ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة
السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني
تعداد جلد: 9 ج
زبان: عربی
موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه
خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی
ص:1
ص: 2
ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)
في مكّة المكرّمة
القسم الثامن( كتب أهل الكوفة ورُسُلهم )
تأليف:
السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني
ص: 3
ص: 4
سجّل لنا التاريخ حدَثاً اعتبروه من الأحداث المهمّة خلال فترة إقامة سيّد الشهداء وإمام السعداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة، حيث بعث بعض أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) جُملةً من الكتب والرسائل يدعونه إلى القدوم عليهم.
كما سجّل اجتماعاً لبعض الشخصيّات في بيت سليمان بن صُرد الخزاعيّ، أنتج كتاباً هو الأشهر والأهمّ، بعثوا به إلى الإمام الحسين (علیه السلام) .
نحاول في هذه الدراسة استكشاف هذا الاجتماع اليتيم، والكتب الّتي وصلَت إلى الإمام (علیه السلام) ، وهي لا تزيد على المئة والستّة والخمسون كتاباً على أقصى التقادير!
مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يكاتبهم، وإنّما كانوا هم الّذين بادروا بالكتابة!
ص: 5
ص: 6
قالوا: ولمّا بلغ أهلَ الكوفة وفاةُ معاوية وخروجُ الحسين بن عليٍّ إلى مكّة، اجتمع جماعةٌ من الشيعة في منزل سُليمان بن صُرَد، واتّفقوا على أن يكتبوا إلى الحسين يسألونه القدوم عليهم؛ ليسلّموا الأمر إليه ويطردوا النعمان بن بشير ((1)).
قال أبو مِخنَف: فحدّثَني الحجّاج بن عليّ، عن محمّد بن بشير الهمدانيّ قال:
اجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد، فذكرنا هلاك معاوية
ص: 7
فحمدنا الله عليه، فقال لنا سليمان بن صُرد: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهل والفشل فلا تغرّوا الرجُل من نفسه. قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه ((1)).
قال: وبلغ ذلك أهلَ الكوفة أنّ الحسين بن عليٍّ قد صار مكّة.
قال: واجتمعَت الشيعة في دار سليمان بن صُرد الخزاعيّ، فلمّا تكاملوا في منزله قام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) وعلى أهل بيته، ثمّ ذكر أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فترحّم عليه وذكر مناقبه الشريفة، ثمّ قال: يا معشرَ الشيعة! إنّكم قد علمتُم بأنّ معاوية قد صار إلى ربّه وقدم على عمله، وسيجزيه الله (تبارك وتعالى) بما قدّم من خيرٍ أو شرّ، وقد قعد في موضعه ابنُه يزيد _ زاده الله خزياً _، وهذا الحسين بن عليٍّ قد خالفه، وصار إلى مكّة خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعتُه وشيعةُ أبيه من قبله، وقد احتاج إلى
ص: 8
نصرتكم اليوم، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه.
فقال القوم: بل ننصره ونقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه، حتّى ينال حاجته.
فأخذ عليهم سليمان بن صُرد بذلك ميثاقاً وعهداً أنّهم لا يغدرون ولا ينكثون.
ثمّ قال: اكتبوا إليه الآن كتاباً من جماعتكم أنّكم له كما ذكرتم، وسلوه القدوم عليكم. قالوا: أفلا تكفينا أنت الكتاب إليه؟ قال: لا، بل يكتب جماعتُكم ((1)).
وبلغ أهلَ الكوفة هلاكُ معاوية (عليه الهاوية)، فأرجفوا بيزيد، وعرفوا خبر الحسين (علیه السلام) وامتناعه من بيعته، وما كان مِن أمر ابن الزُّبير في ذلك وخروجهما إلى مكّة، فاجتمعَت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ ... ((2)).
ص: 9
ثمّ ذكر لفظَ الطبريّ.
وبلغ أهلَ العراق امتناعُ الحسين من البيعة ليزيد وأنّه لحق بمكّة، فأرجفوا بيزيد.
ثمّ إنّ أهل الكوفة من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) اجتمعوا ((1)).
بلغ أهلَ الكوفة هلاكُ معاوية، وعرفوا خبر الحسين، فاجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ، وقالوا: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ الحسين خرج إلى مكّة، وأنتم شيعتُه وشيعةُ أبيه، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه ((2)).
وقام سليمان بن صُرد بالكوفة فقال: إنْ كنتم تعلمون أنّكم تنصرون حسيناً فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الفشل فلا تغرّوه. قالوا:بل نقاتل عدوَّه ((1)).
ولمّا بلغ أهلَ الكوفة موتُ معاوية وامتناعُ الحسين وابنِ عمر وابنِ الزُّبير عن البيعة، أرجفوا بيزيد، واجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ، فذكروا مسير الحسين إلى مكّة ((2)).
ورويتُ: أنّه لمّا بلغ أهلَ الكوفة موتُ معاوية وأنّ الحسين (علیه السلام) بمكّة، اجتمعَت الشيعة في دار سليمان بن صُرد الخزاعيّ، فقال لهم: إنّ معاوية هلك، وإنّ الحسين قد تعيّص على القوم ببيعته، وخرج إلى مكّة هارباً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعتُه وشيعة أبيه، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل بنفسه.
ص: 11
قالوا: بل نقاتل عدوَّه ونقتل أنفسنا دونه ((1)).
قال ابن إسحاق: فلمّا بلغ الشيعة بالكوفة أنّ الحسين بمكّة وأنّه قد امتنع من بيعة يزيد، اجتمعوا في منزل سليمان بن صُرد، فقاللهم: يا قوم، قد امتنع الحسينُ من بيعة يزيد، وأنتم شيعةُ أبيه، فإنْ كنتم تنصروه وتجاهدوا عدوَّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجُل بنفسه. فقالوا: لا والله، بل ننصره ونبذل نفوسنا دونه ((2)).
قال: وسمع أهلُ الكوفة بوصول الحسين (علیه السلام) إلى مكّة وامتناعِه من البيعة ليزيد، فأجمعوا في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ، فلمّا تكاملوا قام سليمان بن صُرد فيهم خطيباً، وقال في آخِر خطبته: يا معشرَ الشيعة، إنّكم قد علمتُم بأنّ معاوية قد هلك وصار إلى ربّه وقدم على عمله، وقد قعد في موضعه ابنُه يزيد، وهذا الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) قد خالفه، وصار إلى مكّة هارباً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعتُه وشيعة أبيه من قبله، وقد احتاج إلى
ص: 12
نصرتكم اليوم، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجُل من نفسه ((1)).
ولمّا بلغ أهلَ الكوفة موتُ معاوية وامتناعُ الحسين وابنِ عمر وابنِ الزُّبير من البيعة، وأنّ الحسين سار إلى مكّة، اجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد بالكوفة، وتذاكروا أمر الحسين ومسيره إلى مكّة، قالوا: نكتب إليه يأتينا الكوفة ((2)).
فلمّا بلغ أهلَ الكوفة وفاةُ معاوية (لعنه الله)، امتنعوا من البيعة ليزيد (لعنه الله)، وقالوا: لقد امتنع الحسين (علیه السلام) من البيعة ليزيد (لعنه الله)، وقد لحق بمكّة، ولسنا نبايع يزيد (لعنه الله).
قال أبو مِخنَف: وكان عامل الكوفة يومئذٍ النعمانَ بن بشير الأنصاريّ، فاجتمع من الشيعة جماعةٌ إلى منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ وقالوا: نكتب إلى الحسين (علیه السلام) . فقال لهم: يا معشر الناس،
ص: 13
إنّ معاوية قد هلك، وقد امتنع الحسين (علیه السلام) من البيعة، ونحن شيعتُه وأنصاره، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم تنصرونه وتجاهدون بين يديه فافعلوا، وإنْ خفتم الوهن والتخاذل فلا تغرّوا الرجل. فقالوا: بل نقاتل عدوَّه. فقال: اكتبوا على اسم الله (تعالى) ((1)).
في مفاخرةٍ طويلةٍ جدّاً بين أبي بكر وابن عيّاش في محضر الملك أبي العبّاس:
... وعبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث الكنديّ ...
فقال أبو بكر: هذا الّذي سلب الحسينَ بن عليٍّ قطيفة، فسمّاه أهل الكوفة: عبد الرحمان قطيفة، فقد كان ينبغي أن لا تذكره. فضحك أبو العبّاس من قول أبي بكر.
فقال ابن عيّاش: والّذي سار تحت لوائه أهلُ الكوفة والبصرة وجماعةُ أهل العراق وبالكوفة من أحياء العرب بأسرهم، ما ليس بالبصرة منهم إلّا أهل بيتٍ واحد، وهم الّذين يقول فيهم عليّ بن أبي طالب:
«لو
كنتُ بوّاباً على باب جنّةٍ
لَقلتُ لهمدان: ادخُلي
بسلامِ»
ص: 14
فقال أبو بكر: فهل فيمن سمّيت أحدٌ إلّا قاتَلَ الحسينَ بن عليٍّ وأهل بيته، أو خذلهم أو سلبهم وأوطأ الخيل صدورهم؟
فقال ابن عيّاش: تركت الفخر وأقبلت على التعيير، أنتم قتلتم أباه عليَّ بن أبي طالب، فأمّا أهلُ الكوفة فكان منهم مع الحسين يوم قُتِل أربعون رجُلاً، وإنّما كان معه سبعون رجُلاً، فماتواكلُّهم دونه، وقتل كلُّ واحدٍ منهم عدوَّة قبل أن يُقتَل.
فقال أبو بكر: إنّ أهل الكوفة قطعوا الرحم ووصلوا المثانة، كتبوا إلى الحسين بن عليٍّ أنّا معك مئة ألف، وغرّوه، حتّى إذا جاء خرجوا إليه فقتلوه وأهلَ بيته صغيرَهم وكبيرَهم، ثمّ ذهبوا يطلبون دمه، فهل سمع السامعون بمثل هذا؟
فقال ابن عيّاش: ومن أهل الكوفة أبو عبد الله الجدليّ، الّذي صار ناصراً لبني هاشم حين حصرهم ابن الزبير، وكتب ابنُ الحنفيّة يستنصرهم، فسار في عدّةٍ ممّن كان مع ابن الزبير، حتّى صيّر الله بني هاشم حيث أحبّوا، فهل كان فيهم بصريّ؟ ((1))
* * * * *
يمكن استعراض ما في هذه المتون من خلال التنويه إلى عدّة نكات:
ص: 15
ورد في المتون أنّ شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) اجتمعوا في بيت سليمان بن صُرد.
وحينما نرجع إلى نصوص الاجتماع ونصوص الكتاب المرسَل الّذي خرج به المجتمعون، لا نجد اسماً لامعاً من أسماء شيعة الإمام أميرالمؤمنين (علیه السلام) بالمعنى المصطلَح للتشيّع، أي: اعتقاد إمامة الإمام وفق بيعة الغدير.
أجل، ورد اسم حبيب بن مظاهر عند البلاذريّ ((1)) في مقدّمة الكتاب، ثمّ جاء عند بعض مَن تأخّر عنه وليس جميعهم، ولم يرد اسمُه في الحاضرين في الاجتماع صراحة، وذِكره في الكتاب لا يفيد بالضرورة حضوره، فربّما أدرجوا اسمه في الكتاب وأعلموه بذلك فرضيَ به.
فأين كان الأبطال من الشيعة والأبرار من أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) ، الّذين خرجوا من الكوفة والتحقوا به ولازموه حتّى الشهادة، من أمثال عابس بن أبي شبيب وأبي ثُمامة الصائديّ ومسلم بن عوسجة، وغيرهم الكثير الّذين رأيناهم يقفون شامخين بين يدَي سفير الحسين مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، ورأيناهم بين يدَي الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في طفّ كربلاء؟
لقد كانت جماجم الشيعة ورؤوسهم ورجالهم يقطنون الكوفة يومذاك،
ص: 16
وفيهم من الصحابة والتابعين وصناديد المقاتلين، وإذا أردنا حصر أسمائهم في مسردٍ لَطال بنا الأمر، والحال أنّ المتون التاريخيّة لا تشير إلى أحدٍ منهم، لا في أحداث الاجتماع ولا في متن الكتاب!
واكتفَت النصوص بالتصريح بجملةٍ من الأسماء الّتي سنأتي علىذِكرها بعد قليل.
فمن هم هؤلاء الشيعة المجتمعون في دار سليمان بن صُرد، بحيث يعبّر عنهم المؤرّخ بقوله: فلمّا تكاملوا في منزله ((1))؟ وهو تعبيرٌ يفيد أنّهم عددٌ محصورٌ معروفٌ كانوا ينتظرون لمّ شمله واجتماع أفراده، فلمّا تكاملوا بدؤوا بالحديث..
كم كان عددُهم؟
ما هي انتماءاتهم القبليّة؟
كيف اجتمعوا؟
مَن الّذي دعاهم للاجتماع؟
ما المقصود بالشيعة الّذين اجتمعوا؟ هل هم الشيعة بالمعنى العقائديّ، أو الشيعة بالمعنى اللغويّ، أي: مَن كان هواهم في أهل البيت
ص: 17
وإن كانوا من أتباع السقيفة ورموزها، مقابل مَن كان هواهم في بني أُميّة؟
هل حضروا في الاجتماع ككياناتٍ عشائريّةٍ ووجودات قبليّة، أو أنّهم حضروا كأفرادٍ متفرّقين كلٌّ يمثّل نفسه؟ كما فعلوا حين كتبوا كتباً متفرّقةً متناثرةً تطايرت نحو الإمام (علیه السلام) .
كان الشيعة في الكوفة قليلين، ورغم قلّتهم يعدّون أكثر عدداً بالنسبة إلى الأمصار الأُخرى، وكانت بعض القبائل القاطنة في الكوفة تُحسَب _ على العموم _ فيمن هواهم في أهل البيت (علیهم السلام) ، من قبيل قبيلة هَمْدان الكبيرة الواسعة.
وكانت الأحداث تغلي وتتسارع.. وقد بلغ خبر تقبُّض الإمام (علیه السلام) عن البيعة الكوفةَ، فسارع هؤلاء القوم إلى عقد هذا الاجتماع الطارئ، وكتبوا كتاباً، ثمّ خمدَت الأنفاس، وسكنت الأجراس، وخفتَتْ نيران المراجل، وكأن لم يكن شيئاً بعد ذلك الاجتماع!
فهو _ على ما يبدو من النصوص التاريخيّة _ اجتماعٌ يتيمٌ ليس له ثانٍ.. اجتمعوا مرّةً واحدةً وكتبوا، ثمّ تفرّقوا، ولم يجتمعوا بعدها ليتابعوا الأُمور، رغم طول الفترة بين كتابتهم وبلوغ الرسُل مكّة وعودتهم مع سفير الحسين المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهم السلام) ، وطول الفترة بين دخول ابن زيادٍ الكوفة وانقلاب الّذين بايعوا ثمّ نكصوا.
ص: 18
فالاجتماع فورةٌ سرعان ما سكنَت، وفقاعةٌ لم تنتفخ حتّى انفجرَت، وهي حالةٌ طارئة، وليست ظاهرةً يمكن الحساب عليها وتسجيلها كحِراكٍ يعبّر عمّا سيتلوه من الأحداث!
أجل، انفرد مسكوَيه بتصوير كتابة الكتب والرسائل بصيغةٍ خاصّةٍ تفيدتكرّر الاجتماع، حيث قال:
فكاتبوا الحسينَ بن عليّ ...
ثمّ ذكر نصَّ الكتاب، ثمّ قال:
ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة، مِثل سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وأشباههم، وكتبوا إليه ...
ثمّ ذكر نصّ الكتاب المختصر، ثمّ قال:
ثمّ اجتمعوا ثالثةً، فكتبوا إليه ...
ثمّ ذكر كتاب شبث بن ربعيّ وجماعته ((1)).
فهو لا يفيد تكرُّر الاجتماع من نفس القوم الّذين كتبوا للوهلة الأُولى، وأنّ كلّ جماعةٍ كتبت تابعت الاجتماع باجتماعاتٍ أُخرى متلاحقة، وإنّما يفيد أنّ ثَمّة ثلاث جماعاتٍ اجتمعَت، كلُّ جماعةٍ على حدة، وكتبت كتاباً.. كتبت الجماعة الأُولى، ثمّ اجتمع سليمان وجماعته فكتبوا، ثمّ اجتمع شبث بن ربعيّ وجماعته فكتبوا..
ص: 19
وهو تصويرٌ انفرد به مسكويه، ولم نجد له ذِكراً عند الآخَرين _ حسب فحصنا _، فربّما فهم هو أنّ كلّ كتابٍ من الكتب كان نتيجةً أفرزها اجتماع.
يؤكّد النصّ التاريخيّ على أنّ المجتمعين هم الشيعة، بل صرّح بعضهم أنّهم شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .
وحين يدخل المؤرّخ في شرح التفاصيل، لا يذكر لنا سوى بعض الأسماء المخدوشة، عدا المولى حبيب بن مظاهر!
ونحن لا يسعنا متابعة صحّة ما يرويه المؤرّخ وسقمه ومدى صدقه وكذبه؛ إذ أنّه أعرض عن ذِكر الأسماء وتعدادها، ولم يذكر لنا التفاصيل المتعلّقة بالحاضرين، فمن أين يمكننا التعرّف إلى الحاضرين، لنتوثّق إن كانوا من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) حقّاً، أو أنّهم من الزبد الطافح الّذي ركب الأمواج تلك الأيّام من أتباع السقيفة والخوارج الّذين كانوا يتحيّنون الفرص ليقاتلوا الأُمويّين أو العلويّين على حدٍّ سواء، فكانت كفّتهم تميل تلك الأيّام بالذات إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ليقاتلوا تحت رايته الأُمويّين، أو كانوا من الانتهازيّين الّذين يريدون انتهاز الفرصة لقطف ثمار الدنيا الّتي كانت تتراءى لهم بعد هلاك معاوية، فلمّا حضروا في ذلك الاجتماع سمّاهم الراوي والمؤرّخ بالشيعة؟!
ص: 20
ربّما كان فهم المؤرّخ من الأحداث دعاه لتصنيفهم في الشيعة.. مَن يدري؟ إذ أنّه لم يذكر عدداً مقبولاً من الحاضرين بحيث يمكن تمييز جُلّالحضور من خلال الرؤوس وكبار الشخصيات الّذين حضروا!
بعد أن ترك المؤرّخ التفاصيلَ المتعلّقة بالحضور، وغبّش الصورة وتركها مموَّهةً موهومةً غائمةً غامضة، اقتصر على ذِكر بعض الأسماء فقط باعتبارهم الرؤوس وكبار الشخصيّات والذوات المتعيّنة من الشيعة الّتي أدارت الاجتماع، ونوّه المؤرّخ بأسمائهم..
وحينما نراجع النصوص _ سواءً المجتمعين أو المكاتبين _، تطالعنا أسماءٌ خذلَت سيّد الشهداء (علیه السلام) في محنته واختفَتْ بعد ذلك الاجتماع، ولم تظهر إلّا بعد سنواتٍ من شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كسليمان ورفاعة والمسيّب..
فلماذا هذا التركيز على تسمية الاجتماع باسم شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ثمّ التركيز على اسم جماعةٍ من الخاذلين المحسوبين على الشيعة دون غيرهم؟!!
كان هؤلاء المكاتبون _ حسب المتون _ الّذين نصّ عليهم المؤرّخ، كسليمان ورفاعة والمسيّب، في عداد الشيعة، بَيد أنّهم خذلوا الإمام (علیه السلام) ، وإنْ كفّروا عن ذلك بما سُمّي في التاريخ ب-- (حركة التوّابين)، غير أنّهم خذلوه
ص: 21
في ساعة العُسرة، فجاء المؤرّخ ليسلّط الضوء عليهم دون غيرهم من الشيعة، ويكشف عن اجتماعهم ومكاتبتهم، ثمّ سرّب خذلانهم تسريباً بتجاهل مواقفهم أيّام الحسين (علیه السلام) ، وأبرزهم بعد سنواتٍ حين قاموا بحركتهم.
هل كان قصد المؤرّخ أن يركّز في الأذهان ما روّج له العدوّ _ ولا زال يروّج _ من أنّ الشيعة هم الّذين دعوا إمامهم، ثمّ خذلوه، وعدَوا عليه فقتلوه، وليس لبني أُميّة وعساكرها وليزيد وجنوده دورٌ سوى الاستجابة إلى حركة الشيعة وخذلانهم وغدرهم؟!
سيّما إذا لاحظنا أنّ المؤرّخ يحشر جميع مَن كاتب الإمام (علیه السلام) تحت عنوان الشيعة، بما فيهم شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر وابن رويم وغيرهم من المنافقين والملعونين، كما فعل _ مثلاً _ ابنُ حبّان:
ووردَت على الحسين كتبُ أهل الكوفة من الشيعة يستقدمونه إيّاها ((1)).
هم الشيعة أنفسهم _ حسب تصوير المؤرّخ واقتصاره على التنصيص على أسماء بذاتها _ اجتمعوا في بيت سليمان بن صُرد، فدعوا الإمام (علیه السلام) ، ثمّ خذلوه، ثمّ اجتمعوا مرّةً أُخرى في بيت سليمان نفسه ((2))، فقرّروا التكفير
ص: 22
عن خذلانهم بحركتهم الّتي سُمّيَت بحركة التوّابين!
لم يذكر لنا المؤرّخ تاريخاً محدَّداً للاجتماع، بيد أنّ الواضح أنّه كان بعد هلاك معاوية في الفترة الّتي كان فيها الإمام أبو عبد الله (علیه السلام) في مكّة، وكان الوالي على الكوفة النعمانُ بن بشير.
وربّما كان في ما رواه المؤرّخ في ذيل الكتاب الّذي كتبه سيلمان وصحبه عند ذكره لوصول الرسل إلى الإمام (علیه السلام) في مكّة، ما يفيد تاريخاً تقريباً.
ذكر أبو طالب الزيديّ في (الإفادة)، قال:
ووردَت عليه كتبُ أهل الكوفة، كتابٌ بعد كتابٍ _ وهو بمكّة _ بالبيعة، في ذي الحجّة من هذه السنة ((1)).
وهذا يعني أنّ الكتب وصلَت إلى الإمام (علیه السلام) في شهر ذي الحجّة من نفس السنة الّتي توجّه فيها الإمام (علیه السلام) إلى العراق، أي: في الشهر الأخير من إقامته في مكّة، بل في الأيّام الأخيرة، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) خرج من مكّة في
ص: 23
الثامن من ذي الحجّة، فيلزم أن تكون الكتب قد وصلَت في الأُسبوع الأوّل من الشهر، قبل خروج الإمام (علیه السلام) .
ويبدو أنّ هذا التاريخ بعيدٌ جدّاً، ولا يكاد يُصدَّق بحال، إذ أنّ المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) قد خرج من مكّة في النصف من شهر رمضان، وكان توجيهه إلى الكوفة ردّاً على الكتب الّتي وصلَت منهم.
ومعنى أنّ الكتب وصلَت في ذي الحجّة أنّ الرسُل قد خرجوا من الكوفة في النصف من ذي القعدة أو في بداية العقد الثاني منه، وهو وقتٌ متأخِّرٌ جدّاً حسب مجريات الأحداث في الكوفة.
وكان المولى الغريب مسلم (علیه السلام) قد دخل الكوفة وباشر عمله، وكان الناس قد توجّهوا _ حسب الفرض _ للتعامل مع رسول الإمام (علیه السلام) ، وتركوا المراسلة كما يفيد التاريخ.
فيبعد حينئذٍ حتّى افتراض أن تكون الكتب والرسائل مستمرّةً إلى ذي الحجّة من تلك السنة!
إنّ أوّل الرسل قد وصلَت إلى الإمام (علیه السلام) في العاشر من شهر رمضان.
قالوا:
وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبيع الهمدانيّ وعبد الله بن وال التَّيميّ، فقَدِما بالكتاب على الحسين لعشر ليالٍ خلَون من شهر
ص: 24
رمضان بمكّة ((1)).
وكانوا قد أمروا الرسولَين بالنجاء، فخرجا مسرعَين ((2)) حتّى قدما على سيّد الشهداء (علیه السلام) .
فإذا افترضنا الطريقَ للمُجِدّ المسرع من الكوفة إلى مكّة عشرين يوماً على أقصى التقادير، إذ أنّهما فردان رسولان بريدان، وليس معهما ما يعوقهما من متعلّقات القوافل ومعوّقات السفر، فسيكون خروجهما من الكوفة في العشرين من شهر شعبان تقريباً.. وقد صرّح السيّد بحر العلوم أنّهم كتبوا إليه في أواخر شعبان ((3)).
ص: 25
أي: إنّ الاجتماع كان بعد أقلّ من عشرين يوماً من دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، وقبل مدّةٍ مديدةٍ من خروجه من مكّة إلى العراق، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) أقام في مكّة شعبان وشهر رمضان وشوّال وذا القعدة، وخرج في الثامن من ذي الحجّة.
سيأتي _ بعد قليلٍ _ الكلام عن دواعي كتابة الكتاب، والبحث متداخل، بَيد أنّنا حاولنا الفرز باعتبار أنّ الكتاب ودواعيه كانت متأخّرةً عندواعي الاجتماع.. فيمكن أن نستخلص دواعي الاجتماع ممّا دار فيه من حوارٍ أو خطبة، ويمكن استخلاص دواعي الكتاب من ألفاظ الكتاب نفسه ومقدّماته.
ويمكن تلخيص ما ورد في النصوص ممّا يفيد ذلك بما يلي:
- بلوغ خبر هلاك معاوية.
- إرجافهم بيزيد.
- تقبُّض الإمام (علیه السلام) عن البيعة.
- خروج الإمام (علیه السلام) إلى مكّة.
- دعوة القوم إلى نصرة الإمام (علیه السلام) ، على التفصيل الآتي.
وجمعَها الشيخ المفيد وغيره في العبارة التالية:
وبلغ أهلَ الكوفة هلاكُ معاوية (عليه الهاوية)، فأرجفوا بيزيد،
ص: 26
وعرفوا خبر الحسين (علیه السلام) وامتناعه من بيعته، وما كان من أمر ابن الزبير في ذلك، وخروجَهما إلى مكّة، فاجتمعَت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صُرد الخزاعيّ ... ((1)).
- الاتّفاق على الكتابة إلى الحسين (علیه السلام) يسألونه القدوم عليهم، ليسلّموا الأمر إليه ويطردوا النعمان بن بشير ((2)).
يُلاحَظ أنّ الاجتماع كان في منزل سليمان بن صُرد، وكان المتكلّم الوحيد والخاطب الوحيد في الاجتماع هو سليمان بن صُرد، وجاء الردّ من القوم على كلام سليمان بن صُرد، ولم تحصل أيّ مداخلات، ولم يوجَّه الكلام لأيّ أحدٍ سوى سليمان بن صُرد، وسيأتي بعد قليلٍ أنّ الذي ردّ عليهم وأمرهم بالكتابة هو سليمان بن صُرد، وحينما طلبوا أن يكتب عنهم أبى وطلب منهم أن يكتبوا هم.
ص: 27
ثمّ جاء الكتاب مصدّراً باسم سليمان بن صُرد، وكان أوّل مَن مُحي عن صفحة التاريخ بعد الكتاب وضُبط اسمه في الخاذلين هو سليمان بن صُرد.
ثمّ جاء المؤرّخ لينقل الحدَث باسم شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ! أوَليس في ذلك حيّزٌ واسعٌ لمن أراد التأمّل؟!
كيف كان، يمكن اختصار محتويات خطاب سليمان بن صُرد في النقاط التالية:
- إعلان خبر هلاك معاوية، وأنّ يزيد قعد مكانه.
- إعلان تقبُّض الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عن البيعة.
- إعلان خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة.- ذِكر علّة خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة، وأنّه صار إلى مكّة هارباً خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان ((1)).
- لذلك فهو «قد احتاج إلى نصرتكم اليوم» ((2)).
ص: 28
- خاطب الحاضرين باعتبارهم شيعة الإمام الحسين وشيعة أبيه (علیهما السلام) .
- أخبرهم على نحو الشرط إنْ كانوا يعلمون من أنفسهم أنّهم ناصروه ومجاهدو عدوّه فلْيكتبوا له.
- قدّم لهم الخيار الثاني إنْ هم خافوا الوهن والفشل فلا يغرّوا الرجُل ولا يكتبوا له ((1)).
يبدو أنّ سليمان لم يكن واثقاً جدّاً من القوم الّذين يخاطبهم، ولذا ذكر لهم الشرط.
وما يبدو بوضوحٍ من كلام ابن صُرد _ إلى هنا _ أنّ ما بلغهم هو تقبُّض الإمام (علیه السلام) عن البيعة فقط، وأنّ حياته تعرّضَت للخطر الفعليّ القطعيّ الجدّيّ، ممّا اضطرّه للخروج من المدينة ودخوله مكّة هارباً خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان..
ص: 29
بمعنى أنّ الإمام (علیه السلام) ملاحَقٌ مطلوب الدم، قد عزم العدوّ وأقدم على قتله، وهو يحتاج _ على حدّ تعبير سليمان _ إلى نصرتهم..
ويبدو أنّ الأمر والمطلب الّذي تقدّم به سليمان وما شرحه للقوم وما انتدبهم له بمكانٍ من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى مزيد بيانٍ وتفسيرٍ وتوضيح، ولمن تخلّى عن سوابقه الذهنية _ المقدّسة عنده _ أن يفهم كلام سليمان دون تكلُّفٍ ولا تحميلٍ ولا إضافاتٍ ولا رتوش!
الإمام مهدَّدٌ بالقتل، يلاحقه طواغيت آل أبي سفيان، وقد دخل مكّة نتيجةً لذلك، وهو الآن يدعوهم لنصرته.
لم يبلغ القومَ _ حسب تصريحاتهم _ عن الإمام (علیه السلام) شيءٌ سوى أنّه تقبّض عن البيعة ليزيد، ثمّ خرج إلى مكّة خوفاً من طواغيت آل أبي سفيان أن يقتلوه.. هذا الّذي بلغهم عن الإمام (علیه السلام) فحسب، ولم يبلغهم شيءٌ آخَر يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) قد بيّت أمراً أو عزم عزماً خاصّاً..
نحسب أنّ القضية واضحة، أليس كذلك؟!
ومن الغريب أنّ الكتب تضمّنَت أشياء أُخرى سوى قضيّة خروج الإمام الحسين (علیه السلام) خائفاً من طواغيت آل أبي سفيان، كما سنسمع بعد قليل، فكيف أنتجَت خطبة سليمان ذلك الكتاب وما حواه؟!
إنفرد الدينوريّ بنقل نتيجة الاجتماع كتقريرٍ صاغه بنفسه من دون
ص: 30
حكايةٍ للأحداث، فقال:
واتّفقوا على أن يكتبوا إلى الحسين يسألونه القدوم عليهم، ليسلّموا الأمر إليه ويطردوا النعمان بن بشير ((1)).
فهو لم يذكر جواب القوم وما صرّحوا به، ولم يروِ ما قاله سليمان.
ويبدو ما في الصياغة من خُبثٍ واستنتاجٍ خطيرٍ لم نسمع له أيَّ أثرٍ في كلام سليمان، ولا في جواب القوم الحاضرين، فمن أين استفاد الدينوريّ أنّهم يريدون أن «يسألونه القدوم عليهم؛ ليسلّموا الأمر إليه ويطردوا النعمان بن بشير»؟!
والحال أنّ سليمان حينما عرض عليهم الحال ذكر لهم خروج الإمام (علیه السلام) إلى مكّة بعد أن تقبّض عن البيعة، وأنّه في خطرٍ من عدوّه، ودعاهم لنصرته إن عرفوا في أنفسهم ذلك، فقالوا:
- نقاتل عدوّه ((2)).
- نقتل أنفسنا دونه ((3)).
ص: 31
- نكتب إليه يأتينا الكوفة ((1)).
ورد في المصادر وعدُهم بقتال عدوّه وبذل أنفسهم دونه على وجهالإطلاق، إلّا أن الصبّاغ وتبعه الشبلنجيّ ذكرا أنّهم قالوا: يكتبون له يأتيهم الكوفة..
يبدو تناسق الجواب والخطاب، فحين أنذرهم سليمان بالخطر المُحدِق بالإمام الحسين (علیه السلام) ، أجابوه أنّهم يقاتلون عدوّه ويقتلون أنفسهم ويبذلونها دونه.. دونه.. أي: دفاعاً عنه وحمايةً له، وأنّهم سيفدونه بأنفسهم وأرواحهم، ليقوه ويدفعوا عنه القتل..
فأخذ سليمان عليهم العهد والميثاق أنّهم لا يغدرون ولا ينكثون ((2))، ثمّ قال لهم: اكتبوا إليه الآن كتاباً من جماعتكم أنّكم له كما ذكرتم، وسَلوه القدوم عليكم. قالوا: أفلا تكفينا أنت الكتاب إليه؟ قال: لا، بل يكتب جماعتُكم ((3)).
ص: 32
ربّما أكّد هذا التنصُّل عن تجشّم الكتابة عنهم _ وفق ما ورد في (الفتوح) _ عدمَ وثوق سليمان بهم وثوقاً كافياً يسمح له بتحمّل المسؤوليّة عنهم، أو ربّما كان يرى فيهم ما يرى في نفسه من التذبذب وعدم الثبات وإمكان الخلود إلى الخذلان فيما بعد..
أجل، ربّما يُقال: إنّ الدينوريّ استفاد ما قرّره من مضامين الكتب الّتي كتبوها وأرسلوها إلى الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّ في استفادته مجازفةً واستعجالاً؛ إذ أنّه يحكي خبر الاجتماع، وللكتب ومضامينها مقامٌ آخَر.ويبقى أنّ ما استفاده الدينوريّ تعبيرٌ عن نوازع القوم وأُمنياتهم، وهي لا علاقة لها بدوافع حركة الإمام (علیه السلام) وبواعثه، إذ أنّ الإجماع قام عند أتباع سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه لم يطلب الحكم، ولم يقصد بتاتاً تسلُّم الأمر!
ص: 33
ص: 34
بعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُل والكتُب يدعونه إليهم، فخرج متوجّهاً إلى العراق في أهل بيته وستّين شيخاً من أهل الكوفة ((1)).
قال: فأتاه كتابُ أهل الكوفة، فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليّ، مِن سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة
ص: 35
ابن شدّاد وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي اعتدى على هذه الأُمّة، فانتزعَها حقوقها، واغتصبها أُمورها، وغلبها على فيئها، وتأمّر عليها على غير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
إنّه ليس علينا إمام، فأقدِمْ علينا، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى، فإنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا مخرجُك أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام.
والسلام ((1)).
• وبلغ الشيعةَ من أهل الكوفة موتُ معاوية وامتناعُ الحسين من البيعة ليزيد، فكتبوا إليه كتاباً صدّروه:
مِن سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب ابن مظهّر _ وبعضهم يقول: مطهّر [كذا] _ وشيعتِه من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.
أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير
ص: 36
رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين أغنيائها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
وليس علينا إمام، فأقدِمْ علينا، لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ.
واعلمْ أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجمع معه جمعةً ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغَنا إقبالُك إلينا أخرجناه فألحقناه بالشام، والسلام.
وكان معاوية ولّى النعمان الكوفة بعد عبد الرحمان بن أُمّ الحكَم، وكان النعمان عثمانيّاً مجاهِراً ببغض عليٍّ سيّءَ القول فيه.
وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبيع الهمدانيّ وعبد الله بن وال التيميّ، فقدما بالكتاب على الحسين لعشر ليالٍ خلَون من شهر رمضان بمكّة.
ثمّ سرّحوا بعد ذلك بيومين قيس بن مسهر بن خليد الصيداويّ من بني أسد، وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدر الأرحبيّ، وعمارة ابن عبد السلوليّ، فحملوا معهم نحواً من خمسين صحيفة، الصحيفة من الرجُل والإثنين والثلاثة والأربعة.
ثمّ لبثوا يومين آخَرَين، ثمّ سرّحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكتبوا معهما:
أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس منتظرون لك، لا إمام لهم غيرك، فالعجل، ثمّ العجل، ثمّ العجل، والسلام.
قالوا: وكتب إليه أشراف الكوفة: شبث بن ربعيّ اليربوعيّ،ومحمّد
ص: 37
ابن عُمير بن عطارد بن حاجب التميميّ [كذا]، وحجّار بن أبجر العجليّ، ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم الشيبانيّ، وعزرة بن قيس الأحمسيّ، وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ:
أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ علينا، فإنّما تقدمُ على جُندٍ لك مجنّد، والسلام ((1)).
• حدّثَنا سعيد بن سلمان، حدّثَنا عبّاد بن العوام، عن حُصين:
إنّ أهل الكوفة كتبوا إلى الحسين:
إنّا معك، ومعنا مئة ألف سيف ((2)).
فكتبوا إليه بذلك، ثمّ وجّهوا بالكتاب مع عُبيد الله بن سبيع الهمدانيّ وعبد الله بن وداك السلميّ، فوافوا الحسين (علیه السلام) بمكّة لعشرٍ خلَون من شهر رمضان، فأوصلوا الكتاب إليه.
ثمّ لم يُمسِ الحسينُ يومَه ذلك حتّى ورد عليه بشْرُ بن مسهّر الصيداويّ وعبد الرحمان بن عبيد الأرحبيّ، ومعهما خمسون كتاباً من أشراف أهل الكوفة ورؤسائها، كلّ كتابٍ منها منالرجلين والثلاثة والأربعة بمثل ذلك.
فلمّا أصبح وافاه هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله
ص: 38
الخثعميّ، ومعهما أيضاً نحوٌ من خمسين كتاباً.
فلمّا أمسى أيضاً ذلك اليوم ورد عليه سعيد بن عبد الله الثقفيّ ومعه كتابٌ واحدٌ من شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج ومحمّد بن عمير بن عطارد، وكانوا هؤلاء الرؤساء من أهل الكوفة.
فتتابعَت عليه في أيّام رسُل أهل الكوفة من الكتب ما ملأ منه خُرجَين ((1)).
فأقام بها أيّاماً، وكتب أهلُ العراق إليه ووجّهوا بالرسُل على إثر الرسل، فكان آخِر كتابٍ ورد عليه منهم كتاب هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين والمسلمين.
أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعجل، ثمّ العجل.والسلام ((2)).
ص: 39
وفي هذه السنة وجّه أهلُ الكوفة الرسُلَ إلى الحسين (علیه السلام) وهو بمكّة، يدعونه إلى القدوم عليهم ((1)).
فأتاه أهلُ الكوفة رسُلُهم: إنّا قد حبسنا أنفُسَنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فأقدِمْ علينا.
وكان النعمان بن بشير الأنصاريّ على الكوفة ((2)) [بسندٍ تقدّم عن أبي جعفر (علیه السلام) ].
فلمّا بلغ أهلَ الكوفة هلاكُ معاوية، أرجف أهلُ العراق بيزيد، وقالوا: قد امتنع حسينٌ وابن الزبير ولحقا بمكّة.
فكتب أهل الكوفة إلى حسين، وعليهم النعمان بن بشير، فكتبوا إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
ص: 40
لحسين بن عليّ، مِن سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة ابن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.
سلامٌ عليك، فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
إنّه ليس علينا إمام، فأقبل، لعلّ الله أن يجمعَنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشيرٍ في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله.
والسلام، ورحمة الله عليك.
قال: ثمّ سرّحنا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله ابن وال، وأمرناهما بالنجاء، فخرج الرجُلان مسرعَين حتّى قدما على حسينٍ لعشرٍ مضين من شهر رمضان بمكّة.
ثمّ لبثنا يومين، ثمّ سرحنا إليه قيس بن مسهر الصيّداويّ وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن الأرحبيّ وعمارة بن عُبيد السلوليّ، فحملوا معهم نحواً من ثلاثةٍ وخمسين صحيفة،الصحيفة من الرجُل والإثنين والأربعة.
ص: 41
قال: ثمّ لبثنا يومين آخَرَين، ثمّ سرّحنا إليه هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكتبنا معهما:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لحسين بن عليّ، من شيعته من المؤمنين والمسلمين.
أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجلَ العجل.
والسلام عليك.
وكتب شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد ابن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمير التميميّ:
أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنّد، والسلام عليك ((1)).
حدّثَني الحسين بن نصر، قال: حدّثَنا أبو ربيعة، قال: حدّثَنا أبو عوانة، عن حُصين بن عبد الرحمان قال: بلغَنا أنّ الحسين (علیه السلام) ...
وحدّثَنا محمّد بن عمّار الرازيّ، قال: حدّثَنا سعيد بن سليمان،قال: حدّثَنا عبّاد بن العوّام، قال: حدّثَنا حُصين:
ص: 42
أنّ الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) كتب إليه أهلُ الكوفة: إنّه معك مئة ألف ((1)).
قال: فكتب القومُ إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) :
بسم الله الرحمن الرحيم.
إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وحبيب بن مظاهر ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة شيعته من المؤمنين.
أمّا بعد، فالحمد لله الّذي قصم عدوَّك وعدوَّ أبيك من قبلك، الجبّارَ العنيدَ الغشومَ الظلوم، الّذي أبتزّ هذه الأُمّة وعضاها، وتأمّر عليها بغير رضاها، ثمّ قتل خيارها واستبقى أشرارها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
ثمّ إنّه قد بلغَنا أنّ وَلده اللعين قد تأمّر على هذه الأُمّة بلا مشورةٍ ولا إجماعٍ ولا علمٍ من الأخبار، ونحن مقاتلون معك، وباذلون أنفُسَنا من دونك، فأقبِلْ إليه فرحاً مسروراً مأموناً، مباركاًسديداً، وسيّداً أميراً مطاعاً، إماماً خليفةً علينا مهديّاً، فإنّه ليس عليك [!!!] إمامٌ ولا أميرٌ إلّا النعمان بن بشير، وهو في قصر الإمارة وحيدٌ طريد،
ص: 43
ليس يُجتمَع معه في جمعةٍ ولا يُخرَج معه إلى عيدٍ ولا يُؤدّى إليه الخراج، يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع، ولو بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه عنّا حتّى يلحق بالشام، فأقدِمْ إلينا، فلعلّ الله (عزوجل) أن يجمعَنا بك على الحقّ.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يا ابن رسول الله، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
ثمّ طوى الكتاب وختمه، ودفعه إلى عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن مسمع البكريّ، ووجهوا بهما إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، فقرأ الحسين كتاب أهل الكوفة، فسكت ولم يُجبهم بشيء.
ثمّ قدم عليه بعد ذلك قيسُ بن مسهر الصيداويّ وعبد الرحمان ابن عبد الله الأرحبيّ وعمارة بن عُبيد السلوليّ وعبد الله بن وال التميميّ، ومعهم جماعةٌ نحو خمسين ومئة، كلُّ كتابٍ من رجُلين وثلاثة وأربعة، ويسألوه القدوم عليهم، والحسين يتأنّى في أمره فلا يُجيبهم بشيء.
ثمّ قدم عليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد اللهالحنفيّ بهذا الكتاب _ وهو آخِر ما ورد على الحسين من أهل الكوفة _ :
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه.
ص: 44
أمّا بعد، فإنّ الناس منتظرون، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، قد اخضرّ[ت] الجنّات، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ إذا شئت، فإنّما تقدم إلى جُندٍ لك مجنّد.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى أبيك مِن قبلك ((1)).
ولمّا مات معاوية، أرسل أهلُ الكوفة إلى الحسين بن عليّ:
إنّا قد حبسنا أنفُسَنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، ولسنا نحضر جمعةً ولا جماعةً بسببك ((2)).
فأقام ابنُ الزبير بها، وشخص الحسينُ يريد العراق حين تواترت عليه كتبُهم وترادفَت رسُلُهم ببيعته والسمعِ والطاعة له ((3)).
ولمّا بايع أهلُ الشام يزيدَ بن معاوية، واتّصل الخبر بالحسين بن
ص: 45
عليّ، جمع شيعته واستشارهم، وقالوا: إنّ الحسن لمّا سلّم الأمر لمعاوية سكت وسكت معاوية، فالآن قد مضى معاوية، ونحبّ أن نبايعك. فبايعَتْه الشيعة.
ووردَت على الحسين كتبُ أهل الكوفة من الشيعة يستقدمونه إيّاها ... ((1)).
حدّثَني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجليّ، قال: حدّثَنا حسين ابن نصر بن مزاحم، قال: حدّثَنا أبي، قال: حدّثَنا عمر بن سعد، عن أبي مِخنَف لوط بن يحيى الأزديّ، وحدّثَني أيضاً أحمدُ بن محمّد ابن شبيب المعروف بأبي بكر بن شيبة، قال: حدّثَنا أحمد بن الحرث الخزّاز، قال: حدّثَنا عليّ بن محمّد المدائنيّ، عن أبي مِخنَف، عن عوانة وابن جعديّة وغيرهم، وحدّثَني أحمد بن الجعد، قال: حدّثَنا عليّ بن موسى الطوسيّ، قال: حدّثَنا أحمد بن جناب، قال: حدّثَنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القشيريّ، قال: حدّثَنا عمّار الدُّهنيّ، عن أبي جعفرٍمحمّد بن عليّ، كلّ واحدٍ ممّن ذكرتُ يأتي بالشيء يوافق فيه صاحبه أو يخالفه ويزيد عليه شيئاً أو ينقص منه، وقد ثبت ذلك برواياتهم منسوباً إليهم.
ص: 46
قال المدائنيّ: عن هارون بن عيسى، عن يونس بن أبي إسحاق قال:
لمّا بلغ أهلَ الكوفة نزولُ الحسين (علیه السلام) مكّة وأنّه لم يبايع ليزيد، وفد إليه وفدٌ منهم، عليهم أبو عبد الله الجدليّ، وكتب إليه شبث ابن ربعيّ وسليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة، يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد ((1)).
فكتبوا إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد البجليّ وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.
سلامٌ عليك، فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى علىهذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
ص: 47
إنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله أن يجمعَنا بك على الحقّ، والنعمان بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام، إن شاء الله (تعالى).
ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، وأمروهما بالنجاء، فخرجا مسرعَين حتّى قدما على الحسين (علیه السلام) بمكّة لعشرٍ مضين من شهر رمضان.
ولبث أهلُ الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس ابن مسهر الصيداويّ وعبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ إلى الحسين (علیه السلام) ، ومعهم نحوٌ من مئةٍ وخمسين صحيفةً من الرجُل والإثنين والأربعة.
ثمّ لبثوا يومين آخَرَين، وسرّحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد ابن عبد الله الحنفيّ، وكتبوا إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، من شيعته من المؤمنين والمسلمين.
أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك،فالعجلَ العجل، ثمّ العجلَ العجل، والسلام.
ثمّ كتب شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمرو التميميّ:
ص: 48
أمّا بعد، فقد اخضرّ الجنّات، وأينعَت الثمار، فإذا شئتَ فأقبِلْ على جُندٍ لك مجنّد، والسلام.
وتلاقت الرسلُ كلُّها عنده، فقرأ الكتاب، وسأل الرسُلَ عن الناس ((1)).
فكاتبوا الحسينَ بن عليّ:
إنّا قد اعتزلنا الناس، فلسنا نصلّي بصلاتهم، ولا إمام لنا، فلو أقبلتَ إلينا رجونا أن يجمعَنا اللهُ لك على الإيمان.
ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة، مثل سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وأشباههم، وكتبوا إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين.
أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم في غيرك،فالعجل، ثمّ العجل، والسلام.
ثمّ اجتمعوا ثالثةً، فكتبوا إليه:
من شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم
ص: 49
وعمرو بن الحجّاج ومحمّد بن عمير.
أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جنودٍ مجنّدةٍ لك، والسلام ((1)).
ووردَت عليه كتبُ أهل الكوفة، كتابٌ بعد كتاب، وهو بمكّة، بالبيعة، في ذي الحجّة من هذه السنة ((2)).
فكتبوا إليه كتباً كثيرة، وأنفذوا إليه الرسُل إرسالاً، ذكروا فيها: إنّ الناس ينتظرونك، لا داعي لهم غيرك، فالعجلَ العجل.
فكتب إليه أُمراء القبائل: أمّا بعد، فقد اخضرّت الجنّات، وأينعَت الثمار، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنّدة ((3)).
فكتب القوم إلى الحسين (علیه السلام) :بسم الله الرحمن الرحيم.
ص: 50
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وحبيب بن مظاهر ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة شيعته من المؤمنين، سلامٌ عليك.
أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك وعدوَّ أبيك من قبل، الجبّارَ العنيدَ الغشومَ الظلوم، الّذي ابتزّ هذه الأُمّة أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وعتاتها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
ثمّ إنّه قد بلغَنا أنّ وَلده اللعين قد تأمّر على هذه الأُمّة، بلا مشورةٍ ولا إجماع، ولا علمٍ من الأخيار.
وبعد، فإنّا مقاتلون معك، وباذلون أنفُسَنا من دونك، فأقبِلْ إلينا فَرِحاً مسروراً، مباركاً منصوراً، سعيداً سديداً، إماماً مطاعاً، وخليفةً مهديّاً، فإنّه ليس علينا إمامٌ ولا أميرٌ إلّا النعمان بن بشير، وهو في قصر الإمارة، وحيدٌ طريد، لا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولا نؤدّي إليه الخراج، يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع، ولو بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه عنّا حتّى يلحق بالشام، فأقدِمْ إلينا، فلعلّ الله (تعالى) أن يجمعَنا بك على الحقّ.والسلام عليك يا ابن رسول الله، وعلى أبيك وأخيك، ورحمة الله وبركاته.
ثمّ طووا الكتاب وختموه، ودفعوه إلى عبد الله بن سبيع الهمدانيّ وعبد الله بن مسمع البكريّ، فتوجّها به إلى الحسين، فقرأ كتابَ
ص: 51
أهل الكوفة، فسكت ولم يُجبهم بشيء.
ثمّ قدم إليه بعد ذلك قيسُ بن مسهر الصيداويّ وعبد الله بن عبد الرحمان الأرحبيّ وعامر بن عُبيد السلوليّ وعبد الله بن وال التيميّ، ومعهم نحوٌ من خمسين ومئة كتاب، الكتاب من الرجلين والثلاثة والأربعة، يسألونه القدوم عليهم، والحسين يتأنّى في أمره ولا يجيبهم في شيء.
ثمّ قدم عليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ بكتاب، وهو آخِرُ ما ورد إليه من أهل الكوفة، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه.
أمّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ إذا شئتَ، فإنّما تقدم إلى جُندٍ مجنَّدٍ لك.والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى أبيك من قبل ((1)).
فكاتبوا الحسين (علیه السلام) :
ص: 52
من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب ابن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.
أمّا بعد، فالحمد لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وعتاتها، بُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
إنّه ليس علينا بإمام، فأقبِلْ، لعلّ الله أن يجمعنا على الحقّ بك، والنعمانُ بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجمع معه في الجمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام، إن شاء الله.
ثمّ سرّحوا الكتاب مع عُبيد الله بن مسلم الهمدانيّ وعبد الله بن مسمع البكريّ، حتّى قدما على الحسين لعشرٍ مضين من شهر رمضان.ثمّ بعد يومين أنفذوا قيسَ بن مسهر الصيداويّ وعبد الرحمان بن عبد الله الأرخيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ وعبد الله بن وال السهميّ إلى الحسين، ومعهم نحوٌ من مئةٍ وخمسين صحيفةً من الرجُل والإثنين.
ثمّ سرّحوا بعد يومين هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيٍّ بكتاب، فيه:
ص: 53
للحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين.
أمّا بعد، فحيّهَل، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجل، ثمّ العجلَ يا ابن رسول الله.
وكتب شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعمرو بن الحجّاج ومحمد بن عمير وعروة بن قيس:
أمّا بعد، فقد أخصب الجناب، وأينعَت الثمار، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ مجنّدة ((1)).
• وكان أهلُ الكوفة قد بعثوا إلى الحسين (علیه السلام) يقولون:
إنّا قد حبسنا أنفُسَنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة، فأقدِمْ علينا.فكتبوا إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لحسين بن عليّ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجيّة ورفاعة ابن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.
فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو، الحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك.
وإنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله يجمعنا بك.
ص: 54
فقدم الكتابُ عليه بمكّة لعشرٍ مضين من رمضان، ثمّ جاءه مئةٌ وخمسون كتاباً من الرجُل والإثنين والثلاثة، ثمّ جاءه كتابٌ آخَر يقولون: حيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، فالعجلَ العجل ((1)).
• ووجّه أهلُ الكوفة إلى الحسين يسألونه القدوم عليهم، وقالوا: نحن معك مئة ألف.
أخبرَنا ابن ناصر، قال: أنبأنا أبو محمّد بن السرّاج، قال: أنبأنا أبو طاهر محمّد بن عليّ بن العلاف، قال: أنبأنا أبو الحسين ابن أخي ميمي، قال: حدّثَنا أبو عليّ ابن صفوان، قال: حدّثَنا أبو بكر ابن أبي الدنيا، قال: حدّثَني محمّد بن صالح القرشيّ، قال: حدّثَنا عليّ ابن محمّد القرشيّ، عن يونس بن أبي إسحاق قال:لمّا بلغَتْ أهلَ الكوفة نزولُ الحسين بمكّة وأنّه لم يبايع ليزيد بن معاوية، خرج منهم وفدٌ إليه، وكتب إليه سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد، وقالوا:
إنّا تركنا الناس متطلّعةً أنفسهم إليك، وقد رجونا أن يجمعنا الله بك على الحقّ، وأن ينفي عنهم بك ما هم فيه من الجور، فأنتم أَولى بالأمر من يزيد الّذي غصب الأُمّةَ فيئها وقتل خيارها ((2)).
ص: 55
وكتبوا إليه عن نفر، منهم: سليمان بن صُرد الخزاعيّ، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وغيرهم:
بسم الله الرحمن الرحيم.
سلامٌ عليك، فإنّنا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو.
أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها.
وإنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله أن يجمعَنا بك على الحقّ، والنعمانُ بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولاعيد، ولو بلغَنا إقبالُك إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام، إن شاء الله (تعالى).
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وسيّروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، ثمّ كتبوا إليه كتاباً آخَر وسيّروه بعد ليلتين، فكتب الناسُ معه نحواً من مئةٍ وخمسين صحيفة، ثمّ أرسلوا إليه رسولاً ثالثاً يحثّونه على المسير إليهم.
ثمّ كتب إليه شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث
ص: 56
ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد ابن عمير التميميّ بذلك ((1)).
إنّه لمّا مات معاوية بن أبي سفيان، كاتب كثيرٌ من أهل الكوفة الحسينَ بن عليّ، ليأتي إليهم ليبايعوه ((2)).
فأتاه كتبُ أهل الكوفة وهو بمكّة ((3)).
ورويتُ إلى يونس بن أبي إسحاق، قال:
خرج وفدٌ إليه من الكوفة، وعليهم أبو عبد الله الجدليّ، ومعهم كتبٌ من شبث بن ربعيّ وسليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وعبد الله [بن] وال وقيس بن مسهر الأسديّ _ أحد بني الصيداء _ وعمارة بن عُتبة السلوليّ وهانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ ووجوه الكوفة،
ص: 57
يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد، وقالوا:
إنّا تركنا الناس قِبَلنا وأنفُسُهم منطلقةٌ إليك، وقد رجونا أن يجمعنا الله بك على الهدى، فأنتم أَولى بالأمر من يزيد الّذي غصب الأُمّة فيئها، وقتل خيارها، واتّخذ مال الله دولاً في شرارها، وهذه كتب أماثلهم وأشرافهم.
والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجمع معه في جمعةٍ ولا جماعةٍ ولا عيد، ولو بلغَنا إقبالُك أخرجناه حتّى يلحق بالشام.
وتواترت الكتبُ حتّى تكمّلت عنده اثنا عشر ألف كتاب، وهو مع كلّ ذلك لا يجيبهم.
ثمّ قدم إليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد اللهالحنفيّ بكتاب، وهو آخِرُ الكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين.
أمّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجل، فقد اخضرّت الجنّات، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ إذا شئت، فإنّما تقدم على جُندٍ مجنَّدٍ لك.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ورويت إلى حُصين بن عبد الرحمان، أنّ أهل الكوفة كتبوا إليه: إنّا
ص: 58
معك مئةُ ألف ((1)).
فلمّا قدم الحسينُ مكّة، كتب إليه سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة الفزاريّ وغيرهما من رجال أبيه وشيعته من الكوفة:
هلمّ إلينا يا ابن رسول الله، فأنت أحقُّ بالخلافة من يزيد الخمور.
وكتبوا بيعتهم ((2)).
ووصل الخبر إلى الكوفة بموت معاوية وولاية يزيد مكانه، فاتّفق منهم جمعٌ جمّ، وكتبوا كتاباً إلى الحسين يدعونه إليهم، ويبذلون له فيه القيامَ من بين يديه بأنفسهم، وبالغوا في ذلك.
ثمّ تتابعَت إليه الكتبُ نحواً من مئةٍ وخمسين كتاباً، من كلّ طائفةٍ كتاب، يحثّونه فيه على القدوم.
وآخَر ما ورد عليه كتابٌ من جماعتهم على يد قاصدين من أعيانهم، وصورته:
بسم الله الرحمن الرحيم.
ص: 59
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليّ، سلامٌ عليك.
أمّا بعد، فإنّ الناس منتظروك، ولا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله.
والسلام عليك ورحمته وبركاته ((1)).
• ولمّا استقرّ الحسينُ بمكّة وعلم به أهلُ الكوفة، كتبوا إليه يقولون:إنّا قد حسبنا أنفُسَنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الوُلاة، فأقدِمْ علينا، فنحن في مئة ألف، فقد فشا فينا الجَور، وعُمِل فينا بغير كتاب الله وسُنّة نبيّه، ونرجوا أن يجمعَنا اللهُ بك على الحقّ ويُنفى عنّا بك الظلم، فأنت أحقُّ بهذا الأمر من يزيد وأبيه، الّذي غصب الأُمّة فيئها، وشرب الخمور، ولعب بالقرود والطنابير، وتلاعب بالدين.
وكان ممّن كتب إليه: سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة ((2)).
• قال هِشام بن محمّد: ثمّ إنّ حسيناً كثُرَت عليه كتبُ أهل الكوفة وتواترت إليه رسُلُهم: إنْ لم تصل إلينا فأنت آثِم!!!
ص: 60
فكتبوا إليه بما قدّمنا ذِكْره، وبعثوا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، فقدما إلى الحسين لعشرٍ مضين من رمضان.
ثمّ بعثوا بعدهما بيومين قيسَ بن مسهر الصيداويّ وعبد الرحمان ابن عبد الله الأرحبيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ، ومعهم نحوٌ من مئةٍ وخمسين صحيفةً من أهل الكوفة.
ثمّ لبثوا يومين، وسرّحوا هانئ بن هانئ السبعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكتبوا معهما إلى الحسين كتاباً فيه:الناس ينتظرون قدومك، لا رأي لهم في غيرك، فحيّهلا، العجلَ العجل.
وكتب إليه شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر وزيد بن الحارث وعروة ابن قيس في آخَرين:
أمّا بعد، فقد اخضرّ الجنان، واينعَت الثمار، فأقدِمْ، فإنّك تقدمُ على جُندٍ مجنّدٍ لك، والسلام.
واجتمعَت الرسُلُ كلُّها بمكّة عنده ((1)).
قال: فكتبوا إليه:
ص: 61
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وعبد الله ابن وائل وشيعته من المؤمنين، سلامٌ عليك.
أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك وعدوَّ أبيك من قَبل، الجبّارَ العنيد، الغشوم الظلوم، الّذي ابتزّ هذه الأُمّة أَمرها، وغصبَها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وعُتاتها،فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
ثمّ إنّه ليس علينا إمامٌ غيرك، فأقبِلْ، لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن البشير في قصر الإمارة، ولسنا نجمع معه في جمعةٍ ولا جماعة، ولا نخرج معه في عيد، ولو قد بلغَنا أنّك أقبلتَ أخرجناه حتّى يلحق بالشام.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يا ابن رسول الله، وعلى أبيك مِن قَبلك، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
ثمّ سرّحوا الكتاب، ولبثوا يومين، وأنفذوا جماعةً معهم نحو مئةٍ وخمسين كتاباً من الرجُل والإثنين والثلاثة والأربعة، يسألونه القدومَ عليهم، وهو مع ذلك يتأنّى ولا يجيبهم، فورد عليه في يومٍ واحدٍ ستُّمئة كتاب، وتواترت الكتبُ حتّى اجتمع عنده في نُوَبٍ متفرّقةٍ اثنا عشر ألف كتاب.
ص: 62
قال: ثمّ قدم عليه (علیه السلام) بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد ابن عبد الله الحنفيّ بهذا الكتاب، وهو آخِر ما ورد على الحسين (علیه السلام) من أهل الكوفة، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) .
أمّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَالعجلَ يا ابن رسول الله، فقد اخضرّ الجنّات، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ علينا إذا شئت، فإنّما تقدمُ على جُندٍ مجنَّدةٍ لك.
والسلام عليك ورحمة الله، وعلى أبيك مِن قَبلك ((1)).
وجاءَته كتبُ أهل الكوفة، يحضّونه على القدوم عليهم، فاغترّ!!! ((2))
فلمّا استقرّ بمكّة، اتّصل بأهل الكوفة تأبّيه من بيعة يزيد، وكانوا
ص: 63
يكرهون بني أُميّة، خصوصاً يزيد؛ لقبح سيرته، ومجاهرته بالمعاصي، واشتهاره بالقبائح.
فراسلوا الحسين (علیه السلام) ، وكتبوا إليه الكتب يدعونه إلى قدوم الكوفة، ويبذلون له النصرة على بني أُميّة، واجتمعوا وتحالفوا على ذلك، وتابعوا الكتب إليه في هذا المعنى ((1)).
فأتاه رسلُ أهل الكوفة، وعليها النعمان بن بشير ((2)) [بسندٍ تقدّمعن أبي جعفر (علیه السلام) ].
وقد كثر ورودُ الكتب عليه من بلاد العراق، يدعونه إليهم، وذلك حين بلغَهم موتُ معاوية وولاية يزيد، ومصيرُ الحسين إلى مكّة فراراً من بيعة يزيد.
فكان أوّلُ مَن قدم عليه عبدَ الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، معهما كتابٌ فيه السلام والتهنئة بموت معاوية، فقدما على الحسين لعشرٍ مضين من رمضان من هذه السنة.
ثمّ بعثوا بعدهما نفراً، منهم: قيس بن مسهر الصيداويّ وعبد
ص: 64
الرحمان بن عبد الله بن الكوا الأرحبيّ وعمارة بن عبد الله السلوليّ، ومعهم نحوٌ من مئةٍ وخمسين كتاباً إلى الحسين.
ثمّ بعثوا هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، ومعهما كتابٌ فيه الاستعجال في السير إليهم.
وكتب إليه شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رويم وعمرو بن حجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمير بن يحيى التميميّ:
أمّا بعد، فقد اخضرّت الجنان، وأينعَت الثمار، ولطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنّدة، والسلام عليك.
فاجتمعَت الرسُلُ كلُّها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثّونهويستقدمونه عليهم، ليبايعوه عوضاً عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنّهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه ويتكلّمون في دولته، وأنّهم لما يبايعوا أحداً إلى الآن، وأنّهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدّموك عليهم ((1)).
ولمّا بلغ أهلَ الكوفة بيعةُ يزيدٍ ولحاقُ الحسين بمكّة، اجتمعَت الشيعة في منزل سليمان بن صُرد، وكتبوا إليه عن نفر، منهم: سليمان، والمسيّب بن محمّد، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن
ص: 65
مظاهر، وغيرهم، يستدعونه، وأنّهم لم يبايعوا للنعمان، ولا يجتمعون معه في جمعةٍ ولا عيد، ولو جئتنا أخرجناه.
وبعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، ثمّ كتبوا إليه ثانياً بعد ليلتين نحو مئةٍ وخمسين صحيفة، ثمّ ثالثاً يستحثّونه للحاق بهم، كتب له بذلك شبث بن ربعيّ وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمر بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمير التميميّ ((1)).
ويزيد بن الحارث ويزيد بن دؤب وعروة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن عمر التميميّ، وغيرهم من أعيان الشيعة ورؤساء أهل الكوفة، قريباً من نحو مئة كتاب، وسيّروا الكتب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن والي، وهم يحثّونه فيها على القدوم عليهم والمسير إليهم على كلّ حال.
وكتابٌ واحدٌ عامٌّ على لسان الجميع كتبوه، وأرسلوه مع القاصدين، وصورته:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه عليّ (علیه السلام) .أمّا بعد، فإنّ الناس منتظروك، لا رأي لهم في غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله، لعلّ الله (تعالى) أن يجمعنا بك على الحقّ، ويؤيّد بك المسلمين والإسلام، بعد أجزل السلام وأئمة عليك، ورحمة الله وبركاته ((1)).
فسمع به أهلُ الكوفة، فأرسلوا إليه أن يأتيهم ليبايعوه، ويمحو عنهم ما هم فيه من الجَور ((1)).
فوصل خبرُه إلى أهل الكوفة، فكاتبوه، ووعدوه بالنصرة، وأكّدوا عليه في طلب القدوم عليهم ((2)).
فلمّا بلغ أهلَ الكوفة وفاةُ معاوية، امتنعوا من البيعة ليزيد،فاجتمعوا وكتبوا إلى الحسين كتاباً، يقولون فيه:
أقدِمْ إلينا، يكون لك ما لنا وعليك ما علينا، فلعلّ الله يجمع بيننا وبينك على الهدى ودين الحقّ.
ورغّبوه في القدوم إليهم، إلى أن قالوا:
فإنْ لم تقدر على الوصول إلينا، فأنفِذْ إلينا برجُلٍ يحكم فينا بحكم الله ورسوله.
وكتبوا بهذا المعنى كتُباً كثيرة ((3)).
ص: 68
فكتبوا كتاباً، فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، من سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد البجليّ وحبيب بن مظاهر الأسديّ ومَن معه من المسلمين، وسلامٌ عليك ورحمة الله وبركاته.
أمّا بعد، فإنّا نحمد اللهَ الّذي لا إله إلّا هو، ونصلّي على محمّدٍ وآل محمّد.
واعلمْ _ يا ابن محمّدٍ المصطفى وابنَ عليٍّ المرتضى _ أنْليس لنا إمامٌ غيرك، فأقدِمْ إلينا، لنا ما لك وعليك ما علينا، فلعلّ الله أن يجمعَنا بك على الحقّ والهدى، واعلمْ أنّك تقدم على جنودٍ مجنّدة، وأنهارٍ متدفّقة، وعيونٍ جارية.
فإنْ لم تقدِمْ على ذلك، فابعثْ إلينا أحداً من أهل بيتك، يحكم بيننا بحكم الله (تعالى) وسُنّة جدّك رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
واعلمْ أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نشهد معه جمعةً ولا جماعة، ولو أنّك أقبلتَ إلينا لكنّا أخرجناه إلى الشام، والسلام.
وبعثوا الكتاب مع عمر بن نافذ التميميّ وعبد الله بن السبيع الهمدانيّ، فخرجا مسرعَين حتّى قدما على الحسين (علیه السلام) ، ومعهما خمسون صحيفة.
ص: 69
ولبثوا يومين آخَرَين، وبعثوا إليه [قيس بن] مسهر الأنصاريّ، ومعه كتابٌ فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .
أمّا بعد، فإنّه لا إمام غيرك لنا يا ابن رسول الله، العجلَ العجل.
ثمّ لبثوا يومين آخَرَين، وكتبوا كتاباً يقولون فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
قد أينعَت الثمار، فأقدِمْ إلينا يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) مُسرِعاً.قال أبو مِخنَف: وتواترت الكتب إليه، فسأل الرسُلَ عن أمر الناس، فقالوا: إنّهم كلّهم معك.
ثمّ كتبوا مع هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، وكانا آخِرَ الرسُل من أهل الكوفة ((1)).
قال هِشام بن محمّد: ثمّ إنّ الكتب كثرت، وتواترت عليه الرسائل: إنّك إنْ لم تصل إلينا فأنت آثِم؛ لوجود الأنصار على الحقّ، وتمكُّنِك من القيام، فإنّك أصله وعموده وأهله ومعدنه ((2)).
ص: 70
* * * * *
قبل الخوض في تفاصيل الكتاب، يحسن تقديم بعض التنويهات:
ممّا لا خلاف فيه أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يُكاتِب أحداً من أهل الكوفة ولا غيرها من الأمصار، إلّا ما ذكروا من كتابه (علیه السلام) لأهل البصرة، وقد أتينا على تفصيل الكلام في ذلك في محلّه.وهذا التنويه غايةٌ في الأهمّيّة، إذ اتّفق الجميع دون استثناءٍ أنّ الإمام (علیه السلام) لم يبتدئ أحداً من أهل الكوفة بالكتابة له أو استنهاضه ودعوته لأيّ أمرٍ يمكن أن نتصوّره، سواءً كان على مستوى الدعوة إلى الخروج بالمعنى المصطلَح، أو للدفاع عنه وعن عيال الله.
ولا شكّ أنّ ثَمّة فوارقاً كبيرةً وكثيرةً جدّاً بين أن يكون الإمام (علیه السلام) هو البادئ وهو المبادر بالمكاتبة والدعوة، وبين أن تكون كتبه أجوبةً وردوداً على ما كتبه القوم!
ولا يخفى أنّ بعض الرجال قد اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يلجأ إلى كهوف الجبال وشواطئ البحار ومغاور كثبان الصحراء، ثمّ يكاتب الناس ويراسلهم، حتّى يجمع منهم الرجال إنْ كان هو يريد الخروج بالمعنى
ص: 71
المصطلَح، وقد أبى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ذلك.
وقد أتينا في أكثر من موضعٍ على الإشارة إلى هذا التنويه المهمّ، لِما له من دورٍ في فهم كتب سيّد الشهداء (علیه السلام) وتفسير المواقف.
إتّفق علماء الشيعة _ كثّرهم الله وأعزّهم _ بالإجماع أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن يطلب الحكم والسلطان في قيامه، وقد استدلّوا على ما أجمعوا عليه بالأدلّة الكافية الوافية، ويكفي ما ورد عن جدّه وأبيه من الإخباراتالمتظافرة المتكاثرة بشهادته، وكذا ما أخبر به الإمام الحسين (علیه السلام) نفسُه عن شهادته في كربلاء.. ومَن كان جازماً بالقطع واليقين أنّه مقتولٌ لا محالة في خروجه إلى العراق، لا يطلب حُكماً وسلطاناً!
وسيأتي الحديث في ذلك مفصَّلاً في محلّه، إن شاء الله (تعالى).
ولازم هذا القول المجمَع عليه أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يقصد الخروج بالمعنى المصطلَح للإطاحة بحكم يزيد وبني أُميّة، واقتلاعهم من على أعواد المنابر، والقضاء على سلطانهم، واجتثاث شأفتهم واستئصالهم، ليتولّى هو الحكم والسلطان..
وحينئذٍ سيكون التالي اللازم الّذي لا ينفكّ بتاتاً عن حركة الإمام (علیه السلام) أنّه لم يقصد قتل يزيد، ولا الهجوم عليه للقضاء على سلطانه، ولم يبيّت ما يعبّرون عنه ب-- (المشروع)، بحيث يُفهَم من حركته أنّه كان يستهدف
ص: 72
الانقضاض على الحكم والاستيلاء على مقاليد السلطان، ومتابعة (المشروع) لإقامة حكم الله وشرعه باعتباره الإمام المفترض الطاعة على الخَلق والحاكم باسم الله وفق كتابه وسُنّة نبيّه..
فالإمام (علیه السلام) لم يقصد في توجُّهه إلى الكوفة يومذاك بالفعل هدمَ الموجود من بناءٍ سلطويٍّ حاكمٍ منذ يوم غصب الخلافة وتعاقب الملوك والسلاطين واحداً بعد الآخَر حتّى وصلَت النوبة إلى يزيد..
وهذا ما أجمع عليه علماءُ الإماميّة منذ شهادة الإمام (علیه السلام) إلى يوم الناسهذا، وهو ردٌّ كافٍ وجوابٌ شافٍ للدعاوى الواردة في كتب القوم، كما سنسمع بعد قليل.
ذكرنا هذا التنويه في مواضع عديدة، ونحن مضطرّون للعودة إليه كلّما دعَت الحاجة إلى ذلك.
لقد أجمع الشيعة الإماميّة _ أعزّهم الله _ على عقيدة علم الإمام (علیه السلام) بالناس ومعرفتهم بالتفصيل حسب ما ورد في أحاديثهم الشريفة، وهو بحثٌ ينضوي تحت كلّيّة عِلم الإمام، وليس هذا محلّه.
ولو أغمضنا النظر عن علم الإمام (علیه السلام) ، فإنّ مَن كان في عصر الإمام (علیه السلام) ممّن يسمّونهم الوجوه والأشراف والشخصيّات، قد علم مِن خلال المتابعة والتجارب غدرَ أهل الكوفة وخيانتهم وتقلُّبهم واتّباع أكثرهم
ص: 73
للعِجْل والسامريّ، وانحيازه إلى دِين الملوك الأوائل..
فلا يمكن _ والحال هذه _ افتراضُ انكشاف هذه الحقيقة لمِثل ابن عبّاس وابن عمر وابن مطيع وغيرهم ممّن اعترض على الإمام (علیه السلام) ، وعدم انكشافها لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد عالج القومَ بنفسه وعاصرهم أيّام أبيه وأخيه (علیهما السلام) ، وهو أعلمُ أهل زمانه بزمانه _ بغضّ النظر عن عِلم الإمامة _؟! وقد تبيّن ذلك بوضوحٍ من طريقة تعامل الإمام (علیه السلام) مع الكتبوالرسائل والدعوات الواردة من الكوفة.
ومن البديهيّ الضروريّ الّذي لا يشُكّ فيه معتقِدٌ بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولا يتردّد فيه أحدٌ يعرف الإمام الحسين (علیه السلام) وعِلمه ومعرفته بالناس، أنّ الإمام (علیه السلام) لا يخفى عليه حقيقة القوم وأهواء المكاتبين وخداعهم وغدرهم وخيانتهم وتقلّبهم، وانسياقهم مع الأمواج الهادئة أو العاتية الّتي يمكن أن يتعرّضوا لها في خضمّ حركاتهم الاجتماعيّة والدينيّة.
وسيتبيّن لنا فيما يلي من الدراسة: أنّ الإمام لم يُرتّب في حركته الشخصيّة أيَّ ترتيبٍ ولم يبنِ أيَّ بناءٍ على الكتب والرسائل، ولم يكن لهذه الكتب والرسائل أيُّ دورٍ في قرار الإمام (علیه السلام) وتحديد المواقف، وهو القائل: «الناس عبيدُ الدنيا، والدين لَعِقٌ [لغوٌ] على ألسنتهم»..
أجل، ربّما كان الإمام (علیه السلام) يوظّف هذه الكتب والرسائل في المحاججة مع القوم وإقامة الحجّة عليهم، وهذا التوظيف شيءٌ يختلف تماماً عمّا إذا كان الإمام (علیه السلام) قد بنى عليها وحسب لها حساباً وأقام لها وزناً!
ص: 74
سيأتي الحديث مفصَّلاً عن مطالب القوم وشعاراتهم الّتي رفعوها في الكتب والرسائل، بَيد أنّ أهمّيّة الأمر تقتضي التنويه هنا ولو بالإشارة إلى حين تناول الموضوع بالتفصيل..سنسمع بعد قليلٍ من خلال الكتب والرسائل جملةً من الشعارات الحماسيّة والمطالب المتفجّرة والصولات الكلاميّة المتتالية على معاوية وابنه يزيد، والآمال المتعلّقة على قدوم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وغيرها من الأماني والدعوات الهائجة..
صدرَت من القوم على اختلاف مشاربهم واتّجاهاتهم ودوافعهم ونوازعهم، بل على اختلاف تبعيّاتهم ومرجعيّاتهم الدينيّة.. والمخاطَب هو الإمام الحسين (علیه السلام) ..
ولابدّ من الفصل بين مرادات الناس ومطالبهم ومطالب الإمام (علیه السلام) ومقاصده، ولابدّ من التمييز بين ما يدعون إليه وبين ما يعلنه الإمام نفسُه (علیه السلام) ؛ فليس بالضرورة أن يكون توافقاً بين دعوات القوم ومراد الإمام (علیه السلام) !
ونحن لا يحقّ لنا إسقاط مطالب المكاتبين وشعاراتهم وما دعوا إليه على موقف الإمام (علیه السلام) ، ولا يصحّ نسبة ما اعتبره القوم أهدافاً إلى الإمام (علیه السلام) ما لم نسمعه من الإمام (علیه السلام) نفسه أو نسمع منه إقراراً لما أرادوا!
ص: 75
وبعبارةٍ أُخرى:
لا يمكن قراءة مواقف الإمام (علیه السلام) وتشييدها وتفسيرها من خلال ما يقوله الآخَرون والشعارات الّتي يرفعها المكاتبون والمطالب الّتي يرسمها المراسلون، فهم لهم موقفهم ومطالبهم، وللإمام (علیه السلام) أن يقبل أو يردّ.. فليسمن المُلائم دمجُ المواقف وتوحيد الأهداف بين الناس وبين الإمام (علیه السلام) ، ما لم يشهد لهذا الدمج والتوحيد شاهدٌ من كلام الإمام (علیه السلام) ويقوم عليه دليلٌ محكَمٌ من أفعاله.
وربّما كان من المجازفة أن ننسب للإمام (علیه السلام) ما يقوله الناس ويكتبونه إليه، بعد أن عرفنا أنّهم يريدون استبدال الحاكم ودفع مقاليد البلاد والعباد للإمام (علیه السلام) ، وعرفنا أنّ الإمام (علیه السلام) لا يبغي ذلك بتاتاً، كما أشرنا إلى ذلك في التنويه الأوّل، وللكلام تتمّةٌ ستأتي في محلّها، إن شاء الله (تعالى).
المهمّ، أنّ مواقف الإمام (علیه السلام) ومراداته وأهدافه تُعرَف منه، لا من كلام يزيد الخمور، ولا من المعترضين أمثال ابن عبّاس وابن عمر، ولا من كتب الناس ورسائلهم ومواقفهم ومراداتهم ومطالبهم!
سيأتي بعد قليلٍ استعراضٌ سريعٌ لأسماء المكاتبين والداعين، وسيتبيّن لنا أنّ المؤرّخ لم يتعرّض إلّا إلى أسماء محدودة، جعلهم الرؤوس والقادة، ثمّ تجاهل العدد الكبير الّذين كتبوا، فلم يستعرض أسماءَهم ولا اتّجاهاتهم
ص: 76
ودوافعهم ونوازعهم.
أمّا الأسماء المذكورة المصرَّح بها، فقد لاحظناها، فوجدناهم جميعاً بين خاذلٍ وعدوٍّ متوغِّلٍ في العداوة.. إلّا واحداً منهم، وهو صاحب ميسرةالإمام الحسين (علیه السلام) حبيب بن مظاهر.
فمَن كان في صفّ سليمان بن صُرد، من أمثال المسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وأبي عبد الله الجدليّ، فهم خاذلون، بغضّ النظر عن مواقفهم قبل وبعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ، إذ أنّ الكلام يدور عن يوم الحسين (علیه السلام) بالذات وموقفهم في ذلك اليوم..
ومَن كان في صفّ شبث بن ربعيّ، من قبيل حجّار بن أبجر وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ وأمثالهم، فهم أعداءٌ حاربوا الإمام (علیه السلام) قبل يوم الطفّ، وكانوا من الأشدّاء في حربه يوم كربلاء، وبقوا على عداوتهم بعد ذلك حتّى التهمتهم نيران جهنّم وبئس المصير..
ولرصف هذه الأسماء بالذات والتصريح بها والتنويه إليها أغراضٌ كثيرةٌ لا تخفى على اللبيب المتابع، وربّما كان منها:
إنّ المؤرّخ المأجور يريد التأكيد على فكرته الّتي يحاول إقناع المتلقّي للتاريخ بها، وهي تخطئة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في حركته، وأنّه اعتمد سرابَ وُعود هؤلاء المميّزين المعروفين بالعداوة والتذبذب وعدم الثبات..
إنّه اعتمد على صنفَين من القادة: أحد الصنفَين خاذِلٌ لا يُعتَدّ به، والآخَر عدوٌّ مشحونٌ بالعدواة والبغضاء.. وليس مِثل هذا الاعتماد مقبولاً
ص: 77
بحال، وقد حذّر الآخَرون عن مثل هذا الاعتماد، كابن عبّاس وابن عمر وغيرهما..وقد عالج الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) مِثلَ هذه الفرية بإرساله أخاه المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، للتأكّد من نواياهم، وتأكيده للملأ أنّ سبب خروجه من مكّة متعجِّلاً إنّما كان خوف القتل في الحرم، وأنّ العدوّ لم يُمهله ليقضي موسم حجّه، وغيرها من المعالجات.
ربّما يكون ثَمّة مَن يقول: إنّ كتب أهل الكوفة كانت في الغالب بتخطيطٍ من الأُمويّين، وكان الغرض منها استدراج الإمام (علیه السلام) ليُقتَل في العراق.
ويمكن الاستشهاد لذلك بشواهد عديدة، منها:
قال آية السيّد عليّ الميلانيّ (حفظه الله) في كتاب (مَن هم قتَلَة الحسين (علیه السلام) ؟):
قد أوضحنا في ما تقدّم دور معاوية في استشهاد الإمام (علیه السلام) في العراق، وقد توصّلنا في دراستنا إلى أنّ معاوية بعد أن عزم على
ص: 78
العهد لابنه يزيد، تمكّن من القضاء على سائر المعارضين، أو إسكات مَن تمكّن مِن إسكاته منهم ببذل الأموال أو التهديد، فأزال العقبات، حتّى لم يبقَ إلّا الإمام الحسين (علیه السلام) سيّد الشهداءوعبد الله بن الزبير، لكنّه كان عارفاً بالإمام وملكاته النفسيّة، ثمّ موقعيّته في المجتمع والأُسرة الهاشميّة خاصّة.
على أنّه كان قد تعهّد أن لا يبغي للإمامَين السبطَين الحسن والحسين (علیهما السلام) سوءاً.
ولمّا اغتال الإمامَ السبط الأكبر (علیه السلام) على يد جعدة بنت الأشعث، وشاع الخبر وافتضح أمام المسلمين، فلم يرَ من مصلحته أن يتعرّض لأبي عبد الله (علیه السلام) .
فقام بتدبير مؤامرةٍ ضدّ الإمام (علیه السلام) ، ونسّق مع أتباعه في الكوفة والخوارج المناوئين لأهل البيت (علیهم السلام) هناك، وأمر ولاته في البلاد أن يقوم كلٌّ منهم بالدور المناسب، فجعلوا يطاردون الإمام من داخل الحجاز، من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، في حين تدعوه كتب أهل الكوفة إلى التوجّه إليهم ...
ثمّ جاء دور يزيد، فطبّق الخطّة بجميع أطرافها ((1)).
وقال (حفظه الله):
وهكذا نجد معاوية حائراً مع الإمام (علیه السلام) ، فلا هو أهلٌ للمساومة،
ص: 79
ولا التهديدات ترعبه، وهو إنْ بقي بين أظهُر الناس وفي عاصمة الإسلام ومدينة جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فلن يتمّ الأمر ليزيد..
ومن جهةٍ أُخرى، فقد تعهّد في بنود الصلح على أن لا يصيبالحسنَ والحسينَ (علیهما السلام) بضررٍ أو أذىً ولا يمسّهما بسوء.
فهو وإنْ نكث العهد باغتيال الإمام الحسن (علیه السلام) ، إلّا أنّه قد أقدم على ذلك بواسطة زوجته، ظنّاً منه أنّ ذلك سيبقى سرّاً لا يطّلع عليه أحد، فجعل يخطّط للقضاء على الإمام الحسين (علیه السلام) على يد أهل العراق بالتنسيق مع الخوارج في الكوفة ومع أنصار الأُمويّين هناك، هذا من جهة، ومع ولاته في المدينة ومكّة والكوفة من جهةٍ أُخرى ((1)).
وقال أيضاً:
وكان [معاوية] قد أوصى يزيد _ في ما اتّفقَت المصادر عليه _ أن لا يمسّ الإمامَ (علیه السلام) بسوء، وأنّ الّذين قتلوا أباه وأخاه سيدعونه إلى العراق، وهم الّذين سيقتلونه.
«أمّا الحسين بن عليّ، فأحسَبُ أهل العراق غير تاركيه حتّى يُخرجوه ...» ((2)).
ص: 80
«أُنظر حسينَ بنَ عليٍّ وابنَ فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ... فإنْ يكُ منه شيءٌ فإنّي أرجو أن يكفيكه الله بمَن قتل أباه وخذل أخاه ...» ((1)).
وقال (حفظه الله):قال ابن كثير:
وقالوا: لمّا بايع الناسُ معاويةَ ليزيد، كان حسينٌ ممّن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كلّ ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم ... ((2)).
يفيد هذا الخبر:
1 _ إنّ المكاتبة كانت في زمان حكومة معاوية.
2 _ وكانت لمّا بايع الناسُ معاوية ليزيد، والإمام ممّن لم يبايع.
3 _ ولم تكن مرّةً واحدة، بل كانوا (يكتبون) إليه.
4 _ ولم يكتفوا بالكتابة، بل أرسلوا من قبلهم قوماً إلى المدينة ليرضوه (علیه السلام) بالخروج إليهم.
ص: 81
5 _ ووسّطوا محمّد ابن الحنفيّة أيضاً.
فماذا قال الإمام (علیه السلام) ؟ قال: «إنّ القوم إنّما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا» ((1)).
وماذا كتب إليهم؟ كتب إليهم: «فالصقوا بالأرض، واخفوا الشخص، واكتموا الهوى واحترسوا ... ما دام ابن هند حيّاً» ((2)) ((3)).
ثمّ ذكر سعيَ الحكومة وراء خروج الإمام من المدينة، وأنّ الخطّة كانت تقضي أن يُترك الإمام (علیه السلام) ولا يُؤذى، لأنّ أهل العراق غير تاركيهحتّى يُخرجوه، ما لم يثر ويُظهِر العداوة للحكومة، والإمام (علیه السلام) يعلن للناس إباءه عن البيعة، يصرّح بذلك لكلّ مَن يسأله..
وفي هذه الظروف، نرى أنّ الكتب من الكوفة تترى، يدعونه ويطلبون منه القدوم إليهم، والإمام يقول: «لا أراهم إلّا قاتلي» ((4))، وبدأ الحكّام يسعون وراء خروج الإمام من الحجاز ((5)).
ص: 82
في اليوم الأوّل الّذي نزا فيه يزيد على الأعواد وجلس للتعزية والتهنئة، وفي أوّل خطابٍ له مع الشاميّين، أعلن يزيد عن حربه مع أهل العراق، وأنّ له ملحمةً معهم..
فقد روى ابن أعثم والخوارزميّ في خبرٍ طويل، قالا _ واللفظ للأوّل _ :
حتّى صار [أي: يزيد] إلى القبّة الخضراء، فلمّا دخلَها نظر فإذا قد نُصبَت له فيها فرشٌ كثيرةٌ بعضُها على بعض، ويزيد يحتاج أن يرقى عليها بالكراسي.
قال: فصعد حتّى جلس على تلك الفُرُش، والناس يدخلون عليه يهنّئونه بالخلافة ويعزّونه في أبيه.وجعل يزيد يقول: نحن أهل الحقّ وأنصار الدين، وأبشروا يا أهل الشام، فإنّ الخير لم يزل فيكم، وسيكون بيني وبين أهل العراق حربٌ شديد، وقد رأيتُ في منامي كأنّ نهراً يجري بيني وبينهم دماً عبيطاً، وجعلتُ أجهد في منامي أن أجوز ذلك النهر فلم أقدر على ذلك، حتّى جاءني عُبيد الله بن زيادٍ فجازه بين يدَيّ وأنا أنظر إليه.
قال: فأجابه أهل الشام وقالوا: يا أمير المؤمنين! امضِ بنا حيث شئت، وأقدِمْ بنا على مَن أحببت، فنحن بين يديك، وسيوفنا تعرفها أهلُ العراق في يوم صفّين.
ص: 83
فقال لهم يزيد: أنتم لَعمري كذلك ... ((1)).
قد حدّد يزيد الخمور مكان الحرب المقبلة وشيكاً مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأعلن عنها منذ الخطاب الأوّل، وعيّن فيها القائد الّذي سيعبر به نهر الدماء!
ويمكن أن يكون هذا شاهداً على عزم يزيد ومَن حمله على رقاب الناس على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتخطيطه لذلك وابتدائه بالهجوم على الإمام (علیه السلام) .
ممّا يشهد لسعي الولاة لإخراج الإمام (علیه السلام) من الحجاز، أنّ الوليد تراخى في موقفه مع الإمام (علیه السلام) ولم يستعمل الشدّة معه، فضلاً عن أن يقدم على قتله، وإنّما بعث إليه وأخبره بوفاة معاوية ودعاه إلى البيعة ليزيد، فقال الإمام (علیه السلام) : «نُصبح وننظر»، فلم يشدّد الوليد على الإمام ((2))، بل قال: انصرفْ على اسم الله ((3)). رغم أنّ مروان أمره بقتل الإمام (علیه السلام) ، وأنّه إن تركه يخرج من عنده فسوف لن يتمكّن منه بعد ذلك أبداً ((4)).
ص: 84
وإنّما كان هذا التراخي والتمهُّل ذريعةً لفسح المجال أمام الإمام (علیه السلام) للخروج من المدينة، بتنسيقٍ مسبَقٍ مع أسياده، وأنّ الوليد كان مأموراً بما فعل، وأنّ ما فعله كان تطبيقاً لما أُمِر به، لكنّ مروان كان يجهل الأمر، أو كان يريد غير ذلك.
ويشهد لذلك:
أنّهم لاحقوا ابن الزبير حين خرج، ووجّه الوليدُ في إثره حبيبَ بن ذكوان في جماعة.
فيما قال الوليد حين علم بخروج الإمام (علیه السلام) من المدينة: الحمد لله.
وأنّه لو كان مأموراً بقتل الإمام (علیه السلام) لَما قال له لمّا أبى أن يبايع: انصرفْعلى اسم الله.
وأنّ الكلام الّذي دار بينه وبين مروان، يدلّ دلالةً واضحةً على كون مروان هو المُصرّ على القتل إن لم يبايع الإمام (علیه السلام) .
ويشهد لذلك أيضاً أنّ الوليد لم يتعرّض إلى أيّ عقوبة.. فلو كان يزيد قد أمَرَه بقتل الإمام (علیه السلام) ولم يمتثل لَعاقبه، ولا أقلّ من أن لا يولّيه شيئاً من المناصب، والحال أنّ يزيد قد ولّاه المدينة مرّتين، وأقام الموسم غير مرّة، آخرها سنة 62 ه-، كما ذكر الذهبيّ ((1))، وأنّ الوليد هو الّذي صلّى على
ص: 85
جنازة معاوية بن يزيد ((1))، وأرادوه للخلافة بعد معاوية بن يزيد، فأبى ((2)).
فعزلُه عن المدينة في تلك الفترة لم يكن إلّا لمصلحةٍ خاصّةٍ، وليس عقوبة! إلّا أن يكون لتفريطه في أمر ابن الزبير الّذي أوصى معاويةُ يزيدَ بأن يقطّعه إرباً إرباً إنْ قدر عليه ((3)).
ويشهد لذلك أيضاً:
إنّ والي مكّة الجبّار العنيد عمرو بن سعيد الأشدق لم يتعرّض للإمام (علیه السلام) بسوء.ولمّا حاول يحيى ومَن معه الحيلولة دون خروجه (علیه السلام) ، وتدافع الفريقان، وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فأرسل إليهم يأمرهم بالانصراف ((4)).
ولكن عمرو بن سعيد قد كتب في الحال إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فقد توجّه إليك الحسين، وفي مِثلها تُعتَق أو تكون عبداً تُسترقّ كما
ص: 86
تسترقّ العبيد ((1)).
فربّما كان هذا الطاغي الجبّار العنيد قد خرج من مكّة وتوجّه إلى المدينة، ليتمّ اغتيال الإمام (علیه السلام) في مكّة وهو خارجٌ عنها، فلا يُتّهَم بذلك هو والأُمويّون، فلمّا عجز عن ذلك وبلغه خبر خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، رجع إليها ليتّخذ التدابير اللازمة في الفترة الوجيزة المتبقّية، وليعمل جاهداً في تعجيل خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق.
هم يعلمون جيّداً أنّ الإمام (علیه السلام) لن يبايع يزيد الخمور.. والبيعة المطلوبة _ كما ذكرنا في غير موضع _ إنّما هي البيعة الذليلة الخانعة وقبول فرض الطاعة، لأنّهم أرادوا منه أن يبايع صاغراً، على حدّ تعبير مروان.
هم يعلمون جيّداً أنّ الإمام (علیه السلام) يحفظ الحرمات، ولن يكون سبباً في هتك حرمة المدينة حرم جدّه (صلی الله علیه و آله) ومكّة حرم الله.. فإذا أقدموا على قتلههناك، فإنّه سوف لن يبقى، ويخرج منها حمايةً لحرمتها وحرمة سفك دمه فيها.
وقد سمعه الجميع وهو يقول: «لَئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبُّ إليّ مِن أن
ص: 87
يُستحَلّ بي حرم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) .. تُستحَلّ بي (مكّة)» ((1)).
وقال (علیه السلام) : «خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الّذي يُستباح به حرمة هذا البيت» ((2)).
وقال (علیه السلام) : «لَئن أُقتَل بيني وبين الحرم باع، أحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل وبيني وبينه شبر، ولَئن أُقتَل بالطفّ، أحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل بالحرم» ((3)).
وقال (علیه السلام) : «لَئن أُدفَن بشاطئ الفرات، أحبُّ إليّ مِن أن أُدفَن بفناء الكعبة» ((4)).
لذا جاء كتاب يزيد في أوّل يومٍ نزا فيه على الأعواد وأخذ بمقاليد المُلك يأمر فيه بقتل الإمام الحسين (علیه السلام) إن هو امتنع عن البيعة..
قال اليعقوبيّ:
وملَكَ يزيدُ بن معاوية ...
وكان غائباً، فلمّا قدم دمشق كتب إلى الوليد بن عُتبة بن أبي
ص: 88
سفيان _ وهو عامل المدينة _ :
إذا أتاك كتابي هذا، فأحضِر الحسينَ بن عليٍّ وعبد الله بن الزبير، فخُذهما بالبيعة، فإن امتنعا فاضربْ أعناقهما، وابعث إليّ برؤوسهما، وخُذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفِذْ فيه الحكم، وفي الحسين بن عليٍّ وعبد الله بن الزبير، والسلام ((1)).
وقال الطبريّ:
ولم يكن ليزيد همّةٌ حين ولي إلّا بيعة النفر الّذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته وأنّه وليّ عهده بعده والفراغ من أمرهم ...
وكتب إليه صحيفةً كأنّها أُذُن فأرة:
أمّا بعد، فخُذْ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً، ليست فيه رخصة، حتّى يبايعوا، والسلام ((2)).
وقال ابن أعثم:
ثمّ كتب إليه في صحيفةٍ صغيرةٍ كأنّها أُذُن فأرة:
أمّا بعد، فخُذ الحسين بن عليٍّ ... أخذاً عنيفاً، ليست فيه رخصة، فمَن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه ((3)).
ص: 89
وكتب إليه ثانية:
أمّا بعد، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخُذ البيعة ثانياً على أهل المدينة بتوكيدٍ منك عليهم، وذر عبد الله بن الزبير؛ فإنّه لن يفوتنا ولن ينجو منّا أبداً ما دام حيّاً، ولْيكُن مع جوابك إليّ رأسُ الحسين ابن عليّ، فإنْ فعلتَ ذلك فقد جعلتُ لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر والنعمة واحدة، والسلام ((1)).
وقال الخوارزميّ:
كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم ... أمّا بعد، فإنّ معاوية كان عبداً من عبيد الله ... وأوصاني أن أحذر آل أبي تراب وجرأتَهم على سفك الدماء، وقد علمتَ _ يا وليد _ أنّ الله (تعالى) منتقمٌ للمظلوم عثمان بن عفّان من آل أبي تراب بآل سفيان، لأنّهم أنصار الحقّ وطلّاب العدل ... ((2)).
وروى الصدوق في (أماليه)، مسنَداً عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) _ في حديثٍ _ قال:
«كتب الجواب إلى عُتبة:
أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فعجِّلْ علَيّ بجوابه، وبيِّنْ ليفي
ص: 90
كتابك كلَّ مَن في طاعتي أو خرج عنها، ولْيكن مع الجواب رأسُ الحسين بن عليّ.
فبلغ ذلك الحسين (علیه السلام) ، فهمّ بالخروج من أرض الحجاز إلى أرض العراق ...» ((1)).
وهنا ترك خيار البيعة، واقتصر على الأمر بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) !
بناءً على ما ذكرناه من علمهم الأكيد بمدى رعاية الإمام (علیه السلام) للحرمات حقّ رعايتها وحفظها حقّ الحفظ، فإنّهم يعلمون أنّه سيهاجر المدينة ويخرج منها فوراً..
وأنّهم قد سدّوا الأبواب على الإمام (علیه السلام) ، فلم يكن له طريقٌ سوى طريق العراق، وقد أتينا على تفصيل ذلك في محلّه.
ويشهد له أيضاً:
قول الإمام (علیه السلام) حين حذّروه من العراق: «لابدّ إذاً من مصرعي» ((2)).
وقوله: «مهما يقضِ اللهُ مِن أمرٍ يكُن» ((3)).
ص: 91
وقال حين ذكروا عنده ما فعله أهل الكوفة بأبيه وأخيه: «إنّه ليس يخفىعلَيّ ما قلتَ وما رأيتَ، ولكنّ الله لا يُغلَب على أمره» ((1)).
وقال أيضاً لمن حاول منعه من الخروج إلى العراق: «لا يخفى علَيّ شيءٌ ممّا ذكرت، ولكنّي صابرٌ محتسِب، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً» ((2)).
وقال (علیه السلام) : «أعلمُ يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصارع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا ولدي عليّ» ((3)).
وهذه الإخبارات الصادرة من الإمام (علیه السلام) تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) جعل يُعلِن وجهته الّتي سيقصدها بفعل الأحداث المتلاحقة والدفع والملاحقة المتواصلة من العدوّ، وأنّ الأمر الّذي يعمل له العدوّ غير خافٍ عليه، بَيد أنّه الخيار الوحيد الّذي يمكن العمل به في تلك الظروف القاسية.
لقد مرّ معنا في مواضع كثيرةٍ التأكيدُ على أنّ الإمام (علیه السلام) كان عالماً عارفاً بأهل الكوفة وبنيّاتهم، وما سيلقاه منهم عن قريب، وقد ذكرنا لذلك أدلّةً
ص: 92
وشواهد كثيرة، وقلنا: بغضّ النظر عن علم الإمامة، فإنّ الإمام (علیه السلام) قد عالج أهل الكوفة وعركهم ومرسهم، وعاش معهم محنة أبيه وأخيه (علیهما السلام) ،وليس من المعقول أن يكون ابنُ عبّاسٍ وابنُ عمر وغيرهما كثيرٌ ممّن اعترض على الإمام (علیه السلام) يعرفون أهل الكوفة والإمامُ (علیه السلام) لا يعرفهم!
وقد أبان الإمام (علیه السلام) ذلك، وصرّح به في جميع المراحل، وكلّما حانت الفرصة وتطلّبت المناسبة، ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها:
v قال (علیه السلام) : «واللهِ لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة _ وأشار إلى قلبه _ من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَن يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمة» ((1))، «أذلّ فرق الأُمم» ((2)).
v وقال (علیه السلام) عند خروجه من مكّة: «واللهِ لَئن أُقتَل خارجاً منها بشبر، أحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل داخلاً منها بشبر، وأيمُ الله لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني، حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهودُ في السبت» ((3)).
ص: 93
v وقال (علیه السلام) في جواب كتاب عبد الله بن جعفر: «واللهِ _ يا ابن عمّي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني، حتّى يقتلوني» ((1)).
وقال لمسلم بن عقيل (علیه السلام) حين وجّهه إلى أهل الكوفة: «وسيقضيv الله من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء» ((2)).
وسيأتي بعد قليلٍ المزيدُ من كلمات الإمام (علیه السلام) .
وفي حديثٍ طويل، بالإسناد عن أبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام) قال:
«قال الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) لأصحابه قبل أن يُقتَل:
إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: يا بُنيّ، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياءُ النبيّين، وهي أرضٌ تُدعى: عمورا، وإنّك تُستشهَد بها، ويُستشهَد معك جماعةٌ من أصحابك، لا يجدون ألم مسّ الحديد. وتلا: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ ((3))، تكون الحربُ عليك وعليهم برداً وسلاماً.
ص: 94
فأبشِرُوا، فوَاللهِ لَئن قتلونا فإنّا نردُ على نبيّنا ...» ((1)).
يمكن تصنيف هذا الحديث في أقوال رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأقوال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، باعتبار أنّ الإمام يروي عن جدّه النبيّ (صلی الله علیه و آله) .
والشاهد فيه يكمن في قوله (صلی الله علیه و آله) : «ستُساق إلى العراق».. فالسوق هو الجلب والطرد ((2))، والملاحقة لتوجيه المسوق إلى جهةٍ مطلوبة.وربّما شهد لذلك أيضاً قول ابن زياد حين أخبره ابن سعد أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) عرض عليهم أن يتركوه ينصرف عنهم ويذهب في أرض الله الوسيعة، فكتب إلى ابن سعد:
الآن إذ علقَتْ مخالبُنا به
يرجو النجاة، ولات
حين مناصِ! ((3))
فهو يصوّر نفسَه في مطاردة صيد، وقد علقت مخالبه به، فكيف يتركه؟!
ص: 95
ما أكثر الشواهد من كلام الإمام (علیه السلام) غريب الغرباء، الّتي تفيد تصريحاً وتلويحاً أنّ القوم كانوا يلاحقونه، ولو بقي في المدينة أو في مكّة لَقتلوه وانتهكوا حرمة دمه الزاكي، وهتكوا بقتله حُرمة الحرم.
وقد سمعنا بعضها فيما سبق، ونذكر بعضها هنا على نحو الإشارة والمثال:
روى ابن قولويه مسنداً عن الحسين بن عليّ (علیهما السلام) أنّه قال: «والّذي نفس حسينٍ بيده، لا ينتهي بني أُميّة مُلكُهم حتّى يقتلوني، وهم قاتلي» ((1)).
وقد صرّح الإمام (علیه السلام) بصراحةٍ ووضوحٍ أنّ تلك الكتب إنّما كانت مكيدةً له وتقرّباً لابن معاوية، قال (علیه السلام) : «ما كانت كُتبُ من كَتبَ إليّ في ماأظنّ إلّا مكيدةً لي، وتقرّباً إلى ابن معاوية بي» ((2)).
وأعلن أنّهم قد حاصروه وضيّقوا عليه الدنيا، فلم يتركوا له منفذاً إلّا منفذ العراق، ويشير إلى ذلك ما رواه الصدوق عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) _ وغيره _، قال: «ثمّ سار حتّى نزل الرهيمة، فورد عليه رجُلٌ من أهل الكوفة يُكنّى: أبا هرم، فقال: يا ابن النبيّ، ما الّذي أخرجَك من المدينة؟ فقال: ويحك يا أبا هرم! شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا
ص: 96
دمي فهربت، وأيمُ الله لَيقتلُنّي، ثمّ لَيُلبسنّهم اللهُ ذلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، ولَيسلّطنّ عليهم مَن يذلّهم» ((1)).
وروى ابن سعدٍ وغيره، مسنداً عن يزيد الرشك، عمّن شافه الحسين (علیه السلام) ، قال:
رأيتُ أبنيةً مضروبةً بفلاةٍ من الأرض، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه لحسين. قال: فأتيتُه، فإذا شيخٌ يقرأ القرآن، قال: والدموع تسيل على خدَّيه ولحيته.
قال: قلت: بأبي وأُمّي يا ابن رسول الله، ما أنزلك هذه البلاد والفلاة الّتي ليس بها أحد؟ ما أجلسك في هذا الموضع الّذي ليس فيه أنيسٌ ولا منفعة؟
فقال: «إنّ هؤلاء _ يعني السلطان _ أخافوني ((2))، وهذه كتبأهل الكوفة إليّ، ولا أراهم إلّا قاتلي لا محالة ((3))، فإذا فعلوا ذلك لم يدَعُوا لله حرمةً إلّا انتهكوها، فيسلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى
ص: 97
يكونوا أذلّ من فرم الأَمة» ((1)).
قال: والفرام: خرقةٌ تجعلها المرأة في قُبُلها إذا حاضت ((2)).
وروى الخوارزميّ في (المقتل)، قال:
وخرج وُلدُ الحسين وإخوته وأهل بيته حين سمعوا الكلام، فنظر إليهم، وجمَعَهم عنده وبكى، ثمّ قال:
«اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد (صلوات الله عليه)، قد أُخرجنا وأُزعجنا وطُردنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أُميّة علينا، اللّهمّ فخُذْ لنا بحقّنا، وانصرنا على القوم الظالمين» ((3)).
فلمّا حطّوا رحلهم في كربلاء، خطب الإمام (علیه السلام) أصحابه هناك وقال: «أمّا بعد، فإنّ الناس عبيدُ الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون» ((4)).
تركنا دراسة هذه النصوص؛ لشدّة وضوحها ودلالاتها الصريحة، وخوفاً
ص: 98
من التطويل، ولكلّ متنٍ منها موضعٌ يناسب دراسته دراسةً مستفيضةً وافية، إن شاء الله (تعالى).
وكتب ابن عبّاسٍ ليزيد:
وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطّرادك الحسينَ بن عليٍّ من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسَّك إليه الرجالَ تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب.
وقد كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزَّ أهلها بها حديثاً، وأطوعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الّذي يستحلّ حرمةَ البيت وحرمةَ رسول الله، فأكبر من ذلك ما لم تكبر، حيث دسستَ إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ((1)).
وفي لفظٍ آخَر:
ومهما أنسى من الأشياء، فلستُ أنسى تسييرَك حسيناً من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، وتسييرك إليهم الرجال، وإدساسَك إليهم إنْ هو نذر بكم فعاجلوه.
ص: 99
فما زلتَ بذلك حتّى أشخصتَه من مكّة إلى أرض الكوفة، فخرج خائفاً يترقّب، تزأر إليه خيلُك وجنودُك زئير الأسد، عداوة مثلك لله ولرسوله ولأهل بيته.
ثمّ كتبتَ إلى ابن مرجانة يستقبله بالخيل والرجال والأسنّة والسيوف، ثمّ كتبتَ إليه بمعاجلته وترك مطاولته، حتّى قتلتَه ومَن معه من فتيان بني عبد المطّلب، أهلَ البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، نحن أُولئك، لا كآبائك الأجلاف الجفاة أكباد الحمير.
ولقد علمتَ أنّه كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّه بها حديثاً لو ثوا بالحرمَين مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكنّه كره أن يكون هو الّذي يُستحَلّ به حرمُ الله وحرمُ رسوله (صلی الله علیه و آله) وحرمةُ البيت الحرام، فطلب سليكم الحسين الموادعة، وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة نصّاره واستئصال أهل بيته، كأنّكم تقتلون أهل بيتٍ من الترك أو كابل ((1)).
وفي كلمات ابن عبّاسٍ شهادةٌ واضحةٌ أنّ يزيد الخمور كان يطارد الإمام الحسين (علیه السلام) ويلاحقه، حتّى سيّره من مكّة وأشخصه إلى العراق.
ص: 100
حين نقرأ أخبار المكاتبين _ كما سيأتي بعد قليل _، نجدهم أكثريّةً مجهولةً لم يُعرّف بها المؤرّخ، وأقلّيةً قليلةً صرّح بأسمائهم باعتبارهم الرؤوس والأشراف والوجهاء وأصحاب النفوذ وغيرها من العناوين، وفي هؤلاء أيضاً نجد فيهم من أعداء الإمام وعمّال بني أُميّة وعبيدهم ورؤوس الضلال وقادة العسكر الّذي قاتل الإمام (علیه السلام) .
وهذا يفيد أنّ لهؤلاء دوراً في دعوة الإمام (علیه السلام) وتحشيد الناس، ودفعهم إلى الكتابة، وإيجاد الأجواء الانفعاليّة تلك الأيّام.
أمّا الشيعة المخلصون الأبرار الثابتون، فلم نجد منهم إلّا اسم حبيب ابن مظاهر، وقد وفى _ على فرض أنّه كتب _.
أمّا مثل سليمان ورفاعة وأمثالهم، فلعلّهم انساقوا في الأجواء الانفعاليّة وكتبوا، واتّفقَت آمالهم مع مآرب الأُمويّين وهم لا يشعرون.. وإنّما نقول ذلك لنحملهم على المحمل الحسن!
وعلى العموم، إنّ وجود عددٍ معتَدٍّ به من أزلام الطاغوت ممّن يسمّونهم الأشراف، من أمثال شبث بن ربعيّ وحجّار وابن عزرة وابن رويم، وهم كانوا قادة العسكر في المستوى الأعلى من القيادة، ما يثير في النفس فكرة أن يكون هؤلاء قد كتبوا طاعةً لأوامر وصلتهم، أو خطّةً محبَكةً شاركوا بفعّاليّةٍ في نسج شراكها.
ص: 101
روى الطبريّ والشيخ المفيد وغيرهما، قالوا:
ثمّ ساروا، حتّى مّر ببطن العقبة فنزل عليها.
فلقيه شيخٌ من بني عكرمة يُقال له: عمرو بن لوذان، فسأله: أين تريد؟ فقال له الحسين (علیه السلام) : «الكوفة». فقال الشيخ: أُنشدك الله لمّا انصرفت؛ فوَاللهِ ما تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف، وإنّ هؤلاء الّذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّؤوا لك الأشياء فقدمتَ عليهم، كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال الّتي تذكر، فإنّي لا أرى لك أن تفعل. فقال له: «يا عبدَ الله! ليس يخفى علَيّ الرأي، وإنّ الله (تعالى) لا يُغلَب على أمره» ((1)).
ثمّ قال (علیه السلام) : «واللهِ لا يدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ فِرَق الأُمم» ((2)).
وفي (الفصول المهمّة) و(نور الأبصار):
قال له الإمام (علیه السلام) : «لا يخفى علَيّ شيءٌ ممّا ذكرتَ، ولكنّيصابرٌ
ص: 102
ومحتسب، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً» ((1)).
وكان سليمان بن صُرد وجماعتُه قد وعدوا الإمام في كتبهم أنّهم على استعدادٍ لطرد الوالي، وأنّه لو قد بلغَهم مخرج الإمام أخرجوه من الكوفة وألحقوه بالشام ((2)).
فلو كانت نيّاتهم على نصر الإمام (علیه السلام) حقّاً فيما كانوا يزعمون، لَفعلوا ما وعدوا، ولم يفرّطوا بالإمام (علیه السلام) ويستقدمونه والعدوّ متمكّنٌ في بلادهم!
وقد أرسل إليهم الإمامُ (علیه السلام) ثقتَه ورسوله، وبلغَهم قدومُ الإمام (علیه السلام) إليهم وخروجُه من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة..
لم يحسب العدوّ لخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بهذه السرعة من المدينة
ص: 103
المنوّرة ولا من مكّة المكرّمة، فلم يكن قد أعدّ لذلك أيَّ مادّةٍ إعلاميّة، ولم يروّج لتشويه خروجه (علیه السلام) ، كما فعل فيما بعد من رميه بالظلم والفساد والأشَر والبطَر، وممارسة التضليل لعرض حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) --كذباً وزوراً -- ك-- (خروج) ووصفه ب-- (الخارجيّ).
وأُسلوب الطغاة والمستكبرين في الأرض -- كان ولا زال -- هو تكثيف القوّة وتحشيد العساكر واستخدام العنف المفرط والضربات الهائلة، مهما كان العدوّ المقابل قليل القوّة والعُدّة والعدد، فهو لم يكن على استعدادٍ ضمن خطّته وأُسلوب عمله.
وكان العدوّ يعرف قوّة سيّد الشهداء (علیه السلام) وسطوته وشجاعته، وكذا مَن معه، ويعلم علماً يقيناً أنّ الإمام (علیه السلام) لا يستسلم حتّى تفيض الأرض بدمائهم العفنة، فهم يعرفون شجاعة الهاشميّين عموماً، وشجاعة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشجاعة أخيه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وشجاعة الإمام الحسين (علیه السلام) المولود منهما، وقد رأوا ذلك ولمسوه، ولا زالت بيوتهم ترتفع فيها الرنّة ولا تبارحها النوائح من حصائد سيف أمير المؤمنين (علیه السلام) .
لقد جرّب الأعداء ذلك في المشاهد الّتي ذاقوا فيها ذعاف السيوف الهاشميّة، والسطوة الطالبيّة، والشجاعة العلويّة، وهم لا ينسون جيَفَهم وفطائسهم الّتي كانوا يتبجّحون بها، فإذا بها تتهاوى من حفيف الهواء الّذي تشقّه شفرة أسد الله وأسد رسوله، وتتزلزل عند مشاهدة وميض الصوارم الطالبيّة، وتختطف أبصارها وتلتهب من سرعة تقلّب "ذو الفقار"،
ص: 104
ليحصد الرؤوس يميناً وشمالاً في ضربةٍ واحدة، فيقتل ويقدّ ويقطّ ولا تسيح الدماء، لأنّه يفري ويُحرق ويشوي اللحم والجلد ويكوي العروقلشدّة سرعته الخاطفة، فلا تسيح دماؤهم النجسة على الأرض وتُحبَس في أجسادها.
فالعدوّ يعرف القوّة الّتي يبيّت لمواجهتها، ويعلم _ حسب الحسابات العسكريّة الظاهريّة _ أن لا قدرة له عليه، وأنّ الجيش ما لم يكن كثيفاً متظافر العدّة والعدد لا ينهض في مواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه، ولا يمكن أن يقابلوه بعدّةٍ ضعيفةٍ أو عددٍ قليل.
وكانت المدينة ومكّة حواضر ومدن مقدّسة، وحرماً آمِناً يقدّسه المسلمون جميعاً، فكانت القوّات العسكريّة المتواجدة فيها بمقدار ما يكفي لحماية البلدَين وحفظ الأمن فيهما، وربّما اقتصرت على الشرطة والحرس وقليلٍ من العسكر الّذي يتولّى حماية أفراد السلطة والوالي، ولم تكن معسكراتٍ وثكناتٍ عسكريّةً كالكوفة مثلاً، وهذا المقدار من القوّة لا يمكن أن يُحسَب في مقابل سطوة سيّد الشهداء (علیه السلام) وقوّته ومَن معه على قلّة عددهم.
كما أنّ العامّة والغوغاء لا يُرتكَن إليهم في مِثل هذه الظروف؛ لأنّهم ليسوا قوّةً عسكريّةً نظاميّةً مدرّبةً يمكنها خوض الحروب والقتال في مواجهة أبطال البشريّة وشجعان الخلق، والعدوّ يعرف قوّة الإمام (علیه السلام) ومَن معه، كما ذكرنا.
ص: 105
وأقصى ما يمكن ضمانه من قِبل العدوّ هو تحييد الناس والغوغاء، وأنيقبل منهم بالخذلان، وهذا ما تحقّق بالفعل، أو استخدامهم في الحرب النفسيّة أو المدد اللوجستيّ.
ولمّا كانت المدينة ومكّة حواضر مدنيّة، وليست معسكراتٍ وثكناتٍ نظاميّة، كان ينبغي أن تتحرّك القطعات العسكريّة من ثكناتها -- كالكوفة والشام -- لتحصل المواجهة في الحرمين المقدّسين أو في الطريق بينهما، ويلزم هذا وقتاً طويلاً وجهداً عظيماً لا تسعه فترة حركة الإمام (علیه السلام) بين الحرمين.
وربّما فسّر ذلك سرعة حركة الإمام (علیه السلام) واستعجاله بين البلدين، وتوظيفه الزمن الحرام والأرض الحرام في جميع فترات حركته، فهو قد خرج من المدينة في شهر رجب (الحرام)، ثمّ سرعان ما دخل الأرض الحرام لمكّة في ميقات الشجرة، ثمّ بقي مستجيراً ببيت الله الحرام إلى حين خروجه منها، وقد خرج منها في شهر ذي الحجّة الشهر (الحرام) الّذي يليه شهر محرّم (الحرام)، فهو في سعةٍ للحركة في الزمن الحرام حتّى يصل الكوفة!
وربّما شهد لذلك أنّهم جيّشوا الجيوش وساقوها من الشام لاستباحة المدينة ومحاربة ابن الزبير واستباحة الكعبة المشرّفة، ولم يكتفوا بما عندهم من قوّاتٍ في الحرمين مع حقارة ابن الزبير وأتباعه..
بغضّ النظر عن صدق هذا الاحتمال وإمكان حصوله وتحقّقه، فإنّ المدينة ومكّة وما بينهما من المنازل قد خذلَت ريحانةَ النبيّ (صلی الله علیه و آله)
ص: 106
واستسلمت للقرد الأُمويّ، وبايعت منذ عهد القرد العجوز معاوية، وجدّدت البيعة فوراً بعد أن تسلّق القرد المخمور المجدور المسعور أعواد المنبر خلَفاً لدعيّه، فالمواقف محسومة، والغيرة والحميّة على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) معدومة..
بَيد أنّ المدينة ومكّة كانت ترتبط مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) بعهود ومواثيق منذ قبل الإسلام وبعده، كحِلف الفضول، وما أخذه النبيّ (صلی الله علیه و آله) على الأنصار عند مبايعته من الدفاع عنه وعن أهل بيته، وكانت المنازل في الطريق تضمّ رجالاً من القبائل دخلوا الإسلام وبايعوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فربّما كانت هذه بالإضافة إلى النوازع القبليّة أو التمسّك ببعض الذمم أو ما شاكل، قد تكون دافعاً ينشّط البعض للذبّ عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعياله والدفاع عن عِرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونسائه وأطفاله، سيّما أنّ العدوّ لم يعمل بعدُ على شراء الذمم مقابل شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) ولم يشغّل إعلامه.
وإن لم ينصروا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فربّما وقفوا على الحياد وخذلوا الجانبَين، حتّى يستجلوا الأمر وتتّضح لهم الصورة.
نقول: هذا كلّه على نحو الاحتمال كفرضٍ يمكن أن يُتصوَّر في المقام، ليس إلّا.
بَيد أنّ مثل هذه الظروف قد تكون معرقلة، سيّما إذا كانت الحرب سجالاً والمحارب هو سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه، حيث كانت الأيّام أيّام الحجّ والعمرة، ويلزم أن تكون الجوادّ قد ضاقت بالحجّاج والمعتمرين،
ص: 107
وحركة المرور فيها مزدحمة، والمنازل مكتظّة، وأسواق الطريق قائمة، والطريق بين المدينة ومكّة صعب التضاريس كثير الجبال والوديان والمنحنيات، وسبل الوصول إليه وَعِرةٌ ومتعرّجة، والعسكر يحتاج إلى تنقُّلٍ وإمدادٍ وانتشار، وربّما إقامة! وكثرة تواجد الناس والمدنيّين في البلدان والطريق بنفسه عائقٌ مزعجٌ لحركة العساكر.
أضف إلى ذلك:
إنّ خطّة العدوّ -- كما أفادت المصادر -- كانت تقوم على أساس اغتيال الإمام (علیه السلام) أو الإمساك به على حين غِرّة، بعيداً عن المواجهة العسكريّة، وهذا هو المقصود من مطاردته وركوب كلّ صعبٍ وذَلولٍ في الأرض لطلبه، كما مرّ سابقاً في ما مضى من البحث، وقد سمعنا الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) يُخبِر أكثر من مرّةٍ أنّ القوم قد عزموا وخطّطوا وأقدموا على اغتياله أو القبض عليه.
وبذلك يحقّق العدوّ غرضه من دون أيّ إثاراتٍ أو اضطرارٍ لحربٍ نفسيّةٍ وإعلاميّةٍ واسعةٍ بعيدة المدى، لا تنقضي مع مرور الأيّام وكرّ العصور وتعاقب الدهور، وقد جرّب العدوّ ذلك مع مَن تقدّم الإمام (علیه السلام) من أسلافه الطاهرين (علیهم السلام) .
وقد تبيّن لنا من خلال دراسة (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) أنّ الإمام (علیه السلام) لم يصرّح بأيّ تصريحٍ في المدينة، سوى ما أعلنه منرفض البيعة وإبائه عن المناولة، واستمهل القوم حتّى يصبح ويصبحون،
ص: 108
وما إلى ذلك..
فهو لم يخطب في الناس، ولم يحرّض على أحد، ولا تناول السلطة، ولا دعا الناس إلى القيام، بل ولا الدفاع عنه، ولا أيّ نشاطٍ آخَر يفيد موقفاً معلناً للإمام (علیه السلام) .
ثم إنّه -- فداه العالمين -- تعجّل الخروج من المدينة، فخرج في غضون يومين أو ثلاثةٍ بعد دعوته وتخييره بين القتل والمناولة..
فخرج ميمِّماً نحو مكّة الأرض الحرام، وكشف وُجهته إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة وبعض خاصّته -- كما في بعض المتون --، ولم يعلن ذلك على الملأ، ولم يجمع الناس ليخبرهم، ولا أخبر السلطان بذلك..
ولم يكن يومها ذكرٌ للكوفة ولا لأهلها، ولم تكن ثَمّة دعواتٌ قد وصلَت للإمام (علیه السلام) -- كما أفاد التاريخ --، سيّما أنّ الفترة الّتي استغرقتها دعوة الإمام (علیه السلام) إلى الوالي وإباؤه وخروجه لم تكن سوى يومين أو ثلاثة، وهي مدّةٌ غير كافيةٍ لبلوغ الخبر إلى الكوفة في الحالات العاديّة، واجتماعِ أهلها وكتابتهم ودعوتهم وإرسال رسلهم إليه (علیه السلام) .
فلم تكن وجهةٌ مكانيّةٌ للإمام (علیه السلام) مقصودةٌ معلَنةٌ لبعض الخواصّ سوى مكّة.
أمّا بالنسبة للعدوّ، فإنّ الأمر كان مجهولاً غامضاً عنده تماماً، وقد فوجئبخروج الإمام (علیه السلام) من دون أيّ سابق علمٍ أو إنذار، ومن دون أيّ معرفةٍ بدوافع الخروج وأسبابه وأهدافه، بل ولا معرفةٍ بجهته ومنتهاه ومقصده
ص: 109
الأخير.
فالعدوّ لا يدري ماذا يخبّئ له القدَر، وماذا خطّط له سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا يدري أيَّ شيءٍ سوى أنّ الإمام (علیه السلام) خرج من المدينة، فقط! ويبدو أنّ هذا الغموض بقيَ مخيّماً على رؤية العدوّ، وبقيَت تساوره منه الظنون والمخاوف إلى أن دخل سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة، فسأله الأشدق عن سبب قدومه، فأجابه الإمام (علیه السلام) أنّه جاء مستجيراً بالله وببيته ((1)).
ومن هذا وأشباهه نعرف أنّ العدوّ حسب حساباته بعد أن علم باستقرار الإمام (علیه السلام) في مكّة، فجهد على إخراجه إلى الكوفة أو مشارف الكوفة (كربلاء) في صحراء قريبةٍ من مقلع عساكره، بحيث لا يتجشّم عناء نقل القطعات العسكريّة من بلدٍ إلى بلدٍ في مسافاتٍ شاسعة، قد تكلّفه الكثير الكثير وتمنعه من السيطرة الكاملة على أفراد العسكر.
كان ابن الزبير في المدينة، ثمّ انتقل إلى مكّة.. وكان معاوية قد أوصى يزيد أن يقطّعه آراباً إذا ظفر به.. وكان لابن الزبير أنصارٌ وأتباع.. وهو طالبدنياً وطالب مُلك.. وقد وقعت الحرب بينه وبين يزيد وعسكره، حتّى
ص: 110
هتكوا حرمة الحرم وأحرقوا الكعبة البيت الحرام..
فإذا كان العدوّ يُقدِم على محاربة الإمام (علیه السلام) في مكّة أو المدينة، فإنّ ذلك كان يؤثّر تأثيراً كبيراً، إذ سيدخل ابن الزبير وأتباعه _ ضرورة _، فتكون جبهة الإمام (علیه السلام) وجبهة _ عدوّه _ ابن الزبير عليهم، فكان الأوفق بهم فكّ الجبهتَين، وتسيير الإمام (علیه السلام) إلى العراق، لأنّهم يعرفون أنّ الإمام (علیه السلام) لا يحاربهم في مكّة صيانةً للحرمات.
كانت فكرة اتّهام الشيعة بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) مخطَّطاً لها، وكانت الكوفة مركزاً مهمّاً للشيعة، وقد اشتهرت أنّها معدنهم بالنسبة إلى البلدان الأُخرى، وكانت عاصمة خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام) الظاهريّة، وكان العسكر المتواجد فيها قد حارب أهل الشام تحت لواء أمير المؤمنين (علیه السلام) ..
من هنا خطّطوا ليكون قتل الإمام الحسين (علیه السلام) قريباً منها، وعلى أيدي نفس العسكر الّذي قاتل معاوية وأهل الشام، لتبقى أبواقُهم إلى يوم الناس هذا تزعق بهذه الفرية المقذعة المملّة: إنّ الشيعة هم الّذين دعوا الإمام (علیه السلام) ، ثمّ عَدَوا عليه فقتلوه! وبهذا يبرّؤون ساحتهم _ حسب وهمهم _ من هذا الدم الزاكي، كما يدفعون عن مجتمع (الصحابة والتابعين) المتوافر فيالمدينة حسب الظاهر، باعتبار أنّ المدينة ومكّة مركز تواجدهم، وإن كانوا قد تفرّقوا في البلدان.
ص: 111
هذه جملةٌ من الشواهد سقناها هنا، ولمن أراد متابعة البحث أن يجد شواهد أُخرى قد تكون متوفّرةً في المصادر والكتب التاريخيّة والحديثيّة، بيد أنّنا اكتفينا بهذا القدر، ولم نطل المكث عند الشواهد والنصوص الّتي ذكرناها لدراستها بدقّة، إذ أنّها تأتي في محلّها إن شاء الله (تعالى).
ولسنا نريد إثبات هذه الفكرة ولا نفيها، ولكنّنا وجدنا مَن يشير إليها ويحاول تنضيجها، فذكرنا هذه الحزمة من الشواهد لها.
ونكتفي هنا بذكر ما قاله آية الله السيّد عليّ الميلانيّ كنتيجةٍ لبحثٍ رتّبه في فصولٍ للتعريف بقتَلَة الإمام الحسين (علیه السلام) وتبرءة ساحة الشيعة، وإثبات أنّ قتَلَته هم معاوية ويزيد ومَن سلّطهم ومن تبعهم:
فهل يرى الباحث الخبير أنّ هذه القضايا إنّما وقعَت صدفة؟!
وهل أنّ والي المدينة لم يلحّ على الإمام (علیه السلام) بالبيعة، ثمّ حمد الله على خروجه، كان ذلك مِن عند نفسه؟!
وهل أنّ والي مكّة الّذي لم يتعرّض للإمام، بل لم يهدّده علناً، وإنّما دسّ إليه الرجال فقط، كان ذلك منه عن اختيار؟!
وهل أنّ والي الكوفة [يعني النعمان بن بشير] لمّا تسامح معمسلم وشيعته، لم يكن مِن قصده انكشافُ حال مسلم ومعرفة أصحابه، وقد كان _ كما قال البلاذريّ _ عثمانيّاً مجاهِراً ببغض عليٍّ ويسيء القول فيه، وهو ممّن أغار على بعض البلاد التابعة
ص: 112
لحكومة الإمام عليّ (علیه السلام) ؟!
وكيف أنّ معاوية كان يداري الإمام (علیه السلام) ، ويُخبِر عن مقتله في العراق على يد أهل الكوفة، وقد أوصى بتولية ابن زياد في الوقت المناسب؟!
إنّ للباحث أن يستنتج أنّ هناك خطّةً مرسومةً من معاوية وأعوانه في الحجاز بالتواطؤ مع أنصاره في الكوفة، بأن يُدعى الإمام (علیه السلام) من قِبَل أهل الكوفة، ويضيَّق عليه ويُطارَد من داخل الحجاز من قِبَل عمّال بني أُميّة، حتّى يُقبِل نحو الكوفة، فيُحاصَر في الطريق، فلا يصل إلى الكوفة ولا يرجع إلى الحجاز، بل يُقتَل في الفلاة.
وهذا ما رواه في (بحار الأنوار) عن (تاريخ الريّاشيّ)، بإسناده عن راوي حديثه، قال:
حججتُ، فتركتُ أصحابي وانطلقتُ اتعسّف الطريق وحدي، فبينما أنا أسير إذ رفعتُ طَرْفي إلى أخبيةٍ وفساطيط، فانطلقتُ نحوها حتّى أتيتُ أدناها، فقلتُ: لمن هذه الأبنية؟ فقالوا: للحسين. قلت: ابن عليٍّ وابن فاطمة؟ قالوا: نعم. قلت: في أيّهاهو؟ قالوا: في ذلك الفسطاط.
فانطلقت، فإذا الحسين متّكٍ على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يدَيه، فسلّمتُ فردّ علَيّ، فقلت: يا ابن رسول الله، بأبي أنت وأُمّي، ما أنزلَكَ في هذه الأرض القفراء الّتي ليس فيها ريفٌ ولا منعة؟! قال: «إنّ هؤلاء أخافوني، وهذه كتُبُ أهل الكوفة، وهم قاتلي،
ص: 113
فإذا فعلوا ذلك ولم يدَعُو لله محرَّماً إلّا انتهكوه، بعث الله إليهم مَن يقتلهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمة» ((1)).
فتأمّلْ في عبارة: «إنّ هؤلاء أخافوني»، يعني: حكومة الحجاز، و«هذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتلي»!!
ولذا فقد ورد عن الإمام (علیه السلام) أنّه لمّا ورد أرض كربلاء ((2))، كان أوّلُ كلامه: «اللّهمّ إنّا عترةُ نبيّك محمّد، وقد أُخرِجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدّنا ...» ((3)).
وقد جاء هذا بعينه في ما كتبه ابن عبّاس إلى يزيد: وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطّرادَك الحسين بن عليٍّ من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسَّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة ... ((4)).ثمّ عرفنا الّذين باشروا قتل الإمام (علیه السلام) ، فلم نجد فيهم أحداً من الشيعة أبداً ...
إلى أن قال:
والكلام كلّه على وجوه الشيعة ورجالها في الكوفة، وليس على
ص: 114
السواد الأعظم، كما هو واضح ((1)).
سنأتي فيما بعد على دراسة ردود الإمام (علیه السلام) على الكتب والرسائل الواردة من أهل الكوفة.. بَيد أنّ ثَمّة تنويهاً يستعجلنا للإشارة إليه ولو باختصارٍ إلى حين قراءة أجوبة الإمام (علیه السلام) .
وقد رأينا _ قديماً وحديثاً _ مَن يرتّب خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى العراق على وصول تلك الكتب إليه، وكأنّها هي السبب الرئيس والأصليّ لهذه الرحلة، لذا اقتضى التنويه.
والآن نستمع إلى النصوص أوّلاً، ثمّ نحاول مناقشتها إن شاء الله (تعالى):
بعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُلَ والكتُبَ يدعونه إليهم، فخرج متوجّهاً إلى العراق ((2)).
ص: 115
فأقام ابنُ الزبير بها، وشخص الحسينُ يريد العراق حين تواترَت عليه كتبُهم وترادفَت رسُلُهم ببيعته والسمعِ والطاعة له ((1)).
وسار من المدينة إلى مكّة، فأتاه كتُبُ أهل الكوفة وهو بمكّة، فتجهّز للمسير، فنهاه جماعةٌ، منهم أخوه محمّد ابن الحنفيّة وابن عمر وابن عبّاس وغيرُهم ((2)).
فلمّا قَدِم الحسينُ مكّة، كتب إليه سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة الفزاريّ وغيرهما من رجال أبيه وشيعته من الكوفة: هلمّ إلينا يا ابن رسول الله، فأنت أحقُّ بالخلافة من يزيد الخمور. وكتبوا بيعتهم.فلمّا أراد الخروج من مكّة، جاءه عبدُ الله بن عمر فقال: إلى أين
ص: 116
تسير يا أبا عبد الله؟ قال: «هذه بيعة أهل العراق وكتبُهم قد أتتني». قال: أتسير إلى قومٍ قتلوا أباك وخذلوا أخاك، وكانت طاعتهم لهما أكثر ممّا لك الآن؟! وجعل عبد الله يثبّطه عن الخروج، فلمّا أبى عليه اعتنقه وقال: أستودعك الله من قتيل ((1)).
قال هِشام بن محمّد: ثمّ إنّ حسيناً كثُرَت عليه كتبُ أهل الكوفة وتواترت إليه رسُلُهم: إنْ لم تصل إلينا فأنت آثِم!!! لوجود الأنصار على الحقّ، وتمكّنك من القيام به، فإنّك أصلُه وعموده وأهله ومعدنه.
فعزم على المسير، فجاء عبد الله بن عبّاس وقال: يا ابن عمّ، إنّ أهلَ الكوفة قومُ غدرٍ، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه. فقال: «يا ابن عمّ، هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجبَ علَيّ إجابتهم! وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)». فبكى عبد الله حتّى بلّ لحيته، وقال: وا حسيناه ((2)).
فقال الحسين (علیه السلام) لهاني بن هاني السبيعيّ وسعيد بن عبد الله
ص: 117
الحنفيّ: «خبِّراني، مَن اجتمع على هذا الكتاب الّذي كتب به إليّ معكما؟»، فقالا: يا ابن رسول الله، شبث بن ربعيّ، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو ابن الحجّاج، ومحمّد بن عمير بن عطارد.
قال: فعندها قال الحسين (علیه السلام) ، فصلّى ركعتين بين الركن والمقام، وسأل الله الخيرة في ذلك.
ثمّ طلب مسلم بن عقيل وأطلعه على الحال، وكتب معه جواب كتبهم يَعِدُهم بالقبول ((1)).
بالمدينة أن يأخذ له البيعة على الحسين، ففرّ لمكّة خوفاً على نفسه، فسمع به أهلُ الكوفة، فأرسلوا إليه أن يأتيهم ليبايعوه ويمحو عنهم ما هم فيه من الجَور.
فنهاه ابن عبّاس، وبيّن له غدرَهم وقتلَهم لأبيه وخذلانهم لأخيه، فأبى، فنهاه أن لا يذهب بأهله، فأبى، فبكى ابن عبّاس وقال: واحبيباه، واحسيناه.
وقال له ابن عمر نحو ذلك، فأبى، فبكى ابن عمر، وقبّل ما بين عينيه، وقال: أستودعك الله من قتيل ((1)).
* * * * *
هذه النصوص تشتمل على صياغةٍ تفيد المتلقّي ترتيب خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) على وصول الكتب إليه، وأنّه اعتمد على وعود المكاتِبين وبنى عليها.. وقد رأينا مَن راح ينظّر لهذا البناء ويبني عليه ويستخلص منه الدروس والعِبَر والتعاليم والمعالم الّتي تكشف عن دور الأُمّة وجماعة الناس، ويحلّل ويفصّل، وما إلى ذلك من دراساتٍ وبحوث..
ويمكن تسجيل بعض الملاحظات عليها:
أفاد ابن سعدٍ ومَن تلاه أنّ أهل العراق بعثوا إلى الإمام (علیه السلام) الرسُلَ
ص: 119
والكتب يدعونهم إليهم، فخرج متوجّهاً إلى العراق.. وهذا التفريع بالفاء والتتالي في العبارة يفيد بوضوحٍ أنّ خروجه (علیه السلام) كان مترتّباً على الرسل والكتب ((1)).
وجاءت عبارة السيوطيّ قريبةً جدّاً من عبارة ابن سعد، إذ رتّب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة إلى العراق على الرسل والكتب الّتي دعَتْه إليهم ((2)).
وفي تعبير المسعوديّ: «وشخَصَ الحسينُ يريد العراق حين تواترت عليه كتبهم وترادفت رسلهم ببيعته ...» ((3))، فالإمام (علیه السلام) إنّما شخص حين ألحّت عليه الكتب والرسل.. ويبدو هنا الترتيب واضحاً أيضاً.
ويبدو الترتيب جليّاً في عبارة ابن الأثير والدياربكريّ: «وسار من المدينة إلى مكّة.. فأتاه كتب أهل الكوفة وهو بمكّة، فتجهّز للمسير ...» ((4))، إذ
ص: 120
يُلاحَظ استخدام فاء التفريع في (فأتاه) و(فتجهّز)، وكأنّهما حدَثان متلازمان، يعلّل الأوّلُ منهما الآخَر، وأنّه إنّما تجهّز لأنّ الكتب أتته.ونجد في تركيب عبارة البريّ تصويراً موهِماً، إذ يصوّر أنّ الإمام (علیه السلام) حين قدم مكّة كتب إليه سليمان بن صُرد وجماعته: «هلمّ إلينا».. فيعزم الإمام (علیه السلام) على الخروج إليهم.. فيعترض عليه ابن عمر.. فيجيبه الإمام (علیه السلام) : «هذه بيعة أهل العراق وكتبهم قد أتتني» ((1)).. ممّا يفيد بجلاءٍ أنّ الإمام (علیه السلام) قد اعتمد تلك البيعة والكتب وبنى عليها، وهي قد شكّلَت له دافعاً رئيسيّاً وسبباً أصيلاً لاختيار هذه الوجهة.
أمّا نصّ ابن الجوزيّ، فقد طار بها بعيداً وذهب بها عريضة، فهو يصوّر أنّ كتب القوم قد كثرت إلى الإمام (علیه السلام) ، وتواترت رسلهم يحمّلونه المسؤوليّة ويرونه آثماً _ والعياذ بالله _ إن لم يصل إليهم ولم يستجب لدعوتهم، وقد عزم الإمام (علیه السلام) على إثر تلك الكتب والرسائل على المسير، وحين جاءه عبد الله بن عبّاس ينهاه عن الاستجابة لقومٍ عُرفوا بالغدر، ردّ عليه الإمام (علیه السلام) : «هذه كتبهم ورسُلُهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم، وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)!» ((2)).
ص: 121
وبهذا يتبيّن أنّ إجابة القوم واجبٌ على الإمام (علیه السلام) !! وقد قام لهم العذر على الإمام (علیه السلام) عند الله، ولا محيص من قبول دعوته، لئلّا يقع الإمام (علیه السلام) في المعصية والإثم!! نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر إلى مليكنا خامس أصحابالكساء (علیه السلام) .
وكذا نجد في عبارة ابن حجَر، وطريقة سياقه للأحداث ترتيبٌ ينكشف بسرعةٍ للمتلقّي ((1)).
وقد اختصر اليافعيّ ما أراده القوم بعبارةٍ صريحةٍ فجّةٍ وقحة، قال: «وجاءته كتب أهل الكوفة يحضّونه على القدوم عليهم، فاغترّ» ((2)).
وجاءت عبارة السيّد ابن طاووس بصياغةٍ مزعجةٍ إلى حدٍّ بعيدٍ جدّاً، كأنّها تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) بعد أن سمع اجتماع الأعداء _ أمثال شبثٍ وجماعته _ على الكتابة إليه، (فعندها) وثب إلى الصلاة والاستخارة وتقرير الموقف، وكأنّ كتابة هؤلاء كانت هي الداعي والدافع القويّ الّذي أنهى الأمر وجعل الإمام (علیه السلام) لا يتردّد، وهذا النوع من التصوير اللائح من صياغة العبارة فيه من التعبير المزعج بشدّةٍ لرسم موقف الإمام (علیه السلام) .
قال السيّد (رحمة الله) :
فقال الحسين (علیه السلام) لهاني بن هاني السبيعيّ وسعيد بن عبد الله
ص: 122
الحنفيّ: «خبِّراني، مَن اجتمع على هذا الكتاب الّذي كتب به إليّ معكما؟»، فقالا: يا ابن رسول الله، شبث بن ربعيّ، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو ابن الحجّاج، ومحمّد بن عمير بن عطارد.قال: فعندها قال الحسين (علیه السلام) ، فصلّى ركعتين بين الركن والمقام، وسأل الله الخيرة في ذلك.
ثمّ طلب مسلم بن عقيل وأطلعه على الحال، وكتب معه جواب كتبهم يَعِدُهم بالقبول ((1)).
يُلاحَظ بوضوحٍ أنّ مفاد هذه النصوص هو نتيجة صياغة المؤلّف، وليست نصوصاً تاريخيّةً تحمل هذا المؤدّى!
بتعبيرٍ آخَر: إنّ المفاد الحاصل من تركيب العبارة إنّما يعبّر عن فهم المؤرّخ، أو هو الفهم الّذي يريد إلقاءه إلى ذهن المتلقّي، بغضّ النظر عن سير الحوادث وترتّب الأحداث، وبغضّ النظر عن البيانات والتصريحات الصادرة عن رجال صياغة الحدث.
فتبقى النتيجة الحاصلة خاويةً من أيّة قيمة، ولا يكون لها أيّ تأثيرٍ على مَن يريد تمحيص التاريخ واستخراج الحقائق وتثبيت الوقائع..
ص: 123
وللمتلقّي أن يناقش المؤرّخ في مدى صحّة فهمه وتقريراته حسب الحوادث والتصريحات المثبتة على صفحات كتب المؤرّخين.
حينما يقرأ المتلقّي المتون التاريخيّة ويحاول ربط الأحداث والتصريحات والمواقف، يجد ربطاً يلوح بوضوحٍ ينتج ما يصبو إليه المؤرّخ والسلطان، إذ أنّ تصريحات المعارضين تؤكّد أنّ القوم المكاتِبين لا يمكن الاعتماد عليهم؛ لما لهم من تاريخٍ ملوَّثٍ في الغدر والخيانة، بالخصوص مع آل البيت (علیهم السلام) ، وقد دأبوا على نكث العهود مع أمير المؤمنين والإمام الحسن المجتبى الأمين (علیهما السلام) حتّى عدَوا عليهما فقتلوهما غدراً.. فكيف يمكن الاعتماد على كتبهم ووعودهم؟!
وهذا ما أكّده المعارضون في تصريحاتهم ومواقفهم مع الإمام (علیه السلام) ، حيث أنّهم كانوا يلحّون على الإمام أن لا يرضى بكتبهم ووعودهم، وهذا التأكيد بنفسه يأتي في سياقٍ يدعم ترتيب المؤرّخ خروج الإمام على دعوات القوم.
أكّد الإمام (علیه السلام) أنّ سبب خروجه من مكّة إنّما هو خوف الاغتيال وهتك حرمة الحرم والدم المقدّس في البيت الحرام، ولم يعتدّ بالكتب إلّا بمقدار الاحتجاج على الآخَرين، كما أسلفنا ويأتي.
ص: 124
لو كان الإمام (علیه السلام) قد خرج معتمِداً كتبَ أهل الكوفة ورسائلهم ووعودهم، لَما كان لإرسال المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) معنى، سيّما حينما نلاحظ المهمّة الّتي كلّف بها الإمامُ (علیه السلام) مبعوثَه، فقد اتّفقَت النصوص على تكليف المولى الغريب مسلم (علیه السلام) بتقصّي حقيقة أمر القوم ومدى تطابق نواياهم ومواقفهم مع ما كتبوه ووعدوا به، وقد أتينا على تفصيل ذلك في مجموعة المولى الغريب (علیه السلام) في الجزء الأوّل تحت عنوان (مسلم بن عقيل (علیه السلام) ثائرٌ أم سفير؟).
التأمُّل في المتون التاريخيّة يفيد بوضوحٍ إلحاحَ السلطان العاتي الغاشم من خلال تصريحاته وتوظيفه لقلم المؤرّخ المأجور على تخطئة الإمام المعصوم وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، من حيث اعتماده على زبدٍ موّاجٍ وقاعدةٍ رمليّةٍ متحرّكةٍ لا يمكن الارتكان إليها، وعدم قدرته على تشخيص الواقع، مع ما نوّه إليه المعترضون من أمثال ابن عبّاس وابن عمر على خطورة الإقدام على مِثل هؤلاء أشباه الرجال، وهو ما صرّح به اليافعيّ: «اغترّ»!
ص: 125
لمّا كان العدوّ والمعترض والمؤرّخ وأغلب المتلقّين يتعاملون مع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) باعتبارها خروجاً (بالمعنى المصطلح)؛ لتحقيق أغراضهم وتصويب ما يصبون إليه، وإن لزم من ذلك تخطئة الإمام (علیه السلام) ، بل هو مقصود الثلاثة الأوائل، إذ أنّهم سعوا إلى إثبات ذلك بشتّى صنوف التعابير والأكاذيب والافتراءات..
ومَن كان ينوي الخروج (بالمعنى المصطلَح)، لا يستغني بحالٍ عن قاعدةٍ واسعةٍ من مختلف شرائح النسيج الاجتماعيّ، لتكون معه ركيزةٌ يعتمد عليها، ولا يمكن أن يصدق على حركته عنوان الخروج (بالمعنى المصطلَح) كمصطلحٍ علميٍّ اجتماعيٍّ سياسيٍّ دقيقٍ ما لم تكن الشريحة الأكبر في المجتمع مساندةً له أو متعاطفةً معه عمليّاً، ومقتنعةً بشعاراته ووعوده الّتي يقدّمها لهم لتغيير واقعهم المتردّي السيّء القاتم إلى مستقبلٍ زاهرٍ واعد..
فيما نرى أنّ ما يبيّنه الإمام (علیه السلام) بصراحةٍ واضحةٍ لا يمكن الالتواء عليه أنّه لم يكن في هذا المنحى، وإنّما هو مهدَّدٌ بالقتل، وغاية ما يريده الدفاع عن نفسه ومَن معه من المحكوم عليهم بالقتل، إمّا مباشرةً أو غير مباشرة، من قبيل أنصاره، فمنهم مَن يقصد العدوُّ قتلَه للتخلّص من آثار أبي تراب، ومنهم مَن سيقتله، لأنّه سيدفع عن عيال أبي تراب وذكراه، ولا يدَع أحداً
ص: 126
منهم يُصاب بأذىً ما دام فيه عرقٌ ينبض أو جفنٌ يطرف..
ومثل هذا الموقف لا يحتاج إلى الناس ولا مكاتبتهم، إلّا بما يحقّق له الدفاع عن نفسه.
وقد عرفنا قبل قليلٍ أنّ الإمام (علیه السلام) لا ينوي إسقاط النظام، ولم يطلب في حركته الحكم واستلام زمام القيادة ودفّة الحكم، وهو أمرٌ مُجمَعٌ عليه عند الطائفة المحقّة.
نوّهنا في أكثر من موضعٍ أنّ الإمام المعصوم (علیه السلام) يأخذ تكليفه من الله (عزوجل) ، ويعمل طبق الأوامر الإلهيّة الّتي تحدّد له تكليفه، وهو بعد ذلك لا يأخذ من الناس شيئاً من تكليفه، ولا مدخليّة للناس من قريبٍ ولا من بعيدٍ في تحديد موقف الإمام (علیه السلام) !
والإمام (علیه السلام) لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يستوحش من الطريق لقلّة سالكيه.. وقد بعث الله موسى وهارون إلى فرعون الجبّار العاتي الّذي ادّعى الربوبيّة، ولم يكن معهم أحدٌ من الخلائق، وكم من نبيٍّ بعثه الله إلى قومه وحيداً فريداً، وجعل الأئمّة (علیهم السلام) حجّته على العالمين ولم يكن معهم ناصرٌ ولا معين.
أجل، قد يكون استعداد الناس للنصرة ظرفاً يرقبه الإمام (علیه السلام) ، وهو لم يتوفّر أيّام الإمام الحسين (علیه السلام) .. فلو كان الناس قد اجتمعوا في مشارق
ص: 127
الأرض ومغاربها، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأُنثاهم، حرّهم وعبدهم، على نصرة الإمام (علیه السلام) ، والإمام لم يكن له تكليفٌ من الله بالقيام لَما قام، والعكس هو الصحيح، فلو أنّ الأرض كلّها خذلَت الإمام (علیه السلام) ، وكان الإمام مكلّفاً من الله بالقيام لَقام، ولا يضرّه بعد ذلك خذلان مَن خذل.
أجل، لو كان وجود الناصر شرطاً في التكليف الإلهيّ، فإنّ تشخيص ذلك يكون مع الإمام، وهو إنّما يقدم بالجزم واليقين والعلم الّذي لا يقبل الخطأ، وليس بالظنّ والترجّي، ويبقى مع ذلك إقدام الإمام امتثالاً لأمر الله، وليس لوجود الناصر، فليس للناس دخلٌ في إيجاد أصل التكليف في ذمّة الإمام، وإنّما يكون وجودهم وامتثالهم والتزامهم خطّة الإمام شرطاً في تحقّق التكليف الإلهيّ على أقصى التقادير، لا أكثر.
ذكر السيّد الشريف المرتضى (رحمة الله) مسألةً في كتابه (تنزيه الأنبياء (علیهم السلام))، تعرّض فيها إلى العذر في خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة في تلك الظروف العصيبة من استيلاء العدوّ على البلد وانبساط الأمر والنهي فيها للوالي من قِبل يزيد اللعين، وقد رأى الإمام (علیه السلام) صُنعَ أهل الكوفة بأبيه وأخيه، وطبعَهم في الغدر والخيانة، وماإلى ذلك..
وسنأتي على ذِكر كلامه مفصَّلاً في محلّه إن شاء الله (تعالى) عند الحديث عن خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، لمناسبة المسألة لتلك
ص: 128
الفترة، ونكتفي هنا بالإشارة إلى ما يخصّ بحثنا هنا من الاعتماد على كتب أهل الكوفة ورسائلهم.
قال الشريف المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء (علیهم السلام)):
مسألة:
فإن قيل: ما العذر في خروجه (علیه السلام) من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة، والمستولي عليها أعداؤه والمتأمِّرُ فيها من قِبَل يزيد اللعين منبسطُ الأمر والنهي، وقد رأى (علیه السلام) صُنعَ أهل الكوفة بأبيه وأخيه وأنّهم غدّارون خوّانون؟
وكيف خالف ظنّه ظنّ جميع أصحابه في الخروج، وابن عبّاس يشير بالعدول عن الخروج ويقطع على العطب فيه، وابن عمر لمّا ودّعه (علیه السلام) يقول: أستودعك الله من قتيل، إلى غير ما ذكرناه ممّن تكلّم في هذا الباب ...
الجواب:
قلنا: قد علمنا أنّ الإمام متى غلب في ظنّه أنّه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوّض إليه بضربٍ من الفعل، وجب عليه ذلك، وإنْ كان فيه ضربٌ من المشقّة يتحمّل مثلها تحمّلها.وسيّدنا أبو عبد الله (علیه السلام) لم يسِرْ طالباً للكوفة إلّا بعد توثُّقٍ من القوم وعهودٍ وعقود، وبعد أن كاتبوه (علیه السلام) طائعين غير مكرهين، ومبتدئين غير مجيبين.
وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرّائها،
ص: 129
تقدّمَت إليه (علیه السلام) في أيّام معاوية وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسن (علیه السلام) ، فدفعَهم، وقال في الجواب ما وجب، ثمّ كاتبوه بعد وفاة الحسن (علیه السلام) ومعاوية باق، فوعدهم ومنّاهم، وكانت أيّاماً صعبةً لا يُطمَع في مثلها.
فلمّا مضى معاوية، عادوا المكاتبة وبذلوا الطاعة وكرّروا الطلب والرغبة، ورأى (علیه السلام) من قوّتهم على مَن كان يليهم في الحال من قِبل يزيد اللعين وتشحّنهم عليه وضعفه عنهم ما قوّى في ظنّه أنّ المسير هو الواجب، تعيّن عليه ما فعله من الاجتهاد والتسبّب.
ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهلُ الحقّ عن نصرته، ويتّفق ما اتّفق من الأُمور الغريبة ...
ثمّ ذكر من الأُمور الغريبة حصول ابن زيادٍ في دار هانيء عائداً لشريك ابن الأعور:
وقد كان شريك وافق مسلم بن عقيل على قتل ابن زياد اللعين عند حضوره لعيادة شريك، وأمكنه ذلك وتيسّر له، فما فعل، واعتذر بعد فوت الأمر إلى شريك ...ولو كان فعل مسلم بن عقيل بابن زياد ما تمكّن منه ووافقه شريك عليه، لَبطل الأمر، ودخل الحسين (علیه السلام) الكوفة غير مدافعٍ عنها ...
وأمّا مخالفة ظنّه (علیه السلام) لظنّ جميع مَن أشار عليه من النصحاء، كابن عبّاس وغيره، فالظنون إنّما تغلب بحسب الأمارات، وقد
ص: 130
تقوى عند واحدٍ وتضعف عند آخَر، ولعلّ ابن عبّاسٍ لم يقف على ما كوتب به من الكوفة وما تردّد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود والمواثيق، وهذه أُمورٌ تختلف أحوال الناس فيها، ولا يمكن الإشارة إلّا إلى جملتها دون تفصيلها ...
وليس يمتنع أن يكون (علیه السلام) من تلك الأحوال مجوزاً أن يفيء إليه قومٌ ممّن بايعه وعاهده وقعد عنه، ويحملهم ما يكون من صبره واستسلامه وقلّة ناصره على الرجوع إلى الحقّ ديناً أو حميّة، فقد فعل ذلك نفرٌ منهم حتّى قُتلوا بين يديه شهداء، ومثل هذا يُطمَع فيه ويُتوقّع في أحوال الشدّة ((1)).
لا نريد إطالة الوقوف بين يدَي السيّد الشريف المرتضى؛ لمقتضى رعاية الأدب، بَيد إنّنا نحاول إيجاز بعض التلميحات تعليقاً على كلامه (رحمة الله) ؛ لرعاية واجب الدفاع عن ساحة سيّدنا وسيّده وسيّد الخلقأجمعين سيّد سادات البشر الإمام الحسين (علیه السلام) ..
قد يُقال: إنّ السيّد المرتضى كان يخاطب العقل السنّيّ الّذي كان يعيش في أجوائه يومذاك في بغداد، وعليه فهو في مقام المحاججة والإقناع، وله أن يعتمد كلاماً وفق متبنّيات الخصم، ليحقّق ما يصبو إليه
ص: 131
من الإقناع.
بَيد أنّ هذا الفرض _ مع إمكانه، بل وصحته _ يبقى دون تسويغ مقالة السيّد؛ إذ أنّ فيه من المغالطة والمجازفة ما لا ينسجم حتّى مع متبنّيات القوم، وهو يؤدّي إلى تخطئة الإمام (علیه السلام) وتصحيح ظنون معارضيه المقدّسين عند العامّة، فلا يتحقّق إقناع الخصم، كما سيتّضح لنا من خلال التنويهات التالية.
يبدو واضحاً من كلام السيّد أنّه يتعامل مع ما قام به الإمام الحسين (علیه السلام) وفق مباني العامّة وطريقة تعاملهم مع خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، فهم لا يقولون بعصمته (علیه السلام) ، ويجعلونه في صفّ الآخَرين من الصحابة والشخصيّات والوجوه، كابن عبّاس وابن عمر وغيرهما، بل ربّما يجدون في غيره من الصحابة مَن يتقدّم عليه في القداسة والحنكة والخبرة، والعياذ بالله من هذا الكلام، بيد أنّه واقع القوم..لذا نجده يوازن ظنون القوم بظنون سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويُبدي اعتماد سيّد الشهداء (علیه السلام) على الظواهر الخارجيّة دون الارتكان إلى التسديد الإلهيّ الخاصّ الّذي لا يفارق المعصوم أبداً.
لقد كرّر السيّد تعبير غلبة الظنّ على الإمام (علیه السلام) ، وقوي الظنّ عنده،
ص: 132
وأنّ الإمام (علیه السلام) عمل بهذا الظنّ الغالب أو القويّ عنده، ومؤدّى الظنّ قد يُخطئ وقد يُصيب، كما ثبت أنّه قد أخطأ بالفعل حين انقلب الناس على الإمام (علیه السلام) وحاربوه..
والحال أنّ الإمام المعصوم المسدَّد من الله بتسديد العصمة، والعالم بالله المزوَّد بالعلم الإلهيّ في كلّ شيءٍ وفي كلّ أمر، والعالم بما كان وما يكون وما هو كائن، لا يعمل بالظنّ ولا يحتاجه بحالٍ بتاتاً، وعلى هذا قامت عقيدة الشيعة الإماميّة الحقّة، ومناقشة ذلك ليس هذا محلّه.
يبدو واضحاً من كلام السيّد أنّه يقوم على أساس أنّ الإمام (علیه السلام) كان لا يعرف مآل أمره ولا يعلم بمصيره، فلاحظ الوقائع الخارجيّة، فغلب على ظنّه أحد طرفَي القضيّة، فاتّخذ القرار معتمِداً على الظنّ القويّ الغالب، ثمّ وقعَت الواقعة نتيجة جملةٍ من الاتفاقات الغريبة غير المحسوبة، وجرى القضاء بما جرى..وهو أساسٌ غير صائبٍ واعتمادٌ غير موفَّق، يكذّبه الواقع التاريخيّ والأحاديث الشريفة المتظافرة، فالتاريخ والحديث الشريف وإخبارات سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه تفيد بما لا يقبل الشكّ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان عالماً بمآله ومصرعه وموضع دفنه وزمان قتله وتفاصيل ما يجري عليه.
هذا كلّه بغضّ النظر عن علم الإمامة الّذي نعتقده في الإمام المعصوم.
ص: 133
بناء كلام المرتضى على أنّ الإمام (علیه السلام) قد غلب على ظنّه أنّه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوّض إليه بضربٍ من الفعل، وأنّ ما فعله الإمام (علیه السلام) إنّما كان واجباً عليه، لأنّه قد وجد الناصر..
وهذا البناء مهزوز القواعد مترنّح الأساس؛ لأنّه لا يصمد ولا يقوى على تفسير حركة الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) بعد أن بلغه خبر شهادة مسلم ابن عقيل (علیه السلام) وانقلاب أهل الكوفة على أعقابها، لذا اضطرّ السيّد إلى التمسّك بمقالة آل عقيل، وأنّهم يريدون الثأر لدم مسلم (علیه السلام) ، ممّا اضطرّ الإمام إلى الاستمرار في طريقه إلى الكوفة.
وهذا يفيد أنّ استمرار الإمام (علیه السلام) بعد شهادة مسلم (علیه السلام) لم يكن للوصول إلى حقّه، لأنّ الناصر قد انعدم، ولأنّ الاستمرار حصل تحت إصرار آل عقيل للثأر لدم مسلم (علیه السلام) .
هذا كلّه على فرض التسليم بما قاله أوّلاً، وحوادث التاريخ ومؤدّياتبيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّها تشهد بخلاف ذلك، إذ لم يكن خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة لغرض الوصول إلى حقّه، ولم تكن رسائل أهل الكوفة قد وصلَت إليه آنذاك ليُقال: إنّه قد وجد الناصر!
أضف إلى ذلك بيانات الإمام (علیه السلام) في مكّة، كما سنسمع بعد قليل الإشارة إلى ذلك.
فلابدّ إذن من إثبات الأساس الّذي اعتمد عليه، وهو أنّ الإمام (علیه السلام)
ص: 134
إنّما توجّه إلى الكوفة ليصل إلى حقّه والقيام بما فوّض إليه، وأنّ الأمر صار واجباً عليه، كما يُزعَم، ثم يبادر إلى البناء عليه.. والحال أنّ دون إثبات ذلك إجماع الإماميّة القائم على أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن طالباً للحكم ولا لإقامة ما فُوّض إليه، وأنّه كان عالماً بالقطع واليقين والجزم بقتله وقتل مَن معه، وأنّه ساكن كربلاء في رحلته تلك.
وبعد أن فقد الإمامُ الناصرَ _ وفق الإخبار التاريخيّ وسير الحوادث _ بعد شهادة مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، فإنّ هذا الواجب المزعوم في ذمّة الإمام قد فقد شرطه، وهو وجود الناصر، فلا معنى للاستمرار للإتيان بتكليفٍ لم يجب، بل قد يكون حراماً وفق القواعد السارية في المقام؛ لليقين بفقد الناصر والإقدام على القتل لا محالة.
ثم ليثبت بعد ذلك أنّ الإمام المعصوم المأمور بالتكليف من الله مباشرةً قد عزم على التضحية بدمه الزاكي ودماء مَن معه وتعريضِ آل اللهوعِرض الرسول إلى النهب والسلب والسبي، نزولاً عند رغبة آل عقيل وعزمه للثأر لدم المولى الغريب مسلم بن عقيل!!! ((1))
ص: 135
ذكر السيّد أنّ الإمام «قوي ظنّه أنّ المسير هو الواجب، فتعيّن عليه ما فعله من الاجتهاد، ولم يكن في حسبانه (علیه السلام) أنّ القوم يغدر بعضهم ويضعف أهلُ الحقّ عن نصرته ويتّفق ما اتّفق من الأُمور الغريبة»..
قلنا: إنّ الإمام (علیه السلام) لا يعمل بالظنون، وإنّما يعمل بالعلم الجزميّ القطعيّ!
أضف إلى ذلك: إنّ الإمام لا يعمل بالاجتهاد، لا في أصل الأحكام ولا في الموضوعات، كيف وهو المشرّع، وهو أعلم الخلق بالخلق، حسب اعتقادنا الحقّ.
وقد اعتقد أهل الخلاف أنّ المجتهد مأجورٌ على كلّ حال، فإن أخطأ فله حسنة، وإن أصاب فله حسنتان.. وهو ما برّروا به لرجالهم كلّ ما فعلوه في التاريخ من مخازي.
والإمام عندنا ليس مجتهداً يعمل بالظنّ الّذي قد يُخطئ وقد يُصيب، وإنّما هو الحقّ الحقيق الّذي لا يتعريه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!
قال السيّد (رحمة الله علیه) :
وأمّا مخالفة ظنّه (علیه السلام) لظنّ جميع مَن أشار عليه من النصحاء، كابن عبّاس وغيره، فالظنون إنّما تغلب بحسب الأمارات، وقد تقوى عند واحدٍ وتضعف عند آخَر، ولعلّ ابن عبّاسٍ لم يقف على
ص: 136
ما كوتب به من الكوفة وما تردّد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود والمواثيق، وهذه أُمورٌ تختلف أحوالُ الناس فيها، ولا يمكن الإشارة إلّا إلى جملتها دون تفصيلها ((1)).
في هذا المقطع مجازفةٌ عظيمة، إذ أنّه اعتبر غلبة الظنون إنّما تغلب بحسب الأمارات، وقد تقوى عند واحدٍ وتضعف عند آخَر، ثمّ قارن بين غلبة الظنون عند ابن عبّاس وعند الإمام (علیه السلام) ، وهذه بنفسها مجازفةٌ مخيفةٌ مرعبة العواقب، ولا ندري كيف يمكن أن يُقاس ابن عبّاسٍ وابن عمر وأمثالهم بالحسين بن عليّ بن أبي طالب سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) ؟! بغضّ النظر عن الإمامة وخامسيّة أصحاب الكساء!
ثمّ إنّه بنى عدم اطّلاع ابن عبّاس بما كوتب به الإمام (علیه السلام) من الكوفة والعهود والمواثيق على (لعلّ)، ولا شكّ أنّ ابن عبّاس كان عالماً بما كتبهأهل الكوفة، وقد صرّح في جميع مواقفه مع الإمام بتحذير الإمام من عاقبة الاعتماد على ما كتبوا والعهود والمواثيق الّتي نمّقوا، فهو احتمالٌ باطلٌ وغير قابلٍ للتساهل فيه.
والأهمّ من ذلك كلّه:
إنّ محصّل كلام السيّد (رحمة الله علیه) : إنّ ثَمّة عواملاً سبّبَت غلبة الظنّ عند الإمام (علیه السلام) لم تتوفّر عند ابن عبّاس، فغلب على ظنّه أمرٌ آخَر، وبالتالي
ص: 137
عمل الإمام (علیه السلام) بظنّه، فكانت النتيجة ما آلَ إليه أمره وأمر مَن معه من الشهادة والسلب والنهب والسبي..
فكان ظنّ ابن عبّاس هو الأصوب، وهو الصحيح، فيما كان ظنّ الإمام مخطئاً غير صائب _ نستغفر الله ونستجير به من هذه النتيجة البائسة _.
وربّما كان هذا النمط من التفكير هو الّذي دعا مثل سبط ابن الجَوزيّ وغيره من رواية فرية ندم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتذكّره ابن عبّاس ونصائحه، والترضّي عليه، وقوله فيه: كأنّه ينظر من ستر رقيق.. وقد أتينا على مناقشة ذلك مفصَّلاً في محلّه، فلا نعيد.
لقد مرّ معنا مراراً وسيأتي أيضاً: إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يذكر سبباً للخروج من مكّة سوى القطع الحاصل والجزم المتنجّز بالقتل، وأنّه إنْ تأخّر بعد الموعد الّذي خرج فيه ولو يوماً واحداً لَكان القوم يغتالونه أويأخذونه أخذاً، لذا تعجّل الخروج، ولم يبقَ في مكّة حتّى تنتهي مناسك الحجّ، وكان الناس قد باشروا الخروج إلى المشاعر يوم خرج الإمام (علیه السلام) من مكّة.
وأمّا توجُّهه للعراق دون غيره من البلدان، فقد أتينا على بيانه في أكثر من موضع، وخلاصته:
إنّ القوم قد سدّوا جميع المنافذ، وأخذوا على الإمام (علیه السلام) أقطار الأرض
ص: 138
وآفاق السماء، ولم يتركوا له مخرجاً سوى العراق، وقد خذلَته البلدان جميعاً، ولم يكن في الأمصار مصراً قد أعلن استعداده لاستقبال آل الله وعيال رسول الله (صلی الله علیه و آله) سوى الكوفة..
وكانت الدعوات على مستويين:
منها: الكاذب الخدّاع الغرّار المتلوّن المتقلّب، وهم الأكثريّة الكاثرة الّتي يعرفها الإمام (علیه السلام) حقّ المعرفة، وقد مارسها وعالجها وكابدها بنفسه منذ أيّام أبيه وأخيه..
ومنها: الصادق الثابت الراسخ الوفيّ البرّ الطيّب الطاهر، وهم القلّة من الديّانين، الّذين وعدوه النصرة وكانوا على موعدٍ معه، من أمثال حبيب وبُرير وزُهير وعابس وشوذب وأمثالهم، وهؤلاء كانوا في الكوفة، وقد قصدهم الإمام (علیه السلام) في واقع الحركة، ولم يكن لهؤلاء نظيرٌ في أقطار الأرض، لا في المدينة ولا في مكّة ولا في اليمن ولا مصر ولا البحرين، ولافي أيّ بلدٍ آخَر..
المهمّ هنا التنويه إلى أنّ الإمام (علیه السلام) لم يذكر فيما صرّح به وبيّنَه للآخَرين أنّه إنّما يتوجّه إلى العراق معتمِداً على كتب أهل الكوفة، ولا بانياً على دعوات رسلهم ورسائلهم، ولَطالما أخبر الإمام (علیه السلام) بوضوحٍ لمن اعترضه وذكّره بخيانة أهل الكوفة وغدرهم أنّه لا يخفى عليه الرأي، وأنّه يعرفهم ويعرف تاريخهم، هذا كلّه بغضّ النظر عن علم الإمامة، وبغضّ النظر عن أنّ معرفة المتابع للتاريخ يقطع بيقينٍ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان أعلمَ أهل
ص: 139
زمانه بأهل زمانه، وأنّه كان _ بلا شكٍّ ولا ريبٍ _ أعلمَ مِن جميع المعترضين عليه، بما لا يمكن المقارنة والمقايسة بينه وبينهم.
أمّا بعض الموارد الّتي رواها لنا التاريخ الّتي كان الإمام (علیه السلام) يذكر فيها كتب أهل الكوفة ويخرجها لهم، فهي داخلةٌ في دائرة الاحتجاج وإقامة الحجّة والإقناع لمن لا يفهم سوى هذه اللغة.
فليس من المستحسَن، بل ولا المقبول، أن يصفح المتلقّي عن كلام الإمام (علیه السلام) ويصمّ عنه أُذُنه، ويُقبِل على أقوال المؤرّخ وأعداء الإمام (علیه السلام) !
أضف إلى ذلك:
لو كان الإمام (علیه السلام) قد توجّه إلى الكوفة بسبب كتبهم ورسائلهم ودعواتهم، فإنّه تبيّن له وللعالمين انكفاؤهم وانقلابهم وخذلانهم ورجوعهمعن دعواتهم منذ أن بلغَته رسالة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) الّتي أخبره بذلك، وبلغه شهادته وشهادة هانيء ومَن كان معهما، ولقد أخبره المخبرون أنْ ليس له في الكوفة ناصرٌ ولا معين..
فحينئذٍ لم يكن لاستمراره في المسير معتمداً على الكتب والرسل ومَن كتبها وأرسلها، ولا الارتكان إلى الدعوات.
أجل، يمكن الاحتجاج على مَن كاتب وراسل بما كتب وأرسل!
قال السيّد (رحمة الله علیه) :
وليس يمتنع أن يكون (علیه السلام) من تلك الأحوال مجوزاً أن يفيء إليه قومٌ
ص: 140
ممّن بايعه وعاهده وقعد عنه، ويحملهم ما يكون من صبره واستسلامه وقلّة ناصره على الرجوع إلى الحقّ ديناً أو حميّة، فقد فعل ذلك نفرٌ منهم حتّى قُتلوا بين يديه شهداء، ومِثل هذا يُطمَع فيه ويُتوقّع في أحوال الشدّة ((1)).
هذه النهاية الّتي ينتهي إليها السيّد (رحمة الله) على نحو عدم الامتناع والإمكان من حصول نفرٍ تحملهم الحميّة والرجوع إلى الحقّ، كما فعل نفرٌ منهم حتّى قُتلوا بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومِثل هذا يُطمَع فيه ويُتوقّع فيأحوال الشدّة!!
والحال أنّ الفرض الّذي ابتدأ به: إنّ الإمام (علیه السلام) إنّما قام يطلب بحقّه ليحكم بما فُرض عليه من أمر الله، وفعل النفر القليل والنزر اليسر من العدد في ذلك اليوم العصيب ممّن حملَته غيرتُه أو دفعَته حميّتُه على عرض الرسول، فانبرى للدفاع عن دم النبيّ ولحمه وسبطه وريحانته، لا ينفع في تحقيق الغرض الّذي من أجله قام (علیه السلام) .
وكيف يمكن الطمع والتوقّع لمثل هذا العدد اليسير لمثل هذا الإقدام العظيم الّذي ذكره السيّد في أوّل كلامه، وذلك على نحو الاحتمال والإمكان؟!
يعني أنّ الإمام (علیه السلام) استمرّ في مسيره بعد أن بلغه شهادة المولى الغريب
ص: 141
مسلم (علیه السلام) وانقلاب الكوفة وخذلانها بالكامل، طمعاً في إمكان حصول بعض النفر الّذين ستحرّكهم الحميّة والغَيرة للالتحاق به، ليقوم بما فرض الله ويطالب بحقّه، وهو ليس متأكّداً من حصول هذا النفر، وإنّما يحتمل ذلك لأنّه ليس ممتنع عقلاً!!!
ويستشهد لذلك بحصول مِثل هذا النفر في كربلاء، حيث التحق به مَن التحق وانتقل إلى صفّه وقاتل دونه حتّى قُتل..
وممّا لا شكّ فيه: إنّ مَن التحق بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء من معسكر الأعداء، لم يكن قد التحق بدافع المطالبة بحقّ الإمام (علیه السلام) فيالحكم، ولم ينصر الإمام (علیه السلام) ليُسقِط حُكمَ الأُمويّين ويقيم حكم ربّ العالمين، وإنّما انتقل مَن انتقل منهم من صفّ أهل النار إلى الدرجات العُلى في الجنان حين سمع واعية الحسين (علیه السلام) واستغاثته وغربة آل الله وغربة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزيز الزهراء (علیها السلام) ، فجاء ليدفع عن الرياحين الّتي أذبلها العطش وأسرعت في استئصالها سيوفُ الظلم والطغيان.
نحسب أنّ افتراض قصد الإمام (علیه السلام) أنصاره الّذين كان يجزم بوجودهم في الكوفة، وهم القليل الديّان الجاهز للتضحية والذبّ عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهم أكثر بكثيرٍ من العدد المحتمَل الّذي كان يتوقّع الإمام لحاقهم ممّن التحق بالفعل منهم.
* * * * *
كيف كان، إن كان السيّد المرتضى (رحمة الله) قصد إقناع الشيعيّ وحاول
ص: 142
تفسير حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) له، فهو لم ينجح في ذلك؛ لمخالفة ما ذكره مع مسلّمات العقيدة الشيعيّة الحقّة في الإمام المعصوم، وغيرها من الإشكالات الّتي لا يمكن الجواب عليها.
وإن كان يقصد إقناع العقل السنّيّ وتفسير الموقف له، فقد جاءت المقالة مخالفةً لمقصده، واحتوت من المغالطات والمصادرات ما يمنعها من النهوض ويحول دون تلقّيها بالتسليم والقبول، ولم تُثمِر ما أراده، كيف وقد أدّى كلامه على أقلّ التقادير إلى تصويب المعارض وتخطئة الإمام (علیه السلام) فيالظنون!
وتمام الكلام في مناقشة ذلك يأتي في محلّه، إن شاء الله (تعالى).
إختلفَت المصادر في التعبير عن تتابع الرسُل وتواتر الكتب على الإمام (علیه السلام) ، ويمكن تقسيمها إلى طوائف:
أشار ابن سعدٍ ومَن تلاه إلى ذلك إشارةً مضمرة، فقال:
بعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُلَ والكتب، يدعونه إليهم ((1)).
عمد بعض المؤرّخين إلى ذِكر تواتر الكتب على الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وترادف الرسُل عليه ((2))، وأنّ الكثير من أهل الكوفة كاتبه ((3))،وتحالفوا وتابعوا الكتب إليه ((4))، ووردَت عليه كتبُ أهل الكوفة كتابٌ بعد كتاب ((5))، فكتبوا إليه كتباً كثيرةً وأنفذوا إليه الرسُل إرسالاً ((6))،
ص: 144
فكثرت الكتب وتواترت الرسائل ((1)).
تحدّثَت هذه الطائفة عن تتالي الرسل من حيث انطلاقها من الكوفة.
فهم قد بعثوا رسولَين يحملان كتاباً، وردا على سيّد الشهداء (علیه السلام) لعشرٍ خلَون من شهر رمضان..
ثمّ سرّحوا بعد ذلك بيومين قيسَ بن مسهر ومَن معه..
ثمّ لبثوا يومَين آخَرَين، ثمّ سرّحوا إليه هانئ بن هانئ ومَن معه..
وكتب إليه أخيراً شبثٌ وجماعتُه.. ((2))
وقد ذكرت بعضُ المصادر هذا التتابع بالبعث، من دون تحديد المدّة
ص: 145
بين كلّ بعثٍ وبعثٍ آخَر بيومَين أو ليلتَين، واكتفت بذكر الترتّب والتعاقب بين الرسل في الانطلاق، فكان الأوّل فلانٌ والثاني فلانٌ والثالث فلان، وكتب أخيراً شبث وجماعته ((1)).
ذكرت طائفةٌ أُخرى من المصادر توالي الرسل وتواتر الكتب، وقد لحظَت تتابعَها في الوصول والحضور بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) .
فوافت المجموعةُ الأُولى الإمامَ (علیه السلام) بمكّة لعشرٍ خلَون من شهر رمضان، فأوصلوا الكتاب إليه..
ثمّ لم يُمسِ الإمام الحسين (علیه السلام) يومه ذلك حتّى وردَت عليه المجموعة الثانية..
فلمّا أصبح وافاه رسولان..
فلمّا أمسى أيضاً ذلك اليوم ورد عليه كتاب شبث وجماعته.. ((2))
ذكر بعض المؤرّخين الحدَثَ من خلال ذِكر كتب أهل العراق إلى الإمام
ص: 146
الحسين (علیه السلام) ، وأنّهم وجّهوا بالرسُل على إثر الرسُل، فكان آخِرُ كتابٍ ورد عليه منهم كتاب هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، فاقتصر الإشارة إلى الكتاب الأخير باعتباره خاتمة المراسلات ((1)).
* * * * *يمكن الإفادة من هذه الطوائف عدّة إفادات:
إذا أردنا حمل المجمَل على المبيَّن والعامّ على المفصَّل، نجد أنّ طائفتين من الطوائف الستّة المذكورة أعلاه قد فصّلَت وبيّنَت، وهما الثالثة والرابعة، أمّا الطوائف الأُخرى فقد اقتصرت على وجود كتب ورسل متواترةٍ على سيّد الشهداء (علیه السلام) .
وفي الطائفتين المفصّلتين نجد ثلاث دفعاتٍ فقط مختومةً بكتاب شبث وجماعته، فتكون مجموع الدفعات الّتي انطلقَت نحو الإمام (علیه السلام) من الكوفة أو وصلت إليه في مكّة مع احتساب كتاب شبث وجماعته لا تتجاوز الأربعة.
وبهذا يمكن أن نخرج من ضجيج الطوائف الأُخرى الّتي لم تحدّد، وأطلقَت الكلام ورسمته في صورةٍ تزدحم فيها الرسل وتتواتر الكتب، وكأنّ
ص: 147
السماء صارت تمطر صحفاً، والأرض تُخرج من كلّ مترٍ منها رسولاً، فهم ينسلون نحو الإمام (علیه السلام) ، ويصدرون أشتاتاً كأنّهم جرادٌ منتشر، والكتب تتطاير من هنا وهناك..
يبدو أنّ الأمر ليس كذلك _ كما يحاول بعض المؤرّخين تصويره _؛ فهي أربع دفعاتٍ من الرسل، كلّ دفعةٍ كانت تتكوّن من رسولَين أو ثلاث،لا أكثر.. وهذا هو كلّ ما وصل إلى الإمام (علیه السلام) ، وجميع مَن انطلق إليه من الرسل، حسب المتحصّل من عباراتهم!
أجل، قد تكون كلّ دفعةٍ منهم تحمل عدّة رسائل وكتب، ولكن يبقى الأمر ليس على ما يصوّره المؤرّخ، كما سنعرف بعد قليلٍ حين ندرس عدد الكتب الواردة.
ولا يقال: إنّ هذه المجموعة من الرسل الّتي سمّاها لنا المؤرّخ ونوّه بأشخاصهم وأسمائهم، فيما وصل الإمامَ (علیه السلام) من الرسل الكثير ممّن لم يحصرهم المؤرّخ بأسمائهم.. فإنّ هذا الفرض بعيدٌ جدّاً، ولا يمكن اصطياده من عبارات المؤرّخين الّتي سمعناها، سيّما أنّهم لم يصيغوا هذه المعلومة في لفظٍ من ألفاظهم، بحيث يُستفاد منها أنّ ثَمّة رسلاً أُخرى غير مَن سمّوهم كانوا قد وصلوا الإمام (علیه السلام) حاملين معهم كتباً من أهل الكوفة.
إتّفقَت المصادر _ حسب الفحص _ أنّ الكتاب الأخير الواصل إلى
ص: 148
الإمام (علیه السلام) كان كتابَ زمرة النفاق والشرك والضلال، أعداءِ الله ورسوله وأعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، شبث وجماعته _ عليهم لعائن الله المنتقم الجبّار _.. وكان هذا الكتاب هو خاتمة المكاتبات والمراسلات من قِبل أهل الكوفة..وقد سمعنا في بعض النصوص ترتيب خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) على وصول الكتاب الأخير، كما هو المستفاد بوضوحٍ من عبارة السيّد ابن طاووس، فكأنّ الإمام (علیه السلام) قد عزم على الخروج وقام وصلّى بعد أن سمع من الرسل أنّ هؤلاء الطغاة الطغام الأوغاد قد كتبوا إليه، بمعنى أنّ الإمام (علیه السلام) قد بادر إلى الإجابة، فلا حاجة لقدوم الرسل وكتابة الكتب وتوجيه الدعوات..
وربّما كانت هذه الإشارة نافعةً لمن أراد أن يدرس موقف هؤلاء الأوغاد ويتناول فعالهم بالتفصيل، إذ أنّ وصول كتابهم في آخِر المطاف.. خاتمة كتب أهل الكوفة، يُنبئ عن تأخُّرهم في الكتابة، وتأخّرهم في الكتابة يشي بالكثير!
يُلاحَظ أنّ الفاصل بين دفعات الرسل كانت لا تتجاوز الأيّام الستّة؛ فقد بعثوا الدفعة الأُولى، ثمّ تربّصوا يومين فبعثوا الدفعة الثانية، ثمّ تربّصوا يومَين آخَرَين وبعثوا الدفعة الثالثة، وكان بعد ذلك كتاب شبث
ص: 149
وجماعته ((1))..
ويلزم أن يكون كتاب شبث وجماعته في نفس تلك الفترة، ولم يتأخّركثيراً عمّن سبقه؛ بشهادة وصوله في نفس تلك الفترة.
وقد كان الكتاب الأوّل هو كتاب سليمان بن صُرد وجماعته بالإجماع، والكتاب الأخير هو كتاب شبث وجماعته بالإجماع، وانقطع الخطاب! وليكن بينهما ما يكون من الرسائل والرسل..
وربّما أفاد هذا التحديد أنّ فترة الهيجان والغليان الّتي أفرزت الكتب لا تتجاوز الأُسبوع، ثم خمدَت الفورة، وتبدّد الأوار، وكُسرت الأقلام، وأُريقَت المحابر..
ويشهد لذلك ما سنسمعه بعد قليلٍ من انقطاع الرسل، ومبادرة الإمام (علیه السلام) إلى إرسال أخيه وثقته مسلم (علیه السلام) مع الرسل القادمين إليه إلى
ص: 150
الكوفة.
ذكر الدينوريّ وابن أعثم والخوارزميّ وابن الجَوزيّ أنّ الدفعة الأُولى الّتي كانت تحمل كتاب سليمان بن صُرد وجماعته وافت الإمامَ (علیه السلام) بمكّة لعشرٍ خلَون من شهر رمضان، فأوصلوا الكتاب إليه، ثمّ لم يُمسِ الإمام الحسين (علیه السلام) يومه ذلك حتّى وردَت عليه المجموعة الثانية، فلمّا أصبح وافاه رسولان، فلمّا أمسى أيضاً ذلك اليوم ورد عليه كتاب شبثوجماعته ((1)).
أي: إنّ الدفعة الأُولى كانت قد وصلَت يوم العاشر من شهر رمضان، والدفعة الثانية وصلت نفس اليوم العاشر مساءً، ثمّ وافت الدفعة الثالثة صباح اليوم الحادي عشر، وكانت الخاتمة (كتاب شبث) نفس اليوم الحادي عشر مساءً..
فكانت مدّة تواتر الكتب وتوافد الرسل لا تتعدّى اليومين فقط، مهما افترضنا عدد الكتب والرسل، إذ أنّ النصوص أجمعَت على ذِكر الأوّل والأخير منها، كما سمعنا كراراً.
وإذا أردنا التحرّر من تحديد الدينوريّ ومَن تلاه، فإنّنا لا يمكن أن
ص: 151
نفلت من تحديد الرسالة الأُولى، إذ أنّ الجميع قد أجمعوا على وصول الدفعة الأُولى في العاشر من شهر رمضان..
وقد تبيّن لنا أنّ الإمام (علیه السلام) قد بادر إلى إرسال أخيه في الخامس عشر من شهر رمضان، وكانت الرسل والكتب قد اجتمعَت عنده وانقطعَت من الكوفة، فتكون فترة توافد الكتب على أقصى التقادير خمسة أيّام، امتدّت من العاشر إلى الخامس عشر من الشهر الفضيل..
وهذا الفرض لا يمكن المناقشة فيه، وهو ينسجم مع الأيّام الستّة المذكورة في الفاصل بين خروج الرسل وانطلاقهم من الكوفة، وقد ذكرناههنا من باب التسليم والعمل بالقدر المتيقّن، وإلّا ففي تحديدات الدينوريّ ومَن تلاه كفاية.
عرفنا أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد شرّف مكّة في الثالث من شعبان، وعرفنا أنّ أوّل الرسل وافوا الإمام (علیه السلام) في العاشر من شهر رمضان.. فتكون المحصَّلة أنّ أوّل الكتب وصلَت إلى الإمام (علیه السلام) بعد أن أمضى الإمام (علیه السلام) زهاء سبعةٍ وثلاثين يوماً في مكّة، أي: بعد شهرٍ وأُسبوعٍ تقريباً من إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة!
فإذا أضفنا عليها أيّام الطريق بين مكّة والمدينة، حيث خرج الإمام (علیه السلام) في اليوم الثامن والعشرين من رجب، تكون المدّة يومين من
ص: 152
شهر رجب _ على فرض التمام في الشهور _ وشهر شعبان وعشرة أيّامٍ من شهر رمضان، ويكون المجموع اثنين وأربعين يوماً.
فإذا أضفنا عليها ثلاثة عشر يوماً، لنبلغ الخامس عشر من شهر رجب، حيث تسلّق القرد المجدور المسعور ونزا على منبر الرسول (صلی الله علیه و آله) ، يكون المجموع خمسةً وخمسين يوماً.
أي: إنّ كتب الكوفيّين ورسائلهم وصلت إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد شهرين إلّا خمسة أيّام تقريباً من حكم الطاغوت الماجن.فإذا أنقصنا منها مدّة عشرين يوماً _ مسافة الطريق للمُجدّ بين الكوفة ومكّة _، يكون أهل الكوفة قد بادروا إلى إرسال الرسل والكتب بعد زهاء خمسةٍ وثلاثين يوماً من حُكم يزيد الخمور، وهي مدّةٌ ليست بالقصيرة!
ولا يخفى أنّ هذه الحسابات بالأيّام كلّها فروضٌ يمكن اصطيادها من مجريات الأحداث وعلى فرض تماميّة الشهور.
وافت الدفعة الأُولى من الرسل سيّدَ الشهداء (علیه السلام) في العاشر من شهر رمضان، وكان خروج الإمام (علیه السلام) من البيت الحرام في الثامن من شهر ذي الحجّة الحرام، فتكون المدّة بين وصول الدفعة الأُولى وخروج الإمام (علیه السلام) زهاء ثمانيةٍ وثمانين يوماً..
ص: 153
عشرون يوماً من شهر رمضان، وثلاثون يوماً شهر شوّال، وثلاثون يوماً شهر ذي القعدة، وثمانية أيّامٍ من شهر ذي الحجّة.
ومن المعلوم أن ليس ثَمّة رسلٌ ولا كتبٌ كانت تتواتر وتتوافد وتتوالى على الإمام (علیه السلام) في هذه الفترة، إذ أنّها انقطعَت بعد الكتاب الأخير الّذي ورد عن شبثٍ وجماعته.
وكانت هذه المدّة المديدة في حساب حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) والأيّام الطويلة في غضون أيّام قيامه (علیه السلام) ، تفيد أن ليس في ردود فعل الإمام (علیه السلام) واستجابته للرسل أيّ عجلةٍ ولا أيّ اغترارٍ ولا انفعال، ولم يكن الإمام (علیه السلام) قد تعجّل في الاستجابة إلى تلك الكتب، فلابدّ من البحث عن سببٍ آخَر لتعجُّل الإمام (علیه السلام) في الخروج من مكّة وتركه التريّث حتّى الانقضاء من أداء النسُك وحضور موسم الحجّ الّذي كان قد حلّ أيّام خروجه (علیه السلام) .
وقد صرّح الإمام (علیه السلام) بالسبب في غير موضعٍ كما سمعنا، وخلاصته أنّه إنّما خرج حفاظاً على الحرمات، وتجنّباً لهتك المقدّسات، وسفك دمه الزاكي في البيت الحرام!
يبدو من خلال النصوص الّتي سردناها أنّ القوم قد انقطعوا عن الكتابة والمراسلة بعد ورود الكتاب الأخير من شبث وجماعته بعد أن دعا الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أخاه مسلم بن عقيل (علیه السلام) وكلّفه بمهمّته وأرسله مع
ص: 154
القاصدين، والحال أنّ المولى الغريب (علیه السلام) ومَن معه قد قضوا عشرين يوماً في مسيرهم إلى الكوفة، فلماذا انقطعوا عن الكتابة؟!
أضف إليها فترة عشرين يوماً _ مسافة الطريق للمُجدّ _ كانت الفاصل بين خروج آخِر الرسل من الكوفة حاملاً كتاب شبث وجماعته، فتكون المدّة زهاء أربعين يوماً لم يصل فيها كتابٌ ولا رسول!
وهذا الحساب _ على فرض صحّته _ يفيد أنّ القوم كانت مراجلهمتغلي وتأزّ أزيزاً في فترةٍ محدودة، وكان المكاتِبون محدودين محصورين، لا يتكاثرون ولا تتجدّد أعدادهم بحيث يكتب الجدُدُ لإعلان النصرة، وإنّما هم أنفسهم كتبوا ودخلوا حيّز الانتظار!
الكلام هنا عن عدد الكتب الواردة وفق ما ذكره المؤرّخ، وليس عن عدد المكاتِبين، فربّما اشترك الاثنان والثلاثة بكتابٍ واحد.
وسيأتي بعد قليلٍ النظر في عدد المتون المرويّة في الكتب، وهي تفيد كشاهدٍ على عدد الكتب، إذ أنّنا سنرى أنّ نصوص الكتب المرويّة محصورةٌ أيضاً بعددٍ محدودٍ لا يتجاوز العشرة على فرض التعدّد وعدم الاتّحاد.
ويمكن تقسيم النصوص الواردة في عدد الكتب إلى عدّة أعداد:
ص: 155
لم تذكر مجموعةٌ كبيرةٌ من المصادر عدداً محصوراً للكتب الواردة إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهي على ما يبدو الأكثر عدداً في جملة المصادر.
وقد اكتفى ابن سعدٍ ومَن تلاه بالإشارة إلى أنّ أهل العراق أرسلوا إلى الإمام (علیه السلام) كتباً ورسلاً يدعونه، وأنّ هذه الكتب والرسل كانت تترى علىالإمام (علیه السلام) بعضها إثر بعض.. هكذا من دون أيّ تحديدٍ لعدد الكتب أو المكاتبين، فتواترَت عليه كتبهم وترادفَت رسلهم ((1)).
ص: 156
وعمد بعضهم إلى ذِكر إرسال الكتب، واقتصر على الإشارة إلى كتاب سليمان فقط ((1))، أو ذكر أسماء بعض مَن كتب، كشبث وسليمان والمسيّب ووجوه أهل الكوفة ((2))، وهو لا يفيد عدد الكتب، إذ قد يكون جماعةٌ اشتركوا بكتابٍ واحد، كما هو كذلك.
وقال الطبرسيّ: «فكتبوا إليه كتباً كثيرة، وأنفذوا إليه الرسُل إرسالاً»، ثمّ ذكر كتاباً مختصراً، ثمّ قال: «فكتب إليه أُمراء القبائل»، وذكر كتاب شبث ((3)).
وكذا فعل ابن الجَوزيّ، فقال: «ووجّه أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) »، ثمّ ذكر كتاباً، ثمّ قال: «وكتب إليه سليمان بن صُرد ...» ((4)).
وهذه العبارات لا يمكن استحصال عددٍ محصورٍ منها بعد أن عمّمَت، ثمّ ذكرت نموذجاً من الكتب.
ص: 157
لم يُشر مسكويه إلى عددٍ معيَّن، بَيد أنّه ذكر اجتماع رؤساء الشيعة، مثل سليمان بن صُرد وجماعته، فكتبوا، ثمّ ذكر اجتماعاً آخَر، فكتبوا، ثمّ ذكر اجتماعاً ثالثاً، وقال: فكتبوا.
وهذا لا يفيد عدداً خاصّاً، إذ أنّ كلّ اجتماعٍ قد يكون أفرز كتاباً واحداً أو أكثر، وسياق عبارته يفيد بوضوحٍ أنّها ثلاث كتبٍ كتبوها على ثلاث دفعات، قال:
فكاتبوا الحسين بن عليّ ... ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة، مِثل سليمان بن صُرد ... وكتبوا إليه ... ثمّ اجتمعوا ثالثةً، فكتبوا إليه.
وذكر كتاب شبث.. ((1)).
يقول ابن قُتيبة:
فأتاه كتاب أهل الكوفة ...
ثمّ ذكر كتاب سليمان فقط ((2)).
وكذا قال البرّيّ:
ص: 158
كتب إليه سليمان بن صُرد الخزاعيّ ((1)).واقتصرا على ذلك، فكأنّ عبارتهما تفيد أن ثَمّة كتاباً واحداً صدر عن أهل الكوفة تصدّر اسم سليمان.
ذكر البلاذريّ كتابَ سليمان بن صُرد، ثمّ ذكر الرسل الّذين حملوا نحواً من خمسين صحيفة، ثمّ الكتاب الّذي حمله هانيء السبيعيّ وسعيد الحنفيّ، ثمّ كتابَ شبث ((2)).
وكذا فعل الطبريّ في إحدى رواياته، بيد أنّه قال: نحواً من ثلاثةٍ وخمسين صحيفة ((3)).
فيكون مجموع الصحائف على أقصى تقديرٍ ستّةً وخمسين صحيفةً وفق تقرير الطبريّ، وثلاثةً وخمسين وفق تقرير البلاذريّ.
ذكر الدينوريّ كتاب سليمان، ثمّ خمسون كتاباً حملها ابن مسهر الصيداويّ ومَن معه، ثمّ خمسون كتاباً حملها هاني السبيعيّ ومَن معه، ثمّ
ص: 159
كتاب شبث ((1)).
وذكر ابن الصبّاغ والشبلنجيّ كتاب سليمان، ونحواً من مئة كتاب، وكتاباً واحداً عامّاً على لسان الجميع ((2)).فيكون مجموع الكتب المرسَلة في تقدير الدينوريّ وابن الصبّاغ مئةً واثنين.
ذكر ابن أعثم والشيخ المفيد والخوارزميّ والفتّال ومَن تلاهم كتاب سليمان، ثمّ نحواً من خمسين ومئة كتاب، ثمّ كتب شبث ((3)).
وربّما أفادت عبارة الشيخ ابن شهرآشوب وابن الأثير والنويريّ وغيرهم أنّ ثَمّة كتاباً قبل كتاب شبث وصل إلى الإمام (علیه السلام) مضافاً إلى ما ذكروه ((4)).
ص: 160
فيكون مجموع الكتب وفق الأعلى من هذه التقديرات هي ثلاثةٌ وخمسون ومئة كتاب.
قال الدينوريّ:
فتتابعَت عليه في أيّامٍ رسُلُ أهل الكوفة من الكتُب ما ملأ منه خُرجَين ((1)).
وفي لقاء الحرّ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) واحتجاج الإمام (علیه السلام) عليهم، قالوا:
فأخرج الحسين (علیه السلام) خُرجَين مملوءَين صُحُفاً ((2)).والمتحصَّل من كتب اللغة والتاريخ: إنّ الخُرج هو وعاءٌ (كيس) من شَعرٍ أو جلدٍ أو صوفٍ أو كتّانٍ يُوضَع فيه الأمتعة ((3))، وقد يُحمَل على البعير
ص: 161
أو الحمار أو الكبش أو يحمله الرجل، فهو غير متعيَّن الحجم والسعة، فقد يكون كبيراً، وقد يكون صغيراً ((1)).. والخرج والكرز سواء، ويُقال للكبش الّذي يحمل الخرج: كرازاً ((2)).
وبهذا لا يمكن أن نستفيد كمّاً محدَّداً للكتب من خلال التعبير الوارد (ما يملأ خُرجَين)، فربّما كان الخرج كبيراً وربّما كان صغيراً، ويمكن للخُرجَين أن يستوعبا خمسين رسالةً أو مئة كتابٍ أو أكثر أو أقلّ، أمّا أن يستوعبا (اثني عشر ألف كتابٍ) فهذا ما يصعب تصوّره!
إنفرد الشيخ ابن نما _ حسب الفحص _ بذكر عددٍ ضخمٍ من الكتب، فذكر أنّ الكتب قد تواترت حتّى تكمّلَت عنده اثنا عشر ألف كتاب، ثمّ قدم إليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ بكتاب، وهو آخر الكتب ((3)).
فهي اثنا عشر ألفاً وواحد!
وتبعه على هذا العدد السيّد ابن طاووس بتفصيلٍ آخَر، حيث ذكر كتاب سليمان بن صُرد.. وأنفذوا جماعةً معهم نحو مئةٍ وخمسين كتاباً منالرجُل والإثنين والثلاثة والأربعة.. فورد عليه في يومٍ واحدٍ ستّمئة كتاب،
ص: 162
وتواترت الكتب حتّى اجتمع عنده في نوبٍ متفرّقةٍ اثنا عشر ألف كتاب.. ثمّ قدم عليه (علیه السلام) بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ ... بهذا الكتاب، وهو آخِر ما ورد على الحسين (علیه السلام) من أهل الكوفة ((1)).
فتكون النتيجة هو نفس العدد الّذي ذكره الشيخ ابن نما، باختلافٍ في التفاصيل ليس إلّا.
لم تتعرّض مجموعةٌ كبيرةٌ من المصادر إلى التصريح بعددٍ معيَّن، كما لاحظنا ذلك في (العدد الأوّل)، وتراوحَت الأعداد الأُخرى في باقي المصادر بين الكتاب والواحد والمئة والخمسين كتاباً _ بغضّ النظر عن الأعداد الصغيرة في الزيادة والنقصان _، وما ذكره الدينوريّ (ما ملأ خُرجَين) وورد في كشف الإمام (علیه السلام) عنها في مشهد اللقاء بالحرّ، يمكن أن يكون لأكبر الأعداد المذكورة في المصادر (المئة والخمسين)، فإنّ مئةً وخمسين صحيفةً كانت تُكتَب يومها على الجلود أو الكتف أو الكاغذ الخشن المتصلّب السميك كافيةٌ لتملأ خُرجَين، وليس للخُرج سعةٌ معيّنةٌ، فقد يكون صغيراً وقد يكون كبيراً حسب الحاجة.ولم نجد _ ودائماً حسب فحصنا _ رقماً آخَر يربو على هذا العدد فيما توفّر
ص: 163
بأيدينا من المصادر والكتب.. وهذا العدد ليس قليلاً بالحسابات الاجتماعيّة وملاحظة الظروف الحاكمة يومذاك، سيّما أنّ المؤرّخ يصرّح أنّ الكتب المئة والخمسين كانت من الرجل والرجلين والثلاثة، فيكون المكاتبون أكثر من أربعمئةٍ وخمسون رجُلاً.
والمفروض أنّ المكاتبين كانوا من الوجوه والأعيان والشخصيّات، كما صرّح بذلك المؤرّخ نفسه، وهذا العدد من الوجوه والشخصيّات ليس بالعدد القليل، كما لا يخفى!
ويمكن إضافة عددٍ على هذا العدد لاستيعاب ما ورد من إخبارٍ بكثرة الرسائل من دون تحديد، أمّا أن تبلغ بمجموعها اثنا عشر ألف كتاباً، فمن المتعسّر تصوّر ذلك وتصويره، وذلك للعوائق التالية:
إنفرد بذكر هذا العدد الضخم الشيخُ ابن نما (رحمة الله) دون مَن سبقه من المؤرّخين والعلماء شيعةً وعامّة، ولم نجد لمثل هذا العدد الهائل إشارةً في المصادر الأُخرى!
إذا كانت المصادر تقتصر على التعابير الإجماليّة من دون تصريحٍ بعددٍمعيَّن، كما فعلت مصادر (العدد الأوّل)، ربّما كان بالإمكان حمل تلك المجمَلات على تفصيل الشيخ ابن نما..
ص: 164
بيد أنّ المصادر الأقدم من الشيخ ابن نما قد صرّحَت بأعدادٍ محدَّدةٍ لا تتجاوز المئة والخمسين كتاباً، فحمل المجمَلات على ما ورد في المصادر الأكثر والأقدم من الشيخ أصحّ وأَولى، سيّما إذا قبلنا أنّه ليس بالعدد القليل على مستوى الكتب والكاتبين.
فمن الصعب تجاوز تلك المصادر والالتزام بكلام الشيخ مع مخالفته لهم، وعدم وجود مسوّغٍ أو شاهدٍ يرجّح قول الشيخ على غيره.
إثنا عشر ألف صحيفة! يمكن تصوّر هذا العدد الضخم؟! وقد ذكرنا قبل قليلٍ أنّ الكتب كانت تُكتَب على الجلود والكتف، وعلى أقصى التقادير على (الكاغذ)، وكان الكاغذ يومها خشناً سميكاً صلباً، فكم سيكون حجم الاثني عشر ألف صحفية؟! سيّما أنّها كانت تُطوى ولا تُثنى، كما هو واضحٌ من تعبير المؤرّخ.
حتّى لو افترضنا أنّها كانت تُطوى متداخلة، فإنّ الكتب الّتي تتداخل عند الطوي لا يمكن أن تكون إلّا عدداً ضئيلاً، ثمّ تتّسع.
وقد علمنا من خلال (العدد السابع) أنّ مجموع الكتب كان لا يتجاوز (الخرجَين)، فلو قسّمتَ الكتب على الخرجَين لَكان حصّة كلّ خرجٍ ستّةآلاف كتاب، ولا ندري كيف سيتّسع الخرج إلى ستّة آلاف كتاب!
ص: 165
سمعنا في تقارير المؤرّخين أنّ المكاتبين كانوا من الوجوه والأعيان، فهل كان في الكوفة يومذاك اثنا عشر ألف وجهاً؟!
أو كانت الكتب من عامّة الناس كتبوها متفرّقين، كلّما اجتمع شخصان أو ثلاثةٌ كتبوا لحالهم وأعربوا عن موقفهم؟!
لا يبدو أنّ هذا النمط من الكتابة كان معهوداً تلك الأيّام، إذ كان الوجوه والأعيان والأشراف وشيوخ العشائر وكبراؤهم ورؤوس الأسباع أو الأخماس أو الأرباع يتحدّثون باسم أتباعهم، ويخاطَبون كعنوانٍ حاكٍ عمّن تحت لوائهم.
إثنا عشر ألف كتاب.. إذا كان كلّ كتابٍ من رجُل، فهم اثنا عشر ألف رجُل، وإن كان الكتاب من الرجُلين والثلاثة، فالعدد الأكبر ستّةٌ وثلاثون ألف رجل، وإن كان أكثر فأكثر.. وهذا العدد بأقلّه وأكثره يشي بحالةٍ من الانفلات الاجتماعيّ والعشائريّ والقَبَليّ لم يُعهَد عادةً في تلك الأيّام.
وإذا غمضنا النظر عن علم الإمامة، فإنّ التعرّف شخصيّاً إلى هذا العدد الضخم يكاد لا يُستساغ في الحسابات الاجتماعيّة، والاكتفاء بوصول الكتاب من رجُلٍ مجهولٍ غير معروفٍ لدى المكتوب إليه لا يُعدّ عقلائيّاً في مثل تلك الظروف العصيبة ولمثل ذلك الموقف المشهود والمشهدالمرهوب.
إذا كاتب شيخ العشيرة أو الوجه من الوجوه، فإنّه معروفٌ من جهةٍ
ص: 166
لدى المكتوب إليه، ويكون مسؤولاً عمّا كتب، وللمكتوب إليه تقييمه وتقييم مَن وراءه من الأتباع.. أمّا أن يكتب الناس، نكرتهم ومعرفتهم، كبيرهم وصغيرهم، مغمورهم ومجهولهم، فهذا ما لا يمكن الارتكان عليه والركون إليه، والإعدادُ لمواجهة الطاغوت وجُنده من خلال هذه الأعداد المجهولة المنشأ والمصدر والمآل.
ولا يخفى أن لو افترضنا أنّ هذا العدد كلّه كان مكاتِباً، فهو أيضاً لا يبلغ نصف عدد السيوف الّتي كانت في الكوفة.
سيأتي بعد قليلٍ إحصاء الرسل والمكاتبين، وقد عرفنا قبل قليلٍ أنّ مدّة انطلاق الرسل ووصولهم محصورة، إذ اتفق الجميع أنّ أوّل الرسل وافى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في العاشر من شهر رمضان، وكانت الرسل تترى في غضون يومين كما فصّل الدينوريّ، وعلى أقصى التقادير فإنّهم استمرّوا في التوافد إلى قبل الخامس عشر من الشهر الفضيل، لأنّ المولى الغريب (علیه السلام) قد خرج من مكّة في هذا التاريخ، وكانت الرسل قد انقطعَت كما صرّحوا، وكان الكتاب الأخير قد وصل من شبث وجماعته..
كما أنّ مدّة انطلاق الرسل لم تكن تتجاوز الأيّام الستّة، حسب ما عرفناقبل قليل.
ففترة الكتابة لا تتجاوز الأيّام الستّة كما ذكر المؤرّخ، أي: أنّهم كتبوا
ص: 167
اثني عشر ألف كتاباً في غضون ستّة أيّام.. كتبوا اثني عشر ألف صحيفة.. اثني عشر ألف ورقة!! إنّه عددٌ مهولٌ في غضون هذه الفترة المحدودة، وهو لا ينسجم مع العادة ومجريات الأحداث، وإن لم يكن خارجاً عن حدّ الإمكان.
والّذي يبدو واضحاً من تعبير المؤرّخ أنّ القوم الّذين كتبوا بأعيانهم وأشخاصهم أرسلوا الرسل بأسمائهم وأعيانهم، إذ حدّد المؤرّخ كلّ مجموعةٍ كتبت والرسولَ الّذي أرسلَت، فعلى يد مَن أرسل هؤلاء الّذين كتبوا اثني عشر ألف كتاب؟!
هل حمل نفس الرسل المذكورين بأسمائهم هذه الأعداد الضخمة؟ لم يصرّح المؤرخ بذلك، بل لم يُشر إليه ولو من بعيد.
فكم كان عدد الرسل الّذين حملوا هذا الكمّ الهائل، وخرجوا من الكوفة ووافوا سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة؟
لماذا لم يذكر الشيخ ابن نما ولا اسماً من أسماء هؤلاء الحمَلَة؟
هل حمل الرسل المنصوص عليهم بأسمائهم عند باقي المؤرّخين هذا السيل الهادر من الكتب؟
كيف توزّعَت هذه الأعداد الجسيمة الكثيرة على عددٍ محدودٍ منالرسل؟ وكيف خرجوا بها في ذاك الجوّ الملتهب، وقطعوا الفيافي والقفار واجتازوا المنازل والمفاوز حتّى وصلوا مكّة، وهم يحملون الخطر الخطير الّذي لا يمكن أن يخفيه الحامل لعظَم حجمه؟!
ص: 168
بغضّ النظر عن مناقشة ما رواه الشيخ ابن نما، فإنّنا نحسب أن لا ضرورة تدعو الباحث إلى التمسّك بروايته وغضّ الطرف عن المصادر الأُخرى الكثيرة، فقد تفرّد ابن نما برواية هذا العدد.
ولا ندري إن كان يقصد ذِكر أعداد المكاتِبين فسهى قلمه الشريف، وهو بعيد؛ إذ أنّ عبارته واضحةٌ في بيان المقصود.
أو أنّه وقف على متنٍ تاريخيٍّ لم يصلنا، وهذا ما لا يُلزمنا بشيء، إذ أنّه يبقى شاذّاً متفرّداً، سواءً لحظنا متن الشيخ أو المتن الّذي روى عنه.
ولا نحسب أنّ تضخيم عدد المكاتبين يغيّر في الأمر ويفسّر غامضاً في القضيّة؛ لأنّنا قرّرنا أنّ هذه الكتب لم تشكّل دافعاً ولا محرّكاً عند الإمام (علیه السلام) ، وليس لها أيّ دورٍ مركزيٍّ في قراراته.. وفي كتب الوجوه والأعيان والأشراف كفايةٌ لمن أراد أن يتّخذ قراراً وفق الكتب الواردة.
أضف إلى ذلك كلّه: إنّ الذهاب إلى ما ذهب إليه الشيخ ابن نما قد يوقعنا في ورطةٍ خطّط لها العدوّ، وطالما أشرنا إليها..
إنّها ورطة تخطئة الإمام المعصوم وتصويب المعترضين عليه، إذ أنّالاعتماد على اثني عشر ألف كتابٍ من مجهولين لا يُعدّ عملاً مسوّغاً عند العقلاء، وهذا ما كان يصرّ عليه المعترضون ويؤكّده الأعداء ويرسمه المؤرّخ بشتّى الصور والمواقف.
إنّ الإمام (علیه السلام) اعتمد كتب اثني عشر ألف مجهولٍ لا يُرتَكن إليه، لا
ص: 169
يعرفهم الإمام _ حسب الموازين الظاهريّة في البشر العادي _ بأشخاصهم، ولا يمكن تقييمهم ولا تقييم قدراتهم وقوّتهم ووفائهم وثباتهم واعتقادهم بما يكتبون، أليس هذا خطأ على كلّ الموازين؟!
أوَليس سيكون كلام ابن عمر وابن عبّاس وغيرهما من المعترضين صائباً صحيحاً، والإمام (علیه السلام) يأبى أن يُذعِن إليهم؟!
نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر إلى سيّدنا وإمامنا ووليّ أمرنا خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) .
صرّح سبط ابن الجَوزيّ وابن كثير أنّ الرسل اجتمعَت كلُّها بمكّة عند الإمام الحسين (علیه السلام) ((1))، وأفاد الآخَرون نفس هذا المعنى، حيث ذكروا أنّالرسل بقوا مع الإمام (علیه السلام) في مكّة، وأرسلهم الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة بصحبة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .
ربّما ذكر المؤرّخ اجتماعهم عند الإمام (علیه السلام) ليفيد ما صرّح به من عدم
ص: 170
إجابة الإمام (علیه السلام) لهم كلّاً على حدة، وإنّما جمعهم جميعاً، ثمّ أجابهم جواباً واحداً، كما سيأتي تفصيله.
ص: 171
ص: 172
ورد في المصادر التاريخيّة _ قُبيل ذِكر نصّ الكتاب أو في نفس الكتاب _ جملةٌ من الأسماء والعناوين، نحاول استكشافها، وهي تنقسم إلى أقسام:
أطلق بعضهم جُملةً من العناوين العامّة في خضمّ الحديث عن الكتاب ومرسليه، فجاءت متعدّدةً حسب اختلاف اللحاظ:
- بلاد العراق ((1)).
هذا العنوان يشمل رقعة العراق الجغرافيّة كلّها، بَيد أنّ الشواهد تؤكّد بلا تردُّدٍ أنّ المراد هم أهل الكوفة ((2)).
أجل، جاء في بعض الكتب تسويرٌ لأهل الكوفة، فقالوا:
- كثيرٌ من أهل الكوفة ((3)).
ص: 174
- جمعٌ جمٌّ من أهل الكوفة ((1)).
يبدو أنّ هذين التعبيرين أدقُّ نسبيّاً من الإطلاق الوارد الّذي يُوحي للمتلقّي أنّ أهل العراق وأهل الكوفة كلّهم كتبوا للإمام (علیه السلام) .
وعلى كلا التقديرين، فإنّ في التعبير مسامحةً وتساهلاً ومبالغةً يكذّبها الواقع القائم يومذاك في الكوفة؛ إذ أنّ المكاتِبين والمبايعين ولو اجتمعوا في حسابٍ واحدٍ لا يبلغون عدد سكّان الكوفة قطعاً، وقد عرفنا في بحث المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) أنّ العدد المكاتِب والمبايع لا يبلغ حدّاً يمكن التعبير عنه بمثل هذا التعبير، إذ أنّ الكوفة كانت راضخةً للسلطان، والعساكر كانت منتظمة، والشرطة والحرس كانوا من الكثرة ما يؤهّلهم لمسح بيوت الكوفة واستبرائها.كان العدد الّذي بايع المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ على المشهور _ لا يتجاوز الثمانية عشر ألفاً، في حين كان العدد الّذي يركب به هانئ بن عروة في مراد وأحلافه في كِندة ثلاثين ألفاً، وكان في الكوفة مئة ألف سيفٍ مسجَّلون في الديوان يُجري عليهم الوالي عطاءَها وهم تبعٌ مطيعون..
فالّذين لم يكتبوا ولم يبايعوا ولم يدخلوا في هذا الحدَث أكثر بكثيرٍ ممّن كتب أو بايع.
ص: 175
كيف كان، فإنّ المكاتِبين مهما بلغوا فإنّهم لا يشكّلون الأكثريّة جزماً، فلا مسوّغ لهذا التعبير العامّ المطلَق.
إلّا أن يُقال: إنّ هؤلاء من أهل الكوفة، فصحّ الاستعمال بتجوُّز.
- رجال أبيه وشيعته من الكوفة ((1)).
ويُلاحَظ هنا أيضاً أنّ التعبير يحمل شحنة إطلاقٍ شاملةٍ تعمّ جميع الشيعة من أهل الكوفة من المؤمنين والمسلمين وجماعتهم، وهم شيعته وشيعة أبيه ورجاله ورجال أبيه، وكأنّ كلّ فردٍ من أفراد الشيعة المتواجدين في الكوفة قد كتبوا، لا ينخرم منهم أحد، وأنّهم كانوا على مستوىً من التشيّع بحيث يُنسَبون إليه وإلى أبيه كرجالٍ لهم!
وفي التعبير مجازفةٌ واضحةٌ ومبالغةٌ فاضحة، سيّما إذا لاحظنا أنّ الكثير من كبار الشيعة ورؤوسهم المعروفين المشهورين الّذين لا يجوزهم موقفٌ ولا يمكن التغاضي عنهم لم ترد أسماؤهم في الكتب، وليسوا هم ممّن يتجاهله المجتمع أو لا يكون لذكر اسمه في الكتاب أثره الواضح.
ولو أغمضنا النظر عن القاعدة الكلّيّة الّتي أجريناها في مثل هذه المواضع، إذ أنّنا لا نعدّ مَن خذل الإمام (علیه السلام) أو غدر به شيعيّاً، وإن زعم هو ذلك أو عدّه الآخَرون في عداد الشيعة.. بغضّ النظر عن هذه القاعدة، فإنّ فيمن كاتب الإمام (علیه السلام) مَن هو في عداد الأعداء بلا شكٍّ ولا تردّد، مِن قبيل شبث بن ربعيّ وحجّار وجماعتهما.
ص: 177
من العناوين العامّة الواردة في المصادر أيضاً:
- أشراف الكوفة ورؤساؤها ((1)).
- وجوه أهل الكوفة ((2)).
وقد فسّروا ذلك بشبث بن ربعيّ وجماعته..
فهؤلاء هم الشرفاء والوجوه عند المؤرّخ، وهم من قيادات معسكر العدوّ الّذين باشروا القتال ضدّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولهم تاريخهم القذر الّذي أخزى البشريّة.
وعددهم محدودٌ لا يتجاوز الستّة أو السبعة، فلا يعدّون رقماً بإزاء مَن يسمّونهم الأشراف والوجوه في الكوفة يومذاك.
ورد لفظ: (أُمراء القبائل) ((3)) عند الطبرسيّ، من دون التصريح
ص: 178
بالأسماء، بَيد أنّه نقل نصّ رسالة شبث بن ربعيّ وجماعته، والظاهر أنّهم هم المقصودون بهذا اللقب.ومن الواضح أنّ هؤلاء لا يعدّون أُمراء القبائل على نحو الإطلاق، فإنْ كانوا كذلك فهم أُمراء لبعض الفروع والشُّعَب، وليسوا هم أُمراء قبائل الكوفة كلّها.
تبيّن لنا من خلال العناوين الّتي استعرضناها، أنّ ثَمّة مسامحةً أو مبالغةً وتهويلاً في استخدامها، ويكاد المتابع بدقّةٍ _ بعيداً عن الضجيج والتضخيم وزحمة الأحداث _ يطمئنّ أنّ توظيف هذه العناوين على إطلاقها وشمولها وعمومها غير صادقٍ ولا متطابقٍ مع الواقع.
ولا فرق في المبالغة بين ما يذكره المؤرّخ مستنداً إلى ما جاء في متون الكتب والرسائل أو لأغراضه الخاصّة، وبين ما ورد في متون الكتب نفسها؛ إذ أنّ المبالغات المذكورة في الكتب ربّما كانت طبيعيّةً متوقّعة، لأنّ مَن كتب إنّما كتب مِن موقعٍ حماسيٍّ هائج، يضطرّه الموقف إلى التهويل والتعظيم والتضخيم.
ولا يعني القول بوجود المبالغة نفي ضخامة العدد المكاتِب أو المبايع، بَيد أنّ هذا العدد _ وإن كان كبيراً _ لو نظرنا إليه وحده، فإنّه قليلٌ بالنسبة إلى عدد سكّان الكوفة وعدد العساكر المتكاثفة فيها يومذاك!
ص: 179
وهذه الحقيقة التاريخيّة لا تغيب أبداً عن العالِم بالله الإمام الحسين (علیه السلام) ،ولا على سفيره المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .. والمفروض أن لا تغيب عن المتلقّي والمتابع والباحث، لِما لها من دورٍ كبيرٍ في فهم الأحداث وتقييم المواقف.
صرّحَت المصادر بمجموعةٍ من الأسماء ممّن كاتب الإمامَ (علیه السلام) ودعاه وأعلن نصرته، وهم شخصيّاتٌ معروفةٌ لها ذِكرٌ في كتب التاريخ والرجال.
ولا نريد الدخول في بيان تفاصيل تراجمهم، فنبتعد عن مسار البحث، ونقتصر في التقييم على مواقفهم يوم الحسين (علیه السلام) ، ولا تهمّنا كثيراً مشاهدهم قبل يوم الطفّ ولا بعده.
كالبخاريّ ومسلم وأحمد وأبو داوود وابن ماجة والصنعانيّ، وقد خرّج له جميعُ مشايخ أهل السنّة أخباراً في كتبهم.
وهو شخصيّةٌ بارزةٌ تصدّرَت المشهدَ تلك الأيّام، حيث عُقد الاجتماع في بيته، وكان هو الخطيب المندفع الّذي تكلّم في القوم المجتمعين، ثمّأمَرَهم بعد أن توثّق منهم أن يكتبوا إلى الإمام (علیه السلام) يدعونه، ثمّ غاب عن المشهد بعد ذلك الاجتماع والمكاتبة، فلم نسمع له صوتاً ولم نشهد له موقفاً، ولا ندري أين حلّ به الدهر، حتّى ظهر بعد سنواتٍ من شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) رافعاً راية التوّابين، مندفعاً بحرقةٍ وحرارةٍ إلى قتال قتَلَة الإمام (علیه السلام) ، متعجِّلاً الرواح إلى الجنّة.
ص: 181
وقد بحثنا في المصادر الكثيرة المتوفّرة والكتب القديمة، فلم نجد ما يفيد أنّه كان محبوساً معتقلاً في تلك الفترة، سوى ما ذكره أحمد الحرّ العامليّ في كتابه (الدرّ المسلوك في تاريخ الأنبياء والأوصياء والملوك)، حيث قال:
فقبض على أكابر الكوفة، منهم: سليمان بن صُرد الخزاعيّ، والمختار ابن أبي عُبيدة الثقفيّ، ونحوهما من أربعمئة رجُلٍ من الأعيان، وسجنهم في أسوء حال، وأرهب الناس، وربط الطرق ((1)).
ولا ندري إن كان الشيخ العامليّ قد وقع على مصدرٍ يذكر ذلك فنقل عنه، أو أنّه استنتج ذلك كما فعل آخَرون، إذ اعتبروا أنّ سليمان كان من كبار الشيعة، وكان مندفعاً للدفاع عن الإمام (علیه السلام) ، وكانت له مواقف في صفّين.وإنّما خصّصنا صفّين دون الجَمَل؛ لأنّه كان قد تخلّف عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في الجَمَل متردِّداً أو شاكّاً، وقد عاتبه وعذله على ذلك أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد مرجعه من البصرة وقال له: «ارتبْتَ وتربّصتَ وراوغتَ ... فما قعد بك عن أهل بيت نبيّك وما زهّدَك في نصرهم؟» ((2)).
وكان له موقفٌ مع الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) بعد الصلح، ينمّ عن
ص: 182
طبعه الاندفاعيّ وهيجانه المزاجيّ..
قال ابن قُتيبة:
إنّه لمّا تمّت البيعةُ لمعاوية بالعراق وانصرف راجعاً إلى الشام، أتاه سُليمان بن صُرَد، وكان غائباً عن الكوفة، وكان سيّدَ أهل العراق ورأسَهم، فدخل على الحسن (علیه السلام) فقال: السلام عليكَ يا مُذلّ المؤمنين. فقال الحسن: «وعليك السلام، اجلس، لله أبوك».
قال: فجلس سليمان، فقال: أمّا بعد، فإنّ تعجّبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية، ومعك مئةُ ألف مقاتلٍ من أهل العراق، وكلُّهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقةً في العهد ولا حظّاً من القضيّة، فلو كنتَ إذ فعلتَ ما فعلتَ وأعطاكما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق، كنتَ كتبتَ عليك بذلك كتاباً وأشهدتَ عليه شهوداً من أهل المشرق والمغرب أنّ هذا الأمر لك من بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنّه أعطاك هذا فرضيتَ به من قوله.
ثمّ قال: وزعم على رؤوس الناس ما قد سمعتُ: إنّي كنتُ شرطتُ لقومٍ شروطاً، ووعدتُهم عِداتٍ، ومنّيتُهم أماني، إرادةَ إطفاء نار الحرب ومداراةً لهذه الفتنة، إذ جمع الله لنا كلمتنا وأُلفتنا، فإنّ كلّ ما هنالك تحت قدمي هاتين. وواللهِ ما عنى بذلك إلّا نقضَ ما بينك وبينه، فأعِدّ للحرب خدعة، وأْذَنْ لي أشخص إلى الكوفة،
ص: 183
فأُخرجَ عاملَه منها، وأُظهِر فيها خلعه، وأنبذ إليه على سواء، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين.
ثمّ سكت، فتكلّم كلُّ مَن حضر مجلسه بمِثل مقاتله، وكلُّهم يقول: ابعثْ سُليمانَ بن صُرد، وابعثْنا معه، ثمّ الحقنا إذا علمتَ أنّا قد أشخصنا عامله وأظهرنا خلعه ...
فتكلّم الإمام الحسن (علیه السلام) معهم، وفهّمهم باللُّطف والمداراة أنّ ما فعله إنّما هو خيرٌ لهم وليحقن دماءَهم، وأمرهم بالتسليم والصبر والرضى بقضاء الله، وأن يلزموا بيوتهم ويكفّوا أيديهم، حتّى يستريح برٌّ أو يُستراح من فاجر، وأنّ أباه أمير المؤمنين (علیه السلام) قد أخبره أنّ معاوية سيلي الأمر، ولوساروا إليه بالجبال والشجر لَما شكّ أنّ معاوية سيظهر، وإنّ الله لا معقّب لحُكمه، ثمّ قال (علیه السلام) :
«وأمّا قولك: يا مُذلّ المؤمنين، فوَاللهِ لَئن تذلّوا وتعافوا أحبُّ إليّ مِن أن تعزّوا وتُقتَلوا، فإنْ ردّ اللهُ علينا حقَّنا في عافيةٍ قبلنا، وسألنا اللهَ العون على أمره، وإنْ صرفه عنّا رضينا، وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنّا، فلْيكن كلُّ رجُلٍ منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّاً، فإنْ يهلك ونحن وأنتم أحياء، سألنا اللهَ العزيمة على رشدنا والمعونة على أمرنا، وأنْ لا يكلنا إلى أنفسنا، ف-- ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ ((1))».
ص: 184
لم يرعوِ سليمان ولم يكتفِ بما قال الإمام المجتبى (علیه السلام) ، ولم يسلّم أمره لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولإمام زمانه (علیه السلام) ، فاندفع بهيجانه المعهود فيه، يحاول يائساً تحريك الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ..
قال ابن قُتيبة:
ثمّ خرج سليمان بن صُرد من عنده، فدخل على الحسين (علیه السلام) ، فعرض عليه ما عرض على الحسن (علیه السلام) ، وأخبره بما ردّ عليه الحسن (علیه السلام) .
فقال الحسين (علیه السلام) : «ليكن كلُّ رجُلٍ منكم حلساً من أحلاسبيته ما دام معاوية حيّاً» ((1)).
ونحن لا نريد الوقوف عند هذا النصّ وتحليله، لأنّه خارجٌ عن محلّ بحثنا، واكتفينا بالإشارة إليه معتمدين على حذق المتلقّي اللبيب.
وكان مبادراً لإعلان النصرة لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، فجمع الناس في بيته وخطبهم، وكان أوّلَ الكاتبين للإمام (علیه السلام) ، فلا يعقل أن ينكفئ بعد ذلك ويخذل الإمام (علیه السلام) ، فلابدّ أن يكون قد حبسه ابن زياد فمنعه ذلك عن النصرة، كما حدث مع المختار.. هكذا قد يُقال!!
بيد أنّ المختار الثقفيّ قد ورد اسمه في عداد المحبوسين في مصادر كثيرة، بل قد يُقال في جميع المصادر الّتي ذكرته، أمّا سليمان بن صُرد فلم
ص: 185
نجده في عداد المحبوسين في المصادر، رغم أنّه شخصيّةٌ معروفةٌ وله مواقفه تلك الأيّام قبل وقوع الواقعة!
وذكر الشيخ المامقانيّ أيضاً خبر حبسه، فقال:
إنّ ابن زيادٍ لمّا اطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسين (علیه السلام) ، حبس أربعة آلافٍ وخمسمئة رجُلٍ من التوّابين من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) وأبطاله الّذين جاهدوا معه، منهم: سليمان بن صُرد، وإبراهيم بن مالك الأشتر، و... وفيهم أبطالٌ وشجعان، ولم يكن لهم سبيلٌ إلى نصر الحسين (علیه السلام) ، لأنّهم كانوا مقيَّدينمغلولين، وكانوا يوماً يُطعَمون ويوماً لا يُطعَمون ((1)).
يبدو أنّ عبارة الشيخ _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ تلوّح بالدفاع عن التوّابين الّذين خرجوا مع سليمان عموماً، إذ افترض أنّ جُلّهم _ بل ربّما يُقال: كلّهم _ كانوا محبوسين..
وهذه الشهادة لها قيمتها مِن مثل الشيخ المامقانيّ (رحمة الله) ، ولكنّنا لا نعرف مستنده فيها، ولم نقف على مصدرٍ غيره يذكرها إلى حين تسويد هذه الوريقات، وربّما وفّقنا الله إلى ذلك فيما بعد.
والّذي يظهر من ترتيب الأحداث في حركة التوّابين أنّهم بدؤوا بالتلاوم وإظهار الندم منذ عاد معسكر الظلال من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما قال
ص: 186
البلاذريّ والطبريّ والنويريّ وغيرهم _ واللفظ للأوّل _ :
لمّا قُتل الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) ودخل عُبيد الله بن زيادٍ من معسكره بالنخيلة إلى الكوفة، تلاقَت الشيعةُ بالتلاوم والتندّم، ففزعوا إلى خمسة نفرٍ من رؤوس الشيعة، وهم: سُليمان ... ((1)).
فإن صدق هذا الخبر، فهم كانوا في الكوفة يومها أحراراً غير محبوسين!
ويشهد لذلك كلامهم الّذي أورده المؤرّخون عند توثيق حركتهموتسجيل أحداثها، فكان ممّا قاله المسيّب بن نجبة _ ورضيَ به الآخَرون، بما فيهم سليمان _ :
أمّا بعد، فإنّا قد ابتُلينا بطول العُمُر، فنرغب إلى ربّنا في أنْ لا يجعلنا ممّن يقول له غداً: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ ((2)).
وقد بلا الله أخبارنا، وقد كنّا مُغرَمين بتزكية أنفسنا ((3))، فوجدنا كاذبين في أمر ابنِ ابنةِ نبيّنا، وقد بلغَتْنا كتُبُه، وقد أتتنا رسُلُه، وسألَنا نصره عوداً وبدءاً وعلانيةً وسرّاً، فبخلنا عليه بأنفسنا، حتّى قُتِل إلى جانبنا، فلا نحن نصرناه بأيدينا، ولا خذّلنا عنه
ص: 187
بألسنتنا، ولا قوّيناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة من عشائرنا.
فما عذرنا عند ربّنا؟ لا عذر واللهِ، أو نقتل قاتليه والموالين عليه، فعسى ربّنا أن يرضى عنّا عند ذلك، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن ((1)).
وإنّه لابدّ لكم من أميرٍ تفزعون إليه وترجعون إلى أمره، ورايةٍ تحفّون بها معه ((2)).
يُلاحَظ في هذا النصّ أنّ المسيّب لم يعتذر بالحبس، وإنّما أقرّبالخذلان، وأنّهم بخلوا عليه بأنفسهم، ولم ينصروه بيدٍ ولا لسان، ولم يمدّوه بمالٍ ولا بأعوان.
وكان المسيّب لسانَ حال المجتمعين يومها، ولم يعترض عليه منهم معترض، وإنّما أقرّوا ما قال واعترفوا بواقع الحال.
وقال سليمان بن صُرد بعد أن قلّدوه رئاستهم:
إنّي أخاف ألّا نكون أُخّرنا إلى هذا الدهر الّذي نكدَت فيه المعيشة وعظمَت فيه الرزيّة لما هو خيرٌ لنا، نمدّ أعناقنا إلى قدوم آل نبيّنا، ونعدهم نصرنا، ونحثّهم على المصير إلينا، فلمّا قدموا علينا ونينا
ص: 188
وعجزنا وداهنّا وتربّصنا، وانتظرنا ما يكون ((1))، حتّى قُتل وَلدُ نبيّنا وسلالته وبضعةٌ من لحمه، فاتّخذه الفاسقون غرضاً للنبل ودريّةً للرماح.
فلا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتّى يرضى الله عنكم، بأن تناجزوا مَن قتله وتبيروه.
ألا ولا تهابوا الموت، فوَاللهِ ما هابه أحدٌ قطّ إلّا ذلّ، وكونوا كتوّابي بني إسرائيل، إذ قال لهم نبيّهم: ﴿إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمْ العِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بَارِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكمْ ذلِكُم خَيْرٌلَكُمْ عِنْدَ بَارِئكُمْ﴾ ((2))، فما فعل القوم؟ جثوا واللهِ للركب، ومدّوا الأعناق، ورضوا بالقضاء حين علموا أنّه لا ينجيهم من عظم الذنب إلّا الصبر على القتل، فكيف بكم لو قد دُعيتم إلى مِثل ما دُعي القوم إليه؟ اشحذوا السيوف، وركّبوا الأسنّة، وأعدّوا لعدوّكم ما استطعتم من قوّة ((3)).
نجد في هذه الخطبة اعترافاً صريحاً أنّهم وعدوه نصرهم ودعوه ليقدم عليهم، ثمّ لمّا قدم عليهم ونوا وعجزوا وداهنوا وتربّصوا، حتّى قُتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وبضعته، ولا نجد فيه إيّ اعتذارٍ بالحبس والاعتقال!
ص: 189
وقال رفاعة بن شدّاد:
دعوتَ إلى جهاد الفاسقين والتوبةَ من الذنب العظيم، فمسموعٌ ذلك عنك ومقبولٌ منك ... ((1)).
وقال رفاعة في رَجَزه:
يا ربِّ، إنّي تائبٌ إليكا
قد اتّكلتُ سيّدي عليكا
قِدماً أُرجّي الخيرَ من يديكا
فاجعل ثوابي أملي إليكا ((2))
وهنا يقرّ رفاعة بالذنب العظيم الّذي ينوي التوبة منه بقتال الفاسقين!وقد روى ابن أعثم في (الفتوح)، قال:
ونزل الحسين في موضعه ذلك [أي: كربلاء]، ونزل الحرّ بن يزيد حذاءه في ألف فارس.
ودعا الحسينُ بدواةٍ وبياض، وكتب إلى أشراف الكوفة ممّن كان يظنّ أنّه على رأيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم.
من الحسين بن عليّ، إلى سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة المؤمنين.
أمّا بعد ...».
ص: 190
ثمّ نقل الكتاب، إلى أن قال:
«وقد أتَتْني كتُبُكم وقَدِمَت علَيّ رسُلُكم ببيعتكم أنّكم لا تخذلوني، فإنْ وفيتُم لي ببيعتكم فقد استوفيتُم حقَّكم وحظَّكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم وأهلي ووُلدي مع أهاليكم وأولادكم، فلكم فيّ أُسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ومواثيقكم وخلعتم بيعتكم، فلَعمري ما هي منكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي، هل المغرورُ إلّا مَن اغترّ بكم؟ فإنّما حقَّكم أخطأتم ونصيبَكم ضيّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني الله عنكم، والسلام».
قال: ثمّ طوى الكتاب وختمه، ودفعه إلى قيس بن مسهرالصيداويّ، وأمره أن يسير إلى الكوفة ((1)).
وقد أورد الطبريّ وابن الأثير هذا النصّ كخطبةٍ خطبها الإمام (علیه السلام) في أصحاب الحرّ في البيضة ((2)).
بناءً على رواية ابن أعثم، وأنّ الكتاب كان موجَّهاً لهؤلاء بأسمائهم، وهم رؤوس التوّابين، يمكن الإفادة منه أنّهم كانوا يومها في الكوفة أحراراً، وأنّ خبر خذلانهم وتقاعسهم وتثاقلهم قد بلغ الإمام (علیه السلام) ، فخاطبهم بمثل هذا الخطاب!
ص: 191
* * * * *
نكتفي هنا بهذا القدر حتّى يحين وقت دراسة حركة التوّابين بحول الله وقوته _ إن بقي في العمر بقيّة _، فلعلّنا نحصل على معلوماتٍ كافيةٍ تؤكّد عذرهم أو حبسهم، أو نقف على تقريرٍ من الإمام المعصوم (علیه السلام) لمواقفهم.
المسيّب بن نجبة الفزاريّ، ورد اسمه في الكتاب الأوّل الصادر من الاجتماع في بيت سليمان ((1)).
ص: 192
وورد اسمه في تاريخ ابن خلدون: المسيّب بن محمّد ((1)).
وهو: المسيّب بن نجبة بن ربيعة بن رياح بن عوف بن هلال بن شمخ ابن فزارة، شهد القادسيّة، وشهد مع عليّ بن أبي طالبٍ مشاهده، وقُتل يوم عين الورد مع التوّابين الّذين خرجوا وتابوا مِن خذلان الحسين (علیه السلام) ، فبعث الحُصين بن نمير برأس المسيّب بن نجبة مع أدهم بن محرز الباهليّ إلى عُبيد الله بن زياد ((2)).
أخرج له كبار أئمّة أهل العامّة في مجاميعهم الحديثيّة أخباراً، وفيها أخبارٌ منكَرةٌ لا يصدّقها مَن له أدنى مسكةٍ من عقل، ينسب فيها كلاماً إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) يحمل فيه على الإمام الحسن (علیه السلام) وعبد الله بن جعفر ويصفهم بصفاتٍ مقذعة ((3))، ويروي عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) خبراً في مدح أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنّهم رفقاء نجباء للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ((4)).. ولمّا كان فيما رواه كذباً مفترعاً وفيه من الإساءة والتجنّي ما لا يُطاق، أعرضنا عن ذِكره هنا.
وروى الهنديّ في (كنز العمّال) وغيره عن المسيّب بن نجبة قال:
ص: 193
كان عليٌّ آخِذاً بيدِي يوم صفّين، فوقف على قتلى أصحاب معاوية، فقال: يرحمكم الله! ثمّ مال إلى قتلى أصحابه، فترحّم عليهم بمثل ما ترحّم على أصحاب معاوية.فقلت: يا أمير المؤمنين، استحللتَ دماءهم ثمّ تترحّم عليهم؟! قال: إنّ الله (تعالى) جعل قتلنا إيّاهم كفارةً لذنوبهم ((1)).
وهذا الكلام إنْ صحّ عنه، فهو يعكس ما فيه من تخبُّطٍ وعدم وضوحٍ في الرؤية، وخلطٍ بين الحقّ والباطل، والعشوةِ والحَوَلِ الّذي ابتُلي به، ثمّ نسبه إلى الإمام الفاروق الأعظم وميزان الحقّ الّذي يدور معه الحقّ حيثما دار.
وروى اليعقوبيّ في خبرٍ طويلٍ، خلاصته:
وبعث معاوية عبد الله بن مسعدة بن حُذيفة بن بدر الفزاريّ في جريدة خيل، وأمره أن يقصد المدينة ومكّة، فسار في ألفٍ وسبعمئة.
فلمّا أتى عليّاً (علیه السلام) الخبر، وجّه المسيّب بن نجبة الفزاريّ ... فلحقهم المسيّب، فقاتلهم حتّى أمكنه أخذ ابن مسعدة، فجعل يتحاماه، وانهزم ابن مسعدة، فتحصّن بتيماء، وأحاط المسيّب بالحصن، فحصر ابن مسعدة وأصحابه ثلاثاً، فناداه: يا مسيّب! إنّما نحن قومك، فلْيمسّك الرحم. فخلّى لابن مسعدة وأصحابه الطريق، ونجا من الحصن.
ص: 194
فلمّا جنّهم الليل، خرجوا من تحت ليلتهم حتّى لحقوا بالشأم، وصبّح المسيّب الحصن فلم يجد أحداً، فقال عبد الرحمان بن شبيب: داهنتَ واللهِ يا مسيّب في أمرهم، وغششتَ أميرالمؤمنين.
وقَدِم على أمير المؤمنين عليٍّ (علیه السلام) ، فقال له عليّ (علیه السلام) : «يا مسيّب، كنتَ من نصّاحي، ثمّ فعلتَ ما فعلت!». فحبسه أيّاماً، ثمّ أطلقه ... ((1)).
وفي (تاريخ الطبريّ):
وحمل المسيّب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات، كلّ ذلك لا يلتمس قتله، ويقول له: النجاء، النجاء.
فدخل ابن مسعدة وعامّةُ مَن معه الحصن، وهرب الباقون نحو الشأم، وانتهب الأعراب إبل الصدقة الّتي كانت مع ابن مسعدة ((2)).
ثمّ عمل حيلةً فأعان على فرار ابن مسعدة ومَن معه إلى الشام.
كيف كان، فإنّهم عدّوه في الشيعة، وقد ذكرنا كثيراً أنّ تقويم الرجال بخواتيم أعمالهم، ولا تهمّنا السوابق بعد أن حدّد موقفه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) !
وقد مرّت الإشارة إليه وسمعنا كلامه قبل قليل، (واشتغاله بتزكية
ص: 195
النفس)! عن نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فلا نعيد.
وهو من رجال التوّابين، ورؤوسهم ورؤسائهم، وقد قال عبد الملك بنمروان حين بلغه خبر قتله في خطبةٍ له:
ألا وإنّ السيوف تركَت رأس المسيّب بن نجبة خذاريف ((1)).
وقد نصبوا رأسه بدمشق ((2)).
ورد اسمه في كتاب سليمان بن صُرد ((3)).
وهو: رفاعة بن شدّاد بن عبد الله بن قيس بن جعال بن بداء بن فتيان بن ثعلبة بن زيد بن الغوث بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث
ص: 196
ابن بنت مالك الفتيانيّ البجليّ، أبو عاصم، الكوفيّ، وفتيان بطنٌ من بجيلة من اليمن ((1)).
لمّا طلب زياد أصحاب حِجْر بن عَديّ، هرب عمرو بن الحمق بن الكاهن الخزاعيّ ورفاعة بن شدّاد البجليّ إلى المدائن، ثمّ مضيا إلى الأنبار، ثمّ إلى الموصل، فصارا إلى جبلٍ من جبالها ممّا يلي الجزيرة فكمنا فيه، وبلغ عامل الرستاق أنّ رجُلَين كامنان في الجبل، فأنكر شأنهما واستراب بهما، وكان العامل رجُلاً من همدان يُقال له: عبد الله بن أبي تلعة، فصار إليهما ومعه أهل البلد، فلمّا انتهى إلى موضعهما خرجا اليه، فأمّا عمرو بن الحمق فكان مريضاً قد سقى بطنه فلم يكن عنده امتناع، فأُخذ، وأمّا رفاعةبن شدّاد البجليّ فكان شابّاً قويّاً، فوثب على فرسٍ له جواد، وحمل على القوم، فأفرجوا له فخرج، وخرجَت الخيل في طلبه، وكان رامياً، فجعل يرمي مَن لحقه فيجرحه، حتّى نجا بنفسه وأمسكوا عن طلبه ((2)).
وقد أفلت من مجزرة التوّابين بمَن تبقّى منهم ((3))، فانحاز بهم، وخرج
ص: 197
مع المختار فقُتِل.
ورد اسم المولى حبيب بن مظاهر في المصادر ضمن الأسماء الّتي تصدّرَت الكتاب إلى سيّد الشهداء ((1)).
وهو صاحب ميسرة الإمام الحسين (علیه السلام) في طفّ كربلاء، وسيأتي الحديث عنه مفصَّلاً في محلّه، إن شاء الله (تعالى).
ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ حبيب الحبيب لم يرد اسمُه في المجتمعين في دار سليمان بن صُرد، كغيره من أنصار أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) الأبرار
ص: 198
الأوفياء، ولو كان لَما خفي على الراوي والمؤرّخ، وهو علَمٌ ورايةٌ عاليةٌ سامقةٌ من رايات الشيعة.وقد ورد اسمه في صدر الكتاب، كما صرّحَت به بعض المصادر..
فإمّا أن يكون قد حضر الاجتماع، ولم يكن له موقفٌ خاصٌّ يدعو المؤرّخ لتسجيله، وربّما كان هذا الاحتمال بعيداً.
وإمّا أن يكون القوم قد كتبوا وعرضوا ما كتبوا عليه، فرضي به، فسجّلوا اسمَه ضمن الكاتبين.
وكيف كان، فإنّه إنْ كان كتب فإنّه قد وفى وثبت، وكان له موقفٌ مشهودٌ يوم الحسين (علیه السلام) ، فهنيئاً له، وحشرنا الله معه.
ابن أعثم في المكاتِبين باعتباره حامِلاً للكتاب وموافقاً لما جاء فيه.
قالوا: إنّه كان من فقهاء أهل العراق الّذين كانوا يُكثرون الصوم والصلاة ويفتون الناس ((1)).
حمل كتاباً إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ثمّ اختفى ذِكره وخفَتَ ضوؤه،حتّى برز في مقدّمة صفوف التوّابين.
وكان له موقفٌ محمودٌ مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ((2))، وكان من رؤوس التوّابين، فلمّا «تقدّم عبد الله بن وال، فأخذ الراية، وقاتل حتّى قُطعَت يدُه اليسرى، ثمّ استند إلى أصحابه ويده تشخب دماً، ثمّ كرّ عليهم وهو يقول:
نفسي فداكم، اذكروا الميثاقا
وصابروهم، واحذروا النفاقا
لا كوفةً نبغي ولا عراقا
لا، بل نريد الموت والعتاقا
وقاتل حتّى قُتِل» ((3)).
ص: 200
وكان (لعنه الله) ممّن يتجاهر بسبّ أمير المؤمنين (علیه السلام) ..روى أبو إسحاق التميميّ، قال: سمعتُ أبا عبد الله الجدليّ يقول:
حججتُ وأنا غلام، فمررتُ بالمدينة، وإذا الناس عنقٌ واحد، فاتّبعتُهم، فدخلوا على أُمّ سلَمة زوج النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فسمعتُها تقول: يا شبث [شبيب] بن ربعيّ! فأجابها رجُلٌ جلفٌ جاف: لبّيكِ يا أُمّتاه. قالت: يُسبّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ناديكم؟! قال: وأنّى ذلك؟ قالت: فعليّ بن أبي طالب؟ قال: إنّا لَنقول أشياء نريد عرض الدنيا! قالت: فإنّي سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «مَن سبّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله (تعالى)» ((1)).
تخلّف مع جماعةٍ عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في النهروان ليثبّط الناس عنه، فأخبرهم أميرُ المؤمنين (علیه السلام) بما يزمعون وما سيفعلون في سفرتهم تلك، وأنّهم سيقتلون ولده الحسين (علیه السلام) ، فكان كما قال..
مضى [أمير المؤمنين (علیه السلام) ] إلى المدائن، وخرج القوم إلى الخورنق، وهيّؤوا طعاماً، فبينا هم كذلك على سفرتهم وقد بسطوها إذ مرّ بهم ضبّ، فأمروا صبيانهم فأخذوه وأوثقوه، ومسحوا أيديهم على يده
ص: 202
كما أخبر عليّ (علیه السلام) ، وأقبلوا على المدائن.
فقال لهم أمير المؤمنين (علیه السلام) : «﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ ((1))، لَيبعثكم الله يوم القيامة مع إمامكم الضبّ الّذي بايعتم، لَكأنّي أنظر إليكم يوم القيامة وهو يسوقكم إلى النار».
ثمّ قال: «لَئن كان مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) منافقون، فإنّ معي منافقين، أما واللهِ يا شبث ويا ابن حريث لَتقاتلان ابني الحسين، هكذا أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) » ((2)).
خرج على أمير المؤمنين (علیه السلام) بحروراء مع الخوارج ((3))، وكان يقول: أنا أوّل من حرّر الحروريّة ((4)). وكان أميرَ القتال يوم الخوارج ((5)).
ص: 203
كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة، وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((1)).
وكان معاوية دسّ إليه في جماعةٍ آخَرين: إنْ قتلتَ الحسن بن عليّ، فلك مئتا ألف درهم وجُندٌ من جنود الشام وبنتٌ من بناتي. فبلغ الحسن (علیه السلام) ، فاستلام ولبس درعاً وكفرها، وكان يتحرّز ولا يتقدّم للصلاةبهم إلّا كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهمٍ فلم يثبت فيه، فلمّا صار في مظلم ساباط ضربه أحدهم بخنجرٍ مسمومٍ فعمل فيه الخنجر ((2)).
وكان ممّن حمل حِجراً وأصحابه إلى معاوية في السلاسل على جمالٍ صعاباً، اكتراها لهم زياد ابن أبيه ((3)).
وكان هو وحجّار وشمر فيمن خذّل أهل الكوفة عن نصرة مسلم بن عقيل، وردّهم عن اللحوق به ((4)).
ص: 204
وخرج إلى قتال الإمام الحسين (علیه السلام) على ألف فارس ((1)).
وكان على رجّالة عمر بن سعد في كربلاء ((2)).
وكان ممّن احتجّ عليهم الإمام الحسين (علیه السلام) بكتبهم في كربلاء، وناداهم بالاسم، واستشهدهم على ما كتبوا ((3))، فأنكروا وقالوا: لم نفعل ((4)).
وكان ممّن حرّض على المختار، فقدم على بغلةٍ قد قُطع ذنَبُها وطرفَي أُذنيها وشقّ قباءه، ووقف ينادي: وا غوثاه، وا غوثاه! فدخل على المصعب فأخبره بما لقي الناس من المختار ((5))، وحرّضه عليه.
وخرج على ثلاثة آلافٍ لقتال المختار وقاتله ((6)).
وولي شرطة القباع بالكوفة أيّام ابن الزبير ((7)).
ص: 205
وكان مسجده من المساجد الأربعة الّتي جُدّدت بالكوفة فرحاً لقتل الحسين (علیه السلام) .
رُوي عن أبي جعفرٍ (علیه السلام) قال: «جُدّدَت أربعةُ مساجد بالكوفة فرحاً لقتل الحسين (علیه السلام) : مسجد الأشعث، ومسجد جرير، ومسجد سماك، ومسجد شبث بن ربعيّ» ((1)).
الاسم السابع: محمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب التميميّ [كذا] ((2))
محمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب، واسمه: زيد بن زرارة بن عدس ابن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن زيد مناة بن تميم، أبو عمير، ويُقال: أبو عمر الدارميّ التميميّ الكوفيّ ((3)).
وفي (الإرشاد) للشيخ المفيد ومن تبعه: محمّد بن عمرو
ص: 206
التميميّ ((1)). فهو إن لم يكن تصحيفاً يلزم أن يكون واحداً آخَر.
كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).بعد وفاة يزيد بن معاوية انتفض أهل الريّ، فوجّه عامر بن مسعود عامل الكوفة محمّد بن عمير بن عطارد، فهزموه ((3)).
وكان له مع الحَجّاج وغيره من أُمرائها أخبار ((4)).
قدم على عبد الملك بن مروان، فأنزله على نفسه، وكان من سمّاره وحدّاثه ((5))، وله أبياتٌ يمدحه بها، وله معه قصص.
ص: 207
وكان صاحب ربع تميم وهمدان حتّى مات ((1)).
وائل، أبو أسيد، البكريّ العجليّ الكوفيّ ((1)).
كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليهالجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).
وكان ممّن احتجّ عليهم الإمام الحسين (علیه السلام) بكتبهم في كربلاء، وناداهم بالاسم، واستشهدهم على ما كتبوا ((3))، فأنكروا وقالوا: لم نفعل ((4)) (لعنهم الله).
كان ممّن بعثهم ابن زيادٍ للتخذيل عن المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ((5)).
خرج على ألف فارسٍ لحرب الإمام الحسين (علیه السلام) ((6)).
كان من رؤوس جُند الشيطان وآل أبي سفيان في كربلاء ((7)).
ص: 209
ثمّ صار من رؤساء جند عبد الله بن مطيع لقتال المختار ((1)).
خذل مصعب بن الزبير لعِدَةٍ وعده إيّاها عبد الملك، وعده ولاية أصبهان ((2)).
روى إخبار أمير المؤمنين (علیه السلام) في قضيّة الخوارج، قال:
كنتُ عامِلاً لعليّ بن أبي طالب (علیه السلام) على باروسما ونهر الملك، فأتاه مَن أخبره أنّ الخوارج الّذين قتلوا عبد الله بن الخَبّاب قد عبروا النهروان، فقال له عليّ (علیه السلام) : «لم يعبُروا، ولن يَعبُروا، وإن عَبَروا لم ينجُ منهم عشرةٌ ولن يُقتَل منكم عشرة».
قال: ثمّ جاء القوم، فبرز إليهم، فقال: «يا يزيد بن رُوَيم، اقطعْ أربعة آلاف خَشَبةٍ أو قَصبة». قال: فقطع له، ثمّ أوقفهم، قال: فقاتلهم، فلمّا فرغ من قتالهم، قال لي: «يا يزيد، اطرحْ على كلّ قتيلٍ خَشَبةً أو قصَبة».
قال: فركب بغلة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأُناسٌ بين يديه، ونحن على ظَهر نهر، لا يَمُرُّ بقتيلٍ إلّا طرحتُ عليه خشبةً أو قصبة، قال: حتّى بقيَتْ في يدي واحدة، قال: فنظرتُ إليه، فإذا وجهه اربد وهو يقول: «واللهِ ما كَذبتُ ولا كُذبت».
قال: فبينا أنا أمُرُّ بين يدَيه، إذا خَريرُ ماءٍ عند موضع دالِية، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، هذا خرير ماء! قال: فقال لي: «فَتِّشْهُ»، ففتّشتُه، فإذا رِجْلٌ قد صارت في يدي، فقلت: هذه رجْلٌ! فنزل إليّ، فأخذنا الرِّجل الأُخرى، وجرّها وجَررتُ، فإذا رجُل، قال: فقال لي: «مدّ يده»، فمددتُها فاستوت، قال: ثمّ قال: «خَلِّها»، فخلّيتُها،
ص: 211
فإذا هي كأنّها الثدي في صدره ... ((1)).
كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).
ولّاه عبد الملك على الريّ ((3)).
كان على المدائن من قِبل مصعب بن الزبير ((4)).
قيل: إنّه سعى بعمرو بن الحمق عند زياد ابن أبيه، فأشاط بدمه ((5)).
قال أبو عبيدة: خرج (سليك) ليغير على بني شيبان، فمرّ ببيتٍ فيه شيخٌ وامرأته، فقال لأصحابه: دعوني حتّى أدخل البيت فآتيكم بطعام. فأراح ابن الشيخ إبله، فقال: ألا حبستَها قليلاً آخَر. فقال: إنّها أبت العشاء. فقال: إنّ العاشية تهيج الآيبة. وضربه السليك فأطار قحف رأسه،
ص: 212
واطرد الإبل، وكان الشيخ يزيد بن رُويم الشيبانيّ ((1)).
وقال الشيخ النمازيّ في (المستدركات):
يزيد بن رُوَيم الشيبانيّ: لم يذكروه.هو من أُمراء جُند أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم صفّين ((2))، وهذا يدلّ على حُسنه وكماله!!! ((3))
يبدو أنّ حضور الرجل بصفّين في صفّ أمير المؤمنين (علیه السلام) لا يدلّ بوضوحٍ على حُسن الحال والكمال، فما أكثر مَن حضر في صفّه من أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله) ، من أمثال شبث بن ربعيّ وغيره.. كان الناس يومها جندٌ وعسكرٌ تابعٌ للخلافة، وللاعتبارات القبَليّة والمصالح والمنافع الشخصيّة وغيرها، تماماً كما كانوا يتبعون الملِك الأوّل والثاني!
وإذا كان الاعتبار بالخاتمة، فلا ندري كيف يكون مَن كاتب الإمام غريب الغرباء الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ثمّ نكص على عقبَيه وخذله يُصنَّف في صفوف أهل الكمال وحُسن الحال؟!
أجل، يمكن أن يكون كذلك إذا ثبت له عذرٌ يسوّغ له تخلُّفه عن الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ونحن لم نقف على شيءٍ من ذلك، بل الشواهد
ص: 213
على خلافه، والله العالم.
هذا وقد ذكر ابن الصبّاغ اسم (يزيد بن دؤب) ((1)).. لا نعرفه، ولم نقف على مَن يذكره.
ورد اسمه في كتاب شبث بن ربعيّ ((2)).
وجّه ابن زيادٍ يزيدَ بن الحرث (الحارث) ((3)) بن يزيد بن رُوَيم في ألفٍ ((4)) لقتال سيّد الشهداء (علیه السلام) .
سعى بالمختار _ هو وعمر بن سعد وشبث بن ربعيّ _ عند عبد الله بن يزيد الخطميّ عاملِ ابن الزبير على الكوفة، وقال: إنّ المختار بن أبي عُبيد أشدُّ عليكم من ابن صُرَد ((5)).
ص: 214
كان ممّن قاتل المختار ((1)).
ولّاه عبد الملك على الريّ ((2)).
ولّاه مصعب على الريّ ((3)).
قال الحَمَويّ:
كان عبد الملك بن مروان ولّى الريّ يزيدَ بن الحارث بن يزيد بن رؤيم أبا حوشب، وقيل: ولّاه مصعب بن الزبير، فورد الريّ أيّامه الزبير بن الماخور الخارجيّ، بمواطأةٍ من الفرخان ملك الريّ وإمداده بالمال والرجال، فواقعوا يزيد بن الحارث بقرية فيروزرام، فقتلوه وثلاثمئة رجُلٍ من أشراف الكوفة، وقُتلَت معهامرأته أُمّ حوشب ((4)).
وذكر سبط ابن الجَوزيّ: (زيد بن حارث) ((5)).. ربّما كان تصحيفاً.
ورد اسم عزرة بن قيس الأحمسيّ في كتاب شبث وجماعته ((6))، وذكره
ص: 215
بعضهم باسم: عروة بن قيس ((1)).
وهو: عزرة بن قيس البجَليّ، من أحمس، من بني دهن من أنفسهم.
روى عن خالد بن الوليد، وكان معه في مغازيه بالشام ((2)).
ونسبه ابن عساكر وغيره، فقال:
عزرة بن قيس بن غزيّة، الأحمسيّ البجَليّ الدُّهنيّ الكوفيّ.
شهد خطبة خالد بن الوليد حين جاءه عزل عمر إيّاه.
روى عنه أبو وائل.
وولي عزرة حلوان في خلافة عمر، وغزا شهرزور منها فلم يفتحها، حتّى افتتحَها عتبة بن فرقد ((3)).
ص: 216
خلّفه جرير بجلولاء في ألفَي رجُلٍ من العرب يوم مدينة تستر ((1)).
كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).
عقد له ابن زيادٍ رايةً على أربعة آلاف، وأرسله لقتال ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ((3)).
كان على خيل عمر بن سعد في كربلاء ((4)).
كان يحاصر مخيّم الحسين (علیه السلام) ، ويحرسه بالليل في الخيل تدور من ورائهم ((5)).
أرسله عمر بن سعد للقاء الإمام الحسين (علیه السلام) ، فاعتذر وامتنع ((6)).
ص: 217
كان له موقفٌ رديءٌ حين خرج العبّاسُ (علیه السلام) بأمر سيّد الشهداء (علیه السلام) يكلّم القوم ويستمهل عصر تاسوعاء، وكان معه رجالٌ من أنصار الحسين (علیه السلام) ..
فلمّا كلّمهم العبّاس وانصرف راجعاً يركض إلى الحسين يُخبره الخبر، وقف أصحابه يخاطبون القوم.
فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القَين: كلِّمِ القومَ إنْ شئت، وإنشئتَ كلّمتُهم. فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكُن أنت تكلّمهم.
فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما واللهِ لَبئس القوم عند الله غداً قومٌ يقدمون عليه، قد قتلوا ذرّيّة نبيّه (علیه السلام) وعترتَه وأهلَ بيته (صلی الله علیه و آله) ، وعبّادَ أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً.
فقال له عزرة بن قيس: إنّك لَتزكّى نفسك ما استطعت. فقال له زهير: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها، فاتقِّ الله يا عزرة، فإنّي لك من الناصحين، أُنشدك الله يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضلّال على قتل النفوس الزكيّة.
قال: يا زهير، ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنت عثمانيّاً!!! قال: أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم؟! ((1))
ص: 218
سيأتي شرح الموقف في محلّه إن شاء الله (تعالى)، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ عزرة بن قيس هذا الخبيث الوسخ كان أوّلَ مَن اتّهم صاحب ميمنة الحسين (علیه السلام) الطيّب الطاهر زهير بن القَين بأقذع تهمة، وافترى عليه أسوء افتراءٍ حين رماه بالعثمانيّة على ما كان هو يتصوّر ويخال، وقد ردّ عليه زهير ردّاً قاصفاً، وفنّد خيالاته وكذّب مزاعمه، وقد أتينا على تفصيل ذلك في كتاب (زُهير بن القَين علويٌّ خرج يتلقّى الحسين (علیه السلام)).* * * * *
طلب المدد من ابن سعدٍ بعد أن أخذَته وخيلَه ورجالَه سيوفُ الحسين (علیه السلام) ..
قال الشيخ المفيد (رحمة الله) والطبريّ وغيرهما:
فلمّا رأى ذلك عروةُ بن قيس وهو على خيل أهل الكوفة، بعث إلى عمر بن سعد: أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعثْ إليهم الرجال والرماة. فبعث عليهم بالرماة ((1)).
كان فيمن حمل الرؤوس المقدّسة من كربلاء إلى ابن زياد..
قال الطبريّ وغيره:
وقطف رؤوس الباقين، فسرّح باثنين وسبعين رأساً مع شمر بن ذي
ص: 219
الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتّى قدموا بها على عُبيد الله بن زياد ((1)).
وفي (اللهوف) لابن طاووس: وكانت رويحة بنت عمرو هذا تحت هاني ابن عروة ((1)).
كان ممّن شهد _ زوراً وبهتاناً بأمر زياد ابن أبيه _ على حِجر بن عَديٍّ أنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة، ولعن ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلْعِ أمير المؤمنين معاوية، وكفر باللَّه كفرةً صلعاء ((2)).
أرسله ابن زيادٍ مع محمّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة للإتيان بهاني ابن عروة إليه ((3)).
خرج بمِذحَج حين بلغه أنّ هانياً قد قُتِل..
فأقبل في مِذحَج حتّى أحاط بالقصر ومعه جمعٌ عظيم، ثمّ نادى: أنا عمرو بن الحَجّاج، وهذه فرسان مِذحَج ووجوهها، لم تخلع طاعةً ولم تفارق جماعة، وقد بلغَهم أنّ صاحبَهم قد قُتِل. فأعظموا ذلك.
فلمّا خرج إليهم شُريح وأخبرهم أنّه لم يُقتَل، أمر عمرو أصحابه وقال:
ص: 221
أما إذ كان صاحبكم حيّاً، فما يعجّلكم الفتنة؟ انصرفوا. فانصرَفوا ((1)).
وقد أتينا على تفصيل هذا الموقف في مجموعة (المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیهما السلام))، وسيأتي الكلام مفصَّلاً في باقي مواقفه المخزية، كلٌّ في محلّه.
أخرجه ابن زيادٍ لحرب الإمام الحسين (علیه السلام) ((2)).
فلمّا كان التاسع من المحرّم، دعاهم عمر بن سعدٍ إلى المحاربة، فأرسل الحسينُ (علیه السلام) العبّاسَ يلتمس منهم التأخير تلك الليلة، فقال عمر لشمر: ما تقول؟ قال: أما أنا لو كنتُ الأمير لم أُنظِره.
فقال عمرو بن الحَجّاج بن سلَمة بن عبد يغوث الزبيديّ: سبحان الله! واللهِ لو كان مِن الترك والديلم وسألوك عن هذا، ما كان لك أن تمنعهم ((3)).
كان على ميمنة عمر بن سعدٍ في كربلاء ((4)).
ص: 222
وحمل عمرو بن الحَجّاج على ميمنة أصحاب الحسين (علیه السلام) فيمن كان معه من أهل الكوفة، فلمّا دنا من الحسين (علیه السلام) جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تُقدِم خيلُهم على الرماح، فذهبَت الخيلُ لترجع، فرشقهم أصحاب الحسين (علیه السلام) بالنبل، فصرعوا منهم رجالاً وجرحوا منهمآخَرين ((1)).
وكان ممّن يحرّض على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ..
قال أبو مِخنَف: حدّثَني الحسين بن عقبة المراديّ، قال الزبيديّ:
إنّه سمع عمرو بن الحَجّاج حين دنا من أصحاب الحسين (علیه السلام) يقول: يا أهلَ الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق مِن الدين وخالَفَ الإمام!!
فقال له الحسين (علیه السلام) : «يا عمرو بن الحَجّاج! أعلَيّ تحرّض الناس؟! أنحن مرقنا وأنتم ثبتُّم عليه؟! أما والله لَتعلمنّ لو قد قُبضَت أرواحُكم ومُتُّم على أعمالكم، أيّنا مرق من الدين ومَن هو أَولى بصليّ النار» ((2)).
ص: 223
وصاح عمرو بن الحجّاج بالناس: يا حمقى، أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً مستميتين، لا يبرز إليهم منكم أحد، فإنّهم قليل، وقلّما يبقون، واللهِ لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لَقتلتموهم؟
فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت.
فأرسلَ في الناس مَن يعزم عليهم ألّا يبارز رجُلٌ منكم رجُلاً منهم ((1)).ثمّ حمل عمرو بن الحجّاج في أصحابه على الحسين (علیه السلام) من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصُرع مسلم بن عوسجة الأسديّ (رحمة الله علیه) ، وانصرف عمرو وأصحابه ((2)).
وكان حارساً على الماء في سريّةٍ منعوا الإمام (علیه السلام) ومَن معه عن الماء، قالوا:
ثمّ ورد كتاب ابن زيادٍ في الأثر إلى عمر بن سعد: أن حُلْ بين الحسين وأصحابه والماء، فلا يذوقوا منه قطرةً، كما صُنع بالتقيّ الزكيّ عثمان بن عفّان!
ص: 224
فبعث عمر بن سعد في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس، فنزلوا الشريعة، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيّام ((1)).
وقال عمرو بن الحجّاج مخاطِباً سيّد الشهداء (علیه السلام) :
يا حسين، هذا الفرات تلغ فيه الكلاب وتشرب منه الحمير والخنازير والذئاب، واللهِ لا تذوق منه جرعةً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم ((2)).
فكان سماع هذا الكلام على الحسين أشدَّ مِن منعهم إيّاه الماء ((3)).وقد ورد في زيارات الإمام الحسين (علیه السلام) وزيارة أبي الفضل العبّاس: «لعن اللهُ مَن حال بينك وبين ماء الفرات»، و«لعن اللهُ مَن منعك ماء الفرات» أو «منعك الماء»، وغيرها من العبارات.. فهي لا شكّ تشمل هذا الخبيث الرجس النجس، بالإضافة إلى أسياده الّذين أمروه بذلك وأتباعِه الّذين أطاعوه.
ص: 225
رُوي:
أنّه لمّا اشتدّ العطش على الحسين، دعا أخاه العبّاس بن عليّ، فبعثه في ثلاثين راكباً وثلاثين راجلاً، وبعث معه بعشرين قربة، فجاؤوا حتّى دنوا من الماء.
فاستقدم أمامهم نافع بن هلال الجمليّ، فقال له عمرو بن الحجّاج: مَن الرجل؟ قال: نافع بن هلال. قال: مرحباً بك يا أخي، ما جاء بك؟ قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الّذي حلأتمونا عنه. قال: اشرب. قال: لا واللهِ لا أشرب منه قطرةً والحسين عطشان. فقال له عمرو: لا سبيل إلى ما أردتم، إنّما وضعونا بهذا المكان لنمنعكم من الماء.
فأمر نافع بن هلالٍ أصحابه باقتحام الماء ليملؤوا قِرَبهم، فثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، فحمل عليهم العبّاس ونافعابن هلال فدفعوهم، ثمّ انصرفوا إلى رحالهم وقد ملؤوا قربهم ((1)).
ويُقال: إنّهم حالوا بينهم وبين ملئها، فانصرفوا بشيءٍ يسيرٍ من الماء ((2)).
وقد حمل عليهم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) حتّى اقتحم الشريعة، كما
ص: 226
روى ابن شهرآشوب قائلاً:
إنّ الحسين حمل على الأعور السلَميّ وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وكانا في أربعة آلاف رجُلٍ على الشريعة، وأقحم الفرسَ على الفرات.
فلمّا أولغ الفرسُ برأسه ليشرب قال (علیه السلام) : «أنت عطشانٌ وأنا عطشان، واللهِ لا أذوق الماءَ حتّى تشرب». فلمّا سمع الفرسُ كلام الحسين، شال رأسه ولم يشرب، كأنّه فهم الكلام ((1))، فقال الحسين: «اشربْ، فأنا اشرب».
فمدّ الحسينُ يده فغرف من الماء، فقال فارس: يا أبا عبد الله، تلذّذُ بشرب الماء وقد هُتكَت حرمتُك؟! فنفض الماء من يده وحمل على القوم ((2)).
وكان فيمن حمل الرؤوس المقدّسة وسبايا آل محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) من كربلاءإلى ابن زياد..
قال الطبريّ وغيره:
وقطف رؤوس الباقين، فسرّح باثنين وسبعين رأساً مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجّاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتّى قدموا بها على عُبيد الله بن زياد ((3)).
ص: 227
أرسله ابن زيادٍ ليأتيه بعبد الله بن عفيف الأزديّ..
قال ابن أعثم:
ثمّ دعا ابنُ زيادٍ لعمرو بن الحجّاج الزبيديّ ومحمّد بن الأشعث وشبث بن الربعيّ وجماعة من أصحابه، وقال لهم: اذهبوا إلى هذا الأعمى، أعمى الأزد، الّذي قد أعمى الله قلبَه كما أعمى عينَيه، ائتوني به! ((1))
وكان ممّن قاتل المختار الثقفيّ ((2)).
وبلغ المختار أنّ شبث بن ربعيّ وعمرو بن الحجّاج ومحمّد بن الأشعث مع عمر بن سعدٍ قد أخذوا طريق البصرة في أُناسٍ معهم من أشراف أهل الكوفة، فأرسل في طلبهم رجُلاً من خاصّته يُسمّى: أبا القلوص الشباميّ، في جريدة خيل، فلحقهم بناحية المذار، فواقعوه وقاتلوه ساعة، ثمّ انهزموا، ووقع في يده عمر بن سعدٍ ونجا الباقون ((3)).
ص: 228
وهرب عمرو بن الحجّاج _ وكان من رؤساء قتَلَة الحسين (علیه السلام) _ يريد البصرة، فخاف الشماتة فعدل إلى شراف.
فقال له أهل الماء: ارحلْ عنّا؛ فإنّا لا نأمن المختار. فارتحل عنهم، فتلاوموا وقالوا: قد أسأنا.
فركبت جماعةٌ منهم في طلبه ليردّوه، فلمّا رآهم من بعيدٍ ظنّ أنّهم من أصحاب المختار، فسلك الرمل في مكانٍ يُدعى البيضة، وذلك في حمارة القيظ، وهي فيما بين بلاد كلب وبلاد طيء، فقال فيها، فقتله ومَن معه العطش ((1)).
وقالوا: هرب عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، فمات بواقصة عطشاً.
ورُوي أنّه هرب فسقط من العطش، فلحقه أصحاب المختار وبه رمق، فذبحوه واحتزّوا رأسه ((2)).
وخرج عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، وكان أشدَّ مَن حضر قتْلَ الحسين (علیه السلام) ، فركب راحلته ثمّ ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم يُرَ حتّى الساعة ((3))، ولم يُوقَف له على خبر ((4))، ولا يُدرى أرضٌ
ص: 229
بخَسته أم سماءٌ حصبَته ((1)).
ذكر أبو الفرَج في (المقاتل) خبراً خاصّاً ذا ملامح مميّزةٍ تختلف عن سائر الأخبار المعهودة في مراسلة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، سنستعرضه باختصارٍ ضمن التلويحات التالية:
قال أبو الفرج:
لمّا بلغ أهلَ الكوفة نزولُ الحسين (علیه السلام) مكّة وأنّه لم يُبايع ليزيد، وفد إليه وفدٌ منهم، عليهم أبو عبد الله الجدليّ ((2)).
واكتفى ابن الجوزيّ بالإشارة إلى خروج وفدٍ من أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ، من دون أن ينصّ على اسمٍ أو يصرّح بمَن كان عليهم، فقال:
خرج منهم وفدٌ إليه ((3)).
وجاءت عبارة الشيخ ابن نما مشوَّشة، إذ أنّه ذكر خروج وفدٍ من الكوفة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) عليهم أبو عبد الله الجدليّ، غير أنّه ذكر أنّ
ص: 230
معهم كتباً من جماعةٍ ذكرهم بالأسماء، قال:
خرج وفدٌ إليه من الكوفة، وعليهم أبو عبد الله الجدليّ، ومعهم كتبٌ مِن شبث بن ربعيّ وسليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وعبد الله [بن] وال وقيس بن مسهر الأسديّ أحد بني الصيداء وعمارة بن عتبة السلوليّ وهانئ ابن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ ووجوه الكوفة ((1)).
وفي العبارة مزجٌ وخلطٌ واضحٌ لمن تصفّح التاريخ، إذ أنّ الأسماء المذكورة فيهم مَن كاتب الإمام (علیه السلام) ، وفيهم مَن كان رسولاً يحمل الكتب إلى الإمام (علیه السلام) .. ويكفينا هنا الأخذ بعبارته الأُولى الّتي صرّح فيها بخروج الوفد وعليهم الجدليّ، وتركُ الباقي.
خروج وفدٍ خاصّ.. لغرضٍ خاصّ.. وقدومه على الإمام (علیه السلام) .. يختلف تماماً عن وصول عدّة رسُلٍ يحملون معهم كتب عن رجالٍ فيهم المعروف والمجهول والمشهور والمغمور..
فالوفد قد أقدم وعلى رأسه رجُلٌ معروفٌ مشهور، يُعدّ من الشخصيّات البارزة في المجتمع الكوفيّ، وله صحبةٌ طويلةٌ مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، وله مواقف مشهودة..
ص: 231
وله صيتٌ في الحروب والمعارك والقتال، حتّى قال الشافعيّ فيه _ في كلامٍ له _ : «وأبو عبد الله الجدليّ، جيّد الضرب بالسيف» ((1)).
والوفد ليس كالكتاب الصامت، ولا كالرسول المكلَّف بإيصال الكتاب، ولا كالكاتب البعيد الّذي اختزل جميع كيانه ومشاعره وتصوّراته وتطلّعاته وما أراد في كلماتٍ ميّتةٍ مرصوفةٍ على قرطاس..
الوفد فيه رجالٌ جاؤوا ليحاوروا ويتكلّموا، فيُسمعوا ويَسمعوا، ويَسألوا ويُسألوا، ويناقشوا ويُقنعوا، ويرسموا الصورة الّتي خلّفوها، ويُعربوا عن كوامنهم وتطلّعاتهم وآمالهم ودوافعهم ونوازعهم ونزعاتهم.
والفرق كبيرٌ جدّاً وواضحٌ جدّاً بين الوفد القادم الّذي يدعو مواجهةً ومشافهة، وبين الكتاب المحمول بيد الرسل!
لم يذكر لنا أبو الفرج أعضاءَ الوفد القادم ولا عددهم، ولم يشر إلى خصوصيّاتهم أو ملامحهم وتوجّهاتهم، واكتفى بذكر رئيس الوفد، لذا سنستعرض على عجلٍ بعض ملامح هذه الشخصيّة، ليندمج مع الشخصيّات الّتي ذكرناها قبل قليلٍ في القسم الثاني، ثمّ نعلّق على الجميع في موضعٍواحدٍ إن شاء الله (تعالى).
ص: 232
يمكن استعراض خلاصة ما عثرنا عليه فيما يخصّ هذا الرجل في المعلومات التالية:
قال ابن سعدٍ والطبريّ:
اسمه: عبدة بن عبد بن عبد الله بن أبي يعمر بن حبيب بن عائذ بن مالك بن وائلة بن عمرو بن ناخ بن يشكر بن عدوان _ واسمه: الحارث _ بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر، وسُمّي الحارث عدوان لأنّه عدا على أخيه فهم بن عمروٍ فقتله، وأُمّ عدوان وفهم جديلةُ بنت مرّ بن طابخة أُخت تميم بن مرّ، فنُسبوا إليها ((1)).
يُقال: كنيته _ أبو عبد الله _ اسمُه ((2)).
ويُقال: اسمه عبد الرحمان بن عبد ((3)).
ص: 233
ويُقال: عبد بن عبد ((1)).ويُقال: فلان بن عبد ((2)).
ويُقال: معبد بن معبد ((3)).
ويُقال: عُبيد بن عبد ((4)).
وقالوا: كوفيّ ((5))، نسبةً إلى مدينة الكوفة.
وروى ابن شبّة عن الشعبيّ قال:
كان أبو عبد الله الجدليّ عبداً للأزد! فادُّعي إلى جديلة بن عدوان ابن عمرو بن قيس، فنوزع فيه إلى عمر، فقال له: ممّن أنت؟ قال:
ص: 234
من عدوان. فسألهم، فقالوا: من أوسطنا. فأقرّه عمر منهم ((1)).
ولا يهمّنا الأمر كثيراً بعد أن تشخّص وعُرف بكنيته.
قال ابن سعدٍ والطبريّ:
وكان شديدَ التشيّع، ويزعمون أنّه كان على شرطة المختار، فوجّهه إلى عبد الله بن الزبير في ثماني مئةٍ من أهل الكوفة، ليوقع بهم ويمنع محمّد ابن الحنفيّة ممّا أراد به ابن الزبير ((2)).
وكان أبو عبد الله الجدليّ من شيعة عليّ (علیه السلام) ((3)).قال الحافظ في التقريب:
... ثقة، رُمي بالتشيُّع، من كبار الثالثة ((4)).
وقال الذهبيّ:
شيعيٌّ بغيض.
قال الجوزجانيّ: كان صاحبَ راية المختار، وقد وثّقه أحمد ((5)).
ص: 235
وقال الذهبيّ أيضاً:
شيعيٌّ ثقيل ((1)).
وعدّه ابن قُتيبة في (المعارف) ضمن أسماء الغالية من الرافضة ((2)).
وعدّه الشيخ المفيد ومَن تلاه في أولياء الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ((3)).
وذكره الشيخ المفيد تحت عنوان (ذِكر السابقين المقرَّبين من أمير المؤمنين (علیه السلام)) ((4)).
وعدّه المازندرانيّ وغيره من خواصّ أمير المؤمنين (علیه السلام) وأوليائه ((5)).
وله أحاديث جيّدةٌ يرويها عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ويروي خبراً مفصَّلاً عن شهادة أمير المؤمنين (علیه السلام) وتجهيزه ودفنه وحضوره جميع ذلك ((6)).
وله أخبارٌ مريبةٌ يرويها عنه أصحاب الكتب المعروفة عند العامّة.* * * * *
يبقى شيء:
لا ندري ما هو الميزان في التصنيف عند القدماء، سواءً من كبراء
ص: 236
العامّة أو علماء الشيعة؟!
فهل كانوا ينظرون إلى الجدليّ _ مثلاً _ إلى جنب أمير المؤمنين (علیه السلام) في حروبه ومشاهده، ويرونه صاحب راية المختار كما صرّح بعضهم بعد أن ذكره بالتشيّع مباشرة، فيحكمون عليه من خلال اندفاعه في جنب أمير المؤمنين (علیه السلام) مقابل ابن هندٍ معاوية؟ وهذا الاندفاع كان عند الكثيرين ممّن عاشوا في تلك الفترة، وربّما كانت لهم مواقف مع معاوية تخزيه وتدينه، بَيد أنّهم لم يكونوا شيعةً بالمعنى المصطلَح، بمعنى اعتقادهم بإمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) الّتي فرضَها الله يوم الغدير وافترض طاعته على الخلائق، والأمثلة على هذا النموذج كثيرةٌ في التاريخ.
وربّما استفادوا كونه من الأولياء ومن خواصّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأوليائه من خلال بعض ما حدّث عنه (علیه السلام) .
أو أنّهم صنّفوه في الشيعة بالمعنى الأخصّ، وأنّه يعتقد إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام) .
لا ندري!
كيف كان، فهو بالاتّفاق معدودٌ في الشيعة.
روى ابن سلمان الكوفيّ والقاضي النعمان مسنداً:
عن أبي عبد الله الجدَليّ قال: بينا نحن بمكّة، وقد قُتل عثمان في ذي الحجّة، فأقبل طلحة والزبير حتّى قدما على عائشة فدخلا
ص: 237
عليها، فخرج مناديها فنادى: مَن كان يريد الخروج مع طلحة والزبير فلْيسر، فإنّ أُمّ المؤمنين سائرة!
قال أبو عبد الله: فدخلتُ عليها _ وكنتُ لها صديقاً _، فقلتُ لها: يا أُمّ المؤمنين، هل أخرجكِ رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) في غزوةٍ قطّ أو في قتال؟ أوَ لم يأمُركِ أن تقعدي في بيتكِ؟ قال: فلم أزلْ بها وأُذكّرها وأُناشدها حتّى قعدَت، فأمرَتْ مناديها أن ينادي: مَن كان يريد الخروج مع طلحة والزبير، فإنّ أُمّ المؤمنين قد قعدَت.
فلمّا سمع طلحة نداء المنادي، أقبل فدخل عليها، فنفث في أُذُنها، فخرج مناديها فنادى: مَن كان يريد المسير مع طلحة والزبير فلْيسر، فإنّ أُمّ المؤمنين سائرة!
فلمّا كان مِن أمرها ما كان ورجعَت إلى المدينة، سرتُ إليها حتّى وقفتُ على باب بيتها، فقلت: سلامٌ عليكِ يا أُمّاه، أيدخل أبو عبد الله الجدليّ؟ قال: فأذنَتْ لي بالدخول، فدخلتُ وسلّمتُعليها ... _ إلى أخِر الخبر ((1)).
يبدو من هذا الخبر أنّ الرجُل كان ذا صلةٍ وثيقةٍ بأُمّه عائشة وموثوقاً عندها، فهو يصرّح أنّه كان صديقاً لها، ويروي ما يفيد مدى تأثيره عليها وعلى قرارتها الصعبة!
ص: 238
روى جماعةٌ مسنداً عن أبي عبد الله الجدليّ قال:
دخلتُ على أُمّ سلَمة زوجة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فقالت: أيُسبُّ رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) فيكم؟! فقلت: معاذ الله! قالت: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «مَن سبّ عليّاً فقد سبّني» ((1)).
ورُوي أيضاً عن أبي عبد الله الجدليّ قال:
دخلتُ على أُمّ سلَمة، فقالت: يا أبا عبد الله، أيُسبّ رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) فيكم وأنتم أحياء؟! قال: قلت: سبحان الله! وأنّى يكون هذا؟ قالت: أليس يُسَبّ عليٌّ ومَن يحبّه؟ قلت: بلى. قالت: أليس كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يحبّه ((2)).
يبدو من هذا الخبر الّذي يرويه نفسه أنّ أُمَّ سلَمة (رضی الله عنها) خاطبَتْه بالذات، ونادته بالاسم، وعاتبته شخصيّاً على سبّ القوم أمير المؤمنين عليّاً (علیه السلام) وهم أحياءٌ يسمعون، وفي ذلك دلالاتٌ واضحةٌ لا تخفى على اللبيب!
ص: 239
كان أبو عبد الله الجدليّ على علمٍ جازمٍ بمقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل أن يُقتَل..
فقد روى الشجريّ مسنداً عن أبي عبد الله الجدليّ قال:
سمعتُ أُمّ سلَمة قالت: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «إنّ جبريل أراني مقتل ابني، فسألتُ الله أن يريني تربة الأرض الّتي يُقتَل بها، فقال هكذا بيده فوضعها في يدي»، يقول: وضع التربة على يد أُمّ سلَمة. قالت: قلت: يا بأبي.. وحالت العَبرة دون الحديث ((1)).
وفي (تاريخ ابن عساكر)، عن عَون بن أبي جُحيفة قال:
إنّا لَجلوسٌ عند دار أبي عبد الله الجدليّ، فأتانا ملك بن صحّار الهمدانيّ، فقال: دلّوني على منزل فلان. قال: قلنا له: ألا ترسل فيجيء؟ إذ جاء، فقال: أتذكر إذ بعثَنا أبو مِخنَف إلى أمير المؤمنين وهو بشاطئ الفرات، فقال: «ليحلّنّ هاهنا ركبٌ من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) يمرّ بهذا المكان، فيقتلونهم، فويلٌ لكم منهم، وويلٌ لهم منكم»؟ ((2))
الظاهر أنّ فلاناً _ الّذي كان يبحث ملك بن صحّار الهمدانيّ عن
ص: 240
منزله _ هو أبو عبد الله الجدليّ.
ولا ندري إن كان ملك قد قصد منزل الجدليّ وذكّره بما جرى واستشهده على ذلك قبل شهادة الإمام (علیه السلام) أَم بعدها، حيث لا نرى في الخبر ما يدلّ على ذلك أو يشير إليه.
وعلى العموم، فإنّ الخبر يفيد أنّ أبا عبد الله الجدليّ كان قد سمع بحلول ركب آل الرسول بشاطئ الفرات، وأنّهم يُقتَلون هناك، وأنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قد هدّدهم وأوعدهم الويل لهم منهم.
فالويل لآل الرسول من القوم لِما سيرتكبون فيهم الجناية العظمى، ويتفنّنون في قتلهم عطشاً وتقطيعهم وسلبهم ونهبهم وحرق خيامهم وسبيهم، والويل للقوم لما سيفعلون من الخذلان والاعتداء والتجاوز والظلم والجَور والطغيان.
ولو كان المخاطَبون من الأنصار والأحبّة الّذين بذلوا مهجهم في الذبّ عن آل الرسول، لَما هدّدَهم أمير المؤمنين (علیه السلام) وحذّرهم وأنذرهم.
ورُوي أيضاً بالإسناد عن أبي عبد الله الجدليّ قال:
دخلتُ على أمير المؤمنين والحسينُ (علیهما السلام) إلى جنبه، فضرب بيده على كتف الحسين (علیه السلام) ، ثمّ قال: «إنّ هذا يُقتَل، ولا ينصره أحد». قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين، واللهِ إنّ تلك لَحياة سوء! قال: «إنّ
ص: 241
ذلك لَكائن» ((1)).
في (لسان العرب): رجُلُ سَوء، أي: يعمَلُ عمَلَ سَوء، ولا يُقال: رجُلُ سُوءٍ _ بالضمّ _؛ لأنّ السُّوء _ بالضمّ _ اسمٌ للضرّ وسوء الحال، والسُّوء: اسمٌ جامعٌ للآفات والداء ((2)).
فإذا قُرئت بالضمّ، فهو يقول للإمام (علیه السلام) : إنّ هذه الحياة الّتي سيحياها الإمام الحسين (علیه السلام) كلّها ضرٌّ وبلايا وآفاتٌ ومحن.. فكأنّه استفسر عن مِثل هذه الحياة الّتي كُتبَت للإمام (علیه السلام) ، أو أنّه استفهم عمّا إذا كان من الممكن أن تتغيّر وتتبدّل، لأنّها حياة ضُرٍّ وبلاء، فيكون قد عرض على الإمام (علیه السلام) أن يطلب من الله تغيير الضرّ والبلاء بالدعاء مثلاً، كما دعا الأنبياء من قبل وكشف الله عنهم الضرّ.. فأجابه الإمام (علیه السلام) : «إنّ ذلك لَكائن»، وأنّه سيتحقّق، ولا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، أي: أنّه من المحتوم، ولا ينبغي تغييره، لأنّه ضمن المخطَّط الربّانيّ.
وإذا قُرئت بالفتح، فلا يمكن حينئذٍ إرجاع الكلام إلى الإمام (علیه السلام) وحياة الإمام (علیه السلام) ، ولابدّ من إرجاعها إلى الراوي نفسه، بمعنى أنّه يقول: إنّ حياة مَن لا ينصره حياةُ سَوء _ بالفتح _، وعمَلَهم عمَلُ سَوء.
وربّما شهد لذلك ما رواه الكشّيّ مسنداً عن أبي عبد الله الجدليّ قال:
ص: 242
دخلتُ على أمير المؤمنين (علیه السلام) ، قال: «أُحدّثك سبعة [ خ ل: تسعة] أحاديث قبل أن يدخل علينا داخل». قال: فقلت: افعلْ، جُعلت فداك ...
إلى أن قال (علیه السلام) :
«والرابعة: يُقتَل هذا وأنت حيٌّ لا تنصره». قال: فضرب بيده على كتف الحسين (علیه السلام) . قال: قلت: واللهِ إنّ هذه لَحياةٌ خبيثة. ودخل داخل ((1)).
نجد في هذا الحديث كلاماً مباشراً مع الجدليّ، وخطاباً صريحاً يقصده بعينه، وسياقاً يشهد بوضوحٍ أنّه يُقسِم بالله أنّ حياته بعد خذلانه الإمام (علیه السلام) حتّى يُقتل «لَحياةٌ خبيثة».
والإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) يخاطبه مباشرةً: «أنت»، ويُخبره بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام) وهو حاضر، إذ يضرب بيده على كتفه ويشير إليه: «يُقتَل هذا»، ويُخبره بالطامّة الكبرى الّتي تنزل عليه: «وأنت حيٌّ لا تنصره»..
فهو قد بشّره من جهةٍ ببقائه على قيد الحياة إلى يوم الحسين (علیه السلام) ، بَيد أنّه أنذره بما سيصدر منه من خذلانٍ مروّعٍ للإمام (علیه السلام) حتّى يُقتَل.
ومن الواضح أنّ قول الإمام (علیه السلام) : «وأنت حيٌّ لا تنصره»، يفيد الخذلان العامِد، وعدم وجود العذر الموجَّه المقبول، ولو كان ثَمّة عذرٌ _ كالحبس
ص: 243
والسجن والمانع المعذّر _ لَأشار إليه الإمام (علیه السلام) ، فيما نجده يصرّح بكونه على قيد الحياة سالماً، ويعبّر عن موقفه بقوله: «لا تنصره».
ومن الواضح أيضاً أنّ أقلّ ما يتحصّل من قوله: «لا تنصره» هو الخذلان، وترك نصرة الإمام (علیه السلام) تساوق الخذلان حتّى لو لم يحارب ضدّه، وإلّا فمن الممكن أن يُفاد منه أن يكون عليه.
ولخذلان سيّد الشهداء (علیه السلام) أحكامٌ قاسيةٌ يمكن التعرّف على بعضها من خلال ما ورد في الزيارات من اللعن المتكاثف المتكرّر لأنواع الخاذلين وأقسامهم ومستويات خذلانهم.
ولمّا أخبر الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أبا عبد الله الجدليّ بسوء عاقبته وخذلانه إمامه حتّى يُقتَل وهو حيٌّ لا ينصره، اهتزّ ورقّ، وخشي مِن عاقبته، وشهد على نفسه أنّ حياته ستكون حياةً خبيثة، وإنّها لَحياة سَوء.
وكان في كلامه مع الإمام (علیه السلام) _ في حديث ابن قولويه _ لحن اعتراض، وكأنّه غير راضٍ بهذه العاقبة السيّئة والحياة الخبيثة، وأنّه لا يمكن أن يرتضيها لنفسه، ولا يمكن أن تصدر منه مثل هذه الهفوة الّتي تهفو بالمؤمن وتُخرجه من حريم الإيمان والسعادة إلى سوء العاقبة، فردّ عليه الإمام (علیه السلام) : «إنّ ذلك لكائن»، أي: إنّك ستكون كذلك!
إستعمل الإمام (علیه السلام) : «ذلك»، إشارةً إلى البُعد الزمنيّ بين كلامه (علیه السلام) ووقوع المصيبة.
ص: 244
وقد ذكر الإمام (علیه السلام) الأمر مؤكَّداً بالجملة الاسميّة و(إنّ) الثقيلة واسم الإشارة: «إنّ هذا يُقتَل»، ثمّ عاد ليؤكّد ذلك بالجملة الاسميّة و(إنّ) الثقيلة واسم الإشارة واللام واسم الفاعل: «إنّ ذلك لَكائن»!
ومن العجيب ما ذهب إليه أُستاذ الفقهاء في عصرنا الحاضر آية الله السيّد الخوئيّ (رحمة الله) ، إذ قال:
أقول: الرواية لا دلالة فيها على ذمّ أبي عبد الله الجدليّ، بل إنّها تدلّ على أنّه لا يُوفَّق لنصرة الحسين (علیه السلام) خارجاً، وأنّه استاء لذلك، وكان يرى أنّ الحياة بعد الحسين (علیه السلام) حياةً خبيثة ((1)).
إذا لم يكن عدم التوفيق لنصرة الحسين (علیه السلام) خارجاً _ مع كونه حيّاً موجوداً حاضراً من غير عذرٍ يُذكَر _ ذمّاً، فكيف سيكون الذمّ إذن؟! وسياق كلام الإمام (علیه السلام) يفيد أنّه سيترك النصرة عن علم.
والحال أنّ الجدليّ نفسه قد فهم من كلام الإمام الّذي خاطبه مباشرةً أنّ حياته بعد الحسين (علیه السلام) ستكون حياةً خبيثةً وعاقبته غير سليمة، وكأنّه حاول مراجعة الإمام (علیه السلام) فيما أخبره به، ولا زال الإمام (علیه السلام) يؤكّد له أنّه كذلك.
عدم التوفيق للنصرة خارجاً _ مع عدم الوقوف على عذرٍ مقبولٍ _ يساوق الخذلان جزماً، وخذلان الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عمَلُ سَوءٍ خبيثٍ
ص: 245
ملعون، وهذا هو الّذي أثار الجدليّ ودعاه للإقرار بسوء الحياة وخبثها بعد الإمام الحسين (علیه السلام) .
سيما أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) _ وهو سيّد البلاغة ومعدن الفصاحة _ لم يقل له: وأنت حيٌّ لكنّك تُمنَع عن نصرته، أو لا تستطيع، أو لا تتمكن من نصرته.. وما شابه من العبارات الّتي هو الإمام أعرف بها، ممّا يفيد امتناع النصرة عليه خارجاً، خارجاً عن إرادته.
* * * * *
ربّما كان الجدليّ مع أمير المؤمنين (علیه السلام) في أعلى درجات الإيمان، بَيد أنّ عاقبته كانت ما أخبره بها الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، والأُمور بخواتيمها، وقد ذكرنا في أكثر من موضعٍ أنّنا نتعامل مع الرجال وفق مواقفهم من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بغضّ النظر عن سوابقهم!
أجل، قد يكون الرجل مؤمناً، له قدم صدقٍ عند الأئمّة _ من قبيل: الأصبغ بن نباتة، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وسُليم بن قيس، وكُميل ابن زياد، وأمثالهم _، فلا يمكن الحكم عليه فوراً، ولابدّ من التريّث قبل الحكم، فربّما كان له عذرٌ أو ورد له مدحٌ وترضٍّ من الأئمّة (علیهم السلام) بعد الإمام الحسين (علیه السلام) ، فنعلم حُسن حاله وخروجه من دائرة الخذلان.
وكيف كان، فإنّ أمثال هؤلاء لا يمكننا إدخالهم في دائرة الخذلان حتّى يثبت لنا ذلك.. أمّا مِثل الجدليّ، فإنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قد أخبر بأنّه سيكون حيّاً ويُقتَل وَلده الحسين (علیه السلام) وهو لا ينصره، وقد أقرّ هو بنفسه أنّ
ص: 246
حياته بعد الإمام الحسين (علیه السلام) حياة سَوءٍ خبيثة، ولم نقف له على عذرٍ _ إلى حين تحرير هذه الكلمات _ من قبيل الحبس والاعتقال، وغيرها من الأعذار الّتي تُسقِط عنه تكليف النصرة، فالمفروض أن يدخل دائرة الشكّ على أقلّ التقادير حتّى يثبت له عذر.
ولا ننسى أنّه كان على علمٍ وجزمٍ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) سيُقتَل وهو حيّ، وأنّه قد سمع ذلك ولو على نحو التحذير والإنذار.
روى الجدليّ أنّه كان حاضراً وصيّة أمير المؤمنين (علیه السلام) لولده الإمام الحسن (علیه السلام) قُبيل شهادته ((1))، وروى خبراً مفصَّلاً في شهادة أمير المؤمنين (علیه السلام) وتجهيزه ودفنه، وأفاد أنّه كان حاضراً في جميع ذلك ((2)).
وممّا لا شكّ فيه أنّ حضور وصيّة الإمام (علیه السلام) وتجهيزه وغُسله وتكفينه وتشييعه ودفنه واطّلاعه على مِثل هذه الأسرار الّتي لم يُوفَّق إليها إلّا المميَّز جدّاً من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فيُعدّ هذا الحضور ميزةً خاصّةً له.
ص: 247
بَيد أنّ سبيلنا إلى توثيق هذه المعلومة المهمّة مسدود، والراوي الوحيد_ حسب فحصنا _ لهذه الحكاية هو الجدليّ نفسه، وقد انفرد الباعونيّ برواية حضوره التجهيز والدفن، هذا من جهة..
ومن جهةٍ أُخرى: فإنّ مجريات الدفن بالذات كانت سرّيّةً للغاية، لم يطّلع عليها أحدٌ إلّا مَن اختاره الله لذلك، فأخرجه الإمام الحسن (علیه السلام) معه، وقد بقي قبر أمير المؤمنين (علیه السلام) معفّى الأثر لا يعرفه أحدٌ إلى زمان الإمام الصادق (علیه السلام) ، وإذا كان ثَمّة واحدٌ من خواصّ الخواصّ ممّن أطلعهم المعصوم على موضع القبر فهم أقلّ القليل، ولسنا نجد لاسم أبي عبد الله الجدليّ بينهم سواداً، وتحقيق ذلك وإثباته موكولٌ إلى محلّه.
خرج الرجل على رأس وفدٍ إلى مكّة، والتقى الإمامَ سيّد الشهداء (علیه السلام) يدعوه إلى الكوفة.. هكذا ذكرت بعض المصادر التاريخيّة.
ثمّ انقطع خبره، إذ لم نجد له ذِكراً ولا خبراً بعد ذلك..
هل بقي في مكّة حين خرج الإمام (علیه السلام) منها؟
هل لازم الإمام (علیه السلام) وخرج معه من مكّة؟
هل رجع إلى الكوفة، أو سافر إلى مكانٍ آخَر؟
لم نجد له _ فيما توفّر لدينا من مصادر _ ذِكراً، ولم نرَ له أيّام الطفّ سواداً في أيّ موضع، واختفت أخباره اختفاءً كاملاً..
ربّما يُعتذَر له أنّه كان في الحبس ضمن مَن حبسهم ابن الأَمة الفاجرة
ص: 248
ابن زياد تلك الأيّام، أو أنّه كان مسافراً بعيداً عن الكوفة والعراق.. بَيد أنّ هذا الاعتذار لا دليل عليه ولا شاهد له من التاريخ، بل يمكن الاستشهاد بكلام أمير المؤمنين (علیه السلام) لإثبات خلافه، حيث أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) قد أخبره من قبل أنّ وَلده الحسين (علیه السلام) يُقتَل وهو حيٌّ لا ينصره، ولو كان معذوراً لأشار الإمام (علیه السلام) إلى ذلك.
هكذا بقي في غياهب الاختفاء سنين امتدّت منذ أن فارق الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة، حتّى رأيناه حاملاً لراية المختار وأميراً على شرطته ((1))، وأميراً على السريّة الّتي بعثها المختار لتخليص المولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة، كما روى لنا التاريخ ما ملخّصه:
قد بعث المختار بن أبي عبيدة أبا عبد الله الجدليّ في أربعة آلاف فارس.
وكان ابن الزبير قد خطب يومَ قَدِم أبو عبد الله الجدليّ قبل قدومه بساعتين، فقال: إنّ هذا الغلام محمّدَ ابن الحنفيّة قد أبى بيعتي، والموعد بيني وبينه أن تغرب الشمس.
ثمّ أضرم عليه مكانه ناراً، فجاء إنسانٌ إلى محمّدٍ فأخبره بذلك، فقال: سيمنعه منّي حجابٌ قويّ.
ص: 249
فجعل ذلك الرجل ينظر إلى الشمس ويرقب غيبوبتها، لينظر مايصنع ابن الزبير.
فلمّا كادت تغرب، حاست ((1)) خيل أبي عبد الله الجدليّ ديار مكّة، وجعلَت تمعج ((2)) بين الصفا والمروة، وجاء أبو عبد الله الجدليّ بنفسه فوقف على فم الشِّعب، واستخرج محمّداً، ونادى بشعاره، واستأذنه في قتل ابن الزبير، فكره ذلك ولم يأذن فيه ((3)).
ولا ندري أين كانت يومَ الحسين (علیه السلام) همّتُه وشجاعته وجرأته تلك الّتي اقتحم بها مكّة، وأقدم بسريّةٍ ذات عددٍ محدودٍ على كلّ تلك الجموع
ص: 250
المتكاثفة المتكاتفة في مكّة تحت راية ابن الزبير، حتّى أنقذ المولى المكرم ابن الحنفيّة؟!
أين كانت قوّته وشراسته وبسالته يوم أحرقوا الخيام على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وتركوا بنات الوحي طعمةً للنيران.. وهو الّذي أحرقَته غَيرتُه على ابن الحنفية (رضوان الله علیه) لمّا سمع أنّ ابن الزبير ينوي إحراق ابن الحنفيّة ومَن معه في الشِّعب، فلم يهدأ حتّى خرج مسارعاً من الكوفة ودخل مكّة، فأخرج ابن الحنفية ممّا هو فيه؟!
هدّد ابنُ الزبير المولى المكرم محمّد بن أمير المؤمنين، لأنّه أبى البيعة له، فكان أبو عبد الله الجدليّ ناصراً، دافع عنه ونافح حتّى أنقذه من براثنابن الزبير ومخالبه..
ألم يسمع أنّ الإمام الحسين ريحانة النبيّ وخامس أصحاب الكساء وابن فاطمة سيّدة النساء (علیهم السلام) قد أبى البيعة، فحاصره يزيد وجنده، وبعث إليه الآلاف المؤلّفة، حتّى قتلوه ظامياً على الفرات بتلك القتلة الفجيعة الّتي لم يُقتَل بها أحدٌ من العالمين، وقتلوا أصحابه وأهل بيته وأنصاره، كباراً وصغاراً، نساءً وأطفالاً، وأحرقوا عليهم خيامهم، وسلبوا ثقل الرسول (صلی الله علیه و آله) ونهبوهم، وصفّدوهم بالحديد مغلولةً أيديهم إلى الأعناق، وساقوهم على أقتاب المطايا في حرّ الهاجرات، يشهّرون بعرض الرسول (صلی الله علیه و آله) ومخدّرات الرسالة في البلدان، يعرضون في الأسواق، يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والشريف والدنيّ والشاهد والغائب؟!
ص: 251
ربّما يعذره عاذر، أو يجد له عذراً باحثٌ في التاريخ.. أمّا نحن، فلم نجد له _ على قدر فحصنا _ عذراً، والله العالم.
والغريب أنّ الجدليّ هذا لم يكن من فئة سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن الشدّاد وأضرابهم، الّذين خرجوا يكفّرون ذنبهم حين أحسّوا بالندم من خذلانهم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فاتّخذوا من شعار (الرواح إلى الجنّة) والتخلّص من (حياة السَّوء) والنجاة من (الحياة الخبيثة) بعد ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما ظهر مع المختار بقوّةٍ وعلى أعلى المستويات، وربّما كان ذلك لأنّ المختار كان بمكانٍ من القوّة والغلبة وكثرة الأتباعبحيث يكون رجاله الكبار في مأمنٍ من الموت في الحسابات الظاهريّة!
سرّح ابن الحنفيّة أبا عبد الله الجدليّ بكتابٍ منه إلى عبد الملك، يسأله فيه الأمان لنفسه وأصحابه بعد مقتل ابن الزبير، فذهب بالكتاب، وعاد بالجواب ببسط الأمان وتصديق قوله، ووصف ما هو عليه في إسلامه وعفافه وفضله وقرابته وعظيم حقّه ((1)).
يفيد هذا الخبر أنّ الجدليّ كان قد كرّس له وجوداً بالقرب من المولى المكرم محمّد ابن الحنفيّة؛ إذ كان السبّاقَ إلى نجدته حين حصره ابن الزبير وهدّد بحرقه ومَن معه، وظهر هنا رسولاً يحمل كتاباً منه في تلك الأيّام
ص: 252
العصيبة إلى الحاكم الأُمويّ، ويحمل من الحاكم كتاباً للسيّد ابن الحنفيّة..
وربّما كان لدوره مع المختار وابن الحنفيّة أثراً بليغاً جدّاً على علماء الرجال عند العامّة، فصنّفوه في عداد الشيعة الأشدّاء، وربّما يتّضح هذا الأمر بجلاءٍ لمن يراجع كلماتهم فيه وتفريعهم الحكم عليه بالتشيُّع على تلك المواقف.
قلنا قبل قليل: إنّ النصّ لم يحدّد لنا الأفراد الّذين تكوّن منهم هذا الوفد، ولم يُشِر إلى اسم أحدٍ منهم سوى رئيس الوفد، وهو أبو عبد الله الجدليّ..
وكذلك أغفل النصّ التصريح بمهمّة الوفد، وهل كان ممثّلاً مرسَلاً من قِبل جماعةٍ من الكوفيّين، أو أنّهم خرجوا بأنفسهم ليلقوا الإمام (علیه السلام) ويحدّثوه شخصيّاً، بمعنى أنّ الوفد لم يكن مبعوثاً من قبل أحد، وإنّما يمثّل نفسه فقط، أو أنّهم كانوا يحملون البُعدَين معاً، فيكونوا مبعوثين من قبل جماعة، وفي ذات الوقت يتكلّمون عن أنفسهم ويعربون عن آرائهم الشخصيّة؟
والظاهر من السياق أنّ هذا الوفد شيءٌ سوى الكتب والرسائل.
وعلى كلّ تقدير، فإنّ أبا عبد الله الجدليّ كان معدوداً في الأشخاص الّذين دعوا سيّد الشهداء (علیه السلام) شخصيّاً بحضوره بين يديه في مكّة!
ص: 253
روى ابن حبّان خبراً شاذاً، قال فيه:
ولمّا بايع أهلُ الشام يزيدَ بن معاوية، واتّصل الخبر بالحسين بن عليّ، جمع شيعته واستشارهم، وقالوا: إنّ الحسن لمّا سلّم الأمرلمعاوية سكت وسكت معاوية، فالآن قد مضى معاوية، ونحبّ أن نبايعك. فبايعَتْه الشيعة، ووردَت على الحسين كتبُ أهل الكوفة من الشيعة يستقدمونه إيّاها ... ((1)).
يُلاحَظ في هذا الخبر ثلماتٌ عدّة:
إنفرد ابن حبّان بهذا الخبر من بين جميع المؤرّخين _ حسب فحصنا _، فلم نجد له أثراً عند غيره ممّن سبقه أو لحقه، وهذا النوع من التفرّد يورث التردّد والتريّث والامتناع عن القبول بسهولة.
يُلاحَظ أنّ الخبر يحمل سماتٍ خاصّةً من حيث الصياغة، فهو يرسم صورةً تتردّد بين رأي أهل الشام ورأي الشيعة، وكأن لم يكن في الأُمّة غيرهم، وليس لباقي البلدان وطوائف المسلمين موقف، وكأنّ لباقي
ص: 254
المسلمين المنتشرين في جميع الحواضر والأمصار بيعة ليزيد القرود، وكأنّ الشيعة كلّهم كانوا على قولٍ واحد، سواءً مَن كان في المدينة ومَن كان في الكوفة..
يقول: لمّا بايع أهل الشام.. اتّصل الخبر بالإمام الحسين بنعليّ (علیهما السلام) .. جمع الإمام (علیه السلام) شيعته.. فأحبّوا بيعته.. ثمّ وردَت كتب الشيعة من أهل الكوفة يستقدمونه..
يفيد الخبر أنّ الإمام (علیه السلام) جمع شيعته فاستشارهم.. والظاهر من السياق أنّ ذلك إنّما تمّ في المدينة حيث كان الإمام (علیه السلام) يومذاك..
فمَن هم الشيعة الّذين استشارهم؟
وكم هو عددهم؟
وهل كان للإمام (علیه السلام) شيعةٌ في المدينة أو في مكّة، حتّى يجمعهم الإمام (علیه السلام) فيجتمعون على رأي؟
أيريد ابن حبّان إلقاء اللوم على الشيعة حتّى في المدينة، ليُقال: إنّ شيعة المدينة أيضاً أشاروا على الإمام (علیه السلام) ، ثمّ خذلوه ولم يخرج منهم خارجٌ معه، وأنّ شيعة الكوفة فقط هم الّذين دعوه واستقدموه، ثمّ خذلوه وعدَوا عليه فقتلوه؟!
ص: 255
متى استشار الإمام (علیه السلام) شيعته في هذا الأمر؟
أين جمعهم؟
مَن حضر الاجتماع؟مَن هم الشيعة في المدينة؟
مَن قال: إنّ الإمام (علیه السلام) عمل برأي شيعته وقَبِل دعواتهم القادمة من الكوفة؟
هل أثبت التاريخ مورداً آخَر استشار فيه الإمام (علیه السلام) أحداً في حركته يومذاك؟
إنّها كذبةٌ مفترعةٌ مقذعةٌ باردةٌ مفضوحةٌ قبيحة، لا تستحقّ المناقشة والوقوف عندها.
يفيد سياق الخبر وصياغته أنّ الإمام (علیه السلام) بادر إلى استشارة شيعته! فور اتّصال خبر بيعة أهل الشام به، فأشاروا عليه بالبيعة له، وقد رتّبوا رأيهم على تسليم الإمام الحسن الأمين (علیه السلام) الأمر إلى معاوية وسكوتهما، وأعربوا عن حبّهم ورغبتهم في بيعته (الآن) وقد مات معاوية ونزا يزيد على الأعواد..
وهذا السياق يوحي بوضوحٍ للمتلقّي أنّ الإمام (علیه السلام) تأثّر برأي شيعته،
ص: 256
وعزم على الخروج (بالمعنى المصطلح)، وكان هو البادئ وليس يزيد الّذي طلب رأس الحسين (علیه السلام) منذ اللحظة الأُولى!!!
ص: 257
ص: 258
ذكرت المصادر بعض العناوين العامّة للتعبير عن الرسُل الّذين وافوا سيّد الشهداء (علیه السلام) يحملون كتب أهل الكوفة، وصرّحَت ببعض الأسماء، نحاول التعرّف إليها فيما يلي من خلال العناوين التالية:
وردَت عناوين عامّة من دون التنصيص على أسماء بعينها، تشير إلى رسلٍ أوصلوا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) كتب أهل الكوفة، من قبيل:
بعث أهلُ العراق إلى الحسين الرسُل ((1))..
ص: 259
وترادفت وتواترت إليه رسلهم ((1))..
على يد قاصدين ((2))..
فأتاه رسل أهل الكوفة ((3))..فأرسلوا إلى الحسين (علیه السلام) ((4))..
وأنفذوا جماعة ((5)).
ذكروا جملةً من الأسماء باعتبارهم رسل أهل الكوفة وحاملي كتُبهم، ولا يمنع أن يكون بعضهم قد ورد اسمه في المكاتِبين أيضاً وفق بعض المصادر، كما لا يمنع أن يتقدّموا للكلام بين يدَي الإمام (علیه السلام) ويدعونه بأنفسهم، فيكونوا وفداً ورسُلاً في آن.
ص: 260
نحاول الآن استعراض الأسماء الّتي صرّح بها المؤرّخ، والتعرّف إليها بشكلٍ إجماليّ:
عبد الله بن سبيع الهمدانيّ ((1))..
ذكره الدارقطنيّ في (العلل) ((2))، وذكره الدينوريّ باسم: عُبيد الله ((3))، وورد عند الطبريّ وغيره باسم: عبد الله بن سبع الهمدانيّ ((4)).
لم نقف له على ذِكر، ولم نجده في شهداء الطفّ ولا مع التوّابين حسب فحصنا، فهو في الخاذلين حتّى يتبيّن أمره.
قال السيّد الخوئيّ: مِن رسُل الكوفيّين إلى الحسين (علیه السلام) ، كما عن (المناقب) في فصل مقتله ((1)).
لم نجد له ذِكراً سوى ما في (المناقب)، ولا ندري إن كان في الاسم ثَمّة تصحيفٌ أو أنّه اسمٌ لشخصٍ بذاته، فإنْ كان الثاني فإنّا لم نقف له على ترجمةٍ ولا ذِكر، ولم نجده فيمن فدى ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) في كربلاء حسب فحصنا، فهو في الخاذلين حتّى يتبيّن أمره.
له ذِكرٌ في التوّابين ((1))، هكذا قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) !
وهذا الاسم قريبٌ من الاسم الأوّل والاسم الثالث، ويُحتمَل التصحيف.
.. عبد الله بن وال التَّيميّ، من تَيم اللّات بن ثعلبة ((1)) بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل ((2)).
وقال السماويّ: التَّيميّ، من تَيم بن بكر بن وائل، له شرف، قُتل بعين الوردة في التوّابين مع سليمان بن صُرد ((3)).
وعبد الله بن وال التميميّ، كان شاعراً، قُتل مع التوّابين ((4)).
عدّه الشيخ الطوسيّ في مَن روى عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ((5)).
وعدّه الشيخ المفيد هو وسليمان بن صُرد في مَن يلحق الأوائل بالذكر من أوليائهم، وما عليه شيعتهم وأهل الفضل في الدين والإيمان والعلم والفقه والقرآن، المنقطعين إلى الله (تعالى) بالعبادة والجهاد والتمسُّكبحقائق الإيمان ((6)).
له خبرٌ طويلٌ يرويه في قصّة قتل الخوارج زاذان بن فروخ بناحية (نفر)، وحمْلِه كتاب الإمام (علیه السلام) إلى زياد بن خصفة، وأنّ الإمام (علیه السلام) دعا له، وأذن له أن يكون مع زيادٍ على مَن يقاتل الخوارج ((7)).
ص: 264
وعدّه ابن أعثم من المكاتِبين الّذين وردَت أسماؤهم في كتاب سليمان وجماعته إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ((1)).
وعدّه ابن أعثم أيضاً فيمن خاطبهم سيّد الشهداء (علیه السلام) بكتابه الّذي أرسله إلى جماعةٍ من أهل الكوفة بيد قيس بن مسهر، بَيد أنّ العدوّ أخذ قيساً وقتله، في خبرٍ طويلٍ يأتي في محلّه.
وكان ممّا كتب إليهم _ حسب نصّ ابن أعثم _ :
«بسم الله الرحمن الرحيم.
من الحسين بن عليّ، إلى سُليمان بن صُرَد والمسيّب من نجبة ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة المؤمنين.
أمّا بعد ...
وقد أتَتْني كتبُكم وقدمَت علَيّ رسُلُكم ببيعتكم أنّكم لا تخذلوني، فإنْ وفيتُم لي ببيعتكم فقد استوفيتم حقّكم وحظّكم ورشدكم، ونفسي مع أنفُسكم، وأهلي ووُلدي معأهاليكم وأولادكم، فلكم فيَّ أُسوة، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ومواثيقكم وخلعتم بيعتكم، فلَعمري ما هي منكر بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي، هل المغرور إلّا مَن اغترّ بكم؟
ص: 265
فإنّما حقّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني الله عنكم» ((1)).
وقد طلب ابن زيادٍ من قيس أن يكشف عن أسماء الّذين خاطبهم الإمام الحسين (علیه السلام) ، فأبى.
قال الشيخ النمازيّ: لم يذكروه، هو من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، هو حسن الحال، ودعا له أمير المؤمنين (علیه السلام) ((2)).
كان من أُمراء التوّابين ومفزعهم..
روى ابن عساكر قال:
وقد كان مروان _ لمّا بايع لعبد الملك وعبد العزيز _ عقد لعُبيد الله ابن مرجانة، وجعل له ما غلب عليه.
ومات مروان قبل أن ينفصل، فأمضى عبد الملك بعثه، فخرج متوجِّهاً إلى العراق.
وبلغ ذلك أهل الكوفة، وذلك في سنة ستٍّ وستّين، ففرغ شيعةالكوفة إلى سُليمان بن صُرَد الخزاعيّ وإلى المسيّب بن نجبة الفزاريّ وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزجيّ وإلى عبد الله بن وال التميميّ وإلى رفاعة بن شدّاد البجليّ ((3)).
ص: 266
فسار ابن زياد، فلقي سليمان بن صُرد ومعه التوّابون بعين الوردة من بلاد الجزيرة في جُمادى الآخِرة، فقتل سليمان بن صُرد والمسيّب ابن نجبة الفزاريّ وعبد الله بن وال التيميّ _ تيم اللات _ ابن ثعلبة ((1)).
وقد جعله سليمان بن صُرد أميراً على عسكرهم بعد جماعة، قالوا:
ثمّ قام سُليمان بن صُرد، فوعظهم وذكّرهم الدار الآخرة، وقال:
إنْ قُتلتُ فأميركم المسيّب بن نجبة، فإنْ أُصيب المسيّب فالأمير عبد الله بن سعد بن نفيل، فإنْ أُصيب فأخوه خالد بن سعد، فإنْ قُتل خالد فالأمير عبد الله بن وأل، فإنْ قُتل ابن وأل فأميركم رفاعة ابن شدّاد ... ((2)).
وجعله سليمان أميناً على جمع الأموال في حركتهم، قال سليمان بن صُرد:
حسبكم! مَن أراد من هذا شيئاً فلْيأتِ بماله عبد الله بن وال التيميّ، تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كلّ ما تريدون إخراجه من أموالكم، جهّزنا به ذوي الخلّة والمسكنة من أشياعكم ((3)).
ص: 267
وكان من خبر مقتله أنّه تقدّم عبد الله بن وال فأخذ الراية، وقاتل حتّى قُطعَت يده اليسرى، ثمّ استند إلى أصحابه ويده تشخب دماً، ثم كرّ عليهم وهو يقول:
نفسي فداكمُ، اذكروا الميثاقا
وصابروهم واحذروا النفاقا
لا كوفةً نبغي ولا عراقا
لا، بل نريد الموت والعتاقا
وقاتل حتّى قُتِل ((1)).
فلمّا أُتي عبد الملك بن مروان ببشارة الفتح!! صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:
أمّا بعد، فإنّ الله قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقحَ فتنةٍ ورأسَ ضلالة، سُليمانَ بن صُرد، ألا وإنّ السيوف تركَت رأس المسيّب بن نجبة خذاريف، ألا وقد قتل الله من رؤوسهم رأسَين عظيمَين ضالَّين مضلَّين، عبد الله بن سعدٍ أخا الأزد وعبد الله بن والٍ أخا بكر بن وائل، فلم يبقَ بعد هؤلاء أحدٌ عنده دفاعٌ ولا امتناع ... ((2)).
ص: 268
هذا، وقد فحصنا فلم نجد اسمه في السجناء والمحبوسين، ولم نعرف له عذراً خاصّاً في تخلّفه عن نصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى حين تحرير هذه الأوراق.
قيس بن مسهر الصيداويّ ((1))..
ذكره البلاذريّ باسم: قيس بن مسهر بن خليد الصيداويّ، من بني أسد ((2))، وذكره الدينوريّ باسم: بشر بن مسهر الصيداويّ ((3))، وفي (المقتل) المتداوَل لأبي مِخنَف: قيس بن مسهر الأنصاريّ ((4)).
رسول سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .. ونِعمَ الرسول.. أدّى الأمانة، وحفظ الذمام، حتّى قُتِل قتلةً فجيعة، سنتشرّف بذِكره في محلّه إن شاء الله (تعالى).
ص: 269
ورد اسمه في المصادر باختلافٍ على النحو التالي:
عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدر الأرحبيّ ((1)).
عبد الرحمان بن عُبيد الأرحبيّ ((2)).
عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن الأرحبيّ ((3)).عبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ ((4)).
عبد الله بن عبد الرحمان الأرحبيّ ((5)).
عبد الرحمان بن عبد الله الأرخيّ ((6)).
عبد الرحمان بن عبد الله بن الكوّا الأرحبيّ ((7)).
ص: 270
قال الشيخ السماويّ:
عبد الرحمان الأرحبيّ: هو عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن بن أرحب بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب بن رومان بن بكير الهمْدانيّ الأرحبيّ، وبنو أرحب بطنٌ من همْدان.
كان عبد الرحمان وجهاً تابعيّاً شجاعاً مقداماً ((1)).
وورد السلام عليه في الزيارة الّتي رواها ابن المشهديّ والسيّد في (الإقبال):
«السلامُ على عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدر الأرحبيّ» ((2)).
ولمّا كان اسمه لامعاً ساطعاً بين أسماء مَن فدى الإمام الحسين (علیه السلام) في طفّ كربلاء، فسيأتي الحديث عنه وتحقيق اسمه في محلّه، إن شاء الله (تعالى).
عمارة بن عُبيد السلوليّ ((1)).
وقال العجليّ: عمارة بن عبد السلوليّ، كوفيّ، تابعيّ، ثقة ((2)).
واسمه عند الطبريّ في (التاريخ) وابن أعثم: عمارة بن عُبيد السلوليّ ((3)).
وفي (الإرشاد) للشيخ المفيد وغيره: عمارة بن عبد الله السلوليّ ((4)).
قال النمازيّ: لم يذكروه، هو حامل كتاب أهل الكوفة إلى مولانا الحسين (علیه السلام) ، ورجع مع مسلم إلى الكوفة ((5)).
وفي (مقتل الحسين (علیه السلام)) للخوارزميّ: عامر بن عُبيد السلوليّ ((6)).
روى الطبريّ وابن الأثير حضوره قصّة اغتيال ابن زياد المزعومة في بيت هانئ بن عروة، وأنّ عمارة بن عبد السلوليّ قال:
ص: 272
إنّما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية، وقد أمكنك الله، فاقتله!
فقال هانئ: ما أُحبّ أن يُقتَل في داري ((1)).
أيّاً كان اسمه، فإنّا لم نجد له ذِكراً في شهداء الطفّ، ولا اسماً معالتوّابين.
وشعرٌ في الجَمَل ((1)).
وورد اسمٌ ثالث: هاني بن هاني، من دون نسبة.
قال عنه الشيخ النمازيّ: من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) . روى يزيد ابن إسحاق عنه عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في (كامل الزيارات)، ورواية أبي إسحاق عنه عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في كتاب صفّين. وكان مع سعيد بن عبد الله آخِر رسُل أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) . وسائر رواياته عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في (حلية الأبرار). وذكروا في الرجال بهذا الاسم من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ثلاثة: الهمدانيّ، والمراديّ، والسبيعيّ ((2)).
قال السيّد الخوئيّ: لا يبعد اتّحاد هاني بن هاني السُّبيعيّ والمراديّ ((3)).
ولا ندري كيف يمكن أن تكون نسبة (السُّبيعيّ) لبطنٍ من همدان،ويكون الرجُل في نفس الوقت مراديّاً من مِذحَج؟!
وقال التُّستريّ: هاني بن هاني الهمدانيّ، عدّه البرقيّ في أصحاب عليٍّ (علیه السلام) من اليمن. وأقول: هو السُّبيعيّ الّذي كان هو مع سعيد بن عبد الله الحنفيّ آخِر رسُل أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) ... فسُبيع بطنٌ من همدان اليمن. وروى (كامل الزيارة) عن هاني بن هاني قال: قال عليٌّ (علیه السلام) :
ص: 274
«لَيُقتلنّ الحسين (علیه السلام) قريباً من النهرين» ((1)).
وفي (الطبقات الكبرى): هانئ بن هانئ الهمدانيّ، روى عن عليّ بن أبي طالب، وكان يتشيّع، وكان منكر الحديث ((2)).
وقال البخاريّ: هانئ بن هانئ الهمدانيّ، يُعدّ في الكوفيّين ... سمع عليّاً ((3)).
وقال العجليّ: هانئ بن هانئ، كوفيّ، تابعيّ، ثقة ((4)).
وقال السيّد محمّد مهدي الخِرسان:
هانئ بن هانئ الهمدانيّ الكوفي:
قال ابن المدينيّ: مجهول. وقال الشافعيّ: لا يُعرَف، وأهل العلم لا ينسبون حديثه لجهالة حاله. وقال ابن سعدٍ في (الطبقات): كان يتشيّع، وهو منكر الحديث. وقال الذهبيّ: ليس بالمعروف، وقد ورد ذكره في كتب الرجال الشيعيّة، ولم يُذكَر فيه مدح.نعم، رُوي أنّه كان من آخِر رسُل أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) ، هو وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، يطلبون منه القدوم عليهم، وأنّهم ينتظرونه ولا رأي لهم في غيره، فأجابهم (علیه السلام) ، وأرسل الجواب مع
ص: 275
الرسولَين المذكورين، كما ذكر ذلك الشيخ المفيد في (الإرشاد) والطبريّ وغيره ذكروا مثل ذلك.
ولدى التحقيق في أسماء شهداء الطفّ، لم أقف على ذكرٍ لهانئ بن هانئ المذكور بينهم، بينما ورد اسم سعيد بن عبد الله الحنفيّ في عداد الشهداء، وكان من المفترض فيه أن يكون كزميله الحنفيّ، ولم يُذكَر أنّه كذلك.
ونكتفي بهذا عنه، ويتّضح أنّ الرجل مجهول الحال أو مجروحاً، ومَن وثّقه لا يقوم بحجّةٍ ترفع أقوال الجارحين من أئمّة الفنّ ((1)).
وقال الشيخ المامقانيّ:
هاني بن هاني السُّبيعيّ:
هو آخِر رسولٍ أرسله أهل الكوفة إلى الحسين (علیه السلام) مع سعيد بن عبدالله الحنفيّ، يصدعونه إلى الكوفة، وكتب معهما الجواب وأرسلهما قبل مسلم بن عقيل (علیه السلام) .وحال سعيدٍ قد تقدّم، وأمّا هاني هذا فهو مجهول الحال، وليس هو ابن هاني بن عروة، فإنّ ابن ذاك يحيى، وقد نال الشهادة بالطفّ (رضوان الله تعالى عليه)، كما يأتي إن شاء الله (تعالى) ((2)).
ص: 276
وقال الشيخ السماويّ: له ذِكرٌ في التوّابين ((1)).
ونحن لم نقف له على اسمٍ بين شهداء الطفّ، ولا في التوّابين _ حسب فحصنا _، ولا نعرف مستند الشيخ السماويّ (رحمة الله) .
مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وقد فدى سيّد الشهداء (علیه السلام) فداءً لا زال يستدرّ مدامع المؤمنين، بل الناس أجمعين، سنأتي على تفصيل ذلك حين نتشرّفبالبحث عنه في محلّه.
ورد اسمه عند الدينوريّ فقط ((1)) _ حسب فحصنا _، ولم نقف له على ذِكرٍ ولا ترجمة، ولا حضورٍ في كربلاء ولا غيرها.
ورد اسمه في (المقتل) المتداول ((2)) فقط _ حسب فحصنا _، ولم نقف له على ذِكرٍ ولا ترجمة، ولا حضورٍ في كربلاء ولا غيرها.
يمكن تسجيل بعض التلميحات السريعة الّتي لها نوع علاقةٍ مع عنوان (الرسُل):
يمكن ملاحظة الضجيج الّذي يُحدثه المؤرّخ عند عرضه لخبر الرسُل،
ص: 278
فيعمد بعضهم إلى استخدام العناوين العامّة، وتوظيف المصطلحات الطنّانة، ويجهد في محاولةٍ حثيثةٍ لرسم هالةٍ حول الأسماء الّتي يريد سردهافيما بعد، ثمّ بعد أن يسرد الأسماء، ويُكشَف النقاب عن أصل الحدَث، وإذا به حدَثٌ مبالَغٌ فيه إلى أقصى حدٍّ يمكنه أن يبالَغ به..
مع غضّ النظر عن احتمال التداخل في الأسماء والتصحيف والخلط والتفرّد الّذي قد نجده في هذا المصدر أو ذاك، ومع القول بالتعدُّد، نجد أنّ العدد لا يتجاوز الأسماء العشرة!!!
ومن البعيد جدّاً افتراض أن تكون دفعات (الخمسين) و(المئة والخمسين) قد وصلَت على يد رسلٍ غير الرسل الّذين نصّ عليهم المؤرّخ، ليقال أنّ ثَمّة رسلاً آخَرين لم يحصرهم المؤرّخ واقتصر على بعض الأسماء اللامعة أو المعروفة، إذ أنّ المؤرّخ نفسه يصرّح أنّ الرسائل كلّها (المئة والخمسين) قد وصلَت على يد هؤلاء الرسل أنفسهم، ويصرّح باسم الرسولَين اللذَين حملا هذا الكمّ الأكثر من الرسائل.
حين استعراض الأسماء المذكورة في المصادر، نجد أنّهم حملوا الكتب وتجشّموا عناء السفر ليبلغوا رحمة الله، ثمّ نكصوا على أعقابهم صاغرين ودخلوا دائرة الخاذلين، إلّا ثلاثة منهم، هم: قيس بن مسهر، وعبد الرحمان الأرحبيّ، وسعيد بن عبد الله الحنفيّ.
ص: 279
أمّا الباقون فخاذلون.. ظهر بعضهم مع التوّابين، وانغمر الآخَرون فلميُعرَف لهم خبر.
وهؤلاء النماذج لم يخفوا بحالٍ على العالم بالله الّذي يعرف الكون كلّه وأخبار الأرض والسماء، فما قيمة هؤلاء الرجال؟ وهو أعرف بهم _ حتّى لو غمضنا النظر عن علم الإمامة _، فهم من الرجال الّذين كانوا في الكوفة، وكان فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد مارسهم وعالجهم وعجمهم ولفظهم.
يُلاحَظ أنّ الرسل قد خرجوا جمعاً في كلّ دفعةٍ كان فيها اثنان فصاعداً، حتّى الكتاب الأوّل أُرسِل بيد أكثر من واحد، والحال أنّه كتابٌ واحد!
فهل كان تكثُّر الرسل في كلّ دفعةٍ رعايةً للقضايا الأمنيّة وحياطةً للكتب؟ أو كان الرسل يحملون الرسائل المكتوبة والرسائل الشفويّة، وبالتالي يشهد أحدهم للآخَر بما يقول؟ أو أنّه زيادةٌ في التوثيق، إذ أنّ الاثنين والثلاثة يورثون الاطمئنان أكثر ممّا لو كان الحامل واحداً؟ أو أنّ المقصود الزيادة في التقدير والاحترام والتعظيم والإكرام؟ أو أنّ ثَمّة سبباً آخَر وراء ذلك كلّه؟ الله العالم!
يُلاحَظ أنّ حَمَلة الكتب كلّهم ليسوا بعيدين عن أجواء الشيعة، سواءً
ص: 280
كان التشيّع بالمعنى المصطلَح، أو التشيّع بالمعنى العام..
فهم بين شيعيٍّ معتقدٍ ثابتٍ راسخ الإيمان، كما في الثلاثة الّذين بذلوا مهجهم دون الحسين وآل الحسين (علیهم السلام) ، أو الآخَرين الّذين خذلوا فيما بعد.
ولم يكن فيهم مَن هو عدوٌّ ظاهر العداوة، معروفٌ بها مشهورٌ على رؤوس الأشهاد!
يُلاحَظ أنّ الدفعة الأُولى من الرسل كانوا قد حملوا كتاباً واحداً فقط، وهو كتاب سليمان وجماعته.. والدفعة الأخيرة حملَت كتاباً واحداً فقط أيضاً، وهو كتاب شبث وجماعته.. وتكثُّر الكتب كان فيما بينهما!
ولا ندري إن كان ثَمّة تنسيقٌ بين المكاتِبين في هذا الترتيب، سواءً كان بين كتاب البداية وكتاب الختام، وبين المكاتبين الآخرين، أو أنّهم كانوا يكتبون هكذا كلٌّ حسب قناعاته أو اندفاعاته، فإذا اجتمع الاثنان والثلاثة على رأيٍ كتبوا به إلى الإمام (علیه السلام) ؟!
رجع بعض الرسل مع المولى الغريب الحبيب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، كما نصّت عليهم المصادر، والأكيد منهم ثلاثة:
- قيس بن مسهر الصيداويّ.
ص: 281
- عمارة بن عبد الله السلوليّ.
- عبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ ((1)).
وقد فصّلنا الكلام في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام))، فيما إذا كان هؤلاء قد حملوا جواباً من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو أنّهم رافقوا المولى الغريب (علیه السلام) في طريق السفر إلى الكوفة..
بَيد أنّ خلاصة الكلام أنّ الإمام (علیه السلام) لم يردّ على كلّ كتابٍ على حِدة، ولم يخصّ أحدهم بجواب، وقد سكت عنهم حتّى أرسل إليهم سفيره وثقته، وسيأتي تفصيل ذلك بعد قليل.
يمكن رسم مشهد ظروف حمل الكتب ضمن التصوّر العامّ الّذي كان سائداً يومذاك، إذ أنّهم انطلقوا من الكوفة قبل أن يدخلها ابن الأَمة الفاجرة عُبيد الله بن زياد، وكان يومها قد خرج الإمام (علیه السلام) من المدينة وأقام في مكّة، فكانت الظروف قاسية، والحذر مخيّم، وأجناد شيطان الشام قد تألّبت وتحشّدت، بيد أنّ الطرق بعد لم تُؤخَذ والخيل لم تنظم الصحراء حسب سير الأحداث الّتي رواها لنا المؤرّخ، إذ أنّ جميع ذلك قد حدث بعد أن وصل ابن زيادٍ الكوفة، وتلقّى الأوامر الصارمة من سيّده يزيد الشؤم.
ص: 282
لقد حملوا الكتب، وكان فيها حتفُهم.. وكانوا قد جازفوا بالخوض في مخاطرةٍ عنيفةٍ قد تودي بحياتهم، رغم الهدوء النسبيّ الّذي كان يسود الطرق إذا قيس إلى فترة ما بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة!
ويبقى دخول مكّة بمثل هذه الكتب مخاطرةً فوق المخاطر؛ لما كان من أجواءٍ مشحونةٍ وحذرٍ شديد، وانتشار العيون والجواسيس وترقّب السلطان وأتباعه، ومتابعة كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في الحرم بعد أن دخلها سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وابن الزبير.
ص: 283
ص: 284
يمكن تقسيم النصوص الواردة في المقام باعتبار طريقة نقل الحدَث إلى قسمَين:
إعتدنا على تمييز ما يقرّره المؤرّخ في الإخبار عن الحدَث واختصاره وصياغته بعبارته من دون نقل النصوص والأحداث، وقد رأينا في الغالب مدى تصرّفه في النقل وصياغته الخبر كما يحلو له، إذ يكون متحرّراً من التزام النصّ، فيروي في الحقيقة فهمه، أو ما يريد أن يلقيه إلى المتلقّي وفق سياقاته.
فهو هنا يمارس نفس الأُسلوب ليمرّر ما يريد تمريره، من خلال الاقتصار على حكاية ما يفهمه من النصوص، واختصار الأحداث الّتي رُويت في التاريخ..
فرتّب خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة على وصول الكتب إليه، وأنّه استجاب للمراسلات، وقَبِل الدعوة منهم كما وعدوه، وأنّه اغترّ بهم!
ص: 285
حيث وعدوه أن يطردوا النعمان ويسلّموا الأمر إليه، وأنّهم لم يبايعوا أحداً غيره، وأنّهم بايعوه بعد موت معاوية، أو أنّهم خلعوا بيعة يزيد وبايعوه، وأنّ بيعتهم له على السمع والطاعة، وأنّهم يبذلون له النصرة على بني أُميّة، وقد اجتمعوا وتحالفوا على ذلك، وأنّهم كانوا يكرهون بني أُميّة، وخصوصاً يزيد؛ لقبح سيرته، ومجاهرته بالمعاصي، واشتهاره بالقبائح، وأنّهم لم يبايعوا للنعمان، ولا يجتمعون معه في جمعةٍ ولا عيد، وأنّهم جعلوا يستحثّونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضاً عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنّهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه، ويتكلّمون في دولته، وأنّهم لما يبايعوا أحداً إلى الآن، وأنّهم ينتظرون قدومه إليهم ليقدّموه عليهم ((1))..
ص: 286
هكذا رسم المؤرّخ صورةً عبّر فيها عن كوامن المكاتِبين، وما يعتمل ويجيش في صدورهم، وما يأملون ويتمنّون، وأنّهم عرضوا ذلك في مكاتيبهم، من دون نقل النصوص بالحرف!
لقد خطّ المؤرّخون هؤلاء خطّةً وشيّدوا فكرةً، لا ندري إن كانوا أخذوها من مضامين الكتب، أو أنّهم رصفوا هذه المحتويات وفق متطلّباتالسلطان؟!
نجد في المصادر عدّة متونٍ منقولةٍ كنصوصٍ للكتب الّتي وصلَت إلى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بغضّ النظر عن ناقليها وترتيبها الزمنيّ، إذ المهمّ هنا معالجة المتون وما ورد فيها، ويمكن نظمها تحت عدّة نصوصٍ وكتب:
إتّفقت المصادر على رواية كتاب سليمان بن صُرد وجماعته كأوّل كتابٍ وصل إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو الكتاب الأكثر تفصيلاً والأطول بين الكتب الواردة، ومن الطبيعيّ أن تكون ثَمّة اختلافاتٌ لفظيّةٌ تتراوح بين الزيادة والنقصان حسب المصادر والرواة.
ص: 287
ذكرنا جميع ألفاظ الكتاب في بداية البحث، لذا سنحاول هنا الجمع بينها لنخلص إلى نصٍّ واحد، سنجهد في جعله جامعاً للمهمّ مِن المضامين والمحتويات، إن شاء الله (تعالى)..
روى أكثر المؤرّخين متناً لكتاب سليمان بن صُرد وجماعته، حاولنا جمع ألفاظهم في المتن التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم.للحسين بن عليّ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة ابن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.
فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو.
أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك الجبّار العنيد، الّذي انتزى (اعتدى) على هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبَها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها (فانتزعها حقوقها، واغتصبها أُمورها، وغلبها على فيئها، وتأمّر عليها على غير رضىً منها)، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
إنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ (فأقدِمْ علينا)، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ (على الهدى).
(واعلم) فإنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجتمع
ص: 288
(نجمع) معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغَنا مخرجُك (إقبالك إلينا) (أنّك قد أقبلتَ إلينا) أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام.
والسلام ((1)).
روى ابن أعثم _ وتبعه الخوارزميّ، واختصره السيّد ابن طاووس _ كتاباً يشبه المتن الأوّل بشيءٍ من التفاوت المناسب لذوق ابن أعثم وطريقته في السرد القصصيّ واندفاعه، قال:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من سُليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وحبيب بن مظاهر ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وجماعة شيعته من المؤمنين، سلامٌ عليك.
ص: 289
أمّا بعد، فالحمدُ لله الّذي قصم عدوَّك وعدوَّ أبيك من قبل الجبّارَ العنيد الغشوم الظلوم، الّذي ابتزّ هذه الأُمّة أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وعُتاتها، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
ثمّ إنّه قد بلغَنا أنّ وَلده اللعين قد تأمّر على هذه الأُمّة بلا مشورةٍ ولا إجماع، ولا علمٍ من الأخيار (الأخبار).
وبعد، (ونحن) فإنّا مقاتلون معك، وباذلون أنفُسَنا من دونك، فأقبِلْ إلينا فرحاً مسروراً، مأموناً مباركاً منصوراً، سعيداً سديداً، وسيّداً أميراً مطاعاً، وإماماً خليفةً علينا مهديّاً، فإنّه ليس علينا إمام.ولا أمير إلّا النعمان بن بشير، وهو في قصر الإمارة وحيدٌ طريدٌ، لا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد، ولا نؤدّي إليه الخراج، يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع، ولو بلغَنا أنّك قد أقبلتَ إلينا، أخرجناه عنّا حتّى يلحق بالشام.
فأقدِمْ إلينا، فلعلّ الله (تعالى) أن يجمعَنا بك على الحقّ.
والسلام عليك يا ابن رسول الله، وعلى أبيك وأخيك، ورحمة الله وبركاته ((1)).
ص: 290
قال ابن الجَوزيّ في (المنتظَم):
وكان أهلُ الكوفة قد بعثوا إلى الحسين (علیه السلام) يقولون: إنّا قد حبسنا أنفُسَنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة، فأقدِمْ علينا.
فكتبوا إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لحسين بن عليّ، من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجيّة ورفاعة ابن شدّاد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلامٌ عليك.
فإنّا نحمد إليك اللهَ الّذي لا إله إلّا هو، الحمدُ لله الّذي قصمعدوَّك.
وإنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله يجمعنا بك ((1)).
وهذا المقطع يبدو واضحاً أنّه مُقتَطَعٌ من الكتاب الطويل الّذي رواه غيره، فيدخل الحديث عنه ضمن المتن الأوّل.
وروى ابن الجَوزيّ في (الردّ على المتعصّب العنيد) لفظاً آخَر للكتاب، مسنداً عن يونس بن أبي إسحاق قال:
... وكتب إليه سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد، وقالوا:
ص: 291
إنّا تركنا الناس متطلّعةً أنفُسهم إليك، وقد رجونا أن يجمعنا اللهُ بك على الحقّ، وأنْ ينفي عنهم بك ما هم فيه من الجَور، فأنتم أَولى بالأمر من يزيد الّذي غصب الأُمّة فيئها وقتل خيارها ((1)).
وروى قريباً منه البرّيّ، قال:
فلمّا قدم الحسينُ مكّة، كتب إليه سليمان بن صُرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجبة الفزاريّ وغيرهما من رجال أبيه وشيعته من الكوفة:
هلُمّ إلينا يا ابن رسول الله، فأنت أحقُّ بالخلافة من يزيد الخمور.
وكتبوا بيعتهم ((2)).وكذا فعل سبط ابن الجَوزيّ في (التذكرة)، قال:
ولمّا استقرّ الحسينُ بمكّة، وعلم به أهلُ الكوفة، كتبوا إليه يقولون:
إنّا قد حسبنا أنفُسنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فأقدِمْ علينا، فنحن في مئة ألف.
فقد فشا فينا الجَور، وعُمل فينا بغير كتاب الله وسُنّة نبيّه، ونرجوا أن يجمعنا الله بك على الحقّ وينفى عنّا بك الظلم، فأنت أَحقُّ بهذا الأمر من يزيد وأبيه، الّذي غصب الأُمّة فيئها، وشرب الخمور، ولعب بالقرود والطنابير، وتلاعب بالدين.
ص: 292
وكان ممّن كتب إليه: سليمان بن صُرد، والمسيّب بن نجبة، ووجوه أهل الكوفة ((1)).
ومن الواضح من ملامح هذه النصوص أنّهم لم يروُوا إلّا المنتزَع من الكتب والرسائل حسب فهمهم، وليس هو نصّ الكتاب!
وجاء في (مقتل الحسين (علیه السلام)) لأبي مِخنَف (النسخة المتداوَلة):
بسم الله الرحمن الرحيم.
إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، مِن سُليمان بن صُردالخزاعيّ والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد البجليّ وحبيب بن مظاهر الأسديّ ومَن معه من المسلمين، وسلامٌ عليك ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإنّا نحمد اللهَ الّذي لا إله إلّا هو، ونصلّي على محمّدٍ وآل محمّد.
واعلمْ _ يا ابن محمّدٍ المصطفى وابنَ عليٍّ المرتضى _ أنْ ليس لنا إمامٌ غيرك، فاقدِمْ إلينا، لنا ما لَك وعليك ما علينا، فلعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى.
واعلمْ أنّك تقدمُ على جُنودٍ مجنَّدة، وأنهارٍ متدفّقة، وعيونٍ جارية، فإنْ لم تقدم على ذلك فابعثْ إلينا أحداً من أهل بيتك، يحكم
ص: 293
بيننا بحكم الله (تعالى) وسُنّة جدّك رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
واعلمْ أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نشهد معه جمعةً ولا جماعة، ولو أنّك أقبلتَ إلينا لَكُنّا أخرجناه إلى الشام.
والسلام ((1)).
وقد أفردنا هذا المتن رغم شبهه بالمتن الأوّل؛ لِما فيه من مفرداتٍ تفرّد بها عن المصادر الأُخرى، وهي أنسب بأُسلوبه السرديّ القصصيّ.
قال مسكوَيه في (تجارب الأُمم):
ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة، مِثل سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة وأشباههم، وكتبوا إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين.
أمّا بعد، فحيّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم في غيرك، فالعجل، ثمّ العجل.
والسلام ((2)).
وهو خلطٌ واضح، إذ أنّ حامل هذه الرسالة هو هانئ بن هانئ السُّبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ، كما نصّ مسكويه نفسه، وهو كتابٌ
ص: 294
ذكره المؤرّخون الآخَرون من دون نسبته إلى سليمان والمسيّب وجماعتهما، وسيأتي الكلام عن متن الكتاب في (الكتاب الثالث).
نذكر هنا عبارة ابن كثير؛ لِما فيها من صياغةٍ متفرّدةٍ تنمّ عن مطاوي المؤلّف وكوامنه، وإنّما عمدنا إلى ذِكره _ رغم أنّه يدخل في القسم الأوّل _ لغرض التنويه والتذكير..قال:
وقد كثُر ورود الكتُب عليه من بلاد العراق، يدعُونه إليهم، وذلك حين بلغهم موتُ معاوية وولاية يزيد ومصيرُ الحسين إلى مكّة فراراً من بيعة يزيد.
فكان أوّلَ مَن قدم عليه عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، معهما كتابٌ فيه السلام والتهنئة بموت معاوية، فقَدِما على الحسين لعشرٍ مضين من رمضان من هذه السنة ((1)).
يُلاحَظ أنّ ابن كثيرٍ لم يروِ كتاباً، وتكلّم دائماً من عند نفسه كتقريرٍ للكتب والرسل، واقتصر في رواية كتاب سليمان بن صُرد وغيره على قوله: «كتابٌ فيه السلام والتهنئة بموت معاوية»، فيما يروي كتاب شبث بن ربعيّ وجماعته وينقله نصّاً!
ص: 295
* * * * *
إنّ جملة ما ورد في الكتب من نقاطٍ مهمّة، وهي بين تظلُّمٍ وإخبار، وكشفٍ عن كوامن الصدور والمعتقدات، ودعواتٍ وإعلانٍ عن الاستعداد، ورغم ما في زيادات المتأخّرين عن الكتاب الأوّل من ملاحظاتٍ تدعوا إلى التريُّث والمراجعة، إذ أنّ بعضها يبعث في النفس الاطمئنان أنّها إدخالٌ للنصوص بعضها في بعض، واستفاداتٌ من مجموع الكتُب الواصلة، وطريقةالعرض تفيد ذلك بوضوح، لذا سنؤجّل دراسة متون الكتب كلّها إلى ما بعد استعراضها جميعاً.
إقتصر المؤرّخون على ذكر النوبة الّتي حمل فيها قيس بن مسهر الصيداويّ وجماعته خمسين كتاباً، أو مئةً وخمسين صحيفة، من الرجُل والإثنين والثلاثة والأربعة، من دون ذِكرٍ لمتنٍ خاصّ ((1)).
ص: 296
ومنهم مَن ذكر ذلك مضموناً واحداً، لخّصه بقوله: يسألوه القدوم عليهم ((1)).
ربّما كان في هذا الأمر ما يبعث على التريُّث، ويثير سؤالاً، ملخّصه:
لماذا تغافل المؤرّخ عن هذا الكمّ الكبير من الرسائل والكتُب، ولم ينقل لنا بعض النصوص الّتي كتبها أصحابُ تلك الكتب والصحائف؟!
أجل، انفرد كتاب (المقتل) المتداول لأبي مِخنَف بمتن كتابٍ حمله قيس ابن مسهر الأنصاريّ _ على حدّ تعبيره _، قال:
ولبثوا يومَين آخَرَين، وبعثوا إليه [قيس بن] مسهر الأنصاريّ، ومعه كتابٌ فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .
أمّا بعد، فإنّه لا إمام غيرك لنا، يا ابن رسول الله، العجلَ العجل ((2)).
وهو غريبٌ وشاذّ؛ إذ أنّه جعله كتاباً واحداً، ولم يذكره ضمن المئة والخمسين صحيفة، فكأنّه كتابٌ خاصّ، وليس فيه شيءٌ يُلفت الانتباه
ص: 297
سوى استعجال الإمام (علیه السلام) للقدوم، وإخباره أن لا إمام لهم غيره، وهذا المضمون قد ورد في المتون الأُخرى!
* * * * *
تبقى هنا قضيّةٌ تبدو أنّها بمكانٍ من الأهمّيّة، ربّما منعَت المتابع من تجاوزها والتغافل عنها، وهي:
إنّ المعهود المرسوم يومذاك أنّ المكاتبات والمراسلات والدعوات لا تُقدّم من النفر والنفرين والثلاث، ومن أفراد المجتمع كأفراد، ولا يبادر بها الأفراد ما لم يكونوا من الوجهاء وأُمراء القبائل وشيوخها، ومَن يسمّونهم الأشراف، ممّن يكتب عمّن وراءه وتحت إمرته وأتباعه.
إلّا أن يُقال: إنّ الّذين كتبوا _ من قبيل سُليمان والمسيّب _ كانوا رؤساء الشيعة، فتكلّموا نيابةً عنهم.
وهو بعيد؛ إذ أنّ هؤلاء ليسوا رؤوس الشيعة الأصليّين يومها، وإنْ كانوامن ذوي الوجاهة.
أضف إلى ذلك أنّ المؤرّخ قد صرّح أنّها كتب وصحائف متفّرقة، من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة، ولو كانوا من الوجوه والأُمراء لَذكر أسماءهم، كما فعل مع غيرهم من الوجوه والأعيان والشخصيّات المعروفة.
حمل هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ كتاباً يمكن جمع
ص: 298
ألفاظه في المتن التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليّ، من شيعته المؤمنين والمسلمين.
أمّا بعد، فحيَّهلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعجلَ العجل، (ثمّ العجلَ العجل، ثمّ العجل).
والسلام عليك يا ابن رسول الله ((1)).
إكتفى ابن الأثير والنويريّ بذِكر مقطعٍ من كتاب سليمان بن صُرد، ثمّ ذكرا أنّهم أرسلوا إليه رسولاً ثالثاً يحثّونه على المسير إليهم، ثمّ ذكرا أسماء شبث وجماعته، وقالا أنّهم كتبوا إلى الحسين (علیه السلام) بذلك، ولم يذكرا نصّالكتاب ((2)).
ص: 299
وفي (مقتل الحسين (علیه السلام)) المتداوَل لأبي مخنف، اكتفى بمختصرٍ شديدٍ لنصّ الكتاب، قال:
وكتبوا كتاباً يقولون فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
قد أينعَت الثمار، فأقدِمْ إلينا يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) مُسرعاً ((1)).
وروى ابن أعثم والخوارزميّ وتلاهما الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس نصّاً فيه زيادةٌ عن المشهور، كأنّه دمج كتابين، قال:
ثمّ قدم عليه بعد ذلك هانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ بكتاب، وهو آخِر ما ورد إليه من أهل الكوفة، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه.
أمّا بعد، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله، فقد اخضرّ الجناب (الجنّات)، وأينعَت الثمار، وأعشبَت الأرض، وأورقَت الأشجار، فأقدِمْ إذا شئتَ، فإنّما تقدم إلى جُندٍ مجنَّدٍ لك.والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى أبيك مِن قَبل ((2)).
ص: 300
أمّا النصّ المشهور الّذي رواه البلاذريّ والطبريّ ومَن تلاهما، فهو:
وكتب إليه أشراف الكوفة: شبث بن ربعيّ اليربوعيّ، ومحمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب التميميّ، وحجّار بن أبجر العجليّ، ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رُويم الشيبانيّ، وعزرة (عروة) بن قيس الأحمسيّ، وعمرو بن الحجّاج الزبيديّ:
أمّا بعد، فقد اخضرّ (أخصب) الجناب (الجنّات)، وأينعَت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ علينا، فإنّما تقدم على جُندٍ لك مجنَّد (فاقدم على جنودٍ مجنَّدةٍ لك).
والسلام عليك ((1)).
بغضّ النظر عمّا ورد في التنويه السادس الّذي افترض في هذه الزمرة التابعة للسلطان موقفاً له سوابقه وتخطيطه، وعلى فرض حُسن الظنّ بمثل هذه المخلوقات القذرة الّتي لوّثَت صفحات التاريخ بعفَنها ونتَنِها، فإنّ
ص: 301
هؤلاء النماذج يشكّلون الأكثريّة بين الرؤوس وكبار الشخصيّات، وأقلّيةً كانت تنتشر في المجتمع الكوفيّ يومئذٍ بحكم كونه وجوهاً وأشرافاً،وهم إنّما كاتبوا سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) طمعاً في الدنيا، وحبّاً للدَّعَة، وانتهازاً للفرص، وركوباً للموجة الّتي كانوا يستشرفون منها جنيَ قِطاف العيش الرغيد الّذي استروحوه يوم ماجت بعض أرجاء الكوفة بذكر الحسين (علیه السلام) واللجوء إليه فراراً من الحكم الأُمويّ الّذي اهتزّت أركانه _ فيما يصوّرون _ بهلاك القرد المترهّل معاوية.
ويمكن استكشاف ذلك من نصّ كتاب هؤلاء الانتهازيّين، من أمثال شبث بن ربعيّ وحجّار ابن أبجر وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجّاج ومحمّد ابن عمير التميميّ:
أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعَت الثمار، وطمّت الجمام، فإذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنَّد ...
كلام هؤلاء الأوغاد يتركّز على جنّاتٍ خضراء، وثمارٍ يانعة، وآبارٍ طامية، وزروعٍ باسقةٍ تنتظر القطاف وجني الثمار، وهم في رفاهيةٍ من العيش ودَعَةٍ من الحياة، فإنْ شاء الحسين (علیه السلام) فلْيقدم، لأنّ الناس ينتظرونه.. الناس ينتظرونه! أمّا هم أنفسهم، فإنّهم ينتظرون القطاف، فإذا جاء كانوا معه، وقد قدّموا لذلك مع مَن قدّم، وسجّلوا موقفاً مع مَن سجّل.. وإن لم يأتِ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الحسين (علیه السلام) ، فلْيأتِ غيره، ولا خطر عليهم في ظلّ الغير؛ لأنّهم منه!
ص: 302
إنّهم قالوا: إذا شئتَ فأقدِمْ على جُندٍ لك مجنَّد..فكأنّهم يريدون إخباره (علیه السلام) بما يجري من بيعة الناس له، ولا يريدون أن يعلنوا له عن استعدادٍ ألبتّة، فلا يريدونه أن يقدم عليهم إماماً وأميراً يحاربون تحت لوائه، إنّهم يقولون: «أقدِمْ على جُندٍ لك»، ولا يقولون: أقدِمْ علينا فإنّنا جُندٌ لك!
هكذا هم أصحاب هذا الفريق.. متقلّبون، متزلّفون، انتهازيّون، يميلون مع كلّ ريحٍ ترحل بهم إلى مآربهم وأطماعهم، وتكون مادّةً لشهواتهم ونوازعهم ونزعاتهم، فإذا كانت الدنيا مع الأدعياء ركعوا لهم، وتزلّفوا إليهم، وتخندقوا في خنادقهم..
إنّهم فريقٌ يمدّ عينيه إلى زهرة الحياة الدنيا وزينتها، والجنان المخضرّة، والثمار اليانعة، والمياه الجارية..
فريقٌ لا يعاني من مضايقاتٍ ولا مطارداتٍ في ظلّ الحكم القائم.. يرى ازدهار مسيرة العمران الدنيويّ، وكلّ ما يراه هو نعيمٌ وحدائق ذات بهجة، ونخيلٌ باسقاتٌ حان اقتطافها، وأُكُلٌ دائمٌ يخشون انقطاعه..
فريقٌ لا يذكر السلطان الحاكم بسوء.. لا يشعر بفراغ الإمامة؛ لأنّه لا يميّز بين إمامة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ومُلكِ أولاد البغايا والأدعياء والطلقاء..
يتكلّم هذا الفريق بضمير الغائب، لا بضمير المتكلّم.. لا يعِدُ النصرة بالنفْس، إنّما يتحدّث عن استعداد الغير، فهو يعِدُ عن جُندٍ لا يعدّ نفسه
ص: 303
منهم..
يكتب هذا الفريق بالكناية والتلويح، ويستعمل العبارات الّتي لا تُدخِل السرور على قلب الحسين (علیه السلام) ولا تُحزن أعداءه، تماماً كما يعبّر القرآن الكريم: ﴿لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء﴾ ((1))، ولو وقع الكتاب بيد أعداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، فإنّ فيه متَّسعاً، ومجال اعتذار، بل فيه مدحاً مبطَّناً يُكشَف بعد شرح ما بين السطور من كلماتهم، وهم لا يذكرون هلاك الطاغية، ولم يبدوا فرحاً بضعف الدولة الحاكمة في الشام، ولم يتعرّضوا للوالي الممثِّل له في الكوفة ((2))..
كأنّهم يقولون للإمام (علیه السلام) : لقد بنى بنو أُميّة وشيّدوا وزرعوا وعمّروا البلاد، حتّى أضحت كالجنّات، فاغتنم الفرص واحصد ما زرعوا!!
وفي لفظ ابن الجَوزيّ: نحن معك مئة ألف ((1)).
وروى الشيخ ابن نما: إنّا معك مئة ألف ((2)).نُسب هذا الكتاب إلى أهل الكوفة، فمَن هم هؤلاء الّذين تحدّثوا عن مئة ألف سيفٍ وأعلنوا أنّهم معه؟!
هل كان هؤلاء هم أُمراء العساكر ممّا سُمح لهم أن يتحدّثوا عمّن تحت إمرتهم؟!
هل كان هؤلاء المئة ألف سيفٍ ضمن تشكيلات جُند السلطان، أو أنّهم غيرهم؟ فإن كانوا هم فقد كذبوا، وشهد بكذبهم التاريخ والواقع، وإن كانوا غيرهم فهذا يعني أن يكون في الكوفة مئتا ألف سيف، وهذا أيضاً ما يشهد التاريخ والواقع بكذبه..
ولو جمعنا أعلى الأرقام المذكورة في المكاتِبين والمبايعين _ على سبيل الفرض جدلاً _، فهما رقمان:
أحدهما ذكره الشيخ ابن نما: (اثنا عشر ألف كتاب)، ولْيكن الكتاب من الرجُل والرجُلين والثلاثة، فأعلى الأرقام هو (ستةٌ وثلاثون ألفاً)، هذا بغضّ النظر عن المناقشة في أصل الخبر كما مرّ معنا.
والرقم المشهور في المبايعين هو (ثمانية عشر ألفاً)، وعلى فرض أن يكون
ص: 305
المبايع غير المكاتب، سيكون المجموع أربعةً وخمسين ألفاً، وهو بعدُ لم يبلغ المئة ألف.
فكيف يعدُ هؤلاء بهذا العدد الهائل، وهم بعدُ لم يستكشفوا شيئاً منمواقف الناس المبايعين ولم تبلغهم إحصاءات؟!
كيف كان، فإنّ وجود هذا العدد من السيوف في الكوفة يومذاك أمرٌ طبيعيّ، بحكم كونها ثكنةً عسكريّةً تتكردس فيها العساكر وتتكاثف فيها الجنود ويتمركز فيها الجيش، وكانت السرايا والكتائب تنبعث منها إلى الثغور والمصائف والمشاتي، وتعتبر الخزّان الّذي يمدّ السلطة بالجند متى اقتضَت الضرورة ودعت الحاجة..
أمّا أن يكون هذا العدد قد أعلن النصرة لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، فهو أمرٌ لا تنهض به الشواهد والأدلّة التاريخيّة، ولا تساعد على قبوله بحال.
أجل، ربّما كان مَن كتب _ وهو مجهولٌ تماماً _ قد خضع للأجواء الحماسيّة، فأراد أن يُبالغ فانفضح!
روى الطبريّ وتلاه آخَرون نصوصاً يبدو عليها بوضوحٍ أنّها مختصراتٍ عن ألفاظ الكتب الأُخرى، من قبيل كتاب سليمان وجماعته، من دون التصريح بأسماء المكاتبين، وإنّما نُسبَت إلى أهل الكوفة..
ص: 306
من قبيل:
فأتاه أهلُ الكوفة رسُلُهم: إنّا قد حبسنا أنفُسَنا عليك، ولسنانحضر الجمعة مع الوالي، فأقدِمْ علينا ((1)).
وفي (المروج) للمسعوديّ:
أرسلَ أهلُ الكوفة إلى الحسين بن عليّ: إنّا قد حبسنا أنفُسَنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، ولسنا نحضر جمعةً ولا جماعةً بسببك ((2)).
وقال مسكوَيه:
فكاتبوا الحسين بن عليّ: إنّا قد اعتزلنا الناس، فلسنا نصلّي بصلاتهم، ولا إمام لنا، فلو أقبلتَ إلينا رجونا أن يجمعنا الله لك على الإيمان ((3)).
وقال الطبرسيّ:
فكتبوا إليه كتباً كثيرة، وأنفذوا إليه الرسل إرسالاً، ذكروا فيها: إنّ الناس ينتظرونك، لا داعي لهم غيرك، فالعجلَ العجل ((4)).
ص: 307
لمّا كانت هذه المتون مجتزأةً ومقطوعةً من المتون الأُخرى، إمّا نصّاً أو انتزاعاً، لذا سيتناولها البحث ضمن ما وردَت فيه من النصوص الأصليّة.
أشار أبو الفرَج إلى وفدٍ انطلق إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، عليهم أبو عبد الله الجدليّ، من دون ذكر التفاصيل ولا الكلام الّذي صدر عنهم في محضرسيّد الشهداء ((1)).
بَيد أنّ الشيخ ابن نما ذكر الخبر مفصَّلاً، فقال:
ورويتُ إلى يونس بن أبي إسحاق، قال:
خرج وفدٌ إليه من الكوفة، وعليهم أبو عبد الله الجدليّ، ومعهم كتبٌ من شبث بن ربعيّ وسليمان بن صُرَد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وعبد الله [بن] وال وقيس بن مسهر الأسديّ _ أحد بني الصيداء _ وعمارة بن عتبة السلوليّ وهانئ بن هانئ السبيعيّ وسعيد بن عبد الله الحنفيّ ووجوه الكوفة، يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد.
وقالوا: إنّا تركنا الناس قِبَلنا وأنفُسهم منطلقةٌ إليك، وقد رجونا أن يجمعَنا اللهُ بك على الهدى، فأنتم أَولى بالأمر من يزيد الّذي غصب الأُمّة فيئها وقتل خيارها، واتّخذ مال الله دولاً في شرارها، وهذه كتب
ص: 308
أماثلهم وأشرافهم، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، ولسنا نجمع معه في جمعةٍ ولا جماعةٍ ولا عيد، ولو بلغَنا إقبالُك أخرجناه حتّى يلحق بالشام ((1)).
تفيد عبارة الشيخ أنّ الوفد جاء ومعه كتب مَن ذكرهم، وهم نفسالأسماء المذكورة في المصادر الأُخرى الّتي ذكرت لكلّ مجموعةٍ منهم كتاباً مستقلّاً أُرسل بيد قاصديهم، ثمّ جمع مقالتهم ولخّص مهمّتهم بقوله: «يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد، وقالوا: ...».
والسياق يشهد أنّه عبّر عن مراد الوفد وما جاء في الكتب، فلا يمكن استفادة الحوار بين الوفد وبين سيّد الشهداء (علیه السلام) من كلام الشيخ، ولا يمكن اعتباره نصّاً مستقلّاً لكتابٍ خاصّ، وليس في كلامه جديدٌ عمّا ورد في جملة المتون المرويّة للكتب، فتدخل دراسة ما ذكره ضمن بحث المتون الأُخرى، فلا ضرورة للإعادة.
روى سبط ابن الجَوزيّ كتاباً كأنّه حكايةٌ لما كتبوا، قال:
قال هِشام بن محمّد: ثمّ إنّ حسيناً كثُرت عليه كتبُ أهل الكوفة وتواترت إليه رسُلُهم: إنْ لم تصل إلينا فأنت آثم!
وذكر أنّ حامل هذا الكتاب هما عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله
ص: 309
ابن وال، قال:
فكتبوا إليه بما قدّمنا ذِكره، وبعثوا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن وال، فقدما إلى الحسين لعشرٍ مضين منرمضان ((1)).
وقوله: «فكتبوا إليه بما قدّمنا ذكره»، يفيد أنّهم كتبوا ذلك بالفعل، بَيد أنّ ما سمعناه من نصوص الكتب الّتي حملها هذان الرسولان لم نجد فيه ما يفيد هذا التعبير.
وقوله: «ثمّ إنّ حسيناً كثُرت عليه كتبُ أهل الكوفة وتواترت إليه رسلهم: إنْ لم تصل إلينا فأنت آثم!»، واضحٌ في الحكاية بما لا يحتاج إلى مزيد عناية.
فربّما فهم سبط ابن الجَوزيّ من مجموع ما كتبوا إلى الإمام (علیه السلام) أنّهم يحمّلون الإمام (علیه السلام) المسؤوليّة، وأنّه إن لم يصل إليهم فهو (آثم)، فصبّ فهمه في هذه العبارة.
كيف كان، سواءً أكان فهمه أو كان نصّاً كتبه بعضهم، فإنّه تجاوز الحدود بلا حدودٍ في إساءة الأدب، شلّ بنان من كتب، أيّاً كان!
ومن المعيب أن نتناول مِثل هذا النصّ الموبوء التافه بالمناقشة، فنتركه لما به.
ص: 310
كتب ابن الصبّاغ وتبعه الشبلنجيّ أنّ رؤساء أهل الكوفة كتبوا إلىالإمام الحسين (علیه السلام) كتاباً جامعاً، وسرد أسماء سليمان بن صُرد وجماعته وشبث وجماعته، ثمّ قال:
وغيرهم من أعيان الشيعة ورؤساء أهل الكوفة، قريباً من نحو مئة كتاب، وسيّروا الكتب مع عبد الله بن سبع الهمدانيّ وعبد الله بن والي، وهم يحثّونه فيها على القدوم عليهم والمسير إليهم على كلّ حال.
وكتابٌ واحدٌ عامٌّ على لسان الجميع، كتبوه وأرسلوه مع القاصدين، وصورته:
بسم الله الرحمن الرحيم.
للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، من شيعته وشيعة أبيه عليّ (علیه السلام) .
أمّا بعد، فإنّ الناس منتظروك، لا رأي لهم في غيرك، فالعجلَ العجلَ يا ابن رسول الله، لعلّ الله (تعالى) أن يجمعنا بك على الحقّ، ويؤيّد بك المسلمين والإسلام، بعد أجزل السلام وأتمّة عليك، ورحمة الله وبركاته ((1)).
وعبارته واضحةٌ في الحكاية وعدم نقل نصٍّ بعينه، وإنّما هو اختيارٌ لنصٍّ من بين النصوص، وليس فيه جديدٌ عمّا سبق سوى ما قاله من
ص: 311
رجاء أن يؤيّد الله بالإمام المسلمين والإسلام!
إنفرد (المقتل) المتداوَل لأبي مِخنَف بحكاية كتابٍ جمع فيه ما كتبوه إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ، بإضافاتٍ لم تكن عند غيره، ويبدو أنّ الشيخ الطُّريحيّ (رحمة الله) ينقل في (المنتخَب)، فقال:
فلمّا بلغ أهلَ الكوفة وفاةُ معاوية، امتنعوا من البيعة ليزيد، فاجتمعوا وكتبوا إلى الحسين كتاباً، يقولون فيه:
أقدِمْ إلينا، يكون لك ما لنا وعليك ما علينا، فلعلّ الله يجمع بيننا وبينك على الهدى ودين الحقّ.
ورغّبوه في القدوم إليهم، إلى أن قالوا:
فإنْ لم تقدر على الوصول إلينا، فأنفِذْ إلينا برجُلٍ يحكم فينا بحكم الله ورسوله.
وكتبوا بهذا المعنى كتباً كثيرة ((1)).
في أُسلوبه القصصيّ السرديّ إضافتان غريبتان:
أحدهما: دعوة الإمام (علیه السلام) على أن يكون له ما لهم وعليه ما عليهم.
وثانيهما: إنْ لم يقدر على الوصول إليهم، فلْيُنفِذ إليهم برجُلٍ يحكم فيهم بحكم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) .
ص: 312
ولا ندري كيف يمكن أن يكون للإمام (علیه السلام) ما لهم وعليه ما عليهم؟!إلّا إذا قلنا: إنّ المقصود أن يأتيهم فيحموه كما يحموا أنفسهم، فيصيبه ما أصابهم، إذ لا يمكن أن يكون الإمام (علیه السلام) إلّا إماماً آمِراً ناهياً مطاعاً مقدَّماً على النفس والأهل والمال، يموتون دونه ويفدونه بأرواحهم وبالغالي والنفيس.
أمّا ثانيهما: فنرجّح أن لا نقترب منه الآن، وفيما سمعنا من نصوص الكتب وقرأنا في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة) عند استعراض نصوص (الدعوة) ما يغني عن إطالة المكث هنا، وسيأتي الكلام مفصَّلاً في محلّه.
هذا بغضّ النظر عن انفراد الشيخ الطريحيّ بما قدّم! وكأنّه نوع استباقٍ للأحداث، وتلقينٌ لجعل موقف الإمام (علیه السلام) في إرسال أخيه المولى الغريب (علیه السلام) بناءً على طلب القوم.. وهو ما يكذّبه _ بكلّ قوّةٍ وصلابةٍ _ التاريخُ والنصوصُ ومبادرةُ الإمام (علیه السلام) !
يمكن اصطياد بعض مضامين كتب أهل الكوفة من جملة مخاطبات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مع بعض أشخاص أهل الكوفة وكتبه الّتي أرسلها إليهم، فإنّ فيها خلاصة ما كتبوه، من قبيل ما رواه الطبريّ في الكتاب الجوابيّ من سيّد الشهداء (علیه السلام) على كتب أهل الكوفة، قال:
ص: 313
«وقد فهمتُ كلَّ الّذي اقتصصتُم وذكرتُم، ومقالة جُلّكم: إنّه ليس علينا إمام، فأقبِلْ، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ» ((1)).
وما رواه البلاذريّ وغيره في احتجاجات سيّد الشهداء (علیه السلام) على القوم في كربلاء، كقوله (علیه السلام) :
«ألم تكتبوا إليّ أنْ قد أينعَت الثمار وأخضرّ الجناب وطمت الجمام، وإنّما تقدمُ على جُندٍ لك مجنَّد؟» ((2)).
وهذا ما سنتناوله ضمن المتون السابقة، وفي المواضع الّتي ننقلها في محلّها، إن شاء الله (تعالى).
يحتلّ الكتاب الأوّل _ بألفاظه ومتونه الخمسة _ الدرجةَ الأُولى في سرد المطالب، وهو يحتوي على ما ورد في الكتب الأُخرى بنحوٍ ما.
أمّا الكتاب الثاني فلا يكاد يُفصِح عن شيء؛ لأنّ المؤرّخ لم يُخبرنا عن مضامين الكتب المئة والخمسين الّتي وصلَت.
والكتاب السادس والسابع والثامن والتاسع فيها مضامين مكرَّرةٌ عمّا ورد في باقي الكتب، أو أنّها حكايةٌ تُجمِل المطالب، فلا ضرورة لاستعراضها
ص: 314
بالخصوص.
لذا سنحاول سرد المطالب الواردة في باقي الكتب في نقاط:
مضامين الكتاب الأوّل:
1 _ البسملة والحمد لله، وذِكر الكاتب والمكتوب إليه.
2 _ الحمد لله على موت معاوية، الّذي وصموه بأفعاله الّتي عدّدوها:
أ _ العدوّ الجبّار العنيد للإمام.
ب _ إنتزى (وفي لفظ ابن قُتيبة: اعتدى) على هذه الأُمّة.
ج _ إبتز الأُمّة أَمرها، واغتصبها أُمورها.
د _ غصب فيء الأُمّة، وغلبَها على فيئها.
ه- _ تأمّر على الأُمّة بغير رضىً منها.
و _ إنتزع الأُمّة حقوقها.
ز _ قتل خيار الأُمّة، واستبقى شرار الأُمّة.
ح _ جعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها.
3 _ الدعاء على معاوية بالإبعاد، فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود.
4 _ الإخبار أنْ ليس عليهم إمام.
5 _ دعوة الإمام (علیه السلام) للإقدام عليهم والإقبال إليهم، لعلّ الله يجمعهم به على الهدى والحقّ.
6 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّ النعمان محصورٌ في قصر الإمارة، لا يجتمعون معه في جمعةٍ ولا يخرجون معه إلى عيد.
ص: 315
7 _ إخبار الإمام (علیه السلام) استعدادهم لطرد النعمان وإخراجه من الكوفة حتّى يلحقونه بالشام بمجرّد عِلمهم بتوجّه الإمام (علیه السلام) إليهم!
إلى هنا عمدة ما ورد في متن الكتاب الطويل الّذي رواه أوّل مَن رواه ابن قُتيبة، ثمّ تلاه المؤرّخون من بعده بإضافات.
وقد أضاف ابن أعثم ومَن تبعه بعض الإضافات على الكتاب الأوّل _ بغضّ النظر عن إضافة عبد الله بن وال ضمن المكاتِبين _ :
8 _ الحمد لله الّذي قصم عدوّ سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) وعدوّ أبيه من قَبل، ووصفه بالغشوم الظلوم.
9 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم بلغهم تأمّر يزيد اللعين على هذه الأُمّة، وذكروا لعدم رضاهم به بعد لعنه الأسباب التالية:
أ _ بلا مشورة.
ب _ ولا إجماع.
ج _ ولا علمٍ بالأخيار أو الأخبار.
10 _ إعلان الاستعداد للقتال مع الإمام (علیه السلام) وبذل أنفُسهم من دونه.
11 _ دعوة الإمام (علیه السلام) للإقبال إليهم فرحاً مسروراً، مأموناً مباركاً منصوراً، سعيداً سديداً، وسيّداً أميراً مطاعاً، وإماماً خليفةً عليهم مهديّاً.
12 _ دعوة الإمام (علیه السلام) لأنّهم ليس عليهم إمامٌ ولا أمير.
13 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم لا يجتمعون مع النعمان في جمعةٍ ولايخرجون معه إلى عيدٍ ولا يؤدّون إليه الخراج، وأنّه يدعو فلا يُجاب ويأمر
ص: 316
فلا يُطاع.
كما أضاف ابن الجَوزيّ وسبطه والبرّيّ إضافاتٍ أُخرى:
14 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم حبسوا أنفُسهم عليه، وليسوا يحضرون الجمعة مع الوُلاة.
15 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم خلعوا يزيد.
16 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم تركوا الناس متطلّعةً أنفُسهم إليه.
17 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم يرجون أن يجمعهم الله بالإمام على الحقّ، وينفي عنهم به ما هم فيه من الجَور.
18 _ إخبار الإمام (علیه السلام) أنّه أَولى بالأمر وأحقّ بالخلافة من يزيد الخمور ومن أبيه، الّذي غصب الأُمّة فيئها وقتل خيارها.
19 _ كتبوا بيعتهم للإمام (علیه السلام) .
20 _ إخبار الإمام (علیه السلام) بعددهم، وأنّهم مئة ألف!
21 _ وصفوا يزيد أنّه شرب الخمور ولعب بالقرود والطنابير وتلاعب بالدين.
وفي الكتاب الثاني والثالث:
22 _ حثٌّ عنيفٌ وتأكيدٌ حثيثٌ على الاستعجال.
23 _ إعلان انتظار الناس للإمام (علیه السلام) .وفي الكتاب الرابع (كتاب شبثٍ وجماعته):
24 _ حثٌّ شديدٌ على الإقدام، بلحنٍ فيه نكهة الطمع والإغراء بزهرات
ص: 317
الحياة الدنيا.
وفي الكتاب الخامس:
25 _ الإعلان عن مئة ألف سيفٍ مع الإمام (علیه السلام) .
وفي الكتاب العاشر:
26 _ دعوة الإمام (علیه السلام) على أن يكون له ما لهم وعليه ما عليهم.
27 _ إن لم يقدر على الوصول إليهم، فلْيُنفِذ إليهم برجُلٍ يحكم فيهم بحُكم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) .
يمكن أن نسجّل هنا عدّة وقفات:
يمكن تقسيم المكاتِبين وفق هذه المطالب إلى فرق، بشيءٍ من التسامح في التعامل معهم وتقييمهم..
ففريقٌ منهم: هم الانتهازيّون النفعيّون، اللاهثون خلف الشهوات والدنيا وزخارفها، من قبيل شبثٍ وجماعته، وقد أشرنا إليهم في ذيل الكتاب الرابع، فلا نعيد.
وفريقٌ منهم: يُظهِرون أنّهم يقبلون قيادة الإمام، ويتذمّرون من الحكم الأُمويّ المنحرف، هاربين من ظلم المتمرّدين على الله وعلىرسوله (صلی الله علیه و آله) ، ملتجئين إلى إمام العدل، معلنين عن استعدادهم للموت دونه..
يتضوّرون من الكفر والظلم والجَور، يزعمون أنّهم يتوقون إلى الإيمان والعدل والشهادة..
ص: 318
يشكون العدوَّ الجبّار العنيد، الّذي تسلّط على الأُمّة فابتزّها أَمرها وغصبَها فيأها وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها..
يذكرون السلطان بمساوئ فعاله وتجبُّره وطغيانه، يدعون عليه بالانتقام واللعنة.. فبُعداً له كما بَعِدَت ثمود..
لا يقرّون للأوغاد بالطاعة، ويستغيثون ويتوسّلون بالمعصوم أن ليس عليهم إمام، فلْيُقبِل إليهم، ليجمعهم الله على الحقّ والهدى..
يزعمون أنّهم خائفون على الإمام من طواغيت آل أبي سفيان.. فيدعونه للإقدام عليهم، ليفدوه بأنفسهم، وليدفعوا عنه بالغالي والنفيس..
يصرّحون بالبراءة من أعداء الله وأعداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، ويحمدون الله على هلاك الطاغية، ويعلنون استعدادهم لمواجهة الوالي الممثّل للعدوّ في الكوفة.
والفريق الثالث: ربّما كان يمثّل شريحةً كبيرةً من المكاتبين والمبايعين في المجتمع الكوفيّ يومذاك، لأنّ الشيعة المعتقدون كانواأقلّيّة، والمنافقون الانتهازيّون والعيون والوجهاء وأُمراء القبائل لم يكونوا أكثريّة، والّا لَما صاروا وجهاء وأُمراء وعيون، والغالبيّة الّتي شكّلَت سواد الجيش الأُمويّ الّذي حارب سيّد شباب أهل الجنّة كانوا ممّن تربّى على موائد السلطان، وحلت دنياهم الهزيلة في أعينهم، واتّبعوا العِجل والسامريّ، وأُشرب حبّهما
ص: 319
في قلوبهم، وذاقوا وبال ما قدّمَته أيديهم، فهم في زيغهم وضلالهم يتردّدون، وقد أحسّوا بالأمواج الّتي هزّت بعض أرجاء البلد، وسمعوا الصرخات تعلوا من هنا ومن هناك، وعلا الضجيج وشقّ أجواء المدينة التائهة الحائرة يهتف بالإمام، فهتف مع مَن هتف، وهم لا يفرّقون بين أن يكون إمامهم الحسين (علیه السلام) سيّد شباب أهل الجنّة، أو يزيد بن معاوية البغيّ ابن البغيّ، ولكنّهم يطلبون الإمام والراية الّتي تجمعهم وتوحّد كلمتهم ضمن المقاسات المرسومة في قلوبهم، بعد هلاك السلطان..
فهم يريدون الإمام، ويهتفون بذلك، لا اعتقاداً بإمامة سيّد الشهداء (علیه السلام) المنصوصة من قِبل الله الّتي نزل بها الروح الأمين من عند ربّ العالمين على لسان سيّد الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) !
ولهذا شرح لهم ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) معنى الإمام باختصارٍ في جواب رسائلهم، ليكونوا على علمٍ من دعوتهم له، فالإمام الّذي ينبغي لهم أن يأتمّوا به هو ما أقسم عليه خامس أصحاب الكساء بعُمُره المبارك فقال:«فلَعمري، ما الإمامُ إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله» ((1)).
هؤلاء باختصار الفِرَق الّتي كاتبَت الإمام (علیه السلام) أو بايعَته على يد المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وقياس الأغلبيّة الّذي وصفنا به الفريق
ص: 320
الثالث إنّما هو بالنسبة إلى الفريقَين الآخَرَين، ولم ندرج الأغلبيّة الساحقة والكثرة الكاثرة ممّن كان يرزح في أغلال الجهل وظلمات الضلال، الّذين أذعنوا لأربابهم وأسيادهم، وتكردسوا في العساكر المنتظمة تحت لواء الطاغوت، الّذين ملؤوا الفيافي والقفار، وأخذوا بكظم الطرق والجوادّ في البوادي والحضر، كما لم نُدخِل في الفِرق هنا الأغلبيّةَ الصامتة الّتي كانت تدين بالولاء للوالي والسلطان، وقد بايعَته ولزمَت بيعته والتزمت بها.
نقرأ في الكتب المرسَلة نمطاً خاصّاً من التعبير يفيد العموم!
فحينما يتكلّم سليمان وجماعته أو شبث وجماعته، أو يتحدّث الكتاب المجهول المصدر _ ونقصد بالمصدر: الكاتب _ عن مئة ألف سيف، وهكذا في كتب الاستعجال.. نجدهم جميعاً يتكلّمون بصيغة الجمع،وبعنوان أهل الكوفة.
وربّما شوّش هذا التعميم ذهن المتلقّي، وانساق مع أجواء الكتب فارتسمَت في ذهنه صورة التعميم الشامل لجميع أهل الكوفة، بل ربّما يبالغ البعض فيخاله شاملاً للعراق جميعاً.
والحال أنّ ثَمّة ضرورةً ملحّةً تقتضي رعايتها عند قراءة الكتب، كي لا نخسر التقييم السليم، إذ أنّ هذه الكتب لم تصدر من أهل الكوفة جميعاً أكيداً؛ بشهادة الكثافة السكّانيّة المتراكمة في الكوفة يومذاك، ومحدوديّة عدد الكتب، وتواجُد العسكر المنتظم تحت لواء السلطان، وغيرها من
ص: 321
الشواهد والدلائل الّتي ذكرناها في مواضع كثيرةٍ من هذه الدراسة.
ولا يكفي أن نتصوّر أنّ كلّ واحدٍ من المكاتبين كان يتحدّث عمّا وراءه من الناس؛ إذ أنّهم كتبوا على انفرادٍ وبصفاتهم الشخصيّة، ولم يتحدّث أحدٌ كشيخ عشيرةٍ بذاته، ولم يرد ذلك عن القبائل والعشائر الّتي كانت تقطن الكوفة، كما هو المعتاد في الكتب الّتي تُرسَل في مثل هذه الظروف، فليس فيهم مَن تكلّم باسم هَمْدان أو بني أسد أو مِذحَج ولا أفخاذها، وليس في الكتب أيّ ذكر للانتماءات العشائريّة، ولا التشكيلات العسكريّة، ولا غيرها من الكيانات والتجمّعات وما شابه ذلك.. حتّى في كتاب سليمان بن صُرد الّذي أفرزه الاجتماع في بيته لم يذكر الاجتماع، وإنّما تصدّر بأسماء معيّنة!ثمّ إنّ الكوفة لم تكن يومها تخضع لشخصٍ بذاته، كالوالي، أو كشيخ الشيوخ، ولم يكن فيها رجلٌ ولا قبيلةٌ تفرض نفسها على الجميع.
فلا يمكن _ والحال هذه _ افتراض صدور هذه الكتب من متحدِّثٍ مخوَّلٍ قادرٍ على التعبير عن الآخَرين بحكم فرض طاعته.
أجل، كانت الكتب تحكي مواقف كاتبيها، وربّما تتعدّى إلى بعض الأتباع القريبين من دارة الرجل، وتحكي مسافةً من انتشاره بين مَن يقبله أو يخوّله.. أمّا أن تكون حاكيةً _ كما ورد في الكتب _ عن أهل الكوفة جميعاً أو عن الأكثريّة فيها، أو أن تكون حاكيةً عن حالةٍ عامّةٍ شاملةٍ رائجةٍ مسيطرةٍ حاكمةٍ على الأجواء كلِّها، فهذا ما يحتاج إلى دليل، ولا
ص: 322
دليل، بل الدليل خلافه!
فلْتكن الكتب عن ثمانية عشر ألف مبايعٍ أو يزيدون، فإنّ هذا العدد لا يمكن أن يكون حاكياً عن جميع سكّان الكوفة ومَن فيها من عساكر وقبائل وكيانات.
وربّما أتينا على هذه النقطة بالذات فيما سبق، وسنعود لذِكرها فيما بعد، كما ذكرناها هنا بعبارةٍ أُخرى، وذلك لأهمّيّة الموضوع، وعمق تأثيره على الفهم والتلقّي وتفسير المواقف ورسم المشاهد.
سجّل المكاتبون جملةً من المعاناة الّتي كانوا يعانون منها، وشكَواحالهم من خلال تقرير الواقع الّذي كانوا يعيشونه في ظلّ حُكم الطاغوت الجبّار العنيد، الّذي انتزى واعتدى على هذه الأُمّة، فابتزّ الأُمّة أَمرها واغتصبَها أُمورها، وغصب فيء الأُمّة وغلبها على فيئها، وتأمّر على الأُمّة بغير رضىً منها، وانتزع الأُمّة حقوقها، وقتل خيار الأُمّة واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها..
فهم يعيشون في واقعٍ مريرٍ لا يُطاق من الاستفراد بالحكم والاستئثار بالسلطة، والخوف والمطاردة والقتل الذريع، وانتشار الفقر والفاقة في الناس، وحصر المال بيد الأغنياء والجبابرة..
هذه هي معاناتهم أيّام معاوية.. بَيد أنّ معاوية قد هلك، وهم يخافون أن يستمرّ بهم الحال بعد معاوية على تلك الحال.
ص: 323
هذا ما ورد في المصادر الأُمّ والمشهور من لفظ الكتاب، وهو يحكي التظلّم والتشكّي من الماضي، ولم يذكر الحكم في الوضع الراهن، إذ أنّه جديد عهد، غير أنّه استمرارٌ لما مضى من حُكم الأب.
فيما ذكر ابن أعثم دوافع إضافيّةً على ما ورد في المصادر تخصّ حكم يزيد بالذات، إذ أنّهم بلغهم تأمُّر يزيد اللعين على هذه الأُمّة، وأنّهم لا يرضون بذلك، وعلّلوا عدم رضاهم بأنّه تأمّر عليهم بلا مشورةٍ ولا إجماع، ولا علمٍ بالأخبار أو الأخيار.. فهم _ وفق نصّ ابن أعثم _ لا يرضون بحُكم يزيد، لفقدانه مسوّغات الحكم، وهي كما عندهم: (المشورة، الإجماع،العلم)!
وهذه المسوّغات هي أساس الحكم في قوانين السقيفة وأدبيّاتها وسياستها، وليس لها علاقةٌ من قريبٍ ولا من بعيدٍ بالدين والأوامر الإلهيّة، والقولِ بالإمامة والتنصيب وفرض طاعة المعصوم من قبل الله (جلّ وعلا)!!!
وأضاف ابن الجَوزيّ الطعنَ بيزيد الخمور، وأنّه شرب الخمور ولعب بالقرود والطنابير وتلاعب بالدين.. ومثل هذا لا يستحقّ الخلافة، لذا أعلنوا أنّ الإمام أَولى بها من يزيد فبايعوه!!
وشكَوا إلى الإمام (علیه السلام) تفرّقهم وعدم وجود رايةٍ تجمعهم، فدعوا الإمام (علیه السلام) ليحضر بين ظهرانيهم، لعلّ الله يجمعهم تحت رايته، إذ لا إمام لهم!
ص: 324
كيف كان، هذه هي دوافع القوم الّتي أظهروها، وزعموا أنّهم دعوا الإمام ليوحّد كلمتهم ويجمعهم تحت لواءٍ واحد، وبالتالي يُستفاد من هذا التظلّم أنّهم يدعون الإمام (علیه السلام) ليخلّصهم ممّا هم فيه من الجَور والظلم والعدوان والقتل والفقر والتمايز الطبقيّ، وغيرها ممّا يمكن استنتاجه من كتبهم.
وقد كان الحال كما وصفوا على عهد معاوية، كما كان الحال كما وصفوا في شخص معاوية ويزيد الخمور _ وفق نصّ ابن الجَوزيّ _، وكان من الطبيعيّ أن يتطلّعوا بعد هلاك معاوية لحياةٍ أفضل ونجاةٍ من الأغلالالّتي رزحوا فيها منذ أن أبعدوا الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) عن منصبه الّذي اختاره الله له وفرضه على العالمين.
بَيد أنّ هذه كلّها مزاعم القوم وما دعوا إليه، وجعلوها أهدافاً وشعاراتٍ يسعون إلى تحقيقها.. ولكن هل كانت هي بنفسها دوافعاً وشعاراتٍ وأهدافاً سعى إليها الإمام الحسين (علیه السلام) من أجل تحقيقها، وسمح بمهجته وأطعم الموت أهله وأنصاره وعرّض أهله للسبي والسلب والنهب من أجلها؟!
إنّنا اكتشفنا مطالب القوم من كتبهم، ولابدّ من اكتشاف ما سعى إلى تحقيقه الإمام (علیه السلام) من أقواله وأفعاله ومواقفه، لا من أقوال القوم وتصريحاتهم!
لا ندري إن كانت (لعلّ) في كلام مِثل هؤلاء القوم يمكن أن تفيد
ص: 325
التحقّق، أو أنّها لا تتعدّى مستوى الترجّي؟!
لا نحسب أنّ هؤلاء القوم فيهم من المؤهّلات لإقحام معنى التحقّق في مرادهم، فهم لا يعِدُون الإمام وعداً مُلزماً بالتوحُّد والاجتماع على الحقّ والهدى، وإنّما يرجون ذلك على أمل أن يتحقّق!
ثمّ ماذا يقصدون بالاجتماع على الحقّ والهدى؟!
إنّ الإمام (علیه السلام) كان بين ظهرانيهم وإن كان في المدينة.. كان بينهم، وكان الله قد فرض عليهم طاعته، وكان عليهم أن يجتمعوا على الحقّوالهدى _ وهو الإمام نفسه _، سواءً قبل دعوتهم وأقبل إليهم، أم أنّه بقي في المدينة ومكّة..
إنّهم يرون الحقّ والهدى فيما يفهمونه هم.. يرون الحقّ والهدى في إقبال الإمام إليهم ليقوم بهم في وجه السلطان ومحاربته.. فهم ينتظرونه ليأتي ويحقّق لهم ما يريدون.. وما يريدون هو الحقّ والهدى في حساباتهم..
أيّ حقٍّ وهدىً يمكن أن يتحقّق في قومٍ يحدّدون للإمام المفترض الطاعة تكليفه ويعلّمونه ما يريدون؟!!
الإمام هو الحقّ بعينه والهدى بذاته، وهو الصراط المستقيم.. فهل يقصدون بدعوة الإمام أن يأتيهم لتجتمع كلمتهم عليه؟!
أو أنّهم يقصدون أن يأتيهم الإمام ليجمع كلمتهم ويوحّد صفوفهم، ليتمكّنوا من محاربة الطاغوت الّذي أذلّهم وقتل خيارهم واستبقى شرارهم؟!
ص: 326
يفيد سياق الأحداث وسياق الكتب المرادَ الثاني بوضوحٍ شديد، ولو كان المراد هو الاجتماع على الإمام فلا حاجة إلى دعوته، فهو إمام الحقّ والهدى وجامع الكلمة أينما كان وحيثما كان وفي أيّ حالٍ كان.. إنّهم يدعونه لغرضٍ خاصٍّ مبيَّتٍ عندهم!
أخبروا الإمام (علیه السلام) في كتبهم ودعوه إليهم وطلبوا منه التعجيل، وعلّلواذلك أنْ ليس عليهم إمام! فمَن هو الإمام الّذي كان عليهم قبل ذلك اليوم؟!
ما يُفهَم من كلامهم أنّهم كانوا يأتمّون بمعاوية، وإنْ كان ظالماً طاغياً فعل بهم ما فعل، وبعد هلاك معاوية صاروا يبحثون عن إمامٍ يجمعهم يأتمّون به، ولمّا لم يكن يزيد يقنعهم، فهم يدعون الإمام ليأتمّوا به!
ومن الواضح أنّهم لا يقصدون هنا حاجتهم للإمام الّذي يريدون الائتمام به هو الإمام بالمعنى العقائديّ عند الشيعة، وإنّما يقصدون به الزعيم والرئيس والقائد الّذي يسيرون تحت لوائه لتحقيق أغراضهم وتنفيذ مطالبهم، فهم يبحثون عن شخصيّةٍ تقود مسيرتهم نحو مواجهة السلطان لتحقيق الشعارات الّتي يحلمون بها.
لقد كان الإمام الحسين (علیه السلام) إماماً منذ شهادة أخيه الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، وكان إماماً أيّام مُلك معاوية، فما هو الداعي لأن يدعوه إلى الإمامة اليوم؟ إلّا أن يكون المقصود من الإمام هو ما ذكرناه.. كان عليهم أن
ص: 327
يُعلنوا الائتمام به وإعلان إمامته ومبايعته بعد شهادة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) !
يبدو بوضوحٍ أنّهم يدعونه ليكون إماماً وفق مقاساتهم، ولا يقصدون الإمام بالمعنى الذي فرضه الله (تبارك وتعالى).. هم فقدوا إمامهم معاوية الّذي كان يحكمهم، ويزعمون أنّهم لا يريدون يزيد إماماً.. فاختاروا سيّدالشهداء (علیه السلام) ضمن نفس الموازين.
أجل، لا شكّ أنّ ابن فاطمة (علیها السلام) خيرٌ من ابن ميسون!!!
أخبروا الإمام (علیه السلام) أنّ النعمان بن بشير (والي الكوفة) محصورٌ في قصره، كما في النصّ المشهور لكتاب سليمان، وفي نصّ ابن أعثم أنّ النعمان «يدعو فلا يُجاب، ويأمر فلا يُطاع»..
يبدو أنّ جوّ الحماسة والهياج حاكمٌ على القوم، ممّا جعلَهم يُخبرون بما يتوهّمون، أو يتوهّمون ما يأملون، أو يرون الكوفة قائمةً بهم، والوالي محكوماً بما يقرّرون..
إنّ أجواء الحماسة والهياج والغليان لازمةٌ لهم في تلك الفترة، ولا يمكن أن يدعوا الإمام إلى ما يدعون إليه إلّا أن يكونوا في الذروة من الهياج والغليان، وهذا الأمر طبيعيٌّ ومفهوم، فجوّ الحماسة يقتضي التفخيم والتضخيم والمبالغة..
أمّا أن يكون الوالي محصوراً في قصره، يدعو فلا يُجاب ويأمر فلا يُطاع،
ص: 328
فلا يمكن التسليم له لمن أراد أن يقف كمراقبٍ من دون أن يتأثّر بأجواء الحماسة الحاكمة على القوم!
لقد كان النعمان والي بني أُميّة، وكان حاكماً على الكوفة، وهومعروفٌ بدهائه وقوّته على المناورة والمفاوضة، كما عرفنا فيما مضى من البحث، وكانت العساكر المسجَّلة في الديوان ممّن يدفع لهم الوالي مرتّباتهم منتظمةً في سراياها وكتائبها، وكانت الشرطة مؤتمرةً بأوامره، وكان الناس في الكوفة يمارسون حياتهم الروتينيّة المعتادة، ولم تكن هذه الحالة من الغليان والهياج مقلقلةً لأحشاء أحدٍ منهم سوى هؤلاء الّذين كتبوا ومَن يحوم حولهم.
فإن كان المكاتبون وأتباعهم يقاطعون الوالي، فإنّ في الأكثريّة الباقية من عسكرٍ وشرطةٍ وعامّة الناس كفايةً للوالي.. فهم إن أخبروا إنّما أخبروا عن موقفهم الشخصيّ، إن صدقوا!
وإن امتنعوا عن حضور الجمعة وأمسكوا عن الخروج معه إلى عيد، إنّما امتنعوا هم، إن صدقوا!
وإن امتنعوا عن أداء الخراج، إنّما امتنعوا هم، إن صدقوا!
ولو افترضنا أنّهم مارسوا هذه القطيعة منذ أن بلغهم خبر هلاك معاوية ونزو قرده الخليع على المنبر، فهي فترةٌ وجيزةٌ لا تبلغ الشهر إلى حين انطلاق الرسل بالكتاب.
على أنّ هذا الخبر إنّما ورد في كتابهم هذا، ولم نسمع له شاهداً في التاريخ!
ص: 329
والمهمّ في القضيّة هنا أنّ القوم كانوا يتحدّثون عن مواقفهم هم، لا عنسكّان الكوفة ومعسكرها، إن صدقوا!
يبدو أنّ جوّ الحماسة والهياج لا حدود له في تلك الأيّام.. إنّهم لم ينتظروا أمراً من الإمام (علیه السلام) ، وإنّما حدّدوا له الخطوة الأُولى الّتي سيقومون بها بمجرّد أن يبلغهم خبر توجُّه الإمام (علیه السلام) إليهم..
ولو قد بلغَنا مخرجك (إقبالك إلينا) (أنّك قد أقبلتَ إلينا)، أخرجناه من الكوفة وألحقناه بالشام، والسلام ((1)).
وفي لفظ (الفتوح):
أخرجناه عنّا حتّى يلحق بالشام ((2)).
إنّهم لم يطلبوا من الإمام (علیه السلام) أن يأمرهم بأمره، ولم يعلنوا استعدادهم
ص: 330
للطاعة المطلقة والقبول، فقد عزموا وقرّروا وخطّطوا، وصاروا يُخبرون الإمام (علیه السلام) بما سيفعلونه.
إندفاعتهم اندفاعةٌ غير حكيمةٍ ولا عاقلةٍ ولا متريّثة، ولا تتقيّد بدِينٍ، ولا باتّباعٍ لشريعة سيّد المرسلين الّتي فرضَت إطاعة الإمام المعصوم وحرّمَت التقدّم عليه.. يريدون شيئاً وهم ماضون في السعي إلى تحقيقه، والإمام أداةٌ من الأدوات الّتي ستعينهم في تحقيق الغرض وتسهّل عليهمالوصول إلى المبتغى!
ليس في لحن عبارتهم نغم استشارةٍ ولا الاستعداد للطاعة، وإنّما إيقاع الحرب والخروج الصاخب، والإقدام بجرأةٍ على ما هم يرتأون، هذا من جهة..
ومن جهةٍ أُخرى:
كان بعض المعترضين على الإمام (علیه السلام) قد ذكر للإمام (علیه السلام) أن لو كانوا يريدونك فلْيُخرجوا الوالي من بلدهم، أمّا وهم يدفعون له الخراج ويأتمرون بأمره فإنّهم يغرّرون ولا يصدقون..
وهكذا هو الأمر، فإنْ كانوا صادقين فلماذا الانتظار حتّى يبلغهم خبر قدوم الإمام (علیه السلام) عليهم وإقباله إليهم؟ فإنّهم قد بلغهم خروج الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، وشاعت الأخبار أنّه يريد الكوفة، فكان عليهم أن يُخرجوا الوالي ويلحقونه بالشام _ كما زعموا _، ثمّ يبادروا بالكتابة إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام السعداء، ليخبروه أنّهم قد وطّؤوا البلاد واختاروا من بينهم والياً
ص: 331
مؤقّتاً حتّى يصل إليهم الإمام (علیه السلام) أو مَن يرسله إليهم حتّى يصلهم.
ولقد بلغهم أنّ الإمام (علیه السلام) قد أقبل إليهم، ولم يفعلوا!
فإمّا أن يُقال: إنّهم نكصوا وكذبوا فيما وعدوا، وطفحَت بالوعات خيانتهم وغدرهم..
وإمّا أن يقال: إنّ الإمام (علیه السلام) قد نهاهم عن ذلك فأطاعوا، وهو يفيد_ إن صحّ وثبت _ أنّ الإمام (علیه السلام) لا يرضى بهذا الفعل ولا يريده، ولذلك دلالاته الّتي لا تخفى على اللبيب..
فما وعدُهم بطرد الوالي حتّى يلحقونه بالشام إلّا سرابٌ قريبٌ لا يخدع الظمآن، فضلاً عن الريّان.
ثمّ لماذا يطردونه حتّى يلحق بالشام بالذات؟! لماذا لا يحبسونه؟ لماذا لا يقتلونه؟ لماذا لا يُخرجونه من بلدهم ولْيذهب أين ما أراد، أو ليرجع إلى المدينة وهي أصله؟ لماذا لا يدفعونه إلى الإمام (علیه السلام) حتّى يحكم فيه بحكم الله؟
أكانوا يريدون للكوفة أن تخلع الطاعة وتُخرج الوالي إلى الشام ويكتفون بذلك، فلا يطاردونه وأسياده إذا هم ارتاحوا منهم، فلا يهمّهم بعد ذلك أمر يزيد ولا باقي البلدان؟!
وإذا ما طردوا الوالي حتّى ألحقوه بالشام، فماذا سيفعلون بأنصاره وأنصار النظام القائم وأتباع الأُمويّين والمنتفعين؟
ماذا سيفعلون بالعساكر والجند والشرطة الّتي لا زالت على الولاء
ص: 332
للوالي والسلطان؟
ماذا سيفعلون بعساكر الشام المشحونة بالعداء والبغضاء ضدّ الكوفة وأهلها؟
ماذا سيفعلون مع باقي سكّان الكوفة وعشائرها الّتي كانت على بيعتهاليزيد منذ زمن معاوية؟
إنّهم عددٌ محدودٌ مقابل الأعداد الهائلة في الكوفة وباقي البلدان!
واضحٌ أنّهم كتبوا تحت وطأة الحماس والهيجان والعنف العاطفيّ، من دون تفكيرٍ ولا تدبُّرٍ للواقع.
نحسب أنّ الاندفاعيّة والضغط النفسيّ والغليان وسيطرة الأحاسيس واضحٌ جدّاً على الكتب والكاتبين.. ومثل هذا الوضوح الّذي يتكشّف بأدنى أدنى تأمُّلٍ لمن يقرأ الكتب الخامدة السامدة الهامدة المرصوفة على سطور كتب التاريخ بعد مئات السنين، وقد تكشّفَت لأغبى الخلق من أمثال عبد الله بن عمر، فهي لا تخفى على سيّد الخلق وأعلمهم بالخلق.
لقد كانت هذه الاندفاعيّة والمبالغة في تضخيم الأحداث طافحةً لائحةً في الوعود الّتي تضمّنتها الكتب، من قبيل هذا الوعد الّذي نحن بصدد الكلام عنه، ومن قبيل الوعد بمئة ألف سيفٍ جاهزة، وأنّ نفوس الناس متطلعةٌ لقدوم الإمام.. ولا ندري مَن خوّلهم للكلام عن الناس كلِّ الناس؟ وكيف استكشفوا مخابئ نفوس الناس ومطاوي صدورهم وكوامن خواطرهم؟ ومَن هم حتّى يتكلّموا عن نفوس الناس؟ فلْيكتب مَن يكتب
ص: 333
منهم عن نفسه أو عن عشيرته أو أتباعه، كما فعل يزيد بن مسعود النهشليّ حين تكلّم عن بني تميم وبطونهم بعد أن كلّمهم وأخذ العهد عليهم وغسل صدورهم بماء سحابة مزن، كما مرّ الحديث عنه في وقائعالبصرة، بغضّ النظر عن المناقشات المستفيضة في أصل القضيّة، وإنّما سقناه هنا لبيان أنّ كبير القوم قد يتكلّم عن قومه، أمّا أن يتكلّم مجهولون عن جميع الناس، أو يتكلّم بعض الأشخاص من الذوات والأعيان عن الجميع، فهذا ما لم يُعهد، ولم يكن مرضيّاً عند المخاطَب العادي، فكيف بسيّد الخلق؟!
حينما نقرأ الأسماء الواردة في الكتب، لا يطالعنا اسمٌ من أسماء أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذين بذلوا مهجهم في الدفاع عنه، سوى ما يرويه بعضهم من اسم حبيب بن مظاهر صاحب ميسرة معسكر التوحيد.
وحينما نقرأ أحداث الاجتماع في بيت سُليمان بن صُرَد الخزاعيّ، لا نسمع خبراً لحبيب بن مظاهر، لا تصريحاً ولا تلويحاً، مع أنّه من ألمع نجوم الكوفة وشخصيّاتها البارزة، ممّا دعانا إلى افتراض أن يكون القوم قد كتبوا الكتاب وذكروا اسم حبيب، ولكي نُحسن الظنّ بهم افترضنا أنّهم أطلعوه على ذلك.. هذا كلّه على نحو الاحتمال والتوقّع!
ولو استثنينا المولى المكرّم حبيب بن مظاهر، على فرض مبادرته إلى المكاتبة مع سليمان، رغم استبعادنا ذلك..
واستثنينا مثل سعيد بن عبد الله الحنفيّ والاثنين اللذَين معه ممّن
ص: 334
فدى سيّد الشهداء (علیه السلام) وذبّ عن عيال الرسول (صلی الله علیه و آله) وآل الله، وهم لميكونوا من المكاتبين، وإنّما كانوا من الرسُل، ولا نستبعد أنّهم حملوا كتاباً من مثل شبث بن ربعيّ وجماعته، ليكون حجّةً لهم للالتحاق بسيّد الشهداء (علیه السلام) والتزوُّد من طلعته البهيّة واللقاء المباشر به لأخذ التكليف منه..
فلا يبقى عندنا من جميع الأنصار الّذين حضروا كربلاء بين يدي الإمام الحسين (علیه السلام) بين المكاتبين سوى حبيب بن مظاهر!
أمّا الباقون، وأكثرهم من سكّان الكوفة، وهم عددٌ كبيرٌ بالنسبة إلى أنصار الحسين (علیه السلام) ، إذ أنّهم يشكّلون المادّة الأصليّة للأنصار، أمّا غيرهم فهم قلّة، من قبيل الأنصار الملتحقين من البصرة أو غيرها..
هؤلاء الأنصار الأوفياء والأصحاب الأبرار الّذين نالوا شرف «لا أعلم أصحاباً..»، لم يكاتبوا الإمام (علیه السلام) فيمن كاتب، وإنّما بادروا إلى نصرة الإمام (علیه السلام) ، لأنّهم علموا الواجب عليهم، وعرفوا تكليفهم، وسمعوا دعوة الرحمان واستصراخ رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين دعاهم لنصرة ابنه والدفاع عنه حين يهجم عليه بنو أُميّة يريدون قتله.
لقد كان المكاتبون يسعون إلى أغراضهم، ويرسمون لأنفسهم مسيرةً وفق مقاساتهم.. وكان الأنصار الحقيقيّون الصادقون الأوفياء يعلمون أنّ القصّة تكمن في تهديد حياة الإمام (علیه السلام) ومَن معه، وليست فيما يزعم هؤلاء من خلال الشعارات الّتي يرفعونها ودوافع الدعوات الّتي يسطّرونها في
ص: 335
كتبهم..علموا أنّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعياله في خطرٍ مُحدِقٍ قطعيّ، وأنّ عليهم أن يفدوه بأرواحهم وأنفسهم، ولا يدَعُون أذىً يصل إلى آل الله وفيهم عينٌ تطرف وعرقٌ ينبض..
عرفوا الأحداث بدقّة، واطّلعوا على حقيقة الخبر، ولم تكن لديهم نوازع ودوافع كما كانت لدى المكاتبين، فالمكاتبون في وادٍ ومطالبهم في واد، وما كان فيه الإمام (علیه السلام) ومَن معه في وادٍ آخَر.. أدركه الأنصار الحقيقيّون فبادروا، وعلموا التكليف بوضوحٍ فسارعوا إلى ما دعاهم إليه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وإمامهم المفترض عليهم طاعته، فلا حاجة إلى الوعود وانتظار القدوم، والوقت لا يسع ذلك!
بغضّ النظر عمّا ذكرناه في أكثر من موضعٍ من أنّ ابن أعثم هذا مجهولٌ تماماً، وبغضّ النظر عن اختلاف النُّسَخ الشديد في كتابه، وبغضّ النظر عن أُسلوبه السرديّ القصصيّ.. فإنّ متفرداته فيها نكهةٌ خاصّةٌ وذوقٌ خاصّ، ربّما تحكي توجُّهات المؤلّف وطريقة تفكيره.
ولا ندري ما هو طريقه إلى رواياته وأخباره.. بيد أنّه يروي.. وكتابه قديم، إذ أنّ وفاته في بداية القرن الرابع (314 ه-)..
إنّه يروي كتاب سليمان بن صُرد الخزاعيّ _ الّذي يرويه مَن قبله ومَن بعده _ بزياداتٍ أتينا على ذِكر بعضها في غضون البحث قبل قليل، منها:
ص: 336
إخبار الإمام (علیه السلام) أنّهم بلغهم تأمُّر يزيد اللعين على هذه الأُمّة، وذكروا لعدم رضاهم به بعد لعنه الأسباب التالية:
أ _ بلا مشورة.
ب _ ولا إجماع.
ج _ ولا علمٍ بالأخيار أو الأخبار.
وإعلانهم الاستعداد للقتال مع الإمام (علیه السلام) وبذل أنفسهم من دونه، ودعوة الإمام للإقبال إليهم فرحاً مسروراً، مأموناً مباركاً منصوراً، سعيداً سديداً، وسيّداً أميراً مطاعاً، وإماماً خليفةً عليهم مهديّاً.
وأنّهم لا يؤدّون الخراج إلى الوالي، وأنّه يدعو فلا يُجاب ويأمر فلا يُطاع.
يبدو أنّه تنظيرٌ وشرحٌ لأسباب رفض القوم ليزيد، ومبالغةٌ شديدةٌ في شدّة التعامل مع الوالي، ومبالغةٌ في إبراز الأحاسيس والتلهّف لقدوم الإمام (علیه السلام) .
والأُسلوب السرديّ القصصيّ الّذي لا يتقيّد بنقل النصّ التاريخيّ بعينه، ولا يلتزم متن الرواية الحرفيّ أو المعنويّ القريب من المضمون، يسمح بمثل هذه المبالغات.
كيف كان، فإنّ المتن المشهور يتضمّن ما يرويه ابن أعثم، وفيه الكفاية، ولا ضرورة للتمسّك بمتن ابن أعثم، ولا حاجة للتوقّف عليه ومصادرة المصادر التاريخيّة جميعاً لحساب هذا المتن بالذات.
ص: 337
أجل، يمكن لمن أراد أن يثبت قناعةً خاصّةً عنده الاستنادُ إلى ابن أعثم على حساب جميع المتون التاريخيّة، ويحتجّ به باعتباره مؤرّخاً قديماً.
أمّا إضافات سبط ابن الجَوزيّ، فقد أشرنا إليها في كتاب (لقاء الإمام الحسين (علیه السلام) والفرزدق)، فلا نعيد.
يطالعنا حثٌّ عنيفٌ واستعجالٌ شديدٌ في دعوة الإمام (علیه السلام) للإقبال إليهم في بعض متون الكتب: الكتاب الثالث، والكتاب الرابع (وهو كتاب شبثٍ وجماعته)، وكأنّهم يريدون إرباك الموقف بالاستعجال، ودفع المخاطَب إلى التوجّس من فوت الفرصة، كأنّهم يسابقون الزمن ويغالبون الفرص، ويرون ما لا يراه الإمام (علیه السلام) من اخضرار الجنّات وما يلازمها من إيناع الثمار وبلوغ أوان قطافها.
أجل، لأنّها في حساباتهم ثمارٌ قد آن وقت قطافها، ودنيا قد ازدهرت وتوهّجَت فيها البيضاء والصفراء، وتزيّنت بالزخارف والزبارج، وهم يخالون أنّ الأوضاع مساعدةٌ لاستغلالها لبلوغ هذا المأرب.
لقد استعجلوا الإمام (علیه السلام) أيّما استعجال، وهذا ما صرّحَت به كتبهم بما لا يقبل الشكّ، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) لم يستعجل!
لم يتحرّك الإمام (علیه السلام) ، ولم يخرج من مكّة رغم الخطر المحدِق به فيها، وبقي فيها لولا تنجُّز الخطر وخروج الأمر من حالات الاحتمال والتوقُّعإلى اليقين والقطع بأنّ بقاءه في مكّة يعني قتله غيلةً أو أخذه أخذاً، وبذا تُهتَك
ص: 338
الحرمات المقدَّسة الّتي لا يسمح بها الإمام (علیه السلام) ، فخرج منها متعجِّلاً قبل الموسم الّذي كان قد حان وقته، وخرج الناس إلى منى يوم التروية!
لم يُقدِم عليهم الإمام (علیه السلام) لمجرّد استعجالهم له.. وقد وصلَته كتبُهم في العاشر من شهر رمضان واجتمعَت عنده، فلم يُقدِم عليهم، وإنّما أرسل إليهم أخاه وثقته مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وبقي بعد وصول آخِر الرسل إليه زهاء شهرين، وهي فترةٌ غير قليلة، إذ كان بإمكانه أن يخرج إليهم بنفسه المقدّسة بدلاً من إرسال أخيه المولى الغريب (علیه السلام) .
لو كانت مكّة آمنةً له _ كما هي آمنةٌ لجميع المخلوقات _ لما خرج منها إليهم أبداً، كما قال (صلوات الله عليه) أنّه مقيمٌ بها أبداً ما أحبّه أهلُها ومنعوه، وقد أتينا على تفصيل ذلك فيما مضى من دراسة ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة.
تواترت الأحاديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين في إخبار الناس كلّ الناس بشهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وقتلته من بني أُميّة، وصرّحوا باسم قاتله يزيد (لعنه الله) والمباشرين من أمثال عمر بن سعد، وقد شاع وذاع هذا الخبر، إذ أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) كانا يؤكّدان ذلك فيجميع المواضع والمواطن في البيت وفي المسجد وفي السفر وفي الحضر وفي خُطَبهم على رؤوس الأشهاد..
وقد غصّت كتب الحديث والرواية عند جميع فرق المسلمين برواية هذا
ص: 339
الحدَث، وفي بعض الأحيان برواية تفاصيله، وفي بعض الأحيان يخاطبون شخصاً بعينه ممّن له وجاهةٌ ومكانةٌ فيحذّرونه الخذلان أو يبشّرونه النصرة، وكم من خطبةٍ سجّلها التاريخ وكتب الرواية والحديث يدعو فيها النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو الوصيّ (علیه السلام) إلى نصرة الغريب المظلوم، أو يحذّران من خذلانه ويخبران أنّ الأُمّة ستخذله.
وقد سمعنا التحذيرات للبراء وأبي عبد الله الجدليّ..
وسمعنا أنس بن الحرث الصحابيّ الجليل الفقيه يحدّث عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّه قال: «إنّ ابني هذا _ وأشار إلى الحسين (علیه السلام) _ يُقتَل بأرضٍ يُقال لها: كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلْينصره». فخرج هذا الصحابيّ الوفيّ النبيل إلى كربلاء، وقُتِل هناك بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ((1))..
وكم خبرٍ يرويه أنس بن مالك عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهو من الخاذلين، وكم حديثٍ يرويه ابن عبّاس، وهو من الخاذلين، وكم حديثٍ يرويه ابنعمر، وقد تظافرت الأخبار عن عائشة، وعن أُمّهات المؤمنين، أُمّ سلَمة وزينب بنت جحش وغيرهن..
لقد شاع الأمر بين الناس، حتّى قال عبد الله بن شريك العامريّ:
كنتُ أسمع أصحاب عليّ (علیه السلام) إذا دخل عمر بن سعد من باب
ص: 340
المسجد يقولون: هذا قاتلُ الحسين بن عليّ (علیه السلام) ! وذلك قبل أن يُقتَل بزمان ((1)).
ورُوي أنّ عمر بن سعدٍ قال للحسين (علیه السلام) :
يا أبا عبد الله، إنّ قِبَلنا ناساً سفهاء، يزعمون أنّي أقتلك!
فقال له الحسين (علیه السلام) : «إنّهم ليسوا بسفهاء، ولكنّهم حلماء، أما إنّه تقرّ عيني أن لا تأكل من بُرّ العراق بعدي إلّا قليلاً» ((2)).
وروى سُويد بن غفلة قال:
أنا عند أمير المؤمنين (علیه السلام) إذا أتاه رجُل، فقال: يا أمير المؤمنين، جئتك من وادي القرى، وقد مات خالد بن عرفطة. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «إنّه لم يمُت!». فأعادها عليه، فقال له عليّ (علیه السلام) : «لم يمُت! والّذي نفسي بيده لا يموت»، فأعادها عليه الثالثة فقال: سبحان الله! أُخبرك أنّه مات، و تقول لم يمت؟! فقال له عليّ (علیه السلام) : «لم يمُت! والّذي نفسي بيده، لا يموت حتّى يقودجيش ضلالة، يحمل رايته حبيب بن جمّاز».
ص: 341
قال: فسمع بذلك حبيب، فأتى أمير المؤمنين، فقال: أُناشدك فيّ، وأنا لك شيعة، وقد ذكرتَني بأمرٍ _ لا واللهِ _ ما أعرفه من نفسي. فقال له عليّ (علیه السلام) : «إن كنتَ حبيب بن جمّازٍ فتحملها». فولّى حبيب بن جمّاز، وقال: «إن كنتَ حبيب بن جمّازٍ لَتحملنّها».
قال أبو حمزة: فواللهِ ما مات حتّى بعث عمر بن سعدٍ إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، وجعل خالدَ بن عرفطة على مقدّمته، وحبيبَ صاحب رايته ((1)).
وكم من مرّةٍ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ما لي ولبني أُميّة.. ما لي وليزيد، لا بارك الله في يزيد، فإنّه يقتل وَلدي ووَلد ابنتي الحسينَ بن عليّ، فوَالّذي نفسي بيده، لا يُقتَل ولدي بين ظهراني قومٍ فلا يمنعونه، إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم.
وهكذا نجد النصوص الشريفة عند جميع فرق المسلمين كثيرةً مستفيضة، تفيد التواتر المعنويّ بلا تردّد، وتفيد الكثير من النصوص أنّ الأمر لم يكن مخفيّاً على أحدٍ تلك الأيّام، إذ أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) كانا يُخبران على رؤوس الأشهاد في الخطب وفي شتّى المواطنوالمواقف، ويُخبران الخاصّة والعامّة.
ص: 342
ولمن أراد التفصيل والاطّلاع على نصوص الأحاديث والأخبار، فلْيراجع الجزء الثالث والعشرين من موسوعة (تاريخ الإمام الحسين (علیه السلام))، فإنّ فيها مادةً كافيةً إن شاء الله (تعالى).
وقد سمعنا أنّ بعض مَن كاتب أو اجتمع بالإمام الحسين (علیه السلام) أو قاتل، كان يروي بنفسه خبر شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وإقدام بني أُميّة ويزيد على قتله مظلوماً.
وحينئذٍ قد يُقال: إنّ هؤلاء القوم المكاتبين إمّا أن يكونوا قد سمعوا هذه الأخبار واطّلعوا عليها _ وهو المفروض _، فكيف كانوا يكاتبون الإمام ويدعونه للخروج (بالمعنى المصطلَح)، وهم يعلمون أنّه مقتولٌ لا محالة، وأنّ يزيد قد عزم على ذلك وأعدّ له عدّته وباشر بتنفيذه؟!!
وربّما كان هذا هو السبب الرئيس في ترك المكاتبة من قبل أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) الأوفياء الّذين بذلوا مهجهم في الذبّ عنه، فهم قد علموا وعرفوا ما يجري، فأقدموا على أداء التكليف والمسارعة إلى رضوان الله (عزوجل) .
وإمّا أن نفترض فيهم أنّهم لم يسمعوا بهذه الأخبار ولم يعلموا بها _ وهو فرضٌ بعيدٌ جدّاً _، فهم حينئذٍ بعيدون كلّ البعد عن أجواء الدين والمتديّنين وأجواء النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ، بل وأجواء المجتمع.. ومثلهؤلاء الجهلة لا يمثّلون تصوّراً دينيّاً، ولا نضجاً اجتماعيّاً، ولا حركةً واعيةً، ولا يمكن الاستناد إلى أقوالهم، ولا الارتكان إلى وعودهم والبناء على شعاراتهم، ولا يستحقّون صرف الوقت في تفسير مواقفهم ومحاولات
ص: 343
استكشاف دوافعهم، ولا يصحّ فرض اندفاعاتهم وصخبهم على حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والكلام في الوجوه والشخصيّات والأعيان لا في عامّة الناس، على أنّ محصّل الأخبار يفيد أنّ عامّة الناس أيضاً كانوا على علمٍ بهذه الأخبار.
يبدو أنّ من العسير _ بل المتعذّر جدّاً _ حمل دعوة مثل أبي عبد الله الجدليّ وأضرابه على محمل الخير، وافتراض السلامة في طويّته لاستدراج الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة وحثّه على الخروج (بالمعنى المصطلَح)، وهو قد سمع من أمير المؤمنين (علیه السلام) الصادق الأمين ما سمع!
قد يُقال: إنّ ضعف السلطان وهلاك طاغية الأُمويّين الأكبر، شجّع القوم على هذا الاندفاع وترقُّب قدوم المنقذ الأعظم، فجالت الخواطر بالحدَث الراهن، وظنّوا أنّ أجَلَ قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يحن بعد، فدعوه إلى ما دعوه إليه!
بَيد أنّ هذا الفرض يكذّبه النصّ والواقع؛ إذ أنّ الأحاديث والأخبار وردَت بالتصريح باسم القتَلَة وحدّدتهم، كيزيد وعمر بن سعدٍ وغيرهما،هذا من جهة..
ومن جهةٍ أُخرى: إنّ القوم كانوا في حياتهم الذليلة الخانعة منذ أن أقصوا إمام الحقّ ووليّ الرحمان أمير المؤمنين (علیه السلام) عن منصبه الّذي عيّنه الله له وأعلن عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) في كلّ موطنٍ وموقف، وكان الدين في
ص: 344
سفال، وأمر المجتمع في سفال، ولم يُبقِ ابنُ هندٍ ومَن سلّطه للدين باقية، ولم يكن الأمر جديداً محدَثاً، وكانت الأُمّة قد أذعنَت بالخوف والطمع والترهّل، وأخلدَت إلى الأرض والدعة والرفاهية، ولم يكن يومذاك في شرق البلاد الإسلاميّة ولا في غربها مَن يدعو إلى ما دعا إليه هؤلاء الأقلّيّة الضئيلة بالقياس إلى البلاد الإسلاميّة المترامية الأطراف المتكثّرة السكّان، فمكّة والمدينة وبلاد الحجاز واليمن ومصر وغيرها من البلدان _ فضلاً عن الشام _ كانت على البيعة للقرد الخليع، تعبد العجل، وتسمع هتوف السامريّ وتطيع، بل كانت أقرب البلدان إلى الكوفة _ من قبيل البصرة _ وادعةً هادئةً مذعنةً للسلطان راكعةً بذلٍّ وهوان..
هكذا هو الواقع الّذي لا يمكن النقاش فيه، ولا يُلتفَت إلى رجلٍ متذمِّرٍ هنا وآخَر ساخطٍ هناك لحرمانه من بعض لذّاته، فهذه الحالة موجودةٌ على مرّ الزمان وفي جميع البلدان، ولا ينجو منها سلطانٌ حتّى لو كان سلطان الحقّ.
فلا يمكن الاحتجاج لهم باقتناص الفرصة وضعف أركان السلطة ممّاشجّعهم على مِثل هذا الإقدام ودعوة الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّ عساكر السلطة كانت كثيرةً كثيفةً متماسكةً في الشام والعراق وغيرها من مناطق تواجدها، وكان الناس في غمرتهم يعمهون، وليس فيهم مُنكِرٌ ولا متطلّعٌ إلى غير ما هو فيه.
فإذا هم غفلوا عن أخبار قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهل ظنّوا أنّ عدداً
ص: 345
ضئيلاً لا يُقاس بجُند الشام ولا بجند العراق الباقي على الولاء للسلطان كافٍ؟!
وهل توهّموا أنّ الكوفة هي العالَم كلّه، وأنّهم هم جميع المسلمين؟
وإذا أمسكوا بزمام الأُمور في الكوفة، فإنّ حُكم الأُمويّين سينهار وينتهي كلّ شيء؟
فدَعوا الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة..
ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) ترك التوجّه إلى الشام وقصدهم، ليطيّب خواطرهم ويضحّي بالدماء الزاكية والأعراض المقدّسة الّتي (لا تكاد حتّى الملائك دخول سرادقهم لولا أنّهم خدمُ)؟!
أما كان الإمام (علیه السلام) يفعل كما كان يفعل أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) _ بل وفعلها قادة عسكر الضلال _ حين ضرب موعداً خارج الكوفة للتوجّه إلى الشام، وأعلن أنّ مَن أراد اللحاق لقتال أهل الشام فلْيلتحق بالنخيلة مثلاً، ثمّ يتوجّه من هناك إلى قطع دابر القوم الظالمين ويحارب يزيد ومَن يدافععنه من أهل الشام وغيرهم؟!
مرّ معنا في متون البحث أنّ الرسل اجتمعَت كلّها عند الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكلّما جاءت دفعةٌ من الكتب دفعوها إلى الإمام (علیه السلام) ، فلم يردّ جواباً، حتّى إذا اكتملوا عنده _ فداه العالمين _ ردّ عليهم بكتابٍ واحد،
ص: 346
ودعا أخاه وثقته مسلم بن عقيل (علیه السلام) فأرسله إليهم رسولاً..
وقد أوصاه الإمام (علیه السلام) وصرّح في كتابه إليهم أنّه إنّما أرسل المولى الغريب (علیه السلام) اليهم ليتوثّق من توافق نيّاتهم وعزائمهم مع ما ورد في كتبهم من إعلان النصرة، فإن ارتضى رسولُه منهم ذلك كتب إليه.
ولم يستعجل الإمام (علیه السلام) لعجلتهم، ولم يستجب لفورتهم وغليانهم وما هم فيه من الهياج، وإنّما سلك معهم سبيل الاحتياط والحذر، وهو عالِمٌ بهم وبمآلهم وخواتيمهم.
فلا يبدو ما يروّج له يزيد منذ البداية، كما فعل في كتابه لأهل المدينة ولأهل الموسم ولابن عبّاس الّذي أرسله نسخةً واحدةً حين حاول وبشتّى الوسائل وفي جميع المواطن والمشاهد إبداء الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) طالب حُكم وطالب سلطان، هاجمهم بعد أن عقد العزم على ذلك وسعى إليه، فقتلوه دفاعاً عن أنفسهم وسلطانهم، وحمايةً لعصا المسلمين من التشظّيوالانشقاق.
وهكذا فعل الأُمويّون وأدواتهم من شخصيّاتٍ ووجوه برزت على لسان المعترضين، من قبيل ابن عبّاس وابن عمر وابن مطيع وأمثالهم..
وهكذا سار المؤرّخ المشؤوم، بدافع الدنيا وطمعها، أو بدافع العقيدة الخاطئة المعاندة، فحاول رسم هذه الصورة بشتّى الوسائل ومختلف التعابير!
* * * * *
ص: 347
إلى هنا نتوقّف عن متابعة كتب بعض الكوفيّين ورسائلهم ووفدهم ورسلهم، إذ أنّنا تناولنا في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة) ردَّ الإمام (علیه السلام) وبعثة رسوله القويّ الأمين المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیه السلام) ، وما جرى من أحداثٍ خطيرةٍ في سفارته المباركة، وقد استغرقَت سبعة أجزاءٍ احتوَت أكثر من ثلاثة آلاف صفحة، فلا نعيد.
أجل، ربّما اكتشفنا شيئاً أو عثرنا على نصٍّ أو طالعتنا أحداثٌ لم نكن قد استحضرناها فيما مضى من السنين والأيّام، حيث فصلتنا عن كتاب مجموعة المولى الغريب (علیه السلام) سنون، فالمعتمَد هو ما نقرّره في الكتاب المتأخّر.
إنّما نقول ذلك للاحتياط، وإلّا فالنظرة الّتي انطلقنا من خلالها في كتابة هذه الدراسات واحدةٌ منذ البداية، غير أنّ الصورة تبدو لنا أوضح ومعالمها أتمّ كلّما توغّلنا في المسير مع ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ممّا جعل قناعتنا تترسّخ فيما اعتقدناه من تفسيرٍ لقيام الإمام الحسين (علیه السلام) الّذي يمكنتلخيصه بكلمة: إنّ حركة الإمام (علیه السلام) من المدينة إلى الشهادة كلّها كانت حركة دفاعٍ محض.. فما جاء فيما سبق من الكتب الّتي كتبناها يوافق هذه الرؤية فهو، وإلّا فيُردّ إلى هذه الرؤية!
ص: 348
كتب أهل الكوفة... 3
الاجتماع في دار سُليمان بن صُرَد...... 7
المتون:.... 7
الدينوريّ:... 7
الطبريّ:...... 7
إبن أعثم، الخوارزميّ:... 8
الشيخ المفيد (رحمة الله) :....... 9
مسكوَيه:........... 10
الطبرسيّ:........... 10
إبن شهرآشوب:......... 10
إبن الجَوزيّ:..... 11
إبن الأثير، النويريّ:.... 11
إبن نما:.... 11
سبط ابن الجَوزيّ:...... 12
إبن طاووس:..... 12
إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:......... 13
المقتل المشهور:......... 13
تتمّة:........ 14
ص: 349
النكتة الأُولى: الحاضرون!..... 16
النكتة الثانية: اجتماعٌ يتيم!..... 18
النكتة الثالثة: كيف نعرف الشيعة الحاضرين؟....... 20
النكتة الرابعة: التركيز على عنوان الشيعة!.... 21
النكتة الخامسة: وقت الاجتماع وظرفه....... 23
التاريخ الأوّل: ذو الحجّة!..... 23
التاريخ الثاني: العاشر من شهر رمضان.... 24
النكتة السادسة: دواعي الاجتماع..... 26
النكتة السابعة: كلام ابن صُرَد......... 27
النكتة الثامنة: جواب القوم ونتيجة الاجتماع......... 30
كتُب الكوفيّين للإمام الحسين (علیه السلام) ... 35
المتون... 35
إبن سعد ومَن تلاه:..... 35
إبن قُتيبة:........... 35
البلاذريّ:.......... 36
الدينوريّ:......... 38
اليعقوبيّ:........... 39
الطبريّ، ابن الجَوزيّ:.......... 40
الطبريّ وجماعة:......... 40
الطبريّ:.... 40
الطبريّ، ابن كثير:....... 42
إبن أعثم:.......... 43
المسعوديّ:........ 45
ص: 350
المسعوديّ:........ 45
إبن حبّان:.......... 45
أبو الفرَج:.......... 46
الشيخ المفيد (رحمة الله) ، الفتّال:... 47
مسكوَيه:........... 49
أبو طالب الزيديّ:....... 50
الطبرسيّ:........... 50
الخوارزميّ:....... 50
إبن شهرآشوب:......... 52
إبن الجَوزيّ:..... 54
إبن الأثير، النويريّ:.... 56
إبن الأثير، الدياربكريّ:....... 57
إبن الأثير:.......... 57
إبن نما:.... 57
البرّيّ:...... 59
إبن طلحة، الأربليّ:..... 59
سبط ابن الجَوزيّ:...... 60
إبن طاووس:..... 61
اليافعيّ:.... 63
إبن الطقطقيّ:.... 63
الذهبيّ:.... 64
إبن كثير:........... 64
إبن خلدون:...... 65
إبن عنبة:........... 66
إبن حجَر:.......... 66
ص: 351
إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:......... 66
السيوطيّ:.......... 67
إبن حجَر:.......... 68
تاج الدين العامليّ:...... 68
الطُّريحيّ:.......... 68
المقتل المشهور لأبي مِخنَف:........ 69
الخافي الشافعيّ:......... 70
التنويه الأوّل: البادئ بالكتابة........... 71
التنويه الثاني: الإمام (علیه السلام) لم يطلب الحُكم!........... 72
التنويه الثالث: عِلمُ الإمام (علیه السلام) بحال الناس........... 73
التنويه الرابع: مطالب القوم!... 75
التنويه الخامس: نظرةٌ سريعةٌ إلى المكاتبين......... 76
التنويه السادس: هل كان وراء المراسلة تخطيط؟!.......... 78
الشاهد الأوّل: تخطيط معاوية لقتل الإمام (علیه السلام) على يد أهل الكوفة........ 78
الشاهد الثاني: إخبار يزيد بذلك... 83
الشاهد الثالث: سعي والي المدينة لإخراج الإمام (علیه السلام) منها........... 84
الشاهد الرابع: سعي والي مكّة لإخراج الإمام (علیه السلام) منها........ 86
الشاهد الخامس: حفظ الإمام (علیه السلام) للحُرُمات..... 87
الشاهد السادس: علم الإمام (علیه السلام) بنيّات القوم.... 92
الشاهد السابع: قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء (علیه السلام) .... 94
الشاهد الثامن: أقوال الإمام الحسين (علیه السلام) ........... 96
الشاهد التاسع: قول ابن عبّاس........ 99
الشاهد العاشر: المكاتِبون!........... 101
الشاهد الحادي عشر: لو كانوا صادقين لوطّؤوا قبل دخول الإمام (علیه السلام) .......... 102
ص: 352
الشاهد الثاني عشر: ما يكلّف الأعداء... 103
الشاهد الثالث عشر: وجود ابن الزبير.... 110
الشاهد الرابع عشر: اتّهام الشيعة بالقتل........... 111
النتيجة:........... 112
التنويه السابع: ترتيب المؤرّخ خروج الإمام (علیه السلام) على وصول الكتب... 115
المتون... 115
إبن سعدٍ ومَن تلاه:..... 115
المسعوديّ:........ 116
إبن الأثير، الدياربكريّ:........ 116
البرّيّ:....... 116
سبط ابن الجَوزيّ:....... 117
إبن طاووس:...... 117
اليافعيّ:..... 118
السيوطيّ:........... 118
إبن حجَر:.......... 118
الملاحظة الأُولى: مفاد النصوص.......... 119
الملاحظة الثانية: المفاد حصيلة الصياغة......... 123
الملاحظة الثالثة: تأكيد المفاد بتصريحات المعارضين...... 124
الملاحظة الرابعة: تعارض المفاد مع بيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) .... 124
الملاحظة الخامسة: تعارض المفاد مع موقف الإمام (علیه السلام) في إرسال أخيه مسلم (علیه السلام) ........ 125
الملاحظة السادسة: تركيز المؤرّخ والسلطان الغاشم على تخطئة الإمام (علیه السلام) ........... 125
الملاحظة السابعة: الفرق الكبير بين نظرة المؤرّخ والسلطان ومقاصد الإمام (علیه السلام) .... 126
الملاحظة الثامنة: عمل الإمام (علیه السلام) بالتكليف الربّانيّ.......... 127
الملاحظة التاسعة: قول الشريف المرتضى (رحمة الله علیه) ....... 128
التلميح الأوّل: مخاطبة العقل السنّيّ......... 131
ص: 353
التلميح الثاني: بناء كلام المرتضى على رأي العامّة.... 132
التلميح الثالث: بناء كلام المرتضى على أنّ الإمام (علیه السلام) يعمل بالظنّ....... 132
التلميح الرابع: بناء كلام المرتضى على عدم علم الإمام (علیه السلام) بمصيره ومآل أمره....... 133
التلميح الخامس: بناء كلام المرتضى على مطالبة الإمام (علیه السلام) بحقّه!........ 134
التلميح السادس: عمل الإمام بالاجتهاد!........... 136
التلميح السابع: تخطئة الإمام (علیه السلام) وتصويب المعترضين لصحّة ظنونهم........... 136
التلميح الثامن: العلّة الّتي ذكرها سيّد الشهداء (علیه السلام) لخروجه من مكّة...... 138
التلميح التاسع: الاستمرار برجاء أن يفيء إليه قوم...... 140
التنويه الثامن: تتابع الرسُل!........... 143
الطائفة الأُولى: لم تذكر شيئاً...... 143
الطائفة الثانية: إشارةٌ مجمَلة......... 144
الطائفة الثالثة: تواتر الكتُب والرسُل...... 144
الطائفة الرابعة: تتالي الرسل في الانطلاق....... 145
الطائفة الخامسة: تتالي الرسل في الوصول..... 146
الطائفة السادسة: تحديد الكتاب الأخير......... 146
الإفادة الأُولى: محدوديّة الدفعات........ 147
الإفادة الثانية: آخِر الكتب........... 148
الإفادة الثالثة: الفاصل بين الدفعات....... 149
الإفادة الرابعة: زمن وصول الرسل........ 151
الإفادة الخامسة: الفاصل بين دخول الإمام (علیه السلام) مكّة ووصول الكتب... 152
الإفادة السادسة: الفاصل بين وصول الكتب وخروج الإمام (علیه السلام) من مكّة...... 153
الإفادة السابعة: انقطاع الرسل خلال حركة المولى الغريب (علیه السلام) !......... 154
التنويه التاسع: عدد الكتب الواردة.......... 155
العدد الأوّل: لم تذكر عدداً........ 156
العدد الثاني: ذكر الدفعات.......... 158
ص: 354
العدد الثالث: كتابٌ واحد........... 158
العدد الرابع: نيفٌ وخمسون صحيفة..... 159
العدد الخامس: مئة كتاب........... 159
العدد السادس: مئةٌ وخمسون كتاباً....... 160
العدد السابع: ما ملأ خُرجَين........ 161
العدد الثامن: اثنا عشر ألف كتاب........ 162
الحصيلة:......... 163
العائق الأول: انفراد الشيخ ابن نما... 164
العائق الثاني: ذكر الآخَرين للأعداد........ 164
العائق الثالث: ضخامة العدد بلحاظ الصحائف........... 165
العائق الرابع: تفرّق المكاتِبين!....... 166
العائق الخامس: عدد الحاملين للكتب!.... 167
الخلاصة:........... 169
التنويه العاشر: اجتماع الرسُل عند الإمام الحسين (علیه السلام) بمكّة..... 170
مَن هم المكاتِبون؟..... 173
القسم الأوّل: العناوين العامّة......... 173
اللحاظ الأوّل: الانتماء الجغرافي.......... 173
اللحاظ الثاني: الانتماء الدينيّ والمذهبيّ........ 176
اللحاظ الثالث: الوجهاء والأشراف!...... 178
اللحاظ الرابع: الانتماء القبَليّ....... 178
اللحاظ الخامس: خلاصة اللحاظات..... 179
القسم الثاني: الأسماء......... 180
الاسم الأوّل: سُليمان بن صُرَد الخزاعيّ......... 180
الاسم الثاني: المسيّب بن نجبةالفزاريّ........... 192
ص: 355
الاسم الثالث: رفاعة بن شدّاد البَجَليّ.... 196
الاسم الرابع: حبيب بن مظهّر، وبعضهم يقول: مطهّر........ 198
الاسم الخامس: عبد الله بن وال... 199
الاسم السادس: شبث بن ربعيّ اليربوعيّ....... 201
الاسم السابع: محمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب التميميّ [كذا]..... 206
الاسم الثامن: حجّار بن أبجر العجليّ.... 208
الاسم التاسع: يزيد بن رُوَيم الشيبانيّ.... 210
الاسم العاشر: يزيد بن الحارث بن يزيد بن رُوَيم... 214
الاسم الحادي عشر: عزرة بن قيس الأحمسيّ......... 215
الاسم الثاني عشر: عمرو بن الحَجّاج الزبيديّ......... 220
القسم الثالث: وفد.... 230
التلويح الأوّل: نصّ الخبر... 230
التلويح الثاني: الوفد!......... 231
التلويح الثالث: الوفد ورئيس الوفد...... 232
التلويح الرابع: أبو عبد الله الجدليّ........ 233
المعلومة الأُولى: اسمه ونسبته........ 233
المعلومة الثانية: تشيُّعه!.......... 235
المعلومة الثالثة: كان صديقاً لعائشة ومؤثِّراً عليها........ 237
المعلومة الرابعة: دخوله على أُمّ سلمة (رضی الله عنها) ........... 239
المعلومة الخامسة: يُقتَل الإمام الحسين (علیه السلام) ولا ينصره أحَد.......... 240
المعلومة السادسة: حضوره وصيّة الإمام أمير المؤمنين لولده الحسن (علیهما السلام) ودفنه!........... 247
المعلومة السابعة: مواقفه بعد يوم الحسين (علیه السلام) ... 248
المعلومة الثامنة: رسول ابن الحنفيّة إلى عبد الملك... 252
التلويح الخامس: مهمّة الوفد...... 253
القسم الرابع: خبرٌ شاذّ........ 254
ص: 356
الثلمة الأُولى: انفراد ابن حبّان..... 254
الثلمة الثانية: صياغة الخبر!.......... 254
الثلمة الثالثة: رأي شيعته..... 255
الثلمة الرابعة: استشار الإمام (علیه السلام) شيعته!.......... 256
الثلمة الخامسة: الإشارة إلى البادئ....... 256
الرسُل...... 259
العنوان الأوّل: العامّ........... 259
العنوان الثاني: الأسماء....... 260
الاسم الأوّل: عبد الله بن سبيع الهمدانيّ......... 261
الاسم الثاني: عُبيد الله بن مسلم الهمدانيّ....... 261
الاسم الثالث: عبد الله بن مِسمَع البكريّ......... 262
الاسم الرابع: عبد الله بن مِسمَع الهمدانيّ........ 262
الاسم الخامس: عبد الله بن وال التَّيميّ.......... 263
الاسم السادس: قيس بن مسهر الصيداويّ...... 269
الاسم السابع: عبد الرحمان بن عبد الله الأرحبيّ...... 270
الاسم السادس: عمارة بن عبد السلوليّ.......... 271
الاسم السابع: هانئ بن هانئ السُّبيعيّ.... 273
الاسم الثامن: سعيد بن عبد الله الحنفيّ.......... 277
الاسم التاسع: عبد الله بن وداك السلميّ........ 278
الاسم العاشر: عمر بن نافذ التميميّ...... 278
العنوان الثالث: تلميحات.... 278
التلميح الأوّل: الضجيج والخلط........... 278
التلميح الثاني: مَن ثبت ومَن لم يثبت!........... 279
التلميح الثالث: خروج أكثر من رسولٍ في كلّ دفعة........ 280
ص: 357
التلميح الرابع: صبغة التشيّع!........ 280
التلميح الخامس: حمَلَة الكتاب الأوّل والأخير........ 281
التلميح السادس: الرسل الّذين رجعوا بكتابٍ من الإمام (علیه السلام) ...... 281
التلميح السابع: ظروف حمل الرسائل... 282
نصّ الكتاب...... 285
القسم الأوّل: تقرير المؤرّخ.......... 285
القسم الثاني: نقل الخبر...... 287
الكتاب الأوّل: سُليمان....... 287
المتن الأوّل: ابن قُتيبة والبلاذريّ والطبريّ ومَن تلاهم........ 288
المتن الثاني: ابن أعثم والخوارزميّ......... 289
المتن الثالث: ابن الجَوزيّ وسبط ابن الجَوزيّ والبرّيّ........ 291
المتن الرابع: أبو مِخنَف (المتداوَل)......... 293
المتن الخامس: مسكوَيه.... 294
تذكير: رواية ابن كثير.......... 295
الكتاب الثاني: قيس........... 296
الكتاب الثالث: فحيَّهلا...... 298
الكتاب الرابع: شبث.......... 299
الكتاب الخامس: مئة ألف.......... 304
الكتاب السادس: مضامين بعض الكتب......... 306
الكتاب السابع: وفد........... 308
الكتاب الثامن: أنت آثم!!!.......... 309
الكتاب التاسع: كتابٌ جامع........ 311
الكتاب العاشر: الشيخ الطُّريحيّ........... 312
يبقى كتاب!.... 313
ص: 358
جمع المطالب الواردة في الكتب......... 314
الوقفة الأُولى: فِرَق المكاتِبين...... 318
الوقفة الثانية: التحدُّث باسم الجميع!........ 321
الوقفة الثالثة: دوافع المكاتبين لدعوة الإمام (علیه السلام) ......... 323
الوقفة الرابعة: دعوة الإمام (علیه السلام) ليجمعهم على الحقّ والهدى!....... 325
الوقفة الخامسة: إخبار الإمام (علیه السلام) أنْ ليس عليهم إمام!......... 327
الوقفة السادسة: موقفهم من النعمان!....... 328
الوقفة السابعة: طرد الوالي!... 330
الوقفة الثامنة: موقف أنصار الحسين (علیه السلام) ........... 334
الوقفة التاسعة: متفرّدات ابن أعثم........... 336
الوقفة العاشرة: استعجال الإمام (علیه السلام) !........ 338
الوقفة الحادية عشرة: علم المكاتبين بشهادة الإمام (علیه السلام) ....... 339
الوقفة الثانية عشرة: ضعف السلطان!........ 344
إجتماع الرسُل وردّ الإمام (علیه السلام) ...... 346
ص: 359