ظروف اقامه سيد الشهداء علیه السلام في مکه المكرمه المجلد 5

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه.

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم الخامس

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

إبن الحنفيّة (رضی الله عنه) .. الموقف الأخير عند الرحيل

المتون

البلاذريّ:

وبلغ ابنَ الحنفيّة (رضی الله عنه) شخوصُ الحسين، وهو يتوضّأ، فبكى حتّى سُمع وقعُ دموعه في الطست ((1)).

الطبريّ:

قال أبو مِخنف: عن هشام بن الوليد، عمّن شهد ذلك قال: أقبل الحسينُ بن عليٍّ بأهله من مكّة، ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بالمدينة، قال: فبلغه خبره، وهو يتوضّأ في طست، قال: فبكى

ص: 5


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 377.

حتّى سُمعَت وكفُ دموعه ((1)) في الطست ((2)).

إبن شهرآشوب:

وكان محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وعبدُ الله بن المطيع نهياه عن الكوفة، وقالا: إنّها بلدةٌ مشؤومة، قُتل فيها أبوك وخُذل فيها أخوك، فالزمِ الحرم، فإنّك سيّدُ العرب، لا يعدل بك أهلُ الحجاز، وتتداعى إليك الناسُ من كلّ جانب.

ثمّ قال محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): وإنْ نَبَتْ بك لحقتَ بالرمال وشعب الجبال، وتنقّلتَ مِن بلدٍ إلى بلدٍ حتّى يفرق لك الرأي، فتستقبل الأُمور استقبالاً ولا تستدبرها استدباراً ((3)).

سبط ابن الجوزيّ:

ولمّا بلغ محمّدَ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مسيرُه، وكان يتوضّأ، وبين يديه طشت، فبكى حتّى ملأه من دموعه ((4)).

المسعوديّ:

وخرج محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يشيّعه، فقال له عند الوداع: يا

ص: 6


1- وكَفَ الدمعُ والماءُ وكْفاً ووَكيفاً ووُكوفاً ووَكَفاناً: سال، ووكَفَت العينُ الدمعَ وكْفاً ووَكيفاً: أسالَته (لسان العرب: وَكَفَ).
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 394.
3- المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 88.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169.

أبا عبد الله، اَللهَ اللهَ في حرم رسول الله! فقال له: «أبى اللهُ إلّا أن يكنّ سبايا». وكان من مصيره إلى النهرين ((1)).

إبن حجَر:

ولمّا بلغ مسيرُه أخاه محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، كان بين يديه طشتٌ يتوضّأ فيه، فبكى حتّى ملأه من دموعه، ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حَزِن لمسيره ((2)).

إبن طاووس:

ورويتُ من كتاب أصل الأحمد بن الحسين بن عمر بن بريدة الثقة، وعلى الأصل: إنّه كان لمحمّد بن داوود القمّيّ، بالإسناد عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«سار محمّدُ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى الحسين (علیه السلام) في الليلة الّتي أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالُك كحال مَن مضى، فإن رأيتَ أن تقيم، فإنّك أعزّ مَن في الحرم وأمنعه!

فقال: يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيدُ بن معاوية في الحرم،

ص: 7


1- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.
2- الصواعق المُحرقة لابن حجَر: 117، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

فأكون الّذي يُستباح به حُرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): فإن خفتَ ذلك، فصِرْ إلى اليمن أو بعضِ نواحي البَرّ، فإنّك أمنعُ الناس به ولا يقدر عليك.

فقال: أنظرُ فيما قلت.

فلمّا كان في السحَر ارتحل الحسين (علیه السلام)، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فأتاه، فأخذ زمام ناقته الّتي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظرَ فيما سألتك؟

قال: بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟!

فقال: أتاني رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) بعدما فارقتك، فقال: يا حسين (علیه السلام)، اخرجْ، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً.

فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): إنّا لله وإنّا إليه راجعون! فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مِثل هذه الحال؟

قال: فقال له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا.

وسلّم عليه، ومضى» ((1)).

الطُّريحيّ:

وعن بعض الناقلين: إنّ محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) لمّا بلغ الخبر أنّ

ص: 8


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

أخاه الحسين خارجٌ من مكّة يريد العراق، كان بين يديه طشتٌ فيه ماءٌ وهو يتوضّأ، فجعل يبكي بكاءً شديداً، حتّى سُمع وكفُ دموعه في الطشت مثل المطر، ثمّ إنّه صلّى المغرب، ثمّ سار إلى أخيه الحسين، فلمّا صار إليه قال له: يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك، وإنّي أخشى عليك أن يكون حالُك كحال مَن مضى من قبلك، فإن أطعتَ رأيي قُم بمكّة وكُن أعزَّ من في الحرم المشرف.

فقال: «يا أخي، إنّي أخشى أن تغتالني أجنادُ بني أُميّة في حرم مكّة، فأكون كالّذي يُستباح دمُه في حرم الله».

فقال: يا أخي، فصِرْ إلى اليمن، فإنّك أمنعُ الناس به.

فقال الحسين: واللهِ _ يا أخي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه حتّى يقتلوني»، ثمّ قال: «يا أخي، سأنظر فيما قلت».

قال: فلمّا كان وقت السحر، عزم الحسين على الرحيل إلى العراق، فجاءه أخوه محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وأخذ بزمام ناقته الّتي هو راكبها، وقال: يا أخي، ألم تعِدْني النظرَ فيما أشرتُ به عليك؟ فقال: «بلى».

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: «يا أخي، إنّ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتاني بعد ما فارقتُك وأنا نائم،فضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عينَيّ، وقال: يا حسين، قرّةَ عيني، اخرجْ إلى

ص: 9

العراق، فإنّ الله (عزوجل) قد شاء أن يراك قتيلاً مخضَّباً بدمائك».

فبكى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، وقال له: يا أخي، إذا كان الحال هكذا، فما معنى حملك هذه النسوة، وأنت ماضٍ إلى القتل؟ فقال: «يا أخي، قد قال لي جدّي أيضاً: إنّ الله (عزوجل) قد شاء أن يراهنّ سبايا مهتَّكاتٍ يُسَقن في أسر الذلّ. وهُنّ أيضاً لا يفارقنني ما دمتُ حيّاً».

فبكى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، وجعل يقول: أودعتُك الله يا حسين، في وداعة الله يا حسين! ((1))

القندوزيّ:

ثمّ إنّ محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) سمع أنّ أخاه الحسين يريد العراق، فبكى [بكاءً] شديداً، ثمّ قال له: إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، فإن قبلتَ قولي أقِمْ بمكّة.

فقال: «يا أخي، إنّي أخشى أن تغتالني جنودُ بني أُميّة في مكّة، فأكون أنا الّذي يُستباح [به] حرمُ الله».

ثمّ قال: يا أخي، فسِرْ إلى اليمن، فإنّك أمنع الناس به.فقال الحسين: «يا أخي، لو كنتُ في بطن صخرةٍ لَاستخرجوني منها فيقتلوني»، ثمّ قال له الحسين: «يا أخي، سأنظر فيما

ص: 10


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

قلت».

فلمّا كان وقت السحَر عزم على المسير إلى العراق، فأخذ محمّدُ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) زمام ناقته وقال: يا أخي، ما سبب أنّك عجلت؟

فقال: «إنّ جدّي (صلی الله علیه و آله و سلم) أتاني بعد ما فارقتُك وأنا نائم، فضمّني إلى صدره وقبّل ما بين عينَيّ، وقال لي: يا حسين، يا قرّة عيني، اخرجْ إلى العراق، فالله (عزوجل) قد شاء أن يراك قتيلاً مخضَّباً بدمائك».

فبكى محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، فقال: يا أخي، إذا كان الحال هكذا فلا معنى لحملك لهؤلاء النسوة!

فقال: «قال لي جدّي (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً: إنّ الله (عزوجل) قد شاء أن يراهنّ سبايا مهتَّكات، يُساقون في أسر الذلّ. وهُنّ أيضاً لا يفارقنني ما دمتُ حيّاً».

فبكى محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، ثمّ قال: أودعتُك الله يا حسين، في دعة الله يا أخي ((1)).* * * * *

إختلفَت الأخبار في شرح موقف المولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) الأخير عند خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة،

ص: 11


1- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

ويمكن تناولها من خلال عدّة لحاظات:

اللحاظ الأوّل: موقع اللقاء

اشارة

إختلفت الأخبار في بيان موقع اللقاء وموقع تواجد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حينذاك، ويمكن تقسيمها إلى مواقع:

الموقع الأوّل: المدينة

اشارة

يشهد لهذا الموقع جملةٌ من الأخبار، يمكن تقسيمها إلى طوائف:

الطائفة الأُولى: خبر الطبريّ عن أبي مِخنَف

قال أبو مخنف: عن هشام بن الوليد، عمّن شهد ذلك قال: أقبل الحسين بن عليّ بأهله من مكّة، ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بالمدينة، قال: فبلغه خبره، وهو يتوضّأ في طست، قال: فبكى حتّى سُمعَت وكفُ دموعه في الطست.

قال أبو مخنف: حدّثَني يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، قال: ولمّا بلغ عُبيد الله إقبال الحسين من مكّة إلى الكوفة، بعث الحصين بن تميم صاحب شرطه حتّى نزل القادسيّة، ونظم الخيلَ ما بين القادسيّة إلى خفان، وما بين القادسيّة إلىالقطقطانة وإلى لعلع، وقال الناس: هذا الحسين يريد العراق ((1)).

ص: 12


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 394.

أفاد لفظ الطبريّ المرويّ عن أبي مخنف أنّ الإمام (علیه السلام) قد أقبل بأهله من مكّة ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بالمدينة.

والظاهر _ بشهادة السياق _ أنّ قوله: «أقبل من مكّة»، يقصد نحو العراق، إذ يقول في الخبر الّذي يذكره بعده مباشرة: «ولمّا بلغ عُبيد الله إقبال الحسين من مكّة إلى الكوفة»، ثمّ يختم الخبر بقوله: «وقال الناس: هذا الحسين يريد العراق».

فليس المقصود من إقبال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هنا الإقبال نحو المدينة، بحيث حصل ثمّة لقاءٌ بين الإمام (علیه السلام) وأخيه في المدينة، ويكون الإمام (علیه السلام) قد رحل إلى العراق عن طريق العودة من مكّة إلى المدينة ومنها إلى العراق..

وإنّما يكون الإمام (علیه السلام) قد رحل من مكّة نحو العراق، وكان حينئذٍ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة.

الطائفة الثانية: رواية أهل البيت (علیهم السلام)

رُوي عن الإمام الباقر (علیه السلام) والإمام الصادق (علیه السلام) حديث كتاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى أخيه محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وبنيهاشم حين فصل متوجّهاً نحو العراق _ وسيأتي الكلام فيه بعد قليل _، وسياق الحديث يشهد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كتب له من مكّة وأخوه في

ص: 13

المدينة ((1))، إذ أنّ المعهود أن يكتب الكتاب لمن لا يكون حاضراً في البلد!

وهذا ما يمكن أن يُفهَم من السياق والمؤشّرات الخارجيّة، أمّا نصّ الحديث فليس فيه تصريحٌ بتواجد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة، حتّى إذا أخذنا بنظر الاعتبار رواية أبي طالب الزيديّ الّذي صرّح أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أرسل الكتاب إلى أخيه محمّد لمّا نزل بستان بني عامر ((2))، فإنّه لم يصرّح بمكان وجود ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) .

الطائفة الثالثة: الأخبار الّتي أفادت إقامة ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة

وردَت جملةٌ من الأخبار تفيد أنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أقام في المدينة عند خروج زين السماوات والأرض منها، من قبيل ما رواه الدينوريّ،

ص: 14


1- أُنظُر: كامل الزيارات لابن قولويه: 75، بحار الأنوار: 45 / 87، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317، بصائر الدرجات للصفّار: 501، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 577، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 84، العوالم للبحرانيّ: 17 / 318، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 239، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 235، دلائل الإمامة للطبريّ: 77، نوادر المعجزات للطبريّ: 109، الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 91، الخرائج والجرائح للراونديّ: 2 / 771، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 76، مثير الأحزان لابن نما: 19، اللهوف لابن طاووس: 65، مختصر بصائر الدرجات لابن سليمان: 6.
2- أُنظر: الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 91.

قال:

فلمّا أمسَوا وأظلم الليل، مضى الحسين (علیه السلام) أيضاً نحو مكّة،ومعه أُختاه: أُمّ كلثوم، وزينب، ووُلد أخيه، وإخوته: أبو بكر، وجعفر، والعبّاس، وعامّة مَن كان بالمدينة من أهل بيته، إلّا أخاه محمّد ابن الحنفيّة، فإنّه أقام ((1)).

وغيره كثيرون ((2))، قد أتينا على استقصائها في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة.

بَيد أنّ هذه الطائفة لا تنهض للشهادة على المطلوب؛ إذ أنّها تتحدّث عن يوم خروج الإمام (علیه السلام) عن المدينة، وقد أقام في مكّة زهاء أربع شهور، فلا يمنع أن يكون المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد لحق بالإمام (علیه السلام) في مكّة بعد حين.

إلّا إذا اعتمد أحدٌ ما رواه الطبريّ والذهبيّ، قالا:

لمّا جاء نعي معاوية، خرج الحسين وابن الزبير إلى مكّة، وأقام ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، حتّى سمع بدنوّ جيش مُسرف أيّام الحَرّة، فرحل إلى مكّة ((3)).

ص: 15


1- الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 228.
2- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 303، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 147، تاريخ ابن خلدون: 3 / 25.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 74، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 6 / 184.

فربّما يُقال: إنّ قوله: «أقام.. حتّى سمع بدنوّ جيش مُسرف.. فرحل إلى مكّة»، أنّه لم يخرج من المدينة أبداً مدّة تلك الأيّام والسنين.

غير أنّ النصّ ربّما أفاد أنّ المقصود من الرحيل إلى مكّة بمعنى الانتقال من المدينة إلى مكّة والإقامة في الحرم، وربّما شهد لذلك مارواه ابن سعدٍ في (الطبقات)، إذ قال:

إرتحل عبدُ الله بن عبّاس ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بأولادهما ونسائهما حتّى نزلوا مكّة، فبعث عبدُ الله بن الزبير إليهما: تُبايعان، فأبيا ((1)).

فلا يمنع ذلك من السفر إلى مكّة لفترةٍ محدودةٍ للقاء الإمام (علیه السلام)، أو لغرضٍ آخَر.

الخلاصة:

تبيّن لنا من خلال الطوائف الثلاث من الأخبار أنّ الطائفة الأُولى فقط فيها تصريحٌ بوجود المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة وفق خبر أبي مخنف، وحديث كتاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ليس فيه تصريحٌ أيضاً، والطائفة الثالثة غير ناهضةٍ لإثبات ذلك.

الموقع الثاني: مكّة المكرّمة

اشارة

أفادت جملةٌ من النصوص التاريخيّة أنّ المولى المكرّم محمّد ابن

ص: 16


1- الطبقات لابن سعد: 5 _ 1 / 187.

الحنفيّة (رضی الله عنه) كان في مكّة يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، ويمكن تقسيمها إلى عدّة طوائف:

الطائفة الأُولى: إخبار المسعوديّ وابن حجَر

قال المسعوديّ:

... وكانت أُمّ سلَمة تسأل عن خبره وتراعي قرب عاشوراء.

وخرج محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يشيّعه، فقال له عند الوداع: يا أبا عبد الله، اَللهَ اللهَ في حرم رسول الله. فقال له: «أبى اللهُ إلّا أن يكنّ سبايا».

وكان من مصيره إلى النهرين ((1)).

قال ابن حجَر:

ولمّا بلغ مسيرُه أخاه محمّدَ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، كان بين يديه طشتٌ يتوضّأ فيه، فبكى حتّى ملأه من دموعه، ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن لمسيره ((2)).

قال سبط ابن الجوزيّ:

ولمّا بلغ محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مسيره، وكان يتوضّأ وبين يديه طشت، فبكى حتّى ملأه من دموعه، ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن

ص: 17


1- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.
2- الصواعق المُحرقة لابن حجَر: 117، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

لمسيره ((1)).

* * * * *إذا لاحظنا سياق نصّ المسعوديّ وابن حجَر في المصدر، نجد أنّهما في معرض ذكر مختصر ما جرى على سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) منذ خروجه إلى شهادته، فهما يسردان الأحداث من دون مراعاة المواقع.

ففي نصّ ابن حجر أحداثٌ سابقة، ثمّ ذكر موقف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، ثمّ ذكر موقف مَن كان بمكّة، فلا علاقة بين قوله: «لم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن» وبين ذكر موقف محمّد، وكذا تماماً الكلام في نصّ المسعوديّ.

فلا يمكن _ والحال هذه _ توظيفها في استفادة تواجد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة.

أمّا نصّ سبط ابن الجوزيّ، فقد ذكره وهو يستعرض المعترضين على الإمام (علیه السلام) في مكّة، وقد عقّب بقوله: «ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن لمسيره»، فربّما أفاد بخلاف ما ذكرناه قبل قليلٍ في كلام ابن حجَر، إذ أنّه هنا يتماشى مع السياق..

فإن كان السياق وحشر المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بين المعترضين في مكّة وتذييل ذلك بذكر حزن مَن كان في مكّة فيه من المتانة والقوّة الكافية، فيتوفر حينئذٍ ما يجعل النصّ شاهداً على ذلك.

ص: 18


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169.
الطائفة الثانية: حديث الإمام الصادق (علیه السلام)
اشارة

يمكن الإفادة من أخبار هذه الطائفة من خلال المتابعات التالية:

المتابعة الأُولى: المتون

قال السيّد ابن طاووس:

ورويت من كتاب أصل الأحمد بن الحسين بن عمر بن بريدة الثقة، وعلى الأصل: إنّه كان لمحمّد بن داوود القمّيّ، بالإسناد عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«سار محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى الحسين (علیه السلام) في الليلة الّتي أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالُك كحال مَن مضى، فإن رأيتَ أن تقيم، فإنّك أعزُّ مَن في الحرم وأمنعه.

فقال: يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الّذي يُستباح به حُرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): فإنْ خفتَ ذلك فصِرْ إلى اليمن أو بعض نواحي البَرّ، فإنّك أمنع الناس به ولا يقدر عليك.

فقال: أنظرُ فيما قلت.

فلمّا كان في السحَر ارتحل الحسين (علیه السلام)، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فأتاه، فأخذ زمام ناقته الّتي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعِدْني النظرَ فيما سألتك؟ قال: بلى.

ص: 19

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: أتاني رسولالله (صلی الله علیه و آله) بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين اخرجْ، فإنّ اللهَ قد شاء أن يراك قتيلاً.

فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: قد قال لي: إنّ اللهَ قد شاء أن يراهنّ سبايا.

وسلّم عليه ومضى ((1)).

وقال الطريحيّ:

وعن بعض الناقلين: إنّ محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) لمّا بلغ الخبر أنّ أخاه الحسين خارجٌ من مكّة يريد العراق، كان بين يديه طشتٌ فيه ماءٌ وهو يتوضّأ، فجعل يبكي بكاءً شديداً، حتّى سُمع وكف دموعه في الطشت مثل المطر، ثمّ إنّه صلّى المغرب، ثمّ سار إلى أخيه الحسين، فلمّا صار إليه قال له: يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك ... ((2)).

ص: 20


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 251.

وساق الحديث بما يشبه حديث السيّد المذكور آنفاً.

وفي (ينابيع المودّة) للقندوزيّ، عن (مقتل الحسين (علیه السلام)) لأبيمخنف، ما يشبه خبر الطريحيّ بأدنى تفاوت ((1)).

من هنا سيكون المتن المعتمَد في هذه الطائفة حديث السيّد ابن طاووس؛ لتقدّمه من جهة، ولتصريحه بالرواية عن الإمام جعفر بن محمّدٍ الصادق (علیه السلام) .

المتابعة الثانية: تصريح الحديث

يذكر الحديث مسار الأحداث بشكلٍ لا يقبل التأويل والتمحُّل والالتفاف عليه، إذ أنّه يصرّح أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد سار إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) في الليلة الّتي أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، وتكلّم مع الإمام (علیه السلام) طالباً منه التريّث والإقامة في مكّة بالذات، فشرح له الإمام (علیه السلام) أسباب خروجه وخوفَه من أن يغتاله يزيد في الحرم فيكون الّذي يُستباح به حرمة البيت الحرام..

ثمّ يذكر الحديث مبادرة المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حين بلغه خبر ارتحال الإمام (علیه السلام) وقت السحَر، فأتاه وأخذ زمام ناقته الّتي ركبها، وكلّمه وسأله عن سبب حمل النساء معه، فأجابه الإمام (علیه السلام)، وسلّم عليه

ص: 21


1- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

ومضى ((1)).

فالحديث يفيد بوضوحٍ وصراحةٍ أنّ الأحداث كلّها جرت في ليلةخروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وأنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كان يباشر مراجعاته للإمام (علیه السلام) هناك، وأنّه قد التقاه قُبيل خروجه وعند خروجه، بحيث سلّم عليه الإمام (علیه السلام) ومضى.

فيكون الحديث قد صرّح حينئذٍ بوجود المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة وقتذاك!

الخلاصة:

إن قصرت أخبار الطائفة الأُولى عن النهوض لإثبات وجود المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة، فإنّ أخبار الطائفة الثانية ناهضةٌ بجدارةٍ ووضوح!

الموقع الثالث: لم يذكر المكان

اشارة

ثمّة متونٌ لم تصرّح بالمكان، فهي إن بقيَت على إغفال المكان فستكون قابلةً للانسجام مع أيّ موقع من المواقع السابقة، وإن تكشّف فيها الانحياز إلى موقعٍ ما فتدخل في أخبار ذلك الموقع، وإن تباعدَت

ص: 22


1- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

عن الحدث بشكلٍ كلّيٍّ فستخرج عن محلّ البحث.

ويمكن قراءة خبرين مثلاً على المتون الّتي لم تذكر الموقع صراحة:

الخبر الأوّل: البلاذري

وبلغ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) شخوصُ الحسين، وهو يتوضّأ، فبكى حتّى سُمع وقعُ دموعه في الطست ((1)).

يبدو هذا النصّ كأنّه لا يتعرّض إلى المكان الّذي سمع ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) فيه الخبر فبكى، بَيد أنّ البلاذريّ قد أتى على ذِكره في خضمّ حديثه عن أحداث ذات عرق، إذ أنّه روى أخبار الفرزدق ولقاءه هناك، ثمّ ذكر لحوق عون بن عبد الله بن جعدة بن هبيرة بذات عرق، ثمّ قال مباشرةً وفي نفس الفقرة: «وبلغ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) شخوص الحسين (علیه السلام)، وهو يتوضأ..»، وبهذا يكون قد بلغ خبر شخوص الإمام (علیه السلام) لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وكان الإمام (علیه السلام) قد خرج من مكّة.

فربّما يُقال: إن كان ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة لما ابتعد عن أحداث خروج الإمام (علیه السلام) حتّى يبلغ ذات عرق، فيسمع، وقد سمع القاصي والداني في مكّة حسب فرضهم.

فإن تمّ هذا البيان، يكون خبر البلاذريّ عاضداً لأخبار وجوده في المدينة، أو على الأقلّ يُقال بعدم وجوده في مكّة، أو بوجوده وابتعاده

ص: 23


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 377.

عن الحدَث، وهو بعيدٌ جدّاً.

الخبر الثاني: ابن شهرآشوب

وكان محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وعبد الله بن المطيع نهياه عن الكوفة، وقالا: إنّها بلدةٌ مشؤومة، قُتل فيها أبوك وخُذل فيها أخوك، فالزمِ الحرم، فإنّك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز، وتتداعى إليك الناس من كلّ جانب.

ثمّ قال محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): وإن نبَتْ بك لحقتَ بالرمال وشعب الجبال، وتنقّلتَ مِن بلدٍ إلى بلد، حتّى يفرق لك الرأي، فتستقبل الأُمور استقبالاً ولا تستدبرها استدباراً ((1)).

ذكر الشيخ العلّامة ابن شهرآشوب هذا الكلام وهو في معرض الحديث عن المعترضين مطلقاً، فذكر كلامهم واعتراضاتهم حتّى وصل إلى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، ثمّ ذكر جواباً واحداً للجميع، بغضّ النظر عن المكان والزمان.

فلا يمكن _ والحال هذه _ الاستفادة منه وتوظيفه في تحديد مكان تواجد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ساعة خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة.

ص: 24


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 88.
النتيجة:
اشارة

تبيّن لنا من خلال استعراض النصوص الواردة في المقام أنّ جملةً من الأخبار لا تدخل في حيّز التعارض وتحديد المكان بدقّةٍ وصراحة، فهي لا تعنينا كثيراً هنا.

يبقى عندنا صنفان من النصوص يمكن أن يُلاحَظ فيهما شيءٌ من التعارض للوهلة الأُولى:

التعارض الأوّل: خبر الطبريّ وحديث الإمام الصادق (علیه السلام)

يبدو أنّ خبر الطبريّ الوارد في الطائفة الأُولى من أخبار الموقع الأوّل يصرّح بوجود المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة، فيما يصرّح الحديث الّذي يرويه السيّد ابن طاووس عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه كان في مكّة.

وقد ذكرنا في (المدخل) أن لو وقع التعارض بين حديثٍ مرويٍّ عن أهل البيت (علیهم السلام) وخبرٍ تاريخيّ، فإنّ المقدَّم حديثهم (علیهم السلام)، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّنا نتعامل مع الحديث هنا كمتنٍ تاريخيٍّ يحمل خصوصيّاتٍ وقداسةً خاصّة، على تفصيلٍ ذكرناه في محلّه.

التعارض الثاني: حديث كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وحديث الإمام الصادق (علیه السلام)

ربّما يبدو للوهلة الأُولى أنّ ثَمّة تعارضٌ بين الأحاديث المرويّة في

ص: 25

الطائفة الثانية من أخبار الموقع الأوّل الّتي تضمّنَت كتاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى أخيه ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وبني هاشم، وبين حديث الإمام الصادق (علیه السلام) الّذي يرويه السيّد ابن طاووس.

غير أنّ شيئاً من التأمّل يدفع ما يبدو للوهلة الأُولى، إذ أنّ حديث الكتاب لا يحدّد مكان تواجد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، ولا يُشير إليه مِن قريبٍ ولا من بعيد، وإنّما استفاد مَن استفاد ذلك باعتبار أنّ المعهود أنّ الكتاب إنّما يُكتَب ويُبعَث إلى البعيد الغائب، فيما صرّح حديث السيّد ابن طاووس بوجوده في مكّة.

ويمكن أن يُناقَش في المقدّمة الّتي ابتنى عليها المستظهر من لفظ «الكتاب»، إذ أنّ أغراض كتابة الكتاب أعمّ من الإيصال إلى الغائب، فربّما كُتب الكتاب لحاضرٍ ليوثّق الحدَث، ويكون أشدَّ في الحفظ والبقاء، سيّما أنّ الكتاب لم يكن موجَّهاً لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وحده، وإنّما كان يخاطِب الآخَرين من بني هاشم، فيكون الخطاب على صورة كتابٍ مكتوبٍ بخطّ سيّد الشهداء (علیه السلام) أبلغَ في التوثيق وإقامة الحجّة إذا نظر فيه الناظر وعرف الخطّ، وأدعم لحجّة حامل الكتاب حين يُظهره ويبرزه أمام مَن يعنيه الأمر.

وقد تجد في التاريخ نماذج لتبادل الكتب والرسائل بين حاضرَين في بلدٍ واحد، ولا يعزّ المثال لذلك.

فإذا كان حديث الكتاب لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) غير مصرِّحٍ ولا مشيرٍ إلى

ص: 26

مكان تواجده، فلا يبقى لحديث الإمام الصادق (علیه السلام) الّذي يرويه السيّد ابن طاووس معارض، وهو صريحٌ في بيان مكان وجوده وقتئذ.

يُضاف إلى ذلك أنّ خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى العراق الّذي كان يعني شهادته وفق ما أخبر به الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) والأئمّة الطاهرون (علیهم السلام)، وهو ليس بالأمر الهيّن على مثل مولانا المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، ولا شكّ أنّه سيبادر إلى مكّة وقد انتقل كلُّ ثقل أبيه وإخوته وآله إلى هناك، وهو يعيش أيّام الإمام (علیه السلام) الأخيرة معه، ويحاول أن يثني الإمام (علیه السلام) عن التوجّه إلى العراق..

كانت الأحداث ساخنةً ملتهبة، تعصف بها رياح الخطر وتُنذِر بوقوع المصيبة العظمى، وتختطف الأبصار والألباب المتوجّسة على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. فلا يقرّ لمنفعلٍ بها قرار، ولا تقعد به همّة، والخطر المحدِق بالأهل والإخوة تضيق حلقتُه ساعةً بعد ساعة، لتمضي بهم إلى الاستئصال والإبادة، والأعراض تُهدَّد بالسلب والنهب والسبي، فهل يمكن لمثل شبل أمير المؤمنين (علیه السلام) محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أن يقعد ويتباعد عن الأحداث؟!

اللحاظ الثاني: مبادراته

اشارة

سجّلَت لنا النصوص بعض المبادرات وردود الفعل الصادرة عنالمولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حين بلغه خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام)

ص: 27

من مكّة المكرمة، سنتناولها هنا، بغضّ النظر عن المكان الّذي كان فيه، إن كان في مكة أو في غيرها، وذلك من خلال المبادرات التالية:

المبادرة الأُولى: بكاؤه

ذكرت جملةٌ من المصادر أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) لمّا بلغه مسير أخيه وعياله وارتحالَه بثقله من مكّة، كان يتوضّأ، وكان بين يديه طشت، فبكى بكاءً شديداً حتّى ملأ الطشت من دموعه، وكانت دموعه تنهمر انهماراً متسارعاً، وتتدفّق تدفّقاً عنيفاً، بحيث سُمع وكفُ دموعه ووقعها في الطشت ((1)) مثل المطر، ويبدو أنّه كان وضوؤه للمغرب، إذ أنّه صلّى المغرب وتوجّه إلى أخيه، كما ذكر الطُّريحيّ وغيره ((2)).

حقّ له أن يبكي كلّ هذا البكاء وأشدّ، وهو يعلم أنّ سفر أخيه هذا لا عودة فيه، ولا شكّ أنّه سمع ما سيجري عليه وعلى إخوته وأهل بيته من القتل والسلب والنهب والسبي، من خلال ما بلغه من أخبار

ص: 28


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 377، تاريخ الطبريّ: 5 / 394، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169، الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.
2- أُنظر: المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والأئمّة الميامين (علیهم السلام) ..

حقّ له أن يبكي بكاءً حارّاً حتّى يُسمَع صوت قرقعة دموعه، وهي تندفع بقوّةٍ وتُحدِث وقعاً مُفجِعاً في الطشت..

إنّه سيفارق إمامه.. سيفقد خامس أصحاب الكساء المذكّر برسول الله (صلی الله علیه و آله) .. وستُسبى المظلَّلة بأفياء الكساء عقيلةُ الطالبيّين (علیها السلام) ..

ربّما كتب الله له هذا البكاء نوعاً من أنواع النصرة، لما أصابه من حرقة لسع نيران المصاب قبل وقوعه.. إنّه الابن الّذي أوصى به أمير المؤمنين والإمام الحسن الأمين (علیهما السلام)، وأمر الإمام الصادق (علیه السلام) بعدم الغوص في البحث عن الأسباب والعلل.. فهو أعرف بما فعل، والإمام (علیه السلام) أعرف بأخيه وبنواياه الّتي لا نشكّ في طهارتها ونظافتها.. فهو ابن سيّد الوصيّين ومولى الموحّدين وأمير المؤمنين (علیه السلام)، وابنُ الطيّبة الطاهرة خولة الحنفيّة (رضی الله عنهما) .. إلى هنا ثمّ ليس لنا سوى التسليم والترضّي على عمّنا المكرَّم..

فدموعه ليست كدموع غيره ممّن بكى أو تباكى، فسحّت دموعه الباردة المترشّحة بصمتٍ ميّت، وبرودٍ سامد، وقلبٍ خاوٍ منخوبٍ منخورٍ جامد، واكتفى بذلك، ثمّ خذل ريحانةَ النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو لامه وجهد في تخطئته.

ص: 29

المبادرة الثانية: خروج ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى أخيه (علیه السلام)

اشارة

يمكن متابعة هذه المبادرة من خلال اللمحات التالية:

اللمحة الأُولى: نصّ ابن شهرآشوب

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ نصّ العلّامة ابن شهرآشوب جاء في سياق بيان مقالات المعترضين عموماً، من دون توقيتٍ ولا ملاحظة الجهات الأُخرى في الحدَث، ولا يبدو عليه أنّه كان في مكّة بالذات، وقد جمع مقالة المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ومقالة ابن مطيع في لفظٍ واحد، وكأنّه نقل مضمون كِلا المقالتين، ثمّ نقل مقالة ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) خاصّة.

قال الشيخ (رحمة الله علیه):

وكان محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وعبد الله بن المطيع نهياه عن الكوفة، وقالا: إنّها بلدةٌ مشؤومة، قُتل فيها أبوك وخُذل فيها أخوك، فالزمِ الحرم، فإنّك سيّدُ العرب لا يعدل بك أهلُ الحجاز، وتتداعى إليك الناس من كلّ جانب.

ثمّ قال محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): وإن نبَتْ بك لحقتَ بالرمال وشعب الجبال، وتنقّلتَ مِن بلدٍ إلى بلد، حتّى يفرق لك الرأي، فتستقبل الأُمور استقبالاً ولا تستدبرها استدباراً ((1)).

كيف كان، فإنّ ما أفاده هنا قد أتينا على تفصيل الكلام به في

ص: 30


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 88.

الكتاب الأوّل من هذه الدراسة، فلا نعيد.

اللمحة الثانية: خروجه إلى الإمام (علیه السلام)

أفادت النصوص الواردة في الباب أنّ المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد بادر حين بلغه الخبر وسار إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السلام)، وقصده ليُعرب عن كوامنه وهواجسه ومخاوفه على الإمام (علیه السلام) ومَن معه.

وسياق حديث الإمام الصادق (علیه السلام) يفيد أنّه كان قريباً من الإمام (علیه السلام) وليس في بلدٍ آخَر، فالمسير ليس من بلدٍ إلى بلد، وإنّما هو مسيرٌ داخل البلد الواحد.

قال الإمام (علیه السلام):

«سار محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى الحسين (علیه السلام) في الليلة الّتي أراد الخروج صبيحتها عن مكّة، فقال: ...» ((1)).

وكذا أفاد متن الشيخ الطريحيّ:

ثم إنّه صلّى المغرب، ثمّ سار إلى أخيه الحسين، فلمّا صار إليه قال له: ... ((2)).

ص: 31


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

وكِلا النصَّين يفيدان حصول اللقاء بعد المسير مباشرة، ممّا يمنع تصوّر وقوع فترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ تزيد على الحركة داخل البلد الواحد.

اللمحة الثالثة: وقت اللقاء

لم يرد في نصّ القندوزيّ عن أبي مخنف (المشهور) ما يفيد وقتاً معيّناً، سوى أنّه أفاد أنّه توجّه إلى أخيه حين سمع أنّه يريد العراق ((1)).

فيما حدّد الوقت حديثُ الإمام الصادق (علیه السلام) بالليلة الّتي أراد سيّد الشهداء (علیه السلام) الخروج في صبيحتها ((2))، وهو يعني أنّ اللقاء وقع في الليل.

ويمكن تحديد الوقت أكثر وحصره في أوّل الليل وفق تصريح الطريحيّ الّذي قال: أنّه صلّى المغرب ثمّ سار إلى أخيه ((3))، ويشهد لهذا التوقيت ما ورد في تتمّة حديث الإمام الصادق (علیه السلام) وغيره من المتون الّتي ذكرت أنّه عاود اللقاء وقت السحر عند انطلاق الركب نحو العراق.

المبادرة الثالثة: عروض ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وأجوبة الإمام (علیه السلام)

اشارة

يمكن ملاحظة ما حمله المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وتقدَّمَ به بين يدَي

ص: 32


1- أُنظر: ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
2- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
3- أُنظر: المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

إمامه (علیه السلام) في عرضين:

العرض الأوّل: الإقامة في الحرم
اشارة

ربّما يظنّ المتابع أنّ في البحث تكراراً وإعادةً قد تبلغ حدّ الملل، والواقع أنّ البحث ليس فيه تكرار، وإنّما تتكرّر المواقف ويدور دولاب الأحداث على نفس المنوال، وتجمّع الخيوط وتنسج في كلّ مرّةٍ نفس القماش، وتعرض على سيّد الشهداء (علیه السلام)، فيا له مِن إمامٍ وسع العالمين صدراً.

لقد عرض المولى المكرّم ابن أمير المؤمنين (علیه السلام) محمّدٌ هذه العروض على الإمام (علیه السلام) وهو في المدينة قبل أن يخرج _ حسب النصوص _، وسمع ثمّة جواب الإمام (علیه السلام) وبيّن له الناطق عن الله تبياناً..

وعرض الآخرون نفس هذا العرض، سواءً كانوا معترضين أو مخطّئين أو متفجّعين، وسمعوا جميعاً أجوبةً شافيةً وردوداً كافيةً وافية..

لقد سار المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قاصداً سيّد الشهداء (علیه السلام) ليقول له _ كما روى الإمام الصادق (علیه السلام)، وهو الصادق الأمين _ :

يا أخي، إنّ أهل الكوفة مَن قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفتُ أن يكون حالُك كحال مَن مضى، فإن رأيتَ أن تقيم، فإنّك أعزَّ مَن في الحرم وأمنعه ((1)).

ص: 33


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

وفي خبر الطُّريحيّ:يا أخي، إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم ومكرهم بأبيك وأخيك من قبلك، وإنّي أخشى عليك أن يكون حالُك كحال مَن مضى مِن قبلك، فإن أطعتَ رأيي قمْ بمكّة، وكُن أعزَّ مَن في الحرم المشرّف ((1)).

وفي خبر القندوزيّ عن أبي مخنف (المشهور):

إنّ أهل الكوفة قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، فإن قبلتَ قولي أقمْ بمكّة ((2)).

ويمكن تناول مفاد ما قاله المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ضمن اللفتات التالية:

اللفتة الأُولى: الاختلاف بين لفظ المعصوم ولفظ غيره

يبدو لمن قرأ متن الشيخ الطريحيّ أنّه قد استفاد من متن حديث الإمام الصادق (علیه السلام) ؛ لتقارب الأحداث بل الألفاظ، بَيد أنّ أدنى تأمُّلٍ

ص: 34


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

في المتنَين وكذا في متن القندوزيّ عن أبي مخنف يجد القارئ ثمّة اختلافاً واضحاً في التعبير وطريقة خطاب المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مع الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) .

والفرق كبيرٌ بين اللفظين، نذكر لذلك مثالاً:ففي لفظ الإمام الصادق (علیه السلام): «فإن رأيتَ أن تُقيم، فإنّك أعزَّ مَن في الحرم وأمنعه»، فيما نسمع لفظ الطريحيّ: «فإن أطعتَ رأيي قمْ بمكّة، وكُن أعزَّ مَن في الحرم المشرّف».

فاللفظ الأوّل يُرجع الأمرَ بكلّ لطفٍ وأدبٍ إلى شخص الإمام (علیه السلام): «فإن رأيت»، واللفظ الثاني يطرح رأيه الخاصّ ويدعو الإمام (علیه السلام) إلى طاعته: «فإن أطعتَ رأيي»!

وفي اللفظ الأوّل يقرّر أنّ الإمام (علیه السلام) هو أعزّ مَن في الحرم وأمنعه، وفي اللفظ الثاني يأمر أن يكون كذلك: «وكُن أعزّ»، أي: إن أطعت رأيي ستكون أعزّ مَن في الحرم المشرّف.

ولو لم يكن لفظ الإمام الصادق (علیه السلام) لَظنّ القارئ بالمولى المكرم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ظنّاً غير حسنٍ _ والعياذ بالله _؛ لغلظة الخطاب والتطاول على مقام الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة، والحديث بلفظ الآمِر الناهي، وكأنّه يعلّم مَن هو دونه في العلم والمعرفة!

ص: 35

اللفتة الثانية: خلوّ النصّ من التعرّض لبواعث الخروج

سمعنا بعض المعترضين على الإمام (علیه السلام) _ من قبيل ابن عبّاسٍ وغيره _ وهم يحدّثون الإمام (علیه السلام) ويمنعونه من الخروج عن مكّة، ويصوّرون الإمام (علیه السلام) كأنّه قاصداً مواجهةً وحرباً مع الطاغوت وطالباً للسلطان، وباحثاً عن أنصارٍ يمكن كردستهم وضخّهم في حربٍ ضروسٍتطحن الرؤوس والأيدي، لغرض الإطاحة بيزيد وحكومته، والانقضاض على مُلك بني أُميّة، فيدعونه إلى التمهّل ريثما يتوفّر العدد وتجهز العدّة، إذ أنّ حرباً كهذه تحتاج إلى ذلك البتّة.

فيما نجد كلام المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) هنا بالخصوص _ أي: في مكّة _ يخلو من الإشارة إلى ذلك من قريبٍ أو بعيد، وعلى فرض أنّ شيئاً من ذلك كان في المدينة (نقول: على فرض!)، فإنّ الصورة اتّضحَت والمشهد قد انجلى، وتبيّن أنّ الإمام (علیه السلام) مطارَدٌ مطلوب، قد هدر الأعداءُ دمه المقدّس الزاكي الّذي سكن الخلد.

فهو يقتصر على التذكير بمواقف أهل الكوفة الّذين «عرف الإمام (علیه السلام) غدرهم بأبيه وأخيه»، ثمّ جعل يُبدي مخاوفه أن يكون حال الإمام (علیه السلام) معهم حال مَن مضى.

اللفتة الثالثة: التماس الإقامة في الحرم

كان الناس في الجاهليّة والإسلام يعظّمون البيت وحرمته، وقد

ص: 36

شدّد الله في القرآن وعلى لسان نبيّه الصادق الأمين محمّد (صلی الله علیه و آله) هذه الحرمة، وجعل بيته مثابةً للناس وأمناً، فمَن دخله كان آمِناً، كائناً مَن كان! إلّا في حالاتٍ نادرةٍ حدّدَتها الشريعة، بل جعل الله حرمه آمِناً لجميع المخلوقات، حتّى الحيوان والشجر..

فمن البديهيّ أن يستجير به المؤمن، وأن يأمن فيه الخائف، وأنيتبادر إلى كلّ قلبٍ متوجّسٍ على أحدٍ أن يعرض عليه الدخول إلى الحرم الإلهيّ أو الاستجارة به والإقامة فيه، ليكون في حرزٍ أمينٍ وحصنٍ حصين.

من هنا تقدّم المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بين يدَي الإمام (علیه السلام) ليدعوه هذه الدعوة الخيّرة، ويطلب منه الإقامة في الحرم، لأنّه الأعزّ فيه.

بَيد أنّ العدوّ ليس له إلّاً ولا ذمّة، وسنسمع ذلك من الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه بعد قليل.

وفي الحسابات الظاهريّة والتوقّعات العاديّة السارية عند الناس أنّ البيت الحرام لابدّ أن يحمي مَن فيه، التزاماً بالأمر الإلهيّ، أو تقيّداً بالأعراف الجاهليّة..

وحينئذٍ سيدور الأمر بين الإقامة في الحرم المكّيّ الآمن _ حسب الفرض المعتاد _، وبين التوجّه إلى قومٍ وعد عددٌ منهم النصرةَ والدفاع والذبّ عن حُرم الله وحُرم رسوله (صلی الله علیه و آله) .. وفيهم الكثير ممّن عُرف تاريخه

ص: 37

وتميّز سلوكه وطفحت سيرته بالغدر والخيانة والانقلاب والتقلّب مع رياح الدنيا، والتمرّس على ركوب أمواج النزعات والأهواء والمطامع الدنيويّة أينما كانت ومع أيٍّ كانت..فستكون حينئذٍ _ في الظاهر المنظور _ الإقامةُ في الحرم المكّيّ أحجى وفق مقاسات العقل البشريّ العادي..

أمّا حينما يكون الحرم مكمناً للشياطين، وبؤرةً للعفاريت، وأرضاً مسبعةً تعجّ بالسباع الضارية والذئاب الساغبة المكشّرة، حتّى يجزم الإنسان أنّ القوم لا يحرّمون حرمات الله ولا يقيمون للحرم وزناً، بل على العكس تماماً، يوظّفون هذه المقدّسات الدينيّة والاجتماعيّة في تحقيق أغراضهم، ويحوّلون كلّ صقعٍ من أصقاعها ومترٍ وفترٍ من أرضها، وكلَّ وادٍ وجبلٍ وشارعٍ وزقاق، حتّى مكامن الكعبة نفسها وأستارها إلى موقعٍ لقتل حبيب الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، فلم يعُدْ _ والحال هذه _ الحرمُ أمناً، وإنّما يكون تهديداً قطعيّاً جازماً، والإقامة فيه تعني القتل الأكيد الّذي لا محيص عنه أبداً..

ويكون بإزاء هذا الخيار أنّ ثمّة جماعةٌ من القليل الديّان الّذين وعدوا النصرة، وسيثبتون ويفون بقلوبٍ مطمئنّةٍ وأقدامٍ راسخةٍ لا تتزلزل وإن زالت الجبال الرواسي عن مستقرّها.. فسيكون التوجّه إلى الموقع الّذي يمكنه توفير الأنصار والمدافعين أحجى، وهذا ما ذكرناه وشرحناه وأشرنا إليه في كلّ موضعٍ دعَت الحاجة إلى بيانه.

ص: 38

ردّ الإمام (علیه السلام)
اشارة

جاء جواب الإمام (علیه السلام) على هذا العرض الّذي تقدّم به المولى ابنُالحنفيّة (رضی الله عنه) في الكتب الّتي ذكرته متقاربَ اللفظ تقارباً شديداً جدّاً، متّحد المعنى والمضمون.

ففي رواية السيّد ابن طاووس:

فقال: «يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الّذي يُستباح به حُرمة هذا البيت» ((1)).

وقال الطُّريحيّ:

فقال: «يا أخي، إنّي أخشى أن تغتالني أجنادُ بني أُميّة في حرم مكّة، فأكون كالّذي يُستباح دمُه في حرم الله» ((2)).

وفي خبر القندوزيّ عن أبي مخنف:

فقال: «يا أخي، إنّي أخشى أن تغتالني جنودُ بني أُميّة في مكّة، فأكون أنا الّذي يُستباح [به] حرم الله» ((3)).

ص: 39


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
3- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.
خلاصة الجواب:

صرّح هنا الإمام (علیه السلام) _ كما صرّح في غيره من المواضع ومع أشخاصٍ آخرين _ أنّ ما يمنعه من الإقامة في الحرم هو الخوف من الاغتيال، فلابدّ والحال هذه من الخروج؛ لئلّا يُسفَك الدم المقدّس الزاكي في الأرض المقدّسة.وبعبارةٍ أُخرى:

إنّ مكّة البيت الحرام الّتي جعلها الله للعالمين أمناً لم تعد لسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيب الله كذلك، فهم يريدون للإمام (علیه السلام) أن يبقى فيها ليطمئنّ على نفسه وأهله وحرمه، ويكون أعزَّ مَن في الحرم.. والقوم قد اتّخذوه وكراً، وحشّدوا فيه كلّ الأجناد ليقتنصوا الفرصة ويصرعوا هيكل التوحيد ويسفكوا الدم الّذي أضحى ثار الله.. أرادوا أن يكمنوا تحت أستار الكعبة.. يوظّفوا الأمن الإلهيّ في القضاء على كلمة الله، ويهريقوا دم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولحمه..

ويُلاحَظ في جواب الإمام (علیه السلام) إلحاحُه على الخروج من مكّة حمايةً لحرمة البيت الحرام.. فهو الّذي يعرف حرمة البيت ويعظّمها ويحميها.. أمّا العدوّ الغادر، فإنّه لا يرى للبيت حرمة، ولا لأعظم حرمات الله _ دم الإمام (علیه السلام) _ حرمة.

إلى هنا لم نسمع في كلام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) دافعاً ومحرّكاً صريحاً سوى ما ذكره في غير موضعٍ وأكّد عليه هنا، وهو في كلمة:

ص: 40

إنّما يخرج من مكّة ليحمي حماها وحرمتها، ويحمي دمه وحرمته.. لا شيء آخر، ولا دافع أساسيّ يمكنه أن يكون أشدّ وأعظم وأقوى من هذا الدافع.. فلا رسائل الكوفيّين، ولا البحث عن أرضٍ نبتت فيها الرماح، وشُرّعت فيها السيوف، ودُقَّت فيها طبول الحرب لمواجهةالسلطة والسلطويّين، ولا الأجواء الّتي يمكن أن تتوفّر فيها سواعد المتذمّرين، ولا قبضات المبايعين، ولا المستعدّين للفداء من أجل الخلاص من نير الحكّام الأُمويّين والتحرّر من الحكّام الظالمين!

لم يذكر لخروجه من مكّة سبباً سوى ما ذكر، ولو كان لَذكره الإمام (علیه السلام) لأخيه المقرّب إليه.

العرض الثاني: المسير إلى اليمن
اشارة

بعد أن عرف المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أن لا محيص ولابدّ من الخروج عن مكّة، تقدّم من جديدٍ بين يدَي الإمام (علیه السلام) ليُعرب له عمّا يراه فيه حمايةً لحياة الإمام (علیه السلام) وإبعاداً له عن مخالب العدوّ المتربّص به الّذي عزم على قتله ولو في البيت الحرام..

• فقال له ابن الحنفيّة (رضی الله عنه): فإن خفتَ ذلك فصِرْ إلى اليمن أو بعض نواحي البَرّ، فإنّك أمنعُ الناس به ولا يقدر عليك ((1)).

ص: 41


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

• فقال: يا أخي، فصِرْ [فسِرْ] ((1)) إلى اليمن، فإنّك أمنعُ الناس به ((2)).

يمكن أن نرصد في كلام المولى المكرّم محمّد بن أميرالمؤمنين (علیه السلام) عدّة نقاط:

النقطة الأُولى: قبول قول الإمام (علیه السلام)

واضحٌ من كلام المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أنّه قد أدرك تماماً الخطر المحدِق بأخيه الإمام (علیه السلام) وأهل بيته، وفهمَ كلام الإمام (علیه السلام) واقتنع به، وعلم أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة يعني قتله وسفك دمه الزاكي، ولذا قال له: «فإن خفتَ ذلك» ((3)) في لفظ السيّد، والتفريع بالفاء «فصِرْ» في لفظ الطريحيّ.

والإشارة في قوله: «ذلك»، إنّما يعني بها الاغتيال، والتفريع ب-- (الفاء) أيضاً تفريعٌ على قول الإمام (علیه السلام) وإخباره، يعني: إن كنت معرَّضاً للاغتيال والقتل الجازم، فسِرْ أو صِرْ إلى اليمن.

ص: 42


1- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
3- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
النقطة الثانية: رأيٌ بقصد الحماية

حينما قَبِل المولى ابنُ الحنفيّة (رضی الله عنه) من الإمام (علیه السلام)، وعرف أنّه إن أقام في مكّة سيغتاله يزيد المسعور، تقدّم بالدعوة الجديدة لتُحرِز الغرضَ المنشود من الخروج عن مكّة، فالإمام (علیه السلام) إنّما يريد الخروج من مكّة لئلّا يُقتَل فيها، وابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يبحث عن موضعٍ ومكانٍ يمكن أن يكون حرزاً وحصناً منيعاً يحول دون قتل الإمام (علیه السلام)، فاقترح عليهاليمن، وبيّن السبب في هذا الاختيار، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) سيكون أمنع الناس به ولا يقدر عليه أحد، بل فلْيسِر الإمام (علیه السلام) إلى أيّ ناحيةٍ من نواحي البرّ ((1)) الّتي توفّر له هذه الغاية وتبعده عن القتل!

ويشهد لذلك أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يؤكّد للإمام (علیه السلام) أن يختار أيّ ناحيةٍ من نواحي البرّ أو اليمن لغرضٍ مهمّ، وهو أن يكون أعزَّ الناس منعةً بحيث لا يقدر عليه، ويبدو ذلك واضحاً في قوله: «فإنّك أمنع الناس به، ولا يُقدَر عليك» ((2)).

ص: 43


1- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.

قوله: «ولا يقدر عليك»، يفيد أنّ الإمام مطلوب، والمطلوب هو مكانٌ لا يقدر العدوّ فيه أن يصل إليه!

إلى هنا لا يبدو أيضاً أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد فهم _ في مكّة في هذا الموقف، وهو في الليلة الأخيرة من خروج الإمام (علیه السلام) _ أنّ خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة لا يعني شيئاً سوى مقابلة غدر العدوّ وعزمه الأكيد على قتل الإمام (علیه السلام) في مكّة، بحيث لو بقي يوماً واحداً أكثر لَاغتاله، وليس ثمّة دافعٌ إضافيٌّ في البَين!

ولا يخفى أنّ المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد اقترح اليمن من قبل على الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يوم أراد الخروج من المدينة، وقد أتيناعلى تفصيل ذلك في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة، وتبيّن لنا هناك أنّ خيار اليمن لم يكن خياراً صائباً، رغم المسوّغات والمؤهّلات والأسباب والعوامل البشريّة والجغرافيّة والزمانيّة والمكانيّة المذكورة في كلام مَن اقترحه ((1))، فلا نعيد.

ردّ الإمام (علیه السلام)
اشارة

سعة صدر الإمام (علیه السلام) وحِلمه، لا يُقاس ولا يُقدَّر..

إستمع لأخيه، ثمّ أجابه على كلّ كلامه بتؤدّةٍ وصبرٍ وتكريمٍ واحترام.

ص: 44


1- أُنظر: ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة: 206 وما بعدها.
الجواب الأوّل: «لَاستخرجوني حتّى يقتلوني»

أقسم الإمام (علیه السلام) _ حسب نصّ الطُّريحي _ وخاطبه ب- «يا أخي»، ثمّ أكّد له أن لو كان في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوه منه حتّى يقتلوه، وفي لفظ القندوزي: «في بطن صخرة».

وقد أتينا على شرح هذه الكلمة الّتي تتصدّع لها القلوب وتزول عن مستقرّها، وتذهل لها الكائنات، وتتزلزل الأرض، وتميد السماء..

• فقال الحسين: «واللهِ يا أخي لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه حتّى يقتلوني» ((1)).• فقال الحسين: «يا أخي، لو كنتُ في بطن صخرةٍ لَاستخرجوني منها فيقتلوني» ((2)).

لا يُقال: إنّها وردَت عند المتأخّرين من قبيل الشيخ الطريحيّ، أو نسخة أبي مخنف الواصلة إلى القندوزيّ، وغيرهما، فإنّها وردت في المصادر القديمة جدّاً، سواءً أكان مع المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أم غيره في مواقف أُخرى، فهي كلمات الإمام المظلوم سيّد الشهداء (علیه السلام)، وقد رسم فيها الإمام (علیه السلام) الأحداث أدقّ رسم، وأبانها في أجلى صورةٍ وأوضح

ص: 45


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59.

مشهد..

إنّهم لا يريدون إلّا قتله! وإنّه لا يريد منهم إلّا أن يكفّهم عن نفسه وأهله!

إنّهم لا يتركونه بحال.. لابدّ أن يستخرجوه حتّى يقتلوه.. بايع أم لم يبايع، بقي في مكّة أم خرج منها، ذهب إلى اليمن أم بقي في المدينة، ذهب إلى الكوفة أم بقي مشرّداً في الصحارى والفيافي والقفار وكهوف الجبال وشواطئ البحار ومخابئ البيداء وجذوع الأشجار.. إنّهم يريدون قتله!

يا لله.. فداك العالمين يا حبيب المؤمنين! وا محمّداه! وا حمزتاه!وا جعفراه! وا عليّاه! وا حسناه!

الجواب الثاني: «أنظرُ فيما قلت»

• فقال: «أنظرُ فيما قلت» ((1)).

• ثمّ قال: «يا أخي، سأنظر فيما قلت» ((2)).

ص: 46


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 59، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

إنّه الأدب الحسينيّ الفريد.. إنّه الخُلُق الّذي لا يُقاس بأخلاق أحدٍ من العالمين، إلّا مَن اختصّهم الله بالتخلّق بأخلاقه..

لقد أبان الإمام (علیه السلام) كلَّ شيءٍ بوضوحٍ لأخيه، ولا شكّ أنّ أخاه قد تفهّم الموقف وانجلى له المشهد، غير أنّه قد جدّ واجتهد بما آتاه الله، فكانت النتيجة أنّه وجد هذا المخرج للإفلات بأخيه من مخالب المنايا الّتي ضخّها الأعداء في سهام الغدر والاغتيال، والنجاة به من ملاحقتهم، والخروج به من الحلقة المطبقة الّتي أحاطوا بها سيّد الكائنات يومذاك.

هذا ما استطاعه المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) .. وقد ارتضى منه الإمام (علیه السلام) ذلك وماشاه، ووعده أن ينظر فيما قال، ولم يعده بالقبول والتنفيذ.

بَيد أنّ في جواب الإمام (علیه السلام) هذا ما يفيد أمراً مضمراً قد لا يكون بمستوىً من الصراحة!إنّ الإمام (علیه السلام) وعده أن ينظر فيما قال، ولم يذكر له مسوّغات توجّهه إلى العراق، أو ضرورة التوجّه إلى هناك، وأنّ اليمن لا يمكن أن يكون خياراً مقابل خيار العراق، لأنّه يقصد ثَمّة أمراً ويبيّت له وقد أعدّ له عدّته..

الكلام في أنّ الإمام (علیه السلام) في خطر، والمولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يبحث للإمام (علیه السلام) عن مكانٍ يمكن أن يُبعِد هذا الخطر عنه، والإمام (علیه السلام)

ص: 47

كذلك.. فهو يعده أن ينظر فيما قال إن كان يحقّق المطلوب أم لا!

المبادرة الرابعة: المراجعة في أمر حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله)

اشارة

بعد أن انفضّ اللقاء في أوّل الليل بين الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وأخيه ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وقد وعده الإمام (علیه السلام) أن ينظر فيما قال لا أكثر، رجع المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى منزله على أمل ما سيؤول إليه نظر الإمام (علیه السلام) في قوله.

فلمّا كان في السحر ارتحل الإمام الحسين (علیه السلام)، فبلغ ذلك ابنَ الحنفيّة (رضی الله عنه)، فخرج حتّى أتى الإمام الحسين (علیه السلام)، وأخذ بزمام ناقته ودار بينهما حوارٌ سنأتي عليه إن شاء الله باختصارٍ من خلال الإشارات التالية:

الإشارة الأُولى: وقت اللقاء

صرّحَت رواية السيّد ابن طاووس عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّ اللقاء كان عند السحَر، وكذا صرّح الطريحيّ والقندوزيّ، ويبدو أنّ الطريحيّ يروي نفس حديث الإمام الصادق (علیه السلام) بلفظٍ فيه شيءٌ من التفصيل أحياناً.

والمستفاد من الجميع _ بما في ذلك نصّ المسعوديّ في (إثبات

ص: 48

الوصيّة) _ أنّ اللقاء كان في اللحظة الأخيرة ((1)).

لقد حصل اللقاء في وقتٍ كان ركبُ الإمام قد اكتمل وأزمع على الحركة، بل ربّما كان قد تحرّك، إذ يفيد لفظ الرواية أنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد أخذ بزمام ناقة الإمام (علیه السلام)، وهو يفيد بصراحةٍ أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد ركب راحلته.. «فأخذ زمام ناقته الّتي ركبها»، كما أفاد المسعوديّ أنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كلّم الإمام (علیه السلام) عند الوداع حين خرج يشيّعه.

هو اللقاء الأخير في مكّة.. اللقاء الّذي لا لقاء بعده في الدنيا..

إنّه الفراق.. فراق الوجه المذكّر برسول الله (صلی الله علیه و آله)، فراق خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام)، فراق الأخ الأكبر من ذرّيّة عليٍّ وفاطمة ورسول الله (صلی الله علیه و آله) ..فراق كبير آل عليٍّ أمير المؤمنين (علیه السلام)، فراق حبيب الله وحبيب رسوله وحبيب أمير المؤمنين وحبيب الحسن وحبيب قلوب المؤمنين، فراق إمام الزمان، فراق الحسين (علیه السلام) !

إنّه الوداع الأخير مع جميع الأهل والإخوة، إنّه فراق باقي الإخوان..

فراق أبي الفضل العبّاس (علیه السلام) وإخوته من أُمّه وإخوته من أبيه..

فراق أولاد الإخوة، الجيلِ الثاني من نسل عليٍّ وفاطمة (علیهما السلام) .. وكلّهم كانوا شباباً وفتيان في مقتبَل العمر وريعان الشباب.. فراق القاسم

ص: 49


1- أُنظر: إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.

وأحمد من وُلد الإمام الحسن المجتبى (علیهم السلام) ..

فراق أولاد الأعمام من أولاد عقيلٍ وجعفر (علیهم السلام) ..

فراق آل أبي طالب، الّذين سيستأصلهم العدوّ في كربلاء، فلا يعود منهم أحد..

إنّه الفراق، واللقاء في الآخرة!

فراق الأخوات وبنات الإخوة، وغيرهنّ مِن عيال أمير المؤمنين والإمام الحسن والحسين (علیهم السلام) .. ستقضي منهنّ مَن تقضي في كربلاء.. عطشاً.. خوفاً ورعباً.. سحقاً تحت حوافر الخيل.. وربّما حرقاً بلهيب نيران الأطناب، أو اختناقاً بالدخان والغبار.. وتقضي مَن تقضي منهنّ في طريق السبي، ويعود مَن يعود منهنّ بعد رحلة السبي المضنية الّتي أذلّت العزيز، وطأطأَت رأس الشريف، وقد غيّرَت الشمس تلك الوجوه النيّرات،وأشحبها السفر والجوع والخوف ومرافقة الأعداء والشامتين..

الإشارة الثانية: اللحاق بالإمام (علیه السلام) قبل الخروج

خرج المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وقت السحَر ليلحق بالإمام (علیه السلام) ويأخذ زمام ناقته ويراجعه في الخروج وفي حمل النساء معه..

يبدو من مسير الأحداث والسياق العامّ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان مع مَن معه من إخوته وعياله في الركب مجتمعين في مكانٍ واحد، أو

ص: 50

مكانٍ متقارب، وكان المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في موضعٍ آخَر حتّى بلغه الخبر فخرج وأتاه.

فلماذا كان المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مقيماً في غير الموضع الّذي كان يقيم فيه الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه، وهم أهله وإخوته وأخواته ومحارمه؟!

الإشارة الثالثة: ألم تعدني النظر؟!

أخذ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) زمام ناقة الإمام (علیه السلام)، وهذا هو غاية ما يستطيع أن يفعله وهو يريد منع الإمام (علیه السلام) من الخروج.. كأنّه توسّل إلى الإمام (علیه السلام) بهذا الفعل!

ثمّ سأله ما وعده، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتُك؟

هكذا خاطبه بلفظ الأُخوّة بكلّ ما تكتنز هذه الكلمة من مشاعر وأحاسيس وعواطف وإشعاراتٍ مؤثّرةٍ يعلم المولى ابنُ الحنفيّة (رضی الله عنه) مدى تأثيرها وقوّة عملها في معدن الرحمة والحبّ الحسيني.. يا أخي!

وهو يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) إذا وعد وفى، وأنّه لا يُخلِف الميعاد..

فسأله وعْدَه، فلم يُنكِر عليه الإمام (علیه السلام)، بل أقرّه على ما قال، وأنّه قد وعده النظر.. وفرقٌ كبيرٌ بين أن يعِدَه العمل بما قال، وبين أن يعِدَه النظر، فربّما عمل وربّما لم يعمل!

ص: 51

الإشارة الرابعة: الخروج عاجلاً

يبدو أنّ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كان يعتقد أنّ هذه الفترة الوجيزة من أوّل الليل إلى وقت السحَر لم يكن وقتاً كافياً للنظر في قوله في أمرٍ عظيمٍ كأمر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) بالأهل والعيال من مكّة، لذا جعل يراجعه، فقال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟!

ربّما كان المقصود من «عاجلاً» ليس بالمقارنة إلى وقت آخر مكالمةٍ تمّت بينهما في أوّل الليل، وإنّما هو التعجيل في الخروج من مكّة على الإطلاق، تماماً كما قالها غيره ممّن استغرب خروج الإمام (علیه السلام) في أيّام الحجّ.

كيف كان، فإنّ الجميع يتّفق أنّ الإمام (علیه السلام) قد تعجّل في خروجه من مكّة، وكأنّه يسابق الزمن، ويتعجّل الأحداث ليخرج ساعةً قبل ساعة!

نفس هذا التعجّل في الخروج وعدم التريّث ولو ليومٍ واحدٍ بل لنهارٍ أو ليلةٍ واحدةٍ يدعو للتأمّل بعمق، فليس في العراق ما يدعو للتعجّل،وليس في الظروف والاستعدادات ما يدعو للتعجّل، وليس مِن شأن مَن يريد أن ينقضّ على الحكم وعفاريته أن يتعجّل.. والتأخير نافعٌ لاختبار نيّات الرجال الّذين أعلنوا النصرة هناك، واكتشافِ مواقفهم ومدى ثباتهم.. فليس في تعجّل الخروج ما ينسجم بحالٍ مع مواقف مَن يريد جمع الرجال والعدّة والعدد لتحقيق غرضٍ ما..

ص: 52

وليس لمن قصد الشهادة قصداً ما يدعو للتعجّل!

يبدو من الواضح أنّ بواعث التعجّل كامنةٌ في مكّة بالذات، ودواعي الخروج تلبد في مكّة، وليس ثمّة ما يستحثّ الخروج ممّا يُستقبل..

إنّ في مكّة ما يدعو للخروج ويدفع عنها، ولا يبدو في الأُفق ما يجذب ويدعو للتعجّل للوصول إليه..

ثَمّة خطرٌ يستحثّ الركب على الخروج.. إنّه القتل والاغتيال الكامن في أروقة البيت الحرام وحناياه وزواياه وأستاره!

لا نجد لحدّ الآن داعياً واضحاً لتعجيل الخروج من مكّة سوى ما ذكره الإمام (علیه السلام) .. الاغتيال.. القتل.. هتك حرمة البيت الحرام بالدم المقدّس الزاكي الحرام..

تماماً كما هو التعجّل في الخروج من المدينة!

الإشارة الخامسة: ردّ الإمام (علیه السلام)

سأل المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) عمّا حدا بالإمام (علیه السلام) للخروجعاجلاً، فجاء جواب الإمام (علیه السلام) متوافقاً مع ما أجاب به غيرَه ممّن سأل نفس هذا السؤال، ولكن بعبارةٍ أُخرى:

فقال: «أتاني رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) بعدما فارقتك، فقال: يا حسين

ص: 53

اخرجْ، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً» ((1)).

لم يذكر حديث الإمام الصادق (علیه السلام) كيف أتى النبيّ (صلی الله علیه و آله) سبطه الإمام الحسين (علیه السلام) بعدما فارق أخيه ابنَ الحنفيّة (رضی الله عنه) في أوّل الليل، ويكتفي بالقول: «أتاني رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) بعد ما فارقتُك»، بَيد أنّ الشيخ الطُّريحيّ يصرّح أنّه أتاه في النوم ((2)).

وقول النبيّ (صلی الله علیه و آله): «اخرجْ، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً»، بقوّة قول الإمام الحسين (علیه السلام): «لئن أُقتَل خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ ...» ((3)).

أي: إنّ القتل يلاحقك.. إنّ القوم لن يفتروا ولن يتخلّوا عن قتلك، كيفما كان وحيثما كان.. فاخرجْ من مكّة لئلّا تُقتَل فيها..

أجل، يُفهَم من كلام النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمرِه بالخروج أنّ الله قد شاء أن يرى حبيبه قتيلاً معنى التكليف الخاصّ، وأنّ ثمّة مشيئةٌ ربّانيّةٌ متعلّقةٌ بسيّد الشهداء (علیه السلام)، إن كان ذلك لابدّ، فهو لا يمنع من فهم الكلام وفق سياقات الأحداث، ولْيكن لكلام النبيّ (صلی الله علیه و آله) أكثر من معنى، جميع المعاني

ص: 54


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، أنساب الأشراف: 3 / 164.

متوافقةً منسجمة، تمتدّ إلى جنب بعضها البعض من دون تباينٍ ولا تعارضٍ امتداداً طوليّاً.

الإشارة السادسة: الجواب الإقناعيّ والدعوة إلى التسليم

حينما أرجع الإمام (علیه السلام) الأمر إلى ما أمره به رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فلا مجال للمراجعة والنظر، ولا يسع أحدٌ من العالمين أن يقرّر اتّخاذ الموقف بعد أن تحدّد التكليف، وعلى المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) المؤمن بالله وبرسوله (صلی الله علیه و آله) وبإمام زمانه (علیه السلام) أن يسلّم ويرضى ويقبل ويقتنع، وهذا ما فعله ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بالفعل.

وفي إرجاع الإمام (علیه السلام) الأمر إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وأنّه هو الّذي أمره، سيدور الأمر بين ما قاله ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وبين ما قاله الرسول (صلی الله علیه و آله)، ولا شكّ ستكون إطاعة الرسول (صلی الله علیه و آله) والعمل بما يقول أَولى وأصحّ ممّا يقوله غيره على الإطلاق.

وبهذا احترم الإمام (علیه السلام) أخاه، وعرّفه أنّه قد أخذ كلامه بنظر الاعتبار، بَيد أنّ هناك قول مَن هو أعلى منهما جميعاً، وهو النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وعليهما أن يُصغيا إليه ويطيعاه.

وحينئذٍ قد جعل الإمام (علیه السلام) كلام ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بإزاء كلام النبيّ (صلی الله علیه و آله)، ولم يجعل كلامه مقابل كلامه هو نفسه.

لذا نسمع ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) قد أرجع الأمر إلى الله وسلّم له تسليماً،

ص: 55

فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وكأنّ هذا الجواب الّذي ردّ به الإمام (علیه السلام) على أخيه كان جواباً إسكاتيّاً إقناعيّاً، ودعوةً إلى التسليم والرضى بقضاء الله وقدَره، ليكون هو الجواب الأخير الّذي لا محيص عنه لأخيه المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ومَن بلغ.

الإشارة السابعة: المراجعة في حمل النساء!
اشارة

لمّا أخبر الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أخاه أنّ القوم ملاحقوه، وأنّهم لا يتركونه إلّا أن يقتلوه، فهو مقتولٌ على كلّ حال، راجعه المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ليتفهّم الموقف، فقال:

فما معنى حملِك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مِثل هذه الحال؟!

قال: فقال له: «قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا» ((1)).

فالمولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لا يُقتل حتّى يُقتَل دونه جميعُ إخوته وأهل بيته وأنصاره، وهذا يعني

ص: 56


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164، المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

بالتالي أن تبقى نساؤه دون حميٍّ ولا وليٍّ بين الأعداء.والأعداء شيمتهم الثأر والانتقام لأسلافهم، وقد صرّحوا بذلك، وأنّهم يقتلون ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) انتقاماً لفطائسهم الّتي أرداها أمير المؤمنين (علیه السلام) في جهنّم يوم بدرٍ وحُنين وغيرهما من المشاهد، وأنّهم يمنعون الماء عن خامس أصحاب الكساء وأهله ويقتلوه ظامياً عطشاناً كما قُتل شيخهم _ بزعمهم _..

فلا جَرمَ أنّهم سيسبون عياله كما سُبي الكفار والمشركون، وسيُخرِجون المخدّرات من خدرهنّ، لأنّهم أولاد بغايا كُنّ يرقصن بين الصفوف ويرتجزن ويحرّكن في فحولهنّ كوامن القتال بدافع الشهوة المبتذلة الرخيصة.. «إنْ تُقبِلوا نعانق، أو تُدبِروا نفارق»..

والسافل الساقط المتبذّل الماجن المولود بين دِنان خمور حارات البغاء وكُنفها يعادي بالطبع والنشأة العفافَ والستر والخدر والطهر..

لقد اقتصر المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) على سؤاله عن أهله وعياله وأخواته ونساء أبيه ونساء إخوته..

سأل بعد أن تيقّن _ من خلال إخبار الإمام الصادق الأمين (علیه السلام) _ أنّ القوم قاتِلو الإمام (علیه السلام) حتماً جزماً، والحوادث وسلوك الأعداء كان مفضوحاً يتجاهرون به، وقد بان لكلّ ذي عينين، ولكلّ متابعٍ يسمع أو يرى ما يدور في الأجواء.

فإذا كان الإمام (علیه السلام) مقتولاً على كلّ حالٍ حيثما تمكّنوا من إطباق

ص: 57

الحلقة عليه، وجمعوا حوله الجموع، واستطاعوا تنفيذ أحقادهم والإصحار عن كوامنهم.. فلماذا يحمل الإمام (علیه السلام) نساءَه معه وهو يعلم أنّه مقتول؟!

ردّ الإمام على أخيه وأجابه من خلال الردود التالية:

الردّ الأوّل: أمرُ النبي (صلی الله علیه و آله)

ورد هذا الجواب في حديث الإمام الصادق (علیه السلام)، كما ورد في باقي الكتب الّتي ذكرت اللقاء.

لقد أقنع الجواب الأوّل المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حين أخبره الإمام (علیه السلام) أنّ النبي (صلی الله علیه و آله) أمره بالخروج، فعاد سيّد الشهداء (علیه السلام) هنا ليردّ عليه بنفس الردّ الأوّل، وأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد أخبره بذلك وقال له: «إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا» ((1)).

وفي رواية المسعوديّ:

فقال له: «أبى الله إلّا أن يكنّ سبايا» ((2)).

وقد مرّ معنا قبل قليلٍ أنّ إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) هذا هو في الحقيقة إخبارٌ عمّا عزم القوم عليه، وأنّهم لا يفترون لحظة، ولا يوفّرون صغيرةً ولا كبيرةً

ص: 58


1- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
2- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.

حتّى يقضوا حاجتهم في ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيقتلونه، فيكون معنى قول الإمام (علیه السلام) هنا بشأن النساء بنفس المعنى _ والسياق واحد _، بمعنى: إنّ القوم سيسبون النساء، سواءً حملَهنّ الإمام الحسين (علیه السلام) معه أم لم يحملهنّ، وأنّهنّ كنّ معرَّضاتٍ لهجوم الأعداء وإن كُنّ في المدينة أو مكّة أو أيّ مكانٍ كان في هذه الأرض!

يفيد هذا الجواب بوضوحٍ أنّ التهديد الّذي كان يُلاحق الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هو نفسه الّذي كان يهدّد ثقل النبيّ (صلی الله علیه و آله) ورحلَه وأهله وعياله، نساءً ورجالاً وأطفالاً..

فكما كان سيّد الشهداء (علیه السلام) هدفاً مقصوداً للعدوّ، وكان العدوّ لا يفتر لحظةً في إعداد كلّ ما يلزم لقتله، فكذاك كان أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعياله ونساؤه هدفاً مقصوداً له أينما كانوا وحيثما كانوا..

وثَمّة مخاطر وفوارق كثيرة بين أن يحملهم الإمام (علیه السلام) معه، وبين أن يتركهم في المدينة أو في مكّة..

يمكن الإشارة إلى فرقٍ واحدٍ هنا، وسيأتي تفصيل الكلام في محلّه:

مؤدّى كلام الإمام (علیه السلام) الّذي أخبر به عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّه إن تركهم فإنّ القوم سيأسرونهم ويسبونهم بمجرّد أن يغيب عنهم حاميهم ووليّهم قبل أن يُقتَل أو تحيط به الأعداء.. فهل يسوغ حينئذٍ تركهم وتعريضهم للأسر والسبي والتنكيل وتحويلهم إلى رهائن؟!

ص: 59

الردّ الثاني: هُنّ لا يفارقنني

وردَت إضافةٌ في متن الشيخ الطُّريحيّ في جواب الإمام (علیه السلام)، قال:

فبكى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بكاءً شديداً، وقال له: يا أخي، إذا كان الحال هكذا، فما معنى حملِك هذه النسوة وأنت ماضٍ إلى القتل؟!

فقال: «يا أخي، قد قال لي جدّي أيضاً: إنّ الله (عزوجل) قد شاء أن يراهنّ سبايا مهتَّكاتٍ يُسَقْن في أسر الذلّ، وهُنّ أيضاً لا يفارقنني ما دمتُ حيّاً» ((1)).

بالإضافة إلى أمر النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذي أفاد التهديد المباشر الّذي يطال العائلة والنساء أجمعين كباراً وصغاراً، فإنّ ثمّة سبباً آخَر يشهد به الوجدان وتشهد له الوشائج والرحِم..

إنّ النساء اللواتي كُنّ مع أبي عبد الله (علیه السلام) كلّهن قد تعلّقن بأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ وخامس أصحاب الكساء.. ولا يستطعن مفارقته..

ففي الركب: أزواج الإمام (علیه السلام) وبناته..وفي الركب: أخوات الإمام (علیه السلام) ..

ص: 60


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.

وفي الركب: بعض أزواج أبيه (علیه السلام) ..

وفي الركب: نساء إخوة الإمام (علیه السلام) وأولادهم..

وفي الركب: نساء أولاد عمومته، وهُنّ في الغالب أخواته (علیه السلام) ..

وفي الركب: زينب وأُمّ كلثوم (علیهما السلام) ..

والإمام هو كبير آل أبي طالب، وهو الحميُّ والوليّ..

فأيُّ أُختٍ تطيق أن تفارق أخاها، وتتركه طعمةً للسيوف، ونهباً للرماح، ودريّةً للسهام؟!

وأيُّ بنتٍ تطيق أن تفارق أباها، وهي تعلم أنّه يمشي إلى القتل إلى حيث لا يعود؟!

وأيُّ زوجةٍ تصبر أن تبقى في أرض، وتترك زوجها يرحل إلى المصرع؟!

وأيُّ طفلٍ يهدأ، وهو يرى أباه يبتعد عنه ويسافر ثمّ لا يعود؟!

كان الجميع يعلم أنّهم يسيرون، والمنايا تسير معهم..

إنّ الحسين (علیه السلام) اليوم هو إمامهم وسيّدهم وكبيرهم وأخوهم وحبيبهم وحاميهم ووليهم..

إنّها كلمةٌ تتهاوى عند سماعها الجبال الرواسي، وتميد الأرض ومَن عليها، وتتفتّت الصمُّ الصياخيد، وتذوب القلوب، وتنهمر المحاجر ولاترقأ إلى يوم القيامة!

فلْيعلم المؤمن مدى تعلّق عيال الإمام الحسين (علیه السلام) به؛ ليعلم ما

ص: 61

جرى عليهم في كربلاء وهم يرون رأي العين ما جرى عليه من المصائب..

الأُخت والبنت والزوجة لا تطيق فراقه _ ومَن يطيق فراق الحسين (علیه السلام) حبيب القلوب! _ وقد وقفن يرينه، وقد أحاط به القوم من كلّ جانبٍ ومكان، وشيبته الكريمة تقطر منها الدماء، وهو مقطّع الأعضاء، ملقىً على الرمضاء مرمّلاً، يطلب جرعةً من الماء، وقد افترق القوم عليه فرقاً، ضرباً بالسيوف، وطعناً بالرماح، ورمياً بالسهام والحجارة.. حتّى قتلوه قتلةً ما قُتل بها أحدٌ من العالَمين، ثمّ رفعوا رأسه على الرماح، وأوطأوا الخيل ظهره وصدره على مرأىً من مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي..

فماذا كانوا يصنعون لو أنّ الإمام (علیه السلام) تركهم في المدينة أو مكّة؟!

إذا كان حضور هذا الموقف الرهيب العصيب المرعب الّذي يخلع القلوب ويستلّ الأرواح ولا يقوم له بشرٌ إلّا بتسديد الله خاصّة..

إذا كان النظر إلى الأولاد والإخوة والأحبّة يُقطَّعون بسيوف الحقد والضغينة آراباً، ويعانون العطش والظمأ حتّى الموت، فتنكمش جلودهم، وتذبل شفاههم وتتشقّق، ويعيشون كلَّ ما جرى في كربلاءوما بعدها من السلب والنهب والسبي وإحراق الأطناب عليهم والفساطيط، ويتراكضون على الرمضاء الحارقة وجمر الخيام المتناثرة، والتشهير في البلدان، وحضور مجالس الأنذال الّتي ما فارقت اللهو

ص: 62

والخمرا.. أهون من تركهم في مكّة والمدينة! فماذا كان سيكون لو تركهم معدن الغيرة والإباء؟!!

وبكلمة:

إنّ الإمام (علیه السلام) إنّما خرج بهنّ إلى كربلاء، لأنّ في إخراجهنّ معه أقلّ الخسائر المتوقّعة في الموقف، وهو ما يمكن أن يرعاهنّ ويحميهنّ، تماماً كما فعل النبيّ (صلی الله علیه و آله) حينما أودع نساءَه يوم هاجر إلى المدينة بيد أمير المؤمنين (علیه السلام)، لوثوقه أنّ في بقائهنّ مع أمير المؤمنين (علیه السلام) أقلّ الخسائر المتوقّعة.

فخروجهنّ معه، وإن لزم منه السلب والنهب والترويع والسبي، بَيد أنّ هذا هو الطريق الأسلم والأقلّ خطراً وخسائرَ يومذاك، ولو بقين في مكّة أو المدينة أو أيّ مكانٍ آخَر لَكانت الخسائر أكبر وأكبر، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

المبادرة الخامسة: وداع الإمام

يبدو أنّ هذا هو اللقاء الأخير المباشر وجهاً لوجه كان بين الأخوَين؛ إذ أنّ الإمام (علیه السلام) «سلّم عليه ومضى».لقد بذل المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كلّ مجهوده فيما كان يعتقده سبيلاً لإنقاذ أخيه (علیه السلام) وأهله من بين مخالب الذئاب والابتعاد بهم عن مواطن الخطر ودفع عادية الوحوش الكواسر ودفع القتل عنهم..

ص: 63

وقد حانت لحظة الوداع، وأزفَت ساعة الفراق.. ستغيب تلك الشموس، ستأفل تلك الأقمار عن سماء الديار المقدّسة، سيعمّ الظلام في مكّة والمدينة، وستأنس بهم أرض الطفوف، وهي الّتي تنتظرهم منذ أن خلقها الله..

ها هو وجه الله، وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وجه الخير.. يرحل إلى حيث لا يعود إلى تلك الرحاب.. الرحاب الّتي أضحت قفراً بلقعاً جفافاً، تنعب فيها الغربان وتذوي فيها الحياة وتنطفئ..

لم تعد مكّة أمناً لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وتنكّر له أهلها.. فهل ستفي له؟ وهل سيأمن غيره؟! لقد انزاحت كلّ القيم، ولن تعود حتّى يعود حاميها وحاملها إليها، يوم يكشف الله الغمم عن هذا الكون برفع راية الحسين (علیه السلام) خفّاقةً عاليةً من جديدٍ بيد ولده..

وقف المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) موقفاً لا يمكن لأحدٍ تصويره، ولا يقوى بشرٌ عاديٌّ على رسمه..

لقد انطلق الركب الّذي حوى جميعَ أهله وإخوته وذويه وأقربائه..

لقد بقي في مكّة وحيداً غريباً، مقطوعاً عن إخوته.. أخواته.. أولادعمومته..

لقد انجلى آل رسول الله، وآلُ أبي طالب، وآل عليّ، وآل الحسن، وآل عقيل، وآل جعفر، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً..

لم يبقَ في مكّة لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أحدٌ إلّا أقلّ القليل.. وهؤلاء

ص: 64

جميعاً في كفّة، وكبير آل أبي طالبٍ في جهة.. لقد رحل الحسين (علیه السلام) .. الحسين الأخ.. الحسين الإمام.. الحسين الخامس من أصحاب الكساء.. الحسين المذكّر بوجه رسول الله.. الذكرى الباقية من أمير المؤمنين (علیه السلام) .. الذكرى الباقية من فاطمة (علیها السلام) .. الذكرى الباقية من الإمام الحسن (علیه السلام) .. الحسين الحبيب.. الرحمة الإلهيّة الواسعة..

رحلوا جميعاً، وسوف لا يعودون.. إلّا رؤوساً مرفوعةً على الرماح.. إلّا نساءً قد قشّر وجوههنّ السفرُ والرحيل والتنقّل بين البلدان، وأدمت معاصمهنّ وأعناقهنّ عضّات القيود، بعد أن «سُبي أهله كالعبيد، وصُفِّدوا في الحديد، فوق أقتاب المطيّات، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يُساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولةٌ إلى الأعناق، يُطاف بهم في الأسواق» ((1))..

وجوهاً شدَخَتها الشماتة، وتركت أثرها أشدّ من وخز الشوك،وجرحَتها العيون بأشدّ من الخناجر والسكاكين، وأعيَتْ أيديها من كثر ما بقيَت مرفوعةً تستر نور المحاسن وتصدّ سهام النظرات..

أفسيعرف حينها المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أُختَه زينب وأُمَّ كلثوم إذا التقاهما؟!!

سيعود الركب عن قريب، متجاوباً بالنياحة والعويل والرنين،

ص: 65


1- أُنظر: المزار لابن المشهديّ: 505 _ زيارة الناحية المقدّسة.

والغربان تنعب فوق كلّ محملٍ من محاملها.. يعود ليلقاه ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) لفيفاً من الأرامل والأيتام الّذين أذوى السبيُ عودَهم، وأتت المصائب الكاظّة الفادحة القارحة الفاجعة عليهم..

سيعود الركب يحمل الحزن الّذي لن ينجلي إلى أبد الآبدين.. يعود، ولا يعود معه رجلٌ من رجاله.. يعود إلى بيوتٍ أذن الله أن ترفع وجهد العدوُّ ليُطفئ نورها، فأبى الله إلّا أن يُتمّه!

إنّها الساعة الأخيرة.. النظرة الأخيرة إلى كلّ الوجوه.. كلّ الوجوه.. فهي إمّا أنّها ستسكن كربلاء، أو أنّها تعود، ولكنّها ليست تعود كما خرجَت من مكّة..

إنّها وجوه العلويّات اللواتي خرجنَ في حِمى سيّد الكون، وعُدن بغير تلك الوجوه.. رجعن بوجوهٍ قد تصفّحها القريب والبعيد، واستشرفها أهلُ المناقل والمناهل، وشمتت بها الأعداء الأنذال..

إنّها الوجوه الّتي خرجَت تحت سرادق العزّ الإلهيّ، وستر النبوّةوالإمامة، وخدر التاريخ.. إلى مجالس العُتاة والشامتين والطواغيت وأولاد البغايا..

فلْينكسر القلم، ولتُفرَم الأنامل، وتنطبق السماء على الأرض، وتُقطِّع أشفار الغيرة والحزن والكآبة القلوب والأكباد.. ألا ألف مرحاً بالموت وملَك الموت، فلا البكاء يفي ولا اللوعة تسكن.. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.. «اللّهم لك الحمدُ حمدَ الشاكرين على مصابهم».. وعند

ص: 66

الله نحتسب.. ويا ليتنا كنّا معهم!

وحقّ لمولانا المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) أن يبكي بكاءً شديداً _ كما روى الشيخ الطُّريحيّ _، وهو يسمع السلام الأخير، ويحضر الوداع الأخير، فيقول: أودعتك الله يا حسين! في وداعة الله يا حسين! ((1))

ويختمها _ كما في رواية المسعوديّ _ بقوله: يا أبا عبد الله، اَلله الله.. في حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ((2)).

وهكذا ختم اللقاء بالسلام الأخير من اسم السلام.. ثم مضى.. «وسلّم عليه، ومضى» ((3)).

اللحاظ الثالث: موقف الناس!

قال ابن حجر وسبط ابن الجوزيّ:ولم يبقَ بمكّة إلّا مَن حزن لمسيره ((4)).

ص: 67


1- المنتخَب للطريحيّ: 2 / 435، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
2- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126.
3- اللهوف لابن طاووس: 63، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 214، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، نفَس المهموم للقمّيّ: 164.
4- الصواعق المحرقة لابن حجَر: 117، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، نفَس المهموم للقمّيّ: 169، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

هكذا عمّموا بالنفي والاستثناء، بحيث يفهم المتلقّي أنّ جميع مَن كان في مكّة يومها بدون استثناءٍ قد حزن لمسيره!

ولا يبدو هذا الكلام مستقيماً؛ فثَمّة الكثير ممّن فرح بخروجه، وسُرّ أشدّ السرور، كابن الزبير وغيره..

أمّا الناس، سواءً أهل مكّة أو المجاور أو الحاجّ والمعتمر، فإنّهم لم يكترثوا، ولم نسمع لهم همساً ولا صوتاً، ولم نشهد لهم موقفاً.. والّذين حاموا حول حمى الإمام (علیه السلام) وراجعوه أو اعترضوا عليه كانوا عيّناتٍ محصورةً يمكن عدّها دون عناء.. وهم أيضاً كانوا فيمن تخلّف عنه!

إنّهم همَجٌ رعاع، وخلقٌ سائمٌ يطوف حول الكعبة صُمّاً بُكماً عُمياً، ويتنقّلون بين المشاعر دون أيّ شعورٍ أو مشاعر..

لقد رحل روح هيكل التوحيد، وروح الشريعة، وأساس الدين، والعروة الوثقى، والركن الركين، وأبحرت السفينة الّتي «مَن ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق وهوى».. وهم يغطّون في نومٍ قاتلٍ عميق..

أيريد أن يقول:

إنّ الإمام (علیه السلام) خرج من مكّة فلم يبقَ أحدٌ إلّا حزن، بمعنى: لم يكن أحدٌ في مكّة إلّا كان يخالف الإمام (علیه السلام)، ويتمنّى أن لا يخرج.. فلم يكنفي المسلمين في مكّة يومها مَن كان يصحّح خروج الإمام (علیه السلام) ؟!

لقد كان الإمام (علیه السلام) غريباً في مكّة غربةً لا مثيل لها في التاريخ.. إنّه غريب الغرباء حقّاً!

ص: 68

ولا نرى في النصوص التاريخيّة ومجريات الأحداث وسير الوقائع ما يفيد اكتراث القوم بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام)، ولو وُجدَت لا نكاد نتعقّلها ونصدّقها ونتصوّرها من مجتمعٍ أصحر بكوامنه من خلال الخذلان على أقلّ التقادير.

ص: 69

ص: 70

كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) إلى محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) وبني هاشم

اشارة

كتابٌ كتبه الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عند خروجه من مكّة متوجّهاً إلى العراق، سنقتصر في دراسته بالقدَر الّذي يتمّم البحث المتعلّق بالمولى المكرّم محمد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وفاءً بالوعد الّذي قطعناه في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة.

وقد وردَت عدّة ألفاظٍ للكتاب، يمكن تقسيمها إلى قسمين، ثمّ نتابع البحث حسب مقتضياته فيما بعد:

ص: 71

اللفظ الأوّل: لفظ الصفّار في (البصائر)

الصفّار القمّيّ (رحمة الله):

حدّثَنا أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن مروان بن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال:

ذكرنا خروجَ الحسين وتخلّف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) عنه، قال: قال أبو عبد الله: «يا حمزة، إنّي سأُحدّثك في هذا الحديث، ولا تسألْ عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجِّهاً دعا بقرطاس، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد معي، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح، والسلام» ((1)).

الطبريّ (رحمة الله):

وروى أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن أبي إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال:

ذكرتُ خروج الحسين وتخلّف ابن الحنفية (رضی الله عنه) عنه، فقال: «يا أبا حمزة، إنّي سأُحدّثك من هذا الحديث بما لا تشكّ فيه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجّهاً إلى العراق دعا بقرطاس، وكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومَن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح» ((2)).إبن سليمان (رحمة الله):

أيّوب بن نوح، عن محمّد بن إسماعيل،

ص: 72


1- بصائر الدرجات للصفّار: 501، إثبات الهداة للحُرّ العامليّ: 2 / 577، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 84، العوالم للبحرانيّ: 17 / 318، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 239، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 235، اللهوف لابن طاووس: 65، قال: وذكر محمّد بن يعقوب الكلينيّ في كتاب (الرسائل)، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان، عن مروان بن إسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: ...
2- دلائل الإمامة للطبريّ: 77، نوادر المعجزات للطبريّ: 109.

عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال:

ذكرتُ خروج الحسين بن عليّ (علیه السلام) وتخلّف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) عنه، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): «يا حمزة، إنّي سأُحّدثك في هذا الحديث، لا تسألْ عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين بن عليّ (علیه السلام) لمّا مثل متوجّهاً دعا بقرطاس، فكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد، ومَن تخلّف لم يُدرِك الفتح، والسلام» ((1)).

ص: 73


1- مختصر بصائر الدرجات لابن سليمان: 6.

إبن شهرآشوب (رحمة الله):

أبو حمزة بن عمران قال: ذكرتُ خروج الحسين وتخلّف ابن الحنفية (رضی الله عنه) عنه، فقال الصادق (علیه السلام):

«يا أبا حمزة، أقول لك ما يغنيك سؤاله، إنّ الحسين لمّا انصرف من مكّة دعا بكاغذ، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَنلحق بي منكم استُشهد، ومَن تخلّف لم يُدرِك الفتح، والسلام» ((1)).

إبن نما (رحمة الله):

وتحدّث الناس عند الباقر (علیه السلام) تخلُّفَ محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) عنه، فقال:

«يا أبا حمزة الثُّماليّ، إنّ الحسين (علیه السلام) لمّا توجّه إلى العراق دعا بقرطاس، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومَن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام» ((2)).

اللفظ الثاني: لفظ ابن قولويه في (الكامل)

اشارة

إبن قولويه (رحمة الله):

ص: 74


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 76.
2- مثير الأحزان لابن نما: 19.

وحدّثَني أبي (رحمة الله) وجماعة مشايخي، عن سعد بن عبد الله، عن عليّ بن إسماعيل بن عيسى ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن عمرو بن سعيد الزيّات، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال:

«كتب الحسينُ بن عليٍّ من مكّة إلى محمّد بن عليّ: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّومَن قِبله مِن بني هاشم، أمّا بعد، فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرِك الفتح، والسلام» ((1)).

أبو طالب الزيديّ:

فلمّا نزل بستان بني عامر، كتب إلى محمّدٍ أخيه وأهل بيته: «من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ وأهل بيته، أمّا بعد، فإنّكم إن لحقتم بي استُشهدتم، وإن تخلّفتم عنّي لم تلحقوا النصر، والسلام» ((2)).

الراونديّ (رحمة الله):

وأنّ الحسين لمّا توجّه إلى الكوفة دعا بقرطاس، فكتب فيه: «مِن الحسين بن عليٍّ إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي

ص: 75


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 75، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 87، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317.
2- الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 91.

استُشهد، ومَن تأخّر عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام» ((1)).

* * * * *

هذه هي جملة الألفاظ الواردة في هذا الحديث، سنحاول استكشافها من خلال الإضاءات التالية:

الإضاءة الأُولى: النصوص المعتمَدة

أقدَمُ النصوص في اللفظ الأوّل هو متن الصفّار (ت 290 ه-) في (البصائر)، وأقدم النصوص في اللفظ الثاني هو متن ابن قولويه (ت 368 ه-) في (الكامل).

والاختلاف في الألفاظ بين الصفّار ومَن جاء بعده، وابن قولويه ومَن جاء بعده، تكاد تكون طفيفة، لذا فإنّنا سنعتمد رواية الصفّار وابن قولويه، ثمّ إن كان ثَمّة زيادة أو إشارة في ألفاظ غيرهما سنتناولها ونشير إليها.

الإضاءة الثانية: روايتان

ربّما يلاحظ المتابع أنّ ثمّة فوارقاً بين لفظَي رواية الصفّار ورواية ابن

ص: 76


1- الخرائج والجرائح للراونديّ: 2 / 771.

قولويه، وهما _ على ما يبدو _ روايتان مستقلّتان؛ لاختلاف السند والراوي المباشر والإمام المعصوم المرويّ عنه، وليستا روايةً واحدة.

فرواية (البصائر) يقول فيها الصفّار:

حدّثنا أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن مروان بنإسماعيل، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ...

فيما قال ابن قولويه:

وحدّثني أبي (رحمة الله) وجماعة مشايخي، عن سعد بن عبد الله، عن عليّ بن إسماعيل بن عيسى ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن عمرو بن سعيد الزيّات، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ...

الإضاءة الثالثة: أجواء الروايتين

ثمّة فرقٌ يلوح للمتلقّي في أجواء الحديثين الشريفين..

فرواية الصفّار تذكر كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) في جوٍّ خاصّ، حيث ذكروا خروج الحسين (علیه السلام) وتخلّف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) عند الإمام الصادق (علیه السلام)، فذكر لهم الإمام (علیه السلام) كتاب جدّه في مقام بيان تكليفهم في التعامل مع ابن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) محمّد.

فيما نجد الحديث الثاني يبادر فيه الإمام الباقر (علیه السلام) زرارة، ويذكر له الكتاب ابتداءً.

ص: 77

الإضاءة الرابعة: المخاطَب بالكتاب

نقرأ في حديث الإمام الصادق (علیه السلام): «من الحسين بن عليّ إلى بنيهاشم ...».

وفي حديث الإمام الباقر (علیه السلام): «كتب الحسين بن عليٍّ من مكّة إلى محمّد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبله من بني هاشم ...».

وليس ثمّة فرقاً بين اللفظين، إذ أنّ بني هاشم مخاطَبِين في كِلا اللفظَين، والمولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مشمولٌ على كلّ تقدير، فهو مِن ذُرى بني هاشم يومها، وقد ورد الخطاب مباشراً له بالاسم في لفظ الإمام الباقر (علیه السلام)، وطبّقه عليه بما لا شكّ فيه ولا ترديد الإمامُ الصادق (علیه السلام)، فهو أيضاً مقصود؛ لمكان تحديده كمصداقٍ في حديث الصادق (علیه السلام)، سواءً أكان مأخوذاً كعنوانٍ أم مقصوداً بنفسه.

وبهذا يتبيّن أنّ المخاطَب هم: بنو هاشم، والمولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) .

ولا ندري حينئذٍ كيف يتعدّى الأمر إلى غيرهم من العالمين؟!

وكيف يمكن تعميم الخطاب في قوله: «مَن لحق بي»، «مَن لم يلحق بي»، إلى الناس أجمعين؟!

وقد ورد في الحديثَين ما يفيد الحصر وتحديد المخاطَب بالذات..

ففي لفظ حمران عن الإمام الصادق (علیه السلام): «من الحسين بن عليٍّ إلى بني

ص: 78

هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد معي».

وفي لفظ الإمام الباقر (علیه السلام): «كتب الحسين بن عليٍّ مِن مكّة إلى محمّد ابن عليّ: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبله من بني هاشم».

وفيهما تحديدٌ واضحٌ من خلال التصريح بالمخاطَب، وهم بنو هاشم، ومحمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) على نحو الخصوص، وتمّ التأكيد على المخاطَب بقوله: «مَن لحق بي منكم»، أي: من بني هاشم المذكورين.

فالكتاب موجَّهٌ من سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى بني هاشم بالذات، والتحديد ب-- «مِن» و «إلى» يأبى التعميم لغيرهم، والتأكيد ب-- «منكم» يجعل التعميم عصيّاً ((1)).

ربّما يُقال:

إذا كان الخطاب موجَّهاً لجماعةٍ خاصّةٍ لا يتعدّاهم إلى غيرهم، يلزم أن يُقرأ الكتاب كلُّه على هذا الإساس مِن أوّله إلى آخره، فيكون إخباره بالتخلّف وعدم اللحاق ب-- «الفتح» أيضاً خاصّاً.

وسيأتي الكلام عن ذلك بعد قليل، إن شاء الله (تعالى).

ص: 79


1- أُنظر: ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة: 157.

الإضاءة الخامسة: الخطاب لم يلحظ المكان!

يبدو من إطلاق الخطاب مع بني هاشم أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يأخذ بنظر الاعتبار مكان تواجدهم، سواءً كان المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في مكّة أو في المدينة أو في أيّ موضعٍ آخَر من أصقاع الأرض..

فالكتاب يخاطب الأشخاص من ذرّيّة هاشم، فلا معنى لما ذهب إليه بعض الأعلام من إخراج مثل عبد الله بن عبّاس، لتواجده يومها في مكّة، بحجّة أنّ الكتاب كان موجَّهاً لابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وكان ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يومها في المدينة؛ إذ تبيّن لنا أنّ ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كان في مكّة ولم يكن في المدينة من جهة، وإطلاق اللفظ في الكتاب الشريف يأبى إخراج أحدٍ منهم من جهةٍ ثانية، وعدم التعرّض في الكتاب إلى مكان تواجدهم يفيد _ بوضوحٍ جليٍّ _ الشمولَ لهم أينما كانوا وحيثما كانوا.

فليس في بني هاشم أحدٌ يمكن استثناؤه، إلّا مَن خرج بالدليل لعذرٍ مقبولٍ عند الإمام (علیه السلام) يُخرجه من لزوم التنفيذ رغم شمول الخطاب له.

ص: 80

الإضاءة السادسة: بنو هاشم!

ليس لدينا إحصائيّةٌ دقيقةٌ وتعدادٌ شاملٌ لذرّيّة هاشم (صلوات الله عليه) الّذين كانوا على قيد الحياة أيّام خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة ومكّة وكربلاء، ولا إحصاء دقيق لأعمارهم، ومَن كان فيهم ممّن بلغ مبلغ الشباب بحيث يدخل في عِداد مَن يقوى على حمل السلاح..

غير أنّنا نستطيع أن نتّخذ نموذجاً كعيّنةٍ تمكّن المتلقّي أن يُخمّن أو يحتمل ما يبدو له، وسوف لا نتّخذ آل أبي طالب (علیهم السلام) عيّنةً توضيحيّةً هنا، إذ أنّهم كانوا ممّن سارعوا ولبسوا القلوب على الدروع، وتقدّموا يتهادَون إلى القتل بين يدَي سيّدهم وإمامهم، حتّى لم يبقَ منهم في ديارهم ديّاراً، ومن تخلّف منهم معدودٌ محصورٌ ونزرٌ قليلٌ لا نحتاج إلى التماس الأعذار لهم بعد أن عذرهم كبير آل أبي طالب وأئمّةُ الخلق (علیهم السلام) .

وسنأخذ القدر المتيقّن، ونترك المختلف فيه، رغم ورود أسمائهم في مصادر مهمّة وثبوت ذرّيّةٍ لهم مثلاً، كما سنترك ذكر النساء لينحصر الأمر في الذكور من بني هاشم.

فقد ذكروا لهاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة:

- عبد المطّلب بن هاشم.

- وأسد بن هاشم.

ص: 81

- وأبو صيفيّ بن هاشم.

- ونضلة بن هاشم.

هذا مِن وُلد هاشم.

ونأخذ عيّنةً أُخرى من أولاده الأربعة، وهم أولاد عبد المطّلب، فقد ولد عبدُ المطّلب بن هاشم عشرة نفرٍ وستّ نسوة:

- العبّاس.

- وحمزة.

- وعبد الله.

- وأبا طالب (واسمه عبد مناف).

- والزُّبير.

- والحارث.

- وحجلاً.

- والمقوّم.

- وضراراً.

- وأبا لهب.

ونأخذ عيّنةً من بين أولاد عبد المطّلب، وهم أولاد العبّاس، فقد ولد العبّاس:- الفضل.

- وعبد الله.

ص: 82

- وعُبيد الله.

- وتمام.

- وكثير.

- والحارث.

- وصبح.

- ومسهر.

- ومعبد.

- وقثم.

- وعبد الرحمان.

فولد عبدُ الله بن العبّاس:

- العبّاس.

- وعليّاً.

- وعُبيد الله.- والفضل.

- ومحمّداً ((1)).

وهؤلاء جميعاً أولدوا ونسلوا، ومنهم مَن انقرض بعد ذيل، ومن لم

ص: 83


1- أُنظر: السيرة النبويّة لابن هشام: 1 / 107، النسب لقاسم بن سلام (ت 244 ه-): 196 وما بعدها، الاشتقاق لابن دريد: 67، وغيرها من المصادر..

يدرج أو يمت من وُلد العبّاس يلزم أن يكون حيّاً حاضراً أيّام سيّد الشهداء (علیه السلام) هو وأولاده، وكان في أحفاد العبّاس مَن بلغ مبلغ الرجال يومها..

والخطاب الوارد في كتاب سيّد الشهداء (علیه السلام) يشمل ذرّيّة هاشم أجمعين ممّن يصحّ مخاطبته، ولا يستثني منهم أحداً، فلا ينحصر الأمر حينئذٍ بقومٍ دون قومٍ منهم، ولا بفردٍ دون فرد.

الإضاءة السابعة: «مَن لحق بي استُشهد»

اشارة

مرّ معنا قبل قليلٍ أنّ الكتاب الشريف خاطب بني هاشم خاصّةً دون غيرهم، بشهادة «من» و «إلى»، فهو من الإمام الحسين (علیه السلام) إلى بني هاشم، وبشهادة «منكم» في لفظ رواية الإمام الصادق (علیه السلام) .

فهو يخاطب ثلّةً معيّنةً محدّدةً خاصّة، ويوجّه الكلام إليها ويقول:

• «فإنّه مَن لحق بي منكم استُشهد معي، ومَن تخلّف لميبلغ الفتح، والسلام» ((1)).

ص: 84


1- بصائر الدرجات للصفّار: 501، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 577، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 84، العوالم للبحرانيّ: 17 / 318، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 239، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 235، اللهوف لابن طاووس: 65.

• «فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرِك الفتح، والسلام» ((1)).

ويمكن أن نتعرّف على ما ورد في هذا المقطع من الكتاب من خلال التنويرات التالية:

التنوير الأوّل: معنى «لحق»

قالوا:

اللَّحْقُ واللُّحُوق والإِلْحاقُ: الإِدراك.

لَحِقَ الشي ءَ وأَلْحَقَهُ، وكذلك لَحِقَ به وأَلْحَقَ لَحاقاً _ بالفتح _، أي: أدركه.

وتَلاحَقَ القوم: أَدرك بعضُهُم بعضاً، وتلاحَقَت الرِّكاب والمَطايا، أي: لَحِقَ بعضُها بعضاً.

واللَّحَقُ أَيضاً من الناس كذلك: قومٌ يَلْحَقُون بقومٍ بعْدَ مُضيِّهم.

لَحِقْتُهُ ولَحِقْتُ به أَلْحَقُ _ من باب تعب _ لَحَاقاً: أدركتُه، وألحقتُه مثله، وأَلْحَقْتُ زيداً بعمرو: أتبعتُه إيّاه.والأصل الواحد في المادّة: هو الوصول الى شيءٍ بعد أن كان

ص: 85


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 75، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 87، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317.

منفصلاً ((1)).

التنوير الثاني: معنى «استُشهد»

اسْتَشْهَدَه: سأَله الشهادة.

الشَّهادَة: خَبرٌ قاطع، تقولُ منه: شَهِدَ الرجلُ على كذا، وشَهِدَ فلانٌ على فلانٍ بحقّ، فهو شاهدٌ وشهيد، واسْتُشْهِدَ فلان، فهو شَهِيدٌ.

والمُشاهَدَةُ: المعاينة، وشَهِدَه شُهوداً، أي: حَضَره، فهو شاهدٌ، وقَوْمٌ شُهُود، أي: حُضور، وشَهِدَ له بكذا شَهادةً، أي: أَدّى ما عنده من الشَّهادة، فهو شاهِد، وأَشْهَدْتُه على كذا فَشَهِدَ عليه، أي: صار شاهداً عليه، وأَشْهَدْتُ الرجل على إِقرار الغريم واسْتَشْهَدتُه بمعنىً، ومنه قوله (تعالى): ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ﴾ ((2))، أي: أَشْهِدُوا شاهِدَيْن، يقال للشاهد: شَهيد، ويُجمَع: شُهَداءَ، واسْتَشْهَدْتُ فلاناً على فلان: إِذا سأَلتُه إِقامة شهادةٍ احتملَها.

وأَصل الشهادة: الإِخْبار بما شاهَدَه.

والشاهِدُ والشَّهيد: الحاضر، والجمع شُهَداء.

والشَّهِيدُ: المقْتول في سبيل الله، والجمع شُهَداء.

ص: 86


1- أُنظر: لسان العرب وغيره من كتب اللّغة: لَحقَ.
2- سورة البقرة: 282.

والاسم: الشهادة، واسْتُشْهِدَ: قُتِلَ شهِيداً، وتَشَهَّدَ: طلب الشهادة ((1)).

وَفِي حَدِيثِ ذِكْرِ الشَّهِيدِ: «وَهُوَ مَنْ مَاتَ بَيْنَ يَدَيِ نَبِيٍّ أَوْ إِمَامٍ مَعْصُومٍ، أَوْ قُتِلَ فِي جِهَادٍ سَائِغٍ».

قيل: سُمّي بذلك لأنّ ملائكة الرحمة تشهده، فهو شَهِيدٌ بمعنى مشهود. وقيل: لأن الله وملائكته شهودٌ له في الجنّة. وقيل: لأنّه ممّن استُشهد يوم القيامة مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) على الأُمم الخالية. وقيل: لأنّه لم يمت، كأنّه شَاهِدٌ، أي: حاضر، أو لقيامه بشهادة الحقّ في الله حتّى قُتل، أو لأنّه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة وغيرُه لا يشهدها إلى يوم القيامة، فهو فعيلٌ بمعنى فاعل ((2)).

التنوير الثالث: المحصَّل

المحصّل من مجموع ما قاله اللغويّون باختصار:

إنّ مَن تبع الإمام (علیه السلام) بعد خروجه من مكّة ولحقه واتّصل به بعد الانفصال عنه، سيُستشهَد معه.

والاستشهاد معه _ حسب ما ورد في كتب اللّغة _ : إمّا أنيكون

ص: 87


1- لسان العرب: شَهِدَ.
2- مجمع البحرين: شَهِدَ.

بمعنى أن يكون شاهداً معه على الأُمّة وعلى ما جرى عليه وعليهم، وأن يرتقي إلى مقام الشهادة بين يدَي الله، أو أن يكون بمعنى أن يُقتَل معه وبين يديه.

ويبدو أنّ الأخير هو الأظهر المتبادَر من السياق، فيؤخَذ به، وتُترك المعاني الأُخرى المحتمَلة بالبين، رغم ما لها من العلاقة الوثيقة أحياناً، والقريبة جدّاً من مقصودٍ محتملٍ بجدّ.

فهو يقول: مَن التحق به، فإنّه سيُقتَل معه..

الإضاءة الثامنة: «مَن تخلّف، لم يلحق بي»

اشارة

المقطع الثاني من الكتاب يتحدّث على فرض أن يتخلّف الهاشميّون أو لم يلحقوا به..

وربّما كان يتصوّر المتلقّي أنّ ثَمّة فرقاً بين التعبيرين الواردين في الحديثين.

فالتخلّف هو عدم لحاقٍ مطلقاً، والتثاقل والبقاء من دون أيّ حركةٍ أو تباعث، فيما يكون عدم اللحاق شاملاً لمن يتحرّك ويتباعث، وربّما ينطلق بَيد أنّه لا يُدرِك المطلوب، فهو يشمل مَن تأخّر حتّى فاته الوقت وإن لحق فيما بعد.لكن هو على كِلا التقديرين يلزم أن لا يبلغ، وأن لا يُدرِك، سواءً

ص: 88

أكان قد انبعث فيما بعد ولم يصل، أم أنّه لم ينبعث أبداً.

وسنحاول استكشاف الشقّ الثاني من الكتاب وما يحتويه من نفي الفتح عمّن تخلّف ولم يلحق، من خلال الإنارات التالية:

الإنارة الأُولى: معنى (الفتح) لغةً

قبل الدخول في ذكر الاحتمالات المتصوّرة في تفسير الشقّ الثاني وبيان مدلولاته، ينبغي التعرّف على معنى (الفتح) لغةً.

الفَتْح: نقيض الإغلاق.

والفَتْح: افْتِتاح دار الحرب.

والفَتْح: أن تَفْتَحَ على من يستقرئُك.

والفَتْح: أن تحكم بين قومٍ يختصمون إليك، كما قال (سبحانه) مُخبِراً عن شعيب: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ﴾ ((1))، أي: اقْضِ بيننا. ويقال للقاضي: الفَتَّاحُ؛ لأنّه يَفْتَحُ مواضع الحقّ.

والفَتْح: النصرة. قال (تعالى): ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ ((2)). واسْتَفْتَحْتُ اللهَ على فلانٍ، أي: سألتُه النصرَ عليه، ونحو

ص: 89


1- سورة الأعراف: 89.
2- سورة الأنفال: 19.

ذلك. وفَتَحَ السلطانُ البلاد: غلَبَ عليها وملَكَها قَهْراً. وفَتَحَ اللهُ على نبيِّه: نصَرَه.

والفُتْحة: تَفَتُّحُ الإنسان بما عنده من أموالٍ أو أدَبٍ يتطاولُ به، يُقال: ما هذه الفُتْحة الّتي أظهرتَها، وتَفَتَّحْتَ بها علينا.

وبابٌ فُتُحٌ، أي: واسع ((1))، وقارورةٌ فُتُحٌ: واسعة الرأْس بلا صِمامٍ ولا غِلاف، لأَنها تكون حينئذٍ مفتوحة.

وقوله (تعالى): ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ ((2))، قال الزجّاج: جاء في التفسير: قضينا لك قضاءً مبيناً، أي: حكمنا لك بإظهار دِين الإسلام وبالنصر على عدوِّك. قال الأَزهريّ: قال قُتادة: أي: قضينا لك قضاءً فيما اختار اللَّه لك من مُهادَنةِ أَهل مكّة وموادعتهم عام الحديبيّة.

والفَتَاحَةُ: النُّصْرَة.

وفاتَحَ الرجلَ: ساوَمَه ولم يُعطِه شيئاً.

والفُتْحَةُ: الفُرْجةُ في الشيء ((3)).

قوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً﴾، قيل: هو فَتْحُ مكّة، وعده الله ذلك عند إرجاعه من الحديبيّة. وقيل: هو فَتْحُ خيبر. وقيل: فَتْحُ فارس

ص: 90


1- كتاب العين للفراهيدي: فَتَحَ.
2- سورة الفتح: 1.
3- لسان العرب: فَتَحَ.

والروم، وسائرُ فُتُوحِ الإسلام على العموم.

قوله: ﴿وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ ((1))، يعني: فَتْحَ خَيبر ((2)).

قال صاحب (التحقيق في كلمات القرآن) بعد استعراض معاني (فَتَحَ):

إنّ الأصل الواحد في المادّة: هو ما يُقابِل الإغلاق، أي: رفع الإغلاق والسدّ والحجب، وهذا المعنى يختلف باختلاف الموارد والموضوعات، مادّيّاً أو معنويّاً.

وسبق أنّ الغلق هو آخِرُ مرتبةٍ من الردم والسدّ والحجر والمنع.

فالفتح المطلق: كما في: ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً * ويَنْصُرَكَ اللَّهُ﴾ ((3))، يُراد الفتح المطلق في مسير الرسالة وإجراء وظائف النبوّة وإبلاغ الأحكام الالهيّة، برفع الموانع المادّيّة والمعنويّة وكشف المغلقات وإزالة الأسداد، ثمّ التقوية والنصر.

فالمغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر من لوازم الفتح وآثاره.

وقد يكون النصر من مقدّمات الفتح في مرتبة الإيجاد لا الإبقاء، كما

ص: 91


1- سورة الفتح: 18.
2- مجمع البحرين: فَتَحَ.
3- سورة الفتح: 1 _ 3.

في:﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ﴾ ((1)).. ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ ((2)).

والفتح في المادّيّات: كما في: ﴿فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ ((3))، ﴿وآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾ ((4)).

وفي المعنويّات: كما في: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ﴾ ((5))، فالمراد مطلق ما يقابل المشهود والحاضر.

والفتح في البلاء والعذاب: كما في: ﴿حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ ((6))، ﴿حَتَّى إِذا جاؤُوها فُتِحَتْ أَبْوابُها وقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ﴾ ((7)).

والفتح في العالم الآخرة: كما في: ﴿وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وفُتِحَتْ أَبْوابُها﴾ ((8))، ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ

ص: 92


1- سورة النصر: 1.
2- سورة الصفّ: 13.
3- سورة القمر: 11.
4- سورة القصص: 76.
5- سورة الأنعام: 59.
6- سورة المؤمنون: 77.
7- سورة الزُّمَر: 71.
8- سورة الزُّمَر: 73.

الْأَبْوابُ﴾ ((1))، يُراد الفتح المناسب بعالم الآخرة، وليس بمادّيّ، ولا بروحانيٍّ صرف.

فظهر أنّ مفهوم الفتح في كلّ موردٍ بحسبه وعلى مقتضاه ...

وأمّا الْفَتَّاحُ: فهو من الأسماء الحسنى للَّه (عزوجل)، وهو الفتّاح المطلَق، وبيده أسباب الفتح قاطبة، وهو القادر العالم، يفتح أيّ مغلقةٍ في أيّ موضوعٍ وفي أيّ مرحلةٍ وفي أيّ عالم، مادّيّ، جسمانيّ، روحانيّ،ظاهريّ، باطنيّ، محسوس، معقول.

﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ ((2)).

ومن مصاديق الفتح: القضاء الحقّ في موردٍ جهل ولبس، وكشف الحقّ إذا خفي واشتبه، وإفاضة علمٍ ومعرفةٍ في مورد احتجاب، ورفع الانغلاق بأيّ صورةٍ وكشفه ((3)).

والفتح: ايجاد الفصل بين شيئين لفائدةٍ تترتّب عليه، كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه، والفتح بين الشيئين ليتميّز كلٌّ منهما عن الآخر بذاته وصفاته وأفعاله ((4)).

ص: 93


1- سورة ص: 50.
2- سورة سبأ: 26.
3- التحقيق في كلمات القرآن الكريم: 9 / 17.
4- تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 375.

* * * * *

هذه هي موارد استعمال لفظ (الفتح) في اللغة، وإن كانت ثمّة موارد أُخرى أعرضنا عن ذِكرها؛ لأنّها بعيدةٌ عن المعنى المقصود في السياق، وهي بالتالي ترجع عاقبةً إلى المعنى الأصليّ للفتح، وهو ما ناقض الإغلاق.

وقد رأينا (الفتح) مستعمَلاً بمعنى القضاء في النصوص الشرعيّة، كما ورد في دعاء أمير المؤمنين يوم صفّين، إذ قال نصر قيس بن الربيع، عن عبد الواحد بن حسّان العجليّ، عمّن حدّثه، عن عليٍّ (علیه السلام) أنّه سمعهيقول يوم صفّين: «اللّهمّ إليك رُفعَت الأبصار، وبُسطَت الأيدي، ونُقلَت الأقدام، ودعت الألسن، وأفضت القلوب، وتُحوكم إليك في الأعمال، فاحكمْ بيننا وبينهم بالحقّ، وأنت خيرُ الفاتحين. اللّهمّ إنّا نشكو إليك غيبةَ نبيّنا، وقلّة عددنا، وكثرة عدوّنا، وتشتّت أهوائنا، وشدّة الزمان، وظهور الفتن، أعِنّا عليهم بفتحٍ تعجّلُه، ونصرٍ تعزُّ به سلطانَ الحقّ وتُظهِرُه» ((1)).

فقوله (علیه السلام): «وتُحوكم إليك في الأعمال، فاحكم بيننا وبينهم بالحقّ، وأنت خيرُ الفاتحين»، يفيد: فاحكم بيننا وبينهم بالحقّ، وأنت خيرُ الحاكمين.

واستُعمل في نفس النصّ بمعنى الظفَر والغلَبة في الحرب، في قوله:

ص: 94


1- وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 231.

«بفتحٍ تعجّلُه، ونصرٍ تعزُّ به سلطانَ الحقّ وتظهرُه».

وكذا ورد في كلام الأشتر يومها، إذ قال: فإنّما أنتم على إحدى الحسنَيَين، إمّا الفتح وإمّا الشهادة ((1)).

وكذا في حديث الإمام الصادق (علیه السلام) وهو يُخبِر عن وقعة أهل وادي اليابس والغلبة الّتي كتبها الله لأمير المؤمنين (علیه السلام) على أعدائه، فقال _ في حديثٍ طويل _ : «ونزل جبرئيل (علیه السلام) فأخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما فتح الله بعليّ (علیه السلام) وجماعة المسلمين، فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر، فحمد اللهوأثنى عليه، وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين، وأعلمهم أنّه لم يُصِبْ منهم إلّا رجلين، ونزل» ((2)).

ووردَت بمعنى الظفَر والغلبة والنصر أيضاً في (تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام))، قال: «يستفتحون: يسألون الله الفتح والظفَر على الّذين كفروا من أعدائهم والمناوين لهم، فكان الله يفتح لهم وينصرهم» ((3)).

ورُوي عن بسطام، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: قال له رجل: جُعلتُ فداك، أيلتزم الرجل أخاه؟ فقال: «نعم، إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم افتتح خيبر أتاه الخبر أنّ جعفراً قد قدم، فقال: واللهِ ما أدري بأيّهما أنا أشدُّ

ص: 95


1- وقعة صفّين لنصر بن مزاحم: 239.
2- تفسير القمّيّ: 2 / 437.
3- تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام): 393.

سروراً، أبقدوم جعفر، أو بفتح خيبر؟» ((1)).

ووردَت بمعنى الفتح الأعظم والنصر الأكبر الّذي ادّخره الله للقائم من آل محمّد (صلی الله علیه و آله)، فقد جاء في تفسير قوله (تعالى): ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ ((2))، يعني في الدنيا بفتح القائم ((3)).

ورُوي مُسنداً عن أبي بصيرٍ قال: سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «إنّ سنن الأنبياء (علیهم السلام) بما وقع بهم من الغَيبات حادثةٌ في القائم منّا أهلَ البيت، حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة». قال أبو بصير: فقلت: يا ابن رسول الله، ومَن القائم منكم أهل البيت؟ فقال: «يا أبا بصير، هو الخامس مِن وُلد ابنيموسى، ذلك ابنُ سيّدة الإماء، يغيب غَيبةً يرتاب فيها المبطلون، ثمّ يُظهره الله (عزوجل)، فيفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، وينزل روحُ الله عيسى ابنُ مريم (علیه السلام) فيصلّي خلفه، وتُشرق الأرضُ بنور ربّها، ولا تبقى في الأرض بقعةٌ عُبد فيها غيرُ الله (عزوجل) إلّا عُبد الله فيها، ويكون الدين كلّه لله ولو كره المشركون» ((4)).

ورُوي مسنداً عن ابن درّاج قال: سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول في

ص: 96


1- تهذيب الأحكام للطوسيّ: 3 / 186.
2- سورة الصفّ: 13.
3- تفسير القمّيّ: 2 / 366.
4- كمال الدين للصدوق: 2 / 345.

قول الله (عزوجل): ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ ((1))، قال: «يوم الفتح: يوم تُفتَح الدنيا على القائم، لا ينفع أحداً تقرّب بالإيمان ما لم يكن قبل ذلك مؤمناً وبهذا الفتح موقناً، فذلك الّذي ينفعه إيمانه، ويعظم عند الله قدرُه وشأنه، وتُزخرف له يوم البعث جنانُه، وتُحجَب عنه فيه نيرانُه، وهذا أجر الموالين لأمير المؤمنين ولذرّيّته الطيّبين (صلوات الله عليهم أجمعين)» ((2)).

وورد في حديثٍ: «فيفتح اللهُ له شرقَ الأرض وغربها» ((3)).

وفي (إلزام الناصب):

الفتح: عن تفسير عليّ بن إبراهيم في تفسير: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾، أنّ المراد بالفتح هو فتح قائم آلمحمّد (صلی الله علیه و آله) .

وعن كتاب (تنزيل وتحريف) لأحمد بن محمّد السيّاريّ، في آية ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ والفَتْح﴾، أنّ المراد بالفتح فتحُ قائم آل محمّد ((4)).

والظاهر من جميع هذه الاستعمالات الّتي ذكرها اللغويّون، والّتي

ص: 97


1- سورة السجدة: 29.
2- تأويل الآيات الظاهرة للأستراباديّ: 438.
3- بحار الأنوار: 52 / 390.
4- إلزام الناصب: 1 / 430.

وردَت في جملة النصوص الشرعيّة، أنّ للفتح معنىً محدَّداً واضحاً لا غبار عليه، ولا يقبل التلاعب به، ويمنع من إضافة خصوصيّاتٍ ومداليل وحشرها تحت اللفظ، سواءً ساعدَت عليه اللغة أَم أبت ذلك.

فإذا أردنا التوسّع في الاستعمال، فلا مناص من التقيّد بالأصل اللُّغويّ للمفردة، فلا يمكن أن يُستعمَل اللفظ في ما هو أخصّ من الوضع أو أعمّ منه، إلّا إذا نُصبَت قرينةٌ صارفةٌ تفيد ذلك، أمّا الإطلاق فلا يعدو الأصل اللغويّ بحال، ولا يصحّ مثل ذلك الاستعمال الاختراعيّ التبرّعيّ.

فلو قيل مثلاً: إنّ الفتح هو الظفَر بالشيء، أو الظفر والغلبة على بلدٍ ما أو في معركةٍ ما، فهو صحيحٌ تساعد عليه اللغة، وإذا أردنا التوسّع فجعلنا الفتح هو ما يفتح الله به من الرزق والفوز بالمكرمات والنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، فهو ممكنٌ أيضاً، لأنّ موارد استعمال هذه المفردةتحوم حول هذه المعاني في الجملة إذا لحظنا جميع الموارد المذكورة في كتب اللغة.

أمّا أن يقال مثلاً: إنّ الفتح أخصّ من الغلبة والنصر والظفر، وهو لا يعني إلّا الموقف الّذي يؤدّي إلى آثار ونتائج محمودةٍ مطلوبةٍ في تحقيق الهدف الأسمى، بحيث لا يكون النصر والغلبة في الميدان فتحاً ما لم يحقّق تلك الأهداف ويثمر تلك النتائج، إذ أنّ هذه الغلبة لا تكون فتحاً، ولا يكون المشارك في تحقيق تلك الغلبة فاتحاً، فهو خروجٌ عن معاجم اللغة

ص: 98

وموارد الاستعمال، وتحميلٌ واضحٌ فاضحٌ تأباه اللغة، ويستعصي على القائل حشد الشواهد على مراده من موارد الاستعمال!

أجل، يمكن أن يوسّع المعنى بما يناسب الأصل اللغويّ، كأن يُطلِق على الفوز بالموقف النبيل والمشهد الجليل فتحاً، أو يختار المؤمن ما يرتقي به إلى حُسن العاقبة والظفر بالجنّة ويُساق إليها فتُفتَّح له أبوابها، وهكذا.. فإنّها تدخل بنحوٍ ما تحت عنوان الفتح والظفر والرزق، وما ساوقها من المعاني بما فيها الشهادة في سبيل الله وفي رضى الإمام الحقّ، فإنّها ظفرٌ وفتحٌ لأبواب الخير في الدنيا والآخرة له ولأهله وقومه وأُمّته ودِينه، من دون تحجيمٍ للمعنى في حصّةٍ خاصّةٍ من حصص الشهادة والقتل في سبيل الله.

الإنارة الثانية: مَن هو الشهيد الفاتح؟!
اشارة

يمكن أن يُفهم (الشهيد الفاتح) و(الشهادة الفاتحة) بمعنيَين:

المعنى الأوّل: المعنى الملائم للُّغة

إذا فهمنا الفتح بمعنى فتحٍ مقابل إغلاق، وبمعنى الظفر والغلبة والاستيلاء، سواءً أكان مادّيّاً، كالظفر والغلبة والاستيلاء على بلدٍ ما، أو دفع العدوّ عنه ومنعه من الاستيلاء عليها والغلبة عليها بالقهر والقوّة، أو دفع العدوّ ومنعه من الوصول إلى الرمز وقتله، كدفاع أمير المؤمنين (علیه السلام) عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم أُحُد، أم معنويّاً، من قبيل الظفر بالعاقبة

ص: 99

الحسنة والجنّة، ومحو الذنوب والمغفرة، ورضى الله ورضى الإمام المعصوم (علیه السلام)، وغيرها، والفوز بذلك جميعاً..

فحينئذٍ سيكون كلّ شهيدٍ في طريق الحقّ وعلى الصراط المستقيم هو فاتح، وتكون شهادته فتحاً، إن فتحاً خاصّاً أو فتحاً عامّاً.

فشهداء بدر _ مثلاً _ شهداء فاتحون على المستويَين الفرديّ والعامّ، إذ أنّهم منعوا العدوّ من اقتناص فرصة قتل النبيّ (صلی الله علیه و آله) في تلك المعركة، ودافعوا عن المدينة المنوّرة وأهلها، ومنعوا العدوّ من الاستيلاء عليها والغلبة عليها بالقهر والقوّة.

وكذا الحكم في جميع المعارك الّتي جرت أيّام رسول الله (صلی الله علیه و آله)،فإنّها جميعاً كانت دفاعيّةً صدّت العدوّ عن قتل الحقّ ورجاله، وأبعدَتهم عن ديار الحقّ وأهله، وهي جميعاً أهدافٌ حاسمةٌ ومؤثّرةٌ في حاضر الدعوة ومستقبلها، وقد تحقّق فيها الفتح بهذا المعنى، ولم تكن معِدّةً ومهيِّئةً على نحو المقدّمة لفتحٍ آخَر، كما سيأتي بيانٌ أوضح لذلك بعد قليل..

كما أنّهم _ أي شهداء بدر، وغيرهم _ قد حقّقوا الأهداف الشخصيّة المقدّسة من الفوز بالكرامة والجنّة والرضوان والسعادة بالفداء من أجل بقاء مَن هو أهمّ وأشرف وأعظم منهم، وسعدوا بالدفاع عن الأهل والعيال والنساء والأعراض والأموال، وغيرها من المقاصد على اختلاف رتبها من دنيويّةٍ مشروعةٍ إلى أُخرويّةٍ تتسامى، حتّى تبلغ الظفر برضى الإمام المعصوم (علیه السلام) ورضوان الله (تعالى)، والاستيلاء على مقاعد

ص: 100

الصدق عند المليك المقتدر وفتح الجنان والمنازل الّتي أعدّها الله الغفور المنّان.

فكلّ شهيدٍ قُتل في سبيل الله مخلصاً شهادته فتح، وهو فاتح، والفرق في سعة الفتح وضيقه وعمومه وخصوصه.

أوَليس الفوز العظيم فتح؟! وقد قال الله (تعالى): ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ والْإِنْجيلِ والْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَاللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ * التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ والْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ الْمُؤْمِنين﴾ ((1)).

إلى أن يقول (عزوجل): ﴿ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدينَةِ ومَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصيبُهُمْ ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سَبيلِ اللَّهِ ولا يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغيظُ الْكُفَّارَ ولا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنينَ﴾ ((2)).

ص: 101


1- سورة التوبة: 111 و112.
2- سورة التوبة: 120.

وقد نصّت الآية الأخيرة أنّ الدفاع عن شخص النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومنع التخلّف عنه أمرٌ إلهيٌّ منصوص، ولا شكّ أنّ تحقيقه فتحٌ عظيم.

أوَلا يدخل في معنى الفتح ومصاديقه قوله (تعالى): ﴿أُذِنَ لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَديرٌ * الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ولَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَساجِدُ يُذْكَرُ فيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثيراً ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ﴾ ((1)).

وكذا قوله (تعالى): ﴿وَالَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وآمَنُوا بِما نُزِّلَعَلى مُحَمَّدٍ وهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وأَصْلَحَ بالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وأَنَّ الَّذينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ * فَإِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ والَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ * سَيَهْديهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ * يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ * والَّذينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ

ص: 102


1- سورة الحجّ: 39 و40.

فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ﴾ ((1)).

وقوله (تعالى): ﴿يُريدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ودينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَليمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ * وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَريبٌ وبَشِّرِالْمُؤْمِنينَ * يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصاري إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَني إِسْرائيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرين﴾ ((2)).

والآيات في هذا المعنى كثيرة..

أوَليس الظفر بأيّ وعدٍ من وعود الله _ الّذي لا يُخلِف الميعاد _ الوارد في هذه الآيات المباركة يُعدّ فتحاً، فرديّاً كان أم عامّاً؟

المعنى الثاني: إرادة معنىً خاصّ
اشارة

يمكن توضيح المراد من هذا المعنى الخاصّ المزعوم في المقام من

ص: 103


1- سورة محمّد (صلی الله علیه و آله): 2 _ 9.
2- سورة الصفّ: 8 _ 14.

خلال المتابعات التالية:

المتابعة الأُولى: المراد بالمعنى الخاصّ!

قد يُزعَم أنّ المراد بالفتح معنىً أخصّ ممّا ذُكر في كتب اللغة وموارد الاستعمال المأثورة المعروفة، بأن يُعنى بالفتح:

نوعاً من الغلبة يُثمِر تغييراً حاسماً ومنعطَفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح ... فكلّ فاتحٍ غالب، وليس كلُّ غالبٍ فاتحاً ((1)).فإنّ هذا المعنى الأخصّ لا شاهد عليه ولا دليل من اللغة، ولا من الاستعمالات الشرعيّة، ومتى ما استُعمل لفظ (الفتح) أُخذ بنظر الاعتبار النصر والغلبة والقضاء والفصل، وغيرها من المعاني المذكورة للفتح في كتب اللغة، حتّى في مِثل صلح الحديبيّة إنّما سمّاه البعض _ كقولٍ بين الأقوال الأُخرى _ فتحاً؛ لأنّه كان غلبةً ونصراً على العدوّ من دون قتالٍ أدّى إلى فتح مكّة، وهكذا كان يُفهَم من معنى الفتح إذا أُطلِق _ وفق قولٍ من الأقوال _.

فاستُعمل الفتح في صلح الحديبيّة بمعنى الغلبة والنصر أيضاً، إذ أنّ النصر والغلبة قد تتحقّق بالقتال، وقد تتحقّق بالمفاوضات والصلح بعد إرعاب العدوّ وإخافته، وقد ورد هذا المعنى في الأخبار كثيراً، منها ما

ص: 104


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 1 / 142.

أخرجه العلّامة الطباطبائيّ في كتابه (الميزان)، قال:

وفي (الدرّ المنثور): أخرج البيهقيّ، عن عروة قال:

أقبل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من الحديبيّة راجعاً، فقال رجلٌ من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله): واللهِ ما هذا بفتح، لقد صُددنا عن البيت وصُدّ هديُنا، وعكف رسول الله بالحديبيّة وردّ رجلين من المسلمين خرجا.

فبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قول رجالٍ من أصحابه: إنّ هذا ليس بفتح، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «بئس الكلام! هذا أعظم الفتح؛ لقد رضيَ المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم،ويسألوكم القضيّة، ويرغبون إليكم في الإياب، وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم، وردّكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح. أنسيتم يوم أُحُد إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أُخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغَت القلوبُ الحناجر، وتظنّون بالله الظنونا؟».

قال المسلمون: صدق الله ورسوله، هو أعظم الفتوح، واللهِ يا نبيَّ الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه، ولَأنت أعلم بالله وبالأُمور منّا.

فأنزل الله سورة الفتح ((1)).

ص: 105


1- تفسير الميزان للطباطبائيّ: 18 / 270.

ويبدو واضحاً من فهم هؤلاء لمعنى الفتح، والجواب الّذي أجابهم النبيّ (صلی الله علیه و آله)، إذ أبان لهم أنّه حقّق لهم نصراً وأظفرهم الله على عدوّهم دون قتال.

لكن بغضّ النظر عن فقدان الدليل والشاهد على تخصيص معنى الفتح بمعنىً خاصٍّ مرادٍ دون غيره، وإن كان ذلك، فهو معنىً بين المعاني ومصداقٌ بين المصاديق يحتاج إلى قرائن داخليّةٍ أو خارجيّةٍصارفةٍ للدلالة عليه وإرادته في موردٍ دون غيره.

أمّا أن ينحصر معنى الفتح بمعنىً دون غيره، فهذا تحميلٌ مُجحفٌ تأباه اللغة، وتتمنّع عليه موارد الاستعمال، وترفضه الشواهد رفضاً باتّاً.

سيّما أنّ مَن ذكر هذا المعنى الخاصّ قد ذكره على نحو الاحتمال، فقال:

غير أنّ (الفتح) أخصُّ من الغلَبة، إذ كم مِن غلبةٍ لم تُثمِر فتحاً، هذا إذا عنينا بالفتح نوعاً من الغلبة يُثمِر تغييراً حاسماً ومنعطَفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح ((1)).

وهو وضعٌ جديدٌ خارجٌ عن دائرة اللغة، وإنّما هو معنىً قد نكون عنيناه!

فكيف يمكن والحال هذه أن يُبنى عليه تفسير أعظم حدَثٍ كونيّ

ص: 106


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 142.

على الإطلاق، تكشّف عن وقوع أعظم جنايةٍ في تاريخ البشريّة، ووقوع أعظم مصيبةٍ على الإطلاق في مسيرة الإنسان منذ أن هبط إلى الأرض إلى قيام يوم الدين؟!

المتابعة الثانية: التغيير بغضّ النظر عن القتل

إن كان المراد من الفتح «هو نوعاً من الغلَبة يُثمِر تغييراً حاسماًومنعطفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح»، سواءً لزم القتل والقتال أم لا، فحينئذٍ ستكون جميع مواقف الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) الّتي صاحبَت إظهار المُعجِز فتحاً، إذ ينحسر الأعداء أمام المعجِز ويندحرون وينكسرون، ويُثمِر المعجز غلبةً تُثمِر تغييراً حاسماً ومنعطفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح، وخُذ على ذلك مثلاً ما ذكره القرآن من معاجز موسى وعيسى (علیهما السلام)، فضلاً عن معاجز خاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) ومعاجز سيّد الأوصياء (علیه السلام) وأبنائه المعصومين النجباء (علیهم السلام) .

بل متى أفلجَت حُجّةٌ على حجّةٍ فإنّها نوعٌ من أنواع الفتح والغلبة، سيّما إذا كان الفلج في موقفٍ خاصّ، كما ذكر القرآن في محاججات إبراهيم (علیه السلام) قومه في واقعة تحطيم الأصنام، وقوله: «سلوهم إن كانوا ينطقون»، ومحاججته الّذي كفر إذ قال: ﴿فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ

ص: 107

الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر﴾ ((1))، وهكذا في غيرها من الموارد..

المتابعة الثالثة: أن يكون قتلاً يترتّب عليه نوعٌ من الغلَبة

لنفترض فرضاً آخر، وهو أن يكون قتلاً «يترتّب عليه نوعٌ من الغلَبة ويُثمِر تغييراً وتحوّلاً حاسماً ومنعطفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح»، فإنّالقتل مطلَق القتل، أو القتل في ميدان المعركة قد يكون قتلاً لعدوّ الله، وتترتّب عليه هذه الغلبة والثمرة، كما حصل في قتل داوود جالوت في القصص القرآنيّ: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ

ص: 108


1- سورة البقرة: 258.

كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍلَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ((1)).

وكما حصل في قتل عمرو بن ودّ الّذي كان يمثّل الشرك كلّه، والّذي أدّى قتله إلى اندحار الكفّار والأحزاب، إذ كان الإيمانُ كلُّه والشركُ كلُّه متقابلَين، وبعد أن قُتل الشركُ كلُّه أثمر هذا القتل _ بغضّ النظر عن القاتل _ فتحاً من أعظم الفتوح في تاريخ الإسلام.

المتابعة الرابعة: أن تكون شهادةً في الحقّ والمقتول مظلوماً
اشارة

إذا كان المقصود الشهادة، وأن يكون المقتول مظلوماً، فإنّنا إن بحثنا عن موارد وأمثلةٍ وعيّناتٍ ونماذج لمثل هذا القتل الّذي يكون فيه الفتح، نجده كثيراً في التاريخ منذ أن هبط آدم (علیه السلام) إلى الأرض إلى قيام الوليّ الخاتم والفاتح الأعظم صاحب الأمر والزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

ص: 109


1- سورة البقرة: 247 _ 252.
النموذج الأوّل: هابيل

هذا هابيل (علیه السلام) كان قتله فتحاً عظيماً كما حدّث القرآن الكريم، فقال الله (تعالى): ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ * إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ((1)).

فلولا هذا القتل العدوانيّ وشهادة هابيل، لَكان الكثير ممّا ذكرته

ص: 110


1- سورة المائدة: 27 _ 34.

الآيات كنتائج وآثار له بقيَت في طيّ الكتمان، ولحُرم منها بنو آدم والبشريّة جمعاء، من قبيل تعليم الإنسان دفن الإنسان، وسنّ قانون القصاص، وبيان الحسد وآثاره، وطريقة التقرّب إلى الله، وغيرها منالآثار الحاسمة المهمّة المترتّبة على هذا القتل.

وربّما يُقال: إنّ هذه الآثار الحاسمة لم تكن مقصودةً لهابيل، فلا يصدق عليها أنّها أثارٌ حاسمةٌ للفاتِح.

أجل، بَيد أنّه كان قد اختار الشهادة اختياراً: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، وكان يقصد من هذا الاختيار هدفاً خاصّاً قد تحقّق بالفعل: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾.

النموذج الثاني: شهادة يحيى (علیه السلام)

وفي شهادة يحيى (علیه السلام) مثَلٌ آخَر أقرب، إذ أنّه كان دعوة أبيه لتكون له أُسوةٌ بالحسين (علیه السلام)، كما ورد في الحديث الشريف..

قتل يحيى الّذي طالما تمثّل به سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَثّل به شهادته، ولو لم يكن فيه من الفتح إلّا أنّ يكون قتله مثلاً لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وبراءته وهجوم العدوّ عليه، وغيرها من المقاصد الّتي أتينا على ذِكرها مفصّلاً بذكر المصادر فيما سبق، لَكان كافياً ليكون نموذجاً ومثالاً

ص: 111

صارخاً لكون شهادته عين (الفتح)!

وليس بالضرورة أن يكون الفتح سريعاً عاجلاً، فإنّه فتح الفتوح وإن تأخّر، إذ صار شاخصاً مائزاً عظيماً على بيان مظلوميّة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام)، ومعلَماً لكلّ مَن أراد أن يفهم ما جرى علىالإمام الحسين (علیه السلام) .

ولا نريد إطالة المقام بذكر الشواهد والأمثلة لذلك، ونكتفي هنا بذكر بعض الأمثلة من تاريخ الإسلام، على نحو المثال لا الاستقصاء.

النموذج الثالث: مبيت أمير المؤمنين (علیه السلام)

فإنّ مبيت أمير المؤمنين (علیه السلام) في فراش النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وإلقاء نفسه القدسيّة في لهوات الموت، وطرحها لقمةً سائغةً لسيوف القوم في تلك الليلة العصيبة، يُعدّ مِن أعظم مصاديق الفتح بهذا المعنى، إذ أنّ قتله كان وارداً على نحوٍ لا يقبل الترديد، وأنّه (علیه السلام) شرى نفسه تلك الليلة لله ابتغاء مرضاته، وقد عامله الله (عزوجل) معاملة مَن باع نفسه له، وقَبِل هو (سبحانه) البيع، وتمّت الصفقة، فهو في عِداد المقتولين.

وقد رضيَ الإمام (علیه السلام) بالقتل لِيسلم النبيّ (صلی الله علیه و آله)، لولا أن شاء الله له السلامة والنجاة من سيوف الكفّار، فهو قتلٌ كاد أن يتحقّق، وكان في هذا القتل نفسه نموذجٌ لشهادةٍ هي عين (الفتح)!

ص: 112

النموذج الرابع: شهداء بدر

شهداء بدر (رضی الله عنهم)، فإنّهم شهداء فاتحون، قد حقّقوا الفتح بشهادتهم، إذ أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) دعا ذلك اليوم وخاطب ربّه قائلاً بعد رفعيده إلى السماء: «يا ربّ، إن تُهلِك هذه العصابة لم تُعبَد، وإن شئتَ أن لا تُعبَد لا تُعبَد» ((1)).

وفي (المناقب) لابن شهرآشوب:

وقال النبيّ (صلی الله علیه و آله) في العريش: «اللّهمّ إنّك إنْ تُهلِك هذه العصابة اليوم لا تُعبَد بعد اليوم» ((2)).

وكان نجاة العصابة وعدم هلاكها يتوقّف على قتل جماعةٍ منهم في الدفاع عن الجميع، فلو لم يقف أُولئك الأبطال ذلك الموقف المشرّف حتّى نيل درجات الشهادة الرفيعة، لَهلكَت تلك العصابة، ولم يكن الله ليُعبَد في الأرض.

هذا بالإضافة إلى الآثار العظيمة الّتي لا تكاد تُحصى، الّتي ترتّبَت على شهادة أُولئك الروّاد الأوائل الّذين أضحوا مقياساً لكلّ شهيدٍ قُتل في سبيل الله، فيُقال: مضى على ما مضى عليه البدريّون..

ص: 113


1- تفسير القمّيّ: 1 / 266. ولا يكاد مصدرٌ من مصادر المسلمين القديمة يخلو من ذكر هذا الدعاء.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 1 / 163.

فقد تركّزت قوّة المسلمين في أذهان الكفّار، وعرف الأعداء ما بين جوانح المؤمنين من ثباتٍ وعزيمةٍ ورسوخٍ واعتقادٍ متمكّنٍ في الأعماق بالله والمعاد والمسارعة إلى الجنان، فكلّ شهيدٍ من شهداء بدر أثبت بشهادته ما لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ودِينه في قلوب أتباعه، وأنّهم أصبحوا قوّةًيمكنها أن تكتسح العدوّ في أيّ لحظة، وأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) صاحب الدعوة الّتي حاربوا أتباعها كمستضعفين قد أصبح في عدّةٍ وعدد، وغيرها من عشرات الفوائد العظيمة والثمرات الحاسمة الفاصلة الّتي ميّزَت بين فترتين من فترات التاريخ الإسلاميّ، وقد كُتب في ذلك الكتب والمؤلّفات، واستعرضها المفسّرون والمؤرّخون بما لا يحتاج إلى مزيد بيان.

وكذا ورد هذا الدعاء في حرب الخندق، إذ قال النبيّ (صلی الله علیه و آله): «اللّهمّ إنْ تُهلِك هذه العصابة لم تُعبَد بعدها في الأرض» ((1)).

وكذا أصحاب أُحُدٍ وخَيبر، الّذين دعا فيهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) كما دعا لأصحاب بدر.

النموذج الخامس: شابٌّ في معركة الجَمَل

في الشابّ الّذي خرج بين الصفَّين في معركة الجمَل نموذجٌ آخَر..

فقد ورد في كتب الرواية والتاريخ:

ص: 114


1- الخرائج والجرائح للراونديّ: 1 / 156.

إنّ أمير المؤمنين عليّاً (علیه السلام) دعا مَن يأخذ المصحف، فيدعو أتباعَ الجمَل على أن يضمن له على الله الجنّة، فقام إليه شابٌّ عليه قباءٌ أبيض حدَث السنّ، يُقال له: مسلم، فأعرض عنهالإمام (علیه السلام) إشفاقاً مرّتين، وهو يقول: أنا أعرضه _ يا أمير المؤمنين _ عليهم، وقد احتسبتُ نفسي عند الله. والإمام (علیه السلام) يؤكّد له مرّةً بعد مرّةٍ أنّه مقتول، وهو يقبل، ثمّ خوّفه بقطع يمينه وشماله وقتله، فقال: لا عليك يا أمير المؤمنين، فهذا قليلٌ في ذات الله.

فدفع المصحف إليه وقال: «امضِ إليهم، واعرضْه عليهم، وادعُهُم إلى ما فيه».

فأخذه، فأقبل الغلام حتّى وقف بإزاء الصفوف، ونشر المصحف ودعاهم إلى الله، وقال: هذا كتاب الله، وأميرُ المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه. فقُطعَت يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى، فقُطعَت، فأخذه بأسنانه.

فقالت عائشة: اشجروه بالرماح، فقبّحه الله. فتبادروا إليه بالرماح، فطعنوه من كلّ جانب، وتقدّم إليه رجلٌ فضربه على عاتقه بالسيف فقتله.

وكانت أُمُّه حاضرة، فصاحت وطرحَت نفسها عليه، وجرّته من موضعه، ولحقها جماعةٌ من عسكر أمير المؤمنين (علیه السلام) أعانوها على حمله، حتّى طرحَته بين يدَي أمير المؤمنين (علیه السلام)،

ص: 115

وهي تبكي وتقول:يا ربِّ، إنّ مسلماً دعاهم

يتلو كتابَ الله،

لا يخشاهم

فخضّبوا مِن دمه قناهم

وأُمُّهم قائمةٌ

تراهم

تأمرهم بالقتل لا تنهاهم

فزمّلوه،

زُمِّلَت لحاهم ((1))

إنّ هذا الفتى الشجاع المتفاني في أمير المؤمنين (علیه السلام)، المؤمن حقّاً بوعده، قد استقبل الموت استقبالاً، واختار الشهادة اختياراً، وهو يعلم علم اليقين أنّه مقتول، وبهذه الصورة المفجِعة، وأُمّه قائمة تنظر إليه، غير أنّه علم أنّ في نفس قتله وشهادته ظفراً وفتحاً، وليفترضه المفترض كما يشاء، مِن قبيل إتمام الحجّة، وفضح العدوّ وجرأته على الله وعلى كتابه وعلى الدماء المحرّمة، أو أيّ ثمرةٍ وهدفٍ يمكن أن يُفترض في مثل هذا الموقف..

إنّه علم أنّه مقتولٌ شهيدٌ لا محالة، وعلم أيضاً أنّ في نفس قتله وشهادته مصلحةً وثمرةً وفائدةً وحسماً وأثراً بالغاً، فكانت شهادته هي عين (الفتح)!

ص: 116


1- أُنظر: أنساب الأشراف للبلاذريّ: 2 / 240، تاريخ الطبريّ: 3 / 522، مروج الذهب للمسعوديّ: 2 / 361، الجَمَل للشيخ المفيد: 181، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 2 / 341، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 261، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 9 / 112.
النموذج السادس: شهادة عمّار (رضی الله عنه) في صفّين

مثالٌ آخَر واضحٌ جدّاً، يكاد يكون أبرز مثالٍ على (الشهادة الّتي هي عين الفتح)، وإذا كانت الأمثلة المذكورة آنفاً كلّها قابلةً للنقاش، فإنّهذا المثال لا تقاربه مناقشة، ولا يعتريه تشكيك..

وهي: شهادة عمّار بن ياسر!

لقد تظافر الجميع على رواية قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) في عمّار، وأنّه لا يفارق الحقّ، وأنّ النار لا تأكله، وأنّه جلدة بين عينيه (صلی الله علیه و آله)، وأنّ آخر شرابه من الدنيا ضياحٌ من لبن، وأنّه تقتله الفئة الباغية ((1))..

وكان عمّار يوم صفّين قد جاوز التسعين من عمره..

وكان بعض مَن خرج إلى صفّين يقف على الحياد، وبعضهم يمتّنع عن الصلاة خلف إمام، متزلزلاً ينتظر أن يتبيّن له الحقّ..

وكان عمّار يدعو ويقول عند توجّهه إلى صفّين:

اللّهمّ لو أعلم أنّه أرضى لك أن أرمي بنفسي من فوق هذا الجبل لَرميتُ بها، ولو أعلم أنّه أرضى لك أن أُوقد لنفسي ناراً فأُوقع فيها لَفعلت، وإنّي لا أُقاتل أهلَ الشام إلّا وأنا أُريد بذلك

ص: 117


1- أُنظر: مناقب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمحمّد بن سليمان الكوفيّ: 2 / 351، المسترشد للطبريّ الإماميّ: 658، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 1 / 410، الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسيّ: 105، كنز العمّال للهنديّ: 13 / 160.

وجهك، وأنا أرجو أن لا تخيّبني، وأنا أُريد وجهك الكريم ((1)).

وقال يوم قُتل في صفّين: ائتوني بشربة لبن. فأُتي فشرب، ثمّ قال:إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «إنّ آخر شربةٍ تشربها من الدنيا شربة لبن».

ثمّ تقدّم، فقُتِل، فلمّا قُتل أخذ خزيمة بن ثابت بسيفه فقاتل، وقال: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «يقتل عماراً الفئة الباغية، وقاتله في النار» ((2)).

ورُوي في حديثٍ عن الباقر (علیه السلام)، قال:

قلت: وما علمُه أنّه يُقتَل في ذلك اليوم؟

قال: «إنّه لمّا رأى الحرب لا يزداد إلّا شدّة، والقتلَ لا يزداد إلّا كثرة، ترك الصفّ وجاء إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، هو هو؟ قال: ارجعْ إلى صفّك. فقال له ذلك ثلاث مرّات، كلّ ذلك يقول له: ارجعْ إلى صفّك، فلمّا أن كان في الثالثة قال له: نعم، فرجع إلى صفّه، وهو يقول:

اَليومَ ألقى الأحبّة

محمّداً وحزبَه» ((3))

ص: 118


1- بحار الأنوار للمجلسيّ: 33 / 9.
2- بحار الأنوار للمجلسيّ: 33 / 10.
3- بحار الأنوار للمجلسيّ: 33 / 11 ح 371 _ عن: رجال الكشّيّ.

فهو في كلّ ذلك كان يذكّر الناس بما قاله النبيّ (صلی الله علیه و آله) رغم اشتهاره بينهم، ويهيّأ الظروف والأجواء ليفتح بشهادته فتحاً عظيماً نادراً..فما عسى أن يُقتَل عجوزٌ في التسعين من الأعداء، ويبيد من تلك الجيوش الجرّارة الّتي زحف بها معاوية إلى صفّين؟!

إنّه كان يعلم علم اليقين أنّه إن قُتل فتح على القوم في كِلا الطرفَين، وصدّق بشهادته قولَ الصادق الأمين (صلی الله علیه و آله)، وشهد للحقّ ولأمير الحقّ (علیه السلام) بشهادته: أنّ الفئة الباغية إنّما هي فئة معاوية..

وبالفعل، فقد أحدثت شهادتُه هزّة، وفتحَت فتحاً، فقد ورد في حديثٍ طويلٍ عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال:

«لمّا قُتِل عمّار بن ياسر (رحمة الله) فارتعدَت فرائص خلقٍ كثير، وقالوا: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): عمّار تقتله الفئة الباغية.

فدخل عمرو على معاوية [لعنه الله] وقال: يا أمير المؤمنين! قد هاج الناس واضطربوا. قال: لماذا؟ قال: قُتِل عمار.

فقال معاوية [لعنه الله]: قُتِل عمار، فماذا؟ قال: أليس قد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): عمّار تقتله الفئة الباغية!» ((1)).

ورُوي مُسنَداً عن أبي عبد الرحمان السلَميّ، قال:

شهد عمّار صفّين، وأن لا يأخذ وادياً إلّا وأصحاب محمّد

ص: 119


1- معاني الأخبار للصدوق: 35 _ باب معنى الصراط، الاحتجاج للطبرسيّ: 1 / 268.

(صلوات الله عليه وآله) يتبعونه، كأنّه لهم علم، وذلك لِما سمعوا من رسول الله (صلوات الله عليه وآله) أنّه تقتله الفئةالباغية.

وكان معاوية وأصحابه يأثرون ذلك، ويقولون: معنا يُقتَل عمّار، وسوف يسير إلينا.

فلمّا قتلوه مع عليّ (صلوات الله عليه) أُسقِط في أيديهم ... ((1)).

أوَليس هذه الشهادة هي (عين الفتح) كما يشرحون؟! إذ كانت المصلحة في نفس قتل عمّار وشهادته الّتي اختارها اختياراً، سواءً أكان غالباً أم مغلوباً، وأنّ عماراً كان يعلم أنّ ثمّة مصلحةً مترتّبةً على نفس شهادته.

هذا كلّه على فرض قبول حصر معنى (الفتح) بمعنىً خاصّ، بغضّ النظر عن المناقشات الماضية، وعلى فرض مساعدة اللغة والاستعمالات عليه.

والأمثلة في ذلك كثيرة، ويكفينا في المقام صدق مثالٍ واحدٍ فقط وقبوله؛ ليتبيّن أنّ ثمّة مَن يمكن إطلاق اسم (الشهيد الفاتح) عليه قبل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام)، وإن كان لنا في كلّ ذلك كلامٌ لا نريد الدخول فيه ومعالجة جميع الأمثلة الّتي ذكرناها؛ تجنّباً للإطالة، ولما

ص: 120


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 1 / 408.

سيأتي إن شاء من خلال البحث.

المتابعة الخامسة: أقسام المُقاتِل في القرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم قسّم المقاتلين إلى قسمين، فقال:

﴿فَلْيُقاتِلْ في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ في سَبيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً﴾ ((1)).

فالمقاتِل إمّا أن يكون مقتولاً أو غالباً، والمقتول هو (الشهيد)، والغالب هو (المنتصر) في المعركة الّذي يدحر العدوّ، ولا نعلم قسماً ثالثاً ذكره القرآن أو ذكرته أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) .

والشهيد يجني من قتاله: الشهادة وما يترتّب عليها من أجرٍ عظيمٍ في الدارين، بما في ذلك النتائج المترتّبة على شهادته من حفظ الكيان، سواءً أكان الكيان الاجتماعيّ أو الدينيّ أو الجغرافيّ وغيرها، فهو إن لم يعش ذلك بنفسه، إذ أنّه ينتقل إلى الآخرة، فإنّه يستشعر ذلك قبل أن يُقتَل حين يرى الخطر مهدّداً لهذا الكيان، وأنّه سيحفظه بشهادته.

أمّا الغالب، فإنّه سيُؤتى أجراً عظيماً، ويرى الغلَبة الّتي تحقّقَت بسبب القتال والدفاع.

فالشهادة والغلبة كلاهما ثمرة القتال في سبيل الله.

ص: 121


1- سورة النساء: 74.

والمقاتِل إمّا أن يكون شهيداً أو غالباً، والفتح بالمعنى اللغويّوالاستعماليّ المتوفّر يحصل بعامل القتال، وينتج عن فعل المقاتل بكلا قسمَيه، والتسبيب يعني بالتالي العلّيّة، فإن لم يكن المقاتل الّذي قتل لا يكون الفتح بحال، ولا تكون الغلبة، فهما بالتالي شريكان في تحقيق الغلَبة، وإن كان الغالب هو مَن بقي ولم يمت حتّى تنتهي المعركة، «وإنّما قال: أو يغلب، لأنّ الوعد على القتال حتّى ينتهي إلى تلك الحال» ((1)).

المتابعة السادسة: الفتح أثر

الشهيد مقتولٌ في سبيل الله.. والفتح _ في اللغة _ : هو الغلبة وقهر العدوّ.. فإذا تجاوزنا اللغة ووضعنا معنىً خاصّاً للفتح، وأوجدنا للفتح معنىً استعماليّاً جديداً بغضّ النظر عن اللغة وامتداداتها، وجعلنا ما يترتّب على الشهادة من آثار ونتائج فتحاً، فلا يمكن أن نسمّي هذه الشهادة «مصرع هو عين الانتصار والغلبة» ((2))؛ إذ أنّ المتبادر من الانتصار والغلبة هو الحسم في المعركة، والمقتول لا يمكن أن ينسب إليه الحسم في المعركة، لأنّه حسب الفرض مقتول، و«الشهيد غير الغالب، وإن مهّد الشهداء للنصر بدمائهم الزاكية» ((3)).

ص: 122


1- التبيان للطوسيّ: 3 / 257.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 143.
3- مع الركب الحسينيّ: 1 / 142.

فكيف يكون _ والحال هذه _ مقتولاً شهيداً، وهو في نفس الوقتمنتصراً غالباً؟!

إلّا أن يقال: إنّ المراد بالغلبة هنا ليس الحسم العسكريّ في الميدان، وإنّما ما يلزم من الشهادة من آثار ونتائج وملزومات تترتّب على الشهادة، فحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ كلّ شهيدٍ في سبيل الله فاتحٌ بنحوٍ ما، إذ أنّ شهداء بدر _ مثلاً _ لو تقاعسوا ولم يشروا الله أنفسهم لَما قام للدين من قائمة، وهذا أثرٌ عظيمٌ وفتحٌ جسيم، ولا يمكن أن ندَعَ أيّ دمٍ زاكٍ مقدّسٍ يُراق في سبيل الله دون أثرٍ أو نتيجة.

المتابعة السابعة: المعنى النهائيّ للشهادة الفاتحة!

إذا قلنا:

إنّ الشهيد الفاتح الّذي يريد أن يفتح بشهادته، هو مَن يسعى للفتح من خلال اكتساب الآثار الجِسام، وأخذها بنظر الاعتبار، بحيث يكون الشهيد قاصداً أن يُقتَل، مُقبِلاً على الموت، مُلقِياً نفسه في لهوات المنايا ليقول للسيوف: خُذيني، لأنّه يخطّط لما بعد موته، ويقصد الآثار المترتّبة على هذا القتل، ويريدها وهو يمشي إلى الموت برجله ويُقدِم عليه بملء إرادته، من أجل تحقيق هدفٍ ما..

فإنّ الشهداء جميعاً يُقدِمون إلى ساحة الوغى ويقاتلون من أجل هدف، بَيد أنّهم لا يقصدون الموت، ولا يستهدفون القتل لأنفسهم،

ص: 123

تماماً كما فعل حمزة سيّد الشهداء (علیه السلام) في أُحُد، فإنّه ألقى بنفسه فيلهوات المنيّة للدفاع عن خير البريّة (صلی الله علیه و آله)، غير أنّه لم يقصد أن يُقتَل من أجل أن يُقتَل ليحقّق هذا الهدف، وإنّما قصد الميدان للدفاع عن النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وإن لزم ذلك أن يُقتَل!

هكذا هو المقاتل، إمّا أن يُقتَل أو يغلب.. يُقتل في الميدان.. يقتله العدوّ.. لا أن يقصد العدوّ ليقتله العدوّ، بمعنى أنّه يريد القتل ويعنيه من حيث هو قتلٌ مطلوبٌ له لعلمه أنّ في قتله مصلحة.. إنْ هذا الّا انتحار! ولكنّه منمَّقٌ بعباراتٍ جميلة، وإنشاءٍ مسبوكٍ محبوك، وهو على حدّ تعبير الشيخ شمس الدين _ رحمه الله وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ صريحٌ في كونه عمليّةً انتحاريّةً من أجل الأهداف السامية! قال (رحمة الله):

ممّا اقتضى من الإمام الحسين (علیه السلام)، وقد أدرك هذه الحقيقة المرعية، أن يقوم بثورته! العظيمة والانتحاريّة!!! من أجل أن يفجّر في الأُمّة الإسلاميّة روح الشهادة من جديد ... ((1)).

فالشهيد الفاتح _ في العُمق _ إنّما هو الانتحاريّ! هذا هو المعنى الدقيق، وإن اختلف التعبير، وأُلبس ألوان التزيين.

ولا ندري _ حينئذٍ _ كيف يمكن تصوّر ذلك في سيّد الكائنات

ص: 124


1- أنصار الحسين (علیه السلام) لشمس الدين: 12 _ مقدّمة الطبعة الثانية.

وخامس أصحاب الكساء والإمام المعصوم (علیه السلام) ؟!

ولا ندري ما هو الأعزّ والأهمّ منه (علیه السلام) في عمر الدنيا وكلّ الدهروالتكوين لينتحر (الحسين!! الحسين!! الحسين!!) من أجله!

وينتحر معه أهلُ بيته من آل أبي طالب _ وبقيّة العترة الطاهرة الّذين ليس لهم على وجه الأرض شبيهٌ ونظيرٌ _ من أجله!

وينتحر أنصاره وأصحابه _ الّذين ليس في الوجود أوفى وأبرّ وخير منهم _ من أجله!

ثمّ نضطرّ لتسويغ هذه الصورة المأساويّة، فنسمّيه: «الشهيد الفاتح»!

نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر إلى مليكنا سيّد شباب أهل الجنّة من استعمال هذا المصطلح البائس، بَيد أنّ هذه هي الحقيقة، وهذا هو التعبير الصريح المؤدّي إليه ما يُقال عن قيامه _ فداه العالمين _..

نحسب أنّ مناقشة ذلك ودفعه عن شخص خامس أصحاب الكساء فيه من الجسارة ما لا يسمح لنا أن نخوض فيه.

أيقال عن الإمام الحسين (علیه السلام) أنّه يقوم بعمل انتحاريّ؟!

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

المتابعة الثامنة: امتناع صدق الشهيد الفاتح إلّا على واحد!
اشارة

قد يُقال:

ص: 125

إنّ عنوان الشهادة الّتي هي عين الفتح تحقّقَت لسيّد الشهداء (علیه السلام)، «ثمّ امتنعَت عن سواه إلى قيام الساعة»، وأنّها:

لا تكون لأحدٍ بعد الحسين (علیه السلام) .. لأنّ عاشوراء قد كشفَتعن وحدةٍ وجوديّةٍ لا انفكاك لها بين الإسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام)، فصارت الدعوة إلى هذا الإسلام هي عين الدعوة إلى الحسين (علیه السلام)، وبالعكس، وصارت مواجهة هذا الإسلام ومعاداته هي عين مواجهة الحسين (علیه السلام) ومعاداته، وبالعكس، وصار بقاء هذا الإسلام بعد كربلاء ببقاء عاشوراء الحسين (علیه السلام)، حتّى لقد قيل _ وما أصدقه من قول _ : الإسلام محمّديُّ الوجود حسينيّ البقاء ((1)).

فربّما يُجاب على ذلك:

الجواب الأوّل: وفق إطلاق التعريف

إذا عنينا بالفتح نوعاً من الغلَبة يُثمِر تغييراً وتحوّلاً حاسماً ومنعطفاً رئيساً لصالح أهداف الفاتح ((2)).

من دون ملاحظة أيّ خصوصيّةٍ في الفاتح والأهداف، وإنّما حملناها على مطلق الفاتح ومطلق الأهداف، سواءً أكانت داخل دائرة

ص: 126


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 145.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 142.

الرضى والسخط الإلهيّ أم لم تكن، وسواءً أكانت داخل دائرة الدِّين وأحكامه أم لا.. كما هو ظاهر إطلاق التعريف المذكور.

فإنّ هذا التعريف سينطبق على الكثيرين، وله نماذج وعيّناتٍ تنتشر على عرض الجغرافيا وطول التاريخ، وقد رأينا في عصرنا الحاضر رجلاًيقوم بعمليّةٍ انتحاريّة، فيُحرِق نفسه في ساحةٍ من ساحات البلد، يُعلِن بذلك اعتراضه على الوضع القائم وقوانين الدولة، ممّا أثار الناس أجمعين، فتابعوا الحدَث بأحداث، وتجرّؤوا وتشجّعوا على الوقوف بوجه الطاغية الحاكم، واستمرّوا حتّى أسقطوه وأخرجوه من البلد، وتغيّر النظام الحاكم تغييراً كلّيّاً، وانتشرت جذوات النار الّتي أشعلها في بدنه حتّى شملت الدول المجاورة وغير المجاورة، وألهبَت حماساً أدّى إلى تغيير حكومات، وتبدُّلِ الأوضاع في مناطق شاسعةٍ واسعةٍ وبلدان كثيرة..

وبهذا قد حقّق هذا المنتحِر القاتل نفسه بالنار تغييراً وتحوّلاً حاسماً ومنعطفاً رئيساً لصالح أهدافه!

فهو _ إذن _ فاتحٌ وفق هذا التعريف، فهل هو فاتحٌ حقّاً؟!

الجواب الثاني: النفي رجماً بالغيب!
اشارة

نفي وقوع شيءٍ من أوّل التاريخ ويوم هبوط آدم (علیه السلام) إلى قيام الساعة، يتعلّق بالغيب تماماً، لأنّ الماضي والمستقبل غيبٌ جزماً!

فربّما استطاع الفرد العادي أن ينفي شيئاً في الماضي معتمِداً على

ص: 127

النصوص التاريخيّة، فيتصفّح كتب التاريخ المتوفّرة ثمّ ينفي وقوع شيءٍ بناءً على عدم وجوده فيها..

أمّا نفي وقوع الشيء بالمستقبل وإلى قيام الساعة! فالغيب لا يعلمه إلّا الله ومن ارتضى من خلقه بتخويلٍ منه (تبارك وتعالى)، وهم الأنبياءوالأوصياء المعصومون (علیهم السلام) من بني آدم حصراً، ومَن أطلَعَه الله بواسطة النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو الإمام (علیه السلام) ..

فليس للإنسان العادي أن ينفي وقوع شيءٍ في المستقبل مطلقاً!

أجل، قد يعتمد جملةً من الأدلّة والشواهد وأقوال المعصومين (علیهم السلام)، فيستنتج منها النفي، ربّما يكون نفي القاطع الجازم.

والدليل المذكور هنا دليلٌ مخدوشٌ غير ناهض، بل ربّما يستعصي على مَن أراد إطلاق اسم الدليل والشاهد عليه، ويستعصي الردّ عليه ومناقشته عندئذٍ، ولكن ربّما أمكن إجمال النقاش فيه من خلال الخدوش التالية:

الخدش الأوّل: امتناع نوعٍ خاصٍّ من الفتح

إنّنا قد نفترض _ مسبقاً _ للفتح معنىً واحداً منحصراً لا يمكن أن يكون غيره، لا نرى غيره فتحاً، ولا نقبل غيره بحال، وحينئذٍ ننفي أيّ فرضٍ آخَر سوى الفرض الّذي افترضناه!

بمعنى: أنّنا نفترض في شهادةٍ ما، أن تنتج هذه النتيجة الخاصّة الّتي نحن نحدّدها ونريدها، بشرط أن تُحدِث هذا المنعطَف والتحوّل الّذي

ص: 128

نحن نفترضه، وأن تكون ناتجةً عن «الاتّحاد الوجوديّ بين الإسلامالمحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام) » ((1)) خاصّةً دون غيره، حتّى من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، فإن كانت كذلك فهي شهادةٌ فاتحة، وإن أحدثَت تحوُّلاً ومنعطَفاً مهما كان عظيماً وجليلاً ومؤثّراً، فهي ليست شهادةً فاتحة، لأنّها خارجةٌ عن معنى الفتح الّذي أردناه، وغير منتِجة للتحوّل والمنعطف الّذي نحن رسمناه!

ولو غمضنا النظر عن البشريّة جمعاء، وغمضنا النظر عن جميع الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، وكلّهم قد بذل مهجته في مرضاة الله، أفليس لنا في شهادة فاطمة الزهراء (علیها السلام) مثالاً للشهادة الفاتحة، وقد جعل الله رضاها رضاه وسخطه سخطها؟!

أوَليس قد فضحَت شهادة سيّدة النساء (علیها السلام) القوم وعرّتهم، وألزمتهم العار والشنار إلى يوم القيامة، بحيث لا يجد لهم مَن تأمّل في شهادتها وظليمتها عذراً؟!

ولو أغمضنا النظر عن شهادة سيّدة النساء (علیها السلام)، ألا نجد في شهادة الإمام الحسن العسكريّ (علیه السلام) التحوّلَ الأعظم في حركة المجتمع الإسلاميّ والدعوة المحمّديّة، والمنعطف الأكبر في مسيرة البشريّة،

ص: 129


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 145.

حيث دخلَت مسيرة التوحيد والكيان البشريّ في زمان الغَيبة، وقربالفرج الأعظم، والتحوّل الفريد، والمنعطف الّذي لا يشبهه منعطفٌ في جميع فترات حركة الإنسان؟!

إنّ أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) تعدّ ولادة الإمام صاحب الأمر (علیه السلام) إذناً بقيام دولة الحقّ والعدل، وشهادة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) تعدّ الباب الأوسع للولوج في العالم الجديد الّذي أراده الله للبشريّة!

كيف كان، فإنّ افتراض الفتح هو ما تحقّق من خلال شهادة واحدٍ من الأئمّة (علیهم السلام) في ظرفٍ خاصّ، وزمنٍ خاصّ، وجغرافيا خاصّة، وأنّ أيّ فتحٍ غيره لا يُعدّ فتحاً، فرضٌ غير ناهض، وحصرٌ لمعنى الفتح الّذي يمكن أن يكون له مستويات وآفاق ومراتب تختلف سعةً وضيقاً من فردٍ إلى فردٍ آخَر.

الخدش الثاني: الوحدة الوجوديّة بين الإسلام وبين الحسين (علیه السلام) !

لا ندري ما علاقة الوحدة الوجوديّة بين الإسلام وبين الإمام الحسين (علیه السلام) في نفي ثبوت (الفتح بالشهادة) لغيره؟!

هذا، عدا ما في هذا من التسطيح، وهو أشبه بالتعبيرات الأدبيّة الإنشائيّة منه بالتعبير العلميّ التعليليّ المعبّر عن فلسفةٍ وبيانٍ لحقيقة الشيء.

فالوحدة الوجوديّة بين الإسلام المحمّديّ الخالص لا تقتصر على الإمام الحسين (علیه السلام)، بل ساريةٌ في جميع الأئمّة، و «المميّزات الفريدة

ص: 130

للدور الحسينيّ» لا تمنح «الإمام أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) من خلال عاشوراء عنوان بقاء الإسلام والحفاظ عليه نقيّاً كما هو».

وقد قام الدليل بما لا يقبل النقاش أنّ الإسلام والدين والإيمان قائمٌ بالأئمّة المعصومين (علیهم السلام) في كلّ زمانٍ ومكان، ونوع قتل الإمام (علیه السلام) وما يجري عليه لا علاقة له من قريبٍ ولا من بعيدٍ ببقاء الدين أو محوه، وقد أتينا على بيان ذلك في أكثر من موضع، فلا نعيد.

فما هو دور باقي الأئمّة (علیهم السلام) مِن وُلد الحسين (علیه السلام) في إبقاء الإسلام والحفاظ عليه نقيّاً كما هو؟!

أيجوز أن يقال: إنّ الأئمّة (علیهم السلام) مِن وُلد الحسين (علیه السلام) لم يكن لأحدهم أيّ دورٍ في بقاء الإسلام نقيّاً؟!

ثمّ إنّ هذه الوحدة الوجوديّة بين الإسلام المحمّديّ الخالص والإمام الحسين (علیه السلام) كانت قبل عاشوراء متوفّرةً في الإمام الحسين (علیه السلام)، وكانت في عاشوراء، وبقيَت بعد عاشوراء، وهذا ما لا يشكّ فيه أحد، سيّما بعد أن قال الرسول (صلی الله علیه و آله): «حسين منّي وأنا من حسين».. فهل نخصّص هذا القول بما بعد عاشوراء فقط؟!

الخدش الثالث: الإسلام حسينيّ البقاء!

كلامٌ أدبيٌّ جميل، يمكن أن يُقال في ظرفٍ خاصٍّ للتعبير عن شيءٍ أو مراد، وهو قولةٌ لأحد كبار العلماء، وليس حديثاً شريفاً صادراً عن المعصومين (علیهم السلام)، فلا يمكن التسليم له تسليماً مطلقاً بحيث يُعدّ الأصل

ص: 131

والأساس لتفسير قيام سيّد الشهداء (علیه السلام)، وإغماض النظر عن أيّ تفسيرٍ آخَر وإن ورد على لسان الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه أو أولاده المعصومين (علیهم السلام) !

لم يكن الإسلام حسينيّ البقاء حصراً، ولا دليل من الكتاب وأقوال المعصومين (علیهم السلام) على ذلك.. بل إنّ أقوالهم وشواهد التاريخ تشهد بخلاف ذلك تماماً..

ولنضرب على ذلك مثلاً واحداً:

لقد اجتمع المشركون ليمحوا الدين ويقضوا على سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) وأتباعه، وشهد التاريخ يوماً برز فيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لقتل عمرو ابن عبد وُدّ في يوم الأحزاب (الخندق)، فقال النبيّ (صلی الله علیه و آله): «برز الإيمانُ كلُّه إلى الشركِ كلِّه» ((1))، «إلهي، إن شئتَ أن لا تُعبَد فلا تُعبَد» ((2)).

أي: إنّ قتل الإمام عليّ (علیه السلام) سيؤول إلى قتل النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقتل المسلمين جميعاً، فلا يبقي بعده إسلامٌ ولا إيمان.

وقد قال (صلی الله علیه و آله): «ضربة عليٍّ يوم الخندق أفضلُ من عبادة الثقلين» ((3)).

فصحّ أن نقول: إنّ الاسلام محمّديّ الوجود علويّ البقاء، وأنّ

ص: 132


1- كنز الفوائد للكراجكيّ: 137، بحار الأنوار للمجلسيّ: 20 / 215، إرشاد القلوب للديلميّ: 2 / 244، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13 / 261.
2- مواقف الشيعة للميانجيّ: 3 / 123.
3- أُنظر: شرح إحقاق الحقّ للمرعشيّ: 6 / 4 _ الباب 27.

الفضل لله ولعليٍّ (علیه السلام) في بقاء الإسلام ((1)).

وقد قام الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) يريد إظهار الإصلاح في البلاد، وقال: «اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكنِ الّذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دِينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك» ((2)).

ولا يشكّ أحدٌ بما قاله الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في أكثر من موقفٍ وموطنٍ من أنّه صبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى، يرى تراثه نهباً، غير أنّه رأى الصبر أحجى، ليحفظ الإسلام، ولئلّا يُمحى الدين ويرتدّ الناس عن دِينهم، وتُطمَس معالم الدين كملاً ((3)).

وقد صرّح القرآن الكريم أنّ بقاء الدين وكماله وتمام النعمة، ويأس الكافرين من الدين، إنّما كان بإعلان ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) اللازمة لولاية أولاده المعصومين (علیهم السلام):

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ ((4)).

﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ

ص: 133


1- أُنظر: مواقف الشيعة للميانجيّ: 3 / 123.
2- بحار الأنوار للمجلسيّ: 34 / 111.
3- أُنظر: نهج البلاغة: الخطبة الشقشقيّة.
4- سورة المائدة: 67.

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَدِينًا﴾ ((1)).

ولو لم يجلس الإمامان الباقر والصادق (علیهما السلام)، ويحدّثان الناس، ويفسّران لهم كتاب الله، ويبيّنان السنّة النبويّة الصحيحة، ويقيمان معالم الدين، أكان يبقى للإسلام المحمّديّ الخالص بقيّة؟!

إنّ الناس قد ضلّوا وارتدّوا بعد قتل الإمام الحسين (علیه السلام)، كما ورد في الحديث الشريف.

فعن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال: «ارتدّ الناس بعد قتل الحسين (علیه السلام) إلّا ثلاثة: أبو خالد الكابليّ، ويحيى بن أُمّ الطويل، وجُبير بن مطعم» ((2)).

وعن الإمام الصادق (علیه السلام) وقد ذُكرت هذه الأهواء عنده فقال: «لا والله، ما هم على شيءٍ ممّا جاء به رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلّا استقبال الكعبة فقط» ((3)).

وقال الفضل بن شاذان: لم يكن في زمن عليّ بن الحسين (علیهما السلام) في أوّل أمره إلّا خمسة أنفس ((4)).

ص: 134


1- سورة المائدة: 3.
2- إختيار معرفة الرجال للطوسيّ: 1 / 338.
3- المحاسن للبرقيّ 1: 156 ح 89.
4- شرح أُصول الكافي للمازندرانيّ: 10 / 50.

وذكروا:

إنّ الناس والهاشميّين في زمن السجّاد (علیه السلام) إلى أن مضت سبع سنين من إمامة الباقر (علیه السلام) كانوا لا يعرفون كيف يصلّونولا كيف يحجّون ((1)).

وعلى أقلّ التقادير، فإنّ المسلمين جميعاً وبجميع طوائفهم دون استثناءٍ قد أخذوا تفاصيل أعمال الحجّ ومناسكه عن الإمام الباقر (علیه السلام) .

وروى مالك بن أنس _ إمام المالكيّة _، عن عمّه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه أنّه قال:

ما أعرف شيئاً ممّا أدركت الناس عليه إلّا النداء بالصلاة ((2)).

وأخرج الشافعيّ من طريق وهب بن كيسان قال:

كلّ سنن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غُيّرت، حتّى الصلاة ((3)).

وقال الحسن البصريّ:

لو خرج عليكم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما عرفوا منكم إلّا قبلتكم.

بل حتّى القبلة قد غُيّرَت وجعلوها إلى بيت المقدس، حيث

ص: 135


1- الصحيح من سيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) للعامليّ: 1 / 164 _ عن: كشف القناع عن حُجّيّة الإجماع: 67.
2- الموطّأ لمالك: 1 / 72.
3- كتاب الأُمّ للشافعيّ: 1 / 269.

الصخرة قبلة اليهود ((1)).

وقال أبو الدرداء:

واللهِ لا أعرف فيهم من أمر محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) شيئاً إلّا أنّهم يصلّون جميعاً ((2)).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه قال:لو أنّ رجلين من أوائل هذه الأُمّة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية، لَأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً ممّا كانا عليه ((3)).

بل لم يبقَ من الإسلام إلّا اسمه ومن الدين إلّا رسمه منذ يوم السقيفة، وهذا ما لا يحتاج إلى مزيد بيانٍ واستدلالٍ لمن قرأ التاريخ، سيّما مَن اعتقد إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) وعرف الحقّ المبين.

لذا نعود لنقول: إنّ بقاء الإسلام رهين وجود الإمام الحقّ فقط، وهو شأنٌ إلهيٌّ وعده النبيّ (صلی الله علیه و آله) ليُظهِر دِينه على الدين كلّه، ولا علاقة لنوع قتل أحدٍ ببقاء الدين، فلو أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُقتَل هذه القتلة، وقُتل كما قُتل أبناؤه، أو أنّه لم يُقتَل أبداً، أفكان الإسلام المحمّديّ الخالص يفقد وحدته الوجوديّة بالإمام الحسين (علیه السلام)، ثمّ كان الدين

ص: 136


1- أُنظر: مختصرٌ مفيد للعامليّ: 1 / 52.
2- مسند أحمد: 5 / 195، البخاريّ: 1 / 159.
3- الزهد والرقائق: 61.

يزول وتزول معالمه؟! ثمّ كان الأئمّة (علیهم السلام) من بعده لا يتوفّرون على هذه الوحدة الوجوديّة بينهم وبين الإسلام الخالص؟!

إنّ الإمام (علیه السلام) هو إمامٌ منصوبٌ من الله (عزوجل)، وقد جعل الله دينه قائماً به، سواءً قُتل بالسيف، أم قُتل بالسمّ، أو مات حتف أنفه، وهو لا يموت إلّا مقتولاً أو مسموماً..

وحصر بقاء الدين بيوم عاشوراء وطريقة قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) دونغيره من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) دعوى لا دليل عليها من الدين، ولا من الواقع..

هذا، بغضّ النظر عن الواقع الملحوظ طول التاريخ الّذي ذكرنا طرفاً منه في كتاب (لقاء الفرزدق)، وستأتي الإشارة إليه في ثنايا هذه الدراسة.

وهو في نفس الوقت إجحافٌ في حقّ المعصومين الآخَرين من النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) إلى الوليّ الخاتم (علیهم السلام)، ومصادرةٌ لأدوارهم ولكلّ ما قاموا به وقدّموه لله، وكأنّ أحداً منهم لم يبذل مهجته في الله، ولم يعذر بالدعاء، ولم تقم بهم الصلاة ولا الزكاة ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولا بيان دين الله، ولا أيّ عطاء آخر!

فلماذا لا يُقال هنا كما يُقال في شهداء بدر:

... إنّ التحوّلات الحاسمة لصالح الإسلام بعد بدرٍ لم تكن لشهادة شهداء بدر الأبرار، بل لوجود النبيّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) ولسيف

ص: 137

عليّ (علیه السلام)، والسيوف الصادقة الأُخرى الّتي كانت مع هذا السيف الفريد في أهمّ مواقع الإسلام المصيريّة.

فيقال: إنّ التحوّلات الحاسمة وحفظ الدين إنّما كان ببقاء عليّ بن الحسين زين العابدين (علیه السلام)، الإمامِ بعد الإمام، أبي الأئمّة بعد سيّد الشهداء (علیه السلام)، إذ لولاه لَاقتضى بقتل الإمام الحسين (علیه السلام) أن ينخرم نظامالتكوين، ويُفني اللهُ الأرض ومَن عليها ويسيخها بأهلها، غير أنّ وجود الإمام السجّاد (علیه السلام) هو الّذي جعل الدنيا تستمرّ، والإسلام يبقى ويستمرّ، وتدوم الإمامة الّتي بها قوام الأرض، وإن كان لم يكن في مكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّ أهل البيت (علیهم السلام) ويتّبعهم، كما رُوي عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) نفسه ((1)).

فيُنسَب التحوّل والبقاء والاستمرار والديمومة للدين المحمّديّ الخالص لبقاء الإمام عليّ بن الحسين (علیه السلام)، تماماً كما كان التحوّل الحاسم حاصلاً ببقاء النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) مِن قبل.

أجل، يمكن أن يُقال: بجعل الإمامة في ذرّيّة الإمام الحسين (علیه السلام) وعقبه كعِوَضٍ عن قتله، كما ورد في الحديث ((2))، وهذا المعنى شيءٌ يختلف عمّا يُقال، كما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ص: 138


1- أُنظر: الغارات لإبراهيم الكوفيّ: 2 / 573، بحار الأنوار للمجلسيّ: 34 / 297.
2- أُنظر: أمالي الطوسيّ: 317 _ عنه: بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 221.
الخدش الرابع: حصر مواجهة الإسلام بمواجهة الإمام الحسين (علیه السلام)

لا شكّ أنّ مواجهة الإسلام المحمّديّ الخالص هي مواجهةٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام)، ومواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) هي مواجهة الإسلام الخالص، فكلّ مواجهةٍ للإمام الحسين (علیه السلام) هي مواجهةٌ للإسلام الخالص..أمّا أن تكون كلّ مواجهةٍ للإسلام لا تكون إلّا مواجهة للحسين (علیه السلام) دون غيره، فهذه مصادرةٌ للنبيّ (صلی الله علیه و آله) وللأئمّة المعصومين أجمعين، من أمير المؤمنين إلى صاحب الأمر والزمان (علیهم السلام) .

إذ أنّ الإسلام الخالص قائمٌ في النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة (علیهم السلام) جميعاً في كلّ فردٍ فردٍ منهم، فمن أين جاء هذا الحصر؟ وكيف نُفي غير الإمام الحسين (علیه السلام) ؟

أيعني هذا أنّ مواجهة طواغيت عصر الأئمّة (علیهم السلام) كلّ واحدٍ منهم إنّما كان يواجه الإمام (علیه السلام) لا لأنّه الإسلام الخالص؟! بل لماذا واجهوهم وقتلوهم وهم ليسوا الحسين (علیه السلام) ؟

لماذا قتل المنصور الإمام الصادق (علیه السلام) ؟ وقتل هارون الإمام موسى ابن جعفر (علیه السلام) ؟ وهكذا باقي الأئمّة (علیهم السلام) .. أوَليس كلّ واحدٍ من هؤلاء الأئمّة (علیهم السلام) هو الإسلام المحمّديّ الخالص الّذي كان يخشاه الطاغوت؟!

أتكون مواجهة الظالمين للأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ليست لهم

ص: 139

بالذات، وإنّما هي مواجهةٌ للحسين (علیه السلام)، ولأنّهم أبناء الحسين (علیه السلام) فقط، من دون أن يكون لهم _ كأشخاصٍ _ أيّ دور أو أثر؟!

الخدش الخامس: مصادرة شهادة الصدّيقة (علیها السلام) والرضيع (علیه السلام)

إذا كانت المواجهة مع الظالم حتّى الشهادة تلزم هذا الملزم، فلْتكن مواجهة سيّدة النساء فاطمة الزهراء (علیها السلام) مع الغاصبين والوقوف بوجههم حتّى الشهادة هي الشهادة الفاتحة «المهيمنة على كلّ مساحة الزمان والمكان»، ولْتكن دماؤها المقدّسة الزاكية الّتي جرت على أعتاب دارها هي الدماء الّتي تلهب الحماس في دماء العالمين، إذ كانت أوّل صرخة حقٍّ في وجه الانحراف الّذي لم يتوقّف إلى اليوم، وسيبقى إلى أن يقوم صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

وإذا كان ثمّة (شهيدٌ فاتح)، فلْيكن عبد الله الرضيع، إذ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) رجلٌ قام هو وأصحابه _ حسب الفرض المعهود _ ليحارب الظلم والظالمين، ويعيد النصاب إلى الدين، فقُتِلوا في مواجهةٍ مشرّفة، ونالوا الشهادة وفازوا بها..

والّذي فضح القوم ومزّق النقاب عن وجوههم الكالحة في الوقت الحاسم والموقف الحاسم هو قتل (طفلٍ رضيع)، كان أشبه الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقد قضى عطشاً، ورُمي بسهمٍ ذبحه من الوريد إلى الوريد.

ص: 140

الخدش السادس: الخلاصة
اشارة

لقد تضمّنَت الدعوى جملةً من الدعوات:

الدعوى الأُولى: الكشف عن الوحدة الوجوديّة

عاشوراء كشفَت عن وحدةٍ وجوديّةٍ لا انفكاك لها بين الإسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام) ..

وهذه الوحدة الوجوديّة لا ينكرها مؤمن، لأنّ الدين قائمٌ به وفيه ومعه..

أمّا أن تكون عاشوراء هي الّتي كشفَت هذه الوحدة الوجوديّة، فهذا ما لا يمكن المصير إليه.. ولقد كانت هذه الوحدة الوجوديّة في الأئمّة (علیهم السلام) قبل الإمام الحسين (علیه السلام) وبعده..

إلّا أن يشترط في هذه الوحدة الوجودية (عاشوراء)، فمن توفّر عليها فهو كذلك، وإلّا فلا، ولا قائل بذلك.

إنّ هذه الوحدة الوجوديّة بين الإسلام الخالص والإمام لها أسبابٌ كثيرةٌ منذ الخلق الأوّل إلى يوم الغدير يوم الإعلان عنها رسميّاً وإلى يوم القيامة، وهي بالجعل والتعيين والتحديد والاجتباء والاصطفاء والانتخاب الخاصّ من الله (تبارك وتعالى)..

وهذا من البديهيّات الّتي لا تحتاج إلى استدلالٍ ومزيد بيان، فلماذا هذا الحصر والاختصاص بالإمام الحسين (علیه السلام) دون غيره من المعصومين (علیهم السلام) ؟!

ص: 141

الدعوى الثانية: الدعوة إلى الإسلام هي عين الدعوة إلى الحسين (علیه السلام)

صارت الدعوة إلى هذا الإسلام هي عين الدعوة إلى الحسين (علیه السلام)، وبالعكس..

أن تكون الدعوة إلى الإسلام الخالص هي عين الدعوة إلى الإمام الحسين (علیه السلام)، لا ينكره مؤمن..

أمّا أن يكون منحصراً به، فهذا ما لا دليل عليه!

أوَليس الدعوة إلى الإسلام الخالص هي عين الدعوة إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) وإلى فردٍ فردٍ من أفراد الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، سيّما الأئمّة من الإمام الثامن عليّ بن موسى الرضا إلى الصاحب (علیهم السلام) ؛ إذ أنّ الانحرافات والانشقاقات والفرق كانت مستمرّة، والأُمّة كانت تتشظّى وتترامى في أحضان الباطل إلى عصر إمامة الرضا (علیه السلام)، وانتهت بالواقفة، وما جاء بعد الواقفة لا يكاد يبين، فمن ثبت على ولايته وولاية أولاده إلى الصاحب (علیهم السلام) إنّما ثبت على الدين المحمّديّ الخالص، وكانت إمامته هي الفتح الأعظم.

كيف كان، فإنّ الدعوة إلى الإسلام الخالص هي دعوةٌ لكلّ واحدٍ من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، وبالعكس..

فلماذا هذا الحصر والاختصاص بالإمام الحسين (علیه السلام) دون غيره من المعصومين (علیهم السلام) ؟!

ص: 142

الدعوة الثالثة: مواجهة الإسلام عين مواجهة الإمام الحسين (علیه السلام)

صارت مواجهة هذا الإسلام ومعاداته هي عين مواجهة الحسين (علیه السلام) ومعاداته، وبالعكس..

أن تكون مواجهة الإسلام الخالص ومعاداته هي عين مواجهة الإمام الحسين (علیه السلام) ومعاداته، فهذا ما لا ينكره مؤمن..

بَيد أنّ مواجهة أيّ واحدٍ من المعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام) أيضاً هو عين مواجهة الإسلام الخالص، ومعاداتهم معاداته، وقد جمع النبيّ (صلی الله علیه و آله) في حديث الكساء المتواتر، وغيره من المواضع في جمع الخمسة أصحاب الكساء (علیهم السلام)، وتأكيده أنّ سلمهم سلمه، وحربهم حربه، ومعاداتهم معاداته، وأنّهم لحمه ودمه..

فلماذا هذا الحصر والاختصاص بالإمام الحسين (علیه السلام) دون غيره من المعصومين (علیهم السلام) ؟!

ومن أين يُؤتى بهذا التفكيك، بحيث يُحصَر الأمر بالإمام الحسين (علیه السلام) وحده؟!

الدعوة الرابعة: بقاء الإسلام ببقاء عاشوراء الحسين (علیه السلام)

صار بقاء هذا الإسلام بعد كربلاء ببقاء عاشوراء الحسين (علیه السلام) ..

قلنا أكثر من مرّة: إنّ بقاء الدين ببقاء الإمام (علیه السلام) والإمامة، وأمّا نوع القتل فلا ندري مدى تأثيره في إبقاء الدين..

أجل، ما وقع من مصيبةٍ عظمى ليس لها مثيلٌ في تاريخ البشريّة،

ص: 143

وما ورد من التأكيد الشديد في الدين على لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) على البكاء والإبكاء، جعل هذه المصيبة العظمى لا تُنسى، وقد ضمن الله _ كما في بعض الأحاديث _ أن يأتي في كلّ جيلٍ مَن يبكي مصيبة الحسين (علیه السلام) .. وخلود المصيبة العظمى وبقائها إلى يوم القيامة شيء، وأن تكون هي السبب الوحيد لبقاء الدين الخالص شيءٌ آخَر!

فلو فرضنا جدلاً أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يُقتَل، ألم يكن الدين باقياً ببقائه وبقاء الأئمّة مِن وُلده (علیهم السلام) ؟!

كيف كان، إنّ الدعوى المذكورة _ على نحو الحصر والنفي _ لا تكاد تكون علميّةً ولا مُدعَمةً بالأدلّة الشرعيّة، ولا الوقائع التاريخيّة الثابتة، فلا يمكن مناقشتها بدقّة.

المتابعة التاسعة: الشهيد الفاتح والشهادة الفاتحة!

الشهيد الفاتح، إمّا أن يكون قاصداً الفتح بشهادته، وإمّا أن تكون شهادته فتحاً وإن لم يقصده.

فإذا كان الشهيد الفاتح لا يقصد ذلك، ولا يعلم أنّ ثمّة آثارٌ جسيمةٌ وتحوّلاتٌ حاسمةٌ ستترتّب على شهادته، وإنّما بعد أن استُشهد حصل ما لم يكن في حسبانه من الآثار العظيمة والتحوّلات الحاسمة الجسيمة، فحينئذٍ لا يمكن إطلاق الشهيد الفاتح عليه، وإنّما ستكون

ص: 144

شهادته فاتحة!

وهذا ما لا يمكن افتراضه في مثل سيّد الكائنات وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام)، والعياذ بالله.

وإذا أُخذ قصد المُقدِم على الشهادة _ وهو المفروض _ ليكون شهيداً فاتحاً، فلا يمكن الوصول إلى قصده إلّا من خلال ما يُصحِر هو نفسُه عمّا يقصده، فلابدّ والحال هذه أن يصرّح هو بنفسه بمقاصده وما يريده من أهدافٍ تصنع له الفتح.

فالإمام الحسين (علیه السلام) معصومٌ مفترَض الطاعة، وسيّد الكائنات وخير البشر بعد مَن استثناهم الله، إذا كان قد أقدم على شهادةٍ من هذا القبيل وبهذا اللون من أجل تحقيق هذا النوع الخاصّ من الفتح، فإنّه سيُعلِن عن ذلك في فترةٍ دامت من بعد نزو يزيد على الأعواد إلى يوم وقوع الجناية العظمى باستشهاده، ولَكانت بياناته وتصريحاته تملأ الكتب وتموج في صفحات التاريخ..

ولا يحتاج حينها مَن يريد القول بذلك إلى رصف النصوص ومقابلتها ومعالجتها والتكلّف في استنتاج ما يريد منها، على فرض إمكان استنتاج ذلك منها بسلاسةٍ من دون ليّ أعناق النصوص ورشّها بلونٍ خاصٍّ وسوابق معيّنة قبل استعراضها.

فحين نسمع الإمام (علیه السلام) في مواضع كثيرةٍ يقول ما هو صريحٌ لا يقبل التكلّف والالتواء أنّ القوم يطلبون دمه، ويريدون قتله، وهو يحيد عنهم،

ص: 145

وهم يأبون عليه إلّا أن يخيّروه بين السلّة والذلّة، وهيهات منه الذلّة، فننفي مقاصد الإمام (علیه السلام) ومراداته الّتي صرّح بها بوضوحٍ وجلاء، ونتقاقز عليها لنُثبِت له مقاصد، وإن لم يقصدها.

وقد مرّ معنا الكثير من هذه الأمثلة خلال دراستنا لبيانات الإمام (علیه السلام) وتصريحاته في المدينة ومكّة، وأنّه إنّما يعجل لئلّا يُؤخَذ أو يغتاله القوم، ونحسب أنّها من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى مزيد بيان، ونكتفي هنا بذكر مثالٍ آخَر للتنويه، وسنترك البحث فيه بالتفصيل إلى محلّه إن شاء الله..

مثل هذه المحاورة الواردة بين الإمام وبين أبي هرّة الأزديّ في الطريق إلى العراق، تقول الرواية:

فلمّا أصبح الحسين (علیه السلام)، وإذا برجُلٍ من الكوفة يُكنّى أبا هرّة الأزديّ أتاه فسلّم عليه، ثمّ قال: يا ابن بنت رسول الله، ما الّذي أخرجَك عن حرم الله وحرم جدّك محمّد (صلی الله علیه و آله) ؟!

فقال الحسين: «يا أبا هرّة، إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيمُ الله يا أبا هرّة لَتقتلني الفئة الباغية، ولَيُلبسنّهم الله ذلّاً قاطعاً، ولَيُسلّطنّ الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ

ص: 146

إذ ملكتهم امرأةٌ منهم فحكمَت في أموالهم ودمائهم» ((1)).

إنّ هذا النصّ فيه من الوضوح والصراحة والجلاء ما لا يقبل التأويل، ويشهد له تصريحاتٌ أُخرى ومواقف كثيرة، بَيد أنّ التصوّر المسبق والمفروض على سيّد الشهداء (علیه السلام) والمواقف المرسومة له، سواءً أقصدها أم صرّح بخلافها، يضطر المحلّل أن يقول:

إنّ ظاهر مثل هذه النصوص يوحي بأنّ الإمام (علیه السلام) كان همّه الأكبر النجاة بنفسه! فقد صبر على أخذ ماله وشتم عرضه، وحين أرادوا قتله هرب لينجو بنفسه! هذه حدود مظلوميّته لا أكثر؟! وكأنّه ليس هناك رفض بيعةٍ ولا طلب إصلاحٍ وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر، ولا قيام!!

لقد انطلى هذا الاستنتاج الخاطئ على بعض الناس، فتوهّموا أنّ أساس حركة الإمام (علیه السلام) هو طلب النجاة والفرار من الاغتيال والقتل! ((2))

ص: 147


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 150، الفتوح لابن أعثم: 5 / 71، وانظر: الأمالي للصدوق: 153، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 573، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 314 و 367، العوالم للبحرانيّ: 17 / 163 و 217، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 226، مثير الأحزان لابن نما: 23، اللهوف لابن طاووس: 70.
2- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 1 / 151.

لا نريد مناقشة هذا الكلام مناقشةً مفصّلة، وهو لا يصمد أمام النقد، ونقول كلمة واحدة:«هذه حدود مظلوميّته لا أكثر؟!»..

أجل، إنّها لَمظلوميّة.. إنّها الحدود القصوى.. إنّه الحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وخامس أصحاب الكساء، وسيّد شباب أهل الجنّة، يُؤخَذ مالُه ويُشتَم عرضُه ويُطلَب دمُه!

أتُستصغر هذه المظلوميّة؟!!

ومَن قال أنّ الإمام (علیه السلام) إن كان قد أقدم على (الفتح بالشهادة)، أو على حدّ تعبير مَن قال: «عمليّة انتحاريّة»، تكون مظلوميّته أعظم؟!!

ثمّ إنّ مَن قال: إنّ حركة الإمام (علیه السلام) كانت عبارةً عن هجوم القوم عليه وملاحقته من أجل قتله، تماماً كما قتلوا جدّه وأُمّه وأباه وأخاه وأولاده المعصومين، وكان هو لا يحبّ أن يُقتَل في المدينة ومكّة، وأنّه وجد أنصاراً للدفاع عنه في العراق، على التفصيل الّذي ذكرناه مراراً وتكراراً..

إنّ مَن ذهب إلى هذا القول لم يكن قد استنتج، ليقال: «ولقد انطلى هذا الاستنتاج الخاطئ».. إنّه ليس استنتاجاً، وإنّما هو صريح كلام الإمام (علیه السلام)، إنْ في هذا الموقف أو في غيره من المواقف الكثيرة جدّاً الّتي سبقَت هذا الحوار ولحقَته..

إنّه ليس وهماً ليقال: «فتوهّموا»! إنّهم رسموا ما قاله الإمام (علیه السلام)

ص: 148

نفسه، من دون أن يُفرَض عليه موقفٌ خاصٌّ من قِبَل ما تصوّرناهمسبقاً.

ماذا يفهم الإنسان من كلام الإمام (علیه السلام) لأبي هرّة الأزديّ؟! أيُفهَم منه أنّه قد صرّح بما يذهب إليه مَن يريد أن يُثبِت للإمام (علیه السلام) ما لم يُثبته الإمام (علیه السلام) لنفسه؟!

إنّ من يجمع النصوص ويحاول معالجتها والتخلّص ممّا يكون تبايناً وتناقضاً وتعارضاً صريحاً بينها ليخلص إلى ما يريد، يُعدّ مستنتجاً، أمّا مَن يعتمد صريح الكلام والنصّ الجليّ الّذي ليس له ظهورٌ في غير المعنى المفهوم منه، لا يُعدّ مستنتجاً.

نقتصر هنا على ذكر هذا المثال، وسيأتي التفصيل فيه في محلّه إن شاء الله (تعالى).

وقد أتينا على مناقشة (طلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مفصّلاً في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة وفي مواضع أُخرى، فلا نعيد.

* * * * *

كيف كان، إن كان الإمام الحسين (علیه السلام) قد قصد «الفتح بالشهادة»، فعلينا أن نعرف قصده منه، ولَكان هو بنفسه (علیه السلام) عبّر عنه بأجلى تعبير، وهو مالك اللغة والمفردات والبلاغة وسيّدها..

وفي حدَثٍ بهذه الضخامة الّذي وسع التاريخ لا يُكتفى عادةً

ص: 149

بتصريحٍ أو تصريحين، ولَبان على لسان جدّه وأبيه وأخيه ولسانه _ الظامي _ ولسان أولاده المعصومين (علیهم السلام) بوضوحٍ وجلاءٍ لا يحوجنا إلى الاستنتاج والاستنباط!

هذا هو الطريق الأوّل لمعرفة مقاصد الإمام (علیه السلام) .. أن نسمع الإمام نفسه (علیه السلام) .

أمّا الطريق الثاني: فهو على فرض أنّ الإمام (علیه السلام) لم يبيّن ذلك ولم يصرّح _ وحاشاه _، فحينئذٍ لمن أراد أن يُثبِت ذلك للإمام (علیه السلام) أن يتابع (الفتح) ومصاديقه وآثاره، ويستخرجها بنفسه ويثبتها بالقطع واليقين، لا بالتظنّي والتخمين والشعارات والكلام الإنشائيّ الّذي لا دليل عليه، أو بالتصوّرات المسبقة الّتي تحمّل على المواقف..

فلا يُطلَق على موقف عبد الله بن عفيف الأزديّ: «الانتفاضة»، وأنّ مواجهته السافرة لابن مرجانة كان لها «أثرٌ بالغٌ في كسر حاجز الخوف في قلوب الناس، وتشجيعهم على التمرّد» ((1)).

إذ أنّ هذا الرجل الكفيف كان قد فقد عينيه بين يدَي الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في الجمل وصفّين، وكان موالياً ثابتاً، ملازماً للمسجد يتعبّد وينتظر أجله بعد أن قضى ما عليه، وفوجئ بابن زيادٍ يشتم أمير المؤمنين والإمام الحسين (علیهما السلام)، ويفتري عليهما ويكذّبهما، ويتفاخر بقتل

ص: 150


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 178.

ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، فقام فردّ عليه..

إنّه موقفٌ شخصيٌّ محدودٌ لا يتعدّاه، ولا يُقاس عليه كظاهرةٍ اجتماعيّة..

موقفٌ اتّخذه أحد موالي أمير المؤمنين (علیه السلام) وشيعة أبي عبد الله الحسين (علیه السلام)، دفاعاً عن ساداته وولاته وأئمّته، وهو يعيش في الكوفة، ويسمع أخبار الإمام الحسين (علیه السلام)، غير أنّ كفّ بصره قد قعد به، وقد قتله ابن مرجانة شرّ قتلة، وألّب عليه، وجمع له الجموع وأرسل إليه _ رغم كفّ بصره _ سيوفاً، وأطاعه القوم فيما أراد، فقمعه وقتله رغم ما به، فأيّ أثرٍ كان لموقفه على قلوب الناس وكسر حاجز الخوف في قلوبهم وتشجيعهم على التمرّد؟! إنّها دعوى لا دليل عليها!

بل إنّ قتله _ وهو كفيف البصر بتلك الصورة _ ربّما كان زيادةً في إخافة الناس وإرعابهم وقمعهم وكبحهم!

كيف كان، فإنّنا لا نريد هنا متابعة الموارد المذكورة في الباب ومناقشتها كلّ واحدةٍ على حدة، ولا مناقشة ما يرتّبونه كعلاماتٍ وآثار للفتح، فقد أتينا على مناقشة جملةٍ منها في كتاب (لقاء الفرزدق والإمام الحسين (علیه السلام))، وسيأتي مناقشة الباقي في محلّه إن شاء الله.

فهل كان (الفتح) هو ما يُصوَّر من آثار يمكن المناقشة فيها؟

هذا كلّه، بعد أن نثبت أنّ الإمام (علیه السلام) بنفسه قد قصد ذلك، وقاله وصرّح به، وإلّا فتكون «الشهادة فاتحة»، وليس «الشهيد فاتحاً».. وهو

ص: 151

ما لا يمكن نسبته للإمام المعصوم (علیه السلام)، وحاشاه.

الإنارة الثالثة: تعلّق الفتح بالاتباع لا بالإمام (علیه السلام)

قد يقال: لابدّ من فهم الكلام جملةً واحدةً ضمن السياق الواحد، فلمّا قال سيّد الشهداء (علیه السلام): «مَن لحق بي منكم استُشهد معي»، فالمفروض أن يُفهَم المقطع الثاني من كلامه المعطوف عليه: «ومَن لم يلحق ...» في نفس السياق دفعةً واحدة، فلا يُفرَّق بينهما، فيُجعَل الفتح في المقطع الثاني كأنّه يتحدّث ويُخبِر عن شيءٍ خارج العبارة الواحدة.

والكلام كان مع بني هاشم خاصّة لا مع غيرهم، فلابدّ أن يكون الفتح خاصّاً بهم أيضاً ولهم، وليس فتحاً عامّاً من جهة، ولا فتحاً للإمام (علیه السلام) شخصيّاً من جهةٍ أُخرى.. فالفتح متعلّقٌ بمن لحق به من بني هاشم، ومَن فاته الفتح فهو مَن تخلّف ولم يلحق من بني هاشم خاصّة، فلا يمكن والحال هذه تعميم الفتح ولا نسبته إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) .

الإنارة الرابعة: (الفاتح) ليس من ألقاب سيّد الشهداء (علیه السلام)

الفاتح من أسماء الله الحسنى.

وقد ورد هذا اللفظ كاسمٍ ولقبٍ وصفةٍ للنبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله)، فرُوي في

ص: 152

حديثٍ طويل:

فقال إبراهيم (علیه السلام): «إلهي وسيّدي، مَن هذا الخلق الشريف؟». فأوحى الله (عزوجل): «هذا عبدي وصفوتي، الفاتح الخاتم، وهذا وصيّه الوارث». قال: «ربِّ، ما الفاتح الخاتم؟»، قال: «هذا محمّد خيرتي ...» ((1)).

وفي كلام أمير المؤمنين (علیه السلام):

«اجعلْ شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمّدٍ عبدك ورسولك، الخاتمِ لما سبق والفاتحِ لما انغلق، والمُعلِن الحقَّ بالحقّ، والدافع جيشات الأباطيل، والدامغ صولات الأضاليل، كما حمل فاضطلع قائماً بأمرك، مستوفزاً في مرضاتك، غير ناكلٍ عن قدمٍ ولا واهٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتّى أورى قبس القابس، وأضاء الطريق للخابط، وهديتَ به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، وأقام بموضحات الأعلام ونيّرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازنُ علمك المخزون، وشهيدُك يوم الدين، وبعيثُك بالحقّ، ورسولُك إلى الخلق» ((2)).

ص: 153


1- الإقبال لابن طاووس: 1 / 508.
2- نهج البلاغة: 101 خ 72 _ بشرح: صبحي الصالح.

وقال (علیه السلام):

«اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ عبدك ورسولك ونبيّك، نبيِّ الرحمة، البرِّ بالأُمّة، والواعظِ بالحكمة، والدليل على كلّ خير، وحسنة إمام الهدى، وخاتم الأنبياء، وفاتح مذخور الشفاعة، الآمرِ بالمعروف والناهي عن المنكر، ومُحلّ الطيّبات ومحرّم الخبائث، وواضع الآصار وفكّاك الأغلال الّتي كانت على أهل التوراة والإنجيل ...» ((1)).

وفي حديثٍ مسنَدٍ عن أبي جعفر (علیه السلام) قال:

«إنّ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) عشرة أسماء، خمسة منها في القرآن وخمسة ليست في القرآن، فأمّا الّتي في القرآن ف-- : محمّد، وأحمد، وعبد الله، ويس، ون، وأمّا الّتي ليست في القرآن ف-- : الفاتح، والخاتم، والكاف، والمقفي، والحاشر» ((2)).

وفي زيارة النبيّ (صلی الله علیه و آله) في حديث الإمام الصادق (علیه السلام):

«السلام عليك يا فاتح الخير» ((3)).وفي زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام):

ص: 154


1- مصباح المتهجّد للطوسيّ: 2 / 446 من دعاء يوم الأحد.
2- بحار الأنوار: 16 / 96 الباب 6 ح 31.
3- إقبال الأعمال لابن طاووس: 2 / 604 زيارة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

«والسلام على محمّدٍ أمين الله، وعلى رسالته وعزائم أمره، ومعدن الوحي والتنزيل، الخاتم لِما سبق والفاتح لِما استقبل ...» ((1)).

وفي زيارة الإمام الحسين (علیه السلام):

«فإذا استقبلتَ قبر الحسين (علیه السلام) فقُل: السلام على رسول الله، السلام على أمين الله على رسله وعزائم أمره، والخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل، والمهيمن على ذلك كلّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته» ((2)).

وورد لفظ الفاتح كوصفٍ لهم جميعاً، فقد رُوي مسنداً عن معروف ابن خرّبوذ قال:

قلتُ لأبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام): أخبِرْني عنكم. قال: «نحن بمنزلة النجوم، إذا خفيَ نجمٌ بدا نجمٌ منّا، أمنٌ وأمان، وسِلمٌ وإسلام، وفاتحٌ ومفتاح، حتّى إذا استوى بنو عبد المطّلب فلم يُدرَ أيٌّ مِن أيٍّ أظهر الله (عزوجل) لكم صاحبكم، فاحمدوا الله (عزوجل)، وهو يُخيَّر الصعب والذلول». فقلت: جُعلتُ فداك، فأيّهما يختار؟

ص: 155


1- فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن عقدة: 141 باب زيارته (علیه السلام)، وانظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 42، تهذيب الأحكام للطوسيّ: 6 / 25 الباب 8.
2- الكافي للكلينيّ: 4 / 572، وانظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 201.

قال: «يختار الصعبَ على الذلول» ((1)).

وجاء في زيارة الإمام الحسين عن الإمام الصادق (علیه السلام):

«أشهدُ أنّك كلمةُ التقوى، وبابُ الهدى، والعروة الوثقى، والحجّة على مَن يبقى ومَن تحت الثرى، أشهدُ أنّ ذلك سابقٌ فيما مضى، وذلك لكم فاتحٌ فيما بقي، أشهد أنّ أرواحكم وطينتكم طيّبة، طابت وطهُرَت، هي بعضُها من بعض» ((2)).

يُلاحَظ أنّ اسم الإشارة «ذلك» يرجع إلى ما ذُكر قبله في الشهادة: «كلمة التقوى، وباب الهدى، و...»، وهذا ليس عامٌّ لهم (علیهم السلام) جميعاً، لذلك تغيّر الضمير من الخطاب للمفرد: «أشهدُ أنّك» إلى الجمع: «وذلك لكم فاتح»، إذا قلنا أنّ هنا جاء لفظ الفاتح كصفةٍ لهم.

كيف كان، فإنّنا فحصنا فلم نجد في حديثٍ ولا زيارةٍ ولا نصٍّ شريفٍ من نصوص أهل البيت (علیهم السلام) ورد توصيف الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ب-- (الفاتح) بأيّ معنىً من معانيه المستعملة في الحديث أو في اللغة، والحال أنّ الزيارات والنصوص الشريفة حاويةٌ على عددٍ ضخمٍ جدّاً من الألقاب المنيفة والصفات السامية، الّتي لو جُمعَت

ص: 156


1- كمال الدين للصدوق: 1 / 329 ح 13، دلائل الإمامة للطبريّ: 534.
2- الكافي للكلينيّ: 4 / 573، وانظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 202.

وشُرحَت شرحاً مقتضباً لَكانت كتاباً كبيراً.

فهل فاتهم (علیهم السلام) هذا الوصف، رغم أنّه الأوّل والآخر في قيام سيّد الشهداء (علیه السلام)، وهو العامل المحرّك الوحيد، والداعي الوحيد، أو الأكبر بلا منازع لما أقدم عليه الإمام الحسين (علیه السلام) فيما يُرسَم له، وهو العلّة الغائيّة، بل العلّة الفاعلة في ما يُصوَّر، والمراد والمعنى الرئيس من الإقدام على الشهادة؟!

الإنارة الخامسة: كان الحسين (علیه السلام) يعتقد أنّه فاتحٌ منصور ...
اشارة

قيل:

كان الحسين (علیه السلام) يعتقد في نهضته أنّه فاتحٌ منصور، لِما في شهادته مِن إحياء دِين رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وإماتة البدعة وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الأُمّة أنّهم (علیهم السلام) أحقُّ بالخلافة مِن غيرهم، وإليه يشير في كتابه إلى بني هاشم: «مَن لحق بنا منكم استُشهد، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح»، فإنّه لم يُرِد بالفتح إلّا ما يترتّب على نهضته وتضحيته، من نقض دعائم الضلال وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإقامة أركان العدل والتوحيد، وأنّ الواجب على الأُمّة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدين (علیه السلام) لإبراهيم بن طلحة ابن عُبيد الله لمّا قال له حين رجوعه إلى المدينة: مَنالغالب؟

ص: 157

فقال السجّاد (علیه السلام): «إذا دخل وقت الصلاة فأذَّنَ المؤذّن وأقِمْ، تعرف الغالب» ((1)).

* * * * *

يمكن الوقوف مع هذا المتن وقفةً سريعةً عجلى، مع الاعتذار الشديد لقائله، وإنّما نتجرّأ هنا لمثل هذه الوقفات بين يدَي الأعلام والمقدّسين، بَيد أنّه البحث العلميّ الّذي يسمح للتلميذ أن يقف بين يدَي أُستاذه، فنقول بكلّ خضوعٍ وخشوعٍ لجميع مَن نناقش أقوالهم في هذه الدراسة من علماء الحقّ ورجال الولاء:

الوقفة الأُولى: اعتقاد الحسين (علیه السلام)

لقد سادت في فترةٍ من الفترات جملةٌ من المصطلحات، غير أنّها قد تُعَدّ في فترةٍ أُخرى غير لائقة، أو غير موفّقة، إذ أنّنا اليوم لا نرى في التعبير عن الإمام (علیه السلام) الّذي لا ينطق عن الهوى، ولا يتكلّم إلّا بما قاله أبوه عن جدّه عن جبرئيل عن الله بالقول: «يعتقد»، وليس هذا محلّ بحث هذه القضيّة.

غير أنّ هذا الاعتقاد الّذي نقول: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان يعتقده، يحتاج إلى دليلٍ لإثباته، فمن قال أنّ الإمام (علیه السلام) كان يعتقد هذا الاعتقادبالذات؟!

ص: 158


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 171 _ عن: مقتل الحسين (علیه السلام) للسيّد المقرّم: 66.

مَن قال أنّ الإمام (علیه السلام) كان يعتقد أنّه فاتحٌ منصورٌ لما في شهادته من هذه الآثار الخاصّة دون غيرها، مِن قبيل إحياء دين الرسول (صلی الله علیه و آله)، وإماتة البدعة، وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الأُمّة أنّهم (علیهم السلام) أحقّ بالخلافة من غيرهم؟!

بحيث أعيت السبل، وانقطعت الوسائل بسيّد الشهداء (علیه السلام) لإثبات ذلك إلّا بهذا القتل!

والأهمّ من ذلك كلّه، أنّنا نزعم أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) يعتقد هذا الاعتقاد، فالمفروض أن ندلّل على ما يعتقده الإمام (علیه السلام) بأقوال الإمام (علیه السلام) الكافية الشافية الكثيرة في المقام!

الوقفة الثانية: النهضة!

هذا هو أوّل الكلام، وهو ما نبحث عنه إن لم نكن قد حدّدنا من قبل موقفاً خاصّاً للإمام (علیه السلام)، أما وقد حدّدنا موقفاً خاصّاً للإمام (علیه السلام) (وأنّه قد قام بنهضةٍ أو خرج بالمعنى المصطلح)، فلابدّ من البحث عن مسوّغاته ومبرّراته، لئلّا نُسأل فيما بعد: إذن فماذا أراد الإمام (علیه السلام) بنهضته، وقد قتله الأعداء وقتلوا مَن معه؟!

فمن قال أنّه (علیه السلام) كان قد نهض وخرج بالمعنى المصطلح، ولم يكن قد هجم عليه العدوّ، فقام بالدفاع عن نفسه في المدينة، ثمّ في مكّة، ثمّفي العراق، حتّى حاصروه وقطعوا عنه المدد، فكان بينهم «كالأسير

ص: 159

المرتهَن»، و«المستضعف الغريب»، و«المقتول ظلماً وعدواناً»، و«المذبوح كما يُذبَح الكبش».. الكبش الّذي لا يُراد منه إلّا أن يُقتَل، وهو لا يهجم ولا يهدّد أحداً ولا يؤذي أحداً.. وغيرها من الأوصاف والنعوت الواردة في الأحاديث الشريفة والزيارات المقدّسة، وسنأتي على بيانها في محلّها إن شاء الله.

الوقفة الثالثة: توقّف الأمر!

يبدو من الكلام أنّ جميع الآثار المترتّبة على الشهادة متوقّفةٌ على هذا القتل، وبهذه الصورة الفظيعة الفجيعة..

بحيث لا يمكن للإمام الحسين (علیه السلام) أن يُثبِت ما أُريد له أن يُثبته بشهادته إلّا بهذه الوسيلة الوحيدة لا غير، ولا يمكن لغيره أيضاً أن يُثبِت ذلك، أيّاً كان وبأيّ وسيلةٍ كانت!

ألم يثبت كلّ ما أُريد له من قبله رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين والسيّدة الصدّيقة فاطمة الزهراء والإمام الحسن المجتبى (علیهم السلام)، ثمّ من بعده أولاده المعصومين؟!

ألم يثبت أهل البيت (علیهم السلام) جميعاً _ من النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) إلى الوليّ الخاتم (علیه السلام) _ حقّهم في الخلافة، ويحيوا دين رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ويميتوا البدعة، ويفظّعوا أعمال المناوئين، ويفهموا الأُمّة بأحقّيّتهم فيالخلافة؟!

ص: 160

لقد غصّت الزيارات والأحاديث بإثبات جميع ذلك لجميع المعصومين (علیهم السلام)، ولنا في الزيارة الجامعة وحدها ما يغني عن غيرها من النصوص الشريفة.

فهذه الآثار وغيرها ممّا يُصوَّر في المقام لا تتوقّف على شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) فقط دون غيره من المعصومين (علیهم السلام)، ولا على نوع قتله، والقول بالتوقّف عليه يخالف البديهيّ الاعتقاديّ، ويغمط الباقين حقّهم، ويستصغر ما فعلوه، والعياذ بالله.

الوقفة الرابعة: حصر مراد الإمام (علیه السلام) بمعنىً واحد

حصر المتنُ مرادَ الإمام الحسين (علیه السلام) من الفتح بمفروضٍ أُرسل إرسال المفروغ عنه، فهو يقول: إنّ الإمام (علیه السلام) لم يُرِدْ بالفتح إلّا ما يترتّب على نهضته وتضحيته من:

- نقض دعائم الضلال.

- كسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة.

- إقامة أركان العدل والتوحيد.

وأنّ الواجب على الأُمّة القيام في وجه المنكر.

لو افترضنا أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد نهض، فمن ذا يحصر أهداف نهضته، وأنّه إنّما ضحّى بنفسه القدسيّة، وسمح بمهجته ودمه الزاكيالّذي سكن الخلد، وجعل لحمه وقفاً على المشرط، وأطعم الموت خير

ص: 161

البنين وخير الرجال، وبذل للسبي مخدّرات سرادق العزّ الإلهيّ، ليكون فيما بعد فاتحاً لهذه الأهداف خاصّة؟!

ألم يكن ثمّة وسيلةٌ أُخرى _ وهو المسدَّد بالتسديد الإلهيّ المباشر والمسدَّد بالملائكة والروح _ إلّا هذه الوسيلة؟!

ألم يكن مَن سبقه من المعصومين (علیهم السلام)، ومَن لحقه منهم من أبنائه إلى الوليّ الخاتم (علیهم السلام)، قد سعى وبذل مهجته في نقض دعائم الضلال، وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإقامة أركان العدل والتوحيد، وبيان أنّ الواجب على الأُمّة القيام في وجه المنكر؟!

نشهد لهم جميعاً بجميع ذلك من دون أيّ شكٍّ ولا شبهةٍ ولا ترديدٍ ولا تمييزٍ لأحدهم عن الآخَر، وقد قامت عقيدتنا على ذلك، وأثبتتها النصوص المتظافرة المتكاثرة في بابها.

الوقفة الخامسة: هل صرّح الإمام (علیه السلام) نفسه بذلك؟

ربّما سأل سائلٌ نفس السؤال المطروح قبل قليل:

إنّ هذه الأُمور الّتي عُدّت هي الفتح المقصود للإمام (علیه السلام) مِن إقدامه على الموت وقيامه بنهضته و(خروجه بالمعنى المصطلح)، فلابدّ من إثباتها من كلامه وتصريحاته وبياناته، فهل تُجمِع كلماتُه على ذلك بحيث ينجلي بوضوحٍ لمن قرأها هذا المعنى من الفتح، وأنّه قصد به هذهالموارد بالخصوص أو ما يشابهها؟!

ص: 162

ولا يصحّ اعتماد نصٍّ واحدٍ مرسَلٍ يرويه مجهول، ويتفرّد بروايته، ويُعرِض عنه العلماء والمؤرّخون، وهو غير تامّ الدلالة، بل تفيد دلالاته إذا قُرأت كاملاً ومن دون تقطيعٍ على خلاف المراد، وقد أتينا على شرح ذلك مفصَّلاً عند مناقشة وصيّة الإمام لأخيه ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في الكتاب الأوّل من هذه الدراسة، فلا نعيد.

الوقفة السادسة: إثبات المدّعى

لقد وقفنا أكثر من مرّةٍ عند ما يُرسَم لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) من آثار يُطلق عليها اسم (الفتح)، وأشرنا إلى ذلك في كتاب (لقاء الفرزدق)، وسيأتي الحديث عنها مفصّلاً في محلّه إن شاء الله.

ونكتفي هنا بالإشارة السريعة:

هل تحقّق إحياء دين رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ؟

هل أُميتت البدعة بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ؟

ألم يكن في غصب الخلافة، وما قاموا به كملاً، وقتل سيّدة النساء فاطمة (علیها السلام) بتلك الصورة الفجيعة، وهتك حرمة بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومهبط الوحي، وقتل سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) (المحسن) الشهيد (علیه السلام) جهاراً نهاراً، وقتل أمير المؤمنين، وقتل الإمام الحسن المجتبى (علیهما السلام)، ثمّ مِن بعد الإمام الحسين ما جرى على أولاده المعصومين (علیهم السلام)، وتجاهرالقوم بالرذيلة وترويجها، كلّه لم يكن كافياً لتفظيع أعمال المناوئين؟

ص: 163

هل فهمت الأُمّة أحقّيّة أهل البيت (علیهم السلام) بالخلافة ورتّبَت على ذلك أثراً؟

هل انتقضت دعائم الضلال؟

هل كسحت أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة؟

هل أُقيمت أركان العدل والتوحيد بين الأُمّة؟

هل علمَت الأُمّة وجوب قيامها في وجه المنكر ورتّبت عليها أثراً؟

إنّ كلّ ما كان قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) بقيَ في الأُمّة في جميع الموارد المذكورة، بل ازداد وتشدّد، كما تفيد الأحاديث والزيارات والواقع التاريخيّ المرويّ في كتب التاريخ!

أمّا أن تكون جميع هذه محفوظةً في الإمام (علیه السلام) والثلّة القليلة من الديّانين طول التاريخ، فهو لا علاقة له بقتل الإمام الحسين (علیه السلام) وذبحه عطشاناً ظامياً، وقتل أنصاره وأهل بيته، وانتهاك خبائه وسبي نسائه ونهبهنّ..

أوَليست الأكثريّة كانت ولا زالت كما كانت، إن في المجتمع الّذي يُطلَق عليه أُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله)، أو في المجتمعات الأُخرى من الكفّار والمشركين وأهل الكتاب؟!

الوقفة السابعة: مَن الغالب؟!

أمّا الاستدلال بسؤال إبراهيم بن طلحة وجواب الإمام السجاد (علیه السلام)،

ص: 164

فإنّه لا ينهض لإثبات جميع ما ذكره، إن تمّت الدلالة، وليس الأمر كذلك.

وأصل الحديث كما يبدو في (أمالي) الشيخ الطوسيّ مسنداً _ بغضّ النظر عن السند _ عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«لمّا قَدِم عليُّ بن الحسين، وقد قُتل الحسين بن عليّ (صلوات الله عليهما)، استقبله إبراهيم بن طلحة بن عُبيد الله، وقال: يا عليّ بن الحسين، مَن غلب؟ وهو مغطّى رأسه، وهو في المحمل.

قال: فقال له عليّ بن الحسين (علیهما السلام): إذا أردتَ أن تعلم مَن غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذِّنْ ثمّ أقِمْ» ((1)).

وسيأتي تفصيل الكلام عنه في محلّه إن شاء الله (تعالى)، بَيد أنّنا نشير هنا إلى أنّ السياق يشهد أنّ إبراهيم هذا كان يشمت بالإمام (علیه السلام)، ويقصد الغلبة العسكريّة والحسم في الميدان، وأنّ بني أُميّة قد جَزّروا جزر الأضاحي أهلَ رسول الله (صلی الله علیه و آله)، واستأصلوا _ في ظنّهم _ شأفتهم، وأتوا على آل أبي طالب، وقتلوا عترة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وبهذا سوف لا يبقى ذكرٌ لرسول الله وآله، فأجابه الإمام (علیه السلام) أنّنا باقون، وأنّ بني أُميّة أنفسهممضطرّون لذِكر النبيّ وآله، شاؤوا أَم أبوا، وأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وذرّيّته باقيةٌ ولم

ص: 165


1- الأمالي للطوسيّ: 677 الرقم 1432، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 177، العوالم للبحرانيّ: 17 / 414، نفَس المهموم للقمّيّ: 434.

يقضوا عليها، وفي عليّ بن الحسين (علیه السلام) الّذي يردّ على مثل هذا الرجل كفايةٌ من ذرّيّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

الإنارة السادسة: الفتح انتصار المبادئ والقيم

وقيل:

لقد أخبر (علیه السلام) الأُسرة النبويّة بأنّ مَن لحقه منهم سوف يظفر بالشهادة، ومَن لم يلحق به فإنّه لا ينال الفتح، فأيّ فتحٍ هذا الّذي عناه الإمام؟

إنّه الفتح الّذي لم يحرزه غيره من قادة العالم وأبطال التاريخ، فقد انتصرت مبادؤه، وانتصرت قيَمُه، وتألّقَت الدنيا بتضحيته، وأصبح اسمه رمزاً للحقّ والعدل، وأصبحت شخصيّته العظيمة ليست ملكاً لأُمّةٍ دون أُمّةٍ ولا لطائفةٍ دون أُخرى، وإنّما هي مُلكٌ للإنسانيّة الفذّة في كلّ زمانٍ ومكان، فأيّ فتحٍ أعظم من هذا الفتح، وأيّ نصرٍ أسمى من هذا النصر؟ ((1)).تتلخّص موادّ الفتح المقصود الّذي عناه الإمام الحسين (علیه السلام) في الموادّ التالية:

ص: 166


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 172 _ عن: حياة الإمام الحسين بن عليّ (علیه السلام) للشيخ القرشيّ: 3 / 45.

_ إنّه فتحٌ فريدٌ لم يحرزه غيره من قادة العالم وأبطال التاريخ.

_ انتصرت مبادؤه.

_ انتصرت قيَمُه.

_ تألّقَت الدنيا بتضحيته.

_ أصبح اسمه رمزاً للحقّ والعدل.

_ أصبحت شخصيّته ليست ملكاً لأمّةٍ دون أُمّةٍ ولا لطائفةٍ دون أُخرى.

هذه هي موادّ الفتح.. وهي الّتي قصدها سيّد الشهداء (علیه السلام) وعناها وضحّى بدمه الّذي هو أغلى ما في الكون وكلّ ما سوى الله إلّا مَن استثناهم الله..

هل يعني هذا أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) توخّى مِن بذل مهجته، والتضحية بأهل بيته الّذين ليس لهم على الأرض شبيه، وأنصارِه الّذين هم خير الصحاب، وجاد بعرضه وأهله ونسائه وأطفاله لشفار السلب والنهب والسبي والشماتة والعَرض والتعريض في مجالس الأدعياء والبلدان، من أجل أن تتألّق الدنيا بتضحيته؟!!

هو الإمام (علیه السلام) بنفسه عنى ذلك؟!ولكي يكون بطلاً ورمزاً للحقّ والعدل، ويجعل شخصيّته مشاعةً بين البشر؟!

إنّ الإمام (علیه السلام) نور الله في الأرض، ومَن لا يراه فهو محجوب، وليس

ص: 167

ذنب الشمس أن يُحجَب الأعمى عن نورها، فهو إمامٌ وحُجّةٌ على جميع الكائنات والمخلوقات والبشر أجمعين، هكذا نصبه الله وجعله وفرض طاعته عليهم، وليس هو ملكاً لأحدٍ سوى الله، والأُمم والطوائف بأجمعها ملكٌ له..

هل كان قد عجز الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين وباقي الأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) من إحراز مثل هذا الفتح؟

إنّ مفردات الفتح المذكورة وموادّه لا تبدو عسيرةً ولا متفلّتةً ولا عصيّةً على مثل النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ الأوّل (علیه السلام) .

ألم تكن مبادئ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وقيمه منتصرةً إلى اليوم، ولا زالت الأُمم كلّها تتحدّث بها، وتتّخذها أُنموذج الكمال في السلوك البشريّ، واتّخذوا من كلماته وكتبه وخطبه مناراً ينشر النور والهدى والعدل والجمال في كلّ الدنيا على المستوى العالمي؟

وقبل ذلك مبادئ القرآن الكريم، الّذي حماه الله وحفظه من التغيير والتبديل، فأنزله وحفظه، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟!

وكذا الكلام في باقي الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..أحقّاً كان هذا هو المعنى الّذي عناه الإمام الحسين (علیه السلام) من الفتح لا غير؟!

أتصلح هذه الموادّ لتكون ثمناً لدم سيّد الشهداء (علیه السلام) ومَن معه؟

ص: 168

ألم يكن الإمام الحسين (علیه السلام) قادراً على تحقيق جميع ذلك دون أن يُقدِم بملء إرادته على «الحركة الانتحاريّة» كما سمّاها بعض الأفاضل الأعلام؟!

وطالما قلنا: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) إنّما عنى من الفتح هذا، فلابدّ أن ندلّل على ذلك من كلامه وبيانه، فأين قال ذلك سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء؟!!

أجل، قد يقول القائل: إنّ القوم أقدموا بجرأةٍ على الله، وعزموا على قتل حبيبه، وحاصروه وقتلوه ومَن معه، ثمّ إنّ شهادته أثمرت هذه الثمار وأنتجَت هذه النتائج.. فهذا الكلام قد يكون فيه مجالٌ للقبول أو الردّ والإثبات، لأنّها تبقى نتائج العقول والتحليل.

أمّا أن يكون الإمام (علیه السلام) قد عناها وقصدها وجعلها (علّةً فاعلةً) لِما أقدم عليه، فهذا ما يحتاج إلى دليلٍ محكمٍ قويٍّ ثابتٍ لا يعتوره شكٌّ ولا ترديد، ولا ترقى إليه التساؤلات.

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) سمحَت نفسُه بمهجته، وبذل دمه في الله، لا في شيءٍ آخَر! وهو واللهِ أغلى من الدنيا وما فيها _ إلّا من استثناهمالله _، وأعزّ على الله من ذلك.

الإنارة السابعة: الفتح الاستبشار!

ربّما قيل:

ص: 169

إنّ الفتح جاء بمعنى يوم الفتح يوم القيامة.

قال العلّامة الطباطبائيّ:

وقد تقدّم في الآيات السابقة ممّا يصدق عليه الفتح بمعنى الفصل أمران:

أحدهما: فصل بينهم يوم القيامة، والآخَر: إذاقة العذاب الأدنى أو الانتقام منهم في الدنيا.

ولذا فسّر الفتح بعضهم بيوم القيامة، فيكون معنى قولهم: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ((1))، هو معنى قولهم المحكى كراراً في كلامه (تعالى): ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ((2)) ((3)).

وقال في قوله (تعالى): ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾:

سؤالٌ عن وقت الجمع والفتح، وهو البعث ((4)).

وقال في موضعٍ آخَر:

ص: 170


1- سورة السجدة: 28.
2- سورة الأنبياء: 38، سورة النمل: 71، سورة سبأ: 29، سورة يس: 48، سورة المُلك: 25.
3- أُنظر: تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 267.
4- أُنظر: تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 377.

وما قيل: إنّ المراد به يوم الموت، غير سديد؛ فإنّهم لم يسألوا الّا عمّا تقدّم وعده، وهو يوم الجمع والفتح، والجمع ثمّ الفتح من خصائص يوم القيامة دون يوم الموت ((1)).

فربّما كان الإمام الحسين (علیه السلام) يقول: إنّ من تخلّف عنّي من بني هاشم ولم يلحق بي، فلا يعتمدنّ على ما ورد في قوله (تعالى): ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ((2)).

روى عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «يستبشرون واللهِ في الجنّة بمَن لم يلحقوا بهم مِن خلفهم من المؤمنين في الدنيا» ((3)).

وفي (الكافي) مسنَداً عن بريد العجليّ قال: سألتُ أبا جعفرٍ (علیه السلام) عن قول الله (عزوجل): ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، قال: «هم واللهِ شيعتنا، حين صارت أرواحهم في الجنّة واستقبلوا الكرامة من الله (عزوجل)، علموا واستيقنوا أنّهم كانوا على الحقّ

ص: 171


1- أُنظر: تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 378.
2- سورة آل عمران: 169 و170.
3- تفسير القمّيّ: 1 / 20.

وعلى دِين الله (عزوجل)، واستبشروا بمن لم يلحق بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين ألّا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ((1)).

فمن تخلّف عن الإمام (علیه السلام) ولم يلحق به، فليس الإمام (علیه السلام) ومن معه فرطاً له، ولا يستبشرون بمن لم يلحق بهم، وليس هم ممّن سيُدرك هذا الفتح يوم الفتح بحيث يكون الإمام (علیه السلام) فرطاً له يستبشر به، وإنّما هو في خسرانٍ مبين!

الإنارة الثامنة: الفتح هو انتقام الصاحب لدم جدّه (علیهما السلام)

إستُعمل لفظ (الفتح) في اللغة بمعنى النصر كثيراً، وقد ورد في الأحاديث الشريفة تصريحاً وتلويحاً أنّ نصر الإمام الحسين (علیه السلام) لم يحن بعد، وأنّه سيُنصَر ويحقّق الغلبة على الأعداء في المستقبل القريب جدّاً.. «إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً»، ﴿ألَيسَ الصُّبْحُ بِقَريب﴾ ((2)).

فقد رُوي مسنداً عن صالح بن سهلٍ عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله (عزوجل): ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾، قال: «قتل أمير المؤمنين (علیه السلام) وطعن الحسن بن عليّ (علیه السلام)، ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً﴾: قتل الحسين بن عليّ (علیه السلام)، ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا﴾»، قال: «إذا جاء

ص: 172


1- الكافي للكلينيّ: 8 / 156 ح 146.
2- سورة هود: 81.

نصر الحسين (علیه السلام)، ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ﴾، قوماً يبعثهم الله قبل قيام القائم (علیه السلام)، لا يدَعون وِتراً لآل محمّدٍ إلّا أحرقوه، ﴿وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً﴾ ((1))» ((2)).

وبالإسناد عن أبي بصيرٍ عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: تلا هذه الآية: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ ((3))، قال: «الحسين بن عليٍّ منهم، ولم يُنصَر بعد!»، ثمّ قال: «واللهِ لقد قُتل قَتلَة الحسين (علیه السلام)، ولم يُطلَب بدمه بعد» ((4)).

وأيضاً عن أبي خالدٍ الكابليّ عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: سمعتُه يقول في قول الله (عزوجل): ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ ((5))، قال: «عليٌّ والحسن والحسين (علیهم السلام) » ((6)).

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سألتُه عن قول الله (عزوجل): ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾ ((7))، قال: «نزلَت في الحسين (علیه السلام)، لو قُتل أهلُ الأرض به ما كان سرفاً» ((8)).

وورد أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) منصورٌ لا محالة، فعن جابرٍ عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «نزلَت هذه الآية في الحسين (علیه السلام): ﴿وَمَن قُتِلَ

ص: 173


1- سورة الإسراء: 4 و5.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 63 الباب 18 ح 1.
3- سورة غافر: 51.
4- كامل الزيارات لابن قولويه: 63 الباب 18 ح 2.
5- سورة الحجّ: 39.
6- كامل الزيارات لابن قولويه: 63 الباب 18 ح 4.
7- سورة الإسراء: 33.
8- تفسير البرهان: 3 / 527 _ عن: الكافي للكلينيّ: 8 / 255.

مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾، قاتل الحسين،﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾»، قال: «الحسين (علیه السلام) » ((1)).

وأنّ مَن سيحقّق هذا النصر إنّما هو ولده القائم (علیه السلام)، فقد رُوي عن سلام بن المستنير عن أبي جعفرٍ (علیه السلام) في قوله: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾، قال: «هو الحسين بن عليّ (علیه السلام)، قُتل مظلوماً، ونحن أولياؤه، والقائم منّا إذا قام منّا طلب بثار الحسين، فيقتل حتّى يُقال: قد أسرف في القتل»، وقال: «المقتول الحسين (علیه السلام)، ووليّه القائم، والإسراف في القتل أن يقتل غير قاتله، ﴿إِنَّه كَانَ مَنْصُوراً﴾، فإنه لا يذهب من الدنيا حتّى ينتصر برجلٍ من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله)، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً» ((2)).

ص: 174


1- تفسير العيّاشيّ: 2 / 290 ح 65.
2- تفسير العيّاشيّ: 2 / 290 ح 67.

ورُوي أنّه سُئل أبو عبد الله (علیه السلام) في قوله (تعالى): ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾، قال: «ذلك قائم آل محمّد، يخرج فيقتل بدم الحسين (علیه السلام)، فلو قتل أهلَ الأرض لم يكن مسرفاً، وقوله: ﴿فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ﴾، لم يكن ليصنع شيئاً يكون سرفاً». ثمّ قال أبو عبد الله (علیه السلام): «يقتل واللهِ ذراري قتَلَة الحسين (علیه السلام) بفعال آبائها» ((1)).

وعن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: قلت لأبي الحسن الرضا (علیه السلام): يا ابن رسول الله، ما تقول في حديثٍ رُوي عن الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «إذا خرج القائم (علیه السلام) قتل ذراري قتلة الحسين (علیه السلام) بفعال آبائهم»؟ فقال (علیه السلام): «هو كذلك». فقلت: وقول الله (عزوجل): ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ((2))، ما معناه؟ قال: «صدق اللهُ في جميع أقواله، ولكنّ ذراري قتَلَة الحسين (علیه السلام) يرضون بأفعال آبائهم ويفتخرون بها، ومَن رضيَ شيئاً كان كمَن أتاه، ولو أنّ رجلاً قُتِل بالمشرق فرضيَ بقتله رجلٌ في المغرب لَكان الراضي عند الله (عزوجل) شريك القاتل، وإنّما يقتلهم القائم (علیه السلام) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم ...» ((3)).

ص: 175


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 63 الباب 18 ح 5.
2- سورة الأنعام: 164.
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق: 1 / 273 الباب 28 ح 5.

فربّما قيل: إنّ الفتح الحسينيّ لم يحن لحدّ الآن، إذ أنّ النصر سيتحقّق له حين يقوم ولده المنتقم لدمه من أعدائه، فإذا حان هذا الفتح والنصر، فليس لأحدٍ من بني هاشم ممّن تخلّف عنه يومه الأوّل أن يلحق به يومه الثاني مع ولده في كرّته.

الإنارة التاسعة: الفتح الرجعة!

ورود إطلاق (الفتح) على الرجعة:

قال عليّ بن إبراهيم في قوله:

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرضِ الْجُرُزِ﴾ ((1))، قال: الأرض الخراب، وهو مَثَلٌ ضربه الله في الرجعة والقائم (علیه السلام)،فلمّا أخبرهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) بخبر الرجعة قالوا: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ((2))، وهذه معطوفةٌ على قوله: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ﴾ ((3))، فقالوا: ﴿مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، فقال الله: «قل لهم: ﴿يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ

ص: 176


1- سورة السجدة: 27.
2- سورة السجدة: 28.
3- سورة السجدة: 21.

عَنْهُمْ﴾ يا محمّد ﴿وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ ((1))» ((2)).

والرجعة هي الفتح الأعظم _ وهذا ما لا يشكّ به مؤمنٌ بها _.

رُوي مسنداً عن بريد بن معاوية العجليّ قال: قلتُ لأبي عبد الله (علیه السلام): يا ابن رسول الله، أخبِرْني عن إسماعيل الّذي ذكره الله في كتابه حيث يقول: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً﴾ ((3))، أكان إسماعيل بن إبراهيم (علیه السلام) ؟ فإنّ الناس يزعمون أنّه إسماعيل بن إبراهيم! فقال (علیه السلام): «إنّ إسماعيل مات قبل إبراهيم، وإنّ إبراهيم كان حجّةً لله كلّها [قائماً] صاحب شريعة، فإلى مَن أُرسل إسماعيل إذن؟». فقلت: جُعلتُ فداك، فمن كان؟ قال (علیه السلام): «ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ (علیه السلام)، بعثه الله إلى قومه، فكذّبوه فقتلوه وسلخوا وجهه، فغضبالله له عليهم، فوجّه إليه أسطاطائيل ملَك العذاب، فقال له: يا إسماعيل، أنا أسطاطائيل ملَكُ العذاب، وجّهَني إليك ربّ العزّة، لِأُعذّب قومك بأنواع العذاب إنْ شئت. فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك. فأوحى الله إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال: يا ربّ، إنّك أخذتَ الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّدٍ بالنبوّة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرتَ خير خلقك بما تفعل أُمّته

ص: 177


1- سورة السجدة: 29 و30.
2- تفسير القمّيّ: 2 / 171.
3- سورة مريم: 54.

بالحسين بن عليّ (علیه السلام) من بعد نبيّها، وإنّك وعدتَ الحسين (علیه السلام) أن تكرّه إلى الدنيا حتّى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربِّ أن تكرّني إلى الدنيا حتّى أنتقم ممّن فعل ذلك بي كما تكرّ الحسين (علیه السلام) . فوعد الله إسماعيل ابن حزقيل ذلك، فهو يكرّ مع الحسين (علیه السلام) » ((1)).

فالكرّة مع سيّد الشهداء (علیه السلام) أملٌ يرجوه الأنبياء (علیهم السلام)، للانتقام ممّن قتل الإمام الحسين (علیه السلام) .

فسيكون المعنى: إنّ مَن لم يلحق بالإمام (علیه السلام)، فإنّه سوف لا يُدرِك الفتح، ولا يبلغ الانتقام بنفسه من قتلة سيّد الشهداء (علیه السلام) يوم الفتح حين يكرّ هو وأصحابه _ كما في الأحاديث _.

الإنارة العاشرة: الفتح بمعنى الفصل

إنّ الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كلٍّ منهما عن صاحبه، حتّى لا يماسّ هذا ذاك ولا ذاك هذا ((2))، تماماً كما يُفعَل بمصراعَي الباب حين يُبعَد أحدهما عن الآخر حتّى لا يتلاقيان.

فربّما كان المعنى: إنّ مَن لم يستشهد مع الإمام (علیه السلام) من بني هاشم، فإنّه لا يدرك فصل نفسه وإبعادها، بحيث يبقى في مأمنٍ من الأعداء.

ص: 178


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 138 الباب 19 ح 163.
2- تفسير الميزان للطباطبائيّ: 8 / 192.
الإنارة الحادية عشر: الفتح بمعنى الظفَر والغلَبة

لقد مرّ معنا أنّ من معاني الفتح المستعملة كثيراً، وربّما كان هو المعنى الأظهر فيه في مثل المقام، هو معنى الظفر والغلبة..

فربّما قيل: إنّ الإمام (علیه السلام) يخاطب المتخلّف من بني هاشم كأولاد العبّاس وغيرهم _ إلّا من يخرج بالدليل _ ويعرّض بهم ويقول: إنّكم إن تخلّفتم معي ولم تستشهدوا، فإنّكم لا تدركون الفتح والغلبة والظفر بالحكم، وهذا لا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) ردّ وصول بني العبّاس إلى مآربهم في السلطة والحكم، إذ أنّ المخاطب هو مَن كان على قيد الحياة زمن الإمام (علیه السلام) وهو يطمع بها، ومن وصل إلى مآربه هم أحفاد الأحفاد.

الإنارة الثانية عشر: الفتح بمعنى القضاء

القضاء، والتمييز في القضيّة، ومعرفة الحقّ، وإماطة الإغلاق والإشكال في الأمر، من معاني الفتح كما مرّ معنا..

وقال الراغب:

الفتح: إزالة الاغلاق والإشكال ...

إلى أن قال:

وفتحَ القضيّةَ فتحاً: فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها. قال:

ص: 179

﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ ((1)) ((2)).

فربّما كان المعنى: إنّ الإمام (علیه السلام) يقول لهم: إنّكم إن تخلّفتم ولم تلحقوا بالشهادة، فسوف لا تميّزون بعدها، وتعجزون عن إزالة الإغلاق والإشكال في الأمر والدين، وتضطرّون إلى الخبط والخلط والنفاق وغيرها.

الإنارة الثالثة عشر: الفتح طلب الثأر

ربّما يُقال:

إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان يخاطب الهاشميّين بالخصوص دونغيرهم، فقال لهم: مَن لحق بي استُشهد معي، ولكن مَن لم يلحق بي لا يظنّنّ أنّه سيُدرك الثأر لي والانتقام لي من أعدائي!

وهذا ما حصل بالفعل للهاشميّين، وأنّهم لم يُدركوا ثار الإمام (علیه السلام) وأهل بيته.

وهو في نفس الوقت سيكون تنبيهاً وتنويهاً وتخذيلاً عن بني العبّاس وغيرهم ممّن أراد أن يرفع دماء سيّد الشهداء (علیه السلام) ليتذرّع بها

ص: 180


1- سورة الأعراف: 89.
2- أُنظر: تفسير الميزان للطباطبائيّ: 16 / 267.

وبالثأر لها، ليصل إلى مآربه الدنيويّة.. إذ أنّ هذا البلاغ نفى عنهم إمكان ذلك، ومنعهم عن ادّعائه، وكذّبهم فلا يغترّنّ بهم أحد.

الإنارة الرابعة عشر: الفتح هو الاستشهاد معه!

قد يُقال:

ذكرنا فيما مضى أنّ كلام الإمام الحسين (علیه السلام) في كتابه هذا قطعةٌ واحدة، فما بعد العطف يتحدّث عمّا قبله وبالعكس، فحينئذٍ يكون الفتح المذكور في المقطع الثاني مشيراً إلى ما ذُكر في المقطع الأوّل الّذي تحدّث عن نتيجة اللحاق به (علیه السلام) .

فإذا كانت نتيجة اللحاق به هي الشهادة معه، فما سيفوت على مَن تخلّف عنه ولم يلحق به هو (الشهادة بين يديه)، وهذا الاستشهاد هو الّذي عناه الإمام (علیه السلام) ب-- (الفتح)!فكأنّه يقول: مَن لحق بي منكم فقد أدرك الفتح والظفر والفوز بالشهادة، ومَن لم يلحق بي لم يُدرِك هذا الظفر والفوز بالشهادة الّذي سمّاه الفتح..

فالفتح بالنسبة لمن لحق ولمن لم يلحق هو الفوز بالشهادة أو الحرمان منها.. فيكون المراد بالفتح هنا هو الشهادة نفسها، تماماً كما قد قيل سابقاً، والفرق أنّه تحدّث عنها لا عمّا سيترتّب عليها.. فالشهادة دفاعاً عن سيّد الكائنات وإمام الزمان هي عين الفتح بكلّ ما للفتح

ص: 181

من معانٍ مذكورةٍ في اللغة ممّا يناسب المقام على المستوى الفرديّ والعام.

فسيكون المعنى: من لحق بي منكم استُشهد معي، ومن لم يلحق بي منكم فإنّه لن يبلغ هذا الفتح _ الّذي هو الشهادة بين يديه _ بعد اليوم.. لأنّ الشهادة بين يديه والدفاع عنه وعن آل الرسول (صلی الله علیه و آله) هي أعظم فرصةٍ يمكن أن يظفر بها الإنسان في هذه الدنيا، ليظفر بأعلى الرتب السامية في الدارين الّتي لا يمكن أن يظفر بها في أيّ ظرفٍ آخَر لا من قبل ولا من بعد..

فربّما يكون هذا هو معنى الكثير من تصريحات أنصار الحسين وأهل بيته (علیهم السلام) يوم عاشوراء من أنّ الله مَنّ عليهم بهذا الموقف، واختصّهم بهذه الخصوصيّة، وأنّه يومٌ مميَّزٌ لهم لينالوا به الرتب العاليةوالمقامات السامية، ممّا جعلهم يتهادون إلى القتل بين يدَي الحسين (علیه السلام) وعياله، ويتسابقون إلى الجنان، ويتطاول لهذا الفتح العظيم حتّى مَن لم يبلغ الحلُم منهم، لأنّ أيّاً منهم لو عمّر عمر الدنيا وزيادةً لَما فتح الله عليه بمثل هذا الفتح، ولم يظفر بمثل هذه الفرصة..

فالفتح هنا هو نفس الشهادة بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) .. وما أعظمه من فتحٍ بلغ ببعض مَن ناله أن يغبطه عليه سائر الشهداء (علیهم السلام)، وأن يبلغ بالجميع رتبة «لا أعلم أصحاباً.. ولا أهل بيت..».

والفاتح هو مَن نال هذه الشهادة، وليس هو الإمام الحسين (علیه السلام)

ص: 182

نفسه، وإنّما هو السبب في تحقّق هذا الفتح لمن استشهد معه.

فإن كان الإمام الحسين (علیه السلام) فاتحاً، فبمعنى أنّه فتح لهؤلاء الأبرار الأطهار باب الكمال والسموّ والرفعة والرتب السامقة، وفتح لهم أبواب الجنان العالية الخاصّة الّتي لا تُفتَح إلّا لأمثالهم.

الإنارة الخامسة عشر: الفتح بمعنى نصرته

ورد الفتح بمعنى النصر والنصرة، وقد صرّح بذلك نصّ الكتاب برواية أبي طالبٍ الزيديّ، إذ جاء فيه:

«أمّا بعد، فإنّكم إن لحقتم بي استُشهدتم، وإن تخلّفتُم عنّيلم تلحقوا النصر، والسلام» ((1)).

فيكون معنى الفتح هو نصر ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، والشهادة بين يديه، فمن لحق من بني هاشم به فقد فاز بنصره، ومن تخلّف عنه فإنّه قد خسر هذه الفرصة ولم ينصره.

الإضاءة التاسعة: محصَّل الكلام

بعد هذا الاستعراض الّذي ربّما أطلنا فيه الحديث، لأنّه ربّما كان من التصريحات المهمّة، والبيانات الّتي جُعلَت من الأُسس الرئيسة في

ص: 183


1- الأمالي لأبي طالب الزيديّ: 91.

فهم قيام الإمام الحسين (علیه السلام) ..

رغم هذه الإطالة، فإنّنا نحسب أنّ في المقام مجالاً أوسع للكلام، بيد أنّنا اكتفينا بهذا القدر، لأنّ ما سيأتي من دراساتٍ سيتناول الموضوع من جهاتٍ وحيثيّاتٍ أُخرى، والبحث يتمّم بعضه بعضاً.

وخلاصة القول هنا:

إنّ جملة الوجوه المذكورة قبل قليلٍ تحاول استكشاف مراد الإمام (علیه السلام) وقصده في الكتاب، فربّما اقتنع المتلقّي بوجهٍ دون آخَر، أو بعدّة وجوهٍ منها، وله الخيار في الاختيار إذا تخلّى عن السوابق الذهنيّة، وحاول الجلوس بين يدَي الإمام (علیه السلام) وخطابِه ليستلهم ما يقول..وقد مرّ معنا معنى المفردات الواردة في اللغة والاستعمال، فما كان من الوجوه موافقاً لها فهو الأقرب والأكثر مقبوليّةً وإقناعاً، سيّما إذا كانت الأدلّة والأحاديث وبيانات الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه ومواقفه تدلّ عليه وتشهد له.

وما كان من الوجوه ارتجاليّاً وتخرّصاً وتخميناً وما شاكل ممّا يجده المتلقّي قريباً من الحماسة والانفعال والاندفاع والشعارات والتصوّرات والتصويرات، بعيداً عن واقع الحوادث التاريخيّة وسير الأحداث، ونافراً عن السياق غير منسجمٍ معه، ولا دليل عليه من قول الإمام (علیه السلام) أو فعله، فهو يتهاوى ولا يستقيم!

والمفروض أن يُذكَر الدليل القاطع والبرهان الساطع على مراد

ص: 184

الإمام (علیه السلام) إن زعمنا أنّه هو المراد الوحيد، أمّا أن يُساق الكلام هكذا في جوٍّ حماسيٍّ مزدحمٍ بالصور الأدبيّة الخطابيّة من دون استدلال، فهو تحميلٌ على كلام الإمام (علیه السلام) .

ويمكن للمتلقّي أن يرى في بعض الوجوه المذكورة تجانساً وانسجاماً، فهي تتلاقى وتتماشى بشكلٍ طوليٍّ لا تعارض بينها، فتكون جميعها داخلةً في دائرة القبول، وإن كان بعضها أقرب من بعض، وبعضها أقوى من بعض.

وربّما كان الوجه قبل الأخير المذكور في الإنارة الرابعة عشرة وجهاًقريباً من الألفاظ والمفردات والتراكيب واتّحاد السياق، ممّا يجعله أقرب إلى التصوّر، وهو وجهٌ يتماهى ويلتئم مع بعض الوجوه الأُخرى، سيّما الوجه الأخير.

الإضاءة العاشرة: هل في الكتاب تعريض؟!

اشارة

ربّما قيل:

إنّ أسلوب جواب الإمام الصادق (علیه السلام)، وقوله: «إنّي سأُحدّثك في هذا الحديث، ولا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا»، وهم كانوا في جوّ مناقشة خروج سيّد الشهداء (علیه السلام)، وتخلّف المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) .. وكذا في حديث الإمام الباقر (علیه السلام) الّذي يروي الكتاب.. ما يفيد التعريض بالمولى المكرّم

ص: 185

ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وأنّه قد تخلّف عن أخيه بعد إقامة الحجّة عليه.

ويمكن استكشاف مدى صحّة هذا القول أو سقمه من خلال التلويحات التالية:

التلويح الأوّل: لماذا يُحصَر الكلام في ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ؟!

مرّت الإشارة إلى أنّ الكتاب ليس خاصّاً بالمولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وإنّما هو خطابٌ لبني هاشم المعاصرين جميعاً، وابنالحنفيّة (رضی الله عنه) أحدهم، وهو من آل أبي طالب الّذين لازموا جميعاً ركاب سيّد الشهداء (علیه السلام)، إلّا القليل القليل منهم الّذين لم يلحقوا لأسباب.

فلماذا لا نسمع من يلوم بني هاشم المتخلّفين من غير آل أبي طالب، وكأنّ الكتاب لا يخاطبهم، بل قد نجد من يدفع عن كبارهم من قبيل ابن عبّاس، ويحاول جاهداً إيجاد الذرائع والتوسّل بأيّ قشّةٍ يمكنها أن تفلت به من تحت طائلة الخطاب؟!

فلْيعتذر مَن أراد الاعتذار لمثل ابن عبّاس بكونه كان كفيف البصر أو غيرها من الأعذار بعد أن يشمله الخطاب، أمّا أن يُقال: إنّه كان في مكّة، والخطاب موجَّهٌ لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) يوم كان في المدينة، لإخراجه من شمول الكتاب، فهو تذرّعٌ أكثر من بارد.

ولو كان الأمر كذلك، لَما خرج باقي أولاد العبّاس ولا أولادهم بما فيهم أولاد عبد الله بن عبّاس، وسيبقون تحت طائلة المسؤوليّة!

ص: 186

وقد اتّضح من خلال البيان الّذي مرّ معنا سابقاً أنّ المولى محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كان في مكّة حين خروج سيّد الشهداء (علیه السلام)، وحين كتابة سيّد الشهداء (علیه السلام) كتابه لأخيه وبني هاشم، فلا معنى لما اعتذروا به لابن عبّاس، حيث قيل:

إنّ عنوان الكتاب كان «إلى محمّد بن عليّ ومَن قبله من بنيهاشم، وهو يومئذٍ كان بالمدينة، وابن عبّاس حين كتابة الأوّل (مَن لحق بي منكم استُشهد..) كان مع الحسين بمكّة، وهو غير مشمولٍ بالدعوة» ((1)).

فلا يمكن إثبات كون ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) حين كتابة الكتاب كان في المدينة، بل الإثبات خلافه تماماً.

ثمّ إنّ الكتاب لم يحدّد المخاطَب حسب المكان، وإنّما خاطبه حسب الانتماء والنسب: «مَن لحق بي منكم»، أي: من بني هاشم، سواءً أكانوا في المدينة أو مكّة، أو في أيّ صقعٍ من أصقاع الأرض يومها.

قال السيّد الخرسان (حفظه الله):

أمّا جواب السؤال الثاني: لماذا لم يُرسِل _ أي: عبد الله بن عبّاس _ بعض أولاده مع الحسين (علیه السلام) ؟

فهو يشارك الأوّل في صعوبة تجنّبه، وتستعصي الإجابة عنه

ص: 187


1- موسوعة عبد الله بن عبّاس للسيّد الخرسان: 5 / 245.

بالتعذير؛ فإنّ الكتاب الّذي ذكرنا أنّ الحسين (علیه السلام) أرسله من مكّة إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبله من بني هاشم الّذين كانوا بالمدينة، لا شكّ في أنّه دعوةٌ ترغيبيّةٌ للالتحاق بركبه الحسينيّ، والتخلّف عنه بغير عذرٍ شرعيّ غير فائز بعظيم الأجر، لأنّه لم يبلغ مبلغ الفتح.وعلى هذا، فإنّ بني هاشم الّذين كانوا بالمدينة ولم يلحقوا بالحسين (علیه السلام) هم أَولى بالتقصير منهم بالتعذير، وأولاد ابن عبّاس الّذين كانوا بالمدينة من جملة أُولئك غير المعذّرين.

ويبقى اللّوم _ إن صحّ التعبير _ متوجّهاً إلى أبيهم، فهو إن كان معذوراً لأنّه مكفوف البصر، أما كان الأجدر به أن يصنع مثل صنع ابن جعفرٍ حين أرسل ابنَين من وُلده مع الحسين (علیه السلام) لنصرته؟

وأمّا اعتذار بعض الباحثين ممّن أُجلّه معذّراً بأنّهم ربّما كانوا صغاراً، قولٌ تعوزه الدقّة في المعرفة التاريخيّة، فإنّ في أبناء ابن عبّاسٍ مَن ناهز العشرين سنة، بل جاوزها، كابنه العبّاس الأعنق، وبه كان يُكنّى، وهو أكبرهم، أمّا أصغرهم فابنه عليّ _ والد العباسيّين _، فإنّه وُلد قبل شهادة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، وبارك الإمام (علیه السلام) لأبيه ولادته، وهو الّذي سمّاه عليّاً، وله بينهما محمّد والفضل وعُبيد الله، وزاد المسعوديّ عبد الرحمان، فهم كلّهم له قابليّة حمل السلاح ويتوجّه عليه

ص: 188

التكليف، وقد شملَتهم دعوة الحسين (علیه السلام) في كتابه الآنف الذكر.

هذا كلّه إذا احتملنا أنّهم كانوا بالمدينة، ولم يكونوا بمكّةمع أبيهم، خصوصاً وإنّ أباهم كان إليه أمر السقاية، وهم في موسم الحجّ، وهو بحاجةٍ إلى بعض وُلده ممّن يساعده في الإشراف على إدارة شؤون السقاية وتدبير أمرها، خصوصاً بعدما كُفّ بصره.

ولو تنزّلنا عن هذا أيضاً وعدنا إليهم في المدينة، أما كان عليه أن يُرسِل عليهم فيُحضرهم ليذهبوا مع الحسين (علیه السلام) فينالوا شرف المفاداة؟

وهكذا يبقى السؤال ناقص الإجابة، عصيّ التعذير، وحيّ التقصير، والله العالم بحقائق الأمور ((1)).

هذا، ولا يخفى أنّ النصرة يومذاك لم تكن تقتصر على حمل السلاح، فإنّ لمثل ابن عبّاس أن ينصر ابن عمّه بجاهه ومقامه _ الّذي كان يعتقده هو نفسه _ عند القوم، إذ كان ولا زال من أعلامهم، فكان له أن ينصر ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بردّ عادية الكواسر عنه، ولو بخطاب، أو بلقاءاتٍ مع الناس في المدينة ومكّة، وشرح الموقف لهم، وتنبيههم إلى الخطر المحدق بآل الرسول (صلی الله علیه و آله)، ودعوتهم للدفاع عنهم..

ص: 189


1- موسوعة عبد الله بن عبّاس للسيّد الخرسان: 5 / 245.

ولو كان قد حضر كربلاء _ ولو كان كفيف البصر كما يُقال _ لَكان لوقوفه في معسكر ابن عمّه الأثر البليغ على عسكر العدوّ؛ فهو ابنعبّاس _ كما يزعم ويزعمون فيه _ الرجل صاحب المقام الرفيع عند رجال السقيفة وعند العوامّ، والصحابيّ _ كما يزعم ويزعمون _ الّذي لا يختلف فيه اثنان من القوم..

هذا في ابن عبّاس، والكلام يجري في غيره من ذرّيّة هاشم، فلماذا يُحصَر الكلام في ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فلْيتوجّه اللّوم أوّلاً إلى غيره، ثمّ نتصوّر ما قد نردّ به عليهم دفاعاً عن المولى المكرّم (رضی الله عنه) بكلمةٍ واحدة، فنقول لهم مثلاً:

إنّ آل أبي طالب كلّهم سارعوا إلى النجدة، وقدّموا أرواحهم وأنفسهم وما يملكون بين يدَي أخيه الحسين (علیه السلام)، وهم كلّهم أهله ورهطه وإخوته، فهو قد قدّم ما قدّم، وتأخّر لسببٍ يعرفه هو ويعرفه أخوه، فماذا أنتم قائلون؟ وبأيّ عذرٍ تعتذرون؟ وماذا كنتم فاعلون، وأنتم لم تحركوا يداً ولا رجلاً، ولم تنصروا بلسان، وبخلتم عليه بالزاد والنفقة فضلاً عن الأنفس والأولاد؟!

التلويح الثاني: احتمال التقيّة

من أساليب الخطاب المستعملة كثيراً في القرآن وفي كلام أهل البيت (علیهم السلام) أنّهم يتّخذون من فردٍ عنواناً يخاطبونه، ويقصدون به من

ص: 190

وراءه، كما هو الحال في كثيرٍ من الخطابات القرآنيّة للنبيّالأكرم (صلی الله علیه و آله)، وكما في بعض خطابات النبيّ (صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين (علیه السلام) في وصاياه، وخطابات أمير المؤمنين (علیه السلام) لأولاده في وصاياه، وهكذا..

فذِكرُ المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) كعنوانٍ للخطاب في الكتاب لا يضرّ به، سيّما إذا عرفنا أنّه مرضيٌّ عند الإمام (علیه السلام)، وأنّ الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) أكّد أنّه لا يخاف عليه الحسد، وأنّه روى عن أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) فيه أنّه سمعه يقول: «مَن أحبّ أن يبرّني في الدنيا و الآخرة فليبرّ محمّداً ولدي ...».

وعرفنا أنّ محمّداً كان يعتقد إمامة الإمام الحسن (علیه السلام)، إذ يقول له:

أنت إمام، وأنت وسيلتي إلى محمّد (صلی الله علیه و آله) .

وأنّه يعتقد إمامة الإمام الحسين (علیه السلام)، إذ يقول:

الحسين أعلمنا علماً، وأثقلنا حِلماً، وأقربنا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) رحماً، كان فقيهاً قبل أن يُخلَق، وقرأ الوحي قبل أن ينطق، ولو علم الله في أحدٍ خيراً ما اصطفى محمّداً (صلی الله علیه و آله) .

فلمّا اختار الله محمّداً، واختار محمّدٌ عليّاً، واختارك عليٌّ إماماً، واخترتَ الحسين، سلّمنا ورضينا، من هو بغيره يرضى، ومن غيره كنّا نسلم به من مشكلات أمرنا ((1)).

ص: 191


1- أُنظر: الكافي للكلينيّ: 1 / 300 ح 2.

كما أنّنا لم نسمع من الأئمّة (علیهم السلام) ممّن تلى سيّد الشهداء (علیه السلام) مَن يخدش فيه وفي ولائه، ولم نرَ منهم إلّا الاحترام والتقدير والتعظيم والتكريم لعمّهم المبجّل.

عرفنا من هذا ومن غيره، أنّه كان معذوراً عذراً مرضيّاً عند الله وعند رسوله (صلی الله علیه و آله) وعند الائمّة (علیهم السلام)، وإنْ أبى مَن أبى ذلك.

فهو على الأقلّ مقدَّسٌ محترمٌ محصَّنٌ عندهم، قد منعوا الناس من الدنوّ والاقتراب من حريمه والتعرّض له، وأمروا الخلق أن يسكتوا عمّا لا يعرفون، وأن لا يتدخّلوا في شأنه، ولا يسألوا عن موقفه لأيّ غرضٍ كان.

وبعد ذلك، فإنّ من عادة خطابات أهل البيت (علیهم السلام) إذا أرادوا أن يذكروا المقصّر، فإنّهم لا يصرّحون به، وهذا من أساليبهم، ومن سموّ أخلاقهم، وكم من مرّةٍ سمعنا النبيّ (صلی الله علیه و آله) يهدّد أحداً أو يلومه على نحو الإيهام والتعمية، فيقول: ما بال أقوام يقولون كذا، أو يفعلون كذا، وهو يعني أحدهم بالذات..

وربّما سمعنا المعصوم يلوم عقيلاً والعبّاس، فيخرج عقيلٌ فيما بعد حين يُعرف عذره في المسألة، فيبقى اللوم متوجّهاً إلى الثاني لعدم المعذوريّة..

وكذا يوجد لمثل هذه الأساليب نماذج وأمثلة كثيرة في كلمات أهل البيت (علیهم السلام)، وهو من أساليب التقيّة!

ص: 192

فربّما كان في هذا الكتاب نموذجاً لمثل هذه الاستعمالات، فإنّ بني العبّاس كمثالٍ لبني هاشم قد وقفوا موقفاً غير مشرّفٍ مع أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) على كلّ المستويات وجميع الأصعدة، وتوجيه اللّوم إليهم مباشرةً يشكّل مشكلةً وإحراجاً شديدَين، فأُدخل كبير آل أبي طالب بعد شهداء الطفّ في الخطاب ودُمج معهم، ليكون عنواناً مشيراً لأُولئك المقصودين بالذات، ليُدفَع عنهم ما قد يضرّ بهم وبشيعتهم، كما سنسمع بعد قليل.

فإذا وجدنا العذر للمولى المكرّم، فيتعيّن اللّوم على غيره!

وما دمنا نعتقد _ كما تؤكّد النصوص والشواهد التاريخيّة _ اعتقاد المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام)، وأنّه مفترض الطاعة عليه، ونعتقد جلالته وعلوّ منزلته في العلم، بحيث يقول له إمام زمانه: «فإنّه ليس مثلك يغيب عن سماع كلامٍ يحيا به الأموات، ويموت به الأحياء، كونوا أوعية العلم ومصابيح الهدى، فإنّ ضوء النهار بعضه أضوأ من بعض»..

وفي هذه المقارنة يشهد الإمام (علیه السلام) له بأنّه من أضواء النهار، بيد أنّ ثمّة مَن هو أضوأ منه، وهو الإمام (علیه السلام) ..

كما يشهد له أنّه لم يجعل الله للشيطان عليه سلطاناً، فيقول: «ولم

ص: 193

يجعل الله (عزوجل) للشيطان عليك سلطاناً» ((1))..

ويشهد له أيضاً ما رواه الإمام الرضا (علیه السلام) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّه كان يقول: «إنّ المحامدة تأبى أن يُعصى الله (عزوجل) »، وعدّ منهم ابنه محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) ((2))..

عرفنا أنّه لم يتخلّف، ولم يصدر في ما يفعل بما أُوتي من علمٍ ومتانةٍ وخروجٍ عن سلطان الشيطان إلّا عن أمر الإمام (علیه السلام) وإذنه!

وليس لنا بعد ذلك السؤال عن السبب، ما لم يكشف عن طريقه، وقد أمرونا بعدم التكلّف والبحث فيما لا يعنينا من شأن أولاد الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) المباشرين، فكيف بابن سيّد الأوصياء وقائد الغرّ المحجّلين (علیه السلام) ؟!

ولكن قد يقال: ربّما..

نقول: قد يُقال.. وربّما.. وارصفْ ما شئت من مفردات الاحتمال والتردّد..

قد تكون حكمةٌ من بين الحِكَم، وتصوّرٌ من بين التصوّرات الّتي قد تصيب وقد تخطئ:

إنّ العدوّ كان قاصداً لآل أبي طالب، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً،

ص: 194


1- أُنظر: الكافي للكلينيّ: 1 / 300 ح 2.
2- أُنظر: اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّيّ): 70 ح 125.

وكان يريد أن لا يُبقي لهم على الأرض باقية.. هكذا كان بنو أُميّة، وهكذا كان مَن قبلهم، وهكذا كان بنو العبّاس مِن بعدهم.. وهذا ما لا يحتاج إلى الكثير من الاستدلال وسرد الشواهد وذكر المثال..

وكان مَن فلَت من سيوف الأعداء ورماحهم ونبالهم من آل أبي طالب في كربلاء سيّما من الذكور قليلاً معدوداً..

وكان الإمام السجّاد (علیه السلام) يومها شابّاً بحساب السنين.. والشيعيّ المعتقد بالحقّ وبالإمامة والتنصيب من الله يرى التسديد الإلهيّ الخاصّ للمعصوم، فلا يهمّه العمر وحساب السنين، أمّا العوامّ والأعداء، فإنّهم لا يرون ذلك، وهم عنه محجوبون بفعالهم وضلالهم..

فكان من الطبيعيّ، بل ربّما من الضروريّ بالحسابات الاجتماعيّة والعرفيّة السائدة يومذاك وإلى يوم الناس هذا، أن تبقى بقيّةٌ من آل أبي طالب فتياناً وشيوخاً، حتّى يكبر الصغير منهم من بقيّة السيف..

وفي ذات الوقت يكون ثمّة سنداً اجتماعيّاً من الشيوخ، ولو كانوا معدودين لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة للإمام سيّد الساجدين وزين العابدين (علیه السلام)، من قبيل المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وعبد الله بن جعفر..

فهم وبعض فتيانهم حاجةٌ في فترةٍ زمانيّة، حتّى يتكاثر آل أبي طالبٍ من جديد بعد كربلاء..

وربّما شهد لذلك أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يقطع بعد ذلك اتّصاله

ص: 195

بأخيه، وكتب إليه بعد ذلك الكتاب.

التلويح الثالث: الأمر بالسكوت لمنع اتّساع البحث

ربّما يُفهم من أمر الإمام الصادق (علیه السلام) بالسكوت وعدم تتبّع البحث أنّ الحديث عن المولى المكرم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) سيجرّ إلى الحديث عن غيره من بني هاشم، فإذا أُدين المولى المكرّم _ والعياذ بالله _ بتخلّفه عن سيّد الشهداء (علیه السلام)، وقد استأصل العدوّ شأفته وأباد أهله، فإنّ إدانة بني العبّاس قاطبةً وغيرهم من بني هاشم أَولى وأقوى وأشدّ..

وبالتالي سيؤدّي بالشيعة _ على مدى الأعصار والدهور _ إلى الوقيعة بهم واتّخاذ الموقف منهم ومعاملتهم معاملة مَن أعان على سيّد الشهداء وريحانة النبيّ وقرّة عين أمير المؤمنين والزهراء (علیهم السلام) وجميع آل أبي طالب، وتكشف عن سوأةٍ لبني العبّاس لا يمكن أن يغطّيها تبريرٌ ولا تعذيرٌ ولا ذريعة..

سيّما إذا عرفنا أنّ ملوك بني العبّاس وطواغيتهم كانوا يعيشون في عصر الإمام الصادق (علیه السلام) ومَن بعده من أولاده المعصومين (علیهم السلام) وشيعته الميامين، وقد كشفت الأيام مدى الحسد الكامن فيهم ممّا أدّى بهم إلى قتل الأئمّة (علیهم السلام) وملاحقة آل أبي طالب تحت كلّ حجرٍ ومدر، وبناء أُسطوانات قصورهم على أبدانهم الطاهرة وهم أحياء، والأخبار في ذلك تملأ صفحات التاريخ.

ص: 196

وربّما شهد لذلك نصّ الحديث المرويّ عن الصادق (علیه السلام)، إذ أنّه لم يصرّح باسم المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، واكتفى بقوله: «من الحسين ابن عليّ إلى بني هاشم».

التلويح الرابع: حصانة أولاد الأئمّة (علیهم السلام) !

أيّاً كانت دلالة خطاب الكتاب إلى بني هاشم، حتّى لو قيل: إنّ فيه تلويحاً وتعريضاً بموقف المولى المكرّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فإنّ مفاد كلام الإمام الصادق (علیه السلام):

إنّ حريم أولاد الأئمّة (علیهم السلام) حريمٌ مقدَّس، لا يُسمَح لغيرهم الخوض فيه والدخول بينهم، ويُكتفى بهذا القدر من أنّ الحجّة قائمةٌ عليهم أجمعين، لكن مَن هو المعذور ومَن هو الملام، فهذا ما يبقى لأهله خاصّة.

وطالما سمعنا ذلك وعرفناه في أوامر أهل البيت (علیهم السلام) وتعاملهم مع أولادهم المباشرين، كما فعل الإمام صاحب الأمر والزمان (علیه السلام) مع عمّه جعفر حين أمر بإيكال أمره إليه دون غيره، وأنّ سبيله معه سبيل إخوة يوسف (علیه السلام) ((1))، أي أنّه سيقول له بعد أن تنجلي الكربة ويتقشّعالغيم المتلبّد في الأجواء: لا تثريب عليك اليوم، يغفر الله لك..

وقد ذكرنا في أكثر من موضع من هذه الدراسة هذه الحصانة، وأشرنا

ص: 197


1- أُنظر: كمال الدين للصدوق: 484 ح 4.

إليها، وذكرنا الأدلّة والشواهد عليها، فلا نعيد.

فيبقى الأدب في التحرّز والتوقّي الشديد من الدنوّ والاقتراب من حريم الإمام (علیه السلام)، ولا شكّ أنّ الأولاد المباشرين يحيط بهم سور الحريم، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «يُحفَظ المرء في ولده»، كما روت عنه ابنته سيّدة النساء فاطمة الزهراء (علیها السلام) ((1)).

ويُقال لمن أراد أن يدخل في مثل هذا المضمار:

نقِّبْ أوّلاً عن الأفراد الآخرين ممّن شملهم الكتاب، من قبيل عبد الله بن عبّاس وغيره من الهاشميّين _ وما أكثرهم يومذاك _، فإن فرغتَ عنهم جميعاً، واستعرضتهم فرداً فرداً، وبقي في العمر متّسَع، فحينئذٍ فلْيتناول بقية آل أبي طالب إن أمهله الله.

التلويح الخامس: اختصاص الأمر ببني هاشم!

نعود مرّةً بعد مرّةٍ إلى التنويه إلى اختصاص هذا الكتاب ببني هاشم، وقد أشرنا وصرّحنا في مواضع كثيرةٍ بذلك، ولكن في كلّ مرّةٍ كانتالإشارة إلى بُعدٍ ربّما يختلف عن البُعد الآخر من هذا الاختصاص..

أضف إلى أنّ التكرار في مثل هذا الحال قد يُعدّ ضروريّاً أحياناً؛ لأنّ

ص: 198


1- أُنظر: دلائل الإمامة للطبريّ: 120.

استفادة العموم والشمول من الكتاب قد دأب عليه مَن تناول الكتاب بالبحث والتعليق والتحليل.

فما في الكتاب من دعوةٍ إلى اللحاق بركب الشهادة، وأنّ مَن تخلّف عنه ولم يلحق لم يُدرك الفتح.. هي دعوةٌ إلى بني هاشم، وهو فتحٌ لم يُدركه بنو هاشم ولم يبلغوه..

تعميم الخطاب، وتعميم الدعوة، وتعميم الفتح، يحتاج إلى دليلٍ وقرينةٍ واضحةٍ لا تقبل النقاش.. ولم نجد قرينةً صارفة، والله العالم.

الإضاءة الحادية عشرة: مَن لحق من بني عبد المطّلب

اشارة

قال ابن سعدٍ ومَن تلاه:

وبعث حسينٌ إلى المدينة، فقدم عليه مَن خفّ معه من بني عبد المطّلب، وهم تسعة عشر رجلاً ونساءٌ وصبيانٌ من إخوانه وبناته ونسائهم، وتبعهم محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فأدرك حسيناً بمكّة، وأعلمه أنّ الخروج ليس له برأيٍ يومههذا، فأبى الحسين أن يقبل ((1)).

ص: 199


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 421، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2612، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 9.

ورد في هذا النصّ على ما فيه، سيّما في آخره الّذي نقلناه فيما سبق وناقشناه، حيث يذكر منع المولى المكرّم (رضی الله عنه) أبناءه من اللحاق بركب سيّد الشهداء (علیه السلام)، وأنّ الإمام (علیه السلام) وجد عليه _ حاشاه _، أنّ ثمّة مَن بعث إليه الإمام (علیه السلام) من أقربائه والتحاق بعضهم به، فلْنتابعه من خلال الإشارات التالية:

الإشارة الأُولى: متى بعث الإمام (علیه السلام) إليهم؟!

يفيد السياق أنّ الإمام (علیه السلام) بعث إلى المدينة قبل أن يخرج من مكّة، وقبل أن يكتب كتابه إلى بني هاشم: «مَن لحق بي ...»؛ لأنّ ذيل الخبر يصرّح بخروج المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) من المدينة بعدهم، وإنّما لحق المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) بأخيه وكلّمه ليلة خروجه من مكّة، كما سمعنا في حديث الإمام الصادق (علیه السلام) آنفاً.

أجل، قد يقال: إنّ كلام ابن سعدٍ لا يعدو أن يكون سرداً للأحداث التاريخيّة، من دون رعاية التقدّم والتأخّر والترتّب الزماني.. فحينئذٍ ربّما يدخل في سياق الكتاب المذكور، غير أنّ السياق عصيٌّ على هذا الفرض، حيث يقول: «وتبعهم محمّد ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، فأدرك حسيناًبمكّة».

ص: 200

الإشارة الثانية: مَن المبعوث؟

إذا اعتمدنا السياق وقلنا: إنّ هذا البعث هو غير الكتاب المذكور..

فمن كان المبعوث؟

هل كانت رسالةً شفويّةً أَم كتاباً؟

هذا ما لا يذكره ابن سعدٍ ولا من تلاه ممّن نقل الخبر، مع ما في الخبر من أهميّة!

الإشارة الثالثة: المخاطَب!

يبدو من النصّ أنّ الخطاب كان موجَّهاً إلى أقرباء الإمام (علیه السلام) خاصّة، ويمكن استفادة ذلك ممّن ذكرهم المؤرّخ في مقام التلبية واللّحاق به، فمن أجابه هم جماعةٌ من آل عبد المطّلب..

ولم يسجّل لنا التاريخ أيّ موقفٍ للإمام (علیه السلام) دعا فيه أحداً غير آله ورهطه وبني هاشم إلى ذلك اليوم.

ولا يخفى أنّ آل أبي طالبٍ من بني عبد المطّلب، والنصّ يصرّح أنّ من لحق بالإمام (علیه السلام) هم «تسعة عشر رجلاً، ونساءٌ وصبيانٌ من إخوانه وبناته ونسائهم»، فهم عددٌ محصورٌ من الرجال والنساء والصبيان من إخوانه ونسائهم، فهو قد حصرهم بالإخوة وعوائلهم، فليس فيهم والحالهذه أحدٌ من بني عبد المطّلب إلّا آل أبي طالب فقط!

فيما نقرأ فيما مرّ معنا مفصّلاً في أخبار خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة

ص: 201

أنّه خرج بعامّة أهله وإخوته وعوائلهم، ولم يبقَ في المدينة منهم أحدٌ سوى المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ((1)).

فهل كان فيهم مَن تأخّر لضرورةٍ ثمّ لحق، وقد أمهلهم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام)، لأنّه كان مقيماً في مكّة، فلمّا أزف الرحيل بعث إليهم يخبرهم ليعجّلوا ويلحقوا؟!

كيف كان، فإنّ الخبر لم يذكر لنا أسماءهم، ولا عددهم بالتحديد، إذ أنّ السياق يفيد أنّ ال- «تسعة عشر» هو عدد الرجال، معهم نساءٌ وصبيان، فكم كان عدد النساء والصبيان معهم؟

إلّا أن يقال: إنّ ال- «التسعة عشر» هو العدد الإجماليّ، فيكون العدد محصوراً، هذا إن ساعد السياق على ذلك.

الإشارة الثالثة: موقف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في هذا الخبر

وأعلمه أنّ الخروج ليس له برأيٍ يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل..

لا نريد الوقوف عند ما يرويه هذا الخبر من موقفٍ للمولى ابنالحنفيّة (رضی الله عنه)، فإنّ الحديث عن ذلك مرّ مفصّلاً، فلا حاجة للإعادة، غير أنّ التنويه إلى ما في الخبر من عوارٍ في الصياغة يوشك أن يكون

ص: 202


1- أُنظر: ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) بين المدينة ومكّة: 86 وما بعدها.

ضروريّاً.

يُلاحَظ أنّ الخبر هو عبارةٌ عن انتزاع المخبر عمّا قرأه في موقف المولى ابن الحنفيّة (رضی الله عنه)، وليس هو خبرٌ وروايةٌ لحدَثٍ تاريخيّ، وقد مرّ معنا رواية الحدَث وعرفنا كيف تكلّم ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) مع أخيه وسمعنا كلامه، فيما تُصوِّر هذه الصياغة اعتراضاً ورفضاً من طرفي الكلام، وجفافاً وشدّةً وتشنّجاً في الموقف..

ولقد نوّهنا في مواضع كثيرةٍ أنّ تصوير المؤرّخ وانتزاعاته وفهمه لا قيمة لها مجرّدة، وطالما تبيّن ضرورة التوقّي والحذر في قبولها والانسياق معها، لِما فيها من تزريقٍ خطيرٍ لما يريده المؤرّخ من بناء السابقة الذهنيّة لدى المتلقّي!

ص: 203

ص: 204

ملحقات

الملحق الأوّل: التعامل في العمق والتعاطي مع الظواهر!

كثيراً ما يُستعمَل تعبير «في العمق» _ عند البعض _ أو «ما يفيده التأمّل» حين يُراد تحليل مشهدٍ أو موقفٍ أو عبارةٍ صدرت عن سيّد الشهداء (علیه السلام)، ولا نريد استعراضها جميعاً، وإنّما نقف على عجلٍ عند ما يخصّ البحث الّذي نحن فيه، ونودّ التنويه إلى أنّ الغوص واستخراج العمق واستبطان اللفظ أو الموقف له شروطه وقواعده، فلا يمكن أن يتحدّث الإنسان عن عمقٍ لا علاقة له بالظاهر، ولا أن يُحمّل بنات أفكاره وهواجسه ومراداته وسوابقه الذهنيّة ومتبنّياته على مادّة البحث، فتمرّ باعتبارها «العمق».. و«العمق» ليس ميسَّراً لكلّ أحد، وإنّما هو اكتشافٌ خاصٌّ بمن تزوّد بآلات الغوص ومنحه الله مواهب إدراك

ص: 205

«العمق»!

ولابدّ أن يكون لهذا العمق امتدادٌ يتّصل بالظاهر، وإلّا لَكان شيئاً آخر مخترعاً، فإن كانت العلاقة ظاهرة، وإلّا فلابدّ من إقامة الشواهد والأدلّة الّتي تُقنِع أو تقرّب العمق إلى الفهم العادي..

أمّا أن يزعم أحدٌ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قال كذا، وهو صريحٌ في المعنى المُدرَك منه، غير أنّه يعني في العمق كذا من دون قرينةٍ ولا شاهدٍ سوى السوابق الذهنيّة الشخصيّة، فهذا يُعدّ في بعض صوره تقوّلاً على الإمام (علیه السلام)، وكشفاً لمراداتٍ لم يُفصِح عنها، وسنسمع بعد قليلٍ بعضاً من هذا «العمق».

الملحق الثاني: قُتِل الإمام (علیه السلام) باسم الإسلام

مرّ معنا فيما سبق من فصول هذه الدراسة، كما ذكرنا في (موسوعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام))، أنّ القوم قد أسّسوا لما أرادوا منذ اليوم الأوّل الّذي دخلوا في الإسلام ظاهراً، وبدؤوا بمباشرة قلب الحقائق رسميّاً منذ يوم السقيفة، حين حوّلوا أنفسهم إلى الشرعيّة المطلقة، ولبسوا مسوح التمثيل الشرعيّ للرسول (صلی الله علیه و آله) وخلافة الرسول، واصطبغوا بالقداسة حتّى صارت أقوالهم حججاً وديناً يُتَّبع، وإن خالف الحكم الإلهيّ وباينه، فجعلوا يصرخون بكلّ وقاحةٍ وجرأةٍ أنّ ما أحلّه الله

ص: 206

ورسوله (صلی الله علیه و آله) فهم يحرّمونه، وما حرّمه فهم يحلّونه، وأقنعوا الناس بالترهيب والترغيب والكذب والخداع والتضليل أنّ هذا هو الدين الّذي يجب عليهم أن يتّبعوه، وأنّهم يمثّلون الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) لا غيرهم.

ولم يعرف الحقَّ وأهلَه من الناس منذ يوم السقيفة إلّا أقلّ القليل من الديّانين، وكان أكثر الناس منذ القديم للحقّ كارهون، والدين لعِقٌ على ألسنتهم _ لغوٌ على ألسنتهم _ يحوطونه ما درّت معايشهم.. وهذه الحقيقة القرآنيّة الحسينيّة ثابتةٌ وحاكمةٌ قبل شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) وبعد شهادته إلى يوم الناس هذا.. وقليلٌ من عباد الله الشكور!

ولا نريد الدخول في تفصيل ما فعله القوم والنتائج الّتي توصّلوا إليها منذ اليوم الأوّل الّذي غصبوا فيه الخلافة إلى اليوم، وقد تكفّلَت كلمات أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء وباقي أئمّة أهل البيت (علیهم السلام) بذلك، وكتب العلماءُ الأبرار فيها كتباً كثيرةً لا تكاد تحصى.

وقد أطلقوا على الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) _ وهو العروة الوثقى وحبل الله المتين _ تهماً ينبو القلم عن كتابتها، ويأبى القلب أن تخطر عليه، ولولا ضرورة البحث لما تجاسرنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون..

من قبيل: شقّ عصا المسلمين، ومخالفة سيرة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله)، والمنافسة في سلطان الدنيا وغيرها، وسلبوه جميع ما منحه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) من ألقاب ومراتب ومناصب، وتحوّل هو وأتباعه إلى خوارج استباحوا دماءهم، لولا أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) صبر وفي الحلقشجا وفي

ص: 207

العين قذى، يرى تراثه نهباً..

وقد عمدوا إلى هذا الأُسلوب فاتّخذوه سيرةً وسنّة، نشأ عليها الصغير وهرم عليها الكبير، إن قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، أو بعده مع أولاده الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..

فكان الناس قد اعتقدوا تماماً ما يقوله ابن زياد وهو «يخطب في الناس في خطبته الّتي خذّلهم فيها عن مسلم بن عقيل، فيقول فيها:

اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمّتكم» ((1)).

بحيث صار «مسلم بن عمرو الباهليّ يخاطب مسلم بن عقيل مفتخراً بضلاله قائلاً:

أنا ابنُ مَن عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششتَه، وسمع وأطاع إذ عصيتَه وخالفت» ((2)).

بهذا المنطق كان الناس يعتقدون وينساقون ويتحرّكون، فهذا «عمرو بن الحجّاج الزبيديّ _ مِن قادة الجيش الأُمويّ في كربلاء _ صاح يحرّض أهل الكوفة على الإمام الحسين وأنصاره قائلاً:

يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين وخالف الإمام» ((3)).

ص: 208


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 173 _ عن: تاريخ الطبريّ: 4 / 275.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 173 _ عن: تاريخ الطبريّ: 4 / 281.
3- مع الركب الحسينيّ: 1 / 174 _ عن: تاريخ الطبريّ: 4 / 331.

فهم قد ضلّلوا الناس فضلّوا، ورضوا بما في أيديهم وانصاعوا طائعين، وتديّنوا بأنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصحابه قد مرقوا من الدين..

وقد قتلوا الإمام (علیه السلام) على علمٍ منهم أنّه ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله)، غير أنّهم قالوا: إنّه خرج على إمامه، فاستحق بذلك القتل!

ونحن لا نريد الإطالة في المقام لإثبات ذلك، وقد أتينا في ما مضى على ذلك مفصّلاً، وسيأتي الكلام زيادةً في أنّ من شارك في كربلاء كان عالماً عارفاً مَن يُقاتل، ومَن يسلب، ومَن ينهب، ومَن يسبي!

ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ مراجعةً سريعةً في زيارات الأئمّة (علیهم السلام) وزيارة سيّد الشهداء (علیه السلام) خاصّةً كافيةٌ لإقناع المتلقّي أنّ التأكيد على ما يشهد به الزائر للإمام (علیه السلام) وأصحابه وأهل بيته من أنّهم على الإسلام، وأنّهم مضوا على ما مضى عليه البدريّون، وأنّهم أقاموا الصلاة والزكاة وقرأوا القرآن وعملوا بالحلال والحرام، وغيرها كثير.. فهي بالإضافة إلى جميع مداليلها، توحي بوضوحٍ إلى ردّ معتقدات القتَلَة وأقوال الطواغيت وذرائعهم، وما أغنى الإمام (علیه السلام) وأصحابه من شهادات الزائر..

كما يشهد لذلك رجز سيّد الشهداء (علیه السلام) قُبيل شهادته:«أنا

الحسينُ بنُ علي

آليتُ ألّا أنثني

ص: 209

أمضي على دين النبي

أحمي عيالات أبي» ((1))

فهم كانوا يقاتلون ويقتلون شخص الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه طاعةً لأئمّة الإسلام الّذين كانوا يعتقدون إمامتهم ويتديّنون بدينهم، ولا يرون الإسلام في الإمام الحسين (علیه السلام) ولا في من معه، بل كانوا يرونهم _ والعياذ بالله _ قد خرجوا ومرقوا من الدين.

وقد عرّفهم الإمام (علیه السلام) نفسه واستشهدهم على ذلك، فشهدوا له، ولكنّهم أبوا إلّا أن ينزل على حكم ابن زياد.

إنّ القوم قد عملوا منذ التأسيس على إقناع الناس أنّ الإسلام هم، وخلافة النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيهم، وأنّ مَن خالفهم وقعد عنهم قد قعد عن الإسلام..

وبقي الناس على هذا الاعتقاد _ إلّا الثلّة الطيّبة من خاصّة الأئمّة (علیهم السلام) وشيعتهم الّذين أبان الله لهم الحقّ فاتبعوه _، ولم يتغيّروا وثبتوا عليها قبل وبعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى يوم الناس هذا.

ولقد عميَ الجيش الأُمويّ في حماقته الكبرى في كربلاء يوم عاشوراء عن أنّه يقاتل شخص رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيشخص

ص: 210


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 365 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 316، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 48.

الحسين (علیه السلام) ((1)).

بل إنّهم قد اعتقدوا أنّهم يفرقون بين الإمام الحسين (علیه السلام) وبين النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وأنّهم يقدّمون شيئاً لدين النبيّ (صلی الله علیه و آله) وللإسلام، إذ أنّهم يدافعون عن خليفته ومَن يسمّونه أمير المؤمنين، وأنّهم يطيعون إمامهم في سبيل الله ورضاه.. يتديّنون بذلك كما قال الإمام زين العابدين (علیه السلام):

«ازدلف عليه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنّهم مِن هذه الأُمّة، كلٌّ يتقرّب إلى الله (عزوجل) بدمه، وهو بالله يذكّرهم فلا يتّعظون، حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً» ((2)).

وفي عاشوراء كربلاء لم يرضَ الجيش الأُمويّ من الإمام الحسين (علیه السلام) إلّا بالقتل، قتلِه وقتلِ أنصاره من أهل بيته وأصحابه الكرام في وضح نهار ذلك اليوم، بعد منعهم عن الماء، حتّى مضوا عطاشا، وفيهم حتّى الطفل الرضيع، ثمّ ما فعلوه بعد ذلك من رضّ أجسادهم بحوافر الخيل، وسبي بنات النبوّة على الوجه المعروف، حاسراتٍ بلا غطاء ولا وطاء، ونقل رؤوس القتلى مع السبايا من كربلاء إلى الكوفةوإلى الشام ... ((3)).

ص: 211


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 175.
2- الأمالي للصدوق: 462 المجلس 70.
3- مع الركب الحسينيّ: 1 / 175.

فعلوا ذلك كلّه طاعةً لإمامهم.. إنّهم كانوا يعتقدون إمامته، وأنّ طاعته طاعة الله، وأنّهم قتلوا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لأولاد البغايا يتقرّبون إلى الله، وأنّهم يزعمون أنّهم من هذه الأُمّة..

هكذا ينتسبون.. أنّهم من أُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله) .. كما ثبت ذلك في أحاديث متظافرةٍ عن جبرئيل عن الله وعن رسوله (صلی الله علیه و آله) وعن الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، أنّهم يزعمون أنّهم من أُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله)، وأنّهم يتطاولون إلى شفاعته، لذا كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) ينفي أن تنالهم شفاعته دائماً فيقول: «لا أنالهم الله شفاعتي ...» ((1)).

ولا يخفى أنّ جميع فعّاليّات العدوّ أيّام الحسين (علیه السلام) كانت تفيد تصريحاً وتلويحاً أنّهم يتعاملون مع الإمام (علیه السلام) ومَن معه تعامل الكفّار والخارجين عن الدين_ والعياذ بالله _، ولك في ترك الجثث الطواهر الزواكي من دون تجهيزٍ ولا دفنٍ وسبي آل الله مثلاً، فإنّ المسلم يجب دفنه، ولا يجوز سبي عياله، ولا يُسبى إلّا الكافر!

فكيف يمكن أن يقال:

إنّ قتل الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه يوم عاشوراء بتلك الصورة الفجيعة وسبي أهله «أظهر لكلّ مشاهدٍ من ذلكالملأ

ص: 212


1- أُنظر: بصائر الدرجات للصفّار القمّي: 68 و69، الكافي للكلينيّ: 1 / 209، كامل الزيارات لابن قولويه: 146، أمالي الصدوق: 89.

الكبير الحاضر على أرض الواقعة حقيقة نفاق الأُمويّين، ثمّ انتشرت بعد ذلك أنباء فجائع وقائع يوم عاشوراء في كلّ الأُمّة، ليتحقّق بذلك هذا الأُفق الكبير من آفاق الفتح الحسينيّ في فصل الأُمويّة عن الإسلام» ((1)).

إنّها دعوىً عاريةً عن الصواب، ويعوزها الشاهد والدليل!

إنّ المشاهد من ذلك الملأ الكبير الحاضر على أرض الواقعة قد استحقّ الجحيم، وأكبّه الله على منخريه في النار بحكم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) والإمام الحسين (علیه السلام) الّذي كان يقول في أكثر من موضعٍ أنّ من سمع واعيتهم أكبّه الله على منخريه في النار! ((2))

ومَن أكبّه الله على منخريه في النار، فإنّه آثمٌ قلبه، مطبوعٌ عليه، مختومٌ عليه، لا يعي ولا يُبصِر بعد ذلك أبداً حتّى تصليه سقر، ويُسقى من صديدها، ويُطعَم من زقّومها.

أضف إلى أنّ هذا الملأ الكبير هو الّذي رجع محتفلاً بالنصر، يسوق آل الله سبايا، ويحمل الرؤوس ليتقرّب بها إلى ابن مرجانة..

فمن منهم _ قادةً وجنوداً _ قد اكتشف هذه الحقيقة الّتي اكتشفها فيهم مَن اكتشفها بعد عشرات القرون وهم لا يعلمون، ولا بذلك

ص: 213


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 176.
2- أُنظر: أمالي الصدوق: 219، مثير الأحزان لابن نما: 35.

يشهدون قولاً وفعلاً؟!!

الملحق الثالث: الإسلام المحمّديّ الخالص!

اشارة

في مقام الفتح الحسينيّ في عصر عاشوراء، وأنّ مَن قتل الإمام الحسين (علیه السلام) وكان مشاهداً حاضراً على أرض الواقعة قد عرف حقيقة نفاق الأُمويين، قيل:

ولو لم تكن واقعة كربلاء، لَكان الأُمويّون قد واصلوا حكم الناس باسم الدين، حتّى يترشّح في أذهان الناس بمرور الأيام والسنين أنّه ليس هناك إسلامٌ غير الإسلام الّذي يتحدّث به الأُمويّون، ويُؤخَذ عنهم، وعلى الإسلام السلام.

لو لم تكن واقعة عاشوراء، لما كان بالإمكان فصل الإسلام والأُمويّة عن بعضهما البعض، ممّا يعني أنّ زوال الأُمويّة يوماً ما كان سيعني زوال الإسلام أيضاً، ولَكانت جميع الانتفاضات والثورات الّتي قامت على الظلم الأُمويّ تقوم حين تقوم على الإسلام نفسه!

لكنّ الفتح الحسينيّ في عاشوراء هو الّذي جعل كلّ هذه الانتفاضات والثورات الّتي قامت بعد عاشوراء إنّما تقوم باسم الإسلام على الأُمويّة.

وعند هذه النقطة _ فصل الأُمويّة عن الإسلام _تكون

ص: 214

عاشوراء قد أعادت مساعي حركة النفاق _ منذ وفاة النبيّ (صلی الله علیه و آله) حتّى سنة ستّين للهجرة _ إلى نقطة الصفر، فلو لم تكن عاشوراء لَتمكّنت حركة النفاق المتمثّلة بالحزب الأُمويّ آنئذٍ من القضاء على الإسلام المحمّديّ الخالص تماماً، ولَما بقي منه إلّا عنوانه.

فأيّ أُفقٍ في الفتح أوضح وأكبر من أُفق الحفاظ على الإسلام المحمّديّ الخالص، من خلال فصل الأُمويّة بكلّ عوالقها عن هذا الإسلام ((1)).

لا نريد الوقوف عند هذا المتن كثيراً، بيد أنّه ربّما عبّر عن قناعات الكثيرين، رغم ما يعوزه من الأدلّة والسند الّذي يمكن أن يرتكن إليه ليتماسك وينهض في مقام البحث، لذا سنختصر الكلام فيه ما وسعنا ذلك من خلال النكزات التالية:

النكزة الأُولى: استمرار الأُمويّين!

لقد واصل الأُمويّون حكم الناس إلى سنين طويلة، حتّى وُلد في عهدهم مَن وُلد وشبّ وهرم، وكانوا يواصلون الحكم باسم الإسلام، ويطلقون على ملوكهم ما استلبوه من سيّد الأوصياء (علیه السلام)، فكان كلٌّ منهميخلع عليه الناس لقب أمير المؤمنين، ولا يخاطبونهم إلّا بذلك وبما

ص: 215


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 176 – 177.

يشبهه من الألقاب والصفات الإسلاميّة..

بل إنّ يزيد الخمور الّذي قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) استمرّ في حكمه بعد سيّد الشهداء (علیه السلام) ثلاث سنين، حقّق فيها أمانيّه التعيسة..

إنّه كان يريد أن يهدم المقدّسات _ كما كان يريد أسلافه من الحكّام _، فكان يسعى لقتل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في المدينة ليهتك الحرمتين معاً، فلمّا فوّت عليه الإمام (علیه السلام) الفرصة ورحل عنها غزاها بعد الإمام (علیه السلام)، فهتك حرمتها شرّ هتك، وأخبارها لا تخفى على أحد، وهذه كتب التاريخ تعجّ وتضجّ بما فعله عسكره بالصحابة وبناتهم، وبمسجد النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحجرته الشريفة ومدفنه..

ثمّ إنّه كان يسعى إلى قتل الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة ليهتك الحرمتين معاً، فلمّا فوّت عليه الإمام (علیه السلام) الفرصة ورحل عنها متعجّلاً غزاها بعد الإمام (علیه السلام)، فهتك حرمتها شرّ هتك، حتّى أحرقوا الكعبة ورموها بالمنجنيق وفعلوا فعلتهم، وأخبارها لا تخفى على أحد، وهذه كتب التاريخ تعجّ وتضجّ بما فعله عسكره..

بعد أن هلك يزيد، وأُطبق عليه تابوته الخاصّ المجهّز له في الجحيم، نزا الأُمويّون على الأعواد من شرّ فخذٍ من أفخاذهم، وأنتن عودٍ من أعواد الشجرة الملعونة، طريد رسول الله (صلی الله علیه و آله) الوزغ ابن الوزغمروان..

مروان عدوّ الله وعدوّ رسوله (صلی الله علیه و آله)، الّذي لم يكن ليطمح بها يوماً ما

ص: 216

صار (أمير المؤمنين)! وتسلّق أعواد المنبر ليحكم باسم الإسلام..

ثمّ تلاه أولاده وأحفاده، وبقيَت تتقلّب فيهم، وتلاقفوها تلقّف الصبيان للكرة، ينزو القرد منهم بعد القرد عقوداً من الزمن، تماماً كما أرى الله رسوله (صلی الله علیه و آله) في الرؤيا، وكما أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

فهم قد واصلوا حكم الناس باسم الدين، حتّى ترسّخ في أذهان الناس ما كان راسخاً منذ يوم السقيفة..

فإذا أثّرت عوامل الضعف في أيّ حكومةٍ قامت على الباطل بمرور الزمن، من ضعف الملوك، وتآكل الإدارة، وتفاقم الأزمات الاجتماعيّة، وغيرها من الأسباب والعوامل، ثمّ تضمحلّ الدول حتّى تقوم محلّها حكوماتٌ ودول أُخرى، فهذه هي السنّة الحاكمة في الأيام والدهور!

النكزة الثانية: الفصل بين الأُمويّة والسقيفة!

الفصل بين الأُمويّة والإسلام..

أيّ إسلامٍ هذا الّذي انفصل عن الأُمويّة؟!

هل هو الإسلام المحمّديّ الخالص المتمثّل بأمير المؤمنين عليٍّ وأولاده المعصومين (علیهم السلام)، أو الإسلام مطلقاً، حتّى لو كان الإسلامالّذي نشأ في السقيفة، والّذي كان يُعبَّر عن أتباعه بأُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله) ؟!!

إذا كان المراد به الإسلام المتمثّل بأمير المؤمنين وأولاده المعصومين (علیهم السلام)، فهو لم يتّحد يوماً بالأُمويّة، ولم يُلوَّث بها، ولم يلتقِ

ص: 217

معها في حدٍّ من الحدود..

وقد انفصل السبيلان علنيّاً منذ يوم الغدير، وانفصل رسميّاً منذ يوم السقيفة، وليس في الأئمّة (علیهم السلام)، ولا في أتباعهم الشيعة الأبرار مَن خُدع، أو ضلّلته أفعال الأُمويّة أو أقوالها ومواقفها..

فهما منفصلان تماماً.. معزولان.. قد حدّد كلٌّ منهما معالمه وحدوده وأبعاده.. وإن صبر الأئمّة (علیهم السلام) وأتباعهم واتّقوهم وعاملوهم معاملةً خاصّة، لئلّا يُقتَل الحقّ ورجاله.. فحفظوا الإسلام المحمّديّ المتمثّل في أشخاص الأئمّة (علیهم السلام)، وأتباعهم المخلصين بالحفاظ على حياتهم لا بالقتل!! وهذا ما صرّح به أمير المؤمنين (علیه السلام) في أكثر من موقف، وصرّح به الإمام الحسن الأمين (علیه السلام) بعد واقعة الصلح.

وإذا كان المراد بالإسلام المحمّديّ الخالص ما يقابل الإسلام الأُمويّ، كما هو ظاهر التصوير، أو ما عبّر عنه الدكتور علي شريعتي ب-- «التسنّن الأُمويّ» مقابل «التسنّن النبويّ»..

ولا يمكن أن يكون المراد سوى ذلك _ كما هو الظاهر _ وفق ما قدّمناه قبل قليل، فسيكون أُفق الفتح الحسينيّ أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قدحفظ دين السقيفة، وميّز بينه وبين دين الأُمويّين!!!

أي: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد سمحَت نفسُه ببذل مهجته، والتضحية بمن معه من آل الله، وبعرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونسائه، ليبقى الاسم العامّ لأُمّة محمّد (صلی الله علیه و آله)، ويحمي إسلام السقيفة من الامتزاج بدين

ص: 218

الأُمويّين..

ضحّى الإمام (علیه السلام) ليبقى الإسلام، وإن كان إسلام مَن سبقه مِن الخلفاء!

وعلى الإسلام السلام.. إذا استمر الأُمويّون _ بما هم أُمويّون _، بغضّ النظر عن الإسلام الّذي كانوا يتّبعونه ويروّجون له في الحكم..

أمّا إذا بقي عنوان الإسلام الّذي كان حاكماً قبل يزيد، فقد ظفر الإمام (علیه السلام) بما يريد، إذ أنّه حفظ هذا الإسلام من الاتّحاد بالأُمويّة، وعرف الناس _ إن عرفوا _ أنّ الإسلام هو غير الأُمويّة، سواءً أكان إسلام السقيفة، أو إسلام الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) ..

ولا معنى لافتراض أن يكون الإمام الحسين (علیه السلام) قد فصل بدمه بين الأُمويّة والدين الحقّ المتمثّل بأمير المؤمنين وأولاده المعصومين (علیهم السلام)، لأنّهما لم يتّحدا ويمتزجا يوماً كي يفصل بينهما، والقول باتّحادهما لا يفوه به عاقلٌ فضلاً عن المؤمن.

فسيكون الإسلام المحمّديّ الخالص الّذي ميّزه الإمام الحسين (علیه السلام) بشهادته (الفاتحة) عن الأُمويّة هو إسلام السقيفة المنتشر يومها ولا زال..

إنّه لَفتحٌ عظيم! أن تخضرّ أشجار السقيفة حين ترويها دماء سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته وأنصاره، وتستبدل سعفات السقيفة اليابسة المنخورة الّتي كانت تظلّلها بملاحف العلويّات ومخدّرات الرسالة وعقائل

ص: 219

الوحي..

والحال أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) صبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى، ليحمي نفسه من القتل، ويحمي العنوان العامّ لأُمّة محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) بسلامته وسلامة أصحابه المخلصين.

النكزة الثالثة: التمييز بين الأُمويّة ودين السقيفة!

يفيد سياق الكلام واسترساله أنّ ثمّة تمييزٌ بين دين الأُمويّين ودين رجال السقيفة، وكما عبّر عنه الدكتور شريعتي: «التسنّن الأُمويّ» و«التسنّن النبويّ»، ويفيد أيضاً قولهم:

ومع طول مدّة حكمه _ معاوية _، انخدع جُلّ هذه الأُمّة بالتضليل الدينيّ الأُمويّ، واعتقدوا أنّ حكم معاوية حكمٌ شرعيّ، وأنّه امتدادٌ للخلافة الإسلاميّة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! وأنّ معاوية إمام هذه الأُمّة، وأنّ مَن ينوب عنه في مكانه إمامٌ لهذه الأُمّة، وامتدادٌ لأئمّتها الشرعيّين!!!ومن المؤسف حقّاً أنّ جُلّ هذه الأُمّة خضع خضوعاً أعمى لهذا التضليل وانقاد له، فلم يعُدْ يُبصِر غيره، بل لم يعُدْ يصدّق أنّ الحقيقة شيءٌ آخَر غير هذا ((1)).

ص: 220


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 173.

والحال أنّ هذا الكلام فيه من المغالطة ما يُغني عن مناقشته!

إنّ معاوية كان امتداداً طبيعيّاً لمن سبقه من الغاصبين، وهو رابع الثلاثة، ويُعدّ ضمن المؤسّسين الأوائل، فلا يصحّ التفريق بينهم، وجعل معاوية ودينه شيئاً غير دين مَن سبقه، وفي الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت (علیهم السلام) وحقائق التاريخ ما يُغني عن الاستدلال؛ لبداهة الأمر ووضوحه.

وما تراجعَت الأُمّة منذ اليوم الأوّل الّذي خضعَت فيه للسقيفة إلى يوم قتل سيد الشهداء (علیه السلام)، وبعد قتله إلى يوم الناس هذا، عن دين قتلة الإمام الحسين (علیه السلام) ودين قتلة فاطمة الزهراء (علیها السلام) .. دينٌ واحد، وأتباعهم هم أنفسهم، لم يتغيّر فيهم ومنهم شيء.

«اللّهمّ العَنْ أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّدٍ وآلِ محمّد، وآخِرَ تابعٍ له على ذلك ...»!

النكزة الرابعة: قيام الإسلام المحمّديّ بالإمام (علیه السلام)

الإسلام هو مجموع منظومة العقائد والتشريعات الإلزاميّة والترخيصيّة والتعاليم الأخلاقيّة، وغيرها ممّا ينضوي تحت التشريع والاعتقاد..

وقد جمعها الله في موضعَين، وضمن سلامتها وحفظها من التحريف والتبديل والتغيير في هذين الموضعين، وهما:

ص: 221

كتاب الله الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعترة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وهم الأئمّة المعصومون (علیهم السلام)، وضمن الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) للأُمّة الثبات وعدم الضلال والضياع إن تمسّكوا بهما:

«إنّي مخلِّفٌ فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ...».

وليس لمنظومة العقائد والتشريع وجودٌ خارجيٌّ خاصٌّ بها، إلّا أن يكون وجوداً ذهنيّاً قلبيّاً، أو في كتابٍ وما شاكل، فهي إنّما تقوم بالقرآن أو بالمعصوم..

والمعصوم هو المخلوق الأكمل الّذي بوجوده يتحقّق وجود العابد الحقّ الكامل لله، وبعبادته يتحقّق الغرض من الخلقة، والهدف من إيجادالتكوين، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ((1))، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ ((2)).

ولولا وجود هذا العابد الكامل الحقّ الّذي يحقّق الغرض الأساس من الخلقة، لَساخت الأرض بأهلها، وهو الإمام المعصوم، وحُجّة الله على الخلق، كما ورد في الأحاديث الشريفة.

ونفس وجود هذا العابد الحقّ الكامل _ المستعدّ لهذه العبادة الّذي

ص: 222


1- سورة الذاريات: 56.
2- سورة هود: 7.

يصدق عليه العابد، ويحقق العبوديّة الكاملة لله _ كافٍ لتحقّق الغرض..

وليس بالضرورة أن يمارس هذا العابد الكامل جميع التكاليف طرّاً ليصدق عليه هذا العنوان، وإنّما وجوده الكامل هو الّذي يحقّق ذلك.

فمثلاً ورد في حديثٍ عن البزنطيّ عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: قال له إبراهيم بن أبي البلاد: وجبَت عليك زكاة؟ فقال: «لا، ولكن نفضل ونعطي هكذا ...» ((1)).

وهذا من الطبيعيّ جدّاً، وينسجم تماماً مع سلوك الإمام المعصوم (علیه السلام)، واعتقاد الشيعيّ فيه، إذ أنّ دفع الزكاة الواجبة يقتضي حصول النصاب فيه، ويشترط مرور عامٍ كاملٍ على النصاب في بعضمفرداته من دون تغييرٍ ولا تبديلٍ ولا تصرّفٍ فيه، من قبيل نصاب الفضّة المسكوكة والذهب المسكوك (الدينار والدرهم)، فلابدّ من مرور عامٍ كاملٍ مثلاً على مئتَي درهمٍ تبقى عنده لا يتصرّف بها ولا تتغيّر بأعيانها حتّى تجب الزكاة فيها، وكذا في الدينار.

ثمّ إنّ الكثير من موارد الزكاة الأُخرى نعلم أنّها لم تتوفّر عند الإمام (علیه السلام)، فأيّ إمامٍ مثلاً توفّر على ثلاثين بقرةٍ ليدفع عنها زكاتها؟ وهكذا..

ص: 223


1- تهذيب الأحكام للطوسيّ: 4 / 126 الباب 36 ح 4.

مع ذلك، فإنّنا نشهد لهم جميعاً ونقول: «وآتيتم الزكاة».. ونزور كلّ واحدٍ منهم ونقول له: «وآتيتَ الزكاة»..

وهذا معناه أنّ الفرد الوحيد الّذي يمكن أن يعبد الله ويطيعه، ويأتي بالعبادة والطاعة الكاملة في الزكاة هو الإمام، ومنه وبه تتحقّق العبادة المطلوبة للمعبود الحقّ لا من غيره، سواءً أمارسها الإمام أم لم يمارسها، أو أنّه جاء بها في فترة _ ولو لمرّةٍ واحدة _ أو لم يأتِ بها طيلة فترة عمره المبارك..

فإن كان أحدٌ في الخلق يمكن أن يصلّي لله الصلاة المطلوبة للربّ (تبارك وتعالى) فهو المعصوم، ولذا يُخاطَب فيقال: «أقمتَ الصلاة»؛ لأن الصلاة المطلوبة من الله لتكون عبادةً وشكراً هي صلاة الإمام المعصوم، فهي الصلاة التامّة المقامة المقبولة، وغيرها مردَّدٌ بين القبول والردّ!فحينئذٍ يُقال:

إنّ الإسلام كعقيدةٍ وتشريع، كما حُفظ في القرآن، قام وحُفظ في شخص المعصوم، فالإسلام قائمٌ به، موجودٌ في شخصه، محفوظٌ فيه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تماماً كما هو القرآن الكريم..

وليس لهذه القيمومة والوجود والاتّحاد بين الإسلام والإمام شرطٌ سوى كونه الإمام المنصوب من الله، المسدَّد بروح القدس، المعصوم مطلقاً، والإسلام يقوم به بعد أن اختاره الله واجتباه واصطفاه واتّخذه وجعله إماماً، سواءً كان كبيراً أو صغيراً بحساب السنين، أو كان طفلاً أو

ص: 224

شيخاً، تماماً كما جعل عيسى (علیه السلام) في المهد نبيّاً، وأوصاه وهو في المهد بالصلاة والزكاة، وسواءً قاتل الإمام أو لم يقاتل، وسواءً صالح أو لم يصالح، وسواءً قُتِل قتلاً بالسيف في محرابه أو قُتل في ميدان الوغى أو قُتل بالسمّ، أو مات حتف أنفه على فراشه على فرض المحال في الأخير..

والإمام (علیه السلام) على حدّ اعتقادنا _ ونحن لا نخاطب سوى العقل الشيعيّ _ إمامٌ من قبل أن يخلق الله الخلق، وأمامٌ وهو في بطن أُمّه، يُكتَب في الشهر الرابع على عضده: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ...﴾ ((1))، ويُولَد مختوناً مسروراً، ساجداً على الأرض، رافعاً سبّابتهإلى السماء يشهد الشهادتين ويشهد لآبائه ونفسه بالإمامة، وغيرها..

فهو الإمام، وهو العابد الحقّ في كلّ آنٍ وفي كلّ زمان، بغضّ النظر عمّا سيتّخذه من مواقف حين ترتقي الإمامة إليه، فيمكن أن يكون أكثر من عابدٍ يحقّق العبادة الحقّة لله في آنٍ واحد، كما حصل زمان أصحاب الكساء الخمسة (علیهم السلام)، وفي زمان كلّ إمامٍ عاش في ظلّ أبيه.

فالإسلام المحمّديّ الخالص حقيقةً هو الإسلام القائم في شخص الإمام، وهو محفوظٌ على كلّ حال، كما هو محفوظٌ في القرآن الكريم على

ص: 225


1- سورة الأنعام: 115.

كلّ حال.

وربّما كان هذا هو معنى: «قتلوا بقتلك الإسلام، وعطّلوا الصلاة والصيام، وأصبح كتاب الله مهجوراً ...».

فإنّ صلاة الأُمّة لم تُعطَّل يوماً، وكان العسكر الّذي خرج لحرب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يصلّي ويزعم التزامه بشرائع الدين، وكانوا يجتمعون للجمعة والجماعة في جميع البلدان الّتي ترفع الأذان السقيفيّ.

أجل، قد يرشح من هذا الإسلام المحمّديّ الخالص حقّاً القائم بالإمام على أتباعهم بالحقّ وشيعتهم الأبرار، فيتشرّب كلٌّ منهم ويستوعب منه على قدر إنائه على اختلاف مستوياتهم، وهؤلاء أيضاً هم الأقلّيّة التابعة للحقّ على طول خطّ التاريخ، وطريقهم قليل السلّاك، وهمالقلّة الديّانون، الموجودون بوجود إمامهم قبل وبعد شهادة سيّد الشهداء (علیه السلام) !

النكزة الخامسة: الكلام عمّن حضر!

من أعجب العجب أن يقال:

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قد أظهر لكلّ مشاهدٍ من ذلك الملأ الكبير الحاضر على أرض الواقعة حقيقة نفاق الأُمويّين، ثمّ انتشرَت بعد ذلك أنباء فجائع وقائع يوم عاشوراء في كلّ الأُمّة، ليتحقّق بذلك الأُفق الكبير من آفاق الفتح الحسينيّ في فصل

ص: 226

الأُمويّة عن الإسلام..

كأنّ هؤلاء الّذين حضروا قد أدركوا هذا الفتح، واستوعبوا هذا الفصل، وعرفوا حقيقة النفاق الأُمويّ! وهم الّذين سلبوا ونهبوا وأحرقوا الخيام، ورضّوا الهياكل المقدّسة بحوافر الخيول، وحملوا الرؤوس يتبجّحون بها إلى ابن الأَمة الفاجرة، وسبوا آل رسول الله «كالعبيد، وصُفّدوا في الحديد فوق أقتاب المطيّات، تلفح وجوههم حرّ الهاجرات، يساقون في البراري والفلوات، أيديهم مغلولة إلى الأعناق، يُطاف بهم فيالأسواق» ((1)).

وقد أصرّوا على عنادهم ولجاجهم وكفرهم حين تركوا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ومَن استُشهد بين يديه، فلم يجهّزوهم ولم يدفنوهم، واكتفوا بدفن فطائسهم وجيفهم.

وقد حكمت جميع الأحاديث والقواعد والتصريحات والبيانات الشرعيّة بما فيها أقوال سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه على مَن حضر وشاهد وسمع واعيته أنّه من أهل النار، وبئس القرار، وليس في هؤلاء من يمكن أن يكتشف حقيقة الحقّ، أو يعرف معالم طريق النجاة ويسلكها مهما بعدت.

فإن أراد أحدٌ أن يتحدّث، فلْيخرج من كربلاء يوم عاشوراء ثمّ ليقُل، فربّما أخطأ وربّما أصاب!

ص: 227


1- المزار لابن المشهديّ: 505 زيارة الناحية المقدّسة.

النكزة السادسة: الاجتهاد مقابل النصّ!!

يمكن لمن أراد التحليل والتوقّع والاستنباط والاستنتاج، وقل ما يحلو لك أن يفعل ما يشاء في حدوده وبمستواه ومقدار إنائه وقدراته وقوّة مخيّلته وعقله..

ولكن إذا جاء قول الشرع ووردت النصوص عن المعصومين (علیهم السلام) تؤكّد حقيقةً لا يصلح أن تغيب عمّن يريد الخوض في التحليل والاستنتاج وتقدير النتائج والآثار، حتّى لو تعامل معها كنصوصٍ تاريخيّة، ولم يتعامل معها كنصوصٍ واردةٍ عن المعصومين (علیهم السلام)، أمّا المؤمن المسلّم، فإنّه سيتعامل معها كنصوصٍ مقدّسة، ولا يقول ما يخالفها أو يعارضها ويباينها..

وهذه النصوص الّتي سنذكر طرفاً منها، ونقتصر على ذلك، ليست بالعزيزة في المصادر، سيّما إذا تابعنا ما يصرّح منها وما يلوّح..

فمنها: ما رُوي مسنداً عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:

«لمّا ضُرب الحسين بن عليّ (علیه السلام) بالسيف فسقط رأسه، ثمّ ابتُدر ليُقطَع رأسه، نادى منادٍ من بطنان العرش: ألا أيّتها الأُمّة المتحيّرة الضالّة بعد نبيّها، لا وفّقكم الله لأضحى و لا لفطر».

قال: ثمّ قال أبو عبد الله (علیه السلام): «فلا جرمَ والله، ما وُفّقوا ولا

ص: 228

يوفَّقون، حتّى يثأر ثائر الحسين (علیه السلام) » ((1)).

هذا في يوم عاشوراء نفسه بعد قتل الإمام الحسين (علیه السلام)، وقد حكم المنادي على هذه الأُمّة، بما فيها «كلّ مشاهدٍ من ذلك الملأ الكبير الحاضر على أرض الواقعة»، بل هم المصداق الأبرز في تلك الساعة.

فإذا كانوا متحيّرين ضلّالاً، كيف تكون قد انكشفت أمامهم حقيقةالنفاق الأُمويّ، وأنّهم أدركوا شيئاً من ذلك؟!

والحكم عامٌّ شاملٌ للأُمّة الّتي قتلَت حبيب الله، إذ حكم على الأُمّة بالحيرة والضلال بعد نبيّها، وأنّ هذا الحكم يسري فيها، لا يرفعون حيرتهم، ولا يجانبون ضلالهم حتّى يثأر ثائر الحسين (علیه السلام) .

ومنها: ما رُوي مسنداً في حديثٍ عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال:

«ارتدّ الناس بعد الحسين (علیه السلام) إلّا ثلاثة ...» ((2)).

بغضّ النظر عن معنى الارتداد المقصود في هذا الحديث الشريف، بَيد أنّه على كلّ حالٍ يفيد حالةً غير الحالة المزعومة في آفاق الفتح المذكور.

وفي حديثٍ مسندٍ طويلٍ يخاطب فيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 229


1- الكافي للكلينيّ: 4 / 170 ح 3.
2- الاختصاص للمفيد: 64، اختيار معرفة الرجال للطوسيّ: 1 / 338 ح 194.

حذيفة بن اليمان:

«يا حُذيفة، لا تحدِّث الناس بما لا يعرفون فيطغوا ويكفروا، إنّ مِن العلم صعباً شديداً محمله، لو حملته الجبال عجزت عن حمله، إنّ علمنا أهل البيت سيُنكَر ويُبطل، وتُقتَل رواته، ويُساء إلى مَن يتلوه؛ بغياً وحسداً لما فضّل الله به عترة الوصيّ، وصيّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

يا ابن اليمان، إنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) تفل في فمي وأمرّ يده علىصدري، وقال: اللّهمّ أعطِ خليفتي ووصيّي وقاضي دَيني ومنجز وعدي وأمانتي ووليّي وناصري على عدوّك وعدوّي ومفرّج الكرب عن وجهي ما أعطيت ...».

إلى أن قال:

«اللّهمّ إنّك خليفتي عليه وعلى عترته وذرّيّته الطيّبة المطهّرة، الّتي أذهبتَ عنها الرجس والنجس، وصرفتَ عنها ملامسة الشياطين، اللّهمّ إن بغَتْ قريش عليه وقدّمَت غيره عليه، فاجعلْه بمنزلة هارون من موسى إذ غاب عنه موسى.

ثمّ قال لي: يا عليّ، كم في وُلدك مِن ولدٍ فاضلٍ يُقتَل والناس قيامٌ ينظرون لا يغيّرون! فقُبّحَت أُمّةٌ ترى أولاد نبيّها يُقتَلون ظلماً وهم لا يغيّرون، إنّ القاتل والآمر والشاهد الّذي لا يغيّر

ص: 230

كلّهم في الإثم واللعان سواءٌ مشتركون.

يا ابن اليمان، إنّ قريشاً لا تنشرح صدورها ولا ترضى قلوبها ولا تجري ألسنتها ببيعة عليٍّ وموالاته، إلّا على الكره والعمى والصغار.

يا ابن اليمان، ستبايع قريشٌ عليّاً، ثمّ تنكث عليه وتحاربه وتناضله وترميه بالعظائم، وبعد عليٍّ يلي الحسن، وسيُنكَثعليه، ثمّ يلي الحسين، فتقتله أُمّة جدّه، فلُعنَت أُمّةٌ تقتل ابن بنت نبيّها ولا تعزّ من أُمّة، ولعن القائد لها والمرتّب لفاسقها.

فوَالّذي نفس عليٍّ بيده، لا تزال هذه الأُمّة بعد قتل الحسين ابني في ضلالٍ وظلمةٍ وعسفٍ وجور، واختلافٍ في الدين وتغييرٍ وتبديلٍ لما أنزل الله في كتابه، وإظهار البدع وإبطال السنن، واختلالٍ وقياس مشتبهاتٍ وترك محكمات، حتّى تنسلخ من الإسلام وتدخل في العمى والتلدّد والتسكّع.

ما لَكِ يا بني أُميّة؟ لا هُديتِ يا بني أُميّة! وما لَكِ يا بني العبّاس؟ لك الأتعاس! فما في بني أُميّة إلّا ظالم، ولا في بني العبّاس إلّا معتدٍ متمرّدٍ على الله بالمعاصي، قتّالٌ لوُلدي، هتّاكٌ لستري وحرمتي.

فلا تزال هذه الأُمّة جبّارين يتكالبون على حرام الدنيا،

ص: 231

منغمسين في بحار الهلكات وفي أودية الدماء، حتّى إذا غاب المتغيّب من وُلدي عن عيون الناس، وماج الناس بفقده أو بقتله أو بموته، اطلعت الفتنة، ونزلت البليّة، والتحمت العصبيّة، وغلا الناس في دينهم، وأجمعوا علىأنّ الحجّة ذاهبةٌ والإمامة باطلة ...» ((1)).

هذا هو حال الأُمّة بعد مقتل الإمام الحسين (علیه السلام):

في ضلالٍ وظلمة، وعسفٍ وجَور، واختلافٍ في الدين، وتغييرٍ وتبديلٍ لما أنزل الله في كتابه، وإظهار البدع، وإبطال السنن، واختلالٍ وقياس مشتبهات، وترك محكمات، حتّى تنسلخ من الإسلام وتدخل في العمى والتلدّد والتسكّع!

وفي حديث أبان قال: ثمّ قال لي أبو جعفرٍ الباقر (علیه السلام):

«ما لقينا أهلَ البيت من ظلم قريشٍ وتظاهرهم علينا وقتلهم إيّانا، وما لقيَت شيعتُنا ومحبّونا من الناس!

إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قُبض وقد قام بحقّنا وأمر بطاعتنا وفرض ولايتنا ومودّتنا، وأخبرهم بأنّا أَولى الناس بهم من أنفسهم، وأمرَهم أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب.

فتظاهروا على عليٍّ (علیه السلام)، فاحتجّ عليهم بما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 232


1- الغيبة للنعمانيّ: 144 ح 3.

فيه وما سمعَته العامّة، فقالوا: صدقت، قد قال ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولكن قد نسخه فقال: إنّا أهلُ بيتٍ أكرمَنا الله (عزوجل) واصطفانا، ولم يرضَ لنا بالدنيا، وإنّ الله لا يجمعلنا النبوّة والخلافة. فشهد بذلك أربعة نفر: عمر وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة، فشبّهوا على العامّة، وصدّقوهم، وردّوهم على أدبارهم، وأخرجوها من معدنها من حيث جعلها الله.

واحتجّوا على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، فعقدوها لأبي بكر، ثم ردّها أبو بكرٍ إلى عمر يكافيه بها.

ثمّ جعلها عمر شورى بين ستّة، فقلّدوها عبد الرحمان، ثمّ جعلها ابن عوفٍ لعثمان على أن يردّها عليه، فغدر به عثمان، وأظهر ابن عوفٍ كفره وجهله وطعن عليه في حياته، وزعم ولده أنّ عثمان سمّه فمات.

ثمّ قام طلحة والزبير فبايعا عليّاً (علیه السلام) طائعَين غير مكرهَين، ثمّ نكثا وغدرا، ثمّ ذهبا بعائشة معهما إلى البصرة مطالبةً بدم عثمان.

ثمّ دعا معاوية طغاة أهل الشام إلى الطلب بدم عثمان، ونصب لنا الحرب.

ثمّ خالفه أهل حروراء على أن يحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه،

ص: 233

فلو كانا حكما بما اشترط عليهما لحكما أنّ عليّاً (علیه السلام) أمير المؤمنين في كتاب الله وعلى لسان نبيّه وفي سُنّته، فخالفهأهل النهروان وقاتلوه.

ثمّ بايعوا الحسن بن عليّ (علیه السلام) بعد أبيه وعاهدوه، ثمّ غدروا به وأسلموه، ووثبوا عليه حتّى طعنوه بخنجرٍ في فخذه، وانتهبوا عسكره، وعالجوا خلاخيل أُمّهات أولاده.

فصالح معاوية، وحقن دمه ودم أهل بيته وشيعته، وهم قليلٌ حقّ قليل، حين لا يجد أعواناً.

ثمّ بايع الحسينَ (علیه السلام) من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، ثمّ غدروا به، ثمّ خرجوا إليه فقاتلوه حتّى قُتِل.

ثمّ لم نزل أهلَ البيت منذ قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) نُذَلّ ونُقصى ونُحرم ونُقتَل ونُطرد، ونخاف على دمائنا وكلِّ من يحبّنا.

ووجد الكاذبون لكذبهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاتهم وعمّالهم في كلّ بلدة، يحدّثون عدوّنا عن ولاتهم الماضين بالأحاديث الكاذبة الباطلة، ويروون عنّا ما لم نقل، تهجيناً منهم لنا، وكذباً منهم علينا، وتقرّباً إلى ولاتهم وقضاتهم بالزور والكذب.

وكان عظم ذلك وكثرته في زمن معاوية بعد موت الحسن (علیه السلام)، فقُتلَت الشيعة في كلّ بلدة، قُطّعَت أيديهم

ص: 234

وأرجلهم، وصَلبوا على التهمة والظنّة مَن ذكر حبّناوالانقطاع إلينا.

ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان ابن زيادٍ بعد قتل الحسين (علیه السلام) .

ثمّ جاء الحجّاج، فقتلهم بكلّ قتلةٍ وبكلّ ظنّةٍ وبكلّ تهمة، حتّى أنّ الرجل ليُقال له: زنديق، أو مجوسيّ، كان ذلك أحبّ إليه من أن يُشار إليه أنّه من شيعة الحسين (صلوات الله عليه)» ((1)).

لم يختلف الأمر قبل وبعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، بل في صريح كلام الإمام (علیه السلام) أنّ البلاء اشتدّ وازداد بعد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام)، واستمرّ كلَبُ الزمان أيّام العبّاسيّين بما لا يخفى على أحد، حتّى أنّهم بنوا اسطوانات قصورهم على أبدان ذرّيّة عليٍّ وفاطمة (علیهما السلام)، وهم أحياء، كباراً وصغاراً، وتعقّبوهم تحت كلّ حجرٍ ومدر، وتفنّنوا في تعذيبهم، ومارسوا معهم أبشع ألوان التنكيل والقتل والتجويع والملاحقة والإبادة، وكذا فعلوا مع أتباع الحقّ من شيعة الحسين (علیه السلام) .

وفي زيارة الناحية الشريفة:

«فالويل للعصاة الفسّاق، لقد قتلوا بقتلك الإسلام، وعطّلوا

ص: 235


1- كتاب سُليم بن قيس: 186 ح 3.

الصلاة والصيام، ونقضوا السنن والأحكام، وهدموا قواعدالإيمان، وحرّفوا آيات القرآن، وهملجوا في البغي والعدوان.

لقد أصبح رسول الله (صلی الله علیه و آله) موتوراً، وعاد كتاب الله (عزوجل) مهجوراً، وغودر الحقّ إذ قُهرتَ مقهوراً، وفُقِد بفقدك التكبيرُ والتهليل، والتحريمُ والتحليل، والتنزيلُ والتأويل، وظهر بعدك التغييرُ والتبديل، والإلحادُ والتعطيل، والأهواءُ والأضاليل، والفتنُ والأباطيل ...» ((1)).

فأيّ تمييزٍ حصل عند الأُمّة بعد مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ؟ وأيّ فصلٍ حصل؟! والنصوص تصرّح بظهور التغيير والتبديل والإلحاد والتعطيل والأهواء والأضاليل والفتن والأباطيل، وغيرها ممّا سمعناه في باقي هذه الأمثلة وفي غيرها.

النكزة السابعة: شهادة التاريخ

روى ابن أبي الحديد قال:

فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن عليّ (علیه السلام)، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبقَ أحدٌ من هذا القبيل الّا وهو خائفٌ على دمه أو طريدٌ في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين (علیه السلام)، ووليَ عبدُ الملك بن مروان،

ص: 236


1- المزار لابن المشهديّ: 505، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 241.

فاشتدّ على الشيعة، وولّى عليهم الحجّاجَ بن يوسف، فتقّرب إليه أهل النسُك والصلاح والدين ببغض عليٍّ وموالاة أعدائه وموالاة مَن يُدعى من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من عليٍّ (علیه السلام) وعَيبه والطعن فيه والشنآن له.

حتّى أنّ انساناً وقف للحجّاج _ ويُقال: إنّه جدّ الأصمعيّ عبد الملك بن قريب _ فصاح به: أيّها الأمير، إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وإنّي فقيرٌ بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج وقال: لِلُطف ما توسّلتَ به قد ولّيتك موضع كذا ((1)).

لا نريد إطالة المكث هنا لذكر الشواهد والحوادث والأدلّة، ولنا فيما رويناه قبل قليلٍ كفايةٌ وزيادة، وهذا التاريخ يشهد في كلّ صفحةٍ من صفحاته الّتي يذكر فيها الطواغيت والملوك قبل وبعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) إلى يوم الناس هذا، ولا نحسب أنّ مكابراً يناقش أو يشكّك في ذلك، فضلاً عن الإنسان العادي والمنصف والقارئ للتاريخ.

ولم يقتصر الأمر على الظلم والظلمات الّتي طبّقت الآفاق، بل يتعدّى إلى اختلاف الأهواء والآراء والمذاهب والاتجاهات الّتيتكاثرت وانتشرت سرطانات مسرية فعّالة في جميع شرائح المجتمع والأُمّة في كلّ

ص: 237


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11 / 46، بحار الأنوار: 33 / 193.

صعيد، حتّى في صفوف الحقّ والشيعة، منها ما اندثر، ومنها ما لا زال ممتدّاً، حتّى يورث الله الأرض صاحبها ووليّها الثائر لدم الحسين (علیه السلام) .

النكزة الثامنة: إسلامٌ مزيَّف إزاء مثله

قيام ثورةٍ على الأُمويّين باسم الإسلام وباسم المطالبة بثأر الحسين (علیه السلام) تؤدّي إلى سقوط حكم الطواغيت الأُمويّين وقيام حكومة طواغيت على أنقاض تلك الحكومة الفاسدة، لا يعني صدق (الثوّار) الجدد في دعوى الإسلام واستحقاقهم لقب (أمير المؤمنين) و(خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله))، وقد حكموا باسم الإسلام وباسم رسول الله (صلی الله علیه و آله) باعتبارهم أبناء عمّ الرسول، ونظّروا لحكمهم وحكم من سبقهم، وأسّسوا له القواعد والنظريّات والذرائع الّتي مرّروها على الناس باعتبارها حججاً.

فهل يصدق على ثورتهم الّتي حقّقت أغراضها:

أنّها من الانتفاضات والثورات الّتي قامت على الظلم الأُمويّ كنتيجةٍ للفتح الحسينيّ في عاشوراء، الّذي جعل هذه الانتفاضات والثورات الّتي قامت بعد عاشوراء إنّما تقومباسم الإسلام على الأُمويّة ((1))؟!

ص: 238


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 1 / 176.

الملحق الرابع: عاشوراء بداية نهاية الحكم الأُمويّ!

اشارة

قيل:

لقد أثارت واقعة عاشوراء رجّةً رهيبةً من الإنكار والرفض والقلق النفسيّ والشعور بالإثم، وقد سيطرت هذه الموجة على نفوس المسلمين أفراداً وجماعات، ودفعتهم إلى العمل السياسيّ والتكتّل الاجتماعيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ.

ومنذ عاشوراء إلى سقوط الحكم الأُمويّ حفل تاريخ الأُمّة الإسلاميّة بانتفاضاتٍ وثورات، فرديّةٍ وجماعيّة، قامت ضدّ الحكم الأُمويّ، وكان لثورة الإمام الحسين (علیه السلام) أثرٌ مباشرٌ أو غير مباشرٍ في كلٍّ منها.

وبذلك تكون عاشوراء قد رسمَت بداية نهاية الحكم الأُمويّ ((1)).

يمكن النظر في هذا الكلام عدّة نظرات:

النظرة الأُولى: الرجّة الرهيبة ومؤدّياتها!

لقد أحدثت عاشوراء موجةً عظيمةً من الحزن في الكائنات جميعاً، وهذا ما وردَت به الرواية عن أهل البيت (علیهم السلام)، وبكت الخلائق أجمعين

ص: 239


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 177.

إلّا ثلاث..

أمّا أنّها أثارت رجّةً رهيبةً من الإنكار والرفض والقلق النفسيّ والشعور بالإثم، فهذا ما يحتاج إلى إثبات، وليس في التاريخ ما يفيد ذلك، والكلام عن الأُمّة جمعاء، بمعنى أنّ الرجّة حدثت _ كما يفيد النصّ _ في جميع أرجاء العالم الإسلاميّ يومها، بحيث «سيطرت هذه الموجة على نفوس المسلمين أفراداً وجماعات»!

وعلى فرض حصول ذلك في ألفٍ أو ألفين أو عشرة آلاف، بل حتّى مئة ألفٍ من المسلمين، فإنّها تبقى ظاهرةً محصورةً لا تحكي واقع الأُمّة والمجتمع الإسلاميّ كلّه في جميع البلدان المترامية الأطراف والمجتمعات المتكثّرة الأطياف والآراء والاتجاهات..

سيّما أنّ الأكثريّة الكاثرة كانت من أتباع السقيفة وخول الأُمويّين، فالشام مغلقةٌ على الأُمويّين، وهم لا يعرفون وارثاً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) سواهم، وقد تعيّدوا وأظهروا الشماتة والفرح بقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسبي آله.والبصرة كذلك، فإنّها كانت مزيجاً من بقايا عبَدَة الجمَل وأتباعه وأضرابهم.

وآل عثمان، وهم عياله وأولاده وعشيرته ورهطه.. الأُمويّون أنفسهم..

وهؤلاء شهدت الرواية أنّهم لم يحزنوا على الإمام (علیه السلام)، بل قد فرحوا

ص: 240

بقتله واحتفلوا، بما فيهم آل زيادٍ وآل مروان وبني أُميّة قاطبة..

وعلى العموم، فالحزن والتحزّن على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقتله ظلماً وعدواناً جائعاً عطشاناً والتمثيل به هو وأنصاره وأهل بيته وسبي عياله، ممّا يحزن له كلّ قلب..

أمّا أن يدفع جميع المسلمين أفراداً وجماعاتٍ إلى العمل السياسيّ والتكتّل الاجتماعيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ، فهذا إخبارٌ عن حدَثٍ عظيمٍ ليس له نظيرٌ في جميع العصور والأزمنة والدهور، منذ شهادة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى أن سقط الحكم الأُمويّ وتلاشى واندثر كوجودٍ حاكم..

والمفروض بمثل هذا الحدث العظيم الفريد من نوعه أن تبحّ حناجر الرواة، وتغصّ بنقل أحداثه كتب التاريخ، ويصبح أثراً مشهوداً لا يحتاج القائل به إلى ذِكر الشواهد والأدلّة من التاريخ لشهرته، لأنّه حسب الفرض قد عمّ المسلمين أفراداً وجماعات..فأين الشاهد والدليل عليه؟!

أين مظاهر العمل السياسيّ والتكتّلات الاجتماعيّة الّتي شملَت المسلمين أفراداً وجماعات؟!

النظرة الثانية: بداية النهاية!

حكم الأُمويّون أكثر من سبعين سنةً بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ..

ص: 241

وبعد تلك الفترة تآكلت الدولة، وازدادت المظالم، وضعف الملوك، وانغمسوا في الشهوات الهابطة والخمور واللذّات الساقطة والتبذّل والخلاعة و المجون، حتّى شُغلوا عن إدارة الحكم بأنفسهم، فسلّطوا المخانيث على أجهزة الدولة ومرافق السلطة..

بعد ما يزيد على السبعين سنةً تهاوت أركان السلطان الأُمويّ، فاسحةً المجال أمام السلطان العبّاسيّ الغاشم الظالم المدمّر المهلِك، الّذي قتل ستّةً من الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، وكانوا السبب الظاهر في تغييب الإمام صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .

بعد ما يزيد على السبعين سنةً من شهادة الإمام (علیه السلام)، سقط الحكم الأُمويّ بعامل العساكر العبّاسيّة..

ما أبعد هذه البداية عن تلك النهاية!

وبعد شهادة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله)، ما الفرق بين أن يسقط الحكمالأُمويّ بعد سبعين سنة، أو بعد خمسمئة سنة؟ المهمّ أنّهم استمرّوا في الحكم كلّ تلك الفترة الّتي تُعدّ عمراً في حساب أعمار الأفراد، بل حتّى الأُمم والشعوب..

سبعين سنةً أو أكثر قضى فيها مَن كان شيخاً ومات، وهرم فيها مَن كان طفلاً، وربّما مات الكثير منهم، وهرم مَن وُلد في بداية تلك الفترة.. فمَن وُلد سنة شهادة الإمام الحسين _ إن قدّر الله له الحياة _ فقد بلغ الشيخوخة، وبلغ سبعين سنة..

ص: 242

فهل لنا أن نقول بعد سبعين سنة:

بل لنا القول: إنّ عاشوراء هي الّتي قضَت على الحكم الأُمويّ، حيث نجحَت نجاحاً تامّاً في فصل الأُمويّة عن الإسلام ((1)

النظرة الثالثة: ما علاقة البداية بالنهاية؟

ليست الفترة بين شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وسقوط الدولة الأُمويّة بالفترة الوجيزة الّتي يمكن أن يوعز سقوطها مباشرةً إلى تأثير (الفتح الحسينيّ)..

فهي فترةٌ طويلةٌ من السنين، ربّما تبدّل فيها نسيج عشيرةٍ من العشائرأو بلدٍ من البلدان تبدّلاً كبيراً جدّاً، فوُلد مَن لم يعاصر الحدَث، ومات مَن عاشه، وشبّ الطفل، وشاخ الشابّ، وهرم أو مات الشيخ..

فليس بالضرورة أن تكون الرجّة المشار إليها قد رجّت الكثيرين أيّام زوال حكم الأُمويّين..

ولمن يزعم أنّ ثمّة علاقاتٌ وشيجةٌ وأسبابٌ وعوامل ودوافع رئيسةٍ نشأت في كربلاء عاشوراء أثّرت بشكلٍ مباشرٍ على اقتلاع القرود الأُمويّة مِن على الأعواد، وأدّت إلى زوال حكمهم وسلطانهم، أن يُثبِت ذلك بالأدلّة والشواهد التاريخيّة الكافية، أو المتون والنصوص الحديثيّة

ص: 243


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 181.

المقدّسة..

أمّا أن نقول ويكفي أن نقول، ونتصوّر ونُصوِّر ونكتفي بهذا القدر، فهو كلامٌ لا يثبت أمام النقد والنقض والإبرام!

النظرة الرابعة: اختلاف دوافع المعترضين!

إذا راجع المتابع كتب التاريخ لدراسة بعض ما يمكن أن يُطلَق عليه اسم التمرّد أو الانتفاضة أو القيام ضدّ السلطة، فإنّه سيجد دوافعاً مختلفةً وراء كلّ تحرّك..

فالسطلة الأُمويّة ظالمةٌ غاشمةٌ بطّاشة، تبني عروشها على الجماجم، ويتغذّى ولاتها على الدماء، وتمدّ شهواتهم ومجونهم وخلاعتهم منالأموال المأخوذة قسراً من المزارعين والحرفيّين والمتموّلين، بل حتّى من الفقراء والمساكين..

وقد عاش الناس أيّام ملكهم أبشع صور الابتزاز والظلم والعجرفة والتكبّر والتسلّط، وكانوا طواغيتاً بكلّ ما للكلمة من معنى..

والظلم يولّد الانتفاض أحياناً..

هذا، إذا أمكن إطلاق لفظ (الانتفاضة) و(الثورة) عليها! لأنّ الانتفاضة والثورة مصطلحان لهما معناهما، ولا ينطبقان على أيّ حركةٍ إلّا إذا توفّرت تلك الحركة على مقوّمات الثورة أو الانتفاضة.

وربّما كانت نوازع ودوافع أُخرى عند بعض مَن انتفض ضدّهم، أو

ص: 244

ثار، فمثلاً لو أنّ جماعةً من الخوارج خرجوا على الأُمويّين، فإنّهم لا يتحرّكون بأيّ دافعٍ حسينيّ، فسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام)، وسليل البغاء يزيد أو مروان عندهم سيّان في وجوب محاربته.

وعلى العموم، لابدّ من إيجاد علاقةٍ مباشرةٍ وتأثيرٍ مباشرٍ أو غير مباشر، وكشف الوشائج والروابط الفاعلة المؤثّرة الّتي ترتبط بنحوٍ ما بقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) وشهادته.

أمّا أن يُقال: إنّ شهادة سيّد الشهداء ألهبت الحماس، وكسرت حاجز الخوف، وشجّعت الناس على الانتفاض على الأُمويّين.. فهذا زعمٌ يحتاج إلى إثبات، ولا شاهد عليه ولا دليل!إنّهم حين تعدّوا بالظلم والعدوان والجور على أقدس مقدَّسٍ في زمانه، وهو سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شباب أهل الجنّة، ورفعوا رأسه ورؤوس مَن كان معه على أطراف الرماح، وجالوا بها في البلدان، وتحتها نساء آل الرسول (صلی الله علیه و آله) سبايا، فإنّهم أفهموا القاصي والداني أن لا مقدّس يُرعى، ولا حرمة لدمٍ بعد دم رسول الله (صلی الله علیه و آله) الجاري في أوداج سبطه..

ولكي تكتمل الصورة عند الجميع، هتكوا المقدّسات الأُخرى الباقية، فلا حرمة رُعيَت في المدينة، ولا في بيت الله الحرام، ولا الكعبة المقدّسة في الجاهليّة والإسلام..

وكيف كان، فإنّ دعوى أنّ شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) كسرت حاجز الخوف عند الناس، وصعقت شللهم النفسيّ فأفاقوا، تحتاج إلى دليلٍ

ص: 245

واضح، ولا يُقبَل فيها التصويرات والخطابات الحماسيّة..

ولا يُكتفى فيها بالقول من دون حجّةٍ ولا دليل:

وكان لثورة الإمام الحسين (علیه السلام) أثرٌ مباشرٌ أو غير مباشرٍ في كلٍّ منها.

وبذلك تكون عاشوراء قد رسمَت بداية نهاية الحكم الأُمويّ..بل لنا القول: إنّ عاشوراء هي الّتي قضت على الحكم الأُمويّ، حيث نجحَت نجاحاً تامّاً في فصل الأُمويّة عن الإسلام ((1)).

ولا يكفي لإثبات ذلك اقتناص غضبة رجلٍ هنا، وانتفاض أفرادٍ معدودين هناك، وادّعاء أنّ هذه من تلك!

النظرة الخامسة: انحصار ردود الفعل!

اشارة

ذكروا بعض «الانتفاضات والثورات الّتي كان لثورة الإمام الحسين (علیه السلام) أثرها المباشر في اندلاعها» ((2))، من قبيل: موقف عبد الله ابن عفيف الأزديّ، والتوّابين، وحركة المختار، وقيام زيد..

وسيأتي الحديث عن كلّ واحدةٍ من هذه الموارد في موضعه إن شاء الله (تعالى)، ونقتصر هنا على بعض التنويهات الإجماليّة العامّة:

ص: 246


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 181.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 177.
التنويه الأوّل: بلدٌ دون البلدان

يُلاحَظ في جميع ما ذُكر من أمثلةٍ ونماذج أنّها كانت في محيطٍ خاصٍّ وبلدٍ من البلدان دون غيره، فإنّ مسرح جميع الأحداث هي الكوفة غالباً، ولا تكون في غيرها إلّا استثناءً.والكوفة لم تكن يومها عاصمة الحكم، فالعاصمة في الشام، أجل، كانت ثكنةً عسكريّةً تضمّ بين جنباتها أحد أهمّ الحواضر العسكريّة يومذاك، لكنّها لم تكن هي الوحيدة، فالخزين الأصليّ لعسكر النظام الحاكم كان في الشام..

مع ذلك، إنّنا لو لاحظنا اتّساع رقعة البلدان الإسلاميّة يومذاك، فإنّنا سنجد جغرافيا واسعةً جدّاً تمتدّ في جميع الاتجاهات الأربعة، وإنّنا لم نسمع التاريخ يحدّثنا عن اضطرابٍ في بلدٍ من البلدان قبل حركة العبّاسيّين، فالناس في بلدانهم يرزحون تحت وطأة الحكم الأُمويّ الجاثم على الصدور والعقول والرؤوس والأذناب، وقد ارتضوهم حكّاماً وولاةً وملوكاً وسلاطين..

فإذا قام رجلٌ في مسجد الكوفة رادّاً على ابن الأَمة الفاجرة، فإنّ هذا التصرّف الفرديّ لا يمكن استنتاج موقفٍ منه يشمل الأُمّة، ويؤثّر في الأُمّة جميعها على كثرة عددها وسعة جغرافيّتها، سيّما إذا لاحظنا أنّ هناك مواقف مثله كانت قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، كموقف حِجر ابن عَديّ من زياد ابن أبيه..

ص: 247

بل حتّى مثل حركة التوّابين والمختار وقيام حليف القرآن زيد بن عليّ (علیهما السلام)، فإنّها كانت محصورةً في أرضٍ محدَّدة، وبلدٍ محدَّد، وانضمّ إليها قومٌ معدودون لا يعدو كونهم أقلّيّةً إذا قيسوا إلى المجموعالكلّيّ المنتشر في بلاد المسلمين الوسيعة.

التنويه الثاني: حصول حركاتٍ مشابهةٍ قبل شهادة الإمام (علیه السلام)

يُلاحَظ أنّ بعض الحركات الّتي حصلَت بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) كانت لها أمثلة قبل شهادته، فإن كان موقف عبد الله بن عفيف الأزديّ، فإنّه كان موقف بعض الصحابة المعروفين بالولاء في وجه الأوّل والثاني بعد السقيفة، وكان موقف فاطمة الزهراء (علیها السلام) وصرختها في وجه الظالمين الغاصبين، وكان موقف بعض الصحابة النجباء كأبي ذرّ في وجه عثمان، وكان موقف حِجر بن عَديّ في وجه ابن أبيه ومعاوية، وكان حصب زياد بالحصى في مسجد الكوفة، والأمثلة في ذلك كثيرةٌ لا تعزّ في التاريخ..

وكانت حرب الجمَل وحرب صفّين الّتي أبان أمير المؤمنين (علیه السلام) فيها الحقّ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.. وكان قتل عمّار بن ياسر (رضی الله عنه) ..

والقول بأنّ الجمل وصفّين لم تكونا معركتَين حاسمتَين لصالح الحقّ وأهله، قولٌ بلا دليل، ومصادرةٌ لحجج أمير المؤمنين (علیه السلام) وأصحابه

ص: 248

الميامين.

فلماذا لا يكون لمواقف المعصومين (علیهم السلام) والصحابة الميامين الثابتين أيّ أثرٍ ولا تُؤخَذ بنظر الاعتبار، إلّا بعد شهادة الإمامالحسين (علیه السلام) ؟!

التنويه الثالث: دوافع بعض الحركات

بعض الحركات الّتي تُذكَر كشواهد لم تكن ذات طابعٍ سياسيّ، وليس لها أيّ برنامجٍ سوى شعارٍ واحد، هو الانتصار لشخص سيّد الشهداء (علیه السلام) والثأر له مثلاً.

فموقف عبد الله بن عفيف الأزديّ واضحٌ محدّد..

فهو رجلٌ مؤمن، قاتل بين يدَي أمير المؤمنين، «وكان من رؤساء الشيعة وخيارهم، وكان قد ذهبَت عينُه اليسرى يوم الجمل، والأُخرى يوم صفّين، وكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم، يصلّي فيه إلى الليل، ثمّ ينصرف إلى منزله» ((1)).

ولمّا قام طارق بن المبارك (لعنه الله) بتقوير الرأس المقدّس امتثالاً لأمر ابن زياد، أمر الطاغية بالرأس الشريف فنُصب على باب داره.

ثم إنّ ابن زيادٍ نادى في الناس فجمعهم في المسجد الأعظم، ثمّ خرج ودخل المسجد، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه،

ص: 249


1- مع الركب الحسينيّ: 5 / 154.

فكان من بعض كلامه أن قال:الحمدُ لله الّذي أظهر الحقّ وأهله، ونصر أمير المؤمنين وأشياعه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب!!

فما زاد على هذا شيئاً حتّى وثب إليه عبدُ الله بن عفيف الأزديّ..

فلمّا سمع مقالة ابن زيادٍ وثب إليه وقال: يا ابن مرجانة، إنّ الكذّاب وابن الكذّاب أنت وأبوك، ومَن استعملك وأبوه، يا عدوّ الله ورسوله، أتقتلون أبناء النبيّين وتتكلّمون بهذا الكلام على منابر المسلمين؟!

ثمّ دار الكلام بينهم، وانتهى بالإلقاء القبض على عبد الله بن عفيف بعد سجالٍ وقتالٍ حتّى أخذوه.

فقال ابن عفيف: الحمد لله ربّ العالمين، كنتُ أسأل الله أن يرزقني الشهادة قبل أن تلدك أُمّك مرجانة، وسألتُه أن يجعل الشهادة على يدَي ألعن خلقه وأشرّهم وأبغضهم إليه، ولمّا ذهب بصري آيستُ من الشهادة، أمّا الآن فالحمد لله الّذي رزقنيها بعد اليأس منها، وعرّفني الاستجابة منه لي في قديم دعائي.

فقال ابن زياد: اضربوا عنقه. فضُربَت عنقه وصُلِب ((1)).

ص: 250


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 5 / 153 _ 159 _ عن: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 59، وغيره من المصادر المذكورة في هامش كتاب (مع الركب الحسينيّ).

يبدو واضحاً دوافع هذا الطيّب الطاهر من موقفه، ويبدو واضحاً أنّها غضبةٌ لله، وردٌّ على افتراءات ابن الأَمة الفاجرة، ويبدو أنّه قد كبر سنّه وأكلَته السنين، لأنّه كان يسأل الله الشهادة قبل أن تلد ابن زيادٍ أُمُّه.

ثمّ إنّ ابن زيادٍ تعامل معه بقسوةٍ حتّى قتله وصلبه، فازداد الرعب والخوف والتنكيل.

ثمّ إنّ هؤلاء الأزديّين الّذين ثاروا لإنقاذ صاحبهم، ما أتعسهم وأنكاهم، تثاوروا من أجل صاحبهم، وهم قبل قليلٍ قد ثاروا على ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وريحانته، وتنازعوا على الرؤوس المقدّسة ليتبجّحوا بحملها ويتقرّبوا بها إلى ابن زياد، وهم لا زالوا في طوع ابن زيادٍ وحماته على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) السبايا والرؤوس المشالات!

لقد كانت الكوفة وجميع بلدان المسلمين يومها في طوق الأُمويّين لا يخرجون عنه، وقد وضعت الأُمّة نير المذلّة لهم، وقبلَت سلطانهم، واستسلمَت له، حتّى لم يعد يومذاك يتوفّر عشرةٌ يمكن أن يخرجوا على ابن زياد، بحيث يُروى:

أنّ رجلاً من بكر بن وائل يُقال له: جابر، كان حاضراً في مجلس ابن زياد، وحينما عرف أنّ الرأس الّذي بين يدَي ابن زيادٍ هو

ص: 251

رأس ابن بنت رسول الله، انتفض وهو يقول مخاطباً ابن زياد:للهِ علَيّ أن لا أُصيب عشرةً من المسلمين خرجوا عليك إلّا خرجتُ معهم ((1)).

بغضّ النظر عن مدى صحّة الخبر ومصداقيّته، فإنّ هذا الرجل قد اعترف أن ليس ثمّة عشرة رجالٍ مرصودين يومها للخروج على ابن زياد.

ويبقى موقف هذا الرجل، وموقف الطيّب الطاهر ابن عفيف الأزديّ موقفاً للثأر لشخص الإمام الحسين (علیه السلام)، ومتأثّراً بما جرى على ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وليس انتفاضاً على السلطة الغاشمة، ولا تعبيراً عن رفض للحكم بالمعنى الاصطلاحيّ.

وموقف الرجل جابر من بكر بن وائل تماماً كموقف أنس بن مالك وموقف عُبيد الله بن الحرّ الجُعفيّ.. ليس موقفاً ضدّ الحكم والنظام الحاكم، وإنّما اعتراض لطريقة التعامل مع سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشخص الإمام الحسين (علیه السلام) .

وكذا هو موقف التوّابين..

فإنّها «انحصرَت في ظلّ إطار التكفير عن الذنب، واتّخذَت من

ص: 252


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 178 _ عن: حياة الإمام الحسين بن عليّ (علیه السلام): 3 / 343 _ عن: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: 98.

الثأر للحسين شعاراً رئيسيّاً لها، وانعكس عليها سلوكزعمائها المثاليّ وشخصيّاتهم المرتفعة الّتي زهدَت بالمناصب ورفضت المساومات، ونبذت كلّ موقفٍ لا يتلاءم مع المبدأ العامّ للحركة، الّذي لخّصه سليمان بالعبارة الآتية ((1)): إنّه لا يغسل عنهم ذلك الجرم إلّا قتل مَن قتله أو القتل فيه» ((2)).

ومثل هذه الحركة لا يمكن أن يُطلَق عليها: (ثورة) بالمعنى المصطلح، فللثورة مقوّماتٌ وأهدافٌ وأسبابٌ ونتائج، وقد انحصرت حركة التوّابين في التكفير عن الذنب، والتعبير عن الندم، والثأر من قتَلَة الإمام الحسين (علیه السلام) خاصّة، لا غير.. كما صرّح التوّابون أنفسهم في خطاباتهم ومحاوراتهم وعند وقوفهم على قبر أبي عبد الله الحسين (علیه السلام)، فقالوا فيما قالوا:

اللّهمّ إنّا خذلنا ابنَ بنت نبيّنا، فاغفرْ لنا ما مضى وتُبْ علينا ((3)).

وكذا كانت حركة المختار، لا تتعدّى قتْلَ قتَلَةِ سيّد الشهداء (علیه السلام)، وليس لها شعارٌ آخَر.. ولم تُنجِز على صفحة الواقع شيئاً سوى ذلك.

ص: 253


1- سليمان بن صُرد الخزاعيّ قائد ثورة التوّابين لإبراهيم بيضون: 8.
2- عن: مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 37.
3- مع الركب الحسينيّ: 1 / 179 _ عن: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 4 / 178.

وكذا كان قيام حليف القرآن وحفيد السبط الشهيد زيد بن عليّ (علیهما السلام)، فإنّه قد صرّح في قيامه أنّه يرى قتَلَة جدّه الحسين (علیه السلام) يمشون أمامه على الأرض، فأراد أن ينتقم منهم بعد أن أصرّ اللعين هشام على هتك حرمته شخصيّاً والتنكيل به في مواضع عدّة ((1)).

وسيأتي تفصيل الكلام في كلّ مفردةٍ من هذه المفردات في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

بَيد أنّ الملخَّص من ذلك كلّه:

إنّها كانت حركاتٍ فرديّة أو جماعيّة محدودة، محصورةً في الزمان والمكان والأفراد، لغرض محدودٍ محصورٍ لا يتعدّى الثأر للدماء الّتي سُفكَت في كربلاء..

فلا العالم الإسلاميّ كلّه من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه _ على سعته وكثرة تعداده _ قد ارتجّ وتزحزح وتحرّك..

ولا الشعارات المرفوعة كانت تتعدّى إلى أكثر من الثأر لسيّد الشهداء (علیه السلام) ..

ولا الحركات كانت تقصد إسقاط النظام الحاكم، أو تغيير الواقع المعاش يومذاك.. ولا غير ذلك..

ص: 254


1- أُنظر للتفصيل: كتاب زيد الشهيد للسيّد عبد الرزّاق المقرّم (رحمة الله) .
التنويه الرابع: العيّنات غير حاكيةٍ عن المجتمع

إنّ مثل هذه الحركات المحدودة المحصورة عدداً وأفراداً، المتناثرةعلى مسافةٍ زمانيّةٍ تمتدّ إلى سبعين سنةً بعد مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام)، لا يمكن أن يُؤسَّس عليها كظاهرةٍ اجتماعيّةٍ تحكي واقعاً يعيشه المجتمع..

فموقف الطيّب الطاهر ابن عفيف الأزديّ لا يمكن اتّخاذه عيّنةً لتحكي ظاهرةً اجتماعيّةً كان يعيشها المجتمع الكوفيّ يومذاك..

وكذا هو الحال في التوّابين، بل حتّى المختار!

فلو أنّ بلداً يسكنه مئة مليون نسمة، ويتحرّك فيه مئة ألف شخصٍ ضدّ النظام الحاكم، فإنّ هؤلاء المتحرّكين لا يكوّنون مشهداً معبِّراً عن المئة مليون _ إلّا هؤلاء المعترضون _ بعد أن يكون الباقي راضياً موافقاً متماشياً مع الواقع المحكوم به.

ولا يمكن التعميم والاستنتاج منها على أنّ واقعة عاشوراء أثارت «رجّةً رهيبةً من الإنكار والرفض والقلق النفسيّ والشعور بالإثم، وقد سيطرت هذه الموجة على نفوس المسلمين أفراداً وجماعات، ودفعَتهم إلى العمل السياسيّ والتكتّل الاجتماعيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ»..

فإنّ الرجّة الرهيبة لو كانت رجّت سوى العدد المحصور الخارج مع سليمان بن صُرد، لَشملت جميع أصقاع البلاد واستوعبت كلّ العباد..

على أنّهم لم يندفعوا إلى العمل السياسيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ،

ص: 255

وإنّما اندفعوا بدافع الثأر والانتقام من القتَلَة، ولاحقوهم وتعقّبوهم وظفروا بالأكثر وقتلوهم.وحصول هذا العدد المحدود من المواقف في سبع عقودٍ من عُمر الأُمّة لا يمكن التعبير عنه بالقول: «ومنذ عاشوراء إلى سقوط الحكم الأُمويّ، حفل تاريخ الأُمّة الإسلاميّة بانتفاضاتٍ وثورات، فرديّةٍ وجماعيّة، قامت ضدّ الحكم الأُمويّ»..

التنويه الخامس: الشعور بالإثم

حتّى الشعور بالإثم لم يكن قد سيطر على نفوس المسلمين أفراداً وجماعات، بحيث يحرّكهم ويدفعهم إلى العمل السياسيّ والتكتّل الاجتماعيّ للإطاحة بالحكم الأُمويّ.

أجل، ربّما كان شعوراً بالإثم ينتاب بعض مَن شارك في قتال سيّد الشهداء (علیه السلام)، أو بعض مَن خذله وتخلّف عنه ممّن كان حاضراً في الكوفة وأطرافها..

أمّا أنّ هذا الشعور لا يمكن تعميمه على جميع البلاد الإسلاميّة، ولا يمكن تعميمه على أهل مكّة، ولا أهل الشام الشامتين، ولا أهل البصرة أتباع الجمَل يومها، ولا على أهل المدينة أجمعين، ولا على أهل اليمن والبحرين ومصر، وهكذا قِسْ على باقي البلدان، بل حتّى على أهل الكوفة أنفسهم، إذ أنّها لم تكن ظاهرةً اجتماعيّةً اجتاحت القلوب

ص: 256

وسرت في الصدور، وإنّما كانت إذ كانت محدودةً بشريحةٍ معيّنةٍ محدودة العدد والعُدّة.ولكي نعمّم الحكم، فلابدّ من ذكر شواهده وعيّناته في جميع الشرائح وأطراف البلاد.

الملحق الخامس: سرّ التأكيد على عزاء الإمام وزيارته!

اشارة

في مقام بيان ما يتجلّى من (آفاق الفتح الحسينيّ المبين) في مقطع ما بعد عاشوراء إلى عصر الظهور، ذكروا مقولة: «الإسلام حسينيّ البقاء»، وأنّ عاشوراء قد كشفَت عن وحدةٍ وجوديّةٍ لا انفكاك لها بين الإسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام) واتّحاد الدعوة لهما..

وذلك لأنّ نهضة الإمام الحسين (علیه السلام) في هدفها وشعارها ورسائلها وبياناتها وأخلاقيّاتها هي عين نهضة الإسلام المحمّديّ الخالص، للتحرّر من كلّ رواسب الجاهليّة التي علقت به نتيجة "السقيفة" الّتي مكّنت حركة النفاق من التحكّم في رقاب المسلمين ... ((1)).

ص: 257


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 183.

وفي إطار هذه الوحدة الوجوديّة بين الإسلام المحمّديّ الخالص وبين الحسين (علیه السلام)، يتجلّى لنا سرٌّ كبيرٌ من أسرار تركيز أئمة أهل البيت (علیهم السلام) على عاشوراء وعلى تثبيتدعائمها ونشر آفاقها ما وسعَتهم الفرصة وتراخى عن منعهم الظرف الخانق، وذلك بتوجيه الأُمّة توجيهاً مركّزاً وشدِّها شدّاً محكماً إلى سيّد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام)، من خلال تأكيداتهم المتواصلة على "عزاء الحسين (علیه السلام) " وعلى "زيارة الحسين (علیه السلام) ".

سرّ تأكيد الأئمّة (علیهم السلام) على عزاء الحسين (علیه السلام) وزيارته:

إنّ العناية الفائقة الّتي خصّ أئمّتُنا (علیهم السلام) بها عزاء الحسين (علیه السلام)، وتأكيداتهم المتلاحقة على زيارة قبره المقدّس، لا يصحّ!!! تفسيرها بلحاظ المثوبات العظيمة الموعودة عليها كعملٍ تعبُّديٍّ فقط _ وإن كان لسان جُلّ الروايات المتعلّقة بهذه المسألة يقتصر على ذكر المثوبة فقط _، بل لابدّ من تفسيرها من النظر أيضاً إلى الآثار الأُخرى المترتّبة على عزائه وعلى زيارته.

[ في الهامش تعليقٌ هنا يقول:

قد يتصوّر البعض أنّ قولنا هذا تحميلٌ على الروايات بما ليس فيها، فنقول:

إنّ هذا العزاء وهذه الزيارة لهما آثارٌ _ غير المثوبة _ تنشأ عنهما، سواءً في حياة الفرد أو في حياة المجتمع، هي من نوع الأمر الطبيعيّ للفعل، وهذا أمرٌ يدركه الإنسان العاقل العادي، ولا

ص: 258

يرتاب فيه، فما بالك بالإمام المعصوم؟!

إذن، فحديثهم (علیهم السلام) فقط عن المثوبات المترتّبة على العزاء والزيارة والشعائر الحسينيّة الأُخرى دون ذِكر الآثار الأُخرى، يعني أنّهم (علیهم السلام) قد أغمضوا عن ذِكر تلك الآثار الأُخرى عمداً، بسبب ما كانت تفرضه الظروف الخانقة الّتي عاصروها آنذاك ... ].

... ومن تلك الآثار: الأثر السياسيّ والاجتماعيّ، والتغيّر الفكريّ والروحيّ في الأُمّة الناشئ عن العزاء والزيارة خاصّةً وعن الشعائر الحسينيّة الأُخرى عامّة، خصوصاً في فترة ما بين مقتله (علیه السلام) إلى أيّام الغَيبة الصغرى، حيث كان العزاء والزيارة مثلاً يعنيان في بعض مقاطع تلك الفترة رفض الناس للسلطات الحاكمة آنذاك، وإعلان البراءة منها، والخروج عليها، والتصدّي لأنواع نكالها وبطشها، إذ صار ".. أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (علیه السلام)، فيصير إلى قبره منهم خلقٌ كثير" ((1)).

ثمّ صاروا يُصرّون على زيارته (علیه السلام) ويقولون: ".. لو قُتِلنا عن آخِرنا لَما أمسك مَن بقيَ منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما

ص: 259


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 184 _ عن: أمالي الطوسيّ: 329 المجلس 11 ح 103.

حمَلَهم على ما صنعوا.. حتّى كثر جمعهم وصار لهم سوقٌ كبير ..." ((1)).

هكذا رُسم الفتح الحسينيّ وفُسّر قوله (علیه السلام): «لم يبلغ الفتح» أو «لم يُدرِك الفتح»، فكان ما كان وحدث ما حدث كأُفقٍ من الآفاق.. ممّا اضطرّنا للاستطراد هنا، وإلّا فالبحث ليس هذا محلّه، وسيأتي _ إن شاء الله _ الكلام في ذلك مفصَّلاً في موضعٍ، إن بقيَ في العمر بقيّة.

لذا سنقتصر هنا على إشاراتٍ عابرةٍ سريعة، ونؤجّل الحديث إلى محلّه، ونكتفي ببعض الإشارات:

الإشارة الأُولى: التحرّر من رواسب الجاهليّة

تكرار الموضوع يضطرّنا إلى تكرار الحديث عنه، والبناء على غير أساسٍ يجرّنا إلى التنويه على خطر البناء كلّما أُشيد به.

لقد أبَت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقتها تباعاً السيّدة الصدّيقة فاطمة الزهراء (علیها السلام) حتّى مضت إلى ربّها شهيدةً صابرةً محتسبة..

وأبَت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقاها أمير المؤمنين (علیه السلام) في جميع مواقفه ومشاهده وخطبه وكلماته ودفاعاته

ص: 260


1- مع الركب الحسيني: 1 / 182 وما بعدها.

بالكلمة والموقف والسلاح..

أبَت الأُمّة أن تنصاع لأمير المؤمنين (علیه السلام) قبل الجمَل وبعد صفّين والنهروان، رغم كلّ البيانات والحجج، ورغم شهادة عمّار، ورغم كلّ المعاجز الّتي شاهدَتها..

أبت الأُمّة أن ترعى قرابة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وصحبة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعظيم الشخصيّة وجليل المواقف ونصاعة التاريخ..

أبت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقاها الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) من خلال مواقفه وكلماته وخطبه..

أبت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقاها الإمام الحسين الشهيد (علیه السلام) من خلال مواقفه وكلماته وخطبه ومشاهده واحتجاجاته عليهم، ولم يرضوا إلّا بقتله وقتل من معه، تماماً كما فعلوا مع جدّه وأُمّه وأبيه وأخيه (علیهم السلام)، وزادوا نهب رحله وسبي عياله..

أبت الأُمّة أن تنصاع إلى الحجج الدامغة الكاملة التامّة الّتي ألقاها أولاده المعصومون (علیهم السلام) من بعده..

وبقيَت الأُمّة منذ (السقيفة) إلى يوم الناس هذا على ما هم عليه، إلّا القليل ممّن عرف الحقّ، وقليلٌ ما هم على طول خطّ التاريخ، منذ هبوط آدم (علیه السلام) حتّى يقوم صاحب الأمر (علیه السلام) ..

الأقلّيّة التابعة للحقّ هم الشيعة أتباع الإمام (علیه السلام)، الّذين يعتقدون بالإمام منصوباً من الله، وهم أقلّيّةٌ كانوا ولا زالوا!

ص: 261

أمّا الأُمّة.. الّتي تُسمّى: أُمّة الإسلام، فهم الأكثريّة، والأكثريّة هم للحقّ كارهون..

فأيّ تحرّرٍ حصل لهذه الأكثريّة «من كلّ رواسب الجاهليّة الّتي علقت بالإسلام نتيجة "السقيفة" الّتي مكّنت حركة النفاق من التحكّم في رقاب المسلمين»؟!!

وهل استبدلت الأُمّة رجالَ حركة النفاق بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) برجال الله وأئمّة الحقّ؟!!

أوَليس كانت راضخةً منصاعةً _ طوعاً أو كرهاً _ للحكم الأُمويّ، ثمّ عمدَت إلى العبّاسيّين فحملَتهم على رقاب المسلمين، وهم الجناح الثاني للسقيفة؟!

أوَليس بقيَت مخانيث حركة النفاق حاكمةً في رقاب المسلمين إلى مئات السنين بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ؟!

لا نطيل في هذا الكلام ونكثر من هذه الأسئلة، فإنّنا قد أتينا عليها بألفاظٍ شتّى ومواضع كثيرة، وسنأتي عليها كلّما اضطرنا البحث.

الإشارة الثانية: لا يصحّ تفسيرها!!!

اشارة

قلنا: إنّنا لا نريد خوض هذا البحث حتّى يأتي وقته، غير أنّ نكتةًمنهجيّةً فيها مجازفة خطيرة تدعو للوقوف عندها، ولو على عجلٍ من خلال الوكزات التالية:

ص: 262

الوكزة الأُولى: كثرة الأحاديث

ربّما لا يغالي الإنسان إذا قال: إنّ مِن أكثر المواضيع والعبادات الّتي وردَت فيها نصوصٌ وأحاديث عن أهل البيت (علیهم السلام)، هو موضوع الوسائل الحسينيّة، من قبيل: البكاء، والإبكاء، والزيارة، وإنشاد الشعر، وما شابهها.. ووردَت فيها عموماتٌ كثيرةٌ جدّاً تشمل الموارد المذكورة وغيرها، ممّا يمكن أن ينطبق عليها عنوان العزاء والرثاء والجزع على اختلاف العصور والأُمم..

وربّما يعجب المرء حين يرى التدقيق في كلّ التفاصيل المتعلّقة بالموضوع، وملاحظة جميع الظروف والأحيان، والأذواق والمستويات..

لذا تجد متابعةً دقيقةً وتفصيليّةً مثيرةً للعجب لمراحل البكاء الّتي قد يمرّ بها الإنسان، أو أنواعه الّتي قد يمتاز بها فردٌ دون آخَر، وبيان الثواب والآثار المتعلّقة بكلّ فردٍ من الأفراد..

فمن حرقة القلب.. إلى احمرار العين.. إلى جولان الدمع في الحدَقة.. إلى خروج مثل جناح البعوضة من الدمع.. إلى سيلان دمعةٍ واحدة.. إلى أن تصل الدموع إلى الخدّ، وتسيح على المحاسن واللحية، حتّى تصل إلى الصدر، وهكذا..وكذا في الزيارة، فإنّ فيها ما يكون في ظرف التقيّة، ويكتفى بالمرور من عند القبر والإشارة إليه بطرف العين، وهو يقول ثلاثاً: صلّى الله عليك يا أبا عبد الله.. إلى الزيارات في المواسم.. والزيارة من البيت..

ص: 263

والزيارة عن بُعد..

وكذا اختلاف نصوص الزيارات، ففيها المختصر.. وفيها المطوَّل.. وفيها المفجع.. وفيها الثرّ بالعقائد.. وفيها، وفيها..

وكذا إنشاد الشعر وغيره من الوسائل الحسينيّة، فإنّها قد وردَت فيها نصوصٌ متظافرةٌ متكاثرةٌ لا تكاد تُفلِت حالة، أو ظرفاً، أو وضعاً..

ويكفي لمعرفة ذلك مراجعةٌ سريعةٌ في كتاب (كامل الزيارات) لابن قولويه (رحمة الله)، والجزء الرابع والأربعين والثامن والتسعين من كتاب (بحار الأنوار)..

ولسان الأحاديث كلّها دون استثناءٍ هو: الأمر بالتفجّع، والتحزّن، والجزع، والبكاء، والإبكاء، واستشعار المصيبة بكلّ تفاصيلها، واحتساب الأجر والثواب على ذلك، وإبراز كوامن الحبّ والولاء الخاصّ بسيّد الشهداء (علیه السلام) والأبرار من المستشهَدين معه والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ..

الوكزة الثانية: صراحة الأحاديث

تمتاز الأحاديث الشريفة الواردة عن المعصومين (علیهم السلام) من قَبلخاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) إلى خاتم الأولياء (علیهم السلام) بصراحتها، وذكرها المواضيع والمطالب بالنصّ الّذي لا يقبل التأويل والتحوير والحمل على وجوه..

وقد صرّحَت بالنصّ الواضح الجليّ بالآثار المترتّبة على كلّ وسيلةٍ من الوسائل الحسينيّة، من البكاء والإبكاء والزيارة والإنشاد وغيرها..

ص: 264

وهي لكثرتها وتشعّبها وتفصيلها وتعقّبها لكلّ دقيقةٍ من الدقائق وكلّ حالةٍ من الحالات والآثار المترتّبة عليها، يمكن أن تجتمع في كتابٍ ضخمٍ كما فعل بعض الأفاضل..

فتجد في بعض الأحاديث قد تناولت حتّى الحالات الروحيّة والنفسيّة والنوايا للزائر أو الباكي، وجعلَت لكلّ حالةٍ أثراً وأجراً؛ فمن زاره متشوّقاً متلهّفاً له أثرٌ وأجر.. ومن زاره متفجّعاً له أثرٌ وأجر.. ومن زاره على خوف.. ومن زاره.. ومن زاره.. وهكذا..

بل تناولت بعض الأحاديث التصريح بنيّة الزائر وقصده من الزيارة، كما ورد عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في حديث:

«أُولئك طوائف من أُمّتي، يزورونكم فيلتمسون بذلك البركة، وحقيقٌ علَيّ أن آتيهم يوم القيامة حتّى أخلّصهممن أهوال الساعة من ذنوبهم، ويسكنهم الله الجنّة» ((1)).

وفي حديثٍ آخَر عنه (صلی الله علیه و آله):

«طوائف من أُمّتي، يريدون بذلك برّي وصلتي، أتعاهدهم في الموقف، وآخذ بأعضادهم فأُنجيهم من أهواله وشدائده» ((2)).

وهكذا العشرات من الأحاديث الصريحة الواضحة الجليّة الّتي

ص: 265


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 126 ح 140.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 127 ح 141.

تنصّ نصّاً صريحاً بيّناً جليّاً، يتعالى عن العمل بالظواهر والتأويل في كلّ شأنٍ من شؤون الوسائل الحسينيّة.

الوكزة الثالثة: اتّفاق الجميع على مؤدّى الأحاديث

لا تجد أحداً ممّن قرأ متون الأحاديث الشريفة الواردة في الوسائل الحسينيّة يتنكّر أو يتباعد عن القول بأنّ لسان الروايات المتعلّقة بهذه المسألة يقتصر على ذكر المثوبات والأجر والآثار الدنيويّة والأُخروية، وقد أحصتها الأحاديث إحصاءً دقيقاً، وتابعتها متابعةً حثيثةً لا يفلت منها شيء..

فكيف يمكن والحال هذه أن يُقال:

لا يصحّ تفسيرها بلحاظ المثوبات العظيمةالموعودة عليها كعملٍ تعبُّديٍّ فقط، بل لابدّ من تفسيرها من النظر أيضاً إلى الآثار الأُخرى المترتّبة على عزائه وعلى زيارته.

هل تركت الأحاديث مجالاً لمتحدّث، وغفل أهل البيت (علیهم السلام) عن شيءٍ خوّلونا به لنتمّمه؟!

مع ملاحظة ما ذكرناه قبل قليلٍ من أنّ الأحاديث قد أحصت ما لم يأتِ بالحسبان، ولا يتخيّله إنسان، وجردَت الآثار صغيرها وكبيرها، دنيويّها وأُخرويّها!

ص: 266

الوكزة الرابعة: الآثار الطبيعيّة
اشارة

ربّما يُستدلّ لما يُذكَر من الآثار ممّا لم يرد في الحديث الشريف باللوازم الطبيعيّة الّتي تلزم من الإتيان بالوسائل الحسينيّة، ويقال: إنّ الإنسان العادي يدركها، فكيف بالمعصوم؟!

وهو كلامٌ لا يصمد أمام النقد، ولا يقام له في الميزان العمليّ في مجال الحديث وزناً، وذلك:

أوّلاً:

لأنّنا ذكرنا أنّ التفصيل الوارد في الأحاديث عن الوسائل الحسينيّة يكاد يكون عزيز النظير في عالم الحديث والرواية، وفي مثل هذا الحال يصعب بل لا يكاد يصدّق المتابع أنّ ثمّة أثراً تركه أهل البيت (علیهم السلام) لغيرهم.

وثانياً:

بعد أن عرفنا تفصيل أهل البيت (علیهم السلام) لجميع الجزئيّات المتصوّرة وغير المتصوّرة لدى الإنسان في المسألة، فلماذا لا نقول:

إنّ هذه الآثار الطبيعيّة الّتي نُدرِكها ونحاول ترسيمها ليست منظورةً عند الشارع الأقدس، ولا هي ذات بالٍ عند الأنبياء والأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، لذا تركوا الإشادة بها وذِكرها، وعمدوا إلى ما يهمّهم ويهمّ شيعتهم فذكروه بتفصيلٍ يثير الإعجاب والدهشة!

ص: 267

الوكزة الخامسة: الظروف الخانقة!

مراجعةٌ سريعةٌ في أحاديث الوسائل الحسينيّة تكشف بوضوحٍ أنّ أهل البيت (علیهم السلام) قد لحظوا ظروف التقيّة لهم ولشيعتهم، وقد أبانوا الحقَّ كلَّه، وحاشاهم عن التقصير في أداء الرسالة، وتبليغ الدين بتفاصيله..

وهذه الآثار الطبيعيّة المرسومة في المقام ليست هي في شيءٍ من التقيّة سوى الأثر السياسيّ، وإلّا فما ُيذكَر من الآثار التربويّة والتواصل والتثقيف وما شاكل، ليس فيها جانبٌ يحتاج إلى تقيّة..

ولا يخفى على مَن جاس خلال ديار أحاديث أهل البيت (علیهم السلام)،ولو في نظرةٍ عجلى، يجد أنّهم أوصلوا لنا أدقّ وأخطر التعاليم والعقائد في البراءة رغم كلّ ظروف التقيّة، وفي زيارة عاشوراء نفسها بنسختيها المشهورة والثانية الّتي يُزار بها عن بُعدٍ مثالٌ واضحٌ لذلك.

فهل تعسّر عليهم (صلوات الله عليهم) بعد كلّ ما ذكروه من تفاصيل رغم أجواء التقيّة الخانقة أن يزيحوا الستار عن بعض الجوانب الأُخرى الّتي أدركَتها عقول البشر العادي، بحيث يُقال:

إنّهم «قد أغمضوا عن ذِكر تلك الآثار الأُخرى عمداً، بسبب ما كانت تفرضه الظروف الخانقة الّتي عاصروها آنذاك ...».

الوكزة السادسة: استنتاجٌ من دون نسبة!

يمكن للإنسان أن يتأمّل ويستنتج ويفكّر ويتأمّل، ويقول ما يشاء

ص: 268

ما دام في رضى الله ورضى رسوله (صلی الله علیه و آله)، ولكن ليس له أن ينسب نتائج أفكاره إلى الله (عزوجل) ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأهل البيت (علیهم السلام) .

فما ذكره المعصوم صريحاً معتمَد، وما استنتجه الإنسان يبقى في دائرة القبول والردّ..

فلو كانت الآثار الّتي نزعمها ملحوظةً للمعصوم لَأشار إليها، ولو على نحو العموم والإشارة البعيدة، ولمّا لم يذكرها، فربّما يُقال: إنّها ليست مقصودةً للشرع بالأصالة بحالٍ وفق ما ورد في أحاديثهم..

فاجتماع الناس عند قبر الإمام الحسين (علیه السلام) _ مثلاً _ يلزم أن يقومهناك سوقٌ وعمرانٌ وفنادق ومؤسساتٌ خدميّةٌ وازدهارٌ اقتصاديّ، وربّما تصاعد عدد حوادث الدهس، وربّما يلقى أحد الزوّار واحداً من أرحامه وأقربائه أو أصدقائه الّذين افتقدهم منذ سنين، فتكون الزيارة سبباً للمّ الشمل، وربّما تعلّم المقيم في كربلاء عدّة لغات، لأنّ الناس يأتون من جميع أصقاع الأرض بلغاتٍ وألسنةٍ شتّى، ومنهم يتعلّمون اللغات، ويتعلّمون وسائل التعبير عن الحزن والجزع وإقامة العزاء، ويأخذون الأزياء ووصفات الطعام والأكلات، وغيرها من اللوازم الّتي يمكن أن تُعَدّ وتُحتسب بلا حساب..

ويلزم من التقاء الناس أُموراً وآثاراً كثيرة، تماماً كما هو في الحجّ، بَيد أنّ مثل هذه الآثار في الحجّ نصّ عليها القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت (علیهم السلام)، وأغمضوا النظر عنها في زيارة سيّد الشهداء (علیه السلام)، وذكروا

ص: 269

أُموراً تفصيليّةً أُخرى!

فإن شاء الإنسان أن يذكر مثل هذه الآثار، فله أن يفعل كما يشاء من دون نسبتها إلى الشرع، ولا تبرير عدم ذِكر الشارع لها بأنّه تعمّد غضّ النظر عنها للظروف الخانقة!

الوكزة السابعة: من معاني العزاء والزيارة!
اشارة

قيل: إنّ من تلك الآثار الّتي لم يذكرها أهل البيت (علیهم السلام) في أحاديثهم على كثرتها وتظافرها، التحدّي للسلطان.خصوصاً في فترة ما بين مقتله (علیه السلام) إلى أيّام الغَيبة الصغرى، حيث كان العزاء والزيارة مثلاً يعنيان في بعض مقاطع تلك الفترة رفض الناس للسلطات الحاكمة آنذاك، وإعلان البراءة منها، والخروج عليها، والتصدّي لأنواع نكالها وبطشها، إذ صار ".. أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (علیه السلام)، فيصير إلى قبره منهم خلقٌ كثير" ((1)).

ثمّ صاروا يصرّون على زيارته (علیه السلام) ويقولون: ".. لو قُتِلنا عن آخِرنا لَما أمسك مَن بقيَ منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا.. حتّى كثر جمعهم وصار لهم سوقٌ

ص: 270


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 184 _ عن: أمالي الطوسيّ: 329 المجلس 11 ح 103.

كبير ..." ((1)).

ويمكن الوقوف عند هذه المقولة من خلال النكات التالية:

النكتة الأُولى: ما هو الدليل؟!

أن تعني الزيارة في فترةٍ ما رفض الناس للسلطات الحاكمة، وإعلان البراءة منها، والتصدّي لأنواع نكالها وبطشها، حدَثٌ عامٌّ هامٌّ له دلالاته وأبعاده، ومشهدٌ معقَّدٌ يحتاج إلى التنسيق، وترتيب الفعاليّات، وحبك المواقف، وتوحيد الإرادات والمقاصد، ومِثل هذا الحدَث لا يمكن أنيبقى بدون توثيقٍ ويُكتفى بذكره هكذا، والحال أنّه على مستوىً رفيعٍ من الأهميّة الّتي تفرض على المؤرّخ أن يرصده..

فما هي الشواهد والدلالات على ذلك من التاريخ والحديث؟

النكتة الثانية: الدليل

إستدلّوا على ما يُقال مِن رفض الزوّار للسلطات وإعلان البراءة منها بما رواه الشيخ الطوسيّ في (الأمالي) في خبرٍ تاريخيٍّ لا ينتهي إلى معصوم، يفيد أنّ أهل السواد يجتمعون بنينوى لزيارة قبر الحسين (علیه السلام):

إذ صار ".. أهلُ السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (علیه السلام)، فيصير إلى قبره منهم خلقٌ كثير ..." ((2)).

ص: 271


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 182 وما بعدها.
2- مع الركب الحسينيّ: 1 / 184 _ عن: أمالي الطوسي: 329 المجلس 11 ح 103.

ولا ندري ما هي العلاقة بين اجتماع الزوّار على قبر أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) برفض السلطات وإعلان البراءة منها؟

إلّا أن تكون ثمّة سابقةً ذهنيّةً من لونٍ خاصٍّ تفهم كلّ تجمّعٍ (مظاهرة)، أو يمكن افتراضها (مظاهرة) بالمعنى المصطلح!

النكتة الثالثة: الدوافع

ثمّ قالوا في معرض الاستدلال:

ثمّ صاروا يصرّون على زيارته (علیه السلام) ويقولون: ".. لو قُتِلنا عنآخِرنا لَما أمسك مَن بقيَ منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا.. حتّى كثر جمعهم وصار لهم سوقٌ كبير ..." ((1)).

وهو نفس الخبر السابق، وقد اقتُطع منه هذا المقطعان بالخصوص.

وفي الخبر تصريحٌ لنوايا الزوّار وسبب اجتماعهم، فهم لا يعارضون، ولا يتصدّون، ولا يرفضون السلطات، ولا غيرها، وإنّما هم يصرّون على الزيارة لما رأوا من الدلائل ما حملهم على الإصرار..

إنّهم رأوا المعاجز والكرامات والبركة والنماء، وغيرها من الآثار الدنيويّة والأُخروية في الزيارة، فأصرّوا عليها لما رأوا.. هكذا يقول الخبر

ص: 272


1- مع الركب الحسينيّ: 1 / 182 وما بعدها.

بصراحة، ويكشف عن الأسباب والعلل الّتي تدعوهم للإصرار على الزيارة.

ويعود العجب مرّةً بعد مرّةٍ لطريقة استنطاق النصوص وفهمها وتحميلها ما لا تحتمل، وتأويلها رغم صراحتها ونصّها على ما تريد الإخبار عنه.

ثمّ إنّ دوافع الزوّار على طول خطّ التاريخ، منها ما صرّحَت به الأحاديث من قبيل ما أشرنا إليه قبل قليل، ومنها ما ذُكر في غيرها من الأحاديث، ومنها ما يكون شخصيّاً، كمُذنبٍ يلتمس المغفرة، وصاحبحاجةٍ يرتجي قضاءها، وقد جعل الله إجابة الدعاء تحت قبّته، ومريضٍ يستشفي هناك بتربة كربلاء أو بالتمسّح بالضريح المقدّس، ومحبٍّ يشتاق إلى حبيبه فيزوره، وواصلٍ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومين (علیهم السلام)، ومُسعِدٍ لفاطمة سيّد نساء العالمين (علیها السلام)، وهكذا لا تنتهي النوايا ولا تنحصر، منها ما هو منصوصٌ عليه، ومنها ما هو تابعٌ للأشخاص والحالات والظروف..

فلماذا يُغَضّ الطرف عن جميع هذه المقاصد والدوافع، ويُختزَل الأمر في دافعٍ واحد، بحيث لا يُفهَم من اجتماع الناس عند القبر الشريف إلّا أن يكون رفضاً للسلطات، وإعلاناً للبراءة منها؟!!

ص: 273

ص: 274

كلمةٌ في الختام

ما كنّا نقصد إطالة الكلام في دراسة كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) لبني هاشم، بيد أنّ ما رتّبوا عليه من لوازم ومعانٍ وأبعادٍ اضطرّتنا للمكث عنده قليلاً، وللحديث صلةٌ وتتمّةٌ تأتي في محلّها.

وخلاصة القول:

إنّ الكثير ممّا ذكروه في مقام بيان المقصود من الفتح وآفاقه وآثاره، لا ينسجم مع روح الكتاب وسياقه والحصر الوارد فيه.

ثم إنّه في كثيرٍ من شُعبه وآفاقه وما ذكروه قائمٌ على افتراضٍ مسبَقٍ حدّد ما قام به الإمام الحسين (علیه السلام)، وهو افتراض قيامه بالمعنى المصطلح، فلمّا لم يكن ما فعله واضح النتائج، معقولاً حسب الموازين العاديّة والظاهريّة، جليَّ العواقب، اضطرّ القائل إلى بحث الأمر وفق معتقده الراسخ القائم على القول بعصمة الإمام الحسين (علیه السلام)، فلابدّ من إيجاد المسوّغات والآثار والنتائج والعواقب والفتوح لقيامه، ليكون

ص: 275

منسجماً مع القول بعصمته، ومتوافقاً مع المسار العقليّ المطبوع..

فيما نجد أنّ الفتوح والآثار والقيَم المذكورة في مقام التسويغ والتوجيه والتعقّل لما وقع في الغالب _ إن لم نقل جميعها _ قائمةٌ على التأمّل والتعمّق من خلال المدركات العقليّة للبشر العاديّ القابل للردّ والقبول..

ونجدها في الغالب _ إن لم نقل جميعها _ تخالف مخالفةً واضحةً صريحةً لما ورد عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيت العصمة (علیهم السلام) من الآثار الّتي حصلَت بعد شهادة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

فيما نجد في التصوّر الجديد الّذي يتماشى مع النصوص الشرعيّة والأحاديث المقدّسة، وينسجم مع سير الحوادث والأخبار التاريخيّة، ويفاد من كلمات الإمام الحسين (علیه السلام) ومواقفه ومشاهده، ويتّضح من سلوكيّات العدوّ وخطاباته وتصريحاته..

فإنّنا إن قلنا: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كان مطلوباً للقتل، وقد أمر الخبيث يزيد بحمل رأسه المقدّس إليه مع جواب الكتاب من المدينة، ولاحقه في مكّة ليقتله بأيّ صورةٍ كانت، كما صرّح بذلك سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه، وعلّل خروجه من مكّة بذلك، ثمّ توجّه إلى العراق لما ذكرناه في أكثر من موضع، حيث كانت ثمّة وعوداً مخادعةً بالنصر، وكانت ثمّة القلّة الديّانين الّذين وعدوا وثبتوا، فتوجّه إلى هناك، وكان في الظاهر متوجّهاً إلى الكوفة، ثم جرّت المقادير والأحداث أن سارواإلى

ص: 276

كربلاء بعد أن أسرهم جيش الحرّ..

ثمّ بعد ذلك، فلْيحلّل مَن يحلّل، وليرتّب الآثار مَن يريد أن يرتّب، من دون أن تُنسَب إلى شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) ونيّاته وقصده!

إنّ دم سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذي اقشعرّت له أظلّة العرش وسكن في الخلد، أعزّ وأغلى وأثمن من تفسيره بالظنون والتخمين والتحليل والتصوّرات، رغم ما ورد من النصوص المقدّسة في بيان ذلك.

ص: 277

ص: 278

محتويات الكتاب

إبن الحنفيّة (رضی الله عنه) .. الموقف الأخير عند الرحيل..... 5

المتون...... 5

اللحاظ الأوّل: موقع اللقاء....... 12

الموقع الأوّل: المدينة....... 12

الطائفة الأُولى: خبر الطبريّ عن أبي مِخنَف.... 12

الطائفة الثانية: رواية أهل البيت (علیهم السلام) ... 13

الطائفة الثالثة: الأخبار الّتي أفادت إقامة ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في المدينة.... 14

الخلاصة:...... 16

الموقع الثاني: مكّة المكرّمة....... 16

الطائفة الأُولى: إخبار المسعوديّ وابن حجَر.... 17

الطائفة الثانية: حديث الإمام الصادق (علیه السلام) ........ 19

المتابعة الأُولى: المتون...... 19

المتابعة الثانية: تصريح الحديث.... 21

الخلاصة:..... 22

الموقع الثالث: لم يذكر المكان.......... 22

الخبر الأوّل: البلاذري....... 23

الخبر الثاني: ابن شهرآشوب....... 24

ص: 279

النتيجة:......... 25

التعارض الأوّل: خبر الطبريّ وحديث الإمام الصادق (علیه السلام) ......... 25

التعارض الثاني: حديث كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) لابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وحديث الإمام الصادق (علیه السلام) 25

اللحاظ الثاني: مبادراته... 27

المبادرة الأُولى: بكاؤه...... 28

المبادرة الثانية: خروج ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) إلى أخيه (علیه السلام) .......... 30

اللمحة الأُولى: نصّ ابن شهرآشوب...... 30

اللمحة الثانية: خروجه إلى الإمام (علیه السلام) .... 31

اللمحة الثالثة: وقت اللقاء........... 32

المبادرة الثالثة: عروض ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) وأجوبة الإمام (علیه السلام) ........... 32

العرض الأوّل: الإقامة في الحرم........... 33

اللفتة الأُولى: الاختلاف بين لفظ المعصوم ولفظ غيره... 34

اللفتة الثانية: خلوّ النصّ من التعرّض لبواعث الخروج..... 36

اللفتة الثالثة: التماس الإقامة في الحرم...... 36

ردّ الإمام (علیه السلام) ......... 39

خلاصة الجواب:.... 40

العرض الثاني: المسير إلى اليمن........... 41

النقطة الأُولى: قبول قول الإمام (علیه السلام) ......... 42

النقطة الثانية: رأيٌ بقصد الحماية... 43

ردّ الإمام (علیه السلام) ......... 44

الجواب الأوّل: «لَاستخرجوني حتّى يقتلوني»...... 45

الجواب الثاني: «أنظرُ فيما قلت».... 46

المبادرة الرابعة: المراجعة في أمر حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ... 48

الإشارة الأُولى: وقت اللقاء......... 48

الإشارة الثانية: اللحاق بالإمام (علیه السلام) قبل الخروج.......... 50

الإشارة الثالثة: ألم تعدني النظر؟!.......... 51

الإشارة الرابعة: الخروج عاجلاً.... 52

ص: 280

الإشارة الخامسة: ردّ الإمام (علیه السلام) ... 53

الإشارة السادسة: الجواب الإقناعيّ والدعوة إلى التسليم...... 55

الإشارة السابعة: المراجعة في حمل النساء!...... 56

الردّ الأوّل: أمرُ النبي (صلی الله علیه و آله) .......... 58

الردّ الثاني: هُنّ لا يفارقنني.......... 60

المبادرة الخامسة: وداع الإمام.... 63

اللحاظ الثالث: موقف الناس!........... 67

كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) إلى محمّد ابن الحنفية (رضی الله عنه) وبني هاشم 71

اللفظ الأوّل: لفظ الصفّار في (البصائر).......... 72

اللفظ الثاني: لفظ ابن قولويه في (الكامل)... 74

الإضاءة الأُولى: النصوص المعتمَدة...... 76

الإضاءة الثانية: روايتان...... 76

الإضاءة الثالثة: أجواء الروايتين........... 77

الإضاءة الرابعة: المخاطَب بالكتاب....... 78

الإضاءة الخامسة: الخطاب لم يلحظ المكان!.......... 80

الإضاءة السادسة: بنو هاشم!......... 81

الإضاءة السابعة: «مَن لحق بي استُشهد»........ 84

التنوير الأوّل: معنى «لحق»...... 85

التنوير الثاني: معنى «استُشهد»........... 86

التنوير الثالث: المحصَّل.......... 87

الإضاءة الثامنة: «مَن تخلّف، لم يلحق بي»... 88

الإنارة الأُولى: معنى (الفتح) لغةً....... 89

الإنارة الثانية: مَن هو الشهيد الفاتح؟!......... 99

المعنى الأوّل: المعنى الملائم للُّغة....... 99

ص: 281

المعنى الثاني: إرادة معنىً خاصّ....... 103

المتابعة الأُولى: المراد بالمعنى الخاصّ!........ 104

المتابعة الثانية: التغيير بغضّ النظر عن القتل.... 107

المتابعة الثالثة: أن يكون قتلاً يترتّب عليه نوعٌ من الغلَبة..... 108

المتابعة الرابعة: أن تكون شهادةً في الحقّ والمقتول مظلوماً......... 109

النموذج الأوّل: هابيل...... 110

النموذج الثاني: شهادة يحيى (علیه السلام) .......... 111

النموذج الثالث: مبيت أمير المؤمنين (علیه السلام) ......... 112

النموذج الرابع: شهداء بدر......... 113

النموذج الخامس: شابٌّ في معركة الجَمَل....... 114

النموذج السادس: شهادة عمّار (رضی الله عنه) في صفّين........ 117

المتابعة الخامسة: أقسام المُقاتِل في القرآن الكريم........... 121

المتابعة السادسة: الفتح أثر........ 122

المتابعة السابعة: المعنى النهائيّ للشهادة الفاتحة!...... 123

المتابعة الثامنة: امتناع صدق الشهيد الفاتح إلّا على واحد!........... 125

الجواب الأوّل: وفق إطلاق التعريف...... 126

الجواب الثاني: النفي رجماً بالغيب!....... 127

الخدش الأوّل: امتناع نوعٍ خاصٍّ من الفتح..... 128

الخدش الثاني: الوحدة الوجوديّة بين الإسلام وبين الحسين (علیه السلام) !..... 130

الخدش الثالث: الإسلام حسينيّ البقاء!... 131

الخدش الرابع: حصر مواجهة الإسلام بمواجهة الإمام الحسين (علیه السلام) ........... 139

الخدش الخامس: مصادرة شهادة الصدّيقة (علیها السلام) والرضيع (علیه السلام) ........ 140

الخدش السادس: الخلاصة.... 141

الدعوى الأُولى: الكشف عن الوحدة الوجوديّة........... 141

الدعوى الثانية: الدعوة إلى الإسلام هي عين الدعوة إلى الحسين (علیه السلام) ...... 142

الدعوة الثالثة: مواجهة الإسلام عين مواجهة الإمام الحسين (علیه السلام) ...... 143

الدعوة الرابعة: بقاء الإسلام ببقاء عاشوراء الحسين (علیه السلام) ......... 143

المتابعة التاسعة: الشهيد الفاتح والشهادة الفاتحة!..... 144

الإنارة الثالثة: تعلّق الفتح بالاتباع لا بالإمام (علیه السلام) .......... 152

الإنارة الرابعة: (الفاتح) ليس من ألقاب سيّد الشهداء (علیه السلام) .... 152

ص: 282

الإنارة الخامسة: كان الحسين (علیه السلام) يعتقد أنّه فاتحٌ منصور ... 157

الوقفة الأُولى: اعتقاد الحسين (علیه السلام) ..... 158

الوقفة الثانية: النهضة!..... 159

الوقفة الثالثة: توقّف الأمر!....... 160

الوقفة الرابعة: حصر مراد الإمام (علیه السلام) بمعنىً واحد......... 161

الوقفة الخامسة: هل صرّح الإمام (علیه السلام) نفسه بذلك؟...... 162

الوقفة السادسة: إثبات المدّعى......... 163

الوقفة السابعة: مَن الغالب؟!..... 164

الإنارة السادسة: الفتح انتصار المبادئ والقيم.... 166

الإنارة السابعة: الفتح الاستبشار!..... 169

الإنارة الثامنة: الفتح هو انتقام الصاحب لدم جدّه (علیهما السلام) ..... 172

الإنارة التاسعة: الفتح الرجعة!......... 176

الإنارة العاشرة: الفتح بمعنى الفصل......... 178

الإنارة الحادية عشر: الفتح بمعنى الظفَر والغلَبة.......... 179

الإنارة الثانية عشر: الفتح بمعنى القضاء.... 179

الإنارة الثالثة عشر: الفتح طلب الثأر......... 180

الإنارة الرابعة عشر: الفتح هو الاستشهاد معه!.... 181

الإنارة الخامسة عشر: الفتح بمعنى نصرته......... 183

الإضاءة التاسعة: محصَّل الكلام........... 183

الإضاءة العاشرة: هل في الكتاب تعريض؟!........... 185

التلويح الأوّل: لماذا يُحصَر الكلام في ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) ؟!......... 186

التلويح الثاني: احتمال التقيّة.......... 190

التلويح الثالث: الأمر بالسكوت لمنع اتّساع البحث..... 196

التلويح الرابع: حصانة أولاد الأئمّة (علیهم السلام) !....... 197

التلويح الخامس: اختصاص الأمر ببني هاشم!... 198

ص: 283

الإضاءة الحادية عشرة: مَن لحق من بني عبد المطّلب 199

الإشارة الأُولى: متى بعث الإمام (علیه السلام) إليهم؟!.... 200

الإشارة الثانية: مَن المبعوث؟......... 201

الإشارة الثالثة: المخاطَب!..... 201

الإشارة الثالثة: موقف ابن الحنفيّة (رضی الله عنه) في هذا الخبر...... 202

ملحقات..... 205

الملحق الأوّل: التعامل في العمق والتعاطي مع الظواهر!..... 205

الملحق الثاني: قُتِل الإمام (علیه السلام) باسم الإسلام........ 206

الملحق الثالث: الإسلام المحمّديّ الخالص!....... 214

النكزة الأُولى: استمرار الأُمويّين!... 215

النكزة الثانية: الفصل بين الأُمويّة والسقيفة!....... 217

النكزة الثالثة: التمييز بين الأُمويّة ودين السقيفة!......... 220

النكزة الرابعة: قيام الإسلام المحمّديّ بالإمام (علیه السلام) ...... 221

النكزة الخامسة: الكلام عمّن حضر!........ 226

النكزة السادسة: الاجتهاد مقابل النصّ!!... 228

النكزة السابعة: شهادة التاريخ......... 236

النكزة الثامنة: إسلامٌ مزيَّف إزاء مثله...... 238

الملحق الرابع: عاشوراء بداية نهاية الحكم الأُمويّ!..... 239

النظرة الأُولى: الرجّة الرهيبة ومؤدّياتها!... 239

النظرة الثانية: بداية النهاية!.... 241

النظرة الثالثة: ما علاقة البداية بالنهاية؟..... 243

النظرة الرابعة: اختلاف دوافع المعترضين!........ 244

النظرة الخامسة: انحصار ردود الفعل!...... 246

التنويه الأوّل: بلدٌ دون البلدان........... 247

ص: 284

التنويه الثاني: حصول حركاتٍ مشابهةٍ قبل شهادة الإمام (علیه السلام) .......... 248

التنويه الثالث: دوافع بعض الحركات......... 249

التنويه الرابع: العيّنات غير حاكيةٍ عن المجتمع.... 255

التنويه الخامس: الشعور بالإثم.......... 256

الملحق الخامس: سرّ التأكيد على عزاء الإمام وزيارته! 257

الإشارة الأُولى: التحرّر من رواسب الجاهليّة..... 260

الإشارة الثانية: لا يصحّ تفسيرها!!!........... 262

الوكزة الأُولى: كثرة الأحاديث........ 263

الوكزة الثانية: صراحة الأحاديث...... 264

الوكزة الثالثة: اتّفاق الجميع على مؤدّى الأحاديث....... 266

الوكزة الرابعة: الآثار الطبيعيّة... 267

أوّلاً:.......... 267

وثانياً:......... 267

الوكزة الخامسة: الظروف الخانقة!.... 268

الوكزة السادسة: استنتاجٌ من دون نسبة!..... 268

الوكزة السابعة: من معاني العزاء والزيارة!... 270

النكتة الأُولى: ما هو الدليل؟!.... 271

النكتة الثانية: الدليل........ 271

النكتة الثالثة: الدوافع...... 272

كلمةٌ في الختام... 275

ص: 285

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.