ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة
السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني
تعداد جلد: 9 ج
زبان: عربی
موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه
خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی
ص:1
ص: 2
ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)
في مكّة المكرّمة
القسم السابع
( وقائع البصرة 2 )
تأليف:
السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني
ص: 3
ص: 4
يزيد يضمّ الكوفة إلى ولاية ابن زياد ((1))
وكان النعمان بن بشير الأنصاريّ على الكوفة في آخِر خلافة معاوية، فهلك وهو عليها، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين، فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان! وهو على البصرة، فضمّ إليه الكوفة، وكتب إليه بإقبال الحسين إليها: فإنْ كان لك جناحان فطِرْ حتّى تسبق إليها ((2)).
ص: 5
فبعث الحسين بن عليٍّ مسلمَ بن عقيل إلى الكوفة يبايعهم له، وكان على الكوفة النعمان بن بشير، فقال النعمان: لَابنُ بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أحبُّ إلينا من ابن بحدل.
قال: فبلغ ذلك يزيد، فأراد أن يعزله، فقال لأهل الشام: أشيروا علَيّ، مَن أستعمل على الكوفة؟ فقالوا: أترضى برأي معاوية؟ قال: نعم. قالوا: فإنّ الصكّ بإمرة عُبيد الله بن زيادٍ على العراقَين قد كتبه في الديوان. قال: فاستعمله على الكوفة ((1)).
فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان بولاية الكوفة إلى ما كان يلي من البصرة، وبعث بكتابه في ذلك مع مسلم بن عمرو الباهلي _ أبي قُتيبة بن مسلم _، وأمَرَ عُبيدَ الله بطلب ابن عقيل ونفيه إذا ظفر به أو قتله، وأن يتيقّظ في أمر الحسين بن عليٍّ ويكون على استعدادٍ له ((2)).
وحدّثَني عبد الله بن صالح المُقرئ، عن أبي زبيد، عن أبي حُصين
ص: 6
قال: بلغ يزيد بن معاوية أنّ الحسين (علیه السلام) يريد الخروج إلى الكوفة، فغمّه ذلك وساءه، فأرسل إلى سرجون مولاهم _ وكان كاتبه وأنيسه _ فاستشاره فيمن يولّيه الكوفة، فأشار بعُبيد الله بن زياد، فقال: إنّه لا خير عنده. قال: أرأيتَ لو كانمعاوية حيّاً فأشار عليك به أكنتَ تولّيه؟ قال: نعم. قال: فهذا عهد معاوية إليه بخاتمه، وقد كان ولّاه، فلم يمنعني أنْ أُعلمك ذلك إلّا معرفتي ببغضك له.
فأنفذه إليه، وعزل النعمان بن بشير، وكتب إليه: أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وإنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، وقد سُميَ بك يوماً إلى غايةٍ أنت فيها، كما قال الأوّل:
رفعتَ فجاوزتَ السحاب وفوقه
فما لك إلّا مرقب الشمس مقعدُ ((1))
فلمّا ورد الكتاب على يزيد، أمر بعهدٍ فكتب لعُبيد الله بن زيادٍ على الكوفة، وأمره أن يبادر إلى الكوفة فيطلب مسلم بن عقيل طلب الخرزة حتّى يظفر به، فيقتله أو ينفيه عنها.
ودفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهليّ _ أبي قُتيبة بن مسلم _، وأمره بإغذاذ السير ((2)).
ص: 7
وكان يزيد قد ولّى عُبيد الله بن زيادٍ العراق، وكتب إليه [وقد جمع بين الكتابَين اليعقوبيّ، فقال]: قد بلغَني أنّ أهل الكوفة قدكتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُليَ بلدُك من بين البلدان وأيّامُك من بين الأيّام، فإنْ قتلتَه وإلّا رجعتَ إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، فاحذرْ أن يفوتك ((1)).
فدعا مولىً له يُقال له: سرجون، وكان يستشيره، فأخبره الخبر، فقال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبَلْ منّي، فإنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّها إيّاه.
وكان يزيد عليه ساخطاً، وكان همّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه برضائه وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إنْ وجده ((2)).
ص: 8
قال هِشام: قال عوانة: فلمّا اجتمعَت الكتبُ عند يزيد، ليس بين كتبهم إلّا يومان، دعا يزيد بن معاوية سرجون مولى معاوية، فقال: ما رأيك؟ فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة، ومسلم بن عقيلٍ بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغَني عن النعمان ضعفٌوقولٌ سيّئ _ وأقرأه كتبهم _، فما ترى مَن أستعملُ على الكوفة؟ وكان يزيد عاتِباً على عُبيد الله بن زياد، فقال سرجون: أرأيتَ معاوية لو نُشر لك، أكنتَ آخذاً برأيه؟ قال: نعم. فأخرج عهد عُبيد الله على الكوفة، فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب. فأخذ برأيه، وضمّ المصرَين إلى عُبيد الله، وبعث إليه بعهده على الكوفة.
ثمّ دعا مسلم بن عمرو الباهليّ، وكان عنده، فبعثه إلى عُبيد الله بعهده إلى البصرة، وكتب إليه معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيلٍ بالكوفة يجمع الجموعَ لشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا، حتّى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيلٍ كطلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام ((1)).
ص: 9
قال: فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد بن معاوية، دعا بغلام أبيه، وكان اسمه: سرجون، فقال: يا سرجون، ما الّذي عندك في أهل الكوفة؟ فقد قَدِم مسلم بن عقيل، وقد بايعه الترابيّة للحسين بن عليّ [رضي الله عنهما]؟ فقال له سرجون: أتقبل منّي ما أُشيربه عليك؟ فقال يزيد: قُل حتّى أسمع. فقال: أُشير عليك أن تكتبَ إلى عُبيد الله بن زياد، فإنّه أمير البصرة، فتجعل له الكوفة زيادةً في عمله، حتّى يكون هو الّذي يقدم الكوفة فيكفيك أمرهم. فقال يزيد: هذا لَعمري هو الرأي.
ثمّ كتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فإنّ شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليّ، فخبّروني أنّ مسلم بن عقيلٍ يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع عليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب، فإذا وصل إليك كتابي هذا فسِرْ حين تقرأه، حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد جعلتُها زيادةً في عملك وضممتُها إليك، فانظُرْ أين تطلب مسلم بن عقيل بن أبي طالبٍ بها، فاطلبه طلب الخرزة، فإذا ظفرت به فاقتله ونفذ إليّ رأسه، واعلم أنّه لا عذر لك عندي دون ما أمرتُك به، فالعجل العجل والوحا الوحا، والسلام.
ص: 10
ثمّ دفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، ثم أمره أن يجدّ السير إلى عُبيد الله بن زياد ((1)).
قال: فبلغ ذلك يزيد، فقال: يا أهلَ الشام، أشيروا علَيّ، مَنأستعمل على الكوفة؟ فقالوا: ترضى مَن رضى به معاوية؟ قال: نعم. قيل له: فإنّ الصكّ بإمارة عُبيد الله بن زيادٍ على العراقَين قد كُتب في الديوان. فاستعمَلَه على الكوفة ((2)).
فلمّا اتّصل الخبر بيزيد بن معاوية أنّ مسلماً يأخذ البيعة بالكوفة للحسين بن عليّ، كتب يزيدُ بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد، وهو إذ ذاك بالبصرة، وأمره بقتل مسلم بن عقيلٍ أو بعثه إليه ((1)).
وانتهى ذلك إلى يزيد (لعنة الله عليه)، فعزله، وولّى على الكوفة عُبيدَ الله بن زياد، وأمره بقتل مسلم بن عقيل، وبأن يقطع على الحسين (علیه السلام) قبل أن يصل إلى الكوفة ((2)).
فلمّا وصلَت الكتب إلى يزيد، دعا سرجون مولى معاوية فقال: ما رأيُك؟ إنّ حسيناً قد نفذ إلى الكوفة مسلمَ بن عقيلٍ يُبايع له، وقد بلغَني عن النعمان ضعفٌ وقولٌ سيّئ، فمَن ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عُبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيتَ معاوية لو نُشر لك حيّاً، أما كنتَ آخِذاً برأيه؟ قال: بلى. قال: فأخرجَ سرجون عهدَ عُبيد الله بن زيادٍ على الكوفة،
ص: 12
وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمَّ المصرَين إلى عُبيد الله. فقال له يزيد: أفعل، ابعَثْ بعهد عُبيد الله ابن زيادٍ إليه.
ثمّ دعا مسلم بن عمرو الباهليّ، وكتب إلى عُبيد الله معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابنعقيلٍ بها يجمع الجموع ليشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام. وسلّم إليه عهده على الكوفة.
فخرج مسلم بن عمرو حتّى قدم على عُبيد الله بالبصرة، وأوصل إليه العهد والكتاب، فأمر عُبيدُ الله بالجهاز من وقته والمسير والتهيّؤ إلى الكوفة من الغد، ثمّ خرج من البصرة، فاستخلف أخاه عثمان، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك ابن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته ((1)).
فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد، دعا بغلامٍ كان كاتباً عند أبيه يُقال له سرجون، فأعلمه بما ورد عليه، فقال: أُشير عليك بما تكره؟ قال: وإنْ كرهت. قال: استعملْ عُبيدَ الله بن زيادٍ على
ص: 13
الكوفة. قال: إنّه لا خير فيه _ وكان يبغضه _، فأشِرْ بغيره. قال: لو كان معاوية حاضراً، أكنتَ تقبل قوله وتعمل بقوله؟ قال: نعم. قال: فهذا عهد عُبيد الله على الكوفة، أمرني معاوية أن أكتبه فكتبتُه، وخاتمه عليه، فمات وبقي العهد عندي. قال: ويحك،فأمضِه!
وكتب: من عبد الله يزيد أمير المؤمنين! إلى عُبيد الله بن زياد، سلامٌ عليك، أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وأنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، ولك ما لَك وعليك ما عليك، وقد انتميتَ ونميتَ إلى كلّ منصب، كما قال الأوّل:
رفعتَ فما زلتَ السحاب
تفوقه
فما
لك إلّا مقعد الشمس مقعدُ
وقد ابتُلي بالحسين زمانُك من بين الأزمان، وابتُلي به بلدُك من بين البلدان، وابتُليت به بين العمّال، وفي هذه تُعتَق أو تكون عبداً تعبَّد كما تعبَّد العبيد، وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيلٍ بالكوفة، يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع إليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب، فإذا أتاك كتابي هذا فسِرْ حين تقرأه حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد ضممتُها إليك وجعلتُها زيادةً في عملك _ وكان عُبيد الله أمير البصرة _، وانظر أن تطلب مسلم بن عقيلٍ كطلب الحرد، فإذا ظفرتَ به فخُذ بيعته أو اقتله إنْ لم يبايع، واعلمْ أنّه لا عذر لك عندي وما أمرتُك به، فالعجل العجل والوحاء الوحاء، والسلام.
ص: 14
ثمّ دفع يزيد كتابه إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، وأمره أن يُسرعالسير إلى عُبيد الله.
فلمّا ورد الكتاب إلى عُبيد الله وقرأه، أمر بالجهاز وتهيّأ للمسير إلى الكوفة ...
فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة، ومعه أبو قُتيبة مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن عبد الله الهمداني ((1)).
فدعا يزيد مولىً له يُقال له: سرجون، قد كان يستشيره، فأخبره الخبر، فقال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبلْ منّي، إنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّها إيّاه.
وكان يزيد عليه ساخطاً وقد كان هَمّ بعزله، وكان على البصرة، فكتب إليه برضاه، وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله إنْ وجده ((2)).
ص: 15
وبلغ يزيد عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه، فولّى على الكوفة عُبيد الله بن زياد، وكان والياً على البصرة ((1)).
فكتب إلى عُبيد الله بن زياد ابن أبيه: قد ولّيتُك الكوفة مع البصرة، وأنّ الحسين قد سار إلى الكوفة، فاحترز منه، واقتُلْ مسلم بن عقيل.
فقدم عُبيد الله بن زيادٍ من البصرة، معه وجوه أهلها، فدخل على الاحتراس من الحسين، وأمره أن يحبس على الظنّة ويأخذ على التهمة ((2)).
فدعا يزيد كاتبَه سرجون، وكان يستشيره، فأخبره الخبر، قال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبلْ منّي، فإنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّه.
وكان يزيد ساخطاً عليه وهَمّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه
ص: 16
برضاه عنه، وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله ((1)).
فلمّا وصلَت الكتب إلى يزيد، دعا بسرحون مولى معاويةوشاوره في ذلك، وكان يزيد عاتباً على عُبيد الله بن زياد، فقال سرحون: أرأيتَ معاوية لو يشير لك كنتَ آخِذاً برأيه؟ قال: نعم. فأخرج سرحون عهد عُبيد الله بن زيادٍ على الكوفة، فقال: إنّ معاوية مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمَّ المصرَين إلى عُبيد الله. فقال يزيد: ابعث بعهد ابن زياد إليه.
وكتب إليه أنّ سرحون لا يقرأ كتابي هذا، حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخرزة، حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام ((2)).
فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد، دعا بغلامٍ كان كاتباً عند أبيه يُقال له: سرحون، فأعلمه بما ورد عليه، فقال: أُشير عليك بما تكره؟ قال: وإنْ كرهت. قال: استعمِلْ عُبيد الله بن زيادٍ على
ص: 17
الكوفة. قال: إنّه لا خير فيه _ وكان يبغضه _، فأشِرْ بغيره. قال: لو كان معاوية حاضراً، أكنتَ تقبل قوله وتعمل بقوله؟ قال: نعم. قال: فهذا عهد عُبيد الله على الكوفة، أمرني معاوية أن أكتبه فكتبتُه، وخاتمه عليه، فمات وبقي العهد عندي. قال: ويحك، فأمضِه!وكتب: مِن عبد الله يزيد أمير المؤمنين! إلى عُبيد الله بن زياد، سلامٌ عليك، أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وإنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، ولك ما لَك وعليك ما عليك، وقد انتميتَ ونميتَ إلى كلّ منصب، كما قال الأوّل:
رفعتَ فما زلتَ السحاب
تفوقه
فما
لك إلّا مقعد الشمس مقعدُ
وقد ابتُلي بالحسين زمانُك من بين الأزمان، وابتُلي به بلدُك من بين البلدان، وابتُليتَ به بين العمّال، وفي هذه تُعتَق أو تكون عبداً تعبَّد كما تعبَّد العبيد، وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيل بالكوفة، يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع إليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب، فإذا أتاك كتابي هذا، فسِرْ حين تقرأه حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد ضممتُها إليك وجعلتُها زيادةً في عملك _ وكان عُبيد الله أمير البصرة _، وانظر أن تطلب مسلم بن عقيلٍ كطلب الحرد، فإذا ظفرتَ به فخُذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع، واعلمْ أنّه لا عذر لك عندي وما أمرتك به، فالعجل العجل والوحاء الوحاء، والسلام.
ص: 18
ثمّ دفع يزيد كتابه إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، وأمره أن يُسرعالسير إلى عُبيد الله ((1)).
كان [مسلم بن عمرو] عظيمَ القدر عند يزيد بن معاوية، ووجّهه يزيد إلى عُبيد الله بن زيادٍ بتوليته إيّاه الكوفة عند توجُّه الحسين (علیه السلام) إليها ((2)).
فكتب يزيد على يدَي مسلم بن عمر الباهليّ إلى عُبيد الله بن زياد، وهو والي البصرة، وولّاه الكوفة مع البصرة، وأن يطلب مسلم ابن عقيلٍ فيقتله أو ينفيه، فالعجل العجل ((3)).
فولّى الكوفةَ عُبيدَ الله بن زيادٍ إضافةً إلى البصرة، وأمره أن يقتل مسلم بن عقيل ((4)).
ص: 19
قال أهل السيَر: لمّا بعث الحسينُ مسلمَ بن عقيل، بلغ الخبر إلى يزيد، فولّى الكوفة عُبيدَ الله بن زياد، وكتب إليه يزيد [وقد جمع بين الكتابَين]: إنّ الحسين قد توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس، واحبس على الظنّة وخُذ علىالتهمة ((1)).
فلمّا اجتمعَت الكتبُ عند يزيد، دعا سرجونَ مولى معاوية، فأقرأه الكتب واستشاره فيمن يولّيه الكوفة، وكان يزيد عاتباً على عُبيد الله بن زياد، فقال له سرجون: أرأيتَ لو نُشر لك معاوية، كنتَ تأخذ برأيه؟ قال: نعم. فأخرج عهد عُبيد الله على الكوفة، فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب.
فأخذ برأيه، وجمع الكوفة والبصرة لعُبيد الله، وكتب إليه بعهده، وسيّره إليه مع مسلم بن عمرو الباهليّ والد قُتيبة، فأمره بطلب مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه ((2)).
وكان يزيد أبغضَ الناس في عُبيد الله بن زياد، وإنّما احتاج إليه، فكتب إليه أنْ قد ولّيتُك الكوفة مع البصرة، وأنّ الحسين قد سار
ص: 20
إلى الكوفة، فاحترز منه، وأنّ مسلم بن عقيلٍ بالكوفة فاقتله. فعزل النعمان وولّى ابن زياد ((1)).
فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان والياً على البصرة _ بأنّه قد ولّاه الكوفة وضمّها إليه، وعرّفه أمْرَ مسلم بن عقيل وأمْرَ الحسين (علیه السلام) ، ويشدّد عليه في تحصيل مسلم وقتله (رضوان الله علیه) ((2)).
[عن ابن سعد]: وكان على الكوفة النعمان بن بشير، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين، فكتب إلى عُبيد الله _ وهو على البصرة _ فضمّ إليه الكوفة، وقال له: إنْ كان لك جناحان فطِرْ إلى الكوفة!
وكان يزيد ساخطاً على عُبيد الله بن زياد، فكتب إليه برضاه عنه، وأنّه ولّاه الكوفة مضافاً إلى البصرة، وكتب إليه أن يقتل مسلماً ((3)).
ص: 21
فبعث يزيد، فعزل النعمان عن الكوفة، وضمّها إلى عُبيد الله بن زيادٍ مع البصرة، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية، وكان يزيد يستشيره، فقال سرجون: أكنتَ قابلاً من معاوية ماأشار به لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال: فاقبلْ منّي، فإنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّه إيّاها. وكان يزيد يبغض عُبيدَ الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولّاه البصرة والكوفة معاً لما يريده الله به وبغيره.
ثمّ كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمتَ الكوفة فاطلب مسلم بن عقيل، فإنْ قدرتَ عليه فاقتله أو انفنه.
وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهليّ ((1)).
فأشار عليه سرجون ((2)) ... [بيّض له بالأصل نحو ثلاث ورقات].
فدعا يزيد مولىً له يُقال له: سرحون، فاستشاره، فقال له: ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد. وكان يزيد ساخطاً على عُبيد الله
ص: 22
وكان هَمّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه برضاه عنه، وأنّه قد أضاف إليه الكوفة، وأمره أن يطلب مسلم بن عقيل، فإنْ ظفر به قتله ((1)).
فجهّز يزيدُ عند ذلك إلى الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((2)).
وكتب إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان في البصرة _ كتاباً يستنهضه على الرحيل إلى الكوفة، ولا يدَعْ من نسل عليٍّ إلّا قتَلَه ((1)).
فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد (لعنه الله)، دعا بمولىً له يُقال له:سرجون، وقال له: ما تنظر الحسين (علیه السلام) كيف أرسل ابن عمّه إلى الكوفة يبايعهم؟ وبلغني أنّ النعمان ضعيفٌ فيهم. فأقرأَه الكتبَ الّتي أتته من الكوفة، فقال له: وما عندك من الرأي؟ فأشار عليه بتولية عُبيد الله بن زياد (لعنه الله) وعزل النعمان، ففعل ذلك، وضمّ إليه المصرَين: البصرة والكوفة.
فكتب إليه: أمّا بعد، فإنّي ولّيتُك المصرَين: البصرة والكوفة، فخُذْ بالرأي السديد واعمل النصح.
وأرسل إليه كتاباً ثانياً يقول فيه: من يزيد بن معاوية [لعنه الله] إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فقد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد اجتمعوا على البيعة للحسين [ (علیه السلام) ]، وقد كتبتُ إليك كتاباً، فإنّي لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرأَ منك، فإذا قرأتَ كتابي هذا فارتحلْ من وقتك وساعتك، وإيّاك والتواني، واجتهد، ولا تُبقِ من نسل عليّ بن أبي طالبٍ [ (علیه السلام) ] أحداً، واطلب مسلم بن
ص: 24
عقيلٍ [ (علیه السلام) ] فاقتله وابعَثْ إليّ برأسه، والسلام.
كتب هذا العهد في شهر ذي الحجّة سنة ستّين من الهجرة، وهي السنة الّتي قُتل فيها الحسين (علیه السلام) .
قال: ودفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، وقال له: امضِ إلى البصرة، وادفعْ كتابي هذا إلى عُبيد الله بن زياد [لعنه الله]((1)).
فأرسل يزيدُ عمرَ بن سعد بن أبي وقّاص إلى ابن زياد _ وكان في البصرة _ مع كتابٍ يأمره على الرحيل إلى الكوفة، ولا يدَعْ من بني عليٍّ إلّا قتَلَه ((2)).
فاضطرب حبلُ استقراره، ولجأ إلى أهل الرأي والمشورة من كبار أنصاره ومعاونيه، وكان أبرز مشاوريه سرجون مولى معاوية، وهو رجلٌ مجوسيٌّ يحقد على العرب، فأشار عليه بعزل النعمان وتولية عُبيد الله بن زياد، ويقال: إنّ سرجون كان يرعى الرابطة الّتي بينه وبين ابن زياد، لأنّ سرجون مجوسيّ العقيدة، وكانت مرجانة على عقيدته، فأراد أن يقدّم ابن مرجانة ويولّيه المصرَين، ليفتك
ص: 25
بالعرب، ويوقد بين المسلمين نار حربٍ يكون وقودَها المسلمون.
فكتب إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيلٍ يجمع الجموع ويشقّعصى المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخزرة، حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ((1)).
يبدو لمن تمعّن أنّ المتون التاريخيّة تذكر أسباباً ودوافع مختلفةً حملَت القرد المجدور على تسويغ الكوفة لابن الأَمَة الفاجرة، وجعلِها لقمةً واحدةً مع البصرة.
والظاهر من النصوص أنّ كلّ واحدٍ من المؤرّخين يحصر السبب فيما يذكره هو، ولا مانع من اجتماع الأسباب كلّها، وقد أخذ كلُّ واحدٍ من المؤرّخين أحدها وركّز عليه، وهي كافيةٌ جمعاً أو إفراداً لتحريك القرد المجدور وبعثه على اتّخاذ مِثل هذا القرار الخطير.
ويمكن إجمالها في البواعث التالية:
ربّما أفادت عبارة اليعقوبيّ في (تاريخه) أنّ القرد المجدور كان قد ولّى
ص: 26
ابنَ الأَمة الفاجرة العراقَ بمصرَيه، وإنّما كتب إليه وهو في البصرة يستحثّه ويستعجله لينتقل إلى المركز الثاني من مراكز ولايته، باعتبار أنّه استشعر ثَمّة تململاً واضطراباً وتخلخلاً في الأوضاع.
قال اليعقوبيّ:
وكان يزيد قد ولّى عُبيدَ الله بن زيادٍ العراق، وكتب إليه: قد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدُك من بين البلدان ... ((1)).
وقال الصبّان:
فعلم يزيد بخروج الحسين، فأرسل إلى عُبيد الله بن زيادٍ واليه على الكوفة يأمره بطلب مسلم وقتْلِه ((2)).
وهذا يعني أنّ الأحداث لم تدفع يزيد الفجور إلى تعيين ابن زيادٍ على الكوفة وضمّها إلى ولايته على البصرة، وإنّما كان هو والياً عليها من قبل، غاية ما فعله سليلُ البغاء أنّه أمره بالانتقال السريع من موضعٍ إلى موضعٍ آخَر داخل ولايته.
وهذا لا يتعارض مع وجود النعمان في الكوفة، فإنّ المرسوم سابقاً _ كما
ص: 27
هو واضحٌ _ أن يُنصَّب والٍ على ولايةٍ كبيرة، ويُنصَّب والٍ آخَر على جزءٍ من ولايته، ويكون الثاني خاضعاً للأوّل إداريّاً، بل ربّما عيّن الوالي على الولاية الكبيرة عمّالاً له على بعض الكور والمدُن والمراكز القريبة أو البعيدة عن مركز ولايته، تماماً كما فعل ابن زيادٍ نفسِه حين انتقل إلى الكوفة فخلّف عليهم أخاه.
أفادَت عبارة البلاذريّ والمسعوديّ أنّ القرد المجدور بلغه أنّ سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) قصد الكوفة وقد خرج من مكّة المكرّمة، فبادر إلى تولية ابن الأَمة الفاجرة على الكوفة.
قال البلاذريّ:
قال: بلغ يزيدَ بن معاوية أنّ الحسين (علیه السلام) يريد الخروج إلى الكوفة، فغمّه ذلك وساءه، فأرسل إلى سرجون مولاهم، وكان كاتبَه وأنيسه، فاستشاره فيمن يولّيه الكوفة ((1)).
وقال المسعوديّ:
واتّصل الخبر بيزيد [أي: خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى الكوفة]، فكتب إلى عُبيد الله بن زيادٍ بتولية الكوفة ((2)).
ص: 28
وهذا يعني أنّ ابن ميسون الفاجرة قد بادر إلى تولية نغل الأُمويّين ابنزيادٍ لمجرّد سماعه بخبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة _ حسب نصّ المسعوديّ _، ولمجرّد اطّلاعه على عزم الإمام الحسين (علیه السلام) وأنّه يريد الكوفة، وكأنّ تولية ابن زيادٍ لا علاقة لها بدخول المولى الغريب (علیه السلام) إلى الكوفة، وليس المقصود من انتقال ابن زيادٍ إلى الكوفة لمعالجة الأحداث المتسارعة الّتي ماجت الكوفة وهاجت بها بعد تشرّفها بأقدام المولى الغريب (علیه السلام) وقدوم سفير خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) إليها، وإنّما المقصود أساساً هو معالجة ما سيقع وما يُستقبَل فيها من أحداثٍ ويستجدّ فيها من أوضاعٍ إذا ما وصلها سيّد الشهداء (علیه السلام) .
ربّما يكون هذا السبب هو من فروع السبب السابق وتابعاً له وواقعاً في نفس السياق، بَيد أنّنا أفردناه تحت عنوانٍ خاصٍّ به؛ لوجود شيءٍ من الاختلاف الدقيق والإضافات المهمّة، وقد وردَت فيه النصوص على أنحاءٍ ثلاث:
صرّح ابن سعدٍ ومَن تبعه أنّ يزيد الفجور إنّما عزل النعمان وولّى ابن الأَمة الفاجرة لخوفه من النعمان أن لا يقدم على الحسين (علیه السلام) ، فاحترز للموقف وعزله، وجعل مكانه مَن يطمئنّ إليه ويجزم أنّه يقدم على الإمام
ص: 29
الحسين (علیه السلام) وعلى جدّه، وهو ممّن لا يتورّع ولا يخاف الله، وليس له إلّاً ولا ذمّة!
قال ابن سعد:
وكان النعمان بن بشير الأنصاريّ على الكوفة في آخِر خلافة معاوية، فهلك وهو عليها، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين، فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان!! ((1))
ومن الغريب! أن يطيع ابن سعدٍ ومَن تبعه ابن هند آكلة الأكباد ويخالف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، إذ ينسب زياداً إلى أبي سفيان، وقد قال النبيّ (صلی الله علیه و آله) : «الولد للفراش، وللعاهِر الحجَر»!
أفادت بعض المصادر أنّ القرد المجدور إنّما ولّى ابنَ الأَمة الفاجرة الكوفةَ حينما بلغه أنّ المولى الغريب (علیه السلام) دخل الكوفة وجعل يأخذ البيعة لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، فخاف من هذا الإقدام وتقديم سيّد الشهداء لسفيره (علیهما السلام) ، فانتدب جروه ابن زيادٍ ليطير بجناحَين فيعالج الموقف هناك.
قال ابن حبّان:
فلمّا اتّصل الخبر بيزيد بن معاوية أنّ مسلماً يأخذ البيعة بالكوفة
ص: 30
للحسين بن عليّ، كتب يزيد بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد، وهو إذ ذاك بالبصرة ... ((1)).
إبن الجوزيّ:
قال أهل السيَر: لمّا بعث الحسينُ مسلمَ بن عقيل، بلغ الخبرُ إلى يزيد، فولّى الكوفةَ عُبيدَ الله بن زياد ((2)).
إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:
إجتمع الشيعة على مسلم بن عقيل، وأخذ عليهم البيعة للحسين ابن عليّ (علیه السلام) ، فكتب والي الكوفة _ وهو يومئذٍ النعمان بن بشير _ إلى يزيد بن معاوية يُخبره بذلك، فجهّز يزيدُ عند ذلك إلى الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((3)).
وهذه الطائفة كأنّها ترتّب اتّخاذ قرار تولية ابن الأَمة الفاجرة على مجرّد دخول المولى الغريب (علیه السلام) إلى الكوفة، أو مبادرته إلى أخذ البيعة، بغضّ النظر عمّا جرى فيها من أحداث، فيلوح للناظر فيها أنّ ما فعله القرد المجدور إنّما كان احترازاً لما سيقع من أحداثٍ وتضعضُعٍ في الأوضاع، وتحسُّباً لما سيؤدّي إليه وجود المولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة وأخذه البيعة ودخول سيّد الشهداء (علیه السلام) عاقبةً إليها!
ص: 31
سنسمع بعد قليلٍ النصوصَ الّتي تفيد أنّ القرد المترهّل معاوية كان قد أعدّ جروه ابنَ الأَمة الفاجرة لمثل هذا اليوم، وقد كتب له الصكّ وأمّره، بيد أنّ الأجل لم يمهله حتّى ينفّذ التولية..
فيكون المحترز المتحسّب المترقّب لهذه الوقائع الّذي أعدّ لها الوحش المفترس النزق ابن زيادٍ إنّما هو معاوية مِن قبل أن ينزو القرد المجدور على الأعواد!
تفيد عبارة ابن قُتيبة ومَن تبعه والقاضي النعمان أنّ القرد المجدور لمّا سمع أنّ النعمان قد قال: لَابنُ بنت رسول الله أَحبُّ إلينا من ابن بنت بحدل، ساءه ذلك، فعزله واستبدله بابن الأَمة الفاجرة.
قال ابن قُتيبة، البيهقي، ابن عبد ربّه، الباعونيّ:
فبعث الحسينُ بن عليٍّ مسلمَ بن عقيلٍ إلى الكوفة يُبايعهم له، وكان على الكوفة النعمان بن بشير، فقال النعمان: لَابنُ بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أَحبُّ إلينا من ابن بحدل. قال: فبلغ ذلك يزيد، فأراد أن يعزله ... ((1)).
ص: 32
وقال القاضي النعمان:وكان على الكوفة يومئذٍ النعمان بن بشير، وانتهى ذلك إليه، فقال: إنّ ابنَ بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) أَحبُّ إلينا من ابن بنت بجدل ... وانتهى ذلك إلى يزيد (لعنة الله عليه)، فعزله، وولّى على الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((1)).
فهذه المجموعة من المصادر تفيد أنّ سببَ عزل النعمان واستبدالِه المقالُ الّذي صدر منه فبلغ القرد المجدور، وهو ينمّ عن عدم الوفاء ليزيد الخمور، والانحياز عنه والميل لغيره، فيكون عزله في الأصل _ على ما يظهر _ موقفَ شخصِ النعمان وما قاله، لا مجريات الأحداث..
وربّما كان هذا القول هو ما بلغ يزيد الفجور في قول أبي الفداء: «وبلغ يزيدَ عن النعمان بن بشير ما لا يرضيه، فولّى على الكوفة عُبيد الله بن زياد» ((2)).
قال القمّيّ (رحمة الله) :
وأمّا قول يزيد: وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ وقولٌ سيّء، فلعلّه إشارةٌ إلى ما رواه ابن قُتيبة الدينوريّ في كتاب (الإمامة
ص: 33
والسياسة): إنّه قال النعمان بن بشير: لَابنُ بنت رسول الله أَحبُّ إلينا من ابن بنت بحدل ((1)).
أوعزت جملةٌ من المصادر سببَ عزل النعمان واستبداله بابن الأَمة الفاجرة إلى ما كتبه عيون القرد المجدور وأذنابه في الكوفة، وما وصفوا به الوضع في الكوفة على العموم، وموقف النعمان على الخصوص، واقتراحهم عليه أن يستبدله إن كان له في سلطانه حاجة..
وسنقتصر على ذكر نصٍّ واحدٍ منها؛ باعتباره الأقدم حسب فحصنا، واشتماله على ما ذكره الآخَرون على اختلاف تعبيراتهم.
قال البلاذريّ:
فكتب وجوهُ أهل الكوفة: عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ، ومحمّد ابن الأشعث الكِنديّ، وغيرهما، إلى يزيد بن معاوية بخبر مسلم بن عقيل، وتقديمِ الحسين إيّاه إلى الكوفة أَمامه، وبما ظهر لهم من ضعف النعمان بن بشير وعجزه ووهن أمره، فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد ابن أبي سفيان بولاية الكوفة إلى ما كان يلي من البصرة ((2)).
ص: 34
ربّما كانت الأسباب المذكورة أعلاه متقاربةً أو حتّى متداخلةً أحياناً،بيد أنّها تختلف بنحوٍ ما عن بعضها البعض، ولكنّها جميعاً تفسّر إقدام القرد المجدور على عزل النعمان واستبداله بابن زياد، عدا السبب الأوّل الّذي يفيد أنّ ابن زيادٍ كان على العراق من قبل ولم تجدَّد له ولاية، وإنّما انتدبه يزيد واستعجله للانتقال إلى الكوفة، ليرقب مجريات الأحداث عن كثبٍ ويتّخذ القرارات ويباشر معالجة الموقف بنفسه.
ويمكن أن يُقال:
إنّ السبب الأخير المشهور، وهو ترتيب الاستبدال على كتب العيون
ص: 35
والملّاقين، ليس هو السبب الأوّل والأخير كما قد يفيده البعض، وإنّما هو في أقصى التقادير سببٌ بين الأسباب وجزءُ علّة..
كما يمكن أن يُقال:
إنّ لكلّ سببٍ من الأسباب المذكورة أثره في ما فعل، على فرض ثبوت ذلك السبب تاريخيّاً.. فالاستبدال كان نتيجةً لتراكم الأسباب، ولمّا كانت الأحداث متسارعةً متلاحقة، كان كلّ واحدٍ منها يبدو وكأنّه هو الباعث.
حينما تُفرَز المتون التاريخيّة وتُوزَّع بعد التأمّل، تنقسم إلى جملةٍ من الإفادات الّتي تختلف أحياناً اختلافاً تامّاً، وربّما أمكن الجمع بينها وحملهاعلى بعضها أحياناً أُخرى، وسنلاحظ ما ورد من نصوصٍ تعرّضَت للحديث عن استشارة يزيد في أمر ابن الأَمة الفاجرة:
المستشار الأوّل ((1)): رأي القرد المجدور
أفادت النصوص القديمة، كابن سعدٍ والدينوريّ واليعقوبيّ والمسعوديّ والقاضي النعمان وغيرهم، إمّا تصريحاً أو تلويحاً، أنّ القرد المجدور عمل برأيه ولم يستشِرْ أحداً، بل بادر إلى ذلك من تلقاء نفسه
ص: 36
عملاً بما رآه هو شخصيّاً.
قال ابن سعدٍ وغيره:
وكان النعمان بن بشير الأنصاريّ على الكوفة في آخِر خلافة معاوية، فهلك وهو عليها، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين، فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان! وهو على البصرة، فضمّ إليه الكوفة ((1)).
وقال الدينوريّ:
فلمّا ورد الكتاب على يزيد، أمر بعهدٍ فكتب لعُبيد الله بن زيادٍ على الكوفة، وأمره أن يُبادر إلى الكوفة ((2)).
وقال اليعقوبيّ:وكان يزيد قد ولّى عُبيدَ الله بن زيادٍ العراق وكتب إليه ((3)).
وقال المسعوديّ:
واتّصل الخبر بيزيد، فكتب إلى عُبيد الله بن زيادٍ بتولية الكوفة ((4)).
ص: 37
وقال ابن حبّان:
فلمّا اتّصل الخبر بيزيد بن معاوية أنّ مسلماً يأخذ البيعة بالكوفة للحسين بن عليّ، كتب يزيدُ بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد، وهو إذ ذاك بالبصرة ((1)).
وقال القاضي النعمان:
وانتهى ذلك إلى يزيد (لعنة الله عليه)، فعزله، وولّى على الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((2)).
وقال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ:
فجهّز يزيد عند ذلك إلى الكوفة عُبيدَ الله بن زياد ((3)).
وقال ابن حجَر:
وأمر يزيدُ ابنَ زياد ((4)).
نكتفي بهذا القدر من النصوص، ويمكن مراجعة المتون الأُخرى الّتيذكرناها قبل قليل ((5)).. وهي _ كما تلاحظ _ واضحة، ويأبى بعضها عن
ص: 38
الحمل على الاختصار.
ذكر ابن قُتيبة والبيهقيّ وابن عبد ربّه أنّ القرد المجدور استشار أهل الشام فيمن يستعمله على الكوفة، فأشاروا عليه بابن زيادٍ باعتبار أنّه مَن رضى به معاوية!
قال ابن قُتيبة والبيهقيّ وابن عبد ربّه:
فأراد أن يعزله، فقال لأهل الشام: أشيروا علَيّ، مَن أستعمل على الكوفة؟ فقالوا: أترضى برأي معاوية؟ قال: نعم. قالوا: فإنّ الصكّ بإمرة عُبيد الله بن زيادٍ على العراقَين قد كتبه في الديوان. قال: فاستعمله على الكوفة ((1)).
وقال الباعونيّ:
فبلغ ذلك يزيد، فقال: يا أهلَ الشام، أشيروا علَيّ مَن أستعمل على أهل الكوفة؟ قالوا: نرضى بما رضيت. فولّى [يزيدُ] عُبيدَ الله ابن زيادٍ على العراقَين ((2)).
ص: 39
لقد اعتاد الباعونيّ على النقل عن ابن عبد ربّه، فينتقل الكلام إلى الأخير، أمّا ابن قُتيبة فهو الأقدم، بَيد أنّ ثَمّة نقطتين ينبغي الإلتفات إليهما:
إنّ استشارة أهل الشام جَمعاً قد لا يكون له معنىً هنا؛ إذ كيف اطّلعوا جميعاً على صكّ إمارة العراقَين الّذي كتبه القرد المترهّل للقيطهم ابن زياد؟ فربّما ينصرف الفهم إلى أنّه استشار جلساءَه وندماءَه وأهل الرأي عنده ممّن يعدّهم وجوهاً للقوم والمعبّرين عن آراء مَن ورائهم، فسمّاهم المؤرّخ: أهلَ الشام.
يمكن الإفادة من هذا النصّ أنّ سرجون لم يكن هو المستشار الوحيد الّذي اعتمد القرد المجدور رأيه، وإنّما كان معه غيره، سواءً كان أهل الشام جمعاً أو الخواصّ منهم..
وعلى هذا، لا يكون (سرجون) موضوعاً مستقلّاً، ولا يكون رأيه هو الرأي الوحيد الّذي دفع يزيد القرد إلى اتّخاذ هذا القرار، وفي هذه النتيجة أهمّيّةٌ تسترعي انتباه بعض المعاصرين الّذين رتّبوا على رأي سرجون آثاراً ونتائج واستنتاجاتٍ خطيرةً جدّاً.
ذكر البلاذريّ وآخَرون ممّن تأخّر عنه أنّ القرد المجدور استشار
ص: 40
سرجون، وكان كاتبَه وأنيسه ومستشاره، فأشار عليه بابن الأَمة الفاجرة..
قال البلاذريّ:
وحدّثَني عبد الله بن صالح المقرئ، عن أبي زبيد، عن أبي حُصين قال: بلغ يزيدَ بن معاوية أنّ الحسين (علیه السلام) يريد الخروج إلى الكوفة، فغمّه ذلك وساءه، فأرسل إلى سرجون مولاهم، وكان كاتبه وأنيسه، فاستشاره ((1)).
وكذا أفاد الطبريّ، والشجريّ، والمُزّيّ، وابن حجَر، وابن أعثم، والمفيد، والخوارزميّ، وابن أبي طالب، والمحلّيّ، ومسكويه، والطبرسيّ، وابن الأثير، وابن كثير، وابن خلدون، وابن حجَر، وابن بدران، وكذا في (المقتل) المشهور لأبي مِخنف ((2)).
ص: 41
وقد اختلفَت المصادر فيما إذا كان سرجون قد أشار برأيه شخصيّاً، أو أنّه عمل بما قد عزم عليه معاوية من قبل، فأخبر يزيدَ بعزم أبيه ليس إلّا.
فهنا قولان:
أكّد البلاذريّ ومَن تلاه أنّ معاوية كان قد عزم على تولية ابن الأَمةالفاجرة على الكوفة، وقد مضى في عزمه حتّى كتب له العهد وختمه بخاتمه، وقد تردّد سرجون _ المستشار _ في عرض الأمر على يزيد؛ لعلمه ببغضه لابن زياد، فلمّا احتاج إليه عرض عليه رأي معاوية وعزمه، فاستجاب له وأنفذه عهد أبيه.
قال البلاذريّ:
فأرسل إلى سرجون مولاهم، وكان كاتبه وأنيسه، فاستشاره فيمن يولّيه الكوفة، فأشار بعُبيد الله ابن زياد، فقال: إنّه لا خير عنده. قال: أرأيتَ لو كان معاوية حيّاً فأشار عليك به، أكنتَ تولّيه؟ قال: نعم. قال: فهذا عهد معاوية إليه بخاتمه، وقد كان ولّاه، فلم يمنعني أن أُعلمك ذلك إلّا معرفتي ببغضك له. فأنفذَه إليه، وعزل النعمان بن بشير ((1)).
وصوّر الآخَرون المشهد بصورةٍ قريبةٍ جدّاً ممّا رواه البلاذريّ، كالطبريّ،
ص: 42
والشجريّ، والمزّيّ، وابن حجَر، وابن عبد ربّه، والمفيد، والخوارزميّ، وابن أبي طالب، والطبرسيّ، والخوارزميّ، وابن الأثير، والنويريّ ((1)).
يُضاف إلى هذه المجموعة ما رواه ابن قُتيبة والبيهقيّ ((2)) وابن عبد ربّه الّذي ذكرناه في المستشار الثاني، إذ أنّهم أشاروا عليه برأي معاوية، وأنّهكان قد كتب الصكّ لابن زيادٍ على العراقَين.
وبناءً على هذا، يكون معاوية قد أعدّ العدّة قبل هلاكه، إذ أنّه كان يعلم أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لن يبايع ليزيد، وقد أبى البيعة له رغم إلحاح معاوية، واعتباره بيعة يزيد قضاءً من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم ((3))، وتهديده وقوله: والله لئن لم يبايعوا ليزيد، لَأفعلنّ ولَأفعلنّ ((4))، وقد ذكر الحسين (علیه السلام) وأصحابه فقال: لَأقتلنّهم إنْ لم يبايعوا ((5))..
ص: 43
وما يُقال من أنّ معاوية كان يكره أن يقتل الإمام الحسين (علیه السلام) علناً، وأنّه يتجنّب ذلك إصلاحاً لدولته وتحرُّزاً لسلطانه وتخوُّفاً من زلزلة أركان مملكته، فإنّ ذلك كلّه _ إن صحّ _ مشروطٌ أن يكون دون ما يرومه ويعتبره قضاءً من قضاء الله الّذي لا يُردّ، أمّا بيعة يزيد الّذي منعه من إبصار رشده وأضلّه عن معرفة قصده، كما قال هو نفسه: ولولا هواي في يزيد لَأبصرتُ رُشدي وعرفتُ قصدي ((1))، فإنّها لا مجال فيها ولا تسامح في ديوان القرد المترهّل، وقد أقدم من قبل على قتل سيّد الأوصياء وأمير المؤمنين وسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسن الأمين (علیهما السلام) .
وقد رأيناه فعل الأفاعيل، وبذل الأموال، ورغّب ورهّب، حتّى جمع الناس على بيعة نغله طوعاً أو كرهاً قبل هلاكه، وقد أتينا على بيان ذلك فيظروف خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من المدينة.
أفاد ابن أعثم وآخَرون تأخرّوا عنه أنّ القرد المجدور استشار سرجون في أمر الكوفة، فأشار عليه بابن زياد، وأنّه ليس له إلّا هذا الخيار، وأنّه سيكفيه الكوفيّين.
ص: 44
قال ابن أعثم:
فلمّا اجتمعَت الكتب عند يزيد بن معاوية، دعا بغلام أبيه، وكان اسمه: سرجون، فقال: يا سرجون، ما الّذي عندك في أهل الكوفة؟ فقد قدم مسلم بن عقيل، وقد بايعه الترابيّة للحسين بن عليّ [ (رضی الله عنهما) ]! فقال له سرجون: أتقبل منّي ما أُشير به عليك؟ فقال يزيد: قُلْ حتّى أسمع! فقال: أُشير عليك أن تكتب إلى عُبيد الله بن زياد _ فإنّه أمير البصرة _، فتجعل له الكوفة زيادةً في عمله، حتّى يكون هو الّذي يقدم الكوفة فيكفيك أمرهم. فقال يزيد: هذا لَعمري هو الرأي ((1)).
وقال المحلّيّ:
فدعا يزيدُ مولىً له يُقال له: سرجون، قد كان يستشيره، فأخبره الخبر، فقال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيّاً؟ قال: نعم. قال:فاقبلْ منّي، إنّه ليس للكوفة إلّا عُبيد الله بن زياد، فولِّها إيّاه ((2)).
وذكر قريباً من هذا مسكويه وابن كثير وابن حجَر وابن بدران، وكذا في مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنف (المشهور) ((3)).
ص: 45
وهنا ثَمّة نكاتٌ مهمّةٌ يحسن الوقوف عندها على عجَل، وسنشير إليها ضمن الوقفات التالية:
تبيّن لنا ممّا مضى من تقسيمٍ للمتون التاريخيّة أنّ ثمّة مصادر لها ثقلها من حيث القِدَم والعدد، اتّفقَت _ ولو على نحو الإجماع المركَّب _ أنّ الرأي ليس هو رأي سرجون، كما سمعنا قبل قليلٍ تحت عنوان (مستشار يزيد).
ففي الطائفة الأُولى: كان الرأي هو رأي يزيد الفسوق نفسه، وهي مصادر قديمةٌ وعديدة.
وفي الطائفة الثانية: كان المستشار أهل الشام، ولو حُمل على إرادة أهل الحلّ والعَقد والرأي منهم.
وفي الطائفة الثالثة: الّتي ورد فيها اسم سرجون، فإنّها تنسب الرأي إلى معاوية، وإنّه كان قد عزم على تسليط ابن الأَمة الفاجرة، وقد كتبعهده وختمه بخاتمه قبل أن يهلك.
فلا يبقى إلّا ابن أعثم ومَن حذا حذوه، وهم _ كما سمعنا _ جزءٌ من الطائفة الثالثة، وغيرهم كثيرٌ ممّن لا ينسب الرأي إلى سرجون، سواءً كان قد نطق به سرجون نفسه بَيد أنّه كان يحدّث عن رأي معاوية، أو المصادر
ص: 46
الأُخرى الّتي لم تذكر له أيّ دورٍ لا من قريبٍ ولا من بعيد.
وكيف كان! فهو رأيٌ من بين الآراء، وموقفٌ من بين المواقف، وباعثٌ من بين البواعث الّتي ذكرناها قبل قليل.
لمّا حصر البعض اختيار ابن الأَمة الفاجرة ليُسلَّط على الكوفة في تلك الفترة برأي سرجون بالذات!! وإشارته إلى يزيد.. رتّبوا على رأيه الشخصيّ أُموراً كثيرةً واستنتاجاتٍ خطيرة..
فصوّره البعض باعتباره «ممثّل فصيل منافقي أهل الكتاب في البلاط الأُمويّ»، واحتمل أن يكون «قد أشار على معاوية أيضاً بنفس هذا الرأي، فتبنّاه معاوية، ثمّ أظهره سرجون ليزيد في الوقت المناسب على أنّه رأي أبيه» ((1))..
وذهب آخَرون إلى أنّ سرجون كان رجلاً مجوسيّاً يحقد على العرب،فأشار عليه بعزل النعمان وتولية عُبيد الله بن زياد، ويُقال: إنّ سرجون كان يرعى الرابطة الّتي بينه وبين ابن زياد، لأنّ سرجون مجوسيّ العقيدة، وكانت مرجانة على عقيدته، فأراد أن يقدّم ابن مرجانة ويولّيه المصرَين، ليفتك بالعرب، ويوقِد بين المسلمين نار حربٍ يكون وقودها المسلمون! ((2))
ص: 47
واستفاد بعضٌ مِن إشارة سرجون أنّ الروم هم الّذين خطّطوا لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ قاتله الأصليّ ليس بمسلمٍ بتاتاً، وإنّما هم البيزنطيّون!!! وزعموا أنّ سرجون أصلها: (السير، جون)، يعني: السيّد جون! وأنّ قاتل سيّد الشهداء (علیه السلام) هم الأُوربيّون!
وبغضّ النظر عن كون رأي سرجون فرعاً لأحد الاحتمالات المذكورة سلَفاً، فإنّ الأمر لا يبدو بهذا المستوى من التهويل، بل ربّما كان هو أهون من ذلك بكثير! وأنّ المسؤول الأوّل والأخير والمخطّط والمباشر هم أجلاف العرب والمشركين وقرود الأُمويّين، ومن أعانهم وسهّل لهم طريق النزو على منابر المسلمين وسلّطهم على رقاب الناس، وقد أخذوا ثأرهم من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في عترته الطيّبة، ونعق غرابهم بين الملأ وعلى رؤوس الأشهاد ينعى فطائس المشركين في بدرٍ وأُحُد، ويتمنّى أن يشهدوا يوم الحسين (علیه السلام) ، يوم تصفية الحساب واستيفاء الدَّين من النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ! ((1))
لقد كان يزيد في مركز السلطة أيّام أبيه، وكان القرد المترهّل يعبِّد له طريق النزو على الأعواد قبل هلاكه، حتّى أخذ له البيعة في جميع الأمصار، وكان يُرجع إليه كثيراً من الأُمور، وقد علّم الملّاقون أنّ قرده المدلَّل يزيد من أقرب
ص: 48
الوسائل للتقرّب إليه والتزلّف لديه، ولَطالما استخدمه مثلُ النعمان وغيرُه من النفعيّين طريقاً لدخول حضيرة معاوية والتماس رضاه ولحس ما عنده..
فمن المستبعَد جدّاً أن يكون معاوية قد كتب عهد ابن زيادٍ وختمه وعزم على توليته الكوفة، ثمّ لم يُخبِر يزيد المخمور أبداً، وهو الّذي كان قد حدّثه ورسم له الخطوط العامّة، بل والتفاصيل أحياناً لمستقبل أيّامه!
أجل، ربّما كانت أخبار الطائفة الأُولى الّتي ذكرناها تحت عنوان (المستشار الأوّل) أرجح، إذ يكون يزيد قد اتّخذ بنفسه قرار تسليط جروهم ابن الأَمة الفاجرة، وإنّما كان ذلك بتوصيةٍ من أبيه معاوية، وقد أكّد له سرجون ما عزم عليه من خلال عهده المختوم بختم معاوية.
وكيف كان، فنحن لا نريد إنكار دور سرجون في تشجيع القرد المجدور، وإنّما نشير إلى أنّ رأي سرجون لم يكن هو المنشأ والأساس، بحيث كانت تولية ابن الأَمة الفاجرة للكوفة تنتفي لو لم يكن سرجون، وأنّ سرجون هو ولا غيره قد أقنع يزيد برأيه الشخصي، بحيث نستطيع أن نثبت أنّخطّة (النصارى وأهل الكتاب) وخطّة (المجوس) ونزعات الشعوبيّة والقوميّة هي الّتي أودت _ في الحقيقة _ بحياة سيّد الشهداء (علیه السلام) تحقيقاً لأحقادهم!!!
وهذا كلّه أيضاً لا يعني أنّ أهل الكتاب والنصارى والمجوس لم يفرحوا بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) يومها، أو أنّهم لم يوظّفوا فعلة يزيد أو يساهموا فيها، فإنّنا في هذا المقام لا نريد أن ننفي أو نثبت ذلك، إذ أنّ الكلام يدور هنا حول موقف سرجون خاصّة!
ص: 49
دعا القردُ المجدور مسلمَ بن عمرو الباهليّ، ودفع إليه الكتاب، وحمّله عهد ابن الأَمة الفاجرة ((1))، وأمره بإغذاذ السير ((2)) والجدّ في الإسراع إلى ابن زياد ((3))..
وانفرد القندوزيّ بقوله:
فأرسل يزيدُ عُمرَ بن سعد بن أبي وقّاص إلى ابن زياد _ كان في البصرة _ مع كتابٍ يأمره على الرحيل إلى الكوفة ((4)).
والقندوزيّ يروي في كتابه عن (مقتل الحسين (علیه السلام)) لأبي مِخنَف النسخة المتداولة المشهورة مع اختلاف، لذا يبدو أنّ ثمّة سهواً أو خطأً قد
ص: 50
حصل.
وقد روى الطُّريحيّ فقال:
فلمّا قرأ يزيد الكتاب، أنفذ إلى الكوفة عُمرَ بن سعد (لعنه الله)، وكتب إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان في البصرة _ كتاباً يستنهضه على الرحيل إلى الكوفة ((1)).
فربّما كان تعبيراً من هذا القبيل فأصابه التشويش، والله العالم.
أمّا مسلم بن عمرو الباهليّ هذا، فقد كان من صنائع معاوية وابنه يزيد ((2))، وكان عظيم القدر عند يزيد بن معاوية ((3))، وكان نديماً ليزيد يشرب معه ويغنّيه ((4)).
وقد استصحبه ابن الأَمة الفاجرة معه إلى الكوفة، فكانت له مواقف مخزيةٌ مع المولى الغريب (علیه السلام) وناصره هانيء بن عروة، أبدى فيها فظاظةً وقساوةً وجلفيّةً تنمّ عن حقده على النبيّ وآله (صلی الله علیه و آله) ، وملقه الرخيص الممجوج لأولاد البغايا المتبذّلات، وقد أتينا على ذِكرها في مواضعها من دراساتنا عن المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .
ص: 51
وكان من ثَمّ في جيش مصعب بن الزبير، فضُرب حتّى ارتُثّ، فأتى بهخالد بن يزيد إلى عبد الملِك وقد أخذ له منه الأمان، فقيل له: أنت ميّتٌ لا ترجو الحياة لِما بك من الجراح، فما تصنع بالأمان؟ قال: ليسلم مالي ويأمن وُلدي بعدي. فلمّا وُضع بين يدَي عبد الملك قال: قطعَ الله يد ضاربك، كيف لم يُجهِز عليك؟ أكفرتَ صنائع آل حربٍ معك؟ فأمّنه على ماله ووُلده، ومات من ساعته ((1)).
هكذا هم هؤلاء الأوغاد.. ينعقون مع كلّ ناعق، ويميلون مع كلّ ريح، ويلهثون خلف كلّ مَن يحمل لهم كيس العظام الّتي تؤمّن لهم المال والحياة الرخيصة الذليلة!
يمكن تقسيم المتون الواردة في الباب _ من حيث الموضوع الأصليّ الّذي تتحدّث عنه الرسالة، والمحور الرئيس الّذي تؤكّد عليه، والمطلوب الأوّل الّذي تدعو لمحاربته وقتله واستئصال شأفته _ إلى عدّة مواضيع:
قال ابن سعد، ابن عساكر، مختصر ابن منظور:
ص: 52
فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان، وهو على البصرة،فضمّ إليه الكوفة، وكتب إليه بإقبال الحسين إليها، فإنْ كان لك جناحان فطِرْ حتّى تسبق إليها ((1)).
وقال اليعقوبيّ:
وكتب إليه: قد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي بلدُك من بين البلدان وأيّامُك من بين الأيام، فإنْ قتلتَه وإلّا رجعتَ إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، فاحذرْ أن يفوتك ((2)).
وقال ابن الجوزيّ:
فولّى الكوفةَ عُبيدَ الله بن زياد، وكتب إليه يزيد: إنّ الحسين قد توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس، واحبس على الظنّة وخُذْ على التهمة ((3)).
وقال الطُّريحيّ:
فلمّا قرأ يزيد الكتاب، أنفذ إلى الكوفة عُمر بن سعد (لعنه الله)، وكتب إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان في البصرة _ كتاباً يستنهضه
ص: 53
على الرحيل إلى الكوفة، ولا يدَعْ من نسل عليٍّ إلّا قتله ((1)).
وقال القندوزيّ:فأرسل يزيدُ عمرَ بن سعد بن أبي وقّاص إلى ابن زياد _ كان في البصرة _ مع كتابٍ يأمره على الرحيل إلى الكوفة، ولا يدَعْ من بني عليٍّ إلّاقتله ((2)).
* * * * *
تبدو في هذه النصوص المذكورة عدّة إشاراتٍ نذكرها فيما يلي:
ظهر الموضوع الأوّل ذو الأهمّيّة _ عند ابن سعدٍ ومَن روى عنه واليعقوبيّ وابن الجوزيّ وغيرهم _ يتركّز الحديث فيه عن سيّد الشهداء (علیه السلام) وحركته وقيامه، ودعوة نغل آل أبي سفيان للحاق بالكوفة على عجلٍ لمواجهة إقبال سيّد الشهداء (علیه السلام) عليها أو توجّهه نحوها.
أمّا ما ذكره الطريحيّ والقندوزيّ، فقد أتينا على معالجته سابقاً، وهما ينقلان عن (المقتل) المشهور لأبي مِخنَف.
من العجيب التأكيد على نسبة ابن زيادٍ إلى أبي سفيان، وربّما كان
ص: 54
ذلك نتيجة ما كان يسمّيه به القرد المجدور المولود في خيام البغاء، وهو نسبٌ لصيقٌ صفيقٌ مهلهل، لا يتوفّر على أيّ مقوّمٍ من مقوّمات اللصقوالثبات، بحيث يهدّده بنفيه وقلعه وإلغاء الوصلة به في أيّ لحظة، فيطلب منه المبادرة إلى ما أمره به وقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .. «وإلّا رجعتَ إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد» ((1))، بمعنى إعادته إلى حارة البغايا في الطائف.
أكّدَت هذه النصوص على توجيه ابن زيادٍ إلى الكوفة لغرض معالجة توجُّه سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها، فعبّر ابن سعدٍ ومَن تبعه بقوله: «وكتب إليه بإقبال الحسين إليها» ((2))، وقال اليعقوبيّ: «قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم» ((3))، وكذا عبّر ابن الجَوزيّ: «وكتب إليه يزيد: إنّ الحسين قد توجّه إلى العراق» ((4)).
ص: 55
وفي جميعها نسمع القرد المجدور يزقح ((1)) ويخنخن ((2))، ليُخبر ابنَ زيادٍ بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة متوجّهاً إلى العراق.. إلى الكوفة!
ويعضد هذه المجموعة ما ورد من تعبيراتٍ من قبيل قول الصبّان: «فعلم يزيد بخروج الحسين، فأرسل إلى عُبيد الله بن زيادٍ واليه على الكوفة يأمره بطلب مسلم وقتله» ((3))، وهذا ما يؤكّد قول اليعقوبيّ مِن تولّي ابن زيادٍ الكوفة من قبل ((4)).وقول البلاذريّ مسنداً قال: «لمّا بلغ عُبيدَ الله بن زيادٍ مسير الحسين ابن عليٍّ من الحجاز يريد الكوفة، وعُبيدُ الله بن زيادٍ بالبصرة» ((5)).
وقول البلخيّ: «وخرج الحسين بأهله ووُلده، وبلغ الخبر عُبيدَ الله بن زيادٍ وهو بالبصرة، فهمّ إلى الكوفة» ((6)).
وقول الذهبيّ: «وقال جرير بن حازم: بلغ عُبيدَ الله بن زيادٍ مسيرُ الحسين وهو بالبصرة، فخرج على بغاله هو واثنا عشر رجُلاً حتّى قدموا
ص: 56
الكوفة» ((1)).
إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يخرج من مكّة متوجّهاً إلى الأرض الموعودة إلّا يوم شهادة مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، أو يوم ندائه بالشعار في الكوفة على أقصى التقادير!
وإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُعلِن على رؤوس الأشهاد توجُّهَه إلى العراق إلّا قُبيل رحيله، ولم يكن ليصرّح بذاك في أيّامه الأُولى الّتي دخل فيها مكّة!
فربّما يُقال: إنّ هذا التوقيت لا ينسجم مع مجريات الأحداث، فيكون ثغرةً تمنع من اعتماد هذه النصوص مع ما امتازت به من تقدُّمٍ على سائر المؤرّخين إذا لحظنا ابن سعد!ويُمكن أن يُجاب:
إنّ القرد المجدور إنّما أخبر نغلهم بما سيقع، لأنّه قدّر من خلال ما وصلَته من الكتب والأنباء من مكاتبة أهل الكوفة لسيّد الشهداء (علیه السلام) منذ زمن معاوية بعد شهادة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، ومكاتبتهم له (علیه السلام) بعد هلاك القرد المترهّل، ومحاصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة وخروجه إلى
ص: 57
مكّة، وهو يعلم أنّه قد أخذ عليه أقطار الأرض وآفاق السماء، فليس له إلّا أن يتوجّه إليهم، وهذا ما تؤكّده الشواهد والمعطيات يومذاك، فبادر إلى تكليف ابن الأَمة الفاجرة بالمهمّة الأصليّة الّتي ألقاها عليه، وهي قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) واستئصال نسل أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ..
غير أنّ هذا التوجيه _ مع ما فيه من قُربٍ وقوّةٍ _ يبقى غير منسجمٍ مع فعليّة تعبير القرد المجدور: «وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم» ((1))، «إنّ الحسين قد توجّه إلى العراق» ((2))، وتأكيده بتحقّق ذلك (قد).
إلّا أن يُقال:
إنّه إنّما استخدم هذا النمط من التأكيد والإخبار بالتحقُّق، ليفيد حتميّةالخروج وإن لم يتحقّق في الخارج.
وهو بعيد، ويصعب إفادته من ظاهر السياق، ويشهد لهذه الصعوبة تعبير البلاذريّ والبلخيّ والذهبيّ الّتي تؤكّد أنّ ابن زيادٍ سمع بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) وهو في البصرة.
يمكن أن نصوّر الكتاب لمرحلةٍ متأخّرة، كأن يكون قد كتبه إليه وهو في الكوفة بعد شهادة المولى الغريب (علیه السلام) ، وهذا الفرض عصيٌّ على الانسجام
ص: 58
مع النصوص، وذلك لما تضمّن من حثّه على الإسراع إلى الكوفة والطيران نحوها بجناحَين! وتصريح بعضها أنّه قد سمع بخبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة وهو في البصرة.
إنّ التأمّل في النصوص وإمعان النظر فيها بعد رصفها جنباً إلى جنب، يقوّي في النظر احتمالاً يكاد يفرض نفسه فرضاً، ويتلخّص الكلام فيه بأن يُقال:
يظهر من المؤرّخين أنّهم خلطوا بين كتابَين أرسلهما القرد المجدور إلى جروه المسعور، أحدهما الكتاب الّذي يستنهضه فيه ليطير بجناحَين من البصرة إلى الكوفة ويكفيه أمرها ويقتل المولى الغريب (علیه السلام) ، والآخَرالكتاب الذي أرسله إليه بعد أن بعث ابن الأَمة الفاجرة رأس المولى الغريب (علیه السلام) ورؤوس أصحابه إليه، فكتب إليه يشكره، ويوصيه ويصدر له الأوامر للاستعداد والقيام بما يلزم لمواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد أتينا على ذِكرها وتفصيل الكلام فيها في كتابنا (مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع الشهادة) ((1)).
وربّما شهد لهذا الفرض بعض التعابير، من قبيل قول ابن سعد:
فكتب إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان، وهو على البصرة، فضمّ إليه الكوفة، وكتب إليه بإقبال الحسين إليها، فإنْ كان لك
ص: 59
جناحان فطِرْ حتّى تسبق إليها ((1)).
فهو يذكر أنّه قد كتب له بضمّ الكوفة إليه وهو في البصرة، ويذكر بعد ذلك أنّه كتب إليه بإقبال سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) إليها، وكذا يمكن الإفادة من تعبير ابن الجوزيّ..
فإذا قبلنا هذا الاحتمال واقتنعنا بهذا الفرض، تكون هذه الطائفة قد مزجَت الكتابين، ودمجَت بين الفترتين، وخلطَت بين المهمّتين، مهمّة الطيران إلى الكوفة بجناحَين لقتل المولى الغريب (علیه السلام) ، ومهمّة قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) والقضاء على نسل أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ، ويكون القرد المجدور قد أصدر أوامره في الكتاب الثاني بعد حركة الركب الحسينيّ منمكّة متوجّهاً نحو الأرض الموعودة.
لكن يبقى ما قد يعارض الفرض ويضعّف هذا الاحتمال، بل ربّما ينفيه، لوجود تعبيراتٍ عصيّةٍ على القول بالدمج، كما سمعتها قبل قليل، سيّما تعبير البلاذريّ والذهبيّ والبلخيّ.
وحينئذٍ يبقى هذا الإشكال مقاوماً ممعناً في تمريض هذه الطائفة من النصوص، مانعاً من نهوضها، حاجباً لها من رسم صورة المشهد الحاكي لتلك الفترة، مع وروده في المصادر القديمة!
ص: 60
قال الدينوريّ:
فكتب لعبيد الله بن زيادٍ على الكوفة، وأمره أن يبادر إلى الكوفة فيطلب مسلم بن عقيلٍ طلب الخرزة حتّى يظفر به، فيقتله أو ينفيه عنها ((1)).
وقال الطبريّ، الشجريّ، المزّيّ، ابن حجَر:
وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل، فيقتله إنْ وجده ((2)).
وقال الطبريّ:
وكتب إليه معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفةيخبرونني أنّ ابن عقيلٍ بالكوفة، يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيلٍ كطلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام ((3)).
وقال ابن أعثم:
ثمّ كتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فإنّ شيعتي من أهل
ص: 61
الكوفة كتبوا إليّ، فخبّروني أنّ مسلم بن عقيلٍ يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع عليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب، فإذا وصل إليك كتابي هذا فسِرْ حين تقرأه، حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد جعلتُها زيادةً في عملك وضممتُها إليك، فانظر أين تطلب مسلم بن عقيل بن أبي طالب بها، فاطلبه طلب الخرزة، فإذا ظفرتَ به فاقتله ونفّذ إليّ رأسه، واعلم أنّه لا عذر لك عندي دون ما أمرتُك به، فالعجل العجل والوحا الوحا، والسلام ((1)).
وقال ابن حبّان:
كتب يزيد بن معاوية إلى عُبيد الله بن زياد، وهو إذ ذاكبالبصرة، وأمره بقتل مسلم بن عقيل أو بعثه إليه ((2)).
وقال المفيد:
وكتب إلى عُبيد الله معه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيلٍ بها يجمع الجموع ليشقّ عصا المسلمين، فسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه،
ص: 62
والسلام ((1)).
وقال المحلّيّ:
فكتب إليه برضاه، وأنّه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله إن وجده ((2)).
وقال مسكويه:
وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله ((3)).
وقال الطبرسيّ:
فقال يزيد: ابعثْ بعهد ابن زيادٍ إليه. وكتب إليه أنّ سرحون لا يقرأ كتابي هذا، حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيلٍ طلب الخرزة، حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام ((4)).
وقال ابن شهرآشوب:فكتب يزيد ... إلى عُبيد الله بن زياد، وهو والي البصرة، وولّاه الكوفة مع البصرة، وأن يطلب مسلم بن عقيلٍ فيقتله أو ينفيه، فالعجل العجل ((5)).
ص: 63
وقال ابن الجوزيّ:
فولّى الكوفة عُبيدَ الله بن زيادٍ إضافةً إلى البصرة، وأمَرَه أن يقتل مسلم بن عقيل ((1)).
وقال ابن الأثير والنويريّ:
فأمره بطلب مسلم بن عقيل، وبقتله أو نفيه ((2)).
وقال الذهبيّ:
فكتب إلى عُبيد الله وهو على البصرة، فضمّ إليه الكوفة، وقال له: إنْ كان لك جناحان فطِرْ إلى الكوفة!
وكان يزيد ساخطاً على عُبيد الله بن زياد، فكتب إليه برضاه عنه، وأنّه ولّاه الكوفة مضافاً إلى البصرة، وكتب إليه أن يقتل مسلماً ((3)).
وقال ابن كثير:
وكان يزيد يبغض عُبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولّاه البصرة والكوفة معاً، لما يريده الله به وبغيره.
ثمّ كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمتَ الكوفة فاطلب مسلم بنعقيل، فإن قدرتَ عليه فاقتله أو انفنه ((4)).
ص: 64
وقال ابن حجر، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر:
فكتب إليه برضاه عنه، وأنّه قد أضاف إليه الكوفة، وأمره أن يطلب مسلم بن عقيل، فإن ظفر به قتله ((1)).
وقال تاج الدين العامليّ:
فأرسل إلى عُبيد الله بن زياد _ وكان والياً على البصرة _ يأمره بالمضيّ إلى الكوفة، وببذل الجهد في قتل مسلم بن عقيل ((2)).
* * * * *
تضمّنَت هذه الطائفة من النصوص جملةً من النقاط:
إتّفقَت جميعها على أمر القرد المجدور الصادر لجروه أن يلاحق المولى الغريب (علیه السلام) ويطلبه، ويبذل جهده في ذلك، وقد مثّل له ذلك بطلب الخرزة إمعاناً في التفتيش.
وربّما كان هذا التعبير وأمثاله من كلمات المؤرّخين والأُمويّين ألقى في الأذهان سابقةً أدّت إلى تكوّن صورةٍ عن تخفّي المولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة، وأنّه كان يفرّ من مكمنٍ إلى مكمنٍ ليتوارى عن عين ابن الأَمة
ص: 65
الفاجرة ويفلت من مخالبه، والجرو يلاحقه ويتتبّعه ويطلبه تماماً كما أمر القرد المجدور طلب الخرزة!!
لقد تبيّن لنا من خلال دراساتنا عن المولى الغريب (علیه السلام) أنّ الأمر ليس كما يصوّره الأُمويّون، بل كان على العكس تماماً، حيث كان زمام المبادرة بيد المولى الغريب (علیه السلام) دائماً، منذ أن دخل الكوفة حتّى اللحظة الأخيرة قُبيل أن ينعم برحيق الشهادة بين يدَي المحبوب، ولم يكن ليختفي من الجبان الرعديد في أيّ موقفٍ ولا مشهدٍ من مشاهده الّتي بقيَت مفخَراً لكلّ شجاعٍ أبيٍّ غيورٍ مقدام.. وقد سارت بحديثه الركبان، وسامرت به المخدّرات في خدورهن، ودخل عليه ثمانية عشر ألفاً يبايعونه في غير موضعٍ من الكوفة ((1)).
الصورة الثانية: قتله إن وجده ((1))، وجاء في لفظ اشتراط الظفَر بهلقتله ((2)).
الصورة الثالثة: أن يوثقه أو يقتله أو ينفيه ((3)).
الصورة الرابعة: قتله إن ظفر به، وإنفاذ رأسه إلى القرد المجدور ((4)).
الصورة الخامسة: قتل المولى الغريب (علیه السلام) ، أو بعثه إلى القرد المجدور ((5)).
الصورة السادسة: أمره بقتل المولى الغريب (علیه السلام) مطلقاً ((6))، وجاء في لفظٍ ببذل الجهد في قتله ((7)).
وكيف كان، فإنّ هذه المصادر اتّفقَت على طلب المولى الغريب (علیه السلام) وقتْلِه، وجعلَت لابن زياد خياراتٍ أُخرى سوى القتل وفق بعضها، مِن قبيل نفيه، وجاء في بعضها الأمرُ بترحيل المولى الغريب (علیه السلام) إلى القرد المجدور، أو إنفاذ رأسه المقدّس إليه.
ص: 67
فالمولى الغريب (علیه السلام) هو الطلبة الأُولى من دخول ابن الأَمة الفاجرة إلى الكوفة، وتترتّب على هذه النتيجة المهمّة أُمورٌ كثيرةٌ أتينا على ذِكرها والاستفادة منها في غير موضعٍ من دراساتنا عن المولى الغريب (علیه السلام) .
ويُضاف هنا أنّ ما فعله الجرو ابن زيادٍ من إرسال الرأس المقدّس ورأس هانيء وغيرهما إلى نغل معاوية لم يكن اعتباطاً، وإنّما كان بأمرٍ منيزيد الخمور نفسه! ((1))
روى الطبريّ وابن أعثم أنّ يزيد الكفر والفسوق كتب إلى ابن زيادٍ أنّه تلقّى من شيعته في الكوفة كتباً تخبره أنّ المولى الغريب (علیه السلام) يجمع الجموع، وعلّل ذلك بأنّه يريد شقّ عصا المسلمين!! وقد اجتمع عليه خَلقٌ كثيرٌ من شيعة أبي تراب! لذا انتدب ابنَ زيادٍ إلى الكوفة ليأتي أهلها ويكفيه أمرها ((2)).
هكذا هو دأب القرود وساستهم الّذين سلّطوهم على رقاب الناس.. كانوا ولا زالوا يقلبون الموازين، فيدعون الدعوة إلى إمام الهدى ونور الله الّذي لا يُطفأ والعروة الوثقى والشجرة الطيّبة الثابت أصلها وفرعها في السماء شقّاً لعصا المسلمين، والتعلّق بذيول القرود والضباع والثعالب
ص: 68
والكلاب والتمسّك بأعواد الشجرة الملعونة في القرآن واللهاث في غابة القرود المخمورة وحدةً وتماسكاً بين أواصر المجتمع المتهرّئ! ((1))
سمعنا قبل قليلٍ تعبير ابن سعدٍ وغيره عن ابن زيادٍ ونسبته إلى أبي سفيان، وهنا طلع علينا ابن كثيرٍ بعبارةٍ ترشح خُبثاً مقيّحاً وتَجنٍّ ودسيسةً كالحة، فقال:وكان يزيد يبغض عُبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولّاه البصرة والكوفة معاً، لما يريده الله به وبغيره ((2)).
فيزيد الآثم المجرم كان يبغض ابن زياد، بحيث كان يريد أن يعزله عن البصرة، وكان عازماً على إقصائه، بَيد أنّ الله جعله يجمع له البصرة والكوفة معاً، لِما يريده به وبغيره! فالله هو الّذي أراد ما أراد لابن زيادٍ وانتدبه لهذه المهمّة!! وهو الّذي أراد لغيره!! فما ليزيد من قدرةٍ على مخالفة إرادة الربّ ولا عليه أيّ تبعات، فالله هو الّذي أراد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) !!!
إنّها شنشنةٌ قديمةٌ وخنخنةٌ زَقَحَ بها أسيادُهم، فتنصّلوا عن كلّ
ص: 69
الجرائم، ونسبوها إلى ساحة القدس الإلهيّ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وتعساً وبؤساً للقوم المنكوسين المرتكسين في أوحال قيعان الرذيلة الأُمويّة من أمثال هؤلاء المؤرّخين!
قال البلاذريّ:
فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان بولاية الكوفة إلى ما كان يلي من البصرة ... وأمر عُبيدَ الله بطلب ابن عقيل، ونفيه إذا ظفر به أو قتله، وأن يتيقّظ في أمر الحسين بن عليٍّويكون على استعدادٍ له ((1)).
وقال أيضاً:
وكتب إليه: أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وإنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، وقد سمي بك يوماً إلى غايةٍ أنت فيها، كما قال الأول:
رفعتَ
فجاوزتَ السحاب وفوقه
فما
لَك إلّا مرقب الشمس مقعدُ ((2))
وقال القاضي النعمان:
وولّى على الكوفة عُبيدَ الله بن زياد، وأمَرَه بقتل مسلم بن عقيل،
ص: 70
وبأن يقطع على الحسين (علیه السلام) قبل أن يصل إلى الكوفة ((1)).
وقال السمهوديّ:
فكتب إلى عُبيدِ الله بن زياد ابن أبيه: قد ولّيتُك الكوفة مع البصرة، وأنّ الحسين قد سار إلى الكوفة، فاحترِزْ منه، واقتُل مسلم ابن عقيل ... وأمَرَه أن يحبس على الظنّة ويأخذ على التهمة ((2)).
وقال الخوارزميّ:
وكتب: من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى عُبيد الله بن زياد، سلامٌ عليك.أمّا بعد، فإنّ الممدوح مسبوبٌ يوماً، وإنّ المسبوب ممدوحٌ يوماً، ولك ما لَك وعليك ما عليك، وقد انتميتَ ونميتَ إلى كلّ منصب، كما قال الأوّل:
رفعتَ فما زلتَ السحاب تفوقه
فما لك إلّا مقعد الشمس مقعدُ
وقد ابتُلي بالحسين زمانُك من بين الأزمان، وابتُلي به بلدُك من بين البلدان، وابتُليتَ به بين العمّال، وفي هذه تُعتَق أو تكون عبداً تعبّد كما تعبّد العبيد.
وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيلٍ بالكوفة، يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين، وقد اجتمع إليه خَلقٌ كثيرٌ
ص: 71
من شيعة أبي تراب، فإذا أتاك كتابي هذا فسِرْ حين تقرأه، حتّى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد ضممتُها إليك وجعلتُها زيادةً في عملك _ وكان عُبيدُ الله أميرَ البصرة _، وانظُر أن تطلب مسلم بن عقيلٍ كطلب الحرد، فإذا ظفرتَ به فخُذ بيعته أو اقتله إنْ لم يبايع، واعلم أنّه لا عذر لك عندي، وما أمرتُك به فالعجل العجل والوحاء الوحاء، والسلام ((1)).
وقال سبط ابن الجَوزيّ:
فكتب إليه أن قد ولّيتُك الكوفة مع البصرة، وأنّ الحسين قدسار إلى الكوفة، فاحترِزْ منه، وأنّ مسلم بن عقيلٍ بالكوفة فاقتُله. فعزل النعمان، وولّى ابنَ زياد ((2)).
وقال ابن طاووس:
فكتب يزيدُ إلى عُبيد الله بن زيادٍ _ وكان والياً على البصرة _ بأنّه قد ولّاه الكوفة وضمّها إليه، وعرّفه أمْرَ مسلم بن عقيل وأمْرَ الحسين (علیه السلام) ، ويشدّد عليه في تحصيل مسلم وقتْلِه (رضوان الله علیه) ((3)).
وفي مقتل أبي مِخنَف (المشهور):
وأرسل إليه كتاباً ثانياً يقول فيه: من يزيد بن معاوية (لعنه الله)
ص: 72
إلى عُبيد الله بن زياد: أمّا بعد، فقد بلغَني أنّ أهل الكوفة قد اجتمعوا على البيعة للحسين (علیه السلام) ، وقد كتبتُ إليك كتاباً، فإنّي لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرَأَ منك، فإذا قرأتَ كتابي هذا فارتحلْ من وقتك وساعتك، وإيّاك والتواني، واجتهدْ ولا تُبقِ من نسل عليّ بن أبي طالبٍ (علیه السلام) أحداً، واطلبْ مسلم بن عقيل (علیه السلام) فاقتله وابعثْ إليّ برأسه، والسلام ((1)).
* * * * *
تضمّنَت النصوص المذكورة جملةً من المحاور، يمكن إجمالها بما يلي:
إنّ هذه الطائفة من النصوص تجمع الموضوعَين الأوّل والثاني، وكان بالإمكان أن تُقطَّع فتُدرَج حسب ما ورد فيها تحت أحد العنوانين، بَيد أنّنا أفردناها تحت عنوانٍ مستقلّ؛ باعتبار أنّها تختلف عن كِلا العنوانَين السابقَين من حيث الاجتماع.
فنصوص الموضوع الأوّل الّتي ذكرت سيّد الشهداء (علیه السلام) كموضوع محوريٍّ في الكتاب لم تتعرّض إلى ذِكر مسلم بن عقيل (علیه السلام) بتاتاً، وكذا نصوص الموضوع الثاني لم تذكر سيّد الشهداء (علیه السلام) بتاتاً.
فيما جاءت هذه الطائفة من النصوص لتجمع بين الموضوعَين
ص: 73
كمحورَين أساسَين تعرّض لهما كتاب القرد المجدور، وكأنّه رسالتان جُمعتا في نصٍّ واحد!
ذكر البلاذريّ تخيير ابن الأَمة الفاجرة بين قتْلِ المولى (علیه السلام) أو نفيِه، وصرّح ابن أعثم تخيير المولى الغريب (علیه السلام) بين البيعة وبين القتل، واتّفق الآخَرون على الأمر بقتله.
فهذه المجموعة كسابقتها تماماً فيما يتعلّق بشأن المولى الغريب (علیه السلام) .
لقد أخبر القرد المجدور في النصوص المذكورة بمسير سيّدالشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة، وأمره أن يحترّز منه ((1)) وأن يتيقّظ في أمره ويكون على استعدادٍ له ((2))، وأن يقطع على سيّد شباب أهل الجنّة الحسين (علیه السلام) قبل أن يصل إلى الكوفة ((3))..
وتواجهنا هنا في عبارة سبط ابن الجوزيّ نفس ما واجهنا في نصوص الموضوع الأوّل، إذ أنّه يذكر بالتحقيق مسير سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة، والحال أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) انطلق نحو العراق بعد دخول ابن الأَمة
ص: 74
الفاجرة إلى الكوفة ويوم استشهاد المولى الغريب (علیه السلام) أو يوم ندائه بالشعار..
وكيف كان، فإنّ الأوامر الصارمة والتشديد والتأكيد على الاستعداد لسيّد الشهداء (علیه السلام) كان محوراً مهمّاً لَطالما ركّز عليه القرد المجدور في مخاطباته، وقد أكّد هنا على التيقُّظ ومنع سيّد الشهداء (علیه السلام) من دخول الكوفة والوصول إليها، فبادر ابنُ الأَمة الفاجرة فزرع الصحراء خيلاً ورجالاً، وقد نظمها طولاً وعرضاً، وأحصى كلّ داخلٍ وخارجٍ إليها..
”وهذه الأوامر الصارمة تكشف عن أجواء الرعب الّتي خيّمَت على المنطقة الممتدّة في الصحراء الّتي يتحرّك فيها الركب الحسينيّ الفاتح، وتُنبئ عن الارتجاج والزلزال الهائل الّذي ضرب الكوفة وضواحيها ومخارجها وموالجها، فالعيون حادّةٌ محدّقة، تحصي الأنفاس في جميعالأرجاء، وتمتدّ إلى أقصى الخصوصيّات، وتخترق حريم العشائر والقبائل والدور والبيوت والقوافل، والحركة مرصودةٌ ولو كانت دبيباً في رمال المفاوز والصحارى والفيافي والقفار، والمسالح والمناظر والمراصد مزروعةٌ في كلّ اتّجاه، والربايا تجعل الطرق تحت الإشراف المباشر لملاحقات العساكر.. العساكر الّتي كانت تجوب الصحراء، تبحث عن الصيد السماويّ الأعظم، المتعطّشة للولوغ في الدماء الزاكية، المتألّبة على انتهاك حرم الله وحرم رسوله.. وقد أعدّت مخالبها وأنيابها لتقطيع أوصال العترة الطاهرة، واشتدّ ولعها وتجيّش
ص: 75
توحُّشها لاستخراج العلقة من جوف سيّد الشهداء (علیه السلام) “ ((1)).
أمر القرد المجدور جروه المسعور أن يُقدِم إلى الكوفة فيكفيه أمرها ((2))، وأن يحبس على الظنّة ويأخذ على التهمة ((3))، ف- ”أُطلقَت الوحوش الكاسرة على كلّ ما هبّ ودبّ في الكوفة، لتكون مجرد التهمة كافيةً لاستباحة الحريم، والظنّة موجبةً لسفك الدم..
لقد التهبَت شوارع الكوفة وأزقّتها، وانتشرت النار إلى أطرافها وأكنافها والمنازلِ والطرق المؤدّية إليها.. واستسلم الناس فيها للطاغية حينمااستخفّهم فأطاعوه.. فازدحمَت المناهج والسكك بالرجال، يتكالبون على التقرّب إلى ابن الأَمة الفاجرة، فارتفع الضجيج، وتعالى الصخَب، وانبثّت الضوضاء تلفّ الأجواء وتدوّي في الأرجاء، وتداخلَت أصوات قعقعة السلاح وصهيل الخيل ودبك حوافرها وسنابكها، وأزيز شحذ السيوف وبري الرماح وقدح النبال وزعقات الرجال يخبطون الأرض ويثيرون رمال الفيافي والصحراء، يستعدّون لارتكاب الجريمة العظمى“ ((4)).
ص: 76
فأغضبَتِ اللهَ في قتلِه
وأرضَتْ بذلك شيطانَها
عشيّة أنهضها بغيُها
فجاءته تركبُ طغيانَها
بجمعٍ من الأرض سدَّ الفروجَ
وغطّى النجود وغيطانَها ((1))
* * * * *
تضمّن الكتاب جملةً من الموارد اشتركَت فيها النصوص، وسنأتي على ذكرها مفهرسة، وسنُدخِل فيها شيئاً ممّا ذكرناه آنِفاً ليكون تلخيصاً لما سبق:
أوّلاً: ضمّ الكوفة إلى البصرة وتولية الجرو المسعور عليهما معاً، وربّما فعل ذلك لتبقى يد الجرو المتوحّش مفتوحةً في البصرة، ويبقى اسمهالمرعِب يهدّد كلّ مَن يفكّر بإحداث بلبلةٍ هناك.
ثانياً: الاستعجال والمبادرة وأن يطير بجناحَين إلى الكوفة، ليسابق الزمن قبل أن يستفحل الأمر ويدخلها سيّد الشهداء (علیه السلام) .
ثالثاً: تهديد ابن زيادٍ بالتنفيذ أو العودة إلى العبوديّة ودائرة أبناء الزنا، فيُعبَّد كما تُعبَّد العبيد ويُنسَب إلى أُمّه ويُعاد إلى حارة البغايا، ويبدو أنّ هذا البند بالخصوص دخل من الكتاب الّذي أرسله بعد بعث الرؤوس المقدّسة.
ص: 77
وكيف كان، ”فربّما كان هذا في ذيل تلك الأوامر الصادرة من ابن آكلة الأكباد، ليذكّره بماضيه ويحسّسه بمزايا الوضع الّذي هو يعيشه الآن، ويجعل له حافزاً إضافيّاً في قتاله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .. فالقضيّة لا تتوقّف بعدئذٍ عند أحقاد ابن زيادٍ وحوافزه الخاصّة ومنطلقاته وعقائده الأصليّة، وإنّما تحوّلَت إلى وجودٍ أو عدم.. أن يكون أو لا يكون.. سلطنةٌ وتفرعن، وإمارةٌ وحظوة، وعودٌ خاصٌّ يتميّز به من فروع الشجرة الملعونة، وحشرٌ مع قرودها المتدلّية من أغصانها في الجحيم.. أو عبوديّةٌ ورقّيّةٌ وطردٌ من حظيرة القرود!!
ومن هنا يمكن أن تلوح أحقاد يزيد واستعجاله في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتربّصه ليوم الثأر، وشدّة نهمه لشرب الدماء الزواكي والتشفّي، واستنهاض المشايخ الّذين أطاح رؤوسهم أميرُ المؤمنين (علیه السلام) في بدر ...“ ((1)).رابعاً: كتب إليه برضاه عنه، ومدح ابن زياد، وتحريضه للقيام بهذه المهمّة المشؤومة.
خامساً: أخبره أنّ شيعته من أهل الكوفة كتبوا إليه أنّ ابن عقيلٍ بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين!
سادساً: إخباره أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد خرج من مكّة متوجِّهاً إلى الكوفة بعد أن كاتبه أهلُها.
ص: 78
سابعاً: أخبره أنّ هذا اختباراً خاصّاً للجرو الأُمويّ، وأنّ بلده قد ابتُلي من بين البلدان وزمانَه من بين الأزمان.
ثامناً: الأمر بقتل المولى الغريب (علیه السلام) وقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأنْ لا يُبقي أحداً من نسل عليّ (علیه السلام) .
تاسعاً: القبض على مسلم (علیه السلام) ليُقتَل، أو يُحمَل إلى يزيد المتوحّش، أو يُنفى أو يوثَق، أو يخيّر بين البيعة للقرد أو القتل.
عاشراً: الاحتراس والحذر، ووضع المناظر والمسالح، ومراقبة كلّ متحرّكٍ داخلَ أو خارجَ الكوفة، ومسح الصحراء.
الحادي عشر: الحبس على الظنّة والأخذ على التهمة.
الثاني عشر: أن يقطع على سيّد الشهداء (علیه السلام) ويمنعه من دخول الكوفة.
الثالث عشر: أن يتيقّظ في أمر سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويكون له علىاستعداد.
الرابع عشر: الحذر من أن يفوته سيّد الشهداء (علیه السلام) .
حدّد تاريخ كتابة العهد في كتاب (المقتل) لأبي مِخنف المشهور المتداوَل، فقال:
كتب هذا العهد في شهر ذي الحجّة سنة ستّين من الهجرة، وهي
ص: 79
السنة الّتي قُتل فيها الحسين (علیه السلام) ... ((1)).
وبهذا حدّد لنا الشهر والسنة فقط.
فإذا كان الكتاب قد كُتب في شهر ذي الحجّة، فيلزم أن نطرح من شهر ذي الحجّة المسافةَ الزمنيّةَ الفاصلةَ بين كتابته وحمله من الشام إلى البصرة، ثمّ الفترة الزمنيّة الّتي قطع بها الجرو المسعور المسافة بين البصرة إلى الكوفة..
ويفيد أنّ دخول ابن زيادٍ إلى الكوفة لم يكن قبل شهر ذي الحجّة، وأنّ كلّ ما جرى من أحداثٍ بين المولى الغريب (علیه السلام) وبين الجرو المسعور كانت في أقلّ من أسبوع! بل ربّما حُصرت في يومٍ أو يومين على أقصى التقادير! إنْ أمكن ذلك، وهو غير ممكنٍ في الحسابات العاديّة، بعدملاحظة المسافة بين الشام والبصرة!
وقد أفاد ابن سعدٍ واليعقوبيّ ((2)) وغيرهما _ كما سمعنا قبل قليلٍ تحت عنوان (الموضوع الأوّل) في محتويات كتاب القرد المجدور إلى ابن زياد _ أنّ نغل معاوية كتب إلى جروه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد خرج من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة!
وأفاد المسعوديّ أنّه لمّا اتّصل خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة
ص: 80
إلى الكوفة بيزيد، فكتب إلى عُبيد الله بن زيادٍ بتولية الكوفة! ((1))
وممّا لا خلاف فيه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان قد تحرّك من مكّة منطلقاً إلى الأرض الموعودة في شهر ذي الحجّة، بغضّ النظر عن الاتفاق على خروجه يوم شهادة المولى الغريب (علیه السلام) أو يوم ندائه بالشعار.
والألفاظ _ كما تلاحظ _ تفيد تحقّق الخروج، وتكاد تأبى الحمل على استخدام لفظ التحقّق للتعبير عن العزم الجازم.
إلّا أن يُقال _ كما ذكرنا ثَمّة _ : إنّ المؤرّخين قد دمجوا بين كتابَي يزيد، كتاب التولية وكتاب الردّ على فعلة ابن الأَمة الفاجرة بعد شهادة المولى الغريب (علیه السلام) ، وهو ما يكاد يأباه سياقها.
فإذا قلنا بالدمج، يبقى التصريح الوارد في المقتل المشهور على شهرذي الحجّة متفرّداً لا شاهد عليه، وربّما يُقال: إنّ ما تفرّد به هذا الكتاب ولم تنهض به الشواهد لا يُعتدّ به.. والله العالم!
ص: 81
ص: 82
• وشخص إلى الكوفة، ومعه المُنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن الأعور الحارثيّ ومسلم بن عمرو الباهليّ، وحشمه وغلمانه ((1)).
• وحدّثَنا خلف بن سالم المخزوميّ وزهير بن حرب أبو خيثمة، قالا: حدّثَنا وهب بن جرير بن حازم، قال: لمّا بلغ عُبيدَ الله بن زيادٍ مسيرُ الحسين بن عليٍّ من الحجاز يريد الكوفة، وعُبيدُ الله بن زيادٍ بالبصرة، خرج على بغاله هو واثنا عشر رجُلاً ((2)).
• وسار، وخرج معه من أشراف أهل البصرة شريك بن الأعور والمنذر بن الجارود ((3)).
• ثمّ خرج من البصرة، واستخلف أخاه عثمان بن زياد، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ،
ص: 83
وحشمه وأهل بيته ((1)).
• وأمّا عيسى بن يزيد الكنانيّ، فإنّه قال فيما ذكر عمر بن شبّة، عن هارون بن مسلم، عن عليّ بن صالح، عنه قال:
لمّا جاء كتاب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد، انتخب من أهل البصرة خمسمئة، فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور، وكان شيعةً لعليّ، فكان أوّل من سقط بالناس شريك، فيقال: إنّه تساقط غمرةً ومعه ناس، ثمّ سقط عبد الله بن الحارث، وسقط معه ناس، ورجوا أن يلوي عليهم عُبيد الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى مَن سقط ويمضي حتّى ورد القادسيّة، وسقط مهران مولاه، فقال: أيا مهران، على هذه الحال إنْ أمسكت عنك حتّى تنظر إلى القصر، فلك مئة ألف. قال: لا، واللهِ ما أستطيع ((2)).
• فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن الأعور الحارثيّ، وحشمه وأهل بيته ((3)).
• قال عمر بن سعد، عن أبي مخنف: فحدّثَني المصعب بن زهير،
ص: 84
عن أبي عثمان: إنّ زياداً أقبل من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن عمرو بن الجارود وشريك بن الأعور، وحشمه وأهله ((1)).
• ثمّ خرج من البصرة، فاستخلف أخاه عثمان، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ، وحشمه وأهل بيته ((2)).
• ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ، وحشمه وأهل بيته ((3)).
• فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة، ومعه أبو قُتيبة مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن عبد الله الهمدانيّ ((4)).
• ثمّ خرج من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ، وحشمه وأهل بيته، وكان شريك شيعيّاً، وقيل: كان معه خمسمئة، فتساقطوا عنه، فكان أوّل من سقط في الناس
ص: 85
شريك، ورجوا أن يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة،فلم يقف على أحدٍ منهم ((1)).
• ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم عثمان بن زيادٍ أخاه، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((2)).
• ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد، وأسرع هو إلى قصر الكوفة ((3)).
• وقال جرير بن حازم: بلغ عُبيدَ الله بن زيادٍ مسير الحسين وهو بالبصرة، فخرج على بغاله هو واثنا عشر رجُلاً حتّى قدموا الكوفة ((4)).
• فسار ابن زيادٍ من البصرة إلى الكوفة.
• ثمّ خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ، فكان مِن أمره ما تقدّم ((5)).
• فلمّا قرأ الكتاب، تجهّز للمسير إلى الكوفة مُجِدّاً في مسيره ((6)).
ص: 86
• ثمّ خرج من البصرة يريد الكوفة، ومعه عشيرته ومواليه وأشراف أهل البصرة، منهم: مسلم بن عمرو الباهليّ، والمنذر بن الجارود، وشريك بن الأعور الحارثيّ، إلّا مالك بن مسمع، فإنّه تعذّر عنده وشكى وجَعاً في خاصرته، وقال: إنّي لاحقٌبالأمير ((1)).
• وجعل أخاه عثمان على البصرة وتوعّدها، وخرج إلى الكوفة ومعه شريك بن الأعور، وكان قد جاء من خراسان معزولاً عن عمله عليها، ومسلم بن عمرو الباهليّ، وكان رسولَ يزيدٍ إلى عُبيد الله بولاية المصرَين، وحُصين بن تميم التميميّ، وكان صاحبه الّذي يعتمد عليه، وجعل شريك يتمارض في الطريق ليحبسه عن الجدّ فيدخل الحسين الكوفة، فما عاج عليه، وتقدّم حتى دخلها ((2)).
• فتعجّل ابنُ زيادٍ المسير إلى الكوفة، مع مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود وشريك الحارثيّ وعبد الله بن الحارث بن نوفل، في خمسمئة رجُلٍ انتخبهم من أهل البصرة، فجدّ في السير، وكان لا يلوي على أحدٍ يسقط من أصحابه، حتّى أن شريك بن الأعور سقط أثناء الطريق، وسقط عبد الله بن الحارث رجاء أن يتأخّر ابن زيادٍ من أجلهم، فلم يلتفت ابن زيادٍ إليهم مخافة أن يسبقه الحسين إلى الكوفة، ولمّا ورد القادسيّة سقط مولاه مهران، فقال له
ص: 87
ابن زياد: إن أمسكتَ على هذا الحال فتنظر القصر، فلك مئةألف. قال: واللهِ لا أستطيع. فتركه عُبيد الله ((1)).
• وتعجّل ابن زيادٍ السفر إلى الكوفة في صباح تلك الليلة، وصحب معه مسلم بن عمرو الباهليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ وشريك بن عبد الله الحارثيّ الهمداني، وحشمَه وغلمانه، وجماعةً آخَرين انتخبهم من أهل البصرة ((2)).
• فانتخب من وجهاء البصرة وزعماء المصرَين جماعةً يستطيع بهم أن يسند قوّته، وأن يرسلهم في ميدان التخذيل ومجالس المفاوضات مع أبناء عمومتهم في الكوفة، وبالطبع إنّ هؤلاء الوفود لهم أثرهم في الاستجابة لما يطلبون (و لكل قادمٍ كرامة)، كما أنّه صحب من أبطال الجند المدرَّب خمسمئة فارساً.
• وسار ابن زيادٍ بسرعةٍ فائقة، ومعه حرّاسٌ أقوياء وجيشٌ بكامل عدّته، ومعه جماعةٌ من أشراف البصرة، فكان لا يمرّ بحيٍّ من أحياء العرب إلّا وظنّوا أنّ هذا الركب هو ركب الحسين (علیه السلام) ، وهم يستبشرون بقدومه، إذ سبق أن علموا بدعوة أهل الكوفة له، وكان استبشار الأعراب في البادية يبعث فيه نشاطاً لدخول الكوفة قبل أن يدخلها الحسين (علیه السلام) .
ص: 88
فسار بسرعةٍ هائلةٍ عجز عن مسايرته أصحابُه، ولم يلحقه إلّامولىً من مواليه اسمه مهران، وقد أعياه النصب في القادسيّة، فقال ابن زياد: يا مهران، على هذه الحالة إنْ أمسكتَ حتّى تنظر إلى القصر فلك مئة ألف. قال: لا واللهِ ما استطيع. وتأخّر مهران، وسار ابن زيادٍ بمفرده حتّى دخل الكوفة ((1)).
* * * * *
لقد خرج عُبيد القرود من البصرة مسرعاً مغذّاً، وطار بجناحَين طاعةً ولهفة، وكأنّي به استقرض معهما جناحَين آخَرين سروراً وفرحاً، امتثالاً لأمر سيّده وسائسه يزيد القرود، وشوقاً وشهوةً ليملأ بآل النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسادات البشريّة أكراشاً سُغباً وأجربةً جوفاً، وليشفي أحقاداً قديمةً وأضغاناً دفينة، وليتشفّى من ثاراتٍ لجراحٍ عميقةٍ لا تتداوى إلّا بالشماتة بالنبيّ وأمير المؤمنين (صلّى الله عليهما وآلهما أجمعين).
ونحن لا نروم هنا استقصاء الحدَث ومتابعته بتفاصيله، ونكتفي بالإشارات السريعة:
لا يتسنّى تحديد تاريخ خروج الجرو المسعور من البصرة بالضبط، لكن
ص: 89
يمكن أن نعرف أنّه كان بعد أن دفع إليه مسلم الباهليّ الكتاب والعهد مباشرة، وفق تعبير مثل الشيخ ابن شهرآشوب: «فلمّا وصل المنشور إلى ابن زياد، قصد الكوفة» ((1))، والسيّد ابن طاووس: «فتأهّب عُبيدُ الله للمسير إلى الكوفة» ((2))، وكذا في (المقتل) المشهور فرّع التأهُّب للمسير على أخذ الكتاب ((3)).
وصرّح جملةٌ من المؤرّخين _ منهم الطبريّ وابن أعثم والمفيد والفتّال وغيرهم _ أنّ ابن زيادٍ أمر بالجهاز والتهيُّؤ من وقته حين أخذ الكتاب وقرأه، ليبرز من الغد ويسير إلى الكوفة ((4)).
فإذا فهمنا من قولهم: (الغد)، اليوم الّذي يلي اليوم الّذي استلم فيه الكتاب، فهو لم يبُتْ سوى ليلته تلك في البصرة، ثمّ خرج مسرعاً إلى الكوفة امتثالاً لأمر سائسه المخمور..
ص: 90
وقد صرّح بذلك السيّد ابن طاووس وابن نما، قالا:
ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((1)).
يمكن تقسيم النصوص الّتي أشارت إلى عدد من أخرجهم الجرو المسعور معه من البصرة إلى الكوفة إلى عدّة أعداد:
نعني بالفاقد للتحديد أنّه لم يتضمّن أيَّ عددٍ يمكن الارتكان إليه واحتسابه، وإنّما يذكر النصّ بعض الأسماء أو العناوين العامّة، من قبيل الحشم والغلمان.
إقتصرت بعض المصادر على التصريح ببعض الأسماء، وأغفلَت الحديث عن غير ما صرّحوا به، من قبيل الدينوريّ الّذي قال: «وخرج معه من أشراف أهل البصرة شريك والمنذر» ((2))، وأضاف الخوارزميّ: مسلم
ص: 91
الباهليّ ((1))، وأفرد ابن كثير الباهليّ بالنصّ على اسمه دون غيره ((2)).
ومن الواضح بجلاءٍ أنّه لم يخرج مع الفرد أو الفردين أو الثلاثة الّذين ورد التصريح بأسمائهم، إذ أنّ طبيعة سفر مثل هؤلاء الطواغيت الجبناء أن يخرجوا بخدمٍ وحشمٍ وحمايةٍ وحرس، بيد أنّ هؤلاء المؤرّخين اقتصروا على ذكر الشخصيّات المعروفة، وتركوا الإشارة إلى التوابع اعتماداً علىالمقتضيات.
وبهذا لا تتعارض أخبار هذا القسم مع ما سنسمعه فيما يلي من أخبار القسم الثاني.
أضافت مصادر هذا القسم إلى الأسماء الثلاثة المذكورة آنفاً بعضَ العناوين الأُخرى الّتي تشمل جملةً من الراحلين مع ابن الأَمة الفاجرة، من غير تحديدٍ لعددهم، من قبيل عنوان (حشمه وغلمانه) ((3)) الّذي ذكره البلاذريّ، و(حشمه وأهل بيته) أو (أهله) ((4)) الّذي ذكره الطبريّ وابن أعثم
ص: 92
وبعض مَن تلاهما.
وفي تعبير (المقتل) المشهور لأبي مِخنَف غرابةٌ مليحة، إذ يقول: «ومعه عشيرته!! ومواليه وأشراف أهل البصرة» ((1))..
خروج الموالي معه طبيعيّ، وللمولى أن يُخرج معه مَن يشاء من مواليه حسب حاجته إليهم، ويمكن أن نفهم خروج أشراف أهل البصرة أنّه تعبيرٌ عن بعضهم، سيّما وأنّه صرّح ببعض الأسماء.
أمّا خروج عشيرته معه، فلا نعرف له معنى!! أيّ عشيرةٍ يعني؟ وهو سليل الفواحش، ووليد خيام الدعارة.. فلْيذكر لنا التاريخ له عمّاً أو خالاً أوجدّاً، فربّما أعاننا على معرفة عشيرته! إلّا أن يكون أولاد الزنا كلّهم عشيرةً واحدةً ينتمي إليهم كلّ نغلٍ في شرق الأرض وغربها!!!
وكيف كان، فإنّ هذا القسم أيضاً لا يحتوي على عددٍ محدَّدٍ يمكن الارتكان إليه والاعتماد عليه، لنعرف من خلاله حجم ركب الشؤم واللؤم المنطلق إلى الكوفة للصدّ عن سبيل الله ومحاربة أوليائه وارتكاب الجريمة العظمى وفجع الكائنات بالجناية الكبرى.
ص: 93
ذكرت هذه الطائفة من المصادر رقمين:
الرقم الأوّل هو ما ذكره البلاذريّ في إحدى رواياته، وتبعه الذهبيّ في روايةٍ عن جرير بن حازم، وأنّه خرج على بغاله هو واثنا عشر رجُلاً حتّى قَدِم الكوفة ((1)).
وهذا الرقم لا يكاد يُصدَّق، إلّا أن يقال: المقصود بالرجال هنا هم الرؤوس والشخصيّات، ومَن يعبّر عنهم المؤرّخ بالوجوه والأشراف، وقد أغفل ذكر الحشم والخدم والحرس ومَن كان على شاكلتهم.
وفيه شيءٌ من الغرابة من حيث خروجه على البغال!أجل، ربّما كان قد فعل ذلك واختزل الأفراد الخارجين معه بناءً على هذا الخبر، وخرج على البغال ليتنكّر في الطريق أيضاً، ويخرج في هيئة أعرابيٍّ لا يلفت النظر، لأغراضٍ أمنيّةٍ ودوافع الجبن والخوف وغيرها.
من بين كلّ المصادر الّتي مرّ ذكرها، انفرد الطبريّ في إحدى رواياته _ حسب الفحص _ بذكر عدد الخمسمئة، وعرّفهم أنّهم منتخَبون اختارهم
ص: 94
الجرو المسعور من أهل البصرة، وصرّح بأسماء بعضهم.
قال الطبريّ:
وأمّا عيسى بن يزيد الكنانيّ، فإنّه قال فيما ذكر عمر بن شبّة، عن هارون بن مسلم، عن عليّ بن صالح، عنه قال: لمّا جاء كتاب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد، انتخب من أهل البصرة خمسمئة، فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور ... ((1)).
ثمّ ذكر هذا العدد من بعده ابن الأثير والنويريّ بعد أن ذكرا عبارةً تنتمي إلى القسم الثاني من العدد الأوّل، أي أنّهما لم يحدّدا العدد، وذكرا الحشم وأهل بيت الجرو المسعور، ثمّ أرسلا على نحو ال- (قيل) ما ذكره الطبريّ بعنوان: «وأمّا عيسى بن يزيد الكنانيّ، فإنّه قال ...»، فقالا: «وقيل:كان معه خمسمئة» ((2)).
وكأنّ عبارة الطبريّ أيضاً عند نقله للخبر مسنداً يُشَمّ منها رائحة ال-- (قيل) أيضاً.
إنّ أعلى الأرقام المذكورة فيمن خرج مع الجرو المسعور، هو الرقم الّذي انفرد به الطبريّ وامتاز عمّن سبقه، أمّا مَن لحقه من قبيل ابن الأثير
ص: 95
والنويريّ، فإنّهما قدّما شيئاً آخَر، ثمّ نقلا على عهدة ال- (قيل) رقم الخمسمئة، من دون تحديدٍ لهويّتهم، فيما حدّد الطبريّ هويّتهم وأنّهم من أهل البصرة.
ولقد اكتفى الطبريّ بهذا التحديد العامّ لهويّتهم، ولا ندري من أين استفادوا أنّه «صحب من أبطال الجند المدرَّب خمسمئة فارساً»، وأنّه «سار ابنُ زيادٍ بسرعةٍ فائقة، ومعه حرّاسٌ أقوياء وجيشٌ بكامل عدّته» ((1)).
والحال أنّ الجمع بين قول من تقدّم الطبريّ _ من قبيل البلاذريّ ((2)) الّذي حصر العدد باثنَي عشر رجُلاً _ وبين قول الطبريّ يحتاج إلى مؤونةٍ وتحرٍّ، فكيف يعدّ عدد (الخمسمئة) المرسَل كقولٍ بين الأقوال حتّى عند من رواه جيشاً كامل العدّة؟!ثمّ هل يُعدّ هذا العدد جيشاً كافياً للإقدام على أرضٍ مسبعةٍ تتربّص بالجرو وأذنابه، وقد تزايد عددهم وبلغ ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون كما يروون؟!
وفيهم مَن هو شيعةٌ لا يركن إليه ابن الأَمة الفاجرة، ومَن هو في عِداد
ص: 96
الموالي والخدم والحشم والحرس الشخصيّ وغيرهم!
والجميل في القصّة أنّ المؤلّف _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ نفسَه يستمرّ في حديثه فيقول: «فسار [يعني الجرو المسعور] بسرعةٍ هائلة، عجز عن مسايرته أصحابُه، ولم يلحقه إلّا مولىً من مواليه اسمه مهران، وقد أعياه النصَب في القادسيّة، فقال ابن زياد: يا مهران، على هذه الحالة إنْ أمسكتَ حتّى تنظر إلى القصر، فلك مئة ألف. قال: لا والله ما استطيع. وتأخّر مهران، وسار ابن زيادٍ بمفرده حتّى دخل الكوفة»! ((1))
ولا ندري كيف انطلق ابن الأَمة الفاجرة بهذه السرعة المذهلة الّتي أعيَت الجميع، وهو _ حسب ما رواه البلاذريّ والذهبيّ _ قد خرج على بغاله ((2))، ولم ينصّ غيرهما على وسيلته الّتي امتطاها.
أجل، ربّما يُقال: إنّ هذه السرعة معهودةٌ في القرود وجرائها!!ولكن، ما يصنع باصطحاب (أبطال الجند المدرَّب) وقد دخل الكوفة مفرداً؟!
يمكن حصر الأسماء والعناوين الواردة في المصادر الّتي تعرّضَت لذلك
ص: 97
فيما يلي:
وشريك بن الأعور الحارثيّ الهمدانيّ من خواصّ أصحاب أميرالمؤمنين (صلوات الله عليه)، شهد معه الجَمَل وصفّين، قويّ الإيمان صلب اليقين، وكان ردءاً لجارية بن قدامة السعديّ في محاربة ابن الحضرميّ بالبصرة، ولمعقل بن قيس الرياحيّ في محاربة الخوارج بالكوفة، وهو في ثلاثة آلاف مقاتلٍ من أهل البصرة.
جاء من البصرة مع ابن زيادٍ إلى الكوفة، فمرض فنزل دار هاني أيّاماً ...
ويُستفاد من كلام المحدّث القمّيّ في (تتمّة المنتهى) ((1)) أنّ هذا متّحدٌ مع شريك بن أعور السلَميّ، وأنّه مات قبل شهادة مسلم وهاني (علیهما السلام) ودُفن في الكوفة ((2)).
وقال السيّد الخوئيّ في (معجم الرجال):
شريك الأعور السلَميّ النخَعيّ، من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، رجال الشيخ.
وعن ابن شهرآشوب وغيره: أنّ شريك بن الأعور دخل على معاوية، فقال له: واللهِ إنّك لَشريك، وليس لله من شريك، وإنّك لَابن الأعور، والبصير خيرٌ من الأعور، وإنّك لَدميم، والجيّد خيرٌ من الدميم، فكيف سُدتَ قومَك؟! فقال له شريك: إنّك لَمعاوية، وما
ص: 99
معاوية إلّا كلبةٌ عوَتْ واستعوَتْ، وإنّك لَابن صخر، والسهلخيرٌ من الصخر، وإنّك لَابن حرب، والسلم خيرٌ من الحرب، وإنّك لَابن أُميّة، وما أُميّة إلّا أُمّةٌ صغرت فاستصغرت، فكيف صرتَ أمير المؤمنين؟!
فغضب معاوية، فخرج شريك وهو يقول:
أيشتمني
معاويةُ بن صخرٍ
وسيفي
صارمٌ ومعي لساني
وحولي
مِن ذوي يمنٍ ليوثٌ
ضراغمةٌ
تهشّ إلى الطعانِ؟
فلا
تبسطْ علينا يا ابنَ هندٍ
لسانَك إنْ بلغتَ ذُرى الأماني
وإنْ
تكُ للشقاء لنا أميراً
فإنّا
لا نقرّ على الهوانِ
وإنْ
تكُ في أُميّة مِن ذُراها
فإنّا
في ذُرى عبد المدانِ
أقول: إنّ شريكاً هذا هو ابن الأعور على ما عرفت، وعليه فسقوط كلمة (الابن) في عبارة الشيخ من سهو القلم، أو من غلط النُّسّاخ.
ثمّ إنّه يظهر من بعضهم أنّ الأعور والد شريك اسمه الحارث، ومن ثَمّ يُطلَق على شريك: الحارثيّ، أحياناً ((1)).
مسلم بن عمرو الباهليّ، ذكره البلاذريّ والطبريّ، ومَن تلاهما ((2)).
ص: 100
أتينا على ترجمته وذِكر بعض فضائحه وقبائحه تحت عنوان (حاملالكتاب).
عبد الله بن الحارث بن نوفل، انفرد بذكره الطبريّ ((1)).
وفي (الطبقات) لابن سعد: عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، وأُمّه: هند بنت أبي سفيان بن حرب بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ((2)).
عدّه الشيخ من أصحاب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ((3))، وأنفذه الإمام الحسن (علیه السلام) إلى معاوية ((4))، وحبسه ابن زيادٍ مع المختار
ص: 101
ومِيثم، وكانت للمختار معه كلمات ((1)).
كانت أُمّه هند أُخت معاوية ترقّصه وتسمّيه: (ببة)، فاشتهر بهذا اللقب.
ولّاه ابن الزبير على البصرة، ولمّا قامت فتنة ابن الأشعث خرج إلى عمان هارباً من الحَجّاج، فتُوفّي فيها ((2)).
ويُحتمَل أن يكون المراد من عبد الله بن الحارث بن نوفل، الهمدانيّ ((3)) الّذي استُشهِد في الكوفة.
قال الحائريّ: قال العسقلانيّ في (الإصابة): هو عبد الله بن الحارث ابن نوفل بن عمرو بن الحارث بن ربيعة بن بلال بن أنس بن سعد الهمدانيّ ((4)).وقال المحلّاتيّ المعاصر في كتابه ((5)): عبد الله بن الحارث بن نوفل بن
ص: 102
عمرو بن ربيعة بن بلال بن أنس بن سعد الهمدانيّ ((1)).
له إدراك، وشهد صفّين مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ((2))، قاله ابن الكلبيّ ((3))، وهكذا في (الإصابة) ((4)).
بايع مسلمَ بن عقيل، وكان يأخذ البيعة من أهل الكوفة للحسين (علیه السلام) ((5)).
وفي الطبريّ:
أنّ المختار بن أبي عُبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم، خرج المختار برايةٍ خضراء، وخرج عبد الله برايةٍ حمراء وعليه ثيابٌ حُمر، وجاء المختار برايته فركزها على باب عمرو بن حريث، وقال: إنّما خرجتُ لأمنع عَمراً، وإنّ ابن الأشعث والقعقاع ابن شور وشبث بن ربعيّ قاتلوا مسلماً ... وإنّ عُبيد الله أمر أن يطلب المختار وعبد الله بن الحارث، وجعل فيهما جعلاً، فأُتي بهما فحُبسا ((6)).
ص: 103
وقال ابن الأثير والنويريّ:وقيل: وكان فيمن خرج معه المختار بن أبي عُبيد وعبدُ الله بن الحارث بن نوفل، فطلبهما ابن زيادٍ وحبسهما ((1)).
وقال ابن كثير:
وسمع مسلم بن عقيلٍ الخبر، فركب ونادى بشعاره: يا منصور أَمِتْ! فاجتمع إليه أربعة آلافٍ من أهل الكوفة، وكان معه المختار بن أبي عُبيد ومعه رايةٌ خضراء، وعبد الله بن نوفل بن الحارث برايةٍ حمراء ((2)).
ولمّا قُتل مسلم، أحضره عُبيد الله فسأله: مَن أنت؟ فلم يتكلّم، فقال: أنت الّذي خرجتَ برايةٍ حمراء وركزتها على باب دار عمرو بن حريث وبايعت مسلماً، وكنت تأخذ البيعة من الناس للحسين؟ فسكت، فقال عُبيد الله: انطلقوا به إلى قومه، فاضربوا عنقه. فانطلقوا به، فضُربت عنقه (رضوان الله علیه) ((3)).
حُصين بن تميم التميميّ، انفرد بذكره السماويّ (رحمة الله) ، وقال: وكان صاحبه الّذي يعتمد عليه ((4)).
ص: 104
يبدو أنّه نفسه المعروف في كتب التاريخ بالحُصين بن تميم من دون نسبة، وهو (عليه لعائن الله) من أركان عسكر السقيفة مجرمي التاريخ، وكان على شرطة ابن الأَمة الفاجرة، وقد سلّطه على بيوت الكوفة ليستبرئها، وهوالّذي كان يجوب الصحراء ملاحقاً الركب الفاتح، وهو الّذي رمى سيّد الشهداء (علیه السلام) بسهم.. وفعاله الشنيعة تقطّع القلب وتهزّ العرش، وقد أتى ما لم تأتيه الوحوش الكاسرة، فلعنة الله عليه وعلى مَن استعمله.
هنا، سوى مهران الّذي جاء في لفظ الطبريّ عندما سقط في الطريق، فاستحثّه ابن الأَمة الفاجرة واستنهضه، فلم يُطِقِ الاستمرار معه رغم الجائزة الّتي عيّنها له..
بيد أنّهم صرّحوا ببعض الأسماء، من قبيل: ذكوان، ومعقل.. ولا ندري ما إذا كانوا هؤلاء قد خرجوا معه من البصرة أو أنّهم كانوا في الكوفة، أو أنّه استخدمهم فيما بعد.
أهل بيت الجرو ((1)).. هذا العنوان جاء عند الطبريّ وابن أعثم، ومَن تأخّر عنهما.
ولا ندري بالضبط مَن المقصود بأهل بيته، هل يعنون أزواجه وأولاده، أو من عبّر عنهم في (المقتل) المشهور بعشيرته؟!
وكيف كان، لابدّ أن لا يكونوا عدداً ضخماً يستأثر بالحصّة الكبيرة من (الخمسمئة) الّذين ذكرهم الطبريّ!
ص: 106
لا يخفى أنّ المصادر الّتي ذكرت حدَثاً في الطريق من البصرة إلى الكوفة، إنّما هي المصادر الّتي ذكرت عدد الخمسمئة، والعمدة فيها نصّ الطبريّ، حيث قال:
فكان أوّل مَن سقط بالناس شريك، فيُقال: إنّه تساقط غمرة ومعه ناس، ثمّ سقط عبد الله بن الحارث، وسقط معه ناس، ورجَوا أن يلوي عليهم عُبيد الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى مَن سقط ويمضي حتّى ورد القادسيّة،وسقط مهران مولاه، فقال: أيا مهران، على هذه الحال إنْ أمسكت عنك حتّى تنظر إلى القصر، فلك مئة ألف. قال: لا واللهِ ما أستطيع ((1)).
وذكر في (المقتل) المشهور أنّ مالك بن مسمع اعتذر عند ابن زيادٍ وشكى وجعاً في خاصرته، وقال: إنّي لاحقٌ بالأمير. ولم يذكر أحداً آخَر قد تمارض وسقط ((2)).
يمكن الإفادة من هذا النصّ:
ص: 107
يفيد النصّ أنّ القوم تساقطوا قبل القادسيّة، والقادسية قريةٌ قرب الكوفة من جهة البرّ، بينها ((1)) وبين الكوفة خمسة عشر فرسخاً ((2))، وهي أوّل مرحلةٍ لمن خرج من الكوفة إلى المدينة ومكّة، وهي قريةٌ كبيرةٌ فيها حدائق نخلٍ ومشارع من الماء الفرات ((3)) على حافّة البادية ((4)).
فهي تبعد عن الكوفة بالحساب المعاصر زهاء تسعين كليومتراً.
يصرّح الطبريّ ومَن تلاه أنّ «أوّل مَن سقط بالناس شريك» ومعه ناس،ثمّ سقط عبد الله بن الحارث وسقط معه ناس.
ويُلاحَظ أنّهما شيعيّان! وأنّ الناس كانوا يسقطون تبعاً لهما.
وذكر في (المقتل) المشهور أنّ مالك بن مسمع اعتذر عند ابن زياد، ولم يذكر أحداً آخَر قد تمارض وسقط ((5)).
ويبدو مِن تتبُّع حال شريك أنّ الرجل كان قد مرض بالفعل، إذ أنّ
ص: 108
قصّة الاغتيال المزعوم ((1)) في بيت هانيء أو في بيته هو نفسه مبنيّةٌ على مرضه وعزم ابن الأَمة الفاجرة على زيارته.
ثمّ إنّ التاريخ ينصّ أنّه قد مات على أثر مرضه ودُفن في الكوفة.
أفاد النصّ أنّهم إنّما فعلوا ذلك لأنّهم «رجوا أن يلوي عليهم عُبيدُ الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى مَن سقط ويمضي»..
وقد تضمّن هذا النصّ بعض المؤدّيات:
إنّهم إنّما فعلوا ذلك رجاء أن يتأخّر الجرو المسعور، فيسبقه سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة فيستولي عليها ويستتبّ له الأمر!
وفي ذلك مناقشاتٌ كثيرةٌ ليس هذا موضع طرحها، وقد تناولنا بعضهافي ثنايا بعض الدراسات عن المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .
بَيد أنّنا نودّ أنّ نؤكّد هنا ما ذكرناه في غير موضعٍ من أنّ فهم هؤلاء القوم استقرّ على أنّ المقصود الأساس من تشريف الكوفة بالمولى الغريب (علیه السلام) إنّما هو الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولم يكن المولى الغريب (علیه السلام) مكلَّفاً ولا ناوياً ولا عازماً على إحداث ما يسمّونه: (الثورة)، ولا الاستيلاء على
ص: 109
القصر أو امتلاك مقاليد الحكم في الكوفة، ولو كان كذلك لَما تصوّر هؤلاء _ وفق ما ورد في هذا الخبر _ أنّ تأخير ابن زيادٍ كان نافعاً فيما رجَوا والمولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة!
فهم يمهّدون لسيّد الشهداء (علیه السلام) ودخوله، لا لثورة سفيره (علیه السلام) ! ((1))
يعود المؤرّخ هنا للتلويح وتسريب المعلومات خفيةً من خلال التأكيد على رجاء القوم من دون تصريحٍ منهم، وفطنة ابن الأَمة الفاجرة إلى ذلك من دون تصريحٍ من المؤرّخ، إذ أنهم فعلوا ذلك بقصدٍ وتبييت، ومضى الجرو المسعور ولم يلتفت إلى أحدٍ منهم، والعاقبة أنّ المتلقّي سيقفز ذهنه فوراً ليستنبط ذكاء أبناء الزواني وفطنتهم واستكشافهم للمكنونات وخباياالصدور!
يمكن الإفادة من تتمّة عبارة الطبريّ: «وسقط مهران مولاه، فقال: أيا مهران، على هذه الحال إنْ أمسكت عنك حتّى تنظر إلى القصر، فلك مئة ألف. قال: لا واللهِ ما أستطيع» ((2))، مدى عزم الجرو المسعور واستعجاله
ص: 110
وقوّة مضائه واندفاعه كالشفرة المحماة في السنام.
كما يمكن أن يكون من مؤدّيات الكلام مدى شجاعة الرعديد الجبان، بحيث مضى في الطريق وحده حتّى دخل الكوفة، وخلّف وراءَه مولاه الّذي لا يفارقه وحرسه الشخصيّ الملتزم به!
في تتمّة عبارة الطبريّ هذه _ بعد أن اعتذر مهران وأقسم لمولاه بالله أنّه لا يستطيع المداومة على المسير _ قال:
فنزل عُبيد الله، فأخرج ثياباً مقطّعةً من مقطّعات اليمن، ثمّ اعتجر بمعجرةٍ يمانيّة، فركب بغلته، ثمّ انحدر راجلاً وحده ((1)).
وأكّد ابن الأثير والنويريّ أنّ ابن الأَمة الفاجرة مضى لا يلوي على شيءٍ حتّى دخل الكوفة وحده ((2)).ومعنى هذا الكلام أنّه قد انساب ممّا يلي القادسيّة وحده حتّى دخل الكوفة وحده!
بَيد أنّه كلامٌ لا يكاد يستقيم ولا ينهض، إذ يمكن مناقشته بما يلي:
ص: 111
لقد مرّ معنا قبل قليلٍ في الإفادة الثالثة أنّ النصّ يتضمّن مؤدّيات، منها القول بشجاعة هذا الجرو المرتعش، وقد عرفنا _ في أكثر من موضعٍ من دراساتنا عن المولى الغريب (علیه السلام) _ جُبنَ هذا الرعديد حين ينفرد وبَطشَه ورعونته وتجبّره حينما يكون بين أذنابه، ونقلنا شهادة الحسن البصريّ.
ولا يكاد المرء العارف بهذا الوغد يقبل أن يخترق الصحارى والقفار ويسلك طريقاً يخبّئ له المفاجآت والأخطار، وهو يُقدِم على بلدٍ تكمن له السيوف وترصده الأعداء حسب ما يصوّره التاريخ ((1)).
بل هو حسب الفرض أمير، ولا يناسب الأمير أن يشقّ الصحراء ويدخل بلد إمارته وحيداً.
أضف إلى ما في أصل الخبر من اهتزاز، فهو أساساً ممّا انفرد بهالطبريّ، وقد رواه بشيءٍ من التمريض كما أشرنا، وفيه ارتباكٌ في المتن، من قبيل
ص: 112
قوله: «فركب بغلته، ثمّ انحدر راجلاً وحده» ((1))، فإنّنا لا نفهم كيف ركب بغلته وقد انحدر راجلاً؟! إلّا أن يكون لكلمة (راجلاً) معنىً آخَر غير ما هو متبادَرٌ منها لم نتوجّه له.
إنّ خبر مُضيّه وحده وعدم الالتفات إلى مَن معه، يعارض ما رواه الطبريّ نفسه وابن أعثم والخوارزميّ والمسعوديّ وسبط ابن الجوزيّ وابن أبي طالب والمحلّيّ وغيرهم..
فقد روى الطبريّ خبر دخول ابن زيادٍ إلى الكوفة واحتفاء الناس به ظنّاً منهم أنّه الحسين (علیه السلام) !! واستياءَه من تباشيرهم بالحسين (علیه السلام) ، ثمّ قال: فقال مسلم بن عمرو لمّا أكثروا: تأخَّروا، هذا الأمير عُبيد الله بن زياد! فأخذ حين أقبل على الظهر، وإنّما معه بضعة عشر رجُلاً ((2)).
وقال ابن أعثم يصف ابن الأَمة الفاجرة عندما تقارب من الكوفة وقد جاء الليل، فدعا بعمامةٍ غبراء واعتجر بها، ثمّ تقلّد سيفه وتوشّح قوسه وتكنّن كنانته، وأخذ في يده قضيباً، واستوى على بغلته الشهباء، وركب معهأصحابه، وأقبل حتّى دخل الكوفة من طريق البادية.
ص: 113
ثمّ استرسل يروي اهتمام الناس به متوهّمين أنّه الحسين (علیه السلام) ، واستياءَه من ذلك، وأنّه سكت ولم يكلّمهم شخصيّاً، فتكلّم مسلم بن عمرو الباهليّ وقال: إليكم عن الأمير يا ترابيّة! فليس هذا مَن تظنّون ((1)).
وأكّد المسعوديّ أنّه قدم الكوفة على الظهر، فدخلها في أهله وحشمه ((2)).
ولم يستثنِ ابنُ الجوزيّ وسبطُه وابن حجَر والطبريّ والمزّيّ وابن بدران والشجريّ والذهبيّ والمحلّيّ أحداً من وجوه أهل البصرة، إذ أنّهم أكّدوا أنّه أقبل في وجوه أهل البصرة حتّى قَدِم الكوفة ((3)).
وصرّح ابن كثيرٍ بالعدد الّذي كان معه، فقال: ودخلها في سبعة عشر راكباً ((4)).
هذه النصوص تؤكّد تلويحاً وتصريحاً أنّه دخل الكوفة مع جماعةٍ من
ص: 114
أهله وحشمه ووجوهِ أهل البصرة، ومَن دعاهم ليناولوه عمامته وسيفه، والباهليّ الّذي دفع الناس عنه، وهي أوفق بحال الطاغية ابن الأَمة الفاجرة، وأكثر انسجاماً مع الظروف والأحداث!
ذكرنا في محلّه ((1)) عند الحديث عن دخول ابن الأَمة الفاجرة إلى الكوفة، أنّ الناس ظنّوا عند دخوله أنّه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فرحّبوا به واستقبلوه.. وبغضّ النظر عمّا ذكرناه من المناقشة في ذلك، فإنّ هذا بنفسه شاهدٌ على أنّ الخبيث لم يدخل الكوفة وحده، وإنّما دخلها في موكبٍ وهيئةٍ تدعو للتوهُّم أنّه ركب الحسين (علیه السلام) .
يبدو أنّ الجميع كان في تسابُقٍ مع الزمن، إذ يستحثّ القرد المجدور جروه من الشام أن يطير بجناحَين إلى الكوفة، ويتمارض هؤلاء القوم _ إنْ صحّ ذلك _ رجاء أن يسبق سيّدُ الشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة.
وربّما كان هذا الأخير من صنع المحترفين في صياغة الأحداث، فشريك وأصحابه الّذين خرجوا مع الجرو الأُمويّ يعلمون كما يعلم الجرو نفسه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أرسل مبعوثه وسفيره إلى الكوفة، غير أنّ
ص: 115
الفترة الزمنيّة الّتي سيستغرقها المولى الغريب (علیه السلام) من أجل التحقّق من مهمّته واتّخاذ القرار لإخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) لم تحصر بعد.
وقد علم الجميع أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان لا زال في مكّة، وأنّه لميتحرّك باتّجاه العراق تلك الأيّام حسب المشهور في النصوص التاريخيّة، فكيف يتمارض هؤلاء في طريق البصرة إلى الكوفة، ليوفّروا فرصةً تمكّن سيّد الشهداء (علیه السلام) من اللحاق من مكّة إلى الكوفة؟!!
هذه المناقشة تتمّةٌ للمناقشة السابقة، وإنّما أفردناها تحت عنوانٍ خاصٍّ للأهمّيّة..
لو فرضنا أنّ القوم قد تمارضوا، وتأخّر الجرو المسعور والتفت إليهم، وسبق سيّدُ الشهداء (علیه السلام) إلى الكوفة.. فماذا سيغيّر ذلك في واقع الناس ومجريات الأحداث؟!
لقد أثبتنا في غير موضعٍ أنّ الزبد المتراكم الّذي بايع سيّد الشهداء (علیه السلام) من خلال الكتب والرسل، وأكّد البيعة أو بايع على يد المولى الغريب (علیه السلام) لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، كانوا رغم الأعداد المذكورة في المقام أقلّيّةً قليلةً في المجتمع الكوفيّ! ((1))
ص: 116
وكانت الكوفة يومها جُنداً مجنَّدة، لم يتضعضع فيها شيءٌ من حصّة السلطان، ولم تجتاح رياح هؤلاء الرعاع الّذين بايعوا لأوّل وهلةٍ سيّد الشهداء (علیه السلام) غابة القرود، ولم تهزّ فيهم قصبةً ولا عوداً، ولم يقطعوا لهمذيلاً ولا يداً، فلم تكن الكوفة في طوع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان فيها مَن يقود قطعان الذئاب الّتي روّضَتها السقيفة لمواجهة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ومَن معه..
ولَكان ابن الأَمة الفاجرة يقدم على جُندٍ مجنّدةٍ وأذلّاء خاسئين من عبدة الطاغوت، ولَانقلب المبايعون لأيّ سببٍ وبأيّ وسيلةٍ يستعملها الأُمويّون وجراؤهم، تماماً كما انقلبوا بعد دخول ربيب الدعارة ابن زياد، ونكثوا البيعة وغدروا بالمولى الغريب (علیه السلام) .
لقد قامت البحوث على أنّ الكوفة كانت كلّها مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنّما غيّرها دخول ابن الأَمة الفاجرة وأساليبه وفطنته ومعرفته بالمجتمع الكوفيّ وذكاؤه.. والأمر ليس كذلك! وقد أتينا على بحث هذا الموضوع في محلّه، فلا نعيد.
ص: 117
ص: 118
خرج ابن الأَمة الفاجرة مُسرعاً إلى الكوفة وطار بجناحَين، وهو الجرو المجوَّع العاطش للدماء الزاكية، المثل الأوّل لعُسلان الفلَوات الّتي كانت تتربّص بريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، لتملأ الأكراش والأجربة الجوفاء السُّغبى.. وخلّف البصرة وراءه هادئ البال واثقاً، لا تُقلِقه هواجس، ولا تنتزعه مخاوف، ولا تهدّده مواقف..
خرج وهو لا يتحسّب لحسيسٍ قد يخشخش من ورائه، بعد أن وضع الخشاش في أُنوفهم، واستخفّهم هو وأبوه فأطاعوه، واستخفّهم من قبله فساد عقيدتهم وما أوغروا به صدورهم على الحقّ وأهله، وحقدهم على الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وكلّ ما يمتّ إليه بصلة..
لم يُعهَد في البصرة آنذاك أنّها كانت تضمّ معسكراً أو ثكنةً لجنود الطاغوت، ولم يُعهَد أن أرسلوا إليها كتائب لحمايتها أو لحماية النظام الحاكم فيها.. كانت تعيش حياتها الرتيبة، كأيّ مصرٍ من الأمصار البعيدة عن مركز الحدَث!
كان فيها من العسكر المسجّل في الديوان الّذي يأخذ العطاء ممّن
ص: 119
يسمّونهم المقاتلة أكثر من ثمانين ألفاً، بل يربو عددُهم على مئة ألف، كما زعم هو ابن زيادٍ نفسُه في خطبته لأهل البصرة بعد هلاك يزيد ((1)).
وهم جميعاً في طاعة السلطان وطوع إرادته، لم يتمرّد منهم أحدٌ يذكره التاريخ..
لم يُعهَد أنّ عثمان ابن سُميّة قد عانى أيّ اضطراباتٍ في محلّ ولايته بعد غياب عُبيد القرود، وإنّه لم يرَ منهم ما يقلقه أو يفزعه أو يدعوه إلى
ص: 120
تحريك أيّ قطعةٍ عسكريّةٍ من داخل البصرة أو خارجها.
ويمكن اختصار الحكاية بجعل البصرة والشام في كفّةٍ واحدة، والحكم عليها بحكمٍ واحد، بعد أن فعل الإمام المعصوم ذلك، إذ جعلهما في الميزان في كفّةٍ واحدة، وأخبر عنهما أنّهما لم يبكيا على مَن بكته المخلوقات بلا استثناء! ((1))
من هنا قد يُقال:
إنّ إقحام البصرة وأهلها كميدانٍ للبحث والتحليل، وجعلَها ساحةً من الساحات الّتي تُدرَس في خضمّ دراسة المشاهِدِ الّتي تُرسَم في المدن الّتيتفاعلَت مع قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، تكلُّفٌ والتواءٌ على الواقع القائم يومذاك!
أجل، يمكن أن نجد بعض الإجراءات الّتي مارسها ابن زيادٍ وأذنابه وجلاوزته قُبيل خروجه من البصرة وبعده:
أخذ ابن زيادٍ رسولَ سيّد الشهداء (علیه السلام) (سليمان) فقتَلَه وصلَبَه، وتسلّق الأعواد فصعد المنبر، وخطب خطبةً أزبد فيها وأرعد وهدّد وتوعّد،
ص: 121
على التفصيل الّذي مرّ معنا فلا نعيد.
أمر ابن زيادٍ فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة، فلا يترك أحداً يلج ولا أحداً يخرج ((1)).
بهذا الإجراء الشامل سدّ ابن زيادٍ جميع الفروج، ونظم الصحارى والقفار خيلاً ورجالاً، وزرع البيداء ربايا ومسالح، تمسح الطُّرُق والجوادّ، وترصد دبيب النمل بين الرمال، احترازاً من أيّ حركةٍ يمكن أن تكون لصالح سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلا يلج أحدٌ ولا يخرج، ولا يتحرّك في الفيافيأحدٌ إلّا أخذوه وفتّشوه، لئلّا يكون ممّن ينوي نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شباب أهل الجنّة.
وكان عسكر الحرّ من هذه المسالح المنتشرة يومئذٍ في تلك الأصقاع، فلمّا «سار [الإمام الحسين (علیه السلام) ] فمرّ ببطن العقبة، فنزل شِراف وبات بها، فلمّا أصبح سار، فطلعَت خيلٌ عليهم، فلجأ إلى ذي حسم، فإذا هو الحرّ
ص: 122
ابن يزيد في ألف فارسٍ يمانعه عن المسير بأمره، وقد بعثه الحُصين بن تميم التميميّ، وكان على مسلحة الطفّ الّتي نظمها ابن زيادٍ من البصرة إلى القادسيّة» ((1)).
كان سمرة بن جندب _ المجرم الجاني الّذي ولغ في دماء البصريّين وكرع منها ولم يشبع _ على شرطة ابن زياد أيّام مسير الإمام الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة، وكان يحرّض الناس على الخروج إلى الإمام الحسين (علیه السلام) وقتاله ((2)).
ولا ندري إنْ كان يكتفي هذا الوغد المتهتّك بالتحريض، أو كانيقسر الناس على ذلك؟!
ص: 123
ص: 124
يمكن الإشارة هنا إلى عدّة نقاط:
روى الطبريّ والشيخ المفيد وغيرهما أنّه:
كان قد اجتمع إلى الحسين (علیه السلام) مدّة مقامه بمكّة نفرٌ من أهل الحجاز، ونفرٌ من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه ((1)).
والظاهر ممّا رواه المؤرّخون في يزيد بن ثبيط وأولاده أنّهم التحقوا بسيّد الشهداء (علیه السلام) في الأبطح من مكّة، أمّا الآخَرون فلم نجد نصّاً واضحاً عند الطبريّ وغيره يفيد لحاقهم بيزيد أو خروجهم معه، كما لم نجد ما يفيد
ص: 125
تصريحاً أو تلويحاً عند الطبريّ وغيره من القدماء أنّهم التحقوا بمكّة..
إلّا أن يُقال:إنّ هؤلاء الأبرار خرجوا في وقتٍ متزامنٍ وفي ظرفٍ واحد، فربّما يُستفاد من ذلك أنّهم كانوا قد حضروا مجلس العبديّين في البصرة فخرجوا جميعاً.. وهو استنتاجٌ وليس خبراً، والله العالم.
ويبدو من خلال الفحص أنّ هؤلاء الأقمار المنيرة بعددهم المحصور خرجوا من البصرة، وليس ثَمّة غيرهم..
وقد أضفنا إليهم الهفهاف البطل الشجاع استطراداً، لنستكمل عدّة الشهداء من البصريّين (صلوات ربّي عليهم أجمعين).
كان عدد المقاتلة في البصرة أيّام هلاك يزيد _ حسب تقرير ابن زيادٍ في خطبته الّتي ألقاها في البصرة _ يربو على الثمانين ألفاً، أو زهاء مئة ألفٍ أو يزيدون، وكانت قبيلة بني عبد القيس الّتي زهت بأسماء الشهداء الملتحقين بالإمام كبيرةً جدّاً، وكان ليزيد نفسه عشرة أولاد استجاب منهم اثنان فقط..
فكان عدّة الشهداء من البصرة لا يتجاوز العشرة!
وصل الرسول إلى البصرة.. بلّغ الكتاب.. سمع رؤوسُ الأخماس والأشراف.. قتل ابنُ زيادٍ الرسولَ وصلَبَه على رؤوس الأشهاد.. جمع يزيد
ص: 126
ابن مسعود النهشليّ بني تميم، وخطب فيهم، وحرّضهم على نصرةالإمام المظلوم.. كان في البصرة عشرات الآلاف من السيوف والمقاتلين، وكلّهم يعرف ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابن أمير المؤمنين (علیه السلام) وفاطمة سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) ..
مع هذا كلّه، لم تفرز البصرة سوى عشرةً من الرجال الأبطال الّذين عرفوا الحقّ ونصروه..
يبدو أنّ هذه النقطة جديرةٌ بالالتفات والتأمّل؛ إذ أنّنا نعتقد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان يعرف هذه النتيجة، ويعرف المجتمع البصريّ تماماً حسب الظواهر المنظورة للجميع، فضلاً عن علم الإمامة.
صرّح الطبريّ وغيره أنّ يزيد وابنَيه لحقا بسيّد الشهداء (علیه السلام) في الأبطح من مكّة، وقيل في الباقين مثل ذلك، بمعنى أنّ جميع البصريّين لحقوا بالإمام (علیه السلام) في مكّة، عدا الهفهاف.
والحال أنّ الكوفة كانت أقرب إليهم من مكّة، والمسير إلى الكوفة أيسر، لتعدّد الخيارات في المسالك والطرق الموصلة، فثَمّة طريق الماء وطريق البرّ، وهكذا..
وكانت الكوفة يومذاك مشتعلة، والأمواج متلاطمة، وكان المولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة سفيراً لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، والكوفة في حالة انتظارٍ
ص: 127
وترقُّب، تتوقّع دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) إليها ووصوله إليهم.. فكان المفروض في الحسابات الظاهريّة أن يسارع هؤلاء الأبرار الأوفياء إلى الكوفة لنصرة المولى الغريب (علیه السلام) وانتظار الإمام (علیه السلام) فيها.
غير أنّهم يممّوا وجهتهم نحو وجه الله، والتجأوا إلى جنب الله، والتحقوا بسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) حيث كان، ولم يتوجّهوا إلى الكوفة..
ربّما.. لأنّ الكوفة لم تكن بحاجةٍ إليهم.. لم يكن في الكوفة ما يدعو للذهاب إليها.. إنّما كان الخطر يُحدِق بالإمام (علیه السلام) وأهله، وعليهم أن يبادروا إلى حيث يمكنهم الدفاع عنه أينما كان!
وربّما كانت ثَمّة أسبابٌ أُخرى دعتهم إلى المبادرة إلى مكّة واللحاق بالركب هناك، سنأتي على ذِكرها في محلّه، إن شاء الله (تعالى).
أسماء مَن نال الشهادة بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) من البصريّين ورد أكثرُها في كتاب (تسمية مَن قُتِل) للرسّان، أضِفْ إلى اثنين آخَرَين.
قال الرسّان:
وقُتِل من عبد القيس من أهل البصرة:
1 _ يزيد بن ثبيط.
2 _ وابناه: عبد الله.
3 _ وعُبيد الله، ابنا يزيد.
ص: 128
4 _ وعامر بن مسلم.
5 _ وسالم مولاه.
6 _ وسيف بن مالك.
7 _ والأدهم بن أُميّة.
8 _ ... الهفهاف بن المهنّد الراسبيّ ((1)).
9 _ قعنب بن عمر النمريّ.
10 _ الحجّاج بن بدر التميميّ.
نحاول التعرّف إليهم بعد قليل، إن شاء الله (تعالى).
ص: 129
ص: 130
نحاول الاستزادة من معرفة هؤلاء الأشعّة النيّرة المتّصلة بشعاع نور ابن نور الأنوار وخامس أصحاب الكساء الإمام الحسين (علیه السلام) ، من خلال المعلومات التالية:
الكلام في النسَب لهؤلاء الثلاثة الأبرار واحد، فالحديث عن الأب حديثٌ عن الأبناء عاقبة.
قال الرسّان:
وقُتل من عبد القيس من أهل البصرة: يزيد بن ثُبيط، وابناه: عبد الله وعبيد الله، ابنا يزيد ((1)).
ص: 131
وكذا قال الطبريّ وابن الأثير والنويريّ ((1)).
وهم من أصحاب سيّد الشهداء المستشهَدين بين يدَيه ((2)).
نسبتهم: القيسيّ ((3)) العبديّ، البصريّ ((4)) _ بفتح العَين المهملة، وسكون الباء المنقوطة بواحدة، وفي آخِرها الدال المهملة _.
وهذه النسبة إلى (عبد القيس) في ربيعة بن نزار، وهو:
عبد القيس بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، مِن وُلد إسماعيل (علیه السلام) ، بنو ربيعة باليمن ((5)).
والمنتسب إليه مخيَّرٌ بين أن يقول: (عبديّ)، أو (عبقسيّ) ((6)).
والنسب الأعلى _ الّذي لا يبلغ أحدٌ ذراه ويتطاول إليه كلّ ذي شرف _ نسبٌ قصير.. هو الانتساب إلى ريحانة النبيّ وقرّة عين الوصيّ،
ص: 132
عزيز الزهراء، غريب الغرباء الإمام الحسين (علیهم السلام) .. فيكفيه فخراً وانتساباً حين يُنسَب إليه فيُقال: من أنصار الحسين (علیه السلام) !
قال السماويّ:
ممّا وقع في هذه الترجمة: (ثُبَيط) _ بالثاء المثلثّة، والباء المفردة، والياء المثنّاة تحت، والطاء المهملة _، علَمٌ مصغَّر، ويمضي فيبعض الكتب: ثبيت، وثبيط، وهما تصحيف ((1)).
قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) :
كان يزيد من الشيعة، ومن أصحاب أبي الأَسود، وكان شريفاً في قومه ((2)).
وقال الحائريّ (رحمة الله) :
لهم ذِكرٌ في الحروب والمغازي.
وقال العسقلانيّ في (الإصابة): يزيد بن ثُبيط العَبديّ، من الشيعة، ومن أصحاب أبي الأَسود الدُّؤلي، وكان شريفاً في قومه ((3)).
ص: 133
وقد فحصنا في نسختنا من (الإصابة)، فلم نجد لما ذكره السيّد الحائريّ أثَراً، سواءً الاسم المعروف أو الأسماء المحتمَلَة كتصحيف.
وما ذكره الحائريّ من كون يزيد العَبديّ هذا من أصحاب أبي الأَسود، إنّما ورد في كتاب الشيخ السماويّ (رحمة الله) كما سمعنا قبل قليل.
أمّا ما ذكره الشيخ السماويّ من صحبته لأبي الأَسود، فإنّ الشيخ كان صاحب مكتبةٍ وكتب، متضلّعاً واسع الاطّلاع، فربّما وقف على هذه المعلومة في كتابٍ ثمّ لم يوثّقها لنا.أمّا كونه من الشيعة، فلا شكّ في ذلك بعد موقفه ومبادرته لنصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزيز الزهراء (علیها السلام) ، بل هو من ذُرى الشيعة وأشرف أشرافهم، هو وولداه!
أمّا قول الشيخ: «كان شريفاً في قومه»، فهو صادق، وإن لم يذكر المترجمون هذه المعلومة في كتبهم عنه، فهو أسمى وأعلى وأجلّ وأعظم ممّا يقولون فيه، مهما قالوا في الشرف ولن يبلغوا، بعد أن نال شهادة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) : «لا أعلم أصحاباً ...» ((1)).
فحقّ له أن يقول: كان أشرف قومه وأنبلهم وأعزّهم، بل كان شرف
ص: 134
قومه وعزّهم ومفخرهم.. وكلّ ما يُقال لبيان الرتبة الأعلى والغاية القصوى للفضل على قومه، بل على البشر أجمعين إلّا من استثناهم الله (تبارك وتعالى).
* * * * *
وقد شاء الله (تبارك وتعالى) أن يميّز هؤلاء الأوفياء الأبرار، فقد امتازوا بخصائص في كربلاء، منها:
أنّهم كانوا ممّن قُتِل آباؤهم معهم، إذ قُتِل الأب وابناه بين يدَي عزيز الزهراء (علیها السلام) ((1)).كما نالوا وساماً آخَر حين قُتِل كلا الأخَوَين ((2))، فواسوا بذلك الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) حين قُتِل مع إخوته.. وهذه ميزةٌ لهم أن يستشهد أَخَوان وأبوهم يوم الحسين (علیه السلام) ، ويرحلون معاً إلى رحاب الله ورسوله وأصحاب الكساء.
ولهم خصائص أُخرى يأتي الحديث عنها في محلّه إن شاء الله (تعالى)..
من قبيل: ملازمتهم لركاب الإمام (علیه السلام) من مكّة ومسايرتهم له، مدافعين محامين عن خدر رسول الله طيلة فترة المسيرة.
ص: 135
ومن قبيل: نيلهم شرف التواجد في معسكر الإمام (علیه السلام) بعد المحاصرة، وحضورهم ليلة العاشر من المحرّم، ولهذا التواجد خصائص غايةٌ في الأهمّيّة.
ومن قبيل: تعرّضهم للابتلاء والاختبار بعد إذن الإمام (علیه السلام) لهم، وثباتهم وإصرارهم على نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والدفاع عن آله.
وكون الأولاد من شهداء الحملة الأُولى، وغيرها..
لم يصرّح التاريخ بمقدار عمر الأب ولا الأبناء..ولكن إذا أخذنا بالحساب، فإنّ التاريخ قد صرّح أنّ له عشرةً من الأولاد، هذا سوى البنات، فإذا كان بين كلّ واحدٍ والآخَر سنتان رضاعةً _ كما هو عادة القانون الإلهيّ في خلقه _ وتسعة أشهُر الحمل الّتي تكاد تكون سنةً كاملة، يكون مجموع الفترة زهاء ثلاثين عاماً، على فرض أن يكونوا من أُمٍّ واحدة، يُضاف إليها في القدَر المتيقّن خمسة عشر عاماً حدّ البلوغ، يكون المجموع خمسةً وأربعين عاماً، ومع افتراض وجود البنات أو التأخُّر قليلاً في الزواج، يخرج عمره من حدّ (الكهل) إلى حدّ (الشيخ) حسب التقديرات الواردة في روايات أهل البيت (علیهم السلام) ..
فهو _ إذن _ رجُلٌ كبيرٌ في السنّ، كبيرٌ في المنزلة.. بورك وبورك عمره وبوركت شهادته..
ص: 136
أمّا أولاده الكرام، فليس لنا ما يفيد لتقدير أعمارهم الشريفة.
مرّت الإشارة إلى خبر التحاق هذه الثلّة الطيّبة الطاهرة بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) في أكثر من موضع..
إجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس _ يُقال لها: مارية _ أيّاماً، وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه، وقد بلغ ابنَ زيادٍ إقبالُ الحسين (علیه السلام) ، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظرويأخذ بالطريق..
فأجمع يزيد بن ثُبيط الخروج _ وهو من عبد القيس _ إلى الحسين (علیه السلام) ، وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له: عبد الله، وعُبيد الله.
فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعتُ على الخروج، وأنا خارج. فقالوا له: إنّا نخاف عليك أصحابَ ابن زياد! فقال: إنّي واللهِ لو قد استوت أخفافُهما بالجدد، لَهان علَيّ طلَبُ مَن طلبني.
ثمّ خرج، فقوي في الطريق حتّى انتهى إلى حسين (علیه السلام) ، فدخل في رحله بالأبطح.
وبلغ الحسينَ مجيؤه، فجعل يطلبه، وجاء الرجل إلى رَحْل الحسين، فقيل له: قد خرج إلى منزلك. فأقبل في أثره، ولمّا لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره، وجاء البصريّ فوجده في رحله جالساً،
ص: 137
فقال: ﴿بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ ((1)). فسلّم عليه، وجلس إليه، فخبّره بالّذي جاء له، فدعا له بخير.
ثمّ أقبل معه حتّى أتى، فقاتل معه، فقُتِل معه هو وابناه ((2)).وروى الشيخ السماويّ (رحمة الله) خبر الطبريّ، ثمّ قال:
ثمّ خرج وابناه، وصحبه عامر ومولاه وسيف بن مالك والأدهم بن أُميّة ((3)).
* * * * *
يمكن الوقوف عند هذا النصّ قليلاً واستفادة عدّة إفاداتٍ منه:
ربّما أفاد هذا النصّ أنّ الاجتماع كان بعد خروج ابن زيادٍ من البصرة، إذ أنّه يشير إلى كتاب ابن زيادٍ إلى أخيه أن يضع المناظر ويأخذ الطريق.
والتاريخ لم يذكر لنا زمن كتابة الكتاب، إلّا أنّ السياق يفيد أنّه كتبه
ص: 138
بعد خروجه من البصرة، من دون الإشارة إلى الموضع الّذي كتب منه، فهل كتب من الطريق، أو أنّه كتب بعد أن استقرّ في قصر الخبال في الكوفة؟
ربّما كان من المستبعَد أن يكتب من الطريق؛ لما كان فيه من العجلة والهلع، وقد اتّضحَت له الأُمور بعد دخول الكوفة والنظر إلى مجريات الأحداث فيها، فربّما يُقال: إنّه كتبه من الكوفة.
وربّما أفاد سياق الخبر أنّ كتاب ابن زيادٍ كان في وقتٍ متأخّرٍ جدّاً عناجتماع القوم في بيت مارية وخروج يزيد وأولاده من هناك، إذ أنّ الخبر يصرّح أنّ الكتاب كان على أثر بلوغ خبر إقبال الحسين (علیه السلام) ، والحال أنّ يزيد وأولاده لحقوا بالإمام (علیه السلام) في مكّة، فيلزم أن تكون حركتهم قبل أيّامٍ من خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة ليلحقوا به، ولابدّ من احتساب مدّة مسافة الطريق من البصرة إلى مكّة للمُجِدّ المُسرع.. والله العالم.
في بلدٍ احتوى سباعاً ضاريةً ملأَتِ الأصقاع.. سيوفاً نائمةً في أغماد الحقد والضغينة على الحقّ ورجاله من آل أبي طالب، مواليةً للسلطان خاضعةً خانعةً له، تُعدّ في عديده..
مدينة كانت مغلَقةً على أعداء أهل البيت (علیهم السلام) .. كانت بحكم الشام، كما ورد في حديث أهل البيت (علیهم السلام) ، إذ لم تبكِ الحسين المظلوم (علیه السلام) حين بكته كلّ المخلوقات!
ص: 139
كلّ فردٍ في البلد يمكن أن يكون ذئباً ضارياً ووحشاً متغوّلاً على أنصار الحقّ..
صدرت الأوامر من ابن الأَمة الفاجرة أن تؤخَذ الطرق وتوضع المناظر.. فكلّ شيء مرصود.. لا يلج أحدٌ إلى البلد ولا يخرج منها خارجٌ إلّا بعد أن يفتَّش تفتيشاً دقيقاً..
وهذا يعني أنّ العساكر قد نُظمَت وانتشرت في كلّ مكان، والرباياوالمسالح قد نُصبَت على أفواه السكك والجوادّ..
البصرة محاصَرةٌ بالجند من جميع الأرجاء والنواحي، والعيون منثورةٌ في جميع الأنحاء، والجواسيس مزروعون وراء كلّ مخبأ..
بلدٌ ظلّله التوجّس، وعمّه الترقُّب والمراقبة.. وكلّ ما هبّ ودبّ موضعٌ للظنّة والتهمة.. والوجوه يغشاها الوجوم، والنظرات بين حادّةٍ ومختلسة.. والخوف هابطٌ بدوافعه، يقتحم القلوب الخاوية من حبّ الحسين (علیه السلام) ..
واحتمال الأخذ والقتل والصلب كامنٌ في أيّ سؤالٍ يمكن أن يعترض الماشي في طرقات البصرة والجوادّ المؤدّية إليها..
وقد سدّ العدوّ كلَّ الفروج، وأخذ بكظم جميع المنافذ، وأطبق الحصار على البلد إطباقاً خانقاً..
في مثل هذه الأجواء.. يعزم يزيد وأولاده أن يفلت من جميع القيود ويعبر جميع السدود، ويجتاز الأرض المسبعة في حلكة ظلام الجهل المخيّم
ص: 140
على الناس، ويجدّ السير ويركض بحوافر مركبه على رؤوس الأفاعي القرعاء المرقطة بسمّها الناقع، ويسلك طريق المجد وسبيل رضوان الله، ويلتحق بحبيب الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ..
أجل، خرج ونجى بنفسه على ساحة القدس الأرحب!
أشرنا فيما مضى إلى موقف الحاضرين في الاجتماع المشار إليه..ونعود إلى الإشارة هنا لبيان الأجواء الّتي خرج فيها يزيد متحرّراً من جميع قيود الأرض، محلّقاً بنشوة المنتصر عن أوحال الطين اللزج المثقل بزخارف الدنيا وسفاسفها..
كان المجتمعون في دار مارية العبديّة مدركين تماماً لما يجري في تلك الأيّام، والأخطارِ المحدقة بسيّد الأنام يومها الإمام الحسين (علیه السلام) .. وقد أصحروا عن كوامنهم وهواجسهم.. بيد أنّ المانع الّذي ذكروه ليزيد البطولة هو الخوف عليه من أصحاب ابن زياد!
هكذا الخوف عليه، لا على أنفسهم..
إنّهم لم يُعربوا عن خوفهم على أنفسهم من أصحاب ابن زياد، لأنّهم قد حسموا أمرهم، وعزموا على الخلود إلى التراب والالتزاق بطين دار الدنيا..
فهم قد قدّموا العذر ليزيد إن امتنع عن الخروج واللحاق بركب السعداء، وكأنّهم أرادوا الإعراب عن عذرهم أيضاً لو كانوا أرادوا الإقدام
ص: 141
على ما أقدم عليه.. بَيد أنّهم لم يقدموا، ولم يعزموا، ولم يعتذروا لأنفسهم!!
هكذا هو إمام الرحمة والعدل سيّد الشهداء، والأشعّة المتّصلة به من أنصاره.. لم يفرضوا على أحدٍ موقفاً!
كان يزيد العَبديّ شرف قومه وشرف أهله وسيّدهم، بيد أنّه اكتفىبعرض الأمر على أولاده عرضاً، وترك لهم الخيار في اتّخاذ القرار..
أخبرهم عمّا أزمع عليه، وعن عزمه وتقدُّمه في الأمر، وترك لهم الاختيار..
كانوا عشرة.. وكانت الشيَم والأخلاق العامّة عند العرب يومها أن ينصر الابنُ الأبَ ويتفانى في الدفاع عنه.. كان الولاء القبَليّ والعشائريّ كافياً عند الناس لتبذل فيه الأرواح والأعراض والأموال، فإذا أراد الشيخ حرباً لبسوا لها لامتها وتفانوا فيها لمجرّد الانتماء.. وهكذا كان الأولاد مع الآباء، بل أشدّ وأقوى وأعمق في بناء المواقف والتبعيّة والمغامرة بكلّ شيءٍ من أجل الانتماء وحفظ اسم الأب وسمعته بين الأحياء..
غير أنّ يزيد الخير والسعادة لا يقيم لهذا الولاء وزناً، فلا يدعوهم به.. لا ولاء عند أصحاب سيّد الشهداء (علیه السلام) إلّا لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وبهذا قال مفتخِرُهم: «أميري حسينٌ ونِعمَ الأمير!» ((1)).
ص: 142
هذه النسبة وهذا الولاء هو الحاكم عند جميع أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) .. وإن كان الولاء للأهل وللآباء الأتقياء ممدوحاً..
تركهم يزيد السعادة هم وخياراتهم، فاختار منهم اثنان اللحاقَ بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتخلّف ثمانية!
اثنان مِن عشرة!
لماذا تخلّف هؤلاء الثمانية، مع أنّهم أبناء هذا الضيغم البطل؟!لا يذكر لنا التاريخ لهم عذراً، ولم يصرّحوا هم بعذرهم.. بَيد أنّهم لم يبلغوا الفتح بأنفسهم، وإنْ بلغوه بأبيهم وأخوَيهم.. فهنيئاً لمن بلغ و«أدرك بالحسين (علیه السلام) أكبر عيد».
يبدو للناظر _ كما أشرنا سابقاً _ أنّ الملتحقين بركب السعادة هم في الغالب من العبديّين..
فحينما يطالعنا الشيخ السماويّ ليخبرنا أنّ الملتحقين صحبوا يزيد والتحقوا بالإمام الحسين (علیه السلام) ، وأنّهم انطلقوا جميعاً من منتدى مارية العبديّة، ونجدهم في الأغلب عبديّين من قبيلةٍ واحدة.. فلنا أن نحتمل _ حينئذٍ _ أنّ المنتدى كان منتدىً للعبديّين في بيت واحدةٍ منهم.. وليس بالضرورة أن يكون المنتدى لجميع الشيعة!
هذا النوع من النوادي والمنتديات والمجالس كان منتشراً يومذاك، ولا
ص: 143
زال، وكان لكلّ قومٍ وجماعةٍ وقبيلةٍ وفخذٍ وما دون ذلك من التجمّعات مكانٌ يجتمعون فيه، يتسامرون ويتداولون فيه الأحاديث والقصص والأخبار، ويتبادلون فيه الآراء ويتّخذون فيه القرارات إن اقتضت الحاجة..
فإذا كان الأمر كذلك، تخرج القضيّة من الصورة الخاصّة الّتي رسمهاالمؤرّخ وضخّمها المحلّلون والمتابعون، ولا يكون موضعاً يجتمع فيه الشيعة سرّيّاً، وإنّما هو موضعٌ يجتمع فيه العبديّون ومَن له علاقةٌ بهم على رؤوس الأشهاد، كأيّ منتدىً لقبيلةٍ أُخرى كانت تعيش تلك الأيّام ضمن الأعراف العربيّة السائدة!
وهذا القول لا يُبايِن ما ذكره الطبريّ بعد أن قرّر أنّ مارية نفسها كانت تتشيّع، ثمّ قال: «وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه» ((1))؛ إذ أنّ الشيعة كانوا في البصرة _ وفق ما عرفنا من انتماءات الملتحقين القبَليّة _ من العبديّين، فإذا كان هناك غيرهم من الشيعة، فإمّا أنّهم كانوا يجتمعون معهم لقلّتهم، أو أنّهم كانت لهم مجالسهم ومنتدياتهم حسب انتماءاتهم..
واجتماع الشيعة من العبديّين وتوابعهم في بيت مارية يؤهّله لإطلاق اسم المألف عليه.
ص: 144
ما وجدناه في رواية الطبريّ وغيره من المؤرّخين، إنّما هو خروج يزيد وابنيه من بيت مارية بعد أن حذّره القوم.. والهفهاف الّذي وصل كربلاء بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) .. والحجّاج الّذي قيل أنّه حمل كتاب يزيد ابن مسعود، وسيأتي الكلام فيه..أمّا الآخرون، فلم نجد _ تلويحاً ولا تصريحاً _ في المصادر المتوفّرة لدينا ما يشير إلى زمان ومكان لحاقهم بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إلّا ما ذكره الشيخ السماويّ (رحمة الله) ، وأخذ عنه مَن تأخّر عنه..
فبعد أن روى الشيخ (رحمة الله) خبر الطبريّ، وهو _ كما سمعناه _ لم يذكر شيئاً عن التحاق أحدٍ سوى الثلاثة المسارعين إلى جنان الحسين (علیه السلام) ، قال الشيخ (رحمة الله) :
ثمّ خرج وابناه، وصحبه عامر ومولاه وسيف بن مالك والأدهم بن أُميّة ((1)).
ونحن لا ندري من أين حصلَت هذه المعلومة عند الشيخ (رحمة الله) ، فهي إمّا استنتاجٌ منه تصيّده من سياقات الأحداث والأخبار، أو أنّه وقع عليه في مصدرٍ لم يذكره لنا وهو غير متوفّرٍ لدينا إلى اليوم!
ص: 145
وسيأتي الكلام عن ذلك في مواضعه، إن شاء الله (تعالى).
ذكرنا الحوار وتفاصيل ما دار بين يزيد السعادة واليُمن والبركة، وبين القوم الحاضرين في بيت مارية، فلا نعيد هنا.
غير أنّ ثَمّة نقطةً جديرةً بالالتفات سنركّز التنويه إليها هنا:كانت المخاطر تحفّ بيزيد وأولاده وتُحدِق بهم، وكانت المنيّة تحوم عليهم، وكانت الأجواء مشحونة، والحصار مُطبق، والبصرة بقضّها وقضيضها وكبيرها وصغيرها يخالفهم في الموقف، وكان الجميع يحذّرونهم، بما فيهم المجتمعون معهم ممّن أطلقوا عليهم اسم الشيعة..
لم يكن في الأُفق أملٌ يُرتجى.. لم يحصل لهم أحدٌ يشجّعهم ويشدّ عزمهم.. كان كلّ شيءٍ يثبّطهم ويُثنيهم عن عزمهم.. الأجواء.. الظروف.. الأحداث.. الأعداء.. الوالي والجُند والعساكر المنتشرة في كلّ مكان.. الشيعة المجتمعون معهم..
بَيد أنّ شيئاً واحداً كان يثير العزم فيهم، ويثوّر الهمم، ويجيّش العواطف.. كانت فرحة اللقاء بالحسين (علیه السلام) .. الابتهاج بالنظر إلى وجه الله الحبيب..
كانت الفرحة والبهجة والشوق الّذي لا تحدّه حدود القلوب، والحبّ الّذي لا يحتويه شغاف الأفئدة، والبشرى الّتي لا تطيقها النفس البشريّة
ص: 146
العاديّة بلقاء ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والدفاع عن عزيز الزهراء (علیها السلام) ، والذبّ عن عيال الله.. تثير في كيانهم عزماً لا تحتمله الجبال الرواسي، ولا تصدّه جيوش الأرض..
خرجوا.. وأمل الانضمام إلى رحل الحسين يراودهم، واتّخذوا جدد الطريق سُلّماً ارتقوا فيه إلى أعلى علّيّين..خرجوا.. والانتماء إلى رحل سيّد الشهداء (علیه السلام) يحفّزهم، لتلتهم حوافر مراكبهم المسافات، وتطوي لهم الطريق، وتحقّق لهم الآمال..
لم تكن الموانع والسدود والمناظر والمسالح لتصدّهم، وإنّما كانت حوافز اللقاء والانضمام إلى رحل الحسين (علیه السلام) تجرّهم وتدفعهم بأقوى ما يكون.. فقووا في الطريق، وهان عليهم طلب مَن يطلبهم..
قويَت عزيمتهم، وحوّلت الموانع دوافع، لتحقيق الأمل المرتَجى في لقاء حبيب القلوب والدفاع عنه وبذل الدم والروح بين يديه، وقد سمحَت أنفُسُهم بمهجهم للذبّ عن مهجة الرسول والوصيّ والبتول (علیهم السلام) ..
لم ينتظروا أحداً، ولم يتذرّعوا بتجهيزٍ ولا إعداد عدّة، فعدّتهم التوكّل على الله والطاعة لوليّ الأمر الحسين (علیه السلام) ..
أعلموا مَن ينبغي إعلامه، ثمّ انطلقوا.. فلْيحق مَن شاء كما لحقوا.. والفرص تمرّ مرّ السحاب، وفي مِثل هذا فلْيتنافس المتنافسون، ولْيسارع مَن أراد أن يتّخذ إلى رضوان الله سبيلاً.. ولا يمنعه المتثاقل المتردّد من الهجرة إلى الله وإلى الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولا يخسر حظّه طمعاً في أن يربح الآخَرون معه!
ص: 147
بدنٌ مكدود.. يكاد المتلقّي يقدّر ذلك حين يسمع كلامه وهو يُعرِب للقوم في بيت مارية عن عزمه أنّه يسابق الريح ويستعجل الزمن، ويطويالطريق براحلةٍ يحثّها لتسرع حتّى لا تكاد حوافرها تلامس الأرض، ولا تكاد سيقانها تُرى كالمروحة إذا دارت بأقصى سرعتها..
قطع المسافة بين البصرة ومكّة لا يلوي على شيء.. يطوي الفيافي، ويخدّ الرمال، ويجتاز المفاوز، تعلو به الراحلة وتنخفض، وهو يتحامل على وعثاء السفر ومتاعبه..
بَيد أنّ الروح والريحان والراحة بلقاء ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لا تبقي للتعب والنصب أثراً..
وصل إلى مكة.. توجّه فوراً إلى إمامه، وكأن لم يكن قد مسّه نصَبُ السفر وعضّ ظهر المركب ظهره وبدنه..
سارع إلى الإمام (علیه السلام) بمجرّد أن وطأَت أقدامه أرض الأبطح.. ليس له غايةٌ سوى اللقاء بالحسين (علیه السلام) !
وسيّد الكائنات يومها الإمام الحسين (علیه السلام) بلغه مجيؤه!
سيّد الشهداء (علیه السلام) .. إمامٌ خلقه الله ليكون إماماً، ويكون خامسَ أصحاب الكساء.. أعطاه الله ومنحه ما يريد أن يعطيه ويهبه، ليكون إماماً.. فهو بقدراته وما أغناه الله به لا يُقاس به أحد..
لكن حسب ما نراه بقوانا البشريّة المحدودة.. نراه في تلك الأيّام
ص: 148
المزدحمة بالأحداث الساخنة الملتهبة.. لقاءات.. معارضون.. مفاوضات.. استعدادٌ للسفر مع الأهل والعيال، في سفرٍ ليس كباقي الأسفار،سفرٍ ترفرف المنايا على أفراد الركب.. كانت المشاغل والأخطار والمنايا تحوم حول الركب وتحدق به، وتطوّقه من كل جانبٍ ومكان..
يسمع الإمام بمجيء هذا البطل الضرغام، فيطلبه..
يا لله.. يكاد القلب يطير من شغافه، وينخلع ليفلت من الصدر.. لا يكاد القارئ يطيق تصوّر المشهد.. إنّه مشهدٌ عظيم!
أيكون الرجل بمحلٍّ ومكانٍ حتّى يطلبه الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) بمجرّد أن يبلغه مجيؤه؟!!
مَن هذا الرجل العظيم الّذي نال هذه الرتبة، وحاز هذا المقام الرفيع، وتربّع على ذُرى المجد والسموّ والسموق والسؤدد؟!
جعل الإمام (علیه السلام) يطلبه.. الإمام الحسين (علیه السلام) .. الحسين (علیه السلام) يطلبه!
أحسب أن لو جمع الكاتب عمره، وحشد عساكر المفردات والصور، وفكّر وتخيّل ما وسعه، لا يكاد يستطيع تصوير هذا اللقاء، وتقدير هذا الموقف، ورسم هذا المشهد!
كان الإمام (علیه السلام) يعرفه.. يعرفه باسمه ورسمه.. وإذا عرفه الإمام (علیه السلام) فلْيتنكّر له التاريخ والمؤرّخ والمترجمون، ومَن يسمّونهم علماء الرجال..
عرفه الإمام (علیه السلام) ، فلا يمكن أن يكون مجهولاً.. إنّه أعظم مِن عَلَم، وإنْ جهله أهل الأرض..
ص: 149
أيمكن أن يُستفاد من هذا النصّ أنّ الإمام (علیه السلام) كان على موعدٍ معه؟!أكان الإمام (علیه السلام) قد أنس وهشّ بمجيئه، حتّى بادر إليه يطلبه؟
مَن كان يزيد هذا حتّى يطلبه الإمام (علیه السلام) فور بلوغه خبر وصوله؟
إنّ له لَمكاناً ومنزلةً لا نحسب أنّا نقوى على بلوغ إدراكها وتقديرها والحديث عنها..
يخرج هو للقاء الإمام (علیه السلام) فور وصوله.. ويطلبه الإمام الحسين (علیه السلام) فور بلوغه خبر وصوله..
لا يمكن أن يُقال في المقام سوى أنّ العجز يسيطر تمام السيطرة على مَن يقرأ هذا الموقف، ويريد أن يتحدّث عنه.. لا سبيل إلّا الإقرار أنّ الذهن الحاذق والأدب البارع واللغة الواسعة والقلب الواعي والأحاسيس الجيّاشة والعواطف المتوقّدة تخبو وتتهاوى، وتعترف بالقصور عن وصف ما جرى..
يهنيك اللقاء يا يزيد العَبديّ.. يهنيك اللقاء.. ورزقنا الله ببركتك وببركة سيّدك وسيّدنا وحبيبك وحبيبنا النظر إليه في الدنيا والآخرة..
هكذا هو الحسين (علیه السلام) الرؤوف مع أنصاره وأحبابه وأوليائه يطلبهم.. وقد وردَت الرواية تبشّر زوّاره أنّه سيطلبهم يوم الغربة والفزع الأكبر، بل سيطلبهم جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم المحشر، فيأخذ بأعضادهم، ويعرفهم بسيماهم وبأنوار دموعهم الّتي ستشعّ في أرض المحشر نوراً يسعى بين أيديهم..
ص: 150
خرج يزيد لينعم بلقاء الإمام (علیه السلام) ، وجاء إلى رَحْله، وإذا بالإمام (علیه السلام) قدخرج إلى منزله!
أقبل معدن الرحمة والرأفة والتواضع في أثر يزيد، فلمّا لم يجده جلس في رحله ينتظره..
يا لله.. ما أعظم تواضع الإمام (علیه السلام) ! كان بالإمكان أن يرجع إلى رحله، ليأتي يزيد ثَمّ ويتشرّف بلقاء إمامه.. غير أنّ الإمام (علیه السلام) جلس ينتظره..
كلّ مؤمنٍ في الكون يتمنّى أن ينعم بالنظر إلى وجه الإمام الحسين (علیه السلام) ، ويحظى بلقائه، ويسعد بلحظات الانتظار لهذا اللقاء.. ويزيد هذا السعيد ينتظره الإمام (علیه السلام) !
الشعاع يحنّ إلى قرصه.. لذا عجّل يزيد الرجوع إلى رحله حين عرف أنّ الإمام (علیه السلام) قد طلبه..
لا أدري كيف يمكن مَن يواجه هذا المشهد أن يصف حال يزيد وهو يرجع إلى رحله؟!
إنّ الرجل فقيهٌ عالمٌ بكتاب الله، وبما رزقه الله من معرفة مقام الإمام (علیه السلام) .. فإنْ كان شيءٌ يستحقّ الفرح فهو هذا..
إنْ فرحوا بشيءٍ فلْيحصوه بالفرح هذا، فإنّه لا مفروح به أحقّ من
ص: 151
الفرح بفضل الله وبرحمته، فلْيعتني بهما ولْيفرح لذلك ((1)).
إنّما يكون فرحه بجميل نظر الله، لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم.. فكأنّه ظهر له أنّه عند الله مقبول، ففرح به ((2)).
ففضلُ الله النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ورحمتُه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، كما قال الإمام الباقر (علیه السلام) ((3)).
فمَن قسَمَ الله له حُبّ أهل البيت، فهو خيرٌ له من سلطان هؤلاء، وخيرٌ له ممّا يجمعون ((4)).
وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «فلْيفرح شيعتُنا، هو خيرٌ ممّا أعطى عدوّنا من الذهب والفضّة» ((5)).
فلْيفرح بالإقرار بنبوّة محمّد (صلی الله علیه و آله) ، والائتمام بأمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ، فهو خيرٌ له ممّا يجمع هؤلاء في دنياهم ((6)).
فلْيفرح بولاية محمّدٍ وآل محمّد (صلوات الله عليهم أجمعين)، هو خيرٌ
ص: 152
ممّا يجمع هؤلاء في دنياهم ((1)).
فلْيفرح شيعتنا، هو خيرٌ ممّا أُعطوا أعداؤنا من الذهب والفضّة ((2))..
وفي (تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام)): «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : فضل الله (عزوجل) :القرآن والعلم بتأويله، ورحمته: توفيقه لموالاة محمّدٍ وآله الطيّبين، ومعاداة أعدائهم. ثمّ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : وكيف لا يكون ذلك خيراً ممّا يجمعون، وهو ثمن الجنّة ونعيمها؟ فإنّه يكتسب بها رضوان الله (تعالى) الّذي هو أفضل من الجنّة، ويستحقّ بها الكون بحضرة محمّدٍ وآله الطيّبين الّذي هو أفضل من الجنّة، وإنّ محمّداً وآلَه الطيّبين أشرفُ زينةٍ في الجنان» ((3)).
هذه هي الفرحة.. وبها فرح يزيد، وحقّ له أن يفرح!
حين نقرأ الآية في سياقها، وقد جاءت تتمّةً للآية الّتي سبقَتها، نجد قوّة التوظيف، وعظمة الروح، وسموّ الذات، ونتحسّس طعم الذوق الرفيع، وندرك عمق المعرفة عند هذا الرجل الفادي بنفسه وولده لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..
قال الله (عزوجل) :
ص: 153
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ((1)).
جاءتكم موعظةٌ من ربّكم..جاءكم شفاءٌ لما في الصدور..
جاءكم هُدى..
جاءكم رحمةٌ للمؤمنين..
جاءه إمامُه الحسين (علیه السلام) ..
هذا هو فضل الله ورحمته..
هو خيرٌ ممّا يجمعون.. للدنيا!
ما أروع التوظيف واستحضار الآية بداهة!
إنّها مفاجأةٌ أجمل وأروع من أيّ مفاجأةٍ يرجوها المؤمن في حياته الدنيا وفي الآخِرة.. أنْ يدخل رَحْله فيجد إمامَ الكون ووليّ أمره ينتظره في منزله..
سلّم عليه، وجلس إليه.. فخبّره بالّذي جاء له..
ص: 154
جاء لينصر إمامه.. جاء ليذبّ عن حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعياله.. جاء ليفدي سيّد الشهداء (علیه السلام) بنفسه وولده.. جاء ليجعل نفسه لنفسه الوقاء، ودمَه لدمه الفداء.. جاء ليأخذ بحظّه الأوفر، ويفوز بالشهادة العظمى بين يدَي سيّد شباب أهل الجنّة.. جاء ليمتلك ناصية المجد في الدارين، وينال رضوان الله ورضى رسوله (صلی الله علیه و آله) ، ورضى أمير المؤمنين وفاطمة سيّدة نساء العالمين (علیهما السلام) ..جاء لينعم بالنظر إلى وجه الحسين (علیه السلام) ، ويدخل في رحله.. يدخل في رحل سيّد الشهداء (علیه السلام) ..
فسمع الجواب من الإمام (علیه السلام) ، إذ دعا له بخير.. وقد استجاب الله دعاء حبيبه، فنال يزيدُ درجة: «لا أعلمُ أصحاباً».. نال درجةً ترك مَن بعده من الخلق أجمعين يردّدون: (يا ليتنا كنّا معك).. درجةً يتمنّاها جميع الخلق، من الأوّلين والآخِرين..
وممّا يُؤسَف له أنْ ترك المؤرّخ المشهد صورةً عبّر عنها بكلمتين، ثمّ ختم الموقف.. واكتفى بقوله: فأخبره الّذي جاء له.. ولم يشرح لنا ما قاله ويفصّل لنا خبره، ولم يذكر لنا ما دعا به الإمام (علیه السلام) له..
هكذا اختزل المؤرّخ الموقف، واكتفى بذلك عن التفصيل..
أخبره بالّذي جاء له.. ثمّ أقبل معه حتّى أتى، فقاتل معه فقُتِل معه،
ص: 155
هو وابناه..
يلزم أن يكون يزيد وابناه قد أحرموا حين دخلوا الميقات وحدود الحرم، إذ أنّ اللقاء كان بالأبطح من مكّة.. فهل ذهب يزيد وابناه ليعتمروا ويحلّوا إحرامهم، ثمّ التحقوا بالإمام (علیه السلام) ؟
يبدو أنّ هذا هو المفروض، لأنّ المؤرّخ لم يذكر له دخولاً إلى مكّة بعد أن التقى الإمام (علیه السلام) ، وإنّما أكّد على ملازمته له وإقباله معه حتّى أتىكربلاء، فقاتل فقُتِل..
هكذا هو المؤرّخ يختزل الأحداث، إذ يترك يزيد وابنيه بعد أن ينقل رحله إلى رحل بيت النبوّة ومعدن الرسالة وينضمّ إليهم، وتنقطع أخبار يزيد وابنيه إلى حين الشهادة في كربلاء.
هذا الرجل العظيم الّذي بادر سيّدُ الكائنات يومذاك الإمام الحسين (علیه السلام) إلى زيارته فور بلوغه خبر وصوله، لم يحدّثنا المؤرّخ عن شهادته، واكتفى الطبريّ بذِكر ملازمته ركاب الإمام (علیه السلام) من مكّة حتّى الشهادة، فقال:
ثمّ أقبل معه حتّى أتى، فقاتل معه، فقُتِل معه هو وابناه ((1)).
ص: 156
وقال العلّامة ابن شهرآشوب (رحمة الله) في (المناقب) _ وهو يعدّ أسماء شهداء الحملة الأُولى _ :
المقتولون من أصحاب الحسين (علیه السلام) في الحملة الأُولى: ... عبد الله وعُبيد الله ابنا زيدٍ البصريّ ((1)).
وقال الشيخ السماويّ:
وما زال معه حتّى قُتِل بين يدَيه في الطفّ مبارزةً، وقُتِل ابناه فيالحملة الأُولى، كما ذكره السرويّ ((2)).
ونقل الشيخ المامقانيّ عبارة الشيخ السماويّ، وأضاف:
وقد زادهم شرفاً على شرف الشهادة تسليمُ الحجّة المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) عليه وعليهما بالخصوص في زيارة الناحية المقدّسة ((3)).
هذا ما توفّر لدينا _ حسب الفحص _ في شهادتهم..
ص: 157
ربّما استفاد الشيخ السماويّ طريقة شهادة الأب وصرّح أنّه قُتِل مبارزةً باعتبار أنّ اسم ولدَيه ورد في عِداد شهداء الحملة الأُولى حسب نصّ الشيخ ابن شهرآشوب، ولمّا لم يذكر الأب معهما، فلابدّ أن يكون قد قُتل مبارزة..
ولكنّهم لم ينصّوا على قاتله، ولا على حوادث مبارزته، ولم يسجّلوا له رجَزاً كما هو عادة مثل هؤلاء الأبطال حين يخبطون عسكر العدوّ بحملاتهم.
روى الشيخ ابن نما في (المثير) قال:
حدّث أبو العباس الحِميَريّ: قال رجلٌ من عبد القيس قُتِل أخوه مع الحسين (علیه السلام) ، فقال:
يا فروُ قومي فاندبي
خيرَ البريّة في
القبورِوابكي الشهيدَ بعَبرةٍ
مِن فيض دمعٍ ذي درورِ
ذاك الحسينُ مع التفجُّ
-عِ والتأوُّهِ والزفيرِ
قتلوا الحرام من الأئمّ-
-ةِ في الحرام من الشهورِ ((1))
وقال الشيخ السماويّ:
ص: 158
وفي رثائه ورثاء ولدَيه، يقول ولده عامر بن يزيد:
يا فروُ قومي فاندبي
خيرَ البريّةِ في
القبورِ
وابكي الشهيدَ بعَبرةٍ
مِن فيض دمعٍ ذي درورِ
وارثِ الحسينَ مع
التفجُّ
-عِ والتأوُّهِ
والزفيرِ
قتلوا الحرام من الأئمّ
-ةِ في الحرامِ من
الشهورِ
وابكي يزيدَ مجدَّلاً
وابنَيه في حرّ
الهجيرِ
مترمّلين، دماؤهم
تجري على لُبب النحورِ
يا لهف نفسي لم تفُزْ
معهم بجناتٍ وحورِ
في أبيات، كما ذكر ذلك أبو العبّاس الحِميَريّ وغيرُه من المؤرّخين ((1)).
هكذا قال الشيخ السماويّ: «وغيره من المؤرّخين».. وأنّ ما رواه إنّما هي أبياتٌ ضمن قصيدةٍ لها تتمّة، بشهادة قوله: «في أبيات»، وممّا يؤسَف لهحقّاً أن لا تصل إلينا الأبيات إلّا عن طريق الشيخ.
والأبيات تكتسب أهميّةً خاصّة؛ إذ أنّها صدرت عن معاصرٍ للمصيبة، فهي توثيقٌ وروايةٌ لبعض الأحداث، وعرضٌ لمشاعر الراثي الّذي يتلمّظ طعم المرارة في لهواته، وعرض تحسّره وزفراته على ما فاته من الفوز بالنصرة..
ص: 159
وأعرب عن تفجُّعه أوّلاً وقبل كلّ رزءٍ ومصيبةٍ بمصيبة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الإمام الحسين (علیه السلام) ، ودعا (فرو) لتندبه أوّلاً، ثمّ عرّج على ذكر شهيده ومصيبته بأهله.. ولا ندري ربّما كانت فرو هذه واحدةً من بنات يزيد وأُختاً للشهيدَين العبدَين الصالحَين..
إنّه وثّق _ كمثالٍ _ أنّ يزيد وابنيه جُدّلوا في حرّ الهجير.. وفي ذلك جوابٌ لبعض متأخّري المتأخّرين الّذين اعتمدوا حساباتٍ باردةً وأقوالاً لبعض المؤرّخين يعملون بالحساب، فحكم أنّ فجائع عاشوراء كانت في وقتٍ بارد!!!
ورد في نسخة (المزار الكبير) للمشهديّ: «السلامُ على زيد بن ثُبيت القَيسيّ» ((1)).. ولم يذكر ولدَيه.وفي نسخة السيّد ابن طاووس: «السلامُ على زيد بن ثُبيت القيسيّ، السلامُ على عبد الله وعُبيد الله ابنَي يزيد بن ثُبيت القيسي» ((2))، وفي نسخة: «ثُبيط».
فربّما كان اختلاف الاسم هذا هو الّذي دعا الشيخ النمازيّ ليقول:
ص: 160
زيد بن ثُبيت القَيسيّ: لم يذكروه، وهو من شهداء الطفّ، وتشرّف بسلام الناحية المقدّسة ((1)).
وقال في يزيد بن ثُبيط:
من شهداء الطفّ، كما في (فرسان الهيجاء) وغيره.
وقال العلّامة المامقانيّ _ بعد أن ذكره وذكر شهادة ابنيه عبد الله وعُبيد الله _ :
وقد زادهم شرفاً على شرف الشهادة تسليمُ الحجّة المنتظر (علیه السلام) بالخصوص في زيارة الناحية المقدّسة.
أقول: لم أجد اسمه ولا اسمهما في الزيارة المذكورة المنقولة في (البحار) في العاشر وكتاب المزار، وإنّما الموجود: «السلامُ على زيد بن ثُبيت القَيسيّ، السلام على عبد الله وعُبيد الله ابنَي يزيد بن ثُبيت القَيسيّ».
والشيخ في (رجاله) في أصحاب الحسين (علیه السلام) عدّ يزيد بن ثُبيط من دون وصف ((2)).
يمكن أن نستجلي ما يتوفّر من معلوماتٍ مقتضبةٍ عن هذا الشعاع الناصع والسيف البتّار القاطع من سيوف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، من خلال
ص: 161
التلميحات التالية:
نسبه الرسّان في (تسمية مَن قُتِل) _ ومَن تلاه _ إلى عبد القيس وإلى البصرة، فقال:
قُتِل من عبد القيس من أهل البصرة: الأدهم بن أُميّة ((1)).
وقال الشيخ السماويّ:
العَبديّ البصريّ ((2)).
والعَبديّ هي النسبة إلى عبد القيس، والبصريّ نسبةً إلى البلد.
فهو ينتسب إلى نفس النسبة الّتي ينتسب إليها يزيد بن ثُبيط وأولاده.
وقال الحائريّ في (ذخيرة الدارَين):
ومنهم: الأدهم بن أُميّة العَبديّ البصريّ.
قال في (الإصابة): هو الأدهم بن أُميّة بن أبي عُبيدة بن همّام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيدالعَبديّ ((3)).
ص: 162
وقال السيّد الأمين:
الأدهم بن أُميّة العَبديّ البصريّ:
في كتابٍ لبعض المعاصرين، عن ابن سعدٍ في محكي (الطبقات): إنّ أباه أُميّة صحب النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ثم سكن البصرة، وأعقب بها.
ولم نجد لذلك في (الطبقات) أثراً، ولا في الكتب المستقصى فيها أخبار الصحابة، ك- (الاستيعاب) و(الإصابة) و(أُسد الغابة)، ولو كان كذلك لَذُكر في أحدها ((1)).
أجل، الموجود في (الطبقات) و(الإصابة) وغيرهما: هو أُميّة بن مخشى الخزاعيّ ((2))، وله حديثٌ يرويه حفيده عنه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في آداب الأكل، أمّا أن يكون هو أبو الأدهم فلا دلالة على ذلك ولا إشارة في الكتب الّتي ذكرته.
وفي (الإصابة) و(الاستيعاب) وغيرهما:
أُميّة بن أبي عُبيدة بن همّام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميميّ الحنظليّ، والد يعلى بن أُميّة الّذي يُقال له: يعلى ابن منيّة، وهيأُمّه، أُميّة أبوه،
ص: 163
ولابنه يعلى صحبة، وصحبة ابنه أشهر ((1)).
والظاهر من عبارة صاحب (الذخيرة) الخلط بين أُميّة التميميّ وأُميّة الخزاعيّ، وجعلهما واحداً.
ولا يخفى أنّ مِثل هذا الانتساب الواضح الّذي يذكره صاحب (الذخيرة) لا يبعد عن متناول أرباب الفنّ وخبراء الصنعة من أمثال الشيخ السماويّ (رحمة الله) .
ولا يبدو أنّ ثَمّة حاجةً ملحّةً لهذا التكلُّف، فالأدهم _ كغيره من أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) _ قد ارتقى ذُرى شرف الانتساب إلى رحل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ودخل دائرة «لا أعلم أصحاباً..»، فلا شرف في النسب يرقى إلى شرف النسبة إلى أنصار الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) .
الأدهم بن أُميّة العَبديّ البصريّ، صحابيّ، ثمّ سكن البصرة ((2)).
يبدو أنّ الشيخ قد وقف على ما قاله صاحب (الذخيرة) أو مَن نقل عنه، فقال ذلك، فإنْ كان هذا هو المستنَد في قوله فقد تبيّن لنا الأمر قبل قليل، وإن كان له مستندٌ آخَر اعتمده ولم يذكره فهو ذاك.
ص: 164
قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) :
كان الأدهم من الشيعة البصريّة الّذين يجتمعون عند مارية، فخرج إلى الحسين مع يزيد ((1)).
ونقل صاحب (الذخيرة) و(الوسيلة) عبارة الشيخ السماويّ في ترجمة يزيد بن ثُبيط، والتحاقَ الأدهم به وخروجَه معه ((2)).
وقد أفاد الشيخ السماويّ (رحمة الله) هنا معلومتَين مهمّتَين في شأن الأدهم، إذ أنّه قرّر أنّه كان من الشيعة البصريّة الّذين يجتمعون عند مارية، كما قرّر أنّه كان ممّن خرج مع يزيد بن ثُبيط إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) .
وكِلا المعلومتين انفرد بهما الشيخ السماويّ، فهما إمّا أن تكونا استنتاجاً منه _ حشره الله مع الحسين (علیه السلام) _، وإمّا أن يكون قد وقف عليهما في كتابٍ لم يصل إلينا، فنقلها من دون تصريحٍ باسم المصدر، والله العالم.
قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) :
وما زال معه حتّى قُتِل بين يديه في كربلاء مبارزةً بعد صلاة
ص: 165
الظهر ((1)).
قال صاحب (الحدائق): قُتِل مع الحسين. ولم يذكر غير ذلك.
وقال غيره: قُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتل من أصحاب الحسين ((2)).
وخلط البعض فنقل عبارة الشيخ جملةً واحدة، ونسب ما رواه الشيخ عن صاحب (الحدائق) وما رواه عن غيره فنسبه جميعاً إلى صاحب (الحدائق) ((3)).
فإن كان قد استُشهد في الحملة الأُولى _ كما نسب الشيخ السماويّ إلى غير صاحب (الحدائق)، ولم نقف عليه _، فقد نال شرف الخصائص الّتي اختصها الله بهذه الثلّة الطيّبة.
وإنْ قُتل مبارزةً، فإنّ المؤرّخ قد أغفل تفاصيل شهادته ومبارزته، ولم يذكر لنا قاتلَه ولا ظروف مبارزته، ولم يسجّل له رجَزاً.
بَيد أنّ العمومات الواردة في التاريخ تجري عليه كسائر الأنصار (رضوان الله عليهم)، فيلزم أن يكون قد تقدّم للاستئذان بين يدَي إمامه
ص: 166
الغريب، وسلّم عليه وودّعه، وشيّعه الإمام (علیه السلام) بتلاوة قوله (تعالى): ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ﴾ ((1)).. ثمّ إنّه لما صُرع مشى إليهسيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما كان يفعل مع باقي الأنصار، وغيرها من العمومات الّتي ذكرها المؤرّخ في الأنصار الأبرار.
ممّا يُؤسَف له أسفاً لا ينقضي، أنّ المؤرّخ والرجاليّ لم يتابع أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم يسجّل لنا عنهم الكثير، وربّما كان لذلك أسبابٌ كثيرةٌ سنأتي على بيانها في محلّه إن شاء الله (تعالى).
واكتفى التاريخ بتسجيل بعض الإشارات، نحاول التعرّف إليها فيما يلي:
أمّا اسم الأب: فقال بعضهم: بدر ((1))، وقال آخَرون: زيد ((2))، وطائفةٌ ثالثةٌ قالوا: يزيد ((3)).
وقد وردَت الأسماء الثلاثة في زيارة الناحية لشخصٍ واحدٍ حسب النُّسَخ المختلفة للزيارة.
أمّا نسبته:فقد قال الرسّان:
وقُتِل من بني سعد بن بكر: الحَجّاج بن بدر ((4)).
وقال الشيخ السماويّ:
الحَجّاج بن بدر التميميّ السعديّ: كان الحَجّاج بصريّاً، مِن بني سعد بن تميم ((5)).
ص: 168
وجمعها الشيخ المامقانيّ فقال:
الحَجّاج بن زيد السعديّ التميميّ البصريّ ((1)).
والسعديّ: نسبةً إلى عدّة قبائل: إلى سعد بن بكر بن هوزان، وإلى سعد تميم، وإلى سعد الأنصار، وإلى سعد جذام، وإلى سعد خولان، وإلى سعد تجيب، وإلى سعد بن أبي وقّاص، وإلى سعد من بني عبد شمس، وإلى سعد هذيم بن قضاعة..
وأمّا سعد تميم، فهو: سعد بن زيد مناة بن تميم، منهم سهم بن منجاب السعديّ ((2)).
وقد زاده الله شرفاً، وجعله لقبيلته ولجميع البشر مفخَراً بانتسابه إلى الإمام غريب الغرباء وعزيز الزهراء (علیها السلام) ، ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ ((3))، فبذّ مَن سبق وأعجز مَن لحق، سوى مَن استثناهم الله.
قال الزنجانيّ:
حَجّاج بن يزيد: وكان من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) في
ص: 169
صفّين ((1)).
إنفرد الزنجانيّ بهذا التصريح حسب فحصنا، وهو لم ينصّ على المصدر الّذي استقى منه المعلومة.
وحضوره في صفّين _ إنْ ثبت _، فإنّه بالإضافة إلى ما يفيده من وجود هذا النور في صفّ الحقّ منذ ذلك الحين وثبوت خوضه الحرب قبل يوم الحسين (علیه السلام) ، فإنّه يفيد تلويحاً مدّة عمره وسنّه.
ولو لم يثبت، ففي شهادته بين يدَي قرّة عين أمير المؤمنين (علیه السلام) مدافعاً عنه وذابّاً عن عياله ودخوله في دائرة «لا أعلم أصحاباً»، فإنّ فيه من الشرف والسموّ ما لا يجعله يتحسّر على فوت سعادةٍ سبقه إليها أحد.
قال الشيخ السماويّ: إنّ الحجّاج بن بدر السعديّ حمل كتاب يزيد بن مسعود النهشليّ الّذي جمع بني تميم وحثّهم على نصرة الإمام الحسين (علیه السلام) _ على التفصيل الّذي مرّ معنا _، ونسب ذلك إلى بعض أهل المقاتل..قال (رحمة الله) :
ثمّ كتب [مسعود بن عمرو] إلى الحسين.
قال بعض أهل المقاتل: مع الحجّاج بن بدر السعديّ ...
ص: 170
وبقي الحَجّاج معه حتّى قُتِل بين يديه.
أقول: إنّ الّذي ذكره أهل السيَر أنّ الحسين (علیه السلام) كتب إلى مسعود ابن عمرو الأزديّ، وهذا الخبر يقتضي أنّه كتب إلى يزيد بن مسعود التميميّ النهشليّ، ولم أعرفه، فلعلّه كان من أشراف تميم بعد الأحنف، وقد تقدّم القول في هذا ((1)).
وقد مرّ كلام الشيخ السماويّ، وأنّه افترض أنّ الّذي جمع القوم وكتب الكتاب إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) هو مسعود بن عمرو، وعرفنا هناك أنّ مسعود بن عمرو هذا من ألدّ أعداء الإمام (علیه السلام) ، وليس ثَمّة مَن يروي استجابته للإمام (علیه السلام) ، سوى أنّ الشيخ السماويّ لمّا كان لا يعرف يزيد بن مسعود النهشليّ ولم يجد له ذِكراً في الكتب، افترض وقوع الخطأ في الاسم الوارد في الخبر، فأرجع الحدَث إلى مسعود بن عمرو، لأنّ اسمه واردٌ في المصادر كمخاطَبٍ للإمام (علیه السلام) في الكتاب الّذي بعثه إلى وجوه أهل البصرة..
فمن افترضه الشيخ (رحمة الله) ليكون كاتباً للإمام (علیه السلام) (وهو مسعود)، لم يرد بتاتاً في التاريخ _ حسب فحصنا _، ومن ورد اسمه ككاتبٍ للإمام (علیه السلام) عندابن نما (يعني يزيد النهشلي)، لم يكن اسمه وارداً في التاريخ _ حسب الفرض _، فكيف يمكن ترتيب النتائج على هذا النحو؟
ص: 171
بعبارةٍ أُخرى:
إنّ مَن ورد اسمه في التاريخ كمخاطَبٍ للإمام (علیه السلام) (مسعود)، لم يرد في التاريخ أنّه ردّ على الإمام (علیه السلام) هذا الردّ الموفّق، وأنّى له به وهو من ألدّ الأعداء!
ومَن روى ابن نما له هذا الموقف، لم يرد اسمه في التاريخ!
فمن ذكره أهل المقاتل وقالوا أنّ الحجّاج كان حاملاً لكتابه، مَن هو؟ هل هو مسعود الّذي افترضه الشيخ _ وهو لم يفعل _، أو يزيد بن مسعود الّذي نصّ عليه ابن نما ولم يذكر في خبره اسم حامل الكتاب؟
وقد أطلق الشيخ (رحمة الله) النقل عن أهل المقاتل ولم يُسمِّ شيئاً منها، وما توفّر لدينا من كتب ومصادر لم نقف فيها على ما ذكره، وهو غريب؛ إذ لم ينقل الشيخ عن كتابٍ واحدٍ أو كتابٍ بعينه، فنفترض وصوله له دون أن يصل إلينا، وإنّما قال: «بعض أهل المقاتل»، وهذا التعبير يفيد أن يكون الراوي لهذا الخبر أكثر من واحد..
ونحن لا نشكّ أنّ الشيخ كان صاحب كتب ومكتبة، ونحسب أنّه قد وقف على المعلومة إن شاء الله (تعالى)، ولم تصلنا.. سيّما أنّه ينقل حدَثاً ويروي خبراً ويقدّم معلومة، فيبعد حمله على الاستنتاج والتحليل..كما يبعد أن يُقال: إنّ كتاب يزيد بن مسعود النهشليّ _ وحسب الشيخ السماويّ: مسعود الأزديّ _ لابدّ أن يكون قد أرسله بيد رسولٍ حمله
ص: 172
إلى الإمام الحسين (علیه السلام) من البصرة، فلْيكن الحامل هو الحجّاج بن بدر، فإنّ اختيار الحجّاج دون غيره من الأبطال المبادرين إلى نصرة الإمام (علیه السلام) من البصرة غريبٌ لا مسوّغ له.
ونظنّ أنّ مَن تأخّر عن الشيخ نقل عبارته اعتماداً عليه وثقةً به _ وهو موضعٌ للثقة _، من دون أن يكون قد وقع الناقل على المعلومة بنفسه في كتاب ((1))، إذ لو كانت المعلومة متوفّرةً لمن جاء بعد الشيخ وموجودةً في الكتب المتداولة، لَوصلَت لغيرهم من المعاصرين، والله العالم.
قال الشيخ السماويّ:
قال صاحب (الحدائق): قُتِل مبارزةً بعد الظهر. وقال غيره: قُتِل في الحملة الأُولى قبل الظهر ((2)).
لم نجد ما ذكره الشيخ في النُّسَخ المتوفّرة لدينا من كتاب (الحدائق)، وقد حقّقنا ما ورد في الكتاب عن سيّد الشهداء (علیه السلام) وطبعناه مفرداً..
والموجود في نسخنا عن الحجّاج بن بدر عدُّه في شهداء من بني سعد
ص: 173
ابن بكر، وعبارته الموجودة بالحرف وهو يعدّد شهداء الطف: «وقُتِل من بني سعد بن بكر: الحَجّاج بن بدر»، وانتهى!
فربّما كانت نسخةٌ عند الشيخ أتمّ ممّا هو متوفّرٌ حالياً من مطبوعٍ وحجريٍّ ومصوّرةٍ مخطوط، ربّما وفقنا الله للوقوف عليها.
وربّما يشهد لذلك أنّ الشيخ يعدّ (قعنب بن عمر النمريّ) في الشهداء، وينسبه إلى (الحدائق)، ولم نجده، كما سيأتي بيانه بعد قليل.
أو ربّما كان الشيخ ينقل عن كتابٍ آخَر اسمه (الحدائق) أيضاً، وليس هو للمحلّيّ، غير أنّ هذا الاحتمال بعيد؛ لتصريحه أحياناً بالاسم الكامل: (الحدائق الورديّة)، ولاشتهاره.. والله العالم.
ولا ندري مَن يقصد بغير صاحب (الحدائق) الّذين قالوا: إنّه قُتِل في الحملة الأُولى، فإنْ كان المقصود هو الشيخ ابن شهرآشوب، كما صرّح به الحائريّ صاحب (الذخيرة) ((1))، فإنّ مصوّرات النُّسَخ المخطوطة والمطبوعة المتوفّرة لدينا من كتاب (المناقب) لابن شهرآشوب لم نجد فيها اسمه اللامع بين مَن عدّهم الشيخ صاحب (المناقب) من شهداء الحملة الأُولى ((2)).
ص: 174
وإن كان غيره من المؤرّخين أيضاً، كما صرّح به صاحب (الذخيرة) بقوله: «وقال ابن شهرآشوب وغيره من المؤرّخين» ((1))، فإنّنا لم نقف على قول الشيخ ابن شهرآشوب فضلاً عن غيره من المؤرّخين، ولا ندري مَن يقصد بهم، إلّا أن يكون مقصوده بالمؤرّخين الشيخ السماويّ.
كيف كان، فإنّه قد نال بالشهادة بين يدَي ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزيز الزهراء وقرّة عين الوصيّ (علیهما السلام) ما يغبطه عليه المؤمنون، ولا زالوا في الأعصار والأمصار على كرّ الليالي والأيّام ودوران الفلك ومرّ الدهور يكرّرون بلهفةٍ وحسرة: يا ليتنا كنّا معكم!
فهنيئاً له.. فقد فاز بالحُسنَيَين بين يدَي حبيبه الحسين (علیه السلام) ، دفاعاً عنه وعن آل الله وحرمه، وحضر يومه، وحاز كلّ المراتب الّتي لا يبلغها إلّا مَن هو مثله، ومزج دمه بدماء ساداته، وأصاب قلوب المؤمنين بمصيبته، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
في (المزار) لابن المشهديّ:
«السلامُ على شبيب بن عبد الله النهشليّ، السلامُ على الحَجّاج ابن زيدٍ السعديّ» ((2)).
ص: 175
وورد في (الإقبال) و(البحار) السلامُ عليه في نفس السياق الّذي وردفي (المزار) وغيره من المصادر باختلافٍ في اسم الأب، كما أشرنا فيما مضى.. فورد (زيد) و(يزيد) ((1))..
وفي زيارة أوّل رجب والنصف من شعبان ورد: (يزيد) و(بدر) ((2))..
والظاهر أنّه واحد، وثَمّة تصحيفٌ قد وقع، والله العالم.
السلام عليه.. لقد طاب وطابت الأرض الّتي فيها دُفن.. ونُشهِدك اللّهمّ أنّا بما فعل هو وباقي الأنصار راضون.. يا ليتنا كنّا معهم، فنفوز فوزاً عظيماً..
يمكن التشرّف بالتعرّف على هذا الشعاع الساطع من الأنوار الحسينيّة من خلال اللمحات التالية:
قال ابن الأثير في (اللُّباب):
ص: 176
قال هِشام الكلبيّ:
منهم: عامر بن مسلم بن قيس بن سلَمة بن طريف بن أبان بن سلَمة بن جارية بن فهم بن بكر بن عبلة بن أنمار بن مبشر بن عميرة، قُتِل مع الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، ولطريف صحبة ((1)).
وقال ابن حزمٍ في (الجمهرة):فمن بني عُميرة بن أسد بن ربيعة بن نزار: طريف بن أبان بن سلَمة ابن جارية بن فهم بن بكر بن عبلة بن أنمار بن مبشّر بن عُميرة بن أسد بن ربيعة، وفد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) .
ومن وُلده: عامر بن مسلم بن قيس بن مسلمة بن طريف بن أبان، قُتِل مع الحسين (علیه السلام) ((2)).
نسبتُه: العَبديّ، البصريّ ((3)).. والعَبديّ نسبةً إلى عبد القيس، والبصريّ نسبةً إلى البلد.
كما ورد في (التسمية) للرسّان، قال:
وقُتِل من عبد القيس من أهل البصرة: عامر بن مسلم، وسالم مولاه ((4)).
ص: 177
وقال ابن حزم في (الجمهرة):
العَبديّ: هو عبد القيس بن أفصى بن دعمى بن حديلة بن أسد ابن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان (من ولد إسماعيل (علیه السلام))، وبنو ربيعة باليمن ((1)).
الوارد في الزيارة وفي المصادر: (مسلم)، بالاتّفاق.
ذكرنا قبل قليلٍ اسم جدّه ونسبه..
بَيد أنّ البعض خلط هنا فجعل اسم الجدّ (حسّان)، وزعم أنّ هذا ما ذكره النجاشيّ في (رجاله) والحلّيّ في (توضيح الاشتباه).. قال:
أقول: قال أبو عليّ في (رجاله): عامر بن مسلم العَبديّ، مِن أصحاب الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، قُتِل معه بكربلاء.
وقال أبو العبّاس النجاشيّ في (رجاله): هو عامر بن مسلم بن حسّان بن شُريح بن سعد بن حارثة بن لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن بشماقة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن قطرة السعدي
ص: 178
البصريّ، من أصحاب الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، قُتِل معه بالطفّ.
وفي (إيضاح الاشتباه) للعلّامة (رحمة الله) ، قال: ومن أحفاده: أحمد بن عامر _ المكنّى أبا الجعد _ بن سليمان بن صالح بن وهب بن عامر _ الّذي قُتِل مع الحسين بن عليٍّ بكربلاء _ بن مسلم بن حسّان _ المقتول بصفّين مع أمير المؤمنين (علیه السلام) _ بن شُريح _ بالشين المعجمة _ بن سعد بن حارثة _ بالثاء المنقطة _ بن ذهل بن جُدعان _ بضمّ الجيم وإسكان الدال _ بن قنطرة بن طيء، العَبديّ البصريّ.
وقال النجاشيّ: أدرك الرضا (علیه السلام) أحمدُ بن عامر بن سُليمان فيسنة أربعٍ وخمسين ومئة، وله مؤلّفاتٌ عديدة، منها: كتاب أخبار البصرة، وكتاب مقتل أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وكتاب السقيفة. إلى أن قال: ومات في سنة أربعٍ وسبعين ومئة ((1)).
والحال أنّ النجاشي والحلّيّ إنّما يذكران عامر بن حسّان الطائيّ، وقد ورد اسمه في الزيارة الناحية والمصادر، وهو غير عامر بن مسلم العَبديّ، ولا ندري كيف يكون الطائيّ عبديّاً؟!
قال النجاشيّ:
أحمد بن عامر بن سُليمان بن صالح بن وهب بن عامر _ وهو الّذي قُتِل مع الحسين بن عليّ (علیهما السلام) بكربلاء _ بن حسّان بن شُريح بن
ص: 179
سعد بن حارثة بن لام بن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن فطرة بن طيء، ويُكنّى أحمد بن عامر: أبا الجعد.
قال عبد الله ابنه _ فيما أجازنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم، حدّثَنا أبي، قال: حدّثَنا عبد الله، قال _ : وُلد أبي سنة سبعٍ و خمسين ومئة، ولقي الرضا (علیه السلام) سنة أربعٍ و تسعين ومئة، ومات الرضا (علیه السلام) بطوس سنة اثنتين ومئتين يوم الثلاثاء لثمان عشرة خلَون من جُمادى الأُولى، وشاهدتُ أبا الحسن وأبامحمّد (علیهما السلام) ، وكان أبي مؤذّنهما، ومات عليّ بن محمّدٍ (علیه السلام) سنة أربعٍ وأربعين ومئتين، ومات الحسن (علیه السلام) سنة ستّين ومئتين يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من المحرّم، وصلّى عليه المعتمد أبو عيسى ابن المتوكّل. رفع إليّ هذه النسخة نسخة عبد الله بن أحمد بن عامر الطائيّ أبو الحسن أحمد بن محمّد بن موسى الجنديّ شيخنا (رحمة الله) ، قرأتها عليه، حدّثكم أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن عامر، قال: حدّثَنا أبي، قال: حدّثَنا الرضا عليّ بن موسى (علیه السلام) . والنسخة حسنة ((1)).
وقال في موضعٍ آخَر:
عبد الله بن أحمد بن عامر بن سُليمان بن صالح بن وهب بن عامر _ وهو الّذي قُتِل مع الحسين (علیه السلام) بكربلاء _ بن حسّان _ المقتول
ص: 180
بصفّين مع أمير المؤمنين (علیه السلام) _ بن شُريح بن سعد بن حارثة بن لام ابن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن ذهل بن جدعان بن سعد بن طيء، يُكنّى: أبا القاسم.
روى عن أبيه عن الرضا (علیه السلام) نسخة، قرأتُ هذه النسخة على أبي الحسن أحمد بن محمّد بن موسى، أخبركم أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن عامر، عن أبيه، عن الرضا (علیه السلام) .ولعبد الله كتب، منها: كتاب قضايا أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أخبرنا به إجازةً أحمدُ بن محمد [بن] الجنديّ عنه ((1)).
وقال الحلّيّ في (الإيضاح):
أحمد بن عامر بن سُليمان ... بن صالح بن وهب ... بن عامر _ وهو الّذي قُتِل مع الحسين (علیه السلام) بكربلاء _ ابن حسّان بن شُريح ... بن سعد بن حارثة بن لاثم ... بن عمرو ... بن طريف ... بن عمرو ... بن بشامة ... بن ذهل بن جدعان ... بن سعد ... بن فطرة ((2)).
وقال في موضعٍ آخَر:
عبد الله بن أحمد بن عامر بن سُليمان بن صالح بن وهب بن عامر _ وهو الّذي قُتِل مع الحسين (علیه السلام) بكربلاء_ بن حسّان _ المقتول
ص: 181
بصفّين مع أمير المؤمنين (علیه السلام) _ بن شُريح ... بن سعيد بن حارثة ... بن لام ... بن عمرو ... بن طريف بن عمرو ... بن ثمامة ... ابن ذهل بن جدعان ((1)).
فالخلط بإضافة اسم مسلم إلى نسب عامر بن حسّان إنّما كان من صاحب (الذخيرة)، وله في كتابه أمثالها، وتبعه على ذلك بعض مَن تأخّرعنه.
قال السيّد الأمين في ترجمة عامر بن حسّان:
عامر بن حسّان بن شريح ...
ذكر النجاشيّ في ترجمة حفيده (أحمد بن عامر) أنّه قُتِل مع الحسين (علیه السلام) ، وهو غير (عامر بن مسلم العَبديّ) الآتي، فذاك ابن مسلم وهذا ابن حسّان، وذاك عَبديٌّ وهذا طائيّ ((2)).
في (رجال الطوسيّ):
من أصحاب الحسين بن عليّ (علیهما السلام) : عامر بن مسلم، مجهول ((3)).
ص: 182
قال الشيخ المامقانيّ:
وقوله: «إنه من أصحاب الحسين (علیه السلام) ، مجهول»، ناشٍ من عدم الفحص عن حاله، وإلّا فأيّ عدالةٍ وثقةٍ أعظم كاشفاً من بذل النفس، مع العلم بحكم العادة بظفر الخصم؟!
وأغرب ممّا صنعه آية الله، ما صنعه الجزائريّ من عدّه إيّاه في الضعفاء! ((1))إنّها المصطلحات الفنّيّة الجامدة الباردة المتحجّرة، تُستخدَم للتعبير عن معانٍ محدَّدةٍ مضبوطة، لا تلحظ المادّة المبحوثة ولا تتعدّى القالب المقطوع لها على القياسات الدقيقة.. وإلّا فهل يحتاج إلى شهادة أحدٍ مَن دخل دائرة «لا أعلم أصحاباً..»؟!!
قال الشيخ السماويّ:
كان عامر من الشيعة في البصرة، فخرج هو ومولاه سالم مع يزيد [بن ثُبيط البصريّ] إلى الحسين (علیه السلام) ، وانضمّ إليه، حتّى وصلوا كربلاء ((2)).
ص: 183
قد مرّ الكلام في ذلك قبل قليل، فلا نعيد.
وقال الحائريّ في (الذخيرة):
وقال صاحب (الحدائق): كان عامر بن مسلم العَبديّ من الشيعة في البصرة، فخرج هو ومولاه سالم مع يزيد بن ثُبيط البصريّ العَبديّ _ الّذي مرّ ذكره آنفا _ إلى الحسين (علیه السلام) ، وانضمّ إليه بالأبطح من مكّة، حتّى وصلوا كربلاء، وكان معه إلى يوم الطفّ ((1)).لم نقف على شيءٍ ممّا نقله السيّد الحائريّ عن (الحدائق) في النُّسَخ المتوفّرة لدينا من مطبوعٍ ومصوّرة المخطوطة، وهي عبارة الشيخ السماويّ (رحمة الله) ، وقد اكتفى صاحب (الحدائق) بتوثيق اسمه كشهيدٍ من شهداء الطفّ بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) .
ويبدو أنّ الحائريّ نقل عبارة الشيخ السماويّ ونسبها إلى صاحب (الحدائق)، والله العالم.
وقال الشيخ السماويّ:
وكان القتال، فقُتِلا بين يدَيه ...
قال في (المناقب) وفي (الحدائق): قُتِلا في الحملة الأُولى ((1)).
ولم نرَ فيما توفّر لدينا من نسخة (الحدائق) إشارةً إلى عدِّه في شهداء الحملة الأُولى.
صلّى الله وسلّم على روحه وبدنه.. طاب وطابت الأرض الّتي فيها دُفن.. ويا ليتنا كنّا معه، فنفوز فوزاً عظيماً..
وفيه يقول الفضل بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب من قصيدته الّتي ينعى بها على بني أُميّة أفعالهم:
أرجِعوا عامراً وردّوا زهيراً
ثمّ عثمان فارجعوا غارمينا
وارجعوا الحرّ وابنَ قَينٍ وقوماً
قُتِلوا حين جاوروا صفّينا
أين عمرٌو وأين بِشرٌ وقتلى
منهمُ بالعراء ما يدفنونا؟
عنى بعامر: العَبديّ، وبزهير: هذا، وبعثمان: أخا الحسين (علیه السلام) ، وبالحُرّ: الرياحيّ، وبابن قَين: زهيراً، وبعمرو: الصيداويّ، وببشر: الحضرميّ ((2)).
ص: 185
والأبيات من قصيدةٍ طويلةٍ يرويها ابن أبي الحديد في (شرح النهج) ((1)).
في زيارة الناحية المقدّسة:
«السلامُ على عامر بن مُسلم» ((2)).
وزيارتِه في أوّل رجب والنصف من شعبان أو في زيارة الأربعين:
«السلامُ على عامر بن مُسلم، ومولاه مُسلم» ((3)).
هنيئاً له هذا السلام من المنتقِم لدمائهم، الّذي علّم في هذه الزيارةبالسلام على أصحاب الحسين (علیه السلام) بأسمائهم.
يمكن متابعة ما ورد عن هذا السيف البتّار من سيوف سيّد
ص: 186
الشهداء (علیه السلام) من خلال الومضات التالية:
لم نجدْ في كتب التاريخ والتراجم المتوفّرة لدينا سوى نسبة الولاء الّتي اشتهر بها هذا الشهيد الطيّب الطاهر، إذ نسبوه إلى عامر بن مسلم العَبديّ البصريّ بالولاء، لا أكثر، كما ورد في (تسمية مَن قُتِل) للرسّان ((1)) والناحية المقدّسة ومَن تلاهما..
وعدّه الشيخ السماويّ (رحمة الله) في عِداد الموالي الخمسة عشر الّذين قُتِلوا في الطفّ ((2)).
وقال السيّد الحائريّ في (الذخيرة):
أقول: وقال ابن حجَر العسقلانيّ في (الإصابة): هو سالم بن أبي الجعد العَبديّ، أحد الثقات التابعين، مولى عامر بن مسلم، وكان من شيعة البصرة ((3)).ولفظ ابن حجَر في (الإصابة) هو:
سالم بن أبي الجعد: أحد ثقات التابعين.
ص: 187
ذكره بعضهم في المخضرمين، معتمِداً على ما حكاه ابن زبر أنّه مات سنة تسعٍ وتسعين وله مئةٌ وخمسة عشرة سنة، فيكون أدرك مِن الحياة النبويّة ستّاً وعشرين سنة.
وهذا باطل؛ فقد جزم أبو حاتم الرازيّ بأنّه لم يُدرِك ثوبان ولا أبا الدرداء ولا عمرو بن عبسة، فضلاً عن عثمان، فضلاً عن عمر، فضلاً عن أبي بكر ((1)).
ولم نجد ذكراً لسالم بن أبي الجعد غير هذا في نُسَخ (الإصابة) المطبوعة المتوفّرة لدينا.
وأبو سالم هذا الّذي يذكره صاحب (الذخيرة) عن (الإصابة) رجُلٌ غطفانيّ، مولى لأشجع كوفي ((2)).. وليس عبديّاً، وقد ورد اسمه في كتب التراجم والحديث.. فهو _ على ما يبدو _ ليس سالم الشهيد مولى عامر بن مسلم!
ويبدو أيضاً أنّ الزنجانيّ صاحب (الوسيلة) اعتمد صاحب (الذخيرة) ونقل عنه، كما يفعل دائماً، غير أنّه لم يذكر اسم أبيه، واكتفى بوصفه: «كان من الثقات التابعين ... ومن شيعة البصرة» ((3)).
ص: 188
أمّا نسبته بالعَبديّ، فالظاهر هو نسبةً لمولاه (عامر بن مسلم)، وقد مرّ الحديث في ذلك، فلا نعيد.
والنسبة الأعظم الّتي ارتقى إليها وسما بها في سماء المجد والخلود، فهي الانتساب إلى أنصار غريب الغرباء وإمام السعداء ريحانة النبيّ الإمام الحسين (علیه السلام) ، ودخوله في دائرة «لا أعلم أصحاباً..»، فهنيئاً له.
مرّ الكلام في ذلك قبل قليلٍ عند الحديث عن كيفيّة التحاق مولاه عامر بن مسلم، فلا نعيد.
قال الشيخ السماويّ:
قال في (المناقب) وفي (الحدائق): قُتِلا في الحملة الأُولى ((1)).
وقال صاحب (الذخيرة)، وتبعه صاحب (الوسيلة):
فلمّا نشب القتال يوم الطفّ، تقدّم بين يدَي الحسين (علیه السلام) وقُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتِل.
وفي (المناقب) لابن شهرآشوب قال: ومِن المقتولين يوم الطفّ في
ص: 189
الحملة الأُولى: سالم مولى عامر العَبديّ (رضوان الله علیه) ((1)).
وقد عدّ الشيخ ابن شهرآشوب عامرَ بن مسلم في شهداء الحملة الأُولى، أمّا سالم مولاه فلم نجِدْ له ذِكراً في شهداء الحملة الأُولى الّذين عدّهم صاحب (المناقب)، وكذا في (الحدائق)..
فإمّا أن تكون نسخةٌ خاصّةٌ للكتابَين وصلَت بيد الشيخ ولم تصلنا، رغم أنّنا راجعنا النسَخ المطبوعة ومصوّرات النسخة الخطّيّة القديمة المتوفّرة عندنا.. وإمّا أن يكون هو استنتاج الشيخ (رحمة الله) ، حيث وجد اسم عامر بن مسلم العبديّ في شهداء الحملة الأُولى، فعدّ مولاه معه، إذ أنّ العادة كانت جاريةً على تقديم صاحب الولاء مولاه قبله ليحتسبه، وكان المولى يتقدّم على صاحب ولائه عادة، والله العالم.
ورد السلام عليه في الناحية المقدّسة:
«السلامُ على سالم مولى عامر بن مُسلم» ((2)).
نال شرف الشهادة بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وحاز شرف السلام
ص: 190
عليه بالاسم.. فيا ليتنا كنّا معه، فنفوز فوزاً عظيماً.
يمكن متابعة هذا السيف اللامع من سيوف الحسين (علیه السلام) من خلال الإلماعات التالية:
قال الرسّان:
وقُتِل من عبد القيس من أهل البصرة: سيفُ بن مالك ((1)).
وذكره الشيخ الطوسيّ في أصحاب الإمام الحسين (علیه السلام) ، قائلاً:
من أصحاب الحسين بن عليّ (علیهما السلام) : سيف بن مالك ((2)).
وذكره الشيخ ابن شهرآشوب مرّتين، مرّةً في أصحاب الإمام الحسين (علیه السلام) على الإطلاق باسم (مالك بن سيف) فقط ((3))، ومرّةً في
ص: 191
عِداد الشهداء (علیه السلام) ، وجعل نسبته (النميريّ) ((1)).
وفي (إبصار العين) وغيره ممّن تأخر عنه: العَبديّ البصريّ ((2)).
لقد سما بحسبه ونسبه وارتفع فوق كلّ حسَبٍ ونسَبٍ بانتسابه إلى أنصار ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، عزيز الزهراء وقرّة عين سيّد الأوصياء، الإمامغريب الغرباء الحسين (علیهم السلام) ، ودخوله في دائرة «لا أعلم أصحاباً..»، فلْيُهنِه الحسب الأثيل والانتساب الأصيل.
قال الشيخ السماويّ (رحمة الله) :
كان سيفٌ من الشيعة، ممّن يجتمع في دار مارية ... وخرج مع يزيد [بن ثُبيط] إلى الحسين (علیه السلام) وانضمّ إليه.
ثمّ نقل خبر خروج يزيد بن ثُبيط وابنَيه، وقال:
... ثمّ خرج وابناه، وصحبه عامر ومولاه وسيف بن مالك والأدهم ابن أُميّة ((3)).
وقال صاحب (الذخيرة):
ص: 192
قال أبو جعفر في كتابه: كان سيفٌ من الشيعة، وكان ممّن يجتمع بالبصرة في بيت امرأةٍ من عبد قيس، يُقال لها: مارية بنت سعد أو مُنقذ، كما ذكرنا آنفاً في ترجمة يزيد بن ثُبيط، فخرج سيف بن مالك مع يزيد ومَن معه إلى الحسين (علیه السلام) ، وانضمّ إليه بالأبطح من مكّة، وما زال معه حتّى وصلوا كربلاء ((1)).
نسب الكلام كلّه لأبي جعفر _ يعني الطبريّ _، والحال أنّ الشيخالسماويّ نقل عن أبي جعفرٍ الطبريّ خبره، ثمّ أكمل من عنده خبر لحاق سيف والآخَرون، ولا ندري ما هو مصدر كلامه، فأخذ صاحب (الذخيرة) كلام الشيخ السماويّ وضمّه إلى كلام الطبريّ ظاهراً، وليس في كلام الطبريّ ما يشير إلى ذلك، وقد أتينا على مناقشة ذلك قبل قليل، فلا نعيد.
عدّه الشيخ ابن شهرآشوب في شهداء الحملة الأُولى، وذكره باسم: سيف بن مالك النميريّ ((2)).
وقال الشيخ السماويّ:
ص: 193
قال صاحب (الحدائق): قُتِل مع الحسين (علیه السلام) . ولم يذكر غير ذلك.
وقال غيره: قُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتِل من أصحاب الحسين (علیه السلام) ((1)).
وقال صاحب (الذخيرة):
وقال صاحب (الحدائق): فلمّا كان يوم الطفّ، تقدّم إلى القتال بين يدَي الحسين (علیه السلام) ، فقاتل حتّى قُتِل مبارزةً بعد صلاة الظهر (رضوان الله علیه) .وقال ابن شهرآشوب في (المناقب): قُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتل قبل الظهر، والله العالم ((2)).
ولا ندري من أين نقل صاحب (الذخيرة) _ وتبعه على ذلك صاحب (الوسيلة) _ كلامَ صاحب (الحدائق)، وليس في كتاب (الحدائق) للمحلّي شيءٌ ممّا نُقِل، سيّما أنّ الشيخ السماويّ أكّد أنّ صاحب (الحدائق) عدّه في الشهداء، «ولم يذكر غير ذلك»، إذ أنّه عدّه في شهداء العَبديّين، ولم يزد على ذلك بالفعل ((3)).
ص: 194
كيف كان، فقد نال شرف الدفاع عن ذرّيّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) والذبّ عن عياله، وفدى نفسه ودمه دون إمام زمانه خامس أصحاب الكساء في يومه الّذي لا يوم كمثله، فيا ليتنا كنّا معه فنفوز فوزاً عظيماً.
ورد السلام عليه في الناحية المقدّسة:
«السلامُ على سيف بن مالك» ((1)).
جمع سيفُ الحسين (علیه السلام) هذا أطراف الشرف من كلّ الجهات، ففاز ببذل مهجته والسخاء بدمه في الدفاع عن إمامه وحرمه، ونال شرف السلام عليه في الزيارة الّتي ظهرَت عن إمامه، وبقي عَبرةً تتردّد في صدورالمؤمنين، ودمعةً ساكبة على مرّ الدهور وكرّ العصور، فهنيئاً له سعادةَ الدارَين ونيلَ المكارم والصعودَ في سُلّم الكمال الّذي ارتقاه بالدفاع عن إمامه الحسين (علیه السلام) ، فبلغ الذروة الّتي لا ينالها إلّا مَن كان مثله.
ص: 195
يمكن التعرّف على هذا الضيغم الضرغام والبطل الهمام من خلال التلويحات التالية:
ورد اسمه في زيارة الناحية المقدّسة: «قعنب بن عمرو النمريّ» ((1)).
وقال السماويّ: قعنب بن عمر النمريّ، وله في القائميّات ذِكرٌ وسلام ((2)).
ولعلّ سقوط الواو من (عمرو) في كلام الشيخ خطأُ مطبعيٌّ أو سهو؛ إذ أنّ كلّ مَن ذكره إنّما ذكره بالواو (عمرو)، وهو كذلك في نُسَخ الزيارة المقدّسة.
وقال الشيخ المامقانيّ:
الضبط: قعنب، بالقاف والعين المهملة والنون والباء الموحّدة منتحت، وزن جعفر، وفي بعض النُّسَخ: قعيب، بإبدال النون ياءً
ص: 196
مثنّاةً من تحت ((1)).
وقال أيضاً في ضبط النسبة:
النُّميريّ، بالنون والميم والباء المثنّاة من تحت والراء المهملة والياء، نسبةً إلى أبي قبيلةٍ من قيس عيلان اسمه نُمير _ كزُبَير _، ابن عامر ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.
قال سيبويه: وقالوا في جمعه: النُّميرون، استخفوا بحذف ياء الإضافة، كما قالوا: الأعجمون ((2)).
وفي (جمهرة الأنساب) لابن حزم:
وَلد عامرُ بن صعصعة: ربيعة _ وفيه البيت والعدد _، هلال، ونمير، وسواءة، بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان (مِن وُلد إسماعيل (علیه السلام)) ((3)).
والنسب الأرفع الّذي يغبطه عليه كلّ الناس من قبيلته ومن سائر بني آدم، سوى مَن استثناهم الله، هو الانتساب إلى أنصار الإمام المظلوم (علیه السلام) ، ودخوله دائرة «لا أعلم أصحاباً..»، فهنيئاً له أبد الآبدين، ويا ليتنا كنّا معه فنفوز فوزاً عظيماً.
ص: 197
قال الشيخ السماويّ:
كان قعنب رجُلاً بصريّاً، من الشيعة الّذين بالبصرة ((1)).
هكذا وجدناه في كتاب (إبصار العين) للشيخ المحقّق السماويّ، ولا ندري مأخذه ومصدره الّذي اعتمده في توثيق كونه بصريّاً من الشيعة الّذين بالبصرة، ولم نقف على هذه المعلومة في غيره من المصادر المتقدّمة عليه حسب فحصنا، بيد أنّ الشيخ كان خبيراً بالقبائل وصاحب مكتبةٍ وكتب، والله العالم.
ويكفيه فخراً أنّه سكن الأرض الطيّبة الّتي اختارها الله لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، فسكن بالقرب من الهيكل المقدّس، فطاب وطابت به التربة الزاكية كربلاء، وانتسب إليها وطناً إلى يوم القيامة.
قال الشيخ السماويّ:
جاء مع الحَجّاج السعديّ إلى الحسين (علیه السلام) وانضمّ إليه ((2)).
ص: 198
وقال الشيخ المامقانيّ:قد ذكر أهل السيَر أنّ قعنباً هذا كان من شيعة البصرة ((1)).
وقد مرّ الكلام في التحاق الحَجّاج نفسه، فالكلام هنا تماماً كما هو هناك، فلا نعيد.
ولا ندري مَن يقصد الشيخ المامقانيّ بأهل السيَر، فربّما قصد الشيخ السماويّ _ حشرهما الله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _.
قال الشيخ السماويّ:
وقاتل في الطفّ بين يدَيه حتّى قُتِل، ذكره صاحب (الحدائق) ((2)).
لم نجده في النُّسَخ المتوفّرة لدينا من (الحدائق)، وقد أرجع محقّق كتاب (الإبصار) كلام المؤلّف إلى (الحدائق، الصفحة: 122)، فربّما كانت نسخةٌ في مكتبة الشيخ فيها يشعّ منها نور هذا الاسم.
وقال صاحب (الذخيرة):
فلمّا نشب القتال، تقدّم بين يدَي الحسين (علیه السلام) وجاهد، حتّى قُتِل في الحملة الأُولى مع مَن قُتِل (رضوان الله علیه) .
ص: 199
وقال غيره: قُتِل مبارزة. والله العالم ((1)).ولا ندري من أين حصل على هذه المعلومات، سواءً أكان عدّه في شهداء الحملة الأُولى، أو روايته قول الغير وأنّه قُتِل مبارزة.
كيف كان، فإنّه تقدّم للقتال ليفدي إمامه حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) بنفسه، ويدفع عنه وعن آل الرسول بروحه ودمه، ويكون ممّن شهد معسكر إمام الحقّ، وينال الدرجات العُلى الّتي رفعَتْه إلى الرفيق الأعلى، وهو متوسّماً بوسام «لا أعلم أصحاباً..»، ونجماً من النجوم الّتي نعتها الرسول (صلی الله علیه و آله) وهو يحدّث فاطمة (علیها السلام) ((2))، وشهد مصارع شهداء لا يسبقهم مَن كان قبلهم ولا يلحقهم مَن كان بعدهم، كما وصفهم أمير المؤمنين (علیه السلام) ((3)).
ورد السلام عليه في الناحية المقدّسة:
«السلامُ على قعنب بن عمرو النمريّ» ((4)).
ص: 200
وفي بعض نُسَخ (الإقبال): «التمريّ»، أو «النُّميريّ».
حاز السموّ والرفعة وجمعها حين فاز بسعادة الشهادة بين يدَي الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ، ونال وسام السلام عليه في كلّ زمان، فالسلام عليه أبداً ما بقينا وبقي الليل والنهار، ويا ليتنا كنّا معه فنفوز فوزاً عظيماً.
عظيمٌ من العظماء، وشخصيّةٌ فريدةٌ يعزّ لها النظير في أولاد آدم، بل ليس له نظيرٌ في العالَمين، سوى مَن استثناهم الله.. وظاهرةٌ فريدةٌ في يوم الحسين (علیه السلام) !
أُمّةٌ في رجل.. له موقفٌ يدكدك الرواسي، ويُذهِل عقول ذوي الألباب، ويأسر قلوب المؤمنين والناس أجمعين..
سنأتي على استكشاف معالم هذه الشخصيّة الأخّاذة الّتي صارت مثالاً للشجاعة في التاريخ، من خلال اللمعات التالية:
فهو ينتسب إلى:
راسب بن مالك بن ميدعان بن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت ابن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان (من وُلد سام بن نوح أو هود (علیهما السلام))، اليمانيّة، كلّها راجعةٌ إلى وُلد قحطان ((1)).
فهو: راسبيٌّ أزديٌّ بصريّ ((2)).وقد بذّ بانتسابه إلى الشهداء في طفّ كربلاء ونصرته لعيال الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) بعد شهادته كلّ نسب، وصار مفخَراً لقومه ولكلّ البشر، فهنيئاً له نصرته لحرم الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولإمام زمانه زين العابدين (علیه السلام) ، ودفاعه وذبّه عنهم.
وهذه الصفة لا تفارق جميع أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) على الإطلاق، إذ كانت شجاعتهم مثَلاً لجميع البشر من لدن آدم إلى يوم القيامة، سوى مَن استثناهم الله (تعالى)..
وكيف لا، وقد لبسوا القلوب على الدروع، وقارعوا أكداس السلاح المتجمّع، وجحافلَ المقاتلين من صناديد البلدان والأمصار، وعساكر الجند الّتي سدّت فروج الأرض وملأَت الغيطان، وشروا أنفسهم لله في زمنٍ لم يكن فيه ناصرٌ ولا معين!
والهفهاف قابَلَ جميع تلك العساكر الّتي كانت ثملَةً بسُكر الظفر وحيداً فريداً..
أيّ شجاعةٍ كانت بين جوانح هذا الرجل الّذي أخرس البلغاء، وقلَبَزهو الأعداء وجذلهم إلى وقعةٍ دهماء سوداء؟!
وقالوا: كان من المخلِصين في الوَلاء ((1))..
وهي شهادةٌ على واقعٍ لا ينكره مكابر.. وقد أثبت ولاءَه بموقفه الّذي لا نظير له في التاريخ..
وقالوا: إنّ له ذِكراً في المغازي والحروب، وكان من أصحاب أمير
ص: 203
المؤمنين (علیه السلام) ، وحضر معه مشاهده كلّها..
ولمّا عقد الألوية أميرُ المؤمنين (علیه السلام) يوم صفّين، ضمّ تميم البصرة إلى الأحنف بن قيس، وأمّر على حنظلة البصرة أعين بن ضبيعة، وعلى أزد البصرة الهفهاف بن المهنّد الراسبيّ الأزديّ، وعلى ذهل البصرة خالد بن معمّر، وكان ملازماً لعليٍّ (علیه السلام) إلى أن قُتِل، فانضمّ بعده إلى ابنه الحسن (علیه السلام) ، ثمّ إلى الحسين (علیه السلام) ((1)).
هكذا قالوا، وقد فحصنا فيما تيّسر لنا من المصادر والمظانّ، فلم نجد لهذه المعلومات الهامّة أثراً.
وفي موقفه في كربلاء غنىً عن كلّ موقف، فمن ختم الله له بخيرٍ عظيمٍ كما ختم للهفهاف، تعرف منه سوابقه وطهارته، فإنْ كان كما ذكروا فهو ممّن يُرتجى منه ذلك، وإنْ لم يكن ففي خاتمه ما يُنبئ عن جليلمنزلته وعظيم رتبته وسموّ معرفته بالولاية والإمامة!
من خصائص هذا البطل الضرغام والأسد الهمام والشجاع المقدام، أنّ التحاقه كان مقارناً لشهادة الإمام (علیه السلام) .
وقد اقتصر الرسّان غالباً على ذِكر اسم الشهيد وانتسابه في الغالب، إلّا
ص: 204
في الهفهاف، فقد روى التحاقه وشهادته..
قال:
وخرج الهفهاف بن المهنّد الراسبيّ من البصرة حين سمع بخروج الحسين (علیه السلام) ، فسار حتّى انتهى إلى العسكر بعد قتله، فدخل عسكر عُمر بن سعد، ثمّ انتضى سيفه وقال:
يا أيّها الجندُ
المجنَّد
أنا الهفهافُ بنُ
المهنّد
أبغي [خ ل: أحمي] عيالَ محمّد
ثمّ شدّ فيهم.
قال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) : «فما رأى الناسُ منذ بعَثَ اللهُ محمّداً (صلی الله علیه و آله) فارساً بعد عليّ بن أبي طالبٍ (علیه السلام) قتل بيده ما قتل، فتداعوا عليه خمسة نفرٍ فاحتوشوه، حتّى قتلوه (رحمه اللهتعالى)» ((1)).
وقال آخَرون من المتأخّرين:
فلمّا سمع بخروج الحسين (علیه السلام) من مكّة إلى العراق، خرج من البصرة، فسار حتّى انتهى إلى العسكر بعد صلاة العصر، فدخل على عسكر عمر بن سعد، فسأل القوم: ما الخبر؟ أين الحسين بن
ص: 205
عليّ؟ فقالوا له: مَن أنت؟ قال: أنا الهفهاف الراسبيّ البصريّ، جئتُ لنصرة الحسين (علیه السلام) حين سمعتُ خروجَه من مكّة إلى العراق. فقالوا له: قد قتلنا الحسين (علیه السلام) وأصحابَه وأنصارَه وكلَّ مَن لحق به وانضمّ إليه، ولم يبقَ غيرُ النساء والأطفال وابنُه العليل عليُّ بن الحسين، أما ترى هجوم القوم على المخيّم وسلبهم بنات رسول الله؟! فلمّا سمع الهفهاف بقتل الحسين (علیه السلام) وهجوم القوم، انتضى سيفه وهو يرتجز ويقول:
يا أيّها الجندُ
المجنَّد
أنا الهفهافُ بنُ
المهنّد
أحمي عيالاتِ محمّد
ثمّ شدّ فيهم كليث العرين يضربهم بسيفه، فلم يزل يقتل كلَّ مَن دنا منه من عيون الرجال، حتّى قتل من القوم جماعةً كثيرةًسوى مَن جَرح، وقد كانت الرجال لَتشتدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، وهو في ذلك يرتجز بالشِّعر المقدّم، وقد أُثخِن بالجراح، فصاح عمر بن سعدٍ بقومه: الويلُ لكم، احملوا عليه مِن كل جانب.
ثمّ قال عليّ بن الحسين (علیه السلام) في ذلك اليوم: «فما رأى الناسُ منذ بعث الله محمّداً (صلی الله علیه و آله) فارساً شجاعاً بعد عليّ بن أبي طالبٍ (علیه السلام) قَتل ما قَتل كهذا الرجل، فتداعوا عليه، فأقبل خمسة عشر نفراً فاحتوشوه، حتّى قتلوه في حومة الحرب بعدما عقروا فرسه،
ص: 206
رضوان الله عليه» ((1)).
يفيد النصّ أنّ الهفهاف خرج من البصرة حين سمع بخروج الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولم يحدّد الموضع الّذي خرج منه الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّ السياق يفيد أنّ المراد هو الخروج من مكّة.
وربّما شهد لذلك ما قاله المتأخّرون عند رواية خبره على لسانه حين سأله القوم عن نفسه، فأجاب:أنا الهفهاف الراسبيّ البصريّ، جئتُ لنصرة الحسين (علیه السلام) حين سمعتُ خروجَه من مكّة إلى العراق ((2)).
وإنّما اكتفينا بالاستشهاد بنقلهم (رحمهم الله) ؛ لاحتمال أن يكون ما نقلوه تفصيلاً للنصّ المأثور، وليس روايةً لخبرٍ كما سيأتي، والله العالم.
فإذا كان ما يفهم من السياق هو المتعيّن، فهو يعني أنّ الهفهاف قد خرج من البصرة قاصداً الإمام الحسين (علیه السلام) وقد خرج من مكّة، فلحق به في كربلاء بعد شهادته.
ص: 207
ويفيد هذا التصوير أنّ الهفهاف كان قد عانى أشدّ المعاناة في مسيره؛ فهو قد خرج وحده _ كما يفيد سياق النصّ _، غير أنّ الأرض كانت مكتظّةً بالجُند والخيل والرجال، ممّا يعسر على مثل الهفهاف أن يسير على رَسْله وكما يحبّ، وعليه أن يختار الطرق غير السالكة، ويضطرّ للكمون والظهور في الجادّة أو غير الجادّة حسب توفّر الظروف الّتي تؤمّن له الحركة بين حراب القوم وعيونهم وخيلهم..
ويفيد السياق أيضاً أنّ الهفهاف كان يتابع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وركب المنايا منذ أن خرج من مكّة، ولولا ذاك لما توجّه إلى كربلاء حيث وقعت الفاجعة..إلّا أن يُفهَم أنّ خروج الهفهاف كان منذ أن أُسر الحسين (علیه السلام) واضطرّه الأعداء للنزول في كربلاء، إذ أنّه (علیه السلام) نزل كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم، ووقع القتال في اليوم العاشر، وهذه الأيام الثمانية كافيةٌ للمُجِدّ أن يسير من البصرة إلى كربلاء، سيّما إذا كان فارساً يدفعه الشوق إلى ركب المنايا، فيستحثّ فرسه ليسابق الريح والزمن حتّى يبلغ أمله في نصرة الحبيب!
سار حتّى انتهى إلى العسكر بعد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .. هكذا روى
ص: 208
الرسّان ((1)) ومَن تلاه.
إنتهى إلى العسكر.. إذ كان الإمام الحسين (علیه السلام) قد قُتِل، والمصيبة العظمى قد وقعَت.. لم يكن الإمام الحسين (علیه السلام) ليدخل عليه ويسلّم عليه..
يا لها من صدمةٍ فادحةٍ مفجعةٍ، تتهاوى لهولها الجبالُ الراسيات، وتندكّ لها الصمُّ الصلاب.. جاء ليلقى إمامه وحبيبه ويدفع عنه، وإذ هو يسمع منهم أنّهم قتلوه.. تركوه على الرمضاء مقطّع الأعضاء.. قد قلّبوا الهيكل المقدّس بحوافر الخيول، فرضّوا صدره وظهره، ورفعوا رأسه على عالي السنان يلوّحون به..وربّما فصّل المتأخّرون ما ورد عند المتقدّمين، فرووا أنّه سأل القوم: ما الخبر؟ أين الحسين بن عليّ؟! فقالوا له: مَن أنت؟ قال: أنا الهفهاف الراسبيّ البصريّ، جئتُ لنصرة الحسين (علیه السلام) حين سمعتُ خروجَه من مكّة إلى العراق. فقالوا له: قد قتلنا الحسين (علیه السلام) وأصحابه وأنصاره وكلَّ مَن لحق به وانضمّ إليه، ولم يبقَ غيرُ النساء والأطفال وابنُه العليل عليّ بن الحسين، أما ترى هجوم القوم على المخيّم وسلبهم بنات رسول الله؟ ((2))
ص: 209
أخبروه أنّهم قتلوا الحسين (علیه السلام) وأصحابه وأنصاره، وكلَّ مَن لحق به وانضمّ إليه..
أكانوا يريدون إفزاعه وإرعابه وتحذيره أن يقدم على أيّ شيء؟ فإنّ مَن قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لا يرعى بعده حُرمةً لدمٍ ولا حرمةً لله..
أخبروه أن لم يبقَ غيرُ النساء والأطفال، وابنُه العليل... وكان في ذلك حافزاً كافياً للهفهاف أن يذبّ عن هؤلاء النساء والأطفال المذاعير، وعن إمامه العليل الّذي شاء الله أن تقيّده العلّة فيصبر..
ربّما يُشعِر قولُهم: أما ترى هجوم القوم على المخيّم وسلبهم بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. أنّه شهد هذه المصيبة العظمى، فحقّ له أن تشتعل في كيانه جذوات الغَيرة لهباً عاصفاً يهبّ في وجوه الطغاة العتاة..
مَن يقوى على تصوير المشهد الّذي دخل فيه الهفهاف إلى كربلاء؟إمامه ملقىً على الرمضاء، مرمّلاً بالدماء، مسلوباً بالعراء، موزّع الأشلاء، ذبيحاً على الظماء، مرفوع الرأس على القنا.. والخيل لا زالت تحوم حوله سكرى مهملجة..
الأجساد المقدّسة المقطّعة السليبة مطروحةٌ في الميدان، كأنّها النجوم والأقمار في غدير الدماء..
الخيل ضابحةً تحمل أوغاداً ووحوشاً كواسر، تثير القسطل وتقتحم خدر
ص: 210
الله.. تسلب، وتنهب، وتضرب، وتروّع..
نساءٌ وأطفالٌ يفرّون على وجوههم في البيداء، يصرخون ويستغيثون.. والذئاب تلاحقهم.. تخرم الآذان.. تعالج الخلاخيل.. تفصم الأساور.. تخمش العقود.. فتخلفها جروحٌ وكدماتٌ وأسواطٌ وكعابُ الرماح وبعجات السيوف..
الكون قد تغيّر.. اظلمّ الهواء، وهبّت ريحٌ سوداء.. ونادى جبرئيل بين الأرض والسماء.. ومطرت السماء دماً وتراباً أحمر.. ارتفع ضجيج الملائكة وعويلها، وامتزج بضجيج الأيامى والأرامل والأيتام والثواكل... كلّ شيءٍ يُنذر بالخطر، حتّى ظنّوا أنّ الساعة قد قامت!
العسكر الطاغي يصفّق ويكبّر ويغنّي ويزغرد، ويملأ الأرجاء شماتةً وفرحاً بقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. يزهو بقتل سادات البشر وخيار الكائنات..لم يعد يُبصِر مِن شدّة السكر طرباً وجذلاً وسروراً.. نشوان بقتله مَن جعلهم الله مظهر قوّته وتجسيداً للشجاعة.. فمن تجرّأ على حرمات الله وقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وافتخر بذلك مفتخرهم، أيحسب لغيره حساباً؟!
في مِثل هذا الجوّ الصاخب في الأعداء..
في مثل هذا الجوّ الحزين الكئيب الباكي في الخلائق..
في مثل هذا الظرف الّذي كاد نظام الكون ينخرم فيه..
يقدم الهفهاف وحده، لينصر آلَ الله!
رجُلٌ يواجه عسكراً بأكمله.. خيّالته ورجّالته، ميمنته وميسرته، وقلبه
ص: 211
وجناحاه، رمّاحته وسيّافته ورماته..
رجُلٌ يواجه زهو العسكر الهائج المائج الجائش المتوحّش.. إنّ الوحش إذا سفك الدم تهيّج وحشيّته.. كيف وقد سفك الدم الزاكي الّذي اقشعرّت له أظلّة العرش!
رجُلٌ واحدٌ يواجه آلافاً مؤلّفةً مدجّجةً بأنواع الأسلحة.. ومن ورائه نساءٌ وصبيةٌ يساقون إلى السبي..
رجُلٌ واحد.. وإمامه عليلٌ مريض، أنهكَته العلّة والمصائب والفجائع.. وعسكرٌ جرّارٌ ملأ فجاج البيداء..
رجُلٌ واحد.. ومصيبةٌ هزّت السماواتِ والأرضين ومَن فيهنّ.. وهو يراها بعينه.. مصيبةً ترتعد لها فرائص الخلائق.. وعليه أن يتماسك لهاوينتقم..
ولو استرسلنا بالوصف والحديث عن تلك اللحظة الّتي وصل فيها الهفهاف كربلاء، وسوّدنا عشرات بل مئات الأوراق، لَما وفينا المشهد حقّه.. فيا ساعد الله الهفهاف!
هكذا عبّر الرسّان في (تسميته): «فسار حتّى انتهى إلى العسكر بعد قتله، فدخل عسكر ابن سعد، ثمّ انتضى سيفه»..
كأنّ غاية مسيره كان العسكر.. فسار حتّى انتهى إلى العسكر..
ص: 212
وحينما وصل غايته، دخل فيهم.. اقتحمهم.. خاض فيهم وقد انتضى سيفه.. دخل عسكر ابن سعد.. رجُلٌ واحدٌ يدخل في عسكرٍ كامل.. يشقّ عبابهم، ويغوص في أعماقهم.. منتضياً سيفه، شاهراً سلاحه الّذي يلتحم بهم من خلاله.. إنّه قصد العسكر كملاً..
عجيبٌ واللهِ هذا الرجُل الشجاع القويّ البطل..
كان وصوله إلى كربلاء دخولاً في العسكر وحرباً ضروساً.. حقّاً كان من الجدير بالعسكر أن يغمره الذهول، وأن يتصايح ليجمع شتاته حين يرى صاعقةً حارقةً نزلَت عليه، تحصد فرسانه وتنثر المنايا عليهم في زخّاتٍ من الموت الزؤام..هزم الزهو.. سحق الكبرياء.. داس الغرور.. محق الخيلاء.. أطار النشوة.. قلب الفرح ترحاً والجذلَ وجوماً.. ظنّوا أنّهم قد أتوا على فرسان الهيجا وأبطال الدنيا، وإذا بهم يبعجون في قلب العسكر بسيفٍ تطاير له شرر الموت الأحمر، فتطاير له القوم كأنّهم جرادٌ منتشر..
لم يشعروا إلّا وهم يواجهون ملَكَ الموت يفري فيهم ويطحنهم، ويعجّل بأرواحهم الخبيثة إلى جهنّم والنيران..
يمكن استشراف رجَز هذا البطل الهمام وليث البصرة الضرغام من خلال اللوحات التالية:
ص: 213
كان الجيش الغارق في غمرات الزهو والتعالي والغرور والتعجرف والتبختر والتبجّح، المتطاول بالخيلاء والصلف والعتوّ والتيه.. طائشاً سادراً في النزق، يتمايل في هوج الخرق والنزق والتهوّر.. يجول بخيله في الميدان في استعراضٍ مقيتٍ شامت، وتنازعٍ عنيفٍ على سلب رحل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وتجاذبٍ شرسٍ شكسٍ خشنٍ لثقل رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. يتفاخرون باقتسام الرؤوس، ويتبجّحون بما فعلوا من جرائم عظامٍ اهتزّ لها عرش الجبّار واقشعرّت أظلّته، وارتجّ لها الكون والتكوين ممّا خلق ربُّالعزّة..
وبينما هم في خضمّ ما هم في الفرح والجذل والخيلاء، فإذا رجُلٌ يناديهم، وقد شهر سيفه، ويدعوهم ليحطّم كبريائهم، ويهشّم غرورهم، ويسحق بأقدامه الراسخة الثابتة زهوهم، ويدمّر غرورهم وطغيانهم..
يا أيّها الجند!
دخل عسكر الأعداء، وقد انتضى سيفه، وهو يناديهم: «يا أيّها الجند المجنّد».. يبدو أنّه يصفه بتحشّده واجتماعه وتكاثفه وتآزره وتظاهره، كمن يقول: آلافٌ مؤلَّفة..
ميدان المعركة لم يكن كبيراً واسعاً، وعدد العسكر كان كثيفاً متكثّراً، فلابدّ من تكادسهم وتكردسهم وتحشّدهم وتجحفلهم وتكوّمهم وتراكمهم،
ص: 214
لتستوعبهم الأرض المحدودة لقتال العدد المحدود.. فهم مجنَّدون..
وهذا المعنى أقرب إلى تصوير المشهد من افتراض المجنَّد بمعنى المدفوع المأمور المألَّب بالتحشّد والاجتماع والتجمهر.
حقّاً إنّه أُمّةٌ في رجُل.. عسكرٌ كاملٌ في رجُل..
إنّ رجلاً يواجه أكداس السلاح وكتائب الرجال وسرايا الفرسان،ويدعوهم إلى نفسه في مِثل تلك الساعة الّتي عثر الدهر فيها فرجّ الكائنات، لَجديرٌ به أن يعرّف نفسه لهم..
لقد أسمع التاريخَ صوتاً لم يسمع له أبناءُ آدم إيقاعاً مثيلاً..
مَن هذا الّذي يصعق عساكر الضلال بصوته، ويدمدم عليهم بصاعقة سيفه، ويختطف أبصارهم بوميض مهنّده الّذي برق في عتمة التاريخ وظلمة الأيّام ليمزّق جمعهم؟!!
إنّه الهفهاف بن المهنّد!
إنّه الشجاع الّذي قابل الجيش بكلّ قطعاته فرداً وحيداً، على أنقاض خيامٍ محترقةٍ، وأشلاءٍ موزّعةٍ، وعسكرٍ مقتولٍ مبضّع..
فلْتسمع كلُّ الخلائق صوته المجلجل الّذي دوّى في جميع آنات التاريخ، ليعلن عن رجلٍ اسمه (الهفهاف).. حملَته همّتُه، ودفعه إيمانه وعزمه، ليقاتل في ساحة الوغى الّتي تناثرت فيها جثث الضحايا والشهداء،
ص: 215
ولم يكن مَن يقاتل فيها سواه..
إنّه يرى نفسه كفؤاً لجميع تلك الجموع المتكاثفة، وهو لها كذلك.. إنّها الشجاعة والثقة بالله الّتي لا تكون إلّا في مِثل هؤلاء الرجال..
لك الفخر كلّه.. ولكلّ مؤمنٍ غيورٍ أن يباهي بك في كلّ يومٍ من أيّام التاريخ.. ولأبيك الّذي ذكرتَه بالاسم وافتخرتَ به كلّ الفخر والرحمة والسؤدد أن خلّف وَلداً مِثلَك..
في (تسمية مَن قُتل) للرسّان و(الحدائق) للمحلّيّ وغيرهما من مصادر المتقدّمين: «أبغي عيالَ محمّد»، وفي بعض كتب المتأخّرين: «أحمي» بدل «أبغي»..
ولا ندري إنْ كان المتأخّرون قد وقفوا على نسخة، أو أنّهم صحّحوا ما في المصدر الأوّل ومَن تلاه _ اجتهاداً _ ليضمّنوه معنىً يناسب المقام..
ولقوله: «أبغي» دلالةٌ مفجِعة..
أبغي.. أطلب.. إنّه يخبرهم أنّه يطلب عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ، ويريد الوصول إليهم.. لقد قُتل الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولو كان حيّاً لَطلبه وأراده.. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون..
ربّما أفاد هذا الإعلان أنّه قصد الوصول إلى عيال الإمام الحسين (علیه السلام) ، فمنعه الأوغاد، وصدّته الوحوش الكواسر، فانتضى سيفه وقاتلهم، ليقشعهم
ص: 216
ويكنسهم ويكردهم عن طريقه..
كما يفيد معنى الحماية.. أبغي عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ، أي: أبغي الدفاع عن عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) .. ففي هذا اللفظ ما يغني عن التغيير إلى «أحمي».
يفيض هذا الليث الهمام معرفةً وعلماً وإيماناً ووعياً وغَيرةً..
إنّه أسمعهم كلاماً لو سمعه مَن فيه شمّةٌ من البشريّة والدين، لَوعىوخشى وخاف وانكفأ..
إنّ العيال المتواجدين في كربلاء هم رحل الإمام الحسين (علیه السلام) وثقله.. غير أنّ الهفهاف نسبه النسبة الأصلية.. نسبهم إلى محمّدٍ نبيّهم وخاتم المرسلين (صلی الله علیه و آله) ..
الحرب كانت مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. المقتول في كربلاء هو النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. الدم المسفوك هو دم النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. الهيكل المرضوض هو هيكل النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. الخيام المحترقة الّتي التهمَتها نيران الحقد هي خيام النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. العيال المنهوبون المسلوبون المحرّق عليهم الفسطاط هم عيال النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ..
يا له من وعيٍ ومعرفةٍ وعمقٍ ينطق به الهفهاف، ليعلن في خضمّ تلك المعركة المتوحّشة أنّ الحرب كانت مع النبيّ محمّد (صلی الله علیه و آله) ، والمقصود بها هو النبيّ محمّد (صلی الله علیه و آله) !
ص: 217
إنّها حرب الانتقام ممّن حطّم أصنامهم، وسفّه أحلامهم، وهشّم جماجم كبرائهم، وسفك دماءهم العفنة بسيف أخيه ويد أمير المؤمنين أبي الحسين (علیهما السلام) .
الابتعاد عن الوطن غربة.. فقد الأحبّة غربة ((1)).. فقد الأحبّة يهدّ القوى ((2)).. البقاء بين الأعداء غربة.. العطش والماء موجودٌ غربة.. النظر إلى الأهل والأولاد والأزواج والأنصار مجزّرين كالأضاحي مطرّحين على الرمضاء غربة..
عدّد واحصِ واحصر كلّ مصداق، وكلّ صورةٍ من صور الغربة الّتي يمكن أن يُبتلى بها مخلوقٌ أيّاً كان.. فإنّك لا تجد غربةً كغربة الإمام غريب الغرباء الحسين (علیه السلام) وعياله!
عيالٌ قد هتك العدوّ خدرهم.. هجم عليهم في عقر خيامهم.. أحرق عليهم سرادقهم.. سلب ونهب، وتركهم يتراكضون على جمر الرمضاء وجمر النيران المتوقّدة تحت الأقدام.. يفرّون على وجوههم في البيداء.. ترطمهم صدور الخيل، وترمحهم حوافرها، وتطاردهم فرسانها المتوحّشون، وتنازعهم ملاحفهم، وتقضم أقراطهم، وتكسر معاصمهم، وتسوقهم بالسياط،
ص: 218
وتلاحقهم على ظهور الخيل.. وهم يركضون عُزّلاً مذعورين مرعوبين بأقدامٍ لا تقوى على حملهم من شدّة العطش وعظيم الفادحة..
في مثل تلك الساعة العصيبة المكفهرّة الّتي انقلب العسكر الهائجالمتوحّش على عيال محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) بعد أن قتل الحماة والولاة.. قُتِل سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام الخلق.. قُتل حامل رايته أبو الفضل العبّاس (علیه السلام) .. قُتل عليٌّ الأكبر (علیه السلام) شبيه النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. قُتل حامل راية الميمنة والميسرة زهيراً وحبيباً.. قُتل جميع أهل البيت والأنصار.. لم يكن في ميدان الوغى سوى الأعداء، وقد أحاط الأوغاد والغوغاء ودخلوا خيام عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ..
في مثل هذه الغربة الّتي يندكّ لها كلّ كيان.. تسمع زينب بنت محمّدٍ وعليٍّ ويسمع عيالُ الحسين صوتاً ينادي في الجمع أنّه يبغيهم ويطلبهم ويدفع عنهم!
لا ناصر لإمام العصر بعد أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) في تلك الأرض المهولة الموحشة.. يتدافعون على خيمته، ويتنازعون قتله.. ثمّ يسمع الإمام زين العابدين (علیه السلام) رجلاً ينادي في القوم، ويرجو أن يبلغ بسيفه ونصرته عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) !
بين صهيل الخيل الضابحة الهائجة، وقعقعة السلاح العاري المشهور الّذي ولغ في الدماء الزاكية ولا زالت تقطر منه.. رؤوس الحراب مضرّجةٌ بالدماء المقدّسة، وحدّ السيوف لا زال مصبوغاً بالدم.. زعقات العسكر.. صيحات الثمالى.. عربدة السكارى.. طبولٌ تُقرع وأبواقٌ تنفخ.. وفرسانٌ
ص: 219
يستعرضون بخيولهم في جميع الأنحاء، يفتّشون كلّ الأرجاء بحثاً عن غنيمةٍ أو بقايا غنيمة، أو ضحيّةٍ أو بقايا ضحيّة..في هذه الزحمة.. يسمع العيال رجُلاً يهتف لهم وباسمهم، ويريد الوصول إليهم لينصرهم.. يسمع العيالُ صوت ناصرٍ لهم!
أيّ موقفٍ عظيمٍ هذا؟! أيّ ذبٍّ عن الكرب؟! أيّ نصرة؟! أيّ مواساة؟! أيّ تسكينٍ لروع الغرباء؟!!
أرأيتَ امرأةً تُنازَع ملحفتها وتُغالَب على خمارها، فتصرخ وتستغيث حتّى يبحّ صوتها، ولا ترى من يغيث، ثمّ ترى مَن ينبري لنجدتها؟!
إنّه مشهدٌ لا يدركه إلّا مَن أدرك ذلك اليوم، ولا يصفه إلّا الإمام المعصوم (علیه السلام) ، كما فعل الإمام زين العابدين (علیه السلام) !
كان أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) ينعمون بالنظر إلى وجهه الكريم، فيتزوّدون منه العزم والشجاعة والإقدام، ويستمدّون منه القوّة والقدرة.. فوجهُ الإمام الحسين (علیه السلام) يشعّ للمحبّ شجاعةً وعزماً، فيستبسل ويستميت، فيسخو بالدنيا وزهرتها وما فيها، وينسى المال والأهل وعلائق الدنيا، ويفيض عليه الأمن والراحة والطمأنينة والهدوء والسكينة..
وفي الوقت ذاته، تجد وجه الحسين (علیه السلام) وجه الله بجلاله وقدرته وسلطانه يشعّ على المناوئ المعادي هيبةً وجلالاً وهيمنة، فيملأ كيانه
ص: 220
الخوف والرعب والذعر والرهبة والفزع والارتياع والفَرَق..فيما أقدم الهفهاف وحده، وقد قَتلوا إمامه، وغيّبوا عنه وجه الحسين (علیه السلام) .. بيد أنّهم كانوا قد رفعوه على السنان في تلك الأحيان، فمن يدري لعلّه أبصر وجهه الأزهر القمريّ، ووقعَت عينُه على عينَي الإمام الحسين (علیه السلام) ، كأنّهما عينَي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهو على عالي السنان!
مع ذلك، فإنّه شدّ فيهم.. قاد العزم لوحده وشدّ فيهم.. هكذا عبّر الخبر.. تماماً كليثٍ غضبانٍ حرد، وتركهم كأنعامٍ مذعورةٍ تفرّ من قسورة، يعثر بعضهم برأس بعض، تسابق رؤوسُهم أقدامَهم، وفرسانُهم أفراسَهم، وهو يفري بسيفه ويجري حتّى قتل منهم مقتلةً عظيمة، كما سنسمع في كلام الإمام السجّاد (علیه السلام) ..
شدّ فيهم، ففرّق جمعهم، وخبطهم خبطاً.. فأحالها دهماء، لا يُبصِر فيها أحدُهم مهرباً ينجو به.. فتطايرت الرؤوس، وتناثرت الجماجم، ونقزت بهم الأفراس.
في زحمة العسكر، وهياج الهيجاء، وطيش الغرور، وسكر الظفر.. يرتفع صوتٌ ينطق بالحقّ، فيُسمِع الأوغاد..
في تظافر قوى الشرّ وجنود إبليس، وتآزر سيوف الضلال والمكر والكبر والعتوّ.. يلمع وميض برق سيفٍ لا زال ضياؤه يشعّ إلى اليوم..
ص: 221
يبدر رجُلٌ يصرخ فيهم، ويحذّرهم وينذرهم، وينقضّ عليهم بسيفه، ويناديهم ليُسمعهم الحقّ من جديد، ويُعلمهم أنّهم إنّما فروا لحم محمّدٍ النبي (صلی الله علیه و آله) وهشّموا عظمه وسفكوا دمه وداسوا جسده بحوافر الخيول، وسلبوه وتركوه عرياناً في العراء.. وهم الآن ينهبون رحله ويسبون عياله.. إنّهم عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) !
ولا حُجّة لغاشمٍ ظلوم، ولا عذر له.. ليس لأحدٍ بين ذاك القطيع النافر أن يقول: لقد قتلوا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشتّتوا عياله، وأنا فردٌ لا أُقاوم هذا الجحفل الجرّار والسيل العارم من أكداس السلاح والرجال.. فإنّ في الوقت بقيّة.. هؤلاء عيال محمّدٍ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والواجب نصرتهم والدفاع عنهم، واستنقاذ بقيّتهم من أيدي الأشرار الكفّار الفجّار..
بل ربّما اشتدّ الأمر واعصوصب حين فقدوا الحماة وغادرهم الولاة، فنصرتهم الساعة أبلغ في الدفاع عنهم.. وقد وقعوا في الأسر، وهم عن أنفسهم لا يدفعون، ورجالهم وحماتهم على الرمضاء مطرّحون، فغربتهم أدهى وأمرّ..
لقد رمى بالحُجّة عليهم، ونثرها بين أعينهم بحدّ سيفه البتّار بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وألبسهم الذلّ والعار والشنار فوق ما جنوا لأنفسهم!
ص: 222
إذا أحبّ الله عبداً شمله بالعطاء، واحتواه بالسناء، وجعله مصبّاً لرحماته وعطاياه..
لقد وصل كربلاء في حين كان القوم قد قتلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامسَ أصحاب الكساء.. وقد أمضى الإمام الحسين (علیه السلام) شهادة كلّ واحدٍ من أنصاره وأهل بيته والمستشهَدين بين يديه في الطفوف.. وها هو ذا الهفهاف يقاتل عسكر الكفر والضلال وحيداً في مرمى بصر إمام زمانه الغريب الوحيد الفريد زين العابدين (علیه السلام) وعلى عينه.. فأكرمه الإمام (علیه السلام) وأمضى له شهادته بشهادته له بما سنسمعه بعد قليل، ففاز بالشهادة راضياً مرضيّاً، قد أبّنه إمامه ورضي له فعله، وأُدخِل في كوكبة الشهداء السعداء الّذين رحلوا في ذلك اليوم.
الإمام هو عنصر الشجاعة ومعدنها، ومظهر قدرة الله وقوّته وجلاله، فإذا شهد لأحدٍ بالشجاعة فذاك غايتها ومنتهاها ونموذجها الأمثل!
وقد ظهرت منذ أن بعث الله محمّداً (صلی الله علیه و آله) من صور الشجاعة والفروسيّة والبطولة في الناس ما يعزّ له النظير في تاريخ البشر.. فإذا أخذتَ هذه الفترة الّتي امتازت بهذه الميزة عنواناً، فإنّك استوعبتَ التاريخ طولاً وعرضاً..
والإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) هو العنوان الحاكي عن
ص: 223
جميع الأئمّة (علیهم السلام) ، بل جميع آل أبي طالب.. فهم لا يُقاس بهم أحدٌ في كلّ شيء، لذا استثناه الإمام السجّاد (علیه السلام) ..
ثمّ إنّه لم يقل: لم أرَ أو لم نرَ، بحيث ينسب ذلك إلى نفسه المقدّسة كإمامٍ أو كشخصٍ بذاته، وإنّما نسب الرؤية للناس، فالمقارنة خارج دائرتهم (علیهم السلام) .. وربّما أشار بهذه النسبة إلى الأعداء الّذين قاتلوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، فهم الّذين عبّر عنهم الناس..
وقد وصفه الإمام (علیه السلام) بثلاث صفات، كلّها تؤكّد معنىً واحداً:
- فارساً..
- شجاعاً.. ((1))
- قتل بيده ما قتل..
ولو اكتفينا بنصّ الرسّان ومَن تلاه، فإنّ وصفه بالفارس لَمنقبةٌ لا ترقى إليها منقبةٌ في البطولة والشجاعة والانضباط والفتوّة والسطوة في الميدان والتسلّط على الأعداء والعدوان!
وقد قتل مَن قتل بيده.. مواجهةً، لا بحيلةٍ ولا غدر.. لا بسهمٍ يرميه من بعيد، ولا برمحٍ يطعن به على مسافة، وإنّما بيده.. أي: بسيفه، غير أنّ التعبير باليد أبلغ في بيان الشجاعة والقوّة والاقتدار..
ص: 224
لقد قتل منهم مقتلةً عظيمة.. قتل ما قتل.. ويكفيه فخراً أنّ الإمام السجّاد (علیه السلام) أخرج الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لكثرة ما قتل، ثمّ ذكره، فالإمام (علیه السلام) حين أخرج الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) من المقارنة، لاستحالة أن يبلغ أحدٌ من البشر العاديّ قوّته وقدرته وكثرة ما قتله من أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله) ، فهو قد عظّم ورفع مقام الهفهاف، إذ أنّه أخرجه في حدّ المقارنة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وليس عن أحدٍ آخَر من العالمين منذ أن بعث الله محمّداً (صلی الله علیه و آله) .
ورد في (تسمية) الرسّان مختصراً يروي قتاله وشهادته، وورد عند مَن تأخّر شيءٌ من التفصيل لذاك المختصر..
شدّ فيهم كليث العرين، يضربهم بسيفه.. وهو يرتجز، ويزمجر، ويدمدم عليهم.. لم يزل يحصد الرؤوس، ويقتل كلَّ مَن دنا منه من عيون الرجال.. قتل ما قتل منهم، سوى مَن جرح..
وقد كانت الرجال لَتشتدّ عليه، فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الأسد الحردان.. وهو في ذلك يرتجز بالشعر المذكور، وقد أُثخِن بالجراح..
فصاح عمر بن سعد بقومه: الويل لكم، احملوا عليه من كلّ جانب!
فأقبل خمسة عشر نفراً، وفي كتاب (التسمية): خمسة، فاحتوشوه حتّى
ص: 225
قتلوه في حومة الحرب، بعدما عقروا فرسه ((1)).
إحتوشوه، وتكاثروا عليه.. هكذا قتلوا جميع أنصار الحسين (علیه السلام) وأهل بيته، وهكذا قتلوا سيّد شباب أهل الجنّة وابن أمير المؤمنين (علیه السلام) .. ولو برزوا لهم رجُلاً رجُلاً، لَأفنوهم عن آخِرهم.. إنّها لؤم الغلَبة المتجذّرة فيهم منذ اليوم الّذي تكاثروا فيه على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبته وابنته، واحتوشوها حتّى كسّروا أضلاعها وأسقطوا جنينها..
فسلام الله عليه وسلام ملائكته وعباده الصالحين، وله منّا السلام، و(ستبقى هاطلات الدموع تحيّيه غاديةً رائحة).
روى السيّد عليّ بن الحسين الهاشميّ النجفيّ الخطيب (المتوفّى سنة 1396 هجريّة، أي: قبل 45 سنة) في كتابه (ثمرات الأعواد) أحداثاً غريبةً تفرّد بها، ربّما ناسبت أُسلوبه السرديّ.
سنذكر هنا ما جاء في الكتاب من دون تعليقٍ ولا مناقشة، اعتماداً على ما مرّ معنا من بحث، ولأنّه معاصرٌ قد تفرّد بمعلوماتٍ لم نجد لها أثراً عند مَن سبقه فيما توفّر لدينا من مصادر وكتب.
ص: 226
وإنّما عمدنا إلى سردها هنا كما سردها هو (رحمة الله) ، لنكون قد استوعبنا ما ورد في الباب ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولأنّه ذكر شهيداً هو (سعيد بن مرّة التميميّ)، فاحتطنا للدم المقدّس فذكرناه.
قال السيّد الهاشميّ تحت عنوان (المطلب الثاني والثلاثون، في مَن حظي بالشهادة من أهل البصرة):
لمّا كاتب الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) أشراف أهل البصرة ورؤسائهم يدعوهم إلى نصرته واللزوم تحت طاعته، أجابه مَن أجابه، كيزيد ابن مسعود النهشليّ ومعه إثنا عشر ألف، لكنّهم فاتتهم نصرة الحسين (علیه السلام) ، إذ أنّهم خرجوا من البصرة متّجهين إلى الحسين (علیه السلام) ، فوافاهم خبر قتله في بعض الطريق فرجعوا خائبين من نصرته..
وأمّا الّذين سُعدوا ورُزقوا الشهادة، فهم ستّةٌ كما ذكرهم أهل المقاتل، أوّلهم: عبد الله الفقعسيّ، وكان شيخاً كبيراً طاعِناً في السنّ، ووُلده أربعة، والسادس هو سعيد بن مُرّة التميميّ.
أمّا سبب خروج هذا الشيخ [أي: عبد الله الفقعسيّ] ووُلده على ما يُروى:
إنّه كان امرأةٌ من أهل البصرة تُسمّى: مارية بنت مُنقذ العَبديّ، وكانت تتشيّع، وهي من ذوي البيوت والشرف، وقد قُتل زوجُهاوأولادها يوم الجَمَل مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقد بلغها أنّ الحسين (علیه السلام) كاتب أشراف أهل البصرة ودعاهم إلى نصرته، وكان
ص: 227
عندها نادٍ يجتمع فيه الناس، وجلست بباب مجلسها وجعلت تبكي حتّى علا صراخها، فقام الناس في وجهها وقالوا لها: ما عندكِ؟ ومَن أغضبكِ؟ قالت: ويلكم! ما أغضبَني أحد، ولكن أنا امراةٌ ما أصنع؟ ويلكم! سمعتُ أنّ الحسين ابن بنت نبيّكم استنصركم، وأنتم لا تنصرونه. فأخذوا يعتذرون منها لعدم السلاح والراحلة، فقالت: أهذا الّذي يمنعكم؟! قالوا: بلى.
فالتفتَتْ إلى جاريتها وقالت لها: انطلقي إلى الحُجرة وآتيني بالكيس الفلاني. فانطلقَت الجارية وأقبلَت بالكيس إلى مولاتها، فأخذَت مولاتها الكيس وصبّته، وإذا هو دنانير ودراهم، وقالت: فلْيأخُذ كلُّ رجُلٍ منكم ما يحتاجه وينطلق إلى نصرة سيّدي ومولاي الحسين (علیه السلام) .
قال الراوي: فقام عبد الله الفقعسيّ وهو يبكي، وكان عنده أحد عشر ولداً، فقاموا في وجهه وقالوا: إلى أين تريد؟ قال: إلى نصرة ابن بنت رسول الله. ثمّ التفت إلى مَن حضر وقال: ويلكم! هذه امرأةٌ أخذَتها الحميّة، وأنتم جلوس؟! ما عذركم عند جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم القيامة؟!قال: ثمّ خرج من عندها، وتبعه مِن وُلده أربعة، فأقبلوا يجدّون السير، حتّى استخبروا بأنّ الحسين (علیه السلام) ورد كربلاء، فجاء الشيخ بأولاده إلى كربلاء، ورُزقوا الشهادة!!
* * * * *
ص: 228
وأمّا السادس: فهو سعيد بن مُرّة التميميّ، وكان سعيداً شابّاً له من العمر تسعة عشر سنة.
فإنّه لمّا سمع بأنّ الحسين (علیه السلام) يستنصر أشراف أهل البصرة في كتبه، أقبل إلى أُمّه في صبيحة عرسه وصاح: أُمّاه! علَيّ بلامة حربي وفرسي. قالت: وما تصنع بها؟ قال: أُمّاه، قد ضاق صدري، وأُريد أن أمضي إلى خارج البساتين. فقالت له: ولدي، انطلقْ إلى زوجتك ولاطِفْها. فقال: يا أُمّاه، لا يسعني ذلك.
فبينما هم كذلك إذ أقبلَت إليه زوجتُه، وقالت له: إلى أين تريد يا ابن العمّ؟! فقال لها: أنا ماضٍ إلى مَن هو خيرٌ منّي ومنكِ! فقالت له: ومَن هو خيرٌ منك ومنّي؟! فقال لها: سيّدي ومولاي الحسين بن عليّ (علیهما السلام) .
فلمّا سمعَتْ أُمُّه بكت، وقالت له: وَلدي، جزاك الله عن الحسين خيراً، لكن ولدي، أما حملتُك في بطني تسعة أشهر؟! قال: بلى. قالت: أما سهرتُ الليالي في تربيتك؟ قال: بلى، وأنا لستُ بمُنكِرٍ لحقّكِ علَيّ. قالت: إذاً عندي وصيّة! قال: وما هييا أُمّاه؟ فقالت له: ولدي، إذا أدركتَ سيّدَ شباب أهل الجنّة، اقرأْه عنّي السلام، وقُلْ له فلْيشفع لي يوم القيامة.
فقال لها: يا أُمّاه، وأنا أُوصيكِ بوصيّة. قالت: ما هي؟ قال: إذا رأيتِ شابّاً لم يتهنّأ بشبابه وعرّيساً لم يتهنّأ بعرسه، اذكري عرسي وشبابي.
ص: 229
قال الراوي: ثمّ ودّعها وخرج من البصرة، وأقبل يجدّ السير في الليل والنهار، واستخبر ببعض الطريق أنّ الحسين قد نزل كربلاء، فجعل يجدّ السير حتّى وافى الحسين في اليوم العاشر من المحرّم وحيداً فريداً.
فلمّا رآه الحسين قال: «سعيدٌ هذا؟»، قال: نعم سيّدي. قال: «يا سعيد، ما قالت لك أُمُّك؟»، فقال: سيّدي، تقرؤك السلام. فقال الحسين (علیه السلام) : «عليك وعليها السلام، يا سعيد، إنّ أُمّك وأُمّي في الجنّة».
ثمّ قال سعيد: سيّدي، أتأذن لي أن أُسلّم على بنات الرسالة؟ قال: «نعم». فأقبل سعيد حتّى وقف بإزاء الخيام، ونادى: السلام عليكم يا آل بيت رسول الله! فصاحت جارية زينب: وعليك السلام، فمن أنت؟ قال: سيّدتي، أنا خادمكم سعيد بن مُرّةالتميميّ، جئتُ إلى نصرة سيّدي ومولاي الحسين. فقالت: يا سعيد، أما تسمع الحسينَ (علیه السلام) ينادي: «هل مِن ناصر؟ هل من معين؟». قال: ثمّ سلّم عليهنّ، ورجع إلى الحسين ووقف يستأذنه للبراز، فأذن له الحسين (علیه السلام) .
فحمل على القوم وجعل يُقاتل، حتّى قتل جمعاً كثيراً، فعطفوا عليه أعداء الله فقتلوه.
ولمّا قُتل سعيد مشى لمصرعه الحسين فجلس عنده، وأخذ رأسه
ص: 230
ووضعه في حِجره، وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه وهو يقول: «أنت سعيدٌ كما سمّتك أُمُّك، سعيدٌ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة» ((1)).
ص: 231
ص: 232
مرّ معنا الحديث عن البصرة وظروفها وسكّانها فيما سبق من البحث، بَيد أنّ الخاتمة اقتضَت التنويه إلى بعض الأُمور، ليتمّ البحث عن وقائع البصرة وتكتمل الصورة عن الأجواء تلك الأيّام فيما يخصّ قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وسنكتفي بالإشارة إليها على عجل.
إنّ من المجازفة بمكانٍ أن يصوّر أحدٌ أنّ البصرة كانت أيّام الإمام الحسين (علیه السلام) غير مغلقةٍ على الأُمويّين وأتباع السقيفة والجَمَل بعد أن وردَت النصوص المقدّسة في تأكيد ذلك، ووجودُ أفرادٍ معدودين محصورين كالنجوم الزواهر _ الّتي علاها الغبار فكسف ضوأها في حنادس الظلمات _ لا يعني الحكم على تلك الظلمات بانتشار الضياء في بلاقعها..
لقد كان الشيعة في الكوفة يومذاك عدداً قليلاً بالنسبة إلى مجموع عدد السكّان القاطنين فيها، وكان عددهم ضئيلاً جدّاً، كما مرّ معنا في دراسة وقائع سفارة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .
ص: 233
ومع ذلك، كان يُقال: إنّ الشيعة في الكوفة هم الأكثر بالنسبة إلى باقي البلدان.. فكيف سيكون عددهم في باقي البلدان؟
ربّما كان قد هجّر الطاغوت بعض الشيعة الأبرار إلى البصرة، أو اضطرتهم المضايقات والملاحقات إلى الهجرة إليها، بَيد أنّهم لا يزالون أقلّيّةً لا تكاد تبين ولا يُرى لها سواد!
وكانت البصرة على تلك الحال آماداً من الزمن لا يسارع منهم أحدٌ إلى الحقّ واتّباع أئمّته (علیهم السلام) إلّا القليل، وذلك بعد فترةٍ طويلةٍ من شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، حتّى كانوا يقولون في قوله (تعالى): ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ((1))، إنّها لأقارب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فكذّبهم الإمام الصادق (علیه السلام) وقال: «كذبوا، إنّما نزلَت فينا خاصّةً في أهل البيت، في عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء (علیهم السلام) » ((2)).
وكانوا راسخين متوغّلين في الولاء والتبعيّة لآل أبي سفيان، ومّما يشهد لذلك _ والشواهد كثيرة _ :
أنّه لمّا بويع خالد بن يزيد بن معاوية بعده، اجتمع أهل البصرة
ص: 234
على عُبيد الله بن زياد، وكان واليها في أيّام معاوية ويزيد، ونصبوه أميراً ((1)).
وقد جهد كبراؤهم في الدفاع عن ابن زياد، وحموه حتّى أخرجوهمنها.. وقد أتينا على الإشارة إلى ذلك فيما مضى.
فلمّا اختلف أمر الناس، ومات يزيد، وامتدّ سلطان ابن الزبير وغلظ شأنه وعظم أمره، وخلع أهلُ البصرة طاعة بني أُميّة وبايعوا ابن الزبير ((2))..
وكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير، فكتب ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلّي بالناس ((3))..
ويشهد لذلك أيضاً ما رواه السمعانيّ في (الأنساب)، قال:
وسمعتُ أبا الغنائم المسلم بن نجم المزنيّ الكوفيّ بسمرقند يقول:
فاخرت أهلُ الكوفة أهلَ البصرة حتّى وقعوا في القبائل، فكلّ قبيلةٍ ذكرها أهلُ الكوفة ذكر أهلُ البصرة أنّ جماعةً من هذه القبيلة نزلَت بالبصرة منهم طائفةٌ أيضاً، حتّى وصل أهل الكوفة إلى همدان، فسكت أهل البصرة، واعترفوا أنْ ليس بالبصرة من بني همدان أحد.
ورُوي أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ (علیه السلام) قال:
ص: 235
«فلو
كنتُ بوّاباً على باب جنّةٍ
لَقلتُ
لهمدان: ادخُلي بسلامِ» ((1))
وقديماً قيل:مَن نزل البصرة فلم يقرّ لهم بثلاثٍ فليست له بدار: بفضل عثمان، وفضل الحسن البصريّ، ورطب الأزاذ ((2)).
وعند شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) كانوا في عداد الشامتين، كما سمعنا وسيأتي بعد قليل.
روى المحموديّ _ المعاصر _ في (العبرات)، عن الزهريّ قال:
لمّا بلغ الحسنَ البصريّ وابنَ سيرين وعلماءَ البصرة قتلُ الحسين (علیه السلام) ، اجتمعوا وبكوا عليه أيّاماً ((3)).
وقال:
وشاع قتلُ الحسين (علیه السلام) في جميع الأقطار، فعظم حزنهم وبكاؤهم عليه، وكان أشدّ الناس عليه حُزناً أهلُ المدينة وأهل مكّة وأهل البصرة، ولم يبقَ منهم أحدٌ إلّا لطم وجهه ((4)).
ص: 236
هذه الأمصار الثلاثة الّتي خذلَت ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ودفعَته إلى سيوف القوم طعمةً ولسهامهم دِريّةً ولرماحهم غرضاً، وتركوا عيال رسول الله (صلی الله علیه و آله) لعُسلان الفلَوات تنهشهم نهباً وسلباً وسبياً وتشهيراً..
ويكفي في تكذيب هذه الأباطيل التافهة الّتي لا تنهض، ما سمعناهوسنسمعه من كلام أهل البيت (علیهم السلام) في شرح حال أهل البصرة بالذات!
لا يغرّنا الراوي والمؤرّخ، فيزوّق لنا قبائح القوم ويصوغ الدفاع عن المتخاذلين المجرمين في قوالب تشبه قوالب المناقب والفضائل.. كأنّه يريد أن يسوق لنا جليل رزء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيخيّل إلينا أنّ هؤلاء الأوغاد بكوا على الإمام (علیه السلام) ولطموا وجوههم.. وهم خاذلون، والإمام المعصوم (علیه السلام) يصرّح أنّ الكائنات كلّها بما فيها بكت غريب الغرباء (علیه السلام) ، إلّا بعض الأمصار، ومنها البصرة!
فلْنستمع ما يقوله الإمام (علیه السلام) ، فإنّ في بيانه الوافي الكافي ما يغني عن الشرح والتفصيل..
روى الشيخ الكلينيّ والشيخ ابن قولويه مسنداً عن الحسين بن ثوير قال: كنتُ أنا ويونس بن ظبيان والمفضَّل بن عمر وأبو سلَمة السرّاج جلوساً عند أبي عبد الله (علیه السلام) ، وكان المتكلّم منّا يونس، وكان أكبرنا سنّاً، فقال له: جُعلتُ فداك، إنّي أحضر مجلس هؤلاء القوم _ يعني وُلد العبّاس _، فما أقول؟ فقال: «إذا حضرتَ فذكرتَنا، فقُل: اللّهمّ أرِنا الرخاء
ص: 237
والسرور، فإنّك تأتي على ما تريد».
فقلت: جُعلتُ فداك، إنّي كثيراً ما أذكر الحسين (علیه السلام) ، فأيّ شيءٍ أقول؟ فقال: «قل: صلّى الله عليك يا أبا عبد الله، تعيد ذلك ثلاثاً، فإنّ السلام يصل إليه من قريبٍ ومن بعيد».ثمّ قال: «إنّ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) لمّا قضى، بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن ينقلب في الجنّة والنار مِن خَلق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى بكى على أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، إلّا ثلاثة أشياء لم تبكِ عليه!». قلت: جُعلتُ فداك، وما هذه الثلاثة الأشياء؟! قال: «لم تبكِ عليه البصرة ولا دمشق ولا آل عثمان (عليهم لعنة الله)» ... ((1)).
وروى ابن قولويه مسنداً عن يونس وأبي سلَمة السرّاج والمفضّل بن عمر قالوا: سمعنا أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «لمّا مضى الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، بكى عليه جميعُ ما خَلَق الله، إلّا ثلاثة أشياء: البصرة، ودمشق، وآل عثمان» ((2)).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: «لمّا قُتل الحسين (علیه السلام) ، بكت عليه السماوات السبع ومَن فيهنّ مِن الجنّ والإنس والوحوش والدوابّ والأشجار والأطيار، ومَن في الجنّة والنار، وما لا يُرى، كلّ ذلك يبكون على الحسين (علیه السلام)
ص: 238
ويحزنون لأجله، إلّا ثلاث طوائف من الناس، فإنّها لم تبكِ عليه أبداً!». فقيل: فمن هذه الثلاثة الّتي لم تبكِ على الحسين؟! فقال: «هم أهل دمشق، وأهل البصرة، وبنو أمية، لعنة الله على الظالمين!» ((1)).
هذه شهادة الإمام المعصوم (علیه السلام) فيهم، فما قدر تُرّهات الحسن البصريّ وغيره من الخاذلين الملعونين؟!!لم يبقَ شيءٌ في المخلوقات إلّا بكى.. وأهل البصرة على مستوىً واحدٍ من الشماتة والقساوة مع الشام وبني أُميّة!
لقد كانت هذه النصوص هي الأساس الّذي ابتنى عليه البحث وانطلق في تقييم المواقف وتشييد المباني وترسيم المشاهد، وفق ما قرّرناه في (المدخل) من مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة) وكتاب (السيّدة بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام))..
فلا ضرورة للمزايدة والتنافخ والمنافحة والمكابرة، والتفلّت من صريح النصوص الحديثيّة الواردة في المصادر الموثوقة، لترسيخ الصور الّتي تكدّسَت في الأذهان كسوابق، ولا العصبيّة التافهة لمغالطاتٍ تنفر منها العقول وتقرف منها القلوب حين تغلي اليوم من أجل أُمّةٍ بادت وانقرضت.. فالبصرة اليوم غير البصرة بالأمس الغابر! ولكلٍّ حكمه وموقعه حسب الموازين الربّانيّة.
ص: 239
ص: 240
يزيد يضمّ الكوفة إلى ولاية ابن زياد......... 5
المتون........... 5
إبن سعد، ابن عساكر، مختصر ابن منظور:.......... 5
إبن قُتيبة، البيهقيّ:......... 6
البلاذريّ:.... 6
الدينوريّ:... 7
اليعقوبيّ:.... 8
الطبريّ، الشجريّ، المُزّيّ، ابن حجَر:........ 8
الطبريّ:...... 9
إبن أعثم:.......... 10
إبن عبد ربّه:...... 11
الباعونيّ:........... 11
المسعوديّ:........ 11
إبن حبّان:.......... 12
القاضي النعمان:.......... 12
الشيخ المفيد (رحمة الله) :.... 12
الخوارزميّ، ابن أبي طالب:........... 13
المحلّيّ:... 15
ص: 241
أبو الفداء:.......... 16
السمهوديّ:....... 16
مسكويه:........... 16
الطبرسيّ:........... 17
الخوارزميّ:....... 17
إبن عساكر، مختصر ابن منظور:.... 19
الشيخ ابن شهرآشوب (رحمة الله) :......... 19
إبن الجَوزيّ:..... 19
إبن الأثير، النويريّ:.... 20
سبط ابن الجَوزيّ:...... 20
السيّد ابن طاووس (رحمة الله) :..... 21
الذهبيّ:.... 21
إبن كثير:........... 22
إبن خلدون:...... 22
إبن حجَر، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر:....... 22
إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:......... 23
إبن حجَر:.......... 23
تاج الدين العامليّ:...... 23
الشيخ الطُّريحيّ:......... 23
مقتل أبي مِخنَف (المشهور):......... 24
القندوزيّ:......... 25
أسد حيدر:........ 25
بواعث ضمّ الكوفة إلى ابن زياد...... 26
الباعث الأوّل: كان قد ولّاه مِن قبل......... 26
الباعث الثاني: سماعه بقصد الإمام الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة......... 28
ص: 242
الباعث الثالث: إجراءٌ احترازيّ...... 29
النحو الأوّل: الخوف من النعمان...... 29
النحو الثاني: الاحتراز لمعالجة الموقف..... 30
النحو الثالث: إحتراز معاوية.... 32
الباعث الرابع: تفضيل النعمان للإمام الحسين (علیه السلام) على يزيد........ 32
الباعث الخامس: لِما ورده من كتاب عيونه في الكوفة....... 34
الخلاصة:.......... 35
مستشار يزيد!......... 36
المستشار الأوّل: رأي القرد المجدور...... 36
المستشار الثاني: أهل الشام... 39
النقطة الأُولى: المقصود بأهل الشام....... 40
النقطة الثانية: عدم تفرّد سرجون....... 40
المستشار الثالث: سرجون..... 40
الأوّل: إعداد معاوية...... 42
الثاني: رأي سرجون!..... 44
الوقفة الأُولى: سرجون، أو الآخَرون؟........ 46
الوقفة الثانية: دلالات رأي سرجون!.......... 47
الوقفة الثالثة: هل علم سرجون ولم يعلم يزيد؟!........... 48
حامل كتاب يزيد.......... 50
محتويات كتاب يزيد..... 52
الموضوع الأوّل: سيّد الشهداء (علیه السلام) .......... 52
الإشارة الأُولى: الموضوع الأوّل....... 54
الإشارة الثانية: نغل آل أبي سفيان..... 54
الإشارة الثالثة: إخباره بتوجّه سيّد الشهداء (علیه السلام) نحو الكوفة!... 55
ص: 243
مشكلة التوقيت!... 57
الجواب الأوّل: اعتماد مجريات الأحداث....... 57
الجواب الثاني: الكتابة إليه وهو في الكوفة...... 58
الجواب الثالث: إرسال كتابَين... 59
الموضوع الثاني: المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ..... 61
النقطة الأُولى: أن يطلب المولى الغريب (علیه السلام) ....... 65
النقطة الثانية: التعامل مع المولى الغريب (علیه السلام) ....... 66
النقطة الثالثة: مزاعم شيعة القرود...... 68
النقطة الرابعة: خبث التعبير...... 69
الموضوع الثالث: سيّد الشهداء والمولى الغريب مسلم (علیهما السلام) ، ووضعُ الكوفة......... 70
المحور الأوّل: جمعها الموضوعَين الأوّلَين......... 73
المحور الثاني: ما يخصّ المولى الغريب (علیه السلام) ...... 74
المحور الثالث: ما يتعلّق بشأن سيّد الشهداء (علیه السلام) ........... 74
المحور الرابع: ما يتعلّق بالكوفة وأهلها...... 76
خلاصة ما ورد في الكتاب على العموم........... 77
تاريخ كتابة العهد........... 79
خروج ابن زياد من البصرة........... 83
المتون......... 83
الإشارة الأُولى: متى خرج ابن زيادٍ من البصرة؟........ 89
الإشارة الثانية: عدد مَن أخرجهم معه....... 91
العدد الأوّل: فاقدٌ للتحديد... 91
القسم الأوّل: ذكر بعض الأسماء...... 91
القسم الثاني: ذكر الأسماء والعنوان العامّ... 92
العدد الثاني: فيه تحديد........ 94
ص: 244
الرقم الأوّل: اثنا عشر رجُلاً..... 94
الرقم الثاني: خمسمئة من أهل البصرة....... 94
الحاصل:........... 95
الإشارة الثالثة: أسماء مَن أخرجَهم معه..... 97
الأوّل: المنذر بن الجارود..... 98
الثاني: شريك بن الأعور..... 98
الثالث: مسلم بن عمرو الباهليّ.... 100
الرابع: عبد الله بن الحارث........... 101
الخامس: حُصَين بن تميم........... 104
السادس: مهران........ 105
السابع: الحشَم والغلمان...... 105
الثامن: أهل بيت الجرو...... 106
الإشارة الرابعة: أحداثٌ في الطريق....... 107
الإفادة الأُولى: مكان تمارُض القوم...... 108
الإفادة الثانية: مَن سقط أوّلاً........ 108
الإفادة الثالثة: سبب التمارُض والتساقط......... 109
المؤدّى الأوّل: رجاء سبق الحسين (علیه السلام) ... 109
المؤدّى الثاني: فطنة ابن الفاجرة.... 110
المؤدّى الثالث: استعجال الجرو المسعور......... 110
الإشارة الخامسة: مناقشة........ 111
المناقشة الأُولى: ما مرّ في المؤدَّيات..... 112
المناقشة الثانية: انفراد الطبريّ...... 112
المناقشة الثالثة: التعارض مع نصوصٍ أُخرى........... 113
المناقشة الرابعة: توهُّم الناس أنّه سيّد الشهداء (علیه السلام) ... 115
ص: 245
المناقشة الخامسة: التمارض رجاء سبق سيّد الشهداء (علیه السلام) ........... 115
المناقشة الخامسة: لو سبق سيّد الشهداء (علیه السلام) ... 116
البصرة بعد خروج ابن زياد......... 119
الإجراء الأوّل: الإرهاب والإرعاب.......... 121
الإجراء الثاني: أخذ الطريق.......... 122
الإجراء الثالث: تحريض أهل البصرة على حرب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) 123
الملتحقون من أهل البصرة......... 125
النقطة الأُولى: التحاقهم في مكّة.... 125
النقطة الثانية: نسبة مَن خرج إلى مَن تخلّف.... 126
النقطة الثالثة: اختيار مكّة على الكوفة..... 127
النقطة الرابعة: مَن قُتِل مِن أهل البصرة........... 128
شهداء من البصرة.... 131
1 - 3. يزيد بن ثُبَيط العَبديّ البصريّ، وابناه: عبد الله، وعُبيد الله 131
المعلومة الأُولى: نسَبهم...... 131
المعلومة الثانية: بعض خصائصهم......... 133
المعلومة الثالثة: عُمُره......... 136
المعلومة الرابعة: التحاقهم بالإمام (علیه السلام) ... 137
الإفادة الأُولى: وقت الاجتماع....... 138
الإفادة الثانية: ظروف خروج يزيد وابنيه.......... 139
الإفادة الثالثة: موقف الحاضرون.... 141
الإفادة الرابعة: موقف الأولاد!........ 142
الإفادة الخامسة: اجتماع العبديِّين... 143
ص: 246
الإفادة السادسة: خروج البصريّين الآخَرين معه!........ 145
الإفادة السابعة: مخالفة القوم!......... 146
الإفادة الثامنة: المسابقة إلى اللقاء!........... 148
الفائدة التاسعة: يزيد يرجع إلى رَحْله...... 151
الفائدة العاشرة: فبذلك فلْيفرحوا!........... 151
الفائدة الحادية عشرة: سياق الآية الكريمة........ 153
الفائدة الثانية عشرة: الإخبار عن سبب المجيء.......... 154
الفائدة الثالثة عشرة: اختزال الموقف....... 155
المعلومة الخامسة: استشهادهم..... 156
المعلومة السادسة: رثاؤهم........... 158
المعلومة السابعة: ذِكرهم في زيارة الناحية المقدّسة......... 160
4. الأدهم بن أُميّة البصريّ... 161
التلميح الأوّل: النسَب......... 162
التلميح الثاني: صحبته........ 164
التلميح الثالث: التحاقه بالإمام (علیه السلام) ........ 165
التلميح الرابع: استشهاده..... 165
5. الحَجّاج بن بدر التميميّ.......... 167
الإشارة الأُولى: الاسم والنسَب.... 167
الإشارة الثانية: صحبته لأمير المؤمنين (علیه السلام) ...... 169
الإشارة الثالثة: كيف التحق بالإمام (علیه السلام) ؟........ 170
الإشارة الرابعة: استشهاده... 173
الإشارة الخامسة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة... 175
6. عامر بن مُسلم العَبديّ البصريّ........... 176
اللمحة الأُولى: الاسم والنسب..... 176
ص: 247
إسم أبيه:........... 178
إسم جدّه:.......... 178
اللمحة الثانية: وثاقته........... 182
اللمحة الثالثة: كيف التحق بالإمام (علیه السلام) ؟......... 183
اللمحة الرابعة: استشهاده.... 184
اللمحة الخامسة: رثاؤه....... 185
اللمحة السادسة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة.... 186
7. سالم مولى عامر بن مسلم العَبديّ...... 186
الومضة الأُولى: النسَب....... 187
الومضة الثانية: كيف التحق بالإمام (علیه السلام) ؟........ 189
الومضة الثالثة: استشهاده.... 189
الومضة الرابعة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة...... 190
8. سيف بن مالك العَبديّ.... 191
الإلماعة الأُولى: النسَب...... 191
الإلماعة الثانية: التحاقه بالإمام (علیه السلام) ........ 192
الإلماعة الثالثة: استشهاده... 193
الإلماعة الرابعة: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة..... 195
9. قعنب بن عمرو النمريّ.... 196
التلويح الأوّل: النسَب........ 196
التلويح الثاني: بلده... 198
التلويح الثالث: التحاقه بالإمام (علیه السلام) ........ 198
التلويح الرابع: استشهاده..... 199
التلويح الخامس: ذِكرُه في زيارة الناحية المقدّسة... 200
10. الهَفْهاف بن المهنّد الراسبيّ الأزديّ.......... 201
ص: 248
اللمعة الأُولى: النسَب......... 201
اللمعة الثانية: من خصائصه.......... 202
اللمعة الثالثة: التحاقه بالإمام (علیه السلام) واستشهاده... 204
اللمعة الرابعة: وقت خروجه من البصرة......... 207
اللمعة الخامسة: دخول كربلاء.... 208
اللمعة السادسة: دخول عسكر ابن سعد!......... 212
اللمعة السابعة: رجَزه.......... 213
اللوحة الأُولى: نداء..... 214
اللوحة الثانية: الجُند المجنَّد........... 214
اللوحة الثالثة: التعريف بنفسه......... 215
اللوحة الرابعة: الغرض من النداء.... 216
اللوحة الخامسة: عيال محمّد (صلی الله علیه و آله) ......... 217
اللوحة السادسة: صوتٌ غريبٌ يسمعه العيال..... 218
اللمعة الثامنة: شدّ فيهم....... 220
اللمعة التاسعة: إقامة الحُجّة بقتاله على القوم........... 221
اللمعة العاشرة: شهادة الإمام السجّاد (علیه السلام) إمضاءٌ لشهادته وتصويبٌ لها........ 223
اللمعة الحادية عشرة: شهادة الإمام زين العابدين (علیه السلام) ....... 223
اللمعة الثانية عشرة: قتاله وشهادته......... 225
11. سعيد بن مرّة التميميّ.... 226
البصرة عند مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ..... 233
بكاء أهل البصرة!......... 236
ص: 249