ظروف اقامه سيد الشهداء علیه السلام في مکه المكرمه المجلد 4

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام)

في مكّة المكرّمة

القسم الرابع

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

كتاب يزيد بن الأصمّ إلى الإمام الحسين (علیه السلام)

المتون

روى أبو نعيم في (الحِلية)، قال:

حدّثَنا محمّد بن عليّ، ثنا محمّد بن سعيد الرقّي، ثنا أبو عمر هلال، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا بعض أصحابنا، عن سفيان بن عُيَينة قال:

كتب يزيد بن الأصمّ الى الحسين بن عليٍّ حين خرج:

أمّا بعد، فإنّ أهل الكوفة قد أبَوا إلّا أن ينفضوك، وقلّ شيءٌ نفض إلّا قلق، وإنّي أُعيذك بالله أنْ تكون كالمغترّ بالبرق أوكالمسبق

ص: 5

للسراب، و﴿اصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ ((1)) ((2)).

وروى ابن عساكر في (تاريخ مدينة دمشق) وابن منظور في (المختصر):

أخبرَنا أبو بكر محمّد بن الحسين، نا أبو الحسين بن المهتديّ، نا أبو أحمد الدهّان، أنا أبو عليّ الحرّانيّ الحافظ، نا أبو عمر هلال بن العلاء، نا عمرو بن عثمان، نا بعض أصحابنا، عن سفيان بن عُيَينة قال:

كتب يزيد بن الأصمّ إلى الحسين بن عليّ (علیهما السلام) حين خرج:

أمّا بعد، فإنّ أهل الكوفة قد أبَوا إلّا أن يبغضوك، وقلّ مَن أبغض إلّا قلق، وإنّي أُعيذك بالله أن تكون كالمغترّ بالبرق وكالمهريق ماءً للسراب [في (المختصر): السراب]، ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ أهل الكوفة ﴿الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ ((3)).

* * * * *

هكذا روى أبو نعيم في (الحلية) وابن عساكر، ويمكن أن نستجلي ما في هذا الكتاب من خلال النفضات التالية:

ص: 6


1- سورة الروم: 60.
2- حِلية الأولياء لأبي نعيم: 4 / 98.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 65 / 127، مختصر ابن منظور: 27 / 325.

النفضة الأُولى: يزيد بن الأصمّ!

يزيد بن الأصمّ: هو أبو عَوف العامريّ البكّائيّ، الكوفيّ، نزيل الرَّقّة، تابعيّ.

حدّث عن: خالته ميمونة بنت الحارث، وعائشة، وابن خالته ابن عبّاس، وأبي هريرة، وغيرهم.

حدّث عنه: ابن أخيه عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ، وميمون بن مهران، وراشد بن كيسان، وأجلح الكنديّ، وآخَرون.

عُدّ من الفقهاء أيّام عمر بن عبد العزيز.

تُوفّي سنة إحدى ومئة، وقيل: ثلاثٍ ومئة، قال الواقديّ: وهو ابن ثلاثٍ وسبعين سنة ((1)).

قال العلّامة الأمينيّ (رحمة الله) معلِّقاً على خبرٍ في كتابه (الغدير):

أوَ لا تعجب مِن أُكذوبةٍ تُعَدّ أُكرومة؟! متى تصحّ رواية يزيد بن الأصمّ عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولم يُدركه؟ فإنّ الرجل تُوفّي سنة 101 وهو ابن ثلاثٍ وسبعين سنة، فولادته بعد وفاة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بدهر! ((2))هو من رجال القوم ورواتهم، ومن المتسكّعين في البلاطات، المختبئين

ص: 7


1- أُنظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 1 / 554، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 4 / 517، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 7 / 275، الوافي بالوفيات للصفَديّ: 28 / 8.
2- الغدير للأمينيّ: 7 / 270.

تحت عروش السلاطين، يتسقّطون بدراتهم ويلحسون سيَلانات لعابهم.

النفضة الثانية: مبادرة ابن الأصمّ

من هوان الدنيا على الله أن يكون مِثل هؤلاء الصعاليك يتطاولون وينفخون ويتنافخون، حتّى يروا في أنفسهم ما يُجرئهم على اقتحام ساحات القُدس الإلهيّ والتدخّل في شؤون سادات الخلق، والمبادرةِ للكتابة بلغة الناصح والدليل والمرشد لمن نصبه الله علَماً ومُرشِداً للخلائق أجمعين.

ويبدو واضحاً من النصّ أنّ الأصمّ هذا قد بادر مبادرةً وابتدأ ابتداءً، من دون أيّ سابقةٍ من الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) .

فهل كان الأصمّ في مقام أن يطرح نفسه ليكون له دلوٌ بين الدلاء يوم اختلط الحابل بالنابل، ويكون له موقفٌ بين مواقف العظماء؟

أو أنّه أداةٌ وظّفها السلطان كالأدوات الأُخرى؛ لتجييش الناس وتكثير المعارضين ورفع صوت المخالفين وتكديس الآراء المتّهِمة لسيّد الشهداء (علیه السلام) المخطِّئة له ضمن الصورة الّتي يرسمها الطاغوت للإمام (علیه السلام) ، بأن يعرضه في صورة الخارجيّ الّذي تمرّد على السلطان والولاية وخرج عن الشرعيّة، فجاءه العقلاء ينصحون، وهو يأبى عليهم ولا يأبه بهم، والعياذ بالله!

فيحقّق الطاغوت ما يريد عبر هؤلاء المضلّلين، ويوجِد المسوّغاتالكافية عبر التاريخ لملاحقة الإمام (علیه السلام) وقتله.

ص: 8

النفضة الثالثة: مِن أين كتب؟

لا ندري أين كان الأصمّ يوم كتب الكتاب، فقد ورد في ترجمته أنّه ابن خالة ابن عبّاس، وأنّ ميمونة زوجةَ النبيّ (صلی الله علیه و آله) خالتُه، وأنّه كوفيٌّ نزيل الرقّة، فهل كان تلك الأيّام الّتي عزم فيها سيّد الشهداء (علیه السلام) على الخروج إلى العراق في مكّة لمناسبة الحجّ، أو أنّه كان في الكوفة، أو في الرقّة؟

فإنْ كان في مكّة، فلماذا لم يحضر بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) ويكلّمه مواجهةً، كما فعل المعترضون الآخَرون كابن عبّاس وابن عمر، وإن كان بعيداً عن مكّة، فكيف وصل إليه خبر خروج الإمام (علیه السلام) ؟ وما الّذي حرّكه للكتابة؟

النفضة الرابعة: وقت كتابة الكتاب

كتب الأصمّ الكتاب حين خرج الإمام الحسين (علیه السلام) ، والمقصود بالخروج إنّما هو الخروج من مكّة ميمّماً العراق، لأنّه يحذّر الإمام (علیه السلام) فيه من أهل الكوفة، بَيد أنّ الخبر لا يحدّد الوقت بالتحديد، فهل كان قد كتب الكتاب عند خروج الإمام (علیه السلام) وانطلاقه في المسير، أو قبل ذلك؟

الّذي يمكن استفادته من تعبير الخبر «حين خرج»، أنّه مزامنٌ لخروجالإمام (علیه السلام) ، فهو لابدّ أن يكون في أحد اليومين أو الثلاثة الأخيرة من وجود الإمام (علیه السلام) في مكّة المكرمة على أقصى التقادير.

ص: 9

* * * * *

يُلاحَظ أنّ ازدحام المعترضين ومَن يسمّونهم الناصحين إنّما كان في الأيّام القلائل الّتي سبقَت الخروج، أو عند الخروج، وبعضهم لحق الإمام (علیه السلام) في الطريق بعد الخروج..

وهذا يفيد أن ليس ثَمّة حركةٌ خاصّةٌ ملحوظةٌ بدرَت من الإمام (علیه السلام) قبل عزمه على الخروج من مكّة وشروعه في الإعداد لذلك، بل كان خروج الإمام (علیه السلام) على ما يبدو _ كما سيتبيّن لنا فيما بعد _ مفاجئاً، حتّى تفاجأ الجميع وتكأكؤوا على الإمام (علیه السلام) يناشدونه البقاء ويبدون عجبهم من هجرته من مكّة وقد حضر الموسم!

النفضة الخامسة: مضمون الكتاب

اشارة

يمكن تناول ما ورد في الكتاب من سفَهٍ وطَيشٍ من خلال ما يلي:

السفاهة الأُولى: طَيش الكاتب وسفَهُه

يبدو واضحاً من مضمون الكتاب أنّ كاتبه سفيهٌ طائش، لا يقدّر الأُموربمقدارها، وقديماً قيل: كتاب المرء عنوان عقله ((1))، وقال أمير

ص: 10


1- أُنظر: الغدير للأمينيّ: 4 / 72، يتيمة الدهر للثعالبيّ: 3 / 282.

المؤمنين (علیه السلام) : «كتاب المرء معيار فضله ومسبار نُبله» ((1)). فهو لم يعرف قدر نفسه، ولا عرف قدر مَن كتب إليه، وأنزل نفسه منزلةً ليس له أن يدّعيها.

فمن هو حتّى يكتب إلى سيّد الخلق بعد من استثناهم الله؟ وكيف سمح لنفسه بذلك؟ وكيف تجرّأ للحديث بهذه الوقاحة وتجاوز حدود الأدب إلى أبعد من الإساءة؟

وسيأتي بعد قليلٍ بيان ما في كتابه من عوارٍ وسوء أدبٍ ووقاحةٍ وصلافة، فبماذا تأهّل لمثل هذه الجرأة، والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أكبر منه سِنّاً، ولا يُقاس به رتبةً ومنزلةً ومقاماً عند الله وعند الناس وعلى كلّ الموازين؟!

صارت الدنيا جزافاً، يدسّ كلُّ مَن كان له أنفٌ أنفَه في كلّ مغرز، فتجرّأ مَن هبّ ودبّ من الحشرات والهوامّ والديدان السابحة في قيعان الرذيلة، لتتطاول برأسها وترفع لها عقيرةً نكرةً، وتنفخ في الهواء، فصار القاصي والداني يضرب أصدريه، وينظر في عطفَيه، وينقض مِذرَوَيه، ويشمخ بأنفه، ليضع نفسه موضع الناصح والمرشد والدليل لسيّد الخلق الّذيلا يصدر إلّا عن الله في جميع الأُمور.

فلو كان الأصمّ عاقلاً رزيناً حكيماً، لَما اعترض ولا تعرّض للإمام (علیه السلام) ، ولو كان ناصحاً شفيقاً، لَكتب بما يناسب مقامه ولزم حدود الأدب مع

ص: 11


1- غُرر الحِكَم للآمديّ: ح 7261، عيون الحِكَم والمواعظ للواسطيّ: 379.

المخاطَب، ولَعرف لسيّد شباب أهل الجنّة وسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته مقامَه، إذ أنّه يزعم أنّه من المحدّثين والعلماء، فلا مناصّ من سماعه ما ورد عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولَكان عارفاً بمقام سيّد الشهداء (علیه السلام) بين الناس وفق موازينهم، بغضّ النظر عن الأوامر الإلهيّة والوصايا النبويّة، ولَاحترم حرمة الكبير والوجيه وذي الشرف الباذخ والنسب الناصع، ولَما أنزل نفسه منزلة ربّ العالمين في خطابه لنبيّه، كما سنسمع بعد قليل.

السفاهة الثانية: كتابٌ أبتر

وفق ما روى أبو نعيم وابن عساكر لمتن الكتاب، فإنّه كتابٌ أبترٌ وأهوج، لا يبدأ بالبسملة ولا الحمد والثناء والصلاة على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما يبدأ بقوله: «أمّا بعد» مباشرةً، ثمّ يستمرّ في الحديث باستعلاءٍ وتكبّرٍ وتجبّرٍ وطغيانٍ يُقرف القارئ أيّاً كان، فيا ساعد الله قلب الإمام الحسين (علیه السلام) !

أيبلغ العُجب والتعجرف والتبختر والتعالي والتعاظم والغطرسة بالإنسان الوضيع إلى هذا الحدّ، فينسى ذِكر الله وهو يكتب إلى وجه الله وحبيب الله والناطق عن الله؟!

السفاهة الثالثة: ينفضوك، يبغضوك!

في نسخة أبي نعيم:

فإنّ أهل الكوفة أبَوا إلّا أن ينفضوك، وقلّ شيءٌ نفض إلّا قلق.

ص: 12

وفي نسخة ابن عساكر:

قد أبَوا إلّا أن يبغضوك، وقلّ مَن أبغض إلّا قلق.

والنَّفْضُ: هو مِن نَفَضْتُ الثوبَ والشجَرَ، أَنْفُضُهُ نَفْضاً: إذا حرّكته لينتفض، ونَفَضْتُ الورقَ من الشجر: أسقطته.

والنَّفَضَةُ _ محرّكةً _ : الجماعةُ يَنْفُضُون في الأرض لينظروا هل فيها عدوٌّ أَم لا ((1)).

وفي حديث قيلة: مُلاءَتان كانتا مصبوغَتَين وقد نَفَضتا، أي: نَصُلَ لون صبغهما ولم يبقَ إلّا الأثر، والأصل في النَّفْض: الحركة ((2)).

والقَلَقُ: الانزعاجُ والاضطراب، وأن لا يستقرّ في مكانٍ واحد ((3)).

فيكون معنى النسختين واحدٌ عاقبةً، فإنّهم إن ينفضوه لأنّهم يبغضوه.

السفاهة الرابعة: تقديره لموقف أهل الكوفة

لقد مرّ معنا في أكثر من موضعٍ من هذه الدراسة إشاراتٌ إلى أنّ الكوفة كانت يومذاك على دين السقيفة وشعارهم (وا سُنّة عُمراه)، وماكان الشيعة فيها إلّا أقلّيةً في الوسط الكوفيّ رغم أنّهم أكثريّةٌ إذا ما قُورنوا بالبلدان الأُخرى؛ لقلّة الشيعة سابقاً ولاحقاً، وأهل الحقّ قليلٌ على مرّ

ص: 13


1- أُنظر: لسان العرب، مجمع البحرين: نَفَضَ.
2- أُنظر: النهاية لابن الأثير: نَفَضَ.
3- أُنظر: لسان العرب، مجمع البحرين: قَلقَ.

العصور وكرّ الدهور، وقد أتينا على شيءٍ من التفصيل في هذا الموضوع في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام))، ونحن إذ نناقشه هنا وفق ما هو مشهورٌ ومتداولٌ في التاريخ.

فالأصمّ لم يتكلّم عن النصرة والأنصار والأشياع، وإنّما أخبر عن شيءٍ وتكلّم عن بغض أهل الكوفة ونفضهم الإمام (علیه السلام) ، وهذا ما يخالف جميع التقديرات المرويّة في التاريخ من المخالف والمؤالف، فعلى الأقلّ كان في الكوفة جماعةٌ من الزبد الطافح الّذي أعلن النصرة لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان عددهم زهاء ثمانية عشر ألفٍ أو يزيدون، فكيف حكم الأصمّ على أهل الكوفة جميعاً؟!

وربّما أفاد التأمّل أنّ الأصمّ أراد بذلك تثبيط سيّد الشهداء (علیه السلام) بزعمه وتهديده تهديداً مبطّناً، والإشارة إلى أنّ أهل الكوفة كلّهم جميعاً مع السلطان، وهم يبغضون الإمام (علیه السلام) .

ويحتوي كلامه على نذالةٍ متسافلة؛ إذ أنّه يُشعِر أنّ الإمام (علیه السلام) مبغوضٌ منفوضٌ في الكوفة، ويزيد محبوبٌ ومرغوبٌ به، فكأنّه يريد أن يعقد في ذهن القارئ لكتابه مقارنةً بين أولاد البغايا وسليل الأنبياء (علیهم السلام) ، ويرجّح أولاد البغايا بين الناس على الإمام (علیه السلام) ، ولا ندري كيف يبغضوه وينفضوهوقد قذف الله حُبّه في قلب الخلائق مِن مؤمنٍ وكافر ومنافق! ((1))

ص: 14


1- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 9 / 47 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، بحار الأنوار للمجلسيّ: 43 / 281 الباب 12.

السفاهة الخامسة: قلق القوم

ربّما أفاد تعقيبه بقوله: «وقلّ شيءٌ نفض _ أو: بغض _ إلّا قلق»، أنّه يريد أن يرمي للمتلقّي أنّ هؤلاء القوم وإن كاتبوا ووعدوا، فإنّما هي فورةٌ وثورةٌ سرعان ما تخبو وتنطفئ، وأنّهم متقلّبون قلقون، لا يستقرّون ولا تثبت أقدامهم على صراط، فإنْ دعوه إنّما دعوه ليقتلوه ويغدروا به في نهاية المطاف.

غير أنّ مقدّمته وتقريره أنّ أهل الكوفة يبغضونه وينفضونه، لا تلتئم مع أنّهم يكاتبونه لإعلان النصرة، فإنّ الأكثريّة الساحقة في الكوفة لم تكاتب الإمام (علیه السلام) ، كما أثبتنا ذلك في مجموعة (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام))، والأقلّيّة الّتي كاتبَت _ رغم ضخامة عددها _ لم تكن يوم كاتبَت تُظهِر العداء والبغض والبغضاء للإمام (علیه السلام) ، فلا يمكن أن يقرّر أنّهم يبغضونه ويكاتبونه ويبايعونه، حتّى يقلقوا فيما بعد وينقلبوا.

أضف إلى ذلك: إنّ الأصمّ وغير الأصمّ ليس له أن يخبر عن قلوب الناس، فالحبّ والبغض مكانه القلوب، ولا يطّلع على القلوب إلّا الله ومَن سلّطه الله على القلوب، وإنّما يُعرَف ما في القلب لسائر الناس من خلال مايبدونه ويظهرونه في سلوكهم وأفعالهم وتعاملهم، وهؤلاء المبايعين وإن كانوا كاذبين خدّاعين غدّارين، بَيد أنّهم يوم كتبوا وأعلنوا البيعة لم يظهر منهم

ص: 15

البغض والعداء، وإنّما تبيّن ذلك بعد أن انحازوا مع أعداء الله، فكيف أخبر عنهم الأصمّ؟

أجل، كان بإمكانه أن يُخبِر عن الأكثريّة الّتي بقيت ملازمةً لغابة القرود في الكوفة، إلّا أنّ الأكثريّة لا يمكن أن يحكم عليها بالقلق، لأنّها كانت ثابتةً على ضلالتها لم تملْ إلى الحقّ أبداً.

السفاهة السادسة: تعويذ الإمام (علیه السلام) !

العَوذُ والتعوُّذُ: هو الالتجاء والاعتصام، وهو تركيبٌ يُستعمَل في موارد تحصين المخاطَب من خطرٍ أو سوءٍ أو جهلٍ يداهمه، سواءً كان خارجيّاً أو قلبيّاً.

والتعوُّذُ: الالتجاءُ والاعتصام، إمّا في الخارج إذا كان في الأُمور الخارجيّة، أو في القلب إذا كان معنويّاً ((1)).

قال (تبارك وتعالى):

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ... مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ﴾ ((2)).﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ﴾ ((3)).

ص: 16


1- أُنظر: التحقيق في كلمات القرآن: 8 / 260.
2- سورة الناس: 1 ... 4.
3- سورة الفلق: 1 _ 2.

﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ ((1)).

﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ ((2)).

﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ ((3)).

﴿عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ﴾ ((4)).

﴿قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ﴾ ((5)).

﴿قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ ((6)).

﴿قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ﴾ ((7)).

فلابدّ من افتراض موردٍ عوّذ الأصمُّ من أجله الإمام الحسين (علیه السلام) بالله، وقد جاءت في كلامه واضحةً وقحةً بذيئةً جاهلةً سليطةً صفيقةً فاحشةً لا حياء فيها، كما سيأتي.

ص: 17


1- سورة المؤمنون: 97 _ 98.
2- سورة النحل: 98.
3- سورة الأعراف: 200.
4- سورة الدخان: 20.
5- سورة البقرة: 67.
6- سورة هود: 47.
7- سورة مريم: 18.

السفاهة السابعة: الاغترار والخداع بالسراب

اشارة

قبل الدخول في ذِكر تفاهات هذا الواطئ الدنيء الحقير القزم، لابدّمن التقدُّم بالاعتذار لسيّد الكائنات وخامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، والاستغفار من ذكر هذه الترّهات والسخافات والحماقات والوقاحات، غير أنّنا مضطرّون أن ننقل ما رواه التاريخ ونعالجه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

أُعيذك بالله أن تكون.. يعني الخطابُ إمامَ الخلق الحسين (علیه السلام) ، وهو يعيذه من أمرين:

الأمر الأوّل: أن يكون كالمغترّ بالبرق!

يحذّر هذا العديم الأدب إمامَ زمانه أن يكون (كالمغترّ بالبرق)، فهو يمثّل الإمام (علیه السلام) وموقفه بهذا المثَل البائس..

فالمغترّ بالبرق إنّما يغترّ بوميضٍ سرعان ما يزول، وهو لا يدوم أكثر من خطف البصر، وهو كنايةٌ عن قصر النظر الّذي لا يتمهّل صاحبه أبداً، ويحكم من خلال ومضةٍ ويريد توظيفها على الدوام، وهو ما لا يكون، فهو اغترارٌ بالزيف والأوهام، وبناءٌ على الزائل والمحال.

ولا نريد التوغّل في بيان وقاحة هذا الرذيل؛ خوفاً من الانسياق معه في حضيضه العفن الوبيل.

ص: 18

الأمر الثاني: أن يكون كالمخدوع بالسراب

وحذّر هذا التعيس النحس الموبوء إمامَه (علیه السلام) أن يكون كالمسبقللسراب، أو كالمهريق ماءً للسراب، أو كالمهريق ماء السراب _ حسب النُّسَخ _.

وهي جميعاً تفيد معنىً واحداً، وهو أن يُخدَع بالسراب فيسارع إليه _ حسب نسخة أبي نعيم _، أو كمن يصبّ ماء السراب وينخدع به فيخاله ماءً يمكن أن ينزف منه أو يضيف عليه أو ينتفع به، وهو سرابٌ لا واقع له.

فهو يصوّر الحال يومذاك كأنّه سرابٌ بقيعةٍ لا واقع له ولا أساس، وأنّ مَن كتب إليه يمكن أن ينخدع فيخاله ماءً، فيأتيه ويتعامل معه بعد أن يصل إليه كماء!!!

عجَبٌ لحِلم الله (عزوجل) وحِلم الإمام (علیه السلام) المتخلّق بأخلاق الله! ألم يكن الإمام (علیه السلام) قد عاش في نفس الفترة الّتي عاش فيها هذا الوغد السافل التافه الخسيس؟ فكيف صار هو يرى السراب سراباً ولا يراه من عينه عين الله؟!

من الأفضل أن لا نعلّق على هذا الهراء، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وسيعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلَبٍ ينقلبون.

السفاهة الثامنة: واصبر، إنّ وعد الله حقّ!

بعد أن رسم صورة أهل الكوفة وموقفَهم من الإمام (علیه السلام) _ بزعمه _،

ص: 19

وحذّر الإمام (علیه السلام) من أن يكون في دائرة المَثَلَين اللذَين ضربهما، انسلّ ليُصدِر أمْرَه بتوظيف آيةٍ من كلام الله.. ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾.جعل هذا الوغد الهابط نفْسَه في مقام الخطاب بمثابة ربّ العزّة والجبروت حين يخاطب نبيَّه.

ثمّ أمر الإمام (علیه السلام) أن يصبر، فإنّ وعد الله حقّ.. ولا ندري ماذا يعني بوعد الله! فهل المقصود من وعد الله في لغة هذا الحقير هو أنّ يزيد موعودٌ مِن قِبل الله بالحكم والسلطان، فهو الوعد الحقّ الّذي ينبغي للإمام (علیه السلام) أن ينتظره، فلا يستخفّه الّذين لا يوقنون بوعد الله ممّن دعاه وبايعه؟!

فهو يريد أن يقول للإمام (علیه السلام) أنّ وعد الله لم يكن لصالحه، فلْيصبر، إذ أنّه يرى السلطنة غنيمةً يستحوذ عليها الأقوياء، ولا يراها أمراً ربّانيّاً ولا خلافةً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) منصوصةً من ربّ الأرض والسماء.

إصبر، إنّ وعد الله حقّ!!!

السفاهة التاسعة: لا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون

أنْ يحكم على أهل الكوفة أنّهم لا يوقنون، ربّما كان هو وهم، سيّما إذا كانوا من زمرة مَن يبغضون الإمام (علیه السلام) .. غير أنّه إنّما أطلق هذا الكلام على مَن بايع الإمام (علیه السلام) وزعم أنّه ينصره، فهو قد وصف مَن وعد النصرة بهذا الوصف، وأصحر بذلك عن خبثه وسوء سريرته وسوداويّة نظرته.

ولكن أن يخاطب الإمام (علیه السلام) بقول الله: ﴿لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾، فهذا ما لا

ص: 20

يُطاق، ولا يمكن التعامل معه بهدوءٍ دون أن يشتعل المؤمن بنيرانالغضب لحبيب ربّ الأرباب، ويغلي الدم في العروق بلهيب الغَيرة على سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

فلْنكفّ اليد عن التعليق، ونترك المجال مفتوحاً، ونتوسّل إلى القارئ الكريم الغيور المؤمن الحسينيّ أن لا يترك مفردةً ولا جملةً في قواميس اللغة ممّا يعبّر عن نذالة هذا القزم المتهالك المتهرّئ الوقح الذميم الرذل الزنيم السافل إلّا وأطلقها عليه.

السفاهة العاشرة: اتّحاد خطاب الأوغاد

عمل الجميع _ يزيدُ القرود ومَن تبعه وتولّاه _ على عرض الإمام (علیه السلام) كخارجٍ على السلطان (ولو الخروج بالمعنى المصطلَح)؛ لتمويه جريمتهم في قصد حياة الإمام (علیه السلام) والعزم على قتله، لتُمحى آثار جنايتهم، فهم إن عجزوا عن اغتياله أو قتله بالسمّ خفية، فقد قاموا بعملٍ إعلاميٍّ ضخمٍ لقلب الصورة، وجعْلِ الإمام (علیه السلام) في موضع الهجوم والسلطانِ في موضع الدفاع.

وقد مرّ معنا ما قاله يزيد المسعور في كتابه إلى ابن عبّاس وأهل المدينة ومكّة والموسم، وقد سمعنا ما كان يقوله ابن عمر ويدعو الإمامَ (علیه السلام) إليه ويقول: إنّ الدنيا لا تجتمع مع النبوّة! وكذا سمعنا كلام ابن عبّاسٍ وابن الزبير وغيرهم.

ص: 21

وها هو هذا الصعلوك المتهاوي الضئيل يتّهم الإمام (علیه السلام) بأنّه يسعى إلىقومٍ يبغضونه ولا يرضون به، ويغترّ بهم ويحسب السراب ماءً، من أجل الهجوم على السلطة ومحاربة السلطان والخروج عليه، واستعمال الغوغاء من أجل النيل من الحكّام.

فانصرفَت الأذهان وانكمشت القلوب على هذا النوع من التعامل مع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) باعتبار أنّها حركةٌ هجوميّةٌ ابتدائيّةٌ خطّط لها الإمام (علیه السلام) ، وإنْ لم يقصد الدنيا والحكم الظاهريّ والسلطنة، ولكنّه هو البادئ المبادِر والمعِدّ للهجوم، بحيث لو تركوه ما تركهم، وبقيَت هذه الخديعة فاعلةً إلى اليوم!

ولمّا كان المُلك عقيم، والدنيا محرَّصٌ عليها، والناس والأموال بيد السلطان، والناس عبيدُ الدنيا وزيفها وأسرى بريق الدينار والدرهم، فكان في قتل الإمام (علیه السلام) مسوّغٌ ليزيد وأسياده وأتباعه.

وبهذا نسي الجميع ابتداءَ العدوّ في الهجوم على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزمه الجادّ في قتله والقضاء عليه، تماماً كما فعل مع آبائه وأبنائه، وأنّه أراد ذلك في المدينة ثمّ في مكّة، ممّا اضطرّ الإمامَ (علیه السلام) للخروج منها!

السفاهة الحادية عشر: تخطئة الإمام (علیه السلام)

إنّ مضمون هذا الكتاب ينسج على نفس المنوال الّذي ينسج عليه المؤرّخ المأجور، حيث تجد في كلّ موضعٍ وموطنٍ يمكن أن يُنفِذ فيه سهامَه

ص: 22

المسمومة تراه يدسّها على أيّة حال، فمرّةً يجعل الإمام (علیه السلام) نادماً، يتذكّر ابنَ عبّاس ونصائحه، ومرّةً يتذكّر نصائح أخيه الإمام الحسن (علیه السلام) .

ويحاول المؤرّخ من خلال تكديس المعترضين واتّفاقهم على قولٍ واحدٍ أن يعرض الإمامَ (علیه السلام) طالبَ دنيا، ومهاجماً من دون عُدّةٍ ولا عدد، ومحارباً يُقدِم على الحرب من غير سلاحٍ ولا مدد، ليُقنِع المتلقّي بتخطئة الإمام (علیه السلام) في جميع مفاصل حركته، وفي جميع خياراته واختياراته، ولذا ركّز في الافتراء على المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وقد أتينا على بيان ذلك في المجموعة الخاصّة به.

ولمّا كان المؤمن بالإمام (علیه السلام) يعتقد عصمته ولا يرضى نسبة الخطأ له، حاول تصوير حركته الهجوميّة بصورةٍ تليق بمقامه وتنسجم مع عصمته، حسب تصوّرات المحلّلين.

ونعود لنقول: ثمّ نسي الجميع أنّ يزيد قد طلب رأس سيّد الشهداء (علیه السلام) منذ أن كان في المدينة، ثمّ لاحقه في مكّة حتّى أزعجه واضطرّه للخروج، لئلّا تُهتَك بدمه المقدَّس الزاكي حرمة البيت الأمين، ونسي الجميع أنّ الإمام (علیه السلام) مدافعٌ عن نفسه، قد هجموا عليه ولم يهجم عليهم، وغبنا في خضمّ الأحداث والتصوّرات والتصوير.

النفضة السادسة: الإمام (علیه السلام) لم يردّ عليه

لم يسجّل أبو نعيم ولا ابن عساكر ردّاً للإمام (علیه السلام) على هذا الكتاب،

ص: 23

بل لم يُشر أحدهما إلى أنّ الإمام (علیه السلام) قد قرأ الكتاب، بَيد أنّ المعهود أنّهم إذا قالوا: وكتب فلانٌ إلى فلان، أنّ الكتاب قد بلغ المكتوبَ إليه، وإذا بلغه فالمفروض أنّه سيقرأه، فلماذا لم يروِ أحدُهم ردّاً للإمام (علیه السلام) ؟ وإن كان الإمام (علیه السلام) لم يردّ عليه، فربّما لأنّه كتاب مَن استحقّ عليه العذاب، فليس له جواب، إلّا أن يحرقه الله وكتابه بنيران جهنّم.

ومَن تطفّل وهو لئيم، وتكبّر وهو حقير، وكتب من دون أن يستشيره أحد، فالاحتقار والازدراء والسكوت عنه أحجى وأوفق بالحليم.

ولكن ساعد الله قلب ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وهو يتجرّع الغصص من هؤلاء الأوغاد والزعانف وأذناب الشيطان الرجيم، الّذي مهّد لهم السبيل لاعتلاء رقاب الناس والتطاول على أئمّة المسلمين.

ص: 24

عُمر بن عبد الرحمان المخزوميّ ورأيه

المتون

قال ابن سعدٍ ومَن تلاه:

وأتاه أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام، فقال: يا ابن عمّ! إنّ الرحم تضارّني عليك، وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟ قال: «يا أبا بكر، ما أنت ممّن يستغش ولا يُتّهَم، فقُل». فقال: قد رأيتَ ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم؟ وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَن قد وعدك أنْ ينصرك، ويخذلك مَن أنت أحبّ إليه ممّن ينصره، فأُذكّرك الله في نفسك. فقال: «جزاك الله يا ابن عمّ خيراً، فلقد اجتهدتَ رأيك، ومهما يقضي الله مِن أمرٍ يكن». فقال أبو بكر: إنّا لله، عند الله

ص: 25

نحتسب أبا عبد الله ((1)).

وقال البلاذريّ:

قالوا: ولمّا كتب أهلُ الكوفة إلى الحسين بما كتبوا به، فاستحفّوه للشخوص، جاءه عمر[و] بن عبد الرحمان بن حارث بن هشام المخزوميّ بمكّة، فقال له: بلغني أنّك تريد العراق، وأنا مشفِقٌ عليك من مسيرك، لأنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأُمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمَنُ عليك أنْ يقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه. فقال له: «قد نصحتَ، ويقضي الله» ((2)).

وقال الطبريّ:

قال هِشام: عن أبي مِخنَف: حدّثَني الصقعب بن زهير، عن عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام المخزوميّ قال:

لمّا قدمَت كتبُ أهل العراق إلى الحسين، وتهيّأ للمسير إلى العراق، أتيتُه فدخلتُ عليه وهو بمكّة، فحمدتُ الله وأثنيتُ عليه، ثمّ قلت: أمّا بعد، فإنّي أتيتُك يا ابن عمّ لحاجةٍ أُريد ذِكرها لك

ص: 26


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، ابن عساكر، الحسين (علیه السلام) ط المحموديّ: 202، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373.

نصيحة، فإنْ كنتَ ترى أنّك تستنصحني، وإلّا كففتُ عمّا أُريد أن أقول. فقال: «قُل، فوَاللهِ ما أظنّك بسيّئ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل».

قال: قلتُ له: إنّه قد بلغَني أنّك تريد المسير إلى العراق، وإنّي مشفِقٌ عليك من مسيرك، إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأُمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيدٌ لهذا الدرهم والدينار، ولا آمَنُ عليك أن يقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.

فقال الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد واللهِ علمتُ أنّك مشيتَ بنصحٍ وتكلّمتَ بعقل، ومهما يقضِ من أمرٍ يكن، أخذتُ برأيك أو تركتُه، فأنت عندي أحمدُ مُشيرٍ وأنصحُ ناصح».

قال: فانصرفتُ من عنده، فدخلتُ على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام، فسألني: هل لقيتَ حسيناً؟ فقلت له: نعم. قال: فما قال لك؟ وما قلتَ له؟ قال: فقلتُ له: قلتُ كذا وكذا، وقال كذا وكذا. فقال: نصحتَه وربِّ المروة الشهباء، أما وربِّ البنية إنّ الرأي لما رأيتَه، قبله أو تركَه. ثمّ قال:

رُبَّ مستنصَحٍ يغشّ ويُردي

وظنينٍ

بالغيب يلفى نصيحا ((1))

ص: 27


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.

وقال ابن أعثم:

قال: وبلغ الحسين بن عليٍّ بأنّ مسلم بن عقيلٍ قد قُتل (رحمة الله) ، وذلك أنّه قَدِم عليه رجُلٌ من أهل الكوفة، فقال له الحسين: «مِن أين أقبلتَ؟»، فقال: من الكوفة، وما خرجتُ منها حتّى نظرتُ مسلم ابن عقيلٍ وهانئ بن عروة المذحجيّ (رحمهما الله) قتيلَين مصلوبَين منكَّسَين في سوق القصّابين، وقد وُجّه برأسيهما إلى يزيد بن معاوية. قال: فاستعبر الحسين باكياً، ثمّ قال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون».

ثمّ إنّه عزم على المسير إلى العراق، فدخل عليه عمر[و] بن عبد الرحمان [بن الحارث] بن هِشام المخزوميّ، فقال: يا ابن بنت رسول الله، إنّي أتيتُ إليك بحاجةٍ أُريد أن أذكرها لك، فأنا غير غاشٍّ لك فيها، فهل لك أن تسمعها؟ فقال الحسين: «هات، فواللهِ ما أنت عندي بسيّئ الرأي، فقُل ما أحببت». فقال: قد بلغَني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفِقٌ عليك من ذلك، إنّك تردُ إلى قومٍ فيهم الأُمراء، ومعهم بيوت الأموال، ولا آمَنُ عليك أن يقاتلك مَن أنت أحبّ إليه من أبيه وأُمّه، ميلاً إلى الدينار والدرهم، فاتّقِ الله ولا تخرج من هذا الحرم. فقال له الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد علمتُ أنّك أمرتَ بنصح، ومهما يقضي الله من أمرٍ فهو كائن، أخذتُ برأيك أمتركتُه».

قال: فانصرف عنه عمر بن عبد الرحمان وهو يقول:

ص: 28

رُبّ

مُستنصحٍ سيعصي ويؤذي

ونصيحٍ

بالغيب يلفى نصيحا ((1))

وقال المسعوديّ:

ودخل أبو بكر بن الحارث بن هشام على الحسين، فقال: يا ابن عمّ، إنّ الرحم يُظائرني عليك، ولا أدري كيف أنا في النصيحة لك. فقال: «يا أبا بكر، ما أنت ممّن يستغش ولا يُتّهم، فقُل».

فقال أبو بكر: كان أبوك أقدم سابقةً، وأحسن في الإسلام أثراً، وأشدّ بأساً، والناس له أرجى ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار الى معاوية والناس مجتمعون عليه، إلّا أهل الشام، وهو أعزّ منه، فخذلوه وتثاقلوا عنه؛ حرصاً على الدنيا وضنّاً بها، فجرَّعوه الغيظ وخالفوه، حتّى صار الى ما صار اليه من كرامة الله ورضوانه، ثمّ صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد شهدْتَ ذلك كلَّه ورأيتَه، ثمّ أنت تريد أن تسير الى الّذين عَدَوا على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهلَ الشام وأهلَ العراق، ومَن هو أعدّ منك وأقوى، والناس منه أخوف وله أرجى، فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغَوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَن وعدك أن ينصرك، ويخذلك مَن أنت أحبّ إليه ممّنينصره، فاذكر الله في نفسك.

فقال الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد أجهدك رأيك، ومهما يقضِ الله يكن». فقال: إنّا لله، وعند الله نحتسب يا أبا

ص: 29


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.

عبد الله.

ثمّ دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هِشام المخزوميّ والي مكّة، وهو يقول:

كم نرى

ناصحاً يقول فيُعْصى

وظنين المغيب يُلْفى نصيحاً

فقال: وما ذاك؟ فأخبره بما قال للحسين، فقال: نصحتَ له وربِّ الكعبة ((1)).

وقال مسكوَيه:

لقيَه عمرُ بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام المخزوميّ، فقال له _ وقد قدمَتْ عليه كتبُ العراق _ : يا ابن عمّ، إنّي أتيتُ لحاجةٍ أُريد ذِكرها لك نصيحة، فإنْ كنتَ ترى أنّك مستنصحي قلتُها وأدّيتُ ما علَيّ من الحقّ فيها، وإنْ ظننت أنّك لا تستنصحني كففتُ عمّا أُريد أن أقول. قال: فقال: «قُل، فواللهِ ما أستغشّك، وما أظنّك بشيءٍ من الهوى لقبيحٍ من القول والفعل».قال: قلتُ: بلغَني أنّك تريد السير إلى العراق، وإنّي أُشفق أن تأتي بلداً فيه عمّاله وأُمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيدٌ لهذه الدراهم والدنانير، فلا آمَنُ أن يقاتلك مَن وعدك بنصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.

فقال الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، مهما يقضِ يكن،

ص: 30


1- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 56.

وأنت عندي أحمدُ مشيرٍ وأنصحُ ناصح» ((1)).

وقال الخوارزميّ:

فدخل عليه عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام المخزوميّ، فقال: يا ابن رسول الله، أتيتُك لحاجةٍ أُريد أن أذكرها لك، وأنا غيرُ غاشٍّ لك فيها، فهل لك أن تسمعها؟ فقال: «قُل ما أحببت».

فقال: أُنشدك الله _ يا ابن عمّ! _ أنْ لا تخرج إلى العراق؛ فإنّهم مَن قد عرفتَ، وهم أصحاب أبيك، وولاتهم عندهم وهم يجبون البلاد، والناس عبيد المال، ولا آمَنُ أن يقاتلك مَن كتب إليك يستقدمك.

فقال الحسين: «سأنظر فيما قلت، وقد علمتُ أنّك أشرت بنصح، ومهما يقضِ الله من أمرٍ فهو كائنٌ البتّة، أخذتُبرأيك أم تركت».

فانصرف عنه عمر بن عبد الرحمان وهو يقول:

رُبَّ

مستنصحٍ سيعصى ويؤذي

ونصيحٍ

بالعيب يلفى نصيحا ((2))

وقال ابن شهرآشوب:

فلمّا عزم الحسين على الخروج، نهاه عمرو بن عبد الرحمان بن هِشام المخزوميّ، فقال: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، مهما يقضِ

ص: 31


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.

يكن، وأنت عندي أحمدُ مشيرٍ وأنصحُ ناصح» ((1)).

وقال ابن الأثير والنويريّ:

قيل: لمّا أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه، أتاه عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام وهو بمكّة، فقال له: إنّي أتيتُك لحاجةٍ أُريد ذِكرها نصيحةً لك، فإنْ كنتَ ترى أنّك مستنصحي قلتُها وأدّيتُ ما علَيّ من الحقّ فيها، وإن ظننت أنّك لا مستنصحي كففتُ عمّا أريد. فقال له: «قُل، فواللهِ ما أستغشّك، وما أظنّك بشيءٍ من الهوى».

قال له: قد بلغَني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفِقٌ عليك، إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناسعبيد الدينار والدرهم، فلا آمَنُ عليك أن يقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.

فقال له الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد علمتُ أنّك مشيتَ بنصحٍ وتكلّمت بعقل، ومهما يقضِ مِن أمرٍ يكن، أخذتُ برأيك أو تركتُه، فأنت عندي أحمدُ مشيرٍ وأنصحُ ناصح» ((2)).

وقال ابن نما:

وجاء إليه (علیه السلام) أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحرث بن هِشام، فأشار

ص: 32


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.

إليه بترك ما عزم عليه، وبالغ في نُصحه، وذكّره بما فُعل بأبيه وأخيه، فشكر له وقال: «قد اجتهدتَ رأيك، ومهما يقضِ الله يكن». فقال: إنّا عند الله نحتسبك.

ثمّ دخل أبو بكر على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزوميّ وهو يقول:

كم ترى ناصحاً يقول فيُعصى

وظنين المغيب

يلفى نصيحا

قال: فما ذاك؟ فأخبره بما قال للحسين (علیه السلام) ، قال: نصحتَ له وربِّ الكعبة ((1)).وقال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ:

وكان الحسين بن عليّ (علیهما السلام) بعد أن سيّر ابنَ عمّه مسلم بن عقيلٍ إلى الكوفة، لم يُقِمْ بعده إلّا قليلاً حتّى تجهّز للمسير في أثره بجميع أهله ووُلده وخاصّته وحاشيته.

فأتاه عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام المخزوميّ، فقال: إنّي جئتك لحاجةٍ أُريد ذِكرها نصيحةً لك، فإن كنتَ ترى أنّك مستنصحي قلتُها لك وأدّيتُ ما يجب علَيّ من الحقّ فيها، وإنْ ظننتَ أنّي غيرُ ناصحٍ لك كففتُ عمّا أُريد أن أقوله لك. فقال: «فواللهِ ما أستغشّك، وما أظنّك بشيءٍ من الهوى».

فقال له: قد بلغَني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفِقٌ عليك أن تأتي

ص: 33


1- مثير الأحزان لابن نما: 27.

بلداً فيها عمّال يزيد وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد الدراهم والدنانير، فلا آمَنُ عليك أن يقاتلك مَن وعدك نصره، ومَن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك، وذلك عند البذل وطمع الدنيا.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «جزاك الله خيراً من ناصح، لقد مشيتَ _ يا ابن عبد الرحمان _ بنصح، وتكلّمتَ بعقل، ولم تنطق عن هوى، ولكنْ مهما يقضى من أمرٍ يكن، أخذتُ برأيك أمتركت، مع أنّك عندي أحمدُ مشيرٍ وأعزُّ ناصح» ((1)).

وقال صفوت:

ودخل أبو بكر عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام على الحسين، فقال: يا ابن عمّ، إنّ الرحم يظائرني عليك، ولا أدري كيف أنا في النصيحة لك. فقال: «يا أبا بكر، ما أنت ممّن يستغشّ».

فقال أبو بكر: كان أبوك أشدَّ بأساً، والناس له أرجى ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه، إلّا أهل الشأم، وهو أعزّ منه، فخذلوه وتثاقلوا عنه؛ حرصاً على الدنيا وضنّاً بها، فجرّعوه الغيظ وخالفوه، حتّى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله ورضوانه، ثمّ صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد

ص: 34


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

شهدتَ ذلك كلَّه ورأيتَه، ثمّ أنت تريد أن تسير إلى الّذين عدَوا على أبيك وأخيك، تقاتل بهم أهلَ الشأم وأهلَ العراق، ومَن هو أعدّ منك وأقوى والناسُ منه أخوف وله أرجى، فلو بلغهم مسيرك إليهم لَاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَن قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك مَن أنت أحبّ إليه ممّن ينصره، فاذكر الله في نفسك.فقال الحسين: «جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد أجهدك رأيك، ومهما يقضِ الله يكن». فقال: وعند الله نحتسب أبا عبد الله ((1)).

* * * * *

هذه جملة النصوص الّتي وردَت في اللقاء الّذي جرى بين عمر بن عبد الرحمان المخزوميّ وبين الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويمكن أن نتناول ما جاء فيها من خلال الأشواط التالية:

الشوط الأوّل: مَن هو عمر بن عبد الرحمان المخزوميّ؟

هو عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المدنيّ، أخو أبي بكر، وُلد يوم مات عمر.

ص: 35


1- جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.

روى عن: أبي هريرة، وأبي بصرة الغِفاريّ، وعائشة، وجماعةٍ من الصحابة، وعن أخيه أبي بكر بن عبد الرحمان.

روى عنه: عبد الملك بن عمير، وعامر الشعبيّ، وحمزة بن عمر، والعائذيّ الضبيّ.

عاش إلى أن ولّاه ابن الزبير الكوفة، ثمّ صار مع الحَجّاج، ومات بعدالسبعين ((1)).

وخلاصة توليته الكوفة من قِبَل ابن الزبير:

إنّ المختار كان قد أخرج ابن مطيع واليَ ابن الزبير على الكوفة، ثم توقّع أن يُرسل إليه جيشاً لِما فعل بابن مطيع، فكتب إليه كتاباً، فلمّا قرأ ابنُ الزبير كتابه دعا عمر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام، فقال له: قد ولَّيتُك الكوفة، فسِرْ إليها. فقال: وكيف وبها المختار؟ قال: قد كتب لي أنّه سامعٌ مطيعٌ لي.

فسار عمر إليها، وبلغ المختار خبره، فوجّه زائدة بن قدامة الثقفيّ ومعه مسافر بن سعيد بن نمران الناعطيّ في خمسمئة دارعٍ ورامح، ومعه سبعون ألف درهم، وقال: إذا لقيتَه فقُل له عنّي: بلغني أنّك قد تكلَّفتَ لسفرك خمسةً وثلاثين ألف درهم، وهذه سبعون ألف درهم، فخُذها وانصرف، فإن أبى ذلك فأره أصحاب مسافر وحذّره

ص: 36


1- تقريب التهذيب لابن حجَر: 1 / 722، وانظر: تهذيب التهذيب لابن حجَر: 7 / 416، التحفة اللطيفة للسخاويّ: 2 / 344.

إيّاهم.

فلمّا لقيه زائدة أدّى إليه رسالة المختار، فقال: ما أنا بقابلٍ مالاً، ولابدّ لي من النفوذ لأمر أمير المؤمنين! فدعا زائدة بالخيل، وقد كان أكمنها، فقال: إنّي محاربك بمَن ترى، ووراءهم مثلهم ومثلهم. فقال عمر: أمّا الآن فقد وجب العذر، وهذا أجمل بي.فأخذ السبعين الألف، فاستحيا من الرجوع إلى مكّة، فصار إلى البصرة فأقام بها، وذلك في إمارة القباع الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقبل قدوم مصعب بن الزبير البصرة ((1)).

هذه خلاصة ما حصلنا عليه في ترجمته، ويبدو من جوّ روايته أنّه من القوم، ومِن تقلُّبه بين ابن الزبير والحَجّاج ومقايضته الولاية بالمال ومجانبة القتال أنّه يحبّ العافية ويبحث عن الدعة، وقد عرفه المختار إذ هيّأ له ضعف المال الّذي زوّده ابن الزبير، وجهّز له كميناً ينكشف له إذا أراد أن يتريّث في المقايضة بالمال، فهو خاضعٌ للترغيب والترهيب، متقلّبٌ بين الصفراء والظلال والأفياء.

ص: 37


1- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 6 / 416، وانظُر أيضاً: المنتظم لابن الجَوزيّ: 6 / 59، الكامل لابن الأثير: 4 / 246، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 304، نهاية الأرب للنويريّ: 21 / 35.

الشوط الثاني: ينصح سيّد الكائنات!

ثَمّة ملاحظتان هنا ينبثقان معاً..

فمن جهة:

إنّ من هوان الدنيا على الله وعلى الإمام (علیه السلام) ، أن لا يبقى أحدٌ ممّن هَبّ ودبّ وانطلق لسانُه فتعلّم الكلام وصار يعرف الحروف الأبجديّة ومخارجها، حتّى تقدّم بين يدَي سيّد الكائنات وإمام الخلائق وخامسأصحاب الكساء وعَيبة عِلم الله المفترض الطاعة، ليقدّم له النصح ويُبدي له الرأي ويشير عليه.

فمَن هو هذا عمر المخزوميّ حتّى يأتي قاصداً من دون أن يُدخِله الإمام (علیه السلام) في مشورةٍ لينصح؟! بغضّ النظر عن نواياه ودوافعه الّتي سيأتي الحديث عنها بعد قليل.

لك الله يا غريب الغرباء!

ومن جهةٍ أُخرى:

نلحظ عظمة الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) في تواضعه وحِلمه، واستماعه وقبوله من جميع رعيّته، ومداراته لهم، وإجابتهم كلٌّ بسعة إنائه وقدر وعيه وإدراكه وحسب نيّته وكوامنه، وأحياناً حسب ظواهره.

ص: 38

الشوط الثالث: متى حصل اللقاء؟

اشارة

• لمّا كتب أهلُ الكوفة إلى الحسين بما كتبوا به فاستحفّوه للشخوص ((1)).

• لمّا قدمَت كتبُ أهل العراق إلى الحسين، وتهيّأ للمسير إلى العراق ((2)).

• [بعد أن بلغه خبر شهادة مسلم (علیه السلام) ] ثمّ إنّه عزم على المسيرإلى العراق ((3)).

• لقيه عمر، وقد قدمَت عليه كتبُ العراق ((4)).

• فلمّا عزم الحسين على الخروج، نهاه عمرو ((5)).

• لمّا أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه ((6)).

• وكان الحسين بن عليٍّ بعد أن سيّر ابنَ عمّه مسلم بن عقيلٍ إلى الكوفة، لم يقم بعده إلّا قليلاً حتّى تجهّز للمسير في أثره بجميع أهله ووُلده وخاصّته وحاشيته، فأتاه عمر ((7)).

ص: 39


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.
4- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
5- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321.
6- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.
7- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

في هذه النصوص توقيتاتٌ إجماليّةٌ متّفقةٌ أو متقاربةٌ جدّاً، يمكن تحديدها من خلال التحديدات التالية:

التحديد الأوّل: لمّا كتب أهل الكوفة

حدّد البلاذريّ ومسكويه وقتَ اللقاء بوقت كتابة أهل الكوفة ((1)) حين قدمَت عليه كتب العراق ((2))، واقتصرا على ذلك، ولم يشيرا إلى تزامن اللقاء مع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والمفروض أن تكون ثَمّة فترةٌ بين كتابتهم وقدوم كتبهم وبين حركة الإمام (علیه السلام) .

إلّا أن يقال: إنّ مرادهما هو نفس ما أفاده غيرهما، وهو بعيدٌ عنالسياق.

التحديد الثاني: لمّا تهيّأ الإمام (علیه السلام) للمسير

أفاد جماعةٌ أنّ اللقاء تمّ بعد أن قدمَت كتب أهل العراق وتهيّأ الإمام للمسير ((3))، فلمّا عزم على الخروج نهاه عمرو ((4))..

فهو لم يلتقه بمجرد أن قدمَت كتب أهل الكوفة، وإنّما التقاه بعد أن

ص: 40


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321.

تهيّأ للمسير وعزم على الخروج، أي: قُبيل خروجه من مكّة.

ويبدو لمن تتبّع أحداث مكّة أنّ أكثر هذه اللقاءات والمحاورات والاعتراضات حصلَت في الأيّام القلائل أبان خروج الإمام (علیه السلام) أو متزامنةً مع خروجه.

أمّا قبل تلك الأيّام، فلا تجد ثَمّة حركةً ملحوظةً في مراجعة الإمام (علیه السلام) ، وكأنّ شيئاً لم يكن، إلّا بمقدار التغيُّرات العامّة والإرهاصات والتوجُّسات والتوقُّعات الناتجة عن تغيُّر الحاكم وتبديل القرود.

التحديد الثالث: بعد خبر شهادة مسلم (علیه السلام)

هذا التحديد وما يأتي بعده تابعٌ للتحديد الثاني، بَيد أنّنا أفرزناها لوجود خصوصيّةٍ في النصّ.فقد ذكر ابن أعثم أنّه التقاه بعد أن بلغه خبر شهادة المولى الغريب مسلم (علیه السلام) ، فعزم الإمام (علیه السلام) على المسير إلى العراق ((1))، وفي ترتيب الخروج على بلوغ خبر شهادة مسلم (علیه السلام) غرابةٌ أتينا على مناقشتها في الأقسام الماضية من دراستنا لظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، فلا نعيد.

ولكن ينبغي التنبيه هنا أنّ ابن أعثم جعل بلوغ خبر شهادة مسلم من خلال رجُلٍ من أهل الكوفة وصل إلى مكّة، فأخبر سيّدَ الشهداء

ص: 41


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.

بمشاهداته، وأنّه لم يخرج من الكوفة حتّى نظر بعينه إلى مسلم وهاني قتيلَين مصلوبَين منكّسَين في سوق القصّابين، وقد وُجّه برأسيهما إلى يزيد، ثمّ عزم على المسير إلى العراق.

وهذا يعني أنّ قتلهما (علیهما السلام) قد مضى عليه فترةٌ طويلةٌ لا تقلّ عن عشرين يوماً، وهي أقلّ ما يمكن افتراضه للمسافر المُجِدّ من الكوفة إلى مكّة، ونحسب أنّ ما في الخبر يكفي عن مناقشته!

وأفاد ابن الصبّاغ وتبعه الشبلنجيّ أنّ الإمام كان قد سيّر ابن عمّه مسلم بن عقيل (علیهما السلام) إلى الكوفة، ولم يُقم الإمامُ بعده إلّا قليلاً حتّى تجهّز للمسير في أثره، فحينئذٍ أتاه عمر ((1)).

فهو وإن أفاد أنّ اللقاء قد تمّ عند الخروج حين تجهّز الإمام للمسير،بَيد أنّ قوله أنّ الإمام (علیه السلام) لم يُقم بعد المولى الغريب مسلم (علیه السلام) إلّا قليلاً فيه مسحة استعجال، إذ أنّ المولى الغريب (علیه السلام) خرج من مكّة متوجّهاً إلى الكوفة في الخامس عشر من شهر رمضان، وخرج الإمام في ذي الحجّة، أي: إنّه خرج بعده بما يربو على الشهرين ويقارب الثلاث شهور، وهي مدّةٌ ليست بالقليلة بالقياس إلى فترة حركة الإمام من المدينة إلى كربلاء، بل هي ليست قليلةً حتّى مع عدم القياس والمقارنة.

ص: 42


1- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

التحديد الرابع: لما أراد المسير إلى الكوفة؟

هذا التحديد هو نفس التحديد السابق، وليس الفرق في تحديد الوقت إلّا بالعبارة، إذ قال ابن الأثير والنويريّ: «لمّا أراد الحسين المسير إلى الكوفة»..

غير أنّنا أفردناه هنا، للتنويه إلى إشارةٍ يمكن التقاطها من قولهما: «بكتب أهل العراق إليه» ((1))، الّتي تفيد بوضوحٍ من خلال استخدام (الباء) العلّيّة والسببيّة، فكأنّ النصّ يريد أن يغذّي المتلقّي أنّ سبب مسير الإمام (علیه السلام) إلى العراق إنّما هو كتب أهل العراق على وجه الخصوص والحصر! وليس الأمر كذلك، وقد أشرنا إلى ذلك في أكثر من موردٍ مضى، وسيأتي البحث مفصَّلاً فيه في محلّه إن شاء الله (تعالى).

الشوط الرابع: قصد الإمام (علیه السلام)

يُستفاد من كلمات المؤرّخين وتعبير المخزوميّ نفسه: «أتيتُك» أو «أتيتُ إليك» وما شاكل، أنّه قد قصد الإمام (علیه السلام) قصداً، ولم يكن لقاؤه عابراً، كأن يكون قد جمعه الطريق معه أو اجتمعا في البيت الحرام من دون موعدٍ مسبَق، وإنّما قد تجشّم المخزوميّ وخرج من رَحْله عازماً على لقاء الإمام (علیه السلام) وتقديم ما لديه بين يديه (علیه السلام) .

ص: 43


1- أُنظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.

الشوط الخامس: أدب الخطاب!

إبتدأ المخزوميّ كلامه بالحمد والثناء، ثمّ خاطب الإمام ب-- (ابن العمّ)، وفي هذا الخطاب نغمة استعطاف الرحِم والتوسّل بها، وفي إثارة أواصر القرابة دفيءٌ ووداعةٌ وهدوءٌ يسكن إليه المخاطب، ويجلّل المشهد بظلال المحبّة والمودّة والزلفى.

وفي لفظ صفوت: «فقال: يا ابن عمّ، إنّ الرحم يظائرني عليك، ولا أدري كيف أنا في النصيحة لك» ((1)).

وفي هذا تصريحٌ أنّ الدافع المحرّك الّذي دفع المخزوميّ للتقدّم بين يدَي الإمام (علیه السلام) إنّما هو استشعار مساس الرحِم وواشج القرابة والتحمّسلها.

وفي بعض الألفاظ: «يا ابن بنت رسول الله»، وفي بعضها: «يا ابن رسول الله».

وهي جميعها تعبيراتٌ تكتنز معاني الاحترام والتقدير والتعظيم والتبجيل والتودّد والاستعطاف.

ويلفت الانتباه أنّ المخزوميّ جعل ما يريد البوح به وطرحه بين يدَي الإمام (علیه السلام) حاجة، وهو يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) معدن الكرم والجود والعطاء،

ص: 44


1- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.

فحين عرض نفسه على الإمام (علیه السلام) بهيئة المحتاج الّذي قصد مَن لا يخيب عنده سائلٌ ولا يُردّ في محضره محتاج، فكأنّه يستعطي الإمام (علیه السلام) ويتوسّل إليه.

وربّما يُفهم من قوله: «إنّي أتيتُك يا ابن عمّ لحاجة» أو «أتيتُ إليك بحاجة»، أنّها حاجةٌ له شخصيّاً، فكأنّه يستشعر ما يتعرّض له الإمام (علیه السلام) ويعدّه حاجةً له.

الشوط السادس: الاستئذان!

من مفردات أدبه في الخطاب أيضاً أنّه لم يقتحم على الإمام (علیه السلام) اقتحاماً وينطلق بالكلام بين يديه حتّى استأذنه، وسأله إن كان يقبله في مقام الاستنصاح أو لا، فإنْ قبِلَه تكلّم، وإلّا كفّ عمّا يريد أن يقول ((1)).

وأكّد للإمام (علیه السلام) عن سلامة ما ينطوي عليه، فهو غير غاشٍّ للإمام (علیه السلام) ((2))، ولا يقصد ممّا أقدم عليه سوى أن يكون قد أدّى ما عليه من الحقّ في النصيحة ((3)).

ص: 45


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
3- أُنظر: تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

وبعد كلّ هذه التأكيدات، رجا الإمامَ (علیه السلام) أن يسمعها إنْ أحبّ ورأى فيه مُستمَع، فقال: فهل لك أن تسمعها؟ ((1))

الشوط السابع: جواب الإمام (علیه السلام) على الاستئذان

تضمّن جواب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عدّة أُمورٍ يمكن أن تسجّل شهاداتٍ للمخزوميّ، إذ أنّه أذن له وقال: «قل.. هات..»، وخاطبه (علیه السلام) في لفظ صفوت بكنيته، فقال: «يا أبا بكر» ((2))،ثمّ علّل (علیه السلام) استعداده للسماع منه بالأُمور التالية:

«فوالله ما أظنّك (ما أنت عندي) بسيّء الرأي» ((3)).

«فوالله ما أستغشّك» ((4))، «ما أنت ممّن يستغشّ» ((5)).

ص: 46


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
2- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.
4- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
5- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.

«ما أظنّك بشيءٍ من الهوى ((1)) لقبيحٍ من القول والفعل» ((2)).

«ولا هو للقبيح من الأمر والفعل» ((3)).

ثمّ فرّع (علیه السلام) على ذلك بقوله: «فقل ما أحببت» ((4)).

وبهذا، فقد شهد الإمام (علیه السلام) للمخزوميّ، وقد أقسم على ما قال أنّه ليس سيّء الرأي، وليس هو ممّن يستغشّ مطلقاً، وليس ممّن يستغشّه الإمام (علیه السلام) ، وليس ما يقدم عليه بدافع الهوى، كما كان يفعل ابن الزبير وغيره مثلاً.

وربّما أشعر قول الإمام (علیه السلام) : «ما أظنّك بشيءٍ من الهوى ((5)) لقبيحٍ من القول والفعل» ((6))، أن ليس للمخزوميّ سابقةٌ سيّئةٌ في القول والفعل تجعل المخاطب يشكّك في موقفه.

وربّما كان المقصود من نفي القُبح من الأمر والفعل هو ما يُشعِر به لفظ

ص: 47


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
5- الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
6- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.

الطبريّ: «ولا هو للقبيح من الأمر والفعل» ((1))، فهو قد يوحي أنّ ما تتقدّم به ليس هو لأمرٍ قبيحٍ ولا لفعلٍ قبيح، فيكون القبح قد انتفى عن فعل الإمام (علیه السلام) وأمره.

أو أنّ المخزوميّ قد تقدّم بنيّةٍ حسنة، لا يقلع فيها عن قبح القول والفعل والأمر.كيف كان، فإنّ هذه الباقة من الشهادات الواردة في رواية المؤرّخ! تمنح المخزوميّ شاراتٍ وأوسمةً من خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، تكشف عن سلامة نواياه في موقفه هذا على وجه الخصوص، والتعدّي من هذا الموقف إلى غيره يحتاج إلى مؤونةٍ وشواهد ومؤيّداتٍ تفيده.

إنّ الّذين تقدّموا بين يدَي الإمام (علیه السلام) ألوانٌ وأشكالٌ تختلف نواياهم ودوافعهم ومحركاتهم، فنوايا ابن الزبير تختلف تماماً عن نوايا الطيّب ابن الطيّب عبد الله بن جعفر، وهكذا..

وهذا الرجل قد نازعَته جذور الرحِم ووشائج القرابة، فانبرى بين يدَي إمامه ليقول رأيه بعد أن استأذن الإمام (علیه السلام) وأكّد له أنّه لا يتكلّم عنده إلّا إذا أحرز أنّه مأمونٌ مقبولٌ عنده، فأكّد له الإمام (علیه السلام) سلامة نيّته ونظافة دوافعه في ذلك الموقف.

* * * * *

ص: 48


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.

صلّى الله عليك يا إمام الرحمة، ويا معدن الحِلم وأُصول الكرم، حين فتحتَ صدرك المبارك المقدَّس عَيبةَ عِلم الله وخُزانة أسراره لرجلٍ مندفعٍ جاءك تحرّكه الرحِم وتدفعه القرابة، فأخبرتَ عن سلامة طويّته وصحّة نيّته، وشرّعتَ له أبواب الحديث وقلتَ له: قُل ما أحببت! ووقفتَ تستمع إليه، ليُفرغ ما في صدره ويقول ما في كوامنه.

ما أعظمك يا سيّدي وسيّد الكائنات، وما أعظم غربتك يا غريبالغرباء!

الشوط الثامن: كلام المخزوميّ

اشارة

تقدّم المخزوميّ بكلامٍ بين يدَي خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، فابتدأ كأنّه يخطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ أعرب عن هواجسه وإشفاقه على الإمام (علیه السلام) من مسيره إلى بلدٍ فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، ولبيوت الأموال دورها في التأثير على الناس، لأنّهم عبيد الدينار والدرهم، فإذا خطف بريقُ الدنيا أبصارهم وأعشى لمعان الصفراء والبيضاء بصائرهم، وارتكسوا في قيعان لذّاتهم وانغمسوا في مستنقعات شهواتهم، وخلدوا إلى الطين وأعرضوا عن الآخِرة والحقّ واليقين، وأثقلهم وسواس الترغيب والترهيب ودعاهم إلى الإصغاء لهتوف الشياطين، انقلبوا على أعقابهم ناكصين، فقاتلوا سيّدهم وإمامهم، وانفلتوا من التزاماتهم، وتملّصوا من عهودهم، فنكثوا العهود وأخلفوا الوعود بالنصرة، وأبدلوها قتلاً ذريعاً

ص: 49

وقتالاً شديداً مريعاً، وتحوّل غليانهم من الحقّ إلى الباطل، فتوحّشوا وجاؤوا بالفعل الشنيع الفظيع، وربّما كانوا مع ذلك قد جحدوا به واستيقنت أنفُسُهم أنّه (علیه السلام) لابدّ أن يكون أحبّ إليهم ممّن يقاتلونه معه ((1))..هكذا هي خلاصة ما تقدّم به المخزوميّ بين يدَي الإمام (علیه السلام) ..

وأضاف ابن أعثم: أنّ المخزوميّ فرّع على ما ذكره اقتراح لزوم الحرم وعدم الخروج منه ((2)).

وانفرد _ حسب الفحص _ صفوت _ وهو متأخّرٌ من أبناء القرن الرابع عشر الهجريّ _ بألفاظٍ فيها شيءٌ من التفصيل، وإنْ كانت في مجموعها تحكي ما ذكره غيره، فقال:

فقال أبو بكر: كان أبوك أشدَّ بأساً، والناسُ له أرجى ومنه أسمع وعليه أجمع، فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه، إلّا أهل الشأم، وهو أعزّ منه، فخذلوه وتثاقلوا عنه، حرصاً على الدنيا وضنّاً بها، فجرّعوه الغيظ وخالفوه، حتّى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله ورضوانه، ثمّ صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد

ص: 50


1- أُنظر: جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373، تاريخ الطبريّ: 5 / 382، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.

شهدتَ ذلك كلَّه ورأيتَه، ثمّ أنت تريد أن تسير إلى الّذين عدَوا على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهل الشأم وأهل العراق، ومَن هو أعدّ منك وأقوى، والناس منه أخوف وله أرجى! فلو بلغهم مسيرك إليهم لَاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَن قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك مَن أنت أحبّإليه ممّن ينصره، فاذكر الله في نفسك ((1)).

نحسب أنّ جميع ما ذكره المخزوميّ قد مرّ علينا فيما سبق من الدراسات على لسان المعترضين، على اختلاف مشاربهم وتوجّهاتهم ومنطلقاتهم، فلا حاجة للإعادة والمناقشة، ونكتفي هنا بالإشارة العجلى إلى جملةٍ من الميّزات الّتي امتاز بها طرح المخزوميّ:

الميزة الأُولى: الإشفاق

يُلاحَظ أنّه استعمل لفظ (الإشفاق)، ولهذه المفردة دلالةٌ خاصّةٌ، وإيقاعٌ مميَّزٌ، وإشعارٌ فيه دفءٌ وحنانٌ وعطفٌ يضفي على الكلام جوّاً من الوداعة والأدب، وقد أتينا على تفصيل الكلام فيه في غضون الكلام عن الجواد الكريم المولى عبد الله بن جعفر، فلا نعيد.

ص: 51


1- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.

الميزة الثانية: اقتراح البقاء في مكّة!

يُلاحَظ أيضاً أنّه لم يقترح على الإمام (علیه السلام) البقاء في مكّة من أجل تجميع الأنصار والإعداد والمكاتبة والدعوة إلى البيعة من أجل مواجهة الطاغوت لأيّ غرضٍ كان، وقد اكتفى بالتذكير بظروف الكوفة وأهلها..

وما ورد في نصّ ابن أعثم اقتصر على طلب المكث والبقاء في مكّة،لأنّها البلد الآمن الّذي يمكن أن يوفّر _ حسب القوانين الدينيّة والعرفيّة في الجاهلية والإسلام _ الأمنَ والاطمئنان لجميع خَلْق الله الصامت والناطق.

الميزة الثالثة: رسم الواقع وتصوير المشهد

يُلاحَظ أيضاً أنّه يخاطب الإمام (علیه السلام) وهو عالمٌ أنّ أمر أهل الكوفة لا يخفى عليه (علیه السلام) ، وأنّه عالمٌ بهم وبسلوكهم وغدرهم، وميلهم إلى الدينار والدرهم والدنيا، وطبيعة الطمع الّذي نشئوا عليه، وتقلّبهم وانصياعهم لمالك بيت المال أيّاً كان.

ويُلاحَظ أنّ جميع ما ذكره المخزوميّ في كلامه صحيح، يرسم الواقع الكوفيّ يومذاك بدقّة، ويصوّر المشهد كما هو، فالكوفة كانت بأيدي الولاة، وهم مسيطرون حاكمون متسلّطون، يملكون العدّة والعدد والمال والسلاح والعسكر والخيل والرجال، وأنّ الناس عبيد الدنيا، والطمع معرّقٌ فيهم، يميلون إلى الدينار والدرهم، وما الدين إلّا وسيلةً يحقّقون به أهواءهم وآمالهم، فإذا أضرّ بدنياهم قلّ الديّانون، تماماً كما وصفهم سيّد

ص: 52

الشهداء (علیه السلام) وإمامُ الفصحاء والبلغاء.

فليس في كلام المخزوميّ إلّا ما هو حقيقةٌ تمشي على الأرض، وتتمثّل في المجتمع يومذاك، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان.

يبقى أنّ على المخزوميّ الّذي عرف أهل الكوفة ودقّق في الموقف أنيتمّم الصورة، ويضع اللمسات الأخيرة على المشهد من خلال الإشارة إلى بطش الأعداء وجرأتهم على هتك الحرمات، وأنّهم لا يرعون لله ولا لرسوله (صلی الله علیه و آله) حرمة، وهم قد عزموا على قتل الإمام (علیه السلام) كيف اتّفق وأين ما اتفق، فإذا بقي الإمام (علیه السلام) في مكّة فإنّهم سينتهكون حرمة دمه الزاكي وحرمة البيت الحرام.

فماذا يفعل إذن؟!

أيبقى في مكّة مهما كلّف الأمر، ولو على حساب الحرمات؟ فهذا ما لا يحبّه الإمام (علیه السلام) ولا يريده، وهو بنفسه حرمة الحرمات وأعظمها وحاميها وحافظها.

* * * * *

وسنسمع بعد قليلٍ جواب الإمام (علیه السلام) خامس أصحاب الكساء، ليكشف لنا عن سلامة موقف المخزوميّ على مستوى النوايا والتقديرات الأوّليّة.

ص: 53

الشوط التاسع: جواب الإمام (علیه السلام)

اشارة

إقتصر البلاذريّ على ذِكر جوابٍ مقتضب، غير أنّه معبّر:

فقال له: «قد نصحتَ، ويقضي الله» ((1)).ثمّ جاء الطبريّ _ كالعادة _ بالتفصيل، وتتابع القومُ من بعده.

لذا سنتابع التفصيل من خلال المقاطع التالية:

المقطع الأوّل: شهاداتٌ على السلامة

قد خاطبه الإمام (علیه السلام) ب-- (ابن العمّ) ((2))، وفي ذلك إشعارٌ لطيفٌ ومقابلة خطاب المخزوميّ نفسه وتوسيط الرحِم والقرابة، وما يتضمّنه هذا التعبير من عطفٍ ووداد.

ثمّ جزّاه خيراً ((3))، وأقسم ((4)) أنّه علم أنّ المخزوميّ مشى وأمر وأشار

ص: 54


1- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، جمهرة خُطب العرب لصفوت: 2 / 45، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
3- جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53.
4- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 382.

بنصح ((1))، وتكلّم بعقل ((2))، ولم ينطق عن هوى ((3)). وأنّه قد أجهده رأيه ((4)).

هذه كلّها شهاداتٌ من سيّد الشهداء (علیه السلام) والعالم بالخلق على سلامة هذا الموقف، وصحّة التقدير، ونظافة الطويّة، وقوّة التشخيص، ورشد الرأي، وسداد النظر، وخلوّ الدوافع من الدغش والغشّ والغلّ..

المقطع الثاني: الوعد بالنظر

وعده الإمام _ حسب نصّ الخوارزميّ _ أنّه سينظر فيما قال، لأنّ كلامه كان على مستوىً من الصواب قرّره عليه الإمام (علیه السلام) ، فاستحقّ أن ينظرفيه، وهذا من عظيم أخلاق الإمام (علیه السلام) خامس أصحاب الكساء.

ثمّ أرجع الإمام (علیه السلام) الأمر إلى ما يقضي الله، وأنّه كائنٌ ألبتّة، أخذ برأيه

ص: 55


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.
4- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 56.

أو تركه، فقال:

«سأنظر فيما قلتَ ((1))، ولكنْ مهما يقضي الله من أمرٍ يكن، (أو: فهو كائنٌ ألبتّة)، أخذتُ برأيك أو تركتُه» ((2)).

هذه خلاصة الألفاظ الواردة في المصادر لهذا المقطع من الجواب، وفيه من المداراة ما يناسب عظيم أخلاق الإمام (علیه السلام) وحِلمه، فكأنّه يهدهد كوامن المخزوميّ كي تستريح، ويسكّن جيّاشات القلق الّتي تهزّ أعماقه، فالأمر لله من قبلُ ومن بعد، فلا يحزن إنْ ترك الإمامُ (علیه السلام) العمل برأيه، فليس ذلك لازدرائه أو تجاهله أو التغاضي عنه، وإنّما للضرورات أحكام، وقدَرُ الله جارٍ.

ونفس المعادلة الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) من خلال افتراض الأخذ برأيه وتركه، يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) أراد أن يوصل إليه أنّه سيترك الأخذ به، وربّما شهد لذلك تفريع المدح الأخير بالفاء في بعض الألفاظ وبالواو أحياناً، وبقوله _ في لفظ ابن الصبّاغ _ : «مع أنّك عندي أحمدُ مشير ...».

ص: 56


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.

ويشهد له أيضاً ما رواه المسعوديّ وابن نما من تعليق المخزوميّ بعد أن أتمّ الإمام (علیه السلام) كلامه، فقال: إنّا لله، وعند الله نحتسبك يا أبا عبد الله ((1)).

ويشهد له أيضاً ما رواه ابن أعثم والخوارزميّ من قوله بعد أن انصرف عن الإمام (علیه السلام) :

رُبَّ مستنصحٍ سيعصى ويؤذى

ونصيحٍ بالغيب يلفى نصيحا ((2))

فهو قد فهم أنّ الإمام (علیه السلام) سيترك الأخذ برأيه وينطلق نحو العراق، لذا جعل ينعاه.

فكأنّ الإمام (علیه السلام) يقول له: إنْ تركتُ رأيك لا لأنّك مستغشٌّ أو غير مقبولٍ عندي!

المقطع الثالث: أحمَدُ مُشيرٍ وأعزُّ ناصح

ثمّ عاد الإمام ليؤكّد له بعد أن ذكر له الردّ الّذي لا يقبل المناقشة والمراجعة، فقال له: «فأنت عندي أحمَدُ مُشيرٍ وأنصَحُ ناصح» ((3)).

ص: 57


1- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 56، مثير الأحزان لابن نما: 27، جمهرة خُطب العرب لأحمد زكي صفوت: 2 / 45.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 215.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 382، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 53، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 321، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 406.

وفي لفظ ابن الصبّاغ: «مع أنّك عندي أحمَدُ مُشيرٍ وأعزُّ ناصح» ((1)).

هكذا بصيغة (أفعل) التفضيل.. أحمد.. أنصح.. أعزّ..

وفي ذلك إشارةٌ واضحةٌ للمسح على قلب المخزوميّ بيد الرحمة والرأفة الحسينيّة، وملامسةٌ حنونةٌ لمشاعره، ومداراةٌ تهدّئ روعه وتضخّ فيهزخّةً من استشعار الاهتمام وحلاوة الالتفات.

ولا ندري إن كان استخدام صيغة (أفعل) فيها إشارةٌ إلى غيره، بحيث صار هو (الأحمد) و(الأنصح) بإزاء الآخَرين الّذين تقدّموا بين يدَي الإمام (علیه السلام) لتقديم المشورة.

إن كانت المقارنة والمقايسة ملحوظة، تنفتح _ حينئذٍ _ نوافذ واسعةٌ لمراجعة مواقف الآخَرين، وإن كان الاستعمال من دون لحاظ الآخَرين، فهو يكشف عن مدى سلامة هذا الرجل في موقفه هذا بالذات.

كيف كان، فإنّ في هذا التعبير ما يلوّح بغربة الإمام (علیه السلام) أيّما غربة، يمكن أن يستشعرها مَن تأمّل فيها.

صلّى الله عليك يا غريب الغرباء.

الشوط العاشر: بعد اللقاء

ذكر الطبريّ وابن أعثم وعنه الخوارزميّ والمسعوديّ وغيرهم تتمّةً للقاء

ص: 58


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجيّ: 257.

المخزوميّ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وثَمّة اختلافٌ واضحٌ بين نقل الطبريّ ونقل المسعوديّ وابن أعثم كما سنرى..

فقد روى الطبريّ عن المخزوميّ _ وهو يتحدّث عن نفسه بعد أنانصرف من عند الإمام الحسين (علیه السلام) _ أنّه:

دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هِشام، فسأله هل لقي الحسين؟ فقال: نعم. قال: فما قال لك؟ وما قلتَ له؟ قال: فقلتُ له: قلتُ كذا وكذا، وقال كذا وكذا. فقال: نصحتَه وربِّ المروة الشهباء، أما وربِّ البنية إنّ الرأي لما رأيتَه، قَبِلَه أو تركه. ثمّ قال:

رُبَّ مستنصحٍ يغش ويردي

وظنينٍ بالغيب يلفى نصيحا ((1))

ولا يبدو الحارث قد جاء بأمرٍ جديدٍ أو اكتشف اكتشافاً عظيماً أو عرف أمراً غاب عن الإمام (علیه السلام) ، فقد شهد الإمام (علیه السلام) للمخزوميّ بما هو أعظم ممّا شهد له الحارث، وأكّد له صحّة ما صوّره وتقدّم به، قَبِلَه أو تركه!

والحارث هذا مخزوميٌّ أيضاً، وهو من أذناب الأُمويّين، شاعرٌ، ولّاه يزيد مكّة، فخرج ابن الزبير فاستتر الحارث، ثمّ ارتحل إلى دمشق، ثمّ عاد إلى مكّة لأنّه لم يجد في دمشق ما يحبّ ((2)).

ص: 59


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 382.
2- أُنظر ترجمته في: الأغاني لأبي الفرَج: 3 / 217، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 11 / 415، وغيرهما.

فهو في دائرة الأعداء، يحمل شحناتهم، ملوّثٌ بدائهم، متسكّعٌ على أبوابهم، وقد أقام على باب عبد الملِك بن مروان سنةً كاملةً يتسقّط عطاءه ((1)).وجاءت رواية المسعوديّ قريبةً من رواية الطبريّ، والفرق أنّ الأوّل صرّح بدخول المخزوميّ على صاحبه الحارث، وكان والي مكّة، وكان المخزوميّ هو نفسه الّذي أنشد البيت وليس الحارث، قال:

ثمّ دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزوميّ والي مكة، وهو يقول:

كم نرى ناصحاً يقول فيُعْصى

وظنين المغيب يُلْفى نصيحاً

فقال: وما ذاك؟ فأخبره بما قال للحسين، فقال: نصحتَ له وربِّ الكعبة ((2)).

فيما جاءت رواية ابن أعثم والخوارزميّ مجرّدةً عن ذِكر الحارث والدخول عليه، حيث قال:

فانصرف عنه عمر بن عبد الرحمان وهو يقول:

رُبَّ

مستنصحٍ سيُعصى ويؤذُى

ونصيحٍ

بالغيب يُلفى نصيحا ((3))

ص: 60


1- أُنظر: مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا: 137 الرقم 449.
2- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 56.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 110.

الشوط الحادي عشر: خذلان المخزوميّ

أكّدنا في ثنايا الحديث عن حواره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) أنّ الإمام (علیه السلام) كان يشهد له بموقفه ونواياه في ذلك الموقف بالذات، وهذا من سعة أخلاق الإمام (علیه السلام) وكرمه ولطفه وغاية دقّته _ وهو المعصوم _ في الجزاء والتعامل، وهو سيّد الوفاء ومعدن الكرم، وليس بالضرورة أن تبقى هذه الشهادات سارية المفعول في المستقبل، ولا أن تكون ذات أثرٍ رجعيّ، أو تحمل في طيّاتها ما يفيد العموم والشمول حتّى للفترة الّتي حصل اللقاء فيه، سوى ذاك الموقف الخاصّ في تلك اللحظة الّتي صدر الكلام فيها.

ويمكن الاستشهاد لما ذكرناه بعدم وجود إشاراتٍ تلويحيّةٍ أو كناياتٍ أو أدواتٍ لفظيّةٍ تفيد الشمول والعموم والإخبار عن حُسن العاقبة أو سلامة السلوك على نحو العموم والشمول.

بل إنّ سيرته شهدَت عليه، إذ أنّه عاش حتّى ولّاه ابن الزبير، ثمّ صار معالحَجّاج ((1))، كما أشرنا إليه في الشوط الأوّل.

وممّا يشهد أيضاً لذلك أنّ الإمام (علیه السلام) تعامل معه على مستوى موقفه في إبداء الرأي وما سمّاه نصحاً، وأنّ الإمام (علیه السلام) لم يُطِل المكث معه في شرح موقفه وظروفه وتفاصيلها، ولم يدعُه إلى نصرته والخروج معه، ولم يثبّطه عن

ص: 61


1- تقريب التهذيب لابن حجَر: 1 / 722، وانظر: تهذيب التهذيب لابن حجَر: 7 / 416، التحفة اللطيفة للسخاويّ: 2 / 344.

بيعة يزيد، ولم يذكر عنده يزيد والأُمويّين بتاتاً، واكتفى منه بما قاله وأجابه على قدر إنائه وما طفح به.

وقد شهدَت سيرتُه أيّام سيّد الشهداء (علیه السلام) أيضاً، فهو قد رأى الإمام الحسين (علیه السلام) وعاصره وجاءه ناصحاً، وعاش المشهد المتأزّم، والمطاردةَ المبهرة للأنفاس، والتهديدَ الجدّيّ المحدِق بأبي الشهداء (علیه السلام) ، وعاصر الأحداث في مكّة وما جرى بعدها إلى يوم عاشوراء.. ثمّ خذل الإمام (علیه السلام) ، فلم نسمع له موقفاً مشرّفاً، ولم نرَ له سواداً في أيّ موضعٍ يمكن أن يُحسَب في صفّ الإمام (علیه السلام) .

أوَليس هو خاطب الإمام (علیه السلام) بابن العمّ! وقبل منه الإمام (علیه السلام) وبادله الخطاب؟!

أوَليس هو قد قال: إنّ الرحم تضائره، وشهد للإمام (علیه السلام) أنّه ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وعرف أباه وأخاه وعرّفه، فلماذا تقاعس عن نصرة ابن عمّه،وخذل ريحانة النبيّ وابن بنت رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وانكفأ وانخزل؟!

الشوط الثاني عشر: يبقى أمر!

لقد سمعنا جواب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد اقتصر على شكر موقف المخزوميّ، وإفهامه أنّ رسالته قد وصلَت وأنّ رأيه قد سُمع، ثمّ أكّد له أنّ كلامه مقبول، سواءً أعمل الإمام (علیه السلام) به أم لم يعمل، واختصرها ابن سعدٍ والبلاذريّ وكثيرٌ ممّن جاء بعدهما بقول الإمام (علیه السلام) : «قد نصحتَ،

ص: 62

ويقضي الله» ((1)).

هذا هو خلاصة الجواب، لا أكثر!

لم يتعرّض الإمام (علیه السلام) لطرح أيّ شيءٍ آخَر..

لم يتكلّم عن دوافعه في الخروج..

لم يطمع في الحديث مع المخزوميّ ليقنعه، فيجذبه ثمّ يستقطب مَن يكون وراءه..

لم يشرح له أهدافه من التوجُّه إلى العراق وما يسمّونه ب-- (مشروعه)..

لم يُطنِب في بيان شعاراته والدعوة إليها والحثّ على ترويجها في الحجيج وفي البلدان..لم يلوّح له بإعداده للخروج بالمعنى الاصطلاحيّ، ونيّته في الإقدام على عملٍ تغييريٍّ على أيّ صعيد..

لم يُصرّ الإمام (علیه السلام) على توضيح موقفه، ودعوة المخزوميّ لنصرته والخروج معه..

بل لم نسمعه يفتح للمخزوميّ سجلّات الأُمويّين وصحيفة يزيد

ص: 63


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 373، ابن عساكر، الحسين (علیه السلام) ط المحموديّ: 202، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

السوداء، فيتهجّم عليه أو يذكره بما يناسبه..

لم يحرّض المخزوميَّ على الوضع القائم وعلى يزيد والأُمويّين.. لم يتعرّض لهم من قريبٍ ولا من بعيد..

لم يثبّط المخزوميَّ عن البيعة ليزيد، أو يدعوه للتحلّل منها والالتحاق به..

لم يكلّمه ويحاول إقناعه لتحييده وتحييد مَن وراءه..

وإنّما اكتفى في جوابه بما يداري الموقف مع المخزوميّ شخصيّاً، وانتهى!

أتكون لغة من يريد الخروج (بالمعنى المصطلح) بدوافع معيّنةٍ وأهدافٍ وأغراضٍ ذات معنىً خاصٍّ ولونٍ خاصٍّ وشحنةٍ خاصّة مثل هذه اللغة؟

هذه هي لهجة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، وقد سمعناه مع المعترضين وقرأنا خطابه مع الوالي المتجبّر العنيد، فلم نتحسّس في شيءٍ منها سوىاللغة الهادئة الرصينة المتّزنة الوقورة الّتي تنسجم وتلتئم تماماً مع حالة الدفاع المحض، والدفع بالأُمور إلى التهدئة، وإخراس الذئاب العاوية، وإخماد زقحات القرود المسعورة وخنخنتها..

هذه اللغة واللهجة لا تناسب _ بحالٍ _ ما يصاحب الخروج (بالمعنى المصطلَح) من دفعٍ وتدافعٍ وهيجانٍ وغليانٍ وتأليبٍ واستثارة الهمم وتجييش العواطف والأحاسيس وتحشيد الطاقات وتجميع الرجال وإشعال النفوس وشحنها ضدّ الحاكم، وغيرها من مستلزمات هذا النمط من الخروج!

ص: 64

الشوط الثالث عشر: لقاء أبي بكر بن عبد الرحمان المخزوميّ

روى ابن سعدٍ في (الطبقات) وتلاه آخَرون لقاءً لأبي بكر بن عبد الرحمان المخزوميّ مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وهو: أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هِشام بن المغيرة القرشيّ المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمّد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكرٍ اسمُه، وكنيته: أبو عبد الرحمان، وقيل: اسمُه كنيتُه.

وهو أخو عمر وعثمان وعكرمة ومحمّد بني عبد الرحمان.

وكان قد ذهب بصره.وُلد في خلافة عمر بن الخطّاب.

خرج في جيش عائشة يوم الجَمَل، فاستُصغر ورُدّ هو وعروة بن الزبير.

روى عن: أبي مسعود الأنصاريّ، وعائشة، وأُمّ سلَمة، وأبي هريرة، ونوفل بن معاوية، وطائفة.

روى عنه: ابناه عبدُ اللَّه وعبدُ الملِك، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، والشعبيّ، والزُّهريّ، وعكرمة بن خالد، وآخَرون.

وكان أحد فقهاء المدينة السبعة الّذين كان أبو الزناد يذكرهم، قال أبو نعيم الأصفهانيّ: أكثر حديثه في الأقضية والأحكام.

ص: 65

مات سنة أربعٍ وتسعين، وقيل: سنة ثلاثٍ وتسعين ((1)).

* * * * *

فهو أخو عمر المذكور آنفاً، وهو صاحب الصيت الوارد اسمه في المعاجم وكتب التراجم، وقد عدّ كثيرون هذا اللقاء مع سابقه لقاءً واحداً، ويبدو من بعض المؤلّفين أنّه عدّهما شخصاً واحداً ودمج بين الترجمتين، والحال أنّ تعدّدهما كشخصَين وأخوَين يلوح للناظر في كتب التراجم بأدنى مراجعة.

أجل، قد يكون اللقاء قد حصل مع أحدهما، فخلط الراوي ونسبه مرّةًإلى عمر ومرّةً إلى أبي بكر؛ لالتباس اسميهما وكنيتيهما، وكونهما أخوين.

ونحن ذكرنا نصوص اللقاءين في موضعٍ واحد، لأنّ ما يهمّنا هو ما جرى من حوارٍ بينهما وبين سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا نحسب أنّ كثير فرقٍ بين الأخوين، فهما من أتباع السقيفة، إلّا ما امتاز به أبو بكرٍ من التميُّز عند القوم في العلم والقضاء، فيكون موقفه وكلامه يختلف عن كلام أخيه عمر الّذي قد يُحمَل على العفويّة وعدم التكلّف والاندفاع من دون سوابق وعدم الارتكاز إلى أُسسٍ فقهيّةٍ ودينيّةٍ خاصّة!

ص: 66


1- مشاهير علماء الأمصار لابن حبّان: 107، تقريب التهذيب لابن حجَر: 2 / 365، الكُنى (جزءٌ من التاريخ الكبير للبخاريّ): 9، وانظر ترجمته ومصادرها في: موسوعة طبقات الفقهاء: 1 / 276.

لقاء أبي محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلَج

المتون

الطبريّ الشيعيّ:

قال أبو جعفر: وحدّثَنا أبو محمّد سفيان، عن وكيع، عن الأعمش قال: قال لي أبو محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلج:

لقينا الحسينَ قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث ليال، فأخبرناه بضعف الناس في الكوفة، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه.

فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحَت أبواب السماء، ونزل من الملائكة عدداً لا يحصيهم إلّا الله، وقال: «لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم علماً أنّ هناك مصرعي

ص: 67

ومصارع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ» ((1)).

إبن حاتم الشاميّ:

ورُوي عن الأعمش أنّه قال: قال لي أبو محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلج:

لقيتُ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث، فأخبرناه ضعف الناس بالكوفة، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه.

فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحَت أبواب السماء ونزلَت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلّا الله (عزوجل) ، فقال: «لولا تقارب الأشياء وهبوط الأجر، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم علماً أنّ من هناك مصعدي وهناك مصارع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ» ((2)).

السيّد ابن طاووس:

وروى أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ الإماميّ في كتاب (دلائل الإمامة)، قال: حدّثَنا أبو محمّد سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن الأعمش قال: قال أبو محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلج:

لقينا الحسين بن عليّ (علیهما السلام) قبل أن يخرج إلى العراق، فأخبرناه

ص: 68


1- دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.
2- الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530.

ضعف الناس بالكوفة، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه.

فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحَت أبواب السماء ونزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلّا الله (عزوجل) ، فقال: «لولا تقارب الأشياء وهبوط الأجل ((1))، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي، لا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) » ((2)).

* * * * *

روى رجلان لقاءً لهما مع سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة قُبيل خروجه منها بأيّام، وامتاز هذا اللقاء عن غيره من اللقاءات، وسنأتي على بيانه فيما يلي من خلال عدّة ومضات:

الومضة الأُولى: راوي الخبر!

يبدو _ حسب الفحص _ أنّ أوّل مَن روى الخبر هو الطبريّ الإماميّ، وهو من أعلام القرن الخامس، وقد صرّح السيّد ابن طاووس بالنقل عنه.

وراوي الخبر منحصرٌ بالواقديّ وزرارة يروي عنهما الأعمش، ولم نقف على طريقٍ إلى الخبر سواهما.

ص: 69


1- في (الأسرار) و(اللواعج) و(الناسخ): «حبوط الأجر»، وفي (المعالي): «هبوط الأجر».
2- اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

وهما كلاهما مجهولان، لم يرد لهما ذكرٌ في كتب التراجم والرجال ((1))، ولم نسمع لهما خبراً فيما توفّر لدينا من كتب التاريخ والرواية والأخبار، سوى هذا الخبر اليتيم فحسب.

وقد اختلفَت النُّسَخ في اسم والد زرارة، فمنهم مَن ضبطه ب-- (خلج)، أو (جلح)، أو (صالح)، بَيد أنّ الوارد في (الدلائل) و(الدرّ) وبعض نُسخ (اللهوف) هو: (خلج)، ولم نقِفْ على ذِكرٍ له بأيّ لفظٍ من الألفاظ سوى هذا الخبر.

ولا يهمّنا أمر الاسم كثيراً بعد أن تبيّن عدم ذِكره، فلا ضرورة لمتابعة النُّسَخ.

الومضة الثانية: متى حصل اللقاء؟

روى الطبريّ (رحمة الله) ومَن تبعه عنهما أنّهما التقيا سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث ليال ((2))، ولم يحدّد السيّد ابن طاووس ((3))، غير أنّه لمّا كان يصرّح في بداية النقل أنّه يروي عن الطبريّ، نحسب أنّ ثَمّة

ص: 70


1- أُنظر: مستدركات علم الرجال للنمازيّ: 3 / 425.
2- دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.
3- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243.

سقطاً أو سهواً وقع في البين، والمعتمَد هو ما في كتاب الطبريّ.

* * * * *

ثَمّة ملاحظةٌ ينبغي الالتفات إليها، لِما لها مِن أهمّيّةٍ قصوى في فهموإدراك الحوادث المتلاحقة المتسارعة تلك الأيّام، سنكتفي هنا بالإشارة الخاطفة لها، ونترك التفصيل إلى محلّه إن شاء الله (تعالى).

يبدو واضحاً للمتابع أنّ اللقاءات والحوارات تكرّسَت في فترةٍ وجيزةٍ قُبيل خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) ، قد لا يتجاوز أكثرها الأُسبوع الأخير، وكان لقاءُ هذين الرجلين في الليالي الثلاث الأخيرة من إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) !

الومضة الثالثة: إخبارهم بضعف الناس!

أخبر الرجلان سيّد الشهداء (علیه السلام) بضعف الناس في الكوفة، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه ((1)).

ربّما يدعو هذا الإخبار إلى التريّث قليلاً لاستجلاء الأمر فيه، إذ أنّنا لم

ص: 71


1- أُنظر: دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.

نتبيّن ظروف هذا النقل والإخبار.

فهما إمّا أن يكونا قد خرجا من الكوفة ووصلا مكّة وأخبرا سيّد الشهداء (علیه السلام) عن مشاهداتهما، وإمّا أن يكونا قد تلقّفا الأخبار وجعلا يُخبِران الإمام (علیه السلام) عمّا سمعا، وإمّا أنّهما قد فكّرا وقدّرا ونظرا في سوابق أهل الكوفة واستنتجا ونقلا استنتاجهما كخبر.

صيغة الخبر وسياق الكلام يأبى الاحتمال الثالث؛ إذ أنّهما يؤكّدانأنّهما أخبرا الإمام (علیه السلام) .

وأمّا الاحتمال الأوّل والثاني، فقد يشتركان في نفس العقدة، حيث أنّهما التقيا الإمام (علیه السلام) قبل ثلاث ليالٍ من خروجه من مكّة، فإذا كانا في الكوفة وكانا شاهِدا عيانٍ على الأحداث الّتي أخبرا الإمام (علیه السلام) بها، فهذا يعني أنّهما يخبران عن فترةٍ تقارب الشهر من يوم اللقاء، لأنّ الطريق من الكوفة إلى مكّة يستغرق للمُجِدّ المسرع عشرين يوماً أو أكثر، فإذا كان خروج الإمام (علیه السلام) يوم التروية، أي: في اليوم الثامن من ذي الحجّة، فهما يُخبران عن فترةٍ تربو على العشرين يوماً من شهادة المولى الغريب (علیه السلام) مسلم بن عقيل وانقلاب الكوفة على حظّها وآخِرتها.

ولا ننسى أنّ هذه الفترة المقدَّرة تتاخم الفترة الّتي كتب فيها المولى الغريب (علیه السلام) إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) يُخبره فيها بتجمهر الناس واجتماعهم، أي: أنّ المنكوسين كانوا بعدُ لم ينتكسوا ويرتكسوا، وحينئذٍ سيقع التقابل بين إخبارهما وإخبار المولى الغريب (علیه السلام) ، ولا شكّ أنّهما لا ينهضان لهذه

ص: 72

المقابلة، ولا يمكن أن نقبلهما ونقبل شهادتهما وإخبارهما ونصمّ الأسماع عن ثقة الإمام الحسين (علیه السلام) ومعتمده!

الومضة الرابعة: قلوب الناس معك وسيوفهم عليك

قد أتينا على الحديث عن إخبارهما (عن قلوب الناس وسيوفهم)مفصَّلاً في كتاب لقاء الفرزدق، فلا نعيد.

ونودّ هنا إضافة شيء، بغضّ النظر عن مناقشة ما ذكراه من تقييمٍ للمجتمع الكوفيّ يومذاك، فإنّ تعبيرهما برسم صورة القلوب والسيوف، هذه الصورة المكرورة الّتي تدعو المتابع للتريّث والتأمّل والوقوف طويلاً، ليتعرّف إلى هذا التنسيق والانسجام والتناغم التامّ، بحيث تُستعمَل نفس الكلمات ونفس المفردات ونفس التركيب عند مجموعةٍ متفرّقةٍ مشتّتةٍ بجميع عوامل التفرّق والتشتُّت الزمانيّ والمكانيّ والذاتيّ، فالفرزدق وزرارة والواقديّ وغيرهم كلّهم يستعملون هذا التركيب الخاصّ من رسم صورة القلوب والسيوف، وبنفس الألفاظ والتركيب والصياغة!!

الومضة الخامسة: مؤدّى رسالتهما

إقتصر القائلان على ذِكر قصّة القلوب والسيوف، والإخبار عن ضعف

ص: 73

الكوفة، ولم يزيدا على ذلك شيئاً.

لم نسمع في تقريرهما تفاصيل أوضاع الكوفة وأحوال الناس فيها، ولم نسمع تحذيراتٍ واضحةً وصريحة، ولا دعوةً للبقاء في مكّة أو الانطلاق إلى موضعٍ آخَر، ولا اقتراحاتٍ ولا مشاريع.

بَيد أنّ هذا المقدار من التقرير يفيد أنّهما قد فهما أمراً وجعلا يثبّطان سيّد الشهداء (علیه السلام) من التوجّه إلى الكوفة، فهو إن كان قد قصد الكوفة طلباًللنصرة وتحشيداً للطاقات والهمم وتجييشاً للرجال وتوفيراً للعدّة والعديد، فإنّ الأجواء فيها قد انقلبَت، والرياحَ العاتيةَ العاصفةَ قد غيّرت مسرى الناس، ولم تعُد الكوفة معدن الرجال الّذين يمكن أن يحسب الإمام (علیه السلام) عليهم حساباً.

* * * * *

بغضّ النظر عن مناقشة مؤدّى الرسالة، فلو تماشينا مع النصّ كما هو، وأخذناه على ما هو عليه، فإنّ فيه إشارةً واضحةً جليّة.

إنّهما أخبرا الإمام (علیه السلام) بخذلان الكوفة وضعفها، وقرّرا له حال رجالها وأهلها، ورسما له صورة السيوف المشهورة عليه واجتماع القوم على حربه، ودَعْ عنك حديث القلوب البائسة الخاوية المنخورة بعد أن تعاضدَت الأيدي على حمل السيوف والأسنّة والرماح، فالسيف المشهور أصدق إنباءً عن المواقف من القلوب المكنونة في الصدور الّتي يُخبِر عنها الآخَرون!

الآن وقد أخبرا الإمام (علیه السلام) بهذا الخبر الفظيع، وأطلعاه على هذه المفاجأة

ص: 74

المروعة، والمواقف المهولة، والتوالي المنكشفة، والساحة المفتوحة على الخيانة والغدر بدون سياجٍ ولا حفاظ.. لماذا _ إذن _ لا زال الإمام (علیه السلام) مُصرّاً على التوجّه نحو العراق، وميمّماً نحو الكوفة بالذات؟!

إذا كان الإمام (علیه السلام) قد بيّت للخروج (بالمعنى المصطلَح)، فإنّ شهادةهذين الرجُلَين تُضاف إلى شهادات الآخَرين وتحذيرات أمثال ابن عبّاسٍ وغيره، لتتعاضد جميعاً على رسم الصورة الواقعيّة الّتي كانت تُرخي بظلالها على الكوفة يومذاك، وليس في حسابات الخروج (بالمعنى الاصطلاحيّ) ما يمكن أن ينسجم مع استمرار الإمام (علیه السلام) .

وتفسير الإصرار بالعزم على إحياء الأُمّة وضخّ روح الإرادة والتمرّد والانفكاك من ازدواجيّة الشخصيّة والقضاء على سوسة الشلل السارية في كيان الناس، وغيرها.. فإنّ هذا يعني القيام بعملٍ انتحاريٍّ من أجل تحقيق هذه الأغراض، وإنْ أُلبس أردية الشهادة المطرّزة بالدماء.

وقد مرّ معنا في أكثر من موضعٍ أن لا شيء من هذه الأُمور يوازن دم الإمام الزاكي، ولا يمكن أن تكون حياة الإمام (علیه السلام) ودمه ومَن معه ممّن لا شبيه له على الأرض ثمناً لأيّ غرضٍ من الأغراض المذكورة، منفردةً ولا مجتمعة، وأنّ تحقيق هذه الأغراض لا يتوقّف على بذل الدم والقتل بهذه الطريقة الفجيعة الشنيعة، وأنّ العمل الانتحاريّ لا يليق بالمؤمن فضلاً عن سيّد الكائنات وإمام المؤمنين خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) .

هذا، بالإضافة إلى الكثير ممّا ذكرناه في محلّه وسيأتي ذِكره فيما بعد، إن

ص: 75

شاء الله (تعالى).

وسنسمع جواب الإمام (علیه السلام) على كلامهما بعد قليل.

الومضة السادسة: نزول الملائكة

إمتاز جواب الإمام (علیه السلام) هنا _ حسب نقل هذين الراويَين _ عن الأجوبة الّتي عهدناها من الإمام (علیه السلام) للمعترضين، فقد تصرّف الإمام (علیه السلام) تصرّفاً إعجازيّاً، فكشف لهما بإيماءةٍ نحو السماء عن نزول الملائكة الّذين لا يُحصي عددهم إلّا الله! ((1))

لقد نزل الملائكة لنصرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وعرض الجنُّ والملائكة نصرتهم على سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل هذا الموقف كما مرّ معنا.

والملائكة كلّهم والجنّ والإنس والمخلوقات جميعاً طوع إرادة الإمام (علیه السلام) وأمْرِه بتمكينٍ من الله وبإذنه (عزوجل) ، ولا مناقشة في ذلك.

بَيد أنّ هذا المشهد المكتظّ بالملائكة الّذين لا يُحصي عددهم إلّا الله، لم يفعله الإمام (علیه السلام) لحد الآن إلّا مع هذين الرجلين، فهل كانت لهما

ص: 76


1- أُنظر: دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.

خصوصيّةٌ تميّزهم عن غيرهم من المعترضين والملتمسين، بل وجميع العالمين؟!

أين نزل هؤلاء الملائكة؟

هل نزلوا إلى السماء الدنيا؟

أو أنّهم نزلوا على الإمام (علیه السلام) ؟أو نزلوا إلى مكّة؟

لم نسمع منهما جواباً على هذا السؤال، ولا طريق لنا إلى الجواب غيرهما.

هل رأى هؤلاء الملائكة جميعُ مَن حضر؟

أو أنّ الإمام (علیه السلام) أراهما دون غيرهما؟

لم نسمع منهما جواباً على هذا السؤال أيضاً، ولا طريق لنا إلى الجواب غيرهما.

نرجوا أن لا تُحمَل هذه الاستفهامات على التشكيك في صدور المعجز من الإمام (علیه السلام) ، أو قدرته على كشف الغَيب لهما، فإنّ الله قد أعطى الإمام (علیه السلام) ما هو أعظم وأعظم من ذلك، ونحن لا نشكّ في بداهة صدور معاجز أعظم وأعظم، وإنّما سألنا لأنّنا لا نعرف الناقل وقد زعم شيئاً لنفسه!

ونستبعد أن يكون الناقل من الأولياء الأصفياء المؤهَّلين لكرامة إظهار المعجِز، فربّما يكون إظهار المعجز أحياناً لإتمام الحجّة، لأنّهما قد خذلا

ص: 77

الإمام (علیه السلام) ، كما سنسمع بعد قليل.

فلْنترك الناقل وشأنه، ونتمسّك بالإمام (علیه السلام) ، وقد كشف لهما عن أبواب السماء حين فُتحَت وأراهما الملائكة النازلين.

الومضة السابعة: لولا تقارب الأشياء

اشارة

نحاول هنا استجلاء ما أشار إليه الإمام (علیه السلام) واستكشاف ما قاله، من خلال الإنارات التالية:

الإنارة الأُولى: معنى التقارب

التَّقارُبُ: ضِدُّ التَّباعُد.

الإِقْرابُ: الدُّنُوُّ.

قارَبَ الشيءَ: داناه، وتَقارَبَ الشيئان: تَدانَيا، تَقارَبَ الزرعُ: إذا دَنا إدراكُه.

يُقالُ للشيءِ إذا وَلّى وأدبَر: تَقارَبَ، أو قد تقارب، والعربُ تقول: تَقارَبَتْ إبلُ فلانٍ، أي: قَلَّتْ وأَدْبَرَتْ.

قال جَندَل:

غَرَّكِ أن تَقارَبَتْ أَباعِري

وأنْ رأيتِ الدَّهْرَ ذا الدوائرِ

والتقارُبُ قد يكونُ بمعنى الاعتدال، تقارُبُ الزمانِ: أي اعتدالُ الليل والنهار.

ص: 78

والتقارُبُ قد يكون بمعنى الاستعجال، يقول الرجُلُ لصاحبه إذا اسْتَحَثّه: تَقَرَّبْ، أي: اعجَلْ.

والتقارُبُ قد يكون بمعنى يغزوه، يُقال: فلانٌ يَقْرُبُ أمْراً، أي: يَغْزُوه.تقول: قَرَبْتُ أَقْرُبُ قِرابةً _ مِثلُ كتبتُ أَكْتُبُ كتابةً _، إِذا سِرْتَ إِلى الماءِ وبينك وبينه ليلة.

قال الأصمعيّ: قلتُ لأعرابيٍّ: ما القَرَبُ؟ فقال: سَيْرُ الليل لِورْدِ الغَد.

والقَرَبُ: هو السَّيْر ((1)).

الإنارة الثانية: معنى الأشياء

فلمّا كان الشَّيءُ مخفَّفاً، وهو اسمُ الآدميّين وغيرهم من الخلْق ((2)).

وشَيَّأْتُ الرجُلَ على الأمْر: حَمَلْتُه عليه ((3)).

وأَشاءَه _ لغةٌ في أَجاءَه _، أي: أَلْجَأَه ((4)).

الشَّيْءُ قيل: هو الّذي يصحّ أن يُعلَم ويُخبَر عنه ... وأصله: مصدر شاء، وإذا وُصف به (تعالى) فمعناه: شَاءٍ، وإذا وُصف به غيرُه فمعناه:

ص: 79


1- أُنظر: لسان العرب: قَربَ.
2- أُنظر: العَين للفراهيديّ: شَيَأَ.
3- أُنظر: لسان العرب: شَيَأَ.
4- أُنظر: لسان العرب: شَيَأَ.

المَشِيءُ ((1)).

الإنارة الثالثة: بيان العلّامة المجلسيّ (رحمة الله)

قال العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) غوّاص (بحار الأنوار):

قوله (علیه السلام) : «لولا تقارُبُ الأشياء»، أي: قُرب الآجال، أو إناطة الأشياء بالأسباب بحسب المصالح، أو أنّه يصير سبباً لتقاربالفرَج وغلبة أهل الحقّ ولمّا يأتِ أوانه.

وفي بعض النُّسَخ: «لولا تفاوُت الأشياء»، أي: في الفضل والثواب ((2)).

الإنارة الرابعة: المُراد

اشارة

بعد أن قرأنا ما ورد في بيان معنى مفردتَي: (التقارب) و(الأشياء)، وسمعنا تفسير العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) لها، نحاول الآن الاقتراب من المراد والمقصود في كلام الإمام (علیه السلام) من خلال ذِكر الاحتمالات الّتي يمكن حمل العبارة عليها، فربّما صدق واحدٌ منها أو أكثر.

الاحتمال الأوّل: التقارُب بمعنى التداني

التَّقارُبُ: ضِدُّ التَّباعد ... قارَبَ الشيءَ: داناه، وتَقَارَبَ الشيئانِ:

ص: 80


1- أُنظر: المفردات للراغب: شيء.
2- بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 74.

تَدانَيا.

يبدو هذا هو المعنى الأصليّ لمعنى التقارب، والشيء معروف.

فإذا كان الشيء اسم الآدميّين وغيرهم من المخلوقات، فسيكون المعنى تداني الآدميّين وغيرها من المخلوقات وتقاربها.

والتداني والتقارب إمّا أن يكون من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو تدانيها وتقاربها من بعضها البعض، وتدانيها بهذا المعنى لا يكون إلّا من أجلغرضٍ معيّن، إذ أنّها تتداخل وتتدانى وتصطفّ وتتماسك لتكون جبهةً واحدةً وجداراً محكماً للمواجهة، فلابدّ من تصوّر جهةٍ مقابلةٍ يتدانى الآدميّون منها وتصطفّ المخلوقات بإزائها.

فيكون المعنى _ على كلّ تقدير _ أنّ الآدميّين قد تدانى بعضهم من بعضٍ وتقاربوا ووقفوا للمواجهة.

فالإمام يُخبِر _ وفق هذا الاحتمال _ أنّ القوم قد أعدّوا واستعدّوا واصطفّوا وتدانوا وتقاربوا وتشكّلَت الجبهة وقامت على ساق، وانتهى الأمر، فلا مجال للمراجعة مع قومٍ لا يسمعون ولا يعون ولا يريدون إلّا قتله.

الاحتمال الثاني: التقارُب بمعنى دنوّ الإدراك

إذا كان التقارب بمعنى دنوّ الإدراك، يُقال: تقارب الزرع، إذا دنا إدراكه، يكون تقارب الأشياء بمعنى نضوج المواقف واستكمال المشاهد وبلوغ الذروة في الأحداث والإرادات، وأنّ الأمر قد حمّ ونزل.

ص: 81

فالعدوّ قد أتمّ الاستعداد، وجمع العدّة والعديد، وعقد العزم على قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وبلغ الأمر ذروته، وتظافرت المشيئات، وانتهى الأمر، ولابدّ من المواجهة المقرّرة ضمن المقرّرات العاديّة السارية المفعولة في الخلائق، دون الالتجاء إلى قهر العدوّ بالمعجزات، لتجري سُنن الله في الخلْق.

وهذا الاحتمال يرجع بالمآل إلى الاحتمال الأوّل بنحوٍ ما.

الاحتمال الثالث: التقارُب بمعنى الإدبار

إذا كان معنى التقارب ما يُقال للشيء إذا ولّى وأدبَر: تَقارَبَ، كما يقولون: تقاربَتْ إبلُ فلان، أي: قلَّتْ وأدبَرَتْ، فإنّ المراد سيكون له شواهد في كلمات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، من قبيل قوله (علیه السلام) :

«كأنّ الدنيا لم تكُن، وكأنّ الآخِرةَ لم تزلْ» ((1)).

«إنّ الدنيا قد تغيّرَت وتنكّرت وأدبر معروفُها واستمرتْ جدّاً، فلم يبقَ منها إلّا صبابةٌ كصبابة الإناء، وخسيسُ عيشٍ كالمرعى الوبيل» ((2)).

ص: 82


1- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 75، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 87، العوالم للبحرانيّ: 17 / 317، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 257.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 403، تحف العقول للحرّانيّ: 278، العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 380، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 269، المعجم الكبير للطبرانيّ: 3 / 122 الرقم 2842، حِلية الأولياء لأبي نعيم: 2 / 39، ابن عساكر، الحسين (علیه السلام) ط المحموديّ: 214، تهذيب ابن بدران: 4 / 333، مختصر ابن منظور: 7 / 146، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 192، إسعاف الراغبين للصبّان: 206، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 150 الرقم 1088، الأمالي للزيديّ: 91، نزهة الناظر للحلوانيّ: 42، الأمالي للشجريّ: 1 / 161، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 4، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 68، مثير الأحزان لابن نما: 22، اللهوف لابن طاووس: 79، كشف الغُمّة للأربلّيّ: 2 / 32، ذخائر العقبى للطبريّ: 149، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 345، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 209، المنتخَب للطريحيّ: 2 / 437، ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 62، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 192، العوالم للبحرانيّ: 17 / 67، نفَس المهموم للقمّيّ: 190، إبصار العَين للسماويّ: 7.

فالأشياء، كلّ الأشياء قد أدبرَت.. أدبرَت الدنيا.. أدبر الناس.. أدبر المعروف..

قد عزم العدوّ على القضاء على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو معدن المعروف..

عزم على أن يضع نهايةً للدنيا، ويقتل الإمام (علیه السلام) ..

فالدنيا بالنسبة إلى الإمام (علیه السلام) في حكم المنتهية، وكأنّها لم تكن، وهو يعيش الآن في حكم الآخِرة بفاصل المسافة بين مكّة وكربلاء، وبين الأيّام المعدودة من ذي الحجّة إلى يوم عاشوراء..

فالناس قد خذلوه.. العدوّ يلاحقه.. والأشياء متقاربةٌ متظافرةٌ متدانيةٌ متماسكة.. تضيّق الدنيا على ابن محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) ، ولا تدَعْ له منفذاً يتنسّم منهالهواء..

الأجل قد حمّ ونزل.. الدنيا تستمرّ جدّاء مبتورة الأرجُل، تزحف إلى

ص: 83

الطيّبين زحفاً حثيثاً لا تقوم لهم، ولا تنهض بالقدرة على الاستمرار معهم..

وربّما كان هذا هو المعنى الّذي قصده العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) بتقارب الآجال.

الاحتمال الرابع: التقارُب بمعنى الاعتدال!

ربّما يكون التقارب بمعنى (الاعتدال)، يُقال: تقارب الزمان، أي: اعتدال الليل والنهار.

فيكون المعنى أنّ الأشياء قد اعتدلَت وتوازنَت، وصار الموت يعادل الحياة، والدنيا تعادل الآخِرة، ولا شكّ أنّ القتل في الله والموت في الله أحلى وأرجح، والآخِرةَ أسعدُ وأنجح، وطلبَ الأجر أنفعُ وأفلَح، فلا حاجة لتوظيف المعجِز وتجييش الملائكة.

وربّما يكون الاعتدال بمعنى توازن القوى، فإنّ العدوّ بعديده وعدّته وارتكانه إلى خذلان الناس من خلال التطميع والترغيب والإرعاب والترهيب، قد ضمن جانب الغوغاء الّذين خلدوا إلى الطين وانغمسوا في حبّ الدنيا واستنقعوا في مستنقعات اللذائذ الزائفة، فهو قد انبرى لتنفيذ مقاصده المشؤومة في قتل الإمام (علیه السلام) والاستشفاء بشرب الدماء الزاكيات،وسخّر لذلك كلّ صعبٍ وذلول، فلا يفصله عن تحقيق ما يريد سوى الإجهاز على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبه.

ومن جهة الإمام (علیه السلام) ، فقد استقبل الموت استقبالاً، وجهّز للدفاع

ص: 84

المصطفين الأخيار من أهل بيته وأصحابه النجباء الأوفياء، وهم قليلو العدد قليلوا العدّة، بيد أنّهم قومٌ مستميتون في الذبّ عن حريم الله وحُرم رسوله، وقد رأوا في الموت دون ابن النبيّ (صلی الله علیه و آله) عيدهم الأكبر، واعتدّوا بالإيمان الراسخ والصلابة والثبات والبصائر النافذة والقلوب العامرة والشجاعة والفروسيّة، وقد عرف العدوّ سطوتهم وبطشهم وتسلّطهم في الميدان واقتدارهم وتمكّنهم في المصاولة واحترافهم اختطاف النفوس والأرواح الخسيسة الدنيئة، وقد ضبطوا أبواب الجنان وأبواب النيران، فهم الأعرف بطريقهما، والأقدر على سَوق الّذين كفروا إلى جهنّم زُمراً، وسَوق أرواحهم الكريمة المتّقية إلى الجنّة زُمراً.

الآن، وقد اعتدل أهل الدنيا الغدّارة بقدراتهم البائسة الزائفة، وأهلُ الآخِرة بقدراتهم الخارقة الّتي لا يقوم لها أهل الدنيا رغم قلّة الناصر والعدّة والعديد، فكان بالإمكان لمن خوّله الله ومكّنه من المقاليد أن يرجّح كفّة المؤمنين بزخّ الميدان بوابلٍ من الملائكة المقاتلين.. غير أنّ الأجر وطلب الآخرة أَحجى وأَولى، والقتال ضمن مسارات الظاهر المنظور هو المروءة الّتي لو تمثّلَت في شخصٍ لَكانت الإمام الحسين (علیه السلام) .

الاحتمال الخامس: التقارُب بمعنى الاستعجال

ربّما كان التقارب بمعنى الاستعجال، يقول الرجُلُ لصاحبه إذا استَحَثّه: تَقَرَّبْ، أي: اعْجَلْ.

ص: 85

فإذا كان تقارب الأشياء بمعنى استعجالها واستحثاثها، فهو من جهة القوم استعجالهم قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهذا ما قامت عليه الأدلّة التاريخيّة بمتانةٍ وعُمقٍ واستحكام، وكانوا يستعجلون الزمان ويسابقون الأيّام منذ أن تسلّق القرد المسعور أعواد المنابر، فلم يكن له همٌّ يقلقل أحشاءه المتعفّنة بالخمور المعتَّقة والمحرّمات أعظم من همّ الارتواء بدماء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فكان هو وجراؤه المتوحّشة عُسلانُ الفلوات تتضوّر أكراشُها وأجربتُها وتتوثّب لتقطيع الأوصال المقدّسة.

ومن جهة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقد أدبرت الدنيا، واشتاق إلى أسلافه اشتياقَ يعقوب إلى يوسف (علیهما السلام) ، وتولَّهَ إليهم تولُّهاً لا يقدر على التعبير عنه إلّا الإمام (علیه السلام) نفسه.. «ما أولهني»!

فهم يستعجلون قتْلَه؛ ليريحوا أنفسهم الكدرة وجيَفَ فطائسهم العفنة، وهو يستعجل المسير إلى ساعة اللقاء؛ لينعم بلقاء الله ولقاء الرسول (صلی الله علیه و آله) ولقاء الأسلاف الأطهار (علیهم السلام) .

الاحتمال السادس: التقارب بمعنى يغزوه

قد يكون من معاني التقارب بمعنى (يغزوه)، يُقال: فلانٌ يَقْرُبُ أمْراً،أي: يَغْزُوه.

فيكون المعنى: غزو الأشياء، وتتالي الغزوات والحملات والهجمات المتلاحقة والأُمور المتظافرة، وعدم سكون العدوّ حتّى صار الدفاع لازماً

ص: 86

والتواني غير محبوبٍ ولا مرغوبٍ ولا مقبولٍ ولا مطلوب، ولابدّ من المواجهة، لأنّ غزوات العدوّ لا تفتر ولا تهدأ ولا تنقطع، وكان بالإمكان مواجهتها بجيوش الملائكة وجُند السماء، بَيد أنّ الأجر والذخر يدعوان للصبر والصمود والثبات لكسب الآخِرة الأسمى والدرجة الّتي تُنال بالشهادة.

الاحتمال السابع: الرجعة

لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر.. وفي نسخةٍ: وهبوط الأجَل.. لَقاتلتُهم..

لولا: أداة امتناعٍ لوجود..

إنّما امتنع الإمام (علیه السلام) من المقاتلة بالملائكة؛ لتقارب الأشياء وحبوط الأجر أو هبوط الأجَل..

تُشعِر التركيبة المحبَكة في العبارة بوجود أشياء تتقارب.. تدنو بسرعة.. وكأنّ الأشياء تتزاحم وتلتصق بعضُها ببعض، ولا تكاد تعطي فُرجة، فهي قريبةٌ تتسارع في التتابُع ويلتو بعضها بعضاً، حتّى لَكأنّها تتحقّق عمّا قريبٍ لا يُحتسَب فيه الزمن، وتتنجّز كلمح بالبصر، وسرعان ما تراها ماثلةً قائمةً علىحصونٍ مشيّدةٍ منيفةٍ عامرةٍ مزدهرة، تشعّ رونقاً ورواءً، وقد أورقَت وأينعَت وأثمرَت واخضلّت..

والزمن لا يُعَدّ في حسابات الله وحسابات مَن سلّطه الله على الزمن، فعمود الزمان واحد، يُرى أوّله كما يُرى آخِره، فالأشياء عنده متقاربة، وكم

ص: 87

سمعنا البشائر منذ أن هبط آدم (علیه السلام) إلى يوم بعث النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) ، ومن يوم بعث النبيّ الخاتم (صلی الله علیه و آله) إلى اليوم الّذي سيظهر به الوليّ الخاتم (علیه السلام) ، حتّى عُدّ ظهور الوليّ الخاتم سيّد الزمان ووليّ الرحمان قد تحقّق منذ أن وُلد وأشرقَت الأرض بنور ربّها وعمّ الكونَ ضياءُ وجهه المبارك..

إنّ يوم ظهور سيّد الزمان وصاحب العصور والدهور والأزمان قريب.. إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً.. وسيأتي عمّا قريبٍ فرَجُ آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وتُشرِق الشمس من مغيبها، ويطلع صبح البشريّة الغارقة في وحل الجهل والعتوّ والطغيان والتَّيه والضلال.. أليس الصبح بقريب؟ وإنّما أمرُ الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كُنْ فيكون! وما أمرُه إلّا واحدةٌ كلمحٍ بالبصر، وإنّه يُصلح وليَّه بليلة، وستنتهي هذه الليلة بصبحٍ أبلجٍ ساطعٍ لامعٍ متألّقٍ مشرقٍ ناصعٍ أنور..

ما أقرب ذلك اليوم؛ لتقارب الأشياء، وتقارب الزمان، وتقارب الأُمور، وتقارب حركة البشريّة..فسرعان ما تنقضي هذه الأشياء الحرم، والأيّام الحرم، والسنين الحرم، والزمان الحرام، والليالي والأيّام الحرام.. وللزمان الحرام أحكامه ومقتضياته وسلوكيّاته وحوادثه وشروطه وظروفه..

إنّه زمن الطاغوت، وحكومة الشيطان، ودولة الباطل.. وسيأتي الزمن الّذي يعمّ فيه نور الله الّذي لن يُطفَأ، وتكون فيه دولة الحقّ المطلَق..

ففي دولة الباطل.. دولة حكومة الظاهر، لا حاجة للقتال بالملائكة، إذ

ص: 88

سيأتي اليوم الّذي تنزل فيه الملائكة لنصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) !

تقارُبُ الأشياء.. تقارُبُ دولة الحقّ..

ربّما كان كلام الإمام (علیه السلام) يشير إلى الرجعة والكَرّة.. فإنّ لسيّد الشهداء (علیه السلام) يوماً مشهوداً قادماً لا محالة، سيكون النصر المحقَّق يومها..

فإذا كانت الأشياء تتقارب، فلا حاجة لاستعجال الزمن القادم عمّا قريبٍ على كلّ حال!

روي في (الكافي) الشريف بعد حديث الوصيّة الطويل، عن حريز قال:

قلتُ لأبي عبد الله (علیه السلام) : جُعلتُ فداك، ما أقلَّ بقاءكم أهلَ البيت وأقربَ آجالكم بعضها من بعض، مع حاجة الناس إليكم!

فقال: «إنّ لكلّ واحدٍ منّا صحيفة، فيها ما يحتاجُ إليه أن يعمل به في مدّته، فإذا انقضى ما فيها ممّا أُمِر به عرف أنّ أجله قد حضر، فأتاه النبيّ (صلی الله علیه و آله) ينعى إليه نفْسَه وأخبره بما له عند الله.وإنّ الحسين (علیه السلام) قرأ صحيفته الّتي أُعطيها وفُسّر له ما يأتي بنعي، وبقيَ فيها أشياء لم تُقضَ، فخرج للقتال، وكانت تلك الأُمور الّتي بقيَت أنّ الملائكة سألَتِ اللهَ في نصرته فأذن لها، ومكثَتْ تستعدّ للقتال وتتأهّبُ لذلك حتّى قُتِل، فنزلَت وقد انقطعَت مدّتُه وقُتل (علیه السلام) ، فقالت الملائكة: يا ربِّ، أذنتَ لنا في الانحدار وأذنتَ لنا في نصرته، فانحدرنا وقد قبضتَه! فأوحى الله

ص: 89

إليهم أن الزموا قبره، حتّى تروه وقد خرج فانصروه، وابكوا عليه وعلى ما فاتكم من نصرته، فإنّكم قد خُصصتُم بنصرته وبالبكاء عليه. فبكت الملائكةُ تعزّياً وحزناً على ما فاتهم من نصرته، فإذا خرج يكونون أنصاره» ((1)).

قال العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) :

«إنّ لكلّ واحدٍ منّا صحيفة»: ...

أنّ الله (تعالى) جعل لكلّ واحدٍ منهم شؤوناً وأعمالاً، قدّر الله لهم أن يأتوا بها، فإذا انقضى تلك الأُمور كان ذهابهم إلى عالم القدس أصلح لهم.

والنعي: خبر الموت، «ينعى» في النُّسَخ بصيغة المضارعالمجهول، وفي بعضها: «بنعي» بصيغة المصدر وباء المصاحبة.

«لم تُقضَ»: على بناء المجهول، أي: كُتب فيها أشياء لم تتحقّق بعدُ، منها أنّه يخرج في آخر الزمان في الرجعة وتنصره تلك الملائكة، وهو بعدُ متوقّعٌ لم يتحقّق ... وفي (كامل الزيارة): «لم ينقص».

قوله (علیه السلام) : «فنزلَت وقد انقطعَت مدّتُه»، أقول: يظهر من بعض الأخبار أنّ الملائكة عرضوا عليه نصرتهم، فلم يقبل، واختار لقاءَ الله (تعالى)، فيمكن أن يكون هذا في المرّة الثانية من نزولهم.

قال السيّد ابن طاووس (رضی الله عنه) في كتاب (اللهوف): ورُوي عن

ص: 90


1- الكافي للكلينيّ: 1 / 283 ح 4.

مولانا الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «سمعتُ أبي يقول: لمّا التقى الحسين (علیه السلام) وعمر بن سعد (لعنه الله) وقامت الحرب، أُنزِل النصر حتّى رفرف على رأس الحسين (علیه السلام) ، ثم خُيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله (تعالى)، فاختار لقاءَ الله».

ورُوي أيضاً عن أبي جعفرٍ الطبريّ، عن الواقديّ وزرارة بن صالح قالا: لقينا الحسينَ بن عليٍّ (علیه السلام) قبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيّام، فأخبرناه بهوى الناس بالكوفة وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه، فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحَت أبوابُ السماء ونزلَت الملائكةُ عدداً لا يُحصيهم إلّا الله (تعالى)، فقال (علیه السلام) :«لولا تقارُبُ الأشياء وحُبوط الأجر، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي، ولا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ».

وروى الصدوق في (مجالسه)، عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام) : «أربعة آلاف ملَكٍ هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن عليّ (صلوات الله عليه)، فلم يُؤذَن لهم في القتال، فرجعوا في الاستئذان، وهبطوا وقد قُتل الحسين (علیه السلام) ، فهم عند قبره شُعثٌ غُبرٌ يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملَكٌ يُقال له: منصور».

وأقول: الظاهر أنّ عدم الإذن منه (علیه السلام) ، ويُحتمَل أن يكون من الله، لكنّه بعيد.

قوله (علیه السلام) : «وقد خرج»، أي: في الرجعة قبل القيامة، بقرينة

ص: 91

النصرة.

واعلم أنّ الرجعة _ أي: رجوع جماعةٍ من المؤمنين إلى الدنيا قبل القيامة، في زمن القائم (علیه السلام) أو قبله أو بعده، ليروا دولة الحقّ ويفرحوا بذلك وينتقموا من أعدائهم، وجماعةٍ من الكافرين والمنافقين، ليُنتقَم منهم _ ممّا انفردَت به الإماميّة وأجمعوا عليه، وتواترت به الأخبار ودلّت عليه بعض الآيات، وقد وقعَت مناظراتٌ كثيرةٌ في ذلك بين علماء الفريقَين، وكتب علماؤنافي إثباتها كتباً مبسوطة، منهم: أحمد بن داوود الجرجانيّ، والحسن بن عليّ بن أبي حمزة البطائنيّ، والفضل بن شاذان النَّيسابوريّ، والصدوق محمّد بن بابوَيه، ومحمّد بن مسعود العيّاشيّ، والحسن ابن سليمان تلميذ الشهيد، وقد ذكرها متكلّمو علمائنا، كالمفيد وشيخ الطائفة وسيّد المرتضى والعلّامة والكراجكيّ (رضی الله عنهم) ، وغيرُهم من علماء الإماميّة، وجميع كتب الحديث المتداولة الآن مشحونةٌ بذِكرها، وقد أوردتُ في المجلّد الثالث عشر من كتاب (بحار الأنوار) أزيد من مئتَي حديثٍ نقلاً عن نيفٍ وأربعين أصلاً من الأُصول المعتبرة، وكلّها صريحةٌ في إثبات الرجعة ... ((1)).

فالمقصود هنا الإشارة إلى الرجعة، وأنّ للإمام الحسين (علیه السلام) يوماً سيأتي على هؤلاء الأوغاد والوحوش الكواسر، ويقضي عليهم وينتصر عليهم بجنودٍ

ص: 92


1- مرآة العقول للعلّامة المجلسيّ: 3 / 199.

من الملائكة، وليس اليوم الّذي هو فيه قبل ذلك الحين يوم الانتصار بالملائكة، وإنّما هو يوم طلب الأجر، والاجتيازِ من هذه الدنيا الفانية الزائلة، والصبرِ وكظم الغيظ، والعملِ بالوصيّة في دولة الباطل، وسيأتي اليوم الّذي تكون فيه الدولة للحقّ، وتنتهي جولة الباطل.

الومضة الثامنة: حبوط الأجر

حَبِطَ حَبْطاً وحُبوطاً: عَمِلَ عَمَلًا ثمّ أفسَدَه.. بَطُل ثوابُه وأحبطه اللّه ((1)).

المانع الأوّل الّذي ذكره الإمام (علیه السلام) لقتالهم بالملائكة المنزلين، هو تقارُبُ الأشياء..

المانع الثاني: هو حبوط الأجر..

ربّما كان (حبوط الأجر) المذكور مقابل نزول الملائكة يشير إلى مَن سيطلبون الأجر بالإمام (علیه السلام) من أهل البيت والأنصار (علیهم السلام) ، الّذين سيقومون مقام الملائكة المنزلين في القتال ومواجهة العدوّ والذبّ عن الإمام (علیه السلام) وحريمه وحرمه.

فالإمام (علیه السلام) يحبّ هؤلاء القوم حُبّاً خاصّاً.. يريد لهم كلّ الخير.. يريد أن يجمع لهم كلّ الأجر.. لا يدَعُ فرصةً لهم في الرقيّ والسموّ والسموق

ص: 93


1- أُنظر: لسان العرب: حَبَطَ.

والرفعة والتحليق في أعالي الجنان إلّا جمعها لهم..

إنّها الفرصة الّتي لا تُعوَّض، ولا يمكن أن يكون لها بديل..

إنّه المقام الرفيع الّذي لا يصله أحدٌ سوى أنصاره وأهل بيته (علیهم السلام) ، الّذين "وقفوا يدرؤون عنه سُمرَ العوالي، بالنحور البيض"..

إنّها منزلة «لا أعلم أصحاباً.. ولا أهل بيت»..عاشوراء.. كربلاء.. يومٌ حاز فيه أصحابُ الإمام (علیه السلام) وأهلُ بيته رُتَباً يغبطهم عليها الأوّلون والآخِرون، إلّا مَن استثناهم الله.. يومُ جمْع الأجر..

يومٌ قال فيه العابس لشوذب: إنّ هذا اليوم ينبغي لنا أن نطلب فيه الأجر بكلّ ما قدرنا عليه ((1))..

يومٌ أذن فيه الإمام لابن أخيه القاسم (علیهم السلام) _ وهو لم يبلغ الحُلُم _ بالقتال والرحيل إلى الجنان.. لأنّه اليوم الّذي لا يوم كمِثله، ولمثل القاسم ابن الحسن أن ينال درجته، ولا يُحرَم من هذا الأجر العظيم..

الكلام في ذلك يطول.. والخلاصة: أنّ يوم عاشوراء ومشهد كربلاء أجرٌ يُخشى عليه أن يُثلَم بالحبوط.. ولو قاتل الملائكةُ عن الأصحاب وأهل البيت (علیهم السلام) ، لَفاتهم هذا الأجر!

ص: 94


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 443، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 22، نفَس المهموم للقمّيّ: / 281، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 298، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 28، العوالم للبحرانيّ: 17 / 272، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 309، أسرار الشهادة للدربنديّ: 298، تظلّم الزهراء (علیها السلام) للقزوينيّ: 192.

نكتفي بتصوير مانع (حبوط الأجر) فيما يخصّ الأنصار وأهل البيت (علیهم السلام) .

الومضة التاسعة: هبوط الأجَل

في بعض نُسَخ (اللهوف): «هبوط الأجَل» ((1)).

وفق هذه النسخة يكون المانع المذكور هو نزول الأجَل، والمقدَّركائن، والأشياء متقاربة، لا محيص من يومٍ خُطَّ بالقلم.. ولمّا كان الأجل قد هبط واقترب، والإمام (علیه السلام) قلبه مسكن إرادة الله، وهو لا يريد إلّا ما أراد الله، ولا يصدر منه إلّا ما أراد الله، ولا يفعل إلّا في دائرة قضاء الله وقدَره، فلا يسخّر الملائكة وهم طوع إرادته ورهن إشارته.

الومضة العاشرة: عِلم الإمام (علیه السلام) بمكان مصرعه ومصرع أصحابه

«ولكن أعلم عِلماً أنّ هناك مصرعي ومصارع أصحابي، لا ينجو

ص: 95


1- اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، وفي بعض نُسَخ (اللهوف) و(الأسرار) و(اللواعج) و(الناسخ): «حبوط الأجر»، وفي (المعالي): «هبوط الأجر».

منهم إلّا وَلدي عليّ» ((1)).

هذا الاستثناء والاستدراك الوارد في كلام الإمام (علیه السلام) ، ينفع كثيراً في تفسير متعلّقات (لولا)، فهو تتمّةٌ للكلام.

بعد ذِكر المانع من المقاتلة بالملائكة، استدرك الإمام (علیه السلام) وقال أنّه يعلم عِلماً يقيناً أنّ هناك مصرعه ومصارع أصحابه، فهو يسير إلى القدَر المحتوم الّذي قدّره الله له برضىً من سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وهذا التقرير فيه بُعدان لائحان متداخلان متشابكان متّصلان، وهو يشيرإلى حقائق طويلةٍ غير متعارضةٍ ولا متباينة، وإنّما هي تحكي واقعاً واحداً بكِلا بُعدَيه.

فالكلام في بُعدٍ من أبعاده يُعَدّ إخباراً غيبيّاً عمّا سيقع في مستقبل الأيّام القريبة المتسارعة المتلاحقة الّتي ستأتي على آل الرسول وعترته (علیهم السلام) ، وتتهاوى نجوم سماء الولاية على صعيد كربلاء، ولا ينجو منهم إلّا الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين (علیه السلام) ، وهذا ما سنكل الحديث عنه إلى محلّه، إذ أنّنا بنينا البحث هنا على متابعة الأحداث التاريخيّة وفق المشاهد الّتي يرسمها المؤرّخ ويتعامل معها.

ص: 96


1- أُنظر: دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.

ومن جهةٍ أُخرى:

إنّ الإمام (علیه السلام) يرسم لنا من خلال هذه الكلمات المحكَمات الواضحات مشهداً مروّعاً تنهد له الصمّ الصلاب.

فها هو العدوّ قد أعدّ واستعدّ، واستعجل الزمن وسابق الأيّام، ليقتل الإمام (علیه السلام) كيف كان وأينما كان، مهما كلّفه الأمر، وهو مستعدٌّ تمام الاستعداد لهتك حرمة الدم الزاكي في البيت الحرام، والإمام (علیه السلام) يستعجل الأيّام ليخرج من الحرم، تفادياً لهذه الكارثة الّتي لا يرضاها الإمام (علیه السلام) .

والإمام (علیه السلام) يعلم _ بغضّ النظر عن علم الإمام والإخبارات الغيبيّة _ أنّ القوم قد صفّوا صفوفهم، وحشّدوا عساكرهم، وجحفلوا جنودهم في الكوفة ينتظرونه، وقد ضخّوا جميع طاقاتهم الإعلاميّة والمادّيّة من سلاحٍورجالٍ وعدّةٍ وعديد، وجوّعوا وحوشهم وكواسرهم وقدحوا أنيابها وأنيابهم ليقطّعوا أوصاله وأوصال مَن معه، ليملؤوا أكراشاً وأجربةً سُغباً جُوفاً..

لو تسنّى الأمر للعدوّ أن يقضي على الإمام (علیه السلام) في المدينة أو في مكّة لَفعل، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) منع ذلك!

فتوجّه الإمام (علیه السلام) نحو العراق، قاصداً الأرض الموعودة والأنصارَ القليل الديّان المنتظرين لفرجهم بقدوم إمامهم (علیه السلام) ليفدوه بالغالي والنفيس، والعدوّ يعلم أنّ الآفاق قد سُدّت في وجه وجه الله ووجه رسوله (صلی الله علیه و آله) ، لأنّه لم يترك وسيلةً تُحقّق له هذا الغرض إلّا ارتكبها، فاطمأنّ أن لا وجهة للإمام (علیه السلام) سوى الكوفة، فأعدّ هناك واستعدّ.

ص: 97

والإمام (علیه السلام) يعلم _ أيضاً بغضّ النظر عن علم الإمام والغيب، بل وفق مجريات الأحداث وتقييم الأشخاص، من أمثال يزيد وابن زياد _ أنّ العدوّ قد عزم على استئصال شأفة النبيّ (صلی الله علیه و آله) واجتثاث ذرّيّته من جديد الأرض، حتّى الطفل الرضيع، وقصد _ خائباً خاسراً _ أن يُطفئ نورَ الله، ولا يدع شيئاً ممّا يذكّر برسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقيم سنّته، ويثأر لفطائس الجاهليّة أضعافاً مضاعفة، فلا يبقى لرسول الله (صلی الله علیه و آله) عينٌ ولا أثر، وأبى إلّا أن يُدفَن ذِكر النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعترته دفناً دفناً!

والإمام (علیه السلام) يعلم أيضاً أنّ أصحابه وأهل بيته (علیهم السلام) لا يتوانون فيالدفاع عنه ومنعِ العدوّ عنه، كبيرهم وصغيرهم، شيوخهم وشبّانهم، هرمهم وفتيانهم..

كلّهم يدٌ واحدة، وسيفٌ واحد، ورمحٌ شارعٌ في نحور الأعداء.. لا تتراخى قبضاتهم عن مقابض سيوفهم حتّى تتهاوى سيوفهم ورماحهم، فيهوون على صعيد كربلاء، ويرتقون منها ليصافحوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ويشكروا الله على نعمة الدفاع عن ذرّيّة نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، ويتقدّموا بين يدَي رسوله (صلی الله علیه و آله) ليقولوا: هل وفينا؟!

فالعدوّ سيقتل كلَّ مَن يمتّ لمحمّدٍ وآل محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) بصِلة.. والأنصار بما فيهم أهل البيت (علیهم السلام) سيدفعون عن إمامهم، ولا يدَعون شوكةً تشوكه وصبيته ونساءَه ما دام فيهم عِرقٌ ينبض وعينٌ تطرف!

والإمام (علیه السلام) يعلم يقيناً أنّ الأرض لا تخلو من حُجّة، ولو خلَتْ من

ص: 98

الإمام الحجّة طرفة عينٍ لَساخت بأهلها، وانخرم عِقد التكوين، وباد نظام الكون، وخرّت الكواكب والنجوم، وتدكدكت الجبال على السهول، وتناثرت المخلوقات طُرّاً، وبلغَت الدنيا آخِرَ مداها، ولَقامت القيامة.. وفي عِقد الإمامة شموس الأئمّة من بعد خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، فسوف لن يصل العدوّ إلى الإمام بعد الإمام، وليس له أن يقتله، فهذا خارجٌ عن حدّ الاختبارات والابتلاءات البشريّة؛ لأنّ بوجوده بعد أبيه وجود الكون واستمرار الدنيا، وبقاء التخطيط الربّانيّ لمسيرة البشريّة والتكوين.فالإمام الحسين (علیه السلام) يُخبِر هذين الرجلَين أنّ القوم لا يفتروا عن ملاحقته حتّى يقتلوه ويستخرجوا العلقة المقدّسة من صدره ويتشفّوا بقتله، ولو كان الأمر إليهم وتمكّنوا من فعلتهم الشنيعة لَفعلوها أينما كان، غير أنّ الإمام (علیه السلام) منعهم من ارتكابها في المدينة، وهو مانعُهُم من ارتكابها في مكّة، والأرض كلّها سيفٌ مشهورٌ وسنانٌ شارعٌ وشعلةٌ واحدة، ليس فيها ناصرٌ ولا معين، إلّا العدد المحدود المتوافر في الكوفة من أنصار الحقّ، والعدد الضخم المتراكم من أنصار القرود، وهو الفرجة الوحيدة والطريق الوحيد المفتوح من بين جدار الأعداء المرصوص المحيط بالإمام (علیه السلام) وأهل بيته وأنصاره، فلابدّ من التوجّه إلى العراق!

ويمكن التعبير عن كلام الإمام (علیه السلام) بعبارةٍ أُخرى:

إنّ الإمام (علیه السلام) يُخبِر عن قتل القوم له..

يُخبِر أنّ القوم سيقتلوه ومَن معه، لا يستثنون أحداً إلّا مَن سيحفظه

ص: 99

جبّار السماوات والأرض القويُّ المقتدر القهّار الّذي لا يُغلَب..

إنّ الإمام (علیه السلام) لا يُخبر عمّا يريد أن يفعله هو، إذ أنّ موقفه واضح.. موقف الدفاع عن النفس والأهل والأحبّة.. وإنّما يُخبر عن فعل الأعداء..

هم الأعداء الّذين يريدون قتله.. فأخبر الإمام (علیه السلام) عن موضع قتله ومدفنه وحفرته..

أخبر الإمام (علیه السلام) أنّ مصرعه هناك.. ليس في المدينة.. ليس في مكّة..وليس في مكانٍ آخَر..

هكذا هي حركة الحوادث ومجريات الأحداث المترتّبة على محاصرة العدوّ للإمام (علیه السلام) ، وسدّ الآفاق أَمامه إلّا أُفق العراق.. الأُفق الّذي اختاره الله لسيّد الشهداء (علیه السلام) برضاه..

ولو أراد الإمام (علیه السلام) أن يواجه هذا العتوّ والطغيان بالإعجاز، وأنْ يقاتلهم بالملائكة والجنّ لَقاتلهم، بَيد أنّه اختار ما اختاره الله وقدّره له، لينال الدرجة الخاصّة به، ويفي بعهده الّذي عاهد اللهَ به..

صلّى الله عليك يا غريب الغرباء، وعلى المستشهَدين بين يديك.

الومضة الحادية عشرة: لا ينجو!

اشارة

قال الإمام (علیه السلام) : «لا ينجو منهم، إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) ».

تُلاحَظ في هذه الفقرة من كلام الإمام (علیه السلام) عدّة ملاحظات:

ص: 100

الملاحظة الأُولى: دمج أهل البيت والأنصار

ذكر الإمام (علیه السلام) مصرعه أوّلاً، ثمّ ذكر مصارع أصحابه، واستثنى الإمام زين العابدين (علیه السلام) ، فهو (علیه السلام) قد دمج أهل البيت والأنصار هنا تحت عنوانٍ واحدٍ ولم يميّز بينهم، ولم يقُلْ: لا ينجو من أصحابي وأهل بيتي إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) ؛ إذ أنّ القتل يحاصرهم جميعاً على حدٍّ سواء، فهم من هذا الحيثلا فرق بينهم.

الملاحظة الثانية: مرجع الضمير

إستعمل الإمام (علیه السلام) ضميراً يرجع إلى أصحابه: «لا ينجو منهم»..

ومرجع الضمير هو أصحابه جميعاً، فلم يُدخِل نفْسَه المقدّسة في مرجع الضمير، وكان من الممكن أن يقول: لا ينجو منّا أحدٌ إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) .

ربّما كان في ذلك إشارةٌ إ

ص: 101

«فإنّ القوم إنّما يطلبونني، فإذا رأوني لهوا عن طلبكم» ((1)).

«وقد وجدوني ((2))، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري» ((3)).

«فإنهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لَما طلبوكم»((4)).

«والقوم لا يريدون غيري، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحداً» ((5)).

«ولو ظفروا بي لَذهلوا عن طلب غيري» ((6)).

فالإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) هو المطلوب أوّلاً وبالذات، ورأسُه المقدّس ودمه الزاكي، هكذا منذ أن كان في المدينة.. أمّا أصحابه وأهل بيته، إنّما يقصدهم العدوّ لأنّهم وقفوا دروعاً صلبةً دون إمامهم، فالعدوّ لا يصل إلى الإمام (علیه السلام) ما لم يأتِ عليهم.

ص: 102


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 70، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 202.
2- جُملٌ من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 393.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 419.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 169.
5- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 74.
6- الأمالي للصدوق: 156، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 315 _ 316، العوالم للبحرانيّ: 17 / 165، وانظُر أيضاً: تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام) : 218 الرقم 101، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 152، تأويل الآيات الظاهرة للأسترآباديّ: 47 _ 48، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 90، العوالم للبحرانيّ: 17 / 346، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 270، أسرار الشهادة للدربنديّ: 268.

فإذا كان الإمام (علیه السلام) هو المطلوب، فلا مجال لافتراض أن يدَعَه القوم، فلابدّ أن يكون "دمه مباح، ورأسه فوق الرماح، وشِلوه بشَبا الصِّفاح موزَّعُ"!

أمّا أصحابه، فيمكن افتراض أن ينجو منهم أحد.. ربّما كان هذا ما أشار إليه الإمام (علیه السلام) باستثناء ابنه الإمام عليٍّ السجّاد (علیه السلام) فقط، ولم يُدخِل نفسه فيهم.

الملاحظة الثالثة: التعبير بالنجاة!

قال (علیه السلام) : «لا ينجو منهم إلّا وَلدي عليّ (علیه السلام) » ((1)). هكذا ورد في جميع المصادر الّتي نقلَت هذا الحوار، دون اختلافٍ في الألفاظ.

النَّجاءُ: الخَلاصُ مِن الشيء ((2))، نَجا فلانٌ من الشرّ يَنجُونَجاةً ((3)).

قوله (تعالى): ﴿وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ﴾ ((4))، يُقال: نَجّاه

ص: 103


1- دلائل الإمامة للطبريّ: 74، نوادر المعجزات للطبريّ: 107، الدرّ النظيم لابن حاتم الشاميّ: 530، اللهوف لابن طاووس: 61، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 364، العوالم للبحرانيّ: 17 / 213، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234.
2- أُنظر: لسان العرب: نَجَوَ.
3- أُنظر: العين للفراهيديّ: نَجَوَ.
4- سورة الأعراف: 141.

وأنْجاه، إذا خلّصَه، ومنه: نَجا من الهلاك ينجو، إذا خَلُص منه ((1)).

يبدو أنّ (النجاة) لا تُستخدَم إلّا بمعنى الخلاص من الشرّ، والتخلّص ممّا لا يُحمَد ولا يُرغَب فيه، فالصدق منجاة، ولا يُقال: الكذب منجاة، ولا يقال للخروج والإخراج من الجنّة: نجاة، فيما يكون الخروج من النار نجاة.

وربّما أجمل المعنى بأروع صورةٍ قولُه (عزوجل) : ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ ((2)).

* * * * *

إذا اتّضح معنى (النجاة)..

ربّما أمكن استفادة المحاصرة والهجوم المعتدي على الإمام (علیه السلام) وأصحابه وأنصاره وفرض القتال وتحميله عليهم..

إنّما يمكن افتراض (النجاة) حينما يكون القتل والقتال مفروضاً عليهم من قِبل العدوّ، إذ لو كانوا هم قد أقدموا على القتل والقتال طواعيةً وابتداءً، لَما كان مَن لا يُقتل منهم قد نجا!

إنّهم اختاروا القتل بين يدي سيّد الشهداء (علیه السلام) دفاعاً عنه، لأنّهالمطلوب، وهم الجدار المانع من الوصول إليه، بيد أنّهم أضحوا هدفاً للعدوّ بعد أن عرف أنّه لا يصل إلى الإمام (علیه السلام) قبل أن يقضي عليهم.

ص: 104


1- أُنظر: مجمع البحرين للطُّريحيّ: نَجَوَ.
2- سورة غافر: 41.

ولو كان الإمام (علیه السلام) قد بدأ ودعا لقتالهم وخطّط للهجوم، أو أنّه وقف ليصبح مشتجراً للرماح ودريّةً للسهام ليقتله القوم، فهو قد قصد مقتله قصداً، ومكّن العدوّ من نفسه لأيّ غرضٍ كان، وأصحابه على علمٍ من ذلك، وقد أقدموا على ما أقدموا عليه، ولبسوا القلوب دروعاً على الصدور، وتقدّموا للموت ليقتلهم العدوّ من أجل تحقيق أغراض الإمام (علیه السلام) الّتي قد يرسمها مَن يرسمها ويصوّرها مَن يصوّرها كما يحلو له، فهم حينئذٍ في موقعٍ يُعدّ فيه القتل نجاتهم، ولا يطلق على مَن أنقذته يد القدرة الإلهيّة ب «ينجو».

بل كان بالإمكان التعبير ب : (لا يبقى منهم إلّا وَلدي عليّ)، أو: (لا يتخلّف منهم عن القتل إلّا وَلدي عليّ)، وغيرها من التعابير الّتي لا تستعصي على سيّد الكلام وإمام الفصاحة والبلاغة.

فكلام الإمام (علیه السلام) يعني أنّ الوحيد الّذي سينجو من القتل هو ولده عليّ (علیه السلام) ، فدائرة القتل الّتي خطّها الأعداء محدقةٌ محيطةٌ بهم جميعاً، تطلب خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) أوّلاً، ثمّ الأصحاب بما فيهم أهل البيت، لأنّهم السدّ المنيع المنتصب دون وصول الأعداء إلى الإمام (علیه السلام) .

الومضة الثانية عشرة: خلاصة الكلام

يمكن تقرير خلاصة الكلام المستفاد من السياق:

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ذكر مانعين، ولولاهما لَفعل المعجِز بقتالهم

ص: 105

بالملائكة المنزلين الّذين أراهم للراويَين، ثمّ إنّه ذكر أنّه يعلم علماً يقيناً أنّ مصرعه ومصعده ومصرع أصحابه هناك، حيث الأرض الموعودة في العراق، كربلاء.. سواءً أكان إخباره على نحو تقرير سير الحوادث وتقرير الوقائع، أم على نحو الإخبار الغيبيّ..

ولمّا كان القضاء والقدَر قد نزل وحمّ، والإمام (علیه السلام) لا يريد إلّا ما أراده الله، فهو لا يقاتلهم بالملائكة، وإنّما سيقاتلهم بأصحابه، وهم مجموع أهل بيته وأنصاره، كي لا يفوتهم الأجر ولا يحبط، وسيأتي اليوم الّذي ينتقم فيه الإمام (علیه السلام) وأصحابه من أعدائهم وقتلتهم.. ما هي إلّا فترةٌ وجيزةٌ حتّى تبزغ شمس الحقّ، ويجلجل فجر البشريّة بصبحٍ أبلجٍ تشتفي به صدور المؤمنين.. يوم تتصرّم به السنين الحرم، وترتفع به راية الحقّ خفّاقةً عاليةً، ويتحقّق الغرض الإلهيّ من الخِلقة.. أليس الصبح بقريب؟!

كيف كان، لا نحسب أنّ في النصّ ما يشير _ من قريبٍ ولا من بعيد، تصريحاً ولا تلويحاً _ إلى أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد بيّت الخروج (بالمعنى الاصطلاحيّ)، أو خطّط ليُطعِم نفسه وأصحابه سيوف القوم، ويجعل شراب قناهم من دمائهم الزاكية، و«يُوقِف لحمه على المبضعِ.. ويُطعِم الموت خيرالبنين، من الأكهلين إلى الرضَّعِ.. وخير بني الأُمّ من هاشمٍ، وخير بني الأبِ من تُبّع.. وخير الصحاب!»، لأيّ غرض يمكن أن تصوّره العقول البشريّة الكليلة إزاء المعصوم رغماً عنه، راضياً كان بما يصوّرون أم غير راضٍ.

ص: 106

الومضة الثالثة عشرة: الراويان!

ذكرنا قبل قليلٍ أنّ الراويَين ليسا مؤهَّلَين ذاتيّاً للنظر إلى الملائكة وظهور المعجِز لهما..

فالمعجِز والنظر إلى الملائكة ومشاهدتهم وهم ينزلون ليس بالأمر المتيسّر لأيّ أحد، ولولا الإمام (علیه السلام) وقدرته الّتي خوّله الله بها وكشفِه عن أبصارهما، لَما رأيا الملائكة.

والمعجز قد يُظهِره الإمام (علیه السلام) لتقوية إيمان الآخَر وتثبيته وترسيخ علمه، مع ما في المورد المعايِن من مؤهّلاتٍ وسعة إناءٍ وتسليمٍ وقبولٍ للحقّ، كما كان يفعل الأئمّة (علیهم السلام) مع أصحابهم الميامين، وكما فعل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مع أصحابه الأبرار حين كشف لهم عن منازلهم في الجنّة ليلة عاشوراء.

وربّما أظهر الإمام (علیه السلام) المعجز لإتمام الحجّة واستدراج المجرم، ليرتكس في غيّه وينغمس في أوحال عناده وضلاله، فيكبّه الله على منخريه في النار، فيسدّ عليه طريق النجاة بعد أن يختم الله على قلبه ويطبع علىبصيرته وبصره بغشاوةٍ تؤدّي به إلى الخلود في جهنّم والنيران..

تماماً كما كان يفعل الأئمّة (علیهم السلام) مع أدعياء النار وأئمّة الضلال، وما فعله سيّد الشهداء (علیه السلام) مع أعدائه يوم العاشر، حيث أراهم من آيات ربّه الكبرى وإجابة دعواته، وانقلاب الدراهم في يد حامل الرأس إلى خزفٍ مكتوبٍ

ص: 107

عليه قوله (تعالى): ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ ((1)) ((2))، والمعاجز الّتي ظهرَت من الرأس المقدّس، وغيرها.

هذان الراويان أخبرا أنّ الإمام (علیه السلام) قد كشف لهما حتّى رأيا الملائكة النازلين..

أليس من الأَوفق بهما _ وقد شاهدا بأُمّ عيونهما الملائكةَ تنزل بأمر الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، والتسديدَ الربّانيّ والاتّصالَ الإلهيّ _ أن لا يفارقاه ويلزما ركابه، ليفوزا بالدفاع عنه والذبّ عن آله آلِ الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ؟!

فلماذا تركاه طعام ظبا القوم، وخذلاه، وأعرضا عنه، وأشاحا عن وجهه؟!

إلى أيّ وجهٍ توجّها بعد أن أعرضا عن وجه الله؟بأيّ حبلٍ اعتصما به بعد حبل الله المتين؟

بأيّ عروةٍ تمسّكا بها بعد العروة الوثقى الّتي لا انفصام لها؟

إنّهما رويا بكلّ قحةٍ ما جرى لهما مع الإمام (علیه السلام) ، ثمّ انكفأ كلُّ واحدٍ

ص: 108


1- سورة الشعراء: 227.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مِخنَف (المشهور): 118 _ 121، المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 482 _ 483، أسرار الشهادة للدربنديّ: 486 و492، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 68 _ 70، وسيلة الدارَين للزنجانيّ: 375 _ 376.

منهما، ورجع إلى حياته الحيوانيّة يتقلّب في قيعان الدنيا، كأنّه دودةٌ تتلوّى في أطيان مستنقع سراب الأيّام المحدودة الزائلة بعد حين.

* * * * *

نسأل الله البصيرة النافذة، والإيمانَ الصلب، والرسوخ في أرض الولاية والبراءة، وإحكام القبضة على حَبل الله، وتمكين الإمساك بالعروة الوثقى الّتي لا انفصال لها، والتوجّه إلى وجه الله، وحُسن العاقبة.

ص: 109

ص: 110

قول أبي سلَمة بن عبد الرحمان في خروج الإمام (علیه السلام) !

اشارة

روى ابن سعدٍ وابن عساكر وآخَرون، قالوا:

وقال أبو سلَمة بن عبد الرحمان: قد كان ينبغي لحسينٍ أن يعرف أهلَ العراق ولا يخرج إليهم، ولكنْ شجّعه على ذلك ابن الزبير ((1)).

* * * * *

نكتفي في التعليق على هذا المتن البائس بوصمه بعدّة وصمات:

ص: 111


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلَب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

الوصمة الأُولى: المجاراة!

متى قال أبو سلَمة هذا القول؟

هل كان أيّام إشراق مكّة بنور وجه الإمام (علیه السلام) وتشرُّفها بأقدامه؟

هل كان أيّام خروجه (علیه السلام) من مكّة، أم إبّان الخروج؟

هل كان بعد أن خرج الإمام (علیه السلام) من مكّة قبل وصوله إلى العراق؟

هل كان بعد أن وقعَت الواقعة وارتكبوا الجناية العظمى في تاريخ البشريّة؟

هل كان بعد مُضيّ زمانٍ طويلٍ على عاشوراء ومقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟

لا ندري، ولم نجد مؤشراً في النصّ يمكن أن يلوّح بزمن صدور هذا الهراء المشؤوم من فم هذا الموجود المنكوب المنكوس المتعفّن المتكلّس.

وربّما أفاد السياق أنّه كان بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، كما سنسمع بعد قليل.

بَيد أنّ القوم ذكروه في خضمّ حوادث خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، كما فعل ابن سعدٍ وتبعه مَن تلاه، فجاريناهم على ذلك، سيّما أنّ النصّ يروي لنا رأيَ أبي سلَمة هذا عن خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة بالذات، سواءً أكان قد قاله أيّام خروج الإمام من مكّة أم قاله بعد ذلك بأيّ فترة، فموضوع هلوساته هو الخروج من مكّة، فناسب أن نذكره هنا.

ص: 112

ولا شكّ أنّ كلامه أتفه وأحقر من المكث عنده والوقوف عليه، بيد أنّ ضرورة البحث وأخبار التاريخ ومعرفة الأجواء تضطرّنا إلى ذلك.

الوصمة الثانية: إرسال الخبر!

ذكرنا أكثر من مرّةٍ ما أشرنا إليه تحت عنوان (المدخل) في المجموعة الكاملة عن وقائع سفارة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وكتاب (بنت الحسين رقيّة (علیهما السلام))، وعرفنا هناك أنّ الإسناد لا يهمّنا كثيراً في البحث التاريخيّ، لأسبابٍ ذكرناها ثَمّة.

بَيد أنّ من يعتمد السند ويرتكن إلى قوّته وضعفه ويبني عليه، لا يجد لخبر أبي سلَمة سنداً، وإنّما هو خبرٌ أرسله ابن سعدٍ إرسالاً من دون ذِكر حتّى الراوي المباشر، ونقل عنه مَن جاء بعده.

الوصمة الثالثة: مَن هو أبو سلَمة؟

أبو سلَمة بن عبد الرحمان بن عبد عوف بن الحارث بن زهره بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، الزهريّ القرشيّ.

وأُمّه: تماضر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن حُصين بن ضمضم بن عَديّ بن كلب ((1)).

ص: 113


1- الثقات لابن حبّان: 5 / 1 الترجمة 55.

قيل: اسمه كنيته، وقيل: اسمه عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل.

حدّث عن: أبيه، ويُقال: إنّه مرسل، وعن أُسامة بن زيد، وعبد اللَّه بن سلام، وحسّان بن ثابت، ورافع بن خديج، وأُمّ سلَمة، وابنتِها زينب، وعروة، وعطاء بن يسار، وخلقٍ كثيرٍ من الصحابة والتابعين.

حدّث عنه: ابنه عمر بن أبي سلَمة، وابن أخيه سعد بن إبراهيم، وابن أخيه زُرارة بن مصعب، والشعبيّ، والزهريّ، وسعيد المقبريّ، وخلقٌ كثير.

تولَّى القضاء بالمدينة حين وليها سعيد بن العاص في سنة ثمانٍ وأربعين، فلم يزل قاضياً حتى عُزل سعيد سنة أربعٍ وخمسين.

وكان فقيهاً، كثير الحديث.

ويظهر من أخباره أنّه كان معجَباً بنفسه، فعن عائشة أنّها قالت له: إنّما مَثَلك مَثَل الفرّوج، يسمع الدِّيَكة تصيحُ فيصيح.

وعن عمرو بن دينار قال: قال أبو سلَمة: أنا أفقه مَن بالَ. فقال ابن عبّاس: في المَبارِك.

وعن الشعبيّ قال: قَدِم أبو سلَمة الكوفة، فكان يمشي بيني وبين رجُل، فسُئل عن أعلم مَن بقي، فتمنّع ساعةً، ثمّ قال: رجُلٌ بينكما ...تُوفّي بالمدينة في سنة أربعٍ وتسعين، وقيل: أربعٍ ومئة ((1)).

* * * * *

ص: 114


1- أُنظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 2 / 279.

هذا هو الرجُل باختصار..

يُعدّ فقيهاً من فقهاء القوم، راويةً من رواتهم، مُكثِراً في الرواية..

قاضياً من قضاتهم، كان على قضاء مكّة.. جاء به الوالي.. انزاح حين أزاحوا الوالي.. فهو أداةٌ من أدواته..

مغرور.. متعجرف.. حقير.. خسيس.. ذليل.. راضخٌ للباطل.. مطأطئٌ للطاغوت.. بطر.. تيّاه.. عتيّ.. متغطرس.. مزهوّ.. صلف.. عاتٍ.. متفاخر..

سنعرف _ بعد قليلٍ _ صدق جميع هذه الخصال الذميمة وزيادةً في هذا الوجود المتنافخ المتضخّم حين نسمع كلامه مع سيّد الكائنات وأشرف المخلوقات بعد مَن استثناهم الله وخامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيب الله ورسوله وقلوب المؤمنين.

الوصمة الرابعة: ينبغي لحُسين!

إستخدم الواطي المتسافل أدوات التأكيد: (قد)، (كان)، (ينبغي)، لبيان ما يريد التفوُّه به..حينما تنقلب المقاييس وتنتكس القيَم.. حينما يُسلَّط اللئيم ويُستغرب الكريم.. حينما يتسلّط الهجين الوغد بلؤم الغلبة على الحسيب الأثيل الشريف الجواد.. حينما يكون المعبود صنماً خسيساً، ويكون

ص: 115

كتاب الله مهجوراً، ورسول الله منبوذاً.. عندها ينطق الخبيث الدنيء الجلف الجافي الحقود، ويتكلّم هؤلاء الأوغاد الأنذال..

وإذا ارتجّ الوحل المُنتن، وتحرّك المستنقع الآسِن، فلا يمكن أن ينشر في الأجواء أريجاً وطيباً فائحاً، ولا أن يتضوّع منه شذى العطور.. بل إنّه سيفشي ما في أعماقه من زنخٍ نتنٍ أكثر عفناً من مذر البيض..

مَن هو هذا الضئيل الجافي حتّى يتكلّم بلغة (ينبغي) مع الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة على الخلق مِن قِبل الله (تبارك وتعالى)، ويؤكّد ذلك بقوله: «قد كان»؟!!

ويبدو واضحاً لمن استمع لما يسيح من بين أسنان هذا الوقح، ويتساقط من بين شفتيه المشقّقة بالجفاف والجفاء، مبلغُ الغرور والزهو والقحة وقلّة الأدب الناشئة من غلظة الأكباد والسفاهة والبداوة المتوحّشة..

قد كان ينبغي لحسين!!! هكذا بالاسم المجرّد.. وكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) سيّدُ الخلق وأشرفُ الرسل يخاطبه بالاسم المحلّى بالألف واللام منذ ولادته.. (الحسين)!

الوصمة الخامسة: أن يعرف أهلَ العراق!

حدّد أبو سلَمة متعالياً متكبّراً لسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ما قد كان ينبغي له أن يعرفه.. «أن يعرف أهلَ العراق»..

ص: 116

تكلّم العبقريّ بعبقريّته الصارخة.. الجهبذ بجهبذته المتفتّقة.. وكأنّه يعرف ما خفي على الآخَرين إلّا هو.. ينبغي أن يعرف أهلَ العراق.. وهل بقيَت قرعاء عمياء شوهاء فقماء كليلة في أرجاء الأرض لا تعرف أهل العراق يومذاك؟!

أعرفهم أبو سلَمة، ولم يعرف الإمامُ (علیه السلام) أعلَمُ الخلق بالخلق؟!

الإمام الّذي عاشهم ومارسهم، ولاين مشاكساتهم، وتلمّس غدرهم، وعالجهم، وتحسّس كوامنهم وظواهرهم وسرّهم وعلانيتهم.. بغضّ النظر عن علم الإمامة.

نعق الغراب.. زقح القرد.. عوى الذئب.. نبح الكلب.. فنطق بعد طول تفكيرٍ ليقول: كان ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يعرف أهلَ العراق!!

أتبلغ القحة بأمثال هذه المخلوقات الّتي تتلّوى في أسن الوقاحة، حتّى تتكلّم بهذه اللهجة المتسافلة مع سيّد الخلق وأعلمهم؟!

لله غربتك يا غريب الغرباء!

* * * * *ربّما كان الآخَرون الّذين حضروا بين يدَي الإمام (علیه السلام) أو أسمعوه كلامهم بنحوٍ ما، وهم يذكّرونه _ حسب زعمهم _ غدر أهل الكوفة يومذاك وتقلّبهم وقتْلَهم أباه وطعنهم أخاه، لا يبعد كثيراً في المحصّلة والنتيجة عن كلام أبي سلَمة، والفرق في لغة الخطاب وتوظيف الكلمات وطرق التعبير، ليس إلّا.

أجل، قد تكون للدوافع والنوايا ومقدار المعرفة دورٌ مؤثّرٌ في طُرق

ص: 117

التعبير وإيصال المراد.

الوصمة السادسة: لا يخرج إليهم!

ربّما أفاد السياق ولحن الشماتة الّذي يرشح من بين الكلمات، أنّ كلام هذا الجرذ المتنافخ كان بعد خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، بل بعد استشهاده، كما يفيد النسق في قوله: «قد كان ينبغي.. ولا يخرج إليهم.. ولكن شجّعه..».

كأنّ هذا المخلوق أراد أن يدلّل في كلامه استدلالاً مبطّناً على خطأ الإمام المعصوم (علیه السلام) ، فاستدلّ بأنّ الإمام (علیه السلام) لم يعمل بما كان ينبغي له أن يعمل به من معرفة أهل العراق قبل الخروج إليهم، وأنّه أقدم على ما أقدم عليه تحت تأثير ابن الزبير وتشجيعه..

ولا ندري هل نسي ما رواه هو نفسه بألفاظٍ شتّى عن أُمّه وسيّدتهعائشة؟

فقد روى الشيخ الطوسيّ مسنَداً عن أبي سلَمة، عن عائشة:

أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أجلس حُسيناً على فخذه فجعل يقبّله، فقال جبرئيل: أتحبّ ابنك هذا؟ قال: «نعم». قال: فإنّ أُمّتك ستقتله بعدك! فدمعَت عينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقال له: إنْ شئتَ أريتُك من تربته الّتي يُقتَل عليها. قال: «نعم». فأراه جبرئيل (علیه السلام) تراباً من

ص: 118

تراب الأرض الّتي يُقتَل عليها، وقال: تُدعى الطفّ ((1)).

وفي لفظٍ آخَر، عنه، عن عائشة:

إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أجلس حُسيناً على فخذه، فجاء جبريل إليه فقال: هذا ابنُك؟ قال: «نعم». قال: أما إنّ أُمّتك ستقتله بعدك! فدمعَت عينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقال جبريل: إنْ شئتَ أريتُك الأرضَ الّتي يُقتَل فيها. قال: «نعم». فأراه جبريل تراباً من تراب الطفّ ((2)).

وفي لفظٍ ثالث، بالإسناد عن أبي سلَمة، عن عائشة قالت:

كانت له مشربةٌ، فكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) إذا أراد لِقى جبريل لقيه فيها، فلقيه رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) مرّةً من ذلك فيها، وأمر عائشةَ أن لا يصعد إليه أحَدٌ، فدخل حسين بن عليّ، ولم تعلم حتّى غشيها، فقال جبريل: مَن هذا؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «ابني». فأخذهالنبيّ (صلی الله علیه و آله) فجعله على فخذه، فقال: أما أنّه سيُقتَل! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «ومَن يقتله؟»، قال: أُمّتك. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «أُمّتي تقتله؟»، قال: نعم، فإنْ شئتَ أخبرتُك الأرضَ الّتي يُقتَل بها.

ص: 119


1- الأمالي للطوسيّ: 316 ح 642، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 230، العوالم للبحرانيّ: 17 / 126، المعجَم الأوسط للطبرانيّ: 6 / 249.
2- أُنظر: سيرتنا وسنّتنا للعلّامة الأمينيّ: 86 _ عن: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 159، مجمع الزوائد للهيثميّ: 9 / 187، الصواعق لابن حجَر: 115، الخصائص للسيوطيّ: 2 / 125، كنز العمّال للهنديّ: 6 / 223.

فأشار له جبريل إلى الطفّ بالعراق، وأخذ تربةً حمراء فأراه إيّاها، فقال: هذه من تربة مصرعه ((1)).

أما كان قد ينبغي له أن يذكر ما رواه هو، ليعيد النظر في كلامه؟ أيكذّب اللهَ وجبرائيل ويكذّب رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) ؟ وهو لا زال فقيهاً من فقهائهم، وراويةً من رواتهم، ووجهاً في قضاتهم؟

الوصمة السابعة: تشجيع ابن الزبير!

بعد أن تشدّق هذا المخلوق بما قد كان ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يعرفه من أهل العراق وترك الخروج إليهم، قال: ولكن شجّعه على ذلك ابن الزبير! ((2))

كأنّه يريد أن يسرّب إلى ذهن المتلقّي أنّ الإمام (علیه السلام) كان سيخرج إلى أهل العراق وإن كان يعرفهم ويعرف غدرهم، وذلك أنّه (علیه السلام) وقع تحت تأثير تشجيع ابن الزبير!

ص: 120


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 45 الرقم 270، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 194.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

نستغفر الله، ونعتذر من مليكنا وحبيب قلوبنا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) من هذا الكلام، ولكنّها قحة القوم وصلافتهم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

* * * * *

ينمّ هذا الكلام عن مدى جهل القائل، وتباعدِه عن الأحداث وعيشه خارج الوقائع، وانعزاله وتقوقعه على ذاته وانطلاقه منها..

لقد أجمع المؤرّخون والرواة، واتّفق القريب والبعيد والشاهد والغائب أنّ الإمام (علیه السلام) كشف لابن الزبير زيفه وكذبه وتمنّيه خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وأنّ الإمام (علیه السلام) لم يقبل من ابن الزبير..

مَن هو ابن الزبير حتّى يؤثّر على الإمام (علیه السلام) ، ويغيّر مساره وعزمه وخياراته؟!

لقد أتينا على بيان ذلك مفصّلاً فيما مضى من الدراسة، فلا حاجة للإعادة.

تفاهة قول أبي سلَمة وسخافة عقله وحماقته وطيشه في الكلام ونزقه في التقدير وخطله في التفكير وزلله في التعبير، يمنع العاقل من الاسترسال معه ومناقشته في مِثل هذه الفرية المقذعة الخرقاء البليدة الركيكة الّتي لا تصدر إلّا من أهبلٍ أرعنٍ أنوك.

ص: 121

الوصمة الثامنة: محاولات تخطئة الإمام (علیه السلام) !

يُلاحَظ فيما يرويه لنا المؤرّخ ويقرّره السلطان في رواية أخبار الملاحقين للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) والمعترضين عليه، أنّهم جميعاً يحاولون بشتّى الوسائل وعلى مختلف الألسنة والمواقف، من الأقرباء مثل ابن عبّاس، والبعداء كابن عمر وغيره، والفقهاء من قبيل أبي سلَمة وغيره، والشعراء مثل الفرزدق، والنساء والرجال، والحكّام والمحكومين، وغيرهم..

الجميع يتّفقون على محاولة تخطئة الإمام المعصوم سيّد الشهداء (علیه السلام) في أمرَين:

أحدهما: الخروج على الحاكم.

والآخَر: اختيار العراق واستعجال الخروج من مكّة.

هكذا هم يصوّرون المشهد من خلال اتّفاقٍ وتوجيهٍ من قِبل السلطان، وربّما كان بعضهم وقع تحت تأثير الجوّ الإعلاميّ السائد يومذاك، أو قرأ المشهد من خلال ما ضخّوه من انفعالات..

بدأ برسم المشهد المضلّل أوّلُ ظالمٍ أزاح الحقّ عن محلّه وأبعد أمير المؤمنين عن موقعه الّذي اختاره الله له، ثمّ تتابع القوم حتّى وصلَت النوبة إلى نغل معاوية، فألقى بذرة النفاق والتضليل لتشويه الصورة وتلويث الأجواء، ثمّ تتابع القوم على ذلك.إذ أنّ الإمام (علیه السلام) لم يصرّح ولم يُعثَر له على موقفٍ _ في المدينة ومكّة

ص: 122

على الأقلّ، حيث نحن الآن نتابع الأحداث _ ما يفيد الخروج على الحاكم!

أجل، صرّح عدوّه بذلك، وتبعه مَن أطاعه، أو قرأ المواقف من خلال الجوّ العامّ الّذي أوجده الإعلام المعادي.

واستعجاله (علیه السلام) الخروج من مكّة، فهمه القومُ استعجالَ الخروج على الحاكم، واستعجالَ الوصول إلى الكوفة والأنصار المزعومين.. هكذا صوّروه وأذاعوه، وعلى هذا الأساس تعاملوا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وعارضوه.

والإمام (علیه السلام) يصرخ فيهم مرّةً بعد أُخرى وساعةً بعد أُخرى، في جميع المواقف والمواطن والمشاهد، إنّه إنّما يستعجل الخروج من مكّة ويسابق الزمن ويحسب للأيّام والساعات ويترك البيت الحرام والمشاعر المقدّسة أيّام الحجّ والمناسك لأنّه إنْ بقي فيها يُقتَل.. يُقتَل.. يغتاله العدوّ.. أو يأخذه أخذاً..

هذه حقيقةٌ جازمةٌ قاطعةٌ، لا شكّ فيها ولا تغبيش، ولا تعمية ولا تشويش..

لماذا يسمع الناسُ كلَّ مَن هبّ ودبّ، ولا يصغي أحدٌ للإمام (علیه السلام) لحظة؟!واختياره العراق دون غيره؛ لأنّ الآفاق قد سدّها العدوّ، فلم يجعل له سوى أُفُق العراق، وقد خذله أهلُ الأرض، وتقاعس عنه أهل الأمصار، وتقاعد أهل البلدان، وتثاقلَت العشائر والقبائل، وصمّت أسماعها وفقأت أعينها..

ص: 123

ليس له إلّا العراق الّذي يتسامع الناس منه زعقاتٍ تشبه صرخات النصرة، وفيه الكنز المخفيّ الّذي كان ينتظر إعلان ساعة الانطلاق إلى السعادة الأبديّة بالوقوف ردءاً وسوراً منيعاً دون بني فاطمة الشريفة، وهم أقلّيّة.. أقلّيّةٌ قليلةٌ جدّاً بحساب العدد.. بَيد أنّهم أنصارٌ حقيقيّون، يحسب عليهم الإمام (علیه السلام) ، ويتحسّب منهم العدوّ... فقصد العراق!

الوصمة التاسعة: خطورة رأي القائل

روى أبو سلَمة عن خلقٍ كثير، وروى عنه خلقٌ كثير.. يمكنك أن تجد اسمه متداولاً في أُمّهات كتب القوم ممّا يسمونها: (الصحاح)، وتسرّب لأغراض الاحتجاج والإلزام وغيرها إلى كتبنا.. ووجوده في كتبنا لا يعني أنّه من تراثنا، فتراث الشيعة _ أعزّهم الله وكثّرهم _ إنّما هو ما يرويه شيعيٌّ عن شيعيٍّ عن الإمام المعصوم (علیه السلام) !

راويةٌ مكثِرٌ كأبي سلَمة.. يعدّه القوم من كبراء فقهائهم، وله فتوىً وآراءٌ كثيرةٌ منتشرةٌ في كتبهم، وقد أكثر الفتوى حتّى نقل عنه الشيخالطوسيّ _ أعلى الله مقامه _ أربع فتاوى ((1)) في كتبه الشريفة.

راويةٌ مكثِر، وفقيهٌ عند القوم.. نزا على كرسيّ القضاء في مكّة بأمر

ص: 124


1- أُنظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 2 / 279.

الوالي ((1)).

فهو: راوٍ، فقيهٌ، قاضٍ.. عند القوم.

يعني أنّه مؤهَّلٌ عندهم تمام التأهيل ليطلق حكمه على مَن يشاء مِن خلق الله، ويُفتي في الدماء والأعراض.

وإطلاقه رأياً كمِثل هذا الرأي البائس في سيّد الشهداء (علیه السلام) ، يُعدّ بمثابة إصدار فتوىً بقتله، وتحمُّل مسؤوليّة دم ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذي سكن الخلد ودماءِ أهل بيته وأنصاره الزاكية، وتجويز ما وقع من القوم من ظلمٍ وجَورٍ واعتداءٍ على عرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته ونسائه وأطفاله (علیهم السلام) ..

هنا تكمن خطورة إطلاق هذا الرأي من مِثل هذا المخلوق!

ويبدو أنّ العدوّ قد وظّف سابقاً ولاحقاً أقوال وآراء المعارضين من ذوي الوجاهة عند القوم، وقد سمعنا مواقف بعضهم فيما مضى، في التحشيد والتجييش ضدّ الإمام (علیه السلام) ، والتسويغ والتبرير والتسويق للظالم وتجويز ما وقع منه.

الوصمة العاشرة: كلامه ليس مع الإمام (علیه السلام)

لا يخفى على المتلقّي أنّ كلام أبي سلَمة هذا هو نفخٌ في الهواء، تكلّم وحده وأبدى رأيه لنفسه، ولم يكن موقفاً مع الإمام (علیه السلام) ولا حديثاً معه،

ص: 125


1- أُنظر: موسوعة طبقات الفقهاء: 2 / 279.

وإنّما حصل في غياب الإمام (علیه السلام) ومَن معه.

لا ندري ما هي العلّة الّتي قعدَت به والسبب الّذي عوّقه عن الحضور بين يدَي الإمام (علیه السلام) والحديث معه مباشرةً، مع ما يدّعيه هو في نفسه؟!

لذا لا يمكن حمل كلامه إلّا على سوء الظنّ به، وفهمه ضمن إطار الكلمات المعادية والمواقف الشامتة والتحرّكات الضارّة المؤذية.

ولمّا كان كلامه لا قيمة له، فكلامه هنا أَولى بالسقوط والتهافت والإعراض عن مناقشته وردّه، وإنّما ذكرناه دفاعاً عن سيّدنا ومولانا ومليكنا وإمامنا وشفيعنا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) حبيب الله وحبيب قلوب المؤمنين.

ويكفي لمعرفة جواب الإمام (علیه السلام) عليه لو كان حاضراً، ما سمعناه في ردوده الرصينة الحكيمة المتينة الصائبة القويّة الّتي أجاب بها غيرَه من المعترضين وأمثاله من المعتدين الشامتين.

ص: 126

كتاب المسوّر بن مخرمة إلى الإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

وكتب إليه المسوّر بن مخرمة: إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق! ويقول لك ابن الزبير: الحقْ بهم؛ فإنّهم ناصروك. إيّاك أن تبرح الحرم، فإنّهم إنْ كانت لهم بك حاجةٌ فسيضربون إليك آباطَ الإبل حتّى يوافوك، فتخرج في قوّةٍ وعدّة.

فجزّاه خيراً، وقال: «أستخير الله في ذلك» ((1)).

ص: 127


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

* * * * *

المسوّر وكتابه لا قيمة لهما ولا وزن يؤهّلهما لاستحقاق التوقّف الطويل عندهما ومحاولة اكتشاف مغازيهما، بَيد أنّ ورود الخبر في المصادر اقتضى المكث ولو قليلاً، وربّما أفاد هذا المكث استكشاف فضاضة المسوّر وقحته وسخفه، لذا سنتناول كتابه من خلال الضربات التالية:

الضربة الأُولى: مَن هو المسوّر؟

اشارة

المسوّر بن مخرمة بن نوفل بن أُهيب بن عبد مَناف بن زهرة بن كلاب ابن مُرّة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب، الزهريّ القرشيّ، مكّيّ.

ابن أُخت عبد الرحمان بن عوف..

ابن عمّ سعد بن أبي وقّاص..

كنيته: أبو عبد الرحمان..

اتّفقوا على مولده فقالوا: كان مولده بمكّة لسنتين بعد الهجرة ((1))..

اتّفقوا أيضاً أنّه قُدم به المدينة سنة ثمانٍ عام الفتح، وهو ابن ستّ سنين، وقالوا: كان صغيراً في عهد النبيّ (صلی الله علیه و آله) ((2)).

ص: 128


1- أُنظر: الثقات لابن حبّان: 3 / 394، مشاهير علماء الأمصار لابن حبّان: 43، الجرح والتعديل لسليمان المالكيّ: 2 / 823.
2- أُنظر: الجرح والتعديل للرازيّ: 8 / 297 الرقم 1366، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 162، التاريخ الكبير للبخاريّ: 7 / 410.

كان من كبراء القوم ورواتهم عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) رغم صغر سنّه، فهو قد عاش في المدينة أيّام صباه، إذ دخلها وهو ابن ستّ سنين عام الفتح، وبعد سنتين انتقل النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى الرفيق الأعلى، فيكون عمره يوم استشهاد النبيّ (صلی الله علیه و آله) ثمان سنين، لا أكثر، بالاتّفاق.

كان من الّذين يتفقّهون بالمدينة بعد الصحابة ((1)).

ويمكن استعراض بعض المفاصل المهمّة في حياة المسوّر كإشاراتٍ سريعة، لأنّه ليس من صلب موضوع بحثنا، وإنّما نضطرّ أحياناً للوقوف عند أمثال هؤلاء لنعرفهم ولو معرفةً إجماليّةً تساعدنا على استجلاء موقفهم مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وتقييم أقوالهم وكتبهم، لا أكثر.

المفصل الأوّل: روايته عن النبيّ (صلی الله علیه و آله)

سمعنا قبل قليلٍ أنّ القوم اتّفقوا على سنة ولادته وسنة الانتقال به إلى المدينة المنوّرة، ومدّة إقامته في مدينة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهي لا تتجاوز السنوات الستّة الأخيرة من حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقد رحل النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعمر المسوّر لا يتجاوز الثمان سنين.

فهو كان طفلاً صغيراً يوم دخول المدينة، وكان صبيّاً صغيراً يوم رحيل

ص: 129


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 166.

النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ولا ندري كيف كان قد تحمّل الرواية عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وهو في هذا السنّ الصغير، من دون أن يُسدَّد بدعوةٍ أو يُعرَف بشيءٍ استثنائيٍّ من ذكاءٍ وفطنةٍ وقوّة حافظة؟!!

المفصل الثاني: مع عمر

كان المسوّر يقول: كنّا نلزم عمر بن الخطّاب نتعلّم منه الورع ((1)). فكان ممّن يلزم عمر ويحفظ عنه ((2)).

وروى عن عمر وعن أبي بكر وعثمان وعبد الرحمان بن عَوف وأبي هريرة ومعاوية بن أبي سفيان ((3)).

وكان يرى أنّ علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان قد انتهى إلى ستّة، أوّلهم عمر، ثمّ عثمان، وعليّ، ومعاذ بن جبل، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت ((4)).

لزم عمر يتعلّم منه العلم والورع، ويروي عنه، ويرى أنّ علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد انتهى إليه، ولم يلتزم العروة الوثقى الّتي لا انفصام لها، ولم يتمسّك بشجرة طوبى، ولم يقف على باب علم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ومَن عِلمُه

ص: 130


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 288.
2- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 161، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 391.
3- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 158.
4- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 39 / 181.

علمُه، ودمُه دمُه، ولحمُه لحمُه، وقولُه قولُه.. وأعرض عن أصحاب الكساء الأربعة (علیهم السلام) الّذين جعل النبيّ (صلی الله علیه و آله) سِلمَهم سلمَه وحربَهم حربَه.

وهذا القدر من الكلام زيادةٌ لمن عرف معاريض الكلام وألقى السمع وهو شهيد، وسمع بحديث الثقلين والغدير المتواترَين.

المفصل الثالث: حضوره في الغزوات

لم يكن المسوّر رجلَ روايةٍ وعلمٍ وانتهى، كما يزعمون فيه، وإنّما كان رجلاً قد مارس القتال _ حسب زعمهم _ وحضر بعض الغزوات، فقد قَدِم مصر سنة سبعٍ وعشرين لغزو المغرب ((1)).

وكان له حضورٌ يوم القادسيّة، فقد روَتْ عنه ابنته أُمّ بكرٍ أنّه وجد يوم القادسيّة إبريقَ ذهبٍ عليه الياقوت والزبرجد، فلم يدرِ ما هو! فلقيه فارسيٌّ فقال: آخذه بعشرة آلاف. فعرف أنّه شيء.

فذهب به إلى سعد بن أبي وقّاص وأخبره خبره، فنفله إيّاه، وقال: لا تبِعْه بعشرة آلاف! فباعه له بمئة ألف، فدفعها إلى المسوّر، ولم يخمّسها! ((2))

وسنسمع بعد قليلٍ جلاده ومشاركته القتال مع ابن الزبير.

ص: 131


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 163.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 170.

المفصل الرابع: مع خاله عبد الرحمان بن عَوف

كان هائماً في حبّ خاله عبد الرحمان بن عَوف، حتّى بلغ به الأمر أنّه أُغمي عليه حينما حضرته الوفاة، ثمّ أفاق، فقال: أشهدُ أن لا إله الّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله (صلی الله علیه و آله) أَحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها، عبدُ الرحمان بن عَوفٍ في الرفيق الأَعلى ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَوَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ ((1)) ((2)).

وكان يروي عن عثمان أنّه ناداه وقال: يا مسوّر! فقلت: لبّيك يا أمير المؤمنين! فقال: مَن زعم أنّه خيرٌ من خالك في الهجرة الأُولى وفي الهجرة الثانية، فقد كذب! ((3))

أقول: وأنا أشهدُ أنّ عثمان قد كذب، وأنّ المسوّر قد كذب!

ولم يزل مع خاله عبد الرحمان مُقبِلاً ومُدبِراً في أَمر الشورى ((4)).

المفصل الخامس: رسول عثمان إلى معاوية

كان المسوّر قد قَدِم دمشق بريداً من عثمان، يستصرخ بمعاوية

ص: 132


1- سورة النساء: 69.
2- أُنظر: تهذيب التهذيب لابن حجَر: 2 / 185.
3- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 35 / 253.
4- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 160، أُسد الغابة لابن الأثير: 4 / 365.

ويستدعيه إليه لأجل الّذين حصروه ((1)).

فهو ليس ممّن قعد في فتنةٍ عمياء صمّاء جرّت على المسلمين الويلات، وكان له فيها يدٌ ورجْل.

المفصل السادس: تعظيمه لمعاوية

كان المسوّر ممّن يعظّم معاوية ويدخل عليه، ويُكنّ له من التقديس والاحترام والتعظيم ما يجعله في صفّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) عنده، أو أنّه يحاول أن يُضفي عليه صبغة من القداسة أَمام المسلمين، فكان إذا ذكر معاويةصلّى عليه، فقد قال عروة: فلم أسمع المسوّر ذكر معاوية إلّا صلّى عليه ((2)).

وروى الخطيب في تاريخ بغداد ذيل قصّة دخول المسوّر على معاوية، أنّه لم يسمع المسوّر بعد ذلك يذكر معاوية إلّا استغفر له ((3)).

المفصل السابع: مرجعيّة الخوارج

إمتاز الخوارج بحدّيّتهم وتعصّبهم وجمودهم ووحشيّتهم، وقد نثروا التكفير نثراً حتّى ما نجا منهم أحدٌ من عباد الله سابقاً ولاحقاً، وكانوا

ص: 133


1- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 391، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 158.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 168، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 151، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 5 / 246.
3- تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ: 1 / 223.

يكفّرون الناس لأتفه الأسباب، بل لَطالما كفّروا المسلمين لا لسبب، فهم لا يرتضون أحداً من غير ملّتهم، ولا يقبلون بأحدٍ قبل أن يقول بمقالتهم اعتقاداً وعملاً..

فإذا ارتضوا أحداً وعظّموه وانتابوه وأكثروا غشيانه وانتحلوا رأيه والأخذ عنه ومنه، فهو لابدّ أن يكون من المتوغّلين في ضلالهم، والممعِنِين في عدائه لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) .

وكان المسوّر مرجعاً للخوارج، ينتابونه ويعظّمونه وينتحلون رأيه ويغشونه ((1)).

المفصل الثامن: بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

لا يهمّنا كثيراً موقف المسوّر بعد شهادة الإمام سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) بعد أن عرفنا موقفه قبل شهادته، بَيد أنّ في بعض النماذج الّتي نسمعها تتميماً للصورة المعتمة والمشهد البائس الّذي رسمه المسوّر من خلال خذلانه وانجحاره وقعوده عن نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) .

ويكفي في تكوين الصورة الإشارة إلى بعض المواقف:

ص: 134


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 160، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 391.
الموقف الأوّل: مع الإمام السجّاد (علیه السلام)

روى البخاريّ في (التاريخ الصغير) قائلاً:

قال الزبيديّ: أخبرَني محمّد بن مسلم أنّ عليّ بن الحسين أخبره أنّهم لمّا رجعوا من الطفّ، وكان أتى به يزيد بن معاوية في رهطٍ هو رابعهم، قال عليّ: «فلمّا قدمنا المدينة، جاءني مسوّر بن مخرمة الزهريّ، قال: ادفعوا إليّ سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمنعه لكم» ((1)).

ورُوي:

أنّ المسوّر بن مخرمة لقي الإمام زين العابدين (علیه السلام) ، فقال له: هل لك إليّ مِن حاجةٍ تأمرني بها؟ فقال له: «لا». فقال له: فهل أنتمُعطِيَّ سيف رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) ؟ فإنّي أخافُ أن يغلبك القوم عليه، وأيمُ اللّه لَئن أعطيتنيه لا يُخلص إليهم أبداً حتّى تبلغ نفسي.

ثمّ روى له على الفور قصّة خطبة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ابنة أبي جهل على سيّدة النساء فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، وما سمعه من النبيّ (صلی الله علیه و آله) في فاطمة (علیها السلام) ((2)).

أعرضنا عن ذكر الخبر مفصّلاً، واختصرناه عن عمدٍ وقصد، ففي تتمّته من الهراء والإفك والباطل والحماقة والخطَل والخرق والركاكة والسخافة، ما يقفّ له الشعر ويقزّز النفس، وفيه من الكذب ما يبعث على الغثيان

ص: 135


1- التاريخ الصغير للبخاريّ: 1 / 247.
2- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 393، أُسد الغابة لابن الأثير: 4 / 366.

والتهوّع.

ولا ندري ما علاقة كلامه ونسجه كذبته المفترعة المقذعة الهابطة ونقله قصّته المنحطّة وخبره المأفوك الّذي حاكه في خطبة أمير المؤمنين (علیه السلام) لابنة عدوّ الله برجوع الإمام زين العابدين (علیه السلام) المفجوع بأبيه وأهل بيته وأصحابه، الّذي وصل توّاً من رحلة السبي المضنية إلى المدينة، فاستقبله المسوّر بهذه الحكاية المهلهلة التافهة!!

نحن لسنا بصدد إثبات كذب حكايته المتهرّئة، فقد انبرى لإثبات ذلك بكلّ الوسائل العلماءُ وذوو الخبرة، والّذي يهمّنا هنا بيان طيش هذاالأرعن.

فهو قد واجه الإمام (علیه السلام) العائد من رحلة القتل والسبي.. بقيّة السيف.. بوجهٍ كالحٍ جهمٍ شتيمٍ عبوسٍ عصيبٍ قاطبٍ متجهّمٍ مكفهر.. لم نسمع منه كلمة تعزيةٍ ولا سلوة..

لم نسمع منه استرجاعاً ولا حوقلة..

لم نسمع منه تكبيتاً وتوبيخاً للعدوّ.. وكيف يوبّخ ابنَ مَن كان لا يذكره إلّا أن يصلّي عليه ويستغفر له!

لم تندَ منه دمعةٌ ولا موقفٌ شفيفٌ ينمّ عن تأثُّرٍ بالفاجعة العظمى الّتي حلّت بالإسلام والمسلمين، وأتت على آل بيت رسول ربّ العالمين..

جاء إلى الإمام (علیه السلام) قرينِ الدمعة الساكبة وشاهدِ المصيبة الراتبة، وباشر باستعلاءٍ ليقول: هل لك إليّ حاجة! وهو في الحقيقة يريد أن يدلف

ص: 136

إلى حاجته هو من خلال هذا السؤال..

جاء ليتمّم السلب والنهب.. فإن ترك العدوّ الغاشم سيفَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولم يسلبه، فهو يطمع فيه!

يبدو أنّه كان يعلم أنّ الأعداء لن يصلوا إلى سيف النبيّ (صلی الله علیه و آله) .. يعلم أنّ سيف النبيّ (صلی الله علیه و آله) لابدّ أن يبقى بيد أولاده..

جاء يطلب سيف رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليحميه؟! لئلّا يصل إليه القوم؟!!

عجبٌ _ واللهِ _ لا ينقضي من هؤلاء الأوغاد.. يريد أن يحمي سيفرسول الله (صلی الله علیه و آله) حتّى لا يصل إليه أحد.. وهو قد ترك لحم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقفاً لشفار القوم وسيوفهم ودريّةً لسهامهم ورماحهم..

يبحث عن الفخر في موضعٍ حرّمه الله عليه وعلى سائر العالمين، وخصّ به محمّداً (صلی الله علیه و آله) وآلَه الطاهرين..

أيريد أن يخدع الإمام زين العابدين (علیه السلام) ؟! أجنونٌ هذا أَم قحة؟ صلافةٌ أَم اجتراءٌ على الله ورسوله وأماناته؟!

أكان ينتظر أن يُقتَل الإمام (علیه السلام) ريحانةُ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ليتطاول على ميراثه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيبتزّه، فيأخذ من الإمام زين العابدين (علیه السلام) بالحيلة ما عجز عن أخذه قتَلَةُ أبيه عنوة؟!

لا ندري كيف يمكن للعاقل أن يقف عند هذا الموقف اللئيم.. الموقف الخسيس.. الموقف الوقح.. وماذا يمكن أن يعلّق عليه.. ففي نباهة القارئ ما يُغني عن ذلك.. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

ص: 137

أجل، عرفنا أنّه يريد أن يحوز سيف النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويحميه، فما علاقة هذا بقصّته المشؤومة؟! أكان يريد أن يغيض الإمام (علیه السلام) الّذي منعه ما يريد، فعرّج على سفالاته وأكاذيبه، فحكاها بين يدَي الإمام (علیه السلام) ليحرق قلبه حين يتعرّض لجدّه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أم كان يريد الكشف عن هويّته وهواه في بغض أمير المؤمنين (علیه السلام) ؟!ألا لعنة الله على الظالمين.

الموقف الثاني: تركيزه على تأثير ابن الزبير على الإمام الحسين (علیه السلام)

روى ابن جريجٍ قائلاً:

وكان المسوّر بن مخرمة بمكّة حين جاء نعيُ الحسين بن عليّ، فلقي ابنَ الزبير، فقال: قد جاء ما كنتَ تمنّى، موتُ حسين بن عليّ. فقال ابن الزبير: يا أبا عبد الرحمان، تقول لي هذا؟ فوَاللهِ ليتَه بقي ما بقي بالحمى حجَر، واللهِ ما تمنّيتُ ذلك له.

قال المسوّر: أنت أشرتَ إليه بالخروج إلى غير وجه! قال: نعم، أشرتُ عليه، ولم أدرِ أنّه يُقتَل، ولم يكن بيدي أَجَلُه، ولقد جئتُ ابنَ عبّاسٍ فعزّيتُه، فعرفتُ أنّ ذلك يثقل عليه منّي، ولو أنّي تركتُ تعزيته قال: مثلي يُترَك؟ لا تعزّيني بحسين؟ فما أصنع؟! أخوالي وغِرةُ الصدور علَيّ، وما أدري على أيّ شيءٍ ذلك.

فقال له المسوّر: ما حاجتُك إلى ذِكر ما مضى وبثّه، دَعِ الأُمور تمضي،

ص: 138

وبرّ أخوالك، فأبوك أحمَدُ عندهم منك ((1)).

هكذا هو المسوّر، قد اقتنع بابن الزبير حتّى ظنّ أنّه الرجل القويّالفاعل الّذي يمكنه أن يؤثّر على الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) فيبني له موقفه، ويمكنه أن يتشيطن على الإمام (علیه السلام) سيّد الكائنات حتّى يخدعه _ والعياذ بالله! _ فيوجّهه حيث يشاء، ليزيحه عن طريقه ويتفرّد بالمشهد، فيحصد ما يريد ويحقّق آماله، فينزو على المنبر.

وهو قد أخطأ في التقديرَين، فلا ابن الزبير بالمستوى الّذي تصوّره له، ولا الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يمكن أن يتصوّر فيه عاقلٌ ما تصوّره المسوّر.

بيد أنّ هذه القناعة الّتي عبّر عنها المسوّر لابن الزبير كأنّها قرارٌ ثابتٌ عند المسوّر، فقد أعرب عنها يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، فقد روى المزّيّ قائلاً:

وخرج الحسين وعبد الله بن الزبير من ليلتهما إلى مكّة، وأصبح الناس فغدوا على البيعة ليزيد، وطُلب الحسين وابن الزبير فلم يوجدا.

فقال المسوّر بن مخرمة: عجّل أبو عبد الله، وابنُ الزبير الآن يلفته ويزجيه إلى العراق؛ ليخلوا بمكّة ((2)).

ص: 139


1- تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 441.
2- تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 415.

ثمّ عاد ليكرّرها في كتابه الّذي كتبه لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما سنسمع بعد قليل.

الموقف الثالث: بكاؤه على الإمام الحسين (علیه السلام) !

رُوي في (الدعائم)، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال:

«نيح على الحسين بن عليٍّ سنةً كاملةً كلّ يومٍ وليلة، وثلاث سنين من اليوم الّذي أُصيب فيه».

وكان المسوّر بن مخرمة وأبو هريرة وتلك الشيخة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأتون مستترين متقنّعين، فيسمعون ويبكون ((1)).

رواه الميرزا النوريّ في (المستدرك) إلى قوله: «أُصيب فيه» ((2)).

وفي (شرح الإحقاق) للسيّد المرعشيّ:

وعن جعفر بن محمّد، عن أبيه (علیهما السلام) قال: «نيح على الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) ثلاث سنين _ يعني الجنّ _، وفي اليوم الّذي قُتِل فيه».

وعن واثلة بن الأسقع والمسوّر بن مخرمة والمشيخة من أصحاب رسول الله _ صلّى الله عليه وآله وبارك وسلّم _، يجيئون مقتنعين، فيستمعون النوحَ ويبكون ((3)).

ص: 140


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان: 1 / 227.
2- مستدرك الوسائل للنوريّ الطبرسيّ: 2 / 387.
3- شرح إحقاق الحقّ للسيّد المرعشيّ: 33 / 761.

فربّما كان كلام الإمام الصادق (علیه السلام) الّذي رواه صاحب (الدعائم) ينتهي إلى قوله: «أُصيب فيه»، تماماً كما روى صاحب (المستدرك).

وربّما شهد لذلك السياق في بحث صاحب (الدعائم)، إذ أنّه ساقحديث الإمام الصادق (علیه السلام) ضمن الحديث عن جواز النياحة، واستمرّ في ذكر الشواهد، فقال:

وعن جعفر بن محمّدٍ (علیه السلام) أنّه قال: «نيح على الحسين بن عليٍّ سنةً كاملةً كلّ يومٍ وليلة، وثلاث سنين من اليوم الّذي أُصيب فيه».

وكان المسوّر بن مخرمة وأبو هريرة وتلك الشيخة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يأتون مستترين ومقنَّعين، فيسمعون ويبكون.

وقد شاهدنا بعض الأئمّة (علیهم السلام) نيح عليهم، وبعضَهم لم يُنَح عليهم، فمن نيح عليه منهم فلِعظم رُزئه، لأنّ الله (عزوجل) لم يسو بأحدٍ منهم أحداً من خلقه، وهم أحقّ بالبكاء والنياحة عليهم، على خلاف سائر الناس الّذين لا ينبغي ذلك لهم ...

إلى أن قال:

وقد ذكرنا مِن ذلك طُرفاً في هذا الباب ((1)).

فلا يبعد أن تكون زيادة بكاء المسوّر وأبي هريرة من كلام صاحب (الدعائم)، وليست من كلام الإمام (علیه السلام) ، وحينئذٍ فلا ضرورة لتتبُّعه

ص: 141


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان: 1 / 227.

والبحث في دلالاته.

ولكن على فرض أنّه من كلام الإمام (علیه السلام) ، رغم بُعده قوياً، فإنّ إتيان المسوّر متقنّعاً متستّراً متخفّياً ليسمع نياحة أهل البيت ويبكي، ليس بالأمرالّذي يكشف عن موقفٍ إيجابيٍّ بعد أن عرفنا مواقفه من أمير المؤمنين وسيّد الشهداء الحسين (علیهما السلام) ، وقد فعلها مروان _ كما روى أبو الفرَج الأصفهانيّ _ حين كان يأتي البقيع فيستمع نُدبة أُمّ البنين (علیها السلام) ويبكي ((1)).

فنياحة آل البيت سنةً كاملةً ليلاً ونهاراً تهدّ الجبال الرواسي وتصدّع القلوب، وهؤلاء الأوغاد ربّما حُملت أفعالهم على محامل لا تفيد التأثّر والانفعال، بل ربّما يمكن حملها حتّى على الشماتة والتشفّي وبكاء الفرح ((2))، سيّما إذا شكّكنا في سبب التخفّي والتستُّر والتقنُّع.

ونياحة الثاكل الفاقدة لا تُحتمَل، كيف بنياحة الفاقدات الثواكل اللواتي فقدن شموس الأرض والسماء وأقمارها والنجوم الزواهر؟!

فإنْ كان المسوّر يأتي ليستمع الندبة ويبكي على الإمام الحسين (علیه السلام)

ص: 142


1- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 56.
2- رُوي في (تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام) : 369)، عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) _ في حديثٍ شريفٍ _ قوله: «... وإنّ الملائكة لَيتلقّون دموعَ الفَرِحين الضاحكِين لقتل الحسين (علیه السلام) ، ويلقونها في الهاوية، ويمزجونها بحميمها وصديدها وغسّاقها وغسلينها، فتزيد في شدّة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضِعفها، يُشدَّدُ بها على المنقولين إليها من أعداء آل محمّدٍ عذابهم».

حزناً، لا تأثّراً بنياحة الثاكل الفاقدة، فقد جزاه الإمام الحسين (علیه السلام) خيراً، ولْيكن هذا جزاؤه، والبكاء على الإمام (علیه السلام) غريب الغرباء نافعٌ على كلّ حال، إنْ في الدنيا أو في الآخِرة.

هذا كلّه على فرض أنّ الكلام صادرٌ من الإمام الصادق (علیه السلام) ، بحيث تُعدّ شهادةً له من الإمام (علیه السلام) على بكائه، ولا يبدو الأمر كذلك!

المفصل التاسع: هلاكه مع ابن الزبير

كان المسوّر قد لحق بابن الزبير ولزمه وظاهره وقاتل معه، وكان ابن الزبير لا يكبره إلّا بأربعة أشهر، وقد هلك المسوّر وهو برسم القيام بواجبه بين يدَي ابن الزبير، كما سنسمع بعد قليل..

وكان ابن الزبير لا يقطع أمراً دون المسوّر بن مخرمة، لا يستبدّ بشيءٍ منه دونه ((1)).

وكانت الحرب تكون يوماً على ابن الزبير، ويوماً على المسوّر بن مخرمة، ويوماً على مصعب بن عبد الرحمان بن عَوف ((2)).

فلمّا دنا الحُصَين بن نُمير من مكّة، أخرج المسوّر بن مخرمة سلاحاً قد حمله من المدينة ودروعاً، ففرّقها في مواليه كهول فرس جلد.

ص: 143


1- أُنظر: تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 171 و28 / 208، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 373.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 171.

فدعاني، ثمّ قال لي: يا مولى عبد الرحمان بن مسوّر! قلت: لبّيك! قال: اختر درعاً من هذه الدروع. قال: فاخترتُ درعاً وما يصلحها، وأنا يومئذٍ شابٌّ غلامٌ حدِث. قال: فرأيت أُولئك الفرس قد غضبوا وقالوا: تخيّر هذا الصبيّ علينا! والله لو جاء الجدّ لَتركك. قال المسوّر: لَتجدنّ عنده حزماً.

فلمّا كانت الوقعة، لبس المسوّر سلاحه درعاً وما يصلحها،فأحدق به مواليه، ثمّ انكشفوا عنه، واختلط الناس، فالمسوّر يضرب بسيفه، وابن الزبير في الرعيل الأول يرتجز قدماً، ومصعب ابن عبد الرحمان معه يفعلان الأفاعيل، إلى أن أحدقَت جماعةٌ منهم بالمسوّر، فقام دونه مواليه فذبّوا عنه كلّ الذبّ، وجعل يصيح بهم ويكنّيهم بكناهم، فما خلص إليه، ولقد قتلوا من أهل الشام يومئذٍ نفراً ((1)).

قال محمّد بن عمر: فذكرتُ ذلك لشرحبيل بن أبي عون، فقال: أخبرَني أبي، قال: قال لي المسوّر بن مخرمة: يا مولى عبد الرحمان، صُبّ لي وضوءً. فقلت: أين تذهب؟ قال: إلى المسجد. فصببتُ له وضوءً، فأسبغ الوضوء، وخرج وعليه درعٌ له خفيفةٌ يلبسها إذا لم يكن له قتال، فلمّا بلغ الحِجر قال: خُذ درعي. قال: فأخذتُها ولبستُها، وجلستُ قريباً منه، والحجارة يُرمى بها البيت، وهو

ص: 144


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 172.

يصلّي في الحِجر، فجئتُ فقمتُ إلى جنبه، فقلت: أيْ مولاي، إنّي أرى الحجارة اليوم كثيرة، فلو لبستَ درعك ومغفرك، أو تحوّلت عن هذا الموضع، أو رجعت إلى منزلك، فإنّي لا آمَنُ عليك، فواللهِ ما يُغني شيئاً، إنّهم لَعالون علينا، وإنّما نحن لهم أغراض. فقال: ويحك، وهل بُدٌّ من الموت على أيّ حال؟ واللهِلَئن يموت الرجُل وهو على بصيرته ناكباً لعدوّه أو مبّلياً عذراً حتّى يموت، أحسن وآجَر له من أن يدخل مدخلاً فيُدخَل عليه فيُساق إلى الموت، فتُضرب عنقه على المذلّة والصغار. ثمّ قال: هات درعي. فأخذها فلبسها، وأبى أن يلبس المغفر.

قال: وتقبل ثلاثة أحجارٍ من المنجنيق، فيضرب الأول الركن الّذي يلي الحِجر، فخرق الكعبة حتّى تغيّب، ثمّ اتّبعه الثاني في موضعه، ثم اتّبعه الثالث في موضعه، وقد سدّ الحجَرُ الحِجرَ، ثمّ رمى فينا الحجر وتكسّر منه كسرة، فتضرّب خدّ المسوّر وصدغه الأيسر فهشّمه هشماً.

قال: فغُشي عليه، واحتملتُه أنا ومولىً له يُقال له: سليم، وجاء الخبر ابنَ الزبير، فأقبل يعدو إلينا، فكان فيمن يحمله، وأدركنا مصعب بن عبد الرحمان وعُبيد بن عمير.

فمكث يومه ذلك لا يتكلّم، حتّى كان من الليل فأفاق، وعهد ببعض ما يريد، وجعل عبيد بن عمير يقول: يا أبا عبد الرحمان، كيف ترى في قتال مَن ترى؟! فقال: على ذلك قتلنا. فقال عبيد

ص: 145

ابن عمير: أبسط يدك. فضرب عليها عبيد بن عمير، فكان ابن الزبير لا يفارقه بمرضه حتّى مات ((1)).فحضرنا غُسل المسوّر وبنوه حضور، قال: فولي ابنُ الزبير غُسله، فغسله الغسلة الأُولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، ووضّأه بعد أن فرغ من غسله ومضمضه وأنشقه، ثمّ كفّنه في ثلاثة أثوابٍ أحدهما حبرة.

قال: فرأيت ابن الزبير حمله بين العمودين، فما فارقه حتّى صلّى عليه بالحجون، وإنّا لَنطأُ به القتلى ...

ثمّ انتهينا إلى قبره، فنزل بنوه في قبره، وابن الزبير يسلّه مِن قِبل رجلَي القبر ((2)).

عن شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه قال: رأيتُ ابن الزبير يحمل بين عمودَي سرير المسوّر بن مخرمة ((3)).

من هنا نعرف مدى العلاقة الوثيقة بين المسوّر وابن الزبير!

المفصل العاشر: خلاصة المفاصل

سمعنا على عجلٍ بعض المفاصل المهمّة في حياة المسوّر، وتبيّن لنا:

ص: 146


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 173.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 175.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 58 / 176.

* إنّ الرجل كان من أتباع العِجْل وعُبّاده، والآخِذِين عنه والمتعلّمين منه.

إنّه كان من الهائمين في حُبّ خاله عبد الرحمان بن عَوف، ولم يرجع عن ذلك إلى حين وفاته، فدلّس على الناس بشهادته لخاله بالجنّة، وهو الخارج بالسيف على إمام زمانه بإجماع المسلمين أميرِ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، وقد أخرج عائشة من بيتها الّذي أمرها الله أن تقرّ فيه وهتك حجاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقاد معركةً طحنت المسلمين طحناً وتركت دماءَهم تسيل أنهاراً.

* إنّه لم يكن ممّن اقتصر على الرواية والتحديث وأخذ جانباً في المسجد النبويّ، وإنّما كان ممّن يبادر في الفتن بيدٍ ورجلٍ ويطير فيها بجناحَين، حيث حمل استصراخ عثمان إلى معاوية، وشارك في الغزوات.

* إنّه كان يعظّم معاوية تعظيماً حتّى لا يذكره إلّا أن يصلّي عليه ويستغفر له، وهو يعلم مدى عداوة هذا الوثن لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأمير المؤمنين وللإمام الحسن الأمين (علیهما السلام) وتطويقه بالدماء الزاكية.

* إنّه كان مرجعاً وموئلاً للخوارج الوحوش الّذين يقولون بكفر مولى الموحّدين وأمير المؤمنين (علیه السلام) .

ص: 147

إنّه قاتل تحت لواء ابن الزبير _ عدوّ الله وعدوّ رسوله وأهل بيته _ حتّى قُتل، وكان مع ابن الزبير مشاركاً داخلاً في فتنته، حتّى أنّ الأخير لم يقطع أمراً دونه.

ويبدو من كلامه مع مولاه أنّه يرجّح الموت بأحجار المنجنيق الشاميّ وهتك المسجد الحرام بدمه على أن يُؤخَذ وتُضرَب عنقه بذلّ وصغار!

فماذا قعد به عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخامس أصحاب الكساء؟! وقد انتفض يوماً حين سمع أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) ينوي أن ينادي بحِلف الفضول، فقد رُوي:

أنّه كان بين الحسين بن عليٍّ وبين الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان كلامٌ _ والوليد يومئذٍ أمير المدينة في زمن معاوية بن أبي سفيان في _ مالٍ كان بينهما بذي المروة، فقال الحسين بن عليّ: «استطلّ علَيّ الوليدُ بن عتبة في حقّي بسلطانه، فقلت: أُقسم بالله لَتنصفني من حقّي أو لَآخُذَن سيفي، ثمّ لَأقومنّ في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثمّ لَأدعونّ بحلف الفضول».

فقال عبد الله بن الزبير عند الوليد حين قال الحسين ما قال: وأنا أحلف بالله لَئن دعا به، لَآخذن سيفي، ثمّ لَأقول معه، يُنصَف من حقّه أو نموت جميعاً.

فبلغَت المسوّر بن مخرمة بن نوفل الزهريّ، فقال مِثلَ ذلك، فبلغَت عبد الرحمان بن عثمان بن عُبيد الله التَّيميّ، فقال مِثلَ ذلك،

ص: 148

فلمّا بلغ ذلك الوليد بن عُتبة، أنصف الحسين من حقّه حتّى رضي ((1)).

لم يكن الأمر يتعدّى خلافاً في مالٍ يومذاك، وقد رأى ما جرى على سيّد الشهداء (علیه السلام) وسمع بمحاصرته وأمْرِ القرد المسعور المخمور بملاحقته ومطالبته برأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والإمام يكرّر مرّةً بعد مرّةٍ أنّه في خطر، وأنّهم أقدموا على اغتياله في الحرم.

فإنّه كان لا ينتصر لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وربّما يفرح بقتله؛ لِما يكنّه في أعماقه من حقدٍ وغلٍّ وكراهيةٍ لأمير المؤمنين عليٍّ وآل علي (علیهم السلام) ، كما تشهد به سيرته وعلاقاته، غير أنّه لا يحبّ يزيد أيضاً ويكرهه ويريد قتاله، وقد فعل حين قاتل عسكر يزيد مع ابن الزبير، فموته بين يدَي الإمام الحسين (علیه السلام) في قتال يزيد أحجى وأنفع له في الدين والدنيا.

إنّه مارس التشويه والكذب والافتراء على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وعلى أمير المؤمنين (علیه السلام) حين نسج حكاية خطبة ابنة أبي جهل..

فماذا يُرتجى من أمثال هؤلاء؟!

وهل يمكن عدّه في الناصحين لسيّد شباب أهل الجنّة وإمام الثقلين غريب الغرباء الحسين (علیه السلام) ؟

العجب! مِن شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) الّذين يطلقون صفة (الناصح)

ص: 149


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 63 / 210.

على مِثل هذا العدوّ الحاقد، والحال أنّ سيرته وأخلاقيّاته وسلوكه لا تبعده عن دائرة الشكّ؛ لتورّطه في خدمة السلطان والعمل على تنفيذ مخطّطاته.

الضربة الثانية: سوء الأدب والاستكبار!

إختلف الّذين اعترضوا الإمام (علیه السلام) وخالفوه ووقفوا في وجهه _ وهو وجه الله _ في طريقة التعامل..

فمنهم مَن تكلّم بلغة المشفِق..

ومنهم مَن تكلّم بلغة الناصح..

ومنهم مَن تكلّم بلغة الآمِر الناهي..

ومنهم مَن تكلّم بلغة المتوسّل الراجي..

ومنهم مَن تكلّم بلغة المهدِّد المتهكّم..

وهكذا كلٌّ حسب دوافعه وتربيته ونظرته واعتقاده في الإمام (علیه السلام) ..

ومَن قرأ كتاب المسوّر، يستروح منه عطن التكبّر، ونتن التجبّر، وعفن الذات الآسنة..

لغته في الكتاب لغة المحذّر الآمر الناهي المستعلي، الّذي يأمر ليطاع، ويجزم بصحّة ما يقول، ويتنافخ على الإمام (علیه السلام) ..

«إيّاك أن تغترّ.. يقول لك ابن الزبير.. إيّاك أن تبرح الحرم»..إنّه تخبُّطٌ مروّعٌ في مستنقع الرذيلة.. سقوطٌ مدوٍّ في أوحال الذات وسوء الأدب.. تهاوٍ منكوسٍ في مهاوي الخطيئة والخزي والعار..

ص: 150

دَعْ عنك أنّ مخاطبه هو الإمام المفترض الطاعة من الله وسيّد شباب أهل الجنّة.. أوَليس هو سبط سيّد البشر وأشرف الأنبياء والمرسلين؟ أوَليس هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) ، سادة العرب والعجم؟ أوَليس هو ابن فاطمة سيّدة نساء العالمين؟ أوَليس هو الحسين؟!

ألا كان ينبغي لهذا الأعرابيّ الفضّ الغليظ أن يقدّر المقام ويعرف المخاطَب ويتدرّب على أدب الخطاب مع العظماء قبل أن يكتب الكتاب؟!

لك الله يا غريب الغرباء!

الضربة الثالثة: موادّ الكتاب

اشارة

تضمّن الكتاب عدّة أوامر جاهلةٍ تنمّ عن طغيان كاتبها، ونتائج مترتّبةٍ على تلك الأوامر:

الطغيان الأوّل: إياك أن تغترّ بكتب أهل العراق

يبدو من كلام المسوّر أنّ كتابه جاء بعد أن وصلَت كتب أهل الكوفة إلى الإمام (علیه السلام) ، أو وصل جملةٌ منها على الأقلّ، إذ أنّ تحذيره من الاغترار بكتب أهل الكوفة لابدّ أن يكون بعد وصولها.وهذا يعني أنّه كتب الكتاب في فترةٍ متأخّرةٍ من أيّام إشراق مكّة بنور وجه الحسين (علیه السلام) ، لأنّ كتبهم لم تصل الإمام (علیه السلام) في بدايات نزوله مكّة..

ص: 151

أي: في نفس الفترة الأخيرة الّتي ازدحمَت بها الأحداث وتكأكأ المعترضون على الإمام (علیه السلام) ، وصار كلّ مَن هبّ ودبّ يثور في وجه الإمام (علیه السلام) ويحاول إثبات موقفٍ له عند السلطان أو عند الإمام (علیه السلام) ، وربّما ليُذكَر في التاريخ كصاحب مقولةٍ في تلك الأحداث الحامية.

ولا ندري مَن الذي حرّك المسوّر _ الحاقد على أمير المؤمنين وآل عليّ (علیهم السلام) _ ليبدي هنا رأيه ويتقدّم بهذا الكتاب؟

وهل كان على اطّلاعٍ على مضامين كتب أهل الكوفة ودعواتهم؟

وما هو مقدار وعيه وإدراكه وقوّة تحليله للمواقف ومقدار معرفته بالمجتمع الكوفيّ وممارساته؟ وهو مكّيٌّ عاش في المدينة، ثمّ رجع إلى مكّة، ولم يعهد فيه أنّه عاش في الكوفة..

إلّا أن يقال: إنّه عاشهم ومارسهم من خلال اتّخاذه مرجعاً للخوارج منهم، وهم أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) وآله..

ولا يمكن الوثوق بدوافع هذا العقرب المسموم الّذي كان معتمَداً عند أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء أمير المؤمنين وأولاده (علیهم السلام) ؛ فسيرته ومواقعه تشهد له برضاه بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فربّما كان يحاول من خلال تثبيطه عن الخروج وتأكيده على البقاء في مكّة أن يسعى لتوفير الفرصةاللازمة للإجهاز عليه وتحقيق مراد القرد المسعور.

ولا شكّ أنّه يعلم _ كما يعلم جميع العالم _ أنّ سيّد الشهداء وإمام السعداء (علیه السلام) كان عارفاً بأهل الكوفة ومآلاتهم وغدرهم وسلوكيّاتهم

ص: 152

_ بغضّ النظر عن علم الإمامة _، فما هو المبرّر لمثل هذا الفضول، ليدسّ أنفه في هذا الموضع ويتحدّث بهذه اللغة البائسة: «إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق»؟

أيريد هذا القزم الضئيل تعليم سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وتحذيره من (الاغترار)؟!

الطغيان الثاني: الاغترار بكلام ابن الزبير

يبدو من السياق أنّ التحذير من الاغترار (إيّاك أن تغترّ) يستمرّ مفعوله إلى الاغترار بقول ابن الزبير، فكأنّه يقول: إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق، وأن تغترّ بما يقوله لك ابن الزبير.

تماماً هو كما قاله في المدينة يوم سمع بخروج الإمام (علیه السلام) وابن الزبير إلى مكّة، وقد سمعناه قبل قليل.

* * * * *

تجد في كلام المسوّر جهلاً فاضحاً يدلّ على بلاهته وتفاهته وحمقه وخرقه ورعونته وسخافة عقله وطيشه وعمشه، تماماً كما هم الخوارج؛ فهولا يمكنه تمييز ابن الزبير عن الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بل ربّما اعتقد بمؤهّلات ابن الزبير المزيّفة وجهل مقامَ الإمام الحسين (علیه السلام) وشخصيّته القدسيّة كاملاً، فتوهّم أنّ ابن الزبير سيؤثّر على الإمام (علیه السلام) ويُقنعه ويغيّر قناعاته، لذا راح يحذّر الإمام (علیه السلام) من التأثّر به والانسياق معه.

ونعود _ كما هو دأب هؤلاء السفلة وعادتنا _ للاستغفار والاعتذار من

ص: 153

مِثل هذه التعابير، ولكنّها ضرورات البحث، وجرأة القوم الظالمين الفجَرة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

الطغيان الثالث: التحذير من ترك الحرم

إذا أخذنا بنظر الاعتبار قناعته بابن الزبير، وأنّه قاتل معه في مكّة وهتك حرمة الحرم، ربّما اكتشفنا بوضوحٍ أنّه كان قد اقتنع بخطّة ابن الزبير، وأراد تجميع القوى في الحرم واتّخاذه وكراً والارتكان إلى الركن والمقام لمواجهة يزيد، وإنْ كان في ذلك هتكاً للحرم، واتّخاذ مكّة منطلقاً للحروب والاستيلاء على البلدان والأمصار وتجميع الأنصار والأتباع والأشياع..

فهو إنّما يحذّر الإمام (علیه السلام) ويأمره بالبقاء في مكّة حتّى يأتيه الأنصار والأشياع، عملاً بخطّة ابن الزبير، وإنْ أدّى ذلك إلى قتل الإمام (علیه السلام) وهتك حرمة الحرم!

الطغيان الرابع: قدوم أهل الكوفة والخروج في قوّة

اشارة

رتّب هذا الرأي المعتوه على التحذيرات السابقة استنتاجاً ذي شقَّين:

الشقّ الأوّل: قدوم أهل العراق

إفترض المسوّر أنّ المخاطَب سيتغافل عن كتب أهل العراق، ولا يتأثّر بخداع ابن الزبير، وسيبقى في الحرم ولا يبرحه.. وعندئذٍ إنْ كان لأهل

ص: 154

العراق بالمخاطَب حاجةً، فإنّهم سيضربون إليه آباط الإبل حتّى يوافوه! ((1))

هكذا بكلّ سطحيّةٍ وسذاجةٍ تتجاوز حدّ الهبل والخطل والخبل، إذ أنّ المفروض أن يكون هذا المسوّر على علمٍ بعدد المكاتبين وأعداد العراقيّين الضخمة الّتي انتفضت وهاجت في تلك الفترة..

وهو يتوهّم بخياله الكليل أن تنتقل كلّ هذه الجحافل المتراكمة إلى مكّة البيت الحرام بكامل عدّتها وعديدها وخيلها ورجلها وأسلحتها لتجتمع هناك!

وكأنّ الكوفة لم تكن يومها قد نُظمت خيلاً ورجالاً، وقد ملأ العدوّ بهم الصحراء ونشرهم على طولها وعرضها، وأحكم مخراجها وموالجها، وزرعها عيوناً ومخبرين لا تفوتهم الشاردة والواردة، فلا يلج والجٌ ولايخرج خارجٌ إلّا وقد خضع للتفتيش الدقيق والسؤال الحثيث..

كيف ستخرج هذه الأعداد من بين كلّ تلك المعابر المزدحمة بالخيل والرجال والجواسيس والعيون؟!

كيف ستخترق الصحارى والقفار والمنازل والبلدان، حتّى تصل إلى

ص: 155


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

مكّة؟!

كيف ستدخل مكّة وتستقرّ في الحرم؟!

وهل ستطيقهم مكّة وتتحمّل وجود كلّ تلك الأعداد الضخمة وتؤمّن لهم الميرة والمدد؟!

هذه كلّها أسئلةٌ تُقدَّم لمثل هذا الرأي البائس..

ناهيك عن حديث هتك حرمة الحرم الّتي كان الإمام (علیه السلام) يتجنّبها، ويستعجل الخروج من الحرم لتفادي وقوع الهتك فيه.

الشقّ الثاني: الخروج في قوّةٍ وعدّة

هذه هي المأساة الّتي سرت منذ تلك الأيّام من فهوم الأعداء وإيحاءاتهم وتشويشهم، من خلال طشّ لونٍ خاصٍّ على موقف الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وصبغه بأصباغهم الملوّثة..

هكذا سرّبوا الفكرة، فتسلّلت إلى الأذهان والقلوب في خضمّ الأحداث المكتظّة المزدحمة، حين علا ضجيجُهم، وارتفعَت زعقاتهم، ونفخت أبواقهم، وقرعت طبولهم المخرّقة.. «فتخرج»!لا يبدو المسوّر قد اخترق الحجب، وسافر في غياهب التحليل والتفسير والتقويم والتفكير والتقدير، فاكتشف أنّ من يريد (الخروج) لابدّ أن يخرج في قوّةٍ وعدد..

أو كانت هذه الفكرة واضحةً عند المسوّر وغائبةً عن مولى الثقلين

ص: 156

وأعلم الخلق، وكانت واضحةً عند غيره من المعترضين وغامضةً عند الإمام المعصوم (علیه السلام) ؟!

أكان المسوّر قد عرف أهل الكوفة وغدرهم، وعرف ابنَ الزبير وخداعه ومراوغته، وعرف أنّ مَن يريد الخروج لابدّ أن يخرج في قوّةٍ وعدد.. ثمّ لم يعرف ذلك العالم بالدنيا والآخِرة والدين؟! سبحانك ربّي، إنّه إفكٌ وبهتانٌ عظيم!

هذا من جهة..

ومن جهةٍ أُخرى:

فإنّ تحميل هذه الفكرة وفرضها على موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، هي البداية المنكوبة الّتي بدأها الأعداء..

إنّهم نظروا إلى موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) تماماً كما ينظرون إلى موقف ابن الزبير.. فكلاهما يريد الخروج! هكذا تصوّروه وصوّروه لنا.. فاستمعنا لهم.. ثمّ لم نستمع بعد ذلك لما قاله الإمام (علیه السلام) المظلوم غريب الغرباء الحسين (علیه السلام) !!!أما كان الأَحرى بالمسوّر _ وهو يزعم التفقُّه _ أن يجيل نظره في الظروف الّتي أحاطت بالإمام (علیه السلام) ، ويرصد الأحداث الجارية في الميدان، ويستمع إلى ما صرّح به الإمام (علیه السلام) نفسُه في مواطن كثيرةٍ وأوقاتٍ عديدة؟!

فقد قالها لأكثر من واحد: إنّه إنْ بقي في مكّة، فإنّهم سيغتالونه أو يأخذونه أخذاً!

ص: 157

إنّهم شرعوا في تنفيذ خطّتهم لقتل الإمام (علیه السلام) في الحرم، وهو يأبى أن تُهتَك به حرمة الحرم..

إنّهم حاصروه وحرّجوا عليه، حتّى لم يعد الوضع يحتمل أن يمكث الإمام (علیه السلام) في مكّة ولو لأيّامٍ قليلةٍ حتّى ينقضي موسم الحج..

لقد قالها إمام الحقّ: أن يُقتَل خارج الحرم بشبرٍ أحبّ إليه..

الإمام (علیه السلام) يسابق القوم؛ ليدفع عن نفسه القتل في مكّة.. والقوم ينفخون رماداً لا جمر فيه، ليذروه في عيون المراقبين، فيظنّونه (خروجاً) وحركةً لا تقوم إلّا بتجميع القوّة والعدد!

من هنا أُوتينا.. من تصوير المسوّر.. ابن عبّاس.. ابن عمر.. وقَبلهم سلطانهم وطاغوتهم الجاثم على صدر الأُمّة، يزيد.. حين كتب إلى أهل المدينة وأهل الموسم وابن عبّاس كتاباً جاء في نسخةٍ واحدةٍ، صوّر لهم فيها خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة في صورة المهاجم المتربّص، ليخلع على فعلته الشنيعة وجريمته العظمى وجنايته البالغة في التاريخ لباس الدفاع عنالنفس والدفاع عن المُلك والتخت والسلطنة..

والإمام المظلوم _ فداه العالمين _ يشرح لهم ويفسّر، ويبيّن لهم ويصرّح، أنّ القوم أزعجوه، وأرعبوا مَن معه، وحاصروه، وأغلظوا له، وشتموا عرضه، وأخذوا ماله، وهجموا عليه، وقصدوه بالاغتيال والقتل، وطلبوا رأسه المقدّس، وأخرجوه من مسقط رأسه ومهاجر جدّه وبلده وبيت الله الحرام كُرهاً.. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 158

إنّ ما كتبه المسوّر نكدٌ وأسى.. تعاسةٌ وشقاءٌ وشجى.. إذ أنّه لصق بالإمام (علیه السلام) ما ردّه الإمام في أكثر من موضع، ورماه بما كان ينبغي أن يرمي به الأعداء، وافترى على الإمام (علیه السلام) فريةً سيحاسبه الله عليها حساباً عسيراً.

لقد أخطأ المسوّر خطأً لا يُغتفر، ووقع في وهدة الزلل والخطل والهبل والخبل.. فهو لم يقدّر الأحداث حقّ قدرها، ولم يعرف الأوضاع، ولم يقدّر موقف الإمام (علیه السلام) والظروف الحاكمة تلك الأيّام..

وأخطأ في معرفة شخص الإمام (علیه السلام) _ بغضّ النظر عن الإمامة _.. أخطأ في معرفته كشخصٍ هو أعظم الخلائق في عصره، فلم يعرف مَن هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) .. بلغ به الجهل والضلال أن يقيسه بابن الزبير، بل يرجّح كفّة ابن الزبير عليه، حتّى توهّم أنّ ابن الزبير سيؤثّر على الإمام (علیه السلام) ويدفعه للخروج!

وأخطأ.. وأخطأ.. وأخطأ..هذا كلّه إن أردنا أن نتغافل ونغضّ الطرف، ونحمل كتاب المسوّر وموقفه على أحسن المحامل _ وهو فعلٌ غير محمود _.

أمّا إذا قرأنا كتاب المسوّر من خلال سيرته وعقائده وأفكاره، وارتصافه في الصفّ الأوّل عند اصطفاف عساكر أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) ورموزهم منذ البداية إلى زعامته الروحيّة ومرجعيّته للخوارج، فإنّ الأمر سيختلف.. فلا يمكن أن نرى في كتابه إلّا كلّ شرٍّ يُراد بسيّد شباب أهل الجنّة وثاني

ص: 159

الأسباط ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الإمام الحسين (علیه السلام) !

الطغيان الخامس: موافاتهم الإمام (علیه السلام) !

نحسب أنّ فيما مرّ من حديثٍ كفايةً لما ورد في كتاب المسوّر في هذه الفقرة.. إذ أكّد للإمام (علیه السلام) أنّ القوم إنْ كان لهم بالإمام (علیه السلام) حاجة، فسيضربون إليه آباط الإبل حتّى يوافوه في مكّة ((1)).

فهو ينطلق من منطلقاته ومنطلقات أمثال ابن الزبير، وهم لا يقيمون للحرم وحرمته وزناً بقدر ما يكون وسيلةً لتحقيق المآرب والوصول إلى الأهداف الخسيسة.

والمسوّر يعرف _ حسب زعمه _ غدرَ أهل الكوفة وبطش الأعداء،فكيف سيوافيه القوم؟!

أجل، يفوه الإنسان إذا طغى أن رآه استغنى بما فاه به المسوّر.. إنْ كانت لهم بك حاجة! هل يخاطب إمام الخلق بهذا الخطاب؟! وهل يخيّر الإنسان المسلم بحاجته للإمام الّذي نصبه الله له وافترض عليه طاعته؟!

ص: 160


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

كلّا! ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾! ((1))

الضربة الرابعة: جواب الإمام (علیه السلام)

اشارة

مرّ معنا في مواضع عديدةٍ الإشارةُ إلى نكتةٍ مهمّة، خلاصتها:

التفريق بين: رواية الموقف، ونقلِ الحدَث بالذات.. ففرقٌ بين أن يروي لنا المؤرّخ حدَثاً، وبين أن يختصره بعبارته وينقل لنا فهمه ويصيغه بعبارته!

هنا نجد المؤرّخ يجمع بين الصورتين في لفظٍ واحدٍ وجملةٍ واحدة، فهو يقول:

فجزّاه خيراً، وقال: «أستخير الله في ذلك» ((2)).

ويمكن تقسيم جواب الإمام (علیه السلام) إلى مقطعين:

المقطع الأوّل: جزّاه خيراً

قوله: «جزّاه خيراً»، ليس روايةً لكلام الإمام (علیه السلام) بالنصّ، وإنّما شيءٌ

ص: 161


1- سورة القصص: 68.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

صاغه هو، فما هو الّذي قاله الإمام (علیه السلام) للمسوّر ففهم منه المؤرّخ أنّه قد جزّاه خيراً؟

إنّه نقل فهمه، ولو كان قد نقل لنا الحدَث بحذافيره ربّما فهمنا منه النكاية والتهكّم والتسخيف، فلعلّه كان على وِزان قول الله (عزوجل) : ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾! ((1)) فلو كان قد نقل لنا كلام الإمام (علیه السلام) ضمن ظروف الكلام، فربّما فهمنا منه التقدير أو التوبيخ.

إنّه اكتفى بنقل ما فهم منه هو من أنّ الإمام (علیه السلام) قد جزّاه خيراً، بَيد أنّه لم ينقل لنا نصّ ما قاله الإمام (علیه السلام) كما فعل فيما بعد حين روى قول الإمام (علیه السلام) في الإحالة على الاستخارة.

فهل جزّاه الإمام (علیه السلام) على نحو المبنيّ للمجهول (جُزيت خيراً)؟

هل جزّاه الإمام بشرط، كأن يقول له: (جُزيت خيراً في الدنيا)، أو (جُزيت خيراً إذا كنت ناصحاً مخلِصاً في كتابك)، وهكذا؟

وكيف كان، فإنّ أدب أهل البيت (علیهم السلام) وأخلاقهم عموماً يقوم على تقديرهم للمواقف على ما يبديه المقابل، ويغضّون الطرف عن النوايا، مع علمهم الجازم بها.. ونحن لا نعرف النوايا، وإذا حكمنا على الفرد إنّما نحكم عليه من تصريحاته أو فلتات لسانه ومواقفه وسيرته وسوابقه ولواحقه.

وليس بالضرورة أن يكون قد جزّاه خيراً بمعنى الدعاء له ووعده

ص: 162


1- سورة الدخان: 49.

بالخير، إنْ في الدنيا أو في الآخرة، فربّما أطلقها الإمام (علیه السلام) على نحو الاستعمال العرفيّ واستخدام المصطلحات المتداولة في مقام الردّ والجواب.. والمسوّر على كلّ حالٍ من كبراء القوم، وله منزلةٌ عند مَن يُقيم له وزناً.

ولو كان قد دعا له وأجابه ولو على مستوى الاستعمالات العرفيّة، فلا شكّ سيكون لما قاله الإمام (علیه السلام) مدلوله وأثره، والله العالم والإمام.

المقطع الثاني: «أستخير الله»

مرّ معنا في أكثر من موضعٍ ردُّ الإمام (علیه السلام) على الآخَرين وإيكاله الأمر إلى استخارة الربّ (تبارك وتعالى)، وقد تحدّثنا في ذلك، ونضيف هنا:

إنّ الإمام (علیه السلام) يوكل الأمر في جواب المسوّر إلى استخارة الله ((1))، أي: أنّه يطلب الخيرة من الله (عزوجل) ، فما اختاره الله له عمل به، ونحن نعلم أنّ إرادة الربّ في مقادير أُموره تهبط إليهم وتصدر من بيوتهم! ((2))

وقد رُوي عن الإمام أبي الحسن [الثالث] (علیه السلام) أنّه قال: «إنّ الله جعل

ص: 163


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- أُنظر: الكافي للكلينيّ: 4 / 577، كامل الزيارات لابن قولويه: 200، تهذيب الأحكام للطوسيّ: 6 / 55، بحار الأنوار للمجلسيّ: 98 / 153.

قلوبَ الأئمّة مورداً لإرادته، فإذا شاء الله شيئاً شاؤوه، وهو قوله: ﴿وَمَاتَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾» ((1)) ((2)).

فإذا كانت خيرة الإمام (علیه السلام) هي خيرة الله، وخيرة الله هي خيرة الإمام (علیه السلام) ، وما فعله الإمام (علیه السلام) إنّما هو إرادة الربّ هبطَت إليه من ربّه وصدرت عنه (علیه السلام) ، فلا مجال سوى الرضى والقبول والتسليم، ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ ((3)).

وبهذا المعنى سيكون في جواب الإمام (علیه السلام) ردّاً قويّاً قاصفاً، يُلزِم المسلمَ والمؤمن أن يُخبِت ويُذعِن ويستسلم ويمتثل بخضوعٍ وانقيادٍ لما اختاره الإمام (علیه السلام) وأقدم عليه، من دون أيّ اعتراضٍ ولا حرجٍ يستشعره في نفسه ممّا قضى، ولا تردُّدٍ في الجزم بصحّة ما مضى عليه وإليه.

الضربة الخامسة: الجواب بغير كتاب!

صرّح المؤرّخ أنّ المسوّر كتب إلى الإمام (علیه السلام) كتاباً، غير أنّه لم يروِ لنا أنّ الإمام (علیه السلام) قد ردّ عليه بكتاب، وإنّما اكتفى بالقول!

ص: 164


1- سورة التكوير: 29.
2- بصائر الدرجات للصفّار القمّيّ: 1 / 517، تفسير القمّيّ: 2 / 409، بحار الأنوار للمجلسيّ: 24 / 205.
3- سورة النساء: 65.

فجزّاه خيراً، وقال: «أستخير الله في ذلك» ((1)).

لمَن قال الإمام (علیه السلام) ؟ومَن كان المخاطَب بكلامه الشريف؟!

لقد أطلق سيّد الشهداء (علیه السلام) قولَه، وكأنّه لم يوجّهه للمسوّر فحسب، بل قال: «أستخير الله»، والظاهر من السياق أنّه يخاطب الواقف بإزائه أو حامل الكتاب الّذي جاءه به، من دون أن يقول _ مثلاً _ : قُلْ له، أو أخبره، أو بلّغه أنّي أستخير الله، وكأنّ المسوّر لم يُؤخَذ بالحسبان، ولم يُوجَّه له الكلام شخصيّاً.. وكأنّ الإمام (علیه السلام) لم يردّ على شخص المسوّر، بل تغافل عنه كشخص!

ص: 165


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

ص: 166

كتاب عَمْرة بنت عبد الرحمان إلى الإمام (علیه السلام)

اشارة

قال ابن سعدٍ ومَن تلاه:

وكتبت إليه عُمرةُ بنت عبد الرحمان تُعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة! وتُخبره أنّه إنّما يُساق إلى مصرعه، وتقول: أشهدُ لَحدّثَتني عائشةُ أنّها سمعَتْ رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «يُقتَل حسينٌ بأرض بابل».

فلمّا قرأ كتابها قال: «فلابدّ لي إذاً من مصرعي!»، ومضى ((1)).

ص: 167


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

* * * * *

يمكن متابعة ما ورد في الكتاب من خلال النكزات التالية:

النكزة الأُولى: مَن هي عَمْرة؟

عَمْرة بنت عبد الرحمان بن سعد بن زُرارة بن عدس، الأنصاريّة النجّاريّة، المدنيّة.

قيل: لأبيها صحبة، وجدّها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة.

حدّث عنها: ولدها أبو الرجال محمّد بن عبد الرحمان، وابناه حارثة ومالك، وابن أُختها القاضي أبو بكر بن حزم، وابناه عبد الله ومحمّد، والزهريّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وآخَرون.

تُوفّيت سنة ثمانٍ وتسعين، وقيل: توفّيت في سنة ستٍّ ومئة، وقال ابن أبي عاصم: ماتت سنة ثلاثٍ ومئة.

صحبت عائشة وأخذت الحديث عنها.. تريبة عائشة وتلميذتها، كانت في حِجْر عائشة..

ص: 168

رُوي مسنداً عن القاسم بن محمّد أنّه قال لي: يا غلام، أراك تحرص على طلب العلم، أفلا أدلّك على وعائه؟ قلت: بلى. قال: عليك بعَمرة؛ فإنّها كانت في حِجر عائشة ...وحديثها كثيرٌ في دواوين الإسلام ((1)).

قال أحمد بن محمّد بن أبي بكر المقدميّ:

سمعتُ ابن المدينيّ ذكر عَمرة بنت عبد الرحمان، ففخّم أمرها، قال: عَمرة أحدُ الثقات العلماء، بعائشة الإثبات فيها، وذكرها ابن حبّان في (الثقات).

وقال نوح بن حبيب القومسيّ:

مَن قال: عَمرة بنت عبد الرحمان ابن سعد بن زرارة، فقد أخطأ؛ إنّما هو ولد سعد بن زرارة، وهو أخو أسعد، فأمّا أسعد فلم يكن له عقب، وإنّما الولد لسعد، وإنّما غلط الناس، لأنّ المشهور هو أسعد، سمعتُ ذلك من عليّ بن المدينيّ ومن الّذين يعرفون نسب الأنصار.

قلت: وقال ابن حبّان كانت من أعلم الناس بحديث عائشة.

وقال ابن المدينيّ عن سفيان:

ص: 169


1- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 100، مرآة الجنان لليافعيّ: 1 / 161، شذرات الذهب لابن العماد الحنبليّ: 1 / 114، عُمدة القاري للعينيّ: 3 / 210، موسوعة طبقات الفقهاء: 1 / 475 الترجمة 224، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 4 / 508، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 6 / 443.

أثبت حديث عائشة حديث عَمرة والقاسم وعروة.

وقال شعبة عن محمّد بن عبد الرحمان:

قال لي عمر بن عبد العزيز: ما بقي أحدٌ أعلم بحديث عائشة من عَمرة.قال شعبة:

وكان عبد الرحمان بن القاسم يسألها عن حديث عائشة.

وقال ابن سعد:

كانت عالمةً، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن حزمٍ أن يكتب له أحاديث عَمرة ((1)).

* * * * *

هذه باختصار ترجمة عَمرة..

وقد تبيّن من اتّفاق القوم على أنّها كانت قد تربّت في حجر عائشة، وكانت من خصائصها وراويتها الخاصّة، والعالمة بها والقريبة منها والحظيّة عندها..

فهي خرّيجة حِجر عائشة وربيبتها، والآخِذة عنها والراوية عنها والمخصوصة بها، فهي بالتالي نسخةٌ عنها..

ويكفي اللبيب النابه أن يعرفها حينئذٍ، ويعرفَ توجّهاتها وعواطفها

ص: 170


1- تهذيب التهذيب لابن حجَر: 12 / 389.

وأفكارها ومنطلقاتها ونوازعها ونزعاتها وأحاسيسها ومواقفها وكوامنها تجاه ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسبطه، فهي لا تختلف عن سيّدتها الّتي نشأت في حِجرها وأخذَت عنها.

فإذا عرفناها وعرفنا أدبيّاتها وأخلاقيّاتها ودينها ومنابعها ومصادرها الّتيتشرب منها وتصدر عنها، أعان المتلقّي كثيراً في فهم الكتاب ولغته وأجوائه!

النكزة الثانية: تطفّلها ودخولها في الأمر!

كان في زمن إشراق البيت الحرام بنور وجه الحسين (علیه السلام) الكثير ممّن يسمّونهم الوجوه والشخصيّات والجماجم والرؤوس وأصحاب الرأي وذوي الحِجا.. وكان الكثير من النساء من ذوات القدر والمنزلة وربّات الخدر وحملة الرواية والعلم..

بَيد أنّ كلّ مَن كان يُوصَف بشيءٍ ممّا ذكرنا لم يتدخّل في شأن الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، ولم يُبدِ رأياً أو يواجه الإمام (علیه السلام) بكلام، سوى بعضهم ممّن تطفّل، أو كانت تربطه بالإمام (علیه السلام) آصرةً تؤهّله لذلك، أو أنّه كان مطيّةً للسلطان، ينطق السلطان على لسانه ويأمره ويحرّكه كدميةٍ كما يشاء، ليوقعه حَجَراً مزعجاً في طريق الإمام (علیه السلام) .

من الغريب تدخّل هذه المرأة في الأمر ومبادرتها إلى كتابة الكتاب، ودسّها أنفها الطويل في مِثل هذا الموضع الخطير، مع وجود نساء أكبر منها

ص: 171

حجماً وأعظم منها منزلةً وأعلم منها وأكثر منها معرفة..

فمَن هذه الزعروة الزعراء حتّى تكتب لسيّد الخلق، وتكلّمه بهذه اللغة البائسة المشؤومة الّتي يسيح منها عفن الجاهليّة والجهل وسوء الأدب،ويتقاطر منها نتن الاستعلاء والاستكبار والعتوّ والطغيان من موضعٍ لا يليق به التلبّس بهذه الصفات؟ فما شأنها والاستعلاء والاستكبار، وهي لا زالت فراشاً رثّاً؟!

النكزة الثالثة: لغة الكتاب

ممّا يُؤسَف له أنّ المؤرّخ لم يروِ لنا نصّ الكتاب وعبارات عَمرة نفسها، وإنّما حكى لنا ذلك حكاية، وقد أشرنا إلى الفرق بين الحالَين في أكثر من موضع..

فنحن لم نقرأ ما قالته هي في كتابها، بَيد أنّ فيما رواه المؤرّخ من حكاية كلامها ما يشي بقبح تعبيرها وصلافة كلامها وصلابة وجهها الكالح.

إنّها تكلّم الإمام (علیه السلام) بلغة الآمِر الناهي.. لغةِ التحذير والتهديد.. لغةِ التهويل والتخويف.. لغةِ التلويح بالعقاب والقتل..

تعظّم عليه ما يريد أن يصنع!

تأمره بالطاعة ولزوم الجماعة!

تخبره إنّما يُساق إلى مصرعه!

ص: 172

الأمر بالطاعة ولزوم الجماعة.. هو التهديد الأعظم منذ يوم السقيفة، إذ أنّ الخروج عن الجماعة وترك الطاعة للحاكم المتسلّط يعني إباحة الدم والعرض والمال، والحكم عليه بالقتل والخروج عن الملّة..هذا النمط من التهويل والتعظيم للأمر.. الأمر بالطاعة ولزوم الجماعة.. التهديد بمواجهة القتل والسوق إلى المصارع.. ليس من لغة النساء الخفرات، ولا من دأب الناس العاديّين.. إنّها لغة الحكّام والمتسلّطين، وأدبيات الأُمويّين!

يبدو أنّها كانت تُفرغ عن لسان يزيد ومعاوية ومَن أمّراه على رقاب المسلمين.. سواءً أكان بتكليفٍ منهم، أم باندفاعٍ منها ونزوعٍ عن كوامنها، وهي الّتي تربّت في حِجر أُمّهم، ونشأت في أحضانها، وارتضعَت دِينها ودَيدنها منها.

النكزة الرابعة: اتّحاد الخطاب!

تُعظّم عليه ما يريد أن يصنع..

فما هو الّذي يريد أن يصنعه الإمام (علیه السلام) ؟!

إنّها نطقت بهتوف الشيطان الّذي نفث في أنف يزيد، فكتب لابن عبّاس ولأهل المدينة ولأهل الموسم كتاباً بنسخةٍ واحدة، فاتّهم الإمامَ (علیه السلام) أنّه ينازعه سلطانه، وأنّه يريد الخروج عليه _ كما يزعم _، ثمّ تفل الشيطان أو قرينُه يزيد في فم عَمرة، فخرج منها ما خرج من يزيد تماماً، وقالت ما

ص: 173

قاله، ونثت ذات الافتراءات والتُّهَم على الساحة المقدّسة..

هكذا هم أعداء الله وعبدة الطاغوت دائماً وأبداً، يكذبون ويكذبون،ثمّ يُمعِنون في الكذب، ولا يهمّهم أن يصدّق الآخَرون.

يبدو واضحاً لمن قرأ ما حُكي من فقرات الكتاب أنّ ربيبة عائشة لوّحَت للإمام (علیه السلام) بذات الاتّهامات الّتي سحّت من قلم يزيد وطفحت على لسانه في أكثر من موضع..

ترك الطاعة، والخروج عن الجماعة!

وأنّ الإمام (علیه السلام) هو الّذي يريد أن يصنع أمراً عظيماً مهولاً بترك الطاعة والخروج عن الجماعة..

مِن أين استفادت عَمرة عزمَ الإمام (علیه السلام) على هذا الإقدام؟!

هل كان فيما قاله الإمام (علیه السلام) إلى يوم كتابة كتابها ما يشي بذلك ويُنبئ به؟!

هل قال الإمام (علیه السلام) شيئاً يمكن أن يُستفاد منه ما تزعمه عَمرة؟

فلْتقدِّمْه لنا، إنْ هي أو مَن يزعم صحّة مقالها من الأوّلين والآخِرين!

إنّ القوم هم الّذين عزموا على الإقدام على صنع أمرٍ عظيمٍ مهول، ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً﴾ ((1))..

إنّهم أقدموا وباشروا وبادروا إلى قتل الإمام (علیه السلام) أينما كان وحيثما كان،

ص: 174


1- سورة مريم: 90.

هو ومَن معه.. وليس هو الإمام (علیه السلام) مَن أقدم على شيءٍ لولا أنّهمهدّدوه في حرم جدّه ثمّ لاحقوه في حرم الله، وزرعوا خناجرهم في كلّ مكانٍ ليحزّوا وريدَيه ويستخرجوا العلقة المقدّسة مِن جوفه الّذي ملأه الله عِلماً.

أتعظّم عَمرةُ على الإمام (علیه السلام) أن يدافع عن نفسه وأهله وحرمه وحرمته وحُرمة حرم جدّه (صلی الله علیه و آله) وحرم ربّه؟!!

ولِمَ لا تعظّم على يزيد ووالي مكّة والمدينة ما أرادوا أن يصنعوا بحبيب الله وريحانة رسوله (صلی الله علیه و آله) ؟!!

النكزة الخامسة: مَن يطيع مَن؟

عَمرة ربيبة أُمّها، وكانت راويتها المشهورة، وهي _ كما قالوا _ الأعلمُ بأُمّها من جميع النساء، وقد روت أُمُّها الكثيرَ من الأحاديث عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ريحانته وسبطه الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأنّه من أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، وأنّه أحد الخلفاء الاثني عشر الّذين نصّ عليهم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ونصّبهم عن الله (تبارك وتعالى)..

وسنذكر لذلك بعض العيّنات السريعة، وهي ما أكثرها في كتب حديثهم وروايتهم، ولمن أحبّ المزيد أن يرجع إلى أُمّهات مصادر القوم.

فقد روى الخزّاز في (كفاية الأثر) في باب (النصوص على الأئمّة الاثني عشر (علیهم السلام))، قال:

حدّثَنا أبو المفضّل محمّد بن عبد الله بن المطّلب (رضی الله عنه) ، [قال: حدّثَنا

ص: 175

أبو عبد الله جعفر بن محمّد بن جعفر ]، قال: حدّثَنا عبد الله بن عمر بن خطّاب الزيّات في سنة خمسٍ وخمسين ومئتين، عن الحارث بن محمّد التميميّ قال: حدّثَني محمّد بن سعد الوافديّ، قال: أخبرَنا محمّد بن عمر، قال: أخبرَنا موسى بن محمّد بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلَمة، عن عائشة قالت:

كان لنا مشربة، وكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) إذا أراد لقاء جبرئيل (علیه السلام) لقيَه فيها، فلقيَه رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) مرّةً فيها، وأمرني أن لا يصعد إليه أحد، فدخل عليه الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، فقال جبرئيل: مَن هذا؟ فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «ابني». فأخذه النبيّ فأجلسه على فخذه.

فقال له جبرئيل: أما إنّه سيُقتَل. فقال رسول الله: «ومَن يقتله؟»، قال: أُمّتك تقتله. قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «تقتله؟!»، قال: نعم، وإنْ شئتَ أخبرتُك بالأرض الّتي يُقتَل فيها. وأشار إلى الطفّ بالعراق، وأخذ منه تربةً حمراء فأراه إيّاها، وقال: هذه من مصرعه.

فبكى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقال له جبرئيل: يا رسول الله، لا تبكِ؛ فسوف ينتقم الله منهم بقائمكم أهل البيت. فقال رسول الله: «حبيبي جبرئيل، ومَن قائمنا أهل البيت؟»، قال: هو التاسع من وُلد الحسين، كذا أخبرني ربّي (جل جلاله) أنّه سيخلق من صُلبالحسين ولداً، وسمّاه عنده عليّاً، خاضعاً لله خاشعاً، ثمّ يُخرج من صلب عليٍّ ابنَه، وسمّاه عنده موسى، واثقٌ بالله محبٌّ في الله، ويُخرج اللهُ من

ص: 176

صلبه ابنه، وسمّاه عنده عليّاً، الراضي بالله والداعي إلى الله (عزوجل) ، ويُخرج من صلبه ابنه، وسمّاه عنده محمّداً، المرغّب في الله والذابّ عن حرم الله، ويُخرج من صلبه ابنه، وسمّاه عنده عليّاً، المكتفي بالله والوليّ لله، ثمّ يُخرج من صلبه ابنه، وسمّاه الحسن، مؤمنٌ بالله مرشدٌ إلى الله، ويُخرج من صلبه كلمةَ الحقّ ولسان الصدق ومُظهِر الحقّ، حُجّة الله على بريّته، له غيبةٌ طويلةٌ، يُظهِر الله (تعالى) به الإسلام وأهله، ويخسف به الكفر وأهله ((1)).

وقد روت أُمّها حديث الكساء بألفاظٍ شتّى، كما ورد في أُمّهات مصادرهم..

ففي (كتاب مسلم):

حدّثَنا أبو بكر بن أبي شَيبة ومحمّد بن عبد الله بن نمير _ واللفظ لأبي بكر _، قالا: حدّثَنا محمّد بن بشر، عن زكريّا، عن مصعب بن شيبة، عن صفيّة بنت شبية قالت: قالت عائشة:

خرج النبيّ (صلی الله علیه و آله) غداةً وعليه مرطٌ مرحَّلٌ من شعرٍ أسود،فجاء الحسنُ بن عليٍّ فادخلَه، ثمّ جاء الحسين فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلَها، ثمّ جاء عليٌّ فادخلَه، ثمّ قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ

ص: 177


1- كفاية الأثر للخزّاز القمّيّ: 187.

تَطْهِيراً﴾ ((1)) ((2)).

دلالات حديث الكساء لا تخفى على مَن يسمعه، ومن أبرز ما فيه ممّا لا يحتاج إلى تأمُّلٍ وتمعُّنٍ خاصٍّ هو التعبير عن العصمة بوضوح.

بيد أنّ عَمرة _ كما عرّفها من ترجم لها _ كانت من أخصّ النساء بأُمّها، وأكثرَ مَن أخذ منها وروى عنها، فهي تدور في فلكها وتطحن نفس بيدرها، وقد دأبت أُمّها على كتمان الحقّ ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً..

قال أبو المفضّل: قال موسى بن محمّد بن إبراهيم: حدّثَني أبي أنّه قال: قال لي أبو سلَمة:

إنّي دخلتُ على عائشة وهي حزينة، فقلتُ لها: ما يُحزنك يا أُمَّ المؤمنين؟ قالت: فُقِد النبيّ وتظاهر الحسكات.

ثمّ قالت: يا سمرة، ايتني بالكتاب. فحملَت الجارية إليها كتاباً، ففتحَت ونظرت فيه طويلاً، ثمّ قالت: صدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقلتُ: ما يا أُمَّ المؤمنين؟ فقالت: أخبارٌ وقصصٌ عن رسولالله (صلی الله علیه و آله) . قلت: فهلّا تحدّثيني بشيءٍ سمعتِه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قالت: نعم، حدّثَني حبيبي رسول الله، قال: «مَن أحسن فيما بقي مِن عُمُره، غفر الله لما مضى وما بقي، ومَن أساء فيما بقي من عُمُره، أُخِذ فيما مضى وفيما بقي».

ص: 178


1- سورة الأحزاب: 33.
2- كتاب مسلم: 7 / 130.

ثمّ قلت: يا أُمّ المؤمنين، هل عهد إليكم نبيُّكم كم يكون مِن بعده مِن الخلفاء؟ قال: فأطبقَت الكتاب، ثمّ قالت: نعم. وفتحَت الكتاب وقالت: يا أبا سلَمة، كانت لنا مشربة. وذكرت الحديث، فأخرجتُ البياض وكتبتُ هذا الخبر، فأملَتْ علَيّ حفظاً ولفظاً.

ثمّ قالت: اكتمْه علَيّ يا أبا سلَمة ما دُمتُ حيّة! فكتمتُ عليها، فلمّا كان بعد مُضيّها دعاني عليٌّ (علیه السلام) وقال: «أرني الخبرَ الّذي أملَتْ عليك عائشة». قلت: وما الخبر يا أمير المؤمنين؟ قال: «الّذي فيه أسماء الأوصياء بعدي». فأخرجتُه إليه.

وللخبر أسانيد كثيرة، أُتي على ذِكرها في المصدر ((1)).

فلعلّها سلكت مسلك سيّدتها حين أمرت بكتمان الخبر، وأبتْ أن تُعلن عن أسماء الخلفاء بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) ، كما روى النباطيّ البياضيّ في (الصراط المستقيم)، قال:

وأسند الدوريستي أنّ المثنّى سأل عائشة: كم خليفة بعد الرسول (صلی الله علیه و آله) ؟ فقالت: أخبرَني باثني عشر، أسماؤهم عنديمكتوبةٌ بإملائه. فقلت: اعرضيها علَيّ. فأبَتْ ((2)).

فمن كانت بمنزلة عَمرة من سيّدتها وغزارة ما ترويه عنها، حتّى أنّهم نحلوها صفة الأعلم بها وبحديثها، وأنّ ما عندها إنْ ضاع ضاع العلم الساحّ

ص: 179


1- كفاية الأثر للخزّاز القمّيّ: 187.
2- الصراط المستقيم للنباطيّ البياضيّ: 2 / 122.

عنها، فكيف تروي ولا تعي ما تروي؟!

أو أنّها تتظاهر بعدم الوعي، وتتنكّر للحقّ وأهله؟!

أو أنّ الأحقاد الّتي ارتضعتها في الأحضان الّتي نشأت فيها، رشحت على كلّ وجودها، فأعمتها وأصمّتها وطمست بصيرتها؟! ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ ((1)).

أتدعو مَن أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً _ بصريح كلام الله في القرآن، ونصّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وإجماع المسلمين بكلّ ألوانهم وطوائفهم واتّجاهاتهم _ لطاعة أبناء البغايا الرخيصات النتنات البائرات من ذوات الأعلام المخرّقة؟!

أيلزم الإمام خامس أصحاب الكساء وابن البتول الطاهرة سيّدة النساء وابن سيّد الرسل وسيّد الأوصياء وأحد السبطين طاعة ابن ميسون وابن هند وسليل البغاء المغسول بدنان الخمر، اللاحس لعاب القردة، الثمل بصديد المومسات؟!

أيكون على حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) الّذي فرض الله طاعته علىالعباد أن يطيع غيره، أيّاً كان؟!

أيمكن أن تكون الجماعة مع غيره؟!

إنْ هذا إلّا بهتانٌ عظيم.. غير أنّه دأب القوم منذ يوم فارق النبيّ

ص: 180


1- سورة الطور: 11.

الأمين (صلی الله علیه و آله) هذه الأُمّة والتحق بالرفيق الأعلى.. لقد دأبوا على قلب الموازين، واتّخذوا أوثانهم أرباباً من دون الله ودون أوليائه المخلصين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون..

إنّ هذه اللغة الفجّة الغليظة الجلفة تشي بوضوحٍ أنّ عَمرة لم تكن تتكلّم من ذات نفسها فقط، وإنّما هي تسيح على الكتاب من تراكمات الأحقاد المتكلّسة في أجواف الّذين أخذَت عنهم وخدمَتهم.

النكزة السادسة: تخبره بمصيره ومصرعه!

جعلت عَمرة تُخبر الإمام (علیه السلام) العالم بالله ربيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنّه إنّما يُساق إلى مصرعه..

وقد استشهدت لذلك بما سمعَتْه من أُمّها.. فهل سمعت أُمّها ما لم يسمعه ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟

وهل خفي إخبار رسول الله (صلی الله علیه و آله) بمقتل الإمام الحسين (علیه السلام) على أحدٍ من المسلمين يومئذ؟

إنّ الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) أخبرا أنّ السبط الحبيب ستقتله بنو أُميّة، وحددّاالمتولّي للقتل منهم بالاسم والصفة بما لا يقبل الشكّ والترديد..

وقد دلّت الحوادث وسير الأحداث المتلاحقة يومها أنّ الإمام (علیه السلام) مصروعٌ مقتولٌ هو ومَن معه، فليس فيما قالته عَمرة جديدٌ ولا سرٌّ مكنونٌ اختصّت به دون غيرها، ثمّ أفاضت به وقت الحاجة إليه.

ص: 181

أجل، يمكن أن يُفهَم ما صرّحَت به بنحوٍ يناسب موقعها وأدبيّاتها ونفسيّاتها وسوابقها وانتمائها..

إنّها تنطق عن لسان العدوّ الغاشم، وتعزف على نفس إيقاعاته الهائجة الصاخبة، فهي تطلق كلماتها بقوّةٍ وجلفيّة، وتكتب أنواطها على لوحات التهديد والتحذير والوعيد..

وربّما كان واضحاً لمن يقرأ النصّ بإمعانٍ أنّه يحمل في طيّاته وصياغته روح التهديد والتهويل والتوعّد والتخويف، ويسرّب أصوات أجراس الإرعاب وأبواق الحرب.. فهي تُلقي في روع من يقرأ النصّ أنّها تريد أن تقول للإمام خامس أصحاب الكساء: لا تخرج على القوم (الخروج بالمعنى الذي يسوّقه القتَلَة)، فإنْ خرجتَ ولم تسمع قولي فإنّا قاتلوك!

النكزة السابعة: روايتها خبر المصرع فقط!

سمعنا قبل قليلٍ أنّ أُمّها كانت تروي الكثير من مناقب سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصحاب الكساء (علیهم السلام) رغم أنفها، وقد كتمَتْ ما كتمَتْ،وخرج منها _ سالماً ومحرّفاً _ ما ملأ كتبهم ومصادرهم..

وهنا نسمع عَمرة تروي عن أُمّها خبر مصرع سيّد الشهداء (علیه السلام) في إيقاعٍ تهديديٍّ مزمجر، وفي جوٍّ صاخبٍ ملوّث، من دون الإشارة إلى كلمةٍ واحدةٍ ممّا قاله النبيّ (صلی الله علیه و آله) في سبطه وحبيبه، كيما تكون شهادةً منها على موقع الإمام الحسين (علیه السلام) من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، وتخويفاً وتحذيراً لأعدائه

ص: 182

الّذين يواجهونه، كما شهدَت بسماع خبر مصرعه عن أُمّها عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

النكزة الثامنة: لم تنصر الإمامَ (علیه السلام) بكلمة

إنّها حذّرت سيّد الشهداء (علیه السلام) بكلّ وقاحةٍ وصلافة، بَيد أنّها لم تتفوّه بكلمةٍ واحدةٍ يمكن أن تغيض بها أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و آله) وأعداء الإمام (علیه السلام) ..

لم تسجّلْ أيَّ موقفٍ أو كلمةٍ يمكن أن تصدر عنها، لتكون عِبرةً لمن يسمعها من أعداء الإمام (علیه السلام) ..

لم تُذكّر الأعداء الّذين قصدوا حياة الإمام (علیه السلام) والقضاء عليه، ولو بخبرٍ أو حديثٍ واحدٍ سمعَته من أُمّها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتحذيراته المتكثّرة من قتل ريحانته ودعوة الأُمّه لنصره وتخويفهم من مغبّة خذلانه..

لم تحذّر القوم من جناية الاعتداء على الإمام الحسين (علیه السلام) باعتباره أحدالمسلمين _ على الأقلّ _، وأنّ ﴿مَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ ((1))، وأنّ قاتل الحسين (علیه السلام) يُعذَّب عذاباً يستغيث منه أهل النار ويتعوّذون من نتنه..

لم توظّف منزلتها عند أُمّها وأُمّهم ومقامَها عندهم ووجاهتها وجاهها ونفوذها، لتذبّ عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولو بكلمةٍ واحدة، وتنذرهم أنّهم إنْ

ص: 183


1- سورة النساء: 93.

قتلوا حسين النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فيسحتهم الله بعذابٍ أليمٍ في الدنيا والآخرة!

فهي في عداد مَن خذل الإمام (علیه السلام) وترك نصرته، بل هي في عداد من ألّب عليه وحرّض، وأعطى للعدوّ ذريعةً ودلّه على ما يمكن أن يتذرّع به عند أتباعه وذيوله.

النكزة التاسعة: تشويه معنى إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله)

يُشعِر سياقُ كلام عَمرة، سيّما قولها: «أنّه يُساق إلى مصرعه» _ وربّما أفاد ذلك أيضاً ردّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) عليها _، أنّها شوّهَت معنى إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) بمقتل وَلده وريحانته، فحاولت ضخّ معنى الجبر في كلام النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهي العقيدة الّتي روّج لها حكّام الجَور ليبرّروا ظلمهم وجَورهم، ويُلقون باللائمة على ساحة الربوبيّة المنزّه، فسبحان الله عمّايصفون.

من المعلوم أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) إذ أخبر عن مقتل ريحانته وسبطه، وذكر اسم قاتله والمشاركين له في الجناية العظمى من السابقين واللاحقين، إنّما أراد _ فيما أراد _ أن يكشف عن مدى إصرار القوم على فعلتهم، ويبرّئ ساحة الإمام المعصوم المنزّهة، ويكشف عن نوايا المجرمين.

النكزة العاشرة: أرض بابل!

اشارة

إشتهر على لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله) أسماء الأرض الّتي يُقتَل فيها حبيب الله

ص: 184

وحبيب رسوله الإمام الحسين (علیه السلام) ومَن معه، من قبيل: أرض الطف، كربلاء، الغاضريّة، العراق، الشطّ، الفرات.. وغيرها من الأسماء المعروفة.

أمّا (أرض بابل)، فليس من الأسماء المسموعة في ألفاظ النبيّ (صلی الله علیه و آله) كاسمٍ من أسماء الأرض الّتي يُقتَل فيها سبطه وريحانته، وإنّما جاء هذا الاسم في هذا الخبر الّذي ترويه عَمرة عن سيّدتها..

ولا ندري إنْ كان جاء في غير هذا الخبر، إذ أنّنا لم نجده في خبرٍ آخَر حسب فحصنا وتتبعنا، والله العالم.

ويمكن أن نتصوّر ورود هذا الاسم بالذات في خبر عَمرة عن مربّيتها بأحد تصوّرين:

التصوّر الأوّل: اسمٌ يشمل أرض كربلاء

ربّما أُطلق اسم بلدٍ معيّنٍ على جملةٍ من البلدان المتقاربة جغرافيّاً، مع اختصاص كلّ بلدٍ من البلدان باسمٍ خاصٍّ به.

فاسم كربلاء واسم الغاضريّة ونينوى والنواويس والطفّ وغيرها، كلُّ واحدةٍ من هذه الأسماء هي أسماءٌ لقرىً معيّنةٍ لها موقعٌ جغرافيٌّ معيَّن، بَيد أنّها لمّا كانت متقاربةً متداخلةً أحياناً أطلقوا اسم أحدها على جميعها.

وربّما كانت بعض الأسماء تُطلَق عليها أيضاً ويُراد بها أحدها أو جميعها أو بعضها، من قبيل: شطّ الفرات، أو أرض الطفّ، ومن قبيل: أرض العراق ويُراد به الكوفة فقط أو الكوفة والبصرة، وهكذا..

ص: 185

قال الحمَويّ:

نحو قوله: بابل، والعراق، والسواد، وبغداد، والنهروان، والكوفة، كلّ هذا من السواد، وكلّ هذا من أرض بابل، وكلّ هذا من العراق وبغداد والنهروان والكوفة، فمضمومةٌ إلى ذلك ... ((1)).

وأرض بابل اسمٌ يُطلَق على مجموعةٍ كبيرةٍ من البلدان والكور والقرى، فيكون هنا استخدام أرض بابل وإطلاقه على موضع شهادة السبط المنحور من قبيل إطلاق اسمٍ عامٍّ على موضعٍ خاصٍّ من توابعه.

التصوّر الثاني: خبث التوظيف

روى الصفّار وغيره كثيرون:

حدّثَنا أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن عبد الله بن بحر، عن عبد الله مسكان، عن أبي بصير، عن أبي المقدام، عن جويريّة ابن مسهر قال:

أقبلْنا مع أمير المؤمنين (علیه السلام) مِن قتلِ الخوارج، حتّى إذا قطعنا في أرض بابل حضرَت صلاة العصر.

قال: فنزل أمير المؤمنين ونزل الناس، فقال أمير المؤمنين: «يا أيّها الناس! إنّ هذه الأرض ملعونة، وقد عُذّبَت من الدهر ثلاث مرّات، وهي إحدى المؤتفكات، وهي أوّل أرضٍ عُبد فيها وثن،

ص: 186


1- معجم البلدان للحمَويّ: 1 / 34.

إنّه لا يحلّ لنبيٍّ ولوصيّ نبيٍّ أن يصلّي فيها». فأمر الناس فمالوا عن جنبَي الطريق يصلّون، وركب بغلة رسول الله فمضى عليها.

قال جويريّة: فقلت: واللهِ لَاتّبعنّ أمير المؤمنين، ولَأقلّدنّه صلاة اليوم. قال: فمضيت خلفه، فواللهِ ما صرنا جسر سورا حتّى غابت الشمس. قال: فسببتُه، أو: هممتُ أن أسبّه. قال: فقال: «يا جويريّة، أذِّنْ». قال: فقلت: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: فنزل ناحيةً فتوضّأ، ثمّ قام، فنطق بكلامٍ لا أحسبه إلّا بالعبرانيّة، ثمّ نادى بالصلاة، فنظرت _ واللهِ _ إلى الشمس قدخرجَت من بين جبلَين لها صرير، فصلّى العصر، وصلّيتُ معه.

قال: فلمّا فرغنا من صلاته عاد الليل كما كان، فالتفت إليّ فقال: «يا جويريّة بن مسهر، إنّ الله يقول: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ ((1))، فإنّي سألتُ اللهَ باسمه العظيم فردّ علَيّ الشمس».

وروى العامّة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّها أرضٌ ملعونة، من قبيل ما وراه أبي داوود في (سُننه) _ وغيره كثير _، قال:

حدّثَنا سليمان بن داوود، أخبرَنا ابن وهب، قال: حدّثَني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر، عن عمّار بن سعد المراديّ، عن أبي صالح

ص: 187


1- سورة الواقعة: 74.

الغفاريّ:

أنّ عليّاً مرّ ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذّن يؤذّن بصلاة العصر، فلمّا برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلمّا فرغ قال: «إنّ حبيبي (صلی الله علیه و آله) نهاني أن أُصلّى في المقبرة، ونهاني أن أُصلّى في أرض بابل؛ فإنّها ملعونة» ((1)).

فهي أرضٌ ملعونةٌ على لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله) برواية أمير المؤمنين (علیه السلام) نفسه..وهي قد عُذّبَت من الدهر ثلاث مرّات..

وهي إحدى المؤتفكات..

ص: 188


1- أُنظر: بصائر الدرجات للصفّار: 237 الباب 2 ح 1، الخلاف للشيخ الطوسيّ: 1 / 497، منتهى المطلب للحلّيّ: 4 / 317، الوافي للكاشانيّ: 26 / 386، مواهب الجليل للخطاب الرعينيّ: 1 / 69، نيل الأوطار للشوكانيّ: 2 / 143، مَن لا يحضره الفقيه للصدوق: 1 / 204، الخرائج للراونديّ: 1 / 224، بحار الأنوار للمجلسيّ: 33 / 439، سنن أبي داوود: 1 / 118، السنن الكبرى للبيهقيّ: 2 / 451، فتح الباري لابن حَجر: 1 / 442، عُمدة القاري للعينيّ: 4 / 189، تحفة الأحوذيّ للمباركفوريّ: 2 / 274، معرفة السنن والآثار للبيهقيّ: 2 / 256، الاستذكار لابن عبد البرّ: 1 / 93، التمهيد لابن عبد البرّ: 5 / 212، تغليق التعليق لابن حجَر: 2 / 231، كنز العمّال للهنديّ: 8 / 193، تفسير الجامع للقرطبيّ: 10 / 50، تفسير القرآن لابن كثير: 1 / 147، الدرّ المنثور للسيوطيّ: 1 / 96.

وهي أوّل أرضٍ عُبد فيها وثن..

وهي أرضٌ لا يحلّ لنبيٍّ ولوصيّ نبيٍّ أن يصلّى فيها..

ولا نريد التوسّع في ربط هذه الخصال الّتي ذكرها أمير المؤمنين (علیه السلام) لهذه الأرض بما نحن فيه، بَيد أنّ اللبيب سيعرف مدى دناءة الربط وحقارة المرأة وحاضنتها الّتي روت عنها، حين يكون استبدال اسم الأرض من الأسماء المعروفة إلى هذا الاسم بالذات!

ويفيد أدنى تأمُّلٍ في كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) وما روته المرأة أنّ سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) قصد عمداً أرضاً ملعونةً بتقرير سيّد الأنبياء (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) ..

قصد أرضاً عذّبها الله ثلاث مرّات.. فلا غرو أن يعذّب فيها مَن يقصدها!

قصد أرضاً هي أحدى المؤتفكات.. فلا عجب إن اتفكأت مَن قصدها عامداً!

قصد أرضاً عُبد فيها أوّل وثن.. وسيكون له فيها قبرٌ يُزار!

قصد أرضاً لا يحلّ لنبيٍّ ولا وصيٍّ أن يصلّي فيها.. أوَليس الإمام الحسين (علیه السلام) وصيّاً؟!هل قصدَتْ هذه الأفّاكة المائنة هذه المعاني من توظيف هذا الاسم بالذات؟! إنْ كانت قد غيّرت وبدّلَت وقصدَت، فعليها لعنة الله ولعنة الملائكة ولعنة الخلائق أجمعين حتّى يرضى الإمام (علیه السلام) ورسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 189

وأهل بيته (علیهم السلام) وبعد الرضى.

جواب الإمام (علیه السلام)

اشارة

يُلاحَظ في جواب الإمام (علیه السلام) :

أولاً: الردّ بالقول لا بكتاب

مَن حمل الكتاب إلى الإمام (علیه السلام) ؟

هل انتظر الكاتب وحامِلُ الكتاب ردّاً مكتوباً من الإمام (علیه السلام) ؟

هذا ما لم يُشر إليه المؤرّخ، بَيد أنّ جواب الإمام (علیه السلام) لم يكن أكثر من أن ردّ عليها بكلمةٍ ألزمها بها بما ألزمَت به نفسها، ثمّ مضى.

لم يكترث بها الإمام (علیه السلام) ولا بكتابها..

لم يدعُ لها ولم يذكرها في جوابها تصريحاً ولا تلويحاً..

لم يقم لها وزناً ولم يلتفت إليها..

فالإمام (علیه السلام) لم يوجّه خطابه إليها، أو إلى حامل الكتاب، وإنّما قال قولاً عامّاً.فلمّا قرأ كتابها قال: «فلابدّ لي إذاً من مصرعي»، ومضى ((1)).

ص: 190


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

لا يُشعِر قولُ الإمام (علیه السلام) أنّه قد وجّهه إلى حامل الكتاب لينقله للكاتب، كأن يقول (علیه السلام) : قُلْ لها، أو: أبلِغْها.. أو غيرها من التعابير الّتي تفيد توجيه الخطاب لأحدٍ بعينه.

ثانياً: إلزامها بما روَتْ

ساقَتْ عَمرةُ كلامها مساقاً يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) يُساق إلى مصرعه، وأنّه إنْ خرج إلى (أرض بابل) فهو مقتولٌ لا محالة.

فكان جواب الإمام (علیه السلام) إلزاماً لها بما روَتْ عن مربّيتها؛ إذ كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد أخبر عن مصرع ريحانته ثَمّة، فلابدّ أنّ الإمام (علیه السلام) سيقصد مصرعه كما أخبر جدّه (صلی الله علیه و آله) ، وهو أصدق القائلين!

فلا معنى لتحذيرها ومنعها وصدّها وسعيها في تكذيب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وتطفّلها في مقامٍ تعلم أنّ سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) أعرف وأعلم منها ومن العالمين جميعاً بأقوال جدّه (صلی الله علیه و آله) ، وبالأفضل الّذي ينبغي أن يختاره.

فلمّا قرأ كتابها قال: «فلابدّ لي إذن مِن مصرعي»، ومضى (علیه السلام) ((1)).

ص: 191


1- الإمام الحسين (علیه السلام) سماته وسيرته للجلاليّ: 131.

ثالثاً: مؤدّى جواب الإمام (علیه السلام)

طالما قلنا أنّ إخبارات النبيّ (صلی الله علیه و آله) بمقتل وَلده، يفيد فيما يفيد تقريرَ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وإخباره عن عزم العدوّ على قتل ريحانته وإقدامه على ذلك، والجزم بما يخطّط له أعداؤه ويسعون في تنفيذه.

فرسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أخبر أنّ العدوّ سيقتل ولده لا محالة، وها هو العدوّ قد أقدم وباشر في تنفيذ ما يريد، وقد جرت الحوادث الخارجيّة وسارت الأحداث سيراً حثيثاً متسارعاً بفعل العدوّ نحو تحقيق غرضه في خامس أصحاب الكساء..

فهم لا يتركونه حتّى يستخرجوا العلقة المقدّسة من صدره خزانة علم الله (تبارك وتعالى).

قد أذن العدوّ بالحرب ودقّ طبولها، وكاد يقيمها على ساق، وتوثّبَت العُسلان المجوَّعة والأكراش والأجربة السغبى الجوفاء لافتراس الأبدان المقدَّسة، وتحاملت الذئاب والضباع لتمزيق الأوصال الشريفة، فتقاربت الساعة وحقّت..

وقد أزفت الساعة الّتي أخبر عنها النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأذنت الدنيا بإعلانٍصدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما أخبر عن نوايا العدوّ الّتي راحت تتكشّف، وغدت رياح الغدر تعصف في الأجواء، ولاحت بوادر الفاجعة العظمى في الأرجاء، ولاحت بوادر مبادرات الأعداء تبدو واضحةً لكلّ ذي عينين..

هكذا كان إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) عن الله (عزوجل) ..

ص: 192

وهكذا أخبرت عَمرةُ عن سيّدتها..

وهكذا ألزمها ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بما روت..

وهكذا اختصرت محنة الإمام المكروب المهموم المغموم المظلوم المنحور المهتوك الخباء المقطّع الأعضاء المسبيّ النساء..

وهكذا أجاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، واقتصر في الجواب على تصديق رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، دون الإعلان عن وجود نوايا خاصّةٍ عنده _ فداه العالمين _ يقصد فيها السلطة والحكّام بأيّ وسيلةٍ ولأيّ غرض!

ص: 193

ص: 194

لقاء الأوزاعيّ

اشارة

روى الطبريّ في (الدلائل):

قال أبو جعفر: وحدّثَنا يزيد بن مسروق، قال: حدّثَني عبد الله بن مكحول، عن الأوزاعيّ قال:

بلغَني خروج الحسين إلى العراق، فقصدتُ مكّة، فصادفتُه بها، فلمّا رآني رحّب بي وقال: «مرحباً بك يا أوزاعيّ! جئتَ تنهاني عن المسير، ويأبى الله إلّا ذلك، إنّ من هاهنا إلى يوم الإثنين منيّتي».

فجهدتُ في عدد الأيام، فكان كما قال ((1)).

وروى الحرّ العامليّ قال:

وروى صاحب كتاب (مناقب فاطمة وولدها): ...

ص: 195


1- دلائل الإمامة للطبريّ: 75، نوادر المعجزات: 108، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 238.

وبإسناده عن الأوزاعيّ أنّه رأى الحسين (علیه السلام) بمكّة، فلمّا رآه قال: «مرحباً بك يا أوزاعيّ! جئتَ تنهاني عن المسير؟ وأبى الله (عزوجل) إلّا ذلك، إنّ من هاهنا إلى يوم الإثنين مبعثي». فكان كما قال ((1)).

* * * * *

يمكن التوقّف عند هذا المتن واستطلاعه من خلال النقاط التالية:

النقطة الأُولى: مَن هو الأوزاعيّ؟

لا نعرف الأوزاعيّ هذا حسب الفحص الّذي قمنا به، فالأوزاعيّ أكثر من واحد، غير أنّنا حاولنا استعراض أخباره الّتي يلوح منها أنّه هو المعاصر لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، من قبيل ما رواه الشيخ ابن شهرآشوب في (مناقبه) عن كتاب الأحمر أنّه قال الأوزاعيّ:

لمّا أُتيَ بعليّ بن الحسين ورأسِ أبيه إلى يزيد بالشام، قال لخطيبٍ بليغ: خُذْ بيد هذا الغلام فائتِ به إلى المنبر، وأخبر الناس بسوء رأي أبيه وجدّه وفراقهم الحقّ وبغيهم علينا ...

ثمّ نقل خطبة الإمام السجّاد (علیه السلام) في مجلس يزيد (لعنه الله) ((2)).

ص: 196


1- إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 589 الرقم 72.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 168، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 174.

فظاهر هذا الخبر أنّ الأوزاعيّ يحدّث هنا مباشرةً من دون وسائط عن حدثٍ كأنّه عاصره، بيد أنّ المتلقّي لا يمكنه أن يبتّ بذلك، لاحتمال أنّه ينقل الخبر عن غيره مع حذف الوسائط، كما هو الحال في الأخبار الأُخرى المماثلة.

لذا سنتعامل مع الخبر المرويّ هنا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) من دون تقييمٍ لشخص الأوزاعيّ ومعرفة سوابقه وخلفيّاته وعقائده وسلوكياته.

النقطة الثانية: خبر الطبريّ وخبر العامليّ

يبدو أنّ الأصل في الخبر هو كتاب (الدلائل) للطبريّ، وما يرويه الحرّ العامليّ في (الإثبات) قريبٌ جدّاً من لفظ الطبريّ، إلّا بعض الألفاظ الّتي لا تؤثّر كثيراً في فهم الخبر، ربّما أشرنا إليها في مواضعها.

النقطة الثالثة: قَصَدَ الإمام (علیه السلام)

الظاهر من النصّ أنّ الرجل قد قَصَد الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، ولا ندري من أين قصده، فربّما كان هو من أهل دمشق، كما يفيد الخبر الّذي يرويه (الأوزاعيّ) عن لقائه الإمام الباقر (علیه السلام) ، وأنّ الإمام سأله عن بلده، فقال: رجُلٌ من أهل الشام. فقال (علیه السلام) : «من أيّ أهل الشام؟»، فقال: رجُلٌ من

ص: 197

أهل دمشق ... ((1)).

ونحن لا ندري إن كان هذا الأوزاعيّ هو صاحب هذا الخبر أو غيره؟

المهم أنّه قصد الإمام (علیه السلام) حين بلغه خروجه إلى العراق، ولم يذكر لنا كيف بلغه الخبر، والأمر لم يكن قد اشتهر في الأوساط العامّة، وعلى أقصى التقادير فإنّ الخبر إن كان قد اشتهر فإنّه إنّما اشتهر في الأيام الأخيرة قبل خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة.

ولا ندري ما دخل هذا الرجل في قضيّة خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة وهو لا يريد نصره؟!

النقطة الرابعة: ابتداء الإمام (علیه السلام) وجوابه

قصد مكّة والتقى الإمام (علیه السلام) ، فلمّا رآه الإمام رحّب به.. يلزم أن يكون الإمام (علیه السلام) _ في الحسابات الظاهريّة _ يعرفه.

وابتدأه الإمام (علیه السلام) بعد الترحيب بإخباره بما جاء له: «جئتَ تنهاني عن المسير!»، وهذا هو الإعجاز الّذي دعا الطبريّ لإيراد الخبر كمعجزٍ من معاجز الإمام (علیه السلام) .

وهذا النوع من اللقاء مفردةٌ جديدةٌ في قاموس المعترضين على الإمام (علیه السلام) عند خروجه من مكّة، إذ أنّه يبتدئ المعترض قبل أن يتكلّم.

ص: 198


1- حلية الأولياء لأبي نعيم: 6 / 146.

إنّها سعة صدر الإمام (علیه السلام) ومداراته للخَلق، وهو أعرف بهم من أنفسهم، حيث استقبل الرجل استقبالاً ورحّب به، وهو قد قصد الإمام (علیه السلام) ليعترضه وينهاه عن المسير، والإمام (علیه السلام) عازم!

ثمّ ردّ الإمام (علیه السلام) عليه فوراً قبل أن يتكلّم الأوزاعيّ، وأرجع الأمر إلى إرادة الله، «ويأبى الله إلّا ذلك»، أي: إلّا المسير، ثمّ قال الإمام (علیه السلام) : «إنّ من هاهنا إلى يوم الإثنين منيّتي»..

يبدو أنّ المقصود بيوم الإثنين هو يوم عاشوراء، وسيأتي الكلام في تعيين اليوم في محلّه إن شاء الله (تعالى)، لذا فسوف نتغاضى عن هذا التحديد على ما فيه، وإن كان يُعدّ ثغرةً يمكن التعلّق بها في مقام مناقشة الخبر.

المهمّ أنّ الإمام (علیه السلام) قد حدّد له منيّته بيومٍ من أيّام الأُسبوع، وأنّ مسيره سينتهي بمنيّته، وهذا الكلام صدر في مكّة قبل خروج الإمام (علیه السلام) منها حسب مفروض الخبر..

فالإمام (علیه السلام) عالمٌ على ماذا يقدم، وبماذا ينتهي مسيره وسفره، وهذا ما لا نقاش فيه!

ولكنّ هذا الإخبار الغيبيّ المعجز يستبطن خبراً مهمّاً..

إنّ الله يأبى له إلّا المسير.. سواءً حملنا على الأمر الغيبيّ، أو علىالإخبار عن التكليف المتعيّن، إذ أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة كان يعني _ بالقطع واليقين من دون أيّ تردُّدٍ أو مناقشةٍ _ قتْلَه فيها وهتكَ حُرمة البيت الحرام

ص: 199

وهتكَ الحرمة الأعظم، وهي حرمة دمه المقدّس، ويأبى الله ذلك.. فلابدّ من المسير وحماية الحرمات!

ثمّ إنّ الخبر يستبطن إخباراً آخَر أيضاً، فهو إن خرج من مكّة لا يعني ذلك السلامة من القتل، إذ أنّ العدوّ الّذي لاحقه في المدينة وجعل يلاحقه في مكّة هو نفسه الّذي سيلاحقه في جُحر أيّ هامّةٍ من هوامّ الأرض دخل، وسوف (لا) و(لن) يتركه حتّى يستخرج العلقة المقدّسة من صدره ويقتله.. فهو مطلوب الدم على كلّ حال، وفي كلّ مكان، وسوف لا يتوانى العدوّ في عزمه حتّى يقتله، ولا يقتله حتّى يُقتَل مَن معه، ولا يكتفي بذلك حتّى يسبي عياله!

النقطة الخامسة: جهد الأوزاعيّ!

في الخبر مفاجأةٌ مقرفةٌ شنيعة، إذ يشرع الخبر بحركةٍ منفعلةٍ ونشاطٍ وانطلاقةٍ حادّةٍ حارّةٍ تغلي.. بلغه خروج الإمام الحسين (علیه السلام) إلى العراق، فقصده في مكّة.. وهنا يظنّ المتلقّي أنّه سيرقى إلى مستوى إدراك المسؤوليّة، وإدراك الموقف، والمسارعة إلى الخير والرضوان، والمبادرةإلى التمسّك بالعروة الوثقى، واللجوء إلى جنب الله والاصطفاف في صفّ عباد الرحمان..

أراه الإمام (علیه السلام) معجزةً تكفي ليذعن إليها ويسلّم للإمام (علیه السلام) بعد أن أخبره بما أضمره وجاء من أجله..

لى أنّ الإمام (علیه السلام) هو المطلوب الأوّل والهدف الرئيس والغاية الّتي يلهث من أجلها العدوّ، فالعدوّ لا يترك الإمام (علیه السلام) بحال، ولا يمكن أن يحتمل في جانبه _ وهو جَنْبُ الله _ أن يفرّج عنه العدوّ مهما كلّفه الأمر.

أجل، إذا ظفروا بالإمام (علیه السلام) فإنّهم سيلهون عن غيره، كما قال سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه في بعض كلماته القدسيّة مع أصحابه حين أذن لهم بالانصراف ليلة العاشر، إذ أكّد لهم أنّ القوم قد أسرّوا في أنفسهم قتله، وقال:

ص: 200

فيما نرى الأوزاعيّ هنا ينتكس، ويحوّل جهده وجهاده في عدّ الأيّام ينتظر خبر شهادة الإمام (علیه السلام) ، ليعلم فيما بعد أنّ الإمام (علیه السلام) قد صدق فيما أخبر!!!

نستجير بالله من سوء العاقبة.. لو كان قد لزم بيته ولزق بالأرض وأثقل نفسه بالحديد، لَكان خيراً له.. لو لم يكن يقصد الإمام (علیه السلام) ، لَما كانت الحجّة قد تمّت عليه..

قصد، وسمع من الإمام (علیه السلام) ما سمع.. ثمّ خذله، وأخلد إلى الأرض.. فما حدى به إلى دسّ أنفه في الأمر؟! ومَن هو حتّى يقصد الإمام (علیه السلام) لينهاه عن المسير؟!

ص: 201

ص: 202

لقاء جابر بن عبد الله الأنصاريّ

اشارة

ورد في لقاء جابر بن عبد الله خبران:

الخبر الأوّل: كذبٌ مفترع

روى ابن سعدٍ ومَن تلاه، قال:

• وقال جابر بن عبد الله: كلّمتُ حسيناً فقلتُ: اتّقِ الله! ولا تضرب الناسَ بعضهم ببعض! فوَاللهِ ما حمدتم ما صنعتم. فعصاني ((1)).

ص: 203


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

• [عن ابن سعد]: وكلّمه في ذلك جابر بن عبد الله وأبو واقدالليثيّ وغيرهما ((1)).

• [عن ابن سعد]: وكلّمه جابر وأبو واقد الليثيّ ((2)).

* * * * *

يمكن خدش هذا الخبر البائس عدّة خدوش، إذ أنّه خبرٌ مفضوحٌ لا يستحقّ المناقشة ولا المكث عنده.

يبدو من خلال متابعة المصادر أنّ الجميع ينقل عن ابن سعد، وقد صرّحوا بنقلهم عنه، فهو المصدر الأوّل لهذا الخبر، غاية ما في الأمر أنّ بعضهم نقله بالحرف وبعضهم اختصر.

ثمّ إنّ جابراً معروفٌ لدى القاصي والداني، وهو في جلالته ورفيع قدره ومنزلته من أهل البيت (علیهم السلام) بالمكان السامي والرتبة الراقية، وهو ربيب أصحاب الكساء (علیهم السلام) وملازمهم والمتأدّب بأدبهم.. فلا يمكن تصوّر صدور مثل هذه الجسارة، وهذا النمط من الكلام الوقح البذيء منه!

بيد أنّه خبث المؤرّخ والقاصّ والسلطان الظالم الّذي يوظّفهم ويملي عليهم ما يريد لأغراضٍ واضحةٍ مفضوحةٍ مكشوفة، لا تخفى إلّا على الأغبياء ممّن نخرت الدنيا قلوبهم، ونمت سوسة السلطان والخضوع

ص: 204


1- تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 342.
2- سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199.

والخنوع له في رؤوسهم، وتكاثرت ديدان الذلّة في صدورهم.إنّهم أرادوا إقحام هذا الطيّب الطاهر في دوامة المعترضين على الإمام الحسين (علیه السلام) على هذا النحو البائس، لأغراضٍ سنأتي على ذِكرها بعد قليلٍ إن شاء الله (تعالى).

نكتفي هنا بهذا القدر، لأنّنا نحسب أنّ الدخول في تكذيب الخبر ومناقشته يُعَدّان إهانةً وتعدّياً وتلويثاً لساحة جابر بن عبد الله.

الخبر الثاني: رواية ابن حمزة

اشارة

روى ابن حمزة عن جابر بن عبد الله (رضی الله عنه) قال:

لمّا عزم الحسين بن عليٍّ (علیهما السلام) على الخروج إلى العراق، أتيتُه فقلتُ له: أنت وَلدُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحدُ سبطَيه، لا أرى إلّا أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن، فإنّه كان موفّقاً راشداً.

فقال لي: «يا جابر! قد فعل أخي ذلك بأمر الله وأمر رسوله، وإنّي أيضاً أفعل بأمر الله وأمر رسوله، أتريد أن أستشهد لك رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) وعليّاً وأخي الحسن بذلك الآن؟».

ثمّ نظرت، فإذا السماءُ قد انفتح بابها، وإذا رسول الله وعليٌّ والحسن وحمزة وجعفر وزيد نازلين عنها حتّى استقرّوا على الأرض، فوثبتُ فزعاً مذعوراً.

فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «يا جابر! ألم أقل لك في أمر الحسن قبل

ص: 205

الحسين: لا تكون مؤمناً حتّى تكون لأئمّتك مسلّماً ولا تكن معترضاً؟ أتريد أن ترى مقعد معاوية ومقعد الحسين ابني ومقعد يزيد قاتله (لعنه الله)؟»، قلت: بلى يا رسول الله.

فضرب برجله الأرض فانشقّت، وظهر بحرٌ فانفلق، ثمّ ضرب فانشقّت هكذا حتّى انشقَّت سبع أرضين وانفلقَت سبعة أبحر، فرأيتُ مِن تحت ذلك كلّه النار، فيها سلسلةٌ قُرن فيها الوليد بن مغيرة وأبو جهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقُرن بهم مردةُ الشياطين، فهم أشدّ أهل النار عذاباً.

ثمّ قال (صلی الله علیه و آله) : «ارفعْ رأسك»، فرفعت، فإذا أبواب السماء متفتّحة، وإذا الجنّة أعلاها، ثمّ صعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومَن معه إلى السماء، فلمّا صار في الهواء صاح بالحسين: «يا بُنيّ الحقني»، فلحقه الحسين (علیه السلام) وصعدوا، حتّى رأيتُهم دخلوا الجنّة من أعلاها، ثمّ نظر إليّ من هناك رسول الله، وقبض على يد الحسين وقال: «يا جابر، هذا ولدي معي هاهنا، فسلِّمْ له أمره ولا تشكّ، لتكون مؤمناً».

قال جابر: فعميَت عيناي إنْ لم أكن رأيتُ ما قلتُ من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ((1)).

* * * * *

ص: 206


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة: 322 الرقم 266، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 243.

يمكن الوقوف عند هذا الخبر عن جابر قليلاً والاكتفاء ببعض الإشارات:

الإشارة الأُولى: قصَدَ الإمام (علیه السلام)

ذكر جابر أنّه أتى الإمام الحسين (علیه السلام) لمّا عزم على الخروج إلى العراق، والظاهر من هذه العبارة أنّه أتاه في مكّة، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قد عزم على المسير إلى العراق في مكّة.

ولا ندري مِن أين جاء جابر؟ هل جاءه من المدينة، أو من الكوفة، أو أنّه كان في مكّة يومذاك ثمّ أتى الإمام الحسين (علیه السلام) وقصده في نفس البلد؟

الإشارة الثانية: التقدُّم بين يدَي الإمام (علیه السلام)

قدّم جابر مقدّمةً مهمّةً قبل أن يُبدي رأيه بين يدَي إمام زمانه، إذ قرّر وأقرّ للإمام (علیه السلام) أنّه وَلد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأنّه أحد سبطيه..

وجابر رجُلٌ عالمٌ فقيه، يعرف ما يقول، وفي كلّ واحدةٍ من الألقاب الّتي خاطب بها الإمام (علیه السلام) دلالاتٌ عميقةٌ بعيدةٌ لا تخفى على مِثل جابر الّذي سمع النبيَّ (صلی الله علیه و آله) وسمع الإمامَ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وعرف مواضع استعمال هذه الألقاب في كلمات الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) .وبهذا أعرب جابر عن اعتقاده بمقام الإمام (علیه السلام) ومنزلته وما يجب للإمام (علیه السلام) عليه، غاية الأمر أنّه يرى نفسه بمكانٍ من الأئمّة، ويرى قربه

ص: 207

منهم، و«صُحبةُ عشرين سنةٍ قرابة» ((1))، وقد صحبهم جابر أكثر من ذلك بكثير، وصحب سبعةً من المعصومين بما فيهم الخمسة أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، وعلم أنّهم يقدّرون هذه الصحبة ويفون لها ويحتملونه، ويعلمون نواياه وكامن مقاصده.

* * * * *

قدّم جابر أوّلاً ما للإمام (علیه السلام) في قلبه واعتقاده بأنّه ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحد سبطيه، ثمّ ذكر رأيه ونسبه لنفسه، وبهذا قدّم قول الإمام (علیه السلام) على قوله قبل أن يشرع بالكلام..

ولم يجعل كلامه خياراً اختاره هو للإمام (علیه السلام) ، كأن يقول: لا أرى لك.. وإنّما حصر الأمر في رأيه الشخصيّ الّذي توصّل إليه هو بالقدر الّذي آتاه الله، فكلامه لا يصرّح بتحديد تكليفٍ للإمام (علیه السلام) ، ولا بتحديد موقفٍ له، وكأنّه جاء عند الإمام (علیه السلام) ليكشف عمّا يعتمل في داخله ويختلج في صدره، ويعلن عمّا يفكّر به هو ويراه شخصيّاً، فيعرضه على الإمام (علیه السلام) ، وللإمام (علیه السلام) أن يقبل أو يخطّئه، إذ أنّه إنسانٌ عاديٌّ عاش في ظلال أهلالبيت (علیهم السلام) ، والإمام الحسين ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأحد سبطيه وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) .

ص: 208


1- قرب الإسناد للحِميَريّ: 51 ح 164، الكافي للكلينيّ: 6 / 199 ح 5 عن الإمام الصادق (علیه السلام) .

الإشارة الثالثة: علم جابر!

لا شكّ أنّ جابراً كان قد سمع من النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وغيرهما ما سيجري على سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، فهو راويةٌ ملازمٌ لهم فترةً طويلة..

ولا شكّ في ولائه وحبّه لسيّد الشهداء (علیه السلام) ..

لذا لا يَحسُن حمل ما عرضه على الإمام (علیه السلام) _ كرأيٍ شخصيٍّ له _ على الاعتراض والتخطئة، وإنّما حاله حال أُمّ سلَمة وابن الحنفيّة الّذين كانوا قد سلّموا لما سمعوا من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهم يتحرّقون ألماً ويتضوّرون وجعاً، يلسعهم لهيب الوجد والخوف على الإمام (علیه السلام) ، وهم يعلمون أنّ الإمام (علیه السلام) مجاب الدعوة، تتوافق إرادته وإرادة الربّ، فكانوا يتمنّون أن لو يفعل الإمام (علیه السلام) فعلاً ينجو به من القتل.

فهم لا يعترضون، ولكنّهم يتلهّفون، ويتحرّقون، تشبّ في أعماقهم نيران الخوف على الإمام (علیه السلام) ، والخوف من المستقبل المفجع الّذي يترقّبونه..

الإشارة الرابعة: إبداء الرأي

بعد المقدّمة المؤدّبة الّتي تقدّم بها جابر، بادر إلى عرض رأيه الّذي انقدح في قلبه الولهان على سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، الخائفِ عليه من هذا السفر، فقال:

ص: 209

لا أرى إلّا أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن، فإنّه كان موفّقاً راشداً.

يرى جابر أنّ الإمام الحسن (علیه السلام) كان موفّقاً راشداً حينما صالح، وهو كذلك لا شكّ، ولكن ما يراه جابر أيضاً أن يفعل الإمام الحسين (علیه السلام) ما فعله أخوه (علیه السلام) .. إنّه سلّم لما فعله الإمام الحسن (علیه السلام) ، ثمّ طرح بين يدَي سيّد الشهداء (علیه السلام) فعلَ أخيه المعصوم، ولم يقترح من عند نفسه!

وهنا نكتةٌ مهمّةٌ عميقةٌ جدّاً ينبغي التنويه إليها:

إنّ الفرق الأساس بين موقف الإمام الحسن (علیه السلام) وبين موقف الإمام الحسين (علیه السلام) كان في نقطة أساسيّة..

دار الأمر أيّام الإمام الحسن (علیه السلام) بين الصلح والحرب، فاختار الإمام (علیه السلام) الصلح وأبعد خيار الحرب.

فيما يدور الأمر في أيّام الإمام الحسين (علیه السلام) بين البيعة الذليلة والقتل، والخيار الأوّل محال، فلابدّ من الخيار الثاني، والاستسلام للقتل على رؤوس الأشهاد من دون الدفاع عن النفس محالٌ أيضاً، فلابدّ من الدفاع عنالنفس، فلا مجال للصلح حينئذٍ، والقتال مفروضٌ على الإمام (علیه السلام) على كلّ حال!

هذا هو خلاصة أقوال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) الّتي تجمعها كلمتين:

قوله: «لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض، لَما تركوني حتّى يستخرجوني منه فيقتلوني.. لا يتركوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة.. وإنّهم سيقتلوني، بايعتُ

ص: 210

أم لم أُبايع»..

وقوله: «إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة»..

كيف كان، فإنّ الغرض الأصليّ الّذي يتعقّبه جابر من خلال كلامه هذا وإبداء رأيه، هو الحفاظ على حياة الإمام (علیه السلام) ، والبحث عن السبيل الّذي ينجو به من مخالب عُسلان الفلوات، وكبح جماح العدوّ الّذي يأبى إلّا أن يقتل الإمام (علیه السلام) .

الإشارة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام)

خاطبه الإمام باسمه: «يا جابر»، وهو يُشعِر بشدّة القرب وارتفاع الكلفة، والتعاملِ من خلال اللمسة الرفيقة الحنونة.

ثمّ أجاب الإمامُ (علیه السلام) جواباً يدركه جابر ويرضى به، إذ أنّه أرجعالموقف إلى أمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وجابر يرضى بهذا الأمر ويرضى بما يُخبِر به سيّدُ الشهداء (علیه السلام) .

كان أمر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) أن يصالح الإمامُ الحسن (علیه السلام) ، فيمنع الحربَ ويحقن دمه ودماء الثلّة القليلة الطيّبة من الديّانين.. وها هو ذا أمر الله ورسولِه (صلی الله علیه و آله) يأبى للإمام الحسين (علیه السلام) أن يبايع ويصالح، لأنّ العدوّ سيقتله على كلّ حال..

كانت العساكر مصطفّةً في عهد الإمام الحسن (علیه السلام) ، فحدث ما حدث

ص: 211

في الظاهر المنظور، فكان الأمر يستدعي الصلح، فصالح.. وفي عهد الإمام الحسين (علیه السلام) لم تكن العساكر مصطفّة، بيد أنّ السيف كان مشهوراً على الإمام (علیه السلام) يبغي رأسه المقدّس..

كيف كان، فإنّ الأمر الإلهيّ يستدعي تحقّق جملة الشروط والظروف الخارجيّة ليتحقّق، وقد تظافرت الظروف والحوادث على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) أينما كان، وكيفما كان، وكان الأمر الإلهيّ صريحٌ برفض البيعة ليزيد وعدم الصلح معه، وإن اختار العدوّ القتال فسيخرج الإمام الحسين (علیه السلام) إلى القتال.

ثم إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) شاء أن يتفضّل على جابر، ويشدّ يقينه ويُطمئن قلبه المروّع، فقال (علیه السلام) :

«أتريد أن أستشهد لك رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) وعليّاً وأخيالحسن (علیهما السلام) بذلك الآن؟».

ولم ينتظر منه الجواب حتّى أراه ما يقنعه بالقطع واليقين.

ولا نريد الدخول في تفاصيل المعجز الّذي أظهره الإمام الحسين (علیه السلام) له وكشف الغطاء عن عينه، فإنّ العوالم طوع إرادتهم بإذن الله (عزوجل) ، وهم يتنقّلون وينقلون من يشاؤون متى يشاؤون بقدرة الله العزيز الحكيم.

الإشارة السادسة: جواب رسول الله (صلی الله علیه و آله)

اشارة

ركّز جواب رسول الله (صلی الله علیه و آله) على أمرين أساسيَّين:

ص: 212

الأمر الأوّل: التسليم

التأكيد على التسليم لإمام زمانه، وعدم الاعتراض، وترك الشكّ إلى اليقين بما يفعله الإمام (علیه السلام) ؛ ليكون مؤمناً.

إنّ مجرّد إبداء الرأي في محضر الإمام (علیه السلام) _ في قضيّةٍ قد بتّ فيها الإمام (علیه السلام) وعزم _ يُعدّ اعتراضاً في أدب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهذا ما قد أوصى به النبيّ (صلی الله علیه و آله) جابر من قبل، وعاد ليؤكّد عليه هنا، ليحتفظ بوجوده داخل حدود الإيمان ودائرته.

والتسليم للإمام المعصوم هو مخّ التشيّع وروح الدين الإلهيّ، وهو أمرٌ غايةٌ في الدقّة والخطورة، وعلى المؤمن أن يحذر عن مخالفة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وولاة أمره (علیهم السلام) ، ولو على مستوى ما تقدّم به جابر.فما حال مَن فرض رأيه فرضاً على الإمام (علیه السلام) ، وخاطبه بلغة الآمر الناهي، وتمنّى أن لو استطاع الأخذ بناصية الإمام (علیه السلام) وشَعره ليمنعه من الخروج، وأمثاله ممّن تعامل مع الإمام (علیه السلام) بفضاضةٍ وغلظةٍ وسوء أدب؟!

الأمر الثاني: عاقبة القاتل والمظلوم

كشف النبيّ (صلی الله علیه و آله) عن موضع معاوية ويزيد في مهاوي جهنّم والنيران، وأراه مقام سيّد الشهداء (علیه السلام) ومنزلته، وأعلمه أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) معه في الرفيق الأَعلى، وقاتلَه في دركات الجحيم..

فعلم جابر من خلال ما رآه بعينه، فجزم به وتيقّن أنّ الإمام

ص: 213

الحسين (علیه السلام) على الحقّ، وأنّ قاتله على الباطل، من خلال عاقبتهما ومآل أمرهما.

فلو كان الإمام الحسين (علیه السلام) خارجاً ليقتل، ومقدّماً بنفسه على القتل قاصداً الشهادة ملقياً بنفسه في لهوات المنيّة، وكان يزيد لا يريد ذلك ولا يعزم عليه ولا يقصده ولا يبذل كلّ ما بوسعه من جهدٍ لينفّذ ما عزم عليه، ربّما كان لعاذرٍ أن يعذره في حسابات الدنيا، وربّما لم يكن مستحقّاً لهذا العقاب.

إنّه إنّما استحقّ هذا العذاب الّذي اختصّه الله به لمّا طلب رأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزم على قتله، وأقدم على ذلك ونفّذه، وسعى إلى تحقيقه في أيّ موضعٍ وزمان.. وفي مِثل هذا الحال لا يكون ثمّة خيارٌ أَمام سيّدالشهداء (علیه السلام) سوى الدفاع عن نفسه وعن عياله!

ولو كان يزيد يقبل منه الصلح _ كما ارتأى جابر _، لما انتهت الحوادث بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولَجعله يزيد خياراً يفلت به من التورّط بالجناية العظمى.

إنّ يزيد لم يجعل الصلح خياراً منذ اللحظة الأُولى، إذ طلب رأس حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وإنّما خيّره بين السلّة والذلّة.. بين أن يقتله، وهو لا يُقتَل حتّى يدفع عن نفسه، وبين البيعة الذليلة الّتي سمّاها الإمام (الذلّ)، وعبّر عنها مروان ب-- (البيعة صاغراً)..

فقُتل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) مظلوماً.

ص: 214

بعد أن رأى جابر بأُمّ عينه الحقيقةَ كما هي، عاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليؤكّد عليه أن لا نجاة له إلّا بالتسليم لإمامه، وأن لا يشكّ ليكون مؤمناً، ويعلم أنّ ما تصوّره رأياً صائباً لا سبيل إليه، وأنّ الإمام (علیه السلام) إنّما عمل بأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وقام بالأمر ليدفع عن نفسه ويقاتل ليحمي عيالات أبيه.

الإشارة السابعة: كفّ بصره!

لا نريد الدخول في بحث كفّ بصر جابر، ومتى كان، ونكتفي هنا بالإشارة لمن أراد أن يتابع هذا الموضوع بالذات، إذ أنّ هذا الخبر يختم المشهد بقول جابر نفسه:قال جابر: فعميَت عيناي إنْ لم أكن رأيتُ ما قلتُ من رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

فربّما حمل المتلقّي قوله: «إن لم أكن رأيت»، على الرؤية القلبيّة والرؤية بالبصيرة دون البصر، لأنّ المشاهدة كانت في عالمٍ هو غير العالم المادّيّ الدنيويّ المعهود.. وهذا الحمل ممكنٌ ومعقولٌ ومقبول.

غير أنّ محلّ الشاهد ليس في هذا المقطع من كلامه، وإنّما هو في الدعاء على نفسه بقوله: «فعميَت عيناي».. فلو كانت عينه كفيفةً لَما صحّ هذا الدعاء منه!

فيلزم أن يكون بصيراً يرى بعينيه، بحيث دعا على عينيه بالعمى إن هو لم يكن قد رأى ما ذكره عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ص: 215

الإشارة الثامنة: عذر جابر!

ثمّة قائمةٌ تطول في الرجال الّذين لم يحضروا مع أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) في كربلاء، وكثيرٌ منهم شخصيّاتٌ موثوقةٌ وثابتة، لا يُشكّ في ولائها وانتمائها وحبّها ومعرفتها بمحمّدٍ وآل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، من أمثال: الأصبغ ابن نباتة _ وكان على شرطة الخميس _، وسُليم بن قيس، وكميل بن زياد، وقنبر خادم الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وغيرهم.. ومنهم أيضاً جابر بن عبد الله.وهؤلاء لا يمكن عدّهم في الخاذلين ابتداءً؛ لما لهم من سوابق مضيئةٍ نيّرة، وقدمٍ راسخٍ في الولاء والتسليم والطاعة والفداء، وعلينا أن نبحث لهم عن الأعذار الشرعيّة المرضيّة، إلّا أن يثبت خلاف ذلك، ولا يثبت عادة.

والميزان الأهمّ هو رضى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ورضى الإمام مِن بعده، فإذا أعلن الإمام بعد الإمام رضاه عن أحد، فإنّنا سنعرف أنّه كان معذوراً بعذرٍ شرعيٍّ يُخرجه من دائرة الخاذلين، وإن لم نعرف ذلك العذر بعينه، فليس بالضرورة أن ندرك ذلك ونطّلع عليه، ولا يهمّنا كثيراً بعد أن عرفنا النتيجة المرضية الّتي انتهى إليها والعاقبة الحسنة الّتي فاز بها برضى الإمام (علیه السلام) عنه.

فإذا بحثنا ودقّقنا وتأمّلنا وحلّلنا النصوص، وأدركنا أمراً يمكن أن نصنّفه في الأعذار المقبولة، فربّما نخطئ وربّما نصيب، ولكن ترقّب رضى المعصوم فيه لا يخطئ أبداً بعد ثبوته بوضوح، فإذا انكشفَت النتيجة فليس

ص: 216

بالضرورة أن ندرك السبب.

ففي جابر _ مثلاً _ قد يُقال: إنّه لم يكن كفيفاً يومها.. ولكنّ الأئمّة من بعد الإمام الحسين (علیهم السلام) كانوا قد أعلنوا رضاهم عنه، وتعاملوا معه معاملة الوليّ الناصح، من دون تسجيل توبةٍ له وقبولهم للتوبة مثلاً، فهو إذن ليس في دائرة الخاذلين الملعونين على لسان النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) !فربّما كان حمله لرسالة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسلامه إلى الإمام الباقر (علیه السلام) سبباً مهمّاً انتهى به إلى أن ينهاه الإمام الحسين (علیه السلام) نهي عزيمةٍ عن اللحاق به، ليبقى ويصدّق النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ما قال، ويبلّغ الرسالة الّتي حملها، ويؤدّي الدور الّذي أراده الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) له في عصر إمامة الإمام الباقر (علیه السلام) ، لتثبت جميع المسوّغات والآثار الجليلة الّتي يشرحها العلماء في بيان حكمة تحميل النبيّ (صلی الله علیه و آله) جابر السلام للإمام الباقر (علیه السلام) ، ورواية الإمام عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) بواسطة جابر، وغيرها..

أقول: ربّما كان هذا هو السبب، أو أنّ سبباً آخَر كان علمه الإمام (علیه السلام) وجهلناه، وليس لنا إلّا التسليم بما قال الإمام (علیه السلام) وفعل.

هذا، وقد أخذنا احتمال أن يكون سليماً غير كفيف، ومع ثبوت العذر له في حال السلامة، فثبوته في الحالة الأُخرى أَولى.

ص: 217

ص: 218

لقاء أبي سعيد الخُدريّ

اشارة

روى ابن سعدٍ ومَن تلاه مقطعين يتعلّقان بأبي سعيد الخدريّ وموقفه مع الإمام الحسين (علیه السلام) :

المقطع الأوّل: كلام أبي سعيد قبل الخروج

اشارة

فأقام حسينٌ على ما هو عليه من الهموم، مرّةً يريد أن يسير إليهم، ومرّةً يجمع الإقامة.

فجاءه أبو سعيدٍ الخُدريّ فقال: يا أبا عبد الله، إنّي لكم ناصح، وإنّي عليكم مشفق، وقد بلغَني أنّه كاتبك قومٌ من شيعتكم بالكوفة يدْعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج؛ فإنّي سمعتُ أباك (رحمة الله) يقول بالكوفة: «واللهِ لقد مللتُهم وأبغضتُهم، وملّوني وأبغضوني،

ص: 219

وما بلوتُ منهم وفاءً، ومَن فاز بهم فاز بالسهم الأخيَب، واللهِ ما لهم ثباتٌ ولا عزم أمرٍ ولا صبرٌ على السيف» ((1)).

يمكن تقديم بعض اللمحات المتعلّقة بهذا النصّ:

اللمحة الأُولى: أبو سعيد الخُدريّ

قال السيّد الخوئيّ (رحمة الله) :

مِن أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، رجال الشيخ، وعدّه في أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلاً: سعد بن مالك الخزرجيّ، يُكنّى: أبا سعيد، الخُدريّ الأنصاريّ العربيّ المدنيّ ((2)).

وعدّه البرقيّ في أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، قائلاً: وأبو سعيدٍ الخُدريّ الأنصاري: عربيٌّ مدنيّ، واسمه: سعد بن مالك، خزرجيّ ((3)).

وفي الأصفياء من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، قائلاً: أبو سعيد

ص: 220


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 54، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 205، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، مختصر ابن منظور: 7 / 137، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2606، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 413، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 197، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 340، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.
2- أُنظر: اختيار معرفة الرجال للطوسيّ: 1 / 200، رجال الطوسيّ: 65.
3- أُنظر: الرجال للبرقيّ: 2.

الخُدريّ، عربيٌّ أنصاريّ ((1)).

وقال الكشّيّ في ترجمة أبي أيّوب الأنصاريّ: قال الفضل بن شاذان: هو من السابقين الّذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) .وتقدّم في ترجمة جُندب بن جنادة الغفاريّ، في رواية (العيون) عن الرضا (علیه السلام) ، عدّه من الّذين مضوا على منهاج نبيّهم (علیه السلام) ولم يغيّروا ولم يبدّلوا.

وقال الكشّيّ في ترجمته ((2)) أبو سعيد الخُدريّ: بالإسناد عن ذريح، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، قال: ذكر أبو سعد (سعيد) الخُدريّ، فقال: «كان من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكان مستقيماً»، فقال: «فنزع ثلاثة أيّام، فغسّله أهلُه، ثمّ حملوه إلى مصلّاه فمات فيه».

وبالإسناد عن ليث المراديّ، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: «إنّ أبا سعيد الخُدريّ كان قد رُزق هذا الأمر، وإنّه اشتدّ نزعه، فأمر أهلَه أن يحملوه إلى مصلّاه الّذي كان يُصلّي فيه، ففعلوا، فما لبث أن هلك».

وبالإسناد عن ذريح قال: سمعتُ أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «كان عليّ ابن الحسين (علیهما السلام) يقول: إنّي لَأكره للرجُل أن يعافى في الدنيا ولا يصيبه شيءٌ من المصائب. ثمّ ذكر أنّ أبا سعيدٍ الخُدريّ كان

ص: 221


1- أُنظر: الرجال للبرقيّ: 3.
2- أُنظر: اختيار معرفة الرجال للطوسيّ: 1 / 201.

مستقيماً، نزع ثلاثة أيّام، فغسّله أهلُه، ثمّ حُمل إلى مصلّاهفمات فيه» ((1)).

وقال الشيخ النمازيّ (رحمة الله) :

سعد، أبو سعيدٍ الخُدريّ، ابن مالك بن سنان: من مشاهير أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ونجباء الأنصار وعلمائهم.

شهد مع رسول الله اثنتي عشرة غزوة، أوّلها الخندق، وقيل: إنّه استُصغر يوم أُحُدٍ فرُدّ.

وهو من السابقين الّذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وإنّ الإمام الصادق (علیه السلام) في رواية الأعمش في حديث شرايع الدين، والرضا (علیه السلام) في مكاتبته للمأمون في ذلك، عدّاه من الّذين تجب ولايتهم، ولم يتغيّروا ولم يبدّلوا ((2)).

وفي (تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام))، في بيان معجزات النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ذيل قوله (تعالى): ﴿وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ _ الآية ((3)): «إنّ أبا سعيدٍ الخُدريّ شرب دم النبيّ، فقال النبيّ (صلی الله علیه و آله) : إنّ الله قد حرّم على النار لحمَك ودمَك؛ لما اختلط بلحمي ودمي» ((4)).

ص: 222


1- معجم رجال الحديث للسيّد الخوئيّ: 9 / 49.
2- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 10 / 227 و358، و68 / 263.
3- سورة البقرة: 92.
4- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 16 / 409، و17 / 270.

وفي ثلاثة رواياتٍ رواها الكشّيّ عن الصادق (علیه السلام) ، إنّه رُزق هذا الأمر، وكان مستقيماً، وذكر هذه الروايات في كتاب الطهارة((1)).

وعن البرقيّ عدّه في أصفياء أصحاب أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) .

ومع ذلك كلّه لا يُعتنى إلى قول ابن أبي الحديد في عدّه من الّذين لم يبايعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد قتل عثمان، كما في (البحار) ((2)).

وقد سُئل عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فقال: أما إنّكم سألتموني عن رجُلٍ أمرّ من الدفلى، وأحلى من العسل، وأخفّ من الريشة، وأثقل من الجبل، أما والله ما حلا إلّا على ألسنة المتّقين، ولا خفّ إلّا على قلوب المؤمنين، واللهِ ما مرّ على لسان أحدٍ قطّ إلّا على لسان كافر، ولا ثقل على قلب أحدٍ إلّا على قلب منافق، ولا زوى عنه أحدٌ ولا صدق ولا التوى ولا كذب ولا أحول ولا أزوار عنه ولا فسق ولا عجب ولا تعجّب _ وهي سبعة عشر حرفاً _ إلّا حشره الله منافقاً من المنافقين، ولا عليّ إلّا أُريد، ولا أُريد إلّا عليّ ((3))، ﴿وَسَيَعْلَمُ

ص: 223


1- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 81 / 237.
2- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 32 / 8.
3- قال العلّامة المجلسيّ (رضی الله عنه) في (البحار: 39 / 292): قوله: «ولا عليّ إلّا أُريد»، أي: كأنّه (علیه السلام) ليس إلّا ليتعرض الناس له بالكلام وسوء القول فيه، ولا يريد الناس إلّا إيّاه، ولعلّ فيه تصحيفاً. أقول: وربّما أمكن قراءتها بلفظٍ آخَر: «ولا عليّ ألّا أُريد، ولا أُريد إلّا عليّ»، أي: لا ضَير علَيّ إنْ قصدتُ عليّاً وأردتُه دون غيره، و«أُريد» الثانية تُقرأ مبنيّاً على المجهول، بمعنى أن لا يقصد ولا يُراد إلّا عليّ (علیه السلام) . وربّما كان المقصود أنّ عليّاً (علیه السلام) يُراد للمؤمن والكافر المنافق، كلٌّ بحسبه، كما شرحه بنفسه، أو بمعنى أنّ عليّاً (علیه السلام) يُراد على كلّ حال، فمن كان عليّاً يُراد ولا يُراد غيره، والله العالم.

الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ ((1)) ((2)).

ثمّ ساق الشيخ النمازيّ شواهد على ما يقول، ثم عقّب على ذلك بقوله:فممّا ذكرنا كلّه يُستفاد وثاقته وجلالته، وفاقاً للعلّامة المامقانيّ وغيره.

وهو من الّذين اعتمد عليهم الصدوق في كتابه (الفقيه)، وحكم بصحّة أحاديثهم واستخرج أحاديث كتابه من كتبهم.

وساق شواهد أُخرى ممّا رواه في فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) ، والنصّ على الأئمّة الاثني عشر، والنصّ على الإمام صاحب الأمر (علیه السلام) ، ثمّ قال:

وكان أبوه مالك صحابيّاً استُشهد يوم أُحُد، وقيل: مات أبو سعيد سنة بعد ستّين، وقيل غير ذلك.

ولا نعلم علّة عدم حضوره لنصرة الحسين (علیه السلام) ، فلا يضرّ ذلك في

ص: 224


1- سورة الشعراء: 227.
2- أُنظر: بحار الأنوار للمجلسيّ: 39 / 291، تفسير فرات الكوفيّ: 305.

حُسنه واستقامته، كما بيّنه المامقانيّ.

وابناه: حمزة وإبراهيم وسعد بن إبراهيم تقدّموا، والقاسم يأتي ((1)).

فهو إذن مؤمنٌ معتقدٌ مستقيم العقيدة ثابتٌ على الولاية، بشهادة ما رُوي عن الأئمّة الأطهار (علیهم السلام) عنه وعن موقفه.

يبقى علينا البحث عن سبب عدم حضوره لنصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) في كربلاء، إذ أنّ ما ورد من استقامته في العقيدة إنّما ورد في أحاديث أولادالحسين المعصومين (علیهم السلام) .

اللمحة الثانية: التقديم للخبر

قدّم ابن سعدٍ مشهداً يسيح الكذب من دواته وقلمه.. وهذه هي المشكلة الكبرى الّتي يعاني منها القارئ للتاريخ، إذ يواجه وقاحات أمثال هؤلاء المؤرّخين الفجّة القبيحة، لأنّهم يتعاملون مع الإمام المعصوم الخامس من أصحاب الكساء (علیهم السلام) من خلال هواجس نفوسهم الشرّيرة، ومطاوي صدورهم الوغرة الموبوءة.

يرسم ابن سعد _ من خلال العبارة الأُولى الّتي يدلف منها إلى خبر أبي سعيد الخُدريّ _ مشهد التردُّد الّذي لا يجوز نسبتها إلى الشريف العالم الواثق بما يقدم عليه إن كان شخصاً عاديّاً، فكيف يمكن نسبتها _ والعياذ

ص: 225


1- مستدركات علم الرجال للنمازيّ: 4 / 20.

بالله _ إلى الإمام المعصوم المسدَّد الّذي لا يخطأ ولا يسهو، ولا يقدم على شيءٍ إلّا عن علمٍ قطعيٍّ عن الله العليم الخبير؟!

لم يتردّد الإمام الحسين (علیه السلام) المعصوم لحظةً واحدة.. إنّه يعمل بالعلم الإلهيّ، وهو عارفٌ بالقوم، وعارفٌ بمآلهم، وعارفٌ بما هو مقدمٌ عليه.

والعجب الّذي لا ينقضي من هذا التصوير البائس، أنّه يصوّر المشهد من خلال أحاسيسه وهواجسه وكوامنه وطريقة تعامله الشخصيّة، وإلّا فمن أين عرف الحالة الّتي رسمها في الإمام (علیه السلام) ؟إنّه تكلّم من عند نفسه، ولم يروِ لنا عن الإمام (علیه السلام) نفسه.. فمن أين عرف التردّد عند الإمام (علیه السلام) بين الإقدام والإحجام، ولم نجد لما قاله بياناً صريحاً أو غير صريحٍ يكشف به الإمامُ (علیه السلام) عمّا في نفسه القدسيّة؟!

يبدو أنّه يريد أن يجعل لكلام المعترضين موقعاً صحيحاً، وبُعداً عقلائيّاً، ويصحّح لهم دوافعهم في الاعتراض، إذ أنّهم جاؤوا ليقدّموا النصيحة _ فيما يزعمون _، ويعينوا الإمام (علیه السلام) على اتّخاذ القرار الصحيح الّذي لم يتوصّل إليه بنفسه ولوحده.. قاتلهم الله بجهلهم بمقام الإمام (علیه السلام) .

اللمحة الثالثة: موقع اللقاء! وزمانه

يبدو أنّ اللقاء كان في مكّة المكرّمة؛ بشهادة تفريع ابن سعدٍ مجيء أبي سعيدٍ على ما كان عليه الإمام (علیه السلام) من حالةٍ في مكّة، وبشهادة إخبار أبي سعيدٍ أنّه قد بلغه مكاتبة قومٍ من الشيعة بالكوفة يدعونه إلى الخروج

ص: 226

إليهم.

ويلزم من ذلك أن يكون اللقاء بعد العاشر من شهر رمضان، وهو زمان وصول كتبهم إلى الإمام (علیه السلام) ، كما بيّنّا ذلك في الجزء المتعلّق بدراسة (كتب أهل الكوفة).

اللمحة الرابعة: ناصحٌ مشفق

قصَدَ أبو سعيدٍ الإمامَ الحسين (علیه السلام) قَصْداً، فجاءه، وخاطبه بالكنية، وقدّمله دوافعه في الكلام بين يديه.. فهو يعتقد في نفسه أنّه مخلصٌ ناصحٌ لآل البيت (علیهم السلام) ، إذ يقول: «إنّي ناصحٌ لكم»، ويخاطبه بضمير الجمع..

فبدافع الإخلاص والنصيحة والشفقة أبدى الخُدريّ ما أبداه.

اللمحة الخامسة: الخروج إلى الكوفة!

أخبر أبو سعيدٍ أنّه بلغه أنّ قوماً من شيعتهم بالكوفة يدعونه إلى الخروج إليهم.. فهو من جهةٍ لم يبالغ ويعمّم كلامه ليشمل أهل الكوفة جميعاً، بل ولا الشيعة جميعاً _ بأيّ معنىً حملنا لفظ الشيعة _، وإنّما أكّد أنّ قوماً كتبوا، وليس كلّ القوم.

ثمّ إنّه لم يحدّد دوافع الدعوة.. مجرّد أنّه ذكر دعوتهم للخروج إليهم، ولكن لماذا دعوه؟ هل دعوه _ كما يزعمون _ للخروج بهم ومواجهة

ص: 227

السلطان، أم أنّهم دعوه للذبّ عنه والدفاع عن بقيّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ هذا ما لم يبيّنه أبو سعيدٍ في كلامه وتركه غائماً.

أجل، هم لا يمكن الحساب عليهم والارتكان إليهم على كلّ حالٍ وضمن أيّ تقدير، كما سنسمع في اللمحة التالية.

اللمحة السادسة: سبب النهي

قال أبو سعيد: «فلا تخرج».. ثمّ علّل ما قاله بما سمعه من أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، لقد ملّهم وأبغضهم وملّوه وأبغضوه، وما بلى منهم الوفاء،ومَن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، واللهِ ما لهم ثباتٌ ولا عزم أمرٍ ولا صبرٌ على سيف..

ذكر أبو سعيد ما سمعه من أمير المؤمنين (علیه السلام) في تقييم أهل الكوفة يومذاك، ومَن كانت هذه خصاله وطباعه وسيرته فلا يمكن الاعتماد عليه والخروج إليه.

وهذا كلامٌ صحيحٌ في نفسه، بَيد أنّه لا يخفى على الإمام الحسين (علیه السلام) ، فليس من المقبول بتاتاً أن يكون قد سمع أبو سعيدٍ هذا من الإمام (علیه السلام) ، ولم يكن قد سمعه ابنُه الإمام المعصوم (علیه السلام) ، بل قد عرفهم سيّد الشهداء (علیه السلام) بنفسه وعالجهم وعانى منهم ما عاناه أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) !

إلى هنا لا يبدو في كلام أبي سعيدٍ جديدٌ يختلف عن كلام غيره، سوى استدلاله بكلام الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وتقييمه لأهل الكوفة.

ص: 228

ولا يبدو في كلامه روح الاستعلاء والتجاسر والوقاحة في التعامل مع إمام زمانه.. ربّما سمح لنفسه بالحديث مع الإمام (علیه السلام) لما يعتلج في أعماقه من الخوف والشفقة على الإمام (علیه السلام) ، ولما يلمسه في قلبه من النصيحة الإخلاص.

اللمحة السابعة: ردّ الإمام (علیه السلام)

لم يذكر لنا التاريخ جواباً ردّ به الإمام (علیه السلام) على أبي سعيد، ولا ندريإن كان الإمام (علیه السلام) لم يردّ عليه أصلاً، أم أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد ردّ غير أنّ ابن سعدٍ غيّب الردّ.

فعلى الأوّل: يمكن أن يكون الإمام (علیه السلام) قد سكت عنه احتراماً له وتقديراً لصحبته وكبر سنّه، وما أبداه من الشفقة والنصح، وقدّر له هذا.

أو أنّه (علیه السلام) سكت تعجُّباً منه، لعدم تعمّقه في إدراك الأُمور وتشخيص الواقع، مع سوابقه ومعرفته بالأعداء وبأهل البيت (علیهم السلام) .

وعلى الثاني: فقد دأب المؤرّخ على تخطئة الإمام (علیه السلام) ، وإفراغ قناعاته المشؤومة في سطوره، فهو حين عرض كلام أبي سعيدٍ واستناده إلى كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ترك جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) ؛ ليوحي إلى المتلقّي قوّة حُجّة أبي سعيد، وإباءَ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وعدم التفاته إلى نصح الناصحين!! نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر إلى سيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) .

ص: 229

المقطع الثاني: كلام أبي سعيد بعد الخروج

اشارة

روى ابن سعدٍ في (ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام)) وتلاه آخَرون، قال:

وقال أبو سعيد الخُدريّ: غلبَني الحسينُ على الخروج، وقد قلتُله: اتّقِ الله في نفسك والزم بيتك! فلا تخرج على إمامك!!! ((1))

وقال الذهبيّ:

إلى أن قال: وقال له أبو سعيد: اتّقِ الله والزم بيتك ((2)) [عن ابن سعد].

* * * * *

هكذا نقل ابن سعدٍ قولَ أبي سعيد، وهو يحشّد أقوال المعترضين والمخالفين ومواقفهم، وسنأتي على هذه الفرية ضمن اللفتات التالية:

اللفتة الأُولى: تصرّف الذهبيّ!

نقل الذهبيّ في (سيَر أعلام النبلاء) عن ابن سعدٍ حشد المعترضين، واقتطع المتن، إذ نقل شيئاً من كلام ابن عبّاس، ثمّ قال: «إلى أن قال:

ص: 230


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 57، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 139، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 342، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199.

وقال له أبو سعيد: اتّقِ اللهَ والزمْ بيتك»، فنقل العبارة الأخيرة فقط، ممّا يُوحي أنّ كلامه هذا كان قبل خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، والحال أنّه في كلام ابن سعدٍ تتمّةً لكلامٍ ساقه كتصريحٍ لأبي سعيدٍ بعد خروج الإمام (علیه السلام) .. ولا يخفى ما وراء هذا التقطيع من خبث!

اللفتة الثانية: إمكان صدور الكلام منه

طرحنا كلام الذهبيّ، لأنّه ينقل عن ابن سعدٍ صراحةً، بَيد أنّه يختصر ويروي ما يخدم غرضه، وسيأتي الحديث عنه بعد قليل.

أمّا ما نقله ابن سعد، فقد أخطأ مَن وضع هذا الكلام البائس، وأوغل في الكذب والافتراء والمين، وذهب بها عريضة، لأنّه لا يعرف أتباعَ أهل البيت (علیهم السلام) وأدبهم وخضوعهم وإخباتهم بين يدَي أئمّتهم.

أبو سعيد الخُدريّ.. الرجل الراوية عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، الملتزم ولاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده الطاهرين (علیهم السلام) ، لا يتكلّم بهذه اللغة الهابطة مع إمامه، حاشاه! إنّه من تطريزٍ خسيسٍ لا يعرف الآداب، ولا يأنس بلغة التعامل مع المقدّسات.. ولا يدري أنّ الشيعيّ الموالي لا يرى على الإمام إماماً!

ونحسب أنّ مناقشة هذه الفرية ومحاولة الدفاع عن أبي سعيدٍ هو بنفسه تجاوزٌ عليه، ويكفيها ما فيها عن مناقشتها.

وستأتي الإشارة إلى دوافع هذا الوضع بعد قليل.

ص: 231

اللفتة الثالثة: احتجاج الإمام (علیه السلام) يوم العاشر برواية أبي سعيد

إحتجّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) على أعدائه يوم عاشوراء برواية أربعةٍ من الرواة المقبولين عند جميع فرق المسلمين، وهم:جابر بن عبد الله.

أبو سعيد الخُدريّ.

أنس بن مالك.

زيد بن أرقم.

وللأوّلَين خصوصيّةٌ يمتازان بها عن الأخيرَين، إذ أنّهما معدودان في الأولياء، فيما يُعدّ الأخيران في أعداء الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام) .

* * * * *

روى المؤرّخون خطبةً للإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ، نأخذ منها موضع الحاجة، ونرجوا من الله بحقّ الإمام المكروب حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) أن يمدّ في أعمارنا في خيرٍ وعافيةٍ في رضاه ورضى محمّدٍ وآل محمّد (علیهم السلام) ، لنستوفي الكلام في الخطبة في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

قالوا:

ثمّ قال الحسين (علیه السلام) لعُمر وأصحابه:

«لا تعجلوا حتّى أُخبركم خبري، واللهِ ما أتيتُكم حتّى أتتني كتبُ أماثلكم ...

ص: 232

فإذ كرهتُم ذلك فأنا راجعٌ عنكم، وارجعوا إلى أنفسكمفانظروا هل يصلح لكم قتلي أو يحلّ لكم دمي؟!

ألستُ ابنَ بنتِ نبيّكم، وابنَ ابنِ عمّه، وابنَ أوّلِ المؤمنين إيماناً؟ أوَ ليس حمزة والعبّاس وجعفر عمومتي؟ أوَ لم يبلغكم قولَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيّ وفي أخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟

فإنْ صدّقتموني، وإلّا فاسألوا جابرَ بن عبد الله وأبا سعيد الخُدريّ وأنس بن مالك وزيد بن أرقم».

فقال شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري ما تقول ((1)).

اللفتة الرابعة: اعتقاده إمامة الإمام الحسين (علیه السلام) !

مرّ معنا قبل قليلٍ شهادةُ الإمام المعصوم لأبي سعيدٍ أنّه كان مستقيم العقيدة، وأنّه ممّن عاد سريعاً إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فهو يعتقد إمامة الإمام الحسين (علیه السلام) سيّد الشهداء، وما أكثر ما روى عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) في الإمام الحسين (علیه السلام) وأنّه سيّد شباب أهل الجنّة.

ص: 233


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) لابن سعد: 72، تاريخ الطبريّ: 5 / 424، نفَس المهموم للقمّيّ: 240، الإرشاد للمفيد: 2 / 100، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 6، إعلام الورى للطبرسيّ: 240، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 439، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 143.

فمن يقبل شهادة الإمام المعصوم فيه، ويسمع احتجاج الإمام الحسين (علیه السلام) بروايته يوم عاشوراء، فإنّ هذا المركّب (الشهادة والاحتجاج)يفيد أنّه لا يمكن أن يعتقد بإمامة يزيد الخمور والخلاعة على الإمام الحسين (علیه السلام) ، ولا يمكن أن يقول لسبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) المرسَل وابن فاطمة البتول (علیها السلام) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد شباب أهل الجنّة: «لا تخرج على إمامك!»، أو يخاطبه بقوله: «اتّقِ الله والزم بيتك»، وهو مستقيم العقيدة!

اللفتة الخامسة: هدف الأعداء!

سيأتي الكلام عن أهداف الأعداء المترتّبة على تحشيد المعترضين، لذا نكتفي هنا بالإشارة العجلى إلى قضيّةٍ مهمّة:

يبدو من طريقة تعبير المؤرّخ أنّه يريد أن يُلقي إلى القارئ أنّ أبا سعيد يعتقد إمامة يزيد، ويعتقد أنّه إمامٌ على الإمام الحسين (علیه السلام) _ والعياذ بالله _، وبالتالي يريد أن يلقي السمّ الذعاف الّذي دافه في عسله المرّ الفاسد بقصد تمرير قصّة خروج الإمام الحسين (علیه السلام) على إمام زمانه، ومن الطبيعيّ جدّاً أن يحكم عليه بالقتل، فهو حكم الخارج على الإمام المجمع عليه!

فيكون الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) هو البادئ، وهو الّذي ترك بيته وخرج على السلطان، بل خرج على إمامه، ويكون يزيد في موقف الدفاع عن سلطانه، بل الدفاع عن وحدة المسلمين وحفظ حمى الإسلام،

ص: 234

وحقّ له قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وفق أحكام الدين وشريعة سيّد المرسلين، بشهادةٍ من أبي سعيدٍ الخُدريّ الصحابيّ الجليل الكبير المقبولحتّى عند الإمام الحسين (علیه السلام) ..

نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر اعتذارَ مَن لا يستغني عن قبول عذره من إمامنا وإمام الكائنات وخامس أصحاب الكساء الإمام الحسين غريب الغرباء (علیه السلام) .

هكذا هي نتيجة ما يُسرّبه المؤرّخ الخؤون، فيضطرّنا شغبه إلى ركوب مثل هذه الأهوال وتسويد مثل هذه السطور، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 235

ص: 236

معترضون بالجملة

المتون

قال ابن سعدٍ أيضاً:

وقال أبو واقد الليثي: بلغَني خروجُ حسين، فأدركتُه بملل، فناشدتُه الله أن لا يخرج، فإنّه يخرج في غير وجه خروج، إنّما يقتل نفسه. فقال: «لا أرجع» ((1)).

وقال سعيد بن المسيّب: لو أنّ حسيناً لم يخرج، لَكان خيراً له! ((2))

ص: 237


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 57، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 139، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن الكثير: 8 / 163.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 342، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن الكثير: 8 / 163.

وقال أبو سلَمة بن عبد الرحمان: قد كان ينبغي لحسينٍ أنيعرف أهلَ العراق ولا يخرج إليهم، ولكن شجّعه على ذلك ابنُ الزبير ((1)).

وقال ابن الأثير:

فتجهّز للمسير، فنهاه جماعة، منهم: أخوه محمّد ابن الحنفية، وابن عمر، وابن عبّاس، وغيرهم، فقال: «رأيتُ رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) في المنام، وأمرَني بأمر، فأنا فاعلٌ ما أمر» ((2)).

وقال ابن طلحة والأربليّ:

فاجتمع به ذو النصح له والتجربة للأُمور أهلُ الديانة والمعرفة، كعبد الله بن عبّاس وعمر بن عبد الرحمان بن الحارث المخزوميّ وغيرهما، ووردَت عليه كتبُ أهل المدينة من عبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص وجماعةٍ كثيرة، كلّهم يشيرون عليه أن لا

ص: 238


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 58، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- أُسد الغابة لابن الأثير: 2 / 21، تاريخ الخميس للدياربكريّ: 2 / 332.

يتوجّه إلى العراق وأن يُقيم بمكّة، هذا كلّه والقضاء غالبٌ على أمره والقدَر آخِذٌ بزمامه، فلم يكترث بما قيل له ولا بما كُتب إليه ((1)).

وقال السيوطيّ:

وكلّمه في ذلك أيضاً: جابرُ بن عبد الله، وأبو سعيد، وأبو واقدالليثيّ، وغيرُهم، فلم يُطِعْ أحداً منهم، وصمّم على المسير إلى العراق ((2)).

وقال الصبّان:

فأشار عليه ابنُ الزبير بالخروج، وابنُ عبّاسٍ وابنُ عمر بعدمه ((3)).

* * * * *

يمكن هنا تسجيل بعض الملاحظات العامّة، والاقتصار على ذلك من دون تناول كلّ مفردةٍ من المفردات المذكورة في النصوص، إذ أنّ الكثير منهم قد مرّ علينا الحديث عنه، فلا حاجة للإعادة:

الملاحظة الأُولى: حشد المعترضين

يُلاحَظ أنّ ابن سعدٍ ((4)) وغيره من المؤرّخين قد جمع أقوال المعترضين

ص: 239


1- مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 43.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 206، إسعاف الراغبين للصبّان: 205.
3- إسعاف الراغبين للصبّان: 204.
4- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 57، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 208، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 139، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2609، تهذيب الكمال للمزّيّ: 6 / 417، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 342، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

ومواقفهم في موضعٍ واحد، وذكرهم الواحدَ تلو الآخَر في قالبٍ تحشيديٍّ استعراضيّ، يُلقي في روع المتلقّي تظافر العقلاء والصحابة والوجهاء والرؤوس المعروفة على مخالفة الإمام (علیه السلام) .

فربّما ذكر المؤرّخ بعض المعترضين في موضعه عندما يمرّ به، ثمّ يعود ليجمع أقوالهم وآراءهم في موضعٍ واحد، فيبدو للناظر كثرتهم وتوافقهمعلى الموقف وحصول الإجماع منهم على المشهد.

الملاحظة الثانية: تضخيم المعترضين وأعدادهم

يزرّق المؤرّخ في ذهن المتلقّي ما يعظّم أشخاصهم وأعيانهم، ويضفي عليهم هالةً من القداسة المزيّفة والعناوين الرنّانة، وينفخ فيهم ويضخّمهم، لعلّه يبلغ بحجمهم ما يمكن أن يقابل خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) تكلُّفاً واعتسافاً..

فيقول مثلاً:

فاجتمع به ذو النصح له والتجربة للأُمور أهلُ الديانة

ص: 240

والمعرفة ((1)).

فهم مِن ذوي النصح له!!

وهم من ذوي التجربة للأُمور!!

وهم من أهل الديانة!!

وهم من أهل المعرفة!!

وهم من أهل القرابة، كابن عبّاس!!

وهم من الصحابة، كابن عمر والمسوّر، وغيرهما ممّن ذكروهم!!وهم من كبار الشيعة والأتباع والمحبّين والموالين، من قبيل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخُدريّ!!

وهم من التابعين، كسعيد بن المسيّب وغيره!!

وهم من الرجال ومن النساء، كعمرة بنت عبد الرحمان!!

وهم من الرجال المعروفين والرجال المغمورين!!

وهم من الشيوخ والشباب!!

وهم من المدينة ومكّة وباقي الأصقاع!!

وهم المحدّث والراوية والفقيه والمفتي والشاعر!!

وهكذا دواليك.. تجده يُغدق على مَن يريد رصفه في صفّ المعارضين للإمام (علیه السلام) من الألقاب والمقامات والرتب، ما يُقنع المتلقّي بصلاحه

ص: 241


1- أُنظر: مطالب السَّؤول لابن طلحة: 74، كشف الغُمّة للأربليّ: 2 / 43.

ومعرفته..

أيّ ديانة؟

أيّ معرفة؟

أيّ تجربة؟

وهم يخالون أنفسهم أنّهم يعرفون ما لا يعرفه مَن زوّده الله بعلمه ولم يمنعه إلّا الحرف الواحد الّذي استأثر به لنفسه!

ومَن منهم أعظم تجربةً من الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأشدّ معاناةً منه لهذهالأُمّة ومَن فيها؟!

إنّ من هوان الدنيا على الله أن يُعرض ابنُ عمر وابن عبّاس وابن مخرمة وابن مطيع وأمثال هؤلاء بإزاء سيّد الخلق، ويوصفوا بما وصفهم به المؤرّخ، ثمّ يعرض الإمام (علیه السلام) مخالفاً لهؤلاء، وهم أهل الديانة والمعرفة والتجربة والصحبة، وأمثالها من العناوين.

الملاحظة الثالثة: قلّة المعترضين!

رغم ما تجشّمه المغرضون في محاولاتٍ مهلهلةٍ مستهلكةٍ بائسةٍ في تضخيم أعداد المعترضين، ونثر العناوين الطنّانة عليهم، فإنّ قليلاً من الإمعان والتريّث في قراءة التاريخ تفيد بجلاءٍ أنّهم ليسوا بالكثير، ولا بالعدد المهول الّذي حاولوا تضخيمه وعرضه بشكلٍ متراكم، من خلال تفريق الحديث عنهم مرّةً وجمعِهم في موضعٍ مرّةً أُخرى.

ص: 242

فلو أنّنا تتبّعنا المعترضين، لم نجدهم الأفضل في الأُمّة يومذاك، ولا يُقاس عددهم بعدد الصحابة والتابعين وعامّة المسلمين، حتّى لو احتسبنا مَن لا يُعدّ في المعترضين، كأُمّ المؤمنين أُمّ سلَمة، والمولى المكرّم ابن الحنفيّة، والمولى المعظّم ابن جعفر.. فإنّ عددهم محدودٌ محصور، سيّما إذا احتسبنا المدّة الطويلة الّتي قضاها الإمام (علیه السلام) في مكّة مستجيراً بحرم الله، وأنّ المعترضين ازدحموا على الإمام (علیه السلام) في الأيّام الأخيرة قبل خروجه منمكّة.

وإذا نظرنا إلى مستوياتهم ومقامتهم ورتبهم الاجتماعيّة والعلميّة وأوزانهم في الدين والمجتمع، فإنّهم لا يرقون إلى حافر ذي الجناح، إلّا المستثنى منهم.

الملاحظة الرابعة: الاضطرار إلى الوضع

كانت مواقف بعض المعترضين مشهودةً معروفة، رواها المؤرّخون في أكثر من موضع، وذكروا لها تفاصيل ومتابعات، كابن عبّاس وابن عمر وأمثالهما..

فلمّا أرادوا دعم هذه المواقف وإلقاء سموم أفاعيهم، اضطرّوا إلى الكذب والافتراء على بعض الأعيان بأقلّ مؤونةٍ وأوجز عبارة، فنسبوا إلى جابر وأبي سعيدٍ وأمثالهما أقوالاً لم يتقنوا الوضع فيها، لجهلهم بالإمام (علیه السلام) وبأتباعه، فجاءت الكذبة مفترعةً مفضوحةً ممجوجةً باهتةً باردة، والسمُّ

ص: 243

فيها ناقعاً فاقعاً لونه، يتناثر بشكلٍ لا يخفى على مَن عرف الإمام (علیه السلام) وعرف أتباعه أدنى معرفة، وإنْ كانت لَتنطلي قبل التأمّل على المغفّل والمغرور بقداسة التاريخ وقداسة الأشخاص المزيّفة.

الملاحظة الخامسة: قداسةٌ مقابل قداسة

حاولوا من خلال التضخيم والتعظيم الّذي أشرنا إليه إيجادَ هالةٍ من القداسة على المعترضين على الإمام (علیه السلام) ..

فعرضوا ابن عبّاس باعتباره ابن عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) مباشرة، وهو _ على حدّ زعمهم _ من الصحابة، وقد أضفوا عليه من العناوين الراقية، وألبسوه جلابيب الوقار والعلم والمتانة، وأدخلوه _ كما فعل هو نفْسُه أيضاً _ في كثيرٍ من مواقفه وكلماته في الآل، وجعلوه من أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأغدقوا عليه الألقاب المسروقة من الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده الطاهرين (علیهم السلام) ، من قبيل: (حبر الأُمّة) و(ترجمان القرآن) وأمثالهما، ليكون الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ابن عمّ الرسول (صلی الله علیه و آله) بإزاء ابن عبّاس ابن عمّ الرسول، وهكذا تستمرّ المقارنة بما لا نجرؤ على كتابته.

وعرضوا ابن عمر باعتباره صحابيّاً، وابن الملك الثاني! وصاحب الرأي، والزاهد في الدنيا! وما إلى ذلك، وكلّها كذبٌ وزورٌ بما فيها الثاني! ولمن أراد التفصيل مراجعة كتاب (الغدير) للعلّامة الأمينيّ، سيّما الجزء العاشر منه.

ص: 244

وكذا الأشخاص والشخصيّات الأُخرى، حتّى الّتي نسبوا إليها ما لم يقله، من قبيل جابر وأبي سعيد..ولعلّ الغرض من ذلك مواجهة قداسة الإمام (علیه السلام) وقربه القريب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقداسةٍ أُخرى زائفة، وتوفير المادّة للتشكيك في عصمة الإمام (علیه السلام) بإزاء عصمة الصحابة.

وفاتهم أنّ القداسة الذاتيّة الّتي يمنحها الله ويُلبسها عباده وأولياءه لا تُقارن بالقداسة المموَّهة الّتي ينسجها الناقص المنطفئ المظلم!

وأنّى لهم المقارنة بين الثرى والثريّا، وقد غشيَت أبصارهم وبصائرهم وعميَت، إذ كيف لمن ينظر إلى الشمس ويحدّق فيها أن يُبصِر نور ذبالة الشمعة المتذبذب الخافت؟!

وربّما كان الغرض من ذلك ما سنسمعه بعد قليل.

الملاحظة السادسة: تركيز فكرة الخروج!

جهد الأعداء منذ اللحظة الأُولى الّتي عزموا فيها على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) والإجهاز على البقيّة الباقية من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يُبدعوا ذريعةً يسوّغوا فيها فعلتهم وجنايتهم، ويطعمونها القلوب الخاوية والأرواح المعطّلة الّتي تستسيغ العلقم ما دام فيه مصالحهم ودنياهم..

فبماذا يعتذر العدوّ للناس والتاريخ إن أراد قتل الإمام ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابنه وسيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ؟!

ص: 245

لابدّ من صياغة ذريعةٍ تُقنِع الأتباع، وتوقع المخالفين له في التردّدوالشكّ، وتورّط المعتقِد بالإمام (علیه السلام) للبحث عن مسوّغٍ لِما فعله الإمام (علیه السلام) .

فكلّ مَن قُتل مِن قَبل الإمام الحسين (علیه السلام) من أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، كان الأعداء قد أعدّوا له ذريعته، وكلُّ مَن قُتل مِن أولاد الحسين المعصومين (علیهم السلام) ، كان العدوّ قد أعدّ له ذريعته، حتّى وإن قُتل غيلةً بالسمّ.

كانت الذريعة المعدَّة المعلَنة دائماً: المنازعة في السلطان، وشقّ عصا المسلمين.. من أجل ذلك.. هذا باختصار!

وكان يزيد قد كتب من اليوم الأوّل بعد أن كتب إلى واليه على المدينة يطلب رأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) مع جواب الكتاب، كتب أيضاً كتاباً إلى أهل المدينة وأهل مكّة وأهل الموسم وابن عبّاس نسخةً واحدة، صرّح فيها بهذه الذريعة البائسة، وأكّد أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) ينازعه سلطانه، وهو يدفع عن نفسه وسلطانه، ويريد للأُمّة أن تبقى نسيجاً واحداً.

وعاد ليؤكّد ذلك هو وأتباعُه وأشياعُه وأبواقُه في كلّ موضعٍ وموطن، واستمرّ الأمر في أشياعه وأذنابه من المؤرّخين.

من هنا حاول ترويج هذه الفكرة البائسة التافهة الّتي لا تنطلي على المعتقِد بعصمة الإمام (علیه السلام) ، فحشّد هؤلاء المعترضين؛ ليركّزوا هذه الفكرة، ويؤكّدوا أنّ الإمام (علیه السلام) يسعى إلى القيام ب-- (المعنى المصطلَح)، أو ما يسمّيه العدو ب-- (الخروج على السلطان)!

ص: 246

فجاءت على لسان كلّ واحدٍ منهم بصورةٍ وصيغة، كما سمعنا منخلال الدراسة الّتي مرّت علينا، وكان آخِرها ما نُسب إلى أبي سعيدٍ الخُدريّ افتراءً أنّه قال له: اتّقِ اللهَ والزمْ بيتَك، ولا تخرج على إمامك!!!

نعم، هذا هو المقصود.. إنّهم عزموا على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وعزموا على استئصال آل الرسول (صلی الله علیه و آله) من جديد الأرض، وكلّ شيءٍ يُذكّر به (صلی الله علیه و آله) ، ويعمل بسنّته..

ولكي يفعلوا فعلتهم، فلابدّ لهم من ضخٍّ إعلاميّ، وزخمٍ هادرٍ لإعلان الإمام (علیه السلام) كشخصٍ (خارجيّ) أقدم على الخروج على إمامه!! وضرب الناس بعضهم ببعض _ كما ورد على لسان بعضهم _، وسعى في شقّ العصا وتشتيت الأُمّة، وخرج إلى منازعة السلطان، وليس أمام العدوّ إلّا أن يُقدِم على قتله، وبهذا ولّد في أذهان أتباعه التقرّب إلى الله بدمه.. نستغفر الله ونتوب إليه.

فليس هو يزيد وحده الّذي رمى الإمام (علیه السلام) بهذه الفرية، وإنّما هو إجماع ذوي (النصح له والتجربة للأُمور أهل الديانة والمعرفة)، وكبار الصحابة والتابعين، ومَن ذكرناهم قبل قليلٍ من الأصناف.

الملاحظة السابعة: تخطئة الإمام (علیه السلام) !

يسعى العدوّ ويوظّف جميع أدواته وأذنابه لرشّ ما يريد ذرّه في ذهن المتلقّي، ويستعمل كلّ الوسائل ويوظّف كلّ ما يخدم غرضه.

ص: 247

وقد دأب منذ اليوم الأوّل على تخطئة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وعرضه في صورة الخارجيّ من دون تقدير الظروف، ولا ملاحظة قوّة العدوّ، ولا حساب مَن معه ومَن عليه، وهو يقدم على مواجهة السلطة باستعجال، ومن دون أيّ تخطيطٍ مسبقٍ في خطواتٍ متعثّرةٍ يسيطر عليها التردّد.

تماماً كما فعل مع المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، حين يصوّره متفاجئاً في كلّ مرّة، وسرعان ما يتّخذ الموقف من غير دراسةٍ ولا تقييمٍ للوضع ولا تخطيطٍ للمستقبل وحسابٍ للعواقب والنتائج.

وتماماً كما فعل ابن سعدٍ حين جهد على تصوير الإمام (علیه السلام) متردّداً في قبول دعوة أهل الكوفة، وكلّما نصحه الناصحون _ كما يسمّونهم _ ويخبره المجرّبون ويلتمسه أهل الديانة والمعرفة، فإنّه (علیه السلام) يأبى ولا يريد إلّا المضيّ في مسيره، دون التفاتٍ إلى أحدٍ أو تحسُّبٍ للتوالي واللوازم.

فهؤلاء هم الّذين حشّدهم المؤّرخ في طابور _ بما فيهم من خصائص وخصال، وبما أضافه لهم من تضخيمٍ ونفخٍ في أحجامهم وعناوينهم _، يخالفونه ولا يرون ما يفعله صواباً، إلّا أنّه لا يلتفت!

وهذه الخطّة السخيفة تجدها في جميع مراحل حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى حين الشهادة، بل حتّى بعد الشهادة إلى يوم الناس هذا.

فمن الطبيعي أن يتأثّر الأعداء وأتباعهم والجهلة والضلّال والمغرّر بهم، ممّن هم لا يرون للإمام الحسين (علیه السلام) من القداسة والعظمة والعصمة ما يرونه لأمثال ابن عبّاسٍ وأبي سعيدٍ الخُدريّ وابن عمر وغيرهم.

ص: 248

وإن كان من أولياء الإمام الحسين (علیه السلام) والمعتقدين بعصمته، يدخل في دوّاماتٍ مروّعةٍ للدفاع عن الإمام (علیه السلام) ، وتفسير موقفه وشرح صحّة ما فعله، فتأخذه الدوّامة مرّةً ويأخذها مرّة..

ويغفل الجميع عن مظلوميّة الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ، ولا يتأمّل أحدٌ في حقيقة ما فعله أعداء الإمام (علیه السلام) ، ولا يحدّق في ما جيّش له آلُ أُميّة وآل زيادٍ وآل مروان وأتباعهم من الهجوم على الإمام (علیه السلام) ومحاصرته ومضايقته، وإطباقِ أطراف الأرض وآفاق السماء عليه من أجل القضاء عليه وعلى مَن معه من آل الله..

وينسى الجميع أنّ عليهم الالتفات إلى ما يقوله الإمام (علیه السلام) نفسه وأولاده المعصومين (علیهم السلام) ، ويغضّوا الطرف عمّا يرويه المؤرّخ من حدَثٍ فاجعٍ في ذلك الصخب المتصاعد..

يغرق الجميع في خضمّ هذه الزخارف والترّهات الّتي تعرض الإمام الحسين (علیه السلام) خارجيّاً يستحقّ القتل في عُرف الأعداء، وخارجاً (بالمعنى المصطلَح) في عُرف الأحباب، فيصمّ الصخب والضجيج الآذان، ويغشي وميض السهام والسيوف والرماح وبريق السلاح وقعقته عن الاستماع إلى الخبر، بعيداً عن كلّ هذا الصراخ والجلجلة والجلَبة، ليبدأ المتابع من اللحظة الأُولى الّتي خرج فيها الإمام (علیه السلام) من المدينة «خائفاً يترقّب»، كما عبّر هو بنفسه _ فداه العالمين _..

كيف كان، فإنّ الأعداء كان همّهم الأكبر إقناع المتلقّي أنّ جميعالعقلاء

ص: 249

وأهل الديانة والشخصيّات المقبولة عند الشيعة والعامّة كانوا يخالفون الإمام (علیه السلام) ويخطّؤونه، وأنّ الظالم كان على حقٍّ فيما فعل مع المخطئ بالاتّفاق!! فحينما يتعيّن المخطئ في أحد طرفَي النزاع، يتعيّن أن يكون الآخَر على صواب.

نستغفر الله ونتوب إليه من الانحدار في مِثل هذه الوديان الموبوءة الّتي يُزكم الأُنوف عفَنُها، ويُقسي القلوب قساوتها وسوء أدبها، بَيد أنّها ضرورة البحث، وأملنا في مليكنا، وهو رحمة الله الواسعة ومعدن الحلم والجود والكرم.

الملاحظة الثامنة: هل يخفى على الإمام (علیه السلام) ما عرفه غيره، فيخرج؟!

إذا كانت الأُمّة كلُّها معرضةً عن الإمام (علیه السلام) ، وكبارُ الشخصيّات معترضين على الإمام (علیه السلام) ، وكلّ ذلك لا يخفى على الإمام (علیه السلام) ، فكيف يمكن تفسير قيامه ب-- (الخروج بالمعنى المصطلَح)؟ إذ لا الأُمّة معه ولا نخبها، فهل يخفى على الإمام (علیه السلام) ما عرفه غيره من أفراد الأُمّة وجماعتها، بما فيهم الأغبياء والحمقى؟! نعوذ بالله!فلا يمكن حمله على الخروج بمعنى منازعة السلطان؛ لوضوح أنّ هذه هي فكرة العدوّ، ولم يقُلْ بها أحدٌ ممّن يعرف الإمام الحسين (علیه السلام) ويعتقد

ص: 250

إمامته!

ولا يمكن حملها على التفسير المشهور، وأنّ الإمام (علیه السلام) مع علمه بذلك إلّا أنّه استمر في مسيره، أو ما يعبّرون عنه _ خطأً _ ب-- (مشروعه)، وهو عالمٌ جازمٌ قاطعٌ متيقّنٌ أنّهم سيقتلونه ومَن معه، وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) قد أقدم على عملٍ انتحاريّ، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنىً، وهو محالٌ في غير المعصوم، فكيف بالمعصوم وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) !

وإن قيل: إنّ الإمام (علیه السلام) امتثل أمر الله بذلك، فيخرج الأمرُ مِن عهدة الإمام (علیه السلام) .. بيد أنّه سيكون أمراً من الله بالانتحار، ولا نحسب أنّ مؤمناً بالله يقول بذلك.

فيما يكون قيامه بالأمر بالدفاع عن نفسه _ بعد هجوم العدوّ عليه وطلب رأسه وعزمه جازماً على سفك دمه _ مقبولاً، يشهد له أقوال الإمام (علیه السلام) وأفعاله، وأقوالُ العدوّ وأفعاله، على تفصيلٍ يأتي في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

الملاحظة التاسعة: قصدوا الإمام (علیه السلام) ، ولم يقصدهم!

يُلاحَظ في جميع الموارد الّتي رواها المؤرّخ كتسجيلٍ لمواقفالمعترضين، أنّهم جميعاً قصدوا سيّد الشهداء (علیه السلام) وتطفّلوا، فتقدّموا بين يدَي الإمام (علیه السلام)

ص: 251

كلٌّ حسب مقداره وطريقته وأُسلوبه ودوافعه ونوازعه ومقاصده..

أمّا إمام السعداء وسيّد الشهداء (علیه السلام) فإنّه لم يقصد أحداً قطّ، ولم يسأل أحداً قطّ، ولم يحتجْ إلى رأي أحدٍ قطّ، ولم يستشر أحداً قطّ، إلّا ما زعمه ابن عبّاس كما في بعض النصوص أنّ «الحسين استشارني»!! وقد أتينا على مناقشة ذلك مفصَّلاً فيما مضى من الدراسة من وقائع مكّة المكرّمة.

والغريب أنّهم جميعاً كانوا يتكلّمون في نفس الوادي، ويكرّرون نفس المضامين، وينسجون على نفس المنوال المتهالك، والإمام يردّ عليهم ويوسعهم بحلمه، وهم لا يعقلون، وفي فلك التَّيه والتردُّد يدورون، وعن دائرة خطّة السلطان ومنويّاته لا يخرجون.

وهم _ على كلّ حالٍ _ قليلٌ لا يُؤبَه بهم كمعترضين على إمامهم، ولم يقدّموا جديداً خافياً على الإمام (علیه السلام) ، بل لم يقدّموا ما يخفى على كلّ مَن يعيش تلك الأيّام حتّى من عوامّ الناس.

الملاحظة العاشرة: مَن كان مع الإمام (علیه السلام)

مَن يقرأ الأحداث إلى مكّة _ حيث نحن الآن _ ويستمع إلى المعترضين، يجد أنّ المحور الأوّل والأخير هو شخص الإمام (علیه السلام) ، سواءًأكان حين يقصده المعترضون، أو حين يردّ عليهم الإمام (علیه السلام) ، بل في أيّ موضعٍ آخَر في خضمّ الأحداث، وهذا ما سنأتي عليه في محلّه إن شاء الله (تعالى).

ص: 252

والحال أنّنا نعلم بشهادة التاريخ وسير الأحداث أنّ ثَمّة رجالاً في ركب الإمام الحسين (علیه السلام) _ بغضّ النظر عن الإمام (علیه السلام) نفسه _ كلّاً منهم يمكن أن يكون محوراً بنفسه، سواءً في استقبال المعترضين أو في الردّ عليهم، كأبي الفضل العبّاس (علیه السلام) ، والمولى الأمير عليّ الأكبر ابن الحسين (علیه السلام) ، والمولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وغيرهم من أهل البيت والموالي الكرام..

فلا سيّد الشهداء (علیه السلام) كلّف أحداً منهم الردّ، ولا انبرى أحدٌ منهم لذلك مع وجود إمامه (علیه السلام) وكبيره.

إنّه الأدب الرفيع الّذي تربّى عليه الّذين نشؤوا في بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه.. إنّه التسليم المطلق، ووقوف العبد الذليل بين يدَي السيّد الجليل، والخضوع والإخبات المطلق، والتعظيم الكامل لحرمات الله الّذي امتاز به أنصار الحسين وأهل بيته (علیهم السلام) .

ص: 253

ص: 254

الإمام (علیه السلام) وأمّ سلَمة

اشارة

مرّ معنا الكلام عن لقاء أُمّ سلَمة بسيّد الشهداء (علیه السلام) عند الحديث عن خروجه (علیه السلام) من المدينة، ونعود هنا للحديث مرّةً أُخرى؛ لِما في الأخبار والأحاديث الواردة في المقام مِن إفادة اللقاء أو الكتابة عند خروجه (علیه السلام) من مكّة المكرّمة.

ولا نريد هنا الاستقصاء ودراسة النصوص بشكلٍ دقيقٍ ومتابعةَ كلّ ما ورد فيها على التفصيل، وإنّما سنقتصر على ما ينفع الدراسة إن شاء الله (تعالى).

وقد وردَت نوعان من المتون:

النوع الأوّل: رواية المعصوم (علیه السلام)

اشارة

روى الخصيبيّ في (الهداية الكبرى)، قال:

ص: 255

قال الحسين بن حمدان الخصيبيّ: حدّثَني أبو الحسين محمّد بن عليّ الفارسي، عن أبي بصير، عن أبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام) قال:

«لمّا أراد الحسينُ بن عليٍّ (علیه السلام) الخروجَ إلى العراق، بعثَتْ إليه أُمُّ سلَمة، وهي الّتي كانت ربّته، وكان هو أحبّ إليها من كلّ أحد، وكانت أرأفَ الناس عليه، وكانت تربة الحسين عندها في قارورةٍ مختومةٍ دفعها إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقال لها: إذا خرج ابني إلى العراق، فاجعلي هذه القارورة نصب عينيك، فإذا استحالَتِ التربةُ في القارورة دماً عبيطاً فاعلمي أنّ ابني الحسين قد قُتِل.

فقالت له: أُذكّرك رسولَ الله أن تخرج إلى العراق. قال: ولِمَ يا أُمَّ سلَمة؟ قالت: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: يُقتَل ابني الحسين بالعراق، وعندي يا بُنيّ تربتُك في قارورةٍ مختومةٍ دفعَها إليّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) . فقال: يا أُمَّ سلَمة، إنّي مقتولٌ لا محالة، فأين أفرُّ مِن القدَر والقضاء المحتوم والأمرِ الواجب من الله (سبحانه وتعالى)؟

قالت: وا عجباه، فأين تذهب وأنت مقتول؟ قال: يا أُمّ! إنّي إنْ لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً، وإنْ لم أذهب غداً ذهبتُ بعد غد، وما من الموت مفرّ، واللهِ يا أُمّ إنّي لَأعرف اليوم الّذي أُقتَلفيه، والساعةَ الّتي أُحمَل فيها، والحفرةَ الّتي أُدفَن فيها، وأعرف قاتلي ومحاربي والمجلب علَيّ والسائق والقائد والمحرّض ومَن هو قاتلي ومَن يحرّضه، ومَن يُقتَل معي من أهلي وشيعتي رجُلاً رجُلاً،

ص: 256

وأُحصيهم عدداً، وأعرفهم بأعيانهم وأسمائهم وقبائلهم وعشائرهم كما أعرفكِ، وإنْ أحببتِ أريتُكِ مصرعي ومكاني. فقالت: فقد شئت.

فما زاد على أن تكلّم باسم الله، فخضعَت له الأرضُ حتّى أراها مضجعَه ومكانه ومكان أصحابه، وأعطاها من تلك التربة الّتي كانت عندها.

ثمّ خرج الحسين (علیه السلام) ، وقال لها: يا أُمّ، إنّي لَمقتولٌ يوم عاشوراء يوم السبت. فكانت أُمُّ سلَمة تعدّ الأيام وتسأل عن يوم عاشوراء» ((1)).

وروى ابن حمزة في (الثاقب)، قال:

عن الباقر (علیه السلام) قال:

«لمّا أراد الحسينُ (علیه السلام) الخروجَ إلى العراق، بعثَتْ إليه أُمُّ سلَمة (رضی الله عنها) ، وهي الّتي كانت ربّته، وكان أحبَّ الناس إليها،وكانت أرقَّ الناس عليه، وكانت تربة الحسين عندها في قارورة، دفعها إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

فقالت: يا بُنيّ، أتريد أن تخرج؟ فقال لها: يا أُمّاه، أُريد أن أخرج إلى العراق. فقالت: إنّي أُذكّرك الله (تعالى) أن تخرج إلى العراق. قال: ولِمَ ذلك يا أُمّاه؟ قالت: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: يُقتَل ابني

ص: 257


1- الهداية الكبرى للخصيبيّ: 202.

الحسين بالعراق. وعندي يا بُنيّ تربتُك في قارورةٍ مختومةٍ دفعها إليّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقال: يا أُمّاه، واللهِ إنّي لَمقتول، وإنّي لا أفرّ من القدَر والمقدور والقضاءِ المحتوم والأمر الواجب من الله (تعالى).

فقالت: وا عجباه، فأين تذهب وأنت مقتول؟! فقال: يا أُمّاه، إنْ لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً، وإنْ لم أذهب غداً لذهبتُ بعد غد، وما من الموت _ واللهِ يا أُمّاه _ بُدّ، وإنّي لَأعرفُ اليوم والموضع الّذي أُقتَل فيه، والساعةَ الّتي أُقتل فيها، والحفرةَ الّتي أُدفَن فيها، كما أعرفك، وأنظر إليها كما أنظر إليك. قالت: قد رأيتَها؟ قال: إنْ أحببتِ أن أُريكِ مضجعي ومكاني ومكان أصحابي فعلت. فقالت: قد شئتُها.

فما زاد أن تكلّم باسم الله، فخفضَت له الأرضُ حتّى أراها مضجعه ومكانه ومكان أصحابه، وأعطاها من تلك التربة،فخلطَتها مع التربة الّتي كانت عندها.

ثمّ خرج الحسين (صلوات الله عليه)، وقد قال لها: إنّي مقتولٌ يوم عاشوراء ((1)).

* * * * *

يمكن الإفادة من النصّين المذكورين من خلال المتابعات التالية:

ص: 258


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة: 330 الرقم 272، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 243.

المتابعة الأُولى: تقارب النصَّين

يبدو أنّ النصَّين متقاربان إلى حدّ الاتّحاد بالمضمون، وإن وُجدَت الاختلافات فهي في بعض الإضافات أو الألفاظ الّتي لا تؤثّر على أصل المضمون الّذي يحتويه الحديثان.

وقد روى ابن حمزة _ كما روى الخصيبيّ _ الحديثَ عن الإمام الباقر (علیه السلام) ، ومن حيث التقدُّم الزمانيّ فإنّ الخصيبيّ أقدم، وهو يروي الحديث بواسطةٍ عن أبي بصير!

قال الحسين بن حمدان الخصيبيّ: حدّثَني أبو الحسين محمّد بن عليّ الفارسي، عن أبي بصير ...

ويرويه ابن حمزة مرسَلاً، فلا ندري إن كان ابن حمزة يخرّجه من كتاب الخصيبيّ، أو أنّ له طريقاً آخَر!

المتابعة الثانية: الجانب الإعجازيّ في الحديث

يبدو الجانب الإعجازيّ مظلّلاً على أجواء الحديث، حيث يروي جملةً من الإخبارات الغيبيّة عن مستقبل أيّام الإمام الحسين (علیه السلام) ، وحمل أُمّ سلَمة أمانة التربة الحسينيّة من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وحملها الأمانة الجديدة من الإمام الحسين (علیه السلام) ، وضمّها إلى التربة السابقة، وكشف الإمام الحسين (علیه السلام) لها عن موضع شهادته، وتحديد اليوم، وما شاكلها من المعاجز الّتي أخبر عنها الإمام الباقر (علیه السلام) ..

ص: 259

وهذا الجوّ الإعجازيّ يفرض على المتلقّي لوناً خاصّاً من الفهم، ويدعوه إلى التعامل معه تعاملاً خاصّاً.

المتابعة الثانية: موضع اللقاء

لمّا كان جوّ الحديث جوّاً إعجازيّاً، فمن الصعوبة بمكانٍ استكشاف موضع اللقاء، فليس بالضرورة أن يكون خروج الحسين (علیه السلام) إلى العراق المُشار إليه في الحديث خروجاً من مكّة، فربّما كان المقصود هو الخروج من المدينة، إذ أنّ أُمّ سلَمة كانت تعلم أنّ خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من المدينة سينتهي في العراق بشهادة الإمام (علیه السلام) وفق ما سمعَته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وكذلك كان الإمام الحسين (علیه السلام) عالماً بذلك، فجرى الحديث بينهما عن العراق والشهادة في المدينة، وإن كان الإمام (علیه السلام) لم يُخبِر أحداًبتوجّهه إلى العراق في المدينة، وإنّما ذكروا العراق هنا لمكان الحديث عن الإخبارات الغيبيّة.

وحينئذٍ لا يمكن البتّ بمكان اللقاء، ولا حاجة للبحث عن الشواهد في الحديث الّتي قد تفيد حصول اللقاء في مكّة، سيّما إذا عرفنا أنّ أُمّ سلَمة كانت في المدينة، ولم نجد لها موقفاً واضحاً في مكّة تلك الأيّام.

إلّا أن يقال: إنّ الإمام (علیه السلام) خرج إلى العراق عن طريق المدينة، بمعنى أنّه مرّ بالمدينة في طريقه من مكّة إلى العراق، وهذا ما يحتاج إلى دراسةٍ وتوثيق، وليس هذا محلّه.

ص: 260

المتابعة الثالثة: أُمّ سلَمة

مرّ معنا الكلام عن أُمّ سلمة ومقامها ومنزلتها عند النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآل البيت (علیهم السلام) ، فلا نعيد، بَيد أنّ في هذا الحديث بعض الخصائص المميّزة لها، سنشير إليها إشارةً عابرة.

لقد شهد الإمام الباقر (علیه السلام) لأُمّ سلمة شهادةً تكفيها في الدارين، إذ أنّه شهد لها أنّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبه كان أحبَّ إليها من كلّ أحد، وكانت أرأف وأرقّ الناس عليه.. ما أعظمها من شهادة!

وامتازت أيضاً هذه الطيّبة الطاهرة بتحميلها أمانة تربة الحسين (علیه السلام) الّتي جاء بها جبرئيل إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فدفعها النبيّ (صلی الله علیه و آله) لها في قارورةٍ مختومة،وأخبرها بخبر شهادة ابنه، وأعطاها لذلك علامةً لا تتخلّف، وأمرها أن تجعل القارورة نصب عينيها وتتابعها، فإذا انقلبَت دماً عبيطاً علمَت أنّ حبيبها الحسين (علیه السلام) قد قُتل..

وقد حمّلها الإمام الحسين (علیه السلام) أيضاً هذه الأمانة، وكشف لها عن موضع شهادته وشهادة أصحابه..

وحمّلها بعض أمانات الإمامة، كما ذكرنا سابقاً..

فهي أمينةٌ على أسرار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآل بيته الطيّبين الطاهرين (علیهم السلام) ، وإنّها لَمنزلةٌ لا يرقى إليها إلّا مَن كان مثلها، ولا يختصّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته أحداً بمثل هذه الخصائص، إلّا لعظيم كرامته وجليل منزلته وسموّ مرتبته!

ص: 261

المتابعة الرابعة: تقدمة أُمّ سلَمة

تقدّمت أُمّ سلمة بين يدَي الإمام (علیه السلام) بشفاعة ما عندها من إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعلامة التربة المختومة، فهي مؤمنةٌ عالمةٌ بمآل الأُمور، واثقةٌ بما سيكون، غير أنّ قلب الأُمّ الّتي لا يحبّ ابنَها أحدٌ مثلها، ولا في الناس أرقّ وارأف منها عليه، وهي تعتقد أنّه الإمام المقرّب إلى الله الّذي إذا دعا أُجيب، فتوسّلَت إليه، لترى إن كان من سبيلٍ للنجاة من القتل.. من دون اعتراضٍ على الإمام (علیه السلام) ، ولا اعتراضٍ على إرادة الله، ولا سخطٍ لقضائهوقدره..

أو أنّها كانت تعتقد أنّ لابنها الحسين (علیه السلام) عدّة رحلات إلى العراق، وفي الأخيرة منها شهادته، أي: أنّها تعلم أنّ مقتل الإمام (علیه السلام) في العراق، غير أنّها لا تدري إنْ كان تحقّق ذلك سيكون في هذه الرحلة أَم في غيرها، فلمّا كلّمَته علمت أنّها هي الرحلة الموعودة، فعجبَت منه كيف يريد الذهاب إلى العراق وهو يعلم أنّها رحلة الشهادة، فقالت: «وا عجباه! فأين تذهب وأنت مقتول؟!»، وهو تعبيرٌ عن التفجُّع وتعظيم المصيبة، على وزان ما رواه الشيخ الطريحيّ في وداع الإمام الحسين (علیه السلام) مع القاسم بن الحسن (علیهما السلام) ، قال:

فلمّا رأى الحسين (علیه السلام) أنّ القاسم (علیه السلام) يريد البراز، قال له: «يا

ص: 262

ولدي، أتمشي برجلك إلى الموت؟» ((1))

فليس في ما قاله الإمام (علیه السلام) اعتراض _ والعياذ بالله _، وإنّما هو تعبيرٌ عن التفجّع بالمصيبة والرزء الجليل!

المتابعة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام)

القضيّة ليست قضيّة اليوم وغد، وحصول القتل في هذه السفرة أو السفرة الأُخرى.. إذ يقول الإمام (علیه السلام) لأُمّ سلَمة: «إنّي مقتولٌ لا محالة».. إنّهالقدَر والقضاء اللازم الّذي لا يفرّ منه الإمام (علیه السلام) ، لأنّ إرادته إرادة الله (تبارك وتعالى)، ولا يفرّ منه غير الإمام، لأنّ الله لا يفوته هارب.

قال (علیه السلام) : «يا أُمّ، إنّي إنْ لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً، وإنْ لم أذهب غداً ذهبتُ بعد غد، وما من الموت مفرّ»..

ثمّ جعل الإمام (علیه السلام) يُخبرها بعلمه بتفاصيل ما سيجري عليه والمباشرين لقلته وأنصاره والمكان والزمان، إلى آخر ما قال (علیه السلام) ..

وهذا الإخبار عن القتل القطعيّ الحاصل ليس هو إخبارٌ غَيبيٌّ محضٌ عن القتل ومكانه وزمانه فقط، كما ذكرنا في أكثر من موضع، وإنّما هو إخبارٌ عن عزم العدوّ وطريقة ممارسته للجناية أيضاً، إذ أنّ الإخبار الغيبيّ يحتاج

ص: 263


1- المنتخَب للطُّريحيّ: 2 / 372، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 315، أسرار الشهادة للدربنديّ: 305، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 224، معالي السبطَين للمازندرانيّ: 1 / 457.

إلى ظروفٍ وأحداثٍ خارجيّةٍ تتحقّق ليتحقّق الإخبار الغيبيّ ويصدق قول الصادق المصدّق.

ولاتّحاد إرادة المعصوم مع إرادة الربّ وعدم اختلافها ولا تخلّفها، فإنّ الإمام (علیه السلام) يقبل برضىً ما كتب الله له ويسلّم له، وهذا لا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) يسعى إلى حتفه ويسلّط القاتل من نفسه بمعنى مشاركته في الجناية، والعياذ بالله.

فالإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يعلم أنّ في صبيحة هذا اليوم يجري القضاء والقدَر، وكان يخرج فيرقب السماء ويقول: «إنّها الليلة الّتي وُعدتُبها» ((1))، وخرج بالفعل صبيحة اليوم التاسع عشر من شهر رمضان إلى المسجد، رغم علمه بما سيجري.

وكذا باقي الأئمّة (علیهم السلام) ، فإنّهم كانوا يُخبِرون ويصرّحون باسم القاتل واليوم الّذي سيقع فيه ذلك.

فكشفُ الإمام (علیه السلام) عن العلم الّذي سلّطه الله عليه لمصلحةٍ يعرفها الإمام (علیه السلام) ، لا يعني أن يكون الإمام (علیه السلام) قد سعى بنفسه إلى القتل _ والعياذ بالله! _، وإنّما هو يُخبِر بما سيقوم به العدوّ الغاشم الظلوم، ويبقى تحقّق الأمر رهن مجريات الأحداث الّتي تجري في الخارج، فيتحقّق الظرف لتحقّق الإخبار في الخارج..

ص: 264


1- الإرشاد للمفيد: 1 / 16، بحار الأنوار: 42 / 238 و277.

فمثلاً:

لقد وردَت الإخبارات الغَيبيّة تؤكّد بصراحةٍ ووضوحٍ أنّ موضع قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصحابه وموضع دفنهم كربلاء، وكان الإمام (علیه السلام) قد خرج من مكّة متوجّهاً _ في ظاهر الأمر _ إلى الكوفة، ولم يكن لكربلاء موضوعيّةٌ في حركة الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّ تحقّق ما ورد في الإخبارات حصل من خلال الحوادث الخارجيّة الّتي جرت، فكان أن اعترض جيش الحرّ مسير سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وجرى ما جرى بحيث صار الإمام (علیه السلام) وركبه إلىكربلاء..

فتحقّق الإخبار الغيبيّ من خلال ما جرى في الخارج من اعتراض جيش الحرّ وما صاحبه من أحداث، ممّا اضطرّ الإمامَ (علیه السلام) للنزول في كربلاء بعد أن أسره عسكر ابن زيادٍ المتمثّل يومها بجيش الحرّ، فنزول الإمام (علیه السلام) على غير ماءٍ ولا كلاءٍ في تلك الصحراء كان قرار العدوّ الّذي كان يكيد للإمام (علیه السلام) ويريد محاصرته وقتله.

فلماذا يختصّ الإمام الحسين (علیه السلام) بهذا التفسير الغيبيّ الخاصّ، وأنّه مأمورٌ بتسليم نفسه إلى القتل على نحوٍ خاصٍّ ولغرضٍ خاصّ، ولا يفسَّر إخبار باقي الأئمّة (علیهم السلام) بذلك؟!!

أو يُقال عكس ذلك، بمعنى:

إنّ ما يذكره العلماء الأبرار من شيعة أهل البيت (علیهم السلام) في مقام تفسير إخبار باقي الأئمّة والمعصومين (علیهم السلام) بتحديد القاتل وزمان القتل وما إلى

ص: 265

ذلك، فلْيكن نفسه تفسيراً لإخبارات الإمام الحسين (علیه السلام) وإخبارات النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة في قتل الإمام الحسين (علیه السلام) وتفاصيله!

وخلاصة الكلام:

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) أخبر هنا أنّ القوم سيقتلونه لا محالة.. وهذا يفيد عزم العدوّ على قتله وعدم توانيه في تنفيذ ذلك في الخارج، ولا يفيد من قريبٍ ولا من بعيدٍ أنّ الإمام (علیه السلام) نفسه قد سعى إلى مقتله لغرضٍ أراده منهذا السعي، بحيث كان الإمام (علیه السلام) هو العازم على أن يدفع نفسه ومن معه طعمةً لسيوف القوم!

المتابعة السادسة: عودٌ إلى بدء

بعد أن ذكر الإمام (علیه السلام) لأُمّ سلَمة عدداً كبيراً من الإخبارات الغيبيّة بالتفصيل، عاد مرّةً أُخرى ليختم الكلام معها بالوعد الصادق:

«يا أُمّ! إنّي لَمقتولٌ يوم عاشوراء»..

قد يُقال: إنّ هذا التوقيت هو إخبارٌ غَيبيٌّ محضٌ يتعلّق بزمان تحقُّق القتل، بَيد أنّ الإخبار عن القتل ذكره الإمام (علیه السلام) بصيغة المفعول، أي: أنّه سيقع عليه القتل.. «مقتول»! فهو إخبارٌ عمّا سيقع عليه، وليس عمّا سيفعله هو، فيكون إخباراً عن عمل العدوّ وعزمه، وتحقُّق ذلك في الخارج جراء ما سيفعله العدوّ من الإعداد والإقدامات الإجراميّة.. وسيأتي بعد قليلٍ ما يفسّر هذا بوضوح، إن شاء الله (تعالى).

ص: 266

ولمّا كانت أُمّ سلَمة مؤمنةً تمام الإيمان بقول الصادق الأمين، ومعتقدةً بصدق ما يُخبر به ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، جعلَت تعدّ الأيّام وتنتظر العلامة!

المتابعة السابعة: الإخبار عن القاتل!

بعد أن أخبر الإمام (علیه السلام) أنّ قضاء الله وقدَره لا يفلت منه هارب، وأنّ يومه الموعود آتٍ على كلّ حال، وأنّ الموت الّذي كتبه الله على المخلوقلا مفرّ منه، ولابدّ أن يلاقيه الإنسان يوماً أيّاً كان، عاد ليبيّن أنّ موته سيكون قتلاً، وأنّ ثمّة مَن سيقتله، وهو يعرف القاتل بعينه، ويعرف مَن سيحاربه والمجلب عليه والسائق والقائد والمحرّض ومَن يحرض القاتل..

فالإمام (علیه السلام) أثبت في كلامه وجود المحارب والمجلب والمحرّض على القتل، فهو يُخبر عن إجراءات العدوّ واستعداداته وعزمه وإقدامه على قتله.

نحسب أنّ كلام الإمام (علیه السلام) في غاية الوضوح، والإمام (علیه السلام) أمير الكلام ومعدن البلاغة والفصاحة، قد أوضح بما لا يحتاج إلى تفسيرٍ أنّ القضيّة قضيّة عدوان العدوّ عليه وسعيه في قتله وتحريضه وجمعه الجموع لذلك، فهو نوع تفسيرٍ لما قضاه الله وقدّره على الإمام (علیه السلام) ..

وفيه بيانٌ واضحٌ لبداية العدوّ وهجومه على الإمام (علیه السلام) ، من دون أن يكون الإمام (علیه السلام) قد أقدم على شيءٍ ممّا يذكره العدوّ من طلب السلطان، أو ما يذكره الآخَرون في تحليلاتهم من إقدام الإمام (علیه السلام) على الموت طلباً للشهادة لغرضٍ من الأغراض.. وكيف يكون ذلك من الإمام وهو الانتحار

ص: 267

بعينه؟! وكيف يأمر الله ويريد لحبيبه وخيرته من خلقه الموت انتحاراً؟! وأيّ غرضٍ أعلى وأهمّ وأعظم في عالم الدنيا من حفظ حياة المؤمن، فضلاً عن سيّد الخلق وأشرف الكائنات؟!

المتابعة الثامنة: أعرفهم كما أعرفكِ!

أخبر الإمام (علیه السلام) أنّه يعرف قاتله ومحاربه والمجلب عليه والسائق والقائد والمحرّض، ثمّ أخبر عمّن يُقتَل معه..

أخبر عن كوكبتين يُقتَلون معه:

كوكبة من أهل بيته..

وكوكبة من شيعته..

وأنّه يعرفهم رجُلاً رجُلاً، ويُحصيهم عدداً، ويعرفهم بأعيانهم وأسمائهم وقبائلهم وعشائرهم..

يعرفهم معرفةً تفصيليّةً، بأعيانهم وأشخاصهم وذواتهم وصورهم، تماماً كما يعرف أُمَّ سلَمة الواقفة بين يديه وجهاً لوجه، الّتي عاش معها عمره..

يعرفهم الإمام (علیه السلام) .. ولكن ليس بالضرورة أن يكون كلُّ واحدٍ منهم يعرف ما يعرفه الإمام (علیه السلام) عنه، فربّما كان في أنصار الحسين (علیه السلام) مَن لا يعرف ذلك من نفسه، كما حدث للحرّ بن يزيد الرياحيّ وغيره ممّن التحق في الساعات الأخيرة بركب السعداء، بل حتّى غيرهم من أنصار الإمام (علیه السلام) .

ص: 268

وسيأتي الكلام في أنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) مفصَّلاً في محلّه، إن بقي في العمر بقيّة، إن شاء الله (تعالى).

والّذي يهمّنا هنا هو: أنّ هؤلاء الأنصار من أهل البيت والشيعة، كلّهم مقتولون، يعدو عليهم العدوّ فيقتلهم مع الإمام (علیه السلام) ، فهم مقصودون بالقتلأيضاً، غاية ما يمكن أن يقال: إنّهم إن لم يكونوا مقصودين بالذات، فهم مقصودون بالتبع، إذ أنّهم لا يسلمون الإمام (علیه السلام) ، ولا يدَعُون شوكةً تشوكه ومَن معه من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتّى يدفعوا عنه وعنهم بأرواحهم وأنفسهم ويفدونهم بمهجهم..

فهم أيضاً لم يبيّتوا ما يسمّونه (مشروعاً)، سوى أنّهم يُقتَلون مع الإمام (علیه السلام) الّذي أقدم العدوّ على قتله.

ما أروع هذه النعمة وأعظمها وأحلاها حينما يعلن الإمام الحسين (علیه السلام) رحمةُ الله الواسعة أنّه يعرف أصحابه بهذا المستوى من المعرفة، تماماً كما هو يعرف زوّاره والباكين عليه، كما ورد في الأحاديث الشريفة في (كامل الزيارات) وغيره ((1)).

المتابعة التاسعة: الزمان والمكان

لقد أخبر الإمام الحسين (علیه السلام) عن المكان الّذي سيقتله العدوُّ فيه، وعن

ص: 269


1- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 206 الباب 32 ح 292.

زمان وقوع المصيبة العظمى بالضبط (يوم عاشوراء).. إنّه أخبر بذلك عن الله العلّام الخبير.

أمّا كيف سيقع ذلك، فقد تركه إلى سير الأحداث، إذ كانت الوجهة الّتي قصدها الإمام (علیه السلام) في ظاهر حركته الجغرافيّة هي الكوفة، فاعترضهجيش ابن زياد في (شراف) وأسروه هناك، ومنعوه من استمراره في المسير إلى وجهته المعلنة (الكوفة)، وذادوه عن الرجوع إلى المدينة أو السير في أرض الله الوسيعة، واضطرّوه إلى اتّخاذ طريقٍ لا يُدخله الكوفة ولا يُرجعه إلى المدينة، فتياسر الركب، حتّى اضطرّوه للنزول في صحراء كربلاء على غير ماءٍ ولا كلاء.

فكان العدوّ هو الّذي أنزل الإمام (علیه السلام) _ في ظاهر الأحداث _ في كربلاء، ليقتل الإمامَ (علیه السلام) ومَن معه في تلك الصحراء المقفرة المهولة..

ثمّ إنّ العدوّ استعجل في قتل الإمام (علیه السلام) ، ولم يدَعْ فرصةً إلّا انتهزها، ليطمئنّ أنْ لا مدد يمكن أن يصل إلى الإمام (علیه السلام) ، ولئلّا تفوته فرصة الاستفراد بالإمام (علیه السلام) ومَن معه في تلك البيداء، فوقعَت الواقعة العظمى بعد ثمانية أيّامٍ من نزول الإمام (علیه السلام) أرضَه الموعودة، فكان يوم عاشوراء!

المتابعة العاشرة: ساعد الله قلب أُمّ سلَمة

أُمٌّ حنونٌ رؤوم.. خدمَت الحسين (علیه السلام) ابنَها منذ أن كان صغيراً.. مؤمنةٌ تقيّة، عاشت في بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ونالت رضاه وحبّه.. تربطها

ص: 270

بالحسين (علیه السلام) واشجة الرحم..

حبّها للحسين (علیه السلام) لا يُوصَف.. ليس أحدٌ تحبّه كحبّها لولدها الحسين (علیه السلام) ..تسمع رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) يُخبرها بقتله! ثمّ يدفع إليها تربة، ويأمرها أن تحتفظ بها إلى حين تتغيّر وتتحوّل إلى دمٍ عبيط.. ثمّ يدفع لها وَلدُها الحسين (علیه السلام) قطعةً أُخرى من التراب، ويصف لها وصف جدّه..

يحدّد لها موعد وقوع المصيبة العظمى بالضبط، ومكانها..

يا ساعد الله قلبها.. كم عانت من الترقّب والتوجّس، كيف أطاقت الصبر وهي تحسب الأيّام وتعدّها عدّاً؟!

مصيبةٌ مادت لها السماء.. تزلزلت لها الأرض.. بكى لها كلُّ ما في الوجود..

وهي ترقب هذه المصيبة.. وعلامتها أن تفيض القارورةُ دماً، ويتحوّل ما فيها من ترابٍ إلى دم.. إنّه منظرٌ مروّعٌ مهولٌ مخيفٌ مرعب، تندكّ له الجبال الرواسي وتتصدّع منه القلوب..

ما أصعب الانتظار.. الترقّب.. توقّع المصيبة والرزء العظيم.. وقوع أعظم مصيبةٍ في تاريخ البشريّة منذ أن هبط آدم (علیه السلام) إلى الأرض إلى يوم القيامة..

سيُقتَل حبيبها قتلاً مروّعاً.. يُنحَر نحراً.. يُقطَّع آراباً..

يُقتَل غريباً.. ظمآناً.. يستغيث فلا يُغاث.. يستصرخ فلا يجد

ص: 271

صريخاً..

يُقتَل على عين نسائه وبناته وأطفاله..

يُقتَل ومَن معه..يُقتَل قتلاً يقلب التراب في القارورة إلى دمٍ عبيط..

كانت أُمّ سلَمة تعدّ الأيّام، وتسأل عن يوم عاشوراء.. يا له من انتظارٍ لا يُطاق.. يا ساعد الله قلبها..

إنتظرت المصيبة العظمى، حتّى فاضت القارورة دماً عبيطاً..

ثمّ انتظرت عودة بقيّة السيف إلى المدينة.. انتظرت عودة ركب آل الله وبنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونساء الحسين (علیه السلام) ..

إنتظرت عودة إمام زمانها زين العابدين (علیه السلام) من السبي والأسر..

فرجع إليها وحيداً، بعد أن دفن الأحبّة في كربلاء، ودفن مَن دفن مِن أزهار ركب السبايا الّتي تناثرت في الطريق..

عاد لها، وقد أذواه المصاب، وبراه الرزء، وأكلَت الجامعةُ لحمَه، وأسالت كربلاء عَبرته، واشتعلت فيه الغيرة على عمّاته وأخواته في السبي..

عاد إلى بيوتٍ انطفأَت مصابيحها الزاهرة، وملأَت الآهات والحسرات أطرافها، وتجاوبت رنّات الحنين والأنين في جنباتها..

كيف استقبلَت أُمّ سلَمة الركبَ الّذي رجع إلى المدينة، لا رجال ولا بنينا؟!

ص: 272

إنّه انتظارٌ لا يوصَف، ولا يقدر أحَدٌ على تصوّره ولا تصويره، إلّا المعصوم!

النوع الثاني: الأخبار

اشارة

قال المسعوديّ:

ولمّا عزم الحسينُ (علیه السلام) على الخروج إلى العراق بعد أن كاتبه أهلُ الكوفة، ووجّه مسلمَ بن عقيل إليهم على مقدّمته، فكان من أمره ما كان وأراد الخروج، بعثَتْ إليه أُمُّ سلَمة: إنّي أُذكّرك الله يا سيّدي أنْ لا تخرج. قال: «ولِمَ؟»، قالت: سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «يُقتَل الحسينُ ابني بالعراق»، وأعطاني من التربة قارورةً أمرني بحفظها ومراعاة ما فيها. فبعث إليها: «واللهِ يا أُمّاه إنّي لَمقتولٌ لا محالة، فأين المفرّ من قدَر الله المقدور؟ ما مِن الموت بُدٌّ، وإنّي لَأعرفُ اليوم والساعة والمكان الّذي أُقتَل فيه، وأعرف مكان مصرعي، والبقعةَ الّتي أُدفَن فيها، وأعرفها كما أعرفكِ، فإنْ أحببتِ أن أُريكِ مضجعي ومضجعَ مَن يُستشهَد معي فعلت». قالت: قد شئت.

وحضرَتْه، فتكلّم باسم الله (عزوجل) الأعظم، فانخفضَت الأرضُ حتّى أراها مضجعَه ومضجعهم، وأعطاها من التربة حتّى خلطَتها بما كان معها، ثمّ قال لها: «إنّي أُقتَل في يوم عاشوراء، وهو يوم

ص: 273

عاشوراء بعد صلاة الزوال، فعليكِ السلام، رضيَ اللهُ عنكِ يا أُمّاه برضانا عنك».وكانت أُمّ سلَمة تسأل عن خبره وتراعي قرب عاشوراء ((1)).

وقال الراونديّ:

ومنها: أنّه (علیه السلام) لمّا أراد العراق، قالت له أُمّ سلَمة: لا تخرج إلى العراق؛ فقد سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: «يُقتَل ابني الحسين ب[أرض] العراق»، وعندي تربةٌ دفعَها إليّ في قارورة. فقال: «واللهِ إنّي مقتولٌ كذلك، وإنْ لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً، وإنْ أحببتِ أنْ أُريكِ مضجعي ومصرع أصحابي».

ثمّ مسح بيده على وجهها، ففسح الله في بصرها حتّى أراها ذلك كلّه، وأخذ تربةً فأعطاها من تلك التربة أيضاً في قارورةٍ أُخرى، وقال (علیه السلام) : «فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قُتلتُ» ((2)).

وقال البياضيّ:

قالت أُمّ سلَمة: لا تخرج إلى العراق؛ فإنّي سمعتُ جدَّك يقول أنّك مقتولٌ به، وعندي تربةٌ دفعَها إليّ في قارورة. فقال (علیه السلام) : «وإنْ لم أخرج قُتلتُ».

ص: 274


1- إثبات الوصيّة للمسعوديّ: 126، نفَس المهموم للقمّيّ: 165.
2- الخرائج والجرائح للراونديّ: 1 / 253 الرقم 7، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 89، العوالم للبحرانيّ: 17 / 157.

ثمّ مسح بيده على وجهها، فرأت مصرعه ومصرع أصحابه، وأعطاها تربةً أُخرى في قارورة، وقال: «إذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قُتلت»، ففاضتا دماً بعد الظهر في يوم عاشوراء ((1)).وقال القندوزيّ:

ونُقل أنّ أُمّ سلَمة (رضی الله عنها) قالت: يا بُنيّ، لا تحزنّي بخروجك إلى العراق؛ فأنا سمعتُ جدّك (صلی الله علیه و آله) يقول: «يُقتَل ولدي الحسين بالعراق، بأرضٍ يُقال لها: كربلاء». فقال: «يا أُمّاه، واللهِ أعلم ذلك، وإنّي مقتولٌ لا محالة، وأعرف اليوم الّذي أُقتَل فيه، وأعرف مَن يقتلني، وأعرف البقعة الّتي أُدفَن فيها، وأعرف مَن يُقتَل من أهل بيتي وشيعتي، وإنْ أردتِ يا أُمّاه أريتُكِ حفرتي ومضجعي».

ثمّ أشار بيده الشريفة إلى جهة كربلاء، فانخفضَت الأرض، حتّى أراها مضجعه ومدفنه ومشهده، فبكت بكاءً شديداً ((2)). [عن أبي مخنف]

* * * * *

يبدو أنّ النوع الثاني من الأخبار لا يختلف كثيراً في التفاصيل عمّا ورد في حديث الإمام الباقر (علیه السلام) إلّا قليلاً..

ص: 275


1- الصراط المستقيم للبياضيّ: 2 / 179 الرقم 6.
2- ينابيع المودّة للقندوزيّ: 3 / 60.

ويبدو أنّ في أوّل لفظ المسعوديّ في (الإثبات) شيءٌ من دمج الأحداث، لذا سنقتصر على الإشارة السريعة على ما ورد في هذه الأخبار من تفسيرٍ وشرحٍ لقوله (علیه السلام) : «إنّي مقتولٌ لا محالة»..

«إنْ لم أخرج يقتلوني»

سمعنا في حديث الإمام الباقر (علیه السلام) قبل قليلٍ ما رواه عن جدّه سيّد الشهداء (علیه السلام) : «إنّي مقتولٌ لا محالة».. وجاء فيما رواه الراونديّ والبياضيّ ما يفسّر ذلك بجلاء، حيث قال:

• «واللهِ إنّي مقتولٌ كذلك، وإنْ لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً» ((1)).

• فقال (علیه السلام) : «وإنْ لم أخرج قُتلتُ» ((2)).

هذا هو معنى أنّي مقتولٌ لا محالة.. إنْ أخرج إلى العراق يقتلني العدوّ، وإن لم أخرج يقتلني العدوّ.. فالعدوّ عازمٌ على قتلي، وسوف لن يتراجع عن عزمه ما لم يحقّق ما يريد.. تماماً كما عزم على قتل جدّه وأبيه وأُمّه وأخيه (علیهم السلام) ، وكما عزم بعد ذلك على قتل أبنائه المعصومين (علیهم السلام) ، صالح بعد صالح..

ص: 276


1- الخرائج والجرائح للراونديّ: 1 / 253 الرقم 7، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 89، العوالم للبحرانيّ: 17 / 157.
2- الصراط المستقيم للبياضيّ: 2 / 179 الرقم 6.

فهو إن بقي في المدينة، يقتله العدوّ..

وإن بقي في مكّة، يقتله العدوّ..

وإن لحق باليمن، يقتله العدوّ..

وإن لحق بشعف الجبال، يقتله العدوّ..

وإن لحق بشواطئ البحار، يقتله العدوّ..وإن اختفى في غياهب الكهوف والمغارات، يقتله العدوّ..

وجمعها الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسه: إن كان في أيّ جُحر هامّةٍ، لَاستخرجوه حتّى يقتلونه..

وقال مخاطباً ابن عبّاس:

«يا ابن عبّاس! فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله من وطنه وداره، وموضع قراره، ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره ومسجده، وموضع مهاجرته، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرار، ولا يأوي إلى وطن، يريدون بذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرِك بالله شيئاً، ولا اتّخذ دون الله وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسولُ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وخلفاؤه مِن بعده؟» ((1)).

وقال (علیه السلام) لابن عمر:

«هيهات يا ابن عمر! إنّ القوم لا يتركوني إن أصابوني، وإنْ لم

ص: 277


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 19...

يصيبوني فإنّهم يطلبوني أبداً حتّى أُبايع وأنا كاره، أو يقتلوني» ((1)).

وغيرها من الكلمات النيّرات الواضحات الكثيرة جدّاً الّتي مرّت علينا وسيأتي منها الكثير.هذه هي خلاصة المصيبة الّتي جلّت وعظمت في السماوات والأرضين، والرزء الّذي أبكى كلَّ ما خلق الله (جلّ وعلا).. أن يكون ابنُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) وريحانته وإمام الخلق مطلوباً على كلّ حالٍ وفي أيّ مكان، لا تُقلّه أرضٌ ولا تظلّه سماء.. إنّهم يريدون قتله!

وكما أنّهم يريدون قتله، فإنّهم يريدون سبي عياله، وهتك حُرمات الله وحرمات رسوله (صلی الله علیه و آله) ..

أمّا أن يقصد العراق ويصل إلى كربلاء الأرض الموعودة، فهذا ما سارت به الحوادث والمجريات وفق الوقائع الظاهريّة الخارجيّة، كما أشرنا إلى ذلك مراراً، فلا نعيد.

ص: 278


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 19.

محتويات الكتاب

كتاب يزيد بن الأصمّ إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ...... 5

المتون........... 5

النفضة الأُولى: يزيد بن الأصمّ!.......... 7

النفضة الثانية: مبادرة ابن الأصمّ......... 8

النفضة الثالثة: مِن أين كتب؟.... 9

النفضة الرابعة: وقت كتابة الكتاب...... 9

النفضة الخامسة: مضمون الكتاب...... 10

السفاهة الأُولى: طَيش الكاتب وسفَهُه..... 10

السفاهة الثانية: كتابٌ أبتر..... 12

السفاهة الثالثة: ينفضوك، يبغضوك!..... 12

السفاهة الرابعة: تقديره لموقف أهل الكوفة..... 13

السفاهة الخامسة: قلق القوم........... 15

السفاهة السادسة: تعويذ الإمام (علیه السلام) !........ 16

السفاهة السابعة: الاغترار والخداع بالسراب...... 18

ص: 279

الأمر الأوّل: أن يكون كالمغترّ بالبرق!........... 18

الأمر الثاني: أن يكون كالمخدوع بالسراب........ 19

السفاهة الثامنة: واصبر، إنّ وعد الله حقّ!.......... 19

السفاهة التاسعة: لا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون......... 20

السفاهة العاشرة: اتّحاد خطاب الأوغاد... 21

السفاهة الحادية عشر: تخطئة الإمام (علیه السلام) ........... 22

النفضة السادسة: الإمام (علیه السلام) لم يردّ عليه..... 23

عُمر بن عبد الرحمان المخزوميّ ورأيه... 25

المتون......... 25

الشوط الأوّل: مَن هو عمر بن عبد الرحمان المخزوميّ؟.... 35

الشوط الثاني: ينصح سيّد الكائنات!........... 38

الشوط الثالث: متى حصل اللقاء؟.... 39

التحديد الأوّل: لمّا كتب أهل الكوفة..... 40

التحديد الثاني: لمّا تهيّأ الإمام (علیه السلام) للمسير........ 40

التحديد الثالث: بعد خبر شهادة مسلم (علیه السلام) ....... 41

التحديد الرابع: لما أراد المسير إلى الكوفة؟..... 43

الشوط الرابع: قصد الإمام (علیه السلام) ......... 43

الشوط الخامس: أدب الخطاب!....... 44

الشوط السادس: الاستئذان!.... 45

الشوط السابع: جواب الإمام (علیه السلام) على الاستئذان......... 46

الشوط الثامن: كلام المخزوميّ....... 49

الميزة الأُولى: الإشفاق......... 51

الميزة الثانية: اقتراح البقاء في مكّة!......... 52

ص: 280

الميزة الثالثة: رسم الواقع وتصوير المشهد........ 52

الشوط التاسع: جواب الإمام (علیه السلام) ...... 54

المقطع الأوّل: شهاداتٌ على السلامة...... 54

المقطع الثاني: الوعد بالنظر... 55

المقطع الثالث: أحمَدُ مُشيرٍ وأعزُّ ناصح........... 57

الشوط العاشر: بعد اللقاء.......... 58

الشوط الحادي عشر: خذلان المخزوميّ........... 61

الشوط الثاني عشر: يبقى أمر!........... 62

الشوط الثالث عشر: لقاء أبي بكر بن عبد الرحمان المخزوميّ...... 65

لقاء أبي محمّدٍ الواقديّ وزرارة بن خلَج......... 67

المتون......... 67

الومضة الأُولى: راوي الخبر!... 69

الومضة الثانية: متى حصل اللقاء؟..... 70

الومضة الثالثة: إخبارهم بضعف الناس!..... 71

الومضة الرابعة: قلوب الناس معك وسيوفهم عليك..... 73

الومضة الخامسة: مؤدّى رسالتهما..... 73

الومضة السادسة: نزول الملائكة....... 76

الومضة السابعة: لولا تقارب الأشياء... 78

الإنارة الأُولى: معنى التقارب......... 78

الإنارة الثانية: معنى الأشياء... 79

الإنارة الثالثة: بيان العلّامة المجلسيّ (رحمة الله) ......... 80

الإنارة الرابعة: المُراد... 80

الاحتمال الأوّل: التقارُب بمعنى التداني..... 80

ص: 281

الاحتمال الثاني: التقارُب بمعنى دنوّ الإدراك..... 81

الاحتمال الثالث: التقارُب بمعنى الإدبار..... 82

الاحتمال الرابع: التقارُب بمعنى الاعتدال!........... 84

الاحتمال الخامس: التقارُب بمعنى الاستعجال.... 85

الاحتمال السادس: التقارب بمعنى يغزوه... 86

الاحتمال السابع: الرجعة........... 87

الومضة الثامنة: حبوط الأجر... 93

الومضة التاسعة: هبوط الأجَل.......... 95

الومضة العاشرة: عِلم الإمام (علیه السلام) بمكان مصرعه ومصرع أصحابه..... 95

الومضة الحادية عشرة: لا ينجو!..... 100

الملاحظة الأُولى: دمج أهل البيت والأنصار......... 101

الملاحظة الثانية: مرجع الضمير....... 101

الملاحظة الثالثة: التعبير بالنجاة!... 103

الومضة الثانية عشرة: خلاصة الكلام......... 105

الومضة الثالثة عشرة: الراويان!....... 107

قول أبي سلَمة بن عبد الرحمان في خروج الإمام (علیه السلام) !...... 111

الوصمة الأُولى: المجاراة!..... 112

الوصمة الثانية: إرسال الخبر!......... 113

الوصمة الثالثة: مَن هو أبو سلَمة؟... 113

الوصمة الرابعة: ينبغي لحُسين!....... 115

الوصمة الخامسة: أن يعرف أهلَ العراق!.......... 116

الوصمة السادسة: لا يخرج إليهم!... 118

ص: 282

الوصمة السابعة: تشجيع ابن الزبير!.......... 120

الوصمة الثامنة: محاولات تخطئة الإمام (علیه السلام) !.... 122

الوصمة التاسعة: خطورة رأي القائل....... 124

الوصمة العاشرة: كلامه ليس مع الإمام (علیه السلام) ...... 125

كتاب المسوّر بن مخرمة إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ....... 127

الضربة الأُولى: مَن هو المسوّر؟...... 128

المفصل الأوّل: روايته عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ......... 129

المفصل الثاني: مع عمر....... 130

المفصل الثالث: حضوره في الغزوات.......... 131

المفصل الرابع: مع خاله عبد الرحمان بن عَوف........... 132

المفصل الخامس: رسول عثمان إلى معاوية......... 132

المفصل السادس: تعظيمه لمعاوية........ 133

المفصل السابع: مرجعيّة الخوارج....... 133

المفصل الثامن: بعد شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ......... 134

الموقف الأوّل: مع الإمام السجّاد (علیه السلام) ...... 135

الموقف الثاني: تركيزه على تأثير ابن الزبير على الإمام الحسين (علیه السلام) ...... 138

الموقف الثالث: بكاؤه على الإمام الحسين (علیه السلام) !......... 140

المفصل التاسع: هلاكه مع ابن الزبير....... 143

المفصل العاشر: خلاصة المفاصل........... 146

الضربة الثانية: سوء الأدب والاستكبار!..... 150

الضربة الثالثة: موادّ الكتاب... 151

الطغيان الأوّل: إياك أن تغترّ بكتب أهل العراق......... 151

الطغيان الثاني: الاغترار بكلام ابن الزبير....... 153

الطغيان الثالث: التحذير من ترك الحرم...... 154

ص: 283

الطغيان الرابع: قدوم أهل الكوفة والخروج في قوّة...... 154

الشقّ الأوّل: قدوم أهل العراق...... 154

الشقّ الثاني: الخروج في قوّةٍ وعدّة......... 156

الطغيان الخامس: موافاتهم الإمام (علیه السلام) !........ 160

الضربة الرابعة: جواب الإمام (علیه السلام) .... 161

المقطع الأوّل: جزّاه خيراً... 161

المقطع الثاني: «أستخير الله»......... 163

الضربة الخامسة: الجواب بغير كتاب!...... 164

كتاب عَمْرة بنت عبد الرحمان إلى الإمام (علیه السلام) .......... 167

النكزة الأُولى: مَن هي عَمْرة؟....... 168

النكزة الثانية: تطفّلها ودخولها في الأمر!.......... 171

النكزة الثالثة: لغة الكتاب....... 172

النكزة الرابعة: اتّحاد الخطاب!....... 173

النكزة الخامسة: مَن يطيع مَن؟...... 175

النكزة السادسة: تخبره بمصيره ومصرعه!......... 181

النكزة السابعة: روايتها خبر المصرع فقط!........ 182

النكزة الثامنة: لم تنصر الإمامَ (علیه السلام) بكلمة........... 183

النكزة التاسعة: تشويه معنى إخبار النبيّ (صلی الله علیه و آله) ... 184

النكزة العاشرة: أرض بابل!.... 184

التصوّر الأوّل: اسمٌ يشمل أرض كربلاء..... 185

التصوّر الثاني: خبث التوظيف..... 186

جواب الإمام (علیه السلام) ......... 190

ص: 284

أولاً: الردّ بالقول لا بكتاب.......... 190

ثانياً: إلزامها بما روَتْ........ 191

ثالثاً: مؤدّى جواب الإمام (علیه السلام) ..... 192

لقاء الأوزاعيّ.......... 195

النقطة الأُولى: مَن هو الأوزاعيّ؟........... 196

النقطة الثانية: خبر الطبريّ وخبر العامليّ......... 197

النقطة الثالثة: قَصَدَ الإمام (علیه السلام) ........ 197

النقطة الرابعة: ابتداء الإمام (علیه السلام) وجوابه........... 198

النقطة الخامسة: جهد الأوزاعيّ!.... 200

لقاء جابر بن عبد الله الأنصاريّ... 203

الخبر الأوّل: كذبٌ مفترع.... 203

الخبر الثاني: رواية ابن حمزة....... 205

الإشارة الأُولى: قصَدَ الإمام (علیه السلام) ........... 207

الإشارة الثانية: التقدُّم بين يدَي الإمام (علیه السلام) ........ 207

الإشارة الثالثة: علم جابر!... 209

الإشارة الرابعة: إبداء الرأي......... 209

الإشارة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام) ...... 211

الإشارة السادسة: جواب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ........... 212

الأمر الأوّل: التسليم.... 213

الأمر الثاني: عاقبة القاتل والمظلوم......... 213

الإشارة السابعة: كفّ بصره!........ 215

الإشارة الثامنة: عذر جابر!........... 216

لقاء أبي سعيد الخُدريّ..... 219

ص: 285

المقطع الأوّل: كلام أبي سعيد قبل الخروج... 219

اللمحة الأُولى: أبو سعيد الخُدريّ....... 220

اللمحة الثانية: التقديم للخبر........ 225

اللمحة الثالثة: موقع اللقاء! وزمانه.... 226

اللمحة الرابعة: ناصحٌ مشفق........ 227

اللمحة الخامسة: الخروج إلى الكوفة!........... 227

اللمحة السادسة: سبب النهي....... 228

اللمحة السابعة: ردّ الإمام (علیه السلام) ...... 229

المقطع الثاني: كلام أبي سعيد بعد الخروج.... 230

اللفتة الأُولى: تصرّف الذهبيّ!..... 230

اللفتة الثانية: إمكان صدور الكلام نه... 231

اللفتة الثالثة: احتجاج الإمام (علیه السلام) يوم العاشر برواية أبي سعيد..... 232

اللفتة الرابعة: اعتقاده إمامة الإمام الحسين (علیه السلام) !........... 233

اللفتة الخامسة: هدف الأعداء!......... 234

معترضون بالجملة.... 237

المتون...... 237

الملاحظة الأُولى: حشد المعترضين........ 239

الملاحظة الثانية: تضخيم المعترضين وأعدادهم....... 240

الملاحظة الثالثة: قلّة المعترضين!... 242

الملاحظة الرابعة: الاضطرار إلى الوضع........... 243

الملاحظة الخامسة: قداسةٌ مقابل قداسة........... 244

الملاحظة السادسة: تركيز فكرة الخروج!......... 245

الملاحظة السابعة: تخطئة الإمام (علیه السلام) !....... 247

ص: 286

الملاحظة الثامنة: هل يخفى على الإمام (علیه السلام) ما عرفه غيره، فيخرج؟! 250

الملاحظة التاسعة: قصدوا الإمام (علیه السلام) ، ولم يقصدهم!.......... 251

الملاحظة العاشرة: مَن كان مع الإمام (علیه السلام) ....... 252

الإمام (علیه السلام) وأمّ سلَمة.......... 255

النوع الأوّل: رواية المعصوم (علیه السلام) ... 255

المتابعة الأُولى: تقارب النصَّين.... 259

المتابعة الثانية: الجانب الإعجازيّ في الحديث........ 259

المتابعة الثانية: موضع اللقاء......... 260

المتابعة الثالثة: أُمّ سلَمة...... 261

المتابعة الرابعة: تقدمة أُمّ سلَمة.... 262

المتابعة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام) ... 263

المتابعة السادسة: عودٌ إلى بدء.... 266

المتابعة السابعة: الإخبار عن القاتل!.... 267

المتابعة الثامنة: أعرفهم كما أعرفكِ!.......... 268

المتابعة التاسعة: الزمان والمكان........... 269

المتابعة العاشرة: ساعد الله قلب أُمّ سلَمة....... 270

النوع الثاني: الأخبار... 273

«إنْ لم أخرج قتلوني»........... 276

ص: 287

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.