ظروف اقامه سيد الشهداء علیه السلام في مکه المكرمه المجلد 3

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

القسم الثالث

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

بين يزيد وعبد الله بن عبّاس بعد شهادة الإمام (علیه السلام)

مرّ معنا الحديثُ عن لقاءات ابن عبّاس بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومحاولاته الحثيثة لإقناع سيّد الشهداء (علیه السلام) وثنيه عن التوجّه نحو العراق بشتّى الوسائل والطرق، حتّى تمنّى لو أنّه يشبك يده في شَعر سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ليمنعه، لولا أنّه يخشى أن يُزرى به أوّلاً أو بالإمام (علیه السلام) .

وكيف ما أراد المتابع أن يسوّغ فعل ابن عبّاس ويبرّر له مواقفه، ويدافع عن ممانعته وحرصه على إبقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة، فإنّ القدَر المتيقّن الّذي لا يمكن أن يعدوه أحد، هو أن يُقال:

إنّ ابن عبّاس كان قد فهم وتصوّر أو حاول أن يصوّر حركة الإمام (علیه السلام) وخروجه من مكّة خروجاً على النظام الحاكم، وعملاً تحريضيّاً يقصد به مواجهة يزيد والأُمويّين ومحاربتهم، والاستيلاء على ما في أيديهم، والمطالبة بحقّه في الخلافة والسلطة.. وهذا ما صوّره يزيد أيضاً، سواءً في كتابه لابن عبّاس ولأهل المدينة وأهل الموسم، أو في غيره من مواقفه وتصريحاته هو

ص: 5

وعمّاله وأذنابه، وهو القائل لمولانا المكرّم محمّد ابن الحنفيّة: ولم يكن يجب على أخيك أن ينازعنا حقَّنا وما قد خصّنا الله به دون غيرنا ((1)).

فهو على كلّ حالٍ يرى الإمامَ (علیه السلام) خارجاً على النظام، يريد الإطاحة به أو يريد مقاتلته ومواجهته للغرض المذكور آنفاً، أو لأيّ غرضٍ كان.

بَيد أنّه اختلف مع الإمام (علیه السلام) في التوقيت وفي تحديد الوجهة، فلا يرى ابنُ عبّاس وقت الخروج في تلك الأيّام، ولا يرى صحّة التوجّه إلى الكوفة، لأسبابٍ ذكرها في أكثر من موقف مع الإمام (علیه السلام) .

هذا غاية ما يمكن تصويره وتصويبه في موقف ابن عبّاس، وهو ممّا لا خلاف فيه، لأنّه صريح مُجمَل المشهَد الّذي تحرّك فيه.

فيكون حينئذٍ قد اختلف مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وخالف الإمام المفترض الطاعة، واعتقد صحّة موقفه هو، وأنّ الحقّ معه _ وفق تقديراته _، ويلزم من ذلك أنّه يرى الإمام (علیه السلام) على خطأ، وأنّه أخطأ الحقَّ وسار على غير الجادّة _ والعياذ بالله _.

* * * * *هذا بغضّ النظر عن انقلاب الصورة عند ابن عبّاس وخطئه في أصل تقديراته، وفهمه القاصر عن إدراك ظروف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو إبائه عن

ص: 6


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 256، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 79، بحار الأنوار: 45 / 325، العوالم للبحرانيّ: 17 / 643.

إدراك ذلك، رغم بيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) الصريحة الواضحة، ورغم مجريات الأحداث ووضوح خطوات الأعداء ومتابعاتهم وملاحقاتهم وإقداماتهم لكلّ ذي عينين، بل حتّى لأعمى البصر إن كانت له مسكةٌ من بصيرة.

وربّما كان فيما كتبه ابن عبّاس إلى يزيد _ ردّاً على كتابٍ كتبه الأخير _ شواهد ترقى إلى مستوى الدليل بجدارةٍ تشهد على ما ذكرناه، لذا اقتضى البحث أن نتناول الكتاب والردّ، ونمكث معه على عجلٍ من دون إطالة، وإنّما نقتصر على الإشارة السريعة الخاطفة إلى المواضع الّتي تشهد لما نقرّره وتشهد على انقلاب الصورة عند ابن عبّاس، واختلاف تقييمه للأحداث قبل وبعد شهادة ريحانة النبيّ وآله وصحبه الكرام.

ص: 7

ص: 8

كتاب يزيد إلى ابن عبّاس وجواب ابن عبّاس

اشارة

البلاذريّ:

وكان امتناعُ ابن عبّاس عن البيعة لابن الزبير قد بلغ يزيد، فظنّ أنّ ذلك لتمسّكه ببيعته، فكتب يزيد إليه:

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابنَ الزبير دعاك إلى نفسه وعرضَ عليك الدخول في طاعته، لتكون له على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت من طاعته واعتصمتَ عليه في بيعته، وفاءً منك لنا وطاعةً لله بتثبيت ما عرّفك من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ كأفضل جزاء الواصلين لأرحامهم الموفين بعهودهم، فما أنسَ من الأشياء لا أنسَ بِرّك وحُسن مكافاتك وتعجيل صلتك، فانظر مَن قِبلك ومَن يطرأُ إليك من الآفاق ممّن يسحره الملحد وزخرف قوله، فأعلِمْهم حُسنَ رأيك في طاعتي وتمسُّكَك ببيعتي، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمُحلّ الحارب الملحد المارق، والسلام.

فأجابه عبدُ الله بن عبّاس بجوابٍ طويل، يقول فيه:

ص: 9

سألتَني أن أحثَّ الناس عليك، وأُثبّطهم عن نصرة ابن الزبير وأُخذّلهم عنه، فلا ولا كرامة ولا مسرّة، تسألني نصرك وتحذوني على ودّك وقد قتلت حسيناً! بفيك الكثكث، وإنّك إذ تُمنّيك نفسُك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المثبور، أتحسبني _ لا أباً لك _ نسيتُ قتلَك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، مصابيح الدجى، الّذين غادرهم جنودُك مصرّعين في صعيدٍ واحد، مرمّلين بالدماء، مسلوبين بالعراء، غير مكفّنين ولا موسَّدين، تسفي عليهم الرياح، وتعروهم الذئاب، وتنتابهم عرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم قوماً لم يشركوك في دمائهم، فكفّنوهم وأجنّوهم، ومهما أنسَ من الأشياء فلن أنسى تسليطك عليهم ابنَ مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ للعاهرة الفاجرة البعيد منهم رحماً، اللئيم أُمّاً وأباً، الّذي اكتسب أبوك في ادّعائه إيّاه لنفسه العار والخزي والمذلّة في الدنيا والآخرة! فلا شيء أعجب من طلبك ودّي ونصري وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري!

وذكر كلاماً بعد ذلك.

وكتب يزيد إليه كتاباً يأمره بالخروج إلى الوليد بن عُتبة ومبايعته له، وينسبه إلى قتل عثمان والممالأة عليه، فكتب ابن عبّاس إليه أيضاً كتاباً يقول فيه:إنّي كنتُ بمعزلٍ عن عثمان، ولكنّ أباك تربّص به وأبطأ عنه بنصره، وحبس من قِبله عنه حين استصرخه واستغاث به، ثمّ بعث الرجال

ص: 10

إليه معذراً حين علم أنّهم لا يدركونه حتّى يهلك ((1)).

اليعقوبيّ:

فبلغ يزيد بن معاوية أنّ عبد الله بن عبّاس قد امتنع على ابن الزبير، فسرّه ذلك، وكتب إلى ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك الدخولَ في طاعته، لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت عليه واعتصمت ببيعتنا، وفاءً منك لنا وطاعةً لله فيما عرّفك من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ بأحسن ما يجزي به الواصلين لأرحامهم، فإنّي ما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ بِرّك وحُسنَ جزائك وتعجيل صلتك بالّذي أنت منّي أهله في الشرف والطاعة والقرابة برسول الله، فانظر _ رحمك الله _ فيمن قِبلك مِن قومك ومَن يطرأ عليك من الآفاق ممّن يسحره الملحد بلسانه وزخرف قوله، فأعلِمْهم حُسنَ رأيك في طاعتي والتمسّك ببيعتي، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمُحلّ الملحد، والسلام.فكتب إليه عبدُ الله بن عبّاس:

مِن عبد الله بن عبّاس إلى يزيد بن معاوية، أمّا بعد، فقد بلغني كتابك بذِكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى نفسه، وامتناعي عليه في الّذي دعاني إليه من بيعته، فإن يكُ ذلك كما بلغك، فلست حمدك أردتُ

ص: 11


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 321.

ولا ودّك، ولكنّ الله بالّذي أنوي عليم.

وزعمتَ أنّك لست بناسٍ وُدّي، فلَعمري ما تؤتينا ممّا في يدَيك من حقّنا إلّا القليل، وإنّك لَتحبس عنّا منه العريض الطويل.

وسألتني أن أحثّ الناس عليك وأُخذّلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولا حبوراً، وأنت قتلت الحسين بن عليّ، بفيك الكثكث، ولك الأثلب، إنّك إن تُمنّيك نفسُك ذلك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المهور، لا تحسبني _ لا أباً لك _ نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، مصابيح الدجى ونجوم الأعلام، غادرهم جنودُك مصرّعين في الصعيد، مرمّلين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لا مكفّنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتنتابهم عرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنّوهم في أكفانهم، وبي واللهِ وبهم عززت وجلست مجلسك الّذي جلستَ يا يزيد.

وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ تسليطك عليهم الدعيَّ العاهر ابنالعاهر، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأُمّاً، الّذي في ادّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلّا العار والخزي والمذلّة في الآخرة والأُولى، وفي الممات والمحيا. إنّ نبيّ الله (صلی الله علیه و آله) قال: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»، فألحِقْه بأبيه كما يُلحَق بالعفيف النقيّ ولدُه الرشيد، وقد أمات أبوك السنّة جهلاً، وأحيى البدَع والأحداث المضلّة عمداً.

وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ إطرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصتَه من

ص: 12

حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزَّ أهلها بها حديثاً، وأطوعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فأكبَرَ من ذلك ما لم تُكبِر، حيث دسستَ إليه الرجال فيها ليقاتَل في الحرم، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام، وعرّضه للعائر وأقبل أر العالم، وأنت لَأنت المستحلّ فيما أظنّ، بل لا أشكّ فيه أنّك للمحرق العريف، فإنّك حلف نسوة، صاحب ملاهي، فلمّا رأى سوء رأيك شخص إلى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدَراً مقدوراً.

ثمّ إنّك الكاتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرتَهبمعاجلته وترك مطاولته، والإلحاح عليه حتّى يقتله ومَن معه من بني عبد المطّلب، أهلِ البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنحن أُولئك، لسنا كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد الحمير، ثمّ طلب الحسين بن عليّ إليه الموادعة، وسألهم الرجعة، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلتموهم كأنّما قتلتم أهل بيتٍ من الترك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك ودّي ونصري، وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثاري، فإن يشأ الله لا يطلّ لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا، فقبلنا ما قُتل النبيّون وآل النبيّين، وكان الله الموعد، وكفى به للمظلومين ناصراً ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبنّك إن ظفرتَ بنا

ص: 13

اليوم، فو اللهِ لنظفرنّ بك يوماً.

فأمّا ما ذكرتَ من وفائي وما زعمتَ من حقّي، فإن يكُ ذلك كذلك، فقد واللهِ بايعتُ أباك وإنّي لَأعلم أنّ بني عمّي وجميع بني أبي أحقُّ بهذا الأمر من أبيك، ولكنّكم معاشر قريش كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقّنا، فبُعداً على مَن اجترأ على ظُلمنا، واستغوى السفهاءَ علينا، وتولّى الأمر دوننا، فبُعداً لهم كما بعُدَت ثمود وقومُ لوطٍ وأصحابُ مَدْيَن ومُكذّبو المرسلين.

ألا ومِن أعجب الأعاجيب _ وما عشتَ أراك الدهر العجيب _حمْلَك بنات عبد المطّلب وغلمة صغاراً مِن وُلده إليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا، وأنّك تأمّرت علينا، ولَعمري لئن كنتَ تُصبح وتمسي آمناً لجرح يدي، إنّي لَأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستغربك الجذل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلّا قليلاً، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، فيُخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فعِشْ _ لا أباً لك _، فقد واللهِ أرداك عند الله ما اقترفت.

والسلامُ على مَن أطاع الله ((1)).

الطبرانيّ، الهيثميّ:

حدّثَنا أحمد بن حمدان بن موسى الخلال التستريّ، ثنا عليّ بن حرب

ص: 14


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236 ط الحيدريّة.

الجنديسابوريّ، ثنا إسحاق بن إبراهيم بن داحة، ثنا أبو خداش عبد الرحمان بن طلحة بن يزيد بن عمرو بن الأهتم التميميّ، ثنا أبان بن الوليد، قال:

كتب عبد الله بن الزبير إلى ابن عبّاسٍ في البيعة، فأبى أن يبايعه، فظنّ يزيد بن معاوية أنّه إنّما امتنع عليه لمكانه، فكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عبّاس:أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته ليُدخلك في طاعته، فتكون على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً، فامتنعتَ عليه وانقبضت، لما عرّفك الله من نفسك في حقّنا أهل البيت، فجزاك الله أفضل ما يجزي الواصلين من أرحامهم الموفين بعهودهم، فمهما أنسى من الأشياء فلستُ أنسى برّك وصلتك وحُسن جائزتك بالّذي أنت أهله منّا في الطاعة والشرف والقرابة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فانظر من قِبلك من قومك ومَن يطرأ عليك من أهل الآفاق ممّن يسحره ابن الزبير بلسانه وزخرف قوله، فخذّلهم عنه، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للملحد الخارب المارق، والسلام.

فكتب ابن عبّاسٍ إليه:

أمّا بعد، فقد جاءني كتابك تذكر دعاء ابن الزبير إيّاي للذي دعاني إليه، وإنّي امتنعتُ معرفةً لحقّك، فإن يكن ذلك كذلك فلستُ برّك أغزو بذلك، ولكنّ الله بما أنوي به عليم.

وكتبتَ إليّ أن أحثّ الناس عليك وأُخذّلهم عن ابن الزبير، فلا سروراً

ص: 15

ولا حبوراً، بفيك الكثكث ولك الأثلب، إنّك لَعازبٌ إن منّتك نفسك، وإنّك لأنت المنفود المثبور.

وكتبتَ إليّ تذكر تعجيل برّي وصلتي، فاحبِسْ أيّها الإنسان عنّيبرّك وصلتك، فإنّي حابسٌ عنك ودّي ونصرتي، ولَعمري ما تعطينا ممّا في يديك لنا إلّا القليل، وتحبس منه العريض الطويل، لا أبا لك، أتراني أنسى قتلَك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، مصابيح الدجى ونجوم الأعلام؟ غادرتهم جنودُك بأمرك، فأصبحوا مصرّعين في صعيدٍ واحد، مرمَّلين في الدماء، مسلوبين بالعراء، لا مكفّنين ولا موسَّدين، تسفيهم الرياح، وتغزوهم الذئاب، وتنتابهم عرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم قوماً لم يشركوا في دمائهم، فكفّنوهم وأجنّوهم، وبهم واللهِ وبي منّ الله عليك، فجلستَ في مجلسك الّذي أنت فيه.

ومهما أنسى من الأشياء، فلستُ أنسى تسليطك عليهم الدعيّ ابن الدعيّ للعاهرة الفاجرة، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأُمّاً، الّذي اكتسب أبوك في ادّعائه لنفسه العار والمأثم والمذلّة والخزي في الدنيا والآخرة، لأنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»، وإنّ أباك زعم أنّ الولد لغير الفراش، ولا يضرّ العاهر، ويلحق به ولده كما يلحق ولد البغيّ المرشد، ولقد أمات أبوك السنّة جهلاً، وأحيى الأحداث المضلّة عمداً.

ومهما أنسى من الأشياء، فلستُ أنسى تسييرك حسيناً من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، وتسييرك إليهم الرجال، وإدساسك إليهم إن هو

ص: 16

نذر بكم، فعاجلوه، فما زلتَ بذلك حتّى أشخصتَه من مكّة إلى أرض الكوفة، تزأر إليه خيلك وجنودك زئير الأسد، عداوة مثلك لله ولرسوله ولأهل بيته، ثمّ كتبت إلى ابن مرجانة يستقبله بالخيل والرجال والأسنّة والسيوف، ثمّ كتبت إليه بمعاجلته وترك مطاولته، حتّى قتله ومَن معه من فتيان بني عبد المطّلب، أهلِ البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، نحن أُولئك، لا كآبائك الأجلاف الجفاة أكباد الحمير، ولقد علمتَ أنّه كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّه بها حديثاً لو ثوى بالحرمين مقاماً واستحلّ بها قتالاً، ولكنّه كره أن يكون هو الّذي يُستحلّ به حرم الله وحرم رسوله (صلی الله علیه و آله) وحرمة البيت الحرام، فطلب إليكم الحسين الموادعة، وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة نصّاره واستئصال أهل بيته، كأنّكم تقتلون أهل بيتٍ من الترك أو كابل.

فكيف تجدوني على ودّك، وتطلب نصرتي؟ وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت آخذٌ ثأري؟ فإن يشأ الله لا يطلّ لديك دمي، ولا تسبقني بثأري، وإن تسبقنا به فقبلنا ما قبلت النبيّون وآل النبيّين، فطلّت دماؤهم في الدنيا، وكان الموعد الله، فكفى بالله للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً.

والعجب كلّ العجب _ وما عشتَ يربك الدهر العجب _ حملك بنات عبد المطّلب، وحملك أبناءَهم أغيلمةً صغاراً إليك بالشام، تُري الناس أنّك قد قهرتنا، وأنّك تذلّنا، وبهم واللهِ وبي مَنّ الله عليك وعلى أبيك وأُمّك من النساء، وأيمُ الله إنّك لَتُمسيوتُصبح آمناً لجراح يدي،

ص: 17

ولَيعظمنّ جرحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستفزّنّك الجدل، فلن يُمهلك الله بعد قتلك عترة رسوله إلّا قليلاً، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، ويُخرجك من الدنيا آثماً مذموماً، فعِشْ _ لا أباً لك _ ما شئت، فقد أرداك عند الله ما اقترفت.

فلمّا قرأ يزيد الرسالة قال: لقد كان ابن عبّاسٍ مضياً على الشرّ ((1)).

الخوارزميّ، المجلسيّ:

أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن عليّ بن أحمد العاصميّ، أخبرنا شيخ القضاة أبو عليّ إسماعيل بن أحمد البيهقيّ، أخبرنا والدي شيخ السنّة أحمد بن الحسين البيهقيّ، أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطّان، أخبرنا عبدالله بن جعفر، حدّثنا يعقوب بن سفيان، حدّثنا عبد الوهّاب بن الضحّاك، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن شقيق بن سلَمة:

[...] وظنّ يزيد بن معاوية أنّ امتناع ابن عبّاسٍ كان تمسّكاً منه ببيعته، فكتب إليه:

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته والدخولِفي طاعته، لتكون له على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً، وإنّك اعتصمت ببيعتنا، وفاءً منك لنا وطاعةً لله لما عرّفك من حقّنا،

ص: 18


1- المعجم الكبير للطبراني: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

فجزاك الله من ذي رحمٍ خير ما يجزي الواصلين بأرحامهم، الموفين بعهودهم.

فما أنسى من الأشياء، فلستُ بناسٍ برّك وتعجيل صلتك بالّذي أنت له أهلٌ من القرابة من الرسول، فانظر مَن طلع عليك من الآفاق ممّن سحرهم ابنُ الزبير بلسانه وزخرف قوله، فأعلِمْهم برأيك، فإنّهم منك أسمع ولك أطوع من المحلّ للحرم المارق.

فكتب إليه ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد جاءني كتابك، تذكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى بيعته والدخول في طاعته، فإن يكن ذلك كذلك، فإنّي واللهِ ما أرجو بذلك برَّك ولا حمدك، ولكنّ الله بالّذي أنوي به عليم.

وزعمتَ أنّك غير ناسٍ برّي وتعجيل صلتي، فاحبسْ أيّها الإنسان برّك وتعجيل صلتك، فإنّي حابسٌ عنك وُدّي، فلَعمري ما تؤتينا ممّا لنا قِبلك من حقّنا إلّا اليسير، وإنّك لَتحبس منه عنّا العريض الطويل.

وسألتَني أن أحثّ الناس إليك وأن أُخذّلهم من ابن الزبير، فلا ولاء ولا سروراً ولا حباء، إنّك تسألني نصرتك وتحثّني على ودّك، وقد قتلتَ حسيناً وفتيان عبد المطّلب، مصابيحَ الدجى ونجومَ الهدىوأعلامَ التُّقى، غادرتهم خيولُك بأمرك في صعيدٍ واحد، مزمّلين بالدماء، مسلوبين بالعراء، لا مكفّنين ولا موسَّدين، تسفي عليهم الرياح، وتنتابهم عرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم بقومٍ لم يشركوا في دمائهم، كفّنوهم وأجنّوهم، وبي وبهم واللهِ غروب، وجلستَ مجلسك الّذي

ص: 19

جلست.

فما أنسى من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطرادك حسيناً من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، وتسييرك إليه الرجال لتقتله في حرم الله، فما زلتَ بذلك وعلى ذلك حتّى أشخصتَه من مكّة إلى العراق، فخرج خائفاً يترقّب، فزلزلت به خيلك، عداوةً منك لله ولرسوله، ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، أُولئك لا كآبائك الجفاة الأجلاف أكباد الحمير، فطلب إليكم الموادعة، وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته، فتعاونتم عليه، كأنّكم قتلتم أهل بيتٍ من الترك.

فلا شيء أعجب عندي من طلبك ودّي، وقد قتلتَ وُلد أبي، وسيفُك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري، فإن شاء الله لا يبطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، فإن سبقتَني في الدنيا فقبل ذلك ما قُتل النبيّون وآل النبيّين، فطلب الله بدمائهم، وكفى بالله للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبك إنْ ظفرتَ بنا اليوم،فلَنظفرنّ بك يوماً.

وذكرتَ وفائي وما عرفتني من حقّك، فإن يكن ذلك كذلك فقد بايعتُك وأباك من قبلك، وإنّك لَتعلم أنّي ووُلد أبي أحقُّ بهذا الأمر منك ومن أبيك، ولكنّكم معشر قريش كابرتمونا حتّى دفعتمونا عن حقّنا، ووليتم الأمر دوننا، فبُعداً لمن تحرّى ظُلمنا، واستغوى السفهاء علينا، كما بعُدَت ثمود وقومُ لوطٍ وأصحابُ مَدْيَن.

ومن أعجب الأعاجيب _ وما عسى أن أعجب _ حملُك بنات

ص: 20

عبد المطّلب وأطفالاً صغاراً من وُلده إليك بالشام كالسبي المجلوبين، تُري الناسَ أنّك قهرتنا، وأنت تمنّ علينا، وبنا مَنّ الله عليك، ولَعمر الله لئن كنت تُصبح آمناً من جراحة يدي، فإنّي لَأرجو أن يعظم الله جرحك من لساني ونقضي وإبرامي، والله ما أنا بآيسٍ من بعد قتلك ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يأخذك الله أخذاً أليماً، ويخرجك من الدنيا مذموماً مدحوراً، فعِشْ _ لا أباً لك _ ما استطعت، فقد واللهِ ازددتَ عند الله أضعافاً، واقترفت مآثماً.

والسلامُ على مَن اتّبع الهدى ((1)).إبن الأثير:

وقال شقيق بن سلَمة:

[...] وظنّ يزيد أنّ امتناعه تمسّكٌ منه ببيعته، فكتب إليه:

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وأنّك اعتصمتَ ببيعتنا وفاءً منك لنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ خير ما يجزي المواصلين لأرحامهم الموفين بعهودهم.

فما أنسى من الأشياء، فلستُ بناسٍ برّك وتعجيل صلتك بالّذي أنت له أهل، فانظر مَن طلع عليك من الآفاق ممّن سحرهم ابن الزبير بلسانه، فأعلِمْهم بحاله، فإنّهم منك أسمع الناس ولك أطوع منهم للمُحلّ.

ص: 21


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.

فكتب إليه ابن عبّاس:

أمّا بعد، فقد جاءني كتابك.

فأمّا تركي بيعة ابن الزبير، فوَاللهِ ما أرجو بذلك برَّك ولا حمدك، ولكنّ الله بالّذي أنوي عليم.

وزعمتَ أنّك لست بناسٍ برّي، فاحبسْ أيّها الإنسان برّك عنّي، فإنّي حابسٌ عنك برّي.

وسألتَ أن أُحبّب الناس إليك وأُبغّضهم وأُخذّلهم لابن الزبير، فلاولا سرور ولا كرامة، كيف وقد قتلتَ حسيناً وفتيان عبد المطّلب، مصابيحَ الهدى ونجوم الأعلام؟ غادرتهم خيولك بأمرك في صعيدٍ واحد، مرمَّلين بالدماء، مسلوبين بالعراء، مقتولين بالظماء، لا مكفّنين ولا موسَّدين، تسفي عليهم الرياح، وينشي بهم عرج البطاح، حتّى أتاح الله بقومٍ لم يشركوا في دمائهم، كفّنوهم وأجنّوهم، وبي وبهم لو عززت وجلست مجلسك الّذي جلست.

فما أنسى من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطرادك حسيناً من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله، وتسييرك الخيول إليه، فما زلتَ بذلك حتّى أشخصتَه إلى العراق، فخرج خائفاً يترقّب، فنزلَت به خيلُك عداوةً منك لله ولرسوله ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فطلب إليكم الموادعة وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته، وتعاونتم عليه، كأنّكم قتلتم أهل بيتٍ من الترك والكفر، فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودّي، وقد قتلتَ وُلد أبي،

ص: 22

وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري، ولا يعجبك إن ظفرتَ بنا اليوم، فلَنظفرنّ بك يوماً، والسلام ((1)).

سبط ابن الجوزيّ، الشيخ القمّيّ:ذكر الواقديّ وهشام وابن إسحاق وغيرهم، قالوا:

[...] فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فكتب إلى ابن عبّاس:

سلامٌ عليك.

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد في حرم الله دعاك لتبايعه، فأبيتَ عليه، وفاءً منك لنا، فانظر مَن بحضرتك من أهل البيت ومَن يرد عليك من البلاد، فأعلِمْهم حُسنَ رأيك فينا وفي ابن الزبير، وإنّ ابن الزبير إنّما دعاك لطاعته والدخول في بيعته، لتكون له على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً، وقد اعتصمتَ في بيعتنا طاعةً منك لنا ولما تعرف من حقّنا، فجزاك الله من ذي رحمٍ خير ما جازى به الواصلين أرحامهم الموفين بعهودهم.

فما أنس من الأشياء، ما أنا بناسٍ برّك وتعجيل صلتك بالّذي أنت أهله، فانظر مَن يطلع عليك من الآفاق، فحذّرهم زخارف ابن الزبير، وجنّبهم لقلقة لسانه، فإنّهم منك أسمع ولك أطوع، والسلام.

فكتب إليه ابن عبّاس:

بلغني كتابك، تذكر أنّي تركتُ بيعة ابن الزبير وفاءً منّي لك، ولَعمري ما

ص: 23


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 318.

أردتُ حمدك ولا وُدّك، تراني كنتُ ناسياً قتلك حسيناً وفتيان بني المطّلب، مضرّجين بالدماء، مسلوبين بالعراء، تسفي عليهم الرياح، وتنتابهم الضباع، حتّى أتاح الله لهم قوماً واروهم؟ فما أنسَطردك حسيناً من حرم الله وحرم رسوله، وكتابك إلى ابن مرجانة تأمره بقتله، وإنّي لَأرجو من الله أن يأخذك عاجلاً، حيث قتلت عترة نبيّه محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) ورضيت بذلك.

وأمّا قولك أنّك غير ناسٍ برّي، فاحبسْ أيّها الإنسان برّك عنّي وصلتك، فإنّي حابسٌ عنك ودّي، ولَعمري أنّك ما تؤتينا ممّا لنا من في قبلك إلّا اليسير، وإنّك لَتحبس عنّا منه العرض الطويل.

ثمّ إنّك سألتني أن أحثّ الناس على طاعتك، وأن أخذّلهم عن ابن الزبير، فلا مرحباً ولا كرامة، تسألني نصرتك ومودّتك، وقد قتلتَ ابن عمّي وأهل رسول الله، مصابيحَ الهدى ونجومَ الدجى، غادرتهم جنودك بأمرك صرعى في صعيدٍ واحد قتلى، أنسيتَ إنفاد أعوانك إلى حرم الله لتقتل الحسين، فما زلت وراءه تخيفه، حتّى أشخصتَه إلى العراق، عداوةً منك لله ورسوله ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟ فنحن أُولئك، لا آباؤك الجفاة الطغاة الكفرة الفجرة، أكباد الإبل والحمير الأجلاف، أعداء الله وأعداء رسوله، الّذين قاتلوا رسول الله في كلّ موطن، وجدّك وأبوك هم الّذين ظاهروا على الله ورسوله، ولكن إن سبقتني قبل أن آخذ منك ثاري في الدنيا، فقد قُتل النبيّون قبلي، وكفى بالله ناصراً، ولَتعلمنّ نبأه بعد حين.

ص: 24

ثمّ أنّك تطلب مودّتي، وقد علمتُ لما بايعتك، ما فعلتُ ذلك إلّاوأنا أعلم أنّ وُلد أبي وعمّي أَولى بهذا الأمر منك ومن أبيك، ولكنّكم معتدين مدّعين، أخذتُم ما ليس لكم بحقّ، وتعدّيتم إلى مَن له الحقّ، وإنّي على يقينٍ من الله أن يعذّبكم كما عذّب قوم عادٍ وثمود وقوم لوطٍ وأصحاب مَدْيَن.

يا يزيد! وإنّ من أعظم الشماتة حملك بنات رسول الله وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام أُسارى مجلوبين مسلوبين، تُري الناس قدرتك علينا، وأنّك قد قهرتنا واستوليت على آل رسول الله، وفي ظنّك أنّك أخذتَ بثأر أهلك الكفرة الفجرة يوم بدر، وأظهرت الانتقام الّذي كنت تخفيه، والأضغانَ الّذي تكمن في قلبك كمَون النار في الزناد، وجعلت أنت وأبوك دم عثمان وسيلةً إلى إظهارها، فالويل لك من ديّان يوم الدين، وواللهِ لئن أصبحتَ آمناً من جراحة يدي، فما أنت بآمنٍ من جراحة لساني بفيك الكثكث، وأنت المفند المثبور، ولك الأثلب، وأنت المذموم، ولا يغرّنّك إن ظفرتَ بنا اليوم، فوَاللهِ لئن لم نظفر بك اليوم لَنظفرنّ غداً بين يدَي الحاكم العدل، الّذي لا يجور في حكمه، وسوف يأخذك سريعاً أليماً، ويخرجك من الدنيا مذموماً مدحوراً أثيماً، فعِشْ _ لا أباً لك _ ما استطعت، فقد ازداد عند الله ما اقترفت.

والسلام على مَن اتّبع الهدى.

قال الواقديّ: فلمّا قرأ يزيد كتابه، أخذته العزّة بالإثم، وهمّ بقتل ابن عبّاس، فشغله عنه أمر ابن الزبير، ثمّ أخذه الله بعد ذلك بيسيرٍ أخذاً

ص: 25

عزيزاً.

الكثكث _ بكسر الكاف _ : فُتات الحجارة والتراب، وبفتح الكاف أيضاً. والفنَد: ضعف الرأي. والأثلب: التراب أيضاً. والثبور: الهلاك. كلّ هذا في معنى الدعاء على الإنسان وذمّه ((1)).

* * * * *

هذه هي جملة المتون الّتي وقفنا عليها في المصادر الّتي تروي خبر هذا الكتاب وردّه.

وكما قلنا، فإنّ المكاتبة بين ابن عبّاسٍ ويزيد لا تهمّنا كثيراً، وإنّما استرسلنا في ذِكرها لنأخذ ما يهمّنا ممّا يتعلّق بسيّد الشهداء وحركته، فليس بالضرورة أن نتابع جميع ما ورد فيها من فقرات.

ويمكن تقسم المتون إلى قسمَين أساسيَّين:

ص: 26


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.

القسم الأوّل: كتاب يزيد

اشارة

كشف الكتاب الّذي كتبه يزيد عن عدّة أُمور، نحاول استجلاءها، ونمرّ عليها مروراً عابراً من دون إطالة المكث عندها.

الكشف الأوّل: متابعة العيون

إنّ مَن يتابع التاريخ يجد عيون الجواسيس تبصبص وتبرق من بين صفحات الكتب، وتنتشر كأنّها عيون الضباع والثعالب بين سطرٍ وسطر، وقد تسلّلوا إلى بيوت الناس والأشخاص والشخصيّات حتّى اخترقوا المخادع، ولا نحسب أنّ ذلك يحتاج إلى مزيد بيانٍ وذكر النماذج والأمثلة، لكثرتها وازدحام البيوت والمجالس والنوادي والمحافل والخلوات بهم، ولو شاء المتابع الباحث أن يجمع لذلك عيّناتٍ ونماذج لَملأ كتاباً وسِفْراً ضخماً.

وقد غرزوا العيون والجواسيس في مهبط الوحي وبيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وما فتئوا يترصّدون ويتربّصون بأولياء الله وبالوجوه والشخصيّات، بل حتّى عامّة الناس، في مساجدهم ونواديهم ومضايفهم وبيوتهم.

وهم بذلك يلاحقون الشارد والوارد، يعدّون أنفاس الناس وما تلفظه

ص: 27

ألسنتُهم أو تشي به أفعالهم.. وبالغوا في ذلك، فجعلوا يأخذون على الظنّة والتهمة، ويعاقبون البريء بالسقيم، فعمّ الذعرُ والرعب والخوف والتوجُّس والحيطة والحذر، وصار الرجل يخاف من خادمه وعبده وابنه وأهله وجليسه.

وربّما لوّحوا بين الفينة والأُخرى إلى بعض الوجوه أو الشخصيّات بمواقف وكلماتٍ صدرت عنهم، ليُعلِموهم أنّهم لا زالوا تحت ملاحقة العيون.

ونحن لسنا بصدد إثبات ذلك والتدليل عليه، لذا نكتفي بهذا القدر للإشارة إلى أنّ يزيد الخمور ربّما كتب كتابه لابن عبّاس ليبلغه أنّ ما يفعله ليس بعيداً عن عيونه، وأنّ أخباره وأخبار أمثاله لا تخفى عليه، وهي تصله يوماً بيوم.

الكشف الثاني: بيعة ابن عبّاس!

اشارة

ثمّة شواهد ترقى إلى مستوى الدليل، بل إنّ جملةً منها دليلٌ قائمٌ بذاته، وإن سقناها على مستوى الشاهد، فإنّها تتعاضد لتُنتج دليلاً ناهضاً يستعصي على الردّ والنقاش، وهي تفيد جميعاً أنّ ابن عبّاسٍ قد بايع يزيد والتزم بيعته، وعمل بمقتضى الالتزام.

وسنعبّر عمّا سنذكره بالشاهد رغم أنّنا نحسب أنّها أدلّة، ولا نريد استقصاء ذلك، فلا نكترث بذلك كثيراً بعد أن عرفنا مواقف ابن عبّاس مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ونعود لنؤكّد _ كما ذكرنا سابقاً _ أنّنا نتعامل هنا مع ابن عبّاسٍ وفق ما

ص: 28

قرأناه وسمعناه وشاهدناه خلال فترة حركة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى كربلاء إلى حين قُتل _ فداه العالمين _، والأُمور بخواتيمها، فلْيكُن ابنُ عبّاسٍ ما كان قبل ذلك.

الشاهد الأوّل: مقدّمة المؤرّخ قبل نقل الكتاب

يبدو من مقدّمة الكتاب الّتي قدّمَها المؤرّخون أنّ يزيد الخمور إنّما كتب لابن عبّاس لما بلغه أنّ الأخير امتنع عن بيعة ابن الزبير، فظنّ _ كما عبّروا _ أنّ هذا الامتناع إنّما كان تمسّكاً منه ببيعته ليزيد.

وفي هذا التعبير إشعارٌ واضحٌ أنّ أصل البيعة قد وقعَت، وأنّ يزيد إنّما ظنّ أنّ سبب الامتناع هو التمسّك بالبيعة، وليس لأمرٍ آخَر!

فهذه المقدّمة الّتي وردَت قبل نقل الكتاب على لسان المؤرّخين والرواة، تفيد بوضوحٍ أنّ ابن عبّاس كان قد بايع يزيد، لذا ظنّ الأخير أنّه إنّما امتنع ابن عبّاس رعاية لحرمة بيعته وتمسّكاً بها.

الشاهد الثاني: النصّ التاريخيّ

روى ابن قُتيبة في (الإمامة والسياسة)، قال:

وذكروا أنّ عُتبة بن مسعود قال: مرّ بنا نعي معاوية بن أبي سفيان، ونحن بالمسجد الحرام.

قال: فقمنا فأتينا ابن عبّاس، فوجدناه جالساً قد وُضع له الخوان،وعنده نفر.

ص: 29

فقلنا: أما علمتَ بهذا الخبر يا ابن عبّاس؟

قال: وما هو؟

قلنا: هلك معاوية.

فقال: ارفع الخوان يا غلام. وسكت ساعة، ثمّ قال: جبلٌ تزعزع ثمّ مال بكلكلة، أما واللهِ ما كان كمَن كان قبله، ولمّا يكن بعده مثله! اللّهمّ أنت أوسع لمعاوية فينا وفي بني عمّنا هؤلاء لذي لُبٍّ معتبر، اشتجرنا بيننا، فقتل صاحبهم غيرنا!! وقتل صاحبنا غيرهم، وما أغراهم بنا إلّا أنّهم لا يجدون مثلنا، وما أغرانا بهم إلّا أنّا لا نجد مثلهم! كما قال القائل: ما لك تظلمني؟ قال: لا أجد من أظلم غيرك. وواللهِ إنّ ابنه لخير أهله! أعد طعامك يا غلام.

قال: فما رُفع الخوان حتّى جاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عبّاس أن انطلقْ فبايعْ.

فقال للرسول: أقرئ الأمير السلام، وقل له: واللهِ ما بقيَ فيّ ما تخافون، فاقضِ من أمرك ما أنت قاض، فإذا سهل الممشى وذهبَت حطمة الناس جئتك ففعلتُ ما أحببت.

قال: ثمّ أقبل علينا، فقال: مهلاً معشر قريش أن تقولوا عند موت معاوية: ذهب جدُّ بني معاوية وانقطع ملكُهم، ذهب لَعمر الله جدّهم، وبقي ملكُهم، وشرّها بقيّةٌ هي أطول ممّا مضى، الزموا مجالسكم،واعطوا بيعتكم.

قال: فما برحنا حتّى جاء رسول خالد، فقال: يقول لك الأمير: لابدّ لك أن

ص: 30

تأتينا.

قال: فإنْ كان لابدّ فلابدّ ممّا لابدّ منه، يا نوار هلمّي ثيابي. ثم قال: وما ينفعكم إتيان رجلٍ إن جلس لم يضرّكم؟

قال: فقلت له: أتبايع ليزيد، وهو يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش؟!

قال: مَهْ! فأين ما قلتُ لكم؟ وكم بعده مِن آتٍ ممّن يشرب الخمر، أو هو شرٌّ من شاربها، أنتم إلى بيعته سراع؟ أما واللهِ إنّي لَأنهاكم وأنا أعلم أنّكم فاعلون ما أنتم فاعلون، حتّى يُصلَب مصلوب قريش بمكّة. يعني عبد الله بن الزبير ((1)).

وروى الطبريّ، قال:

وأمّا ابن عمر، فقدم فأقام أيّاماً، فانتظر حتّى جاءت البيعة من البلدان، فتقدّم الى الوليد بن عُتبة فبايعه، وبايعه ابن عبّاس ((2)).

وقال ابن الأثير، والنويريّ:وقدم هو (يعني ابن عمر) وابنُ عبّاس المدينة، فلمّا بايع الناس بايعا ((3)).

وقال ابن كثير:

ص: 31


1- الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 343.
3- أُنظر: الكامل لابن الأثير: 3 / 265، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 3852.

فلمّا مات معاوية سنة ستّين، وبُويع ليزيد، بايع ابنُ عمر وابن عبّاس ((1)).

هذه المتون الواردة في المصادر القديمة المعتمَدة تصرّح أنّ ابن عبّاسٍ قد بايع يزيدَ بعد هلاك معاوية!

وفي نصّ ابن قُتيبة _ وهو أقدمهم _ إفاداتٌ مهمّةٌ جديرةٌ بالتأمّل والاهتمام!

وفيه: أنّه قد أمر ببيعة يزيد، مع علمه أنّه يشرب الخمر ويلهو بالقيان ويستهتر بالفواحش، مع ذلك فهو يراه خير أهل معاوية، ولا يمتنع عن بيعته، ولا يتردّد ولا يتأخّر ولا يتقبّض ولا يتحرّج.

والحال أنّه تقبّض عن بيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وتحرّج لدخوله فيما دخل فيه الناس، وهذا يعني أنّه يحفظ الذمام فيما يدخل فيه من بيعة، فهو حين بايع يزيد لابدّ له أن يعمل بمقتضى بيعته على كلّ صعيد، ومنها أن لا يبايع غيره، تماماً كما فعل مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، إذ أنّه اعتذر إليه بدخوله في بيعة الرجل،فلم يبايع الإمام (علیه السلام) ولو على نحو إعلان الاستعداد لذلك، كأن يقول له: إن بايعتُه ظاهراً فإنّي أُبايعك الآن.

رُوي في (تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ (رضی الله عنه)) مسنَداً عن الإمام أبي جعفر (علیه السلام) قال:

«قال أميرُ المؤمنين (علیه السلام) بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المسجد والناس

ص: 32


1- البداية والنهاية لابن كثير: 5 / 151.

مجتمعون بصوتٍ عال: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ ((1)).

فقال له ابن عبّاس: يا أبا الحسن، لمَ قلتَ ما قلت؟!

قال: قرأتُ شيئاً من القرآن.

قال: لقد قلتَه لأمر.

قال: نعم، إنّ الله يقول في كتابه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ ((2))، أفتشهد على رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنّه استخلف فلاناً؟

قال: ما سمعتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أوصى إلّا إليك!

قال: فهلّا بايعتَني؟قال: اجتمع الناس عليه ((3))، فكنتُ منهم.

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : كما اجتمع أهلُ العِجل على العِجل، هاهنا فُتنتم، ومَثَلُكم ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ ((4))» ((5)).

ص: 33


1- سورة محمّد (صلی الله علیه و آله) : 1.
2- سورة الحشر: 7.
3- في (بحار الأنوار: 29 / 19 _ عن: تفسير القمّيّ): «على أبي بكر».
4- سورة البقرة: 17 و18.
5- تفسير القمّيّ: 2 / 301 _ تفسير سورة محمّد (صلی الله علیه و آله) .

التدقيق في هذا الحديث الشريف الّذي يُروى عن الإمام أبي جعفرٍ الجواد (علیه السلام) ظاهراً بالنظر إلى الراوي المباشر، يفيد الكثير في تشخيص ابن عبّاس وما يمكن أن ينطبق عليه من الآيات الكريمات الّتي تلاها أمير المؤمنين (علیه السلام) .

وروى الطبرسيّ في (الاحتجاج) في خبرٍ عن أبي هذيل قال مُخبِراً عن عمر لمّا طُعن، دخل عليه عبد الله بن عبّاس، قال:

فرأيتُه جزعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الجزع؟

قال: يا ابن عبّاس، ما جزعي لأَجَلي، ولكنّ جزعي لهذا الأمر مَن يليه بعدي؟

قال: قلت: ولها طلحة بن عُبيد الله.قال: رجلٌ له حدّة، كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) يعرفه، فلا أُولّي أمر المسلمين حديداً.

قال: قلت: ولها زُبير بن العوّام.

قال: رجلٌ بخيل، رأيتُه يماكس امرأته في كبّةٍ من غزل، فلا أُولّي أُمور المسلمين بخيلاً.

قال: قلت: ولها سعد بن أبي وقّاص.

قال: رجلٌ صاحب فرس وقَوس، وليس من أحلاس الخلافة.

قال: قلت: ولها عبد الرحمان بن عَوف.

قال: رجلٌ ليس يُحسِن أن يكفي عياله.

قال: قلت: ولها عبد الله بن عمر.

فاستوى جالساً، ثمّ قال: يا ابن عبّاس! ما اللهَ أردتَ بهذا، أُولّي رجلاً لم

ص: 34

يُحسِن أن يطلّق امرأته؟!

قال: قلت: ولها عثمان بن عفّان.

قال: واللهِ لئن ولّيتُه لَيحملنّ بني أبي معيط على رقاب المسلمين، ويُوشَك أن يقتلوه. قالها ثلاثاً.

قال: ثمّ سكتُّ؛ لِما أعرفُ من مغائرته لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .

فقال: يا ابن عبّاس، اذكُر صاحبَك!قال: قلت: فولّها عليّاً.

قال: فواللهِ ما جزعي إلّا لِما أخذنا الحقّ من أربابه، واللهِ لئن ولّيتُه لَيحملنّهم على المحجّة العظمى، وإن يطيعوه يُدخلهم الجنّة ((1)).

فهو لم يدَعْ ذي مخلبٍ ونابٍ إلّا ذكره بين يدَي عمر، وأشاح عن ذكر أسد الله وأسد رسوله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ، فقد سكت عنه لما يعرف من مغايرته له، فلا يريد أن يُزعج السلطان في ساعاته الأخيرة، ويذكر عنده مَن لا يحبّ، أو أنّه لا يجرؤ على ذلك حتّى أذن له، أو أمره بذلك فذكره.

وروى الطبرسيّ أيضاً في (الاحتجاج) في خبرٍ طويلٍ عن الإمام العسكريّ، عن أبيه (علیهما السلام) :

«فقال (علیه السلام) : سبحان الله! أليس عبّاس بايع أبا بكرٍ وهو تَيميّ، والعبّاس هاشميّ؟ أوَليس عبد الله بن عبّاس كان يخدم عمر بن

ص: 35


1- الاحتجاج للطبرسيّ: 2 / 153.

الخطّاب وهو هاشميّ أبو الخلفاء، وعمر عدَويّ؟! وما بال عمر أدخل البُعداء من قريش في الشورى ولم يُدخِل العبّاس؟ فإنْ كان رفعنا لمن ليس بهاشميّ على هاشميّ منكراً فأنكروا على عبّاس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عبّاس خدمته لعمر بعد بيعته ...» ((1)).يمكن أن تُحمَل الخدمة هنا على الخدمة بالمعنى الاجتماعيّ، ويمكن أن تُحمَل بالمعنى الأدقّ من ذلك، إذ أنّ ابن عبّاسٍ قد خدم رجال السقيفة خدمةً لا تدانيها خدمة، حيث وفّر لهم الغطاء الشرعيّ بزعمهم، فكان أمير المؤمنين يومها ابن عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وابنُ عبّاسٍ ابنَ عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وزعموا فيه إنّه ترجمان القرآن وحَبر الأُمّة، وغيرها من الألقاب الّتي طوّقته بهالةٍ من الجلالة والفخامة، وظلّلَته بغمامة العلم المطلوب عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فكان البديل الّذي يمكن أن يمتّ رجال السقيفة إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) بصلةٍ قريبةٍ من خلال ابن عبّاس.

وقد مرّ معنا سابقاً أنّه لم يبايع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو يزعم أنّه رأى وسمع جبرئيل ينادي: هلمّوا إلى بيعة الله.

ولا ننسى أنّ يزيد لم يكتب إلى واليه على المدينة ولا على مكّة بأخذ البيعة من ابن عبّاس، كما طالبه بأخذها من سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن الزبير!

* * * * *

نكتفي هنا بهذا القدر، ولو أردنا الاسترسال لَطال بنا المقام، ونحن لا نريد

ص: 36


1- الاحتجاج للطبرسيّ: 2 / 260.

الخروج عن المتن التاريخيّ الّذي بأيدينا، وإنّما ذكرنا هذه النصوص استطراداً وتزوّدنا بها كقبسة العجلان، ولم نستقصِ بدقّة المصادر وننظر في كلّ كتاب.

مع ذلك، فإنّ هذا الشاهد الّذي جاء في هذا القدر من النصوص التاريخيّة، قد يرقى بجدارةٍ إلى مستوى الدليل على بيعة ابن عبّاس ليزيد، مع علمه أنّهشارب خمرٍ يلهو بالقيان مستهتر..

الشاهد الثالث: الاعتصام ببيعة يزيد

ورد في كتاب يزيد شكره على رفض بيعة ابن الزبير واعتصامه ببيعة يزيد وفاءً منه ليزيد وطاعةً لله بتثبيت ما عرّفه الله من حقّه..

أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته وعرض عليك الدخول في طاعته، لتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً، وأنّك امتنعت عليه واعتصمت ببيعتنا، وفاءً منك لنا وطاعةً لله فيما عرّفك من حقّنا ((1)).

فهو يشكره أو يُثني عليه أو يقدّر له هذا الموقف باعتباره قد بايع، ثمّ عُرضَت عليه بيعةٌ أُخرى مِن قبل ابن الزبير فأبى عليه، والتزم البيعة الأُولى

ص: 37


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 321، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّيّ: 446.

التزاماً عبّر عنه ابن ميسون بالاعتصام ووفاءً بالعهد!

وزاد أن طلب منه إخبار الناس بتمسّكه ببيعته.. «فأعلمهم حُسنَ رأيك في طاعتي وتمسّكك ببيعتي».ويشهد لحصول البيعة منه أنّ مَن يقرأ ردّ ابن عبّاس على هذا الكتاب لا يجد فيه أيّ إشارةٍ أو تلويحٍ من قريبٍ أو من بعيدٍ تفيد أنّ ابن عبّاس استنكر على يزيد، أو تكذيبه، أو التعريض به، أو نفي ما ورد فيه من ذكر الاعتصام بالبيعة.

بل، لم يجد فيه ما يفيد تلويحاً أو تصريحاً انسلاخه من البيعة أو التنصّل منها، أو الخروج عن عقدها، وعلى العكس ربّما يُفهَم من تأكيده على أن لا يصيبه من جراحة يده شيء، ويقتصر على جراحة لسانه ما يفيد التزامه بالبيعة.

أجل، قد يكون ناقشه في قضيّة الوفاء له والعمل بأوامره في تثبيط الناس عن ابن الزبير وما شاكل، والوفاء لشخص يزيد شيء والوفاء ببيعته شيء آخَر، وسنأتي على بيان ذلك بعد قليل، إن شاء الله (تعالى).

فهو يقرّ ويعترف _ عاقبةً _ بما قاله يزيد بخصوص البيعة.

الشاهد الرابع: تصريح ابن عبّاسٍ بالبيعة ليزيد!

ورد في نصّ كتاب ابن عبّاس _ وفق ألفاظ جملةٍ من المصادر _ أنّه يصرّح ليزيد أنّه قد بايعه..

فقال في لفظ: «واللهِ بايعتُ أباك، وبايعتُك من بعد أبيك» ((1)).

ص: 38


1- أخبار الدولة العبّاسيّة: 88.

وفي لفظٍ آخَر: «فقد بايعتُك وأباك من قبلك» ((1)).وفي لفظٍ ثالث: «وقد علمت لمّا بايعتك» ((2)).

وهذا تصريحٌ واضحٌ لا غبار عليه، ولا يحتاج إلى تفسيرٍ ولا تعليق!

* * * * *

نحسب أنّ هذا القدر كافٍ لإثبات دخول ابن عبّاس في بيعة يزيد، أو على الأقلّ الامتناع عن نفي بيعته، والتحرّز عن إطلاق النفي كقولٍ وحيدٍ لا مقابل له.

ويبدو من النصوص أنّه قد بايع منذ الأيّام الأُولى الّتي نزا فيها القرد المخمور على منبر النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، قبل شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) وقبل خروجه من مكّة، وإذا اعتمدنا نصّ ابن قُتيبة فإنّه قد سارع إلى بيعته في مكّة وأمر بها.

الكشف الثالث: اعتراف يزيد بتأثير ابن عبّاسٍ في الناس

يبدو واضحاً من قول ابن ميسون:

فانظر مَن قِبلك ومَن يطرأُ إليك مِن أهل الآفاق ممّن يسحره الملحد وزخرفُ قوله، فأعلِمْهم حُسنَ رأيك في طاعتي وتمسّكك [خ ل:

ص: 39


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 155، نفَس المهموم للقمّيّ: 446.

التمسّك] ببيعتي، فإنّهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للمُحلّ الحارب الملحد المارق ((1)).

إنّ يزيد يؤكّد لابن عبّاس أنّ الناس أطوع له وأسمع منه لابن الزبير، ويدعوه ليستغلّ ذلك ويوظّفه، ليُعلمهم حُسن رأيه في طاعة يزيد والتمسّك ببيعته، ليتفرّقوا عن ابن الزبير ويخذلوه.

والمراجعة السريعة لردّ ابن عبّاس _ كما سيأتي بعد قليل _ تفيد بوضوحٍ أنّ ابن عبّاسٍ لا يُنكر ذلك على يزيد ولا يتنكّر، ولا يرفض قوّة تأثيره في الناس وأنّهم أسمع له وأطوع.

وهو كذلك، تماماً كما أخبر يزيد وأقرّ به ابن عبّاس، وكيف لا يكون كذلك وقد «كان عمر بن الخطّاب يقرّبه ويدنيه ويشاوره»؟ ((2)) فهو من أعمدة القوم ورجالهم، كان ولا زال، وله من الوجاهة والمكانة في المجتمع ما يجعله مسموع الكلمة.

ص: 40


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 5 / 321، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236 ط الحيدريّة، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّيّ: 446، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.
2- أُنظر: اختيار معرفة الرجال: 1 / 272، تنقيح المقال للمامقانيّ: 2 / 191.

بَيد أنّنا نسأل هنا بعد الإقرار بمدى تأثيره البليغ في الناس قديماً وحديثاً، فنقول:

لماذا لم يوظّف ابنُ عبّاسٍ هذه الطاقة الفائقة والقدرة الهائلة والسلطة الروحيّة والكلاميّة والاجتماعيّة والدينيّة وغيرها من الإمكانات الضخمة في ردع يزيد عن قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) أو تأليب الناس عليه وتخذيلهم عنه؟

وإن كان سيّد الشهداء _ كما يزعم ابن عبّاس ويفهم _ خارجاً! على يزيد ومُقدِماً على حربه ومقاتلته، فلماذا لا نسمع لابن عبّاسٍ همساً ولا ركزاً ولا دعوةً ولا خطبةً ولا تحريضاً ولا صرخةً ولا أيّ نشاطٍ يُذكر، يقوم به لجمع الرجال وحشد القوّات لنصرة سيّد الشهداء؟!!

نكتفي بهذا القدر!

الكشف الرابع: يزيد مِن أهل البيت!!!

ورد في لفظ الطبرانيّ والهيثميّ من كتاب يزيد قوله:

فامتنعتَ عليه وانقبضت، لما عرّفك الله من نفسك في حقّنا أهل البيت ((1)).يبدو من السياق أنّ أملوج الشجرة الملعونة في القرآن حشر نفسه وباقي بني أُميّة تحت عنوان (أهل البيت)، ليمتّ إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) وإلى ابن عبّاس

ص: 41


1- المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

بنسَبٍ وصِلة، وقد أكّد على واشجة القرابة والرحم بينه وبين ابن عبّاس.

هكذا لعبوا بالدين، وقلبوا معاني القرآن الكريم، ونكّسوا القيَم والموازين، وعمّموا ما خصّه الله وخصّه رسوله (صلی الله علیه و آله) نصّاً صريحاً، وكرّر بيانه قولاً وفعلاً، وحصره حصراً تحت كساءٍ واحدٍ في أكثر من موطن وموقف ومشهد على رؤوس الأشهاد.

هذه الحقيقة المرّة الأجاج الحنظل الحراق الزعاق، والسمّ الذعاف القتّال المدمّر الّذي سرى في كيان الأُمّة، فأتى على بنيانها من القواعد، وخدع العقول المنخورة والقلوب الخاوية والنفوس الضعيفة، حتّى أدخلوا كلَّ ما هبّ ودبّ وصدق عليه لفظ القرابة النسبيّة أو السببيّة القريبة والبعيدة، وذهبوا بها عريضة، فأدخلوا الأُمّة كلَّها في (أهل البيت)، كما هو واضحٌ لمن راجع كتب التفسير والرواية عند العامّة.

وهو كلامٌ يُسيل الدمع من محجر الحجَر، ويبقى السامع ذاهلاً ساهماً، لا يدري أينفجر ضحكاً أو يحترق حزناً ويفجّر العالم كلّه بالدموع بكاءً ويفيض الحزن بحاراً؟!بنو أُميّة.. يزيد الخمور والفجور والقرود والحقد والبغضاء، المتقلّب في أحضان القيان وقهوات الدنان، مُعاقر الرذيلة وعشّ الخطيئة، جنحة ميسون.. يحشر أنفه السكران ليدخل تحت عنوان (أهل البيت)!!!

حاشا لبيتٍ رفعه الله وطهّره تطهيراً، وأحاطه بسور قداسته، وحصّنه بسياج قدسه، وأعزّه بعزّه، أن يقتحمه مثل هذا القرد الغاوي المترنّح.

ص: 42

* * * * *

نتوقّف هنا عن الاسترسال مع كتاب القرد المخمور يزيد، ونمضي إلى كتاب ابن عبّاس، وفي مفاصله ذكرٌ لباقي فقرات كتاب يزيد.

ص: 43

ص: 44

القسم الثاني: ردّ ابن عبّاس

اشارة

ورد جواب ابن عبّاس على كتاب يزيد في المصادر بألفاظ شتّى، غير أنّها اجتمعَت على نقل بعض المضامين، واختلفَت في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان قليلاً.

وسنأتي على ذِكر ما يهمّنا من تلك المضامين:

المضمون الأوّل: تعليق بعض الأجوبة

يُلاحَظ في جواب ابن عبّاسٍ على الموارد الّتي ذكرها يزيد في كتابه وأخبر أنّها قد بلغَته أنّه يعلّق الردّ على ما إذا كان ما أُخبر به هو كما بلغه، فيقول:

بلغني كتابك بذِكر دعاء ابن الزبير إيّاي إلى نفسه وامتناعي عليه في الّذي دعاني إليه من بيعته، فإن يكُ ذلك كما بلغك ... ((1)).

ص: 45


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236 ط الحيدريّة، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.

ممّا يُشعِر أنّه يردّ عليه على فرض صحّة ما أُبلغ به، وكأنّه يتنزّل معه من باب التسليم في المجادلة والردّ على كلّ تقدير.

وهذا بنفسه يورث في نفس المتلقّي شعوراً بالشكّ أو التشكيك، فيحتمل أن لا يكون هو قد دُعي إلى البيعة، أو أنّه دُعي وقبلها، أو أيّ احتمالٍ آخَر، بَيد أنّه يقول له على فرض صحّة ما بلغك، فالجواب كذا.

المضمون الثاني: سبب الامتناع عن بيعة ابن الزبير

زعم يزيد أنّ ابن عبّاسٍ إنّما امتنع على ابن الزبير ولم يبايعه التزاماً منه ببيعة يزيد واعتصاماً بها، ووفاءً لشخص يزيد وحبّاً له، ورعايةً للرحم والوداد.

فردّ عليه ابن عبّاس: إنّه إن امتنع على ابن الزبير، لا حبّاً في يزيد ولا وفاءً لشخصة ولا رعايةً للودّ.

هنا يتحدّث ابن عبّاسٍ عن موقفه من شخص يزيد (هذا القرد المخمور المتمثّل في ابن ميسون)، من دون الإشارة إلى البيعة له ونكثها والتحلّل منها، فهو لم يُنكِر أصلها ولا ينفي الاستمرار عليها والالتزام بها.

أجل، إنّه يشعر بالنفرة والقرف من شخص يزيد، وشعوره الشخصيّ شيءٌ،والتزاماته الشرعيّة أو التزاماته الّتي يفرضها عليه التقيّد بالعقد الاجتماعيّ شيءٌ آخَر.

فهو مهما كان نفوراً كارهاً متميّزاً غضباً وغيضاً عليه، معتقداً فيه الضلالة والفسق والفجور وارتكاب الكبائر وإقدامه على الجناية العظمى في تاريخ

ص: 46

البشريّة، غير أنّ هذا كلّه قد لا يسمح له بالتحلّل عن بيعةٍ أعطاها ومناولةٍ أقدم عليها فيما سبق.

وقد نفى ابنُ عبّاسٍ أن يكون ودّه ووفاءَه له شخصيّاً ومخاطبة حمده، بيد أنّه لم يُعرِب له عن سببٍ آخَر، وإنّما وكّل الأمر إلى علم الله، ليبقى السبب بينه وبين الله.

ولا يخفى أنّ البلاذريّ قد بتر هذه الفقرة، واكتفى بقوله: «فأجابه بجوابٍ طويل»، ثمّ شرع في ذِكر سؤال يزيد ابن عبّاسٍ أن يحثّ الناس عليه ويثبّطهم عن ابن الزبير..

* * * * *

وأسباب الامتناع يمكن أن تكون كثيرةً جدّاً، من قبيل استنكاف ابن عبّاس عن البيعة لمثل ابن الزبير، الّذي لا يراه شيئاً مذكوراً، ولا يراه ذا بالٍ ولا قدرةٍ ولا قوّةٍ ولا سلطانٍ ولا حسَبٍ ولا نسَب، وغيرها من أسباب الاحتقار والدونيّة الّتي يراها ابن عبّاس في ابن الزبير، كما سمعنا في النزاع الّذي حصل بينهما في الحرم أو بعد اللقاء بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد مرّ معنا في هذه الدراسة فيما سبق،ليس بعيداً.

وربّما امتنع ابن عبّاسٍ عن بيعة ابن الزبير اجتناباً للفتنة، وخوفاً من الدخول في صراعٍ يؤدّي إلى سيلان دماء الأُمّة أنهاراً، وليس لابن عبّاس فيها ناقةٌ ولا جمل.

وربّما امتنع من البيعة ليبقى بعيداً عن بؤرة النزاع، ويتجنّب الدخول

ص: 47

لصالح أحد الطرفين، وهما عدوّان، فلْتستعر أوارُ الحرب بينهما، وليقتتلا بينهما، وينشغل العدوّ بالعدوّ، وإذا هلك أحدهما أو هلكا معاً فهو الرابح من بينهما على كلّ تقدير.

وقد يكون اعتقاده بوجوب الوفاء بالبيعة مهما كلّف الأمر، ومهما كان وليّ الأمر ظالماً جائراً.

* * * * *

وقد تقبّض ابن عبّاسٍ عن بيعة ابن الزبير حتّى بعد هلاك يزيد، ووعده أن يبايعه إن بايعه الناس واستوسقت له الأُمور ويتمكّن من البلاد، فقد روى ابن سعدٍ في (الطبقات) قال:

فلمّا جاء نعي يزيد بن معاوية، وبايع ابنُ الزبير لنفسه ودعا الناس إليه، دعا ابنَ عبّاسٍ ومحمّد ابن الحنفيّة إلى البيعة له، فأبَيا يبايعان له، وقالا: حتّى يجتمع لك البلاد ويتّسق لك الناس. فأقاما علىذلك ما أقاما ((1)).

وهكذا يمكن أن يكون للامتناع أسبابٌ كثيرة، بَيد أنّ ابن عبّاسٍ أجملها وأوكلها إلى عِلم الله، كيلا يتورّط في بيانها ليزيد، مع إقراره أنّ ثمّة نيّة منعَته من البيعة.

ص: 48


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: 5 / 75.

المضمون الثالث: وعد البرّ والصلة

اشارة

يبدو من جواب ابن عبّاسٍ أنّ القرد المسعور كان يتزلّف لابن عبّاس ليضرب عدّة أهدافٍ بسهم واحد، إذ نجد في الجواب _ وفق بعض ألفاظ الخبر _ أنّ ابن عبّاسٍ يُقدّم سبب امتناعه عن بيعة ابن الزبير، وأنّه لأمرٍ يعلمه الله، وليس المقصود ودّه ولا الوفاء لشخص يزيد، ثمّ يؤكّد له أنّ حقّهم الّذي عند يزيد أكبر من أن يعوّضه بصلته، ثمّ يعلّل من جديد أنّه لا ينسى قتله سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

الهدف الأوّل: التشجيع على الامتناع عن بيعة ابن الزبير

مَن يقرأ كتاب ابن عبّاس، يجد واضحاً في سياق الردّ على صلة يزيد ووعده بالبرّ أنّه يقصد تقديم الشكر لابن عبّاس تثميناً لموقفه في الامتناع عنبيعة ابن الزبير، لذا أكّد له ابن عبّاس أنّ امتناعه لم يكن من أجل شخص يزيد، وإنّما هو لأمرٍ نواه وقد علمه الله، فهو لا ينتظر على ذلك من يزيد صلةً ولا برّاً، ولا يريد أن يقايضه على بيعة عدوّه أو الامتناع عنها.

الهدف الثاني: الحثّ على دخول معركة يزيد وابن الزبير

يفيد كتاب يزيد أنّه كان يحثّ ابن عبّاس على دخول معترك الصراع بين يزيد وابن الزبير لصالح الأوّل، ويشهد لذلك قوله:

وكتبتَ إليّ تذكر تعجيل برّي وصلتي، فاحبسْ أيّها الإنسان عنّي برَّك وصلتك، فإنّي حابسٌ عنك ودّي ونصرتي.

ص: 49

وكذا غيرها من الألفاظ المنقولة في المصادر الأُخرى، تفيد بوضوحٍ أنّه لا يريد أن يدخل هذا المعترك، ولا يريد من يزيد برّاً ولا صلةً مقابل ذلك، فهو ليس في مقام المقايضة وبيع المواقف، لالتباس المشاهد وتداخلها، ولأنّه موتور، كما سيأتي بيانه بعد قليل.

الهدف الثالث: تطييب خاطر ابن عبّاس!

يبدو من السياق ومتابعة النصّ بوضوحٍ أنّ القرد المسعور أراد ترويض ابن عبّاس وتطييب خاطره بتعويضه بالبرّ والصلة _ فيما يزعم _ عن قتل أبناء عمومته وأنصارهم بتلك القتلة الفجيعة الّتي يصفها ابن عبّاس في بقيّة كتابه، ويشتري منه رضاه بقتل ابن عمّه وسيّد شباب أهل الجنّة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته وصحبه النجوم الزواهر (علیهم السلام) .

لذا نجد في جواب ابن عبّاسٍ تأكيداً حثيثاً على هذه القصّة بالذات، ورفضاً تامّاً لهذه المقايضة البائسة، وهو يقول له فيما يقول:

ولَعمري ما تعطينا ممّا في يديك لنا إلّا القليل، وتحبس منه العريض الطويل، لا أباً لك، أتراني أنسى قتلَك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب ... ((1)).

وقد فعلها ابن ميسون مع أهل البيت (علیهم السلام) كما في بعض الكتب، فقد أمر بالأنطاع من الأبريسم وصبّ عليها الأموال، وقال:

ص: 50


1- أُنظر: المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

يا أُمّ كلثوم! خذوا هذا المال عوض ما أصابكم.

فقالت أُمّ كلثوم: يا يزيد، ما أقلّ حياءك وأصلف وجهك! أتقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم مالاً؟! واللهِ لا كان ذلك أبداً ((1)).

* * * * *

كأنّ ابن عبّاسٍ لوّح ليزيد أنّ ما تصلني به وتبرّني إنّما هو من فيض نداي، وأنّ يزيد أخذ كلّ حقوقه، ثمّ صار يصله من ماله.إذ يؤكّد ابن عبّاس ويقسم له بحياته هو أنّ ما يعطيهم يزيد ممّا في يديه من حقّهم إنْ هو إلّا القليل، وأنّه يحبس عنهم منه العريض الطويل.

فربّما قصد من حقّهم الّذي بيدَي يزيد: الخلافة والمُلك، وأنّه مهما أعطاهم فهو مقصّرٌ وحابسٌ عنهم، إذ أنّ على يزيد أن يعطيهم زمام السلطنة، ويتنحّى لهم عن عرش الحكم، ويدفع إليهم تخت الملك.

المضمون الرابع: رفض دعوات يزيد وأسبابها

ربّما كان ما في المضمون الثالث مشتركاً مع مؤدّى هذا المضمون، بَيد أنّنا أفردناه للأهمّيّة من جهة، ولبيان نكتةٍ إضافيّةٍ لم تُذكَر هناك.

عندما دعا يزيدُ ابنَ عبّاسٍ لتخذيل الناس عن ابن الزبير وحثّهم على

ص: 51


1- أُنظر: المنتخَب للطريحيّ: 2 / 497، بحار الأنوار: 45 / 196، العوالم للبحرانيّ: 17 / 422، نفَس المهموم للقمّيّ: 465، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 400، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 145.

يزيد، ووعده البرّ والصلة، رفض ابن عبّاس، وقال:

تسألني نصرك وتحذوني على ودّك، وقد قتلتَ حسيناً ... أتحسبني نسيتُ قتلَك حسيناً؟ ... ((1)).

فهو إنّما يعجب حين يرى صلف يزيد ووقاحته وصلابة وجهه ونزقه ورعونته، ويرفض رفضاً باتّاً لأنّه تقدّم بهذه الدعوة بعد أن قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته (علیهم السلام) ، وهم أبناء عمومة ابن عبّاس، ورحمه الواشجة القريبة، فكيف يتوقّع من ابن عبّاسٍ النصرةَ وقد أتى على رهطه وأقربائه واستأصلهم من جديد الأرض، والجرح لمّا يندمل، والدماء لمّا تجفّ، وحروق السبي لا زالت تستعر؟!!

لكن ربّما ظنّ يزيد أنّ الأوائل استخدموا ابن عبّاسٍ ووظّفوه، وتجاوب الأخير معه يوم وظّفه لمهمّةٍ صعبةٍ وخطيرةٍ مع أبي الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة، أنّ ابن عبّاسٍ سيستمرّ معه وينخرط في جهازه، حتّى بعد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) بلا فاصلٍ زمنيّ بعيد، فردّه ابن عبّاس، وأفهمه أنّ للأمر حدود، وللنخوة بقايا في وجود الهاشميّين مهما بعدوا، فكفى ما قدّمه ليزيد حين كان يمكن حمله على السعي فيما سمّاه ابن عبّاس: «إطفاء النائرة وإخماد الفتنة»، أمّا بعد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فما ابن الزبير وما يزيد؟!

ص: 52


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 321، وانظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثمي: 7 / 250.

وكيف كان، فهو تمرّد على شخص يزيد الخمور، وأراد إعلامه عن عدم الرضى بما فعله مع أقربائه وأبناء عمومته، ولو كان المعيار النسب والانتساب العشائريّ والنخوة القبليّة، لما صحّ لابن عبّاس أن يستجيب له، فالإمام الحسين (علیه السلام) وأهل بيته أقرب رحماً لابن عبّاسٍ من يزيد وبني أُميّة.

من هنا أظهر ابنُ عبّاسٍ عجبه وقال:

فلا شيء أعجب من طلبك ودّي ونصري، وقد قتلتَ بني أبي،وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري ((1)).

وهو لم يذكر أحداً من أنصار سيّد الشهداء (علیهم السلام) ، ولم يطالب بثأر أحدٍ سوى بني عبد المطّلب، ولم يذكر تأسّفاً وتحسّراً على سواهم، ولم ينوّه بهم لا من قريبٍ ولا من بعيد، وكلّ ما ذكرهم إنّما قال: قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، أو بني عبد المطّلب.

فربّما كان من باب ذكر الأهمّ والتغافل عن المهمّ، وأنّ أنصار أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) إنّما قُتلوا في الذبّ عنه، فليس لهم موضوعيّةٌ مستقلّةٌ عن بني عبد المطّلب، بَيد أنّ هذا النمط من التعامل ليس من أخلاق بني هاشم ووفائهم وعرفانهم.

ولو كان المعيار المُلك والاستئثار به، فبنو أُميّة هم المتسلّطون، وليس في آل أبي طالبٍ من الأحفاد مَن نازع أو ينازع فيه.

ص: 53


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 321، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

المضمون الخامس: ذكر بعض المصائب

اشارة

ذكر ابن عبّاسٍ جملةً من المصائب الّتي جرت على آل البيت، يمكن استعراضها هنا باقتضابٍ مفهرسة، نرجو من الله أن يوفّقنا للإشارة إلى بعضها فيثنايا البحث:

· إطراد الحسين بن عليّ من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله.

· دسّ الرجال إلى الإمام الحسين (علیه السلام) لتغتاله.

· إشخاص سيّد الشهداء (علیه السلام) من حرم الله إلى الكوفة، وخروجه منها خائفاً يترقّب.

· محاصرة الإمام الحسين (علیه السلام) في موضعٍ لا يستحلّ فيه القتال، ولو أراد أن يقاتله فيه لكان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين، ولكنّ الإمام (علیه السلام) كره أن يكون هو الّذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، في حين كان يزيد لا يرى للبيت حرمة.

· قاتل يزيدُ الإمام (علیه السلام) ودسّ إليه الرجال لتغتاله في الحرم، والإمام (علیه السلام) (لم يبتغه ضراباً).

· أمر ابنَ مرجانة باستقبال الحسين (علیه السلام) بالرجال، وتعجيل معالجته وترك مطاولته، والإلحاح عليه حتّى يقتله ومَن معه من أهل البيت من بني عبد المطّلب.

· رفض طلب الإمام الحسين بن عليّ (علیهما السلام) الموادعة.

· حبس الإمام (علیه السلام) ومنعه من الرجوع، إذ سألهم الرجعة.

ص: 54

· إغتنام الفرصة لقلّة الأنصار لاستئصاله وأهل بيته.

· قتل الإمام الحسين (علیه السلام) بأمر يزيد.

· قتل الحسين (علیه السلام) وفتيان بني عبد المطّلب مصابيح الدجى ونجوم الأعلام.

· قتلهم بالظماء.

· قتل الإمام الحسين (علیه السلام) وأهل بيته كأنّهم من الترك والكفر أو كابل.

· مغادرتهم مصرّعين في صعيدٍ واحد، مرمّلين بالدماء، مرمّلين بالتراب.

· سلبهم، وتركهم مسلوبين بالعراء.

· مغادرتهم من غير تكفين.

· مغادرتهم من غير دفن.

· تركهم في العراء، تسفي عليهم الرياح.

· تعريض الأجساد المقدّسة للخطر، تعروهم الذئاب وتنتابهم عرج الضباع.

· تسليط ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ للعاهرة الفاجرة، اللئيم أُمّاً وأباً.

· حمل بنات عبد المطّلب وغلمةٍ صغارٍ من وُلده إلى يزيد سبايا.

· سبيهم بالشام مسلوبين كالسبي المجلوب.

· تبجّح يزيد بسبي أهل البيت أنّه قهرهم وتأمّر عليهم.

ص: 55

· الشماتة بحمل بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام أُسارى مجلوبين.

· حمل بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام مسلوبين (تفرّد بذكر هذا اللفظ سبط ابن الجوزيّ).

· أخذ يزيد بثأر أهله الكفَرة الفجرة يوم بدر.

· إظهار يزيد الانتقام الّذي كان يخفيه والأضغانَ الّتي تكمن في قلبه كمَون النار في الزناد.

· جعل دم عثمان وسيلةً لإظهار الأحقاد والأضغان والانتقام.

* * * * *

هذه جملةٌ من المصائب الّتي وقعَت على أهل البيت (علیهم السلام) ، الّتي ذكرها ابن عبّاسٍ ونصّ عليها.

وهي بالرغم من أنّها عناوين ومجملات، بَيد أنّ فتح مغاليقها وتتبّع تفاصيلها يجمع مصائب سيّد الشهداء (علیه السلام) منذ خروجه من المدينة إلى المصرع وما جرى بعده من الوقائع ومصائب السبي.

ونحن لا نريد تفصيلها هنا، وستأتي الإشارة إلى بعضها خلال البحث، ولكن نودّ أن نذكر هنا نكتةً قد تكون منهجيّةً مهمّة:

نكتة مهمّة

إنّ ما يتفلّت من هنا ومن هناك على لسان الأشخاص أو المؤرّخين قديكون موضعاً موفّقاً لاصطياد المعلومة التاريخيّة.

ص: 56

فهذا كلام ابن عبّاسٍ يفيد أنّ يزيد قد دسّ الرجال لاغتيال سيّد الشهداء (علیه السلام) في الحرم الإلهيّ الآمن، وأنّهم قتلوا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته ظماء، وأنّهم حملوا أهل بيت الرسالة مسلوبين، وغيرها من الإشارات الواردة في كتاب ابن عبّاس، ممّا يُعدّ شهادةً تاريخيّةً من معاصر، وإن لم يحضر الواقعة بنفسه، بَيد أنّ الأخبار بلغَته أو شاعت حتّى لم يعد يزيد نفسه ينكرها أو يتنكّر لها.

فلا يفوتنا أن نتلقّف المعلومة ونصطادها، ولو في غير محلّها، فكتاب ابن عبّاسٍ ربّما أشار إلى مصائب تجاهلها المؤرّخ، أو تعامى عنها وحاول أن يعفّي ويعمّي عليها، وربّما لا يعدّه البعض من مضانّ أخبار المقتل والمصائب الّتي جرت على آل الرسول (صلی الله علیه و آله) .

وتفصيل الحديث في هذه النكتة ليس هذا محلّه.

المضمون السادس: حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وفق ما شرحه ابن عبّاس!

اشارة

قد قرأنا فيما مضى من هذه الدراسة موقف ابن عبّاسٍ وطريقة تعامله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومحاولاته الحثيثة والقاسية أحياناً، والجريئة الّتي تتجاوز حدود الأدب أحياناً أُخرى، وسماجته في الإلحاح لمنع إمام الثقلين وسيّدالكونين (علیه السلام) من الخروج عن مكّة، رغم كلّ بيانات الإمام (علیه السلام) وشرحه الموقف وتأكيده بما لا يقبل الشكّ والتردّد أنّه في معرض الاغتيال القطعيّ وأنّ حياته

ص: 57

مهدّدة، ومكثه في مكّة _ ولو لأيامٍ قلائل قد لا تُعدّ في حساب الزمن _ يؤدّي بالقطع واليقين إلى هتك حرمته وسفك دمه الزاكي، وهتك حرمة الحرم الإلهيّ الآمن.

بَيد أنّنا نجد تصويراً آخر في كلام ابن عبّاسٍ يختلف عن مواقفه السابقة في مكّة، وما رسمه من مشاهد تُزعج من يتابعها هناك، إذ أنّه بدا هنا كأنّه قد أدرك الحقيقة الّتي كان الإمام (علیه السلام) يكشفها له وهو لا يكاد يعيها، فرجع يرسم نفس المشاهد الّتي رسمها له الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) ، ويعرض نفس الوقائع الّتي تحقَّقت على الأرض، ويكشف الستار عن واقع تحرك الإمام (علیه السلام) ومكثه وانطلاقه في المدينة ومكّة وغيرها من المواطن، ودوافع العدوّ وعزمه والمزعجات التي جعجعت بالإمام (علیه السلام) وأهل بيته واضطرته للخروج من مسقط رأسه وحرم جدّه، ثمّ من حرم الله، ثمّ اضطرته لييمّم وجهه نحو العراق رغم ما فيه.

ويمكن أن نتابع ما رسمه ابن عبّاسٍ في كتابه هذا من مشهدٍ مُشجٍ وأحداثٍ قارعةٍ تقرع القلوب وتصدّعها وتنتزع الأرواح وتلوّعها من خلال المشاهد التالية:

المشهد الأوّل: المطاردة من حرم الرسول إلى حرم الله

لقد عبّر ابنُ عبّاسٍ في كتابه هذا تعبيراً مختصراً اختزل فيه جميع ما مرّ على سيّد الشهداء (علیه السلام) في مدينة جدّه، وكشف عن مظلوميّته، وأفاد بوضوحٍ أنّ خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) كان مطارداً في مدينة جدّه.. «اطرادك

ص: 58

حسيناً» ((1))، وأنّه لم يخرج منها إلّا مكرهاً، من دون أن يُقدِم هو على أيّ خطوةٍ تُعطي العدوّ ذريعةً للملاحقة، وإنّما كانت المطاردة والإقدام على تنفيذ القتل وهتك حرمة حرم النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحرمة الدم الزاكي بين ظهراني مجتمع الصحابة من المهاجرين والأنصار والتابعين، وهم يعلمون أنّ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) لا يريد أن تُستحلّ به حرمة مدينة جدّه (صلی الله علیه و آله) ، فلابدّ له أن يخرج، وبذلك يسيّرونه إلى حيث يريدون له أن يتوجّه، ليحقّقوا غرضهم في القضاء عليه وقتله.

لذا ورد في لفظ الطبرانيّ والهيثميّ أنّ يزيد سيّر الإمام (علیه السلام) من حرم جدّه (صلی الله علیه و آله) : «تسييرك حسيناً من حرم رسول الله إلى حرم الله» ((2))، فكان التسييربالمطاردة.

وهذا ما قاله سيّد الشهداء (علیه السلام) بشتّى صنوف الكلام، والتعبير لابن عبّاس وغيره في المدينة قبيل الخروج وفي مكّة.

* * * * *

«لقد حوصر الإمام (علیه السلام) ليُجبَر على البيعة، إذ ورد الأمر من القرد الأُمويّ المجدور أن يأخذه أخذاً ضيّقاً ليست فيه رخصةٌ ولا هوادة، ولا يرخّص له في

ص: 59


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، الكامل لابن الأثير: 3 / 218، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323.
2- أُنظر: المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

التأخير عن ذلك ((1))، فإن تأبّى ضُربَت عنقُه وبُعِثَ برأسه إليه ((2)).

وقد استعجل مروان قتلَ سيّد الشهداء (علیه السلام) إن أبى البيعة، وحرّض واليالمدينة على ذلك ((3)).

ص: 60


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 313، الأخبار الطِّوال للدينوريّ: 228، تاريخ الطبريّ: 5 / 338، المنتظم لابن الجوزيّ: 5 / 322، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، روضة الواعظين للفتّال: 146، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 324، العوالم للبحرانيّ: 17 / 173، الردّ على المتعصّب العنيد لابن الجوزي: 34، الكامل لابن الأثير: 3 / 263.
2- أُنظر: المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 141، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 215، الفتوح لابن أعثم: 5 / 10، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 179، مثير الأحزان لابن نما: 9، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 135، اللهوف لابن طاووس: 21، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 324، العوالم للبحرانيّ: 17 / 174، نهاية الأرَب للنويريّ: 20 / 376، تاريخ ابن خلدون: 3 / 19، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 181.
3- أُنظر: ترجمة الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 176، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 317، الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 55، الإمام الحسين (علیه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، المحمودي: 200، تهذيب ابن بدران: 327، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2607، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 198، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، الأخبار الطوال للدينوريّ: 230، تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 215، تاريخ الطبريّ: 5 / 339، المنتظم لابن الجوزيّ: 5 / 323، الفتوح لابن أعثم: 5 / 18، الإرشاد للمفيد: 2 / 30، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 324، العوالم للبحرانيّ: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّيّ: 68، روضة الواعظين للفتّال: 146، الأمالي للشجريّ: 1 / 170، إعلام الورى للطبرسيّ: 222، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 183، المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 142، الكامل لابن الأثير: 3 / 264، مثير الأحزان لابن نما: 10، الجوهرة للبريّ: 41، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 135، اللهوف لابن طاووس: 23، نهاية الأرَب للنويريّ: 20 / 288، تاريخ ابن خلدون: 3 / 20، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 182، المنتخب للطريحيّ: 2 / 419، مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف المشهور: 12.

ثمّ عاد القرد الأُمويّ ليطالب برأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد شاب أهل الجنّة (علیه السلام) ، حينما كتب إليه الوليد يُخبره أنّ الحسين (علیه السلام) ليس يرى لهم عليهطاعةً ولا بيعة، فلمّا ورد الكتاب على ابن هند الفاجرة غضب لذلك غضباً شديداً، وكان إذا غضب انقلبت عيناه فعاد أحول، فكتب إلى الوليد بن عُتبة يأمره أن يأخذ البيعة ثانياً من أهل المدينة، ولْيكُن مع جوابه رأس الحسين بن عليّ ((1))..

ثمّ عاد الوليد ليُرسل الرسل إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ويُحضره ويضيّق عليه، ويلحّ عليه بالبيعة ((2))..

ص: 61


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 25، الأمالي للصدوق: 152، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 185، بحار الأنوار: 44 / 312، العوالم للبحرانيّ: 17 / 161.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 341، الإرشاد للمفيد: 2 / 31، روضة الواعظين للفتّال: 147، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 326، العوالم للبحرانيّ: 17 / 176، نفَس المهموم للقمّيّ: 71، إعلام الورى للطبرسيّ: 222، الكامل لابن الأثير: 3 / 264، المنتخَب للطريحيّ: 2 / 420.

فتوجّه سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى قبر جدّه في المدينة.. أجل، في المدينة.. يشكو إليه ويستشهده على الأُمّة، ويقول: فاشهد عليهم _ يا نبيّ الله _ أنّهم خذلوني وضيّعوني، وأنّهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتّى ألقاك ((1))..

ثمّ عاد الوليد ليبعث ثالثاً خلفه، فلم يجده في منزله، فيحمد الله أنّه لم يبتلِ بدمه ولم يطالبه الله به.. يعني أنّه كان عازماً على تنفيذ أوامر القرد الأُمويّ لولاأنّ سيّد الشهداء قد خرج! ((2))» ((3)).

فها هم عمّال ابن ميسون بالمدينة، يعجّلون على الإمام (علیه السلام) ويسيؤون إليه، ويعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، كما أخبر الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ابنَ عبّاس ((4)).

وها هو يزيد يطارد الإمام (علیه السلام) ، ويأمر مروان بقتله، ويُقدِم على ذلك في حرم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومدينته ((5)).

ص: 62


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 26، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 186.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 27، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 186، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 328، العوالم للبحرانيّ: 17 / 177، نفَس المهموم للقمّيّ: 72.
3- إقتباسٌ من كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنوّرة).
4- أُنظر: الأمالي للشجريّ: 1 / 182، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 136.
5- مَن أحبّ التفصيل فلْيُراجع كتاب (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة المنوّرة).

* * * * *

لم يرضخ ابنُ عبّاسٍ من قبل حين كان الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يُخبره بذلك، وإنّما كان يلحّ بسماجةٍ على خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ويتعامل معه باعتباره خارجاً من المدينة طالباً للأمر وقاصداً مواجهة يزيد مبتدئاً في الخروج بالمعنى الاصطلاحيّ!

فيما نجده هنا يصرّح أنّ يزيد هو الّذي اطّرد الإمام (علیه السلام) وسيّره من مدينةجدّه (صلی الله علیه و آله) !

المشهد الثاني: مقاتلة الإمام في مكة ومحاولة اغتياله

لقد سمعنا ابن عبّاسٍ ورأينا موقفه في مكّة المكرمة، وأشرنا إلى بعض مفاصله قبل قليل، فلنرى موقفه الآن في تقرير وقائع تلك الفترة، ويمكن جمعها في نقاطٍ بشكل عناوين:

· اطّراد يزيد الحسين بن عليّ (علیهما السلام) من حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى حرم الله.

· دسّه الرجال تغتاله.

· إستغلال يزيد تعظيم الإمام (علیه السلام) للحرم وكراهيته أن يكون هو الّذي يستحلّ حرمة البيت ورسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ويزيد لم يُكبر ما أكبر الإمام (علیه السلام) ، فاغتنم ذلك فرصةً لقتله (علیه السلام) .

· خرج الإمام (علیه السلام) من مكّة لمّا رأى سوء رأي يزيد من دون أن

ص: 63

يبتغيه ضراباً، «فلمّا رأى سوء رأيك، شخص إلى العراق ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدَراً مقدوراً».

· خرج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة تماماً كما خرج من المدينة، حيث خرج منها بصريح قول ابن عبّاس: «خائفاً يترقّب».

تسيير الرجال إلى الإمام (علیه السلام) ومَن معه وإدساسه إليهم، ليعاجلوه· فيقتله يزيد في حرم الله.

· ما زال يزيد يعاجل الإمام (علیه السلام) ليقتله، حتّى أشخصه من مكّة إلى أرض الكوفة، تزأر إليه خيله وجنوده زئير الأسد، فخرج منها خائفاً يترقّب.

· تسيير الخيول إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ليُقتَل في الحرم، وما زال يزيد بذلك حتّى أشخصه إلى العراق، فخرج منها خائفاً يترقّب.

· إنفاذ أعوان يزيد إلى حرم الله لتقتل الحسين (علیه السلام) ، فما زال وراءه يخيفه حتّى أشخصه إلى العراق.

· كلّ ما فعله يزيد كان عداوةً منه لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته (علیهم السلام) .

* * * * *

هذا مجمل ما ذكره ابن عبّاسٍ في شرحه لوقائع مكّة المكرمة أيّام تشرّفها وإشراقها بنور وجه الإمام الحسين (علیه السلام) .

ونحن لا نريد أن نقف عند كلّ واحدةٍ من هذه المفردات؛ إذ أنّنا أتينا عليها فيما سبق من الدراسة تفصيلاً من خلال أجوبة الإمام (علیه السلام) وردوده على

ص: 64

المعترضين، من قبيل ابن عبّاسٍ نفسه.

غير أنّ فيما ذكره ابن عبّاس زيادة معلومات ربّما يصعب الحصول عليها في موضع آخر، وهذا ما يجعل المتلقّي يهتمّ بهذه الفقرات الّتي ذكرها،ويتريّث عندها ليتأمّلها بعمقٍ ويكتشف منها أجواءً تهزّها الأعاصير، وتملأ أرجاءها قعقعات السلاح وصهيل الخيل وتكاثف الزحوف والعساكر رائحةً غادية، وتُنذِر بوجود عيون وجواسيس ورماةٍ وكمائن مزروعين في كلّ منعطف، ورجالٍ مختبئةٍ في كلّ شارعٍ وزقاق، وأنظار متطلّعة متلصّصة وراء كلّ أسطوانةٍ من أسطوانات المسجد الحرام وضواحي مكّة وجبالها ووديانها..

فقد تحدّث ابن عبّاسٍ عن تسيير الخيول، وتحدّث عن إنفاذ الأعوان، ودسِّ الرجال للاغتيال، حتّى لم يعُدْ حرم الله آمناً لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وحصل كلّ ذلك باعترافٍ صريح من ابن عبّاس من دون أن ينذرهم الإمام (علیه السلام) بشيء، ولم يبتغِ الإمام (علیه السلام) ضراباً ولا صداماً ولا مواجهة.

فاستغلّ يزيد تعظيم الإمام (علیه السلام) لحرمة البيت الحرام، فارتكب كلّ وسيلةٍ يمكنها أن تحقّق له غرضه في قتل الإمام (علیه السلام) .

فرأى الإمام (علیه السلام) سوء رأي يزيد اللاهي بالقيان والمعازف والدنان، فاضطرّ للخروج، وهو ما عبّر عنه ابن عبّاس: «أشخصته»، أي أنّ يزيد أقدم على تنفيذ ما يريد من هتك الدم الزاكي في الحرم الزاكي، فكان هو السبب في إخراج الإمام (علیه السلام) من مكّة وإشخاصه إلى العراق.

ويُلاحَظ أنّ ابن عبّاس في أكثر من موضع يتحدّث عن خروج الإمام (علیه السلام)

ص: 65

من مكّة كخروج اضطراريّ غير طوعيّ، بعد أن حاصره الزنيم فسدّ عليه الآفاق إلّا أُفق العراق، وهو الإشخاص والتسيير الّذي عبّر عنه ابن عبّاس.وكلّ ذلك إنّما كان عداوةً لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته (علیهم السلام) ، واستجابةً للأحقاد البدريّة والحنينيّة والخيبريّة وغيرها، وليس ذلك احتياطاً ممّا يقدم عليه الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّه لم يُقدِم على شيءٍ يهدّد السلطة والسلطان، ولم يقُلْ أو يفعل ما يمكن تأويله وتحميله وعرضه في إطار مواجهة الأُمويّين وقرودهم النازية، ولا نزاعاً وقتالاً على الملك العقيم، إذ لم ينازعه الإمام (علیه السلام) على ذلك.

* * * * *

هذا ما أفصح عنه ابن عبّاس هنا، وهو نفسه ما كرّره عليه الإمام الحسين (علیه السلام) أيّام تواجده في مكّة، وكم من مرّةٍ شرح له الإمام (علیه السلام) نفس هذه الظروف، وكشف له عن نفس هذه المخاطر، وصرّح له بتعرّضه للاغتيال وللقتل والقتال في مكّة، بَيد أنّ ابن عبّاسٍ لم يكن يتصرّف مع الإمام (علیه السلام) _ يومها _ تصرّف مَن يُدرك ذلك، كما مرّ معنا.

فهل قال ما قاله اليوم لأنّه أذعن! وعرف أنّ ما ذكره له يزيد في كتابه عن سيّد الشهداء (علیه السلام) واتّهامه إيّاه أنّه ينازعه الملك، وأنّه يجمع الرجال ويعدّ العدّة لذلك، كان كذباً وافتراءً من يزيد؟!

* * * * *

نحسب أنّ ما جاء في هذا المضمون كافٍ وافٍ لبيان مجريات أحداث مكّة ومظلوميّة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإقناع المتلقّي بما يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن هو

ص: 66

البادئ أبداً، ولم يبيّت أمراً، ولم يخطّط للخروج ب-- (المعنى المصطلح)، وإنّما كان الأعداء هم الّذين يريدون قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) كيفما اتّفق، وأين ما اتّفق، وبأيّ ثمن، وأيّ زمان، ويستعجلون في ذلك استعجالاً!

المشهد الثالث: إشخاص الإمام (علیه السلام) من حرم الله إلى الكوفة
اشارة

يمكن أن يرسم لهذا المشهد صورتين:

الصورة الأُولى: الصورة المعروفة

مرّ معنا في المشهد الثاني مجمل الوقائع الّتي حصلَت في مكّة، وكانت كلّ نقطةٍ ذكرناها هناك جديرةً بالاهتمام والحديث تفصيلاً عنها، ولكنّا تركنا التعرّض لها بإسهاب؛ خوفاً من الإطالة والتكرار، لأنّها مضت بنحوٍ ما فيما سبق من البحث.

بَيد أنّ ثمّة مشهدٌ مروّعٌ رسمه ابن عبّاس لخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، يمكن تحديد معالمه من خلال التعبير ب «الإشخاص»، و«التسيير»، و«الخروج منها خائفاً يترقّب»..

إنّها ترسم نفس مشهد الخروج من المدينة.. خروجٌ يظلّله الخوف والترقّب..

خروجٌ لا يمكن أن يُوصَف به من يريد الخروج ب-- (المعنى المصطلح)..

خروجٌ لا يناسب من يخطّط للهجوم، ويحسب لجمع العدّة والعديد..

خروجٌ لا ينسجم مع خروج مَن يتوثّب للمواجهة والمجابهة والتصدّي..

ص: 67

خروجٌ لا يلتئم مع من يبيّت للحرب والقتال والإطاحة بالحكم..

خروجٌ لا يلتقي مع أهداف من لا يريد (المتاركة) إن تركوه!

خروجٌ ينسجم مع وحشيّة العدوّ وجرأته على انتهاك الحرمات، وعزمه على قتل حبيب الله والتخطيط لذلك..

خروجُ مَن هجموا عليه، فحاد عنهم واختار أن لا يسمح لهم أن يقتلوه، فيهتكوا حرمة البيت وحرمته في آن..

خروجُ مَن علم عِلم اليقين أنّ القوم يلاحقوه ولا يتركوه، رغم أنّه تاركهم..

خروجٌ مروّعٌ يقضّ على المؤمن الغيور مضجعه، ويفتّت كبده، ويقطّع أنياط قلبه..

أيُشرَّد ابنُ بنت خاتم النبيّين (صلی الله علیه و آله) ، ويبيت يزيد في لذاته متنعماً؟!!

الصورة الثانية: الصورة الجديدة

قيل _ ولسنا بصدد مناقشة القول نفياً أو إثباتاً _:

إنّ تسيير الإمام (علیه السلام) وإخراجه من المدينة إلى مكّة، ثمّ إلى العراق، كان بتخطيطٍ من الأُمويّين، لأغراض كثيرةٍ ذكروا جملةً منها:

فمنها:

التخطيط ليُقتل الإمام (علیه السلام) في الكوفة بالذات، باعتبار أنّها كانت موطناً للشيعة، لتلقى تبعات قتل الإمام (علیه السلام) عليهم، ويُنسَب قتل الإمام (علیه السلام) إلى شيعته،وهو ما كان ولا زال الأعداء ينفخون في صوره المبحوح المنخور.

ومنها:

ص: 68

أن يُشخِصوا الإمام (علیه السلام) إلى العراق، وهم يعرفون قوّته وشجاعته وقدراته، ومَن معه من رجالٍ وفتيان، باعتبار أنّ الكوفة كانت يومذاك ثكنةً عسكريّةً ومقرّاً يجمع صناديدهم ومقاتليهم الأشدّاء، فلا يضطرّ العدوّ إلى تحريك قطعاته ونقل عساكره من الكوفة إلى أيّ صقع آخر، إذ أنّ هذا التحريك سيجرّ عليهم الكثير من الخسائر الماديّة والمعنويّة والزمانيّة وغيرها..

وهكذا ذكروا لذلك مسوّغاتٍ وأسباباً وعللاً كثيرة، واستشهدوا لذلك بما ورد في كتاب ابن عبّاسٍ وغيرها من النصوص التاريخيّة الّتي تفيد أنّ الأُمويّين كانوا يعملون على محاصرة الإمام (علیه السلام) من جميع الجهات ويحيطون به، ليسيّروه إلى الكوفة.

واستشهدوا كذلك:

بقول الإمام (علیه السلام) :

«إنّما (القوم) يطلبونني، وقد وجدوني، وما كانت كُتب مَن كَتب إليّ _ فيما أظن! _ إلّا مكيدةً لي وتقرّباً إلى ابن معاوية بي» ((1)).

واستشهدوا كذلك:إنّ أكثر مَن كاتب الإمام (علیه السلام) وراسله كان من أتباع العجل والسامريّ، وهم الأكثريّة الكاثرة يومذاك في الكوفة، وكان فيهم من رؤوس الضلال وأركان عسكر يزيد، من قبيل: شبث بن ربعيّ، وعزرة بن قيس، وحجّار بن أبجر.

ص: 69


1- أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 185.

واستشهدوا أيضاً:

بجملةٍ من النصوص المقدّسة، من قبيل: ما رواه الراونديّ وغيره بسندٍ عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال _ في حديث _:

«قال الحسين بن عليّ (علیهما السلام) لأصحابه قبل أن يُقتَل: إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: يا بُنيّ، إنّك ستُساق إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين، وهي أرضٌ تُدعى: عمورا، وإنّك تُستشهَد بها، ويُستشهَد معك جماعةٌ من أصحابك ...» ((1)).

واستفادوا من قوله (صلی الله علیه و آله) : «ستُساق»، بتقريب أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) لم يقل: ستخرج، أو ستذهب، أو ستهاجر، أو أيّ لفظٍ آخَر يفيد خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق طواعية، وإنّما استعمل: «ستُساق»، وهو يفيد الدفع، وما يفيده لفظ: (السوق).فيكون خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق ضمن مجريات الحوادث الخارجيّة والظروف المحسوسة المرئيّة والحركات الحاصلة في صفحة الأيام الملحوظة للخاصّ والعامّ _ بغض النظر عن البُعد الغيبيّ _ إنّما هو بسوق الأعداء، وتسييرهم، وتخطيطهم، كي يُشخصوا الإمام (علیه السلام) ومَن معه إلى العراق!

ص: 70


1- الخرائج للراونديّ: 2 / 848 ح 63، مختصر البصائر للحلّي: 139 ح 107 _ بتحقيق: مشتاق المظفّر، نوادر الأخبار للفيض الكاشانيّ: 286 ح 5، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 1 / 341 ح 281، الإيقاظ من الهجعة للحرّ العامليّ: 352، بحار الأنوار: 45 / 80 ح 6، العوالم للبحرانيّ: 17 / 344.
المشهد الرابع: تسليط ابن مرجانة وأمره بقتل الإمام

ميّز ابن عبّاس المفاصل المهمّة الّتي أثّرت فيه، وخلّفت جرحاً عميقاً لا يندمل، بتقديم ما يفيد أنّه لا ينساها أبداً.

وجعل من بين تلك المصائب الّتي لا ينساها أبداً _ مهما كان _ تسليط ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ للعاهرة الفاجرة، البعيد رحماً، اللئيم أُمّاً وأباً، الّذي ادّعاه معاوية، واكتسب به العار والخزي والمذلّة في الدنيا والآخرة ((1))، وفي الممات والمحيا ((2)).

والمصيبة هنا مصيبتان:

إحداهما: التسليط.والتسليط لا يكون إلّا بعد أن يكون المسلَّط عليه قد أُحيط به، وأُسر أسراً شديداً يمكّن المتسلِّط من تنفيذ ما يريد.

والأُخرى: أن يكون المسلَّط دعيّاً ابن دعيّ، منسوباً للعاهرة الفاجرة.

وثمّة مصيبةٌ ثالثة، وهي: أن يكون المسلِّط الآمرُ دعيّاً ابن دعيّ، منسوباً للعواهر الفواجر.

فقد رُوي أنّه:

ص: 71


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 321، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.
2- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234.

لمّا قَتل أميرُ المؤمنين عمرو بن ودّ، ونُعي إلى أُخته، قالت: مَن ذا الّذي اجترأ عليه؟ فقالوا: عليّ بن أبي طالب. فقالت: لم يعد موته إلّا على يد كفوٍ كريم، لا رقأت دمعتي إن أهرقتُها عليه، قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيّته على يدٍ كريم.

ثمّ أنشأَت تقول:

لو كان قاتلُ عمروٍ غيرَ قاتله

لكنتُ أبكي عليه

دائمَ الأبدِ

لكنّ قاتله مَن لا نظير له

وكان يُدعى قديماً: بيضة البلدِ ((1))

وهذه من مصائب الدهر الّتي لا ترقأ الدموعُ لها أبد الآبدين، أن يكون قتلَةُ خير الخلق وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) أولادَ بغايا عاهراتٍ رخيصاتٍ نتنات،يعرض عنهنّ المتسكّع في دور الدعارة وحارات البغاء.

المشهد الخامس: استقبال الإمام الحسين (علیه السلام) بالرجال ومعاجلته

أضاف ابن عبّاسٍ _ على تسليط ابن الأَمة الفاجرة على سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته _ معلومةً لم يُنكرها ولم يتنكّر لها ابن ميسون، إذ ورد في كتابه أنّ يزيد هو الّذي أشخص الإمام (علیه السلام) من مكّة إلى أرض الكوفة، فزلزلت به خيلُه، وخرج منها خائفاً يترقّب، وكتب إلى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالخيل والرجال والأسنّة والسيوف، وأمره بمعاجلته وترك مطاولته والإلحاح عليه

ص: 72


1- أُنظر: إرشاد القلوب للديلميّ: 2 / 245، الفصول المختارة للمفيد: 292، كشف الغمّة للإربليّ: 1 / 206، بحار الأنوار للمجلسيّ: 41 / 98.

حتّى يقتله ومَن معه من بني عبد المطّلب، عداوةً لله ولرسوله ولأهل بيته ((1)).

لا يبدو من كلام ابن عبّاسٍ في تقرير هذه المعلومات أيّ إقدامٍ خاصٍّ أقدم عليه أبو الشهداء (علیه السلام) وسيّدهم، بل على العكس تماماً، تتزاحم أوامر ابن ميسون وتتكاثر وتتدافع الواحدة تلو الأُخرى، وتبدأ من إشخاص الإمام (علیه السلام) من مكّة إلى الكوفة، وتنتهي بقتله ومَن معه.

هو الّذي أشخص الإمام (علیه السلام) ..هو الّذي أمر أن يستقبله ابنُ مرجانة بالخيل والرجال والأسنّة والسيوف..

هو الّذي أمر بمعاجلته وترك مطاولته والإلحاح عليه حتّى يقتله..

هو لا يريد أيّ حديثٍ ولا كلامٍ ولا مفاوضاتٍ ولا حلول وسطٍ ولا فتح أيّ فُرجةٍ يمكن أن تنتهي بدفع القتل عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

إنّه يستعجل قتل الإمام (علیه السلام) ، ويأمر بالمعاجلة من دون أيّ مطاولةٍ وإلحاح.

لا يريد شيئاً سوى أن يقتله ابن مرجانة ومَن معه من بني عبد المطّلب.

كلّ ذلك عداوةً لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته.

المطلوب هو رأس سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وعزيز النبيّ (صلی الله علیه و آله) والزهراء (علیها السلام) ، ورؤوس فتيان بني عبد المطّلب!

ص: 73


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.

ويرجع الكلام من جديد:

لا يجد المتلقّي في كلام ابن عبّاسٍ أيّ بادرةٍ تشير إلى إقدام سيّد الشهداء (علیه السلام) على شيء _ أيّاً كان _، وإنّما يفيد بوضوحٍ وجلاءٍ مبادرات العدوّ الوحشيّ.

العدوّ هو الّذي أعدّ واستعدّ وأمر وفتح خزائنه وجمع العدّة والعدد، وسلّط ابن مرجانة ليحقّق ما يريد.

المشهد السادس: رفض الموادعة!

لحديث طلب الموادعة وسؤال الرجعة شجونٌ وشجون، وهو كلامٌ يطول ويطول، وسنأتي عليه في محلّه، إن شاء الله (تعالى)..وما يهمّنا الآن هذا المقطع من كلام ابن عبّاس مع يزيد العهر والفجور، ولا نريد الاسترسال للتدليل وذكر الشواهد والنصوص والمواقف وعدد المرّات الّتي طلب فيها الإمام (علیه السلام) الموادعة من المدينة إلى كربلاء إلى حين الشهادة.

فطلب إليكم الحسين الموادعة، وسألكم الرجعة ((1)).

إنّ المشهد الّذي يرسمه ابن عبّاسٍ في كتابه يصرع المتلقّي، ويرميه في دوّامةٍ مذهلة، إذ أنّه يؤكّد بعباراتٍ شتّى إنّ يزيد هو الّذي أشخص الإمام (علیه السلام)

ص: 74


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641.

من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق، من غير أن يصدر من الإمام (علیه السلام) ما يُنذرهم ويهدّدهم..

ثمّ يرسم مشهد استعجال يزيد قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأمره ابن الأَمة الفاجرة بالمعاجلة، وأن لا يتريّث في قتله ومَن معه، وأن لا يدَع له فرصة المطاولة..

ثمّ يصوّر لنا هنا مشهداً مروّعاً، حيث يطلب الإمام (علیه السلام) الموادعة، الموادعة، الموادعة! ويسأل الرجعة، الرجعة، الرجعة!

فيأبون عليه، وينتهزون الفرصة ليقتلوه في قلّةٍ من الأنصار والأعوان!لا يمكن أن نتصوّر أنّ الإمام (علیه السلام) قد أخطأ في تقديره للظروف في العراق، وأنّ الكتب والرسائل ووعود المكاتبين قد انطلت عليه وخدعته _ نستغفر الله ونستجير به من هذه الفروض، ونعتذر إلى سيّدنا ومليكنا سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) _.

فهو إنّما أقدم على العراق مضطرّاً في تقديرات الواقع وتحقّق الوقائع المنظورة، وقد أسره القوم في (شِراف) بجحفلٍ يربو على الألف فارس، وهو يدعوهم للموادعة، ويذكّرهم بالله ويعظهم فلا يتّعظون.

الموادعة..

هل تنسجم الموادعة مع التجهيز للقتل والقتال ومهاجمة أكداس الحديد والرجال؟

هل تلتئم الموادعة مع الإصرار المسبق على (عدم المتاركة)، وأنْ لو تركه

ص: 75

القوم ما تركهم الإمام الحسين؟! ((1)) وحقيقة المُوادعة: المُتاركة! ((2))

هل يقبل مَن عزم على الخروج ب-- (المعنى المصطلَح) أن يوادع ويدعو إلى الموادعة؟!

هل يدعو إلى الموادعة ويسأل الرجعة مَن أقدم على عمليّةٍ انتحاريّةٍ تهدفإلى هزّ الوجدان الشعبيّ وإنقاذ الأُمّة من الشلل النفسيّ والازدواجيّة وحفظ القيَم الإسلاميّة؟! ((3))

هل قدّر الإمام (علیه السلام) وحسب وفق موازين الظاهر المنظور، ثمّ انكشف له انقلاب الناس عليه، فطلب الموادعة والرجعة؟!!

نستغفرك اللّهمّ، إنْ هذا إلّا بهتانٌ عظيم!

ثمّ إنّ التقديرات لا تصيب ولا تستقيم، بعد أن بلغه خبر شهادة مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وانقلاب الكوفة على حظّها ودنياها وآخرتها، وكان الإمام (علیه السلام) حينها بعد لم يُؤسَر من قِبل الجيش الأُمويّ في شراف.

نحسب أنّ التأمّل والتعمّق وإمعان النظر في طلب الموادعة وسؤال الرجعة، مع إغفال السوابق الذهنيّة والموروث الّذي تكوّن منه البناء العقليّ المعاصر، من الضروريّات الّتي لا ينبغي للباحث في شأن سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يتوانى بها، وهي تدعو المتلقّي بجدٍّ لإعادة النظر في تصوير الإمام (علیه السلام) في صورة المهاجم

ص: 76


1- أُنظر: مع الركب الحسينيّ: 2 / 270.
2- أُنظر: لسان العرب، والنهاية لابن الأثير: وَدَعَ.
3- أُنظر: أنصار الحسين (علیه السلام) للشيخ شمس الدين: 12 مقدّمة الطبعة الثانية.

لأيّ غرضٍ كان، وتصوير العدوّ في صورة الدفاع عن النفس وعرش السلطنة!

* * * * *

نكتفي بهذا القدر من الإشارة العابرة، اعتماداً على نباهة المتلقّي ودقّتهوذكائه وشدّة حبّه وتقديسه لإمامه (علیه السلام) .

المشهد السابع: الشماتة بقتل الإمام (علیه السلام)

يرسم ابن عبّاسٍ في كتابه مشهداً لقساوة يزيد وجنوده وجلفيّتهم وشماتته بقتل سلالة الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) ، لا يطيق مَن ألقى السمع وله قلبٌ أن يستمع إليها ويتصوّرها..

قتلوهم كما لو قتلوا قوماً من الكفّار والترك والديلم، وغادروهم مصرَّعين في صعيدٍ واحد، مرمَّلين بالدم والتراب، مسلوبين بالعراء، غير مكفّنين ولا موسّدين، تسفي عليهم الرياح، وتعروهم الذئاب، وتنتابهم عرج الضباع.

ثمّ جعل يزيد يهتزّ طرباً وفرحاً مسروراً جذلان، يُبدي الشماتة ألواناً فألواناً..

لقد منعوهم الماء فقتلوهم ظماءً عطشانين، وقتلوا الأطفال والرضّع، وقطّعوهم آراباً بخناجر الحقد والضغينة.

إنّ طريقة القتل والحرب والقتال في كربلاء لم تكن هي الطريقة المعهودة في الحروب العادية، وإنّما كانوا يُمعِنون في التقطيع والتعذيب وقطع الرؤوس، على مرأىً ومسمع من الأُمّهات والأخوات والبنات والأطفال، وإذا تكاثروا على أحد

ص: 77

أبطال الطفّ وأُسود آل أبي طالب، لم يكتفوا بالقتل وحزّ الرأس، وإنّما كانوا لا يوفّرون سهماً ولا رمحاً ولا سيفاً إلّا غرزوه ومزّقوه تمزيقاً، وهميصرّون على أسنانهم ويصكّون الضربة صكّاً ويستمدّون من جميع قوى البدن، لتكون زخماً مضاعفاً للطعنة، وهو ما ينمّ عن مدى الحقد والضغينة والعداوة والبغضاء والكراهية والحنق والإحن والشنآن ونتن الانتقام.

وتركهم على الصعيد من غير غسلٍ ولا كفنٍ ولا توسيد، تماماً كما يفعلون مع الكفّار _ والعياذ بالله _.

لقد شمت القرد السافل حليف القيان والقرود والقمار والدنان بكلّ أنواع الشماتة قولاً وفعلاً!

المشهد السابع: قتلهم كقتل الكفّار!

لقد دأب القوم منذ أن غمضَت عينُ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ورحل إلى الرفيق الأعلى على وصف أهل بيته (أصحاب الكساء (علیهم السلام)) بالخوارج، واتّهموهم بشقّ العصا وتفريق الجمع ومخالفة السنّة، وغيرها ممّا ارتكبوه هم، كي يتسنّى لهم تحكيم مواطئ أقدامهم وتربّعهم على دست السلطنة، وهم لا يمكنهم أن يحقّقوا ما يريدون إلّا إذا ضلّلوا وخدعوا وقلبوا الموازين ونكّسوا القيَم وحرّفوا كتاب الله وبدّلوا سنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وعرضوا الباطل المزيّف المموّه في صورة الحقّ والحقَّ الصراح في هيئة الباطل.

وهذا ما فعلوه تماماً مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ ألّبوا عليه أتباعهم وكلابهم، فكان كلٌّ منهم يتقرّب بدمه إلى الله (تعالى)، وتديّنوا بقتل سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله)

ص: 78

وريحانته وهتك حرماته.وكما قال ابن عبّاس:

عدوتُم عليهم فقتلتموهم، كأنّما قتلتم أهلَ بيتٍ من الترك ((1)) والكفر ((2)) وكابل ((3)) ... كالسبي المجلوب ((4)).

وقد مارسوا هذه العقيدة البائسة النتنة عمليّاً حين تركوهم مجزّرين كالأضاحي على الصعيد، مرمّلين بالدماء والتراب من دون تجهيزٍ ولا صلاةٍ ولا دفن، وهذا ما يُفعل بالكفّار!!!

هذه هي الطامّة الكبرى والمصيبة الّتي جلّت وعظمت في السماوات والأرضين وفي الدنيا والدين، إذ أنّهم قتلوا الدين باسم الدين، وقتلوا الصلاة والصيام والتكبير والتهليل، وهم يكبّرون ويهلّلون!

* * * * *

رُبّ مراجعةٍ سريعةٍ لمتون الزيارات المقدّسة الواردة عن أهل البيت، تفيد المتلقّي بسرعةٍ أنّ ما ورد فيها من شهاداتٍ يتقدّم بها المؤمن الزائر بين يدَي إمامه سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، إنّما هي بإزاء ما زعمه أعداء الله وأعداء

ص: 79


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.
2- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236، الكامل لابن الأثير: 3 / 318.
3- المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.
4- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.

رسوله (صلی الله علیه و آله) في الإمام الصادق اليقين (علیه السلام) ، فهو يشهد على الدوام للإمام (علیه السلام) أنّه: قد أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وعبد الله حتّى أتاه اليقين، وأنّه لم يمل من حقٍّ إلى باطل، ولم تأخذه في الله لومةُ لائم، وأنّه عمل بشرع الله وسُنّة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وهكذا..

فربّما كان هذا وجهٌ من الوجوه القريبة جدّاً لتفسير هذه الشهادات الّتي يشهد بها الزائر، ليقول للإمام (علیه السلام) : إنّي اعتقد فيك خلاف ما فعله أعداؤك الكفرة الفجرة، الّذين شهدوا عليك بالكفر وقتلوك لأولاد البغايا.

يا لها من مصيبةٍ مهولةٍ مروعة، يهتزّ لها الكون والزمان والمكان والعرش والكرسيّ، أن يقتُل أولادُ الطلقاء أولادَ الأنبياء، ويُذبَح الإمام المفترض الطاعة من الله بخنجر مَن اتّخذوه إماماً عتوّاً وطغياناً على الله!

* * * * *

إنّ هذه الإشارة الواردة في كتاب ابن عبّاس من تصوير طريقة تعامل يزيد الخمور وجنده وشياطينه مع خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) في القتل والاعتداء، تُعدّ مِن أهمّ المفاصل الّتي ينبغي التوجّه إليها ودراستها بدقّة في ظروف شهادة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وقد وردت الإشارات والتصريحات والبيانات الكثيرة عن أهل البيت (علیهم السلام) في هذا المضمار، فلابدّ مِن إفرادها بالبحث والتفصيل، لذا سنؤخّره إلى محلّه، إن شاء الله (تعالى).

ص: 80

المشهد الثامن: الشماتة بسبي الحرم
اشارة

حصيلة ما قاله ابن عبّاسٍ في هذه المصيبة:

• ألا ومن أعجب العجب _ وما عشتَ أراك الدهر العجيب _ حملُك بنات عبد المطّلب وغلمةً صغاراً من وُلده إليك بالشام كالسبي المجلوبين، تُري الناس أنّك قد قهرتنا، وأنّك تأمّرت علينا، وأنّك تمنّ علينا، وأنّك تذلّنا ((1)).

• وإنّ من أعظم الشماتة حملُك بنات رسول الله وأطفاله وحرمه من العراق إلى الشام أُسارى مجلوبين مسلوبين، تُري الناس قدرتك علينا، وأنّك قد قهرتنا واستوليت على آل رسول الله ((2)).

إي والله، إنّه لمن أعجب العجب، وليس بعده عجب، ولو عشتَ الدهر كلَّه لما أراك عجباً مثله.

حريٌّ بمؤرّخ السلطان أن يتجنّب مأساة السبي، ليغطّي على جريمةٍ لا يأتي الدهر بمثلها، (وهذه الرزية الّتي لا مثلها رزية)، وحريٌّ بالمؤمن أن يسمل عينيه بمسامير الحروف ويسوطها سوطاً، لئلّا يقرأ ما جرى على مخدّرات الرسالة وأهل بيت الوحي.

ص: 81


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 236، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 5 / 189.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.

الغيرة الهاشميّة لا تسمح لأحدهم أن يفوه بما جرى على عرضه ومخدّراته، لذا تجدك تسمع أخبار السبي مقتضبةً مشفّرة، يلقونها ملفوفةً بالرموز ومغلّفةً بالغيرة والحياء، يفقهها المفهَّم، ويُدركها مَن يعرف معاريض الكلام ويفكّ رموز الحديث، وهو جرحٌ (لا، ولم، ولن) يندمل إلى يوم القيامة، فقد قال الإمام زين العابدين عن قتل أبيه وأهل بيته:

«وَجْده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري» ((1)).

لأنّ الإمام يعرف الإمام، وقد رأى ما جرى على أبيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ومصيبة أعظم المصائب في تاريخ البشريّة.

غير أنّنا لا نعرف الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وأهل بيته وأصحابه حقّ المعرفة _ كالإمام زين العابدين (علیه السلام) _، ولكنّنا بحدود مداركنا ومشاعرنا نحسّ بلذع سياط الغيرة ومغارز أنيابها، لأنّنا قد نقيس ونقارن ونستشعر ونتلمّس ونتحسّس ذلك حين نتنزّل بالمصيبة العظمى لنقارنها بما إذا كنّا نعيشه نحن.

ولا نشكّ أنّ المؤمن الغيور يتمنّى _ ويقسم صادقاً _ أن لو كان الّذي جرى على بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومخدّرات أمير المؤمنين (علیه السلام) زينب وأخواتها (علیهم السلام) ومَن

ص: 82


1- اللهوف لابن طاووس: 159، مثير الأحزان لابن نما: 89، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 113.

كان معها كان يُفتدى بأهله وعرضه، ويدفع بذلك عن بنات الرسول (صلی الله علیه و آله) ، لَفعل!

وكم تمنّيتُ قبل الدخول في تصوير هذا المشهد.. مشهد العذاب والنكال.. الّذي يذوي له المؤمن الغيور، ويتناثر له قلب العلويّ هباءً، وتملصّتُ من الكتابة فيه، والتويتُ وتلوّعت، ومكثتُ لا أُطيق الكتابة، وقد تركتُها يومين كاملين أخلو بدمعتي واعتصار قلبي، وأتضوّر.. لا أهجع.. وأنا أُردّد في نفسي: ليت الموت أعدمني الحياة! بَيد أنّ ضرورة البحث اضطرّتنا، فحاولتُ المرور على عجلٍ من دون تدبّرٍ ولا تعمّقٍ في التصوّر والتصوير، ولابدّ من الصبر.

فماذا نفعل إن لم نصبر؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!

اللّهمّ لك الحمدُ حمدَ الشاكرين لك على مصابهم، نحمدك اللّهمّ «على عظائم الأُمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة».. ((1)).

* * * * *

ويمكن أن نستعجل بعض الإشارة إلى بعض ما ورد في كلامه من لوعات:

اللوعة الأُولى: عجبٌ ما قبله ولا بعده عجب!

يُلاحَظ أنّ ابن عبّاسٍ راح يؤكّد العجب، وقال: «وما عشتَ أراك الدهرُ

ص: 83


1- أُنظر: اللهوف لابن طاووس: 219، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 462، بحار الأنوار: 45 / 148 _ من خطبةٍ للإمام السجّاد (علیه السلام) على مشارف المدينة.

عجباً»، حينما صار يُخبر عن السبي.

وهو من أعجب العجب حقّاً، بَيد أنّ ابن عبّاسٍ الهاشميّ المنطيق صاحب اللسان وقوّة المناظرة، ربّما لم يوفَّق هنا حين تمّم كلامه بقوله: «وما عشتَ أراك الدهر عجباً»؛ فإنّ العجب الّذي شهدته الدنيا منذ أن هبط آدم أبو البشر إلى يوم يقوم الناس لربّ العالمين بقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسبي نسائه لم ترَ مثله ولن ترى مثله أبداً، فلو عاش عمر الدنيا، وعمّر مدى دوران الأفلاك، لم يشهد مثل هذا المشهد الّذي طأطأَت له الرؤوس، وخُلعَت له عمائم العزّ، ولَسوف تبقى الرؤوس حاسرةً سافرةً إلى يوم الساهرة.

أجل، قد يُقال: إنّ مقصوده أنّه عاش حتّى أراه الدهر هذا العجب، ولا يعني أنّه يمكن أن يرى عجباً غيره!

اللوعة الثانية: نسب السبايا إلى عبد المطّلب

نسب السبايا إلى عبد المطّلب في المصادر جميعاً، سوى ما رواه سبط ابن الجوزيّ الّذي نسبهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وربّما كان نسبتهم إلى عبد المطّلب باعتبار أنّه الرأس الّذي يجتمع فيه السبايا مع ابن عبّاسٍ من حيث النسب، فعبد المطّلب جدُّهم جميعاً، وأراد بذلك أن ينبّه على واشج القرابة الموجودة بين السبايا وبينه، وسيأتي بعد قليلٍما يشهد لذلك.

وربّما ذكر هذه النسبة ليقرّع يزيد ويُشعِر المتلقّي أن ثارات السبي عند يزيد منذ زمنٍ بعيد، إذ أنّ سليل العهر يزيد يريد بفعله هذا الانتقام لأيامٍ خلَت،

ص: 84

وكأنّ الانتقام والثأر عنده له جذورٌ ممتدّة، وهو يريد أن ينتقم من عبد المطّلب وأولاده جميعاً أبي النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأعمامه.

وربّما أراد أن يوبّخ يزيد العهر والفجور باعتباراتٍ عشائريّةٍ وقبَلَيّة، وبروحٍ كانت سائدةً قديماً وحديثاً عند العرب، بغضّ النظر عن البُعد الدينيّ والإسلاميّ والانتساب إلى سيّد الرسل وخاتم النبيّين وأشرف الخلق أجمعين.

اللوعة الثالثة: حمل بنات عبد المطّلب وغلمةً صغاراً

حمل يزيد المجون ابن ميسون بنات عبد المطّلب وغلمةً صغاراً وبنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأطفاله وحرمه، إلى الشام..

وهو إنّما حمل النساء والأطفال؛ لأنّ الكبار كهولاً وشبّاناً وفتياناً كلَّهم قُتلوا وتُركوا مصرّعين على رمضاء كربلاء، لم يغادروا منهم أحداً، قتلوهم جميعاً حتّى لم يبقَ للنساء ولاةٌ ولا حُماة، فحملوهنّ سبايا أسيرات..

وإنّما بقي الإمام زين العابدين (علیه السلام) بأمر الله لا بهوى يزيد وذئابه، إذ أبى اللهُ إلّا أن يُتمّ نوره ولو كره الكافرون والمشركون.

وهؤلاء السبايا والمستشهدون، وإن كانوا يُنسَبون إلى عبد المطّلب لأنّه جدّهم الّذي يشاركهم به ابن عبّاس، بَيد أنّ لعبد المطّلب أولاد عشرة، والّذينقُتلوا في كربلاء ليسوا من جميع أولاده، وإنّما هم من أبي طالب خاصّةً دون غيره من أولاده!

لقد أتت كربلاء على ذرّيّة أبي طالب فقُتّلوا تقتيلاً، وحساب يزيد الخمور والأُمويّين مع أبي طالب على وجه الخصوص، كافل النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأبي

ص: 85

الوصيّ (علیه السلام) ، ولهم معه ثاراتٌ وثارات!

اللوعة الرابعة: السبي إلى يزيد

أكّد ابن عبّاسٍ في كتابه أنّ السبي حُمل إلى الشام إلى ابن ميسون خاصّة: «حملك.. إليك بالشام»، وفي هذا التصوير نكايةٌ لا تُحتمَل، إذ تُحمَل بنات الوحي وعقائل الرسالة ومخدّرات حامي الجار والمدافع عن حريم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ودِينه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أشجع الخلائق، وغيرة الله، ومعادن الحشمة والخدر والطهارة والعفاف، إلى سليل البغاء ومعدن العهر والبغي والتهتّك والخلاعة والمجون والدعارة والزنى والفجور والفحش والفسق والبذاءة والرذيلة..

نفس هذا الحمل لهذه الوجهة هو عارٌ وشنار، لن يُرحِض وَصَمَ عصر ابن عبّاس ومَن عاش فيه، ومَن رضي به، وأتى على قلوب المؤمنين إلى يوم الدين.

العادة الغالبة أن يُحمل السبي إلى مَن هو أشرف وأقوى وأشدّ وأعزّ منه، أمّا أن يُحمَل إلى من لا يساوي شيئاً، ولا يمكن أن يُقارَن بنفاية فضلة حشرةٍ في بلدٍ تسرح فيه دابّة أحد أتباع عبيد المحمول ومماليكه، بل لا يقارن بنفايةٍ فيمكبّ فرام الزواني في حارة البغايا، فهذه هي الطامّة الكبرى.

اللوعة الخامسة: السبي المجلوب!!!

سمعنا في وصف سبي حرمات الله وحرمات رسوله (صلی الله علیه و آله) أنّهم قالوا: ك «سبي

ص: 86

الكفّار»، أو «سبي الترك» و«كابل» و«الروم»، وغيرها ممّا يفيد أنّه سبيٌ كسبي الكفار.

بَيد أنّ في توصيف ابن عبّاس ما تندكّ له الجبال الرواسي، وتتناثر له النجوم والكواكب، ويتضعضع له العرش والكرسيّ، وينهدّ له الصبر، ويتقوّض له الجزع، وتقطّع الأرضون، وتميد السماوات وتمور مَوراً، وتنتزع له الأرواح بسفود حديد الغيرة، ويعجز الإنسان عن التعبير عنه..

إنّه اختزل مصيبةً من أعظم المصائب في كلمة!

كلمة واحدة.. ليته لم يقلها.. بَيد أنّها شهادةٌ مِن مِثل ابن عبّاسٍ على وقوعها..

كلمة واحدة.. تشرح ما ورد عن أهل البيت (علیهم السلام) .. سبي الكفّار.. سبي الترك وكابل..

كلمة واحدة.. لو انخرم لها نظام الكون لَما كان عجباً..

كلمة واحدة.. يخال المرءُ حين يقرأها أنّ السماوات تمور وتدور حوله في دوّامةٍ سكرى دورةً جنونيّةً غير منتظمةٍ يميناً.. شمالاً.. صعوداً.. نزولاً..كلمة واحدة.. يقرأها المتلقّي تزلزل به الأرض، فتهدّ كيانه وكيان العالمين..

كلمة واحدة.. تملأ الدنيا ضجيجاً وعجيجاً.. صراخاً.. هلَعاً.. رعباً.. ذعراً.. روعاً.. رهبةً.. فزعاً.. هيعةً.. ووجلاً..

آهٍ من ضرورات البحث الّتي تضطرّنا لكتابة ما لا يُطاق أن يُكتَب..

كالسبي المجلوب..

ص: 87

مجلوبين مسلوبين ((1))..

كالأسرى المجلوبين ((2))..

سمعنا قبل قليلٍ أنّ يزيد الغاوي وجنده تعاملوا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء وأصحابه في القتل والقتال تعاملهم مع الكفّار..

ولم يكتفوا بذلك حتّى أمعنوا في الشرك، وأوغلوا في الغواية والجناية، فاستمرّوا على نفس المنوال، حتّى حملوا العيال حمل السبايا.. فالسبي لا يكون للمسلم!

أمّا تعبير ابن عبّاس، فهو يصفهم:

مسلوبين!مجلوبين!

كالأسرى المجلوبين!

والمجلوب: هو ما يُعبَّر عنه في هذا الزمان ب-- (المستورَد).

السبي المجلوب.. هو السبي الّذي يُجلَب من بلاد الكفر بقصد البيع!!!

السبايا والأسرى الّذين يُحمَلون إلى بلاد الإسلام للبيع! يا لله! للبيع!

السبي الّذي يتداوله النخّاسون ليتاجروا به.. كما هو واضحٌ لمن تتبّع كتب

ص: 88


1- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 236، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 45 / 323، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.
2- أُنظر: مختصر أخبار شعراء الشيعة للمرزبانيّ: 37.

اللغة وكتب الفقه عند الفرَق الإسلاميّة.

السبي المجلوب يُعلَن عنه قبل وصوله إلى البلد، فيخرج الناس للتفرّج عليه، ويُعرَض السبي في استعراضٍ خاصّ..

السبي المجلوب لا يُعرف له نسبٌ ولا أُمٌّ ولا أبٌ في البلد المجلوب إليه..

وهناك صفاتٌ يتّصف بها السبي المجلوب، يمكن أن يتصيّده المُراجِع لكتب الفقه من ثنايا المسائل المطروحة في الباب، ونحن لا نجرؤ على ذِكرها هنا، ونتمنّى أن تكون الأنامل رميماً وتُطحَن الجناجن وتُهشَّم قبل أن تكتب هذا القدر.

يا لله! وا محمّداه، وا عليّاه، وا حمزتاه، وا جعفراه، يا غيرة الله..

اللوعة السادسة: الاستعراض بالسبايا

حمل ابن ميسون وابن آكلة الأكباد آلَ الله إلى الشام كالأُسارى المجلوبين..قال ابن عبّاس:

تُري الأوباش ومَن خرج عن ملّة جدّهم ((1))..

تُري الناس قدرتك علينا، وأنّك قد قهرتَنا، وأنّك تأمّرتَ علينا، وأنّك تمنّ علينا، وأنّك تذلّنا واستوليت على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ((2))..

ص: 89


1- أُنظر: مختصر أخبار شعراء الشيعة للمرزبانيّ: 37.
2- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 236، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار: 5 / 189، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.

· قدرتك علينا..

· قد قهرتنا..

· تأمّرتَ علينا..

· تمنّ علينا..

· أنّك تذلّنا.

· استوليتَ على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

وهذه الأخيرة مُهلِكة.. مُدمِّرة.. فتّاكة.. ضروس.. شرسة.. طاحنة.. متلفة.. مخرّبة.. هدّامة.. لا تُطاق.. ولا نقول سوى: إن لم نصبر فماذا نفعل؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.وجميع هذا استعراضٌ بائسٌ مشؤوم، قام به مَن لو جُمعَت كلُّ شتيمةٍ وكلمة عارٍ ولفظة شنارٍ وفُحشٍ في جميع اللغات لَما عبّرَت عنه.. (يزيد)! يستعرض بآل الله على كومةٍ متراكمةٍ من الجيَف المتراكمة من سيح قيء المجتمعات الشرّيرة المنحطّة الخارجة عن ملّة الإسلام! ليُري هؤلاء الوحوش الفاقدة للإحساس بالإنسانيّة والبشريّة..

إنّه لم يقتصر في هذا الاستعراض على الشام فحسب، وإنّما كان قد أمر أن يُطاف بهم في البلدان، يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والشريف والدنيّ

ص: 90

والشاهد والغائب..

اللوعة السابعة: الشماتة!

أجل، الشماتة.. بل مِن أعظم الشماتة ((1)) كما قال ابن عبّاس..

الشماتة: إظهار الفرح بما يُصاب به العدوّ.

لقد أظهر العاهر ابن الزانية الفرح والشماتة بآل الله، فشمخ بأنفه، ونظر في عطفه جذلان مسروراً، حين ساق بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبايا، قد هتك ستورهنّ، وأبدى وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف، ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ، ولا من حُماتهنّ حميّ..ما أصعب الشماتة.. والشماتة بالمصيبة علامة الحاسد ((2))، وفيها تشديدٌ وزيادةٌ للمُصاب على مصيبته وإيذائه ((3))، وإمعاناً في النكاية والإيلام والتشفّي.

لقد شمت اللعين بسادات الخلق ونجوم أهل الأرض، وجميعِ الأنبياء والأوصياء من آدم إلى الوليّ الخاتم..

شمت بآدم ونوح وإبراهيم خليل الرحمان وموسى وعيسى، ومَن بينهم من

ص: 91


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.
2- أُنظر: تحف العقول: 22.
3- أُنظر: شرح الكافي للمازندرانيّ: 1 / 10.

النبيّين والأولياء والصالحين، ومحمّدٍ المصطفى وعليّ المرتضى، لأنّهم الآباء النجباء، وشمت بالأئمّة الأتقياء، وشمت بكلّ مَن يعرف الغَيرة والحميّة والحفاظ والنبل والكرامة والعزّة على طول خطّ التاريخ وحركة الإنسان، فجزع لشماتته كلُّ غيور، ولكن ما عسانا نفعل اليوم، فليس لنا إلّا الصبر، فإن لم نصبر فماذا نفعل؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، حتّى يحكم الله ويطوي عنّا هذه السنين الحرم، ويبعث فينا قائماً يفرّج عنّا الهمّ والكربات.

المشهد التاسع: المجاهرة بدوافع قتل الإمام (علیه السلام)
اشارة

ربّما أشرنا فيما سبق إلى هذا العنوان في ثنايا الحديث، إذ روى المؤرّخون تأكيد ابن عبّاسٍ على إعلان دوافع محاربة ابن ميسون سيّدَ الشهداء (علیه السلام) وآل أبي طالب، فكرّر أنّه إنّما فعل ذلك عداوةً لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأهل بيته،وأضاف سبط ابن الجوزيّ في (التذكرة) قوله:

وفي ظنّك أنّك أخذتَ بثأر أهلك الكفَرة الفجَرة يوم بدر، وأظهرتَ الانتقام الّذي كنتَ تخفيه، والأضغانَ الّتي تكمن في قلبك كمَون النار في الزناد، وجعلتَ أنت وأبوك دمَ عثمان وسيلةً إلى إظهارها ((1)).

خبر الانتقام له حديثٌ مفصَّلٌ سنأتي عليه في محلّه، إن شاء الله وقدّر لنا بقيةً في العمر، ونكتفي هنا بذكر ما قاله ابن عبّاس بشكل نقاط، إذ أنّه ذكر ثلاث دوافع:

ص: 92


1- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.
الدافع الأوّل: العداوة لله ولرسوله ولأهل بيته

هذه عناوين ثلاثة إذا أردنا تفصيل الكلام فيها، فعداوة يزيد وآبائه وأجداده لله كانت قبل وبعد بعثة النبيّ محمّد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله) ، منذ أن استعر صراع التوحيد والشرك.

وعداوتهم للرسول (صلی الله علیه و آله) لها دوافع دينيّة ضمن صراع التوحيد والشرك، بالإضافة إلى الأسباب الأُخرى، من قبيل الأسباب التاريخيّة والعشائريّة والأخلاقيّة، من قبيل الحسد والإحساس بالنقص والحقارة أمام أطواد العلم والمعرفة ومكارم الأخلاق.والعداوة لأهل البيت (علیهم السلام) تجمع السبب الأوّل والثاني، يُضاف إليها سببُ الانتقام والثأر لفطائسهم وجيَفهم المقتولين بسيف أمير المؤمنين (علیه السلام) ، والنزاع على تراث النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

الدافع الثاني: أخذ الثأر لأهله الكفَرة الفجَرة

أشرنا في أكثر من موضع من هذه الدراسة إلى الدوافع الحقيقة الّتي كانت تحرّك يزيد القرود ومَن سبقه ولحقه من الأُمويّين، وهي تتركّز في قصّة الثأر للكفَرة الفجَرة يوم بدر، وغيره من الوقائع والمعارك الّتي سحقت رؤوسهم، وداست كبرياءهم، وحوّلتهم إلى فطائس تتكدّس في القليب، يقتتل الدودُ في قحف جماجمهم.

الانتقام الّذي يكمن فيهم كمون النار في الزناد.. انتقامٌ لا ينفكّ عنهم، وإنّما هو يسري في كلّ جزئيّةٍ وخليّةٍ من خلايا كيانهم الملوّث الوسخ.. النار

ص: 93

تكمن في ذات الزناد.. في ذرّات وجوده وذات كيانه.. كذلك هو الانتقام في ذات يزيد والأُمويّين..

وقد صرّح سليلهم المجدور وأعلنها صريحةً وقحةً قبيحةً بشعةً شنيعةً حين ترنّم بقوله: «ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا..»!

لا محيص ولا مجال للإنكار والمراوغة والتستّر والبحث عن الدوافع، بعد أن صرّح بها مرتكب الجناية نفسه وأصحر بها وتحمّل مسؤوليّتها.

إنّه يطلب ثأر أشياخه بقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وقد خطّط لذلك وأعدّواستعدّ، وأقدم ونفّذ ما أراده منه الأشياخ!

إنّه هو الّذي أقدم يبتغي تحقيق مآربه وأغراضه، فهاجم الإمام (علیه السلام) في المدينة، ثمّ هاجمه في مكّة الحرم الآمن، ثمّ لاحقه واستقبله بالخيل والرجال والعُدّة والعدد، وعاجله ولم يطاوله، ورفض الموادعة معه، ومنعه من الرجعة، وأحاطت به عساكره، ولم يقبل منها إلّا أن تقتله ومَن معه!

إنّه هو الّذي ابتدأ وهجم، وليس الإمام (علیه السلام) غريب الغرباء!

الدافع الثالث: الانتقام لدم عثمان!

إتّخذ معاوية والأُمويّون دم عثمان ذريعةً قاتلوا بها الحقّ وأهله، فأشعلوا نيران الحروب، وجحفلوا جيوش الانتقام وعساكر الظلام وحشّدوهم تحت قميصه لمحاربة أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (علیهم السلام) .

وكان من ذرائعهم الّتي صرّحوا بها في أكثر من موضع وموقف أيّام هجومهم وتربّصهم بسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، كما فعل ابن زيادٍ حين أمر عمر بن

ص: 94

سعد أن يمنع الإمام (علیه السلام) ومَن معه الماء ليقتل الإمام الحسين (علیه السلام) عطشاً ونساؤه وبناته ينظرون إليه، وقال: كما قُتل عثمان!

وقد أشرنا فيما سبق إلى هذا الدافع، ونكتفي هنا بإضافة شاهدٍ جديدٍ يعضد الشواهد السابقة، حيث شهد ابن عبّاسٍ على ذلك، وأعلن أنّ معاوية ويزيد اتّخذا من دم عثمان وسيلةً وذريعةً لينتقما لدماء الشرك العفنة في بدر وغيرهامن المواقع.

ويُلاحَظ في تعبير ابن عبّاسٍ ذكاءً ونباهةً ظريفة، إذ أنّه عبّر عن الانتقام لدماء الجاهليّة والثأر لأهله الكفرة الفجرة يوم بدر ب-- (أخذ الثأر)، فيما عبّر عن دم عثمان بالوسيلة والذريعة: «وجعلت.. دم عثمان وسيلةً إلى إظهارها».

يُشعِر هذا التفريق بالتعبير أنّ دماء الجاهليّة أُريقت على يد الله وقدرته المبسوطة في الأرض أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) ، وقد حصد رؤوسهم حصداً وجعل جثثهم أكداساً في قليبٍ واحد، فلِمثل يزيد العهر أن يستشيط غضباً ويتميّز غيضاً ليثأر لدمٍ قد أُريق بالفعل بيد الحقّ ورجاله.

أمّا دم عثمان، فليس لأمير المؤمنين وأولاده (علیهم السلام) يدٌ فيه، لا من قريبٍ ولا من بعيد، فهو إنّما يتّخذ ذلك ذريعةً ووسيلةً لإظهار الانتقام لتلك الدماء الجاهليّة.

وبعبارةٍ أُخرى:

إنّ ابن ميسون يزيد العهر والمجون يريد أن ينتقم لدماء أشياخه الكفرة الفجرة، بَيد أنّه يتذرّع للوصول إلى هذا الثأر من خلال توظيف دم عثمان

ص: 95

الّذي أُهرق في الإسلام!

ولكن لا ننسى أنّ يزيد أصحر وأعلن وتجاهر بكلّ وقاحةٍ وجرأةٍ وتنمُّرٍ وتمرُّدٍ وغلاظةٍ وفظاظةٍ وجموحٍ وشراسةٍ وعتوٍّ عن الانتقام لأشياخ الكفر والشرك: «ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا..».

المضمون السابع: ابن عبّاس صاحب الدم والثأر!

عدّ ابنُ عبّاسٍ نفسه صاحب الثأر ووليّ الدم، فقال:

وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري، فإن يشأ اللهُ لا يطلّ لديك دمي ولا تسبقني بثأري ((1)) ... فلا يعجبنّك إن ظفرت بنا اليوم، فوَاللهِ لَنظفرن بك يوماً ((2)).

ربّما كان هذا شاهدٌ لما ذكرناه قبل قليلٍ من تعليل نسبة شهداء الطفّ من آل أبي طالب إلى عبد المطّلب، باعتباره الرأس الّذي يجتمع فيه ابن عبّاسٍ معهم، لتكون له رحمٌ وسببٌ يتّصل بهم.

فعاد هنا ليقول: «قتلتَ بني أبي»، ولا شكّ أنّ أحداً من بني العبّاس _ الأب المباشر لابن عبّاس _ لم يكن في عداد الشهداء، إذ لم يحضر منهم أحدٌ أبداً! فلابدّ أن يقصد بالأب هنا الجدَّ الأعلى، وهو عبد المطّلب!

ص: 96


1- أُنظر: المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.
2- أُنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، الكامل لابن الأثير: 3 / 218، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.

ولمّا كانت الدماء دماء أبناء أبيه، فهي بالتالي دماؤه الّتي تقطر من سيف يزيد، وله أن يطالب بها ويجعل يزيد من ثاراته.

ويُلاحَظ أنّ ابن عبّاسٍ يتكلّم هنا بضمير المفرد، ليكون هو بالذات صاحبالدم المطلول والثأر المطلوب، غير أنّه ينتقل بالضمير من المفرد إلى الجمع حين يتحدّث عن الظفر، فيقول: «إن ظفرتَ بنا اليوم.. لَنظفرنّ بك يوماً».

ومن الواضح أنّ ابن عبّاسٍ هو أحد أحفاد عبد المطّلب وأحد بني عمومة المستشهَدين في كربلاء، فليس هو الطالب الوحيد بالدماء الزاكية، وليس هو وليّ الدم جزماً في حكم الشرع والعرف والدين والقوانين الاجتماعيّة السائدة، وقد ردّ هو وأمثاله على معاوية يوم تذرّع بالثأر لدم عثمان: إنّ لعثمان أولاداً، وهم أَولى بدمه من أبناء العمومة.

فمن خوّل ابنَ عبّاسٍ ليكون وليَّ الدماء الزاكية في كربلاء مع وجود بقيّة عقيل بن أبي طالب البطل المقدام أبي الشهداء الّذين استأصلهم يزيد وجنوده في كربلاء؟!

ومع وجود عبد الله بن جعفر أبي الشهداء وزوج السيّدة الصدّيقة الكبرى زينب الحوراء شريكة الحسين والطالبيّة المسبيّة؟!

ومع وجود عمومة المستشهَدين وإخوة سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، كمولانا المكرّم المعظّم محمّد ابن الحنفيّة؟!

والأهمّ من ذلك، مع وجود الوليّ الشرعيّ والعرفيّ بحكم الكتاب والسنّة

ص: 97

وأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) وجميع الأعراف السائدة، وهو الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (علیه السلام) ؟!!

أجل، ربما كان من الجميل أن يُعِدّ ابنُ عبّاسٍ نفسه موتوراً، وله أن يثأرلتلك الدماء الزاكية كواحدٍ من الأرحام والأقرباء، أو واحدٍ من أُمّة جدّهم خاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) ، غير أنّ عباراته ونَفَسه والروح المتصاعد من عباراته يأبى الحمل على هذا التوجيه والاحتمال.

وسنسمع بعد قليلٍ تأكيده على أنّ حربه مع يزيد لا تعدو الحرب الكلاميّة!

* * * * *

ربّما يُقال: إنّ ابن عبّاسٍ قد وفّر بهذه الدعوى وانتحال الدماء ومسؤوليّة الثأر لها الغطاء الشرعيّ لأولاده، ولقّنهم ما ينبغي لهم أن يفعلوه، ويحسن بهم أن يوظّفوه، ليرفعوا فيما بعد راية الانتقام والثأر لدم الإمام الحسين (علیه السلام) وأولاد عبد المطّلب، ليظفروا بما يحلموا به ويبنوا دولتهم على أشلاء شهداء الطفّ، ويرفعوا صروح ملكهم على ظليمة آل أبي طالب، مستمدّين عناصر القوّة والظفر من وهج دم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإن ظفر يزيد بهم اليوم، لَيظفرنّ به بنو عبد الله بن العبّاس يوماً.. «ظفرتَ بنا.. لَنظفرنّ بك».

المضمون الثامن: نوع المواجهة بين ابن عبّاسٍ ويزيد

• (وأيمُ الله، إنّك) ولَعمري لئن كنتَ تُصبح وتُمسي آمِناً لجرح يدي، إنّي

ص: 98

لَأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي ((1)).

• لَعمر الله، لئن كنتَ تُصبح آمناً من جراحة يدي، فإنّي لَأرجو أن يُعظِم اللهُ جرحَك من لساني ونقضي وإبرامي ((2)).

أقسم ابن عبّاسٍ بالله في لفظ: «أيم الله»، «لَعمر الله»، وبحياته في لفظ: «لَعمري»، أنّ يزيد الّذي يُصبح ويُمسي آمناً من جراحة يد ابن عبّاس، يرجو أن يعظم جراحه من لسانه ونقضه وإبرامه.

فهو كأنّه يقدّم ضماناً ضمنيّاً ليزيد أنّه سيبقى آمناً من أيّ إقدامٍ عمليّ يمكن أن يقوم به ابن عبّاس ضدّه، وأنّ عمليّات الهجوم العبّاسيّ ستقتصر على الدائرة الإعلاميّة الشخصيّة، بتوظيف لسانه ونقضه وإبرامه الشخصيّ، لا يتعدّى ذلك، فالحرب الّتي أعلنها ابن عبّاسٍ في خضمّ هذه الغضبة العارمة لا تعدو أن تكون حرباً كلاميّةً يعمل فيها اللسان دون اليد والسيف والسنان، وربّما كان ذلك لالتزامه البيعة والعمل بمقتضاها الّذي يمنع عليه الخروج على السلطان!

وقد سمعناه قبل قليلٍ يهدّد بالظفَر بيزيد يوماً ما، فربّما كان يهدّده بما خطّط لمستقبل السنين والأيّام حين تقوى شوكة أولاده وذراريه، ليظفروا بحكم الأُمويّين!

ص: 99


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323.

المضمون التاسع: ابن عبّاس يرى نفسه أهلاً للمُلك وأحقّ به

أكّد ابن عبّاسٍ في كتابه على حقّه وحقّ بني أبيه وبني عمّه في هذا الأمر، فهو بايع معاوية وبايع يزيد وهو على علمٍ ويقينٍ بحقّه.

قال في لفظ اليعقوبيّ:

وإنّي لَأعلم أنّ بني عمّي وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك ((1)).

وفي لفظ (أخبار الدولة العبّاسيّة):

وإنّي لَأعلم أنّي وجميع ولد أبي أحقّ بهذا الأمر منكم ((2)).

وفي لفظ الخوارزميّ وغيره:

وإنّك لتعلم أنّي ووُلد أبي أحقّ بهذا الأمر منك ومن أبيك ((3)).

وفي لفظ سبط ابن الجوزيّ:

إلّا وأنا أعلم أنّ وُلد أبي وعمّي أَولى بهذا الأمر منك ((4)).يُلاحَظ القدر المتيقّن الوارد في جميع هذه الألفاظ أنّ ابن عبّاسٍ يرى نفسه أحقّ بهذا الأمر، وكذا يرى هذا الحقّ لإخوته وأبناء أبيه، ويُضاف إليها

ص: 100


1- تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234 - 236 ط الحيدريّة.
2- أخبار الدولة العبّاسيّة: 88.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 5 / 189، معالي السبطين للمازندراني: 2 / 247.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 155، نفَس المهموم للقمّي: 446.

وفق بعض النصوص حقّ بني عمّه.

كيف كان، فإنّ ابن عبّاسٍ يرى نفسه أهلاً لهذا الأمر، ويريدها لنفسه ولبني أبيه، وهذا يعني أنّه لا يراه في بني عمّه خاصّة، ولا يراها خالصةً لمن نصّ عليهم ربُّ الأرباب وأعلنها رسول الله (صلی الله علیه و آله) صريحةً في كلّ موضع ووقتٍ ومكانٍ في الغدير وغيره، وكأنّ ابن عبّاس لم يروِ أحاديث النصّ على الأئمّة الاثني عشر، أو أنّ حَبر الأُمّة وترجمان القرآن يفسّرها تفسيراً خاصّاً، ويحصر النصّ عليهم في شؤون خاصّةٍ دون شأن الأمر الّذي تكالبت عليه الرجال!

وهو يراها فيهم (بني العبّاس) منذ أن أُزيحت عن مستقرّها بعد شهادة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ورحيله، إذ أنّه يرجع ذلك إلى تكاثر معاشر قريش الّذين استأثروا بسلطانهم! حتّى دفعوهم عن حقّهم، وتولّوا الأمر دونهم، وأخذوا ما ليس لهم بحقّ، وتعدّوا إلى مَن له الحقّ.

إنّه سلطانهم المغتصَب، ينسب السلطنة إليهم، ولا يمكن حمل مراده على الدفاع عن حقّ أمير المؤمنين وأولاده الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) بعد أنّ صرّح باعتقاده بحقّه الشخصيّ وحقّ بني أبيه، لأنّهم _ على ما يبدو _ أبناء عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) مباشرةً دون واسطة، والإمام الحسن والحسين (علیهما السلام) أحفاد عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فهم أولاد عمٍّ بالواسطة، فابن عبّاس وإخوته أقرب إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) من أبناء أمير المؤمنين (علیهم السلام) ، وإن كانت المقارنة بينه وبين أمير المؤمنين (علیه السلام) فهما سواءٌ بالقرب من النبيّ (صلی الله علیه و آله) بزعمه!

فهو على أقصى تقديرٍ إن ذكر أبناء عمّه (أبي طالب) باعتبار قربهم من

ص: 101

النبيّ (صلی الله علیه و آله) واستحقاقهم الأمر بهذا المعيار، فإنّه وأبناء أبيه يستحقّونها بنفس المعيار.

وكيف كان، فإنّه لم يزحزحها عن نفسه، ويعتقد بحقّه فيها، وإن لوّح وفق بعض النصوص بأبناء عمّه من دون تحديد المراد من أبناء العمّ وأيّ عمٍّ من أعمامه، إذ أنّ جميع النصوص ذكرت ادّعاءها لنفسه ونسبتها إليه والتنويه بحقّه فيها، وهدّد بالله وبعذابه لمن ظلمهم وزحزحها عنهم!

* * * * *

روى ابن أبي الحديد في (شرح النهج) والعلّامة في (البحار)، قال _ واللفظ للأوّل _ :

وقد رُوي أنّه قال لمّا ولّى عليٌّ (علیه السلام) بني العبّاس على الحجاز واليمن والعراق: فلماذا قتلنا الشيخ بالأمس؟

وإنّ عليّاً (علیه السلام) لمّا بلَغَته هذه الكلمة أحضره ولاطفه واعتذر إليه، وقال له: فهل ولّيتُ حسناً أو حسيناً أو أحداً من وُلد جعفر أخي أو عقيلاً أو واحداً من ولده؟ وإنّما ولّيتُ ولد عمّي العبّاس، لأنّي سمعت العبّاس يطلب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) الإمارة مراراً، فقال له رسولالله (صلی الله علیه و آله) : يا عمّ، إنّ الإمارة إنْ طلبتها وكلت إليها، وإن طلبتك أعنت عليها. ورأيت بنيه في أيّام عمر وعثمان يجدون في أنفسهم إذ ولّى غيرهم من أبناء الطلقاء ولم يولِّ أحداً منهم، فأحببتُ أن أصل رحمهم وأُزيل ما كان في أنفسهم، وبعد فإن علمت أحداً من أبناء الطلقاء هو خيرٌ منهم فأتِني

ص: 102

به.

فخرج الأشتر وقد زال ما في نفسه ((1)).

طلب الرئاسة والزعامة وحبّ السلطنة طبعٌ قديمٌ في بعض الرجال، وما أكثر الشواهد والمشاهد والمقالات لمن أراد أن يُثبتها من أقوالهم وأفعالهم وسلوكيّاتهم وأخلاقيّاتهم، ويجدها ساريةً معرّقةً في أبنائهم وذراريهم، حتّى نالوها متسربلين بالدماء الزاكية، وقتلوا عليها الأئمّة الأطهار (علیهم السلام) على علمٍ منهم، غير أنّ هذه الدراسة مخصّصةٌ للبحث عن ظروف حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلا ضرورة لتتبّع أحوال فلانٍ وعلّانٍ إلّا بالمقدار الّذي يتعلّق بمسير البحث خاصّة ((2)).ومهما يكن، فإنّ هذا المضمون المنصوص عليه في الكتاب من المضامين المهمّة غاية الأهميّة وجديرة بالتعمّق والإمعان.

ص: 103


1- شرح النهج لابن أبي الحديد: 15 / 99، بحار الأنوار للمجلسيّ: 42 / 176.
2- لا نحبّ تضييع بقيّة العمر الّذي نأمل أن يكون خيراً ممّا مضى في أُمورٍ تضيع فيه فرص التوبة والاستغفار والتعويض عمّا فات، فخدمة آل الله وآل محمّدٍ والأئمّة الأطهار وسيّد شباب أهل الجنة (علیهم السلام) كفّارةٌ للذنوب ومغفرةٌ ومجلبةٌ لرضى الربّ والرسول (صلی الله علیه و آله) وفاطمة وأولادها النجباء (علیهم السلام) ، أمّا خدمة غيرهم فمتوقّفٌ على رضاهم بها! اللّهمّ ارزقنا حُسن العاقبة، واختم لنا بخير، وأمتنا على ما مات عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأولاده المعصومون (علیهم السلام) ، واكتبها لنا ولذريّاتنا إلى يوم الدين، واستعملنا فيما تسألنا غداً عنه.

المضمون العاشر: بي وبهم عززتَ وجلستَ مجلسك

بعد أن ذكر ابن عبّاسٍ ما جرى على أهل بيت النبوّة في كربلاء وتركهم صرعى على الرمضاء من غير تجهيزٍ ولا كفنٍ ولا دفن، قال:

وبي _ واللهِ _ وبهم لو عززتَ وجلستَ مجلسك الّذي جلست يا يزيد ((1)).

وفي لفظ الطبرانيّ وعنه الهيثميّ خاصّة:

وبهم _ واللهِ _ وبي مَنّ الله عليك، فجلستَ في مجلسك الّذيأنت فيه ((2)).

يُلاحَظ تقديم ابن عبّاسٍ نفسه على المستشهَدين من أبناء عبد المطّلب! بما فيهم سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وفق رواية اليعقوبيّ وابن الأثير والخوارزميّ وغيرهم.

وفي رواية الطبرانيّ وعنه الهيثميّ، يقدّمهم على نفسه في الذكر.

وتقديم نفسه له دلالاته الّتي يتلقّفها اللبيب الحصيف، ولكن بغضّ النظر عن التقديم والتأخير، فإنّه على كلّ حالٍ حشر نفسه مع أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ،

ص: 104


1- أٌنظر: تاريخ اليعقوبيّ: 2 / 234، الكامل لابن الأثير: 3 / 318، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 77، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 323، العوالم للبحرانيّ: 17 / 641، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 5 / 189، معالي السبطين للمازندرانيّ: 2 / 247.
2- المعجم الكبير للطبرانيّ: 10 / 241 ط دار إحياء التراث، مجمع الزوائد للهيثميّ: 7 / 250.

وأنّ مَن ملك من القوم إنّما مَلَك بحقّه، وبما جعله الله له من شرفٍ ومنزلة، فهو بذاته محورٌ وقطبٌ مقابل أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) والمستشهدين في كربلاء، بما فيهم سيّد الكائنات في عصره الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) .

ص: 105

ص: 106

تعليقاتٌ سريعة

التعليقة الأُولى: كتاب ابن عبّاسٍ ردٌّ وليس ابتداء!

شهدَت جميعُ المتون التاريخيّة الّتي روت كتابَ ابن عبّاسٍ أنّه كان ردّاً على ما كتبه إليه ابن ميسون، فهو ليس مبادرة من ابن عبّاس، وكأنّ ابن عبّاسٍ كان إلى حين وصله كتاب يزيد ساكتاً صامتاً ساكناً، لم تبدر منه بادرةٌ مباشرةٌ مع يزيد، فلمّا كتب إليه يزيد يخطب ودّه ويدعوه لنصرته ويغريه بالصلة، تملّكه الغضب وهزّه الغيظ لجرأة هذا القرد المتميّع الخليع الماجن ووقاحته وصلابة وجهه وصلافته، لذا تجده يكرّر في كتابه تعجّبه منه أن يُقدِم على ما أقدم عليه من خطابٍ في كتابه بعد أن فعل ما فعل.

فكتاب ابن عبّاسٍ ليس فعلاً، وإنّما هو ردّ فعل، وليس فاعلاً، وإنّما هو منفعل! فلا يمكن أن يُسجَّل كموقفٍ مستقلٍّ أقدم عليه ابن عبّاسٍ يقرّع به يزيد ويوبّخه ويهدّده ويتهجّم عليه بلسانه دون يده وسنانه.

والفرق كبيرٌ جدّاً بين أن يكون ابن عبّاس مبتدئاً بالكتابة، وبين كونه كتب ردّاً، وصدّ موقفاً، وانزعج من تحرّشٍ وقح!

ص: 107

التعليقة الثانية: لماذا لم يكتب ابن عبّاسٍ قبل شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!

كان _ ولا زال _ لابن عبّاسٍ وجاهةٌ خاصّة، وكان يرى في نفسه ما يؤهّله للمُلك والخلافة ويسمح له باعتراض الإمام الحسين (علیه السلام) _ سيّد الكائنات في عصره _ والحديث معه بقوّةٍ بلغة الندّ في أبهت التصويرات، ويرى لنفسه مكانةً ومنزلةً ومقاماً عند الأُمّة والحكّام تميّزه عن الآخرين، وهو كذلك.

وقد أقرّ في كتابه هذا وشهد أنّ يزيد المسعور هو الّذي كان يُلاحِق سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويريد قتله، مهما كلّفه الأمر وبأيّ ثمنٍ تحقّق ذلك، فهو يعترف أنّ يزيد هو المعتدي، وهو المهاجِم، وهو الّذي عدا على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ليقتله من دون أن يكون الإمام (علیه السلام) قد حرّك ساكناً أو قصد قصداً يهدّده.

فلماذا لم نسمع من ابن عبّاسٍ كلمة توبيخٍ أو تهديدٍ أو كتاباً (ناريّاً) _ كما وصفوه _ مثل هذا الكتاب الّذي كتبه بعد شهادة الإمام (علیه السلام) حين تحرّش به يزيد؟

لماذا لم يوظّف قدراته ونفوذه وإمكاناته لصدّ يزيد ومنعه من ارتكاب الجناية العظمى؟!

لماذا لم يتحرّك في كلّ اتجاه، ولم يتدخّل ولو عند والي مكّة الطاغية العنيد، أو يكتب إلى طاغية الشام يزيد ويكلّمه بلغة التهديد والوعيد والتخويفويخذّله عن مواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) وملاحقته؟

لماذا لم نسمع له خطاباً في الموسم في مكّة أو المدينة أو كتاباً لوجهاء

ص: 108

الكوفة أو غيرها من البلدان، أو أيّ خطوةٍ أو حركةٍ يمكن أن تصنَّف لصالح الإمام (علیه السلام) والدعوة إلى نصرته، أو ضدّ يزيد والتخذيل عنه؟!

سؤالٌ يمكن أن يتقدّم به متابع بين يدي ابن عبّاس، ولمن أراد الجواب عنه أن يتمعّن أوّلاً في حركة ابن عبّاس وفعاليّاته وأقواله وحواراته وكلماته أيّام تواجد الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة وإشراقها بنور محيّاه.

التعليقة الثالثة: التزام ما التزمه سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس!

مرّ معنا: أنّ ابن عبّاسٍ كان يحاول بشتّى الوسائل إقناع الإمام (علیه السلام) في مكّة ليثنيه عن عزمه عن التوجّه إلى الكوفة، وكان يحاول جاهداً ليُثبت له أنّه على خطأ _ والعياذ بالله _ وأنّ على الإمام (علیه السلام) العمل بمشورته، غير أنّه تبيّن له فيما بعد أن رأيه كان خطأً وخطلاً وزللاً، وأنّ ما كان يقوله سيّد الشهداء (علیه السلام) ويخبره به عن الوقائع المحيطة به هو الصحيح تماماً.

هذا على أفضل الفروض وأرقّها في حسن الظنّ.

بَيد أنّ ابن عبّاسٍ يبدو من خلال كتابه هذا أنّه أدرك، أو قبل، أو رضخ للوقائع، وجعل يُعلِن عن ذلك، لأيّ دافع ولأيّ سبب.فكان الأحرى بمثل أبي الفرج وسبط ابن الجوزيّ وغيرهما ممّن تقوّل على الإمام (علیه السلام) وافترى على لسانه أنّه ذكر قول ابن عبّاسٍ وإشاراته، فقال: لله درّ

ص: 109

ابن عبّاسٍ فيما أشار علَيّ به ((1))، وأنّ هذا هو معنى قول الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس، فإنّه ينظر من سترٍ رقيق ((2))..

كان الأحرى بأمثال هؤلاء الّذين كشف لهم ابن عبّاسٍ نفسه في هذا الكتاب أنّه كان على خطأٍ ذريعٍ فظيعٍ شنيع، أن يقولوا على لسان ابن عبّاس:

لله درّك يا سيّد الشهداء يا حسين، لقد أحطتَ بما أحاط بك علماً، وكنتَ تنظر إلى الغَيب دون حجابٍ ولا سترٍ رقيق!

وكان الأحرى بغير هذين وأمثالهما من جميع العالمين أن يدقّقوا في أقوال سيّد الشهداء (علیه السلام) واعترافات ابن عبّاس، الّتي قرّرها في هذا الكتاب وشهد بها لجميع ما قاله وأخبره به سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيلتزموا ما ينبغي التزامه!

التعليقة الرابعة: توظيف كتاب ابن عبّاس

أشرنا فيما مضى إلى جملةٍ من الأحداث والمصائب الّتي ذكرها ابن عبّاس، والتأمّل في الكتاب يفيد أنّه قد واكب حركة الركب الحسينيّ الحزين منالمدينة إلى الشام، بعباراتٍ مقتضبة، لكنّها ملأى مكتظّةً بالوقائع مزدحمةً بالحوادث، فيمكن أن يعالج كتاب ابن عبّاسٍ وتُوظَّف كلُّ فقرةٍ منه ضمن الفترة الّتي وقعَت فيها أحداثها وأخبارها، فتأتي مقاطع الكتاب على التوالي، فما

ص: 110


1- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
2- أُنظر: تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137.

يخصّ الخروج من المدينة في أحداث المدينة، وما يخصّ مكّة في أحداث مكّة، وما يخصّ كربلاء في كربلاء، وما يخصّ الشام في الشام، وهكذا..

إذ أنّ ابن عبّاسٍ المعاصر بما يحتويه من رمزيّةٍ يُعدُّ راوياً لمقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وناقلاً لجمل من أخبار سيّد الشهداء (علیه السلام) في كتابه هذا.

التعليقة الخامسة: باقي بني العبّاس!

أولاد العبّاس بن عبد المطّلب:

· الفضل.

· عبد الله.

· عُبيد الله.

· عبد الرحمان.

· قثم.

· معبد.

· عَون.· الحرث.

· كثير.

· تمام.

ص: 111

· وفي رواية أبي طالب الأنباريّ زيادة: مليك ((1)).

فهم _ على أقلّ تقدير، وفق ما ذكره السيّد بحر العلوم (رحمة الله) وغيره _ عشرة، بغضّ النظر عن التحقيق والنفي والإثبات، وهؤلاء العشرة لم نجد لهم ولا لأحدٍ من أولادهم أو أحفادهم _ بما فيهم أولاد عبد الله بن عبّاس نفسه _ خبراً في كربلاء، ولا قبل كربلاء فيما يخصّ ما جرى على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولم نقف لهم على موقفٍ خاصٍّ مميّزٍ سوى هذا الكتاب المرويّ عن عبد الله.

فأين كانوا؟!

وماذا فعلوا قبل وبعد كربلاء؟!

وهل شملهم كتاب الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) _ الّذي رواه صاحب (البصائر) والطبريّ الشيعيّ في (الدلائل) وغيرهما كثير عن الإمام الصادق (علیه السلام) _ الّذي دعا فيه بني هاشم وقال: «مَن لحق بي منكم استُشهد، ومَن لم يلحق لم يبلغ الفتح»؟!!

ص: 112


1- أُنظر: الفوائد الرجاليّة للسيّد بحر العلوم: 1 / 244.

إبن الزبير والإمام (علیه السلام)

اشارة

إبن سعدٍ ومَن تلاه:

ولزم ابن الزبير الحجَر، ولبس المعافريّ، وجعل يحرّض الناس على بني أُميّة.

وكان يغدو ويروح إلى الحسين ويشير عليه أن يَقدِم العراق! ويقول: هم شيعتك وشيعة أبيك ((1)).

مصعب الزبيريّ، وابن عساكر مسنداً:

قال المصعب: وأخبرت عن هشام بن يوسف الصنعانيّ، عن معمّر قال: سمعتُ رجلاً يحدّث، قال: سمعتُ الحسين بن عليّ يقول لعبد الله ابن الزبير: «أتتني بيعة أربعين ألف رجلٍ (يحلفون لي بالطلاق

ص: 113


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

والعتاق) ((1)) من أهل الكوفة»، أو قال: «من أهل العراق».

فقال له عبد الله بن الزبير: أتخرج إلى قومٍ قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟

قال هشام بن يوسف: فسألتُ معمّراً عن الرجل، فقال: هو ثقة.

(قال عمّي): وزعم بعض الناس أنّ ابن عبّاس هو الّذي قال هذا ((2)).

البلاذريّ:

• قالوا: وعرض ابن الزبير على الحسين أن يُقيم بمكّة، فيبايعه، ويبايعه الناس، وإنّما أراد بذلك أن لا يتّهمه وأن يعذر في القول.

فقال الحسين: «لئن أُقتَل خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل فيها، ولئن أُقتَل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل خارجاً منها بشبر» ((3)).

• فأتاه [ابن الزبير] يوماً فحادثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وأولي الأمر منهم،فخبرني بما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: «واللهِ لقد حدّثتُ نفسي بإتيان الكوفة، فإنّ شيعتي بها،

ص: 114


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2604، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.
2- أُنظر: نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 239، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2604، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 375.

وأشراف أهلها قد كتبوا إليّ في القدوم عليهم، وأستخير الله».

فقال ابن الزبير: لو كان لي بها مثل شيعتكم ما عدلتُ بها.

ثمّ خشي أن يتّهمه، فقال: إنّك لو أقمتَ بالحجاز ثمّ أردت الأمر هاهنا، ما خولف عليك إن شاء الله. ثمّ خرج من عنده.

فقال الحسين: «ما شيءٌ من أمر الدنيا يُؤتاه أحبّ إليه من خروجي عن الحجاز؛ لأنّه قد علم أنّه ليس له معي من الأمر شيء» ((1)).

محمّد بن سليمان الكوفي:

[حدّثَنا أبو أحمد، قال: أخبرنا عليّ بن الحسن البراز]، قال شبابة [بن سوار]: وحدّثنا قيس بن الربيع، عن عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب قال:

لقي عبدُ الله بن الزبير الحسينَ بن عليّ يتوجّه إلى العراق، فقال: أين تريد؟ قال: «العراق». قال: إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك، ولا أراهم إلّا قاتليك. قال: «وأنا أرى ذلك» ((2)).

الدينوريّ:وبلغ عبد الله بن الزبير ما يهمّ به الحسين، فأقبل حتّى دخل عليه، فقال له: لو أقمتَ بهذا الحرم، وبثثت رسلك في البلدان، وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن يقدموا عليك، فإذا قوي أمرك نفيت عمّال يزيد

ص: 115


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315.
2- المناقب لمحمّد بن سليمان: 2 / 262 الرقم 727.

عن هذا البلد، وعلَيّ لك المكانفة والمؤازرة، وإن عملت بمشورتي طلبت هذا الأمر بهذا الحرم، فإنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار، لم يعدمك بإذن الله إدراك ما تريد، ورجوتُ أن تناله ((1)).

الطبريّ:

• وأتاه ابن الزبير، فحدّثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم! خبّرْني ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: «واللهِ لقد حدّثتُ نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشرافُ أهلها، وأستخير الله».

فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلتُ بها.

قال: ثمّ إنّه خشي أن يتّهمه، فقال: أما إنّك لو أقمتَ بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر هاهنا، ما خُولف عليك إن شاء الله. ثم قام فخرج مِن عنده.فقال الحسين: «ها إنّ هذا ليس شيءٌ يُؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ الناس لم يعدلوه بي، فودّ أنّي خرجتُ منها لتخلو له» ((2)).

• قال أبو مخنف: قال أبو جناب يحيى بن أبي حيّة، عن عَديّ بن حرملة الأسديّ، عن عبد الله بن سليم والمذريّ بن المشمعل الأسديَّين قالا:

ص: 116


1- الأخبار الطوال للدينوريّ: 243.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 383.

خرجنا حاجّين من الكوفة حتّى قدمنا مكّة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسين وعبد الله بن الزبير قائمَين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحِجْر والباب.

قالا: فتقرّبنا منهما، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين: إن شئتَ أن تقيم أقمت، فوليت هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك.

فقال له الحسين: «إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش».

فقال له ابن الزبير: فأقِمْ إن شئت، وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولا تعصى.فقال: «وما أُريد هذا أيضاً».

قالا: ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتّى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجّهين إلى منى عند الظهر.

قالا: فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصّ من شعره، وحلّ من عمرته، ثمّ توجّه نحو الكوفة، وتوجّهنا نحو الناس إلى منى ((1)).

• قال أبو مخنف: عن أبي سعيد عقيصا، عن بعض أصحابه، قال:

سمعتُ الحسين بن عليّ، وهو بمكة، وهو واقفٌ مع عبد الله بن الزبير، فقال له ابن الزبير: إليّ يا ابن فاطمة! فأصغى إليه، فسارّه.

ص: 117


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 384، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.

قال: ثمّ التفت إلينا الحسين، فقال: «أتدرون ما يقول ابن الزبير؟»، فقلنا: لا ندري، جعلنا الله فداك! فقال: «قال: أقِمْ في هذا المسجد، أجمعُ لك الناس».

ثمّ قال الحسين: «واللهِ لَئن أُقتَل خارجاً منها بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل داخلاً منها بشبر، وأيمُ الله لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدت اليهودُ في السبت» ((1)).المسعوديّ:

وبلغ ابن الزبير أنّه يريد الخروج إلى الكوفة، وهو أثقل الناس عليه، قد غمّه مكانه بمكّة؛ لأنّ الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين، فلم يكن شيءٌ يُؤتاه أحبّ إليه من شخوص الحسين عن مكّة.

فأتاه فقال: أبا عبد الله، ما عندك؟ فواللهِ لقد خفتُ الله في ترك جهاد هؤلاء القوم على ظلمهم، واستذلالهم الصالحين من عباد الله.

فقال حسين: «قد عزمتُ على إتيان الكوفة».

فقال: وفّقك الله! أما لو أنّ لي بها مثل أنصارك ما عدلتُ عنها.

ثمّ خاف أن يتّهمه، فقال: ولو أقمتَ بمكانك، فدعوتنا وأهل الحجاز إلى بيعتك أجبناك، وكنّا إليك سراعاً، وكنتَ أحقّ بذلك من يزيد وأبي يزيد ((2)).

ص: 118


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 385.
2- مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، نفَس المهموم للقمّي: 167.

أبو الفرج:

فأزمع الشخوص إلى الكوفة، ولقيه عبدُ الله بن الزبير في تلك الأيام، ولم يكن شيءٌ أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز، ولا أحبّ إليه من خروجه إلى العراق؛ طمعاً في الوثوب بالحجاز، وعلماً بأنّ ذلك لا يتمّ له إلّا بعد خروج الحسين (علیه السلام) .

فقال له: على أيّ شيءٍ عزمتَ يا أبا عبد الله؟ فأخبره برأيه في إتيانالكوفة، وأعلمه بما كتب به مسلم بن عقيل إليه، فقال له ابن الزبير: فما يحبسك؟ فواللهِ لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلوّمت في شيء. وقوّى عزمه، ثمّ انصرف ((1)).

القاضي النعمان:

فلمّا همّ بالخروج من مكّة، لقيه ابنُ الزبير فقال: يا أبا عبد الله، إنّك مطلوب، فلو مكثتَ بمكّة، فكنت كأحد حمام هذا البيت، واستجرت بحرم الله، لَكان ذلك أحسن لك.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «يمنعني من ذلك قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) : سيستحلّ هذا الحرمَ من أجلي رجلٌ من قريش. واللهِ لا أكون ذلك الرجل، صنع الله بي ما هو صانع.

(فكان الّذي استحلّ الحرم من أجله: ابن الزبير).

عمرو بن ثابت، عن أبي سعيدٍ قال:

ص: 119


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.

كنّا جلوساً مع الحسين بن عليّ (علیه السلام) عند جمرة العقبة، فلقيه عبد الله ابن الزبير، فخلا به، ثمّ مضى.

فقال لنا الحسين (علیه السلام) : «أتدرون ما يقول هذا؟ يقول: كُن حمامةً من حمام هذا المسجد. واللهِ لئن أُقتَل خارجاً منه بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل فيه، ولئن أُقتَل خارجاً منه بشبرين أحبّ إليّ مِن أن أُقتَلخارجاً منه بشبر، واللهِ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ لَأخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، واللهِ لَيعتدوا فيّ كما اعتدت اليهود في السبت» ((1)).

إبن قولويه (رحمة الله) :

حدّثني أبي (رحمة الله) وعليّ بن الحسين جميعاً، عن سعد بن عبد الله، عن محمّد ابن أبي الصهبان، عن عبد الرحمان بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن فضيل الرسّان، عن أبي سعيد عقيصا قال:

سمعتُ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) وخلا به عبدُ الله بن الزبير وناجاه طويلاً، قال: ثمّ أقبل الحسين (علیه السلام) بوجهه إليهم وقال: «إنّ هذا يقول لي: كُن حماماً من حمام الحرم. ولَئن أُقتَل وبيني وبين الحرم باعٌ أحبُّ إليّ من أن أُقتَل وبيني وبينه شبر، ولَئن أُقتَل بالطف أحبُّ إليّ من أن أُقتَل بالحرم».

وعنهما، عن سعد، عن محمّد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن داوود بن فرقد، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

ص: 120


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.

«قال عبد الله بن الزبير للحسين (علیه السلام) : ولو جئتَ إلى مكّة، فكنتَ بالحرم.

فقال الحسين: لا نستحلّها، ولا تستحلّ بنا، ولَئن أُقتَل على تلٍّ أعفرأحبُّ إليّ من أن أُقتَل بها».

حدّثني أبي (رحمة الله) ومحمّد بن الحسين، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن أبيه، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال:

«إنّ الحسين (علیه السلام) خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبد الله بن الزبير، فقال: يا أبا عبد الله، لقد حضر الحجّ وتدعه وتأتي العراق؟! فقال: يا ابن الزبير، لَئن أُدفَن بشاطئ الفرات أحبُّ إليّ من أن أُدفن بفناء الكعبة» ((1)).

الشجريّ:

(وبه) قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمان بن محمّد بن أحمد الذكوانيّ بقراءتي عليه، قال: أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن جعفر بن حيّان، قال: حدّثنا أبو حامد محمّد بن أحمد بن الفرج، قال: حدّثنا محمّد بن المنذر البغداديّ سنة اثنتان وثلاثين ومئتين، قال: حدّثنا سفيان، عن عبد

ص: 121


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.

الله بن شريك العامريّ، عن بشر بن غالب الأسديّ قال:

إنّ ابن الزبير لحق الحسين بن علي (علیهما السلام) ، قال: أين تريد؟ قال:«العراق».

قال: هم الّذين قتلوا أباك وطعنوا أخاك، وأنا أرى أنّهم قاتلوك. قال: «وأنا أرى ذلك».

قال: فأخبِرْني عن المولود، متّى يجب عطاؤه؟ قال: «إذا استهلّ صارخاً وجب عطاؤه، وورث وورث».

قال: فأخبِرْني عن الرجل يقاتل عن أهل الذمّة فيؤسر. قال: «فكاكه في جزيتهم».

قال: فأخبِرْني عن الشرب قائماً. قال: حلب الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ناقته تحته، فشرب قائماً.

قال: فأخبِرْني عن الصلاة في جلود الميتة. قال: «فأومأ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) إلى كلّابٍ له عليه فروة، فقال: هذا من جلود الميتة دبغناها، فإذا حضرت الصلاة صلّيتُ فيها» ((1)).

الخوارزميّ:

ثمّ أقبل عبد الله بن الزبير فسلّم عليه، وجلس ساعة، ثمّ قال: أما والله _ يا ابن رسول الله _ لو كان لي بالعراق مثل شيعتك، لما أقمت بمكّة يوماً واحداً، ولو أنّك أقمت بالحجاز ما خالفك أحد، فعلى ماذا نعطي هؤلاء

ص: 122


1- الأمالي للشجريّ: 1 / 174.

الدنيّة ونُطمعهم في حقّنا، ونحن أبناء المهاجرين وهم أبناء المنافقين؟!

قال: وكان هذا الكلام مكراً من ابن الزبير، لأنّه لا يحبّ أن يكون بالحجاز أحدٌ يناويه، فسكت عنه الحسين وعلم ما يريد ((1)).

الخوارزميّ، ابن كثير:

قال: (وبهذا الإسناد)، عن والدي، أخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدّثنا يعقوب بن سفيان، حدّثنا أبو بكر الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثنا عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب قال:

قال عبد الله بن الزبير للحسين بن عليّ (علیه السلام) : أين تذهب؟ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!

فقال له الحسين: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ مِن أن تُستحَلّ بي» (يعني مكّة) ((2)).

إبن عساكر، ابن بدران:

أخبرنا أبو القاسم ابن السمرقنديّ، أنبأنا أبو بكر ابن الطبريّ، أنبأنا أبو الحسين ابن الفضل، أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا يعقوب، أنبأنا أبو بكر الحميديّ، أنبأنا سفيان، أنبأنا عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب أنّه سمعه يقول:

ص: 123


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 219، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.

قال عبد الله بن الزبير لحسين بن عليّ: أين تذهب؟ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!

فقال له حسين: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبُّ إليّ من أن تُستحلّ بي»، يعني مكّة ((1)).

إبن عساكر، ابن خيّاط:

وخرج الحسين من ليلته، فالتقيا بمكّة، فقال له ابن الزبير: ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فوَاللهِ لو أنّ لي مثلهم ما وجّهتُ إلّا إليهم ((2)) (لَذهبتُ إليهم) ((3)).

إبن شهرآشوب (رحمة الله) :

كتاب الإبانة: قال بشر بن عاصم:

سمعتُ أنّ ابن الزبير يقول: قلتُ للحسين بن عليّ: إنّك تذهب إلى قومٍ قتلوا أباك وخذلوا أخاك! فقال: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا،أحبّ إلي مِن أن يُستحلّ بي مكّة». عرّض به (علیه السلام) ((4)).

ص: 124


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، مختصر ابن منظور: 12 / 190، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 4 / 170.
3- تاريخ ابن خيّاط: 178.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 245، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 185، العوالم للبحرانيّ: 17 / 54.

إبن الأثير:

وأتاه ابن الزبير فحدّثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم! خبّرني ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: «لقد حدّثتُ نفسي بإتياني الكوفة، ولقد كتبَت إليّ شيعتي بها وأشراف الناس، وأستخير الله».

فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلتُ عنها.

ثمّ خشي أن يتّهمه، فقال له: أما إنّك لو أقمتَ بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر هاهنا، لما خالفنا عليك، وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك.

فقال له الحسين: «إنّ أبي حدّثني أنّ لها كبشاً به تُستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش».

قال: فأقِمْ إن شئت، وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولا تُعصى.

قال: «ولا أُريد هذا أيضاً».

ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما، فالتفت الحسين إلى مَن هناك، وقال:«أتدرون ما يقول؟»، قالوا: لا ندري، جعلنا الله فداءك. قال: «إنّه يقول: أقِمْ في هذا المسجد، أجمعُ لك الناس».

ثمّ قال له الحسين: «والله لَئن أُقتَل خارجاً منها بشبرٍ أحبّ إليّ من أن أُقتَل فيها، ولئن أُقتَل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ من أن أُقتَل خارجاً منها بشبر، وأيمُ الله لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني حتّى يقضوا بي حاجتهم، واللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدت

ص: 125

اليهودُ في السبت».

فقام ابن الزبير وخرج من عنده، فقال الحسين: «إنّ هذا ليس شيءٌ من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بي، فودّ أنّي خرجتُ حتّى يخلو له» ((1)).

سبط ابن الجوزيّ:

ولمّا بلغ ابن الزبير عزمه، دخل عليه وقال له: لو أقمتَ هاهنا بايعناك، فأنت أحقُّ مِن يزيد وأبيه. وكان ابن الزبير أسرَّ الناس بخروجه من مكّة، وإنّما قال له هذا لئلّا ينسبه إلى شيءٍ آخر ((2)).

الطبريّ صاحب (الذخائر):وعن بشر بن غالب، قال عبد الله بن الزبير يقول للحسين بن عليّ: تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!

فقال الحسين: «لئن أُقتَل بموضع كذا وكذا، أحبّ إليّ من أن يُستحلّ بي»، يعني الحرم ((3)).

الذهبيّ:

إبن المبارك، عن بشر بن غالب: أنّ ابن الزبير قال للحسين: إلى أين تذهب؟ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!

ص: 126


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 407.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137.
3- ذخائر العقبى للطبريّ: 151.

فقال: «لئن أُقتَل أحبّ إليّ مِن أن تُستحلّ»، يعني مكّة ((1)).

إبن كثير:

ودخل ابن الزبير، فقال له: ما أدري ما تركنا لهؤلاء القوم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم! أخبرني ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين: «والله لقد حدّثتُ نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشرافُها بالقدوم عليهم، وأستخير الله».

فقال ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلتُ عنها.

فلمّا خرج من عنده، قال الحسين: «قد علم ابن الزبير أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ الناس لم يعدلوا بي غيري، فودّ أنّي خرجتُلتخلو له» ((2)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:

فبعد أن خرجوا [ابن عبّاس وجماعة] عنه جاء ابن الزبير، فجلس عنده ساعةً يتحدّث، ثمّ قال: أخبِرْني ما تريد أن تصنع؟ بلغني أنّك سائرٌ إلى العراق.

فقال الحسين: «نعم، نفسي تحدّثني بإتيان الكوفة، وذلك أنّ جماعةً من شيعتنا وأشراف الناس كتبوا إليّ كتباً يحثّونني على المسير إليهم، ويعِدونني النصرة والقيام معي بأنفسهم وأموالهم، ووعدتُهم بالوصول

ص: 127


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 197.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160.

إليهم، وأنا أستخير الله (تعالى)».

فقال له ابن الزبير: أما إنّه لو كان لي بها شيعةٌ مثل شيعتك، ما عدلتُ عنهم.

ثمّ إنّه خشي أن يتّهمه، فقال: وإنْ رأيتَ أنّك تقيم هنا بالحجاز، وتريد هذا الأمر، قمنا معك وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «إنّ أبي حدّثني أنّ لها كبشاً به تُستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون ذلك الكبش، والله لَئن قُتلتُ خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ من أن أُقتَل بداخلها، ولئن أُقتَل خارجهابشبرين أحبّ إليّ من أن أُقتَل بداخلها بشبرٍ واحد».

فقام ابن الزبير وخرج من عنده، فقال الحسين لجماعةٍ كانوا عنده من خواصّه: «إنّ هذا الرجل _ يعني ابن الزبير _ ليس في الدنيا شيءٌ أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّ الناس لا يعدلون بي ما دمتُ فيه، فيودّ أنّي خرجتُ منه لتخلو له» ((1)).

السيوطيّ:

فأمّا ابن الزبير، فلم يبايع ولا دعا إلى نفسه، فأشار عليه ابن الزبير بالخروج ((2)).

إبن حجر:

ص: 128


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 206.

ونهاه ابن الزبير أيضاً، فقال له: «حدّثَني أبي أنّ لمكّة كبشاً به يُستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش».

ومرّ قول أخيه الحسن له: إيّاك وسفهاء الكوفة أن يستخفّوك، فيُخرجوك ويسلموك. فتندّم ولات حين مناص، وقد تذكّر ذلك ليلة قتله، فترحّم على أخيه الحسن ((1)).

الدربنديّ (رحمة الله) :ولمّا بلغ عبدُ الله بن الزبير عزْمَ الحسين، دخل عليه وقال: يا ابن رسول الله، إنّك لو أقمتَ هاهنا، لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى، بايعناك، فإّنك أحقُّ من يزيد المعلِن بالفسق والفجور، وإنّي أتخوّف عليك إن خرجتَ لا يرعى فيك إلّاً ولا ذمّةً ولا قرابة ((2)).

* * * * *

تضمّنَت هذه النصوص لقاءً حصل بين عبد الله بن الزبير والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهي ربّما اتفقَت في بعض المضامين واختلفَت في مضامين أُخرى، يمكن متابعتها من خلال العروض التالية:

العرض الأوّل: تعدّد اللقاء

يبدو أنّ ابن الزبير التقى الإمام (علیه السلام) عدّة مرّات، إذ أنّه كان في جملة مَن

ص: 129


1- الصواعق المُحرقة لابن حجر: 117.
2- أسرار الشهادة للدربنديّ: 245.

يدخلون على الإمام (علیه السلام) .. «وكان يغدو ويروح إلى الحسين» ((1)).ويمكن استفادة تكرّر اللقاء من متابعة النصوص الّتي مرّت بنا، حيث أنّها تختلف في الظروف والمضامين _ أحياناً _ اختلافاً تامّاً.

وسيتّضح بعد قليلٍ من خلال الحديث عن وقت اللقاء ومكانه وغير ذلك أنّ النصوص تتحدّث عن عدّة لقاءاتٍ أو عدّة حوارات.

العرض الثاني: وقت اللقاء

ربّما أفاد ابن سعدٍ وغيره ممّن عدّ ابن الزبير في الداخلين على الإمام (علیه السلام) أنّ أحياناً كثيرةً وأوقاتاً متعدّدةً جمعَت ابن الزبير بالإمام (علیه السلام) ، من دون تحديد وقتٍ على وجه التحديد، غير أنّ نصوص هذا اللقاء الّذي نحن بصدد دراسته أشارت من خلال بعض العبارات إلى بعض الأوقات، وإن كانت عائمةً غائمةً غير محدّدةٍ بالضبط.

وربّما كانت جميعها تفيد _ بنحوٍ ما _ أنّ اللقاء كان بعد أن عزم الإمام (علیه السلام) على الخروج إلى العراق، أو قُبيل خروجه، ويبيّن ذلك من سؤال ابن الزبير عن

ص: 130


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

الخروج إلى العراق: أتخرج إلى قومٍ قتلوا أباك؟ وقول الدينوريّ: وبلغ عبد الله ابن الزبير ما يهمّ به الحسين ((1))، وقول الخوارزميّ: وبلغ ابن الزبيرأنّه (علیه السلام) يريد الخروج إلى الكوفة ((2))، وقول أبي الفرج: فأزمعَ الشخوص إلى الكوفة، ولقيه عبد الله بن الزبير في تلك الأيّام ((3))، وقول القاضي النعمان: فلمّا همّ بالخروج من مكّة لقيه ابن الزبير ((4))، وما شابه ذلك من عبارات المؤرّخين.

فيما قال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ أنّ اللقاء حصل بعد أن خرج ابن عبّاسٍ وجماعةٌ من عند الإمام (علیه السلام) ، فجاءه ابن الزبير وجلس عنده ((5)).

وقد حدّدَت رواية الطبريّ وابن كثير عن الأسديَّين الوقتَ بيوم التروية عند ارتفاع الضحى ((6))، وهو نفس يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، كما صرّح به الخبر نفسه.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّ الحسين (علیه السلام) خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبد الله بن الزبير ((7)) وكلّمه.

ص: 131


1- الأخبار الطوال للدينوريّ: 243.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.
3- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
4- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143.
5- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
6- تاريخ الطبريّ: 5 / 384، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
7- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.

وهذه الأوقات المذكورة جميعاً متقاربة، ولا مانع من تكثّرها لتكرّر اللقاء.

العرض الثالث: مكان اللقاء

اشارة

يمكن استكشاف عدّة أماكن من جملة النصوص الواردة في المقام:

المكان الأوّل: عند الإمام الحسين (علیه السلام)

ربّما أفاد قول جملةٍ من المؤرّخين: «وأتاه ابن الزبير» ((1))، وقول آخرين: «ودخل عليه ابن الزبير» ((2))، وقال الدينوريّ: «فأقبل حتّى دخل عليه»، سيّما أنّه يعقب بعد نقل الكلام بقوله: «فقام ابن الزبير وخرج من عنده» ((3))، ويقول ابن كثير: «فلمّا خرج من عنده» ((4)).

وفي قول ابن الصبّاغ والشبلنجيّ، تمّ اللقاء بعد أن خرج ابن عبّاس وجماعة من عند الإمام (علیه السلام) جاء ابن الزبير ((5)).

ص: 132


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، تاريخ الطبريّ: 5 / 383، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويري: 20 / 407.
2- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245.
3- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويري: 20 / 407.
4- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160.
5- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

تفيد هذه النصوص جميعاً أنّ ثمة لقاءٌ تمّ عند الإمام (علیه السلام) وفي دارته ومحلّ إقامته.

المكان الثاني: لحقه (علیه السلام) ابن الزبير

في (أمالي الشجريّ): إنّ ابن الزبير لحق الحسين بن عليّ (علیه السلام) ((1))، وفي حديث الإمام الباقر (علیه السلام) : «إنّ الحسين (علیه السلام) خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبد الله بن الزبير، فقال: ...» ((2)).

يبدو أنّ اللقاء حسب الحديث الشريف ومتن الشجريّ تمّ أثناء خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، وهو في الطريق، فالتشييع إنّما يحصل عند المتابعة والمسايرة في طريق الخروج، وهو يفاد من «لحق» في النصّ الأوّل.

المكان الثالث: بين الحِجر والباب

الأسديّان: فإذا نحن بالحسين وعبد الله بن الزبير قائمَين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحِجر والباب ((3)).

حدّد الأسديّان موضع اللقاء تحديداً دقيقاً، فهو قد حصل في المسجد

ص: 133


1- الأمالي للشجريّ: 1 / 174.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
3- تاريخ الطبريّ: 5 / 384.

الحرام فيما بين الحِجر والباب، وكانا قائمَين.

المكان الرابع: عند جمرة العَقبة

نجد في رواية أبي سعيد أنّ الإمام (علیه السلام) كان جالساً مع جماعةٍ عند جمرة العقبة، فلقيه ابن الزبير ((1))، فيكون اللقاء قد حصل خارج المسجد الحرام، بل في منى خارج مدينة مكّة.

العرض الرابع: هل كان اللقاء بين جماعة، أو كان في خلوة؟

أفادت بعض النصوص أنّ اللقاء جرى على مرأىً ومسمع من جماعة، كالّتي تقول أنّهما تحادثا ثمّ أخفيا كلامهما، ثمّ التفت الإمام (علیه السلام) إلى مَن هناك وعلّق على كلام ابن الزبير ((2)).

وقد صرّح ابن الصبّاغ والشبلنجيّ بوجود جماعةٍ عنده من خواصّه ((3)).

وأفاد الأسديّان كأنّ الإمام (علیه السلام) وابن الزبير كانا يتحدّثان فيما بينهما في المسجد الحرام، فاقتربا منهما حتّى سمعا الكلام، ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما

ص: 134


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143.
2- أُنظر: الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الأرب للنويريّ: 20 / 407، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، تاريخ الطبريّ: 5 / 383، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160.
3- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

وتناجيا دونهما ((1)).

فيما أفاد القاضي النعمان في خبر أبي سعيد أنّهما التقيا في جمرة العقبة، وكان الإمام (علیه السلام) جالساً مع جماعة، بَيد أنّ ابن الزبير خلا به ((2)).

وكذا هي رواية ابن قولويه عن أبي سعيد، باختلاف أنّ الإمام (علیه السلام) أقبل بوجهه إلى مَن معه وأخبرهم بما قاله ابن الزبير ((3)).

العرض الخامس: تحريض ابن الزبير على بني أُميّة

قال ابن سعدٍ ومَن تلاه:

ولزم ابن الزبير الحجر، ولبس المعافريّ، وجعل يحرّض الناس على بني أُميّة ((4)).

لقد نصّ المؤرّخ على فعاليّات ابن الزبير ونشاطاته في مكّة، وصرّح بها

ص: 135


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 384، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143.
3- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
4- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

بوضوح، وأخبر عن تحريضه الناس على بني أُميّة، وربّما دخل في هذا التحريض ما عرضه على سيّد الشهداء (علیه السلام) وتكلّم به بين يديه، إذ أنّه لا يبعد عن تحريض الإمام (علیه السلام) على بني أُميّة ويزيد، وهو يريد أن يصل إلى ما يروم بأيّ ثمنٍ كان وبأيّ وسيلةٍ توفّرت، فهو ثعلبٌ مراوغٌ وماكرٌ خبيث، لا يتورّع ولا يتحرّج، وإن تطلّب منه الأمر توظيف الدم الزاكي للوصول إلى مآربه الهابطة.

قال الشيخ ابن نما:

وكان عبد الله بن الزبير قبل موت يزيد يدعو الناس إلى طلب ثأر الحسين (علیه السلام) وأصحابه، ويغريهم بيزيد ويوثّبهم عليه، فلمّا مات يزيد (لعنه الله) أعرض عن ذلك القول، وبان بأنّه يطلب المُلك لنفسه لا للثأر ((1)).

* * * * *

ولسنا نسمع من المؤرّخين القدماء منهم والمتأخّرين مثل هذا التصريح وهذا البيان والنصّ الواضح يفيد أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قد مارس التحريض على بني أُميّة في مكّة، أو التحريض على شخص يزيد الخمور والفجور.ولا مجال لاستغفال المؤرّخ عن هذه النقطة بالخصوص، إذ أنّه لم يغفل عن ابن الزبير وهو النكرة المبهم الّذي لا قدر له ولا قيمة، وهو يعلم أنّ الناس لا

ص: 136


1- ذوب النضّار لابن نما: 78، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 356.

يأبهون به ما دام الإمام الحسين (علیه السلام) في مكّة، كما يعلم المؤرّخ وجميع مَن شهد أو روى أحداث تلك الأيّام.

فكيف يتنبّه الراوي والمؤرّخ إلى نشاط ابن الزبير، ثمّ يغفل عن نشاط سيّد الشهداء (علیه السلام) ويُغمِض النظر عن فعّاليات خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وكلماته وبياناته وتصريحاته، وكان المؤرّخ يومها يتابع الإمام (علیه السلام) ويلاحقه في جميع حركاته وسكناته.

فلو كان الإمام (علیه السلام) قد حرّض أو جيّش العواطف والعقائد والمشاعر، أو حشّد الجماهير والناس ليزجّ بهم في مواجهةٍ كاسحةٍ ضدّ يزيد وبني أُميّة، لَرصدها المؤرّخ وأشار إليها، ولو إشارةً من بعيدٍ يمكن أن تلوح للمتأمّل والمتابع بدقّة.

العرض السادس: إصرار ابن الزبير على خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة

كان ابن الزبير يغدو ويروح إلى الحسين (علیه السلام) ، ويشير عليه أن يَقدِم العراق، وقد فسّر المؤرّخ إصراره على ذلك لحبّه أن تخلو له ساحة مكّة المكرمة،وصرّحت جملةٌ من المتون التاريخيّة بما قاله الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مؤكّداً على ذلك، فهو مفضوحٌ على كلّ صعيد، فتراه يُصحِر بما فيه في فلتات لسانه، فيحثّ الإمام (علیه السلام) على التوجّه نحو العراق، ثمّ يستدرك ويستبقيه في مكّة في نفس الحديث، ممّا يدعو المؤرّخ إلى تفسير ذلك باطمئنانٍ برغبته الأكيدة في تخلية الحجاز منه (علیه السلام) ، ولو لم يكن ذلك ظاهراً بجلاءٍ في كلامه وسلوكه وأسارير

ص: 137

وجهه، لاكتفينا بما قاله عنه الإمام (علیه السلام) حين قال:

• «ليس في الدنيا أحبّ إليه مِن أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء» ((1)).

• «وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بي ما دمتُ فيه، فيودّ أنّي خرجتُ منه لتخلو له» ((2)).

ومن كلام الإمام (علیه السلام) تنكشف نوايا ابن الزبير حتّى لو كانت كامنة، أو كان هو يتكلّف في إخفائها، وعلى فرض أنّها كانت مضمرةً وغير معلنة، فإنّ في ما فضحه به الإمام (علیه السلام) كفاية كافية وعليها الاعتماد.

وقد انجلى سبب إصراره من خلال ما بيّنه الإمام (علیه السلام) ، فهو يريد أن يستفردبالحجاز ومكّة، لعلمه أنّه لا يمكن أن يرفّ له شاربٌ أو يُرفع له طرفٌ مع وجود شمس الكونين مُشرقةً على الكعبة والبيت الحرام ووديان مكّة وجبالها.

وبالرغم من كلّ ما تكلّفه من التظاهر بالزهد والعبادة، حتّى حاول هو ومَن ينسج على منواله أن يخلعوا عليه لقب (حمام الحرم)، ورغم تبنّيه شعاراتٍ مغريةً للإطاحة بحكم الظلَمة من بني أُميّة، ورغم ادّعائه الشرف الّذي يعلو به _ حسب مزاعمه _ على كلّ العرب، فإنّه لا يمكن أن يكون بحضور الإمام الحسين (علیه السلام) _ سيّد الكائنات وخامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل

ص: 138


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160.
2- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 407.

الجنّة _ حتّى صرصوراً في بالوعات الكنيف المحيطة بالبيت الحرام.

ومن هوان الدنيا على الله أن يَرى مثلُ ابن الزبير نفسَه بإزاء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويرى في ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) منافِساً له.

وسيتّضح لنا بعد قليلٍ أن لا مجال لفرض المنافسة بين هذا العلج المتمرّد المتوثّب للظلم وارتكاب المآثم ونيل حطام الدنيا الهزيل، وبين حبيب الله الملاحَق الّذي يطلب لنفسه وأهله ورهطه مأوىً يُبعِده عن مخالب القرود العادية المسعورة.

كما سيتّضح الفرق بين ما يصبو إليه ابن الزبير من توظيف البيت الحرام للوصول إلى الغاية الهابطة الرذيلة، وما يريده الإمام (علیه السلام) من حفظ الحرمات.. وغيرها من المطالب المتعلّقة بالمقام.

العرض السابع: خبر الزبيريّ

اشارة

قال مصعب: وأُخبرتُ عن هشام بن يوسف الصنعانيّ، عن معمّر قال: سمعتُ رجلاً يُحدّث، قال:

سمعتُ الحسين بن عليّ يقول لعبد الله ابن الزبير: «أتتني بيعةُ أربعين ألف رجل (يحلفون لي بالطلاق والعتاق) ((1)) من أهل الكوفة»، أو قال: «من أهل العراق».

ص: 139


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2604، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.

فقال له عبد الله بن الزبير: أتخرج إلى قومٍ قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟

قال هشام بن يوسف: فسألتُ معمّراً عن الرجل، فقال: هو ثقة.

(قال عمّي): وزعم بعض الناس أنّ ابن عبّاسٍ هو الّذي قال هذا ((1)).

ميّزنا خبر مصعب الزبيريّ عن غيره من الأخبار الّتي سنأتي عليها إن شاء الله؛ لما فيه من اختلافٍ معها في الصياغة والمضمون، ولما فيه من غرابة:

الغريبة الأُولى: الإسناد والتردّد

رغم أنّنا لا نرتكن إلى الإسناد في الروايات التاريخيّة، وقد بيّنّا قدره ومقدار الاستفادة منه وتوظيفه في بحث المدخل المطبوع في مقدّمة (مجموعة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام))، ومقدّمة كتاب (بنت الحسين رقية (علیهما السلام))، غير أنّ الزبيريّ نفسه قد أشار إليه، فاضطرّنا إلى الوقوف عنده على عجل.

ولو أغمضنا النظر عن الزبيريّ نفسه، وهو زبيريّ النسب والهوى، خبيثٌ شديد العداوة لأهل البيت (علیهم السلام) ، مراوغٌ خدّاعٌ مضلّلٌ في ما يرويه عن أهل البيت (علیهم السلام) ، كما يبدو واضحاً من مراجعة كتابه، وفي ذلك حاجزٌ منيعٌ دون الاستناد إليه.

فإنّ مَن يروي عنه الزبيريّ مجهولٌ لا يعرفه أحدٌ سوى مَن روى عنه،

ص: 140


1- أُنظر: نسب قريش لمصعب الزبيريّ: 239، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2604، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161.

وزعم أنّه ثقة، على حدّ زعم هشام بن يوسف!

أضِفْ إلى ذلك، فإنّ الزبيريّ يروي أنّه زعم بعضُ الناس أنّ ابن عبّاسٍ هو الّذي قال هذا، فهو يتردّد في إثبات ذلك لابن الزبير، فلا ندري إن كان الحديث مع ابن الزبير أو مع ابن عبّاس!

هذا، بغضّ النظر عن تردّده في قوله: «من أهل الكوفة»، أو «من أهل العراق».

فلا يمكن الاعتماد عليه والحال هذه.

الغريبة الثانية: ابتداء الإمام (علیه السلام)

إبتدأ الراوي بقوله: (سمعتُ الحسين بن عليّ يقول لعبد الله بن الزبير)، ثمّ نقل كلام ابن الزبير تعقيباً على ما قاله الإمام (علیه السلام) ، ممّا يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) كان هو المبتدئ بالكلام، فهو لم يروِ لنا إن كان ثمّة حوارٌ سابقٌ أو ملابسات سبقَت كلام الإمام (علیه السلام) ، ولم يرو لنا الظروف المحيطة بمجريات الحدث.

وصياغة الخبر على هذا النحو يختلف تماماً ويخالف النصوص المذكورة في الباب جميعاً، إذ ليس فيها ما يفيد ابتداء الإمام (علیه السلام) بالحديث مع هذا الجرذ المتنافخ.

الغريبة الثالثة: القسَم بالطلاق والعتاق

ليس في متن الزبيريّ في كتابه المطبوع عبارة: (يحلفون لي بالطلاق والعتاق)، وإنّما جاءت في تاريخ ابن عساكر وابن العديم وابن كثير وغيرهم،

ص: 141

بَيد أنّ هؤلاء جميعاً إنّما يروون عن الزبيريّ.

وهذا القَسَم باطلٌ لا قيمة له، وليس هو قَسَماً يعتدّ به الإمام (علیه السلام) أو يرتضيه، وليس من أدبيّاته.

وإن كان هو حكايةٌ لما أقسموا به، فإنّه يكشف أنّ عدد الأربعين ألفاً المزعوم هنا كلّهم من أتباع العِجل والسامريّ، وليس فيهم شيعةٌ لأمير المؤمنين ولأبي عبد الله الحسين (علیهما السلام) ، بالمعنى المصطلح للشيعيّ لا بالمعنى اللغويّ.

الغريبة الرابعة: بيعة أربعين ألفاً!

ذكر الخبر عدداً هائلاً لم نسمع به في أخبار مكّة عند غيره، فربّما جاء شاذّاً عند البعض في عدد المبايعين في الكوفة أيّام تشرّفها بوجود المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، والوارد في أخبار مكّة وصول الكتب والرسل، وقد صرّح بعضهم بعددها، أمّا النصّ على هذا العدد فهو غريبٌ عن سائر الأخبار الواردة في المقام.

ولو فرضنا بلوغ عدد المبايعين الّذين كتبوا إلى الإمام (علیه السلام) وهو في مكّة إلى هذا العدد، فإنّ الإمام (علیه السلام) لم يعتمد عليها، ولم يكن عزمه على التوجّه إلى الكوفة مستنِداً إليها، كيف وقد أرسل أخاه وابن عمّه وثقته ليستجلي له الموقف ويحكي له مدى توافق ما جاءت به الكتب والرسل مع مواقف ذوي الحِجا والرأي منهم.

ص: 142

الغريبة الخامسة: جواب ابن الزبير

سنأتي بعد قليلٍ على دراسة جواب ابن الزبير ضمن العروض المقبلة إن شاء الله (تعالى)، وإنّما نذكره هنا مفرداً لوقوعه ردّاً وجواباً على ما استند إليه الإمام (علیه السلام) من بيعة الأربعين ألف الّذين حلفوا له بالطلاق والعتاق، فيكون حينئذٍ كلام ابن الزبير له مغزى ومفادٌ يتعلّق بظرف الكلام.

يبدو من خلال ملاحظة السياق أنّ ابن الزبير سأل الإمام (علیه السلام) مستنكراً حينقال: أتخرج إلى قومٍ قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟ فهو يستنكر على الإمام (علیه السلام) ويتعجّب من فعله وعزمه على الخروج إلى قومٍ ثبتت له خيانتهم وغدرهم.

وكأنّ النصّ يريد أن يُشعِر القارئ أنّ هذا الأمر البديهيّ الّذي أدركه ابن الزبير واستنكره على الإمام (علیه السلام) خفيَ على الإمام (علیه السلام) وهو العالم بالله، وفي ذلك ما يكفي للنفرة والقرف والتحسّس من تسريبات الزبيريّ!

* * * * *

كيف كان، فإنّنا لا نريد إطالة المكث عند هذا الخبر المهلهل البائس، سيّما بعد أن تبيّن لنا أنّه مخدوشٌ عدّة خدوشٍ جارحةٍ تمنعه من النهوض.

العرض الثامن: عروض ابن الزبير

اشارة

تطالعنا النصوص باقتراحَين أساسيَّين متناقضَين تقدّم بهما ابن الزبير بين يدَي الإمام الحسين (علیه السلام) ، كلٌّ منهما يرسم موقفاً وصورةً تختلف عن الأُخرى تماماً.

ص: 143

الاقتراح الأوّل: البقاء في مكّة

اشارة

عرض ابن الزبير على الإمام الحسين (علیه السلام) أن يُقيم بمكّة، وزعم أنّه مستعدٌّ لمبايعته أو الانتصاب للأمر بنفسه على أن يبقى في طاعة الإمام (علیه السلام) ، وغيرها من المزاعم الّتي سنأتي على ذِكرها، إن شاء الله (تعالى).

بَيد أنّ جميع النصوص الّتي ذكرت هذا الاقتراح أشارت في ذيلها إلى أنّابن الزبير لم يكن جادّاً في ذلك، وإنّما تقدّم به ليدفع عن نفسه تهمة، وذكر البلاذريّ إضافةً تفرّد بها لتبرير فعلة ابن الزبير، فقال: إنّما أراد بذلك أن لا يتّهمه وأن يُعذَر في القول ((1)).

فلا ضرورة _ حينئذٍ _ لمناقشة تفاصيل اقتراحه للبقاء في مكّة ما دامه غير جادٍّ في كلامه، وإنّما أطلقه رياءً وسمعةً ومراوغةً ومكراً، غير أنّنا سنتناولها باختصار، من خلال الإيماءات التالية:

الإيماء الأوّل: الاقتراح غير جدّي

يبدو من خلال النصوص وفهوم المؤرّخين، والأهمّ من ذلك تصريح سيّد الشهداء وإمام الخلق أجمعين الإمام الحسين (علیه السلام) ، أنّ ابن الزبير قد اقترح على الإمام (علیه السلام) البقاء في مكّة، سواءً كان على مستوى الاستجارة والاحتماء بالحرم، أو من أجل تجميع الأنصار والأعوان والرجال وإعداد متطلّبات القيام، أو لأيّ غرضٍ أو دافعٍ كان، فهي جميعاً ذرائع يتذرّع بها ليُخرج نفسَه من دائرة الاتهام،

ص: 144


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 375.

ويُبعِد عن نفسه من خلال المراوغة والمكر والكذب والاحتيال ما هو معلومٌ منه بالبداهة، وهو تمنّيه خروج الإمام (علیه السلام) اليوم قبل الغد من مكّة، لتخلو له الساحة.

وهذا الأمر ممّا لا شكّ فيه بعد أن ظهر على فلتات لسانه، وبان من سلوكهالملتوي، وفضحه موقفُه ولحن القول، حتّى عرفه المؤرّخ والراوي، ولا مراء ولا تردّد بعد أن أبدى كوامنه وأذاع خفيّاته وأظهر ما أضمره أعلمُ الخلق بالخلق بإذن الله (تعالى).

الإيماء الثالث: الصورة الأُولى للاقتراح: اقتراحٌ كسائر الاقتراحات
اشارة

روى الدينوريّ صورةً لاقتراح ابن الزبير لا يبعد كثيراً عن سائر الاقتراحات الّتي تقدّم بها بعض الرجال يومها بين يدَي الإمام (علیه السلام) ، من قبيل المولى المكرّم ابن الحنفيّة وابن عبّاس، غير أنّه اقتراحٌ فيه شيءٌ من التحوير والاختلاف مع اقتراحات غيره.

فقد أقبل ابنُ الزبير حتّى دخل على الإمام (علیه السلام) وقال له:

لو أقمتَ بهذا الحرم، وبثثتَ رسلك في البلدان وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن يَقدِموا عليك، فإذا قوي أمرُك نفيت عمّال يزيد عن هذا البلد، وعلَيّ لك المكانفة والمؤازرة، وإن عملتَ بمشورتي طلبت هذا الأمر بهذا الحرم، فإنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار، لم يعدمك بإذن الله إدراك ما تريد، ورجوتُ أن تناله ((1)).

ص: 145


1- الأخبار الطوال للدينوريّ: 243.

وبهذا رسم للإمام (علیه السلام) خطّةً متكاملةً بزعمه للاستيلاء على مكّة وطلب الأمر، وتتلخّص الخطّة في النقاط التالية:1 _ أن يُقيم الإمام (علیه السلام) في الحرم المكّي.

2 _ أن يبثّ رسله في البلدان.

3 _ يكتب إلى شيعته بالعراق ليقدموا عليه.

4 _ بعد أن يقوى أمرُه في مكّة نتيجة اجتماع الناس من البلدان وشيعته من العراق، ينفي عمّالَ يزيد عنها.

5 _ يتعهّد ابن الزبير بالمكانفة والمؤازرة للإمام (علیه السلام) .

6 _ أن يعمل الإمام (علیه السلام) بمشورته، ويطلب هذا الأمر بالحرم، لأنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار.

7 _ حينئذٍ لا يُعدَم إدراك ما يريد بإذن الله، ويرجو ابن الزبير أن ينال الإمام (علیه السلام) الأمر.

تبدو هذه النقاط السبعة كأنّها خطّةٌ متكاملةٌ تقدّم بها ابن الزبير، والظاهر أنّه عمل بها هو نفسه بالفعل.

وهي تتركّز على اتّخاذ مكّة الحرم الآمِن وكراً يجمّع من خلاله الرجال والسلاح، فيستولي عليها وينطلق منها إلى غيرها من البلدان.

ويمكن التوقّف عند هذه الخطّة البائسة من خلال مناقشاتٍ عجلى:

المناقشة الأُولى: الإمام (علیه السلام) يحمي حُرمة الحرم

سنسمع بعد قليلٍ في ردود الإمام (علیه السلام) عليه ما يفضح خطّته ويكشف

ص: 146

زيف ما ذهب إليه، فليس مكّة البلد الحرام موضعاً يُتّخذ وسيلةً لطلب الدنيا الّتي يلهث عليها ابن الزبير، إذ أنّ معنى مكثه فيها انتهاك حرمتها وإراقة الدماء فيها، فلا ابن الزبير ولا يزيد يقيمون لمكّة والحرمات وزناً، ولا يهمّهم سوى تحقيق مآربهم الهابطة الخسيسة بأيّ ثمن.

والحال أنّ سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) يرعى حرمة الحرم، ويتجنّب أيّ عملٍ يمكن أن يؤدّي إلى انتهاك الحرمات.

المناقشة الثانية: دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة للاستئمان لا للتحشيد

ثمّة أمرٌ أقفل على ابن الزبير وأشباهه، وهو غرض الإمام (علیه السلام) من دخول مكّة، فإنّ ابن الزبير الّذي أعمى حبّ الدنيا بصرَه وبصيرته قد لا يمكنه أن يستشعر موقف الإمام (علیه السلام) ولا يُدرك الخطر المُحدِق به، فالإمام (علیه السلام) إنّما دخل مكّة مستأمناً، ولم يتحرّك فيها حركاتٍ تحريضيّةً واضحة، ولم يُجيّش فيها ولم يفعل أيّ فعلٍ فيه دلالاتٌ واضحةٌ على وجود نيّةٍ عنده تشي بها التصريحات والمواقف والتحرّكات، بحيث تفيد أنّه يريد أن يحارب الحكم القائم ويجابهه بالقتال من أجل الاستيلاء على بلدٍ من البلدان أو سائر البلدان، أو تقويض الحكم القائم وإقامة حكمٍ آخَر مكانه، أو أنّه يريد أن يحشّد الرجال ويجمع السلاح والأموال وغيرها من المقاصد الّتي يدعوه إليها ابن الزبير ويخطّط لها وينسج على منوالها.

ص: 147

المناقشة الثالثة: توظيف عنوان الإمام (علیه السلام)

ربّما كان عرض هذه الخطّة أو عرض البيعة _ كما سيأتي بعد قليل _ يتوخّى من بعده ركوب الموجة وتوظيف اسم الإمام الحسين (علیه السلام) ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، تماماً كما فعل بعد شهادته حين نادى بشعار الثأر لدمه.

أو أنّه يبايع ويؤازر ويكانف من أجل الحصول على شيءٍ في ظلّ حكم الإمام (علیه السلام) ، تماماً كما فعل أبوه وطلحة مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإن لم يصل إلى ما يصبو إليه انقلب عليه كما انقلب أبوه!

المناقشة الرابعة: الفرق بين اقتراحه واقتراح غيره

يُلاحَظ في اقتراحات غير ابن الزبير الّتي كانت تدعو الإمام (علیه السلام) إلى البقاء في مكّة، أنّها لم تدعُه بصراحةٍ إلى توظيف مكّة لتجميع الرجال والاستيلاء عليها، وإنّما كانت تفيد أنّ مكّة حرم الله الآمن، ويمكن أن يحمي وجود الإمام (علیه السلام) من تعدّي الأعداء وقتله، وتمنحه الفرصة للتواصل مع مَن يمكن أن يكونوا له أنصاراً.

فهي باختصارٍ كانت تركّز على حفظ شخص الإمام (علیه السلام) وحمايته واتّخاذ مكّة مأمناً، فيما نرى ابن الزبير يتّخذها جُنّةً وينوي الاستيلاء عليها وطرد واليها والانطلاق منها، فهو لا يكترث بحياة الإمام (علیه السلام) ولا بحرمة مكّة، ولا يهمّه سوى السلطان والقدرة والحكم، وإن أدّى ذلك إلى هتك حرمة البيت وسفك الدم الحرام فيه!

ص: 148

المناقشة الخامسة: سذاجة الخطّة

يبدو من بعض بنود الخطّة سذاجةً تحكي عقلاً مرتجّاً صرعَته مطامع الشهوات، فهو يريد أن يجمع شيعة الإمام (علیه السلام) _ حسب زعمه _ من الكوفة في مكّة، وهم عشرات الآلاف، ويكتب إلى البلدان، ويجمع مَن في مكّة ممّن اجتمع فيها من أهل الآفاق، وكأنّ هذه الآلاف المؤلَّفة الّتي ستقدم مكّة بالسلاح والعدّة ستصل خلال أيّامٍ قلائل وتتسرّب إلى مكّة كالنمل على حين غفلةٍ من السلطة والوُلاة، وأنّ مكّة ستستوعب كلّ هذه الأعداد الهائلة، ويتمّ الأمر بسلاسةٍ وسهولةٍ ويُسرٍ من دون أيّ اعتراضٍ أو تعرّضٍ مِن قِبل عساكر المُلك وولاة السلطان!!

وكأنّ السلطان يعاني من الحاجة والعوز وقلّة العديد والعدّة والعيون والجواسيس.

وكأنّ ابن زيادٍ لم ينظم الصحراء جنداً وحرّاساً وخيلاً ورجالاً، بحيث لم يتركوا داخلاً أو خارجاً إلى الكوفة إلّا فتّشوه، وملأوا الفيافي والقفار ضجيجاً وعجيجاً، وازدحمَت بهم المشاتي والمصايف..

وهكذا يجتمع _ بالبساطة الّتي يصوّرها ابن الزبير _ شيعةُ الإمام (علیه السلام) في العراق، ويجتمع الناس من المشارق والمغارب، وكأن ليس في مكّة مخالفاً لهم، وكأنّها مُغلَقةٌ بأهلها لهم على السلطان، ثمّ يطردون الوالي من مكّة..

إنّها أقرب إلى السخافة وقصص الخرافة من السذاجة.

وقد تبيّن فيما بعد ما فعلوا بمكّة جراء وجود ابن الزبير فيها!

ص: 149

الإيماء الرابع: الصورة الثانية للاقتراح: إنّك مطلوب
اشارة

لمّا همّ الإمام الحسين (علیه السلام) بالخروج من مكّة، لقيه ابن الزبير فقال:

يا أبا عبد الله، إنّك مطلوب، فلو مكثت بمكّة فكنت كأحد حمام هذا البيت واستجرتَ بحرم الله، لكان ذلك أحسن لك ((1)).

وقد ورد هذا المعنى في حديثٍ عن الإمام الصادق (علیه السلام) : «ولو جئتَ إلى مكّة فكنت بالحرم» ((2))، وكذا ورد عن أبي سعيد عقيصا أنّ ابن الزبير دعا الإمام (علیه السلام) إلى أن يكون حمامةً من حمام الحرم والمسجد، وقد خلا به وناجاه دون مَن كان حاضراً، فأقبل الإمام (علیه السلام) بوجهه إليهم وقال: «إنّ هذا يقول لي: كُن حماماً من حمام الحرم» ((3))..

* * * * *

يمكن التدقيق في مضامين النصّ من خلال بعض الالتفاتات:

الالتفاتة الأُولى: الإمام (علیه السلام) يكشف ما يقوله ابن الزبير سرّاً

سمعنا في أكثر من نصٍّ أنّ ابن الزبير يختلي بالإمام (علیه السلام) ، رغم وجود غيرهما

ص: 150


1- شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.
2- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
3- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.

في المكان، أو أنّه يكلّمه على مرأىً منهم ومسمع، ثمّ يُخفي كلامه ويناجيه، وكأنّه يحاور الإمام (علیه السلام) في موضوع سرّيّ لا ينبغي للآخرين أن يسمعوه، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) سرعان ما يلتفت ويخبر الحاضرين بما جرى بينهما من كلام.

فربّما كان من مكر ابن الزبير وخديعته أنّه يحاول أن يسارّ الإمام (علیه السلام) بين الملأ، ويريد بذلك أن يُوحي للناس أنّه على اتّفاقٍ مع الإمام (علیه السلام) ، ولو في بعض الأُمور، وأنّ ثمّة اتفاقاتٌ وأسرارٌ بينهما.

وربّما تقوّل على الإمام (علیه السلام) فيما بعد بحجّة أنّه قد اختلى به وكلّمه سرّاً على مرأىً من الناس، فيفتري على الإمام (علیه السلام) ما يشاء من أجل خديعة الناس وتوظيف مقام الإمام (علیه السلام) ومنزلته عندهم.

فلمّا التفت الإمام (علیه السلام) وتكلّم بصوتٍ مرتفعٍ وأسمع مَن حوله ما يقوله ابن الزبير، فضحه وأبطل خطّته.

وربّما أراد الإمام (علیه السلام) أن يُفصِح للحاضرين عن محتوى المحادثة، كي يكشف لهم عن موقفه ونيّته والخطر المحدق به، فهو يدعوه للبقاء في مكّة، ومكّة لم تعُد حرماً آمناً له بعد أن بيّت له العدوُّ الغدر والاغتيال، وثبت ذلكوأخبر عنه الإمام (علیه السلام) نفسه.

الالتفاتة الثانية: الإمام (علیه السلام) مطلوب!

رغم أنّنا عرفنا أنّ دعوة ابن الزبير الإمام (علیه السلام) للمكث في مكّة دعوةٌ كاذبة، وهو يتمنّى خروج الإمام (علیه السلام) منها فوراً، غير أنّ هذا النصّ يفيد بوضوح أنّ ابن الزبير أيضاً يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوب، لذا يدعوه للمكث في مكّة ليكون

ص: 151

كأحد حمام الحرم الآمن المستجير بحرم الله، ليأمن على حياته ويُبعد نفسه عن مخالب القرود العادية وجِرائها.

فهنا يظهر ابن الزبير مصيباً في تقدير ظرف الإمام (علیه السلام) والخطر المحدق به، غير أنّه لمّا كان ماكراً خدّاعاً مراوغاً كاذباً خبيثاً، يمكن أن نفهم موقفه من خلال منظار سوء الظنّ به وبسريرته العفنة الموبوءة.

فربّما كان يدعو الإمام (علیه السلام) للمكث في مكّة كي يتسنّى للعدوّ المتربّص الّذي أعدّ العدّة وأتقن الخطّة وأحكم الأمر لتنفيذ اغتيال الإمام (علیه السلام) في مكّة، وهذا ما صرّح به العدوّ وكشف عنه الإمام (علیه السلام) نفسه، وحينئذٍ يحقّق ابن الزبير ما يريد، وتخلو له مكّة كما يحبّ، ويتخلّص من الإمام (علیه السلام) كمنافسٍ _ حسب ما يزعم _ لا يعدله أحدٌ به.

وربّما كان يريد أن يوظّف حقيقةً كانت مخيّمة على الأجواء، وواقعاً مفروضاً لا يتردّد في قبوله أحد، وهو أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ للسلطان الّذي سوف يسعى في قتل الإمام (علیه السلام) مهما كان، وأينما كان، وهذا ما يعرفهالإمام (علیه السلام) ويعرفه ابن الزبير وغيره من المراقبين، فجعل هذه الحقيقة الثابتة والواقع النافذ ذريعةً ينفي عن نفسه من خلالها اتّهامه بالرغبة في خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة.

وربّما كان يريد للإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة ويمكث، ليكون له غطاءً شرعيّاً واجتماعيّاً ضافياً يمكنه توظيفه للوصول إلى مآربه.

كيف كان، فإنّه غير جادٍّ في اقتراحه على الإمام (علیه السلام) المكث في مكّة، فلا

ص: 152

داعي للمكث معه من أجل تفسير موقفه ودوافعه ونوازعه.

والّذي يهمّنا هنا اعترافه أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوب..

الإمام (علیه السلام) مطلوب.. يتربّص به العدوّ ليقتله..

هذا اعترافٌ في غاية الأهميّة!

أجل، ما اقترحه وزعم أنّه ينجو بالإمام (علیه السلام) من خلال التزامه الحرم لم يكن صائباً؛ لما سنسمعه في ردّ الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) يعرف العدوّ وجرأته وإقدامه الوقح على انتهاك الحرمات، والإمام (علیه السلام) لا يريد أن تُنتهَك حرمة البيت بدمه المقدّس الزاكي.

الإيماء الخامس: الصورة الثالثة للاقتراح: عرض البيعة
اشارة

بعد أن حاول ابن الزبير حثّ الإمام (علیه السلام) على التوجّه إلى العراق، ثمّ خشي أن يتّهمه، عرض عليه أن يُقيم بمكّة، فيبايعه ويبايعه الناس إن أراد الأمر ثمّة، وإن فعل الإمام (علیه السلام) ذلك ما خالفه أحد.ثمّ ذكر حجّته في ذلك، وحشر نفسه مع الإمام (علیه السلام) وتكلّم بضمير الجمع، فقال:

فعلى ماذا نعطي هؤلاء الدنيّة ونطمعهم في حقّنا، ونحن أبناء المهاجرين، وهم أبناء المنافقين، والإمام الحسين (علیه السلام) أحقّ من يزيد وأبي يزيد؟ فليدعهم ويدعو أهل الحجاز إلى بيعته، فيجيبوه ويكونوا إليه سراعاً، ويتولّى هذا الأمر، فيؤازروه ويساعدوه وينصحوا له ويجمعوا له الناس، وأنّه يتخوّف على الإمام (علیه السلام) إن خرج أن لا يرعى فيه إلّاً ولا

ص: 153

ذمّةً ولا قرابة ((1)).

* * * * *

هذا مجمل ما تضمّنته نصوص اقتراح عرض البيعة، ويمكن أن نشير إلى مؤدّى هذا الاقتراح من خلال الإشارات التالية:

الإشارة الأُولى: مكر ابن الزبير

لقد تقدّم ابن الزبير بهذا الاقتراح والإمام (علیه السلام) أثقل الناس عليه، وقد غمّه مكانه بمكّة، لأنّ الناس ما كانوا يعدلونه بالحسين، فلم يكن شيءٌ يُؤتاه أحبَّ إليه من شخوص الحسين عن مكّة ((2))، وكان هذا الكلام مكراً من ابن الزبير، لأنّه لا يحبّ أن يكون بالحجاز أحدٌ يناويه ((3)).

فلابدّ إذن أن يكون اقتراحه موبوءً سقيماً، ربّما كان ظاهره أنيق، بَيد أنّ باطنه بشعٌ شنيعٌ قبيحٌ كريه، ينسجم مع خبث ابن الزبير ومراوغته ودناءته.

ص: 154


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 375، تاريخ الطبريّ: 5 / 383، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزيّ: 137، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258، أسرار الشهادة للدربنديّ: 245.
2- أُنظر: مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، نفَس المهموم للقمّي: 167.
3- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.
الإشارة الثانية: اشتراط البقاء في مكّة

لقد أكّد ابن الزبير في أكثر من نصٍّ من النصوص هذا الاقتراح على الإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة ويطلب الأمر فيها، ويدعو ابن الزبير وأهل الحجاز للبيعة، ولا يخرج منها، وتفيد بعض السياقات أنّه شرطٌ لازمٌ للنجاح وتحقّق البيعة.

الإشارة الثالثة: دوافع البيعة

ذكر ابن الزبير جملةً من الدوافع والحجج الّتي تؤهّل الإمام (علیه السلام) _ بزعمه _ لطلب الأمر من مكّة والدعوة إلى البيعة، بيد أنّه عرضها بخبثٍ ومكرٍمفضوحَين، إذ أنّه حشر نفسه مع الإمام (علیه السلام) في تلك الحجّة، فجعل نفسه كالإمام (علیه السلام) في كونه من أبناء المهاجرين، وأنّ أُولئك هم أبناء المنافقين، وأنّ الأمر حقّهم، ولا ينبغي أن يسكتوا عنه فيطمع الآخرون بهذا الحقّ، ولا معنى لأن يُعطوا الدنيّة.. ثم عرّج على الإمام (علیه السلام) وقال: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) أحقّ من يزيد وأبي يزيد، وبما أنّ عوامل تأهيل الإمام (علیه السلام) مشتركةٌ بينه وبين ابن الزبير، فابن الزبير أحقّ من يزيد وأبي يزيد أيضاً، هكذا في حساب ابن الزبير!

ونسي هذا الغبيّ المتهالك على الدنيا أنّ الميزان الّذي قدّم فيه نفسه _ كما في هذا المتن بالفحوى وفي غيره بالنصّ _ مبنيٌّ على تقديم المهاجرين وأبنائهم على غيرهم، وهو نفسه ميزان السقيفة الّذي اغتصبوا بذريعته الخلافة من أمير المؤمنين (علیه السلام) ، والردّ عليه هو نفسه الردّ على أُولئك، وإذا كانت الهجرة والقرابة ملاك، فالإمام الحسين (علیه السلام) أحقّ بها وأَولى، ولا مجال لمثل ابن الزبير أن يدسّ

ص: 155

أنفه فيه.

الإشارة الرابعة: وعود ابن الزبير

قدّم ابن الزبير حزمةً من الوعود، إن قَبِل الإمام (علیه السلام) رأيه ومكث في مكّة وأعلن منها طلبه الأمر، وهي:

1 _ لا يخالفه أحدٌ في مكّة.

2 _ يُسرعوا إليه ويجيبوه ويبايعوه.3 _ يجمع له الناس.

4 _ يؤازره وينصحه ويساعده.

ونحن لا نريد هنا المكث مع هذا الأحمق، ففي ردّ الإمام (علیه السلام) _ الّذي سيأتي بعد قليلٍ _ كفاية، غير أنّنا ننكزه هنا نكزةً خفيفةً من خلال تذكيره بما يجري في مكّة، وهو يعيش فيها ويصبح ويمسي مع الإمام (علیه السلام) ، ويرى خذلان الناس وانشغالهم عن سيّد الخلق، ويرى هدوء الإمام (علیه السلام) واجتنابه التحريض والدعوة إلى البيعة والمطالبة بالملك..

فربّما أقدم على ما أقدم عليه ليتّخذ من اسم الإمام (علیه السلام) وعنوانه سُلّماً يصعد به على أكتاف الناس.

الإشارة الخامسة: خوفه على الإمام (علیه السلام) إن خرج

ذكر العلّامة الدربنديّ (رحمة الله) أنّ ابن الزبير أعرب عن تخوّفه على الإمام (علیه السلام) إن خرج أن لا يرعى فيه إلّاً ولا ذمّةً ولا قرابة.

ص: 156

ربّما لا يبعد هذا الكلام كثيراً عمّا ذكرناه في الإيماء الرابع حين حذّر الإمامَ (علیه السلام) من الإقدام على قومٍ قتلوا أباه وغدروا أخاه، فهو يحذّر هنا من جرأة العدوّ وبطشه، وأنّه لا يرعى في الإمام (علیه السلام) إلّاً ولا ذمّة، إن خرج!

والسياق يشهد أنّ المقصود بالخروج هنا هو الخروج إلى العراق، وبهذا يكون كلامه هنا يشبه كلام المعترضين الآخرين من جهة.

ويمكن أن يُردّ عليه بما سيأتي من كلام الإمام (علیه السلام) ، ويقال له:إن كان العدوّ لا يرعى في الإمام (علیه السلام) إلّاً ولا ذمّةً ولا قرابة، والإمام (علیه السلام) مطلوباً له على كلّ حال، فإنّه سيقدم على قتله وسفك دمه المقدّس الزاكي، وينتهك بذلك الحرمات، وهذا ما يأباه الإمام (علیه السلام) ، فالخروج حينئذٍ أصلح وأوفق، وكلام ابن الزبير هراءٌ أجوف، وخطأٌ فاضح، وخطلٌ وخبلٌ وطيشٌ وزلل.

الإيماء السادس: دعوة الإمام (علیه السلام) للبيعة مع ابن الزبير

بعد أن اقترح ابن الزبير على الإمام (علیه السلام) الإقامة في مكّة على أن يُبايع له ويجمع له الرجال، فردّ عليه الإمام (علیه السلام) وأخبره أنّه مقتولٌ لا محالة، وهو يريد الخروج من مكّة لئلّا يُقتَل بها، ولو أنّه قُتل خارجها بشبرٍ أحبّ إليه، عاد ابن الزبير ليقترح على الإمام (علیه السلام) من جديدٍ أن يبقى في مكّة ويولّيه الأمر، غير أنّه يبقى في طاعة الإمام (علیه السلام) !

ص: 157

فقال له ابن الزبير: فأقِمْ إن شئت، وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولا تُعصى.

فقال: «وما أُريد هذا أيضاً» ((1)).

هذا العرض ينمّ عن مدى جرأة هذا الجرذ الواطي والثعلب المتوحّشالماكر، فهو يعرض على إمام الخلق أن يولّيه الأمر، إذ أنّه يرى نفسه الأفضل والأشرف، حسب زعمه البائس في حديثٍ مع ابن عبّاس وغيره من المواطن.

وهذا النمط من العروض الخاطئة الآثمة لا ترقى إلى مستوى الهراء والسخافة والحماقة والخلل والخطل والخرق، وهي دون حدّ الركاكة التافهة والخساسة، فلا يُؤبَه بها، ولا يُلتفَت إليها، ولا تستحقّ النقاش والمكث عندها!

بَيد أنّنا نشير هنا إلى أمرٍ قد يلوح من ردّ الإمام (علیه السلام) بقوله: «وما أُريد هذا أيضاً»، إذ يردّ الإمام (علیه السلام) على العرضَين في آنٍ واحد، بالإضافة إلى ردّ العرض الأوّل حين اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يبايعه هو ويجمع له الرجال، فالإمام (علیه السلام) يردّ كِلا العرضَين معاً.

فلا يقبل منه البيعة، ولا يقبل أن يولّيه الأمر، ولو كان الإمام (علیه السلام) يريد الخروج بالمعنى المصطلح لكان في بيعة ابن الزبير له مغنم، وفي وعده بجمع الرجال فرصة، وفي بقائه في مكّة واتّخاذها منطلقاً وجهٌ تسوّغه متطلّبات العمل

ص: 158


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 384، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 407.

والإعداد للخروج على الحاكم.

والحال أنّ الإمام (علیه السلام) رفض أيّ نوعٍ من أنواع النشاط في مكّة المكرمة، ولو على مستوى الدعوة إلى البيعة، أو توظيف الآخرين للانتصاب وتسخير الفرصة وجمع الرجال وحشد الطاقات واغتنام الفرص.

ردّ الإمام (علیه السلام)
اشارة

لقد ردّ الإمام (علیه السلام) على ابن الزبير عدّة ردودٍ وردت في النصوص على مجمل اقتراحاته، يمكن متابعتها من خلال الأجوبة التالية:

الجواب الأوّل: القتل خارج مكّة أحبّ إليه (علیه السلام)
اشارة

لقد ردّ الإمام (علیه السلام) على اقتراح ابن الزبير:

إنّ أباه (علیه السلام) قد حدّثه أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، وأنّه لا يحبّ أن يكون ذلك الكبش ((1)).

ولئن يُقتَل خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليه مِن أن يُقتَل فيها أو داخلاً فيها بشبر، ولئن يُقتَل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليه من أن يُقتَل خارجاً منها بشبر ((2)).

ص: 159


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 384، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 3 / 375، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.

وأخبره:

إنّه (علیه السلام) لا يستحلّها ولا تستحلّ به، ولئن يُقتَل بالطفّ أو على تلٍّ أعفر أحبّ إليه من أن يُقتَل في الحرم ((1)).وأقسم له بالله وقال:

وأيمُ الله، لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ [خ ل: لَيعتدوا فيّ] كما اعتدت اليهود في السبت ((2)).

* * * * *

هذا الجواب الأوّل هو الجواب الأساس الوارد في أكثر المتون ردّاً على ابن الزبير، وهو ردٌّ على جميع الاقتراحات بكلّ أبعادها ومغازيها.

كما أنّه يُعدّ ردّاً يكشف عن موقف الإمام (علیه السلام) وظروفه والحوادث المحيطة به في مكّة المكرمة.

وسنتبيّن ذلك من خلال التلميحات التالية:

التلميح الأوّل: أهميّة الردّ

لقد جاءت اقتراحات ابن الزبير _ كما رأيناها قبل قليل في الإيماءات السابقة _ على كلّ صعيد، فهو قد اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة

ص: 160


1- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
2- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 385، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145.

مستأمناً، ويكون من حمام الحرم يأكل من رزق الله ويعبد الله ولا يهيجه هائجٌ ولا يهيج هو أحداً.واقترح عليه أن يدعو الإمام (علیه السلام) أهلَ الحجاز للبيعة، ويدعو شيعته من العراق، ويكتب إلى البلدان، ويطلب الأمر ويستولي على مكّة، وينطلق منها إلى باقي الأصقاع، فيزيل حكم الطاغوت الأُمويّ ويقطع الشجرة الملعونة، ويقذف القرود المتدلّية على أعوادها إلى جهنّم والنيران، ويتربّع على تخت السلطنة ويحكم الناس.

واقترح عليه بكلّ جرأةٍ وجسارةٍ ونذالةٍ وحقارةٍ أن يدعو لولاية ابن الزبير، على أن يكون ابن الزبير سامعاً له ومطيعاً.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ ابن الزبير وفّر من خلال اقتراحاته كلّ ما يمكن أن يفكّر به المتأمّل في حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ومدّة إقامته في مكّة، بل جميع مراحل حركته من المدينة إلى كربلاء، على فرض أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد نوى الخروج ب-- (المعنى المصطلح)، أو القيام بحركةٍ هجوميّةٍ بهدف التغيير في أيّ مجالٍ من مجالات التغيير، أو عزم على أيّ قصدٍ سوى قصد الدفاع عن نفسه وحماية أهله وشخصه المقدّس، والابتعاد عن مجال الخطر القطعيّ الجزميّ.

فقد عرض على الإمام (علیه السلام) البيعة، وقدّم له خطّة العمل، وأعلن نصرته له واستعداده لتجميع الرجال، وما إلى ذلك ممّا مرّ معنا قبل قليل.

فجاء جواب الإمام (علیه السلام) واضحاً لائحاً بيّناً جليّاً صريحاً، يفهمه مَن يقرأه من دون تحميل كلام الإمام (علیه السلام) ما لا يحتمل، والتكلّف والتعسّف في التأويل،

ص: 161

والالتفاف على الصورة الواضحة وَلَيِّ عنق النصّ من أجل حشره فيالسوابق الذهنيّة المفترضة والمفروضة على حركة الإمام (علیه السلام) بعيداً عن تصريحاته وبياناته.

ربّما كان هذا الجواب من أجلى الأجوبة الّتي يمكن من خلالها أن يفهم المتلقّي حركة الإمام (علیه السلام) ومغزى تنقّلاته من المدينة إلى مكّة إلى كربلاء، ومقاصده وأهدافه من جميع تلك الرحلات الّتي أبكت السماوات والأرضين، ومَن فيهنّ، ومَن بينهنّ..

ويكشف عن مدى مظلوميّة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجليل رزئه وعظيم مصيبته وغربته، فهو غريبٌ يوم كان في مكّة، عانى خذلان الناس وانصرافهم عنه والتخلّي عنه، ليكون طعام سيوف الحاقدين والمارقين والمنافقين.

وغريب، إذ يقول ويأبى الناس أن يسمعوا ما يقول، ينصتوا إلى ما يقوله ويزعمه ابن الزبير ويروّج له، ليعرض الإمام (علیه السلام) كما يعرضه قرود الشجرة الملعونة في صورة (الخارجيّ) الّذي يريد المُلك والسلطان، وغيرها من الأهداف والمقاصد المفترضة له، سواءً أرضيَ وأصحر عنها الإمام (علیه السلام) ، أو صرّح بغيرها أو بضدّها!

فلو أصغينا بقلبٍ منفتحٍ لحظةً لما يقوله الإمام (علیه السلام) في مقام الردّ على اقتراحات ابن الزبير، وهو يعلم أنّه منافقٌ مراوغٌ دجّالٌ مكّار، غير أنّه أعذر له ولنا ولجميع من بلغه كلام الإمام (علیه السلام) ، ليقول كما سنسمع بعد قليل:

إنّه لا يريد شيئاً ممّا يدعوه إليه ابن الزبير، وإنّما هو محاصرٌ مطلوبٌ للقتل،

ص: 162

قد هجم عليه القوم وعلى عياله وأهله ورهطه، وهو يريد الدفاع عن نفسه، إنّه لا يريد سوى الدفاع عن نفسه مقابل هجوم العدوّ على بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعزمه على إبادة آل الله واستئصال شأفتهم واجتثاث كلّ ما يتعلّق بالشجرة المباركة الثابتة الأصل المنتشرة الفروع في السماء.

ولو كان الإمام (علیه السلام) يريد شيئاً ممّا يدعوه إليه ابن الزبير، أو أنّه يبيّت أمراً يريد أن يجمع له الرجال، لكان في بيعة ابن الزبير مغنم!

التلميح الثاني: البقاء في مكّة يعني القتل قطعاً

تأكيد الإمام (علیه السلام) على ما حدّثه به أبوه (علیه السلام) ، وعزمه الأكيد، وتعبيره بشتّى العبارات وفنون البيان على أنّه إن يُقتَل خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبّ إليه من أن يُقتل فيها أو يُقتل داخلاً فيها بشبرٍ أو باع، بل أن يُقتَل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليه من أن يُقتل خارجاً منها بشبر، وهكذا..

فإنّ هذا كلّه يؤكّد أنّ الإمام (علیه السلام) يُخبر عن ظروف إقامته في مكّة المكرمة، وأنّه إن بقي فيها فإنّه مقتولٌ لا محالة، وهذا الإخبار ليس إخباراً غيبيّاً محضاً، وإنّما هو قراءةٌ للأحداث والحوادث وسلوكيّات العدوّ وفعاليّاته، فهو بالتالي إخبارٌ عن عزم العدوّ _ الّذي لا يقبل المراجعة والرجوع _ على قتل الإمام (علیه السلام) ، وسعيه الحثيث وإعداده العدّة الكافية والخطط اللازمة لتنفيذ ذلك.

وهو _ عاقبةً _ بيانٌ لسبب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة المكرمة، والدافع الأصليّ والأساس والأوّل لهجرته منها ورحيله عنها.

وبكلمة:

ص: 163

إنّ الإمام (علیه السلام) يُعلِن من خلال ما عبّر عنه بأنّ القتل خارج مكّة ولو بشبر أحبّ إليه من القتل فيها، أنّه ملاحَقٌ مطلوب الدم محاصَر، لا يتردّد العدوّ طرفة عينٍ في الإقدام على جريمته أينما كان، ولو في البيت الحرام!

فهو مهدَّدٌ قد أحدق به الخطر من كلّ جانبٍ ومكان، ولابدّ له أن يخرج عنها؛ ليحفظ حرمة الحرم، ولئلّا يقع القتل فيه..

فهو في موقف الدفاع عن نفسه وأهله، والدافع الأصليّ الّذي يدعوه لمغادرة حرم الله الآمن هو حماية الحرم وحماية دمه المقدّس من أن يُراق في الحرم.

التلميح الثالث: حماية حرمة الحرم

إنّ لله حرماتٍ ومشاعر أمر بتعظيمها وحفظها وحمايتها، والإمام (علیه السلام) هو الحامي والحافظ لحدود الله وحرماته، وفعله وقوله وتقريره سنّة يستنّ بها الخلق، فإذا بقي في الحرم حتّى يُقتَل، وهو يقدر على الخروج منه ولو بشبر، صار فعله حكماً يأخذه المتشرّعة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ ثانية، فإنّ الإمام (علیه السلام) هو الكمال المطلق في عالم المخلوقات، خلقه الله كاملاً لا يعتريه النقص بتاتاً، فهو العالم بالله الّذي يعرف حدود الله، ويعلم ما يعني الحرم وحرمة الحرم.

أمّا الأوباش والأوغاد والسفلة والنفعيّين أمثال ابن الزبير ويزيد وأشباههممن الطواغيت والمجرمين، فإنّهم لا يرعون لله حرمة، ولا يأبهون إلّا بما تمليه عليهم حقارتهم ودناءتهم وشهواتهم ولذّاتهم الهابطة، ولا يرون حريماً أبعد من

ص: 164

الوحل المنتن والقاع المظلم المعتم الّذي يتقلّبون فيه.

لقد قال الإمام (علیه السلام) قولاً وفعل فعلاً يعجز عن القيام به إلّا سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء ومَن استثناهم الله معه من المعصومين (علیهم السلام) ، فخرج من مكّة، وهي بلده ومنبت شجرته، والبلد الآمن الّذي يأمن فيه كلّ شيء، لئلّا تهتك حرمة البيت!

وأطلقها صريحةً واضحةً بجزمٍ وحزمٍ وثباتٍ وقوّة: «لا نستحلّها ولا تستحلّ بنا»، فهو لا يستحلّها، ولا يفتح المجال لغيره أن يستحلّها به.

ما أعظم حرمات الله، وما أعظم مَن تتشرّف به الحرمات، وهو حريمها وحاميها!

وما أحقر وأحطّ وأخسّ وأدنى وأذلّ وأردأ وأقبح وأبشع أعداءه، من أمثال ابن الزبير ويزيد، الّذين استباحوا أعظم الحرمات، وكلّ الحرمات..

التلميح الرابع: التعريض بابن الزبير

لقد حدّث الإمام عن أبيه (علیهما السلام) ، وهما أصدق الخلق: أنّ بمكة كبشاًيستحلّ حرمتها، وقال: إنّه لا يحبّ أن يكون ذلك الكبش ((1))، فأشار لابن الزبير بإشارةٍ لائحةٍ معرِّضاً به ((2))، ومحذّراً له من التورّط في استباحة الحرم، بَيد

ص: 165


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 384، نفَس المهموم للقمّي: 169، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 166، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- أُنظر: المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق السيّد علي أشرف، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 245، بحار الأنوار: 44 / 185، العوالم للبحرانيّ: 17 / 54.

أنّه لا يُبصِر، وقد أعماه هواه الّذي اتّخذه إلهاً من دون الله.

التلميح الخامس: ذكر البديل عن القتل في الحرم

ذكر الإمام (علیه السلام) بدائل بإزاء قتله في الحرم، وأنّها أحبّ إليه، فقال: لئن يُقتل بالطفّ، أو على تلٍّ أعفر، أحبّ إليه مِن أن يُقتل بالحرم، ولئن يُدفن بشاطئ الفرات، أحبّ إليه من أن يُدفن بفناء الكعبة ((1)).

والظاهر أنّ المواضع الثلاث المذكورة كلّها تشير إلى موضعٍ واحدٍ بعينه، فشاطئ الفرات هو نفسه الطفّ، وهما اللذان عبّر عنهما ب-- (تلٍّ أعفر).

والأعفر: الرمل الأحمر، والعفر من الظباء الّتي تعلو بياضها حمرة ((2)).

فيكون التلّ الّذي أشار إليه الإمام (علیه السلام) موصوفاً ب-- (أعفر)، أي: أنّ رملهأحمر، أو تعلوه الحمرة، وهي صفة تربة كربلاء إلى يوم الناس هذا.

فهي _ إذن _ إشارةٌ إلى كربلاء العراق.. الأرض الموعودة الّتي امتزجَت بها الدماء الزاكيات، وهو نفس ترجيحه وحبّه أن يُدفن بشاطئ الفرات على أن يُدفن بفناء الكعبة.

فكأنّ الإمام (علیه السلام) يقول لابن الزبير: أن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ مِن أن أُقتل في مكّة، وأن أُدفن بكربلاء أحبّ إليّ من أن أُدفن بفناء الكعبة.

ص: 166


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.
2- أُنظر: لسان العرب: عَفَر.

وفي ذلك تعريضٌ بابن الزبير من جهة، وبيانٌ واضحٌ وتصريحٌ يُعلِن فيه الإمام (علیه السلام) أنّ بقاءه في مكّة يعني قتله الحتميّ فيها.

بمعنى: أنّ القتل يلاحقه، وأنّه سيُقتَل لا محالة، والعدوّ لا يتراجع عن ذلك، تماماً كما فعل مع جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبيه أمير المؤمنين وأُمّه الصدّيقة الطاهرة وأخيه الحسن وأبنائه الأئمّة الهداة (علیهم السلام) ، بَيد أنّه إن بقي في مكّة فسوف تُهتَك به حرمتها، فأحبّ أن يخرج إلى العراق _ حيث الأرض الموعودة _ ثمّ فلْيكن القتل، فإنّه لا يخاف الموت.

وإن شئت فقل:

إنّ القوم قد اختاروا قتل الإمام (علیه السلام) ، وعزموا عليه عزماً أكيداً لا يقبل التردّد، واختار الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) المكان _ بغضّ النظر عن العامل الغيبيّ _ وفق ما أسفرت عنه مجريات الأحداث ومسيرة الحوادث، بعد أن خذله أهل الأمصار جميعاً بما فيها مكّة والمدينة، وبعد أن أعلنت له ثُلّةٌ منالديّانين القليل استعداد النصرة والذبّ عنه والدفاع عن آل الله، كما وعده سرابٌ متموّجٌ مهزومٌ مهزوزٌ كاذبٌ غدّارٌ تمثّل بمن كاتبه ووعده النصرة والدفاع، ثمّ نكص وانقلب على عقبيه، واختار أولاد البغايا على أبناء الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) .

التلميح السادس: لو كنتُ في جُحر هامّةٍ لَاستخرجوني!
اشارة

لقد قال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن الزبير كلاماً قاله لغيره أيضاً، فقد سمعنا في هذا المقطع من النصّ خطاب الإمام (علیه السلام) ، وهو يقسم بالله ويقول:

ص: 167

«وأيمُ الله، لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني، حتّى يقضوا فيّ حاجتهم» ((1)).

وكان قد قاله لأخيه محمّد ابن الحنفيّة أيضاً..

وقد رُوي بأسانيد: إنّه لمّا منعه (علیه السلام) محمّد ابن الحنفية عن الخروج إلى الكوفة، قال: «واللهِ _ يا أخي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه، حتّى يقتلوني» ((2)).كما قاله لابن عمّه عبد الله بن جعفر في كتابٍ له:

«فواللهِ _ يا ابن عمّ! _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني حتّى يقتلوني، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهود في يوم السبت، والسلام» ((3)).

ورُوي عنه أنّه قال (علیه السلام) :

«واللهِ لا يدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» ((4)).

ص: 168


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 385، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 407، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 94.
2- بحار الأنوار: 45 / 98، المنتخب للطريحيّ: 2 / 735، أسرار الشهادة للدربنديّ: 243، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 234، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 251.
3- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.
4- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الطبقات لابن سعد: 50 الرقم 280، تاريخ الطبريّ: 5 / 393، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 216، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 169، الإرشاد للمفيد: 2 / 77، إعلام الورى للطبرسيّ: 231، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 375، العوالم للبحرانيّ: 17 / 225، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 247، أسرار الشهادة للدربنديّ: 251، وسائل المظفّري لليزديّ: 441، نفَس المهموم للقمّي: 185، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 188، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 62، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 269، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 595، لواعج الأشجان للأمين: 87، مثير الأحزان للجواهري: 40.

وقال لابن عبّاس:

«هيهات هيهات يا ابن عبّاس! إنّ القوم لم يتركوني، وإنّهم يطلبونني أين كنت، حتّى أُبايعهم كرهاً، ويقتلوني، واللهِ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني، واللهِ إنّهم ليعتدونعلَيّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت» ((1)).

وقد ورد خلال فترة حركته من مكّة حتّى اختاره الله وقبضه إليه باختياره الكثير من البيانات بنفس المعنى، وإن اختلفت المواقف والعبارات، غير أنّها جميعاً تؤدّي نفس المؤدّى، وسنأتي عليها في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

لذا اقتضى المكث عندها _ ولو على عجلٍ _ لإلقاء عدّة نظراتٍ سريعةٍ عليها:

ص: 169


1- أسرار الشهادة للدربنديّ: 246، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 243، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 247، وسائل المظفّري لليزديّ: 436، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 157.
النظرة الأُولى: وضوح الكلمة

إنّها كلمةٌ _ وهو لا ينطق عن الهوى، وكلّ كلمةٍ منه شرعٌ ودِين _ قالها سيّد الشهداء (علیه السلام) في أكثر من موقف، ومع أكثر من شخص، وقد ورد مضمونها ومعناها ومؤدّاها في مواطن كثيرةٍ خلال رحلة الشهادة، فهي ليست كلمةً قد صدرت في ظرفٍ خاصٍّ وأجواء خاصّةٍ وموقف خاصٍّ يمكن أن تُأوّل ويُلوى عنقها، وتُحمَل على محامل صعبة، ويُفرض عليها فهمٌ خاصٌّ ينبثق من السوابق الذهنيّة للمتلقّي.

إنّها كلمةٌ تُعَدّ مفتاحاً كبيراً وباباً يلج منه المتابع لحركته _ فداه العالمين _،ويفهم من خلالها موقفه والمشهد الّذي تحرّك فيه..

هي كلمةٌ واضحةٌ جليّةٌ بيّنةٌ سافرةٌ باديةٌ ساطعةٌ صارخةٌ لامعةٌ مُشرقةٌ مضيئةٌ صريحةٌ نيّرة، لا خفاء فيها ولا غموض ولا إبهام ولا استتار ولا إضمار ولا غمغمة ولا عتمة..

كلامٌ صدر من مالك اللغة والمتصرّف بها وسيّد البلاغة وأمير الفصاحة، بألفاظٍ سهلةٍ جزلةٍ سلسةٍ ميسّرةٍ مأنوسةٍ مألوفةٍ غير عسيرةٍ ولا صعبةٍ ولا معقّدةٍ ولا مستغلقةٍ ولا مستعصية، وإنّما قريبة المنال قريبة من الفهم لمن يعرف مفردات اللغة وتركيباتها، ولو بأدنى مستوى!

ومهما قلنا وكتبنا عن هذه الكلمة وأهميّتها، فإنّنا نجزم أنّنا لا نبلغ، ولا يبلغ أحدٌ من العالمين إلّا مَن استثناهم الله.

سيّما أنّها وردت في المصادر التاريخيّة عند المتقدّمين والمتأخّرين،

ص: 170

وشهدت لها كلمات الإمام (علیه السلام) الأُخرى ومواقفه وسيَر الحوادث ومجريات الأحداث.

النظرة الثانية: القسَم

إنّ الإمام (علیه السلام) أصدق الخلق، وإذا قال فهو لا يقول إلّا الحقّ، ولا ينطق عن الهوى، فإذا أقسم فهو يُقسِم كما يُقسِم الله في كتابه الكريم، فليس قسمه لبيان صدقه كما قد يضطرّ الإنسان العادي إلى ذلك، وإنّما هو يقسم للتأكيد ولإقناع النفوس الّتي قد لا ترضخ لكلامه ولا تسكن إلى بيانه لما فيها مِن غشٍّ ودغلٍوخبّ، أو لبيان التحقّق للقلوب الواعية الّتي تسلّم بمقاله..

والقسم هنا بلفظ الجلالة، وليس ثمّة قسمٌ أعظم منه!

فلا مجال للشكّ والتردّد والوسوسة والتكهّن والالتباس والتوهّم والريبة والمراء في ما يريد أن يقول، ولا مجال للتأويل والتخمين والتكلّف فيما صرّح به.

فالكلام واضح، قد ورد في المصادر القديمة كما ورد في مصادر المتأخّرين من الفريقين، والمتكلّم معصوم، وقد أقسم على ما يقول.

ولولا أهميّة المقسَم عليه لما أقسم الإمام (علیه السلام) ، وهو لا يصدر منه الفضول، حاشاه! فلمّا أقسم (علیه السلام) علمنا أنّ الموضوع في غاية الأهميّة، وعرفنا ضرورة التأمّل فيه والأخذ به، وإمعان النظر في مؤدّاه، والسعي لإدراك مغزاه.

النظرة الثالثة: لو كنتُ في جُحر هامّة!

هوامّ الأرض هي حشراتها وما يدبّ عليها دبيباً، وهي تتّخذ حُفَراً في

ص: 171

الأرض ربّما كانت ضيّقةً وعميقة، ولها مسارب تحت الأرض، وهي مظلمةٌ ومستترة، وليس لها إلى وجه الأرض سوى ما يسمح لها بالمرور.

وهي تملأ الأرض شرقاً وغرباً، ولا تكاد بقعةٌ من بقاع الأرض ولا صقعٌ من الأصقاع ولا بلدٌ من البلدان تخلو منها، بل ربّما لا يخلو منها دارٌ ولا بيتٌ ولا غرفة، وهي تملأ الصحارى والفيافي والجبال والسهول والوديان والأنهار والبحار والمحيطات، وتنتشر على وجه البسيطة، وعلى ما فوقها من أشجارونباتات، وغيرها من المواضع الّتي يمكن أن تكون في الأرض..

والبحث عن شيءٍ في جحور الهوامّ يعني المستحيل، فضلاً عن العثور عليه.. الاحتمالات لا تُحصى، والمواضع لا تُدرَك، والظروف المحيطة لا تسمح..

هذه هي الصورة الّتي رسمها سلطان المظلومين (علیه السلام) لعدّوه الّذي يطارده ويطلبه!

إنّه سيفعل المستحيل..

إنّه سيُقدِم على ما يطلب من الدم الزاكي والرأس المقدّس مهما كان الثمن.. سوف لا ولن يتهاون ويتراجع ويسكن ويهدأ ما لم يحقّق ما يريد..

إنّه سيبحث عنه في غياهب الأرض وظلمات البحار وفي أطباق الثرى، ويركب الأهوال والأمواج، ويغوص في دياجير المحيطات، ليصطاد الصيد السماويّ المقدّس الدامي..

فإلى أين سيذهب سيّد الشهداء (علیه السلام) وقد خذله سكّان الأرض إلّا الديّان

ص: 172

القليل الموجود في العراق فقط؟!

يا غريب الغرباء، يا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقرّة عين الوصيّ (علیه السلام) وثمرة فؤاد الزهراء (علیها السلام) وصنو السبط الأكبر (علیه السلام) ، يا أبا الشهداء.. أتضيق الدنيا على ابن محمّدٍ حتّى لا سماء تُظِلّه ولا أرض تُقِلّه؟!!

ليست اليمن، ولا شعف الجبال، ولا التنقّل من بلدٍ إلى بلدٍ والترحال، ولاالتوغّل في أكناف الصحارى وأعماق القفار الّتي اقترحها عليه مَن اقترح، بل ضرب الإمام (علیه السلام) جُحر هوامّ الأرض مثلاً.. لا شيء منها تحميه ولا تأويه ولا تدفع عنه عادية القرود المسعورة والعسلان المترصّدة به، لتملأ منه أكراشاً جوفاً وأجربة سُغباً..

فإنّه إن كان في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ.. هكذا بالتنكير: «جُحر، هامّة».. لتشمل أيّ جُحرٍ وأيّ هامّةٍ من هذه الهوامّ جميعها دون استثناء، على كثرة عددها الّذي لا يُحصيه إلّا الله في الإمام المبين.. فإنّهم سيلاحقونه ويستخرجونه!

يستخرجونه.. لا أنّه يخرج عليهم!!!

النظرة الرابعة: حتّى يقضوا فيّ حاجتهم!

حتّى يقضوا فيّ حاجتهم..

أخبر الإمام (علیه السلام) أنّ لهم حاجةً فيه.. إنّها حاجة.. مطلب.. ضرورةٌ تعوزهم.. لا يستغنون عنها ولا يكلّون ولا يملّون في طلبها، ولا يرضون بالبديل عنها!

ص: 173

حاجتهم المتجذّرة في أعماقهم.. تماماً كالحاجة إلى الأكل حينما يسغب الحيوان المفترس..

حاجتهم فيّ!

وقد فسّرت باقي النصوص هذه الحاجة.. لَاستخرجوني منه حتّى يقتلوني، فقتله هي حاجتهم وضرورتهم الملحّة الّتي لا يمكنهم أن يتخلّوا عنها، ولا أن يتوانوا في ملاحقتها..غير أنّ هذا القتل ليس هو وحده الحاجة، وإنّما الانتقام والتشفّي، وإطفاء نيران الحقد والعداوة والبغضاء والشحناء والحسد، كما يشهد له نصّ ابن سعدٍ ومَن تلاه..

«واللهِ لا يدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» ((1))..

ص: 174


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الطبقات لابن سعد: 50 الرقم 280، تاريخ الطبريّ: 5 / 393، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 216، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 169، الإرشاد للمفيد: 2 / 77، إعلام الورى للطبرسيّ: 231، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 375، العوالم للبحرانيّ: 17 / 225، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 247، أسرار الشهادة للدربنديّ: 251، وسائل المظفّري لليزديّ: 441، نفَس المهموم للقمّي: 185، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 188، وسيلة الدارين للزنجانيّ: 62، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 269، أعيان الشيعة للأمين: 1 / 595، لواعج الأشجان للأمين: 87، مثير الأحزان للجواهري: 40.

فهم لا يكتفون باستخراجه لقتله فحسب، وإنّما يُمعِنون في التشفّي وإظهار العداوة والأحقاد والضغائن باستخراج العلقة المقدّسة مسكن إرادة الله مِن جوفه!

مطلوبٌ قلبه _ قلب العالم ومركز العلم الإلهيّ والأسماء الحسنى، ومعدن التوحيد والدين والتشريع ونبع الحياة _، تماماً كما طلبت هند كبد عمّهالحمزة (علیه السلام) وقلبه!

التلميح السابع: تمثيل الاعتداء عليه باعتداء بني إسرائيل
اشارة

بعد أن أقسم الإمام (علیه السلام) على ما ذكره من ملاحقتهم له، وأنّهم يطلبونه على كلّ حالٍ وفي كلّ مجالٍ حتّى يقضوا فيه حاجتهم ويقتلونه، ويستخرجوا العلقة المقدّسة من جوفه، ضرب لهم مثلاً باعتداء بني إسرائيل واليهود في اعتدائهم في السبت أو على السبت، وأنّهم سيعتدون عليه تماماً مثل اعتداء أُولئك..

«وأيمُ الله، لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني، حتّى يقضوا فيّ حاجتهم، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ [خ ل: لَيعتدوا فيّ] كما اعتدَت اليهودُ في السبت» ((1)).

ص: 175


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 385، شرح الأخبار للقاضي النعمان: 3 / 143 و145، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 407، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 94.

وسوف نحاول استجلاء ما في هذا التمثيل والتشبيه من دلالاتٍ ومعانٍ من خلال الجلوات التالية:

الجلوة الأُولى: حديث الإمام السجّاد (علیه السلام)

ورد في تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام) :

«وقال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) :كان هؤلاء قوماً يسكنون على شاطئ بحر، نهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت.

فتوصّلوا إلى حيلةٍ ليُحلّوا بها لأنفسهم ما حرّم الله، فخدّوا أخاديد، وعملوا طرقاً تؤدّي إلى حياض، يتهيّأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق، ولا يتهيّأ لها الخروج إذا همّت بالرجوع منها إلى اللُّجج.

فجاءت الحيتان يوم السبت جاريةً على أمان الله لها، فدخلَت الأخاديد، وحصلت في الحياض والغدران.

فلمّا كانت عشيّة اليوم همّت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن صائدها، فرامت الرجوع فلم تقدِر، وأُبقيَت ليلتها في مكانٍ يتهيّأ أخذها يوم الأحد بلا اصطياد، لاسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها.

فكانوا يأخذونها يوم الأحد، ويقولون: ما اصطدنا يوم السبت، إنّما اصطدنا في الأحد. وكذب أعداء الله، بل كانوا آخذين لها بأخاديدهم الّتي عملوها يوم السبت، حتّى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم، وتنعّموا بالنساء وغيرهنّ لاتّساع أيديهم به.

وكانوا في المدينة نيفاً وثمانين ألفاً، فعل هذا منهم سبعون ألفاً، وأنكر

ص: 176

عليهم الباقون، كما قصّ الله (تعالى): ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِيكَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ _ الآية ((1)).

وذلك أنّ طائفةً منهم وعظوهم وزجروهم، ومن عذاب الله خوّفوهم، ومن انتقامه وشديد بأسه حذّروهم، فأجابوهم عن وعظهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ بذنوبهم هلاك الاصطلام، ﴿أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً﴾، فأجابوا القائلين لهم هذا: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾، هذا القول منّا لهم، ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ إذ كُلّفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربُّنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم، قالوا: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ((2))، ونعظهم أيضاً لعلّهم تنجع فيهم المواعظ، فيتّقوا هذه الموبقة، ويحذروا عقوبتها.

قال الله (عزوجل) : ﴿فَلَمَّا عَتَوْا﴾، حادوا وأعرضوا وتكبّروا عن قبولهم الزجر، ﴿عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ ((3))، مُبعَدين عن الخير مُقصَين.

قال: فلمّا نظر العشرة الآلاف والنيف أنّ السبعين ألفاً لا يقبلون مواعظهم، ولا يحفلون بتخويفهم إيّاهم وتحذيرهم لهم، اعتزلوهم إلى

ص: 177


1- سورة الأعراف: 163.
2- سورة الأعراف: 164.
3- سورة الأعراف: 166.

قريةٍ أُخرى قريبةٍ من قريتهم، وقالوا: نكره أن ينزل بهم عذاب الله ونحن في خلالهم.

فأمسوا ليلة، فمسخهم الله (تعالى) كلّهم قردةً خاسئين، وبقي باب المدينة مغلَقاً لا يخرج منه أحدٌ ولا يدخله أحد.

وتسامع بذلك أهل القرى، فقصدوهم وتسنّموا حيطان البلد، فاطّلعوا عليهم، فإذا هم كلّهم رجالهم ونساؤهم قردةٌ يموج بعضهم في بعض، يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطاءهم، يقول المطّلع لبعضهم: أنت فلان! أنتِ فلانة! فتدمع عينه، ويومئ برأسه بلا أو نعم.

فما زالوا كذلك ثلاثة أيّام، ثم بعث الله (عزوجل) عليهم مطراً وريحاً فجرفهم إلى البحر، وما بقي مسخٌ بعد ثلاثة أيّام، وإنّما الّذين ترون من هذه المصوّرات بصورها فإنّما هي أشباهها، لا هي بأعيانها، ولا مِن نسلها.

ثمّ قال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) :

إنّ الله (تعالى) مسخ هؤلاء لاصطياد السمك، فكيف ترى عند الله (عزوجل) يكون حال مَن قتل أولاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهتك حريمه! إنّ الله (تعالى) وإنْ لم يمسخهم في الدنيا، فإنّ المعدّ لهم من عذاب الله في الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ.

فقيل له: يا ابن رسول الله، فإنّا قد سمعنا منك هذا الحديث، فقال لنا بعض النصّاب: فإن كان قتل الحسين (علیه السلام) باطلاً فهو أعظم مِن صيدالسمك في السبت، أفما كان يغضب الله على قاتليه كما غضب على

ص: 178

صيّادي السمك؟!

قال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) : قل لهؤلاء النصّاب:

فإن كان إبليس معاصيه أعظم من معاصي مَن كفر بإغوائه، فأهلك الله (تعالى) مَن شاء منهم كقوم نوحٍ وفرعون، ولم يُهلِك إبليس وهو أَولى بالهلاك، فما باله أهلك هؤلاء الّذين قصروا عن إبليس في عمل الموبقات، وأمهل إبليس مع إيثاره لكشف المخزيات، ألا كان ربّنا (عزوجل) حكيماً بتدبيره وحكمه فيمن أهلك وفيمن استبقى؟

فكذلك هؤلاء الصائدون للسمك في السبت، وهؤلاء القاتلون للحسين (علیه السلام) ، يفعل في الفريقين ما يعلم أنّه أَولى بالصواب والحكمة، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ ((1)).

ثمّ قال عليّ بن الحسين (علیهما السلام) :

أما إنّ هؤلاء الّذين اعتدوا في السبت لو كانوا حين همّوا بقبيح أفعالهم سألوا ربّهم بجاه محمّدٍ وآله الطيّبين أن يعصمهم من ذلك لَعصمهم، وكذلك الناهون لهم لو سألوا الله (عزوجل) أن يعصمهم بجاه محمّدٍ وآله الطيبين لَعصمهم، ولكنّ الله (تعالى) لم يُلهمهم ذلكولم يوفّقهم له، فجرت معلومات الله (تعالى) فيهم على ما كان سطره في اللوح المحفوظ.

وقال الباقر (علیه السلام) : فلمّا حدّث عليّ بن الحسين (علیهما السلام) بهذا الحديث، قال

ص: 179


1- سورة الأنبياء: 23.

له بعض مَن في مجلسه: يا ابن رسول الله، كيف يُعاقب الله ويوبّخ هؤلاء الأخلاف على قبائح أتى بها أسلافهم، وهو يقول (عزوجل) : ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ((1))؟!

فقال زين العابدين (علیه السلام) :

إنّ القرآن نزل بلغة العرب، فهو يُخاطِب فيه أهل هذا اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميميّ قد أغار قومه على بلدٍ وقتلوا مَن فيه: أغرتُم على بلد كذا وكذا، وقتلتم كذا، ويقول العربيّ أيضاً: نحن فعلنا ببني فلان، ونحن سبينا آل فلان، ونحن خربنا بلد كذا، لا يريد أنّهم باشروا ذلك، ولكن يريد هؤلاء بالعذل، وأُولئك بالافتخار أنّ قومهم فعلوا كذا.

وقول الله (تعالى) في هذه الآيات إنّما هو توبيخٌ لأسلافهم، وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين، لأنّ ذلك هو اللغة الّتي بها أنزل القرآن، فلأنّ هؤلاء الأخلاف أيضاً راضون بما فعل أسلافهم،مصوّبون ذلك لهم، فجاز أن يُقال لهم: أنتم فعلتم، أي: إذ رضيتم بقبيح فعلهم» ((2)).

الجلوة الثانية: المطلوب من اليهود

نهى الله اليهود عن صيد الحيتان يوم السبت، فالمطلوب منهم هو اجتناب صيد السمك في هذا اليوم بالذات، فاحتالوا على الأمر الإلهيّ، فحبسوا الأسماك

ص: 180


1- سورة الأنعام: 164.
2- تفسير الإمام العسكريّ (علیه السلام) : 266.

يوم السبت واصطادوها يوم الأحد، حتّى كثر من ذلك مالهم وثراؤهم وتنعّموا بالنساء وغيرهنّ.

فهم حلّلوا ما حرّم الله، وانتهكوا الحرمات من أجل هذه الشهوات، وأخرجوا السمك من الماء العذب الزلال، ليقعوا هم في مستنقعات الرذيلة والضلال، وينقلبوا قردةً وخنازير نتيجة طمعهم بالشهوات واللذائذ الهابطة.

وما كان عليهم أكثر مِن أن ينتظروا يوماً في الأُسبوع، غير أنّهم فعلوا!

يبدو أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما ضرب المثل بهم ليُعرِب لمن يلقي السمع وهو شهيدٌ أنّ هؤلاء سيفعلون ولا يتخلّفون، ويتحقّق منهم القتل الّذي يسعون إليه بكلّ ما أُوتوا ولو بارتكاب ما لا يمكن أن يُرتكَب.فكما أنّ اليهود قد تحقّق منهم الفعل بالخارج بأيّ وسيلة، كذلك سيتحقّق الفعل من هؤلاء الأوباش الأوغاد بأيّ وسيلةٍ كانت.

الجلوة الثالثة: براءة الحيتان

نهى الله اليهود عن اصطياد الحيتان يوم السبت، فجاءت الحيتان يوم السبت جاريةً على أمان الله لها، وكانوا قد عملوا حيلةً فهيّأوا لها طرقاً تؤدّي إلى حياض، إذا دخلت فيها الحيتان من تلك الطرق لا يتهيّأ لها الخروج إذا همّت بالرجوع منها إلى اللجج.

فالحيتان لم يكن لها أيّ دورٍ في تأليب اليهود واستفزازهم، وإنّما كانت تمشي في أمان الله وعلى بركة الله، وتسير سيرتها اليوميّة العاديّة الرتيبة، واليهود هم الّذين عملوا الحيلة وأحلّوا الحرام واعتدوا عليها، وحبسوها ومنعوها من أن

ص: 181

تعود إلى اللجج، وترجع من حيث جاءت، وكلّما حاولَت الرجوع وجدَت الطرق مسدودةً في وجهها.

وهذا ما حدث تماماً مع سيّد الشهداء وإمام السعداء الحسين بن عليّ (علیهما السلام) ، بل زادت هذه الأُمّة التعيسة على اليهود، فلاحقت الإمام (علیه السلام) من المدينة وحاصرته بذريعة التخيير بين البيعة ومناولة القرود وبين القتل (الذلّة والسلّة)، وطالما حذّرهم وخوّفهم هو ومَن معه وقال لهم: دعوني أذهب في أرض الله العريضة، فأبوا، وملؤوا الدنيا جيوشاً وعساكر غصّت بهم الصحراء المترامية، فمنعوه وأبوا إلّا أن يقتلوه، وقد اختصر ابن الأَمة الفاجرة فعلهم الّذيأشبه فعل اليهود في سدّ الأبواب والإطباق على الأرجاء والآفاق بقوله:

الآن وقد علقت مخالبنا به

يرجو النجاة، ولات حين مناصِ

وسيأتي تفصيل ذلك في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

الجلوة الرابعة: قلب الموازين وتحليل الحرام

لقد نهاهم الله وأنبياؤه _ وليس نبيّاً واحداً _ عن اصطياد السمك في يوم السبت، فدعَتهم نوازعهم الآثمة، ورغباتهم الخسيسة، وشهواتهم الرذيلة، وأنفسهم الحقيرة، وطباعهم اللئيمة، وحقارتهم الساقطة، إلى الاحتيال على الأمر الإلهيّ، فعمدوا إلى ما فعلوا، وقلبوا الموازين في أنفسهم، وجعلوا الحرام حلالاً بزعمهم، فانتكسوا وارتكسوا وانغمسوا في الخطيئة، وعلقوا بأوحال النذالة والمثالب وسوءات الذنوب..

ص: 182

تماماً كما فعلَت هذه الأُمّة مع إمامها وقائدها وسيّدها وابن سيّدها، إذ قلبوا الموازين، وحلّلوا لأنفسهم ما حرّمه الله منه، ونادوا على رؤوس الأشهاد أنّهم يقتلون رجلاً خرج عن الدين وتمرّد على سلطان زمانه، وهو خليفة رسول الله! فأحلّوا قتله وأباحوا دمه، وسبوا حريمه.

بل زادت هذه الأُمّة في شقائها وبؤسها وتعاستها ونكدها على أُولئك الملعونين من اليهود، إذ أنّ اليهود اقتصروا على صيد الحيتان المحرّمة طلباً للدنيا، حيث كانت دنياهم وثراؤهم في صيدها، وعدَتْ هذه الأُمّة على ابن نبيّها فقتلته، وهو لا يريد من دنياهم شيئاً ولم يتعرّض لها بشيء!

الجلوة الخامسة: الاعتداء في الزمن الحرام

إنّما حرّم الله الصيد على اليهود يوم السبت، فجعل للسبت حرمةً دون سائر الأيّام، وقد اعتدت اليهود على السبت وفي السبت، فلم ترعَ للزمن حرمته، وارتكبت فيه المأثم.

وقد انتهكت هذه الأُمّة المتعوسة المنحوسة حُرمة الزمن الحرام والفعل الحرام، ولم ترعَ لله حرمةً في رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

قال الإمام الرضا (علیه السلام) :

«إنّ المحرم شهرٌ كان أهلُ الجاهلية يحرّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهُتكَت فيه حرمتُنا، وسُبيَ فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمَت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) حرمةٌ في أمرنا.

ص: 183

إنّ يوم الحسين (علیه السلام) أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كربٍ وبلاء، أورثَتنا الكربَ والبلاء إلى يوم الانقضاء ...» ((1)).

الجلوة السادسة: غضب الله لاصطياد السمك!

إنّ الله مسخ هؤلاء اليهود قردةً وخنازير، ثمّ بعث عليهم مطراً وريحاًفجرفهم إلى البحر لاصطيادهم السمك، فكيف ترى عند الله (عزوجل) يكون حال مَن قتل أولاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهتك حريمه؟!

إنّ الله غضب لفصيل ناقة صالح، وقد قال أبو الشهداء (علیه السلام) عند قتل رضيعه: «اللّهمّ لا يكون عليك أهون من فصيل ناقة صالح».

إنّ الله يُمهِل، ولا يهمل! فهو إن لم يمسخهم في الدنيا، فإنّه قد أعدّ لهم من العذاب في الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ، فإنّ في النار لَمنزلةٌ لم يكن يستحقّها أحدٌ من الناس إلّا قاتل الحسين بن عليّ ((2))، وهو في تابوتٍ من نارٍ عليه نصف عذاب أهل الدنيا، وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار، منكّس في النار حتّى يقع في قعر جهنّم، وله ريحٌ يتعوّذ أهلُ النار إلى ربّهم من شدّة نتنه، وهو فيها خالدٌ ذائق العذاب الأليم مع جميع مَن شايع على قتله، كلّما نضجت جلودهم بدّل الله (عزوجل) عليهم الجلود حتّى يذوقوا العذاب الأليم، لا يفتّر عنهم ساعة، ويسقون من حميم جهنّم، فالويل لهم من عذاب الله (تعالى)

ص: 184


1- الأمالي للصدوق: 128 المجلس 27 ح 2، بحار الأنوار: 44 / 284 ح 18.
2- أُنظر: كامل الزيارات لابن قولويه: 78 الباب 25.

في النار ((1)).

فكما أعدّ الله للمؤمن مفاجآتٍ يوم يرى من النعيم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعَت ولا خطر على قلب بشر، فإنّه أعدّ لقتلة الإمام الحسين (علیه السلام) من العذابوالنكال ما لا يعلمه إلّا الله ومن أطلعه الله، والدنيا لا تسع الانتقام لثار الله مهما بلغ، فقد ورد عن عيص بن القاسم قال:

ذُكر عند أبي عبد الله (علیه السلام) قاتلُ الحسين (علیه السلام) ، فقال بعض أصحابه: كنت أتمنّى أن ينتقم الله منه في الدنيا!

قال: «كأنّك تستقلّ له عذاب الله! وما عند الله أشدّ عذاباً وأشدّ نكالاً منه» ((2)).

الجلوة السابعة: التوسّل بمحمّدٍ وآل محمّد

لقد عصى اليهود وارتكبوا ما سخط الله به عليهم وعذّبهم بالمسخ والهلاك والاستئصال، بَيد أنّ ثمّة عروةٌ وثقى جعلها الله لهم، لو تمسّكوا بها وتوسّلوا إلى الله لَعصمهم فكان لهم سبيل نجاة! فلو كانوا حين همّوا بقبيح أفعالهم سألوا ربّهم بجاه محمّدٍ وآل محمّدٍ الطيّبين، لحجزهم الله عن ركوب المعصية وسدّدهم وهداهم.

وقد ورد في أحاديثنا أنّ الأنبياء كانوا يحدّثون الأُمم السابقة بمحمّدٍ وآله

ص: 185


1- أُنظر: عيون أخبار الرضا (علیه السلام) : 2 / 47 الباب 31.
2- ثواب الأعمال للصدوق: 216.

ويعرّفونهم لهم، تماماً كما أخبر القرآن الكريم عن عيسى حين بشّر برسولٍ يأتي من بعده اسمه أحمد..

فتعساً وترحاً وبؤساً وشقاءً ولعنةً تغدو ولا تروح لأُمّةٍ عدت على سبيلنجاتها ونجاة الأُمم فردمته، وتوثّبت على محمّدٍ وآل محمّدٍ حتّى قتلته وقتلتهم، وفصمت العروة الوثقى بينها وبين ربّها وباريها!

الجلوة الثامنة: سيبعث عليهم مَن ينتقم منهم

لقد عاقب الله ووبّخ الأخلاف على قبائح أتى بها أسلافهم؛ لرضاهم بفعلهم، وافتخارهم بما فعلوا، وتصويبهم لهم، فصحّ أن يُنسَب الفعل إليهم إذا رضوا بقبيح أفعالهم.

وسيبعث الله على قتلة غريب الغرباء (علیه السلام) وذراريهم الراضين بفعل أسلافهم سيفه البتّار، الّذي تتطاير من شفرتيه حمم النار، ويومض من اهتزازه انتقام الملِك المنتقم الجبّار، يوم يخرج وليّ الدم والثأر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، وهو قريبٌ بإذن الله، وإن رأوه بعيداً! أليس الصبح بقريب؟

الجلوة التاسعة: الإمام (علیه السلام) مُعتدىً عليه

ربّما كان في الجلوات السابقة ما يفيد هذا المعنى بوضوح، ولا ضرورة للتكرار، بَيد أنّ أهميّة الموضوع من جهة، وتصريح سيّد الشهداء (علیه السلام) من جهةٍ أُخرى، دعا لإفراد العنوان.

لقد استعمل الإمام لفظ (الاعتداء) مرّتين، أحدهما حين تكلّم عن فعل

ص: 186

اليهود، والأُخرى حين أخبر عمّا سيفعله جزماً حتماً هؤلاء الأشقياء المبعَدين، وبهذا أكّد على أنّ الإمام (علیه السلام) معتدىً عليه، من دون أن يقدم هو على شيءٍ يسوغ لهم هذا الاعتداء.والمعتدي هو مَن ظلم ظلماً جاوز فيه القَدْر ((1))، فقد ظلموا الإمام (علیه السلام) وتجاوزوا فيه القدر، وهو مظلومٌ معتدىً عليه!

صلّى الله عليك يا مظلوم، يا ابن أوّل مظلومٍ وأوّل مَن غُصب حقّه!

الجلوة العاشرة: خلاصة الجلوات

يمكن تلخيص مؤدّى الجلوات السابقة بالقول:

إنّ الإمام (علیه السلام) أخبر عن كونه مظلوماً، لم يقدِم على أيّ عملٍ ضدّ القوم ولا استفزاز لهم، وقد سلك طريقه في الحياة كما تجري الحيتان في المياه على أمان الله، فحاصروه، حتّى أخرجوه من مدينة جدّه وبيت ربّه، وسدّوا عليه الطرق، وضيّقوا عليه وأطبقوا عليه الآفاق، وكانوا يطلبونه ويلاحقونه، فلمّا علقت مخالبهم به واطمأنّوا أنّهم مانعوه من الرجوع إلى (اللُّجج) وإلى أرض الله الوسيعة، أجّلوه عشية اليوم التاسع، تماماً كما كان اليهود يتربّصون بالحيتان إلى يوم الأحد، فأحاطوا به وأسروه وتكاثروا واعتدوا عليه، وقتلوه من غير جُرم، وسينتقم الله منهم في الدنيا والآخرة!

ص: 187


1- أُنظر: لسان العرب: عَدَوَ.
التلميح الثامن: فحوى الردّ

ربّما يكون ثمّة تكراراً إن أردنا اختصار ما مرّ معنا في التلميحات السابقة،وربّما كان التكرار في مثل هذه المواضع نافعاً؛ إذ أنّ المادة فيها فروعٌ وتشعّباتٌ كثيرة، وربّما يعسر على الذهن متابعتها جميعاً بتسلسلٍ سلس، فيحتاج إلى وقفةٍ تجعله يلملم خيوط البحث ويستخلص النتيجة.

علاوةً على ذلك، فإنّ المقصود من البحث ربّما يكون غير مألوفٍ لذهنٍ مُثقَلٍ بالسوابق المفارقة لما يتوخّاه هذا البحث، والنتائج الّتي يريد الخروج بها، فربّما نازع التكرار السوابق وجاذبها، وسبّب لها اهتزازاً يسمح للفكرة الجديدة أن تفتح لنفسها مجالاً بين أكداس الخزين الفكريّ والذهنيّ.

مع ذلك، فإنّنا نحاول تجانب التكرار من خلال إضافة بعض الجديد، والإشارة إلى الفحوى الأخير الّذي نريد التنويه به.

إنّ كلّ ما سمعناه من سيّد الشهداء (علیه السلام) هنا في مقام الردّ على ابن الزبير _ بغضّ النظر عن غيره من كلامه الشريف _ لا يشي بوجود موقفٍ خاصٍّ عند الإمام (علیه السلام) سوى الإخبار عن عزم القوم على قتله، وسعي الإمام (علیه السلام) الجادّ في إنقاذ حرمة الحرم لئلّا تنتهك به، وأنّهم قاتلوه على كلّ حالٍ وفي كلّ تقدير.

وربّما شهد لذلك تأكيد الإمام (علیه السلام) على حبّه الابتعاد عن الحرم ولو بمقدار شبرٍ أو شبرين، ليتبيّن أنّ الدافع الأصليّ لخروج الإمام (علیه السلام) من مكّة إنّما هو حماية حرمتها، أمّا الجهة الّتي سيتوجّه إليها، فهذا أمرٌ آخَر سنأتي على تفصيله في محلّه إن شاء الله.

* * * * *

ص: 188

لم نسمع من الإمام (علیه السلام) شعاراتٍ مرفوعة، ولا تحريضاً على أحدٍ من السلطان وأزلامه، ولا تجييشَ الرجال ودعوتهم للبيعة للانقضاض على غابة القرود واقتلاعها من أعواد المنابر، ولا أيّ هدفٍ آخَر مُعلَنٍ أو مُلوَّحٍ به من قريبٍ أو بعيد، سوى ما ذكرنا من حماية حرمة البيت والابتعاد عنه، لأنّ العدوّ يُلاحقه ويتوثّب لتقطيعه وسفك دمه الزاكي واستخراج العلقة المقدّسة من جوفه.

ولم نسمع منه _ إلى حين حديثه مع ابن الزبير _ كلمةً واحدةً أو موقفاً واحداً أو إشارةٍ أنّه ينوي الخروج ب-- (المعنى المصطلَح)، وتنمّ عن تبييت حركةٍ خاصّةٍ بأهدافٍ معيّنةٍ مسبقاً تقصد عفاريت السلطة وحياتهم وكيانهم وسلطانهم، وتسعى لجمع الرجال والسلاح والمال والتخطيط من أجل تحقيق ذلك.

الجواب الثاني: فضح ابن الزبير
اشارة

بعد أنّ حثّ ابنُ الزبير الإمامَ (علیه السلام) على الخروج إلى العراق، وأكّد له أن لو كان له بها مثل شيعة الإمام (علیه السلام) ما عدل بها، ثمّ خشيَ أن يتّهمه فاقترح عليه الإقامة في مكّة، على التفصيل الّذي مضى قبل قليل..

قال الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) :

«ها، إنّ هذا ليس شيءٌ يُؤتاه من الدنيا أحبّ إليه مِن أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ

ص: 189

الناس لم يعدلوه بي، فودّ أنّي خرجتُ منها لتخلو له» ((1)).

ربّما لا يُعدّ هذا جواباً مباشراً لابن الزبير، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قال هذا الكلام لمن حوله، فربّما سمع ابن الزبير أو لم يسمع، وليس هذا يهمّنا كثيراً، وإنّما اعتبرناه جواباً بلحاظ أنّ الإمام (علیه السلام) أخبر عن كذب ابن الزبير فيما يدّعيه ويزعمه، كما سنلاحظ من خلال الدلالات التالية:

الدلالة الأُولى: تكذيب ابن الزبير في الدعوة للبقاء

لقد طرح ابن الزبير خيار البقاء في مكّة على الإمام (علیه السلام) ، وهو يُضمِر خلاف ما يُعلِن، فأخبر الإمام (علیه السلام) _ وهو أعلم الخلق بالخلق، وهو العالم بالله _ أنّ ابن الزبير يكذب في مقاله ودعوته الإمام (علیه السلام) للبقاء، بل هو يتمنّى عكس ذلك تماماً، وليس شيءٌ يُؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن يخرج من الحجاز.

بعد أن كشف الإمام (علیه السلام) ما انطوى عليه هذا الخادع المكّار، فلو أنّه أقسم بالله ألف ألف مرّةٍ وهو بين الركن والمقام لَما صدق في قسمه، وهو كاذبٌ في دعوته ومزاعمه.

الدلالة الثانية: تكذيبه في دعواه البيعة للإمام (علیه السلام) وإسناده

سمعنا ابن الزبير يَعِدُ الإمام (علیه السلام) إنْ هو مكث في مكّة أن يبايعه ويدعو له الرجال، وينصح له ويؤازره، وغيرها من الوعود التي مرّت معنا قبل قليل..

ص: 190


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، تاريخ الطبريّ: 5 / 383، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

فلمّا أخبر الإمامُ (علیه السلام) أنّ ابن الزبير لا شيء أحبّ إليه من الدنيا من خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة لتخلو له، عرفنا أنّ ابن الزبير كاذبٌ لا يُعدّ صادقاً، ولا يفي بما يَعِد، وهو لا يريدها _ وفق تصوّراته وفهمه _ للإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وإنّما يخدع ويمكر ويكذب، وهو من الأفّاكين!

الدلالة الثالثة: الدافع الّذي يلهث له ابن الزبير

عرفنا من كلام الإمام (علیه السلام) وهو يُعلِن أنّ أحبّ شيءٍ عند ابن الزبير من الدنيا هو خروج الإمام (علیه السلام) لتخلو له مكّة، لأنّه يعلم أن لا يأبه به أحدٌ مع وجود الإمام (علیه السلام) ، فمعنى الأمر الّذي يطلبه ابن الزبير ويتحدّث به ويزعم أنّه أحقّ به من غيره لأنّه من أبناء المهاجرين وغيرها، إنّما هي الدنيا ليس إلّا!

إنّ ابن الزبير يلهث دالعاً لسانه يتمنّى أن يلحس بقايا مقاعد مَن سبقه من الأُمويّين حصراً، ولا يبتغي بعد أن ينال دنياه آخرةً ولا عدلاً، ليس له شعاراتٌ أو أهدافٌ دينيّة أو اجتماعيّة ينحو من خلالها إلى بسط العدل ورفع الحيف والجور والظلم من المجتمع، وإنّما يطمع في المُلك، ويخطّط للوصول له، لأنّه يرى الدنيا فيه.

الدلالة الرابعة: موقع ابن الزبير عند الناس

لقد شهد الإمام (علیه السلام) على ابن الزبير أنّه يعلم علم اليقين أنّ وجود الإمام (علیه السلام) يمحو وجوده عند الناس، وأنّ أحداً منهم لا يعدله بالإمام (علیه السلام) ولا ينظر إليه ولا يكترث به، فلا مجال للمقارنة والمقايسة بين نور الله وبين عتمة

ص: 191

ابن الزبير.

وبهذا ردّ الإمام (علیه السلام) على جميع مزاعم ابن الزبير حين يحشر نفسه مع الإمام (علیه السلام) ، فيقرنه في كلامه بنفسه، ويزعم أنّهما من أبناء المهاجرين، وأنّ حقّهما ثابتٌ لا يخالفهما عليه أحد.

كما ردّ الإمام (علیه السلام) على ابن الزبير حين تنافخ شرفاً وتفاخر بشرفه الذاتي، وشرفه بمن تشرّف به هو والخلق أجمعين، فلا شرف له ولا وجود له حتّى في ميزان الناس، بغضّ النظر عن موازين الدين والإسلام.

فالإمام (علیه السلام) لا يُقاس به أحد، فمَن هذا اللُّكَع الضئيل حتّى يقرن نفسه بالإمام (علیه السلام) ، ويقايس فعله بفعله؟!!

الدلالة الخامسة: لا أهداف مقابل أهداف ابن الزبير

لقد ذكر الإمام (علیه السلام) مقاصد ابن الزبير وما أحبّه، وتمنّيه خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من الحجاز لتخلو له، بَيد أنّه لم يعقّب على ذلك بما ينويه هو وما يقصده ويريده، ولم يذكر الفرق بين أهدافه وشعاراته _ مثلاً _ وأهداف ابن الزبير وشعاراته، ودعوة ابن الزبير ودعوته، وهكذا.. وإنّما خصّ بالذكر ابن الزبير وما ينتابه من مشاعر ويضمره من تمنّيات، والحال أنّ باطل ابن الزبير يحسن أن يواجه بالحقّ الّذي سيقابله وينتصب بإزائه.

يبدو واضحاً أنّ الإمام (علیه السلام) لم تكن لديه أيّ دعوةٍ أو شعاراتٍ أو أهدافٍ ينوي الإعلان عنها إلى تلك اللحظة، وكان ظرفهما وموقفهما ودوافعهماتختلف تمام الاختلاف، ولا تلتقي في أيّ موضع!

ص: 192

فابن الزبير يلهث وراء الدنيا وزخارفها وسفاسفها وبهارجها، فيخطّط لطرح نفسه كبديل، ويدعو للبيعة، ويتوثّب لنيل الأمر.. والإمام (علیه السلام) مُلاحَقٌ مطلوبٌ للقتل، يستعجل الخروج من مكّة لئلّا تُهتَك بدمه الزاكي حرمة البيت!

الدلالة السادسة: يطلب الأمر ولو بقتل الإمام الحسين (علیه السلام)

لقد حثّ ابن الزبير الإمام (علیه السلام) على الخروج إلى العراق، وزعم أن لو وجد فيها شيعةً كما كانوا للإمام (علیه السلام) لما تردّد في الذهاب فوراً، وكان يودّ لو يخرج الإمام (علیه السلام) إلى العراق، كما أخبر عنه الإمام (علیه السلام) نفسه: «أحبّ إليه مِن أن أخرج من الحجاز إلى العراق»، وهو يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوبٌ مقتولٌ لا محالة، وأنّ خروجه إلى قومٍ قتلوا أباه وطعنوا أخاه وغدروا به _ حسب كلام ابن الزبير نفسه _ سيؤدّي إلى قتله جزماً، وهو مع ذلك يتمنّى خروج الإمام (علیه السلام) لتخلو له مكّة!

فابن الزبير لا يمتنع حتّى من أن يرى ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) مقتولاً إذا ما تحقّق له ما يريد، بل سيكون قتل الإمام (علیه السلام) باعث فرحٍ وابتهاجٍ عنده، لأنّه لا يقلّ عداوةً وبغضاً وحقداً على الإمام (علیه السلام) من بني أُميّة، كيف وهو الآن يحسده ويراه حاجزاً دون تحقيق ما يروم!

الجواب الثالث: السكوت

ذكر الخوارزميّ، على نحو الحكاية والنقل بالمعنى لا على نحو الإخبارونقل الرواية:

ص: 193

إنّ ابن الزبير قال كلامه مكراً، لأنّه لا يحبّ أن يكون بالحجاز أحدٌ يناويه، فسكت عنه الإمام (علیه السلام) وعلم ما يريد ((1)).

يبدو أنّ ما ذكره يتّفق مع ما ذكره غيره من المؤرّخين، باختلاف أنّ الخوارزميّ هنا لم يذكر جواباً للإمام (علیه السلام) سوى السكوت، والسكوت جوابٌ في مثل هذه الموارد، لذا أفردناه عن غيره من المتون.

والسكوت هنا ليس بمعنى الإقرار، وإنّما بمعنى الامتهان والاحتقار والازدراء والاستخفاف والاستصغار والاستهانة والإهانة، ويشهد لذلك تعقيب الخوارزميّ نفسه بقوله: «وعلم ما يريد» من المكر والحيلة وتمنّي خروج الإمام (علیه السلام) كي لا يبقى في الحجاز مَن يناويه.

ولطالما سكت أمير الكلام وسيّد الفصاحة عن كثيرين، لأنّهم لا يستحقّون الجواب أحياناً لسخف عقولهم، أو لأنّهم يعاندون ويكابرون، أو لأيّ سببٍ يعرفه الإمام (علیه السلام) وهو معدن الحكمة.

بَيد أنّ السكوت في مثل هذه الموارد يكشف لنا عن مستوى ابن الزبير واستحقاقه، ودناءته وحقارته وخبله، وخطل دعوته، وزلل مقاله، وكذب مدّعاه، وتفاهته وحماقته وطيشه وغبائه ونزقه، وهو أهون من أن يكون جاهلاًفيردّ عليه الإمام (علیه السلام) بالسلام، فسكت عنه حتّى ما عاد يستحقّ الجواب من إمام الحِلم والخلُق السامي ومعدن الرحمة والمداراة وإمام الخلق أجمعين.

ص: 194


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.

الاقتراح الثاني: التحذير من التوجّه إلى العراق

اشارة

قد تبدو مضامين النصوص الآتية تحذيراً وليس اقتراحاً، بَيد أنّنا أدرجناها تحت عنوان الاقتراحات؛ باعتبار أنّ المؤدّى والنتيجة تفيد النهي عن الخروج إلى العراق والمكث في مكّة المكرمة، كما ورد في متن ابن حجر.

وقد وردت نصوص العنوان كأنّها تحكي سببين للتحذير والنهي، سنأتي على الإشارة إليها فيما يلي:

السبب الأوّل: لقد حضر الحجّ وتدَعْه!

روى ابن قولويه ومَن تلاه، بسندٍ عن الإمام أبي جعفرٍ الباقر (علیه السلام) قال:

«إنّ الحسين (علیه السلام) خرج من مكّة قبل التروية بيوم، فشيّعه عبدُ الله بن الزبير، فقال: يا أبا عبد الله، لقد حضر الحجّ وتدَعْه وتأتي العراق؟» ((1)).

وهذا النصّ الشريف يمتاز عن غيره كونه مرويّاً عن الإمام المعصوم (علیه السلام) في كتاب (كامل الزيارات) الشريف لابن قولويه الطيّب الطاهر الثقة المعتمَد.

ومضمونه يشترك مع آخَرين تكلّموا في محضر الإمام (علیه السلام) بنفس الكلام، وقد أتينا على ذكر بعضها مفصَّلاً فيما مضى في كتاب لقاء الفرزدق، فلا حاجة للإعادة في تناول ما جاء هنا بالتفصيل، ونكتفي بالإشارة السريعة.

* * * * *

ص: 195


1- كامل الزيارات لابن قولويه: 72، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 85، العوالم للبحرانيّ: 17 / 313 - 318، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 120، نفَس المهموم للقمّي: 168.

حدّد الإمام (علیه السلام) يوم خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وذكر أنّ ابن الزبير خرج يشيّع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقال له ما قال بعد أن رأى الإمام الحسين (علیه السلام) قد حسم الأمر وخرج، وتحقّق ما كان يتمنّاه، ويفرك يديه ويمطّ كتفيه ويلحس أنفه بلسانه ويملأ عطفيه جذلان مسروراً بخلوّ الحجاز له وخروج مَن لا يُنظَر إليه بوجوده منها.

ويبدو واضحاً من السياق أنّه يسأل مستنكِراً مستغرباً، كأنّه لا يصدّق أنّ الإمام (علیه السلام) يخرج بهذه السرعة والعجلة غير المتوقّعة، فهو وإن كان أحبّ شيءٍ إليه من الدنيا أن يرى الإمام (علیه السلام) خارجاً عنها، غير أنّ المفروض أن لا يتعجّل الإمام (علیه السلام) فيخرج قبل الموسم، والناس تتّجه إلى المشاعر لأداء النسُك، وما هي إلّا أيامٌ قلائل حتّى ينتهي الموسم، وينفضّ الحجيج ويفيض كلٌّ إلى بلده، وللإمام (علیه السلام) أن يخرج.

فهو إن كان لا يريد أن يدعو الناس ولا ينوي جمع الرجال ولا تحشيد مَن يمكن تحشيده ولا التحريض على الأُمويّين، فهو في أمان _ وفق المتعارف _،فلا هو له شغلٌ بالسلطان، ولا السلطان سيتعرّض له _ وفق القواعد والأُصول _، فليُتمَّ حَجَّه ويُؤدّي نُسُكَه، ثمّ يذهب حيث شاء.

غير أنّ الإمام (علیه السلام) قد أفصح في غير موضعٍ أنّه إن بقيَ تلك الأيّام القلائل فإنّهم يغتالونه، أو يأخذونه أخذاً، لذا اقتضى التعجيل والخروج من مكّة فوراً، وهو القائل: «لئن أُقتَل خارج مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل فيها».

فخروج الإمام (علیه السلام) متعجّلاً أيّام الموسم نفسه يستحثّ العاقل للتأمّل،

ص: 196

ليعلم علم اليقين أنّ سبب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة إنّما هو اجتناب هتك حرمة البيت بدمه المقدّس الزاكي، بل ربّما كان الأمر واضحاً لكلّ مَن مرّ سريعاً على هذا المشهد، وسمع بهذا الموقف الّذي صرّح أبو عبد الله (علیه السلام) بسببه.

نكتفي هنا بهذا القدر، ونحيل على التفصيل المذكور في محلّه.

السبب الثاني: التحذير من الذهاب إلى قومٍ قتلوا أباه وطعنوا أخاه
اشارة

ورد في المصادر:

أنّ ابن الزبير لحق الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، فلقيه حين توجّه إلى العراق، فقال: أين تريد؟ قال: العراق. قال إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك!

وسأله _ في بعض النصوص _ مستنكِراً فقال:

• أين تذهب؟! إنّك تذهب إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك!فنهاه ((1)).

• وأعرب عن رأيه فقال: وأنا أرى أنّهم قاتلوك.

وفي بعض النصوص تأكيدٌ في صيغة الجملة: ولا أراهم إلّا قاتليك ((2)).

فأجابه الإمام (علیه السلام) : «وأنا أرى ذلك» ((3)).

ص: 197


1- الصواعق المحرقة لابن حجر: 117.
2- المناقب لمحمّد بن سليمان: 2 / 262 الرقم 727.
3- المناقب لمحمّد بن سليمان: 2 / 262 الرقم 727، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 219، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 161، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 203، تهذيب ابن بدران: 4 / 329، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 197، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، مدينة المعاجز للبحرانيّ: 245، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 185، العوالم للبحرانيّ: 17 / 54، ذخائر العقبى للطبريّ: 151، الصواعق المحرقة لابن حجر: 117، الأمالي للشجريّ: 1 / 174.

هذا هو مجمل ما ورد في نصوص هذا الاقتراح، ويمكن تناوله من خلال اللمحات التالية:

اللمحة الأُولى: وقت اللقاء

يبدو واضحاً أنّ هذا اللقاء إنّما تمّ أثناء خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة ومسيره إلى العراق، حيث لحق به ابن الزبير وسأله: أين تريد؟ فهو لقاءٌ بعدانطلاق الركب الحسينيّ وأثناء حركته.

يعني أنّه لقاءٌ في وقت بلوغ ابن الزبير الذروة في الفرح والسرور والاستبشار والابتهاج، وسكون جيّاشات الأماني في أعماقه.. إنّها الساعة المنتظرة الّتي هي أحبّ شيءٍ إليه من الدنيا، فربّما كان لسانه وقلبه المنخور ينطقان معاً، فيظهر على لسانه هذا السؤال، ويستحثّه في قلبه على استعجال الرحيل، لتخلو له الحجاز.

اللمحة الثانية: التحذير من أهل العراق!

كان سؤال ابن الزبير سؤالاً استنكاريّاً على الإمام (علیه السلام) ، وكأنّه يعجب من عزم الإمام (علیه السلام) على المسير إلى قومٍ قتلوا أباه وطعنوا أخاه.

ص: 198

وهو بهذا القدر موقفٌ كسائر المواقف الأُخرى الّتي سجّلها لنا التاريخ عن المعترضين على الإمام (علیه السلام) ، حيث أكّد الجميع للإمام (علیه السلام) على أنّ أهل الكوفة أهل غدر، وأنّهم قتلوا أمير المؤمنين (علیه السلام) وطعنوا الإمام المجتبى (علیه السلام) وغدروا به وخانوه، فهو لم يكشف سرّاً ولم يتوصّل بفكره وحساباته الخاصّة لتشخيص ميدان الكوفة وتقديراته، وإنّما هي حقيقةٌ واضحةٌ للعيان يشهدها كلّ ذي عينين.

وابن الزبير وغيره يعلمون علم اليقين أنّ هذه الحقيقة ليست غائبةً عن الإمام (علیه السلام) بتاتاً _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _؛ إذ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) عالجهم بنفسه، وعركهم ولفظهم بعد أن عجمهم، وقاسى منهم ما قاساهأبوه (علیه السلام) ، وعانى منهم ما عاناه أخوه (علیه السلام) ، لأنّه كان معهم تلك الأيّام، ورأى ما جرى عليهما (علیهما السلام) بعينه ولمسه بيده، فلا يكون ابن الزبير أعرف بهذه المعلومة من الإمام (علیه السلام) !

فلا يمكن حمل تنويه ابن الزبير على إعلام الإمام (علیه السلام) ، وإطلاعه على ما لا يعلم ولا يدري.

ولا يمكن حمل كلامه على محاولة ردع الإمام (علیه السلام) عن المسير إليهم، وهو الّذي يرجو خروج الإمام (علیه السلام) ساعةً قبل أُخرى، لتخلو له الحجاز.

إلّا أن يُقال: إنّه إنّما أصحر عن ذلك ليدفع التهمة عن نفسه، أو أنّه نافق وكذب، والنفاق والكذب من طباعه.

فلا يبعد حمل ما قاله على اللوم ومحاولة تخطئة الإمام (علیه السلام) ، ليزعم أنّه

ص: 199

أعرف بتقدير الوضع، وأنّه نهى الإمام (علیه السلام) فلم ينته، وأنّه على مستوىً من بُعد النظر واستشراف المستقبل وقراءة الأحداث ومعرفة الناس.

وفات هذا العلج الغبيّ أنّ الإمام (علیه السلام) يعرف ذلك كلّه، كما تجلّى في ردّه (علیه السلام) على ابن الزبير في هذا المقام.

والإمام (علیه السلام) لم يقصد عسكر السلطة المتمركز في الكوفة، ولا أصحاب الكتب والرسائل المتكاثرة الواردة إليه، ولم يشيّد على مزاعمهم موقفاً، ولم يحسب لهم حساباً يؤهّلهم للاعتماد عليه من قِبل الإمام (علیه السلام) .

وقد ذكرنا ذلك مراراً، ونعيد هنا باختصار:إنّ آفاق الأرض قد سُدّت، والأرجاء قد أرتُجّت، والأبواب قد أُوصدت، والبلدان قد أُغلقت في وجه وجه الله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فليس له سوى التوجّه نحو العراق، وهو يعلم أنّهم قتلوا أباه (علیه السلام) ، وأنّهم طعنوا أخاه (علیه السلام) ، وأنّ هذه الكتب والرسائل الّتي وصلته من أكثرهم إنّما هي زيفٌ متموّج، وزبدٌ متكاثف، وسرابٌ كاذبٌ سرعان ما يذوب ويختفي، بل ينقلب عليه، غير أنّ ثمّة القليل الديّانون المتواجدون في العراق المنتظرون قدومه لينصروه ويدفعوا عنه وعن عياله، فقصدهم.

اللمحة الثالثة: أنا أرى أنّهم قاتلوك

يبدو من المقدّمة الّتي قدّمها ابن الزبير أنّ ما يراه جازماً هو نتيجةً لتلك المقدّمات، فهو يرتّب ما يراه على أنّهم قتلوا أباه وطعنوا أخاه، فسيكون مآل أمره مآلهم، وعاقبته عاقبتهم، وأنّهم سيقتلوه تماماً كما قتلوا مَن كان قبله.

ص: 200

ونحن لا نريد مناقشة ما قاله ابن الزبير، وإثبات خطأ تقديراته ضمن الظروف وسيَر الأحداث في تلك الفترة، وما يعتقده ابن الزبير نفسه، إذ أنّه كان يتمنّى أن يكون له أنصارٌ مزعومون مندفعون كما كان للإمام (علیه السلام) ، لينطلق إليهم بجناحَين مسرعاً، ففي حساب من يريد الخروج والتوثّب على السلطان يكتفي بالكتب والرسائل والمظاهر الّتي يُعلنها الأنصار والأشياع.

غير أنّ مجريات الأحداث وسياقات حركة يزيد القرود وأذنابه وولاته وجميع المؤشّرات كانت تفيد بوضوح أنّ القوم لا يقبلون بأقلّ من استخراجالعلقة المقدّسة من صدره، خزانة علم الله وأسراره..

فهو لم يكشف سرّاً، وإنّما سوابق أهل الكوفة وتاريخهم، ووحشيّة العدوّ واستعجاله في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وتوفيره جميع ما يلزم لذلك، يدلّان على ما ذكره ابن الزبير، وهو ليس استنتاجاً فاض به غباؤه الّذي يخاله عبقريّة!

لكن يبقى المهمّ هنا، أنّ حتميّة القتل الّذي ينتظر سيّد الشهداء (علیه السلام) في العراق كان أمراً واضحاً لائحاً للجميع، حتّى لمثل ابن الزبير!

اللمحة الرابعة: تنويهٌ هامّ

لابدّ من التنويه هنا إلى ما ننوّه إليه دائماً:

إنّ دراستنا تعتمد تماماً على سياقات وضوابط البحث التاريخيّ، بغضّ النظر عن العامل الغَيبيّ، مع اعتقادنا التامّ بالعامل الغيبيّ، غير أنّنا نريد أن نصل إلى ما نصّت عليه الأحاديث الشريفة والروايات المنيفة بلغة الغَيب من خلال حوادث التاريخ والظروف الموضوعيّة الخارجيّة الّتي أدّت إلى تحقّق

ص: 201

العامل الغيبيّ.

فقول الإمام (علیه السلام) : «وأنا أرى ذلك»، فيه إخبارٌ غيبيّ، غير أنّنا يمكن أن نفسّره من خلال مجريات الأحداث، على وزان إخبار غير الإمام العالم بالله، فهو حينئذٍ يُخبِر عن واقعٍ متنجّزٍ ضمن الظروف القائمة والحسابات الجارية.

اللمحة الخامسة: «وأنا أرى ذلك»

ردّ الإمام (علیه السلام) هنا يفيد أنّ ما يُخبِر به ابن الزبير ليس غائباً عنه، وهو بقوّة ماقاله لغيره حين كان يقول: «لا يخفى علَيّ الأمر».

فلا يظنّن ابنُ الزبير أنّه يعلم شيئاً قد خفيَ على الإمام (علیه السلام) ، ولا يزعمنّ فيما بعد أنّه قد حذّر الإمام (علیه السلام) والإمام لم يقبل منه لأنّه لم يقتنع بكلام ابن الزبير، وبهذا قد سدّ على ابن الزبير وأمثاله باب التخطئة، وحجزهم عن التطاول بالكذب والافتراء عليه، وسلخ عنهم بزّة ما يتزيّنون به زوراً وزيفاً من أزياء العلم والمعرفة والحنكة والتدبير، حين يتظاهرون أنّهم كانوا يعلمون النتيجة وأنّها غابت عن الإمام (علیه السلام) .

إنّ الإمام (علیه السلام) يرى ذلك أيضاً، ويعلم ذلك أيضاً، حتّى بموازين العامّة الّتي يمكن لأيّ فردٍ تحكيمها والنظرة الدقيقة الفاحصة للأحداث وما تتعقّبها وتنتجها.

اللمحة السادسة: التأكيد على أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوب

ليس من شأن مَن يبيّت للخروج بالمعنى المصطلح ويخطّط له، أن يُعلِن

ص: 202

عن قتله الأكيد قبل الانطلاق إلى بلدٍ يضمّ أنصاره المندفعين الّذين تغلي مراجلهم وتتأجّج عواطفهم بنيران الغضب العارم على النظام القائم، وتتوقّد جمرات التطلّع إلى مستقبلٍ ينشر فيه الربيع خضاره وثماره على الحياة الاجتماعيّة، وما إلى ذلك..

فهو حين يعلن عن ذلك جازماً قاطعاً، وأنّه يراه ويعتقده، إنّما يعلن عن محاصرته الّتي اكتملت كالحلقة، وملاحقته الّتي لا تفتر من قبل أزلام السلطةوأوغاد الولاة، وعساكر الحقد والضغينة والحسد المعتدية الغاشمة.

لك الله يا ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وخامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ..

نبَتْ به المدينة.. ولم تعُد مكّة حرماً آمناً له، حتّى استعجل الخروج أيّام الموسم لئلّا يُغتال بها..

ثمّ هو يعلم أنّه أينما حلّ وارتحل فإنّهم سيقتلونه، ولو كان في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض، ولو ذهب إلى العراق فإنّه يعلم أنّه يُقتَل هناك..

فالقضيّة قضيّة (القتل) الّذي عزم عليه العدوّ عزماً أكيداً، وليس للإمام (علیه السلام) سوى خيار الدفاع عن نفسه وعن أهل بيته!

أمّا كون الإمام (علیه السلام) قد خرج إلى القتل، وأقدم عليه هو مِن خلال إعلانه الهجوم على السلطان وطلبه للمحاربة، فهو كلامٌ لا ينهض مع مجموع كلمات الإمام (علیه السلام) وبياناته وتصريحاته طيلة فترة حركته من المدينة إلى يوم عاشوراء، لِما قد أتينا على بيانه مفصّلاً ومقتضباً فيما مضى من دراسات.

كما أنّ استنقاذ الأُمّة وإخراجها من سباتها ومعالجة شللها النفسيّ وازدواج

ص: 203

الشخصيّة لا يلزم منه سفك دم الإمام (علیه السلام) ، حاشا لإمام الخلق أن يقدم على عملٍ انتحاريّ، سيّما أنّ نوع القتل لا يستنقِذ، وإنّما جعل الحجّة ونصب الإمام (علیه السلام) مِن قِبل الله هو الّذي يستنقذ العباد من الجهالة وحيرة الضلالة، وقد أتينا على بيان ذلك بشيءٍ من التفصيل في جملة الدراسات السالفة، سيّما في كتابَي (ظروف الخروج من المدينة) و(لقاء الفرزدق).

تعليقات:
التعليقة الأُولى: رواية ابن حجر في (الصواعق)

قال ابن حجر:

وسبب مخرجه [يعني الإمام الحسين (علیه السلام) ] أنّ يزيد لمّا استخلف سنة ستّين، أرسل لعامله بالمدينة أن يأخذ له البيعة على الحسين، ففرّ لمكّة خوفاً على نفسه.

فسمع به أهلُ الكوفة، فأرسلوا إليه أن يأتيهم ليبايعوه، ويمحو عنهم ما هم فيه من الجَور، فنهاه ابن عبّاسٍ وبيّن له غدرهم وقتلهم لأبيه وخذلانهم لأخيه، فأبى، فنهاه أن لا يذهب بأهله، فأبى، فبكى ابن عبّاسٍ وقال: واحبيباه، واحسيناه!

وقال له ابن عمر نحو ذلك، فأبى، فبكى ابن عمر، وقبّل ما بين عينيه، وقال: أستودعك الله من قتيل.

ونهاه ابن الزبير أيضاً، فقال له: «حدّثَني أبي أنّ لمكّة كبشاً به يستحلّ حرمتها، فما أُحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش».

ص: 204

ومرّ قول أخيه الحسن له: إيّاك وسفهاء الكوفة أن يستخفّوك، فيُخرجوك ويُسلموك، فتندم، ولات حين مناص. وقد تذكّر ذلكليلة قتله، فترحّم على أخيه الحسن ((1)).

* * * * *

المقدار الّذي يهمّنا من مقال ابن حجرٍ هنا هو ما يخصّ ابن الزبير، موضوع الدراسة، حيث اختصر كلام ابن الزبير بقوله: ونهاه ابن الزبير أيضاً.

و(أيضاً) هذه إشارةٌ إلى المعارضين الآخَرين الّذين نهوا الإمام (علیه السلام) عن الخروج من مكّة والتوجّه نحو العراق، كالعبدَين ابن عبّاس وابن عمر، وغيرهما.

وقد نقلنا عبارته بما هو أوسع من موقف ابن الزبير؛ لأنّ ما حكاه عن ابن الزبير لم يكن مفصولاً عمّا سبق ولحق، بقرينة وحدة السياق وتتابع النواهي، وذكر المعترضين وقوله (أيضاً).

فهو يريد أن يُوصِل فكرةً تفور وتغلي مثل عيون الكبريت العفنة في كوامنه، فحشّد لها حطباً من كذبه ليوقد نار الفتنة والكذب والخديعة والتضليل على نفسه في الدنيا والآخرة.

ونحن لا نريد إطالة المكث عند فقاعات هذه العين الكدرة الّتي تُزكم الأُنوف، وتمتشط الأرواح بأمشاطٍ كالسفود إذا انتزع من الصوف المبلول، إذ

ص: 205


1- الصواعق المحرقة لابن حجر: 196.

أنّنا أتينا على ذِكر بعضها ومناقشته عند ذِكر ما ذكره سبط ابن الجوزيّوغيره من ندم الإمام (علیه السلام) وتذكّره نهي ابن عبّاسٍ له، والاستشهاد بما نسبوه إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) : كأنّه ينظر من وراء ستر رقيق، وفي غيرها من المواضع من مجمل دراستنا.

لذا سنكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى خُبثٍ ما في صياغة عبارته وترتيب الأحداث، فهو يحاول من خلال ترتيب أقوال وأفعال مَن نهى الإمام (علیه السلام) والاقتصار على قول (فأبى) في تقرير موقف الإمام الحسين (علیه السلام) ، وختمها بما يزعم أنّ الإمام الحسن (علیه السلام) قاله لأخيه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إثبات ما يروم هو وأسياده من تخطئة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ جميع أهل الحلّ والعقد ومَن يسمّونهم الوجهاء والعقلاء قد نهوا الإمام (علیه السلام) ، ولم يكن لدى الإمام (علیه السلام) جوابٌ سوى أنّه أبى وخالفهم، ثمّ ندم على مخالفته لهم!!!

وقد ورد الحديث عن أهل البيت (علیهم السلام) في ما يخصّ كلمات الإمام الحسن (علیه السلام) وحديثه عن كربلاء أخيه الإمام الحسين (علیه السلام) ومصائبه وما يجري عليه وبكائه عليه، وقولته المشهورة المعروفة:

«لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ...».

وقد كذّب ابن حجر نفسه حين روى ردّ الإمام الحسين (علیه السلام) على ابن الزبير، وتأكيده أنّه لا يحبّ أن يكون الكبش الّذي تستحلّ به حرمة الحرم، حيث أبان الإمام الحسين (علیه السلام) اضطراره إلى الخروج من مكّة، وأنّه مطاردٌ مطلوبٌ مقتول، على التفصيل الّذي أتينا على بيانه في أكثر من موضع.

ص: 206

ويبدو من خلال تعليل ابن حجرٍ وغيره ممّن نقل هذه العبارة أو ما يقرب منها، أنّه يريد أن يفسّر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة بدعوة الكوفيّين له واعتماده على كتبهم ورسلهم ووعودهم، وأنّه يطلب الأمر على وزان مَن يطلبه في زمانه من قبيل الأُمويّين وابن الزبير، والعياذ بالله.

ويشهد لذلك ما نقله الشاميّ في (سبل الهدى والرشاد)، قال _ وهو يروي أحداث وصيّة الإمام الحسن (علیه السلام) وشهادته _ :

قال في آخرها: أبى الله (عزوجل) أن يجعل فينا أهلَ البيت مع النبوّة والخلافة المُلك والدنيا، فإيّاك وطاعتها، وإيّاك وأهل الكوفة أن يستخفّوك فيُخرجوك، فتندم حيث لا ينفع الندم.

ثمّ رفع طرفه إلى السماء وقال: اللّهمّ إنّي احتسبتُ نفسي عندك، فإنّي لم أصب بمثلها، فارحم صرعتي وأُنسي في القبر وحدتي وارحم غربتي، يا أرحم الراحمين ((1)).

وغزل صاحب (السيرة الحلبيّة) بنفس المغزل البائس، فقال:

ثمّ لما قُتل الحسين، أي: لأنّ الحسين أرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه، فأراد الذهاب إليهم، فنهاه ابن عبّاس، وبيّن له غدرهم وقتلهم لأبيه وخذلانهم لأخيه الحسن.

ونهاه ابن عمر وابن الزبير، فأبى إلّا أن يذهب، فبكى ابن عبّاسٍ وقال: واحبيباه! وقال له ابن عمر: أستودعك الله من قتيل.

ص: 207


1- سبل الهدى والرشاد للصالحيّ الشاميّ: 11 / 70.

وكان أخوه الحسن قال له: إيّاك وسفهاء الكوفة أن يستخفّوك، فيُخرجوك ويُسلموك، فتندم، ولات حين مناص. وقد تذكّر ذلك ليلة قتله، فترحّم على أخيه الحسن ((1)).

وسنأتي على مناقشة ذلك مفصّلاً في موضعه..

ولكن، لا ندري كيف يسوّغ هؤلاء المؤرّخون قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويبرّرون لمن حاربه فعله بعد أن ندم الإمام (علیه السلام) ليلة قتله _ على فرض المحال وصحّة ما صدر عنهم من مقال _، فإن كان قد ندم قبل ليلةٍ من قتله، فلماذا أصرّوا على قتله، وهو ابن بنت النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانة الرسول وسيّد شباب أهل الجنّة؟!!

التعليقة الثانية: ابن الزبير يسأل مسائل شرعيّة!

ورد في رواية الشجريّ في (الأمالي) أنّ ابن الزبير عقّب كلامه مع الإمام (علیه السلام) بتقديم بعض الأسئلة الشرعية:

فسأله عن المولود، متى يجب عطاؤه؟

وسأله عن الرجل يُقاتل عن أهل الذمّة فيُؤسر، كيف يكون فكاكه؟

وسأله عن الشرب قائماً؟

وسأله عن الصلاة في جلود الميتة ((2)).

ص: 208


1- السيرة الحلبيّة: 1 / 270.
2- الأمالي للشجريّ: 1 / 174.

من العجيب أنّ مثل ابن الزبير الّذي يزعم في نفسه ما يزعم، ويريد أن يطلب الأمر ويحكم الناس باسم الدين وشريعة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، يكون جاهلاً في مثل هذه المسائل الّتي هي في صلب عمله، ومن ضرورات حياته اليوميّة.

ولا ندري كيف كان هؤلاء الجهلة الأغبياء ينتصبون، ويحاولون الإقلاع من قاعهم المظلم العفن، مع جهلهم وقلّة علمهم _ على أفضل الفروض _؟!

وكيف كانت أنفسهم تنازعهم للتوثّب على الأمر، وفي الأُمّة مَن هو أعلم منهم، وهم محتاجون إليه؟!

لكنّها سيرة الأوائل الّذين تركوا قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) : «عليٌّ أقضاكم، وعليٌّ أعلمكم، وأنّكم تحتاجون إليه ولا يحتاج إليكم»، بعد روايتهم ذلك وأكثر عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فجرى عليها مَن جاء بعدهم، وسوّغها لهم من نظّر وقدّر وفكّر، فحمد الله الّذي قدّم المفضول على الفاضل لمصحلةٍ اقتضاها!!! ((1))

الاقتراح الثالث: الخروج إلى العراق

اشارة

كان ابن الزبير يغدو ويروح إلى الإمام الحسين (علیه السلام) ، ويشير عليه أنيقدم العراق! ويقول: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفّنا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وأُولي الأمر منهم.

ص: 209


1- أُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 3 مقدّمة المؤلف.

وسأل الإمام الحسين قائلاً: خبّرني بما تريد أن تصنع؟ فقال الإمام: واللهِ لقد حدّثتُ نفسي وعزمتُ على إتيان الكوفة، فإنّ شيعتي بها، وأشراف أهلها قد كتبوا إليّ في القدوم عليهم، وأستخير الله.

فقال ابن الزبير: وفّقك الله، أما لو أنّ لي بها مثل أنصارك، ولو كان لي بها مثل شيعتك، ما عدلتُ بها ولما أقمت بمكانك يوماً واحداً، فما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فواللهِ لو أنّ لي مثلهم ما وجّهت إلّا إليهم ولَذهبت إليهم. فقوّى عزمه.

وفي (الفصول المهمّة):

نعم، نفسي تحدّثني بإتيان الكوفة، وذلك أنّ جماعةً من شيعتنا وأشراف الناس كتبوا إليّ كتباً يحثّونني على المسير إليهم، ويعدونني النصرة والقيام معي بأنفسهم وأموالهم، ووعدتُهم بالوصول إليهم، وأنا أستخير الله (تعالى) ((1)).

فعاد ابن الزبير ليدفع التهمة عن نفسه، فاقترح على الإمام البقاء في مكّة، على التفصيل الّذي مرّ معنا قبل قليل، فقال الإمام:

«ما شيءٌ من أمر الدنيا يُؤتاه أحبّ إليه من خروجي عن الحجاز،لأنّه قد علم أنّه ليس له معي من الأمر شيء» ((2)).

ص: 210


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذريّ: 5 / 315، تاريخ ابن خيّاط: 178، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72، مروج الذهب للمسعوديّ: 3 / 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 28 / 203، مختصر ابن منظور: 12 / 190، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 4 / 170، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 160، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 186، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

* * * * *

هذه خلاصة الأقوال ومؤدّى الأخبار في الاقتراح الثالث، وكان بعض ما ورد حواراً دار بينهما، وكانت بعض ردود الإمام (علیه السلام) يمكن أن تكون ردّاً على هذا الاقتراح أيضاً، من قبيل تأكيد الإمام (علیه السلام) على أن يُقتَل خارج مكّة بشبرٍ أحبّ إليه من أن يُقتَل فيها، بَيد أنّنا لم نذكرها هنا لأنّنا أتينا على ذكرها قبل قليل، فلا نعيد.

ويمكن اختصار ما ورد في نصوص هذا الاقتراح من خلال الإنارات التالية:

الإنارة الأُولى: مكر ابن الزبير!

لم يكن ابن الزبير صادقاً ولا مخلصاً ولا ناصحاً في ما تقدّم به من اقتراحٍ على الإمام (علیه السلام) ، سواءً أكان في اقتراحه المكث والبقاء في مكّة، أو المسير إلى العراق والتعجيل في الخروج من مكّة.

ص: 211

فهو على فرض اقتراحه البقاء، فقد صرّح سيّدُ الشهداء (علیه السلام) بكذبه، واتّفق المؤرّخون على ما شهد به سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّه كان كاذباً في زعمه، وكان يتمنّى خروج الإمام (علیه السلام) سريعاً عاجلاً، لأنّه لا يطيق وجود الإمام (علیه السلام) وهو يعلم أن لا أحد يلتفت إليه مع إشراق مكّة بنور غرّة سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (علیه السلام) .

وهو في هذا الاقتراح ماكرٌ مخادعٌ مراوغٌ لا يُؤمن، ولا يصدر إلّا عن سريرةٍ خبيثةٍ تحيك الشرّ وتقذفه أين ما كان، فهو لا يريد للإمام (علیه السلام) خيراً ولا يناصحه فيما يقول، وإنّما يهيّئ لما تصبو إليه نفسه الأمّارة بالسوء والفحشاء، إذ لو خرج الإمام (علیه السلام) لارتاح وسكنت نفسه الشرّيرة وطار فرحاً حين تخلو له الحجاز، ويشهد له قول الإمام (علیه السلام) : «ما شيءٌ من أمر الدنيا أحبّ إليه من خروجي عن الحجاز، لأنّه قد علم أنّه ليس له معي من الأمر شيء».

فهو غير ناصحٍ ولا مخلص للإمام (علیه السلام) على كلّ حال.

الإنارة الثانية: قد يصدق ابن الزبير!

أجل، قد يصدق ابن الزبير في ما يزعمه من أنّه إن كان له أنصارٌ وشيعةٌ فيالعراق لَعجّل المسير إليهم، لأنّه يفتقر إلى مَن يقبله ويقيم له وزناً، فهو وفق تصوّراته ومتبنّياته يبحث عن أنصار يخرجون معه لتحقيق مآربه الدنيويّة، ومثل هؤلاء يطمعون بأيّ ناعق.

فهو بلحاظ حثّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ومحاولة تقوية عزمه _ فيما يزعم _، غير مخلصٍ ولا صادق، ولكن باعتبار أُمنياته الشخصيّة ومطامعه قد يصدق،

ص: 212

بحيث لو كان له أنصارٌ وشيعةٌ يستجيبون لدعوته ويقبلون مبايعته لَسارع إليهم مسارعة الغربان على الجيف، والضباع والثعالب على الفطائس.

الإنارة الثالثة: دواعي الحثّ

لقد كان ابن الزبير يغدو ويروح إلى الإمام (علیه السلام) ، ويشير عليه أن يقدم العراق ((1))، فهو لم يكتفِ بمرّةٍ أو مرّتين، وإنّما كان يُكثِر التردّد على الإمام (علیه السلام) يحثّه على الخروج إلى العراق، رغم علمه _ حسب ما يزعم _ أنّه إن قدم العراق يُقتل.

بَيد أنّه كان يذكر في بعض حديثه الدوافع والمسوّغات الّتي تدعوه إلىالاقتناع بالعراق ومحاولاته لإقناع الإمام (علیه السلام) .

فمن جهة:

كان يرى نفسه ويرى في الإمام (علیه السلام) _ المقارنة منه، وليس للمقارنة معنىً هنا _ مِن أبناء المهاجرين وأُولي الأمر منهم، فهما _ كما يتوهّم ابن الزبير _ أحقّ بالأمر من يزيد، وهو صحيحٌ في الإمام (علیه السلام) ، وغلطٌ فادحٌ وزورٌ وقحٌ ودعوىً فجّةٌ ممجوجةٌ تافهةٌ في ابن الزبير.

ص: 213


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 138، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 415، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 341، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

ومن جهةٍ أُخرى:

فإنّه يرى أنّ للإمام (علیه السلام) أنصاراً وشيعةً يلحّون عليه للقدوم عليهم، وهذا ما يتمنّاه ابن الزبير، لذا كان يعجب من الإمام (علیه السلام) ويقول أنّه لو كان مكان الإمام (علیه السلام) لما تأخّر عنهم يوماً واحداً، وكان يعجب من الإمام (علیه السلام) ويستنكر عليه أنّه ما يمنعه من شيعته وشيعة أبيه!

وكان يزعم أنّه لو كان عنده ما للإمام (علیه السلام) في العراق لما توجّه إلّا إليهم، ولما تردّد في اختيار الوجهة الّتي سيتوجّه إليها.

وهذه الدوافع كلّها وفق موازين من يرنو للخروج بالمعنى المصطلح تُعَدّ موازيناً موفّقةً وحساباتٍ صحيحة، لأنّ مَن يريد مقارعة السلطان ومحاربة ولاته والاستيلاء على مقدّراته يحتاج إلى أشياع وأنصار، فلمّا لم يتهيأ له هذا الجمهور في مكّة، وتهيّأ في العراق والكوفة على وجه التحديد، فمن الأوفق والأصوب أن ينطلق نحوهم، قبل أن تخبو جذوة التمرّد وتخفت جمرة الناسالمتوقّدة، ويختنق أزيز غليان المراجل الفوّارة في أمواج هيجان الناس الثائرة على الواقع الرديء، وقبل أن يتحوّل ألق الآمال اللائحة في أُفق التغيير إلى رمادٍ يقضي على تلألؤ الشعارات المرفوعة من قبل الزبد المتراكم ضدّ الولاة والحاكم.

فهي فورة الناس وسورتهم، وهيجان العواطف الجيّاشة، وانتفاضة الجمهور الملتهبة الّتي قد تسكن وتخمد وتنطفئ وتختفي بعد الاضطرام والتأجّج والثوران والهيجان لمجرّد حملةٍ كابحةٍ قامعةٍ من عساكر السلطان، وللوقت دوره في مثل هذه الأحيان.

ص: 214

فما يحتاجه ابن الزبير من أجل الوصول إلى المنال المنشود هو الأنصار والأشياع، والبيئة الّتي يمكن أن تستجيب له، فيناغيها ويخدعها، وتناغيه فيغالبها، حتّى يركب أمواجها العارمة، ويصعد على مناكبها فيرتقي ما يريد.

فهو ينطلق من دوافعه ونوازعه وبواعثه ومحركاته وأهدافه وغاياته وتصوّراته ومآلاته الّتي يرسمها لنفسه..

أمّا سيّد الشهداء (علیه السلام) _ وحاشا سيّد الكائنات وأشرف الخلق بعد مَن استثناهم الله _ فليس في حسابه كلّ أوهام ابن الزبير، وليس في حركته ودوافعه شيءٌ ممّا يزوّقه ابن الزبير وينمّقه ويزخرفه لنفسه الدنيئة..

والفرق بين الحركتين بُعد المشرقين، بل لا مشترك بينهما يمكن أن يجعلهما موضعاً للدراسة في نفس المحور.فسيّد الشهداء (علیه السلام) مطاردٌ ملاحقٌ مطلوب، قد هدروا دمه الزاكي المقدّس الّذي سكن الخلد، في موقف الدفاع عن نفسه وأهله، لا يخطّط لشيءٍ ممّا يخطّط له مَن يريد الخروج على السلطان والانقضاض على الحكم والاستيلاء على زمام المُلك!

الإنارة الرابعة: الأسباب الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام)

قال الإمام (علیه السلام) في مقام الردّ على سؤال ابن الزبير أنّ نفسه المقدّسة تحدّثه أن يأتي الكوفة، أو أنّه عزم على إتيان الكوفة، وقال:

«فإنّ شيعتي بها وأشراف أهل الكوفة كتبوا إليّ بالقدوم عليهم، وأستخير الله».

ص: 215

يبدو جليّاً لمن تأمّل النصّ أنّ الإمام (علیه السلام) قال: «شيعتي بها وأشراف أهل الكوفة كتبوا إليّ بالقدوم»، وفي نصّ ابن الصبّاغ: «جماعة من شيعتنا وأشراف الناس».

فميّز الإمام (علیه السلام) بين شيعته وبين الأشراف الّذين كتبوا إليه، وذكر الشيعة بياء النسبة، فنسبهم إليه، ولم يقل: إنّ لي فيها شيعة، أو أشياع، أو ما شاكل، وإنّما هم شيعةٌ خاصّون منسوبون إليه موجودون هناك!

فربّما كان الإمام (علیه السلام) يقصد من هذه النسبة، وعزلهم وفصلهم عن الأشراف الّذين كاتبوا، الإشارةَ إلى القليل الديّان الّذين وقفوا معه وذبّوا عنه وعن حرم وحريم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، ولم يقصد الزبد الطافح على السطح يومذاك ممّنبايع ثمّ نكث وانقلب على عقبيه.

وهؤلاء القلّة الديّانون هم الّذين قصدهم الإمام (علیه السلام) ، ويمّم نحوهم وتوجّه إليهم، وهم الّذين وعدوه النصرة والقيام معه وبذل أنفسهم وأموالهم، ووعدهم الإمام (علیه السلام) بالوصول إليهم.

وأمّا الأشراف الّذين كاتبوه، والمنضوون تحت أرديتهم، فإنّهم رغم ما يعلم منهم الإمام (علیه السلام) ، بَيد أنّهم أعلنوا النصرة والقيام معه وبذل أنفسهم وأموالهم في ظاهر دعواهم، فهم غير محسوبٍ عليهم، ولا معتدّ بهم بعد أن ضمن الإمام (علیه السلام) أُولئك الأطياب الأطهار من شيعته المخلصين الأبرار، وهو يعرفهم ويعلم مآلهم وعاقبتهم، بيد أنّهم في حساب مثل ابن الزبير معدودون، وفي الحسابات الظاهريّة المنظورة للجميع معدودون أيضاً، لذا كان الإمام (علیه السلام) يذكرهم لمن

ص: 216

سأله وكلّمه وحاوره، ومنهم ابن الزبير الّذي يتمنّى مثل هؤلاء المكاتبين.

الإنارة الخامسة: سبب التوجّه نحو العراق، لا سبب الخروج من مكّة

لا يخفى أنّ الإمام (علیه السلام) هنا ذكر سبب التوجّه نحو العراق دون غيره من البلدان، ولم يذكر سبب خروجه من مكّة، وفرقٌ كبيرٌ بين الأمرين!

فسبب خروجه من مكّة وتعجّل الخروج منها _ كما ذكرنا وسيأتي _ إنّما هو تجنّب أن يغتاله العدوّ في مكّة أو يأخذه أخذاً.

فهو يريد الخروج من مكّة على كلّ حال، ليبتعد عنها ولو شبراً واحداً، أمّااختياره العراق دون غيره من البلدان، فكان لما ذكره من شيعته ومكاتبة أشراف الكوفة له.

الإنارة السادسة: الاستخارة

بالرغم من الأسباب الّتي ذكرها سيّد الشهداء (علیه السلام) للتوجّه نحو العراق، بَيد أنّه أكّد له أنّه سيقدم بعد الاستخارة.

فكأنّ هذه الأسباب الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) ليست هي العامل الوحيد، وهو يستخير ربّه ليقضي له، وقد خار الله له أن يتوجّه نحو كربلاء، وقلبُ الإمام (علیه السلام) مسكنُ إرادة الله وخيرته، وقد أتينا على بحث الاستخارة في بحث ظروف الخروج من المدينة، فلا نعيد.

الإنارة السابعة: غباء ابن الزبير وجهله!

من غباء ابن الزبير _ وأمثاله _ وجهله وعدم معرفته بالرجال ولا برجال

ص: 217

الحقّ وأهل الولاية الواجبة المفروضة، أنّه يتوهّم ويخال أنّه يمكنه أن يؤثّر على الإمام (علیه السلام) العالم بالله والمسدَّد بروح القدُس، ويمكنه أن يقوّي من عزمه أو يزعزع إرادته ويفلّ من تصميمه، ويرجعه عمّا أزمع عليه، بحيث يكون كلامه مؤثّراً في الإمام (علیه السلام) ومؤثّراً في موقفه..

إنّ ابن الزبير لو تطاول ما تطاول، واختال وتباهى، وتبختر وتجبّر، وتعجرف وتكبّر، وشمخ وتغطرس وتنافخ، وبلغ بغروره الخيلاء والزهو والصلف، لا يستطيع أن ينظر إلى طرف أنفه، ولو نظر فإنّه لا ينظر إلّا بعينٍحولاء عوراء لا تميّز، والإمام (علیه السلام) هو الإمام العالم بما كان وما يكون وما هو كائنٌ بإذن الله وقدرته وفضله وفيضه ولطفه.

فليس لابن الزبير أن يكون له مطمعٌ بالإمام (علیه السلام) ، وهو إنّما يجرؤ ويتحامل على الإمام (علیه السلام) بصلافةٍ وصفاقةٍ وانعدام حياء، لأنّه جاهلٌ مغرورٌ بذيءٌ سفيهٌ سليطٌ فاحشٌ طويل اللسان، أعمَتْه أمانيه وشهواتُه ونزعاته وهواه في السلطة ونيل الحكم عن كلّ رشدٍ ورزانةٍ ورصانةٍ وسدادٍ وصحوةٍ وصواب، فكان هذا المغرور المعجَب بنفسه الشرّيرة يتوهّم أنّه يمكنه أن يقول الصحيح في حضرة الفرقان الّذي به يميّز الله الحقّ من الباطل والصحيح من الخطأ والسقيم، أو أنّه يمكن أن يشير عليه بالصواب، أو يؤثّر على عزمه فيقوّيه أو يضعفه، ويثبّته أو يزعزعه.

ص: 218

العرض التاسع: ابن الزبير يلحق الإمام!

رغم أنّنا ذكرنا فيما مضى من خلال ما ورد في المتون التاريخيّة أنّ ابن الزبير لحق الإمام (علیه السلام) والتقاه وكلّمه، بَيد أنّنا نريد الإشارة هنا إلى نكتةٍ مهمّة، وهي:

إنّ الإمام (علیه السلام) لم يقصد ابن الزبير ولم يستشره ولم يكترث به، بل إنّ ابن الزبير هو الّذي لحق الإمام (علیه السلام) ، وهو الّذي بادر بالعروض والاقتراحات، حاله حال الآخرين ممّن التقى الإمام (علیه السلام) وقصده بقصد النصح، أو بقصد الاعتراض،أو بقصد الاستفسار والاستيضاح، أو بأيّ قصدٍ أو لأيّ غرضٍ آخَر.

فالإمام (علیه السلام) لم يحتجْ أحداً، ولم يستشر أحداً، ولم يطلب من أحدٍ شيئاً في هذا المجال، ولم ينتظر أحداً، أو يبني على قول أحد.

وهذه المعلومة بنفسها نافعةٌ ومؤثّرةٌ جدّاً في فهم تحركات الآخَرين وفضولهم، ومغزى اقتراحاتهم وعروضهم، وتحركات سيّد الشهداء (علیه السلام) ووضوح المشهد كاملاً بين يديه.

ويفيد أيضاً غربة الإمام (علیه السلام) غريب الغرباء، ومقدار ابتعاد أُولئك عن مستوى إدراكهم لموقف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وما يجري عليه من ملاحقاتٍ ومضايقاتٍ وتهديدٍ حقيقيّ لحياته العزيزة الّتي هي أعزّ شيءٍ في الخلق.

ص: 219

ص: 220

بين عبد الله بن جعفر والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام)

اشارة

ذكرت المصادر عدّة مواقف أو محاولاتٍ لعبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) حين أزمع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) على الخروج من مكّة متوجّهاً نحو العراق، ربّما يجد المتابع فيها شيئاً من التداخل نتيجة عرض المؤرّخ وطريقة نقله وصياغته للأخبار، ويمكن أن نقسّم النصوص الواردة فيها إلى أقسام:

ص: 221

ص: 222

القسم الأوّل: كتاب عبد الله بن جعفر للإمام الحسين (علیه السلام)

اشارة

نجد في نصوص هذا القسم نوعين:

أحدهما: اقتصر على حكاية الخبر مقتضباً.

والآخر: ذكر شيئاً من التفصيل، كالموضع الّذي كتب منه الكتاب، ونصّ الكتاب وجواب سيّد الشهداء (علیه السلام) .

إبن سعدٍ ومَن تلاه:

وكتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالبٍ إليه كتاباً يحذّره أهل الكوفة، ويناشده الله أن يشخص إليهم.

فكتب إليه الحسين: «إنّي رأيتُ رؤياً، ورأيت فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له، ولست بمُخبرٍ بها أحداً حتّى أُلاقي عملي» ((1)).

ص: 223


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر:14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

الطبريّ، النويريّ، ابن كثير:

قال أبو مخنف: حدّثَني الحارث بن كعب الوالبيّ، عن عليّ بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب قال: لمّا خرجنا من مكّة، كتب عبدُ الله بن جعفر بن أبي طالب إلى الحسين بن علي مع ابنَيه عون ومحمّد:

أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لمّا انصرفتَ حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّه له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير، فإنّي في أثر الكتاب، والسلام ((1)).

إبن أعثم:

وانتقل الخبر بأهل المدينة أنّ الحسين بن عليّ يريد الخروج إلىالعراق، فكتب إليه عبد الله بن جعفر:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليّ من عبد الله بن جعفر، أمّا بعد، أُنشدك الله أن لا تخرج عن مكّة، فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه أن يكون فيه هلاكك وأهل بيتك، فإنّك إن قُتلت أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى وأمير المؤمنين، فلا

ص: 224


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.

تعجلْ بالمسير إلى العراق، فإنّي آخذٌ لك الأمان مِن يزيد وجميع بني أُميّة على نفسك ومالك ووُلدك وأهل بيتك، والسلام.

قال: فكتب إليه الحسين بن عليّ:

«أمّا بعد، فإنّ كتابك ورد علَيّ، فقرأته وفهمت ما ذكرت، وأُعلمك أنّي رأيتُ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أو علَيّ، واللهِ _ يا ابن عمّي _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني ويقتلوني، واللهِ _ يا ابن عمّي _ ليعدينّ علَيّ كما عدَت اليهودُ على السبت، والسلام» ((1)).

الخوارزميّ:

واتّصل الخبر بالمدينة، وبلغهم أنّ الحسين عزم على الخروج إلى العراق، فكتب إليه عبد الله بن جعفر الطيّار:بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليّ من عبد الله بن جعفر، أمّا بعد، فإنّي أُنشدك الله أن تخرج من مكّة، فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، فإنّك إن قُتلتَ خفتُ أن يُطفأ نورُ الله، فأنت علَم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجلْ بالمسير إلى العراق، فإنّي آخذٌ لك الأمان من يزيد ومن جميع بني أُميّة لنفسك ولمالك وأولادك وأهلك، والسلام.

فكتب إليه الحسين:

ص: 225


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.

«أمّا بعد، فإنّ كتابك ورد علَيّ، فقرأته وفهمت ما فيه، اعلمْ إنّي قد رأيتُ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) في منامي، فأخبرني بأمرٍ أنا ماضٍ له، كان لي الأمر أو علَيّ، فو الله _ يا ابن عمّ _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني حتّى يقتلوني، وواللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت، والسلام» ((1)).

الشيخ المفيد:

وألحقه عبدُ الله بن جعفر بابنيه عَون ومحمّد، وكتب على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه:

أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لمّا انصرفت حين تنظر في كتابي، فإنّيمشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّهتَ له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، وإن هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَم المهتدين ورجاء المؤمنين، ولا تعجل بالمسير، فإنّي في أثر كتابي، والسلام ((2)).

إبن الأثير:

قال: وأدرك الحسينَ كتابُ عبد الله بن جعفر مع ابنيه عَون ومحمّد، وفيه:

أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لمّا انصرفتَ حين تقرأ كتابي هذا، فإنّي

ص: 226


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.

مشفقٌ عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَم المهتدين ورجاء المؤمنين، ولا تعجلْ بالسير، فإنّي في أثر كتابي، والسلام ((1)).

إبن شهرآشوب:

وكتب إليه عبد الله بن جعفر من المدينة في ذلك، فأجابه:

«إنّي قد رأيتُ جدّي رسول الله في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أَم علَيّ، واللهِ _ يا ابن عمّ _ لَيعتدينّ علَيّ كما يعتدياليهود يوم السبت». وخرج ((2)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ:

ثمّ إنه وردَت على الحسين (علیه السلام) كتبٌ من أهل المدينة، من عند عبد الله ابن جعفر على يدَي ابنيه عَون ومحمّد، ومن سعيد بن العاص ومعه جماعةٌ من أعيان المدينة، وكلٌّ منهم يشير عليه أن لا يتوجّه نحو العراق ولا يأتيه ولا يقربه، فليس له فيه مصلحة، وأن يُقيم بمكّة.

هذا كلّه والقضاء غالبٌ على أمره، فلم يكترث بما قيل له، ولم يلتفت إلى ما كُتب إليه، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ((3)).

ص: 227


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

إبن عبد ربّه، الباعونيّ:

وأرسل عبد الله بن جعفر ابنيه عَوناً ومحمّداً ليردّا حسيناً، فأبى حسين أن يرجع، وخرج ابنا عبد الله بن جعفر معه ((1)).

السماويّ:

ومرّ بوادي العقيق، ثمّ سار منه، فأرسل إليه عبدُ الله بن جعفر ابنيه،وكتب إليه بالرجوع، فلم يمتنع ((2)).

* * * * *

يمكن أن نتابع ما ورد في هذه النصوص من خلال التذكير بعدّة أُمور:

التذكير الأوّل: ميزة نصّ ابن الصبّاغ

لقد امتازت جملةٌ من النصوص بالاختصار والاقتصار على ذِكر أصل خبر الكتاب، وفي بعضها ذِكرٌ لجواب الإمام (علیه السلام) .

وامتاز من بين هذه النصوص المختصرة متنُ ابن الصبّاغ والشبلنجيّ، وهو ما سنقف عنده قليلاً، ونترك الباقي إلى حين الحديث عن باقي المتون لاشتراكها في المضامين.

يلفت الانتباه تعبير ابن الصبّاغ، إذ أنّه أفاد أنّ جماعةً هم الّذين كتبوا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، منهم: سعيد بن العاص، وجماعة من أعيان المدينة، وعبد

ص: 228


1- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 264.
2- إبصار العَين للسماويّ: 6.

الله بن جعفر (رضی الله عنهما) .

فمَن هم هؤلاء الأعيان الّذين أشار إليهم؟

وذكر مؤدّى رسائلهم وكتبهم، واختصرها باتّفاقهم على أمرٍ واحد، إذ كان كلٌّ منهم يشير عليه أن لا يتوجّه نحو العراق ولا يأتيه ولا يقربه، فليس له فيهمصلحة، وأشار عليه الجميع أن يقيم بمكّة!

رغم أنّنا لم نجد هذا الجوّ الّذي يصوّره ابن الصبّاغ عند غيره، حيث أنّ النصوص الأُخرى لا تفيد أنّ جماعةً من أعيان المدينة أيضاً كتبوا في تلك الفترة، فربّما أراد ابن الصبّاغ أن يجمع كلّ مجريات الأحداث والمكاتبات في تلك الفترة، فكان من بين مَن كاتب جماعة.

وعلى العموم، فإنّ هجوم مَن يسمّونهم الأعيان والوجهاء وأصحاب الرأي واجتماعهم على مكاتبة الإمام (علیه السلام) ، وتحذيره من التوجّه نحو العراق، يروم التوصّل إلى نتيجةٍ طبيعيّةٍ يخرج بها المتلقّي للخبر التاريخيّ، يوحي إليه عدم اكتراث الإمام (علیه السلام) بآراء العقلاء وأصحاب الرأي والأعيان، وإصراره على المضيّ في الطريق الّذي أجمع الناس على خطئه!!

ومن الغريب أنّ أحداً لم يُشِر إلى أنّ الإمام (علیه السلام) هو سيّد العقلاء وتاجهم _ بغضّ النظر عن الإمامة _، وهو أعرف بالمجتمع الكوفيّ والعراقيّ منهم جميعاً، وقد مارسهم وعالجهم.

والأغرب أنّ أحداً منهم لم يلتفت إلى الظروف المُحدِقة بالإمام (علیه السلام) والمخاطر الحقيقة المتنجّزة المحيطة به، ولم يصغُ أحدٌ منهم _ أو لم يرد ذلك _ إلى

ص: 229

ما يكرّره الإمام (علیه السلام) وتشهد به مجريات الأحداث من لزوم قتل الإمام (علیه السلام) قطعاً جزماً إن هو بقيَ في مكّة أو مكث فيها، ولو لأيّامٍ قلائل حتّى ينقضيالموسم.

وفوق ذلك كلّه، أن يصرخ هؤلاء جميعاً _ والكلام هنا لا يشمل عبد الله ابن جعفر (رضی الله عنهما) ! _ وينفخوا في نفس مزمار السلطة والسلطان، ويسعوا عن علمٍ أو عن غير علمٍ في ترويج ما يريد يزيد الخمور الترويج له، ويشاركوا في إقناع الإمام (علیه السلام) بما يحقّق غرض الأُمويّين وجرائهم المسعورة لتأخير الإمام (علیه السلام) في مكّة، ليتسنّى لهم اغتياله أو أخذه دون ضجيج، والقضاء عليه بسهمٍ غاربٍ في إحدى المشاعر، بل حتّى في المسجد الحرام.

إنّهم جميعاً ينظرون ويفهمون حركة الإمام (علیه السلام) وفق المنظار الأُمويّ، ويلوّنون حركته بالصبغة الّتي يريد القرد المسعور يزيد أن يصبغه بها، فيحسبون وفق حساباتهم وحسابات السلطة يومها، فيجدونه خارجيّاً متمرّداً _ والعياذ بالله، ونستغفر الله _ يقصد جماعةً خادعةً خاذلةً غدّارة، لها تاريخها في الانقلاب على الحقّ وأهله ومعاداة أهل البيت (علیهم السلام) ، فيحذّرونه منهم، ويدفعون احتمالات الفشل أمامه.

وهم وِفق هذا التصوّر لا يرون أنفسهم على خطأٍ ولا يشكّون في صوابهم وصدقهم في ما يقولون، إن كانوا غير مشغّلين مِن قِبل العدوّ المسعور الّذي يتوثّب لملء أكراشه الجوفاء، المتعطّش للولوغ في الدماء الزاكية تشفّياً وثأراً للدماء العفنة.

ولو أنّ هؤلاء الأعيان _ كما يسمّونهم _ قد أنصتوا إلى سيّد الشهداء (علیه السلام)

ص: 230

لحظة، وقبلوا منه كلامه وتفسيره للخروج من المدينة ومكّة، لاقتضى الواجب أن يكاتبوا يزيد ويصرفونه عن نيّته المشؤومة، ويحذّرونه العواقب الوخيمة الّتي تترتّب على تهوّره وتمرّده وعزمه الأكيد وعتوّه على الله ورسوله وأبناء رسوله (صلی الله علیه و آله) ..

فلو لم تكن مصلحة الإمام (علیه السلام) في إتيان الكوفة، فهل كانت في البقاء في مكّة؟!

إنّ في الكوفة قوماً يدفعون عنه، ويبذلون كلّ شيءٍ في الذبّ عنه وعن أهل بيته، ولو كانوا قليلاً، وليس هذا القليل متوفّرٌ يومها لا في مكّة ولا في أيّ موضعٍ من أصقاع الأرض، فضلاً عن هتك حرمة البيت الآتي على كلّ حال إن مكث الإمام (علیه السلام) فيه.

نكتفي هنا بهذا القدر، لنتابع مع باقي النصوص..

التذكير الثاني: انتشار خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة في المدينة!

أفاد ابن أعثم والخوارزميّ وغيرهما ممّن تأخّر عنهما أنّ خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) اتّصل بالمدينة وانتقل الخبر بينهم، وبلغهم أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) عزم على الخروج إلى العراق.

فكيف انتشر هذا الخبر؟

هل انتشر من خلال عيون السلطة وجواسيسهم الّذين كتبوا لوالي مكّة

ص: 231

والمدينة حينها (الأشدق)، فنشر الأخير الخبر لخدمة مصالحهم؟ أو أنّ الركبان هم الّذين نقلوا الخبر، ثمّ انتشر؟

وكم كان لهذا الخبر الّذي قد انتشر _ حسب هذه النصوص _ من أثرٍ في أهل المدينة عموماً؟ وماذا حرّك فيهم؟

وماذا فهم منه الناس يومئذ؟

هل فهموه وفق ما صرّح به سيّد الشهداء (علیه السلام) من أسباب لخروجه، وأنّه مهدَّدٌ في المدينة ومكّة، ولابدّ له من التوجّه إلى أيّ بلدٍ آخر يمكن أن يُبعِده عن عادية الذئاب، ويخلّصه من براثن مخالب القرود المسعورة، كما أفاد أيضاً كلام محمّد ابن الحنفيّة وغيره ممّن اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يخرج إلى أيّ أرض، ويلتحق بالجبال والبراري والقفار والكهوف والمغارات وشواطئ البحار إن نبَتْ به مكّة والمدينة؟!

أم أنّهم فهموه وفق ما روّج له السلطان وولاته من أنّ الإمام (علیه السلام) يريد الانقضاض على الحكم والحكّام، ويبحث عن أنصار لتحقيق مآربه الدنيويّة _ والعياذ بالله _، فلم تتوفّر له في المدينة ومكّة، فتوجّه نحو الدعوات والزعقات البائسة القادمة إليه من العراق تحملها رياح الغدر والخيانة؟

يبدو من مواقف الناس وكتب مَن يسمّونهم الأعيان أنّهم صرعتهم الحملات الدعائيّة، وومضات بريق البيضاء والصفراء، وزيف بهارج الدنيا وصديد مائها الراشح من تحت عروش السلاطين، وخدعتهم المظاهر المزيّفة الخلّابة المرسومة على أسارير وجوه الغانيات والإماء والأزواج والأولاد ولذّات الدنيا..

ص: 232

لم نجد مَن استمع إلى كلام الإمام الحسين (علیه السلام) المظلوم، وأصغى إليه، وأدرك ما يعانيه ويقاسيه، واستشعر التهديد الّذي يلاحقه، والسيوفَ الّتي تترصّده، وعساكر الموت المنبعثة من أحقاد الأُمويّين الّتي تغشاه في كلّ لحظةٍ وفي كلّ مكان.. الأحقاد والضغائن ومشاعر الانتقام والثأر الّتي أقسموا بكلّ صنمٍ ووثنٍ نكّسه أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) وهشّمه جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلّا أن يأخذوها من الرسول وآله، مهما كلّف الأمر!

التذكير الثالث: زمان ومكان كتابة الكتاب

صرّح ابن شهرآشوب ((1))، وأفاد جماعةٌ منهم ابن الصبّاغ والشبلنجيّ وابن أعثم والخوارزميّ ((2)): أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) كتب كتابه من المدينة بعد أن بلغه عزم سيّد الشهداء (علیه السلام) على الخروج من مكّة.

وهذا يعني أنّه كان في الفترة الأخيرة من أيّام تواجد الإمام (علیه السلام) في مكّة،بحيث وصل الكتاب عند خروج الإمام (علیه السلام) ، أو بُعيد خروجه، فقد روى الطبريّ عن الإمام عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) قال:

«لمّا خرجنا من مكّة، كتب عبدُ الله بن جعفر بن أبي طالب إلى

ص: 233


1- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

الحسين بن عليّ مع ابنيه عَون ومحمّد ...» ((1)).

ربّما كان ما رواه الطبريّ عن الإمام السجّاد (علیه السلام) في قوله: «لمّا خرجنا من مكّة كتب ...»، يعني الإخبار عن زمان وصول الكتاب.

وقال الشيخ السماويّ:

إنّ الكتاب وصل حين مرّ الإمام بوادي العقيق، ثمّ سار منه، فأرسل إليه عبد الله بن جعفر ابنيه، وكتب إليه بالرجوع ((2)).

وقد ذكر السيّد عليّ بن الحسين الهاشميّ (وادي العقيق) منزلاً بعد منزل بستان ابن عامر والتنعيم والصفاح ((3)).

ولا ندري من أين استقى العلّامة السماويّ _ رحمه الله، وحشره مع سيّد الشهداء (علیه السلام) _ هذه المعلومة، إذ أنّه لم يوثّقها، ويمكن لمن أراد الارتكاز إليها في بحثه أن يعتمد وثاقة الشيخ (رحمة الله) وتتبّعه وشهرته في التحقيق والتنقيب.وكيف كان، سواءً أكان كلام الإمام السجّاد (علیه السلام) يُخبر عن زمان وصول الكتاب أو كتابته، فإنّ جملة الأحداث والأخبار تفيد أنّ كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) وصل بيد الإمام (علیه السلام) بعد انطلاقه وخروجه من مكّة، وفي حساب القدَر المتيقّن فإنّه قد وصل حين الخروج متزامناً معه.

ص: 234


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.
2- إبصار العين للسماويّ: 6.
3- الحسين في طريقه إلى الشهادة للهاشميّ: 65.

التذكير الرابع: حامل الكتاب

إتّفقَت المصادر أنّ ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) أرسل كتابه بيد ولدَيه: عَون ومحمّد، وهذا يعني أنّهما (علیهما السلام) كانا في المدينة يومها، ولا ندري إن كانا قد خرجا مع الركب ثمّ رجعا إلى المدينة فحملا كتاب أبيهما، أو أنّهما كانا قد تأخّراً لأيّ سببٍ ثمّ خرجا بالكتاب.

ربّما كانا قد تأخّرا لسببٍ ما، ثمّ جعل أبوهما هذا الكتاب مسوّغاً يفسح المجال أمامهما للالتحاق بركب سيّد الشهداء (علیه السلام) من دون التعرّض لمضايقات الوالي وأذنابه، وقد يشهد لذلك أنّه أرسل الكتاب مع ولديه معاً، وكان بالإمكان أن يكتفي بأحدهما دون الآخر.

ويشهد له أيضاً تعبير الشيخ المفيد، إذ قال:

وألحقه عبد الله بن جعفر بابنيه عَون ومحمّد، وكتب على أيديهما إليه كتاباً ...

فالغرض الأصليّ هو إلحاقهما، ثمّ إنّه كتب على أيديهما.ويشهد له أيضاً التحاقهما بالركب حتّى الشهادة.

وربّما كان ابن جعفر (رضی الله عنه) يريد أن يتوثّق من حامل الكتاب الّذي يمكن الاعتماد عليه والاطمئنان إليه، لينقل الكتاب من دون تحريفٍ ولا تأخيرٍ ولا أيّ خطرٍ يمكن أن يتهدّده.

ويمكن أن يُستشفّ من هذا الخبر أنّ ابنيه كانا شابَّين رشيدَين، يمكن الاعتماد عليهما في حمل الأمانة وإيصال الكتاب والانطلاق به بمفردهما

ص: 235

ولوحدهما، في الزمن الصعب والظرف الخطير وملاحقات الأعداء واستنفار قوى الشرّ.

بل توحي عبارة ابن عبد ربّه والباعونيّ أنّهما كانا على مستوىً رفيعٍ من الوجاهة والرشد والمكانة عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ، قالا:

وأرسل عبدُ الله بن جعفر ابنَيه عَوناً ومحمّداً، ليردّا حسيناً ((1)).

فعبارتهما تفيد أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) كلّف ولديه أن يباشرا هما (ليردّا حسيناً).

وهذا القول ينسجم مع حملهما الكتاب، فلا يبعد أن يكون قد كتب كتابه، وكلّفهما بهذه المهمّة أيضاً.

إلّا أن يقال: إنّ ابن عبد ربّه عبّر عن حمل الكتاب تكليفهما بالمهمّة، وهوبعيدٌ عن مؤدّى النصّ.

التذكير الخامس: نصّ كتاب ابن جعفر

اشارة

إقتصر بعض المؤرّخين على اختزال ما ورد في كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، وعبّروا عن مضامينه بعباراتهم، فاكتفى ابن سعدٍ ومَن تلاه بقوله:

كتب إليه كتاباً يحذّره أهل الكوفة ويناشده أن يشخص إليهم.

وقد أشرنا إلى التحذير والنهي عن الخروج إلى العراق قبل قليل، فلا نعيد.

واكتفى بعضهم بقولهم أنّه كتب إلى الإمام (علیه السلام) فقط ((2)).

ص: 236


1- أُنظر: العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 264.
2- أُنظر: المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 322.

وروى آخرون الكتاب مفصّلاً، وسنتابعه فيما يلي من خلال اللفتات التالية:

اللفتة الأُولى: أدب عبد الله بن جعفر

روى ابن أعثم والخوارزميّ بداية الكتاب وشروعه بالبسملة، ثمّ قال:

للحسين بن عليّ من عبد الله بن جعفر ...

فهو قد قدّم اسم الإمام (علیه السلام) على اسمه، وفي ذلك دلالةٌ واضحةٌ على أدب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، ومعرفته الراقية بإمامه ومقامه، ومعرفته السامية بأدب الخطاب مع العظماء، والتواضع بين يدَي رجال الله الّذين افترض الله طاعتهم.

أضِفْ إلى ذلك: ما يلوح من ثنايا الكتاب، ويبدو من عباراته وكلماته، ومايتدفّق منه من مشاعر وتوجّس، وما يجيش من بين سطوره من صدقٍ ونصيحةٍ وإخلاص، ما ينمّ عن تخوّفٍ ومحاولةٍ للاستبقاء على الإمام (علیه السلام) ، ودفع القتل عنه بما يستطيع وما يراه ممكناً، رغم تسليمه للإمام (علیه السلام) ورضاه بما فعل ويفعل.

فهو يبدو في موقفه ومحاولاته وكتابه كأُمّ سلَمة الّتي قالت له ما مضمونه: لا تفجعني بخروجك يا بُنيّ، فقد أخبرني جدُّك أنّك مقتول، وأعطاني من التربة الّتي تُقتَل فيها.. وأمثالها من المسلّمين للإمام المؤمنين بما أخبر عنه النبيّ (صلی الله علیه و آله) واختاره سيّد الشهداء (علیه السلام) ، غير أنّهم يتوقّعون ممّن مكّنه الله وجعل قلبه مسكن إرادته ومدّه بالقدرة والقوّة والعلم والحكمة أن يفعل شيئاً بأيّ وسيلةٍ

ص: 237

من الوسائل الّتي جعله الله مسلّطاً عليها ليدفع القتل عنه، فإن كان، وإلّا فهُم سلمٌ لما يقول، وتسليمٌ لما يريد، ورضىً بما يفعل.

وسنعرف الكثير من مصاديق أدب هذا الرجل المهذّب المتأدّب بأدب آل أبي طالب من خلال ما ورد في كتابه هذا.

اللفتة الثانية: المناشدة

• إنّي أسألك بالله لمّا انصرفتَ حين تنظر في كتابي ((1)).• أُنشدك الله أن لا تخرج عن مكّة ((2)).

سؤالٌ ومناشدةٌ بالله أن لا يخرج الإمام (علیه السلام) عن مكّة..

ليس في الكتاب لغة الآمِر الناهي، ولا لغة الندّ المخاطب، ولا لغة المناقِش، ولا محاولة إقناع المخاطَب بخطأ خياره، ولا الحديث عن أهداف الخروج والمحاسبة على اتّخاذ القرار، وغيرها ممّا كنّا نسمعه في كلمات ابن عبّاس وابن عمر وغيرهما.

ص: 238


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

إن هي إلّا مناشدةٌ وسؤال.. توسّلٌ وابتهال.. استعطافٌ والتماسٌ بتضرّعٍ ورجاء..

سؤال العاجز الّذي لا يرى نفسه في ضراعته مؤهَّلاً ليقدم بنفسه، لذا توسّل بالله وناشد باسمه، وتقرّب به بين يدَي الإمام الناطق عن الله والصادر عن أمره.

وقد جعل لمناشدته أمداً محدوداً، لا يتعدّى الانتظار والمكث في مكّة حتّى يصل هو، لعلّه يفزع إلى وسيلةٍ تحقّق له غرضه بفعل ما يمكن فعله لدفععادية الوحوش الكاسرة..

فليس عند ابن جعفر (رضی الله عنه) ولا عند غيره موضعٌ على وجه هذه البسيطة يمكن أن يُحيط الإنسان بهالةٍ من الحرمة والحفاظ والأمن مثل بيت الله الحرام.. إنّه البلد الآمِن الّذي جعله الله أمناً لكلّ مخلوق!

فهل يجد ابن جعفر (رضی الله عنه) موضعاً يمكن أن يطمئنّ به على حياة الإمام (علیه السلام) مثل مكّة؟ لذا توسّل إليه أن لا يخرج منها حتّى يصل بنفسه إليها.

إستمهل الإمام (علیه السلام) مسافة الطريق، ومدّةً لا تزيد على أيّام المسير من المدينة إلى مكّة..

بيد أنّ البقاء في مكّة أصبح وأمسى متعسّراً، بل متعذّراً على الإمام (علیه السلام) ، إذ أنّهم لم يرعوا للحرم حرمته، ولا للإمام (علیه السلام) حرمته، وأقدموا على قتل الإمام (علیه السلام) فيه وسفك دمه المقدّس، حتّى اضطرّ للخروج والتعجّل دون انتظار الموسم.

ص: 239

إنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) توسّل وناشد الإمام (علیه السلام) البقاء في مكّة لأسبابٍ واضحةٍ لم يخفها على أحد، وقد أصحر بها في كتابه، كما سنسمع في اللفتة التالية.

اللفتة الثالثة: دوافع المناشدة
اشارة

قال الطبريّ والشيخ المفيد وابن كثير وابن الأثير والنويريّ وجماعة:

فإنّي مشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّه له أن يكون فيه هلاككواستئصال أهل بيتك، إنْ هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَمُ المهتدين ورجاءُ المؤمنين، فلا تعجلْ بالسير، فإنّي في أثر الكتاب، والسلام ((1)).

قال ابن أعثم:

فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه أن يكون فيه هلاكك وأهل بيتك، فإنّك إن قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى وأمير المؤمنين ((2)).

قال الخوارزميّ:

فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه أن يكون فيه

ص: 240


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 256.
2- الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.

هلاكك واستئصال أهل بيتك، فإنّك إن قُتلتَ خفتُ أن يُطفأ نور الله، فأنت علَمُ المهتدين ورجاءُ المؤمنين ((1)).

* * * * *يمكن تناول ما ورد في هذا المقطع من الكتاب من خلال التوضيحات التالية:

التوضيح الأوّل: الشفقة

الشَّفَقُ والشَّفَقَةُ: الحنان والرحمة والخوف من حلول المكروه، والعطف، وإزالة المكروه عن الناس.. أن يكون الناصِحُ من بُلوغِ النُّصْح خائفاً على المَنْصوح.. وأَشْفَقْتُ عليه أن يناله مكروه.. والشَّفِيقُ: الناصح الحريص على صلاح المنصوح ((2)).

يبدو أنّ الخوف المصرّح به في متن ابن أعثم والخوارزميّ هو نفسه هذه الشفقة الّتي رواها الطبريّ والشيخ المفيد وغيرهما.

ويمكن لقارئ النصّ أن يستشعر الإيقاع الوديع في كلمة (الشفقة)، وما تعبّر عنه ممّا يجيش في خاطر ابن جعفر (رضی الله عنه) ، والتوجّس الّذي يعيشه، والذعر الّذي ينتابه، والفَرَق الّذي يقاسيه، والروع الذي يروّع أحاسيسه، والوجل الذي يتحسّسه على سلامة الإمام (علیه السلام) وحياته، والمخاطر الّتي تُحدِق به..

ص: 241


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.
2- أُنظر: المعجم الرائد، كتاب العين، لسان العرب: شَفَقَ.

يبدو لائحاً مدى الحبّ الوافر، والحنان الفيّاض، والودّ الغزير المتدفّق من كلمات ابن جعفر (رضی الله عنه) ، الّذي يُصحِر عن الألم الممضّ الّذي ينهمر من بينسطور كتابه..

إنّه لا يعترض، ولا يقف ليمدّ قامته إزاء قامة الإمام (علیه السلام) أبداً، وإنّما يتوسّل حبّاً وحناناً، يرتجي أن يفعل شيئاً _ إن أذن له الإمام (علیه السلام) بذلك _، لعلّه يدفع القتل والمكروه عنه بما استطاع.

التوضيح الثاني: المقصود من الأمر في كلام ابن أعثم والخوارزميّ!

ورد في نصّ ابن أعثم وتبعه الخوارزميّ قول ابن جعفر (رضی الله عنه) :

فإنّي خائفٌ عليك من هذا الأمر الّذي قد أزمعتَ عليه ... ((1)).

فهو خائفٌ أن يكون في هذا الأمر هلاك العترة الطاهرة بما فيها الإمام (علیه السلام) ، ولابدّ من معرفة المقصود من (الأمر) الّذي أشار إليه النصّ، وإن كانت هي زيادة وردت عند ابن أعثم خاصّة، حسب ما توفّر لنا من النصوص في هذا المجال.

ويمكن معرفة المقصود من سياق الكتاب نفسه ومن جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) .

يبدو أنّ المقصود هو: الخروج من مكّة والقتل، ويشهد له أنّه يتخوّف عليه من الأمر الّذي أزمع عليه في سياق دعوته للتريّث وعدم استعجال الخروج من

ص: 242


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.

مكّة، ويعده أنّه سيصل عمّا قريب، ويأخذ له الأمان من يزيد وبني أُميّةلنفسه وماله وأولاده وأهله.

وقد أجابه الإمام (علیه السلام) _ وفق نصّ ابن أعثم والخوارزميّ _ بالرؤيا، ثمّ أقسم له أن لو كان في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوه حتّى يقتلوه، وسيعتدُون عليه كما اعتدَت اليهود، فلا فائدة من انتظاره والتريّث والمكث في مكّة؛ لأنّهم سيقتلونه فيها، وستُهتَك حرمة البيت بدمه الزاكي.

فالأمر المشار إليه هو الخروج من مكّة الّذي سيؤدّي إلى القتل جزماً، إذ أنّ المكث في مكّة قد يوفّر نوع حمايةٍ تنتج عن حرمة البيت.

وكيف كان، فليس المقصود _ إذن _ من قوله: (الأمر) ما كان يقصده ابن الزبير وابن عبّاس، كما سمعناهما في ما سبق حين وقع النزاع بينهما، وليس هو الخروج بالمعنى المصطلح، ولا غيره من المقاصد الأُخرى، وإنّما هو الخوف عليه من القتل إذا خرج من مكّة، بقرينة السياق وجواب الإمام (علیه السلام) .

وربّما لاح ذلك بوضوح من التعبير الّذي رواه غيرهما من المؤرّخين: «إنّي مشفقٌ عليك من الوجه الّذي توجّه له»، وهو ترك مكّة والتوجّه نحو العراق، ليس إلّا.

* * * * *

لا تجد في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) أيّة إشارةٍ تشي بدعوة الإمام (علیه السلام) إلى اتّخاذ مكّة منطلقاً لحركةٍ خاصّةٍ بلونٍ خاصّ، أو أنّه قد فهم من حركة الإمام (علیه السلام) أنّه يبيّت لشيءٍ سوى سلب الذرائع من بين مخالب القرود المتوحّشة والذئاب

ص: 243

الجائعة، فهو لا يدعوه إلى استثمار المواقف في الحجّ، ولا يدعوه إلى التريّث حتّى يرى ما يصدر به الناس، ولا يدعوه ليبثّ كتبه ورسله إلى الأصقاع ويدعو الرجال إلى نصرته، ولا يدعوه لشيءٍ ممّا دعاه إليه الآخرون!

التوضيح الثالث: دواعي الشفقة وأسبابها
اشارة

صرّح ابن جعفر (رضی الله عنه) في كتابه بالأسباب الّتي دعَتْه إلى هذه الشفقة، وأفزعته وغرزت المخاوف وأثارت التوجّس في أعماقه، وقد رتّبها على مستويين، ينتج المستوى الثاني عن المستوى الأوّل.

المستوى الأوّل: الخوف من استئصال العترة الطاهرة

باح ابن جعفر (رضی الله عنه) عمّا يدور في خَلَده، ويقلقل أحشاءه، ويرتعش له قلبه، ويرتجف له كيانه، وصرّح أنّه مشفقٌ من أن يكون التوجّه إلى العراق سيؤدّي إلى قتل الإمام (علیه السلام) ، واستئصال أهل بيته.. «أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك» ((1)).نجد هنا ميزةً في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) ترفع مقامه الرفيع، وتسمو بمنزلته

ص: 244


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.

السامية، إذ أنّه لا يذكّر الإمام (علیه السلام) بغدر أهل الكوفة وتاريخهم، والخوف من الاغترار بوعودهم ومزاعمهم ومواقفهم المخزية مع أبيه وأخيه (علیهما السلام) ، كما فعل الآخرون، لأنّه يعلم أنّ ذلك لا يغيب عن الإمام (علیه السلام) ، ويعلم مع مَن يتكلّم، ويعلم أنّ الإمام (علیه السلام) لا يتحرّك بدافع الدعوات المتوجّهة إليه منهم؛ لاعتقاده بإمامته وافتراض طاعته، وأنّه لا يصدر إلّا عن الأمر الإلهيّ..

وهو من جهةٍ أُخرى:

لا يرى موضعاً يمكن أن يوفّر للإمام (علیه السلام) وأهل بيته الحماية ويراكم الحرمة ويشدّدها كما هي مكّة والبيت الحرام، فليس له وسيلةٌ أُخرى يتشبّث بها ليعرضها بين يدَي الإمام (علیه السلام) .

لذا لا نسمعه يقترح على الإمام (علیه السلام) في هذا الكتاب الخروج إلى اليمن، أو اللحاق بالجبال والسهول وشواطئ المحيطات والبحار، والترحال في الصحارى والقفار، والتكاتب مع الناس وجمع الأنصار عبر الكهوف والمغاور والمخابئ، كما اقترح الآخرون الّذين افترضوا أنّ الإمام (علیه السلام) يريد الخروج بالمعنى المصطلح، وأنّه يبيّت للإطاحة بيزيد وبني أُميّة أو ينوي مواجهتهم، وغيرها من الأغراض المزعومة.

إنّه يخاف أن يترك الإمام (علیه السلام) مأمنه في مكّة، ويتوجّه إلى بلدٍ يُقتَل فيه ويُستأصل أهلُ بيته، إذ أنّ البلد الآمن هو مكّة لا غير، بعد أن خذلَته المدينةوضيّعته وأسلمته.

وقد أخبره الإمام (علیه السلام) في جوابه أنّ مكّة الآمنة لجميع المخلوقات لم تعُدْ

ص: 245

آمنةً لآل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وأنّهم سيقتلونه على كلّ حال، فلا خيار سوى الخروج من مكّة لئلّا تُهتَك حرمتها.

* * * * *

إنّه يخشى من استئصال أهل بيت الإمام (علیه السلام) ..

وهنا أيضاً لا نجد في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) ما يفيد أنّه يريد أن يحصد لنفسه شيئاً، ولا يجرّ لقرصه ناراً، ولا يهمّه سوى حياة الإمام (علیه السلام) وأهل بيته، فهو لا ينسب نفسه إلى أهل البيت (علیهم السلام) ، ولا يدّعي شيئاً لنفسه رغم أنّ ثقله وأهله وأولاده مع الإمام (علیه السلام) وفي ركبه، وهو ابن أبي طالب (علیه السلام) !

وفي كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) إشارةٌ واضحةٌ إلى أنّ أهل بيت الإمام (علیه السلام) كانوا في دائرة التهديد أيضاً..

المستوى الثاني: نتائج قتل الإمام (علیه السلام) !
اشارة

• إن هلكتَ اليوم طُفئ نور الأرض، فإنّك علَمُ المهتدين ورجاءُ المؤمنين ((1)).• فإنّك إن قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى وأمير

ص: 246


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256.

المؤمنين ((1)).

• فإنّك إن قُتلتَ خفتُ أن يُطفأ نور الله، فأنت علَمُ المهتدين ورجاءُ المؤمنين ((2)).

إنزعج جماعةٌ من خروج الإمام (علیه السلام) وهجرته عن مكّة، وبرّر كلٌّ منهم انزعاجه بما يراه مسوّغاً للانزعاج وعدم الرضى، ودافعاً مقبولاً _ في زعمه _ للمعارضة والصدّ والمنع والأمر بالتريّث، أو الرجوع عن المشروع المفترض في أذهانهم البليدة، فقالوا:

إن خرجتَ فقُتلتَ ذلّ العرب!

إن خرجتَ قرّت عينُ ابن الزبير!

إن خرجت لا يمكن أن تُحقّق غرضاً ملحوظاً منظوراً مع توافر العدّة والعدد عند العدوّ!

وغيرها من الحسابات الدنيويّة، والنظرات الضيّقة الّتي لا تتّسع لإدراكالواقع الّذي يحيط بالإمام (علیه السلام) ، ولا تنمّ عن اعتقاد المعترض بإمامة سيّد الشهداء (علیه السلام) وفرض طاعته، ممّا سمعناه من أمثال ابن عبّاسٍ وابن عمر وابن مطيع وابن الأصمّ وغيرهم..

فيما نجد ابن جعفر (رضی الله عنه) ينطلق من منطلقاتٍ تختلف تمام الاختلاف عن

ص: 247


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

منطلقات أُولئك..

إنّه يخاف على حياة الإمام (علیه السلام) المهدَّدة من قِبَل العدوّ، وفي حياة الإمام (علیه السلام) حياة العالم وحياة المؤمن، كما سيتّضح فيما يلي عندما نسمع ما يشفق عليه ابن جعفر (رضی الله عنه) :

الإشفاق الأوّل: الإشفاق على نور الله

إنّه يخشى على أهل الأرض وعلى الإيمان والمؤمنين..

فالإمام عنده _ وهو الحقّ _ نورُ الله في الأرض، فإن انطفأ هذا النور وخبا فسوف يعمّ الأرض وأهلها الظلام الحالك.. الدامس.. البهيم.. فلا نور لله في الأرض ولا هداية، ولا يبقى سوى الضلال..

فنور الإمام (علیه السلام) الأبيض الأغرّ الأقمر البهيّ البرّاق الساطع اللامع المنير المتلألئ المشرق إذا خبا وخمد، فلا نور في الأرض، ولا هداية، ولا دلالة على الله..

يعني أنّ الأرض ستغرق في الظلام، ويعمّها الظلم والجور والعماية والدياجي والاضطهاد والضياع والتيه في الدياجير..إنّه يخشى على مستقبل الأرض وأهل الأرض..

فالأرض الّتي ليس فيها نورٌ لله، لا حاجة لله فيها.. وهذا تعبيرٌ آخَر عمّا ورد كثيراً في أحاديث أهل البيت (علیهم السلام) أنّ الأرض لا تخلو من حُجّةٍ لله، ولو خلت من الإمام لحظةً لَساخت بأهلها، ولَانفرط عقد التكوين.. لأنّ الله قد خلق الخلق ليعبدون، وليبتليهم أيّهم أحسن عملاً، فإن قُتِل الأحسن عملاً،

ص: 248

فلا حاجة في الخلق المنكوس المتعوس بعده!

إنّه يخشى أن يُطفأ نور الله في الأرض..

يا لها من كلمةٍ بعيدة الغور.. عميقة المغزى.. عظيمة الدلالة.. جزيلةٍ ثمينةٍ نفيسة.. توفّرت على قصرها من المعاني والدلالات ما يملأ القراطيس، إن أراد المتلقّي شرحها واستيعاب ما أشارت إليه وأوحت به..

إنّه يعتقد أنّ الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) هو نور الله في الأرض، به يُخرج اللهُ الناس من الظلمات إلى النور بإذنه، فهو السبب الّذي جعله الله لهداية عباده، فكان علَم المهتدين، به يستنقذ الله العباد من الضلالة وحيرة الجهالة..

الإشفاق الثاني: فقدان علم المهتدين

إنّه يخشى ويُشفق على الإمام (علیه السلام) ، إذ هو علم المهتدين..

فإذا قُتل (علیه السلام) فقَدَ المؤمنون المهتدون عَلَمهم ودليلهم ومرشدهم، وتفرّق جمعهم، وتشتت أمرهم.. فهو عَلَمهم وعِلْمهم.. هو إمامهم الّذي سيُدعَون به في الدنيا والآخرة، ويُحشَرون تحت علمه ولوائه ورايته في الدنيا والآخرة.إنّه يخشى على علم المهتدين وخامس الخمسة الميامين الّذين فخر بهم الروح الأمين، وباهل الله بهم المباهلين..

فابن جعفر (رضی الله عنه) يعتقد بانحصار الهداية في الإمام (علیه السلام) ، وأنّها لا تكون إلّا إذا كان المهتدي تحت لوائه مقتدياً به، ومستدلّاً به وسالكاً طريقه..

وعلم الهداية لا يخطأ، ولا يعتريه الشكّ والتردّد، كيف وقد طهّره الله

ص: 249

تطهيراً، وجعله هادياً وعلماً ونوراً ودليلاً لخلقه..

يعني إنّه يعتقد بعصمة الإمام (علیه السلام) ، وفرض طاعته، ووجوب اتّباعه..

إنّه لا يخشى أن تقرّ عينُ ابن الزبير إذا خلّى الإمام (علیه السلام) له مكّة، فاستغلّها فرصةً للوصول إلى مآربه الدنيويّة، ولا يهمّه أن تسخن عين ابن الزبير أو ترضى.

ولا يهمّه إن كان يزيد يريد للإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة، فيقتنص فرصة وجوده ليغتاله أو يأخذه أخذاً، ويوفّر عليه تبعات حربٍ لا يُعرف مداها..

ولا يهمّه أيّ شيءٍ آخَر سوى أن يحمي نور الله ليستضيء به أهل الأرض، ويُبقي علم الهداية خفّاقاً عالياً مرتفعاً يسترشد به الأقربون والأبعدون، ويجعلونه وسيلةً إلى الله فيرجوه ولا يخافون.

الإشفاق الثالث: فقدان رجاء المؤمنين

إنّه يخشى على المؤمنين أن يفقدوا رجاءَهم.. لأنّه رجاء المؤمنين.. أملهم والمؤمّن روعتهم..الرجاء يرادف الأمل والابتهال والاسترحام والاستعطاف والاستغاثة والتضرّع والتطلّع والتوسّل والرغبة..

رجاء المؤمنين.. هو أملهم في الدنيا والآخرة.. بهذا الأمل يحيون، وبهذا الأمل يموتون، وبهذا الأمل يحشرون بين يدَي الله، وبهذا الرجاء والأمل يتقدّمون للوقوف بين يدي الله إذا خافوا ممّا قدّمت أيديهم..

إنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) يُشفِق ويخشى على رجاء المؤمنين أن يتحوّل إلى

ص: 250

ابتئاسٍ وتَيهٍ وسأم وضجر وقنوط ويأس.. وليست هذه من صفات المؤمن، فلا يبقى مؤمنٌ حينئذٍ إذا فقد الأمل والرجاء..

الإشفاق الرابع: روح الهدى وأمير المؤمنين!

إتفق جميع المؤرّخين الّذين نقلوا الكتاب على رواية قوله: «رجاء المؤمنين»، عدا ابن أعثم قال: «أمير المؤمنين»!

فهو إمّا خطأ نسّاخ.

وإمّا يقصد أمير المؤمنين بمعنى أنّه رئيس المؤمنين وأميرهم يومها، لا بالمعنى المصطلح الّذي حصره النبيّ (صلی الله علیه و آله) بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) ، ونهى الأئمّةُ المعصومون (علیهم السلام) عن مخاطبتهم به؛ لاختصاصه بأبيهم الأعظم (علیه السلام) ، وهو احتمالٌ بعيد.

أو أنّ ابن أعثم استعمل هذا اللقب وفق متبنّياته وأدبيّاته وطريقته في التعبير، كما هو دأبه في كتابه، وقد قالها على لسان المولى الغريب مسلم (علیه السلام) فيمناظرته ومحاججته مع ابن زياد في القصر، وفي غيرها من المواضع، وقد أتينا على مناقشة ذلك في موسوعة المولى الغريب (علیه السلام) ، فلا نعيد.

وفي قوله: «روح الهدى» دلالةٌ عميقةٌ على مدى إيمان ابن جعفر (رضی الله عنه) ومعرفته بالإمام سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وإن كانت الكلمة تحمل نفس الروح الّتي تحملها كلمة: «علم المهتدين» مع ما فيها من إيحاءاتٍ إضافيّة.

ولو سُلب الهدى روحه لغدا جثّةً هامدةً لا حراك فيها ولا تأثير، ولمات

ص: 251

الهدى ومات أهلُه.

اللفتة الرابع: لا تعجلْ بالسير!

فلا تعجل بالسير، فإنّي في أثر الكتاب ((1)).

طلب ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) من الإمام (علیه السلام) أن يتمهّل ولا يستعجل في الخروج من مكّة، وربّما كان هذا الاستمهال بدافع التخطيط للبحث عن طريقٍ يمكن أن يسلكه ابن جعفر (رضی الله عنه) للاستئمان والتأثير على يزيد وبني أُميّة.ويشهد لذلك ما قد ذيّل به كتابه في رواية ابن أعثم والخوارزميّ، حيث صرّح بذلك، ووعد الإمام (علیه السلام) أن يأخذ له الأمان من يزيد ومن جميع بني أُميّة له ولماله ولوُلده وأهل بيته ((2)).

يُلاحَظ هنا أنّ استمهال ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) للإمام (علیه السلام) إنّما هو محاولةٌ لفعل شيءٍ ما للدفاع عن الإمام (علیه السلام) ، كما سنسمع تفاصيله في اللفتة القادمة، وليس فيه منعٌ مطلَقٌ ونهيٌ مؤكّدٌ عن أصل الخروج، ولا تخطئةٌ لما اختاره الإمام (علیه السلام) ، ولا دعوةٌ للبقاء والمكث والإقامة الدائمة في مكّة، ولا اقتراحات لتوظيف الإقامة

ص: 252


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 387، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نفَس المهموم للقمّي: 172، معالي السبطين للمازندرانيّ: 1 / 256.
2- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217.

في مكّة، ولا غيرها ممّا اعتاد الآخرون طرحه بين يدَي الإمام (علیه السلام) والاعتراض عليه ونصب أنفسهم أعلاماً مهلهلة أمام العلَم الّذي نصبه الله للعالمين.

اللفتة الخامسة: أسباب الدعوة إلى التريّث
اشارة

• فلا تعجل بالمسير إلى العراق، فإنّي آخذٌ لك الأمان من يزيد وجميع بني أُميّة على نفسك ومالك، ووُلدك وأهل بيتك، والسلام ((1)).

• فلا تعجل بالمسير إلى العراق، فإني آخذٌ لك الأمان من يزيدومن جميع بني أُميّة لنفسك ولمالك وأولادك وأهلك، والسلام ((2)).

نجد في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) هنا ميزات عدّة:

الميزة الأُولى: تشخيص المُعتدي!

هنا ميزةٌ أُخرى في كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) :

لقد اعتدنا سماع نغمةٍ واحدةٍ كأنّها تُقرأ على لوح أنواطٍ نضّده لهم فريقٌ مشترك، وأمضاه لهم ملحّنٌ واحدٌ يجيد العزف على طبول الحرب وشرب الدماء الزاكية.

سمعنا من ابن عبّاسٍ وابن عمر وغيرهما ممّن اعترض على الإمام (علیه السلام) كلامهم، ومحاولاتهم البائسة الّتي كانت ترمي إلى كفّ الإمام (علیه السلام) عن الخروج على السلطة! وتثبيط عزمه، وتقديم البدائل الناجعة والمؤثّرة والمثمرة في رأيهم

ص: 253


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 115.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

لما اختاره الإمام (علیه السلام) .

فهم يرون في الإمام (علیه السلام) مهاجِماً يخطّط للانقضاض على الحكم والحكّام والسلطة والسلطان، ويبيّت لمحاربة عساكر الملك والإطاحة بمُلكه، والتعرّض لولاياته وولاته، فهو البادئ، وهو المهاجم، وهو المتمرّد، أو ما يسمّونهباصطلاحهم: الخارجيّ، والعياذ بالله من هذه الكلمات الجريئة غير المؤدّبة، غير أنّ ضرورة البحث تقتضي نقل ما يفوه به أُولئك ويفكّرون به ويبرزونه على ألسنتهم.

فيما نجد في طريقة عرض عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) إيقاعاً جديداً ونغمةً وادعةً تنمّ عن فهمٍ عميق، وإدراكٍ دقيق، واستيعابٍ ضافٍ واف، ومعرفةٍ وتقديرٍ صائبٍ للظروف والأوضاع.

إنّه لم يستمهل الإمام (علیه السلام) ولم يكلّمه ليكفّه عن الخروج على السلطة، وإنّما عزم على الكلام مع يزيد وبني أُميّة، لأنّه عرف أنّ المشكلة والعناد والإصرار على ارتكاب الجريمة والتوغّل في الجناية والتشفّي والثأر لدماء الجاهليّة العفنة والانسياق مع وساوس الانتقام والحقد من جهتهم، وهم الّذين يريدون قتل الإمام (علیه السلام) ، وليس هو الإمام (علیه السلام) الّذي يهدّدهم، بخلاف ما ورد في كلام غيره!

إنّه أدرك ووعى وفهم وقرأ الواقع كما هو، فعلم أن لا حاجة تدعوه ليحاول مع الإمام (علیه السلام) ليكفّ عن أُولئك الأوغاد، فليس هو الإمام (علیه السلام) الّذي قد قصدهم وهدّدهم، وإنّما الحاجة تدعوه للكلام مع الوحوش الّتي تريد أن تملأ أكراشها وأجربتها من أوصال سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فاستمهله ريثما

ص: 254

يتكلّم معهم ويحاورهم ويناقشهم، لعلّهم ينزلوا عن شجرة القرود المتوحّشة المسعورة، ويعرضوا عن الإمام (علیه السلام) ليلهوا بقيانهم ودنانهم.

لذا جاء جواب الإمام (علیه السلام) على غرار كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) ، فأكّد له أنّهسوف (لا، ولم، ولن) يتركوه بتاتاً، ولو كان في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوه وقتلوه، ولَاعتدوا عليه كما عدَت اليهودُ في يوم السبت، كما روى ابن أعثم والخوارزميّ.

الميزة الثانية: بذل ما بوسعه للدفاع عن الإمام (علیه السلام)

يشهد لما قدّمنا أنّ ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) أرسل ثقله وأولاده مع الإمام (علیه السلام) ، لأنّه يعلم أنّهم وإمامهم مهدَّدون، وهو يعلم كذلك أنّ خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق سيؤدّي إلى قتله، سواءً من خلال ما سمعه من الإخبارات النبويّة والعلويّة وغيرها، أو من خلال قراءة الواقع والنظرة الثاقبة الّتي اكتشف بها نوايا العدوّ المفضوحة.

فالإمام (علیه السلام) مهدَّد، والطاغوت وأذنابه يلاحقونه على كلّ حال، وحيثما كان، فلابدّ له من الخروج من مكّة، ولابدّ لابن جعفر (رضی الله عنه) أن يدفع عن إمامه بما استطاع، إن كان بمحاولاته وتوظيف نفوذه عند الأُمويّين ووجاهته، أو بالذبّ عنه بأولاده وجعل أهله وزوجه معيناً ومساعداً..

وقد وظّف ابن جعفر (رضی الله عنه) كلَّ ما توفّر لديه من وسائل للذبّ عن الإمام (علیه السلام) ، فاستمهله ليكلّم الطواغيت، ويدخل هو بنفسه على خطّ تحذيرهم وتخويفهم وصدّهم ومنعهم من الإقدام على قتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) ،

ص: 255

كما دفع عنه بيديه من خلال أولاده، وواساه وأعانه وحضر بين يديه فيكلّ لحظةٍ من لحظات كربلاء من خلال زوجه ومفخرته عقيلة الطالبيّين بنت أمير المؤمنين شريكة الحسين زينب الكبرى (علیهم السلام) .

الميزة الثالثة: التهديد شاملٌ من جميع الأُمويّين

إنّه استمهل الإمام (علیه السلام) حتّى يأخذ له الأمان! لا من يزيد فقط باعتباره الحاكم يومئذ، وإنّما يأخذ له الأمان من بني أُمية أيضاً.. «فإنّي آخذ لك الأمان من يزيد وجميع بني أُميّة».

من جميع بني أُميّة! فالتهديد الّذي يُحدِق بالإمام (علیه السلام) ليس من يزيد وحده، وإنّما هو من يزيد وبني أُميّة.. تماماً كما سمعنا فيما رواه لنا التاريخ من موقف مروان وإصراره على قتل الإمام (علیه السلام) في المدينة، ومواقف غيره من ذئاب الأُمويّين..

فالأُمويّون جميعاً يلاحقون سيّد الشهداء (علیه السلام) وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وما يزيد إلّا عنوانٌ وحامل رايةٍ باعتباره صاحب الملك والسلطان والآمر الناهي الّذي تطيعه العساكر والجحافل، والمتحكّم بالخزائن وبيوت الأموال.

الميزة الرابعة: التهديد الشامل لأهل البيت (علیهم السلام)

ثمّ إنّ التهديد لم ينحصر في شخص سيّد الشهداء (علیه السلام) _ حسب ما ورد في كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) _، وإنّما هو يشمل أموال الإمام (علیه السلام) ووُلده وأهل بيته، إذ أنّه وعد أن يأخذ الأمان لشخص الإمام (علیه السلام) ولأمواله ووُلده وأهل بيته.

ص: 256

يذكّرنا كلام ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) هذا بقول الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) لأبي هرّةالأزديّ حين قال له: «إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت» ((1)).

فالإمام (علیه السلام) مهدَّدٌ على كلّ صعيد، وأهله وعياله مهدَّدون أيضاً، وقد باشروا في تنفيذ تهديداتهم، فأخذوا ماله وشتموا عرضه، ولم يبقَ إلّا القتل ليهنؤوا، وتهتزّ أعطافهم جذلاً وسروراً، ويستنهضوا فطائسهم ليهلّوا فرحاً بقضاء ديونهم من النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

وفي كلام ابن جعفر (رضی الله عنه) هذا وتصريحه بأخذ الأمان لأهل الإمام (علیه السلام) ووُلده من جميع بني أُميّة إشارةٌ واضحةٌ تفيد في فهم سبب إخراج الإمام (علیه السلام) ثقله وأهله معه، وعدم تركهم في المدينة أو مكّة، وسنأتي على بيان ذلك في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

اللفتة السادسة: التحذير من أهل الكوفة

صرّح ابن سعدٍ وابن عساكر وابن بدران وابن منظور وابن العديم والمزّيّ والذهبيّ وابن كثير ومَن تلا ابن سعدٍ وروى عنه، أنّ عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما)

ص: 257


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 13، الأمالي للصدوق: 153 بسندٍ عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) ، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 226، مثير الأحزان لابن نما: 23، اللهوف لابن طاووس: 70، إثبات الهداة للحرّ العامليّ: 2 / 573، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 314، العوالم للبحرانيّ: 17 / 163، نفَس المهموم للقمّي: 183.

كتب كتاباً يحذّر الإمام الحسين (علیه السلام) أهل الكوفة ((1)).

وقال الشيخ ابن شهرآشوب: كتب إليه عبدُ الله بن جعفر من المدينة في ذلك. أي: في تحذيره من التوجّه نحو الكوفة، كما يدلّ عليه السياق، لأنّه ذكر ذلك بعد أن ذكر اعتراض جملةٍ من المعترضين، ونهيهم الإمام (علیه السلام) وتحذيرهم له من التوجّه إلى الكوفة ((2)).

وقد أتينا على ذِكر التحذير من أهل الكوفة قبل قليل، فلا نعيد، سوى أنّنا ننوّه هنا على عجلٍ إلى إشارةٍ منهجيّةٍ تفيد في قراءة النصّ التاريخيّ:

نلاحظ عند قراءة متن الكتاب الّذي رواه المؤرّخون أنّ ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) لم يصرّح في كتابه بتحذير الإمام (علیه السلام) من أهل الكوفة، بل لم نجد للكوفة وأهلها ذكراً في الكتاب، وقد اكتفى بمناشدة الإمام (علیه السلام) وسؤاله أن لا يخرج من مكّة، وأنّه مشفقٌ عليه من الوجه الّذي أزمع التوجّه له، وأنّه يخاف على الإمام (علیه السلام) القتل واستئصال أهل بيته.

وهذا شيءٌ غير تحذير الإمام (علیه السلام) من أهل الكوفة، فالإشفاق عليه من

ص: 258


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر:14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322.

القتل الناتج عن سماع الأخبار النبويّة والعلويّة وغيرها، والتوسّل إليه _ كتوسّل أُمّ سلَمة _ ومحاولة استبقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة لأنّها الحرم الآمن ريثما يتكلّم مع المعتدين شيء، والتحذير من أهل الكوفة وغدرهم الّذي لا يخفى على الإمام (علیه السلام) شيءٌ آخر.

وزاد ابن الصبّاغ أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) وجماعة الأعيان في المدينة كلّاً منهم كان يشير على الإمام (علیه السلام) أن لا يتوجّه نحو العراق ولا يأتيه ولا يقربه، فليس فيه مصلحة ((1)).

فثَمّة فرقٌ كبيرٌ بين ما رواه هؤلاء كفهمٍ خاصٍّ بهم لكتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) من دون رواية نصّه، وبين نصّ الكتاب.

لذا قد تقتضي الضرورة أن لا يعتمد المتلقّي على فهوم المؤرّخين وانتزاعاتهم، فكلٌّ منهم يصيغ الخبر وفق مؤهّلاته ونوازعه ونزعاته وتصوّراته ومعتقداته ومتبنّياته، وغيرها من المؤثّرات الّتي تؤثّر على الكاتب والراوي.

التذكير السادس: جواب الإمام (علیه السلام)

اشارة

يمكن متابعة جواب الإمام (علیه السلام) على كتاب صهره وابن عمّه من خلال الأجوبة التالية:

ص: 259


1- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
الجواب الأوّل: لم يذكر جواباً

لم يذكر الطبريّ والشيخ المفيد وابن الأثير وغيرهم ممّن تبع نصّ الطبريّ جواباً للإمام (علیه السلام) ، وإنّما استمرّوا في سرد الأحداث، ولا ندري ما هي العلّة الّتي منعَت من متابعة الحدَث عندهم؟

فهل أنّهم أخّروا الجواب إلى ما يلي من أحداث متعاقبة، وجعلوا ما حدث بعد وصول ابن جعفر (رضی الله عنه) إلى مكّة جواباً؟

أو أنّهم لم يقفوا على الجواب؟

أو أنّ الطبريّ استنبط من استمرار الإمام (علیه السلام) في حركته نحو العراق إباءً ورفضاً للكتاب، أو أنّه أراد أن يُوحي للمتلقّي عدم اكتراث الإمام (علیه السلام) بكتاب ابن عمّه؟!

وتبعه الآخَرون بنقل النصّ عنه.

ولعلّ هذا الأخير هو الّذي عبّر عنه ابن الصبّاغ وتبعه الشبلنجيّ: «فلم يكترث بما قيل له، ولم يلتفت إلى ما كتب إليه» ((1)).

الجواب الثاني: «قرأتُ الكتاب وفهمت»..

إفتتح الإمام (علیه السلام) الكتاب بقوله:«أمّا بعد، فإن كتابك ورد علَيّ، فقرأتُه، وفهمتُ ما ذكرت،

ص: 260


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.

وأُعلمك ...».

كما في نصّ ابن أعثم والخوارزميّ ((1)).

وهذا يشهد بخلاف ما قاله ابن الصبّاغ، ويفيد أنّ الكتاب قد وصل بيد الإمام (علیه السلام) ، وقد قرأه واهتمّ بما فيه، ثمّ أجابه جواباً يكشف عن مدى معرفة ابن جعفر (رضی الله عنه) وصواب رأيه ودقّة نظره، إذ أنّ توجّس ابن جعفر (رضی الله عنه) وإشفاقه كان على علمٍ وصوابٍ لمعرفته بخطط العدوّ وإقدامه على الحرمات، ولم يُنكِر على الإمام (علیه السلام) خروجه، وإنّما حاول استبطاء الانطلاقة ريثما يَقدِم هو، فربّما استطاع أن يمنع وقوع القتل في مكّة وفي غيرها.

لذا لم يردّ عليه الإمام (علیه السلام) بما ردّ به غيره حين قال: «لئن أُقتَل خارج مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل فيها»، بل أجابه بما سنسمعه بعد قليلٍ من التسليم لأمر الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، وعزم العدوّ على تنجيز ما خطّط له، وأنّه سوف لا يفلت من مخالب القرود المسعورة والذئاب المتوحّشة، فلا مجال للاستمهال والتريّث.

الجواب الثالث: الرؤيا!

أخبر الإمام (علیه السلام) ابنَ جعفرٍ (رضی الله عنه) عن رؤيا رأى فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقدأمره بأمرٍ هو ماض، له كان أو عليه، وأنّه ليس بمُخبِرٍ بها أحداً حتّى يلاقي عمله ((2)).

ص: 261


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209، تهذيب ابن بدران: 4 / 330، مختصر ابن منظور: 7 / 140، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، تاريخ الإسلام للذهبيّ: 2 / 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبيّ: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163، الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173.

هذا هو مجمل ما ورد في النصوص عن الرؤيا الّتي أخبر عنها أصدقُ الخلق الإمام الحسين (علیه السلام) .

وقد تكرّرت الرؤى طيلة فترة المسير من المدينة إلى كربلاء، فقد رأى جدّه في المدينة قبل الخروج منها، ورآه في مكّة قبل الخروج منها، ورآه في الطريق إلى كربلاء، ورآه في كربلاء.. فكان النبيّ (صلی الله علیه و آله) مع فلذة كبده والجلدة بين عينيه زَين السماوات والأرضين دائماً أيّام غربته وتشرّده وملاحقة الأعداء له.

ولسنا ندري ما هي الرؤيا بعد أن قال الإمام (علیه السلام) أنّه لا يُخبِر بها أحداً حتّى يلاقي عمله، أي: لا يخبر بها أحداً إلى يوم القيامة.غير أنّ ثمّة أمراً يمكن استشعاره من كلمات الإمام (علیه السلام) الّتي تلت الإخبار عن الرؤيا، إذ أنّه أخبر عن (أمرٍ) هو ماضٍ فيه، وقد خرج من مكّة، فلابدّ أن يكون الخروج من مكّة هو تنفيذٌ وتعبيرٌ للرؤيا.

وربما كان في الإرجاع إلى الرؤيا إشعارٌ للمتلقّي أنّ ما يصدر عنه الإمام (علیه السلام) وما يفعله إنّما هو بأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) ، فهو في طاعة ربّه ونبيّه (صلی الله علیه و آله) ، وليس

ص: 262

هو أشِراً ولا بطراً ولا إفساداً ولا ظلماً.. وهو تأكيدٌ وتركيزٌ على البُعد الربّانيّ الإلهيّ المعصوم، والبُعد الغيبيّ في كلّ حركةٍ وسكنةٍ صدرت عنه (علیه السلام) .

وكأنّ في الإرجاع إلى رؤيا النبيّ (صلی الله علیه و آله) تطييبٌ لخاطر ابن جعفر (رضی الله عنه) ، وإقناعه وتسكين روعته، والتلويح باحترامه وتقديره والالتفات إلى مناشدته، فكأنّه يلوّح لابن جعفر (رضی الله عنه) أنّك سألتني وناشدتني، وقد سمعتُ لك، وتبيّن قصدُك، بَيد أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد أمرني بأمر، ولابدّ أنّك تعتقد وتؤمن بتقديم أمر النبيّ (صلی الله علیه و آله) على سؤالك، فكأنّه اعتذر إليه عن عدم الاستجابة بمَن هو أَولى منهما معاً.

الجواب الثالث: «لو كنتُ في جُحر هامّة»!

لقد سمعنا قول الإمام (علیه السلام) :

«واللهِ _ يا ابن عمّ _ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني حتّى يقتلوني، وواللهِ ليعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهودفي يوم السبت» ((1)).

قاله لابن عمّه ابن جعفر (رضی الله عنه) ، وقاله لابن عبّاس، وقاله لغيرهما، وقد أتينا على شرحه، فلا نعيد.

ونكتفي هنا بالإشارة إلى ضرورة الإصغاء إلى هذا القول المتكرّر من

ص: 263


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 115، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 217، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 173، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي جمال أشرف.

الإمام (علیه السلام) في مواضع ومواطن شتّى ولأفراد مختلفين، فإنّها كلماتٌ واضحةٌ جليّةٌ بيّنةٌ صريحةٌ مؤكّدةٌ لم تأتِ عابرة، وإنّما تشير إلى حقيقةٍ وواقع كان يمارسه الأعداء ويلهثون من أجل تحقيقه، فلا يمكن أن نغبّش مشهداً واضحاً، ونرجرج الصورة الواضحة اللائحة الّتي يرسمها الإمام (علیه السلام) ، ونشيح بالنظر عن تحرّكات العدوّ الّتي أخبر عنها الإمام (علیه السلام) أكثر من مرّة.

الجواب الرابع: أبى ولم يمتنع

هذا الجواب يرتكن إلى اختزال المؤرّخ للحدَث، وإخباره عمّا جرى من خلال اختصار الحوادث وكبسها في عبارةٍ من صياغته حسب فهمه، اقتصاراً على ذِكر النتيجة الّتي تمخّض عنها كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) وجواب الإمام (علیه السلام) ، إذ كانت النتيجة أنّ الإمام (علیه السلام) خرج ولم يتمهّل.فقال ابن الصبّاغ الّذي زعم أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) لم يكن وحده الّذي كتب إلى الإمام (علیه السلام) ، وإنّما كان معه الوالي وجماعة من أعيان المدينة: فلم يكترث بما قيل له، ولم يلتفت إلى ما كتب إليه ((1)).

وقال ابن عبد ربّه والباعونيّ: فأبى حسين أن يرجع ((2)).

وقال الشيخ السماويّ: وكتب إليه بالرجوع، فلم يمتنع ((3)).

ص: 264


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجيّ: 258.
2- العِقد الفريد لابن عبد ربّه: 4 / 377، جواهر المطالب للباعونيّ: 2 / 264.
3- إبصار العين للسماويّ: 6.

وربّما كان المشهد واضحاً أشدّ الوضوح لمن تابع الأحداث، وقرأ بيانات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وتصريحاته، فمن الطبيعيّ أن يأبى الإمام (علیه السلام) ولم يمتنع من الخروج، إذ أنّ أيّ تأخيرٍ كان يعني هتك حرمة الدم الزاكي وهتك حرمة البيت الحرام، ولم يحتمل الموقف التأخير يوماً أو يومين، حتّى ينتهي الموسم.

وقد أتينا على بيان ذلك في مواضع كثيرةٍ من هذه الدراسة، فلا نعيد.

ص: 265

ص: 266

القسم الثاني: محاولة ابن جعفر (رضی الله عنه) مع عمرو بن سعيد

اشارة

الطبريّ، النويريّ:

قال: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه، وقال: اكتبْ إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئنّ إلى ذلك فيرجع.

فقال عمرو بن سعيد: اكتبْ ما شئت، وأْتِني به حتّى أختمه.

فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، ثمّ أتى به عمرو بن سعيد، فقال له: اختمْه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنّه أحرى أن تطمئنّ نفسه إليه ويعلم أنّه الجِدّ منك. ففعل.

وكان عمرو بن سعيد عامل يزيد بن معاوية على مكّة ((1)).

ص: 267


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410.

قال: فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: «إنّي رأيتُ رؤياً فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، علَيّ كان أو لي».

فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: «ما حدّثتُ أحداً بها، وما أنا محدّثٌ بها حتّى ألقى ربّي» ((1)).

الشيخ المفيد، المجلسيّ (رحمهما الله) :

وصار عبد الله إلى عمرو بن سعيد، فسأله أن يكتب للحسين أماناً ويمنّيه ليرجع عن وجهه، فكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً يمنّيه فيه الصلة ويؤمنه على نفسه، وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ((2)).

فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنَيه، ودفعا إليه الكتاب، وجهدا به في الرجوع، فقال: «إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المنام، وأمرني بما أنا ماضٍ له». فقال له: فما تلك الرؤيا؟ قال: «ما حدّثتُ أحداً بها، ولا أنا محدّثٌ حتّى ألقى ربّي (عزوجل) ».

فلمّا أيس منه عبد الله بن جعفر، أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومهوالمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة ((3)).

ص: 268


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 238، أسرار الشهادة للدربنديّ: 247.

الطبرسيّ (رحمة الله) :

ولحقه عبدُ الله بن جعفر بكتاب عمرو بن سعيد بن العاص والي مكّة مع أخيه يحيى بن سعيد يؤمنه على نفسه، فدفعا إليه الكتاب، وجهدا به الرجوع، فقال: «إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المنام، وأمرني بما أنا ماضٍ له». قالا له: فما تلك الرؤيا؟ فقال: «ما حدّثتُ بها أحداً، ولا أُحدّث حتّى ألقى ربّي (عزوجل) ».

فلمّا يئس عبد الله بن جعفر منه، أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع هو ويحيى بن سعيد إلى مكّة، وتوجه الحسين (علیه السلام) نحو العراق ((1)).

إبن الأثير:

وقيل: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد، فقال له: اكتبْ للحسين كتاباً تجعل له الأمان فيه، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، واسألْه الرجوع.وكان عمرو عامل يزيد على مكّة، ففعل عمرو ذلك، وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد ومع عبد الله بن جعفر.

فلحقاه، وقرئا عليه الكتاب، وجهدا أن يرجع، فلم يفعل، وكان ممّا اعتذر به إليهما أن قال: «إنّي رأيتُ رؤيا، رأيتُ فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ،

ص: 269


1- إعلام الورى للطبرسيّ: 230.

وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، علَيّ كان أو لي». فقالا: ما تلك الرؤيا؟ قال: «ما حدّثتُ بها أحداً، وما أنا محدّثٌ بها أحداً حتّى ألقى ربّي» ((1)).

إبن كثير:

ثمّ نهض عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد _ نائب مكّة _ فقال له: اكتبْ إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه في البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئنّ إلى ذلك فيرجع.

فقال له عمرو: اكتبْ عنّي ما شئت، وآتِني به حتّى أختمه.

فكتب ابن جعفر على لسان عمرو بن سعيد ما أراد عبد الله، ثمّ جاء بالكتاب إلى عمرو، فختمه بخاتمه، وقال عبد الله لعمرو بن سعيد: ابعثْ معي أمانك. فبعث معه أخاه يحيى.فانصرفا حتّى لحقا الحسين، فقرئا عليه الكتاب، فأبى أن يرجع، وقال: «إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في المنام، وقد أمرني فيها بأمرٍ وأنا ماضٍ له». فقالا: وما تلك الرؤيا؟ فقال: «لا أُحدّث بها أحداً حتّى ألقى ربّي (عزوجل) » ((2)).

* * * * *

تتحدّث هذه المتون عن محاولةٍ قام بها عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) بهدف إقناع الوالي ليكتب أماناً لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وما جرى في أثناء ذلك من

ص: 270


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 277.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.

أحداثٍ سنكتشفها من خلال تسليط بعض الأضواء عليها:

الضوء الأوّل: قيام ابن جعفر (رضی الله عنه) إلى الوالي

أفاد الطبريّ، ثم لحقه بعض مَن جاء بعده:

إنّ عبد الله بن جعفر قام إلى عمرو بن سعيد والي المدينة ونهض وصار إليه فكلّمه ((1)).وقد أشرنا باقتضابٍ فيما سبق إلى هذا الموقف الشجاع والواعي الّذي يدلّ على عُمق فكرة ابن جعفر (رضی الله عنه) ونظره الصائب الثاقب، والدلالة البعيدة المدى الّتي كشفت عن نباهة ابن جعفر (رضی الله عنه) ودقّته في تقدير الأوضاع وتحليل الحوادث، والتعبير عنها بوعيٍ وذكاء، يُلقي في روع المتلقّي ما يدعوه للتأمّل بعمقٍ لتشخيص موقف العدوّ وموقف سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ما رأيناه لحدّ الآن من مواقف المعترضين على سيّد الشهداء (علیه السلام) وإمام السعداء _ كابن عبّاس وابن عمر وغيرهما _ أنّهم كانوا يلومون سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويحاولون إقناعه لينصرف عن التوجّه نحو العراق باعتباره قد خطّط وعزم على القيام بحركةٍ ذات لونٍ وطابعٍ خاصّ، كانوا يطلقون عليها في

ص: 271


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 277، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.

تلك العصور ب-- (الخروج)، فكانوا يقترحون عليه أن يتربّص ويتريّث ويمكث في مكّة ريثما يتمكّن من جمع الرجال والعدّة والعدد، ويستكمل النظر في جوانب الأمر من كلّ حيث، ليوفّر جميع عوامل النصر والظفر حسب الحسابات المنظورة.

فهم قد فهموا موقف الإمام خامس أصحاب الكساء من خلال تصوّراتهم وانتزاعاتهم وخلفيّاتهم وسوابقهم الذهنيّة والعقليّة والنفسيّة، وغيرها من المؤثّرات في إدراك المواقف وتحليل المشاهد، فاعتبروا الإمام (علیه السلام) مهاجِماً قد بيّت لأمرٍ ما _ كما يحسبونه _ للانقضاض على السلطة والسلطان، أو القيام بعملٍ يمكن أن يثير الواقع الراكد والمجتمع الخامد السامد الهامد الميّت، أولأيّ هدفٍ أو غرضٍ آخر يفيد ابتداء سيّد الشهداء (علیه السلام) بالهجوم والتخطيط للتحرّك من أجل تفعيل النوايا المبيّتة وتنفيذها.

وقد امتاز موقف ابن جعفر (رضی الله عنه) عمّن مرّوا بنا لحدّ الآن، إذ أنّه لم يقرأ في حركة الإمام (علیه السلام) على جغرافيا المدن والبلدان من المدينة إلى مكّة ومن مكّة إلى العراق كما فهم المعترضون، وإنّما عرف وتحقّق أنّ المشكلة تكمن في نوايا العدوّ القذرة، وعزمه على إطفاء نور الله في الأرض والإطاحة بعلَم المهتدين، وتحويل رجاء المؤمنين إلى يأسٍ وقنوط، وهو يعلم أنّ الله يأبى إلّا أن يُتمّ نوره، بَيد أنّ ذلك لا يمنعه من القيام بواجبه في الدفاع عن إمام زمانه وكهف الورى ونور الله!

لذا توجّه إلى الإمام (علیه السلام) يتوسّل إليه أن يتريّث ولا يتعجّل الخروج من

ص: 272

مكّة، فهي الموطن الأفضل للأمن والأمان، رغم أنّ بني أُميّة لا تردعهم تلك الحرمات من تنفيذ مخطّطاتهم، وتفعيل أحقادهم وأضغانهم، ولكنّ هذا هو المستطاع الّذي يمكن أن يوظّفه المؤمن.

ويشهد لما ذكرناه من فهم ابن جعفر (رضی الله عنه) أنّه لم يكلّم الإمام (علیه السلام) في كتابه هذا، ولا في موقفه هذا، سواءً أكان مع الإمام (علیه السلام) أو مع الوالي، ولم يلوّح إلى شيءٍ ممّا صرّح به غيره كالعبدين ابن عبّاس وابن عمر وغيرهما من التريّث حتّى يستحكم الأمر أو يتوثّق من أهل الكوفة الغدرة الّذين قتلوا أباه (علیه السلام) وطعنوا أخاه (علیه السلام) ، ولم يشر إلى جمع الرجال وبثّ الدعاة وإرسال الكتبوالرسل إلى الأطراف، ولم يحذّره من القوّة والعدّة والعدد الّتي سيواجهه به العدوّ، وما شاكل ذلك ممّا يفيد أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) قد انتزع من موقف الإمام (علیه السلام) صورةً تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) ينوي الهجوم!

بل على العكس تماماً، يتّضح من انطلاقه نحو الوالي وقيامه إليه أنّه قد عرف أنّ الخطر يكمن حصراً في قصور الخبال، والوحوش الّتي تختفي تحت تخوت السلطان والولاة والأذناب والذئاب المتعطّشة لشرب الدماء الزاكية.

فهو لم يخطّئ الإمام (علیه السلام) في خروجه، كما فعل ابن عبّاسٍ وابن عمر وغيرهما، إذ أنّه يعلم أنّ العدوّ يغدر بالإمام (علیه السلام) في مكّة وفي غير مكّة، ويقتله كيفما اتّفق وسنحت الفرصة، فالخطيئة تكمن في وجودات العفن الأُمويّ.

قام إلى الوالي فكلّمه.. ولم يكلّم الإمام (علیه السلام) في كتابه إلّا بالقدر الّذي يسابق به الزمن، لعلّه يبني جداراً وسوراً يحمي به آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) من

ص: 273

الوحوش المسعورة الّتي تتوثّب لتمزيق أوصالهم واستئصالهم.

فليس ابن جعفر (رضی الله عنه) معترضاً على الإمام (علیه السلام) ، ولا مخطّئاً، ولا لائماً، وإنّما كان مسلّماً راضياً، يسعى للقيام بواجبه في الدفاع والذبّ عن الإمام (علیه السلام) بما يراه منتجاً، ولو على نحو الاحتمال، فقام إلى الوالي..

ولم نسمع _ لحدّ الآن _ أنّ أحداً من المعترضين ابتدأ الوالي بذلك أو كاتب يزيد ابتداءً!

إنّه موقفٌ امتاز به ابن جعفر (رضی الله عنه) اقتضى أن نركّز عليه، ونعود له مرّةً بعدأُخرى.

الضوء الثاني: مطالب ابن جعفر (رضی الله عنه) من الوالي

ذهب ابن جعفر إلى والي مكّة.. إلى الجبّار العنيد، فكلّمه ((1))، وطلب منه أن يكتب للإمام (علیه السلام) كتاباً يضمّنه ما يلي:

أوّلاً: يجعل له الأمان ويؤمنه على نفسه.

ثانياً: يمنّيه البرّ والصلة.

ثالثاً: يوثّق له في كتابه.

رابعاً: يسأله الرجوع.

ص: 274


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410.

خامساً: أن يرسل الكتاب مع أخيه؛ ليكون أكثر توثيقاً ((1)).

المهمّ في هذه المطالب الخمسة هو المطلب الأوّل، والباقي كلّها عبارةٌ عن توثيقاتٍ وتأكيداتٍ له.المطلب الأوّل، هو أن يؤمنه على نفسه!

أي: أنّ سيّد الكائنات وأشرف الخلق لم يكن في أمان، وهو في مكّة الحرم الإلهيّ الآمِن!!

هذا هو الباعث الرئيس الّذي دعا الإمام الحسين (علیه السلام) لتعجيل المسير والخروج من مكّة، إذ أنّه صرّح في غير موقفٍ وفي أكثر من مناسبةٍ ولقاءٍ وموطنٍ أنّه لا يسعه المكث في مكّة مهما كانت المدّة قصيرة، بل لا يسعه أن يمكث حتّى ينقضي الموسم، لأنّه إن فعل اغتالوه أو أخذوه أخذاً!

لقد أهاج الأُمويّون كلّ شيءٍ في مكّة على الإمام (علیه السلام) ، وجعلوا القتل والاغتيال يكمن له في كلّ لحظةٍ وآن، وتحت كلّ حجرٍ ومدر، ووراء كلّ جدارٍ وشجر، وفي أرجاء المسجد الحرام وتحت ستار الكعبة وداخل الحجر..

يمكن أن يكون المنفّذ أيّ فردٍ من أفراد الحجّاج، وفي أيّ سكّةٍ أو زقاق، وبين الحِجر والمقام، وخلف أُسطوانات المسجد، وفي منى وعرفات والمزدلفة

ص: 275


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحراني: 17 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 277.

والجواد والطرقات..

ليس في مكّة وضواحيها مترٌ آمِن، ولا لحظةٌ من الزمان آمنة، ولا فردٌ من أفراد الحجّاج آمن، فلا أرض تقلّه ولا سماء تظلّه..

فربّما حمل الهواء سهماً غارباً ينطلق من مجهول.. في مكانٍ مجهول.. ليصرع الإمام (علیه السلام) ..

أو يتكاثر عليه الهمج الرعاع والغوغاء، فيُؤخَذ أخذاً، ثمّ لا يتدخّل أحدٌ منالولاة، ولا يبعد أن يكون خروج الأشدق من مكّة في تلك الفترة ومكثه في المدينة _ رغم التهاب الأحداث في مكّة _ لهذا الغرض، ليقع ما يقع والوالي ليس في مكّة، فله أن يتنصّل عمّا حدث، ويعتذر بغَيبته عن موضع الأحداث!

* * * * *

إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) دخل مكّة مستأمِناً مستجيراً بالله، لائذاً عائذاً به وببيته، وقد صرّح بذلك للأشدق نفسه ولغيره، كما مرّ معنا، وهذا يعني أنّه لم يكن قد بادر إلى أيّ نشاطٍ يمكن أن يهيج شيئاً في البيت الحرام، وهو أعرف الخلق بحُرمة البيت، ولم يبدر منه ما يمكن أن يكون ذريعةً للعدوّ ليهجم عليه، ولو كان قد بدر منه شيءٌ لَهاجمه العدوّ علانية، تماماً كما فعل مع ابن الزبير، وهو لا يرى للحرم حرمة.

مكّة هي الحرم الآمن، وقد دخلها الإمام (علیه السلام) مستأمناً مستجيراً لائذاً عائذاً، فأيّ حاجةٍ للأمان؟!

ص: 276

لو لم يكن الإمام (علیه السلام) في خطر، ولو لم يكن العدوّ قد بيّت له القتل والاغتيال في الحرم، لما احتاج ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) أن يستأمنه للإمام (علیه السلام) ، وقد أكّد الإمام (علیه السلام) ذلك في أكثر من موطن.

ويشهد لذلك ما جاء في كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، إذ يقول: لعلّه يطمئنّ لذلك!

* * * * *أجل، قد يكون استبطاء الإمام (علیه السلام) وتأخيره من صالح العدوّ الّذي كان يسابق الزمان أيضاً ليقضي على الإمام (علیه السلام) في مكّة بشكلٍ مبهمٍ وغامض، كما صرّح الإمام (علیه السلام) نفسه بذلك، وحينئذٍ سيستجيب لطلب ابن جعفر (رضی الله عنه) فوراً.

ولابن جعفر (رضی الله عنه) أن يستفيد من هذه الفرصة، ليهدّأ روعه، لأنّه أخذ موثقاً من القوم أن لا يتعرّضوا للإمام (علیه السلام) ما دام في مكّة، فيكون أمان الله وأمان البيت الحرام، وعهد القوم الغدرة الكفرة الفجرة.

بَيد أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) ربّما كان يرى في هذا التأخير نوع فرجٍ يمكن أن يتدخّل هو وغيره للكلام مع أولاد البغايا والقرود وجِرائها، لعلّهم يصرفونهم عن قتل الإمام (علیه السلام) بأيّ وسيلة، ولأيّ سببٍ قد يُقنعهم ويخمد نيران مراجل الضغينة والحقد والانتقام الّتي تغلي في أعماقهم، وتتزوّد وقودها من قبور فطائسهم وجيفهم الموقودة في القليب، ولو إلى حين! هذا من جهة.

ومن جهةٍ أُخرى:

فإنّه إن أخذ منهم الأمان مكتوباً، فقد أقام عليهم الحجّة وأتمّها، فإن

ص: 277

أقدموا على نكث العهد والأمان، فإنّه قد أعذر، لتستحكم عليهم الحجّة، وليثبت للعالم والتاريخ أنّهم هم الّذين أقدموا على قتل الإمام الحسين (علیه السلام) من غير جرم، ويسلب الذرائع منهم أمام الله والناس والتاريخ.

الضوء الثالث: مَن كتب الكتاب؟!

روى المؤرّخون كتاب الأشدق للإمام (علیه السلام) ، غير أنّ العبارة المشهورة تفيد أنّ عمرو بن سعيد الأشدق نفسه كتب الكتاب، إلّا الطبريّ ومن تبعه، فإنّه أفاد أنّ الأشدق كلّف ابن جعفر (رضی الله عنه) أن يكتب ما يرضيه وما يراه صالحاً، ويأتيه بالكتاب ليختمه بختمه، فكتبه ابن جعفر (رضی الله عنه) وختمه الأشدق ((1)).

ومَن تابع نصّ الطبريّ بالخصوص يراه يسوق الحدَث بشكلٍ بحيث يوحي بوضوح للمتلقّي أنّ الكتاب الّذي حمله ابن جعفر (رضی الله عنه) ويحيى بن سعيد هو نفسه الّذي كتبه ابن جعفر (رضی الله عنه) على لسان الأشدق.

بَيد أنّ ما أفاده الطبريّ يخالف مشهور المؤرّخين ممّن سبقه كابن سعدٍ وغيره ((2))، ومن لحقه كالشيخ المفيد وغيره ((3))، إذ يفيد الجميع أنّ الأشدق هو

ص: 278


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
3- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.

الّذي كتب الكتاب، أو أنّهم ينسبون الكتاب إليه مباشرةً من دون الإشارة إلى كتابة ابن جعفر (رضی الله عنه) .أضف إلى ذلك، فأنّنا سنأتي على ذكر نصّ الكتاب بعد قليل، وسنراه لا يناسب أدب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، ولا لغته، ولا ذوقه، ولا معرفته بإمامه وتواضعه بين يدَي سيّده المفترض الطاعة عليه، وإنّما يناسب غطرسة الجبّار العنيد، وينسجم مع لغة طواغيت بني أُميّة وتهوّرهم وأدبهم الهابط.

فربّما كان ثَمّة كتابان: أحدهما كتبه ابن جعفر (رضی الله عنه) على لسان الأشدق، والآخر كتبه الأشدق نفسه، أو أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) كتب، ثمّ أضاف وحذف الأشدق وفق مراده، فنسبوا الكتابة لابن جعفر (رضی الله عنه) .

هذا، إذا أردنا أن نلتزم عبارة الطبريّ وسياقه، وإذا اكتفينا برواية غيره ممّن سبقه ولحقه، فلا حاجة إلى هذا التكلّف.

الضوء الرابع: حامل الكتاب

أفاد الطبريّ ومَن تلاه _ دون غيرهم _ أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) طلب من الأشدق أن يبعث كتابه مع أخيه يحيى، وقد علّل ذلك في نصّ الطبريّ بقوله: فإنّه أحرى أن تطمئنّ نفسُه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك ((1)).

وفي تعبير ابن الأثير قال: ابعثْ معي أمانك. فبعث معه أخاه يحيى ((2)).

ص: 279


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 172، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 410.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167.

وفي عبارة الشيخ المفيد ما يفيد أنّ الأشدق بعث الكتاب مع أخيه يحيى، قال: وأنفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ((1)).

وعلى كلّ حال، فإنّ العبارات كلّها تفيد ما صرّح به الشيخ المفيد، فيكون حامل الكتاب هو يحيى، والمولى عبد الله بن جعفر إنّما كان مصاحباً له، وليس حاملاً للكتاب.

أجل، قد يُقال _ وفق ما أفاده الطبريّ وابن الأثير _ أنّ المولى المعظّم عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) هو الّذي طلب من الوالي أن يكون يحيى حاملاً للكتاب؛ ليكون أبلغ في إيصال الرسالة، وليكون أحد أفراد السلطة والعاملين تحت إمرة الوالي مباشراً في تبليغ الرسالة، لتوكيد الرسالة وما فيها، وتثبيت موقفٍ معلَنٍ عليهم من خلال مباشرتهم في تقديم الأمان للإمام (علیه السلام) .

وفي نفس الوقت، لا يكون ابن جعفر (رضی الله عنه) حاملاً لكتاب الوالي العنيد، ولا عاملاً في بلاطه، ولا متحدّثاً باسمه، وإنّما يتكلّم ابن جعفر (رضی الله عنه) باسمه الشخصيّ، ويتكلّم يحيى باعتباره حاملاً للكتاب ورسولاً مخوّلاً من قبل السلطان!

الضوء الخامس: موقع اللقاء

ورد في النصوص أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) ويحيى لحقا الإمام (علیه السلام) ، ثمّ بعد انتهاء اللقاء رجعا إلى مكّة، فيلزم أن يكون اللقاء خارج مكّة، بمعنى أنّهما إنّمالحقا

ص: 280


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، بحار الأنوار: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216.

بالإمام (علیه السلام) بعد أن خرج من مكّة، لذا اقتضى أن يرجعا إليها بعد اللقاء.

الضوء السادس: لقاءٌ مختصر

اشارة

يمكن أن نجد عدّة إضاءاتٍ تنكشف من هذا الضوء:

الإضاءة الأُولى: أسباب اختصار اللقاء

يبدو من اللقاء أنّه كان لقاءً مختصراً مضغوطاً لم يدم طويلاً، إذ أنّه اقتصر على قراءة الكتاب، وأنّهما جهدا في وقتٍ قصيرٍ لصرف الإمام (علیه السلام) عن وجهته، ولا يبدو أنّ ثمة حواراً طويلاً ومناقشاتٍ وأخذاً وردّاً حصل في اللقاء، إذ لو كان لَبان.

ولا يبعد أن يكون من أسباب ذلك أنّ الكريم الجواد ابن جعفر (رضی الله عنهما) كان مسلِّماً لإمامه راضياً بفعله، وليس ما بدر منه وصدر عنه سوى محاولةٍ للإبقاء عليه ودفع القتل عنه، ليس إلّا، فهو يرضى من الإمام (علیه السلام) ولا يلاسنه ويتطاول عليه، ويحاول إقناعه وصرفه كيف ما اتّفق، كما كان يفعل غيره.

فهو قد أعلن نصرته للإمام (علیه السلام) بهذه الصورة على هذا الوجه، فإن قبل الإمام (علیه السلام) منه فهذا ما يتمنّاه، وإن قال له الإمام (علیه السلام) : لابدّ من الخروج، فهو لا يعترض ولا يحاول منع الإمام (علیه السلام) ولو بأن يشبك أصابعه في شعره المقدّس!!ويحيى جلواز الوالي ورسوله، لا يهمّه الأمر كثيراً إلّا بالمقدار الّذي يؤمّن مصالحه ومصالح مَن كلّفه، ومصالح سائسهم المجدور المخمور، وهو ليس

ص: 281

مكلَّفاً بأكثر من أن يكون حاملاً للرسالة، ومطمئِناً بوجوده وحمله للرسالة، لا أكثر، سيّما أنّنا لم نسمع من الوالي نصّاً خاصّاً كلّف به أخاه.

الإضاءة الثانية: مَن باشر الإقراء

صرّح الطبريّ أنّ الّذي باشر بإيصال كتاب الوالي وتسليمه وإقرائه هو يحيى نفسه، وإن كان ينسب القراءة والمحاولة في الإرجاع لكليهما، قال:

فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا به ((1)).

وتعبير ابن الأثير وابن كثير الّذي ينسب الإقراء لكليهما لا يبدو متيناً، إذ أنّ الإقراء لابدّ أن يكون على يد واحد، وبلسان واحدٍ منهما، إلّا إذا أراد ابن الأثير وصنوه أن يُشركا الطاهر الطهر ابن جعفر (رضی الله عنهما) في شيءٍ من مساعي السلطان، ويجعلاه ممثّلاً عنه.

وربّما كان هذا شاهداً آخَر لما ذكرناه قبل قليلٍ من التفريق بين من يروي الحدَث، وبين من يحكي الحدث وفق فهمه وانتزاعاته ونوازعه، فالحدثيروي انفراد يحيى بحمل الرسالة وقراءتها، لكن لمّا كان مع ابن جعفر (رضی الله عنه) حاضراً فهم منه _ أو أراد أن يفهم هكذا _ ابن الأثير وابن كثير أنّهما اشتركا في الحمل والتبليغ.

ص: 282


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
الإضاءة الثالثة: مؤدّى اللقاء

يُلاحَظ هنا أيضاً أنّ غاية ما جهدا فيه ينحصر في إرجاع الإمام (علیه السلام) إلى مكّة لا غير، ولم يذكر الخبر لا تصريحاً ولا تلويحاً سوى ذلك.

إذ لم يتعرّض الخبر إلى أيّ كلامٍ آخَر دار بينهما سوى إقراء الكتاب، وأنّهما لم يفلحا في إقناع الإمام (علیه السلام) ليرجع إلى مكّة.

فلا تحذير من أهل الكوفة، ولا تذكير بعواقب الخروج على السلطان ذي العدّة والعدد، ولا اقتراح ليبقى في مكّة ليكاتب ويراسل ويجمع الرجال ويخاطب الأمصار، وغيرها من رؤى المعترضين.

الضوء السابع: أمر ابنيه بالجهاد دون الإمام (علیه السلام)

أفاد الشيخ المفيد والطبرسيّ:

إنّ عبد الله بن جعفر لمّا يئس من رجوع الإمام (علیه السلام) إلى مكّة، أمرابنَيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسيرِ معه والجهاد دونه ((1)).

يشهد هذا الموقف للطيّب الكريم صاحب الندى والجود عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) أنّه لم يقدم على ما أقدم عليه معترضاً على الإمام (علیه السلام) ، ولا مخطّئاً،

ص: 283


1- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، إعلام الورى للطبرسيّ: 230، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 238، أسرار الشهادة للدربنديّ: 247.

ولا معتقداً فيه أنّه يهاجم السلطان، وإنّما يرى الواقع كما هو، ويرى السيوف مُحدقةً بالإمام (علیه السلام) وأهله، والذئاب والوحوش متكاثرةً محيطةً بالإمام (علیه السلام) مطبقةً عليه الحلقة، وأنّ عليه أن يفعل شيئاً للدفاع عنه.

فأقدم على ما كان يراه نافعاً في تسكين هيجان القرود المسعورة..

فلمّا لم يجد ذلك ناجعاً، أقدم على الخطوة الثانية الّتي تجعله في دائرة المدافعين عن الإمام (علیه السلام) .. فأمر ابنيه بلزوم ركاب الإمام (علیه السلام) والمسير معه والجهاد دونه.

فهو يرى الإمام (علیه السلام) صائباً في اختياره الخروج، ولم نسمع منه ما يفيد _ ولو تلويحاً _ أنّه يرى البقاء في مكّة أصلح للإمام (علیه السلام) ، وتجهيز ولديه يشهد لخلاف ذلك، إذ أنّه يشهد له أنّه يعتقد صحّة ما اختاره الإمام (علیه السلام) حين أمرهماأن يلزماه ويسيرا معه.

كما يشهد له أنّه يرى شخص الإمام (علیه السلام) في خطر، حيث أمر ابنيه أن يجاهدا دون الإمام (علیه السلام) .

الجهاد دونه.. دون الإمام (علیه السلام) .. ليس في وصيّته لهما وحثّه سوى الجهاد دون الذات المقدّسة.. الجهاد دون الإمام خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ..

أمرهما أن يدفعا عن الإمام (علیه السلام) ، لأنّه يعلم أنّ المطلوب هو الإمام (علیه السلام) ، وأنّ الإمام (علیه السلام) هو المقصود..

لأنّه يعلم أنّ القوم يلاحقون الإمام (علیه السلام) ، ويطلبون دمه، وقد بدؤوا الهجوم عليه.. فأمرهما أن يجاهدا دونه.

ص: 284

لأنّه لم يرَ في موقف الإمام (علیه السلام) ما يراه مهاجماً، لذا لم يأمرهما أن يسيرا معه ويجاهدا معه، وإنّما أمرهما أن يجاهدا دونه..

يجاهدا دون الإمام (علیه السلام) ..

لم يذكر شيئاً آخر يجاهدا دونه، ويدفعا عنه، لأنّه يعلم أنّ المطلوب أوّلاً وبالذات هو شخص ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وقرّة عين الوصيّ (علیه السلام) ، وفلذة كبد فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، وصنو السبط الأكبر (علیه السلام) .

إنّه أمر ابنيه.. امتداده المادّيّ والمعنويّ..

أمر ابنيه.. وهما يداه الّتي يبطش بهما، ويدفع بهما ريب الزمان، وكلَّ عدوان.. ذُخره الّذي ادّخره، كأيّ أبٍ للأيّام الصعبة، والمواقف العسيرة،وتقلّبات الدهر الشاقّة، واللحظات الشرسة.. القوّة الّتي يرى فيهما وجوده وقدرته وسطوته وسوره ومنعته ودفاعه وسياج حمايته وصونه..

أمر ابنيه.. فدفع بكلّ سطوته وقوّته وقدرته، ليجاهدا ويدفعا عن الإمام (علیه السلام) ..

وكان من قبل قد أخرج أهله مع أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) .. أخرج معه ابنته أُمّ كلثوم، وصهره ابن أخيه الّذي قُتل بين يدَي إمامه، وأدّى واجب الدفاع عنه أيضاً..

وبهذا شارك عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) بكلّ وجوده في الدفاع عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأدّى واجب الذبّ عن حرمات الله وحريم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فقام هو بما يستطيعه شخصيّاً، ثمّ قاتل بين يدَي إمام زمانه من خلال أبنائه،

ص: 285

وواسى وساعد وشارك في كلّ موقفٍ وموطنٍ ومصيبةٍ من مصائب كربلاء من خلال أهله شريكة الحسين وعقيلة الطالبيّين زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين (علیهم السلام) .

الضوء الثامن: هل رجعا إلى الوالي؟

روى المؤرّخون على نحو الحكاية أنّ عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) ويحيى لحقا بالإمام (علیه السلام) ودفعا إليه الكتاب وجهدا في إرجاعه، فاعتذر الإمام (علیه السلام) بالرؤيا التي رآها، إلّا أنّ الطبريّ قال:

فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيىالكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: ... ((1)).

فلمَن قالا هذا القول؟

لم يصرّح الطبري لمن «قالا»، وكأنّه يروي عنهما لا أكثر، ولم يروِ غيره أيضاً أنّ عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) قد رجع إلى الوالي ليخبره بما جرى، فهو لا يحتاج إلى مراجعة الوالي، ولا الكلام معه مرّةً أُخرى بعد أن عرف أنّه لا يتردّد في السعي لقتل الإمام (علیه السلام) ، وأنّ الإمام (علیه السلام) قد خرج بالفعل من مكّة، وقد أدّى ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) ما عليه مع الوالي لما كان يعتقده لصالح الإمام (علیه السلام) .

ص: 286


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.

الضوء التاسع: جواب الإمام (علیه السلام)

وفق عبارة الطبريّ وابن الأثير وغيرهما الّذين قالوا: «وكان ممّا اعتذر به» ((1))، أنّ الإمام (علیه السلام) قد ذكر لهما عدّة أسباب، وكان من بينها الرؤيا الّتي رآها.

وساق غيرهم العبارة في سياقٍ يفيد أنّ الرؤيا هي السبب الوحيد الّذيذكره الإمام (علیه السلام) لهما ((2)).

وكيف كان، فإنّ ما صرّح به الجميع هو الرؤيا فحسب، وقد أتينا على تفصيل الكلام فيها قبل قليل، فلا نعيد.

الضوء العاشر: هل التقى ابن جعفر (رضی الله عنه) أهلَه؟!

صرّحت جميع المصادر أنّ السيّدة عقيلة الطالبيّين (علیها السلام) كانت قد خرجت مع أخيها وإمامها سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة، وقد سمعنا قبل قليلٍ أنّ عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) قد حمّل ابنيه كتاباً إلى الإمام (علیه السلام) ، ثمّ ذكر الشيخ المفيد

ص: 287


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411، الكامل لابن الأثير: 3 / 277.
2- الإرشاد للمفيد: 2 / 70، إعلام الورى للطبرسيّ: 230، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 167، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 366، العوالم للبحرانيّ: 17 / 216، الدمعة الساكبة للبهبهانيّ: 4 / 238، أسرار الشهادة للدربنديّ: 247.

والطبرسيّ وغيرهما أنّ ابن جعفر (رضی الله عنه) أمر ابنيه بملازمة الإمام (علیه السلام) بعد لقائه به خارج مكّة، وهذا يعني أنّه قد التقاهما.

غير أنّ المصادر لم تذكر تصريحاً ولا تلويحاً إن كان ابن جعفرٍ (رضی الله عنه) قد التقى أهله وزوجه بنت أمير المؤمنين (علیهما السلام) ثمّة، إلّا أنّ الوجدان والعادة ومعرفة أخلاق عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) السامية الراقية العظيمة تسمح للمتلقّي أن يفترض لقاءه بأهله بعد طول فراقٍ دام أكثر من أربعة أشهر، فسلّم عليهموتفقّد حالهم وتحنّن عليهم وشملهم بعطفه وحبّه وحنانه ورأفته كأبٍ وربّ بيت.

ومقتضى أنّه أمر ابنيه بالجهاد دون الإمام (علیه السلام) ، وعلم أنّ وجهتهم إلى القتل والفراق إلى يوم القيامة، أنّه ودّعهما وداع المفارق الّذي لا يعود، وتزوّد منهما وتزوّدا منه، وودّع ابنته وصهره بنفس نبرة الأسى والحزن والفراق، وودّع أهله وزوجه ذكراه من عمّه أمير المؤمنين ومعدن الحبّ والحنين، وأوصاهم بوصاياه واستمع إلى وصاياهم.

ومثل هذا الوداع الّذي تظلّله أجواء الفراق والشهادة.. الدماء والسبي.. أجواء السفر إلى الأرض الموعودة والمصرع المهول المروع المهيب.. والسير في ركبٍ يسير والمنايا تسير معه.. لابدّ أن تغمره الدموع وتكتنفه الأحزان وتخيّم عليه الكآبة والهموم والغموم..

والركب كلّه كان في الطريق.. خارجاً من مكّة.. مبتعداً عن الوطن ومرابع الأهل وتربة الأحبّة والأعزّاء.. ميمّماً نحو الموت الّذي سيختطف حبّات القلوب وفلذات الأكباد..

ص: 288

الركب يسير إلى عرصةٍ تترامى فيها الأشلاء مقطّعةً مبضّعةً مرمّلةً على الرمضاء..

ركب مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي يسير إلى السبي والشماتة، والوقوفِ في مجالسٍ ما بارحت اللهو والخمرا..فإذا انهمرت دموع السيّدة الكبرى في الركب، لابدّ أن تتجاوب لها باقي العيون بالبكاء والنياحة والعويل..

ص: 289

ص: 290

القسم الثالث: كتاب عمرو بن سعيد للإمام (علیه السلام)

اشارة

ابن سعدٍ ومن تلاه:

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص: إنّي أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يُرديك، بلغني أنّك قد اعتزمتَ على الشخوص إلى العراق، فإنّي أُعيذك بالله من الشقاق، فإن كنتَ خائفاً فأقبِلْ إليّ، فلك عندي الأمان والبرّ والصِّلة.

فكتب إليه الحسين: «إنْ كنتَ أردتَ بكتابك إليّ برّي وصلتي، فجُزيتَ خيراً في الدنيا والآخرة، وإنّه لم يشاقق مَن ﴿دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ((1))، وخير الأمان أمانُ الله، ولم يؤمِن بالله مَن لم يخَفْه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجِبُ لنا أمان الآخرة عنده» ((2)).

ص: 291


1- سورة فُصّلت: 33.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

الطبريّ، النويريّ:

قال: وكان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّ: بسم الله الرحمن الرحيم. من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّ، أمّا بعد، فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنّك قد توجّهتَ إلى العراق، وإنّي أُعيذك بالله من الشقاق، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثتُ إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحُسن الجوار لك، الله علَيّ بذلك شهيدٌ وكفيلٌ ومراع ووكيل، والسلام عليك.

قال: وكتب إليه الحسين: «أمّا بعد، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله مَن دعا إلى الله (عزوجل) وعمل صالحاً وقال: إنّني من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة مَن لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا تُوجِب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنتَ نويت بالكتاب صلتي وبرّي فجُزيتَخيراً في الدنيا والآخرة، والسلام» ((1)).

الخوارزميّ:

ص: 292


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.

وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص من المدينة: أمّا بعد، فقد بلغني أنّك قد عزمت على الخروج إلى العراق، ولقد علمت ما نزل بابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته، وأنا أُعيذك بالله (تعالى) من الشقاق، فإنّي خائفٌ عليك منه، ولقد بعثت إليك بأخي يحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معه، فلك عندنا الأمان والصلة والبرّ والإحسان وحُسن الجوار، واللهُ بذلك علَيّ شهيدٌ ووكيلٌ وراع وكفيل، والسلام.

فكتب إليه الحسين: «أمّا بعد، فإنّه لم يشاق مَن ﴿دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، وقد دعوتني إلى البرّ والإحسان، وخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخافه في الدنيا، ونحن نسأله لك ولنا في هذه الدنيا عملاً يرضي لنا يوم القيامة، فإن كنتَ بكتابك هذا إليّ أردت برّي وصلتي، فجُزيتَ بذلك خيراً في الدنيا والآخرة، والسلام» ((1)).

* * * * *روى ابن سعد _ كأقدم مؤرّخٍ بالنسبة لمن روى من بعده _ نصّ كتاب الأشدق، ثمّ تلاه الطبريّ وغيره، وسنتابع النصّ ضمن المتابعات التالية:

ص: 293


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

المتابعة الأُولى: زيادات الطبريّ والخوارزميّ

عند مقارنة النصّ الّذي رواه ابن سعدٍ ومَن نقل عنه بالنصّ الّذي رواه الطبريّ، نجد ثمّة اختلافاتٍ ربّما كانت طفيفة، وزياداتٍ قد لا تكون طويلة، بَيد أنّها مؤثّرةٌ في فهم الكتاب.

وكذلك فعل الخوارزميّ حيث وردت عنده زيادات مؤثّرة وإن كانت قليلة.

فنجد _ على سبيل المثال، بغضّ النظر عن الاختلافات _ في نصّ الطبريّ زيادةً لم تكن عند المؤرّخ الأقدم، جاء فيها:

وقد بعثتُ إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار لك، الله علَيّ بذلك شهيدٌ وكفيلٌ ومراع ووكيل، والسلام عليك ((1)).

وربّما كان ذلك لتأكيد أنّ الوالي كتب الكتاب تلبيةً لطلب ابن جعفر (رضی الله عنه) ، وليس هو تبرّعاً من قبله، ولجعل ابن جعفر (رضی الله عنه) رسولاً منقبله.

وجاء في نصّ الخوارزميّ:

ولقد علمت ما نزل بابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته ((2)).

وهي زيادةٌ لم تكن عند ابن سعدٍ ولا عند الطبريّ، وهي مؤثّرةٌ أيّما تأثيرٍ في التعامل مع الكتاب!

ص: 294


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

وسنأتي على تفصيل الكلام في ذلك، كلٌّ في محلّه، وإنّما أفردناها هنا لننوّه على الزيادات، وما أكثر زيادات الطبريّ على مَن سبقه!

المتابعة الثانية: غطرسة الأشدق

ورد في نصّ الطبريّ بداية الكتاب قوله: «من عمرو بن سعيد إلى الحسين ابن عليّ»، بخلاف كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) الّذي بدأه باسم الإمام الحسين (علیه السلام) ثمّ ذكر اسمه.

ويدلّ هذا بوضوحٍ على وقاحة الأشدق وغطرسته وتجبّره، فهو وإن كان والياً بيده السلطة، غير أنّه لابدّ أن يعرف لابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وريحانته حرمته، ومنزلته وجلاله ومقامه، فإن أبى إلّا أن يتنافخ ويستعلي ويتكبّر على الله، ويُقدّم نفسه كوالٍ حاكمٍ متسلّط، فلْيذكر الإمام (علیه السلام) باحترامٍ خاصٍّ من خلال لقبٍمتسالم متّفَقٍ عليه، أو كنيةٍ مِن كناه، لتكون محاولةً منه لبيان صدقه فيما يزعم من حرصه على الإمام (علیه السلام) وحبّه السلامة له، ويعبّر عن حُسن نيته، وليس في الأُمويّين نيّةٌ حسنة!

بل نجد فيما يلي من كتابه خلاف ذلك تماماً، كما سنقرأ في المتابعة التالية:

المتابعة الثالثة: التهديد الأوّل

شرع الكتاب بتهديدٍ واضحٍ وقحٍ صاغه الجرذ المتنافخ العنيد بصيغة الدعاء، فقال:

ص: 295

إنّي أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يُرديك ((1)).

وفي لفظ الطبريّ:

فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك ((2)).يبدأ كلامه ب-- (إنّي) أسأل الله.. فهو بما هو الأشدق يرى _ عميت عيناه _ أنّ الإمام (علیه السلام) يحتاج إلى دعائه ليلهمه الله رشده، أو يهديه لما يرشده، وأن يصرفه عمّا يرديه أو يوبقه!

وهذه العبارات البائسة وإن كانت بلحن الدعاء، غير أنّها تتضمّن تهديداً وتوبيخاً واضحاً جليّاً _ تبت يداه _، إذ أنّه يحذّر الإمام (علیه السلام) من اقتحام ما يُردي وما يوبق ويخالف الرشد، ولا نطيق الاسترسال مع وقاحات هذا الخبيث الرجس، ونحسب أنّ المتلقّي يفهم تماماً ما يرومه هذا الجبّار العنيد من خلال مقدّمته الّتي عرضها في قالب الدعاء.

المتابعة الرابعة: التهديد الثاني

فإنّي أُعيذك بالله من الشقاق ... ((3)).

ص: 296


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.
2- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
3- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163، تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

رجع الخبيث إلى استخدام ضمير المتكلّم للتدليل على ذاته، بصيغة (إنّي) في اللفظ المشهور، أو (أنا) في لفظ الخوارزميّ، وفي تكرار ما يدلّ على أناه_ المزدحم بديدان الحقد الناخرة في قلبه الأسود المتكلّس _ جرس تهديدٍ مسموع، غير أنّه لحقارته لا يقوى على إدراك المخاطب..

فهو يؤكّد بلفظ: (إنّي) أنّه هو الّذي يعيذ الإمام (علیه السلام) بالله من الشقاق..

أمّا الإعاذة بالله، فقد مرّ الحديث عنها مفصّلاً في غضون الكلام عن لقاء ابن عبّاس، فلا نعيد.

وأمّا الإعاذة من الشقاق، فهي بالرغم من إيقاع التهديد المجلجل فيها، إذ أنّه افترض أنّ في خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة خروجاً على الجماعة وانفلاتاً من طوق الطاعة..

لعن الله هذه المخلوقات الكدرة القذرة الّتي لا يطيق الإنسان مجاراتهم والاسترسال مع كلماتهم، لولا ضرورة البحث..

أيُقال مثل هذا الهراء والتجاسر والتجاوز والاعتداء للإمام (علیه السلام) الّذي جعله الله حبله المتين، وأمر بالاعتصام به، وللإمام (علیه السلام) الّذي افترض الله طاعته على العباد؟!

ص: 297

أيكون لأحدٍ من المخلوقين التمرّد على الإمام (علیه السلام) والخروج عن طاعته، حتّى يُقال له إذا خرج من مكّة ليحمي حماها ويحفظ حرمتها وحرمة دمه الزاكي أنّه في (شقاق)؟!

أيُقال هذا لمن أخرج الله به العباد من الذلّ، وفرّج عنهم غمرات الكروب، وأنقذهم به من شفا جُرف الهلكات ومن النار، ومن علّم الله بموالاته العالمين معالم دينهم، وأصلح ما كان فسد من دنياهم، وبموالاته تمّت الكلمة، وعظمتالنعمة، وائتلفت الفرقة، وبموالاته تُقبَل الطاعة المفترضة، وله المودّة الواجبة، والدرجات الرفيعة، والمقام المحمود، والمكان المعلوم عند الله (عزوجل) ، والجاه العظيم، والشأن الكبير، والشفاعة المقبولة؟!!

إنّها شنشنةٌ ممجوجةٌ وقحة، نثر جيفتها قرود الأُمويّين، على سنّة مَن سبقهم ممّن تمرّد على الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وعتى وطغى على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) .

وسيأتي الكلام بعد قليلٍ عن هذه الفرية النتنة عند ردّ الإمام (علیه السلام) عليها، إن شاء الله (تعالى).

المتابعة الخامسة: التهديد الثالث

رجع مرّةً أُخرى للتأكيد والتذكير بنفسه باعتباره الوالي بنفس الجرس والإيقاع التهديدي: (فإنّي)..

ص: 298

• فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك ((1)).

• فإنّي خائفٌ عليك منه ((2)).

خائفٌ على الإمام (علیه السلام) من الشقاق!! وخائفٌ على الإمام (علیه السلام) من أن يؤدّيبه الشقاق إلى الهلاك!!

(فيه).. في لفظ الطبري، و(منه) في لفظ الخوارزميّ.. يعود فيها الضمير إلى الشقاق، كما يدلّ عليه السياق بوضوح.

أجل، صرّح في لفظ الطبريّ ما يخافه على الإمام (علیه السلام) من الشقاق، إذ أنّه سيؤدّي إلى هلاكه..

إنّه افترض في الإمام (علیه السلام) الشقاق لمجرّد خروجه من مكّة، ومخالفته لرغبة الوالي وسائسه، وهدّد أنّ عدم قبول قول الوالي سيُعتبَر شقاقاً، وعاقبة الشاقّ الهلاك!

هكذا هي لغتهم..

قالها القرد المخمور المسعور..

قالها ابن الأَمة الفاجرة ابن زياد..

وقالها الجبّار العنيد الأشدق..

وقالها غيرهم..

ص: 299


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

إنّه الطغيان والتمرّد والعتوّ والاستعلاء والاستكبار على الله وعلى أوليائه..

بغضّ النظر عن ثبوت لزوم الجماعة بالكون مع الإمام المفترض الطاعة، وفق ما نصّت عليه النصوص المقدّسة.

فإنّ ما فعله الإمام (علیه السلام) ليس إلّا الابتعاد عن مكّة، لئلّا يُسفَك دمه فيها..

أيكون حفظ الحرمات وحماية النفس والأهل من أيّ مسلمٍ من المسلمينشقاقاً؟!

المتابعة السادسة: التهديد الرابع

في نصّ الخوارزميّ قبل أن يهدّد باجتناب الشقاق! قدّم مقدّمةً فقال:

ولقد علمتَ ما نزل بابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته ((1)).

وبهذا يتّضح أنّه في مقام التهديد والتهويل على الإمام (علیه السلام) ، فهو يذكّره بما نزل بابن عمّه مسلم (علیه السلام) وشيعته، وأنّ مصيره سيكون ذات المصير ونفسه، إذ أنّهم حكموا على المولى الغريب (علیه السلام) بالشقاق، وعاملوه معاملة الشاقّ، وقتلوه قتلةً لم يُقتَل أحدٌ قبله في الإسلام.

بَيد أنّ هذه العبارة وإن كانت تفيد معنى التهديد بوضوح، إلّا أنّها تبدو مترجرجةً في المتن، تؤذن بشيءٍ من الزيادة غير المدروسة، وتدعو للتريّث في قبولها، إذ أنّ خبر شهادة المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) لم يكن قد وصل

ص: 300


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) بعدُ في المشهور المعروف من النصوص التاريخيّة، وقد بلغ الخبر بعد خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة بفترةٍ طويلةٍ بعد أن توغّل الإمام (علیه السلام) في المسير على طريق الشهادة.ومن البعيد جدّاً أن يكون الوالي قد بلغه الخبر على بريدٍ خاصّ، فوظّفه هنا للتهديد، لأنّ خروج الإمام (علیه السلام) كان يوم شهادة المولى الغريب (علیه السلام) أو قبله بيوم، ووصل كتاب الأشدق إلى الإمام (علیه السلام) بُعيد خروجه من مكّة، فكان الإمام (علیه السلام) على مشارف مكّة، ومن العسير أن يبلغ الخبر خلال يومٍ أو يومين.

أضف إلى أنّ الخوارزميّ قد تفرّد هنا بذِكر هذه الزيادة، ولم نسمع أنّ هذا الخبر قد كان له وقعٌ عند الإمام (علیه السلام) وركبه، ولا عند السلطان وجلاوزته، ولا عند الناس، ولم يرد له أيُّ ذكرٍ أو إشارةٍ في ردّ الإمام (علیه السلام) وجوابه على الكتاب، أو جوابه لابن جعفر (رضی الله عنه) ويحيى.

المتابعة السابعة: فإنْ كنتَ خائفاً

فإن كنتَ خائفاً ... ((1)).

وردت هذه العبارة عند ابن سعدٍ ومَن تلاه، ولم تأتِ في نصّ الطبريّ

ص: 301


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163.

والخوارزميّ!

ساق الأشدق الجملة على نحو الشرطيّة، كأنّه يريد أن ينسب الخوفللإمام (علیه السلام) من دون أن يكون له سببٌ من قبلهم، ولا مسوّغ له..

بَيد أنّه على الرغم منه قد اعترف وأقرّ بأنّ ثمّة خوفاً يمكن أن يكون في المقام، وليس هذا الخوف إلّا لوجود تهديدٍ حقيقيّ جدّيّ يشهد به الواقع، وإلّا فليس لمثل الإمام الحسين (علیه السلام) بالّذي يخاف بالمعنى السلبيّ، أو أنّه يخاف لعملٍ أقدم عليه.

فإن كنتَ خائفاً.. وشى الخبيث بما كانوا يخطّطون له، وافتُضح بقوله هذا، إذ أنّه صرّح أنّ ثمّة ما يهدّد الإمام (علیه السلام) ويمنعه من البقاء في مكّة، لتجنّب المخاطر والاغتيال وأخذه.

بمعنى:

إنّ العدوّ أيضاً اعترف وأقرّ أنّ الإمام (علیه السلام) لم يكن مهاجماً ولا خارجاً عليهم، إذ أنّه لم يفعل في مكّة شيئاً يدلّ على ذلك، ولم يخطب خطاباً ولم يسجّل عليه أيّ موقف، ولم يشهده أحدٌ في مشهدٍ يحرّض على السلطة والحكّام والوالي، ويدعو إلى البيعة لنفسه أو لنكث بيعة يزيد، أو يسعى للاستيلاء على مكّة أو المدينة، أو يجيّش الرجال ويعدّ العدّة لأمرٍ ما.

وكلّ ما فعله وقاله في اللقاءات الخاصّة الّتي حصلَت له مع المعترضين وغيرهم أنّه في خطرٍ حقيقيّ، وإن بقي في مكّة فإنّه سيُغتال أكيداً، وتُهتَك بدمه الزاكي حرمة البيت.

ص: 302

وقد صرّح بنفسه للأشدق حين سأله عن سبب قدومه إلى مكّة أنّه جاءمستجيراً مجاوراً لائذاً عائذاً بالله وببيته.

والأشدق هو عفريتٌ متجبّر، يراقب الأحداث عن كثب، ويلاحق الإمام (علیه السلام) بعيونه وجواسيسه، ولا يخفى عليه شيءٌ من تحركات الإمام (علیه السلام) في مكّة.

ومع ذلك فإنّه أقرّ له في كتابه، وذكر أنّه إن كان خائفاً فله الأمان..

لمَ يخاف الإمام؟ وهو لم يفعل ما يدعو للخوف!

أجل، إنّه يخاف من وقحة الأُمويّين وجرأتهم على الله وعلى حرمات الله، فيخاف أن يغتالوه في البيت الحرام..

فالأشدق قد أقرّ بوجود ثمّة مسوّغ ومبرّر للخوف..

لم يَعِده الأشدق بالصفح والتغافل والإعراض عمّا بدر منه أو صدر عنه، لأنّه لم يصدر منه شيءٌ يهدّد السلطان والوالي، أو يهدّد مكّة وحرمتها..

فهو يقول للإمام (علیه السلام) : إن كنتَ خائفاً منّا، وتتوقّع أن نغدر بك ونقتلك في مكّة، فأقبِلْ إلينا، فإنّك في أماننا.. وكأنّ هذا الأحمق المطاع نسي أنّ أحداً لا يقبل منه أماناً، وهم معدن الغدر والحيلة والمكر والخيانة، وجميع مساوي الأخلاق ومذمومها.

المتابعة الثامنة: وعود الآثم

اشارة

يمكن متابعة ما ورد في الكتاب من وعودٍ قدّمها الآثم اللعين للإمام (علیه السلام)

ص: 303

من خلال الوعود التالية:

الوعد الأوّل: إن كنتَ خائفاً.. فأقبِلْ إليّ..

كأنّ التقدير: إن كنتَ خائفاً منّي.. أي: منه كوالٍ وممّن سلّطه.. فأقبِلْ إليّ..

إن كنت خائفاً أن تُقتَل في بيت الله الحرام، فإنّني أُعطيك الأمان..

إن كان سبب الخروج من مكّة الخوف من القتل، فلك الأمان.. وإنّما يكون الأمان حينما يكون الإقبال على الوالي نفسه!

إنّه لم يجعل الأمان مقابل المكث في مكّة.. لم يجعل الأمان مقابل عدم الخروج من مكّة والبقاء فيها.. لم يجعل الأمان بإزاء ترك الخروج بالمعنى المصطلح ولا الخروج مطلقاً..

لم يجعل الأمان مقايضةً وثمناً للتخلّي عن الوثوب على السلطة وعساكرها، ولا عن ترك محاربة الحكم والحكّام، ولا الامتناع عن التحريض والتجييش والدعوة للبيعة وتجميع الرجال وتحشيد المتذمّرين والمعارضين والمتضرّرين من الحكم الأُمويّ..

وإنّما جعل الأمان بإزاء أن يُقبِل على الوالي.. فقط.

الإقبال على الوالي بما يحمل من معنىً ويدلّ عليه من مغزى..

قال: أقبِلْ إليّ.. ولم يقل: ارجع إلى مكّة..

إنّه يريد للإمام (علیه السلام) أن يُقبِل عليه، ويدخل في طاعته، ويكون في كنفه

ص: 304

وله ومعه..

فهو قد افترض أنّ الإمام (علیه السلام) يخاف على نفسه من قبلهم القتل في مكّة، فآمنه ووعده أن لا يقتله في مكّة.. إن كنت خائفاً فأقبِلْ علَيّ..

* * * * *

أقبِلْ إليّ.. ولم يقل: ارجعْ إليّ..

لأنّه لم يفترض في الإمام (علیه السلام) أنّه كان قد انفصل من عنده ليرجع إليه.. وهو كذلك.

وافترض في نفسه وجهاً يُقبِل إليه الخائف ليأمن ويرجو.. لأنّه يستقبل.. ومَن توجّه إليه فهو مقبلٌ غير مدبر! إنّها الغطرسة والعجرفة والاستعلاء.

مَن هو هذا الضئيل المتهافت الخسيس الدنيء السافل، حتّى يقول لوجه الله ونوره وجلاله: (أقبل إليّ)؟!!

إنّا لله وإنّا إليه راجعون!

الوعد الثاني: الأمان بإزاء الإقبال إليه

ثمّ إنّه جعل الأمان مقابل الإقبال إليه هو بالذات والتوجّه نحوه.. وفي تعبير: أقبلْ إليّ _ الوارد في جميع النصوص الّتي روت الكتاب ((1)) _ لحنٌ

ص: 305


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163، تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

مكشوفٌ ينمّ عن قصد الكاتب بوضوح، سيّما إذا التفتنا إلى تأكيد وجود الأمان عنده هو بالذات أيضاً (فلك عندي الأمان).

ويكون الإقبال إلى الوالي ومجاورته منتجاً الأمان والبرّ والصلة وحسن الجوار.

فهو يدعو الإمام (علیه السلام) إليه، لا إلى البقاء في مكّة، ويعده بالأمان والبرّ والصلة منه ذاتيّاً، كما يشهد لذلك سياق جواب الإمام (علیه السلام) كما سنسمعه بعد قليل.

فإذا كان الأشدق يدعوه كوالٍ ليزيد، ويزيد لا يقبل إلّا بأحد خيارين لا ثالث لهما _ كما عرفنا ذلك في غير موضعٍ من هذه الدراسة بالخصوص في بحث ظروف خروج الإمام (علیه السلام) من المدينة _، وهما إمّا المناولة وإمّا القتل، أو كما ورد في كلام إمام الخلق والبلاغة سيّد الشهداء (علیه السلام) : «قد ركز بين اثنتين: إمّا السلّة وإمّا الذلّة»، فماذا يريد الأشدق بالإقبال؟!

إن كان يريد المناولة وقبول الوالي وسائسه، فهي الذلّة الّتي قال عنها إمام الإباء ومعدنه (علیه السلام) : «هيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة، مِن أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

ص: 306

وإن كان الخداع والاستبطاء بالحيلة والمكر، كي تقع السلّة على الطريقة الّتي يريدونها هم عبر الغدر والغيلة، فهذا ما أبى الإمام (علیه السلام) أن يسمح به، وقال مراراً: «لئن أُقتَل خارج مكّة بشبرٍ أحبّ إليّ».

وإن كان وعداً بالأمان دون مقابل، أي: ليرجع الإمام (علیه السلام) إلى مكّة ويمكث فيها ولا يبايع وله الأمان.. فهذا ما يكذّبه الواقع ومجريات الأحداث وشهادات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وغيره من الأشخاص بما فيهم الأشدق نفسه، فقد كذّب نفسه بنفس الكتاب وسياقه وكلماته وتهديداته واعترافاته وإقداماته.

أضف إلى أنّ الأشدق أقلّ وأحقر وأضأل من أن يفعل شيئاً لا يريده سائسه القرد الهائج المسعور، فهو قد كتب وكتب، وهدّد وهدّد، وأرعد وأزبد، وأكّد أنّه يريد رأس الحسين (علیه السلام) على عجل، فكيف يعطيه الأشدق الأمان؟ وعلى أيّ شيءٍ يستند ويرتكن في كلامه؟ وكيف وأنّى لمن يستمع إليه أن يصدّقه ويطمئن إليه، ويقبل قوله ويعتمد عليه؟!

وقد مرّ معنا أنّ الأشدق نفسه كابن زيادٍ من العسلان ذوات الأكراش الجوفاء والأجربة السغبى، الّتي تتوثّب لتقطيع الأوصال المقدّسة بأنيابها، وهو من الكوانين المتوقّدة حقداً وضغينةً وغيضاً على بضعة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحبيبه وريحانته.

الوعد الثالث: الإقبال مع الرسول!

ورد في نصّ الطبريّ أن يُقبِل الإمام (علیه السلام) مع ابن جعفر (رضی الله عنه) ويحيى:

ص: 307

وقد بعثتُ إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معهما ((1)).

وفي متن الخوارزميّ:

ولقد بعثتُ إليك بأخي يحيى بن سعيد، فأقبِلْ إليّ معه ((2)).

إنّه قال لسيّد الكائنات أن يُقبِل إليه ليأمن، فلماذا يريد منه الآن أن يُقبِل مع مَن بعثه إليه؟!

أيكون قد طلب ذلك ليعرب عن جِدّه ويوثّق كلامه؟ فهو وإن كان يتظاهر بذلك، ويبدو في زيّه المزيّف المهلهل هذا، غير أنّه سيحقّق ما يرنو إليه ويصبو.

أيكون قد طلب ذلك ليعود الإمام (علیه السلام) إليه مع أخيه يحيى، فيكون قد أرجعه الوالي مخفوراً، أو على يد أحد أعوانه وجلاوزته ورئيس شرطته؟

فيكون قد أخذ الإمام (علیه السلام) أخذاً! يبدو أنّه كان يسعى إلى هذا، وهو ما أشار إليه الإمام (علیه السلام) في بعض بياناته.

وقد راود الوالي ابن الزبير وخادعه، فاقترح عليه أن يحضر له سلسلةً منذهبٍ يضعها في يده ليأخذه أسيراً على هذه الحالة إلى يزيد!

فأراد أن يستحضر الإمام (علیه السلام) بظاهرٍ فيه شيءٌ من الاحترام والتقدير

ص: 308


1- تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

والتوقير، فيكون أخذه على يد كبيرٍ من كبراء بني أُميّة، وكأنّه قد خرج معه بعد مفاوضات، بَيد أنّه أمام الناس والسلطان والتاريخ هو الأسر بعينه.

الوعد الرابع: البرّ والصلة والإحسان

وعد الذئب المتوحّش والثعلب المسعور الماكر بالبرّ والصلة والإحسان..

إنّه الواجب الّذي فرضه الله وفرضه رسوله (صلی الله علیه و آله) وأمر به الخلائق طرّاً أجمعين أن يبرّوا أهل بيته ويصلونهم ويحسنوا إليهم ويحسنوا جوارهم، فهو ليس وعداً يعده هذا الوغد، ولكن انظر إلى الدنيا وتعاستها ومدى انقلاب دوران الفلك، حتّى صار هذا العلج المتهوّر يَعِد خامسَ أصحاب الكساء والإمام المفترض الطاعة بالبرّ والصلة!

أيعدُ بالبرّ والصلة معدنَ البرّ والرحمة الإلهيّة الواسعة، ومَن كان فعله الخير، وعادته الإحسان، وسجيّته الكرم، وشأنه الحقّ والصدق والرفق، وقوله حكمٌ وحتم، ورأيه علمٌ وحِلمٌ وحزم، إن ذُكر الخيرُ كان أوّله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه، وله المودّة الواجبة؟!

أيخال هذا الجرذ المتنافخ المتهوّر المغامر المتهالك أنّه إن قدر على استحضار الإمام (علیه السلام) على يد أخيه يحيى، فإنّه سيوظّف ذلك ليقول ويقولالناس: إنّ الإمام (علیه السلام) إنّما كان طالب دنيا، فلمّا ضمنها له السلطان حطّ رحاله على أعتابه؟!

فيصدق قول يزيد القرود فيما كتبه لابن عبّاسٍ ولأهل المدينة وأهل مكّة

ص: 309

وأهل الموسم، ليسِمَ الإمامَ (علیه السلام) بسمةٍ يأباها ويأبى الله له ذلك، فيدفع بالأذهان إلى تصديق وتسويغ ما يفعله يزيد من الإقدام على قتل أبي الشهداء (علیه السلام) وملاحقته، من خلال إقحام النزاع في دائرة الصراع على السلطة، أو إقناع الآخرين أنّ الإمام (علیه السلام) هو المهاجِم المقدِم على محاربة الأُمويّين، والعياذ بالله.

خسأ وخسر خسراناً مبيناً!

إنّ الخلق يحتاجون الإمام (علیه السلام) ، والإمام لا يحتاج أحداً إلّا الله، وبرّه وصلته والإحسان إليه تكليفٌ شرعيٌّ على كلّ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخِر، والإمام (علیه السلام) لم يطالبهم يومذاك إلّا أن يخلّوا عنه ولا يلاحقونه، ولم يكلّفهم بأكثر من أن يتركوه ولا يكرهونه على البيعة، فلا يناول القرد المخمور، فيتاركهم إن هم تاركوه، ويدعهم على ما هم عليه وإن هو أمرهم بالمعروف أو نهاهم عن المنكر، فإنّما له بسيرة جدّه وأبيه وأُمّه وأخيه سنّة حسنة، لا يهاجِم ولا يحارب ولا يقاتلهم على الدنيا الّتي بأيديهم، ويكتفي بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما سنسمع في جواب الإمام (علیه السلام) .

بَيد أنّهم استنّوا بسنّة الجاهليّة، واتّبعوا ضلالات كبرائهم، فأبوا إلّا أنيجهدوا في إطفاء نور الله، وإخماد جذوة الهدى والقضاء على آل الله.

الوعد الخامس: حُسن الجوار

وعد الوغدُ الشرسُ جنبَ الله وجواره بحسن الجوار إن هو أقبل إليه!

ص: 310

ولقد كذب كما كذب غيره، لعنهم الله وزاد في النيران عذابهم، وعذّبهم عذاباً يستغيث منه أهل النار.

متى أحسنوا الجوار؟!

أوَليس كان أحدهم يأخذ قوسه، وينثر كنانته، وينبري للعرب إذا حطّ الجراد في فنائه، ويزعم أنّه يدفع عن الجراد لأنّه نزل بجواره، فإذا ارتفعت الشمس وحميت الأرض وطار الجراد عن جواره، فدونهم وما يريدون؟

فماذا دهاهم؟! لم يحفظوا جوار أشرف الخلق وسيّد الرسل وخاتم النبيّين (صلی الله علیه و آله) !

لم يحسنوا جواره، وحاربوه، وضيّقوا عليه، وأغروا به صبيانهم يرمونه بالحجارة، وأفرغوا على رأس الفخار والنجار والشرف والقدس والجلالة السلى، حتّى اضطرّوه للخروج من جوارهم، ومفارقة مسقط رأسه وبيت الله الحرام، والهجرة تحت جنح الليل البهيم إلى المدينة المنوّرة، ولهم معه أحلافٌ والتزامات!

هل حفظوا جوار ابنته وحبيبته وروحه الّتي بين جنبيه وريحانته وبضعته،يوم هجموا عليها دارها، وهتكوا حريم الله وحريم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وتعدَّوا على حريمها، وانتقموا لفطائسهم، فارتكبوا ما ارتكبوا، وكسروا قلب النبيّ (صلی الله علیه و آله) بطعن جنبها، وكسر ضلعها، ولطم خدّها، واسقاط جنينها، وهي تهتف فيهم: أولم يقلْ أبي: يُحفَظ المرء في ولده؟ وتستصرخهم ولا من صريخ؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) يوم جمعوا الحطب على بابه، فحرّقوا بيتاً ضمّ

ص: 311

أصحاب الكساء وسادات أهل الدنيا وسادات أهل الجِنان؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجوار أمير المؤمنين (علیه السلام) وقائد الغرّ المحجّلين وعبد الله وأخي رسوله (صلی الله علیه و آله) ، يوم تكاثروا عليه، وأشهروا سيوف الغوغاء حوله، ودفعوه يتراكضون بين يديه ملبّباً بحمائل سيفّه؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجوار أمير المؤمنين (علیه السلام) يوم غدروا به وتخلّوا عنه، وهو يستنهضهم ويستصرخهم، ويتمنّى فراقهم، ويتمنّى أن يبادلهم مع عدّوه، ويصرفهم صرف الدرهم بالدينار، حتّى عدوا عليه فقتلوه بين أظهرهم؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجوار سبطه الأكبر وريحانته الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) ، يوم كان يخرج إلى الصلاة لابساً لامة حربه، يتّقي بها الاغتيال والسهام الغاربة في بيت الله، ويوم غدروا به ووعدوا ابن آكلة الأكباد أن يدفعوه إليه مقيّداً، حتّى قتلوه بين أظهرهم، ولم يدفعوا عن جنازته حين منعت سيّدتهموكبيرتهم أن يُطاف بجنازته حول قبر جدّه (صلی الله علیه و آله) ، وهل دفعوا عن نعشه حين رشقوه بسهامهم بعد أن كانت سيّدتهم أوّل مَن رمى؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجوار سيّد الشهداء (علیه السلام) يوم طلب العدوّ رأسه في مدينة جدّه (صلی الله علیه و آله) ، فضيّعوه وخذلوه وأسلموه، فخرج عنهم إلى مكّة بيت الله الحرام، فتغافلوا عنه، وخذلوه وضيّعوه وأسلموه، ويوم نزل بفنائهم فعدَوا عليه فقتلوه قتلةً لم تكن ولا تكون فظاعةً وبشاعةً وقسوةً وجفاءً وخشونةً وعنفاً وغلاظةً وشناعة؟!

هل حفظوا جوار النبيّ (صلی الله علیه و آله) يوم أسلموا أهله وعياله للسبي، يُطاف بهم في

ص: 312

البلدان على رؤوس الأشهاد، يساقون سوق الإماء على أعين مَن يسمّونهم المسلمين؟!

لو أردنا الاسترسال في ذلك لما انتهى الكلام، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وإلى الله المشتكى، وإلى محمّدٍ المصطفى، وإلى عليٍّ المرتضى، وإلى أئمة الهدى، وإلى المنتقم الآخذ بثأرهم صاحب الأمر والزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) !

فأيّ جوارٍ يتحدّث عنه هؤلاء الغدَرة الفسقة الفجرة؟!!

ألم يغدر أبو سفيان؟

ألم يغدر معاوية بعد أن أعطى العهود والمواثيق وختمها بختمه، ثمّ جعلها تحت قدمه، ولم يفتر لحظةً في محاربة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته (علیهم السلام) ، حتّى قتل مَن قتل منهم ومن أتباعهم وشيعتهم بعد أن أعطاهم من المواثيقوالأيمان المغلّظة ما لو أُعطيت لطائرٍ على رأس جبلٍ لهبط إليه؟!

أيمكن أن يركن أحدٌ إلى كلام هؤلاء المسوخ، ويعتمد عليه ويطمئنّ إليه، وهم يسعون وقتئذٍ للقضاء على الإمام (علیه السلام) في مكّة، ويسابقون اللحظات لتنفيذ ما يريدون؟!

المتابعة التاسعة: شهادة الكتاب على الكاتب

إستعرضنا مؤدّيات هذا الكتاب ومضامينه على عجل، وقرأنا فيما سبق كتاب الكريم المبجّل عبد الله بن جعفر (رضی الله عنهما) .

فكان كتاب ابن جعفر (رضی الله عنه) الّذي أرسله بيد فلذتَي كبده عون ومحمّد

ص: 313

يفيض أدباً ورقّةً وعذوبةً وليناً وتواضعاً وحبّاً وشفقةً وتسليماً ومعرفةً بالإمام (علیه السلام) ومقامه ومنزلته وفرض طاعته، وكان كتاب الأشدق الممسوخ يطفح بالكبر والاستعلاء والتهديد والجهل والضلال والعتوّ وسوء الأدب والتسافل.

فمن قرأ الكتابَين سيميّز دون الحاجة إلى كثير تأمّلٍ بين الخطابين، ويعرف أنّ الكتاب الثاني لا يصدر عن مشكاةٍ طيّبةٍ طاهرةٍ ناشئةٍ في بيوت الرسالة والإمامة، متأدّبةٍ بأدب الله ورسوله والأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) .

المتابعة العاشرة: توظيف الأمان!

في الحسابات المعهودة وفق الموازين السائدة، إذا كان الإمام (علیه السلام) يتحرّكفي مشهدٍ خاصٍّ على مدارج الحركة المقصودة الهادفة إلى المواجهة تحت أيّ شعارٍ ولأيّ غرضٍ كان، بنيّة الهجوم على الحكم والحكّام ومحاربتهم والإعداد للقتال، لَكان هذا الكتاب فرصةً لا تعوّض، إذ يدخل الإمام (علیه السلام) في الأمان غير المشروط الّذي قدّمه الوالي، ليبقى في الحدّ الأدنى من الحماية من خلال التحصّن ببيت الله الحرام وانشغال الوالي بموسم الحجّ، والاحتجاج بوثيقة الأمان المكتوبة الّتي حملها أخو الوالي.

ثم ينتشر الإمام (علیه السلام) ومَن معه للعمل على توظيف الفرص، وتسلّق جبل عرفات والقيام على الجمرات وغيرها من المشاعر، ومخاطبة الحجيج في البيت الحرام، والجدّ في حشد القدرات الخطابيّة والإعلاميّة من أجل التحريض على السلطان الحاكم الغاشم المستبدّ الظالم، وتوعية الناس، وتجميع الرجال

ص: 314

وحشدهم ورصّ صفوفهم، وتأليب مَن يشهد ومن يسمع من الحاضر والغائب لإعداد العدّة والعدد اللازم، والدعوة إلى البيعة على رؤوس الأشهاد، وترك التعجّل ومسابقة الزمن من أجل الابتعاد عن أسوار مكّة وحريمها.

بَيد إنّ الإمام (علیه السلام) لم يفعل ذلك..

لأنّه يعلم _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _ كأيّ متابعٍ عايش مجريات الأحداث وهو عارفٌ بسلوكيّات الأعداء وأخلاقيّاتهم الهابطة، وقد أيقن أنّهم لا يريدون سوى رأسه المقدّس، ولا يرتوون إلّا بدمه الزاكي، ولا تهدأ فورات ضغائنهم، ولا تسكن مراجل حقدهم وكراهيتهم وغيظهم وحنقهم، ولا تبردبراكين نيران الانتقام الكامنة في كيانهم، إلّا بتمزيق أوصاله والنظر إليه صريعاً، لتنام أعينهم وتقرّ بتقويض عماد الدين وهدم قباب الموحّدين، وإرساء قباب آل حرب مكانها.

لم يوظّف الإمام (علیه السلام) ما يمكن أن يسمّى (فرصة) بحسابات الخارجين (بالمعنى المصطلح) القاصدين للقتال والمحاربة، والمخطّطين للحرب والمواجهة لأيّ غرضٍ كان.

تماماً كما لم يوظّف (فرصة) استمهال الوالي في المدينة قبل خروجه بعد أن أمهله الوالي حتّى يدعوه مع الناس ليبايع على رؤوس الأشهاد وعلى أعين سائر المسلمين! وإنّما عجّل الخروج تحت جنح الليل البهيم إلى مكّة، دون أن يخطب في الناس، أو يحرّضهم، أو يدعوهم لرفض بيعة يزيد الخمور، أو البيعة لنفسه، فداه العالمين.

ص: 315

المتابعة الحادية عشرة: جواب الإمام (علیه السلام)

اشارة

يمكن متابعة كتاب الإمام (علیه السلام) من خلال الردود الواردة فيه على كتاب الوالي:

الردّ الأوّل: «إن كنتَ أردت برّي وصلتي»

التأمّل في نصّ المتقدّمين من قبيل ابن سعد ومقارنته بنصّ الطبريّ يشعرباختلاف الإيقاع، واختلاف الصياغة توحي باختلاف جرس الخطاب وحدّته، وإن كانت المضامين واحدة، غير أنّ التقديم والتأخير وغيرها تفعل فعلها في الإيحاء أحياناً.

ففي متن ابن سعدٍ مثلاً يبدأ الكتاب بنغمةٍ هادئةٍ وإيقاع فيه مداراة في حزم، من دون صِدامٍ مباشرٍ ولا توبيخ مهاجم، بخلاف نصّ الطبريّ.

ويبقى من الملاحَظ في جميع المتون الواردة أنّ في كلام الإمام (علیه السلام) ليناً بلا ضعف، ومداراةً بحزم، وقوّةً بأدب، ورعايةً للظواهر والتظاهر والادّعاء والمزاعم، ولم تكن لغته لغة المهاجم الّذي يريد أن يناجز الوالي ومَن ولّاه ويقاتلهم ويهجم عليهم.

الردّ الثاني: «إن كنتَ.. فجُزيتَ خيراً»

في جميع المصادر الّتي ذكرت الكتاب، ورد فيها أنّ الإمام (علیه السلام) ساق جملةً شرطيّة، ورتّب دعاءً على توفّر الشرط.

ص: 316

إن كنتَ أردتَ أو نويتَ بكتابك هذا إليّ برّي وصلتي..

إذا توفّر هذا الشرط، وهو أن ينوي للإمام (علیه السلام) ويريد له البرّ والصلة، وتحقّق منه ذلك، فحينئذٍ يأتي جواب الإمام (علیه السلام) : «فجُزيتَ خيراً في الدنيا والآخرة».

فدعاء الإمام (علیه السلام) أو إخباره مشروط، ولم يرسل الإمام (علیه السلام) دعاءه أو إخبارهإرسالاً مطلقاً، فهو قد بدر منه الكتاب، وزعم فيه أنّه يضمن للإمام (علیه السلام) البرّ والصلة، أمّا ما دعاه إلى هذا الكتاب والضمان فمبيَّت، وهو في دائرة النوايا الّتي لا يعلمها إلّا الله ومَن سلّطه الله على قلوب العباد، والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) منهم، وقد عامله الإمام (علیه السلام) على النيّة، ولم يكترث بالظاهر المزعوم، فجعل الجزاء بالخير متوقّفاً على نيّة الخير إن توفّرت.

ربّما يُقال:

إن كانت نيّته حسنةً ومحرّكه إرادة البرّ والصلة حقّاً، لَأرسل الإمام (علیه السلام) الجزاء من دون تقييد، لأنّه يعلم بحُسن نيّته، إمّا بحكم تسليط الله له على قلوب العباد، أو بحكم السيرة الكاشفة عن السريرة، بَيد أنّ سيرة هذا العفريت المسعور تفضح سريرته النتنة العفنة الّتي لا تنطوي على خيرٍ لأحد، فضلاً عمّن تكدّس الغيظ والحنق والحقد والعداوة في كيانه الآسن عليه.

وربّما أيضاً يُستشعَر من بناء «جُزيتَ» للمجهول، وعدم جعل الجزاء عند الله وعلى الله، أنّ المقابل لا يأبه بذلك ولا يهمّه سوى الجزاء، أو أنّ الإسناد إلى الفاعل المجهول في الحديث مع هذا الطاغوت المتفرعن أبلغ من الإسناد

ص: 317

إلى الله (عزوجل) ، لما في الإسناد إلى الله من تشريفٍ وتعظيمٍ للمخاطب وللأجر.

وعلى العموم، إنّ الإمام (علیه السلام) معدن الخُلق، مع علمه بنوايا هذا اللئيم المتعفرت والطاغي المتجبّر، الّذي تشهد سيرته وسلوكياته عليها، بنا على ظاهرهوتعامل معه وفق ما تظاهر به وزعمه _ على نحو الجملة الشرطيّة _، ثم داراه وعامله بلينٍ ورفق، ولم يخاطبه بلغة المهاجِم، ولم يستعمل معه الأدبيّات والمفردات القويّة الصادّة ذات الإيقاع الحربيّ، ولا الشحنة العدائيّة.

فهو (علیه السلام) لم يخاطبه خطاب العدوّ الّذي يريد أن يقاتله ويهاجمه ويحاربه، ويحارب أربابه وساسته وحكّامه الذين سلّطوه وولّوه، وإنّما خاطبه خطاب مَن يريد أن يتّقي شرّه، ويردّ عاديته، ويفهمه إن هو أراد خيراً للإمام (علیه السلام) ، فإنّ الإمام يعرف له ذلك ويجزّيه خيراً في الدارين.

الردّ الثالث: «لم يشاقِقْ مَن دعا إلى الله..»
اشارة

يمكن أن نتأمّل ردّ الإمام (علیه السلام) هنا من خلال الإيضاحات التالية:

الإيضاح الأوّل: الهدوء والحِلم

حذّر الوالي المولع بدماء آل أبي طالب والشماتة بهم الإمامَ (علیه السلام) من مغبّة الشقاق _ نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر لحبيب الله وحبيب رسوله وحبيب المؤمنين _، وهدّده من عواقب ارتكاب مثل هذا الفعل واتّخاذ مثل هذا الموقف، وإن كان سياق عبارته مصبوباً في قالب الدعاء، فجاءت هذه الفقرة من كتاب الإمام (علیه السلام) ردّاً على هذه الفرية القذرة المتهافتة التافهة.

ص: 318

بالرغم من صلافة التهمة، ووقاحة قاذفها، وبالرغم من كذب الفرية وقائلها، وبالرغم من خطورة ما يترتّب عليها من آثار جسيمة، إذ أنّ من يشاقق يُباح دمهويهتك حريمه في عُرف السلطات، فإنّ الإمام (علیه السلام) أجابه بلغةٍ هادئةٍ رزينةٍ رصينة، وحجّةٍ بالغةٍ متينة، لا تسبّب عند المتلقّي حالةً من الشدّ والتشنّج والشعور بالغضب والغليان والهدير والهياج والاضطراب والجيشان، وإنّما تنساب الحجّة إليه بأناةٍ وتؤدّةٍ وحلمٍ ودماثةٍ ورجاحة.

الإيضاح الثاني: عموم الردّ وضمير الغائب

لقد كرّر الجرذ المتنافخ ضمير المتكلّم (إنّي) في كتابه، وتكلّم الإمام (علیه السلام) في هذا الردّ بضمير الغائب، ولم ينفِ ما اتّهمه به الخؤون عن نفسه بضمير المتكلّم، فقال: «إنّه لم يشاقق من دعا ...».

فالإمام (علیه السلام) كأنّه لم يتعامل مع هراء الوالي ككلامٍ موجّهٍ له ليدافع عن نفسه، وإنّما ردّ عليه ردّاً عامّاً يشمل أيّ إنسان، فأيّ إنسانٍ دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال: إنّني من المسلمين، هو خارجٌ عن دائرة اتّهام هذا الوغد.

الإيضاح الثالث: أجواء الآية!

الآية الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) في مقام الردّ على هذا العتلّ العاتي ترتبط في النظم بما يسبقها ويلحقها، بل في الجوّ العامّ الّذي يظلّل السورة الشريفة، بَيد أنّها تكاد لا تنفكّ ولا تنفصل عن الآيات اللاحقة، وكأنّها تحمل نفس السِّمة، وتنتظم في نفس السياق، وتكتسي نفس الحلّة والأدب، وتحكي نفس التعاليم

ص: 319

والنتائج، وتصف السلوك المفترض مع العتاة والطغاة والمعاندين.

قال (تعالى):﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّني مِنَ الْمُسْلِمينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ * وَما يُلَقَّاها إِلّا الَّذينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظيمٍ﴾ ((1)).

الاسترسال مع الآيات الشريفة قد يقدح في القلب أنّ الإمام (علیه السلام) يدفع سيئة الأعداء بالحسنة، ويقابل هجومهم بالاحتراز والترفّع عنهم، ويريد لهم أن يفهموا أنّهم هم الّذين أبدَوا عداوتهم، وأصحروا بصفحتهم، وتعمّدوا أذاه والاعتداء عليه، وهو يعاملهم معاملة جدّه (صلی الله علیه و آله) مع آبائهم وأجدادهم مِن عُتاة العرب الّذين آذوه واعتدوا عليه وعزموا على قتله واغتياله بشتّى الوسائل وصنوف الطرائق والذرائع، فقابل عداوتهم بالأدب الربّانيّ، فكأنّ الّذي بينه وبينه عداوةٌ وليّ حميم، فصبر عليهم كما صبر جدّه وأبوه عليهم، وقد جعلهم الله أئمّةً يهدون بأمره لمّا صبروا، وهذه الخلق لا يُلقّاها إلّا الذين صبروا، وهم الصابرون.

* * * * *

نكتفي بهذه الإشارة والتذكير بتلاوة الآيات المباركات، وللمتلقّي أن يتابع

ص: 320


1- سورة فُصّلَت: 33 _ 35.

وينتزع، وإنّما اكتفينا بهذا القدر رغم أنّه منقوصٌ أبترٌ مقطوعٌ غير تامّ، لئلّايُقال أنّ الآيات اللاحقة لم ترد في كلام الإمام (علیه السلام) ، فلا مسوّغ للاسترسال معها، وللمتلقّي أن ينفتح عليها ويسترسل معها إذا اقتنع أنّ الناس كانوا يحفظون القرآن، أو أنّهم يأنسون به، فإذا ذكرت عندهم آيةً استحضروا ما سبقها وما لحقها.

بل إنّ مثل هذا الوغد المتلوّن المذر يعلم جيّداً أنّ الإمام (علیه السلام) إذا تحدّث فكلامه غير كلام غيره من الناس.

الإيضاح الرابع: مؤدّى الآية
اشارة

وردت في روايات أهل البيت (علیهم السلام) أحاديث في تفسير هذه الآية، وأنّها نزلت في أمير المؤمنين وأهل البيت (علیهم السلام) .

ووردت في كتب الفريق الآخر أخبارٌ زعمت أنّ هذه الآية نزلت في المؤذّنين ((1))، وجاء الحديث عن الإمام الصادق (علیه السلام) في ردّ زعمهم ((2)).

وللآية دلالاتٌ تفسيريّة، يفهمها مَن يقرأها ممّن يجيد اللغة العربيّة.

وسنتابع دلالات الآية على عجَلٍ لا يؤخّرنا عن اللحاق بأصل البحث _ إن شاء الله (تعالى) _ ضمن ما ورد عند الفريق الآخر، وما يمكن الاستفادة منها

ص: 321


1- أُنظر: المصنّف لابن أبي شيبة: 1 / 255 الباب 36، الاستذكار لابن عبد البرّ: 1 / 376، التمهيد لابن عبد البرّ: 19 / 226، كنز العمّال للهنديّ: 3 / 338.
2- أُنظر: تفسير العيّاشيّ: 1 / 212 ح 179.

على أساس الفهم العام، أمّا ما ورد في أحاديثنا الشريفة فإنّه خاصٌّ بنا حرم الله منه الأعداء.

الدلالة الأُولى: دلالة أخبار القوم!

إذا كان الأشدق يفهم الآية ضمن إطار ما رُوي له عن طرقهم، فسيفهم من قوله (علیه السلام) : «من دعا إلى الله»، أي: أنّه في حكم المؤذّن الّذي يؤذّن للصلاة، فهو لا يدعو لأكثر من إقامة الصلاة والتوجّه إليه بالعبادة والخضوع والخشوع، وليس له دعوةٌ أُخرى يمكن أن تثير أحداً من المسلمين، لأنّه يدعو لتوحيد صفوفهم ورصّها للوقوف بين يدَي الله (جلّت قدرته)، وقد عمل صالحاً وأقرّ أمام الملأ أنّه من المسلمين.

فلماذا يُتّهم مثل هذا الشخص _ وفق موازين الأعداء وأخبارهم _ بالشقاق، ويُرمى بهذه الفرية، ويحكم عليه بالقتل، ويُلاحَق حتّى لا تكون مكة آمنة له؟!

الدلالة الثانية: الفهم العام

في الآية ثلاث فقرات:

الأُولى: دعا إلى الله.

الثانية: عمل صالحاً.

الثالثة: قال: إنّني من المسلمين.

وهذه الأفعال الثلاثة تصدر من فردٍ واحدٍ معاً، لأنّها معطوفةٌ على بعضها

ص: 322

بالواو، أي: دعا إلى الله، وهو يعمل صالحاً، ويقول أيضاً أنّه من المسلمين.

والدعوة إلى الله هي بقوّة قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «قولوا: لا إله إلّا الله، تفلحوا»، والدعوة إلى الله تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، دون فضاضةٍ ولا قوّةٍ ولا إكراه..

الدعوة إلى الله بطيب الكلام وحُسن المعاملة والخلق الحسن..

الدعوة إلى الله بالدعوة للاعتصام بحبل الله جميعاً، وإطاعة الله والرسول (صلی الله علیه و آله) ، وعدم التفرّق، وأن لا يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم، وأن يصبروا ويصابروا.

فأين هذا من الشقاق؟!

وهل يستحقّ مَن دعا إلى الله أن يُقتَل ويُلاحَق حتّى لا تكون له مكّة الآمنة في الجاهليّة والإسلام أمناً؟!

إنّهم هجموا على جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ليقتلوه ويغتالوه كلّما سنحَت لهم الفرصة، حتّى اضطرّوه للهجرة إلى المدينة المنوّرة، ثمّ لم يتركوه هناك، فحاربوه وعادوه لمجرّد أنّه قال لهم: «قولوا: لا إله إلّا الله، تفلحوا»!

والعمل الصالح.. اسمه يُخبِر عنه..

إنّه العمل الصالح الّذي لا ينسجم بحالٍ مع الشقاق، ولا يستحقّ صاحبه هذه الفرية والملاحقة والتربّص به لقتله.

ربّما صدر العمل الصالح من أيّ إنسان، مؤمناً كان أو كافراً، غير أنّ الآية تؤكّد أنّ العمل الصالح صدر هنا ممّن يدعو إلى الله وهو من المسلمين.

ص: 323

ومن أقرّ بالإسلام وأعلن إقراره ذلك، وأثبت إسلامه وتسليمه لأمر الله بالدعوة إليه وبالعمل الصالح، فليس هو من الشقاق في شيء.

وهل يستحقّ المسلم أن يُقتَل ويُلاحَق ويُحارَب ويُعادى حتّى لا يُمسي ويُصبح آمناً في الزمن الحرام في بيت الله الحرام، ويُهدَر دمه ويُطلب رأسه؟!

الإيضاح الخامس: الآية مقابل التهمة

لقد تجبّر الأشدق وأساء الأدب وتجرّأ، فهدّد الإمام (علیه السلام) بإلصاق تهمة الشقاق به، وهي تهمةٌ ستُنتج الحكمَ عليه بالقتل أينما كان وحيثما كان، ولو كان في البيت الحرام وفي الزمن الحرام، صيانةً للجماعة وحمايةً لمجتمع المسلمين من الفرقة والهلكة، وانفراط النظام، وعموم الهرج والمرج، وفقدان الأمن والأمان، وانهدام أركان الاستقرار الاجتماعيّ، وعموم الفوضى، وغيرها من الذرائع الّتي تذرّع بها المبطلون المزيّفون، وجعلوها كلمة حقٍّ تُسخّر لقتل الحقّ وتحكيم الباطل.

فجاء ردّ الإمام (علیه السلام) بتقديم نفي الشقاق المزعوم، ثمّ ذكر الآية لبيان أنّ المسلم الّذي يقرّ بالتوحيد والدعوة إلى الله ويعمل صالحاً لا يمكن أن تُلصَق به تهمة الشقاق، إذ أنّ هذا هو السلوك الّذي ينبغي لكلّ مسلمٍ أن يكون عليه اعتقاداً وعملاً.

فكأنّ الإمام (علیه السلام) يريد أن يُفهِم هذا العتلَّ العاتي أنّ المسلم الملتزم بالإسلاموديع سمته اللازمة له: الدعوة إلى الله، وأن يعمل صالحاً، والإقرار بالإسلام، فإذا كانت هذه هي سمة كلّ مَن يُسمّى مسلماً، فلا يصحّ أن يكون مثل هذا

ص: 324

مشاقّاً، ولا يصحّ إلصاق هذه التهمة به.

فهو (علیه السلام) ليس في مقام بيان برنامج عملٍ وخطّةٍ مستقبليّة، وإنّما هو في مقام دحض الفرية المزعومة، في صياغةٍ عامّة تشمل المسلمين جميعاً، فكأنّه يلقي إلى الوالي أنّي كأيّ مسلمٍ لم أُقدِم على شيءٍ يقتضي ملاحقتي وقتلي وإهدار دمي في بيت الله الحرام.

الردّ الرابع: ردّ الأمان
اشارة

يمكن أن يفاد من هذا الردّ عدّة إفادات:

الإفادة الأُولى: الإمام (علیه السلام) هو الأمان!

أيُقبِل وجهُ الله على عدوّ الله البائس الضئيل الحقير السافل الغادر المخاتل الماكر المحتال، يبتغي عنده الأمان؟!

أيبتغي مَن جعله الله أماناً للكون والكائنات ولأهل الأرض وأهل السماوات الأمانَ عند المفسدين الّذين أبادوا العباد وأخربوا البلاد وأهلكوا الحرث والنسل؟!

واللهِ إنّه لمن هوان الدنيا على الله أن يتجرّأ هذا القزم العِضرط اللئيم الخسيس، فيعرض الأمان على الإمام الحسين (علیه السلام) ، بغضّ النظر عن إمامته وماجعله الله له..

الإمام الحسين (علیه السلام) سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابنه، وولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء (علیهما السلام) ، سليل إبراهيم الخليل والأطائب الأبرار من الأنبياء

ص: 325

والمرسلين (علیهم السلام) ، والمتقلّب في أصلاب الساجدين، يتقدّم إليه ابن الزواني والفواحش الرخيصات، وسليل البغاء والمومسات، المقذوف نطفةً قذرةً مخمّرةً في دِنان الشرك في كنيف أرحام العاهرات، فيقول له: أقبل! ويعطيه الأمان إن هو أقبل بالشروط الّتي وضعها من ترك الشقاق وغيرها.

أيّ أمانٍ يعطيه مَن لا أمان له من الله؟!

قال سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل حملته الأخيرة في رجزه:

«ونحن أمان الله للخلق كلّهم

نسرّ بهذا في

الأنام ونجهرُ»

((1))

سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) هو الأمان في الدنيا والآخرة، فمن يعطيه الأمان؟!يبدو أنّ الاسترسال في التعليق على مخازي هذا العتلّ اللئيم الفظّ الغليظ لا تقوى عليه الغَيرة، ولا يطيقه الذوق والإباء والأنفة والترفّع والحميّة والعزّة والنخوة البشريّة السويّة، ولولا ضرورة البحث لما مكثنا معه هنيئة، ولكن إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 326


1- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 80 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف الحسينيّ، الاحتجاج للطبرسيّ: 2 / 26، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 32، شرح الشافية لابن أمير الحاج: 371، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 316، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 48، العوالم للبحرانيّ: 17 / 291.
الإفادة الثانية: الأمان في الحرم!

كانت مكّة حرماً آمناً في الجاهليّة والإسلام، وكانت الأشهر الحرُم حراماً في الجاهليّة والإسلام.

لقد ضيّقوا على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، حتّى لم تعد الأرض الحرام ولم يعد الزمن الحرام حامياً لحرمته! ثمّ يأتي عتُلٌّ زنيمٌ لئيمٌ خؤون، فيزعم أنّه يعطي الأمان لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فمن ذا يصدّق هذا الأمان؟

إذا كانت مكّة الآمنة لم تؤمّنه، وكانت الأشهر الحرم الّتي حرّموا فيها القتل والقتال لم تؤمّنه، أيكون كلام علجٍ أرعنٍ أهوجٍ طائشٍ مؤمّناً؟!

الإفادة الثالثة: أمان الخؤون!

لا نحسب أنّ ثمّة ضرورةٌ تدعو للتدليل والإثبات وذكر النماذج والعيّنات لإثبات غدر الأُمويّين وخيانتهم واحتيالهم ومكرهم وهتكهم للحرمات، وتحلّلهم من جميع القيَم، وتنصّلهم من الذمم، فليس لهم ذمّةٌ ولا ضميرٌ ولا حريجة، ولا يقيمون لسوى أوثانهم وشهواتهم وزناً..

ولنا في سيرة جدّهم أبي سفيان وابنه عجوزهم المتهرّئ ونغله يزيد الّتيطمّت التاريخ بزنخها وعفنها ونتنها حتّى لَيخجل الخائن الغدّار من النظر فيها، فضلاً عن الإنسان السويّ.

وقد رأينا هذا الأشدق الّذي ضربه الله بكوكب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وهو مع ذلك لا زال يسعى في القضاء على نسله وذريّته، ويتولّع بالدماء الزاكية، ويشمت بسيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، وقد سمعنا بعض مفاسده وخياناته وحقده

ص: 327

وحنقه على النبيّ (صلی الله علیه و آله) وكلّ ما يمتّ إليه بصلة..

أيكون لمثل هذا الخؤون الغادر المخادع الناكث أماناً يرتكن إليه؟!

الإفادة الرابعة: الأمان والاغتيال!

سمعنا الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) في مواطن عديدة وأمام أشخاصٍ مختلفين يؤكّد لهم بشكلٍ جازمٍ باتٍّ قطعيّ _ وهو أصدق القائلين والمخبرين _ أنّ القوم قد باشروا في تنفيذ خطّتهم لاغتياله في الحرم الآمن، ومَن يقدم على هذه الجريمة في الحرم يقدم عليها خارجه.

والآن يزعم الوالي الحقود أنّه يعطي الأمان للإمام (علیه السلام) ، وهو يعمل بكلّ ما أُوتي من قوّةٍ ويحشد كلّ ما يمكن حشده، ويسهر الليل ويجهد في النهار لينفذ أوامر سائسه القرد المخمور المسعور، مضافاً إلى ما يعتلج في كوامنه من السَورة والنطّ والتوثّب على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ليتشفّى ويشتفي من لهيب الأحقاد والضغائن على معدن الطهر والجلال والجمال الإلهيّ.

أنصدّق قوله الباهت البارد الخافت الواهن ورأيه المأفون ووعده الوارد فيكتابه، أم فعله وجهده وخططه الّتي أدخلها في حيّز التنفيذ؟

إنّنا نصدّق بما أخبر به أصدق الخلق الّذي لا ينطق عن الهوى، ثمّ لا نكترث بغيره ولا نقيم له وزناً.

الإفادة الخامسة: «خير الأمان أمان الله»
اشارة

خير الأمان أمان الله..

ص: 328

كذا في المصادر، لم يقل: أمان الله خير، لتقع المفاضلة بين أمانهم وأمان الله، وإنّما حصر الخيريّة في أمان الله، من دون الإشارة إلى أمان الوالي، إذ أنّ أمان الله خيرٌ من كلّ أمانٍ على الإطلاق.

أمان الله في الدنيا والآخرة.. والإمام (علیه السلام) هو أمان الله، وهو سفينة نوحٍ الّتي من ركبها أمن ونجا، وما عسى الوالي أن يعطيه من أمان! وقد تعرّضنا قبل قليلٍ لذلك، فلا نعيد.

غير أنّ هذه العبارة الّتي تحمل الكثير من المعاني والإيحاءات، تفيد بصراحةٍ ردّ الإمام (علیه السلام) للأمان المعروض عليه، ويمكن أن نقتصر هنا على بعض الوجوه في محاولة فهمها:

الوجه الأوّل: لا إيمان ولا أيمان لهم، فأمان الله خير!

لا يخفى أنّ سوابق القوم وسلوكيّاتهم ومجريات الأحداث وأخلاقيّات العدوّ تفيد بوضوح ما هو المقصود بالأمان المعروض هنا، أو الأمان الّذي عُرض فيما بعد على أبي الفضل العبّاس وإخوته والمولى الأمير عليّ الأكبروغيره من أنصار سيّد الشهداء (علیهم السلام) ، وقد ردّ الجميع ما عرض عليهم، وقالوا: أمان الله خير ((1))، وكذا ردّ المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) أمان ابن مرجانة الّذي قدّمه له ابن الأشعث، وقال: لا حاجة لي بأمان الفجَرة ((2)).

ص: 329


1- أُنظر: تاريخ الطبريّ: 5 / 415، الفتوح لابن أعثم: 5 / 166، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 246، الكامل لابن الأثير: 3 / 284.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 208، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 93، بحار الأنوار للمجلسيّ: 44 / 354، العوالم للبحرانيّ: 17 / 203، نفَس المهموم للقمّي: 111.

رُدّ الأمان لأنّهم فجَرة، لأنّهم غدَرة، لأنّهم يمكرون، ولا يريدون الأمان إلّا وسيلةً للتوصّل إلى دسائسهم وتحكيماً لخطّة غدرهم، فإمّا أن يوثقوا آل الله الّذين لا تخفر ذممهم، وإمّا أن يتحيّنوا الفرصة للقضاء عليهم، أو ليدخلوا في سلطانهم ويخضعوا لولايتهم كما يخالون ويتوهّمون.

إنّهم لا يعطون الأمان، وإنّما يسعون في تنفيذ خططهم بذريعة الأمان، إذ أنّهم لا ذمّة لهم، ولا يرتكن إلى وعدهم، وقد أثبت الزمن ذلك، فلا حاجة للاستدلال والبرهنة عليه، وفيما فعله ابن آكلة الأكباد بقرّة عين فاطمة الزهراء السبط الأكبر الحسن المجتبى (علیه السلام) كفاية.

إنّهم لا إيمان ولا أيمان لهم، فأمان الله خير!

ومَن دخل في أمان الله لا يحتاج إلى أمان غيره من المخلوقات، فضلاً عنمثل هؤلاء القاذورات.

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يعلم _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _ وفق ما جرت به الأحداث وكشفه سلوك الأعداء أنّهم قاتلوه أينما أمكنت منه الفرصة وعلى كلّ حال، سواءً قَبِلَ أمانهم أو لم يقبل، وهو لا يعطي بيده ولا يمكّن من نفسه.

ص: 330

الوجه الثاني: لم يحترموا أمان الله، فلا حرمة لأمانهم

ربّما كان معنى أمان الله خير:

إنّ الله قد أمّن مَن دخل بيته الحرام، ولم يأمّنه القوم فيه.

إنّ الله قد أمّن مَن دخل في الشهر الحرام، ولم يأمّنه القوم فيه.

إنّ الله قد أمّن مَن شهد الشهادتين وقال: إنّني من المسلمين، ولم يأمّنه القوم.

إنّ الله أمر العباد بالمودّة لآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأوجب حبّهم، وفرض على الناس احترامهم، وجعلهم ودائع في خلقه، فلم يحفظوا الوديعة، بل عادوهم وحاربوهم وطاردوهم ومزّقوهم وشتّتوهم وقتلوهم.

فبالرغم من أنّ أمان الله خيرٌ من أمان أيّ أحد، بَيد أنّهم لم يحترموه ولم يلتزموا به، ولم يقدّروا الله وحدوده حقّ قدره، فكيف يُقبَل منهم أمانهم؟!

فلا حرمة لأمان مَن لا يحترم أمان الله.

الوجه الثالث: مَن كان في أمان الله لا يحتاج أمان غيره

ربّما كان المعنى: أنّ أمان الله خيرٌ وقد حزتُه ونلتُه وتوثّقتُ منه أنا، لأنّي أطعتُه ودعوت إلى الله وعبدته وعملت صالحاً وأعلنتُ على رؤوس الأشهاد أنّني من المسلمين، ودخلت بيته الحرام الآمن في الشهر الحرام الآمن، ومَن دخل في أمان الله المهيمن المقتدر الّذي لا تضيع ودائعه، فهو لا يحتاج أمان غيره.

أمّا أنت _ أيّها الوالي المتفرعن _ فلا أمان لك من الله، فكيف يقبل من

ص: 331

آمنه الله، بل جعله أماناً للعالمين الأمان ممّن لا أمان له من الله؟!

الإفادة السادسة: أمان الله لمن خافه في الدنيا
اشارة

يمكن أن نتابع هذا المقطع من خلال التقريرات التالية:

التقرير الأوّل: مَن لم يؤمن بالله لن يؤمن الله

بعد أن قرّر الإمام (علیه السلام) للوالي العسوف أنّ خير الأمان أمان الله، قال:

«ولم يؤمن بالله مَن لم يخفْه في الدنيا»، في لفظ ابن سعد.

و«لن يؤمن الله يوم القيامة مَن لم يخفه في الدنيا»، في لفظ الطبريّ والخوارزميّ.

مَن لم يؤمن بالله لا شكّ أنّ الله لن يؤمنه يوم القيامة، وقد ربط الله الخوف منه في الدنيا بأمانه يوم القيامة.

التقرير الثاني: التهديد

ربّما يبدو واضحاً لمن قرأ كتاب الإمام (علیه السلام) بدقّةٍ أنّ الإمام (علیه السلام) عرّض بالوالي المتعسّف الغشوم في كلّ ما كتبه له، وقد انجلى في هذا المقطع من الكتاب مقابلة الإمام (علیه السلام) تهديد الوالي بتهديدٍ له وقعٌ مدمّر وأزيز مزمجر ودويّ صاعق مذهل، فإن كان الوالي المستبدّ يتوعّد ويهدّد بعقاب المشاق، وهو تهديدٌ باردٌ سامدٌ هامدٌ مهلهلٌ تافه، لأنّه لا يتعدّى حدود الدنيا الزائلة وقدرة السلطان البائدة، فإنّ الإمام (علیه السلام) هدّد بجبّار السماوات والأرض وبيوم القيامة المهول ومخاوفه القارعة الدائمة الهائلة.

ص: 332

وإن كان الوالي المتفرعن الجاهل الغبيّ يهدّد بالاتّهام بالشقاق وغيره، فإنّ الإمام (علیه السلام) كشف له عن حقيقته الّتي يحاول أن يزيّفها ويخفيها تحت ستار النفاق الرثّ الخَلِق المهترّئ، فمن تجبّر وتفرعن وطغى وبغى على الله وحارب أولياءه وعدا على حبيب الله وريحانة رسوله (صلی الله علیه و آله) يلاحقه ليقتله ويشرّده ويشرّد أهل بيت نبيّه (صلی الله علیه و آله) ، فهو لم يؤمن بالله، لأنّه لم يخفه في الدنيا، وهو لن يؤمنه الله يوم القيامة، لأنّه لم يخف الله في الدنيا.

التقرير الثالث: خوف الله في الدنيا وأمانه في الآخرة

الدنيا قنطرة، ومنزلٌ سرعان ما يرتحل منه الإنسان إلى دار الحَيَوان، وهي دهليزٌ قصيرٌ من دار الغرور والبلاء إلى دار الجزاء والبقاء، فإن كان الوالي ومَن ولّاه أخافوا آل الله في الدنيا وأزعجوهم وأرعبوهم وزعزعوهم، فإنّ الله قهرعباده بالموت والفناء، فإنّه إن لم يخف الله ولم يرعَ حقّه وحدّه، وتبجّح وتفاخر وفخفخ واختال بصلفٍ وزهوٍ وغرورٍ أنّه يمنح الأمان لوليّ أولياء الله، فسرعان ما سيأتي اليوم الّذي لن يؤمنه الله، ويفعل به ما هو أهله من الجبروت والعظمة بما أعدّه لأعدائه وأعداء أوليائه.

وكأنّ السيّدة الصدّيقة زينب الكبرى (علیها السلام) قد أفرغت عن لسان أخيها سيّد الشهداء (علیه السلام) حين قالت ليزيد:

«صدق الله (سبحانه) كذلك يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا

ص: 333

السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون﴾ ((1)).

أظننتَ يا يزيد حين أخذتَ علينا أقطار الأرض، وضيّقتَ علينا آفاق السماء، فأصبحنا لك في إسار، نُساق إليك سوقاً في قطار، وأنت علينا ذو اقتدار، أنّ بنا من الله هواناً، وعليك منه كرامةً وامتناناً، وأنّ ذلك لِعِظَم خطرك وجلالة قدرك؟ فشمختَ بأنفك، ونظرتَ في عِطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذرويك مرحاً، حين رأيتَ الدنيا لك مستوسقة، والأُمورَ لديك متّسقة، وحين صفى لك مُلكنا، وخلُصَ لك سلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطِشْ جهلاً، أنسيتَ قول الله (عزوجل) : ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌلِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ((2))» ((3)).

فكِلا الكلامَين في معنىً واحد، ويؤدّي نفس المؤدّى، وكأنّ الصديقة (علیها السلام) تشرح كلام أخيها (علیه السلام) .

ولمّا كان الإمام (علیه السلام) قد خاف الله في الدنيا لا شكّ، وعدوّه لم يخف الله، فهو مسلوب الأمان في الآخرة، فليتّخذ لنفسه جُنّةً ليوم التغابن، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

ص: 334


1- سورة الروم: 10.
2- سورة آل عمران: 178.
3- أُنظر: الاحتجاج للطبرسيّ: 2 / 34، بحار الأنوار للمجلسيّ: 45 / 157، بلاغات النساء لابن طيفور: 31، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 2 / 63.
التقرير الرابع: الخوف لله في الدنيا

قد يكون الخوف المذكور في كلام الإمام (علیه السلام) المقصود به مَن يخاف لله في الدنيا (خوف الله)، أي (الخوف لله)، فكأنّه يقول للوالي: إنّ مَن لم يخف لله في الدنيا لا يأمن يوم القيامة، ومَن خاف من أجل الله في الدنيا، فهو آمنٌ يوم القيامة، فإن كنتم أخفتموني ولاحقتموني وطلبتموني للقتل فهو خوفٌ لله، يورث الأمن في القيامة، وهذا ما يفتقر إليه الأعداء في شقَّيه الدنيويّ والأُخرويّ.

هذا الكلام جميل، لو ساعد عليه النصّ وأفاده السياق وأعانت عليهالدلالات اللغويّة..

الإفادة السابعة: دعاء الإمام (علیه السلام)

أدب الإمام (علیه السلام) ورفيع أخلاقه ومداراته وصياغته الكتاب في ألفاظٍ وعباراتٍ هادئةٍ رزينةٍ تفيض موعظةً وأناةً وأمناً وأماناً وحِلماً، إذ أنّه يختم الكتاب بدعاءٍ يسوقه بصيغة الجمع:

«فنسأل الله ... توجب لنا ...» ((1)).

ص: 335


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 59، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 209،التهذيب لابن بدران: 4 / 330، المختصر لابن منظور: 7 / 141، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2610، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 418، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 163، تاريخ الطبريّ: 5 / 388، نفَس المهموم للقمّي: 173، نهاية الإرب للنويريّ: 20 / 411.

وفي لفظ الخوارزميّ:

«ونحن نسأله لك ولنا ...» ((1)).

بل يُلاحَظ أنّه يقدّمه في نصّ الخوارزمي: «لك ولنا»..

عجبٌ والله حِلم أبي عبد الله (علیه السلام) وأخلاقه، وهو المتخلّق بأخلاق الله.

وربّما يُصاب المتلقّي بذهولٍ ودوّارٍ وحيرةٍ حين يرى مَن يحاول تصوير الإمام (علیه السلام) في موقف المهاجِم المعلِن بالخروج _ بالمعنى المصطلح _ علىالسلطان، والمعدّ للحرب والقتال والمواجهة، أوَ تكون لغة المهاجم المعدّ للحرب والانقضاض على السلطة والسلطان بمثل هذه اللغة؟!

الإفادة الثامنة: والسلام!

ختم الإمام (علیه السلام) كتابه إلى الوالي المتجبّر الطاغي بقوله: «والسلام».

قد يكون هو الأدب المعهود في كتابة الرسائل يومذاك.

وقد يكون ردّاً للسلام الوارد في ذيل كتاب الأشدق.

وقد يكون بمعنى الوداع، فيكون بنفسه جواباً وردّاً للأمان، وإيذاناً بالخروج من مكّة.

وقد يكون له سببٌ آخَر لا نعلمه نحن.

بَيد أنّه على كلّ تقديرٍ يفيد أنّ الإمام (علیه السلام) لم يتجنّب السلام في اختتام كلامه، وربّما أفاد ذلك جوّ الهدوء الّذي يغلّف الكتاب.

ص: 336


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزميّ: 1 / 218.

وربّما كان بمعنى التذكير والتحذير لقوله (تعالى): ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياة﴾ ((1))..

فعلى مَ يُلاحَق الإمام (علیه السلام) ويُطلَب رأسه بذريعةٍ أو بغير ذريعة؟!

لِمَ يُعطى الأمان للإمام (علیه السلام) وهو لم يفعل شيئاً يقتضي الأمان؟!

فالإمام لم يخطب خطاباً في مكّة يحرّض فيه على السلطة والسلطان، ولميذكر الوالي الأشدق، ولم يهاجم بكلمةٍ أو اجتماعٍ عامٍّ أو خطاب سائسه القرد المتسلّط على تخت العاصمة في دمشق، ولم يُعلِن على رؤوس الأشهاد في البيت الحرام أو في غيره من المواقف والمناسك والمشاعر عن عزمٍ لمواجهتهم أو الخروج عليهم _ بالمعنى المصطلح _، ولم يجيّش عليهم أحداً، ولم يسجَّل عليه أيُّ موقفٍ أو مشهدٍ في مكّة يفيد ما يهدّد كيانهم ويدعوهم للخوف على ما في أيديهم من الدنيا، أو يهدّد أمصارهم وبلدانهم بالاستيلاء عليها، وما شاكل!

وربّما أمكن اختصار ما ورد في كتاب الإمام (علیه السلام) بكلمة:

كأنّه (علیه السلام) يقول للوالي: اكفِني شرّك، وكُفَّ عنّي ذئابك ووحوشك، لا أتوقّع منك خيراً ولا أُريده.

ص: 337


1- سورة النساء: 94.

ص: 338

محتويات الكتاب

بين يزيد وعبد الله بن عبّاس بعد شهادة الإمام (علیه السلام) .......... 5

كتاب يزيد إلى ابن عبّاس وجواب ابن عبّاس......... 9

القسم الأوّل: كتاب يزيد.......... 27

الكشف الأوّل: متابعة العيون......... 27

الكشف الثاني: بيعة ابن عبّاس!...... 28

الشاهد الأوّل: مقدّمة المؤرّخ قبل نقل الكتاب......... 29

الشاهد الثاني: النصّ التاريخيّ...... 29

الشاهد الثالث: الاعتصام ببيعة يزيد....... 37

الشاهد الرابع: تصريح ابن عبّاسٍ بالبيعة ليزيد!......... 38

الكشف الثالث: اعتراف يزيد بتأثير ابن عبّاسٍ في الناس........... 39

الكشف الرابع: يزيد مِن أهل البيت!!!... 41

القسم الثاني: ردّ ابن عبّاس....... 45

المضمون الأوّل: تعليق بعض الأجوبة.... 45

المضمون الثاني: سبب الامتناع عن بيعة ابن الزبير.......... 46

المضمون الثالث: وعد البرّ والصلة........ 49

الهدف الأوّل: التشجيع على الامتناع عن بيعة ابن الزبير..... 49

ص: 339

الهدف الثاني: الحثّ على دخول معركة يزيد وابن الزبير........... 49

الهدف الثالث: تطييب خاطر ابن عبّاس!......... 50

المضمون الرابع: رفض دعوات يزيد وأسبابها......... 51

المضمون الخامس: ذكر بعض المصائب......... 54

نكتة مهمّة........ 56

المضمون السادس: حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وفق ما شرحه ابن عبّاس! 57

المشهد الأوّل: المطاردة من حرم الرسول إلى حرم الله...... 58

المشهد الثاني: مقاتلة الإمام في مكة ومحاولة اغتياله......... 63

المشهد الثالث: إشخاص الإمام (علیه السلام) من حرم الله إلى الكوفة....... 67

الصورة الأُولى: الصورة المعروفة...... 67

الصورة الثانية: الصورة الجديدة........ 68

المشهد الرابع: تسليط ابن مرجانة وأمره بقتل الإمام........... 71

المشهد الخامس: استقبال الإمام الحسين (علیه السلام) بالرجال ومعاجلته........... 72

المشهد السادس: رفض الموادعة!......... 74

المشهد السابع: الشماتة بقتل الإمام (علیه السلام) ........... 77

المشهد السابع: قتلهم كقتل الكفّار!....... 78

المشهد الثامن: الشماتة بسبي الحرم....... 81

اللوعة الأُولى: عجبٌ ما قبله ولا بعده عجب!...... 83

اللوعة الثانية: نسب السبايا إلى عبد المطّلب......... 84

اللوعة الثالثة: حمل بنات عبد المطّلب وغلمةً صغاراً..... 85

اللوعة الرابعة: السبي إلى يزيد.......... 86

اللوعة الخامسة: السبي المجلوب!!!... 86

اللوعة السادسة: الاستعراض بالسبايا........... 89

اللوعة السابعة: الشماتة!... 91

المشهد الثامن: المجاهرة بدوافع قتل الإمام (علیه السلام) ....... 92

ص: 340

الدافع الأوّل: العداوة لله ولرسوله ولأهل بيته........ 93

الدافع الثاني: أخذ الثأر لأهله الكفَرة الفجَرة........ 93

الدافع الثالث: الانتقام لدم عثمان!...... 94

المضمون السابع: ابن عبّاس صاحب الدم والثأر!.... 96

المضمون الثامن: نوع المواجهة بين ابن عبّاسٍ ويزيد.... 98

المضمون التاسع: ابن عبّاس يرى نفسه أهلاً للمُلك وأحقّ به.......... 100

المضمون العاشر: بي وبهم عززتَ وجلستَ مجلسك....... 104

تعليقاتٌ سريعة..... 107

التعليقة الأُولى: كتاب ابن عبّاسٍ ردٌّ وليس ابتداء!......... 107

التعليقة الثانية: لماذا لم يكتب ابن عبّاسٍ قبل شهادة الإمام (علیه السلام) ؟!..... 108

التعليقة الثالثة: التزام ما التزمه سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس!........... 109

التعليقة الرابعة: توظيف كتاب ابن عبّاس...... 110

التعليقة الخامسة: باقي بني العبّاس!...... 111

إبن الزبير والإمام (علیه السلام) ... 113

العرض الأوّل: تعدّد اللقاء.......... 129

العرض الثاني: وقت اللقاء.......... 130

العرض الثالث: مكان اللقاء......... 132

المكان الأوّل: عند الإمام الحسين (علیه السلام) .......... 132

المكان الثاني: لحقه (علیه السلام) ابن الزبير...... 133

المكان الثالث: بين الحِجر والباب....... 133

المكان الرابع: عند جمرة العَقبة........... 134

العرض الرابع: هل كان اللقاء بين جماعة، أو كان في خلوة؟......... 134

ص: 341

العرض الخامس: تحريض ابن الزبير على بني أُميّة........ 135

العرض السادس: إصرار ابن الزبير على خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة... 137

العرض السابع: خبر الزبيريّ....... 139

الغريبة الأُولى: الإسناد والتردّد... 140

الغريبة الثانية: ابتداء الإمام (علیه السلام) ... 141

الغريبة الثالثة: القسَم بالطلاق والعتاق... 141

الغريبة الرابعة: بيعة أربعين ألفاً!........... 142

الغريبة الخامسة: جواب ابن الزبير....... 143

العرض الثامن: عروض ابن الزبير........ 143

الاقتراح الأوّل: البقاء في مكّة.... 144

الإيماء الأوّل: الاقتراح غير جدّي... 144

الإيماء الثالث: الصورة الأُولى للاقتراح: اقتراحٌ كسائر الاقتراحات......... 145

المناقشة الأُولى: الإمام (علیه السلام) يحمي حُرمة الحرم.... 146

المناقشة الثانية: دخول الإمام (علیه السلام) إلى مكّة للاستئمان لا للتحشيد..... 147

المناقشة الثالثة: توظيف عنوان الإمام (علیه السلام) .... 148

المناقشة الرابعة: الفرق بين اقتراحه واقتراح غيره........... 148

المناقشة الخامسة: سذاجة الخطّة....... 149

الإيماء الرابع: الصورة الثانية للاقتراح: إنّك مطلوب... 150

الالتفاتة الأُولى: الإمام (علیه السلام) يكشف ما يقوله ابن الزبير سرّاً..... 150

الالتفاتة الثانية: الإمام (علیه السلام) مطلوب!.... 151

الإيماء الخامس: الصورة الثالثة للاقتراح: عرض البيعة......... 153

الإشارة الأُولى: مكر ابن الزبير.......... 154

الإشارة الثانية: اشتراط البقاء في مكّة.......... 155

الإشارة الثالثة: دوافع البيعة....... 155

الإشارة الرابعة: وعود ابن الزبير......... 156

ص: 342

الإشارة الخامسة: خوفه على الإمام (علیه السلام) إن خرج........... 156

الإيماء السادس: دعوة الإمام (علیه السلام) للبيعة مع ابن الزبير........... 157

ردّ الإمام (علیه السلام) .......... 159

الجواب الأوّل: القتل خارج مكّة أحبّ إليه (علیه السلام) ......... 159

التلميح الأوّل: أهميّة الردّ......... 160

التلميح الثاني: البقاء في مكّة يعني القتل قطعاً...... 163

التلميح الثالث: حماية حرمة الحرم.... 164

التلميح الرابع: التعريض بابن الزبير.... 165

التلميح الخامس: ذكر البديل عن القتل في الحرم......... 166

التلميح السادس: لو كنتُ في جُحر هامّةٍ لَاستخرجوني!......... 167

النظرة الأُولى: وضوح الكلمة...... 170

النظرة الثانية: القسَم......... 171

النظرة الثالثة: لو كنتُ في جُحر هامّة!..... 171

النظرة الرابعة: حتّى يقضوا فيّ حاجتهم!........... 173

التلميح السابع: تمثيل الاعتداء عليه باعتداء بني إسرائيل......... 175

الجلوة الأُولى: حديث الإمام السجّاد (علیه السلام) ......... 176

الجلوة الثانية: المطلوب من اليهود......... 180

الجلوة الثالثة: براءة الحيتان......... 181

الجلوة الرابعة: قلب الموازين وتحليل الحرام..... 182

الجلوة الخامسة: الاعتداء في الزمن الحرام........ 183

الجلوة السادسة: غضب الله لاصطياد السمك!.... 184

الجلوة السابعة: التوسّل بمحمّدٍ وآل محمّد....... 185

الجلوة الثامنة: سيبعث عليهم مَن ينتقم منهم...... 186

الجلوة التاسعة: الإمام (علیه السلام) مُعتدىً عليه.... 186

الجلوة العاشرة: خلاصة الجلوات.......... 187

التلميح الثامن: فحوى الردّ....... 188

الجواب الثاني: فضح ابن الزبير....... 189

الدلالة الأُولى: تكذيب ابن الزبير في الدعوة للبقاء....... 190

ص: 343

الدلالة الثانية: تكذيبه في دعواه البيعة للإمام (علیه السلام) وإسناده...... 190

الدلالة الثالثة: الدافع الّذي يلهث له ابن الزبير....... 191

الدلالة الرابعة: موقع ابن الزبير عند الناس.... 191

الدلالة الخامسة: لا أهداف مقابل أهداف ابن الزبير...... 192

الدلالة السادسة: يطلب الأمر ولو بقتل الإمام الحسين (علیه السلام) ...... 193

الجواب الثالث: السكوت...... 193

الاقتراح الثاني: التحذير من التوجّه إلى العراق...... 195

السبب الأوّل: لقد حضر الحجّ وتدَعْه!..... 195

السبب الثاني: التحذير من الذهاب إلى قومٍ قتلوا أباه وطعنوا أخاه.......... 197

اللمحة الأُولى: وقت اللقاء....... 198

اللمحة الثانية: التحذير من أهل العراق!....... 198

اللمحة الثالثة: أنا أرى أنّهم قاتلوك........... 200

اللمحة الرابعة: تنويهٌ هامّ.......... 201

اللمحة الخامسة: «وأنا أرى ذلك»..... 202

اللمحة السادسة: التأكيد على أنّ الإمام (علیه السلام) مطلوب...... 202

تعليقات:........ 204

التعليقة الأُولى: رواية ابن حجر في (الصواعق)........... 204

التعليقة الثانية: ابن الزبير يسأل مسائل شرعيّة!.... 208

الاقتراح الثالث: الخروج إلى العراق... 209

الإنارة الأُولى: مكر ابن الزبير!........ 211

الإنارة الثانية: قد يصدق ابن الزبير!.......... 212

الإنارة الثالثة: دواعي الحثّ... 213

الإنارة الرابعة: الأسباب الّتي ذكرها الإمام (علیه السلام) ........... 215

الإنارة الخامسة: سبب التوجّه نحو العراق، لا سبب الخروج من مكّة...... 217

الإنارة السادسة: الاستخارة.... 217

ص: 344

الإنارة السابعة: غباء ابن الزبير وجهله!...... 217

العرض التاسع: ابن الزبير يلحق الإمام!........ 219

بين عبد الله بن جعفر والإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ... 221

القسم الأوّل: كتاب عبد الله بن جعفر للإمام الحسين (علیه السلام) ....... 223

التذكير الأوّل: ميزة نصّ ابن الصبّاغ........... 228

التذكير الثاني: انتشار خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة في المدينة! 231

التذكير الثالث: زمان ومكان كتابة الكتاب... 233

التذكير الرابع: حامل الكتاب..... 235

التذكير الخامس: نصّ كتاب ابن جعفر........ 236

اللفتة الأُولى: أدب عبد الله بن جعفر... 237

اللفتة الثانية: المناشدة....... 238

اللفتة الثالثة: دوافع المناشدة....... 240

التوضيح الأوّل: الشفقة.......... 241

التوضيح الثاني: المقصود من الأمر في كلام ابن أعثم والخوارزميّ!...... 242

التوضيح الثالث: دواعي الشفقة وأسبابها........... 244

المستوى الأوّل: الخوف من استئصال العترة الطاهرة..... 244

المستوى الثاني: نتائج قتل الإمام (علیه السلام) !......... 246

الإشفاق الأوّل: الإشفاق على نور الله...... 248

الإشفاق الثاني: فقدان علم المهتدين...... 249

الإشفاق الثالث: فقدان رجاء المؤمنين.... 250

الإشفاق الرابع: روح الهدى وأمير المؤمنين!...... 251

اللفتة الرابع: لا تعجلْ بالسير!...... 252

اللفتة الخامسة: أسباب الدعوة إلى التريّث.... 253

الميزة الأُولى: تشخيص المُعتدي!... 253

ص: 345

الميزة الثانية: بذل ما بوسعه للدفاع عن الإمام (علیه السلام) ....... 255

الميزة الثالثة: التهديد شاملٌ من جميع الأُمويّين.......... 256

الميزة الرابعة: التهديد الشامل لأهل البيت (علیهم السلام) ....... 256

اللفتة السادسة: التحذير من أهل الكوفة........ 257

التذكير السادس: جواب الإمام (علیه السلام) ..... 259

الجواب الأوّل: لم يذكر جواباً... 260

الجواب الثاني: «قرأتُ الكتاب وفهمت»...... 260

الجواب الثالث: الرؤيا!..... 261

الجواب الثالث: «لو كنتُ في جُحر هامّة»!.... 263

الجواب الرابع: أبى ولم يمتنع.... 264

القسم الثاني: محاولة ابن جعفر (رضی الله عنه) مع عمرو بن سعيد........ 267

الضوء الأوّل: قيام ابن جعفر (رضی الله عنه) إلى الوالي..... 271

الضوء الثاني: مطالب ابن جعفر (رضی الله عنه) من الوالي.......... 274

الضوء الثالث: مَن كتب الكتاب؟!........ 278

الضوء الرابع: حامل الكتاب....... 279

الضوء الخامس: موقع اللقاء....... 280

الضوء السادس: لقاءٌ مختصر....... 281

الإضاءة الأُولى: أسباب اختصار اللقاء.......... 281

الإضاءة الثانية: مَن باشر الإقراء........... 282

الإضاءة الثالثة: مؤدّى اللقاء....... 283

الضوء السابع: أمر ابنيه بالجهاد دون الإمام (علیه السلام) ..... 283

الضوء الثامن: هل رجعا إلى الوالي؟... 286

الضوء التاسع: جواب الإمام (علیه السلام) .......... 287

ص: 346

الضوء العاشر: هل التقى ابن جعفر (رضی الله عنه) أهلَه؟!... 287

القسم الثالث: كتاب عمرو بن سعيد للإمام (علیه السلام) ..... 291

المتابعة الأُولى: زيادات الطبريّ والخوارزميّ....... 294

المتابعة الثانية: غطرسة الأشدق... 295

المتابعة الثالثة: التهديد الأوّل..... 295

المتابعة الرابعة: التهديد الثاني.... 296

المتابعة الخامسة: التهديد الثالث......... 298

المتابعة السادسة: التهديد الرابع.......... 300

المتابعة السابعة: فإنْ كنتَ خائفاً........... 301

المتابعة الثامنة: وعود الآثم......... 303

الوعد الأوّل: إن كنتَ خائفاً.. فأقبِلْ إليّ....... 304

الوعد الثاني: الأمان بإزاء الإقبال إليه... 305

الوعد الثالث: الإقبال مع الرسول!........ 307

الوعد الرابع: البرّ والصلة والإحسان..... 309

الوعد الخامس: حُسن الجوار.... 310

المتابعة التاسعة: شهادة الكتاب على الكاتب........... 313

المتابعة العاشرة: توظيف الأمان!.......... 314

المتابعة الحادية عشرة: جواب الإمام (علیه السلام) ...... 316

الردّ الأوّل: «إن كنتَ أردت برّي وصلتي».... 316

الردّ الثاني: «إن كنتَ.. فجُزيتَ خيراً»........... 316

الردّ الثالث: «لم يشاقِقْ مَن دعا إلى الله..»...... 318

الإيضاح الأوّل: الهدوء والحِلم....... 318

الإيضاح الثاني: عموم الردّ وضمير الغائب........ 319

ص: 347

الإيضاح الثالث: أجواء الآية!.......... 319

الإيضاح الرابع: مؤدّى الآية... 321

الدلالة الأُولى: دلالة أخبار القوم!...... 322

الدلالة الثانية: الفهم العام.......... 322

الإيضاح الخامس: الآية مقابل التهمة....... 324

الردّ الرابع: ردّ الأمان........ 325

الإفادة الأُولى: الإمام (علیه السلام) هو الأمان!........ 325

الإفادة الثانية: الأمان في الحرم!....... 327

الإفادة الثالثة: أمان الخؤون!... 327

الإفادة الرابعة: الأمان والاغتيال!...... 328

الإفادة الخامسة: «خير الأمان أمان الله»..... 328

الوجه الأوّل: لا إيمان ولا أيمان لهم، فأمان الله خير!..... 329

الوجه الثاني: لم يحترموا أمان الله، فلا حرمة لأمانهم..... 331

الوجه الثالث: مَن كان في أمان الله لا يحتاج أمان غيره.......... 331

الإفادة السادسة: أمان الله لمن خافه في الدنيا..... 332

التقرير الأوّل: مَن لم يؤمن بالله لن يؤمن الله......... 332

التقرير الثاني: التهديد..... 332

التقرير الثالث: خوف الله في الدنيا وأمانه في الآخرة..... 333

التقرير الرابع: الخوف لله في الدنيا..... 335

الإفادة السابعة: دعاء الإمام (علیه السلام) ....... 335

الإفادة الثامنة: والسلام!.......... 336

ص: 348

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.