ظروف اقامه سيد الشهداء علیه السلام في مکه المكرمه المجلد 2

اشارة

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

تعداد جلد: 9 ج

زبان: عربی

موضوع: امام حسین علیه السلام - مکه

خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی

ص:1

اشارة

ص: 2

ظروف إقامة سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة المكرّمة

القسم الثاني

تأليف:

السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني

ص: 3

ص: 4

لقاء ابن عمر

اشارة

ورد أنّ ابن عمر التقى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ..

ويمكن تقسيمه إلى ثلاث متون:

المتن الأوّل: رواية الشيخ ابن نما (رحمة الله)

روى الشيخ ابن نما (رحمة الله) فقال:

وعن الشعبيّ، عن عبد الله بن عمر أنّه كان بماءٍ له، فبلغه أنّ الحسين (علیه السلام) قد توجّه إلى العراق، فجاء إليه، وأشار عليه بالطاعة والانقياد، وحذّره من مشاققة أهل العناد.

فقال: «يا عبد الله! أما علمتَ أنّ مِن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا (علیه السلام) أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟ أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ مقتدرٍ ذي انتقام؟».

ص: 5

ثمّ قال له: «اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدَعَنّ نصرتي!» ((1)).

المتن الثاني: رواية السيّد ابن طاووس (رحمة الله)

روى السيّد ابن طاووس (رحمة الله) وغيره:

ثمّ جاء عبد الله بن عمر، فأشار إليه بصلح أهل الضلال، وحذّره من القتل والقتال.

فقال له: «يا أبا عبد الرحمان! أما علمتَ أنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟ أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، بل أمهلهم، وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيزٍ ذي انتقام؟ اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدعَنّ نصرتي!» ((2)).

المتن الثالث: رواية الشيخ الطريحيّ (رحمة الله)

اشارة

قال الشيخ الطريحيّ (رحمة الله) :

ص: 6


1- مثير الأحزان لابن نما: 20.
2- اللهوف لابن طاووس: 30، بحار الأنوار: 44 / 365، العوالم للبحراني: 17 / 214، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 236، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 248.

رُوي عن بعض الثقات: إنّ عبد الله بن عمر لمّا بلغه أنّ الحسين (علیه السلام) متوجّهٌ إلى العراق، جاء إليه، وأشار عليه بالطاعة والانقياد لابن زياد، وحذّره من مشاقّة أهل العناد.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «يا عبد الله، إنّ من هوان هذه الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا (علیه السلام) أُهديَ إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، فامتلأ به سروراً، ولم يعجّل اللهُ عليهم بالانتقام، وعاشوا في الدنيا مغتبطين. ألم تعلم _ يا عبد الله _ أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يفعلوا شيئاً، ولم يعجّل الله عليهم بانتقام، بل أخذهم الله أخذ عزيزٍ مقتدر؟».

ثمّ قال: يا عبد الله، اتّقِ الله ولا تدَعَنّ نصرتي، ولا تركننّ إلى الدنيا، لأنّها دارٌ لا يدوم فيها نعيم، ولا يبقى أحدٌ من شرّها سليماً، متواترةٌ مِحَنُها، متكاثرةٌ فتنُها، أعظمُ الناس فيها بلاءً الأنبياء، ثمّ الأئمّةُ الأُمناء، ثمّ المؤمنون، ثمّ الأمثل بالأمثل».

قال (علیه السلام) : «يا عبد الله، قد خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جِيد الفتاة، وما أولهني إلى لقاء أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأْنَ منّي أكراشاً جُوفاً وأجوفةً سُغباً، لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ليوافينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله

ص: 7

لُحمته، هي مجموعةٌ لنا في حظيرة القُدس، تقرّ بهم عينه وينجز لهم وعده، فمن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسَه، فلْيرحل معي، فإنّي راحلٌ مُصبحاً، إن شاء الله (تعالى)» ((1)).

* * * * *

يمكن أن نتعقّب هذا اللقاء من خلال ما يلي:

التعقّب الأوّل: هل كان لقاءً مستقلّاً؟

يبدو أنّ المتون الثلاثة كلَّها تتحدّث عن لقاءٍ واحد، والأقدم فيها هو نصّ الشيخ ابن نما (رحمة الله) ، ويفيد السياق أنّ السيّد ابن طاووس (رحمة الله) والشيخ الطريحيّ (رحمة الله) ينقلان عنه.

وقد روى الشيخ ابن نما عن الشعبيّ عن ابن عمر، فربّما اختصر الشعبيّ (أو ابن عمر) اللقاء المذكور آنفاً الّذي جمعه وابن عبّاس بالإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، سيّما إذا لاحظنا أنّ الخبر جاء بلفظ الغائب لا المتكلِّم: «فبلغه.. وأشار عليه.. وحذّره..»، واختصر محاججة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، واكتفى بذِكر التحذير والدعوة إلى الطاعة، ثمّ ذكر جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) فيما يخصّ أفعال بني إسرائيل ورأس يحيى (علیه السلام) ، فربّما كان هو إشارةٌ إلى ذات اللقاء المذكور سابقاً.

ص: 8


1- المنتخب للطريحي: 2 / 389.

وكيف كان، فإن كان لقاءً جديداً، وقلنا بتعدّد اللقاء مرّةً مع ابن عبّاس ومرّةً وحده، حيث كان على ماءٍ له فجاء إلى الإمام (علیه السلام) ، فقد اتّفق هؤلاء الأطياب الثلاثة على رواية حدَثٍ واحد، رواه الشيخ ابن نما وتبعه عليه مَن تأخّر عنه.

التعقّب الثاني: وقت اللقاء

جاء هذا اللقاء عند الشيخ ابن نما بعد أن ذكر لقاء الفرزدق، ثمّ عقّبه بذكر خطبة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقال بعد أن روى اللقاء: «ثمّ قام خطيباً فقال: ... خُطّ الموت على وُلد آدم»، إلى آخر الخطبة.. ثمّ ذكر فوراً ما حدث في التنعيم، فقال: «ثمّ أقبل الحسين (علیه السلام) حتّى مرّ بالتنعيم ...».

فكأنّ السياق وتسلسل الأحداث عند الشيخ (رحمة الله) تفيد أنّ اللقاء كان في الساعة الأخيرة مِن تشرّف مكّة بالإمام (علیه السلام) ، أو أنّه بعد أن انطلق منها فالتقاه على مشارفها، وكان ابن عمر على ماءٍ له خارجاً عنها.

ولا يبعد أن يكون الشيخ الطريحيّ (رحمة الله) قد نقل عن الشيخ ابن نما، فاسترسل في رواية الخطبة، وفهم أنّها كانت خطاباً لابن عمر، فصدّرها بقوله: «يا عبد الله، قد خُطّ ...».

التعقّب الثالث: تخاذل ابن عمر على علم!

تعرّضنا لبيان مضمون اللقاء بالتفصيل قبل قليلٍ عند الحديث عن

ص: 9

لقاء العبدَين مع الإمام (علیه السلام) ، فلا نعيد.

بَيد أنّ هذا النصّ يؤكّد إقامة الحجّة على ابن عمر، وأنّه دُعي بالاسم وقامت الحجّة عليه بالذات حين قال له الإمام (علیه السلام) : «اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمان ولا تدَعَنّ نصرتي».

فسمع ووعى، وتخاذل عن نصرة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والدفاع عنه والذبّ عن آل الله على علم!

التعقّب الرابع: إضافاتٌ في المتن

أضاف العلّامة المازندرانيّ في (المعالي) على رواية السيّد ابن طاووس (رحمة الله) :

قال (ابن عمر): يا أبا عبد الله، اكشِفْ لي عن الموضع الّذي كان يقبّله رسول الله (صلی الله علیه و آله) مراراً. فكشف (علیه السلام) عن سُرّته، فقبّل المحلّ ثلاث مرّاتٍ وبكى، وقال: أودعتُك الله يا حسين، وأنا أدري تُقتَل بهذا السفر.

أيّ موضعٍ قبّل ابنُ عمر وبكى؟ قبّل موضعاً كان يقبّله رسول الله (صلی الله علیه و آله) مراراً، وكذا عليٌّ وفاطمة والحسن (علیهم السلام) ، وقبّل موضعاً أتاه يوم عاشوراء سهمٌ محدَّدٌ مسمومٌ له ثلاث شُعَب.

وأضاف السيّد الأمين في (أعيان الشيعة):

وكان الحسين (علیه السلام) يقول: «وأيمُ اللهِ لو كنتُ في جُحْر هامّةٍ من هذه الهوامّ لَاستخرجوني حتّى يقتلوني، واللهِ لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدت

ص: 10

اليهود في السبت، واللهِ لا يدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَن يُذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام المرأة.

يبدو أنّ العَلَمين أدخلوا الأخبار بعضها في بعض، ونقلوا ما يناسب المشهد من الأخبار، وسيأتي الحديث عنها في محلّها، إن شاء الله (تعالى).

ص: 11

ص: 12

لقاء ابن عبّاس وابن الزبير

روى السيّد ابن طاووسٍ (رحمة الله) وغيرُه:

قال: وجاء عبد الله بن عبّاسٍ وعبد الله بن الزبير، فأشارا إليه بالإمساك، فقال لهما: «إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه».

قال: فخرج ابن عبّاسٍ وهو يقول: وا حسيناه! ((1))

واختصرها الشيخ السماويّ (رحمة الله) في (الإبصار) فقال:

فمانعه ابن عبّاسٍ وابن الزبير، فلم يمتنع! ((2))

* * * * *

هل جاء ابن عبّاسٍ وابن الزبير معاً عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فأشارا إليه _ أو: «أشارا عليه» كما في (البحار) _، أو أنّ كلّ واحدٍ منهما جاءه

ص: 13


1- اللهوف لابن طاووس: 31، بحار الأنوار: 44 / 364، العوالم للبحراني: 17 / 214، الدمعة الساكبة للبهبهاني: 4 / 236، أسرار الشهادة للدربندي: 245، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 248.
2- إبصار العين للسماوي: 6.

وحده، غير أنّهما يتّحدان في موقف المعارضة ومحاولة منعه من الخروج والبقاء في مكّة أو الرجوع إلى المدينة، فكان جوابهما واحداً، أو كانت الكلمات وألفاظ الأخبار متقاربة، فجمعها السيّد (رحمة الله) ولخّص اللقاءين، لأنّه بنى كتابه على الاختصار؟

ربّما أفاد السياق أنّهما جاءا معاً!

فإن كانا قد جاءا معاً، لا ندري لماذا يأتي ابن عبّاسٍ مع أعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويدعوه إلى ما يدعوه له أعداؤه؟!!

وفي كلّ مرّةٍ يأتي ابن عبّاس يكلّم الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يخرج منه جازماً قاطعاً متأكّداً أنّ الإمام (علیه السلام) سيُقتَل لا محالة، وأنّ كلّ الشواهد والمشاهد وسير الأحداث وتكاتف الظروف والأجواء تفيد ذلك بالجزم واليقين، سيّما إذا لوحظت الأخبار الغيبيّة في المقام..

ثمّ يكتفي بالبكاء أو بالندبة، وينتهي المشهد وتتلاشى عزيمتُه، ولا تنهض به غيرةٌ ولا همّةٌ ولا رحمٌ للدفاع عن سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، وقد اكتفى هنا أيضاً أنّه خرج وهو يقول: «وا حسيناه!».

وهي ندبةٌ تنمّ عن جزمه ويقينه أنّ الإمام الحسين (علیه السلام) مقتولٌ لا محالة.

ص: 14

لقاء ابن عبّاس قُبَيل الخروج

اشارة

أفادت المصادر حصول لقاءٍ متكرّرٍ بين ابن عبّاسٍ وسيّد الشهداء (علیه السلام) في ظرفٍ واحد، وكأنّ اللقاء كان يتكرّر ليُتمّم كلُّ لقاءٍ اللقاءَ الّذي سبقه، بَيد أنّ تتبّع النصوص يرسم كيفيّة حصول اللقاء في صورٍ مختلفة، وقد قسّمنا النصوص إلى عدّة لقاءات كي يتسنّى تتبّعها واستنطاقها، إن شاء الله (تعالى).

ويبدو مِن تصنيف النصوص وترصيفها أنّها ترسم أكثر من مشهدٍ لمجموع اللقاءات، يمكن تقسيمها إلى ثلاث مشاهد:

المشهد الأوّل: ابن عبّاس يقصد الإمام (علیه السلام) في اللقاء الأوّل والثاني ((1)).

ص: 15


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72، دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 89 و94، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، الأربعون لابن زهرة: 46 و50، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

المشهد الثاني: الإمام الحسين (علیه السلام) يقصد ابن عبّاس ((1)).

المشهد الثالث: حصول اللقاء من دون قصدٍ وعزم سابق ((2)).

ص: 16


1- أُنظر: ذخائر العقبى للطبري: 150، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 196، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128 الرقم 2859، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192، المناقب لمحمّد بن سلمان: 2 / 260 الرقم 725، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 356، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216 و217 و219، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2603، كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.
2- أُنظر: الأمالي للشجري: 1 / 186، إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.

اللقاء الأوّل

اشارة

روى ابن سعد، وابن عساكر، وابن العديم، والمزّي، والذهبيّ، وابن كثير:

ودخل عبد الله بن عبّاسٍ على الحسين، فكلّمه طويلاً، وقال: أُنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة، لا تأتي العراق، وإن كنتَ لابدّ فاعلاً فأقِمْ حتّى ينقضي الموسم، وتلقى الناس وتعلم على ما يصدرون، ثمّ ترى رأيك. وذلك في عشر ذي الحجّة سنة ستّين.

فأبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق.

فقال له ابن عبّاس: والله إنّي لَأظنّك ستُقتَل غداً بين نسائك وبناتك، كما قُتل عثمان بين نسائه وبناته، واللهِ إنّي لَأخاف أن تكون الّذي يُقاد به عثمان، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فقال الحسين: «أبا العبّاس، إنّك شيخٌ قد كبرت».

فقال ابن عبّاس: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَنشبتُ يدي في رأسك، ولو أعلم أنّا إذا تناصينا أقمتَ لَفعلت، ولكن لا أخالُ ذلك نافعي.

فقال له الحسين: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبُّ إليّ أن تُستحلّ

ص: 17

بي»، يعني مكّة.

قال: فبكى ابن عبّاس، وقال: أقررتَ عينَ ابن الزبير، فذلك الّذي سلى بنفسي عنه.

ثمّ خرج عبد الله بن عبّاس مِن عنده ((1)).

وروى البلاذريّ:

وأتاه عبد الله بن عبّاس فقال له: يا ابن عمّ، إنّ الناس قد أرجفوا بأنّك سائر إلى العراق!

فقال: «نعم».

قال ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أتذهب _ رحمك الله _ إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟! فإن كانوا قد فعلوا فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون خِراج بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، فلا آمنُ أن يغرّوك ويكذبوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

قال الحسين: «فإنّي أستخير الله وأنظر» ((2)).

ص: 18


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.

الدينوريّ:

فلمّا عزم على الخروج وأخذ في الجهاز، بلغ ذلك عبدَ الله بن عبّاس، فأقبل حتّى دخل على الحسين فقال: يا ابن عمّ، قد بلغني أنّك تريد المسير إلى العراق!

قال الحسين: «أنا على ذلك».

قال عبد الله: أُعيذك بالله يا ابن عمّ من ذلك.

قال الحسين: «قد عزمتُ، ولابدّ من المسير».

قال له عبد الله: أتسير إلى قومٍ طردوا أميرهم عنهم وضبطوا بلادهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما يدعونك إليهم وأميرهم عليهم وعمّاله يجبونهم، فإنّهم إنّما يدعونك إلى الحرب، ولا آمنهم أن يخذلوك كما خذلوا أباك وأخاك.

قال الحسين: «يا ابن عمّ، سأنظر فيما قلت» ((1)).

الطبريّ:

قال أبو مِخنَف: وحدّثني الحارث بن كعب الوالبيّ، عن عقبة بن سمعان: إنّ حسيناً لمّا أجمع المسير إلى الكوفة، أتاه عبد الله بن عبّاس فقال: يا ابن عمّ، إنّك قد أرجف الناس أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟

ص: 19


1- الأخبار الطوال للدينوري: 243.

قال: «إنّي قد أجمعتُ المسير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)».

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أخبرني _ رحمك الله _ أتسير إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال له الحسين: «وإنّي أستخير الله وأنظر ما يكون».

قال: فخرج ابن عبّاسٍ من عنده ((1)).

ابن أعثم:

قال: وقدم ابن عبّاسٍ في تلك الأيام إلى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين (علیه السلام) يريد أن يصير إلى العراق، فأقبل حتّى دخل عليه مسلِّماً، فقال: جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، إنّه قد شاع الخبرُ في الناس وأرجفوا بأنّك سائرٌ إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع!

فقال الحسين: «نعم، إنّي أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله».

ص: 20


1- تاريخ الطبري: 5 / 383.

فقال ابن عبّاس (رحمة الله) : أُعيذك بالله من ذلك! فإن تَصِرْ إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم في مسيرك إليهم لَعمري الرشادُ والسداد، وإن كانوا إنّما دعَوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم وعمّالهم يجبون بلادهم، وإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، وإنّك تعلم أنّه بلدٌ قد قُتِل فيه أبوك واغتيل فيه أخوك وقُتل فيه ابن عمّك، وبويع يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد في البلد يعطي ويفرض، والناس اليوم إنّما هم عبيد الدينار والدرهم، ولا آمنُ عليك أن تُقتَل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم.

فقال له الحسين: «واللهِ أن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، وأنا مع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((1)).

المسعوديّ:

فلمّا همّ الحسين بالخروج إلى العراق، أتاه ابن العبّاس فقال له: يا ابن عمّ، قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجلْ، وإن أبَيتَ إلّا محاربة هذا الجبّار وكرهت المقام بمكّة، فاشخص إلى اليمن، فإنّها في عزلة، ولك فيها أنصارٌ وإخوان، فأقِمْ بها وبُثَّ دُعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيُخرِجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفَوه عنها

ص: 21


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.

ولم يكن بها أحدٌ يعاديك أتيتَهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمتَ بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإنّ فيها حصوناً وشعاباً.

فقال الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي لَأعلمُ أنّك لي ناصحٌ وعلَيّ شفيق، ولكنّ مسلم بن عقيل كتب إليّ باجتماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي، وقد أجمعتُ على المسير [إليهم]».

قال: إنّهم مَن خبَرتَ وجرّبت، وهم أصحاب أبيك وأخيك، وقتَلَتُك غداً مع أميرهم، إنّك لو قد خرجتَ فبلغ ابنَ زيادٍ خروجُك استنفرهم إليك، وكان الّذين كتبوا إليك أشدّ مِن عدوّك، فإن عصيتني وأبَيتَ إلّا الخروج إلى الكوفة فلا تُخرجنّ نساءك ووُلدَك معك، فواللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

فكان الّذي ردّ عليه: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبُّ إليّ مِن أن أُستحلّ بمكّة.

فيئس ابن عبّاسٍ منه، وخرج من عنده ((1)).

أبو الفرَج:

وجاء به عبد الله بن عبّاس، وقد أجمع رأيه على الخروج وحقّقه، فجعل يناشده في المقام ويُعظم عليه القول في ذمّ أهل الكوفة، وقال له: إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك، وما أراهم إلّا

ص: 22


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.

خاذليك!

فقال له: «هذه كتبهم معي، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم».

فقال له ابن عبّاس: أما إذا كنت لابدّ فاعلاً، فلا تُخرج أحداً من وُلدك ولا حرمك ولا نسائك، فخليقٌ أن تُقتَل وهم ينظرون إليك، كما قُتل ابن عفّان.

فأبى ذلك ولم يقبله.

قال: فذكر مَن حضره يوم قُتل وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته، وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتَل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاسٍ فيما أشار علَيّ به ((1)).

الطبريّ الشيعيّ، والبحرانيّ:

قال أبو جعفر: حدّثنا محروز بن منصور، عن أبي مِخنَف لوط بن يحيى قال: حدّثنا عبّاس بن عبد الله، عن عبد الله بن عبّاس قال: أتيتُ الحسينَ (علیه السلام) وهو يخرج إلى العراق، فقلت له: يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، لا تخرج!

فقال: «يا ابن عبّاس، أما علمتَ إن منعتني من هناك، فإنّ مصارع أصحابي هناك؟».

قلت له: فأنّى لك ذلك؟

ص: 23


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.

قال: «بسِرٍّ سُرّه لي وعلمٍ أُعطيتُه» ((1)).

مسكويه:

وأتاه عبد الله بن عبّاسٍ فقال: يا ابن عمّ، إنّه قد أرجف الناسُ أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيِّنْ لي ما أنت صانع.

فقال له: «إنّي قد أجمعتُ السير إلى العراق في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله».

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أخبِرْني _ رحمك الله _ أتسير إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون بلادهم، فإنّهم دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يغرّوك ويكذبوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «فإنّي أستخير الله، وأنظر» ((2)).

الخوارزميّ:

وقدم ابن عبّاس في تلك الأيام إلى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين (علیه السلام) عزم على المسير، فأتى إليه ودخل عليه مسلّماً، ثمّ قال له: جُعلتُ فداك، إنّه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّك سائرٌ إلى العراق،

ص: 24


1- دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.

فبيِّنْ لي ما أنت عليه.

فقال: «نعم، قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه إن شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم».

فقال ابن عبّاس: أُعيذك بالله من ذلك، فإنّك إنْ سرتَ إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، ففي مسيرك إليهم لَعمري الرشاد والسداد، وإنْ سرتَ إلى قومٍ دعوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم وعمّالهم يجبون بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، وأنت تعلم أنّه بلدٌ قد قُتل فيه أبوك واغتيل فيه أخوك وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله، وعُبيد الله في البلد يفرض ويعطي، والناس اليوم عبيد الدينار والدرهم، فلا آمَنُ عليك أن تُقتَل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم، فإنْ كنتَ على حالٍ لابدّ أن تشخص فصِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً لك وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.

فقال الحسين: «لابدّ من العراق!».

قال: فإن عصيتني فلا تُخرج أهلك ونساءك، فيقال: إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فواللهِ ما آمَنُ أن تُقتَل ونساؤك ينظرن، كما قُتل عثمان.

فقال الحسين: «واللهِ _ يا ابن عمّ _ لئن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ مِن

ص: 25

أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((1)).

إبن شهرآشوب:

وقال ابن عبّاس: لا تخرج إلى العراق، وكُنْ باليمن لحصانتها ورجالها.

فقال (علیه السلام) : «إنّي لم أخرج بطراً ولا أشِراً ولا مُفسِداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ أطلب الصلاح في أُمّة جدّي محمّد، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، وهو أحكم الحاكمين».

فأتاه ابن عبّاسٍ وتكلّم في ذلك كثيراً، فانصرف ((2)).

إبن الجوزيّ:

وكان قد أشار عليه جماعةٌ منهم ابن عبّاس أن لا يخرج، وكان من جملة ما قال له: أتسير إلى قومٍ أميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم؟ فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يكذبوك.

فقال: «أستخير الله» ((3)).

ص: 26


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 89 و94.
3- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.

إبن الأثير، والنويريّ:

قال: وأتاه عبد الله بن عبّاس فقال له: قد أرجف الناس أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيِّنْ لي ما أنت صانع.

فقال له: «قد أجمعتُ السير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)».

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، خبِّرْني _ رحمك الله _ أتسير إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين: «فإنّي أستخير الله وأنظر ما يكون».

فخرج ابن عبّاس ((1)).

سبط ابن الجوزيّ:

فعزم على المسير، فجاء إليه ابنُ عبّاسٍ ونهاه عن ذلك، وقال له: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه، وفعلوا ما فعلوا.

ص: 27


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406.

فقال: «هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ المسير لقتال أعداء الله».

فبكى ابن عبّاس، وقال: وا حسيناه!

وذكر المسعوديّ في كتاب (مروج الذهب):

إنّ ابن عبّاسٍ قال له: إنْ كرهتَ المقام بمكّة خوفاً على نفسك، فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ فيها عزلة، ولنا بها أنصارٌ وأعوان، وبها قِلاعٌ وشعاب، واكتب إلى أهل الكوفة، فإن أخرجوا أميرهم وسلّموها إلى نائبك فسِرْ إليهم، فإنّك إنْ سرتَ إليهم على هذه الحالة لم آمن عليك منهم، وإن عصيتَني فاترك أهلك وأولادك هاهنا، فواللهِ إنّي لَخائفٌ عليك أن تُقتَل، كما قُتل عثمان ونساؤه وأهله ينظرون إليه.

قلت: وهذا معنى قول عليّ (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس، فإنّه ينظر مِن سترٍ رقيق.

فلمّا يئس ابن عبّاس منه، حزن لفقده ((1)).

الذهبيّ:

وقال ابن عبّاس: إنّي لَأظنّك ستُقتَل غداً بين نسائك وبناتك، كما قُتل عثمان، وإنّي لَأخاف أن تكون الّذي يُقاد به عثمان، إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 28


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

قال: «أبا العبّاس! إنّك شيخٌ قد كبرت» ((1)).

إبن كثير:

وروى أبو مِخنَف، عن الحارث بن كعب الوالبيّ، عن عقبة بن سمعان:

إنّ حسيناً لمّا أجمع المسير إلى الكوفة أتاه ابن عبّاس فقال: يا ابن عمّ، إنّه قد أرجف الناس أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيِّنْ لي ما أنت صانع.

فقال: «إنّي قد أجمعتُ المسير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)».

فقال له ابن عبّاس: أخبِرْني إن كان قد دعوك بعدما قتلوا أميرهم ونفوا عدوّهم وضبطوا بلادهم فسِرْ إليهم، وإن كان أميرهم حيٌّ وهو مقيمٌ عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمنُ عليك أن يستفزّوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الّذي دعوك أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين (علیه السلام) : «إنّي أستخير الله وأنظر ما يكون».

فخرج ابن عبّاسٍ عنه ((2)).

ص: 29


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.
2- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

إبن الصبّاغ، والشبلنجيّ:

ثمّ جاءه بعد ذلك عبد الله بن عبّاس ومعه جماعةٌ من أهل ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور، فقال: إنّ الناس قد أرجفوا بأنّك سائرٌ إلى العراق، فهل عزمتَ على شيءٍ من ذلك؟

فقال: «نعم، إنّي قد أجمعتُ على المسير في أحد يومَيّ هذين، أُريد اللحاق بابن عمّي مسلم بن عقيل، إن شاء الله (تعالى)».

فقال ابن عبّاس والجماعة الّذين معه: نعيذك بالله من ذلك، أخبِرنا أتسير إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك وأميرهم قائمٌ عليهم قاهرٌ لهم وعمّالهم تجبي بلادهم وتأخذ خراجهم، فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك من أن يغرّوك ويكذبوك ويخذلوك ويتبعوك، ثمّ يستفزّوا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين (علیه السلام) : «إنّي أستخير الله (تعالى)، ثمّ أنظر ماذا يكون».

فخرج ابن عبّاسٍ والجماعة الّذين معه ((1)).

الحرّ العامليّ:

وروى صاحب كتاب (فاطمة (علیها السلام) وولدها)، بإسناده عن ابن عبّاسٍ قال:

ص: 30


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259.

لقيتُ الحسين (علیه السلام) وهو خارجٌ إلى العراق، فقلتُ له: يا ابن رسول الله، لا تخرج!

فقال: «أما علمتَ أنّ منيّتي من هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟» ((1))

البحرانيّ، والمازندرانيّ:

قال: فالتفت الحسين (علیه السلام) إلى ابن عبّاسٍ وقال له: «ما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت نبيّهم عن وطنه وداره وقراره وحرم جدّه، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرارٍ ولا يأوي إلى جوار، يريدون بذلك قتله وسفك دمائه، ولم يُشرِك بالله شيئاً ولم يرتكب منكراً ولا إثماً؟».

فقال له ابن عبّاس: جُعلتُ فداك يا حسين، إنْ كنتَ لابدّ سائراً إلى الكوفة فلا تسير بأهلك ونسائك.

فقال له: «يا ابن العمّ، إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في منامي، وقد أمر بأمرٍ لا أقدر على خلافه، وأنّه أمرني بأخذهم معي».

وفي نقلٍ آخَر أنّه قال: «يا ابن العمّ، إنّهنّ ودائع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا آمَنُ عليهنّ أحداً، وهنّ أيضاً لا يفارقنني».

فسمع ابن عبّاسٍ بكاءً من ورائه، وقائلةً تقول: يا ابن عبّاس، تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلّفنا هاهنا ويمضي وحده؟ لا والله،

ص: 31


1- إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.

بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟

فبكى ابن عبّاسٍ بكاءً شديداً، وجعل يقول: يعزّ علَيّ والله فراقك يا ابن عمّاه.

ثمّ أقبل على الحسين (علیه السلام) ، وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة والدخول في صلح بني أُميّة، فقال الحسين (علیه السلام) : «هيهات يا ابن عبّاس! إنّ القوم لا يتركوني، وأنّهم يطلبوني أين كنت حتّى أُبايعهم كرهاً، ويقتلوني، واللهِ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض لَاستخرجوني منه وقتلوني، واللهِ إنّهم لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدى اليهود في يوم السبت، وإنّي في أمر جدّي رسول الله حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((1)).

الخافي الشافعيّ:

في (التبر المذاب) للخافي الشافعيّ:

فعزم على المسير، فجاء عبد الله بن عبّاس وقال: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه.

فقال: «يا ابن عمّ، هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم، وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)».

ص: 32


1- مدينة المعاجز للبحراني: 243، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 247، وسائل المظفّري لليزدي: 436، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 157 و158.

فبكى عبد الله حتّى بلّ لحيته، وقال: وا حسيناه! ((1))

المازندرانيّ:

وفي بعض الكتب: جاء عبد الله بن عبّاس إلى الحسين (علیه السلام) ، وتكلّم معه بما تكلّم، إلى أن أشار عليه بالدخول في طاعة يزيد وصلح بني أُميّة.

فقال الحسين (علیه السلام) : «هيهات هيهات يا ابن عبّاس! إنّ القوم لن يتركوني، وأنّهم يطلبونني أين كنتُ حتّى أُبايعهم كرهاً، ويقتلوني، واللهِ إنّهم لَيعتدُنّ علَيّ كما اعتدَت اليهود في يوم السبت، وإنّي ماضٍ في أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حيث أمرني، إنّا لله وإنّا إليه راجعون».

فقال: يا ابن العمّ، بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجل، فأقِمْ بمكّة.

فقال (علیه السلام) : «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبُّ إليّ من أن أُستحَلّ بمكّة، وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم وقام لهم العذر علَيّ عند الله (سبحانه)».

فبكى عبد الله حتّى بُلّت لحيته، وقال: وا حسيناه، وا أسفاه على حسين! ((2))

ص: 33


1- التِّبر المذاب للخافي: 40 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
2- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 246.

* * * * *

يمكن البحث في هذه المتون من خلال عدّة حصص:

ص: 34

الحصّة الأولى: رجوع ابن عبّاس إلى مكّة

لقد مرّ معنا فيما مضى أنّ ابن عبّاسٍ وابن عمر دخلا على الإمام الحسين (علیه السلام) وقد عزما على الانصراف إلى المدينة، كما صرّح به ابن أعثم والخوارزميّ ((1))، وعادا ليصرّحا هنا أنّ ابن عبّاس قدم في تلك الأيّام إلى مكّة وقد بلغه أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) عزم على المسير إلى العراق، فيلزم أن يكون ابن عبّاس قد ذهب إلى المدينة ثمّ عاد إلى مكّة.

والظاهر أنّ بقيّة المصادر قد أغفلت ذهابه وعودته، واقتصرت على ذِكر اللقاءات!

ص: 35


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 38، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 190.

ص: 36

الحصّة الثانية: زمان اللقاء

أفادت جملة المصادر أنّ اللقاء كان قبل موسم الحجّ، إذ أنّ ابن عبّاسٍ اقترح _ في بعض النصوص _ على الإمام (علیه السلام) أن يُقيم حتّى ينقضي الموسم ((1)).

وذكرت مصادر أُخرى أنّه أتاه لمّا همّ وعزم على الخروج وحقّقه وأخذ في الجهاز ((2))، وحدّده بعضهم بأيّامٍ قريبةٍ متّصلة بالخروج.. «قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه إن شاء الله» ((3)).

ص: 37


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.
2- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، الأربعون لابن زهرة: 46 و50، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 72.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406.

وقال آخَرون أنّه كان بيومٍ أو يومين قبل الخروج.. «إنّي قد أجمعتُ السير إلى العراق في أحد يومَيّ هذين إن شاء الله» ((1)).

وجعلها بعضهم مقارنةً للخروج.. «لقيت الحسين (علیه السلام) وهو خارجٌ إلى العراق» ((2))، أو «وهو يخرج» ((3))، وإن كان هذا التعبير يفيد المقارنة، بَيد أنّه ينسجم مع التوقيتات الأُخرى أيضاً.

وقد روى الدينوريّ اللقاء الثاني المتّصل بما قبله في اليوم الثالث ((4))، وذكره آخَرون في العشيّ من نفس اليوم أو من الغد ((5)).

وعلى هذا يكون اللقاء في زحمة التجهيز والإعداد لمغادرة مكّة، وفي الأيّام الأخيرة قبل الخروج، قد تكون يومين أو ثلاثة.

ص: 38


1- تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
2- إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.
3- دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238.
4- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.
5- الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الأرب للنويري: 20 / 408.

الحصّة الثالثة: موضع اللقاء

يبدو من أجواء اللقاء والتأكيد على حدَث الخروج إلى العراق أنّ اللقاء تمّ في مكّة، وقد تكرّر اللقاء أكثر من مرّة، من دون الإشارة في النصوص على موضع اللقاء على وجه التحديد في أيّ محلٍّ من محلّات مكّة أو أيّ مكانٍ بالضبط.

أجل، ورد في أخبار اللقاء الرابع أنّه كان في بيت الله الحرام ((1)).

ص: 39


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1 / 186.

ص: 40

الحصّة الرابعة: كلام ابن عبّاس

اشارة

يمكن فرز هذا المقطع من كلام ابن عبّاس إلى عدّة إبرازات:

الإبراز الأوّل: إنّ الناس قد أرجفوا
اشارة

ذكرت جملةٌ من المصادر هذا الإبراز بألفاظٍ مختلفةٍ تتّفق على أصل الموضوع، وأنّ ابن عبّاسٍ هو الّذي بادر، فأتى الإمام (علیه السلام) وقصده، وتختلف في شيءٍ من التفاصيل وطريقة العرض، ويمكن ملاحظتها من خلال الإيضاحات التالية:

الإيضاح الأوّل: إرجاف الناس وشيوع الخبر

ورد في بعض الأخبار أنّ ابن عبّاسٍ قال: «بلغني أنّك تريد العراق» ((1))، من دون تحديد المورد الّذي استقى منه هذه المعلومة، ولم يُسندها إلى أحدٍ أو قومٍ أو جماعة، فربّما أخبره فردٌ واحد، وربّما أخبره فردان

ص: 41


1- أُنظر: الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.

أو ثلاثة، وقد يكون قد شاع الخبر وذاع فبلغه.

بَيد أنّ غيرها من المصادر الأُخرى ذكرت أنّه قال: إنّ خبر مسير سيّد الشهداء (علیه السلام) قد شاع في الناس، وأنّ الناس قد أرجفوا بذلك، وجمعَت بعضها بين شيوع الخبر وإرجاف الناس.

* * * * *

أرجف القوم: إذا خاضوا في الأخبار السيّئة وذِكْر الفتن. قال الله (تعالى): ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ ((1))، وهم الّذين يولّدون الأخبار الكاذبة الّتي يكون معها اضطرابٌ في الناس.

والإرجاف واحد أراجيف: الأخبار، وقد أرجفوا في الشيء، أي: خاضوا فيه ((2)).

ففي التعبير بالإرجاف لحنٌ يفيد التكذيب من جهة، والخوض في الأخبار السيّئة وذِكر الفتن، أو ما يُعبَّر عنه اليوم بالإشاعة والشائعات، وهي قد تكون مُغرِضةً أحياناً، وقد تكون جزءاً من الفتنة وشُعبةً من الجيوش وجُنداً من جنود المعركة..

سواءً أكان المقصود الإرجاف بما فيه من لحنٍ وإيحاء، أو كان يريد أن يعبّر عن الإذاعة وشيوع الخبر بين الناس، فإنّه يفيد انتشار خبر خروج

ص: 42


1- سورة الأحزاب: 60.
2- أُنظر: لسان العرب: رَجَف.

سيّد الشهداء (علیه السلام) وهجرته عن مكّة، بحيث سمع الناس كلّهم وتداولوه ولاكَتْه ألسنتُهم وتناقلوه في المحافل والتجمّعات وتحدّثوا به.

وهذا القدر من زعم ابن عبّاسٍ لا نجد عليه شاهداً ولا دليلاً في نصوص التاريخ ومتون الكتب، ولا ندري من أين حصل الناس على خبر خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، ولم يُعهَد للإمام (علیه السلام) قبل لقاء ابن عبّاس به وزعمه هذا خطابٌ أو كلامٌ أو لقاءٌ عامٌّ وشى الإمام (علیه السلام) فيه عن عزمه وأعلنه على رؤوس الأشهاد.

أجل، كانت له لقاءاتٌ خاصّةٌ مع الرسل الّذين حملوا له الكتب عن أهل الكوفة، وهم كانوا يقصدون الإمام (علیه السلام) شخصيّاً، ويدفعون له الكتب يداً بيد، وكان الإمام (علیه السلام) لا يجيبهم ولا يردّ عليهم، حتّى عزم على إرسال المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .

وهذه المواقف والتصرّفات جميعها ليس فيها ما يمكن أن يجعل الخبرَ عامّاً شاملاً يسمعه الناس جميعاً.

نعم، قد يُقال: إنّ عظمة الإمام (علیه السلام) وحراجة الموقف وتشنّج المشهد يومها جعل الإمام (علیه السلام) مطمحاً للأنظار، فكان الناس يتابعونه في كلّ تفاصيل حركاته وسكناته، ووجود الرسل واجتماع بعض الأفراد مهما كان عددهم قليلاً من أهل الكوفة حوله _ وهم الرسل الّذين كانوا يحملون له الكتب والرسائل _ أثار فضول الناس وجعلهم يرجمون بالظنون ويحتملون

ص: 43

خروجه إلى الكوفة، فشاع هذا الخبر بينهم، فأرجفوا فيه.

أو يقال: إنّ ابن عبّاس قال: إنّهم أرجفوا في خبر خروجه، فهم زعموا وبنوا على الاحتمالات والظنون، وهذا هو المقصود بالإرجاف، وأنّهم قد كذبوا على الإمام (علیه السلام) ، لأنّهم زعموا خروجه ونشروه وأذاعوه من دون أن يكون لهم دليلٌ على ما يقولون ممّا سمعوه من الإمام (علیه السلام) ، وهذا الّذي دعا ابن عبّاس ليدخل على الإمام (علیه السلام) ويستجلي الأمر منه.

الإيضاح الثاني: استجلاء موقف الإمام (علیه السلام)

لمّا نسب ابن عبّاس انتشار خبر خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى الناس، وأنّه بلغه، وهم قد أرجفوا فيه، لذا صار يستجلي الخبر من الإمام (علیه السلام) مباشرةً كما ورد في بعض النصوص، فقال له: «فبيِّنْ لي ما أنت صانع» ((1))، أو: «ما أنت عليه» ((2))، أو: «فهل عزمتَ على شيءٍ من ذلك؟» ((3)).

وإن كانت متونٌ أُخرى كثيرةٌ استمرّت في نقل كلام ابن عبّاس وتقديمه النصح للإمام (علیه السلام) قبل أن يستجلي الخبر ويسمع من الإمام (علیه السلام)

ص: 44


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 11، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
3- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

نفسه ((1))، وكأنّه اعتمد ما أرجفوا.

* * * * *

قد يُستشعَر من يسمع كلام ابن عبّاس وسؤاله المترتّب على ما بلغه وأرجف فيه الناس أنّه يستجوب الإمام (علیه السلام) ويسأله سؤال المحاسِب اللائم، وسؤال المستغرب الّذي لا يتوقّع صدور هذا الفعل من المخاطَب، ويوحي لمن قرأ السؤال في سياق المتون أنّ ابن عبّاس كأنّه يرى نفسه الأكبر الّذي ينبغي أن لا يفعل مَن هو أصغر منه، أو العالم الّذي ينبغي لمن هو دونه في العلم أن يستشيره ويسأله ويخبره بما يريد أن يفعل لئلّا يفعل ما لا ينبغي، وأنّه الخبير الّذي يستنطق غير الخبير ليدلّه على ما يصلحه ويسدّده، سيّما إذا لاحظنا تأكيده على ضرورة الأخذ برأيه وقوله: «إنْ عصيتَني»!

ص: 45


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72، دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 89، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 343.
الإيضاح الثالث: قدوم جماعةٍ مع ابن عبّاس

ذكر ابن الصبّاغ والشبلنجيّ أنّ ابن عبّاس جاء إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ومعه جماعةٌ من أهل ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور، وأنّهم شاركوه في قوله ونصحه للإمام (علیه السلام) واتفقوا مع ابن عبّاسٍ في الرأي ((1)).

ولا نعرف المصدر الّذي اعتمده ابن الصبّاغ في نقل هذه المعلومة الّتي لم نجدها _ حسب الفحص _ عند مَن تقدّمه، وهي معلومةٌ غريبةٌ لا تنسجم مع ما نعرفه من الأحداث الّتي رواها لنا المؤرّخ في تلك الأيام.

ولم يُفصِح لنا ابن الصبّاغ عن أسماء هؤلاء القوم، فمَن هم «أهل ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور»؟ هل كانوا شخصيّاتٍ معروفةً مشهورة؟ فلماذا لم يسجّل لنا التاريخ لهم موقفاً مستقلّاً أو ينوّه بأسمائهم؟!

هذا، بغضّ النظر عن اعتقادنا في الإمام (علیه السلام) المفترض الطاعة، وأنّ مَن خالفه أو عارضه أو قال شيئاً مقابل ما قاله فهو جاهلٌ بسيطٌ أو جاهلٌ مركَّب، أو مغرورٌ أو متكبّرٌ على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) ، ولا يمكن أن يُعَدّ في ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور!

الإيضاح الرابع: جواب الإمام (علیه السلام)

سمعنا قبل قليلٍ أنّ جملةً من المصادر ذكرت كلام ابن عبّاس دون

ص: 46


1- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

سؤاله عن عزم الإمام (علیه السلام) وقصده، وأنّه أخبر الإمام (علیه السلام) بما بلغه عن توجّهه نحو العراق، ثمّ بادر إلى تقديم النصح والتحذير من عاقبة هذا الإقدام وخطورة عواقبه ووخامتها، فهي خارجةٌ عن محلّ الكلام هنا، وإنّما نستعرض في هذا الإيضاح المتون الّتي ذكرت استجواب ابن عبّاس وذكرت جواباً للإمام (علیه السلام) ..

فقد اكتفى البلاذريّ بقوله: «نعم» ((1)).

وقال الدينوريّ: قال الحسين (علیه السلام) : «أنا على ذلك» ((2)).

وروى الطبريّ عن أبي مخنف مسنداً: قال: «إنّي قد أجمعتُ المسير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)» ((3)).

وقال ابن أعثم: فقال الحسين (علیه السلام) : «نعم، إنّي أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» ((4)).

وقال مسكويه وابن الأثير والنويريّ وابن كثير: فقال له: «إنّي قد أجمعتُ السير إلى العراق في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله» ((5)).

ص: 47


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.
2- الأخبار الطوال للدينوري: 243.
3- تاريخ الطبري: 5 / 383.
4- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
5- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

وقال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ: فقال: «نعم، إنّي قد أجمعتُ على المسير في أحد يومَيّ هذين، أُريد اللحاق بابن عمّي مسلم بن عقيل، إن شاء الله (تعالى)» ((1)).

* * * * *

يبدو أنّ التفصيل في الجواب ورد عند الطبريّ ومَن تلاه، أمّا من سبق الطبريّ كالبلاذريّ والدينوريّ فجوابهما كأنّه جوابٌ واحد، والاختلاف في اللفظ، فقوله: «نعم» و«أنا على ذلك» يؤدّي نفس المؤدّى، أي: نعم أنا على ذلك، على ما ذكرته ممّا بلغك أنّي عازمٌ على الخروج من مكّة.

وهو لا يتعارض مع ما ذكره الطبريّ وغيره، لأنّ الجميع اتّفقوا قولاً واحداً أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) أكّد لابن عبّاسٍ على عزمه على الخروج، والفرق في النصوص المتأخّرة عن البلاذريّ والدينوريّ ما ذكروه من التفصيل الإضافي.

والمصادر الّتي فصّلَت قليلاً في الجواب اتّفقَت على ذكر الفترة الّتي سيخرج فيها الإمام (علیه السلام) من مكّة، وهي عند الطبريّ وغيره محدّدةٌ أحد يومَي القريبَين قبل الخروج ((2))، وانفرد عنهم ابن أعثم بقوله: «أيّامي هذه»،

ص: 48


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
2- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

وهو تعبيرٌ يتّفق أيضاً مع التحديد باليومين، مع أضافة قوله: «إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» ((1)).

وتفرّد ابن الصبّاغ والشبلنجيّ بزيادة قوله: «أُريد اللحاق بابن عمّي مسلم بن عقيل، إن شاء الله (تعالى)» ((2))، بعد تأكيد الخروج خلال يومين.

* * * * *

ربّما أفاد تحديد المدّة بيومين على الأقلّ قبل الخروج أنّ الكلام كان في نفس مكّة، ولم يكن في منى أو في غيرها من المناسك، لأنّ الإمام (علیه السلام) قد خرج في الثامن من ذي الحجّة، ولم يكن الحاجّ يخرج إلى المشاعر قبل يوم التروية.

وما تفرّد به _ حسب الفحص _ ابنُ الصبّاغ، فهو يفيد اللحاق بالمولى الغريب (علیه السلام) المبعوث إلى الكوفة، أي: أُريد اللحاق بالكوفة الّتي دخلها مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، لأنّ المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) لم يكن يومها قد استُشهد، ولم يكن خبر شهادته قد وصل إلى الإمام (علیه السلام) في الظاهر، فلا يمكن حمل اللحاق هنا على معنى الشهادة.

ص: 49


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
الإبراز الثاني: أقِمْ حتّى ينقضي الموسم
اشارة

روى ابن سعدٍ وابن عساكر وابن العديم والمزّيّ والذهبيّ وابن كثير أنّ ابن عبّاسٍ دخل على الإمام الحسين (علیه السلام) فكلّمه طويلاً، وقال:

أُنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة، لا تأتي العراق، وإن كنتَ لابدّ فاعلاً فأقِمْ حتّى ينقضي الموسم، وتلقى الناسَ وتعلم ما يصدرون، ثمّ ترى رأيك.

وذلك في عشر ذي الحجّة سنة ستّين.

فأبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق ((1)).

* * * * *

يمكن تقسيم ما ورد في هذا الإبراز إلى عدّة أشطر:

الشطر الأوّل: كلّمه طويلاً ثمّ قال

جاء في النصّ أنّ ابن عبّاس دخل على الإمام الحسين (علیه السلام) فكلّمه طويلاً، وقال: ...

فهل كان الكلام الّذي وصفه بالطويل هو ما ذكره فيما بعد؟ فتكون

ص: 50


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

الواو في «وقال» تفسيريّة، أي: أنّ الكلام الطويل هو الّذي رواه من المناشدة واقتراح التأخير إلى آخر ما جاء في كلام ابن عبّاس.

أو أنّ ابن عبّاس تكلّم كلاماً طويلاً، ثمّ قال له في آخر كلامه أو من جملة كلامه ما رواه ابن سعدٍ من المناشدة وغيرها، فيكون ما رواه من كلام ابن عبّاس جزءاً من الكلام أو ملخّصاً له.

فإن كان الكلام أكثر ممّا ذكره، فلا ندري ما كان هذا الكلام، ولم يروه لنا أحد، إذ لا نعلم أنّ من روى الحوار بين الإمام (علیه السلام) وابن عبّاس هو نفسه ما قصده ابن سعد بالكلام الطويل، أو أنّ ثَمّة كلامٌ آخر غيره، والظاهر أنّ الاحتمال الأوّل أوجه وأظهر وأوفق بطريقة كلام الرواة والمؤرّخين.

الشطر الثاني: المناشدة والتحذير والنهي

تضمّن هذا الشطر من كلام ابن عبّاس مناشدةً وتحذيراً ونهياً، فهو يبتدئ كلامه بمناشدة الإمام (علیه السلام) بالله، وكأنّه يُقسِم عليه بالله أن يلتفت إلى تحذيره ويعمل به، خوفاً من العواقب الّتي يراها ابن عبّاس قطعيّةً جزميّة.

وقد حذّر الإمام (علیه السلام) من الهلاك! في المستقبل القريب بحال مضيعة.

والمضيعة _ بكسر الضاد، مَفْعِلَةٌ _ : من الضياع، الاطِّراحِ والهوان، كأَنّه

ص: 51

فيه ضائع، أي: في حالٍ من الهوان والضياع حتّى لا يُفتقَد ((1)).

ثمّ لمّا كانت صورة المستقبل القريب في حسابات ابن عبّاس واضحةً جدّاً، رتّب عليها نهيه للإمام (علیه السلام) : «لا تأتي العراق».

الأمر محسومٌ عند ابن عبّاس، لا يراجع فيها الإمام (علیه السلام) ، ولا يريد أن يسمع من الإمام (علیه السلام) ، ولا يرى للإمام (علیه السلام) إزاءه خياراً أمام ما ينهاه عنه.

ويبدو من صياغة عبارة المؤلّف أنّ النهي في قوله: «لا تأتي العراق» غير متفرّعٍ على الجملة السابقة، إذ لم يكن فيها فاءٌ أو غيرها من الحروف الّتي تفيد التفريع، فربّما أشعر هذا التركيب إيقاعاً فيه جفافٌ وزجرٌ شديدٌ وأمرٌ غاضبٌ أكيد..

كأنّ ابن عبّاس يُصدِر هنا أمراً أكيداً للإمام (علیه السلام) ، ولا يرى للإمام (علیه السلام) مجالاً لمخالفته، فهو لا يقدّم ما قدّم على نحو المشورة وإبداء الرأي وللإمام (علیه السلام) العمل وفق إرادته في الردّ والقبول.

وربّما كان هذا النمط من التعامل مِن خُلُق ابن عبّاس، لِما يرى في نفسه من اعتدادٍ أو يرى لنفسه من مقامٍ ورتبة، ولعلّه يرى في نفسه ندّاً لخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، إنْ لم نقل أنّه يرى لنفسه من السابقة والقرابة من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ما ليس للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) !

ص: 52


1- أُنظر: لسان العرب: ضَيَع.

وربّما كان السبب غير هذا، إلّا أنّه كان من دأبه أن يتكلّم بهذه الصيغة ويستخدم هذا الأُسلوب، حتّى قال له أمير المؤمنين (علیه السلام) مرّة: «لك أن تشير علَيّ وأرى، فإنْ عصيتُك فأطعني» ((1)).

فإذا كان هذا تعامله مع أمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد الكائنات والخلق أجمعين بعد النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ، فما ظنّك به وهو يكلّم ابنه الإمام الحسين (علیه السلام) ؟!

الشطر الثالث: إنْ كنتَ لابدّ فاعلاً
اشارة

رغم الأمر الّذي أصدره ابن عبّاس ونهيه الأكيد الّذي افترض أنّ على الإمام (علیه السلام) العمل والالتزام به، فإنّه افترض أيضاً في الإمام (علیه السلام) مخالفته وعدم التزامه، وركوبه أمواج المخاطر والمغامرة.. (ونستغفر الله من هذا التعبير، ونعتذر إلى إمامنا خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، بَيد أنّ هذا هو مفاد عبارة ابن عبّاس كما فهمناها من خلال السياق، والله العالم)، وحينئذٍ أصدر أمره الثاني على فرض عدم الأخذ برأيه.

يقول للإمام (علیه السلام) : إنْ كنتَ مصرّاً على المخالفة والخروج إلى العراق، واخترت الهلاك في المضيعة، فانتظر قليلاً حتّى ينقضي الموسم وتلقى الناس وتعلم ما يصدرون، ثمّ ترى رأيك..

ص: 53


1- نهج البلاغة (صبحي الصالح): 531 الرقم 321.

ويمكن أن يُستشفّ من كلام ابن عبّاس الأُمور التالية:

الاستشفاف الأوّل: انتظار انقضاء الموسم

أمر ابن عبّاس الإمام (علیه السلام) بالإقامة حتّى ينقضي الموسم، ليلقى الناس ويعلم ما يصدرون.

وقد أتينا على بيان مؤدّيات هذا الأمر من ابن عبّاس في بحث لقاء الفرزدق، إذ أنّه تقدّم بنفس هذا الاقتراح وأجابه الإمام (علیه السلام) أنّه إن بقيَ فإنّهم يغتالونه أو يأخذونه أخذاً، وتناولنا هناك البحث بالتفصيل، فلا نعيد.

وسنقتصر هنا على إشاراتٍ سريعةٍ لا يلزم منها التكرار، إن شاء الله (تعالى):إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أبان لابن عبّاسٍ ولابن عمر أنّه مُهدَّد في مكّة الآمنة للخلائق أجمعين، وأنّه إنّما خرج من المدينة لأنّ بقاءه فيها سيؤدّي إلى القضاء عليه أو أخذه أكيداً، ونفس السبب لا زال يطارده في مكّة، وأنّه إن بقيَ فيها فسيُقتَل أو يؤخَذ أخذاً، وهو لا يحبّ أن يُقتَل فيها.

لقد كرّر الإمام (علیه السلام) هذا الكلام على ابن عبّاس، وعلى غيره في غير موضع، وشرح له ظروفه والمخاطر المحدقة به بما لا يجعل له خياراً سوى الخروج من مكّة حفاظاً على حرمتها، أو الاستسلام للقتل أو الأسر فيها،

ص: 54

وهو ما لا يحبّه الإمام.

وكذا كانت هي جميع المؤشّرات والأحداث ودلائل سلوكيّات العدوّ المتوحّش واضحةً لكلّ ناظر، فهو مضطرٌّ للخروج من مكّة بحكم الظروف المسيطرة على الأجواء يومها.

ويشهد لخطورة الوضع المتنجّز على الإمام (علیه السلام) وحياته وحياة مَن معه أنّ الإمام (علیه السلام) خرج من مكّة يوم التروية، وهو يوم شروع المناسك وانتقال الحاجّ إلى مِنى، وبينه وبين انقضاء الموسم أربعةٌ أو خمسة أيّام على أقصى التقادير.

وفي ذلك دلالةٌ واضحةٌ أنّ الإمام (علیه السلام) كان يسابق الأيّام لحماية حياته في مكّة، وأنّ بقاءه خلال هذه الأيّام في مكّة يعرّضه للخطر الجدّي الحقيقي، بمعنى تمكين العدوّ من نفسه وفسح المجال أمامه للقيام بما يريده وتحقيق غرضه في قتل الإمام (علیه السلام) أو أخذه.

فخروج الإمام (علیه السلام) من مكّة قبل انقضاء الموسم يفيد بجلاءٍ أنّ بقاءه خلال تلك الفترة في مكّة كان يعني قتله أو أخذه، وقد فسّر الإمام (علیه السلام) ذلك لابن عبّاسٍ وشرحه له شرحاً وافياً، فكيف يأمره أن يقيم في مكّة حتّى ينقضي الموسم؟!

الاستشفاف الثاني: لقاء الناس

الغرض من الإقامة حتّى ينقضي الموسم هو أن يلقى الإمام (علیه السلام) الناس،

ص: 55

وترتيب الأثر على ذلك واتّخاذ القرار وفق نتائج اللقاء.

أوَلم يكن الإمام (علیه السلام) مقيماً في مكّة منذ أربعة شهور (شعبان، وشهر رمضان، وشوّال، وذي القعدة)؟

أوَلم يكن الإمام (علیه السلام) مقيماً في مكّة أيّام ازدحام الناس حُجّاجاً ومعتمرين ومقيمين ومجاورين في الأيّام الأُولى من ذي الحجّة الحرام، وهي الأيّام الّتي يجتمع فيها الناس في مكّة قُبيل الخروج إلى المشاعر المقدّسة؟

أوَلم يكن في تلك المدّة الطويلة الّتي أقام فيها الإمام (علیه السلام) في مكّة كفاية؟ فما هي فائدة التريّث لإدراك أيّام الموسم؟

ربّما يُقال: لأنّ الحاجّ يجتمعون على صعيدٍ واحدٍ في المشاعر كعرفة ومنى، فيتسنّى للإمام (علیه السلام) أن يلقى الناس في موضعٍ واحد! وكأنّ المسجد الحرام ليس ملتقىً للناس ولا مكّة الّتي كانت يومها تحيط بالحرم، ويمكن أن يصرخ الإنسان على جبل أبي قُبيس صرخةً واحدةً تجمع له أهلها.

لقد توفّرت الفرص الكافية ليقول الإمام (علیه السلام) كلمته ويجمع الناس ويخطب فيهم ويحرّضهم ويفعل ما يشاء في مكّة وفي البيت الحرام خلال فترة الشهور الأُربعة، أو الأيّام السبعة من ذي الحجّة قبل الخروج إلى منى يوم التروية، فإن كان الإمام (علیه السلام) يريد أن يبلّغ الناس شيئاً وينظر ما يصدرون لَفعل.

بَيد أنّ التاريخ لا يسجّل لنا موقفاً من هذا القبيل يحكي خطاباتٍ

ص: 56

واجتماعاتٍ لهذا الغرض بالخصوص مع الناس، ولم يسجّل لنا تجمّعاتٍ دعا لها الإمام (علیه السلام) ووظّفها في التحريض على الظلَمة الحاكمين أو الدعوة إلى محاربتهم ومواجهتهم عسكريّاً وما شاكل..

إنّ فرصة لقاء الناس لم تنحصر في الموسم، وليس ثمّة مبرّراتٌ ومسوّغاتٌ خاصّةٌ يمكن أن تجعل أيّام الموسم لها خصوصيّة إذا لاحظنا مدّة إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة قبل أيّام الحجّ، وأثناء أيّام الحجّ من أوّل ذي الحجّة إلى يوم التروية.

هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار مطاردة القوم للإمام (علیه السلام) ، وهم لا يوفّرون ساعةً لتوظيفها في اغتياله أو أخذه أخذاً.

الاستشفاف الثالث: تعلم ما يصدرون!

لقد كان الإمام (علیه السلام) مدّةً مديدةً في مكّة كافيةً لاستثارة كوامن الناس والكشف عن عزائمهم ونيّاتهم وفضح مواقفهم.

لقد كانت المدّة كافيةً لانكشاف تخاذل الناس وإعراضهم عن وجه الله وترك الإمام (علیه السلام) ، وقد تجاهلوا وجوده المقدّس، وعميَت أبصارهم وبصائرهم عن نوره، وكأنّه لم يكن بين ظهرانيهم، وقد انساقوا يلهثون ويمارسون برتابةٍ كلَّ ما يمارسونه في سفرهم وفي أيّامهم العاديّة.. وعلى حدّ تعبير الإمام (علیه السلام) نفسه في وصف بني إسرائيل الّذين كانوا يقتلون سبعين نبيّاً بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، ثمّ يجلسون في دكاكينهم، ويقعدون

ص: 57

في أسواقهم يزاولون أعمالهم الرتيبة، وكأنّهم لم يفعلوا شيئاً!

فإذا كانت قلوب الناس أشدّ قساوةً من الصمّ الصياخيد، وآذانهم صمّاء، وعيونهم عمياء، وألسنتهم بكماء، وهم يرَون الإمام (علیه السلام) في مكّة والبيت الحرام خلال فترة أربعة أشهر، ولم يستشعروا ما هو فيه من الملاحقة والتهديد، ولم يستشعروا الخطر الّذي يقصد حياته ودمه، فهل ستحرّكهم الأيّام الأربعة في المناسك، وهم مشغولون بأنفسهم وأداء نسكهم حسب ما يزعمون ويعتقدون؟!

لقد علم الإمام (علیه السلام) (ما يصدرون)، كما علم ابن عبّاس، وعلم الأوّلون والآخِرون موقف الناس وخذلانهم، فما فائدة التريّث، وهو لا يفيد سوى يزيد وأزلامه وذئابه الّذين كانوا يتربّصون بالإمام (علیه السلام) ؟

الاستشفاف الرابع: ثمّ ترى رأيك

أمر ابن عبّاسٍ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أن يقيم في مكّة حتّى ينقضي الموسم، فيجتمع بالناس ويلتقي بهم، ويعلم ما يصدرون، ثمّ يرى رأيه، وكأنّ على الإمام (علیه السلام) أن ينتظر موقف الناس ويرتّب موقفه وفقاً لمواقفهم.

فإن أراد ابن عبّاس بذلك أن يجمع الأنصار من الموسم، ليتمكّن من الإقدام بجيشٍ جرّارٍ فيحقّق ما يريد، فهو من العجب؛ إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قد شرح لابن عبّاس المخاطر الّتي تُحدق به، وأنّه مُهدَّدٌ بالقتل، وأنّه يريد الخروج من مكّة على عجلٍ لئلّا تُهتَك به حرمة البيت!

ص: 58

وإن أراد أن يوحي أنّ الإمام (علیه السلام) يريد أن يخرج على يزيد، وعليه أن يعدّ العدّة لخروجه على النظام الحاكم، فقد رأى خلال مدّة إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة أن لا أحد يلتفت إليه، وأنّ ثَمّة وُعودٌ وصلت من الكوفة، إن كذب الأكثر منها فإنّ في القليل الديّانين من أمثال حبيب وزُهير وبُرير وعابس وغيرهم كفاية، على أنّ نفس هذا الإيحاء فيه تشويهٌ لموقف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما سنسمع بعد قليل.

هذا بغضّ النظر عن التفسير الغَيبيّ لقيام الإمام (علیه السلام) ، وأنّه تكليفٌ خاصٌّ سعى إلى إطاعته سيّد الشهداء (علیه السلام) وفق التفسير المشهور، وبغضّ النظر عن اعتقادنا بالإمام (علیه السلام) ، وأنّه لا يتبع الرعيّة وإنّما الرعيّة تبَعٌ له، وهو يفعل ما يأمره به الله (عزوجل) سواءً كان الناس معه أم لم يكونوا، ولا يستوحش من طريق الحقّ لقلّة سالكيه..

بَيد أنّ ابن عبّاس كأنّه يريد للإمام (علیه السلام) ما يريده لأيّ شخصٍ آخَر يعزم على الخروج للمواجهة، ضمن الضوابط والقواعد العامّة من تحريض الناس وتحريكهم واستدراجهم للالتفاف حول القائد الّذي يحاول إقناع أكبر عددٍ ممكن، وحشدهم لتحقيق أغراضه.

وربّما أفاد أمر الإمام (علیه السلام) بالتريّث حتّى ينقضي الموسم، ولقاء الناس وترتيب اتّخاذ القرار وفقاً للنتائج المتمخّضة عن ذلك، على فرض أنّ ابن عبّاس قد علم كما علم الجميع أنّ الناس سوف لا يستجيب منهم أحدٌ

ص: 59

لغريب الغرباء، فكأنّه أراد من الإمام (علیه السلام) أن يتريّث ليعلم أنّ الناس ليسوا معه، فيثنيه ذلك عن الخروج.

وبكلمةٍ أُخرى: إنّه دعا الإمام (علیه السلام) أن يتّخذ قرار الخروج بناءً على ما سيراه من استجابة الناس وتفاعلهم معه، وهو يعلم أنّهم لم يستجيبوا له؛ لدخلوهم تحت طائلة البيعة والخوف والطمع وحبّ الدَّعَة، واعتقادهم دين السقيفة واتّباعهم يزيد تعبّداً، وغيرها من الأسباب، وبهذا سيقتنع الإمام (علیه السلام) أن لا فائدة من خروجه! فيرجع عن عزمه ذلك.

ونسي ابن عبّاس ما شرحه له الإمام (علیه السلام) في أكثر من موطنٍ أنّه ليس في صدد الخروج بالمعنى الّذي ذكره له يزيد في رسالته لابن عبّاس، وإنّما في مقام الدفاع عن نفسه، ودَرْأ القتل والمنع من سفك دمه المقدّس في مكّة المكرّمة.

الاستشفاف الخامس: الغرض من تأخير الإمام
اشارة

قد يسأل سائل: ما هو الغرض من إلحاح ابن عبّاسٍ على الإمام (علیه السلام) وأمره بالتريّث والبقاء حتّى ينقضي الموسم، ولقائه الناس ليرى ما يصدرون؟

يمكن أن نتصوّر عدّة أغراضٍ لابن عبّاس وفق ما تشير إليه الأحداث والتصريحات:

الغرض الأوّل: تجميع الأنصار للدفاع عن الإمام (علیه السلام) في مكّة وغيرها

ص: 60

قد يكون ابن عبّاس ألحّ على الإمام (علیه السلام) وأمره بالبقاء وانتظار الموسم ليتسنّى للإمام (علیه السلام) الوقت الكافي ليجمع فيه الأنصار، فيدفع عن نفسه في مكّة، ويوفّر له فرصة اجتماع الرجال حوله لئلّا يقتله القوم.

وهذا الغرض يبدو بعيداً كلّ البعد عن مساعي ابن عبّاس؛ وذلك لأنّ سياقات كلام ابن عبّاس ومؤدّيات حديثه لا يفيد هذا الغرض، من جهة.

ومن جهةٍ أُخرى: فإنّ الإمام (علیه السلام) قد شرح له، وبيّن سعي القوم الحثيث في القضاء عليه بالاغتيال أو الأخذ، ولو لم يبيّن له الإمام (علیه السلام) لَكان المفروض به _ وهو حَبرُ الأُمّة وعالمها وترجمان القرآن وصاحب المقام السامي، كما يصفونه ويزعم في نفسه! _ أن يكون قد قرأ الأحداث وساير مجرياتها، واتّضح له ذلك بما لا يحتاج إلى بيان.

فكيف يستمهل الإمام (علیه السلام) ويأمره أن يتريّث؟

وقد اتّضح له موقف الناس جميعاً في مكّة، وأن ليس فيهم ناصر، ولا مدافع، ولا مانعٌ يمنع ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

كما اتّضح له سعي القرود وجرائها وذئابها الحثيث في تمزيق أوصال حبيب الله بأنيابها، وهم متعطّشون لسفك دمه المقدّس واغتياله، أو غرز مخالبهم فيه وأخذه أخذاً!

فبقاؤه ولو يوماً واحداً سيحقّق ليزيد وأشياخه ما يتمنّون، ويعينهم على توفير الفرص وشراء الوقت من أجل تحقيق الغرض، وإدخال السرور

ص: 61

على قبور فطائس أشياخ يزيد الّذين رحلوا إلى جهنّم في بدر وغيرها من المشاهد، وتنفيذ القرار في إبادة الإسلام الحقّ القائم في شخص الإمام (علیه السلام) .

وحينئذٍ نعرف خطأ ابن عبّاس في رأيه وفق هذا الغرض، إن كان لابن عبّاسٍ غرضاً بهذا المعنى.

الغرض الثاني: تجميع الأنصار للخروج مع الإمام (علیه السلام) والإطاحة بيزيد

يبدو أنّ ابن عبّاس قد اقتنع تماماً بما ذكره له يزيد في كتابه له، حينما صوّر له الإمام (علیه السلام) ، وأخبره أنّ رجالاً من أهل المشرق قد منّوا الإمام (علیه السلام) الخلافة وأنّه منّاهم الإمارة، وأنّ الإمام (علیه السلام) خارجيٌّ يريد الخروج على يزيد، ويعزم على الإطاحة به وإنزاله من أعواد المنبر وسوقه إلى درك القرود في الجحيم..

هكذا رسم يزيد صورة الإمام (علیه السلام) في كتابه لابن عبّاس، وقد أتينا على تفصيل الكلام فيه فيما مضى.

ويشهد لهذا الفهم عند ابن عبّاس سياق حديثه هنا وفي غير هذا الموضع.

والحال أنّ الإمام غريب الغرباء (علیه السلام) قد أفصح له عن سبب خروجه من المدينة، وعن دواعي بقائه في مكّة، وأسباب خروجه من مكّة، وأنّه لا يحبّ أن يُقتَل فيها، وأن يُقتَل خارجها بشبرٍ أحبّ إليه، فلو بقيَ فيها فهو القتل المحتّم وهتك الحرمات الأكيد!

ص: 62

غير أنّ ابن عبّاس قَبلَ ما قرّره له يزيد في كتابه، وما أرجف فيه الناس وفقاً لما روّجه السلطان وجلاوزته وأزلامه، وبنى على ذلك.

فأصدر هذا الأمر للإمام (علیه السلام) ليتريّث لعلّه يجمع من أجل ذلك الأنصار والرجال، ويحرّك القلوب الّتي تتزلزل الجبال ولا تتزلزل هي عن مواقفها في نصرة السقيفة وبقاياها المتمثّلة يومها بيزيد الّذي بايعوه طواعيةً وكرهاً، بيد أنّهم يرونها بيعةً مُلزمة..

فإن كان هذا غرضه، فقد تبيّن من خلال فترة إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة أنّ الناس لا ينصرونه ولا يحبّونه ولا يمنعونه.

والمفروض أنّ ابن عبّاس من الذكاء والحفظ بمستوىً يمنعه من نسيان كلام الإمام (علیه السلام) معه قبل أيّام، يوم التقاه هو وابن عمر وأخبرهما الإمام (علیه السلام) أنّه مقيمٌ في مكّة أبداً ما رأى أهلها يحبّونه ويمنعونه وينصرونه، فلمّا عزم الإمام (علیه السلام) على الخروج منها يقضي على ابن عبّاس (الذكيّ الحافظ) أن يعلم أنّ القوم ليسوا كما أرادهم الإمام (علیه السلام) ، فهو إنّما يخرج عنهم لأنّهم خذلوه ولم يحبّوه ولم يمنعوه ولم ينصروه.. وقد أتينا على تفصيل كلام الإمام (علیه السلام) مع العبدَين فيما مضى من هذه الدراسة.

وقد أثبتت الوقائع ومجريات الأحداث ذلك بوضوحٍ خلال أربعة أشهر من إقامة الإمام (علیه السلام) في مكّة، بحيث أصبح الإمام (علیه السلام) غيرَ آمنٍ في البيت الحرام الّذي جعله الله مثابةً للناس وأمناً، ممّا اضطرّه لاستعجال الخروج

ص: 63

منها.

ثم إنّ الأنصار الّذين يريدهم ابن عبّاس _ فيما يزعم _ قد توفّروا للإمام (علیه السلام) في الكوفة، وقد وصلَتْه منهم رسائل وكتب كثيرة، والناس هم الناس.. وبغضّ النظر عن علم الإمامة، فإنّ الإمام (علیه السلام) قد خبَر أهلَ الكوفة وعرفهم، والخليط الغير متجانس الّذي سيجمعه من الموسم قد يحتاج إلى فترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ حتّى يُستكشَف وتُخبَر كوامنه وحقائق نيّاته.

والعدد الواعد في الكوفة يومها كان عدداً مقبولاً، بل فوق المقبول لتحقيق الغرض وفق ما يراه ابن عبّاس، فهذا الغرض متحقّقٌ في الكوفة، والبقاء في مكّة مخاطرةٌ أكيدة!

وإن كان العدد المطلوب في الكوفة للإمام (علیه السلام) ينحصر في الديّانين القليل الّذين نصروه ودفعوا عنه وعن أهله ومنعوه، ولبسوا قلوبهم فوق الدروع ليقوه بأنفسهم وأرواحهم وأعزّ ما يملكون، وهو غير متوفّرٍ في مكّة، وفيمن حضر الموسم جزماً؛ بشهادة خذلانهم وتقاعسهم وتجاهلهم وإعراضهم عن منعه ونصره والدفاع عنه.

فإن كان ابن عبّاس يريد إبقاء الإمام (علیه السلام) لجمع الأنصار للغرض الّذي يصوّره يزيد ويروّج له ابن عبّاس، فقد تبيّن خطأه في ذلك أيضاً، وأنّ خروج الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة هو الصواب بلا أدنى شكّ.

إضافةً إلى أنّه يجرّ عاقبةً إلى توفير الوقت اللازم لتنفيذ يزيد القرود

ص: 64

مخطّطه في اغتيال الإمام (علیه السلام) أو أخذه.

الغرض الثالث: توظيف الوقت لإقناع أحد الأطراف

ربّما كان الغرض هو تأخير الإمام (علیه السلام) بعض الأيّام لتتوفّر الفرصة لدى ابن عبّاسٍ وأمثاله مثلاً للتوسّط، ومحاولة رأب الصدع وسدّ الفجوات، وجمع الشمل، والحيلولة دون إراقة الدماء، من خلال إقناع أحد الطرفين عن الرجوع عن عزمه، بصدّ الإمام (علیه السلام) عن الخروج الّذي يتخيّله ابن عبّاس، أو إقناع يزيد عن مواجهة الإمام (علیه السلام) مواجهةً عسكريّة.

وهذا الغرض لا يبدو سديداً؛ وذلك لأنّه لم يُذكر في كلام ابن عبّاس، وليس في حديثه ما يفيد ذلك من قريبٍ ولا من بعيد، فهو محض تخرّصٍ واحتمالٍ لا شاهد عليه ولا دليل.

وهو غرضٌ غير موفَّقٍ أيضاً، إذ أنّ الوقت كان يتصرّم لصالح عدوّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد وشى العدوّ بما عزم عليه، والأمر بالنسبة له مفروغٌ منه، قد توارثه عن أبيه ومَن سلّطوه.

وأنّى للإمام (علیه السلام) أن يتريّث والقوم يلاحقونه ليغتالوه ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، وقد كان في المدّة الّتي خرج فيها الإمام (علیه السلام) من المدينة إلى يوم حديث ابن عبّاس معه كفايةً لمن أراد أن يفعل ذلك.

فهذا الغرض خطأٌ أيضاً، بالإضافة إلى كونه مجرّد احتمالٍ لا يسنده شيء، وسيخدم العدوّ، ويوفّر له الوقت لينجز ما يريد، وابن عبّاسٍ يعلم

ص: 65

أنّه لا يثني يزيد عن عزمه.

الشطر الرابع: التوقيت

ذكر النصّ أنّ اللقاء كان «في عشر ذي الحجّة سنة ستّين».

والكلام في «عشر ذي الحجّة»، فإن كان يقصد في اليوم العاشر من ذي الحجّة فهو مخالفٌ للمُجمَع عليه، بل ينافي ما ورد في المتن نفسه، إذ أنّ ابن عبّاسٍ يأمر الإمام (علیه السلام) أن يتريّث حتّى ينقضي الموسم، والعاشر من ذي الحجّة يوافق يوم العيد، فهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) كان قد حضر المشاعر في عرفة والمزدلفة وأفاض إلى منى، ولم يبقَ من مناسك الحجّ إلّا الطواف والمبيت في منى.

وإن كان يقصد في «عشر من ذي الحجّة» أي: في العشر الأوائل من ذي الحجّة فهو صحيح، لأنّه يصدق على الأيّام الّتي كان الإمام (علیه السلام) في مكّة حتّى قبل يوم التروية.

الشطر الخامس: أبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق

الإباء: كراهية الشيء وأشدّ الامتناع.

وكأنّ ابن عبّاس أقام الحجّة كاملةً بالغةً على الإمام (علیه السلام) ، فامتنع الإمام (علیه السلام) عليه أشدّ الامتناع ولم يقبل منه، غير أنّنا قد تبيّن لنا بعقولنا المحدودة الّتي لا تكاد تدرك مواقف المعصوم لولا أن يكشف لها عن نفسه

ص: 66

بما تستوعبه وتطيقه، عرفنا أنّ كلام ابن عبّاس وأوامره كلّها خطأٌ في خطأ، ولا تستحقّ العمل بها، بل العمل بها سيخدم الأعداء خدمةً يتمنّونها، والله العالم.

الإبراز الثالث: نهي ابن عبّاس وتحذيره من أهل الكوفة
اشارة

روى البلاذريّ:

قال ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أتذهب _ رحمك الله _ إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟! فإن كانوا قد فعلوا [ذلك] فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون خراج بلادهم [خ ل: تجبي بلادهم]، فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، فلا آمَنُ [عليك] أن يغروّك ويكذبوك [ويخالفوك ويخذلوك، وأن] يستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

قال الحسين: «فإنّي استخير الله، وأنظر ((1)) ما يكون» ((2)).

وقال الدينوريّ:

قال عبد الله: أُعيذك بالله يا ابن عمّ من ذلك.

قال الحسين: «قد عزمت، ولابدّ من المسير».

ص: 67


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.
2- تاريخ الطبري: 5 / 383.

قال له عبد الله: أتسير إلى قومٍ طردوا أميرهم عنهم وضبطوا بلادهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما يدعونك إليهم وأميرهم عليهم وعمّاله يجبونهم، فإنّهم إنّما يدعونك إلى الحرب، ولا آمنهم أن يخذلوك كما خذلوا أباك وأخاك.

قال الحسين: «يا ابن عمّ، سأنظر فيما قلت» ((1)).

وقال ابن أعثم:

فقال ابن عبّاس (رحمة الله) : أُعيذك بالله من ذلك! فإن تَصِر [ خ ل: سرتَ] إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، ففي مسيرك إليهم لَعمري الرشاد والسداد، وإن [سرت إلى قومٍ] كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم وعمّالهم يجبون بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، وإنك [أنت] تعلم أنّه بلدٌ قد قُتل فيه أبوك واغتيل فيه أخوك وقُتل فيه ابن عمّك [وقد بايعه أهله]، وبويع يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد في البلد يعطي ويفرض، والناس اليوم إنّما هم عبيد الدينار والدرهم، ولا آمَنُ عليك أن تُقتل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم.

فقال له الحسين: «واللهِ أن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، وأنا مع ذلك أستخير الله وأنظر ما

ص: 68


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.

يكون» ((1)).

وفي (المقتل) للخوارزميّ:

فإنْ كنتَ على حالٍ لابدّ أن تشخص، فصِرْ إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً لك وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.

فقال الحسين: «لابدّ من العراق!» ((2)).

وقال المسعوديّ:

أتاه ابن العبّاس فقال له: يا ابن عمّ، قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجل، وإنْ أَبيتَ إلّا محاربة هذا الجبّار وكرهت المقام بمكّة فاشخص إلى اليمن؛ فإنّها في عُزلة، ولك فيها أنصارٌ وإخوان، فأقِمْ بها وبثّ دعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيُخرِجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفوه عنها ولم يكن بها أحدٌ يعاديك أتيتَهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمتَ بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإنّ فيها حصوناً وشعاباً.

فقال الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي لَأعلم أنّك لي ناصحٌ وعلَيّ شفيق، ولكنّ مسلم بن عقيل كتب إليّ باجتماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي، وقد أجمعتُ على المسير [إليهم]».

ص: 69


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

قال: إنّهم من خَبَرتَ وجرّبت، وهم أصحاب أبيك وأخيك، وقتلتك غداً مع أميرهم، إنّك لو قد خرجتَ فبلغ ابنَ زيادٍ خروجُك استنفرهم إليك، وكان الّذين كتبوا إليك أشدّ من عدوّك» ((1)) ...

وقال أبو الفرَج:

فجعل يناشده في المقام ويعظم عليه القول في ذمّ أهل الكوفة، وقال له: إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك، وما أراهم إلّا خاذليك.

فقال له: «هذه كتبهم معي، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم» ((2)).

وقال الطبريّ (الشيعي) بسندٍ مرّ ذِكره:

عن عبد الله بن عبّاس قال: أتيتُ الحسينَ وهو يخرج إلى العراق، فقلتُ له: يا ابن رسول الله لا تخرج!

فقال: «يا ابن عبّاس، أما علمتَ إن منعتني من هناك فإنّ مصارع أصحابي هناك؟».

قلت له: فأنّى لك ذلك؟

قال: «بسرٍّ سُرّه لي وعلمٍ أُعطيتُه» ((3)).

ص: 70


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.
2- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج: 72.
3- دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238.

وقال مسكويه:

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، أخبِرني _ رحمك الله _ أتسيرُ إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون بلادهم، فإنّهم دعوك إلى الحرب، ولا آمَنُ أن يغرّوك ويكذبوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال له الحسين: «فإنّي أستخير الله، وأنظر» ((1)).

وقال ابن شهرآشوب:

وقال ابن عبّاس: لا تخرج إلى العراق، وكُن باليمن؛ لحصانتها ورجالها.

فقال (علیه السلام) : «إنّي لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ أطلب الصلاح في أُمّة جدّي محمّد، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، وهو أحكم الحاكمين».

فأتاه ابن عبّاسٍ وتكلّم في ذلك كثيراً، فانصرف ((2)).

ص: 71


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 89 و94.

وقال ابن الجوزيّ:

وكان قد أشار عليه جماعةٌ منهم ابن عبّاس أن لا يخرج، وكان من جملة ما قال له: أتسير إلى قومٍ أميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم؟ فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يكذبوك.

فقال: «أستخير الله» ((1)).

وقال ابن الأثير والنويريّ:

قال: وأتاه عبد الله بن عبّاس، فقال له: قد أرجف الناس أنّك سائرٌ إلى العراق، فبيِّنْ لي ما أنت صانع.

فقال له: «قد أجمعت السير في أحد يومَيّ هذين، إن شاء الله (تعالى)».

فقال له ابن عبّاس: فإنّي أُعيذك بالله من ذلك، خبِّرني _ رحمك الله _ أتسير إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمنُ عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين: «فإنّي أستخير الله، وأنظر ما يكون».

ص: 72


1- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.

فخرج ابن عبّاس ((1)).

وقال سبط ابن الجوزيّ:

فجاء إليه ابن عبّاس ونهاه عن ذلك، وقال له: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه، وفعلوا ما فعلوا.

فقال: «هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ المسير لقتال أعداء الله».

فبكى ابن عبّاس، وقال: وا حسيناه!

وذكر المسعوديّ في كتاب (مروج الذهب):

إنّ ابن عبّاسٍ قال له: إنْ كرهتَ المقام بمكّةٍ خوفاً على نفسك، فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ فيها عزلة، ولنا بها أنصارٌ وأعوان، وبها قلاعٌ وشعاب، واكتب إلى أهل الكوفة، فإن أخرجوا أميرهم وسلّموها إلى نائبك فسِرْ إليهم، فإنّك إنْ سرتَ إليهم على هذه الحالة لم آمن عليك منهم ((2)).

وقال ابن كثير:

فقال له ابن عبّاس: أخبِرْني إن كان قد دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوّهم وضبطوا بلادهم فسِرْ إليهم، وإن كان أميرهم حيّ وهو مقيمٌ عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزّوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الّذي دعوك أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين: «إنّي أستخير الله، وأنظر ما يكون».

فخرج ابن عبّاس عنه ((3)).

وقال ابن الصبّاغ والشبلنجيّ:

فقال ابن عبّاس والجماعةُ الّذين معه: نعيذك بالله من ذلك، أخبِرنا أتسير إلى قومٍ قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم

ص: 73


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا فسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك وأميرهم قائمٌ عليهم قاهرٌ لهم وعمّالهم تجبي بلادهم وتأخذ خراجهم، فإنّما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك من أن يغرّوك ويكذبوك ويخذلوك ويتبعوك ثمّ يستفزّوا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.

فقال الحسين (علیه السلام) : «إنّي أستخير الله (تعالى)، ثمّ أنظر ماذا يكون».

فخرج ابن عبّاسٍ والجماعة الّذين معه ((1)).

وروى صاحب كتاب (فاطمة وولدها)، بإسناده عن ابن عبّاسٍ قال: لقيتُ الحسين (علیه السلام) وهو خارجٌ إلى العراق، فقلت له: يا ابن

ص: 74


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259.

رسول الله لا تخرج.

فقال: «أما علمتَ أنّ منيّتي من هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟» ((1)).

وفي (التبر المذاب) للخافي الشافعيّ:

فعزم على المسير، فجاء عبد الله بن عبّاس وقال: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه.

فقال: «يا ابن عمّ، هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)».

فبكى عبد الله حتّى بلّ لحيته، وقال: وا حسيناه! ((2))

* * * * *

يمكن تناول ما ورد في نصوص هذا الإبراز من خلال الوقفات التالية:

الوقفة الأُولى: أُعيذك بالله من ذلك
اشارة

ورد عند جماعةٍ منهم البلاذريّ والطبريّ وغيرهما قول ابن عبّاس لسيّد الشهداء (علیه السلام) : «فإنّي أُعيذك بالله من ذلك» ((3)).

ص: 75


1- إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.
2- التبر المذاب للخافي: 40 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
3- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، تاريخ الطبري: 5 / 383، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.

ولمّا كان ابن الصبّاغ قد افترض جماعةً مع ابن عبّاس، جاء بلفظ الجمع: «فقال ابن عبّاسٍ والجماعة الّذين معه: نعيذك بالله من ذلك» ((1)).

وقد انفرد الدينوريّ بذكر خطاب ابن عبّاس للإمام الحسين (علیه السلام) بزيادة: «يا ابن عمّ»، وإيرادِ جوابٍ لسيّد الشهداء (علیه السلام) على كلام ابن عبّاس: «قال الحسين: قد عزمتُ ولابدّ من المسير» ((2)).

* * * * *

العَوذ والتعوّذ: هو الالتجاء والاعتصام، وهو تركيبٌ يُستعمَل في موارد تحصين المخاطَب من خطرٍ أو سوءٍ أو جهلٍ يداهمه، سواءً كان خارجيّاً أو قلبيّاً.

والتعوّذ: هو الالتجاء والاعتصام، إمّا في الخارج إذا كان في الأُمور الخارجيّة، أو في القلب إذا كان معنويّاً ((3)).

ص: 76


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259.
2- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.
3- أُنظر: التحقيق في كلمات القرآن: 8 / 260.

قال (تعالى):

- ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ... مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ﴾.

- ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ﴾.

- ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾.

- ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾.

- ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾.

- ﴿عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ﴾.

- ﴿قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ﴾.

- ﴿قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾.

- ﴿قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ﴾.

فلابدّ من افتراض موردٍ عوّذ ابنُ عبّاس من أجله الإمام الحسين (علیه السلام) بالله، ويمكن افتراض عدّة موارد لذلك:

المورد الأوّل: التعويذ من القتل

لقد جزم ابن عبّاس أنّ مسير الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة سيؤدّي به إلى القتل، بناءً على ملاحظته لمجريات الأحداث والظروف والأجواء الحاكمة يومها على المشهد، واستناداً إلى ما بلغه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسمعه من أمير

ص: 77

المؤمنين (علیه السلام) ، فدعاه الخوف على الإمام (علیه السلام) أن يعوّذه بالله من القتل، ويحصّنه بالالتجاء والاعتصام به (تعالى).

المورد الثاني: التعويذ من ارتكاب الجهل والعناد

إذا لاحظنا أجواء كلام ابن عبّاس وتتمّته، وتأكيدَه على أنّ أهل الكوفة قومٌ غدروا بأمير المؤمنين وبالإمام الحسن الأمين (علیهما السلام) ، وأنّه إن أراد أن يَقدِم عليهم فلا ينبغي له أن يفعل ذلك إلّا إذا طردوا أميرهم وأخرجوا عدوّه وعدوّهم، أمّا إذا كانوا على حالهم وأميرهم حاكمٌ عليهم والأموال تُجبى إليه، فإنّهم إنّما يريدون تعريضه للسيوف، وأنّهم يدعونه للحرب.

فقال ابن عبّاس (رحمة الله) : أُعيذك بالله من ذلك! فإن تَصِر [خ ل: سرتَ] إلى قومٍ قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، ففي مسيرك إليهم لَعمري الرشاد والسداد، وإن [سرتَ إلى قومٍ] كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم قاهرٌ لهم وعمّالهم يجبون بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، وإنّك [أنت] تعلم أنّه بلدٌ قد قُتِل فيه أبوك واغتيل فيه أخوك وقُتل فيه ابن عمّك [وقد بايعه أهله]، وبويع يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد في البلد يعطي ويفرض، والناس اليوم إنّما هم عبيد الدينار والدرهم، ولا آمَنُ عليك أن تُقتَل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم.

وإذا لا حظنا جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) حسب رواية الدينوري في هذا المقطع من الكلام..

ص: 78

فإنّ المعنى يمكن أن يكون بمعنى (نستغفر الله ونعوذ به، بَيد أنّها ضرورة البحث): التعويذ من ارتكاب الخطأ والعناد والجهل وما لا تُحمَد عقباه، والاستعجال في الأُمور من دون التدبّر في الحاضر وتصوّر المستقبل، أي: إنّي أُعيذك بالله أن لا تسمع كلامي ولا تقبل منّي نصحي وموعظتي وتحذيري لك، فردّ عليه الإمام (علیه السلام) _ كما في رواية الدينوري _ : «قد عزمتُ ولابدّ من المسير» ((1))..

الوقفة الثانية: فرضيّات ابن عبّاس
اشارة

يمكن استشفاف عدّة مطالب من نصوص هذه الوقفة:

المطلب الأوّل: فرضيّة تمهيد القوم

إفترض ابن عبّاسٍ فرضيتين: إحداهما صحيحة، والأُخرى خاطئة، كما سيتبيّن لنا.

والفرضيّة الأُولى في كلامه تؤكّد أنّ القوم قد قتلوا أميرهم أو طردوه وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم، فإن فعلوا ذلك فليسِر إليهم الإمام (علیه السلام) ((2)

ص: 79


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.
2- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

وفي ذلك الرشاد والسداد ((1)).

وهذه هي الفرضيّة الصائبة الصحيحة حسب تصوّر ابن عبّاس، وقد أقسم _ كما في نصّ ابن أعثم _ على صحّة الفرض، وأنّ فيه السداد والرشاد، وقال: «لَعمري».

والفرضيّة تقوم على أساس ما رسمه يزيد القرود من تصويرٍ لحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من حيث أنّ أهل الكوفة قد منّوه الخلافة وأنّه قد منّاهم الإمارة، وتفترض أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما يريد الخروج من مكّة متوجّهاً إلى العراق طمعاً في توفّر الظروف المناسبة، وتظافر الرجال لمحاربة السلطان الحاكم ومقاتلة القرد واقتلاعه من أعواد المنبر ورميه في جهنّم وسقر، وهذا ما يفيده سياق حديث ابن عبّاس، ويشهد له ما في كلامه من تفاصيل.

وكأنّ ابن عبّاسٍ يُدرك تماماً ما يقوله يزيد ويفهمه، ولا يريد أن يُدرك أو يفهم ما يقوله سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويتغاضى عن المخاطر الّتي تُحدق بالإمام (علیه السلام) في مكّة، ويغضّ النظر عامداً أو غير عامدٍ عن جميع بيانات الإمام (علیه السلام) له ولابن عمر ولغيرهما، وتأكيده لمن حضر ولمن غبر ممّن استمع إليه وأصغى إلى كلامه تصريحاً وتلويحاً: إنّ بقاءه في مكّة يعني قتله أو أخذه، وأنّه لا يحبّ أن يُقتَل في مكّة، ولو قُتِل خارجاً عنها بشبرٍ أحبّ

ص: 80


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

إليه!

كأنّ ابن عبّاسٍ لا يريد أن يُدرك أو يتفهّم أنّ الدافع الأساس والعامل الأصل في خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) عن مكّة أنّها لم تعُد آمنةً له، وأنّ العدوّ يسابق الزمن ويتحيّن الفرص ويستعجل من أجل تنفيذ خطّته المشؤومة في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة، فلو بقي سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة ولو أيّاماً قلائل لَأجهزوا عليه وقتلوه غيلةً أو أخذوه أخذاً.

وربّما كان اقتراح ابن عبّاس على الإمام (علیه السلام) أن يذهب إلى اليمن _ كما سنسمع بعد قليل _ يشي بأنّ ابن عبّاس يدرك بنحوٍ ما محاصرةَ الإمام (علیه السلام) والخطر المحدق به على فرض بقائه في مكّة، ولذا اقترح عليه أن يتوجّه إلى اليمن إذا كان لابدّ من الخروج من مكّة.

وكيف كان، فإنّ ابن عبّاس يفترض هنا أنّ الإمام يريد أن يستولي على الكوفة، ويحارب يزيد وينحّيه عن دفّة الحكم والسلطان، وهو يحتاج إلى أنصارٍ أوفياء يقفون معه حتّى تحقيق الهدف المنشود.

والحال أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما يريد الخروج من مكّة فوراً تفادياً لهتك حرمة البيت الحرام وسفك دمه المقدّس فيه، وإنّما قصد الكوفة دون غيرها لأنّ فيها مَن وعده النصرة، وفيهم الديّانون القليل الّذين سيبذلون أرواحهم في الدفاع عنه!

ونحن لم نسمع إلى هذه اللحظة تصريحاً من الإمام (علیه السلام) نفسه ولا بياناً

ص: 81

واضحاً يفيد أنّه يريد ما زعمه ابن عبّاس، وما نسبه يزيد إلى الإمام (علیه السلام) ، ولم نجد _ حسب الفحص _ أيّ كلامٍ للإمام (علیه السلام) يفيد بصراحةٍ ووضوحٍ أنّه عازمٌ على محاربة يزيد وإسقاطه عن تخت السلطنة والاستيلاء على الحكم، وكلّ ما سمعناه من الإمام (علیه السلام) أنّ أذناب الطواغيت ضيّقوا عليه في المدينة، وأغلظوا له، وخيّروه بين القتل في الحرم ومناولة القرود، فأبى عليهم وخرج من المدينة، ثمّ لاحقوه في مكّة ليقتلوه غِيلةً أو يأخذوه أخذاً، فعزم على الخروج منها، وأيّ شيءٍ غير هذا إنّما هو تصوير يزيد وأتباعه وأذنابه وخيالات ابن الزبير وابن عمر وابن عبّاس وأضرابهم!

والمفروض أن نأخذ من الإمام (علیه السلام) ما نريد أن ننسبه إليه، ولا نصغي لغيره، فهو الحقّ، ولا يخرج منه إلّا الحقّ، وليس من الصواب الاستماع إلى غير صاحب القضيّة مهما علت الصرخات وارتفعت الأصوات وكثرت المحاولات!

فلْيقُل أهلُ الكوفة، وليقُل ابن عبّاس، وليقُل يزيد، وليقُل كلُّ مَن يريد أن يقول، وليصوِّر من يريد التصوير، فهو زيف، ما لم يكن قد نصّ عليه الإمام (علیه السلام) نفسه وصرّح به بوضوح، إذ أنّ قضيّةً بهذه الضخامة لا يُكتفى فيها بتلويحٍ عابرٍ أو إشارةٍ بعيدة، إن وُجدَت! وقد أتينا على بيان هذا الأمر في أكثر من موضع.

ص: 82

المطلب الثاني: فرضيّة دعوة الإمام (علیه السلام) قبل التمهيد
اشارة

وافترض ابن عبّاس فرضيّةً أُخرى، وهي أنّ القوم قد دعوا الإمام (علیه السلام) وأميرهم عليهم قاهرٌ لهم وعمّاله يجبون خراج بلادهم، فحينئذٍ جعل جملةً من المحاذير المترتّبة على هذه الفرضيّة.

وتتلخّص في النقاط التالية:

أوّلاً: إنّ هذا يعني أنّهم إنّما يدعونه ليباشر الحرب والقتال بنفسه

ربّما أفاد هذا التحذير أنّ القوم يخطّطون لاستدراج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ليوقعونه في كانون الحرب والقتال، وكأنّهم إنّما دعوه وكاتبوه ضمن المخطّط الأُمويّ ليزحف الإمام (علیه السلام) إلى العراق حيث تتواجد عساكرهم، فلا يكلّفهم تحريك القطعات العسكريّة من بلدٍ إلى بلد.

ثمّ إنّ للكوفة صيتٌ في احتواء الشيعة، وكانت يومها مركزهم على قلّة عددهم بين الأكثريّة الكاثرة من المخالفين الّذين كانوا يشكّلون نسيجها الاجتماعي، وحينئذٍ يتمكّن العدوّ من إطلاق فريته الّتي أطلقها منذ يوم قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى اليوم، حيث طوّقوا شيعة الإمام (علیه السلام) دم إمامهم، فقالوا: إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) قتله شيعتُه، وغيرها من المسوّغات والأغراض.

فابن عبّاسٍ يحذّر الإمام (علیه السلام) من كون أهل الكوفة إنّما دعوه للحرب والقتال، وليس للنصرة والانتصار.

ص: 83

وقد ذهب بعض المحقّقين إلى القول بأنّ الكتب والرسائل من بعض رؤوس القبائل والشخصيّات الّتي يسمّونها الوجوه في الكوفة إنّما كانت بأمرٍ من الأُمويّين لاستدراج الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة ليُقتَل فيها، لأغراضٍ يطول ذكرها هنا.

ومن الواضح أنّ هذه الخدعة إن كانت، فإنّها لا تخفى على الإمام (علیه السلام) في حين ظهرت لابن عبّاس!

ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) لم يعتمد مزاعم المكاتبين، ولم يبنِ على وعودهم، بل شكّك فيها تشكيكاً واضحاً يُعرَف من المهمّة الّتي أناطها بسفيره المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، إذ كلّفه أن يرى مدى تطابق مزاعمهم في كتبهم ورسائلهم مع آرائهم وعزائمهم.

والإمام (علیه السلام) يعلم _ كما يعلم كلّ من تابع الأحداث، بغضّ النظر عن علم الإمامة _ أنّ الأُمويّين لا يتركونه، وأنّه ملاحَقٌ مطلوبٌ للقتل في الكوفة، تماماً كما هو كذلك في المدينة ومكّة، وتماماً كما لو ذهب إلى أيّ صقعٍ من أصقاع الأرض أو أيّ بلدٍ من البلدان، فالحرب والقتال ينتظرانه أينما حلّ وارتحل، وقد تبيّن لنا أنّ الإمام (علیه السلام) لا يطلب ما يزعمه يزيد وابن عبّاس من محاربة يزيد والاستيلاء على الحكم، وإنّما كان في مقام الدفاع عن نفسه وصدّ عادية القرود المسعورة.

ولأجل تحقيق غرض الدفاع عن نفسه، يكفي أن يخرج من مكّة لئلّا

ص: 84

تُستباح ويُستباح دمُه فيها، ويكفي أن يجد في الكوفة القلّة من الديّانين الّذين وعدوه وعداً صادقاً، وثبتوا على وعدهم وبذلوا مُهَجَهم فيه.

ثانياً: إنّه لا يأمن أن يغرّوه ويكذبوه ويخذلوه كما خذلوا أباه وأخاه

لقد ذكرنا في مواضع كثيرةٍ أنّ السبُل كانت موصدة، وليس ثمّة طريقٌ يمكن أن يسلكه الإمام (علیه السلام) _ وفق الحسابات الظاهريّة الّتي تبدو للباحث _ سوى طريق الكوفة، فالبلدان جميعاً قد خذلَته وأسلمَته إلى السيوف، واستسلمت للطاغوت، ولم يكن صوتٌ واعدٌ بالنصر والذبّ عن حرم الله وحرم رسوله وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلّا الأصوات المنبعثة من الكوفة، وهي وإن كانت متذبذبةً يمكن أن تتنقّل من موقفٍ إلى موقفٍ مقابل، غير أنّها وعدت النصرة والدفاع، وبهذا قد أقامت الحجّة على نفسها، ورزحت تحت طائلة المسؤوليّة الّتي تفتح المجال للإمام (علیه السلام) للاحتجاج عليها من جهة، ولعلمه _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _ أنّ فيها أصواتاً صادقةً ثابتةً راسخةً تستأنس بالموت دونه استئناس الطفل بثدي أُمّه، وترى في القتل بين يديه حياة الأبد ورضى الله (عزوجل) ورضى رسوله (صلی الله علیه و آله) ورضى الإمام (علیه السلام) .

والعجيب أنّ ما كرّره ابن عبّاسٍ وغيره من المعترضين على الإمام (علیه السلام) من التأكيد على غدر أهل الكوفة وكذبهم وخداعهم وتلوّنهم، كأنّها أُمورٌ غائبةٌ عن إمام الخلق وسيّد الكائنات يومها!

وكيف كان، فإن كان ابن عبّاسٍ لا يأمن أن يغرّوا الإمام (علیه السلام) ويكذبوه،

ص: 85

فإنّ الإمام (علیه السلام) أعلم بذلك منه على كلّ صعيدٍ مفترَضٍ في علم الإمام (علیه السلام) .

ثالثاً: علم الإمام (علیه السلام) بالظروف

إنّ الإمام (علیه السلام) يعلم أنّه بلدٌ قُتل فيه أبوه، واغتيل فيه أخوه، وقُتل فيه ابن عمّه! وبويع يزيد بن معاوية، وعُبيد الله بن زياد في البلد يعطي ويفرض، والناس عبيد الدينار والدرهم، وسيستنفروا إليه، فيكونوا أشدّ الناس عليه.. ولهذا لا يأمن ابن عبّاسٍ على الإمام (علیه السلام) أن يُقتَل ((1)).

يُلاحَظ في هذه النقطة بعض التهافت والارتباك، إذ أنّ ابن عبّاس أخبر عن ولاية ابن زيادٍ على الكوفة، وأخبر عن مقتل المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیه السلام) ، والحال أنّ المولى الغريب مسلم (علیه السلام) لم يكن قد قُتِل بعد! لأنّ حديثه مع الإمام (علیه السلام) كان قبل يومين من خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة على أقلّ التقادير، وقد خرج الإمام (علیه السلام) يوم الثامن من ذي الحجّة، وقد استُشهد المولى الغريب (علیه السلام) يوم التاسع من ذي الحجّة، فكيف أخبر عن قتله قبل وقوعه؟!

ص: 86


1- أُنظر للنقاط الثلاثة: جُمل من أنساب لأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصباغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

ثمّ إنّه أخبر عن ولاية ابن زيادٍ على الكوفة، وتسلّطه على الناس هناك، والحال أنّه دخلها في وقتٍ متأخّرٍ في أوائل ذي الحجّة، إلّا أن يكون خبر ولايته الكوفة كان قد انتشر أو قد بلغ ابن عبّاسٍ عن طريق البريد الحكوميّ!

أمّا الباقي من كلامه فهو تقريرٌ للواقع، فقد بايع الناس يزيد، والإمام (علیه السلام) يعلم ذلك.. وعبيد الله يفرض ويعطي، والإمام (علیه السلام) يعلم ذلك، وهو (علیه السلام) القائل: «الناس عبيد الدنيا».. وأنّ الناس يستنفرون لقتاله، والإمام (علیه السلام) يعلم بذلك..

وكانت الكوفة يومها بيد الوالي، والعساكر منتظمةٌ والشرطة متحكّمةٌ في البلاد، والناس بين مُحايدٍ _ وهم الأقلّ _ وبين منخرطٍ في التشكيلات النظاميّة المعروفة يومها، والعدد المكاتِب والمبايع لسيّد الشهداء (علیه السلام) كان يومها أقلّيّةً بالنسبة لمدينةٍ عسكريّةٍ كبيرةٍ مثل الكوفة تحتوي مئة ألف سيف، ويركب فيها هاني _ وهو زعيمٌ من زعماء مذحج _ مع أحلافه في ثلاثين ألف، على تفصيلٍ أتينا عليه في المجموعة الكاملة عن (المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة).

والإمام (علیه السلام) يعلم ذلك باعتراف ابن عبّاس، والإمام (علیه السلام) أعلم وأعرف وهو الحكيم، ولا يبدو ابن عبّاس كأنّه يكشف سرّاً أو يحذّر من شيءٍ يخفى على الإمام (علیه السلام) أو ينبّهه لشيءٍ غائب عنه، غير أنّه لا يُدرِك موقف

ص: 87

الإمام (علیه السلام) ولا يفقه كلامه، أو أنّه لا يريد ذلك!

والملاحَظ أنّ ابن عبّاس يذكّر الإمام (علیه السلام) أنّ الناس قد بايعوا يزيد، بمعنى أنّهم ألزموا أنفسهم بما لا يسمح لهم التنصّل عنه والوقوف مع الإمام (علیه السلام) ، والحال أنّنا _ إلى هذا الموقف _ لم نسمع من الإمام (علیه السلام) دعوةً للناس تفيد التنصّل عن بيعته، أو تحرّضهم على يزيد وتدعوهم إلى قتاله ومحاربته!

رابعاً: على الإمام (علیه السلام) أن يتّقي الله ويلزم الحرم

رابعاً: على الإمام (علیه السلام) أن يتّقي الله ويلزم الحرم ((1))

عبارةٌ غير مؤدَّبة، ودعوةٌ غير مهذَّبة، وخطابٌ أكبر من حجم ابن عبّاسٍ وهو يقف بين يدَي إمامه، ويكلّمه بأنفٍ لا ينبغي له أن يعطس إلّا ذُلّاً وتسليماً للإمام (علیه السلام) ، وهو يدعو الإمام (علیه السلام) إلى تقوى الله ولزوم الحرم، وسنسمعه بعد قليل يقول للإمام (علیه السلام) : «إن عصيتَني..»!

ولا ندري كيف يمكن أن يفهم ابن عبّاس أنّ لزوم الحرم يعني قتل الإمام (علیه السلام) جزماً، والعدوّ يسعى في ذلك جادّاً دون تريّث؟ وقد أخبره الإمام (علیه السلام) _ وهو الصادق المصدَّق _ بذلك، وشهدت له سيرة الأحداث ومجريات الحوادث.

لقد دار الأمر بين القتل المحقَّق في مكّة والقتل المحتمَل في الكوفة،

ص: 88


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.

على أسوء الفروض، وفق ما ذكره ابن عبّاس من أدلّةٍ قرأها في التاريخ القريب والواقع الحاضر، ومن الطبيعيّ أن يكون اجتياز القتل المحقّق إلى القتل المحتمل هو الخيار الأصوب، والبقاء في مكّة هو الخيار الخطأ، على العكس تماماً ممّا زعمه ابن عبّاس الّذي جعل اختيار العراق وفق الأدلّة التي ساقها خطأً.

وراح ابن عبّاسٍ يؤكّد أنّه لا يأمن على الإمام (علیه السلام) من القتل وخذلان أهل الكوفة، وعباراته تفيد أنّه غير جازمٍ جزماً قاطعاً، والإمام (علیه السلام) أخبره أنّه جازمٌ جزماً قاطعاً أنّ بقاءه في مكّة يعني قتله، فلا محيص من القول بخطأ ما ذهب إليه ابن عبّاس، وأنّه خيارٌ غير مسدَّد ولا موفَّق، يجلّله الخطل، ويفنّده ما فيه من الزلل، وهو يصبّ عاقبةً في صالح العدوّ الّذي كان يتربّص الدوائر بالإمام (علیه السلام) ليقتله في مكّة، ويحتاج إلى الوقت وتأخير الإمام (علیه السلام) فيها كي يتسنّى له أن ينفّذ ما يريد، ولو خلال أيّام الحجّ.

الوقفة الثالثة: جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

قدّم ابن عبّاس ما لديه من تحذيراتٍ للإمام (علیه السلام) بناءً على الفرضيّات الّتي تصوّرها بعد أن أعاذ الإمام (علیه السلام) من الذهاب إلى قومٍ لم يضبطوا بلادهم ولم يطردوا إمامهم ولم ينفوا عدوّهم، وهم قومٌ قتلوا أباه وغدروا أخاه، وبايعوا يزيد واستسلموا لأميرهم القاهر عليهم، فلا يأمن ابنُ عبّاسٍ أن يكونوا إنّما دعوا الإمام (علیه السلام) للحرب والقتال، وأنّهم سيغرّوه ويستنفروا إليه

ص: 89

ويخالفوه، ويكونوا أشدّ الناس عليه، ويقتلوه بما يبذله لهم ابن زياد من الدينار والدرهم.

ردّ عليه الإمام (علیه السلام) رداً مقتضباً مختصراً يمكن حصره في الأجوبة التالية:

الجواب الأوّل: النظر والاستخارة

ورد في جملة المصادر المتقدّمة من قبيل البلاذريّ والدينوريّ والطبريّ ومَن تلاهم أنّ الإمام (علیه السلام) قال أنّه سيستخير الله ((1))، ثمّ ينظر ((2))، وفي بعضها ينظر في مقال ابن عبّاس ((3))، وفي بعضها ينظر ما يكون ((4)).

وفي رواية ابن أعثم ختم ابن عبّاس كلامه بقوله: «فاتّقِ الله والزم هذا الحرم»، فقال له الحسين (علیه السلام) : «واللهِ أن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، وأنا مع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((5)).

ص: 90


1- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.
3- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.
4- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، تاريخ الطبري: 5 / 383، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
5- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

* * * * *

قال ابن منظور: الاستِخارَة: طلَبُ الخِيرَة في الشي ء، وهو استفعالٌ منه. وفي الحديث: كان رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) يعلّمنا الاستخارة في كلّ شي ء.

وخارَ اللهُ لك، أي: أعطاك ما هو خيرٌ لك، والخِيْرَة _ بسكون الياء _ : الاسم من ذلك، ومنه دعاء الاستخارة: اللّهمّ خِرْ لي، أي: اختَرْ لي أصلَحَ الأمرين، واجعل لي الخِيْرَة فيه. واستخار اللهَ: طلب منه الخِيَرَة، وخار لك في ذلك: جعل لك فيه الخِيَرَة.

والخِيْرَةُ الاسم من قولك: خار الله لك في هذا الأمر، والاختيار: الاصطفاء، وكذلك التَّخَيُّرُ، ويُقال: اسْتَخِرِ الله يَخِرْ لك، والله يَخِير للعبد إذا اسْتَخارَه ((1)).

فالإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) قدّم الاستخارة على النظر، أي: أنّه يدعو الله أن يختار له، ثمّ ينظر، فيجعل الله الخيرة فيما ينظر.

لقد شرح الإمام (علیه السلام) لابن عبّاس الظروف والأوضاع شرحاً وافياً كما ذكرنا في أكثر من موضع، ومع ذلك فقد ألحّ ابن عبّاس على ما يقول يحسب أنّه الحقّ والصواب، فكيف يمكن لمثل ابن عبّاس أن يُدرك ويقبل من الإمام (علیه السلام) ؟!

ص: 91


1- أُنظر: لسان العرب: خَيَر.

أحاله الإمام (علیه السلام) على الاستخارة والنظر فيما يقول، ولو كان حقّاً وصواباً لما أحاله الإمام (علیه السلام) ، ولَقبل منه فوراً.

ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) خرج فيما بعد ولم يلتفت إلى ما قرّره ابن عبّاس، فيلزم أن يكون قد اختار الله له خلاف ما اختاره له ابن عبّاس، ويلزم أن يكون قد نظر الإمام (علیه السلام) فيما قال ابن عبّاس، وتبيّن خطأ ما قاله ابن عبّاس، وأنّ الصواب في خلاف ما قاله ابن عبّاس، فلا يمكن أن يكون رأي ابن عبّاس إلّا أفنٌ وخطأٌ وخطلٌ وزلل، لا يوافق خيرة الله، ولا نتيجة نظر الإمام (علیه السلام) .

ونحسب أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) تعامل مع ابن عبّاسٍ هنا بالحِلم وسعة الصدر والمداراة، في محاولةٍ لإقناعه بما يناسب مستواه ومقدار عقله ورأيه ونظره، كما كان يفعل (علیه السلام) مع سائر الناس من المداراة وإعطاء كلٍّ حسب طاقته وتحمّله واستيعابه وتفكيره.

وأمّا ما ذكره ابن أعثم:

فقال له الحسين (علیه السلام) : «واللهِ أن أُقتَل بالعراق أحبُّ إليّ أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، وأنا مع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((1)).

فإنّ فيه بياناً واضحاً أتينا على تفصيل الكلام فيه في أكثر من موضع،

ص: 92


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

فلا نعيد.. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ جواب الإمام (علیه السلام) فيه _ بغضّ النظر عمّا في كلامه (علیه السلام) من إخبارٍ غَيبيّ _ ما يكفي لمن زوّده الله بمقدار الضرورة من العقل أن يفهم ويُدرك موقف الإمام (علیه السلام) ، وأنّ القتل أَمامه، وأنّ الأعداء سوف لن يتركوه حتّى يقتلوه، فإنْ يُقتَل في العراق أحبّ إليه من أن يُقتَل في مكّة، فهو إن بقيَ في مكّة مقتول، مقتول! فالعدوّ يريد قتله ولا زال يلاحقه، والإمام (علیه السلام) لا يريد أن يُقتَل في مكّة، وبقاؤه في مكّة يعني قتله، وهذا ما لا يفهمه ابن عبّاسٍ أو لا يريد فهمه، لذا قال له الإمام (علیه السلام) بعد أن أفصح له عن الموقف بشكلٍ واضح: «وأنا مع ذلك أستخير الله، وأنظر ما يكون».

يعني إنّي قد أوضحتُ وبيّنتُ لك أنّ بقائي في مكّة يعني قتلي، وإنّي لا أُحبُّ أن أُقتَل بمكّة، وأنْ أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ، فالخيار في موضع القتل، أمّا أصل القتل فقد عزم عليه العدوّ وصمّم وأعدّ واستعدّ وجهّز وأقدم، فلا محيص عنه، ومع اتّضاح ذلك وانكشافه انكشافاً تامّاً لكلّ عاقل، ومع ذلك، فإنّ الإمام (علیه السلام) قال: «سأستخير الله، وأنظر ما يكون».

* * * * *

هذا الجواب يبدو أوفق وأكثر مناسبةً لأجوبة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأوفق وأكثر مناسبةً لحال ابن عبّاس ومستوى إدراكه وفهمه، وطريقته في الإلحاح والسماجة والإصرار ومحاولة إقناع الإمام (علیه السلام) وشرح الصورة له،

ص: 93

وكأنّها غائبة عن العالِم بالله لكلّ حاضرٍ وغابرٍ ومستقبل.

وقد ورد كما رأينا في أُمّهات المصادر القديمة الّتي تُعَدّ في الطراز الأوّل من المصادر التاريخيّة، والله العالم.

الجواب الثاني: كتبهم وكتاب مسلم (علیه السلام)
اشارة

إختلف أبو الفرج في نقل المحاورة عموماً، حيث اختصرها وقال:

فجعل يناشده في المقام ويعظم عليه القول في ذمّ أهل الكوفة، وقال له: إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك وطعنوا أخاك، وما أراهم إلّا خاذليك.

فقال له: «هذه كتبهم معي، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم» ((1)).

واختلف سبط ابن الجوزيّ أيضاً في روايته كعادته، فنقل المحاورة كالتالي:

فجاء إليه ابن عبّاس ونهاه عن ذلك، وقال له: يا ابن عمّ، إنّ أهل الكوفة قوم غدر، قتلوا أباك وخذلوا أخاك وطعنوه وسلبوه وأسلموه إلى عدوّه، وفعلوا ما فعلوا.

فقال: «هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ المسير لقتال أعداء الله».

فبكى ابن عبّاس وقال: وا حسيناه! ((2))

ص: 94


1- مقاتل الطالبييّن لأبي الفرج: 72.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

وفي (التبر المذاب) للخافي الشافعي:

فقال: «يا ابن عمّ، هذه كتبهم ورسلهم، وقد وجب علَيّ إجابتهم وقام لهم علَيّ العذر عند الله (سبحانه)».

فبكى عبد الله حتّى بلّ لحيته، وقال: وا حسيناه! ((1))

* * * * *

يمكن أن يُلاحَظ على الجواب الثاني عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأُولى: تفرّد أبي الفرج

يبدو أنّ ما نقله الخافي الشافعيّ في (التبر المذاب) أخذه عن سبط ابن الجوزيّ، وقد تتبّعنا مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) فيه عند تحقيقنا له، فوجدناه يروي عنه ويتابعه وينقل عنه حرفيّاً.

ولا يبعد أن يكون (سبط) قد أخذ عن أبي الفرَج، بَيد أنّه نقل المضمون وتصرّف بنحوٍ ما في العبارة، ولم نجد ما قاله أبو الفرج وسبط ابن الجوزيّ في غيرهما من المصادر حسب الفحص.

وعلى كلّ حال، فإنّ المصدر الأسبق لهذا الجواب بهذه الصورة بالذات إنّما هو أبو الفرج، إلّا ما سنذكره بعد قليلٍ من رواية المسعوديّ القريبة ممّا ذكره أبو الفرج.

ص: 95


1- التبر المذاب للخافي: 40 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
الملاحظة الثانية: زيادات سبط ابن الجوزيّ

يُلاحَظ أنّ ما ذكره أبو الفرج هو استشهاد الإمام (علیه السلام) بكتب القوم الّتي معه، وكتاب المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) الّذي يُخبِر فيه باجتماعهم، وينتهي النصّ عنده إلى هذا الحدّ.

أمّا الزيادة الواردة في كلام سبط ابن الجوزيّ من وجوب المسير عليه لقتال أعداء الله، فقد تفرّد بها هو دون غيره من المؤرّخين، حتّى أبو الفرج لم يروِها، وقد امتازت رواية سبط ابن الجوزيّ بهذا النفَس، وقد أتينا على تفصيل ذلك في دراسة لقاء الفرزدق والإمام الحسين (علیه السلام) (مطبوع)، فلا نعيد.

الملاحظة الثالثة: إخبار ابن عبّاس بمقتل المولى الغريب (علیه السلام) !

مرّ معنا قبل قليلٍ أنّ ابن عبّاس قد ذكر للإمام (علیه السلام) مقتل ابن عمّه مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، فكيف يستشهد الإمام (علیه السلام) هنا بكتاب مسلم (علیه السلام) نفسه باجتماعهم؟!

غير أنّ هذه الملاحظة يمكن أن يُردّ عليها أنّ النص المذكور آنفاً يتهافت بما فيه، فلا يقوم لمقابلة النصوص الأُخرى، فيبقى هذا النصّ سالماً لا يعارضه، لأنّ من رواه لا يقول بمقتل المولى الغريب (علیه السلام) حين اللقاء والمحاورة.

الملاحظة الرابعة: كتب القوم وكتاب المولى الغريب (علیه السلام)

ص: 96

المسوّغ الّذي ذكره سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن عبّاس في متن أبي الفرج ينصّ على الاعتماد على كتبهم الّتي معه، وكتاب المولى الغريب مسلم (علیه السلام) باجتماعهم، وهو بالرغم من انفراده وتأخّره بالنسبة إلى المتون المتقدّمة عليه، إلّا أنّه ليس غريباً عن مجريات الأحداث وتقريرات الواقع يومها، إذ أنّ جملة الكتب كانت كثيرة، وإن كانت بالنسبة إلى مجموع سكّان الكوفة لم تكن سوى أقلّيّة، كما فصّلنا الحديث في ذلك في مجموعة (المولى الغريب (علیه السلام) _ وقائع السفارة)، كما أنّ كتاب المعتمَد الأوّل (مسلم بن عقيل (علیهما السلام)) الّذي وصل سيّد الشهداء (علیه السلام) (على فرض وصوله يوم حصول المحادثة مع ابن عبّاس) كان ينصّ على اجتماع القوم على نصرته (علیه السلام) ، فيدور الأمر حينئذٍ _ كما أشرنا فيما سبق _ بين القتل المحتوم في مكّة وهتك حرمة البيت والدم المقدّس في الحرم، وبين النصرة المحتملَة، وإن كان احتمال الغدر والخذلان قائماً فيهم بناءً على سوابقهم وتاريخهم مع أبيه وأخيه، ولا شكّ أنّ قصد الموضع الّذي فيه احتمال النصرة أقوى وهو قصدٌ صحيحٌ صائب، والبقاء في الموضع الّذي يكون القتل فيه محتوماً أو على الأقلّ محتمَلاً احتمالاً منجَّزاً مع الجزم بعدم وجود الناصر والمعين والمدافع _ ولو زعماً وادعاءً _ خطأ وغير صائب.

أضف إلى أنّنا قد ذكرنا أكثر من مرّةٍ وفي غير موضع، أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) كان عالماً _ بغضّ النظر عن علم الإمامة _ بغدر المكاتبين

ص: 97

ومتوقّعاً خذلانهم، وقد أرسل أخاه وابن عمّه المولى الغريب (علیه السلام) ليتحقّق من ذلك ميدانيّاً، وهو قد عاش المجتمع الكوفيّ بنفسه وخَبَرَهم، بَيد أنّه كان يقصد القليل الديّانين فيهم من الّذين كاتبوه أو انتظروه ليدفعوا عنه ويذبّوا عن حرم الله وحرم رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وقد فعلوا وثبتوا حتّى أدّوا ما عليهم، وهم يخشون أنّهم قد قصّروا، فجزاهم الله خيراً.

الملاحظة الخامسة: زيادة سبط ابن الجوزيّ

لقد ناقشنا مفصّلاً نصّ سبط ابن الجوزيّ، وأشرنا إلى ما فيه من ملاحظاتٍ تجعل مَن يتعامل معه يتريّث ويتردّد أكثر من مرّةٍ قبل قبوله والإذعان به، وتبيّن لنا أنّ هذا النمط من المتون جاء متأخّراً، وهو نَفَسٌ جديدٌ تميّز عن المتون السابقة له طرّاً.

ومع ذلك، فإنّ المتن مبنيٌّ أساساً على تصوير سابقة لحركة الإمام (علیه السلام) رسمها يزيد في كتابه لأهل المدينة ولابن عبّاس، وأمر واليه أن يقرأه على أهل الموسم، تقوم على أساس إقدام الإمام (علیه السلام) على محاربة يزيد القرود وابتدائه طمعاً في الخلافة، واستجابةً لمكاتبات أهل الكوفة له، وأنّهم منّوه الخلافة ومنّاهم الإمارة.

ومسير الأحداث وبيانات سيّد الشهداء (علیه السلام) تأبى ذلك تماماً، كما يأباه إجماع المؤمنين الشيعة وعلمائهم الأبرار.

ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) لا يتحرّك وفق ما يرسمه له الناس، وإنّما يتحرّك وفق

ص: 98

ما يأمره به الله (تبارك وتعالى).

أجل، إلّا أن يقال: أنّ المقصود من وجوب المسير لقتال أعداء الله بمعنى أنّ الناصر قد حصل في الكوفة، فوجب أن أتوجّه إليها للدفاع عن نفسي وقتال أعداء الله الّذين يريدون قتلي، فيستقيم المقصود مع مجريات الأحداث وبيانات الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بَيد أنّ هذا القيل لا ينسجم مع سياقات سبط الجوزيّ وطريقة عرضه لحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة إلى الكوفة.

الملاحظة السادسة: بكاء ابن عبّاس وندبته

أفاد سبط ابن الجوزيّ وتبعه الخافي الشافعيّ أنّ ابن عبّاسٍ بكى بعد أن سمع جواب الإمام (علیه السلام) ، وندبه قائلاً: وا حسيناه!

وهذا يعني أنّ ابن عبّاس كان جازماً قاطعاً باتّاً بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) في سفره هذا نحو الكوفة، وقد أخبر بذلك الأنبياءُ والأوصياء (علیهم السلام) ، وحاول ابنُ عبّاسٍ أن يُثني الإمام (علیه السلام) عن عزمه، رغم علمه بالأحاديث من جهة، وعلمه بعلم إمام الكائنات بما حدّث به الأنبياء، وبما حذّره منه ابن عبّاس، فبكى وندب الإمام (علیه السلام) ، ليُعلن للناس أنّه على صوابٍ حينما منع سيّد الشهداء (علیه السلام) عن المسير إلى الكوفة، وربّما ليُقال فيما بعد: لقد صدق ابن عبّاس، وعرف وتنبّأ بما سيؤول إليه أمر الإمام الحسين (علیه السلام) .

ص: 99

وربّما بكى لما سيجري على ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآله الكرام (علیهم السلام) ، وهو واثقٌ من وقوع ما لا يتمنّاه ويرجو أن لا يقع!

الوقفة الرابعة: اقتراح اليمن
اشارة

قال المسعوديّ:

أتاه ابن العبّاس فقال له: يا ابن عمّ، قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجل، وإنْ أبَيتَ إلّا محاربة هذا الجبّار وكرهت المقام بمكّة فاشخصْ إلى اليمن؛ فإنّها في عزلة، ولك فيها أنصارٌ وإخوان، فأقِمْ بها، وبُثّ دعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق فيُخرِجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفوه عنها ولم يكن بها أحدٌ يُعاديك أتيتَهم، وما أنا لغدرهم بآمِن، وإن لم يفعلوا أقمتَ بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإنّ فيها حصوناً وشِعاباً.

فقال الحسين (علیه السلام) : «يا ابن عمّ، إنّي لَأعلمُ أنّك لي ناصحٌ وعلَيّ شفيق، ولكنّ مسلم بن عقيل كتب إليّ باجتماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي، وقد أجمعتُ على المسير إليهم».

قال: إنّهم من خَبَرتَ وجرّبت، وهم أصحاب أبيك وأخيك، وقتلَتُك غداً مع أميرهم، إنّك لو قد خرجت فبلغ ابنَ زيادٍ خروجُك استنفرهم إليك، وكان الّذين كتبوا إليك أشدّ من

ص: 100

عدوّك ((1)) ...

قال سبط ابن الجوزيّ:

وذكر المسعوديّ في كتاب (مروج الذهب):

إنّ ابن عبّاس قال له: إنْ كرهتَ المقام بمكّة خوفاً على نفسك فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ فيها عزلة، ولنا بها أنصارٌ وأعوان، وبها قلاعٌ وشعاب، واكتب إلى أهل الكوفة، فإن أخرجوا أميرهم وسلّموها إلى نائبك فسِرْ إليهم، فإنّك إن سرتَ إليهم على هذه الحالة لم آمن عليك منهم ((2)).

وفي (المقتل) للخوارزميّ:

فإن كنتَ على حالٍ لابدّ أن تشخص فصِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً لك وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.

فقال الحسين: «لابدّ من العراق!» ((3)).

* * * * *

ورد اقتراح اليمن على لسان ابن عبّاس هنا ضمن هذه المحادثة، وسنكتفي بجملةٍ من التنويهات في المقام:

ص: 101


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
التنويه الأوّل: قبل اقتراح اليمن

ما ذكره المسعوديّ من كلام ابن عبّاس قبل أن يقترح عليه التوجّه إلى اليمن يكاد يكون بنفس المضمون الّذي ذكره غيرُه من المؤرّخين الّذين ذكرناهم في الوقفات السابقة، إلّا بعض الفوارق من قبيل أنّه تكلّم من دون تردّدٍ أو تعبيرٍ عن كونه يأمن أو لا يأمن على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقال: «إنّ أهل العراق أهل غدر»، وبتّ في كونهم إنّما يدعونه للحرب، وأمره أن لا يعجل!

وحاول تفسير سبب مغادرة الإمام (علیه السلام) _ في متن المسعوديّ _ أنّ الإمام (علیه السلام) يأبى إلّا محاربة يزيد الجبّار، وهو _ أي: الإمام (علیه السلام) _ يكره المقام بمكّة! من دون بيان سبب كراهية الإمام (علیه السلام) لذلك، والحال أنّ الإمام (علیه السلام) قد صرّح بسبب خروجه، وأنّ قتله خارجاً عنها أحبّ إليه من قتله فيها.

التنويه الثاني: التوجّه إلى اليمن

ثمّ إنّه اقترح على الإمام (علیه السلام) أن يتوجّه إلى اليمن إن كره المقام في مكّة، وأن يعزف عن الكوفة، وقد ناقشنا اقتراحه هذا مفصّلاً فيما مضى من دراسات، سيّما في بحث (ظروف خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة)، فلا نعيد.

غير أنّنا نودّ التنويه هنا إلى أنّ اقتراح ابن عبّاس هذا باطلٌ زائفٌ خائبٌ خطأٌ لا يحظى بأيّة مصداقيّة، ولا وزن له في موازين الصواب

ص: 102

والحكمة، ولو كان فيه شيءٌ من الصواب لَقبله منه الإمام (علیه السلام) ، أو لكان الإمام (علیه السلام) عاملاً به قبل أن يتفوّه به ابن عبّاس وغيره.

ولا يصحّ _ مع ملاحظة مناقشات الاقتراح بالتفصيل _ أن يُبنى على قول ابن عبّاسٍ أو يُعتبَر خياراً، لتصل النوبة إلى تصنيفه في خيارات الإمام (علیه السلام) أو نسبتها للإمام (علیه السلام) أو دراستها لاحتمال الصواب فيها، فهي على كلّ تقديرٍ نتاج فكر ابن عبّاسٍ وأضرابه، ولم نسمع من الإمام (علیه السلام) ما يصوّبه صراحةً أو يقبل به بوضوح.

التنويه الثالث: إفادة الخطر المُحدِق بالإمام (علیه السلام) في مكّة

يظهر من كلام ابن عبّاس _ برواية المسعوديّ _ أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة يشكّل له خطراً، وذهابه إلى الكوفة خطرٌ أيضاً، لذا اقترح عليه أن يرحل إلى أرضٍ معزولةٍ له فيها _ كما يزعم ابن عبّاس _ أنصارٌ وأعوان، فإنْ نجح أهل الكوفة في ما يختبرهم به وأثبتوا له أنّهم قادرون على طرد أعدائه ونصره، وإلّا فلْيبقَ آمناً في اليمن بين حصونها وجبالها وأنصاره! ليكون بعيداً عن مخالب القرود ومتناول سيوفها، ويشهد لذلك ذيل كلام ابن عبّاس: «وإن لم يفعلوا أقمتَ بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإنّ فيها حصوناً وشعاباً».

ويشهد له أيضاً ما رواه سبط ابن الجوزيّ عن المسعوديّ: «إن كرهتَ المقام بمكّة خوفاً على نفسك»، حيث ذكر سبب كراهية الإمام (علیه السلام) المقام في

ص: 103

مكّة خوفاً على نفسه.

كما يشهد له ما سنسمعه بعد قليلٍ في رواية الخوارزميّ: «فإن كنتَ على حالٍ لابدّ أن تشخص فصِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً لك وشيعةً لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس»، إذ يفترض ابن عبّاسٍ هنا أنّ الإمام (علیه السلام) على حالٍ في مكّة لابدّ له أن يشخص منها.

وهذا يعني أنّ بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة يخشى فيه حتّى ابن عبّاس على نفس الإمام (علیه السلام) ، وأنّه إن بقي فيها فسوف يُقتَل، ولابدّ له من الخروج والرحيل عنها تفادياً لهتك الحرمات.

التنويه الرابع: المقارنة بين رواية المسعوديّ ونقل سبط ابن الجوزيّ

يبدو أنّ سبط ابن الجوزيّ نقل رواية المسعوديّ بالمعنى ولم يلتزم النصّ، فهو قد صرّح أنّه يروي عن المسعودي في كتاب (المروج)، وها هما النصّان أمام النواظر يمكن المقارنة بينهما لنجد الاختلاف في صياغة العبارة والاختصار ونقل ما فهم سبط من كلام المسعوديّ.

إنّما ذكرنا هذا التنويه ليكون تنويهاً منهجيّاً يفيد المُراجع للتاريخ والمُقارِن بين عبارات المؤرّخين، فربّما فسّر لنا التفاوت في نقل الأحداث مع اعتماد بعضهم بعضاً.

التنويه الخامس: رواية الخوارزميّ

مؤدّى رواية الخوارزميّ أنّ ابن عبّاس يفترض في الإمام (علیه السلام) حالاً لابدّ

ص: 104

له أن يشخص من مكّة، فهو لا يمكنه البقاء فيها بحال، فحينئذٍ يوجّهه إلى اليمن لأسبابٍ نصّ عليها، وهي ثلاثة:

أوّلها: إنّ له بها حصوناً، أي أنّ العامل الجغرافيّ سيخدمه ويكون لصالحه.

وثانيها: إنّ فيها شيعةً لأبيه، أي أنّ العامل البشريّ سيكون لصالحه.

وثالثها: يكون منقطعاً عن الناس، ولا ندري ما يقصد بالناس هنا؟ فإنّ في اليمن ناساً أيضاً، فإن كان يقصد ابتعاده عن أهل الكوفة وأهل المدينة ومكّة وغيرها من البلدان الّتي بايعَت ليزيد القرود، وهو يدعو الإمام (علیه السلام) للانقطاع والابتعاد عن الخلق، فكيف افترض ابن عبّاسٍ أنّ الإمام (علیه السلام) يريد محاربة هذا الطاغوت، وأنّه يريد أن يقاتل يزيد؟!

وكيف كان، فإنّ هذا النصّ أيضاً يفيد بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) كان مطلوباً، وأنّ اليمن ستكون له بلداً آمناً في تصوّر ابن عبّاس، وبهذا سيدفع عن الإمام (علیه السلام) القتل الّذي يلاحقه به يزيد وباقي القرود وذئابها المسعورة.

أمّا أنّ اليمن هل يمكن أن يكون آمِناً للإمام (علیه السلام) ؟ وهل كان أهله على استعدادٍ لنصرة الإمام (علیه السلام) والدفاع عنه؟ وهل كان الذهاب إلى اليمن سينفع الإمام (علیه السلام) على كلّ تقدير، سواءً أكان الإمام (علیه السلام) يريد محاربة يزيد أو يريد الدفاع عن نفسه وأهل بيته؟ فهذا ما أجبنا عليه بالتفصيل، فلا

ص: 105

نعيد.

التنويه السادس: جواب الإمام (علیه السلام)

في متن الخوارزميّ: أجاب الإمام (علیه السلام) ابن عبّاسٍ حينما وجّهه إلى اليمن قائلاً: «لابدّ من العراق!» ((1)).

لابدّ من العراق.. يمكن أن تفسَّر بالعامل الغَيبيّ، وأنّ الإمام (علیه السلام) مأمورٌ مِن قِبَل الله أن يذهب إلى العراق؛ ليُقتَل هناك وفق المخطّط الربّانيّ، وللحكمة الإلهيّة القاضية بذلك، وغيرها من البيانات الّتي تشرح وتبيّن العامل الغَيبيّ ودَوره في حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وتوجّهه إلى العراق.

لابدّ من العراق.. وفق ما ورد من قِبَل أهلها من كتب ورسائل ووعودٍ بالنصرة والذبّ والدفاع عن ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) ، وما ورده من كتاب المولى الغريب (علیه السلام) يُخبره فيه باجتماع أهل الكوفة.

لابدّ من العراق.. لأيّ غرضٍ أو هدفٍ أو سببٍ ذكره الإمام (علیه السلام) أو لم يذكره، اكتشفه المحقّقون والمحلّلون أم لم يكتشفوه.

فإنّ التقادير كلّها تفيد معنىً واحداً، وتجتمع على تأكيده، وهو خطأ ابن عبّاس، إذ أنّ ابن عبّاس أمر الإمام (علیه السلام) بالتوجّه إلى اليمن، وقال الإمام (علیه السلام) : «لابدّ من العراق».. فأيّهما أحقُّ أن يُتّبَع؟!

ص: 106


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

نحن نعتقد اعتقاداً راسخاً بعصمة خامس أصحاب الكساء وسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (علیه السلام) ، فلابدّ أن يكون ابن عبّاسٍ قد أخطأ خطأً فضيعاً، نسأل الله السداد والتأييد.

الوقفة الخامسة: حكاية ابن شهرآشوب

قال ابن شهرآشوب:

وقال ابن عبّاس: لا تخرج إلى العراق، وكُنْ باليمن لحصانتها ورجالها.

فقال (علیه السلام) : «إنّي لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ أطلب الصلاح في أُمّة جدّي محمّد، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أَولى بالحقّ، وهو أحكم الحاكمين» ((1)).

فأتاه ابن عبّاسٍ وتكلّم في ذلك كثيراً، فانصرف ((2)).

نقل الشيخ ابن شهرآشوب (رحمة الله) قبل كلام ابن عبّاس هذا اعتراض المولى محمّد ابن الحنفيّة وغيره من المعترضين، ثمّ نقل كلام ابن عبّاس مختصراً، ثم اقتطع جزءاً ممّا تفرّد بنقله ابن أعثم في الوصيّة كجوابٍ ارتجاليٍّ

ص: 107


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 143 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 89 و94.

من الشيخ (رحمة الله) يصلح أن يكون ردّاً على جميع المعترضين.

فهو (رحمة الله) ينقل أوّلاً كلام ثلاثةٍ من المعترضين على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهم: ابن الحنفيّة، وابن مطيع، وابن عبّاس، ثمّ يقتطع نصّاً من الوصيّة، فيجعله ردّاً عليهم جميعاً بلفظ: «فقال»، وكأنّه قولٌ له وليست وصيّة!

ومن الملاحَظ أنّ ابن شهرآشوب يعتمد في رواية مقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) كثيراً على الخوارزميّ وابن أعثم، كما يبدو جليّاً لمن تتبّعه، وقد لاحظنا ذلك بوضوحٍ عند تحقيق كتاب (المناقب) الّذي طُبع في اثني عشر مجلَّداً.

وقد اعتاد ابن شهرآشوب على النقل بالمعنى، أو ترميم النصّ وتقليمه والانتقاء منه، وعدم الالتزام الدقيق والنقل الحرفيّ عن المصادر، وهذا مُلاحَظٌ بوضوحٍ لمن تتبّع منهجه (رحمة الله) في النقل.

لذا فإنّنا لا نعتبر الجواب الّذي نقله الشيخ ابن شهرآشوب جواباً مستقلّاً قاله الإمام (علیه السلام) في المقام أثناء المحاورة، وإنّما هو من تجميع النصوص وترميمها والتلفيق بينها ليصلح جواباً على المعترضين الثلاثة في آنٍ واحد، وقد أتينا على مناقشته وتفصيل الكلام فيه في كتاب (ظروف خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من المدينة)، فلا نعيد.

الوقفة السادسة: رواية الطبريّ (الشيعيّ)
اشارة

روى الشيخ الطبريّ الشيعيّ (رحمة الله) بسندٍ مرّ ذكره، قال:

ص: 108

عن عبد الله بن عبّاس قال: أتيتُ الحسينَ وهو يخرج إلى العراق، فقلت له: يا ابن رسول الله لا تخرج.

فقال: «يا ابن عبّاس، أما علمتَ إنْ منعتَني من هناك فإنّ مصارع أصحابي هناك؟».

قلت له: فأنّى لك ذلك؟

قال: «بسرٍّ سُرّه لي، وعلمٍ أُعطيتُه» ((1)).

وقال الحرّ العامليّ (رحمة الله) :

روى صاحب كتاب (فاطمة وولدها)، بإسناده عن ابن عبّاسٍ قال: لقيتُ الحسين (علیه السلام) وهو خارجٌ إلى العراق، فقلت له: يا ابن رسول الله لا تخرج.

فقال: «أما علمتَ أنّ منيّتي من هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟» ((2)).

* * * * *

لا ندري إن كان هذا اللقاء الّذي يرويه ابن عبّاس هنا هو نفسه اللقاء الّذي ذكرته بقيّة المصادر، إذ أنّه يحدّد زمانه بنفس الفترة الواردة في تلك المصادر، وهو عند خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق.

ص: 109


1- دلائل الإمامة للطبري: 74، مدينة المعاجز للبحراني: 238.
2- إثبات الهداة للحرّ العاملي: 2 / 588 الرقم 66.

فإن كان نفس اللقاء، فإمّا أن يكون هذا الجزء بالخصوص قد غيّبَته المصادر التاريخيّة، وقد دار بينهما الحديث وكان هذا المقطع من جملته، وقد اختصر ابن عبّاس في هذا الرواية كلّ ما جرى بمؤدّى كلامه ومؤدّى كلام الإمام (علیه السلام) .

أو أنّه لقاءٌ آخَر غير اللقاء المعهود، وقد أغفل المؤرّخون السابقون ذكره، فأتى مسنَداً عند الشيخ الطبريّ (رحمة الله) .

على كلّ حال، فإنّ الّذي دعانا لسرد هذا المتن ضمن هذا اللقاء إنّما هو تحديد زمن اللقاء، وأنّه كان عند خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وباعتباره تضمّن منع ابن عبّاس وتحذيره الإمام (علیه السلام) من التوجّه للعراق، فهو فيما يخصّ موقف ابن عبّاس يشارك النصوص السابقة عليه، وإنّما يختلف عنها في جواب الإمام (علیه السلام) .

جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

يبدو للوهلة الأُولى أنّ هذا الجواب يمكن أن يُحمَل على التفسير بالعامل الغَيبيّ، وأنّ الله شاء أن يراه قتيلاً في أرض كربٍ وبلاء، وأنّ قاتله لا يكون إلّا يزيد لعين السماوات والأرضين ومَن فيهنّ وما فيهنّ، ولا نريد الخوض في هذا المضمار، فإنّ هذا التفسير له أبعاده ومغازيه ومعانيه وحكمته وتفصيلاته، وقد بنينا البحث هنا على الدراسة التاريخيّة وفق النصوص التاريخيّة، وللدمج بينهما محلٌّ آخَر سنأتي على بيانه في وقته، إن

ص: 110

شاء الله (تعالى) إن بقي في العمر بقيّة.

أمّا وقد أجّلنا الحديث عن العامل الغيبيّ وتأثيراته وآثاره، فلا نأخذ هنا إلّا ما يخصّ الاستفادة من المتن كنصٍّ تاريخيّ، وسنقتصر على الإشارة إلى بعض التلويحات العابرة:

التلويح الأوّل: أما علمتَ؟!

كأنّ قوله (علیه السلام) : «أما علمتَ..» نوع توبيخٍ أو عتابٍ أو تذكيرٍ أو استنكارٍ على ابن عبّاس، إذ أنّه يزعم أنّه راويةٌ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقد سمع حسب الفرض عنهما وسمع عن غيرهما أنّ لسيّد الشهداء (علیه السلام) يوماً مع هؤلاء الظالمين، وأنّه مقتولٌ لا محالة على شاطئ الفرات ظمآناً عطشاناً غريباً فريداً وحيداً لا ناصر له ولا معين من هذه الأُمّة المتعوسة، إلّا مَن كتب الله له السعادة، فبذل دونه ماله ونفسه ودنياه.. فكيف إذن يمنع ابن عبّاسٍ ويلحّ ويصرّ على شيءٍ يزعم أنّه يعلمه ويعلم بكلّ هذه التفاصيل؟!

وربّما قيل: إن كان الحرص على حياة الإمام (علیه السلام) والخوف عليه يدعوه لهذا الإصرار والإلحاح، لَكان بصيغةٍ أُخرى فيها رنّة النياحة والحزن والتسليم بعد أن يُخبره الإمام (علیه السلام) بعزمه على الخروج، تماماً كما فعلَت أُمُّ سلَمة!

التلويح الثاني: علم الإمام (علیه السلام)

ص: 111

حينما أخبر الإمام (علیه السلام) ابن عبّاسٍ أنّ منيّته ومصارع أصحابه في العراق، انبرى ابن عبّاسٍ يسأل الإمام (علیه السلام) عن المصدر الّذي عَرف به ذلك: «فأنّى لك ذلك؟»، فأجابه الإمام (علیه السلام) أنّه بسرّ سُرّ إليه وعلم أُعطيه.

يمكن الاستشهاد بسؤال ابن عبّاسٍ هذا على أنّ التقريع والتوبيخ والاستنكار احتمالٌ واردٌ جدّاً في سؤال الإمام (علیه السلام) الأوّل: «أما علمتَ»، فمن العجب الّذي لا ينقضي أن يسأل ابن عبّاس هذا السؤال من الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وهو يزعم أنّه سمع حديث النبيّ (صلی الله علیه و آله) وحديث أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فكيف لم يسمع مؤدّى كلام الإمام (علیه السلام) منهما؟

ثمّ إنّه بسؤاله هذا تنكّر لمقام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فهو _ والقياس مع الفارق _ كحال من سألَت النبيّ (صلی الله علیه و آله) : ﴿فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَليمُ الْخَبير﴾ ((1)).

أوَليس يعرف ابن عبّاس مقام الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ومنزلته من الله ومن رسوله (صلی الله علیه و آله) وقربه منهما؟ أوَليس يعرف إمامته؟ فكيف يسأله: أنّى لك ذلك؟!

التلويح الثالث: أعلمُ ما لم تعلم

لقد أجاب الإمام (علیه السلام) ابن عبّاسٍ جواباً يتضمّن تجهيله وكفّه وإيقافه

ص: 112


1- سورة التحريم: 3.

عند حدّه، فابن عبّاسٍ يرى في نفسه عالماً مقرَّباً من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، وقد وصفه الناس ب- (ترجمان القرآن) وب- (حَبر الأُمّة)، وبصفاتٍ أُخرى كثيرة، تبيّن أنّها لا يمكن أن تُقاس بالإمام (علیه السلام) ، ولا يمكن لابن عبّاسٍ أن يرى في نفسه شيئاً منها إذا قيس بإزاء الإمام سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) أخبره أنّه قد أسرّوا إليه وأُعطي علماً مُنع عن ابن عبّاس، فهو لا يُدركه ولا ينبغي له أن يدّعيه، فلْيقِفْ عند حدّه، ولْيُمسِك قدّه وقدره، ولا يجادل الإمام (علیه السلام) فيما لا يعلم، وأنّه لابدّ أن يعرف أنّه لا يعلم كلّ شيء، ولم يُعطَ العلمَ الّذي أُعطي لأبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وليس للجاهل إلّا التسليم للعالم والانقياد له!

التلويح الرابع: أنصار الإمام في العراق

في رواية الطبريّ:

«أما علمتَ إن منعتَني من هناك فإنّ مصارع أصحابي هناك؟».

يمكن أن يُستفاد منه بوضوحٍ أنّ الكلام حينما يتوجّه إلى ابن عبّاس الّذي كان _ بناءً على النصوص السابقة _ يلحّ على الإمام (علیه السلام) أن يتّقي الله ويلزم الحرم أو يخرج إلى اليمن، وبناءً على هذا الخبر يمنع الإمام (علیه السلام) من الخروج إلى العراق، وهذا يعني بالتالي أحد الأمرين السابقين: (البقاء في مكّة، أو الخروج إلى اليمن)، فقد أجابه الإمام (علیه السلام) جواباً يُفهِمه فيه: إنّك إنْ منعتَني من العراق معناه أنّك منعتني من الذهاب إلى بلدٍ فيه أنصاري،

ص: 113

فليس لي في مكّة ولا اليمن أنصار، وإنّما أنصاري في العراق، فهم هناك ومصارعهم هناك!

فيكون قول الإمام (علیه السلام) : «فإنّ مصارع أصحابي هناك»، أي: إنّ أنصاري هناك، فكيف تمنعني من الذهاب إلى بلدٍ لي فيه أنصارٌ يدفعون عنّي؟!

التلويح الخامس: محاربة عسكر السقيفة في الكوفة!

في لفظ الحرّ العامليّ:

فقال: «أما علمتَ أنّ منيّتي من هناك، وأنّ مصارع أصحابي هناك؟».

يُلاحَظ أنّ الإمام (علیه السلام) فرّق في التعبير عن منيّته ومصارع أصحابه، فقال في منيّته: «من هناك»، وقال في مصارع أصحابه: «هناك».

ربّما أفاد هذا التفريق _ والحديث لسيّد البلاغة والعالِم بجميع اللغات وخفاياها _ أنّه أراد أن يقول: إنّ منيّتي وموتي يأتي من جهة العراق، فسواءً ذهبتُ أنا أو لا فإنّهم سيأتون ويقصدوني، فهو العسكر الّذي أعدّه رجال السقيفة للقضاء على آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، وعلى كلّ مَن يرونه عدوّاً وتهديداً لمُلكهم وسلطانهم، فمنيّتي من هناك، ومنعك لا يمنعهم عنّي.

وفي المقابل، فإنّ أنصاري الّذين يضحّون بأنفسهم وأهليهم ودنياهم في الذبّ عنّي في العراق.

فإذا كانت منيّتي من العراق سواءً ذهبتُ أو لم أذهب، وأنصاري الّذين

ص: 114

يدفعون عنّي في العراق، فلماذا إذن تمنعني من الذهاب إلى بلدٍ لي فيه أنصار، وتطلب منّي البقاء في أيّ بلدٍ سواه، وعسكر العراق يمكن أن يلاحقني فيه لأنّ منيّتي من قِبلهم؟!

الإبراز الرابع: النهي عن أخذ النساء والأطفال، والانتقام لعثمان
اشارة

• فقال له ابن عبّاس: واللهِ إنّي لَأظنّك ستُقتَل غداً بين نسائك وبناتك، كما قُتِل عثمان بين نسائه وبناته، واللهِ إنّي لَأخافُ أن تكون الّذي يُقاد به عثمان، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فقال الحسين: «أبا العبّاس، إنّك شيخٌ قد كبرت» ((1)).

• فإن عصيتَني وأَبيتَ إلّا الخروج إلى الكوفة، فلا تُخرجنّ نساءك ووُلدك معك، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

فكان الّذي ردّ عليه: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبُّ إليّ من أن أُستحَلّ بمكّة».

ص: 115


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

فيئس ابن عبّاسٍ منه، وخرج من عنده ((1)).

• فقال له ابن عبّاس: أما إذا كنتَ لابدّ فاعلاً، فلا تُخرِج أحداً من وُلدك ولا حرمك ولا نسائك، فخليقٌ أن تُقتَل وهم ينظرون إليك، كما قُتل ابن عفّان.

فأبى ذلك ولم يقبله.

قال: فذكر مَن حضره يوم قُتل، وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته، وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتَل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاس فيما أشار علَيّ به ((2)).

• قال: فإن عصيتني فلا تُخرج أهلك ونساءك، فيُقال: إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فوَاللهِ ما آمَنُ أن تُقتَل ونساؤك ينظرن، كما قُتل عثمان.

فقال الحسين: «والله يا ابن عمّ، لئن أُقتل بالعراق أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((3)).

• عن المسعوديّ: وإن عصيتَني فاترك أهلك وأولادك هاهنا، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ عليك أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه وأهله ينظرون

ص: 116


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.
2- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
3- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

إليه.

قلت: وهذا معنى قول عليّ (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس، فإنّه ينظر مِن سترٍ رقيق.

فلمّا يئس ابن عبّاسٍ منه حزن لفقده ((1)).

* * * * *

يمكن التوقّف مع هذه النصوص في محطّات:

المحطّة الأُولى: إنْ كنتَ لابدّ فاعلاً!

قالوا:

فأبى الحسين (علیه السلام) إلّا أن يمضي إلى العراق، فقال له ابن عبّاس: واللهِ إنّي لَأظنّك ستُقتَل غداً بين نسائك وبناتك ... ((2)).

وقالوا أيضاً:

أما إذا كنتَ لابدّ فاعلاً، فلا تُخرج أحداً من ولدك ... ((3)).

ص: 117


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 343.
3- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.

يفيد قوله: «فأبى الحسين (علیه السلام) »، وقوله: «أما إذا كنتَ لابدّ فاعلاً».. أنّ نصائح ابن عبّاس وأدلّته كانت كافية، بَيد أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) تمنّع عليه وأبى أن يأخذ بها، فأقسم له ابن عبّاسٍ أنّه يظنّ أنّه سيُقتَل غداً بين نسائه وبناته، كذا قال ابن عبّاس: «غداً»، فهو يرى قتل سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) قريباً جدّاً وأكيداً جدّاً، وإن عبّر بلفظ الظنّ، فإنّ قسَمَه يفيد أنّ الظنّ هنا بمعنى اليقين.

ويمكن استشعار ما سيأتي في المحطّة الثانية من هذا التعبير.

المحطّة الثانية: إنْ عصيتَني

فإن عصيتني ((1)) وأَبيتَ إلّا الخروج إلى الكوفة، فلا تُخرجنّ نساءك ووُلدك معك ((2))..

لقد استعمل الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) الحِلم مع ابن عبّاس، وشرح له الظرف بتفاصيله على كلّ صعيدٍ وفي كلّ اتجاه، غير أنّه لا زال يلحّ ويرتكب ما لا تُحمَد عقباه ولا تُؤمَن بوائقه.

«فإن عصيتَني».. هل يرى ابن عبّاسٍ لنفسه على الإمام (علیه السلام) ولاية، فإذا ترك العمل برأيه يعتبره ابن عبّاس عاصياً، والعياذ بالله؟

ص: 118


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137 _ عن: المسعودي.
2- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.

أو يرى أنّه على صوابٍ جازمٍ حازمٍ قاطع، ويرى الإمام (علیه السلام) على خطأٍ أكيد، والعياذ بالله؟

أو يرى له على الإمام (علیه السلام) طاعة، فإذا أمره بأمرٍ ولم يأخذ به الإمام (علیه السلام) يدخل دائرة العصيان؟

هل يرى ابنُ عبّاسٍ نفسه ندّاً للإمام (علیه السلام) ؟

هل يرى ابنُ عبّاسٍ نفسه أعلم من الإمام (علیه السلام) وأعرف منه؟

كيف تجرّأ ابن عبّاسٍ على استعمال هذا اللفظ مع سيّد الكائنات وأعلم الخلق بعد مَن استثناهم الله؟

كيف اقتحم هذه المخاطر، وتجاوز الحدود وجانَبَ الأدب؟ أو أنّه يرى لنفسه مثل هذا الحقّ؟

نرجّح ترك التعليق على مثل هذه السفاهة وإساءة الأدب، ونرجو أن لا تكون أكيدة.

ولا يقال: إنّ استعمال لفظٍ في مقام الخطاب لا يعني بالضرورة لوازمه، فهو إنّما يريد أن يقول للإمام (علیه السلام) : إن لم تكن تعمل برأيي ولم تقبل منّي..

فإنّ السياق يشهد بخلاف هذا التأويل، وظاهر اللفظ يكذب مثل هذا التسويغ.

أضف إلى أنّ مثل ابن عبّاس وما يزعمه في نفسه وينعته به الآخرون لا تتمرّد عليه الكلمات والمفردات، وهو هاشميّ، وابن عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وابن

ص: 119

أمير المؤمنين (علیه السلام) !

علاوةً على ذلك، فإنّ الألفاظ والمفردات لها وقعها وجرسها ودلالاتها، ويمكن أن يختار اللفظ المناسب لمقام سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وكم أكّد الله (تبارك وتعالى) على اختيار الألفاظ ورعاية مقام المخاطب: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرينَ عَذابٌ أَليم﴾ ((1))، والآداب القرآنيّة والنبويّة الواردة في هذا الباب كثيرة، يُخرجنا ذِكرها عن موضوع الكتاب.

المحطّة الثالثة: النهي عن حمل العائلة

تكلّم ابن عبّاسٍ هنا بلهجةٍ هجوميّةٍ في محاولةٍ منه لتصوير صواب رأيه وما يذهب إليه.

ومن الغريب أنّه بعد أن حاول شتّى المحاولات وجرّب الأساليب، وسمع من الإمام (علیه السلام) ما يكفي العاقل لتصوّر الموقف، وقد أبان الإمام (علیه السلام) في أكثر من حوارٍ وأكثر من موقفٍ مع ابن عبّاس كلّ ما يؤهّل المخاطَب للفهم والاستيعاب، وكرّر عليه أنّه إنّما خرج من المدينة بعد أن حاصروه وأزعجوه وأغلظوا له وعاجلوه وخيّروه بين القتل المحتّم والمناولة للقرود، وأنّه يعاني من نفس التهديد بمضاعفاتٍ كثيرةٍ ترفع مستوى التهديد إلى حدّ التنفيذ

ص: 120


1- سورة البقرة: 104.

الجزميّ، وأنّه إن بقي في مكّة فإنّه عُرضةً للاغتيال أو الأخذ، ولم يرعوِ ابنُ عبّاسٍ ولم يُدرك ظرف الإمام (علیه السلام) والخطر الجدّيّ المحدق به، أو أنّه لم يُرد ذلك.

عاد ابن عبّاسٍ ليحذّر الإمام (علیه السلام) ، ويكلّمه بلهجة المهدِّد والكاشف له عن المستقبل الخطير، وهو بذلك ينمّ عن قناعته الراسخة أنّ سفر الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة سيكون عاقبته القتل المحتوم، غير أنّه غفل أنّ المخاطر المحيطة بالإمام (علیه السلام) بذاتها تهدّد أهله وعياله وإخوانه وأخواته ونساءه وأطفاله وباقي عياله.

وغفل _ على ما يبدو _ أنّ نفس إخراج الأهل والعيال والنساء والأطفال مع الإمام (علیه السلام) شاهدٌ قويٌّ على أنّ الإمام (علیه السلام) لم يخرج من المدينة لحرب الطاغوت والإعداد لإسقاطه وإنزاله من أعواد المنبر المغتصَب، وإنّما هو قد خرج مهدَّداً في نفسه وأهله، ولم تكن بلدةٌ بعد الحرمَين الآمنَين آمنةً له ولهم.

لم يخرج _ فداه العالمين _ بعُدّةٍ وعَدد، ولم يستنهض أحداً، وإنّما خرج متخفّياً من المدينة، ودخل مكّة مستأمِناً، وخرج منها قاصداً الأرض الّتي وعده فيها الأبرار الأوفياء بالنصرة، ووعده الزبد المتموّج المتلوّن بالنصرة أيضاً، فوجد فيها ما لم يجده في مكّة والمدينة، فهو يريد أن يتوجّه إليهم على أن تبقى العائلة في حمايته وحماه وحماية الأشاوس الأبطال من

ص: 121

الهاشميّين، من قبيل عليّ بن الحسين السجّاد وعليّ الأكبر وأبي الفضل العبّاس، وغيرهم من الأنصار الّذين بذلوا مُهجَهم دون آل الله.

وسيأتي الحديث عن سبب إخراج الإمام (علیه السلام) عائلته معه مفصّلاً في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

المحطّة الرابعة: أسباب التحذير عن حمل العائلة

روى ابن سعدٍ وابن عساكر والمزّي وابن كثير وغيرهم أنّ ابن عبّاسٍ حذّر الإمام (علیه السلام) من حمل بناته ونسائه وأولاده معه؛ لئلّا يُقتَل وهم ينظرون إليه، تماماً كما قُتِل عثمان، وأكّد للإمام (علیه السلام) أنّه يخاف أن يكون الّذي يُقاد به عثمان ((1)).

وفي لفظ الخوارزميّ تصريحٌ يشرح معنى القود المذكور في كلام ابن عبّاس:

ص: 122


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرَج: 72، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

فيُقال: إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فوَاللهِ ما آمَنُ أن تُقتَل ونساؤك ينظرن، كما قُتل عثمان ((1)).

قد يبدو للوهلة الأُولى أنّ ابن عبّاس يخاف على العائلة أن تُروَّع بالنظر إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) وهو يُقتَل، غير أنّ متابعة النصوص تفيد أنّ ما يريد التركيز عليه ابن عبّاسٍ هو ليس هذا، وإنّما هو أن يُقاد لعثمان من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فيقتلونه بنفس القتلة الّتي قُتل بها صاحبهم.

فالمهمّ في الكلام إذن هو: (القود) و(الثأر) لدم عثمان، وليس كلام ابن عبّاس هذا غريباً، فهو يحاكي _ بنحوٍ ما _ ما صرّح به القرد المخمور في مجلسه يوم وضع رأس ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) بين يديه وجعل يضربه بمخصرته ويتبجّح بالأبيات المعروفة الّتي خاطب بها فطائسهم في بدر: «ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ...».

وهو نفس مؤدّى كلام ابن زيادٍ يوم أمر بمنع الماء عن سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهله ورهطه وعياله، ليُقتَل عطشاً كما قُتل عثمان.

فابن عبّاس هنا يُخبِر عن دوافع القوم وكوامنهم، ويريد أن يُعرِب لسيّد الشهداء (علیه السلام) عن أمرٍ غير خفيّ عليه..

أجل، لقد عَدَوا على خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ومَن معه من آل الرسول (صلی الله علیه و آله) ، فقتلوهم ثأراً لدماء فطائسهم وثأراً لدم عثمان الّذي قاتلوا

ص: 123


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

بذريعته سيّد الوصيّين وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإنّ حربَي الجمل وصفّين ما كانتا إلّا بهذه الذريعة، سواءً أكانوا مجدّين في ذلك أو أنّهم اتّخذوه ذريعةً ليصلوا إلى مآربهم.

فالانتقام لدم عثمان من الدوافع المهمّة الّتي دفعَت العدوّ لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما كان الانتقام لفطائس بدر والجاهليّة دافعاً أساسيّاً لارتكابهم الجناية العظمى في تاريخ البشريّة.

وفي ذلك إشارة _ بل دلالةٌ واضحة _ أنّ العدوّ كان قاصداً دم سيّد الشهداء (علیه السلام) ، مخطِّطاً مبيِّتاً له عازماً على قتله، بل كان عازماً على قتله على مرأىً من نسائه وبناته وأولاده، فكان العيال والنساء والبنات والأولاد مقصودين تماماً كما كان سيّد الشهداء (علیه السلام) بنفسه مقصوداً مطلوباً.

فإذا كانت خطّة العدوّ تقوم على الانتقام لدم عثمان من أمير المؤمنين ومن سيّد الشهداء (علیهما السلام) وقتل ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) على النحو الّذي قتلوا به عثمان، فإنّ هذا يؤكّد أنّ العيال والنساء والبنات كانوا هدفاً للعدوّ.

لقد أصحر ابن عبّاس هنا عن واحدٍ من أهمّ العوامل والدوافع المحرّكة للعدوّ نحو قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، سواءً كان ذلك بتحليله من خلال قراءته للأحداث ومعرفته بالعدوّ وأخلاقيّاته وسلوكيّاته وأحقاده وأضغانه، أو كان ذلك لشيءٍ سمعه منهم أو تتبّعه في تصريحاتهم سابقاً ولاحقاً.

ولنا مع كلام ابن عبّاس هذا وقفةٌ طويلةٌ إن شاء الله فيما بعد عند دراسة دوافع القوم لقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وبيان أنّ حركة سيّد

ص: 124

الشهداء (علیه السلام) كانت دفاعيّةً محضةً منذ خروجه من المدينة إلى حين استشهاده، وأنّ القوم كانت عندهم محرّكاتٌ ودوافع وثارات لا تسكن دون قتله وسبي عياله، وأهدافٌ لا تتحقّق إلّا بسفك الدم المقدّس ودماء من معه.

المحطّة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام)
اشارة

رُويَت عدّة أجوبةٍ للإمام (علیه السلام) على هذا المقطع من كلام ابن عبّاس:

الجواب الأوّل: «إنّك شيخٌ قد كبُرتَ»
اشارة

يبدو أنّ أوّل مَن روى هذا الجواب هو ابن سعد، وهو الأقدم، وتبعه كثيرون، وهم الأكثر بالقياس إلى الأجوبة الأُخرى.

ويمكن الإشارة إلى بعض ما يمكن أن يُلاحَظ في هذا الجواب:

الإشارة الأُولى: إنّك شيخ!

ورد في حديث أهل البيت (علیهم السلام) أنّ مَن تجاوز الأربعين من عمره فهو شيخ، وبهذا يصدق على ابن عبّاسٍ أنّه شيخٌ من حيث سِنّه.

بَيد أنّه لم يكن في عمره أكبر من الإمام الحسين (علیه السلام) كثيراً، فهو على أعلى التقادير في سِنّه أنّه كان يوم رحيل رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الثالثة عشر من عمره، فتكون ولادته ثلاث سنين قبل الهجرة، فهو بحساب السنين أكبر من سيّد الشهداء (علیه السلام) بخمسٍ أو ستّ سنين على أقصى التقادير.

أي: أنّه يربو على الستّين بسنتين أو ثلاثٍ يوم الطفّ.

ص: 125

وهذا الفاصل القصير في السنّ بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس لا يجعل لكلمة: «إنّك شيخٌ قد كبرت» ((1)) معنىً ومؤدّىً سوى التوبيخ والتعريض!

وبكلمةٍ أوضح: إنّها كنايةٌ عن الخرف والخطَل والتخليط وضعف العقل وسخفه وانطماس المدارك..

فكأنّ الإمام (علیه السلام) _ حسب هذا النصّ _ يقول لابن عبّاس: إنّك شيخٌ مخرّفٌ لا تعي ما تقول، ورأيُك أفن، ونظرك لا يمكن الاعتماد عليه، فدَعْك عنّي.

الإشارة الثانية: أدب سيّد الشهداء (علیه السلام)

ربّما يُعترض على مثل هذا الجواب فيقال: إنّه لا ينسجم مع ما عرفناه من أدب سيّد الشهداء (علیه السلام) والأئمّة النجباء (علیهم السلام) في الحديث مع من يكبرهم في السنّ، ولو كان بسنةٍ أو سنتين، وبرعايتهم لحرمة الرحم، والصلة والقرابة والصداقة والصحبة، بل مطلق الأدب في خطاب الآخَر،

ص: 126


1- ترجمة الإمام الحسين من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164. سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

وإن كان من الأعداء، ولنا في خطابات سيّد الشهداء (علیه السلام) مع أعدائه وقتلَتِه في كربلاء شاهدٌ ودليل، فهو قد خاطب أعداءه وقتلَتَه في أشدّ ساعات كربلاء كرباً وبلاءً ومصيبةً وعناء، بعد أن ترجّل للموت على رمضاء كربلاء وحالوا بينه وبين رحله، فصاح بهم معدن الأدب والكرم والإباء:

«ويحكم يا شيعة آل سفيان! إنْ لم يكن دينٌ وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم أعراباً كما تزعمون».

فناداه الشمر بن ذي الجوشن (لعنه الله): ماذا تقول يا حسين؟

قال: «أقول: أنا الّذي أُقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس لكم عليهنّ جناح، فامنعوا عُتاتكم وطغاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمتُ حيّاً».

فقال الشمر: لك ذلك يا ابن فاطمة.

ثمّ صاح الشمر بأصحابه وقال: إليكم عن حريم الرجل، واقصدوه في نفسه ... ((1)).

ص: 127


1- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 214، ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 74، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 407، تاريخ الطبري: 5 / 450، نهاية الإرب للنويري: 20 / 58، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 187، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 79، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 72، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 2 / 32، الكامل لابن الأثير: 3 / 294.

فربّما قيل: إنّ من البعيد جدّاً أن يخاطب سيّد الشهداء (علیه السلام) ابن عبّاس بهذا الخطاب القويّ.

وربّما قيل: إنّ الموقف كان يستدعي ذلك، إذ أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد داراه مداراةً عظيمة، وفهّمه وشرح له في أكثر من موقفٍ وموطنٍ بواضح العبارة، وبيّن له الظروف والضرورات بما تتّضح معه الصورة للأعمى والغبيّ، فلا داعي للإصرار، فربّما كان الموقف يستدعي أن يوبّخ ابنَ عبّاسٍ توبيخاً يُوقِفه عند حدّه، لأنّه قد تطاول على الإمام (علیه السلام) وتعامل معه بجفوةٍ وقسوةٍ وسوء أدب، وخاطبه مخاطبة الآمِر الناهي المتعالي عليه في المقام، وكأنّه له على الإمام (علیه السلام) طاعةٌ واجبة، وانقيادٌ مفروض، وتسليمٌ حتميّ، فوضعه الإمام (علیه السلام) في الحجم المناسب له، ليسكت ويعرف كيف يتكلّم إذا وقف بين يدَي العظماء أولياء الله الّذين فرض الله طاعتهم.

وقد عامله الإمام (علیه السلام) بأدبه الرفيع، حيث كنّى له كنايةً ليّنةً جميلة، ولم يستعمل معه الكلمات القويّة الصريحة الّتي يمكن أن تلكمه، والمفردات في جميع اللغات كلّها طوع الإمام (علیه السلام) ، والله العالم.

وربّما قيل: إنّ في هذا الجواب فائدةً أُخرى مهمّةً تأتي على بيان موقف ابن عبّاس من أوّله إلى آخره، وتكشف عن مدى صوابيّة تصريحاته واقتراحاته ومواقفه في تلك الآونة، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) قد أعلن عن خطل

ص: 128

رأي ابن عبّاس وتخليطه لأنّه قد كبر، فلا يُعتَدّ بأيّ شيءٍ يقوله أو يفوه به أو يقيّمه أو يقترحه أو يذهب إليه، فلا يمكن الارتكان إلى كلام ابن عبّاس بعدئذٍ والبناء عليه وتصويبه، أو جعله ممّا يُنظَر إليه ويُحسَب عليه.

وربّما شهد لذلك ما رواه الكلينيّ في (الكافي) الشريف، عن الإمام أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال:

بينا أبي جالسٌ وعنده نفر، إذا استضحك حتّى اغرورقت عيناه دموعاً، ثمّ قال: هل تدرون ما أضحكني؟

قال: فقالوا: لا.

قال: زعم ابنُ عبّاسٍ أنّه من ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ ((1))!

فقلت له: هل رأيتَ الملائكة يا ابن عبّاس تُخبرك بولايتها لك في الدنيا والآخرة مع الأمن من الخوف والحزن؟

وساق الحديث، وفيه أنّ الإمام (علیه السلام) يستضحك كلّما سأله فجهل الجواب.. إلى أن قال:

قال: فاستضحكت، ثمّ تركتُه يومه ذلك لسخافة عقله، ثمّ لقيتُه ... ((2)).

ص: 129


1- سورة فُصّلَت: 30.
2- الكافي للكليني: 1 / 247 ح 2.

إلى آخر الحديث، وسيأتي عن قريبٍ ذِكره كاملاً.

في هذا الحديث ما يفيد سخف عقل الرجل كما صرّح به الحديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) ، وهو عبارةٌ أُخرى عن قول الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) : «إنّك شيخٌ قد كبرت».

الجواب الثاني: «لئن أُقتَل خارج مكّة أحبّ»

سمعنا جواب الإمام (علیه السلام) في المصادر القديمة والمصادر الّتي تلتها، بَيد أنّ المسعوديّ روى جواباً آخر، ورواه الخوارزميّ بلفظٍ آخَر لا يشذّ كثيراً عن لفظ المسعوديّ:

• فكان الّذي ردّ عليه: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبُّ إليّ مِن أن أُستحَلّ بمكّة».

فيئس ابنُ عبّاسٍ منه، وخرج من عنده ((1)).

• فقال الحسين (علیه السلام) : «واللهِ _ يا ابن عمّ _ لئن أُقتَل بالعراق أحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون» ((2)).

وقد أتينا على بيان مؤدّى هذا الجواب في أكثر من موضع، فلا نعيد.

غير أنّنا نشير هنا إشارةً سريعة:

ص: 130


1- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.

إنّ ابن عبّاس ألحّ على الإمام (علیه السلام) بلهجة الآمِر والمحذِّر، وربّما أفاد كلامه التهديد، وحاول منع الإمام (علیه السلام) عن الخروج من مكّة، فإن عصاه! وأبى إلّا الخروج فلْيتجنب حملَ النساء والأولاد معه! كلّ ذلك والإمام (علیه السلام) يداريه ويجيبه بما يناسب المقام ويقبله العقل السويّ، وكان هذا الجواب من جملة تلك الأجوبة.

ذكرنا في أكثر من موضعٍ أنّ دراستنا هنا تقوم على أساس البحث التاريخيّ، فما كان من المتون والنصوص يفيد الإخبار الغيبيّ نقبل به ونعتقده، غير أنّنا نعامله معاملة الخبر التاريخيّ، ونحاول استنطاقه ضمن الضوابط التاريخيّة وفهم القارئ للتاريخ، بغضّ النظر عن الجانب الغيبيّ، مع التسليم به.

فكان الّذي ردّ عليه: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا أحبّ إليّ من أن أُستحَلّ بمكّة».

فيئس ابن عبّاسٍ منه وخرج من عنده.

فردّ الإمام (علیه السلام) على ابن عبّاس بقوله: «لئن أُقتَل واللهِ بمكان كذا» من دون تحديدٍ في لفظ المسعوديّ، وفي لفظ الخوارزميّ: «في العراق» باعتباره كان متوجّهاً إلى هناك، يفيد بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) يشير إلى حقيقةٍ ثابتةٍ تفيد أنّ الإمام (علیه السلام) إنْ بقيَ في مكّة فهو مقتولٌ لا محالة، وهو لا يحبّ أن تُستحَلّ به مكّة، فلابدّ والحال هذه من الخروج من مكّة لئلّا يقع المحذور.

وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) في تلك البرهة الحرجة من الزمان الصعب

ص: 131

كان مضطرّاً للخروج من مكّة؛ لأنّ بقاءه فيها يساوق قتله بلا أدنى شكّ، وهذا هو ما صرّح به الإمام (علیه السلام) في غير موضع.

وهذا يعني أيضاً أنّ دعوة ابن عبّاس الإمام (علیه السلام) للبقاء في مكّة دعوةٌ خاطئة.. باطلة.. زائفة.. سخيفة.. لا تُنتجُ سوى قتل الإمام (علیه السلام) في الحرم الإلهيّ.

فابن عبّاسٍ على أصحّ المحامل يكون مخطئاً في إلحاحه على الإمام (علیه السلام) ، وإصرارِه على بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة أو رجوعه إلى المدينة.

فلابدّ من الخروج عن مكّة.. ولكن إلى أين؟

إلى اليمن؟! كما زعم ابن عبّاس في بعض النصوص، فقد أتينا على بيان خطأه، ويكفي في إثبات خطأ هذا الاقتراح إعراض الإمام (علیه السلام) عنه وترك العمل به، بغضّ النظر عمّا ذكرناه من الشواهد والمشاهد والظروف والأسباب.

وكذا الكلام في باقي البلاد الأُخرى ممّا كان يسمّى (بلاد المسلمين)، فلا يبقى إلّا العراق، وهو الموضع الّذي ذكره الإمام (علیه السلام) وقال: «لئن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ مِن أن أُقتَل بمكّة»، فقد ذكرنا في أكثر من موضع أنّ للإمام (علیه السلام) في العراق أنصاراً ربّانيّين ديّانين قليلين، وله أنصارٌ وَعَدُوه النصرة، وإن كانوا كاذبين، وهو ما لم يتوفّر في غيرها من البلدان، إضافةً إلى أنّ «ما قضى اللهُ فهو كائن»!

ص: 132

ومع ذلك، فقد وعد الإمام (علیه السلام) _ حسب متن الخوارزميّ _ أن يستخير الله وينظر ما يكون ((1))، وقد توجّه الإمام (علیه السلام) أخيراً إلى العراق، وهذا يعني أنّ الإمام (علیه السلام) قد استخار الله فخار الله له العراق، ونظر الإمام (علیه السلام) ما يكون، فكان نظره التوجّه إلى العراق، ولا تُقاس خيرة الله ولا يُقاس نظر الإمام (علیه السلام) بخيرة ابن عبّاس ونظره!

وبعد أن تبيّن مخالفة نظر ابن عبّاس وأمره وما ألحّ عليه وأمر به لخيرة الله وما اختاره الإمام (علیه السلام) ، يتبيّن بوضوحٍ خطأ ابن عبّاس ومجانبته للصواب.

الجواب الثالث: فأبى ذلك ولم يقبله

يبدو أنّ أبا الفرج ذكر نتيجة ما أدّى إليه اللقاء، فقال: «فأبى ذلك ولم يقبله» ((2)).

وقد عبّر المسعوديّ عن ذلك من خلال التعبير عن حال ابن عبّاس فقال: «فيئس ابن عبّاسٍ منه وخرج مِن عنده» ((3)).

وقول سبط ابن الجوزيّ: «فلمّا يئس ابن عبّاسٍ منه حزن

ص: 133


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
3- مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64.

لفقده» ((1)).

وكلا العبارتين توحيان للمتلقّي أنّ ابن عبّاس قد أدّى ما عليه من النصح، وقدّم للإمام (علیه السلام) الخيار الأفضل والموقف الأصوب، بَيد أنّ الإمام (علیه السلام) أبى عليه ولم يقبل منه، وقد حاول ابن عبّاسٍ مع الإمام (علیه السلام) كلّ محاولةٍ وسلك كلّ واد، وأتى بجميع الحجج والأدلّة المقنعة، لكنّه لم يفلح في إقناع الإمام (علیه السلام) ، فيئس منه وخرج من عنده، وممّا يشهد لمحاولتهم هذه ما سيأتي بعد قليلٍ في المحطّة القادمة.

وقد تبيّن لنا من قبل قليل أنّ هذا الإيحاء باطلٌ زائف، لا ينهض بما يريده المؤرّخ ولا يصمد أمام النقد.

ولو أغمضنا النظر _ وهو فرضٌ محال _ عن عصمة خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وعلمه الإلهيّ، فإنّ الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) _ وهو أكبر شخصيّةٍ وأعظم رجال عصره بلا منازع _ قد عاصر وعاش ما عاشه ابن عبّاس، ورأى ما رآه، فلو تعارض نظرهما وقولهما، فإنّ المرجّح بلا أدنى شكّ قول سيّد الشهداء (علیه السلام) ونظره، وفق الموازين الظاهريّة، وممارسة الإمام (علیه السلام) للقوم منذ عصر السقيفة، وهو في مركز الأحداث يعالج الناس والملوك والطواغيت معالجةً مباشرة، ويعرفهم ويراهم، ولا مقارنة في زمانه بينه وبين ابن عبّاس، ولا غير ابن عبّاس من جميع البشر.

ص: 134


1- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.
المحطّة السادسة: تذكّر الإمام (علیه السلام) إشارة ابن عبّاس يوم عاشوراء
اشارة

روى أبو الفرج الأُمويّ في (مقاتله) قائلاً:

فذكر مَن حضره يوم قُتل، وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته، وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاس فيما أشار علَيّ به ((1)).وعلّق سبط ابن الجوزيّ على نهي ابن عبّاسٍ عن إخراج النساء والبنات قائلاً:

قلت: وهذا معنى قول عليّ (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس، فإنّه ينظر من سترٍ رقيق.

فلمّا يئس ابن عبّاسٍ منه حزن لفقده ((2)).

* * * * *

يمكن نكز هذا الهراء بعدّة نكزات:

النكزة الأُولى: مؤدّى الكلام

كِلا المتنين يشيران إلى ندم سيّد الشهداء (علیه السلام) على مخالفة ابن عبّاس، وإقراره بصواب رأي ابن عبّاس!

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، ونستغفر الله

ص: 135


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

ونعتذر إلى مليكنا وسيّدنا وسيّد الخلق خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) مِن ذِكر هذا الهراء والكذب والافتراء التافه الساقط الهابط الّذي يجرح القلوب، ويعذّب الأرواح، ويصمّ الأسماع، ويخدش ساحة القدس، ويتعدّى على الحقّ والحقيقة، وينمّ عن نذالة، وتهاوٍ في القيَم، وانقلابٍ في الموازين، وتعرٍّ فاضحٍ للخداع، وتبديل نعمة الله، وتقديم الذنابى، وتصحيح غير المعصوم، والطعن بمن ليس فيه مغمَزٌ ولا مهمَز!

فبئس الكذبة الّتي تترك المتلقّي ذاهلاً حيالها، لا يدري كيف يستوعب جرأة هؤلاء الأوباش على أولياء الله الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً!

إنّ هذه الصورة الكالحة القبيحة المشوَّهة لا تستحقّ النقد والوقوف عندها، فهي محاولةٌ بائسةٌ يائسةٌ منكوبة، تحاول تقديم ابن عبّاس كرجلٍ يفوق هو وأبوه في النظر والتدبير واستشراف المستقبل أميرَ المؤمنين (علیه السلام) وأولادَه المعصومين (علیهم السلام) .

لم يكتفوا بتقديم ابن عبّاسٍ كعَلَمٍ منافسٍ وندٍّ لأمير المؤمنين، فوصفوه بحَبر الأُمّة، وترجمان القرآن، ومفسّر القرآن، وغيرها من الألقاب المغصوبة من أمير المؤمنين (علیه السلام) الّتي نحلوها له، ليجعلوه عَلَماً يمكن لرجالهم الاحتماء به، وتوظيفه كغطاءٍ شرعيّ يمتّ إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، بعد أن قرّروا أنّ العمّ أَولى بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) من ابن العمّ، وحاولوا جعل الرابط الوثيق _ في تصويرهم _ بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) من خلال ابن عبّاس الحبر العالم، كما وصفوه، ليكونوا على

ص: 136

تماسٍ بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وتحت غطاء بني هاشم بإزاء أمير المؤمنين (علیه السلام) وسيّد الوصيّين وصاحب بيعة الغدير.

لم يكتفوا بذلك، وإنّما جهدوا لقلب الصورة تماماً، وعرضِ العبّاس وابنه في صورةٍ تجعل لهم الحظّ الأوفر والعلم الأكبر والمقام الأقرب من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فوضعوا لتسريب هذه الفكرة المنكوبة المتهرّئة المفكّكة الأوصال والعُرى قصصاً وحكايات، كما سنسمع فيما يلي، والبحث في ذلك طويلٌ ليس هذا موضعه.

النكزة الثانية: بين أمير المؤمنين (علیه السلام) والعبّاس

زعموا أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال للعبّاس نفس ما زعموا أنّه قاله لابنه عبد الله، فقد روى ابن أبي الحديد قائلاً:

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، عن أبي المنذر وهشام ابن محمّد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال:

كان بين العبّاس وعليّ مباعدة، فلقي ابنُ عبّاسٍ عليّاً فقال: إنْ كان لك في النظر إلى عمّك حاجةٌ فأْتِه، وما أراك تلقاه بعدها.

فوجم لها، وقال: تقدّمْني واستأذِن.

فتقدّمتُه واستأذنتُ له، فأذن، فدخل، فاعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وأقبل عليٌّ (علیه السلام) على يده ورجله يقبّلهما!!! ويقول: يا عمّ، ارضَ عنّي، رضيَ الله عنك. قال: قد رضيتُ عنك.

ص: 137

ثمّ قال: يا ابن أخي، قد أشرتُ عليك بأشياء ثلاثة فلم تقبل، ورأيتَ في عاقبتها ما كرهت! وها أنا ذا أُشير عليك برأيٍ رابع، فإنْ قبلتَه وإلّا نالك ما نالك ممّا كان قبله.

قال: وما ذاك يا عمّ؟

قال: أشرتُ عليك في مرض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تسأله، فإن كان الأمر فينا أعطاناه، وإن كان في غيرنا أوصى بنا، فقلت: أخشى إن منعناه لا يعطيناه أحد بعده، فمضت تلك. فلمّا قُبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة، فدعوناك إلى أن نبايعك، وقلتُ لك: ابسِطْ يدك أُبايعك ويبايعك هذا الشيخ، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحدٌ من بني عبد مناف، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحدٌ من قريش، وإذا بايعَتْك قريشٌ لم يختلف عليك أحدٌ من العرب، فقلت: لنا بجهاز رسول الله (صلی الله علیه و آله) شُغل، وهذا الأمر فليس نخشى عليه. فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة، فقلت: يا عمّ ما هذا؟ قلت: ما دعوناك إليه فأبيت، قلت: سبحان الله، أوَ يكون هذا؟! قلت: نعم، قلت: أفلا يُردّ؟ قلت لك: وهل رُدّ مثل هذا قطّ. ثمّ أشرتُ عليك حين طُعن عمر، فقلت: لا تُدخِل نفسك في الشورى، فإنّك إن اعتزلتهم قدّموك، وإن ساويتهم تقدّموك، فدخلتَ معهم، فكان ما رأيت. ثمّ أنا الآن أُشير عليك برأيٍ رابع، فإن قبلتَه وإلّا نالك ما نالك ممّا كان قبله، إنّي أرى أنّ هذا الرجل _ يعني

ص: 138

عثمان _ قد أخذ في أُمور، واللهِ لَكأنّي بالعرب قد سارت إليه حتّى يُنحَر في بيته كما يُنحَر الجمل، واللهِ إن كان ذلك وأنت بالمدينة ألزمك الناس به، وإذا كان ذلك لم تنَلْ من الأمر شيئاً إلّا من بعد شرٍّ لا خير معه.

قال عبد الله بن عبّاس: فلمّا كان يوم الجمل عرضتُ له، وقد قُتل طلحة، وقد أكثر أهل الكوفة في سبّه وغمصه! فقال عليّ (علیه السلام) : أما والله لئن قالوا ذلك لقد كان كما قال أخو جعفي:

فتىً كان

يدنيه الغنى من صديقه

إذا ما هو استغنى

ويبعده الفقرُ

ثمّ قال: واللهِ لَكأنّ عمّي كان ينظر من وراء سترٍ رقيق، واللهِ ما نلتُ من هذا الأمر شيئاً إلّا بعد شرٍّ لا خير معه ((1)).

لا نريد المكث عند هذا الخبر المقرِف المقزّز، لأنّ قراءته تجرّ إلى الغثيان والتهوّع، لِما فيه من كذبٍ مهين، ونخشى أن نخرج من موضوعنا، إنّما ذكرناه هنا ليتبيّن لنا ربط الأحداث ومغازي خبراء الحياكة والافتراء، ورصف لَبِنات الهراء، ومزج ألوان الخدع لنسج صورةٍ لأشخاصٍ تُرفَع بإزاء أمير المؤمنين (علیه السلام) ومَن نصبه الله من فوق عرشه وفرضَ طاعته على الخلائق أجمعين.

هذا بغض النظر عمّا في الخبر من تهافتٍ وتفاصيل غير دقيقة، والطمعِ

ص: 139


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2 / 48.

في المُلك والسلطان والدنيا، والتعامل ضمن ضوابط السقيفة وما زعموه من موت رسول الله (صلی الله علیه و آله) دون أن ينصّ على أحدٍ من بعده، وكأنّ الأمر لم يكن فرضاً من الله (تبارك وتعالى)، وكأنّ يوم الغدير لم يكن، وكأنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) لا يدري شيئاً عن يوم الغدير، وكأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) لم يطلب كَتِفاً ودواةً ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً، ولم يُجابَه بتلك القسوة والجفاء فينادي الجلف الجافي على مرأىً ومسمع من أشرف الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) : «إنّ الرجل لَيهجر»! وكأنّ للعبّاس في الأمر نصيب، وكأنّ العبّاس نفسه لا يعرف النبيّ (صلی الله علیه و آله) وليس هو ابن أخيه، فيسأله فيكلّف أمير المؤمنين (علیه السلام) ليسأله، وكأنّ العبّاس كان مصيباً دائماً وأمير المؤمنين (علیه السلام) مخطأً دائماً..

والأكثر من ذلك كلّه، فإنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) يُقرّ ويعترف بذلك كلّه للعبّاس، ويُقرّ ويعترف بخطئه وصواب العبّاس في جميع تلك الموارد..

كذبوا والله وأثموا!!

إنّ هذا الخبر مفضوحٌ لا يحتاج إلى مناقشةٍ لمن اعتقد عصمة أمير المؤمنين (علیه السلام) وإمامته، بل لكلّ منصفٍ يعرف العبّاس ويعرف أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وعنده لُمّة مهما كانت سريعةً بالأحداث، ويكفي قراءته مرّةً واحدةً ليتبيّن العوار والنتن الّذي يطفح منه، فلا نبتعد عن موضوعنا في الاسترسال في دحض ما فيه من أكاذيب وإحَن وأهدافٍ مشبوهةٍ مموّهة.

بَيد أنّ قراءته تفيدنا في فهم ما نحن فيه من نسبة هذا القول لأمير

ص: 140

المؤمنين (علیه السلام) في حقّ ابن عبّاس، وكذا نسبته لأبي الشهداء (علیه السلام) في حقّه أيضاً، فالكذبة نابعةٌ من بئرٍ موبوءةٍ واحدة.

فربّما نسبوا هذا القول للعبّاس كإقرارٍ من الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بخطأه أمام عمّه العبّاس، وجروا في ذلك مع ابنه عبد الله، ثمّ كرّروها مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ليوعزوا أنّ العبّاس وأولاده أصحّ من أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده (علیهم السلام) ، وأعرف بالسياسة ومعالجة الأحداث.

أجل، إنّ ما يقوله العبّاس لا يخفى على أمير المؤمنين (علیه السلام) ولا على أولاده الميامين (علیهم السلام) ، غير أنّ العبّاس وربّما ابنه عبد الله أرادَوها مُلكاً ونالوها بعد حين، وسرَت في أولادهما الّذين قَتلوا عليها ومن أجلها أولادَ أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاد الحسين الأئمّة الميامين (علیهم السلام) .

النكزة الثالثة: متى وأين قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن عبّاس؟
اشارة

روى البلاذريّ فقال:

• حدّثنا عبّاس بن هشام، عن أبيه، عن جدّه محمّد بن السائب والشرقيّ بن القطاميّ قالا:

سمعنا الناس يتحدّثون بأنّ ابن عبّاسٍ خلا بعليٍّ حين أراد أن يبعث أبا موسى، فقال: إنّي أخاف أن يخدع معاوية وعمرو أبا موسى، فابعثني حكماً ولا تبعثه، ولا تلتفت إلى قول الأشعث وغيره ممّن اختاره. فأبى.

فلمّا كان من أمر أبي موسى وخديعة عمرو له ما كان، قال عليّ: للَّهِ

ص: 141

دَرُّ ابن عبّاس؛ إنْ كان لَينظر إلى الغَيب من سترٍ رقيق ((1)).

• وقال: قال ابن عبّاسٍ لعليّ: اجعلني السفير بينك وبين معاوية في الحكمين، فواللهِ لَأفتلنّ حبلاً لا ينقطع وسطه ولا ينبت طرفاه.

قال عليّ: لستُ من كيدك وكيد معاوية في شيء، واللهِ لا أُعطيه إلّا السيف حتّى يدخل في الحقّ.

قال ابن عبّاس: هو والله لا يعطيك إلّا السيف حتّى يغلب بباطله حقَّك.

قال عليّ: وكيف ذلك؟

قال: لأنّك اليوم تُطاع وتُعصى غداً، وإنّه يُطاع فلا يُعصى.

فلمّا انتشر على عليّ أصحابه، وابن عبّاس بالبصرة، قال: لله دَرّ ابن عبّاس؛ إنّه لَينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق ((2)).

• روى أبو عُبيدة القاسم بن سلام، عمّن حدّثه، عن أبي سنان العجليّ قال:

قال ابن عبّاسٍ لعليّ: ابعثني إلى معاوية، فواللهِ لَأفتلنّ له حبلاً لا ينقطع وسطه.

قال: لستُ من مكرك ومكره في شيء، ولا أُعطيه إلّا السيف حتّى يغلب الحقُّ الباطل.

ص: 142


1- أنساب الأشراف للبلاذري: 2 / 347.
2- أخبار الدولة العبّاسية لمؤلّفٍ مجهول: 37.

فقال ابن عبّاس: أو غير هذا!

قال: كيف؟

قال: لأنّه يُطاع ولا يُعصى، وأنت عن قليلٍ تُعصى ولا تُطاع.

قال: فلمّا جعل أهل العراق يختلفون على عليّ قال: للهِ دَرّ ابن عبّاس؛ إنّه لَينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق ((1)).

* * * * *

يمكن الإشارة هنا إلى عدّة تنويهات:

التنويه الأوّل: نقل قول الإمام (علیه السلام) فقط

لاحظنا عند مراجعة المصادر بحثاً عن هذا القول أنّ المترجمين لابن عبّاس ينقلون كلمة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) فقط دون نقل الحدَث الّذي صدرت فيه الكلمة، على فرض صدورها.

فربّما يُقال: إنّهم يريدون تسجيل نقطةٍ إيجابيّةٍ لابن عبّاس، ويقصدون بيان مدحه على لسان أمير المؤمنين (علیه السلام) وشهادته له، ولا يهمّهم بعدُ السببَ الّذي دعاه لهذه الشهادة.

وربّما قيل: إنّهم علموا أنّ ذكر القصة كاملةً تدعو المتلقّي إلى التوقّف والتريّث والمراجعة، فحذفوا ما يدعو إلى ذلك، والله العالم.

ص: 143


1- تاريخ الإسلام للذهبي: 3 / 538.
التنويه الثاني: مؤدّى الخبر

مؤدّى هذا الخبر هو ما قاله الزمخشريّ عند نقله الخبر، قال:

أشار ابن عبّاس على عليّ بشيءٍ فلم يعمل به، ثمّ ندم، فقال: ويحَ ابن عبّاس، كأنّما ينظر إلى الغيب من وراء سترٍ رقيق ((1)).

أجل، مؤدّى هذه الحكاية البائسة والحكاية السابقة الّتي رُويَت عن العبّاس وأمير المؤمنين (علیه السلام) أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) نَدِم!

ومؤدّاها أيضاً الّذي يفهمه أيّ عاقلٍ إذا قرأها بتأمّلٍ أو بغير تأمّل، أنّ ابن عبّاسٍ أعلمُ من أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وأعرف بالمستقبل، وأعرف بمعسكر أمير المؤمنين (علیه السلام) ومعسكر معاوية، وأنّ ابن عبّاس متمكّنٌ من استشراف المستقبل ومسلَّطٌ على أحداث المستقبل، وأنّه ينظر إليه من وراء سترٍ رقيق!

ولوازم قبول هذه الحكاية الخائبة وتتبّع مؤدّياتها سيُدخلنا في متاهاتٍ عقائديّة، ومخالفاتٍ للواقع، وانتكاسٍ في قوى التقدير والتقييم، وارتكاسٍ في ضلال، ويضطرّنا إلى الاختلاق، ويمشي بنا على غير الجادّة، ويرقل بنا في مسارب الاعوجاج والتلفيق، ولا نريد الجنوح والشذوذ بالاسترسال؛ خوفاً من الوقوع في مستنقع الإساءة إلى سيّد الأوصياء ومولى الموحّدين (علیه السلام) .

ص: 144


1- ربيع الأبرار للزمخشري: 3 / 302.
التنويه الثالث: «لو كُشف ليَ الغطاء ...»

لو بلغ ابنُ عبّاسٍ ما بلغ، فإنّ أقصى ما يبلغه أن يتشرّف ليكون تراب أقدام سيّد الوصيّين (علیه السلام) ، في كلّ صعيدٍ وعلى كلّ مستوىً في العلم والعمل، وهو لا يمكن أن يوازي أمير المؤمنين (علیه السلام) في شيءٍ أبداً، وقد أجمع الناس _ ولا يراجع في ذلك أحدٌ أبداً _ أنّ ابن عبّاس كان تلميذ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فإن كان ابن عبّاسٍ ينظر للغيب من وراء سترٍ رقيق، فإنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قد انكشف له الغيب انكشاف الشهادة، وأشدّ من ذلك، فهو القائل _ وهو الصادق المصدّق _ : «لو كُشفَ ليَ الغطاءُ لَما ازددتُ يقيناً» ((1)).

وقد قال ابن عبّاس: «عليٌّ (علیه السلام) عُلّم علماً علّمه رسولُ الله (صلی الله علیه و آله) ، ورسول الله (صلی الله علیه و آله) علّمه الله، فعِلمُ النبيّ (صلی الله علیه و آله) علمُ الله، وعلمُ عليٍّ (علیه السلام) من علم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وعلمي من علم عليّ (علیه السلام) ، وما علمي وعلمُ أصحاب محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) في علم عليّ (علیه السلام) إلّا كقطرةٍ في سبعة أبحر» ((2)).

وقال: «أُعطيَ عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام) تسعة أعشار العلم، وإنّه

ص: 145


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 112 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، المناقب للخوارزمي: 375، غرر الحكم للآمدي: 2 / 142 ح 1، إرشاد القلوب للديلمي: 1 / 124 الباب 27، مطلوب كلّ طالب: 3.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 92، أمالي المفيد: 236، أمالي الطوسي: 12 المجلس 1 ح 14.

لَأعلمهم بالعُشر الباقي» ((1)).

فربّما موّه الستر الرقيق على ابن عبّاسٍ فلم ينكشف له الغيب على الحقيقة، والإمام أمير المؤمنين هو عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) ، خزانة علم الله، وعَيبة علمه الّذي أعطاه الله علمه إلّا ما استأثر به لنفسه، وباب علم النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وقد ثبت ذلك للقاصي والداني والشريف والوضيع، والاسترسال في إثبات ذلك قد يُدخلنا في مقارنة الإمام (علیه السلام) إلى مثل هذه النظائر، وهو فعلٌ سقيمٌ خطير العواقب!

التنويه الرابع: ما عجز عنه الخوارج ناله ابنُ عبّاس

جهد الخوارج أن يستنطقوا الإمام (علیه السلام) بكلمةٍ تعطيهم أنّه قد أخطأ في موقفه في قصّة التحكيم واختيار الأشعريّ، فأبى عليهم الإمام (علیه السلام) ، وهو الحقّ وهو الإمام المبين، فحاربوه وقاتلوه على ذلك.

بَيد أنّ مثل هذه الحكاية البائسة نطقت على لسان أمير المؤمنين (علیه السلام) وجعلَته يقرّ بالندم والخطأ، وبصحّة قول ابن عبّاس الّذي ينظر إلى الغيب من وراء سترٍ رقيق! قد حُرم الإمام (علیه السلام) من هذا النظر وصار الستر الّذي يفصل بينه وبين الغيب كثيفاً سميكاً، وقد اعترف الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بهذه الفضيلة لابن عبّاس، وسجّل على نفسه ما سيبقى إلى أبد الدهر،

ص: 146


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 4 / 92، دلائل الإمامة للطبري: 22، الإستيعاب لابن عبد البرّ: 3 / 1104، شواهد التنزيل للحسكاني: 1 / 110 الرقم 123.

وحقّق للخوارج آمالهم وأثبت صحّة موقفهم.. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

التنويه الخامس: لا غضاضة على الإمام (علیه السلام) إذا أقرّ لابن عمّه!!

قال السيّد الخرسان (حفظه الله) بعد أن نقل رواية الذهبيّ:

فهذا الخبر وإن اشتمل على جهالةٍ في السند، فلا يجوز الاعتماد عليه فيما انفرد، لكن مرّ بنا ما يشبهه في أوّل خلافة الإمام (علیه السلام) ، وأحسب أنّ هذا هو ذاك حين قال لابن عبّاس: (دعني من هنيّاتك وهنيّات معاوية في شيء)، كما ورد في حديثٍ عند البلاذريّ قول الإمام (علیه السلام) في ابن عبّاس: (لله درّ ابن عبّاس؛ إن كان لَينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق)، والسند عنده ينتهي إلى محمّد بن السائب والشرقيّ بن القطاميّ، قال: سمعنا الناس يتحدّثون. إذن، فالخبر قد شاع وذاع حتّى صار يتحدّث الناس به.

ومهما يكن مدى صحّته، فالّذي لا شكّ فيه أنّ ابن عبّاسٍ كان مستشاراً أميناً عند الإمام (علیه السلام) ، وكان هو أيضاً مشيراً صادقاً، فلا غضاضة لو اختلفا في الرأي، كلٌّ حسب نظره وتكليفه، كما لا غضاضة لو قرّظ الإمام ابن عمّه عندما تتكشّف الحقيقة للناس كما رآها ابن عبّاس، وإن كان هو تلميذه ومن بحره ينزف، وهو القائل: ما علمي وعلم أصحاب محمّد (صلی الله علیه و آله و سلم) في علم عليٍّ إلّا كقطرةٍ في سبعة أبحر ...

ص: 147

وقد دلّت الأحداث الآتية على صحّة مضمون الخبر ((1)).

* * * * *

السند _ كما ذكر سماحة السيّد _ غير ناهض، والدلالة كما سمعنا قبل قليلٍ متهاويةٌ متهافتةٌ تافهة، فكيف يصحّ ويُعتمَد على الخبر، ويبرّر ولو على حساب الاعتقاد بأمير المؤمنين (علیه السلام) ومولى الموحدين من أجل إثبات شيءٍ لابن عبّاس؟!

أن لا تكون غضاضةٌ لو اختلفا في الرأي فنعم، كلٌّ حسب نظره، وقد اختلف أمير المؤمنين (علیه السلام) وعمر، واختلف أمير المؤمنين (علیه السلام) ومعاوية، أمّا أن يكون كلٌّ حسب تكليفه فلا، كيف وابن عبّاسٍ رعيّة الإمام (علیه السلام) وعليه أن يطيعه ولا يعصيه!

أجل، قد يُقال: كلٌّ حسب تكليفه بمعنى أنّ على ابن عبّاس المستشار أن يُبدي رأيه، سواءً كان مخالفاً للإمام (علیه السلام) أو موافقاً. فهو أيضاً لا يُقبَل على المستوى الاعتقاديّ؛ إذ ليس للرعيّة مع الإمام (علیه السلام) رأيٌ ونظر، فإن أبداه وتبيّن له أنّ قول الإمام (علیه السلام) يخالفه فعليه أن يرجع ولا يعتبر رأيه بعد ذلك، ويعتقد الخطأ فيما ذهب إليه، وقد قال له أمير المؤمنين (علیه السلام) : «لك أن تُشير علَيّ وأرى، فإن عصيتُك فأطعني» ((2)).

ص: 148


1- موسوعة عبد الله بن عبّاس للسيّد الخرسان: 4 / 137.
2- نهج البلاغة (صبحي الصالح): 531 الرقم 321.

أمّا أن يقال: لا غضاضة لو قرّظ الإمام (علیه السلام) ابن عمّه عندما تتكشّف الحقيقة للناس كما رآها ابن عبّاس.. فهذا ما لا يمكن المصير إليه، ولا القول به بحال، ونحن نخشى التعليق على هذا الكلام خوفاً من تعدّي حدود الأدب مع السيّد الخرسان (حفظه الله وأبقاه).

وإلّا، فالملاحَظ أنّ الخبر يؤكّد أنّ الحقيقة تكشّفَتْ لأمير المؤمنين (علیه السلام) لا للناس، ثمّ إن كان التكشّف قد حصل للناس، فهل كان هذا الانكشاف خافياً على الإمام (علیه السلام) أو لا؟ فإن كان غير خافٍ على الإمام (علیه السلام) فما معنى أن يقرّض الإمام (علیه السلام) ابن عبّاس في قضيةٍ كانت منكشفةً عنده؟ وإن كانت خافيةً على الإمام (علیه السلام) فالقول به مجازفةٌ ومخاطرةٌ ومخالفةٌ للاعتقاد بعصمة أمير المؤمنين (علیه السلام) !

وكيف يخفى على الإمام (علیه السلام) ويعلم ابن عبّاس، وابن عبّاسٍ تلميذه، وهو القائل: ما علمي وعلم أصحاب محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) في علم عليٍّ إلاّ كقطرةٍ في سبعة أبحر؟!

لا نحسب أنّ ابن عبّاسٍ بمنزلةٍ ومقامٍ يضطرّنا إلى محاباته على حساب أمير المؤمنين (علیه السلام) وحقّه وعلمه ومنزلته ومقامه!

التنويه السادس: الغرض من ذكر قصّة العبّاس وابنه

إنّما ذكرنا حكاية العبّاس وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وابن عبّاس وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وما زعموه من إقرار أمير المؤمنين (علیه السلام) لهما بالصحّة، واعترافه

ص: 149

أنّهما ينظران إلى الغيب من وراء سترٍ رقيق، وأنّه قد ندم حين مخالفتهما.. لنشير إلى أنّ ما نسبوه إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما هو في نفس السياق، وليس يبعد كثيراً عن محاولات الأُمويّين والعبّاسيّين في تشويه صورة أمير المؤمنين (علیه السلام) وأولاده المعصومين (علیهم السلام) ، وإثبات أنّ العبّاس وأولاده أَولى بالأمر؛ لِما فيهم من علمٍ في السياسة والمستقبل، وغير ذلك ممّا يُخرجنا عن موضوع دراستنا، ولكن نسوا أنّ الله (عزوجل) قال: ﴿وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ((1)).

النكزة الرابعة: سبقوا أبا الفرَج!

ذكر البلاذريّ والطبريّ وغيرهما خطبة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يوم عاشوراء، يعظ فيها القوم ويحذّرهم ويؤكّد لهم أنّه راجعٌ عنهم إن كرهوا مَقدَمَه عليهم، فلمّا انتهى من كلامه (علیه السلام) بكين أخواتُه، فسكّتهنّ، ثمّ قال: لا يبعد الله ابن عبّاس. وكان نهاه أن يُخرجهنّ معه ((2)).

وفي رواية الطبريّ: لا يبعد ابن عبّاس. قال: فظنّنا أنّه إنّما قالها حين سمع بكاؤهنّ، لأنّه قد كان نهاه أن يخرج بهنّ ... ((3)).

ص: 150


1- سورة التوبة: 32.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 396.
3- تاريخ الطبري: 5 / 424.

وقال ابن كثير: لا يُبعِد الله ابن عبّاس. يعني حين أشار عليه أن لا يخرج بالنساء معه ويدَعَهنّ بمكّة إلى أن ينتظم الأمر ((1)).

إنّ ما ذكره أبو الفرج لم نسمعه عند غيره، لا قبله ولا بعده، حسب فحصنا، وما ذكره سبط ابن الجوزيّ يشبه تماماً ما ذكره البلاذريّ والطبريّ وابن كثير، وهو يختلف تماماً عمّا ذكره أبو الفرج، إذ أنّ سبط ابن الجوزيّ والبلاذريّ وغيرهما إنّما طبّقوا من كلام الإمام (علیه السلام) على الموقف، فيما زعم الأوّل أنّ مَن حضره يوم قُتل ذكر التفاته إلى حرمه وإخوته وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتَل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاس فيما أشار علَيّ به ((2)).

وهو حدَثٌ لم نسمع به عند المتقدّمين، ولا عند المتأخّرين، ولا عند الأفّاكين، فمِن أين جاء به هذا الأُمويّ أبو الفرج؟ وهو لم يذكر لنا مَن هو هذا الّذي حضر وروى ما روى!

وكيف يقول الإمام (علیه السلام) ذلك وهو الّذي أكّد لغير واحدٍ أنّ الله شاء أن يراهن سبايا؟ وقد أفاد سير الأحداث بوضوحٍ أنّ تركهم في المدينة أو مكّة يعني تعريضهم إلى الخطر القطعيّ، وهذا ما سيأتي الحديث عنه في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

ص: 151


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 178.
2- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
النكزة الخامسة: لو دار الأمر بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس!

مؤدّى هذا الخبر البائس المأفوك أنّ ابن عبّاس كان قد نصح الإمام (علیه السلام) نصيحة، وقد عرف ما خفي على الإمام (علیه السلام) ، واستكشف المستقبل الّذي خفي على الإمام (علیه السلام) ، ثمّ إنّ الإمام (علیه السلام) وقف على صحّة ما قاله ابن عبّاس حين لا مناص، فاعترف له وأقرّ بصوابه.

نستغفر الله ونتوب إليه، ونعتذر من مولانا ومليكنا خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، بَيد أنّ ضرورة البحث تضطرّنا إلى ذِكر مثل هذه الترّهات والمجازفات والمخاطر الّتي تهوي بالإنسان في وديان الضلال والابتعاد عن الواقع.

أجل، الابتعاد عن الواقع، إذ لو دار الأمر بين تصحيح كلام ابن عبّاس وتصحيح كلام الإمام سيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، فلا يمكن قبول الأوّل بحال!

فلو أغمضنا النظر _ من باب فرض المحال _ عن عصمة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وعن علمه الإلهيّ، وعن الجوّ الّذي نشأ فيه، وهو جوّ النبوّة والوحي، فإنّ الإمام الحسين (علیه السلام) كشخصيّةٍ كان لا يُقاس بابن عبّاسٍ ولا بغيره من معاصريه في العلم والمعرفة ومعالجة القوم، ومعرفته بالأُمويّين وبيزيد، وبأهل البلدان الثلاثة (المدينة ومكّة والكوفة)، وبعساكرهم وأخلاقيّاتهم وسلوكيّاتهم وأضغانهم وأحقادهم، وغيرها ممّا أهّل ابن عبّاسٍ لما نسبوه إليه من معرفةٍ واستشرافٍ للمستقبل.

ص: 152

فقبول هذه الحكاية الممجوجة يخالف الواقع، ويقلب الموازين في معرفة الرجال، كيف والإمام الحسين (علیه السلام) هو الإمام المنصوب من الله المفترض الطاعة، وهو خزينة علم الله وعَيبته، وحكمه في ذلك حكم أبيه أمير المؤمنين (علیه السلام) !

المحطّة السابعة: موقف العقيلة الحوراء في رواية البحرانيّ

روى السيّد هاشم البحرانيّ وغيره نصّاً آخَر لهذا الإبراز وردّاً آخَر للإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، نقتصر على ذِكره دون التعليق عليه، رغم أنّ فيه فوائد جليلة، نترك استخلاصها للمتلقّي ولما سيأتي من البحث، إن شاء الله (تعالى).

روى السيّد البحرانيّ وغيره، قال:

فقال له ابن عبّاس: جُعلتُ فداك يا حسين، إنْ كنتَ لابدّ سائراً إلى الكوفة فلا تسير بأهلك ونسائك.

فقال له: «يا ابن العمّ، إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في منامي، وقد أمر بأمرٍ لا أقدر على خلافه، وأنّه أمرني بأخذهم معي».

وفي نقلٍ آخَر أنّه قال: «يا ابن العمّ، إنّهنّ ودائع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا آمَنُ عليهنّ أحداً، وهنّ أيضاً لا يفارقنني».

فسمع ابن عبّاسٍ بكاءً من ورائه، وقائلةً تقول: يا ابن عبّاس! تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلّفنا هاهنا ويمضي وحده؟! لا والله،

ص: 153

بل نحيى معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟

فبكى ابن عبّاسٍ بكاءً شديداً، وجعل يقول: يعزّ علَيّ واللهِ فراقك يا ابن عمّاه ((1)).

الإبراز الخامس: الردع بالاشتباك

فقال ابن عبّاس: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَنشبتُ يدي في رأسك، ولو أعلم أنّا إذا تناصينا أقمتَ لَفعلت، ولكن لا أخال ذلك نافعي.

فقال له الحسين (علیه السلام) : «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبُّ إليّ أن تُستحلّ بي»، يعنّي مكّة.

قال: فبكى ابن عبّاس ... ((2)).

سيأتي بعد قليلٍ الكلام في هذا الإبراز، وذِكرُ المصادر الأُخرى الّتي ذكرت هذا المعنى.

ص: 154


1- مدينة المعاجز للبحراني:243، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 247، وسائل المظفّري لليزدي: 436، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 157 و158.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164.

الحصة الخامسة: ردّ الإمام (علیه السلام)

لقد سمعنا ردود الإمام (علیه السلام) على ابن عبّاس في غضون الحديث عن الحوار الّذي دار بينهما، فلا حاجة للإعادة.

غير أنّنا نودّ التنويه هنا إلى نكتةٍ قد تظهر جليّةً لمن راجع جملة الردود والأجوبة المذكورة في المصادر، فهي في الغالب تؤكّد على الاستخارة والنظر فيما قال ((1))، وذكر كثيرون قول سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن عبّاس: «إنّك شيخٌ قد كبرت» ((2))، وذكر بعضٌ أنّ الإمام (علیه السلام) أكّد لابن عبّاس أنّ قتله خارج

ص: 155


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الكامل لابن الأثير: 3 / 275، نهاية الإرب للنويري: 20 / 406، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216.
2- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

مكّة أحبُّ إليه من قتله فيها؛ لئلّا تُستحلّ به مكّة ((1))، وتناثرت بعض الردود الّتي تفرّد بها بعضهم، من قبيل عزمه على اللحاق بابن عمّه مسلم، أو أنّ ابن عمّه كتب له باجتماع أهل الكوفة على نصرته، بالإضافة إلى ذكر الاستخارة والنظر، وغيرها من الردود ((2)).

فربّما أمكن الخروج بحصيلةٍ من جملة هذه الردود والأجوبة أنّ الأصل في جواب سيّد الشهداء (علیه السلام) لابن عبّاس كان يتعلّق بالوضع في مكّة، وليس الحديث عن الكوفة، فالمتلقّي لا يجد في كلام الإمام (علیه السلام) ما يفيد عزمه على مواجهة الطاغوت ومحاربة القرد حتّى اقتلاعه من أعواد المنبر الّتي تعلّق بها، وإنّما تعالج خطر بقائه في مكّة على نفسه وعلى عياله، وأنّه ينظر ويرى أيّ الخطرين أشدّ عليه وأكثر تنجّزاً.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يتحدّث مع ابن عبّاسٍ عن

ص: 156


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 216، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.
2- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، مقاتل الطالبييّن لأبي الفرج: 72، مروج الذهب للمسعودي: 3 / 64، نفَس المهموم للقمّي: 166.

عزمٍ لمواجهة الطاغوت وضرورته، وضرورة التضحية من أجل ذلك، وإنّما يتحدّث عن هجوم القرد المخمور المسعور وذئابه، والمكانِ الأفضل لردّ عاديتهم ودفعهم.

ص: 157

ص: 158

اللقاء الثاني: معاودة اللقاء

البلاذريّ

ثمّ عاد ابنُ عبّاسٍ إليه فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر فلا أصبر، إنّي أتخوّفُ عليك الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، فأقِمْ بهذا البلد، فإنّك سيّدُ أهل الحجاز، فإن أرادك أهل العراق وأحبّوا نصرك فاكتب إليهم أن ينفوا عدوَّهم، ثمّ صِرْ إليهم، وإلّا فإنّ في اليمن جبالاً وشعاباً وحصوناً ليس بشيءٍ من العراق مثلها، واليمن أرضٌ طويلةٌ عريضة، ولأبيك بها شيعة، فأْتِها، ثمّ أثبِتْ دُعاتك وكتبك، يأتك الناس.

فقال له الحسين: «يا ابن عمّ، أنت الناصح الشفيق، ولكنّي قد أزمعتُ المسير ونويتُه».

فقال ابن عبّاس: فإنْ كنتَ سائراً فلا تسِرْ بنسائك وأصبيتك، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ينظرون إليه.

ورُوي: أنّ ابن عبّاسٍ خرج من عند حسين وهو يقول: وا حسيناه!

ص: 159

أنعى حسيناً لمن سمع ((1)).

الدينوريّ

قالوا: ولمّا كان في اليوم الثالث عاد عبد الله بن عبّاس إلى الحسين، فقال له: يا ابن عمّ، لا تقرب أهلَ الكوفة، فإنّهم قومٌ غدَرَة، وأقِمْ بهذه البلدة، فإنّك سيّدُ أهلها، فإنْ أَبيتَ فسِرْ إلى أرض اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ طويلةٌ عريضة، ولأبيك فيها شيعة، فتكون عن الناس في عزلة، وتبثّ دعاتك في الآفاق، فإنّي أرجو إنْ فعلتَ ذلك أتاك الّذي تحبّ في عافية.

قال الحسين (علیه السلام) : «يا ابن عمّ، واللهِ إنّي لَأعلم أنّك ناصحٌ مُشفِق، غير أنّي قد عزمتُ على الخروج».

قال ابن عبّاس: فإن كنتَ لا محالة سائراً فلا تُخرج النساء والصبيان، فإنّي لا آمن أن تُقتَل، كما قُتل ابن عفّان وصبيته ينظرون إليه.

قال الحسين (علیه السلام) : «ما أرى إلّا الخروج بالأهل والوُلد».

فخرج ابن عبّاسٍ من عند الحسين ((2)).

ص: 160


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.
2- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.

الطبريّ

قال: فلمّا كان من العشيّ أو من الغد، أتى الحسينَ عبدُ الله بن العبّاس فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنّهم، أقِمْ بهذا البلد، فإنّك سيّدُ أهل الحجاز، فإنْ كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلْينفوا عدوَّهم، ثمّ أقدِمْ عليهم، فإنْ أَبيتَ إلّا أنه تخرج فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتُرسل وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الّذي تحبّ في عافية.

فقال له الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي واللهِ لَأعلمُ أنّك ناصحٌ مُشفِق، ولكنّي قد أزمعتُ وأجمعتُ على المسير».

فقال له ابن عبّاس: فإن كنتَ سائراً فلا تسِرْ بنسائك وصبيتك، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

ثمّ قال ابن عبّاس: لقد أقررتَ عينَ ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك، واللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو أعلم أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتَني، لَفعلتُ ذلك.

ص: 161

قال: ثمّ خرج ابن عبّاسٍ من عنده ((1)).

إبن أعثم

ثمّ بعد ذلك أقبل عبدُ الله بن عبّاسٍ إليه، فدخل وقال: يا ابن بنت رسول الله، إنّي قد رأيتُ رأيين إن قبلتَ منّي.

فقال الحسين: «وما ذاك؟».

قال: تخرج إلى بلاد اليمن؛ فإنّ فيها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلة، وإنّ لك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فإذا استوطنتَ بها اكتب إلى الناس وأعلِمْهم مكانك.

فقال الحسين: «يا ابن عمّي، إنّي لَأعلم أنّك ناصحٌ شفوق، ولكنّي أزمعتُ على المسير إلى العراق، ولابدّ من ذلك».

فأطرق ابن عبّاسٍ (رحمة الله) ساعة، ثمّ قال: يا ابن بنت رسول الله، إنْ كنتَ قد أزمعتَ ولابدّ لك من ذلك، فلا تسِرْ بنسائك وأولادك، فإنّي خائفٌ عليك أن تُقتَل، كما قُتل عثمان بن عفان وأهلُه ووُلده ينظرون إليه ولا يقدرون له على حيلة، واللهِ يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) لقد أقررتَ عين ابن الزبير بخروجك عن مكّة وتخليتك إيّاه هذا البلد، وهو اليوم لا يُنظَر إليه، فإذا خرجتَ نظر إليه الناس بعد ذلك.

ص: 162


1- تاريخ الطبري: 5 / 383.

فقال الحسين (رضی الله عنه) : «إنّي أستخير الله (تعالى) في هذا الأمر ماذا يكون».

قال: فخرج ابن عبّاس من عنده وهو يقول: وا حبيباه! ((1))

مِسكوَيه

فجاءه من الغد ابنُ عبّاسٍ وقال له: ابنَ عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّفُ عليك في هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، فأقِمْ بهذا البلد، فإنّك سيّدُ أهل الحجاز، فإنْ كان أهلُ العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلْينفوا عدوَّهم، ثمّ أقدِمْ عليهم، فإنْ أبيتَ إلّا الخروج فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشِعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت في عزلةٍ عن الناس، فتكتب وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك ما تحبّ في عافية.

فقال له الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي أعلم أنّك ناصحٌ شفيق، ولكنّي قد أجمعتُ على المسير».

فقال له ابن عبّاس: فإنْ كنتَ سائراً فلا تسِرْ بنسائك وصبيتك، فوَاللهِ إنّي أخاف أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه، وواللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو أعلمُ أنّي إذا أخذتُ بشعرك

ص: 163


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.

وناصيتك حتّى تجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتَني وأقمت، لَفعلت.

فلمّا أبى عليه قال له: قد أقررتَ عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه معك.

وخرج من عند الحسين ((1)).

الخوارزميّ

ثمّ عاد عليه ابنُ عبّاسٍ مرّةً ثانية، فأشار عليه بما أشار عليه أوّلاً، ونهاه أن يخرج إلى العراق، وأن يخرج بنسائه وأهله فيُقتَل وهم ينظرون إليه، كما قُتل عثمان وأهلُه ينظرون إليه فلا يقدرون له على حيلة، ثمّ قال: واللهِ يا ابن رسول الله لقد أقررتَ عينَي ابن الزبير بخروجك عن مكّة وتخليتك إيّاه في هذه البلدة، فهو اليوم لا ينظر إليه أحد، وإذا خرجتَ نظر الناس إليه بعدك.

فقال الحسين: «فإنّي أستخير الله في هذا الأمر، وأنظر ما يكون».

فخرج ابن عبّاسٍ وهو يقول: وا حسيناه! ((2))

إبن الجوزيّ

ثمّ عاد إليه فقال له: إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك أهل العراق، فإنّهم أهل غدر، أقِمْ بهذا البلد، فإنّك سيّد الحجاز، فإنْ

ص: 164


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217 و219.

كان أهلُ العراق يريدونك [فاكتب إليهم] فلْينفوا عدوّهم، وإن أبيتَ فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضة.

فقال: «قد أجمعتُ المسير».

قال: فلا تسِرْ بنسائك وصبيتك، فإنّي أخاف ما جرى لعثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه، ولقد أقررتَ عينَي ابن الزبير بتخليتك إيّاه بالحجاز، واللهِ لو أنّي أعلمُ أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتَني، لَفعلت.

ثمّ خرج ((1)).

إبن الأثير، النويريّ

قال: فلمّا كان من العشيّ أو من الغد، أتاه ابنُ عبّاسٍ فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاكَ والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنّهم، أقِمْ في هذا البلد، فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإنْ كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلْينفوا عاملَهم وعدوَّهم، ثمّ أقدِمْ عليهم، فإنْ أبيت إلّا أن تخرج فسِرْ إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ عريضةٌ طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن

ص: 165


1- المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.

يأتيك عند ذلك الّذي تحبّ في عافية.

فقال له الحسين: «يا ابن عمّ، إنّي واللهِ لَأعلمُ أنّك ناصحٌ مشفق، وقد أزمعتُ وأجمعتُ المسير».

فقال له ابن عبّاس: فإن كنتَ سائراً فلا تسِرْ بنسائك وصبيتك، فإنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

ثمّ قال له ابن عبّاس: لقد أقررتَ عين ابن الزبير بخروجك من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك، واللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو أعلم أنّي إنْ أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علينا الناس أطعتني فأقمت، لَفعلتُ ذلك.

ثمّ خرج ابن عبّاس من عنده ((1)).

إبن كثير

فلمّا كان من العشيّ أو من الغد، جاء ابن عبّاسٍ إلى الحسين فقال له: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تغترّنّ بهم، أقِمْ في هذا البلد حتّى ينفي أهل العراق عدوّهم، ثمّ أقدِمْ عليهم، وإلّا فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعة، وكُن عن الناس في معزل، واكتب إليهم وبثّ دعاتك فيهم، فإنّي أرجو إذا فعلتَ ذلك

ص: 166


1- الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الأرب للنويري: 20 / 408.

أن يكون ما تحبّ.

فقال الحسين: «يا ابن عمّ، واللهِ إنّي لَأعلمُ أنّك ناصحٌ شفيق، ولكنّي قد أزمعتُ المسير».

فقال له: فإن كنتَ ولابدّ سائراً فلا تسِرْ بأولادك ونسائك، فوَاللهِ إنّي لَخائفٌ أن تُقتَل، كما قُتِل عثمان ونساؤه ووُلده ينظرون إليه.

ثمّ قال ابن عبّاس: أقررتَ عينَ ابن الزبير بتخليتك إيّاه بالحجاز، فوَاللهِ الّذي لا إله إلّا هو لو أعلم أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتَني وأقمت، لَفعلتُ ذلك.

قال: ثمّ خرج من عنده ((1)).

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ

اشارة

فلمّا كان من الغد فإذا بعبد الله بن عبّاس وقد جاء إلى الحسين (علیه السلام) ثانياً، فقال: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك من هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قومٌ غدروا، فلا تأمنْهم، وأقِمْ بهذا البيت الشريف، فإنّك سيّد أهل الحجاز، وإنْ كان أهل العراق يريدونك كما زعموا اكتب إليهم ينفوا عاملهم ويُخرجوه عنهم، ثمّ تَقدِم عليهم، وإن رأيتَ فسِرْ إلى اليمن؛ فإنّ فيها حصوناً وشعاباً، وهي أرضٌ طويلةٌ عريضة،

ص: 167


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

ولأبيك بها شيعةٌ كثيرة، وتكون بها منعزلاً، فتكتب إلى الناس ويكتبون إليك، وتلبّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الفرج الّذي تحبّ في عافية.

فقال الحسين (علیه السلام) : «يا ابن عمّ، أعلمُ أنّك ناصحٌ مُشفق، ولكنّي قد أزمعتُ وأجمعتُ على المسير إلى هذا الوجه».

فقال له ابن عبّاس: فإن كنتَ سائراً ولابدّ فلا تسر بنسائك وصبيانك.

قال: «ولا أتركهم خلفي».

فقال له ابن عبّاس: واللهِ لو أعلمُ أنّي إذا أخذتُ بناصيتك وأخذتَ بناصيتي حتّى يجتمع الناس أطعتَني وأقمت، لَفعلت.

ثمّ خرج عنه ابن عبّاسٍ وهو يقول: واللهِ لقد قرّت عينُ ابن الزبير بمخرجك من الحجاز ((1)).

* * * * *

روت المصادر أنّ ابن عبّاسٍ بعد أن كلّم الإمام (علیه السلام) وردّ الإمام عليه خرج منه وقد يئس منه، ثمّ عاود اللقاء مرّةً أُخرى.

ويمكن استعراض جملةٍ من المطالب الّتي تحيط بالنصوص باعتبار أنّ أكثر مضامينها أو جميعها قد مرّت في اللقاء الأوّل أو اللقاءات السابقة،

ص: 168


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185 و187، نور الأبصار للشبلنجي: 257 _ 259.

وسنتناولها من خلال الإضاءات التالية:

الإضاءة الأُولى: زمن اللقاء

بعد الاتّفاق على حصول لقاءٍ ثانٍ بعد اللقاء الأوّل، اختلفوا في تحديد اللقاء الثاني..

فمنهم مَن اقتصر على العودة من دون تحديد زمن: «ثمّ عاد ابن عبّاسٍ إليه» ((1))، «مرّةً ثانية» ((2))، أو قال: «ثمّ بعد ذلك أقبل عبد الله بن عبّاس عليه» ((3)).

ومنهم مَن جعله في نفس اليوم في العشيّ أو غداة اليوم التالي: «فلمّا كان من العشيّ أو من الغد أتى الحسينَ عبدُ الله بن عبّاس» ((4)).ومنهم مَن بتّ أنّه كان في الغد: «فجاءه من الغد ابن عبّاس» ((5)).

ص: 169


1- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.
4- تاريخ الطبري: 5 / 383، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 408، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
5- تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

وجعله الدينوريّ في اليوم الثالث: «ولمّا كان في اليوم الثالث عاد عبد الله بن عبّاس إلى الحسين» ((1)).

هذه النصوص جميعها تفيد تكرّر اللقاء، وتتراوح المدّة بين العشيّ من نفس اليوم أو الغد، وبين اليوم الثالث الّذي انفرد به الدينوريّ.

الإضاءة الثانية: تداخل اللقاءات

المقارنة بين نصوص اللقاء الأوّل واللقاء الثاني قد تجعل المتلقّي يظنّ أنّ اللقاء واحد، فالمضامين المنقولة في اللقاءين متقاربة، بل ربّما كانت متشابهةً إلى حدٍّ كبير، وقد تُورِث عند المتلقّي تصوّراً يقضي تداخل اللقاءات والحوارات، بَيد أنّ التصريح بتكرّر اللقاء ووجود فاصلٍ زمنيّ بين اللقاءين يؤكّد عدم اتّحاد اللقاء بما لا يقبل التردّد.

وربّما كان الراوي والمؤرّخ دمج أحياناً بعض موادّ الحوار، فدخل ما كان في اللقاء الأوّل في اللقاء الثاني وكذا العكس، لكنّ هذا الاحتمال أيضاً يتزعزع حينما نقرأ المؤرّخ الواحد ينقل اللقاءين ومضامينها متتالية، ونجد نفس الموادّ تتكرّر في اللقاءين.

على كلّ حال، فإنّ ابن عبّاسٍ كان يلحّ ويصرّ على الإمام (علیه السلام) ويكرّر عليه نفس كلامه في لقاءاته، وكان الإمام (علیه السلام) يجيبه بأجوبةٍ مختلفة،

ص: 170


1- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243.

ويداريه ويوسّع من صدره الّذي وسع العالمين ووسع العلم الإلهيّ، صدرِه الشريف الّذي داسته خيلُ الأعداء بحوافرها.

الإضاءة الثالثة: معاودة اللقاء وتكرار الكلام

تكرّر اللقاء في الفترة الّتي سبقَت خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، فضلاً عن اللقاء السابق على ذلك، والغريب أنّ اللقاء كان يتكرّر بمضامينه، ويحتوي نفس المطالب من ابن عبّاس، ونفس الاقتراحات، ونفس الأُسلوب، ونفس السماجة والإلحاح والإصرار، والادّعاءات والمزاعم، ونفس الروح والنفَس وطريقة التعامل!

لله صبرك يا أبا عبد الله، حقّاً لقد عجبَت من صبرك ملائكةُ السماء!

لقد تقدّم المولى المكرّم محمّد ابن الحنفيّة بين يدَي أخيه وإمامه، وأبدى هواجسه ومخاوفه على الإمام (علیه السلام) ، وقدّم ما بدا له من اقتراحاتٍ كان يرى فيها خلاص الإمام (علیه السلام) من القتل المحتوم حسب مجريات الأحداث، فلمّا شرح الإمام (علیه السلام) له الموقف وكشف له عن عزم القوم على قتله وأنّ بقاءه في المدينة أو مكّة يؤدّي إلى استحلال حرمة البيت وهتك حرمة دمه المقدّس فيها، رجع باكياً مسلِّماً لإمامه.

وتقدّم عبد الله بن جعفر، وأنفذ ما اعتقد أنّه يمكن أن يُبعد عنه شبح مخاوفه على إمام زمانه (علیه السلام) ويدفع عنه القتل، فلمّا كلّمه الإمام (علیه السلام) سلّم أمره لإمامه، وقدّم أولاده ليدفعوا عن إمامه وإمامهم ويفدوه بأرواحهم.

ص: 171

وتقدّمت أُمُّ المؤمنين أُمّ سلَمة، وأبدت مخاوفها وافتجاعها بفراق الإمام (علیه السلام) وحزنها وتوجّسها من توجّهه إلى العراق، حيث أخبرها النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّه سيُقتَل هناك، فكلّمها الإمام (علیه السلام) ، فسلّمت له وأرخت عينها بالدموع.

غير أنّ ابن عبّاسٍ لا زال مصرّاً، كأنّه لا يسمع، أو يسمع ولا يعي ما يقوله الإمام (علیه السلام) ، أو أنّه لا يريد أن يسمع أو يعي.

ولا زال ابن عبّاسٍ مصرّاً على أُمورٍ تبعث في النفس الوساوس، فلماذا كلّ هذا الإصرار على تخطئة الإمام (علیه السلام) ، ومحاولاته المكرّرة لإقناع الإمام (علیه السلام) ليبقى في مكّة؟!

بعد أن أكّد له الإمام (علیه السلام) وشرح له بما لا مزيد عليه أنّ بقاءه في مكّة يعني قتله وهتك حرمة البيت بدمه المقدّس، وأنّه لا يحبّ ذلك، وفصّل له وأبان له، وعرّفه ما يترتّب على بقائه في مكّة، وما يترتّب على خروجه منها وتوجّهه نحو العراق، بقي ابنُ عبّاس مصرّاً على موقفه، يعاود الاقتراح مرّةً بعد أُخرى، ويكرّر نفس الكلام: لا تخرج إلى العراق، ارجع إلى مكّة، أو توجّه إلى اليمن!!

فإمّا أنّ ابن عبّاسٍ لا يفهم ولا يعي ولا يُدرك كلام الإمام (علیه السلام) ، وهو خلاف ما يزعمونه فيه من كونه حَبر الأُمّة وترجمان القرآن، وغيرها من الألقاب الّتي لا تنسجم مع هذا الفرض، إضافةً إلى أنّه هاشميّ!

وإمّا أن يكون خائفاً على الإمام (علیه السلام) حريصاً أن لا يُقتَل، غير أنّه لا

ص: 172

يعتقد بإمامته وعصته وفرض طاعته، فيفترض أنّ ما عزم عليه يحتمل الخطأ والصواب، وهو يرى خطأه وإمكانَ إقناعه ورَدِّه، فربّما استطاع أن يُوقفه على خطأه ويُرجعَه عمّا عزم عليه ويخلّصه من القتل.

وإمّا أن يكون متمرّداً، لا يريد التسليم للإمام (علیه السلام) ولإرادة الله المتمثّلة في إرادة سيّد الشهداء (علیه السلام) وخامس أصحاب الكساء، يفعل ذلك كلّه من أجل أن يدفع القتل بما يتصوّره صحيحاً.

وإمّا أن يكون قد كُلّف من قِبل السلطان بمهمّة الوساطة وإقناع الإمام (علیه السلام) بالمكث في مكّة، وهو لا يعلم أو لا يعي أنّ الطاغوت يريد أن ينفذ في الإمام (علیه السلام) مأربه وهدفه من خلال الاغتيال أو الأخذ، وهذا الفرض بعيدٌ باعتبار نباهة ابن عبّاس من جهة وعلمه المزعوم فيه، ويبعد الفرض أكثر أنّ الإمام (علیه السلام) قد صرّح له بذلك وأخبره أنّ بقاءَه في مكّة يعني قتله غيلةً أو أخذه أخذاً، فهل كان عليه أن يصدّق كلام الإمام (علیه السلام) أو كلام الطاغوت؟!

وإمّا أن يكون قد اقتنع بما خوّله السلطان وأعطاه من وسائل التأمين والأمان وكلّفه به من الوساطة، وأنّه سيّد أهل بيته وأنّه الكبير المطاع، فحاول توظيف ذلك، فربّما استطاع حقن الدماء ودفع القتل عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وظنّ أنّ القرد المخمور صادقٌ فيما زعمه وخوّله وكلّفه به، غير أنّه قد سمع من الإمام (علیه السلام) ما يكذّب ذلك، وقد تابع الأحداث عن كثبٍ ورأى بعينه الأخطار المحدقة بالإمام (علیه السلام) ، والوقائع المكذّبة للقرد

ص: 173

المخمور في مزاعمه، ولو لم يكن شاهداً على ذلك من الوقائع سوى إصراره على الإمام (علیه السلام) للبقاء في مكّة أو التوجّه إلى اليمن لَكفى، فهو إنّما كان يلحّ على ذلك لأنّه قد جزم من خلال الوقائع أنّ خروج الإمام (علیه السلام) إلى العراق سيؤدّي إلى قتله، وأنّ بقاءه في مكّة سيؤدّي إلى قتله، فحاول أن ينجو بالإمام (علیه السلام) من خلال توجيهه إلى اليمن إن لم يكن الإمام (علیه السلام) مقتنعاً بسلامة البقاء في مكّة.

وسيأتي الكلام بعد قليلٍ عن محاولة إبراز الإمام (علیه السلام) في صورة العازم على الانقضاض على مُلك القرد المخمور.

وكيف كان، فعلى أيّ محملٍ حُمل إصرار ابن عبّاسٍ وإلحاحه، فإنّه سيؤدّي إلى مزلقٍ خطيرٍ انزلق به المذكور إلى حافّة هاويةٍ لا يُرى قعرها، يمكن أن تتلخّص _ على أحسن التقادير وحُسن الظنّ _ في عدم تسليم ابن عبّاسٍ للإمام (علیه السلام) ، أو تخطئة الإمام (علیه السلام) في القرار الّذي اتّخذه في التوجّه إلى العراق، وصواب ابن عبّاسٍ فيما يراه مقابل ما قاله الإمام (علیه السلام) وعزم عليه.

الإضاءة الرابعة: رسم صورةٍ لحركة الإمام (علیه السلام) في كلام ابن عبّاس
اشارة

إقترح ابن عبّاس على الإمام (علیه السلام) في لقائه هذا أن يقيم في مكّة، لأنّه سيّد أهل الحجاز، فإن أراده أهل العراق وأحبّوا نصره فلْيكتُب إليهم

ص: 174

الإمام (علیه السلام) لينفوا عدوّهم، ثمّ يذهب إليهم، وإلّا فلْيرحل إلى اليمن، ثمّ يبثّ دعاته وكتبه فيأتيه الناس! ((1))

لقد ركّز ابن عبّاس في غير موضع على نفي العدوّ وإعداد الكوفة والاستيلاء عليها قبل دخول سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وتجنّب التوجّه نحوها ما دام فيها حاكمٌ قاهرٌ متسلّط، كما ركّز على التحصّن باليمن ومخاطبة الناس من هناك، حتّى يستحكم الأمر وتتوفّر العدّة والعدد اللازم، والانزعاج من إقرار عين ابن الزبير، وهذه هي المشكلة العويصة الّتي كان ابن عبّاس وأمثاله قد تورّطوا فيها، ولا ندري كيف احتوتهم الغشاوة الكثيفة الّتي منعتهم من فهم كلام الإمام (علیه السلام) وإدراك موقفه!

لم نسمع من الإمام (علیه السلام) _ إلى هذه الساعة على الأقلّ _ أيَّ تصريحٍ موثوقٍ به، أو أنّه يتحلّى بمستوىً من الوثوق بحيث يورث الاطمئنان أو يسمح للمتابع الاعتماد عليه والارتكان إليه، يفيد عزماً ممّا يزعمه ويرسمه يزيد وابن عبّاس وابن عمر وغيرهم.

ص: 175


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373، الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، تاريخ الطبري: 5 / 383، الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الأرب للنويري: 20 / 408، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

لم يصرّح الإمام (علیه السلام) ولم يشر إلى عزمه على الاستيلاء على الكوفة أو الاستيلاء على السلطة والحكم واقتلاع القرود من أعواد المنبر الّذي نزوا عليه..

وهنا مشكلتان:

المشكلة الأُولى: تصوير ابن عبّاس

نجد في موقف ابن عبّاس غموضاً يكتنفه لا نجرؤ على اقتحامه وفكّ رموزه احتراماً لابن عبّاس! إذ أنّه يحاول هو وأضرابه تصوير موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) وحركته في صورةٍ معيّنةٍ تخدم الطاغوت، رغم ما يسمعونه من أجوبةٍ متماثلةٍ ومتشابهةٍ وإصرارٍ واضحٍ من الإمام (علیه السلام) وتأكيداتٍ صريحةٍ تفيد أنّه في خطر، وأنّ حياته مهدَّدةٌ تهديداً جدّيّاً حقيقيّاً منجّزاً، وأنّه في موقف الدفاع المحض عن نفسه وأهل بيته آل الله، وأنّه في مقام ردّ عادية القرود المسعورة.

فلماذا بقي ابن عبّاس وأمثاله يلحّ على عرض الإمام (علیه السلام) في صورةٍ لم يرسمها الإمام (علیه السلام) نفسه؟!

المشكلة الثانية: متابعة ابن عبّاس

نرى في متابعات الآخَرين البناء على تصوير ابن عبّاس وأمثاله والإعراض عن أجوبة الإمام (علیه السلام) وردوده، وعدم ملاحظة الظروف المحدقة

ص: 176

بتواجد الإمام (علیه السلام) يومذاك في مكّة والمدينة وغيرهما، وملاحظة تحرّكات العدوّ وسوابقه.

فابن عبّاسٍ ومَن نسجَ على منواله لا يألوا جهداً أن يرسموا للإمام (علیه السلام) صورة الخارج على السلطة والحكم القائم، وهي نفس الصورة الّتي جهد العدوّ على رسمها لحركة الإمام (علیه السلام) ليسوّغ قتله ويبرّر جريمته الشنيعة، والحال أنّ جميع المؤشّرات تفيد أنّ الخارج المتجاوز المعتدّي المبتدئ بالهجوم هو العدوّ، وأنّ الإمام (علیه السلام) كان في موقف الدفاع عن نفسه وأهل بيته.

وقد شرح الإمام (علیه السلام) في أكثر من موقفٍ لابن عبّاس وغيره الظروف التي اضطرّته للهجرة من مدينة جدّه ومسقط رأسه والاستجارة ببيت الله الحرم الآمن، وكشف لهم الإمام (علیه السلام) بوضوح طريقة تعامل العدوّ معه، وإقدامه بجدٍّ وعزمٍ على قتله غيلةً أو أخذه أخذاً، وأجابهم أحياناً بأجوبةٍ مختصرة، كالتعويل على الاستخارة والنظر فيما يقولون، ولم يصرّح الإمام (علیه السلام) ولم يُصحِر لهم عن عزمه على ما يزعمونه.

رغم ذلك، لم يلتفت أحدٌ إلى ما يقوله الإمام (علیه السلام) ، ولم يدقّق في كلماته البيّنات الواضحات، وإنّما اعتُمِد كلام العدوّ وتصوير ابن عبّاس وغيره، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ص: 177

الإضاءة الخامسة: إقرار عين ابن الزبير
اشارة

روى الطبريّ وغيره، قال:

ثمّ قال ابن عبّاس: لقد أقررتَ عينَ ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز ((1)) والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك.. ((2)).

وقال ابن أعثم:

واللهِ _ يا ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) _ لقد أقررتَ عينَ ابن الزبير بخروجك عن مكّة وتخليتك إيّاه هذا البلد، وهو اليوم لا يُنظَر إليه، فإذا خرجتَ نظر إليه الناس بعد ذلك.. ((3)).

* * * * *

يمكن ملاحظة ما في النصّ من خلال عدّة متابعات:

المتابعة الأُولى: بداية الخبر

حسب تتبّعنا وفحصنا، يُعتبَر الطبريّ أوّل من روى تحسّس ابن عبّاسٍ من تخلية الحجاز لابن الزبير، وتحسّره على ذلك أثناء حواره مع

ص: 178


1- أُنظر: المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
2- تاريخ الطبري: 5 / 383، وانظر: تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 45، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 408.
3- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.

سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ لم نجده عند مَن سبقه من قبيل ابن سعدٍ والبلاذريّ والدينوريّ، كما ذكر ذلك ابن أعثم، وهو معاصرٌ للطبريّ، رغم أنّ من سبق الطبريّ وابن أعثم قد أتى على ذِكر الحوار واللقاء.

أجل، ذكر ابنُ سعدٍ كلام ابن عبّاس مع ابن الزبير، كما سنسمعه بعد قليل.

المتابعة الثانية: اهتمام ابن عبّاس وإعراض الإمام (علیه السلام)

يُلاحَظ أنّ مَن روى كلام ابن عبّاسٍ هذا لم يذكر تعليقاً للإمام (علیه السلام) عليه، وكأنّ الإمام (علیه السلام) لم يسمع من ابن عبّاسٍ ما قال، وأعرض عنه إعراضاً تامّاً، ولا يبدو أنّه اهتمّ بما قال، أو صدّقه، أو رضيَ به.

وذلك لأنّ الطريقة الّتي يفكّر بها ابن عبّاس وتصوّراته الّتي ابتنى عليها وتخيّلها متوهّماً لسبب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة تختلف تمام الاختلاف عن تلك الّتي شرحها له الإمام (علیه السلام) وبيّنها.

فاهتمام ابن عبّاسٍ ينصبّ على قصّة الحكم والسلطان، واهتمام الإمام (علیه السلام) يتركّز في حماية نفسه وأهله وعياله والبقيّة من آل رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ولا ندري ما الّذي جرى لابن عبّاس بحيث عجز عن التفكير إلّا بما يتوهّمه، وعجز عن فهم كلام الإمام (علیه السلام) وإدراك موقفه، وما الّذي دعاه إلى تجاهل سكوت الإمام (علیه السلام) وعدم ردّه على مثل هذه التصوّرات؟!

والحال أنّ ابن عبّاس قد سمع تعريض الإمام (علیه السلام) بابن الزبير وإشارته

ص: 179

إليه، وأنّه لا يحبّ أن يكون الّذي تُستباح به الكعبة!

ويشهد له ما رواه ابن سعدٍ وغيره، قال:

ثمّ خرج عبد الله بن عبّاس من عنده وهو مغضب، وابن الزبير على الباب، فلمّا رآه قال: يا ابن الزبير، قد أتى ما أحببت، قرّت عينُك، هذا أبو عبد الله يخرج ويتركك والحجاز.

ثمّ قال:

يا لكِ من قنبرةٍ بمعمرِ

خلا

لكِ الجوّ فبيضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري ((1))

وسيأتي قريباً مزيدٌ من النصوص والحديث في ذلك.

المتابعة الثالثة: رعاية حرمة الكعبة

صرّح الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في أكثر من موضع أنّه لا يحبّ أن تُهتَك به حرمة الكعبة والحرم، وهذا الأمر بالنسبة للإمام (علیه السلام) في غاية الأهمّيّة، والقضيّة فوق قضيّة الحكم والسلطان ومحاربة الأعداء، فالبيت الحرام مكانٌ مقدَّسٌ حُرّم فيه القتال إلّا في استثناءاتٍ خاصّة.

أمّا طلّاب الدنيا الّذين دلعوا ألسنتهم، فلا يهمّهم أن يسيل لعابهم النحس ودمهم النجس في أروقة المسجد الحرام، ولا يهمّهم أن تُهتَك أيُّ

ص: 180


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211.

حرمةٍ من حُرَم الله، ويتّخذون الدين آلةً للدنيا، فلا ضَير عند ابن الزبير والأُمويّين وأمثالهم من تدنيس المواطن المقدّسة وتعدّي حدود الله (تبارك وتعالى).

ولا ندري إن كان ابن عبّاسٍ يُدرك ذلك، أو أنّه كان يتجاهله، أو أنّه كان يتعامل مع الأُمور بنفس طريقة ابن الزبير؟!

المتابعة الرابعة: مقايسة الإمام (علیه السلام) بابن الزبير

ربّما فهم المتلقّي من كلام ابن عبّاسٍ للوهلة الأُولى أنّه يفضّل سيّد الشهداء (علیه السلام) على ابن الزبير، حيث أنّه كان يؤكّد أنّ أحداً لا يلتفت إلى ابن الزبير ما دام الإمام (علیه السلام) في مكّة، فإذا خرج التفت الناس إلى ابن الزبير، ولذا كان خروجه إقراراً لعين ابن الزبير، وهذا هو ما حاول المؤرّخ تمريره من خلال تعليقته على وجود سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة (أنّه كان أثقل الناس على ابن الزبير، لأنّه كان يعلم أنّ أحداً لا يبايعه ما دام الإمام الحسين (علیه السلام) فيها).

بَيد أنّ هذه الدعوى نفسها فيها مقارنةٌ غير منصفةٍ وباطلةٌ وتافهةٌ بين خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وابن الزبير، بحيث تجعل ابن الزبير بديلاً لسيّد الشهداء (علیه السلام) ومنافِساً له في الدعوة والشخصيّة، وكأنّ شخص ابن الزبير يأتي في المرتبة الثانية بعد الإمام الحسين (علیه السلام) .

كما يفيد نحواً من المقارنة بين الدعوتين، دعوة الإمام (علیه السلام) _ حسب

ص: 181

تصويرهم _ ودعوة ابن الزبير، وكأنّ الدعوتين من جنسٍ واحد، غير أنّ شخص الإمام (علیه السلام) يفوق شخص ابن الزبير، فلو غاب شخص الإمام (علیه السلام) بلغ ابن الزبير مقام الإمام (علیه السلام) بين الناس وبلغت دعوتُه منهم وأصابت مواضع القبول من قلوبهم، فأجابوه!

المتابعة الخامسة: اختلاف الأتباع

يبدو واضحاً لمن تتبّع الأحداث وتعرّف إلى الناس أنّ مَن يقتنع بدعوة ابن الزبير ويحبّه ويستجيب له غير مَن يشايع الإمام (علیه السلام) ويتابعه ويؤمن به.

وقد تبيّن فيما بعد الاختلاف البيّن بين الأتباع، وأنّ مَن كان مستعدّاً لبذل نفسه في دنيا ابن الزبير، أو كان قابلاً للتأثّر به، أو كان مؤهّلاً للاستجابة لضلالاته، لا يستجيب للإمام (علیه السلام) ولا يقبل منه.

وبكلمة: فإنّ أتباع ابن الزبير هم ممّن يصدق عليهم قول الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) : «الناس عبيد الدنيا ...»، وأتباع الإمام (علیه السلام) وشيعته _ في ذلك الموقف المشهود بالخصوص _ لا يمكن أن يكونوا إلّا من القلّة الديّانين.

المتابعة السادسة: كفاية مدّة الإقامة

كان الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مقيماً في مكّة أكثر من أربعة أشهر، وكانت هذه المدّة كافيةً لاجتماع الأنصار، لو وُجدوا، وكانت دعوة

ص: 182

الإمام (علیه السلام) _ بزعم ابن عبّاس _ كدعوة ابن الزبير، وكان ابن الزبير متواجداً في مكّة في نفس تلك الفترة.

فإن كان ابن عبّاس يقصد من إقناع الإمام (علیه السلام) البقاء في مكّة لجمع الأنصار لما يتصوّره هو في حركته، فقد كان في تلك الفترة الطويلة مدّة كافية لجمع الأتباع والأنصار والمحبّين، وقد تبيّن أن ليس في مكّة مَن يحبّ الإمام (علیه السلام) وينوي الذبّ عنه ومنعه والدفاع عنه، أو القيام معه لغرض الإطاحة بالحكم والاستيلاء على السلطان كما يتوهّم ابن عبّاس وأمثاله، وقد أتينا على بيان ذلك مفصّلاً، فلا نعيد.

المتابعة السابعة: تكثّر الجبهات

إن كان ابن عبّاسٍ يريد من بقاء الإمام (علیه السلام) منع ابن الزبير من جمع الأنصار والأتباع والوصول إلى غايته، فليس هذا النمط من التفكير والتدبير ممّا يليق بابن عبّاس، إذ أنّ منع ابن الزبير من تجميع الأنصار وصدّه عن فتح جبهةٍ جديدةٍ على العدوّ، وإرباك الأعداء ومشاغلتهم على أكثر من صعيدٍ وجبهةٍ وبلدٍ لا يخدم قضيّة الإمام (علیه السلام) .

فكلّما التهب الوضع ذلك اليوم، وتكثّر أعداء السلطة، وكثرت جبهات المعارضة والقتال، ضعف العدوّ عن محاربة الإمام (علیه السلام) ، وتشتّتت عساكره وتفرّقت أفكاره واهتماماته.

فلْتكن حركة في مكّة لمن لا يرى لها حرمة، ولتكن حركة في الكوفة،

ص: 183

وأُخرى في البصرة، وهكذا، كي يعجز العدوّ عن مواجهتها جميعاً في آنٍ واحد، ولا يكون الظفر إلّا لمن لا يرى الناس فيه عِدلاً لغيره، ولا يبايعون غيره أيّاً كان، وفق تقرير ابن عبّاس الّذي أكّد أن لا أحد يلتفت إلى ابن الزبير ما دام الإمام الحسين (علیه السلام) موجوداً.

المتابعة الثامنة: المواجهة بين الإمام (علیه السلام) ويزيد

ربّما كان من خطأ تقديرات ابن عبّاس ومَن كان يفكّر بطريقته، إذ صوّر من خلال قوله: إنّ خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة يقرّ عين ابن الزبير، أنّ ثَمّة منافسةٌ بين الإمام (علیه السلام) وابن الزبير في مكّة.

والحال أنّ العدوّ الّذي كان يتربّص بالإمام (علیه السلام) ويبغي له الغوائل ويبيّت قتله ويسعى في ذلك، إنّما هو يزيد وأذنابه وذئابه، وإن كان ابن الزبير يُضمِر العداء والحقد والضغينة للإمام (علیه السلام) ولآل رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، غير أنّه كان مشغولاً يومها بنفسه وبتحقيق غاياته، وعاجزاً عن مواجهة الإمام (علیه السلام) ومحاربته.

فالمواجهة الحقيقيّة يومها كانت مع يزيد، ولم تكن أيّ نوعٍ من أنواع المواجهة بين ابن الزبير وبين الإمام (علیه السلام) ، ولم تكن ثمّة مخطّطاتٌ للمواجهة بينهما، أو منافسةٌ كما يصوّرها كلام ابن عبّاس.

ص: 184

المتابعة التاسعة: الإمام (علیه السلام) يعمل بتكليفه

إنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) يعمل بتكليفه الإلهيّ، ويمتثل أمر الله، ولا تأخذه في ذلك لومة لائم، سواءً أكان في ذلك ما يقرّ عين ابن الزبير أو ما يسخنها، فليس رضى فلان وسخط فلان بذي بالٍ ولا ذي قيمةٍ بتاتاً فيما يفعله الإمام (علیه السلام) ويختاره، وهو خيرة الله، وإرادته إرادته، ولا يصدر فعلُه إلّا عن أمره، وليس رضى الإمام (علیه السلام) سوى رضى الله (عزوجل) ، فإن كان فيما يفعله رضى المخلوقين فهي سعادتهم وتوفيقهم، وإن كان فيما يفعله سخط المخلوقين فلْيسخطوا ليسخط الله عليهم.

فلا معنى لتحديد تكليفٍ للإمام (علیه السلام) رعايةً لما يُسخِط ابن الزبير أو يُرضيه، وما يقرّ عينه أو يسخنها.

وبكلمة: إنّ الأمر لا يتعلّق بالحكم والسلطان والاستيلاء على الدنيا، ليكون فيها مجالٌ لهذا النمط من التفكير الّذي يشي بروح الحسد والمنافسة والمسابقة في جمع الأنصار ولو على الباطل، والتحرّز عن تقديم المكاسب للمنافس، وغيرها من إفرازات التنافس على حطام الدنيا.

المتابعة العاشرة: جواب الإمام (علیه السلام) في نصّ ابن أعثم

إنّ مَن روى كلام ابن عبّاس هنا لم يذكر للإمام (علیه السلام) ردّاً عليه، إلّا ابن أعثم _ حسب فحصنا _ حيث عقّب على كلام ابن عبّاس بقوله:

فقال الحسين: «إنّي أستخير الله (تعالى) في هذا الأمر ماذا

ص: 185

يكون» ... ((1)).

وقد ورد نفس هذا الردّ في كلام المؤرّخين قبل هذا الموضع من كلام ابن عبّاس، وانتهى المقطع عندهم بتهديد ابن عبّاس أن لولا خوفه أن يُزرى به لَشبك يده في شعر الإمام (علیه السلام) حتّى يمنعه، ثمّ يخرج مغاضباً، أو يخرج وهو ينعى قتيل العَبرة.

أمّا ابن أعثم، فلو قُرئ متنه يتبيّن أنّه أخّر ردّ الإمام (علیه السلام) بالاستخارة والنظر عن الموضع المعتاد عند المؤرّخين إلى نهاية اللقاء، ليكون ردّاً على جميع ما قاله ابن عبّاس، فهو لا يبدو ردّاً خاصّاً بكلامه هذا على وجه التحديد.

وعلى فرض أنّه ردّ على هذا الكلام بالخصوص، فإنّه أيضاً أرجعه إلى الاستخارة والنظر فيما يكون من هذا الأمر، ويبدو واضحاً ما يحتويه من المداراة والحديث معه على قدر عقله.

الإضاءة السادسة: ابنُ عبّاسٍ ينعى الإمامَ (علیه السلام)
اشارة

روى جملةٌ من المؤرّخين ختام اللقاء الثاني على النحو التالي:

ورُوي أنّ ابن عبّاسٍ خرج مِن عند حسينٍ وهو يقول: وا

ص: 186


1- الفتوح لابن أعثم: 5 / 111، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.

حسيناه! ((1)) أنعى حسيناً لمن سمع ((2)).

وقال جماعةٌ سبقهم الدينوريّ:

فخرج ابن عبّاسٍ مِن عند الحسين ((3)).

وقال ابن أعثم:

فخرج ابن عبّاسٍ من عنده وهو يقول: وا حبيباه! ((4))

وربّما كان ما رواه ابن أعثم هو نفس ما رواه الخوارزميّ الّذي اعتاد النقل عنه، فحصل شيءٌ من التصحيف، ففي نصّ الخوارزميّ: «واحسيناه»، وفي نصّ ابن أعثم: «وا حبيباه»، وليس الأمر ذا بال.

* * * * *

يمكن تسليط بعض الأضواء على هذا المقطع من المتن:

الضوء الأوّل: ختامٌ غاضِب

مَن يعيش أجواء هذا اللقاء ويسمع خواتيمه حين تمنّى ابنُ عبّاسٍ أن

ص: 187


1- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 217.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3 / 373.
3- الأخبار الطِّوال للدينوري: 243، وانظر أيضاً: تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 408، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
4- أُنظر: الفتوح لابن أعثم: 5 / 111.

يأخذ بناصية الإمام ((1)) خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) وشعره! وغيرها من تهديداته في حال عصاه الإمام (علیه السلام) ولم يُطِعه _ حسب زعمه _، وطريقة حديثه مع الإمام (علیه السلام) .. يستشعر بوضوحٍ أنّ اللقاء قد انتهى وابن عبّاسٍ كان منزعجاً غاضباً، أمّا الإمام الحسين (علیه السلام) فهو رحمةٌ للعالمين قد وسع العالمين بحلمه وتحمّله وصبره.

فختام اللقاء ونهايته كان ختاماً مشدوداً متشنّجاً، بعيداً عن الرضى والتسليم للإمام (علیه السلام) وليِّ أمر ابن عبّاس والخلق أجمعين، سواءً أكان تمرّده على الإمام (علیه السلام) نابعاً عن شفقته وحرصه على الإمام (علیه السلام) ، أو كان لأيّ سببٍ آخَر.

ويشهد له ما رواه ابن سعد وابن عساكر _ واللفظ للأوّل _ :

ثمّ خرج عبد الله بن عبّاس من عنده وهو مُغضب، وابن الزبير على الباب، فلمّا رآه قال: يا ابن الزبير، قد أتى ما أحببت، قرّت عينُك، هذا أبو عبد الله يخرج ويتركك والحجاز ... ((2)).

ص: 188


1- أُنظر: تاريخ الطبري: 5 / 383، تجارب الأُمم لمسكويه: 2 / 54، المتنظم لابن الجوزي: 5 / 328، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
2- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211.

وكان ينبغي لابن عبّاسٍ أن يتذكّر في مثل هذا الموقف ما رواه نفسُه عن سيّد الشهداء (علیه السلام) :

روى ابن عبّاس: قال لي الحسين بن عليّ (علیه السلام) : يا ابن عبّاس، لا تتكلمنّ بما لا يعنيك، فإنّي أخاف عليك الوزر، ولا تتكلمنّ بما يعنيك حتّى ترى له موضعاً، فرُبّ متكلّمٍ قد تكلّم بحقٍّ فعِيب، ولا تمارينّ حليماً ولا سفيهاً، فإنّ الحليم يقليك، والسفيه يرديك، ولا تقولنّ خلف أحدٍ إذا توارى عنك إلّا مثل ما تحبّ أن يقول عنك إذا تواريتَ عنه، واعملْ عمَلَ عبدٍ يعلم أنّه مأخوذٌ بالإجرام مجزيٌّ بالإحسان، والسلام ((1)).

الضوء الثاني: دلالات النعي!

ربّما تفجّع ابن عبّاسٍ لما سيلقاه الإمام (علیه السلام) حبيبُ الله وحبيبُ رسوله (صلی الله علیه و آله) في سفره الّذي عزم عليه، تماماً كما تفجّعَت السيّدة الطاهرة أُمُّ سلَمة أُمّ المؤمنين، وكما تفجّع أهل البيت (علیهم السلام) ؛ لعلمهم أنّه سفرٌ لا عَود فيه، وقد ازداد ابن عبّاسٍ ألماً حين وجد نفسه عاجزاً عن إقناع الإمام (علیه السلام) ، وهو يعلم أنّه يسير والمنايا تسير معه.

ص: 189


1- موسوعة ابن عبّاس للسيّد الخرسان: 5 / 246 _ عن: كنز الفوائد: 194، الأعلام للديلمي: 145.

وربّما كان النعي بمعنى الإشادة بنفسه، سيّما أنّه أعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، وأكّد أنّه ينعى حسيناً لمن سمع، ليقول: إنّه قد نصح الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأخبره بما سيؤول إليه أمره، غير أنّ الإمام (علیه السلام) عصى وأبى أن يطيعه، على حدّ زعمه! فكانت النتيجة كما تنبّأ وأخبر، وكأنّه قد علم واستكشف واستشرف ما خفي على غيره حتّى على الإمام (علیه السلام) !

بَيد أنّ الناس جميعاً قد سمعوا إخبار خاتم الأنبياء (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) ، وغيرهما ممّن سبق ولحق من الأولياء (علیهم السلام) ، فإنْ أخبرَ فإنّما أخبر عنهم، لا باجتهاده ومعرفته بالأُمور والمستقبل وانكشاف الغَيب له من وراء سترٍ رقيق!

ص: 190

اللقاء الثالث: «لولا أن يُزرى بي أو بك لَشبكتُ بيدي في رأسك»!

اشارة

يمكن تقسيم متون هذا اللقاء إلى مشهدَين:

المشهد الأوّل: تتمّة اللقاء

اشارة

روى ابن سعد، وابن عساكر، وابن العديم، والمزّيّ، والذهبيّ، وابن كثير:

فقال الحسين: «أبا العبّاس، إنّك شيخٌ قد كبرت».

فقال ابن عبّاس: لولا أن يُزري ذلك بي أو بك لَنشبتُ يدي في رأسك، ولو أعلمُ أنّا إذا تناصينا أقمتَ لَفعلت، ولكن لا أخالُ ذلك نافعي ((1)).

ص: 191


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 60، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 211، تهذيب ابن بدران: 4 / 331، مختصر ابن منظور: 7 / 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 420، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 164، وانظر أيضاً: سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 200، تاريخ الإسلام: 2 / 343.

ثمّ قال ابن عبّاس: أقررتَ عينَ ابن الزبير بتخليتك إيّاه بالحجاز، فوَاللهِ الّذي لا إله إلّا هو، لو أعلمُ أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس أطعتني وأقمت، لَفعلتُ ذلك.

قال: ثمّ خرج مِن عنده ((1)).

وقال أبو الفرَج:

فلمّا أبى الحسين قبول رأي ابن عبّاس، قال له: واللهِ لو أعلمُ أنّي إذا تشبّثتُ بك وقبضتُ على مجامع ثوبك وأدخلتُ يدي في شعرك حتّى يجتمع الناس علَيّ وعليك كان ذلك نافعي، لَفعلتُه، ولكن أعلمُ أنّ الله بالغ أمره.

ثمّ أرسل عينيه فبكى، وودّع الحسين، وانصرف ((2)).

وقال ابن الصبّاغ، والشبلنجيّ:

فقال له ابن عبّاس: واللهِ لو أعلمُ أنّي إذا أخذتُ بناصيتك وأخذتَ بناصيتي حتّى يجتمع الناس أطعتَني وأقمت، لَفعلت.

ص: 192


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، وانظر أيضاً: المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الأرب للنويري: 20 / 408.
2- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.

ثمّ خرج عنه ابن عبّاسٍ وهو يقول: واللهِ لقد قرّت عينُ ابن الزبير بمخرجك من الحجاز ((1)).

* * * * *

يبدو لمن نظر في هذه المتون مدى التشنّج والغضب الحاكم على المشهد، وشدّة التعابير المستخدمة تخبر بوضوحٍ عن التهاب الموقف واشتعال اللقاء، فسيّد الشهداء (علیه السلام) ومعدن الحلم والكرم والجود ومكارم الأخلاق يقول لابن عبّاس _ وفق نصّ ابن سعد وآخرين _ : «أبا العبّاس، إنّك شيخٌ قد كبرت»، ويجابه ابنُ عبّاسٍ سيّدَه وإمامه ووليّ أمره بأشدّ العبارات الوقحة والتهديد القبيح، كما سنرى بعد قليل.

ويمكن أن نقرأ النصوص من خلال الشعلات التالية:

الشعلة الأُولى: معاني بعض الكلمات
اشارة

قبل الدخول في قراءة النصوص، نحاول بيان معاني بعض الكلمات الّتي استخدمها ابن عبّاس هنا:

الناصية:

واحدة النواصي، قُصاصُ الشَّعْر في مُقدَّم الرأس.

قال الأزهريّ: النَّاصِيَة عند العرب: مَنْبِتُ الشعر في مقدَّم الرأس، لا

ص: 193


1- الفصول المهمّة لابن الصباغ: 185، 187، نور الأبصار للشبلنجي: 257- 259.

الشَّعَرُ الّذي تسمّيه العامّة: النَّاصِيَة، وسُمّي الشعر ناصيةً لنباته من ذلك الموضع، وقيل في قوله (تعالى): ﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾، أي: لنُسَوِّدَنَّ وجهه، فكَفَتِ الناصِيَةُ، لأنّها في مقدّم الوجه من الوجه.

وقوله (عزوجل) : ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها﴾، قال الزجّاج: معناه في قَبْضَته تَنالُه بما شاء قُدرته، (أي: متمكِّنٌ منها) ((1)).

وقال ابن دريد: نَاصَيْتُه، جَذَبْتُ ناصِيَتَه ((2)).

ونَصَوتُه: قبَضْتُ على ناصِيَته فمددتُها.

وناصَيْتَ فلاناً إذا قاتلته، فأخذتما بناصِيَتَيْكما ((3)).

قال الطُّريحيّ:

قوله (تعالى): ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها﴾، أي: هو مالكٌ لها، قادرٌ عليها يصرفها على ما يُريدُ بها، والأخذ بالنواصي تمثيل.

قوله (تعالى): ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ﴾، قيل: يُجمَعُ بين ناصِيَته قَدَمِه بسلسلةٍ مِن وراءِ ظَهره، وقيل: يُسحَبُون تارةً بأخذ النواصي وتارةً بالأقدام.

وفي الحديث: «يُؤخَذُ الرجُلُ بلحيَتِه والمرأةُ بناصيتها»، أي: لَنذلّنّه

ص: 194


1- المفردات للراغب: نَصَا.
2- لسان العرب لابن منظور: نَصَا.
3- كتاب العَين للفراهيدي: نَصَوَ.

ونُقيمه مقام الأذلّة، ففي الأخذ بالناصية إهانةٌ واستخفاف! وقيل: معناه: لَنُغيّرنّ وجهه.

والناصية: قصاص الشعر فوق الجبهة، والجمع: النواصي.

وفي الدعاء: «والنواصي كلُّها بيدك»، أيضاً من باب التمثيل، أي: كلّ شيءٍ في قبضتك ومُلكك وتحت قدرتك وسلطانك ((1)).

وفي حديث ابن عبّاس قال للحسين (علیه السلام) حين أراد العراق: «لولا أنّي أكره لَنَصَوْتُك»، أي: أخذتُ بناصِيَتك ولم أدَعْك تخرج.

إبن برّي: قال ابن دريد: النَّصِيُّ: عَظْمُ العُنُق ((2)).

زري:

الزَّرْيُ: أن يَزْرِيَ فُلانٌ على صاحبِه أمْراً، إذا عابَه وعنَّفَه ليرجع، فهو زارٍ عليه، وإذا أدخل الرجلُ على غيره أمراً فقد أزرى به ((3)).

نشب:

الليث: نشِبَ الشيءُ في الشي ءِ نَشَباً، كما يَنْشَبُ الصَّيْدُ في الحِبالة.

الجوهريّ: نَشِبَ الشيءُ في الشي ءِ _ بالكسر _ نُشوباً، أي: عَلِقَ فيه، وأنْشَبْتُه أنا فيه، أي: أَعْلَقْتُه فانْتَشَب، وأنْشَبَ الصائدُ: أعْلَقَ، ويُقال:

ص: 195


1- مجمع البحرين للطريحي: نَصَا.
2- لسان العرب لابن منظور، والنهاية في غريب الحديث والأثر: نَصَا.
3- أُنظر: كتاب العين للفراهيدي، ولسان العرب: زَرِيَ.

نَشِبَت الحربُ بينهم، وقد ناشَبَه الحرْبَ، أي: نابَذَه.

يقال: نَشِبَ في الشيء، إذا وَقَعَ فيما لا مَخْلَص له منه ((1)).

الشعلة الثانية: إساءة الأدب

نشبتُ يدي في رأسك!!!

أخذتُ بشعرك وناصيتك!!!

أدخلتُ يدي في شعرك!!!

أخذتُ بناصيتك!!!

قبضتُ على مجامع ثوبك، وأدخلتُ يدي في شعرك!!!

الإمام الحسين (علیه السلام) حرم الله.. رأس الإمام (علیه السلام) أعظم حُرم الله.. شعر الإمام (علیه السلام) حرم الله.. ناصية الإمام (علیه السلام) حرم الله.. العزّة الإلهية.. ناصيته ناصية التوحيد والإسلام والدين والكون والتكوين..

الإمام الحسين (علیه السلام) من شعائر الله العظمى الّتي أمر الله أن تُعظَّم.. ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ ((2))..

الإمام الحسين هو الإمام الحسين (علیه السلام) ، فما نقول فيه فنحن العاجزون، ولو اجتمع الجنّ والإنس ليقولوا فيه وفي حرمته وقداسته ما بلغوا..

ص: 196


1- أُنظر: لسان العرب: نشب.
2- سورة الحجّ: 32.

فلْيكن ابن عبّاسٍ مَن يكن.. فإنّه _ وسائر العالمين، إلّا مَن استثناهم الله _ لو خرق الأرض وبلغ الجبال طولاً لا يساوي تراب أقدام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فأنّى له أن يتجاسر على الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) بهذه الجسارة الوقحة، لأيّ سببٍ كان، ولأيّ دافع!!!

أتطال يدُ ابن عبّاسٍ القصيرة! لتنشب في رأس سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ؟!

أيكون لمثل يد ابن عبّاسٍ أن تنال ناصية سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ؟!

أيكون لابن عبّاسٍ من الحجم والوزن والكيان ما يمكنه أن (يأخذ بناصية) حبيب الله ووصيّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقد سمعنا قبل قليلٍ كيف استعمل الله (تبارك وتعالى) هذا التعبير للامتهان والتهوين والإهانة والاستخفاف؟!

ناصية الوصيّ.. ورأس الوصيّ.. تمتدّ لها يد ابن عبّاسٍ لتمنعه إذلالاً وقهراً وإجباراً!

يتمنّى ابن عبّاسٍ أن يُخضِع الرأس المقدّس الّذي ما سجد إلّا لله، ويجعله منصاعاً مطاوعاً له فيما يريد؟!

إنّها نكبةٌ لا يقوم منها صاحبها، وعثرةٌ لا تُقال!

ولا نرى من الصلاح الاستمرار في بيان عظيم ما تفوّه به عبد الله بن

ص: 197

عبّاس، فنسكت رعايةً لحجم ابن عبّاس عند الناس، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

والقليل الّذي ذكرناه من بيان ما في كلماته من جسارةٍ إنّما أقدمنا عليه لأنّنا قايسنا ابن عبّاس إلى سيّد الكائنات الإمام الحسين (علیه السلام) ، حيث يتضاءل أمامه كلُّ عظيمٍ من المخلوقات، إلّا مَن استثناهم الله.

الشعلة الثالثة: حُسن النوايا!

قد يقال: إنّ ابن عبّاس فعل ذلك حبّاً بالإمام (علیه السلام) وشفقةً عليه، لمّا رأى نفسه عاجزاً عن إقناعه بما يريد له من السلامة والبقاء، ولأنّه يعرف جلفيّة الأعداء وجرأتهم على الله وعلى حرمات الله.

غير أنّ هذا لا يشفع له؛ فإنّ الحبّ والشفقة لا يصدر منهما إلّا رعاية الأدب والمعرفة بالمخاطَب، وليس له _ وهو بين يدَي بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه _ أن يتخطّى حجمَه، ويتعدّى طورَه، ويُسيءَ الأدبَ في محضر الوليّ الأعظم وصاحب الزمان، ووليّ أمره وراعيه وإمامه.

وقد حاول البعض تبرير فعلة ابن الخطّاب بين يدَي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم قال: إنّ الرجل أو إنّ النبيّ لَيهجر، فقالوا: إنّه كان غضوباً، فغضب للنبيّ (صلی الله علیه و آله) وأراد أن يُسكِت مَن بحضرته، فنهرهم بهذه الكلمات، فهل كان هذا مسوّغاً له أن يفوه بهذه الكلمات الّتي أنكر من خلالها النبوّة واعتدى على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ؟!

ص: 198

فإن كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) _ والعياذ بالله _ يهجر، فإنّ جميع ما جاء به قد يكون من الهجر، فلا يمكن الركون إليه والاعتماد عليه، ولا القول بنبوّته.. نستغفر الله ونتوب إليه، وقد قال الله _ وهو أصدق القائلين _ : ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ((1)).

أيسوغ لمن تحرّكه الشفقة والغضب _ كما يزعمون _ أن يتنكّر للحقّ، وينكر الحقّ ورجاله، ويعتدي على النبيّ (صلی الله علیه و آله) والوصيّ (علیه السلام) ؟!

الشعلة الرابعة: يُزرى بي أو بك

في لفظ ابن سعدٍ وابن عساكر وابن العديم والمزّيّ والذهبيّ وابن كثيرٍ وغيرهم: «لولا أن يزري ذلك بي أو بك!».

يزري ذلك بي أو بك!

ربّما كانت هذه من المشاكل الّتي تورّط بها ابن عبّاس، إذ أنّه كان يعدّ نفسه رقماً بين يدَي سيّد الكائنات الإمام الحسين (علیه السلام) ، فهو يخشى أن يُزرى به قبل أن يخشى أن يُزرى بالإمام (علیه السلام) ، فيقدّم نفسه في الكلام على إمامه!

ويُشعِر استخدام «أو» أنّه جعل نفسه عِدْلاً للإمام (علیه السلام) في هذا الأمر، وجعل نفسه مقابل الإمام (علیه السلام) فيما يخشاه، فهو يخشى أن يُزرى به أو بالإمام (علیه السلام) ! ولم يقل: لولا أن يزري ذلك بي وبك، أو يقدّم الإمام (علیه السلام) على

ص: 199


1- سورة النجم: 3 و4.

نفسه كما هو مقتضى الأدب، فيقول: بك وبي.

ولم يكن تعبيره هذا منحصراً بهذا اللفظ، فقد قال أيضاً: «حتّى يجتمع علَيّ وعليك الناس».

الشعلة الرابعة: افتراض سلوكٍ للإمام (علیه السلام) !

إذا تناصينا!!

إذا أخذتُ بناصيتك، وأخذتَ بناصيتي!!

إنّ هذا لمن أعجب العجب؛ إذ افترض ابنُ عبّاسٍ أنّه إن أخذ بناصية الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) سيشتبك معه، ويفعل نفس الفعلة، فيأخذ بناصيته.. فمن أين علم أنّ الإمام (علیه السلام) سيسلك نفس سلوكه ويتعامل معه بنفس التعامل؟ والحال أنّ الإمام (علیه السلام) معدن جميع المحامد، وهو أصل الجود والكرم والترفّع عن الجهل والجهالة والجهّال، وقد طهّره الله تطهيراً، وقوله وفعله وتقريره حجّة، فليس يُقاس فعل ابن عبّاسٍ بفعل الإمام (علیه السلام) !

ولو كان الإمام (علیه السلام) قد أخذ بناصية ابن عبّاسٍ لقلنا عنها: ناصية كاذبة خاطئة، فلْيحمدِ الله أنّ الإمام (علیه السلام) لم يأخذ بناصيته.

وعلى كلّ تقدير، سواءً كان ابن عبّاس يأخذ بناصية الإمام (علیه السلام) ، أو يأخذ الإمام (علیه السلام) بناصيته، فإنّه إنّما يأخذ بها إلى النار، أعاذنا الله منها.

ص: 200

الشعلة الخامسة: يجتمع علَيّ وعليك الناس!

يصوّر ابن عبّاسٍ ما سيحدث إذا تناصا مع الإمام (علیه السلام) وأخذ برأسه ونشب يده في شعره وأخذ بمجامع ثوبه، حتّى يجتمع الناس عليه وعلى الإمام (علیه السلام) ، فهو يقدّم نفسه هنا على الإمام (علیه السلام) أيضاً، فلا يقول: يجتمع عليك وعلَيّ الناس، ويصوّر المشهد تصويراً فيه شيءٌ من الإساءة والوقاحة، إذ أنّه سيتصرّف بشكلٍ قاسٍ فجٍّ فيه ضجيجٌ غير عاديٍّ بحيث يثير تعجّب الناس وفضولهم، فيجتمعون عليهما ليشهدوا مشهداً غير طبيعيّ، ولا نقول أكثر من ذلك.

الشعلة السادسة: أطعتَني!

يبدو أنّ ابن عبّاسٍ لا يرى نفسه في هذا الموقف مشيراً، أو صاحب رأيٍ يعرضه على الإمام (علیه السلام) ، وإنّما يتكلّم من موقع الآمِر الناهي، وعلى الإمام (علیه السلام) أن يطيع لا غير!

وقد سمعنا قبل قليلٍ أنّه كان يتعامل هكذا مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فكيف مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ونحن لم نجد لحدّ الآن حسب فحصنا ما يفيد بوضوح أنّ ابن عبّاسٍ يعتقد بإمامة الإمام الحسين (علیه السلام) ، والاحترام والتقدير والتعظيم بحكم الرحم أو النسبة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) شيء، والاعتقاد بالإمامة وفرض الطاعة شيء آخَر!

ص: 201

وقد رأيناه يكرّر كلمة: «أطِعْني»، أو: «أطعتَني»، أو: «إنْ عصيتَني»..

فإن كان يعتقد أنّ على الإمام (علیه السلام) إطاعته، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وإن كان يستعمل هذه الألفاظ ولا يعني وجوب الإطاعة أو ضرورته، فهو استعمالٌ غير موفَّق، بل غير مؤدّب، ورحم الله امرئاً عرف قدر نفسه، وأدرك حجمه ووزنه، واستشعر وقوفه بين يدَي أولياء الله، ودخولَه في بيوتٍ أذنَ اللهُ أن تُرفَع، وقد أمرنا الله أن نطيعهم ونسلّم لهم ونعظّمهم..

الشعلة السابعة: الغاية من هذا التصرّف المشين

يبدو من المتون الّتي نقلَت الحدث أنّ الغرض الأصليّ من هذا الضغط والإصرار إلى حدّ تمنّي ارتكاب هذه الفعلة الشنيعة وسلوك هذا الطريق المهول الخطير بالاشتباك مع الإمام (علیه السلام) بهذه الصورة القاسية والفجّة، هو أن يضطرّ الإمام (علیه السلام) لإطاعته وقبول قوله، والإقامة في مكّة.

وتفيد هذه المتون أنّ السبب في ذلك الخشيةُ من أن يكون خروجه (علیه السلام) إقرار عين ابن الزبير بتخلية الحجاز له ((1))، كما ترى واضحاً في النصوص الّتي ذكرناها، وقد ذكرت النصوص الأُخرى أسباباً أُخرى، وقد أتينا على ذِكرها، فلا نعيد.

ص: 202


1- أُنظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159، المنتظم لابن الجوزي: 5 / 328، الكامل لابن الأثير: 3 / 276، نهاية الإرب للنويري: 20 / 408، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.
الشعلة الثامنة: المانع من القيام بهذه الفعلة

يمكن أن نستخرج الموانع الّتي منعَت ابنَ عبّاسٍ عن القيام بما تمنّاه حسب ما ورد في تصريحاته هنا، إذ أنّه قال: «ولكن لا أخالُ ذلك نافعي»، فالمانع هنا علمه أنّ فعله لا ينفعه هو، ولا يمكن تحقيق مآربه.

وقال: «لو أعلمُ أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك ... أطعتَني وأقمت، لَفعلتُ ذلك»، فالمانع هنا علمه أنّ الإمام (علیه السلام) سوف لن يطيعه.

وأرجع _ حسب نصّ أبي الفرج _ السببَ إلى مانعَين: أنّه لا ينفعه، وأنّه يعلم أنّ الله بالغ أمره.

ومن العجيب، إذا كان ابن عبّاسٍ يعلم أنّ الإمام (علیه السلام) لا يطيعه، وأنّه أعجز من أن يُقنِع الإمام (علیه السلام) ويضطرّه إلى السعي لتحقيق مآرب ابن عبّاس وما يرجوه، وأنّ الله بالغ أمره، فلماذا يلحّ هذا الإلحاح، ويتمنّى أنّه لو كان يقدر أن يفعل هذه الفعلة، ويعبّر بهذه الطريقة الّتي لا تنسجم مع مقام الاحترام والأدب مع سيّد الكائنات؟!

أوَليس كان الأَولى به _ وهو حَبر الأُمّة وترجمان القرآن وراوية الحديث النبويّ والملازم لسيّد الوصيّين (علیه السلام) _ أن يمتنع عن هذه الأُمنية والإصحار بها، ويرعى قداسة الإمام (علیه السلام) ووجوب تعظيمه والإذعان والتسليم والخضوع له، لأنّ التسليم له تسليمٌ لإرادة الله وأوامره؟

ص: 203

الشعلة التاسعة: النهاية

إنتهى اللقاء هنا بخروج ابن عبّاس، ويمكن استشعار مدى الغضب واليأس المسيطر على موقفه عند الخروج من خلال ملاحظة سياقات النصوص.

وقد ذكر أبو الفرج هنا مشهد الخروج بقوله: «ثمّ أرسل عينَيه فبكى، وودّع الحسين (علیه السلام) وانصرف»، فإن لم يفد هذا التعبير أجواء الغضب، فإنّه يفيد مدى اليأس والعجز عن إقناع الإمام (علیه السلام) .

المشهد الثاني: بعد الاستشارة

اشارة

روى محمّد بن سلمان الكوفيّ:

بالإسناد عن طاووس أنّه سمع ابن عبّاسٍ يقول: استشارني الحسين في الخروج، فقلت له: لولا أنّه أرزأ بي أو بك، لَنشبتُ يدي في شعرك.

فقال الحسين (علیه السلام) : «لَئن أُقتَل بكذا وكذا أحبّ إليّ من أن يُستحَلّ بي» [يعني مكّة].

فقال ابن عبّاس: فذلك الّذي سلى بنفسي عنه ((1)).

الطبرانيّ، والهيثميّ:

ص: 204


1- المناقب لمحمّد بن سلمان: 2 / 260 الرقم 725.

بالإسناد عن طاووس قال: قال ابن عبّاس: استأذنني حسينٌ في الخروج، فقلت: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَشبكتُ بيدي في رأسك.

قال: فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل بمكان كذا أحبّ إليّ من أن يُستحَلّ بي حرم الله ورسوله».

قال: فذلك الّذي سلى بنفسي عنه ((1)).

الخوارزميّ:

بالإسناد عن طاووس قال: سمعتُ ابن عبّاسٍ يقول: استشارني الحسين بن عليّ في الخروج من مكّة، فقلت: لولا أن يزري بي وبك، لَنشبتُ بيدي في رأسك.

قال: فقال: «ما أُحبّ أن تُستحَلّ بي»، يعني مكّة ((2)).

إبن عساكر، والمحامليّ:

• بالإسناد عن طاووس، عن ابن عبّاسٍ قال: استشارني الحسين بن عليّ في الخروج، فقلت: لولا أن يزري بي وبك، لَنشبتُ يدي في رأسك.

فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ

ص: 205


1- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128 الرقم 2859، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 219.

من أن أستحل حرمتها»، يعني الحرم، وكان الّذي سلا بنفسي عنه.

قال: ثمّ يقول طاووس: ما رأيتُ أحداً أشدّ تعظيماً للحرم من ابن عبّاس، ولو أشاء أن أبكي لَبكيت.

• بالإسناد عن إبراهيم بن ميسرة سمع طاووساً يقول: [قال ابن عبّاس:] استشارني الحسين بن عليّ في الخروج، فقلت: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَنشبتُ يدي في رأسك.

فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن يُستحلّ بي ذلك».

فقال: الّذي سلا بنفسي عنه.

ثمّ قال: ثمّ يحلف طاووس أنّه لم يرَ رجلاً أشدّ تعظيماً للمحارم من ابن عبّاس، لو أشاء أن أبكي لَبكيت ((1)).

إبن العديم:

بالإسناد عن طاووس قال: سمعتُ ابن عبّاسٍ يقول: استشارني الحسين بن عليّ (علیهما السلام) بالخروج بمكّة، قال: فقلت: لولا أن يزرى بي أو بك، لَنشبتُ يدي في رأسك.

قال: فقال: «ما أُحبّ أن تُستحَلّ بي»، يعني مكّة.

قال: يقول طاووس: وما رأيتُ أحداً أشدّ تعظيماً للمحارم من ابن

ص: 206


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215.

عبّاس، لو أشاء أن أبكي لَبكيت ((1)).

الذهبيّ:

عن طاووس، عن ابن عبّاسٍ قال: استشارني الحسين في الخروج، فقلت: لولا أن يزري بي وبك، لَنشبتُ يدي في رأسك.

فقال: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا، أحبّ إليّ من أن أستحل حرمتها»، يعني مكّة، وكان ذلك الّذي سلا نفسي عنه ((2)).

الطبريّ في (الذخائر):

وعن ابن عبّاسٍ قال: استأذنني الحسين في الخروج، فقلت: لولا أن يزري ذلك بي أو بك، لَقلتُ بيدي في رأسك.

قال: فكان الّذي قال لي: «لئن أُقتَل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن يُستحَلّ بي».

قال: فذاك سلى نفسي عنه.

خرجه ابن بنت منيع ((3)).

إبن كثير:

عن طاووس، عن ابن عبّاسٍ قال: استشارني الحسين بن عليّ في الخروج، فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس، لَشبثتُ يدي في

ص: 207


1- بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2603.
2- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 196.
3- ذخائر العقبى للطبري: 150.

رأسك فلم أتركك تذهب.

فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل في مكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن أُقتَل بمكّة».

قال: فكان هذا الّذي سلى نفسي عنه ((1)).

إبن حجر:

عن طاووس، عن ابن عبّاس: استشارني الحسين في الخروج إلى العراق، فقلت: لولا أن يزري بك وبي، لَنشبت يدي رأسك ((2)).

الهنديّ:

عن طاووس قال: قال ابن عبّاس: جاءني حسينٌ يستشيرني في الخروج إلى العراق، فقلت: لولا أن يرزؤوا بك، لَشبثتُ يدي في شعرك، إلى أين تخرج؟ إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟ ((3))

وكان الّذي سخا بنفسه عنه أن قال لي: «إنّ هذا الحرم يُستحلّ برجل، ولئن أُقتَل في أرض كذا وكذا أحبّ إليّ من أن أكون أنا هو» ((4)).

* * * * *

ص: 208


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
2- تهذيب التهذيب لابن حجر: 2 / 356.
3- كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.
4- كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.

متون هذا المشهد متقاربة، تكاد لا تختلف إلّا بعض الاختلاف الطفيف جدّاً في بعض الألفاظ، وهي جميعاً تحكي معنىً واحداً، وهي تتّفق في رواية حديث الاشتباك الّذي كان ابن عبّاسٍ ينوي القيام به لولا خوفه أن يزرى به أو بسيّد الشهداء (علیه السلام) لَفعله، ولهذا فإنّنا سنقتصر هنا على مواضع الاختلاف مع المشهد السابق كي لا نعيد.

ويمكن أن نشير إلى ذلك من خلال عدّة تنويهات:

التنويه الأوّل: اتّحاد الراوي في المصادر

يُلاحَظ في جميع النصوص المذكورة في المصادر اتّحاد الراوي الّذي يروي هذه القصّة، فالجميع اتّفقوا على نقلها مرسَلةً أو مُسندةً عن طاووس عن ابن عبّاسٍ نفسه.

التنويه الثاني: استشارني، استأذنني!

المتحدّث في هذا الخبر هو ابن عبّاس، وقد ذكر أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد (استشاره)، وفي لفظ آخَر (استأذنه) ((1)).

يبدو واضحاً لمن قرأ نصوص اللقاءات السابقة بما فيها المشهد الأوّل من هذا اللقاء، أنّ ابن عبّاس هو الّذي ابتدأ الإمام (علیه السلام) وبادر للدخول

ص: 209


1- أُنظر: المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192، ذخائر العقبى للطبري: 150.

عليه، ولم نسمع فيها أنّ الإمام (علیه السلام) قد استشاره!

ولو كان قد استشاره، فإنّما عليه أن يُبدي رأيه، ثمّ يطيع الإمام (علیه السلام) ولا يتجاسر بهذه العبارات الفجّة السمجة.

ولا ندري إن كان ابن عبّاس يريد أن يعرض نفسه في صورة كبير القوم والمستشار الّذي لا يتعدّى رأيَه أميرُ المؤمنين (علیه السلام) وأولاده الأئمّة المعصومون (علیهم السلام) ، ليركّز ما يروّجه هو ومَن نفخ في عنوانه واسمه باعتباره كبير أهل البيت وشيخ بني هاشم! إذ أنّنا لم نقرأ في التاريخ أنّ سيّد الخلق _ بعد مَن استثناهم الله _ الإمامَ الحسين (علیه السلام) قد استشار أحداً في خروجه من المدينة أو من مكّة، فكيف انفرد ابن عبّاسٍ بهذه الخصوصية، وفي هذا الخبر بالخصوص الّذي يُروى عنه؟!

والأدهى من ذلك لفظ الطبرانيّ والهيثميّ والطبريّ في (الذخائر): «استأذنني»، وكأنّ على الإمام (علیه السلام) أن يستأذن ابن عبّاس!!

نكتفي بهذا القدر، فمن يعتقد إمامة الإمام الحسين (علیه السلام) وعصمته، وصغر ابن عبّاسٍ مقابله، يفهم، ولا يحتاج إلى تعليقٍ وتذكير!

التنويه الثالث: جاءني حسين!

في لفظ الهنديّ: قال ابن عبّاس: «جاءني حسين! يستشيرني» ((1)

ص: 210


1- أُنظر: كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.

كذا ذكر الاسم من دون (ألف لام) التحلية والتعظيم، وهو خلاف ما درج على استعماله الأوّلون والآخرون، حتّى سيّد الرسل وأشرف الخلق جدّه محمّد (صلی الله علیه و آله) .

كذا زعم ابن عبّاسٍ أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كان هو الّذي جاءه وقصده ليستشيره، حسب هذا النص.

وهذا الزعم يخالف جميع النصوص المذكورة في المقام، سيّما نصوص المشهد الأوّل، واللقاءات السابقة الّتي تصرّح أنّ ابن عبّاسٍ هو الّذي قصد الإمام (علیه السلام) ودخل عليه.

ثمّ إنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) لم يكن متردّداً ولا متوقّفاً في خروجه من المدينة، وكذا خروجه من مكّة، ولم يكن محتاجاً لأحدٍ ولا لرأي أحدٍ ولا لنصح أحدٍ من العالمين، وكان قد عزم وتحرّك ولم يستشر أحداً، لوضوح الأحداث ومجرياتها ونتائجها، وهو العالم بالله، ولأنّه كان ماضٍ فيما أمره الله وشاءه.

أجل، لقد قصده الآخرون ودخلوا عليه وعارضوه أو عرضوا عليه ما يخالونه نصحاً بدوافع مختلفة، وقد أجاب الإمام (علیه السلام) كلَّ واحدٍ منهم بما يناسبه.

التنويه الرابع: ردّ الإمام (علیه السلام)
اشارة

فقال سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) :

ص: 211

• «لَئن أُقتَل بكذا وكذا أحبّ إليّ من أن يُستحلّ بي»، يعني مكّة ((1)).

• «ما أُحبُّ أن تُستحلّ بي»، يعني مكّة ((2)).

• «... أُحبُّ إليّ مِن أن أُقتَل بمكّة» ((3)).

• فكان الّذي ردّ علَيّ أن قال: «لئن أُقتَل بمكان كذا أحبّ إليّ من أن يُستحلّ بي حرم الله ورسوله» ((4)).

• «... مِن أن أستحلّ حرمتها»، يعني الحرم ((5)).

• «... أن يُستحَلّ بي ذلك» ((6)).

• «... إنّ هذا الحرم يُستحلّ برجل، ولَئن أُقتَل في أرض كذا وكذا أحبُّ إليّ من أن أكون أنا هو» ((7)).

* * * * *

ص: 212


1- المناقب لمحمّد بن سلمان الكوفي: 2 / 260 الرقم 725.
2- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1 / 219، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2603، ذخائر العقبى للطبري: 150.
3- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
4- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192.
5- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 196.
6- المعجم الكبير للطبراني: 3 / 128، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192.
7- كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.

لقد أتينا فيما سبق على تفصيل الكلام في قول الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) هذا، فلا نعيد، غير أنّنا سنذكر هنا باقتضابٍ سريعٍ بعض الإشارات:

الإشارة الأُولى: مفاد كلام الإمام (علیه السلام)

بغضّ النظر عن جانب الإخبار الغَيبيّ في كلام الإمام (علیه السلام) ، فإنّ المتابع للأحداث يفهم بوضوحٍ من كلام الإمام (علیه السلام) أنّ الإمام (علیه السلام) يقول: إنّني إنْ بقيتُ في مكّة فأنا مقتولٌ لا محالة.

فهو (علیه السلام) يُخبر عن الخطر المتنجّز المحدِق بجزمٍ وحزمٍ دون أيّ شكٍّ وترديدٍ به وهو في مكّة.

الإشارة الثانية: تخطئة ابن عبّاس وغيره

لمّا كان بقاء الإمام (علیه السلام) في مكّة يعني قتله جزماً، كما هو واضحٌ من إخباره (علیه السلام) ، يلزم أن تكون دعوات ابن عبّاس وابن عمر وغيرهما، والتأكيد على البقاء في مكّة، وأنّه سيبقى ممنوعاً في الحجاز، وأنّ الناس لا يعدلون به أحداً، وغيرها من مزاعمهم كلّها خطأ، وجميعها تقديرات بائسة تشي بضعف مدركات مدّعيها على أحسن ما يمكن حملها من محامل الخير!

الإشارة الثالثة: هتك الحُرمات

أفاد كلام الإمام (علیه السلام) أنّ العدوّ لا يتحرّج عن ارتكاب أيّ جريمة، ولا يرعى الحرمات الّتي توافق الناس على احترامها وتقديسها في الجاهليّة

ص: 213

والإسلام، وأنّ العدوّ لا يرى للحرم أيّة حرمة، والحال أنّ الإمام (علیه السلام) هو حرمات الله، ولا يرعى حرمات الله أحدٌ من العالمين مثله.

الإشارة الرابعة: التعريض بابن الزبير

الإمام (علیه السلام) لا يحبّ أن تُهتَك به حرمة الحرم، والعدوّ جاهزٌ لانتهاكها، فهو الّذي يباشر بمنع العدوّ من ارتكاب هذه الرذيلة، فيما بقي ابنُ الزبير متحصّناً بالحرم، وهو يعلم أنّهم جمعوا له الجموع، وعزموا على محاربته وقتله وهتك حرمة الحرم، وكان عليه أن يخرج منه لئلّا يوفّر الذرائع للعدوّ.

الإشارة الخامسة: مكان كذا!

لا ندري إن كان الإمام (علیه السلام) قد عبّر عن الموضع البديل بلفظ: «كذا وكذا»، أو أنّه (علیه السلام) قد صرّح بالموضع وأضمره ابن عبّاس، أو الراوي.. ففي بعض الأخبار التاريخيّة ذكر الإمام (علیه السلام) بعض الأسماء، سواءً أكانت صفاتاً للموضع أو اسماً لها، كما سيأتي إن شاء الله (تعالى).

المهمّ! إنّ المتحصّل من كلام الإمام (علیه السلام) أن يخرج إلى أيّ موضع مهما كان سوى مكّة والحرم، لأنّه ملاحَقٌ محاصَر، لا يتركه العدوّ بحالٍ حتّى يقتله ويحقّق فيه مأربه، فلْيخرج إذن حفاظاً على حرمة البيت، لئلّا يُهتَك بمن هو شرفٌ له ولكلّ المخلوقات، ولئلّا يُسفَك فيه الدم الزاكي الّذي سكن الخلد.

ص: 214

التنويه الخامس: سلى بنفسه عن الإمام (علیه السلام)
اشارة

قال ابن عبّاسٍ بعد أن سمع كلام الإمام (علیه السلام) :

فذلك الّذي سلى بنفسي عنه ((1)).

وفي (كنز العمّال) للهنديّ:

وكان الّذي سخا بنفسه عنه ... ((2)).

يبدو من تعبير الهنديّ في (الكنز) أنّه ينقل معنى قول ابن عبّاس دون النصّ كما فعل الآخرون، والمؤدّى واحد.

ويمكن أن نستكشف مؤدّى كلام ابن عبّاس من خلال النقاط التالية:

النقطة الأُولى: معنى (سلا)

سَلا عنه: نَسِيَه. وقال أبو زيد: معنى سَلَوْت، إذا نَسِي ذِكْره وذَهِلَ عنه.

وقال ابن شميل: سَلِيتُ فلاناً، أي: أبغَضْتُه وتَركْتُه.

ص: 215


1- أُنظر: المناقب لمحمّد بن سلمان الكوفي: 2 / 260 الرقم 725، المعجم الكبير للطبراني: 3 / 158 الرقم 2859، مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 192، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 196، ذخائر العقبى للطبري: 150، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.
2- كنز العمّال للهندي: 13 / 672 الرقم 37716.

الجوهريّ: وسَلَّاني مِن همِّي تَسْلِيَةً وأسْلاني، أي: كشَفَه عنّي ((1)).سَلَوْتُ عنه سَلْواً، من باب قعد: صبرتُ عنه، والسَّلْوَةُ اسمٌ منه.

وفي (القاموس): سَلاهُ، كدعاه ورضيه: نسِيَه.

وفي الحديث: «إنّ اللَّهَ (تعالى) ألقى على عِبادِه السَّلْوةَ بعد المصيبة، ولولا ذلك لَانقَطَعَ النسل».

وسَلانِي من همّي: كشَفَه عنّي.

وهو في سَلْوَةٍ من العَيش: أي في نعمةٍ ورفاهيةٍ ورغد ((2)).

النقطة الثانية: مؤدّى الكلام

أيمكن للإنسان أيّاً كان أن يرفل بالسلوة عن حبيب الله وحبيب رسوله (صلی الله علیه و آله) وحبيب قلوب المؤمنين؟ إلّا أن تكون له حجّةٌ بالغةٌ قاطعة، فربّما حصلت السلوة عن الإمام المجتبى (علیه السلام) بوجود سيّد الشهداء (علیه السلام) مثلاً، أمّا أن تحصل السلوة عن الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) دون مقابل، فهذا ما لا يمكن تصوّره، فما الّذي دعا ابن عبّاس أن ينال السلوة؟

فإمّا أن يكون قد سلا وسخت نفسه بالإمام الحسين (علیه السلام) ، إذ أنّه فهم من كلام الإمام (علیه السلام) أنّه مقتولٌ لا محالة، فاستسلم للقدَر وسلت نفسه.

ص: 216


1- انظر لسان العرب لابن منظور مادة ((سلو)).
2- انظر مجمع البحرين مادة ((سلو)).

غير أنّ هذا الفرض قد يتزلزل ويضعف، إذ أنّه _ حسب الفرض _ قد سمع ذلك من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ومن أمير المؤمنين (علیه السلام) في غير موضع، وقد قامت عليه الدلائل وشهدت له مسيرة الأحداث يومئذ، وأكّده له الإمام الحسين (علیه السلام) نفسه في لقاءاته معه قبل هذا الوقت.

إلّا أن يقال: إنّه كان يحاول ويكرّر المحاولة مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وإنّما حصل له اليأس، فاستسلم وسخت نفسه في المحاولة الأخيرة.

وإمّا أن يكون قد سلا وسخت نفسه لما ذكره له الإمام (علیه السلام) من أنّه يأبى أن يكون الّذي تُستحلّ به حرمة البيت الحرام، فخيّر نفسه بين خيارين:

إمّا أن يُقتَل الإمام (علیه السلام) وتُهتَك به حرمة البيت.

وإمّا أن يُقتَل خارج الحرم، فتُحفَظ حرمة الكعبة.

فاختار الثاني، وسلَت نفسُه عن الإمام (علیه السلام) بحفظ حرمة البيت.

ويشهد للخيار الثاني تعليق طاووس، كما سنسمعه في التنويه الآتي، حيث أكّد طاووس وأقسم أنّه لم يرَ رجلاً أشدّ تعظيماً للحرم من ابن عبّاس.

التنويه السادس: تعليق طاووس

• قال: ثمّ يقول طاووس: ما رأيتُ أحداً أشدّ تعظيماً للحرم من ابن عبّاس، ولو أشاء أن أبكي لَبكيت.

ص: 217

ثمّ قال: ثمّ يحلف طاووس أنّه لم يرَ رجلاً أشدّ تعظيماً للمحارم من ابن عبّاس، لو أشاء أن أبكي لَبكيت ((1)).

• قال: يقول طاووس: وما رأيتُ أحداً أشدّ تعظيماً للمحارم من ابن عبّاس، لو أشاء أن أبكي لَبكيت ((2)).

* * * * *

خلاصة ما ورد في هذه الكتب أنّ طاووس يؤكّد على شدّة تعظيم ابن عبّاسٍ للحرم أو للمحارم، وأنّه لم يرَ رجلاً أشدّ تعظيماً لها من ابن عبّاس، ثمّ يقول أنّه لو شاء أن يبكي لَبكى.

هل كان طاووس يسوّغ ويبرّر موقف ابن عبّاس، ويكبر فيه أنّ نفسه سخت بريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وسلى عنه خشيةً على هتك حرمة الحرم؟

فإن كان هذا هو سبب الإشادة بكلام ابن عبّاس وموقفه، فالّذي أعظم حرمةَ البيت إنّما هو سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، وليس ابن عبّاس؛ إذ كان ابن عبّاس يلحّ على الإمام (علیه السلام) أن يبقى في مكّة، فيما أبى الإمام (علیه السلام) ذلك رعايةً لحرمة البيت.

أو إنّ طاووس يقصد أنّ ابن عبّاس وقع بين رعاية حرمتين: حرمة دم

ص: 218


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 200، تهذيب ابن بدران: 4 / 326، أمالي المحاملي: 226 الرقم 215.
2- بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2603.

الإمام (علیه السلام) المقدّس الزاكي، وحرمة البيت، فاختار الثاني، ممّا دعا طاووس إلى البكاء لشدّة رعاية ابن عبّاس لحرمة البيت.

أو أنّه بكى لرعاية ابن عبّاس كِلا الحرمتين، وهو احتمالٌ لا يساعد عليه السياق، والسياق يشهد للأوّل.

وكيف كان، فإنّا فكّرنا في كلام طاووس، فلم نجد له مسوّغاً ولا مؤدّى!

فلماذا يحلف أنّه لو شاء أن يبكي لَبكى؟ لِمَ لَمْ يشأ؟ لمَ لمْ يبكِ؟ لمَ يحلف على ذلك؟!

بل ما هو الدافع للبكاء، وابن عبّاس شديد الرعاية للحرمات، سواءً كانت الحرمة هو دم سيّد الشهداء (علیه السلام) _ على بُعدٍ _ أو حرمة البيت؟

وما هو الباعث والمولّد لهذا الاندفاع العاطفيّ والرقّة المرهفة في المشاعر والأحاسيس؟

وما هو الداعي للتأثّر الشديد _ إلى حدّ تمنّي البكاء _ بموقف ابن عبّاس دون مظلومية الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، والتركيز على ابن عبّاس دون الإمام (علیه السلام) ؟!

ص: 219

ص: 220

اللقاء الرابع: لقاءٌ في بيت الله الحرام

اشارة

روى الشجريّ مسنداً عن أبي الحارثة، عن ابن عبّاس قال:

بينا أنا أطوف بالبيت إذ لقيتُ الحسين بن عليّ (علیهما السلام) كفّه بكفّه بين الركن والمقام، فعانقتُه، ثمّ ضممته إليّ وقلت: يا أبا عبد الله، ما تريد؟

قال: «أُريد أن أسير».

قال: قلت: نشدتك الله، تسير إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك أهل العراق، وأنت بقيّتنا وجماعتنا!

فقال: «خلِّ عنّي يا ابن عبّاس، فإنّي أستحيي من ربّي (عزوجل) أن ألقاه ولم آمُر في أُمّتنا بمعروفٍ ولم أنهَ عن منكر» ((1)).

الشيخ ابن شهرآشوب، والعلّامة المجلسيّ:

كتاب التخريج، عن العامريّ بالإسناد، عن هبيرة بن بريم، عن

ص: 221


1- الأمالي للشجري: 1 / 186.

ابن عبّاسٍ قال: رأيتُ الحسين (علیه السلام) قبل أن يتوجّه إلى العراق على باب الكعبة، وكفّ جبرئيل في كفّه، وجبرئيل ينادي: هلمّوا إلى بيعة الله (عزوجل) .

وعُنّف ابن عبّاسٍ على تركه الحسين (علیه السلام) ، فقال: إنّ أصحاب الحسين (علیه السلام) لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم ((1)).

* * * * *

يمكن متابعة نصوص هذا اللقاء من خلال اللفتات التالية:

اللفتة الأُولى: الرواية عن ابن عبّاس

يُلاحَظ أنّ متون هذا اللقاء هي كمتون اللقاء السابق مرويّةٌ عن عبد الله بن عبّاس نفسه، وفي ذلك ما يجعلها مميّزة عمّا إذا كانت حدَثاً يرويه غيره، سيّما أنّ ابن عبّاسٍ من ذوي الخبرة في التحديث والرواية!

اللفتة الثانية: اللقاء في بيت الله

أفادت النصوص أنّ هذين الخبرين _ رغم أنّهما قد يختلفان في

ص: 222


1- المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 101، مدينة المعاجز للبحراني:245، بحار الأنوار: 44 / 185، العوالم للبحراني: 17 / 41، نفَس المهموم للقمّي: 163.

المحتوى _ يتّفقان أنّ اللقاء إنّما تمّ في المسجد الحرام، ففي خبر الشجريّ يقول ابن عبّاس أنّه التقى الإمام (علیه السلام) بينما هو يطوف بالبيت، وفي خبر الشيخ ابن شهرآشوب يقول أنّه رأى الإمام (علیه السلام) على باب الكعبة.

ويبدو من كلا المتنَين أنّ اللقاء لم يكن مُعدّاً له، ولم يكن ابن عبّاس قد قصد الإمام (علیه السلام) ، وإنّما اتّفق دخوله المسجد الحرام تنوّر المسجد بنور سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فحصل اللقاء من دون إعدادٍ سابق.

اللفتة الثالثة: زمن اللقاء

صرّح ابن شهرآشوب أنّ اللقاء كان قبل أن يتوجّه الإمام (علیه السلام) إلى العراق، من دون تحديد الوقت بالضبط، غير أنّه في زمنٍ كان يدعو فيه جبرائيل الناس إلى البيعة.

فيما أفاد نصّ الشجريّ أنّه كان في نفس تلك الأيّام، وإن لم يصرّح بذلك، فهو يسأل الإمام (علیه السلام) : ما تريد؟ فيردّ عليه الإمام (علیه السلام) أنّه يريد أن يسير، فيحذّره من المسير، وهذا يفيد بوضوحٍ أنّ اللقاء قد تمّ في وقتٍ كان الإمام (علیه السلام) عازماً على المسير، فهو في الأيّام الأخيرة من أيام تشرّف مكّة بوجود الإمام (علیه السلام) ، أي: قبل أن يتوجّه إلى العراق، فيكون زمان اللقاء أيضاً واحداً.

ص: 223

اللفتة الرابعة: تعدّد اللقاء

بالرغم من اتّحاد المكان، وهو المسجد الحرام، وتقارب الزمان أو انحصاره في نفس الأيّام الّتي سبقَت خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، بَيد أنّ محتويات اللقاء ومجرياته تفيد أنّه ليس لقاءً واحداً، إلّا إذا فسّرنا قوله في خبر الشجريّ: كفّه بكفّه، بمعنى كفّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بكفّ جبرائيل، وليس هو كذلك، بنفس تصوير الشيخ المازندرانيّ: وكفّ جبرئيل في كفّه، فيمكن أن يكون ثمّة حدَثٌ مشتركٌ بينهما.

وقد يُجاب على ذلك: أنّه لا يبعد أن تتكرّر مشاهدة ابن عبّاسٍ لنفس المشهد، سيّما أنّ الشجريّ لم يذكر دعوته إلى البيعة.

اللفتة الخامسة: كفّه بكفّه في خبر الشجريّ!

روى الشجريّ عن ابن عبّاسٍ قوله:

بينا أنا أطوف بالبيت إذ التقيتُ الحسين بن عليّ كفّه بكفّه بين الركن والمقام ... ((1)).

قال ابن منظور: قولهم: لقيتُه كَفَّةَ كَفَّةَ _ بفتح الكاف _، أي: كفاحاً، وذلك إذا استقبلته مواجهة، وهما اسمان جُعِلا واحداً وبُنيا على الفتح، مثل خمسة عشر.

ص: 224


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1 / 186.

وفي حديث الزبير: فتلقّاه رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) كَفَّةَ كَفَّةَ، أي: مواجهة، كأنّ كلّ واحدٍ منهما قد كَفَّ صاحبه عن مجاوزته إلى غيره، أي منَعَه.

ولَقِيتُه كَفَّةَ كفَّةَ، وكفَّةَ كفَّةٍ _ على الإضافة _، أي: فُجاءةً مواجهة ((1)).

وقد استُعملت بتركيب «كفّه بكفّه» في مواضع بنفس المعنى ((2)).

فيكون معنى قول ابن عبّاس في خبر الشجريّ: «بينا أنا أطوف بالبيت إذ لقيتُ الحسين بن عليّ (علیه السلام) كفّه بكفّه بين الركن والمقام»، أي: التقيتُه فجأةً وجهاً لوجه، ويشهد لذلك السياق أيضاً: «بينا ... إذ».

فلا يمكن حمل كفّه بكفّه على ما ذكره العلّامة ابن شهرآشوب، إذ لم يكن في كتاب الشجريّ ممّا يسبق خبره هذا أو يلحقه ما يصلح أن يكون مرجعاً للضمير في (بكفّه)، فإذا كانت الهاء في كفّه الأُولى ترجع إلى الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) لأنّه أقرب عائد، فلا يبين عائد الهاء الثانية.

فإن كان العائد متّحداً، يكون معنى الجملة: كفّ الحسين بكفّ الحسين، أي أنّ الإمام (علیه السلام) قد شبك كفّاً بكفّ، وهو بعيد.

وأمّا إذا افترضنا عائد أحد الهائين إلى جبرائيل اعتماداً على الارتكاز وعلى متن ابن شهرآشوب، فهو غايةٌ في التكلّف والبُعد.

ص: 225


1- أُنظر: لسان العرب: كَفَفَ.
2- أُنظر: فتح الباري لابن حجر: 13 / 48، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 16 / 252.

اللفتة السادسة: كفّه بكفّ جبرائيل

اشارة

روى ابن شهرآشوب عن كتاب (التخريج) بالإسناد عن ابن عبّاس قال:

رأيتُ الحسين قبل أن يتوجّه إلى العراق على باب الكعبة، وكفّ جبرئيل في كفّه ((1)).

ويمكن تناول هذا المتن من خلال التدقيقات التالية:

التدقيق الأوّل: انفراد ابن شهرآشوب

لم نجد هذا الخبر _ حسب الفحص _ عند مَن سبق ابن شهرآشوب سوى ما يرويه ابن شهرآشوب نفسه _ وهو الثقة الثبت _ عن كتاب (التخريج)، وكتاب (التخريج) لم نقف عليه.

التدقيق الثاني: هل رأى جبرائيل وحده؟

يقول ابن عبّاس _ كما في هذا الخبر _ أنّه رأى جبرائيل، ولا ندري هل رآه بجارحة عينه وكان قد تمثّل له بشراً سويّاً؟ أو تمثّل له بصورةٍ أُخرى؟ أو

ص: 226


1- أُنظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 27 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، تسلية المجالس لابن أبي طالب: 2 / 101، مدينة المعاجز للبحراني: 245، بحار الأنوار: 44 / 185، العوالم للبحراني: 17 / 41، نفَس المهموم للقمّي: 163.

أنّه رآه بغير جارحة عينه؟ إذ يقال أنّه كان أعمى كفيف البصر يومها!

وهل رآه وحده، ولم يره أحدٌ غيرُه من المتواجدين ساعتئذٍ في المسجد الحرام، بما فيهم سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟

وهل سمع صوت جبرائيل بجارحة أُذنه، أو بغيرها؟ وهل سمعه وحده دون العالمين بما فيهم سيّد الكائنات الإمام الحسين (علیه السلام) ؟

فإن كان قد رآه وسمعه غيره، وقد حدث مثل هذا الحدث العظيم، وقد شهده الناس أجمعين، فلمَ لم يروِه غيرُه؟

وهل هبط جبرائيل من أجله وحده ليراه ويسمعه؟!

التدقيق الثالث: كيف شخّص جبرائيل؟

رؤية الملائكة _ سواءً أكان بالعين الظاهرة أو بما يناسب عالمهم كملائكة _ لا يتسنّى لكلّ أحد، فكيف رآه ابن عبّاس؟

فلو فرضنا أنّه كان بمستوىً من الإيمان بحيث كان يسهل عليه أن يرى الملائكة، وليس الأمر كذلك، فكيف استطاع أن يشخّص جبرائيل ويحدّده بالذات، ويعلم أنّه هو وليس عزرائيل أو ميكائيل أو إسرافيل أو أيّ واحدٍ آخَر من الملائكة المقرّبين أو سائر الملائكة الآخَرين؟

وما ورد في (الكافي) الشريف عن الإمام أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) من

ص: 227

تبدّي الملَك لابن عبّاس كما سنسمعه، فإنّ الإمام الصادق (علیه السلام) أكّد أنّه لم تره عينه، وقال العلّامة المجلسيّ: «لعلّه بإعجاز أمير المؤمنين (علیه السلام) » ((1))، حيث كان في مقام المحاججة معه، فكانت الرؤية حصلَت بأمر الإمام (علیه السلام) لا لقدرة ابن عبّاس على ذلك، ويشهد لذلك إنكار الإمام الباقر (علیه السلام) عليه أنّه هل رأى الملائكة تخبره بولايتها له في الدنيا والآخرة؟

روى الشيخ الكلينيّ في (الكافي)، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

«بينا أبي جالسٌ وعنده نفر، إذا استضحك حتّى اغرورقَت عيناه دموعاً، ثمّ قال: هل تدرون ما أضحكني؟

قال: فقالوا: لا.

قال: زعم ابنُ عبّاسٍ أنّه من ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ ((2)).

فقلتُ له: هل رأيتَ الملائكة _ يا ابن عبّاسٍ _ تُخبرك بولايتها لك في الدنيا والآخرة مع الأمن من الخوف والحزن؟

قال: فقال: إنّ الله (تبارك وتعالى) يقول: ﴿إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾ ((3))، وقد دخل في هذا جميع الأُمّة.

ص: 228


1- أُنظر: بحار الأنوار: 25 / 91.
2- سورة فُصّلَت: 30.
3- سورة الحُجُرات: 10.

فاستضحكت، ثمّ قلت: صدقتَ ((1)) يا ابن عبّاس، أُنشدك الله هل في حكم الله (جلّ ذِكره) اختلاف؟

قال: فقال: لا.

فقلت: ما ترى في رجلٍ ضرب رجلاً أصابعه بالسيف حتّى سقطَت، ثمّ ذهب وأتى رجلٌ آخَر فأطار كفّه، فأُتيَ به إليك وأنت قاض، كيف أنت صانع؟

قال: أقول لهذا القاطع: أعطِه دية كفّه، وأقول لهذا المقطوع: صالحه على ما شئت، وأبعثُ به إلى ذوي عدل.

قلت: جاء الاختلاف في حكم الله (عزّ ذِكره) ونقضتَ القول الأوّل، أبى الله (عزّ ذكره) أن يُحدِث في خلقه شيئاً من الحدود وليس تفسيره في الأرض. اقطعْ قاطع الكفّ أصلاً، ثمّ أعطِه دية الأصابع، هكذا حكم الله ليلة ينزل فيها أمره، إنْ جحدتَها بعدما سمعتَ من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأدخلك الله النار، كما أعمى بصرك يوم جحَدْتَها عليَّ بن أبي طالب!

قال: فلذلك عمي بصري! قال: وما علمك بذلك، فوَاللهِ إنّ عمي

ص: 229


1- في (البحار): قوله (علیه السلام) : «صدقت»، أي: في قولك: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾، لكن لا ينفعك؛ إذ الأُخوّة لا يستلزم الاشتراك في جميع الكمالات، أو قال ذلك على سبيل المماشاة والتسليم، أو على التهكّم، وإنّما ضحك (علیه السلام) لوهن كلامه وعدم استقامته.

بصري إلّا مِن صفقة جناح الملِك.

قال: فاستضحكت، ثمّ تركتُه يومه ذلك لسخافة عقله، ثمّ لقيتُه فقلت: يا ابن عبّاس، ما تكلّمتَ بصدقٍ مثل أمس، قال لك عليّ ابن أبي طالب (علیه السلام) : إنّ ليلة القدر في كلّ سنة، وإنّه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، وإنّ لذلك الأمر ولاةً بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقلت: مَن هم؟ فقال: أنا وأحد عشر من صلبي، أئمّةٌ محدّثون. فقلت: لا أراها كانت إلّا مع رسول الله. فتبدّى لك الملَك الّذي يحدّثه، فقال: كذبتَ يا عبد الله، رأت عيناي الّذي حدّثك به عليّ _ ولم تره عيناه، ولكن وعى قلبه ووُقر في سمعه _. ثمّ صفقك بجناحه فعميت.

قال: فقال ابن عبّاس: ما اختلفنا في شيءٍ فحكمه إلى الله.

فقلت له: فهل حكم الله في حكم مَن حكمه بأمرين؟

قال: لا.

فقلت: هاهنا هلكتَ وأهلكت ((1)).

لا يُقال: إنّه وعى قلبه ووُقر سمعه؛ إذ أنّ ما رواه الشيخ الكليني (رحمة الله) _ وهو أسبق من الشيخ ابن شهرآشوب _ فيه كلمة: «تبدّى»، وقد فسّرها الإمام (علیه السلام) ، أمّا ما ورد في خبر المناقب عن ابن عبّاس قوله: «رأيت» و«ينادي»، والفرق بينهما واضح، وابن عبّاسٍ لم يفسّر معنى الرؤية

ص: 230


1- الكافي للكليني: 1 / 247 ح 2.

بالوعي، ولا النداء بما فسّره الإمام، وهو محمولٌ على الظاهر ومفهومٌ بالمتبادر منه.

التدقيق الرابع: لماذا لم يبايع ابن عبّاس؟!

سمع ابنُ عبّاس جبرائيل ينادي: «هلمّوا إلى بيعة الله»، كان ينادي، لا يتكلّم كلاماً عاديّاً، وإنّما ينادي، وقد أقرّ أنّه سمع، فلماذا لم يمتثل أمر جبرائيل؟ لِمَ ترك المبادرة إلى بيعة الله؟!

والبيعة أعمّ من القتال، أعمّ من الخروج مع الإمام (علیه السلام) .. البيعة لله، البيعة للإمام (علیه السلام) ؛ لاعتقاد فرض طاعته والدخول في رعيّته، والانضمام إلى رعيّته تحت راية إمامته، ثمّ يعتذر بفقدانه بصره إن استدعى خروجه معه إلى القتال، على أنّ العمى لا يمنع من الخروج لأغراضٍ غير غرض القتال، بل ربّما يقاتل الكفيف، كما فعل ابنُ عفيف (رضوان الله علیه) .

لم يذكر ابن عبّاسٍ سبب تخلّفه عن بيعة الله، وتركِه بيعة الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ! فيما سارع إلى بيعة يزيد، كما ذكرنا ذلك في غير موضعٍ من الدراسات السابقة ((1)).

ص: 231


1- أُنظر: الإمامة والسياسة لابن قُتيبة: 1 / 173، تاريخ الطبري: 5 / 343، الكامل لابن الأثير: 3 / 265، تذكرة الخواصّ لابن الجوزي: 135، نهاية الإرب للنويري: 20 / 382، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 151.
التدقيق الخامس: تعنيف ابن عبّاس

لا نريد الدخول في تفاصيل ما رواه الشيخ ابن شهرآشوب في هذا المقام، ونكتفي هنا بالإشارة إلى نكتةٍ واحدة، هي:

إنّ ابن عبّاس كان يعتذر عن تخلّفه عن ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد أن عُنّف: بأنّ أصحاب الحسين (علیه السلام) مكتوبون بأسمائهم من قبل شهودهم، لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً.

فهو إذن قد توجّه إليه اللّوم، وفق رواية الشيخ ابن شهرآشوب.

وعلى فرض أنّه لم يُوجَّه له لوم، فقد بادر هو للاعتذار بذلك بعد أن افترض أنّ ثَمّة لومٌ قد يُتوجَّه إليه، بغضّ النظر عن مناقشة ذلك، وهل يصحّ أن يكون ذلك عذراً أو لا يصحّ، وهل هو يروي ذلك أو أنّه يحاول أن يردّ الأمر إلى قضيّة القضاء والقدَر والجبر، فإنّ مناقشة ذلك له محلّه الخاصّ، وإنّما ذكرنا ذلك لبيان أنّ اللّوم قد توجّه إليه، أو أنّه أحسّ باللّوم، فقدّم له العذر حتّى رُوي إلينا.

ويُلاحَظ أنّه لم يعتذر بكفّ البصر والعجز عن القتال، وغيرها من الأعذار الّتي تُنحَت له!

اللفتة السابعة: المناشدة للإعراض عن المسير إلى العراق

قال: قلت: نشدتك الله، تسير إلى قومٍ قتلوا أباك وطعنوا أخاك، أهلِ العراق، وأنت بقيّتنا وجماعتنا.

ص: 232

لقد مرّ الحديث مفصّلاً عن هذه المناشدة فيما مضى من هذه الدراسة وغيرها، والجديد في هذا النصّ هو قوله: «وأنت بقيّتنا وجماعتنا».

لا نريد إطالة المكث عند هذه العبارة، سيّما أنّ طريقة تعامل ابن عبّاس الفوقيّة، ولغته الآمرة، وسلوكيّاته مع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في هذه الفترة حسب النصوص التاريخيّة الّتي قرأناها على الأقلّ، قد لا تفيد مفاد هذه العبارة، إذ أنّه يتعامل كأنّه هو كبير آل البيت وجماعتهم وبقيّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) .

وكيف كان، فإنّ تعابير المجاملة وأدبيّات المكالمة والحوار تفرض نمطاً خاصّاً من الحديث، والإقرار بأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) هو البقيّة، وبه تكون جماعتهم إقراراً بالواقع الحاكم يومذاك، وليس فيه شيء، أو إقراراً خاصّاً لأمرٍ خاصٍّ في ظرفٍ خاصٍّ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا يفيد من قريبٍ ولا من بعيدٍ إقراراً بإمامة الإمام (علیه السلام) وفرض طاعته ومبايعته، وإنّما هي لغة الحديث المتداوَل على مستوى البيوتات والقبائل.

اللفتة الثامنة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

اشارة

روى الشجريّ فقال:

فقال: «خَلِّ عنّي يا ابن عبّاس، فإنّي أستحيي من ربّي (عزوجل) أنْ ألقاه

ص: 233

ولم آمُر في أُمّتنا بمعروفٍ ولم أنهَ عن منكر» ((1)).

يمكن أن نختصر الكلام في هذا المقطع من الخبر ضمن تنويهات:

التنويه الأوّل: رواية الشجريّ

إنّ ما ذكره الشجريّ لم نسمع به في المتون الكثيرة الّتي مرّت في اللقاءات السابقة، فهو أوّل مَن روى هذا المعنى، وهو من أبناء القرن الخامس (412 _ 499 ه-)، وهو زيديّ المذهب، وربّما كان لهذا التوجّه تأثيرٌ في صياغة الأخبار!

التنويه الثاني: خَلِّ عنّي

يُشعِر قوله (علیه السلام) : «خَلِّ عنّي» أنّ ثمّة إصرارٌ وإلحاحٌ سَمِج، وكأنّ الإمام (علیه السلام) مُقدِمٌ على قضيّةٍ أخلاقيّةٍ بحيث يستحي من أن يلقى الله وهو لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر.

ويشعر القارئ للنصّ أنّ اللقاء قد انفضّ بخاتمةٍ غير محمودةٍ بالنسبة لابن عبّاس، كذا يفيد الجرس والإيقاع المنبعث من: «خلِّ عنّي ...».

ثمّ إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيء، والخروج لمحاربة السلطان بغرض إسقاط الحكم وتقويضه وإقامة حكمٍ آخَر مكانه وغيره ممّا قد يُدّعى في المقام شيءٌ آخَر، وقد أتينا على مناقشة ذلك مفصّلاً، فلا نعيد.

ص: 234


1- الأمالي للشجري: 1 / 186.

اللقاء الخامس: رواية أهل البيت (علیهم السلام)

اشارة

روى ابن زهرة في (الأربعين)، قال:

أخبرَني الشريف أبو الحارث والفقيه شاذان بالإسنادَين المذكورَين، عن الفقيه أبي الفتح الكراجكيّ قال: أخبرَني الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان (رضی الله عنه) ، قال: أخبرنا أبو القاسم جعفر ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أبيه محمّد بن عيسى الأشعريّ، عن عبد الله بن سليمان النوفليّ قال: [عن جعفر بن محمّد ...] فقد حدّثني [أبي] محمّد بن عليّ بن الحسين (علیهم السلام) ، قال:

لمّا تجهّز الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة، أتاه ابنُ عبّاسٍ فناشده الله والرحم أن يكون المقتول بالطفّ.

فقال: أنا أعرف بمصرعي منك، وما كدّي من الدنيا إلّا فراقها، ألا أُخبرك _ يا ابن عبّاس _ بحديث أمير المؤمنين (علیه السلام) والدنيا؟

فقال: بلى، لَعمري أنّي لَأُحبّ أن تحدّثني بأمرها.

فقال أبي: قال عليّ بن الحسين (علیه السلام) : سمعتُ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام) يقول: حدّثَني أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، قال:

ص: 235

إنّي كنتُ بفدك في بعض حيطانها، وقد صارت لفاطمة (علیه السلام) ، قال: فإذا أنا بامرأةٍ قد هجمَت علَيّ وفي يدي مسحاةٌ وأنا أعمل بها، فلمّا نظرتُ إليها طار قلبي ممّا تداخلَني من جمالها، فشبّهتُها ببُثينة بنت عامر الجمحيّ، وكانت من أجمل نساء قريش، فقالت: يا ابن أبي طالب، هل لك أن تتزوّج بي فأُغنيك عن هذه المسحاة، وأدلّك على خزائن الأرض، فيكون لك المُلك ما بقيتَ ولعَقِبك من بعدك؟ فقال لها (علیه السلام) : مَن أنتِ حتّى أخطبك من أهلك؟ قالت: أنا الدنيا. قال لها: فارجعي واطلبي زوجاً غيري، فلستِ من شأني. وأقبلتُ على مسحاتي ((1)).

* * * * *

يمكن الوقوف مع هذا النصّ ضمن عدّة وقفات:

الوقفة الأُولى: انتهاء النصّ إلى المعصوم

يمتاز هذا النصّ عن النصوص السابقة أنّه ينتهي إلى الإمام الصادق والإمام الباقر (علیهما السلام) ، بغضّ النظر عن الإسناد، ولهذه الميزة أثرها في التعامل مع النصّ في مواضع كثيرةٍ منها فيما لو تعارض مع النصّ التاريخيّ البحت، على تفصيلٍ أتينا على ذِكره في المدخل من (المجموعة الكاملة _ المولى

ص: 236


1- الأربعون لابن زهرة: 46 و50.

الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) _ وقائع السفارة).

الوقفة الثانية: المقدار المطلوب من النصّ

المقدار المطلوب من هذا النصّ في بحثنا هو ما ذكره الإمام (علیه السلام) من إتيان ابن عبّاسٍ إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) لمّا تجهّز إلى الكوفة ومناشدته وجواب الإمام الحسين (علیه السلام) :

لمّا تجهّز الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة، أتاه ابنُ عبّاسٍ فناشده الله والرحم أن يكون المقتول بالطف.

فقال: أنا أعرف بمصرعي منك، وما كدّي من الدنيا إلّا فراقها ...

أمّا الباقي فهو حديثٌ حدّثه سيّد الشهداء (علیه السلام) عن أبيه للتدليل على ما ذكره لابن عبّاس.

الوقفة الثالثة: مناشدة ابن عبّاس

من مميّزات هذا النصّ عن غيره من النصوص الّتي مرّت بنا أنّ لغة ابن عبّاسٍ تختلف هنا تمام الاختلاف، فلا تهديد ولا وعيد ولا لغةً آمِرةً ولا نشب يدٍ في الشعر ولا أخذاً بمجامع الثياب، ولا غيرها ممّا سمعناه في النصوص التاريخيّة، بل هي لغةٌ هادئةٌ ومناشدةٌ بالله والرحم.

ويمتاز أيضاً: أنّ ابن عبّاسٍ ناشد الإمام (علیه السلام) (أن يكون المقتول بالطفّ)، فهو إذن قد سمع أنّ ثَمّة مَن سيكون مقتولاً بالطفّ، وخشيَ أن

ص: 237

يكون المصداق هو سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بل يفيد أنّه يعلم أنّ المقتول بالطفّ إنّما هو سيّد الشهداء (علیه السلام) ، غير أنّه يريد أن يذكّر الإمام (علیه السلام) بما سمع ووعى، ويتمنّى أن يتجنّب الإمام (علیه السلام) هذا السفر، لعلّه أن لا يكون هو، وهذا الأُسلوب مستعمل، تماماً كما كان الأئمّة (علیهم السلام) يقولون لسيّدنا زيد بن عليّ (علیهما السلام) : «أُعيذك بالله أن تكون المصلوب بالكناسة».

وربّما يُستبعَد نسبة هذا النوع من الاستعمال إلى ابن عبّاس؛ لِما سنسمعه في ردّ الإمام (علیه السلام) .

وربّما كان الإمام (علیه السلام) اختصر ما جرى بين ابن عبّاسٍ وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وصاغه صياغةً تناسب التعامل مع خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، لئلّا يكون الإمام (علیه السلام) قد نقل شيئاً من العبارات الحادّة الّتي استعملها ابن عبّاس.

الوقفة الرابعة: ردّ الإمام (علیه السلام)

اشارة

يمكن تقسيم ردّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) على مناشدة ابن عبّاس إلى ثلاث مقاطع:

المقطع الأوّل: أنا أعرَفُ

ردّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) على ابن عبّاس ردّاً صارماً حازماً، يُشعِر بخطأ ابن عبّاس، وعدمِ معرفته بمآلات الأُمور وتقديرات المستقبل

ص: 238

ومؤدّيات الإخبارات النبويّة الصادقة، وطريقة التعامل معها وفهمها وإدراكها وتأويلها وتحقيقها.

ويُشعر بوضوحٍ أنْ ليس لمثل ابن عبّاسٍ أن يتقدّم بمثل هذه المناشدة، أو الطلب من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، إذ أنّ الإمام (علیه السلام) أعرف بمصرعه من غيره، بما فيهم ابن عبّاس.

وربّما كان هذا يشير إلى ما ذكرناه قبل قليلٍ من أنّ الإمام الصادق أو الباقر (علیهما السلام) قد اختصر كلام ابن عبّاسٍ ومناشدته بما يناسب الحديث مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويشهد لذلك جواب الإمام الحسين (علیه السلام) القويّ لابن عبّاس.

فلا حاجة لابن عبّاسٍ كي يعرّف الإمام (علیه السلام) بما يعمل ويقرّر، ولا أن يحذّره من أن يكون قتيل الطفّ، ويحاول أن يُقنِع الإمام (علیه السلام) أنْ لو أعرض عن التوجّه نحو العراق فإنّه قد ينجو من القتل ولا يكون هو قتيل الطفّ!

ويكفي لاستشعار الكثير من كلمات الإمام (علیه السلام) رحمةِ الله الواسعة التأمّلُ في تأكيد الإمام (علیه السلام) أنّه هو أعرف بمصرعه من ابن عبّاس، فلا مجال لاتّباع ما يقوله مَن لا يعرف، ولا مجال لمن لا يعرف أن يتكلّم ويفرض وهو في محضر مَن يعرف!

«أنا أعرفُ بمصرعي منك!»..

ص: 239

المقطع الثاني: ما كدّي من الدنيا

يبدو بشهادة ما حدّث به الإمام (علیه السلام) عن أبيه، وما دار بينه وبين الدنيا الّتي تمثّلَت له، وما قاله: «وما كدّي من الدنيا إلّا فراقها»، أنّ الإمام (علیه السلام) يردّ على ما كان في حسبان ابن عبّاس، إذ أنّه كان يرى أنّ خروج الإمام (علیه السلام) كان محاربةً مع يزيد طلباً للسلطان والحكم الّذي يتصوّره ويرسمه ابن عبّاس.. السلطة والسلطان، وتوابعها الدنيويّة..

لذا قال له الإمام (علیه السلام) : «وما كدّي من الدنيا إلّا فراقها»، لا كما تتصوّر، وقد عرضَت علينا الدنيا نفسَها فأَبيناها وطردناها، ويشهد لذلك كلمة: «كدّي».

ولو أردنا أن نفهم الردّ دون هذا التأويل، فقد يُقال: إنّ آخِر أمري في هذه الدنيا فراقها، لأنّي مطلوبٌ للقتل، فلابدّ أن أبرز إلى مضجعي الّذي اختاره الله لي، ولا أسمح للعدوّ أن يتّخذ من وجودي في مكّة ذريعةً لينتهك حرمة البيت.

أو يكون ردّ الإمام (علیه السلام) بمعنى: «أبالموت تخوّفني؟!».

وعلى أيّ تقديرٍ وبأيّ معنىً كان ردّ الإمام (علیه السلام) ، فهو يتضمّن تخطئة ابن عبّاس.

المقطع الثالث: الدنيا وأمير المؤمنين (علیه السلام)

فقال أبي: قال عليّ بن الحسين (علیه السلام) : سمعتُ أبا عبد الله الحسين (علیه السلام)

ص: 240

يقول: حدّثَني أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، قال:

إنّي كنتُ بفدك في بعض حيطانها، وقد صارت لفاطمة (علیه السلام) ، قال: فإذا أنا بامرأةٍ قد هجمَت علَيّ وفي يدي مسحاةٌ وأنا أعمل بها، فلمّا نظرتُ إليها طار قلبي ممّا تداخلَني من جمالها، فشبّهتُها ببُثينة بنت عامر الجمحيّ، وكانت من أجمل نساء قريش، فقالت: يا ابن أبي طالب، هل لك أن تتزوّج بي فأُغنيك عن هذه المسحاة، وأدلّك على خزائن الأرض، فيكون لك المُلك ما بقيتَ ولعَقِبك من بعدك؟ فقال لها (علیه السلام) : مَن أنتِ حتّى أخطبك من أهلك؟ قالت: أنا الدنيا. قال لها: فارجعي واطلبي زوجاً غيري، فلستِ من شأني. وأقبلتُ على مسحاتي ((1)).

* * * * *

جرى ما جرى لأمير المؤمنين (علیه السلام) مع الدنيا قبل أن تُغصَب فدك، إذ كان يعمل فيها، وهي لسيّدة النساء فاطمة (علیها السلام) .

ونحن لا نريد الدخول في تفاصيل ما جرى، ونكتفي بما يمكن أن يُعتبر العبرة والغرض من ذِكر ذلك.

فالدنيا تمثّلَت لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، ووعَدَته إنْ هو رضيَ بها وتزوّجها أن تغنيه عن المسحاة، وتدلّه على خزائن الأرض، فيكون له المُلك ما بقي،

ص: 241


1- الأربعون لابن زهرة: 46 و50.

ولعقبه من بعده..

يبدو أنّ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما ساق حديث أمير المؤمنين (علیه السلام) هذا لابن عبّاسٍ ليُفهِمَه أنّ الدنيا تتعرّض لهم وتتمنّاهم، وهم عنها معرضون!

الدنيا بالمعنى الّذي يفهما الإنسان العادي، الإنسان الّذي يعيش الدنيا ويقصدها ويريدها ويتطلّع إليها.. الدنيا الّتي يشير ابن عبّاسٍ للبقاء من أجلها، أو البقاء في مكّة للبقاء فيها..

لقد ضمنت الدنيا لأمير المؤمنين (علیه السلام) الملك له ولعقبه من بعده، بَيد أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أبى _ وهو مالك الدنيا ومليكها بأمر الله وتمكينه، وبيده خزائنها ونواصي سكّانها بتسليط الله له على ذلك _ كما أبى عقبُه مِن بعده!

يشعر من يتابع كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) بوضوحٍ أنّ الإمام (علیه السلام) يردّ على مستوىً من الدنيا، ونمطٍ خاصٍّ منها، ربّما هو الملك الّذي تعاقب عليه أولاد عبد الله بن عبّاس فيما بعد، ولو لم يكن هذا المستوى في مكنون ابن عبّاسٍ أو فلتات لسانه لَما كان ثمّة مسوّغٌ لذِكره، وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) معدن الفصاحة والبلاغة وأمير الكلام، وهو أعرف الخلق بالخلق وكوامنهم بأمر الله (عزوجل) .

ص: 242

تتمّات

التتمّة الأوّلى: متونٌ عامّة

وردت عدّة متونٍ في المصادر تحكي اللقاء بين ابن عبّاسٍ وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو ما جرى فيه من المحادثات، بَيد أنّها تذكره بلفظٍ مختصر، أو تمرّ عليه مروراً عابراً، أو تأتي به ضمن تسلسل مجريات بعض الأحداث، من قبيل:

روى ابن سعد، وابن عساكر، وابن العديم، والمزّيّ، والذهبيّ، وابن كثير:

وكان عبد الله بن عبّاس ينهاه عن ذلك ويقول: لا تفعل ((1)).

ص: 243


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من الطبقات لابن سعد: 56، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14 / 207، تهذيب ابن بدران: 4 / 328، مختصر ابن منظور: 7 / 139، بُغية الطلب لابن العديم: 6 / 2608، تهذيب الكمال للمزّي: 6 / 416، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 342، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3 / 199، البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 162.

وروى ابن طاووس قائلاً:

قال الحسين (علیه السلام) لعبد الله بن عبّاس في كلامٍ دار بينهما: «إنّي مقتولٌ بالعراق، ولَئن أُقتَل هناك أحبّ إليّ من أن يُستحلّ دمي في حرم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) » ((1)).

وقال السيوطيّ، والصبان:

• وكان ابن عبّاسٍ يقول له: لا تفعل ((2)).

• فقال له ابن عبّاس: واللهِ إنّي لَأظنّك ستُقتَل بين نسائك وبناتك، كما قُتل عثمان.

فلم يقبل منه، فبكى ابن عبّاسٍ وقال: أقررتَ عينَ ابن الزبير ((3)).

إبن حجر:

فنهاه ابن عبّاس، وبيّن له غدرهم وقتْلَهم لأبيه وخذلانهم لأخيه، فأبى، فنهاه أن لا يذهب بأهله، فأبى، فبكى ابن عبّاسٍ وقال: وا حبيباه! ((4))

البحرانيّ، والمازندرانيّ:

ص: 244


1- الملاحم والفتن لابن طاووس: 192.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206.
3- تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206، إسعاف الراغبين للصبان: 205.
4- الصواعق المحرقة لابن حجر: 117.

قال: فالتفت الحسين (علیه السلام) إلى ابن عبّاسٍ وقال له: «ما تقول في قومٍ أخرجوا ابنَ بنت نبيّهم عن وطنه وداره وقراره وحرم جدّه، وتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرارٍ ولا يأوي إلى جوار، يريدون بذلك قتله وسفك دمائه، ولم يُشرِك بالله شيئاً ولم يرتكب منكراً ولا إثماً؟».

فقال له ابن عبّاس: جُعلتُ فداك يا حسين، إنْ كنت لابدّ سائراً إلى الكوفة، فلا تسير بأهلك ونسائك.

فقال له: «يا ابن العمّ، إنّي رأيتُ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في منامي، وقد أمر بأمرٍ لا أقدر على خلافه، وأنّه أمرني بأخذهم معي».

وفي نقلٍ آخَر أنّه قال: «يا ابن العمّ، إنّهن ودائع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا آمَنُ عليهنّ أحداً، وهُنّ أيضاً لا يفارقنني».

فسمع ابن عبّاسٍ بكاءً من ورائه، وقائلةً تقول: يا ابن عبّاس! تشير على شيخنا وسيّدنا أن يخلفنا هاهنا ويمضي وحده؟ لا والله، بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟

فبكى ابن عبّاس بكاءً شديداً، وجعل يقول: يعزّ علَيّ والله فراقك يا ابن عمّاه.

ثمّ أقبل على الحسين (علیه السلام) ، وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة والدخول في صلح بني أُميّة، فقال الحسين (علیه السلام) : «هيهات يا ابن عبّاس! إنّ القوم لا يتركوني، وإنّهم يطلبوني أين كنت، حتّى أُبايعهم كُرهاً، ويقتلوني، واللهِ لو كنتُ في جُحر هامّةٍ من هوامّ الأرض

ص: 245

لَاستخرجوني منه وقتلوني، واللهِ إنّهم لَيعتدونّ علَيّ كما اعتدى اليهود في يوم السبت، وإنّي ماضٍ في أمر جدّي رسول الله حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((1)).

فقال: يا ابن العمّ، بلغني أنّك تريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب، فلا تعجل، فأقِمْ بمكّة ((2)).

* * * * *

جميع ما مرّ من المتون مرّت علينا فيما سبق من اللقاءات، سوى المتن الّذي قرأناه في (مدينة المعاجز)، وهو على ما يبدو تلفيقٌ وإدخالٌ لجملةٍ من النصوص التاريخيّة بعضها في بعض، بل يبدو أنّه تلفيقٌ وتداخلٌ في اللقاءات أيضاً، فربّما أدخل ما جرى بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عمر فيما جرى بينه وبينه، وبين ابن عبّاس، ويبدو ذلك واضحاً لمن تتبّع النصوص التي مرّت في هذه الدراسة.

وقد أتينا على تفصيل الكلام في أكثر مقاطع هذا المتن، فلا نعيد.

ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ ما تضمّنه هذا المتن هو صريحٌ فيما نريد الكلام عنه والوصول إليه، وخلاصته:

ص: 246


1- مدينة المعاجز للبحراني:243، معالي السبطين للمازندراني: 1 / 247، وسائل المظفّري لليزدي: 436، مقتل الحسين (علیه السلام) لبحر العلوم: 157 و158.
2- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 246.

إنّ القوم قد عزموا على قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وليست المطالبة بالمناولة والبيعة إلّا ذريعةٌ باهتةٌ تذرّعوا بها أمام الملأ، وهم قاتلوه فيما بعد، فالبيعة وتركها لا تغيّر في موقفهم وعزمهم ومضائهم فيما يريدون، سواءً أبايع أو لم يبايع!

التتمّة الثانية: إشفاق الناس وتحذيرهم

قال ابن كثير في (البداية والنهاية):

ولمّا استشعر الناس خروجه، أشفقوا عليه من ذلك وحذّروه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبّة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام بمكّة، وذكّروه ما جرى لأبيه وأخيه معهم ((1)).

ذكر ابن كثيرٍ هذا النصّ قبل أن يدخل في نقل الروايات والأخبار ذات الصلة بالموضوع، فكأنّه لخّص ما يريد روايته، وما فهمه أو أراد تقديمه كسابقةٍ ذهنيّةٍ لمن يقرأ كتابه، والصياغة تفيد أنّها عبارات ابن كثير نفسه، وليست هي نصٌّ تاريخيّ، والفرق بينهما واضح.

فربّما قصد باستشعار الناس وإشفاقهم هم الّذين ذُكروا في بعض النصوص كابن عبّاسٍ وابن عمر وغيرهما، أو مَن عبّر عنهم ابن الصبّاغ وقال:

ص: 247


1- البداية والنهاية لابن كثير: 8 / 159.

ثمّ جاءه بعد ذلك عبد الله بن عبّاس، ومعه جماعةٌ من ذوي الحنكة والتجربة والمعرفة بالأُمور ((1)).

أمّا أن يقصد بالناس جماعتهم وغالبيّتهم، فإنّ ذلك ما يخالفه النصّ التاريخيّ المعهود المشهور المذكور في جميع المصادر المتوفّرة لدينا، فعموم الناس كانوا أبعد ما يكونون عن سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وما يقاسيه ويعانيه من أولاد البغايا، وقد غاصوا في دنياهم وما خالوه التزاماً بالجماعة ومناسك الحجّ، ورضخوا وأذعنوا للبيعة البائسة الّتي بايعوا بها القرود، فهم لم يستشعروا وجود الإمام (علیه السلام) إلّا بمقدار ما يخدم دنياهم أو لا يهدّدها، وتعاملوا معه كأيّ حاجٍّ أو معتمرٍ أو مجاورٍ دخل مكّة في فترةٍ من فترات الزمن، وكأيّ شخصٍ آخَر من الأشخاص المبرّزين ذلك اليوم كابن عبّاس وغيره، بل ربّما كانت حفاوتهم بغيره أكثر وأشدّ من حفاوتهم به، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

أمّا باقي ما ذكره من أمرهم إيّاه بالمقام في مكّة، وتحذيرهم له من التوجّه نحو العراق، وتذكيرهم له بما جرى لأبيه وأخيه، فقد أتينا على تفصيل الردّ عليه، فلا نعيد.

ص: 248


1- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 185، نور الأبصار للشبلنجي: 257.

التتمّة الثالثة: التفأل بالقرآن

في كتاب (مهج الأحزان) لليزديّ، و(ناسخ التواريخ) لسپهر:

إنّ ابن عبّاسٍ ألحّ على الحسين (علیه السلام) في منعه من المسير إلى الكوفة، فتفأّل بالقرآن لإسكاته، فخرج الفأل قوله (تعالى): ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾ ((1))، فقال (علیه السلام) : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صدق الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) »، ثمّ قال: «يا ابن عبّاس، فلا تلحّ علَيّ بعد هذا، فإنّه لا مردّ لقضاء الله (عزوجل) » ((2)).

ربّما يقال: إنّ النصّ واردٌ في كتابٍ متأخِّرٍ جدّاً، غير أنّ ما ورد فيه ليس بعيداً عن المضامين المذكورة في المصادر المتقدّمة من إلحاح ابن عبّاس وردّ سيّد الشهداء (علیه السلام) .

والجديد الذي فيه هو التفأل بالقرآن الكريم، وخروج الآية المباركة، وهي أيضاً تلخّص ما ورد على لسان سيّد الشهداء (علیه السلام) وجدّه وأبيه في أكثر من موطن وموقف.

ص: 249


1- سورة آل عمران: 185.
2- معالي السبطين للمازندراني: 1 / 246، مهيّج الأحزان للشيخ حسن الحائري: 84 _ بترجمة: السيّد علي أشرف، ناسخ التواريخ لسپهر: 2 / 310 _ بترجمة: السيّد علي أشرف.

التتمّة الرابعة: نهاية اللقاءات

مرّ معنا في ذيل الحديث عن كلّ لقاءٍ ذكرناه نهايته، وكيف انفضّ الاجتماع، فكانت بعضها تنفضّ ويخرج ابن عبّاس ينعى الإمام الحسين (علیه السلام) ، وصرّح بعضهم أنّه خرج مغضباً، وأفاد بعضهم أنّ آخِر اللقاء كان فيه ابن عبّاس متشنّجاً يتمنّى أن يأخذ بمجامع ثوب خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، أو ينشب يده في شعره، أو يمنعه بأيّ وسيلة، وهكذا..

وكيف كان، فإنّ اللقاء قد انفضّ انفضاضاً غير محمود العواقب بالنسبة لابن عبّاس، لأنّ فحوى الإلحاح والإصرار، وخروجه على غير قناعةٍ بما يفعله سيّد الشهداء (علیه السلام) ، يفيد أنّه لم يكن مسلِّماً ولا معتقِداً بصحّة ما يفعله الإمام (علیه السلام) _ والعياذ بالله _.

ويكفي أن يخرج من الإمام (علیه السلام) مغضباً وغير راض، وهو في حالةٍ من الغضب والتشنّج، لأنّه لم يقدر على ثني الإمام (علیه السلام) عن عزمه في الخروج، بأيّ تصوّرٍ وتسويغٍ وتبريرٍ أردنا أن نبرّر غضبه وتشنّجه وعدم رضاه، سواءً أكان حرصاً وشفقة، أو اعتقاداً بصحّة ما ذهب إليه، أو لأيّ سببٍ كان.

التتمّة الخامسة: الاختيار بين تصويب ابن عبّاس وتخطأته

المتحصّل من جميع اللقاءات أنّ ابن عبّاسٍ عجز عن إقناع سيّد

ص: 250

الشهداء (علیه السلام) بما يراه هو ويعتقده من وجوب إطاعته والنزول على رأيه، وبالتالي فنحن بين خيارين:

إمّا أن يُصار إلى الكذبة المقذعة الّتي ذكرها بعض المؤرّخين وصرّحوا بها من تصويب ابن عبّاس وما ذهب إليه، وأنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد علم ذلك في كربلاء، فصار يتحسّر ويتلهّف ويندم _ نعوذ بالله، ونستغفره، ونعتذر لريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الإمام المفروض طاعته خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) _.

قال أبو الفرج الأُمويّ:

فذكر مَن حضره يوم قُتل، وهو يلتفت إلى حرمه وإخوته وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل مَن يُقتَل معه وما يرينه به، ويقول: لله درّ ابن عبّاسٍ فيما أشار علَيّ به ((1)).

وقال سبط ابن الجوزيّ:

قلت: وهذا معنى قول عليّ (علیه السلام) : لله درّ ابن عبّاس؛ فإنّه ينظر مِن سترٍ رقيق ((2)).

وقد أتينا على تفصيل الكلام في ذلك قبل قليل، فلا نعيد.

وإمّا أن نعتقد بعصمة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وفرض طاعته،

ص: 251


1- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 72.
2- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

وتخطئة جميع أهل الأرض إذا خالفوه، لأنّه لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل إلّا ما شاء الله وأراد، وهو كذلك _ وهذا ما ندين الله به ونتوسّل إليه بمحمّدٍ وآل محمّد أن يحشرنا ووالدينا وذريّاتنا إلى يوم القيامة عليه _، فلا مناص من التسليم للإمام (علیه السلام) ، واعتقاد خطأ ابن عبّاس وغيره.

والنتيجة: إنّ ابن عبّاس _ وغيره _ كان مخطأً في إلحاحه وإصراره!

التتمّة السادسة: اختلاف الخطابَين

تبيّن لنا ممّا مرّ أنّ ثمّة خطابين:

أحدهما: خطاب ابن عبّاس وأمثاله، وهو يركّز على أنّ الإمام (علیه السلام) ينوي في خروجه إلى قصد السلطة والسلطان، والانقضاض على النظام الحاكم ومحاربة يزيد وملكه وانتزاع السلطة منه.

والخطاب الآخَر: وهو خطاب سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ، الّذي كان يركّز فيه على أنّه يريد الخروج من مكّة، لأنّ بقاءه فيها يعني قتله فيها بالقطع واليقين، وهو لا يحبّ أن تُهتَك حرمة البيت بدمه الزاكي الّذي سكن الخلد.

التتمّة السابعة: تغافل ابن عبّاس!

لقد سمعنا كلام سيّد الشهداء (علیه السلام) وردوده وأجوبته لابن عبّاس وغيره ممّن خالفه وعارضه وألحّ عليه ليبقى في مكّة المكرّمة، وكان الإمام (علیه السلام) يؤكّد

ص: 252

بشتّى صنوف العبارات والتأكيدات أنّ بقاءه في مكّة يعني قتله، ورأينا مجريات الأحداث تسير وفق ما يقوله أصدق الخلق الإمام الحسين (علیه السلام) ، وعرفنا سلوك عدوّه، وأصحر القرد المخمور المسعور بما عزم عليه، وشهد له سوابق شجرته الملعونة في التعامل مع النبيّ وآله الطاهرين وأمير المؤمنين وفاطمة سيّدة نساء العالمين (علیهم السلام) ، وكذا شهد فيما بعد سلوك أعدائهم من العبّاسيّين، وشهدت الإخبارات الغيبيّة عن سيّد الأنبياء (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) الّتي روى بعضها ابن عبّاس نفسه بذلك.

فلماذا كلّ هذا الإصرار والإلحاح؟! والأهمّ من ذلك، لماذا كلّ هذا التغافل والتجاهل لمجريات الأحداث وبياناتِ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكأن لم يكن أيّ تهديدٍ يتهدّد حياة سيّد الخلق وأهله؟!

يُلاحَظ في كلام ابن عبّاس كأنّه لا يرى أو لا يريد أن يرى ما يجري حوله، وكأنّه لا يسمع الإمام (علیه السلام) ولا يفهم كلامه!

التتمّة الثامنة: الفرق بين كلام ابن عبّاسٍ وغيره من الهاشميّين

قد يُقال: إنّ موقف ابن عبّاسٍ وكلامه مع الإمام (علیه السلام) ومناشدته لا تختلف عن موقف مثل أُمّ المؤمنين الطيّبة أُمّ سلَمة، والمولى المكرّم ابن الحنفيّة، والطيّب ابن الطيّب عبد الله بن جعفر.. فلماذا نتعامل مع ابن

ص: 253

عبّاسٍ مِن منطلق سوء الظنّ! ونغضي عن أُولئك؟

والجواب بكلمة، وقد أجبنا على ذلك إجمالاً فيما مضى:

إنّ أُمّ سلَمة جاءت وهي مسلِّمةٌ لأمر الله وأمر رسوله (صلی الله علیه و آله) وإمام زمانها، مطيعةٌ لهم، وقد عرضَت على سيّد الشهداء (علیه السلام) التربة الّتي دفعها إليها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأخبرته بما أخبرها، ثمّ قالت له: يا بُنيّ، لا تفجعني بخروجك إلى العراق! فهي مسلّمةٌ بما حدّثها به النبيّ (صلی الله علیه و آله) مؤمنةٌ بذلك، غير أنّها أُمٌّ مفجوعة، يتحرّق قلبها ويتفتّت كبدها، وتتلهّف وتلتاع لما سيجري على إمامها وابنها وذي رحمها، وهي تعلم أنّ الإمام (علیه السلام) قادرٌ _ بإذن الله _ أن يفعل ما يشاء، فلعلّها تجد ما يُنجي إمامها وحبيبها من القتل المحتوم الّذي تعتقده وتؤمن به، فلمّا أخبرها الإمام (علیه السلام) أنّه لابدّ أن يخرج، سلّمت له، وذرفت قلبَها من آماقها دموعاً.

وكذا المولى ابن الحنفيّة، تقدّم بين يدَي أخيه، فقال ما قال كأخٍ يتوسّل إلى أخيه، فلمّا وجد الإمام (علیه السلام) عازماً سلّم له.

وكذا ابن جعفر، سعى فيما وجده سبيلاً قد يكون مؤدّياً للحفاظ على حياة إمامه (علیه السلام) ، فلمّا سمع مقال الإمام (علیه السلام) وعلم عزمه، دفع ولدَيه وفلذتَي كبده وزوجه ليفدوا إمامهم سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

فالفرق بين موقف ابن عبّاس وابن عمر وابن مطيع وأمثالهم، ودعوة يزيد لهؤلاء ليتوسّطوا ويمنعوا سيّد الشهداء (علیه السلام) عن الخروج من مكّة، وبين

ص: 254

موقف أُمّ سلَمة وأولادها، فرقٌ كبيرٌ وواضح!

التتمّة التاسعة: إساءة أدب ابن عبّاس

بغضّ النظر عن دوافع ابن عبّاس والأسباب الّتي كانت تحفّزه على الإصرار على سيّد الشهداء (علیه السلام) والتشبّث برأيه، فلو افترضناها كانت نابعةً من شفقته وحرصه على إبعاد الإمام (علیه السلام) عن حافّة الموت المحدقة به، وأنّه كان يحاذر على حياة الإمام (علیه السلام) ، ويريد أن لا يترك وسيلةً للنجاة إلّا استعملها ولا سبيلاً إلّا سلكه، غير أنّ هذا لا يعفيه من رعاية الأدب، وهو في محضر بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع، وبين يدَي سيّد الخلائق وإمامها الّذي أمر الله بحبّه والإخبات عنده والخضوع له والتسليم له، وسلوكِ سبيل الاحتياط والحذر من الزلل والخطل في الحديث معه.

ولا داعي لذكر الأدلّة على وجوب الإخبات والتأدّب في الحديث والكلام بمحضر النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومين (علیهم السلام) .فمهما كانت العلاقة بين ابن عبّاسٍ وسيّد شباب أهل الجنّة ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فإنّها لا تسمح له أن يتمدّد، وينفي الكلفة في الخطاب، ويتحدّث معه بلهجة الآمر الناهي، ويدعوه للطاعة ويحذّره من مغبّة المعصية، فضلاً عن باقي تعابيره الّتي ذكرها المؤرّخون، كنشب يده في شَعر خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) والإمام المفترض الطاعة، والأخذِ بمجامع ثوبه، وغيرها..

ص: 255

والغريب أنّ جملة هذه التعابير وردت في مصادر قديمة، فإن كان أحد المؤرّخين قد نقل بعضها فإنّ المؤرّخ الآخَر نقل الأُخرى، فلو ناقشنا في نصٍّ فإنّنا سنواجه النصّ الآخر، فهي مُجمِعةٌ _ ولو على نحو الإجماع المركّب _ على رواية الجفاء والغلظة والقسوة في مخاطبة رحمة الله الواسعة، وتعدّي ابن عبّاس طوره، وتجاوزِ حدّه، وهو بين يدَي مَن أمر اللهُ ورسولُه (صلی الله علیه و آله) بحبّه وطاعته والتأدّب بحضرته.

التتمّة العاشرة: سوء الظنّ!

قد يقال: إنّ التعامل مع مواقف ابن عبّاسٍ وتصريحاته هنا مبتنيةٌ على سوء الظنّ به وبمواقفه، وكأنّه لم يكن من أعمدة البيت الهاشميّ وموالياً لسيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) .

لا حاجة للدخول في تفاصيل حياة عبد الله بن عبّاس والبحث في ولائه ومواقفه مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وإثبات ولائه أو عدم ولائه، واعتقاده بفرض طاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) كإمامٍ منصوب من الله (عزوجل) ، لأنّه خارجٌ عن محلّ بحثنا.

غير أنّنا نقتصر هنا بالإشارة إلى أمرٍ باختصارٍ شديد:

فلْيكن ابن عبّاسٍ كما يُقال فيه، ولْيكن له سوابق لامعة مشرقة نيّرة، ولْيكن كما يوصف: ترجمان القرآن وحَبر الأُمّة، وقل فيه ما شئت.. بَيد أنّنا لم نجد _ حسب فحصنا إلى حين تسويد هذه الأوراق _ ما يشهد لابن

ص: 256

عبّاس بوضوح أنّه يعتقد بفرض طاعة الإمام الحسين (علیه السلام) ، وأنّه يعتقد به كوصيٍّ للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنّه قد نصبه الله ورسوله وأمير المؤمنين والإمام الحسن (علیهم السلام) على الخلائق أجمعين، وعليهم جميعاً أن يطيعوه، وأنّ طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، وأنّه معصوم، وغيرها من العقائد الّتي يعتقدها المؤمن الموالي المقرّ ببيعة الغدير في الوصيّ والإمام والخليفة للنبيّ (صلی الله علیه و آله) ..

بل ربّما أفادت الشواهد الّتي وقفنا عليها أنّه يرى نفسه ندّاً للإمام الحسين (علیه السلام) في أحسن التقادير، إذا حملناه على أرقى وأحسن المحامل!

وبغضّ النظر عمّا ذكرناه:

إنّنا تعاملنا هنا مع عبد الله بن عبّاس من خلال ما رواه لنا المؤرّخ، وحدّثَنا به راويه، بغضّ النظر عن سوابقه ولواحقه، فإذا بقينا نحن والنصّ التاريخيّ الّذي نعالجه ونتعامل معه، فإنّنا سمعنا ما قال وما فعل، وعرفنا كيف تعامل مع الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكيف خاطبه وطريقة مواجهته والألفاظ والأساليب الّتي استعملها، وهو بين يدَي سيّد الكائنات، والأُمور بخواتيمها، ونحن نتعامل معه بما نراه اليوم وهو يخاطب سيّد الشهداء (علیه السلام) ويتعامل معه، فلتكن سوابقه ما كانت!

التتمّة الحادية عشر: اتّضاح الصورة لكلّ ذي عينَين

يُلاحَظ رسم مشهد الكوفة من قبل ابن عبّاس، وغيره، ومحاولة تذكير

ص: 257

الإمام (علیه السلام) _ وهو سيّد الذاكرين _، وهي جزماً لا تخفى على سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلابدّ إذن من وجود دافع عند سيّد الشهداء (علیه السلام) غير ما يصوّره المعارضون.

وقد صرّح به الإمام (علیه السلام) في غير موضع، وذكره بشتّى العبارات، وصوّره بشتّى الصور، وسيأتي فيما بعد إن شاء الله (تعالى) تفصيل الحديث فيه، ولكن نذكر هنا على نحو الإشارة ما صرّح به الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وعبّر عنه بقوله: «لَئن أُقتَل بالعراق أحبّ إليّ من أن أُقتَل في مكّة».

وقد ذكرنا مراراً أنّ التاريخ ومجريات الأحداث شهدَت بأنّ أهل مكّة والمدينة قد خذلوا سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكذا باقي الأمصار.

أمّا الكوفة، فقد كانت فيها دعوات، وإن كانت كاذبة، بَيد أنّها دعَتْه، ووعَدَته النصرة والدفاع عنه، والذبّ عن عيالات رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وللإمام (علیه السلام) أن يعتمدها في الظاهر المنظور، وإن كان يعلم حقيقتها، وله أن يحتجّ عليهم بما كتبوه وأرسلوه له، فهذه الدعوات الغدّارة الّتي لا تخفى على الإمام (علیه السلام) _ كما لم تخف على مثل ابن عبّاس وابن عمر _ وهذه النصرة المحتملة، أفضل من الخذلان المطلق المتنجّز.

والأهمّ من ذلك، فإنّه قد قصد الكوفة لوجود (القليل الديّانين) الّذين سيدفعون عنه بالقطع واليقين، وينصرونه ويفدونه بالأرواح والأنفس، ويلبسون القلوب على الدروع في الذبّ عنه وعن أهل بيته، وهم

ص: 258

موجودون في الكوفة لا غير.

والحديث في ذلك طويل، يأتي في محلّه إن شاء الله.

التتمّة الثانية عشر: خلاصة القول في موقف ابن عبّاس!

لا يبدو موقف ابن عبّاس _ هنا بالخصوص _ مشرّفاً، حسب المتون التاريخيّة الّتي وقفنا عليها.

وأمّا ما ذكره ابن أعثم: «كأنّك تدعوني إلى نفسك ...»، فهو ممّا تفرّد به ابن أعثم، بالإضافة إلى أنّ ابن عبّاسٍ لم يرتّب أثراً على ما زعمه من الاستعداد للنصرة، وقد تخلّف عن سيّد الشهداء (علیه السلام) هو وأولاده وبنو العبّاس جميعاً.

ثمّ إذا كان ابن عبّاس أعمى، فكيف يدعوه الإمام (علیه السلام) إلى نفسه؟ وكيف يعلن هو نصرته؟

وإن كان بإمكان ابن عبّاسٍ الخروج مع سيّد الشهداء (علیه السلام) والاصطفاف معه، لا ليقاتل، وهو حسب الفرض أعمى، بل يكتفي بأن ينصر الإمام (علیه السلام) في جميع المواطن من المدينة إلى كربلاء، ويدفع عنه باللسان.

ولو كان ابن عبّاس، صاحب اللسان المعروف وقوّة المناظرة، وهو ابن عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والصحابيّ المقرّب، والمقبول عند الجميع، والمكرّم عند رجال السقيفة وأتباعهم، لَكان له أثره البليغ الّذي لا يُنكَر في كربلاء، وربّما

ص: 259

استطاع أن يقلب كفّة الحرب في كربلاء، ويؤثّر في الكثيرين، كلّ ذلك حسب الحسابات الظاهريّة.

على أنّ الأعمى أيضاً إذا كان عازماً على الموت موالياً فادياً مستميتاً، يمكنه أن يخدم بما يقدر عليه، بل يُقدِم إلى القتال، تماماً كما فعل عبد الله ابن عفيف الأزديّ حين قاتل القوم واستعان بابنته، وسيأتي الكلام في ذلك في محلّه، إن شاء الله (تعالى).

ص: 260

إبن عبّاس يلتقي ابن الزبير

اشارة

ورد لقاء العبدَين ابن عبّاسٍ وابن الزبير في المصادر في مشهدَين: أحدهما مختصرٌ بالقياس إلى الثاني الّذي نرى فيه شيئاً من التفصيل والكلام والمجادلة، لذا اقتضى تقسيم المتون إلى قسمين:

القسم الأوّل: المختصر

اشارة

يمكن تقسيم نصوص هذا القسم إلى شعبتين: أحدهما يتضمّن الكلام الذي دار بينهما، والآخَر يتضمّن الأبيات الّتي تمثّل بها ابنُ عبّاس.

الشعبة الأُولى: الكلام

اشارة

قال ابن سعدٍ وابن عساكر وجماعة:

ثمّ خرج عبد الله بن عبّاس مِن عنده [من عند الحسين (علیه السلام) ] وهو مغضَب، وابن الزبير على الباب، فلمّا رآه قال: يا ابن الزبير، قد أتى ما أحببت، قرّت عينُك، هذا أبو عبد الله يخرج ويتركك

ص: 261

والحجاز ((1)).. (الأبيات)

قال البلاذريّ:

ثمّ خرج ابن عبّاسٍ من عنده، فمرّ بابن الزبير، فقال له: قرّت عينُك يا ابن الزبير بشخوص الحسين عنك وتخليته إيّاك والحجاز. ثمّ قال: ... ((2)) (الأبيات)

قال الدينوريّ:

فمرّ بابن الزبير وهو جالس، فقال له: قرّت عينُك يا ابن الزبير بخروج الحسين. ثمّ تمثّل ... ((3)).

قال الطبريّ:

فمرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: قرّت عينُك يا ابن الزبير. ثمّ قال: ... (الأبيات)، هذا حسينٌ يخرج إلى العراق، وعليك بالحجاز ((4)).

ص: 262


1- ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 14/ 211، تهذيب ابن بدران: 4/ 331، مختصر ابن منظور: 7/ 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6/ 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6/ 421، تاريخ الإسلام للذهبي: 2/ 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 200، البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 165.
2- جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3/ 374.
3- الأخبار الطِّوال للدينوري: 244.
4- تاريخ الطبري: 5/ 384.

قال ابن أعثم، والخوارزميّ:

ثم مرّ ابنُ عبّاسٍ بابن الزبير (في طريقه) ((1))، وجعل يقول: ... (الأبيات)

قال: ثمّ أقبل ابن عبّاسٍ إلى عبد الله بن الزبير، فقال: قرّت عيناك يا ابن الزبير، هذا الحسين بن عليّ يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((2)).

قال المسعوديّ:

فمرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: قرّت عينُك يا ابن الزبير. وأنشد: (الأبيات).. هذا حسينٌ يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((3)).

قال أبو الفرج:

ومضى الحسين لوجهه، ولقى ابنُ عبّاسٍ بعد خروجه عبدَ الله بن الزبير، فقال له: ... (الأبيات)

فقال: قد خرج الحسين، وخلَت لك الحجاز ((4)).

ص: 263


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1/ 217. باقي العبارة مثل (الفتوح) بأدنى تفاوت.
2- الفتوح لابن أعثم: 5/ 114.
3- مروج الذهب للمسعودي: 3/ 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، معالي السبطين للمازندراني: 1/ 224.
4- مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 73.

قال مسكويه:

ومرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: قرّت عينُك يا ابن الزبير. ثمّ قال: ... (الأبيات)

قال: وما ذاك؟

قال: هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((1)).

قال ابن منظور:

لمّا خرج الحسين بن عليّ إلى الكوفة، اجتمع ابن عبّاسٍ وعبد الله ابن الزبير بمكّة، فضرب ابنُ عبّاسٍ جنب ابن الزبير وتمثّل: ... (الأبيات)، خلا لكَ واللهِ يا ابن الزبير الحجاز ((2)).

قال ابن شهرآشوب:

ومرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: قد قلت لما أن رزيت معشري ... ((3)) (الأبيات)

قال ابن الجوزيّ:

فلقيَ ابنَ الزبير، فقال: قرّت عينك ((4))، هذا حسينٌ يخرج إلى

ص: 264


1- تجارب الأُمم لمسكويه: 2/ 56.
2- مختصر ابن منظور: 12/ 325.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.
4- تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137.

العراق، ويخلّيك والحجاز. ثمّ أنشد مرتجزاً متمثّلاً: ... ((1)).

قال ابن الأثير، والنويريّ:

فمرّ بابن الزبير، فقال: قرّت عينُك يا ابن الزبير. ثمّ أنشد قائلاً: ... (الأبيات)، هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((2)).

قال ابن الصبّاغ، والشبلنجيّ:

وعند خروج ابن عبّاس من عند الحسين صدفه ابن الزبير، فقال: ما وراك يا عمّ؟ قال: ما يقرّ عينك، هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز. ثمّ ولّى عنه وهو ينشد: ... ((3)).

قال السيوطيّ:

ولمّا رأى ابن عبّاس عبد الله بن الزبير قال له: قد أتى ما أحببت، هذا الحسين يخرج ويتركك والحجاز. ثمّ تمثّل: ... ((4)).

قال الصبّان:

فلمّا رجع قال لابن الزبير: قد جاء ما أحببت، خرج الحسين وتركك

ص: 265


1- المنتظَم لابن الجوزي: 5/ 328.
2- الكامل لابن الأثير: 3/ 276، نهاية الإرب للنويري: 20/ 408، أعيان الشيعة للأمين: 1/ 593، لواعج الأشجان للأمين: 71.
3- الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
4- تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206.

والحجاز ((1)).

* * * * *

يمكن تقطيع المتن الوارد في هذه المصادر إلى عدّة قطع:

القطعة الأُولى: كلام ابن عبّاس
اشارة

وردت في نصوص هذه القطعة عدّة معلومات:

المعلومة الأُولى: لا كلام لابن الزبير

يُلاحَظ في مجموع هذه المتون أنّها تروي كلام ابن عبّاسٍ فقط، ولا تذكر لابن الزبير كلاماً، لا ابتداءً ولا ردّاً على ابن عبّاس، ولا أيّ تعليقٍ آخَر، سوى ما رواه مسكويه حين قال ابنُ عبّاس مبتدئاً: قرّت عينُك يا ابن الزبير، وأنشده الأبيات، فقال ابن الزبير: «وما ذاك؟»، مستفهماً عن السبب، كأنّه لا يدري ما يقصد ابن عبّاس، أو أنّه سأل مستنكِراً عليه، وربّما شهد للأوّل جواب ابن عباس: هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز ((2)).

وذكر ابن الصبّاغ والشبلنجيّ أنّ ابن الزبير هو الّذي بادر وسأل ابن عبّاس بعد خروجه من سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقال له: ما وراك يا عمّ؟ ((3))

ص: 266


1- إسعاف الراغبين للصبّان: 205.
2- تجارب الأُمم لمسكويه: 2/ 56.
3- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259.

فكان الّذي كان من ابن عبّاس جواباً على سؤاله.

ربّما كان السبب في خلوّ الخبر من جواب ابن الزبير باعتبار أنّ ابن عبّاس كان مارّاً به مروراً، فألقى إليه ما أراد أن يُلقي وانصرف دون انتظار الجواب منه، ويشهد لذلك ما ورد في المتون أنّه مرّ به، أو أنّه قال له ذلك حين التقاه صدفةً وهو في طريقه، أو أنّه كلّمه ثمّ ولّى عنه، وكان مغضباً..

وربّما لم يردّ عليه ابن الزبير، لأنّه كان فرحاً مسروراً بالخبر، فلا يرى ضرورةً للمراوغة هنا، ولا تدعوه الحاجة للإنكار.

المعلومة الثانية: اللقاء بعد الخروج من عند سيّد الشهداء (علیه السلام)

صرّحت أكثر النصوص أنّ ابن عبّاس التقى ابن الزبير بعد خروجه من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) في لقائه الأخير، وقد خرج مغضباً يائساً من إقناع سيّد الشهداء (علیه السلام) بما يريد.

غير أنّ في إحدى روايات الذهبيّ وفي (مختصر) ابن منظور عبارةً تفيد أنّ الاجتماع حصل بعد أن سار سيّد الشهداء (علیه السلام) وخرج إلى الكوفة ((1)).

فإذا أخذنا بنظر الاعتبار انتهاء لقاء ابن عبّاس مع سيّد الشهداء (علیه السلام) قُبيل خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، عرفنا أنّ رواية الذهبيّ لا تبعد كثيراً عن سواها من أخبار الآخَرين.

ص: 267


1- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 354، مختصر ابن منظور: 12/ 325.
المعلومة الثالثة: مكان اللقاء

أفاد ابن منظور أنّ اللقاء كان في مكّة ((1))، وقال الخوارزميّ: أنّه التقى ابن الزبير في طريقه ((2))، وأفاد كثيرون أنّه التقاه بعد خروجه من سيّد الشهداء (علیه السلام) فمرّ به، فيما صرّح ابن سعدٍ ومَن تلاه أنّ ابن عبّاس خرج من عند الإمام (علیه السلام) وابن الزبير على الباب، وكأنّ ابن الزبير كان واقفاً ليدخل على الإمام الحسين (علیه السلام) ، أو أنّ ذلك كان صدفةً كما صرّح ابن الصبّاغ والشبلنجيّ ((3)).

المعلومة الرابعة: الفرق بين هذا اللقاء وما مرّ ذكره

لقد مرّ معنا فيما مضى ما قاله ابن عبّاسٍ من أنّ خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) سيقرّ عين ابن الزبير، والفرق بين ما ذكرناه آنفاً وما ورد هنا في كون الحديث السابق كان بين ابن عبّاس وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ ابن عبّاس قد حذّر الإمام (علیه السلام) من إقرار عين ابن الزبير بخروجه.

فيما الحديث هنا يدور بين العبدَين، لذا اقتضى التفريق بينهما، وإفراد ما نحن فيه تحت عنوانٍ مستقلّ.

غير أنّ بعض المحتويات والمضامين ستكون مشتركة، من قبيل:

ص: 268


1- أُنظر: مختصر ابن منظور: 12/ 325.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1/ 217.
3- أُنظر: الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259.

مقايسة الإمام (علیه السلام) بابن الزبير، ولوازم هذه المقايسة، وأنّ الإمام (علیه السلام) يعمل بتكليفه، ولا يهمّه بعد ذلك أن تقرّ عين أحدٍ أو تسخن ما دام في رضى الله (عزوجل) وطاعته، واختلاف ظروف الإمام (علیه السلام) ودوافع خروجه من مكّة، وظروف ابن الزبير ودوافع إقامته فيها، وغيرها ممّا أتينا على ذِكره في لقاء ابن عبّاس بسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وسنتناول الموادّ هنا بما لا يلزم التكرار، إن شاء الله (تعالى).

المعلومة الخامسة: خلاصة كلام ابن عبّاس

يمكن تلخيص كلام ابن عبّاس الوارد في المصادر فيما يلي:

خرج عبد الله بن عبّاس من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو مغضب، فلقيَ ابنَ الزبير، فقال له: قد أتى ما أحببت، قرّت عينُك بشخوص الحسين (علیه السلام) عنك وتخليته إيّاك والحجاز، هذا أبو عبد الله يخرج إلى العراق ويتركك، عليك بالحجاز ((1)).

ص: 269


1- أُنظر: جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3/ 374، الأخبار الطِّوال للدينوري: 244، تاريخ الطبري: 5/ 384، الفتوح لابن أعثم: 5/ 114، مروج الذهب للمسعودي: 3/ 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 73، تجارب الأُمم لمسكويه: 2/ 56، مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1/ 217، مختصر ابن منظور: 12/ 325، المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف، المنتظم لابن الجوزي: 5/ 328، الكامل لابن الأثير: 3/ 276، نهاية الإرب للنويري: 20/ 408، أعيان الشيعة للأمين: 1/ 593، لواعج الأشجان للأمين: 71، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206، إسعاف الراغبين للصبّان: 205، معالي السبطين للمازندراني: 1/ 224.
المعلومة السادسة: الإخبار عن كوامن ابن الزبير

قد أتى ما أحببت.. قرّت عينك.. كأنّ ابن عبّاسٍ قد قرأ كوامن ابن الزبير، وجاءه مبشّراً _ متهكّماً _ بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة..

وما جاء في كلام ابن عبّاس إنّما هو قراءةٌ لمجريات الأحداث وسلوكيّات ابن الزبير، حيث كانت تشير إلى منويّاته وما يخطّط له من التطلّع إلى السلطة والحكم والاستئثار بغنائم الدنيا وشهواتها وزخارفها الّتي يطمع فيها ابن الزبير، إذ أنّ ابن الزبير لم يصرّح على رؤوس الأشهاد بفرحه واستبشاره بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، وما ذكره ابنُ عبّاسٍ وغيرُه من المؤرّخين إنّما هو تحليلٌ لمواقف ابن الزبير وأفكاره وخططه ومنويّاته.

ومثل ابن عبّاس يُدرِك تماماً ما يريده ابن الزبير، ويخشاه ويتوجّس منه، وما يُفرِحه ويطرب له ويتمنّاه.. فكلاهما ينطلقان من منطلقٍ واحد، ويستشرفان مستقبلاً بنفس الطعم والنكهة، ويتمنّيان نفس الأماني!

أجل، سيأتي أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قد أخبر بذلك عن ابن الزبير، فإنْ

ص: 270

كان ابن عبّاسٍ قد استفاده من كلام الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) فهو مقبولٌ منه، بَيد أنّه يبقى في دائرة تصوّرات ابن عبّاس.

المعلومة السابعة: غياب التخوّف من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام)

يُلاحَظ في جميع النصوص المذكورة في المقام غياب تخوّف ابن عبّاس وتوجّسه من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومن المخاطرة بالذهاب إلى العراق بالنفس والأهل، وقد انحصر حديث ابن عبّاس على حدَث خروج الإمام (علیه السلام) وتخلية مكّة لابن الزبير فحسب.

بمعنى أنّ الذي أثار ابنَ عبّاسٍ هو أن يخرج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة ويخلّيها لابن الزبير، فكأنّها الفرصة الّتي كان ينبغي للإمام (علیه السلام) أن يوظّفها ويستفيد منها، وقد تخلّى عنها لصالح خصمه وعدوّه، فسنحَت الفرصةُ لابن الزبير كما لم يحلم بها.

أمّا ما كان يذكره ابن عبّاسٍ عند الإمام الحسين (علیه السلام) وتحذيره إيّاه من التوجّه إلى العراق لما يستلزم من قتله، قد غاب في هذا المشهد تماماً، فلا يهمّه النتيجة الّتي ستترتّب على توجّه الإمام (علیه السلام) نحو العراق، وإنّما يهمّه أن يخسر الساحة المكّيّة لصالح ابن الزبير.

المعلومة الثامنة: صراع السلطة

إنتهى اللقاء مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فخرج ابن عبّاس مغضباً، إذ أنّه كان يتكلّم في أجواء الصراع على السلطة، وكان سيّد الشهداء (علیه السلام) يردّ

ص: 271

عليه بشتّى العبارات وألوان الأجوبة الّتي تفيد أنّه في موقف الدفاع وليس في موقف الهجوم، وأنّه يريد أن لا يبايع ويبقى بعيداً عن عادية الذئاب المتوحّشة الّتي تريد أن تملأ منه أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً.

فكان المفروض أن يفهم ابن عبّاسٍ ويدرك موقفه، وينثني عن أوهامه وخيالاته، بَيد أنّه بعد جميع البيانات الحسينيّة الواضحة البيّنة يغضب، ويلتقي بابن الزبير ليعود إلى معزوفته الممجوجة وأُنشودته الممقوتة الّتي كان يتغنّى بها حتّى بلغت أولاده، فلعبوا بالمُلك وتناولوه تناول الصبيان للكرة.

وسيأتي مزيد بيانٍ لذلك فيما بعد، إن شاء الله (تعالى)، سيّما عند الحديث في الأخبار المفصّلة لهذا اللقاء.

المعلومة التاسعة: التخلّي عن مكّة

تأكيد ابن عبّاس على ابن الزبير ليفرح بمغادرة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) مكّة وتخليتها لصالح ابن الزبير، كأنّه يُشعِر بالحرمان من خسارة ساحةٍ كانت هادئةً يمكن أن يجمع فيها الإمام (علیه السلام) الأنصار والأتباع والأشياع محتمياً بالبيت الحرام، فربحها ابن الزبير، فيما اختار الإمام (علیه السلام) في المقابل ساحةً مكدَّرةً مشوَّشةً متقلّبة، فيها خليطٌ من الغدر والسوابق السيّئة، وهي غير مضمونة العواقب، بل يكشف سابقها عن عواقب وخيمة غير محمودة، وبذلك يرى أنّ الإمام (علیه السلام) قد وفّر فرصةً لا تُعوَّض لابن الزبير بالاختيار الّذي يراه ابن عباس خاطئاً رغم كلّ ما حدّثه به

ص: 272

الإمام خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) .

المعلومة العاشرة: المحصَّلة

كيف كان، فإنّ كلام ابن عبّاسٍ يكشف عن مدى انزعاجه شخصيّاً وتألّمه، ومدى الكبت والغليان العميق الّذي يُقلقل أحشاءه، والغمِّ المتراكم الّذي يغشى قلبه وعواطفه وأحاسيسه وجيّاشات الخيال بين أضلاعه.

كما يكشف عن مدى الأسى الّذي يعيشه من انفراد ابن الزبير بمكّة، وتمكّنه ممّا كان يتمنّاه، وكأنّه يستشعر الشماتة المفترضة في ابن الزبير بابن عبّاس.

فهو في الحقيقة كان يتحدّث عمّا يجيش في خاطره وكوامنه من ظفر ابن الزبير بمقدار ما كان يشي بانزعاجه من خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) .

وبكلمةٍ أُخرى: إنّ ابن عبّاسٍ كان يستشيط غضباً من موقف الإمام الحسين (علیه السلام) ؛ لأمرين:

أحدهما: خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وهذا يعني أنّه (علیه السلام) _ والعياذ بالله _ يفرّط بساحةٍ مهمّةٍ يمكنه من خلالها أن يحترس بالبيت، فيجمع الأنصار ويعدّ العدّة ويوظّف عامل المكان والكثافة البشريّة المتجمّعة في الحجّ لتحقيق مآربه.

هذا كلّه، وفق ما يتوهّمه ابن عبّاسٍ ويخاله من سبب خروج الإمام (علیه السلام) من مكّة، وهو منحصرٌ عند ابن عبّاس بالاستيلاء على السلطة

ص: 273

والحكم والملك.

والآخَر: هو أنّ الذي استفاد من خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) هو ابن الزبير بالذات، وهذا ما يُزعج ابنَ عبّاسٍ أيضاً.

القطعة الثانية: التمثّل

إتّفقَت المصادر على رواية الأشطر الثلاثة الأُولى:

يا لكِ من قبّرةٍ بمعمَرِ

خلا لكِ الجوُّ، فبيضي

واصفري

ونقِّري ما شئتِ أن تنقّري ((1))

وزاد آخَرون فيها بعض الأشطر..

ص: 274


1- أُنظر: ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من كتاب الطبقات لابن سعد: 61، تاريخ دمشق لابن عساكر: 14/ 211، تهذيب ابن بدران: 4/ 331، مختصر ابن منظور: 7/ 142، بُغية الطلب لابن العديم: 6/ 2611، تهذيب الكمال للمزّي: 6/ 421، تاريخ الإسلام للذهبي: 2/ 343، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 200، البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 165، جُمل من أنساب الأشراف للبلاذري: 3/ 374، الأخبار الطِّوال للدينوري: 244، تاريخ الطبري: 5/ 384، مروج الذهب للمسعودي: 3/ 65، نفَس المهموم للقمّي: 167، تجارب الأُمم لمسكويه: 2/ 56، مختصر ابن منظور: 12/ 325، المنتظم لابن الجوزي: 5/ 328، الكامل لابن الأثير: 3/ 276، نهاية الإرب للنويري: 20/ 408، أعيان الشيعة للأمين: 1/ 593، لواعج الأشجان للأمين: 71، تذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي: 137، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 206.

ففي (الفتوح):

قد رُفع الفخّ، فماذا تحذري؟

لابدّ من أخذِكِ يوماً، فاصبري ((1))

وعند الخوارزميّ نفس المعنى بلفظٍ آخَر وإضافة:

إنْ ذهَبَ الصائدُ عنكِ فابشري

قد رُفع الفخُّ، فما

مِن حَذَرِ

هذا الحسين سائرٌ، فانتشري ((2))

وفي (المقاتل) لأبي الفرج، وابن الصبّاغ، والشبلنجيّ، أضافوا الشطر الأخير فقط بأدنى اختلاف:

هذا الحسين خارجاً، فاستبشري ((3))

وأضاف ابن شهرآشوب شطراً في البداية:

قد قلتُ لمّا أن رزيت معشري ((4))

والباقي رواه تماماً كالفتوح.

فستكون مجموع الأبيات _ بغضّ النظر عن التفاوت البسيط جدّاً أحياناً _ :

ص: 275


1- الفتوح لابن أعثم: 5/ 114.
2- أُنظر: مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي: 1/ 217.
3- أُنظر: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: 73، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 187، نور الأبصار للشبلنجي: 259.
4- أُنظر: المناقب لابن شهرآشوب: 10 / 322 _ بتحقيق: السيّد علي أشرف.

قد قلتُ لمّا أن رزيت معشري:

يا لكِ من قُبّرةٍ

بمعمَرِ

خلا لكِ الجوّ، فبيضي واصفري

ونقِّري ما شئتِ أن

تنقّري

إنْ ذهب الصائدُ عنكِ فابشري

قد رُفع الفخّ، فماذا

تحذري؟

لابدّ من أخذِكِ يوماً، فاصبري

هذا الحسين سائرٌ،

فانتشري

[هذا الحسين خارجاً فاستبشري]

* * * * *

هذه الأبيات تحكي ما يجيش في صدر ابن عبّاس، وهي تعبيرٌ آخَر عمّا تكلّم به ممّا ذكرناه قبل قليلٍ في القطعة الأُولى، فلا حاجة لتناول الأبيات في حديثٍ خاصّ؛ تجنّباً للإعادة والتكرار، ونكتفي هنا بإشارةٍ مقتضبة:

ربّما كان في خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) فرجاً لابن الزبير الّذي كان يُضمِر ما يُضمِر من التكالب على الدنيا وبهارج السلطان، فله أن ينتابه الفرح، ويُصبح ويُمسي جذلان مسروراً، ويبيّض ويصفّر وينقّر..

بَيد أنّ ما يقابل فرحه بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما هو انزعاج ابن عبّاس وانقباضه وتكدّره، وليس للإمام (علیه السلام) في هذه الحكاية أيّ انفعالٍ أو تأثّر، إذ لم يكن أيّ نوعٍ من أنواع التنافس والتقابل بين موقف سيّد الشهداء (علیه السلام) وعزمه على الخروج وبين وجود ابن الزبير في مكّة.

فقصّة ابن الزبير كلّها تمتدّ بآثارها وتظلّل على ابن عبّاس شخصيّاً، وليس لها على سيّد الشهداء (علیه السلام) أيّ تأثير، ولم يلتفت أبو الشهداء (علیه السلام) إلى ابن الزبير، إذ لا يوجد أيّ ترابطٍ بين وجود ابن الزبير وخروج سيّد

ص: 276

الشهداء (علیه السلام) !

أجل، إنّما يُزعج الإمامَ (علیه السلام) وجود ابن الزبير في مكّة، لأنّه يخشى أن تُهتَك به حرمة البيت، لأنّ ابن الزبير ويزيد آل حرب لا يقيمون وزناً لحرمة البيت، وقد هتكوه!

القسم الثاني: المفصّل

اشارة

روى الشجريّ، والبيهقيّ، والجاحظ:

(وبه) قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن عليّ بن الحسين التوزيّ، قال: حدّثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريّا بن يحيى بن حميد الطبريّ قراءةً عليه، قال: حدّثنا ابن دريد، قال: حدّثنا العكليّ، عن أبيه قال: ذكر ابن داب، قال: ذكر عوانة، عن الشعبيّ:

إنّ عبد الله بن عبّاس دخل المسجد وقد سار الحسين بن عليّ (علیه السلام) إلى العراق، فإذا هو بعبد الله بن الزبير في جماعةٍ من قريش، وقد استعلاهم بالكلام.

فجاء ابنُ عبّاسٍ حتّى ضرب بيده على عضد ابن الزبير، فقال: أصبحتَ والله كما قال الأوّل:

يا لكِ من قنبرةٍ بمعمَرِ

خلا لكِ الجوُّ، فبيضي

واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري

خلَتْ واللهِ يا ابن الزبير الحجازُ من الحسين بن عليّ، فأقبلتَ تهدر

ص: 277

في جوانبها.

فغضب ابنُ الزبير، وقال: واللهِ يا ابن عبّاس إنّك لَترى أنّك أحقّ بهذا الأمر منّي.

فقال ابن عبّاس: يا ابن الزبير، إنّما يرى مَن كان في شكّ، وأنا مِن ذلك على يقين.

قال ابن الزبير: بأيّ شيءٍ استحقّ عندك أنّكم أحقُّ بهذا الشأن منّي؟

فقال ابن عبّاس: لأنّا أحقّ بحقّ مَن تدلّى بحقّه، وبأيّ شيءٍ استحقّ عندك أنّك أحقّ بهذا من سائر العرب؟ [وقد سقط شي ءٌ من الأصل، كذا] إلّا بنا.

قال ابن الزبير: استحقّ عندي أنّي أحقّ بها منهم لشرفي عليهم قديماً وحديثاً، لا ينكرون ذلك.

قال ابن عبّاس: فأنت أشرف أو مَن شُرّفتَ به؟!

فقال ابن الزبير: مَن شُرّفتُ به زادني شرفاً إلى شرفٍ قد كان لي قديماً.

قال ابن عبّاس: يا ابن الزبير! فالزيادة أشرف أم المزيد عليه؟ فالزيادة منّي أو منك؟

فأطرق، ثمّ قال: منك، ولم أبعد.

قال: صدقتَ يا ابن الزبير.

قال ابن الزبير: دَعْني من لسانك يا ابن عبّاس، هذا الّذي تقلّبه

ص: 278

كيف شئت، واللهِ لا تحبّونا يا بني هاشم أبداً.

فقال ابن عبّاس: صدقت، نحن أهلُ بيتٍ مع الله، لا نحبّ مَن أبغضه الله أبداً.

وكان مع ابن الزبير ابنُ أخيه، فنازع ابنَ عبّاس، فأخذ ابن الزبير نعله فعلا بها رأس ابن أخيه، وقال: ما أنت والكلام؟ لا أُمّ لك! ألابن عبّاسٍ تنازع؟!

فقال ابن عبّاس: لم يستحقّ الضرب من صدق، وإنّما يستحقّه مَن مَرَق ومَزَق.

فقال ابن الزبير: يا ابن عبّاس، أما ينبغي أن تصفح عن كلمة، كأنّك قد أعددتَ لها جواباً؟

فقال ابن عبّاس: إنّما الصفح عمّن أقرّ، وأمّا عمّن هَرّ فلا.

فقال ابن الزبير: فأين الفضل؟

فقال ابن عبّاس: عندنا أهل البيت، لا نصرفه عن أهله ولا نضعه في غيرهم.

فقال ابن الزبير: أوَلستَ من أهله؟

قال: بلى، إن نبذتَ الحسد ولزمت الجدد.

ثمّ تفرّقا ((1)).

ص: 279


1- الأمالي للشجري: 1/ 189، وانظر: المحاسن والمساوي للبيهقي: 71، المحاسن والأضداد للجاحظ: 142.

وروى ابن منظور قائلاً:

لمّا خرج الحسين بن عليّ إلى الكوفة، اجتمع ابن عبّاسٍ وعبد الله ابن الزبير بمكّة، فضرب ابن عبّاسٍ جنب ابن الزبير وتمثّل:

يا لكِ من قُبّرةٍ بمعمَرِ

خلا لكِ الجوُّ، فبيضي

واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري

خلا لكَ واللهِ يا ابن الزبير الحجاز، وسار الحسين إلى العراق.

فقال ابن الزبير لابن عبّاس: واللهِ ما ترون إلّا أنّكم أحقّ بهذا الأمر من سائر الناس.

فقال له ابن عبّاس: إنّما يرى مَن كان في شكّ، فأمّا نحن من ذلك فعلى يقين، ولكن أخبِرْني عن نفسك، لمَ زعمتَ أنّك أحقُّ بهذا الأمر من سائر العرب؟

قال ابن الزبير: لِشرفي عليهم قديماً لا تنكرونه.

قال: فأيّما أشرف، أنت أَم مَن شُرّفتَ به؟

قال: إنّ الّذي شُرّفتُ به زادني شرفاً.

قال: وعلت أصواتهما، فقال ابنُ أخٍ لعبد الله بن الزبير: يا ابن عبّاس، دَعْنا من قولك، فو اللهِ لا تحبّونا يا بني هاشم أبداً.

قال: فخفقه عبد الله بن الزبير بالنعل، وقال: أتتكلّم وأنا حاضر؟!

فقال له ابن عبّاس: لمَ ضربت الغلام وما استحقّ الضرب؟ وإنّما يستحقّ الضرب مَن مرَقَ ومذَق.

قال: يا ابن عبّاس، أما تريد أن تعفو عن كلمةٍ واحدة؟

ص: 280

قال: إنّما نعفو عمّن أقرّ، فأمّا مَن هرّ فلا.

قال: فقال ابن الزبير: فأين الفضل؟

قال ابن عبّاس: عندنا أهل البيت، لا نضعه في غير موضعه فنُذَمّ، ولا نزويه عن أهله فنَظلِم.

قال: أوَلستَ منهم؟

قال: بلى، إن نبذتَ الحسد ولزمت الجدد.

قال: واعترض بينهما رجالٌ من قريش، فأسكتوهما ((1)).

وروى ابن أبي الحديد فقال:

لمّا خرج الحسين (علیه السلام) من مكّة إلى العراق، ضرب عبدُ الله بن عبّاس بيده على منكب ابن الزبير وقال:

يا لكِ من قُبّرةٍ بمعمَرِ

خلا

لكِ الجوُّ، فبيضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تُنقّري

هذا الحسين سائرٌ،

فأبشري

خلا الجوُّ واللهِ لك يا ابن الزبير، وسار الحسين إلى العراق.

فقال ابن الزبير: يا ابن عبّاس، والله ما ترَون هذا الأمر إلّا لكم، ولا ترون إلّا أنّكم أحقّ به من جميع الناس.

فقال ابن عبّاس: إنّما يرى مَن كان في شكّ، ونحن من ذلك على يقين، ولكن أخبِرْني عن نفسك، بماذا تروم هذا الأمر؟

ص: 281


1- مختصر ابن منظور: 12/ 325.

قال: بشرفي.

قال: وبماذا شُرّفت؟ إن كان لك شرفٌ فإنّما هو بنا، فنحن أشرف منك؛ لأنّ شرفك منّا.

وعلَت أصواتهما، فقال غلامٌ من آل الزبير: دَعْنا منك يا ابن عبّاس، فو اللهِ لا تحبّوننا يا بني هاشم ولا نحبّكم أبداً.

فلَطَمه عبد الله بن الزبير، وقال: أتتكلّم وأنا حاضر؟!

فقال ابن عبّاس: لمَ ضربتَ الغلام؟ واللهِ أحقُّ بالضرب منه مَن مزَقَ ومرَق.

قال: ومن هو؟

قال: أنت.

واعترض بينهما رجالٌ من قريش فأسكتوهما ((1)).

قال الذهبيّ:

روى العتبيّ، عن أبيه قال:

لمّا سار الحسين إلى الكوفة، اجتمع ابن عبّاسٍ وابن الزبير بمكّة، فضرب ابن عبّاس على جيب ابن الزبير وتمثّل:

يا لكِ من قُبّرةٍ بمعمَرِ

خلا

لكِ الجوُّ، فبيضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري

ص: 282


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/ 134.

خلا لكَ واللهِ يا ابن الزبير الحجاز، وذهب الحسين.

فقال ابن الزبير: واللهِ ما ترَون إلّا أنّكم أحقُّ بهذا الأمر من سائر الناس.

فقال: إنّما يرى مَن كان في شكّ، و[أمّا] نحن فعلى يقين، لكنْ أخبِرْني عن نفسك، لمَ زعمتَ أنّك أحقُّ بهذا الأمر من سائر العرب؟

فقال ابن الزبير: لِشرفي عليهم.

قال: أيّما أشرف، أنت أَم مَن شُرّفتَ به؟

قال: الّذي شُرّفتُ به زادني شرفاً.

قال: وعلَت أصواتُهما، حتّى اعترض بينهما رجالٌ من قريش فسكّتوهما ((1)).

* * * * *

يمكن أن نتابع مضامين هذه النصوص من خلال عدّة شروح، ولا نريد الدخول في تفاصيل ما جرى بينهما، وتناولَ جميع ما ورد في النصوص بالتفصيل؛ إذ لا شأن لنا بما يجري بين العبدَين ونحن نريد متابعة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فلا غَرو إن اكتفينا بإشاراتٍ سريعةٍ لها علاقةٌ مباشرةٌ ببحثنا:

ص: 283


1- سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 237.

الشرح الأوّل: اختلاف اللقاء

ربّما كانت هذه المجموعة من النصوص الّتي تروي لقاءً بين ابن عبّاس وابن الزبير تختلف عن المجموعة الأُولى الّتي ذكرناها قبل قليلٍ في القسم الأوّل، ولا يبعد أنّها تتحدّث عن لقاءٍ آخَر، سيّما أنّنا نقرأ عند الشجريّ أنّ اللقاء تمّ بعد أن سار الإمام الحسين (علیه السلام) داخل المسجد، فيما كانت أخبار اللقاء الأوّل تفيد أنّه التقاه بعد أن خرج من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما أنّ نصوص المجموعة الأُولى اقتصرَت على ذِكر الأبيات وبضعة عبارات، فيما نجد في نصوص هذا اللقاء حواراً ومناقشاتٍ وهجوماً متبادلاً.

الشرح الثاني: أجواء اللقاء

يبدو واضحاً لمن يقرأ مُجرَيات اللقاء وما دار فيه من كلامٍ أنّ الأجواء المظلّلة عليه لا تعدو المفاخرة على موازينهم، والمنافرة والتحاسد والصراع المتهالِك على السلطان ولوازمه الدنيويّة، والتنازع على الحطام الزائل، وتسخير رقاب الناس وركوبها، واستحلاب الشهوات الّتي ترشح من صديد مقاعد عروش السلطنة، والنزوع إلى الإمارة والحكم بأيّ ثمنٍ ومهما كلّف الأمر.

ص: 284

الشرح الثالث: التنازع في حقٍّ غير ثابت

سنقرأ بعد قليلٍ الحوارَ بين العبدَين، ابنِ الزبير وابن عبّاس، لنجدهما يتنازعان حقّاً لم يثبت لأحدٍ منهما قطّ، وكلٌّ منهما يدّعي الشرف والزعامة بقربه من النبيّ (صلی الله علیه و آله) وبني هاشم، وكلاهما يتعاميان عن رجال الحقّ الّذين فرض الله طاعتهم وجعلهم أوصياء وخلفاء وأوجب إمامتهم على العالمين.

يدّعي ابن عبّاسٍ استحقاقه للمُلك والخلافة بشرفه وقربه من النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ويدّعي ابن الزبير شرفاً ذاتيّاً وزيادة شرفٍ بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) ، ويجعل ذلك ذريعةً كافيةً لاستحقاق الملك وما يسمّونه الخلافة.

والحال أنّ الله (عزوجل) لم يجعلها لأحدٍ منهما قطّ، وقد جعلها لغيرهما!

أمّا ابن الزبير فلا كلام معه، وهو المتهالك على الدنيا المتردّي في مهاوي الحضيض والحسد والتوثّب للسلطة والحكم، وما تستتبعه من شهواتٍ ولذّاتٍ وزخارف وبهارج وسلطنةٍ واقتدار، وهو عدوٌّ يُجاهِر بعداوته لآل البيت (علیهم السلام) ، فلا عجب إن ادّعى لنفسه شيئاً بإزائهم.

ولكن قد يتوجّه السؤال لابن عبّاس، فيقال: هل نسيَ حديثَ الغدير؟! وهل نسي حديث النصّ على الأئمّة الاثني عشر؟! وهل نسي النصّ على الإمامين الحسن والحسين (علیهما السلام) ؟!!

أو أنّه لا يريد أن يذكر شيئاً، فهو يسعى لينالها هو أو أحد إخوته، لتدوم فيما بعد في أولاده وذراريه، وقد تلاقفوها بعد حينٍ بخداع الناس وتوظيف

ص: 285

عنوان الرضى من آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، حيث يرون أنفسهم هم الآل لا سواهم، وهم الأحقّ بها لا غيرهم.

ولا يقال: إنّ ابن عبّاسٍ إنّما كان ينافح ويدافع عن حقّ آل أبي طالب (علیهم السلام) في الخلافة في مشهده هذا مع ابن الزبير.

فإنّ في متن هذا الحوار _ كما سنسمع _ ما يشهد لخلاف ذلك، بل إنّ متابعة ابن عبّاسٍ شخصيّاً وأولاده وإخوته وأهل بيته ومزاعمهم وتصوّراتهم وتصويراتهم وادّعائهم القرب من النبيّ (صلی الله علیه و آله) الّذي لا ينازعهم فيه أحدٌ من العالمين، ويرقب عن كثبٍ مساعيه ومساعي أولاده، يُدرِك جيّداً أنّ الرجل كان يراها لنفسه، ويرى نفسه الأحقّ والأجدر والأكفأ بها ولها.

ويُلاحَظ في سياق الكلام بين العبدَين أنّ الصراع والتنازع والتخاصم بينهم بالذات، وليس لسيّد الشهداء (علیه السلام) ذِكرٌ في البَين أبداً، رغم أنّ ابن عبّاس لم يكن يومها منتصباً للأمر رسميّاً، فإذا تأمّلنا النصّ نجده موحشاً لا ذِكر فيه لسيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) ، لا من قريبٍ ولا من بعيد.

الشرح الرابع: نَفَسُ ابن عبّاسٍ في الخطاب

يتعامل ابن عبّاس مع ابن الزبير بنَفَس الحسرة والتلهّف على إخلاء مكّة له، وتسلّطه عليها، وكأنّ ابن عبّاس يتمنّى أن لو كان له فيها مغرز إبرة، وكأنّ نوازع الحسد والحرص والشحّ يدفعه كي لا يرى لابن الزبير

ص: 286

شخصاً ولا شخصيّةً ولا أثراً في مكّة، وربّما أفاد التأمّل في موقفه وكلامه مع ابن الزبير ومع سيّد الشهداء (علیه السلام) من قبل أنّه يحاول إبقاء الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) في مكّة مهما كلّف الأمر ومهما استتبع ما دام وجود الإمام (علیه السلام) سيكبح وجود ابن الزبير ويحجّمه ويدفعه إلى الظلّ ويمنعه من التغوّل.

وفي ذلك اعترافٌ ضمنيٌّ من طرفَي النزاع هنا _ يعني ابن عبّاس وابن الزبير _ بتفوّق الإمام سيّد الشهداء (علیهما السلام) عليهما، غاية ما في الأمر أنّ ابن عبّاس كان يريد توظيف وجود الإمام (علیه السلام) في مكّة لصالحه، سواءً كان على مستوى النكاية بابن الزبير، أو التطلّع إلى المستقبل القريب الّذي قد يوظّفه من خلال ركوب الأمواج المتلاطمة الهائجة بين يزيد وابن الزبير والإمام الحسين (علیه السلام) ، لينزو على المنبر كما نزا أولاده فيما بعد.

وربّما شهد لذلك روح التحاسد وموازين الجاهليّة والتفاخر الأرعن الحاكم على هذه المساجلة بين العبدين _ ابن عبّاس وابن الزبير _، بالإضافة إلى الكثير ممّا تشي به المواقف والتعبيرات.

الشرح الخامس: غياب التفجّع على الإمام الحسين (علیه السلام)

دخل ابن عبّاس المسجد بعد مسير سيّد الشهداء (علیه السلام) إلى العراق، فرأى ابنَ الزبير في جماعةٍ من قريش وقد استعلاهم بالكلام، فجاء ابن عبّاس حتّى ضرب بيده على عضد ابن الزبير، وقال له: «أصبحتَ واللهِ كما قال الأوّل..»، وتمثّل له بالأبيات: «يا لكِ من قُبّرةٍ بمعمَرِ..»، ثمّ قال:

ص: 287

«خلَت واللهِ يا ابن الزبير الحجازُ من الحسين بن عليّ، فأقبلتَ تهدر في جوانبها»! ((1))

هذا هو المقدار الّذي أحزن ابنَ عبّاسٍ من مسير الإمام (علیه السلام) نحو العراق في كلامه مع ابن الزبير، فانزعاجه لا يعدو أكثر من تخلية الحجاز لابن الزبير حتّى أقبل يهدر في جوانبها!

وكأنّ المقابلة بين خروج الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) وبين تخلية الساحة لابن الزبير، لا أكثر.

وكأنّ التنافس ينحصر في التمكّن من فُرص الوثوب على هذه الولاية أو تلك البلدة، والقدرة على توظيف عوامل الاستيلاء على السلطة، وتسخير الناس من أجل الهدف المنشود لابن الزبير وابن عبّاس.

وكأنّ دوافع حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) نحو العراق هي نفسها دوافع بقاء ابن الزبير في مكّة.

وكأنّ ابن عبّاس لم يخرج من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) قبل ذلك وهو ينشد: انعي حسين لمن سمع، فلا تسمع في إيقاع كلمات ابن عبّاس مع ابن الزبير أيّ لحنٍ حزينٍ متفجّعٍ ينعى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا آهة ألمٍ تكشف عن التصدّع لقتل سبط النبيّ (صلی الله علیه و آله) وريحانته الّذي قطع به ابن عبّاس وجزم عند حديثه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .

ص: 288


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1/ 189.

الشرح السادس: بواعث الحسد والنزاع على السلطة

غضب ابنُ الزبير من كلام ابن عبّاس، وهما يعرف بعضهما البعض، ويُدرك بعضهما البعض، وينظر بعضهما إلى البعض من خلال منظارٍ مشترك، وقد فهم ابن الزبير ما يعني ابن عبّاس في حديثه، فغضب وقال: «واللهِ يا ابن عبّاس إنّك لَترى أنّك أحقُّ بهذا الأمر منّي» ((1)).

هكذا بلفظ المفرد، «إنّك لَترى أنّك أحقُّ بهذا الأمر منّي» في (الأمالي) للشجريّ..

أمّا عند ابن منظور وابن أبي الحديد والذهبيّ، فإنّهم نقلوا بلفظ الجمع: «والله ما ترون إلّا أنّكم أحقُّ بهذا الأمر من سائر الناس».

والجمع في اللفظ الثاني ينمّ عن حسد ابن الزبير لبني هاشم جميعاً، غير أنّ سياق الحديث يفيد بوضوحٍ أنّ المقصود هو شخص ابن عبّاس بالذات.

إنّك لَترى أنّك أحقّ بهذا الأمر منّي.. كلماتٌ يفوح منها زنخ الحسد وعفن الصراع على حطام الدنيا الممتهن، وأسن مستنقع السلطنة والاقتدار، ونتن الشهوات واللذّات الآجِنة.هذا الأمر.. يعني به ابن الزبير: الحكم، والسلطان، والمُلك..

ص: 289


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1/ 189.

يرى نفسه أحقّ بالملك.. الملك بالمعنى الدنيويّ الّذي تتنازع عليه الوحوش الكاسرة والذوات القذرة..

الكلام لا يمتّ إلى الدِّين والإسلام والتوحيد وخلافة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وإقامة العدل وترويج القرآن وسُنّة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) من قريبٍ ولا من بعيد..

هذا الأمر.. يعني به الأمر الّذي استولى عليه يزيد، واستولى عليه قبله معاوية، وهكذا استولى عليه قبله عثمان، هذا هو الأمر الّذي يُنازع فيه ابن الزبير ويجادل فيه ابن عبّاس..

الأمر.. الّذي غدا كرةً يتلاقفها صبيان بني أُميّة وبني العبّاس!

الشرح السابع: جواب ابن عبّاس

جواب ابن عبّاسٍ كان على نفس النسق، وعلى نفس الوتيرة، يحمل نفس البصمة، ويضرب على نفس الأوتار.. بَيد أنّ إيقاعاته أقوى وأعلى، وهو أكثر رسوخاً في موقعه وأثبت قدماً في مواضعه..

يتكلّم كلام الواثق المطمئنّ إلى ما يرتكن إليه من مؤهّلاتٍ ذاتيّة وأُسريّةٍ وعشائريّة، وغيرها من الموازين الّتي يمكن أن توظَّف في المشهد من خلال التوليف بين قيَم الجاهليّة والإسلام، والمزج بين موازين السابق واللاحق.

أجاب ابن عبّاس: «يا ابن الزبير، إنّما يرى مَن كان في شكّ، وأنا مِن ذلك على يقين!».

ص: 290

يؤكّد الخطاب المباشر إلى ابن الزبير والتصريح باسمه: «يا ابن الزبير»، أنّ الجدال بين هذين الشخصين، والكلام مُوجَّهٌ لابن الزبير، كما كان موجَّهاً في لفظ ابن الزبير لابن عبّاس بالذات، وقد صرّح باسمه أيضاً.

يبدو هنا ابن عبّاس بنفس المستوى الشخصيّ والاعتماد الذاتيّ العالي الّذي لا يتردّد فيما يرى، إذ أنّه يتكلّم كلام الواثق من صحّة ما هو عليه، تماماً كما كان في كلامه مع سيّد الكائنات سيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) ، فكما كان متيقّناً من موقفه في تخطئة الإمام المعصوم (علیه السلام) في خروجه إلى العراق، فكذلك هنا هو متيقّنٌ من حقّه..

يُلاحَظ في جوابه هجمة ارتداديّة كاسحة مفاجئة يستخدم فيها ابن عبّاس لفظ ابن الزبير ويترقّى.. «إنّما يرى مَن كان في شكّ، وأنا من ذلك على يقين!».

لا يجد ابن عبّاس في نفسه أيّ تردّدٍ أو شكٍّ في استحقاقه الأمر.. هو على يقين.. واثقٌ تمام الثقة باستحقاقه الأمر..

إنّه متيقّنٌ من حقّه في الأمر.. الأمر الّذي يتحدّث عنه ابن الزبير.. الأمر بالمعنى الّذي أشرنا إليه قبل قليل.. يبدو أنّ هذه النزعة سرت في أولاده وذراريه حتّى نالوها، فسكنَت روعتُهم، وهدأ العفريت القابع في أعماقهم.. وقام مكانه عفريت الطغيان والتجبّر والتكبّر والعتوّ على الله وعلى أوليائه..

ص: 291

الشرح الثامن: الشروع في الاستدلال

شرع الطرفان في المحاججة للتنازع في إثبات أحقّيّة كلّ واحدٍ منهما، فبدأ _ في نصّ الشجريّ _ ابنُ الزبير، وفي نصّ ابن منظور وابن أبي الحديد والذهبيّ ابتدأ ابنُ عبّاسٍ يطالب بالوجه الّذي استحقّ به المقابل الأمر.

فقال ابن الزبير _ في رواية الشجريّ _ : «بأيّ شيءٍ استحقّ عندك أنّكم أحقّ بهذا الشأن منّي؟».

وفي رواية الآخرين بعد أن أعرب ابن عبّاسٍ عن يقينه بأنّه أحقّ بالأمر، فاستدرك ليسأل ابن الزبير عن دليله، فهو على يقين، وكأنّ الأصل معه، وعلى مَن خالف الأصل أن يأتي بما يُثبِت دعواه، فقال: «ولكن أخبِرْني عن نفسك، لمَ زعمتَ أنّك أحقّ بهذا الأمر من سائر العرب؟».

يُلاحَظ في سؤال كلا الطرفين أنّ أهل البيت (علیهم السلام) والأئمّة الّذين نصبهم الله وأمر بطاعتهم، ودعا إلى بيعتهم يوم الغدير، ونصّ عليهم النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) واحداً بعد واحدٍ وصالحاً بعد صالح، خارج نطاق المحاورة والحديث، والجدال يدور في معركةٍ مغلَقةٍ على ابن الزبير وابن عبّاس، والتفاضل يقوم في دائرة العرب، كما في قول ابن عبّاس، ولم يسأل أحدُهم عن دليل التفضيل والتقدّم على الإمام الحسين (علیه السلام) !

فكلا الطرفين يعتقد أنّه أحقّ بهذا الأمر، لذا جعل يطالب الطرف الآخر بدليلٍ مقنعٍ يمكنه أن ينتزع الحقّ لنفسه مقابل المدّعي!

ص: 292

الشرح التاسع: ذريعة ابن الزبير!

قال ابن الزبير: «استحقّ عندي أنّي أحقُّ بها منهم لشرفي عليهم ((1)) قديماً وحديثاً، لا يُنكِرون ذلك» ((2)).

وفي لفظ ابن أبي الحديد: «بشرفي» ((3)).

لمّا كان سؤال ابن عبّاس عن دليل استحقاقه هذا الأمر دون سائر العرب، يكون مرجع ضمير الجمع (هم) في كلام ابن الزبير: «أنّي أحقّ بها منهم لشرفي عليهم»، يعود إلى العرب طُرّاً، بما فيهم أهل البيت (علیهم السلام) ، وبما فيهم الإمام الحسين (علیه السلام) وابن عبّاسٍ نفسه.

وقد أكّد ابن الزبير أنّ شرفه هذا قد ثبت بحيث لا يُنكره العرب، وجعل تسليمهم له بديهيّاً مسلَّماً لا يشكّ فيه أحد، ولا يتردّد عربيٌّ في الإقرار له بذلك فوراً!

كما أكّد أنّ هذا الشرف قد ثبت له قديماً وحديثاً، والظاهر من سياق كلامه أنّه يقصد ثبوت الشرف له في الجاهليّة والإسلام!

ولا ندري إنْ كان هذا الشرف قد ثبت له من جهة أبيه الخائن الملعون

ص: 293


1- أُنظر: سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 237.
2- أُنظر: الأمالي للشجري: 1/ 189، المختصر لابن منظور: 12/ 325.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/ 134.

المتآمر على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والساعي في قتله مع جماعته ((1))، وكان ممّن شارك في الصحيفة الّتي كتبوها وقالوا: إذا هلك محمّدٌ رجعنا إلى المدينة ونرى رأينا في

ص: 294


1- في (بحار الأنوار: 82/ 267، منهاج البراعة للخوئي: 14 / 404): وقوله: «وعقَبَةٍ ارتقوها»: إشارةٌ إلى أصحاب العقَبَة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وأبو سفيان، ومعاوية ابنه، وعُتبة بن أبي سفيان، وأبو الأعور السلَمي، والمُغيرة بن شعبة، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو قتادة، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعريّ، اجتمعوا في غزوة تبوك على كؤودٍ لا يمكن أن يجتاز عليها إلّا فرد رجلٍ أو فرد جمل، وكان تحتها هوةٌ مقدار ألف رمح، مَن تعدّى عن المجرى هلك من وقوعه فيها، وتلك الغزوة كانت في أيّام الصيف، والعسكر تقطع المسافة ليلاً فراراً من الحرّ، فلمّا وصلوا إلى تلك العقَبَة أخذوا دِباباً كانوا هيّؤوها من جلد حمار، ووضعوا فيها حصىً وطرحوها بين يدَي ناقة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ؛ لينفّروها به فتلقيه في تلك الهوة فيهلك (صلی الله علیه و آله) . فنزل جبرئيل (علیه السلام) على النبيّ (صلی الله علیه و آله) بهذه الآية: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾ _ الآية، وأخبره بمكيدة القوم، فأظهر الله (تعالى) برقاً مستطيلاً دائماً، حتّى نظر النبيُّ (صلی الله علیه و آله) إلى القوم وعرفهم، وإلى هذه الدِّباب الّتي ذكرناها أشار (علیه السلام) بقوله: «ودِبابٍ دَحْرجُوها». وسبب فعلهم هذا مع النبيّ (صلی الله علیه و آله) كثرةُ نصّه على عليٍّ (علیه السلام) بالولاية والإمامة والخلافة، وكانوا من قبل نصّه أيضاً يسوؤونه، لأنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) سلّطه على كلّ مَن عصاه من طوائف العرب، فقتل مقاتليهم وسبى ذراريهم، فما من بيتٍ إلّا وفي قلبه ذِحْل، فانتهزوا في هذه الغزوة هذه الفرصة، وقالوا: إذا هلك محمّدٌ رجعنا إلى المدينة ونرى رأينا في هذا الأمر من بعده. وكتبوا بينهم كتاباً، فعصم الله نبيَّه منهم، وكان من فضيحتهم ما ذكرناه.

هذا الأمر من بعده، وهو صاحب المواقف المخزية في تجييش الجيوش لقتال أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد غدرته المعروفة ونكثه البيعة وطمعه في الملك..

يبدو من خلال الحديث أنّه يفتخر بالانتساب إلى قريش وإلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وهو نفس السبب الّذي يفتخر به ابن عبّاس، ويبدو أنّ الأمر عاد كالسقيفة تماماً، حيث استولى المهاجرون على الأمر بذريعة أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) منهم وأنّهم أهله ورهطه، وغمطوا حقّ أهل بيته ورهطه ومَن كان النبيّ منهم وكانوا منه، وكان النبيُّ (صلی الله علیه و آله) سلماً لمن سالمهم وحرباً لمن حاربهم، وقد أوصى بهم ولهم، ونصّ عليهم وصرّح بتنصيبهم من الله (تبارك وتعالى).

هنا أيضاً رجع الأمر كما كان، فابن الزبير وابن عبّاس يتنازعان الأمر لقربهما وشرفهما برسول الله (صلی الله علیه و آله) وبالانتساب إلى قريش وبني هاشم، وغمطوا حقّ مَن كان من هاشم في الذروة، ومن قريش في السنام الأَعلى، ومن النبيّ (صلی الله علیه و آله) دمه ولحمه وولده وريحانته، وقد شرف النسب صعوداً ونزولاً به سوى مَن استثناهم الله، وكأنّ الحسين (علیه السلام) حبيب النبيّ (صلی الله علیه و آله) ووصيّه ووارث علمه لم يكن!

الشرح العاشر: احتجاج ابن عبّاس

قال ابن عبّاس: فأنت أشرف أو مَن شُرّفتَ به؟

فقال ابن الزبير: مَن شُرّفتُ به زادني شرفاً إلى شرفٍ قد كان لي

ص: 295

قديماً.

قال ابن عبّاس: يا ابن الزبير، فالزيادة أشرف أم المزيد عليه؟ فالزيادة منّي أو منك؟

فأطرق، ثمّ قال: منك، ولم أبعد.

قال: صدقتَ يا ابن الزبير ((1)).

وفي رواية ابن أبي الحديد:

قال ابن عبّاس: وبماذا شُرّفت؟ إن كان لك شرفٌ فإنّما هو بنا، فنحن أشرف منك، لأنّ شرفك منّا ((2)).

حينما يسأل ابن عبّاسٍ مَن هو الأشرف، ابن الزبير أو مَن تشرّف به ابن الزبير؟ يدّعي ابن الزبير شرفاً لنفسه مستقلّاً، ثمّ يقول: إنّه إنّما ازداد شرفاً بمن شُرّف به، قال: «مَن شُرّفتُ به زادني شرفاً إلى شرفٍ قد كان لي قديماً»!

فهو يزعم لنفسه شرفاً مستقلّاً قديماً قد تحقّق من قبل، ولا ندري ما هو شرفه المستقلّ الذاتيّ الّذي لزمه من قبل! وأقصى ما يمكن أن يثبت له إنّما هو شرف النسب على غرار تفاخر الجاهليّة.

ص: 296


1- الأمالي للشجري: 1/ 189، وانظر أيضاً: مختصر ابن منظور: 12/ 325، سيَر أعلام النبلاء للذهبي: 3/ 237.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 20/ 134.

ولا ندري إن كان مراد طرفَي المجادلة والنزاع من الشرف والتشرّف هو الانتساب إلى قريش مطلقاً، بغضّ النظر عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، والتفاخر على مقاييس الجاهلية، فهو حينئذٍ من أجلى صور الرجوع القهقرائيّ والانقلاب والانتكاس، وإن كان الانتساب إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) وشجرته المقدّسة، فكلاهما غريبٌ عنه بالقياس إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بل بالقياس إلى آل أبي طالب جميعاً.

ولا معنى لقول ابن عبّاس: «فالزيادة منّي لا منك»، فهو وإن كان أقرب إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) من ابن الزبير، حسب مقرّرات الأحكام النسَبيّة، غير أنّه لا يُقاس بأمير المؤمنين (علیه السلام) وولدَيه الحسن والحسين، الّذين هم من النبيّ (صلی الله علیه و آله) والنبيُّ منهم على كلّ المقاييس، فإنْ ثبت له حقٌّ بهذه النسبة فسيّد الشهداء (علیه السلام) أحقُّ بها منه.

والعجيب أنّ ابن الزبير يُقرّ له بهذا القرب وهذا الشرف، غير أنّه يؤكّد أنّه هو أيضاً لم يبعد من هذا الشرف!!

والأعجب أنّ بني أُميّة ومعاوية ويزيد كلّهم كانوا يتذرّعون بانتسابهم إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وأنّهم أهله ورهطه وقرابته، وكذا كان أولاد عبد الله بن عبّاس يتذرّعون بهذه الذريعة، بل يعتبرون أنفسهم أحقّ برسول الله (صلی الله علیه و آله) مِن بني أُميّة، لأنّهم أولاد عمّه، فقتلوا ذرّيّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) تحت هذه المظلّة المخرّقة التعيسة البائسة!

ص: 297

الشرح الحادي عشر: التباغض

قال ابن الزبير: دَعْني من لسانك يا ابن عبّاس، هذا الّذي تقلّبه كيف شئت، واللهِ لا تحبّونا يا بني هاشم أبداً.

فقال ابن عبّاس: صدقت، نحن أهل بيتٍ مع الله، لا نحبّ مَن أبغضه الله أبداً ((1)).

لسان ابن عبّاسٍ معروف، وقوّته في المناظرة مشهورةٌ عنه، وربّما كان ذلك من سِمات الهاشميّين، وقد اتّفق الناس أنّ آل أبي طالب _ سوى الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) الّذين لا يُقاس بهم أحد _ أقوى الناس حُجّةً وأعظمهم منازلةً في ميادين المحاججات وأكثرهم تسلّطاً في المناظرة، كعقيل بن أبي طالب.

وكيف كان، فإنّ ابن الزبير أقلّ وأصغر وأحقر وأضعف من أن يُنازِل ابنَ عبّاسٍ في المناظرة، فهو لا يقوى على منازلته، فضلاً عن ارتباك حجّته وعدم استقامة مقالته، وافتخاره بما هو مفخرٌ لغيره، فمن الطبيعيّ أن يعترف لابن عبّاس، ويطرق برأسه، ويبتلع لسانه، ويطلب منه أن يكفّ عنه.

إنّه يدعوه أن يكفّ عنه لسانه، ويقول: «دَعْني من لسانك الّذي تقلّبه كيف شئت»، إذ أنّه يعتقد أنّ ابن عبّاسٍ يغالبه باللسان فقط،

ص: 298


1- أُنظر: الأمالي للشجري: 1/ 189، المحاسن والمساوي للبيهقي: 71، المحاسن والأضداد للجاحظ: 142.

ويجادله بالمغالطة واللعب بالألفاظ والكلمات، ويقلّب لسانه دون أن ينطق بالفكرة والدليل والحجّة.

ثمّ عاد ليؤكّد أنّ بني هاشم لا يحبّون ابن الزبير، والسبب واضح، وإن لم يصرّح به ابن الزبير، فهو الحسد..

هكذا هي أوهام هؤلاء القاذورات، إنّما ينطلقون من مستنقعاتهم العَفِنة، ولا يمكنهم أن ينظروا بعينٍ صافيةٍ خاليةٍ من أكدار الجاهليّة ورواسبها، وكوامنِ النفس البشريّة المتوحّشة المنغمسة في أعماق أوحال الرذيلة..

لا تحبّوننا، لأنّكم تحسدوننا.. وكأنّ ابن الزبير قد حاز من الشرف والرفعة ما لا يناله أحدٌ من بني هاشم ولا من آل أبي طالب الّذين فضّلهم الله على العالمين، وجعلهم القادة والسادة وذُرى السؤدد، فلا تجد مكارم الأخلاق ومحامدها إلّا وهي نبعٌ من ينابيعهم وفيضٌ من نداهم، يجمعون نجوم التبّانة وهم قاعدون لينثروها في ملاعب صبيانهم، ناهيك عن مغادق جودهم الّتي عمّت الخلائق أجمعين.

فإنْ فاخر ابنُ عبّاسٍ وابنُ الزبير، فهما إنّما يفاخران بشآبيب نوال آل أبي طالب _ بما فيهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) _، ورشح ما يندّ من بين أظفارهم وأناملهم الكريمة..

فمَن يحسد مَن؟!

ص: 299

أيحسد الكاملُ الناقصَ على نقصه، ويحسد القويُّ الضعيفَ على ضعفه، ويحسد الكريمُ اللئيمَ على لؤمه؟! نستجير بك اللّهمّ سبحانك مِن هذا الغرور المتكلّس الأجوف.

وابن عبّاسٍ إنْ فاخر، فهو في ظاهر الأنساب أقرب إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأوصياء من ابن الزبير، فله أن يفاخر بهم، أمّا ابن الزبير فبمَن يفاخر؟ وعلى أيّ رعونةٍ من سلوكيّاته الممقوتة وتصرّفاته الحمقى يمكن أن يحسده ذو حظّ عاثرٍ وقلبٍ معكوسٍ داثرٍ وفكرٍ كليلٍ عليلٍ خاثر؟!

الشرح الثاني عشر: هل يُنال الأمر بالشرف وحده؟

لقد تباريا وتجادلا وتفاخرا وتصادّا وتجابها في حَلَبة الكلام، وغاية جهدهما الحديث في إثبات مَن هو الأحقّ بالأمر، وتسلّقا جدران الحاضر والماضي على سلالم الشرف المزعوم، من دون الارتكان إلى أيّ أساسٍ آخَر سوى ذلك!

لم يستندا إلى آيةٍ أو روايةٍ أو حديثٍ عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وكلاهما يزعم القُربى منه، وابن عبّاسٍ يزعم أنّه حَبر الأُمّة وترجمان القرآن والمحدّث الأقوى والأكثر حفظاً، هكذا يزعم أو يزعم الآخَرون فيه، غير أنّه وخصمه لم يستندوا إلى شيءٍ من أحكام الله ولا آياته ولا كلام رسوله (صلی الله علیه و آله) ، ولو قرأتَ السجال بينهما وأعدتَ القراءة ما بدا لك لا تشمّ منه رائحة الدِّين ولا التوحيد ولا شريعة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) .. فهل كان الأمر يُؤخَذ بالشرف

ص: 300

المزعوم فقط؟!

إنّما ارتكنا واستندا بالكامل إلى التفاضل بالشرف النسبيّ لاستحقاق الأمر، وهذا بنفسه شاهدٌ أنّ الطرفين كانا يتنازعان على موازين غير موازين الدين والإسلام، ويتوثّبان على (الأمر) بالمعنى الّذي يقصدانه.

الشرح الثالث عشر: من هم أهل البيت في حديث ابن عبّاس؟

لقد تكرّر في حديث ابن عبّاس قوله: «نحن أهل بيت»، أو: «عندنا أهل البيت»، وقد تكلّم بصيغة الجمع في أحيان كثيرة (نحن).. فمَن هم أهل البيت الّذين عناهم ابن عبّاس؟ ومن هم الّذين يشير إليهم بضمير الجمع؟ على فرض أنّه لا يستعمل ضمير الجمع لتعظيم نفسه!

إنْ كان المقصود من (أهل البيت) أو (أهل بيت) يعني أنّه من أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فقد أخطأ وكذب، وتجرّأ على الله وعلى رسوله (صلی الله علیه و آله) وعلى ما يحمله من حديثٍ ويرويه من كلام النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فإنّه وأباه وأولاده ليسوا من أهل البيت جزماً، وقد حدّد الله (عزوجل) ورسوله (صلی الله علیه و آله) والأئمّة المعصومون (علیهم السلام) مَن هم أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) .

وربّما أخذ ابن عبّاس ومَن سبقه وفق موازين السقيفة بالميل والاغتراف والتضليل والتسلّل من خلال هذه المزاعم والادّعاءات لتوسيع معنى أهل البيت الّذي حصره النبيّ (صلی الله علیه و آله) بأمر الله بالنجوم الزواهر، وجعلوا يسرّبون كالنمل والديدان بعض أرحامه وأقاربه، كعمّه وابن عمّه وغيرهم،

ص: 301

وتطاولوا حتّى جعلوا عمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) أقرب إليه وأَولى به من أمير المؤمنين (علیه السلام) ..

وإن كان يقصد من (أهل البيت) بني هاشم، أو (أهل بيت) يقصد نفسه وأهله، فيرجع الكلام إلى ما ذكرناه آنفاً، إذ أنّ التفاخر والكلام يدور مدار البيوتات والأُسر والعشائر والقبائل، من دون لحاظ الشجرة النبويّة المباركة، وهما يرجعان عاقبةً إلى نفس الشجرة الّتي ينتميان إليها، ولا مجال للتفاخر.

كيف كان، فإنّ ابن عباس ليس من أهل بيت النبيّ (صلی الله علیه و آله) بالمعنى الأخصّ الذي حدّده النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، كما يروي ابن عبّاسٍ نفسه، وقد تواترت الأحاديث وتكاثرت الحوادث الّتي ميّز فيها الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) المراد من مصطلح (أهل البيت).

وإن كان المقصود من أهل البيت هم أرحام النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأقرباؤه بالمعنى اللغويّ العامّ والعرفيّ العامّ، فجميع قريش شجرته، ولا فرق بين ابن الزبير وابن عبّاس!

وإن أراد (أهل البيت) بني العبّاس، فلا فضل لهم على آل أبي طالب وغيره من أعمام النبيّ (صلی الله علیه و آله) على جميع الأصعدة والمستويات، بل في أعمام النبيّ (صلی الله علیه و آله) مَن هم أفضل وأقرب وأَوفى للنبيّ (صلی الله علیه و آله) وآله (علیهم السلام) ، على أنّ اقتطاعهم عن شرف النبيّ (صلی الله علیه و آله) سيقطع عنهم كلّ ما يشرّفون به.

ص: 302

الشرح الرابع عشر: ارتفاع أصواتهما

يبدو أنّ النقاش بينهما كان حادّاً، وقد تحوّل من نقاشٍ إلى نزاعٍ ومشاجرة، حتّى دخل بينهما رجالٌ من قريش فأسكتاهما، وكان ابن الزبير مغضباً حتّى ضرب رأس ابن أخيه بالنعال، كما كان ابن عبّاس مغضباً حتّى ارتفعت أصواتهما، ممّا أدّى إلى تدخّل رجالٍ من قريش بينهما لفضّ النزاع والتشاجر.

ولا ندري إن كان مثل هذا النزاع والاشتباك الكلاميّ مع صرصور الحرم ابن الزبير يزري بابن عبّاس، فكان ينبغي له أن يتجنّبه أو لا؟!

ص: 303

ص: 304

محتويات الكتاب

لقاء ابن عمر...........5

المتن الأوّل: رواية الشيخ ابن نما (رحمة الله) ...........5

المتن الثاني: رواية السيّد ابن طاووس (رحمة الله) ........... 6

المتن الثالث: رواية الشيخ الطريحيّ (رحمة الله) ...........6

التعقّب الأوّل: هل كان لقاءً مستقلّاً؟........... 8

التعقّب الثاني: وقت اللقاء...........9

التعقّب الثالث: تخاذل ابن عمر على علم!........... 9

التعقّب الرابع: إضافاتٌ في المتن........... 10

لقاء ابن عبّاس وابن الزبير...........13

لقاء ابن عبّاس قُبَيل الخروج...........15

اللقاء الأوّل...........17

الحصّة الأولى: رجوع ابن عبّاس إلى مكّة...........35

الحصّة الثانية: زمان اللقاء...........37

الحصّة الثالثة: موضع اللقاء...........39

الحصّة الرابعة: كلام ابن عبّاس...........41

ص: 305

الإبراز الأوّل: إنّ الناس قد أرجفوا...........41

الإيضاح الأوّل: إرجاف الناس وشيوع الخبر........... 41

الإيضاح الثاني: استجلاء موقف الإمام (علیه السلام) ........... 44

الإيضاح الثالث: قدوم جماعةٍ مع ابن عبّاس........... 46

الإيضاح الرابع: جواب الإمام (علیه السلام) ........... 46

الإبراز الثاني: أقِمْ حتّى ينقضي الموسم...........50

الشطر الأوّل: كلّمه طويلاً ثمّ قال........... 50

الشطر الثاني: المناشدة والتحذير والنهي........... 51

الشطر الثالث: إنْ كنتَ لابدّ فاعلاً........... 53

الاستشفاف الأوّل: انتظار انقضاء الموسم...........54

الاستشفاف الثاني: لقاء الناس...........55

الاستشفاف الثالث: تعلم ما يصدرون!...........57

الاستشفاف الرابع: ثمّ ترى رأيك...........58

الاستشفاف الخامس: الغرض من تأخير الإمام...........60

الغرض الأوّل: تجميع الأنصار للدفاع عن الإمام (علیه السلام) في مكّة وغيرها...........60

الغرض الثاني: تجميع الأنصار للخروج مع الإمام (علیه السلام) والإطاحة بيزيد...........62

الغرض الثالث: توظيف الوقت لإقناع أحد الأطراف...........65

الشطر الرابع: التوقيت...........66

الشطر الخامس: أبى الحسين إلّا أن يمضي إلى العراق........... 66

الإبراز الثالث: نهي ابن عبّاس وتحذيره من أهل الكوفة........... 67

الوقفة الأُولى: أُعيذك بالله من ذلك........... 75

المورد الأوّل: التعويذ من القتل...........77

المورد الثاني: التعويذ من ارتكاب الجهل والعناد...........78

الوقفة الثانية: فرضيّات ابن عبّاس........... 79

ص: 306

المطلب الأوّل: فرضيّة تمهيد القوم...........79

المطلب الثاني: فرضيّة دعوة الإمام (علیه السلام) قبل التمهيد...........83

أوّلاً: إنّ هذا يعني أنّهم إنّما يدعونه ليباشر الحرب والقتال بنفسه...........83

ثانياً: إنّه لا يأمن أن يغرّوه ويكذبوه ويخذلوه كما خذلوا أباه وأخاه...........85

ثالثاً: علم الإمام (علیه السلام) بالظروف...........86

رابعاً: على الإمام (علیه السلام) أن يتّقي الله ويلزم الحرم...........88

الوقفة الثالثة: جواب الإمام (علیه السلام) ........... 89

الجواب الأوّل: النظر والاستخارة...........90

الجواب الثاني: كتبهم وكتاب مسلم (علیه السلام) ...........94

الملاحظة الأُولى: تفرّد أبي الفرج...........95

الملاحظة الثانية: زيادات سبط ابن الجوزيّ...........96

الملاحظة الثالثة: إخبار ابن عبّاس بمقتل المولى الغريب (علیه السلام) !...........96

الملاحظة الرابعة: كتب القوم وكتاب المولى الغريب (علیه السلام) ...........96

الملاحظة الخامسة: زيادة سبط ابن الجوزيّ...........98

الملاحظة السادسة: بكاء ابن عبّاس وندبته...........99

الوقفة الرابعة: اقتراح اليمن........... 100

التنويه الأوّل: قبل اقتراح اليمن...........102

التنويه الثاني: التوجّه إلى اليمن...........102

التنويه الثالث: إفادة الخطر المُحدِق بالإمام (علیه السلام) في مكّة...........103

التنويه الرابع: المقارنة بين رواية المسعوديّ ونقل سبط ابن الجوزيّ...........104

التنويه الخامس: رواية الخوارزميّ...........104

التنويه السادس: جواب الإمام (علیه السلام) ...........106

الوقفة الخامسة: حكاية ابن شهرآشوب........... 107

الوقفة السادسة: رواية الطبريّ (الشيعيّ)........... 108

جواب الإمام (علیه السلام) ...........110

ص: 307

التلويح الأوّل: أما علمتَ؟!...........111

التلويح الثاني: علم الإمام (علیه السلام) ...........111

التلويح الثالث: أعلمُ ما لم تعلم...........112

التلويح الرابع: أنصار الإمام في العراق...........113

التلويح الخامس: محاربة عسكر السقيفة في الكوفة!...........114

الإبراز الرابع: النهي عن أخذ النساء والأطفال، والانتقام لعثمان........... 115

المحطّة الأُولى: إنْ كنتَ لابدّ فاعلاً!........... 117

المحطّة الثانية: إنْ عصيتَني........... 118

المحطّة الثالثة: النهي عن حمل العائلة........... 120

المحطّة الرابعة: أسباب التحذير عن حمل العائلة........... 122

المحطّة الخامسة: جواب الإمام (علیه السلام) ........... 125

الجواب الأوّل: «إنّك شيخٌ قد كبُرتَ»...........125

الإشارة الأُولى: إنّك شيخ!...........125

الإشارة الثانية: أدب سيّد الشهداء (علیه السلام) ...........126

الجواب الثاني: «لئن أُقتَل خارج مكّة أحبّ»...........130

الجواب الثالث: فأبى ذلك ولم يقبله...........133

المحطّة السادسة: تذكّر الإمام (علیه السلام) إشارة ابن عبّاس يوم عاشوراء...........135

النكزة الأُولى: مؤدّى الكلام...........135

النكزة الثانية: بين أمير المؤمنين (علیه السلام) والعبّاس...........137

النكزة الثالثة: متى وأين قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن عبّاس؟...........141

التنويه الأوّل: نقل قول الإمام (علیه السلام) فقط...........143

التنويه الثاني: مؤدّى الخبر...........144

التنويه الثالث: «لو كُشف ليَ الغطاء ...........»...........145

التنويه الرابع: ما عجز عنه الخوارج ناله ابنُ عبّاس...........146

التنويه الخامس: لا غضاضة على الإمام (علیه السلام) إذا أقرّ لابن عمّه!!...........147

ص: 308

التنويه السادس: الغرض من ذكر قصّة العبّاس وابنه...........149

النكزة الرابعة: سبقوا أبا الفرَج!...........150

النكزة الخامسة: لو دار الأمر بين سيّد الشهداء (علیه السلام) وابن عبّاس!...........152

المحطّة السابعة: موقف العقيلة الحوراء في رواية البحرانيّ........... 153

الإبراز الخامس: الردع بالاشتباك...........154

الحصة الخامسة: ردّ الإمام (علیه السلام) ...........155

اللقاء الثاني: معاودة اللقاء...........159

البلاذريّ...........159

الدينوريّ...........160

الطبريّ...........161

إبن أعثم...........162

مِسكوَيه...........163

الخوارزميّ...........164

إبن الجوزيّ...........164

إبن الأثير، النويريّ...........165

إبن كثير...........166

إبن الصبّاغ، الشبلنجيّ...........167

الإضاءة الأُولى: زمن اللقاء...........169

الإضاءة الثانية: تداخل اللقاءات...........170

الإضاءة الثالثة: معاودة اللقاء وتكرار الكلام...........171

الإضاءة الرابعة: رسم صورةٍ لحركة الإمام (علیه السلام) في كلام ابن عبّاس........... 174

المشكلة الأُولى: تصوير ابن عبّاس........... 176

المشكلة الثانية: متابعة ابن عبّاس........... 176

ص: 309

الإضاءة الخامسة: إقرار عين ابن الزبير...........178

المتابعة الأُولى: بداية الخبر........... 178

المتابعة الثانية: اهتمام ابن عبّاس وإعراض الإمام (علیه السلام) ........... 179

المتابعة الثالثة: رعاية حرمة الكعبة........... 180

المتابعة الرابعة: مقايسة الإمام (علیه السلام) بابن الزبير........... 181

المتابعة الخامسة: اختلاف الأتباع........... 182

المتابعة السادسة: كفاية مدّة الإقامة........... 182

المتابعة السابعة: تكثّر الجبهات........... 183

المتابعة الثامنة: المواجهة بين الإمام (علیه السلام) ويزيد........... 184

المتابعة التاسعة: الإمام (علیه السلام) يعمل بتكليفه........... 185

المتابعة العاشرة: جواب الإمام (علیه السلام) في نصّ ابن أعثم........... 185

الإضاءة الخامسة: ابنُ عبّاسٍ ينعى الإمامَ (علیه السلام) ........... 186

الضوء الأوّل: ختامٌ غاضِب........... 187

الضوء الثاني: دلالات النعي!........... 189

اللقاء الثالث: «لولا أن يُزرى بي أو بك لَشبكتُ بيدي في رأسك»!...........191

المشهد الأوّل: تتمّة اللقاء...........191

الشعلة الأُولى: معاني بعض الكلمات........... 193

الناصية........... 193

زري........... 195

نشب........... 195

الشعلة الثانية: إساءة الأدب........... 196

الشعلة الثالثة: حُسن النوايا!........... 198

الشعلة الرابعة: يُزرى بي أو بك........... 199

الشعلة الرابعة: افتراض سلوكٍ للإمام (علیه السلام) !........... 200

ص: 310

الشعلة الخامسة: يجتمع علَيّ وعليك الناس!........... 201

الشعلة السادسة: أطعتَني!...........201

الشعلة السابعة: الغاية من هذا التصرّف المشين........... 202

الشعلة الثامنة: المانع من القيام بهذه الفعلة........... 203

الشعلة التاسعة: النهاية...........204

المشهد الثاني: بعد الاستشارة...........204

التنويه الأوّل: اتّحاد الراوي في المصادر........... 209

التنويه الثاني: استشارني، استأذنني!........... 209

التنويه الثالث: جاءني حسين!........... 210

التنويه الرابع: ردّ الإمام (علیه السلام) ........... 211

الإشارة الأُولى: مفاد كلام الإمام (علیه السلام) ...........213

الإشارة الثانية: تخطئة ابن عبّاس وغيره...........213

الإشارة الثالثة: هتك الحُرمات...........213

الإشارة الرابعة: التعريض بابن الزبير...........214

الإشارة الخامسة: مكان كذا!...........214

التنويه الخامس: سلى بنفسه عن الإمام (علیه السلام) ........... 215

النقطة الأُولى: معنى (سلا)...........215

النقطة الثانية: مؤدّى الكلام...........216

التنويه السادس: تعليق طاووس........... 217

اللقاء الرابع: لقاءٌ في بيت الله الحرام...........221

اللفتة الأُولى: الرواية عن ابن عبّاس...........222

اللفتة الثانية: اللقاء في بيت الله...........222

اللفتة الثالثة: زمن اللقاء...........223

اللفتة الرابعة: تعدّد اللقاء...........224

ص: 311

اللفتة الخامسة: كفّه بكفّه في خبر الشجريّ!...........224

اللفتة السادسة: كفّه بكفّ جبرائيل...........226

التدقيق الأوّل: انفراد ابن شهرآشوب........... 226

التدقيق الثاني: هل رأى جبرائيل وحده؟........... 226

التدقيق الثالث: كيف شخّص جبرائيل؟........... 227

التدقيق الرابع: لماذا لم يبايع ابن عبّاس؟!........... 231

التدقيق الخامس: تعنيف ابن عبّاس........... 232

اللفتة السابعة: المناشدة للإعراض عن المسير إلى العراق........... 232

اللفتة الثامنة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر........... 233

التنويه الأوّل: رواية الشجريّ........... 234

التنويه الثاني: خَلِّ عنّي...........234

اللقاء الخامس: رواية أهل البيت (علیهم السلام) ...........235

الوقفة الأُولى: انتهاء النصّ إلى المعصوم...........236

الوقفة الثانية: المقدار المطلوب من النصّ...........237

الوقفة الثالثة: مناشدة ابن عبّاس...........237

الوقفة الرابعة: ردّ الإمام (علیه السلام) ...........238

المقطع الأوّل: أنا أعرَفُ...........238

المقطع الثاني: ما كدّي من الدنيا........... 240

المقطع الثالث: الدنيا وأمير المؤمنين (علیه السلام) ........... 240

تتمّات...........243

التتمّة الأوّلى: متونٌ عامّة...........243

التتمّة الثانية: إشفاق الناس وتحذيرهم...........247

ص: 312

التتمّة الثالثة: التفأل بالقرآن...........249

التتمّة الرابعة: نهاية اللقاءات...........250

التتمّة الخامسة: الاختيار بين تصويب ابن عبّاس وتخطأته........... 250

التتمّة السادسة: اختلاف الخطابَين...........252

التتمّة السابعة: تغافل ابن عبّاس!...........252

التتمّة الثامنة: الفرق بين كلام ابن عبّاسٍ وغيره من الهاشميّين........... 253

التتمّة التاسعة: إساءة أدب ابن عبّاس...........255

التتمّة العاشرة: سوء الظنّ!...........256

التتمّة الحادية عشر: اتّضاح الصورة لكلّ ذي عينَين........... 257

التتمّة الثانية عشر: خلاصة القول في موقف ابن عبّاس!........... 259

إبن عبّاس يلتقي ابن الزبير...........261

القسم الأوّل: المختصر...........261

الشعبة الأُولى: الكلام...........261

القطعة الأُولى: كلام ابن عبّاس...........266

المعلومة الأُولى: لا كلام لابن الزبير...........266

المعلومة الثانية: اللقاء بعد الخروج من عند سيّد الشهداء (علیه السلام) ...........267

المعلومة الثالثة: مكان اللقاء...........268

المعلومة الرابعة: الفرق بين هذا اللقاء وما مرّ ذكره...........268

المعلومة الخامسة: خلاصة كلام ابن عبّاس...........269

المعلومة السادسة: الإخبار عن كوامن ابن الزبير...........270

المعلومة السابعة: غياب التخوّف من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) ...........271

المعلومة الثامنة: صراع السلطة...........271

المعلومة التاسعة: التخلّي عن مكّة...........272

ص: 313

المعلومة العاشرة: المحصَّلة...........273

القطعة الثانية: التمثّل...........274

القسم الثاني: المفصّل...........277

الشرح الأوّل: اختلاف اللقاء........... 284

الشرح الثاني: أجواء اللقاء........... 284

الشرح الثالث: التنازع في حقٍّ غير ثابت........... 285

الشرح الرابع: نَفَسُ ابن عبّاسٍ في الخطاب........... 286

الشرح الخامس: غياب التفجّع على الإمام الحسين (علیه السلام) ........... 287

الشرح السادس: بواعث الحسد والنزاع على السلطة........... 289

الشرح السابع: جواب ابن عبّاس........... 290

الشرح الثامن: الشروع في الاستدلال........... 292

الشرح التاسع: ذريعة ابن الزبير!........... 293

الشرح العاشر: احتجاج ابن عبّاس........... 295

الشرح الحادي عشر: التباغض........... 298

الشرح الثاني عشر: هل يُنال الأمر بالشرف وحده؟........... 300

الشرح الثالث عشر: من هم أهل البيت في حديث ابن عبّاس؟........... 301

الشرح الرابع عشر: ارتفاع أصواتهما........... 303

ص: 314

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.