فوق الأرض مقدار ما يصلي فيه الإنسان عنده ثياب خشنة بعضها من الليف و بعضها من الكرباس الغليظ؛ و فوقها طوق من الحديد كان يضعه في عنقه و يلبس تلك الثياب و يجلس فوق ذلك التراب للبكاء و التضرع

و نقل مثل هذا و امثاله من أطوار الملك الجليل الشاه عباس الأول أسكنه اللّه بحابيح الجنان و حكى رجل كان يخدمه لما كان ذلك الرجل صغير السن،قال أمرني ذات يوم بحمل الإبريق معه ليتطهر به من البول قال ذلك الولد فحملته و مشيت خلفه حتى صعد إلى سطح عال في بيوته،فلما انتيت معه إلى أول السطح أخذ الإبريق من يدي و قال لي أجلس هنا حتى أرجع إليك؛فأجلسني في مكان لا أراه فيه فغاب عني طويلا حتى خفت عليه؛فلحقته فرأيته ساجدا و هو يبكي و خده ملصق بالأرض و قد صار تحته شبه الطين من الدموع،ثم رفع رأسه و غضب علي فاعتذرت إليه إني خفت عليك بطول مقامك على السطح فصببت الماء على يديه و غسل وجهه، فلوى أذني و قال لا يخرج منك شيء و إن سألك أحد من الخدام و العبيد فقل كان الشاه يلوط بي.

ص:211

و قد عرفت أن العبادة هي التواضع للّه سبحانه و أول من سبقهم بهذا ملك الملوك و سلطان السلاطين مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام،لقد كان له حالات مع ربه في أوقات خاصة يجلس فيها على التراب و يتذرع إلى اللّه تعالى.

و في الرواية عن عروة بن الزبير قال كنا جلوسا في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فتذاكرنا أعمال أهل بدر و بيعة الرضوان،فقال ابو الدرداء أ لا أخبركم بأقل القوم مال و أكثرهم ورعا و أشدهم اجتهادا في العبادة؟قالوا من؟قال علي بن أبي طالب،قال رأيته في حايط بني النجار يدعو بدعوات،و ذكر الدعوات إلى أن قال؛ثم انغمر في البكاء فلم أسمع له حسا و لا حركة؛فقلت غلب عليه النوم لطول السهر و اوقظه لصلاة الفجر فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة؛فحركته فلم يتحرك؛فقلت إنا للّه و إنا إليه راجعون مات و اللّه علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم،فقالت فاطمة يا ابا الدرداء ما كان من شأنه و قصته؟فاخبرتها الخبر فقالت هي و اللّه يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من غشية اللّه،ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق و نظر إليّ و أنا أبكي،فقال ما بكاؤك يا أبا الدرداء؟فقلت بما أراه تنزله بنفسك فقال يا أبا الدرداء فكيف فقال يا أبا الدرداء فكيف اذا رأيتني أدعى إلى الحساب و أيقن أهل الجرائم بالعذاب و احوشتني ملائكة غلاظ و زبانية فظاظ فوقفت بين يدي الملك الجبار قد أسلمني الأحباء و رفضني أهل الدنيا لكنت أشد رحمة لي بين يدي من رتخفى عليه خافية،فقال أبو الدرداء فو اللّه ما رايت ذلك لأحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لا يجوز للولاة أن يقولوا نحن ملوك و لم يطلب اله تعالى منا العبادة و إنما أراد منا العدالة ،فيدلهم الشيطان بغروره و يستفزهم،بل يجب أن يتصوروا بأن كلما عظمت النعمة على العبد عظم تكليفه بالشكر عليها،و لا شكر إلا الطاعة و العبادة و الإحسان إلى العباد،و ينبغي أن يعلموا أن طاعتهم من الصلاة و الصوم و نحوها يترتب عليها من الثواب الكامل ما لا يترتب على غيرها و ذلك لكثرة المشقة عليهم في تحملها لما تعودوا عليه من التنعم و التلذذ.

و روي أن أفضل الأعمال أحمزها،و ينبغي لكل وال من الولاة أن يميل إلى حب العلماء و الأخيار و أن يكثر مصاحبتهم و مجالستهم و يختار له صاحبا منهم؛و يكون عالما ورعا سليم النفس،راغبا في قضاء حوايج المؤمنين ليجلب للوالي أسباب الثواب.

اما حب العلماء فلما روي من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كن عالما او متعلما او محبّا لأهل العلم و لا تكن الرابع فتهلك،و في الحديث ان من احب حجرا حشره اللّه معه و المرء مع من احب،و قال عليه السّلام ان اللّه يغفر للمؤمنين و لمحبيهم و لمحبي محبيهم،فهذا من أفضل الأعمال للولاة و غيرهم،و اما مجلستهم فلما ورد في الخبر من ان جلوس ساعة واحدة مع العالم يعدل من

ص:212

الثواب ما لا يحصى و ان النظر الى العلماء عبادة،و اما اختيار صاحب منهم بتلك الأوصاف فليكون واعظا له مذكرا له في احوال الغفلات لكثرة مشاغله فيحتاج الى الواعظ و المذكّر،و هكذا كان احوال الملوك و السلاطين في الأعصار الماضية.

و ينبغي ان يعظه برفق،روي ان عابدا دخل على معاوية ليعظه،فقال يا فاسق يا كلب هكذا تظلم الناس و أطال الكلام معه،فقال له معاوية يا عابد انت افضل من موسى نبي اللّه ام هو افضل منك؟فقال بل موسى خير مني،فقال له و أنا أشقى ام فرعون؟فقال بل فرعون،فقال انّ فرعون لما ارسل اللّه اليه واعظين و هما موسى و هارون قال لهما فَقُولاٰ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ فأمرهما اللّه سبحانه بالكلام اللّين و أنت تعظني بهذه الخشونة،و ليكن هم المصاحب للوالي ان يقص عليه احوال الملوك و الولاة المتقدمين الذين كانوا أشد منه بأسا و أقوى مراسا فأفناهم الزمان و جار عليهم الدهر الخوان،و من اعظمهم نبي اللّه سليمان بن داود عليه السّلام فلقد طلب من اللّه تعالى الملك بقوله رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاٰ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّٰابُ حتى قال نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحم اللّه اخي سليمان ما كان ابخله.

و قال الصادق عليه السّلام لما سأل عن معنى الآية و الحديث،فقال اما معنى الآية فهو ان سليمان اراد ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ان يقول ان ملك سليمان قد حصّله سليمان بالغلبة و الجنود مثل سلاطين الدنيا،فسخّر اللّه له الريح و الطير و الوحش و ميز ملكه عن ملك الملوك حتى عرف الناس ان ملك سليمان قد أعطاه اللّه ايّاه و اما معنى الحديث فقال عليه السّلام رحم اللّه اخي سليمان ما كان ابخله بعرضه،او رحم اخي سليمان ماكا ابخله لو كان معنى الآية ما ذهب اليه عوام الناس من الأخذ بظاهرها،و قد منح اللّه سبحانه سليمان عليه السّلام ملكا عظيما حيث سخر لهى ما في الكونين فأمر سليمان عليه السّلام الجن فنسجوا له بساطا من الأبريسم و الذهب، و كان يجلس عليه مع خاصته،و كان في مجلسه على البساط ستمائة ألف كرسي،و لسليمان عليه السّلام سرير مرصع في وسط الكراسي يجلس عليها العلماء و الأنبياء،و سخر له ريح الصبا غدوها شهر و رواحها شهر،و كان يسير في اول النهار من مكة و يتغذى في الكوفة ثم يسير من الكوفة و يتعشى في الشام.

و قد زاد اللّه في ملكه بانّه ما يتكلم احد كلمة اين ما كان الا ألقتها الريح الى اذنه حتى يسمعها،و مع هذا الملك كان لم يأكل ما مسّه النار بل كان يعمل من سعف (1)الخوص زنبيلا و يشتري بثمنه شعيرا فيضعه بين صخرتين حتى يصير جريشا و يجعله في الشمس حتى يجف فيأكله،

ص:213


1- (1) محركة جريدة النخل او ورقه.

فاذا جنّه الليل نزع ثياب الملك و لبس ثيابا من ليف النخل و غل يديه الى عنقه فقام باكيا الى الصباح.

و في الرواية عن الصادق عليه السّلام قال ان سليمان عليه السّلام قال ذات يوم لأصحابه ان اللّه تبارك و تعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي سخّر لي الريح و الأنس و الجن و الطيور و الوحوش،و علمني منطق الطير و أتاني من كل شيء و مع جميع ما أوتيت الملك ماتم سروري يوما الى الليل،و قد احببت ان ادخل قصري في غد فأصعد الى اعلاه و أنظر الى ممالكي و لا تؤذوا لأحد علي لئلا يرد عليّ ما ينقص عليّ يومي،فقالوا نعم،فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده و صعد الى اعلى موضع من قصره،و وقف متكيا على عصاه ينظر الى ممالكه مسرورا بما أوتي فرحا بما أعطاه،اذ نظر شاب حسن الوجه و اللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره،فلما بصر به سليمان قال له من أدخلك الى هذا القصر و قد اردت ان اخلو فيه اليوم؟و باذن من دخلت؟قال الشاب ادخلني هذا القصر ربه و باذنه دخلت،فقال ربه أحق مني فمن انت؟فقال انا ملك الموت قال و فيم جئت؟قال جئت اقبض روحك،قال امض لما امرت به فهذا يوم سروري و ابى اللّه عز و جل ان يكون لي سرور دون لقائه،فقبض ملك الموت روحه و هو متكىء على عصاه،فبقي سليمان متكيا على عصاه و هو ميت ما شاء اللّه و الناس ينظرون اليه و هم يقدّرون(يعتقدون)انّه حي فافتتنوا فيه و اختلفوا.

فمنهم من قال ان سليمان قد بقى متكيا على عصاه الأيام الكثيرة و لم يتعب و لم ينم و لم يأكل و لم يشرب انّه لربنا الذي يجب علينا ان نعبده،و قال قوم ان سليمان سارح،و قال المؤمنون ان سليمان عبد اللّه و نبيه يدبر اللّه امره بما شاء،فلما اختلفوا بعث اللّه عز و جل الأرضة فدبّت في عصا سليمان،فلما أكلت جوفها انكسرت العصا و خر سليمان من قصره على وجهه،فشكرت الجن للأرضة صنيعها،فلأجل ذلك لا توجد الأرض في مكان الا و عندها ماء و طين،و ذلك قول اللّه عز و جل فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مٰا دَلَّهُمْ عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ يعني عصاه،فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.

ثم قال الصادق عليه السّلام و اللّه ما نزلت هذه الآية هكذا و انما نزلت فلما خر تبينت الجن ان الأنس لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين،ثم لينظر العاقل اغلى قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم لو كانت الدنيا تسوى عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء، و الى قول جبرئيل عليه السّلام يا محمد ان اللّه يقول لك عش ما شئت فانك ميت،و احبب من شئت فانك مفارقه،و اعمل ما شئت فانك مجزى به،و لما دخل يزيد الرّقاشي على عمر بن عبد العزيز قال عظني يا يزيد،قال يا امير المؤمنين اعلم انك لست اول خليفة تموت،فبكى عمر و قال

ص:214

زدني يا يزيد،فقال يا امير المؤمنين ليس بينك و بين آدم الا أب ميت،فبكى و قال زدني يا يزيد، فقال يا امير المؤمنين ليس بين الجنة و النار منزل،فسقط مغشيا عليه،و ليتلوا الواعظ ان الدنيا دار من لا دار له،و مال من لا مال له،و لها يجمع من لا عقل له،و عليها يعادي من لا علم له،و عليها يحسد من لا فقه له،و من صح فيها سقم،و من سلم فيها هرم،و من افتقر فيها حزن،و من استغنى فيها فتن حلالها حساب و حرامها عقاب،من سعى اليها فاتته،و من قعد عنها اتته،لا خيرها يدوم و لا شرها يبقى.

و اعلم ان الذي اصبحت فيه من النعيم انما صار اليك بموت غيرك و هو خارج من يدك بمثل ما صار اليك و هل الدنيا الا كما قال الأول قدر يغلي و كنيف يملأ:

و لقد سألت الدار عن اخبارهم فتبسمت عجبا و لم تبدي

حتى مررت على الكنيف فقال لي أموالهم و نوالهم عندي

و قال الرشيد لأبن السماك عظني و بيده شربة من ماء،فقال يا امير المؤمنين لو حبست عنك هذه الشربة أ كنت تشتريها بملكك؟قال نعم،قال أ رأيت لو حبس عنك خروجها أ كنت تفتديها بملكك؟قال نعم،قال فما(فلا)خير في ملك لا يسوى شربة و لا بولة.

و حكى الأصمعي ان النعمان لما بنى الخورنق و أشرف عليه يوما و قد اعجبه ملكه وسعته و نفوذ امره،فقال لأصحابه هل أوتي أحد مثل ما أوتيت؟فقال له حكيم من حكماء اصحابه هذا الذي أوتيت شيء لم يزل و لا يزول ام شيء كان لمن قبلك زال عنه و صار اليك؟قال بل شيء كان لمن قبلي و صار الي و سيزول عني،قال فسررت بشيء تذهب عنك لذته و تبقى تبعته،قال فاين المهرب؟قال امّا تقيم و تعمل بطاعة اللّه او تلبس أمساحا و تلحق بجبل تعبد ربك فيه و تفر من الناس حتى يأتيك أجلك،قال فاذا فعلت ذلك فمالي،قال حياة لا تموت و شباب لا يهرم،و صحة لا تسقم و ملك جديد لا يبليه،قال فاي خير فيما يفنى اللّه لأطلبن عيشا لا يزول ابدا،فانخلع من ملكه و لبس الأمساح و سار في الأرض و تبعه الحكيم،و جعلا يسيحان في الأرض و يعبدان اللّه حتى ماتا.

و هذا القصر قد بناه رجل اسمه سنمار و فلما فرغ من بنائه دخله النعمان و خواصه و تعجبوا من عظم بنائه و ارتفاعه،فقال لهم ذلك الباني و أعجب من هذا انّي اريك آجرة في حائطه اذا قلعتها تهدم هذا القصر العظيم كلّه فدلّه عليها،فأمر به فرموه من أعلى القصر،و قيل انّما رماه لئلا يبني لغيره من الملوك مثله،و قد صار جزاء سنمار مثلا بين الناس يضرب لمن يقابل الأحسان بالأسائة،و وجدت هذه الأبيات على مدينة سيف بن ذي يزن و هو من اعظم الملوك:

ص:215

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

و استنزلوا من معالي على(عن)معاقلهم فأسكنوا حفرا يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من ما دفنوا اين الأسرّة و التيجان و الحلل

اين الوجوه التي كانت محجبة من دونها تضرب الأستار و الكلل

فأفصح القبر عنهم حير سائلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتلل

قد طال ما أكلوا يوما و ما شربوا فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا

و قد رأيت مدينة عظيمة في فارس و هي على جبل و لها مصعد تصعد منه الدواب و الحيوانات،و هو منه صخرة واحدة،و فيه درجات كثيرة و فوق تلك المدينة مجلس عظيم قد كان له سقف و الآن ليس هو بمحوجود،و انّما الموجود منه اسطواناته و كل واحدة منها صخرة سوداء تقرب من المنارة ارتفاعا،و فيها حمام من صخرة واحدة،و امّا طرقاتها فوضعها عجيب و هو انّ الطريق و ان طال قد صنعوه من اربعة احجار،فحجر هي أرضه و حجر في يمينه و الأخرى عن شماله،و الرابعة سقفه،و له فرج من الجانب الفوقاني للضوء،و حدثنا اهل تلك البلاد انّ تلك المدينة من بنيان الجن لسليمان عليه السّلام و رأيت على بعض أحجارها مكتوبا هذين الشعرين:

اين الملوك التي كانت مسلطة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

كم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خرابا و دار الموت أهليها

و في الأخبار ان اسكندر عليه السّلام اجتاز يوما في عسكره على رجل جالس في مقبرة و بين يديه عظام رميمة و جماجم بالية و هو ينظر اليها،فقال له الأسكندر ما تصنع في هذه العظام؟ فقال ان هذه المقبرة قد دفن فيها جماعة من الملوك فبعثني اللّه سبحانه ان أعزل عظام الملوك عن عظام الفقراء فأنا انظر في هذه الجماجم و العظام لا أعرف هذا من هذا،فمضى الأسكندر و قال و اللّه ما عنى غيري،و هذا كان السبب في طلبه الموضع الذي مات فيه.

و في الرواية ان داود عليه السّلام اجتاز على غار فدخله فوجد فيه رجلا ميتا عظيم الخلقة و اذا عند رأسه حجر مكتوب فيه انا دوسم الملك،ملكت ألف عام و فتحت ألف مدينة،و هزمت ألف جيش و افترعت الف بكر من بنات الملوك ثم صرت الى ما ترى(رميما كما ترى)فصار التراب فراشي و الحجارة و سادتي،و الدّيدان جيراني فمن رآني فلا يغتر بالدنيا كما غرتني.

و روي ان عيس عليه السّلام مرّ ذات يوم مع جماعة من اصحابه،فلما ارتفع النهار مرّوا بزرع قد امكن من الفرك،فقالوا يا نبي اللّه انا جياع،فأوحى اللّه تعالى اليه ان ائذن لهم في قوتهم،

ص:216

فأذن لهم فتفرّقوا في الزرع يفركون و يأكلون،فبينما هم كذلك اذ جاء صاحب الزّرع و هو يقول زرعي و أرضي ورثتها من آبائي فباذن من تأكلون؟قال فدعى عيسى عليه السّلام ربه،فبعث اللّه تعالى جميع من ملك تلك الأرض من لدن آدم الى ساعته،فاذا عند كل سنبلة او ما شاء اللّه رجل او امرأة ينادون زرعي و أرضي ورثته عن آبائي؟ففزع الرجل منهم و كان قد بلغه امر عيسى عليه السّلام و هو لا يعرفه،فلمّا عرفه قال معذرة اليك يا رسول اللّه انّي لم اعرفك زرعي و مالي حلال لك،فبكى عيسى عليه السّلام و قال ويحك هؤلاء كلّهم قد ورثوا الأرض و عمروها ثم ارتحلوا عنها،و انت مرتحل عنها و لا حق بهم ليس لك أرض و لا مال،و في الدّيوان المنسوب الى مولانا امير المؤمنين عليه السّلام انّه لمّا رأى فاطمة عليها السّلام مسجاة بثوبها بكى فرثاها ثم قال:

لكل اجتماع من خليلين فرقة و ان الذي دون الممات قليل

أرى علل الدنيا عليّ كثيرة و صاحبها حتى الممات عليل

و انّ افتقادي فاطما بعد احمد دليل على ان لا يدوم خليل

الا ايّها الموت الذي لست تاركي أرحنى فقد أفنيت كل خليل

اراك بصيرا بالذين احبهم كأنّك تنحو نحوهم بدليل

و لما نفض يديه من ترابها تمثّل بقول بعض بني ضبّة:

أقول و قد فاضت دموعي حسرة أرى الأرض تبقى و الأخلاء تذهب

أخلاي لو غير الحمام اصابكم عتبت و لكن ما على الموت معتب

و روي ان عيسى عليه السّلام كان مع صاحب له يسيحان،فأصابهما الجوع فأنتهيا الى قرية فقال عيسى عليه السّلام لصاحبه انطلق فاشتر لنا طعاما،و قام عيسى عليه السّلام يصلي فجاء الرجل بثلاثة أرغفة،فأبطأ عليه انصراف عيسى عليه السّلام،فأكل رغيفا،فأنصرف عيسى عليه السّلام فقال اين الرغيف الثالثة؟فقال ما كان الا رغيفين،قال فمرا على وجوههما حتى مرّا بظباء،فدعى عيسى عليه السّلام ظبيا منها فنحروه و أكلوا منه،فقال عيسى عليه السّلام للظبي قم باذن اللّه فقام حيا،فقال الرجل سبحان اللّه فقال عيسى عليه السّلام بالذي أراك هذه الآية من صاحب الرغيف الثالث؟فقال ما كانا الا اثنين فخرجا حتى اتيا قرية عظيمة،فاذا قريب منها ثلاث لبنات من ذهب،فقال الرجل هذا مال؟فقال عيسى عليه السّلام أجل هذا مال واحدة لي و واحدة لك و واحدة لصاحب الرغيف الثالث،فقال الرجل انا صاحب الرغيف الثالث فقال عيسى عليه السّلام هي لك كلها ففارقه،فأقام عليها ليس معه ما يحمله عليه فمرّ عليه(به)ثلاثة

ص:217

نفرات فقتلوه و أخذوا اللبن،فقال اثنان منهم لواحد انطلق الى القرية فأتنا بطعام،فذهب فقال احد الباقين للآخر تعالى نقتل هذا اذا جاء و نقسم هذا بيننا،و قال الذي ذهب أجعل في الطعام سمّا فأقتلهما و آخذ اللبن،ففعل فلما جاء قتلاه و أكلا الطعام الذي جاء به فماتا،فمرّ بهم عيسى عليه السّلام و هم حولها مصروعون،فقال الدنيا هكذا تفعل بأهلها،و وجد مكتوبا على قبر سيف بن ذي يزن:

من كان لا يطأ التراب برجله وطأ التراب بصفحة الخد

من كان بينك في التراب و بينه شبران كان بغاية البعد

لو بعثرت للناس اطباق الثرى لم يعرف المولى من العبد

و وجد مكتوبا على قصر بعض الملوك:

هذي منازل اقوام عهدتهم يوفون بالعهد مذ كانوا و بالذمم

تبكي عليهم ديار كان يطربها ترنم المجد بين الحلم و الكرم

و لبعضهم:

تروح لك الدنيا بغير الذي غدت و يحدث من بعض الأمور أمور

و تجري اللّيالي باجتماع و فرقة و تطلع فيها أنجم و تغور

فمن ظنّ انّ الدّهر باق سروره فذاك محال لا يدوم سرور

عفى اللّه عمّا صير الهم واحدا و أيقن انّ الدّيرات تدور

و في الرواية ان رجلين تنازعا في دار فأنطق اللّه لبنة من جدار تلك الأرض فقالت اني كنت ملكا من ملوك الأرض ملكت الدنيا ألف سنة،فلما صرت ترابا أخذني خزّاف بعد ألف سنة فصيّرني خزفا،فبقيت ألف سنة فأخذني لبّان فصيرني لبنة و انا في هذا الجدار منذ كذا و كذا فلم تنازعا في هذه الأرض.

و روي انه سأل الخضر عليه السّلام عن اعجب شيء رأيته؟فقال أعجب ما رأيته أني مررت على مدينة و لم أر على وجه الأرض أحسن منها،فسألت بعضهم متى بنيت هذه المدينة؟ فقالوا سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و أجدادنا متى بنيت،و ما زالت كذلك من عهد الطوفان،ثم غبت عنها نحو خمسمائة سنة و عبرت عليها بعد ذلك،فاذا هي خاوية على عروشها،و لم أر احد أسأله،و اذا رعاة غنم فسألتهم عنها،فقالوا لا نعلم،فغبي عنها نحوا من خمسمائة عام ثم انتهيت

ص:218

اليها فاذا موضع تلك المدينة بحر،و اذا غواصون يخرجون منها اللؤلؤ فقلت لبعض الغواصين منذ كم هذا البحر هيهنا؟فقالوا سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و لا أجدادنا الاّ انّ هذا البحر منذ بعث اللّه الطوفان،ثم غبت عنها نحوا من خمسمائة عام ثمّ انتهيت اليها فاذا ذلك البحر قد غاض ماؤه و اذا مكانه أجمة ملتفة بالقصب و البردي و السباع،و اذا صيادون يصيدون السمك في زوارق صغار،فقلت لبعضهم اين البحر الذي كان هيهنا؟فقال سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و اجدادنا انّه كان هيهنا بحر قط،فغبت عنها نحوا من خمسمائة عام ثم اتيت الى ذلك الموضع فاذا هو مدينة على حالته الأولى و الحصون و القصور و الأسوار قائمة،فقلت لبعضهم اين الأجمة التي كانت هيهنا و متى بنيت هذه المدينة؟فقال سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و اجدادنا الا انّ هذه المدينة على حالها منذ بعث اللّه الطوفان،فغبت عنها نحوا من خمسمائة عام ثم انتهيت اليها فاذا عاليها سافلها و هي تدخن بدخان شديد فلم أر أحدا أسأله عنها،ثم رأيت واعيا فسألته اين المدينة التي كانت هيهنا؟و متى حدث هذا الدخان؟فقال سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و اجدادنا الا انّ هذا الموضع كان هكذا منذ كان،فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي في الدنيا فسبحان مبيد العباد.

و لما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسّالا يلوي بيده ثوبا،فقال وددت اني كنت غسّالا لا أعيش الا بما أكتسبه يوما فيوما،فبلغ ذلك ابا حازم فقال الحمد للّه الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه و لا نتمنى عنده ما هم فيه،و كانت العرب لا تعرف الألوان انّما طعامهم اللحم يطبخ بماء و ملح حتى كان زمن معاوية،فاتّخذ الألوان و اسرف فيها و ما شبع من كثرة ألوانه حتى مات.

و قيل ان السبب الموجب لنزول معاوية بن يزيد بن معاوية عن الخلافة انّه سمع جاريتين يتلاحيان و كانت احديهما بارعة الجمال،فقالت لها الأخرى لقد أكسيك جمالك كبر الملوك، فقالت الحسناء و اي ملك يضاهي ملك الحسن و هو قاض على الملوك و هو الملك حقا،فقالت لها و اي خبر في الملك و صاحبه امّا قائم بحقوقه و عامل بالشكر فيه فذاك مسلوب اللذة و القرار منغص العيش،و امّا منقاد لشهواته و مؤثر للذة و مضيّع للحقوق و منصرف عن الشكر فمصيره الى النار، فوقعت الكلمة من نفس معاوية موقعا مؤثرا و حملته على الأنخلاع عن الخلافة فقال له أهله أعهدت الى احد يقوم بها مكانك؟فقال كيف اتجرّع مرارة فقدها و أتقلّد تبعة عهدها،و لو كنت مؤثرا بها لأثرت بها نفسي،ثم انصرف و اغلق بابه و لم يأذن لأحد،فلبث بعد ذلك خمسا و عشرين ليلة ثمّ قبض،و قالت له امه عند ما سمعت منه ذلك ليتك كنت حيضة،فقال ليتني كنت حيضة كما تقولين و لا اعلم انّ للناس جنة و لا نارا و لا للنار اناسا،و نحو ذلك من الموعظ و النصائح.

و ينبغي للوالي ان لا يتأنق في الملبس في غير ايام اعياده بل يلبس الأوسط من الثياب ليرغب الناس في لبس الأدنى،فتتوفر الأموال بين الرعية و يكثر اسباب الخير عندهم،و لعلم

ص:219

الوالي انّ كلّ رداء يرتديه فهو جميل و انّ الثياب يعلو قدرها يلبسه لا انّها هي التي ترفع قدره، و كان ملك السلاطين مولانا امير المؤمنين عليه السّلام قد رفع جبّة عند الخياط و وضع فيها سبعين رقعة حتى قال و اللّه انّي لأستحي من راقعها ان يرقعها لي مرة اخرى،و الولاة لا يقدرون على هذا لكن لا يفوتهم الأقرب اليه،و اما المطعم فان تأنقوا فيه فينبغي لهم ان يحضروا طعاما مخصوصا بهم و يكون على المائدة طعام خال من التكلف لتأكله الولاة،حتى انهم لو لم يأكلوا منه فلا أقل من ان يكون حاضرا معهم على الموائد و هو طعام الفقراء لتقتدي الناس به و ليسهل على الفقير فقره، و ليكون مذكر للوالي و اهل خاصته احوال الفقراء و المساكين و مشبّههم في بعض الأحوال فانّ من تشبّه بقوم كان منهم و ان لم يعمل عملهم كما جاء في الرواية.

و روي ان فرعون كان له مضحكة يضحك من كلامه،فأتى يوما الى باب فرعون ليدخل عليه فرأى رجلا واقفا على باب فرعون رث الهيئة عليه عباءة سملة و بيده عصاه،فقال له من انت؟قال انا موسى نبي اللّه ارسلني الى فرعون أدعوه الى التوحيد،فرجع على طريق الأستهزاء،فاغتاظ موسى عليه السّلام من إستهزائه به ثم لما انتهى حال فرعون الى ان اغرقه اللّه تعالى ايّاه و جنوده في شطّ النيل فنجا اللّه سبحانه ذلك الرجل الذي استهزىء بموسى،فقال يا رب كيف لا تعزق هذا و هو قد أذاني؟فأوحى اللّه تعالى يا موسى ان لا اعذب من تشبّع بأحبابي و ان كان على غير طريقهم.

و روي ان امير المؤمنين عليه السّلام لمّا صار واليا منع نفسه من ان يبات شبعانا،فقيل له في ذلك؟فقال ينبغي للوالي ان يكون في مطعمه مثل أفقر رعيته،و انا أخاف ان يكون رجل في اليمامة قد بات جائعا فكيف اشبع انا من الطعام.

و ينبغي للوالي ان يرفع حجابه و أهل ابوابه في وقت الغداء و العشاء،و يأمر بفتح الأبواب لتدخل الأيتام و أهل السؤال فينالوا من طعامه شيئا،و لا يكون أهل السؤال يصيحون من وراء الجدران و الأبواب حتى لو أمر لهم بطعام بيد أحد غلمانه فربما أخذه الغلام لنفسه و ربما اعطاه الفقير و أعقبه بالإهانة و الضّرب حتى لا يجيء مرة اخرى،اما لأن ما يأخذه الفقير نقص من غداء الغلمان و عشائهم و امّا لأنّ الغلام اذا مشى الى الفقير الذي يكون واقفا خارج الأبواب فات على ذلك الغلام شيء من مقرّره من المائدة و اما لغير ذلك،بل ينبغي للوالي و اهل الثروات ان يعاينوا و يطلعوا على اعطاء السائلين من موائدهم و ان هم اعطوا بأيديهم فيا لها من مكرمة لا يعد لها ثوابها شيء.

و كان الصادق عليه السّلام اذا اعطى السائل درهما او نحوه اخذه من يد السائب فقبله و وضعه على عينه،ثم دفعه اليه مرة اخرى،فقيل له في ذلك؟فقال لأنّ درهم السؤال اول ما يقع

ص:220

في يدي اللّه تعالى فأحب ان اتشرف به و اعظمه لمكان يدي الرحمة،و كان الكاظم عليه السّلام يتصدق بالسكر و الحلوى فقيل له في سببه؟فقال ان اللّه تعالى يقول لَنْ تَنٰالُوا الْبِرَّ حَتّٰى تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ و أنا احب السّكر و الحلوى فأحب ان أتصدق بهما،و في الرواية انّ اللّه تعالى انّما امهل فرعون و مدّ له في الملك مع ما كان عليه من الكفر انّه كان اذا حضرت موائده أمر بفتح الأبواب و رفع الحجاب،و كان كل من يمر على بابه من الفقراء و الأيتام يأكل من طعامه،و في رواية أخرى انه كتب على باب قصره بسم اللّه الرحمن الرحيم،فلما تعجّل موسى عليه السّلام نزول العذاب عليه أوحى اللّه سبحانه اليه يا موسى انت تنظر الى كفره و انا انظر الى ما كتبه على باب قصره.

و روي ان رجلا من اهل مصر رفع الى فرعون عنقود عنب،و قال له انت ربنا فأطلب منك ان تحول هذا العنب لئالىء كبارا،فأخذ العنقود من يده و دخل بيتا من بيوته و غلق عليه الأبواب و جلس يتفكر كيف يصنع ذلك الأمر،فأتى عليه الشيطان و دق عليه الباب،فقال فرعون من بالباب؟فقال ابليس ضرطتي بلحية رب لا يدري من بالباب،فعرفه فرعون (1)فقال ادخل يا ملعون،فقال ابليس ملعون يدخل على ملعون فدخل عليه فرآه متحيّرا متفكرا فأخذ العنقود و قرأ عليه اسما فصيّره عنقودا من اللؤلؤ فقال له يا فرعون أنصف من نفسك أنا في هذا العالم و الكمال و ما قبلوني ان اكون عبدا و أنت في هذا الجهل و الحماقة تريد ان تكون ربا،فقال له فرعون لم لا سجدت لآدم حين امرت بالسجود له؟فقال له ابليس لأنّي علمت انّ مثلك في صلبه.

و ما أحسن مراسلة وقعت بين كسرى و قيصر و هو انّ قيصر ملك الروم بعث الى كسرى ملك الفرس ممّا ذا انتم اطول منّا اعمارا و أدوم ملكا؟فأجابه كسرى امّا بعد ايها السيد الكريم و الملك الجسيم،اما سبب الملك و اغرازه في مغرزه و رسوخه في مركزه فلأمور أنتم غافلون و لستم لأمثالها فاعلون،منها ان ليس لنا نوّاب يرشي و يمنع و لابواب يدفع و يردع لم تزل ابوابنا مشرعة و نوّابنا لقضى الحوائج مسرعة،لا أقصينا صغيرا و لا أدنينا اميرا و لا احتقرنا بذوي العقول(الأصول)،و لا قدّمنا الشّبان على الكهول و لا كذبنا في وعد و لا صدقنا في ايعاد و لا تكلّمنا بهزل و لا سمنا وزيرا الى عزل،موائدنا مبسوطة و عقولنا مضبوطة لا نقطع في امل و لا لجليسنا نمل، خيرنا مضمون و شرّنا مأمون و عطاؤنا غير ممنون،لا نجوح احدا الى باب بل نقضي بمجرّد الكتاب، نرقّ للباكي و نستقصي قول الحاكي ما جعلنا همّنا بطونتنا و لا فروجنا،اما البطون فلقمة و اما الفروج فأمة،و لا نؤاخذ على قدر غيظنا بل نؤاخذ على قدر الجناية،و لا نكلف الضّعيف المعدم

ص:221


1- (1) كيف عرف فرعون ابليس و تكلمه و لذا اظن هذه القضية اسطورة ذكروها من باب المطايبة و الأمثال.

ما يتحمله الشّريف المنعم و لا نؤاخذ البريء بالسقيم و لا الكريم باللئيم النمام عندنا مفقود و العدل في جانبنا موجود الظلم لا نتعاطاه و الجور أنفسنا تأبأه،لا نطمع في الباطل و لا نأخذ العشر قبل الحاصل،لا ننكث العهود و لا نحنث في الموعود الفقير عندنا مدعو و المفتخر لدينا مقصو،جارنا لا يضام و عزيزنا لا يرام رعيتنا مرعية و حوائجهم لدينا مقضية صغيرهم عندنا خطير وزريهم لدينا كبير،الفقير بيننا لا يوجد و الغنى بما لديه يسعد العالم عندنا مكرم معظم و التّقى عندنا(لدينا خ) موقّر مقدم،و لا يسد بمملكتنا باب و لا يوجد عندنا سارق و لا مرتاب سماؤنا معطرة و اشجارنا لم تزل مثمرة،لا نعامل بالشهوات و لا نجازي بالهفوات،الطير الينا شاكي و البعير اتانا متظلم و باكي عدلنا قد عم القاصي و الداني وجودنا قد غمر الطائع و العاصي،عقولنا باهرة و كنوزنا ظاهرة و فروجنا عفايف و ذيولنا نظايف،أفهامنا سليمة حلومنا جسيمة كفوفنا سوامح بحورنا طوافح نفوسنا ابية و طوالعنا المعية،ان سألنا اعطينا و ان قدرنا عفينا(عفونا)و ان وعدنا اوفينا و ان غضبنا اغضينا،فلمّا وصل الكتاب الى قيصر قال يحق لمن يكون هذه سياسته ان تدوم رئاسته.

و ينبغي للوالي ان لا يشعر قلبه التّكبر و ان اظهره في حضور الرعية لمصلحة الملك و اذا جلس او ركب و رأى العساكر حافّة به فليذكر ذلك الوقت عظمه اللّه سبحانه و ليذكر حقارته و هوانه،و ان الملك زائل عنه اغلى غيره و انّه يصل الى طبقات الأرض و يصاحب الديدان،فاذا خطر بخاطره مثل هذا عرف قدر نفسه.

و في كتب السير انّ عمر بن عبد العزيز كان له ابن و قد صاغ خاتما من ألف درهم، فحكوا له ما صنع ابنه،فكتب اليه يا بني بع الخاتم بألف درهم و اشبع بها ألف مسكين و صغ خاتما من اربعة دراهم و اكتب على فصّه رحم اللّه امرأ عرف قدره،فصنع ما امره،و في الحديث القدسي العز ازاري و الكبرياء ردائي فمن نازعنيهما ادخله ناري و لا ابالي.

و قال عليه السّلام يا ابن آدم أني لك و الفخر فانّ أوّلك جيفة و آخرك جيفة و في الدنيا حامل الجيف،و قد سبق تحقيق هذا في باب التكبر.

و ينبغي للوالي ان يجعل لأمواله ثلاثة من الوكلاء:واحد منها يكون وكيله في قبض الأموال الحلال مثل مداخل أملاكه و تجاراته الحلال و نحو ذلك ليصرفها على نفسه و على تصدّقاته و عطاياه للعلماء و الفقراء و الأخيار،و ثانيها ان يكون وكيله في قبض الخراج و الأموال التي تجبى اليه كل سنة و يكون قانونا سلطانيا على الرعية فانّ مثل هذه تقرب من الحلال ان لم تكن حلالا، و ذلك انّ الوالي اذا كان عالما عاملا من عمّال السلطان و أولاه تلك البلاد فكأنه أعطاه مال خراجها و مقرّراتها و يكون الوزر على السلطان،فبهذا يكون داخلا تحت الشبهات و لا يكون حراما محضا،و ثالثها ان يكون وكيله في قبض المحرمات المحضة فانّ ولاة هذه الأعصار و لا يتركون

ص:222

مثله و يكون مصرف هذا اهله فانهم احق به من الغير و الاّ فلا يكون مصرف مثل هذا الاّ في الأمور الحقيرة البعيدة من الشرع.

و يجب على الوالي الوجوب العيني و هو أهم ما يجب عليه العدل و حياطة الرعية قال انوشيروان حصّن البلاد بالعدل فهو سور لا يغرقه ماء و لا يحرقه نار و لا يهدمه منجنيق و كان كسرى اذا جلس في مجلس حكمه أقام رجلين عن يمينه و شماله و كان يقول لهما اذا زغت (1)فحرّكوني و نبّهوني،فقالا له يوما و الرعية تسمع ايّها الملك انتبه فانّك مخلوق لا خالق و عبد لا مولى،و ليس بينك و بين اللّه قرابة انصف الناس و انظر لنفسك.

و قال بعض الحكماء اذا ولّيت ولاية فايّاك و ان تسعين في ولايتك بأقاربك فتبتلي بما ابتلي به بن عثمان بن عفان و اقض حقوقهم بالمال لا بالولاية،و حمل بعض عمّال انوشيروان اليه في بعض السنين ثمانين ألف درهم زيادة على الموظف المقرّر،فسأله عن ذلك؟فقال وجدت في ايدي قوم فضلا فأخذته منهم،فقال ردّوا هذا المال على من اخذ منه فان مثلنا في ذلك كمثل من طين سطحه بتراب اسا بيته،فيوشك ان يكون ضعف الأساس و ثقل السطح مسرعين في خراب بيته.

و في الحديث من و لي من امور المسلمين شيئا ثم لم يحطّهم بنصحه كما يحوط أهل بيته فليتبوّأ مقعده من النار،و روي ايضا انه اذا كان يوم القيامة يؤتى بالوالي فيقذف على جسر جهنم يأمر اللّه سبحانه الجسر فينتفض به انتفاضة فيزول كل عظم منه عن مكانه،ثم يأمر اللّه تعالى العظام فترجع الى اماكنها ثم يسأل فأن كان مطيعا أخذ بيده و أعطاه كفلين من رحمته و ان كان للّه عاصيا أخرق به الجسر فهوى به جهنّم مقدار سبعين خريفا.

و في الرواية انّه كان في زمن بني اسرائيل سلطان ظالم فأوحى اللّه سبحانه الى نبي من أنبيائه أن قل لهذا الظالم ما جعلتك سلطانا الاّ لتكف أصوات المظلومين عن بابي،فوعزتي و جلالي لأطعمنّ لحمك الكلاب،فسلّط عليه سلطانا آخر حتى قتله فأطعم لحمه الكلاب.

و روي ان كسرى صنع طعاما فدعى الناس اليه،فلمّا فرغوا و رفعت الآلات وقعت عينه على رجل و قد أخذ جاما له قيمة كثيرة،فسكت عنه و جعل الخدم يرفعون الآلات فلم يجدوا الجام،فسمعهم كسرى يتكلمون فقال ما لكم؟قالوا فقدنا جاما من الجامات فقال لا عليكم أخذه من لا بردّه و أبصره من لا ينمّ عليه فلمّا كان بعد ايّام دخل الرجل على كسرى و عليه حلية جميلة و حال مستجدة،قال له كسرى هذا من ذاك؟قال نعم،و لم يقل له شيئا.

ص:223


1- (1) أي ملت عن الحق.

و روي اهل السّر و التواريخ انّ كسرى انوشيروان قد ظلم في أوّل حكمه كثيرا حتى بلغ ظلمه الى رجل راهب كان يعبد اللّه في صومعته،فكتب العابد اليه كتابا بسم اللّه الرحمن الرحيم ملكتم فأسأتم،و وضع عليكم فضيّقتم،نسيتم سهام الأسحار و هي صائبة خصوصا اذا خرجت من قلوب قد اوجعتموها و اجساد قد أعريتموها و أجفان عين قد أجريتموها،فأعملوا ما شئتم فأنا صابرون و جوروا فانّا بعزة اللّه واثقون،و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

و ينبغي يعلم نيّات الملوك و الولاة له مدخل في زيادة معائش الرعية و نقصانها،و روى الكليني عن ابيه قال خرج كسرى في بعض ايّامه للصيد فعنّ له صيد فتبعه فانقطع عن اصحابه، فرفع له كوخ فقصده فاذا عجوز بباب الكوخ جالسة،فقالت له أنزل فنزل و دخل الكوخ فاذا ابنة العجوز قد جاءت و معها بقرة،فأدخلتها الكوخ و كسرى ينظر و قال في نفسه:

ينبغي ان نجعل على كل بقرة اناوة فهذا حلاّب كثير،فلمّا مضى من الليل شطره قالت العجوز يا فلانة قومي الى البقرة فاحلبيها فقامت الى البقرة فوجدتها حائلا فنادت امّها يا اماه قد اضمر لنا الملك شرّا قالت و ما ذلك؟قالت لأن هذه البقرة حائل و ما تدرّ بقطرة،فقالت لها امّها امكثي فانّ عليك ليلا،فقال كسرى في نفسه من أين لها انّي اضمرت في نفسي الشر اما انّي لا أفعل ذلك،قال فمكثت قليلا ثم نادتها يا بنية قومي احلبي البقرة،فقامت اليه فوجدتها حاملا،فحلبتها و أقبل الصبح و تتبّع الرجال كسرى أثره حتى أتوه،فركب و امر بحمل العجوز و ابنتها اليه فحملتا فأحسن اليهما،و قال كيف علمت ان الملك قد اضمر شرّا و ان الشر الذي قد اضمره قد عدل عنه؟قالت العجوز انا بهذا المكان من كذا و كذا ما عمل فينا بعدل الا أخصب بلادنا و اتّسع عيشنا،و ما عمل فينا بجور الا ضاق عيشنا و انقطعت موادّ النفع عنا.

و في كتاب عجائب المخلوقات انّ ريحان الفارسي و هو الأخضر لا الذي يميل الى الحمرة لم يكن قبل كسرى انوشيروان و انما وجد في زمانه،و سببه انّه كان ذات يوم جالسا كفوّا عنها فانّي أظنها مظلومة،فمرت تنساب حتى استدارت على فوهة بئر،فنزلت فيها ثم أقبلت تتطلع فنظروا فاذا في قعر البئر حية مقتولة و على ظهرها عقرب اسود،فأدلي بعضهم رمحه الى العقرب فنخسها به و أتى الملك فخبّره بحال الحية،فلما كان في العام القابل أتت الحيّة في اليوم الذي كان كسرى جالسا فيه للمظالم و جعلت تنساب حتى وقفت و لفظت من فيها بذرا اسود،فأمر الملك ان يزرع فنبت منه اليرحان،و كان الملك كثير الزكام و أوجاع الدماغ فاستعمل منه و نفعه جدّا،فانظر الى عدل هذا الملك اين بلغ،على انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ولدت في زمن الملك العادل يعني به كسرى.

ص:224

و رووا انه لما اراد بناء قصره الذي في المدائن امر بشراء ما حوله و رغّب الناس في الثمن الوافر الا عجوز كان لها بيت صغير قالت ما ابيع جوار السلطان بالدنيا كلها فاستحسن انوشيروان منها هذا القول و امر بترك ذلك البيت على حاله و احكام عمارته و بنى الأيوان محيطا به و كان في جانب الأيوان قبة محكمة العمارة يعرفها اهل تلك الناحية بقبة العجوز و كان على الأيوان نقوش و صور بالتزاويق و قد شكوا غلمان الدار الى انوشيروان و قالوا ان العجوز تدخن في بيتها و دخانها يفسد نقوش الأيوان فقال كلما افسدت اصلحوها و لا تمنعوها من التدخين و كان للعجوز بقرة تأتيها آخر النهار لتحلبها،فاذا وصلت الى الأيوان طووا فرشه لتمشي البقرة الى باب قبة العجوز فاذا فرغت من حلبها رجعت البقرة و سووا الفراش و كان هذا مذهبه في العدل.

و روي ان المأمون ارق ليله فاستدعى سميره (1)تحدته بحديث فقالت يا امير المؤمنين كان بالبصرة بومة و بالموصل بومة فخطبت بومة البصرة الى بومة الموصل بنتها لأبنها فقالت بومة البصرة لا انكحك ابنتي الا ان تجعل في صداقها مائة ضيعة خراب فقالت بومة الموصل لا اقدر عليها الآن و لكن ان دام و الينا سلمه اللّه تعالى علينا سنة واحدة فعلت لك ذلك فاستيقظ المأمون و تفقد امر الولاة.

و روى شيخنا الكليني باسناده الى الأمام ابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال ان اللّه عز و جل جعل لمن جعل له سلطانا أجلا و مدّة من ليالي و ايّاما و سنين و شهور فان عدلوا في الناس امر اللّه عز و جل صاحب الفلك فأبطأ بادارته فطالت ايّامهم و لياليهم و سنونهم و شهورهم و قد وفى اللّه عز و جل بعدد الليالي و الشهور.

قال شيخنا المعاصر ادام اللّه ايّامه لعل المراد بسرعة ادارة الفلك و بطؤها تعجيل زوال اسباب الملك و عكسه،و يجوز ان يكون لكل دولة فلك غير الأفلاك المعروفة الحركات فيكون سرعة الأدارة و بطؤها عارضين لذلك الفلك انتهى و كأنه ايده اللّه تعالى اراد دفع الأعتراض على ظاهر الحديث من وجهين:

الأول ما ذهب اليه الحكاء و المنجمون من ان الفلك لا يمكن ان يزول عن الحركة التي ههي عليها الآن و برهنوا بزعمهم على هذا.

الثاني انه ربما كان سلطان جائر في بلاد من البلدان و سلطان عادل في بلاد اخرى فكيف يكون جور هذا و ظلمه سببا في زوال ملك الآخر و نقص عمره مع ان رعيه الجائر ايضا مما ليس لهم ذنب في الجور فكيف تنقضي ايام اعمارهم على طريق السرعة

ص:225


1- (1) الذي يحدث بالليل.

و الجواب عن الأول انه قد ورد في الأخبار المستفيضة و قد تقد بعضها ان ايام دولة المهدي عليه السّلام انما تكونه كل سنة منها تعادل سبع سنين من هذه السنين فقيل له يا ابن رسول اللّه ان الفلك لا تزول عن حركتها هذه و لو زال لفسد؟فقال عليه السّلام هذا قول الزنادقة و المنجمين، و المراد بازنادقة الحكماء و اما الأشكال الثاني فالجواب عنه غير الجائر من الرعية و الملوك ان قدروا على ازالته عن الملك و سكتوا عنه مداهنة فالذي يصيبهم من قصر الأعمار و الملك انما هو بسبب المداهنة و قد عذب اللّه تعالى في الأمم السابقة من اذنب و من داهن و جعلهم في العذاب سواء و من لم يقدر على ازالته عن الملك فكان ينبغي له ان يفر عن بلاده و يطلب بلاد اللّه العريضة لأن السكنى مع الظالمين ذنب حتى انه ورد في الحديث لو ان الجعل يبني بيتا في محلة الظالمين لعذبه اللّه تعالى بعذابهم و اما من لم يقدر على الفرار و كان الظلم قد عم البلاد و العباد فيجوز ان يكون سبحانه و تعالى ان يضيف الى اعمار هؤلاء الذين

لم يذنبوا بوجه من الوجوه بقية ايامهم التي اسرع اليها الظلم بحركته فيعوضهم بدلها ايباما و ليالي في دولة من يأتي من الملوك و يظهر من هذا الخبر و غيره ان يام دولة الولاة مكتوب عن اللّه تعالى لا يزيد و لا ينقص الا بالجور و العدل و لو اراد الناس و الرعية و العساكر زواله ما قدروا عليه بوجه من الوجوه كما هو المشاهد حتى تنقضي الأيام و يأذن اللّه بزوا ذلك الملك فعند ذلك يزول بأنقص الأسباب و ادناها فلا ينبغي ان يخطر بخاطر احد من الولاة انني اذا فعلت الفعل الفلاني كان سببا لزوال ملكي الا ان يكون ظالما في ذلك الفعل فحينئذ يجب على الوالي دفع الظالمين الذين يظلمون الرعية و يخيفون الطرقات و يمنعون المتمردين و يغيرون القوافل و نحو ذلك فان لم يدفعهم ظلمهم كان له الحظ الأوفر من العذاب و العقاب و يكون مداهنته مهم هي السبب الأقوى في زوال ملكه مع انه قد ظن انه سبب لبقاء ملكه.

و في بعض الأخبار ان عدل الحاكم يوما يعادل عبادة العابد خمسين سنة و ليس العدل هو ان القضية اذا بلغت اليه حكم بها على طريق الحق و انما العدل وروده هو على القضايا لا ورود القضايا عليه بأن يكون له اطلاع على بلاده و محاله و يكون له العيون و الجواسيس في اقطار ممالكه حتى يتعرف القضايا و يوردوها عليه،و هكذا كان احوال السلف من الملوك و لا يجوز للوالي ان يضرب الأستار و يغلق الأبواب في وجوه المسلمين و لينظر الى قول الصادق عليه السّلام من ضرب بينه و بين اخيه حجابا ضرب اللّه بينه و بين الجنة سبعين حجابا مسير كل حجاب منها سبعون عاما او اكثر و ليجعل له وقتا خاصا لتفرده بنفسه و مع عياله و اهل بيته كما كان يصنع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كتب مولانا امير المؤمنين عليه السّلام لعامله مالك الأشتر قانونا للإماره و الولايه نقلها علماؤنا رضوان اللّه عليهم في الكتب المعتبرة و هذا لفظها:هذا ما امر به على عبد

ص:226

اللّه امير المؤمنين مالك بن الحرث الأشتر في عهده اليه حين ولاه مصر جباية خراجها و جهاد عدوها و استصلاح اهلها و عمارة بلادها امره بتقوى اللّه و ايثار طاعته و اتباع ما أمره به في كتابه من فرائضه و سننه التي لا يسعد احد الا بإتباعها و لا يشقى احد الا مع جحودها و اضاعتها و ان ينصر اللّه سبحانه بيده و قلبه و لسانه فانه جل اسمه قد تكفل بنصرة من نصره و اعزاز من اعزه و امره ان يكسر ممن نفسه عند الشهوات و نزعه عند الجمحات فان النفس امارة بالسوء الا ما رحم اللّه.

ثم اعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد و قد خرجت عليها دول قبلك من عدل و جور و ان الناس ينظرون من امورك في مثل ما كنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم و انما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده فليكن احب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح فاملك هواك و شح بنفسك عما لا يحل لك فان الشح بالنفس الأنصاف فيما احبت او كرهت و اشعر قلبك الرحمة للرعية و المحبة و اللطف بهم و لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم،فانهم صنفان اما اخ لك في الدين و اما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل و تعرض لهم العلل و يؤتى على ايديهم في العمد و الخطاء فاعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحب ان يعطيك اللّه من عفوه و صفحه فانك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك و اللّه فوق من ولاّك و قد استكفاك امرهم و ابتلاك بهم،و لا تنصبن نفسك لحرب اللّه فانه لا يدي لك بنقمة و لا غنى بك عن عفوه و رحمته،و لا تندمن على عفو و لا تبحجنّ بعقوبة و لا تسرعن الى بادرة وجدت عنها مندوحة،و لا تقولن انّي مؤمر آمر فأطاع فانّ ذلك ادغال في القلب و منهكة للدين و تقرب من الغير،و اذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك ابهة او مخيلة فانظر الى اعظم ملك اللّه فوقك و قدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فانّ ذلك يطامن اليك من طماحك،و يكف عنك من عزمك و يفي اليك بما عزب عنك من عقلك،اياك و مسامات اللّه في عظمته و التّشبه به في جبروته فانّ اللّه يذل كل جبار و يهين كلّ مختال،انصف اللّه و انصف من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك فانّك الا تفعل تظلم،و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده، و من خاصمه اللّه أدحض حجته و كان للّه حربا حتى ينزع و يتوب،و ليس شيء ادعى الى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم،فانّ اللّه يسمع دعوة المظلومين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن احب الأمور اليك اوسطها في الحق و اعمها فغي العدل و اجمعها لرضى الرّعية، فان سخط العامّة يحجف برضا الخاصة،و ان سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامّة،و ليس احد من الرعية أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء و أقل معونة له في البلاء و أكره للإنصاف و أسأل بالألحاف و أقل شكرا عند الأعطاء و أبطأ عذرا عند المنع و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر من اهل الخاصة، و انما عمود الدين و جماع المسلمين و العدة للأعداء العامة من الأمة فليكن صفوك لهم و ميلك

ص:227

معهم و ليكن ابعد رعيتك منك و أشنأهم عندك اطلبهم لمعائد الناس فان في الناس عيوبا الوالي احق من سترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها،فإنما عليك تطهير ما ظهر لك و اللّه يحكم على ما غاب عنك،فاستر العوره ما استطعت يستر اللّه منك ما تحب ستره من رعيتك اطلق عن الناس عقدة كل حاقد و اقطع عنك سبب كل وتر و تغاب عن كل ما لا يصح لك،و لا تعجلن الى تصديق ساع فان الساعي غاش و ان تشبه بالناصحين و لا تدخلن في مشاويرك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر و لا جبانا يضعفك عن الامور،و لا حريصا يزين لك الشره بالجور فان البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن باللّه شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيرا و من شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فانهم اعوان الأئمة و اخوان الظلمة و انت واحد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم و نفادهم و ليس عليه مثل آصارهم و أوزارهم ممن لم يعونوا ظالما على ظلمه و لا آثما على اثمه أولئك أخف عليك مؤنة و أحسن لك معونة و أحنا عليك عطفا و أقل غيرك ألفا فاتخذ أولئك خاصة من خلواتك و حفلاتك ثم ليكن أثرهم عندك أقولهم بمر الحق و أقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره اللّه لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع و ألصق بأهل الورغ و الصدق ثم رضهم على ان لا يطروك و لا يبحجوك بباطل لم تفعله فان كثرة الأطراء تحدث الزهو و تدني من الغرة و لا يكونن المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء فانّ في ذلك تزييدا لأهل الأحسان في الأحسان و تدريبا لأهل الأساءة على الأساءة و ألزم كلا منهم ما ألزم نفسه و أعلم انه ليس شيء بأدعى الى حسن ظن وال(راع خ)برعيته من احسانه اليهم و تخفيفه المؤنات عنهم و ترك استكراهه اياهم على ما ليس له قبلهم،فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك فانّ حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا و ان احق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده و ان احق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده و لا تنقض سنة صالحة بها صدور هذه الأمة و اجتمعت بها الألفة و صلحت عليها الرعية و لا تحدثن سنة بشيء يضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها و الوزر عليك بما نقضت منها و أكثر مداومة العلماء و مناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه امر بلادك و اقامة ما أستقام به الناس قبلك.

و اعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض و لا غنى لبعضها عن بعض فمنها جنود اللّه و منها كتاب العامة و الخاصة و منها قضاة العدل،و منها عمال الأنصاف و الرفق،و منها اهل الجزية و الخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس و منها التجار و أهل الصناعات و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة و المسكنة و كل قد سمى اللّه سهمه و وضع على حده و فريضته في كتابه او سنة نبيه عهدا منه عندنا محفوظا فالجنود بأذن اللّه حصون الرعية و زبن الولاة و عز الدين و سبل الأمن و ليس تقوم الرعية الا بهم ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج اللّه لهم من الخراج الذي يقوون به

ص:228

في جهاد عدوهم و يعتمدون عليه فيما أصلحهم و يكون من وراء حاجتهم ثم لأقوام لهذين الصنفين الا بالصنف الثالث من القضاة و العمال و الكتاب لما يحكمون من المعاقد و يجمعون من المنافع و يؤتمنون عليه من خواص الأمور و عوامها و لا قوام لهم جميعا الا بالتجار و ذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم و يقيمونه من اسواقهم و يكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم ثم الطبقة السفلى من اهل الحاجة و المسكنة الذين يحق رفدهم و معونتهم و في اللّه لكل سعة و لكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه و ليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللّه تعالى الا بالأهتمام و الأستعانة باللّه و توطين نفسه على لزوم الحق و الصبر عليه فيما خف عليه او ثقل فول من جنودك انصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك اتقاهم حسا و افضلهم حملا ممن يبطي عن الغضب و يستريح الى العذرة و يرأف بالضعفاء و ينبوا على الأقوياء و ممن لا يثير العنف و لا يقعد به الضعف ثم ألصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة ثم أهل النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة فانهما جماع للكرم و شعب من العرف ثم تفقد من أمورهم ما تتفقده الوالدة من ولدها و لا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به و لا تحقرن لطفا تعاهدتم به و ان قل فانه داعية الى بذل النصيحة لك و حسن الظن بك و لا تدع تفقد لطيف امورهم اتكالا على جسميها فانّ لليسير منك موضعا ينتفعون به و للجسيم موقعا لا يستغنون عنه و ليكن اثر رؤوس جندك عندك من ساواهم في معونته و افضل عليهم من جدته بما يسعهم من وراءهم من خلوف اهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو فانّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك و لا تصح نصيحتهم الا بحيطتهم على ولاة أمورهم و قلة استثقال دولهم و ترك استبطاء انقطاع مدتهم و افسح في اموالهم و اوصل من حسن الثناء عليهم و تعديل ما أبلى ذه البلاء منهم فان كثرة الذكر لحسن افعالهم يهز الشجاع و يحرض ان كل ان شاء اللّه ثم اعرف لكل مرء منهم ما أبلى و لا تضمن بلاء احد الى غيره و لا تقصرن به دون غاية بلاءه و لا يدعونك شرف امرأ الى ان تعظم من بلاءه ما كان صغيرا و لا ضعه امرأ الى ان تصتصغر من بلاءه ما كان عظيما و اردد الى اللّه و رسوله ما يطعلك من الخطوب و يشتبه عليك من الأمور فقاد قال اللّه سبحانه لقوم احب ارشادهم يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ فلراد الى اللّه الآخذ بمحكم كتابه و الراد الى الرسول الآخذ بسنته الجامعة غير المفرقة ثم أختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور و لا تمحقه الخصوم (1)و لا يتمادى في الزلة و لا يحسر من الفئ الى الحق اذا عرفه و لا تشرف نفسه على طمع

ص:229


1- (1) امحكه جعله محكان أي عسر الخلق او اغضبه أي لا تحمله مخاصمة الخصوم على اللجاج و الأصرار على رأيه.

و لا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاه اوقفهم في الشبهات و آخذهم بالحجج و اقلهم تبرما بمراجعة الخصم و اصبرهم على تكشف الأمور و اصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزهيه اطراء و لا يستميله اغراء و اولئك قليل ثم أكثر تعاهد قضائه و افسح له في البذل ما يزيل علته و تقل معه حاجته الى الناس و اعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك أغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظرا بليغا فان هذا الدين قد كان اسيرا في ايدي الأشرار يعمل فيه بالهوى و تطلب به الدنيا ثم انظر في امور عمالك فاستعملهم في امورك اختيارا و لا تولهم محاباة و آثره فانهما جماع من شعر الجور و الخيانة و توخ منهم اهل التجربة و الحياء من البيوتات الصالحة و القدم في الأسلام المتقدمة فانهم اكرم اخلاقا و اصح اغراضا و أقل في المطامع اشرافا و ابلغ في عواقب الأمور نظرا ثم اسبغ عليهم الأرزاق فان ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم و غنى لهم عن تناول ما تحت ايديهم و حجة عليهم ان خالفوا امره او ثلموا امانتك ثم تفقد اعمالهم و ابعث العيون من اهل الصدق و الوفاء عليهم فان تعاهدك في السر لأمورهم جذوة لهم على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية،و تحفظ من الأعوان فان احد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا و بسطت عليه العقوبة في بدنه و أخذته بما أصاب من عمله،ثم نصبته بمقام المذلّة و وسمته بالخيانة و خلّدته عار التهمة.

و تفقد الخراج بما يصلح اهله فانّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم و لا صلاح لمن سواهم الا بهم،لأنّ الناس كلهم عيال على الخراج و اهله،و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج،لأنّ ذلك لا يدرك الا بالعمارة و من طلب الخراج بغير عمارة و أخرب البلاد و أهلك العباد لم يستقم امره الا قليلا،فان شكوا ثقلا او علة او انقطاع شرب او بالّة او احالة ارض اغتمرها غرق او احجف بها عطش خففت عنهم بما ترجوا ان يصلح به امرهم فلا يثقلن عليك شيء خففت به المؤنة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك و تزين ولايتك مع استجلاب حسن ثناؤك و تبحجك باستفاضة العدل فيهم متعمد افضل قوتهم بما ذخرت عندهم من اجمالك لهم و الثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم و رفقك بهم فربما حدث من الأمور ما اذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة انفسهم به فان العمران محتمل ما حملته و انما يؤتى خراب الأرض من أعواز اهلها و انما يعوز اهلها لأشراف انفس الولاة على الجمع و سوء ظنه بالبقاء و قلة انتفاعهم بالعبر ثم انظر في حال كتابك فول من امورك خيرهم و اخصص رسائلك التي تدخل فيها تدخل فيها مكائدك و اسرارك باجمهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترى بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ و لا تقصر به الغفلة عن ايراد مكاتبان عمالك عليك و اصدار جواباتها على الصواب عنك و فيما يأخذ لك و يعطي منك،

ص:230

و لا يضعف عقدا عقده لك و لا يعجز عن اطلاق ما عقد عليك و لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور فان الجاهل يقدر نفسه يكون بقدر غيره اجهل ثم لا يكن اختيارك اياهم على فراستك و استنامتك و حسن الظن منك فان الرجال يتعرفون بفراسات الولاة بتصنعهم و حسن خدمتهم و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شيء و لك اختبرهم بما ولوا الصالحين غيرك فأعهد لأحسنهم كان في العامة اثر او اعرفهم بالأمانة وجها فان ذلك دليل على نصيحتك للّه و لمن وليت امره و اجعل لرأس كل امر من امورك رأسا منهم لا يقهرها كبيرها و لا يتشتت عليه كثيرها و مهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه الزمته ثم استوص بتجار و ذوي الصناعات و اوصي بهم خيرا المقيم منهم و المضطرب و المترفق بيديه فانهم مواد المنافع و اسباب المرافق و جلابها من المباعد و المطارح في برك و بحرك و سهلك و جبلك و حيث لا يلتأم الناس لمواضعها و لا يجترؤن عليها فانهم سلما لا تخاف بائقته و الصلح لا تخشى غائلته و تفقد امورهم بحضرتك و في حواشي بلادك و اعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكما في البياعات و ذلك باب مضرة للعامة و عيب على الولاة فامنع من الأحتكار فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منع منه و ليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل و اسعار لا يجحف بالفريقين من البائع و المبتاع فمن قارف حكره بعد نهيك اياه فنكل و عاقب في غير اسراف ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم و المساكين و المحتاجين و البؤساء و الزمني فان في هذه الطبقة قانعا و معتر او احفظ اللّه ما استحفظك من حقه فيهم و اجعل لهم قسما من بيت مالك و قسما من غلات صوافي الأسلام في كل بلد فان للأقصى منهم مثل الذي للأدنى و كان قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطرف انك لا تقدر بتضييعك ألطافه لأحكامك الكثير المهم فلا تشخص همك عنهم و لتصعر خدك لهم و تفقد امور من لا يصل اليك منهم ممن تقتحمه العيون و تحقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من اهل الخشية و التواضع فليرفع اليك امورهم ثم اعمل فيهم بالأعذار الى اللّه سبحانه يوم تلقاه فان هؤلاء من بين الرعية احوج الى الأنصاف من غيرهم و كل فاعذر الى اللّه في تأدية حقه اليه و تعهد أهل اليتيم و ذوي الرقة في السن مما لا حيلة له و لا ينصب للمسئلة نفسه و ذلك على الولاة ثقيل و الحق كله ثقيل و قد يخففه اللّه على اقوام طلبوا العاقبة فصبروا انفسهم و وثقوا بصدق موعود اللّه لهم و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ فيه شخصك و تجلس لهم مجلسا عاما فتواضع فيه للّه الذي خلقك و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك حتى يكلمك مكلمهم غير متتعتع فاني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في غير موطن لن تقدس امة لا يؤخذ فيها للضعيف حقه من القوي غير متعتع ثم احتمل الخرق منهم و العي و نحّ عنك الضيق و الأنف يبسط اللّه عليك بذلك أمناف رحمته و يوجب لك ثواب طاعته و اعط ما اعطيت هنيئا

ص:231

و امنع اجمال و اعذار ثم امور من امورك لا بد لك من مباشرتها منها اجابة عمالك بما يعي عنه كتابك و منها اصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك مما تحرج منه صدور اعوانك و امض لكل يوم عمله فان لكل يوم ما فيه و اجعل لنفسك فيما بينك و بين اللّه افضل تلك المواقيت و اجزل تلك الأقسام و ان كانت كلها للّه اذا صلحت فيه النية و سلمت منها الرعية و ليكن في خاصة ما تخلص للّه به دينك اقامة فرائضه التي هي له خاصة فاعط اللّه من بدنك في ليلك و نهارك و وف ما تقربت به الى اللّه من ذلك كاملا غير مثلوم و لا منقوص بالغامنة بالغا من بدنك ما بلغ و اذا اقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا و لا مضيعا (1)فان في الناس من به العلة و له الحاجة،و قد سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اله حين وجهني الى اليمن كيف اصلي بهم؟فقال صلّ بهم كصلاة أضعفهم و كن بالمؤمنين رحيما.

و اما بعد هذا فلا تطولنّ احتجابك عن رعيتك فانّ احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق و قلة علم بالأمور،و الأحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير و يقبح الحسن و يحسن القبيح و يشابه الحق بالباطل و انّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور و ليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب و انّما انت احد رجلين امّا امرء و سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه او فعل كريم تسديه او مبتلى بالمنع فما اسرع كفّ الناس عن مسألتك اذا أيسوا من بذلك،مع انّ اكثر حاجات الناس منك لغيرك و عمّا قليل تنكشف عنك اغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم،املك حميّة أنفك و سورة حدك و سطوة يدك و عزب لسانك و احترس من كل ذلك بكف الباذرة و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الأختيار و لن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد الى ربك،و الواجب عليك ان تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة او سنّة فاضلة او أثر عن نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فريضة في كتاب اللّه فتقتدي بما شاهدته مما علمنا به فيها و تجتهد نفسك في اتباع ما عهدت اليك في عهدي هذا و استوثقت به من الحجة لنفسي عليك لئلا تكون لكعلّة عند تسرع نفسك الى هواها،و ان ظنّت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك و اعدل عنك ظنونهم باصحارك،فانّ في ذلك رياضة منك لنفسك و رفقا برعيتك و اعذارا تبلغ فيه حاجتك من تقويمهم على الحق و لا تدفعن صلحا دعاك اليه عدوّك للّه فيه رضى فانّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك،و لكن الحذر من عدوك بعد صلحه فانّ العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم و اتّهم في ذلك حسن الظن،و ان عقدت بينك

ص:232


1- (1) التنفير بالتطويل و التضييع بالنقص في الأركان و المطلوب التوسط.

و بين عدوك عقدة او ألبسته منك ذمة فحطّ عهدك بالوفاء و اردع ذمتك بالأمانة،و اجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فانّه ليس من فرائض اللّه سبحانه شيء الناس اشدّ عليه اجتماعا مع تفريق اهوائهم و تشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر،فلا تغدرن بذمتك و لا تخيسنّ بعهدك و لا تختلن عدوّك فانّه لا يجتري على اللّه الا جاهل شقي و قد جعل اللّه عهده و ذمته امنا أقضاه بين العباد برحمته و حريما يسكنون الى منعته و يستفيضون الى جواره فلا ادغال و لا مدالسة و لا خداع فيه و لا تعتقد عقدا تجوز فيه العلل و لا تعولن على لحن قول بعد التّأكيد و التّوثقة،و لا يدعونك ضيق امر لزمك فيه عهد اللّه الى طلب انفساخه بغير الحق فانّ صبرك على ضيق أمر ترجوا انفراجه و فضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته و ان تحيط بك من اللّه فيه طلبة لا تستقيل فيها دنياك و لا آخرتك.

ايّاك و الدماء و سفكها بغير حلها فانّه ليس شيء أدعى لنقمته و لا أعظم لتبعة و لا أحرى بزوال نعمة و انقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها،و اللّه سبحانه مبتدىء بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة،فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فانّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد لأنّ فيه قيود البدن،و ان ابتليت بخطأ،و أفرط عليك سوطك او سيفك او يدك بعقوبة فانّ في الزكاة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن ان تؤدي الى اولياء المقتول حقهم.

و ايّاك و الأعجاب بنفسك و الثّقة بما يعجبك منها و حب الأطراء فان ذلك من اوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من احسان المحسن،و ايّاك و المن على رعيتك باحسانك و التزيد فيما كان من فعلك أو ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك،فانّ المنّ يبطل الأحسان و التزيد يذهب بنور الحق،و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس قال اللّه سبحانه كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ .

و اياك و العجلة بالأمور قبل اوانها و التساقط (1)فيها عند امكانها او اللجاجة فيها اذا نكرت (2)(تنكرت خ)و الوهن عنها اذا استوضحت فضع كل امر موضعه و أوقع كل عمل موقعه، و اياك و الأستثئار بما الناس فيه اسوة و التغابي عما يعني به ممّا قد وضح للعيون فانّه مأخوذ منك الناس اليك بلا مؤنة فيه عليك من شكاة مظلمة او طلب انصاف في معاملة.

ص:233


1- (1) التساقط-بمد السين-من ساقط الفرس عدوه اذا جاء مسترخيا و في نسخة نهج البلاغة [1]المطبوعة مع شرح عبده: التسقط من قولهم في الخبر يتسقط اذا اخذه قليلا قليلا يريد به هنا التهاون.
2- (2) قال عبده تنكرت لم يعرف وجه الصواب فيها و اللجاجة الأصرار على منازعة الأمر ليتم على عسر فيه.

ثم ان للوالي خاصة و بطانة فيهم استثئار و تطاول و قلة انصاف فاحسم مؤنة(مادة خ) اولئك بقطع اسباب تلك الأحوال و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و خاصتك(حامّتك)قطيعة و لا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب او عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة،و الزم الحق من لزمه من القريب و البعيد و كن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع،و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فانّ بغية(مغبّة)ذلك محمودة و انا اسأل اللّه تعالى بسعة رحمته و عظيم قدرته على اعطاء كل رغبة ان يوفقني و ايّاك لما فيه رضاه من الأقامة على العذر الواضح اليه و الى خلقه مع حسن الثناء في العباد و جميل الأثر في البلاد و تمام النعمة و تضعيف الكرامة،و ان يختم لي و لك بالسعادة و الشهادة و انا اليه راعبون و السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الطيبين الطاهرين و سلم تسليما كثيرا هذا آخر رسالته عليه السّلام و هي كافية لمن اراد العمل بها من الحكام و الولاة،و فيها سلطان الدنيا و ملك الآخرة،فمن قصد العمل بها أوتي خير الدنيا و الآخرة،و هذه الوصية تحتاج الى شرح حسن منقح لا يخلو من بعض الطول لأنّها كلام من قيل فيه ان كلامه فوق كلام المخلوق و تحت كلام الخالق،و حيث انّ شرحها هنا يحتاج الى بسط فيطول الكتاب فان وفق سبحانه جعلناه كتابا منفردا و باللّه الأستعانة في كل الأمور.

و قد بقي رسالة اخرى رويناها بأسنايد متعددة الى عبد اللّه بن سليمان النوفلي قال كنت عند جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام فاذا بمولى لعبد اللّه النّجاشي قد ورد عليه فسلم و اوصل اليه كتابا ففضّه و قرأه فاذا اول سطر فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم أطال اللّه بقاء سيدي و جعلني من كل سوء فداه و لا أراني فيك مكروها فانّه ولى ذلك و القادر عليه اعلم سيدي اني بليت بولاية الأهواز فان رأى سيدي ان يحد لي حدا و يمثل لي مثالا لأستدل به على ما يقربني الى اللّه عز و جل و الى رسوله،و يلخص في كتابه ما يرى لي العمل به و فيما ابتذله و اين اضع زكاتي و فيمن اصرفها؟ و بمن آنس و الى من استريح و الى من أثق و امن و الجأ اليه في سري،فعسى اللّه ان يخلصني اللّه بهدايتك و دلالتك(و ولايتك)فانّك حجة اللّه على خلقه و أمينه في بلاده لا زالت نعمته عليك.

قال عبد اللّه بن سليمان فأجابه ابو عبد اللّه عليه السّلام بسم اللّه الرحمن الرحيم حاطك اللّه بصنعه و لطف بك بمنه،و كلأك برعايته فانّه ولى ذلك،امّا بعد فقد جائني رسولك بكتابك و قرأته و فهمت ما ذكرته و سألت عنه و زعمت(و ذكرت)انّك بليت بولاية الأهواز فسرني ذلك و سائني،و سأخبرك بما سائني من ذلك و ما سرني ان شاء اللّه تعالى،فامّا سروري بولايتك فقلت عسى ان يغيث اللّه بك ملهوفا خائفا من أولياء آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يعزّ بك ذليلا،و يكسو بك عاريهم،و يقوي بك ضعيفهم،و يطفىء بك نار المخالفين عنهم،و اما الذي

ص:234

سائني من ذلك فان ادنى ما أخاف عليك ان تعثر بوليّ لنا فلا تشم حظيرة القدس فانّي ملخص لك جميه ما سألت عنه ان انت عملت به و لم تجاوزه رجوت ان تسلم ان شاء اللّه تعالى أخبرني يا عبد اللّه ابي عن آبائه عن علي بن ابي طالب عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم انّه قال من استشاره اخوه المؤمن فلم يمحضّه النصيحة سلبه اللّه لبه عنه،و اعلم انّي سأشير عليك برأي ان انت عملت به تخلّصت ممّا انت متخوفه(تخافه خ)و اعلم انّ خلاصك و نجاتك في حقن الدماء و كف الأذى عن اولياء اللّه،و الرفق بالرعية و التأني و حسن المعاشرة مع لين في ضعف و شدة في غير عنف و مداراة صاحبك و من يرد عليك من رسله،و ارتق فتق رعيتك بأن توقفهم على ما وافق الخير و العدل ان شاء اللّه تعالى.

اياك و السعاة و اهل النمائم فلا يلتزقنّ بك منهم أحد و لا يراك اللّه يوما و ليلة و انت تقبل منهم صرفا و لا عدلا (1)فيسخط اللّه عليك و يهتك سترك،و احذر مكرخوز الأهواز فانّ ابي أخبرني عن آبائه عن امير المؤمنين عليه السّلام انه قال ان الأيمان لا ينبت في قلب يهودي لا خوزي ابدا،فاما من تأنس به و تستريح اليه و تلجأ أمورك اليه فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينه،و ميز اعوانك و جرب الفريقين فان رأيت هنالك رشدا فشأنك و ايّاه،و ايّاك ان تعطي درهما او تخلع ثوبا او تحمل على دابّة في غير ذات اللّه لشاعر او مضحك او ممتزح الا أعطيت مثله في ذات اللّه،و ليكن جوائزك و عطاياك و خلعك للقوّاد و الرسل و الأجناد و أصحاب الرسائل و اصحاب الشرط و الأخماس،و ما أردت أن تصرفه في وجوه البر و النّجاح و الفتوة و الصدقة و الحج و المشرب و الكسوة التي تصل فيها و تصل بها و الهدية التي تهديها الى اللّه عز و جل و الى رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أطيب كسبك.

يا عبد اللّه اجهد ان لا تكثر ذهبا و لا فضة فتكون من اهل هذه الآية التي قال اللّه عز و جل اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الآية،و لا تستصغرن من حلو او فضل طعام تصرفه في بطون خالية تسكن بها غضب الرب تبارك و تعالى،و اعلم اني سمعت ابي يحدث عن آبائه عن امير المؤمنين عليه السّلام انّه سمع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول لأصحابه يوما ما آمن باللّه و اليوم الآخر من بات شبعانا و جاره جائع،فقلنا هلكنا يا رسول اللّه؟ فقال من فضل طعامكم و من فضل تمركم و رزقكم و خلقكم و خرقكم تطفئون به غضب الرب، و سأنبئك بهوان الدنيا و هو ان شرفها على ما مضى من السلف و التابعين،فقد حدثني ابي محمد بن علي بن الحسين عليهم السّلام لما تجهز الحسين عليه السّلام الى الكوفة أتاه عبد اللّه بن عباس

ص:235


1- (1) يقال لا يقبل منه صرف و لا عدل أي توبة و فدية او نافلة و فريضة و المراد.

فناشده اللّه و الرحم ان يكون هو المقتول بالطف،فقال اني اعرف بمصرعي منك و ما وكدي من الدنيا الا فراقها،الا اخبرك يا ابن عباس بحديث امير المؤمنين عليه السّلام و الدنيا؟فقال له بلى لعمري انّي احب ان تحدثني بأمرها،فقال قال ابي قال علي بن الحسين عليهما السّلام سمعت ابا عبد اللّه الحسين عليه السّلام يقول حدثني امير المؤمنين عليه السّلام قال انّي كنت بفدك في بعض حيطانها و قد صارت لفاطمة عليها السّلام،فاذا انا بامرأة قد قحمت (1)عليّ و في يدي مسحاة و انا اعمل بها،فما نظرت اليها طار قلبي ممّا تداخلني من جمالها،فشبهتها ببثينة بنت عامر الجمحي و كانت من اجمل نساء قريش،فقالت يا ابن ابي طالب هل لك ان تتزوج بي فاغنيك عن هذه المسحاة؟و ادلّك على خزائن الأرض فيكون لك الملك ما بقيت و لعقبك من بعدك؟فقال لها عليه السّلام من انت حتى اخطبك من اهلك؟قالت انا الدنيا،قال لها فارجعي و اطلبي زوجا غيري فأقبلت على مسحاتي و أنشأت أقول:

لقد خاب من غرته دنيا دنية و ما هي ان غرت قرونا بنائل

أتتني على زي العزيز بثينة و زينتها في مثل تلك الشمائل

فقلت لها غري سواي فانني عزوف (2)عن الدنيا و لست بجاهل

و ما أنا و الدنيا فانّ محمدا أحل صريعا بين تلك الجنادل

و هيها اتتني بالكنوز و درّها و أموال قارون و ملك القبائل

أ ليس جميعا للفناء مصيرها و يطلب من خزانها بالطوائل

فغرّي سوائي انّني غير راغب بما فيك من ملك و عز و نائل

فقد قنعت نفسي بما قد رزقته فشأنك يا دنيا و أهل الغوائل

فانّي أخاف اللّه يوم لقائه و أخشى عذابا دائما غير زائل

فخرج من الدنيا و ليس في عنقه تبعة لأحد حتى لقي اللّه محمودا غير ملوم و لا مذموم،ثم اقتدت به الأئمة من بعده بما قد بلغكم لم يتلطخوا بشيء من بوائقها عليهم السّلام أجمعين و أحسن مثواهم،و قد وجهت اليك بمكارم الدنيا و الآخرة عن الصادق المصدق رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فان انت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا ثمّ كانت عليك من الذنوب و الخطايا كمثل اوزار الجبال و امواج البحار رجوت اللّه ان يتحامى عنك جل و عز بقدرته يا عبد اللّه اياك ان تخيف مؤمنا فانّ ابي محمد بن علي حدّثني عن ابيه عن جدّه علي بن ابي طالب عليه

ص:236


1- (1) الأقحان الدخول في الشيء بشدة و قوة.
2- (2) عزفت نفسي عنه تعزف عزوفا بالزاء المعجمة زهدت فيه و انصرفت و بالفارسية(رو برتافتن).

السّلام انّه كان يقول من ظر الى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه اللّه يوم لا ظل الا ظله،و حشره اللّه في صورة الذّر لحمه و جسده و جميع أعضائه حتى يورد مورده و حدّثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال من أغاث لهفانا من المؤمنين أغاثه اللّه يوم لا ظل الا ظله و آمنه يوم الفزع الأكبر و آمنه من سوء المنقلب و من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه له حوائج كثيرة احديها الجنة،و من كسى أخاه المؤمن من عري كساه اللّه من سندس الجنة و استبرقها و حريرها و لم يزل يخوض في رضوان اللّه ما دام على المكسوّ منه سلك،و من أطعم أخاه من جوع أطعمه اللّه من طيبات الجنة،و من سقاه من ظمأ سقاه اللّه من الرحيق المختوم ريّه، و من أخدم أخاه أخدمه اللّه من الولدان المخلدين و أسكنه مع أوليائه الطاهرين،و من حمل أخاه المؤمن من رجله(على راحلة)حمله اللّه على ناقة من نوق الجنة و باهى به الملائكة المقربين يوم القيامة و من زوّج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها و يشدّ عضده و يستريح اليها زوّجه اللّه من الحور العين و آمنه بمن أحب من الصّديقين من أهل بيت نبيه و أخوانه و آنسهم به،و من أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه اللّه على اجازة الصراط يوم زلّت الأقدام،و من زار أخاه المؤمن الى منزله لا لحاجة منه اليه كتب من زوار اللّه و كان حقيقا على اللّه ان يكرم زائره.

يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام انّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقول لأصحابه يوما معاشر الناس انه ليس بمؤمن من آمن بلسانه و لم يؤمن بقلبه فلا تتّبعوا عثرات المؤمنين فانه من تتبع عثرة مؤمن تتبع اللّه عثراته يوم القيامة و فضحه في جوف بيته،و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام انّه قال أخذ اللّه ميثاق المؤمن ان لا يصدق في مقالته و لا ينتصف من عدوه،و على ان لا يشفى غيظه الا بفضيحة نفسه (1)لأنّ كل مؤمن ملجم و ذلك لغاية قصيرة و راحة طويلة،أخذ اللّه ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها عليه مؤمن مثله بمقالته (2)يبغيه و يحسده و شيطان يغويه و يفتنه(يضله)و سلطان يقفو أثره و يتتبع عثراته و كافر باللّه الذي هو به مؤمن يرى سفك دمه دينا و اباحة حريمه غنما فما بقاء المؤمن بعد هذا؟يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال نزل جبرئيل عليه السّلام فقال يا محمد ان اللّه يقرئك السّلام و يقول اشتققت للمؤمن اسما من اسمائي سميّته مؤمنا فالمؤمن منّي و انا منه من استهان بمؤمن فقد استقبلني بالمحاربة.

يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم انّه قال يوما يا علي لا تناظر رجلا حتى تنظر في سريرته فان كانت سريرته حسناء فانّ اللّه عز

ص:237


1- (1) أي بتعييبها و تعجيزها عن ان يفعل شيئا للعدو لشفاعة نفسه بل تشفي المؤمن [1]بملامة نفسه و اظهار عجزه و ذله.
2- (2) أي يعتقد مثل ما أعتقده في الدين و مع ذلك يبغيه.

و جل لم يكن ليخذل وليه،و ان كانت سريرته ردية فقد يكفيه مساويه،فلو جهدت ان تعمل به أكثر ممّا عمله من معاصي اللّه عز و جل ما قدرت عليه،يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال أدنى الكفر ان يسمع الرجل عن أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد ان يفضحه بها اولئك لا خلاق لهم.

يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عن علي عليه السّلام انّه قال من قال في مؤمن ما رأت عيناه و سمعت اذناه ما يشينه و يهدم مروّته فهو من الذين قال اللّه عز و جل إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ يا عبد اللّه و حدثني ابي عن آبائه عليه السّلام انه قال من روى عن اخيه المؤمن رواية يريد بها هدم مروّته و شينه أوثقه اللّه بخطيئته يوم القيامة حتى يأتي بالمخرج ممّا قال و لن يأتي بالمخرج منه ابدا و من ادخل على اخيه المؤمن سرورا فقد ادخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سرورا،و من أدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سرورا فقد سرّ اللّه و من سرّ اللّه فحقيق عليه ان يدخله الجنة.

ثم اني اوصيك بتقوى اللّه و ايثار طاعته و الأعتصام بحبله فانّه من اعتصم بحبل اللّه فقد أهدي الى صراط مستقيم،فاتق اللّه و لا تؤثر أحدا على رضاه و هواه فانّه وصية اللّه عز و جل الى خلقه لا يقبل منهم غيرها و لا يعظم سواها،و اعلم ان الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى فانه وصيتنا اهل البيت فان استطعت ان لا تنال من الدنيا شيئا تسأل عنه غدا فافعل،قال عبد اللّه بن سليمان فلما وصل كتاب الصادق عليه السّلام الى النّجاشي نظر فيه و قال صدق و اللّه الذي لا اله الا هو مولاي فما عمل احد بما في هذا الكتاب الاّ نجا،فلم يزل عبد اللّه يعمل به ايام حياته، هذا تمام الرسالة بلفظها و قد اشتملت على قوله عليه السّلام ما نبت الأيمان في قلب يهودي و لا خوزي ابدا و لعل ظاهره لا يخلو من اشكال،اذ قوله ابدا يدل بظاهره على استغراق الأزمنة المستقبلة بالنّظر الى زمن مولانا امير المؤمنين عليه السّلام مع انّ الأهواز قد كان منها المؤمنون في كل الأعصار سيما هذه الأزمان(الأعصار)،و حينئذ فما معنى هذا النفي المؤكد بالدوام؟قلت يمكن الجواب عنه من وجوه:

اوّلها انّ المراد من قوله خوزي كفّارهم بقرينة ذكرهم مع اليهودي،فيكون اشارة الى انّ كفارهم قد طبعوا على الكفر بحيث لا يقبلون دخول الأيمان في قلوبهم،و كأنهم ينشأوا على الفطرة التي قال فيها علي عليه السّلام كلّ مولود يولد على الفطرة حتى انّ ابويه يهوّدانه و ينصرانه.

و ثانيها ان نبات المؤمن مغاير لحصوله و استقراره بعد الحصول و ذلك انبات الأيمان في القلب عبارة عن تأصّله فيه و أستحكام ثباته فيه كأستحكام نبات الشجرة في الأرض و حينئذ فمعناه انّ ايمان غيرهم في القلوب نبات كنبات الشجر في اعماق الأرض و اما ايمان اهل الأهواز فهو

ص:238

كشجرة زرعت على وجه الأرض و دخلت عروقها في الأرض للبقاء لكن اين لإستحكام هذه الشجرة التي نبتت في الأرض و طلعت اغصانها خارج القلب لكن اين لإستحكام هذه الشجرة التي نبتت في الأرض و طلعت اغصانها خارج القلب بعد ان كان مستقرها القلب،و بالجملة فايمان غيرهم قد خرج من داخل القلب و جرى على ظاهره و ايمان اهل الأهواز قد أتى الى القلب من لأعضاء الخارجة عنه،فيكون كناية عن عدم كمال استقراره و ثباته في القلب كما قال عزّ من قائل في قسمي الأيمان فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ .

و ثالثها ان قوله عليه السّلام لا ينبت الأيمان المراد به الأيمان الكامل لما تقدم من انّ الأيمان عشر درجات،و لا ريب انّ امير المؤمنين عليه السّلام اذا اطلق لفظ الأيمان لا يريد به غالبا الا الدرجة العالية منه او ما قاربها كايمان سلمان او ابي ذر و المقداد و عمار و نحوهم من اكابر الصحابة،فمثل هذا الأيمان لا ينبت و لا يدخل في قلوبهم فلا ينافيه دخول الإيمان بأقسامه الأخرى، و لا تظن انّ هذا الجواب هو عين الجواب الثاني بل هو غيره و حينئذ فيكون النابت في قلوبهم أقل درجاته.

و اما الحويزة فهي داخلة في الأهواز،و قد ذكر صاحب كتاب غرائب البلدان مذمة ابلدين(الحويزة)قال الحويزة و ما أدراك ما الحويزة دار الهوان و منزل الحرمان،ثم ما أدراك ما الحويزة أرضها رغام و سماؤها قثام و سحابها جهام و سمومها شهام و مياهها سمام و طعامها حرام و اهلها لئام،و خواصها عوام و عوامها طغام،لا يدري ريعها و لا يرجى نفعها و لا يعرى ضرعها و لا يرعى ذرعها،و لقد صدق اللّه قوله فيها وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوٰالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَرٰاتِ الآية،و هم يتخذون الغمز و الزور الى ارزاقهم سببا و يأكلون الدنيا سلبا و يعدّون الدنيا لهوا و لعبا و لو اطّلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا و فيهم يقول الشاعر:

اذا سقى اللّه أرضا صوب غادية فلا سقاها سوى النّيران تضطرم

و ينسب اليها ابو العباس احمد بن محمد الحويزي و كان اذا عزل عن الدولة شرع في العبادة و الزهد و مطالعة الكتب حتى يظهر للناس انّه كان يتمنى العزل،و اذا أقبلت عليه الدّولة كان من أظلم الظلمة،فصعد اليه جماعة و شقوا بطنه.

قال مؤلف هذا الكتاب عفى اللّه عنه قد كان أوائل تحصيلنا العلوم فيها في أول زمان حكومة الوالي المرحوم السيد علي خان و رأينا ان الغالب على اهلها العبادة و الزهادة و مطالعة العلوم و كتابة الكتب و أهلها في غاية الذكاء،و ذلك انّ الرعية تبع للوالي و كان و اليها المذكور قد حاز الحظ الأوفر من العبادة و الزهادة و التّبحر في فنون العلوم و نظم الأشعار و القصائد الرائقة

ص:239

و قد اكثر من التصانيف العالية في انواع العلوم و قد كان في الحلم و العفو عمّن اساء اليه بمكان لا يداني فيه،و اما شجاعته و قوة قلبه فقد كانت تضرب بها الأمثال،و قد اتصلنا بملازمة مجلسه العالي اوقاتا كثيرة و ما كان عيب مجلسه الا ذكر فنون العلوم و الآداب فيه كما قال الشاعر:

و لا عيب فيهم غير ان سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

و قد ذكرنا فيما تقدم مكاتبة أرسلها الينا أكثر فيها الملاطفة و اظهار المحبة،و في وقت تأليف هذا الكتاب صار الوالي ولده المبارك الذي اقتفى أثر ابيه في مكارم الأخلاق السيد حيدر خان، و بالجملة فالولاة اذا جعلوا هذا النور قانونا لأعمالهم و أحكامهم فازوا بالنّشأتين و وفقوا للدولتين.

نور في احوال العالم و المتعلم و كيفية آدابهما

و هذا النور يشتمل على فوائد:الفائدة الأولى آدابهما في أنفسها و هي على أمور:

الأول في نية التعليم و التعلم فانك قد عرفت انّ مدار قبول الأعمال على النّية و بسببها يكون العمل تارة خزفة لا قيمة لها و تارة وبال على صاحبه مكتوب في ديوان السّيئات و ان كان في صورة الواجبات.

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال ان اول اناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به الى فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟قال قاتلت فيك حتى استشهدت،قال كذبت و لكنك قاتلت ليقال جريّ فقد قيل ذلك ثم امر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، و رجل تعلم العلم و علّمه و قرأ فيك القرآن قال كذبت و لكنّات تعلّمت ليقال انّك قارئ فقد قيل ثمّ امر به فسحب على وجهه حتى القي في النار.

و هذه الدرجة هي درجة الأخلاص عظيمة المقدار كثيرة الأخطار،و ذلك انّ الأنسان لو فكر في نفسه لعلم انّ الباعث الأكثر سيّما في الأبتداء لطالب العلم طلب الجاه و المال او الشهرة و انتشار الصيت و لذة الأستيلاء و استثارة الحمد و الثناء و ربما لبس الشيطان عليه مع ذلك و يقول لهم غرضكم نشر دين اللّه.

و هذه المقاصد تظهر عند ظهور واحد من الأقران اكثر علما منه و أحسن حالا بحيث يصرف الناس عنه فلينظر حينئذ فان كان حاله مع الموقّر له و المعتقد لفضله احسن و هو له اكثر احتراما و تلقى به أشدّ استبشارا ممّن يميل الى غيره مع كون ذلك الغير مستحقا للموالاة فهو مغرور عن دينه مخدوع و هو لا يدري،و ربّما انتهى الأمر بأهل العلم الى ان يتعايروا تعاير النساء فيشقّ على احدهم ان يختلف بعض تلامذته الى غيره و ان كان يعلم انه ينتفع بغيره و يستفيد في دينه،و لو كان الباعث على العلم هو الأخلاص لكان اذ اظهره غير شريكا او مستبدا او معنا على التّعليم

ص:240

لشكر اللّه تعالى اذ كفاه او اعانه على هذا المهم بغيره،و ايضا فيه تكثر المرشدين الهادين و أوتاد الأرض و ربّما لبس عليه الشيطان و قال انما غمك من ظهور هذا العالم لإنقطاع الثواب عنك و وصوله الى غيرك لا لأجل انصراف الناس عنك و لم يعلم ان انقياده للحق أفضل من انفراده بهذا المعنى بل قد ينخدع الأنسان و يحدث نفسه بانه لو ظهر من هو أولى منه و اعلم لفرح به و اختاره على نفسه،ثم اذا ظهر ذلك العالم كذب عليه في الذي حدثته به نفسه،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ اللّه يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فيه،و قال ايضا انّ اللّه يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر.

الأمر الثاني استعمال ما علماه فانّ العاقل همّه الرعاية و الجاهل همه الرواية و جاء رجل الى علي بن الحسين عليه السّلام فسأله مسائل،فأجاب ثم عاد ليسأل مثلها فقال علي بن الحسين عليه السّلام مكتوب في الأنجيل لا تطلبوا علو ما لا تعلمون،و لما تعملوا بما علمتم،فان العلم اذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه الا كفرا و لم يزدد من اللّه الا بعدا و مثال الفقيه المتقن للعلوم من غير عمل مثل مريض به علّة لا يزيلها الا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها الا حذائق الأطباء فسعى في طلب الطبيب بعد ان هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق،فعلّمه الدواء و فصل له الأخلاط و أنواعها و مقاديرها و معادنها التي منها يجلب و علّمه كيفية دقّها و عجنها،فتعلم ذلك منه و كتب منه نسخا حسنة بحسن خط و رجع الى بيته و هو يكررها و يقرأها و يعلّمها المرضى و لم يشتغل بشربها و استعمالها أ فترى انّ ذلك يغني عنه من مرضه شيئا؟هيهات لو كتب منه ألف كتاب و علّمه ألف مريض حتى شفي جميعهم و كرّره كل ليل ألف مرّة لم يغنه ذلك من مرضه شيئا الى ان يزن الذهب و يشتري الدواء و يخلطه كما تعلم و يشربه و يصبر على مرارته و يكون شربه في وقته بعد تقديم الأحتماء و جميع شروطه،و اذا فعل جميع ذلك كلّه فهو على خطر من شفائه فكيف اذا لم يشربه اصلا،هكذا الفقيه اذا أحكم علم الطاعات و لم يعمل بها،و احكم على المعاصي و لم يجتنبها،و أحكم علم الأخلاق المذمومة و ما زكى نفسه منها،و احكم علم الأخلاق المحمودة و لم يتصف بها فهو مغرور في نفسه مخدوع عن دينه،و قد يغرّه الشيطان فيقول له ما انت و هذا المثال لأنّ مطلبك القرب من اللّه تعالى و يتلو عليه الأخبار الواردة في فضائل العلم و لم يعلم ما وصف اللّه به العالم التّارك لعلمه كقوله تعالى في وصف بلعم بن باعور الذي كان في حضرته اثنا عشر ألف محبرة يكتبون عنه العلم مع ما آتاه اللّه من الآيات المتعددة التي كان من جملتها انّه كان بحيث اذا نظر يرى العرش،كما نقله جماعة من العلماء،فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث،فاذن المطلوب من العالم انّما هو العلم و العمل.

ص:241

و امّا طلب الرزق فقد ورد في الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان اللّه تعالى قد تكفل لطالب العلم برزقه خاصّة عما ضمنه لغيره،بمنى ان غيره يحتاج الى السعي على الرّزق حتى يحصل غالبا و طالب العلم لا يكلفه بذلك بل كفاه مؤنة الرّزق ان احسن الظن به و عندي في ذلك من الوقائع من ألطاف اللّه تعالى بي من أول اشتغالي بالعلم و هو اوائل سنة الستين بعد الألف الى هذا الوقت و هو عام التاسع و الثمانين بعد الألف من انواع الأرزاق و كيفية التّسبب اليها ما لا يحصيه الا اللّه تعالى.

الأمر الثالث حسن الخلق زيادة على غيرهما من الناس و التواضع و بذل الوسع في تكميل النفس،و ذلك ان المتلبس بالعلم ينظر الناس الى اوصافه فتتعدى اوصافه الى غيره من الرعية فيكون في حسن اخلاقه انتظام النّوع كما انّ في فساده فسادها و يا ليته اذ هلك انقطعت مفاسد اعماله بل هي باقية بعده فيمن استن بأخلاقه و أفعاله،قال بعض العارفين ان عامة الناس ابدا دون المتلبس بالعلم بمرتبة،فاذا كان ورعا تقيا صالحا تلبست العامة بالمباحات،و اذا اشتغل بالمباح تلبست العامة بالشبهات،فان دخل بالشبهات تعلق العامي بالحرام كفر العامي،و هذا مما هو مشاهد بالعيان فلا يحتاج الى النقل من الأعيان.

الأمر الرابع ان يكون على الهمّة منقبضا عن الملوك و اهل الدنيا لا يدخل اليهم طمعا ما وجد الى الفرار منهم سبيلا صيانة للعلم عما صانه سلف،و من فعل ذلك فقد خان امانته و عرض نفسه،و في اغلب الأحوال لم يبلغ بغيته،قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا،قيل يا رسول اللّه و ما دخولهم في الدنيا؟قال اتباع السلطان فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم،اما لو اتبع السلطان ليجعله وسيلة الى اعلاء كلمة الحق و ترويج الدين و قمع اهل البدع و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و نحو ذلك فهو افضل الأعمال، و به يجمع بين الأخبار و قد فعل ذلك جماعة من الأعيان كعلي بن يقطين و عبد اللّه النجاشي و ابي القسم بن روح احد الأبواب الشريفة و محمد بن اسماعيل بن بزيع،و نوح بن دراج و غيرهم من اصحاب الأئمة الطاهرين،و من الفقهاء مثل السيدين الأجلين المرتضى و الرضي و ابيهما،و خوجا نصير الدين الطوسي و العلامة الحلي،و من المتأخرين شيخنا بهاء الدين محمد العاملي و الفاضل الورع المولى عبد اللّه التستري،و المحقق الكاشي و في هذا العصر استاذنا الخونساري.

روى الصدوق باسناده الى الرضا عليه السّلام انّه قال انّ للّه تعالى بأبواب الظالمين من نور اللّه به البرهان و مكن له في البلاد ليدفع بهم عن اوليائه و يصلح اللّه به امور المسلمين لأنه ملجا المؤمنين من الضرر و اليه يفزع ذوو الحاجة من شيعتنا بهم يؤمن اللّه روعة المؤمن في دار الظلمة اولئك المؤمنون حقا اولئك امناء اللّه في ارضه،اولئك نور اللّه في رعيتهم يوم القيامة

ص:242

و يزهر نورهم لأهل السماوات كما يزهر الكواكب الزّهرية لأهل الأرض،اولئك من نورهم نور القيامة تضيء منهم القيامة خلقوا و اللّه للجنة و خلقت الجنة لهم فهنيئا لهم ما على احدكم ان لو شاء لنال هذا كله،قال الراوي و هو محمد بن اسماعيل بن بزيع بما ذا جعلني اللّه فداك؟قال تكون معهم فتسرنا بادخال السرور على المؤمنين من شيعتنا فكن منهم يا محمد،و لكنّ الحق انّ هذا موضع خطر فانّ حب الرئاسة ربما حجب القلب عن طرق الصواب،و من هذا بعد عنه العلماء الأعلام و قد حدثني اوثق مشايخي انّ السيد الجليل محمد صاحب المدارك و الشيخ المحقق الشيخ حسن صاحب المعالم قد تركا زيارة المشهد الرضوي على ساكنه افضل الصلوات خوفا من أن يكلفهم الشّاه عباس الأول بالدخول عليه مع انه كان من اعدل سلاطين الشيعة فبقيا في النجف الأشرف و لم يأتيا الى بلاد العجم احترازا من ذلك المذكور.

الأمر الخامس ان يحافظ على القيام بشعائر الأسلام و ظواهر الأحكام كإقامة الصلوات في الجماعات و افشاء السّلام للخاص و العام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الصبر على الأذى بسبب ذلك صادعا بالحق متكلّما باذلا نفسه للّه لا يخاف لومة لائم متأسيا في ذلك بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و غيره من الأنبياء،متذكرا لما نزل بهم من المحن عند القيام بأوامر اللّه تعالى،فإن العلماء هم القدوة و يقتدي بهم من لا ينظرون اليه و لا يعلمون به و بالجملة فهم قد ورثوا الأنبياء عليهم السّلام و وارث النبي الأخذ عنه يجب عليه ان يراعي نسبة من اخذ عنه الميراث.

الفائدة الثانية آدابهما في درسهما و اشتغالهما و هو يشتمل ايضا على امور:

أولها ان لا يزال كل منهما مجتهد في الأشتغال قراءة و مطالعة و تعليقا و مباحثة و مذاكرة و حفظا و فكرا و اقراء و غيرها،و ان يكون ملازمته للعلم هي رأس ماله،و من هنا قيل اعط العلم كلّك يعطك(يعطيك)بعضه،و عن الباقر عليه السّلام رحم اللّه عبدا أحيا العلم فقيل و ما احياؤه؟ قال ان يذاكر به أهل الدين و الورع.

و ثانيها ان لا يسأل احدا تعنتا او تعجيزا بل سؤال متعلم للّه او معلّم له منبه على الخبر قاصدا للأرشاد او الأسترشاد فهناك تثمر شجرة العلم،فاما اذا قصد المراء و الجدال و احب ظهور الفلج و الغلبة فان ذلك يثمر في النفس ملكة ردية و يستحق المقت من اللّه تعالى و مع ذلك فهو منقص للعيش فانّك لا تماري سفيها الا و يؤذيك و لا حليما الا و يقيلك(و يغلبك خ)و في تركه ثواب جزيل قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من ترك المراء و هو محق بني له بيت في أعلى الجنة،و من ترك المراء و هو مبطل بني له بيت في رنط الجنة و حقيقة المراء الإعتراض على كلام الغير باظهار خلل فيه او لفظا او معنى او قصدا لغير غرض ديني أمر اللّه تعالى به،فامّا اللفظ فهو كاظهار خلل فيه من جهة النحو او اللغة او النظم او التّرتيب بسبب قصور المعرفة او طغيان اللسان،و اما في المعنى

ص:243

كإن يقول ليس كما تقول و قد أخطأت فيه لكنّه كذا،و اما في قصده فمثل ان يقول هذا الكلام حق و لكن ليس قصدك منه الحق و ما يجري مجراه و علامة فساد مقصد المتكلم يتحقق بكراهة ظهور الحق على غير يده.

و ثالثها ان لا يستنكف من التّعلم و الإستفادة ممّن هو دونه في منصب او شهرة او سن او في علم آخر،بل يستفيد من كل من يفيده لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها،و ليس العمى طول السؤال و انّما تمام العمى طول السّكوت على الجهل و من هذا الباب ان يترك السؤال استحياء فانه كما قال الصادق عليه السّلام من رقّ وجهه رق عمله،و قال عليه السّلام هذا العلم عليه قفل و مفتاحه السؤال.

و رابعها و هي اهمها الإنقياد للحق بالرجوع عند الهفوة و لو ظهر على يد من هو اصغر منه،فانه هو المكبر المذكور في الأخبار الذي هو رد الحق الى اهله و عدم قبوله منهم،و ما أحسن الأنصاف من العالم،و قد كان لي شيخ جليل قرأت عليه كثيرا من العربية و الأصول فما وجدت احدا أنصف منه،و ذلك انه ربما أشكلت المسئلة علينا وقت الدرس فاذا طالعتها انا و كنت اصغر الشركاء سنّا قال لي ذلك الشيخ هذا الحق و غلطت انا و جميع هؤلاء فيغلط نفسه و الطلبة لأجل معرفته بصحة كلامي،ثم يقول لي امل على ما خطر بخاطرك حتى أعلقه حاشية على كتابي، فأملي لنا عليه و هو يكتبه حاشية،و هو وقت تأليف هذا الكتاب في بلاد حيدرآباد من بلاد الهند و اسمه الشيخ جعفر البحريني مدّ اللّه ايام سعادته،و من جملة اخلاقه ان استاذنا الشيخ عبد اللّه الحويزي قد ألّف تفسيرا غريبا بالأحاديث وحدها سماه نور الثقلين،فسألت الشيخ جعفر سلّمه اللّه تعالى عن ذلك التفسير و كيف هو؟فقال لي يا فلان هذا التفسير في حياة مؤلفه ما يسوي عندنا شيئا و لا هو جيد فاذا مؤلفه فأوّل من يكتبه بماء الذهب انا،ثمّ تلى عليّ هذين الشعرين:

ترى الفتى ينكر فضل الفتى ما دام حيا فاذا ما ذهب

لجّ به الحرص على نكتة يكتبها عنه بماء الذهب

و لقد صدق في هذا،و قد كان في اصفهان رجل فاضل فصنف كتابا مليحا فلم يكتبه احد و لم يلتفت اليه،فقال له رجل من الطّلبة لم لا يشتهر كتابك؟فقال لأنّ له عدوا فاذا أزال اللّه سبحانه ذلك العدو اشتهر كتابي،فقال له و من هو؟فقال انا و قد صدق في كلامه هذا.

و بالجملة فارتكاب طريقة الأنصاف طريقة الحكماء الألهين كيف لا و قد روي ان اللّه سبحانه أمر نوحا عليه السّلام بالرجوع الى قبول كلام الشيطان حتى نصح نوحا،و قال له و هو في

ص:244

السفينة يا نوح اياك و الحرص فانه الذي أخرج أباك آدم من الجنة حين أباح اللّه له جميع ثمارها و نهاه عن شجرة الحنطة فدعاه الحرص الى الأكل منها،و اياك و التكبر فانه الذي بلغ بي الى ما ترى بعد ما كنت طاووسا للملائكة،و ذلك انه أمرني بالسجود لأبيك آدم فتكبرت عنه و أبيت،و اياك ان تخلو بامرأة أجنبية في بيت واحد فانّك اذا خلوت بها أكون انا الثالث فاوقعك بوسواسي في الفتنة،فأوحى اللّه سبحانه الى نوح ان اقبل كلام الشيطان فانّي اجريت الحق على لسانه.

و خامسها ان يتأمل و يهذّب ما يريد ان يورده او يسأل عنه قبل ابرازه و التفوه به ليأمن من صدور هفوة او زلة او انعكاس فهم فيصير له بذلك ملكة.

و سادسها ان لا يحضر مجلس الدرس الا اذا كان متطهرا من الحدث و الخبث متنظفا متطيبا في بدنه و ثوبه لابسا أحسن ثيابه قاصدا بذلك تعظيم العلم و ترويح الحاضرين من الجلساء و الملائكة سيّما اذا كان في مسجد.

الفائدة الثالثة آداب يختص بها المعلم و هو يشتمل على بيان امور:الأول ان لا ينتصب للتدريس حتى يكمل اهليته و يظهر استحقاقه لذلك و يشهد له صلحاء مشايخه ففي الخبر المشهور:المتشيع بما لم يعط كلابس ثوب زور،و اذا نصب نفسه للتدريس و كان محتاجا الى قراءة الدّرس(دروس)عسر عليه جدا فلا ينبغي له ان يتصدى للتدريس الا بعد قضاء الوتر من قرائة الدرس.

الثاني ان لا يذل العلم ببذله لغير اهله و يذهب الى بيوت الأكابر لتعليم العلم الا ان تدعوا اليه ضرورة و تقتضيه مصلحة دينية،الثالث ان يكون عاملا بعلمه زيادة على ما تقدّم في الأمر المشترك،قال سبحانه كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ و قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام قصم ظهري رجلان عالم متهتك و جاهل متنسك فالجاهل يغش الناس بنسكه و العالم ينفرهم بتهتكه.

الرابع زيادة حسن الخلق فيه و تكميل النفس فانّ العالم الصالح في هذا الزمان بمنزلة نبيّ من الأنبياء كما جاء في الحديث من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علماء امتى كأنبياء بني اسرائيل بل قيل انّ العالم أعظم في هذا الزمان،و ذلك لأن انبياء بني اسرائيل كان يجتمع منهم في العصر الواحد ألوف،و اما العلماء في هذه الأعصار فلا يوجد منهم الا واحد بعد واحد.

الخامس ان لا يمتنع من تعليمه لأحد لكونه غير صحيح النية على كثير من الطالبين ابيتداء الطلب لقلة أنسهم بموجبات تصحيح النية فيؤدي الى تفويت كثير من العلم مع انّه يرجى اذا توسّع في العلم النيّة الصحيحة منه،قال بعض العلماء طلبنا العلم لغير اللّه فأبى ان يكون الا للّه، و معناه انّه صارت عاقبته ان صار للّه،لكن يجب على العالم اذا عرف من المتعلم مثل هذا ان

ص:245

يرشده الى نية الخير بتلاوة الأخبار و الآيات الواردة فيه فان لم ينجع ذلك فيه فليتركه،و قد أشار الى هذا مولانا امير المؤمنين عليه السّلام بقوله لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير،و عن الصادق عليه السّلام قال قام عيسى بن مريم خطيبا في بني اسرائيل لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها و لا تمنعوها اهلها فتظلموهم.

السادس بذل العلم عند وجود المستحق فانه تعالى قد أخذ على العلماء في شأن تعليم الجهّال ما أخذه على الأنبياء،و قال مولانا الصادق عليه السّلام قرأت في كتابي علي عليه السّلام انّ اللّه لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلما عهدا ببذل العلم للجهال لأنّ العلم كان قبل الجهل،فان قلت بناء على ما تقدم من أخذ العهد على العلماء أ يجب عليهم تعليم الجهّال قبل ان يبتدأوهم ام لا يجب الا بعد السؤال؟قلت هذه مسئلة غامضة و ما رأينا من تعرض لها و لكن الذي يظهر من ممارسة الأخبار و أطوار الأئمة الأطهار عليهم السّلام مع جهّال شيعتهم انّ وجوب بذل العلم لا يكون الا بعد السؤال بشرط ان يعرفوا الجهّال ان أخذ العلم واجب عليكم،فاذا ألقى العالم مثل هذا الكلام المجمل الى الجهال وجب على الجهال التفحص و السؤال و على العلماء الجواب.

نعم اذا رأوا جاهلا بحكم ظهر جهله عندهم وجب عليهم ارشاده،و على هذا ينحل معنى الحديث الذي نقله المشايخ رضوان اللّه عليهم و هو ان سائلا سأل الصادق عليه السّلام عن النساء أ يحتلمن؟فقال نعم و لكن لا تحدثوهنّ به فيتخذنه علة،حيث أشكل ظاهره بأن ارشاد الضال و تعليم الجهال واجب فكيف لم يوجب عليه السّلام هذا الحكم؟حتى انه ذخب شيخنا المعاصر أدام اللّه أيامه الى انّ هذا الحديث مخصص لذلك العام،و بيان دفع الأشكال انه عليه السّلام قال لا تحدثوهنّ يعني لا تخبروهنّ به ابتداء منكم لما عرفت من عدم وجوب مثله و لم يقل عليه السّلام لا تجيبوهنّ عن هذه اذا سألنكم،و هذا ظاهر من قوله لا تحدثوهنّ فانّ ظاهره ابتداؤهن به على ما لا يخفى،و قال الباقر عليه السّلام زكاة العلم ان تعلّم عباد اللّه.

السابع ان يحترز عن مخالفة أفعاله لا أقواله و ان كانت على الوجه الشرعي مثل أن يأمر بشيء من المستحبات و هو لا يأتي بها لإشتغاله بما هو أهم منها،فان هذا و ان كان جائزا الا ان العوام ربما توهّموا انه تلبيس عليهم،فانه ينبغي للعالم كشف ما يلتبس حاله على الناس كما اتفق للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين رآه بعض أصحابه يمشي ليلا مع بعض زوجاته الى منزلها، فخاف ان يتوهم انها ليست من نسائه فقال له انّ هذه زوجتي فلانة،و نبّهه على العلّة لخوفه من تلبيس ابليس عليه.

ص:246

الثامن اظهار الحق بحسب الطاقة من غير مجاملة لأحد و لذلك قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا ظهرت البدع في امتي فليظهر العالم علمه و من لم يفعل فعليه لعنة اللّه،و ما جاءت الغفلة في الغالب و استيلاء الجهالة و التّقصير عن معرفة الفرائض و القيام بالواجبات و السنن الا من تقصير العلماء عن اظهار الحق على وجهه و اتعاب النفس في اصلاح الخلق و ردّهم الى سلوك سبيل اللّه بالحكمة و الموعظة الحسنة،بل لا يكتفي علماء السوء بهذا حتى يوافقون العوام و الفساق على ما يصنعون،فعند ذلك ينزل من السماء الويل و الثّبور،قال بعض العلماء ان كل قاعد في بيته اين ما كان فليس خاليا عن المنكر من حيث التقاعد عن ارشاد الناس و تعليمهم معالم الدين و حملهم على المعروف سيّما العلماء،فانّ اكثر الناس جاهلون في الشرع في الواجبات العينية كالصلاة و شرائطها سيّما في القرى و البوادي فيجب كفاية ان يكون في كل بلد و كل قرية واحد يعلم الناس دينهم باذلا نفسه للإرشاد و التعليم،و قد سبق الكلام فيه اما اذا احتاج العالم الى كتمان العلم للضرورة فلا بأس بكتمانه و ان كان في بلاد الإيمان،فإنا رأينا انّ الضرر الذي يحصل من عوام الشيعة لعلمائهم لا يقصر عن الضرر الذي يحصل للعلماء من المخالفين في المذهب.

الفائدة الرابعة في آداب المعلم مع تلاميذه و هو يشتمل ايضا على أمور:

أولها ان يؤدبهم على التدريج بالآداب السنيّة و الشّيم المرضية،و أول ذلك أن يحرص الطالب على الأخلاص للّه تعالى في سعيه و مراقبة اللّه تعالى،و ان يعرّفه انّ ذلك يفتح عليه أبواب العلم و ينابيع الحكمة.

و ثانيها ان يرغّبهم في العلم و يذكرهم فضائله و فضائل العلماء و انّهم ورثة الأنبياء و انذهم على منابر من نور يغبطهم الأنبياء و الشهداء،و نحو ذلم مما ورد في فضائل العلم و العلماء من الآيات و الأخبار و الأشعار و الأمثال،ففي الأدلّة الخطابية و الأمارات الشعرية(حظ)هزّ (1)عظيم للنّفوس الإنسانية.

و ثالثها ان يحب لهم ما يحب لنفسه و يكره لهم ما يكره لنفسه من الشرّ فان ذلك من تمام الإيمان و مقتضى المؤاساة،ففي صحيح الأخبار لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، و لا شك ان المتعلم أفضل الأخوان بل الأولاد فانّ العلم كما عرفت قرب روحاني و هو أجل من الجسماني.

و رابعها ان يزجره عن سوء الأخلاق و ارتكاب المناهي او ترك الإشتغال او إسائة أدب أو كثرة كلام لغير فائدة او معاشرة من لا يليق بع معاشرته او نحو ذلك بطريق التعريض لا التصريح،

ص:247


1- (1) هز أي تحريك.

لأنّه يهيج الحرص على الإصرار،و قد ورد لو منع الناس عن غتّ البعر لفتّوه و قالوا ما نهينا عنه الا و فيه شيء،فان لم ينته بالتعريض فبالتصريح و الا فيغلظ عليه القول فان لم ينته يطرده، و بالجملة فكما يعلمهم مصالح دينهم يعلمهم مصالح دنياهم ليكما عليهم فيلة الحالتين.

و خامسها ان لا يتعاظم على المتعلمين بل يتواضع لهم،قال تعالى وَ اخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و في الخبر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علّموا و لا تعنفوا فان المعلم(العلم) خير من المعنف(العنف)و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لينوا لمن تعلّمون و لمن تتعلمون منه، و ينبغي ان يخاطب كلا منهم سيّما الفاضل المتميز بكنية و نحوها من أحب الأسماء اليه،فلقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكني أصحابه إكراما لهم،و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فاذا أتوكم فاستو صوابهم خيرا.

و سادسها اذا غاب أحد منهم او من ملازمي الحلقة زائدا على العادة يسأل عنه و عن أحواله و موجب انقطاعه فان لم يخبر عنه أرسل اليه او قصد منزله بنفسه و هو أفضل كما كان يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،فان كان مريضا عاده او في غمّ فرجّه عنه او مسافرا تفقّد اهله و تعرّض لحوائجهم و وصلهم بما أمكن.

و سابعها ان يستعلم اسماء طلبته و حاضري مجلسه و أنسابهم و كناهم و مواطنهم و احوالهم و يكثر الدعاء لهم.

و ثامنها ان يكون سمحا ببذل ما حصّله من العلم متلطّفا في افادته طالبيه،و لا ينبغي ان يدخّر عنهم شيئا من انواع العلوم التي يحتاجون اليها او يسألون عنها اذا كان الطّالب أهلا لذلك، و ليكتم عنهم ما لم يتأهلوا له من المعارف لأنّ ذلك ممّا يفرق الهمّ،فان سأله عن شيء من ذلك نبهّه على انّ ذلك يضرّه و انّه لم يمنعه منه شحا بل شفقة و لطفا.

و تاسعها منع المتعلم ان يشتغل بغير الواجب قبله و بفرض الكفاية قبل فرض العين و من فرض العين إصلاح قلبه و تطهير باطنه بالتّقوى و كذلك يمنعه علم الأدب قبل علم السنة و هكذا.

و عاشرها ان يكون حريصا على تعليمهم باذلا وسعه في تقريب الفوائد الى أفهامهم متهما بذلك مؤثرا له على حوائجه و مصالحه ما لم يكون ضرورة الى ما هو أرجح منه،و يفهم كل واحد منهم بحسب فهمه فلا يلقى اليه ما لا يحتمله فهمه،و يخاطب كل واحد منهم بحسب فهمه فلا يلقى اليه ما لا يحتمله فهمه،و يخاطب كل واحد على قدر درجة فهمه،و يكرر المسئلة من الأقوال و الدّلائل القويّة و الضعيفة و ينبه على وجه ضعفه.

ص:248

و حادي عشرها ان يذكر في تضاعيف الكلام ما يناسبه من قواعد الفن الكلية التي لا تنخرم او يضبط مستثنياتها ان كانت كقوله كل ركن يبطل الصلاة بزيادته و نقصانه مطلقا الاّ مواضع مخصوصة و يذكرها مفصلة.

و ثاني عشرها ان يحرصهم على الأشتغال في كل وقت و يطالبهم باعادة محفوظاتهم و يسألهم عمّا ذكر لهم من المهمات و المباحث فمن وجده حافظا مراعيا اكرمه و أثنى عليه و أشاع ذكر ذلك،و من وجده مقصرا عنفه في الخلوة،و ان رأى مصلحة في الملأ فعله فانّه طبيب.

و ثالث عشرها ان يطرح على اصحابه ما يراه مستفاد المسائل الدقيقة و النكت الغريبة يختبر بذلك أفهامهم ليتدبروا بذلك و يعتادوه،و قد روي ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال ان من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها و انها مثل المسلم حدثوني ما هي؟فوقع الناس في شجر البوادي، قال ابن عمر و وقع في نفسي انها النخله فاستحيت،ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول اللّه؟فقال هي النخله،فقال له ابوه لو قلتها لكان لكان احب الي من كذا و كذا و كذلك اذا فرغ من شرح الدرس فلا بأس بأن يطرح مسائل تتعلق به على الطلبة و اعادة ذكر ما أشكل منه ليمتحن بذلك فهمهم و ضبطهم لما شرح لهم،فمن ظهر استحكام فهمه له شكره و من لم يفهمه تلطّف في اعادته له،و ينبغي للشيخ ان يأمر الطلبة بالإجتماع في الدرس لما يترتب عليه من الفائدة التي لا تحصل مع لأنفراد و اعادة ما وقع من التقرير بعد فراغه فيما بينهم ليثبت في أذناهم.

و رابع عشرها ان ينصفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم و ان كان صغيرا فانّ ذلك من بركة العلم،و قد قدّمنا الكلام فيه.

و خامس عشرها ان لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودّة او اعتناء مع تساويهم في الصفات من سنّ او فضيلة او ديانة فانّ ذلك ممّا ينفر القلوب و ان كان بعضهم اكثر تحصيلا و أشدّ اجتهادا فلا بأس بترجيحه بشرط أن يذكر لهم انّ ترجيحه و إكرامه انّما هو لهذه الفضيلة،و ذلك لينشط باقي الطلبة فيحصلون صفاته.

و سادس عشرها ان يقدّم في تعليمهم اذا ازدحموا الأسبق و لا يقدمه بأكثر من درس الاّ برضاء الباقين،و يختار اذا كانت الدروس في كتاب واحد باتفاق منهم و هو المسمى بالتقسيم ان يبدأ في كل يوم بدرس واحد منهم فانّ الدرس المبدأ به ربّما حصل فيه من النشاط في التقرير ما لا يحصل في غيره الا اذا علم من نفسه عدم الملالة و بقاء النّشاط فيرتّب الدرس ترتيب الكتاب، فيقدّم درس العبادات على درس المعاملات و هكذا،و ان رأى مع ذلك تقديم الأسبق ليحرص المتأخر على التّقدم كان حسنا،و ينبغي ان لا يقدم احدا في نوبة غيره و لا يؤخره عن نوبته الاّ اذا رأى في ذلك مصلحة كما عرفته،و ان جاؤا معا و تنازعوا أقرع بينهم بشرطه الآتي.

ص:249

و سابع عشرها اذا سلك الطّالب في التحصيل فوق ما يقتضيه حاله و خاف ضجره أوصاه بالرفق بنفسه و ذكره قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّ المنبت(المنبث)لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى،و كذلك اذا ظهر له منه نوع ملالة او ضجر أمره بالرّاحة و تخفيف الإشتغال و ليزجره عن تعلّم ما لا يفهمه فان استثاره من لا يعرف حاله في الفهم في قراءة فن او كتاب لم يشر عليه حتى تجرّب ذهنه و يعلم حاله.

و ثامن عشرها اذا كان عالما ببعض العلوم لا ينبغي له ان يقبّح الطالب غيره من العلوم كما يتفق ذلك لكثير من جهلة المعلمين،فان المرء عدوّ ما جهل حتى اذا كان غيره أعرف منه بذلك وجب عليه هداية المتعلم اليه بأن يقول له هذا العلم الذي تقرأه عندي فلان أعرف منّي به،لأنّ هذا نصح أخيه المسلم بل ولده الروحاني كما عرفت.

و تاسع عشرها ان لا يتأذى ممّن يقرأ عليه اذا قرأ على غيره لمصلحة راجعة الى المتعلم فانّ هذه مصيبة يبتلي بها جهلة المعلّمين و من لا يريد بعلمه وجه اللّه تعالى و هو من أوضح الدلائل على فساد النية فانّه عبد مأمور بأداء رسالة ملك الى بعض عبيده،فاذا أرسل الملك عبدا آخر لأداء الرسالة لا ينبغي للأول الغضب فانّ ذلك لا ينقصه عند السيد بل يزيده قدرا و رفعة عنده اذا وجده راضيا،فالواجب على المعلم اذا رأى المتعلم قابلا لقراءة درسين و هو يملّ من الدرس الآخر ان يهديه على معلم آخر،امّا لو كان جاهلا او فاسقا او مبتدعا او كثير الغلط بحيث يفيد الطالب ملكة رديّة و كان الطالب جاهلا بحاله فالتّحذير من الأغترار به حسن مع مراعاة المقصد الصحيح.

العشرون اذا تكمل الطالب و تأهل للإستقلال بالتّعليم و أراد ان يصير مدرسا فينبغي ان يقوم المعلم بنظام أمره في ذلك و يمدحه في المحافل و يأمر الناس بالأخذ عنه،و لينبّه الناس على قدر معلوماته و تقواه و صلاحه كما انّه لو رأى منه ميلا الى الأستقلال بالتّعليم و لم يبلغ درجته ينبغي له ان يقبح له ذلك عنده و يشدّد النكير عليه في الخلاء فان لم ينجع فليظهر ذلك على وجه صحيح حتى يرجع الى الإشتغال.

الفائدة الخامسة آدابه في درسه و هي أمور:الأول ان لا يخرج الى الدرس الاّ كامل الهيئة من الثّياب التي توجب له الوقار و اقبال القلوب عليه،و أفضلها البيض و هذا مذكور في كتاب التجمل من الكافي،و ليقصد بذلك تعظيم العلم و تبجيل الشريعة و ليتطيب و يسرح لحيته و يزيل عنه كلما يشينه،و كان بعض المحدّثين اذا جلس لتعليم الحديث لبس أحسن ثيابه و لا يزال يبخر بالعود الى ان يفرغ،و يقول أحب تعظيم حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

الثاني ان تدعو عند خروجه للدرس بالدعاء المروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللّهم انّي أعوذ بك انّ أضلّ او أضل،و أزل او أزل و أظلم او أظلم او أجهل أو يجهل عليّ عزّ

ص:250

جارك و جل ثناؤك و لا اله غيرك و لا اله غيرك،ثم يقول بسم اللّه حسبي اللّه توكّلت على اللّه و لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم،اللهم ثبت جناني و أدر الحق على لساني،و يديم ذكر اللّه الى ان يصل المجلس.

الثالث ان يسلّم على من حضر اذا وصل المجلس و يصلّي ركعتين تحية المسجد ان كان مسجدا و الا نوى بهما الشكر للّه تعالى على توفيقه و تأهيله لذلك،او للحاجة الى تسديده و عصمته عن الخطاء او مطلقتين،فانّ الصلاة خير موضوع،و اما استحبابها لذلك بخصوصه فلم يثبت و ان استحبّه العلماء ثم يدعو بعدهما بالتوفيق و الإعانة و العصمة.

الرابع ان يجلس على سكينة و وقار مطرقا ثانيا رجليه او محتبيا غير متربع و لا مقع و لا غير ذلك من الجلسات المكروهة مع الأختيار كل ذلك في حال الدرس امّا في غيره فلا بأس بمد رجليه او احدهما او اتكائه فانّ الطلبة بمنزلة أولاده.

الخامس قيل يجلس مستقبل القبلة لأنه أشرف و لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خير المجالس ما استقبل بها القبلة،و يمكن ان يقال باستحباب استدباره لها ليخصّ الطّلبة بالإستقبال لأنّهم اكثر و كذا من يجلس اليهم للإستماع.

السادس ان ينوي حين خروجه من منزله تعليم العلم و نشره و تبليغ الأحكام الدينية التي أوتمن عليها،و أمر بتبيانها و الأزدياد في العلم بالمذاكرة و الأجتماع على ذكر اللّه تعالى،و الدعاء للعلماء الماضين و غير ذلك من المقاصد التي يزيد بها جزيل الثواب و ليس المراد بنية هذه المطالب الجليلة ان يقول افعل كذا لأجل كذا بل ما عرفت في تحقيق النية من ان يكون تلك المقاصد هي الباعثة و المحركة له على ذلك الفعل.

السابع ان يصون بدنه عن الزحف و التّنقل عن مكانه و التقلقل،و يديه عن البعث و التّشبيك،و عينيه عن تفريق النّظر بلا حاجة،و يتّقي كثرة المزاح و الضّحك فانّه يقلّل الهيبة،و امّا القليل من المزاج و الضّحك فمحمود كما كان يفعله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد كان يضحك حتى تبدو نواجده و لكن لا يعلو الصوت.

الثامن ان يجلس في موضع يبرز وجهه فيه لجميع الحاضرين و يفرق النظر بينهم و يخص من يكلمه او يسأله،و ان يقدم على الشروع في البحث و التدريس الإستعاذة من الشّيطان و حمد اللّه و الصلاة على محمد و آله و الدعاء للعلماء الماضين و لمشائخه خاصّة و لوالديه و للحاضرين،و ان كان في مدرسة دعى للواقف و لم يرد في هذا نص لكن فيه خير عظيم،و اذا تعددت الدروس فليقدم منها الأشرف و الأهم فالهم،فيقدم أصول الدين ثم التّفسير ثم الحديث ثم اصول الفقه ثم النحو ثم المعاني و على هذا القياس باقي العلوم بحسب مرتبتها و الحاجة اليها،و ان لا يشتغل بالدروس

ص:251

و فيه ما يزعجه و يشوش فكره من مرض او جوع او مدافعة حدث او خبث او غضب او نعاس او برد او حرّ او نحو ذلك،و ان لا يكون في مجلسه ما يؤذي الحاضرين من دخان او غبار او صوت يزعج او شمس حارّة او نحو ذلك.

التاسع ان يتودد لغريب حضر عنده و ينبسط عنده فأن للقادم دهشه سيما بين يدي العلماء،و لا يكثر النظر و الالتفات اليه استغرابا له فانه يخجله،و اذا اقبل بعض الفضلاء و قد شرع في مسئله امسك عنها حتى يجلس،و ان جاء و هو يبحث اعادها له،و اذا أقبل و قد بقى للفراغ و قيام الجماعة بقدر ما يصل الى المجلس فليؤخر تلك البقية و ليشتغل عنها الى ان يصل ثم يعيدها او يتم تلك البقية كي لا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.

العاشر و هو الأهم منها اذا سأل عن شيء لا يعرفه او عرب في الدرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه او لا اتحققه او حتى اراجع النظر و لا يستنكف عن ذلك فيمن(لمن)علم العالم ان يقول فيما لا يعلم لا اعلم و اللّه اعلم،قال علي عليه السّلام اذا سألتم عن ما لا تعلمون فاهربوا،قالوا و كيف المهرب؟قال تقولون اللّه اعلم،و عن ابي جعفر الباقر عليه السّلام قال ما علمتم فقولوا و ما لم تعلموا فقولوا اللّه اعلم ان الرجل ليشرع بالآية من القرآن يخر فيها ابعد ما بين السماء و الأرض و عن ابي عباس رضي اللّه عنه اذا ترك العالم لا أدري اصيبت مقاتله و قال ابن مسعود لا ادري ثثلث العالم و قال بعض الفضلاء ينبغي للعالم ان يورث اصحابه لا ادري يعني يقولها كثيرا حتى يعتادوها و قول العالم لا ادري مما يزيد في قدره و محله و هو دليل واضح على تقواه و انما يمتنع من لا ادري من قل علمه و عدمت تقواه حتى لا يسقط من العيون.

الحادي عشر اذا اتفق له تقرير او جواب فتوهمه صوابا ثم ظهر له خطأه فيجب عليه ان يبادر الى التنبيه على فساده و يبين لهم خطأه قبل تفرق الحاضرين و لا يمنعه الحياء عن ذلك فيؤخره الى وقت آخر لأن فيه استقرار الخطاء في قلوب الطلبة و تأخير بيان الحق مع الحاجة اليه و خوف عدم حضور اهل المسجد فيستمر على فهم الخطأ و فيه طاعة للشيطان في الإستمرار على الخطأ مع ان في رجوعه تعليم للطلبة هذه الخصلة الحميدة و يرفعه اللّه تعالى بذلك على خلاف ما يظنه الأحمق و يتوهمه الجاهل و ينبغي ان ينبه المتعلم عند فراغ الدرس بما يدل عليه ان لم يعرفه القارئ و قد جرت عادة السلف ان يقولوا اجد و اللّه اعلم و ينبغي ان يختم الدرس بذكر شيء من الدقائق و الحكم و المواعظ و تطهير الباطن يتفرقوا على الخضوع و الإخلاص فان البحث يورث في القلب قوة و ربما اعقب قسوة فليحركه في كل وقت الى الإقبال و ان يختم المجلس بالدعاء بما قد غشيهم من الرحمة و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا اراد ان يقوم من مجلسه يقول اللهم اغفر لنا ما أخطأنا او ما تعمدنا و ما أسررنا و ما أنت أعلم به منا و انت المقدم انت المؤخر لا اله الا

ص:252

انت و ينبغي ان يمكث قليلا بعد قيام الجماعة فان فيه فوائد و آداب له و لهم:منها ان كان في نفس احدهم بقايا سؤال تأخر و منها ان كان لأحد به حاجة قد صبر عليها حتى فرغ يذكرها له و منها عدم خفقان النعال خلفه و منها عدم ركوبه بينهم ان كان يركب و ينبغي ان ينصب لهم نقيبا فطنا يرتب الحاضرين و من يدخل عليه على قدر منازله و يوقظ النائم و ينبه الغافل و يأمر بسماع الدروس و الأنصاف اليها لمن لا يعرف و كذلك ينصب لهم رئيسا آخر يعلّم الجاهل و يعيد درس من اراد و يرجع اليه في كثير مما يستحي ان يلقى به العالم من مسئلة او درس فان فيه ضبطا لوقت العالم و اذا قام من مجلسه فينبغي له ان يقول سبحانك اللهم و بحمدك اشهد ان لا اله الا انت استغفرك و اتوب اليك سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد للّه رب العالمين و رواه جماعة من فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في بعض الروايات ان الثلاث آيات كفارة المجالس،و كما يستحب للعالم يستحب لكل قائم.

الفائدة السادسة في آداب المتعلم و هي أمور:أولها ان يحسن نيته و يطهر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم و حفظه،و ان يغتنم التحصيل في أيام الشباب و قبل الإتسام بالعلم و الفضل، قال بعضهم تفقهوا قبل ان تسودوا و في الخبر مثل الذي يتعلم العلم في الصغر كالنقش على الحجر،و مثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء و هذا بإعتبار الغالب و لا ينبغي لمن كبر ان يمنع نفسه عن الطّلب فانّ فضل اللّه واسع،و قد اشتغل جماعة من السلف في حال كبرهم ففقهوا و صاروا أساطين في الدين و مصنّفين في الفقه و غيره.

و ثانيها ان يقطع ما قدر عليه من العوائق الشاغلة و العلائق المانعة عن تمام الطلب و كمال الإجتهاد و يرضى بما تيسر من القوت و بما يستر مثله من اللباس و ان كان خلقا،فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة الحلم و يجمع شمل القلب عن متفرقات الآمال لينفجر عنه ينابيع الحكمة و الكمال،قال بعض السلف لا يطلب احد هذا العلم بعز النّفس فيفلح و لكن طلبه بذل النفس و ضيق العيش و خدمة العلماء أفلح،و قال بعضهم لا ينال هذا العلم الا من عطّل دكانه و خرب بستانه و هجر اخوانه و مات أقرب الى اهله فلم يشهد جنازته،و هذا كله و ان كان فيه مبالغة فالمقصود انّه لا بد فيه من جمع القلب و اجتماع الفكر،و بالغ بعض المشايخ لبعض تلامذته اصبغ ثوبك حتى لا يشغلك فكر غسله،و من أقوى موانع الطّلب للتزويج فينبغي تركه ايام التحصيل لأنه فلمّا يجتمع مع العلم حتى قال بعضهم ذبح العلم في فروج النساء،و عن ابراهيم بن أدهم من تعود أفخاذ النساء لم يفلح،يعني اشتغل بهن عن الكمال،و في المثل السائر لو كلّفت بصلة ما فهمت مسئلة،و لا يغتر الطالب بما ورد في النّكاح من التّرغيب فان ذلك حيث لا يعارضه واجب أولى منه و لا واجب أضيق من العلم سيّما في هذا الزمان فانّه كما قيل و ان وجب على الأعيان

ص:253

و الكفاية على تفصيل فقد وجب في هذا الزمان على الأعيان مطلقا،لأنّ فرض الكفاية اذا لم يقم به من فيه كفاية يصير كالواجب العيني في مخاطبة الكل و تأثيمهم و ينبغي له ان يترك المعاشرة مع من يشغله عن مطلوبه فانّ تركها من أهم ما ينبغي لطالب العلم و لا سيّما لغير الجنس و خصوصا لمن كثرت بطالته فانّ الطبع سرّاق،فاذا خالط فلا يخالط الا من يفيده او يستفيد منه فان لم يتفق فالوحدة و لا قرين السوء،قال مؤلف هذا الكتاب عفى اللّه عنه سنذكر ان شاء اللّه تعالى في نور آخر أحوالنا و ما جرى علينا من ضيق المعاش ايام تحصيل العلم و كيف تنقلنا لأجل العلم من بلاد الى بلاد فمن راجعه سهل عليه الصبر على مضائق العلم و على اللّه التوكل.

و ثالثها ان يكون حريصا على التعلم مواظبا عليه في جميع أوقاته ليلا و نهارا سفرا و حضرا و لا يذهب شيئا من اوقاته في غير العلم الاّ بقدر الضرورة لما لا بدّ منه من أكل و نوم و استراحة بسيرة لإزالة الملل و مؤانسة زائر و تحصيل قوت و غيره فانّ بقيّة العمر لا ثمن لها و من استوى يوماه فهو مغبون،و ليس بعاقل من امكنه الحصول على درجة ورثها(ورثة)الأنبياء ثم فوتها و لا بدّ دون الشّهد من ألم النحل و قيل:

لا تحسب المجد تمرا انت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

و ان يكون عالي الهمة فلا يرضى باليسير مع امكان الكثير،و لا يؤخّر فائدة الى وقت آخر يرجو فيه ازالة الموانع فانّ هذا الوقت لم يخلق و اذا خلق فله فائدة أخرى و في الخبر الوقت سيف فان قطعته و الا قطعك،و ينبغي ان يأخذ في ترتيب العلم بما هو الأولى،و اذا اشتغل في فن فلا ينتقل عنه حتى يتقن فنه كتابا او كتابان ان امكن،و ليحذر التنقل من كتاب الى كتاب و من فن الى غيره من غير موجب فانّ ذلك علامة الضجر و عدم الفلاح،فاذا تحققت أهليته فالأولى له ان لا يدع فنّا من العلوم المحدودة الاّ و تنظر فيه نظر تطلع،ثم ان ساعده العمر طلب التّبحر فيه فانّ العلوم متقاربة و بعضها مرتبط ببعض.

الفائدة السابعة آدابه مع شيخه،قال الصادق عليه السّلام كان امير المؤمنين عليه السّلام يقول ان من حق العالم ان لا تكثر عليه السؤال،و لا تأخذ بثوبه و اذا دخلت عليه و عنده قوم فسلم عليهم و خصّه بالتحية دونهم،و اجلس بين يديه و لا تجلس خلفه و لا تغمز بعينك و انّما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها متى يسقط عليك منها شيء،و العالم اعظم أجرا عند اللّه من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه،و في الحديث المروي عن مولانا زين العابدين عليه السّلام و حق سائسك بالعلم التعظيم له و التوفير لمجلسه و حسن الإستماع عليه و الإقبال عليه و ان لا ترفع عليه صوتك و لا تجيب احدا يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب و لا تحدث في مجلسه احدا،و لا تغتاب احدا،و ان تدفع عنه اذا ذكر عندك بسوء،و ان تستر عيوبه و تظهر مناقبه،و لا تجالس له عدوا

ص:254

و لا تعادي له وليا،فاذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة اللّه عز و جل بأنّك قصدته و تعلمت علمه للّه جل جلاله اسمه لا للناس و في هذه الفائدة أمور:

اولها و هو الأهم ان يقدم النظر فيمن يأخذ عنه العلم فان تربية الشيخ لتلميذه ممّا تكسبه جميع أخلاقه بل و دينه ايضا على ما شهدناه،مع ان العالم نائب عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ليس كل عالم يصلح لهذا،فليختر من كملت اهليته و ظهرت ديانته و عرفت عفّته و اشتهرت صيانته و سيادته،و ظهرت مروّته و حسن تعليمه،و لا يغتر الطالب بمن زاد علمه مع نقص في ورعه او دينه او خلقه،و ليحترز ممن أخذ علمه من بطون الكتب من غير قراءة على الشيوخ خوفا من وقعه في التصحيف و الغلط و التحريف،قال بعض السلف من تفقّه من بطون الكتب ضيّع الأحكام و قال آخر ايّاكم و الصّحفيّين الذين يأخذون علمهم من الصحف فانما يفسدون اكثر مما يصلحون و ليحذر من التقييد بالمشهورين و ترك الأخذ من الخاملين فان ذلك من الكبر على العلم و هو عين الحماقة لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها.

و ثانيها ان يعتقد في شيخه انه الأب الحقيقي و الوالد الروحاني و هو اعظم من الوالد الجسماني فيبالغ في حقه اعظم من رعايته في حق ابيه،و سأل الأسكندر عليه السّلام ما بالك توقر معلمك و أكثر من والدك فقال لأن المعلم سبب لحياتي الباقية و والدي سبب لحياتي الفانية و ايضا فالأب لم يقصد حال الجماع وجود الولد و لا كمال وجوده و انما قصد لذة نفسه و اما المعلم فقصد تكميل وجوده و سببه و بذل فيه جهده و قد روي ان السيد الرضي قدس اللّه روحه كان عالي الهمة أبيّ النفس عن ان يقبل من أحد شيئا فقال له يوما بعض مشايخه ان دارك ضيقه لا تليق بحالك و لي دار واسعة و هيأتها لك فآنتقل اليها فأبى فأعاد عليه الكلام فقال يا شيخ انا لم اقبل بر ابي قط فكيف اقبل من غيره فقال له الشيخ انما حقي عليك اعظم من حق ابيك لأني ابوك الروحاني و هو ابوك الجسماني،فقال السيد رحمه اللّه قد قبلت الدار و من هنا قال بعض الفضلاء:

من علم العلم كان خير اب ذاك ابو الروح لا ابو النطف

و ثالثها ان يعتقد انه مريض و شيخه طبيب و ذلك لأن المرض هو انحراف الروح عن المجرى الطبيعي و طبيعة النفس العلم و قد خرجت عنه بسبب اشتغال القوى البدنية و اخلاطها فلا ينبغي ان يخالفه فيما يشير عليه كأن يقول له أقرأ الكتاب الفلاني و أكتف بهذا القدر من الدرس فإذا خالفه كان بمنزلة المريض الذي يرد على الطبيب و قد قيل في الحكمة مراجعة الطبيب مريضه يوجب تعذيبه و كما ان الواجب على المريض ترك تناول المؤذيات و الأغذية المفسدة و الدواء في حضرة الطبيب و غيبته كذلك المتعلم و ينبغي ان ينظر الى الشيخ بعين الإجلال و الإحترام و يضرب صفحا من عيوبه و قد كان بعض السلف اذا ذهب الى شيخه تصدّق بشيء و قال اللهم استر عيب

ص:255

معلمي عني و لا تذهب ببركة علمه مني و قال آخر كنت اصفح الورقة بين يدي شيخي صفحا رقيقا هيبة له لئلا يسمع وقعها و قال آخر و اللّه ما إجترأت ان اشرب الماء و شيخي ينظر الى هيبة له،و قال حمد ان الأصفهاني كنت عند شريكه فآتاه بعض أولاد الخليفة المهدي فاستند الى الحائط و سأله عن حديث فلم يلتفت اليه و أقبل علينا ثم عاد فعاد شريك لمثل ذلك فقال أ تستخف بأولاد الخلفاء؟قال لا و لكن العلم أجل عند اللّه من أن أضيعه فجثى على ركبتيه،فقال شريك هكذا يطلب العلم و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من علم احدا مسئلة ملك رقه قيل أ يبيعه و يشتريه؟قال بل يأمره و ينهاه،و نقل بعض الأفاضل قال حكيت لشيخي منا مالي فقلت رأيت انك قلت لي كذا و كذا فقلت لك لم ذاك؟فهجرني شهرا و لم تكلمني،و قال لو لا انه كان في باطنك تجويز المطالبة و انكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في المنام و الأمر كما قال،قال مؤلف الكتاب عفى اللّه عنه قد كان حالي مع شيخي صاحب كتاب بحار الأنوار (1)لما كنت أقرأ عليه في أصفهان انه خصني من بين تلامذته مع انهم كانوا يزيدون على الألف بالتأهّل عليه و المعاشرة معه ليلا و نهارا و ذلك انه لما كان يصنف ذلك الكتاب كنت ابات معه لجل بعض مصالح التصنيف و كان كثير المزاح معي و الضحك و الضرائف حتى لا أمل من المطالعة و مع هذا كله كنت اذا أردت الدخول عليه أقف بالباب ساعة حتى أتأهب للدخول عليه و يرجع قلبي الى استقراره من شدة ما كان يتداخلني من الهيبة و التوقير الإحترام حتى أدخل عليه و لقد كنت و حق جنابه الشريف و الأيام التي قضيناها في صحبته و نرجوا من اللّه ان تعود أستسهل لقاء الأسود على الدخول عليه هيبة له و إجلالا و ينبغي ان يعظمه في حال الخطاب و لا يخاطبه بتاء الخطاب و كافة و لا يناديه من بعد بل يقول يا سيدي و يا استاذي و ما أشبه ذلك و يخاطبه بصيغ الجمع و ينبغي ان يرد غيبته زيادة على ما يجب رعايته في غيره فان عجز عن ذلك قام و فارق المجلس،و يرعى ذريته و أقاربه و أودذاءه و محبيه في حياته و بعد موته.

و رابعها ان يصبر على جفوة تصدر من شيخه او سوء خلق و لا يصدّه ذلك عن ملازمته و حسن عقيدته و يتأول أفعاله التي ظاهرها مذموم على أحسن تأويل و أصحّه فما يعجزه عن ذلك الا قليل الوفيق،و يبدأ هو عند جفوة شيخه بالإعتذار و التوبة مما وقع و الأستغفار و ينسب الموجب اليه و يجعل العتب فيه عليه فانّ ذلك أبقى لمودّة شيخه و عن بعض السلف من لم يصبر على ذلّ التعليم بقي عمره في عماية الجهالة،و من صبر عليه آل أمره الى عزّ الدنيا و الآخرة،و أما نحن فسنذكر ان شاء اللّه تعالى الذلّ الذي أصابنا في تحصيل العلم في النّور الآتي و بحمد اللّه و توفيقه آل

ص:256


1- (1) هو العلامة المحدث شيخ الأسلام و المسلمين المولى محمد باقر المجلسي رحمه اللّه المتوفي(1111)ه و قد صنف المحدث النوري(ره)كتاب فيض القدسي في أحواله و ترجمة حالاته.

أمرنا الى عز الدنيا و نرجو منه تعالى عز الآخرة و هو المطلوب،و بقيت أمور أخرى كثيرة تركناها حذرا من التّطويل و بما ذكرناه كفاية للعامل.

الفائدة الثامنة آدابه في درسه و قراءته و هي امور:الأوّل ان يبتدىء اولا بحفظ كتاب اللّه العزيز حفظا متقنا فهذا أصل العلوم و أجلّها و كان السلف لا يعلّمون الفقه و الحديث الاّ لمن حفظ القرآن.

الثاني ان يقتصر من المطالعة على ما يحتمله فهمه و لا يمجه طبعه و ليحذر من تحيّر الذهن في مطالعة الكتب الكثيرة فانّه يضيع زمانه،و ليعط الكتاب الذي يقرأه و الفن الذي يأخذه كلّيته حتى يتقنه حذرا من الخبط،و من هذا الباب الإشتغال بكتب الخلاف في العقليات و نحوها قبل ان يصح فهمه و يستقر رأيه على الحق.

و ينبغي ان يعتني بتصحيح درسه الذي يحفظه قبل حفظه تصحيحا متقنا ثم يحفظه حفظا محكما،ثم يكرره و ان يحضر معه الدواة و القلم للتصحيح،و اذا ردّ عليه الشيخ لفظة فظن او علم انّ ردّه خلاف الصواب كرر اللفظة مع ما قبلها لينبه بها الشيخ او يأتي بلفظها الصواب على وجه الإستفهام،فربما وقع ذلك سهوا و لا يقل بل هي كذا،فان رجع الشيخ الى الصواب فذاك و الاّ ترك تحقيقها الى مجلس آخر بتلطف و لا يبادر الى اصلاحها على الوجه الذي عرفه مع اطلاع الشيخ و الحاضرين،و كذلك اذا تحقق خطأ الشيخ في جواب مسئلة و كان لا يفوت تحقيقه فان كان كذلك كالكتابة في رقاع الأستفتاء و كون السائل غريبا او بعيد الدار او مشنّعا تعيّن تنبيه الشيخ على ذلك في الحال بالإشارة ثم التصريح،فانّ تركه ذلك خيانة للشيخ فيجب نصحه بما أمكن من تلطف و غيره،فاذا وقف على مكان في التصحيح كتب قبالته بلغ العرض او التصحيح.

و ينبغي له ان يقسم اوقات ليله و نهاره على ما يحصله فانّ الأوراد توجب الأزدياد و أجود الأوقات للحفظ الأسحار و للبحث الأبكار و للكتابة وسط النهار و للمطالعة و المذاكرة الليل و بقايا النهار،و مما قالوه و دلت عليه التجربة انّ حفظ الليل انفع من حفظ النهار،و وقت الجوع انفع من وقت الشبع و المكان البعيد عن الملهيات انفع،و ان يباكر بدرسه لخبر بورك لأمتي في بكورها، و لخبر اغدوا في طلب العلم فانّي سألت ربّي ان يبارك لأمتي في بكورها،و يجعل ابتداءه يوم الخميس،و في رواية يوم السبت او الخميس و في آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اطلبوا العلم يوم الإثنين فانّه ميسر لطالبه،و روي في يوم الأربعاء خبر ما من شيء بدء به يوم الأربعاء الا و قد تم،و ربما اختار بعض العلماء الإبتداء يوم الأحد و لم نقف على مأخذه.

الثالث اذا حضر مجلس الشيخ فليسلّم على الحاضرين ثمّ يخصّ الشيخ بزيادة تحية و اكرام،و عدّ بعضهم حلق العلم حال أخذهم في البحث من المواضع التي لا يسلم فيها،و اختاره

ص:257

جماعة من الأفاضل و هو متّجه حيث يشغلهم ردّ السّلام عمّا فيه من البحث و حضور القلب كما هو الغالب،سيّما اذا كان في أثناء تقرير مسئلة فانّ قطعه عليهم أضرّ من كثير من الموارد التي ورد انّه لا يسلم فيها،لكن متى أريد ذلك فليجلس الداخل عليهم على بعد من مقابلة الشيخ بحيث لا يشعر به حتى يفرغ ان امكن جمعا بين حق الأدب و حق البحث في دفع الشّواغل،و ينبغي له اذا سلم ان لا يتخطى رقاب الحاضرين الى قرب الشيخ ان لم يكن منزلته كذلك بل يجلس حيث ينتهي به المجلس كما ورد في الحديث،فان صرح له الشيخ او الحاضرون بالتقدم او كانت منزلته او كان يعلم ايثار الشيخ و الجماعة لذلك او كان جلوسه بقرب الشيخ لمصلحة كأن يذاكره مذاكرة ينتفع بها الحاضرون او لكونه كبير السن او كثير الفضيلة و الصلاح فلا بأس،قال شيخنا الشيخ زين الدين طاب ثراه و اعلم انّه متى سبق الى مكان من مجلس الدرس كان أحقّ به فليس لغيره ان يزعجه منه و ان كان أحقّ به بحسب الآداب،قيل و يبقى بعد ذلك أحق به كالمحترف اذا ألف مكانا من السوق او الشارع فلا يسقط حقه منه بمفارقته و ان انقطع عن الدرس يوما او يومين اذا حضر بعد ذلك انتهى،و فيه ما لا يخفى.

و ينبغي ان لا يجلس بين أخويه او اب او ابن،او قريبين او متصاحبين الاّ برضاهما معا لما روي انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهي ان يجلس الرجل بين الرجلين الا بإذنهما،و ينبغي ان لا يقرأ الاّ بإذن الشيخ ذكره جماعة من العلماء،فاذا اذن له استعاذ باللّه من الشيطان الرجيم ثم سمى اللّه تعالى و حمده و صلى على النبي و آله ثم يدعو للشيخ و لوالديه و لمشايخه و للعلماء و لنفسه،و ينبغي ان يتذاكر مع من يوافقه من مواضبي مجلس الشيخ بما وقع فيه من الفوائد فانّ في المذاكرة نفعا عظيما و قدم على نفع الحفظ و ينبغي الإسراع بها قبل تفرق اذهانهم فان لم يجد من يتذاكر معه ذاكر نفسه بأن يكرر معنى ما سمعه و لفظه على قلبه ليتعلق ذلك بخاطره،و قد اشتهر انّ الأخفش كان له عنز يتذاكر اليه.

الفائدة التاسعة في آداب الفتوى و المفتي و المستفتي اعلم اولا انّ الإتاء و لن كان كثير الأجر لكنه عظيم الخطر لأنّ المفتي وارث النبي و هو موقع عن اللّه تعالى و نائبه و لسانه الناطق عنه فليعرف كيف يكون،قال سبحانه في التحذير وَ لاٰ تَقُولُوا لِمٰا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هٰذٰا حَلاٰلٌ وَ هٰذٰا حَرٰامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ و انظر الى خطابه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ فكيف يكون حاله مع غيره اذا تقوّل عليه و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا او قتله نبي او رجل يضل الناس بغير علم او مصوّر يصوّر التماثيل،و عن ابي عبيدة الحذاء قال سمعت

ص:258

ابا جعفر الباقر عليه السّلام يقول من أفتى الناس بغير علم و لا هدى لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه.

و اعلم انه يجب في المفتي ان يكون مكلفا مسلما عادلا مجتهدا و من لم يكن مجتهدا فلا يجوز له الإقدام على الإفتاء(الفتوى)و الفتوى فرض كفاية فاذا سأل ز ليس هناك غيره تعيّن عليه الجواب،و ينبغي ان لا يفتي في حال تغيّر أخلاقه من الغضب و الجوع و العطش و الحزن و الفرح و النّعاس و الحر و البرد و مدافعة الأخبثين،و اذا أفتى في واقعة ثم تغيّر اجتهاده و علم المقلد برجوعه من مستفت او غيره عمل بقول الثاني،فان لم يكن عمل بالقول الأول لم يجز العمل به و ان كان قد عمل به قبل علمه لم ينقض و لم لو يعلم المستفتي رجوع المفتي فكأنه لم يرجع في حقّه و يلزم المفتي اعلامه برجوعه قبل العمل و بعده ليرجع عنه في عمل آخر(عمله الآخر و لو أفتى في حادثة ثم حدث مثلها فان ذكر الفتوى الأولى و دليلها افتي بذلك،ثانيا بلا نظر،و ان ذكرها و لم يذكر دليلها و لا طرى ما يوجب رجوعه ففي جواز افتائه بالأولى او وجوب اعادة الإجتهاد قولان، و مثله تجديد الطلب في التيمم و الإجتهاد في القبلة،و القاضي اذا حكم بالإجتهاد ثم وقعت المسئلة و ليس للمفتي ان يكتب السؤال على علمه من صورة الواقعة اذا لكم يكن في الوقعة تعرض له بل على ما في الرقعة،فان أراد خلافه قال ان كان الأمر كذا فجوابه كذا،و استحبوا ان يزيد علو ما في الرقعة ما له تعلق بها ممّا يحتاج اليه السائل لحديث ما هو الطّهور ماؤه أ يحلّ ميتته؟

و يستحب ان يكتب في اول فتواه الحمد للّه او اللّه الموفق او حسبنا اللّه او حسبي اللّه،او الجواب و باللّه التوفيق او نحو ذلك،و احسنه الإبتداء بالتحميد للحديث،و ينبغي ان يقول بلسانه و يكتب ثم يختمه بقوله و اللّه اعلم او باللّه التوفيق و يكتب بعده قال او كتبه فلان بن فلان الفلاني فينتسب الى ما يعرف به من قبيلة او بلد او صفة او نحوها،و ينبغي ان يقتصر(يختصر)جوابه غالبا و يكون بحيث يفهمه العامة فهما جليا،حتى كان بعضهم يكتب تحت أ يجوز:يجوز او لا يجوز، و تحت ام لا:لا او نعم او نحوهما،و اذا رأى المفتي رقعة الإستفتاء و فيها خط غيره ممّن هو اهل للفتوى فان كان دونه و وافق ما عنده كتب تحت خطه الجواب صحيح او هذا جواب صحيح او جوابي كذلك أو مثل هذا او بهذا أقول او نحو ذلك،و اما اذا رأى فيها خط من ليس أهلا للفتوى فلا يفتي معه لأنّ في ذلك تقريرا منه لمنكر بل له ان يضرب عليه و ان لم يأذن له صاحب الرقعة لكن لا تحبسها عنده الا بإذنه،و له نهي السائل و زجره و تعريفه قبح ما فعله،و ان رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه فان لم يعرفه فله الإمتناع من الفتوى معه خوفا ممّا قلناه،و لو خاف فتنة من الضرر على فتيا علدم الأهلية و لم يكن خطأ عدل الى الإمتناع من الفتيا معه و اما اذا كانت خطاء وجب التنبيه عليه و حرم الإمتناع من الإفتاء تاركا للتنبيه على خطائها.

ص:259

و لو اجتمع مفتيان او اكثر ممّن يجوز استفتاؤهم فان اتفقوا في الفتوى أخذ المستفتي بها، و ان اختلفوا وجب عليه الرجوع الى الأعلم الأتقى،و ان اختلفوا في الوصفين رجع الى اعلم الورعين و أورع العالمين،فان تعارض الأعلم و الأورع قدّم الأعلم في التقليد امّا لو كان المفتي ميتا فهل يجوز تقليده مع وجود الحي اولا معه؟للجمهور اقوال اصحّها عندهم جوازه مطلقا لأنّ المذاهب لا تموت بموت اصحابها و لهذا يعتدّ بها بعدهم في الإجماع و الخلاف،و انّ موت الشّاهد قبل الحكم بشهادته لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه.

و الثاني لا يجوز مطلقا لفوات اهليته بالموت و لهذا ينعقد الإجماع بعده و لا ينعقد في حياته على خلافه و هذا هو المشهور بين أصحابنا خصوصا المتأخرين منهم،و الذي استوجهناه في تضاعيف هذا الكتاب هو جواز تقليد المجتهد الميّت لأنّ كلّ ما دلّ على جواز تقليد المجتهد الحيّ يدل على جواز تقليد المجتهد الميّت خصوصا شيخنا المحقق قدس اللّه روحه في كتابه الشّرائع و المعتبر فانّه نقل(ينقل)متون الأخبار في اكثر المسائل بخلاف العلاّمة طاب ثراه فانّه كثير الإجتهاد و الفتوى.

الفائدة العاشرة في المناظرة و آدابها،اعلم انّ المناضرة في احكام الدين من الدين،و ينبغي ان يقصد بها اصابة الحق و طلب ظهوره كيف اتفق لا ظهور عزارة علمه و صحة نظره فانّ ذلك من أقبح القبائح،و من آيات هذا القصد ان لا يوقعها الاّ مع رجاء المباشرة،فأما اذا علم عدم قبول المناظرة للحق و انه لا يرجع عن رأيه و ان تبين خطاؤه فمناظرته غير جائزة،و شرط المناظرة في الدين ان يكون مجتهدا يفتي برأيه لا بمذهب أحد حتى اذا بان له الحق على لسان خصمه انتقل اليه،فأما من لا يجتهد فليس له مخالفة مذهب من يقلّده فأيّ فائدة له في المناظرة.

و ينبغي ان يناظر في واقعة مهمة او في مسئلة قريبة من الوقوع و المهم ان يبيّن الحق و لا يطول الكلام زيادة على ما يحتاج اليه في تحقيق الحق،و ان يكون المناظرة في الخلوة احب اليه منها في المحفل و الصدور فانّ في حضور الخلق ما يحرك دواعي الرياء و الحرص على الإقحام و لو بالباطل،و ينبغي ان لا يمنع مفتيه من الإنتقال من دليل الى دليل و من سؤال الى سؤال بل يمكنه من ايراد ما يحضره و يخرج من كلامه ما يحتاج اليه في اصابة الحق،فان وجده في جملته او استلزمه و ان كان غافلا عن اللزوم فليقبله و يحمد اللّه تعالى فانّ الغرض إصابة الحق،و ان كان في كلام متهافت اذا حصل منه المطلوب،و اما قوله قد تركت كلامك الأول و ليس لك ذلك و نحو ذلك من أراجيف المناظرين فهو محض العناد،و اما آفات المناظرة فهي أكثر من ان تذكر فلا ينبغي الوقوع فيها و قبولها الاّ عند الإضطرار اليها.

ص:260

الفائدة الحادية عشر في آداب الكتابة و ما يتعلق بها إعلم ان الكتابة من أجل المطالب الدينية و هو تابع للعلم فان كان واجبا عينيا كان الكتابة كذلك اذا توقف الحفظ عليه و ان كان واجبا كفائيا كانت الكتابة كذلك،روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال قيّدوا العلم، قيل و ما تقييده؟قال كتابته،قال الصادق عليه السّلام لعبيد بن زرارة احتفظوا بكتبكم فانكم سوف تحتاجون اليها،و روى الصدوق في أماليه باسناده الى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال ان المؤمن اذا مات و ترك ورقة واحدة عليها علم كانت الورقة سترا فيما بينه و بين النار، و اعطاه اللّه تعالى بكل حرف مدينة أوسع من الدّنيا و ما فيها،و من جلس عند العالم ساعة ناداه الملك جلست الى عبدي و عزّتي و جلالي لأسكنتك الجنّة معه و لا أبالي،و يجب على الكاتب اخلاص النية الى اللّه تعالى كما يجب اخلاصها في طلب العلم لأنّه عبادة و ضرب من تحصيل العلم بل هو في بعض الموارد أكثر ثوابا من العلم بسبب كثرة الإنتفاع به و دوامه،و من هنا جاء تفضيل مداد العلماء على دماء الشهداء حيث انّ مدادهم ينتفع به بعد موتهم و دماء الشهداء لا ينتفع به بعد موتهم.

و ينبغي لطالب العلم ان يعتني بتحصيل الكتب بأي نوع كان لأنّه قد حصل بها نوف زائدا لمن حصّلها على من لم يحصلها،و ينبغي ان لا يشتغل بنسخها ان امكنه تحصيلها بشراء و نحوه،و يستحب اعارة الكتب لمن لا ضرر عليه فيها ممّن لا ضرر منه بها استحبابا مؤكدا لما فيه من الإعانة على العلم و المساعدة على البرّ و التقوى،و قال بعض السلف من بخل بالعلم ابتلي باحدى ثلاث:ان ينساه او يموت فلا ينتفع به او تذهب كتبه،و هذا شيء شاهدناه مرارا كثيرة،و قد كان لنا شيخ يحصل منه بعض البخل بالكتب فبقيت كتبه بعده قد باعها بناته في الأسواق بأبخس قيمة، و كان لنا شيخ آخر اذا طلبنا نحن او غيرنا منه كتابا و كان له حاجة اليه قلع الأوراق التي يحتاج اليها و أعطى الباقي فنمت كتبه و انتفع العلماء بها و أعطاه اللّه تعالى اولادا قابلين للعلم و فهمه، و اذا قضى حاجته من الكتاب فلا يحبسه لئلا يمنع صاحبه من اعارة غيره،اما اذا طلبه المالك حرم عليه حبسه و يصير ضامنا له،و لا يجوز ان يصلح كتاب غيره المستعار او المستأجر بغير اذن صاحبه فلا يحسّنه و لا يكتب له شيئا في بياض فواتحه الاّ اذا علم رضاء مالكه و لا ينسخ منه بغير اذن صاحبه فانّ النسخ انتفاع زائد على الإنتفاع بالمطالعة.

و ينبغي ان يراعي الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها و شرفها و شرف مصنفها فيضع الأشرف على الكل ثم يراعي التدريج،فان كان فيها المصحف الكريم جعل اعلى الكل،و الأولى ان يكون في خريطة ذات عروة في مسمار او وتد في حائط طاهر نظيف في صدر المجلس ثم كتب

ص:261

الحديث الخالص،ثم تفسير القرآن،ثم تفسير الحديث ثم اصول الدين،ثم اصول الفقه،ثم العربية،و لا يضع الكبير فوقا لصغير لئلا يكثر تساقطها.

و ينبغي ان يكتب اسم الكتب في جانب آخر الصّفحات،و فائدته معرفة الكتاب و تيسّر اخراجه،و لا ينبغي ان يجعل الكتاب خزانة الكراريس او غيرها،و لا مخدّة و لا مروحة و لا مسندا و لا مقتلة للبراغيث،و لا يطوي حاشية الورقة او زاويتها،و كان شيخنا صاحب كتاب بحار الأنوار أدام اللّه ايام سعادته يعير تلامذته كتب الحديث فاذا ارجعوها يخرج من تحت الأوراق من فتات الخبر ما يزيد على شبع الرجل،ثمّ انه سلمه اللّه تعالى صار اذا أراد ان يعير كتابا لواحد من الطلبة يقول ان كان عندك طبق تأكل فيه الخبز و الا اعرناك طبقا مدّة كون الكتاب عندك.

و ينبغي لمن استعار كتابا ان يتفقده عند أخذه و رده،و اذا اشترى كتابا تعهّد أوّله و آخره و وسطه و يصفح أوراقه و يعتبر صحّته و ممّا يغلب على ظنه صحّته اذا ضاق الزمان تفتيشه ان يرى الحاقا او اصلاحا فانّه من شواهد الصّحة،حتى قال بعضهم لا يضيء الكتاب حتى يظلم،يريد اصلاحه بالضّرب و الكشط و الإلحاق و نحوه،و ينبغي له اذا نسخ شيئا من الكتب الشرعية ان يكون على طهارة مستقبلا طاهر البدن و الحبر و الورق و يبتدي الكتاب بكتابة بسم اللّه الرحمن الرحيم و الحمد للّه و الصلاة على رسوله و آله،و كلما كتب اسم اللّه تعالى أتبعه بالتعظيم مثل تعالى او عزّ و جل او تقدّس او نحو ذلك و يتلفظ بذلك و كلما كتب اسم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كتب بعده عليه و آله،بل قال بعضهم و السّلام ايضا،و يصلّي هو بلسانه ايضا،و لا يختص الصّلاة في الكتاب و لا يسأم من تكريرها و لو وقعت في السّطر مرارا كما يفعله بعض المحرومين من الثّواب لطلب الإختصار،فيكتبون صلعم،اوصل او صه او نحو ذلك،فانّ ذلك كله كما قال شيخنا الشهيد الثاني طاب ثراه خلاف الأولى و المنصوص،بل قال بعض العلماء انّ اول من كتب صلعم قطعت يده،و اقل ما في الإخلال بها تفويت الثواب العظيم عليها،فقد ورد عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم انه قال من صلى عليّ في كتب لم تزلا لملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب،و اذا مرّ بذكر احد من الصحابة الأكابر رضي اللّه عنه او رضوان اللّه عليه او بذكر احد من السلف الأعلام كتب رحمه اللّه او تغمده اللّه برحمته و نحو ذلك،و ينبغي ان لا يكتب الكتب بالكتابة الدقيقة،قال بعض السلف لكاتب و قد رآه يكتب خطّا دقيقا:لا تفعل فانّه يخونك أحوج ما تكون اليه.

و اما القلم فقالوا لا ينبغي ان يكون صلبا جدا فيمنع من سرعة الجري او رخوا جدا فيسرع اليه الحفاء،قال بعضهم اذا أردت ان يجود خطك فأطل جلفتك و اسمنها،و حرف قطّتك و أيمنها،و ليكن السكين حادة لبرائة الأقلام و كشط الورق خاصّة و لا تستعمل في غير ذلك،و ليكن

ص:262

ما يقطّ عليه القلم صلبا،و قالوا الأحسن ان يكون القصب الفارسي اليابس جدا،و ينبغي ان لا يقرطم(يقرمط خ)الحروف و لا يأتي بها مشبهة بغيرها بل يعطى كلّ حرف حقه و كل كلمة حقّها و يراعى من الآداب الواردة مطلقا في ذلك ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال لبعض كتّابه الف(الق)الدّواة و حرّف القلم و انصب الباء و فرّق السين و لا تعور الميم و حسّن اللّه و مدّ الرحمن و جوّد الرحيم،وضع قلمك على اذنك اليسرى فانّه اذكر لك.

و عن زيد بن ثابت انّه قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اذا كتبت بسم اللّه الرحمن الرحيم فبيّن السين فيه،و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تمد الباء الى الميم ترفع السين،و عن انس قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم اذا كتب احدكم بسم اللّه الرحمن الرحيم فليمدّ الرحمن،و عنه من كتب بسم اللّه الرحمن الرحيم فغفر له،و قد كرهوا في الكتابة فصل مضاف اسم اللّه تعالى منه كعبد اللّه او رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا يكتب عبدا و رسول في آخر سطر و اللّه مع ما بعده اول سطر آخر لقبح الصورة،و هذه الكراهة للتنزيه،و ذكروا ان الضرب على الغلط هو اجود من الكشط و المحو لا سيما في الحديث لأنّ كلا منهما يضعف الكتاب ورما أفسد الورق،و عن بعض المشايخ انّه كان يقول كان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلس السماع،و في كيفية الضرب خمسة اقوال:

احدها ان يصل بالحروف المضروب عليها و يخطّ عليها ممتّد أو يسمى عند المغاربة بالشّق، و أجوده ما كان دقيقا بينا يدل على المقصود،و لا يسود الورق و لا يطمس الحروف و لا يمنع قراءة ما تحته.

و ثانيها ان يجعل الخط فوق الحروف منفصلا منعطفا طرفاه على أول المبطل و آخره و مثاله هكذا.

و ثالثها ان يكتب لفظة لا أو لفظة"من"أوله و لفظة"الى"فوق آخره،و معناه من هنا ساقط الى هنا و مثل هذا يحسن فيما صح في رواية و سقط اخرى.

و رابعها ان يكتب في أول الكلام المبطل و في آخره نصف دائرة و مثاله(هكذا)فان ضاق المحل جعله في أعلى كل جانب،و خامسها ان يكتب في أول المبطل و في آخره صفرا و هو دائرة صغيرة سميّت بذلك لخلو ما أشير اليه بها من الصّحة كتسمية الحساب لها بذلك لخلو موضعها من عدد،و اذا صحح الكتاب على الشيخ او في المقابلة علم على موضع وقوفه يبلغ او بلغت او بلغ العرض او نحو ذلك ممّا يفيد معناه.

و ينبغي ان يفصل كل كلامين او حديثين بدائرة او قلم غليظ و لا يوصل الكتابة كلها على طريقة واحدة لما فيه من عسر استخراج المقصود،و رجحوا الدّائرة على غيرها و عمل عليها غالب

ص:263

المحدثين و أختار بعضهم اعتمال الدائرة حتى تقابل،فكل كلام يفرغ منه ينقط في الدّائرة التي تليه نقطة و في المقابلة ثانية و هكذا.

الفائدة الثانية عشر في أقسام العلوم الشرعية و ما يتوقف عليه من العلوم العقلية و الأدبية، إعلم انّ العلوم الشرعية الأصلية أربعة:علم الكلام،و علم الكتاب العزيز و علم الأحاديث النبوية ،و علو الأحكام الشرعية،و هو المعبر عنه بالفقه،فأما علم الكلام و هو أصول الدين فهو أساس العلوم الشرعية لأن معلوماته أشرف المعلومات و قد ورد الحث على تعلمه،قال ابن عباس جاء إعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا رسول اللّه علمني من غرائب العلم،قال ما صنعت في رأس العلم حتى تسأل عن غرائب العلم؟قال الرجل ما رأس العلم يا رسول اللّه؟قال معرفة اللّه تعالى حق معرفته،قال الإعرابي و ما معرفة اللّه حق معرفته؟قال تعرفه بلا مثل و لا شبيه،و لا ند و أنه واحد أحد ظاهر باطن أول آخر لا كفو له و لا نظير فذلك حق معرفته.

و أما علم الكتاب فقد استقر الإصطلاح فيه على ثلاثة فنون قد أفردت بالتصنيف قد أطلق عليها إسم العلم:أحدها علم التجويد و فائدته معرفة أوضاع حروفه و كلماته مفرده و مركبه ،فيدخل فيه معرفة مخارج الحروف و صفاتها و مدها و إظهارها و إخفائها و إدغامها.إمالتها و تفخيمها و ترقيقها و نحو ذلك،و ثانيها علم القراءة،و فائدته معرفة الوجوه الإعرابية و البنائية التي نزل القرآن و ادعوا نقلها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تواتوا و يندرج فيه بعض ما سبق في الفن الأول؛و قد يطلق عليهما واحد و يجمعهما تصنيف واحد و ثالثهما علم التفسير و فائدته معرفة معانيه و أحكامه؛و أما علم الحديث فهو من أجلّ العلوم قدرا و أعلاها رتبة و أعظمها مثوبة بعد القرآن،و أما الفقه فهو العلم بالحكم الشرعي المأخوذ عن الدليل فهذه الأربع هي أصول العلوم و هي المقصود بالذات.

و أما العلوم الفرعية و هي التي يتوقف هذه الأربعة عليها أما معرفة اللّه تعالى و ما يتبعه فلا يتوقف أصل تحققه على شيء من العلوم بل يمفي فيه مجرد النظر و هو أمر عقلي يجب على كل مكلف،و هو أول الواجبات بالذات و إن كان الخوض في مباحثه و تحقيق مطالبه و دفع شبه المبطلين فيه يتوقف على بعض العلوم العقلية كالمنطق و غيره و اما الكتاب العزيز فإنه بلسان عربي مبين فيتوقف معرته على علوم العربية من النحو و التعريف و الإشتقاق و المعاني و البيان و البديع و لغة العرب و أصول الفقه ليعرف به حكم عامه و خاصه و مطلقه و مقيده و محكمه و متشابهه إلى غير ذلك.

ص:264

و أما الحديث النبوي فالكلام فيه كالكلام في الكتاب و علومه و يزيد الحديث عليه بمعرفة رواته من حيث الجرح و التعديل؛و أما الفقه فيتوقف معرفته على جميع ما ذكر من العلوم الفرعية و الأصلية،و المنطق آلة شريفة لتحقيق الأدلة مطلقا فهذه عشرة علوم يتوقف عليها العلوم الشرعية و جملة ما يتوقف عليها الفقه اثني عشرة و هي ترجع بحسب ما استقر عليه تدوين العلماء إلى ثمانية فإن علم الأشتقاق قد أدرج في أصول الفقه غالبا و في بعض علوم العربية و علم المعاني و البيان و البديع قد صار علما واحدا في أكثر الكتب الموضوعة لها،و التصريف داخل في النحو في أكثر الكتب و قل من أفرده علما خصوصا المتقدمين.

الفائدة الثالثة عشر في بيان العلم الشرعي و ما ألحق به على ثلاث مراتب فرض عين، و فرض كفاية،و سنة،فالأول ما لا يتأذى الواجب عينا إلا به و عليه حمل حديث طلب العلم فريضة على كل مسلم،و أما فرض الكفاية فمما لا بد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن و الأحاديث و علومهما و الفقه و الأصول و العربية و ما يحتاج إليه في قوام أمر المعاش كالطب و الحساب؛و تعلم الصنائع الضرورية كالخياطة و الفلاحة حتى الحجامة و نحوها، و قال بعض العلماء فرض الكفاية أفضل من فرض العين لأنّه يصان البعض به جميع المكلفين عن أئمتهم المترتب على تركهم له بخلاف فرض العين فإنه إنما يصان به عن الإثم القائم به فقط، و أما السنة فكتعلم نقل العبادات و الآداب الدينية و مكارم الأخلاق و شبه ذلك و هو كثير و منه تعلم الهيئة للإطلاع على عظمة اللّه تعالى و ما يترتب عليه من الهندسة و غيرها.

و بقي علوم أخرى بعضها محرم مطلقا كالسحر و الشعبذة و بعض الفلسفة،كل ما يترتب عليه إثارة الشكوك و بعضها محرم على وجه دون آخر كأحكام النجوم و الرمل فإنه يحرم تعلمها مع اعتقاد تأثيرها و تحقيق وقوعها و يباح مع اعتقاد كون الأمر مستندا إلى اللّه تعالى و إنه أجرى بالعادة كونها سببا في بعض الآثار و على سبيل التفاؤل كما قاله بعض الأصحاب؛و قد تقدم أن الأولى هو القول بتحريم تعلم علم النجوم و تعليمه مطلقا،و بعضها مكروه كأشعار المولدين المشتملة على الغزل و ترجية الوقت بالبطالة و تضييع العمر بغير فائدة،و بعضها مباح كمعرفة التواريخ و الوقائع و الأشعار الخالية عمّا ذكر مما لا يدخل في الواجب كأشعار العرب العارية التي تصلح للإحتجاج بها في الكتاب و السنة فإنها ملحقة باللغة،و باقي العلوم من الطبيعي و الرياضي و الصناعي أكثره موصوفا بالإباحة بالنظر إلى ذاته و قد يمكن جعله منه(مستحبا لتكميل النفس خ) و بالتكميل للنفس و إعدادها لغيره من العلوم الشرعية بتقويتها في القوة النظرية،قد يكون حراما إذا استلزم التقصير في العلم الواجب عينا أو كفاية كما يتفق كثيرا في زماننا هذا لبعض المحرومين الغافلين عن حقائق الدين.

ص:265

الفائدة الرابعة عشر في ترتيب العلوم بالنظر إلى المتعلم،إعلم أنه لكل علم من هذه العلوم مرتبة من التعلم لا بد لطالبه من مراعاتها لئلا يضيع سعيه و ليصل إلى بغيته بسرعة،و كم قد رأينا طلابا للعلم سنين كثيرة لم يحصلوا منه إلا القليل،و آخرين حصلوا منه كثيرا في مدة قليلة بسبب مراعاة ترتيبه،فينبغي أن يشتغل في أول أمره بحفظ كتاب اللّه تعالى و تجويده على الوجه المعتبر ليكون مفتاحا صالحا و معينا ناجحا فإذا فرغ منه اشتغل بتعلم العلوم العربية فإنها أول آلات الفهم و أعظم أسباب العلم الشرعي،فيقرأ أولا علم التصريف و يتدرج في كتبه من الأسهل إلى الأصعب حتى يتقنه و يحيط به علما،ثم ينتقل إلى النحو فيشتغل فيه على هذا النهج و يزيد فيه و الجد بالحفظ؛ثم ينتقل منه إلى بقية العلوم العربية،فإذا فرغ منها أجمع إشتغل بالمنطق و حقق مقاصده على النمط الأوسع و لا يبالغ فيه مبالغته في غيره لأن المقصود منه يحصل بدونه.

و حدثني جماعة من الثقاة أن السيد المحقق السيد صاحب المدارك و خاله الشيخ الأجل الشيخ حسن بن الشهيد الثاني ره كانا يقرءان في النجف الأشرف عند الزاهد الورع المولى أحمد الأردبيلي فقراء عليه من شرح الشمسية ما يتوقف عليه الإجتهاد من مباحث الألفاظ و بعض أحوال القضايا و القياسات و الظاهر أنه لا يزيد على عشرة دروس و قرءا من شرح مختصر بن الحاجب للعضدي ما يتوقف عليه أيضا الأجتهاد و هي دروس معدودة،و كان الجماعة الذين يقرأون عند المولى الأردبيلي يهزؤن بهما على هذا النمط من القراءة،فقال لهم المولى لا تهزؤا بهما فعن قليل يصلون إلى درجة الإجتهاد و أحتاج انا إلى أن آخذ تصديق اجتهادي عنهم (1)فكان الحال كما قال،فإنهم بلغوا رتبة التصنيف و الإجتهاد في مدة ثمان سنين،ثم إذا فرغ من المنطق إنتقل إلى علم الكلام و يتدرج فيه كذلك،ثم ينتقل منه إلى اصول الفقه متدرجا في كتبه و مباحثه و هذا العلم أولى بالعلوم تحريرا فلا يقتصر منه على القليل فبقدر ما تحقّقه يتحقّق عنده المباحث الفقهية؛ثمّ ينتقل منه الى علم دراية الحديث فيطالعه و يحيط بقواعده و ليس هو من العلوم الدقيقة و انّما هو من مصطلحات مدونة و فوائد مجموعة،فإذا وقف على مقاصده إنتقل إلى قراءة الحديث بالرواية و التفسير و البحث و التصحيح على حسب ما يقتضيه الحال و يسعه الوقت،و لا أقل من أصل منه يشتمل على أبواب الفقه و أحاديثه.

و كان شيخنا المعاصر أدام اللّه عزه يقول يكفي من الأصول الأربعة كتاب التهذيب ثم ينتقل منه إلى البحث عن الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام الشرعية فقد أفردها العلماء رضوان اللّه

ص:266


1- (1) هذا الكلام من المحقق الأردبيلي ره من باب التواضع.

تعالى عليهم بالبحث و خصوها بالتصنيف فليطالع فيها كتابا و أحسنها في هذه الأيام الآيات الأحكامية التي صنفها شيخنا الشيخ جواد الكاظمي تغمده اله برحمته (1)و استنباط الفروع من الأصول و استفادة الحكم من كتاب أو سنة من جهة النص أو الإستنباط من عموم لفظ أو إطلاقه و من حديث صحيح أو حسن أو غيرهما ليتدرب على هذه المطالب على التدريج؛و هذا لا يحصل إلا بقوة قدسية يمنحها اللّه سبحانه لعبده و لا حيلة للعبد فيها نعم للجد و المجاهدة و الإنقطاع إلى اللّه سبحانه أثرين في تحصيلها كما قال:و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و أن اللّه لمع المحسنين؛فإذا فرغ من ذلك كله شرع في تفسير الكتاب العزيز بأسره فكل هذه العلوم مقدمة له،فإذا وفق له فلا يقتصر على ما استخرجه المفسرون بأنظارهم فيه بل يكثر من التفكر في معانيه و يصفي نفسه للتطلع على خوافيه و بتهل إلى اللّه تعالى في أن يمنحه من لدنه فهم كتابه و أسرار خطابه،فحينئذ يظهر عليه من الحقائق ما لم يصل إليه غيره من المفسرين،لأن الكتاب العزيز بحر لجيّ في قعره درر و في ظاهره خبر،و الناس في التقاط درره و الإطلاع على بعض حقائقه على مراتب و من ثم ترى التفاسير مختلفة حسب اختلاف أهلها فيما يغلب هليهم.

فمنها ما يغلب عليه العربية ككشاف الزمخشري،و منها ما يغلب عليه الحكمة و البرهان الكلامي كما فتح الغيب للرازي،و منها ما يغلب عليه القصص كتفاسير الثعلبي و منها ما يسلط على تأويل الحقائق دون التفسير الظاهر كتفسير عبد الرزاق الكاشي إلى غير ذلك من المظاهر فإذا فرغ من ذلك و أراد الترقي و تكميل النفس فليطالع كتب الحكمة من الطبيعي و الرياضي و الحكمة العملية المشتملة على تهذيب الأخلاق في النفس و ما خرج عنها من ضرورات دار الفنا،ثم ينتقل بعده إلى العلوم الحقيقية و الفنون الخفية فإنها الباب لهذه العلوم و نتيجة كل معلوم و بها يصل إلى درجة المقربين و يحصل على مقاصد الواصلين،هذا كله ترتيب من هو أهل لهذه العلوم و له استعداد لتحصيله و نفس قابلة لفهمها،فأما القاصرون عن درك هذا المقام و الممنوعون بالعوائق عن الوصول إلى هذا المرام فليقتصروا منها على ما يمكنهم الوصول إليه متدرجين فيه حسب ما دللنا عليه،فإن لم يكن لهم بد من الأقتصار فلا أقل من الإكتفاء بالعلوم الشرعية و الأحكام الدينية،فإن ضاق الوقت و ضعفت النفس عن ذلك فالفقه أولى من الجميع فبه قامت النبوات و انتظم أمر المعاش و المعاد مضيفا إليه ما يجب مراعاته من تهذيب النفس و إصلاح القلب ليترتب عليه العدالة التي بها قامت السموات و الأرض و التقوى الذي هو ملاك الأمر فإذا فرغ عما خلق له من العلوم فليشتغل بالعمل الذي هو زبدة العلم و علة الخلق قال اللّه تعالى و ما خلقت الجن

ص:267


1- (1) هو تلميذ الشيخ البهائي قدس سره و كتابه في آيات الأحكام و هو كتاب جليل من نفائس الآثار.

و الإنس إلا ليعبدون،و ما أجهل و أخسر و أحمق من يتعلم صنعة لينتفع بها في أمر معاشه ثم يصرف عمره و يجعل كده في تحصيل آلاتها من غير أن يشتغل بها اشتغالا لا يحصل به الغرض منها و كم قد رأينا في شيراز و أصفهان من طالب اشتغل بالمقدمات و أمعن النظر فيعا حتى انقضى عمره و لم يعرف شيئا من العلوم الشرعية،و ربما آل الأمر إلى احتقارها و احتقار من يعرفها بل يعدون الفقيه حمارا و ليس هذا إلا من عدم ثبات الأيمان في قلوبهم.

و اعلم أن ترتيب العلوم على نحو ما ذكرنا مأخوذ من كلام شيخنا الشهيد الثاني نور اللّه ضريحه بل أكثر فوائد هذا النور مأخوذة من كلامه و لا عيب علينا في أخذ كلامه لأنه البحر الذي عرف منه المتأخرون بأسرهم و حيث أنك قد عرفت أولا أن الأذهان تحتاج إلى تشحيذ لأنها تكل كما كل الأبدان و تشحيذها إنما يكون بلطائف العلوم و غوامض الفنون و هو الذي فهمه المحققون من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم روحوا ارواحكم ببدايع الحكمة فإنها تكا كما تكل الأبدان، فلا بأس بذكر نور يشتمل على لعض ما في الفنون من الؤعربية و غيرها و اللّه الموفق.

كان من قصد الناشرين للكتاب بهذه الحلة الرائقة أتمام طبعه في ثلاث أجزاء على حسب تجزئتهم في الطبع كما ذكروا ذلك في إعلان نشر الكتاب و قبوضه و لكن الكتاب لم يتم و احتاج إلى جزء آخر فانتظروا الجزء الرابع و به يتم الكتاب و سيصدر عن قريب أن شاء اللّه تعالى.

بسمه تعالى

نجز الجزء الثالث من الكتاب على حسب تجزئتنا في الطبع و يليه الجزء الرابع و أوله:(نور في بعض التراكيب المشكلة و الأخبار الدقيقة)و نسأل اللّه تعالى التوفيق لأتمامه و الحمد للّه أولا و آخرا و صلّى اللّه على سيدنا محمد و آله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين و قد تصدى لتصحيحه و بذل الجهد فيه:عمران بن على حسين ال(غريبدوستي)عفا اللّه عنه و وفقنا اللّه تعالى لأتمامه في أوائل شهر محرم الحرام سنة:(1380)ه ق المطابق(1339)ه ش.

ص:268

الفهرست

(نور يكشف عن احوال الغيبة)3

(نور يكشف عن الحسد و النميمة و لواحقهما)13

(نور في الكبر و الفخر و علاجاتهما و ما يناسب ذلك)18

(نور يكشف عن تحريم معونة الظالمين مطلقا)29

نور يكشف عن الكذب و عن عظم خطره و عن توابعه و لواحقه 37

(نور يكشف عن الربا و احكامه و لواحقه)43

نور يكشف عن الكفر و عن حقيقة الشرك و اقسامه و توابعه المتعلقة به 45

نور يكشف عن عقوق الوالدين و عما توعد عليه من العذاب و ما يتبعه من قطيعة الرحم 55

(نور في حب الدنيا و اسبابه و علاماته)62

(نور في لذات الدنيا بانواعها)76

نور في التوبة و ما يتعلق بها من الأحكام و المعارف 99

نور في الحب و درجاته و علاماته و توابعه و ما يتعلق بذلك 111

نور في الصبر و أقسامه و محاله و فوائده و ما يتعلق به من المناسبات 139

نور في بعض احوال واقعة الطفوف و شهادة مولانا ابي عبد اللّه الحسين(ع)167

(نور في الفقر و الزهد و التوكل)187

نور في احوال الملوك و الولاة و كيفية ما ينبغي لهم من السلوك في أنفسهم و مع رعيتهم و ما يلحق بهذا 210

(نور في احوال العالم و المتعلم و كيفية آدابهما)240

ص:269

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.