ظروف اقامه سيد الشهداء علیه السلام في مکه المكرمه المجلد 6

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم السادس( وقائع البصرة 1 )

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

جرت بعضُ الأحداث في البصرة خلال أيّام تشرّف مكّة والبيت الحرام بوجود الإمام خامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة، السبط الثاني وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

مِن تلك الأحداث ما يرتبط ببعض أهل البصرة، من قبيل ما يُروى من اجتماع القوم في بيت مارية العبديّة وما أسفر عنه، كخروج الشهيد السعيد يزيد بن ثبيط وابنَيه، والتحاق آخَرين بركب السعداء، وحال أهل البصرة أيّام الحسين (علیه السلام) ، وحالهم بعد شهادة الإمام (علیه السلام) ..

ومن تلك الأحداث ما يرتبط بالإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، حسب ما يرويه المؤرّخ من كتابٍ يقول: إنّ الإمام (علیه السلام) بعث به إلى أهل البصرة..

ومن تلك الأحداث ما يرتبط بالسلطان الغاشم والطاغوت المسعور المتعطّش لسفك الدماء الزاكية، من قبيل ضمّ الكوفة إلى ولاية ابن الأَمة الفاجرة ابن زياد، وخروج الأخير إلى الكوفة، وما تبعها من أحداث..

سنحاول استعراضها وتناولها بالدراسة، إن شاء الله (تعالى).

ص: 5

ص: 6

إجتماع شيعة البصرة

المتون

الطبريّ:

قال أبو مِخنَف: وذكر أبو المخارق الراسبيّ، قال:

اجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس، يُقال لها: مارية ابنة سعد _ أو مُنقِذ _ أيّاماً، وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه.

وقد بلغ ابنَ زيادٍ إقبالُ الحسين، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق.

قال: فأجمع يزيدُ بن نبيط الخروج _ وهو من عبد القيس _ إلى الحسين، وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له: عبد الله وعُبيد الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعتُ على الخروج، وأنا خارج. فقالوا له: إنّا نخاف عليك أصحاب ابن زياد! فقال: إنّي واللهِ لو قد استوت أخفافُهما بالجدد لَهان علَيّ طلب مَن طلبني.

ص: 7

قال: ثمّ خرج، فقوى في الطريق حتّى انتهى إلى حسين (علیه السلام) ، فدخل في رحله بالأبطح.

وبلغ الحسينَ مجيؤه، فجعل يطلبه، وجاء الرجل إلى رحل الحسين، فقيل له: قد خرج إلى منزلك. فأقبل في أثره، ولمّا لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره، وجاء البصريّ فوجده في رحله جالساً، فقال: ﴿بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ ((1)).

قال: فسلّم عليه وجلس إليه، فخبّره الّذي جاء له، فدعا له بخير.

ثمّ أقبل معه حتّى أتى، فقاتل معه فقُتِل معه هو وابناه.

ثمّ دعا مسلم بن عقيل، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداويّ وعمارة بن عُبيد السلوليّ وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن الأرحبيّ ((2)).

إبن الأثير:

واجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس، يُقال لها: مارية بنت سعد، وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه.فعزم يزيد بن نبيط على الخروج إلى الحسين، وهو من عبد القيس،

ص: 8


1- سورة يونس: 58.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فخرج معه ابنان له: عبد الله وعُبيد الله، فساروا، فقدموا عليه بمكّة، ثمّ ساروا معه فقُتلوا معه.

ثمّ دعا الحسينُ مسلم بن عقيل، فسيّره نحو الكوفة ... ((1)).

السماويّ:

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَتِ الشيعة في دار مارية بنت مُنقِذ العَبديّ، وكانت من الشيعة، فتذاكروا أمر الإمامة وما آلَ إليه الأمر، فأجمع رأي بعضٍ على الخروج، فخرج، وكتب بعضٌ بطلب القدوم ... ((2)).

المقرّم:

وكانت مارية ابنة سعدٍ _ أو مُنقذ _ أيّماً، وهي من الشيعة المخلصين، ودارها مألفٌ لهم يتحدّثون فيه فضل أهل البيت ((3)).

النَّمازيّ:

مارية بنت مُنقِذ _ أو سعيد _ العَبديّة: إماميّةٌ تقيّة، لِما رُوي عن

ص: 9


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267.
2- إبصار العين للسماويّ: 25.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم: 162.

أبي جعفرٍ [الطبريّ] مِن أنّها تتشيّع، وكانت دارها مألَفاً للشيعة يتحدّثون فيها ((1)).

* * * * *

هذه جملة النصوص الواردة في خبر اجتماع الشيعة من أهل البصرة في بيت المرأة الصالحة، لمدارسة الأوضاع يومذاك واتّخاذ الموقف من نصرة أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) .

ويمكن استحصال مؤدّيات هذا الخبر من خلال الأضواء التالية:

الضوء الأوّل: رواة الخبر

يبدو _ حسب الفحص _ أنّ الطبريّ تفرّد بنقل هذا الخبر عن أبي مِخنَف، وتبعه على ذلك ابن الأثير في (الكامل)، لا غير.

فإذا صحّ هذا التفرّد، وصحّ إعراض المؤرّخين طرّاً عن روايته _ سُنّةً كانوا أو شيعة _، فإنّ هذا يُعَدّ ثغرةً تدعو إلى التأمّل والتريّث في التعامل معه.

ولا نريد هنا التشكيك في الخبر أو ردّه لمجرّد ابتلائه بالتفرّد وإعراضالقوم كلّهم جميعاً عن تداوله ولو إشارة، بَيد أنّ هذين الداءَين _ التفرُّد والإعراض _ يمكنهما أن ينخرا الخبر نخراً عنيفاً إذا كان يحتوي على مادّةٍ

ص: 10


1- مستدركات علم رجال الحديث للنَّمازيّ: 8 / 598.

متهالِكةٍ أو منخوبةٍ بثغراتٍ أُخرى.

ولمن يعتمد السند ويرجو تكثّر الرواة من حَمَلة الرواية والمؤرّخين أن يصرع الخبر ويكتفي بهذين المعضلَين.

لذا سنحاول استجلاء المتن، لنرى مدى قوّته في النهوض بالخبر ومقاومته للتفرّد والإعراض.

الضوء الثاني: تعريض الخبر بشيعة البصرة

بغضّ النظر عن عدد الشيعة القاطنين يومها في البصرة، إذ يكفي أن نقتصر على متن الخبر من دون الخروج عنه إلى غيره لبيان المقصود من هذا الضوء..

فالخبر يفيد أنّ ثَمّة جماعةً من الشيعة كانوا قد اجتمعوا في دار مارية، وتداولوا الأمر وتحدّثوا فيما بينهم عن مجريات الأحداث، وفكّروا في نصرة سيّد الشهداء وعزيز الزهراء (علیهما السلام) .

ثمّ إنّ أكثر المتواجدين هناك _ وهم جميعاً من الشيعة حسب مفروض الخبر _ قد امتنعوا وتخاذلوا عن نصرة إمامهم، إلّا يزيد بن نبيط _ أو ثبيط _ وابناه، بل إنّ بقيّة أبناء يزيد الثمانية قد تخاذلوا أيضاً، ولميُجِب دعوة أبيهم منهم إلّا اثنان فقط.

ولم يكتفِ المتواجدون ثَمّة من الشيعة بالتخاذل والنكوص، وإنّما بادروا إلى تثبيط يزيد وحاولوا منعه عن الخروج واللحاق بالإمام (علیه السلام) ،

ص: 11

و «قالوا له: إنّا نخاف عليك أصحاب ابن زياد».

وكيف كان، فإنّ العدد الخارج من البصرة يومذاك لنصرة الإمام الحسين (علیه السلام) ضئيلٌ جدّاً بحسب العدد، وإنْ كان عظيماً لا يُقاس بحسب أعيانهم المقدّسة، ولا شكّ ولا ريب أنّ عدد الشيعة كمجموعٍ كان أكثر منهم.

وهذا يعني أنّ الخبر يحمل نفس اللون القاتم الّذي حاول الأعداء رسمه للشيعة، ويعزف على نفس الوتر المتهرّئ الّذي عزف عليه المناوئون حينما راحوا يزقحون مع أسيادهم الأُمويّين أنّ الشيعة هم الّذين دعوا الإمام (علیه السلام) وخذلوه وأسلموه، ثمّ عدَوا عليه فقتلوه.. لتتكرّر القصّة مع الشيعة في البصرة كما حاولوا إحباك نسج خيوطها الواهية عن الشيعة في الكوفة، ليوحي راويهم إلى مسامع التاريخ أنّ ما وقع في البصرة يؤكّد ما يزعمون وقوعه في الكوفة، وأنّ الأمر حالةٌ مستشريةٌ عندهم في الأصقاع!

فهم اجتمعوا في بيت سليمان بن صُرد في الكوفة وكتبوا.. ثمّ خذلوا.. ثم خرجوا لقتال الإمام (علیه السلام) .. ويؤكّدوا ذلك بما وقع في البصرة من الاجتماع والخذلان، ولو كانوا في الكوفة لَفعلوا ما فعل أمثالهم فيها!!ولكي تُخمَّر العقول وتُذهَل الأذهان إذا اعترضها الريب والشكّ وأرادت أن تنتفض على الخبر المزعوم في الكوفة، فيُستشهَد لها بخبر الشيعة في البصرة!!

ص: 12

ولو كان الأنصار الملتحِقون من أهل البصرة قد فعلوا ذلك فرادى ومن دون اجتماعٍ ومشورة، لَقيل: إنّهم سمعوا ما لم يسمعه الشيعة الآخَرون، وانطلقوا خفيةً لئلّا يُمنَعون، أما وقد اجتمعوا وتداولوا الأمر وتشاوروا، فإنّ تخلّفهم يُعَدّ موقفاً، وتخاذلهم مدروساً مخطَّطاً بنيّةٍ وعزمٍ وسبق إصرارٍ وتقدير!!

ربما كان هذا المؤدّى وهذه النتيجة خلاصة ما يريد الخبر إيصاله إلى ذهن المتلقّي بدهاء، إذ أنّ التأمّل فيه ربما أفاد كشف هذا الطلاء والدهان الّذي يخطف الأبصارَ بريقُه، وتأسر قلبَ المُحبّ ألوانُه الزاهية الّتي تتموّج على صفحات كتاب الطبريّ، فيخالها القارئ لأوّل وهلةٍ أنّها منقبةٌ لشيعة البصرة الّذين اجتمعوا، وانطلق منهم نيفٌ من الرجال.. فيذهل عن متابعة أمر الآخَرين الّذين تفوق أعدادهم _ وهم شيعةٌ أيضاً _ عددَ الملتحقين، ويغفل عن الحكم عليهم بالتخاذل والخلود إلى الدنيا والتحسّب والتوجّس من أتباع ابن زيادٍ إن عثروا عليهم وهم ينسلّون لنصرة حبيب الله وحبيب رسوله وإمام زمانهم المفروض عليهم طاعته، وكأنّه لم يكن الحسين (علیه السلام) ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذي قال جدُّه: «إنّه لا يؤمن عبدٌ حتّى أكون أحبَّ إليه مننفسه، وتكونَ عترتي أحبَّ إليه من عترته، ويكونَ أهلي أحبَّ إليه

ص: 13

من أهله، وتكونَ ذاتي أحبَّ إليه من ذاته» ((1)).

والخاذل يدخل في دائرة اللعنة، كما صرّحَت بذلك النصوص الشرعيّة المقدّسة الوادرة عن النبيّ وآله، سواءً في الأحاديث أو متون الزيارات ((2))، إلّا أن يأتي بعذرٍ يُرضي الله ورسوله وإمام زمانه، فيخرج من تلك الدائرة البائسة الملعونة.

الضوء الثالث: ماريّة العبديّة!

اشارة

كلّ ما يمكن تحصيله لمعرفة هذه المرأة هو ما ورد في لفظ الطبريّ نفسه، فقد وصفها الخبر بأنّها:

امرأة من عبد القيس، يُقال لها: مارية ابنة سعد _ أو منقذ _ أيّاماً، وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألَفاً يتحدّثون فيه ((3)).

ونقل ابن الأثير عن الطبريّ نفس الكلام، غير أنّه حذف التردّد في اسم أبيها واكتفى بنسبتها إلى (سعد) ((4)).

ص: 14


1- أُنظر: ينابيع المودّة للقندوزيّ: 2 / 456 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، الصواعق المُحرقة لابن حجر: 172 الباب 11، شُعَب الإيمان للبيهقيّ: 2 / 189، نظم دُرر السمطَين للزرنديّ: 233، سُبل الهدى والرشاد للصالحيّ الشاميّ: 8.
2- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 407 الباب 79، تهذيب الأحكام للطوسيّ: 6 / 62، المزار لابن المشهديّ: 382، الإقبال لابن طاووس: 3 / 104.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
4- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267.

ويمكن استخلاص ما توفّر لدينا عنها في المعلومات التالية:

المعلومة الأُولى: اسمها ونسبتها

اسمها: (مارية) بالاتّفاق.

واختلفوا في اسم أبيها، فرواه الطبريّ على نحو الترديد: «سعد» أو «مُنقذ»، وذكره ابن الأثير باتّاً باسم «سعد»، وذكره السماويّ باتّاً باسم «منقذ»، وتردّد النَّمازيّ بين «منقذ» و«سعيد»، ولا يبعد أن يكون «سعيد» تصحيفاً أو من سهو قلمه الشريف.

وهذا التردّد عند الطبريّ يُورِث في النفس التردّد.

وقد اتّفقوا على نسبتها (العبديّ).

ولا يخفى أنّ المصدر الوحيد _ حسب الفحص إلى حين تحرير هذه الكلمات _ إنّما هو الطبريّ، وابن الأثير جاء مِن بعده، وليس لدينا مصدرٌ آخَر يمكن مراجعته للتثبّت.

ومن الغريب جدّاً أن تبقى امرأةٌ بهذا الثقل العظيم والمنزلة الرفيعة عند الشيعة _ بحيث اتّخذوا من منزلها مقرّاً للاجتماع وتداول الأُمور الصعبة _ في غياهب التنكُّر، ولا يصل إلينا شيءٌ عنها حتّى اسم أبيها على نحو التحقيق!

المعلومة الثانية: مَن هو أبوها؟

اشارة

لا ندري ما هو اسم أبيها على وجه التحديد، حيث ذكره الطبريّ على نحو الترديد بين اسمين:

ص: 15

الاسم الأوّل: مُنقِذ العَبديّ
اشارة

وجدنا ثلاثةً في كربلاء في معسكر الشرك والضلالة، كلٌّ منهم يُنسَب إلى مُنقِذ العَبديّ:

الأوّل: رضيّ بن مُنقِذ العَبديّ

وهو الّذي قاتل بُريرَ بن خُضير الهمْدانيّ، فاعتنق بُريراً، فاعتركا ساعة، ثمّ إنّ بُريراً قعد على صدره، فقال رضيّ: أين أهل المصاع والدفاع؟ فحمل كعب بن جابر بن عمرو الأزديّ بالرمح فطعنه في ظهره، فلمّا وجد بُريرٌ مسّ الرمح عضّ أنف رضيٍّ فقطع طرفه، وشدّ عليه كعبٌ فضربه بسيفه حتّى قتله ((1)).

الثاني: مُرّة بن مُنقِذ العَبديّ

وهو الّذي نظر إلى المولى الأمير عليّ الأكبر (علیه السلام) يكرّ على الطُّغام ويفري لحومهم ويحصد رؤوسهم، فقال:

علَيّ آثامُ العرب إنْ هو فعل مِثلَ ما أراه يفعلُ ومرّ بي أن أُثكله أُمَّه. فمرّ يشدّ على الناس، ويقول كما كان يقول، فاعترضه مُرّة، وطعنه

ص: 16


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 421، تاريخ الطبريّ: 5 / 431، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 289، نفَس المهموم للقمّيّ: 260، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 396.

بالرمح فصرعه، واعتوره الناس فقطّعوه بأسيافهم ((1)).

الثالث: رجاء بن مُنقِذ العَبديّ

وهو أحد العشرة أولاد البغايا الّذين رضّوا الهيكل المقدَّس بعد الشهادة، إذ انتدب عشرة، وهم:

إسحاق بن يحيى الحضرميّ، وهانئ بن ثُبيت الحضرميّ، وأدلم بن ناعم، وأسد بن مالك، والحكيم بن طُفيل الطائيّ، والأخنس بن مرثد، وعمرو بن صبيح المِذحجيّ، ورجاء بن مُنقذ العبديّ، وصالح بن وهب اليزنيّ، وسالم بن خيثمة الجُعفيّ، فوطؤوه بخيلهم ((2)).

هؤلاء الثلاثة (رضي، مُرّة، رجاء) كلُّ واحدٍ منهم يُنسَب إلى مُنقذ العبديّ، كما تُنسَب مارية _ على أحد القولين _ إلى منقذ العبديّ أيضاً،

ص: 17


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 254، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2628، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 76، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 45، العوالم للبحرانيّ: 17 / 287، الإرشاد للمفيد: 2 / 109، أسرار الشهادة للدربنديّ: 370، نفَس المهموم للقمّيّ: 307، إعلام الورى للطبرسيّ: 246.
2- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 111، مثير الأحزان لابن نما: 41، اللهوف لابن طاووس: 134، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 59، العوالم للبحرانيّ: 17 / 303، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 376، أسرار الشهادة للدربنديّ: 439، نفَس المهموم للقمّيّ: 381.

ولا دليل ولا شاهد يلوح في الكتب والمصادر على توثيق كونهم إخوة، أو أنّهم لآباء متكثّرون يتّحدون في الاسم فقط.

فإن كان الثلاثة إخوة، فبئس الأُسرة الملعونة هم!

الاسم الثاني: سعد العَبديّ

روى سبط ابن الجوزيّ والزرنديّ أنّ قاتل المولى الأمير عليّالأكبر (علیه السلام) يُدعى: مُرّة بن سعد العَبديّ، قالا:

وقُتل عليُّ بن الحسين بن عليّ، وهو عليٌّ الأكبر، وأُمّه ليلى بنت مُرّة الثَّقَفيّة، قتله مُرّةُ بن سعد العَبديّ ((1)).

مُرّة بن سعد العَبديّ هذا هو نفسه المذكور آنِفاً باسم مُرّة بن مُنقِذ العَبديّ قاتل المولى الأمير عليّ الأكبر (علیه السلام) ، فهل يمكن تسرية هذا التعدّد والتردّد بين الاسمين إلى التردّد في اسم أبي مارية؟!

كيف كان، فإنّ هذه المعلومات المتناثرة لا تُثبِت على نحوٍ جازم، وربّما لا تنهض لتوليد الظنّ بأن يكون لهؤلاء المذكورين علاقةٌ نسبيّةٌ بمارية صاحبة المنزل.

ويبقى أبوها غير متشخَّص الاسم، ولا متعيَّنٍ ولا معروف، بل تبقى هي رغم أهمّيّتها في دائرة الغموض.

ص: 18


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 144، دُرر السمطين للزرنديّ: 218.

لا يُقال: إنّ الغموض الّذي أحاط بهذه المرأة إنّما ينشأ من ظروف التقيّة، ومحاولة التعتيم المتعمَّد لإبقائها بعيدةً عن عين السلطة والجواسيس؛ إذ أنّها كانت صاحبة دارٍ صارت مألَفاً للشيعة في أحلك الظروف، وكانوا يجتمعون عندها، وقد عُرفَت بنحوٍ ما وتحدّدَت للشيعة، بل لراوي الطبريّ أيضاً، وخرجَت من دائرة التعتيم إلى دائرة الوضوح، فلا معنى للتخفّي علىأمرٍ مكشوف.

* * * * *

أجل، قد يُقال: إنّ المنزل إنّما كان يُنسَب إلى هذه المرأة، لا لكونها ذات موقفٍ في تلك الأيّام، وإنّما كان المنزل قد أُطلِق عليه اسمها وإن لم تكن نازلةً فيه في تلك الفترة ولم يعُد لها أبداً، كما هو المعتاد في تلك الأيّام، إذ تُنسَب الدار أو يُنسَب المنزل لأحدٍ لمجرّد أنّه مرّ به يوماً أو سرحَت فيه إبله أو امتلكه فترة، كما يُقال: منزل قصر بني مقاتل مثلاً، بالخصوص إذا لاحظنا تعبير المؤرّخ، حيث عبّر عنه ب- «منزل مارية»، ولم يُعبّر عنه ب- «الدار» أو بتعبيرٍ آخَر يفيد الاستقرار والثبات.

إلّا أن يُقال: إنّ قول الطبريّ: «بيت تلك المرأة»، يفيد أنّه كان بيتاً، وليس منزلاً تسمّى باسمها.

وليس بالضرورة أن تكون هي حاضرةً تلك الأيّام أو مشارِكةً لهم، بل يكفي أنّها كانت قد جعلَت منزلها نادياً لاجتماع القوم فيه كمنتدىً لهم.

ص: 19

المعلومة الثالثة: تشيُّعها!

وصفها الطبريّ قائلاً: وكانت تتشيّع.

وقال الشيخ السماويّ: وكانت من الشيعة ((1)).وزاد في وصفها السيّد المقرّم فقال: وهي من الشيعة المخلصين ((2))، ويبدو أنّ السيّد (رحمة الله) وصفها بالإخلاص مستفيداً ذلك من جعل منزلها مألَفاً للشيعة.

وكذا وصفها الشيخ النمازيّ في (المستدركات)، فقال: إماميّةٌ تقيّة ((3))، ولا ندري مِن أين استقى الشيخ (رحمة الله) وصفها بالإماميّة، إذ أنّ هذا الوصف يفيد أنّها كانت من الشيعة المتمحّضين الخُلّص الّذين يعتقدون بالأئمّة الاثني عشر، وهو الدين الحقّ الكامل، فتكون في ذلك الزمن معتقِدةً بالأئمّة كمُلاً، وهذا الاعتقاد الكامل يحتاج إلى دليلٍ لإثبات تحقُّقه في شخصٍ ما في تلك الأيّام، إلّا أن يكون مقصود الشيخ (رحمة الله) من ال-- «إماميّة» أي: أنّها كانت من الشيعة ذلك اليوم الموالين لأهل البيت وأصحاب الكساء، بغضّ النظر عن الاعتقاد الكامل بالأئمّة الاثني عشر، وقد وصفها الشيخ (رحمة الله) بهذا الوصف معتمِداً على ما ذكره الطبريّ كما صرّح بذلك،

ص: 20


1- إبصار العين للسماوي: 25.
2- مقتل الحسين للمقرم: 162.
3- مستدركات الشيخ النمازي: 8 / 598.

فقال: لِما رُوي عن أبي جعفرٍ [الطبريّ] مِن أنّها تتشيّع.

وأمّا وصفه لها ب-- «التقيّة»، فيكفي أنّها كانت من الشيعة لتتّصف بذلك.

المعلومة الرابعة: وضعها الاجتماعيّ

لم يَرِد في (تاريخ الطبريّ) ولا في (كامل ابن الأثير) ما يُشير إلىوضعها الاجتماعيّ من كونها متزوّجةً أو عزباء، غير أنّ السيّد المقرّم قال: «إنّها كانت أيّماً»، ونحن لا ندري مِن أين أخذ السيّد (رحمة الله) هذه المعلومة، إلّا أنّنا نثق به (رحمة الله) .

أجل، قد يُقال: ربّما فهم السيّد ذلك من قول الطبريّ: «اجتمع ... يُقال لها: مارية ابنة سعد _ أو مُنقِذ _ أيّاماً»، فربّما كانت نسخته خطّيّةً أو مطبوعةً رديئة، فقرأ «أيّاماً»: (أيِّماً)، لتقارب الصورة، بل ربّما كانت النسخة مكتوبةً برسم الألف بعد الياء صغيرةً، كالعلامة الّتي تُوضَع على الأف المقصورة، إذ كان رسم الخطّ سابقاً يعتمد هذا النوع من الألف، حيث يكتبون (الثلاث): (ثلث)، ويعلّمون اللام بألفٍ صغيرةٍ جدّاً.

والأيّم _ في اللغة _ : تصدق على المرأة الخليّة من الزواج، عزباء كانت أو مطلَّقةً أو أرملة..

وربّما يُقال: يُفهَم من (الأيّم) أنّها كانت أرملة.

ص: 21

المعلومة الخامسة: وجاهتها

ذكر الطبريّ أنّ منزل مارية كان لهم مألَفاً يتحدّثون فيه ((1))، وحدّد السيّد المقرّم نوع الحديث الّذي يجمعهم في دارها، فقال: يتحدّثون فيه فضلَ أهل البيت ((2)).وهذا الوصف لمنزلها وكونُه مألفاً للشيعة، يفيد أنّ صاحبة الدار كانت ذات مكانةٍ مرموقةٍ ووجاهةٍ عريضةٍ عند الشيعة، ويفيد أنّ دارها كانت منتدىً علميّاً ومدرسةً راقيةً يرتادها الشيعة ويألفون الحضور فيها.

وهذا بنفسه ينمّ عن كونها امرأةً عالمة، تتحلّى بمستوياتٍ ساميةٍ من العلم والمعرفة، مُلِمَّةٍ بالحديث والآداب الاجتماعيّة، ويفيد أيضاً أنّها كانت ذات سعةٍ ووفرة، تسمح لها أن تستضيف مجاميع الشيعة، وسيكون لها بحكم الوضع الاجتماعيّ وجاهةٌ ومنزلةٌ ومكانةٌ بين الشيعة.

غير أنّ هذا كلّه يركّز السؤال عنها ويثير التعجّب عند المتلقّي، إذ أنّ امرأةً كهذه كيف تبقى مجهولة، لا يذكرها ذاكرٌ من الرواة والمؤرّخين إلّا ما رواه الطبريّ فحسب؟!!

ص: 22


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرَّم: 162.

الضوء الرابع: الاجتماع

اشارة

قال الطبريّ:

إجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس، يُقال لها: مارية .. وقد بلغ ابنَ زيادٍ إقبالُ الحسين، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق ((1)).

ثمّ ذكر خبر خروج يزيد وابنَيه (رضوان الله عليهم).وقال ابن الأثير:

واجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأةٍ من عبد القيس، يُقال لها: مارية .. فعزم يزيدُ بن نبيط على الخروج إلى الحسين ((2)).

وقال السماويّ:

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَت الشيعة في دار مارية ((3)).

تفيد هذه النصوص عدّة تلميحات:

التلميح الأوّل: عدد المجتمِعين

يُفيد قولُ الطبريّ وابنِ الأثير أنّ مجموعةً معتَدّاً بها اجتمعَت، إذ عبّرا:

ص: 23


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 267.
3- إبصار العين للسماويّ: 25.

«اجتمع ناسٌ»، ويفيد التبعيض الوارد _ بعد قولهما: «اجتمع ناسٌ» _ : «من الشيعة»، أنّ المجتمعين ليسوا هم جميع الشيعة، وإنّما بعضهم، وربّما أشعر التنكير: «ناسٌ» الإشارة إلى قلّة هؤلاء الناس بالنسبة إلى الأصل، غير أنّهم عددٌ يصلح أن يُطلَق عليه: (ناس)!

التلميح الثاني: هويّة المجتمِعين

حصر النصّ المجتمعين بلونٍ واحد، وهم: الشيعة، بَيد أنّ لفظ الشيعةيختلف في الإطلاق على الأفراد والتجمّعات حسب الظروف والسياقات، ففي مِثل تلك الأيّام الملتهبة الّتي اشتدّ فيها الاستقطاب، كانت تُطلَق هذه اللفظة على مَن انحاز إلى لواء أهل البيت (علیهم السلام) بالمعنى الأعمّ، مقابل مَن يتعلّق بأغصان الشجرة الملعونة ويسلك سُبل الضلال مِن أتباع السقيفة والخوارج وغيرهم.

فهم شيعةٌ من باب: إنّ ابن فاطمةٍ خيرٌ من ابن مرجانة وابن ميسون، وشيعةٌ بمعنى الرذاذ المتطاير الّذي يحوم حول أنوار أهل البيت (علیهم السلام) ، تماماً كما فعل الناس يوم بايعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) في الخلافة الرابعة، فإنّهم بايعوه على غرار بيعة السقيفة، لا بالارتكان إلى نصّ الغدير وتعيين ربّ العالمين، إذ أنّهم لم يكن عندهم بديلٌ عنه يومذاك حسب زعمهم، بعد أن قدّموا عليه الثلاثة!

ومثلُهم مثلُ مَن اجتمع في الكوفة وكاتب الإمام غريب الغرباء (علیه السلام)

ص: 24

ودعاه، وهم من أتباع السقيفة، ثمّ نكصوا على أعقابهم ورجعوا إلى غابتهم حين عرفوا أنّ الدنيا بيد القرود وأتباعها، وهؤلاء كان يُطلَق عليهم يومذاك: (الشيعة)، بمعنى الأتباع في الاستعمال اللغويّ على الإطلاق، وقد خاطبهم الإمام الحسين (علیه السلام) بهذا اللفظ أيضاً بنفس الاستعمال اللغويّ، لأنّهم أتباعه مقابل أتباع يزيد والأعداء، لا بمعنى أنّهم شيعةٌ بالمعنى الاعتقاديّ المصطلَح ممّن يعتقد فرض طاعته من الله (تبارك وتعالى) حسب تعيين اللهونصّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) .

وقد أتينا على بيان ذلك مفصَّلاً فيما سبق من دراسات، وفي (مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام)).

فهل تعبيرهم هنا بالشيعة يقصدون المعنى اللغويّ المشار إليه، أو أنّهم يقصدون الثُّلّة الطيّبة من الشيعة المعتقدين فرض طاعة الإمام بعد الإمام؟!

سيّما إذا أخذنا تعبير الشيخ السماويّ (رحمة الله) بنظر الاعتبار:

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَت الشيعةُ في دار مارية ((1)).

فاجتماع الشيعة في البصرة كاجتماعهم في الكوفة، ولا شكّ أنّ الشيعة الّذين اجتمعوا في الكوفة ليسوا من أتباع الحقّ والنصّ يوم الغدير، إلّا القليل منهم مِن أمثال حبيب وعابس ونظائرهما.

ص: 25


1- إبصار العين للسماويّ: 25.

وهنا في البصرة أيضاً كان فيهم من الشيعة المخلصين بالمعنى الاعتقاديّ، بدلالة خروج يزيد وأولاده وغيرهم من نفس ذلك المنزل، أمّا غير هؤلاء الأطهار الأبرار الّذين خرجوا، هل يمكن التيقُّن من تشيّعهم بالمعنى الاعتقاديّ؟

قد يُقال: إنّ مارية كانت عبديّة، وإنّ يزيد بن ثبيط وأولاده ومَن خرج لنصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) من البصريّين أغلبهم من بني عبد القيس أيضاً، فربّما كان هو منتدى العبديّين ومجلسهم ومجمعهم، وليس مكاناًعامّاً يجتمع فيه الشيعة على الإطلاق.

التلميح الثالث: وقت الاجتماع

يبدو من النصوص أنّ الاجتماع كان في فترةٍ كان فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) مقيماً في مكّة قبل خروجه منها بفترةٍ ليست بالقصيرة.

وقد حصل الاجتماع بعد خروج ابن زيادٍ من البصرة، بشهادة قول الطبريّ: «اجتمع الناس من الشيعة ... وقد بلغ ابنَ زيادٍ إقبالُ الحسين، فكتب إلى عامله بالبصرة» ((1)).

فلو كان ابن زيادٍ في البصرة لَما احتاج إلى الكتابة إلى عامله.

وأفاد الخبر أيضاً أنّ يزيد وولدَيه خرجوا من ذلك الاجتماع، والتحقوا

ص: 26


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

بالإمام الحسين (علیه السلام) على مشارف مكّة، فيكون وقت الاجتماع مقدار المسافة الزمنيّة الواقعة بين خروج يزيد من البصرة إلى التحاقه بالإمام (علیه السلام) ، وهي مدّةٌ محسومةٌ عادة، مع ملاحظة أنّهم كانوا يجدّون في السير.

وربّما أفاد كلام الشيخ السماويّ (رحمة الله) أنّه كان في فترة التهاب الكوفة واتّقاد الأحداث فيها، قبل أن تكشّر عن واقعها وتخذل المولى الغريب (علیه السلام) وتنصاع لابن مرجانة وتركع بين يديه، قال:

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَت الشيعةُ في دارمارية ((1)).

والمفروض أنّ ما بلغهم ممّا عليه أهل الكوفة هو الاجتماع للنصرة، وليس الخذلان.

بل إذا أردنا ملاحظة السياق وتتابع الأحداث حسب تصنيف الطبريّ، فإنّ الاجتماع سيكون قبل خروج المولى الغريب (علیه السلام) من مكّة، أي: قبل الخامس عشر من شهر رمضان، إذ أنّه يروي لنا خبر الاجتماع ولحاق يزيد بالإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة _ على حدّ تعبير ابن الأثير، وفي الصفاح في لفظ الطبريّ _، ويعقّب بعدها فيقول:

ثمّ دعا مسلمَ بن عقيل، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداويّ وعمارة بن عُبيد السلوليّ وعبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن

ص: 27


1- إبصار العين للسماويّ: 25.

الأرحبيّ ((1)).

إلّا أن يُقال: إنّ الطبريّ كان في مقام سرد الأحداث من دون ترتّب.

وسيأتي تحديدٌ آخَر لوقت الاجتماع عند التشرّف بذكر خروج يزيد بن ثُبيط وابنَيه.

التلميح الرابع: ظروف الاجتماع

في ذاك الجوّ العاصف بالإرهاب، حيث أعلن ابن ميسون وابن مرجانةحالة الإنذار القصوى والنفير العام، وزرعا العراق خيلاً ورجالاً حتّى لَكأنّ الناس كانت تمشي على رؤوس الأسنّة والحِراب، وقد أخذوا أخذاً شديداً، وكان الأخذ على الظنّة والتهمة، وغصّت المدن والأرياف والصحارى والفيافي والطرقات والجوادّ بالعيون والجواسيس والربايا، واتّصلَت آذان الخيل بأذناب بعضها، فلا يمرّ من بينها المارّ، وخيّم الرعب والإرجاف، وتماوجَت الرياح تعصف بالناس من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال وبالعكس، وترفعهم وتخفضهم، وترمي بهم حبّات الرمال ورذاذ الأخبار في أتون التقلُّب بين الجنّة والنار، والاصطفاف في صفوف الأخيار ونصرة آل البيت الأطهار، أو الانتشار في دمن غابات القرود المسعورة.. كلّ ذلك كان في العراق، أمّا باقي الأصقاع، فكانت قد خنعَت بذُلّ، وخضعَت

ص: 28


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

خضوعاً تامّاً للطاغوت، فلا تسمع لهم ركزاً..

في مِثل هذه الأجواء وما هو أشدّ وأعتى، يكتب عبيد القرود ابن مرجانة إلى عامله على البصرة، وقد بلغه إقبالُ الإمام الحسين (علیه السلام) ، أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق ((1)).

فهو تأكيدٌ وتشديدٌ على الإجراءات الغاشمة العاتية الّتي كانت ساريةً تلك الأيّام.

أجل، لم يكن ابن زيادٍ نفسُه في البصرة حين اجتمع الناس من الشيعةفي منزل مارية، بيد أنّ سطوته وبطشه وعساكره كانت تملأ الآفاق، وتسدّ الفروج والأرجاء.

وقد اجتمعوا في بلدٍ كانت صبغته _ يومذاك _ صبغةً معاديةً لآل البيت (علیهم السلام) ، وكان الشيعة _ بأيّ معنىً أخذتَ اللفظة _ أقليّةً ضئيلةً لا تكاد تبين.

وقد اجتمعوا في منزلٍ كان مألفاً لهم _ حسب تعبير الطبريّ _، فهو _ حسب مقتضيات الأُمور _ كان مرصوداً من قبل السلطة.

فلابدّ أن تكون الحيطة والحذر والتوجّس والترقّب تسود الأجواء!

التلميح الخامس: مُجرَيات الاجتماع

اشارة

لم يذكر الطبريّ ولا ابن الأثير المادّةَ الّتي تحاور بها المجتمعون، واقتصرا

ص: 29


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

على ذِكر كلام يزيد يخاطب أبناءَه وانتدابِ ابنَين له معه، هما: عبد الله وعُبيد الله، واعتراض الحاضرين عليه وردّه عليهم.

قال الطبريّ _ ولفظ ابن الأثير مِثله بشيءٍ من الاختصار _ :

فأجمع يزيدُ بن نبيط الخروج _ وهو من عبد القيس _ إلى الحسين، وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له، عبد الله وعُبيد الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعتُ على الخروج، وأنا خارج. فقالوا له: إنّانخاف عليك أصحاب ابن زياد. فقال: إنّي واللهِ لو قد استوت أخفافُهما بالجدد لَهان علَيّ طلبُ مَن طلبني.

قال: ثمّ خرج، فقوى في الطريق حتّى انتهى إلى حسين (علیه السلام) ((1)).

وتفرّد الشيخ السماويّ (رحمة الله) بذِكر مجملٍ يفيد أنّهم «تذاكروا أمر الإمامة وما آل إليه الأمر، فأجمع رأي بعضٍ على الخروج فخرج، وكتب بعضٌ بطلب القدوم ((2)).

ويمكن _ هنا _ تسجيل عدّة تعليقات:

التعليق الأوّل: الخطاب الأوّل

يروي الطبريّ الخطابَ الأوّل، وهو ما دار بين يزيد وأبنائه، وكانوا

ص: 30


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفس المهموم للقمّيّ: 91، الكامل لابن الأثير: 3 / 267.
2- إبصار العين للسماويّ: 25.

عشرة، فلبّى دعوتَه اثنان منهم فقط.

وظاهر الخبر أنّ أبناءه جميعاً كانوا ضمن الحاضرين.. «وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له».

وبهذا يكون قد استجاب له اثنان من أصل عشرة من أبنائه، ولا يذكر الخبر هنا أنّ ثَمّة غيرهما قد استجاب له من الحاضرين.

التعليق الثاني: عرض الأمر على أولاده

الجميل الملفت أنّ يزيد لم يُكرِه أحداً من أولاده، ولم يتّبعه أحدٌ منهمعصبيّةً ونخوةً عمياء لمجرّد اتّباع الأب والسيرِ في المسلَك الّذي اختاره، كاتّباع أفراد القبيلة لرئيسها من دون تمحيصٍ ونظرٍ في الحقّ والباطل.

فمن اتّبعَه منهم اتّبعَه على علم، ومن تخلّف عنه تخلّف بملء إرادته، ولم يُحرجه أبوه، وإنّما اكتفى بالعرض عليهم.

ويبدو من سياق النصّ أنّ يزيد هذا (رضی الله عنه) لم يعرض الأمر على غير وُلده، وكأنّه لم يحضر عنده أحدٌ غيرهم!

التعليق الثالث: الإصحار بالعزم

إكتفى يزيد بالإصحار لأصحابه عن عزمه ونيّته وإقدامه على الخروج، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعتُ على الخروج، وأنا خارج ((1)).

ص: 31


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

ربّما كان هذا هو أُسلوبه الذكيّ والمحسوب بدقّةٍ في دعوة القوم للخروج معه، وتشجيعهم وتحريضهم ودفعهم للإقدام على ما أقدم عليه.

وربّما كان على وزان قول عابس بن أبي شبيب الشاكريّ حين تكلّم بين يدَي المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وأخبره أنّه إنّما يتكلّم عن نفسه ويُصحِر عن كامنه، ولا يخبره عن نوايا الناس وكوامنهم، ولا يتحمّل عنهم مسؤوليّة الموقف والإعلان عن النصرة ((1)).فكأنّ سيّدنا يزيد هنا فَعَل كفعل مولانا العابس، فأخبرهم عن نيّته، وأنّه يفعل ما عزم عليه، ولا يريد تحمّل مسؤوليّة أحدٍ غيره، وأنّه لا ينتظر منهم موقفاً، ولا يتوقّع من أحدٍ من الحضور مشاركة، ولا يريد التحدّث عنهم، ولا الدخول في شأنهم، وإنّما هو يعبّر عن موقفه وشأنه بالذات.

التعليق الرابع: جواب القوم!
اشارة

يبدو أنّ القوم ردّوا على يزيد قولاً واحداً، إذ أنّ الراوي نسب الجواب إليهم جميعاً، فقالوا له: إنّا نخاف عليك أصحاب ابن زياد ((2)).

ويمكن أن يفيد الجواب مستويين من الردّ:

ص: 32


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 355، الفتوح لابن أعثم: 5 / 56، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 197، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 176.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.
المستوى الأوّل: التحذير

هو ما يظهر من الردّ صراحة، وهو تعبيرهم عن خشيتهم على شخص يزيد من أصحاب ابن زياد، والحذر من تورّطه في الوقوع في فخاخهم، فيكون فريسةً لهم فيُؤخَذ أو يُقتَل.

ويبدو من لحن كلامهم أنّهم لا يريدون الكشف عن تخوّفهم عليه وحرصهم على حياته، وإنّما حذّروه تحذيراً شديداً، وحاولوا تنبيهه إلى ما خالوه غافلاً عنه، فهم إنّما يخافون عليه من أصحاب ابن زياد، بمعنى أنّهم خوّفوه وحذّروه، وكأنّهم يقولون له: لا تقدِمْ على ما عزمتَ عليه، لأنّكتغامر، وسيتعقّبك أزلام السلطان، فلا تُلقِ بنفسك في لهوات الموت والمخاطر!

فإيقاع التحذير والتخويف والتهويل واضحٌ في كلامهم، وإنْ كان في نغمٍ هاديءٍ يعزف بهدوء، ليوحي له أنّهم إنّما يحرصون عليه ويخافون عليه شخصيّاً.

المستوى الثاني: التبرير

لمّا عرض عليهم المولى يزيد عزمه، وكان في عرضه نوع إعلانٍ لهم يحمل ألوان الدعوة والتشجيع، اعترضوا على عزمه بكلماتٍ فيها رنّةٌ وغنّةٌ وصبغةٌ بلون الدفاع عن النفس، والتبرير والتسويغ للتأخُّر وعدم الاستجابة.

ص: 33

فهم يحاولون إقناعه بموقفهم، ويشرحون له سبب انجحارهم وانكفائهم وعدم المبادرة والتجاوب معه، فعبّروا عن خوفهم وتوجُّسهم وتحسُّبهم من أصحاب ابن زياد على أنفسهم بإبرازهم التخوُّف عليه منهم!

فكأنّهم يقولون له: إنّنا لم نُجِبْك ولم نخرج معك، لأنّنا نخاف أصحاب ابن زيادٍ عليك، فكيف لا نخافه على أنفسنا؟!

ولا يخفى على المتلقّي أنّ ابن زيادٍ لم يكن يومها في البصرة _ حسب النصّ _؛ إذ أنّه بعث بكتابٍ إلى عامله _ كما سمعنا _، وحسب تعبير القوم أنفسهم، حيث أنّهم لم يذكروا تخوّفهم من ابن زيادٍ نفسه، وإنّما مِن أصحابه.يا له من تبريرٍ باردٍ لا يتجرّعه مَن ذاق حلاوة حبّ الحسين (علیه السلام) ، وسنسمع بعد قليلٍ جواب المتعلّق بأنوار سيّد الشهداء (علیه السلام) يزيد.

التعليق الخامس: الردّ الأخير
اشارة

ردّ عليهم الواثقُ العالم المؤمن المتيقِّن ردّاً يناسب المستويين المشار إليهما، فأراهم السبيل النيّر والمعلَمَ الواضح وطريق الإفلات من مخالب الذئاب إلى رحاب نعيم نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فقال:

إنّي واللهِ لو قد استوت أخفافُهما بالجدد، لَهان علَيّ طلبُ مَن طلبني.

ويمكن الإشارة إلى مؤدَّيات كلامه المنير من خلال الأنوار التالية:

ص: 34

النور الأول: التأكيدات

أقسم على نجاح ما خطّط له، وأكّد بجميع وسائل التأكيد وأدواته، كالجملة الاسميّة، والقسَم بالواو ولفظ الجلالة، و(قد)، و(اللام) في جواب (لو)، وتركيب الألفاظ وتجانسها، وغيرها من التأكيدات الظاهرة لمن تأمّل النصّ.

ولا يبعد _ ولو استئناساً _ استعماله مفردة «الجدد» لِما فيها من تجانسٍ واتّحادٍ بالحروف والإيقاع في مفردة (الجدّ)، وتتالي الدال بعد الدال المُشعِرة بالعجلة والقوّة والجدّ والاجتهاد والتلاحق.

النور الثاني: سهولة الطريق

هذا هو السبيل لسلوك طريق الجنّة واللحاق بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو سبيلٌ واضح المعالم بيّنُ المنار قريب المنال هيّن المسالك، لا يحتاج أكثر من أخفافٍ مُجِدّةٍ متلاحقةٍ مسرعة، تلقف الجدد وتنطلق لتسابق الريح، كأنّها مُجنّحٌ يخطف الأبصار، ويمرّ كالبرق على لامع الطريق..

فلْيلحق به مَن يلحق، وعلى أيّ راحلةٍ مهما كانت سريعة، فإنّ الشوق والروح المفعَمة بأمل اللقاء بريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، واللحاق بركبه أقوى من كلّ شيء، و«ما ضَعُف بدنٌ عمّا قويَت عليه النيّة» ((1)).

ص: 35


1- أُنظر: مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 4 / 400 ح 5859، الأمالي للصدوق: 329 المجلس 53 ح 6 عن الإمام الصادق (علیه السلام) .

يكفي أن يصل إلى جدد الطريق لينطلق، ثمّ لا يلحق به لاحقٌ حتّى يبلغ منيته ومبتغاه.

النور الثالث: أهمّيّة الإقدام مهما كلّف

قد يكون المقصود من تهوين الأمر إن استوت أخفافُهما على الجدد وعدم الاكتراث بطلب مَن يطلبه، أنّه يريد الإشارة إلى أنّ تكليفه هو اللحاق بسيّد الشهداء (علیه السلام) وابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ والزهراء والإمامِ المفترض الطاعة (علیهم السلام) ، للدفاع عنه وعن عيال الله، وقد عزم على ذلك، فإذا خرج وسلك الطريق وتلقّف الجادّة بالمركب السريع، فإنْ طلبه مَن طلبه فهو لايكترث به ولا يبالي به، حتّى وإنْ ظفر به، وحتّى لو كلّفه ذلك حياته، فإنّه على الجادّة الصحيحة، وفي مقام أداء التكليف الربّانيّ، فهو إنْ بلغ المُنى والتقى بوصيّة ربّ السماء فقد نال ما يريد، وإن أدركه مَن طلبه فقُتل وهو في الطريق إليه، فقد فاز وسبق إلى الجنّة بعد أن عمل بما ندبه إليه ربّه.

النور الرابع: صعق الضمائر

بناءً على ما تبيّن في النورين السابقين، فإنّه قد أبان لمن سمع طريق النجاة، وكشف لهم عن سبيل الركون إلى الحقّ وأداء التكليف، فلا مناص

ص: 36

من الإقدام، ولا حجّة يوم يقوم الناس بين يدَي ربّ الحسين (علیه السلام) للخصام، وقد أقدم على ما أبان ونفذّ ما به يتحقّق المرام على مرأى ومسمع من هؤلاء النيام.

وبهذا يكون قد صعق ضمائرهم صعقةً عنيفة، تفي بالمطلوب في تحريك المشاعر وتنبيه الخواطر وإحياء الضمائر، ونفض ما على القلوب من رين الخلود إلى الأرض والشهوات والتسويلات، فلْيفزع القومُ إلى ربّهم، ويثوبوا إلى عقولهم، ويعرفوا غَبّ موقفهم وخوفهم، والطريقُ سالكةٌ على كلّ حالٍ لبلوغ المنى، وهي سهلة المنال، فإمّا السلوك على الجدد الموصلة، وإمّا السلوك إلى الجنّة على الجدد الموصلة قبل الوصول.

النور الخامس: أفلح باللقاء

لمّا كان العزم حازماً والجدّ جازماً، انطلق بكلّ ما آتاه الله من قوّة،فخرج، فقوي في الطريق حتّى انتهى إلى حسين (علیه السلام) ..

لقد انتهى إلى سدرة المنتهى.. انتهى إلى ما كان يتمنّى أن ينتهي إليه.. لقد سعد بلقاء الحبيب.. الحسين (علیه السلام) الحبيب.. سعد بلقاء وجه الله.. ولصق بجنب الله.. نال النعيم الّذي لا نعيم بعده.. بلغ ذُرى الجنان بلقاء وليّ الرحمان الرحمان..

تحقّق ما قاله.. انطلق.. تلقّفت الأخفاف الجدد، وحلّق بجناحَين، وهبط آمِناً في رحاب الله..

ص: 37

يا لها من سعادةٍ هو مغبوطٌ عليها إلى يوم يُبعَثون! وصل ليجد إمام السعداء قد قصد رحله وبادر لاستقباله، ففرح، وقال: ﴿بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ ((1)).

وسيأتي تمام الكلام في ذلك عند الحديث عن الشهيد السعيد نفسه.

وصل هو وابناه.. وتخلّف مَن تخلّف في بيت مارية، وتحرّزوا مِن أصحاب ابن زياد، منجَحرين مخلَّدين إلى الأرض ثقالاً.. لم نسمع منهم تسويغاً لتثاقلهم وانكفائهم سوى الخوف من أصحاب ابن زياد..

الضوء الخامس: معلومةٌ انفرد بها الشيخ السماويّ (رحمة الله)

اشارة

إنفرد الشيخ السماويّ (رحمة الله) _ حسب الفحص _ بذكر نكتتَين:

النكتة الأُولى: ما دار في الاجتماع

ذكر الشيخ السماويّ أنّ المجتمعين في دار مارية تذاكروا أمر الإمامة وما آلَ إليه الأمر، فأجمع رأيُ بعضٍ على الخروج، فخرج ((2)).

ولا ندري ما يقصد بقوله: «أمر الإمامة»، فأيُّ إمامةٍ الّتي تذاكروا أمرَها؟ الإمامة كما يعتقدها الشيعة، أو الإمامة بالمعنى المتداوَل يومها مَن

ص: 38


1- سورة يونس: 58.
2- إبصار العين للسماويّ: 25.

تولّى أمر السلطة والحكم وسياسة المجتمع والملك؟

وربّما أفاد قوله: «وما آل إليه الأمر» المعنى الثاني؛ لِما جرى من تغيُّراتٍ طارئةٍ بعد هلاك معاوية ونزو يزيد مِن بعده.

وربّما استفاد الشيخ (رحمة الله) هذا العنوان لما تذاكروا به من قرار البعض وعزمه على اللحاق بسيّد الشهداء (علیه السلام) .

فإن كان كذلك، فإنّ هذا حدس منه _ حشره الله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وصحبه _، وليس خبراً تاريخيّاً.

قد يكون ذلك كذلك، وقد يكون غيره، كأن يكونوا تذاكروا ما جرى على الإمام (علیه السلام) والمخاطر المحدَقة به وبأهله، وخذلانَ الناس له فيمكّة والمدينة، والوعودَ المتطايرة من الكوفة للنصرة والدفاع عنه.

النكتة الثانية: مكاتبة القوم

قسّم الشيخ (رحمة الله) الحاضرين في الاجتماع، وصرّح أنّ بعضهم عزم على الخروج وخرج، والبعض الآخَر كتب بطلب القدوم ((1)).

فيكون البعض الآخَر قد استعدّ للنصرة أيضاً، غير أنّهم لم يخرجوا، واقتصروا على طلب القدوم، وفضّلوا أن ينتظروا الإمام (علیه السلام) حتّى يرد عليهم فيقوموا باللازم ويؤدّوا حقّه.

ص: 39


1- إبصار العين للسماويّ: 25.

ويفيد أيضاً أمراً مهمّاً غاية الأهمّيّة، وهو أنّ ثمّة مكاتبةً حصلَت من قِبل هذا البعض من أهل البصرة، فينفع في تسويغ ما كتب به الإمام (علیه السلام) لأهل البصرة، كما سنسمع بعد قليل.

ولا ندري أنّ طلب القدوم كان إلى أين؟ هل طلبوا منه (علیه السلام) القدوم عليهم في البصرة، أو طلبوا منه القدوم إلى الكوفة؟

فإن كان القدوم إلى الكوفة فإنّه يلزمهم الخروج إليها، وسيلزم نفس المحذور من الخروج إليه في مكّة، وإن كان طلب القدوم إلى البصرة فهو تعسُّفٌ وتقاعسٌ وطلبٌ يكشف عن النوايا الخائرة.

النكتة الثالثة: مصدر المعلومة

لا ندري بالضبط من أين جاءت معلومة "كتابة القوم للإمام (علیه السلام) يطلبون منه القدوم"، بَيد أنّنا نثق بالشيخ (رحمة الله) ، ونعلم أنّه كان صاحب مكتبةٍ وكتب، ونحتمل أن يكون ذلك استنتاجاً أو تصوُّراً مبتنياً على جملة الحدَث ومجريات الأحداث.

ص: 40

كتاب الإمام (علیه السلام) لأهل البصرة

البلاذريّ:

فكتب يزيد إلى عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان بولاية الكوفة إلى ما كان يلي من البصرة، وبعث بكتابه في ذلك مع مسلم بن عمرو الباهليّ أبي قُتيبة بن مسلم، وأمر عُبيدَ الله بطلب ابن عقيلٍ ونفيه إذا ظفر به أو قتْلِه، وأن يتيقّظ في أمر الحسين بن عليٍّ ويكون على استعدادٍ له.

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة يدعوهم إلى كتاب الله، ويقول لهم: «إنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت ونُعشَت».

وكلّهم كتموا كتابه، إلّا المنذر بن الجارود العَبديّ، فإنّه خاف أن يكون عُبيد الله بن زيادٍ دسّه إليه، فأخبره به وأقرأه إيّاه.

فخطب عُبيد الله بن زيادٍ الناسَ بالبصرة، فأرعد وأبرق وتهدّد وتوعّد، وقال: أنا نكلٌ لمن عاداني، وسمامٌ لمن حاربني. وأعلمهم أنّه شاخِصٌ إلى الكوفة، وأنّه قد ولّى عثمان بن زيادٍ أخاه خلافتَه

ص: 41

على البصرة، وأمرهم بطاعته والسمع له، ونهاهم عن الخلاف والمشاقّة.

وشخص إلى الكوفة، ومعه: المُنذر بن الجارود العَبديّ، وشريك ابن الأعور الحارثيّ، ومسلم بن عمرو الباهليّ، وحشمه وغلمانه، فوردَها ((1)).

الدينوريّ:

وأوصل الكتابَ الى عُبيد الله بن زياد.

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب كتاباً الى شيعته من أهل البصرة مع مولىً له يُسمّى: سلمان، نسخته:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم.

أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحقّ وإماتة البِدَع، فإنْ تُجيبوا تهتدوا سُبل الرشاد، والسلام».

فلمّا أتاهم هذا الكتاب كتموه جميعاً، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه أفشاه، لتزويجه ابنته هنداً من عُبيد الله بن زياد، فأقبل حتّى دخل عليه، فأخبره بالكتاب وحكى له ما فيه، فأمر عُبيد الله بن زيادٍ بطلب الرسول فطلبوه، فأتوه به فضُربَت عُنقُه.

ص: 42


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.

ثمّ أقبل حتّى دخل المسجد الأعظم، فاجتمع له الناس، فقام فقال: أنصف القارة من راماها. يا أهلَ البصرة، إنّ أمير المؤمنين قد ولّاني مع البصرة الكوفة، وأنا سائرٌ إليها، وقد خلّفتُ عليكم أخي عثمان بن زياد، فإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوَاللهِ الّذي لا إله غيره، لئن بلغَني عن رجُلٍ منكم خالَفَ أو أرجفَ لَأقتلنّه ووليّه، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى والبريءَ بالسقيم حتّى تستقيموا، وقد أعذر مَن أنذر.

ثمّ نزل وسار، وخرج معه مِن أشراف أهل البصرة شريك بن الأعور والمنذر بن الجارود، فسار حتّى وافى الكوفة فدخلها ((1)).

الطبريّ:

فأقبل مسلم بن عمرو حتّى قَدِم على عُبيد الله بالبصرة، فأمر عُبيدُ الله بالجهاز والتهيّؤ والمسير إلى الكوفة من الغد.

وقد كان حسينٌ كتب الى أهل البصرة كتاباً.

قال هِشام: قال أبو مِخنَف: حدّثَني الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهديّ قال:

كتب حسينٌ مع مولىً لهم يُقال له: سليمان، وكتب بنسخةٍ إلىرؤوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكريّ، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود،

ص: 43


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.

وإلى مسعود بن عمرو، وإلى قيس بن الهيثم، وإلى عمرو بن عُبيد الله بن معمر، فجاءت منه نسخةٌ واحدةٌ إلى جميع أشرافها:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرسِل به (صلی الله علیه و آله) ، وكنّا أهلَه وأولياءَه وأوصياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومُنا بذلك فرضينا، وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، فإنّ السنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله».

فكلّ مَن قرأ ذلك الكتاب مِن أشراف الناس كتمه، غير المنذر بن الجارود، فإنّه خشيَ بزعمه أن يكون دسيساً من قبل عُبيد الله، فجاءه بالرسول من العشيّة الّتي يريد صبيحتها أن يسبق إلىالكوفة، وأقرأه كتابه، فقدّم الرسول فضرب عنقه.

وصعد عُبيد الله منبر البصرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعد، فواللهِ ما تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان، وإنّي

ص: 44

لَنكلٌ لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارة مَن راماها.

يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوالّذي لا إله غيره لَئن بلغني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولَآخُذنّ الأدنى بالأقصى، حتّى تستمعوا لي ولا يكون فيكم مخالِفٌ ولا مشاقّ.

أنا ابنُ زياد، أشبهته من بين من وطيء الحصى، ولم ينتزعني شبه خالٍ ولا ابن عمّ.

ثمّ خرج من البصرة، واستخلف أخاه عثمان بن زياد، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته، حتّى دخل الكوفة ((1)).

إبن أعثم، الخوارزميّ:

قال: فلمّا ورد الكتاب على عُبيد الله بن زيادٍ وقرأه، أمر بالجهاز إلى الكوفة.

قال: وقد كان الحسين بن عليٍّ قد كتب إلى رؤساء أهلالبصرة، مِثل الأحنف بن قيس ومالك بن مسمع والمنذر بن الجارود وقيس ابن الهيثم ومسعود بن عمرو وعمر بن عُبيد الله بن معمر، فكتب إليهم كتاباً يدعوهم فيه إلى نصرته والقيام معه في حقّه، [لكلّ

ص: 45


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.

واحدٍ كتاباً] ((1))، فكان كلُّ مَن قرأ كتاب الحسين كتمه ولم يُخبِر به أحد، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه خشيَ أن يكون هذا الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت حومة بنت المنذر بن الجارود تحت عُبيد الله بن زياد، فأقبل إلى عُبيد الله بن زيادٍ فخبّره بذلك.

قال: فغضب عُبيد الله بن زياد، وقال: مَن رسول الحسين بن عليٍّ إلى البصرة؟ فقال المنذر بن الجارود: أيّها الأمير، رسوله إليهم مولىً يُقال له: سليمان _ (رحمة الله) _. فقال عُبيد الله بن زياد: علَيّ به! فأُتي بسليمان مولى الحسين، وقد كان متخفّياً عند بعض الشيعة بالبصرة، فلمّا رآه عُبيد الله بن زياد لم يكلّمه دون أن أقدمه فضرب عنقه صبراً (رحمة الله) ! ثمّ أمر بصَلبه.

ثمّ صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:

أمّا بعد، يا أهلَ البصرة! إنّي لَنكلٌ لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، فقد أنصف القارة من راماها.يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية قد ولّاني الكوفة، وأنا سائرٌ إليها غداً إن شاء الله (تعالى)، وقد استخلفتُ عليكم أخي عثمان بن زياد، فإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوالّذي لا إله إلّا هو، لو بلغَني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه ولَأقتلنّ عريفه، ولَآخذنّ الأدنى بالأقصى حتّى يستقيموا لي، فاحذروا أن يكون فيكم

ص: 46


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.

مخالِفٌ أو مشاقّ، فأنا ابنُ زيادٍ الّذي لم ينازعني عمٌّ ولا خال، والسلام.

قال: ثمّ نزل عن المنبر.

فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة ((1)).

إبن الأثير:

فلمّا وصل كتابه إلى عُبيد الله، أمر بالتجهّز ليبرز من الغد.

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخةً واحدةً إلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكريّ والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم وعمر بن عبد الله بن معمر، يدعوهم إلى كتاب الله وسُنّة رسوله، وأنّ السُّنّة قد ماتت والبدعةَ قد أُحييَت.فكلّهم كتموا كتابه، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه خاف أن يكون دسيساً من ابن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب، فضُرب عُنق الرسول.

وخطب الناس وقال:

أمّا بعد، فواللهِ ما بي تُقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإنّي لَنكلٌ لمن عاداني، وسلمٌ لمن حاربني، وأنصف القارة من راماها.

ص: 47


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62.

يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين قد ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها بالغداة، وقد استخلفتُ عليكم أخي عثمان بن زياد، فإيّاكم والخلاف والإرجاف، فواللهِ لَئن بلغَني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولَآخُذنّ الأدنى بالأقصى، حتّى تستقيموا ولا يكون فيكم مخالِفٌ ولا مشاقّ، وإنّي أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطئ الحصى، فلم ينتزعني شبه خالٍ ولا ابن عمّ.

ثمّ خرج من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته ((1)).

إبن نما:

وأمر مُسلمَ بالتوجّه بالكتاب إلى الكوفة، وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة، منهم الأحنف بن قيس وقيس بن الهيثموالمنذر ابن الجارود ويزيد بن مسعود النهشليّ، وبعث الكتاب مع زراع السدوسيّ، وقيل: مع سليمان المكنّى بأبي رزين، فيه: «إنّي أدعوكم إلى الله وإلى نبيّه، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، فإنْ تُجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد».

فلمّا وصل الكتاب كتموا على الرسول، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه أتى عُبيدُ الله بالكتاب ورسولِ الحسين، لأنّه خاف أن يكون الكتابُ قد دسّه عُبيد الله إليهم ليختبر حالهم مع الحسين، لأنّ

ص: 48


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23.

بحريّة بنت المنذر زوجة عُبيد الله، فلمّا قرأ الكتاب ضرب عنق الرسول.

وأمّا الأحنف، فإنّه كتب إلى الحسين (علیه السلام) : أمّا بعد، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ ((1)).

وأمّا يزيد بن مسعود النهشليّ، فإنّه أحضر بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، وقال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي منكم وحسَبي فيكم؟ فقالوا: أنت فقرة الظهر ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسَطاً وتقدّمتَ فرطاً. قال: قد جمعتُكم لأمرٍ أُشاوركم فيه وأستعينُ بكم عليه. قالوا: نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي. قال: إنّ معاوية هلك، فأهوِنْ به هالِكاً ومفقوداً، فقد انكسر باب الجَور، وكان قد عقد لابنه بيعةً ظنّ أنّه أحكمها،وقد قام يزيدُ شاربُ الخمور ورأسُ الفجور، وأنا أُقسم بالله قسَماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضلُ من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والعِلم والسابقة والسنّ والقرابة، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعيَ رعيّته وإمامَ قوم، وجبَت لله به المحجّة وبلغَت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيسٍ انخذل بكم يوم الجمَل، فاغسلوها مع ابن رسول الله ونصرته، واللِه

ص: 49


1- سورة الروم: 60.

لا يقصّر أحدٌ عنها إلّا ورّثه الله الذلّ في وُلده والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لأمتها، وأدّرعتُ لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمُت، ومَن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ ردَّ الجواب.

فتكلّم بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك، إن رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى واللهِ شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا، إذا شئتَ فقُم.

وتكلّمَت بنو سعد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرنا بترك القتال، فحمدنا رأيه وبقيَ عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع الرأي ونُحسِن المشورة، ويأتيك خبرنا واجتماع رأينا.وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لا نرضى إنْ غضبتَ ولا نغضبُ إن رضيت، ولا نقطن إن ظعنتَ ولا نظعن إن قطنت، والأمر إليك والمعوَّل عليك، فادعُنا نُجِبك، وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: واللهِ يا بني سعد، لئن فعلتموها لا رفع الله عنكم السيف أبداً، ولا زال سيفكم فيكم.

ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إلينا كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له من الأخذ بحظّي من طاعتك وبنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يُخلِ الأرضَ

ص: 50

قطّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حُجّة الله على خلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتُم من زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشدّ تهافتاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خامسها، وقد ذلّلتُ لك بني سعدٍ وغسلتُ درن صدورها بماء سحابة مُزن، حتّى استهلّت برقها فلمع.

فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتاب قال: «ما لَك؟ آمنَكَ الله يوم الخوف، وأعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر».فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، بلغه قتله قبل أن يسير، فجزع لذلك جزعاً عظيماً لِما فاته من نصرته.

وأمّا المنذر بن الجارود، فإنّه لمّا جاءه كتاب الحسين (علیه السلام) حمله إلى عُبيد الله بن زياد، لأنّ المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت بحريّة بنت المنذر بن الجارود زوجةَ عُبيد الله بن زياد، فأخذ عُبيدُ الله بن زيادٍ الرسولَ فصلبه.

ثمّ صعد المنبر فخطب، وتوعّد الناس على الخلاف وإثارة أهل البصرة الإرجاف.

ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم عثمانَ بن زيادٍ

ص: 51

أخاه، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((1)).

إبن طاووس:

فتأهّب عُبيد الله للمسير إلى الكوفة.

وكان الحسين (علیه السلام) قد كتب إلى جماعةٍ من أشراف البصرة كتاباً مع مولىً له اسمه: سليمان، ويُكنّى: أبا رزين، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم يزيد بن مسعود النهشليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ.

فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّاحضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون فيكم موضعي وحسَبي منكم؟ فقالوا: بخٍ بخ، أنت واللهِ فقرةُ الظهر ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسطاً وتقدّمتَ فيه فرطاً. قال: فإنّي قد جمعتُكم لأمرٍ أُريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه. فقالوا: إنّا واللهِ نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي، فقُل حتّى نسمع. فقال: إنّ معاوية مات، فأهوِنْ به واللهِ هالِكاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انكسر بابُ الجَور والإثم وتضعضعَت أركانُ الظلم، وقد كان أحدث بيعةً عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه، وهيهات والّذي أراد، اجتهد واللهِ ففشل، وشاور فخذل، وقد قام ابنُه يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضىً منهم، مع

ص: 52


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

قصر حلمٍ وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمَيه، فأُقسمُ بالله قسَماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضلُ من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يوصَف وعلمٌ لا ينزف، وهو أَولى بهذا الأمر، لِسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّةٍ وإمامَ قوم، وجبَت لله به الحجّة وبلغَت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكّعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيسٍ انخذل بكم يوم الجمَل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصرته، واللهِ لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلّا أورثه الله الذلّ في وُلده والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لامتها وادّرعتُ لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمُت، ومَن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ ردَّ الجواب.

فتكلّمَت بنو حنظلة فقالوا: أبا خالد، نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك، إنْ رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى واللهِ شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك والله بأسيافنا ونقيك بأبداننا، إذا شئتَ فافعل.

وتكلّمَت بنو سعيد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرَنا بترك القتال، فحمدنا أمرنا وبقيَ عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع المشورة ونأتيك برأينا.

ص: 53

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وخلفاؤك، لا نرضى إنْ غضبت، ولا نوطن إن ظعنت، والأمر إليك، فادعُنا نُجِبك وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: واللهِ يا بني سعد، لَئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً، ولا زال سيفكم فيكم.

ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له منالأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لا يُخلي الأرض قطّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حُجّة الله على خَلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتُم من زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم، وتركتُهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خَمسها وكظّها، وقد ذلّلتُ لك بني سعدٍ وغسلتُ درن صدورها بماء سحابة مزنٍ حين استهمل برقُها فلمع.

فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتاب قال: «ما لَك؟ آمنَكَ الله يوم الخوف، أعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر».

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (علیه السلام) بلغه قتلُه قبل أن يسير، فجزع من انقطاعه عنه.

وأمّا المنذر بن الجارود، فإنّه جاء بالكتاب والرسول إلى عُبيد الله ابن زياد، لأنّ المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عُبيد الله

ص: 54

ابن زياد، وكانت بحريّة بنت المنذر زوجةً لعُبيد الله بن زياد، فأخذ عُبيد الله بن زيادٍ الرسولَ فصلبه.

ثمّ صعد المنبر فخطب، وتوعّد أهلَ البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف تلك الليلة.فلمّا أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد، وأسرع هو إلى قصر الكوفة ((1)).

النويريّ:

فلمّا وصل كتابُه إلى عُبيد اللَّه، تجهّز ليسير من الغد.

وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة، منهم مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم وعمر بن عُبيد اللَّه بن معمر، يدعوهم إلى كتاب اللَّه وسُنّة رسوله، فإنّ السنّة قد ماتت والبدعةَ قد أُحييَت.

فكلّهم كتم كتابه، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه خشيَ أن يكون دسيساً من ابن زياد، فأتاه بالرسول والكتاب، فضرب عنق الرسول.

وخطب الناس، ثمّ قال في آخِر كلامه: يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها بالغد، وقد استخلفتُ عليكم أخي عثمان بن زياد، فإيّاكم والخلاف والإرجاف، فواللَّهِ لَئن بلغني

ص: 55


1- اللهوف لابن طاووس: 38.

عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولَآخُذنّ الأدنى بالأقصى، حتّى تستقيموا ولا يكون فيكم خلافٌ ولا شقاق، إنّي أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطئ الحصى، فلم ينتزعني شبَهُخالٍ ولا ابن عمّ.

ثمّ خرج من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته ((1)).

إبن كثير:

وكتب له كتاباً صورة ما وقع من أمرهما.

وقد كان عُبيدُ الله قبل أن يخرج من البصرة بيومٍ خطب أهلَها خطبةً بليغة، ووعظهم فيها وحذّرهم وأنذرهم من الاختلاف والفتنة والتفرّق.

وذلك لما رواه هِشام بن الكلبيّ وأبو مِخنَف، عن الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهديّ قال:

بعث الحسين مع مولىً له يُقال له: سلمان، كتاباً إلى أشراف أهل البصرة، فيه:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً على خَلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرسِل به، وكنّا أهلَه وأولياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس به وبمقامه في الناس،

ص: 56


1- نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

فاستأثر علينا قومُنا بذلك فرضينا، وكرهنا الفرقةَ وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه،وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإنْ فعلتم أهدكم سبيلَ الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله».

وعندي في صحّة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنّه مطرَّزٌ بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة.

قال: فكلّ مَن قرأ ذلك من الأشراف كتمه، إلّا المنذر بن الجارود، فإنّه ظنّ أنّه دسيسةٌ من ابن زياد، فجاء به إليه، فبعث خلف الرسول الّذي جاء به من حسين، فضرب عنقه.

وصعد عُبيد الله بن زيادٍ المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعد، فواللهِ ما بي تُقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإنّي لَنكالٌ لمن عاداني، وسهامٌ لمن حاربني، أنصف القارة مَن رماها.

يا أهلَ البصرة، إنّ أمير المؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوالّذي لا إله غيره، لَئن بلغَني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى،

ص: 57

حتّى يستقيم لي الأمر ولا يكن فيكم مخالِفٌ ولا مشاقق.

أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطئ الحصى، ولم يتنزعني شبَهُ خالٍ ولا عمّ.

ثمّ خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ، فكان من أمره ما تقدّم ((1)).

المقريزيّ:

فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فولّى عُبيد الله بن زياد ابن أبيه الكوفة، وجمع له معها البصرة، وأمره بطلب مسلم بن عقيل وقتله أو نفيه.

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة يدعوهم، فضرب عُبيد الله ابن زيادٍ عُنق رسوله.

ثمّ ركب من البصرة ودخل الكوفة، وقد بايع مسلم بن عقيل ثمانيةُ عشر ألفاً ((2)).

إبن أبي طالب:

وكتب الحسين (علیه السلام) كتاباً إلى أشراف البصرة، مع مولىً له يُقال له: سليمان، ويُكنّى: أبا رزين، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم يزيد بن مسعود النهشليّ والمنذر بن الجارود العَبديّ.

ص: 58


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
2- إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.

فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّا حضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي فيكم وحسَبي منكم؟ قالوا: بخٍ بخ، أنت واللهِ فقرة الظهر ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسطاً وتقدّمتَ فيه فرطاً. قال: فإنّي قد جمعتُكم لأمرٍ أُريد أن أُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه. فقالوا: واللهِ إنّا نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي، فقُل نسمع. فقال: إنّ معاوية مات، فأهوِنْ به هالِكاً مفقوداً، وإنّه قد انكسر باب الجَور وتضعضعَت أركان الظلم، وقد كان أحدث بيعةً عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه، وهيهات بالّذي أراد، اجتهد إليه ففشل وشاور فخذل، وقد قام يزيدُ شاربُ الخمر ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين ويتأمّر عليهم، مع قِصَر حلمٍ وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمه، فأُقسِمُ بالله قسَماً مبروراً إنّ الجهاد في الدين أفضلُ من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يُوصَف وعلمٌ لا ينزف، وهو أَولى بهذا الأمر، لِسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعيَ رعيّةٍ وإمامَ قوم، وجبَت لله به الحجّة وبلغَت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكّعوا في وهدة الباطل،فقد كان صخر بن قيسٍ قد انخذل بكم يوم الجمَل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصرته، واللهِ لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلّا أورثه الله الذلّ في وُلده

ص: 59

والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لامتها وادّرعتُ لها بدرعها، من لم يُقتَل يمُت، ومَن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ في ردّ الجواب.

فتكلّمَت بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبل كنانتك وفرسان عشيرتك، إنْ رميتَ بنا أصبت، وإنْ غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى واللهِ شدّةً إلّا لقيناها، نصول بأسيافنا ونقيك بأبداننا.

وتكلّمَت بنو سعد بن زيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا مخالفتُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرَنا بترك القتال، فحمدنا أمرنا وبقيَ عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا.

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وخلفاؤك، ولا نرضى إن غضبت، ولا نقطن إن ضعنت، والأمر إليك، فادعُنا نُجِبك وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: واللهِ يا بني سعد، لَئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً، ولا زال سيفكم فيكم.ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إليّ كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له بالأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وأنّ الله لم يُخلِ الأرض قطّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم

ص: 60

حُجّة الله على الخلق ووديعتُه في أرضه، تفرّعتم من زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم، وتركتُهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خَمسها، وقد ذلّلتُ لك بني سعد، وغسلتُ درن صدورها بماء سحابة مزنٍ حين استهلّ برقها يلمع.

فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتاب قال: «ما لَك؟ آمنَكَ الله يوم الخوف، وأعزّك وأرواك يوم العطش».

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (علیه السلام) بلغه قتلُه قبل أن يسير، فجزع من انقطاعه عنه.

وأمّا المنذر بن الجارود، خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت بحريّة ابنة المنذر بن الجارود تحت عُبيد الله بن زياد، فأخذ المنذر الرسول والكتاب وأتى به إلى عُبيد الله بن زياد، فقتله.

ثمّ صعد المنبر، فخطب وتوعّد الناس من أهل البصرة علىالخلاف وإثارة الإرجاف.

ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب أخاه عثمان بن زيادٍ على البصرة، وأسرع هو إلى الكوفة ((1)).

ص: 61


1- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.

ثمّ دفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهليّ، وأمره أن يُسرع [السير إلى عُبيد الله]، فلمّا ورد الكتاب على ابن زيادٍ وقرأه، أمر بالجهاز وتهيّأ للمسير، وقد كان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة، كما أشرنا أوّلاً ((1)).

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):

فبينما هو كذلك إذ قدم رسول الحسين (علیه السلام) إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته، منهم الأحنف بن قيس وعبد الله بن معمر وعمر بن الجارود ومسعود بن معمر وغيرهم، بنسخةٍ واحدة، أوّله:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ (علیه السلام) :

أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على جميع خَلقه، وأكرمه بنبوّته، وحباه برسالته، ثمّ قبضه إليه مُكرَّماً، وقد نصح العباد وبلّغ رسالاتِ ربّه، وكان أهلُه وأصفياؤه أحقَّ بمقامه مِن بعده، وقد تأمّر علينا قومٌ فسلّمنا، ورضينا كراهة الفتنة وطلبَ العافية، وقد بعثتُ إليكم بكتابي هذا، وأنا أدعوكم إلى كتابالله وسُنّة نبيّه، فإنْ سمعتُم قولي واتّبعتُم أمري أهدِكم إلى سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

قال: ولم يبقَ أحدٌ من الأشراف إلّا قرأ الكتاب وكتمه، ما خلا المنذر ابن الجارود (لعنه الله)، وكانت ابنته تحت ابن زيادٍ (لعنه الله)،

ص: 62


1- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 180.

فلمّا قرأ الكتاب قبض الرسول وأدخله على ابن زيادٍ (لعنه الله)، فلمّا قرأ ابن زيادٍ (لعنه الله) الكتاب، أمر بالرسول فضُربَت عُنقه (رحمة الله) ، وكان أوّلَ رسولٍ قُتل في الإسلام ((1)).

بحر العلوم:

وكتب (علیه السلام) من مكّة إلى جماعةٍ من أشراف البصرة ورؤساء الأخماس، مع مولىً له اسمه: سليمان، وكنيته: أبو رزين.

ثمّ ذكر كلام الطبريّ وغيره، ثمّ قال:

فأخذ الرسولُ كتاب الحسين (علیه السلام) ، وجعل يجدّ السير من مكّة إلى أن وصل إلى البصرة، فسلّم صورة الكتُب إلى أصحابها ((2)).

ص: 63


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 146.

ص: 64

تمهيداتٌ مهمّة

التمهيد الأوّل: ارتباط المِصرَين

البصرة هي أقرب الحواضر الّتي كان لها صيتٌ يومذاك إلى الكوفة؛ فهي أقرب إليها من المدينة ومكّة واليمن وغيرها من الحواضر والبلدان، ويربطها بالكوفة طريق البرّ وطريق الماء، ولهذا التقارب الجغرافيّ أثره البليغ في التأثير والتأثُّر والتفاعل البليغ بينهما.

والمصران يرتبطان ارتباطاً وثيقاً متشابكاً، من خلال الوشائج القبَليّة والعلاقات العائليّة والأُسريّة المتشابكة الواسعة، والحركة التجاريّة، وغيرها من النشاطات الاجتماعيّة.

وقد شاركَت البصرةُ الكوفةَ بويلات الوُلاة الّذين سلّطهم الطواغيت عليهما، من قبيل زياد ابن أبيه ونغله عُبيد الله ابن زياد.

التمهيد الثاني: اختلاف التركيبة

عمد عمر بن الخطّاب إلى مدينة الكوفة فاتّخذها معسكراً، وحوّلها إلى ثكنةٍ عسكريّةٍ تتمركز فيها قوّاته يومذاك، لتمدّه بالرجال المدرّبينوالعساكر

ص: 65

المقاتلين، ينقل قطعانهم بين المشاتي والمصايف والغزوات، ولتكون الخطّ الأوّل للمواجهة في انتشاره نحو فارس.

فيما كانت البصرة مدينةً آهِلةً كثيرة السكّان، ينتابها «التجّار والحرفيّون الفرس الّذين أخذوا يتوافدون إلى هناك، وكذلك مجموعات الجواري والعبيد الّذين كانوا يُجلَبون كغنائم للحملات في الشرق، وأخيراً السبيل المتدفّق باستمرار من المستوطنين القادمين من شبه جزيرة العرب..

وكان مظهر المدينة الخارجيّ يتغيّر أيضاً مع زيادة السكّان فيها، فقد ظهرَت أسواقٌ واسعةٌ تحوي صفوفاً من الدكاكين، وبُنيَت المساجد والمدارس الملحَقة بها، وبدأت الأكواخ المبنيّة من الطين تتراجع تدريجيّاً أمام البنايات المشيَّدة من الطابوق» ((1)).

فالتركيبة الاجتماعيّة الأصليّة في البصرة تختلف تمام الاختلاف عن التركيبة الأصليّة في الكوفة، إذ أنّ الأخيرة كانت تركيبةً عسكريّةً رغم تقسيمها على أساسٍ قَبَليّ، فيما كانت تركيبة البصرة تركيبةً مدنيّة، ويبقى التقسيم العشائريّ والقَبَليّ هو الّذي يحكم في الولاءات والتحيّزات، كما هو الحال في البناء الاجتماعي الحاكم يومذاك.

فالبصرة حالها حال الحواضر الأُخرى الّتي كان يقطنها الناس في

ص: 66


1- أُنظر: ولاية البصرة للكسندر أداموف، ترجمة هاشم صالح التكريتيّ: 2 / 9.

صبغتها العامّة ولونها المدنيّ، وإن كانت القبائل فيها تتشكّل في صورة عسكرٍ متى اقتضت الضرورة، تماماً كما هو حال القبائل في غيرها.

وهذا الفرق بين الصبغتين المدنيّة للبصرة والعسكريّة للكوفة الّتي كانت تُعدّ مقلع جيوش الخلافة يومها، فرقٌ أساسيٌّ جديرٌ بالالتفات!

التمهيد الثالث: عداوة البصرة يومذاك لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)

كان في البصرة شيعةٌ لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، غير أنّهم كانوا أقلّ من القليل، نسبةً إلى التركيبة الاجتماعيّة المنتشرة في البصرة يومذاك، ويشهد لذلك العدد اليسير الّذي خرج لنصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) من جميع تلك الأعداد الضخمة الّتي كانت تسكن فيها، ويشهد لذلك أيضاً ما رووه عنهم كردود فعلٍ لمن يسمّونهم الوجوه والأشراف الّذين كاتبهم الإمام (علیه السلام) .

وكانت البصرة يومها لا زالت تعيش الثأر مع ابن مَن قتل صناديدهم وحطّم جماجمهم حين اتّخذوا الجمَل عِجلاً ودافعوا عنه بدمائهم.

ويشهد لذلك أيضاً ما ورد عن أهل البيت (علیهم السلام) في (الكافي) الشريف و(كامل الزيارات)، مُسنَداً عن الحسين بن ثويرٍ قال:

كنتُ أنا ويونس بن ظبيان والمفضَّل بن عمر وأبو سلَمة السرّاج جلوساً عند أبي عبد الله (علیه السلام) ، وكان المتكلّم منّا يونس، وكان أكبرنا سنّاً، فقال له:جُعلتُ فداك، إنّي أحضر مجلس هؤلاء القوم _ يعني وُلدَ

ص: 67

العبّاس _، فما أقول؟ فقال: «إذا حضرتَ فذكرتَنا، فقُل: اللّهمّ أرِنا الرخاء والسرور، فإنّك تأتي على ما تريد».

فقلتُ: جُعلتُ فداك، إنّي كثيراً ما أذكر الحسين (علیه السلام) ، فأيّ شيءٍ أقول؟ فقال: «قُلْ: صلّى الله عليك يا أبا عبد الله، تعيد ذلك ثلاثاً، فإنّ السلام يصل إليه مِن قريبٍ ومن بعيد».

ثمّ قال: «إنّ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) لمّا قضى، بكت عليه السماواتُ السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن ينقلبُ في الجنّة والنار مِن خَلْق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى بكى على أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، إلّا ثلاثة أشياء لم تبكِ عليه». قلت: جُعلتُ فداك، وما هذه الثلاثة الأشياء؟ قال: «لم تبكِ عليه البصرة، ولا دمشق، ولا آلُ عثمان (عليهم لعنة الله)» ((1)).

ورُوي عن يونس وأبي سلَمة السرّاج والمفضَّل بن عمر قالوا: سمعنا أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «لمّا مضى الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، بكى عليه جميعُ ما خلَقَ الله، إلّا ثلاثة أشياء: البصرة، ودمشق، وآل عثمان» ... ((2)).

فالأكثرية الساحقة الّتي تجيز التعميم في الحكم دون ذِكر الاستثناء لضآلته على فرض وجوده، كانت في عِداد الشامتين بقتل ريحانة

ص: 68


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 575، كامل الزيارات لابن قولوَيه: 80 الباب 26 ح 5، و198 ح 2.
2- كامل الزيارات لابن قولوَيه: 80 الباب 26 ح 4.

النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهي على حدّ آل عثمان وأهل الشام، لم تبكِ غريبَ الغرباء وآلَه (علیهم السلام) ، ولم تكترث بما جرى على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ولم يُداخلها حزن، وتمرّدَت ونفرت عن جميع المخلوقات الّتي بكت سيّد الشهداء (علیه السلام) وانفصلَت عنها، وأوغلَت في العداوة والبغضاء والشماتة والانتقام والغواية والانقلاب والبُعد عن الرحمة..

وهذا التمهيد مهمٌّ غاية الأهمّيّة، ويُعتبَر أساساً قويماً لفهم المواقف واستطلاع المشاهد في البصرة، وسنضطرّ إلى الإشارة إليه في مواضع عديدة.

التمهيد الرابع: الأفراد لا يمثّلون عشائرهم

للقبيلة الّتي تُنجِب شريفاً شجاعاً يسجّل موقفاً مشرّفاً أن تفتخر به، وتجعلَه لنفسها أُسوةً وقُدوة، بَيد أنّ موقفه لا يمثّل القبيلة إن كانت على غير صراطه وهداه.

وقد استقصينا أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) حسب وسعنا وما توفّر لدينا من معلوماتٍ عنهم، فلم نجدهم يندفعون للقاء جحافل العساكر وأكداس السلاح وجبال الحديد بدافعٍ عشائريٍّ أو قَبَليّ، ولا اتّباعاً لكبراء أقوامهم وشيوخ عشائرهم ووجهاء قبائلهم، وإنّما دفعهم حُبُّ الله وحبُّ رسوله وآل بيته وحبُّ سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وغَيرتُهم على عرض النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعرض أمير المؤمنين وآل الحسين (علیهم السلام) .

ص: 69

أمّا القبائل ككياناتٍ اجتماعيّة، فإنّها كانت خانعةً ذليلةً، رضخَت للطاغوت وجعلَت له في أعناقها نير المقادة والعبودية والاسترقاق.

فمن خرج مِن البصرة مِن أشاوس وأبطال للقاء سيّد الشهداء (علیه السلام) والدفاع عنه وعن آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، كانوا أعداداً محدودةً جدّاً لا يتجاوز عددهم العشرة، وهؤلاء لا يحكون الموقف العامّ الشامل الحاكم في المجتمع البصريّ يومذاك، وإنّما يحكون أشخاصهم بأعيانها!

وسنسمع بعد قليلٍ ما يُروى في بني تميم وموقفهم مع شيخهم، فمن أعلن النصرة منهم لم يذكر سيّد الشهداء (علیه السلام) من قريبٍ ولا من بعيد، وإنّما يندفع للولاء القَبَليّ البحت!

ونحن لا نترفّع عن إدخال كلّ مَن تهاون في نصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) في دائرة الخاذلين، سواءً أكان شيعيّاً كما يزعم، إذ لا نرضى تطبيق الاسم عليه بعد الخذلان، أم كان من غير الشيعة، إلّا أن يكون له عذرٌ شرعيٌّ يُمضيه الإمامُ (علیه السلام) نفسُه أو مَن يأتي من بعده من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) .

فيزيد بن نبيط _ أو ثبيط _ الّذي خرج مع ابنَين من أولاده لا يحكي موقف المجتمعين في بيت مارية، وكانوا _ حسب نقل التاريخ _ من الشيعة، ولا يحكي موقف بقيّة أولاده، وكانوا عشرة، فالثمانية الآخَرون الّذين تخلّفوا بملء إرادتهم ورغبتهم عن أبيهم يدخلون في دائرة الخاذلين،إلّا أن يثبت لهم عذرٌ مشروع، والخاذِل في هذا الموقف العصيب له أحكامه

ص: 70

وتبعاته.

ولو كان قد خرج من البصرة مئةٌ أو أكثر، لَما كان يشكّل لنا صورةً تنمّ عن مشهدٍ مؤازرٍ للإمام المظلوم (علیه السلام) ، كيف وهم عددٌ _ بالحساب _ ضئيلٌ جدّاً، سيّما إذا قيس إلى مئات الآلاف الّذين كانوا يسكنون البصرة يومها.

كيف كان، فإنّ البصرة كمصر وبلاد كانت يومها تُعَدّ في الخاذلين، حالها حال سائر بلاد المسلمين، سوى الكوفة الّتي لها أحكامها.

التمهيد الخامس: الإمام (علیه السلام) لم يُكاتِب مِصْراً

لا يشكّ مطّلعٌ على التاريخ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُكاتِب بلداً من البلدان، ولا مِصراً من الأمصار، ولا قبيلةً من القبائل، أو كياناً اجتماعيّاً أو سياسيّاً، وما شاكل.. ولم يستنصرهم، أو يدعوهم للقيام معه، أو يستنهضهم، أو يحرّضهم _ ككياناتٍ ومجاميع _ على السلطة، ولم يُسجّل له التاريخ مشاهد تحريضٍ على السلطة أو دعوةٍ لنكث البيعة ليزيد والتحريض عليه، بل لم يسجّل له في العلن ذِكراً ليزيد على رؤوس الأشهاد وبين الملأ..

حتّى أهل الكوفة، لم يكن الإمام (علیه السلام) قد ابتدأهم بالكتابة أو المراسلة والاستنهاض والدعوة للقيام _ بالمعنى المصطلح _ على السلطة الحاكمةيومئذ، وإنّما هم بادروا وكاتبوا الإمام (علیه السلام) وراسلوه ودعَوه إلى ما دعَوه إليه،

ص: 71

فأجاب بعد تحفُّظٍ شديدٍ ومكثٍ واضح، بحذرٍ حازم.. وأرسل إليهم أخاه وابن عمّه وثقته للتوثُّق ممّا زعموه وكتبوه.

وهذا التمهيد من أهمّ الملاحظات الّتي ينبغي التفطُّن لها واستحضارها في كلّ مشهدٍ يُراد أن يُدرَس في مراحل القيام الحسينيّ.. فهو يمنع في بعض الموارد من انعقاد الصورة المفترضة مسبقاً للقيام ولحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) !

ولكن إذا حشرنا القيام قسراً داخل القالب المُصاغ من السوابق الذهنيّة، وافترضنا أنّ الحركة الجغرافيّة على الأرض والتنقُّل من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق كانت بدافع الخروج بالمعنى المصطلح، فحينئذٍ يسهل تصوّر الاستنهاض والدعوة للخروج والتحريض على الحكم القائم ومواجهة السلطة الغاشمة..

مع ذلك، فإنّ السؤال يبقى حائراً يحوم حول الكتاب الموجَّه لرجالات أهل البصرة، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) الّذي أمسك عن مخاطبة البلدان جميعها كيف خاطب (البصرة) بالذات؟!!

كيف خاطب أعداءَه واختصّهم دون غيرهم من العالمين؟!!

لماذا استنهضهم ودعاهم مبادِراً، وهم من الأعداء _ غالباً _، فيماتريّث واستوثق من أهل الكوفة، وهم الّذين كانوا يُصحِرون بالولاء ويزعمون النصرة ويعلنون البيعة، حتّى بعث إليهم المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیهما السلام) ، وجعل ما سيراه ويكتبه له هو المعوَّل وعليه البناء دون

ص: 72

مئات بل آلاف الكتب الّتي وصلَته منهم؟!!

وللكلام تتمّة تأتي في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

التمهيد السادس: عداوة المخاطَبين

سيأتي الكلام مفصَّلاً عن المخاطَبين بالكتاب بعد قليل، ونكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى أنّ الأشخاص الّذين خاطبهم الإمام (علیه السلام) كأعيانٍ وشخصياتٍ وأتباعٍ محشورون جميعاً في عِداد الأعداء، وأصحابِ المواقف الرديئة والعقائد الفاسدة والسلوكيّات السيّئة مع أهل البيت (علیهم السلام) ، وفيهم مَن هو قريبٌ من ابن زياد سبباً وله ارتباطٌ عائليٌّ به.

فليس فيهم من يُعتمَد عليه أو يُركَن إليه، أو يمكن الاطمئنان به والتعويل عليه في الإجابة إلى دعوة الإمام (علیه السلام) ، أو التستُّر على رسوله وصيانة سرّه ودمه.

وقد سمعنا مواقف هؤلاء القوم مع أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم الجمل، وانحيازهم لأعدائه وانخراطهم في صفوف الناكثين ودفاعهم عن أُمّهم وجَملِها، وأمير المؤمنين (علیه السلام) هو الخليفة الظاهر المُجمَع على بيعته، وأُولئكهم البغاة الخارجون على إمام زمانهم، وهم المبادرون لحرب الإمام والمقدِمون على مبارزته، وقد زحفوا إليه من المدينة وجحفلوا في البصرة.

فكيف يتوقّع متوقِّعٌ من هؤلاء أن يدعوهم أحدٌ لنصرته وهو يريد _ حسب الفرض المزعوم _ الابتداء بالخروج بالمعنى المصطلَح والمبادرة إلى

ص: 73

الحرب على الحكم القائم الّذي تمّت مبايعته من قِبل هؤلاء المسوخ؟!

التمهيد السابع: لم تخرج قوّاتٌ من البصرة

لم تتحّرك البصرة سلباً ولا إيجاباً أيّام الحسين (علیه السلام) ، ولم تخرج منها قوّاتٌ للدفاع عن الشرك والباطل أو التوحيد والحقّ، ولم تصطفّ كقوّاتٍ عسكريّةٍ في أحد العسكرين..

ربّما كان من أهل البصرة في عسكر السقيفة، كما كان بعض الأفراد من السعداء في معسكر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، بَيد أنّنا لم نسمع بتحرّك قطعاتٍ ومجاميع بشكلٍ ملحوظٍ بحيث يرصده الراوي ويسجّله المؤرّخ، سواءً كانت قطعاتٍ نظاميّةً عسكريّةً منتظمة، أو كانت تشكيلاتٍ عشائريّةً وقبَليّةً تضمّ أعداداً ضخمة.

وأمّا ما قيل من خروج ابن زيادٍ بخمسمئةٍ من أهل البصرة، فقد تمّتمناقشته في (المجموعة الكاملة) ((1)) لوقائع سفارة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وسيأتي الحديث عنه بعد قليل.

وعلى فرض سلامة الخبر عن أيّ خدش، فإنّ العدد لا يرقى ليُعَدّ جيشاً وقوّةً معبِّرةً عن سكّان أهل البصرة، فما قدر خمسمئة رجُلٍ من حاضرةٍ كبيرةٍ تُعَدّ من الأمصار المكتضّة بالسكّان يومذاك؟! سيّما إذا قورن

ص: 74


1- أُنظر: المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) : 2 / 434 وما بعدها.

هذا العدد بالأرقام المهولة الّتي خرجَت من الكوفة لحرب سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، كما سنقرأ بعد قليل.

التمهيد الثامن: لم يَرِد خبرُ أهل البصرة في حديث أهل البيت (علیهم السلام)

ذكرنا في أكثر من موضعٍ أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) الواردة في كربلاء وما جرى فيها على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، وطريقةَ التعامل معها والاستفادة منها، وأنّها وردَت أحياناً بلغةٍ مُرمَّزةٍ وألغازٍ ومختصَراتٍ وإشاراتٍ وكنايات، وغيرها من أساليب البيان المعهودة في بديع بيانهم، وهم الفصحاء الّذين يُكلّمون الناس على قدر عقولهم، وربّما سكتوا عن الاستطراد لضروراتٍ هم أعرف بها.فربّما يُقال: لا يمكن الاستناد على الرواية والحديث الوارد عن أهل البيت (علیهم السلام) في هذا المضمار، بحيث ينفى الحدَث لمجرّد عدم ورود ذِكره في كلامهم (علیهم السلام) ، سيّما إذا أخذنا ظروف التقيّة الحاكمة بلا هوادةٍ في جميع الأوقات والساعات.

أجل، يمكن الارتكان إلى الحديث في إثبات الحدَث وإنْ لم يَرِد في التاريخ، وهذا لا كلام فيه، وقد أتينا على تفصيله في محلّه.

مع ذلك، فإنّ في بعض الموارد يمكن الارتكان إلى الحديث في مجال

ص: 75

النفي بالاستفادة من خلال الشواهد والدلائل والقرائن المحيطة.

ولا نريد هنا الاستدلال الجازم والقاطع على نفي دعوة سيّد الشهداء (علیه السلام) لأهل البصرة، ونكتفي بالاستئناس والاستشهاد ولو من بعيد.

وقد رأينا _ حسب الفحص _ أنّه لم يَرِد لدعوة أهل البصرة في ما رُوي عن أهل البيت (علیهم السلام) حين يذكرون ما جرى على سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، سواءً في الأحاديث المفصّلة أو المختصرة، ولم نستشعر فيها إشارةً أو تلويحاً مهما كان بعيداً.

بل ورد في الأحاديث ما يؤكّد شماتة أهل البصرة بمقتله يومئذ، وأنّ البصرة لم تبكِ عليه، ممّا يفيد عداوتهم الصريحةَ له ووضوحَ خذلانهم له وعدمَ نصرتهم له، فكيف يدعوهم وهو عالِمٌ بخذلانهم؟!أجل، يمكن أن يكون للدعوة _ إن ثبتَتْ _ وجهٌ آخَر، سيأتي الكلام عنه قريباً إن شاء الله (تعالى).

التمهيد التاسع: الحذَر من المؤرّخ!

حينما تكون الأجواء ملوّثةً بكثافة، يضطرّ الإنسان السويّ أن يضع الكمّامة إذا اقتحم تلك الأجواء، وربّما كان التلوّثُ بنسَبٍ عاليةٍ جدّاً ممّا يدعو العاقل أن يحتاط، فيحمل معه عبوة الأُكسجين، لئلّا يبتلي فيستنشق السموم فتأخذ منها مأخذاً.

وقد قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «مجالسة الأشرار تورث سوءَ الظنّ

ص: 76

بالأخيار» ((1)).

وقد قيل: إنّ سوء الظنّ مِن حُسن الفطن.. سيّما إذا كان التعامل مع قومٍ أبدوا عداواتهم في كلّ موطن، وربّما تجد في كلماتهم ما يُفزع ويُرعِب في تنميق الباطل وتمويه الحقّ.

ولمّا كان الأصل عندنا سوء الظنّ بالمؤرّخ في روايته أخبار أهل البيت (علیهم السلام) عموماً وأخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) خصوصاً، على تفصيلٍ أتينا على ذِكره في المدخل من (موسوعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة).. فربّما دعانا ذلك إلى التريُّث هنا، مع ملاحظة التمهيداتالسابقة، وملاحظة المشاهد المتناثرة الّتي زرعها المؤرّخ طيلة فترة حركة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، من خلال التركيز على المعترضين وأقوالهم ومواقفهم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومحاولاته البائسة اليائسة لإلقاء الظلّ القاتم المشوّه لإقناع المتلقّي بتخطئة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في حركته الّتي رسمها الطاغوت وأذنابه من المؤرّخين.

وقد ذكرنا نماذج كثيرةً لذلك خلال دراستنا لظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة ومكّة، وذكرنا تصريحات أمثال ابن عمر وابن عبّاس، وتركيزهم على تخطئة الإمام (علیه السلام) في حركته، وأنّه يرتكن إلى وعود قومٍ قتلوا أباه وخذلوا أخاه في الكوفة، وشهد لهم تاريخهم بتقلّبهم وغربتهم

ص: 77


1- الأمالي للصدوق: 446 المجلس 68 ح 9.

عن الثبات والاستقرار واتّخاذ المواقف الراسخة المحسوبة العواقب.

فربّما أراد المؤرّخ هنا أيضاً أن يُثير هذا الغبار القاتم ويُربك المشهد بالرذاذ المسموم؛ ليوحي إلى المتلقّي أنّ المشهد المريض الّذي اعتمده الإمام (علیه السلام) في الكوفة من خلال ارتكانه إلى كتبهم وبناء موقفه واستجابته على قومٍ لا أصل لهم ولا جذور، وهو يستمدّ قواه ويبني قواعده على رمالٍ متحرّكةٍ لا تعرف الثبات بتاتاً، ويرصف عساكره من صفوف أعدائه من الخوارج وأتباع السقيفة، فهو يعيد نفس الكرّة في البصرة، فيستمدّ الأعداء ويحاول استقطابهم، وهم لا يستجيبون له أكيداً.فإذا كان في الكوفة يَعتمِد مَن لا يُعتمَد عليه ومَن لا يُعرَف توجّهه واتّجاهه، وربّما يُرصَد في الأشياع والأتباع ظاهراً، فإنّه اعتمد على الأعداء المبتوت في عداوتهم، فإذا شكّ أحدٌ بتصوير المؤرّخ والطاغوت في الكوفة، فإنّ مشهد البصرة يؤكّده ويُحكِم انسجام الفرية، ويُقنع المتذبذبَ الّذي يعوزه التأمّل والإمعان ويفتقر إلى معرفة الإمام (علیه السلام) .

ومن الواضح أنّ مِثل هذا الاستقطاب ستكون عاقبته إلى خسارٍ وفشل.. ومن الواضح أنّ هذا الموقف لا يُشَكّ في خطئه، وأنّ مِثل هذا الاستنهاض لا يؤول إلّا إلى تهاوٍ وانهيار.. وبالتالي، يستنتج المتلقّي دون عناءٍ خطأ الموقف.. نعوذ بالله ونستجير به من هذه التصويرات الخائبة، غير أنّ هذا ما يضطرّنا إليه البحث بعد أن عرفنا طريقة تعامل المؤرّخ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ص: 78

وقت إرسال الكتاب ووصوله

اشارة

لم نجد نصّاً صريحاً يفيد تاريخ كتابة الكتاب أو تاريخ إرساله، كما لم نجد ما يفيد صراحةً تاريخ وصول الرسول إلى البصرة واستلام المخاطَبين للكتاب، ويمكن التوصُّل إلى أوقاتٍ تقريبيّةٍ من خلال متابعة النصوص:

المتابعة الأُولى: وقت إرسال الكتاب

ذكر المؤرّخون خبر كتابة سيّد الشهداء (علیه السلام) كتابَه إلى أهل البصرة بعد أن ذكروا كتاب يزيد إلى عبيد القرود ابن زياد بولاية الكوفة وضمِّها إلى ولايته على البصرة وأمرِه بطلب المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وأنْ يتيقّظ في أمر الإمام الحسين (علیه السلام) ويكون على استعدادٍ له، وكان الكتاب قد وصل بالفعل إلى ابن زياد، إذ أقبل مسلم بن عمرو حتّى قَدِم على عُبيد الله بالبصرة، فأمر عُبيد الله بالجهاز والتهيّؤ والمسير إلى الكوفة من الغد.

وبعدها يذكرون أن «قد كان الحسين (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل

ص: 79

البصرة» ((1))، ممّا يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد كتب الكتاب وتحقّق ذلك قبل أن يصل الكتاب إلى عبيد القرود ابن زياد.

وقال الشيخ ابن نما:

وأمر مسلمَ بالتوجّه بالكتاب إلى الكوفة، وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ((2)).

وهو يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) كتب إلى أهل البصرة في الوقت الّذي توجّه فيه المولى الغريب (علیه السلام) إلى الكوفة، وكأنّ الرسولان قد خرجا معاً من مكّة، فإذا كان خروجُ المولى الغريب (علیه السلام) من مكّة في النصف من شهر رمضان ((3))، يكون تاريخ الكتابة إلى أهل البصرة في تلك الأيّام أيضاً.

غير أنّ المستفاد من الأخبار المذكورة أنّ ابن زيادٍ استلم كتاب يزيد وأمره بالتوجُّه إلى الكوفة، فضرب عبيد القرود عنق الرسول إلى البصرة، ثمّ ركب من البصرة ودخل الكوفة، وقد بايع مسلمَ بن عقيلٍ ثمانيةُ عشر

ص: 80


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس: 38.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.
3- أُنظر: مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّيّ: 82.

ألفاً ((1)).

وهذا يعني أنّ المولى الغريب (علیه السلام) كان آنذاك قد دخل الكوفة منذ زمنٍ بعيدٍ واستقرّ فيها وبايعه هذا العدد، قبل أن يخرج ابن زيادٍ من البصرة، فستكون ثمّة مسافةٌ زمنيةٌ مديدةٌ بين وصول الرسول إلى البصرة _ حسبفرض خروجه مع المولى الغريب مسلم (علیه السلام) من مكّة _ وبين إلقاء القبض عليه وقتله وصلبه، وهو خلاف ما تفيده مجريات الحوادث وتتابع الأحداث.

المتابعة الثانية: وقت وصول الكتاب

أفادَت النصوص أنّ عبيد القرود أمر بالرسول فقُتل من العشيّة الّتي يريد صبيحتها أن يسبق إلى الكوفة ((2))، فقتله ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا كان من الغد وأصبح نادى في الناس وخرج من البصرة ((3))، وعليه يُحمَل قول مَن ذكر خروجه من البصرة بعد قتل الرسول مباشرةً دون أن يذكر المبيت ليلةً والخروج في اليوم الثاني، سيّما إذا لوحظ ترتيب الأحداث في

ص: 81


1- أُنظر: إمتاع الأسماع للمقريزي: 5 / 363.
2- تاريخ الطبري: 5 / 357.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

تلك المصادر، كقول الدينوريّ:

فأمر عُبيدُ الله بن زياد بطلب الرسول فطلبوه، فأتوه به فضُربَت عنقه ... ثمّ نزل وسار ... فسار حتّى وافى الكوفة فدخلها ((1)).

وقول ابن الأثير والنويريّ:

فأتاه بالرسول والكتاب، فضرب عنق الرسول، وخطب الناس ... ثمّ خرج من البصرة ((2)).فتكون شهادة الرسول قبل خروج عبيد القرود من البصرة بيوم، بعد أن استقرّ المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) في الكوفة وبايعه جماعةٌ كبيرةٌ وبلغ خبره إلى يزيد، فكتب إلى جروه في البصرة يضمّ إليه ولاية الكوفة ويأمر بأخذ المولى الغريب (علیه السلام) .

والظاهر بوضوحٍ مِن تسلسل الأحداث في المصادر أنّ الرسول قد دفع الكتاب إلى المخاطَبين، وسرعان ما وشى به المنذر فوراً من دون تأخيرٍ ولا تلكُّؤ، بحيث يصعب افتراض فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ كان قد أقامها في البصرة قبل تسليم الكتاب، وكان مُجِدّاً في المسير وماضياً بقوّةٍ فيما أُرسِل به، كما يفيد كلام السيّد بحر العلوم، قال:

فأخذ الرسولُ كتابَ الحسين (علیه السلام) وجعل يُجِدّ السير من مكّة إلى أن

ص: 82


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

وصل إلى البصرة، فسلّم صورة الكتب إلى أصحابها ((1)).

المتابعة الثالثة: تسجيل الحدَث من البصرة

لقد سمعنا خبر سفارة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وإرساله من مكّة إلى الكوفة، وقد صرّحَت المصادر بخروجه مع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة وحضوره معه في مكّة، كما صرّحَت بدعوةالإمام (علیه السلام) له ودفع الكتاب له وتكليفه بمهمّته وتفصيلها له وتحديد ما أُرسل به ((2))، وتسييره مع جماعة ((3)).

وهو المعتاد في نقل أخبار سفارةٍ ما، كما سمعنا في الرسل الآخَرين

ص: 83


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 146.
2- أُنظر: الأخبار الطوال للدينوريّ: 231، الفتوح لابن أعثم: 5 / 53، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 196، تاريخ الطبريّ: 5 / 347 بسندٍ عن أبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام) ، الأمالي للشجريّ: 190، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 422، تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 349، الإصابة لابن حجَر: 1 / 332، ابن بدران في ما استدركه على ابن عساكر: 4 / 335، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 64، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 63، تجارب الأُمم لأبي عليّ مسكوَيه: 2 / 41، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزيّ: 36، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137.. وانظر للتفصيل: الجزء الأوّل من (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة)، تحت عنوان: ثائرٌ أَم سفير؟
3- أُنظر للتفصيل: الجزء الثاني من (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة) _ رفقاؤه.

الّذين أرسلهم سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى أهل الكوفة.

بَيد أنّ المُلفِت في خبر إرسال سُليمان إلى البصرة أنّ أخباره لا تبدأ من مكّة كما هو المفروض، وإنّما تبدأ في البصرة حيث ينقل المؤرّخ خبرَ وصول كتاب يزيد إلى ابن زيادٍ وتسليطه على الكوفة وتكليفه بمتابعة المولى الغريب (علیه السلام) ، ثمّ يعقّب المؤرّخ بعد ذلك ليقول: «وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة ...» ((1)).

أجل، جاءت عبارة الشيخ ابن نما بما يشبه الابتداء بمكّة، حيث قال:

وأمر مسلمَ بالتوجّه بالكتاب إلى الكوفة، وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ... ((2)).

وهي عبارةٌ غائمةٌ مجمَلة، لا تحكي التفاصيل والترتيبات الّتي سمعناها في مثل سفارة المولى الغريب (علیه السلام) مثلاً.

فالخبر _ كما يُلاحَظ _ كأنّه مبتورٌ عن مكّة تماماً، إذ لم يتعرّض إلى مجرياته هناك، وإنّما يبدأ الحديث عنه في خضمّ استعراض أحداث البصرةمباشرة.

ص: 84


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، اللهوف لابن طاووس: 38، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.

الرسول

اشارة

ذكرت المصادر رسولاً أرسله الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى البصرة يحمل كتاباً منه (علیه السلام) ، نحاول استكشاف ما ورد عنه من خلال المعلومات التالية:

المعلومة الأُولى: اسمه

لم يذكر بعضهم اسم الرسول، وذكره آخَرون بأسماء:

الاسم الأوّل: سَلمان ((1)).

الاسم الثاني: سُليمان ((2)).

الاسم الثالث: زراع السدوسيّ ((3)).

إنفرد الشيخ ابن نما بذكر (زراع السدوسيّ)، ولم نجد له ذِكراً فيما توفّر

ص: 85


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.
3- مثير الأحزان لابن نما: 27.

لدينا من مصادر على كثرتها، ثمّ ذكر اسم سُلَيمان على نحو القيل، وذكر كنيته.

يبقى الكلام مردَّداً بين اسمين: (سَلمان) و(سُليمان)، واحتمال التصحيف في أحدهما واردٌ جدّاً.

المعلومة الثانية: كنيته

ذكر الشيخ ابن نما كنيته، فقال: «المكنّى بأبي رزين» ((1)).

ورَزين: مِن رَزُنَ الرجُلُ _ بالضمّ _ فهو رَزِينٌ، أي: وقور، وامرأةٌ رَزَانٌ إذا كانت رَزينةً في مجلسها، وشيءٌ رَزِينٌ، أي: ثقيل، والْأَرْزَنُ: شَجَرٌ صلبٌ يُتَّخَذ منه العصا ((2)).

المعلومة الثالثة: أُمّه

قالوا: أُمّه كبشة، كانت جاريةً للحسين (علیه السلام) اشتراها بألف درهم، وكانت تخدم في بيت أُمّ إسحاق بنت طلحة بن عُبيد الله التيميّة زوجة الحسين (علیه السلام) ، ثمّ تزوّج الجارية أبو رزين، فولدَت منه سليمان، فهو مولى الحسين (علیه السلام) ((3)).

ص: 86


1- مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.
2- أُنظر: مجمع البحرين للطُّريحي: رَزَنَ.
3- أُنظر: تنقيح المقال للمامقاني: 2- 1 / 65، ذخيرة الدارين للحائريّ: 1 / 171، وسيلة الدراين للزنجانيّ: 150، فرسان الهيجا للمحلّاتي: 1 / 213 بترجمة محمّد شعاع فاخر.

المعلومة الرابعة: ولاؤه

نسب جماعةٌ ولاءَه إلى سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) بضمير المفرد (مولىً له) ((1))، ونسبه الطبريّ في موضعٍ بضمير الجمع (مولىً لهم) ((2)).

وذكره الشيخ ابن نما من دون نسبةٍ ولا ذِكرٍ للولاء، قال: «وبعث الكتابَ مع زراع السدوسيّ، وقيل: مع سليمان المكنّى بأبي رزين» ((3)). وظاهره أنّه حرٌّ لا ولاء له.

المعلومة الخامسة: مهمّته

إنّ هذا الرجل الشجاع جاء مِن عند سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى جماعةٍ في البصرة، عبّر عنهم المؤرّخ أنّهم الوجوه فيها، وقد أوصل الكتاب وقام بالمهمّة على أحسن وجهٍ وفاز بالشهادة، فهو مجرّد رسولٍ ليس إلّا، لم يُكلَّف بأداء مهامّ أُخرى في البصرة سوى إيصال الكتاب إلى مَن خُوطب به.

ص: 87


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173، اللهوف لابن طاووس: 38، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، نفَس المهموم للقمّيّ: 90.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
3- مثير الأحزان لابن نما: 27.

المعلومة السادسة: صفاته وخصاله

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «رسولُك ترجمانُ عقلك، وكتابُك أبلَغُ ما ينطق عنك» ((1)). وفي لفظٍ آخَر: «رسولُ الرجُلِ ترجمانُ عقله، وكتابُه أبلَغُ مِننطقه» ((2)).

ولمّا كان مولى القوم منهم ((3))، عرفنا أنّ هذا الرسول قد امتاز بخصالٍ أهّلَته ليكون رسولاً لخامس أصحاب الكساء وزينة العرش الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولولا ذاك لَما كان رسولاً لمثله.

وعرفنا أنّه كان قمّةً سامقةً في محاسن الأخلاق رشيداً، بطلاً شجاعاً مقاتلاً فارساً، مُحِبّاً موالياً بصيراً نافذ البصيرة، دقيقاً حاذقاً عارفاً عالماً، فصيحاً بليغاً خطيباً أديباً، فقيهاً راسخاً، أميناً موثوقاً معتمَداً ضابطاً.. إلى غيرها من الخصال الّتي ينبغي أن تتوفّر في الرسول الناجح الّذي يختاره سيّدُ الكائنات وإمامُ الخلق وأعرفُ الخلق بالخلق في مهمّةٍ خطيرةٍ كمهمّة سليمان.. فلابدّ من وصفه بصفاتٍ يتحلّى بها لِيمثّل خير تمثيلٍ ويجسّد أروع تجسيدٍ قولَ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ويكون ترجماناً للإمام الحسين (علیه السلام) .

ص: 88


1- نهج البلاغة: 528 قصار الجُمَل 307.
2- عيون الحكم والمواعظ لليثيّ: 270 ح 4975، غرر الحِكم للآمديّ: 389.
3- أُنظر: الغَيبة للنعمانيّ: 235 ح 23، دعائم الإسلام للنعمان المغربيّ: 2 / 317.

المعلومة السابعة: معلوماتٌ غريبة!

ذكر أحد المعاصرين عُمُر سُليمان وحدّده باتاً ب-- (35 سنة)!!! ((1))

وذكر في أُسلوبٍ قصصيٍّ حَكَواتيٍّ أنّه حمل زوجته معه، بعد حوارٍ دار بين سليمان وبينها، وأنّها التمسَتْه وأقنعَتْه!!!وذكر حواراً دار بينه وبين سيّد الشهداء (علیه السلام) عند الوداع!!!

وذكر أنّ الزوجَين كانا يتباريان في الطريق بمعلَّقة امرئ القيس، فكانت الزوجةُ تُنشِد:

وقد اغتدى، والطيرُ في وكناتها

بمنجردٍ قيد الأوابدِ هيكلِ

مكرٌّ مفرٌّ مقبلٌ مدبرٌ معاً

كجلمود صخرٍ حطّه

السيل من علِ

فيردّ عليها سليمان:

كميتٌ يزلّ اللبد عن حال متنه

كما زلّت الصفواءُ بالمتنزلِ ((2))

وذكر حوادث وأحداث مفصَّلة..

وذكر خطبةً لسليمان في مسجد البصرة، سردها بأُسلوبٍ تصويريٍّ قصصيٍّ، لم نسمع لها مصدراً متقدّماً ولا متأخّراً ولا معاصراً سواه!!!

وذكر قولاً في شهادته كان قد أخذه من رؤياً رآها المؤلّف ليلة شروعه في كتابة (ترجمة سليمان)، حدّثه فيها أحد أصدقائه المخلصين في عالم الرؤيا،

ص: 89


1- آينه داران آفتاب لمحمّد رضا سنگري: 1 / 211.
2- آينه داران آفتاب لمحمّد رضا سنگري: 1 / 214.

فكتب ما أخذه في عالم الرؤيا!!!

ولم يذكر لأيّ واحدةٍ من المعلومات المسرودة هذه مصدراً، ونحن لا ندري من أين جاءت هذه المعلومات، ولم نجد لها أثراً فيما توفّر لدينا من كتب ومصادر قديمةٍ أو معاصرة، ولم تكن هي حتّى لسان حال، إذ أنّ لسانالحال لا يخلق حدَثاً ويُنشئ خطبةً كاملةً وحواراً ومباراةً تدخل فيها معلَّقة امرئ القيس من دون الإشارة إلى أنّها لسان حال!

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!

المعلومة الثامنة: شهادته

اشارة

إتّفق المؤرّخون الّذين ذكروا سُليمان أنّ جميع مَن قرأ الكتاب ممّن يسمّونهم الوجوه كتموا الكتاب، إلّا المنذر بن الجارود العَبديّ فإنّه وشى به، وذكروا لفعلته الشنيعة هذه ذريعةً باهتةً كما سنسمع بعد قليل، وقد أدّت الوشاية إلى شهادة الرسول سُليمان.

وقد تضمّنَت النصوص عدّة نكاتٍ يمكن أن نستجلي منها المشهد:

النكتة الأُولى: ذريعة الوشاية

اشارة

التأمّل في المتون يفيد أنّ المؤرّخين صاغوا بعض الذرائع لتبرير وشاية المنذر، ويمكن نظمها في الذرائع التالية:

ص: 90

الذريعة الأُولى: خوف الدسيسة

علّل البلاذريّ الفعلةَ الغادرةَ بخوف المنذر أن يكون في الأمر خديعة، وأن يكون ابنُ زيادٍ قد دسّ الرسول إليه ليختبر حالهم مع الحسين (علیه السلام) ، فوشى به وأخبر ابنَ زياد، قال:فإنّه خاف أن يكون عُبيدُ الله بن زيادٍ دسّه إليه ((1)).

وتبعه على ذلك مَن جاء بعد وذكر نفس الذريعة.

ويُلاحَظ في مثل هذه النصوص أنّها لا تفيد أنّ المنذر نفسه قد تذرّع بذلك واعتذر عن فعلته بما ذكروه، وظاهرها أنّه تبرُّعٌ وتحليلٌ من المؤرّخ نفسه بعد أن روى ما أقدم عليه المنذر، ووجدها خيانةً وغدراً واضحاً لا يمكن التستّر عليه، فكأنّه صار في موقفٍ حرجٍ لا يمكنه اجتيازه ما لم يقدّم الذريعة المقبولة الّتي يمكن أن تخفّف شيئاً من شناعة الفعلة وقبح الغدرة، فبرّرها بالخوف من الدسيسة.

فهو نوع اعتذارٍ للمنذر يمكن لبعض القلوب الساذجة أو الخاوية أن تقبله وتعذره، ولو بمقدار.

وقد انفرد الطبريّ بنسبة هذا الخوف والتبرير إلى المنذر نفسه بنحوٍ ما، فقال:

ص: 91


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

فإنّه خشيَ _ بزعمه _ أن يكون دسيساً من قبل عُبيد الله ((1)).

والزعم المزعوم منسوبٌ إليه في عبارة الطبريّ، ولا يفيد الجزم بتذرّعه شخصيّاً بذلك، فلا يعارض ما أفاده غيره من المؤرّخين، وتبقى للطبريّ تدخّلاته المفضوحة في تزويق الصور الكالحة.

الذريعة الثانية: قرابة السبب

برّر آخَرون غدر المنذر بالقرابة السببيّة الموجودة بين المنذر وابن زياد، ممّا دفعه إلى كشف أمر الرسول لصهره، قال الدينوريّ:

فإنّه أفشاه؛ لتزويجه ابنته هنداً من عُبيد الله بن زياد، فأقبل حتّى دخل عليه، فأخبره بالكتاب وحكى له ما فيه ((2)).

لا تجد في مثل كلام الدينوريّ ومَن تبعه خوفاً يلاحق المنذر من أن يكون الرسول دسيساً كما ورد في الذريعة الأُولى، وإنّما تجد هنا خوفاً من نوعٍ آخَر يلاحق المنذر، يبدو واضحاً للعيان من دون كثير إمعانٍ وإن لم يصرّح به المؤرّخ، وهو أنّه خاف على صهره، فأقبل حتّى دخل عليه فأخبره بالكتاب.

ويشهد لذلك ما رواه ابن أعثم والخوارزميّ، قال:

فغضب عُبيدُ الله بن زيادٍ وقال: مَن رسول الحسين بن عليٍّ إلى

ص: 92


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 23.

البصرة؟ فقال المنذر بن الجارود: أيّها الأمير، رسولُه إليهم مولىً يُقال له: سُليمان. فقال عُبيد الله بن زياد: علَيّ به! فأُتي بسليمان مولى الحسين ((1)).

فهو قد تبرّع بالكشف عنه وإفشاء سرّه عند صهره ابتداءً من دون خوف الدسيسة.

الذريعة الثالثة: خوف الدسيسة والقرابة

جمع بعض مَن تأخّر عن رواة الطائفتَين الأُولى والثانية بين الذريعتين، فبرّروا فعله بكلا الأمرَين، ليكون قد أقدم على فعلته خوفاً من الدسيسة ولقربه السببيّ من ابن زياد، قال ابن أعثم:

فإنّه خشيَ أن يكون هذا الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت حومة بنت المنذر بن الجارود تحت عُبيد الله بن زياد، فأقبل إلى عُبيد الله بن زيادٍ فخبّره بذلك ((2)).

وقال ابن نما (رحمة الله) :

لأنّ المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عُبيد الله بن زياد، وكانت بحريّة بنت المنذر بن الجارود زوجة عُبيد الله بن زياد ((3)).

ص: 93


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
3- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.

وكيف كان، فإنّ المنذر هذا قد خان وغدر، ولا تشفع له الذرائع لتجويز فعلته، ولا تنفعه التبريرات، سواءً كانت منه أو من المؤرّخ، فإنّ ظاهر كلمات المؤرّخين وصريح عبارات بعضهم تفيد أنّه قد أقدم على الوشاية بملء إرادته وكامل قواه عامداً عالماً، خائفاً على صهره ومتزلّفاً إليه بدم رسول ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وطبيعة الوقائع والوشائج الاجتماعيّة وطبع المنذر نفسه يشي بجريمةٍنكراء فجّةٍ وقحةٍ جريئةٍ صلفة، أقدم عليها المنذر بروحٍ إجراميّةٍ ونَفْسٍ قذرةٍ ميّالةٍ لإبراز كامن الأحقاد على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وليس بالضرورة _ إذا كان ثمّة خوف الدسيسة _ أن يسلّم الرسول إلى ابن زيادٍ ويدفع به إليه، أو يحرّك عليه، أو يُخبِر عن مكانه، فإنّ الأقلّ من ذلك بكثيرٍ كان يُرضي ابن مرجانة، وكان يكفيه أن يردّ الرسول ولا يقبل منه الكتاب، لو كان خائفاً حقّاً، وليس الأمر كذلك!

النكتة الثانية: كيف أُلقيَ القبض عليه

اشارة

إنقسمَت الأخبار في طريقة إلقاء القبض على سُليمان الرسول، يمكن إجمالها في الصور التالية:

الصورة الأُولى: لم تذكر إلقاء القبض

إكتفى البلاذريّ بذِكر الوشاية من دون أن يتابع الحدَث، فقال: «فأخبره

ص: 94

به وأقرأه إيّاه» ((1)).

فهو لم يذكر إلقاء القبض عليه، ولا يتعرّض إلى شهادته وقتله، وهو _ حسب الفحص _ المصدر الأوّل الّذي يذكر خبر سليمان.

الصورة الثانية: ابن زيادٍ يلاحقه

ذكر الدينوريّ الوشاية، وأوكل متابعة الرسول إلى ابن زياد، فقال:

فأقبل [المنذر ] حتّى دخل عليه، فأخبره بالكتاب وحكى له ما فيه، فأمر عُبيد الله بن زياد بطلب الرسول، فطلبوه فأتوه به ((2)).

وذكر ابن كثيرٍ ما يشبه ذلك ((3)).

حسب هذا المتن يكون ابنُ زيادٍ قد أمر بطلب الرسول فطلبوه، والظاهر أنّ الّذي طلبه هم أزلام ابن زيادٍ وجُنده، وإنْ كانت العبارة عامّةً يمكن أن تشمل الناس أيضاً، غير أن المتبادَر في مِثل هذه الموارد أن ينبري شرطته وجنده لتنفيذ أمره.

وقال ابن أعثم:

فقال عُبيد الله بن زياد: علَيّ به! فأُتيَ بسُليمان مولى الحسين (علیه السلام) ، وقد كان متخفّياً عند بعض الشيعة بالبصرة ((4)).

ص: 95


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.

أضاف ابن أعثم الإشارةَ إلى موضعه الّذي كان فيه حين إلقاء القبض عليه، حيث كان متخفّياً عند بعض الشيعة، وهو ما تفرّد به ابن أعثم حسب الفحص.

وينحصر حينئذٍ دور المنذر في الوشاية والإخبار.

الصورة الثالثة: المُنذِر يسلّمه

تبدأ الرواية برسم صورةٍ جديدةٍ منذ أن تدخل كتاب الطبريّ، حيث يكشف عن صورةٍ مروّعةٍ وموقفٍ متسافِلٍ متهاوٍ في وهاد الغدر والجناية والنذالة..

لم يكتف المنذر بالوشاية، وإنّما باشر بنفسه إلقاء القبض على الرسول وجاء به وبالوثيقة الّتي يريد أن يدينه بها، وسلّمه يداً بيد إلى العاتي الجبّار ابن زياد.

قال الطبريّ:

فجاءه بالرسول من العشيّة الّتي يريد صبيحتها أن يسبق إلى الكوفة، وأقرأه كتابه ((1)).

وقال غيرُه:

إنّه جاء بالكتاب والرسول إلى عُبيد الله بن زياد ((2)).

ص: 96


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.

ربّما كانت هذه الصورة أقرب وأوفق بحال مِثل هذا المهزوز الوسخ، الخائف على نفسه وعلى صهره، فإنّ الرسول قد وقع بيده حين دفع إليه الكتاب، وهو قذرٌ متعلّقٌ بذنب ابن مرجانة، ورجسٌ مِن عمله، وسيحٌ من رشحه، وبزقةٌ من تفاله، فلا يفوّت الفرصة ليفلت الرسول من بين مخالبه ليبحث عنه فيما بعد.

النكتة الثالثة: شهادته

لم يتعرّض البلاذريّ إلى شهادته ((1)).

واتّفق الجميع على قتله صبراً بضرب عنقه، وظاهر العبارات نسبة القتل إلى ابن زيادٍ نفسه، من دون تصريحٍ منهم أنّه قد أمر بضرب عنقه، عدا الدينوريّ الّذي تحدّث بصيغة المبني للمجهول: «فأتوه به، فضُربَت عنقه» ((2)).

فيما نسمع الطبريّ يقول: «فقدّم الرسولَ فضرب عنقه» ((3)).

«فلمّا رآه عُبيد الله بن زيادٍ لم يُكلّمه دون أن أقدمه فضرب عنقه

ص: 97


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.

صبراً (رحمة الله) ! ثمّ أمر بصلبه» ((1)).

وهكذا جاءت عبائر الآخرين ((2))..

وهي تفيد بظاهرها أنّ ابن زيادٍ هو الّذي باشر ارتكاب هذه الجريمة النكراء.

أجل، جاء في لفظ (المقتل) المتداوَل لأبي مِخنف أنّ ابن مرجانة أمر به فضُربَت عنقه ((3)).

ربّما يُقال:

إنّ العاتي الهائج عبيد القرود طاغوتٌ يكتفي بالأمر ولا يُباشِر القتلبنفسه؛ تجبُّراً وعتُوّاً..

بَيد أنّ هذا الكلام يصدق في الطواغيت المتجبّرين أصالةً، أمّا في مثل ابن زيادٍ القزم الضئيل المتعطّش للدماء، الغارق في الغواية وتيّارات الحقد الجارفة، فإنّه بطّاشٌ يمارس الجريمة بشغَفٍ وولعٍ وتوثُّب، وقد رأيناه يباشر ضرب كبير الكوفة وشيخها هانيء بن عروة بنفسه ((4))، فلا يبعد أبداً من

ص: 98


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
2- أُنظر: إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، مثير الأحزان لابن نما: 27.
3- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 23.
4- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 337، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 237، تاريخ الطبريّ: 5 / 349، الأمالي للشجريّ: 1 / 191، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 425، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 207، تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 350.

مثل هذا الجرو المسعور أن يمارس القتل بنفسه.

ولا فرق في البَين، فإنّ ابن مرجانة هو القاتل على كلّ حال، سواءً أكان قد باشر ذلك بنفسه، أو أمر به ونفّذوا الأمر على عينه الطامسة.

وإنّما مكثنا هنا قليلاً لنتبيّن المباشر بالقتل ونميّزه، لينفعنا في تحقيق المراد بسُليمان المذكور في زيارة الناحية المنصوص على اسم قاتله.

النكتة الرابعة: أوّل رسولٍ يُقتَل

ورد في (المقتل) المتداوَل أنّ سُليمان هذا كان أوّل رسولٍ قُتل في الإسلام ((1)).

ونحن لم نتحقّق ذلك ولم نتابعه في كتب التاريخ، غير أنّنا بتوسعةٍ هيّنةٍ جدّاً وفتحٍ بسيطٍ لمعنى الرسول والسفير، يمكن أن نقول بثقةٍ أنّ الرسول الأوّل الّذي قُتل في الإسلام هي بضعة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبته سيّدة نساءالعالمين فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، حيث كانت رسولَ بعلها وسفيرتَه والناطقةَ باسمه والمعبِّرةَ عنه، أرسلها لتُكلّم العاتي المتهوّر من وراء الباب، وتردّه عن غَيّه، وتفاوضه ليرجع عمّا أقدم عليه، فاغتنمها فرصةً لا تتكرّر، فحمل عليها وهي وراء الباب، فرفسها وعصرها بين الحائط والباب حتّى

ص: 99


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.

اسقطَت جنينها وكسر ضلعها، وجرى عليها ما جرى، وأرداها صريعةً تأنّ وتشكو إلى الله وإلى رسوله (صلی الله علیه و آله) ، حتّى قضَتْ نحبها شهيدةً غريبةً مظلومةً مقهورة.

هذه هي سُنّة الضلال.. لم يعرف أهلُها شيئاً من القيَم في حياتهم، مهما كانت تلك القيَم، في الجاهليّة أَم في الإسلام، عند العرب أو العجم، أو غيرهم من البشر.

«اللّهمّ العَنْ أوّلَ ظالِمٍ ظلَمَ حقَّ مُحمّدٍ وآلِ محمّد، وآخِرَ تابعٍ له على ذلك»..

النكتة الخامسة: صلبه

هكذا هم المتوحّشون.. لا يكتفون بالقتل، ولا يُخمِد سعيرَ أحقادهم وضغائنهم إلّا التنكيل بأولياء الله..

إستُشهِد سليمان، ولحق بالرفيق الأَعلى.. فما يضرّه أن يُصلَب بعد أنأدّى مهمّته ومضى على ما مضى عليه السعداء والصالحون؟ وابن زيادٍ يعلم ذلك، غير أنّه يُمعِن في القساوة والعداوة، فيأخذه ويأمر بصلبه ((1))؛ ليشمت وينكّل به، ويُخيف به وينشر جوّاً من الرعب والإرهاب بين أهل البصرة لينظر إليه الناس، ثمّ ينزو هو على المنبر ليزبد ويرعد ويهدّد، ويريهم

ص: 100


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.

الوعيد بأعينهم في المصلوب.

النكتة السادسة: تاريخ الشهادة

لا يكاد المتابع بدقّةٍ للتاريخ أن يجد مؤشّراتٍ واضحةً يلوح منها تاريخٌ محدّدٌ لشهادة الرسول المغدور المظلوم سليمان.. أجل، يمكن توظيف الأحداث للتوصُّل إلى تحديدٍ إجماليٍّ لذلك.

فمفاد النصوص تؤدّي إلى أنّ المولى الغريب (علیه السلام) كان في الكوفة يومها، وكان يزيد قد أرسل بكتابه إلى جروه ابن زيادٍ يسلّطه على الكوفة، وكان ابن زيادٍ على استعدادٍ ليخرج إلى الكوفة بجناحَين، وينفّذ ما أمره به سائسه، وحينها جاءه المنذر بخبر الرسول سليمان، فقتله وصلبه، وخطب في الناس، ثمّ نزل وسار إلى الكوفة ((1)).

والسياق هنا يفيد أنّه قُتِل وصُلب وخطب ونزل وسار في نفس اليوم.إلّا أن يقال: إنّ هؤلاء قدّموا قبل خبر شهادة الرسول خبر عزيمة ابن زيادٍ على الرحيل في اليوم التالي، فيُحمَل قولهم: «نزل وسار» على ما قدّموا مع طيّ حدث المبيت، فيكون المؤدّى نفس ما أفاده الطبريّ وغيره.

أفاد الطبريّ وابن أعثم أنّه فعل كلّ ذلك العشيّة الّتي يريد صبيحتها

ص: 101


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

أن يسبق إلى الكوفة ((1))، فلمّا كان من الغد نادى في الناس، وخرج من البصرة يريد الكوفة ((2)).

وفي لفظ ابن نما:

ثمّ بات تلك الليلة، فلمّا أصبح استناب عليهم عثمانَ بن زيادٍ أخاه، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((3)).

فيكون تاريخ شهادته هو يومٌ قبل خروج عبيد القرود من البصرة.

هذا أقصى ما يمكن استخلاصه من النصوص المتوفّرة، يبقى أنّ تاريخ خروج ابن زياد نفسه من البصرة مُبهَمٌ غير محدَّد.

المعلومة التاسعة: قاتله

صرّحَت جملةٌ من المصادر المهمّة والمتقدّمة باسم قاتل سُليمان مولى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، فقالوا: «قتله سليمانُ بن عَوف الحضرميّ» ((4)).وورد ذِكره في زيارة الناحية المقدّسة: «السلامُ على سُليمان مولى الحسين

ص: 102


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62.
3- مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.
4- تسمية مَن قُتل للرسّان: 152، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77، تاريخ الطبريّ: 5 / 469، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 303، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 121.

ابن أمير المؤمنين، ولعن الله قاتلَه سُليمانَ بن عوفٍ الحضرميّ» ((1)).

بَيد أنّها جميعاً لم تحدّد إن كان سليمان الشهيد هذا هو رسول الإمام (علیه السلام) إلى البصرة، أَم هو شهيد كربلاء؟

وما ورد في زيارة الناحية وغيرها لا يمكن تحديده منها، إذ أنّ الزيارة تذكر مَن قُتل بين يدَي الإمام (علیه السلام) في تلك الأيّام، مِن قبيل عبد الله بن يقطر وقيس بن مسهر الصيدوايّ، وهكذا..

فربّما قيل:

إنّ مَن ذكر القاتل إنّما قصد المقتول بكربلاء، لأنّ مَن ذكر شهادة سليمان في البصرة لم يتعرّض لذِكر قاتله والتصريح باسمه هناك، بل أفاد السياق _ كما مرّ معنا _ أنّ ابن زيادٍ هو بنفسه الّذي باشر ضرب عنقه.

فإذا كان كذلك، يكون الشهيد الّذي ورد التسليم عليه في الناحية هو سليمان شهيد كربلاء، وإنْ كان المقصود هو شهيد البصرة يكون السلام الوارد خاصّ به، ويكون قاتله قد ورد اسمه وتعيّن بذاته.

وعلى كلّ تقدير، فإنّنا لم نقف على ترجمةٍ أو ذكرٍ خاصٍّ للقاتل فيما توفّر لدينا من مصادر، لعنه الله وأخزاه وأصلاه سعيراً.

ص: 103


1- إقبال الأعمال لابن طاووس: 3 / 76، مصباح الزائر لابن طاووس: 281، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 271، 45 / 69، العوالم للبحرانيّ: 17 / 337، أسرار الشهادة للدربنديّ: 303، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء (علیه السلام)) لسپهر: 3 / 21.

المعلومة العاشرة: سُليمان شهيد البصرة وشهيد كربلاء

ورد في المصادر اسم (سليمان مولى الحسين بن عليّ (علیه السلام)) في عِداد شهداء الطفّ في كربلاء يوم عاشوراء.. قالوا:

• وقُتل سُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف الحضرميّ ((1)).

• وسُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف الحضرميّ ((2)).

• وقُتل من الموالي: سُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان ابن عَوف الحضرميّ ((3)).

• وقُتل في ذلك اليوم سُليمان مولى الحسن بن عليّ بن أبي طالب ((4)).

• بالإسناد عن الليث بن سعدٍ قال:

تُوفّي معاوية في رجب لأربع ليالٍ خلَت منه، واستخلف يزيد ستّين.

ص: 104


1- تسمية مَن قُتِل للرسّان: 152، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 121.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 469، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 303.
4- الثقات لابن حبّان: 2 / 310.

وفي سنة إحدى وستّين قُتل الحسين بن عليٍّ وأصحابُه لعشر ليالٍ خلَون من المحرم، يوم عاشوراء ... وسُليمان مولى الحسين ((1)).

• تسمية مَن شهد مع الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) بكربلاء: ... وسُليمان مولى الحسين ((2)).

• سليم مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتِل معه ((3)).

• سليمان مولى الحسين ... قُتل معه، وكفى بذلك فخراً ((4)).

• ذِكرُ مَن قُتل من أصحاب الحسين (علیه السلام) ومن أهل بيته ومواليه: ... وقُتِل من الموالي: سُليمان مولى الحسين (علیه السلام) ، قتله ابن عَوف الحضرميّ ((5)).

• سُليمان مولى الحسين، قُتِل معه ((6)).

• الليث بن سعد: قُتِل مع الحسين (علیه السلام) : ... وسُليمان مولى الحسين ((7)).

ص: 105


1- المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 108، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 197، الأمالي للشجريّ: 1 / 185، المحاضرات والمحاورات للسيوطيّ: 404، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 47.
2- الاختصاص للمفيد: 82.
3- رجال الطوسيّ: 74.
4- رجال ابن داوود: 178 الرقم 720، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 65.
5- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 197.
6- نقد الرجال للتفرشيّ: 162.
7- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 321.

• ثمّ برز [بعد أحمد بن محمّد الهاشميّ] سُليمان مولى الحسين (رضی الله عنهما) ، فقَتل منهم رجالاً، ثمّ قُتِل (رضی الله عنه) ((1)).

• قال أبو عليّ في (رجاله): سُليمان المكنّى بأبي رَزين، مولى الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، قُتِل معه.وقال المحقّق الأسترآباديّ في (رجاله): سُليمان بن أبي رَزين، مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتِل مع الحسين (علیه السلام) .

أقول: والمعتمَد عندي الأول، لأنّ ظاهر كلامهما أنّ سُليمان استُشهد مع الحسين (علیه السلام) في وقعة الطفّ، وهو خلاف ما ذكره أهل السيَر والمقاتل من أنّه قُتِل بالبصرة، وليس في الزيارة دلالةٌ على ذلك.

نعم، ويمكن حمل كلامهما على أنّ مَن قُتِل لأجل الحسين بن عليّ (علیه السلام) في الكوفة والبصرة كساير أصحابه الّذين قُتِلوا معه يوم الطفّ، وإنْ لم يُقتَلوا بين يديه _ انتهى ((2)).

• سليمان مولى الحسين (علیه السلام) _ كما في نسخة _، ومولى الحسن (علیه السلام) _ كما في نسخةٍ أُخرى _، قُتل مع الحسين، ولذا عدّه الشيخ (رحمة الله) في (رجاله) من أصحاب الحسين (علیه السلام) ، قال: سُليمان مولى الحسين، قُتِل معه، أي: مع الحسين (علیه السلام) . وفي بعض نسخه: مولى

ص: 106


1- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 344.
2- ذخيرة الدارَين للحائريّ: 1 / 172، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 151.

الحسن (علیه السلام) . وقد عدّه ابن داوود في القسم الأول، فقال: ... [ثمّ ذكر كلام ابن داوود كما ذكرناه في (رجاله)].

وأقول: سُليمان هذا، أُمّه كبشة، كانت جاريةً للحسين (علیه السلام) اشتراها بألف درهم، وكانت تخدم في بيت أُمّ إسحاق بنتطلحة ابن عبد الله التَّيميّة زوجة الحسين، فتزوّج بالجارية أبو رَزين، فولدَت منه سليمان، وقد كان مع الحسين.

ظاهر قول الشيخ وابن داوود وغيرهما أنّه قُتِل بالطفّ، ولكنّ صريح جمعٍ كثيرٍ من أهل السيَر أنّ الحسين كتب معه كتاباً إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته، فأخذه المنذر بن الجارود مع الكتاب إلى ابن زيادٍ ليلة عزمه على الخروج من البصرة إلى الكوفة، فأمر بضرب عنقه، فقتله سليمان بن عَوف الحضرميّ (لعنه الله).

ولعلّ غرض الشيخ (رحمة الله) وغيره من أنّه قُتل معه قَتْلُه في سبيله.

وعبارة زيارة الناحية المقدّسة ... لا يدلّ على كونه قُتِل بالطفّ؛ لأنّ المقتول في رسالته كالمقتول بالطفّ في الشرف والسعادة ((1)).

• سُليمان مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتِل معه ((2)).

ذكره في زيارة الناحية المقدّسة: «السلامُ على سُليمان مولى الحسين

ص: 107


1- تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 65.
2- مُستدرَك الوسائل للنوريّ: 3 / 810.

ابن أمير المؤمنين، ولعن الله قاتله سليمان بن عَوف الحضرميّ» ((1)).

ملاحظات

الملاحظة الأُولى: الاسم

إسم (سليمان) الوارد في هذه المصادر لم يميَّز بأيّ ميزةٍ ولم يُنسَب أيّ نسبة، خلا ما اتّفقوا عليه من الولاء لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّهم اتّفقوا جميعاً أنّه مولى الحسين (علیه السلام) ، وكفى بذلك فخراً وانتساباً.

فيما نراهم يميّزون (سليمان) شهيد البصرة بذِكر كنيته مثلاً.

وانفرد الشيخ في (الرجال) بذِكره باسم: «سليم مولى الحسين (علیه السلام) » ((2))، فربّما يُظَنّ أنّ سليماً هو نفس سليمان إلّا أنّ فيه تصحيفاً، وربّما يُستبعد ذلك رغم بقاء احتمال التصحيف، باعتبار وضوح الاختلاف بين الرسمَين.

ص: 108


1- إقبال الأعمال لابن طاووس: 3 / 76، مصباح الزائر لابن طاووس: 281، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 271، و45 / 69، العوالم للبحرانيّ: 17 / 337، أسرار الشهادة للدربنديّ: 303، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء (علیه السلام)) لسپهر: 3 / 21.
2- رجال الطوسيّ: 74.

الملاحظة الثانية: ولاؤه

إتّفق الجميع أنّه كان مولى الإمام الحسين (علیه السلام) .

وانفرد ابن حبّان في (الثقات) بقوله: «مولى الحسن بن عليّ بن أبي طالب» ((1))، ولا يبعد حصول التصحيف بحذف الياء فقط، كما يحتمل التعدّد لشواهد تأتي.

الملاحظة الثالثة: المقتول معه (علیه السلام)

اشارة

ظاهر عبارات المصنّفين أنّ سليمان هذا قد استُشهد في كربلاء مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، حيث ذكروه في عداد المستشهَدين هناك، وصرّح بعضهم باسم قاتله، ويمكن تقسيم أقوالهم إلى عدّة أقوال:

القول الأوّل: ذَكَره في عِداد المقتولين

قال الرسّان _ وتبعه المحلّي _ :

وقُتِل سُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف الحضرميّ ((2)).

وقال ابن سعد:

وسُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف

ص: 109


1- الثقات لابن حبّان: 2 / 310.
2- تسمية مَن قُتل للرسّان: 152، الأمالي للشجريّ: 1 / 172، الحدائق الورديّة للمحلّي: 1 / 121.

الحضرميّ ((1)).

وكذا فعل الطبريّ وابن الأثير، قالا:

وقُتِل من الموالي: سُليمان مولى الحسين بن عليّ، قتله سليمان بن عَوف الحضرميّ ((2)).

وذكره ابن الصبّاغ في (الفصول) في عِداد مَن قُتِل من أصحاب الحسين (علیه السلام) ومن أهل بيته ومواليه، وذَكر قاتلَه ((3)).

وورد ذِكره في زيارة الناحية المقدَّسة: «السلام على سُليمان مولىالحسين ابن أمير المؤمنين، ولعن الله قاتله سليمان بن عَوف الحضرميّ» ((4)).

ولا يخفى أنّ الرسّان قد ذكر أيضاً بعده عبد الله بن يقطر الشهيد بالكوفة، ثمّ ذكر قيس بن مسهر الصيداويّ من دون تصريحٍ بمكان شهادته.

القول الثاني: قُتِل معه

قال الشيخ في (الرجال):

ص: 110


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 77.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 469، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 303.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 197.
4- إقبال الأعمال لابن طاووس: 3 / 76، مصباح الزائر لابن طاووس: 281، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 271، و45 / 69، العوالم للبحرانيّ: 17 / 337، أسرار الشهادة للدربنديّ: 303، ناسخ التواريخ (سيّد الشهداء (علیه السلام)) لسپهر: 3 / 21.

سُلَيم مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتل معه ((1)).

على فرض أن يكون «سُلَيم» هو نفس سليمان!

وقال جماعةٌ _ منهم: ابن داوود، والمامقانيّ، والتفرشيّ، والأردبيليّ، والنوريّ _ أنّ سليمان مولى الحسين قُتل معه، وكفى بذلك فخراً ((2)).

القول الثالث: نصّ على قتله يوم عاشوراء

قال ابن حبّان:

وقُتِل في ذلك اليوم سُليمانُ مولى الحسن بن عليّ بن أبي طالب ((3)).

وكذا عدّه في المقتولين يوم عاشوراء: الطبرانيّ، والهيثميّ، والشجَريّ، والسيوطيّ، والخوارزميّ، رووا مسنَداً عن الليث بن سعدٍ أنّه قال:تُوفّي معاوية في رجب لأربع ليالٍ خلَت منه، واستخلف يزيد سنتين.

وفي سنة إحدى وستّين قُتِل الحسين بن عليٍّ وأصحابُه لعشر ليالٍ خلَون من المحرّم، يوم عاشوراء ... وسُليمان مولى الحسين ((4)).

ص: 111


1- رجال الطوسيّ: 74.
2- رجال ابن داوود: 178 الرقم 720، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2- 1 / 65، نقد الرجال للتفرشيّ: 162، جامع الرواة للأردبيليّ: 1 / 383.
3- الثقات لابن حبّان: 2 / 310.
4- المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 108، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 197، الأمالي للشجريّ: 1 / 185، المحاضرات والمحاورات للسيوطيّ: 404، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 47.

وذكره الشيخ المفيد في (الاختصاص) عند تسمية مَن شهد مع الحسين ابن عليٍّ (علیهما السلام) بكربلاء ((1)).

وذكره القندوزيّ عن الليث بن سعدٍ في عداد مَن قُتل مع الحسين (علیه السلام) ((2))، وقال:

إنّه برز في كربلاء بعد أحمد بن محمّد الهاشميّ، فقَتل منهم رجالاً، ثمّ قُتِل (رضی الله عنه) ((3)).

وصرّح الشيخ السماويّ _ وتبعه الزنجانيّ _ أنّه قُتِل في الطفّ، قال:

قُتِل من الموالي مع الحسين خمسة عشر نفراً في الطفّ، ومنهم: سُليمان مولى الحسين (علیه السلام) ((4)).

معالجة الأقوال:
اشارة

ظاهر الأقوال الثلاثة أنّ سُليمان هذا قد قُتِل بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء، غير أنّ القولَين الأوّلَين يمكن الجمع بينهما وبين شهادته في البصرة، إذ أنّ مَن قُتِل في طاعة إمام زمانه ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)

ص: 112


1- الاختصاص للمفيد: 82.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 321.
3- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 344.
4- إبصار العين للسماويّ: 128 و129، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 418.

يُعَدّ في المستشهَدين بين يدَيه، سواءً قُتل في كربلاء أو في الكوفة أو في البصرة، فيصحّ أن يُدرَج في عداد المستشهَدين بين يديه، كما يصحّ أن يُقال: قُتل معه، تماماً كما فعل الرسّان حيث ذكر قيس بن مسهر وعبد الله ابن يقطر في عِداد المقتولين بين يدَي الحسين (علیه السلام) ومعه.

والسلام عليه في الناحية المقدّسة لا يفيد تحديد موضع شهادته.

يبقى القول الثالث الّذي ينصّ فيه الشيخ المفيد على أنّه قُتِل بكربلاء، وحصره جماعةٌ _ مثل ابن حبّان وغيره _ فيمن استُشهد يوم عاشوراء، وما رواه القندوزيّ من مبارزته وقتله جماعة، وعدّه السماويّ في عشرة نفرٍ من الموالي قُتِلوا في الطف..

وهنا يمكن أن نفترض عدّة فرضيّات:

الفرضيّة الأُولى: شهيدان!

أن يكون للإمام الحسين (علیه السلام) أكثر من مولىً باسم سليمان، استُشهد أحدهما في البصرة والآخَر في كربلاء.

وربّما شهد لذلك أنّ سليمان المذكور في كربلاء لم يُذكَر بأيّ صفةٍسوى الولاء لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيما ذُكرَت كنية شهيد البصرة.

وربّما كان أحدهما مولى الإمام الحسن (علیه السلام) والآخَر مولى الإمام الحسين (علیه السلام) ، كما نصّ على ذلك ابن حبّان في (الثقات) حيث نسب قتيل كربلاء إلى الإمام الحسن (علیه السلام) .

ص: 113

وقال الاسترآباديّ والأردبيليّ:

سليمان مولى الحسين (علیه السلام) ، قُتِل معه ... وفي نسخةٍ: مولى الحسن ((1)). وابن داوود اعتمد الأول ((2)).

وقال الحائريّ:

سليمان مولى الحسين، قُتِل معه ... وفي نسخةٍ: مولى الحسن، واعتمد الأول _ انتهى.

وأقول: كذا (النقد)، لكنّ في نسختين عندي من (جخ): مولى الحسن (علیه السلام) ، ولعلّه الصحيح، ولو كان مولى الحسين (علیه السلام) لَقال الشيخ: مولاه، كما في نظائره، فتتبّع ((3)).

وقد اختلفت النُّسَخ في اسم المولى الشهيد في البصرة بين سَلمان وسُليمان، واختلفت في شهيد كربلاء بين سُلَيم وسُليمان، فربّما أفاد ذلك التعدّد أيضاً.

الفرضيّة الثانية: شهيدٌ في كربلاء فقط

أنْ يكون سليمان واحداً، وقد قُتل في كربلاء، وليس ثَمّة رسولٌ بعث به الإمام (علیه السلام) إلى أهل البصرة، وتُحمَل حكاية كتاب أهل البصرة كلّها على

ص: 114


1- جامع الرواة للأردبيليّ: 1 / 383.
2- منهج المقال للاسترآباديّ: 174.
3- منتهى المقال للحائريّ: 3 / 402.

الوضع لأغراضٍ قصدها المؤرّخ ومشغّله، وللإفلات من المحاذير والإشكالات الّتي يمكن أن تلحق بخبر الكتاب والرسول.

غير أنّ جملة الأخبار الواردة في المصادر تنهض في وجه هذه الفرضيّة نهوضاً ربّما يمنعها من الانعقاد.

الفرضية الثالثة: شهيدٌ في البصرة فقط

أنْ يُحمل مؤدّى القول الثالث على عموم التعبير عن المستشهَدين بين يدَي الحسين (علیه السلام) ، ويُحشَر كلُّ مَن قُتِل في تلك الأيّام في طاعة الإمام (علیه السلام) فيمن استُشهد في كربلاء، ويُتوقَّف في ما رواه القندوزيّ من خبر مبارزته.

وهذه الفرضيّة أيضاً قد لا تكون بمستوىً من المتانة بعد ملاحظة ظواهر كلمات الذاكرين له، بل ربّما تكون بعضها بقوّة التصريح.

فيكون الذهاب إلى التعدّد موافقاً للاحتياط؛ خوفاً من تضييع دمٍ قد جاد به سيفٌ من سيوف الحسين (علیه السلام) دفاعاً عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعياله!

ص: 115

ص: 116

المخاطَب بالكتاب

المتون

البلاذريّ:

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة ((1)).

الدينوريّ:

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب كتاباً الى شيعته من أهل البصرة مع مولىً له يُسمّى: سلمان، نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم ... ((2)).

ص: 117


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.

الطبريّ:

وقد كان حُسينٌ كتب الى أهل البصرة كتاباً ...

كتب حُسينٌ مع مولىً لهم يُقال له: سليمان، وكتب بنسخةٍ إلى رؤوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكريّ، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود، وإلى مسعود بن عمرو، وإلى قيس بن الهيثم، وإلى عمرو بن عُبيد الله بن معمر، فجاءت منه نسخةٌ واحدةٌ إلى جميع أشرافها ((1)).

إبن أعثم، الخوارزميّ:

قال: وقد كان الحسين بن عليٍّ قد كتب إلى رؤساء أهل البصرة، مثل الأحنف بن قيس ومالك بن مسمع والمنذر بن الجارود وقيس ابن الهيثم ومسعود بن عمرو وعمر بن عُبيد الله بن معمر ... ((2)).

إبن الأثير:

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخةً واحدةً إلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكريّ والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم وعمر بن عبد الله بن معمر ... ((3)).

ص: 118


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62.
3- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23.

إبن نما:

وأمر مسلمَ بالتوجُّه بالكتاب إلى الكوفة، وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة، منهم: الأحنف بن قيس، وقيس بن الهيثم، والمنذر بن الجارود، ويزيد بن مسعود النهشليّ ... ((1)).

إبن طاووس:

فتأهّب عُبيد الله للمسير إلى الكوفة، وكان الحسين (علیه السلام) قد كتب إلى جماعةٍ من أشراف البصرة كتاباً مع مولىً له اسمه: سُليمان، ويُكنّى: أبا رزين، يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم: يزيد بن مسعود النهشليّ، والمنذر بن الجارود العَبديّ ... ((2)).

النويريّ:

وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة، منهم: مالك بن مسمع، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمر بن عُبيد اللَّه بن معمر.

ثمّ خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهليّ وشريك بن الأعور الحارثيّ وحشمه وأهل بيته ((3)).

ص: 119


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- اللهوف لابن طاووس: 38.
3- نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

إبن كثير:

قال: بعث الحسين مع مولىً له يُقال له: سلمان، كتاباً إلى أشراف أهل البصرة، فيه: ... ((1)).

المقريزيّ:

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة يدعوهم ((2)).

إبن أبي طالب:

وكتب الحسين (علیه السلام) كتاباً إلى أشراف البصرة ... منهم: يزيد بن مسعود النهشليّ، والمنذر بن الجارود العَبديّ، فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ... ((3)).

وقد كان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة، كما أشرنا أوّلاً ((4)).

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):

فبينما هو كذلك، إذ قَدِم رسول الحسين (علیه السلام) إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته، منهم: الأحنف بن قيس، وعبد الله بن معمر،

ص: 120


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
2- إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
3- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.
4- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 180.

وعمر بن الجارود، ومسعود بن معمر، وغيرهم، بنسخةٍواحدة ... ((1)).

* * * * *

يمكن تقسيم المخاطَبين بلحاظ العناوين الكلّيّة العامّة والمخاطَبة بالأسماء إلى عنوانين:

العنوان الأوّل: العنوان العام

وردَت جملةٌ من العناوين العامّة الكلّيّة في المتون التاريخيّة كمخاطَبين في الكتاب:

العنوان الأول: أهل البصرة ((2)).

العنوان الثاني: وجوه أهل البصرة ((3)).

العنوان الثالث: شيعته من أهل البصرة ((4)).

العنوان الرابع: أشراف البصرة ((5)).

ص: 121


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 23.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
3- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، مثير الأحزان لابن نما: 27.
4- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
5- نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنف (المشهور): 23.

العنوان الخامس: جماعةٌ من أشراف البصرة ((1)).

العنوان السادس: جميع أشرافها ((2)).

العنوان السابع: رؤساء أهل البصرة ((3)).

والجامع المشترك بين هذه العناوين جميعاً هم أهل البصرة، بَيد أنّالعناوين ذكرت المقصود الأصليّ، وهم أهل البصرة تارة، وذكرتهم من خلال العناوين المأخوذة كوسائط تارةً أُخرى، فمخاطَبة الرؤساء والوجوه والأشراف منهم إنّما يُقصَد منه مخاطبة أتباعهم، وهم العناوين المشيرة إلى أُولئك الأتباع.

والاختلاف في التعميم والتحديد قد لا يفرّق كثيراً في المقام، من قبيل: جميع الأشراف، أو جماعة من الأشراف.. وربّما كان تعبير ابن الأثير يجمع هذه الأقوال حين حدّد المخاطَب فقال: إنّ الإمام (علیه السلام) كتب كتاباً إلى أهل البصرة، نسخةً واحدةً إلى الأشراف ((4)).. فالكتاب إلى أهل البصرة، والمخاطَب المباشر هم الأشراف.

ص: 122


1- اللهوف لابن طاووس: 38.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62.
4- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23.

أجل، ربّما يكون في لفظ الدينوريّ إشعارٌ خاصٌّ ينفعنا في تحديد المخاطَب بصفةٍ معيّنة (شيعته من أهل البصرة) ((1))، فهو لم يخاطِب أهل البصرة أجمعين، وإنّما خاطب شيعته فيها، وفي ذلك بيانٌ يأتي إن شاء الله (تعالى).

العنوان الثاني: مخاطَبة الأشخاص

اشارة

يمكن تناول ما يخصّ هذا العنوان ضمن التلويحات التالية:

التلويح الأوّل: البلاذريّ لم يذكر الأسماء

لم يذكر البلاذريّ اسماً بذاته، وإنّما اكتفى بذكر العنوان العام (وجوه أهل البصرة) ((2)).

وهو أوّل مَن ذكر خبر هذا الكتاب حسب فحصنا، وقد دخلَت الأسماء من المصدر الثانيّ وهو الدينوريّ، كما سنسمع.

التلويح الثاني: الدينوريّ جعل الأسماء ضمن الكتاب

إنفرد الدينوريّ _ حسب الفحص _ بجعل الأسماء من نصّ الرسالة، فقال:

ص: 123


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.

بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم ... ((1)).

أمّا الآخَرون، فقد ذكروا أنّ الكتاب موجَّهٌ إلى جماعة، وذكروا الأسماء من دون أن ترد في نصّ الكتاب.

والفرق بين الحالَين واضح، إذ يمكن احتمال تبرّع المؤرّخ بتحديد الوجوه والأشراف مِن عنده من دون أن يحدّدهم الإمام (علیه السلام) بنفسه، ممّا ينفع في احتمال القول بأنّ المخاطَب بالكتاب هم شيعة الإمام (علیه السلام) دونغيرهم، كما سيأتي بعد قليل.

التلويح الثالث: الشيخ ابن نما يذكر (يزيد)

يأتي في سياق أحداث الكتاب المرسَل إلى أهل البصرة رجُلٌ يُسمّى: يزيد بن مسعود النهشليّ، وأوّل مَن يذكره هو الشيخ ابن نما (رحمة الله) ، ويتبعه على ذلك السيّد ابن طاووس، بينما لم يرِدْ له أيُّ ذِكرٍ أو تلويحٍ فيما سبق من المصادر المتوفّرة لدينا.

ولهذا الرجل موقفٌ يختلف عن جميع مواقف الآخَرين ويتميّز عنهم تميُّزاً تامّاً، كما سنرى بعد قليل.

ص: 124


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.

التلويح الرابع: الأسماء الواردة في المصادر

اشارة

مجموع الأسماء الواردة في المصادر ممّن صرّحوا بهم هي سبعة أسماء:

1 - مالك بن مسمع البكريّ

1 - مالك بن مسمع البكريّ ((1))

مالك بن مِسمَع _ بوزن منبر _ البكريّ، سيّد بكر بن وائل ((2)).

لمّا قُتل عثمان وهاج الهيج بين أمير المؤمنين عليٍّ (علیه السلام) ومعاوية، كان مالك بن مسمع ممّن أعلن حُبّه لعثمان وعزمَه على نصرته ميّتاً، فخرج إلىالشام فكان مع معاوية، وهو على رأي العثمانيّة ((3)).

وكان رأيه مائلاً إلى بني أُميّة، وكان مروان بن الحكم قد لجأ إليه يوم الجمل ((4))، وكان مالك بن مسمع يأمر الناس بعد واقعة الطفّ وقتل الإمام الحسين (علیه السلام) بتجديد البيعة ليزيد بن معاوية ((5)).

وكان عُبيد الله _ بعد هلاك يزيد _ قد أنفذ بالليل إلى شقيق بن ثور ومالك بن مسمع وحُصين بن المنذر، وفرّق فيهم مالاً كثيراً.

ص: 125


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- إبصار العين للسماويّ: 40.
3- تاريخ الطبريّ: 6 / 128 خبر مقتل عُبيد الله بن الحرّ.
4- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 84 حوادث سنة 38، المنتظم لابن الجوزيّ: 5 / 152.
5- مع الركب الحسينيّ: 2 / 32 _ عن: هامش كتاب الغارات: 266، والهامش للمرحوم عبد الزهراء الخطيب.

ثمّ إنّ ابن زيادٍ خطبهم خطبة، فقام هؤلاء _ وهم رؤساء الناس _ فقالوا: ما لنا غيرك، ولا نعرف أحداً هو أقوى على هذا الأمر منك. وبايعه هؤلاء، وبايعه الناس ((1)).

وكان مالك قد تحالف مع مسعود بن عمرو ليردّوا ابن زيادٍ إلى دار الإمارة بعد أن هرب في فتنة ابن الزبير بعد هلاك يزيد، وقاتل بقومه من أجل إعادة ابن زيادٍ إلى دار الإمارة ((2)).

2 - الأحنف بن قيس

2 - الأحنف بن قيس ((3))

إسمه: الضحّاك بن قيس بن معاوية بن حُصين بن حفص بن عبادة ابن النزال بن مُرّة بن عُبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وأُمّه من بني قراض من باهلة، ولدَته وهو أحنف، فقالت وهيترقّصه:

واللهِ لولا حنفٌ في رجله

ما كان في الحيّ غلامٌ مثله

ص: 126


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 94.
2- تاريخ خليفة بن خيّاط: 198، وانظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 37 / 457، وترجمته في تاريخ مدينة دمشق: 56 / 497.
3- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.

ويُكنّى الأحنف: أبا بحر ((1)).

والأحنف بن قيس: ... سيّد تميم ((2)).

قال الأحنف لمّا قُرئ عليهم كتاب معاوية الّذي يحرّض فيه الناس على الطلب بدم عثمان: أمّا أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جَمل. واعتزل أمرهم ذلك ((3)).

ودخل الأحنف بن قيس على معاوية، ويزيد بين يديه وهو ينظر إليه إعجاباً به، فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين، هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرّة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلَف منّا لمَن بعدنا، فكن لهم أرضاً ذليلةً وسماءً ظليلة، إنْ سألوك فأعطِهم، وإن استعتبوك فأعتبهم، لا تمنعهم رفدك، فيملّوا قربك ويكرهوا حياتك ويستبطؤوا وفاتك. فقال: لله درّك يا أبا بحر، هم كما وصفت ((4)).

وكان عمر قد أوصى أبا موسى الأشعريّ أن يُدني الأحنف ويشاوره ويسمع منه ((5)).

ص: 127


1- الطبقات لابن سعد: 7 / 93.
2- إبصار العين للسماويّ: 40.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 39، الغارات للثقفيّ: 2 / 384.
4- فقه السُّنّة للسيّد سابق: 2 / 14 _ عن: الأمالي لأبي عليّ القالي.
5- الطبقات لابن سعد: 7 / 94.

وكان الأحنف صديقاً لمصعب بن الزبير، فوفد عليه بالكوفة ومصعب ابن الزبير يومئذٍ والٍ عليها، فتُوفّي الأحنف عنده بالكوفة، فرؤي مصعب في جنازته يمشي بغير رداء ((1)).

وبعد هلاك يزيد كان ابن زيادٍ قد خطب الناس فنعى يزيد، وقال: اختاروا لأنفسكم. فقال الأحنف: نحن بك راضون حتّى يجتمع الناس. فقال ابن زياد: اغدوا على أُعطياتكم. فوضع الديوان وأعطى العطاء.

هذا وقد قاتل الأحنف بقومه من أجل إعادة ابن زيادٍ إلى دار الإمارة ((2)).

فيما روى ابن قُتيبة في (عيون الأخبار) مسنداً قال:

كتب الحسين بن عليٍّ إلى الأحنف يدعوه إلى نفسه، فلم يردّ الجواب، وقال: قد جرّبنا آل أبي الحسن، فلم نجد عندهم إيالةً ولا جمعاً للمال ولا مكيدةً في الحرب ((3)).

وهو نفسه الّذي روى عنه الشيخ الصدوق (رحمة الله) مسنداً قال:

عن الأحنف بن قيس، عن أبي ذرّ الغفاريّ (رحمة الله علیه) قال: كنّا ذات يومٍ عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجد قبا ونحن نفرٌ من أصحابه، إذ قال: «معاشرَ أصحابي، يدخل عليكم من هذا الباب رجُلٌ، هو

ص: 128


1- الطبقات لابن سعد: 7 / 97.
2- تاريخ خليفة بن خياط: 198، وأنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 37 / 457.
3- عيون الأخبار لابن قتيبة: 1 / 311.

أميرُ المؤمنين وإمامُ المسلمين».

قال: فنظروا، وكنتُ فيمن نظر، فإذا نحن بعليّ بن أبي طالب (علیه السلام) قد طلع، فقام النبيّ (صلی الله علیه و آله) فاستقبلَه وعانقَه وقَبّل ما بين عينَيه، وجاء به حتّى أجلسه إلى جانبه، ثمّ أقبل علينا بوجهه الكريم، فقال: «هذا إمامُكم مِن بعدي، طاعتُه طاعتي، ومعصيتُه معصيتي، وطاعتي طاعةُ الله، ومعصيتي معصيةُ الله (عزوجل) » ((1)).

ومع ذلك، فإنّه بعث الأحنف بن قيسٍ إلى عليّ (علیه السلام) : إنْ شئتَ أتيتُك في مئتَي رجُلٍ من أهل بيتي، وإن شئتَ كففتُ عنك أربعة آلاف سيف. فأرسل إليه عليّ: «بل كُفّ عنّي أربعةَ آلاف سيف، وكفى بذلك ناصراً»!! فجمع الأحنف بني تميم، فقال: يا معشرَ بني تميم، إنْ ظهرَ أهلُ البصرة فهم إخوانكم، وإن ظهر عليٌّ فلن يهيجكم وكنتم قد سلمتم. فكفّ بنو تميم، ولم يخرجوا إلى أحد الفريقَين ((2)).

فاختار موقف الحياد، وهو يعرف أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقد حدّث عائشةَ وعارضها في خروجها إلى البصرة.

ونحن لا ندري لمن التتمّة بعد جواب أمير المؤمنين (علیه السلام) : «وكفى بذلك ناصراً»، هل هي من ضمن جواب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أَم أنّها من الرواة؟!

ص: 129


1- الأمالي للصدوق: 634 المجلس 76 ح 7.
2- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 67.

وكيف كان، فإنّ كفّ هذا العدد وتحييدَه نصر، ولكنّ الموقف المطلوب من العارف البصير بدِينه هو الانحياز إلى الحقّ، وقومه أتباعه، ينعقون معه ويطيرون معه ويسفون معه، تماماً كما قاتل بهم من أجل إرجاع ابن زياد إلى دار الإمارة.

ورُوي في (الغارات) في خبرٍ طويلٍ اعتراض الحبّاب على معاوية، لأنّه أعطى الأحنف أكثر منه، وقد وفدوا معاً عليه، فقال معاوية: يا حبّاب، إنّي اشتريتُ بها دِينه. فكان _ وفق إخبار معاوية _ ممّن اشترى معاوية منه دِينه بخمسين ألف ((1)).

وقد روى لنا التاريخ مواقف وكلماتٍ للأحنف تنمّ عن ميله لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، سيّما في فتنة الجمل وصاحبته، غير أنّ مواقفه على العموم تجعله عموداً في صفّ الأعداء.

وسيأتي مزيد بيانٍ لحاله عند الحديث عن ردّه على كتاب الإمام (علیه السلام) .

3 - المنذر بن الجارود العَبديّ

3 - المنذر بن الجارود العَبديّ ((2))

المنذر بن الجارود بن عمرو بن حنش ((3)) العَبديّ، سيّد عبد قيس،

ص: 130


1- أُنظر: الغارات للثقفيّ: 2 / 754.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، تسلية المجالس لابن ابی طالب: 2 / 173.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 60 / 281.

وكان عُبيد الله بن زيادٍ تزوّج أُخته بحريّة، وله ذِكرٌ في الحروبوالمغازي ((1)).

والمنذر هذا غيرُ معدودٍ في الصحابة، ولا رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولا ولد له في أيّامه، وكان تائهاً معجَباً بنفسه ((2))، وصفه أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلاً: «إنّه لَنظّارٌ في عطفَيه، مختالٌ في برديه، تفّالٌ في شراكيه» ((3)).

كتب إليه أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد ما خان في بعض ما ولّاه من أعماله: «... أتعمر دنياك بخراب آخِرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دِينك؟! ولئن كان ما بلغني عنك حقّاً لَجمل أهلك وشسع نعلك خيرٌ منك، مَن كان بصفتك فليس بأهلٍ يُسدّ به ثغرٌ أو يُنقَذ به أمرٌ أو يُعلى به قَدْرٌ أو يُشرك في أمانةٍ أو يُؤمَن على خيانة [خ ل: جباية]، فأقبِلْ إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله» ((4)).

وكان الإمام قد ولّاه فارساً، فاحتاز مالاً من الخراج، وكان المال أربعمئة ألف درهم ((5))، فحبسه أمير المؤمنين (علیه السلام) ((6)).

وليَ إصطخر لأمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ، ثمّ وليَ ثغر الهند من قبل عُبيد

ص: 131


1- إبصار العين للسماويّ: 40.
2- أُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 18 / 57.
3- نهج البلاغة: 462 ك 71.
4- نهج البلاغة: 462 ك 71.
5- أُنظر للتفصيل: المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) _ وقائع السفارة: 2 / 445.
6- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 34 / 323، وغيره.

الله بن زياد، فمات هناك سنة إحدى وستّين، وله ستّون سنة ((1)).

وفي (معجم البلدان) للحَمَويّ:

ولّى زيادُ ابن أبيه المنذرَ بن الجارود العَبديّ _ ويُكنّى بأبيالأشعث _ ثغرَ الهند، فغزا البوقان والقيقان، فظفر المسلمون وغنموا ((2)).

وتبدو عداوته وحقده وخبثه من طريقة تعامله مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فقد رُوي:

أنّه قام المنذر بن الجارود إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال: يا أمير المؤمنين، أنت بالمكان الّذي تذكر وأبوك معذَّبٌ في النار؟!

فقال: «مَهْلاً، فضّ الله فاك!»، قال: «أبي يُعذَّب في النار وأنا ابنُه قسيمُ الجنّة والنار؟! واللهِ لو شفع أبي لكلِّ مذنبٍ على وجه الأرض لَأجابه الله، وإنّ نورَ أبي لَيُطفئ نور الخلائق يوم القيامة ما خلا نور الأنبياء والأئمّة (علیهم السلام) ، وسمعتُ حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنّه قال: مَثَلُ عمّي أبي طالبٍ في هذه الأُمّة كمَثَل أصحاب الكهف في بني إسرائيل، أسرّوا الإيمان وأظهروا الكفر، فآتاهم أجرهم مرّتين» ((3)).

فهو عدوٌّ لدودٌ، خؤونٌ خان الأمانة وسرق المال مع أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 132


1- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 256، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 60 / 285، النجوم الزاهرة للأتابكيّ: 1 / 157، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 101.
2- أُنظر: معجم البلدان للحَمويّ: 1 / 510، فتوح البلدان للبلاذريّ: 3 / 533.
3- العِقد النضيد لابن الحسن القمّيّ: 30.

وآذاه في أبيه، وختم عاقبته السيّئة الرديئة بخيانةٍ تأباها الوحوش والكواسر ويستنكف منها كلّ خؤون، حين دفع رسول ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى صهره عبيد القرود.يبدو أنّه قد فعل ذلك من ذات نفسه، من دون أيّ توجُّسٍ ولا خوفٍ من ابن زياد، وإنّما فعله حرصاً على صهره وخوفاً على دنياه، وتوغُّلاً في الجناية وارتكاساً في الرذيلة المتوائمة مع تاريخه الفاضح.

ولو كان قد توجّس واحتمل أن يكون دسيساً لابن زياد، وكان يتمتّع بأدنى أخلاقيّات البشر وروح الإنسان، لَطرده وردّه ونهره، وأبدى له صفحته، واتّخذ أيّ وسيلةٍ يُثبت بها براءته عند سائسه، ولا يودي بحياة الرسول بشكلٍ قطعيٍّ وجازم، ويجعل له منفذاً يمكن أن يفرّ منه أو يدفع عن نفسه..

كيف كان، فإنّ موقع المنذر وحيثيّاته كافيةٌ لتشخيص الرسول والمرسل، وإيجاد المخرج له لئلّا يتورّط بالدماء الزاكية، لولا خبثه وبيعه آخرته بدنيا غيره.

4 - مسعود بن عمرو

4 - مسعود بن عمرو ((1))

أحد قادة الأزد في معركة الجمَل في جيش عائشة وطلحة والزبير ((2)).

ص: 133


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- مع الركب الحسينيّ: 2 / 34 _ عن: تاريخ الطبريّ: 5 / 505.

وكان قد أجار ابنَ زيادٍ بعد هلاك يزيد، وبقي عنده مدّةً من الزمان، أي: زهاء تسعين يوماً، ثمّ تحالف مع مالك بن مسمع ليردّوا ابن زيادٍ إلى دار الإمارة ((1)).ثمّ إنّ مسعود هذا أدخل عُبيد الله دار نسائه، وأفرده في بيتٍ من بيوته، ووكّل به امرأتين من خدمه، وجمع إليه قومه ((2)).

ولمّا أتى على عُبيد الله أيّامٌ وأمِن الطلب، قال لمسعود بن عمرو والحارث بن قيس: إنّ الناس قد سكنوا ويئسوا منّي، فاعملا في إخراجي من البصرة لألحق بالشام. فاكتريا له رجُلاً من بني يشكر أميناً هادياً بالطريق، وحملاه على ناقةٍ مهريّة، وقالا لليشكريّ: عليك به، لا تفارقْه حتّى توصله إلى مأمنه بالشام. فخرج، وخرجا معه مشيّعين له في نفرٍ من قومهما ثلاثة أيّام، ثمّ ودّعاه وانصرفا ((3)).

قال الشيخ السماويّ:

مسعود بن عمر الأزديّ الفهميّ، سيّد الأزد، وبسبب قتله قامت حرب البصرة بعد هلاك يزيد، وهو الّذي منع من قتل عُبيد الله

ص: 134


1- تاريخ خليفة بن خيّاط: 198، وانظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 37 / 457.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 283.
3- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 283، وانظر: تاريخ الطبريّ: 4 / 393، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 96، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 134.

ابن زيادٍ يومئذ، ويُكنّى بأبي قبيس ((1)).

فهو عدوٌّ لدودٌ، وعُبيدٌ حقيرٌ لابن زياد ولآل أُميّة سلالة القرود، ومواقفه تأنف منها الطباع السقيمة فضلاً عن السليمة.

والعجب من سماحة الشيخ السماويّ _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ أن يقول:

وهو [يعني هذا العدوّ الخبيث مسعود بن عمرو] الّذي جمعالناس وخطبهم لنصرة الحسين (علیه السلام) ، فلم يتوفّق.

ويمضى في كتب المقاتل أنّه يزيد بن مسعود النهشليّ، وهذا تميميٌّ يُكنّى بأبي خالد، وليس من رؤساء الأخماس، ولعلّه مكتوبٌ إليه أيضاً.

والّذي يُستظهَر من الخطبة والكتاب إلى الحسين (علیه السلام) أنّ الّذي جمع الناس هذا، لا مسعود، ولكنّ الطبريّ وغيره من المؤرّخين لم يذكروا الثاني ((2)).

ولا ندري على أيّ شيءٍ استند سماحته ليغيّر ما صرّح به ابن نما، وهو الناقل الأوّل لرواية النهشليّ.

ونحسب أنّه لمّا بحث عن ابن مسعود النهشليّ الّذي ذكره ابن نما، فلم

ص: 135


1- إبصار العين للسماويّ: 40.
2- إبصار العين للسماويّ: 40.

يجد له أثراً في كتب التاريخ والتراجم سوى ما ذكره الشيخ ابن نما، ورأى أنّ الطبريّ وغيره رووا وصول الكتاب إلى مسعود بن عمرو، فنسب الموقف له.

ونحن رغم وثوقنا بالشيخ (رحمة الله) ، بيد أنّ هذا الاستنتاج والتنقّل بالأحداث من شخصٍ إلى شخصٍ اعتماداً على الاجتهاد والتحليل لا يكفينا في قبول النتيجة ما لم تكون مدعومةً بنصٍّ تاريخيٍّ مهما كان.

وقد ذكر الشيخ أنّ مسعود النهشليّ لم يرد له ذكرٌ عند الطبريّ وغيره،وقد صدق، غير أنّه ورد عند الشيخ ابن نما ومَن أخذ عنه.

ولكنّ الطبريّ وغيره من المؤرّخين الّذين لم يذكروا النهشليّ لم يذكروا أيضاً لمسعود بن عمرو هذا الموقف وجمْعَه بني تميم وخطبتَه، وما إلى ذلك من أحداث..

فكيف يمكن نسبة حدَثٍ رواه الشيخ ابن نما لشخصٍ بعينه وباسمه المتمايز تماماً عن غيره إلى شخصٍ لم يذكره الطبري ولا غيره، وقد تبيّن أنّه من الأعداء المنغمسين في قيعان النذالة والسفالة والحقارة والدناءة والانحطاط الأخلاقيّ؟!!

أوَ مِثل هذا تأخذه الغَيرة على وديعة الله ووديعة رسوله (صلی الله علیه و آله) ، فيجيّش له بني تميم، ثمّ يدعو له الإمام الحسين (علیه السلام) ليرويه الله يوم العطش الأكبر؟!

ص: 136

5 - قيس بن الهيثم

5 - قيس بن الهيثم ((1))

قيس بن الهيثم بن أسماء بن الصلت السلَميّ ((2))، سيّد أهل العالية، وله ذِكرٌ في حرب البصرة ((3)).

وكان رأي قيس في بني أُميّة ((4)).

وكان معتمَداً مخاطَباً عند الأُمويّين وعمّالهم وأزلامهم، فقد رُوي:

إنّ الضحّاك بن قيس كتب إلى قيس بن الهيثم حين مات يزيدبن معاوية كتاباً، جاء فيه: وإنّ يزيد بن معاوية قد مات، وأنتم إخواننا وأشقّاؤنا، فلا تسبقونا حتّى نختار لأنفسنا ((5)).

وقال عوانة:

ص: 137


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، نهاية الأرب للنويري: 20 / 389.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: 5 / 46.
3- إبصار العين للسماويّ: 40.
4- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 4 / 298، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 135، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 505.
5- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 24 / 283، مسند أحمد: 3 / 453، المستدرك للحاكم: 3 / 525، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 308، الآحاد والمثاني للضحّاك: 2 / 137، المعجم الكبير للطبرانيّ: 8 / 298، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 242، أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 350.

قدم عبد الرحمان بن زيادٍ على زيد بن معاوية من خراسان بعد قتل الحسين (علیه السلام) ، واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم ((1)).

وقال الزركليّ:

كان من الخطباء الشجعان، من أعيان البصرة في صدر الإسلام، وكان من أنصار بني أُميّة فيها، ثمّ قام بدعوة عبد الله بن الزبير، وصحب أخاه مصعباً في ثورته إلى أن قُتل، فتوجّه إلى عبد الملِك ابن مروان، فعفا عنه وأكرمه. توفّي بالبصرة ((2)).

وكان على الزبيريّة _ يوم الجفرة بالبصرة _ قيس بن الهيثم السلميّ، ويُكنّى: أبا كبير، وكان يستأجر الرجال يقاتلون معه ((3)).

وكان من العثمانيّة، حتّى أنّه قام عند حصار عثمان فخطب وحضّ الناس على نصر عثمان، فسارع الناس إلى ذلك، فاستعمل عليهم عبد الله بن عامر مجاشع بن مسعود، فسار بهم حتّى إذا نزل الناس الربذة ونزلَت مقدّمته عند صرار ناحيةٍ من المدينة أتاهم قتل عثمان ((4)).وكان والياً للأُمويّين، إذ بعثه معاوية حين استقامت له الأُمور إلى

ص: 138


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 34 / 343، تاريخ الطبريّ: 4 / 234.
2- الأعلام للزركليّ: 5 / 209.
3- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 464 و468، تاريخ الطبريّ: 5 / 3، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 307.
4- تاريخ الطبريّ: 3 / 402.

خراسان ((1)).

دَمِنٌ متدلٍّ في أُصول أذناب الأُمويّين، وعفِنٌ يخترق خياشيم الزمان، ونخامةٌ عثمانيّةٌ انتشرت في البصرة.. هكذا هو قيس هذا، والأوساخ الأُخرى الّذين سبقوه بالذكر.

6 - عمرو بن عُبيد الله بن مَعمَر

6 - عمرو بن عُبيد الله بن مَعمَر ((2))

عبد الله بن عُبيد الله بن مَعمَر _ بوزن مَقعَد _ التَّيميّ، تيم قريش، وهذا كان في البصرة، وله شرف ((3)).

قام بأمر أهل البصرة عمر بن عُبيد الله بن معمر التَّيميّ، ولّاه عبد الله ابن الزبير ذلك، ولقيه كتابه بالإمارة وهو يريد الحجّ وقد صار إلى بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة ((4)).

وولّاه مصعب.. ولّاه فارس، والخوارج بأرّجان يومئذٍ، وعليهم الزبير بن عليّ السليطي، فشخص إليهم فقاتلهم، وألحّ عليهم حتّى أخرجهم منها فألحقهم بأصبهان، فلمّا بلغ المهلب أنّ مصعباً ولّى حرب الخوارج عمر بن

ص: 139


1- تاريخ الطبريّ: 4 / 131.
2- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
3- إبصار العين للسماويّ: 40.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 141.

عُبيد الله، قال: رماهم بفارس العرب وفتاها ((1)).

هذا القذَر من ذاك الوضَر، وهذا الدنَس من ذاك النجَس.. كلّهم من بؤرةٍ واحدةٍ، يسيحون في نفس المجرى، ويسرحون في نفس الغابة، ويرتكسون في وهاد فيلوق بغض أهل البيت (علیهم السلام) ..

7 - يزيد بن مسعود النَّهشليّ

7 - يزيد بن مسعود النَّهشليّ ((2))

لم يذكره أحد.. لم يذكره مؤرّخٌ قبل الشيخ ابن نما.. لم يذكره مترجِمٌ ولا رجاليّ.. لم يذكره أحدٌ سوى مَن نقل بالحرف عن الشيخ ابن نما، من قبيل السيّد ابن طاووس، ولم ينقل الكثيرون من العلماء والمؤرّخين عن ابن نما أيضاً فيما سبق.. أجل، نقل مَن جاء بعد العلّامة المجلسيّ، وانتشر الخبر بين المتأخّرين عنهم من الكتّاب والمؤلّفين.

لم نجد لرجُلٍ مثل يزيد بن مسعود النهشليّ، صاحبِ الموقف المبجَّل العظيم المكرّم.. صاحبِ هذا الموقف الشريف.. راسمِ المشهد الأعظم في البصرة..

كيف تمكّن هذا الرجل من جمع بني تميم؟ جمعَ كلَّ تلك الرجال والأفخاذ، ثمّ وقف يخطب فيهم، ويغسل صدورهم بسحابة مُزنٍ تغسل

ص: 140


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 160.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.

عنهم الأدران السابقة المتراكمة منذ أيّام الجمل.. ثمّ لم يكن يعرفهأحدٌ أو يذكره أحد!!

أيكون رجُلٌ بهذه المنزلة.. بهذه القدرة.. وهو ليس شيخاً مبرَّزاً من شيوخ البصرة؟

أيقدر رجلٌ أن يجمع كلّ أُولئك ويؤثّر على قلوبهم، وهو ليس من أبرز الشرفاء والوجهاء؟

أينساق رجال العشائر، وتلتمع السيوف وتبرق وتومض في الأجواء، وترتفع الصرخات، وتبتهج الأرواح، وتتوهّج الأحاسيس، وتشتعل المشاعر، وتستجيب العواطف، وتجود القبائل بأرواحها وعوائلها وحياتها وتخاطر بدنياها، لرجلٍ غير معروف؟

لو كان رجلاً متزعّماً على عددٍ محدودٍ من الرجال، قد لا يتجاوز عددهم العشرات، بل العشرة، لَعرفه التاريخ ونوّه باسمه وانتمائه وامتداداته الاجتماعيّة..

كيف بمن جمع كلّ هذا الجمع من الأفخاذ والتشعُّبات؟!

ربّما كان هذا هو السبب الّذي دعا الشيخ السماويّ _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ أن يعقد الخبر وأحداثه الجسيمة بناصية مسعود بن عمرو اللعين، لِما له مِن وجاهةٍ عند قومه وفي بلده ومصره.

* * * * *

أجل، روى أبو الفرج في (الأغاني)، قال في ترجمة الفرزدق في خبرٍ

ص: 141

طويل:

وقال يهجو زيد بن مسعود الفقيميّ والأشهب بن رميلة بأبيات، منها قوله:

تمنّى ابنُ مسعودٍ

لقائي سفاهةً

لقد قال ميناً يوم ذاك

ومُنكَرا

غناءٌ قليلٌ عن فقيمٍ

ونهشلٍ

مقام هجينٍ ساعةً ثمّ

أدبرا

يعني الأشهب بن رميلة، وكان الأشهب خطب إلى بني فقيم فردّوه، وقالوا له: اهجُ الفرزدق حتّى نزوجك. فرجز به الأشهب، فقال:

يا

عجباً هل يركب القَينُ الفرس

وعرق القين على الخيل

نجس؟

وإنّما سلاحه إذا جلس

الكلبتان والعلاة

والقبس

فلمّا بلغ الفرزدقَ قولُه هجاه، فأرفث له، وألحّ الفرزدق على النهشليّين بالهجاء، فشكوه إلى زياد، وكان يزيد بن مسعود ذا منزلةٍ عند زياد، فطلبه زياد فهرب، فأتى بكر بن وائل فأجاروه، فقال الفرزدق يمدحهم بأبيات: ... ((1)).

ولا ندري إن كان هو (يزيد) أو (زيد) المذكور آنفاً، ولا ندري إن كان هو يزيد صاحبنا هذا أو غيره، فإن كان هو فهو ممّن كان ذا منزلةٍ عند ابن زياد!ولا طريق لنا للتأكّد من ذلك والبتّ به، إذ أنّه ورد في كتاب

ص: 142


1- الأغاني لأبي الفرَج: 21 / 250.

(الأغاني) فقط، ولم يرد في كتابٍ آخَر حسب فحصنا.

* * * * *

وقال البلاذريّ:

وذكر بعضهم أنّ خالد بن مالك وفد والقعقاع بن معبد إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ولِّ هذا صدقات قومه. وقال عمر: ولِّ هذا صدقات قومه. فأنزل الله (تعالى): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ((1)).

وكانت ليلى بنت مسعود بن خالد عند عليّ بن أبي طالب، فولدَت له: عُبيد الله، وأبا بكر ...

وسعد بن خالد بن مالك: نزل الكوفة، وقد انقرض وُلده.

ويزيد بن مسعود بن خالد: كان سيّداً بالبادية، ولم يُهاجِر إلى البصرة، وكان يُكنّى أبا خالد وأبا جيداء جميعاً، وفيه يقول سحيم ابن وثيل:

ومن

آل مسعودٍ على الباب مدره

إلى

القوم قالوا: يا يزيد بن خالدِ

وله عقبٌ بالبادية.ويستمرّ البلاذري في ذِكر أولاد خالد وأحفاده وأخبارهم ((2)).

ص: 143


1- سورة الحُجُرات: 1.
2- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 12 / 124.

فإنْ كان هذا يزيد بن مسعود موضع البحث هو نفسُه المشار إليه في نصّ البلاذريّ، فسيكون له علاقةٌ وثيقةٌ جدّاً بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّه أخو ليلى النهشليّة زوج أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ويكون من أفراد عائلةٍ معروفةٍ لها امتداداتها المذكورة في التاريخ حسب متن البلاذريّ.

وربّما يكون هذا النصّ شاهداً قويّاً على التعريف به، بَيد أنّنا لا نستطيع الجزم بذلك، سيّما إذا لحظنا قول ابن حزمٍ في (الجمهرة):

ولد نهشل بن دارم ... منهم: خالد بن مالك بن ربعيّ بن سلمى ابن جندل بن نهشل بن دارم، كان سيّداً، وابن ابنه عبّاد بن مسعود بن خالد، كان سيّداً، وأُخته ليلى بنت مسعود، كانت تحت عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، فولدت له أبا بكرٍ وعُبيد الله ... ((1)).

ولمن جزم أن يرتّب الآثار عليه.

وسيأتي تمام الكلام في التعريف بيزيد بن مسعود بعد قليل.

التلويح الخامس: أعداءٌ بالإجماع

تبيّن لنا _ كما هو المتّفَق عليه _ أنّ الّذين خاطبهم الإمام الحسين (علیه السلام) في هذه الرسالة _ من خلال العناوين العامّة، ومن خلال العناوين الخاصّة، والأسماء بأعيانها _ كلُّهم أعداءٌ حاقدون، ولو كان فيهم مَن له

ص: 144


1- جمهرة أنساب العرب لابن حزم: 1 / 11، 188، 206، 216، 217، 229، 230.

موقفٌ أو كلمةٌ فيها شوب نصرةٍ لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإنّهم في مواقفهم وردودهم على سيّد الشهداء (علیه السلام) اندمجوا في الضلال والشقاء، والأُمور بخواتيمها.

عدا ما يُقال في موقف يزيد بن مسعود النهشليّ، ونحن لا طريق لنا لمعرفة سوابق الرجل ولا عقيدته سوى ما ذكره الشيخ ابن نما (رحمة الله) .

وسواءً كان المخاطَب هم الأعيان بذواتهم، أو باعتبارهم رؤوساً لمن تحت إمرتهم من أشياعهم وأتباعهم وغوغائهم ممّن يصدق عليه العناوين العامّة، وهم من أهل البصرة، فإنّ الجميع كلّهم كانوا أعداءً لآل أبي طالب وأولاد أمير المؤمنين (علیهم السلام) ، ولشخص أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، بشهادة الحديث الّذي ذكرناه في أكثر من موضع الّذي يشهد أنّ البصرة لم تبكِ مَن بكته السماوات والأرضون ومَن فيهنّ ومَن بينهنّ وما يُرى وما لا يُرى مِن خلْق ربِّنا.

والنزر القليل الّذي يُعدّ عماد البلد وببركته يُبقي الله على أهله من شيعة الحسين (علیه السلام) المخلصين الأوفياء الأبرار، فإنّهم شاذٌّ نادر، دليلٌ على القاعدة الكلّيّة الجارية فيهم.

وهؤلاء ليسوا من المشركين ضمن الضوابط الجارية، ولا من الكفّاروفق القوانين السارية، وإنّما هم في دركٍ أسفل من ذاك، إذ أنّهم بارزوا الله بالعداوة والبغضاء والحرب المباشرة، من خلال عدواتهم لوليّ الله الأعظم حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) الإمام الحسين (علیه السلام) ، الّذي فرض الله طاعته

ص: 145

على العالَمين وجعل طاعته طاعته ومعصيته معصيته..

ولهذا العنوان خاصّةً ميزةٌ فاصلة، وإشعارٌ عميق، ودلالةٌ ذات مغزى بعيد.. فهم أعداؤه، يُبغِضون الله في ذات الحسين (علیه السلام) .. حالهم حال عسلان الفلوات الّتي تتربّص به لتملأ منه أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً.

ص: 146

مواقف القوم في مقام الردّ

اشارة

يمكن تقسيم المواقف الواردة في النصوص التاريخيّة إلى مستويَين:

المستوى الأوّل: الإجماليّ

إتّفقوا قولاً واحداً على أنّ كلّ مَن قرأ الكتاب كتمه، إلّا المنذر، فإنّه خاس بالأمانة وغدر بالرسول، فأخبر به ابنَ زياد ((1)).

يبدو أنّ هذا المقدار من تعبير المؤرّخ لا يريد به التعبير عن موقف المخاطَب من الكتاب ليستكشف منه ردّة فعله ومدى استجابته للإمام (علیه السلام) ولما في الكتاب من خطاب، وإنّما هو بيانٌ لموقفٍ آخَر لا يتعلّق بالاستجابة وترتيب اللازم على ما في الكتاب.

ص: 147


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.

فهم إنّما أرادوا بيان مواقف المخاطَبين مع الرسول نفسه، وأنّهم جميعاً لم يغدروا به ولم يشوا بأمره إلى السلطان وكتموا أمره، عدا المنذر.وعلى هذا، لا يمكن استكشاف موقفٍ لهؤلاء القوم من هذه العبارة من كلام المؤرّخ، وأن يكتموا أمر الكتاب والرسول فهو السلوك السويّ الطبيعيّ المتوقَّع من كلّ عاقلٍ وكلّ ذي شيمة، مهما كان دِينه وانتماؤه ما دام بشراً.. والذي شذّ عن ذلك إنّما هو واحد، فأراد المؤرّخ عزله ونسبة الخيانة له دون غيره من المخاطَبين، فاضطرّ لذِكر مواقف الآخَرين في تعاملهم مع الرسول، لئلّا يتحمّل الآخَرون غبّ ما عمله هذا الجرذ الواطي.

وعليه، تبقى المواقف هنا مسكوتاً عنها، وغاية ما يمكن استنتاجه أنّهم لم يجيبوا الإمام (علیه السلام) ولم يردّوا عليه جواباً، إلّا من نصّ عليه الشيخ ابن نما (رحمة الله) ، كما سنسمع بعد قليل.

المستوى الثاني: الشخصيّ

اشارة

صرّحَت بعض النصوص بمواقف خاصّةٍ لأشخاصٍ بأعيانهم، كما سيأتي في المواقف التالية:

الموقف الأوّل: المنذر بن الجارود

أشرنا إلى خيانة هذا المسخ المشوَّه والكلب الممطور في أكثر من موضع، ولا نريد الدخول هنا في تفصيلات ذلك، ونكتفي بالإشارة إلى

ص: 148

مؤدّى موقفه الرذل النذل الخسيس الحقير.. فهو قد خان خياناتٍمتعدّدة:

خان الرسول ودفعه إلى عبيد القرود..

خان الكتاب وقرأه على عبيد القرود ((1))..

خان الإمام الحسين (علیه السلام) بكشف كتابه ورسوله..

وخان.. وخان..

لقد كان في دفعه رسولَ الحسين (علیه السلام) إلى عدوّه البطّاش وتسليمِه باليد إلى شفرة الجزّار ردّاً على سيّد الشهداء (علیه السلام) أيضاً..

كانت فعلته البغيضة الفظيعة المُخجِلة المعيبة المنكَرة خيانةً للرسول، وخيانةً للأعراف والقيَم، وهي في نفس الوقت خيانةٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وردّاً وقحاً سليطاً صفيقاً فاجراً فاحشاً على ما ورد في الكتاب وعلى شخص الإمام (علیه السلام) ..

فهو بدفعه الرسول إلى عدوّ الإمام قد أعلن عن موقفه مع الإمام (علیه السلام) ، وأصحر عن انتمائه، وكشف عن موقعه في الاصطفاف مع الطاغي العاتي الظلوم الغشوم، وردّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وإذ أبى أن يتمسّك بالعروة الوثقى

ص: 149


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

ولو على مستوى كتم أمر الرسول، فكيف بموقفه من الدعوة الّتي في الكتاب؟!لقد شرك ابنَ زيادٍ في دم الرسول، وكان هو السبب الأوّل والرئيس والأصليّ لقتله.. إنّه القاتل الأوّل لرسول الحسين (علیه السلام) ..

وهذا هو الجواب الّذي ردّ به اللعين على كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) .. إنّه قتل رسوله!

اللّهمّ العَنْ قتَلَة الأنبياءِ وذراري الأنبياءِ وأتباعِ الأنبياءِ بالحقّ، والعَنْ مَن سلّطَهم على رقاب الناس!

الموقف الثاني: موقف الأحنف

اشارة

أدرجَت المصادر جميعُها موقف الأحنف ضمن مواقف الآخَرين، فاقتصرَت على ذِكر موقفه من الرسول والكتاب وأنّه كان ممّن كتمه.

وانفرد الشيخ ابن نما بتسجيل موقفٍ له عبّر عنه من خلال كتابٍ جوابيٍّ كتبه إلى الإمام (علیه السلام) ، سنتناول مضمونه من خلال الوكزات التالية:

قال الشيخ ابن نما (رحمة الله) :

وأمّا الأحنف، فإنّه كتب إلى الحسين (علیه السلام) : أمّا بعد، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ ((1)) ((2)).

ص: 150


1- سورة الروم: 60.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.
الوكزة الأُولى: الأحنف

الأحنف بن قيس.. هو القائل بعد أن دعاه الإمام أبو عبد الله الحسينإلى نصرته ولم يُجِبه: قد جرّبنا آل أبي الحسن، فلم نجد عندهم إيالةً للمُلك ولا جمعاً للمال ولا مكيدةً للحرب.

الأحنف بن قيس.. هو الذي ساعد مصعب بن الزبير على قتل المختار ((1))، وكان على خمس تميم في قتل المختار ((2)).

وهو القائل يوم صفين _ وهو مع عليّ (علیه السلام) _ : هلك العرب ((3)).

وفي هذا مؤشِّرٌ على ضعف اعتقاد الأحنف بأمير المؤمنين (علیه السلام) والحسنين (علیهما السلام) ، إذ لو كان له اعتقادٌ راسخٌ بهم (علیهم السلام) لَكان سلماً لمن سالمهم وحرباً لمن حاربهم، ولما همّه بعد ذلك هلكت العرب في حقٍّ أو بقيَت..

ومن المواقف الدالّة على عدم رسوخ اعتقاده بأمير المؤمنين (علیه السلام) ، بل الدالّة على تردُّده وضعف يقينه ووهن موقفه في وجوب نصرة أهل الحقّ وخذلان أهل الباطل، أنّه حينما قُرئت رسالة معاوية على أهل البصرة لتحريضهم على أمير المؤمنين (علیه السلام) تحت شعار الأخذ بثأر عثمان، فإنّ الأحنف قال: أمّا أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جَمل. واعتزل أمرهم ((4)).

ص: 151


1- تاريخ الطبريّ: 6 / 95، قاموس الرجال: 1 / 691.
2- قاموس الرجال: 1 / 691.
3- وقعة صفّين: 387.
4- الغارات: 263, وانظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 32 _ 33.

يقولون: إنّ الأحنف كان معروفاً بالحِلم! ((1)) فلْننظر مدى صدق هذا الزعم حين نسمع ردّه على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .

الوكزة الثانية: انفراده بالجواب

سمعنا _ فيما مضى _ أخبار المخاطَبين، وعرفنا أنّ المؤرّخ لم يروِ لأحدٍ منهم ردّاً على سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، خلا المنذر الّذي عرفنا موقفه وردّه العمَليّ على كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكأنّ ردّ الجميع كان هو الصمت والسكوت، وكأنّ شيئاً لم يحدث!

غير أنّ الشيخ ابن نما روى لنا موقفاً للأحنف، وهنا أيضاً فقط للأحنف من بين الآخَرين، إذ أنّ ما يرويه من سلوك المنذر هو كغيره لا يصرّح بشيءٍ سوى دفعه الرسول إلى ابن زياد، ومن سلوكه هذا يُعرف ردّه وموقفه.

وما يرويه أيضاً من مشهدٍ يرسم موقف يزيد بن مسعود النهشليّ، فهو قد تفرّد به أيضاً.

الوكزة الثالثة: كتب إلى الحسين (علیه السلام)

لا ندري إنْ كان النصّ الّذي يرويه الشيخ ابن نما هو النصّ الكامل للكتاب، أم أنّه قد اختصر أو نقل بالمعنى، ولا طريق لنا لمعرفة ذلك، إذ لا

ص: 152


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 24 / 316 وما بعدها.

راوي غيره للخبر.

لذا سنتعامل مع هذا النصّ كمتنٍ كامل، وحينئذٍ نرى فيه بؤراً سوداءقاتمةً تقبّح حِلمه المزعوم وعقله المدّعى فيه ((1))..

إنّه لم يبدأ الكتاب بالبسملة ولا الحمد ولا الصلاة على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

لم يبدأ الكتاب بمخاطبة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ولو باسمه، على غير العادة في المراسلات حين يبدأ الكاتب بذكر مصدر الكتاب والمخاطَب فيه.

وسنتابع مقزّزاته ومقرّفاته فيما يلي.

الوكزة الرابعة: أجواء الآية الكريمة

إذا قرأنا الآية الكريمة ضمن سياقها في سورة الروم، وهي الآية الأخيرة في السورة، فإنّنا نشعر أنّ جوّاً خاصّاً يظلّل الآية الكريمة، إذ أنّها تختم مشهداً مفعماً بالتأييد والتسديد والمواساة للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وتبني أُسساً منيعةً قويّةً راسخة لتثبيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمّد (صلی الله علیه و آله) على أذى هؤلاء الكفّار وإصرارهم على كفرهم، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ بالعذاب والتنكيل لأعدائك، والنصرِ والتأييد لك ولدينك، ﴿ولَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾، أي: لا يستفزّنك ﴿الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ بالبعث والحساب، فهم ضالّون شاكّون.

ص: 153


1- أُنظر: تهذيب الكمال للمزّيّ: 2 / 285، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 24 / 316.

وقيل: ﴿لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾، أي: لا يحملنّك هؤلاء على الخفّة والعجَلة لشدّة الغضب عليهم لكفرهم بآياتنا، فتفعل خلاف ماأُمرتَ به من الصبر والرفق ((1)).

وقال الفيض في (الصافي):

﴿فَاصْبِرْ﴾ على أذاهم، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ﴾ بنصرتك وإظهار دِينك على الدين كلِّه ﴿حَقٌّ﴾ لابدّ مِن إنجازه، ﴿وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾: ولا يحملنّك على الخفّة والقلَق بتكذيبهم وإيذائهم، فإنّهم شاكّون ضالّون، لا يستبدع منهم ذلك.

والقمّيّ ((2)): أي: لا يغضبنّك ((3)).

والسورة تبدأ بوعد النصر:

﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ ((4)).

ص: 154


1- أُنظر: مجمع البيان للطبرسيّ: 8 / 402 تفسير سورة الروم.
2- أُنظر: تفسير القمّيّ: 2 / 160.
3- تفسير الصافي للكاشانيّ: 5 / 511 سورة الروم.
4- سورة الروم: 2 _ 7.

وتختم بوعد الله بالنصر أيضاً، ليتّصل أوّلها بختامها.

فجوّ الآية هو التثبيت للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ودعوةٌ له ليصبر على أذى الّذين لا يوقنون، وتلمس قلب النبيّ (صلی الله علیه و آله) بوعد الله الّذي لا يخلف الميعاد.

الوكزة الخامسة: دلالات توظيف الآية
اشارة

عرفنا قبل قليلٍ الأحنف.. ومعرفتُه ضروريةٌ لمعرفة دلالات كلامه وتوظيفه لهذه الآية الكريمة في كتابه لأعلم الخلق بكتاب الله بعد مَن استثناهم الله.

يمكن أن نفهم توظيفه للآية من خلال الدلالات التالية:

الدلالة الأُولى: من خلال الأجواء

إذا افترضنا في الأحنف أنّه إنّما وظّف الآية الكريمة في كتابه باعتباره يعرف أجواءَها ومداليلها من خلال السياق الّذي وردَت فيه، وحملناه على محملٍ حسن، رغم سيرته ومواقفه وما سمعنا عنه في ترجمته، فحينئذٍ يمكن أن يُقال:

إنّه دعا الإمام (علیه السلام) بدعوة الله لنبيّه إزاء الكفّار والمشكّكين والضالّين وغيرهم، وحكمَ على أعداء الإمام (علیه السلام) والّذين أزعجوه وآذوه ولاحقوه بأنّهم لا يوقنون، وأنّ الله وعده النصر كما وعد جدّه، فليصبر حتّى يحكم الله بحكمه وهو خير الحاكمين.

بَيد أنّ هذه الدلالة بعيدةٌ تمام البُعد عن الأحنف وشخصيّته وطريقته

ص: 155

في معالجة الأُمور وتقديره وتقديسه للإمام (علیه السلام) ، ويبقى في مقام إساءة الأدب، كما سنسمع بعد قليلٍ في الدلالة الثانية.

الدلالة الثانية: توظيف الآية مقطوعةً عن الأجواء
اشارة

سياق الكتاب يفيد بوضوحٍ أنّ الأحنف استعمل مفردات الآية الكريمة وتركيباتها كأنّها جملةٌ وعبارةٌ تعبّر عن مراده، بغضّ النظر عن كونها آيةً من كلام الله خاطَب بها الله نبيّه، بل كأنّها كلماته يخاطب بها سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنْ كانت من القرآن، فهو قد جعلها من كلامه مستعيراً ذلك من كتاب الله.

وهنا تختلف الدلالات اختلافاً تامّاً، وتفاجِئ المتابع بطغيانٍ وغطرسةٍ غير ملفوفةٍ ولا مغلّفة، ووقاحةٍ فجّةٍ صفيقة، وخشونةٍ عسيرة، وفظاظةٍ غليظة.. كما سنرى في المفاجآت التالية:

المفاجأة الأُولى: الحسم بكلمة

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ الأحنف لم يبدأ رسالته بمقدّماتٍ معهودةٍ في المكاتبات، ولم يذكر حتّى اسم المخاطب في الكتاب..

ثمّ إنّه يحسم الموقف في كتابه بقوله: أمّا بعد.. ثم يبدأ بالآية كبيانٍ قطعيٍّ للموقف، من دون أيّ توطئةٍ أو تمهيدٍ يمكن أن تفيد محاولة الإقناع أو السعي في تبيين الرأي والكشف عن الحقيقة الّتي يريد إرسالها، وإنّما يبتّ بتّاً جازماً لا يدع للمخاطب سوى فرض الطاعة والقبول..

ص: 156

وهذا الأُسلوب الوقح الفظّ ينمّ عن طغيانٍ وتجبُّرٍ واعتدادٍ بائسٍ حقيرٍ بالذات المدنَّسة بالغرور والتكبّر.

المفاجأة الثانية: خطاب العالي إلى الداني

في الآية أمرٌ ونهيٌ بصيغتيهما الصريحتين.. ﴿فَاصْبِرْ﴾ و﴿لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾.. كأنّه يريد أن يجعل نفسه في مقام الربوبيّة ويُخاطِب الإمام (علیه السلام) ..

فهو لا يكلّم الإمام (علیه السلام) باعتباره سيّد شباب أهل الجنّة وأحدَ أصحاب الكساء وسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته..

ولا باعتباره كبير آل أبي طالب، الأُسرة الكريمة الّتي سادت البشر جاهليّةً وإسلاماً..

ولا باعتباره أعظم الوجوه الّتي كانت يومذاك، وأشرف الناس نسَباً، وأبذخهم جاهاً، وأطهرهم شخصاً، وأعلمهم علماً..

فضلاً عن كونه الإمام المفترض الطاعة من الله، وعلى الخلق أن يطيعوه، وله عليهم الولاية الّتي جعلها الله له يوم الغدير..

إنّه ينصب من نفسه جهةً عُليا، على الإمام (علیه السلام) أن يسمع له ويطيع، ولا مجال للمناقشة والمراجعة.. نستجير بالله ونستغفره ونعوذ به!

المفاجأة الثالثة: وَعْد الله!

حينما نقرأ الآية باعتبارها كلماتٍ وظّفها الأحنف وقصد من مفرداتها

ص: 157

وتركيبها ما يريد التنويه به، فحينئذٍ يتشكّل معنىً ينتظم في مراداتٍ مثل هذه المخلوقات، وتنسجم مع طريقتهم في التفكير، وطبيعتهم فيالتوجيه والتسويغ والتبرير والتعبير، وتدخل في مسارب ذواتهم ونفسيّاتهم..

وعدُ الله عند مِثل الأحنف الّذي يأمر بالصبر وينهى عن الاستجابة للاستخفاف، لا يمكن أن يكون بحالٍ هو وعد الله بنصر الدين وظهوره على الدين كلّه، ولا يمكن أن يكون بحالٍ هو وعد الله بنصر الإمام الحسين سليل النبيّ (صلی الله علیه و آله) بالنصر على الضلال والكفر والشرك والنفاق كما وعد الله نبيَّه في الآية..

ولابدّ أن يكون وعد الله في تصوير الأحنف وأمثاله هو ما يناسب تركيبتهم وكوامنهم وخوفهم من استشاطة السلطان وأنّ السلطان وعد الله يؤتيه من يشاء، فلا يستساغ الاستجابة لمن لا يوقن، لأنّ هذه الاستجابة خروجٌ عن وعد الله، والخروج على وعد الله عاقبته الهلاك الّذي لابدّ منه.

المفاجأة الرابعة: إنّ وعد الله حقّ!

قارن الأحنف هنا بين أمرين:

أحدهما: وعد الله الحقّ.

والآخَر: وعد الّذين لا يوقنون.

إصبر.. ولا يستخفنّك الّذين لا يوقنون.. إنّما يستخفّنّه هؤلاء بما يعدونه من النصرة..

ص: 158

فإذا كان وعد الله حقّاً، فلابدّ أن يكون مقابله وعد الغوغاء الّذين لا يوقنون باطلاً.. اصبر لوعد الله، ولا يستدرجنّك الوعد الباطل..يأمر الإمام (علیه السلام) _ يا لله _ أن يلزم الحقّ ولا يستخفّه الباطل!!!

ألا لعنة الله على الظالمين.

المفاجأة الخامسة: ولا يستخفّنّك!

الاستخفاف: الحمل على الخفّة والجهل.. الإزالة عن الحلم.. الاستهانة.. الاستحقار.. الاستفزاز..

لا يستخفّنّك: أي لا يستجهلنّك.. لا يستفزنّك..

إستخفّ بدِينه: إذا أهانه ولم يعبأ به ولم يعظّم شعائره.. والاستخفاف بالشيء: الإهانة به..

استخفّه عن رأيه واستفزّه عن رأيه: إذا حمله على الجهل وأزاله عمّا كان عليه من الصواب ((1)).

هذا هو معنى الاستخفاف في اللغة..

يُخاطِب الإمامَ (علیه السلام) فيقول: لا يحملك هؤلاء الّذين لا يوقنون على الخفّة!! والجهل!! لا يزيلونك عن الحلم.. لا يستجهلونك.. لا يستهينونك.. لا تستجِبْ لهم؛ لئلّا تؤدّي الاستجابة إلى الإهانة بك.. لا

ص: 159


1- أُنظر: لسان العرب لابن منظور، ومجمع البحرين للطُّريحيّ: خَفَفَ، وانظر أيضاً: مجمع البيان: 8 / 73.

يستحقرونك..

لا يستفزّونك؛ فيحملونك على الجهل، ويزيلونك عمّا أنت عليه منالصواب.. لا يخرجونك من الحقّ الّذي وعده الله إلى الخطأ والباطل الّذي يدعونك له..

إنّا لله وإنّا إليه راجعون! نستجير بالله ونستغفره ونتوب إليه.

المفاجأة السادسة: مَن الّذي يَستخفّ!

سواءً أكان المقصود من الّذين ﴿لَا يُوقِنُونَ﴾ هو ما ورد في كتاب الله العزيز، أو المقصود هو المعنى اللغويّ من الكلمة، بمعنى الفاقد لليقين، سواءً بالإيمان والإسلام والتوحيد والنبوّة والمعاد، أو فاقد اليقين بالموقف وبما يقدِمُ عليه سلوكيّاً وعقائديّاً واجتماعيّاً وغيرها..

سواءً أقصد النهي عن الاستخفاف للكفّار والمشركين والشكّاك، أَم قصد الاستخفاف للّذين لا يوقنون بموقفهم ويشكّكون فيه ويتردّدون، وسرعان ما يخذلون وعلى أعقابهم ينقلبون، فلا يمكن الاعتماد عليه في شيءٍ ولا الركون إليه في المواجهة..

المهم أنّهم لا يوقنون.. يا لَلتعاسة والنحَس.. أنْ يحذّر الأحنف سيّدَ الخلق من الانسياق والاستخفاف لمثل هؤلاء!!!

لا ينهى عن الاستخفاف لقومٍ يمكن أن يستخفّ لهم العاقل اللبيب، ويشكّلون ثقلاً دينيّاً أو اجتماعيّاً، أو يعدّون في الوجوه والأشراف

ص: 160

والشخصيّات والقامات في الصعيد الديني أو السُّلّم الاجتماعيّ.. النهي عن الانسياق لقومٍ لا يوقنون، ولا يفقهون، ولا يعون، ولا يُحسَبون إلّا فيالغوغاء والسفَلة والمذبذَبين..

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم..

نستغفر الله ونتوب إليه من الانسياق مع هذا الكلام البائس التعيس المنحوس المنكود الوقح السليط الصفيق، الّذي يفتقر إلى ذرّةٍ من الحياء، ونعتذر إلى سيّد شباب أهل الجنّة وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإلى جميع الأولياء والمحبّين، غير أنّها ضرورة البحث.

المفاجأة السابعة: الافتراء على سيّد الشهداء (علیه السلام)

إفترض الأحنف _ زوراً وبهتاناً وعتوّاً وطغياناً _ أنّ خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) قد استخفّه الّذين لا يوقنون، وغرّه الّذين لا يعقلون، وهم في غيّهم يتردّدون.. ونصب من نفسه عَلَماً حكيماً عارفاً حاذقاً لبيباً، يمكنه أن يحدّد الموقف ويعيّن التكليف، ويكشف عوار المستخفّين ويستشرف المستقبل، فيأمر الإمامَ أن يصبر ولا ينساق معهم!

ولا ندري على أيّ شيءٍ ارتكن الأحنف ليخرج بهذا التقييم المأفوك المائن الأرعن الأخبل الغبيّ؟!!

كيف استطال وتمرّد حتّى افترض في إمام الحِكمة والعلم ومعدن الصبر والحلم هذا الفرض البارد المهين المطموس المأفون الأهبل؟!!

ص: 161

ومَن قال وزعم أنّ الإمام (علیه السلام) تأثّر بما كتبه القوم واستدعوه؟!!

إنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن فعله ردّ فعلٍ لمن كاتبه البتّة! وإنّما كان ملاحَقاًمطارَداً هو وأهله وأنصاره، فقصد العراق على علمٍ واضحٍ بيّن، قاصداً القليلَ الديّان الّذي وعده النصرة وثبت..

أمّا الغوغاء والمنافقون ومَن كتب من الخاذلين والخائنين والمتقلّبين، فلم يكن لهم وزن، ولم يعتدّ لهم الإمام (علیه السلام) ، وهو أعرف الخلق بهم.

المفاجأة الثامنة: الكلام مبنيٌّ على ما اعتمده السلطان

عزم السلطان من اليوم الأوّل على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وطلب رأسه في المدينة المنوّرة، وأمر بقتله في مكّة ولو اغتيالاً..

ومنذ تلك اللحظة جعل يسوّغ فعلته، ويبرّر عمله بالنزاع على السلطة، ويزعم أنّه في موقف الدفاع عن المُلك الّذي لا ينازع فيه أحدٌ إلّا أخذ الّذي فيه العينان.

فالأحنف هنا يفترض أنّ الإمام (علیه السلام) ينوي منازعة السلطان والخروج عليه بالمعنى المصطلَح، وأنّه قد استخفّه الّذين لا يوقنون، فأمره بالصبر، والله يؤتي مُلكه مَن يشاء!

أمّا إذا قرأنا المشهد ضمن النظرة الجديدة الّتي عبّر عنها سيّد الشهداء (علیه السلام) في جميع مواطنه ومواقفه، فإنّه مهدَّدٌ مطلوبُ الرأس مهدورُ الدم المقدّس، وإن كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فما معنى الصبر حينئذ؟

ص: 162

قد يُستحسن الصبر ويُبتغى الحِلم والمداراة ما دام في الأمر مخرج، ولو مِثل سمّ الخياط وما دام ثمّة طريقٌ للهواء، أمّا وقد استحكم الطوق وحُوصرالإمام (علیه السلام) من كلّ جانبٍ ومكان، وأطبقَت عليه الأرضُ والسماء جُنداً متكاثفاً يلاحقونه حيثما توجّه وفي أيّ «جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض دخل»، فما معنى الصبر واستعمال المداراة وقد بلغ الأمر الدم؟ هل ثمّة سبيلٌ سوى الدفاع؟!

المفاجأة التاسعة: الأحنف من الّذين لا يوقنون

لو كان الأحنف ممّن يوقن بالله واليوم الآخِر، ويوقن بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) وما ثبت عنه من سيرته وقوله، وممّن يوقن بالمعاد والآخِرة، ويوقن بالإمام ووجوب طاعته، ويوقن بقوله (تعالى): ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ ((1))، وقولِه (تعالى): ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ((2))، ويوقن بقوله (تعالى): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ ((3))، وبقوله (تعالى): ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي

ص: 163


1- سورة النساء: 59.
2- سورة المائدة: 55.
3- سورة الأحزاب: 33.

الْقُرْبَى﴾ ((1))، وغيرها من آيات الكتاب الحكيم الكثيرة الّتي اتّفقوا على صدقها بالقطع واليقين على سيّد الشهداء (علیه السلام) .. وما نزل في أعدائهم وفي بني أُميّة خاصّةً في كتاب الله وبيان رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما لا يقبل الشكّ والتردّد..

لو كان يوقن بما تواتر وتظافر وشاع وذاع حتّى صار في أعلى مراتباليقين من قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) في أمير المؤمنين عليٍّ (علیه السلام) ووجوب طاعته، وإمامة الإمام الحسن والحسين (علیهما السلام) ووجوب طاعتها واتّباعهما..

ولو كان يوقن بما رواه جميع فِرق المسلمين حتّى النواصب منهم من قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»، وأنّهما سبطان، وقوله: «أحبّ اللهُ مَن أحبّ حسيناً»، وغيرها من الأحاديث الّتي لا يُراجع فيها حتّى غير المسلمين فضلاً عن المسلمين..

ولو كان يوقن بما اتّفق عليه المسلمون دون مخالِفٍ _ ولا واحد منهم _ من أنّ الإمام الحسين من أصحاب الكساء (علیهم السلام) الّذي قال فيهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّهم منه وهو منهم، وأنّه سِلمٌ لمن سالموا وحربٌ لمن حاربوا..

وهكذا غيرها من النصوص القطعيّة الصدور الصريحة الدلالة..

لو كان يوقن بشيءٍ من هذا، ولو بواحدةٍ منها، ولو كان يوقن بما رواه هو نفسه في أمير المؤمنين (علیه السلام) _ كما مرّ معنا _، لَما تجرّأ وخاطب الإمام (علیه السلام) بهذا الخطاب!

ص: 164


1- سورة الشورى: 23.

فهو _ لا شكّ _ مصداقٌ بارز، بل هو أبرز مصاديق الّذين لا يوقنون، وفي غيّهم وضلالهم يتردّدون، وفي مستنقَعات الشكوك يتخبّطون، وفي قيعان الضلالة يركسون، وفي بلاقع فيافي ظلمات الطغيان والتكبّر والتجبّر يتيهون..

فإن كان استعمال الصبر _ ضرورة _ مقابل المستخفّين الّذين لايوقنون، فهو الصبر الّذي ينبغي استعماله مقابل هذا الموجود الّذي لم يعرف اليقين في عمره، ولم يدخل في زمرة الموقنين.

المفاجأة العاشرة: البحث وفق رواية الشيخ ابن نما

كلّ ما ذكرناه تحت عنوان (المفاجأة) مبنيٌّ على ما رواه الشيخ ابن نما في مقام تسجيل موقف الأحنف، وقد تفرّد في رواية ذلك، إذ لم نجد له ذِكراً عند مَن سبقه حسب الفحص.

كما أنّه مبنيٌّ على اعتماد الدلالة الثانية في الوكزة الخامسة، وهو ما يناسب شخصيّة الأحنف وموقفه من سيّد الشهداء (علیه السلام) وخذلانه له، ووقوفه المخزي المُذلّ مع ابن زياد، حتّى في الأيّام الّتي عصفَت فيها رياح التغيير على ابن زياد.

الموقف الثالث: موقف يزيد النهشليّ

اشارة

إبن نما:

وأمّا يزيد بن مسعودٍ النهشليّ، فإنّه أحضر بني تميم وبني حنظلة

ص: 165

وبني سعد، وقال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي منكم وحسَبي فيكم؟ فقالوا: [بخٍ بخ]، أنت فقرة الظهر ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسَطاً وتقدّمتَ فرطاً.

قال: قد جمعتُكم لأمرٍ أُشاوركم فيه وأستعينُ بكم عليه. قالوا: نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي.قال: إنّ معاوية هلك، فأهوِنْ به هالكاً ومفقوداً، فقد انكسر باب الجور [والإثم]، وكان قد عقد لابنه بيعةً ظنّ أنّه أحكمها، وقد قام يزيدُ شاربُ الخمور ورأس الفجور، وأنا أُقسِم بالله قسَماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والعلم والسابقة والسنّ والقرابة، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّته، وإمام قومٍ وجبَت لله به المحجّة وبلغَت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيسٍ انخذل بكم يوم الجمَل، فاغسلوها مع ابن رسول الله ونصرته، والله لا يقصّر أحدٌ عنها إلّا ورّثه الله الذلّ في وُلده والقلّةَ في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لأمتها وأدّرعت لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمت، ومن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ ردّ الجواب.

فتكلّم بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبلُ كنانتك وفرسان عشيرتك، إنْ رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض

ص: 166

واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى والله شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا إذا شئت، فقُم.

وتكلّمَت بنو سعد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياءإلينا خلافُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرنا بترك القتال، فحمدنا رأيه وبقي عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع الرأي ونُحسِن المشورة، ويأتيك خبرنا واجتماع رأينا.

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لا نرضى إن غضبتَ ولا نغضب إن رضيت، ولا نقطن إن ظعنتَ ولا نظعن إن قطنت، والأمر إليك والمعوَّل عليك، فادعُنا نُجِبك وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت.

فقال: واللهِ _ يا بني سعد _ لَئن فعلتموها، لا رفع الله عنكم السيف أبداً ولا زال سيفُكم فيكم.

ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إلينا كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له من الأخذ بحظّي من طاعتك وبنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يُخلِ الأرضَ قطُّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حُجّة الله على خَلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتم من زيتونةٍ أحمديّةٍ هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتُهم أشدَّ تهافتاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خامسها، وقد ذلّلتُ لك بني سعد وغسلتُ درن صدورها بماء

ص: 167

سحابة مُزنٍ حتّى استهلّت برقها فلمع.فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتابَ قال: «ما لَك؟ آمَنَك اللهُ يوم الخوف وأعزّك، وأرواك يوم العطش الأكبر».

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، بلغه قتله قبل أن يسير، فجزع لذلك جزعاً عظيماً لِما فاته من نصرته ... ((1)).

* * * * *

يمكن تناول هذا النصّ من خلال الإضاءات التالية:

الإضاءة الأُولى: النصّ المختار

ذكرنا فيما مضى أنّ هذا الحدث المجلجل الضخم الهائل ورد عند الشيخ ابن نما، ثمّ نقله السيّد ابن طاووس بأدنى تفاوتٍ وبعض الزيادات الطفيفة في مواضع محدودةٍ غير مؤثرةٍ في أصل الحدَث ولا تفاصيله، وإنّما هي مفرداتٌ وكلمات، لذا اخترنا متن الشيخ ابن نما باعتباره الأصل، وذكرنا الزيادات في مواضعها إن اقتضى البحث ذلك.

الإضاءة الثانية: التعريف بيزيد بن مسعود من خلال النصّ
اشارة

مرّ معنا _ في التلويح الرابع في الأسماء الواردة في المصادر ممّن خاطبه

ص: 168


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

الإمام الحسين (علیه السلام) بكتابه _ الحديثُ عن يزيد بن مسعود، وقلنا هناك: إنّنا لم نجد ليزيد ترجمةً ولا ذكراً في كتب التاريخ والتراجم سوى ما ذكره الشيخ ابن نما، بل حتّى الشيخ لم يعرّف به، ولم يذكر له موقفاً آخَر سوى ما سجّله في مقام الردّ على رسالة الإمام (علیه السلام) .

بيد أنّ النصّ الّذي رواه ابن نما يتضمّن شيئاً من التعريف به تلويحاً أو تصريحاً، كما سنلاحظ من خلال التعريفات التالية:

التعريف الأوّل: قدرته على تحشيد بني تميم وبني حنظلة وبني سعد

أفاد الشيخ ابن نما أنّ يزيد النهشليّ أحضر بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ((1)).

ولا يخفى ما في لفظ «أحضر» من إيقاعٍ وإشعارٍ مجلجلٍ يعلن عن هيمنةٍ تامّة، وقدرةٍ استثنائيّة، وتسلُّطٍ كاملٍ على القوم، فهو لم يدعُهم، ولم ينادِ فيهم، وإنّما أحضرهم.. أمرهم فحضروا..

إنّه لم يستصرخهم، ولم يتوسّل إليهم، ولم يخاطبهم خطاب الراجي، بل استحضرهم فحضروا بين يديه!

وفي ذلك دلالةٌ قويّةٌ على مدى تأثير هذا الرجل في القوم، وخضوعهم له وإذعانهم لأوامره.

ص: 169


1- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27.
التعريف الثاني: ثقته بمنزلته عند القوم

حينما جمع يزيد القوم سألهم: كيف ترون موضعي منكم وحسَبي فيكم؟

هذا السؤال من القوم على رؤوس الأشهاد ينمّ عن مدى ثقة الرجل بمقامه ومنزلته عندهم، ويشي بأمرٍ مهمٍّ غايةً في الأهمّيّة يريد أن يفصح عنه، فهو يستدرجهم في البداية ليعترفوا له بمقامه ومنزلته العظيمة عندهم، وبثقتهم المطلقة به، وباعتمادهم على قوله وسكونهم إلى رأيه وارتكانهم إلى زعامته، ثمّ يصرّح لهم بما يريد، ليجرّهم إلى القبول بما يقول بعد إقرارهم واعترافهم له بالوجاهة والشرف والسداد والنصيحة.

وقد سألهم عن موضعه منهم، وعن حسَبه فيهم.. فهو واثقٌ تمام الثقة من هاتين الجهتين، وهما الأهمّ فيما يريد منهم..

ولو كان يحتمل احتمالاً ضئيلاً أنّهم يجبهونه بالإنكار أو يتنكرون له ويعرضوا عنه، أو كان يحتمل أنّ القوم لا يعرفون له منزلةً ولا جاهاً ولا مقاماً، لَما ورّط نفسه وألقى بها في مهاوي التجهيل والتحقير والتصغير.

التعريف الثالث: منزلته عند القوم

ردّ القوم على سؤال يزيد، وأعربوا عن مدى تقديرهم وتعظيمهم له، وعن عظيم منزلته وسموّ مرتبته عندهم، فلا قوام لهم إلّا به، لأنّه فقرة الظهر، وكلّ فخرٍ فيهم فهو راشحٌ من فخره، لأنّه رأس الفخر، وهو مركز الشرف

ص: 170

وقطبه، والمتقدّم عليهم في جميع أُمورهم، وأعلنوا له ولاءَهم، وأنّهم جُنده وكنانته، بهم يصول وبهم يجول، وبهم يقاتل وبهم ينتصر، وهم رهن إشارته، يطيعونه ولا يعصون له أمراً..

- أنت فقرة الظهر.

- رأسُ الفخر.

- حللتَ في الشرف وسطاً.

- تقدّمتَ فرطاً.

- نحن نبلُ كنانتك.

- فرسانُ عشيرتك.

- إنْ رميتَ بنا أصبت.

- إنْ غزوتَ بنا فتحت.

- لا تخوض واللهِ غمرةً إلّا خضناها.

- ولا تلقى شدّةً إلّا لقيناها.

- ننصرك بأسيافنا.

- نقيك بأبداننا.

هذا هو مقامه ومنزلته عند القوم باختصار..

وهنا يرجع السؤال الّذي سقناها في التلويح الرابع: كيف يكون شخصٌمِثل هذا بهذه المنزلة في بني تميم في البصرة، ثمّ لا يذكره التاريخ ولا يعرّج عليه أرباب التراجم، ولم يرد اسمه إلّا في هذا الموقف، وعند الشيخ

ص: 171

ابن نما (رحمة الله) فقط، ولم يسجّل له التاريخ أيَّ موقفٍ قبل ذلك اليوم ولا بعده؟!!

التعريف الرابع: عقيدته

إنّما تعرف عقيدة المرء وكوامنه وما ضمّت عليه جوانحه من خلال أقواله وأفعاله وسلوكه..

وهذا هو النهشليّ يُعلن هنا في خطابه على القوم رأيه في معاوية، وأنّه أهون هالك، وبفقده انكسر باب الجور، وأعلن عن رأيه في يزيد شارب الخمور ورأس الفجور، وأقسَمَ بالله قسَماً مبروراً أنّ جهاده على الدين أفضلُ من جهاد المشركين.

كما أعرب بوضوحٍ عن عقيدته في سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه حُجّة الله المفترَض الطاعة، وأنّه الحقّ وغيره الباطل، وذكر لسيّد الشهداء (علیه السلام) مناقباً وفضائل، كما سيأتي في الحديث عن خطابه في القوم بعد قليل، إن شاء الله (تعالى).

وأعلن عن عقيدته في حرب الجَمَل، ووبّخهم على انخذالهم، وحذّرهم غبّ تقاعسهم عن أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) .

رجُلٌ يحمل هذا الاعتقاد الناصع الراسخ القويّ.. الاعتقاد الصريحالصحيح الواضح في أهمّ مفارقات القوم يومذاك.. يلزم أن يكون له موقفٌ مشهودٌ في الجمل وصفّين، أو في الجمل على الأقلّ..

ص: 172

ويلزم أن يكون من رؤوس الشيعة وجماجمهم وقاماتهم الّتي أنافت على الثريّا، والّتي تزيح الجبال الرواسي إذا عزمت..

ولو كان هذا الرجل العميد جديدَ عهدٍ في جنان الولاية، فإنّ مثله لا يخفى سابقاً ولاحقاً..

فكيف لا يكون له أيُّ ذكرٍ سابقاً ولاحقاً؟!!

التعريف الخامس: استشرافه للمستقبل وعواقب الأُمور

يفيد تحذيره لبني سعدٍ وغيرهم أنّه قد استشفّ مجريات الأحداث، وعرف عواقب الأُمور، وأدرك أنّ قتل المقدَّس الأعظم ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) سيودي بهم إلى الذلّ والهوان وابتذال الدماء، ووقوع الخلاف والشقاق والنفاق فيهم، حتّى لا ينجوا من وقوع السيف بينهم.

وهذا التحذير ينمّ عن مدى قوّة هذا الرجل في تقدير الأحداث، ومعرفة الآثار العظيمة الفتّاكة المدمّرة المترتّبة على قتل حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .

الإضاءة الثالثة: مشهد الحوار والمواقف
اشارة

بعد أن استشهد يزيدُ قومَه على نفسه واستنطقهم بالإقرار له بالفضل والمنزلة السامية والافتخار به والطاعة له، أصحر لهم عن الخير الّذي جاءهمبه، فدار بينه وبينهم كلامٌ سنأتي عليه ضمن الكلمات التالية:

ص: 173

الكلمة الأُولى: سبب جَمْعِهم

أخبرهم يزيد عن سبب جمعه وإحضاره لهم، وقد اختصره في أمرين:

الأمر الأول: جمَعَهم لأمرٍ يشاورهم فيه.

الأمر الثاني: الاستعانة بهم على هذا الأمر.

فكان ردّهم على الفور: «نمنحك النصيحة، ونجهد لك الرأي» ((1)).

أعلنوا له استعدادهم لبذل كلّ ما بوسعهم من إبداء الرأي بجُهدٍ وجدٍّ وإخلاصٍ وصدق، وأنّهم يبذلونها له ويمنحونه من دون مِنّة، بل بكلّ أريحيّةٍ وارتياح.

الكلمة الثانية: الأمر الّذي دعاهم إليه
اشارة

تطرّق النهشليّ في حديثه مع قومه إلى عدّة نقاط:

النقطة الأُولى: هلاك معاوية

قال:

إنّ معاوية هلك، فأهوِنْ به هالِكاً ومفقوداً، فقد انكسر بابُ الجور [والإثم، وتضعضعَت أركان الظلم]، وكان قد عقد لابنه بيعةً ظنّ أنّه أحكمها ((2))، [وهيهات والّذي أراد، اجتهد واللهففشل، وشاور

ص: 174


1- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.

فخذل] ((1)).

هلك معاوية، فأهوِنْ به هالكاً ومفقوداً.. وبهلاكه انكسر باب الجَور والإثم، وصار الجور عرضةً للاختراق.. وتضعضعَت أركان الظلم، وفقد الظلمُ أساساً مِن أُسسه ومؤسّسيه..

ولمّا كان النهشليّ في مقام تجييش القلوب وحشد العزائم، فقد عرّج على ما فعله معاوية من بذل غاية مجهوده في إحكام عقد بيعة قرده المدلّل يزيد، وسخّف أحلامه في ذلك، واعتبره ظنّاً خائباً واجتهاداً فاشلاً، وكلامه صائبٌ في مثل مقامه..

أمّا إذا أردنا المكث عنده هنيئةً عَجلى، فإنّا نجده مبالغةً تناسب الخطاب التحشيديّ الملتهِبَ الّذي يريد إلهاب المشاعر وتأجيج العواطف وشحذ الهمم، إذ أنّ معاوية فعل فعلته على علم، وضِمن تخطيطٍ دقيقٍ استحوذ فيه على عقول الناس الخاوية وضمائرهم الخائنة ومواقفهم الخائرة.

إنّه عقد البيعة ليزيد الخليع مستعمِلاً جميع وسائل الترهيب والترغيب، وبذل في ذلك الأموال الطائلة، وسفك فيه الدماء وحارب وقاتل، حتّى وطّد له الأمر، وجعل الرقاب خاضعةً خانعةً له، وعجز عن أخذ البيعة عن أشخاصٍ معدودين لا يتعدّى عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، وكان العَلَمُالأعظم والممتنِع الأعزّ الأمنع هو سيّد شباب أهل الجنّة الإمام

ص: 175


1- ما بين المعقوفَين من (اللهوف) للسيّد ابن طاووس: 38.

الحسين (علیه السلام) .

أمّا سائر الناس وجميع الأصقاع والبلدان، فقد تذلّلَت وركعَت، وبقيَت على وفائها للبيعة البائسة، وقد سارع الناس في بلدانهم إلى تجديد البيعة حين بلغهم خبر هلاك معاوية ((1)).

حتّى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) فإنّه لم يُجدّد موقفاً بعد هلاك معاوية، فهو قد امتنع عن البيعة ليزيد الخمور في حياة معاوية، وبعد هلاك معاوية لم يُحرّك ساكناً حتّى بعث يزيدُ بكتابه يطلب بيعته أو رأسَه في الكتاب الأوّل، ثمّ رجع عن طلب البيعة واقتصر على أن يبعث الوالي برأس ريحانة النبيّ الحسين (علیه السلام) مع جواب الكتاب الثاني ((2))، وقد أتينا على بيان ذلك مفصَّلاً في (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة) وفي غيرها من المواضع.

أجل، تضعضعت أركانُ الظلم وانكسر باب الجَور بهلاك وثنٍ من

ص: 176


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، حياة الحيوان للدميريّ: 1 / 91، تاريخ مدينة دمشق: 14 / 207، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، المحموديّ: 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 415، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 25، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 185، وانظر: الأمالي للصدوق: 152، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 312.

أوثانها، بَيد أنّ أبواب الظلم والجَور الّتي ارتكبت الجنايةَ العظمى في تاريخ البشريّة انفتحَت، فأتت على نسل النبيّ (صلی الله علیه و آله) واستأصلت شأفتهم منجديد الأرض، لولا أنّ الله يأبى إلّا أن يُتمّ نوره.

النقطة الثانية: استخلاف يزيد

قال:

وقد قام يزيدُ شاربُ الخمور ورأسُ الفجور ((1)) يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضىً منهم، مع قصر حِلمٍ وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمَيه ((2)).

سقط وثنٌ وهلك، وقام وثنٌ آخَر وانتصب، ولم تكن ثمّة فوارق بين الأوثان، إلّا في بعض التفاصيل والقدرة على استعمال ألاعيب السياسة والرعونة.. وإن اختلفوا كلّ الاختلاف، فإنّهم جميعاً اتّفقوا يداً واحدةً على قتل الرسول وآل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ومحو كلّ أثرٍ يمكن أن يذكّر بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) .

هلك معاوية، وقام يزيد..

وصف يزيدَ بصفاتٍ لم تفارقه يوماً.. فهو شارب الخمور، ورأس الفجور والخلاعة والابتذال والمجون..

وفي لفظ السيّد ابن طاووس:

ص: 177


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- اللهوف لابن طاووس: 38.

ادّعى الخلافة على المسلمين.. يتأمّر عليهم بغير رضىً منهم..لقد تأمّر على الأُمّة وهو لا يتحلّى بأدنى مؤهّلات الحاكم، فكيف يكون خليفة؟ فلا حلم، ولا علم، ولا معرفة بالحقّ بتاتاً!

ومثل هذا لا تحتمله الرجال، ولا تصبر عليه، ولا تقبل به حاكماً وسلطاناً، لو كانوا يعقلون!

وهنا أيضاً نقول: إنّ في كلامه مبالغةً تناسب المشهد الخطابيّ الّذي قام به، وإلّا فإنّ الناس عَبيدُ الدنيا، والدنيا بيد يزيد يومها، فهم عبيد مَن بيده دنياهم، وقد بايعوا وثبتوا على بيعتهم في جميع الأمصار والبلدان، سوى ما حصل في الكوفة من الأمواج المتهاودة الواهية الّتي انقلَبَت على نفسها لأوّل حصاةٍ اصطدمت بها.

لقد رأينا الأمصار والبلدان كلَّها سامدةً هامدةً ميّتةً خانعةً خاضعةً مذلَّلةً ذليلة.. جُثّةً خامدةً لم تُحرّك يداً ولا رِجلاً، ولم تنبس بكلمة، ولم يُشاهَد في سَحَرِها نَفَس، وقد قُتل وديعةُ الله ووديعة رسوله (صلی الله علیه و آله) بين ظهرانيهم وهم ينظرون، بل كانوا يتقرّبون إلى الله بدمه ويسمّونه خارجيّاً.. وهذا ما يفيد اجتهادهم في طاعة الوثن..

أمّا من يقول سوى ذلك، فعليه أن يذكر لنا الشاهد ويسوق لنا الدليل!

من أيّ شيءٍ يمكن أن نكتشف عدم رضاهم بتأمُّر يزيد، وقد اصطفّوا في صفّه بإزاء سيّد الكائنات وسيّد شباب أهل الجنّة، الّتي يزعمون أنّهم يبغونها؟

ص: 178

أمّا أن تفلت كلمةٌ من رجُلٍ في كهف هذا الوادي وكلمةٌ من ذاكفي تلك المغارة، أو يفوه متذمِّرٌ من أذناب السلطان هنا، أو يُعرِب رجُلٌ لزقٌ بأسن الوالي هناك، فهذا لا يحكي موقف الأُمّة ولا يرسم مشهد المجتمع!

النقطة الثالثة: الموقف من يزيد

وأنا أُقسِم بالله قسَماً مبروراً، لَجهاده على الدين أفضلُ من جهاد المشركين ((1)).

بعد أن ذكر يزيد بصفاته الذميمة القبيحة، وتهوّره ومجونه ومعاقرته الخمر ممّا يمنعه من الانتزاء على أعواد المنبر، أعلن عن موقفه بصراحةٍ فيما يجب عليه أن يفعله، وتكليفِه الّذي اقتنع به، وصفِّه الّذي انحاز إليه..

لم يكتفِ بالإعلان، وإنّما أقسم بلفظ الجلالة، وهو أبلَغُ الأَيمان، وأكّد قسَمَه بذِكر مفردة «أُقسِم»، وتأكيدها بالمفعول المطلَق «قسَماً».. وأكّد كلّ هذه التأكيدات بصحّة قسمه، وأنّه مبرورٌ لا يخاف فيه حنثاً ولا إثماً.. وأكّد مرّةً أُخرى باستخدام (لام التأكيد) في قوله: «لَجهاده»، ثمّ بيّن أفضليّة جهاد يزيد على الدين على جهاد المشركين..

وبهذا كشف لهم عن الأسباب والمسوّغات الكافية المقنعة، والأدّلةِ القاطعة الدامغة الّتي ارتكن إليها واستند عليها لاتّخاذه هذا الموقف،

ص: 179


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

واعتقادِه وجوب محاربة يزيد وتفضيله على جهاد المشركين.

فشحذ الهِمَم وأوغر الصدور على يزيد المخمور، ثمّ انعطف في كلامه ليحدّثهم عن الطُّهر الطاهر والإمام المعصوم أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) .

النقطة الرابعة: ذكر الإمام الحسين (علیه السلام)

وهذا الحسين بن عليّ ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والعلم والسابقة والسنّ والقرابة، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّته وإمامَ قوم، وجبَت لله به المحجّة وبلغت به الموعظة ((1)).

وفي لفظ ابن طاووس:

وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يُوصَف وعلمٌ لا ينزف، وهو أَولى بهذا الأمر؛ لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيّةٍ وإمام قوم، وجبَت لله به الحجّة وبلغت به الموعظة ((2)).

الصفات الّتي وصف بها سيّدَ الشهداء (علیه السلام) :

- ذو الشرف الأصيل.

ص: 180


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- اللهوف لابن طاووس: 38.

- ذو الرأي الأثيل.

- له فضلٌ لا يُوصَف.

- له علمٌ لا ينزف.

- له سابقة.

- له سابقة السنّ.

- له السابقة.

- له القرابة.

- هو أَولى بهذا الأمر.

- يعطف على الصغير.

- يحنو على الكبير.

- أكرِمْ به راعي رعيّته.

- أكرِمْ به إمامَ قوم.

- وجبَت لله به الحجّة (المحجّة).

- بلغت به الموعظة ((1)).

مَن يعرف هذه الصفات في الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في ذلك اليوم، يُعَدّ على مستوىً من الإيمان والمعرفة، ويلزم أن يكون من ذرى المؤمنين المعاصرين في زمن المحنة والفتن.. ولكلّ واحدةٍ من هذه الصفات مجالٌ

ص: 181


1- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.

فسيحٌ وميدانٌ واسعٌ للحديث، نتركه تجنُّباً للإطالة.

إنّه ساق لهم يزيد الخمور ووصفه، ثم عرّفهم بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومَن ذا يقارن بين ابن ميسون العاهر وهند داعرةِ السفاح وآكِلةِ الأكباد ونادلة حانات الخمور، وبين ابن الطُّهر الطاهرة البتول سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) ؟!

مَن ذا يقارن بين سليل البغاء أبي سفيان ومعاوية، وبين ابن سيّد البشر وخاتم النبيّين وابن سيّد الوصيّين ونور الأنوار؟!

بيد أنّها الدنيا الّتي جرّت الدواهي على آل الله، حتّى صاروا يُقرنوا إلى هذه النظائر!! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فهل كان لكلام ابن مسعود النهشليّ من أثر؟ سنرى بعد قليل.

النقطة الخامسة: النتيجة والتحذير

فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيسٍ انخذَل بكم يوم الجَمَل، فاغسلوها [بخروجكم] مع ابن رسول الله ونصرته، واللهِ لا يقصّر أحدٌ عنها إلّا ورّثه الله الذلّ في وُلده والقلّة في عشيرته، وها أنا ذا قد لبستُ للحرب لأمتها وأدّرعتُ لها بدرعها، مَن لم يُقتَل يمُت، ومَن يهرب لم يفُت، فأحسِنوا _ رحمكم الله _ ردَّ الجواب ((1)).

ص: 182


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

الآن وقد بيّن لهم ابن مسعودٍ ما ينبغي بيانه وزيادة، دعاهم إلى استعمالالبصيرة والعقل، والتفكُّر في دِين الله، والتدبُّر في مآلاتهم وعواقبهم، فنهاهم أن تغبش أبصارهم وتعشوا عن نور الحقّ.. والنور أبلَجُ متألّقٍ متلألئٍ ناصعٍ لامعٍ ساطعٍ لا يخفى على أحد، إنّما تكلّ الأبصارُ الّتي لا تنظر بالبصيرة عن رؤيته وتعشوا عنه..

ومَن عشى عن نور الحقّ تسكّع في وهدة الباطل، وتحيّر في هوّة الأضاليل، وهوى إلى قاع الجهل، وتخبّط في قرارة الشكّ وأغواره.. وليس لهم بعد أن سمعوا ما يدلّهم على نور الحقّ أن يجثموا في دياجير الظلمات..

«فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسكعوا في وهدة الباطل» ((1))..

سيّما أنّهم قد جرّبوا ذلك قبل سنواتٍ لم تكن مديدة.. إذ أنخذل بهم صخر بن قيسٍ يوم الجَمَل، فخسروا الاصطفاف في صفّ الحقّ وأهله، وذاقوا وبال أمرهم، وسجّلوا على أنفسهم وذرّيّاتهم عاراً وشناراً لا تمحوه الأيّام ولا تنسيه السنون..

إلّا أن يغسلوا فعلتهم المتخاذلة بخروجهم إلى ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونصرته.. فحينئذٍ يرفعوا عن أنفسهم إصر خذلان الأمس، ويثقّلون أوزانهم وأحسابهم بنصرة الحقّ وأهله..

فإن أبوا إلّا الإخلاد إلى الأرض، والتثاقل والانغماس في أوحال

ص: 183


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

العيش، والتقلّب في طين الشهوات الآسِن، واختاروا التقصير، فإنّ لهمعاقبةً سوأى تنتظرهم، لا يفلت منها أحدٌ منهم..

أقسم ابنُ مسعودٍ على ذلك بالله..

إنّها وراثةٌ قبيحةٌ منكرةٌ بغيضةٌ ذميمةٌ شنيعةٌ سيورّثها اللهُ أولادهم، فلا تمحوها صروف الأيّام، ولا تفرج بعده ضرّاء، ولا تتّسع ضائقة..

سيورّثهم الذلّ في أولادهم، داهيةً تنزل بكلّ فردٍ فردٍ منهم.. وداهيةً أُخرى لا ينبت بعدها شعرٌ على رؤوسهم.. القلّة في العشيرة..

مَن يخذل منهم إنّما يريد أن ينجو بنفسه وبوُلده، ويبقى في عيشه الرغيد ودَعَته الوادعة.. والحال أنّه سيحصد ثمرةً تأتي بالضدّ من مراده وهواه.. سيقلّ العدد بالخذلان ولا يزداد، بل يضمحلّ وينحسر ويبيد، ويتناقص ويتراجع ويتقهقر..

وسيقضي هو وأولاده بقيّة الدنيا أذلّاء خاسئين، تحكم فيهم القرود وجراؤها.. ويلعقون دمنها في أُصول أذنابها ذُلّاً وهواناً..

إنّه تنويهٌ عميق.. ما يفعله الآباء سيحصده الأبناء!

ثمّ جعل يعظهم موعظةً تمتدّ جذورها إلى كلمات سادات الخلق، ويتصلّ سلسلها بكلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ..

فقد وُلد الإنسان ليموت.. «لِدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنوا

ص: 184

للخراب» ((1)).. ودخل الدنيا ليخرج منها، وليس في هذه الدنيا مستقرٌّ لأحَد.. فالإنسان مقهورٌ بالموت.. وله أن يختار أن يُقتَل حُرّاً أو يموت حتف أنفه على فراشه، فلا يبخلنّ أحدٌ بنفسه، فإنّه إنْ أفلت من القتل أدركه الموتُ ولو بعد حين.. وسوف لا يطول الحين، إن هي إلّا سنين.. ثمّ إلى الموت الّذي لابدّ منه..

ومَن هرب من القتل لم يفت ملَك الموت الّذي له بالمرصاد، ولو كان في بروجٍ مشيّدة..

ثمّ أعلن عن موقفه الشخصيّ ليشدّ عزائمهم، ويثير شيَمَهم وغَيرتهم، ويجيّش في نفوسهم الأحاسيس، ويملأ قلوبَهم بالإرادة والإقدام، فأخبرهم أنّه قد اعتدّ بعدّته ولبس للحرب لامته وادّرع للوغى بدرعه..

وبعد ذلك كلّه استنطقهم ليسمع منهم الجواب، وحثّهم على الردّ بالحسنى، والإعراب عن الاستجابة بالقبول والرضى، ودعا لهم أن يغمرهم الله برحمته..

وانتظر الجواب.. فانطلقوا يجيبون على الفور..

الكلمة الثالثة: كلام بني حنظلة

فتكلّم بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبل كنانتك وفرسانُ عشيرتك، إنْ رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض

ص: 185


1- نهج البلاغة: 493 _ بتحقيق: صبحي الصالح، وانظر: الكافي للكلينيّ: 2 / 131 ح 14.

واللهِ غمرةً إلّا خضناها، ولا تلقى واللهِ شدّةً إلّا لقيناها، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا، إذا شئتَ [فافعل]، فقُم ((1)).

إنبرى بنو حنظلة معظّمين مكرّمين له، فخاطبوه بكنيته: «يا أبا خالد»..

أخبروه أنّهم طوع إرادته.. أنّهم خزينُه من النبل، يرمي بهم مَن يشاء، كيف يشاء، ومتى شاء، وأنّى شاء.. وأنّهم فرسان عشيرته ومقاتيلهم ومحاربيهم، فهم سيوفٌ بتّارة، تُشهَر إذا شهرها، وتُغمَد إذا أغمدها..

إنّهم نبالٌ ذكيّةٌ، عاليةُ الدقّة فائقة التصويب لا تخطئ، إنْ رمى بها أصاب.. وعساكِر مدجَّجةٌ مدرّبةٌ جاهزة، لا تُقهَر ولا تنهزم، فمتى غزا بها فتح.. يتبعونه ويسلكون أيّ وادٍ سلك، ولو خاض بهم الغمرات.. لا يخذلونه، ولا يتركونه، ولا يُسلِمونه.. يواسونه في كلّ شدّةٍ فيتلقّونها.. ينصرونه بأسيافهم، ويدرؤون عنه سُمر العوالي والمخاطر، ويجعلون أبدانهم وقاءً له..

إذا شئتَ فافعل وقُم.. ونحن جاهزون مستعدّون لخوض اللُّجج وبذل المُهج!

إنّه موقفٌ رائعٌ يبعث على المباهاة والفخر.. ولكن!

وسنسمع بعد قليلٍ جواب (لكن) هذه!

ص: 186


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
الكلمة الرابعة: كلام بني سعد

وتكلّمَت بنو سعد بن يزيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافُك والخروجُ من رأيك، وقد كان صخر بن قيسٍ أمرنا بترك القتال، فحمدنا رأيه وبقي عزُّنا فينا، فأمهِلْنا نراجع الرأي ونُحسِن المشورة، ويأتيك خبرنا واجتماع رأينا ((1)).

ثمّ تكلّمَت هذه الطائفة.. فأعربَت عن مدى احترامها وتقديرها وتعظيمها لابن مسعود، خاطبوه بكنيته: «يا أبا خالد»، وأخبروه أنّ أبغض الأشياء إليهم خلافُه والخروجُ عن رأيه.. فطاعتُه محبوبة، والتزامُ رأيه محبوب، ومتابعته محبوبة، وهو في السنام الأَعلى والذروة..

ولكنّهم يختلفون معه في تقييم الأُمور، فما رآه في انخذال صخر بن قيسٍ وطاعتهم له في ترك القتال يرونه خيراً بزعمهم، وأنّه قد أبقى عليهم، وأبقى فيهم عزّهم!

فهم لا يرون ما يراه ابن مسعود.. يرون رأي صخرٍ حميداً.. ويرون العزّ في بقائهم كيف ما كان.. ويرون ترك القتال في جانب الحقّ مأثرة.. ويرون العزّ في الدنيا وإن كانت ذليلة.. ويرون الرعي في غابات القرود _ كالديدان الّتي تلتفّ على بعضها وتقتتل على الجيفة _ حياةً.. ويرون الصراط _ الّذي يمكنهم سلوكه في منعطفات الأيّام والسنين _ بعيونٍ حولاء تدمج الصورة،

ص: 187


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

فتوحّد الحقّ والباطل في مشهدٍ واحد مهزوز!

وقد كان صخر بن قيسٍ أمرَنا بترك القتال، فحمدنا رأيَه وبقي عزُّنا فينا.

فهم من جهةٍ يعظّمون لابن مسعود مقامه ويحترمون رأيه.. ومن جهةٍ يرون خلاف رأيه، ويحمدون رأي مَن أمرهم بترك القتال.. فاختاروا المجاملة والمداراة والتنصُّل والإفلات بما لا يُخرجهم من دائرة الطاعة الظاهرة والمجاراة والمسايرة في الأعراف القبَليّة والعشائريّة.. فطلبوا منه الإمهال حتّى يراجعوا الرأيَ ويُحسنوا المشورة، ويتريّثوا في اتّخاذ القرار ولا يتعجّلوا الأمر، ويبتّوا في ذلك الاجتماع.. ثمّ يخبرونه بخبرهم وما سيجتمع عليه رأيهم..

ومَن يسمع كلامهم يعرف على ماذا سيجتمع رأيهم.. فلْيقعدوا مع القاعدين، ولْيقولوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ ((1)).. أخلدوا إلى الطين بأمر صخر بن قيس، وانطمسوا في الوحل يومهم هذا!

الكلمة الخامسة: كلام بني عامر بن تميم
اشارة

وتكلّمَت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد، نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لا نرضى إنْ غضبتَ ولا نغضبُ إن رضيت، ولا نقطن إنْ ظعنتَ ولا نظعن إنْ قطنت، والأمر إليك والمعوَّل عليك، فادعُنا

ص: 188


1- سورة المائدة: 24.

نُجِبْك وأْمُرنا نُطِعك، والأمر لك إذا شئت ((1)).

إنبرى بنو عامر بن تميم ليُعربوا عن مدى ثقتهم وطاعتهم لأبي خالد، وتفاخروا وتبجّحوا وتشامخوا زهواً ومباهاةً واعتزازاً أنّهم أبناء أبيه.. أنّهم منه وأنّه منهم.. أنّهم في الشجاعة والإقدام والالتزام كما هو ابن مسعود، لأنّهم ينتمون إلى أبٍ واحد، وهو الأب الّذي تنتهي إليه المفاخر.. هكذا..

جعلوا أنفسهم في طوعه وطاعته.. وحدّدوا صفّهم في صفّه.. يرضون إذا رضى ويغضبون إذا غضب.. ويدورون معه حيثما دار في مواقفه وعواطفه ومشاعره وأحاسيسه وخلجات نفسه وجيّاشات صدره..

لا يقرّ لهم قرارٌ إن رحل، ولا يتوطّنون إن ظعن.. إن قطن قطنوا، وإن توطّن توطّنوا.. فهم يتبعونه، لا يفارقونه، ولا يهمّهم بعد ذلك كلاءٌ ولا ماءٌ ولا دَعةٌ ولا رخاء..

سلّموا أمرهم إليه، وجعلوه أَولى بهم من أنفسهم، وألقوا بكَلّ مسؤوليّتهم عليه، فعليه المعوَّل وإليه الارتكان..

يأتمرون بأمره، ويسلّمون له.. إذا دعاهم أجابوا، وإذا أمرهم أطاعوا.. وعادوا مرّةً أُخرى ليؤكّدوا له أنّ الأمر إليه، ما حكم فيهم وما اتّخذه لهم من قرارٍ فهو أَولى بهم من أنفسهم! يفعل فيهم ما يشاء.. «والأمر لك إذا شئت» ((2)).

ص: 189


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.

إنّه موقفٌ رائعٌ يبعث على المباهاة والفخر.. ولكن!

ولكن!

إنّه موقفٌ رائعٌ يبعث على المباهاة والفخر.. ولكن!

أوَ ليس قد جعل اللهُ ورسولُه (صلی الله علیه و آله) هذه الطاعة على العباد وعلى هؤلاء القوم لأمير المؤمنين وذرّيّته المعصومين (علیهم السلام) ؟

أوَ ليس قد جعل الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) أميرَ المؤمنين وأولاده المعصومين (علیهم السلام) أَولى بالناس من أنفسهم؟

أوَ ليس قد افترض الله طاعتهم على العباد؟

أوَ ليس قد قرن الله طاعةَ أمير المؤمنين (علیه السلام) بطاعته وطاعةِ رسوله (صلی الله علیه و آله) ؟

أوَ ليس قد جعل النبيُّ (صلی الله علیه و آله) الحقَّ يدور مع عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام) حيثما دار؟

أوَ ليس.. وألف أوَ ليس..

إنّهم تركوا ذلك كلّه، وجهلوه أو تجاهلوه، ولم يحرّك فيهم شعرة، ولم يرفّ لذلك منهم جفن..

أعرضوا عن وجه الله والمعصوم الكامل الّذي لا يزلّ ولا يذلّ ولا يخطأ.. وجعلوا كلَّ ما له لرجُلٍ من خلق الله، مهما كان مؤمناً، إذ لا يُقارَن بغبار أقدام سيّد الوصيّين وأولاده المعصومين (علیهم السلام) !

ص: 190

إنّه موقفٌ رائعٌ يبعث على المباهاة والفخر.. ولكن!

لم نسمع من أحدهم اسمَ سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

لم نسمع أنّهم فزعوا واجتمعوا لينصروا حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) وريحانته..

لم نسمع أنّهم تناهضوا وهاجَت مراجل الغَيرة في قلوبهم على عرض النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسبطه..

لم نسمع أنّهم تدفّقَت الدماء في رؤوسهم، وانطلقت حناجرهم تهدر بالصراخ لاستصراخ سيّد الكائنات في عصرهم..

لم يذكر أحدهم حتّى اسم (الحسين (علیه السلام))!

كأنّ ابن مسعودٍ يستنهضهم لنفسه، ويستصرخهم لأمره.. كأنّهم لم يعرفوا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، وإنّما عوّلوا على ابن مسعود، فارتضوا ما ارتضى وغضبوا لما غضب..

كأنّهم لم يعرفوا يزيد الخمور، وإنّما عوّلوا على ابن مسعود، فقرّروا الرحيل معه إلى حيث يرحل، وأن يغضبوا على مَن يغضب، ويقطنوا إن قطن..

فإذا رضيَ ابنُ مسعودٍ عن يزيد رضوا به، وإذا غضب على الإمام الحسين (علیه السلام) غضبوا عليه.. وإذا ظعن لقتال الإمام الحسين (علیه السلام) ظعنوا معه،وإذا قطن واسترخى عن نصرته قطنوا واسترخوا..

إنّها هبّةٌ قبليّةٌ مدوّيةٌ خاوية.. وهياجٌ لعواطف موحشةٍ وغليانٍ باردٍ

ص: 191

في خلاءٍ مهجور.. لا ذِكر لله فيه، ولا ذِكر لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولا ذِكر لابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. تمطٍّ ممدودٍ لأبناء الأب!

خرج أنصار الإمام الحسين (علیه السلام) وأهلُ بيته لولائهم الخالص المتمحّض لإمام زمانهم سيّد الشهداء (علیه السلام) بالذات.. ولم يخرج واحدٌ منهم تبعاً لقومه وقبيلته، وانصياعاً لشيخه العشائريّ..

طلّقوا نساءهم، وأفلتوا من عشائرهم، وتحرّروا من قبائلهم، وامتطوا الليل والكتمان والسرّيّة، وتسرّبوا وانسلّوا، حتّى بلغوا حريم المحبوب، فدخلوا ساحة القدس الإلهيّ..

شيخهم هو سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .. له الولاء.. أحبّوه فأطاعوه، فدفعوا عنه، وارتضوا لدنياهم الفناء لينعموا بجواره في دار البقاء..

أمّا هؤلاء القوم، فلا يبدو من كلامهم أنّ لهم أدنى معرفةٍ بسيّد الشهداء (علیه السلام) ..

أجل، هم يعرفون ابن مسعود، ويعوّلون عليه، ويتّبعونه مهما كلّفهم الأمر.. والظاهر من هذا القدر الوارد في التاريخ أنّ تبعيّة (بني تميم) إنّما هي تبعيّة أفراد القبيلة لشيخها، لا أكثر!

وكربلاء تختلف تمام الاختلاف عن المشهد في صفّين والجَمَل.. لاتنفع فيه الولاءات القبَليّة، ولا الوشائج العشائريّة؛ لأنّ المطلوب فيها رأس الحسين (علیه السلام) خامس أصحاب الكساء.. المطلوب فيها الدفاع عن عرض

ص: 192

رسول الله (صلی الله علیه و آله) آل الله.. فلابدّ من ولاءٍ خاصٍّ وحُبٍّ خاصٍّ لشخص سيّد الشهداء (علیه السلام) يؤهّل الرجُل لبذل الغالي والنفيس في الدفاع!

وزعيمهم هذا _ جزاه الله خيراً _ يعرف الإمام الحسين (علیه السلام) كما يبدو من كلامه.. وهو معروفٌ عندهم، ولولا ذاك لَما سلّموا له تسليماً.. بَيد أنّه غير معروفٍ في التاريخ سوى بما رُوي عنه في هذا الموقف!

الكلمة السادسة: ردّ يزيد على بني سعد

فقال: والله _ يا بني سعد _ لَئن فعلتموها، لا رفع الله عنكم السيف أبداً ولا زال سيفُكم فيكم ((1)).

أنعمَت في الردّ بنو حنظلة وبنو عامر، وتلكّأَت بنو سعد.. فكان الردّ من ابن مسعود على بني سعدٍ خاصّة..

ردّ عليهم، وأتاهم من حيث هم.. ردّ عليهم في النقطة الّتي ركّزوا عليها، واتّخذوها ذريعةً للتريُّث والتنصُّل..

إنّهم إنّما امتنعوا وتوقّفوا وحمدوا رأي صخر بن قيسٍ بتركهم القتال ليبقوا.. ليبقى فيهم عزُّهم كما يزعمون.. فأخبرهم بمآل أمرهم وعاقبتهم الوخيمة الّتي تنتظرهم إنْ هم اختاروا ترك القتال والوقوف على الحياد..إنّهم إن فعلوها سوف لن يرفع الله عنهم السيف أبداً.. ويعمل فيهم أسيافهم هم.. «ولا زال سيفكم فيكم».. فسيكونون أكلةً سهلة، يقتل

ص: 193


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

بعضهم بعضاً، ويفتك بعضهم ببعض، يقتلهم القاصي والداني والقريب والبعيد.. فلا يزالون أذلّاء خاسئين خاضعين خانعين، يتخطّفهم الناس، ويتخطّف بعضهم بعضاً، وهم لا يدفعون ولا يأمنون.. فلا عزّة ولا كثرة، ولا بقاء ولا امتداد، ولا دعة ولا راحة، ولا دنيا ولا آخِرة.. فبئس مثوى الظالمين..

هدّدهم تهديداً مزمجراً، وخوّفهم من عاقبةٍ مدويّةٍ تُغرقهم في غمراتٍ لا نهاية لها.. إنّهم سوف لن يفلتوا من السيف، ولا تكون لهم بقيّة.. يا لَها من أيّامٍ رهيبةٍ فظيعة، ومستقبلٍ قريبٍ مُخيفٍ مُرعبٍ مدمّرٍ مريعٍ شنيع..

* * * * *

بهذا قد قضى ابن مسعود النهشليّ ما عليه، إذ خطب فيهم وتركهم في تيّارات الأحاسيس المتدفّقة وأمواج الحماس العاتية، ينقّزون وينطّون ويتوثّبون ويتقافزون، كأنّ أحدهم يريد أن يطفر أسوار الزمان، ويتخطّى عوائق الأيّام، ويطوي المسافات، ويطير بكلّ جناحٍ حتّى يقع بين يدَي مَن أمرهم بنصرته.. وليس المهمّ من هو!!!

ومَن امتنع منهم وتوقّف، فقد وعظه وخوّفه وهدّده، ودعاه للتي هي أقوم، فإنْ أبى فقد خسر خسراناً مبيناً، وانقلب على حظّه ودنياه وآخرته..ربّما استجاب له بنو سعد، لِما سنسمع في كتابه إلى الإمام الحسين (علیه السلام) .

ص: 194

الإضاءة الرابعة: كتاب يزيد النهشليّ إلى الحسين (علیه السلام)
اشارة

ثمّ كتب إلى الحسين (علیه السلام) : بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد وصل إلينا [خ ل: إليّ] كتابُك، وفهمتُ ما ندبتَني إليه ودعوتَني له من الأخذ بحظّي من طاعتك و[الفوز] بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يُخلِ الأرضَ قطّ من عاملٍ عليها بخيرٍ أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنتم حُجّة الله على خَلقه ووديعتُه في أرضه، تفرّعتُم مِن زيتونةٍ أحمديّة، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِمْ سعدت بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتُهم أشدّ تهافتاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خامسها [خ ل: خَمسها وكظّها]، وقد ذلّلتُ لك بني سعدٍ وغسلتُ درَنَ صدورها بماء سحابة مُزنٍ حتّى استهلّت [خ ل: استهمل] برقها فلمع ((1)).

الآن وقد وعده مَن وراءَه، وأعلن له بنو حنظلة وبنو عامر عن الاستعداد التامّ الكامل المطلق دون قيدٍ أو شرط، واطمأنّ لهم.. انطلق برضىً وطيب خاطر.. وذلّل له بني سعدٍ وغسَلَ درَنَ صدورها _ حسب ما ورد في خطابه لسيّد الشهداء (علیه السلام) _.. كتب واثقاً حازماً، مستقبِلاً الأمر استقبالاً إلى سيّدالشهداء (علیه السلام) .

ويمكن أن نستجلي ما في الكتاب من خلال المعلومات الّتي ساقها فيه:

ص: 195


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.
المعلومة الأُولى: إعلان وصول الكتاب

بعد البسملة، أخبر ابنُ مسعودٍ إمامَه (علیه السلام) بوصول كتاب الإمام (علیه السلام) إليه، وقد ورد بلفظ الجمع في نسخة ابن نما، وبلفظ المفرد في نسخة السيّد ابن طاووس، وهو أوفق بالسياق.

وعلى فرض لفظ الجمع (إلينا)، فربّما كان يريد إخبار الإمام (علیه السلام) بوصول الكتاب إلى جميع مَن أرسل إليهم سيّد الشهداء (علیه السلام) وخاطبهم، ومن البعيد جدّاً لرجُلٍ مثل ابن مسعودٍ بما أعرب عن معرفته وتقديسه للإمام (علیه السلام) أن يخاطبه بنسبة الجمع لنفسه تعظيماً.

المعلومة الثانية: دعوتُه فوزٌ له

ثمّ فصّل ما بعد ذلك، فاختصر ما فهمه من كتاب الإمام (علیه السلام) وما يريده منه، وجعلها كلّها دعوةَ خيرٍ مطلقة.. فأطلق على ما ورد في الكتاب (ندب)، وهو دعوةٌ للأمر المطلوب، سيّما إذا اتّشح الأمر بوشاحٍ شرعيٍّ وتلوّن بلون الشريعة.

وأرجع نفع الدعوة إلى نفسه، فهي دعوةٌ للأخذ بحظّه في طاعة الإمام (علیه السلام) ، فهو حظّه.. ودعوةٌ للأخذ بنصيبه في نصرته، فهو نصيبه.. فاستجابته للإمام (علیه السلام) تؤدّي أثرها في خدمة الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّها هي الفوزالأعظم الّذي سيناله..

ص: 196

المعلومة الثالثة: تعليل الاستجابة والفوز

يُشعِر العطف ب-- (بالواو) و(إنّ) أنّ ما يليها تعليلٌ لِما سبقها، فهو أجاب الإمام (علیه السلام) وبذل نفسه في طاعته لِما يلي:

- إنّ الله لم يُخْلِ الأرضَ قطُّ مِن عاملٍ عليها بخير.

- إنّ الله لم يُخْلِ الأرضَ قطُّ مِن دليلٍ على سبيل نجاة.

- إنّ أهل البيت (علیهم السلام) _ والإمام الحسين (علیه السلام) منهم _ حُجّةُ الله على خَلقه.

- إنّ أهل البيت (علیهم السلام) _ والإمام الحسين (علیه السلام) منهم _ وديعةُ الله في أرضه.

- إنّ أهل البيت (علیهم السلام) _ والإمام الحسين (علیه السلام) منهم _ تفرّعوا من زيتونةٍ أحمديّة، النبيّ (صلی الله علیه و آله) أصلها والإمام الحسين (علیه السلام) فرعها.

إنّها معارف لا يرقى إليها إلّا الراقي من البشر في مِثل تلك الأيّام وفي كلّ الأيّام.. أنْ يعتقد ابنُ مسعودٍ أنّ الله لا يُخلي أرضَه من حُجّة، أو دليلٍ على سبيل نجاة، وأنّ أهل البيت (علیهم السلام) هم حُجّة الله على خَلقه، فهو _ إذن _ من المؤمنين المعتقِدين، الّذين يتوسّطون في أعماق الإيمان ويتسنّمونأعالي ذُراه..

وكيف لا يُجيب، وهو يعتقد في الإمام (علیه السلام) حُجّة الله، ويعتقد فرضَ طاعته، ويعتقد أنّه الدليل على سبيل النجاة؟!

وكيف لا يدفع عنه، وهو يعتقد أنّه وديعة الله، ووديعة رسوله (صلی الله علیه و آله) عنده؟!

وكيف لا يذبّ عنه، وهو يراه فرع الزيتونة الأحمديّة المتّصلة بأصلها؟

ص: 197

فالدفاع عنه دفاعٌ عن الأصل!

المعلومة الرابعة: دعوة الإمام (علیه السلام)

بعد هذه المقدّمة الرائعة الأخّاذة الجميلة المُشرِقة الوضّاءة، تقدّم بين يدَي الإمام (علیه السلام) ليدعوه.. فقال: «فأقدِمْ سعدتَ بأسعد طائر».. وتفاءَل بمجيء الإمام (علیه السلام) أروع تفاؤل، ودعا له أن يكون قدومه المبارك مقروناً بأسعد طائر..

ولكن، هذه الدعوة إلى أين؟

«فأقدِمْ».. إلى العراق؟ إلى البصرة؟ إلى الكوفة؟

«أَقدِمْ» على ما اخترتَه؟ «أقدِمْ» على محاربة العدوّ؟

ربّما كان ابن مسعودٍ قد دعا الإمام (علیه السلام) للإقدام إلى البصرة؛ إذ لم نقرأ في كتابه ما يفيد أنّه قد عزم على الخروج إلى مكّة أو إلى الكوفة، ولم يُفِد أنّه مستعدٌّ للتحرّك بقومه من بني تميم إلى حيث يأمره الإمام (علیه السلام) التوجُّهإليه..

ولم نسمع في كلامه مع قومه أنّه قد عزم على الخروج إلى الإمام (علیه السلام) ، أو التوجُّه إلى جهةٍ ما يأمره بها الإمام (علیه السلام) ، وإنّما أخبرهم عن استعداده وعزمه على الحرب والقتال.. «لبستُ للحرب لأمتها وأدّرعتُ لها بدرعها»..

وقد أكّد للإمام (علیه السلام) في هذا المقطع من كتابه _ كما سنسمع بعد قليل _ أنّه قد أعدّ قومه وذلّلهم له، وجعلهم طوع إرادته وأشدَّ تهافُتاً في طاعته..

ص: 198

لا أكثر..

وربّما كان هذا التصوُّر نفسه قد أدّى إلى التأخير وإطالة الفترة حتّى استُشهد الإمام (علیه السلام) ؛ إذ أنّه لم يتعجّل الخروج على أمل قدوم الإمام (علیه السلام) إليهم!

وقد يُقال: إنّ سياقات الأحداث وأخبار الكوفة والمجريات العامّة تفيد أنّ دعوته كانت للقدوم إلى الكوفة.

المعلومة الخامسة: تقرير أحوال القوم
اشارة

طلب القدوم، وعلّل ذلك بقوله: «فقد ذلّلتُ ...».

وهنا أيضاً قسّم القوم إلى قسمين، ولم يتكلّم عنهم كقطعةٍ واحدةٍ في الولاء والاستجابة:

القسم الأوّل: بنو تميم عامّةتحدّث عن بني تميم، ووصفهم وصفاً رائعاً مثيراً في تسابقهم إلى طاعته..

فقد ذلّل له أعناق بني تميم، وجعل الدم يترقرق فيها كأنّها بُدنةٌ اقتربَت مِن منى.. وتذليل الرقاب فيه كنايةٌ عن مدّها للسيوف..

ولصورة الأعناق المذلَّلة تشابُكٌ متداخِلٌ مع صورة الإبل الظماء الّتي ترد الماء بعد خَمسها؛ فإنّ الإبل إذا ركضَت وأسرعَت مدّت أعناقها..

تركهم كإبلٍ كظّها الظمأُ وأُذِن لها بعد خمسة أيّامٍ أن ترد الماء..

ص: 199

يا لَها من صورةٍ مزدحمةٍ بالحركة والسرعة واللهفة والشوق والتعبير عن ضجيج الحاجة.. إنّها الحاجة إلى الماء على الظمأ!

والإبل بطبعها حمّالةٌ للعطش صبورةٌ على الظمأ.. لكنّها إذا فارقت الماءَ خمساً وشمّت رائحتَه عن بُعد، تذهل وتتخبّط، وتخبط الأرض بحوافرها، وتخطر بأذنابها، وترغو ويشتدّ رغاؤها، وتُكثِر التلفُّت برأسها، لِتراقب الإبل الأُخرى إن كانت قد لحقَت بها أو سبقَتها إلى معين الماء..

تتراكض بعشوائيّةٍ مجنونةٍ هائجة، فتسابق حوافرها بعضها بعضاً، كأنّ كلّ رِجْلٍ منها تركض لوحدها، فتتناثر خطواتها يميناً وشمالاً وارتفاعاً وانخفاضاً، وترتطم ببعضها، وتزدحم عند اقترابها من وردها، وتتدافع فتتداخل سيقانها، فتكون كأنّها غابةٌ من السيقان المتشابكة، حتّى لَيعسر على الناظر أن يميّزها، وتلتوي أعناقُها وتلتفّ ببعض، وتحتكّ أبدانها وتكبسالبطونُ البطونَ، وتتسايل شقاشقها رغوةً كالزبد، فتلطخ بعضها الأُخرى.. ولا تسكن إذا استروحت الماءَ إلّا أن تصل إليه، فتنهل وتعلّ وتعبّ حتّى ترتوي..

والرجل الّذي يعايش الإبل يعرف ما في هذه الصورة من الأثر البليغ، والإيقاعِ الصاخب، والشوقِ المتدفّق بالعنفوان، واللهفة الجائشة، والأحاسيس الهائجة.. هكذا هم بنو تميم في تسابقهم إلى طاعة الإمام (علیه السلام) والانقياد له!

ص: 200

القسم الثاني: بنو سعد

عزل ابنُ مسعودٍ بني سعد عن الآخَرين، وأخرجهم عن الصورة الّتي رسمها لهم من شدّة الشوق والتلهُّف للطاعة..

أكّد فيما يخصّ بني سعد أنّه قد ذلّلهم للإمام (علیه السلام) ، وغسل درن صدورهم بماء سحابة مُزنٍ حتّى استهلّت برقها فلمع..

ولا ندري إن كان يُخبِر عن حدَثٍ آخَر غير ما رواه الشيخ ابن نما قد حدَث مؤخَّراً بعد أن استمهله القوم للمشورة والنظر، فاجتمع أمرهم على الامتثال والطاعة واللحاق بركب السعداء..

أو أنّه اكتفى من هذا الاستمهال وعدّه استجابةً منهم!!

أو أنّه اعتبر هذا الاستمهال نوعٌ من التراخي الّذي سيؤول إلى ترويض القلوب المتشنّجة البائسة..أو أنّه في مقام التشجيع وشدّ العزائم، فاكتفى بالتحييد وجعله تذليلاً لهم؟

كيف كان، فإنّ الصورة الّتي رسمها لما فعله بهم ومعهم لا تقلّ روعةً عن الصورة الّتي رسمها لبني تميم الآخَرين..

ماء السماء طهور.. مطهِّرٌ بقوّة.. ينزل من السماء فلا يدنّسه شيءٌ ولا تنجّسه نجاسة.. وهو نازلٌ من سحابة مُزن.. سحابةٍ كثيرة المطر غزيرة الماء، مكتنزةً ماءً، تنهمل انهمالاً، تبرق فتلمع وتنهمر، فتغسل درن الصدور وتتركها نظيفةً طاهرة..

ص: 201

هذه الصورة تعبّر عن الجهد المبذول والنتيجة المؤثّرة القويّة الحاصلة من ذلك الجهد.. وهي في نفس الوقت تعبّر عن مدى تكاثف الدرن وتراكم الدنس في تلك القلوب قبل معالجتها، حتّى احتاجت إلى مِثل تلك السحابة الثقيلة والربابة الماطرة بقوّةٍ لتطهيرها.. إنْ طهرت!

والبرق اللامع سرعان ما يخبو ويخمد وينطفئ، فهل يكفي تلك القلوب إن أضاء لها وخطف أن تبصر الصراط؟!

الإضاءة الخامسة: جواب الإمام الغريب (علیه السلام)
اشارة

فلمّا قرأ الحسين (علیه السلام) الكتاب، قال: ما لَك؟ آمَنَك اللهُ يومَالخوف وأعزّك، وأرواك يوم العطش الأكبر ((1)).

يمكن متابعة هذا المقطع من خلال التنويرات التالية:

التنوير الأوّل: مواقيت النصّ!

حسب هذا النصّ الوارد عند الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس (رحمها الله) ، نجد المشهد ينتقل فجأةً من رواية ما كتبه ابن مسعود النهشليّ إلى جواب الإمام (علیه السلام) حين قرأ الكتاب..

ليس في النصّ مواقيت..

متى أرسل ابن مسعود الكتاب؟

ص: 202


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

مع مَن أرسله؟

متى وصل الكتاب إلى الإمام (علیه السلام) ؟

أين وصل الكتاب بيد الإمام (علیه السلام) ؟

هل وصل الكتاب والإمام (علیه السلام) محاصَرٌ في كربلاء؟

هل وصل الكتاب والإمام (علیه السلام) لا زال في مكّة أو في الطريق؟

ربّما نجد بعض الأجوبة الغائمة الّتي يلفّها الضباب بعد قليل..

التنوير الثاني: وعودٌ في الزمن العصيب

في زمنٍ قلَّ فيه الديّانون، حتّى كاد الدهر يشهد أنْ ليس فيه أحدٌ منهمإلّا الثُّلّة الطيّبة المعدودة الّتي التحقَت بركب الشهادة..

في زمنٍ طُورد فيه أولياءُ الله، حتّى لا سماء تُظِلّهم ولا أرض تُقِلّهم..

في زمن الجفاء والإعراض.. زمن التجافي والازورار.. زمن الجفوة والشراسة والقسوة.. زمن الصرم والعداوة والغلظة مع آل الله..

في زمن الخذلان والتخلّي والتنصُّل عن كلّ خُلُقٍ كريمٍ وشرف.. زمن تضييع أمانة الله ووديعة الرسول (صلی الله علیه و آله) ..

في زمنٍ ليس في المدينة ولا في مكّة ولا في مصر من الأمصار مَن يَعِدُ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بالنصرة والإيواء.. حتّى ضمّن اللهُ الأرض ومَن عليها دمَه..

في مِثل هذا الزمن المكفهرّ العصيب.. الزمن المتجهّم الساهم الداجي

ص: 203

العبوس..

في مِثل تلك الأيّام المقطّبة الكالحة الكاسفة العابسة.. تصل رسالةٌ مفعَمةٌ برجاء الحظّ السعيد، والأخذِ بنصيب نصرة الغريب..

يصل كتابٌ يُخبِر عن تزاحم الرجال كتزاحم الهيم العطاش يوم خَمسها.. وتذليل رقاب الأعداء، وغسل صدورها بسحابة مُزنٍ كسحَت أدرانها..

في يومٍ من أيّام الدهر الّذي خبأ لآل البيت (علیهم السلام) المصائب والعجائب من صنوف الجفاء والإعراض عن الحقّ وأهله.. في زمنٍ اجتمع الناسوتألّبوا على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآلِه وأصحابه.. بين مُعِدٍّ ومستعدّ.. يتآزرون ويتعاونون وينقّبون ويتظاهرون.. فلا تسمع سوى صهيل الخيل وقعقعة السلاح، وازدحام المقاتلين المدجَّجين، وإيقاع طبول الحرب، وارتفاع الغبرة في الأجواء، ولا ترى إلّا عُسلان الفلوات الهائجة الجائشة المتعطّشة للدماء الزاكية والأبدان المقدّسة، لتملأ بها أكراشاً جُوفاً وأجربةً سُغباً.. مجوَّعةً متوحّشةً مفترسة، حدّت أنيابها وبرتها لتقطيع أوصال هيكل التوحيد، وتمزيق ملاحف خدر الله وخدر رسوله (صلی الله علیه و آله) !!

لا ندري إن كانت هذه الوعود ستتربّع على ذُرى عرش الوفاء، أو أنّها ستنكفئ وتنقلب.. بَيد أنّ العمل على الظاهر والحكم على الموجود يقتضي أنّها وعودٌ في زمن العُسرة يمكن أن تصدق وتفي..

ص: 204

يا لها من نصرةٍ رائعة، تقشعرّ لها الجلود، وتنتفض القلوب لتتحسّس الموقف الرهيب! وتستشعر الغربة.. غربة غريب الغرباء، وغربة آل الله!

التنوير الثالث: ما لَك؟!

ربّما كان وصول الكتاب إلى الإمام (علیه السلام) وهو في غربته تلك الّتي لم يشهد لها التاريخ نظيراً، هو الّذي دعا إلى إظهار التعجّب..

ما لَك؟.. سؤالٌ.. يُستخَدم في مواطن التعجّب.. «كقولك: ما لَك مِنفارس؟ وأنت تتعجّب من فروسيّته وتمدحه» ((1)).

سؤالٌ يتضمّن التعجّب والمدح.. إنّه حقّاً موقفٌ يثير الإعجاب والتعجّب، ويستأهل المدح والتقريظ والإشادة والتنويه والثناء..

هذا هو الظاهر من قول الإمام (علیه السلام) : «ما لَك؟»، ولا نجد له معنىً آخَر يمكن أن ينقدح في القلب إلى حين تحرير هذه السطور.

التنوير الرابع: الدعاء!

دعا الإمام (علیه السلام) لابن مسعود ثلاث دعوات:

- آمَنَك الله يوم الخوف.

- أعزّك.

- أرواك يوم العطش الأكبر.

ص: 205


1- أُنظر: لسان العرب: عَوَدَ.

دعواتٌ متناسقةٌ منسجمةٌ مع المشهد تماماً.. فالأعداء لم يُؤمِنوا وليَّ الله، وأخافوا آلَ الله.. وقد سعى ابن مسعودٍ إلى تأمين قلب أولياء الحسين (علیه السلام) بموقفه هذا وإعلانه النصرة، فاستحقّ بذلك الأمنَ يوم الخوف.. يوم القيامة..

وأعزّ ابنُ مسعودٍ بموقفه مقام الإمام (علیه السلام) ، وخالف الأعداء الّذين كانوايبغون إذلال العزّة الإلهيّة المتمثّلة بالإمام وآله.. فاستحقّ العِزّة في الدارَين..

وأظمأ الأعداءُ الإمامَ (علیه السلام) ومَن معه على الفرات.. وكان ابنُ مسعودٍ يريد النصرة في مِثل هذا الموقف، فاستحقّ الرواء يوم العطش الأكبر..

التنوير الخامس: الدعاء لابن مسعود خاصّة!

إنّ ثَمّة ما يثير الاهتمام في الدعوات الثلاث، ويدعو إلى التنبُّه والالتفات!

إنّ الإمام (علیه السلام) خاطب ابنَ مسعود وحده.. خاطبه بضمير المفرد.. «ما لَك؟ .. آمَنَك .. أعزّك .. أرواك».. وكأنْ لم يكن مِن وراء الرجل قومٌ قادمون، ولا جماعةٌ قد وعدَت النصرة والوفاء!

ربّما لأنّ الّذي بادر إلى النصرة إنّما هو ابن مسعودٍ وحده، والقوم تبَعٌ له، ليس لهم موقفٌ يُنسَب إليهم كأفرادٍ وكجماعةٍ لنصرة ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فهم ينصرون ابن مسعود ويمتثلون أمره، ولو بقوا لحالهم لَما نصروا

ص: 206

سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا تدانَت مواقفهم من صفّه أبداً.

ربّما يُقال:

إنّ الإمام (علیه السلام) دعا له باعتباره زعيم قومه، وحاكٍ عمّن وراءَه، فهي دعوةٌ لهم جميعاً، وقد أُخذ ابن مسعود عنواناً حاكياً عنهم.

ربّما يكون هذا التقدير صحيحاً، غير أنّه بعيدٌ عن طريقة أهلالبيت (علیهم السلام) في التعامل والوفاء، وجزاؤهم الإحسان بالإحسان لكلّ مَن أبدى لهم أدنى خدمةٍ قد لا تُذكَر عند غيرهم، كما هو معروفٌ مشهودٌ من سيرتهم، وقد رأينا ذلك في عطاء سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء وقبلها.

الإضاءة السادسة: عاقبة الموقف
اشارة

فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، بلغَه قتلُه قبل أن يسير، فجزع لذلك جزعاً عظيماً لما فاته من نصرته ((1)).

هكذا انتهَت العاصفة الجارفة المدوّيّة الّتي أطلقها ابن مسعود النهشليّ.. تجهّز للخروج، فبلغه مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل أن يسير، فجزع جزعاً عظيماً لما فاته من نصرته!

ويمكن الوقوف عند هذا المقطع قليلاً لنشهد الخاتمة:

ص: 207


1- مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38.
الوقفة الأُولى: أدّى ما عليه!

حسب ما ورد في النصّ، فإنّ ابن مسعودٍ قد أدخل السرور على قلب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بما أعلنه له عن نفسه وعن قومه، فتأهّل لنيل دعوات الإمام (علیه السلام) العظيمة، وفاز بها فوزاً عظيماً..

وهو قد جمّع وعبّأ وأعدّ واستعدّ، وأعلن على رؤوس الملأ أنّه قد اعتدّبعُدّته وحمل سيفه وادّرع بدرعه، وحشّد قومه، وكان جاهزاً لخوض اللُّجَج وسفك المُهَج وشرب أكؤس الحتوف وركوب أمواج المنايا، بَيد أنّه قد عاقته المسافات، وعرقلت وصولَه عقارب الساعات..

فهو قد أدّى ما عليه حسب الموازين الظاهريّة، ولم يُكتَب في الخاذلين، بل هو ممّن يُعدّ في الناصرين، إن شاء الله (تعالى)..

لكن تبقى ثمّة أسئلةٌ حائرةٌ طائشةٌ تنتظر الجواب، كما سنسمع في الوقفات التالية.

الوقفة الثانية: فترة التجهيز!

ثَمّة مشكلةٌ عسيرةٌ تعرقل عمل أدوات البحث العاديّة وتعوقها عن التنقير والتنقيب والوصول إلى نتائج مريحةٍ في وقائع البصرة.. منها: فقدان النصوص للمواقيت الزمانيّة دائماً، والمواقيت المكانيّة غالباً..

فلا نجد في النصوص ما يفيد تلويحاً _ فضلاً عن التصريح _ عن تاريخ ما فعله ابن مسعود بالضبط ومكانه، كما لم نجد من قبل تاريخاً

ص: 208

واضحاً ووقتاً محدَّداً لوصول كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) بيد المخاطَبين، سوى أنّه كان قبل خروج ابن زياد من البصرة، وهذا الخروج بنفسه أيضاً لم يكن موقّتاً توقيتاً مضبوطاً.

أجل، يمكن ملاحظة سير الحوادث والأجواء العامّة للتوصُّل إلى توقيتاتٍ تقريبيّة..فمن المعلوم أنّ رسول الإمام الحسين (علیه السلام) خرج إلى البصرة من مكّة كما هو مفاد الأخبار، وربّما أفادَت بعضها أنّه خرج في الوقت الّذي خرج فيه المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) إلى الكوفة، كما أشرنا سابقاً..

وكان مقتل شهيد البصرة سُليمان رسول الإمام الحسين (علیه السلام) قبل خروج ابن الأَمة الفاجرة من البصرة..

وكانت شهادة المولى الغريب (علیه السلام) في التاسع من ذي الحجّة، بعد دخول ابن زياد بفترة..

وكان خروج يزيد بن ثبيط (نبيط) وابنيه من بيت مارية العبديّة بعد اجتماع الشيعة فيه، وقد لحق بالإمام (علیه السلام) على مشارف مكّة..

والمفروض أن يكون ابن مسعود قد استلم الكتاب مع من استلم من المخاطَبين قبل شهادة الرسول..

من هذا كلّه يمكن أن يُقال: إنّ الاجتماع الّذي عقده ابن مسعودٍ يلزم أن يكون قبل التاسع من ذي الحجّة شهادة المولى الغريب (علیه السلام) ، أي: قُبيل خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة أو عند خروجه، هذا على أقصى التقادير

ص: 209

الّتي لا يمكن المناقشة فيها، إذ أنّ يزيد بن ثبيط قد خرج إلى الإمام (علیه السلام) من البصرة مُجِدّاً، فأدرك السعادة على مشارف مكّة، وهو قد خرج في نفس تلك الأيّام من بيت مارية.

فيتحصّل أنّ المدّة بين انطلاقة ابن مسعود وجمعه بني تميم وبين شهادةالإمام الحسين (علیه السلام) لا تقلّ عن شهرٍ كاملٍ ثلاثين يوماً.. وإذا أردنا استقصاء القدر فوق المتيقَّن، فهي لا تقلّ عن عشرين يوماً..

وهنا ينبثق سؤالٌ يلوّح بقوّة:

مدّة شهرٍ كامل.. مدّة ثلاثين يوماً.. أو قُل: مدّة عشرين يوماً، لم تكن كافيةً للتجهيز والانطلاق لقطع مسافةٍ كأنّها رمية سهمٍ أو عصاً بين البصرة والكوفة؟! فهو إنْ لم يُدرِك الإمام (علیه السلام) في مكّة ولا على مشارفها، فإنّه كان يمكنه المسير إلى الكوفة عن طريق البرّ أو عن طريق الماء..

ما الّذي أعاقه كلّ هذه المدّة عن إكمال إجراءات التجهيز والمسير؟!

الوقفة الثالثة: إمكان خروج ابن مسعود بعسكر

مَن يراجع التاريخ على عجَلٍ يعلم أنّ خروج ابن مسعودٍ وقومِه من البصرة على شكل عسكرٍ متكاملٍ وجيشٍ متكاثفٍ وخيلٍ ورجالٍ مدجَّجين شاكي السلاح يكاد يكون من غير المعقول ولا المتصوَّر، إلّا أن يقع بينهم وبين جُند الوالي وعساكر السلطان أشدُّ القتال.. وقد أمر ابنُ

ص: 210

الأَمة الفاجرة أخاه أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق ((1))، ولو لم يكتب ابن زيادٍ لَبادر الوالي إلى ذلك بحكم وظيفته.. ولم يرو لنا التاريخ أنّ شيئاً من ذلك قد حصل في البصرة وضواحيها وخارجها!فكيف كان يريد ابن مسعود أن يلحق بالإمام (علیه السلام) مع أتباعه؟!

الوقفة الرابعة: الخروج المتفرّق!

كان بالإمكان أن يخرج ابن مسعودٍ بقومه ضمن مجاميع صغيرةٍ أو أفراداً متفرّقين، مثنى وثلاث ووحداناً، ويرسلهم إلى مكّة أو الكوفة أو إلى ما بينهما من منازل يتسنّى لهم اللحاق بركب السعادة الأبديّة.. لتصدق الصورة الّتي رسمها للإبل الهيم العطاش الّتي ترد الماء بعد خَمسها!

ولم نسمع في التاريخ أنّ ابن مسعود قد فعل ذلك، ولو كان لَبان!

الوقفة الخامسة: الخروج بنفسه ومَن لحق!

لا يُدرى كم كان عدد بني تميم الّذين تزاحموا كالهيم العطاش وتلهّفوا لإجابة زعيمهم ابن مسعود، بيد أنّ سياق الخبر يفيد أنّهم عددٌ ضخم، وكان ابن مسعودٍ يأمل أن يخرج بهم جميعاً إلى نصرة سيّد شباب أهل الجنّة..

غير أنّ الأحداث كانت تتلاحق، والأخبار كانت تتسارع، والأجواء تكتظّ بالزعقات، والوجوه يقبضها التجهُّم والعبوس، والخيل تتراكض في

ص: 211


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 353، نفَس المهموم للقمّيّ: 91.

المدن والجوادّ والصحارى والقفار، والرسُل تترى يتلو بعضُها بعضاً في جميع الأرجاء بين الشام والكوفة والبصرة ومكّة والمدينة..

أخبار عجيج الكوفة وضجيجها، وأخبار مكّة وخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) منها، وأخبار العساكر الّتي كانت تحتشد وتتجحفل..

وقد أفلت من البصرة مَن كان قد عزم جادّاً على النصرة، حتّى إذااستوت به أخفافها انطلق يسابق الريح ويباري الليل والنهار، حتّى أدرك مقصوده ونال شرف ملازمة ركاب زين السموات والأرضين وشنف العرش الإمام الحسين (علیه السلام) على مشارف مكّة..

ومَن تأخّر منهم لحق خواتيم المعركة، ونصر عيال غريب الغرباء (علیه السلام) ، كما سنسمع في شهادة الهفهاف..

فما حَدا ابن مسعود على التراخي حتّى بلغه شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!

أما كان السبيل متيسّراً له ليفلت هو بمن يلحق به، ويبلغ مناه ويحقّق رجاه في نصرة الإمام الغريب المظلوم، إنْ في مكّة أو في الطريق، أو في كربلاء ولو بعد خواتيم المعركة؟!

ألم يقل أنّه قد لبس للحرب لامتها وادّرع لها بدرعها؟ فلْينطلق، ومَن لحق به أدرك ما أدرك ابنُ مسعود، ومن تخلّف فقد بذل المجهود..

الوقفة السادسة: فلمّا تجهّز!

يفيد قولهم: «فلمّا تجهّز.. بلغه قتلُه قبل أن يسير»، أنّه قد وقع إليه خبر

ص: 212

شهادة غريب الغرباء وما جرى عليه وعلى أهل بيته وأنصاره وعياله وكان هو قد تجهّز، واكتمَلَت عدّته وتراصفَت رجاله، وشُهرت أسيافه وشُرعت رماحه..

وهذا يعني أنّه كان قد جهّز جيشاً على مستوىً من التجهيز والاستعداد، يضمّ رجالاً أشدّ تلهُّفاً لنصرة أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) من الإبل إذا وردتيوم خَمسها..

جيشٌ مثل هذا يمكنه أن يفعل الأفاعيل، ويخبط الأرض خبطاً، ويزحزح الجبال ويحرث الصخور بحوافر خيله.. إنّه لم يُحرّك ساكناً في البصرة، ولم يلحق كربلاء، ولم يزحف إلى الكوفة.. لم يلحق السبايا في أيّ موضعٍ من منازل حركتها، ليُنقذ عرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويخلّص بقيّة السيف من آل الله!

الإضاءة السابعة: أسئلةٌ حائرة
اشارة

مرّت علينا خلال الدراسة عدّة أسئلة، وهنا أيضاً نجد بعض الأسئلة الّتي لم نجد لها جواباً وافياً سنذكرها أيضاً.

ولكي تتّضح صورة الأسئلة أكثر، ربّما كرّرنا بعض الأسئلة السابقة الّتي تفرض نفسها هنا بمقتضى طول البحث، ربّما كان عند أهل التحقيق والاختصاص أجوبة، إن شاء الله (تعالى).

ص: 213

السؤال الأوّل: انفراد الشيخ ابن نما

إنفرد الشيخ ابن نما (رحمة الله) بذِكر هذا الخبر الّذي يرسم حدَثاً يُعدّ من أضخم الأحداث في البصرة في تلك الفترة، وهو _ على ما فيه من تفصيلٍ _ يبقى معوزاً في كثيرٍ من ضرورات الخبر، من قبيل التواريخ المضبوطة، فهو لا يذكر متى وصلَت الرسالة إلى يزيد بن مسعود، ولا متى جمع ابنُ مسعودٍ قومه، ولا متى كتب الرسالة، ولا متى وصلَت رسالته بيد الإمام سيّدالشهداء (علیه السلام) ، وفي أيّ ظرفٍ كان الإمام (علیه السلام) ، ولا الكثير من التفاصيل الّتي يحتاجها الباحث ممّا سمعنا وما سنسمعه بعد قليلٍ أيضاً.

غير أنّ هذا السؤال قد يُجاب عليه وفق ما ذكرناه من موازين في (المدخل) من كتاب (وقائع السفارة) وكتاب (بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام))، فلا يهمّنا حينئذٍ إرسال الخبر ولا تأخّره ووروده عند الشيخ ابن نما، وهو أبناء القرن السابع، ولم يُذكَر عند أحدٍ ممّن تقدّمه حسب فحصنا وما توفّر لدينا من المصادر، وهي كثيرة.

فإذا استوفى الخبر شروط القبول المذكورة في المدخل، فلا مانع من اعتماده، مع ملاحظة أنّه حدَثٌ ضمن جملةٍ من الأحداث، ومشهدٌ من صورةٍ كاملةٍ رسمها المؤرّخ، وزاد عليها الشيخ ابن نما (رحمة الله) هذا المشهد..

فلْنرى إن نهض الخبر للإجابة على جُملة الأسئلة المهمّة المؤثّرة، وإلّا يكون التفرُّد ثغرةً تنفع مَن أراد خدش الخبر.

ص: 214

السؤال الثاني: يزيد بن مسعود

مرّ معنا في أكثر من موضعٍ هذا السؤال المُلِحّ الّذي ينبثق بقوّة، ويعترض بجدارةٍ كلّما جاء ذِكر ابن مسعود ومواقفه وقوّته ومدى تأثيره القويّ الممتدّ على أفراد القبيلة..

توهّج الرجُل في يومٍ من أيّام التاريخ، ثمّ انطفأ واختفى، وخبا نورُه على حين غِرّةٍ كما انتشر على حين غرّة..لم نجد له ذِكراً بتاتاً في التاريخ، لا قبل يوم قيامه في قومه، ولا بعد خبر جزعه على الحسين (علیه السلام) عند بلوغه خبر مقتله!

في مدّةٍ لا تزيد عن شهرٍ أو شهرين، سجّل موقفاً واحداً فقط حين جمع قومه وكتب كتابه.. ثمّ سمع خبر شهادة غريب الغرباء (علیه السلام) ، فجزع، واختفى كما كان من قبل، لا اسم له ولا رسم في التاريخ، ولا في أيّ مشهدٍ من مشاهد الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولا مَن سبقه من الأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) .. ولم نسمع له أيّ صوتٍ في فتنة الجَمَل، وهو حسب الفرض من الزعماء المرموقين جدّاً، الّذي خضعَت له الرقاب وتذلّلَت وأطاعته طاعة تسليمٍ مطلق، كما سمعنا في أجوبة بني تميم..

يبدو من كلامه وخطابه لقومه وكتابه لسيّد الشهداء (علیه السلام) أنّه كان عارفاً مؤمناً، معتقِداً بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) والأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) .. وكلماته تفيد معرفةً وإيماناً واعتقاداً راسخاً واعياً عميقاً..

مع ذلك.. لم يكن معروفاً في الشيعة، ولا معدوداً في عدادهم!

ص: 215

ربّما يُجاب على ذلك أنّه كان ممّن يستعمل التقيّة بحزمٍ وقوّة..

ولكنّ هذا التعليل قد يكون قاصراً عن تفسير الحال، لأنّه لم يكن مغموراً مختفياً، بل كان معروفاً مشهوراً مُطاعاً في قومه.

وليس هو معروفاً ولا معدوداً في عداد زعماء القبائل ووجوه العشائر وأشراف البلد قبل ذلك اليوم ولا بعده، وإنّما تزعّم وبلغ مبلغاً في الزعامةبحيث يكون السيّد المطاع بلا منازعٍ ولا اعتراض.. وهذا أيضاً يخالف كونه في تقيّة، ويخالف كونه من الأشراف والوجوه والزعماء، وهو لم يسجّل موقفاً قبل ذلك اليوم في البصرة الملتهبة الّتي كانت الدماء تسيل فيها أنهاراً يوم الجَمل، ولا زلت الفتن فيها بعد الجمل..

كانت البصرة تحت سلطة أولاد البغايا من زياد ابن أبيه ونغله ابن الأَمة الفاجرة.. ويبقى ابن مسعود بعيداً عن أيّ ضوءٍ يسلَّط عليه، على المستوى الاجتماعي، وعلى مستوى الانتماء العقائديّ!

إنّه فقرة الظهر في بني تميم، والسيّد المُطاع الّذي عرفه قومه وشهدوا له في هذا الخبر بشهاداتٍ يعزّ لها النظير في زعيمٍ غيره!

كيف لمع وخمد.. توهّج واتّقد وانطفأ.. وبرق برقة خاطفةً وسرعان ما تبدّدَت سحابة مزنه الهطالة المثقلة؟!

لم يذكره أحدٌ من الأوّلين والآخرين.. لم يأتِ اسمُه في أيّ كتابٍ أو مصدر، مع ما له من مقامٍ ومنزلةٍ وعزّةٍ وجاهٍ وشرفٍ في قبيلةٍ ممتدّةٍ كثير

ص: 216

التشعّب والأفراد..

إلّا ما مرّ ذكره معنا في التعريف باسمه.

السؤال الثالث: ابن مسعود زعيمٌ بين الزعماء

بنو تميم قبيلةٌ واسعة الانتشار، كثير الأفخاذ والأفراد، لها امتداداتها، وزعماؤها كُثُر، وفيهم مَن كان مخاطَباً في كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) ..وكان زعماؤها ومَن يسمّونهم الأشراف والوجوه عَبيدَ السلطان وأعداء الإمام (علیه السلام) بالمجاهرة والعيان، وهم من ذوي المكانة وأصحاب كراسي في ديوان ابن زياد..

كيف كان ابن مسعود وحده هو المؤثّر في بني تميم بأفخاذهم، ويخمد الزعماءُ الآخرون من وجوههم وأشرافهم وهم عَبيدٌ للسلطان وأعداءٌ للإمام (علیه السلام) بالمجاهرة والعيان؟!

السؤال الرابع: كيف اجتمع هؤلاء القوم على غفلةٍ من السلطان؟

في فترةٍ تسرّب فيها الرعب إلى الفرائص، وسكن الخوف والإرهاب بين شراسيف الأضلاع، وانخلعَت القلوب من الصدور، وكان الفرد يخال ظلَّه مُخبِراً أو جلوازاً يلاحقه، فلا يطمئنّ لغلامه وعبده وجاريته وأَمَته وخِلِّه وصديقه..

إضطهادٌ وجَورٌ وقتلٌ على التهمة وأخذٌ على الظنّة، مارسها زياد ابن أبيه ومِن بعدُ ابنُ مرجانة الملصوق به..

ص: 217

ربايا ومسالح.. مفارز وحرّاس وجيوش.. تجوب السكك والشوارع، وتثير رمال الصحارى، وتتخلّل النخيل والأشجار، وقد نظمت البلدان والفيفافي خيلاً ورجالاً في كلّ مكان؛ استعداداً لقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والحؤول دون التحاق أيّ ناصرٍ به..

وكلُّ وصفِ الواصف لا يبلغ مدى ما كانت عليه الأمصار الّتي لها نوعصلةٍ بالمراكز الثلاثة: مكّة، المدينة، الكوفة.. وكانت البصرة من أهمّ الأمصار وأقربها إلى الكوفة يومذاك..

في مِثل هذا الجوّ الملتهب الهائج في جميع ذرّاته وتفاصيله.. يجمع ابن مسعود بني تميم بأفخاذها، ويخطب فيهم خطبتهم الرنّانة بما فيها من تحشيدٍ وتحريضٍ وعقائد راقية.. ثم لا يعلم به أحدٌ من السلطة؟!

أما كان في الحاضرين عينٌ ولا جاسوسٌ ولا شرّير، ولا أحدٌ من ذوي النفوس الضعيفة البالية لِيُخبر؟!

أكان خطابه حين كان ابن زيادٍ لا زال جاثماً على صدر البصرة يُثقِل كلكلها ويخنق أهلها، أم كان بعد أن خرج ابن زيادٍ إلى الكوفة وخلّف أخاه عليهم، وأوصاه ورسم له ما عليه أن يعمل مع الناس، وأمره أن يأخذ الطرق ويمسك الموالج والمخارج؟

سواءً كان الأمر مع ابن زياد أو مع أخيه، فهما منسوبان إلى زياد ابن أبيه الطاغية الدمويّ، وهما على شاكلته، وينتسبان إلى سلطانٍ واحد.

ص: 218

كيف يخطب يزيد بن مسعود في بني تميم هذه الخطبة على رؤوس الملأ، ولم يبلغ ذاك ابن زياد _ ولا أخاه _، ولم يتّخذ منه ومنهم موقفاً، وقد أزبد وأرعد، وكيف غادر البصرة هانئ البال، وفيها بنو تميم قد خلعوا الطاعة؟!

قد يُقال:إنّ ابن مسعود لم يجمع الناس كلّهم، وأفرادَ القبيلة جميعاً، وإنّما كان الكلام يدور مع أشرافهم ووجوههم ورؤسائهم، فيكون العدد المجتمع حينئذٍ قليل، قد لا يثير فضول السلطان ((1)).

ويُجاب:

أوّلاً: إنّ خلع الطاعة وإعلان البيعة يحصل بهؤلاء الرؤوس، ويكفي لإقلاق السلطان وإفزاعه واضطراره لاتّخاذ الحيطة والحذر وتنفيذِه تهديداته، إذ أنّ السلطان يعلم أنّ الأفراد تبَعٌ لموقف هؤلاء الرؤوس.

ثانياً: إنّ النصّ لا يساعد على هذا الفهم، إذ أنّه يفيد أنّ ابن مسعود أحضر قومه فكلّمهم، ولم يَرِد للوجوه والأشراف والرؤوس ذِكرٌ في المتن، كما هو المعتاد في تعبير المؤرّخ.

ثالثاً: إنّ النصّ افترض في ابن مسعود رأساً خاطبه الإمامُ الحسين (علیه السلام)

ص: 219


1- ملاحظةٌ سجّلها أخي العزيز خادم الحسين (علیه السلام) شاعر أهل البيت (علیهم السلام) الحاج عادل أشكنانيّ، حفظه الله ورعاه وثبّته على خدمة سيّد الشهداء (علیه السلام) .

بكتابه، وهو بدوره دعا قومه فحشّدهم وحرّضهم على نصرة الإمام (علیه السلام) ، وهي العادة المعهودة في مِثل هذه المواقف.

رابعاً: لو فرضنا صحّة هذه الملاحظة، فإنّ مؤدّى اجتماع هؤلاء الرؤوس وانطلاقهم إلى مَن هم تحت ولاءاتهم سيُحدِث في البلد حركةً ملحوظةً يتنبّه لها حتّى الأعمى، بعد أن يجمع كلُّ واحدٍ من هؤلاء أفرادَه،فيخطب فيهم ويكلّمهم ويحثّهم ويدعوهم إلى ما دعاهم إليه ابن مسعود.

خامساً: لو افترضنا أنّ الرؤوس هؤلاء كلّموا أفرادهم بهدوءٍ وسرّيّةٍ تامّةٍ لا تستفزّ السلطان، فإنّ تجهيزهم واستعدادهم يثير في البلد حركةً غير رتيبة، كما سنسمع في السؤال الآتي.

السؤال الخامس: كيف جهّز ابن مسعود قومه ولم يحفل بهم أَحَد؟

خلعَت بنو تميم الطاعة، وأعلنَت نصرتها لزعيمها، وأعلن زعيمُها نصرته لابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وراح الجميع يتجهّزون ويستعدّون..

يستعدّون لخوض حربٍ ضروسٍ قاسية، وقتالٍ شرسٍ أدناه أن تطيح فيه الرؤوس وتُقطَع الأيدي وتُرمَّل النساء ويُيتَّم الأولاد..

يستعدّون للخروج من البلد، ويخلّفون من ورائهم الأهل والأموال والأراضي والعقارات، ومستلزمات الدنيا وبهرجها..

يتجحفلون ويتلاقون.. يصلحون أسيافهم.. يبرون نبالهم.. يقوّمون كعابهم ورماحهم.. يمسحون دروعهم.. ويتفحّصون درقهم وأتراسهم..

ص: 220

قبيلةٌ منهم بنو حنظلة وبنو سعد وبنو عامر.. رجالٌ فرسان، وخيولٌ وأسلحةٌ جاهزة للخروج إلى مواجهةٍ وحرب..

ولك أن تتصوّر كلّ ما يلزم من تجهيز هذه الأعداد للحرب من صخبٍ وقعقعةٍ واتّصالاتٍ وتردّداتٍ في الأسواق والنوادي والمحافل، وتحرّكاتٍ ونشاطاتٍ على كلّ صعيد..كلّ ذلك والقوم يخلعون الطاعة ويعلنون الولاء لعدوّ السلطات..

والسلطات في غفلةٍ تامّة.. لم تتخذ أيّ موقفٍ يُذكَر!

السؤال السادس: أخبار التجهيز

أعدادٌ ضخمةٌ تتجهّز للخروج إلى حربٍ تواجه فيها السلطة القائمة ذات العدّة والعدد والمال والسلاح والرجال والعساكر المنتظمة في ثكناتها ومواقعها المنتشرة في كلّ مكانٍ وجميع الأرجاء..

مَن كان المؤثّر فيهم والمحرّك لهم، حتّى لا يخفت فيهم الهيجان ولا تبرد القلوب وتستمر في وهجها واشتعالها وتوثّبها؟

أين كانت تنعقد اجتماعاتهم؟

أين كانت تُجمَّع تجهيزاتهم وعدّتهم؟

من أين كان يأتيهم المدد والمال والحماس؟

لم يروِ لنا التاريخ أيَّ تفاصيل عن حركةٍ بهذه الضخامة لعددٍ بهذه الضخامة، ولموقفٍ بهذه الضخامة!

ص: 221

السؤال السابع: التعارض!

إستمهل بنو سعدٍ حتّى يروا رأيهم ويحسنوا المشورة ويُخبروا ابن مسعود، بعد أن قرّروا رضاهم وانشراحهم وابتهاجهم برأي صخر بن قيسٍوارتياحهم لأمره بترك القتال وطاعتهم لهم، وما أنتج بزعمهم من بقاء عزّهم فيهم ((1))..

وهذا انخذالٌ يرعى الأدب، واستمهالٌ يقصد البحث عن ذريعةٍ تخرج بهم إلى رأي صخر بن قيس، وتفلّتٌ بهم من الموقف دون أن تجعلهم في موقفٍ شاذٍّ بين سائر المجتمعين.. ممّا دعا ابن مسعود للردّ عليهم بالذات، وتحذيرهم وتخويفهم من عاقبة أمرهم، وهدّدهم بالموت والفناء وتسليط سيوفهم عليهم إذا ما تقاعسوا وتثاقلوا واعتزلوا..

هكذا هو موقف بني سعد، كما يرويه الخبر.. بَيد أنّ ابن مسعودٍ يرسم في كتابه إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) صورةً تختلف تماماً، إذ يخبره أنّه قد ذلّل له رقابهم، وغسل درَنَ صدورهم بماء سحابة مُزن ((2))..

وشتّان بين ما أخبر به في كتابه، وبين موقفهم يوم اجتمع بهم..

ولا يمكن افتراض أنّهم قد أخذوا قسطهم من المشورة وتداول الرأي وخرجوا بقرار الالتحاق؛ لأنّ الخبر لا يتكفّل بيان ذلك، ولم يعرّج على

ص: 222


1- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27.
2- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27.

موقفهم بعد ذلك الموقف، ويختم الحدث بتحذير ابن مسعودٍ فقط.

هذا نموذجٌ للتعارض الموجود في أحداث الخبر، ومَن تأمّل الخبر وتابع الدراسة يجد أمثلةً أُخرى، تركنا التنويه إليها هنا تجنُّباً للإطالة.

السؤال الثامن: عدم كفاف المدّة للتجهّز

المدّة بين وصول كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى البصرة وشهادته لا تقلّ عن شهرٍ على أقلّ التقادير، وإذا حسبنا خروج سُليمان مع خروج المولى الغريب (علیه السلام) _ كما أفادت النصوص _، فهي شهرين أو أكثر.. وهذه المدّة كافيةٌ للتجهُّز واللحاق بالإمام..

وقد خرج الأبطال الّذين سارعوا إلى المغفرة ورضوان الله، فلحقوا الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة أو على مشارفها..

فبماذا يمكن تفسير تأخُّر ابن مسعودٍ وانشغاله بالتجهيز، حتّى إذا تجهّز بلغه خبر شهادة الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ؟

السؤال التاسع: تتبُّع الأخبار

كانت الأخبار تصل إلى البصرة وغيرها من الحواضر، ولابدّ لمن يهمّه الأمر أن يتابع الأخبار بدقّةٍ ومتابعةٍ أشدّ، والخبر يقتطع الأحداث ما بين جَمعِ ابنِ مسعودٍ لقومه إلى بلوغ خبر شهادة الإمام (علیه السلام) وجزعه عليه، وكأنّ ابن مسعود لم يبلغه أيُّ خبرٍ يتعلّق بسيّد الشهداء (علیه السلام) وحركته وتنقُّلاته، أو ما يخصّ إعدادات العدوّ وتجميعه أبالسته وشياطينه وتسليحهم، وما جرى

ص: 223

من التهابٍ واشتعالٍ وأمواجٍ عاتيةٍ لفّت الناس في الكوفة وتوابعها..

لم يبلغه أيُّ خبرٍ سوى شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!

لا يُقال: إنّ تسارع الأحداث كان بشكلٍ لا يُمهِل المتابع، ولا يسمحللبعيد أن يتدانى؛ فإنّ ابن مسعود كان قد استعدّ، وهو على مستوىً رفيعٍ من الولاء والاندفاع والاستعجال في نصرة الإمام (علیه السلام) ، وقد لبس للحرب لامتها وادّرع لها بدرعها، كما قال في خطبته.

فهو إمّا أن يكون قد غاب عن المشهد ولم يبلغه أيُّ خبر، وهذا بعيدٌ وغير متوقّعٍ ولا متصوَّر في حقّ رجُلٍ كهذا في الولاء والاستعداد للحرب.

وإمّا أن يكون قد تابع وسمع.. فلماذا كلّ هذا التراخي والتمهُّل حتّى يبلغه خبر شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!

لماذا لم يفلت ابن مسعود وحده أو بمن معه ليصل إلى الإمام (علیه السلام) في أيّ موضعٍ كان؟!

السؤال العاشر: تعارض الموقف مع ما رُوي عن أهل البيت (علیهم السلام)

سيأتي الحديث عن حال البصرة عند مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ونقتصر هنا على ذِكر حديثٍ واحد، وسنضطر إلى العودة إليه، رواه الثقة الكلينيّ والثقة ابن قولويه، بالإسناد عن الحسين بن ثوير _ في حديثٍ _ قال:

ثمّ قال (علیه السلام) : «إنّ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) لمّا قضى، بكَتْ عليه

ص: 224

السماواتُ السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن ينقلب في الجنّة والنار مِن خَلق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى بكى على أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، إلّا ثلاثة أشياء لم تبكِ عليه».قلت: جُعلتُ فداك، وما هذه الثلاثة الأشياء؟

قال: «لم تبكِ عليه "البصرة" ولا "دمشق" ولا "آل عثمان" (عليهم لعنة الله)» ... ((1)).

صورةٌ ما أعظمها من صورةٍ يرسمها الإمام (علیه السلام) ، وهم سادات اللغة وأُمراء الكلام..

لمّا قضى أبو عبد الله.. حين قُتِل الإمام الحسين (علیه السلام) .. التوقيت محدَّدٌ مضبوط.. بكى عليه كلُّ شيء.. فصّله الإمام (علیه السلام) تفصيلاً، وذكر موارد قد يصعب على الإنسان أن يتخيّل أنّها ستبكي أو يتوقّع منها البكاء.. السماوات السبع جمعيها، والأرضون السبع جمعيها.. وكان بالإمكان الاكتفاء بهذا الشمول، بَيد أنّه فصّل أكثر.. وما فيهنّ.. وشمل ما يكون بينهنّ، ومَن ينقلب في الجنّة والنار.. أجل، في الجنّة والنار.. وكلّ المخلوقات مِن خَلق ربّنا، ما يُرى منها وما لا يُرى.. حتّى الذرّة وما حوَت..

ص: 225


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 575، كامل الزيارات لابن قولويه: 80 الباب 26 ح 5، و198 ح 2.

بعد هذا التفصيل العامّ الشامل الّذي لا يستثني أحداً من المخلوقات، يستثني الإمام (علیه السلام) ثلاثة، أحدها _ بل أوّلها _ : البصرة!!!

ومفاد دلالة الاقتضاء أنّ أهل البصرة يومذاك لم يبكوا على الإمام المظلوم (علیه السلام) .. ومن الواضح أنّهم لم يبكوا، لأنّهم فرحوا وشمتوا وقبلوا ورضوا بما جرى له ولآله..لم يستثنِ الإمام (علیه السلام) أحداً من أهل البصرة يومها، كما لم يستثنِ أحداً من أهل دمشق، ولا من آل عثمان.. والمفروض أنّ هذا الإطلاق والعموم الحاصل من (ال) الاستغراق يفيد الشمول لهم جميعاً.

أجل، ربّما استُثني عددٌ محدودٌ لا يخرم صدق الإطلاق والعموم، ويكون شاذّاً نادراً.

كان هذا لمّا قضى الإمام أبو عبد الله (علیه السلام) .. أي: لمّا قُتل الإمام الغريب (علیه السلام) ، لم تبكِ عليه البصرة ذلك اليوم؛ شماتةً وعداوةً وبغضاً..

إذا كان حال عموم البصرة يومذاك هو هذا الحال الّذي يصفه الإمام المعصوم (علیه السلام) ، فكيف يمكن تصوير حالةٍ هائجةٍ مائجةٍ متلهّفةٍ لنصرته، وجازعةٍ عليه؟! وهم ليسوا بالعدد القليل.. إنّهم بنو حنظلة وبنو سعد وبنو عامر.. إنّهم بنو تميم، القبيلة الكبيرة الممتدّة الشاسعة في الوشائج والعلائق والأفراد..

فهل نصدّق الخبر ونتماشى معه، أو نصدّق الحديث الشريف ونسلّم له؟

ص: 226

هل ثَمّة ضرورةٌ تدعونا لليّ عُنق الحديث، والالتواء على كلام الإمام (علیه السلام) وتأويله وإخراجه عن سياقه، من أجل تصديق الخبر؟

ولو أغمضنا النظر _ تسليماً وجدلاً _، ولم نتعامل مع الحديث الشريف كحديث، ولم نرتفع به حتّى ينتهي إلى الإمام المعصوم الصادق المصدّق، واكتفينا بالعظيمَين الجليلَين الثقتَين الكلينيّ وابن قولويه، واعتبرنا التعارضبين نصٍّ يرويه هذان العلمان، ونصٍّ يرويه الشيخ ابن نما، فسيبقى الميزان راجحاً رجحاناً ثقيلاً جدّاً تبلغ فيه كفّتهما الأرض وتحفرها..

ونعود لنؤكّد أنّ الكلام يدور حول قبيلةٍ بضخامة بني تميم، وليس الأمر متعلّقاً بأفراد معدودين حتّى نُدخلهم في الاستثناء، إنْ كان ثَمّة ضرورةٌ لافتراض الاستثناء!

أجل، قد يُقال:

إنّ الأمر لم يكن بالنسبة لبني تميم والّذين أعلنوا النصرة ذا بال، ولم يكن يهمّهم من قريب، لأنّهم اتّبعوا زعيمهم وأطاعوه من دون ولاءٍ خاصٍّ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ لا يهمّهم مَن المنصور بسيوفهم ولمن يبذلون أرواحهم، فحينئذٍ من الطبيعيّ أن لا يبكوا على الإمام المظلوم (علیه السلام) ، بل سيفرحوا بما نالوا من الدعة ومجانبة الحرب والقتال ومفارقة المال والعيال.

* * * * *

هذه جملةٌ من الأسئلة، وهناك أسئلةٌ أُخرى مرّت، ويمكن أن تخطر

ص: 227

على بال مَن يتابع الموقف بدقّة، فربّما واجهته بين المقطع والمقطع من مقاطع الخبر.

ص: 228

القسم الأوّل: رواية مضامين الكتاب

أجملَت جملةٌ من المصادر في نقل الكتاب، فاقتصرَت على نقل مضمونه حسب فهم المؤرّخ..

فاكتفى المقريزيّ بقوله: «يدعوهم» ((1)) فقط، مِن دون ذِكر متعلّق الدعوة.

وقال ابن أعثم وتبعه الخوارزميّ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كتب إليهم كتاباً يدعوهم فيه إلى نصرته والقيام معه في حقّه ((2)).

وصاغها السيّد ابن طاووس في الدعوة إلى نصرته ولزوم طاعته ((3)).

ص: 229


1- إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
3- اللهوف لابن طاووس: 38، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.

سنقتصر هنا على التنويه إلى نكتةٍ منهجيّةٍ خطيرةٍ غاية الخطورة، قد أشرنا إليها في كثيرٍ من المواضع.

إنّ المؤرّخ قد يروي لنا خبراً ويترك للمتلقّي مجال التفكير والتحليل والاستنتاج واستنطاق النصّ، وقد يقرأ الخبر ثمّ يفهم منه فهماً خاصّاً وينقل لنا فهمه من الحدَث، فهو عاقبةً يفرض على المتلقّي فهمه، ويبني عقله وفق متبنّياته واستنتاجاته..

لقد فهم هؤلاء من الكتاب الدعوةَ إلى نصرته والقيامَ بحقّه ولزومَ طاعته، فنقلوا فهمهم، كما فعل البلاذريّ وابن الأثير في جزءٍ من روايتهم، كما سيأتي في القسم الثاني.. وبهذا وضعوا أُسساً لبناءٍ عقليٍّ ونفسيّ، وألقوا في ذهن المتلقّي لوناً خاصّاً من الفهم سينساق معه المتلقّي، ويكوّن له سابقةً في الفهم، إلّا أن يكون قد أخذ من الحيطة والحذر ترساً واقياً قبل الاستسلام لما ينثره المؤرّخ هنا وهناك من تصوّراته ومتبنّياته..

وللمتلقّي أن يحرّر نفسه من هذه السوابق الملقاة، وينظر في الكتاب ليرى إن كان الكتاب يتضمّن الدعوة إلى نصرته أم لا، كما سنسمع بعد قليل.

القسم الثاني: الدمج بين رواية المضامين والنصّ

عمد بعض المؤرّخين إلى رواية مضمون الكتاب حسب فهمه الخاصّ، وطرّزه بذِكر جملةٍ من نصّ الكتاب، وإنّما عرفنا أنّها من نصّ

ص: 230

الكتاب لما وجدناه عند مَن روى الكتاب كاملاً، ولولا ذاك لَكان مدرَجاً في القسم الأوّل.

قال البلاذريّ:

وقد كان الحسين بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة يدعوهم إلى كتاب الله، ويقول لهم: «إنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعةَ قد أُحييَت ونُعشَت» ((1)).

يُلاحَظ أنّه يصوغ الدعوة إلى كتاب الله في كلامه، ثمّ يذكر قولاً لسيّد الشهداء (علیه السلام) .

وجرى ابن الأثير والنويريّ مجرى البلاذريّ، وزادا عليه بإضافة: «الدعوة إلى سُنّة نبيّه» إلى الدعوة إلى الكتاب، ثمّ نقلا نفس الفقرة بأدنى تفاوت ((2)).

هذا القسم يدخل في القسمَين الآخَرين، فهو من حيث رواية المضامين تابعٌ للقسم الأوّل، ومن حيث نقل النصّ _ ولو جملة واحدة منه _ تابعٌللقسم الثالث الّذي سيأتي الكلام عنه لاحقاً، إن شاء الله (تعالى).

القسم الثالث: رواية نصّ الكتاب

اشارة

يمكن تقسيم ما رُوي في نصّ الكتاب إلى روايتين:

ص: 231


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
الرواية الأُولى: المختصرة
اشارة

يُلاحَظ أنّ مَن روى الكتاب قبل الطبريّ رواه مختصراً، سواءً كان قد نقل مضمونه، أو عبارةً منه فقط كما فعل البلاذريّ، أو نقله ككتابٍ كاملٍ مثل الدينوريّ، فقد رواه الأخير بهذا اللفظ:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم.

أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع، فإنْ تُجيبوا تهتدوا سُبل الرشاد، والسلام» ((1)).

ورواه الشيخ ابن نما مختصراً أيضاً، فقال:

وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ... فيه: «إنّي أدعوكم إلى الله وإلى نبيّه، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، فإنْ تجيبوا دعوتيوتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد» ((2)).

يمكن دراسة ما في هذا النصّ من خلال المتابعات التالية:

المتابعة الأُولى: نصّ ابن نما (رحمة الله)

يبدو من قول الشيخ ابن نما: «وفيه»، أنّ الكتاب أكثر ممّا نُقِل، فهو

ص: 232


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.

إمّا أن يكون قد اقتطعه من لفظ الدينوريّ بحذف أسماء المخاطَبين، أو أنّه اقتطعه من نصّ الطبريّ الطويل، والظاهر من تقارب اللفظ إلى حدّ التطابق مع نصّ الطبريّ أنّه قد اقتطعه من نصّ الطبريّ.

وربّما يُفترض وجود طريقٍ ثالثٍ روى عنه الشيخ لم يصل إلينا؛ بشهادة الزيادات الكثيرة الواردة في روايته.

غير أنّ تقارب اللفظ مع الطبريّ يكفي لدمج الحديث عنه معه، فلا نتعرّض له هنا.

المتابعة الثانية: ورود أسماء المخاطَبين في متن الرسالة

يمتاز هذا النصّ بورود أسماء المخاطَبين في متن الكتاب، وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) قد خاطب أفراداً بأعيانهم، لا يزداد عددهم ولا ينقص، ولا يصحّ إدخال غيرهم في الخطاب، كما لا يصحّ إخراج أحدهم من الخطاب.وهم _ كما مرّ معنا سابقاً _ أعداءٌ متوحّشون، حتّى الأحنف منهم فهو على حدّ العداوة.. ومَن خلفهم من أتباعهم على شاكلتهم، إن لم يكونوا أتعس منهم وأنجس، لجهلهم المطبق وتبعيّتهم البغيضة لكبرائهم.

المتابعة الثالثة: مقدّمة الكتاب

ورد في هذا اللفظ الابتداء بالبسملة والسلام على المخاطَبين بعد ذِكرهم بأسمائهم، كما يختم الكتاب بالسلام المطلق أيضاً، من دون تقييدٍ

ص: 233

بمَن اتّبع الهدى أو عرف الحقّ أو ما شاكل..

وهذا النوع من الخطاب الليّن والرفق بالمخاطَب من أدب أهل البيت (علیهم السلام) وأخلاقهم، فهم معدن الحِلم والكرم، وهم الوجودات المقدّسة الّتي يرى فيها المخلوقاتُ أخلاقَ الله (تبارك وتعالى) في مداراة الخَلق والصبر عليهم.

المتابعة الرابعة: الدعوة
اشارة

يمكن أن نتابع هذه المتابعة من خلال اللمعات التالية:

اللمعة الأُولى: الدعوة في شقَّين

جاءت الدعوة في شقَّين، يتمّم أحدُهما الآخَر:

الشقّ الأوّل: الدعوة إلى إحياء معالم الحقّ.

الشقّ الثاني: إماتة البدَع.والمفروض أنّ يؤدّي كلّ واحدٍ من الشقَّين إلى تحقُّق الآخَر، إذ أنّ من يُحيي معالم الحقّ يلزمه أن يُميت البدعة.

اللمعة الثانية: عموم الدعوة

لقد جاء بهذه الدعوة جميعُ الأنبياء والمرسَلين والأوصياء، وجرت على لسان أولياء الله من الأوّلين والآخرين.

هذه الدعوة هي دعوة القرآن الّذي يُتلى في كلّ آن..

هذه دعوة رسول الله سيّد الرسل وخاتم النبيّين (صلی الله علیه و آله) ..

ص: 234

هذه دعوة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ودعوة أبي محمّدٍ الحسن المجتبى الأمين (علیه السلام) ، ودعوة سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، ودعوة أولاده المعصومين إلى خاتم الأولياء (علیهم السلام) ، ودعوة أتباعهم والمقتدين بهداهم إلى يوم الدين..

وقد دعا بها وإليها الإمام الحسين (علیه السلام) قبل كتابه لأهل البصرة وبعدها إلى حين شهادته..

خاطب بها الإمام الحسين (علیه السلام) طاغيةَ الأُمويّين وواجهه بها، وخاطب بها مَن أنعم الله عليه فعاش في ظلّه أيّام إمامته..

ولا نريد الاسترسال في ذِكر الأدلّة والشواهد على ذلك، فإنّ هذا ما يعتقده كلُّ مَن يؤمن بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) وعصمته، وإمامةِ الأئمّة الطاهرين وعصمتهم (علیهم السلام) .. وفي الأحاديث الشريفة ونصوص الزياراتالمقدّسة ما يكفي ويفي ببيان ذلك.

اللمعة الثالثة: معنى «الحياة، المعالم، الحقّ»

الحَيَاةُ: نقيض الموت، والحَيُّ من كلّ شيءٍ: نقيضُ الميّت، وأحياه: جَعَله حيّاً.

الأرض المَوَات: الأرض الّتي لم يَجْرِ عليها مُلك أَحَد، وإحياؤها: مباشرتها بتأثير شيءٍ فيها، من إحاطةٍ أو زرعٍ أو عمارةٍ ونحو ذلك، تشبيهاً بإحياء الميّت.

ص: 235

وأَحْيُوا ما بين العِشاءَين، أي: اشغلوه بالصلاة والعبادة والذِّكر، ولا تعطِّلوه فتجعلوه كالميت بعُطْلَته، وإحياءُ الليل: السهرُ فيه بالعبادة وترك النوم.

وأحيا الله الأرضَ: أخرجَ فيها النبات، وقيل: إنّما أحياها، من الحياة، كأنّها كانت ميتةً بالمحْلِ فأحياها بالغَيث ((1)).

* * * * *

المَعْلَمُ: ما جُعِل علامةً وعَلَماً للطُّرق والحدود، مثل أَعلام الحَرَم ومعالِمِه المضروبة عليه.

المعلم: العَلامةُ، والعَلَمُ الفصلُ يكون بين الأرضَيْن. والعَلامة والعَلَمُ:شيءٌ يُنصَب في الفلَوات تهتدي به الضالّة.

والمعلم: الأثرُ يُستدَلُّ به على الطريق، وجمعه: المعالِم.

يُقال لِما يُبنى في جَوادّ الطريق من المنازل يُستدَلّ بها على الطريق: أعلام، واحدها عَلَم.

ومَعْلَمُ الطريق: دَلالتُه، وكذلك مَعْلَم الدِّين على المثل، ومَعْلَم كلِّ شيءٍ: مظِنَّتُه، وفلانٌ مَعلَمٌ للخير كذلك ((2)).

* * * * *

ص: 236


1- أُنظر: لسان العرب: حَيَوَ.
2- أُنظر: لسان العرب وغيره: عَلمَ.

الحَقُّ: نقيض الباطل.

قوله (تعالى): ﴿وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ ((1))، قال أبو إسحاق: الحقّ أمرُ النبي (صلی الله علیه و آله) وما أتى به من القرآن، وكذلك قال في قوله (تعالى): ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ﴾ ((2)).

وحَقَّ الأمرُ: صار حَقّاً وثَبُت. قال الأَزهريّ: معناه: وجَبَ وحَقَّ عليه القول، وفي التنزيل: ﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ ((3))، أي: ثبُت، وقوله (تعالى): ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ ((4))، أي: وجبَت وثبتَت، وكذلك: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ ((5)).

وحَقَّه وأحَقَّه _ كلاهما _ : أثبتَه وصار عنده حقّاً لا يُشكُّ فيه، وأحَقَّه:صيّره حقّاً، وحَقَّه وحَقَّقه: صدَّقه. وقال ابن دريد: صدَّق قائلَه، وحقَّق الرجلُ إذا قال هذا الشيء هو الحقُّ، كقولك صدَّق، ويُقال: أحقَقْت الأمر إحقاقاً، إذا أحكمتَه وصَحَّحتَه.

وحَقَّ الأمرَ وأحقَّه: كان منه على يقين، تقول: حَقَقْتُ الأمرَ وأحْقَقْتُه،

ص: 237


1- سورة البقرة: 42.
2- سورة الأنبياء: 18.
3- سورة القصص: 63.
4- سورة الزُّمر: 71.
5- سورة يس: 7.

إذا كنتَ على يقينٍ منه ((1)).

اللمعة الرابعة: إحياء معالم الحقّ

بحثنا عن ورود هذا التركيب (معالم الحقّ) على عجلٍ في حديث أهل البيت (علیهم السلام) ، فلم نجد له أثراً _ حسب فحصنا _.. أجل، ورد تركيب (معالم الدين)..

أجل، وجدناه فيما يُنسَب لسيّد الشهداء (علیه السلام) من كلامٍ جرى بينه وبين ابن مطيع في لقائه، وسأله عن وجهته، فقال (علیه السلام) : «إنّ أهل الكوفة كتبوا إليّ يسألونني أنْ أقدِمَ عليهم، لِما رجَوا من إحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع» ((2)).

وهو نفس ما ورد هنا في كتابه (علیه السلام) لأهل البصرة، فتكون الدعوة تحقيقاً لرجاء ما رجاه أهل الكوفة.

وقد أتينا على مناقشة لقاء ابن مطيع في محلّه بالتفصيل.

وتبيّن لنا معنى "الإحياء"، ومعنى "معالم"، ومعنى "الحقّ"..ولا يبدو في نصّ الكتاب _ وفق هذا اللفظ _ شيءٌ يحدّد لنا معالم الحقّ الّتي يُراد إحياؤها، والظاهر من إطلاق الإحياء وإطلاق المعالم وإطلاق الحقّ أنّ المراد هو جميع الأفراد وفي جميع الأصعدة والمستويات

ص: 238


1- أُنظر: لسان العرب وغيره: حَقَقَ.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 246.

والأبعاد..

والمأساة الّتي يعيشها البشر يومذاك، وفي كلّ عصرٍ وزمانٍ منذ أن هبط آدم إلى الأرض، هو تضييع معالم الحقّ والإجهاز عليها ومباشرة محوها وطمسها وتغييبها..

والحقّ هو الحقّ، ثابتٌ لا يتغيّر ولا يتزحزح، وعلى الإنسان أن يكدح ليبلغه من خلال المعالم المحدَّدة له الّتي تنير له الطريق..

وقد أرسى معالم الحقّ الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) على كرّ العصور ومرّ الدهور، ورفعَ قواعدَها وأبانها بوضوحٍ خاتمُ الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) ، وأشاد أركانها وعمّق التباين في ألوانها أمير المؤمنين (علیه السلام) ومِن بعده الأئمّة الميامين (علیهم السلام) ..

والإنسان يُبعِدها عن طريقه، ويَبتعد عنها في سلوكه، ويضع الغشاوة على بصره وبصيرته..

فمعالم الحقّ _ كما تفيد عبارة سيّد الشهداء (علیه السلام) _ موجودة، غير أنّها مطموسةٌ ودارسة، والإمام يدعوهم لإحيائها، والكشفِ عنها، وتتبُّعِ مواقعها وآثارها، والسيرِ إلى منارها والتنوّر بنورها..دعوةٌ لإحياء كلّ ما هو نقيض الباطل في كلّ صعيد، وفي كلّ بُعدٍ من أبعاد البشر والحياة البشريّة.. عقائديّاً ومعرفيّاً وسلوكيّاً، فرديّاً واجتماعيّاً، وغيرها من الأبعاد والأعماق والأصعدة..

ص: 239

هي دعوةٌ جاء بها جميع الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) لجميع البشر.. غير أنّ بعض الظروف تقتضي التذكير بها لبعض البشر!

اللمعة الخامسة: الدعوة إلى إماتة البدَع

الشقّ الثاني من الدعوة الواردة في الكتاب هي الدعوة إلى إماتة البدع..

هذه الدعوة أيضاً دعوةٌ عامّةٌ من الجهتين:

من جهة الإمام (علیه السلام) الداعي، إذ أنّ جميع الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) ، سيّما نبيّنا الأكرم والأوصياء بالحقّ الأنوار الّتي تلَت نور النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، من أمير المؤمنين والزهراء حتّى الوليّ الخاتم المنتظر (علیهم السلام) ، كلّهم دعوا ويدعون بهذه الدعوة.

ومن جهة المدعوّ، إذ أنّ جميع الخلق والعباد مدعوّون على طول خطّ حركة الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) إلى إماتة البدع، والتزام دِين الله والأمر الإلهيّ.

وقد ورد في الزيارة الجامعة الواردة عن الصادقِين (علیهم السلام) الّتي يرويها الشيخ ابن المشهديّ في (المزار الكبير): «وأشهدُ يا مولاي أنّك وفيتَ بشرائط الوصيّة، وقضيتَ ما ألزمك من فرض الطاعة، ونهضتَ بأعباء الإمامة،واحتذيتَ مِثال النبوّة في الصبر والاجتهاد، والنصيحةِ للعباد، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، وعزمتَ على العدل في البريّة، والنصفة في القضيّة، ووكّدتَ الحُجَج على الأُمّة بالدلائل الصادقة والشواهد الناطقة، ودعوتَ إلى الله بالحكمة البالغة والموعظة، فمنعتَ مِن تقويم الزيغ، وسدّ الثلم، وإصلاح الفاسد، وكسر

ص: 240

المعاند، وإحياء السُّنَن، وإماتة البدَع، حتّى فارقتَ الدنيا وأنت شهيد، ولقيتَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأنت حميد، صلوات الله عليك صلاةً تترادف وتزيد» ((1)).

بل إنّ وجود الإمام المعصوم نفسِه هو إحياءٌ للسُّنّة وإماتةٌ للبدعة!

قال أمير المؤمنين ومولى الموحّدين عليّ بن أبي طالبٍ أبو الأئمّة الميامين (علیهم السلام) : «أنا مُحيي السُّنّة ومُميتُ البدعة» ((2)).

وهذا ما نعتقده في الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) جميعاً، وكذا في الأنبياء والمرسلين والأوصياء أجمعين.

فهذه الدعوة هي من مقتضيات الإمامة ولوازمها.

وقد أمات القوم السنّة وأحيوا البدعة منذ أن أغمض النبيُّ (صلی الله علیه و آله) عينَيه والتحق بالرفيق الأَعلى، وما تركوا صغيرةً ولا كبيرةً إلّا مدّوا آنافهم فيها، وقلّبوها بين أصابع التحريف.. حتّى أنّ الناس قد نسوا الصلاة الّتي كانيصلّيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أَمامهم ويقول لهم: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» ((3))، فلمّا صلّى بهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد استخلافه، جعلوا يقولون: واللهِ لقد

ص: 241


1- المزار الكبير لابن المشهديّ: 295، بحار الأنوار للمجلسيّ: 99 / 165 الباب 8.
2- عيون الحِكَم والمواعظ لليثيّ: 167 ح 3542.
3- أُنظر: السنن الكبرى للبيهقيّ: 2 / 345، كتاب البخاريّ: 7 / 77، سنن الدارقطنيّ: 1 / 279، والحديث لا يحتاج توثيقاً لكثرة وروده في مجامع الفريقَين الحديثيّة.

ذكّرَنا بصلاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! ((1)) فإذا كانت الصلاة اليوميّة الّتي يصلّيها النبيّ (صلی الله علیه و آله) على مرأى ومسمع منهم خمس مرّاتٍ على الأقلّ قد نسوها، فما بالك بغيرها من الأحكام والسنن؟!!

وكانت هذه الدعوة قائمةً فيهم على لسان أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين (علیهما السلام) ، الوريثِ الوحيد للنبيّ (صلی الله علیه و آله) نسباً، وجرَت على لسان أولادهما المعصومين (علیهم السلام) صالحاً بعد صالح، لا نستثني منهم أحداً..

فهي دعوةٌ جاء بها جميع الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) لجميع البشر.. غير أنّ بعض الظروف تقتضي التذكير بها لبعض البشر! تماماً _ كما قلنا قبل قليلٍ _ في الدعوة إلى إحياء السنّة.

اللمعة السادسة: «فإنْ تُجيبوا»!

بعد أن أبان الإمام (علیه السلام) الدعوة، وأنّها تتضمّن شقَّين: إحياء معالم الحقّ، وإماتة البدَع، قال لهم: «فإنْ تُجيبوا».. فلابدّ أن تكون الإجابة هنا المقصودة والمطلوبة هي الإجابة إلى الدعوة بشقَّيها، لا أكثر..أي: اقبلوا الدعوة لإحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع.. وهي _ كما ذكرنا _ دعوةٌ عامّة، يأتي بها كلُّ وصيٍّ من الأوصياء المعصومين (علیهم السلام) لجميع الأُمّة أفراداً وجماعات، وفي كلّ زمان، وتحت أيّ ظرفٍ من الظروف.. ونحن

ص: 242


1- أُنظر: سُنن ابن ماجة: 1 / 296، مُسند أحمد: 4 / 415، المصنّف لابن أبي شيبة: 1 / 272.

نشهد لهم بأداء ذلك وعدم التقصير فيه فرداً فرداً من أفراد المعصومين (علیهم السلام) ، وأنّهم أعذروا في الدعاء وبذلوا مُهَجَهم في الله لتحقيق ذلك..

اللمعة السابعة: أُسلوب الدعوة

الدعوة إلى إحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع لا تنحصر بطريقٍ دون آخَر، ولا يلزم منها الخروج بالمعنى المصطلَح واستعمال القوّة والدعوة إلى القتال، بل هي على العكس تماماً في سلوك المعصومين الّذين يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلون بالّتي هي أحسن، فإذا الّذي بينهم وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم!

لم يُقاتِل أمير المؤمنين (علیه السلام) وخليفة رسول ربّ العالمين المنصوب بالنصّ الجليّ المبين مَن أسّس أساسَ الظلم والجَور، وفتح باب البدَع على مصراعَيه، وبدّل وغيّر وقلب الدين ولبسه لبس الفرو مقلوباً..

ولم يقاتل الإمام الحسن الأمين (علیه السلام) مَن حوّل ما يُسمّى (الخلافة) إلى مُلكٍ عقيم، قاتل عليه مولى الموحّدين والمنصوص عليه في الغدير..ولم يقاتل أحدٌ من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) لإحياء معالم الدين وإماتة البدَع في العالمين..

ولم يكن الأفراد والجماعات بحاجةٍ إلى استعمال القوّة بالمعنى المصطلح، لإقامة العوَج وإصلاح السلوك، وإماتةِ البدَع وإحياء السنن،

ص: 243

ويكفي التزامهم وإلزامهم مَن تحت زعاماتهم بذلك والتوافق عليه، واستعمال الرفق والمراقبة والمتابعة لتحقيق ذلك.

هكذا كانت سيرة الأنبياء (علیهم السلام) وسيّدهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، والأوصياء وسيّدهم أمير المؤمنين (علیهم السلام) ، ومَن سار على نهجه من الخلفاء الراشدين المعصومين المنصوبين من الله بالتعيين!

اللمعة الثامنة: إنْ أجابوا اهتدوا..

لم يفرض الإمام (علیه السلام) عليهم الإجابة، وإنّما أبان لهم نتيجة الإجابة، فإنّهم إن أجابوا اهتدوا سُبل الرشاد..

لم يستعمل الإمام (علیه السلام) مفردةً تفيد الوجوب والفرض والتعيُّن، وإنّما جعلهم بالخيار.. «فإنْ تُجيبوا».. غاية ما في الأمر أنّه أوضح لهم العاقبة الحسنة الّتي تترتب على هذه الإجابة..

إنّهم إن أجابوا اهتدوا سبيل الرشاد.. ولم يصرّح لهم بطلبٍ ودعوةٍ خاصّةٍ ذات لونٍ وطابعٍ خاصٍّ يترتّب على هذه الإجابة، كأن يطلب منهم التحرّك من أجل تحقيق هذه الدعوة بطريقٍ خاصّ..ولم يُخبرهم بانعقاد عزمٍ خاصٍّ له بالذات يريد من خلاله تحقيق ذلك، ويدعوهم للالتحاق به..

بل لم ينسب الهداية له، ولم يجعل نفسه سبباً في ذلك لما يريد أن يفعله ممّا يؤدّي بهم إن التحقوا به إلى هذه الهداية..

ص: 244

قال: إن أجبتم تهتدوا سبل الرشاد.. وهذه دعوةٌ ونتيجةٌ لازمةٌ لكلّ مَن استجاب لها في كلّ زمانٍ وكلّ مكانٍ وفي أيّ ظرف.

اللمعة التاسعة: تهتدوا سبيل الرشاد

النتيجة الّتي رتّبها الإمام (علیه السلام) في كتابه على إجابة القوم لدعوته هي الهداية إلى سبيل الرشاد.. تهتدوا سبيل الرشاد..

وهذه الدعوة والنتيجة المترتّبة عليها تحمل نفس الإيقاع والإشعارات والنَفَس الّذي تحمله دعوة مؤمن آل فرعون، ويمكننا من خلال تلاوة بعض الآيات الّتي وردَت فيها هذه الدعوة، لنعيش أجواءَها ونتصوّر المشهد الّذي وردت فيه..

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْعَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى

ص: 245

اللهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدَىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَبِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ ((1)).

كانت دعوة مؤمن آل فرعون دعوةً وموعظةً حسنةً ومجادلةً بالّتي هي أحسن..

ولا نريد الدخول في تفسير هذه الآيات وتطبيقها على ما نحن فيه، ونحسب أنّ مجرّد تلاوتها واستشعار أجوائها كافٍ لتصوّر المشهد..

ص: 246


1- سورة غافر: 36 _ 55.
اللمعة العاشرة: الخاتِمة

قد يُقال:

لا يُرى في الكتاب ما يتضمّن الدعوة إلى الاستنهاض والاستنصار، والتحريضِ على القتل والقتال، ومواجهةِ السلطة والحكم والولاة المزروعين في كلّ النواحي والبلدان والأمصار..

غاية ما في الكتاب أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، ودعوةٌ لإحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع، وهذه الدعوة أعمّ من إعلان الخروج بالمعنى المصطلَح، والسلام.

وقد أشرنا فيما سبق إلى ذلك، وسيأتي في ذيل الرواية الثانية المفصّلة الكلام عن مؤدّى الكتاب.

الرواية الثانية: المفصّلة
اشارة

الطبريّ:

فجاءت منه نسخةٌ واحدةٌ إلى جميع أشرافها:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على خَلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرسل به (صلی الله علیه و آله) ، وكنّا أهلَه وأولياءَه وأوصياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومُنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ

ص: 247

علينا ممّن تولّاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمرى أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمه الله» ((1)).

إبن كثير:

«... فتسمعوا قولي وتطيعوا أَمري، فإن فعلتم أهدكم سبيلالرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله».

وعندي في صحّة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنّه مطرَّزٌ بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة ((2)).

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):

فبينما هو كذلك إذ قَدِم رسولُ الحسين (علیه السلام) إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته ... بنسخةٍ واحدة، أوّله:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ (علیهما السلام) :

أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على جميع خَلقه، وأكرمَه

ص: 248


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

بنبوّته، وحباه برسالته، ثمّ قبضه إليه مكرماً، وقد نصح العباد وبلّغ رسالاتِ ربّه، وكان أهلُه وأصفياؤه أحقُّ بمقامه مِن بعده، وقد تأمّر علينا قومٌ، فسلّمنا ورضينا كراهة الفتنة وطلب العافية، وقد بعثتُ إليكم بكتابي هذا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه، فإنْ سمعتم قولي واتّبعتم أمري أهدكم إلى سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ((1)).

* * * * *

يمكن متابعة هذا النصّ من خلال المسالك التالية:

المسلك الأوّل: انفراد الطبريّ

ورد في كتب التاريخ ذكرٌ للكتاب، إمّا على نحو الإشارة وذِكر المضمون، أو على نحو الدمج، أو ذِكر النصّ كما مرّ معنا في الأقسام السابقة والرواية الأُولى التي ذكرناها قبل قليلٍ في القسم الثالث.

وروى الطبريّ نصّ الكتاب، وهو يتضمّن ما ورد في الرواية الأُولى المختصرة، بَيد أنّ فيه زياداتٍ كثيرةً وخطيرة..

ويبدو أنّه قد تفرّد بهذه الزيادات _ حسب الفحص _، وقد أعرض عن ذِكرها مَن جاء بعد الطبريّ، سوى ابن كثيرٍ في (البداية والنهاية)، حيث نقل اللفظ نفسه باختلافٍ لا يكاد يبين في مفرداتٍ معدودةٍ لا

ص: 249


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف (المشهور): 23.

يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة..

أمّا ما ورد في نسخة (المقتل) المتداوَل لأبي مِخنَف، فهو يتوافق في اللفظ والتفصيل بنحوٍ ما مع لفظ الطبريّ، غير أنّه يمتاز عنه بميزةٍ مهمّةٍ جدّاً، إذ أنّه لم ينقل ما ورد في لفظ الطبريّ من العبارات المثيرة الخطيرة التي تتحلّق لها عيون كلّ مَن يقرأها!

المسلك الثاني: ذِكر النبيّ (صلی الله علیه و آله) والشهادة له بالتبليغ

قدّم الكتاب ذِكر النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنّ الله اصطفاه على خَلقه، وأكرمه بنبوّته، وأختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه..

وشهد له على التحقيق ب- (قد) والفعل الماضي أنّه قد نصح لعباده وبلّغما أُرسِل به.. فلم يقصّر النبيّ (صلی الله علیه و آله) في البيان الكامل التامّ الشافي الوافي، وحاشاه، ولم يرحل إلى الرفيق الأَعلى إلّا بعد أن أكمل اللهُ له دِينَه وأحكم أمر دِينه إلى يوم القيامة، لأنّ رسول الله هو خاتم الأنبياء والمرسَلين، فشرّع الله ما يتكفّل أمر عباده، ويضمن دينهم وتمامه من بعده، فأمر نبيّه أن يحدّد للناس ما يجب عليهم أن يفعلوه مِن بعده، وحدّد لهم الملجأ والكهف الحصين الّذي يحميهم، ويعلّمهم مراضي الله ومساخطه، وينصب لهم الإمام الّذي يأتمّون به ويقتدون به، فيسير بهم على المحجّة البيضاء الّتي تنتهي بهم إلى رضوان الله وجِنانه.

فأمر الله نبيّه أن يصدع بالأمر على رؤوس الأشهاد: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ

ص: 250

مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ ((1)).

فصدع النبيّ (صلی الله علیه و آله) بما أُمِر، وتحمّل مكاره القوم، وصبر على كيدهم ونظراتهم الّتي كانت كافيةً لأن تُزيل الجبال عن مراسيها، وكلماتِهم الّتي كانت تتناهى إليه وهم يُسرّون بعضهم بعضاً..

فشاء الله أن يُيأس الكفّارَ من دِين الله، وأن يُطمْئن المؤمنين، ويُكمِلَ لهم دِينهم ويُتمّ عليهم نعمته، ويرضى لهم الإسلام التامّ بولاية الأوصياء من بعدالنبيّ (صلی الله علیه و آله) .. ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ ((2)).

فأعلن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وبلّغ ما أُرسِل به كمُلاً، ولم يترك لذي بصيرةٍ وصاحب دينٍ عُذراً إلى يوم القيامة.. فكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) يُعلن ذلك في كلّ موطنٍ وموقفٍ ومشهدٍ يشهده، سرّاً وعلانيةً، منذ اليوم الأوّل من البعثة ومنذ يوم الدار، إلى أن أعلنها على رؤوس الملأ في مشهدٍ عظيمٍ تواتر المسلمون واتّفقوا على نقله بالاتّفاق، وإلى ما بعد ذلك حتّى اللحظات الأخيرة من عُمُره المبارك..

ص: 251


1- سورة المائدة: 67.
2- سورة المائدة: 3.

هكذا أراد الله لعباده.. وهو المطلوب.. أيكون النبيّ (صلی الله علیه و آله) حريصاً على بيان بعض الأحكام الجزئيّة وتلاوة القرآن، ولا يكون حريصاً على بيان الحُكم الأعظم الّذي به ضمان أُمّته إلى يوم القيامة، ولا يكون حريصاً على بيان تكليف الأُمّة والمفزع لها بعده، المفسّر الأعظم للقرآن، والمبيّن للسنّة، والداعي إلى الله، والمنار الّذي به يهتدي الناس، والمحجّة الّتي بها ينجو العباد؟!!

المسلك الثالث: أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) مِن بعده

ثمّ ذكر الكتاب أهلَ بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) مِن بعده، وأجمل في سطرٍ واحدٍحقائق تحتاج إلى أسفارٍ ومجلّداتٍ لبيانها.. غير أنّ الإمام (علیه السلام) أرسلها إرسال المسلَّمات، لأنّها هي كذلك.. لأنّ أحداً من المسلمين لا يمكنه إنكارها أو التشكيك بها أو الردّ عليها.. لقد عمل النبيّ (صلی الله علیه و آله) على بيانها حتّى صارت من البديهيّات في عقيدتهم وحياتهم اليوميّة، لا تجد مسلماً إلّا وقد سمع عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو سمع عن أصحابه ما رووا عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ما يؤكّد ذلك..

فلا شكّ أنّ أهل البيت (علیهم السلام) هم:

- أهل النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

- أولياؤه.

- أوصياؤه.

- ورثَته.

ص: 252

- أحقّ الناس بمقامه في الناس.

فهم أحقّ الناس بمقامه في الناس، في نصّ القرآن الكريم..

وهم أحقّ الناس بمقامه في الناس، في صريح كلام رسول الله (صلی الله علیه و آله) المتواتر المتظافر المتكاثر..

وهم أحقّ الناس بمقامه في الناس فيما آتاهم الله في أنفسهم، فجعلهم أعلم الخلق، وجعل كلامهم نوراً، وأمرهم رُشداً، ووصيّتهم التقوى، وفعلهم الخير، وعادتهم الإحسان، وسجيّتهم الكرم، وشأنهم الحقّ والصدق والرفق،وقولهم حُكماً وحتماً، ورأيهم علماً وحِلماً وحَزماً، إنْ ذُكر الخيرُ كانوا أوّلَه وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه..

لا يستطيع واصفٌ من الناس وصف حُسن ثنائهم، ولا يُحصي جميل بلائهم، وبهم أخرج الله عباده من الذلّ، وفرّج عنهم غمرات الكروب، وأنقذهم من شفا جُرُف الهلكات ومن النار.

بموالاتهم علّم الله عباده معالم دينهم، وأصلح ما كان فسد من دنياهم، وبموالاتهم تمّت الكلمة وعظُمَت النعمة وائتلفَت الفرقة، وبموالاتهم تُقبَل الطاعة المفترضة، ولهم المودّة الواجبة، والدرجات الرفيعة، والمقام المحمود، والمقام المعلوم عند الله (عزوجل) ، والجاه العظيم، والشأن الكبير، والشفاعة

ص: 253

المقبولة ((1))..

وآتاهم الله كلّ ما يحتاجه العباد إلى يوم القيامة!

المسلك الرابع: الاستئثار عليهم

بعد أن شهد الكتاب للنبيّ (صلی الله علیه و آله) بالأداء والنصيحة، وذكر ما لآل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) باتّفاق المسلمين وشهادة الواقع بالقطع واليقين، عرّج على بيان ما جرى بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) من إقصاء أهل بيته وإزاحتهم عن مقامهمودفعهم عن مراتبهم الّتي رتّبهم الله بها، وصبرهم على ذلك..

فذكر استئثار القوم عليهم!

والاستيثارُ: الانفراد بالشيء، واستَأثَرَ فلانٌ بالشيء: استبدّ به، استأثَرَ بالشيء على غيره: خصَّ به نفسَه واستبدّ به ((2)).

وقد كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد أخبر أهلَ بيته بما سيجري عليهم من الإثرة والظلم والجَور من القوم، وأوصاهم بالصبر، فصبروا..

المسلك الخامس: الرضى وكراهة الفرقة

ثمّ أشار الكتاب إلى صبرهم ورضاهم بما فعل المعتدون، فقال: «فرضينا، وكرهنا الفرقة»..

ص: 254


1- إقتباسٌ من الزيارة الجامعة. أُنظر: مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 2 / 616، عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق: 2 / 277، تهذيب الأحكام للطوسيّ: 6 / 100.
2- أُنظر: لسان العرب لابن منظور، مجمع البحرين للطريحي، وغيرهما: أَثَرَ.

وللرضى معانٍ، منها ما ينسجم مع المشهد، ومنها ما يأبى الانسجام.

فالرِّضى: ضدُّ السَّخَط، يُعدّى ب-- (على)، قال (عزوجل) : ﴿رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ ((1)).

وفي حديث الشيعة مع مخالفيهم: «ارضُوا ما رَضِيَ اللَّهُ منهم مِن الضَّلال»، أي: أقرّوهم على ما أقرّهم الله عليه، وليس المراد حقيقة الرضى.

ورضيتُ بالشيء رضى: اخترتُه.

والراضي قد يعاقِب للمصلحة أو لاستيفاء حقِّ الغير ((2)).فالرضى هنا بمعنى إقرارهم على ما هم عليه، واختيار الصبر على ما هم عليه، وليس المراد حقيقة الرضى؛ لاستحالة رضاهم بما لا يرضاه الله، وغصبُ الخلافة معصيةٌ هي أُمّ المعاصي لجميع الأُمّة إلى يوم القيامة، والمعصوم لا يرضى بمعصيةٍ مهما كانت صغيرة، فكيف يرضى بمحاربة الله ومبارزته في ولايته، وتحريفِ أوامره في القرآن، وقلْبِ دِينه، وجَحْدِ إنعامه، ومعصيةِ الرسول جهاراً نهاراً، وتعطيلِ الأحكام، وإبطالِ الفرائض، والإلحادِ بآيات الله، ومعاداةِ أَوليائه، وموالاةِ أعدائه، وتخريبِ البلاد، وإفسادِ العباد، وهتكِ الحُرمات، وغيرها من الجرائم الّتي تلَتْ غصبَ الخلافة ودفْعَ أهلها عنها؟!

ص: 255


1- سورة المائدة: 119، سورة التوبة: 100، سورة المجادلة: 22، سورة البيّنة: 8.
2- أُنظر: مجمع البحرين للطُّريحي، لسان العرب لابن منظور، وغيرهما: رَضَوَ.

لقد ذُكرَت الخلافة عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، فقال:

«واللهِ لقد تقمّصَها أخو تَيم، وإنّه لَيعلَمُ أنّ محلّي منها محلُّ القُطب مِن الرحى، ينحدرُ عنّي السَّيلُ ولا يرتقي إليّ الطير، فسدَلْتُ دونها ثوباً، وطَويتُ عنها كَشحاً، وطفِقتُ أرتئي ما بين أنْ أصولَ بيدٍ جَذّاء أو أصبرُ على طِخيةٍ عَمياء، يشيبُ فيها الصغيرُ ويهرم فيها الكبير، ويكدحُ فيها مؤمنٌ حتّى يلقى الله ربَّه، فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العين قذىً وفي الحلق شجاً، أرى تُراثي نهباً.

حتّى إذا مضى الأوّلُ لسبيله، عقدها لأخي عَديٍّ بعده، فيا عجَباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخَر بعد وفاته، لَشدّ ما تشطّرا ضرعيها، فصيّرها في حوزةٍ خشناء، يغلظ كلمها ويخشن مسّها، ويكثر العثارُ فيها والاعتذارُ منها،فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم.

فمُنيَ الناسُ _ لَعمر الله _ بخبطٍ وشماس، وتلوُّنٍ واعتراض، فصبرتُ على طول المدّة وشدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعةٍ زعم أنّي أحدُهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريبُ فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرتُ أُقرَن إلى هذه النظائر؟!

لكنّي أسففتُ إذ أسفوا، وطرتُ إذ طاروا، فصغا رجُلٌ منهم لضغنه، ومال الآخَر لصهره، مع هنٍ وهن، إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنَيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن

ص: 256

انتكث عليه فتلُه، وأجهز عليه عملُه، وكبَتْ به بطنتُه» ((1)).

صبروا.. إذ أمرهم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) بالصبر، حالهم حال هارون إذ رأى قومه قد ارتدّوا وعبدوا العجل..

﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً ولا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً * وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُوني وَأَطيعُوا أَمْري * قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى * قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْري * قالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتي وَلا بِرَأْسيإِنِّي خَشيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَني إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلي﴾ ((2))..

مع كلّ ما تجرّعه آل الله في الله، ما فتأ القوم يرمونهم بشقّ العصا وتفريق الأُمّة الّتي اجتمعت على ضلالٍ تحت وطأة الترهيب والترغيب وتزيين الشيطان وإغوائه..

صبروا.. وهم والأعداء يعلمون أنّ الأوصياء الّذين فرض الله طاعتهم على العباد أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ عليهم ممّن تولاه من الأعراب..

ص: 257


1- أُنظر: علل الشرائع للصدوق: 1 / 151، معاني الأخبار للصدوق: 361، نهج البلاغة: 48 _ بتحقيق: صبحي الصالح.
2- سورة طه: 88 _ 94.
المسلك السادس: أحسنوا! أصلحوا! تحرّوا الحقّ!!!
اشارة

يمكن ملاحظة هذه الفقرة من خلال التعليقات التالية:

التعليقة الأُولى: المُسيء مُحسن.. المُفسِد مُصلح!!

أعيت هذه الفقرة مَن ذكر الكتاب، سيّما الكُتّاب والمحقّقين من الشيعة _ أعزّهم الله وكثّرهم _؛ إذ أنّ فيها شهاداتٍ يفترض النصُّ أنّها صادرةٌ من خامس أصحاب الكساء المعصوم المظلوم المهتضَم للغاصبين المعتدين، وهي لا تنسجم مع أيّ تأويلٍ وتصوير..

كيف يمكن أن يكون مَن بارز الله بالمحاربة وغصب الحقّ الحقيق المفترض المنصوص عليه بالنصّ الجليّ الصريح، قد أحسن، أصلح، تحرّىالحقّ؟!! وكلّ هذا مؤكَّدٌ ب-- «قد»، ومشفوعٌ بالدعاء لهم!

ربّما استطاع مؤوِّلٌ أن يؤوّل قوله: «قد أحسنوا».. أقول: قد يستطيع! ولكن كيف يمكن تأويل أنّهم أصلحوا؟ وقد أفسدوا في الأرض فساداً لا يُصلِحه إلّا سيف الله المنتقِم صاحب الأمر والزمان!

وكيف يمكن أن يسوّغ فعلهم، ويبرّر عملهم، ويبحث لهم عن ذرائع، ويصحّح نواياهم، إذ أنّهم تحرّوا الحقّ.. اجتهدوا فأخطؤوا فلهم أجر!!!

أيكون مَن ترك جثمان النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسارع إلى السقيفة ينازع المُلك والسلطان مُحسِناً مُصلِحاً متحرّياً للحقّ؟!!

أيكون مَن غصب الخلافة، وخالف الله وخالف رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وحرّف

ص: 258

الكتاب، ومحى السنّة الشريفة، وبدّل الدين، وقلَبَ الموازين، وآوى مَن طرده النبيّ (صلی الله علیه و آله) وطرد مَن آواه النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنكر الوحي في ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ورمى النبيّ (صلی الله علیه و آله) بالهجر وأنّ الوجع قد غلبه فلا يعي ما يقول، وخرّب البلاد، وأفسد العباد، وأخرب بيت النبوّة، وردم بابه، ونقض سقفه، وألحق سماءَه بأرضه، وعاليَه بسافله وظاهره بباطنه، واستأصل أهله، وأباد أنصاره، وقتل أطفاله، وأخلى منبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) من وصيّه ووارث عِلمه، وجحد إمامته، وأشرك بربّه، وأخفى الحقّ، وآذى المؤمن، وولّى المنافق، وعزل الأولياء، وقهر الإمام الّذي نصبه الله، وغيّر الفروض، وأثار الشرّ، وأراق الدماء، وبدّل الأحاديث والأخبار، وغصب إرث الصدّيقةالزهراء (علیها السلام) حبيبة ذي الجلال، واقتطع الفيء، وأكل السُّحت، واستحلّ الخُمس الّذي فرضه الله لفاطمة (علیها السلام) وذرّيّتها، وأسّس أساس الباطل، وبسط الجور والنفاق، وأضمر الغدر لله ولرسوله ولأوليائه (علیهم السلام) ، ونشر الظلم، وأخلف الوعد، وخان الأمانة، ونقض العهد، وحلّل الحرام وحرّم الحلال، وفتق بطن حبيبة الله وحبيبة رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وأسقط جنينها من غير جُرم، ودقّ ضلعها، ومزّق صكّها، وبصق على اسم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومحاه في الكتاب المكتوب لابنته في فدك، وبدّد شمل آل الرسول، وأذلّ عزيزهم، وأعزّ ذليل أعداء الله ورسوله وآله، ومنع الحقّ، ودلّس الكذب، وترك الفرائض، وغيّر السنّة، وعطّل الأحكام، وضيّع الوصيّة، ونكث البيعة يوم الغدير، وأنكر

ص: 259

بيّنة الزهراء وأمير المؤمنين (علیهما السلام) ، وارتقى العَقَبة، ودحرج الدباب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) لينفّر به ناقته ويقتله، ولزم الأزياف، وكتم الشهادات ((1))..

أيكون مثل هذا _ وما فعله أكثر _ قد أحسن، وأصلح، وتحرّى الحقّ؟!

التعليقة الثانية: تأليف القلوب والتقيّة

قد يُقال:

إنّ الإمام (علیه السلام) كان يخاطب الأعداء في كتابه، وهم مِن أتباع العِجل والسامريّ، يقدّسونهم إلى حدّ العبادة ويتّخذونهم أوثاناً، وهو يريد استنهاضهم وتحريضهم على مَن هم على شاكلتهم في المعتقَد، فلابدّ من تأليف قلوبهم، وترطيب الأجواء معهم، والانسياق معهم، ودغدغة عواطفهم، والتأثير على أحاسيسهم، والتقرّب إليهم بما يحبّون ويرغبون فيه، وفتح مغاليق قلوبهم بمفاتيحها..

بيد أنّ هذا الكلام فيه جهالةٌ وإجحافٌ في حقّ الإمام المعصوم (علیه السلام) ، فالإمام (علیه السلام) قد يتألّف القلوب لمصلحة الإسلام، ولكن ضمن الضوابط الّتي حدّدها الله ورسمها المعصوم نفسه بأمر الله، فلا يمكن أن يكون التأليف على حساب الحقّ والحقيقة والدين الحقّ والأمر الإلهيّ!

كان بالإمكان الاكتفاء مثلاً لتحقيق ذلك الترحّم عليهم لو كان ثمّة ضرورةٌ تدعو إلى ذلك..

ص: 260


1- إقتباس. أُنظر: المحتضر للحلّي: 112 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

إنّ الإمام (علیه السلام) لا يطلب الحقّ بالجور، ولا يقلب حُكم الله ويجور على الحقّ وهو الّذي جعله الله للحقّ مناراً..

إنّ في تصحيح ما فعله الظالمون تغريرٌ بالعباد.. ولا مجال للتقيّة هنا كما هو واضح، بأيّ معنىً فسّرنا التقيّة، إن على المشهور، أو على أنّها مفهومٌ عامٌّشاملٌ كاملٌ يشمل جميع مناحي الحياة بتفاصيلها، وهي عبارةٌ عن احترام الآخَر ومداراته وعدم حمله على ما لا يطيق، فإنّ الإمام (علیه السلام) في هذا الموقف لم يكن في حالةٍ تستدعي منه المداراة إلى حدّ تضييع الحقّ _ والعياذ بالله _..

التعليقة الثالثة: لماذا القيام على الإحسان والصلاح؟!

إذا كان القوم قد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ فرحمهم الله، فلماذا قام الإمام (علیه السلام) ؟ وبماذا قام؟ وماذا يهدف من قيامه وقد كان مَن كان قبله مُحسِناً مُصلِحاً متحرّياً للحقّ؟ فليُبقي على إحسانهم وإصلاحهم، ويتّبع الحقّ الّذي تحرّوه من قبل!

وما يزيد إلّا إفراز نتنٍ من إفرازات هؤلاء القوم الموصوفين بهذه الصفات، فالمفروض أن يكون حسنةً من حسناتهم، ومفردةً من مفردات إصلاحهم، وجلوةً من جلوات الحقّ الّذي تحرّوه!

حاشا لسيّدي ومولاي أن يشهد هذه الشهادة، وهو الحقّ نفسه!

ص: 261

التعليقة الرابعة: على منوال كلام أمير المؤمنين (علیه السلام)
اشارة

قد يُقال:

إنّ في التاريخ كلاماً لأمير المؤمنين (علیه السلام) يشبه الكلام الوارد في هذا الكتاب شبهاً قريباً جدّاً، فقد روى المنقريّ في (وقعة صفّين) وابن أبي الحديد في (شرح النهج)، في مناظرةٍ طويلةٍ بين أمير المؤمنين (علیه السلام) ومناوئيهفي صفّين، أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) أجاب أحدهم فيما أجاب، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:

«أمّا بعد، فإنّ الله بعث النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فأنقذ به من الضلالة، ونعش به من الهلَكة، وجمع به بعد الفُرقة، ثمّ قبضه الله إليه وقد أدّى ما عليه.

ثمّ استخلف الناسُ أبا بكر، ثمّ استخلف أبو بكرٍ عمر، وأحسنا السيرة، وعدلا في الأُمّة، وقد وجدنا عليهما أن تولّيا الأمر دوننا ونحن آل الرسول وأحقُّ بالأمر، فغفرنا ذلك لهما.

ثمّ ولي أمْرَ الناس عثمان، فعمل بأشياءٍ عابها الناس عليه، فسار إليه ناس فقتلوه.

ثمّ أتاني الناس وأنا معتزِلٌ أمرهم، فقالوا لي: بايعْ. فأبيتُ عليهم، فقالوا لي: بايعْ، فإنّ الأُمّة لا ترضى إلّا بك، وإنّا نخاف إنْ لم تفعل أن يفترق الناس. فبايعتُهم.

فلم يرعني إلّا شقاق رجُلَين قد بايعاني، وخلاف معاوية إيّاك الّذي لم يجعل الله له سابقةً في الدين ولا سلف صدقٍ في الإسلام، طليقٌ ابن طليق، وحزبٌ من

ص: 262

الأحزاب، لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوّاً هو وأبوه، حتّى دخلا في الإسلام كارِهَين مُكرَهَين.

فعجبنا لكم ولإجلابكم معه وانقيادكم له، وتدَعُون أهل بيت نبيّكم (صلی الله علیه و آله) الّذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن تعدلوا بهم أحداً من الناس.إنّي أدعوكم إلى كتاب الله (عزوجل) وسُنّة نبيّكم (صلی الله علیه و آله) ، وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لنا ولكلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ ومسلمٍ ومسلمة» ((1)).

يُلاحَظ مدى الشبَه بين خطبة أمير المؤمنين (علیه السلام) هذه وبين الكتاب، مع اختلافاتٍ مهمّةٍ تبدو للمتأمّل بوضوح:

الاختلاف الأوّل: أمير المؤمنين (علیه السلام) في مقام المحاججة

كان الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في مقام المحاججة مع المناوئين في ساحة حرب، وكلّهم يبحث عن ذريعةٍ لتكفير الإمام (علیه السلام) والنيل منه.

والمحاججة لها أحكامها وضروراتها، وربّما اضطرّ المحاجج أن يسير مع الطرف المقابل ويتنازل له جدلاً، ويتماشى معه فيما يقرّ به، ويعترف لينال منه الإقرار بما لا يقرّ به إلّا بهذا النوع من المحاججة.

فيما كان الكتاب المرسَل إلى أهل البصرة ابتداء، وليس في مقام المحاججة!

ص: 263


1- وقعة صفّين للمنقريّ: 201، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 24.
الاختلاف الثاني: خلفاء الناس!

أكّد الإمام (علیه السلام) أنّ الناس قد استخلفوا أبا بكر، وأنّ أبا بكرٍ استخلف عمر، فبتر القضيّة من الجانب الشرعيّ والبُعد الإلهيّ، وجعلها سلطةً زمانيّة،وأنّ هذين الرجلين خليفتان للناس، وليسا خليفتان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) !

فالإمام (علیه السلام) هو خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) بنصّ يوم الغدير وغيره من النصوص، وهو الوليّ الّذي جعله الله أَولى بالمؤمنين من أنفسهم، أمّا الآخَران فإنّهما من الأرض وإلى الأرض، ولا علاقة لهما بربّ الأرض والسماء، فهو لم يقرّر لهما مقاماً دينيّاً من قريبٍ ولا من بعيد.

الاختلاف الثالث: أحسنا السيرة في الأُمّة لا في الآل

صرّح الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّهما: «أحسنا السيرة وعدلا في الأُمّة»، ولم يُطلِق الإحسان لهما، ولم يقس إحسانهما إلى أمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما ذكر ما يعتقده فيهما أصحابُهما وأتباعهما وعبدتهما، إذ أنّهم يعتقدون أنّهما أحسنا السيرة وعدلا في الرعيّة..

وعلى أقصى التقادير، فإنّ إحسانهما السيرة وعدلهما كان في (الأُمّة) الّتي اختارتهما، ولم يتعرّض لحُسن سيرتهما مع أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ولا عدلهما فيهم.. كيف وقد غصبوا جميع حقوق أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) الخاصّة والعامّة؟

ص: 264

بل على العكس، أكّد في الفقرة التالية أنّ أهل البيت (علیهم السلام) وجدوا عليهما..

إنّهما أحسنا السيرة فيمن اختارهما من الناس، وفق موازين الناس، وفق موازين الجاهليّة، وفق موازين العالقين بأثقال شهوات الطين المتقلّبين فيأوحال قيعان الدنيا..

لم يقسهما إلى عدل الله، وإلى عدل مَن نصبه الله مجسّداً لعدله في عباده.. إنّهما أئمّة الناس باختيار الناس، وليسا أئمّة الناس باختيار الله، فحسن سيرتهما وعدلهما يقاسان إلى الناس..

وما جرى على بعض الأُمّة من قبيل ما جرى على بني حنيفة ومالك ابن نُويرة من قتلٍ وسبي، فإنّهم إنّما أُخذوا من حيث ولايتهم لأمير المؤمنين (علیه السلام) وخليفة رسول ربّ العالمين، إذ أنّهم أبوا أن يدفعوا الزكاة إلى خليفة الناس، وقالوا أنّهم لا يعرفون خليفةً لرسول الله بهذا الاسم وهذه الصفة، وإنّما يعرفون من بايعوه ببيعة الغدير، فهم لا يدفعون الزكاة إلّا له، فأخذهم القوم قتلاً وسبياً.. فهم تبعٌ لآل الرسول، جرى عليهم ما جرى على آل الرسول، ولم يتعاملوا معهم كما تعاملوا مع من استخلفهم من الناس.

الاختلاف الرابع: وَجْدُ أهل البيت (علیهم السلام) عليهما

صرّح الإمام (علیه السلام) أنّ أهل البيت وقد وجدوا عليهما أن تولّيا الأمر

ص: 265

دونهم، وهم آل الرسول وأحقّ بالأمر.. فهو قد أعلن صراحةً سخطه وعدم رضاه وما تعرّض إليه من الأذى منهم.

قال: «وقد وجدنا عليهما».

وَجَدَ عليه: غضب، وفي الدعاء: «أسألُكَ فلا تَجِدْ عَلَيّ»، أي: لاتغضبْ علَيّ من سؤالي ((1)).

ولم يذكر الرضى عنهم بأيّ معنىً من معاني الرضى.

الاختلاف الخامس: المغفرة

لم يعبّر الإمام (علیه السلام) تعبيراً يفيد رضاه عنهما، وإنّما قال: «فغفرنا ذلك لهما»، وهذا التعبير فيه إشعار تجريمٍ واضحٍ يمكن لمسه من خلال الإيقاع والتركيب الّذي كوّن الصياغة والأُسلوب.

ويُلاحَظ أنّ الإمام (علیه السلام) نسب (الغفر) لهم، ولم ينسبه إلى الله، فهو لم يقل: إنّ الله قد غفر لهما ذلك، وإنّما قال: «فغفرنا ذلك لهما»، فهم الّذين قد غفروا، وسيكون لهما مع الله موقف، يكون فيه الخصم محمّدٌ وآله، والحَكَم الله، ف-- ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ ((2))، وسيعلمان أيّهم ﴿شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً﴾ ((3))، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ ((4))، ﴿وَالْعَاقِبَةُ

ص: 266


1- أُنظر: لسان العرب لابن منظور، مجمع البحرين للطريحي: وَجَدَ.
2- سورة الكهف: 50.
3- سورة مريم: 75.
4- سورة الشعراء: 227.

لِلْمُتَّقِينَ﴾ ((1)).

ثمّ إنّ الغَفْر: التغطية والستر، غفَرَ اللهُ ذنوبه: أي سترها، وغَفَره: ستره، وكلّ شيءٍ سترتَه فقد غفرتَه، ومنه قيل للّذي يكون تحت بيضة الحديد على الرأس: مِغْفَر، وتقول العرب: اصبُغْ ثوبَك بالسواد، فهو أغفَرُ لوسَخِه، أي: أحْمَلُ له وأغطى له، ومنه: غفرتُ المتاع: جعلتُه في الوعاء، وغفر الأمْرَبغُفْرته وغَفيرته: أصلَحَه بما ينبغي أن يَصْلَح به، يُقال: اغْفِروا هذا الأمرَ بغُفْرته وغَفيرته، أي: أصلحوه بما ينبغي أنْ يُصلَح ((2)).

فالمغفرة ستر الشيء أو إصلاحه بما ينبغي أن يُصلَح، وليست هي العفو وترك المحاسبة، إن عاجِلاً أو آجِلاً، كما أنّها ليست تعني الرضى بحال!

الاختلاف السادس: التمييز بينهما وبين الثالث

لقد ميّز الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في التعامل والحُكم بين الأوّلَين، وهما موضع التقيّة وضرورة مداراة أتباعهما، وقد اتّفقَت عليهما الأُمّة المتعوسة وقدّستهما، فذكرهما بما ذكرهما به.

ثمّ أفرد الحكم على الثالث، ونسب ولايته وقتله إلى الناس أيضاً: «ثمّ وليَ أمرَ الناس عثمان، فعمل بأشياءٍ عابها الناس عليه، فسار إليه ناسٌ فقتلوه».

ص: 267


1- سورة الأعراف: 128، سورة القصص: 83.
2- أُنظر: لسان العرب: غَفَرَ.

وصرّح في معاوية تصريحاً واضحاً: «لم يجعل الله له سابقةً في الدين ولا سلفَ صدقٍ في الإسلام، طليقٌ ابن طليق، وحزبٌ من الأحزاب، لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوّاً هو وأبوه، حتّى دخلا في الإسلام كارهَين مُكرَهَين».

فيما جاء المدح والشهادة في الكتاب لكلّ مَن سبق زمن الكتاب، بما يشمل الثالث ومعاوية، وأنّهم جميعاً أحسنوا، وأصلحوا، وتحرّوا الحقّ!فلماذا إذن كانت الجَمَل وصفّين؟!

الاختلاف السابع: إلزام القوم بالتزام أهل البيت (علیهم السلام)

ثمّ جرى أمير المؤمنين (علیه السلام) في كلامه _ بعد أن ذكر معاوية ما فيه من مساوئ _ مجرى إلزام القوم بأهل بيت نبيّهم (صلی الله علیه و آله) ، وعجب من إجلاب القوم مع معاوية وانقيادهم لهم، وتركهم أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذين لا ينبغي لهم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن يعدلوا بهم أحداً من الناس.

وبهذا ختم أعمال كلّ من سبق ودفع أهل البيت عن مقامهم وتركهم وشاققهم وانضمّ إلى مَن كان خلافهم وعدل بهم أحداً من العالمين، وكشف زيفهم، وألزمهم إلزاماً باتّباعه، ولم يجعل لهم خياراً وطريقاً إلى رضوان الله سوى الطريق الّذي اختاره الله لهم.

الاختلاف الثامن: الدعوة!

ثمّ دعاهم الإمام (علیه السلام) _ في مقام المحاججة _ إلى كتاب الله وسُنّة نبيّهم، وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين..

ص: 268

أجل، هذه هي دعوة جميع الأنبياء والمرسلين والأوصياء (علیهم السلام) والمؤمنين، وجاءت هنا تحمل لحناً تعريضيّاً واضحاً..

إنّ الإمام (علیه السلام) يدعو إلى هذه الموازين الواضحة المقبولة عند جميع المسلمين فيما يزعمونه من التزامه الإسلام، فمن يقاتله ويقف في الصفّالمقابل له فهو يدعو لخلاف هذه جميعاً، سيّما وأنّ الإمام (علیه السلام) قد ذكر لهم في المقطع الّذي سبق هذا المقطع بيعتهم له، فهي بيعةٌ صحيحةٌ على جميع الموازين، حتّى على موازين السقيفة والعقد الاجتماعيّ، ولم يشهد تاريخ الإسلام بيعةً أجمعَت عليها الأُمّة بقضّها وقضيضها وعامّتها وخاصّتها مثل ما حصل لبيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، إنْ في الغدير أو في البيعة الظاهريّة على موازين القوم بعد هلاك عثمان.

فهو يقول لهم: إنّي أدعوكم إلى موازين الحقّ هذه، فكيف تتركوني وتلتزمون مَن يدعو إلى موازين الباطل؟

الاختلاف التاسع: استغفار الإمام (علیه السلام) !

يُلاحَظ أنّ الإمام (علیه السلام) لا يختم كلامه بالسلام على القوم الّذين كانوا وقوفاً بين يديه يحاججونه، كما جاء في ختام الكتاب..

بل يُلاحَظ استغفاره وهو قائمٌ أَمامهم، فإنّه يستغفر الله بصيغة الجمع، ولا يستغفر لنفسه بصيغة المفرد؛ لخطورة الموقف، ولردم الطريق أمام دعاواهم الباطلة.

ص: 269

ثمّ يستغفر لكلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ ومسلمٍ ومسلمة، ولم يقُل: أستغفر الله لي ولكم، كما هو دأبه _ فداه العالَمين _ في خطاباته، فأطلقها _ وهو سيّد اللغة وأميرها _ ليدخل مَن يدخل تحت العناوين الّتي حدّدها، من دون مخاطبتهم بها، لأنّهم لا يستحقّون الاستغفار وهم في موقفهم ذاك، تماماًكما كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته يخاطبون غير المسلمين في كتبهم بالسلام على مَن اتّبع الهدى.

الاختلاف العاشر: الاختلاف عموماً

لا نريد الدخول في تفاصيل الاختلافات بين الكتاب المرسَل إلى أهل البصرة وبين خطاب أمير المؤمنين (علیه السلام) هذا، ونكتفي بهذا القدر الّذي أتينا عليه كقبسة العجلان..

ولكن على العموم، فإنّ الكتاب يختلف عن هذه الخطبة من حيث الموقف وطبيعته، والمخاطَب وطبيعته، والموادّ والمضامين، والمقصود من الخطاب والمطلوب من القوم المخاطَبين، وغيرها من الجهات الكثيرة..

وعلى فرض أن يكون مؤدّى هذا الخطاب هو نفس مؤدّى الكتاب في الإقرار والاعتراف للظالمين بالإحسان مطلقاً والإصلاح مطلقاً وتحرّي الحقّ مطلقاً، فالكلام في الخطبة سيكون نفسُ الكلام في الكتاب، إذ أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) هو ميزان الحقّ، وبه يُعرَف الحقّ وأهله، وهو مع الحقّ والحقّ معه بإقرار النبيّ (صلی الله علیه و آله) في مواطن كثيرةٍ قالها (صلی الله علیه و آله) .. وهذا الحقّ المطلَق لا يقرّ

ص: 270

للباطل المطلق أنّه أحسن وأصلح وتحرّى الحقّ..

وكيف يطلق على الباطل (أصلح) وتحرّى الحق، وهو تسويغٌ وتبريرٌ ودفاعٌ عنه وبحثٌ للمعاذير؟!!والإمام الحسين (علیه السلام) حُكمه حُكم أبيه، وهو خامس أصحاب الكساء، معصومٌ من الخلل والزلل، مطهَّرٌ تطهيراً..

التعليقة الخامسة: التناقض بين خطاب الكتاب وأهداف القيام

قالوا:

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قام ليصحّح المسيرة الّتي انحرفَت منذ رحيل النبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويخلّص الحُكم من المُلك العضوض والوراثة..

قام ليصحّح الانحراف.. وقد صحّحه هنا من خلال هذه الرسالة.. فإذا كان مَن مارس الانحراف ونظّر له وأجراه في الناس وفعل الأفاعيل الّتي قام الإمام (علیه السلام) ليرجعها إلى نصابها، تبيّن أنّه كان مُحسناً في ذلك وهو يبتغي الإصلاح ويتحرّى الحقّ.. فلماذا القيام إذن؟!!

إنّ ثمّة تناقضاً مقيماً مستحكماً لا ينحلّ بين الأهداف المعلنة للقيام وخطاب هذا الكتاب.

التعليقة السادسة: تخطئة الحقّ والأئمّة (علیهم السلام)

إذا كان أُولئك قد أصلحوا وأحسنوا وتحرّوا الحقّ _ بشهادة سيّد شباب

ص: 271

أهل الجنّة (علیه السلام) _، فمن وجد عليهم وسخط فعلهم فقد أخطأ ولم يصلح ولم يُحسِن ولم يتحرَّ الحقّ، وهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأميرالمؤمنين (علیه السلام) ومَن اقتدى به من أولاده المعصومين (علیهم السلام) وشيعته الميامين، نستغفر الله ونتوب إليه من هذه النتيجة التعيسة والمآل القبيح..

لماذا خرجَت الصدّيقة الطاهرة (علیها السلام) مطالِبةً بحقّها وإرثها من قومٍ كانوا «قد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ»؟! نستجير بالله ونستغفره من هذا الاستطراد، ونكتفي بهذا القدر، وللمتلقّي أن يتابع..

المسلك السابع: المقطع المتكرّر

ورد في هذا المقطع من الكتاب نصٌّ قد مرّ معنا فيما مضى من الدراسة وتكرّر إمّا بالمعنى أو باللفظ، وهو الدعوة الّتي دعاهم إليها الإمام (علیه السلام) ، فلا نعيد.

غير أنّ نصّ الطبريّ امتاز بالتصريح ببعث الرسول بالكتاب، وعرض الدعوة كتقرير حالٍ واقع، إذ أنّ السنّة قد أُميتَت والبدعةَ قد أُحييَت..

ومن الواضح أنّ السنّة قد أُميتَت منذ أن غمض النبيّ (صلی الله علیه و آله) عينه واجتمع القوم في السقيفة، والبدعة قد أُحييَت منذ ذلك اليوم، بل من قبل ذلك اليوم.. والدعوة مفتوحةٌ منذ ذلك اليوم، وستبقى مفتوحةً حتّى يُورث اللهُ الأرض أولياءَه الصالحين ويُنقذ دِينه بالوليّ الخاتم المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

ص: 272

وختم الكتاب هنا بالسلام التامّ: «والسلام عليكم ورحمة الله»!! ((1))

المسلك الثامن: خبرٌ لا يرتضيه المخالِف والمؤالف!

ذكر ابن كثيرٍ الكتابَ وفق رواية الطبريّ، ثم ذيّل عليه قائلاً:

وعندي في صحّة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنّه مطرَّزٌ بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة ((2)).

فهو إنّما رواه ليعلّق عليه هذا التعليق ويشكّك فيه، وربّما أفاد ذلك أنّ الطبريّ سيبقى فريداً في رواية هذا اللفظ، لم يسبقه أحدٌ ولم يلحقه أحدٌ في روايته عنه أيضاً، حسب الفحص..

وقد شكّك ابن كثيرٍ في صحّة هذا عن الإمام الحسين (علیه السلام) ، واستظهر أن يكون مطرّزاً بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة..

وقال بعض الشيعة: إنّ ما ورد في هذا الكتاب من زياداتٍ تشهد للقوم بالإحسان والإصلاح وتحرّي الحقّ، هو من الزيادات الموضوعة؛ لأنّها لا تنسجم مع سيرة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومبادئ الحقّ والعدل..

فأيّ كتابٍ هذا الّذي يُشكّك فيه المخالِف والمؤالِف، ويتّهم المخالف الشيعة بالزيادة فيه، ويتّهم الشيعة المخالفين بالزيادة فيه؟!!

ص: 273


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
المسلك التاسع: دوافع إرسال الكتاب
اشارة

بناءً على ما مرّ معنا من أنّ المخاطَبين بالكتاب كلَّهم أعداءٌ لشخصسيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، حتّى على رواية الشيخ ابن نما، فإنّ يزيد بن مسعود النهشليّ إنْ كان موالياً، فإنّ مَن خاطبهم من بني تميم كانوا أعداءً، حتّى أنّ بني سعد كانت صدورهم وغرةٌ تتميّز حقداً على حبيب الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ممّا اضطرّ ابن مسعودٍ لغسلها بمزن سحابةٍ، كما ذكر في كتابه..

وعرفنا أنّ البصرة لم تسجّل موقفاً مع الإمام (علیه السلام) يومذاك، ولم يخرج منها _ في المقابل _ عسكرٌ منظَّمٌ لصالح السلطان الحاكم..

وغيرها من الأسباب الّتي مرّت خلال الدراسة، ممّا دعا الباحثين من ذوي الاختصاص للتريّث هنا للبحث عن مبرّراتٍ ومسوّغاتٍ لإرسال مثل هذا الكتاب إلى مثل هؤلاء القوم.

ويمكن إجمال المسوّغات فيما يلي:

المسوّغ الأوّل: إقامة الحُجّة
اشارة

قالوا:

إنّ الإمام (علیه السلام) كتب إلى أهل البصرة، وهو لا شكّ عليمٌ بحالهم وعدواتهم له ولآل أبي طالبٍ ولكلّ مَن يمتّ إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) ووليّ ربّ العالمين بصلة، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) أراد أن يقيم عليه الحجّة ويتمّها

ص: 274

ويبلغها..

وإقامة الحجّة وإتمامها تارةً تكون من باب إبلاغ التكليف والفراغ منإعلام المكلّف، وله الخيار إن شاء امتثل وإن شاء عصى.. وتارةً تكون من باب قطع المعاذير، وإعطاء الفرصة الكافية للنجاة، ليستحقّ العاصي العقاب بعد البلاغ والتمرّد على الله (تبارك وتعالى)..

والإمام (علیه السلام) يعلم أنّ هؤلاء القوم يصدق عليهم تماماً قوله (تعالى): ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ ((1)).

فأراد بذلك أن يركسهم في العذاب ركساً، ويسدّ عليهم أبواب النجاة، ليستحقوا الغضب الإلهيّ والسخط الربّانيّ، ولا يكون لهم طريقٌ إلّا طريق جهنّم وبئس المصير.

تماماً كما فعل مع ابن عمر وعُبيد الله بن الحُرّ الجُعفيّ، بَيد أنّه ترك للأخير فُرجةً حين نصحه أن يبتعد ولا يسمع واعيته، فإنّ مَن سمع واعيته ولم ينصره أكبّه الله على منخريه في النار.

وعلى كلا التقديرَين، يمكن أن يُثار هنا سؤال:

لماذا أهل البصرة بالذات؟

ص: 275


1- سورة الأعراف: 192 _ 193.

مرّ معنا أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكاتب أحداً من أهل البلدان والأمصار بتاتاً، ولم يستنهض أحداً، ولم يدعو أحداً لمواجهة السلطان الحاكم، حتّى أهلالكوفة، إذ أنّهم هم الّذين بدؤوا وكاتبوا الإمام (علیه السلام) ودعوه، وقد ذكرنا ذلك في مواطن عديدة..

فلماذا اختصّ أهلَ البصرة دون غيرهم من أهل البلدان والحواضر الأُخرى الّتي كانت في تلك الأيّام، من قبيل المدينة ومكّة واليمن والبحرين ومصر؟!

وإذا كانت الحجّة تُقام على الأعداء أيضاً، فإنّ أعدى الأعداء يومذاك كان أهل الشام، فلماذا لم يكتب إليهم الإمام (علیه السلام) ، ولم يتمّ عليهم الحُجّة ولم يُقِمْها عليهم؟!

لماذا لم يُكاتب الإمام (علیه السلام) رؤوس القبائل والعشائر المعروفة في الجُملة في عداد الأولياء، أو القريبين إلى أهل البيت (علیهم السلام) أكثر من قربهم إلى الأعداء، من قبيل قبيلة هَمْدان بأفخاذها وبطونها العظيمة الكبيرة الممتدّة المتشعّبة بما فيها من رؤوسٍ وجماجم وأعمدةٍ وأساطين ورجالٍ شجعانٍ ومقاتلين معرفين بالبطولة والبسالة والتضحية؟! وغيرها من القبائل المتواجدة في الكوفة قبل أن يكتب له أهل الكوفة وبعد أن كتبوا إليه، وفي غيرها من الأمصار..

لماذا لم يكتب إلّا إلى أهل البصرة، ولم يقم الحجّة إلّا عليهم دون سواهم من العالمين؟!

ص: 276

فالقيام بالمعنى المصطلح إمّا أن يكون تكليفاً واجباً على الناس جميعاًفي مشارق الأرض ومغاربها، فالمفروض أن تقام الحجّة عليهم أجمعين، وإمّا أن يكون واجباً على مَن حضر، فأهل البصرة حالهم حال غيرهم من الأمصار لم يحضروا، وإمّا أن لا يكون واجباً، فلماذا تقام الحجّة على أهل البصرة في أمرٍ غير واجب، وأيضاً تقام عليهم دون غيرهم؟!

المسوّغ الثاني: تحييد القوم!
اشارة

قد يُقال:

إنّ رسالة الإمام (علیه السلام) قد تُثمِر صدّ المتردّد من الأشراف ورؤساء الأخماس عن الانضمام إلى أيّ فعلٍ مضادٍّ لحركة الإمام (علیه السلام) ، وقد يعتزل هو وكثيرٌ من أفراد قبيلته فلا ينصرون الحُكم الأُمويّ، وهذا _ على أيّ حالٍ _ أفضل من اشتراكهم في القتال ضدّ الإمام (علیه السلام) ((1)).

وعلى هذا يكون هدف الكتاب تحييد القوم، فيكفي أن يتركوا الإعانة على الإمام (علیه السلام) ، ويبعدوا عن ساحة المعركة وأحداثها، وفي ذلك نفعٌ عظيمٌ ونصرٌ جسيم.

وهو تفسيرٌ جميلٌ وذو أثرٍ في فهم المسوّغ الّذي يبرّر صدور الكتاب وإرساله إلى أهل البصرة، بَيد أنّ ثَمّة معوّقات قد تعرقل الاكتفاء بهذا المسوّغ وتمنعه من النهوض لوحده لتفسير الموقف، ومن هذه المعوّقات:

ص: 277


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 364.
المعوّق الأوّل: لماذا أهل البصرة بالذات؟

الكلام المذكور سابقاً والسؤال الّذي يبقى شاخصاً يلوح للناظر في التاريخ كأنّه رؤوس الأفاعي القائمة على أذنابها:

لماذا تحييد أهل البصرة دون غيرهم من الأقوام والأمصار الّتي كان يقطنها أعداء أهل البيت (علیهم السلام) في ذلك الزمان؟ وكانت البلدان يومها جميعاً في عِداد أعداء الحقّ وأهله من أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهذا ما قد تبيّن بما لا يحتاج إلى مزيد استدلالٍ وبيان.

فأهل الشام أعداء، وأهل مكّة أعداء، وأهل المدينة أعداء، وهكذا فقس على بقيّة البلدان والأقوام..

قد يُقال:

إنّما استهدف الكتاب أهل البصرة لقربهم من مسرح الأحداث في الكوفة..

فيرجع السؤال حينئذٍ مرّةً أُخرى: لماذا لم يكتب الإمام (علیه السلام) إلى القبائل والرؤوس والأشراف والوجهاء في الكوفة قبل أن يكاتبوه، وكان الإمام (علیه السلام) قد أقام مدّةً مديدةً في مكّة، يستنهضهم أو يحيّدهم..

وعلى فرض أنّ أهل الكوفة قد سبقوا للكتابة إلى ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّ العدد الّذي كاتب الإمام (علیه السلام) لا يبلغ خُمس عدد المقاتلين وحمَلَة السيوف في الكوفة آنذاك، كما بيّنّا ذلك مفصّلاً في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وقائع السفارة).

ص: 278

بل كان في الكوفة ممّن يُحسَب على المتردّدين الكثير الكثير، بل حتّى لو كانوا من الأعداء، فإنّ أهل البصرة كانوا من الأعداء بالاتّفاق، فلماذا لم يكتب الإمام (علیه السلام) إلى الشريحة الأكبر ممّن لم يكاتبه من أهل الكوفة لتحييدهم، أو استنهاضهم، أو توظيف مواقفهم أيّاً كانت؟

المعوّق الثاني: ما هو الضمان على التحييد؟

إنّنا افترضنا على نحوٍ محتمَلٍ أن يكون التحييد هدفَ الكتاب، وليس لنا أيّ شاهدٍ أو دليلٍ من نفس الكتاب، أو من قول الإمام (علیه السلام) ، بل لا شاهد لنا سوى محاولة الإفلات من الإشكال المستعصي المعضل لفهم سبب إرسال الكتاب إلى جماعةٍ من الأعداء الّذين لا يُرتجى منهم أيُّ خير.

والآن، كيف يمكن أن نُثبِت أنّ الكتاب قد أدّى دوره وحيّد القوم؟

لم يطلب منهم عبيد القرود ابن الأَمة الفاجرة ولا سائسُه يزيد التحرّك لحرب ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ولو كان قد طلب _ فرضاً _ فمَن الضامن أنّهم لن يستجيبوا، وهم عبيدهم وعبيد دنياهم وعلى دِينهم وشاكلتهم؟ وقد رأينا موقف بعض هؤلاء المخاطَبين بالكتاب في نصرة ابن زياد وحمايته والدفاع عنه!

وقد رأينا تاريخهم وموقفهم مع أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وحمايتهم للجَمَل وراكبته، ودفاعهم عنهما بالنفس والنفيس والأعراض والأموال والدماء!

ص: 279

فسوابقهم تشهد لهم بالطاعة والخنوع والخضوع والامتثال والاستجابة لآل أبي سفيان ومَن حملهم على رقاب المسلمين، وأنّ دينهم وعقيدتهم الراسخة هي عبادة العِجل والسامريّ والتمدّد في أفياء السقيفة..

وقد تركها ابن الأَمة الفاجرة ابن زيادٍ هانئ البال مطمئنّاً، لا يُزعجه هاجس، ولا يراوده خوف، ولا يزعزعه قلقٌ من استباب الأمر في البصرة، وخلّف عليهم أخاه، فلم تبدر منهم أيُّ بادرة، ولم يتحرّكوا أيّ حركة..

فمَن ذا يضمن أنّهم إن دُعوا أو أُمروا بحرب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشبل أمير المؤمنين (علیه السلام) ، لم يكن أحدهم يستجيب راكضاً لاهثاً، يتقرّب بدمه إلى ربّه السلطان؟

فهذا الفرض رغم نضوجه بنحوٍ ما، بَيد أنّ إثباته متعسِّرٌ إلى حدّ الامتناع على ما يبدو.

المعوّق الثالث: فائدة التحييد

تبيّن لنا بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكتب إلى أيّ بلدٍ من البلدان سوى البصرة، ولو كان ثَمّة كتابٌ لَبان..

ومهما يكن عدد المقاتلين في البصرة، فإنّه لا يبلغ في حساب العساكر المتكاثفة المتواجدة في ثكنة الكوفة إذا أدخلنا في الحساب معها عساكر الشام والعساكر المتواجدة يومذاك في المشاتي والمصايف والثغور الّتييمكنها الالتحاق بساحة المعركة بأمرٍ واحدٍ يصدر من يزيد القرود، فتطير بأجنحةٍ

ص: 280

على خيولٍ تسابق الريح، فتتوسّط الميدان في أيّ وقتٍ شاء..

ففي الكوفة وحدها _ والفرض قبل خيانتها وانقلابها _ أكثر من ثمانين ألف سيفٍ مواليةٍ للسلطان، والشام كلّها خولٌ وعبيدٌ مقاتلةٌ في طاعته، فما قدر أهل البصرة إن تحيّدوا أو شاركوا، وهم خارج أرض المعركة؟

المعوّق الرابع: معنى التحييد

إذا كان الإمام (علیه السلام) قد عزم على الخروج بالمعنى المصطلَح كما يزعمون، فالمفروض استنهاض الأُمّة، وتحريك أكبر عددٍ ممكنٍ من المخالفين والمعارضين للحكم، أمّا المستسلمين أو المستفيدين من الوضع القائم، فلا يمكن تحييدهم بحالٍ في حال الخروج بالمعنى المصطلح، فإنّهم وقود سلطان الوضع القائم.

وليس بالضرورة أن يلزم الخروج بالمعنى المصطلح القتالَ، إلّا أن يُقال: إنّ الإمام (علیه السلام) قد بيّت وخطّط للقتال منذ البداية، والإطاحة بالنظام القائم ورموزه من خلال الحرب، وهذا ما يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه!

فما معنى تحييد جماعةٍ بعيدةٍ نسبيّاً عن موقع الحدَث في مثل هذه الأوضاع؟

المسوّغ الثالث: إشغال السلطان بالبصرة

قد يُقال:

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يكتب إلى بلدٍ من البلدان سوى أهل

ص: 281

الكوفة، وكانت مكاتبته لأهل الكوفة ردّاً على كُتبهم، ولم يكن يبتدئهم هو بنفسه (علیه السلام) .. مع ذلك، فإنّه لم يكن يذكر في كتبه أسماء المخاطَبين، فيما نجده يذكر أسماء المخاطَبين في كتابه إلى أهل البصرة، وهم من رؤوس المعاندين والأعداء، والإمام (علیه السلام) يعلم أنّهم سوف لا يجيبونه، بل قد يردّون دعوته ردّاً عنيفاً كما فعل بعضهم بالفعل..

ولكنْ مع ذلك، فإنّ السلطان حين يسمع أنّ الإمام (علیه السلام) قد كتب إلى رؤوس أتباعه وكبراء غوغائه، فإنّه سيتابع الأمر بجدٍّ وقلق، وبالتالي ستقع فجوةٌ وجفوةٌ بين الوالي ورعيّته، وتتزلزل الثقة، ويضطرّ السلطان إلى إذكاء عيونه وتفعيل جواسيسه وتجديد نشاطاته ليستبرئ الناس أتباعاً ومتبوعين.

وبذلك ستُفتَح ثغرةٌ جديدةٌ وجبهةٌ افتراضيّةٌ للعدوّ شاغلةً للسلطان، تضطرّ ابنَ زيادٍ للمكث أكثر في البصرة لارتيابه وتخوّفه منهم، حتّى يضمن الوضع قبل خروجه، وهكذا..

بَيد أنّ هذا المسوّغ فيه من السذاجة والبساطة والتضخيم ما يغني عن مناقشته.

وقد كان السلطان على ثقةٍ عاليةٍ بأتباعه، لا من باب التبعيّة فقط، وإنّماكان هؤلاء المخاطَبون هم بأنفسهم أعداءٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، لا يمنعهم دون شرب دمائه الزاكية إلّا ما منعهم من الظروف وحبّ الدَّعَة والدنيا، كما أنّ أتباعهم كانوا على ما كان عليه زعماؤهم..

ص: 282

أضف إلى ذلك: فإن كان هذا هو المسوّغ أو جزءَ العلّة في المسوّغ، فإنّه لم يُثمِر ولم يُفلِح في تحقيق الغرض، إذ أنّ ابن زيادٍ خرج من البصرة متعجّلاً طائراً بجناحين، وخلّف عليهم أخاه، وهو هادئ البال مطمئنّ، لا يُقلقه هاجسٌ ولا يزعجه تململٌ ولا زعيقٌ ولا نعيقٌ من القوم، إذ ليس فيهم من يبزّ أو ينقز.

المسوّغ الرابع: مخاطبة الناس من خلال الرؤساء
اشارة

قد يُقال:

إنّ الكتاب اتّخذ من الرؤساء والزعماء عنواناً حاكياً خاطب الإمام (علیه السلام) من خلاله أتباعهم، إذ كانت المخاطبات تلك الأيّام لابدّ أن تمرّ عبر المشايخ وزعماء القبائل، فالإمام (علیه السلام) يعلم أن لا خير يُرتجى من الزعماء، بَيد أنّ في أتباعهم وقبائلهم مَن ربّما كان راغباً في اللحاق ومتوثّباً للنصرة، فخاطب الناس من خلالهم، لا أكثر..

بَيد أنّ هذا الافتراض أيضاً يبدو أنّه غير ناهض، وفيه شيءٌ من التبسيط الزائد، وذلك:

أوّلاً: الزعيم الحاقد لن يُوصِل الرسالة

إنّ هذا الكتاب ما كان يصل خبرُه إلى الناس إلّا من خلال الزعماء المخاطَبين، فكانوا يفعلون كما فعل يزيد بن مسعود النهشليّ مثلاً في خبر الشيخ ابن نما، حيث سيخبرونهم بعد أن يجمعوا أتباعهم أو يسرّبوا الخبر

ص: 283

لهم من خلال العرفاء والفروع الّتي تنتشر في نواديهم ومجالسهم، أو بأيّ وسيلةٍ كانت مستخدَمةً يومذاك للتواصل بين الزعيم القبَليّ وأفراد قبيلته والشريف ومَن تحت زعامته..

فإذا كان الزعيم رافضاً عدوّاً لدوداً خائفاً على زعامته ودنياه من السلطان، فإنّه سيمتنع عن إيصال خبر الكتاب إلى أحدٍ من أتباعه، وهذا من البديهيّ الّذي يقفز إلى أيّ ذهنٍ يستمع إلى هذه القصّة.

فكيف كان يكون هذا الزعيم ممرّاً يصل الكتاب إلى أتباعه من خلاله، وقد دفن خبره عنده؟!

ثانياً: الأتباع كالزعماء في العداوة

إنّ من أوضح الواضحات المتسالَم عليها أنّ أهل البصرة كانوا يومها جميعاً في عِداد أعداء الإمام (علیه السلام) ، وهذه الحقيقة لا تحتاج إلى مزيد استدلالٍ وبيان، ولو لم يكن ثَمّة اتّفاقٌ على ذلك لَكفانا ما ورد عن أهل البيت (علیهم السلام) من شهادةٍ فيهم وحشرهم في عداد أهل الشام وآل عثمان، وأنّ السماوات والأرضين وجميع المخلوقات بكت إلّا أهل البصرة لمقتل الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) .فحُكم الأتباع حُكمُ المتبوعين في العداء، وموقفهم موقفهم، فإذا كان إرسال الكتاب إلى الزعماء الأعداء يحتاج إلى تبريرٍ وتسويغٍ لجهة عداوتهم، فإنّ نفس هذه الجهة متوفّرةٌ في الأتباع وتحتاج إلى تسويغٍ

ص: 284

وتبرير.

ثالثاً: عدم انحصار الإيصال بالزعماء

إنّ افتراض انحصار إيصال الرسالة إلى الأتباع بالمرور عن طريق الزعماء افتراضٌ قاصر، إذ أنّ وسائل التواصل بالناس كانت متعدّدةً كثيرة..

أجل، قد يكون أقربها وأنجعها وأسرعها هو التواصل عن طريق الزعماء، إلّا أنّ الزعماء كانوا في قبضة السلطان طواعية، فلا يمكن الحساب عليهم بحال.

وقد رأينا أهل الكوفة كاتبوا الإمام (علیه السلام) أفراداً وجماعاتٍ من دون المرور بالزعماء، وكاتبهم الإمام (علیه السلام) أيضاً بنفس الطريقة وأرسل إليهم الرسُل..

وكان من المتداول يومذاك بثُّ الدعاة وإرسالهم بالكتب والخطابات قبل القيام بالحركة المطلوبة، وقد اقترح ذلك المولى المكرّم ابن الحنفيّة وابن عبّاس وغيرهما على سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه، وطلبوا منه التريّث حتّى يتسنّى له بثّ دُعاته وإرساله الرسل إلى الناس جميعاً ومكاتبتهم ليجمع الرجال والأنصار..فلا ضرورة لافتراض أنّ مخاطبة الناس في البصرة لم يكن ليتسنّى إلّا عن طريق مجموعةٍ من الأوباش والسفَلَة المتزعّمين على قبائلهم وعشائرهم.

ص: 285

المسوّغ الخامس: إعلام الراغبين
اشارة

قد يُقال:

ربّما كان الكتاب عبارةً عن إعلانٍ لأنصاره المعدودين في البصرة الّذين كانوا على استعدادٍ للنصرة وبذل النفس في الدفاع عنه، وهو أعلم وأعرف بهم، غير أنّه عمّم الكتاب إلى غيرهم كغطاءٍ عليهم، لئلّا يخاطبهم بأعيانهم وهم في سلطة الطاغوت.

وهذا الفرض فيه من الوجاهة الّتي تجعله ينهض لتفسير إرسال الكتاب، بَيد أنّه قابلٌ للنقاش أيضاً بالمناقشات التالية:

المناقشة الأُولى: وجود تجمُّعٍ شيعيّ

حسب فرض التاريخ أنّ ثَمّة موضعٌ كان الشيعة يجتمعون فيه، وقد نصّ على بيت مارية العبديّة..

والمفروض أن يكون هذا المكان معروفاً لدى الشيعة، ومعروفاً عند الإمام (علیه السلام) _ حسب الموازين الظاهريّة _، والقوم الّذين يهمّهم الأمر كانوا يتواجدون في مِثل هذا المكان، فكان بالإمكان إرسال الرسول إلى بيت مارية العبديّة ليجتمع الشيعة هناك ويسمعوا الكتاب، أو كان يستمع إلىالكتاب مَن يحضر ويبلّغه الغائب.

المناقشة الثانية: انتشار خبر حركة سيّد الشهداء (علیه السلام)

كانت أخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) يومذاك تملأ الخافقَين وتسري بها

ص: 286

الركبان، إنْ من مكّة أو من الكوفة، وكان تقارُبُ المصرَين وتفاعلهما وتواصلهما في النسيج الاجتماعيّ والفعّاليّات الحياتيّة المختلفة يساعد كثيراً في وصول أخبار الكوفة إلى البصرة، وكانت الكوفة يومها تموج بأهلها _ كما يصفون _، يعلو فيها الصخَب والضجيج والعجيج، وتزدحم فيها الأحداث والرجال، وتتكدّس فيها العساكر والخيول، وتتطاير منها الأنباء لتنتشر في كلّ مكان..

ثمّ إنّ ابن زيادٍ خرج من البصرة متوجّهاً إلى الكوفة بعد أنْ أمره سائسُه بذلك، وكانت الأوضاع على العموم تُنذِر بالخطر.

ألم تكن هذه الضجّة والأخبار المتداولة كافيةً لمعرفة مَن أراد من الراغبين بأخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهم متحفّزون متوثّبون مستعدّون لنصرته؟!

أجل، قد يُقال:

إنّ وصول الكتاب إلى هؤلاء القوم وشهادة الرسول سُليمان، كان فيه إعلانٌ أفاد الأنصار الأبرار عن حلول وقت اللحاق، فالتحقوا.. هكذا..

وثَمّة فرقٌ بين أن يكون حدَثٌ من الأحداث أفاد شيئاً، وبين أن يكونالرسول والكتاب لم يُرسَلا إلّا لهذا الغرض!

المسوّغ السادس: الكتاب ردٌّ على كتاب!

قد يُقال:

ص: 287

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما كتب إلى أهل البصرة تماماً كما كتب إلى أهل الكوفة، أي: بعد أن كتب إليه جماعةٌ من أهل البصرة يدعونه، فردّ عليهم وأجاب كتبهم بهذا الكتاب.

ولا يبعد أن يكون فيمن كتب إلى الإمام (علیه السلام) بعض الوجوه والأشراف، تماماً كما حصل في الكوفة حين كتب إليه شبث بن ربعيّ وحَجّار بن أبجر وابن رُويم، وأمثالهم من الكفّار والمنافقين والانتهازيّين..

ويشهد لذلك اجتماع الشيعة في بيت مارية العبديّة، فربّما يُقال: إنّهم إنّما اجتمعوا كما اجتمعوا في الكوفة في بيت سُليمان بن صُرَد الخزاعيّ، وأنّهم كتبوا للإمام (علیه السلام) من البصرة من بيت مارية كما كتب أهل الكوفة من بيت سليمان..

ويشهد له أيضاً ما قاله الشيخ السماويّ (رحمة الله) :

وبلغ أهلَ البصرة ما عليه أهلُ الكوفة، فاجتمعَت الشيعةُ في دار مارية بنت مُنقِذ العَبديّ، وكانت من الشيعة، فتذاكروا أمْرَ الإمامة وما آلَ إليه الأمر، فأجمع رأيُ بعضٍ على الخروجفخرج، وكتب بعضٌ بطلب القدوم ... ((1)).

هنا يصرّح الشيخ (رحمة الله) أنّ الاجتماع في بيت مارية أسفر عن عزم بعضهم على الخروج وكتابة بعضهم بطلب القدوم.

ص: 288


1- إبصار العين للسماويّ: 25.

ولا ندري إلى أين كان طلب القدوم؟ هل القدوم إلى البصرة وحصول خيارٍ جديدٍ إضافةً إلى خيار الكوفة، أو القدوم إلى الكوفة؟ باعتبار أنّ أخبار الكوفة كانت تصلهم وأنّها كانت مسرح الأحداث، فكأنّهم طلبوا القدوم إلى الكوفة على أمل اللحاق بالإمام (علیه السلام) هناك!

هذا ما لا يمكن استخلاصه بالقطع والجزم من كلام الشيخ _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _.

ولا ندري إن كان ما كتبه الشيخ (رحمة الله) هي استفادةٌ منه، أو أنّه قد وقع على نصٍّ يفيد ذلك، ولم يُرجِع إلى المصدر ولم يُخبِرنا عنه ولم يصلنا المصدر، فإنّ الشيخ (رحمة الله) كان صاحب كتبٍ ومكتبة.

ويشهد له أيضاً ما ورد في ترجمة كتاب (فرسان الهيجا) للمحلّاتيّ، ترجمة سماحة السيّد محمّد شعاع فاخر، قال في ترجمة سُليمان بن أبي رزين:

قال [ابن زياد]: مَن الّذي كتب إلى الحسين من أهل البصرة؟ فسمّوه له، وأمر بإحضاره، وقال لهم: رأيتم بطش أبي زيادوشدّته في سفك الدماء، وأنا أشبهتُه من دون إخوتي وثمرةُ تلك الشجرة، فاحرصوا على منع أنفسكم من الفتنة، لئلّا تنالوا العقاب الأليم. وصعد المنبر، وراح يرعد ويزبد ويتهدّد ويتوعّد، ويعدهم بالعذاب

ص: 289

والتنكيل، حتّى دبّ الرعب في نفوسهم، ثمّ أمر برسول الحسين سُليمان أن يُصلَب، فصلبوه ... ((1)).

فقول ابن زياد: مَن الّذي كتب إلى الحسين من أهل البصرة؟ فسمّوه له، وأمر بإحضاره.. يفيد أنّ ثَمّة كتبوا إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ، فاستحضرهم ابنُ زيادٍ وهدّدهم..

بَيد أنّ الموجود في الأصل الفارسيّ هو: «حسين چه کسانی را از مردم بصره نامه کرده است؟» ((2)).

وبناءً على هذا اللفظ يكون إعراب كلمة (الحسين) فاعل، وإعراب (أهل البصرة) مفعول، ويكون مضمون السؤال عمّن كتب إليهم الإمام الحسين (علیه السلام) من أهل البصرة.

ونحسب أنّ خطأً مطبعيّاً وقع في الترجمة، إذ يكفي أن تضاف (هاء) على (إلى) في الجملة، فتتطابق مع الأصل الفارسيّ، فيُقال: (مَن الّذي كتب إليه الحسين من أهل البصرة؟).وعلى هذا، لا يكون ما قاله الشيخ المحلّاتيّ شاهداً هنا!

* * * * *

ص: 290


1- فرسان الهيجا للمحلّاتيّ: 1 / 214.
2- فرسان الهيجا للمحلّاتيّ: 1 / 326 _ بتصحيح وتحقيق: حامد فدوي اردستاني، ط إنتشارات مرتضوي.

كيف كان، إن كانت هذه الشواهد كافيةً _ ولا تبدو الشواهد بمستوىً عالٍ من المتانة والقوّة _، فإنّ هذا المسوّغ يمكنه أن يعالج الكثير من الإشكالات، ويجيب على أكثر الأسئلة الحائرة، ويكون مسوّغاً قويّاً..

المسوّغ السابع: وجود التواصل من قَبل!
اشارة

كانت ثَمّة مكاتباتٌ بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وبعض أهل البصرة فيما مضى قبل يوم الحسين (علیه السلام) ، كما روى الشيخ الصدوق (رضی الله عنه) في كتاب (التوحيد)، عن وهب بن وهب القرشيّ قال: وحدّثَني الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر، عن أبيه (علیهم السلام) : «أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) يسألونه عن الصمَد، فكتب إليهم:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أمّا بعد، فلا تخوضوا في القرآن، ولا تُجادِلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير عِلم، فقد سمعتُ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: مَن قال في القرآن بغير علم، فلْيتبوّأ مقعدَه من النار.

وإنّ الله (سبحانه) قد فسّر الصمد، فقال: ﴿اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ﴾، ثمّفسّره فقال: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ ((1))، لم يَلِدْ: لم يخرج منه شيءٌ كثيف، كالولد وسائر الأشياء الكثيفة الّتي تخرج من المخلوقين، ولا شيءٌ

ص: 291


1- سورة الإخلاص: 1 _ 4.

لطيفٌ كالنفْس، ولا يتشعّب منه البدوات، كالسِّنَة والنوم والخطرة والهَمّ والحزن والبهجة والضحك والبكاء والخوف والرجاء والرغبة والسأمة والجوع والشبع، تعالى أنْ يخرج منه شيءٌ وأن يتولّد منه شيءٌ كثيفٌ أو لطيف، ولم يُولَد: لم يتولّد من شيءٍ، ولم يخرج من شيءٍ كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشيء من الشيء، والدابّة من الدابّة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما يخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأُذُن، والشمّ من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتميّز من القلب، وكالنار من الحجَر، لا، بل هو الله الصمَد، الّذي لا مِن شيءٍ ولا في شيءٍ ولا على شيء، مُبدِعُ الأشياء وخالقُها، ومُنشِئُ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيّته، ويبقى ما خلق للبقاء بعِلمه، فذلكم الله الصمَد، الّذي لم يَلِد ولم يُولَد، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ ((1))، ولم يكُن له كفُواً أَحَد» ((2)).

إستفادوا من هذا الحديث "اليتيم" أنّ ثَمّة مكاتباتٌ كانت بين أهل البصرة والإمام الحسين (علیه السلام) من قبل، فمن الطبيعيّ أن يكونوا قد كتبوا إليهيدعونه للقدوم، أو أن يكتب لهم مبتدئاً للاستنهاض، لوجود هذا النوع من التواصل والترابط..

ص: 292


1- سورة الرعد: 9.
2- التوحيد للصدوق: 90 الباب 4 ح 5.

قد يُقال:

إنّ هذا التواصل والتكاتب يفيد وجود علاقةٍ مستمرّةٍ تسوّغ مخاطبة القوم الّذين هم على تواصلٍ مع الإمام (علیه السلام) .

ويمكن الجواب على هذا المسوّغ بالأجوبة التالية:

الجواب الأوّل: كتابة الإمام (علیه السلام) لا تحتاج إلى سوابق

إنّ الإمام (علیه السلام) لا يحتاج إلى وجود علاقةٍ مسبقةٍ ليكتب، وقد كتب هذا الكتاب إلى جملةٍ من أعدائه، وفيهم مَن لم يُعرَف له أيّ تعاملٍ أو علاقةٍ مسبقة، بما فيهم مَن أحسن ردّ الجواب للكتاب يزيد بن مسعود النهشليّ، فهو لم يرد له أيّ اقترانٍ أو ارتباطٍ سابقٍ بالإمام (علیه السلام) بأيّ نوعٍ من أنواع الارتباط والتواصل، إذ لم يَرِدْ له اسمٌ في التاريخ والتراجم كي يثبت له ذلك.

الجواب الثاني: الكتابة إلى قومٍ جُدُد

إنّ الزعماء والأشراف الّذين أرسل إليهم الكتاب هذا، لم يُعرَف أنّهم هم الّذين كانوا قد كاتبوا الإمام (علیه السلام) من قبل، أو كان لهم به نوع علاقةٍ مستمرّةٍ بالتكاتب، فسيكون الكتاب قد خاطب أُناساً جُدُداً، ولم يصل إلىصاحب العلاقة المستمرّة..

فمَن قال: إنّ الذين خاطبهم الإمام (علیه السلام) ، كانت لهم مكاتباتٌ مع الإمام (علیه السلام) قبل ذلك اليوم؟

ص: 293

الجواب الثالث: الكتاب الواحد لا يُمثِّل ظاهرة

من الواضح أنّ كتاباً واحداً _ فيه استفسارٌ عن آيةٍ من كتاب الله _ لا ثاني له، لا يمكن استنتاج ظاهرةٍ منه، ولا سلوكٍ مداوم، ولا يفيد أيضاً أن يكون السائل من الشيعة!

سيّما أنّ الناس كانوا يكتبون إلى ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) من جميع أصقاع البلاد الإسلاميّة، ويحضرون بين أيدي أهل بيت النبوّة ويستفتونهم ويسألونهم عن دِينهم وقرآنهم..

فهل يمكن أن نجد كتاباً واحداً ورد من أهل البصرة، فنقول بوجود مكاتباتٍ مستمرّة، ونذهب إلى القول بوجود ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ تكتسح المجتمع أفراداً وجماعات، بل ظاهرةٍ تقوم ولو بجماعةٍ من الجماعات أو فئةٍ من فئات الناس؟

المسوّغ الثامن: الكتاب عامّ!

قد يُقال:

لا تبدو أنّ ثمّة دعوةً صريحةً للاستنصار بهم واستنهاضهم ودعوتهمللقيام والتحريض على الخروج بالمعنى المصطلَح واللحاق به، وإنّما هي دعوةٌ إلى كتاب الله وسُنّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، لأنّ السنّة قد أُميتَت والبدعةَ قد أُحييَت، ويكفي هذا القدر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويشهد لذلك أنّ أهل البصرة كانوا يومها أعداءً للإمام (علیه السلام) وشامتين، بشهادة الأحاديث الواردة عنهم، وأعداءُ الإمام أعداءُ الله، والإمام (علیه السلام) لا

ص: 294

يستنصر أعداء الله بتاتاً.

وهذا الموقف يختلف عمّا إذا كان الإمام (علیه السلام) يوظّف اليهود والنصارى في محاربة المشركين مثلاً، بل توظيف المشركين بعضهم على بعض، لأنّ أُولئك لا يكنّون العداء لشخصه الكريم، ولا يتديّنون ببغضه، ولا يجاهرون بعداوتهم له بالذات!

لاسيّما إذا فرّقنا بين نظرتَين لتفسير قيام الإمام (علیه السلام) ، فعلى فرض أنّ الإمام (علیه السلام) إنّما خرج إلى العراق للدفاع عن نفسه وعن آل الله، فهو في موقفٍ دفاعيٍّ محض، وسيتّضح عدم استنصاره بالأعداء أكثر ممّا لو كان قد خرج بالمعنى المصطلح للإطاحة بنظام الحكم مثلاً..

وكذا إذا كان قد خرج من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ الأمر واضحٌ أيضاً، فكيف يستنصر بالباطل على الباطل، وهو في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! ويكفي ما جاء في الكتاب في تحقيق الغرض.

المسوّغ التاسع: مشكلة البحث عن مسوّغ!

قد يُقال:

يُلاحَظ أنّ كلّ مَن ذكر الكتاب أكّد أنّ المخاطَبين كانوا من الأعداء، وأنّ البصرة يومها لم تكن في موقعٍ يؤهّلها للاستنصار بها واستنهاضها، على الفرض المشهور في تفسير قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فانبرى للبحث عن مسوّغٍ لإرسال الكتاب وتبريره وافتراض فرضيّاتٍ لتفسير الموقف.

ص: 295

والحال أنّنا لم نحتج إلى هذه المعالجات والافتراضات والبحث عن المسوّغات الّتي تفسّر إرسال الكتب إلى أهل الكوفة؛ فالأمر في الكوفة واضح، وليس هو كذلك في البصرة، وكأنّ كتاب البصرة معضلةٌ تحتاج إلى حلّ، والحال أنّ أفعال الإمام (علیه السلام) وأقواله أيّام قيامه جميعها بيّنةٌ واضحةٌ جليّة، لا تحتاج إلى تكلُّفٍ ومصارعةٍ مع الأحداث والظروف لتسويغها وتصحيحها!!

فهذه المعالجات نفسها قد تدعو المتلقّي والمتابع للتريّث والتأمّل والمراجعة في شأن الكتاب ونسبته إلى الإمام (علیه السلام) .

المسوّغ العاشر: تطريز الكتاب!

قد يُقال:

إنّ الكتاب ملفَّقٌ على الإمام (علیه السلام) ، وهو من تطريز بعض المغرضين، لأغراضٍ أشرنا إلى بعضها من خلال البحث..وقد يُقال في المقام أيضاً:

ربّما وُضع هذا الكتاب لترويج فكرة (خروج) الإمام (علیه السلام) على السلطان بالمعنى المصطلَح الّذي روّج له يزيد وأتباعه وأبواقه منذ اليوم الأوّل الّذي هجم فيه على الإمام (علیه السلام) يطلب رأسه المقدّس..

ولتخطئة الإمام (علیه السلام) ، وإثبات ما يزعمونه من الاعتماد على وعود أهل الكوفة الغرّارة، وهو يعلم أنّهم أهل غدرٍ وخيانة، وأنّهم ليسوا من أتباعه

ص: 296

على وجه الحقيقة، فلو أنّ فرداً أراد الدفاع عن موقف الإمام (علیه السلام) في تعامله مع كتب أهل الكوفة ووعودهم على ما فيهم وعلى ما هم عليه، فإنّ كتابه لأهل البصرة سيكون خير شاهدٍ على أنّ الإمام (علیه السلام) قد قبل أهل الكوفة ووعودهم، إذ أنّه كان (يطمع) في نصرة أهل البصرة واستنهاضهم، مع أنّه كان يجزم أنّهم أعداءً ألدّاء لا يطمع فيهم طامع..

فإذا كان الشخص قد استنصر في قيامه بالأعداء، فمن الطبيعيّ أن يكون مقتنعاً بالغوغاء وأصحاب السوابق!

وهذا هو ما يريد إلقاءَه الأعداءُ ويروّجون له من استعجال الإمام (علیه السلام) في حركته واعتماده على سرابٍ لا يبلغه ظمآن.

نستغفر الله ونتوب إليه ممّا مرّ من كلماتٍ وتعابير غير مؤدَّبةٍ في ساحة سيّد الكائنات وسيّد شباب أهل الجنّة خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، ونعتذر إليه، بَيد أنّها ضرورة البحث.وربّما يشهد لذلك أنّ فحول العلماء قد أعرضوا عن ذِكر الكتاب وما يتعلّق به من أحداث، بل أعرضوا حتّى عن ذِكر شهادة سُليمان رسول الإمام الحسين (علیه السلام) الّذي قتله ابن الأَمة الفاجرة قبل أن يخرج إلى الكوفة، وذكروه ضمن شهداء الطفّ يوم عاشوراء بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهؤلاء العلماء كثيرون، منهم: الشيخ المفيد، والشيخ الطبرسيّ (رحمهما الله) .

ص: 297

متن الكتاب

البلاذريّ:

وقد كان الحسينُ بن عليٍّ (علیه السلام) كتب إلى وجوه أهل البصرة يدعوهم إلى كتاب الله، ويقول لهم: «إنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت ونُعشَت» ... ((1)).

الدينوريّ:

«بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن عليٍّ إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر ابن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلامٌ عليكم.

أمّا بعد، فإنّي أدعوكم إلى إحياء معالم الحقّ وإماتة البدَع، فإنْ تُجيبوا تهتدوا سُبل الرشاد، والسلام» ... ((2)).

ص: 298


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.

الطبريّ:

فجاءَت منه نسخةٌ واحدةٌ إلى جميع أشرافها:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على خَلقه، وأكرمَه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرسل به (صلی الله علیه و آله) ، وكنّا أهلَه وأولياءَه وأوصياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، وإنّ البدعة قد أُحييَت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمرى أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله» ... ((1)).

إبن أعثم، الخوارزميّ:

فكتب إليهم كتاباً يدعوهم فيه إلى نصرته والقيام معه في حقّه، [لكلّ واحد كتاباً] ((2)).

ص: 299


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.

إبن الأثير:

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخةً واحدةً إلى الأشراف ... يدعوهم إلى كتاب الله وسُنّة رسوله، وأنّ السنّة قد ماتت والبدعة قد أُحييت ... ((1)).

إبن نما:

وكتب (علیه السلام) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ... فيه:

«إنّي أدعوكم إلى الله وإلى نبيّه، فإنّ السُّنّة قد أُميتَت، فإنْ تُجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد» ... ((2)).

إبن طاووس:

وكان الحسين (علیه السلام) قد كتب إلى جماعةٍ من أشراف البصرة كتاباً ... يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته ... ((3)).

النويريّ:

وكان الحسين قد كتب إلى أشراف البصرة ... يدعوهم إلى كتاب

ص: 300


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27.
3- اللهوف لابن طاووس: 38.

اللَّه وسُنّة رسوله، فإنّ السنّة قد ماتت والبدعةَ قد أُحييَت ... ((1)).

إبن كثير:

«أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً على خَلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرسل به، وكنّا أهلَه وأولياءَه وورثتَه، وأحقَّ الناس به وبمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومُنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم.

وقد بعثتُ إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتَت وإنّ البدعة قد أُحييَت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإن فعلتم أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله».

وعندي في صحّة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنّه مطرَّزٌ بكلامٍ مزيدٍ من بعض رواة الشيعة ((2)).

ص: 301


1- نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

المقريزيّ:

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة يدعوهم ... ((1)).

إبن أبي طالب:

وكتب الحسين (علیه السلام) كتاباً إلى أشراف البصرة ... يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته ((2)).

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):

فبينما هو كذلك، إذ قَدِم رسولُ الحسين (علیه السلام) إلى أشراف البصرة يدعوهم إلى نصرته ... بنسخةٍ واحدة، أوّله:

«بسم الله الرحمن الرحيم.

من الحسين بن عليّ (علیه السلام) :

أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) على جميع خَلقه، وأكرمه بنبوّته، وحَباه برسالته، ثمّ قبضه إليه مكرماً وقد نصح العبادَ وبلّغ رسالات ربّه، وكان أهلُه وأصفياؤه أحقَّ بمقامه من بعده، وقد تأمّر علينا قومٌ فسلّمنا، ورضينا كراهة الفتنة وطلب العافية.

ص: 302


1- إمتاع الأسماع للمقريزيّ: 5 / 363.
2- تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 173.

وقد بعثتُ إليكم بكتابي هذا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه، فإن سمعتُم قولي واتّبعتم أمري أهدكم إلى سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ((1)).

* * * * *

يمكن تقسيم هذه النصوص إلى أقسام:

موقف ابن زيادٍ من الكتاب والرسول

اشارة

يمكن تلخيص موقف ابن الأَمة الفاجرة ابن زيادٍ من الكتاب والرسول في الإجراءات التالية:

الإجراء الأوّل: قتْلُ الرسول وصلبُه

مرّ معنا الحديث مفصَّلاً عن إلقاء القبض على الرسول وضرب عنقه وقتله صبراً، ثمّ أمر بصلبه، فلا نعيد.

الإجراء الثاني: جمْعُ المخاطَبين

لم يرِدْ في كتب التاريخ المعروفة أنّ ابن زيادٍ جمع المخاطَبين بالكتاب، أو أرسل عليهم، أو أنّه طلب منهم موقفاً يُثبِت براءتهم..

فربّما قيل: إنّ ترك المخاطَبين وشأنهم من دون التعرّض لهم ليس من دأب الطغاة، فهم يأخذون على الظنّة، ويقتلون على التهمة، وربّما قتلوا

ص: 303


1- مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 23.

البريء مع علمهم ببراءته لإرعاب غيره.. فلا يسوغ تبرير ترك المخاطَبين وعدم ملاحقتهم بأنّ المخاطَب لا ذنب له ما لم يستجب.

كيف، وقد كان ابن زيادٍ في موقفٍ حاسمٍ خطيرٍ حسّاس، وهو يريد ترك البصرة إلى الكوفة، والأوضاع كانت متفجّرةً ملتهبة، والساحات كانت ملغومةً، تُنذِر باكتساح الأمواج العاتية العالية الهائجة في كلّ مكان..

أجل، قد يُقال: إنّ ابن زيادٍ كان واثقاً تمام الثقة من المخاطَبين؛ لمعرفته بمدى عداوتهم لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وذوبانهم في عفن القرود واعتيادهم على دمنهم، فهم ليسوا في دائرة الشكّ، لأنّه يعلم أنّهم لا يخرجون عن دائرته، بل ربّما كانوا نتيجة معتقداتهم ومخاوفهم وحبّهم للدنيا وتزلّفهم وملّقهم أرسخ منه في الموقف المعادي لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

أو أن يُقال: إنّهم بادروا للحضور بين يديه حين خطبته، أو أنّه أحضرهم حين أراد الخطبة، كما أشار إلى ذلك الشيخ المحلّاتيّ في كتابه (فرسان الهيجا):

قال [ابن زياد]: مَن الّذي كتب إليه الحسين من أهل البصرة؟ فسمّوه له، وأمر بإحضاره، وقال لهم: رأيتُم بطشَ أبي زياد وشدّته في سفك الدماء، وأنا أشبهتُه مِن دون إخوتي وثمرةُ تلك الشجرة، فاحرصوا على منع أنفسكم من الفتنة لئلّا تنالوا العقاب الأليم. وصعد المنبر، وراح يرعد ويزبد ويتهدّد ويتوعّد، ويعدهم بالعذاب والتنكيل حتّى دبّ الرعب في نفوسهم.

ص: 304

ثمّ أمر برسول الحسين سُليمان أن يُصلَب، فصلبوه ... ((1)).

بَيد أنّ ما يذكره الشيخ يفيد أنّ ابن زيادٍ كان له كلامٌ خاصٌّ مع المخاطَبين بالكتاب، ثمّ إنّه صعد فخطب..

ولا ندري من أين استفاد الشيخ المحلّاتيّ (رحمة الله) ما نقله!

الإجراء الثالث: الخُطبة

اشارة

يمكن تقسيم النصوص الّتي روت خطبة الخاطئ الأثيم إلى قسمين:

القسم الأوّل: نقل المضمون

إختزل البلاذريّ الخطبة من خلال التعبير عنها كحدَثٍ وخبرٍ يروي مضمونه، فأخبر عن أنّ عُبيد الله بن زيادٍ خطب بالبصرة، فأرعد وأبرق وتهدّد وتوعّد..

واكتفى بنقل جملةٍ واحدةٍ منها، وهي قوله: أنا نكلٌ لمن عاداني وسمامٌ لمن حاربني.

ثمّ عاد ليُخبر عنه من دون نقل النصّ، فحكى فهمه منها وقال:

وأعلمَهُم أنّه شاخصٌ إلى الكوفة، وأنّه قد ولّى عثمان بن زيادٍ أخاه خلافتَه على البصرة، وأمَرَهم بطاعته والسمعِ له، ونهاهمعن

ص: 305


1- فرسان الهيجا للمحلّاتيّ: 1 / 214 _ ترجمة: محمّد شعاع فاخر.

الخلاف والمشاقّة ((1)).

واختصر الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس (رحمهما الله) ذلك في سطر:

ثمّ صعد المنبر، فخطب وتوعّد الناس على الخلاف وإثارة أهل البصرة الإرجاف ((2)).

ولمّا كانت هذه المضامين مذكورةً بنحوٍ ما في القسم الثاني، سنترك التعليق عليها إلى هناك.

ونرجع لنؤكّد أنّ رواية تقريرٍ عمّا ورد في الخطبة ونقْلَ ما يتلقّاه الراوي والمؤرّخ ويفهمه من النصّ، يختلف تماماً عمّا لو كان يروي النصّ ويترك للمتلقّي حرّيّة الفهم والاستنطاق والاستخلاص والاستنتاج من النصّ!

القسم الثاني: نقل الخطبة

اشارة

روى الخطبة الدينوريّ والطبريّ وغيرهما، وجاءت الألفاظ متقاربةً والاختلافاتُ طفيفة، حاولنا جمعها في هذا النصّ:

وصعد عُبيد الله منبر البصرة، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:أمّا بعد، فوَاللهِ ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنان، وإنّي لَنكلٌ لمن عاداني وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارة مَن راماها.

يا أهل البصرة، إنّ أمير المؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة،

ص: 306


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- مثير الأحزان لابن نما: 27، وانظُر: اللهوف لابن طاووس: 38.

وقد استخلفتُ عليكم عثمانَ بن زياد بن أبي سفيان.

وإيّاكم والخلاف والإرجاف، فوَالّذي لا إله غيره، لَئن بلغني عن رجُلٍ منكم خلافٌ لَأقتلنّه وعريفَه ووليَّه، ولَآخذنّ الأدنى بالأقصى، حتّى تستمعوا [تستقيموا] ((1)) لي [يستقيم لي الأمر] ((2)) ولا يكون فيكم مخالِفٌ ولا مشاقّ.

أنا ابن زياد، أشبهتُه مِن بين من وطأ الحصى، ولم ينتزعني شبَهُ خالٍ ولا ابن عمّ ((3))، وقد أعذر مَن أنذر ((4)).

ولفظ ابن أعثم والخوارزميّ قريبٌ من الطبريّ ((5)).

* * * * *

يمكن متابعة هراء هذا المخلوق وطغيانه وتجبُّره الّذي طفح به خطابه هذا _ على عجلٍ _ من خلال الإشارات:

الإشارة الأُولى: وقت الخطبة

إتّفَقوا أنّ الخطبة كانت بعد شهادة الرسول سُليمان وصلبِه بلا فاصل،

ص: 307


1- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 268، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 158.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
4- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
5- الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.

وقبل خروج ابن الأَمة الفاجرة من البصرة متوجّهاً إلى الكوفة ((1)).

والأكثر على أنّ خروجه كان بعد الخطبة مباشرةً، حتّى ذكر بعضهم المسير بعد نزوله من الأعواد مباشرة.. «ثمّ نزل، وسار» ((2)).

فيما ذكر الشيخ ابن نما والسيّد ابن طاووس وقبلهما ابن أعثم أنّه خرج في اليوم التالي بعد شهادة الرسول والخطبة، فقالوا _ واللفظ للشيخ ابن نما _ :

ثمّ بات تلك الليلة ... فلمّا أصبح استناب عليهم عثمان بن زيادٍ أخاه، وأسرع هو إلى قصد الكوفة ((3)).

وربّما كان تعبير ابن الأثير ومَن استعمل لفظه: «ثمّ خرج من البصرة» ((4))، جامعاً..

إذ ربّما أغفل القول الأوّل مبيت الليلة لعدم وجود حدَثٍ يذكر فيما ذكره الآخَرون، والقدَر الحاصل أنّه لم يفعل شيئاً خاصّاً بعد شهادة سُليمان سوى إعلانه خلافة أخيه له وتحذيره.

ص: 308


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231، تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
2- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
3- أُنظر: مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199.
4- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 23، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 389، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.

ويبقى التاريخ الدقيق لا يكاد يبين؛ لأنّ تاريخ شهادة سليمان نفسه غيرواضح، وتاريخ خروج ابن الأَمة الفاجرة من البصرة غير واضحٍ أيضاً.

الإشارة الثانية: مكان الخطبة

حدّد البلاذريّ مكان الخطبة، فقال أنّه خطب بالبصرة ((1))، وكذا فعل الطبريّ، بَيد أنّه أفاد أنّ عُبيد الله صعد منبر البصرة ((2))، ويبدو أنّ مَن صرّح بصعوده المنبر وخطبته ((3)) بشكلٍ عامٍّ يقصد منبر البصرة أيضاً، والمتبادَر من صعود منبر البصرة أنّه صعد المنبر المركزيّ الّذي ينزو عليه وُلاة الظلَمة آنذاك..

وهو ما صرّح به الدينوريّ، إذ قال: ثمّ أقبل حتّى دخل المسجد الأعظم، فاجتمع له الناس ((4)).

فيكون مكان الخطبة _ وفق هذه الإفادات _ هو المسجد الأعظم في البصرة.

ص: 309


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 335.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 357.
3- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 62، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 199، مثير الأحزان لابن نما: 27، اللهوف لابن طاووس: 38، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 157.
4- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 231.
الإشارة الثالثة: مناسبة الخطبة وظروفها

يُلاحِظ المتابِع للأحداث المتسارعة المتلاحقة تلك الأيّام أنّ البصرة كانت تغطّ في سُباتٍ عميق، واستقرارٍ أمنيٍّ واجتماعيّ، إذ لم يُرصَد فيها _ من خلال النصوص التاريخيّة المتوفّرة _ أيُّ حركةٍ مثيرةٍ للالتفاتسوى ما ذكروه من الاجتماع في بيت مارية، وهو اجتماعٌ سرّيٌّ لا يُعَدّ حدَثاً علنيّاً يحكي حالةً اجتماعيّةً عامّة، وما ذكره الشيخ ابن نما من اجتماع ابن مسعود النهشليّ ببني تميم، وهو اجتماعٌ لطائفةٍ معيّنة، كبرقةٍ سرعان ما اختفَت ومضتُها، وقزعة خريفٍ سرعان ما تبدّدَت وانقشعَت، وهي بالنظر إلى ظروفها وملابساتها لا تشكّل أيضاً ظاهرةً اجتماعيّةً عامّة.

لم يُسجَّل في تلك الأيّام أيُّ تحرّكٍ عسكريٍّ في البصرة ولا استنفار، ولا أيّ ظاهرةٍ تفيد أنّ السلطة قد اتّخذَت إجراءً احترازيّاً، أو أنّها تحسّبَت لموقفٍ مرتقَبٍ من أهل البصرة في الإرجاف والخلاف..

وما ورد في كتاب ابن زياد لأخيه يأمره بأخذ الحيطة والحذَر وأخذ الطرق، فهو واضحٌ لم يقصد البصرة ككلّ، وإنّما يقصد مَن يريد اللحاق بسيّد الشهداء (علیه السلام) على فرض وجوده، كما سيأتي بيانه في محلّه.

أمّا خطبة ابن زياد، فهي خطوةٌ في السياق قبل خروجه من البلد، وبعد قتله رسول الإمام الحسين (علیه السلام) خطبها لإعلان الخليفة من بعده، والتخويف العامّ والإرعاب والإرهاب الّذي دأب عليه هو وأبوه وأسيادهم.

ص: 310

ثمّ إنّ الخطبة لم تتضمّن الإشارة إلى أيّ حدَثٍ يمكن أن يكون قد وقع في مكانٍ آخَر، مثل الكوفة أو مكّة أو المدينة..

كما لم تتضمّن الإشارة _ ولو من بعيدٍ _ إلى شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) والأحداث المتعلّقة به، ولا إلى سبب ضمّ ولاية الكوفة إليه مع البصرة..وبكلمة، فإنّ الإجراءات الّتي اتّخذها الطاغوت في البصرة ليست نتيجة تحرّكاتٍ ملحوظةٍ تشي بواقعٍ متململٍ يُنذر أزيزه بغليان مراجله، وإنّما هي عادة الطاغوت في الإرعاب والتخويف والتوجّس والخوف من الواقع الّذي ينخر فيه!

الإشارة الرابعة: الإرعاب بنفسه

نزا على المنبر جرواً متوحّشاً هائجاً طائشاً متمرّداً جائشاً، يتمّيز غيضاً ونزقاً وخرقاً وغروراً وتكبّراً وتجبّراً وطغياناً وعتوّاً..

يخال نفسه جبّاراً عنيداً، على الناس أن يخافوه ويحذروا بطشه؛ لأنّهم ذاقوا نكاله ونكال أبيه مِن قبل..

يُقسِم بالله أنّه لا تُقرَن به الصعبة، ولا يقعقع له بالشنان..

القعقعة: حكاية صوت السلاح، والشِّنان _ بالكسر _ : جمع الشن، وهو القربة الخلقة.

قال الزمخشريّ والميدانيّ: إذا أرادوا حثّ الإبل على السير، يحرّكون القربة اليابسة لتفزع، فتُسرع ...

ص: 311

وهو مَثَلٌ يُضرَب للرجل الشرس الصعب، الّذي لا يتفزّع لما ينزل به من حوادث الدهر ولا يروعه ما لا حقيقة له ((1)).ثمّ يعود ليحدّثهم عن نفسه وسطوته وبطشه.. ويؤكّد ذلك بكلّ أدوات التأكيد، وأنّه نكلٌ لمن عاداه..أي: متفوّقٌ غالِبٌ وشرٌّ قويٌّ عليه، يلجمه ويقوده..

ويصف نفسه أنّه سمٌّ لمن حاربه، ويتبجّح بخيلاءٍ وزهوٍ وغرورٍ وتحدٍّ صلف، فيسوق لذلك مَثَلاً: (أنصف القارة مَن راماها)..

القارة: قبيلة، سُمّوا بالقارة لاجتماعهم والتفافهم في موقعةٍ لهذا ذِكرٌ معروف، وهم معروفون بمهارة الرمي ودقّة التصويب..

قيل: إنّ رجلين التقيا، أحدهما قاري، فقال القاري: إن شئتَ صارعتُك، وإن شئتَ سابقتُك، وإن شئتَ راميتُك. فقال الآخَر: قد اخترت المراماة. فقال القاري: قد أنصفتَني. وأنشأ يقول:

قد أنصف القارة

مَن راماها

أنا إذا ما فئةٌ نلقاها

نردّ أُولاها على أُخراها

ثمّ انتزع له بسهمٍ فشكّ به فؤاده.

وقال أبو عُبيد: أصل القارة الأكمة، وجمعها قور.

وقال ابن واقد: وإنّما قيل: أنصف القارة مَن راماها، في حربٍ كانت

ص: 312


1- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 29 / 178.

بين قريشٍ وبين بكر بن عبد مناف بن كنانة، وكانت القارة مع قريش، وهم قومٌ رماة، فلمّا التقى الفريقان رماهم الآخَرون، فقيل: قد أنصفهمهؤلاء، إذ ساووهم في العمل الّذي هو شأنهم وصناعتهم ((1)).

فكأنّه يريد أن يهيّج القوم ويتحدّاهم، ويدعوهم للمبارزة إن شاؤوا، إذ أنّه مستعِدٌّ لها، وهو لا يخافهم ولا يأبه بهم ولا يكترث بعد ما يرى في نفسه الكفاءة والجرأة والقوّة والسطوة والتسلُّط والمهارة في فنّ الإجرام والتنكيل والإبادة والتخويف والإرعاب والإرجاف والإدمان على شرب الدماء والتلذّذ بها واعتياده الرقص على شخير الأوداج إذا فارت منها الدماء كالفوّارة..

كم في كلماته هذه من الغرور والطغيان والعتوّ والتكبُّر على الله وعلى الحرُمات!

الإشارة الخامسة: ذكر ولايته وخليفته

بعد أن أزبد وأرعد وزقح بحنقه وغروره، توجّه بالخطاب إلى أهل البصرة، ليخبرهم خبرَين يُفهَم منهما سبب خنخنته وتهديده المرعب الّذي صوّره في نفسه..

ص: 313


1- أُنظر: مجمع الأمثال للميدانيّ: 2 / 46، وقد وردت قصّة المَثَل في كثيرٍ من المصادر التاريخيّة.

إنّه يريد أن يغادر البصرة ويخلف عليهم أخاه.. والعفَن نفسُ العفَن، والقذَر نفسُ القذَر.. فهم أولاد سميّة، وكلّهم وحوشٌ كاسرة.. أولاد البغايا الرخيصات الّتي جعلت من أجوافها مستنقَعاً لسيلانات نطف الزناة علىقارعة الطريق بين دنان الخمر..

هكذا هم يقلبون الحقائق.. يزيد.. أمير المؤمنين!! إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم..

لقبٌ منحه الله (تبارك وتعالى) لمن خلقه على عينه.. نور الأنوار، وسليل الأطهار، ومعدن الطُّهر الّذي أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً، وجعله مثابةً للخلق في العدل والكرامة وجميع مكارم الأخلاق ومحامدها وأسباب السعادة ومفاتحها في الدارين.. فيسلبه هؤلاء القردَة، ويخلعونه على قردٍ مجدورٍ مخمورٍ مسعورٍ مبتذلٍ سافلٍ خليعٍ ماجنٍ عاهر.

الإشارة السادسة: التهديد الاستباقيّ

بعد أن أعلن لهم عزمه على الرحيل إلى الكوفة، هجم عليهم هجمةً جديدة، تبدأ بالتحذير وتنتهي بإعلان العقوبات..

حذّرهم الخلاف والإرجاف.. فقط.. لم يكن يومها قد حصل شيءٌ من ذلك، فليس في القوم مخالِفٌ ولا مُرجِف، وهو يريد لهم أن يبقوا على حالهم من الركود والخنوع والخضوع والتذلّل والإقعاء.. إذ أنّه أقسم بعد ذلك على إنزال العقوبة بهم إن بلغه عن رجُلٍ منهم ذلك.. ولو كانوا على

ص: 314

حالٍ من الإرجاف والخلاف لَنفّذ فيهم تهديده قبل أن يرحل، ولو كان فيهم رجلٌ قد ارتكب ما حذّر منه الوغد الرعديد لَاتّخذه مثالاً وجعلهلهم عِبرةً ونكالاً..

ثمّ ذكر تهديده، وهو عمله المعهود وعملُ مَن سلّطه منذ يوم الهجوم على دار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وغصبِ الخلافة بالقهر والتهديد، وقتلِ كلّ مَن له علاقةٌ من قريبٍ أو من بعيدٍ بأيّ خلافٍ عليهم..

هدّدهم بما يجعل كلَّ واحدٍ منهم يحميه ويتبرّع بالدفاع عنه خوفاً على نفسه وعريفه ووليّه، وجعل الأقصى يخشى الأدنى، ويحذر من كلّ حركة، ويحسب لظلّه حين يلاحقه ويتوجّس منه..

ثمّ عاد من جديدٍ ليؤكّد إنّه سيفعل بهم ويفعل، حتّى يستقيموا له ويسمعوا له، ولا يكون فيهم مخالِفٌ ولا مشاقّ.. وهو تأكيدٌ على أنّ القوم كانوا كذلك، فهدّدهم إنْ خرجوا عن دائرة طاعته والخنوع له، فسيعيدهم بذلك إلى ما يريد منهم.

الإشارة السابعة: عودةٌ إلى التهديد باسمه

بدأ أراجيفه وطيشه بالتبجُّح والتهديد بنفسه، ثمّ عاد ليختم خطبته بالتهديد بنفسه شخصيّاً مرّةً أُخرى، وهو يعتقد أنّ مجرّد ذِكر اسمه واسم أبيه كافٍ في الإرعاب والإرهاب، وهو كذلك يومذاك؛ لأنّه لا ذمّة له ولا ضمير، ولا رعاية حرمةٍ لله ولا للناس..

ص: 315

فكان التهديد الأهمّ في ختام كلامه أنّه ذكّرهم أنّه ابن زياد!زياد الّذي أذاقهم الويلات، وصلّبهم على جذوع النخل، وسمّل أعينهم، وأخذ على الظنّة والتهمة، وقتل الأبرياء، وفعل الأفاعيل..

وهو نغله المعروف الّذي لا يسكن إلّا إذا مزج كؤوس خمره بالدماء، وترك اسمه كقيء قيحٍ معتَّقٍ من خنزيرٍ مخمورٍ مجذومٍ على صفحات التاريخ، بل أنجس وأشدّ قبحاً.. فأمثال هؤلاء لا تفي الأمثال بتقريب ما هم عليه..

إنّه نغلٌ متهاود، لا يمكن أن يشبهه أحَد، لأنّ المشتركون في إقحام نطفته في بالوعات البغايا كُثُر!

ص: 316

محتويات الكتاب

إجتماع شيعة البصرة.... 7

المتون........... 7

الطبريّ:...... 7

إبن الأثير:... 8

السماويّ:.... 9

المقرّم:....... 9

النَّمازيّ:..... 9

الضوء الأوّل: رواة الخبر........ 10

الضوء الثاني: تعريض الخبر بشيعة البصرة.......... 11

الضوء الثالث: ماريّة العبديّة!... 14

المعلومة الأُولى: اسمها ونسبتها..... 15

المعلومة الثانية: مَن هو أبوها؟........ 15

الاسم الأوّل: مُنقِذ العَبديّ....... 16

الأوّل: رضيّ بن مُنقِذ العَبديّ... 16

الثاني: مُرّة بن مُنقِذ العَبديّ...... 16

الثالث: رجاء بن مُنقِذ العَبديّ... 17

الاسم الثاني: سعد العَبديّ....... 18

المعلومة الثالثة: تشيُّعها!........ 20

ص: 317

المعلومة الرابعة: وضعها الاجتماعيّ........ 21

المعلومة الخامسة: وجاهتها........... 22

الضوء الرابع: الاجتماع.......... 23

التلميح الأوّل: عدد المجتمِعين...... 23

التلميح الثاني: هويّة المجتمِعين..... 24

التلميح الثالث: وقت الاجتماع....... 26

التلميح الرابع: ظروف الاجتماع..... 28

التلميح الخامس: مُجرَيات الاجتماع....... 29

التعليق الأوّل: الخطاب الأوّل........... 30

التعليق الثاني: عرض الأمر على أولاده...... 31

التعليق الثالث: الإصحار بالعزم......... 31

التعليق الرابع: جواب القوم!..... 32

المستوى الأوّل: التحذير.......... 33

المستوى الثاني: التبرير... 33

التعليق الخامس: الردّ الأخير... 34

النور الأول: التأكيدات... 35

النور الثاني: سهولة الطريق....... 35

النور الثالث: أهمّيّة الإقدام مهما كلّف......... 36

النور الرابع: صعق الضمائر....... 36

النور الخامس: أفلح باللقاء....... 37

الضوء الخامس: معلومةٌ انفرد بها الشيخ السماويّ (رحمة الله) ......... 38

النكتة الأُولى: ما دار في الاجتماع.......... 38

النكتة الثانية: مكاتبة القوم.... 39

النكتة الثالثة: مصدر المعلومة......... 40

كتاب الإمام (علیه السلام) لأهل البصرة....... 41

ص: 318

تمهيداتٌ مهمّة.......... 65

التمهيد الأوّل: ارتباط المِصرَين...... 65

التمهيد الثاني: اختلاف التركيبة...... 65

التمهيد الثالث: عداوة البصرة يومذاك لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ......... 67

التمهيد الرابع: الأفراد لا يمثّلون عشائرهم......... 69

التمهيد الخامس: الإمام (علیه السلام) لم يُكاتِب مِصْراً...... 71

التمهيد السادس: عداوة المخاطَبين......... 73

التمهيد السابع: لم تخرج قوّاتٌ من البصرة........ 74

التمهيد الثامن: لم يَرِد خبرُ أهل البصرة في حديث أهل البيت (علیهم السلام) 75

التمهيد التاسع: الحذَر من المؤرّخ!.......... 76

وقت إرسال الكتاب ووصوله......... 79

المتابعة الأُولى: وقت إرسال الكتاب......... 79

المتابعة الثانية: وقت وصول الكتاب.......... 81

المتابعة الثالثة: تسجيل الحدَث من البصرة........ 83

الرسول........... 85

المعلومة الأُولى: اسمه.... 85

المعلومة الثانية: كنيته.... 86

المعلومة الثالثة: أُمّه........ 86

المعلومة الرابعة: ولاؤه... 87

المعلومة الخامسة: مهمّته......... 87

المعلومة السادسة: صفاته وخصاله..... 88

ص: 319

المعلومة السابعة: معلوماتٌ غريبة!..... 89

المعلومة الثامنة: شهادته.......... 90

النكتة الأُولى: ذريعة الوشاية......... 90

الذريعة الأُولى: خوف الدسيسة....... 91

الذريعة الثانية: قرابة السبب..... 92

الذريعة الثالثة: خوف الدسيسة والقرابة...... 93

النكتة الثانية: كيف أُلقيَ القبض عليه...... 94

الصورة الأُولى: لم تذكر إلقاء القبض....... 94

الصورة الثانية: ابن زيادٍ يلاحقه........ 95

الصورة الثالثة: المُنذِر يسلّمه... 96

النكتة الثالثة: شهادته... 97

النكتة الرابعة: أوّل رسولٍ يُقتَل...... 99

النكتة الخامسة: صلبه......... 100

النكتة السادسة: تاريخ الشهادة..... 101

المعلومة التاسعة: قاتله........... 102

المعلومة العاشرة: سُليمان شهيد البصرة وشهيد كربلاء....... 104

ملاحظات........... 108

الملاحظة الأُولى: الاسم.... 108

الملاحظة الثانية: ولاؤه...... 109

الملاحظة الثالثة: المقتول معه (علیه السلام) ........ 109

القول الأوّل: ذَكَره في عِداد المقتولين.... 109

القول الثاني: قُتِل معه... 110

القول الثالث: نصّ على قتله يوم عاشوراء......... 111

معالجة الأقوال... 112

ص: 320

الفرضيّة الأُولى: شهيدان!....... 113

الفرضيّة الثانية: شهيدٌ في كربلاء فقط........ 114

الفرضية الثالثة: شهيدٌ في البصرة فقط........ 115

المخاطَب بالكتاب.... 117

المتون...... 117

البلاذريّ:........ 117

الدينوريّ:....... 117

الطبريّ:.......... 118

إبن أعثم، الخوارزميّ:....... 118

إبن الأثير:....... 118

إبن نما:........... 119

إبن طاووس:... 119

النويريّ:.......... 119

إبن كثير:........ 120

المقريزيّ:....... 120

إبن أبي طالب:......... 120

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):..... 120

العنوان الأوّل: العنوان العام.......... 121

العنوان الثاني: مخاطَبة الأشخاص.......... 123

التلويح الأوّل: البلاذريّ لم يذكر الأسماء..... 123

التلويح الثاني: الدينوريّ جعل الأسماء ضمن الكتاب...... 123

التلويح الثالث: الشيخ ابن نما يذكر (يزيد).... 124

التلويح الرابع: الأسماء الواردة في المصادر... 125

1 - مالك بن مسمع البكريّ......... 125

ص: 321

2 - الأحنف بن قيس........... 126

3 - المنذر بن الجارود العَبديّ...... 130

4 - مسعود بن عمرو... 133

5 - قيس بن الهيثم...... 137

6 - عمرو بن عُبيد الله بن مَعمَر...... 139

7 - يزيد بن مسعود النَّهشليّ.......... 140

التلويح الخامس: أعداءٌ بالإجماع......... 144

مواقف القوم في مقام الردّ......... 147

المستوى الأوّل: الإجماليّ.... 147

المستوى الثاني: الشخصيّ.... 148

الموقف الأوّل: المنذر بن الجارود....... 148

الموقف الثاني: موقف الأحنف... 150

الوكزة الأُولى: الأحنف........ 151

الوكزة الثانية: انفراده بالجواب....... 152

الوكزة الثالثة: كتب إلى الحسين (علیه السلام) ...... 152

الوكزة الرابعة: أجواء الآية الكريمة......... 153

الوكزة الخامسة: دلالات توظيف الآية.... 155

الدلالة الأُولى: من خلال الأجواء..... 155

الدلالة الثانية: توظيف الآية مقطوعةً عن الأجواء........... 156

المفاجأة الأُولى: الحسم بكلمة.......... 156

المفاجأة الثانية: خطاب العالي إلى الداني...... 157

المفاجأة الثالثة: وَعْد الله!........ 157

المفاجأة الرابعة: إنّ وعد الله حقّ!....... 158

المفاجأة الخامسة: ولا يستخفّنّك!..... 159

المفاجأة السادسة: مَن الّذي يَستخفّ!.......... 160

ص: 322

المفاجأة السابعة: الافتراء على سيّد الشهداء (علیه السلام) ....... 161

المفاجأة الثامنة: الكلام مبنيٌّ على ما اعتمده السلطان.......... 162

المفاجأة التاسعة: الأحنف من الّذين لا يوقنون........ 163

المفاجأة العاشرة: البحث وفق رواية الشيخ ابن نما.... 165

الموقف الثالث: موقف يزيد النهشليّ... 165

الإضاءة الأُولى: النصّ المختار....... 168

الإضاءة الثانية: التعريف بيزيد بن مسعود من خلال النصّ... 168

التعريف الأوّل: قدرته على تحشيد بني تميم وبني حنظلة وبني سعد........... 169

التعريف الثاني: ثقته بمنزلته عند القوم....... 170

التعريف الثالث: منزلته عند القوم..... 170

التعريف الرابع: عقيدته.......... 172

التعريف الخامس: استشرافه للمستقبل وعواقب الأُمور... 173

الإضاءة الثالثة: مشهد الحوار والمواقف........... 173

الكلمة الأُولى: سبب جَمْعِهم........... 174

الكلمة الثانية: الأمر الّذي دعاهم إليه......... 174

النقطة الأُولى: هلاك معاوية... 174

النقطة الثانية: استخلاف يزيد... 177

النقطة الثالثة: الموقف من يزيد......... 179

النقطة الرابعة: ذكر الإمام الحسين (علیه السلام) .......... 180

النقطة الخامسة: النتيجة والتحذير....... 182

الكلمة الثالثة: كلام بني حنظلة........ 185

الكلمة الرابعة: كلام بني سعد.......... 187

الكلمة الخامسة: كلام بني عامر بن تميم.... 188

ولكن!... 190

الكلمة السادسة: ردّ يزيد على بني سعد...... 193

الإضاءة الرابعة: كتاب يزيد النهشليّ إلى الحسين (علیه السلام) ......... 195

المعلومة الأُولى: إعلان وصول الكتاب...... 196

المعلومة الثانية: دعوتُه فوزٌ له.......... 196

ص: 323

المعلومة الثالثة: تعليل الاستجابة والفوز...... 197

المعلومة الرابعة: دعوة الإمام (علیه السلام) ..... 198

المعلومة الخامسة: تقرير أحوال القوم........ 199

القسم الأوّل: بنو تميم عامّة..... 199

القسم الثاني: بنو سعد... 201

الإضاءة الخامسة: جواب الإمام الغريب (علیه السلام) ..... 202

التنوير الأوّل: مواقيت النصّ!........... 202

التنوير الثاني: وعودٌ في الزمن العصيب...... 203

التنوير الثالث: ما لَك؟!......... 205

التنوير الرابع: الدعاء!.... 205

التنوير الخامس: الدعاء لابن مسعود خاصّة!......... 206

الإضاءة السادسة: عاقبة الموقف.... 207

الوقفة الأُولى: أدّى ما عليه!.... 208

الوقفة الثانية: فترة التجهيز!..... 208

الوقفة الثالثة: إمكان خروج ابن مسعود بعسكر..... 210

الوقفة الرابعة: الخروج المتفرّق!....... 211

الوقفة الخامسة: الخروج بنفسه ومَن لحق!........... 211

الوقفة السادسة: فلمّا تجهّز!.... 212

الإضاءة السابعة: أسئلةٌ حائرة.......... 213

السؤال الأوّل: انفراد الشيخ ابن نما.... 214

السؤال الثاني: يزيد بن مسعود......... 215

السؤال الثالث: ابن مسعود زعيمٌ بين الزعماء........ 217

السؤال الرابع: كيف اجتمع هؤلاء القوم على غفلةٍ من السلطان؟........ 217

السؤال الخامس: كيف جهّز ابن مسعود قومه ولم يحفل بهم أَحَد؟.... 220

السؤال السادس: أخبار التجهيز........ 221

السؤال السابع: التعارض!........ 222

السؤال الثامن: عدم كفاف المدّة للتجهّز.... 223

ص: 324

السؤال التاسع: تتبُّع الأخبار..... 223

السؤال العاشر: تعارض الموقف مع ما رُوي عن أهل البيت (علیهم السلام) ..... 224

متن الكتاب.... 229

البلاذريّ:........... 229

الدينوريّ:.......... 229

الطبريّ:..... 230

إبن أعثم، الخوارزميّ:.......... 230

إبن الأثير:........... 231

إبن نما:..... 231

إبن طاووس:...... 231

النويريّ:.... 231

إبن كثير:... 232

المقريزيّ:.......... 233

إبن أبي طالب:... 233

أبو مِخنَف (المقتل المشهور):........ 233

القسم الأوّل: رواية مضامين الكتاب........ 234

القسم الثاني: الدمج بين رواية المضامين والنصّ...... 235

القسم الثالث: رواية نصّ الكتاب.... 236

الرواية الأُولى: المختصرة........... 237

المتابعة الأُولى: نصّ ابن نما (رحمة الله) ........... 237

المتابعة الثانية: ورود أسماء المخاطَبين في متن الرسالة........ 238

المتابعة الثالثة: مقدّمة الكتاب......... 238

ص: 325

المتابعة الرابعة: الدعوة.......... 239

اللمعة الأُولى: الدعوة في شقَّين....... 239

اللمعة الثانية: عموم الدعوة..... 239

اللمعة الثالثة: معنى «الحياة، المعالم، الحقّ».......... 240

اللمعة الرابعة: إحياء معالم الحقّ....... 243

اللمعة الخامسة: الدعوة إلى إماتة البدَع...... 245

اللمعة السادسة: «فإنْ تُجيبوا»!.......... 247

اللمعة السابعة: أُسلوب الدعوة......... 248

اللمعة الثامنة: إنْ أجابوا اهتدوا......... 249

اللمعة التاسعة: تهتدوا سبيل الرشاد... 250

اللمعة العاشرة: الخاتِمة.......... 252

الرواية الثانية: المفصّلة....... 252

المسلك الأوّل: انفراد الطبريّ....... 254

المسلك الثاني: ذِكر النبيّ (صلی الله علیه و آله) والشهادة له بالتبليغ.......... 255

المسلك الثالث: أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) مِن بعده......... 257

المسلك الرابع: الاستئثار عليهم..... 259

المسلك الخامس: الرضى وكراهة الفرقة......... 259

المسلك السادس: أحسنوا! أصلحوا! تحرّوا الحقّ!!!... 263

التعليقة الأُولى: المُسيء مُحسن.. المُفسِد مُصلح!!.......... 263

التعليقة الثانية: تأليف القلوب والتقيّة.......... 265

التعليقة الثالثة: لماذا القيام على الإحسان والصلاح؟!....... 266

التعليقة الرابعة: على منوال كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ........ 267

الاختلاف الأوّل: أمير المؤمنين (علیه السلام) في مقام المحاججة..... 268

الاختلاف الثاني: خلفاء الناس!......... 269

الاختلاف الثالث: أحسنا السيرة في الأُمّة لا في الآل........... 269

الاختلاف الرابع: وَجْدُ أهل البيت (علیهم السلام) عليهما...... 270

الاختلاف الخامس: المغفرة.... 271

ص: 326

الاختلاف السادس: التمييز بينهما وبين الثالث......... 272

الاختلاف السابع: إلزام القوم بالتزام أهل البيت (علیهم السلام) ........ 273

الاختلاف الثامن: الدعوة!....... 273

الاختلاف التاسع: استغفار الإمام (علیه السلام) !.......... 274

الاختلاف العاشر: الاختلاف عموماً... 275

التعليقة الخامسة: التناقض بين خطاب الكتاب وأهداف القيام... 276

التعليقة السادسة: تخطئة الحقّ والأئمّة (علیهم السلام) ....... 276

المسلك السابع: المقطع المتكرّر... 277

المسلك الثامن: خبرٌ لا يرتضيه المخالِف والمؤالف!......... 278

المسلك التاسع: دوافع إرسال الكتاب.... 279

المسوّغ الأوّل: إقامة الحُجّة.... 279

لماذا أهل البصرة بالذات؟...... 280

المسوّغ الثاني: تحييد القوم!... 282

المعوّق الأوّل: لماذا أهل البصرة بالذات؟..... 283

المعوّق الثاني: ما هو الضمان على التحييد؟... 284

المعوّق الثالث: فائدة التحييد... 285

المعوّق الرابع: معنى التحييد.... 286

المسوّغ الثالث: إشغال السلطان بالبصرة...... 286

المسوّغ الرابع: مخاطبة الناس من خلال الرؤساء... 288

أوّلاً: الزعيم الحاقد لن يُوصِل الرسالة.......... 288

ثانياً: الأتباع كالزعماء في العداوة...... 289

ثالثاً: عدم انحصار الإيصال بالزعماء... 290

المسوّغ الخامس: إعلام الراغبين..... 291

المناقشة الأُولى: وجود تجمُّعٍ شيعيّ... 291

المناقشة الثانية: انتشار خبر حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ... 291

المسوّغ السادس: الكتاب ردٌّ على كتاب!... 292

المسوّغ السابع: وجود التواصل من قَبل!..... 296

الجواب الأوّل: كتابة الإمام (علیه السلام) لا تحتاج إلى سوابق......... 298

ص: 327

الجواب الثاني: الكتابة إلى قومٍ جُدُد... 298

الجواب الثالث: الكتاب الواحد لا يُمثِّل ظاهرة........ 299

المسوّغ الثامن: الكتاب عامّ!... 299

المسوّغ التاسع: مشكلة البحث عن مسوّغ!........... 300

المسوّغ العاشر: تطريز الكتاب!........ 301

موقف ابن زيادٍ من الكتاب والرسول.... 303

الإجراء الأوّل: قتْلُ الرسول وصلبُه........ 303

الإجراء الثاني: جمْعُ المخاطَبين... 303

الإجراء الثالث: الخُطبة........ 305

القسم الأوّل: نقل المضمون........ 305

القسم الثاني: نقل الخطبة... 306

الإشارة الأُولى: وقت الخطبة....... 307

الإشارة الثانية: مكان الخطبة........ 309

الإشارة الثالثة: مناسبة الخطبة وظروفها........... 310

الإشارة الرابعة: الإرعاب بنفسه.... 311

الإشارة الخامسة: ذكر ولايته وخليفته... 313

الإشارة السادسة: التهديد الاستباقيّ...... 314

الإشارة السابعة: عودةٌ إلى التهديد باسمه....... 315

ص: 328

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.