موسوعه ام المومنین السیده خدیجه علیها السلام فی مصادر اهل السنه المجلد 2

اشارة

عنوان و نام پديدآور:موسوعه ام المومنین السیده خدیجه علیها السلام فی مصادر اهل السنه/ ناصر رفیعی المحمدی، مع مجموعه من المؤلفین.

مشخصات نشر:قم : مرکز بین المللی ترجمه و نشرالمصطفی(ص)، 1441ق.= 1398.

مشخصات ظاهری:2ج.

فروست:مجتمع العلیا التاریخ والسیره والحضاره الاسلامیه؛ 1619.

شابک:دوره: 978-600-429-662-5 ؛ 830000 ریال: ج.1: 978-600-429661-8 ؛ 880000 ریال: ج.2: 978-600-429-663-2

وضعیت فهرست نویسی:فاپا( چاپ دوم)

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ دوم.

موضوع:خدیجه (س) بنت خویلد، 68 - 3 قبل از هجرت.

موضوع:زنان مقدس مسلمان

موضوع:Muslim wmen saints

موضوع:احادیث اهل سنت -- قرن 14

موضوع:*Hadith (Sunnites) -- Texts -- 20th century

شناسه افزوده:رفیعی محمدی، ناصر، 1344 -

شناسه افزوده:جامعة المصطفی(ص) العالمیة. مرکز بین المللی ترجمه و نشر المصطفی(ص)

شناسه افزوده:Almustafa Internatinal University‪Almustafa Internatinal Translatin and Publicatin center

رده بندی کنگره:BP26/2

رده بندی دیویی:297/9722

شماره کتابشناسی ملی:6052531

وضعيت ركورد:فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

موسوعه ام المومنین السیده خدیجه علیها السلام فی مصادر اهل السنه

ناصر رفیعی المحمدی، مع مجموعه من المؤلفین

ص: 3

ص: 4

الفهرس الإجمالي

تصویر

ص: 5

تصویر

ص: 6

کلمة المدیر العلمي للمؤتمر

إنّ البحث حول الجوانب المختلفة لشخصیّة أُمّ المؤمنین السیّدة خدیجة الکبری، من الموضوعات المهمّة الجدیرة بالتحقیق والتنقیب؛ فإنّ الفحص والمطالعة في تاریخ حیاة هذه السیّدة العظیمة سواء قبل البعثة أو بعدها، ترینا بوضوح أنّها کانت مجمعاً للفضائل الإنسانیّة والکمالات المعنویّة، بحیث صارت قدوة للمرأة في مختلف الأعصار، ومثلاً للاحتذاء بسلوکها القیّم في الإیثار والتضحیة، والنزاهة والنجابة، والفهم والمعرفة والبصیرة، والعزم والکرم والحلم، والمحبّة والمودّة، والصبر والاستقامة، والاهتمام بالفقراء والضعفاء.

کانت السیّدة خدیجة أوّل من لبّت الرسالة من النساء، وأوّل وأفضل أزواج الرسول(صلی الله علیه و آله) وصاحبة سرّه وأنیس وحدته وغربته، ومستودع أُمّ أبیها وأُمّ المؤمنین. ولم یخف علی أحد دورها الهامّ والبنّاء في تثبیت الإسلام ونشره في فجر الإسلام وبدایة أمره، فمواقفها الصریحة والثابتة في دعم الأفکار التوحیدیّة التي جاء بها الرسول الکریم في غایة الوضوح.

قال قائد الثورة الإسلامیّة - مُدّ ظلّه - : «إنّ السیّدة خديجة(علیها السلام) لا زالت مظلومة؛ وذلك أنّ أُمومتها للأُمّة کانت في فترة حسّاسة وظروف صعبة، لا تشارکها في تلك الفترة واحدة من اُمّهات المؤمنین فیما تحمّلته من أذیً ومتاعب إلی جانب النبي(صلی الله علیه و آله) عند انبثاق الدعوة».

وبالرغم ممّا کُتب من بحوث قیّمة في التعریف بهذه الشخصیّة السماویّة، فلا زالت هناك حاجة ملحّة إلی تحقیقات جدیدة وعمیقة للکشف عن أبعاد

ص: 7

شخصیّتها وفضائلها، وإزاحة الستار عن ملامح جوانب حیاتها النورانیّة، وإماطة اللثام عن مظلومیّتها وعدم معرفتها.

وما نقدّمه هنا في مؤتمر الحفل التکریمي لصدف الکوثر، خطوة قصیرة للتعریف بهذه السیّدة الجلیلة، ویشتمل علی:

1. مجموعة مقالات المؤتمر، في ثلاث مجلّدات.

2. ما کُتب حول السیّدة خديجة(علیها السلام) بالفارسیّة، في ثلاث مجلّدات.

3. ما کُتب حول السیّدة خديجة(علیها السلام) بالعربیّة، في مجلّد واحد.

4. أُمّ المؤمنین خديجة(علیها السلام) في مصادر أهل السنّة، في مجلّد واحد.

ونأمل أن تنال هذه المجموعة التراثیّة القبول عند اللّه، وأن ننال بها جمیعاً عنایة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وزوجته الکریمة أُمّ المؤمنین السیّدة خدیجة الکبری(علیها السلام)، وشفاعتهما.

وفي الختام نتقدّم بالشکر لکافّة الأساتیذ والمحقّقین الذین ساهموا في تدوین هذه المجامیع، وخاصّة السادة: مهدي مهریزي، ومحمّد اسفندیاري، وهادي ربّاني، ووحیدرضا نوربخش.

وکذلك نشکر رئیس جامعة المصطفی العالمیّة آیة اللّه عليرضا أعرافي، وحجّة الإسلام والمسلمین الدکتور محمّدجواد زارعان رئیس مجمع الإمام الخمیني العالي، واللجنة العلمیّة لهذا المؤتمر؛ بما قدّموه من دَعم وإسناد لإنجاح هذه المهمّة. ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السمیع العلیم.

المدیر العلمي لمؤتمر صدف الکوثر

ناصر رفیعي المحمّدي

12/ربیع الأوّل/1438ه

ص: 8

المقدّمة

اشارة

قبل الدخول في صُلب البحث، نوّدّ ابتداءً عرض مجموعة من الملاحظات التمهيدية؛ من أجل تكوين رؤية أوضح عن الموضوع الذي نريد طرحه هاهنا.

أوّلاً: إذا أردنا معرفة رأي الإسلام في المرأة، علينا الرجوع إلى المصادر الخمسة للإسلام، ومن الطبيعي أنّ النظر إلى هذه المصادر إلى جانب بعضها، يمكن أن يقدّم لنا صورة شاملة وجامعة لرأي الإسلام والتعاليم الإسلامية في المرأة. وأمّا الفصل بين هذه المصادر والنظرة التجزيئية إليها، والأخذ بكلّ واحدٍ منها على حِدة وبمعزلٍ عن المصادر الأُخرى، فلا يُقدّم لنا إلّا رؤية ناقصة، بل وأُحاديّة الجانب أحياناً. وهذه المصادر الخمسة هي:

1. القرآن الکريم.

2. السُّنّة القولية لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأئمّة الشيعة:.

3. السُّنّة والسيرة العملية لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأئمّة الشيعة:.

4. الأعلام والشخصيّات الإسلامية البارزة والمشهورة.

5. الرموز والمعالم في الشعائر المذهبية والدينية.

هنالك مؤلّفات كثيرة ومتعدّدة المرامي والمقاصد كُتبت حول القرآن والسُّنّة القولية، بينما لم تحظ السيرة والسُّنّة العملية لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والأئمّة في ما يخصّ المرأة إلّا بالقليل من الاهتمام والبحث. بالنسبة إلى المصدر الرابع (الأعلام والشخصيّات)، دُوّنت على مدى القرون الماضية إلى يومنا هذا الكثير من الكتب

ص: 9

والمؤلّفات التي تتناول هذا الموضوع بشكل مستقلّ أو مزجيّ مع موضوعات أُخرى، إلّا أنّ ما تفتقر إليه الكتب التي أُلّفت في هذا المجال، هو انعدام التحليل والنظرة الشاملة والجامعة.

وفي ما يخصّ باب الرموز والمعالم، لم نعثر حتّی الآن على عملٍ أو كتاب في هذا الخصوص. والمراد من الرموز في الشعائر الدينية، بعض الأحکام والتکاليف في عباداتٍ مثل الحجّ، ممّا يمكن أن يعكس صورة للمجتمع الإسلامي المثالي، ومن ذلك مثلاً في المسجد الحرام وأعمال الحجّ والعمرة، هناك بعض الأحکام الخاصّة التي تتجلّى بين المذاهب الفقهية والإسلامية الرائجة على نحوٍ آخر في غير المسجد الحرام وفي ظروف أُخرى غير الحجّ والعمرة. في صلاة الجماعة في المسجد الحرام، عدم رعاية تقدّم وتأخّر الرجل والمرأة في صفوف الصلاة غير مبطل لها، مع أنّ جميع المذاهب الإسلامية تعدّ تأخّر المرأة شرطاً لصحّة الصلاة في غير المسجد الحرام.

أو في حالة الإحرام لا ينبغي أن يكون وجه المرأة مغطّىً، في حين أنّ فتوى ستر الوجه أمام غير المَحرم واحد من الآراء المتداولة في هذا المجال بين الفقهاء من الشيعة وأهل السنّة. وكذلك يمكن أن يُستنتج من جواز إتمام الصلاة في المسجد الحرام، أنّ المسجد الحرام وطن لكلّ المسلمين.

وكذلك الحال في ما يتعلّق بنوع ثياب الإحرام، حيث يمكن الاستنتاج منها إلغاء التمييز بين الأقوام والشعوب وبين الفقراء والأغنياء. ويمكن أن يُستفاد من هذه الأحکام أيضاً ما يدلّ على نظرة الإسلام إلى المرأة في المجتمع المثالي المنشود.

ثانياً: القرآن کتاب اللّه، وهو المصدر الأوّل والأصيل للتعاليم الإسلاميّة، وقد تعامل مع قضية المرأة بمنتهى الحکمة وبنظرة نبيلة وسامية. فقد جاء في هذا الکتاب السماوي ما يقارب 350 آية تتناول قضيّة المرأة وشؤونها المختلفة، بصور وأساليب شتّى، وينصبّ قسم كبير منها على محاولة تغيير النظرة التي كانت رائجة يومذاك عن المرأة.

بدأ نزول الآيات المتعلّقة بالمرأة منذ السنة الأُولى للبعثة في مکّة، واستمرّت إلى السنة

ص: 10

الأخيرة من حياة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في المدينة. يمكن من خلال نظرة عامّة وکلّیة، تقسيم مراحل طرح قضيّة المرأة في القرآن الكريم إلى أربعة مراحل، نلخّصها في ما يلي:

1. محاربة النظرة الجاهلية المُهينة للمرأة

بدأ هذا التوجّه منذ السنة الأُولى للبعثة النبويّة، وتكرّر في السنوات: الثانية، والتاسعة، والعاشرة، والحادية عشر؛ في ما نزل من الآيات المکّيّة(1). ومن أمثلة هذه الآيات نستعرض ما يلي:

- السنة الأُولى للبعثة: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ*وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ*بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)(2).

- السنة الثانية للبعثة: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى*تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)(3).

- السنة الحادية عشر للبعثة: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَ-لَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ)(4).

2- طرح مباحث معرفية والدفاع عن الهوية الإنسانية للمرأة

يتناول القرآن الکريم في هذا الخصوص التعريف بالهوية الإنسانية للمرأة والرجل، وكيفية خلق كلّ واحدٍ منهما، مع بيان للقدرات والمؤهّلات التي يتّصف بها الرجال والنساء. بدأ طرح هذا الموضوع مع طرح مسألة خلق الذكر والأُنثى منذ السنة الأُولى للبعثة، واستمرّ

على هذا المنوال في السنوات: الثانية، والثالثة، والخامسة، والعاشرة، والحادية عشرة، والثالثة عشر، في ما نزل من الآيات المکّية، وكذلك في السنوات: الأُولى، والخامسة للهجرة، في السور المدنية(5). ومن الأمثلة على هذه الآيات إليكم ما يلي:

ص: 11


1- . نسق هذه الآيات حسب ترتيب تاريخ نزولها، كالآتي: التکوير: 7 - 9، النجم: 21 - 22 و27، الصافّات: 149 - 153، الزخرف: 16، النحل، 58.
2- . التکوير: 7 - 9.
3- . النجم: 21 - 22.
4- . النحل: 58.
5- . نسق هذه الآيات حسب ترتيب تاريخ نزولها، كالآتي: الليل: 3، النجم: 45، الأعراف: 19، طه: 117، النحل: 58، الروم: 21، النساء: 1.

- السنة الثالثة للبعثة: (وَقلنا يَ-ا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا)(1).

- السنة العاشرة للبعثة: (جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)(2).

3. طرح القدوات والأمثلة الإيجابية

المرحلة الثالثة التي واصل فيها القرآن الکريم إظهار وتركيز النظرة الإيجابية إلى المرأة، تجسّد في ما عرضه من أمثلة وقدوات إيجابية للمرأة في أدوار قديمة من التاريخ. وقد بدأ هذا التوجّه منذ السنة الرابعة للبعثة، بطرح شخصية مريم ابنة عمران، وفي السنة الخامسة صوّر جهود نساء لهن صلة بقصّة موسى (أُمّه وأُخته)، وفي السنة السادسة طرح من جديد قضيّة المرأتين اللتين كان لهما دور في قصّة النبي موسى، مع ذكر قصّة ابنتي شعيب ، وسلطة ملکة سبأ وحکمها لهذا البلد، وفي السنة الثانية عشر أعاد الكلام عن زوجة النبي زکريا ومريم(علیها السلام)، وفي السنوات: الثالثة، والخامسة، والثامنة، والتاسعة، حيث كان نزول الآيات في المدينة المنوّرة أيضاً، كشف عن جوانب من حياة مريم(3). ومن الأمثلة على هذه الآيات إليكم ما يلي:

- السنة الرابعة للبعثة: (وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا)(4).

- السنة السادسة للبعثة: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى)(5).

- السنة السادسة للبعثة: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَ-أجِرْهُ)(6).

- السنة السادسة للبعثة: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْ ءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)(7).

ص: 12


1- . الأعراف: 19
2- . الشورى: 11.
3- . نسق هذه الآيات حسب ترتيب تاريخ نزولها كالآتي: مريم: 16 - 29، طه: 38 - 40، القصص: 7 و26، النحل: 23، الأنبياء: 90، المؤمنون: 50، آل عمران: 37 - 36، النساء: 171، التحريم: 11.
4- . مريم: 16
5- . القصص: 7.
6- . القصص: 26.
7- . النمل: 23.

- السنة الثامنة للهجرة: (وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ)(1).

4- تغيير وتعديل قوانين عهد الجاهلية بخصوص المرأة

الحقل المتعلّق ببيان الأحکام والمقرّرات المتعلّقة بالمرأة على صعيد مجالات الحياة الفردية والأُسرية والاجتماعية، بدأ منذ السنة الأُولى لحياة المسلمين في المدينة، وتواصل في السنوات: الرابعة، والخامسة، والسابعة، والثامنة، والتاسعة، والعاشرة؛ حيث طُرحت في هذه السنوات الموضوعات التالية(2): الطلاق، الشهادة، القصاص، الظهار، الزواج، الحجاب، تعدّد الزوجات، الإرث، الزنا، السرقة، الأمر بالمعروف، النهي عن المنکر. ونقدّم في ما يلي أمثلة من هذه الآيات كالآتي:

- السنة العاشرة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)(3).

- السنة العاشرة للهجرة: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(4).

ثالثاً: في المصادر الإسلامية بشكل عامّ والشيعية على وجه الخصوص؛ أي الکتاب والسنّة، نُلاحظ وجود نساء ألمعيات وذوات أسماء بارزة، يتّصفن بکمالات معنوية وإنسانية وأخلاقية رفيعة، وهذا ما جعل منهنّ قدوات وغَدَون موضع تکريم من قِبَل الأئمّة:، بحيث اتّخذنَ كمثال يُحتذى به، مثل: مريم، وآسية، وخديجة، وفاطمة، وزينب، وفاطمة المعصومة، وحکيمة (عمّة إمام الزمان)، ونرجس (أُم إمام الزمان)، وغيرهنّ الكثير من النساء الأُخر.

إنّ هذا التکريم والاحترام بلغ حدّاً بحيث إنّ بعض هؤلاء النساء شُيّدت على أضرحتهن قِبابٌ وأبنية، وغدت هذه الأضرحة مزارات معنوية يأمّها المسلمون وخاصّة

ص: 13


1- . التحريم: 11.
2- . نسق هذه الآيات حسب ترتيب تاريخ نزولها، كالآتي: الأحزاب: 4-6، 28-37، 49-53، النساء: 1، 3،4،6،7 و... ، الطلاق: 1، 2، 4، 6، النور: 2، 4، 6، 11، 12،23، 26، 29، 31، 58، 61.
3- . التوبة: 71.
4- . النساء: 19.

العلماء والصالحون منهم. ومن الأمثلة التي يُشار اليها بالبَنان في هذا المجال: روضة السيّدة زينب في دمشق وفي القاهرة، وروضة السيّدة المعصومة في قم.

إنّ ما لقيته هؤلاء النسوة من تربية وما وصلن إليه من درجات التكامل من ناحية، والدعوة إلى تکريمهنّ والتأسّي بهنّ من ناحية أُخرى، يعكس لنا رؤية الإسلام عن المرأة وطبيعة نظرة التعاليم الإسلامية إليها. فالتعاليم الإسلامية جاءت على النحو الذي يُنشئ نساءً من أمثال خديجة وفاطمة وزينب، ويجعل منهنّ مثالاً جديراً بالاقتداء به في السير والسلوك المعنوي والأخلاقي.

رابعاً: السيّدة خديجة أُولى زوجات رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وسيّدة الإسلام الأُولى، وأوّل امرأة آمنت برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، عملت طيلة حياتها على مناصرة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ونشر رسالته بكلّ ما أُوتيت من قوّة ماليّة وقبليّة، حتّی جاء وصفها في الروايات الإسلاميّة تارةً بأنّها إحدى النساء البارزات في الجنّة(1)، وتارةً أُخرى بأنّها واحدة من النساء اللّاتي اصطفاهنّ اللّه(2)، ووُصفت في مواقف أُخرى بأنّها من النساء اللّاتي بلغن الکمال(3).

أبلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خديجة سلام اللّه وجبرئيل لها في الليلة التي عرج بها إلى السماء، كما جاء في رواية وردت في تفسير العيّاشي(4)، كما بشّرها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عدّة مرّات بالجنّة(5).

وخلاصة الكلام: أنّ خديجة هي سيّدة الإسلام الأُولى، وجميع الفرق والمذاهب الإسلامية، تكرّمها وتقرّ بعلوّ مكانتها وتشير إليها كواحدة من الشخصيات النسوية البارزة.

جاء تدوين هذا الكتاب بهدف تخليد المكانة الشامخة لهذه السيّدة الجليلة من جهة، ولأجل التعريف بقدوات أفرزتها الثقافة والهويّة الدينية من جهة أُخرى. ولغرض

ص: 14


1- . بحار الأنوار: ج16، ص 2، ج 3 و4 (نقلاً عن الخصال).
2- . بحار الأنوار: ج 5 (نقلاً عن الخصال).
3- . صحيح البخاري: ج 4 ص 62 و63 وج 7 ص 142، سنن ابن ماجه: ج2 ص 191 ح 2280.
4- . بحار الأنوار: ج4 ص 2 ح 11 (نقلاً عن تفسير العيّاشي).
5- . بحار الأنوار؟؟؟؟: ص 7، ح 12.

الوصول إلى هذه الغاية أجرينا عملية مسحٍ وتقصٍّ شامل نسبيّاً للتحرّي عن كلّ ما كُتب وكلّ مدوّنة حول هذه السيّدة باللغتين العربية والفارسية. ومن بعد التعرّف على تلك المصادر وتقييمها، وقع الاختيار على ثمانين مدوّنة، کانت ستّون منها باللغة الفارسية، وعشرون باللغة العربية، وجُمعت كلّها في أربع مجلّدات؛ ثلاث مجلّدات منها باللغة الفارسية، ومجلّد واحد باللغة العربية.

وجد بر بالذکر أنّ ترتیب المقالات في هذا المجلّد علی حسب زمان تألیف المصدر، ولهذا بدأ بنقل من سیرة أبي هشام و بعده من طبقات ابن سعد، وعلی هذا الترتیب.

خامساً: في الختام نودّ تقديم الشکر والثناء للإخوة الذين ساهموا بشكل أو آخر في الإعداد لمؤتمر تخليد ذكرى السيّدة خديجة، ونخصّ منهم بالذكر الأمين المشرف على المؤتمر سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الدکتور ناصر رفيعي، ثمّ الإخوة أصحاب الفضيلة والعلم الذين كان لهم دور في مراحل جمع وتنقيح وصياغة هذه المجموعة،

ونذكر منهم: محمّد باقر النجفي، ومحمّد ربّاني، وسيّد رضا باقريان موحّد، ومحمّد پورصبّاغ، وخلیل عصامي، وحسين أفخميان، ومهدي خوشرفتار أکرم.

مهدي مهريزي -هادي ربّاني

13 جمادی الثاني 1439ه

2 مارس 2018م

ص: 15

ص: 16

1. حدیث تزویج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خدیجة

اشارة

* حدیث تزویج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خدیجة(1)

ابن هشام

ملخّص البحث

هذا النصّ يحكي قصّة خروج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى بلاد الشام مضارباً بمال خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى. وکانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم. وكانت قريش قوماً تجّاراً. فلمّا بلغها ما بلغها من صدق حديث النبيّ وعظم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً. وبعدما بلغها ما كان من كراماته عرضت عليه نفسها. وكانت خديجة يومئذٍ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهنّ شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، كلّ قومها كان حريصاً على الزواج منها لو يقدر عليه. ثمّ يواصل سرد مجريات الخطبة والزواج، وذكر أنّها ولدت لرسول اللّه ولده كلّهم إلّا إبراهيم. وكان أكبر بنيه القاسم، ثمّ الطيب، ثمّ الطاهر. وأكبر بناته رقيّة، ثمّ زينب، ثمّ أُمّ كلثوم، ثمّ فاطمة. فأمّا القاسم، والطيّب، والطاهر، فهلكوا في الجاهليّة. وأمّا بناته فكلّهنّ أدركن الإسلام، فأسلمن وهاجرن معه. وبعد نزول الوحي عليه آمنت به خديجة بنت خويلد، وصدّقت بما جاءه من اللّه، ووازرته على أمره. فهي أوّل من آمن باللّه وبرسوله.

وكانت أوّل امرأة تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ولم يتزوّج عليها غيرها حتّى ماتت. وقد

ص: 17


1- السیرة النبویّة، حقّقها وضبطها وشرحها ووضع فهارسها : مصطفی السقا، إبراهیم الأبیاري وعبدالحفیظ شلبي، بیروت، دار الإحیاء التراث العربي، الطبعة الأُولی، 1415ه / 1995م: ج 1 ص 224 - 229.

أخبرها في مواقف عديدة أنّها من أهل الجنّة، وبشّرها أنّ لها في الجنّة بيت من قصب، لا لغو ولا نصب.

سنّه(صلی الله علیه و آله) حين زواجه

قال ابن هشام: «فلمّا بلغ رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرين سنة(1)، تزوّج خديجة(2) بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب، فيما حدّثني غير واحد من أهل العلم عن أبي عمرو المدني».

خروجه(صلی الله علیه و آله) إلى التجارة بمال خديجة

قال ابن إسحاق: «وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة، ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم(3) إيّاه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجّاراً، فلمّا بلغها عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجّار، مع غلامٍ لها يقال له: ميسرة، فقبله رسول اللّه (صلی الله علیه و آله) منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة، حتّی قدم الشام».

حديثه(صلی الله علیه و آله) مع الراهب: فنزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في ظلّ شجرة قريباً من صومعة راهب(4) من

ص: 18


1- . وقیل: کان سنّه إحدی وعشرین سنة، وقیل: ثلاثین، کما قیل: سبعاً وثلاثین، وقیل غیر ذلك (راجع: شرح المواهب والاستیعاب).
2- . وکان عمر خدیجة إذ ذاك أربعین سنة، وقیل: خمساً وأربعین. وکانت تُدعی في الجاهلیة بالطاهرة؛ لشدّة عفافها وصیانتها، وکانت تحت أبي هالة بن زرارة التمیمي، ومات أبو هالة في الجاهلیة وقد ولدت له خدیجة هنداً الصحابي، راوي حدیث صفة النبي ، وقد شهد بدراً، وقیل: أُحداً، وقد روی عنه الحسن بن علي، فقال: «حدّثني خالي»؛ لأنّه أخو فاطمة لأُمّها. وکان هند فصیحاً بلیغاً وصّافاً، وکان یقول: أنا أکرم الناس أباً وأُمّاً وأخاً وأُختاً؛ أبي رسول اللّه ، وأخي القاسم، وأُختي فاطمة، وأُمّي خدیجة(علیها السلام). وقُتل هند مع علي یوم الجمل، وقیل: مات في البصرة بالطاعون، ویقال: إنّ الذي مات بالطاعون ولده، واسمه هند أیضاً. کما ولدت خدیجة أیضاً لأبي هالة: هالة بن أبي هالة، وکان له صحبة، وبعد أن مات أبو هالة عن خدیجة، تزوّجها عتیق بن عابد المخزومي، فولدت له بنتاً اسمها هند، وقد أسلمت وصحبت (راجع: شرح المواهب، والاستیعاب).
3- . تضاربهم: تقارضهم. والمضاربة: المقارضة.
4- . وکان اسم هذا الراهب نسطورا، ولیس هو بحیری المتقدّم ذکره.

الرهبان، فاطّلع الراهب إلى ميسرة فقال له: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبيّ(1).

ثمّ باع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثمّ أقبل قافلاً إلى مكّة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحرّ، يرى ملكين يظلّانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلمّا قدم مكّة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به، فأضعف أو قريباً(2)، وحدّثها ميسرة عن قول الراهب، وعمّا كان يرى من إظلال الملكين إيّاه.

خديجة ترغب في الزواج منه(صلی الله علیه و آله)

وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد اللّه بها من كرامته، فلمّا أخبرها ميسرة ممّا أخبرها به، بعثت(3) إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقالت له -

فيما يزعمون - : يابن عمِّ، إنّي قد رغبت فيك؛ لقرابتك وسِطَتك(4) في قومك وأمانتك، وحسن خُلقك

ص: 19


1- . یرید: ما نزل تحتها هذه الساعة إلّا نبيّ، ولم یرد: ما نزل تحتها قطّ إلّا نبي؛ لبعد العهد بالأنبیاء قبل ذلك، وإن کان في لفظ الخبر «قطّ»، فقد تکلّم بها علی جهة التوکید للنفي، والشجرة لا تُعمّر في العادة هذا العمر الطویل حتّی یدري أنّه لم ینزل تحتها إلّا عیسی أو غیره من الأنبیاء:، ویبعد في العادة أن تکون شجرة تخلو من أن ینزل تحتها أحد حتّی یجيء نبيّ، إلّا أن تصحّ روایة من قال في هذا الحدیث: «لم ینزل تحتها أحد بعد عیسی بن مریم »، وهي روایة عن غیر ابن إسحاق، فالشجرة علی هذا مخصوصة بهذه الآیة (راجع: الروض الأنف).
2- . وروی الزرقاني عن الواقدي وابن السکن في اختیار خدیجة لرسول اللّه : «إنّ أبا طالب قال: یابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علینا، وألحّت علینا سنون منکرة، ولیس لنا مادّة ولا تجارة، وهذه عِیر قومك قد حضر خروجها إلی الشام، وخدیجة تبعث رجالاً من قومك یتّجرون في مالها ویصیبون منافع، فلو جئتها لفضّلتك علی غیرك؛ لما یبلغها عنك من طهارتك، وإن کنت أکره أن تأتي الشام، وأخاف علیك من یهود، ولکن لا نجد من ذلك بدّاً. فقال : لعلّها ترسل إليَّ في ذلك، فقال أبو طالب: إنّي أخاف أن تولّي غیرك. فبلغ خدیجة ما کان من محاورة عمّه له، ثمّ کان أن أرسلت إلیه؛ لعلمها قبل هذا بصدقه وأمانته».
3- . هذا قول ابن إسحاق: أنّها عرضت علیه نفسها من غیر وساطة، ویذهب غیره إلی أنّها عرضت علیه نفسها بوساطة، وأنّ ذلك کان علی ید نفیسة بنت منیة، والجمع ممکن، فقد تکون بعثت نفیسة أوّلاً؛ لتعلم أیرضی أم لا؟ فلمّا علمت بذلك کلّمته بنفسها (راجع: شرح المواهب).
4- . کذا في أ، وشرح المواهب، وشرح السیرة، والروض، والطبري. وسطتك: شرفك؛ مأخوذة من الوسط، مصدر، کالعدّة والزنة؛ والوسط من أوصاف المدح والتفضیل، وفي سائر الأُصول: «وسطتك»، وهو تحریف.

وصدق حديثك. ثمّ عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذٍ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهنّ شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، كلّ قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه.

نسب خديجة(علیها السلام)

وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. وأُمّها: فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر.

وأُمّ فاطمة: هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عمرو بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر.

وأُمّ هالة: قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.

الرسول(صلی الله علیه و آله) يتزوّج من خديجة بعد استشارة أعمامه

فلمّا قالت ذلك لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمّه حمزة(1) بن عبد المطّلب حتّی دخل على خويلد(2) بن أسد، فخطبها إليه، فتزوّجها.

صداق خديجة: قال ابن هشام: «وأصدقها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عشرين بكرة، وكانت أوّل امرأة تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ولم يتزوّج عليها غيرها حتّی ماتت(علیها السلام)».

ص: 20


1- . ویقال: إنّ الذي نهض معه هو أبو طالب، وهو الذي خطب خطبة النکاح، وقیل: لعلّهما خرجا معها جمیعاً، وخطب أبو طالب الخطبة؛ لأنّه کان أسنّ من حمزة (راجع: شرح المواهب والروض).
2- . وذکر الزهري أنّ خویلداً أبرم هذا الزواج وهو سکران، فلمّا أفاق أنکر ذلك، ثمّ رضیه وأمضاه، وفي ذلك یقول راجز من أهل مکّة: لاتزهدي خدیج في محمّد نجم یضيء کإضاء الفرقد وذکر غیر ابن إسحاق أنّ خویلداً کان إذ ذاك قد هلك، وأنّ الذي نکح خدیجة(علیها السلام) هو عمّها عمرو بن أسد، کما یقال أیضاً أنّ الذي أنکحها هو أخوها عمرو بن خویلد (راجع: شرح المواهب، والروض).

أولاده(صلی الله علیه و آله) من خديجة

قال ابن إسحاق: «فولدت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وُلده كلّهم إلّا إبراهيم: القاسم، وبه كان يُكنّى(صلی الله علیه و آله) والطاهر والطيّب(1)، وزينب ورقيّة، وأُمّ كلثوم، وفاطمة:».

ترتيب ولادتهم: قال ابن هشام: «أكبر بنيه: القاسم، ثمّ الطيّب، ثمّ الطاهر. وأكبر بناته: رقيّة، ثمّ زينب، ثمّ أُمّ كلثوم، ثمّ فاطمة».

قال ابن إسحاق: «فأمّا القاسم والطيّب والطاهر، فهلكوا(2) في الجاهلية. وأمّا بناته فكلّهن أدركن الإسلام، فأسلمن وهاجرن معه(صلی الله علیه و آله)».

إبراهيم وأُمّه: قال ابن هشام: «وأمّا إبراهيم، فأُمّه مارية القبطية. حدّثنا عبد اللّه بن وهب عن ابن لهيعة، قال: أُمّ إبراهيم مارية، سرية النبي(صلی الله علیه و آله) التي أهداها إليه المقوقس من حفن من كورة أنصنا».

ورقة يتنبّأ له(صلی الله علیه و آله) بالنبوّة

قال ابن إسحاق: «وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة(3) بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى - وكان ابن عمّها، وكان نصرانياً قد تتبّع الكتب وعلم من علم الناس - ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه، إذ كان الملكان يظلّانه، فقال ورقة: لئن كان هذا حقّاً يا خديجة، إنّ محمّداً لنبيّ هذه الأُمّة، وقد عرفت أنّه كائن لهذه الأُمّة نبيّ يُنتظر، هذا زمانه، أو كما قال:

شعر

لورقة: فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتّی متى؟ فقال ورقة في ذلك:

ص: 21


1- . یُشعر سیاق الحدیث هنا وفیما سیأتي أنّ الطاهر والطیّب شخصان، والمعروف أنّهما لقبان لعبد اللّه، وبهما کان یُلقّب (راجع: زاد المعاد، والروض الأنف، والمعارف).
2- . في موت القاسم في الجاهلیة خلاف، فقد ذکر السهیلي عن الزبیر أنّ القاسم مات رضیعاً، وأنّ رسول اللّه دخل علی خدیجة بعد موت القاسم وهي تبکي، فقالت: یا رسول اللّه، لقد درّت لُبَینة القاسم (اللبینة تصغیر لبنة، وهي قطعة من اللبن) فلو کان عاش حتّی یستکمل رضاعه لهوّن عليَّ. فقال: إن شئتِ أسمعتكِ صوته في الجنّة، فقالت: بل أُصدّق اللّه ورسوله. وفیما روی الزبیر دلیل علی أنّ القاسم لم یهلك في الجاهلیة.
3- . أُمّ ورقة: هند بنت أبي کبیر بن عبد بن قصيّ، ولا عقب لورقة هذا، وهو أحد من آمن بالنبي قبل البعث (راجع: الروض).

لججتُ وكنتُ في الذكرى لَجوجاً

لِهَمٍّ طالما بعث النشيجا(1)

ووَصفٌ مِن خديجة بعد وَصفٍ

فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكّتين على رجائي

حديثك أن أرى منه خروجا(2)

بما خَبّرتنا من قول قَسٍّ

من الرهبان أكره أن يَعوجا

بأنّ محمّداً سيسودُ فينا

ويخصِم من يكون له حَجيجا

ويظهرُ في البلاد ضياءُ نورٍ

يُقيم به البَريّةَ أن

تموجا(3)

فيَلقى من يُحاربه خَساراً

ويَلقى من يُسالمه فُلوجا(4)

فيا ليتي إذا ما كان ذاكم

شهدتُ فكنتُ أوّلهم وُلوجا(5)

وُلوجاً في الذي كَرِهت قريشٌ

ولو عَجت بمكّتها عَجيجا(6)

أُرجّي بالذي كرهوا جميعاً

بمن يختار مَن سَمَك البُروجا

وهل أمرُ السفالة غيرُ كفرٍ

إلى ذي العرش إن سفلوا عُروجا(7)

فإن يبقوا وأبقَ تكن أُمورٌ

يضجّ الكافرون لها ضجيجا

وإن أهلِك فكلّ فتىً سيَلقى

من الأقدار مَتلفةَ(8) حَروجا»

الرسول(صلی الله علیه و آله) يخبر خديجة بنزول جبرئيل عليه

«وانصرفتُ راجعاً إلى أهلي حتّی أتيتُ خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفاً(9) إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فواللّه لقد بعثتُ رُسلي في طلبك حتّی بلغوا مكّة

ص: 22


1- . النشیج: البکاء مع صوت.
2- . الهاء في «منه» راجعة علی الحدیث، وحرف الجرّ متعلّق بالخروج.
3- . تموّج: تضطرب.
4- . الفُلوج: الظهور علی الخصم والعدوّ.
5- . کذا في أ، وفي سائر الأُصول: «أکثرهم».
6- . عجّت: ارتفعت أصواتها.
7- . العروج: الصعود والعلوّ.
8- . المتلفة: المهلکة. والحروج: الکثیرة التصرّف.
9- . مضیفاً: ملتصقاً، یقال: أضفت إلی الرجل؛ إذا ملت نحوه ولصقت به، ومنه سُمّي الضیف ضیفاً.

ورجعوا لي. ثمّ حدّثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمِّ واثبُت، فوالذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأُمّة».

خديجة(علیها السلام) تخبر ورقة بن نوفل: ثمّ قامت فجمعت عليها ثيابها، ثمّ انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، وهو ابن عمّها، وكان ورقة قد تنصّر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أنّه رأى وسمع، فقال ورقة بن نوفل: قُدّوسٌ قُدّوسٌ(1)، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صَدَقتيني يا خديجة، لقد جاءه الناموس(2) الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنّه لنبيّ هذه الأُمّة، فقولي له فليثبت.

فرجعت خديجة إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فأخبرته بقول ورقة بن نوفل.

فلمّا قضی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال يا ابن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت. فأخبره رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الأُمّة، وقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتُكذّبنّه ولتُؤذينّه ولتُخرجنّه ولتُقاتلنّه، ولئن أنا أدركتُ ذلك اليوم لأنصرنّ اللّه نصراً يعلمه. ثمّ أدنى رأسه منه فقبّل يافوخه(3)، ثمّ انصرف رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى منزله

تثبّت خديجة من الوحي

قال ابن إسحاق: «وحدّثني إسماعيل بن أبي حكيم(4) مولى آل الزبير، أنّه حدّث عن خديجة(علیها السلام) أنّها قالت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أي ابن عمِّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرئيل كما كان يصنع، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لخديجة: يا خديجة هذا جبرئيل قد جاءني، قالت: قم

ص: 23


1- . قدّوس قدّوس: أي طاهر طاهر، وأصله من التقدیس؛ وهو التطهیر.
2- . الناموس (في الأصل): صاحب سرّ الرجل في خیره وشرّه، فعبّر عن الملك الذي جاءه بالوحي به.
3- . الیافوخ: وسط الرأس.
4- . هو إسماعیل بن أبي حکیم القرشي، روی عن سعید بن المسیّب والقاسم بن محمّد وعبیدة بن شعبان الحضرمي وغیرهم، وعنه مالك وابن إسحاق وإسماعیل بن جعفر وأبو الأسود وغیرهم. وکان عاملاً لعمر بن عبد العزیز. وتوفّي سنة 130 (راجع: تهذیب التهذیب).

يا ابن عمِّ فاجلس على فخذي اليسرى. قال: فقام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس على فخذي اليمنى. قالت: فتحوّل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فجلس على فخذي اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري. قال: فتحوّل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم. قال: فتحسّرت وألقت خمارها ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جالس في حجرها، ثمّ قالت له: هل تراه؟ قال: لا، قالت يا ابن عمِّ، أثبُت وأبشر، فواللّه إنّه لمَلَك وما هذا بشيطان».

قال ابن إسحاق: «وقد حدّثت عبداللّه(1) بن حسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت أُمّي فاطمة بنت حسين تحدّث بهذا الحديث عن خديجة، إلّا أنّي سمعتها تقول: أدخلت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبرئيل، فقالت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله): إنّ هذا لمَلَك وما هو بشيطان».

ابتداء تنزيل القرآن

متى نزل القرآن: قال ابن إسحاق: «فابتُدئ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالتنزيل في شهر رمضان، بقول اللّه عزّوجلّ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)(2)، وقال اللّه تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ*لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ*تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ*سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(3)، وقال اللّه تعالى: (حم*وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ*إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ*أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)(4)، وقال تعالى: (إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)(5)، وذلك ملتقى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والمشركين ببدر».

ص: 24


1- . هو عبد اللّه بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأُمّه فاطمة بنت الحسین أُخت سکینة، واسمها آمنة، وسکینة لقب لها، التي کانت ذات دعابة ومزح.
2- . البقرة: 185.
3- .القدر: 1-5.
4- .الدخان: 1-5.
5- .الأنفال: 41.

تاريخ وقعة بدر: قال ابن إسحاق: «وحدّثني أبو جعفر محمّد بن علي بن حسين: أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان».

قال ابن إسحاق: «ثمّ تتامّ الوحي إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو مؤمنٌ باللّه مصدّقٌ بما جاءه منه، قد قبله بقبوله، وتحمّل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم والنبوّة أثقال ومؤونة لا يحملها ولا يستطيع بها إلّا أهل القوّة والعزم من الرسل، بعون اللّه تعالى وتوفيقه؛ لما يلقون من الناس وما يرد عليهم ممّا جاؤوا به عن اللّه سبحانه وتعالى.

قال: فمضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) على أمر اللّه على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى».

إسلام خديجة بنت خويلد

وقوفها بجانبه(صلی الله علیه و آله): وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدّقت بما جاءه من اللّه، ووازرته على أمره، وكانت أوّل من آمن باللّه وبرسوله وصدّق بما جاء منه، فخفّف اللّه بذلك عن نبيّه(صلی الله علیه و آله)، لا يسمع شيئاً ممّا يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيبٍ له فيحزنه ذلك، إلّا فرّج اللّه عنه بها إذا رجع إليها، تثبّته وتخفّف عليه وتصدّقه وتهوّن عليه أمر الناس رحمها اللّه تعالى.

تبشير خديجة ببيت من قصب

قال ابن إسحاق: «وحدّثني هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب، قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أُمرتُ أن أُبشّر خديجة ببيتٍ من قصب، لا صخب فيه ولا نصب».

قال ابن هشام: «القصب: اللؤلؤ المجوّف».

جبرئيل يُقرئ خديجة السلام

قال ابن هشام: «وحدّثني من أثق به أنّ جبرئيل أتى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: أقرئ خديجة السلام من ربّها، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): يا خديجة، هذا جبرئيل يُقرئك السلام من ربّك، فقالت خديجة: اللّه السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل السلام». …

تعلیم الرسول(صلی الله علیه و آله) خديجة الوضوء والصلاة

فجاء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خديجة فتوضّأ لها؛ ليُريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبرئيل، فتوضّأت كما توضّأ لها رسول اللّه عليه الصلاة والسلام، ثمّ صلّى بها رسول اللّه عليه

ص: 25

الصلاة والسلام كما صلّى به جبرئيل، فصلّت بصلاته.

ص: 26

فهرس المصادر

1. الاستیعاب، أبو عمر یوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقیق: علي محمّد البجاوي، بیروت: دار الجیل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

2. تهذیب التهذیب، أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (ابن حجر) (ت852ه )، تحقیق: خلیل مأمون شیحا، وعمر السلامي، وعلي بن مسعود، بیروت: دار المعرفة، ودار الفكر، الطبعة الأُولى، 1404ه ، و1417ه .

3. الروض الأنف شرح السیرة النبویة لابن هشام، عبدالرحمن بن عبداللّه السهیلي (ت581ه )، تحقیق: عبدالرحمن الوكیل، بیروت: دار إحیاء التراث العربي، 1412ه .

4. زاد المعاد، أبو عبداللّه محمّد بن أبي بكر ابن قیم الجوزیة (ت751ه )، القاهرة: مؤسّسة المختار، 1427ه .

5. تاریخ الطبري (تاریخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جریر الطبري (ت310ه )، تحقیق: محمّد أبو الفضل إبراهیم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968م.

6. المعارف، أبو محمّد عبداللّه بن مسلم بن قتیبة الدینَوَري (ت276ه )، تحقیق: ثروت عكاشة، القاهرة: دار المعارف.

ص: 27

2. ذکر خروج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلی الشام في المرّة الثانیة

اشارة

* ذکر خروج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلی الشام في المرّة الثانیة(1)

ابن سعد

ملخّص البحث:

يرتكز هذا النصّ على نقل المرويات التاريخية حول موضوع السيّدة خديجة بنت خويلد الأسدي، وقصّة عمل رسول اللّه معها في التجارة حين كان في عزّ أيّام شبابه، وما ورد في ذلك من آراء. وما حصل أثناء ذلك من حوادث ومعجزات جعلت خديجة تلك المرأة الشريفة والثرية وذات المكانة العليّة بين أبناء قومها، تفكّر في الزواج من هذا الشابّ الذي كان يُعرف بين أوساط المجتمع المكّي يومذاك باسم الصادق الأمين. وجاء في وصفه لهذه المرأة ونسبها أنّها: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ، امرأة حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد اللّه بها من الكرامة والخير، وهي يومئذٍ أوسط قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً، وكلّ قومها كان حريصاً علی نكاحها لو قدر علی ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال. وذكر أيضاً كيفية الخطبة والزواج، ومن ولدتهم من الأولاد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

قال: «أخبرنا محمّد بن عمر بن واقد الأسلمي، أخبرنا موسی بن شيبة عن عميرة بنت عبيد اللّه بن كعب بن مالك، عن أُمّ سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية أُخت يعلی بن منية، قالت: لمّا بلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرين سنة، قال له أبو

ص: 28


1- الطبقات الکبری، بیروت: دار إحیاء التراث العربي: ج1 ص61-63.

طالب: أنا رجلٌ لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا، وهذه عِير قومك وقد حضر خروجها إلی الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عِيراتها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرَعَت إليك.

وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمّه له، فأرسلت إليه في ذلك وقالت له: أنا أُعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك».

قال: «أخبرنا عبد اللّه بن جعفر الرقي، حدّثني أبو المليح عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيل، قال: قال أبو طالب: يا بن أخي، قد بلغني أنّ خديجة استأجرت فلاناً ببكرين ولسنا نرضی لك بمثل ما أعطته، فهل لك أن تكلّمها؟ قال: ما أحببت.

فخرج إليها فقال: هل لكِ يا خديجة أن تستأجري محمّداً؟ فقد بلغنا أنك استأجرتِ فلاناً ببكرين، ولسنا نرضی لمحمّد دون أربع بكار. قال: فقالت خديجة: لو سألتَ ذاك لبعيدٍ بغيضٍ فعلنا، فكيف وقد سألتَ لحبيبٍ قريبٍ»؟

قال: «أخبرنا محمّد بن عمر، أخبرنا موسی بن شيبة عن عميرة بنت عبيد اللّه بن كعب بن مالك، عن أُمّ سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية، قالت: قال أبو طالب: هذا رزق قد ساقه اللّه إليك. فخرج مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به أهل العِير حتّی قدما بصری من الشام، فنزلا في ظلّ شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبي. ثمّ قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ قال: قال: نعم لا تفارقه، قال: هو نبي وهو آخر الأنبياء.

ثمّ باع سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاح، فقال له: احلف باللّات والعزّی، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما حلفت بهما قطّ، وإنّي أمرّ فأعرض عنهما، فقال الرجل: القول قولك. ثمّ قال لميسرة: هذا واللّه نبيّ تجده أحبارنا منعوتاً في كتبهم.

وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحرّ يري ملكين يظلّان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من الشمس، فوعی ذلك كلّه ميسرة. وكان اللّه قد ألقی عليه المحبّة من ميسرة، فكان كأنّه عبد له، وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلمّا رجعوا فكانوا بمرّ

ص: 29

الظهران، قال ميسرة: يا محمّد، انطلق إلی خديجة فأخبرها بما صنع اللّه لها علی وجهك، فإنّها تعرف لك ذلك.

فتقدّم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حتّی دخل مكّة في ساعة الظهيرة وخديجة في عليةٍ لها، فرأت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو علی بعيره وملكان يظلّان عليه، فأرته نساءها، فعجبن لذلك. ودخل عليها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فخبّرها بما ربحوا في وجههم، فسرّت بذلك، فلمّا دخل ميسرة عليها أخبرته بما رأت، فقال ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. وأخبرها بما قال الراهب نسطور وبما قال الآخر الذي خالفه في البيع، وقدم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح وأضعفت له ضعف ما سمّت له.

3. ذكر تزويج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خديجة بنت خويلد

اشارة

قال: «أخبرنا محمّد بن عمر بن واقد الأسلمي، أخبرنا موسی بن شيبة عن عميرة بنت عبيد اللّه بن كعب بن مالك، عن أُمّ سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية، قالت: كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ امرأة حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد اللّه بها من الكرامة والخير، وهي يومئذٍ أوسط قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً، وكلّ قومها كان حريصاً علی نكاحها لو قدر علی ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال.

فأرسلتني دسيساً إلی محمّد بعد أن رجع في عِيرها من الشام، فقلت: يا محمّد، ما تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: قلت: عليَّ، قال:

فأنا أفعل. فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا، وأرسلت إلی عمّها عمرو بن أسد ليزوّجها، فحضر ودخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في عمومته، فزوّجه أحدهم، فقال عمرو بن أسد: هذا البضع لا يُقرع أنفه.

وتزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذٍ بنت أربعين سنة؛ ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة».

قال: «أخبرنا محمّد بن عمر عن محمّد بن عبد اللّه بن مسلم، عن أبيه، عن محمّد

ص: 30

بن جبير بن مطعم، وعن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وعن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قالوا: إنّ عمّها عمرو بن أسد زوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وإنّ أباها مات قبل الفِجَار».

قال: «أخبرنا هشام بن محمّد بن السائب الكلبي، قال: أخبرني أبي عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: زوّج عمرو بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ خديجة بنت خويلد النبي(صلی الله علیه و آله) وهو يومئذٍ شيخ كبير لم يبق لأسد لصلبه يومئذٍ غيره، ولم يلد عمرو بن أسد شيئاً، قال: أخبرنا خالد بن خُداش بن عجلان، أخبرنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يذكر أنّ أبا مجلز حدّث أنّ خديجة قالت لأُختها: انطلقي إلی محمّد فاذكريني له. أو قال: وسنت علی الشيخ حلّة، فلمّا صحا قال: ما هذه الحلّة؟ قالوا كساكها ختنك محمّد، فغضب وأخذ السلاح، وأخذ بنو هاشم السلاح وقالوا: ما كانت لنا فيكم رغبة. ثمّ إنّهم اصطلحوا بعد ذلك».

قال: «أخبرنا محمّد بن عمر بغير هذا الإسناد: أنّ خديجة سقت أباها الخمر حتّی ثمل، ونحرت بقرة، وخلّقته بخلوق، وألبسته حلّة حبرة، فلمّا صحا قال: ما هذا العقير وما هذا العبير وما هذا الحبير؟ قالت: زوّجتني محمّداً، قال: ما فعلتُ، أنا أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش فلم أفعل؟ قال: وقال محمّد بن عمر: فهذا كلّه عندنا غلط ووهل، والثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أنّ أباها خويلد بن أسد مات قبل الفِجَار، وأن عمّها عمرو بن أسد زوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

ذكر أولاد رسول(صلی الله علیه و آله) وتسميتهم

قال: «أخبرنا هشام بن محمّد بن السائب الكلبي عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: كان أوّل من وُلد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بمكّة قبل النبوّة القاسم، وبه كان يُكنّی، ثمّ وُلد له زينب ثمّ رقيّة ثمّ فاطمة ثمّ أُمّ كلثوم، ثمّ وُلد له في الإسلام عبد اللّه، فسُمّي الطيّب والطاهر، وأُمّهم جميعاً خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ، وأُمّها فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن

ص: 31

عامر بن لؤي، فكان أوّل من مات من وُلده القاسم، ثمّ مات عبد اللّه بمكّة، فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع وُلده فهو أبتر، فأنزل اللّه تبارك وتعالی: (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)».

قال: «أخبرنا محمّد بن عمر، قال: حدّثني عمرو بن سلمة الهذلي بن سعيد بن محمّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: مات القاسم وهو ابن سنتين».

قال: «وقال محمّد بن عمر: وكانت سلمی مولاة صفية بنت عبد المطّلب تقبّل خديجة في ولادها، وكانت تعقّ عن كلّ غلام بشاتين وعن الجارية بشاة، وكان بين كلّ ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم، وتُعِدّ ذلك قبل ولادها».

ص: 32

ص: 33

ذکر تزویج النبي(صلی الله علیه و آله) خدیجة

* ذکر تزویج النبي(صلی الله علیه و آله) خدیجة(1)

محمّد بن جریر الطبري

ملخّص البحث:

في هذا النصّ نقلٌ لما جاء من روايات وأخبار حول زواج النبي(صلی الله علیه و آله) من خديجة بنت خويلد، وكم كان عمر كلّ واحد منهما في ذلك الوقت. وممّا جاء في الأخبار أنّ خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم منه. وكانت قريش قوماً تجّاراً، فلما بلغها عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلی الشام تاجراً، فقبله منها، وخرج في مالها ذلك. ودوّن بأُسلوب السرد التاريخي ما كان في هذا السفر من معجزات وكرامات شاهدها منه غلام السيّدة خديجة ونقله لها، فازداد إعجابها به، وعرضت عليه الزواج. وكانت خديجة يومئذٍ أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهنّ شرفاً وأكثرهنّ مالاً، كلّ قومها كان حريصاً علی ذلك منها لو يقدر عليها. فلمّا قالت ذلك لرسول(صلی الله علیه و آله) ، ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة بن عبد المطّلب عمّه، حتّی دخل علی خويلد بن أسد، فخطبها إليه، فتزوّجها فولدت له وُلده كلّهم إلّا إبراهيم.

ص: 34


1- تاریخ الطبري، تاریخ الأُمم والملوك، تحقیق: محمّد أبو الفضل إبراهیم، بیروت: دار سویدان: ج2 ص280-282.

قال هشام بن محمّد: «نكح رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذٍ ابنة أربعين سنة.

حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة عن ابن إسحاق، قال: كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوماً تجّاراً، فلمّا بلغها عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلی الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجّار، مع غلامٍ لها يقال له ميسرة، فقبله منها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة، حتّی قدما الشام، فنزل رسول اللّه في ظلّ شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان(1)، فأطلع الراهب رأسه إلی ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبيّ(2).

ثمّ باع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سلعته التي خرج بها، واشتری ما أراد أن يشتري، ثمّ أقبل قافلاً إلی مكّة ومعه ميسرة، فكان ميسرة فيما يزعمون إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحرّ يري ملكين يظلّانه من الشمس وهو يسير علی بعيره، فلمّا قدم مكّة علی خديجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعفت أو قريباً من ذلك. وحدّثها ميسرة عن قول الراهب وعمّا كان يری من إظلال الملكين إيّاه، وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة، مع ما أراد اللّه بها من كرامته، فلمّا أخبرها ميسرة بما أخبرها، بعثت إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقالت له - فيما يزعمون - : يا ابن عمِّ، إنّي قد رغبت

فيك؛ لقرابتك وسِطَتك(3) في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثمّ عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذٍ أوسط

ص: 35


1- . هو نسطورا، ولیس هو بحیری المتقدّم ذکره، کذا قاله السهیلي.
2- . قال السهیلي: یرید: ما نزل تحتها هذه الساعة إلّا نبي؛ لبعد العهد بالأنبیاء قبل ذلك.
3- . السطة مثل الوسیط؛ وهو من أوصاف المدح والتفضیل.

نساء قريش نسباً وأعظمهنّ شرفاً وأكثرهنّ مالاً، كلّ قومها كان حريصاً علی ذلك منها لو يقدر عليها.

فلمّا قالت ذلك لرسول اللّه، ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة بن عبد المطّلب عمّه، حتّی دخل علی خويلد بن أسد(1)، فخطبها إليه، فتزوّجها فولدت له وُلده كلّهم إلّا إبراهيم: زينب ورقيّة وأُمّ كلثوم وفاطمة والقاسم، وبه كان يُكنّی(صلی الله علیه و آله)، والطاهر والطيّب؛ فأمّا القاسم والطاهر والطيّب فهلكوا في الجاهلية، وأمّا بناته فكلّهنّ أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه(صلی الله علیه و آله).

حدّثني الحارث، قال: حدّثنا محمّد بن سعد، قال: حدّثنا محمّد بن عمر، قال: حدّثنا معمر وغيره عن ابن شهاب الزهري، وقد قال ذلك غيره من أهل البلدان: خديجة إنّما كانت استأجرت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ورجلاً آخر من قريش إلی سوق حُباشة بتهامة، وكان الذي زوّجها إيّاه خويلد، وكان التي مشت في ذلك مولاة مولّدة من مولّدات مكّة.

قال الحارث: قال محمّد بن سعد: قال الواقدي: فكلّ هذا غلط.

قال الواقدي: ويقولون أيضاً إنّ خديجة أرسلت إلی النبي(صلی الله علیه و آله) تدعوه إلی نفسها؛ تعني التزويج، وكانت امرأة ذات شرف، وكان كلّ قريش حريصاً علی نكاحها، قد بذلوا الأموال لو طمعوا بذلك، فدعت أباها فسقته خمراً حتّی ثمل، ونحرت بقرة وخلّقته بخلوق وألبسته حلّة حبرة، ثمّ أرسلت إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في عمومته، فدخلوا عليه فزوّجه، فلمّا صحا قال: ما هذا العقير وما هذا العبير وما هذا الحبير؟ قالت: زوّجتني محمّد بن عبد اللّه، قال: ما فعلت، إنّي أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش فلم أفعل؟

قال الواقدي: وهذا غلط، والثبت عندنا المحفوظ من حديث محمّد بن عبد اللّه بن مسلم، عن أبيه، عن محمّد بن جبير بن مطعم. ومن حديث ابن أبي الزناد عن هشام

ص: 36


1- . قال السهیلي: «وذکر غیر ابن إسحاق أنّ خویلداً کان إذ ذاك قد هلك، وأنّ الذي أنکح خدیجة(علیها السلام) هو عمّها عمرو بن أسد؛ قاله المبرّد وطائفة معه». وقال أیضاً: «إنّ أبا طالب هو الذي نهض مع رسول اللّه ، وهو الذي خطب خطبة النکاح».

بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ومن حديث ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ عمّها عمرو بن أسد زوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأنّ أباها مات قبل الفِجَار.

قال أبو جعفر: وكان منزل خديجة يومئذٍ المنزل الذي يُعرف بها اليوم، فيقال: منزل خديجة، فاشتراه معاوية فيما ذُكر، فجعله مسجداً يصلّي فيه الناس، وبناه علی الذي هو عليه اليوم لم يغيّر، وأمّا الحجر الذي علی باب البيت عن يسار من يدخل البيت، فإنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كان يجلس تحته ويستتر به من الرمي إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمراء الثقفي خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراع وشبر في ذراع.

ص: 37

4. ذکر الحوادث التي کانت في سنة خمس وعشرین من مولده(صلی الله علیه و آله)

اشارة

* ذکر الحوادث التي کانت في سنة خمس وعشرین من مولده(صلی الله علیه و آله)(1)

محمّد بن الجوزي

ملخّص البحث:

تنقل هذه النصوص الأخبار التي تحدّثت عن السفر الثاني للنبي محمّد(صلی الله علیه و آله) إلى بلاد الشام، وكان فيه منتدباً من قبل خديجة بنت خويلد للتجارة بمالها. وقد تناهى إلى سمع خديجة ما كان في ذلك السفر من كرامات، وبعد العودة من ذلك السفر أرسلت إليه من يدعوه إلى الزواج منها، رغم أنّ كبار قومها كانوا قد عرضوا عليها الزواج، لكنّها رفضتهم. ونقل فيه أيضاً مجريات الخطبة وما دار فيها من الكلام، ومن بعد الزواج كان أوّل ولد وُلد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بمكّة قبل النبوّة: القاسم وبه كان يُكنّی، ثمّ وُلد له زينب، ثمّ رقيّة، ثمّ فاطمة، ثمّ أُمّ کلثوم. ثمّ وُلد له في الإسلام عبد اللّه، فسُمّي الطيّب والطاهر، وأُمّهم جميعاً خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ.

فمن ذلك: « خروجه إلی الشام في المرّة الثانية في تجارة لخديجة وتزويجه بها(علیها السلام)».

أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر البزّاز، قال: أخبرنا أبو محمّد الحسن بن علي الجوهري،

ص: 38


1- المنتظم في تاریخ الأُمم والملوك، دراسة وتحقیق: محمّد عبد القادر عطا ومصطفی عبد القادر عطا، بیروت: دار الکتب العلمیة، الطبعة الأُولی، 1412ه /1992م: ج2 ص313-317.

قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه، قال: أخبرنا أحمد بن معروف الخشّاب، قال: أخبرنا الحارث بن أبي أُسامة، قال: أخبرنا محمّد بن سعد، قال: أخبرنا محمّد بن عمر، قال: حدّثني موسی بن شيبة، عن عميرة بنت عبيد اللّه بن كعب بن مالك، عن أُمّ سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية أُخت يعلّی بن منيّة، قالت: لمّا بلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرين سنة، قال له أبو طالب: أنا رجل فقير لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا، وهذه عِير قومك قد حضر خروجها إلی الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عِيراتها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك. فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمّه له، فأرسلت إليه في ذلك، وقالت: أنا أُعطيك ضعف ما أُعطي رجلاً من قومك. فقال له أبو طالب: هذا رزق قد ساقه اللّه إليك.

فخرج مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به أهل العِير، حتّی قدما بُصری من أرض الشام، فنزلا في ظلّ شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه قطّ إلّا نبيّ. ثمّ قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ فقال: نعم لا تفارقه، قال: هو نبيّ، وهو آخر الأنبياء.

ثمّ باع سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاحّ، فقال له: احلف باللّات والعزّی، فقال له رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): ما حلفت بهما قطَّ، وإنّي لأمرّ فأعرض عنهما، فقال الرجل: القول قولك. ثمّ قال لميسرة: هذا واللّه نبيّ تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم.

وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحرّ، يری ملكين يظلّان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من الشمس، فوعی ذلك كلّه ميسرة، وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، ودخل مكّة في ساعة الظهيرة وخديجة في علّيّةٍ لها، فرأت رسول اللّه وهو علی بعيره وملكان يظلّان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول اللّه فخبّرها بما ربحوا في تجارتهم ووجههم، فسرّت بذلك، فلمّا دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. وأخبرها بما قال الراهب نسطور، وبما قال الآخر الذي خالفه في البيع.

وكانت خديجة امرأة حازمة جادّة شريفة، مع ما أراد اللّه بها من الكرامة والخير، وهي

ص: 39

يومئذٍ أوسط قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً، وكلّ قومها كان حريصاً علی نكاحها لو قدر علی ذلك، قد طلبوا ذلك وبذلوا الأموال، فأرسلتني دسيساً إلی محمّد(صلی الله علیه و آله) بعد أن رجع من الشام، فقلت: يا محمّد، ما يمنعك أن تزوّج؟ قال: ما بيدي ما أتزوّج به، قلت: فإن كُفيت ذلك ودُعيت إلی الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قال: قلت: عليَّ، قال: أفعل.

فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت الساعة كذا وكذا. فأرسلت إلی عمّها عمرو بن أسد ليزوّجها، فحضر ودخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في عمومته، فتزوّجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذٍ بنت أربعين سنة(1).

وقد روی قوم: أنّ خديجة سقت أباها الخمر، فلمّا صحا ندم.

قال الواقدي: هذا غلط والصحيح عندنا المحفوظ عند أهل العلم أنّ عمّها زوّجها، وأنّ أباها مات قبل الفِجَار. وذكر ابن فارس: أنّ أبا طالب خطب يومئذٍ فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرّية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ(2) معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرما آمناً، وجعلنا الحكّام علی الناس. ثمّ إنّ ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه لا يوزن به رجل إلّا رجح به، وإن كان في المال قلّ فإنّ المال ظلّ زائل وأمر حائل، ومحمّد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي، وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل.

فتزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وكانت خديجة قد ذكرت أوّل ما ذكرت

للأزواج لورقة بن نوفل، فلم يقض بينهما نكاح، فتزوّجها أبو هالة، واسمه: هند، وقيل: مالك بن النبّاش، فولدت له هند وهالة وهما ذكران، ثمّ خلف عليها بعده عتيق بن عائذ المخزومي، فولدت له جارية اسمها: هند، وبعضهم يقدّم عتيقاً علی أبي هالة. ثمّ تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

ص: 40


1- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص129- 132، الوفا لابن الجوزي: رقم: 171، 172.
2- . الضئضئ: الأصل.

قال ابن إسحاق: فولدت له ولده كلّهم إلّا إبراهيم: زينب ورقيّة وأُمّ كلثوم وفاطمة والقاسم، وبه كان يُكنّی، والطاهر، والطيّب؛ وهلك هؤلاء الذكور في الجاهلية، وأدرك الإناث الإسلام، فأسلمن وهاجرن معه. وقال غيره: الطيّب والطاهر لقبان لعبد اللّه، ووُلد في الإسلام.

وأمّا منزل خديجة فإنّه يُعرف بها اليوم، اشتراه معاوية فيما ذُكر، فجعله مسجداً يصلّي فيه الناس، وبناه علی الذي هو عليه اليوم ولم يغيّره.

أخبرنا محمّد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحارث بن أبي أُسامة، قال: أخبرنا محمّد بن سعد، قال: أخبرنا هشام بن محمّد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: كان أوّل ولد وُلد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بمكّة قبل النبوّة: القاسم، وبه كان يُكنّی، ثمّ وُلد له زينب، ثمّ رقيّة، ثمّ فاطمة، ثمّ أُمّ كلثوم، ثمّ وُلد له في الإسلام عبد اللّه، فسُمّي الطيّب والطاهر، وأُمّهم جميعاً خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ، وأُمّها فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ.

وكان أوّل من مات من وُلده: القاسم، ثمّ مات عبد اللّه بمكّة، فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع ولده فهو أبتر، فأنزل اللّه : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)(1).

قال محمّد بن سعد: وأخبرنا محمّد بن عمر قال: حدّثني عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن محمّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: مات القاسم وهو ابن سنتين(2).

وقال محمّد بن عمر: وكانت سلمی مولاة صفيّة بنت عبد المطّلب تقبّل خديجة في ولادها، وكانت تعقّ عن كلّ غلام شاتين وعن الجارية شاة، وكان بين كلّ ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم، وتُعِدّ ذلك قبل ولادتها(3).

ص: 41


1- . الکوثر: 3.
2- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص133.
3- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص133-134.

فهرس المصادر

1. الطبقات الكبرى (الطبقه الخامسة من الصحابة)، محمّد بن سعد الزهري (كاتب الواقدي) (ت230)، تحقیق: محمّد بن صامل السلمي، بیروت: دار صادر، و الطائف: مكتبة الصدّیق، الطبعة الأُولى،1414ه .

2. المنتظم فى تاریخ الملوك و الأُمم، عبدالرحمن بن علي ابن الجوزي، تحقیق: محمّد عبدالقادر عطا، بیروت: دار الكتب العلمیة، 1412ه .

3. وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، نور الدین علي بن أحمد السمهودي (ت911ه )، تحقیق: محمّد محیي الدین عبد الحمید، بیروت: دار إحیاء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1401ه .

ص: 42

ص: 43

5. ذکر نکاح النبي(صلی الله علیه و آله) خدیجة- ابن الأثیر

ملخّص البحث:

يحتوي النصّ الذي بين أيدينا على ما نقله الرواة بشأن زواج النبي(صلی الله علیه و آله) من خديجة بنت خويلد، وذكر فيه أنّ خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال، وتستأجر في مالها وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم منه. فلمّا بلغها عن رسول اللّه صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلی الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة. ثمّ أنّها بعد ذلك أرسلت إلی النبي(صلی الله علیه و آله) عارضة عليه الزواج منها، فأخبر أعمامه بالأمر، وخرج معه حمزة بن عبد المطّلب وأبو طالب، وغيرهما من عمومته، حتّی دخل علی خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوّجها، فولدت له أولاده كلّهم إلّا إبراهيم: زينب، ورقيّة، وأُمّ کلثوم، وفاطمة، والقاسم وبه كان يُكنّی. وعبد اللّه والطاهر والطيّب. وقيل إنّ عبد اللّه وُلد في الإسلام هو والطاهر والطيّب؛ فأمّا القاسم والطاهر والطيّب فهلكوا في الجاهلية ، وأمّا بناته فكنّ أدركن الاسلام فأسلمن وهاجرن معه.

ونكح رسول اللّه خديجة بنت خويلد وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذٍ ابنة أربعين سنة؛ وسبب ذلك أنّ خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصي

ص: 44

كانت امرأة تاجر ذات شرف ومال، وتستأجر في مالها وتضاربهم إيّاه بشيءٍ تجعله لهم

منه، وكانت قريش تجّاراً، فلمّا بلغها عن رسول اللّه صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلی الشام تاجراً وتُعطيه أفضل ما كانت تُعطي غيره، مع غلامها ميسرة، فأجابها وخرج معه ميسرة حتّی قدم الشام، فنزل رسول اللّه في ظلّ شجرة قريباً من صومعة راهب، فأطلع الراهب رأسه إلی ميسرة فقال: من هذا؟ فقال ميسرة: هذا رجل من قريش، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلّا نبيّ.

ثمّ باع رسول اللّه واشتری وعاد، فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة يری ملكين يظلّانه من الشمس وهو علی بعيره، فلمّا قدم مكّة ربحت خديجة ربحاً كثيراً، وحدّثها ميسرة عن قول الراهب وما رأی من إظلال الملكين إيّاه.

وكانت خديجة امرأة حازمة عاقلة شريفة، مع ما أراده اللّه من كرامتها، فأرسلت إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فعرضت عليه نفسها(1)، وكانت أوسط نساء قريش نسباً وأكثرهنّ مالاً وشرفاً، وكلّ قومها كان حريصاً علی ذلك منها لو يقدر عليه، فلمّا أرسلت إلی النبيّ قال لأعمامه، وخرج معه حمزة بن عبد المطّلب وأبو طالب وغيرهما من عمومته، حتّی دخل علی خويلد بن أسد فخطبها إليه، فتزوّجها فولدت له أولاده كلّهم إلّا إبراهيم: زينب ورقيّة وأُمّ كلثوم وفاطمة والقاسم، وبه كان يُكنّی، وعبد اللّه والطاهر والطيّب. وقيل: إنّ عبد اللّه وُلد في الإسلام، هو والطاهر والطيّب، فأمّا القاسم والطاهر والطيّب فهلكوا في الجاهلية، وأمّا بناته فكنّ أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه.

وقيل: إنّ الذي زوّجها عمّها عمرو بن أسد، وأنّ أباها مات قبل التجارة. قال الواقدي: وهو الصحيح؛ لأنّ أباها توفّي قبل الفِجَار، وكان منزل خديجة يومئذٍ المنزل الذي يُعرف بها اليوم، فقال: إنّ معاوية اشتراه وجعله مسجداً يصلّي فيه. وكان الرسول بين خديجة وبين النبي، نفيسه بنت منيّة أُخت يعلّی بن منيّة، وأسلمت يوم الفتح فبرّها رسول اللّه وأكرمها.

ص: 45


1- . عرضت نفسها بواسطة نفیسة بنت منیة، أُخت یعلّی بن منیة، کما سیذکره المصنّف.

6. تزویجه(علیها السلام) خدیجة بنت خویلد بن أسد بن العُزّی بن قصيّ

* تزویجه(علیها السلام) خدیجة بنت خویلد بن أسد بن العُزّی بن قصيّ(1)

أبو الفداء إسماعیل بن کثیر (701 -747ه )

ملخّص البحث:

يقتصر هذا البحث على نقل نصوص تاريخية عن كتب أُخرى سابقة عليه من كتب التاريخ والسيرة، من غير أن يبدي رأياً في تأييد تلك النصوص أو رفضها، أو إبداء ملاحظات أو اعتراضات عليها. كما أنّه يتحاشى التشكيك في أيٍّ من تلك النصوص، ولم يتوقّف عند أيٍّ منها، ولم يوجّه نقداً ولم يأتِ بما يتعارض حتّى مع تلك المرويات التي تتعارض مع ما هو مشهور في كتب التاريخ. فهذا النصّ الذي بين أيدينا مجرّد نقل وتكرار لنصوص سابقة عليه، ولا يختلف عنها في شيء سوى التقديم والتأخير، وفقاً لما يرتئيه من تبويبه للموضوعات.

قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال على مالها مضاربةً، فلمّا بلغها عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مالٍ تاجراً إلى الشام وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجّار، مع غلامٍ لها يقال له ميسرة، فقبله رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) منها، وخرج في مالها ذاك وخرج معه غلامها ميسرة، حتّى نزل الشام، فنزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في ظلّ شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فاطّلع الراهب إلى ميسرة فقال: مَن هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل

ص: 46


1- السیرة النبویة، تحقیق: مصطفی عبد الواحد، بیروت: دار إحیاء التراث: ج1 ص262 - 267.

الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلّا نبيّ(1).

ثمّ باع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سلعته يعنى تجارته التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثمّ أقبل قافلاً إلى مكّة ومعه ميسرة. فكان ميسرة فيما يزعمون إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحرّ، يرى مَلَكين يظلّانه من الشمس وهو يسير على بعيره.

فلمّا قدم مكّة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعف أو قريباً، وحدّثها ميسرة عن قول الراهب، وعمّا كان يرى من إظلال الملائكة إيّاه، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد اللّه بها من كرامتها، فلمّا أخبرها ميسرة ما أخبرها، بعثت إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عمِّ، إنّي قد رغبت فيك لقرابتك ووِسطتك(2) في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثمّ عرضت نفسها عليه. وكانت أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهنّ شرفاً وأكثرهنّ مالاً، كلّ قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه.

فلمّا قالت ذلك لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمّه حمزة حتّى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه، فتزوّجها عليه الصلاة والسلام.

قال ابن هشام: فأصدقها عشرين بكرة، وكانت أوّل امرأة تزوّجها، ولم يتزوّج عليها غيرها حتّى ماتت.

قال ابن إسحاق: فولدت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وُلده كلّهم إلّا إبراهيم: القاسم وكان به يُكنّى، والطيّب، والطاهر، وزينب، ورقيّة، وأُمّ كلثوم، وفاطمة.

قال ابن هشام: أكبرهم القاسم، ثمّ الطيّب، ثمّ الطاهر. وأكبر بناته رقيّة، ثمّ زينب، ثمّ أُمّ كلثوم، ثمّ فاطمة.

قال البيهقي عن الحاكم: قرأتُ بخطّ أبي بكر بن أبي خيثمة: حدّثنا مصعب بن عبد

اللّه الزبيري، قال: أكبر ولده عليه الصلاة والسلام القاسم، ثمّ زينب، ثمّ عبد اللّه، ثمّ أُمّ

ص: 47


1- . يريد: ما نزل الآن، وإلّا فلم یخل أن ينزل تحتها کثير من الناس غير أنبياء.
2- . وَسِطتك: توسّطك في قومك وکونك من أعرقهم. وتُروی: وصیتك.

كلثوم، ثمّ فاطمة، ثمّ رقيّة. وكان أوّل من مات من ولده القاسم، ثمّ عبد اللّه.

وبلغت خديجة خمساً وستّين سنة، ويقال خمسين، وهو أصحّ. وقال غيره: بلغ القاسم أن يركب الدابّة والنجيبة، ثمّ مات بعد النبوّة، وقيل: مات وهو رضيع، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنّ له مرضعاً في الجنّة يستكمل رضاعَه». المعروف أنّ هذا في حق إبراهيم.

وقال يونس بن بكير: حدّثنا إبراهيم بن عثمان عن القاسم، عن ابن عبّاس، قال: ولدت خديجة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) غلامين وأربع نسوة: القاسم، وعبد اللّه، وفاطمة، وأُمّ كلثوم، وزينب، ورقيّة.

وقال الزبير بن بكار: عبد اللّه هو الطيّب وهو الطاهر؛ سُمّي بذلك لأنّه وُلد بعد النبوّة. [وأمّا الباقون] فماتوا قبل البعثة، وأمّا بناته فأدركن البعثة ودخلن في الإسلام، وهاجرن معه(صلی الله علیه و آله).

قال ابن هشام: وأمّا إبراهيم، فمن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية من كورة أنضاء(1).

وسنتكلّم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك في آخرة السيرة إن شاء اللّه تعالى، وبه الثقة.

***

قال ابن هشام: «وكان عمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حين تزوّج خديجة خمساً وعشرين سنة، فيما حدّثني غير واحد من أهل العلم، منهم أبو عمرو المدني». وقال يعقوب بن سفيان: «كتبتُ عن إبراهيم ابن المنذر: حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي، حدّثني غير واحد أنّ عمرو بن أسد زوّج خديجة من رسول اللّه(صلی الله

علیه و آله) وعمره خمس وعشرون سنة، وقريش تبني الكعبة». وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم أنّه كان عمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حين تزوّج خديجة خمساً وعشرين سنة، وكان عمرها إذ ذاك خمساً وثلاثين، وقيل: خمساً وعشرين سنة.

ص: 48


1- . مدینة بالصعید شرق النیل.

وقال البيهقي «باب ما كان يشتغل به رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قبل أن يتزوّج خديجة»: «أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن عبد اللّه، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدّثنا سويد بن سعيد، حدّثنا عمرو بن أبي يحيى بن سعيد القرشي، عن جدّه سعيد عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): "ما بعث اللّه نبيّاً إلّا راعي غنم"، فقال له أصحابه: وأنت يا رسول اللّه؟ قال: "وأنا رعيتها لأهل مكّة بالقراريط". رواه البخاري عن أحمد بن محمّد المكّي عن عمرو بن يحيى به».

ثمّ روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر وهو ضعيف عن أبي الزبير عن جابر، قال: «قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): "آجرتُ نفسي من خديجة سفرتين بقلوص"».

وروى البيهقي من طريق حمّاد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عبّاس: «إنّ أبا خديجة زوّج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو أظنّه قال سكران».

ثمّ قال البيهقي: «أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطّان، أنبأنا عبد اللّه بن جعفر، حدّثنا يعقوب بن سفيان، قال: حدّثني إبراهيم بن المنذر، حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي، حدّثني عبد اللّه بن أبي عُبيد بن محمّد بن عمّار بن ياسر عن أبيه، عن مقسم بن أبي القاسم مولى عبد اللّه بن الحارث بن نوفل، أنّ عبد اللّه بن الحارث حدّثه أنّ عمّار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدّث به الناس عن تزويج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خديجة وما يكثرون فيه، يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إيّاها، إنّي كنت له ترباً، وكنت له إلفاً وخدناً، وإنّي خرجت مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ذات يوم حتّى

إذا كنّا بالحزورة أجزنا على أُخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها، فنادتني فانصرفت إليها، ووقف لي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فقالت: أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟

قال عمّار: فرجعت إليه فأخبرته فقال: بلى لعمري. فذكرت لها قول رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا. فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا أبا خديجة حلّة وصُفّرت لحيته، وكلّمت أخاها فكلّم أباه وقد سُقي خمراً، فذكر له رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ومكانه، وسأله أن يزوّجه، فزوّجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاماً، فأكلنا منه،

ص: 49

ونام أبوها ثمّ استيقظ صاحياً، فقال: ما هذه الحلّة وما هذه الصفرة وهذا الطعام؟ فقالت له ابنته التي كانت قد كلّمت عمّاراً: هذه حلّة كساكها محمّد بن عبد اللّه ختنك، وبقرة أهداها لك، فذبحناها حين زوّجته خديجة. فأنكر أن يكون زوّجه، وخرج يصيح حتّى جاء الحجر، خرج بنو هاشم برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فجاؤوه فكلّموه، فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أنّي زوّجته خديجة؟ فبرز له رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فلمّا نظر إليه قال: إن كنت زوّجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوّجته».

وقد ذكر الزهري في سيره أنّ أباها زوّجها منه وهو سكران. وذكر نحو ما تقدّم.

حكاه السهيلي.

قال المؤمّلي: «المجتمع عليه أنّ عمّها عمرو بن أسد هو الذي زوّجها منه، وهذا هو الذي رجّحه السهيلي، وحكاه عن ابن عبّاس وعائشة، قالت: وكان خويلد مات قبل الفِجَار، وهو الذي نازع تُبّعاً حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش، ثمّ رأى تبع في منامه ما روّعه، فنزع عن ذلك وترك

الحجر الأسود مكانه».

وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة أنّ أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فاللّه أعلم.

ص: 50

ص: 51

7. باب سفره إلی الشام ثانیاً - ابن برهان الحلبي

ملخّص البحث:

هنا سردٌ لقصّة سفر النبي(صلی الله علیه و آله) إلى بلاد الشام مضارباً بأموال خديجة التي انتدبته إلى هذا العمل بعدما سمعت عن أمانته واستقامته. وقد حصلت لمحمّد(صلی الله علیه و آله) في هذا السفر كرامات، وجاءت بشأنها أخبار يندرج بعضها في سياق المعقولات، والآخر منها يدخل في عداد الأساطير والمبالغات. وهو هنا يجري تمحيصاً سطحياً وغربلة للأخبار، ومقارنة بينها لاستجلاء حقيقة الأمر. أمّا بالنسبة إلى خديجة، فقد كانت امرأة حازمة جلدة، وهي يومئذٍ أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهنّ شرفاً وأكثرهنّ مالاً وأحسنهنّ جمالاً، وكانت تُدعی في الجاهلية بالطاهرة. بعدما عرضت على النبي(صلی الله علیه و آله) الزواج منها، جاء مع عمومته خاطبين، وتمّ الزواج، وأنجبت له أولاده كلّهم ما عدا إبراهيم الذي كانت أُمّه مارية القبطية. ونقل الآراء المختلفة في عمر خديجة يوم زواجها من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

وذلك مع ميسرة غلام خديجة بنت خويلد(علیها السلام)، لمّا بلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خمسا وعشرين سنة؛ أي علی الراجح من أقوالٍ ستّة(1)، وعليه جمهور العلماء، وتلك أقوال

ص: 52


1- .والتي ترجّحت فیها سنّه بین إحدی وعشرین وثلاثین.

ضعيفة لم تقم لها حجّة علی ساق، وليس له(صلی الله علیه و آله) اسم بمكّة إلّا الأمين؛ لما تكامل فيه من خصال الخير كما تقدّم. وسبب ذلك أنّ عمّه أبا طالب قال له: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي وقد اشتدّ الزمان(1) - أي القحط - وألحّت علينا - أي أقبلت ودامت - سنون منكرة - أي شديدة الجدب - وليس لنا مادّة - أي ما يمدّنا وما يقوّمنا ولا تجارة، وهذه عِير قومك - وتقدّم أنّها الإبل التي تحمل الميرة، وفي رواية عِيرات جمع عِير - قد حضر خروجها إلی الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عِيراتها فيتّجرون لها في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضّلتك علی غيرك؛ لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت لأكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا تجد لك من ذلك بدّاً. فقال له رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): فلعلّها ترسل إليَّ في ذلك، فقال أبو طالب: إنّي أخاف أن تولّی غيرك فتطلب أمراً مدبراً.

فافترقا، فبلغ خديجة(علیها السلام) ما كان من محاورة عمّه أبي طالب له، فقالت: ما علمت أنّه يريد هذا. ثمّ أرسلت إليه(صلی الله علیه و آله) فقالت: إنّي دعاني إلی البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أُعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك. ففعل رسول اللّه، ولقي عمّه أبا طالب فذكر له ذلك، فقال: إنّ هذا لرزق ساقه اللّه إليك. فخرج(صلی الله علیه و آله) مع غلامها ميسرة؛ أي يريد الشام، وقالت خديجة لميسرة: لا تعصِ له أمراً ولا تخالف له رأياً. وجعل عمومته يوصون به أهل العِير؛ أي ومن حين سيره(صلی الله علیه و آله) أظللته الغمامة.

فلمّا قدم(صلی الله علیه و آله) الشام نزل في سوق بُصری في ظلّ شجرة قريبة من صومعة راهب يقال له نسطورا؛ أي بالقصر، فاطّلع الراهب إلی ميسرة - وكان يعرفه - فقال: يا ميسرة، من هذا الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبيّ؛ أي صانها اللّه تعالی عن أن ينزل تحتها غير نبيّ، ثمّ قال له: أفي عينيه حمرة؟ قال ميسرة: نعم لا تفارقه، فقال الراهب: هو هو،

ص: 53


1- .إضافة الشارح.

وهو آخر الأنبياء، ويا ليت أنّي أُدركه حين يُؤمر بالخروج؛ أي يبعث، فوعی ذلك ميسرة؛ أي والحمرة كانت في بياض عينيه، وهي الشكلة(1)، ومن ثمّ قيل في وصفه(صلی الله علیه و آله): أشكل العينين، فهذه الشكلة من علامات نبوّته في الكتب القديمة؛ أي وقد تقدّم ذلك.

قال: وفي الشرف للنيسابوري: فلمّا رأی الراهب الغمامة تظلّله فزع وقال: ما أنتم عليه؟ - أي أيّ شيء أنتم عليه - قال ميسرة غلام خديجة(علیها السلام): فدنا إلی النبي سرّاً من ميسرة وقبّل رأسه وقدمه، وقال: آمنتُ بك وأنا أشهد أنّك الذي ذكره اللّه في التوراة(2). ثمّ قال: يا محمّد، قد عرفت فيك العلامات كلّها؛ أي العلامات الدالّة علی نبوّتك المذكورة في الكتب القديمة، خلا خصلة واحدة، فأوضح لي عن كتفك. فأوضح له فإذا هو بخاتم النبوّة يتلألأ، فأقبل عليه يقبّله ويقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّك رسول اللّه، النبيّ الأُمّي الذي بشّر بك عيسی بن مريم، فإنّه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلّا النبيّ الأُمّي الهاشمي العربي المكّي، صاحب الحوض والشفاعة، وصاحب لواء الحمد. انتهی.

أقول: قال في النور(3): ولم أجد أحداً عدّ هذا الراهب الذي هو نسطورا في الصحابة؟رضهم؟، كما عدّ بعضهم فيها بحيرا الراهب، وينبغي أن يكون هذا مثله، هذا كلامه. وقد قدّمنا أنّه سيأتي أنّ بحيرا ونسطورا ونحوهما ممّن صدّق بأنّه(صلی الله علیه و آله) نبيّ هذه الأُمّة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام، فضلاً عن كونه صحابياً؛

لأنّ المسلم من أقرّ برسالته(صلی الله علیه و آله) بعد وجودها، إلی آخر ما يأتي.

ومن ثمّ ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة أنّ بحيرا ممّن ذُكر في كتب الصحابة غلطاً. قال: لأنّ تعريف الصحابي لا ينطبق عليه، وهو مسلم لقی النبي مؤمناً به ومات علی ذلك. قال: فقولي «مسلم» يُخرج من لقيه مؤمناً به قبل أن يُبعث كهذا الرجل؛

ص: 54


1- .الشکلة: الحمرة في بیاض، جمعها: شُکل.
2- .جاء ذکره في الإنجیل، ولمّا کان الکتابان یُدعیان «الکتاب المقدّس»، فقد توهّموا بالاسم.
3- .نور الحدیقة للسیوطي.

يعني بحيرا. هذا كلامه ومراده ما ذكرنا.

ولعلّ نسطورا هذا هو الذي تُنسب إليه النسطورية من النصاری(1)، فإنّ النصاری افترقت ثلاث فرق: نسطورية(2)، قالوا: «عيسی ابن اللّه»، ويعقوبية(3)، قالوا: «عيسی هو اللّه هبط إلی الأرض ثمّ صعد إلی السماء»، وملكانية(4)، قالوا: عيسی عبد اللّه ونبيّه». زاد بعضهم فرقة رابعة وهم إسرائيلية، قالوا: «هو إله وأُمّه إله واللّه إله».

هذا وفي القاموس: النُّسطورية - بالضمّ ويُفتح - : أُمّة من النصاری تخالف بقيّتهم، وهم أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في أيّام المأمون وتصرّف في الإنجيل برأيه، وقال: إنّ اللّه واحد ذو أقانيم(5) ثلاثة، وهو بالرومية نسطورس. كما افترقت اليهود ثلاث فرق، فإنّها افترقت إلی قرّائية وربّانية وسامرية.

ولا يخفی أنّ بقاء تلك الشجرة هذا الزمن الطويل قبل عيسی وبعده إلی زمن نبيّنا(صلی الله علیه و آله) علی خلاف العادة، وصرف غير الأنبياء عن النزول تحت تلك الشجرة، وكذا صرف الأنبياء الذين وُجدوا بعد عيسی علی ما تقدّم عن النزول تحت تلك الشجرة بعد عيسی الذي دلّت عليه الرواية الأُولی والرواية الثانية، ممكن، وإن كانت الشجرة لا تبقی في العادة هذا الزمن الطويل(6)، ويبعد في العادة أن تكون شجرة تخلو عن أن ينزل تحتها أحد غير الأنبياء؛ لأنّ هذا الأمر مع كونه خارقاً للعادة والأنبياء لهم خرق

ص: 55


1- .هذا غیر صحیح؛ لأنّ نسطور هو بطریرك القسطنطینیة بین 428-430، وعاش في القرن الخامس المیلادي، وقد حرمه المجمع المسکوني عام 431م.
2- .النسطوریة والنساطرة: طائفة من المسیحیین الآشوریین ینتسبون إلی نسطور بطریرك القسطنطینیة.
3- .یعقوبیة أو یعاقبة: طائفة قالت بالطبیعة الواحدة، وینتسبون إلی یعقوب البردعي أسقف الرُّها، ویُسمّون السریان القدیم أو الأرثوذکس؛ تمییزاً عن السریان الکاثولیك.
4- . ملکانیة أو ملکیون: المسیحیون الذین خضعوا للمجمع الخلقیدوني عام 451م، الذي انحاز إلیه الملك مرقیانوس، وهم في طاعة بطریرك إنطاکیة.
5- . الأقنوم: کلمة سریانیة؛ معناها الشخص والأصل.
6- . واحتمال بقائها أنّها کانت شجرة زیتون؛ لأنّ شجر الزیتون یُعمّر ثلاثة آلاف سنة. هذا ما جاء في السیرة النبویة والآثار المحمّدیة: ج1 ص102.

العوائد سيّما نبيّنا(صلی الله علیه و آله).

وبهذا يُرَدّ قول السهيلي: يريد ما نزل تحت هذه الشجرة الساعة إلّا نبيّ، ولم يرد: ما نزل تحتها قطّ إلّا نبي؛ لبعد العهد بالأنبياء: قبل ذلك، وإن كان في لفظ الخبر «قطّ»؛ أي كما تقدّم، فقد تكلّم بها علی جهة التأكيد للنفي، والشجرة لا تُعمّر في العادة هذا العمر الطويل حتّی يُدری أنّه لم ينزل تحتها إلّا عيسی أو غيره من الأنبياء، ويبعد في العادة أيضاً أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد حتّی يجيء نبيّ.هذا كلامه.

وقد يقال: يجوز أن تكون تلك الشجرة كانت شجرة زيتون، فقد ذُكر أنّ شجرة الزيتون تُعمّر ثلاثة آلاف سنة. علی أنّ في بعض الروايات: ونزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تحت شجرة يابسة نحر عودها، فلمّا اطمأنّ تحتها اخضرّت ونوّرت واعشوشب ما حولها، وأينع ثمرها وتدلّت أغصانها ترفرف علی رسول اللّه.

قال بعضهم: المختار عند جمهور المحقّقين من أهل السنّة أنّ كلّ ما جاز وقوعه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المعجزات، جاز للأولياء مثله من الكرامات، بشرط عدم التحدّي؛ لأنّ المعجزة يعتبر فيها التحدّي وأن تكون بعدالنبوّة وما قبل النبوّة، كما هنا يقال له: إرهاص(1).

وحينئذٍ لا يُستبعد ما ذُكر عن الشيخ رسلان أنّه كان إذا استند إلی شجرة يابسة قد ماتت، تورق ويخرج ثمرها في الحال، علی أنّه سيأتي في الكلام علی غزاة الخندق، أنّ كرامات الأولياء معجزات لأنبيائهم.

ولمّا رأی الراهب ما ذُكر، لم يتمالك الراهب أن انحدر من صومعته وقال له: باللّات والعزّی ما اسمك؟ فقال له: إليك عنّي ثكلتك أُمّك! ومع ذلك الراهب رقّ مكتوب، فجعل ينظر في ذلك الرقّ، ثمّ قال: هو هو ومنزل التوراة! فظنّ بعض القوم أنّ الراهب يريد بالنبي مكراً، فانتضی سيفه وصاح: يا آل غالب يا آل غالب، فأقبل الناس يهرعون إليه من كلّ ناحية يقولون: ما الذي راعك؟ فلمّا نظر الراهب إلی ذلك أقبل

ص: 56


1- . الإرهاص: التأسیس والتثبیت.

يسعی إلی صومعته، فدخلها وأغلق عليه بابها، ثمّ أشرف عليهم فقال: يا قوم، ما الذي راعكم منّي؟ فوالذي رفع السماوات بغير عمدٍ إنّي لأجد في هذه الصحيفة أنّ النازل تحت هذه الشجرة هو رسول ربّ العالمين، يبعثه اللّه بالسيف المسلول وبالريح الأكبر، وهو خاتم النبيّين، فمن أطاعه نجا، ومن عصاه غوی.

ثمّ حضر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سوق بُصری، فباع سلعته التي خرج بها واشتری. قال: ولم أقف علی تعيين ما باعه وما اشتراه. انتهی.

وكان بينه(صلی الله علیه و آله) وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل لرسول اللّه: احلف باللّات والعزّی، فقال النبي(صلی الله علیه و آله): ما حلفت بهما قطّ، فقال الرجل: القول قولك، ثمّ قال الرجل لميسرة وقد خلا به: يا ميسرة، هذا نبيّ، والذي نفسي بيده إنّه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتاً؛ أي في الكتب. فوعی ميسرة ذلك.

وقبل أن يصلوا إلی بُصری عيي بعيران لخديجة وتخلّف معهما ميسرة، وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في أوّل الركب، فخاف ميسرة علی نفسه وعلی البعيرين، فانطلق يسعی إلی رسول اللّه، فأخبره بذلك، فأقبل رسول اللّه إلی البعيرين، فوضع يده

علی أخفافهما وعوّذهما، فانطلقا في أوّل الركب ولهما رغاء(1).

قال: وفي الشرف: أنّهم باعوا متاعهم وربحوا ربحاً ما ربحوا مثله قطّ. قال ميسرة: يا محمّد، اتّجرنا لخديجة أربعين سنة ما ربحنا ربحاً قطّ أكثر من هذا الربح علی وجهك. انتهی.

أقول: لا يخفی ما في قول ميسرة: «اتّجرنا لخديجة أربعين سنة»، ولعلّها مصحّفة عن سفرة، أو هو علی المبالغة، واللّه أعلم.

ثمّ انصرف أهل العِير جميعاً راجعين مكّة، وكان ميسرة يری ملكين يظلّلانه(صلی الله علیه و آله) من الشمس وهو علی بعيره إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحرّ، وهذا هو المعنيّ بقول الخصائص الصغری: وخُصّ(صلی الله علیه و آله) بإظلال الملائكة له في سفره. ويُحتمل أنّ المراد في كلّ

ص: 57


1- .رغاء الإبل: صوتها.

سفر سافره، لكن لم أقف علی إظلال الملائكة له في غير هذا السفرة.

وقد ألقی اللّه تعالی محبّة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في قلب ميسرة، فكان كأنّه عبده، فلمّا كانوا بمرّ الظهران - أي وهو وادٍ بين مكّة وعسفان، وهو الذي تسمّيه العامّة بطن مرو، وهو المعروف الآن بوادي فاطمة - قال ميسرة للنبي: هل لك أن تسبقني إلی خديجة فتخبرها بالذي جری؛ لعلّها تزيدك بكرةً إلی بكرتيك؛ أي وفي رواية تخبرها بما صنع اللّه تعالی لها علی وجهك.

فركب النبي(صلی الله علیه و آله) وتقدّم حتّی دخل مكّة في ساعة الظهيرة، وخديجة في علّيّة(1) - أي في غرفة مع النساء - فرأت رسول اللّه حين دخل وهو راكب علی بعيره وملكان يظلّلان عليه، فأرته نساءها فعجبنَ لذلك، ودخل عليها رسول اللّه فخبّرها بما ربحوا، وهو ضعف ما كانت تربح، فسرّت بذلك وقالت: أين ميسرة؟ قال:

خلّفته في البادية، قالت: عجّل إليه ليعجل بالإقبال؛ وإنّما أرادت أن تعلم أهو الذي رأت أم غيره؟ فركب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وصعدت خديجة تنظر، فرأته علی الحالة الأُولی، فاستيقنت أنّه هو، فلمّا دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام.

وإلی ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:

وميسرة قد عاين الملكين إذ

أظلّاك لمّا سرت ثاني سفرة

وأخبرها ميسرة بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذي حالفه؛ أي استحلفه في البيع، وقصّة البعيرين، وحينئذٍ أعطت خديجة له(صلی الله علیه و آله) ضعف ما سمّته له؛ أي وما سمّته له ضعف ما كانت تعطيه لرجل من قومه، كما تقدّم. وقول ميسرة له(صلی الله علیه و آله) فيما تقدّم: «لعلّها تُزيدك بكرةً إلی بكرتيك»، يدلّ علی أنّها سمّت له بكرتين، وكانت تُسمّي لغيره بكرةً، وفي كلام بعضهم: وفي الروض الباسم(2): استأجرته علی أربع بكرات. وفي الجامع الصغیر ما نصّه: «آجرتُ نفسي من خدیجة سفرتین بقلوصین(3)»، ثمّ رأیت في الإمتاع ما یوافق ذلك، ونصّه: آجر(صلی الله علیه و آله)

ص: 58


1- .العلیّة: الغرفة العالیة.
2- . الروض الباسم لأبي حیّان الأندلسي، توفّي سنة 745ه- .
3- . القلوص من الإبل، أو ما یُرکب من إناثها.

نفسه من خدیجة سفرتین بقلوصین، وفي السفرة الأُولی أرسلته مع عبدها میسرة إلی سوق حُباشة؛ وهو مکان بأرض الیمن بینه وبین مکّة ستّ لیالٍ، کانوا یبتاعون فیه ثلاثة أیّام من أوّل رجب في کلّ عام، فابتاعا منه بُزّاً ورجعا إلی مکّة، فربحا ربحاً حسناً، وفي السفرة الثانیة أرسلته مع عبدها میسرة إلی الشام.

وفیه: إنّ سفره مع میسرة إلی الشام سفرةٌ ثالثةٌ، فعن مستدرك الحاکم وصحّحه وأقرّه الذهبي: عن جابر: أنّ خدیجة استأجرته(صلی الله علیه و آله) سفرتین إلی جُرش - بضمّ الجیم وفتح الراء: موضع بالیمن - کلّ سفرة بقلوص؛ وهي الشابّة من الإبل؛ وهو یفید

أنّه(صلی الله علیه و آله) سافر لها ثلاث سفرات کما تقدّم. ولعلّ سوق حُباشة هو جُرش، وإلّا لزم أن یکون(صلی الله علیه و آله) سافر لها خمس سفرات؛ أربعة إلی الیمن وواحدة إلی الشام، وما تقدّم عن الروض الباسم من أنّها استأجرته في سفرة إلی الشام بأربع بکرات، لا یناسب ما تقدّم عن میسرة.

قد جاء في بعض الروایات أنّ أبا طالب جاء لخدیجة وقال لها: هل لكِ أن تستأجري محمداً؟ فقد بلغنا أنكِ استأجرتِ فلاناً ببکرتین، ولیس نرضی لمحمّدٍ دون أربع بکرات، فقالت خديجة: «لو سألت لبعيدٍ بغيضٍ، فكيف وقد سألت لحبيبٍ قريب»؟

ثمّ لا يخفی أنّ كون سفره مع ميسرة بسوق حُباشة قبل سفره معه إلی الشام، مخالف لظاهر ما تقدّم من قول عمّه أبي طالب: «وهذه عِير قومك قد حضر خروجها إلی الشام، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها»، وقول خديجة: «ما علمت أنّه يريد هذا»، وإنّما قلنا: «ظاهر»؛ لأنّه يجوز أن يكون بعد قول أبي طالب، وقولها المذكور أرسلته مع ميسرة إلی سوق حُباشة؛ لقرب مسافته وقصر زمنه، ثمّ أرسلته مع ميسرة إلی الشام، أو كانت خديجة لا تجوّز أنّ أبا طالب يرضی بسفره إلی الشام، وأنّه يوافق علی ذلك، فليُتأمّل.

وتقدّم أنّه من حين سيره - أي من مكّة - صارت الغمامة تظلّه، فإن كانت غير الملكين فالغمامة كانت تظلّه في الذهاب والملكين يظلّانه في العود، ولعلّ عدم ذكر ميسرة لخديجة تظليل الغمامة له في ذهابه، أنّه لم يفطن لها مثلاً، ولكن سيأتي في

ص: 59

كلام صاحب الهمزية ما يدلّ علی أنّ الملكين هما الغمامة، وفيه وقوع رؤية البشر غير نبيّنا للملائكة غير جبرئيل، وسيأتي رؤية جمع من الصحابة لجبرئيل.

وفي المنقذ من الضلال للغزالي: أنّ الصوفية يشاهدون الملائكة في يقظتهم؛ أي لحصول طهارة نفوسهم وتزكية قلوبهم وقطعهم العلائق، وحسمهم موادّ أسباب الدنيا من

الجاه

والمال، وإقبالهم علی اللّه تعالی بالكلّية علماً دائماً وعملاً مستمرّاً، واللّه أعلم. قال: ولم أقف علی اسم الرجل الذي حالفه؛ أي استخلفه. وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف علی رواية صحيحة صريحة فيه بأنّه - أي ميسرة - بقي إلی البعثة. انتهی.

ثمّ إنّ خديجة ذكرت ما رأته من الآيات وما حدّثها به غلامها ميسرة لابن عمّها ورقة بن نوفل، وكان نصرانياً - أي بعد أن كان يهودياً علی ما يأتي قد تبع الكتب - فقال لها: إن كان هذا حقّاً يا خديجة إنّ محمّداً نبيّ هذا الأُمّة، وقد عرفت أنّه كائن لهذه الأُمّة نبيّ منتظر هذا زمانه.

أي وكان يتّجر قبل النبوّة قبل أن يتّجر لخديجة، وكان شريكاً للسائب بن أبي السائب صيفي(1)، ولمّا قدم عليه السائب يوم فتح مكّة، قال له: مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري - أي لا يرائي - ولا يماري - أي يخاصم صاحبه - ، وهذا يدلّ علی أنّ قوله كان: لا «يداري... إلخ» من مقوله.

وقد قال فقهاؤنا: والأصل في الشركة خبر السائب بن يزيد(2) أنّه كان شريكاً للنبي قبل البعثة، وافتخر بشركته بعد المبعث؛ أي قال: كان نعم الشريك، لا يداري ولا يماري ولا يشاري؛ والمشاراة المشاحّة في الأمر واللجاج فيه، وهو يدلّ علی أنّ ذلك كان من مقول السائب، ولا مانع أن یكون كلّ من النبي والسائب قال في حقّ الآخر: «كان لا يداري ولا يماري»، وبهذا يندفع قول بعضهم: اختلفت الروايات في هذا

ص: 60


1- . کان شریك النبي قبل المبعث بمکّة، وقیل: بل إنّ أبوه صیفي شریکه. واختلفوا في إسلامه، ولکن لأولاده صحبة.
2- .لم یکن السائب بن یزید شریکاً للنبي (أُسد الغابة: ج2 ص257)، فقد وُلد في السنة الثانیة للهجرة، وهو ترب ابن الزبیر والنعمان بن بشیر، دعا له النبي حین مرض، ورأی یومها خاتم النبوّة.

الكلام الذي هو كان خير شريك، كان لا يشاري ولا يماري، فمنهم من يجعله من قول النبي(صلی الله علیه و آله) في السائب، ومنهم من يجعله من قول السائب في حقّ النبي.

ويمكن أن لا يكون مخالفة بين السائب بن أبي السائب صيفي، وبين السائب بن يزيد؛ لأنّه يجوز أن يكون صيفي لقباً لوالده ولاسمه يزيد.

وفي الاستيعاب: وقع اضطراب، هل الشريك كان أبا السائب، أو ولده السائب بن أبي السائب، أو ولد السائب، وهو قيس بن السائب بن أبي السائب، لا أخا السائب وهو عبد اللّه بن أبي السائب. قال: وهذا اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجّة.

والسائب بن أبي السائب من المؤلّفة، أعطاه يوم الجعرانة من غنائم حنين، وبه يرد قول بعضهم أنّ السائب بن أبي السائب قُتل يوم بدر كافراً. وممّا يدلّ علی أنّ الشركة كانت لقيس بن السائب، قوله: «كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الجاهلية شريكي، فكان خير شريك، كان لا يشاريني و لا يماريني»، ووجه الدلالة أنّه سمع قوله: «كان شريكي»، وأقرّه عليه.

وذكر في الإمتاع: أنّ حكيم بن حزام اشتری من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بُزّاً من بُزّ تهامة بسوق حباشة، وقدم به مكّة، فكان ذلك سبباً لإرسال خديجة له مع عبدها ميسرة إلی سوق حُباشة؛ ليشتريا لها بُزّاً.

وفي سفر السعادة: أنّه وقع منه أنّه باع واشتری، إلّا أنّه بعد الوحي وقبل الهجرة، كان شراؤه أكثر من البيع، وبعد الهجرة لم يبع إلّا ثلاث مرّات، وأمّا شراؤه فكثير. وآجر واستأجر، والاستئجار أغلب، ووكّل وتوكّل، وكان توكّله أكثر.

باب تزوّجه خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ

فهي تجتمع معه في قصيّ. قال الحافظ ابن حجر: وهي من أقرب نسائه إليه في

ص: 61

النسب، ولم يتزوّج من ذرّية قصيّ غيرها، إلّا أُمّ حبيبة. هذا كلامه.

وعن نفيسة بنت مُنية(علیها السلام) - وهي أُخت يعلّی بن مُنية(1)، ففي الإمتاع: مُنیة أُخت يعلّی بن مُنیة، وعليه يكون ضمير «وهي» راجع لمُنیة لا لنفيسة - . قالت: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة - أي ضابطة - جلدة - أي قويّة - شريفة - أي مع ما أراد اللّه تعالی لها من الكرامة والخير - وهي يومئذٍ أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً - أي وأحسنهم جمالاً - وكانت تُدعی في الجاهلية بالطاهرة. وفي لفظٍ كان يُقال لها: «سيّدة قريش»؛ لأنّ الوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل، يقال: فلان أوسط القبيلة؛ أعرفها في نسبها، وكلّ قومها كان حريصاً علی نكاحها لو قدر علی ذلك، قد طلبوها وذكروا لها الأموال، فلم تقبل، فأرسلتني دسيساً - أي خفية - إلی محمّد بعد أن رجع في عِيرها من الشام، فقلت: يا محمّد، ما يمنعك أن تتزوّج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوّج به، قلت: فإن كُفيت ذلك ودُعيت إلی المال والجمال والشرف والكفاية، ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك - بكسر الكاف لأنّه خطاب لنفيسة - قلت: بلی، وأنا أفعل.

فذهبتُ فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا، فأرسلت إلی عمّها عمرو بن أسد ليزوّجها، فحضر، ودخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في عمومته، فزوّجه أحدهم، وهو أبو طالب علی ما يأتي، وقال في في خطبته: وابن أخي له في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك. فقال عمرو بن أسد: هذا الفحل لا يُقدع أنفُه - بالقاف والدال المهملة - ؛ أي لا يُضرب أنفه؛ لكونه كريماً؛ لأنّ غير الكريم إذا أراد ركوب الناقة الكريمة يضرب أنفه ليرتدع، بخلاف الكريم.

وكون المزوّج لها عمّها عمرو بن أسد، قال بعضهم: هو المجمع عليه. وقيل:

ص: 62


1- . اسمه یعلی بن أُمیة بن أبي عبیدة التیمي، ومُنیة أُمّه، وهي بنت غزوان وأُخت عتبة بن غزوان، وقیل غیر ذلك. شهد بدراً، وقیل: بل أسهم یوم الفتح، وشهد حنیناً والطائف وتبوك، استعمله عمر علی بعض الیمن وعثمان علی صنعاء.

المزوّج لها أخوها عمرو بن خويلد(1). وعن الزهري: أنّ المزوج لها أبوها خويلد بن أسد، وكان سكران من الخمر، فألقت عليه خديجة حلّة؛ وهي ثوب فوق ثوب؛ لأنّ الأعلی يحل فوق الأسفل، وضمّخته بخلوق؛ أي لطّخته بطيب مخلوط بزعفران، فلمّا صحا من سكره قال: ما هذه الحلّة والطيّب؟ فقيل له: لأنّك أنكحت محمّداً خديجة، وقد ابتنی بها، فأنكر ذلك، ثمّ رضيه وأمضاه؛ أي لأنّ خديجة استشعرت من أبيها أنّه يرغب عن(2) أن يزوّجها له، فصنعت له طعاماً وشراباً، ودعت أباها ونفراً من قريش، فطعموا وشربوا، فلمّا سكر أبوها قالت له: إنّ محمّد بن عبد اللّه يخطبني، فزوّجني إيّاه، فزوّجها، فخلّقته وألبسته؛ لأنّ ذلك إلباس الحلّة، وجعل الخلوق به، كان عادتهم أنّ الأب يفعل به ذلك إذا زوّج بنته، فلمّا صحا من سكره قال: ما هذا؟ قالت له خديجة: زوّجتني من محمّد بن عبد اللّه، قال: أنا أُزوّج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري! فقالت له خديجة: ألا تستحي؟ تريد أن تُسفّه نفسك عند قريش تخبرهم أنّك كنت سكران؟ فلم تزل به حتّی رضي؛ أي وهذا ممّا يدلّ علی أنّ شرب الخمر كان عندهم ممّا يُتنزّه عنه، ويدلّ له أنّ جماعة حرّموها علی أنفسهم في الجاهلية، منهم من تقدّم ومنهم من يأتي.

وفي رواية: أنّها عرضت نفسها عليه فقالت: يا ابن عمِّ إنّي قد رغبت فيك؛ لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمّه حمزة بن عبد المطّلب2، حتّی دخل علی خويلد بن أسد فخطبها إليه، فزوّجها.

أقول: قال في النور: ولعلّ الثلاثة - أي أباها وأخاها وعمّها - حضروا ذلك، فنُسب الفعل إلی كلّ واحد منهم. هذا كلامه. وفي كون المزوّج لها أبوها خويلد أو كونه حضر تزويجها نظر ظاهر؛ لأنّ المحفوظ عن أهل العلم أنّ خويلد بن أسد مات قبل حرب الفِجَار المتقدّم ذكرها. قال بعضهم: وهو الذي نازع تُبّعاً؛ أي حين أراد أخذ

ص: 63


1- . کانت خدیجة أوّلاً زوجة لعتیق بن عائذ، وولدت له ولداً هو عبد مناف، وبنتاً هي هند، ثمّ تزوّجت هند بن زرارة، فولدت له ابنة اسمها هند أیضاً، وولداً اسمه هند کذلك، ولها من هند صبیان: الطاهر وهالة.
2- . رغب عنه: لم یرضَ به.

الحجر الأسود إلی اليمن(1)، فقام في ذلك خويلد، وقام معه جماعة من قريش، ثمّ رأی تُبّع في منامه ما ردعه عن ذلك، فترك الحجر الأسود مكانه.

وعلی كون المزوّج له عمّه حمزة، اقتصر ابن هشام في سيرته(2)، وذكر أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أصدقها عشرين بكرة. وعبارة المحبّ الطبري: فلمّا ذكر ذلك لأعمامه، خرج معه منهم حمزة بن عبد المطّلب، حتّی دخل علی خويلد بن أسد فخطبها إليه ففعل، وحضره أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: الحمد للّه... القصّة، واللّه أعلم.

قال: وعن ابن إسحاق: أنّها قالت له: يا محمّد، ألا تتزوّج؟ قال: ومن؟ قالت: أنا، قال: ومن لي بك؟ أنتِ أيّم قريش(3) وأنا يتيم قريش، قالت: اخطبني... الحديث؛ أي وفيه: إطلاق اليتيم علی البالغ، وذلك بحسب ما كان، والمراد به المحتاج، وإلّا فالعرف الشرعي واللغوي خصّه بغير البالغ ممّن مات أبوه الحقيقي.

وعن بعضهم قال: مررت أنا ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) علی أُخت خديجة، فنادتني فانصرفتُ إليها، ووقفت لي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقالت: أما لصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ فأخبرته فقال: بلی لعمري. فذكرت ذلك لها، فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا. فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا خديجة حلّة. الحديث.

وفي الإمتاع، بعد أن ذكر أنّ السفير بينهما نفيسة بنت مُنیة، ذكر أنّه قيل: كان السفير بينهما غلامها، وقيل: مولاةً مولّدةً، وقد يقال: لا منافاة؛ لجواز أن يكون كلّ ممّن ذُكر كان سفيراً. وفي الشرف أنّ خديجة(علیها السلام) قالت للنبي(صلی الله علیه و آله): اذهب إلی عمّك فقل له: تعجّل إلينا بالغداة، فلمّا جاءها معه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، قالت له: يا أبا طالب، تدخل علی عمّي فكلّمه يزوّجني من ابن أخيك محمّد بن عبد اللّه، فقال أبو طالب: يا

ص: 64


1- . یروي یاقوت أنّ تُبّعاً أوّل من کساها الخصف؛ وهي حصر من خوص النخل، ثمّ کساها الأنطاع، ثمّ المعافر والوصائل؛ وهي ثیاب یمانیة، کلّ ذلك کان یراه في منامه، وردعه عن أخذ الحجر.
2- .وکذلك ابن الأثیر في ترجمة خدیجة.
3- .آم الرجل من زوجته أو المرأة من زوجها: فقدها أو فقدته؛ فهي وهو أیّم.

خديجة، لا تستهزئي، فقالت: هذا صنع اللّه. فقام فذهب وجاء مع عشرة من قومه إلی عمّها. الحديث.

وفي رواية: ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر، ولا مخالفة؛ لجواز أن يكون المراد ببني هاشم أُولئك العشرة، وأنّهم كانوا هم المراد برؤساء مضر في ذلك الوقت.

وذكر أبو الحسين بن فارس وغيره: أنّ أبا طالب خطب يومئذٍ فقال: الحمد للّه الذي جعلنا من ذرّية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد - أي معدنه - وعنصر مضر - أي أصله - وجعلنا حضنة بيته - أي المتكفّلين بشأنه - وسواس حرمه - أي القائمين بخدمته - وجعله لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا حكّام الناس. ثمّ إنّ ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه لا يُوزن به رجلٌ إلّا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال قلّ، فإنّ المال ظلٌّ زائلٌ وأمرٌ حائلٌ وعاريةٌ مسترجعةٌ، وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبةً في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنتي عشرة أُوقية ونشّاً(1)؛ أي وهو عشرون درهماً، والأُوقية أربعون درهماً؛ أي وكانت الأواقي والنشّ من ذهب، كما قال المحبّ الطبري؛ أي فيكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي. وقيل: أصدقها عشرين بكرة؛ أي كما تقدّم.

أقول: لا منافاة؛ لجواز أن تكون البكرات عوضاً عن الصداق المذكور، وقال بعضهم: يجوز أن يكون أبو طالب أصدقها ما ذُكر وزاد من عنده تلك البكرات في صداقها، فكان الكلّ صداقاً، واللّه أعلم.

قال: وما قيل: إنّ عليّاً2 ضمن المهر، فهو غلط؛ لأنّ عليّاً لم يكن وُلد علی جميع الأقوال في مقدار عمره، وبه يرد قول بعضهم، وكون علي ضمن المهر غلط؛ لأنّ عليّاً كان صغيراً لم يبلغ سبع سنين؛ أي لأنّه وُلد في الكعبة وعمره ثلاثون سنة فأكثر، وسنّه

ص: 65


1- . النشّ: وزن نواة من ذهب، وقیل: هو وزن خمسة دراهم، وقیل: هو ربع أُوقیة؛ والأُوقیة أربعون درهماً. عن ابن منظور: «إنّ النبي لم یُصدق امرأة من نسائه أکثر من اثنتي عشرة أُوقیة ونشّ، الأُوقیة أربعون والنشّ عشرون، فیکون الجمیع خمسمائة درهم». ویذکر الجوهري: النشّ عشرون درهماً، وهو نصف أُوقیة... ویسمّون الخمسة نواة.

حين تزوّج خديجة كان خمساً وعشرين سنة علی ما تقدّم، أو زيادة بشهرين وعشرة أيّام، وقيل: خمسة عشرة يوماً علی ما يأتي.

وقيل: الذي وُلد في الكعبة حكيم بن حزام، قال بعضهم: لا مانع من ولادة كليهما في الكعبة، لكن في النور حكيم بن حزام وُلد في جوف الكعبة، ولا يُعرف ذلك لغيره، وأمّا ما روي أنّ عليّاً وُلد فيها، فضعيف عند العلماء. قال النووي: وعند ذلك قال عمّها عمرو بن أسد: هو الفحل لا يُقدع أنفه، وأنكحها منه. وقيل: قائل ذلك ورقة بن نوفل؛ أي فإنّه بعد أن خطب أبو طالب بما تقدّم، خطب ورقة فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضّلنا علی ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كلّه، لا ينكر العرب فضلكم، ولا يردّ أحد من الناس فخركم وشرفكم، ورغبتنا في الاتّصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليَّ معاشر قريش أنّي قد زوّجت خديجة بنت خويلد من محمّد بن عبد اللّه.

وذكر المهر، فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمّها، فقال عمّها: اشهدوا عليَّ معاشر قريش أنّي قد أنكحت محمّد بن عبد اللّه خديجة بنت خويلد.

وأولم عليها، نحر جزوراً، وقيل: جزورين، وأطعم الناس، وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف. وفرح أبو طالب فرحاً شديداً، وقال: الحمد اللّه الذي أذهب عنّا الكرب ودفع عنّا الغموم. وهي أوّل وليمة أولمها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، أقول: ولا ينافي هذا ما تقدّم من قوله: فوجدناهم قد ذبحوا بقرةً وألبسوا خديجة

حلّة؛ لجواز أن يكون ذلك كان عند العقد، وهذا عند إرادة الدخول، ولا ينافي ذلك ما تقدّم من قوله: «وقد ابتنی بها»؛ لأنّ تلك الرواية غير صحيحة، ولا ينافي كون المزوّج له عمّه أبو طالب ما تقدّم أنّ المزوّج له عمّه حمزة؛ لجواز أن يكون حضر مع أبي طالب فنُسب التزويج إليه أيضاً، واللّه أعلم.

والسبب في ذلك - أي في عرض خديجة(علیها السلام) نفسها عليه أيضاً مع ما أراد اللّه تعالی بها من الخير - ما ذكره ابن إسحاق، قال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في

ص: 66

المسجد، فاجتمعن يوماً فيه، فجاءهنّ يهودي وقال: أيا معشر نساء قريش، إنّه يوشك فيكنّ نبيّ قرب وجودُه، فأيّتكنّ استطاعت أن تكون فراشاً له فلتفعل، فحصبته النساء - أي رمينه بالحصباء - وقبّحنّه وأغلظن له، وأغضت خديجة علی قوله، ووقع ذلك في نفسها، فلمّا أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات وما رأته هي؛ أي وما قاله لها ورقة لمّا حدّثته بما حدّثها به ميسرة ممّا تقدّم، قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقّاً ما ذاك إلّا هذا.

وذكر الفاكهي عن أنس2: أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) كان عند أبي طالب، فاستأذن أبا طالب في أن يتوجّه إلی خديجة؛ أي ولعلّه بعد أن طلبت منه الحضور إليها، وذلك قبل أن يتزوّجها، فأذن له وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة، فقال: انظري ما تقول له خديجة. فخرجت خلفه، فلمّا جاء إلی خديجة، أخذت بيده فضمّتها إلی صدرها ونحرها، ثمّ قالت: بأبي أنت وأُمّي، واللّه ما أفعل هذا الشيء، ولكنّي أرجو أن تكون أنت النبيّ الذي سيُبعث، فإن تكن هو فاعرف حقّي ومنزلتي، وادعُ الإله الذي سيبعثك لي، فقال لها: واللّه لئن كنتُ أنا هو، لقد اصطنعتِ عندي ما لا أُضيّعه أبداً، وإن يكن غيري، فإنّ الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيّعك أبداً. فرجعت نبعة وأخبرت أبا طالب بذلك.

وكان تزويجه بخديجة(علیها السلام) بعد مجيئه من الشام بشهرين أو خمسة عشر يوماً، وعمره إذا ذاك خمس وعشرون سنة علی ما هو الصحیح الذي علیه الجمهور،

کما تقدّم. زاد بعضهم علی الخمسة والعشرین سنة شهرین وعشرة أیّام، وقد أشار إلی ما تقدّم صاحب الهمزیة بقوله:

ورأته خديجة والتُّقی والزه-

د فيه سجيّة والحياء

وأتاها أنّ الغمامة والسر

ح أظلّته منهما أفياء

وأحاديث أنّ وعد رسول اللّه

بالبعث حان منه الوفاء

فدعته إلی الزواج وما أح-

سن ما يبلغ المنی الأذكياء

أي وعلّمته خديجة(علیها السلام) ذات الشرف الطاهر والمال الوافر الظاهر والحسب الفاخر والحال، أنّ التُّقی والزهد والحياء فيه سجية وطبيعة، وأتاها الخبر بأنّ الغمامة

ص: 67

والشجر أظلّته أفياء؛ أي أظلال، حالة كون تلك الأفياء من الغمامة والشجر، وفيه: أن هذا يدلّ علی أنّ الملكين هما الغمامة.

قال بعضهم: وتظليل الغمامة له كان قبل النبوّة، تأسيساً لها، وانقطع ذلك بعد النبوّة، وأتی خديجة الأحاديث والأخبار من بعض الأحبار بأنّ وعد اللّه لرسوله بالبعث والإرسال إلی الخلق قرب الوفاء به منه تعالی لرسوله، فبسبب ذلك خطبته إلی أن يتزوّج بها، وعرضت نفسها عليه، وما أحسن بلوغ الأذكياء ما يتمنّونه، وتزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهي يومئذٍ بنت أربعين سنة. قال: وقيل: خمس وأربعين سنة، وقيل: ثلاثين، وقيل: ثمان وعشرين، وقيل: خمس وثلاثين، وقيل: خمس وعشرين.

وتزوّجت قبله برجلين: أوّلهما عتيق بن عابد - بالموحّدة والمهملة، وقيل بالمثنّاة تحت والمعجمة - فولدت له بنتاً اسمها هند، وهي أُمّ محمّد بن صيفي المخزومي. وثانيهما أبو هالة، واسمه هند، فولدت له ولداً اسمه هالة وولداً اسمه هند أيضاً، فهو

هند بن هند، وكان يقول: أنا أكرم الناس أباً وأُمّاً وأخاً وأُختاً؛ أبي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) - لأنّه زوج أُمّه - ، وأُمّي خديجة، وأخي القاسم، وأُختي فاطمة.

قُتل هند هذا مع علي يوم الجمل2. وفي كلام السهيلي أنّه مات بالطاعون بالبصرة، وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفاً، فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته، فلم يوجد من يحملها، فصاحت نادبته: واهنداه بن هنداه، وا ربيب رسول اللّه، فلم تبق جنازة إلّا تُركت واحتُملت جنازته علی أطراف الأصابع؛ إعظاماً لربيب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هذا.

هذا وفي المواهب أنّها كانت تحت أبي هالة أوّلاً، ثمّ كانت تحت عتيق ثانياً، وستأتي بقيّة ترجمتها(علیها السلام) في أزواجه.

ص: 68

فهرس المصادر

1. أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّ الدین علي بن أبي الكرم محمّد الشیباني، المعروف بابن الأثیر الجَزَري (ت630ه )، تحقیق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بیروت: دار الكتب العلمیة، الطبعة الأُولى، 1415ه .

2. تراجم سیّدات البیت النبوي، عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، القاهرة: دار الحدیث، 1423ه .

3. سيرة الأئمّة الاثني عشر ، السيّد هاشم معروف الحسني (ت1984م)، بيروت: دار التعارف، 1406ه .

4. السیرة النبویة، عبد الملك بن هشام الحمیري (ابن هشام) (ت 218ه )، تحقیق: مصطفى السقّا و إبراهیم الأبیاري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

5. السیرة الحلبیة، علي بن برهان الدین الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بیروت: دار إحیاء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

6. الصحیح من سیرة النبي الأعظم، جعفر مرتضى العاملي (معاصر)، بیروت: دار الهادي، الطبعة الرابعة، 1415ه .

7. موسوعة التاریخ الإسلامي، محمّد هادي یوسفي الغروي، قم: مجمع الفكر الإسلامي، 1417ه .

ص: 69

8. خدیجة بنت خویلد أُمّ المؤمنین الأُولی ووزیر النبي(صلی الله علیه و آله)

اشارة

الدکتورة عائشة عبدالرحمن

(بنت الشاطئ)

ملخّص البحث:

استهلّت الكاتبة بحثها هذا بحديث نبوي روته عائشة نفسها، نقله أحمد في مسنده، وهو قوله صلوات اللّه عليه: «... واللّه ما أبدلني اللّه خيراً منها؛ آمنت بي حين کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، واستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها اللّه الولد دون غيرها من النساء»، للاستدلال به على جلالة قدر السيّدة خديجة ومكانتها عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأنّه ما من زوجة أُخرى من أزواجه تضاهيها في المنزلة. عموم هذا البحث ذو طابع وصفي خيالي، وبعض مشاهده موثّقة بنصوص منقولة من بطون كتب التاريخ والسير. تزوّجت خديجة قبل زواجها من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مرّتين، باثنين من سادات العرب وأشرافهم: عتيق بن عائذ بن عبداللّه المخزومي، وأبي هالة هند بن زرارة التميمي. وقد وجدت في هذا الشابّ الذي كان لا يُعرف في مكّة إلّا بالأمين، صفات لم تعهدها في غيره من الرجال الذين خبرتهم وبلتهم. وبعد الإسهاب في سرد وقائع زواج النبي من خديجة،

ص: 70

انطلق البحث لتسليط الضوء على ما تلا ذلك من أحداث نزول الوحي على النبي الذي كان يسارع إلى إنباء زوجته المخلصة به، فما كان منها إلّا أن آمنت بدعوته

وعاضدته على إبلاغ الرسالة. ومن الأُمور التي يتطرّق إليها هذا البحث، الآراء التي طرحها المستشرقون في ما يخصّ زواج النبي(صلی الله علیه و آله) من خديجة، مع السعي لتفنيد بعض الآراء والتفسيرات المغلوطة.

«... واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها؛ آمنت بي حین کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، واستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها اللّه الولد دون غیرها من النساء».

من حدیث السیّدة عائشة، مرفوعاً، أخرجه الأمام أحمد في مسندها، وابن عبد البرّ في ترجمتها بالاستیعاب.

ذکری ألیمة

أینع صباه واکتمل شبابه في بیئة تَعِد أمثاله من الفتیة الهاشمیین بما شاؤوا من ملذّات، لکنّه کان یجد طعمَ الحیاة في مذاقه مرّاً کلّما عاودته ذکری بعیدة.

وما فتئت تلك الذکری تعاوده وتردّه إلی لحظة طواها الزمن منذ ثمانیة عشر عاماً، وما یزال یذکر موقفه في بقعة موحشة من الصحراء بین مکّة ویثرب أمام أُمّه آمنة، والحیاة تتسرّب من جسدها رویداً ثمّ تنطفئ إلی الأبد... .

ثمانیة عشر عاماً، وما یزال المشهد الألیم یتراءی له عبر السنین، فیری نفسه مکبّاً علی الحفرة التي ألقوا فیها جثمان الغالیة بالأبواء، ضائع الحیلة مهیض الجناح، لا یملك أن یستبقي أُمّه لحظة واحدة بعد أن حال أجلها، ولا أن یرد عنها عادیات الوحشة والبرد والظلام، بعد أن هالوا علیها الرمال.

وربّما شغلته شواغل العیش حیناً عن أشجانه، وصرفته دواعی الحیاة فترة عن تمثّل ذاك الموت الذي غال أعزّ من له أمام عینیه وبین یدیه، لکنّه لا یلبث أن یُنتزع من حاضره مُستثار الحزن، فإذا قلبه یخفق بین جوانحه شعوراً بعالم بعید، في طریق الشمال، لیطوف بمرقد الثاویة في جوف الصحراء، ثمّ ینثني مثقلاً بالأسی والشجن.

ص: 71

ما أكثر ما كان يمرّ في مكّة بالبيت المهجور الذي ضمّه وأُمّه زمناً، ثمّ أوحش من بعدها وخلا... ما أكثر ما كان ينطلق إلى المراعى خارج مكّة، فإذا حان المساء وآن له أن يثوب إلى منزله، تلبّث برهة عند مدخل البلد الحرام، وتمثّل نفسه عائداً من رحلته الأُولى إلى يثرب، وحيداً محزوناً مضاعف اليتم، يتبع جاريته «بركة» واتَى الخطو صامتاً واجماً، وهي تسعى به إلى بيت جدّه الشيخ عبد المطّلب.

وكم حاول الجدّ الرحيم أن يذود عن أُفق الغلام اليتيم تلك الرؤى الحزينة التي تروّع صباه، كم جاهد - عامين كاملين - ليضمد بيده الرقيقة ذلك الجرح الدامي في قلب حفيده الصغير العزيز!

لكنّ الزائر المرهوب الذي آلم بال الغلام فانتزع أباه ثمّ أُمّه، عاد من جديد فطوّف بحيِّ بني هاشم، وتلبّث برهة حول فراش عميدهم الشيخ عبدالمطّلب، وينذر بالرحيل.

ووقف الغلام مرّة ثانية، يرقب الحياة وهي تنطفئ فيمن كان له أبا بعد أبيه... وأصغى في وجوم حزين إلى صوت الشيخ المحتضر، وهو يدني إليه ولده أبا طالب فيوصيه بمحمّد، ابن أخيه عبداللّه، ثمّ يمضي... .

***

وانتقل الصبي من بعده إلى منزل جديد، ووجد في عمّه أباً ثالثاً، لكنّه ظلّ يفتقد الأُمّ، وبقي قلبه على الأيّام والشهور والسنين، ينزع نحو مرقدها الأخير في الأبواء... .

ولم يستطع ضجيج صبية بني هاشم في ملاعب حداثتهم، أن يمحو من مسمعه صدى الحشرجة الرهيبة التي صَكّت أُذنيه وقلبه في جوف البيداء، ولا استطاعت مشاهد الحياة الزاخرة الحافلة حول البيت العتيق في أُمّ القرى أن تطوي في متاهة النسيان ذلك المشهد الفاجع لاحتضار أُمّه وموتها قرب الأبواء(1).

ص: 72


1- . بتفصيل في كتابنا أُمّ النبيّ .

وهذا هو يقف في المساء الساجي عند مدخل مكّة شارد البال، والكون من حوله موحش واجم، يلفّه الغلَس برداء أربد، ويتنفّس فيه الصمتُ العميق شجناً وإعياءً، وتتكاثف الظلمة من حوله، فيجمع نفسه في جهد، ويأخذ طريقه إلى منزل عمّه، وفي نفسه إحساس مرهف بفراقٍ وشيك، فقد آن له أن يغادر هذا المنزل الذي آواه سبعة عشر عاماً، وحسبُ العمّ ما يحمل من أعباء بنيه الكثار... ولكن إلى أين؟ إلى الشام مؤقّتاً كما أراد له عمُّه في صباح يومه ذاك، فلقد حدّثه في مطلع الشمس عن رحلةٍ مرجوّة الخير، وقال له فيما قال:

«يا بن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا، وألحّت علينا سِنونَ منكرة، وليس لنا مال ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة تبعث رجالاً يتّجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتَها لفضّلتك على غيرك؛ لما يبلغها عنك من أمانتك وطهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود... وقد بلغني أنّها استأجرت فلاناً ببكرين، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته، فهل لك في أن أُكلّمها؟»(1).

قال محمّد: ما أحببت يا عمّ.

ترى هل كلمها العمّ واستقرّ العزم على الرحيل؟

إذن فليرحل تاركاً تدبير المستقبل للغد المطويّ في ضمير الغيب.

لقاء

القافلة تغذّ السير نحو أُمّ القرى عائدة من رحلة الصيف إلى الشام، والحداة يهزجون بأغانيهم

التي تَعِدُ الإبل بالراحة والظلّ والري، وتمنّى الركب بالأُنسِ في لقاء الأهل والأحباب.

والمسافرون قد استغرقتهم نشوة حالمة منذ بلغوا «مرّ الظهران» على مقربة من

ص: 73


1- . ابن سعد في الطبقات الکبری عن الواقدي: ج1 ص130، وابن سيّد الناس في عيون الأثر: ج1 ص57، والذي في السيرة الهاشمية: ج1 ص199، السمط الثمين للمحبّ الطبري: ص13، ط حلب، تاريخ الطبري: ج2 ص196: أنّ السيّدة خديجة هي التي عرضت عليه مباشرة أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً.

مکّة، واشرأبّت أعناقهم إلى معالمها التي لاحت لهم من بعيد، تناديهم في لهفة واشتياق... لكنّه وحده، من بين هؤلاء جميعاً، انطوى على نفسه يكابد أشجانه التي هاجها مرور القافلة قريبة من الأبواء في طريق عودتها إلى مكّة.

وعبثاً حاول تابعه المرافق أن يغريه بالتطلّع إلى أُمّ القرى، أو يشغله بالحديث عمّا ينتظره هنالك من تقدير السيّدة الثرية الكريمة، التي اختارته ليخرج في مالها إلى الشام، ووعدته بأن تعطيه ضعف ما كانت تعطي غيره ممّن استأجرتهم قبله... وقال ميسرة:

«أسرع أنا إلى سيّدتي فأُخبرها بما صنع اللّه لها على وجهك، فإنّها تعرف ذلك لك»(1).

فتركه محمّد يمضي، وفرغ لتأمّلاته:

أهذا كلّ ما ينتظر المسافر العائد من الشام؟ والحُداة يمنّون الركب بالأُنس في لقاء العشيرة والأحباب!

وكَرّ بصرهُ راجعاً إلى وراء، يتبع آثار طيف من أُمّه آمنة، بدا كأنّما يملأ فضاء الصحراء.

وتذكّر رحلته الأُولى في السادسة من عمره عائداً من يثرب بغير أُمّ!

***

حتّى علا ضجيج الركب مختلطاً بهتاف المستقبِلين ورغاء الإبل التي أناخت على ثرى مكّة مطمئنّة، فمضى محمّد على بعيره قاصداً، دار خديجة بعد أن طاف بالبيت العتيق... وكانت خديجة الطاهرة هناك في دارها، ترقب الطريق من عِلّيّةٍ لها في لهفة مشوبة بشي ء من القلق، وإلى جانبها غلامها ميسرة يملأ سمّعَها بحديث مثير عن رحلته مع محمّد.

وإذ ظهر لها أخيراً يدنو من الدار بطلعته الوسيمة وملامحه النبيلة، عَجِلت إليه تستقبله لدى الباب مرحّبة مهنّئة بسلامة العودة، في صوت يفيض عذوبة ورقة وحناناً.

ورفع إليها وجهه شاكراً وقد غضّ من بصره، ثمّ مضى يقصّ عليها أنباء رحلته وربح

ص: 74


1- . السيرة، والطبقات الکبری: ج1 ص130.

تجارته ما جاءها به من طيّبات الشام... وأنصتت إليه شبه مأخوذة، حتّى إذا ودّعها ومضى، ظلّت واقفة حيث هي، تتبعه عيناها إلى أن توارى في منعطف الطريق.

واتّجه هو إلى منزل عمّه أبي طالب وهو يحسّ شيئاً من الرضى والارتياح، أن عاد إليه من رحلته موفّقاً سالماً، لم يمسسه أذىً من يهود... .

زواج سعيد

وسارت الحياة في مکّة على وتيرتها أيّاماً، وقد عكف أصحاب الأموال على مراجعة حساباتهم وإحصاء أرباحهم أو خسارتهم، وانصرف التجّار العائدون إلى أهليهم يستجمّون من آثار سفر شاقّ طويل محفوف بالأخطار... وصُفّي حساب القافلة أو كاد، وانقطع ما بين التجّار والأجرّاء إلى حين، اللّهمّ إلّا ما كان بين السيّدة خديجة الطاهرة ومحمّد الصادق الأمين... .

لقد بلت خديجة الدنيا وعرفت الرجال، وتزوّجت مرّتين، باثنين من سادات العرب وأشرافهم: عتيق بن عائذ بن عبداللّه المخزومي، وأبي هالة هند بن زرارة التميمي(1)، واستأجرت غير واحد من الكهول والشبّان، فما رأت فيمن عرفت ذلك النمط الفريد من الرجال.

واستغرقت في تفكيرها، تستعيد صوته الفريد المميّز وهو يحدّثها عن رحلته، ويطالعها مرآه وهو مقبل عليها مل ء المهابة والجلال.

وفجأة، ألفت خواطرها تحوم حول الموضع الذي التقت فيه بالشابّ الهاشمي، فهزّها شعور مباغت، خفق له قلبها: فيم الخفقان وقد أدبر الشباب أو كاد؟

وانتفضت لا تدرى كيف تواجه دنياها بمثل هذه العاطفة، بعد أن نفضت يديها من الرجال أو خرجت - في حساب بيئتها - من حياة الرجال؟ وكيف تلقى بها قومها وقد

ص: 75


1- . هذه رواية السيرة: ج4 ص193، تاريخ الطبري: ج3 ص175، السمط الثمين: ص13، عيون الأثر: ج1 ص51. قابل على رواية الاستيعاب، وعلى رواية ابن حبيب في المحبّر. وانظر ترجمة عتيق وأبي هالة (جمهرة أنساب العرب لابن حزم: ص133 و199).

ردّت عن بابها الخُطّاب من سادة قريش وسراة مكّة؟(1)

لقد فكّرت في قومها دون أن تعرف رأى محمّد فيها، أتراه يستجيب لعاطفة أرملة كهلة في الأربعين من عمرها، وهو الذي انصرف حتّى اليوم عن عذارى مكّة وزهرات بني هاشم الناضرات؟

وانتابها ما يشبه الخجل، فما هي في كهولتها بالقياس إلى محمّد في شبابه غير خالة أو أُمّ، ولو عاشت آمنة بنت وهب لما جاوزت يومئذٍ سنّ الأربعين!... وهي بعد ليست خليّة من هموم الأُمومة، فقد ترك لها زوجها عتيق بن عائذ المخزومي ابنة أدركت سنّ الزواج، وخلّف لها زوجها أبو هالة هند بن زرارة التميمي ولدها «هندا»، غلاماً لم يشب عن الطوق(2).

فأيّ طائل وراء هذه العاطفة التي تبدو يائسة عقيماً؟

وفيما هي في حيرتها، زارتها صديقتها نفيسة بنت مُنية، فلم يغب عنها الذي تجد صاحبتها، فما زالت بها حتّى كشفت لها عن سرّها المطويّ... وهوّنت نفيسة الأمر عليها، فما في نساء قريش مَن تفوقها نسباً وشرفاً، وهي بعدُ ذات غِنىً وجمال، كلُّ

قومها حريص على الزواج منها لو يقدر عليه(3). ثمّ تركتها وقد اعتزمت أمراً... .

***

جاءت(4) محمّداً فسألته فيمَ عزوفه عن الدنيا وقضاؤه على شبابه بالحرمان؟... هلّا سكن إلى زوج تحنو عليه وتؤنسه وتزيل وحشته؟

ص: 76


1- . السيرة: ج1 ص201، السمط الثمين: ص13.
2- . انظر ترجمة أُمّ محمّد بنت عتيق في جمهرة الأنساب: ص133، وانظر ترجمة هند بن أبي هالة ربيب رسول اللّه في الاستيعاب: ج4 ص1545، وفي الجمهرة: ص199.
3- . السيرة: ج1 ص201، طبقات ابن سعد: ج1 ص131.
4- . من طبقات ابن سعد عن الواقدي: ج1 ص131، والإصابة في ترجمتي خديجة ونفيسة، والذي في سيرة ابن هشام أنّ السيّدة خديجة عرضت نفسها عليه من غير وساطة، وانظر: تاريخ الطبري: ج2 ص197، والروايتان في عيون الأثر: ج1 ص49.

فأمسك الشابّ دمعة كادت تخونه وهو يذكر ما ذاق من حرمان منذ تركته أُمّه صبيّاً في السادسة من عمره، وتكلّف الابتسام ليردّ على محدّثته:

- ما بيدي ما أتزوّج به... .

قالت على الفور:

- فإن دُعيتَ إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟

فما مسّ سؤالها أُذنيه حتّى أدرك من تعني:

تلك خديجة وربّ الكعبة، ومن سواها تدانيها شرفاً وجمالاً وكفاءةً؟

ألا لو دعته لأجاب، ولكن هل تدعوه؟

وانصرفت نفيسة وتركته مشغول البال، يرنو في رقّة إلى طيفٍ من خديجة، وقد تراءت له في وحدته طلقة المحيا باشّة الأسارير، تشعّ لطفاً وبهاءً وحنوّاً... وأشفق من أن تبعد به أمانيه، إذ كان يعلم ردّها أشراف قريش وأغنياءها، فغالب نفسه ليستردّها إلى واقعه، وانطلق يسعى نحو الكعبة، فإذا كاهنة تلقاه في طريقه فتستوقفه سائلة: جئت خاطباً يا محمّد؟

أجاب غير كذّاب: كلّا.

فتأمّلته برهة ثمّ هزّت رأسها وهي تقول: ولم؟... فواللّه ما في قريش امرأة، وإن كانت خديجة، لا تراك كفئاً لها(1).

***

ثمّ لم تك إلّا فترة قصيرة المدى، حتّى تلقّى دعوة خديجة، فسارع إليها ملبّياً وفي صحبته عمّاه أبو طالب وحمزة، ابنا عبدالمطّلب، وهناك في بيتها ألفَوا قومها ينتظرون، وكلّ شي ء مهيّأ لزواج سريع... وتكلّم أبو طالب:

«أمّا بعد: فإن محمّداً ممّن لا يُوازن به فتىً من قريش، إلّا رجح به شرفاً ونبلاً

ص: 77


1- . الروض الأنف: ج1 ص214، عيون الأثر: ج1 ص50، مع ترجمة نفيسة في نساء الإصابة: ج8 ص200، والاستيعاب: ج4 ص1919.

وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال قلّ، فإنّما المال ظلّ زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك...».

فأثنى عليه عمّها عمرو بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، وأنكحها منه على صداق قدره عشرون بكرة(1).

ولمّا انتهى العقد، نُحِرت الذبائح ودُقّت الدفوف، وفُتحت دار خديجة للأهل والأصدقاء، فإذا بينهم حليمة قد جاءت من بادية بني سعد لتشهد عرس ولدها الذي أرضعته، ثمّ لتعود في الغداة ومعها أربعون رأساً من الغنم، هبةً من العروس الكريمة لتلك التي أرضعت محمّداً زوجها الحبيب... .

وتندّت عينا محمّد وهو يتفقّد أُمّه آمنة، فإذا يد لطيفة رقيقة تأسو الجرح القديم في حنان غامر، وإذا به يجد في خديجة عوضاً جميلاً عمّا قاساه من طويل حرمان... .

***

ولم يعنِ مکّة من أمر الزوجين السعيدين، سوى أنّ زواجاً ربط بين محمّد بن عبداللّه بن عبدالمطّلب بن هاشم القرشي وخديجة بنت خويلد بن أسعد بن عبد العزّى بن قصي(2)، القريشية الطاهرة.

ولكنّ التاريخ تلبّث بعد بضع عشرة سنة، ليسترجع يوم العرس المشهود، ويُسجّله بين أيّامه الخالدات على مرّ الزمان. وقد انصرف إلى حين، تاركاً هذين الزوجين ينعمان بأطيب حياة زوجية شهدتها «مكّة، ويرتشفان على مهل، رحيق ودٍّ صافٍ عميق، سيظلّ حديث التاريخ».

واستغرقا في هناءتهما خمسة عشر عاماً، ناعمين بالأُلفة والاستقرار، وقد أتمّ اللّه عليهما

ص: 78


1- . في رواية لابن إسحاق عن الزهري أنّ أباها هو الذي زوّجها، والتفصيل في عيون الأثر: ج1 ص50، مع السيرة: ج1 ص201، وهّمه الواقدي، وقال: والثابت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أنّ أباها خويلد ابن أسد مات قبل الفِجَار، وأنّ عمّها عمرو بن أسد هو الذي زوّجها (طبقات ابن سعد: ج1 ص133).
2- . وأُمّ خديجة: فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ بن هرم بن رواحة (راجع: الاستيعاب: ج4 ص1917، وتاريخ الطبري: ج3 ص175، ونسب قريش: ص230، والمحبّر: ص12 - 18).

نعمته، فرزقهما البنين والبنات: القاسم، وعبداللّه، وزينب، ورقية، وأُمّ كلثوم، وفاطمة(1).

وأرخى الزمن لهما في حياتهما تلك الرضية الهادئة أعواماً ذات عدد، ارتوى محمّد خلالها من نبع الحنان، معوّضاً بذلك حرمان ماضٍ يتيم، ومتزوّداً لغد مقبل، حافل بالكفاح المضني والشواغل الجسام، وقد ذاقا في تلك الفترة لوعة الثكل في الولدين العزيزين، فكان للزوجين في وئامهما وتصبّرهما، ما أعانهما على تجرّع الكأس التي تدور على الناس جميعاً، فلا يعفى من شربها أحد، وما كان ولداهما إلّا وديعة، ولا بدّ يوماً أن تستردّ الودائع!(2)

مع المصطفى في ليلة القدر

ثمّ كان الحادث الخطير، لا في حياة هذه الأُسرة الوادعة فحسب، ولا في حياة قريش والعرب وحدهم، بل في حياة الإنسانية أجمع.

لقد تلقّى محمّد رسالة الوحي في ليلة القدر، واصطفاه اللّه تعالى خاتماً للنبيّين، وبعثه في الناس بشيراً ونذيراً... .

وكانت الرسالة إيذاناً بحياة جديدة، شاقّة كادحة، وبدءاً لعهد ملؤه الاضطهاد والأذى والجهاد ثمّ النصر.

وفي الحقّ لم يكن الحادث الأكبر مفاجأة للعرب، فما أكثر ما تناقلت الجزيرة أنباء إرهاصات عن نبي جديد قد حان مبعثه، وما أكثر ما تحدّث السمّار والكهّان والمتحنّفون عن رسالة سماوية منتظرة آن أوانها!(3)

ص: 79


1- . انظر السيرة: ج1 ص202، وطبقات ابن سعد: ج1 ص133، وتاريخ الطبري: ج3 ص175، والمحبّر: ص79، والاستيعاب: ج4 ص1817، ونسب قريش: ص21.
2- . لم نطل الحديث هنا عن أُبوّة محمّد وأُمومة خديجة(علیها السلام)؛ لأنّ موضع هذا الحديث يأتي في كتابنا عن بنات النبي . وذكر الطبري أنّ هند بن أبي هالة كان عند أُمّه خديجة بعد زواجها بمحمّد ، وفي ترجمة هند بطبقات الصحابة والحفّاظ وكتب الأنساب، أنّه ربيب رسول اللّه .
3- . انظر هذه المرويات بالتفصيل في الجزء الأوّل من سيرة ابن هشام، ط الحلبي، وطبقات ابن سعد، والشفا للقاضي عياض، وفي الجزء السادس عشر من نهاية الأرب للنويري، ط دار الكتب، وفي الجزء الأوّل من عيون الأثر ووفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي، ط السعادة بمصر.

ومکّة على الخصوص، كانت الموضع الذي تتلاقى فيه تلك الإرهاصات والبُشريات، وتتجمّع روافدها من هنا ومن هناك وهنالك، لتصبّ حول البيت العتيق: مثابة الحجّ ومركز العبادة من قديم العصور والآباد... غير بعيد من دار المولد وما حفّ بها من ذكرى قصّة الفداء، وبشريات الحمل والمولد والرضاعة، والرحلة إلى الشام.

لكنّ أحداً لم يكن يدري يقيناً كيف ومتى يكون المبعث المنتظر، ومن هنا كان لنزول الوحي على المصطفى، وقع المفاجئة العنيفة التي جاوزت أبعاد التصوّر، كان منذ استقرّت به الحياة في رعاية الزوج الرؤوم، وأعفته ظروفه المادّية من عناء الكفاح اليومي، قد أُتيح له أن يستجيب لما في نفسه من نزوع إلى التأمّل، وميل إلى التفكير المستغرق، وهي نزعة ظهرت فيه واضحة منذ الصبا، ووجدت في ساعات فراغه - أيّام رعيه للغنم - مجالاً رحباً، ثمّ صرفه عنها كدح العيش، لتعود فتظهر من جديد، قوية

أصيلة، كأنّما هي فطرة فيه.

و كثيراً ما حامت تأمّلاته حول الكعبة، تلك التي صنعت تاريخ مکّة وتاريخ أُسرته بوجه خاصّ(1)، ووصلت ما بين أبيه عبد اللّه وإسماعيل جدّ العرب، برباط وثيق نسجته يد الزمن طوال قرون لا عداد لها، فأحيت بحادث فداء عبد اللّه من الذبح، ذكرى متناهية في القدم، لمشهد الذبيح الأوّل: ابن إبراهيم.

وانبلج له نور الحقّ، فرفض هذه الأصنام التي تكدّست في بيت اللّه، صمّاء عمياء، لا تملك لنفسها نفعاً ولا تردّ عن نفسها ضرّاً، وأنكر أن تخف أحلام قومه، فيتعبّدوا لحجارة بالغة الهوان، ويقدّموا القرابين لأوثان وأصنام صنعوها بأيديهم، ثمّ جعلوا منها آلهة لهم وأرباباً.

وأرهف التأمّل حسّه، فإذا هو يستشفّ أدقّ ما في الكون من أسرار، ويلمح وراء جلال الليل ورهبة الصحراء وسنا الضوء وبهاء السماء، قوّة عظمى خفية، تدبّر هذا الكون وفق نظام دقيق ونواميس مطردة، (لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ الَّيْلُ

ص: 80


1- . السيرة: ج1 ص153، واقرأ الفصل الخاصّ بمكّة في كتابنا أُمّ النبيّ .

سَابِقُ النَّهَارِ وَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(1).

وما شارف الأربعين حتّى كان قد ألف الخلوة في غار حراء، واستطاب رياضته الروحية التي يحسّ خلالها كأنّما يدنو من الحقيقة الكبرى ويستجلي السرّ الأعظم، ما كانت خديجة في وقار سنّها وجلال أُمومتها لتضيق بهذه الخلوات التي تبعده عنها أحياناً، أو تعكّر عليه صفو تأملّاته بالمعهود من فضول النساء، بل حاولت ما وَسِعَها الجهد أن تحوطه بالرعاية والهدوء ما أقام في البيت، فإذا انطلق إلى غار حِراء ظلّت عيناها عليه من بعيد، وربّما أرسلت وراءه من يحرسه ويرعاه(2).

وهكذا بدا كأنّ شیئاً مهيّأ لاستقبال الرسالة المرتقبة، لكنّها رغم هذا التهيّؤ، زلزلت

حين جاءت أرجاء ذلك العالم الذي طالما أرهص بنبوّة وشيكة، وهزّت ذلك النبي المصطفى محمّد بن عبد اللّه الذي ما رضي قطّ عن موضع الأصنام بالكعبة، ولا ارتاب قطّ في أنّ حياة قومه لن تمضي هكذا على سفه وضلال... .

فلمّا نزل عليه الوحي في ليلة القدر وهو في غار حراء، انطلق يلتمس بيته في غبش الفجر خائفاً شاحباً يرجف فؤاده، حتّى بلغ حجرة زوجه وذهب عنه الروع، فحدّثها في صوت مرتجف عن كلّ ما كان، ونفض لديها مخاوفه، قال: «لقد خشيت على نفسي».

أتراه يهذي حالما؟ أم به جُنّة؟

وضمّته إلى صدرها، وقد أثار مرآه أعمق عواطف الأُمومة في قلبها، وهتفت في ثقة ويقين:

«اللّه يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا بن العمّ واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأُمّة، واللّه لا يُخزيك اللّه أبداً... إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتُقرى الضيف، وتعين على نوائب الحقّ»(3).

ص: 81


1- . يس: 40.
2- . السيرة: ج1 ص263، الدرر: ص34، الإصابة ج8 ص200.
3- . متّفق عليه من حديث بدء الوحي، ومعه السيرة: ج1 ص253، وشرحها في الروض الأنف: ج1 ص270، وابن سعد بإسناده من عدّة طرق: ج1 ص194، وتاريخ الطبري: ج2 ص205 - 207، والسمط الثمين: ص10، وعيون الأثر، والإصابة: ج8 ص200 بألفاظ متقاربة.

وزايله روعه، فما هو بالكاهن ولا به جُنّة، وهذا صوت خديجة العذب الواثق ينساب مع ضوء الفجر إلى فؤاده، فيبثّ فيه الثقة والأمن والهدوء.

وأحسّ الراحة والطمأنينة وهي تقوده في رفق إلى فراشه فتضعه فيه كما تفعل أُمّ بولدها الغالي، ثمّ تهدهده بصوتها الأليف... .

واستراحت عيناها عليه برهة وهو مستغرق في نومه الهادئ المطمئنّ، ورفرف عليه قلبها مل ء الحبّ والإيمان، ثمّ قامت فتسلّلت من المخدع على حذر، حتّى إذا بلغت الباب اندفعت إلى الطريق الخالي تحثّ خُطاها نحو ابن عمّها ورقة بن نوفل، ومكّة ما تزال تنعم بغفوة الصبح، والكون يبدأ تفتّحه للضوء والحياة.

وجاءت ورقة، فأقعدته الشيخوخة عن النهوض للقائها، لكنّه ما كاد يصغي إلى ما تتحدّث به حتّى اهتزّ منفعلاً، وتدفّقت الحيوية في بدنه الواهن، فانتفض يقول في حماسة:

«قُدّوسٌ... قُدّوسٌ، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنتِ صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى، وإنّه لنبيّ هذه الأُمّة، فقولى له فليثبت»(1).

ولم تنتظر مزيداً من قوله، ولم تستعد كلمة واحدة منه، بل أسرعت إلى زوجها الحبيب تعجّل إليه بالبشرى.

***

في حديث السيّدة عائشة عن بدء الوحي، قالت: «فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزّى، ابن عمّ خديجة، وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية... يكتب الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عمِّ، اسمع من ابن أخيك... فأخبره بخبر ما رأى وسمع، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل على موسى ، يا ليتني فيها جَذَعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يُخرجك قومك. فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أو مُخرِجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به

ص: 82


1- . السيرة: ج1 ص254، تاريخ الطبري: ج2 ص206، والحديث مخرج في الصحيحين عن عائشة، ومجال عرضه بتفصيل في كتابي: مع المصطفى .

إلّا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً»(1).

وطابت نفسه بما سمع، فانصرف إلى بيته مطمئنّاً مع زوجه أُمّ المؤمنين الأُولى، ليبدأ نضاله من أجل الدعوة، وليلقي في سبيلها أشقّ ما وعى التاريخ من أذىً واضطهاد، فما كانت قريش لترضى أن يعيب دينها ويسفّه أحلامها ويحقّر آلهتها التي

وجدوا آباءهم لها عابدين.

***

ووقفت زوجه المحبّة المؤمنة إلى جانبه، تنصر وتشدّ أزره، وتعينه على احتمال أقسى ضروب الأذى والاضطها سنين عدداً، فلمّا قُضي على بني هاشم وعبدالمطّلب أن يخرجوا من مكّة لائذين بشِعب أبي طالب بعد أن أعلنت قريش عليهم حرباً مدنية لا تُرحم، وسجّلت مقاطعتها لهم في صحيفة عُلّقت في جوف الكعبة(2)، ولم تتردّد خديجة في الخروج مع زوجها، وهكذا تخلّت عن دارها الحبيبة، مغنى صباها ومجمع هواها ومثابة ذكرياتها، وقامت تتبع رجلها ونبيّها، وقد علت بها السن وناءت بأثقال الشيخوخة والثكل والاضطهاد.

وأقامت هنالك في شِعب أبي طالب ثلاث سنين، صابرة مع زوجها النبي(صلی الله علیه و آله) ومن معه من صحبه وقومه، على عنت الحصار المنهك، وجبروت الوثنية العاتية العمياء(3).

***

عام الحزن

حتّى تهاوى الحصار أمام قوّة الإيمان الصادق والمجاهَدة الباسلة، وآن للنبي(صلی الله علیه و آله) أن يعود إلى بيته في جيرة الحرم المكّي مع زوجه المؤمنة الصابرة التي بذلت له في المنحة، ما

ص: 83


1- . متّفق عليه، وانظر السيرة: ج1 ص254، وتاريخ الطبري: ج2 ص206، 207، مع فتح الباري: ج1 ص17، وعيون الأثر: ج1 ص80.
2- . السيرة: ج1 ص375، تاريخ الطبري: ج2 ص228.
3- . السيرة، والمحبّر لابن حبيب: ص11، وفي رواية لابن سعد أنّهم أقاموا سنتين، ورواية أُخرى بلفظ «مكثوا سِنينَ»، الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص210.

أبقى لها الزمن من طاقة في عامها الخامس والستّين.

بعد نحو ستّة أشهر من انهيار الحصار، مات العمّ أبو طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، وقد كان لابن أخيه أباً صديقاً وكافلاً وحامياً، ومانعاً له من طواغيت قريش، قومه.

ولم تشهد مأتمه، كانت في فراشها تودّع الدنيا، وزوجها إلى جانبها يرعاها ويؤنس وحشة احتضارها ببشرى ما لها عند الرفيق الأعلى، ويتزوّد منها لفراق لا لقاء بعده في هذه الدنيا، ثمّ أسلمت الروح بعد ثلاثة أيّام بين يدى الزوج الذي تفانت في حبّه منذ لقيته، والنبي الذي صدّقته وآمنت برسالته من فجر ليلة القدر، وجاهدت معه حتّى الرمق الأخير من حياتها، وكانت له سكناً وأنساً وملاذاً، إلى أن رجعت نفسها المطمئنّة إلى ربّها راضية مرضية، ودفنها بالحجون.

***

كانت وفاتها(علیها السلام) ، قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح(1).

وتلفّت محمّد(صلی الله علیه و آله) حوله، فإذا الدار من بعدها موحشة خلاء، وإذا مکّة تنبو به بعد رحيلها، فليس له على أرضها مكان... .

قال ابن إسحاق: «فتتابعت على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام»(2).

وأسند الواقدي عن عبداللّه بن ثعلبة بن صُعَير2، قال: «لمّا توفّي أبو طالب وخديجة بنت خويلد، وكان بينهما شهر وخمسة أيّام، اجتمعت على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مصيبتان، فلزم بيته وأقَلّ الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع به...».

وبلغت متاعبه أقسى مداها في عام موت خديجة الذي سُمّي عام الحزن، وخيّل إلى أعدائه المشركين أنّ الظلمات تكاثفت حوله، فما عاد يبدو على الأُفق شعاع من

ص: 84


1- . ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير، عيون الأثر: ج1 ص130، والاصابة: ج8 ص62، والمحبّر لابن حبيب: ص11.
2- . السيرة: ج2 ص57، تاريخ الطبري: ج2 ص229، عيون الأثر: ج1 ص130.

ضياء، وكذّبتهم أمانيهم، فظنّوا أنّ الظفر به جدّ قريب، وما دروا أنّ الظلمة تبلغ ذروتها قبيل الفجر... .

ذلك أنّ خديجة لم تمض إلّا وأمين الوحي يرعى النبي(صلی الله علیه و آله) غادياً رائحاً، يذود عنه اليأس والإحباط، والسابقون الأوّلون من المؤمنين يحيطون بنبيّهم مستبسلين، يفتدونه بالمهج والأرواح، ويرون الاستشهاد في سبيل دعوته مجداً وانتصاراً... .

لم تمت خديجة إلّا والدعوة قد ذاعت وجاوزت مکّة إلى أطراف الحجاز، ثمّ إلى ما وراءها من بلاد العرب، وحملها فئة من صحابته عبر البيد والبحار إلى الحبشة، مهاجرين بدينهم، متخلّين عن ديارهم وأهليهم، عارضين على الدنيا مشهداً رائعاً فريداً من مشاهد الإيمان الباذل الصابر، مالئين الأسماع والقلوب بحديث مير عن صدق الجهاد ومحد التضحية وبطولة الاستشهاد.

لم تمت خديجة إلّا وفي الموسم بمكّة رجال من يثرب لن يلبثوا أن يبايعوا الرسول ويعودوا فيعبّئوا المدينة كلّها لنصرته، وأقصى أمانيهم أن يخوض بهم المعركة الباسلة، ليظفروا بإحدى الحُسنيين: النصرى على أعداء اللّه، أو الاستشهاد في سبيله... .

***

مل ء الحياة

ولكن، هل ماتت خديجة حقّاً؟ كلّا... إنّها لمثالة في حياة زوجها الرسول، فما يسير إلّا وطيف منها يتبعه، وما يسري إلّا وسنى مشرق منها يبدّد من حوله حالك الغواشي... .

وستدخل بعدها في حياته نساء ذوات عدد، لكن مكانها من قبله وفي دنياه سيظلّ أبداً خالصاً لهذه الزوج الأُولى، والحبيبة الرؤوم التي انفردت ببيت رجلها ربع قرن من الزمان، لم تشركها فيه أُخرى، ولا لاح في أُفقه ظلّ من شريكة سواها.

سوف تفد على هذا البيت بعدها أزواج أُخريات فيهنّ ذوات الصبا والجمال والحسب والجاه، ولكن واحدة منهنّ لن تستطيع أن تزحزح خديجة عن مكانها هناك، ولن تفلح في إبعاد طيفها الذي أقام أبداً يحوم حول الحبيب ويستأثر بإعزازه ما عاش.

ص: 85

وستشهده المدينة بعد أعوام عندما انتصر في بدر يتلقّى فداء الأسرى من قريش، فلا يكاد يلمح قلادة لخديجة بعثت بها ابنتها زينب في فداء زوجها الأسير أبي العاص ابن الربيع، حتّى يرقّ قلب البطل المصطفى من شجو وشجن، ويسأل أتباعه الظافرين في أن يردّوا على زينب قلادتها ويفكّوا أسيرها(1).

وسيشهد بيت النبي عائشة بنت أبي بكر في عزّة صباها ونضرة شبابها وحبّ النبي(صلی الله علیه و آله) لها، تشعلها الغيرة من تلك الضرّة التي سبقتها إلى قلب محمّد واستأثرت به وحدها حتّى يومها الأخير، ثمّ ظلّت بعد موتها حيث كانت من قبله.

فى الصحيحين من حديث عائشة، قالت: «استأذنت هالة بنت خويلد أُخت خديجة على رسول اللّه، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك فقال: اللّهمّ هالة! فغِرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر أبدلك اللّه خيراً منها؟»(2).

زادت في رواية الإمام أحمد بالمسند وابن عبد البرّ في الاستيعاب، وابن حجر في الإصابة من طريق أبي بشر الدولاني:

فتغيّر وجهه وزجر عائشة غاضباً، قال: «واللّه ما أبدلني اللّه خيراً منها؛ آمنت بي حين كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها اللّه الولد دون غيرها من النساء». وزاد الطبراني في روايته: «قالت: قلت: يا رسول اللّه،

اعف عنّي، ولا تسمعني أذكر خديجة بعد هذا اليوم بشيء تكرهه».

وكانت قبل ذاك لا تكفّ عن الكلام فيها في الصحيحين من حديثها، قالت: «ما غِرت على أحد من نساء النبي(صلی الله علیه و آله) ما غِرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي(صلی الله علیه و آله) يكثر ذكرها، وربّما ذبح الشاة ثمّ قطّعها أعضاءً ثمّ يبعثها في صدائق خديجة، فربّما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلّا خديجة، فيقول: إنّها كانت وكانت، وكان لي

ص: 86


1- . السيرة: ج2 ص207، ولحديث القلادة فصل خاصّ في كتاب بنات النبي .
2- . متّفق عليهما، من فضائلها(علیها السلام).

منها ولد...»(1).

وفي رواية صحيح مسلم، أنّه قال: «إنّي قد رُزِقتُ حبّها»(2).

وعن عائشة قالت: «ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة، وما تزوّجني رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلّا بعدما ماتت»(3).

***

وحتّى يوم الفتح - وقد مضى على وفاة خديجة أكثر من عشر سنين حافلة بأجلّ الأحداث - رُئى رسول اللّه، يختار مكاناً إلى جوار القبر الذي ثوت فيه زوجه أُمّ المؤمنين الأُولى؛ ليشرف منه على فتح مکّة، وليقيم في قبّة ضُربت له هناك، تؤنسه روح خديجة، ثمّ تصحبه من بعد الفتح وهو يطوف بالكعبة ويحطّم الأصنام، ملتفتاً بين آونة وأُخرى إلى دارهما، حيث نهل من نبع الحبّ والحنان ما تزوّد به لذاك الجهاد المضني الطويل... .

وستدخل في الإسلام من بعد خديجة ملايين النساء، لكنّها ستظلّ منفردة دونهنّ بلقب المسلمة الأُولى التي آثرها اللّه بالدور الأجلّ في حياة المصطفى، وسيذكر لها

المؤرّخون - المسلمون وغير المسلمين - ذلك الدور، فيقول «بودلي»: «إنّ ثقتها في الرجل الذي تزوّجته - لأنّها أحبّته - كانت تضفي جوّاً من الثقة على المراحل الأُولى للعقيدة التي يدين بها اليوم واحد في كلّ سبعة من سكّان العالم»(4).

ويؤرّخ «مرجليوث» حياة محمّد(صلی الله علیه و آله) باليوم الذي لقي فيه خديجة، «ومدّت يدها إليه تقديراً»، كما يؤرّخ حادث هجرته إلى يثرب باليوم الذي خلت فيه مکّة من خديجة... .

ويطيل «درمنجم»(5) الحديث عن موقف خديجة حين جاءها زوجها من غار حراء

ص: 87


1- . متّفق عليهما، من فضائلها(علیها السلام).
2- . صحيح مسلم: ح2435 فضائلها(علیها السلام)، الإصابة: ج8 ص62.
3- . تاريخ الطبري: حوادث السنة الثامنة للهجرة: ج3.
4- . الرسول لبودلي، الترجمة العربية لمحمّد فرج وعبد الحميد السحّار.
5- . حياة محمّد لدرمنجم: ص58، من الترجمة العربية للأُستاذ عادل زعيتر.

«خائفاً مقروراً أشعث الشعر واللحية، غريب النظرات... فإذا بها تردّ إليه السكينة والأمن، وتسبغ عليه ودّ الحبيبة وإخلاص الزوجة وحنان الأُمّهات، وتضمّه إلى صدرها، فيجد فيه حضن الأُمّ الذي يحتمي به من كلّ عدوان في الدنيا».

وكتب عن وفاتها: «... فَقَد محمّد بوفاة خديجة تلك التي كانت أوّل من علم أمره فصدّقته، تلك التي لم تكفّ عن إلقاء السكينة في قلبه... والتي ظلّت ما عاشت تشمله بحبّ الزوجات وحنان الأُمّهات».

و«درمنجم» هنا يدرك ما غاب عن كثير من قومه المستشرقين، فاتهم أن يقدّروا حاجة الشابّ اليتيم إلى الأُمومة، حين تحدّثوا عن زواجه بالأرملة الموسرة؛ فمرجليون يجعل لمال خديجة المكان الأوّل في زواج كهذا «بين شابّ فقير وأرملة كهذه كهلة، مات عنها زوجان من بني مخزوم، وتركا لها ثروة ذات شأن».

ثمّ يمضي فيكتب بكلمات تقطر حقداً وزُوراً: «إنّ دعوة خديجة جاءت محمّداً وهو يجترّ كلمات مريرة سمعها من عمّه أبي طالب حين خطب إليه ابنته أُمّ هانئ، فردّه لفقره وزوّجها لذي مال، واستشعر محمّد ذلّة الفقر ومهانته، فما كاد يسمع عن رغبة خديجة في

الزواج منه حتّى أقبل متلهّفاً على الثراء، يداوي به جرح كرامته التي أهدرها فقره»(1).

وليس هذا بمستغرب من مثله، فكذلك يَلوُون الأخبار في تفسيرهم لتاريخ الإسلام، وكلامه هنا مردود بما في مصادرنا الموثقة من حديث عبداللّه بن عبّاس ابن عمّ أُمّ هانئ، ذكر خطبته أُمّ هانئ إلى أبيها، عمّه أبي طالب، وقد سبقه إلى خطبتها هبيرة بن عمرو بن عائذ المخزومي، وهو كف ء كريم، فقال أبو طالب: يابن أخي، إنّا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم، «ثم فرّق الإسلام بين أُمّ هانئ وهبيرة، فخطبها، فقالت: واللّه إنّي كنت لأحبّك في الجاهلية، فكيف في الإسلام؟ ولكنّي امرأة مصبية - أي ذات صبية - فأكره أن يؤذوك»(2). وفيها قال: «نساء قريش خير نساء

ص: 88


1- . المصدر السابق.
2- . ترجمتها بالإصابة، والحديث متّفق عليه.

ركبن الإبل؛ أحناه على طفل، وأرعاه على زوج في ذات يده»(1).

وفي رواية من طريق الشعبي أنّ أُمّ هانئ(علیها السلام) قالت: «يا رسول اللّه، لأنت أحَبُّ إليَّ من سمعي وبصري، حقُّ الزوج عظيم، فأخشى إن أقبَلتُ على زوجي أن أُضيّع بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضيّع حقّ الزوج، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): إنّ خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل في ذات يده»(2).

وفسّر «موير» في كتابه حياة محمّد وتاريخ الإسلام وفاء محمّد(صلی الله علیه و آله) لخديجة بتهيّبه لمركزها المالي والاجتماعي، وخوفه من أن تطالبه بالطلاق!

وكان على «موير» أن يفسّر لنا: فيم إذن كان وفاء محمّد(صلی الله علیه و آله) لخديجة بعد موتها؟... وهل كان يخاف أن تطالبه بالطلاق وهو يخاصم عائشة فيها

بعد وفاتها بسنين، ويأبى عليها أن تمسّ ذكراها؟!

لقد كانت خديجة مل ء حياته حيّةً وميّتةً، وما جاورت عائشة الحقّ حين قالت: «كأن لم يكن في الدنيا امرأة سواها».

وهل كان باستطاعة امرأة سواها أن تأسو جرحه القديم الغائر الذي تركه في أعماقه موت أُمّه بين يديه؟!

هل كان لأُنثى غيرها أن تهيِّئ له الجوّ المسعف على التأمّل، وأن تبذل له من نفسها - في إيثار نادر - ما أعدّه لتلقّي ختام الرسالات؟

هل كان لزوج عداها أن تستقبل عودته التاريخية من غار حراء بمثل ما استقبلته هي به من حنان مستثار وعطف فيّاض وإيمان راسخ، دون أن يساورها في صدقه أدنى ريب أو يتخلّى عنها يقينها في أنّ اللّه غير مخزيه أبداً؟!

هل كان في طاقة سيّدة غير خديجة غنية مترفة منعمة، أن تتخلّى راضية عن كلّ ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة لتقف إلى جانبه في أحلك أوقات المحنة، وتعينه على

ص: 89


1- . ترجمتها بالإصابة، والحديث متّفق عليه.
2- . طبقات ابن سعد: ج8 ص151، وانظر في نسب قريش أبناء هبيرة المخزومي من أُمّ هانئ رضي اللّه عنها: ص344.

احتمال أفدح ألوان الأذى وصنوف الاضطهاد في سبيل ما تؤمن بأنّه الحقّ؟

كلّا... بل هي وحدها التي مَنّ اللّه تعالى عليها بأن ملأت حياة الرجل الموعود بالنبوّة، وأن كانت أوّل الناس إسلاماً، كما منّ بها على رسوله، ملاذاً ومسكناً ووزيراً.

قال ابن إسحاق: «كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيبٍ له فيحزنه ذلك، إلّا فرّج اللّه عنه بها؛ إذا رجع إليها تثبته وتخفّف عنه، وتصدّقه وتهوّن عليه أمر الناس، حتّى ماتت(علیها السلام) »(1).

وتركت الراحلة من بعدها، بناتها الأربع مل ء حياة أبيهنّ الرسول، ومل ء التاريخ الإسلامي، وقد أفردت لهنّ كتابي عن بنات النبي، وفيه تفصيل ما أجملتُ هنا عن

أُمومة السيّدة خديجة، أُمّ المؤمنين الأُولى(2).

ومَنّ اللّه عليها وعلى المسلمين، بأن حفظ في نسل الزهراء بنت الطاهرة ذرّية نبيّه، قَبَساً من سَنا نوره ونفحة من عطر شذاه، فهي أُمّ آل بيت النبي(صلی الله علیه و آله).

***

ص: 90


1- . في السيرة: ج1 ص257، وانظر السمط الثمين: ص23.
2- . وانظر فضائلها رضي اللّه عنها في: المناقب من صحيح البخاري والفضائل من صحيح مسلم.

فهرس المصادر

1. الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

2.الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن الحجر العسقلاني (ت852ه )، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمّد معوّض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

3.تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968 م.

4. تراجم سيّدات بيت النبوي، عائشه عبدالرحمن (بنت الشاطي)، القاهرة: دار الحديث، 1423ه .

5.جمهرة أنساب العرب، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت 1403ه .

6.حياة محمّد، محمّد حسين هيكل (ت1956)، تعليق: عبدالرحيم الموسوي، قم: المجمع العالمي لأهل البيت:، 1386.

7.الروض الأنف شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبدالرحمن بن عبداللّه السهيلي (ت581ه )، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1412ه .

8.السمط الثمين في مناقب أُمّهات المؤمنين، محبّ الدين أحمد بن عبداللّه الطبري (ت694ه )، تحقيق: محمّد علي قطب، القاهرة: دار الحديث، 1408ه .

9.السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة

الأُولى، 1355ه .

ص: 91

10. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، عِياض بن موسى اليحصبي (القاضي عِياض) (ت544ه )، بيروت: دار الكتب العلمية.

11. صحيح البخاري، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الرابعة، 1410ه .

12. صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (ت261ه )، تحقيق: محمّد فؤاد عبدالباقي، القاهرة: دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

13. الطبقات الكبرى (الطبقه الخامسة من الصحابة)، محمّد بن سعد الزهري (كاتب الواقدي) (ت230ه )، تحقيق: محمّد بن صامل السلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

14. الطبقات الكبرى، ابن سعد، محمّد بن سعد الزهري (كاتب الواقدي) (ت230ه )، تحقيق: محمّد بن صامل السلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

15. بنات النبي أم ربائبه، جعفر مرتضي العاملي، قم، 1413ه .

16. عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير (السيرة النبوية لابن سيّد الناس)، محمّد عبد اللّه بن يحيى ابن سيّد الناس (ت734ه )، بيروت: مؤسّسة عزّ الدين، 1406ه .

17. فتح الباري (شرح صحيح البخاري)، أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852ه )، تحقيق: فؤاد عبد الباقي عبد العزيز بن عبد اللّه بن باز، بیروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1379ه .

18. المُحبَّر، أبو جعفر محمّد بن حبيب الهاشمي البغدادي (ت245ه )، تحقيق: ايلزه ليختن شتيتر، بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر، مطبعة الدائرة، 1361ه .

19. نسب قريش، مصعب بن عبد اللّه الزبيري (ت236ه )، تحقيق: بروفنسل، القاهرة: دار المعارف.

20. نهاية الأرب في فنون الأدب، أحمد بن عبد الوهّاب النويري (ت733ه )، القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القيومي، الطبعة الأُولى، 1395 و 1396.

21. وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، نورالدين علي بن أحمد السمهودي (ت911ه )، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1401ه .

ص: 92

ص: 93

9. خدیجة بنت خویلد - هاشم معروف الحسني

ملخّص البحث:

يمثّل هذا البحث سرداً تاريخياً يبدأ بذكر نسب خديجة بنت خويلد من جهة الأب والأُمّ والأقارب والقبيلة، وزواجها قبل النبي(صلی الله علیه و آله). ويصف فيه أيضاً مواقفها الداعمة للنبي في جميع الظروف والأحوال، ومدى محبّة النبي واحترامه لها وحفظه لذكراها. حين أخرجت قريش بني هاشم إلى شِعب أبي طالب وفرضت عليهم الحصار هناك، تخلّت هذه المرأة عن دارها ومالها، وخرجت مع زوجها إلى الشِّعب. المنهج الذي انتهجه هذا البحث هو الطابع المكتبي، ويتّصف بأُسلوب السرد الأدبي الذي يستعين في بعض الحالات بتوثيق من مصادر تاريخية.

لقد رأیت قبل الحدیث عن سیرة الأئمّة الاثني عشر أن أتحدّث ولو یسیراً عن السیّدتین خدیجة أُم الزهراء وجدّة الأئمّة الاثني عشر التي ساهمت في بناء الإسلام بمالها وجاهها، وتحمّلت في سبیل ذلك کلّ أنواع الأذی والاضطهاد، واستقبلت الدعوة بقلبٍ مفتوح لکلّ تعالیمها، وإیمانٍ راسخ بأنّ اللّه لن یخذل نبیّه، وحینما جاءها في اللحظات الأُولی من نزول الوحي علیه خائفاً غریب النظرات، حاولت أن تردّ إلیه السکینة والأمن، وتسبغ علیه ودّ الحبیبة وإخلاص الزوجة، وتضمّه إلی صدرها،

ص: 94

فیجد فیها حنان الأُم الذي یحمیه من کلّ عدوان في هذه الدنیا.

وفي ذلك أيضاً تقول الدكتورة بنت الشاطئ: «هل كان لزوجة عداها أن تستقبل دعوته التاريخية من غار حراء بمثل ما استقبلته خدیجة به من حنان مستثار، وعطف فيّاض، وإيمان قويّ، دون أن يساورها في صدقه أدنى ريب، أو يتخلّى عنها يقينها بأنّ الله غير مخزيه أبداً؟ وهل كان في طاقة سيّدة غير خديجة غنية مترفة منعّمة أن تتخلّى راضية عن كلّ ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة، لتقف إلی جانب زوجها في أحلك أوقات المحنة، وتشارکه في أفدح ألوان الأذی وصنوف الاضطهاد في سبيل ما تؤمن به، كلّا، بل هي وحدها التي أعدّتها الأقدار لتملأ حیاة النبي(صلی الله علیه و آله)، ولتكون له ثقة وطمأنينة وسلاماً».

فمن الوفاء لحقّها العظیم علی جمیع المسلمین أن نتحدّث عنها حسبما یسمح به الوقت، ونحن بصدد الحدیث عن أحفادها الأئمّة الاثني عشر الذین شاء اللّه أن تکون لهم أُمّاً وزوجها العظیم أباً.

وعن ابنتها فاطمة الزهراء التي آثرها اللّه بالنعمة الکبری، فحصر في وُلدها ذرّیة الرسول، وحفظ بها أشرف سلالة عرفها العرب في تاریخهم الطویل، فکانت وحدها الوعاء الطاهر للسلالة الطاهرة والمنبت الطیّب لعترة الرسول من أهله وذویه.

لقد ولدت خدیجة بنت خویلد زوجة النبي الأُولی من أبوین قرشیین؛ فأبوها خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصي بن کلاب بن مرّة بن کعب بن لؤي بن غالب.

وأُمّها فاطمة بنت زائدة ابن الأصمّ، وتنتهي في نسبها إلی لؤي بن فهر بن غالب، کما وأنّ أُمّ فاطمة هالة بنت عبد مناف بن الحارث، وتنتهي أیضاً إلی فهر بن لؤي بن غالب، وبذلك کما یدّعي الأخباریون تکون خدیجة قد وُلدت لأبوین کلاهما من أعرق الأُسر في الجزیرة العربیة، وقد اجتمع لها بالإضافة إلی هذا النسب الرفیع الذکر الطیّب والخلق الکریم والصفات الفاضلة، وبلغ من علوّ شأنها أنّها کانت قبل أن تتزوّج بالنبي(صلی الله علیه و آله) تُعرف بالطاهرة وبسیّدة نساء قریش، وهي مع ذلك

من أثریاء قریش

ص: 95

وأوسعهم جاهاً ومفطورة علی التدیّن بعامل الوراثة والتربیة؛ فأبوها خویلد هو الذي نازع (تُبّعاً الآخر)حین أراد أن یحمل الحجر الأسود معه إلی الیمن، فتصدّی له، ولم ترهبه قوّته وکثرة أنصاره؛ حرصاً منه علی هذا النسك من مناسك دینه.

وابن عمّها ورقة بن نوفل کان یعکف علی دراسة کتب النصاری والیهود ویعمل بما یستحسنه منهما، لا لأنّه کان یعاشر النصاری والیهود، ولا لأنّ مکّة کانت مقرّاً لهما، بل لأنّه کان یسخر من عبادة الأصنام والتماثیل ویبحث عن دین یطمئنّ إلیه.

ویحدّث الأخباریون والمؤلفّون في سیرة الرسول أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) حینما رأی تباشیر النبوّة في غار حراء وسمع مَن یکلّمه في الغار وعاد إلی بیته خائفاً غریب النظرات یقصّ علی زوجته الوفیّة الصادقة ما رأی وما سمع، أسرعت إلی ابن عمّها لتقصّ علیه ما جری للنبي(صلی الله علیه و آله)، فبشّرها بمستقبله العظیم الذي سیهزّ العالم بأسره، ویحدث تحوّلاً في تاریخ البشریة، وبما سیلاقیه من قومه من عنف وجور واضطهاد.

لقد تزوّجت السیّدة خدیجة قبل الرسول مرّتین، الزواج الأوّل من أبي هالة النبّاش بن زرارة، فأولدت منه ولداً أسمته هنداً، أدرك الإسلام وکان من السابقین إلیه، وروی عنه الحسن بن علي7 حدیث وصف النبي، وتناقله عنه أکثر الرواة والمحدّثین، وشاع عنه أنّه کان یقول: «أنا أکرم الناس أباً وأُمّاً وأخاً وأُختاً».

وقد اشترك مع النبي(صلی الله علیه و آله) في جمیع حروبه وغزواته، وکان مخلصاً للدعوة کأُمّه، متفانیاً في سبیلها إلی أبعد الحدود، ولازم علیّاً بعد وفاة النبي(صلی الله علیه و آله)، وقُتل معه في البصرة.

وبعد وفاة زوجها الأوّل أبي هند، تزوّجت من عتیق بن عاید المخزومي، ورُزقت منه بنتاً أسمتها هنداً أیضاً، بقیت في أحضان أُمّها وأسلمت منذ ظهور الإسلام، وکانت من الصحابیات الکریمات اللواتي أخلصن للإسلام.

وبعد وفاة زوجها الثاني عتیق بن عاید المخزومي، أعرضت عن الرجال وهي لا تزال في ریعان شبابها، فخطبها أشراف قریش، وقدّموا لها العروض المغریة، فلم

ص: 96

تستجب لأحدٍ منهم، وظلّت تعیش بعیدة عن الرجال ومشاکلهم، طیّبة النفس مرتاحة الضمیر؛ لأنّ أکثر الخاطبین کانوا یضعون في حسابهم ثروتها الواسعة، حتّی بلغت الأربعین من عمرها.

ویروي المحدّثون والمؤلّفون في سیرة الرسول أنّها کانت ترسل في تجارتها إلی الشام جماعة بأجرٍ معیّن، وقبیل زواجها بالنبي أرسلت إلیه لیذهب في تجارتها، وبذلت له ضعفي ما کانت تبذله لغیره؛ لأنّه کان حدیث الناس رجالاً ونساءً في أمانته وصدقه واستقامته، فوافق علی طلبها بعد أن استشار عمّه أبا طالب، وأرسلت معه غلامها میسرة لخدمة القافلة ورعایتها، وکانت الرحلة ناجحة وموفّقة نجاحاً لم تصادفه رحلة قبلها، وأسرع میسرة قبل دخول القافلة مشارف مکّة لیخبرها بما جری وما حدث لمحمّد في طریقه مع بُحیرا وغیره من الأحداث التي لم یجدوا لها نظیراً من قبل.

وبدأت مکّة تسمع ضجیج الرکب وهو یقترب منها، فخرج الناس لاستقباله، وامتزج رغاء الإبل بهتاف المستقبلین وضجیجهم، هذا والصدّیقة الکبری خدیجة في دارها تراقب طریق القافلة في لهفة ممزوجة بشيء في نفسها لا تجد له تفسیراً، وإلی جانبها الغلام یملأ أُذنیها بنجاح الرحلة وما جری لمحمّد في الطریق من الغرائب.

وفیما هي غارقة في التفکیر والتأمّل، وإذا بمحمّد(صلی الله علیه و آله) یدنو من دارها بطلعته الوسیمة وملامحه النبيلة، فاستقبلته مرحّبة بقدومه ومهنّئة بسلامة العودة، بکلمات تفیض عذوبةً وحناناً، وردّ علیها شاکراً لها هذا الموقف، وعاد یقصّ علیها أنباء رحلته وربح تجارتها وما حمله معه من انتاج بلاد الشام ممّا تفتقر إلیه أسواق الحجاز، وأصغت إلیه معجبة بحدیثه وبشخصه الکریم الذي وجدت فیه من النبل وکریم الصفات ما لم تجده عند غیره من کهول مکّة وشبابها المترفین، حتّی انتهی وخرج من دارها، وظلّت واقفة تتبعه عیناها إلی أن تواری في منعطف الطریق متّجهاً إلی حیث یقیم عمّه الکفیل أبو طالب، فاستقبله بلهفة وارتیاح، وهنّأه بالعودة سالماً لم یمسّه مکروه من أعدائه ولا من وعثاء السفر وبُعد المسافة.

ص: 97

وبعد هذه الرحلة الموفّقة، یدّعي المؤرّخون أنّ خدیجة التي أکبرت في محمّد نبله وصدقه وجمیع صفاته وما حدّثها به میسرة من غرائب الأحداث التي حصلت له في طریقه، باتت لیلتها تفکّر في أمره وبما سیکون له من شأن في مستقبله القریب، وعادت تستعرض شمائله وسیرته الطیّبة العطرة، وتمنّت لو أنّها تصبح شریکة له فیما بقي من عمرها بعد أن نفضت یدیها من الرجال، وراحت تستعرض ما یحول بینها وبین ذلك، وهل یستجیب ابن عبد اللّه مع شبابه الغضّ وفتوّته الساحرة وصیته الذي ملأ القلوب والأسماع، لعاطفة أرملة کهلة بلغت الأربعین، وهو لا یزال في ریعان شبابه قد انصرف عن عذاری مکّة وزهرات بني هاشم، وما هي بالنسبة إلیه إلّا کخالة أو أُمّ، ولو عاشت آمنة بنت وهب لذلك التاریخ لما تجاوزت سنّ الأربعین، فکیف بها وقد بلغت هذا السنّ وتزوّجت قبله مرّتین.

وفیما هي في تلك الغمرة الهائجة من القلق والصور تتزاحم في نفسها، وإذا بنفیسة ابنة منبّه إحدی صدیقاتها تدخل علیها زائرة، وعبثاً تحاول خدیجة بنت خویلد أن تعود إلی طبیعتها، ولم یغب عن الزائرة ما في نفسها من القلق والاضطراب، فلم تترکها حتّی کشفت لها عمّا في نفسها، فهوّنت علیها الأمر، وتعهّدت لها بأن تفاتحه في الزواج منها وتعمل علی تحقیق أُمنیتها الغالیة بکلّ ما أُوتیت من خبرة ودهاء.

فقصدته وهو یخلو بنفسه، وابتدأت حدیثها معه تسأله عن أسباب عزوفه عن الزواج

وقد تجاوز العشرین من عمره وأصبح في أمسّ الحاجة إلی امرأة یسکن إلیها وتملأ دنیاه بهجةً وأُنساً، فأمسك عن جوابها، وتراکمت في نفسه صور عن مشاکل الزواج ویُتمه وفقره، واستمرّ في صمته وتفکیره، ولکنّها أعادت علیه الحدیث لتسمع منه الجواب، وأحرجته في أُسلوبها وإلحاحها، فابتسم وقال: واللّه ما بیدي شيء من المال لکي أتزوّج به. وهنا وجدت نفیسة منفذاً للمصارحة، فردّت علیه تقول: إذا دُعیت إلی الجمال والشرف والمال والکفاءة، ألا تجیب؟ تلك هي خدیجة التي لا یساویها أحد من القرشیات والمکّیات. فرحّب بتلك البادرة وعرضها علی عمّه أبي طالب، فأشرق

ص: 98

لها وجهه وغلبته ابتسامته، واطمأنّ علی مصیر ابن أخیه الذي کان یفکّر فیه أکثر من تفکیره بأعزّ أولاده علیه.

وفي فترة قصیرة من الزمن تمّ التفاهم بین الزوجین علی کلّ شيء، فأسرع إلی بیتها وفي صحبته عمّاه أبو طالب والحمزة، وکان کلّ شيء مهیّأً لهذا الزواج الذي خطّطت له مشیئة اللّه لیکون عوناً لمحمّد علی أداء الرسالة التي تنتظره بعد سنوات قلیلات.

وتمّ الزواج بینهما بعد کلمة قصیرة ألقاها أبو طالب جریاً علی المتعارف في مجلس الخطبة، کما یدّعي ذلك أکثر المؤرّخین والمؤلّفین في سیرة النبي(صلی الله علیه و آله)، کما روی جماعة منهم إلی جانب هذه الروایة الشائعة التي نصّت علی أنّ رحلته في تجارتها إلی الشام وما رافقها من نجاح وأحداث قد مهّدت لهذا الزواج علی النحو الذي صوّرناه.

إلی جانب ذلك روی جماعة منهم أنّ زواجه منها لم یکن من نتائج رحلته إلی الشام في تجارتها، ولم تکن الواسطة بینهما نفیسة بنت منبّه، بل کان بواسطة أُختها هالة وبناءً لطلبها، فقد جاء في تاریخ الیعقوبي عن عمّار بن یاسر أنّه قال: «أنا أعلم الناس بزواج خدیجة بنت خویلد من رسول اللّه، لقد کنت صدیقاً له، وإنّا لنمشي یوماً بین الصفا والمروة، وإذا بخدیجة وأُختها هالة معها، فلمّا رأت رسول اللّه جاءتني أُختها هالة وقالت: یا عمّار، ما لصاحبك رغبة في خدیجة؟ فقلت لها: واللّه لا أدري. فرجعت إلیه وذکرتُ ذلك

له، فقال لي: ارجع فواضعها وعدها یوماً نأتیها فیه، فلمّا کان ذلك الیوم أرسلت إلی عمّها عمرو بن أسد، ودهنت لحیته وألقت علیه حبراً، ثمّ حضر رسول اللّه في نفر من أعمامه یتقدّمهم أبو طالب، فخطب في الحاضرین وتمّ الزواج بینهما».

وأضاف عمّار بن یاسر إلی ذلك أنّها لم تستأجره في تجارتها ولم یکن أجیراً لأحد أبداً، کما أورد حدیث زواجه منها علی هذا النحو ابن کثیر في تاریخه بعد أن أورد الصورة الأُولی الشائعة بین المحدّثین.

وجاء في تاریخ أبي الفداء أنّه بعد أن رجع من الشام وحدّثها میسرة بما حدث له في طریقه، تعرّضت له مباشرة وخطبته لنفسها، وتمّ الزواج بینهما علی عشرین بکراً.

ص: 99

وقد عرضتُ في کتابي سیرة المصطفی مراحل حیاة النبي منذ طفولته إلی زواجه من خدیجة، والمرویات التي تحدّثت عن زواجه، ورجّحتُ روایة عمّار بن یاسر، وذکرتُ الأسباب التي أراها مرجّحة لها.

ومهما کانت الأسباب والملابسات التي اقترنت بهذا الزواج، فممّا لاشكّ فیه بأنّ زواجهما کان بناءً لطلبها ورغبتها بعد أن ردّت عن بابها الخطّاب من سادة قریش وأشراف مکّة، کما وأنّ محمّداً کان له من شبابه وفتوّته وشمائله وصفاته الکریمة التي عُرِف بها في مکّة وجوارها، ما یوفّر له الزواج من أيّ فتاة أرادها من عذاری مکّة وزهرات بني هاشم، ولکنّ مشیئة اللّه سبحانه قد هیّأت لهذا الزواج الذي لم تشهد مکّة زوجین ینعمان بحیاتهما الزوجیة ویرتشفان علی مهل رحیق ودّ صاف سیظلّ حدیث الزمان، وظلّا خمسة عشر عاماً ناعمین بالأُلفة والاستقرار، وأتمّ اللّه علیهما نعمته بالبنین والبنات، کانت آخرهم الزهراء سیّدة نساء العالمین.

قال الأُستاذ کتّاني في کتابه الزهراء: إنّ خمساً وعشرین سنة کانت ملیئة بالحبّ والتفاني ذابت خدیجة في حبّها لزوجها، وأخذت منه کلّ ما أعطاها، وأعطته کلّ ما أخذ منها، لقد کان الأخذ والعطاء بنسبة واحدة بدون أيّ شعور من الطرفین بأنّ الأخذ

هو غیر العطاء، أو أنّ العطاء هو غیر الأخذ.

ومضی یقول: لقد أعطته خدیجة زوجها حبّاً وهي لا تشعر بأنّها تُعطي، بل تأخذ منه هدایة تفوق کنوز الأرض، وهو بدوره أعطاها حبّاً وتقدیراً رفعها إلی أعلی مرتبة، وهو لا یشعر بأنّه قد أعطاها، بل قال: «ما قام الإسلام إلّا بسیف عليّ ومال خدیجة»، وأعطاها مع ذلك عمره وزهرة شبابه، ولم یتزوّج بغیرها حتّی غابت عن الوجود وهو لا یشعر بأنّه أعطاها، وکان یقول: «لا واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها، آمنت بي إذ کذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس».

بعد خمسة عشر عاماً من تاریخ زواجهما الفرید من نوعه والذي کان وسیظلّ حدیث الناس؛ لأنّه کان سخیاً في البذل والعطاء والصبر والتضحیات في سبیل المبدأ

ص: 100

والعقیدة في أحلك الساعات وأقسی المراحل التي لا یقوی علی تحمّلها إنسان.

بعد هذه الأعوام التي أطلّ بعدها الزوج العظیم علی الأربعین، استقبل الزوجان ذلك الحدث الخطیر لا في حیاة تلك الأُسرة الوادعة فحسب ولا في حیاة قریش والعرب وحدهم، بل في حیاة الإنسانیة جمعاء، فقد تلقّی الزوج العظیم رسالة السماء إیذاناً بحیاة جدیدة شاقّة ملیئة بالاضطهاد والمتاعب والنضال المریر.

وفي الحقّ أنّ ذلك الحادث الذي نرید أن نمرّ علیه مروراً خاطفاً لنشیر إلی دور تلك الزوجة الفاضلة فیه، هذا الحادث لم یکن مفاجئاً لمحمّد بن عبد اللّه بکلّ ما في هذه الکلمة من معنی، ولم یکن یستبعد أن ینتهي إلی شيء من تأمّلاته العمیقة وتفکیره الطویل في خلواته بنفسه بعیداً عن الناس، لیجد المناخ الملائم للتفکیر والتأمّل في الکون وتقلّباته وما فیه من الکائنات، ویستشفّ أدقّ ما فیه من أسرار لیلمح من ورائها قوّة عظمی خفیة تدبّر وُفق نظام دقیق ونوامیس منتظمة متناسقة: (لَا الشَّمْسُ

يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(1).

وهو مع ذلك یستخفّ بقومه ویستبشع منهم تقدیس تلك الأصنام التي کدّسوها حول الکعبة وقدّموا لها القرابین، وعبدوها من دون اللّه وهي لا تجلب لهم نفعاً ولا تدفع عنه سوءاً.

لقد کانت مواقفه تلك توحي إلیه أنّه سینتهي إلی شيء، ویحسّ من خلالها أنّه سیدنو من الحقیقة الکبری، وسیتجلّی له السرّ الأعظم. وظلّ یتابع مواقفه هذه وقد أشرف علی الأربعین من عمره، وألف الخلوة في غار حراء واستطابها، وما کانت خدیجة وقد قاربت الستّین من عمرها لتضیق بهذه الخلوات التي تحول بینها وبینه في أکثر الأحیان، أو تحاول أن تعکّر علیه صفو تأمّلاته، بل کانت تحوطه بالرعایة والهدوء ما دام في بیتها، فإذا انطلق إلی حراء ظلّت عیناها تشخص إلیه ولا تفکّر بشيء سواه، وترسل إلیه من یحرسه ویرعاه، ولو من بعید بدون أن یقتحم علیه خلوته أو یفسد علیه وحدته.

ص: 101


1- . یس: 41.

وهکذا کان یبدو علی الزوج العظیم وکأنّه مهیّأ لاستقبال تلك الرسالة، ولکنّه بالرغم من ذلك فما جاءه الوحي وهو معتکف في الغار حتّی انطلق یلتمس بیته مع ظلمة الفجر مرتعد الأوصال، حتّی بلغ حجرة زوجته الوفیة الصادقة، فأحسّ وکأنّه قد بلغ مأمنه، وجلس إلی جانبها یحدّثها بکلّ ما جری وما حدث معه في الغار، وقد بدأ علیه الإجهاد، فأقبلت علیه بلهفة الأُمّ الرؤوف، وهتفت به في ثقة ویقین قائلة: «أبشر یا ابن العمّ، وثق بأنّ اللّه لا یخذلك أبداً، إنّك لتصل الرحم وتصدق الحدیث وتحمل الکَلّ وتُقري الضیف وتُعین علی نوائب الدهر»، وما زالت به حتّی هدأ روعه وأحسّ بالراحة والطمأنینة، وهي تهیّئ له فراشه وتأخذ بیده إلیه کما تفعل أُمّ بطفلها الوحید.

ومازالت به حتّی اطمأنّ إلی النوم وغرق فیه، فانسلّت من الحجرة ثقیلة الخطا،

حتّی إذا بلغت الطریق اندفعت تجري نحو ابن عمّها ورقة بن نوفل ومکّة لا تزال تنعم بغفوة الصبح، وقد بدأت تباشیر الفجر تسیر علی مهل نحو النهار. وجاءت ابن عمّها فأقعدته من فراشه وقد ظهر علیه الإعیاء من آثار الشیخوخة، فأخذت تحدّثه وهو یصغي إلی ما تحدّث به من أنباء محمّد وما جری له في الغار، فاستعاد نشاطه وأشرقت أساریره لحدیثها، وانتفض یقول: «قدّوس قدّوس، والذي نفس ورقة بیده، لئن صدّقتني یا خدیجة لقد جاءه الناموس الأکبر الذي کان یأتي موسی وعیسی بن مریم، وأنّه لنبيّ هذه الأُمّة، قولي له فلیثبت ولیکن علی یقین من أمره».

فانطلقت نحو بیتها بسرعة من غیر أن تنتظر منه المزید من البیان، مطمئنّة وکأنّها تأخذ من وحي السماء، انطلقت لتزفّ إلیه البشری بالنبوّة التي کان یترقّب ظهورها في شبه الجزیرة ابن عمّها ورقة وعمرو بن نفیل، وغیرهما من المتألّهین والکهنة والرهبان، فإذا به لا یزال نائماً کما ترکته، فوقفت إلی جنبه ووجهها یطفح بالبشر، وغابت عنها جمیع الهواجس التي مرّت بخیالها حینما رأته بعد رجوعه من الغار خائفاً شاحب اللون.

وعزّ علیها أن توقظه من نومه، وظلّت واقفة إلی جانبه تنظر إلیه بلهفة وحنان، وفیما هي غارقة في التفکیر بمستقبله السعید، وإذا به ینتفض في فراشه ویثقل تنفّسه ویتقاطر العرق

ص: 102

من جبهته، واستمرّ علی ذلك فترة من الوقت قبل أن یعود إلی حالته الطبیعیة وکأنّه یستمع إلی محدّث، کلّ ذلك والصدّیقة الکبری تنظر إلیه وقد عاودها القلق لحاله.

وانتبه بعد أن سری عنه الوحي یتلو ما أُوحي إلیه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ... قُمْ فَأَنذِرْ)(1)، ونظر إلیها ملیاً بنظرة تفیض بالشکر والامتنان، وقد بدا علیها القلق لحاله، فرغبت إلیه أن یستمرّ في نومه، فقال لها: «لقد انتهی یا خدیجة عهد النوم والراحة، هذا الأمین جبرئیل یأمرني أن أنذر الناس وأدعوهم إلی اللّه وعبادته، فمن ذا أدعو ومن ذا یستجیب لدعائي»؟

فمضت به من ساعته إلی عمّها ورقة بن نوفل لتقصّ علیه ما جری له، ولم یکد یراه حتّی صاح: «والذي نفسي بیده إنّك لنبيّ هذه الأُمّة، ولتُکذّبنّ ولتُؤذینّ ولتُخرجنّ وتُقاتلنّ، ولئن أدرکت ذلك الیوم لأنصرنّ اللّه فیك». ثمّ دنا منه وقبّل یافوخه، فقال له النبي: «أو مخرجي هم»؟ فقال له: «نعم، لم یأت رجلٌ بمثل ما جئتَ به إلّا عودي، لیتني أکون جذعاً، لیتني أکون فیها حیّاً».

فطابت نفس النبي(صلی الله علیه و آله) بما سمع، وآب إلی بیته لیبدأ نضاله في سبیل الدعوة مهما کلّفه ذلك من جهد وتضحیات، وهو یعلم أنّ قریش لا تتنازل عن کبریائها وجبروتها، وهي تری أنّ محمّداً یسخر من الأصنام والأوثان التي وجدوا آباءهم لها عابدین من عشرات السنین، ویدعو إلی إلهٍ واحد لا شریك له ولا نظیر، وإلی تحریر العبید والمستضعفین من تسلّط السادة والمترفین.

ووقفت زوجته إلی جانبه من اللحظات الأُولی، بنفسها ومالها وجاهها، تنصره وتشدّ أزره، وتشارکه کلّ أنواع الأذی والاضطهاد والحرمان في جمیع المراحل التي مرّ بها، کما اتّفق علی ذلك جمیع المؤرّخین والمحدّثین.

ولمّا اتّفقت قریش علی مقاطعة الهاشمیین والتضییق علیهم وحرمانهم حتّی من ضرورات العیش، وأخرجتهم من مکّة إلی شِعب أبي طالب وضیّقت علیهم الحصار حتّی یموتوا جوعاً أو یعودوا إلی قریش وآلهتها، لما اتّفقت قریش علی ذلك ونفذت

ص: 103


1- . المدّثر: 2 - 8.

بنود الاتّفاق، لم تتردّد السیّدة الجلیلة في الخروج مع زوجها العظیم، وتخلّت عن دارها ومالها تارکة کلّ ذلك بنفسٍ طیّبة مطمئنّة بحسن المصیر، وأنّ الفوز في النهایة سیکون للمؤمنین بحقّهم والصابرین علی الأذی في سبیل اللّه.

وأقامت معه في الحصار نحواً من ثلاث سنوات، تشارکه أهوال الحصار ومرارة الجوع والحرمان، وقد أشرفت علی الشیخوخة المضنیة تکافح الوهن الذي أخذ طریقه إلی جسمها وقد تخطّت الستّین، وظلّت إلی جانب محمّد(صلی الله علیه و

آله) والمحاصرین معه من القلّة المؤمنة التي صبرت علی کلّ أنواع الضیم وعلی صراخ الأطفال من الجوع والحرمان، وتحدّت قریشاً وغطرستها وعددها وعدّتها.

وکان من المحکوم علی تخطیط قریش أن یفشل کما فشلت في التدابیر التي اتّخذتها من قبل، فدب الخلاف بین الذین تعاقودا علی الحصار، وأرسل اللّه الأرضَة لتأکل الصحیفة ما عدا لفظ الجلالة، واتّفق جماعة من وجوه المکّیین علی رفع الحصار وإفساح المجال للهاشمیین لیرجعوا إلی بیوتهم، وعادت قریش تجرّ من ورائها الخزي والعار والخذلان.

وتعاظم أمر النبي(صلی الله علیه و آله)، واتّخذت دعوته طابعاً جدیداً بعد فشل محاولات قریش وخذلانها. وشاءت الأقدار والدعوة في عامها العاشر أن یفقد النبي عمّه أبا طالب، أقوی أنصار الدعوة وأصلبهم عوداً في وجه محاولات قریش وأتباعها، وبعده بأیّام أو شهور حسب اختلاف الروایات فقد شریکته في الجهاد والبذل والتضحیات التي صدّقته وآمنت به منذ أن قصّ علیها حدیث الوحي، وبذلت في سبیله کلّ مالها وراحتها، وظلّت تبذل وتعطیه ممّا تملك من إمکانیاتها حتّی النفس الأخیر، فعزّ ذلك علی النبي(صلی الله علیه و آله)، وتلفّت إلی مکّة فوجدها موحشة من عمّه المحامي والکفیل، وإلی داره فوجدها خالیة موحشة من شریکته في البذل والعطاء والتضحیات.

واشتدّت قریش علیه في ذلك العام الذي سمّاه عام الأحزان، وظنّت قریش بأنّ الظلمات قد تکاثفت من حوله وأنّ آماله وأمانیه قد تحوّلت إلی یأس وخیبة، ولکن

ص: 104

سرعان ما تبدّدت أمانیهم وخابت ظنونهم، وبدا محمّد(صلی الله علیه و آله) ومن معه من المسلمین أشدّ ثباتاً وأکثر تصمیماً وأمضی عزیمةً من ذي قبل، یفتدون الدعوة بالمُهج والأرواح، ویرون الاستشهاد في سبیلها مجداً وانتصاراً.

لم یمت أبو طالب وخدیجة إلّا بعد أن مرّت الدعوة بمراحل واسعة، وتخطّت مکّة

وجوارها إلی جمیع أطراف الحجاز وإلی ما وراءها من البلاد المتاخمة لحدوده، وأصبحت حدیث الناس في کلّ بقعة ومکان، وحملتها فئة من صحابته عبر البحار إلی الحبشة، تارکین أهلهم ودیارهم لیعرضوا علی الدنیا صوراً من الإیمان والبطولات والتضحیات التي برزت في حیاة محمّد وصحبه الأکرمین، لیجمع الناس کلّهم علی صعید الإیمان بالواحد الأحد والمحبّة والعمل لخیر الناس أجمعین.

لقد ماتت خدیجة وغابت عن دنیا الناس، ولکنّها ظلّت ماثلة بین عینَي زوجها العظیم الوفي، ودخلت في حیاته من بعدها نساء عدیدات حسبما یحدّث بذلك التاریخ، ولکن مکانها من قلبه وفي دنیاه ظلّ خالیاً لم تشغله امرأة غیرها، ولم تستطع واحدة منهنّ أن تحتلّ مکانها وأن تفلح في إبعاد طیفها من قلبه ونفسه، الذي کان یتبعه حیث یسیر.

وشهد بیته عائشة بنت أبي بکر وهي في مطلع صباها ونضرة شبابها، تستبدّ بها الغیرة من خدیجة التي سبقتها إلی قلبه؛ لأنّه ظلّ یردّد اسمها ووفاءها في کلّ صباح ومساء.

لقد وفدت علی المدینة أُختها هالة، فما أن سمع محمّد صوتها حتّی تذکّر صوت أُختها الراحلة، فخفق لها قلبه وصاح: «مرحباً بك یا هالة»، فلم تملك عائشة نفسها حتّی هتفت به تقول: «ما زلت تذکر بحسرة وألم عجوزاً من عجائز قریش حمراء الشدقین هلکت من عدّة سنین، وقد أبدلك اللّه خیراً منها»(1).

ومع أنّه کان واسع الصدر صبوراً علی الأذی لا ینفعل لکلمات عابرة من هذا النوع، بدا علیه الانفعال وتغیّر لونه، والتفت إلیها وقد استولی علیه الغضب وقال: «واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها، آمَنَت بي حین کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، وواستني

ص: 105


1- . تاریخ الطبري والسمط الثمین.

بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه منها الولد دون غیرها من النساء»(1).

فأمسکت عائشة عن الکلام وهي تقول: «واللّه لا أذکرها بعد الیوم».

ولکنّها الغیرة کانت تستبدّ بها في أکثر الأحیان، فلا تملك نفسها إذا ذکرها النبي(صلی الله علیه و آله) لمناسبة من المناسبات وما أکثر المناسبات التي کانت تذکره بها، فلا تملك نفسها أن تنال منها وتقول: «کأن لم یکن في الدنیا غیرها»، وعندما یسمع منها ذلك یأخذ في تعداد محاسنها ومواساتها له وبذلها السخي في سبیل اللّه والإسلام.

ویحدّث الرواة عنه أنّه کان إذا ذبح شاةً یقول: «ارسلوا إلی أصدقاء خدیجة»، فیُوزّع علیهم منها، فإذا عاتبته عائشة علی ذلك یقول: «واللّه إنّي لأُحبّ مَن کان یُحبّها»(2).

وجاء عن عائشة أنّها قالت في أکثر من مناسبة: «ما حسدتُ أحداً کما حسدتُ خدیجة، وما تزوّجني رسول اللّه إلّا بعد أن ماتت». وأحیاناً تقول: «ما غرتُ من امرأةٍ لرسول اللّه کما غرت من خدیجة حینما کنت أسمع رسول اللّه یذکرها، وما تزوّجني إلّا بعد موتها بثلاث سنین».

وحتّی یوم الفتح وقد مضی علی وفاتها أکثر من عشر سنین حافلة بالأحداث، نری رسول اللّه وقد دخل مکّة یختار مکاناً لینزل فیه قریباً من قبرها، في قبّة بُنیت له إلی جوار القبر؛ لیشرف منها علی فتح مکّة، کما جاء في حوادث السنة الثامنة في المجلّد الثالث من تاریخ الطبري.

وستدخل في الإسلام بعد خدیجة مئات الملایین من النساء، ولکنّها ستبقی وحدها من تلك الملایین المسلمة الأُولی التي آثرها اللّه بالدور العظیم في بناء الإسلام، رمزاً للوفاء والمحبّة، والإیثار لزوجها الذي کانت أوّل من صدّقه وآمن به وبذلت له راحتها ومالها وهان علیها کلّ شيء في

سبیله.

وجاء في سیرة ابن إسحاق أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) کان لا یسمع شیئاً یکرهه ویحزنه إلّا فرّجه اللّه عنه بخدیجة، تثبّته وتخفّف عنه وتهوّن علیه أمر الناس،

حتّی فارقت الدنیا.

ص: 106


1- . المصدرین السابقین والاستیعاب لابن عبد البرّ.
2- . نفس المصادر.

فهرس المصادر

1. الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

2.تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968 م.

3.السمط الثمين في مناقب أُمّهات المؤمنين، محبّ الدين أحمد بن عبداللّه الطبري (ت694ه )، تحقيق: محمّد علي قطب، القاهرة: دار الحديث، 1408ه .

ص: 107

10. أُمّ المؤمنین خدیجة بنت خویلد- عبد الحمید العبادي

ملخّص البحث:

يرسم هذا البحث الواقع الذي كانت تعيشه جزيرة العرب في القرن السادس الميلادي، حيث أخذت تتهيّأ للأحداث الجسام التي تمخّض عنها القرن الذي تلاه. وقد بدأ ذلك التهيّؤ في جميع مناحي الحياة العربية العامّة، سياسية کانت أم اقتصادية أم اجتماعية، وما يهمّنا هنا الناحية الاجتماعية فيه، ويهمّنا منها بصفة خاصّة نظام الأُسرة، فقد کان نظام الأُسرة آخذاً بالتحوّل في حواضر الحجاز عامّة ومکّة خاصّة، إلی النحو الذي أقرّه بجملته الإسلام فيما بعد؛ فأخذت تتلاشی ضروب الازدواج القديمة التي اعتبرها الإسلام سفاحاً، ويحلّ محلّها نظام الزواج القائم علی التراضي والتعاقد. ورافق هذا التطوّر الخطير في بناء الأُسرة، تطوّر خطير مثله في مکانة المرأة الاجتماعية، فبعد أن کانت المرأة العربية ليس لها حقّ التملّك ولا حقّ الإرث، بل بعد أن کانت هي نفسها تملك وتورِّث في بعض الحالات، أصبحت تستمتع بحقّ الملکية وحقّ الميراث وحقّ التصرّف في مالها، وحقّ مفارقة الزوج عند اللزوم، هذه الحرّية المستحدثة جعلت المرأة العربية عاملاً فعّالاً في الحياة المکّية العامّة قبيل ظهور الإسلام وفي عصر النبوّة. ثمّ يستغرق هذا البحث في بيان صفات أُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد، فيقول:

ص: 108

إنّها كانت تتّصف بمناقب المرأة الکاملة، من جمال وطُهر وعفاف وزوجية بارّة وأُمومة صحيحة، ومواساة في أشرف معانيها، كما إنّها ورثت عن أبويها مزايا

السؤدد العربي، کالنبل وکرم الخُلق والوفاء والشجاعة، کما لقفت عن عمومتها تلك الاستنارة العقلية، وذلك السموّ الروحاني الذي أعدّها لتقدير الدعوة الإسلامية وقبولها عن طيب نفس وطواعية خاطر. ويسرد بأُسلوب أدبي ما جاء من أخبارها في كتب التاريخ والسير. وکما کانت خديجة مثال الزوجة الحفيّة بزوجها، فإنّها کانت مثال الأُمّ المعنية بأولادها، لقد رُزق محمّد منها کلّ أولاده غير إبراهيم؛ رُزق منها القاسم وبه کان يُکنّی، ثمّ ولدت له زينب ورقيّة وفاطمة وأُمّ کلثوم، وکلّ هؤلاء وُلدوا قبل النبوّة، ثمّ أنجبت له في الإسلام عبد اللّه الذي عُرف بالطيّب والطاهر، ومات الغلامان في صغرهما. وقد كان فضل خديجة الأکبر وفخرها الخالد خلود الزمن یتمثّل هو في موقفها من زوجها عندما نُبّئ، ومن الدعوة الإسلامية التي أخذ يدعو إليها بعد خمس عشرة سنة من زواجه منها. ويمكن القول بايجاز إنّها سيرة أوّل امرأة وخير امرأة مسلمة يعرف فيها القارئ المثل الأعلی للمرأة کزوجة وأُمّ، وعون علی جلائل الأُمور، في غير خروج علی طبيعة الجنس ومواضعات الناس منذ صار الإنسان إنساناً. الأُسلوب الذي اتّبعه البحث هو الأُسلوب المكتبي التوثيقي المقرون بسرد أدبي.

کم یودّ صاحب هذا المقال لو کان شاعراً وثّاب الخیال، مطلق العاطفة، جزل الألفاظ، سري المعاني، إذاً لاستطاع أن یصوغ للقرّاء من سیرة أُمّ المؤمنین خدیجة بنت خویلد قصیدة عصماء یضمّنها مناقب تلك السیّدة الجلیلة، وما مناقبها إلّا مناقب المرأة الکاملة من جمال وطهر وعفاف وزوجیة بارّة وأُمومة صحیحة، ومواساة في أشرف معانیها، ولکنّ صاحب هذا المقال وا أسفاه! لیس شیئاً من ذلك الشاعر الذي یتمنّی أن یکونه، إن هو إلّا مؤرّخ یعرض لوقائع الحیاة العامّة من ناحیتها الوضعیة جهد طاقته، ویشدّ خیاله الراکد إلی تلك الوقائع، فلا یأذن له ولا بمحاولة التطایر والتحلیق، ویکتم عاطفته حتّی لا یطغی علیه سلطانها فیتنکّب سبیل المؤرّخ الذي همّه البحث والتحقیق، ثمّ العرض البسیط للأشیاء، فلیقنع القارئ الکریم بالصورة المجملة التي

ص: 109

أرسمها في هذا المقال، حتّی یتأذّن اللّه بظهور شاعر عظیم ینظم الألیاذة العربیة، فیطالع فیها إذ ذاك فصلاً عن تلك السیّدة یکون من أبلغ ما خطّه یراع شاعر وأروعه.

***

کانت جزیرة العرب في القرن السادس المیلادي قد أخذت تتهیّأ للأحداث الجسام التي تمخّض عنها القرن السابع، وقد بدأ ذلك التهیّؤ في جمیع مناحي الحیاة العربیة العامّة، سیاسیة کانت أم اقتصادیة أم اجتماعیة، ونحن إنّما تهمّنا في هذا المقام الناحیة الاجتماعیة، ویهمّنا منها بصفة خاصّة نظام الأُسرة، کان نظام الأُسرة قد أخذ یتحوّل في حواضر الحجاز عامّة ومکّة خاصّة إلی النحو الذي أقرّه في جملته الإسلام فیما بعد، فأخذت تتلاشی ضروب الازدواج القدیمة التي اعتبرها الإسلام سفاحاً، ویحلّ محلّها نظام الزواج القائم علی التراضي والتعاقد.

وصاحب هذا التطوّر الخطیر في بناء الأُسرة، تطوّر خطیر مثله في مکانة المرأة الاجتماعیة، فبعد أن کانت المرأة العربیة لیس لها حقّ التملّك ولا حقّ الإرث، بل بعد أن کانت هي نفسها تملك وتورث في بعض الحالات أصبحت تستمتع بحقّ الملکیة وحقّ المیراث وحقّ التصرّف في مالها، وحقّ مفارقة الزوج عند اللزوم، هذه الحرّیة المستحدثة جعلت المرأة العربیة عاملاً فعّالاً في الحیاة المکّیة العامّة قبیل الإسلام وفي عصر النبوّة.

***

ولدت خدیجة بمکّة حوالی منتصف القرن السادس المذکور، وهي خدیجة بنت خویلد بن أسد بن العزّی بن قصي، وکان خویلد ممّن قاد قریشاً في حرب الفِجَار، ثمّ هي ابنة فاطمة بنت زائدة ابن الأصمّ من بني عامر بن لؤي، ولا نعرف عن فاطمة شیئاً غیر أنّ الذهبي یقول في جدّها عمرو بن خنثر المزني أنّه کان من أبطال الجاهلیة، فنسب خدیجة لأبیها وأُمّها یدلّ علی أنّها تنتمي إلی بیت من أعزّ بیوت قریش، وهو بیت عبد العزّی بن قصي، وإلی قبیلة من أعزّ قبائل مضر هي عامر بن لؤي.

ص: 110

واکتنفت عمود هذا النسب الجلیل فروع وحواش زاهیة زاهرة نعدّ منها عمّ خدیجة عمرو بن أسد، وکان سیّداً من سادات قریش، وأبناء عمومتها حکیم بن حزام، وورقة بن نوفل، وأُخته قتیلة بنت نوفل؛ فأمّا حکیم فکان صاحب مروءة وعاطفة طیّبة تتجلّی في صنیعه لبني هاشم والمطّلب عندما حصرتهم قریش في الشِّعب، وأمّا ورقة بن نوفل فکان معدوداً في تلك العصبة المستنیرة التي یعرف آحادها باسم «المتحنّفین» قد ترك الوثنیة وتنصّر وقرأ التوراة والإنجیل وکتب العبرانیة، وشارکته أُخته قتیلة في میوله الأدبیة والدینیة، فکانت «ممّن ینظر في الکتب»، علی حدّ تعبیر القدماء.

ومن هذه الفروع أخو خدیجة العوامّ بن خویلد، وکان من رجالات قریش، وهو والد الزبیر بن العوّام حواري رسول اللّه.

فخدیجة من أوسط نساء قریش نسباً، کما یقول مؤرّخو العرب، وإذا جاز للمؤرّخ أن یلحظ عمل الوراثة في هذا المقام، فإنّا نقول: إنّها ورثت عن أبویها مزایا السؤدد العربي، من نبل وکرم خلق ووفاء وشجاعة، کما لقفت عن عمومتها تلك الاستنارة العقلیة، وذلك السموّ الروحاني الذي أعدّها لتقدیر الدعوة الإسلامیة وقبولها عن طیب نفس وطواعیة خاطر.

***

تزوّجت خدیجة مرّتین في مقتبل حیاتها وقبل تزوّجها من محمّد بن عبد اللّه؛ تزوّجت للمرّة الأُولی من عتیق بن عائذ بن عبد اللّه بن مخزوم، ثمّ مات عنها عتیق فتزوّجت بعده أبا هالة هند بن زرارة التمیمي، ثمّ توفّي أبو هالة فغدت أیماً، وقد ورثت علی ما یظهر عن أبویها وزوجیها میراثاً فیما رأت أن تقوم علی استغلاله في التجارة التي کانت مرتزق قریش في ذلك الزمان، فکانت کما یحدّثنا الرواة تستأجر الرجال في الاتّجار لها بمالها لقاء نصیب تهبه لهم من الربح.

لکنّ خدیجة الحسیبة النسیبة الثریة الوسیمة لم تزل بعد نصفاً في النساء عواناً بین

الشباب والکهولة، قد شارفت الأربعین ولمّا تعدّها، وهي سنّ لها عند بعض النساء

ص: 111

جمال وروعة وملاحة وأخذة، وکان غیر واحد من کبار قریش حریصاً علی خطبتها، ولکنّ خدیجة کانت تتأبّی علی الخطّاب، لا رغبة منها في العزوبة، فهي أعمر قلباً وأنضر شباباً من أن ترغب فیها، ولکن لأنّ الأیدي التي کانت تمتدّ لخطبتها لیست من الطراز الذي یعجبها، لقد نضج عقلها وکبر قلبها وأصبح کلّ منهما ینشد الکفء والمثیل، ومن لها بالعقل الراجح والقلب الکبیر في مجتمع خشن کثیف غلیظ؟ أصبحت لا یروقها ذلك السؤدد العربي الجاهلي بما ینطوي علیه في واقع الأمر من بداوة وأعرابیة، لا یمکن أن تفيء منهما إلی ظلیل.

وبینا خدیجة تروّض النفس علی احتمال الحیاة الجدیدة، إذا بقلبها قد أخذت تنطبع علیه شیئاً فشیئاً صورة نجم شارق في أُفق المجتمع المکّي، ویوشك أن ینکشف عن کوکب وقّاد یملأ الکون نوراً هادیاً، وحرارة تبعث فیه الحیاة قویة بعد أن لم یبق له منها إلّا الدماء، ولقد کانت تلك الصورة منتزعة من الحقیقة لا من الوهم ولا الخیال، إنّها کانت صورة فتیً لا یزال مغموراً، ولکن کلّ مخایله کانت تؤذن في نظر خدیجة بأنّه سوف یأخذ بزمام العالم ویوجّهه وجهة جدیدة، ذلك الفتی هو محمّد بن عبد اللّه.

کان محمّد إذ ذاك شابّاً قد ناهز الخامسة والعشرین من عمره، سويّ الخلقة مشرق الطلعة نبیل المظهر کریم المخبر، وکان یحیا حیاة لعلّه لم یکن یحیاها بمکّة أحد غیره، کان زاهداً في الناس، عزوفاً عنهم، إلّا ما اقتضته ضرورة المعایشة والمساکنة، نزوعاً إلی التفکیر، محبّاً للعزلة، قاذعاً للشهوة رادعاً للنفس، فأوشك بذلك أن یستغني بنفسه عن غیره، وغدا آنه في وحشته وانبساطه في انقباضه، وغناه في إقلاله، قد حدّ ما بینه وبین الناس بحدّ واضح المعالم، ثمّ لم یأذن لعلاقته بهم أن یتجاوز هذا الحدّ فتنغص علیه نعمة باله، وتفسد علیه هدوء سربه.

لقد کان قلب خدیجة یخفق خفقاناً شدیداً عندما کانت تلمح هذا الفتی العجیب یروح

لطیّته ویغدو في طرق مکّة وأسواقها وأندیتها، وأدرکت من فورها أنّه حاجة قلبها ومهوی فؤادها، ولکن کیف تفضي إلیه بدخیلة نفسها، وتبثّه لاعج حبّها؟ إنّ الحبّ والنسب والخفر

ص: 112

والحیاء، کلّ ذلك کان یمنعها أن تکون هي التي تخطو في الأمر الخطوة الأُولی وتقول فیه الکلمة الأُولی، لقد کان الموقف دقیقاً کلّ الدقّة حرجاً کلّ الحرج.

فلتسر في الأمر بحذر واحتیاط محافظة علی نسبها وحسبها وتوفیراً لخفرها وقنیة لحیائها.

إنّها کانت تستأجر الرجال في الاتّجار لها بمالها وتساهمهم بنصیب مسمّی من الربح، فلم لا تستأجر محمّداً وتضاعف له الجعل الذي کانت تجعله لغیره؟ وأنشأت من فورها تجیب عن هذا السؤال، فوسّطت إلی محمّد من عرض علیه رغبتها، فقبل محمّد ما عُرض علیه، وسافر إلی الشام في صیف عام (594) متّجراً في مال السیّدة، وسافر معه میسرة غلام خدیجة لیرقبه عن کثب وینهي إلی السیّدة عند عودته جملة حاله في السفر، فتلمّ بجملة حاله في السفر والحضر.

وباع محمّد واشتری، ولقي الرهبان ببادیة الشام، وتحدّث إلیهم وتحدّثوا إلیه، ثمّ عاد وقد ربحت التجارة ربحاً وفیراً، وقصّ میسرة علی السیّدة ما رأی من محمّد في السفر من رقّة الشمائل وسهولة الخلق وصدق المعاملة، فعلمت السیّدة عند ذلك أنّ قلبها لم یکذّبها، فقطعت کلّ تردّد وأجمعت أن تخطو هي الخطوة الأُولی وتقول هي الکلمة الأُولی، وکانت لها صدیقة تثقّ بها اسمها نفیسة بنت منیة، فدسّتها إلی محمّد لتلوّح له بالأمر وتعلم رأیه فیه:

نفیسة: یا محمّد، ما یمنعك أن تزوّج؟

محمّد: ما بیدي ما أتزوّج به.

نفیسة: فإن کُفیت ذلك ودُعیت إلی الجمال والمال والشرف والکفاءة، ألا تجیب؟

محمّد: فمن هي؟

نفیسة: خدیجة.

محمّد: وکیف لي بذلك؟

نفیسة: عليَّ.

محمّد: فأنا أفعل.

ص: 113

لاشكّ أنّ محمّداً لم یقل مقالته الأخیرة إلّا بعد أن أصبح یشعر نحو السیّدة خدیجة بمثل شعورها نحوه، وبعد أن أصبح یبادلها عطفاً بعطف وتقدیراً بتقدیر. نعم، إنّها أسنّ منه، ولکنّ ذلك لیس شیئاً بالقیاس إلی محاسنها وفضائلها الکثیرة التي جعلته یری فیها رغبة نفسه وطلبة قلبه، وعرض محمّد الأمر علی عمومته کما عرضته خدیجة علی عمّها، فکلّ وافق. وبنی محمّد بها بعد أن أصدقها عشرین بکرة کما یروون.

***

کان هذا الزواج لمحمّد وخدیجة فاتحة حیاة زوجیة هادئة وادعة هنیئة، کأهدأ ما تکون حیاة زوجیة وأروعها وأهنئها، ولم لا تکون کذلك؟ وکانت تقوم علی الکثیر المتبادل من الحبّ والإخلاص والتقدیر. کانت خدیجة تقدّر في محمّد کرم الخلق ورقّة القلب وروحانیة النفس، وکان هو یقدّر فیها رجاحة العقل وکثرة العطف علیه والإعجاب به، والتوقیر لأسباب راحته في منزله، ومطابقته فیما یحبّ وما لا یحبّ.

ولا ننسی أنّ محمّداً لم یکن کسائر الرجال یعیش کیفما اتّفق، فهو رجل کثیر العنایة بأمر نفسه، لیس کلّ الطعام یطعم، ولا کلّ الشراب یشرب، ولا کلّ الملبس یلبس، ولا بکلّ الزینة یزدان، ثمّ هو میّال بطبعه إلی العزلة، مؤثّر للصمت مطیل للفکر فعلی جلیسه وعشیره أن یعرف فیه کلّ ذلك ویرعاه له، وقد عرفت خدیجة ذلك ورعته له أتمّ رعایة، فلا شكّ أنّها کانت تعد له ما یستطیبه من الدباء والعسل والتمر المنقوع في اللبن أو المخلوط بالقثاء أحیاناً، ولاشكّ أنّها کانت تقلّ في طعامه من البصل والثوم اللذین کانت تعاف کثرتهما نفسه، کما کانت تغني بنظافة ثیابه وأدوات طیبه

وادّانه، فقد کان محمّد یحبّ أن یبرز للناس عطر الجسم نظیف الملبس، ولاشكّ أنّها کان توفّر له الهدوء في المنزل، وإذا جنح إلی الخلوة أو التحدّث في الغار لم تقطع علیه سکونه، بل أعانته علی ذلك بأعداد الزاد الذي یحتاج إلیه، فإذا طالت غیبته افتقدته في غیر إعاج له، ولا تکدیر لصفو نفسه.

وکما کانت خدیجة مثال الزوجة الحفیة بزوجها، فإنّها کانت مثال الأُمّ المعنیة

ص: 114

بأولادها، لقد رُزق محمّد منها کلّ أولاده غیر إبراهیم؛ رُزق منها القاسم وبه کان یُکنّی، ثمّ وُلدت له زینب ورقیّة وفاطمة وأُمّ کلثوم، وکلّ هؤلاء وُلدوا قبل النبوّة، ثمّ وُلد له في الإسلام عبد اللّه الذي عُرف بالطیّب والطاهر، وقد مات الغلامان صغیرین.

أمّا البنات فکلّهنّ أدرکن الإسلام وتزوّجن وهاجرن، وقد انضمّ إلی هؤلاء علي بن أبي طالب، ضمّه النبي إلی أولاده تخفیفاً عن عمّه أبي طالب الذي کان فقیراً کثیر العیال، ولیس بأیدینا مع الأسف نصوص نعرف منها کیف کانت خدیجة تعوّل أولادها وتنشئهم، غیر أنّ ما ورد من الأخبار علی قلّته لا یخلو من الفائدة فیما نحن بصدده.

روی ابن سعد عن الواقدي قال: «وکانت سلمی مولاة صفیة بنت عبد المطّلب تقبل خدیجة في ولادها، وکانت تعقّ عن کلّ غلام بشاتین، وعن الجاریة بشاة، وکان بین کلّ ولدین لها سنة، وکانت تسترضع لهم، وتعدّ ذلك قبل ولادها».

وکما کانت خدیجة تعني بولادة أولادها ورضاعتهم وتنشئتهم، فقد کانت تتخیّر الأزواج لبناتها، فهي التي أشارت علی النبي بأن یزوّج سعد بن الربیع من بنتها زینب، فلمّا زُفّت إلیه أهدتها خدیجة قلادة کان لها شأن بعد سیرد ذکره.

ثمّ إنّ کلّ من أصهر إلی محمّد سعد بزواجه، فسعد بن الربیع أبی أن یفارق زینب عندما أرادت قریش حمله علی طلاقها نکایةً في محمّد، مع أنّ سعداً لم یکن قد أسلم بعد، وقد تزوّج عثمان بن عفّان رقیّة، فلمّا توفّیت ورآه النبي حزیناً مهموماً لهفان زوّجه أُختها أُمّ کلثوم، وکانت فاطمة عند زوجها علي بن أبي طالب بالمحلّ الرفیع والمکان الممتاز.

***

لکن فضل خدیجة الأکبر وفخرها الخالد خلود الزمن إنّما هو في موقفها من زوجها عندما نُبّئ، ومن الدعوة الإسلامیة التي أخذ یدعو إلیها بعد خمس عشرة سنة من زواجه منها.

لقد أصبح محمّد بعد تزوّجه من خدیجة هادئ السرب ناعم البال، وأصبح له منزل وأهل یسکن إلیهما، فانصرف إلی ما کانت تصبو إلیه نفسه من الخلوة وإطالة الفکر،

ص: 115

فکانت خدیجة تعینه علی ذلك دون أن تری في مسلکه بأساً.

فلمّا فاجأ الوحي محمّداً وأصابه ما أصابه أوّل الأمر من الذهول والحیرة، ورجع إلی منزله رعباً حائراً وقال لها: «لقد خشیت أن یکون بي جنن، لم یکن منها إلّا أن ثبّتت فؤاده وسکّنت خاطره بمقالتها المشهورة: «واللّه لا یخزیك اللّه أبداً، إنّك لتصل الرحم، وتحمل الکَلّ وتُکسِب المعدم وتقري الضیف وتعین علی نوائب الحقّ...» إلخ.

ثمّ إنّها انطلقت من فورها إلی ابن عمّها ورقة بن نوفل، وقصّت علیه خبر زوجها، فبشّرها ورقة بأنّ الذي رآه محمّد إنّما هو الناموس الأکبر الذي نزل علی عیسی وموسی، وقد أثلجت تلك المقالة فؤادها وغدت من ذلك الوقت مؤمنة بدعوة زوجها، فکانت بذلك أوّل من صدّقه وآمن به.

روی الطبري بإسناده إلی عفیف الکندي أنّه قال: « کنت امرءاً تاجراً، فقدمت أیّام الحجّ فأتیت العبّاس، فبینا نحن عنده إذ خرج رجل یصلّي، فقام تجاه الکعبة، ثمّ خرجت امرأة فقامت معه تصلّي، وخرج غلام فقام یصلّي معه، فقلت: یا عبّاس، ما هذا الدین؟ قال: هذا محمّد بن عبد اللّه یزعم أنّ اللّه أرسله به، وأنّ کنوز کسری وقیصر ستُفتح علیه، وهذه امرأته خدیجة بنت خویلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمّه علي بن أبي طالب آمن به. قال عفیف: فلیتني کنت آمنت یومئذٍ، فکنت أکون ثالثاً».

ولم یزدد إیمان خدیجة مع الزمن إلّا رسوخاً ولا یقینها إلّا قوّةً، ولا تعلّقها بزوجها إلّا

شدّةً، فکانت في السنوات العشر الأُولی للبعثة وهي السنوات التي توالت فیها الأرزاء والمحن علی محمّد وأصحابه، واضطهدت فیها الدعوة أیما اضطهاد، کانت خدیجة في تلك السنوات إلی جانب زوجها، تریّش بتأییدها جناحه، وتأسو بعطفها جراحه.

روی ابن الأثیر بإسناده فقال: «وکانت خدیجة أوّل من آمن باللّه ورسوله وصدّق بما جاء به، فخفّف اللّه بذلك عن رسوله، لا یسمع شیئاً یکرهه من ردٍّ علیه وتکذیب له فیحزنه، إلّا فرّج اللّه عنه بها إذا رجع إلیها، تثبّته وتخفّف عنه، وتصدّقه وتهوّن علیه أمر الناس».

ولم تتردّد خدیجة عندما جدّ الجدّ أن تشرك زوجها في محنته وتقاسمه مرّ العیش کما

ص: 116

قاسمته حلوه، وتعمل لنصرة دعوته صابرة محتسبة، فعندما اشتدّت قریش علی بني هاشم والمطّلب وحصرتهم في الشِّعب ومنعتهم حتّی الماء والزاد، کانت خدیجة في الشِّعب تقاسي ما یقاسیه زوجها وأقرباؤه علی کبر سنها واضمحلال بنیتها، فلمّا فاءت قریش إلی صوابها وخلّت سبیل أُولئك المجاهدین المجهودین، کان طول الحصار قد أضرّ بخدیجة واخترم المرض جثمانها، فلم تعش إلّا قلیلاً، وقضت لعشر خلون من رمضان من العام العاشر للبعثة، بالغة من العمر خمسة وستّین عاماً، وقد دفنها الرسول بالحجون، وسوّی علیها التراب بعد أن نزل قبرها وألقی علیها النظرة الأخیرة.

وقضی اللّه أن یفقد الرسول بعد خدیجة وفي نفس العام عمّه أبا طالب، وهو الذي کان ینافح دونه ویتولّی حمایته من عدوان أعدائه، فاجتمع علی محمّد في وقت واحد خطبان فادحان، ورزآن بالغان، ولکن لاشكّ في أنّ داخل رأییه کان الأفدح وباطن جرحیه کان الأدمی، لقد تهدّم صرح سعادته المنزلیة وغدت الحیاة مشغلة له في الداخل والخارج، علی کثرة ما أعطاه اللّه في الداخل والخارج.

***

کان محمّد أکبر من أن ینسی لمحسن إحسانه، وأکرم من ألّا یفي لحبیب صدقه الحبّ وإصفاء الودّ، ولو باعدت بینه وبینه أطباق الثری، وکذلك کان شأنه مع خدیجة

بنت خویلد، لقد وفی لها في حالي الحیاة والموت، أحبّها ولم یتزوّج علیها في حیاتها، فلمّا لحقت بربّها لم تبرح صورتها خاطره، ولا فارق تذکّرها لسانه، وهم یروون في ثنائه علیها ودوام تذکّره لها أخباراً کثیرة یرون أنّه فضّلها هي ومریم بن عمران علی نساء العالمین، وأنّه بشّرها ببیت في الجنّة من قصب، ولا صخب فیه ولا نصب، وأنّه عندما أرسلت إلیه ابنته زینب بقلادة قلّدتها إیّاها خدیجة لتفتدي بها زوجها سعد بن الربیع وکان قد أُسر ببدر، رقّ النبي لذلك رقّة شدیدة، وطلب إلی أصحابه أن یطلقوا لزینب أسیرها ومالها ففعلوا، وأنّه کان إذا ذبح شاةً تتبّع صدیقات خدیجة یهدي الیمن منها، وأنّه کان لا یکاد یخرج من منزله حتّی یذکر خدیجة ویثني علیها، والحقّ

ص: 117

أنّ دوام تذکّره لها هاج غیرة عائشة وهی بعد آثر نسائه لدیه، وأجملهنّ، وأصغرهن سناً.

روی ابن الأثیر بإسناده إلی عائشة أنّها قالت: «کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لا یکاد یخرج من البیت حتّی یذکر خدیجه فیحسن الثناء علیها. فذکرها یوماً من الأیّام، فأدرکتني الغیرة، فقلت: هل کانت إلّا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خیراً منها. فغضب حّتی اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثمّ قال: لا واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها، آمنت إذ کفر الناس، وصدّقتني وکذّبني الناس، واستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه منها أولاداً اذ حرمني أولاد النساء. قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذکرها بسیّئة أبداً».

***

تلك بالاختصار سیرة أوّل امرأة مسلمة، وخیر امرأة مسلمة یعرف فیها القارئ المثل الأعلی للمرأة زوجة، وأُمّاً، وعوناً علی جلائل الأُمور، في غیر خروج علی طبیعة الجنس ومواضعات الناس منذ صار الإنسان إنساناً.

ص: 118

ص: 119

11. خدیجة بنت خویلد- علي محمّد علي دخیل

ملخّص البحث:

يجري هذا البحث على غرار البحوث الأُخرى، متتبّعاً وناقلاً للنصوص التاريخية. کان وجود خديجة عاملاً مهمّاً في حياة الرسول الأعظم، أو في حياة الإسلام وهو لا يزال في بدایته، ولو لم يکن لوجود خديجة إلی جنب الرسول الأعظم هذا الأثر الکبير، لما عزّ فقدها عليه وهدّ موتها رکنه، ولما کان عام فقدها عام الأحزان، ولما ظلّ يذکرها السنين المتطاولة يحنّ لذکرها ويبکي لفقدها، ويذکر أياديها علی الرسالة ومساهمتها في تحقيق النصر.

عاش النبي(صلی الله علیه و آله) مع خديجة خمساً وعشرين سنة بأحسن عيش وأتمّ وفاق، وبقيت صورتها بعد موتها مرتسمة بمخيلته حتّی وفاته. وعاش من بعدها مع زیجات کثيرة، ولکن قلبه بقي متعلّقاً بها؛ لما رأی من إيمانها باللّه وتصديقها لرسوله، وبذلها جميع ما تملك في سبيل الإسلام، ولما کان يجده عندها من الإکرام والتبجيل والحبّ. وقد قابل هذه العواطف وقدّر هذا الشعور وهذه المودّة، فلم يتزوّج في حياتها؛ إکراماً لها وإعظاماً لشأنها، فقد قضی ربيع حياته معها ولم يشرك به غيرها. وسَمّي عام وفاتها - ووفاة عمّه أبي طالب - عام الحزن؛ لما دهمه من موتها، فقد عزّ عليه فراقها وأوحشه فقدها. وحديث ثنائه عليها بعد موتها حديث طويل ذکره رواة الحديث وأصحاب التراجم. وخليق بامرأة تستأثر بحبّ النبي وإکرامه في حياتا ومماتها أن يخلّدها

ص: 120

التاريخ، وأن يعکف الباحثون علی دراسة سيرتها ومزاياها؛ ليستوحوا منها العقيدة

الصادقة والإيمان الثابت والمُثُل الرفيعة.

وأجمل ما قيل فيها: إذا أردنا مثالاً للزوجة المخلصة الصالحة والمرأة الرزينة العاقلة، فقد لا نجد خيراً من خديجة أُمّ المؤمنين، هذه السيّدة العظيمة في عقليتها، أدرکت الجاهلية والإسلام، وکان لها في کليهما مرکز ممتاز، حتّی سُمّيت: الطاهرة، فجمعت بين المال والجمال والکمال، وهذه الصفات الثلاث إذا اجتمعت - وقلّما تجتمع - فإنّها تضفي علی المرأة ألواناً من السموّ والرفعة، وهکذا کان شأن خديجة. إنّ الحديث عن خديجة حديث عن الإسلام في نشوئه وارتقائه.

الإهداء

سیّدتي یا بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، یشرّفني أن أرفع إلیكِ کتابي هذا مستعرضاً فیه سیرة أُمّكِ العظیمة خدیجة وبعض مواقفها الجهادیة في سبیل الدفاع عن الرسول الأعظم والإسلام. وأرجو منكِ یا سیّدتي القبول.

هذا الکتاب

نقدّم للقرّاء الکرام الکتاب الأوّل من هذه السلسلة: «خدیجة بنت خویلد»، والحدیث عن خدیجة حدیث عن الإسلام في نشوئه وارتقائه، فهي أوّل امرأة لبّت دعوة الرسول الأعظم، واستجابت لنداء السماء، ووقفت بجانب الرسول بکلّ ما تملك من حول وقوّة.

أتبعت خدیجة إسلامها بتقدیم ثرواتها الطائلة وإمکانیاتها المالیة الکبیرة في سبیل الإسلام وتحت تصرّف الرسول، ینفق منها علی جمهور المعوّزین الذین استجابوا للدین الجدید، وفي الشؤون الأُخری التي یرتئیها، حتّی نفذ مالها کلّه.

وممّا تسالم علیه المؤرّخون والباحثون: إنّ أعظم مقوّمات هذا الدین الدفاعیة هي: نصرة أبي طالب وأموال خدیجة وسیف علي بن أبي طالب ، فبهذه العوامل استطاع الإسلام أن یقف أمام التیّارات المعادیة التي کادت أن تقضي علیه وهو لا یزال غضّاً في بدایة حیاته.

ص: 121

ولخدیجة بعد هذا حلقات أُخری حریّة بالدرس، وجوانب کثیرة جدیرة بالعنایة.

وهذا الکتاب لا یدّعي الإحاطة، بل هو إلمامة سریعة ببعض مآثر هذه المرأة العظیمة، وإشارة إلی جوانب من حیاتها الکریمة ومن اللّه التوفیق.

في سطور

أبوها: خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ بن کلاب.

أُمّها: فاطمة بنت زائدة ابن الأصمّ.

ولادتها: سنة 68 قبل الهجرة.

أزواجها: أبو هالة بن زرارة التیمي، عتیق بن عائذ المخزومي(1).

زواجها منه : وعمره الشریف خمس وعشرون سنة، وعمرها أربعون سنة.

أولادها: القاسم، عبد اللّه (یقال له الطیّب والطاهر؛ لولادته بعد النبوّة).

بناتها: زینب، أُمّ کلثوم، فاطمة، رقیّة(2).

أموالها: کانت أکثر قریش مالاً، وکان أهل مکّة یتّجرون بأموالها قبل زواجها به ، ثمّ وهبته صلوات اللّه علیه جمیع ما تملك، فکانت هذه الثروة الطائلة من مقوّمات الدعوة الإسلامیة.

ألقابها: الطاهرة.

إسلامها: هي أوّل امرأة أسلمت.

قرابتها: هي أقرب أزواجه إلیه نسباً.

في بیت الرسول: لم یتزوّج غیرها في حیاتها؛ إکراماً لها وتعظیماً لشأنها.

وفاتها: في شهر رمضان السنة العاشرة من البعثة، وبعد وفاة أبي طالب بثلاثة أیّام.

ص: 122


1- . جاء في المجلّد السادس من البحار في باب نساء النبي : «روی أحمد البلاذري وأبو القاسم الکوفي في کتابیهما، والمرتضی في الشافي، وأبو جعفر في التلخیص: إنّ النبي تزوّج بها وکانت عذراء، یؤکّد ذلك ما ذکره في کتاب الأنوار والبدع، أنّ رقیّة وزینب کانتا ابنتي هالة أُخت خدیجة».
2- . أنکر صاحب الاستغاثة ذلك، وذکر أنّهنّ بنات أُختها هالة، أُلحقن بها لخمول هالة وسموّ خدیجة، وعلی رأیه لم یکن لها إلّا فاطمة(علیها السلام).

دفنها في الحجون، وأدخلها بنفسه القبر، سُمّي عام وفاتها «عام الحزن»، عمرها 65 سنة.

إسلامها

هنیئاً لك یا محمّد بهذا النصر، فهب أنّ قریشاً هبّت تدافعك وتقهرك، لکنّ الدنیا کانت بأسرها في قبضتك، فهذا ابن عمّك وحبیبك أوّل من یتابعك علی دینك، ویصدّقك علی رسالتك، ویؤازرك علی نشر تعالیمك، وهذه زوجتك أوّل امرأة تؤمن بك وتناصرك، ومن ورائك عمّك شیخ الأباطح، فهو لا یسلّمك ولا یتخلّی عنك، ویأمر نجله الآخر (جعفراً) حینما رآك تصلّي وخلفك علي وخدیجة أن یکون معهما ثالثاً، وتلا هؤلاء آخرون هم من أکثر الناس اتّصالاً بك، ورحماً منك، فقد أسلم مولاك زید بن حارثة، وعمّك الحمزة، وزوجة عمّك فاطمة بنت أسد، وحاضنتك أُمّ أیمن. فلو تابعك من في المشرق والمغرب وکنت لم تحصل علی هؤلاء لکنت لم تحصل علی شيء.

أفلا یستدلّون علی صحّة دینك بمتابعة أقرب الناس منك وأطلعهم علی أسرارك وأعلمهم بأحوالك؟ فلو کنت والعیاذ باللّه مفتریاً لکان لهؤلاء شأن آخر معك، ولما وجدناهم یسارعون إلی ندائك، ویبذلون في سبیلك النفس والنفیس، ویتحمّلون المصاعب في سبیل إنجاح دعوتك ونشر مبادئك، ثمّ تکون خاتمة المطاف لبعضهم الشهادة.

والحدیث عن إسلام خدیجة هوالحدیث عن بدء الإسلام في یومه الأوّل، فقد أجمعت الأُمّة بأسرها علی أنّها أوّل امرأة أسلمت.

عن أبي یحیی بن عفیف، عن أبیه، عن جدّه عفیف قال: «جئت في الجاهلیة إلی مکّة

وأنا أُرید أن أبتاع لأهلي من ثیابها وعطرها، فأتیت العبّاس بن عبد المطّلب وکان رجلاً تاجراً، فأنا عنده جالس حیث أنظر إلی الکعبة وقد حلقت الشمس في السماء فارتفعت وذهبت، إذ جاء شابّ فرمی ببصره إلی السماء، ثمّ قام مستقبل القبلة، ثمّ لم ألبث إلّا یسیراً حتّی جاء غلام فقام عن یمینه، ثمّ لم ألبث إلّا یسیراً حتّی جاءت امرأة فقامت خلفهما،

ص: 123

فرکع الشابّ فرکع الغلام والمرأة، فسجد الشابّ فسجد الغلام والمرأة.

فقلت: یا عبّاس، أمر عظیم! قال العبّاس: أمر عظیم، أتدري من هذا الشاب؟ قلت: لا، قال: هذا محمّد بن عبد اللّه ابن أخي، أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي ابن أخي، أتدري من هذه المرأة؟ هذه خدیجة بنت خویلد زوجته، إنّ ابن أخي هذا أخبرني أنّ ربّه ربّ السماء والأرض أمره بهذا الدین الذي هو علیه، ولا واللّه ما علی الأرض کلّها أحد علی هذا الدین غیر هؤلاء الثلاثة»(1).

في عهد الرسالة

هبّت قریش في وجه الرسول الأعظم تدافعه عن أوثانها وتقالیدها واستغلالها، مجنّدة کلّ قواها في صدّه عند دعوته، ومنعه عن أداء رسالته، استعملت لذلك شتّی الوسائل والسبل، وبلغت في إیذائها أقصی ما یتصوّر، حتّی قال علیه الصلاة والسلام: «ما أُوذي نبيّ بمثل ما أُوذیت».

ومن الغریب أن یکون محمّد بالأمس الصادق الأمین، ویصبح الیوم الساحر الکذّاب! هکذا یتنکّر الإنسان لأخیه الإنسان عندما تصطدم مصالحه وتتضرّر منافعه.

وفي الوقت الذي کان فیه الرسول الأعظم یعاني الأذی ویکابد المصاعب، کان هناك من یطیّب خاطره ویخفّف عنه آلامه ویُنسیه همومه وأحزانه؛ إنّها خدیجة، إنّها

المرأة المؤمنة، إنّها المرأة العظیمة، إنّها ناصرة محمّد وشریکته.

کانت ابتسامتها تخفّف عنه عناءه وأتعابه، وحبّها الطافي علی محیاها یُنسیه آلامه وأتعابه، وقلبها الکبیر المفعم بالعقیدة والإیمان یشرح صدره.

کان إیمانها یوحي للرسول بمستقبل الدعوة الزاهر، وکانت صلابة عقیدتها دلیلاً علی بدایة النصر.

أنا لا أقول: إنّ موقف خدیجة کان یزید من نشاط الرسول وجهاده ویدفع به إلی تحقیق أهدافه وآماله، فالرسل صلوات اللّه علیهم لا یزدهم کثرة الناس حولهم عزّة ولا

ص: 124


1- . خصائص أمیر المؤمنین : ص45.

تفرّقهم عنهم وحشة، فهم یسیرون وفق مخطّط رسمه لهم الجلیل جلّ شأنه، ملتزمون من قبل الحقّ تبارك وتعالی، ومن کان اللّه ناصره کفاه أمره وألهمه رشده، فهم لا یستوحشون وإن وقفت الدنیا کلّها في وجوههم، ولا یخافون ولو تجندّت الخلائق بأسرها لحربهم.

ولکنّي معتقد بأنّ وجود خدیجة کان ضروریاً في حیاة الرسول؛ بما لها من إیمان وعقیدة وتفانٍ وإخلاص وحبّ وعطف وذهب وفضّة وتجارة وماشیة وعبید وإماء.

کان وجود خدیجة عاملاً مهمّاً في حیاة الرسول الأعظم، أو في حیاة الإسلام وهو لا یزال في بدء نموّه، ولو لم یکن لوجود خدیجة إلی جنب الرسول الأعظم هذا الأثر الکبیر لما عزّ فقدها علیه وهدّ موتها رکنه، ولما کان عام فقدها عام الأحزان، ولما ظلّ یذکرها السنین المتطاولة یحنّ لذکرها ویبکي لفقدها، ویذکر أیادیها علی الرسالة ومساهمتها في تحقیق النصر.

إنّ کلّ من درس السنین العشر التي تلت البعثة النبویة یلمس جیّداً أثر هذه المرأة في نشر الإسلام، وما قدّمته من خدمات في سبیل إعلاءکلمة الحقّ. إنّ التاریخ لم یغفل موقفها البطولي وتضحیاتها الکبیرة وما بذلته من أموال طائلة في نصرة الدین الجدید.

فأعظم خطر واجهه الرسول الأعظم علی الرسالة «حصار الشِّعب»، وکانت أموال

خدیجة هي مفتاح الحصار، فکانت تشتري الموادّ الاستهلاکیة بأضعاف أثمانها غذاءً لمن في الشِّعب، حتّی مرّت سنوات الحصار بسلام علی من في الشِّعب وأُحبط تدبیر قریش.

ولیست مواقفها في المجالات الأُخری دون هذا الموقف، فیتّضح لك من هذا وغیره عظمة هذه المرأة وأثرها في نشر هذا الدین الحنیف.

سیرتها

للشخصیات الکبیرة التي استأثرت بالتاریخ قروناً طویلة، وستبقی إلی الأبد تحتلّ الصدارة فیه، سیرة کریمة ساروا علیها من بدایة حیاتهم وحتّی نهایة مطافهم، ولم تکن

ص: 125

هذه السیرة منهم ولیدة الصدفة ولا هي ممّا تخلّقوا به في أوج عظمتهم، أو رداءً تقمّصوه في عنفوان زعامتهم، بل جبلة طبعوا علیها وفطرة خیّرة فُطروا علیها وغریزة صالحة نشأوا علیها.

فالرسول الأعظم کان یُعرف من بدایة حیاته ب-«الصادق الأمین»؛ لما ظهر من صدقه وأمانته. وشاء المهیمن أن تکون لخدیجة سیرة مثلی تنفرد بها عن جمیع النساء، وتمتاز بها من بین العقائل، فقد کانت تُعرف في الجاهلیة ب-«الطاهرة»، وناهیك بهذا شرفاً وفخراً.

وفي هذه الصفات بعض ما ورد من سیرتها(علیها السلام):

1. قال ابن حجر العسقلاني: «ومن مزایا خدیجة أنّها ما زالت تعظّم النبي(صلی الله علیه و آله) وتصدّق حدیثه قبل البعثة وبعدها... ومن طواعیتها له قبل البعثة أنّها رأت میله إلی زید بن حارثة بعد أن صار في ملکها، فوهبته له، فکانت هي السبب فیما امتاز به زید من السبق إلی الإسلام»(1).

2. قال ابن إسحاق: «وکانت خدیجة أوّل من آمن باللّه ورسوله، وصدّقت بما جاء به، فخفّف اللّه بذلك عن رسوله، فکان لا یسمع شیئاً یکرهه من ردّ علیه وتکذیب له فیحزنه، إلّا فرّج اللّه عنه بها، إذا رجع إلیها تثبّته وتخفّف عنه وتصدّقه، وتهوّن علیه أمر الناس،(علیها السلام) »(2).

3. قالت خدیجة لابن عمّها ورقة بن نوفل: «اعلن بأنّ جمیع ما تحت یديّ من مالٍ وعبید فقد وهبته لمحمّد یتصرّف فیه کیف شاء»، فوقف ورقة بین زمزم والمقام ونادی بأعلی صوته: «یا معاشر العرب، إنّ خدیجة تُشهدکم علی أنّها وهبت لمحمّد نفسها ومالها وعبیدها وجمیع ما تملکه یمینها؛ إجلالاً له وإعظاماً لمقامه ورغبةً فیه». وأنفذت إلی أبي طالب غنماً کثیراً ودنانیر ودراهم وثیاباً وطیباً؛ لیعمل الولیمة. أقام أبو

ص: 126


1- . الإصابة: ص275.
2- . أُسد الغابة: ج5 ص437.

طالب لأهل مکّة ولیمة عظیمة ثلاثة أیّام حضرها الحاضر والبادي(1).

4. قال الزهري: «بلغنا أنّ خدیجة أنفقت علی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أربعین ألفاً وأربعین ألفاً»(2).

مکانتها عند الرسول الأعظم

عاش النبي(صلی الله علیه و آله) مع خدیجة خمساً وعشرین سنة بأحسن عیش وأتمّ وفاق، وبقیت صورتها بعد موتها مرتسمة بمخیلته حتّی انتقل إلی الرفیق الأعلی.

عاش من بعدها مع أزواج کثیرة، ولکن قلبه بقي متعلّقاً بخدیجة؛ لما رأی من إیمانها باللّه وتصدیقها لرسوله وبذلها جمیع ما تملك في سبیل الإسلام وإعلاء کلمة اللّه، ولما کان یجده عندها من الإکرام والتبجیل والحبّ.

وکان یقابل هذه العواطف والشعور ویثمّن هذه المودّة، فهو لم یتزوّج في حیاتها؛ إکراماً لها وإعظاماً لشأنها، فقد قضی ربیع حیاته معها لم یشرك به غیرها، ویُسمّي عام وفاتها - ووفاة عمّه أبي طالب - عام الحزن؛ لما دهمه من موتها، فقد عزّ علیه فراقها وأوحشه فقدها.

وحدیث ثنائه علیها بعد موتها حدیث طویل ذکره رواة الحدیث وأصحاب التراجم.

قالت عائشة: «کان رسول اللّه لا یکاد یخرج من البیت حتّی یذکر خدیجة فیحسن الثناء علیها، فذکرها یوماً من الأیّام فأدرکتني الغیرة، فقلت: هل کانت إلّا عجوزاً، فقد أبدلك اللّه خیراً منها.

فغضب حتّی اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثمّ قال: لا واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها، آمنت بي إذ کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء.

قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذکرها بسیّئة أبداً»(3).

ص: 127


1- . وفاة الزهراء للمقرّم: ص7.
2- . تذکرة الخواصّ: ص314.
3- . الاستیعاب: ج2 ص721، أُسد الغابة: ج5 ص539.

وقالت أیضاً: «ما غرت علی أحدٍ من أزواج النبي ما غرت علی خدیجة، وما بي أن أکون أدرکتها؛ وما ذاك إلّا لکثرة ذکر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لها، وإن کان ممّا یذبح الشاة یتبع بها صدائق خدیجة، فیهدیها لهنّ»(1).

وقالت أیضاً: «ما رأیت خدیجة قطّ، ولا غرت علی امرأة من نسائه أشدّ من غیرتي علی خدیجة؛ وذلك من کثرة ما کان یذکرها»(2).

وتکلّمه أزواجه في زواج فاطمة، ویذکرن خدیجة، تقول أُمّ سلمة: «فلمّا ذکرنا خدیجة بکی وقال: خدیجة، وأین مثل خدیجة؟ وأخذ في الثناء علیها».

وخلیق بامرأة تستأثر بحبّ النبي(صلی الله علیه و آله) وإکرامه في حیاتها ومماتها أن یخلّدها التاریخ، وأن یعکف الباحثون علی دراسة سیرتها ومزایاها؛ لیستوحوا منها العقیدة الصادقة والإیمان الثابت والمُثُل الرفیعة.

في أحادیث الرسول الأعظم

من تصفّح کتب الحدیث ومعاجم الأخبار، وجد قسماً کبیراً من هذه الأحادیث في مناقب بعض الصحابة رضوان اللّه علیهم، حتّی أنّ المؤلّفین أفردوا في کتبهم باباً مستقلاً للمناقب، وتختلف هذه الأحادیث کیفیةً وکمّیةً حسب اختلاف الصحابة، وتتفاضل حسب تفاضلهم، وهي إن دلّت علی شيء فإنّما تدلّ علی تکریم الرسول الأعظم للسلف، وتثمینه لجهودهم وجهادهم، وتقییم کلّ واحد منهم.

ومن المؤسف أن تزعج هذه الأحادیث بعض المتأخّرین من التابعین وغیرهم، إذ یجدونها خالیة من ذکر بعض من یهوون من الصحابة، فعمدوا إلی الکذب علی الرسول الأعظم، والتقوّل علیه بأحادیث کثیرة نسبوها إلیه ظلماً وافتراءً. والجدیر بالذکر أنّ محتوی بعضها لا یتمشّی مع العقل السلیم، وقد یشکّل طعناً في قدسیة الرسول.

وقد ذکرتُ في الکتاب التاسع من سلسلة الأئمّة: أسئلة یحیی بن أکثم - قاضي القضاة في

ص: 128


1- . أُسد الغابة: ج5 ص438.
2- . المستدرك علی الصحیحین: ج3 ص186. قال الحاکم: «صحیح علی شرط الشیخین، ولم یخرّجاه».

القرن الثالث - للإمام محمّد الجواد عن بعض هذه الأحادیث، فبیّن له زیفها وکذبها.

وقد تناول الشیخ الأمیني رحمه اللّه في کتابه الغدیر هذه الأحادیث بالبحث والتنقیب، وبیّن بطلانها للجمهور.

وفي هذه الصفحات بعض ما ورد عنه في خدیجة رضوان اللّه علیها:

1. قال: «أتاني جبرئیل فقال: یا رسول اللّه، هذه خدیجة قد أتتك ومعها إناء فیه أدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ علیها السلام من ربّها ومنّي، وبشّرها ببیت في

الجنّة من قصب(1)، لا صخب فیه ولا نصب»(2).

2. روي من وجوه: أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) قال: «یا خدیجة، جبرئیل یُقرئك السلام». ومن بعضها: «یا محمّد، اقرأ علی خدیجة من ربّها السلام»(3).

3. إنّ جبرئیل قال: «یا محمّد، اقرأ علی خدیجة من ربّها السلام، فقال النبي(صلی الله علیه و آله): یا خدیجة، هذا جبرئیل یُقرئك السلام من ربّك. فقالت خدیجة: اللّه هو السلام ومنه السلام وعلی جبرئیل السلام»(4).

4. قال: «خیر نسائها مریم ابنة عمران، وخیر نسائها خدیجة»(5).

5. عن عائشة: «إنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بشّر خدیجة ببیتٍ في الجنّة من قصب، لا صخب فیه ولا نصب»(6).

6. قال: «خدیجة سابقة نساء العالمین إلی الإیمان باللّه وبمحمّد»(7).

7. قال ابن عبّاس: «خطّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الأرض أربعة خطوط، ثمّ قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أفضل نساء أهل الجنّة أربع: خدیجة بنت خویلد،

ص: 129


1- . القصب: الزبرجد الرطب المرصّع بالیاقوت.
2- . أُسد الغابة: ج5 ص438.
3- . سیر أعلام النبلاء: ج2 ص85.
4- . الاستیعاب: ج2 ص719.
5- . صحیح البخاري: ج4 ص164.
6- . الإصابة: ج4 ص273.
7- . المستدرك علی الصحیحین: ج3 ص184.

وفاطمة بنت محمّد، ومریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون»(1).

8. قال: «خیر نسائها خدیجة بنت خویلد، خیر نسائها مریم بنت عمران»(2).

9. قال: «أربع نسوة سیّدات سادات عالمهنّ: مریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم، وخدیجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمّد، وأفضلهنّ عالماً فاطمة»(3).

10. قالت عائشة: «کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إذا ذکر خدیجة لم یکد یسأم من ثناءٍ علیها، واستغفارٍ لها، فذکرها یوماً فحملتني الغیرة، فقلت: لقد عوّضك اللّه من کبیرة السنّ.

قالت: فرأیته غضب غضباً فأسقط في یدي، وقلت في نفسي: اللّهمّ إن إذهبت غضب رسولك عنّي لم أعد أذکرها بسوء، فلمّا رأی النبي ما لقیت قال: کیف قلتِ؟ واللّه لقد آمنت بي إذ کذّبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورُزقت منها الولد - أو - حرمته منّي. قالت: فغدا وراح عليَّ بها شهراً»(4).

11. قال: «کمل من الرجال کثیر، ولم یکمل من النساء إلّا: مریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون، وخدیجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمّد»(5).

12. قالت عائشة: «کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إذا ذبح الشاة یقول: ارسلوا إلی أصدقاء خدیجة، فذکرت له یوماً، فقال: إنّي لأُحبّ حبیبها»(6).

13. قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «خیر نساء العالمین: مریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم، وخدیجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمّد»(7).

14. قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أفضل نساء أهل الجنّة: خدیجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمّد، ومریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون»(8).

ص: 130


1- . الاستیعاب: ج2 ص720.
2- . أُسد الغابة: ج5 ص438.
3- . ذخائر العقبی: ص44.
4- . سیر أعلام النبلاء: ج2 ص82.
5- . الفصول المهمّة: ص129.
6- . الإصابة: ج4 ص275.
7- . أُسد الغابة: ج5 ص537.
8- . الاستیعاب: ج2 ص720.

کلمات العلماء والعظماء

لیس القصد من هذه الکلمات أن نرفع من مکانة أُمّ المؤمنین رضوان اللّه علیها، فقد کفاها رفعةً وعلوّاً أحادیث الرسول الأعظم في فضلها وبیان منزلتها؛ إنّ الغرض من هذه الکلمات أن یلمس المطالع الکریم تسالم العلماء والمؤرّخین والکتّاب - علی مرّ العصور واختلاف المذاهب والنحل - علی تمجید هذه المرأة وتقدیسها وذکرها بکلّ جمیل؛ لما لمسوه من عقیدة صادقة وإیمان قویم وتفانٍ في سبیل المبدأ، بینما نراهم یختلفون في تقییم غیرها من أزواج النبي(صلی الله علیه و آله)، فنراهم یغمزون بعضهنّ ویذکرون لهنّ مواقف لا یُحسدن علیها، وهذه من الفوارق والممیّزات التي بیّنها وبیّن بعض أزواجه علیه الصلاة والسلام.

نذکر من کلماتهم:

1. قالت أُمّ سلمة للرسول: «إنّك لا تذکر من خدیجة أمراً إلّا وقد کانت کذلك، غیر أنّها مضت إلی ربّها فهنّأها اللّه بذلك وجمع بیننا وبینها في جنّته»(1).

2. قال الزبیر بن بکار: «کانت خدیجة تُدعی في الجاهلیة: الطاهرة»(2).

3. قال ابن إسحاق: «کانت خدیجة وزیرة صدق علی الإسلام»(3).

وقال: «وکانت خدیجة امرأة حازمة، شریفة، لبیبة، مع ما أراد اللّه بها من کرامته»(4).

4. قال هشام بن محمّد: «کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یودّها ویحترمها ویشاورها في أُموره کلّها، وکانت وزیرة صدق، وهي أوّل امرأة آمنت به، ولم یتزوّج في حیاتها أبداً، وجمیع أولاده منها إلّا إبراهیم»(5).

5. قال ابن الأثیر: «وکانت خدیجة امرأة حازمة عاقلة شریفة، مع ما أراد اللّه من

ص: 131


1- . أعیان الشیعة: ج15: ص79.
2- . سیر أعلام النبلاء: ج2 ص82، أُسد الغابة: ج5 ص435، الإصابة: ج4 ص273، السمط الثمین.
3- . أُسد الغابة: ج5 ص439.
4- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص200.
5- . تذکرة الخواصّ: ص312.

کرامتها، فأرسلت إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فعرضت علیه نفسها، وکانت أوسط نساء قریش نسباً، وأکثرهنّ مالاً وشرفاً، وکلّ قومها کان حریصاً علی ذلك منها لو یقدر علیه»(1).

6. قال محمّد بن أحمد الذهبي: «أُمّ المؤمنین وسیّدة نساء العالمین في زمانها، أُمّ القاسم، بنت خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ بن کلاب، القرشیة الأسدیة، أُمّ أولاد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأوّل من آمن به وصدّقه قبل کلّ أحد، وثبتت جأشه، ومضت به إلی ابن عمّها ورقة.

ومناقبها جمّة، وهي ممّن کمل من النساء، کانت عاقلة جلیلة دیّنة مصونة کریمة، من أهل الجنّة، وکان النبي(صلی الله علیه و آله) یثني علیها ویفضّلها علی سائر نساء المؤمنین، ویبالغ في تعظیمها، بحیث إنّ عائشة کانت تقول: ما غرت من امرأة ما غرت من خدیجة؛ من کثرة ذکر النبي(صلی الله علیه و آله) لها

ومن کرامتها علیه أنّه لم یتزوّج امرأة قبلها، وجاءه منها عدّة أولاد، ولم یتزوّج علیها قطّ امرأة ولا تسرّی إلی أن قضت نحبها، فوجد لفقدها، فإنّها کانت نعم القرین، وکانت تنفق علیه من مالها، ویتّجر لها، وقد أمره اللّه أن یبشّرها ببیت في الجنّة من قصب، لا صخب فیه ولا نصب»(2).

7.قال جمال الدین أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي: «وجاءت النبوّة فأسلمت، فهي أوّ امرأة آمنت به، ولم ینکح امرأة غیرها حتّی ماتت، وجمیع أولاده منها سوی إبراهیم»(3).

8. قال عبد الملك بن هشام: «وآمنت به خدیجة بنت خویلد، وصدّقت بما جاءه من اللّه ووازرته علی أمره، وکانت أوّل من آمن باللّه ورسوله وصدّق بما جاء منه، فخفّف

اللّه بذلك عن نبیّه، لا یسمع شیئاً ممّا یکرهه من ردّ علیه وتکذیب له فیحزنه ذلك، إلّا فرّج اللّه عنه بها إذا رجع إلیها»(4).

ص: 132


1- . الکامل في التاریخ: ج2 ص14.
2- . سیر أعلام النبلاء: ج2 ص81.
3- . صفوة الصفوة: ج2 ص2.
4- . السیرة النبویة: ج1 ص257.

9. قال الحافظ عبد العزیز الجنابذي الحنبلي في کتابه معالم العترة النبویة: «کانت خدیجة(علیها السلام) امرأة حازمة لبیبة شریفة، وهي یومئذٍ أوسط قریش نسباً وأعظمهم شرفاً وأکثرهم مالاً، وکلّ قومها قد کان حریصاً علی تزویجها فأبت، وعرضت نفسها علی النبي(صلی الله علیه و آله) وقالت: یا ابن عمّ، إنّي رغبت فیك؛ لقرابتك منّي وشرفك في قومك، وأمانتك عندهم وحسن خلقك، وصدق حدیثك »(1).

10. قال أشرف علي الهندي: «وکانت من أفضل نسائه وأحبّهنّ إلیه، وکانت تنتظر نبوّته، ویسألها ابن عمّها عن ذلك وعن دلائل تعرّفها فیه، فتخبره بذلك فیقول: هو واللّه النبي المنتظر»(2).

11. قال السیّد عبد الحسین شرف الدین: «صدّیقة هذه الأُمّة وأوّلها إیماناً باللّه وتصدیقاً بکتابه ومواساةً لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)... انفردت برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرین سنة لم تشارکها فیه امرأة ثانیة، ولو بقیت ما شارکها فیه أُخری، وکانت شریکته في محنته طیلة أیّامها معه، تقوّیه بمالها، وتدافع عنه بکلّ ما لدیها من قول وفعل، وتعزّیه بما یفاجئه به الکفّار في سبیل الرسالة وأدائها، وکانت هي وعلي معه في غار حراء إذ نزل علیه الوحي أوّل مرّة»(3).

12. قال عبد اللّه العلایلي: «کانت تستقبل آلام الکفاح الذي خاضه قرینها النبيّ وخاضته معه، عاملة ماضیة وصابرة محتسبة، لا ینبض عندها عرق بلین أو تخوّف، بل تقطع قناطر الدموع والخطوب المتغوّلة في بسمة کبریاء، لم یعهد مثلها إلّا بعض نفر

من صانعي التاریخ، بصدرها الرحب کانت تستقبل العاصفة، وشظایاها المشتعلة، لا لیکون في حسّها ذلك الرجع المدمّر، أو ذاك الواقع الصاعق...». إلخ(4).

13. قال عمر أبو النصر: «انتهی إلی خدیجة بنت خویلد السیّدة العربیة الجلیلة

ص: 133


1- . الفصول المهمّة: ص133.
2- . ریاض الجنان (الجنّة السادسة): ص8.
3- . عقیلة الوحي: ص20.
4- . مثلهنّ الأعلی خدیجة بنت خویلد: ص98.

شرف النسب وکرم المحتد وسؤدد القبیل وعزّ العشیرة والغنی الوفیر، تتوفّر بواسطته علی إعالة المعدم وإطعام الجائع وکسوة العاري، فکانت خدیجة في أخلاقها ونسبها وثروتها وحیدة بین قومها فریدة بین أترابها»(1).

14. قال الدکتور علي إبراهیم حسن: «إذا أردنا مثالاً للزوجة المخلصة الصالحة والمرأة الرزینة العاقلة، فقد لا نجد خیراً من خدیجة أُمّ المؤمنین، هذه السیّدة العظیمة في عقلیتها، أدرکت الجاهلیة والإسلام، وکان لها في کلیهما مرکز ممتاز، حتّی سُمّیت الطاهرة، فجمعت بین المال والجمال والکمال، وهذه الصفات الثلاث إذا اجتمعت - وقلّما تجتمع - فإنّها تضفي علی المرأة ألواناً من السموّ والرفعة، وهکذا کان شأن خدیجة.

وقالت: وهکذا کانت خدیجة(علیها السلام)، أوّل امرأة انتقت الإسلام، ومن ذلك الحین کانت تصلّي مع زوجها وتوالیه بتشجیعها، وتبثّ فیه من روحها ثباتاً وقوّة.

کان علیه السلام یخرج یبشّر قومه بالإسلام، فلا ینال منهم غیر التکذیب والإهانة، فیرجع إلی بیته حزیناً یائساً فتزیل خدیجة حزنه وتحیل یأسه أملاً، وتهوّن علیه الأمر»(2).

15. قال عمر رضا کحالة: «ولدت سنة 68 قبل الهجرة، من بیت مجد وسؤدد ورئاسة، فنشأت علی التخلّق بالأخلاق الحمیدة، واتّصفت بالحزم والعقل والعفّة، حتّی دعاها قومها في الجاهلیة: الطاهرة»(3).

16. قال «بودلي» في کتابه الرسول: «فکانت ثقتها في الرجل الذي أحبّته وصدّقته وآمنت به حتّی الرمق الأخیر تضفي جوّاً من الثقة علی المراحل الأُولی للعقیدة التي یدین بها الیوم واحد من کلّ ستّة من سکّان العالم»(4).

17. قال سلیمان کتّاني: «أعطت خدیجة زوجها حبّاً وهي لا تشعر بأنّها تعطي، بل تأخذ منها حبّاً فیه کلّ السعادة، وأعطته ثروة وهي لا تشعر بأنّها تعطي، بل تأخذ منه

ص: 134


1- . فاطمة بنت محمّد: ص6.
2- . نساء لهنّ في التاریخ الإسلامي نصیب: ص21 و23.
3- . أعلام النساء: ج1 ص326.
4- . بطلة کربلاء: ص14.

هدایة تفوق کنوز الأرض، وهو بدوره أعطاها حبّاً وتقدیراً رفعاها إلی أعلی مرتبة، وهو لا یشعر بأنّه أعطاها، بل یقول: ما قام الإسلام إلّا بسیف علي وثروة خدیجة. وأعطاها عمره وزهرة شبابه، ولم یبدّل علیها امرأة حتّی غابت عن الوجود، وهو لا یشعر بأنّه أعطاها وهو یقول: لا واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها، آمنت بي إذ کذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس»(1).

18. قالت الدکتورة بنت الشاطئ: «خدیجة بنت خویلد، أُولی أُمّهات المؤمنین، وأقرب زوجات النبي وأعزّهنّ علیه حیّة ومیّتة، انفردت بحبّه وإعزازه خمساً وعشرین سنة، لا تشارکها فیه امرأة أُخری، ووقفت إلی جانبه في سني الاضطهاد الأُولی تؤازره وترعاه، وتهوّن علیه ما یلقی من قریش في سبیل رسالته»(2).

وقالت: «وستدخل في الإسلام من بعد خدیجة ملایین النساء، ولکنّها ستظلّ منفردة دونهنّ بلقب المسلمة الأُولی التي آثرها اللّه بالدور الأجلّ في حیاة البطل الرسول، وسیذکر لها المؤرّخون - المسلمون منهم وغیر المسلمین - ذلك الدور»(3).

19. قالت زینب بنت علي الفوّاز العاملي: «وکانت امرأة حاذقة عاقلة شریفة، من أوسط نساء قریش نسباً، وأکثرهنّ مالاً وشرفاً، وکان کلّ من قومها یتمنّی أن یتزوّج بها

فلم یقدروا»(4).

20. قالت سنیة قراعة: «سیّدة قریش وثریّتها الملحوظة، ذات المکانة العالیة والنسب الرفیع.

وقالت: إنّ خدیجة لم تکن هي التي سوف تحقّق للأمین أُمنیته تلك؛ لأنّ اللّه تعالی أرادها وقدّرها، وکانت في علمه منذ آماد عدیدة.

وقالت: إنّ التاریخ لیحني رأسه أمام عظمة أُمّ المؤمنین خدیجة، ویقف أمامها

ص: 135


1- . فاطمة الزهراء وتر في غمد: ص112.
2- . بطلة کربلاء: ص13.
3- . موسوعة آل النبي: ص230.
4- . الدرّ المنثور في طبقات ربّات الخدور: ص180.

خاشعاً مکتوف الیدین، لا یدري أین یضعها في سجل العظماء»(1).

21. قالت الأمیرة قدریة حسین: «سیّدة النساء خدیجة الکبری، نموذج من أطهر نماذج الإسلام، وأعظمه خطراً، وأجلّه شأناً...». إلخ(2).

نهایة المطاف

ذکرتُ في مقدّمة الکتاب: إنّ الحدیث عن خدیجة حدیث عن الإسلام في نشوئه وارتقائه، وإذا کان الحدیث عن الإسلام فهو بحاجة إلی مجلّدات، فضلاً عن کتاب صغیر، وأستمیح العذر من صاحب الرسالة في کتابي هذا، فالحدیث عن قرینته وحبیبته ونصیرته، وأستمیح القارئ الکریم عذراً إذ جاء کتابي بهذه الکیفیة والکمّیة.

وختاماً وکلّي أمل أن تحذو المرأة المسلمة حذو هذه السیّدة العظیمة، وتترسّم خطاها وتنهج نهجها، واللّه وليّ التوفیق.

ص: 136


1- . نساء محمّد: ص16 و20 و37.
2- . شهیرات النساء في العالم الإسلامي: ج2 ص5

فهرس المصادر

1. الاستغاثة، أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (ت352ه )، طهران: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1373ش.

2.الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

3.أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّ الدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

4.الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن الحجر العسقلاني (ت852ه )، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمّد معوّض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

5.أعلام النساء، علي محمّد علي دخيل، لبنان: الدار الإسلامية، 1412ه .

6.أعيان الشيعة، السيّد محسن الأمين، تحقيق: السيّد حسن الأمين، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1406ه .

7.بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار:، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت1110ه )، تحقيق: دار إحياء التراث، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

8.تذكرة الخواصّ (تذكرة خواصّ الأُمّة في خصائص الأئمّة:)، يوسف بن فُرغلي بن عبداللّه، المعروف بسبط ابن الجوزي (ت654ه )، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم،

ص: 137

طهران: مكتبة نينوى الحديثه.

1. تلخيص الشافي، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (الشيخ الطوسي) (ت460ه )، تحقيق: السيّد حسين بحر العلوم، قم: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1394ه .

2. خصائص الإمام أميرالمؤمنين ، أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303ه )، تحقيق: محمّد هادي الأميني، طهران: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1403ه .

3. الدرّ المنثور في طبقات ربات الخدور، زينب بنت فوّاز العاملي، الكويت: مكتبة ابن قتيبة.

4. ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، أبو العبّاس أحمد بن محمّد الطبري (ت694ه )، تحقيق: أكرم البوشي، جدّة: مكتبة الصحابة، الطبعة الأُولى، 1415ه .

5. السمط الثمين في مناقب أُمّهات المؤمنين، محبّ الدين أحمد بن عبداللّه الطبري (ت694ه )، تحقيق: محمّد علي قطب، القاهرة: دار الحديث، 1408ه .

6. سير أعلام النبلاء، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1414ه .

7. السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

8. صحيح البخاري، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الرابعة، 1410ه .

9. صفة الصفوة، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي) (ت597ه )، تحقيق: محمود فاخوري و محمّد قلعة جي، حلب: دار الوعي، الطبعة الأُولى، 1389ه .

10. عقيلة الوحي، السيّد عبدالحسين شرف الدين الموسوي، تحقيق: محمّد رضا المامقاني، قم: دليل ما، 1426ه .

11. فاطمة الزهراء وتر في غمد، سليمان كتّاني، بيروت: دار الكتاب العربي، 1399ه .

ص: 138

1. الفصول المهمّة في أُصول الأئمّة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (ت1104ه )، تحقيق: محمّد بن محمّد الحسين القائيني، مؤسّسة معارف إسلامي إمام رضا ، الطبعة الأُولى، 1418ه .

2. الكامل في التاريخ، علي بن محمّد الشيباني الموصلي (ت630ه )، تحقيق: علي شيري، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1408ه .

3. مثلهنّ الأعلي الخديجة، عبداللّه العلايلي، بيروت: دار الجديد، 1371ه .

4. المستدرك على الصحيحين، أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الحاكم النيسابوري (ت405ه )، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1411ه .

موسوعة آل النبي:، عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطي)، بيروت: دار الكتاب العربي، 1387ه .

ص: 139

12. فضائل خدیجة، والفضائل عند قومها- عبد الحمید الزهراوي

ملخّص البحث:

يستعرض هذا البحث أحوال العرب قبل الإسلام، وما كان لهم من الأخبار والكرم والجود والمعارف والفصاحة والبلاغة، وما عُرفوا به من الشجاعة وشدّة البأس في الحروب والوقائع، ويستشهد على ذلك بمعركة ذي قار. ثمّ يعرّج على ذكر ما كان لقوم خديجة من صفات اشتهروا بها ومآثر تفرّدوا بفعلها. وقد اجتمعت في خديجة صفات دالّة على سموّ شخصيّتها؛ فرأينا في سيرتها ذلك المثال السنيّ والكمال السميّ، وعرفنا حسن استعدادها من حسن تربيتها، وعرفنا شيئاً آخر جديراً بالتنويه وقلّما رأينا من نوّه به أو التفت إليه؛ فلذلك عنينا به نحن كثيراً في صدد متابعة هذه السيرة، وهو ارتقاء قوم خديجة ارتقاءً عظيماً، فإنّ التربية الشخصية مقتبسة في الغالب من التربية العمومية. ينتهج البحث الأُسلوب المكتبي التوثيقي في الاستنتاج من الوقائع والمرويات التاريخية؛ ليخلص منها إلى الخصال والمكارم التي كان يتميّز بها العرب عموماً وقوم السيّدة خديجة من بني أسد خصوصاً. وينتهي من كلّ ذلك إلى أنّ تلك الصفات والمآثر والمكارم تجسّدت فيها خير تجسيد، وأنّها كانت خليقة بأن تكون زوجة مثالية لنبيّنا صلوات اللّه عليه.

ص: 140

تبارك واهب الحياة، فقد أبدع لنا في «خديجة» المثال الأسنى منها، وأطلع لنا في

شخصها زواهر الإنسانية الفضلى، وبنور هذه الزواهر رأينا مدارك قريش في الأُفق الأعلى، وتربيتهم الأدبية والعقلية في المنزلة العليا.

نحن معشر بني الحياة متفاوتون كثيراً في قوى النفوس وأكثرنا في الحقيقة مغبون الحظّ، منقوص النصيب من القوى التي تكون بها الحياة هنيئة شريفة مسعدة لصاحبها وغيره، وقليل منّا من رُزقوا فضلاً من هذه القوى النافعة الآتية بالغبطة والحبور.

ولدى التأمّل نجد استعداد فطرة الشخص هو الأساس في حسن الحظّ من هذه القوى النافعة، ثمّ للتربية دخل كبير، فإذا اجتمع في الشخص استعداد حسن وتربية حسنة، كان حظّه عظيماً من فضائل النفس، وقد اجتمعتا في «خديجة»، فرأينا في سيرتها ذلك المثال السنيّ، والكمال السميّ.

عرفنا حسن استعدادها؛ لأنّ التربية وحدها لا تفعل شيئاً في جوهر النفس إذا كان غير صالح لفطها كما لا يصلح الماء لأن تطبع فيه ما تشاء، وعرفنا حسن تربيتها؛ لأنّ الاستعداد وحده لا يسير بصاحبه إلى المرغوب في المجتمع.

ومن حسن استعداد هذه السيّدة وحسن تربيتها عرفنا شيئاً آخر جديراً بالتنويه وقلّما رأينا من نوّه به أو التفت إليه، فلذلك عنينا به نحن كثيراً في صدد هذه السيرة، وهو ارتقاء قوم «خديجة» ارتقاءً عظيماً، فإنّ التربية الشخصية مقتبسة في الغالب من التربية العمومية.

والمجتمع غالباً أشبه بالمرآة، يرينا من الأشیاء مقبولاً ومردوداً ومسكوتاً عنه. وتشتهر المقبولات حتّى يُطلق عليها اسم المعروف، والمردودات حتّى يُطلق عليها اسم المنكر، ويضطرّ الناس إلى تقرير تربية عمومية هي أن لا يخالف المعروف ولا يوافق المنكر، ويبقى للناس سبع في المسكوت عنه من الأشیاء حتّى يرى كلّ منهم رأيه فيها، فهذا يستحسن شيئاً حتّى يوجبه على نفسه، وذاك يستقبح شيئاً حتّى يحرّمه عليها.

وأعقل الناس في هذه الأشیاء المسكوت عنها من جعل المعروف والمنكر معياراً لها، فكلّ ما قرب من المعروف كان حسناً ويكون وجوبه على حسبه درجة قربه من

ص: 141

المعروف، وكلّ ما قرب من المنكر كان مسترذلاً ويكون حظره على حسب درجة قربه من المنكر. والأصل في المنكر هو الأذى والعدوان، وعليه قيس الأصل في المعروف قياس الضدّ فالأصل فيه العدل والإحسان.

فعلى هذين الأصلين تقوم دعامة النظريات في التربية، و عليهما تُشاد الأعمال فيها، وأيّ باحث لا تأخذه هيبة إذا اطّلع على ما كان لقوم «خديجة» من التعمّق في دقائق هذا الفنّ من حيث النظر، وعلى بدائع النتائج فيه من حيث العمل. أي واللّه إنّ هؤلاء القوم لنازلين في ذلك البلد الصغير البعيد، وإخوانهم الآخرين للضاربين في تلك الفيافي، يدهش المطالع ما يراه لهم من الباع لتطويلٍ في فنّ التربية على مقتضى مجتمعهم ذاك. فتراهم مثلاً لمّا كانت السماعة ضرورية - ولا سيّما لذلك الاجتماع - جمّلوها في المنام الأوّل ولم يألوا بطبعها في النفوس، حتّى نبغ فيهم أجواد ابتغوا بهمّتهم في الجود الكواكب وازینّت الأرض بمناقب همّهم وإیثار أخیهم الإنسان علی أنفسهم، کما فعل کعب بن مامة الذي آثر رفیقه بمائه ومات هو عطشاً.

ولمّا کانت الشجاعة ضربة لازب لکلّ شخص وکلّ جماعة في کلّ زمان وکلّ مکان، تجدهم جعلوها شعار المحامد وتاج المناقب، وسیّروا فیما ضربوه من الأمثال قولهم: «الشجاع موقی، والجبان ماقی»، وکا وأینما دحون بالموت قتلاً ویتهاجون بالموت علی الفراش؛ ولمّا بلغ عبداللّه بن الزبیر - وهو ابن أخي خدیجة - قتل أخیه مصعب، خطب فقال: «إن یُقتل فقد قُتل أبوه وأخوه وعمّه، إنّنا لا نموت حتفاً، ولکن قطعاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السیوف، وإن یُقتل المصعب فإنّ في آل الزبیر خلفاً منه»؛ ذلك لأنّهم کانوا یکرهون الحیاة إذا لم تشرّف، ویرون الحیاة الرذیلة معرضة للعدم أکثر من الحیاة الشریفة، ولمثل هذا یقول علي بن أبي طالب: «بقیّة السیف أنمي عدداً وأطيب ولداً»، وتقول الخنساء؛ وهي إحدى الشهيرات في العرب:

نهين النفوس وبذل النفو

س يوم الكريهة أبقى لها

ص: 142

لا يستنكرنّ أحد إذا قيل له أنّ الشجاعة - وهي السجية التي لا ترقى الأُمم إذا خلت منها - كانت في العرب من الأخلاق الغاشية التي لا يعتدّون بأحد منهم ما لم تكن فيه، وقد سهل على نفوسهم انطباع هذا الخلق فيها؛ لأنّ أكثر شيء كانوا يتناقلونه هو حديث الشجعان وإقدامهم في الشدائد، حتّى فُضّلوا، والجبناء وإحجامهم فيها حتّى رُذّلوا.

وهنالك من الشعر في الشجاعة والشجعان ما يفعل في النفوس فعل السحر فيستنزلها من الخوف على الحياة والهرب بها إلى الخوف على الشرف حتّى تهون النفوس في سبيله كقول عنترة وهو أحد مشهوري شجعانهم:

بَكَرَت تخوفني الحتوف كأنّني

أصبحت عن غرض

الحتوف بمعزل

فأجبتها أنّ المنيّة منهل

لا بدّ أن أُسقى بكأس المنهل

فاقني حياء لا أبا لك واعلمي

أنّي امرؤ سأموت إن لم أُقتل

وقد يظنّ ظانٌّ أن شجاعة العرب وبأسهم لم يكن إلّا فيما بينهم، ومثل هذا الظنّ من قلّة الاطّلاع على جملة أخبارهم، فنحن لا نريد أن نأتي بآية على شجاعتهم ممّا فعل هؤلاء القوم بعد إسلامهم، فإنّ ذلك مشهور، ولكن حسبنا أن ندلّ القارئ على ما كان من بأس العرب يوم ذي قار، إذ أراد كسرى أن يوقع سوءاً ببني بكر بن وائل لسببٍ لا محلّ لتفصيله، فجهّز عليهم جيشاً كثيفاً ليُهلكهم به، وبلغهم خبره، فتجهّزوا له، وأعانهم قبائل أُخرى، فتوافوا بوادٍ اسمه «ذوقار»، وكانت الهزيمة على جيش كسرى، حتّى تبعهم العرب إلى داخل البلاد الفارسية، وهي واقعة مشهورة كثرت فيها الأشعار، وظهر فيها ما للشجاعة من الفضل في كسب الفخار وحمى الذمار واتّقاء العار، وفي هذه الواقعة يقول الأعشى أعشى بني بكر:

وجند كسرى غداة الحنو صبّحهم

منّا غطاريف ترجو الموت وانصرفوا

لقوا ململمة شهباء يقدمها

طب

ص: 143

ببط

للموت لا عاجز منّا ولا خوّف

فرع نمته فروع غير ناقصة

موفّق حازم في أمره أنف

فيها فوارس محمود لقاؤهم

مثل الأسنّة لا مِيلٌ ولا كُشُف

لمّا رأونا كشفنا عن جماجمنا

ليعلموا أنّنا بكر فينصرفوا

قالوا البقيّة والهنديّ يحصدهم

ولا بقيّة إلّا السيف فانكشفوا

لو أنّ كلّ مَعَدٍّ كان شاركنا

في يوم ذي قارما أخطأهم الشرف

لمّا أمالوا إلى النشاب أيديهم

ملنا ببيضٍ لمثل الهام تختطف

إذا عطفنا عليهم عطفة صبرت

حتّى تولّت وكاد القوم ينتصفوا

بطارق وبني ملك مرازبة

من الأعاجم في آذانها الشُّنُف

من كلّ مرجانة في البحر أحرزها

تيّارها ووقاها طينها الصدف

كأنّما الآل في حافات جمعهم

والبيض برق بدا في عارض يكف

ما في الحدود صدود عن سيوفهم

ولا عن الطعن في اللبّات منحرف

وفي هذه الواقعة يقول العديل ابن الفرج العجلي:

ما أوقد الناس من نار لمكرمة

إلّا اصطلينا وكنّا موقدي النار

وما يعدّون من يوم سمعت به

للناس أفضل من يوم بذي قار

جئنا بأسلابهم والخيل عابسة

لمّا استلبنا لكسرى كلّ أسوار

وفيها يقول شاعر آخر من بني عجل:

إن كنت ساقيةً يوماً ذوي كرم

فاسقي الفوارس من

ذُهل بن شيبانا

واسقي فوارس حاموا عن ذمارهم

وأعلى مفارقهم مسكاً ورمجانا

وهي واقعة شهيرة ظهرت فيها الشجاعة العربية أكمل مظهر، وكان المنذر لهم بنيّة كسرى وعزمه لقيط الأيادي، إذ كتب إلى بني شيبان يخبرهم بذلك في شعر مشهور غاية في البلاغة والتحميس واستثارة العزائم، وفيه يقول:

ص: 144

قوموا جميعاً على أمشاط أرجلكم

ثمّ افزعوا قد ينال الأمن من فزعا

وقلّدوا أمركم للّه درّكمو

رحب الذراع بأمر

الحرب مضطلعا

لا مسترفاً إن رخاء العيش ساعده

ولا إذا عضّ مكروه به خشعا

مازال يحلب هذا الدهر أشطره

يكون متبِعاً طورا ومتَّبَعا

حتّى استمرّ على شزر مويرته

مستحكم لرأي لا فحماء

لا ضرعا

وليس بشغله مال يثوّره

عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا

فعلى مثل ما ذكرنا كان نصيب العرب عامّة وقبيلة خديجة خاصّة من الشجاعة التي لا قوام للأُمم بدونها، وكانوا لا يعتمدون بالجبان ولا يعدّونه شيئاً مذکوراً. ينبئك بذلك قول أحد شعرائهم:

خرجنا نريد مغاراً لنا

وفينا زياد أبو صعصعة

فستّة رهط به خمسة

وخمسة رهط به أربعة

ثمّ لم يكن نصيب قوم «خديجة» في فقه النفس والحكمة والمعارف بأقلّ من نصيبهم العظيم في الشجاعة، فقد كانوا يتناقلون المعارف ویتدارسونها من غير كتب، وكان لهم إلمام قليل بحركات الكواكب والأنواء التي تتبعها، وهو يقتضي شيئاً من معرفة الحساب. وكان لهم معرفة غير قليلة بالطبّ وحفظ الصحّة، سواء كان طبّ الإنسان أو طبّ الحيوان. والطبّ يقتضي أيضاً نصيباً من علم الخواصّ التي أودعها

الباري في المعدن والنبات والحيوان.

أمّا معرفتهم بالأخبار أي التاريخ، فحدّث عنها ولا حرج، وكانوا يعبّرون عن هذا العلم بعلم النسب، فإنّ علم النسب في الحقيقة لیس عبارةً عن معرفة نسب الأشخاص والقبائل، فإنّ هذه معرفة بسيطة لا تستحقّ أن تُسمّى علماً، وإنّما كان النسّابون يعرفون أخبار أُولئك الأشخاص وأخبار تلك القبائل، وهذا هو التاريخ، وربّما كان السبب في اشتهار هذه المعرفة باسم علم الأنساب أنّ عارفي الأحبار كان إليهم

ص: 145

المرجع في معرفة الأنساب التي من أهمّ فوائدها معرفة تفريع القبائل وإلحاق الفروع بأُصولها على شدّة البعد بين الأُصول وتلك الفروع أحياناً.

وقد كان منهم اختصاصيون بهذا العلم، يلقون منه على من يتحلّقون حولهم. قال

رؤبة ابن العجاج: «قال لي النسّابة البكري: يا رؤبة، لملك من قوم إن سكت عنهم لم يسألوني، وإن حدّثتهم لم يفهموني؛ يعيب بذلك على الذين لا يرغبون في تلقّي هذا العلم حقّ الرغبة. قال رؤبة: فقلت له: إنّي أرجو أن لا أكون كذلك. قال: فما آفة العلم ونكرته وهجئته؟ قلت: تخبرني: قال آفة العلم النسيان، ونكرته الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله».

وأمّا الحكمة والآداب والبيان فقد بلغ فيها هذا الشعب العربي من الانصباب على حفظها ودراسة الكلم الجوامع فيها مبلغاً عظيماً ويمكنني أن أقول إنّها من أشهر ما اشتهر عنهم.

وهل يجد الباحث معنیً من المعاني التي يخطر للنفس فيها الاستحسان أو الاستهجان إلّا ويجد لهم الشافي الوافي من البيان في تصويره وإبرازه بأبدع حلّة، ولا يُنبئك ببعض ذلك شيء كالمأثور من كلمهم الجوامع التي سارت مسير الأمثال، وكانت كالدرر الفرائد بين سائر الأقوال، ولا نستطيع أن نأتي هنا بقليل من ذلك الكثير؛ لكيلا نبعد بالقارئ عن سياق السيرة، ولكنّا نذكر خبراً واحداً يدلّ على مقدار عناية العرب بتذاكر

الحكم والآداب، وصياغتها بأبدع البيان، ومقدار ما وسعت منها تلك الأفكار:

«ذكروا أنّ عمرو بن الظرب العدواني وحمعة بن رافع الدوسي اجتمعا عند ملك من ملوك حمير، فقال: تساءلا حتّى أسمع ما تقولان. فقال عمرو لحمعة أين تحبّ أن تكون أياديك؟ قال: عند ذي الرتبة العديم، وعند ذي الخلّة الكريم، والمعسر العديم، والمستضعف الحليم. قال: مَن أحقّ الناس بالمقت؟ قال: الفقير المختال، والضعيف الصوّال، والغني القوّال. قال: فمن أحقّ الناس بالمنع؟ قال: الحريص الكائد، والمستميد(1) الحاسد، والمخلف الواجد. قال: من أجدر الناس بالصنيعة؟ قال: من إذا أُعطي شكر، وإذا

ص: 146


1- . المستميد هو: المستعطي.

مُنع عذر، وإذا مُطل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا ظلم صفح، وإن ضويق سمح. قال: من ألأم الناس؟

قال: من إذا سأل خضع، وإذا سُئِل منع، وإذا ملك كنع(1)، ظاهره جشع، وباطنه طَبَع(2). قال: فمن أجلّ الناس؟ قال: من عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم تطغه عزّة الظفر. قال: فمن أحزم الناس؟ قال: من أخذ رقاب الأسود بيديه، وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيّب دبر أُذنيه. قال: فمن أخرق الناس؟ قال من ركب الخطار، واعتسف العثار، وأسرع في البدار قبل الاقتدار(3). قال: من أجود الناس؟ قال: من بذل المجهود، ولم يأسَ على المفقود. قال: فمن أبلغ الناس؟ قال: من حلّى المعنى العزيز باللفظ الوجيز، وطبّق المفصل قبل التحزيز. قال: من أنعم الناس عيشاً؟ قال: من تحلّى بالعفاف، ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى ما لا يخاف.

قال: فمن أشقى الناس؟ قال: من حسد على النعم، وسخط على القسم، واستشعر الندم على ما انحتم. قال: من أغنى الناس؟ قال: من استشعر اليأس، وأظهر التجمّل

للناس، واستكثر قليل النعم، ولم يسخط على القسم. قال: فمن أحكم الناس؟ قال: من صمت فأذكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر. قال: من أجهل الناس؟ قال: من رأى الخرق مغنماً، والتجاوز مغرماً».

وما ذكرناه من جهة معارف القوم الذين نشأت منهم هذه السيّدة كافٍ في الدلالة على أنّه كان من جملة ما يعنون به من التربية ثقيف ناشئتهم بما عندهم من المعارف على الطريقه التي ألفوها وتعوّدوهها في التعليم، وهي الطريقة الطبيعية الساذجة الخالية من الاصطلاحات والتعاريف والتفاصيل التي يحتاج إليها نفر قليلون، ويستغني عليها الآخرون. ولكلّ فرع أهله الذين بهم استعداد لالتقاطه بسهولة، ولا يُكلّف البليد في شيء أن يكدّ في تفهّمه مدركته، أو ينضي في حفظه ذاكرته، أو في توسيعه مخيلته.

ص: 147


1- . معنى كنع هنا: انكمش.
2- . الطَّبَع - بفتحتين - هو الدنس.
3- . يريد بالبدار: معالجة الخصم.

ثمّ قد كان ممّا عني به العقلاء من رهط خديجة التربية على العدل، ولقد أسلفنا شيئاً عن ولعهم به وحرصهم على حماية المظلوم ووقاية المهضوم، وكذلك ولعوا بتمداح العفاف وتشريف الإعفاف والمفائف، وإجلال الطهارة وأهلها، وكان من أكرم آلتهم وأجلّها لقب الطاهر، وقد حازت السيّدة «خديجة» هذا اللقب الشريف باستحقاق، إذ كان يُقال لها: «الطاهرة».

فإذا عرف المطالع الكريم أنّ لهؤلاء القوم حظّاً كبيراً من هذه الأشیاء التي هي أُصول الفضائل؛ نعني السماحة والشجاعة والحكمة والآداب والبيان والعدل والتعفّف، كان جديراً به أن لا ينظر إلى صغر شأن ذلك المجتمع إذا قورن ببلاد الحضارة، فإن الفضل الإنساني الممنوح من يد الفاطر المبدع، لا يتوقّف على زخرف البيوت وكثرتها وفي البلد الواحد، بل يصل ذلك الفضل بإرسال ربّاني من يده سبحانه إلى الذرّات الصغيرة التي في الأدمغة، ويختصّ به سبحانه أفراداً ممّن عنوا بتوجيه العقول والقلوب إلى تصفية النفس وتزكيتها من النقائص وتحليتها بالفضائل، ممّن لم يجعلوا أكبر همّهم تجويد المأكل والملبس والمسكن والفراش.

فإذا كثر من هؤلاء الأفراد في أُمّة ظهرت، وإن حلّ الخفاء بهم واستوفت وإن بخس الوزن لهم، ولم يكن الأفراد الذين تلقّوا هدية الفضل الإنساني من الإحسان الربّاني قليلين في قوم «خديجة» الفاضلة، بل كانت كثرتهم خير مقدّمة لخير نتيجة هي ظهور ذلك الرسول الكريم الذي كان من أكبر مميّزات جماعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أُولئك الذين وافاهم الوحي ينعتهم بما هم أهله قائلاً: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ باللهِ).

ص: 148

ص: 149

13. أُمّ المؤمنين الطاهرة خديجة بنت خويلد

اشارة

الشيخ جعفر عبّاس الحائري(1)

ملخّص البحث:

يجري مؤلّف هذا البحث دراسة تاريخية لنسب السيّدة خديجة، ويتحرّى المصادر التاريخية الموثّقة؛ لغرض تسليط الضوء على الامتدادات التاريخية لأُسرتها وتاريخ وظروف ولادتها ونشأتها، والألقاب التي وُصفت بها. ثمّ يأتي بعد ذلك على شرح سيرة حياتها، وما كانت تمارسه من عمل التجارة، وما اشتهرت به من حسن السيرة، وما نالته من ثناء ممّن عرفها وعمل معها. ثمّ يستعرض بعد ذلك الظروف التي تعرّفت فيها على النبيّ محمّد(صلی الله علیه و آله) ودعته إلى الخروج في قافلة تجارتها المتوجّهة إلى الشام برفقة غلامها ميسرة، وكيف انتهى الحال إلى زواجها منه. كما يبيّن كيفية إيمانها برسالة الإسلام لمّا بُعث بها الرسول نبيّاً، ودورها في مؤازرته في دعوته بكلّ ما أُوتيت من قوّة وجاه ومال وثروة.

وسرد في سياق هذا البحث أنّ رسول اللّه كان يشاورها في أُموره، وقد بشّرها بالجنّة في مواقف متعدّدة، ومدى حزنه على وفاتها. وكان المنهج الذي اتّبعه المؤلّف هو المنهج التوثيقي المكتبي.

ويتناول في هذا البحث ما ورد في ذكر السيّدة خديجة على لسان الأعلام

ص: 150


1- . علّق على هذا البحث الشيخ علي أبو عمّار المعبودي الشطري، وميّزنا تعليقاته بكلمة (الشطري)، وميّزنا تعليقات المؤلّف بوضع كلمة (المؤلّف) بين قوسين في نهايتها.

والمؤرّخين، وما ذكروه من فضائلها وتفضيلها على سائر أزواج النبي(صلی الله

علیه و آله)، ويسهب في بيان كيفية إسلامها وإيمانها برسالته، وأنّها كانت أوّل مَن آمن بدعوته، مع التأكيد على إبراز مواقفها الداعمة للنبيّ ومؤازرته، وأنّها قد كرّست ثروتها لخدمة نشر الإسلام وتوطيد أركانه. ويذكر فيه أيضاً سائر أحوال هذه المرأة الجليلة وقصّة زواجها بالنبي(صلی الله علیه و آله)، وما وُلد له منها من الأولاد. ويسرد فيه ما اختُلف من الأقوال في عددهم، مع ذكر نبذة عن حياة كلّ واحدٍ منهم، ومدّة حياته وظروف وفاته وموضع دفنه. ومن الأُمور التي تناولها هذا البحث قضيّة وفاة خديجة وتاريخ وفاتها، وتجهيزها وتكفينها ودفنها، وما جاء من أقوال المؤرّخين في ذلك. المنهج الذي سار عليه الكاتب هو المنهج المكتبي التوثيقي حيث تقصّى فيه مختلف الآراء التي ذكرها المؤرّخون بشأن السيّدة خديجة.

الحمد للّه وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، محمّد وآله الأئمّة الأُمناء، واللعنة الدائمة على أعدائهم من الأوّلين والآخرين.

وبعد؛ فهذه نُتَف أفرغتها في بوتقة التأليف، فجاءت سبائك ذهبيّة من حياة أُمّ المؤمنين، وأحظى النساء بالفضيلة والشرف، والدة سيّدة نساء العالمين، خديجة بنت خويلد سلام اللّه علیها.

وتحرّيت في جمع ما أردت تأليفه أوثق المصادر، فتجلّت حقائق ناصعة يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار، وقد كلّفني ذلك متاعب ومصاعب، فاستسهلتُها راجياً شفاعتها يوم الحشر، ومن اللّه أستمدّ التوفيق وأسأله المعونة. وإليك البيان:

اسمها وكنيتها ولقبها

قال العلّامة سبط ابن الجوزي(1): أمّا خديجة، فهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى(2) بن قُصي بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لويّ - ويقال بالهمزة - ... إلى أن ينتهي نسبها إلى عدنان.

ص: 151


1- . تذكرة الخواصّ: ص170. (المؤلّف).
2- . عبد العزّى أخو عبد منافُ أحد أجداد النبيّ ، أبوهما قصيّ بن كلاب، فهي(علیها السلام) تلتقي مع رسول اللّه في الجدّ الرابع وهو قصي بن كلاب. (الشطري).

وأُمّها: فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ، من وُلد فِهر بن مالك(1).

وأُمّ فاطمة: هالة بنت عبد مناف(2).

وأُمّ هالة: العَرَقة، وهي قَلابة بنت سعيد، من بني لؤيّ بن غالب(3).

قال الواقدي(4): وكانت خديجة - وهي بِكْرٌ - قد ذكرت لورقة بن نوفل، وكان ابن عمّها، فلم يُقض بينهما نكاح، فتزوّجها أبو هالة، واسمه هند بن النبّاش التميمي(5)، فولدت له هنداً وهالة، اسم رجلين، ثمّ تزوّجها عتيق بن عائذ المخزومي(6)، فولدت له

ص: 152


1- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص37. (المؤلّف).
2- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص37 طبع النجف. (المؤلّف).
3- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص37. (المؤلّف).
4- . هو أبو عبداللّه محمّد بن عمر ابن المدني، مولى بني هاشم. قال ابن النديم في الفهرست: كان يتشيّع، حسن المذهب، يلزم التقيّة، توفّي سنة 207ه . (المؤلّف).
5- . اختُلف في اسمه، ففي بعض المصادر: هند بن النبّاش بن زرارة التميمي (أبو هالة)، وفي بعضها: النبّاش بن زرارة. للاطّلاع على هذه الاختلافات وغيرها، راجع : الإصابة: ج3 ص611 - ص612، نسب قريش لمصعب الزبيري: ص22، السيرة الحلبية: ج1 ص140، قاموس الرجال: ج1 ص431، أُسد الغابة: ج5 ص12 - 13 ح71، الصحيح من السيرة: ج1 ص121. (الشطري).
6- . هو عتيق بن عائذ بن عبد المخزومي. أقول: اختلف المؤرّخون في زوج خديجة الأوّل، من هو؟ عند من يقول إنّها تزوّجت قبل النبيّ ، فبعض المصادر تشير إلى أنّ زوجها الأوّل هو عتيق بن عائذ بن عبد المخزومي، وزوجها الثاني هو أبو هالة، هند بن النبّاش بن زرارة (راجع: السيرة النبوية: ج4 ص193، تاريخ الطبري: ج3 ص175، المحبّر: ص79، السمط الثمين: ص13، عيون الأثر: ج4 ص51). بينما تشير مصادر أُخرى إلى أنّ زوج خديجة الأوّل هو أبو هالة، وعتيق هو الثاني (راجع: الاستيعاب: ج4 ص10 وص1817، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم: ص133 وص199 ط أُولى سلسلة «من ذخائر العرب»، ففيه ترجمة الرجلين: عتيق، وأبي هالة. وهناك رأي ينفي زواج خديجة من أيّ شخص قبل رسول اللّه ، يذهب إليه صاحب مناقب آل أبي طالب، قال: روى أحمد البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص: «أنّ النبيّ تزوّج بها وهي عذراء» (راجع: الصحيح من السيرة: ج1 ص121، نقلاً عن مناقب آل أبي طالب: ج1 ص159، الاستغاثة: ص70، بنات النبيّ أم ربائبه: ص88 - ص95). ومن الأدلّة على نفي زواج خديجة قبل رسول اللّه ، هو ما ذُكر في كتابي الأنوار والبدع: أنّ رقيّة وزينب كانتا ابنتي هالة أُخت خديجة (الصحيح من السيرة: ص121، بنات النبيّ أم ربائبه: ص88 - 95، مناقب آل أبي طالب: ج1 ص159). (الشطري).

جاريةً اسمُها هند، وكانت تُدعى أُمّ هند.

وحكى ابن سعد(1) في الطبقات عن الواقدي، قال: كانت أسنّ من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بخمسة عشر(2).

قال الواقدي: وكانت ذا شرفٍ ومالٍ كثيرٍ وتجارةٍ تبعث إلى الشام، فيكون عِيرُها كعِير عامّة قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربةً، فلمّا بلغ رسول اللّه خمساً وعشرين سنةً - وليس له بمكّة اسم إلّا الأمين - أرسلت إليه تسأله الخروج إلى الشام مع عِيرها، مع مولاها ميسرة، فسافر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بعيرها إلى الشام، فرأى غلامها ميسرة منه في الطريق العجائب، ورأى الغمامة تُظلّه، فلمّا قدم مكّة رأت الغمامة على رأسه، وحكى لها ميسرة ما شاهد، فتزوّجته بعد قدومه من الشام بشهرين ويومين، زوّجه إيّاها أبوها(3)، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد، وقيل: إنّما زوّجها عمّها عمرو، وهي بنت أربعين سنة، وهو الأصحّ؛ لأنّها ولدت قبل عام الفيل بخمسة عشر(4).

قال الواقدي: مات أبو خديجة قبل الفِجَار الأوّل، أو في حرب الفِجَار.

وأمّا كنيتها

فقد ذكر العلّامة المجلسي(5) نقلاً عن كتاب معالم العترة النبويّة لأبي محمّد، عبدالعزيز بن الأخضر الجُنابذي الحنبلي(6): رُوي أنّ خديجة رضوان اللّه عليها كانت تكنّى بأُمّ هند.

ص: 153


1- . هو أبو عبداللّه محمّد بن سعيد الزهري، كاتب الواقدي، توفّي سنة 230 (راجع: الكنى والألقاب للقمّي). (المؤلّف).
2- . تاريخ الخميس: ج1 ص264، السيرة الحلبية: ج1 ص140، سيرة مغلطاي: ص12، بحار الأنوار: ج16 ص12 وص19، البداية والنهاية: ج2 ص295. (الشطري).
3- . نقله الواقدي. (المؤلّف).
4- . كشف الغمّة للأربلي: ج2 ص139، وعنه بحار الأنوار: ج16 ص12 وص19 عن الواقدي، وراجع: السيرة الحلبية: ج1 ص138. (الشطري).
5- . بحار الأنوار: ج6 ص120. (المؤلّف).
6- . وُلد سنة 526ه ، وصنّف مصنّفات كثيرة في علم الحديث مفيدة، وأخذ من الخطيب كثيراً من كتبه، مات في 6 شوّال سنة 111ه ، ودُفن بباب الحرب في بغداد (راجع: معجم الأُدباء). والجُنابذي نسبة إلى جُنابذ - بالضمّ - : ناحية من نواحي نيسابور يقال لها كُناباد، يُنسب إليها جمع كثير. (المؤلّف).

قال الخوارزمي(1): قال محمّد: وكُنّيت خديجة أُمّ هند، وكان لها ابنٌ وبنت حين تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأُمّ خديجة فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ، وأُمّها هالة بنت عبد مناف.

وأمّا لقبها

واللقب يعرّفه النحويّون بأنّه هو: ما أشعر بمدح المسمّى أو ضعته. ومثال المشعر بالمدح: كجذل الطعان، وصيّاد الفوارس. ومثال المشعر بالذمّ: كالأعشى والأعمش.

وقال الرضيّ : الفرق بين اللقب والكنية معنىً: أنّ اللقب يُمدح الملقّب به أو يُذمّ بمعنى ذلك اللفظ، بخلاف الكنية، فإنّه لا يُعظّم المكنّى بمعناها، بل بعدم التصريح بالاسم؛ فإنّ بعض النفوس تأنف أن تُخاطَب باسمها(2).

ومن الألقاب التي تُشعر بالمدح هو ما لُقّبت به خديجة:.

جاء في السيرة الحلبيّة(3) وابن عبد البرّ(4) وابن الأثير(5)، قالوا جميعاً: كانت تُلقّب بالطاهرة(6).

فضائلها ومناقبها

قال الشيخ العلّامة، فقيه الحرمين، مفتي العراقين، محدّث الشام، صدر الحفّاظ، أبو عبداللّه، محمّد بن يوسف بن محمّد، القرشي الكنجي الشافعي، المتوفّى سنة 658(7): ومن مناقبها: سبقُ

ص: 154


1- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص37، طبع النجف. (المؤلّف).
2- . لاحظ بحث «الكنية حقيقتها وأثرها في الحضارة والعلوم الإسلاميّة» للسيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي، مطبوع في مجلّة تراثنا العدد (17).
3- . تأليف عليّ بن برهان الدين الحلبي الشافعي، صاحب إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون المعروف بالسيرة الحلبيّة. كان واسع العلم، غايةً في التحقيق، حادّ الفهم، قويّ الفكرة، متحرّياً في الفتوى، توفّي بالقاهرة سنة 1044، كما ذكر القمّي في الكنى والألقاب. (المؤلّف).
4- . هو الحافظ أبو عمر يوسف بن عبداللّه الأندلسي المغربي الأشعري، صاحب كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب، كان إمام عصره في الحديث والأدب، توفّي بشاطبة سنة 463ه ، كما في الكنى والألقاب. (المؤلّف).
5- . هو عزّ الدين أبو الحسن عليّ بن المكرم، ولد بالجزيرة، وسكن الموصل، ولزم بيته منقطعاً على النظر في العلم والتصنيف، وكان بيته مجمع الفضل، وكان حافظاً للأحاديث والتواريخ، وخبيراً بأيّام العرب وأخبارهم، وصنّف مصنّفات، توفّي بالموصل سنة 630ه ، كما ذكر القمّي في الكنى والألقاب. (المؤلّف).
6- . السيرة الحلبية: ج1 ص137، الاستيعاب، أُسد الغابة، الإصابة في تمييز الصحابة، وانظر: تنقيح المقال: ج3 ص77، ولاحظ: الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم : ج1 ص112. (الشطري).
7- . كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب : ص215، ط النجف. (المؤلّف).

هدايتها(1)، وبشارتها للنبي(صلی الله علیه و آله)، ومشورتها مع ورقة بن نوفل في أمر رسول اللّه في بدء الوحي.

وهو ما أخبرنا به أئمّة الأمصار وحفّاظ الوقت:

شيخ الإسلام حجّة العرب، أبو عبداللّه محمّد بن أبي الفضل المرسي، بمكّة شرّفها اللّه تعالى.

وأوحد دهره أبو عمرو، عثمان بن عبد الرحمن، أبو الصلاح.

وقدوة أهل الحديث، أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد الصريفيني، بدمشق.

وبقيّة السلف، أبو عبداللّه محمّد بن عبد الواحد المقدّسي، بجبل قاسيون.

وشيخ المذهب، علّامة الزمان، أبو الثناء محمود بن أحمد الحصيري، بدمشق أيضاً، ومولده ببخارى سنة ستّ وأربعين وخمسمائة، وتوفّي يوم الأحد ثامن صفر سنة ستّ وثلاثين وستّمائة.

وحجّة الإسلام، شافعيّ الوقت، أبو سالم محمّد بن طلحة النصيبي(2).

ومؤرّخ العراق، أبو عبداللّه محمّد بن محمود بن الحسن، المعروف بابن النجّار، ببغداد، ومولده ليلة الأحد ثالث عشر من ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وتوفّي بُكرة الثلاثاء خامس شعبان سنة ثلاث وأربعين وستّمائة، وتقدّم في الصلاة عليه شيخنا العلّامة رئيس الأصحاب شرقاً وغرباً، أبو محمّد عبداللّه بن أبي الوفاء، الباذرائي، ودُفن بالشهداء من باب حرب.

قالوا جميعاً: أخبرنا المقرئ أبو الحسن المؤيّد بن محمّد بن عليّ، الطرسوسي، بنيسابور: أخبرنا أبو عبداللّه بن محمّد بن الفضل: أخبرنا أبو الحسين عبد الغافر، أخبرنا أبو أحمد محمّد، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم، أخبرنا الحافظ مسلم بن الحجّاج، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يوسف بن شهاب، قال: حدّثني ابن الزبير: أنّ عائشة زوج النبي(صلی الله علیه و آله) أخبرته أنّها قالت: كان أوّل ما بدئ به رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

ص: 155


1- . لاحظ الصحيح من السيرة: ج1 ص245. (الشطري).
2- . هو كمال الدين محمّد بن طلحة بن محمّد بن الحسن النصيبي العدوي الشافعي، أحد الصدور والرؤساء المعظّمين، له: مطالب السؤول والعقد الفريد، توفّي بحلب سنة 652ه (راجع الكنى والألقاب للقمّي). (المؤلّف).

من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤياً إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ حُبّب إليه الخلأ، فكان يخلو بغار حِراء(1) فيتحنّث فيه (وهو التعبّد) الليالي أُولات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتّى فجأهُ الحقّ وهو في غار حِراء، فجاءهُ الملك، فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني(2) حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطّني الثانية، حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطّني الثالثة، حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني، فقال: (اقْرَأْ باِسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ

مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).

فرجع بها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يرجف فؤاده(3)، حتّى دخل على خديجة، فقال: زمّلوني زمّلوني! فزمّلوه حتّى ذهب منه الروع. ثمّ قال لخديجة: أي خديجة، مالي؟ وأخبرها الخبر، قال: لقد خشيتُ على نفسي، قالت له خديجة: كلّا، ابشر، فواللّه لا يُخزيك اللّه أبداً، واللّه إنّك لتصلُ الرحم، وتصدق الحديثَ، وتحمل الكلّ، وتكسر المعدومَ، وتُقري الضيفَ، وتُعين على نوائب الحقّ.

فانطلقت به خديجة حتّى أتت ورقة بن نوفل(4) بن أسد بن عبد العُزّى، وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربيّ من الإنجيل بالعبريّة ما شاء اللّه، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك.

قال ورقة بن نوفل: يابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خبر ما رآه.

فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أُنزلَ على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، يا ليتني أكون حين يُخرجك قومك، قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أو مُخرِجِيَّ، هُم؟ قال ورقة: نعم، لم يأتِ

ص: 156


1- . قال ابن الأثير في النهاية في مادّة «حرا»: «في الحديث: كان (أي النبيّ ) يتحنّث بحِراء، وهي - بالكسر والمدّ - : جبلٌ من جبال مكّة، معروف، ومنهم من يُؤنّثه ولا يصرفه. قال الخطابي: وكثير من المحدّثين يغلطون فيه، فيفتحون حائه ويقصرونه ويميلونه، ولا يجوز إمالته؛ لأنّ الراء قبل الألف مفتوحة، كما لا تجوز إمالة رافع وراشد». (المؤلّف).
2- . قال ابن الأثير أيضاً في النهاية في مادّة «غطط» في حديث ابتداء الوحي: «فأخذني جبرئيلُ فغطّني»: «الغطّ: العصر الشديد والكبس، ومنه: الغطّ في الماء والغوص. قيل: إنّما غطّه ليختبره هل يقول من تلقاء نفسه شيئاً؟» (المؤلّف).
3- . ترجف بوادره (خ ل). (المؤلّف).
4- . جاء في عمدة القاري: ص62: كان في الجاهلية لفضله وفضيلته يُلقّب بالقسّ. (المؤلّف).

رجلٌ قطّ بما جئتَ به إلّا عُودِيَ، وإن يدركني يومُك أنصرك نصراً مؤزّراً(1).

قلت: هذا حديث متّفقٌ على صحّته، رواه مسلم كما سقناه، ورواه البخاري(2) في أوّل كتابه عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب.

وفي هذا الحديث حجّةٌ واضحةٌ تشهدُ بصحّة ما ذكرتُ في حقّها وسبقها للإسلام.

وروى الخوارزمي1 عن ابن إسحاق: حدّثني عبد الملك بن عبداللّه الثقفي، عن بعض أهل العلم. وساق حديث المبعث إلى أن قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): إنّي أخاف الجُنون!

فقالت له خديجة: أُعيذك باللّه يا أبا القاسم من ذلك، ما كان اللّه ليفعل بك ذلك مع ما أعلم من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك، وما ذاك يابن العمّ؟ لعلّك قد رأيت شيئاً أو سمعته.

ص: 157


1- . قال العلّامة الطباطبائي في الميزان في تعليقه على قصّة ورقة بن نوفل مع خديجة:: «والقصّة لا تخلو من شيء، وأهون ما فيها من الإشكال شكّ النبيّ في كون ما شاهده وحياً إلهيّاً من مَلَكٍ سماويّ ألقى إليه كلام اللّه! وتردّده، بل ظنّه أنّه من مَسّ الشياطين بالجنون! وأشكل منه سكون نفسه في كونها نبوّةً إلى قول رجلٍ نصرانيّ مترهّب؟! وقد قال تعالى: (قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّى) (الأنعام: 57)، وأيّ حجّة بيّنة في قول ورقة؟! وقد قال اللّه تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِى) (يوسف: 108)، فهل بصيرته هي سكون نفسه إلى قول ورقة؟ وسكون من اتبّعه سكون أنفسهم إلى سكون نفسه ما لا حجّة فيه قاطعة؟ وقال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (النساء: 163)، فهل اعتمادهم في نبوّتهم على مثل ما تقصّه هذه القصّة؟» (تفسیر المیزان: ج2 ص329). وللسيّد جعفر العاملي بحثٌ حول بدء الوحي وردّ الأساطير (كقصّة ورقة بن نوفل وغيرها) في الصحيح من السيرة: ج1 ص217 - 238، وكذلك للشيخ جعفر السبحاني في سيّد المرسلين: ج1 ص336 - 342، وكذلك للشيخ هادي معرفت في التمهيد في علوم القرآن: ج1 ص47 - 565، يجدر بالباحثين الوقوف عليها؛ لأنّ ذكر هذه القصّة تسيء إلى النبيّ ، لذا ردّها الكثير من علمائنا المحقّقين رحم اللّه الماضين منهم وأعلى شأن الحاضرين. وهذه القصّة ذكرها علماء العامّة وتكلّموا فيها بطريقة غير مألوفة، وربّما لا يستسيغها العقل الفطري في شيء، أمّا علماؤنا الإماميّة فتكلّموا فيها بطريقة عقليّة على أساس الاستدلال البرهاني، مدعماً بالنقل المأثور عن أئمّة أهل البيت: (التمهيد: ج1 ص47). (الشطري).
2- . ذكره البخاري في باب الوحي، كيف بُدئ الوحي إلى رسول اللّه : ج1 ص3 من صحيحه، وذكره أيضاً في الجزء الثالث: ص125 في كتاب التفسير عنوان سورة (اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الّذِى خَلَقَ). (الشطري).

فأخبرها أنّه رأى جبرئيل واقفاً بالهواء يقول: (اقْرَأْ باِسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ).(1) فقالت له:

ابشر يابن عمّ، واثبت له، فوالذي يُحلف به إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأُمّة.

ثمّ قامت فجمعت ثيابها عليها وانطلقت إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمّها وكان قد قرأ الكتب والإنجيل وتنصّر، فأخبرته الخبر، وقصّت عليه ما قصّه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عليها.

قال ورقة: قُدّوسٌ قُدّوسٌ، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنتِ صدقتني يا خديجة، لهو نبيّ هذه الأُمّة، وإنّه ليأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، فقولي له فليثبت.

فرجعت إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فأخبرته الخبر، فسهّل ذلك عليه بعض ما فيه من الهمّ.

فلمّا قضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جواره من حِراء بدأ بالكعبة، فطاف بها، فلقيه ورقة وهو يطوف بالكعبة، فقال: يابن أخي، خبّرنا بالذي رأيت وسمعت. فأخبره بذلك، فقال: إنّك لنبيّ هذه الأُمّة، ولتُؤذينَّ ولتُكذّبنَّ ولتُقاتلنَّ، ولئن أدركتُ ذلك لأنصرك نصراً يعلمه اللّه.

ثمّ أدنى إليه رأسه فقبّل يافوخه.

ثمّ انصرف رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقد زاده قولُ ورقة ثباتاً، وخفّف عنه بعض ما كان فيه من الهمّ، وقال ورقة لخديجة(علیها السلام) في ذلك:

فإن يكُ حقّاً يا

خديجةُ فاعلمي

حديثُك إيّانا فأحمدُ

مرسَلُ

يفوز به مَن فازَ فيها

بتوبةٍ

ويشقى

به العاتي الغويُّ المضلّلُ

فريقان منهم فرقةٌ في

جنانه

وأُخرى لترجو أن جحيم

تغللُ

وقال ورقة بن نوفل في ذلك أيضاً:

ياللرجالِ

لصرفِ الدهر والقَدَرِ

وما

لشيءٍ قضاهُ اللّهُ من غِيَرِ

أتت

خديجةُ تدعوني لأُخبرها

ص: 158


1- . الخوارزمي: هو الموفّق محمّد بن أحمد المؤيّد بن أبي سعيد إسحاق، المؤيّد المكّي الخوارزمي، كما ذكر ذلك صاحب كتاب الفوائد البهيّة في طبقات الحنفيّة وصاحب التعليقات عليها، المطبوعين بمطبعة الخانجي في مصر، قالا فيهما: ولد سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وقرأ على أبيه وغيره، وتوفّي في خوارزم سنة ثمان وستّين وخمسمائة أو تسع. انتهى. (المؤلّف).

وما

لها بخفّي الغيب من خَبَر

جاءت

تسائلني عنه لأُخبرها

أمراً

أراه سيأتي الناس في أُخَرِ

بأنّ

أحمد يأتيه فأخبره

جبريل أن هو مبعوث إلى البشرِ

فقلتُ

علّ الذي ترجين ينجزه

لك

الإله فرجّي الخير وانتظري

وأرسليه

إلينا كي نسائله

عن أمره ما يرى في النوم والسهرِ

فقال

حين أتانا منطقاً عجباً

يقفّ

منه أعالي الجلد والشعَرِ

إنّي

رأيت أمين اللّه واجهني

في صورة أكملت من أهيب الصورِ

ثمّ

استمرّ فكاد الخوف يذعرني

ممّا يسلّم من حولي من الشجَرِ

فقلتُ

ظنّي وما أدري ليصدقني

أن سوف تُبعث تتلو منزل السُّورِ

وسوفَ تأتيك إن أعلنت دعوتهم

من

الجهاد بلا مَنٍّ ولانذرِ(1)

قال سبط ابن الجوزي: قال هشام بن محمّد: كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يودّها ويحترمها ويشاورها في أُموره كلّها(2)، وكانت وزير صدقٍ(3)، وهي أوّل امرأةٍ آمنت به، ولم يتزوّج عليها في حياتها أبداً، وجميع أولاده منها، إلّا إبراهيم ابن مارية لما نذكر(4).

قال أحمد بن حنبل في المسند: حدّثنا عبداللّه، حدّثنا هشام عن أبيه، عن عبداللّه بن جعفر، عن عليّ ، قال: سمعتُ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يقول: خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة بنت خويلد(5).

متّفق عليه. والمراد بالأوّل نساء بني إسرائيل، وبالثاني نساء هذه الأُمّة.

ص: 159


1- . مقتل الحسين : ج1 ص21 ط النجف. (المؤلّف).
2- . بحار الأنوار: ج16 ص10، وج19 ص348. وفي رواية في صحيح مسلم: «إنّي قد رُزقت حبّها»، (فضائلها) (الجامع الصحيح: ج5 ص702، جامع الأُصول لابن الأثیر: ج1 ص80 ح2435). (الشطري).
3- . تراجم سيّدات بيت النبوّة: ص231 عن السيرة لابن إسحاق: ج2 ص57، تاريخ الطبري: ج2 ص229، عيون الأثر: ج1 ص130. (الشطري).
4- . تذكرة الخواصّ: ص70 ط النجف. (المؤلّف). وفي بحار الأنوار: ج16 ص10، وكفاية الطالب: ص359 عن عائشة أنّها قالت: «لم يتزوّج النبيّ على خديجة حتّى ماتت». أخرجه مسلم في صحيحه كما سقناه، وهذا دليل على جلالة قدرها وإكرام النبيّ لها بترك التزويج عليها حال حياتها، والمداومة على ذكرها بعد مماتها(علیها السلام) . وقال : «ورزقني منها الولد دون غيرها من النساء»، كما في السمط الثمين: ص26، الاستيعاب: ج1 ص1824. (الشطري).
5- . مسند أحمد: ج1 ص84، صحيح البخاري: ج5 ص47. (المؤلّف).

وفي الصحيحين أيضاً، من حديث أبي هريرة، قال: أتى جبرئيل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: يا محمّد، هذه خديجة قد أتتك فاقرأها السلام من ربّها، وبشّرها ببيتٍ في الجنّة من قصب لا صخبٌ فيه ولا نَصَب(1).

القَصَب: الدرّ المجوّف، والصخب: الأصوات المختلفة، والنصب: التعب.

ومعناه أنّه لابدّ لكلّ بيتٍ من تعب وإصلاح، إلّا قصور الجنّة فإنّها لا تعب في بنائها. وقيل: لما تعبت في تربية الأولاد حصلت لها الراحة بالمناسبة.

وفي الصحيحين أيضاً أنّ عائشة قالت: ما غِرتُ(2) على أحدٍ من نساء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتُها قطُّ، ولكن كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يُكثرُ ذكرها، وربّما يؤتى الشاة فيقطّع أعضاءها، ويبعث بها إلى صدائق خديجة(3)، فأقول: كأنّه لم يكن في الدُّنيا امرأة إلّا خديجة! فيقول: إنّها كانت وكانت، وكان لي منها الأولاد(4).

الصدايق: الخلايل.

وفي رواية عن عائشة قالت: فأدركتني الغيرة يوماً، فقلتُ: وهل كانت إلّا عجوزاً قد أخلفَ اللّهُ لك خيراً؟! قالت: فغضبَ حتّى احتزّ مقدّم شعره، وقال: واللّهِ ما أخلفَ لي خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفرَ الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواسَتني(5) بمالها إذ

حرمني الناس، ورزقني اللّهُ أولادها إذ حرمني أولاد النساء. قالت: فقلت في نفسي:

ص: 160


1- . سنن الترمذي: ج5 ص659،وذكر قريباً منه في كنز العمّال: ج13 ص690، وذكره القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة: ص174، والخوارزمي في مقتل الحسين: ص26، وهو في صحيح البخاري: ج5 ص47 - 48 وصحيح مسلم (باب فضائلها). (الشطري).
2- . من الغيرة. (المؤلّف).
3- . مناقب عليّ بن أبي طالب: ص339، ذكر قريباً منه ابن الجوزي في صفة الصفوة: ج2 ص4، والقندوزي الحنفي في ينابيع المودّة: ص170، الإصابة في تمییز الصحابة: ج8 ص62، صحيح مسلم (فضائلها): ح435، الاستيعاب: ج4 ص1823، السمط الثمين: ص26.
4- . صحيح مسلم (باب فضائلها): ح2437، الإصابة في تمییز الصحابة: ج4 ص283. (الشطري).
5- . من المواساة. (المؤلّف).

واللّه لا أذكرها بسوءٍ أبداً(1).

وفي رواية عن عائشة قالت: أغضبتُ رسولَ اللّه(صلی الله علیه و آله) يوماً وقلتُ: «خُدَيجة» - بالتصغير - فزجرني وقال: إنّي رُزِقتُ حُبّها(2).

واستأذنتْ عليه يوماً هالة أُخت خديجة، فارتاع لذلك وقال: اللّهمّ! هالة بنت خويلد! قالت: فغِرتُ وقلتُ: وما تذكرُ من عجوزٍ حمراءِ الشدقين هلكت في الدهر؟! فزجرني وقال بمعنى ما تقدّم(3).

ومعنى «حمراء الشدقين» أنّ المرأة إذا كبرت احمرّ شدقاها. وقيل: إنّه أرادت بالأحمر الأبيض، ومتى كبرت المرأة ابيضّ شدقاها، وهو الأصحّ.

وكلّ هذه الروايات في الصحيحين(4).

وقال الزُّهري(5): بلغنا أنّ خديجة أنفقت على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أربعين ألفاً وأربعين ألفاً. انتهى ما ذكرنا من التذكرة(6).

ص: 161


1- . الإصابة في تمييز الصحابة: ج4 ص284، وفيها بدل «سوء أبداً» «بنسبة أبداً»، الاستيعاب: ج4 ص1824، صحيح مسلم (باب فضائلها): ح2437، صفة الصفوة: ج2 ص4، وذكر قريباً منه الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج2 ص112. (الشطري).
2- . صحيح مسلم (فضائلها): ح2435، الإصابة: ج8 ص62، تراجم سيّدات بيت النبوّة: ص234. (الشطري).
3- . صحيح مسلم (باب فضائلها): ح2437، تراجم سيّدات بيت النبوّة (عن صحيح مسلم): ص234، صحیح البخاري: ج5 ص48. (الشطري).
4- . صحيح مسلم (باب فضائلها): ح2437، صحيح البخاري: ج5 ص48. (الشطري).
5- . الزهريّ: هو محمّد بن شهاب، من معاصري الإمام السجّاد عليّ بن الحسين . قالوا فيه: «عَدوٌّ» (راجع الخلاصة للعلّامة الحلّي: ص121)، وقد أرسل الإمام إليه رسالةً يعظه فيها، أثبتناها في كتاب بلاغة الإمام السجّاد . (المؤلّف). وراجع: جهاد الإمام السجّاد : ص227 من الطبعة الثانية.
6- . تذكرة الخواصّ: ص70 ط طهران. (المؤلّف). قال السيّد المقرّم - في كتابه الإمام زين العابدين في هامش ص154 - : في البداية لابن كثير: ج9 ص340: ولد محمّد بن عبيد اللّه بن عبداللّه بن شهاب بن عبداللّه بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرّة، القرشي، الزُّهْري سنة (58ه)، وكان قصيراً قليل اللحية، له شعرات طوال، خفيف العارضين. وفي ترجمته من وفيات الأعيان لابن خلّكان: كان أبوه مسلم مع مصعب بن الزبير، وجدّه عُبيد اللّه مع المشركين في يوم بدر، ولم يزل هو مع عبدالملك بن مروان وهشام بن عبد الملك واستقضاء يزيد بن عبد الملك. وفي البداية: جعله هشام معلّم أولاده. Ñ Ø وفي تهذيب التهذيب: ج9 ص449: أمره هشام أن يملي على أولاده أحاديث، فأملی عليهم أربعمائة حديث. والقارئ الفطن خبيرٌ بأنّ من يتقلّب في دُنيا بني مروان لا يروي في أحاديثه شيئاً في فضل عليّ وأولاده الأطهرين:؛ لأنّه لا يروق لهم ذلك، والزهري على نهجهم وسيرتهم، يتطلّب دُنياهم، ومن هنا أطراهُ علماء العامّة ورفعوه إلى أعلى مستوى العلم والفضيلة، ويحكي ابن حجر تعجّبه من كثرة ما نشره من العلم. وإنّي لا أشكّ في انحراف الرجل عن أمير المؤمنين وأولاده، يشهد لذلك ما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج (ج1 ص371) عن جرير بن عبد الحميد، عن محمّد بن شيبة، قال: شهدتُ الزهري وعروة بن الزبير في مسجد النبيّ يذكران عليّاً، ونالا منه، فبلغ ذلك عليّ بن الحسين ، فجاء حتّى وقفَ عليهما فقال: «أمّا أنت يا عُروة، فإنّ أبي حاكم أباك فحكم لأبي على أبيك، وأمّا أنت يا زهري، فلو كنتُ في مكّة لأريتك كير أبيك». وقال السيّد ابن طاووس في التحرير الطاووسي بترجمة عبداللّه بن العبّاس: إنّ سفيان بن سعيد، والزُّهْري عدوّان متّهمان، وقد ذكرتُ في كتبي شيئاً يتعلّق بحالهما. وقال أبو علي الحائري في منتهى المقال بترجمته:لاريب في عداوته ونصبه لأمير المؤمنين. وفي رجال الشيخ الطوسي، والعلّامة، وابن داود، والسيّد مصطفى التفريشي: إنّه عدوّ لآل محمّد صلوات اللّه عليهم. وفي كشف الغمّة: ج2 ص317، والتهذيب للشيخ الطوسي: ج2 ص435: كانَ عاملاً لبني أُميّة، فعاقب رجلاً مات في عقوبته، فهرب لوجهه وتوحّش، ولكنّ الإمام زين العابدين أمره بإرسال الدية إلى أهل المقتول، ولا ييأس من رحمة اللّه. ومن جميع ما تقدّم جزم شيخنا المامقاني في تنقيح المقال بتلوّن الرجل وعدم استقامة رأيه. وما في الصحيفة الخامسة: ص289 من دعاء الإمام السجّاد له بالرزق والخلاص، إمّا لأنّه هو طلب ذلك منه وهم: لا يردّون متوقّعاً، أو من تاب وندم على ما أفرط، وسيأتي حديثه فيما شاهده من الإمام في عرفات (راجع: الإمام زين العابدين للمقرم: ص174 نقلاً عن تفسير الإمام العسكري: ص256). ولعلّ تفضّل الإمام السجّاد بتلك الكرامات ممّا هداه إلى الحقّ، ورواياته في الفقه كثيرة، فإذ لم يتب مع قراءته لهذا الكتاب الصادر من إمام الأُمّة وللمعاجز التي شاهدها من السجّاد، فهو ملعون، ومع ذلك فقد أدرجه العلّامة الحلّي وابن داود في قسم الضعفاء، ولم يقم له وزناً الشيخ محمّد طه نجف، حيث لم يذكره في إتقان المقال. توفّي - كما في وفيّات الأعيان - لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة 124 في بيته ب- «نعف»، وهي في آخر عمل الحجاز وأوّل عمل فلسطين، ودُفن في ضيعته «إدامي» خلف «شغب، وبدا»، وهما واديان أو قريتان. وفي معجم البلدان: ج5 ص277: دُفن في ضيعة خلف وادي القرى تسمّى «شغب». وعلماؤنا لم يختلفوا في قدحه، أجمعوا على ذلك، فراجع كتاب زين العابدين للمقرم: ص154- 158 الهامش. وقد أثبت السيّد الجلالي أنّ الزُّهري هو من أعمدة البلاط الأُموي، وجميع أهل البيت: يجرحونه، وكذلك يجرحه غيرهم، وأنّ الرجل كان كذّاباً ومتزلّفاً لبني أُميّة لعنهم اللّه. (جهاد الإمام السجّاد : ص268 - 280). (الشطري).

ورُوي مسنداً عن أبي هريرة، وبسند آخر عن أنس: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): خير نساء العالمين: مريم، وآسية بنت مزاحم، وخديجة، وفاطمة:(1).

ص: 162


1- . كما ورد بعدّة أسانيد عن عائشة، وورد في مسند أحمد عن ابن عبّاس (مسند أحمد: ج1 ص293، كنز العمّال: ج12 ص145). (الشطري).

وعن أبي زرعة قال: سمعت أبا هريرة يقول: أتى جبرئيل النبي(صلی الله علیه و آله) فقال: يا رسول اللّه، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ من ربّها ومنّي، وبشّرها ببيتٍ في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(1).

قلت: هذا حديث صحيح رواه الحافظ مسلم بن الحجّاج في صحيحه كما سُقناه(2).(3)

وروي عن عبداللّه بن مسعود(4)، قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في حديث طويل: إنّ اللّه اختار من الأيّام أربعة، ومن الشهور أربعة، ومن النساء أربعاً(5).

وساق الحديث إلى أن قال: وأمّا النساء فمريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، سابقة نساء العالمين إيماناً باللّه وبرسوله، وآسية امرأة فرعون، وفاطمة بنت محمّد سيّدة نساء أهل الجنّة(6).(7)

وعن ابن عبّاس قال: خطّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أربع خطط في الأرض، فقال: أتدرون ما هذا؟ قلنا: اللّه ورسوله أعلم، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أفضل نساء الجنّة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد(صلی الله علیه و آله)، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون(8).

ص: 163


1- . أخرجه البخاري في باب غيرة النساء، وهو في أواخر كتاب النكاح: ص157 من الجزء الثالث من صحيحه، ورواه مسلم في صحيحه في باب فضائل فاطمة: ج7 ص133، مستدرك الحاكم: ج3 ص184 - 185 بطرق متعدّدة صحيحة على شرط الشيخين، وذكر حديث مشابه له في السيرة الحلبية: ج1 ص169 الهامش. (الشطري).
2- . كفاية الطالب للکنجي الشافعي: ص212. (المؤلّف).
3- . بحار الأنوار: ج16 ص2 نقلاً عن الخصال للشيخ الصدوق: ص96، إحقاق الحقّ: ج1 ص52، ذكر هذا الحديث ب- (29) طريقاً من العامّة. (الشطري).
4- . هو عبداللّه بن مسعود بن غافل أو عاقل، شهد مع رسول اللّه مشاهده، وكان أحد حفّاظ القرآن. قال الخطيب البغدادي في تاريخه: وكان من فقهاء الصحابة، ذكره عمر بن الخطّاب فقال: «كنيفٌ مُلئ علماً»، وبعثه إلى الكوفة ليقريهم القرآن ويعلّمهم الشرائع والأحكام، فبثّ عبداللّه فيهم علماً كثيراً، وفقّه منهم جمعاً غفيراً. (المؤلّف).
5- . المستدرك على الصحيحين: ج3 ص184 - 186، ووردت روايات بهذا المضمون ذيل الحديث في صحيح مسلم: ج7 ص133. (الشطري).
6- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص20. (المؤلّف).
7- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص25، المراجعات المراجعة 72، وقد ذكر في هامش هذه المراجعة مصادر كثيرة من العامّة تدلّ على أفضلية خديجة، فراجع: ص299 - 300 دار ومكتبة الرسول الأكرم بيروت، الخصال للصدوق : ص225 ص15 باب الأربعة. (الشطري).
8- . بحار الأنوار: ج6 ص132 نقلاً عن الخصال للشيخ الصدوق. (المؤلّف).

وعن عروة قال: قالت عائشة لفاطمة بنت محمّد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): ألا أُبشّرك؟ إنّي سمعت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يقول: سيّدات نساء أهل الجنّة أربع: مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمّد، وخديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون(1).

وعن عمّار بن ياسر2، قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): فُضِّلتْ خديجةُ على نساء العالمين(2).

وجاء في البحار: أنّ اللّه تعالى أعطى عشرة أشياء لعشرة من النساء: التوبة لحوّاء زوجة آدم، والجمال لسارة زوجة إبراهيم، والحفاظ لرحمة زوجة أيّوب، والحرمة لآسية زوجة فرعون، والحكمة لزليخا زوجة يوسف، والعقل لبلقيس زوجة سليمان، والصبر لبرخانة أُمّ موسى، والصفوة لمريم أُمّ عيسى، والرضا لخديجة زوجة المصطفى، والعلم لفاطمة زوجة المرتضى (3).

كما ورد أيضاً في البحار، عن عيون المعجزات(4)، عن جارية بن قدامة، قال: حدّثني سلمان، قال: حدّثني عمّار، وقال: أُخبرك عجباً؟ قلت: حدّثني يا عمّار، قال: شهدتُ

عليّ بن أبي طالب وقد ولج على فاطمة، فلمّا بصرت به نادت: أدنُ منّي لأُحدّثك بما كان وما هو كائن وبما لم يكن إلى يوم القيامة حين تقوم الساعة.

قال عمّار: فرأيت أمير المؤمنين يرجع القهقرى، فرجعت برجوعه، إذ دخل على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: أدنُ منّي يا أبا الحسن. فدنا منه، فلمّا اطمئنّ به المجلس فقال له: تحدّثني أم أُحدّثك؟ قال : الحديث منك أحسن يا رسول اللّه، فقال: كأنّي بك وقد دخلتَ على فاطمة وقالت لك كذا وكذا، فرجعت. فقال : يا رسول اللّه، نور فاطمة من نورنا؟ فقال: بلى، أو لا تعلم؟ فسجد عليّ شكراً للّه تعالى.

قال عمّار: فخرج أمير المؤمنين وخرجتُ بخروجه، فولج على فاطمة وولجتُ، فقالت: يا أبا الحسن، كأنّك رجعت إلى أبي فأخبرته بما قلتُ لك؟ قال: كان كذلك يا فاطمة،

ص: 164


1- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص21، نور الأبصار: ص40. (المؤلّف).
2- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص31. (المؤلّف).
3- . بحار الأنوار: ج43 ص34 ح39 باب 3.
4- . تأليف الحسين بن عبد الوهّاب، ط النجف الأشرف. (المؤلّف).

فقالت: اعلم يا أبا الحسن، أنّ اللّه خلق نوري وكان يُسبّح اللّه جلّ جلاله، ثمّ أودعه بشجرة من شجر الجنّة أوحى اللّه إلهاماً: أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة وأدرها في لهواتك، ففعل، فأودعني اللّه صُلب أبي، ثمّ أودعني صلب خديجة بنت خويلد فوضعتني، وأنا من ذلك النور، أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن. يا أبا الحسن، المؤمن ينظر بنور اللّه.

وأيضاً فيه: قال أمير المؤمنين : كنّا جُلوساً عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: أيّ شي ءٍ خيرٌ للنساء؟ فعيينا بذلك كلّنا، حتّى تفرّقنا، فرجعتُ إلى فاطمة فأخبرتُها بالذي قال لنا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وليس منّا أحد علمه ولا عرفه، فقالت: ولكنّي أعرفه، خيرٌ للنساء أن لا يرينَ الرجالَ ولا يراهنّ الرجالُ.

فرجعتُ إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقلتُ: يا رسول اللّه، سألتنا أيّ شيءٍ خيرٌ للنساء؟ خيرٌ لهنّ أن لايَرَينَ الرجالَ، ولا يراهنّ الرجالُ.

قال: مَن أخبرك وأنت عندي فلم تعلمه؟ قلت: فاطمة. فأعجب ذلك رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: إنّ فاطمة بضعةٌ منّي.

وفي خبر: فضمّها إليه وقال: ذرّيةٌ بعضها من بعض.

وأيضاً فيه: سأل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أصحابه عن المرأة؟ قالوا: عورة، قال: فمتى تكون أدنى من ربّها؟ فلم يدروا، فلمّا سمعت فاطمة ذلك قالت: ما تكون من ربّها أن تلزم قعر بيتها. فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): إنّ فاطمة بضعةٌ منّي(1).

والبَضْعةُ - بالفتح والكسر - : قطعةٌ من اللحم.

ص: 165


1- . قال السيّد القزويني في كتاب فاطمة من المهد إلى اللحد: «فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها ويغضبني ما أغضبها». روى هذه الأحاديث أكثر من خمسين من رجال الحديث والسنن، كأحمد بن حنبل، والبخاري، وابن ماجه، والسجستاني، والترمذي والنسائي، وأبو الفرج الإصفهاني، والنيسابوري، وأبو نُعيم، والبيهقي، والخوارزمي، وابن عساكر، والبلاذري والبغويّ، وابن الجوزي، وابن الأثير، والسيوطي، وابن حجر، وغيرهم ممّا يعسر إحصاؤهم. وقد وقعت هذه الأحاديث موقع الرضا والقبول من الصحابة والتابعين؛ لتواترها وصحّة إسنادها، وشهرتها في الملأ الإسلامي. (فاطمة من المهد إلى اللحد: ص193، وراجع: بحار الأنوار: ج43 ص91 و92، وإحقاق الحقّ: ج10 ص258، ومستدرك الوسائل: ج14 ص289، ودعائم الإسلام: ج2 ص214، ومسند فاطمة: ص337). (الشطري).

في كلمات الأعلام

شيخ الإسلام زكريا الأنصاري

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في بهجة الحاوي:

وأفضلهنّ (أي زوجات النبي(صلی الله علیه و آله)) خديجةُ وعائشة، وفي أفضلَيهما خلاف، صحّح ابن العماد تفضيل خديجة؛ لما ثبت أنّه قال لعائشة - حين قالت له: قد رزقك اللّه خيراً منها - : واللّه ما رزقني اللّه خيراً منها، آمنت بي حين كذّبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس(1).

عبدالسلام

ونقله في شرح عبد السلام على الجوهرة، ونصّه: صحّح ابن العماد تفضيل خديجة وفاطمة، فتكون أفضل من عائشة.

قاضي القضاة السُّبكي

*قاضي القضاة السُّبكي(2)

ولمّا سُئِل السُّبكي عن ذلك، فقال: الذي نختاره وندين اللّه به أنّ فاطمة بنت محمّد(صلی الله علیه و آله) أفضل، ثمّ أُمّها خديجة، ثمّ عائشة(3).

ص: 166


1- . نور الأبصار للشبلنجي: ص43. (المؤلّف).
2- . السُّبْكيّ - بالضمّ - : قاضي القضاة، تقيّ الدين عليّ بن عبد الكافي بن علي الخزرجي الأنصاري المصري الشافعي الأشعريّ، وُلد أوّل صفر سنة 683ه ، وتوفّي سنة 756ه (راجع: الكنى والألقاب للقمّي). (المؤلّف). وله ترجمة واسعة في مقدّمة كتابه شفاء السقام في زيارة خير الأنام بقلم السيّد الجلالي، الطبعة الرابعة.
3- . الثابت عند علماء المسلمين جميعاً أنّ خديجة: هي أوّل مَن آمنت برسول اللّه من النساء، وأنّ رسول اللّه كان يجلّها ويحترمها في حياتها، وكان يثني عليها بعد وفاتها. ثمّ إنّ الحديث الذي ذكرته عائشة: «أفضل نساء الجنّة أربعة: مريم وآسية وخديجة وفاطمة»، لم يرد ذكر لفضل عائشة فيه، علماً بأنّ نساء أهل الجنّة خيرة نساء الأرض. بالإضافة إلى أنّ الثابت عند المسلمين جميعاً أنّ عائشة خرجت لحرب الإمام أمير المؤمنين وأنكرت خلافته التي أجمع عليها المسلمون، وسبّبت قتل ستّة عشر ألف مسلم فيهم عدد كبير من الصحابة، وأنّها خالفت قول اللّه تعالى:(وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ) (الأحزاب: 33)، وقول رسول اللّه لعليّ: «يا عليُّ، حربك حربي، وسلمك سلمي»، وحسدت خديجة الطاهرة:، كما صرّحت هي في أحاديثها السابقة، والحسد من الكبائر التي تخلّد صاحبها بالنار. ولم تزر الصدّيقة الطاهرة فاطمة أيّام مرضها، وكانت تحقد على فاطمة وعلى أُمّها خديجة، وعندما سمعت بنبأ استشهاد الإمام أمير المؤمنين، استبشرت وأنشدت: فألقتْ عصاها واستقرَّ بها النوى كم-ا قرّ ع-يناً بالإي-ابِ الم-سافرُ وخرجت مرّة أُخرى - وبتحريض من الملعون مروان بن الحكم - على بغلةٍ، عند شهادة الإمام الحسن Ñ Ø عندما أراد بنو هاشم أن يجدّدوا لجنازته العهد برسول اللّه ويدخلوا بها إلى قبر جدّه، خرجت قائلةً: «يا بني هاشم، إنّي لا أُحبّ من لا أُحبّ أن يدخل بيتي»! وهذا ردّ على قول رسول اللّه حيث قال: «الحسن والحسين ابناي، اللّهمّ إنّي أُحبّهما وأُحبّ من يُحبّهما»، فمنعت بني هاشم من زيارة النبيّ ، وقد أُصيب نعش الإمام الحسن في ذلك اليوم بخمسين سهماً، وقد علّمها ابنُ أخيها القاسم بن محمّد بن أبي بكر في ذلك الموقف طالباً منها الرجوع، حيث قال لها: يا عمّة، ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل حتّى يُقال يوم البغلة الشهباء! وقال لها عبداللّه بن العبّاس: يومٌ على جملٍ، ويومٌ على بغلٍ؟! ثمّ أنشد: أي-ا بن-تَ أب-ي ب-ك-رٍ ف-لا ك-انَ ولا كُ-نتِ ت-ج-مّ-لْتِ ت-بغ-ّلْ-تِ ول-و عِ-شْتِ ت-فَ-يَّلْتِ لكِ التُسعُ من الثُمنِ وبِال-كُ-لِّ تَ-ص-َرَّفْ-تِ وقد استدلّ العامّة على زعم أفضليّتها بأنّها كانت عالمةً وحافظةً لكثير من أحاديث رسول اللّه ، وهذا لا قيمة له عند اللّه، لأنّها لم تعمل بما تعلم، بل يكون هذا حجّة قويّة عليها يوم القيامة، ورحم اللّه الشاعر الأُزري حيث قال: حَفِظَتْ أربعين ألف حديثٍ وم-ن ال-ذِكْرِ آيةً تَ-نْساه ا؟ (الشطري). وقال الشيخ عبد الحسين الحُويزي الحائري: نَسِيَتْ «قَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ» وكانَتْ تحفَظُ ال-ذِكْ-رَ، ما ال-ذي أنْساه ا؟

واختار السُّبكي أنّ مريم أفضل من خديجة؛ لقوله: خير نساء العالمين مريم بنت عمران، ثمّ خديجة بنت خويلد، ثمّ فاطمة بنت محمّد(صلی الله علیه و آله)، ثمّ آسية بنت مزاحم امرأة فرعون.

كيفيّة إسلامها

جاء في سيرة النبي(صلی الله علیه و آله) لابن هشام: أوّل الناس إيماناً برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عليٌّ وخديجة.

وفي البحار عن عبد الرحمن بن ميمون، عن أبيه، قال: سمعتُ ابن عبّاس(1)،(2) يقول:

ص: 167


1- . هو عبداللّه بن العبّاس، كان محبّاً لعليّ وتلميذه، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين أشهر من أن يخفى، وقد ذكر الكشّي أحاديث تتضمّن قدحاً فيه، وهو أجلّ من ذلك (راجع: الخلاصة: ص5). وقال المحبّ الطبريّ في ذخائر العقبى: ص336: عبداللّه بن العبّاس، يُكنّى أبا العبّاس، أُمّه أُمّ الفضل، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب قبل خروج بني هاشم، وتوفّي بالطائف سنة ثمان وستّين. (المؤلّف).
2- . قول المؤلّف: ذكر الكشّي في ترجمة عبداللّه بن عبّاس أحاديث تتضمّن قدحاً فيه، (وهو) أجلّ من ذلك. أقول: وقد دافع عن عبداللّه بن عبّاس، وردّ هذه الأحاديث آية اللّه العظمى السيّد علي الفاني في كتابه عبداللّه بن عبّاس، وكذلك دافع عنه العلّامة المحقّق السيّد جعفر العاملي في كتابه ابن عبّاس وأموال البصرة، يجدر بالباحثين الرجوع إليهما. (الشطري). وألّف العلاّمة الحجّة المحقّق النسّابة السيّد محمّد مهدي الموسوي الخرسان كتاباً حافلاً عن ابن عبّاس.

أوّل من آمن برسولّ اللّه(صلی الله علیه و آله) من الرجال عليٌّ(1)، ومن النساء خديجة

رضوان اللّه عليها.

وعن عيسى بن المستفاد، قال: حدّثني موسى بن جعفر، قال: سألت أبي جعفر ابن محمّد عن بدء الإسلام، كيف أسلم عليّ ؟ وكيف أسلمت خديجة؟

فقال لي موسى بن جعفر: تأبى إلّا أن تطلب أُصول العلم ومبتدأه، أما واللّه إنّك لتسأل تفقّهاً. قال موسى: فقال لي أبي: إنّهما أسلما، دعاهما رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقال: يا عليّ ويا خديجة، تُسلما وأطيعا تُهديا، فقالا: فعلنا وأطعنا، يا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فقال: إنّ جبرئيل يقول لكما: إنّ للإسلام شروطاً ومواثيق، فابتدئا بما شرط اللّه عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا: نشهد أن لا إله إلّا اللّه، وحده لا شريك له في ملكه، ولم يلده والدٌ، ولم يتّخذ صاحبةً، وأنّ محمّداً عبده ورسوله أرسله إلى الناس كافّةً، بين يدي الساعة، ونشهد أنّ اللّهَ يُحيي ويُميتُ ويرفعُ ويضعُ، ويُغني ويفقرُ، ويفعلُ ما يشاء، ويبعثُ مَن في القُبور، قالا: شهدنا.

وإسباغ الوضوء، وغسل الجنابة في الحرّ والبرد، وإقام الصلاة، وأخذ الزكاة من حلّها ووضعها في أهلها، وحجّ البيت، وصوم شهر رمضان، والجهاد في سبيل اللّه، وبرّ الوالدين، وصلة الرحم، والعدل في الرعيّة، والقسم بالسوية، والوقوف عند الشُّبهة، إلّا الإمام فإنّه لا شبهة له، وطاعة وليّ الأمر بعدي، ومعرفته في حياتي وبعد موتي، والأئمّة من بعده واحداً فواحداً، وموالاة أولياء اللّه، ومعاداة أعداء اللّه، والبراءة من الشيطان الرجيم وحزبه وأشياعه، والبراءة من الأحزاب تيمٍ وعديّ وأُميّة وأشياعهم وأتباعهم، والحياة على ديني وسُنّتي ودين وصيّي وسنّته، إلى يوم القيامة، والموت على مثل ذلك، غير شاقّة لأمانته ولا متعدّية ولا متأخِّرة عنه، وترك شرب الخمر، وملاحاة النساء.

يا خديجة، فهمتِ ما شَرَطَ عليك ربُّك؟ قالت: نَعَم، وآمنتُ وصلّيتُ ورضيتُ وسلّمتُ. قال عليّ : وأنا على ذلك، فقال: يا عليّ، تُبايع على ما شرطتُ عليك؟ قال: نعم.

ص: 168


1- . وأيضاً جاء في من سيرة ابن هشام: ج1 ص224 أوّل ذَكَرٍ من الناس آمن برسول اللّه وصلّى معه وصدّق بما جاء به من اللّه تعالى: عليّ بن أبي طالب ، وهو ابن عشر سنين يومئذٍ. (المؤلّف).

قال: فبسطَ رسولُ اللّه(صلی الله علیه و آله) كفّه فوضعَ كفَّ عليٍّ في كفّه، فقال:

بايعني على ما شرطتُ عليك، وأن تمنعني ممّا تمنعُ منه نفسك.

فبكى عليّ وقال: بأبي وأُمّي، لا حول ولا قوّة إلّا باللّه، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): اهتديتَ وربّ الكعبة، ورشدتَ ووفّقتَ وأرشدك اللّه. يا خديجة، ضعي يدكِ فوقَ يد عليّ فبايعي له، على أنّه لا جهاد عليك. فبايعتْ على مثل ما بايع عليّ .

ثمّ قال: يا خديجة، هذا عليٌّ مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي، قالت: صدقتَ يا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قد بايعتهُ على ما قلتَ، أُشهد اللّه وأُشهدك بذلك، وكفى باللّه شهيداً وعليماً(1).

وعن أبي هريرة(2) قال: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): كنت بأجياد الصغير أرعى الغنم قبل أن يُوحى إليّ، فأتاني جبرئيل فبشّرني بالنبوّة، ثمّ ركض برجله إلى الأرض فإذا بعين قد نبعت، فتوضّأ جبرائيل وعلّمني الوضوء، وصلّى وعلّمني الصلاة، ثمّ انصرفت إلى منزلي، فلم أمرّ بحجرٍ ولا شجر إلّا قالا: السلامُ عليك يا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، حتّى أتيتُ خديجة، فأريتها كما أراني جبرئيل وعلّمتها كما علّمني.

فبينما نحن كذلك، إذ دخل علينا عليّ بن أبي طالب ونحن كذلك، فقال: ما هذا الدّين يابن عمّ؟ فقلت: دين اللّه يابن عمّ، أدعوك إليه، فقال لي: أشاور أبا طالب، فقلت: يابن عمّ، إمّا أن تتّبعنا وإمّا أن تكتم علينا. قال: فخرج ثمّ رجع فقال: بل أتّبعك.

قال: وكانت خديجةُ تقول: أنا أوّلُ مَن أسلم، ثمّ عليّ (3).

ص: 169


1- . الطرف: ص5 (ط النجف) لرضيّ الدين أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاووس الحسني الحسيني، المتوفّى سنة 664ه . (المؤلّف).
2- . أبو هريرة أسلم بعد الهجرة بسبع سنين، وكان أكذب الناس على رسول اللّه ،وقد ضربه عمر لكثرة روايته، وقال: إنّه كذوب، وقال له: لتتركنّ الحديث عن رسول اللّه وإلّا ألحقتُك بجبال دوس، وكان يلعب بالشطرنج والسدر. قال الدميري: والمرويّ عن أبي هريرة من اللعب مشهور في كتب الفقه. ومن أراد الاطّلاع على ترجمة حياته فعليه بكتاب أبي هريرة للعلّامة المجاهد آية اللّه السيّد عبد الحسين شرف الدين . (المؤلّف).
3- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص30. قال المجلسي في البحار: ج16 ص7: إنّها سبقت كافّة الناس في إسلامها، وهو مشهور، وقد ردّ هذا القول علماء الشيعة، وللوقوف على ردّ هذا الرأي راجع الغدير: ج3 ص220، أعيان الشيعة: ج6 ص311 دار التعارف. (الشطري).

قال: وفي رواية ابن مسعود، قال العبّاس بن عبد المطّلب: ما أحد على وجه الأرض يعبدُ اللّه إلّا هؤلاء الثلاثة: رسول اللّه، وخديجة، وعليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم.

عن ابن إسحاق: حدّثني إسماعيل بن أبي الحكم مولى الزبير، أنّه حدّث عن خديجة بنت خويلد أنّها قالت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فيما يثبته ممّا أكرمه اللّه به من نبوّته: يابن عمّ، تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: إذا جاءك فأخبرني.

فبينما رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عندها إذ جاء جبرئيل، فرآه رسول اللّه، فقال: يا خديجة، هذا جبرئيل، فقالت: أتراه الآن؟ فقال: نعم، قالت: فاجلس إلى شقّي الأيمن. فتحوّل فجلس، فقالت: أتراه الآن؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس في حجري، فقالت: أتراه الآن؟ قال: نعم، فحسرت عن رأسها، وألقت خِمارها ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جالسٌ في حجرها، فقالت: هل تراه الآن؟ قال: لا، قالت: ما هذا شيطان، إنّ هذا لملكٌ، يابن عمّ، فاثبت وأبشِر. ثمّ آمنتْ به، وشهدت أنّ الذي جاء به الحقّ(1).

زواجها

روي عن جابر قال: كان سبب تزويج خديجة محمّداً أنّ أبا طالب قال: يا محمّد، إنّي أُريد أن أُزوّجك، ولا مال لي أُساعدك به، وإنّ خديجة قرابتي وتُخرِج كلّ سنةٍ قريشاً في مالها مع غلمانها يَتّجرُ لها ويأخذُ وِقْر بعيرٍ ممّا أُتي به، فهل لك أن تخرج؟ قال: نعم.

فخرج أبو طالب إليها وقال لها ذلك، ففرحت وقالت لغلامها ميسرة: أنت وهذا

المال كلّه بحكم محمّد(صلی الله علیه و آله).

فلمّا رجع ميسرة حدّث أنّه ما مرّ بشجرةٍ ولا مدرةٍ إلّا قالت: السلام عليك يا رسول اللّه.

قال: جاء بَحِيرا الراهب وخدمنا لمّا رأى الغمامة على رأسه تسير حيثما سار تُظلّه

ص: 170


1- . مقتل الحسین للخوارزمي: ج2 ص21 – 22، التمهيد في علوم القرآن: ج2 ص52. قال: روى ذلك البخاري ومسلم وابن هشام والطبري وأضرابهم. وقد ردّ الرواية الشيخ هادي معرفت، وناقشها مناقشة مفصّلة علمية (راجع التمهيد: ج2 ص54 – 56). (الشطري).

بالنهار، وربحنا في ذلك السفر ربحاً كثيراً.

فلمّا انصرفا، قال ميسرة: لو تقدّمت يا محمّد إلى مكّة وبشّرت خديجة بما قد ربحنا لكان أنفع لك. فتقدّم محمّد على راحلته، فكانت خديجة في ذلك اليوم جالسةً على غرفة مع نسوة، فظهر لها محمّدٌ راكباً، فنظرت خديجة إلى غمامة عالية على رأسه تسير بسيره، ورأت ملكين عن يمينه وعن شماله في يد كلّ مَلَك سيفٌ مسلول يجيئان في الهواء معه.

فقالت: إنّ لهذا الراكب لشأناً عظيماً، ليته جاء إلى داري. فإذا هو محمّدٌ قاصدٌ إلى دارها، فنزلت حافيةً إلى باب الدار، وكانت إذا أرادت التحوّل من مكان إلى مكان حوّلت الجواري السرير الذي كانت عليه، فلمّا دنت منه قالت: يا محمّد، اخرج وأحضرني عمّك أبا طالب الساعة. وقد بعثت إلى عمّها أن زوّجني من محمّد إذا دخل عليك.

فلمّا حضر أبو طالب قالت: أخرجا إلى عمّي ليزوّجني من محمّد، فقد قلتُ له في ذلك. فدخلا على عمّها، وخَطَبَ أبو طالب الخُطبة المعروفة، وعَقَدَ النكاح، فلمّا قام محمّد ليذهب مع أبي طالب قالت خديجة: إلى بيتك، فبيتي بيتُك وأنا جاريتُك(1).

كيفيّة زواجها من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

جاء في سيرة النبيّ لابن هشام(2): كانت بنت خويلد امرأةً تاجرةً ذات شرفٍ ومالٍ، تستأجر

الرجال في مالها وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجّاراً، فلمّا بلغها عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرائم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت إليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجّار، مع غلام لها يُقال له: ميسرة، فقبله رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة، حتّى قدم الشام فنزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

ص: 171


1- . بحار الأنوار: ج16 ص8، وذكر قصّة الغمامة التي تظلّله في تفسير الإمام العسكري: ص155، وفي إثبات الهداة للحرّ العاملي: ج2 ص151. (الشطري).
2- . السيرة: ج1 ص303. ابن هشام، وهو: أبو محمّد عبد الملك بن هشام بن أيّوب الحميري البصري، نزيل مصر، صاحب كتاب السيرة المعروفة بسيرة ابن هشام، جمعها من المغازي والسير لابن إسحاق، توفّي سنة 218ه (راجع: الكنى والألقاب: ج1 ص437). (المؤلّف).

في ظلّ شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فأطلع الراهب إلى ميسرة، فقال له: مَن هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبيّ.

ثمّ باعَ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سلعته(1) التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثمّ أقبل قافلاً إلى مكّة ومعه ميسرة، فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتدّ الحرّ، يرى ملكين يُظلّانه من الشمس وهو يسير على بعيره.

فلمّا قدم مكّة على خديجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعف أو قريباً، وحدّثها ميسرة عن قول الراهب، وعمّا كان يرى من إظلال ملكين إيّاه، وكانت خديجة امرأة حازمةً شريفةً لبيبةً، مع ما أراد اللّه بها من كرامة، فلمّا أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فقالت له: يابن عمّ، إنّي قد رَغبتُ فيك لقرابتك وسَطَتك(2) في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثمّ عرضت عليه نفسها.

وكانت خديجة أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهنّ شرفاً وأكثرهنّ مالاً، كلّ قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدروا عليه. فلمّا قالت ذلك لرسول اللّه(صلی الله علیه

و آله)، ذكر ذلك لأعمامه، فخرج مع عمّه حمزة بن عبد المطّلب حتّى دخل على خُويلد بن أسد، فخطبها وتزوّجها(3)، وأصدقها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عشرين بكرة.

وكانت أوّل امرأة تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ولم يتزوّج عليها غيرها حتّى ماتت.

وقال ابن دحلان في السيرة النبوية بهامش السيرة الحلبية: إنّ المزوّج لها عمّها عمرو بن أسد؛ لأنّ أباها مات قبل الفجّار(4)، وأنّ المزوّج للنبي(صلی الله علیه و آله) عمّه أبو طالب. ولمّا تمّ

ص: 172


1- . السِّلعة - بالكسر - :البضاعة، والجمع: السِّلَع، مثل سِدرة وسِدَر (راجع: مجمع البحرين). (المؤلّف).
2- . وسَطَتك: أي شرفك وسامي منزلتك. (المؤلّف).
3- . هذا يدلّ على أنّها كانت بكراً، ويدلّ على ذلك ما رواه في قرب الإسناد للحميري عن أبي الحسن موسى، في خديجة: هي سيّدة نساء العالمين، وقد خطبها كلّ صنديد ورئيس فأبتهم، فزوّجت نفسها بالذي بلغها من خبر بحيرا. (المؤلّف).
4- . سيرة ابن هشام: ج1 ص201، السيرة الحلبية: ج1 ص138، ونقل ذلك عن المحبّ الطبري، وقد ردّ السيّد العاملي Ñ Ø في الصحيح من السيرة: ج1 ص113- 114 قول ابن هشام: «إنّ الذي خطبها حمزة»، فقد أثبت السيّد العاملي أنّ أبا طالب هو الذي ذهب لخطبة خديجة، وليس حمزة الذي اقتصر عليه ابن هشام في سيرته؛ لأنّ ذلك لا ينسجم مع ما كان لأبي طالب من المكانة والسؤدد في قريش، ولاسيّما إذا لاحظنا أنّ حمزة يكبر النبيّ بسنتين أو بأربع كما قيل، هذا بالإضافة إلى مخالفة ذلك لما يذكره عامّة المؤرِّخين في المقام. وقد اعتذر البعض عن ذلك بأنّ من الممكن أن يكون حمزة قد حضر مع أبي طالب فنُسب ذلك إليه (السيرة الحلبية: ج1 ص139). قال العاملي: وهذا اعتذار واهٍ، إذ لم يُنسب ذلك إلى غير حمزة ممّن حضر مع أبي طالب من بني هاشم وغيرهم من القرشيين. (الشطري).

الإيجاب والقبول، أمرت السيّدة خديجة بشياهٍ وذُبحت، واتّخذت طعاماً، ودعت عمّها عمراً، وبعثت إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فأتى ومعه حمزة بن عبد المطّلب وأبو طالب ورؤساء مُضَر، فأكلوا، ثمّ خَطَبَ أبو طالب فقال:

الحمدُ للّه الذي جعلنا من ذُرّية إبراهيم، وزرع(1) إسماعيل وضِئْضِئ(2) مَعَدٍّ وعنصر

مُضَر، وجعلنا حَضَنَةَ بيته وشوكة حرمه، وجعل لنا بيتاً محجُوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحُكّام على الناس، ثمّ إنّ ابنَ أخي هذا محمّد بن عبداللّه لايوزَنُ به رجلٌ إلّا رجح، وإن كان في المال قلّ، فالمال ظلٌّ زائل وأمرٌ حائل، ومحمّد ممّن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله (كذا) من مالي، وهو واللّه بعد هذا له نبأٌ عظيمٌ وخطرٌ جَلَلٌ جسيمٌ(3).

فقال ابن عمّها ورقة بن نوفل: الحمد للّه الذي جعلنا كما ذكرت، وفضّلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل لذلك كلّه لا ينكر العرب فضلكم، ولا يردّ أحدٌ من الناس فخركم وشرفكم، ورغبتنا في الاتّصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليَّ معاشر قريش إنّي قد زوّجت خديجة بنت خويلد من محمّد بن عبداللّه.

ص: 173


1- . الزرع: الولد. (المؤلّف).
2- . الضِّئْضِئ - كجِرْجِر وجِرْجِير - : الأصل والمعدن، أو كثرة النسل وبركته. (المؤلّف).
3- . وقد ذكر الخطبة بألفاظ مقاربة في الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم: ج1 ص114 نقلاً عن الكافي: ج5 ص374 - 375، بحار الأنوار: ج16 ص14 عنه، وص16 عن كتاب من لا يحضره الفقيه: ص413، وفي ص5 عن شرف المصطفى والكشّاف وربيع الأبرار والإبانة لابن بطة والسيرة للجويني عن الحسن والواقدي وأبي صالح والعتبي، والمناقب: ص42، والسيرة الحلبية: ج1 ص139،و تاريخ اليعقوبي: ج2 ص20، والأوائل لأبي هلال العسكري: ج1 ص162، وغير ذلك. (الشطري).

وذكر المهر، ورغب أبو طالب مصادقة عمّها على هذا، فقال عمرو بن أسد عمّ خديجة: اشهدوا عليَّ معاشر قريش أنّي قد أنكحت محمّد بن عبداللّه خديجة بنت خويلد. فتهلّل وجه أبي طالب فرحاً وقال: الحمد للّه الذي أذهب عنّا الكُرَبَ ودفع عنّا الغمومَ.

وجاء في البحار: ونثر حمزة بن عبد المطّلب دراهم على مَن حضر مجلس الخطبة. وخرجت جوارٍ من الدار فنثرنَ على من حضرن، وأُلقي على الناس طيبٌ لا يعرفون من طيّبهم به، حتّى أنّ الرجل يقول لصاحبه: من أين لك؟ فلا يدري به غير أنّه يقول هذا طيب محمّد. وبعد هذا ظهر الحديث بأنّ الملقي عليهم جبرئيل .

فقال أبو جهل: رأينا الرجال يُمهِرون النساء، ولم نسمع بأنّ النساء يُمهِرن الرجالَ! فصاح به أبو طالب، يالكع الرجال، مثل محمّد يُعطى ويُهدى إليه، ومثلُك يَهدي فلا يُقبلُ!

فقال عبداللّه بن غنم:

هنيئاً مريئاً يا

خديجةُ قد جرى

لكِ الطيرُ فيما كان

منك بأَسْعدِ

تزوّجته خير البريّة

كلّها

ومن

ذا الذي في الناس مثل محمّدِ

وبشّر به البرّان عيسى

بن مريم

وموسى

بن عمران فيا قرب موعدِ

أقرّت به الكتّاب

قِدماً بأنّه

رسولٌ من البطحاء هادٍ

ومهتدِ

ثمّ قالت خديجة لابن عمّها ورقة: أعلن بأنّ جميع ما تحت يدي من مالٍ وعبيدٍ فقد وهبتُه لمحمّد يتصرّف فيه كيف يشاء.

فوقفَ ورقة بين زمزم والمقام، ونادى بأعلى صوته: يا معاشر العربِ، إنّ خديجة تُشهدكم على أنّها وهبت لمحمّد نفسها ومالها وعبيدها، وجميع ما تملكه يمينها، إجلالاً له وإعظاماً لمقامه ورغبةً فيه.

وأنفذت إلى أبي طالب غنماً كثيراً ودنانيراً ودراهم وثياباً وطيباً ليعمل الوليمة، فأقام أبو طالب لأهل مكّة وليمة عظيمة ثلاثة أيّام حضرها الحاضر والبادي، ولمّا تمّ ما صنعته خديجة من معدّات الزواج، أرسلت إلى أبي طالب تُعلمه بذلك وتطلب منه زفاف محمّد.

ص: 174

فخرج النبي(صلی الله علیه و آله) بين أعمامه وعليه ثياب من قباطي مصر، وغلمان بني هاشم بأيديهم الشموع والمصابيح، والناس ينظرون إلى النور الإلهي يسطع إلى عنان السماء من غرّته وجبينه، والعبّاس بن عبد المطّلب بينهم يقول:

يا آلَ فهرٍ وغالبِ

ابشروا بالمواهبِ

وافخروا يا قومنا

بالثنا والرغائبِ

شاع

في الناس فضلكمْ

وعلا في المراتبِ

قد فخرتمْ بأحمدٍ

زينِ كلِّ الأطائبِ

فهوَ كالبدر نورُهُ

مُشرقٌ غيرُ غائبِ

قد ظفرتِ خديجةٌ

بجليلِ المواهبِ

بفتى هاشم الذي

ما له من مُناسبِ

جمع اللّه شملكم

فهو ربُّ المطالبِ

أحمدٌ سيّدُ الورى

خيرُ ماشٍ وراكبِ

فعليه الصلاةُ ما

سار عيسٌ براكبِ

وأُحضرت لديه خديجة، وكانت امرأةً طويلةً عريضةً بيضاءَ، لم يُر في عصرها ألطف منها ولا أحسن، وعلى رأسها تاجٌ مرصّع بالدرّ والجواهر، وفي رجليها خلخالانِ من ذهب فيهما فيروزج، وفي عنقها قلائد من زبرجد وياقوت، فقالت صفيّة بنت عبد المطّلب:

جاء السرورُ مع الفرحْ

ومضى النّحوسُ مع الترحْ

بمحمّدِ

المذكور في

كلّ

المفاوزِ والبطحْ

لو

أنْ يوازنَ أحمدٌ

بالخلقِ

كلّهمُ رجحْ

ولقد

بدا من فضلهِ

لقريشَ

أمرٌ قد وضحْ

تمّ

السعودُ لأحمدٍ

والسعدُ

عنه ما برحْ

بخديجةٍ

بنتِ الكمالِ

وبحرُ

نائلها طفحْ

يا

حسنَها في حليها

ص: 175

والحلمُ

منها ما برحْ

هذا

النبيُّ محمّدٌ

ما في

مدايحه كلحْ

صلّوا

عليه تسعدُوا

واللّهُ

عنكم قد صفحْ

ثمّ أقبلنَ بها(علیها السلام) حتّى أوقفوها بين يدي النبي(صلی الله علیه و آله)، ثمّ بعد ذلك أخذوا التاج ورفعوها من رأسها ووضعوها على رأس النبي(صلی الله علیه و آله)، ثمّ أتوا بالدفوف، وهنّ يضربن لها، وقلن: يا خديجة لقد خُصصتِ هذه الليلة بشيءٍ ما خصّ به غيركِ، ولا ناله لسواكِ من قبائل العرب والعجم، فهنيئاً لكِ بما أوتيتِه، ووصل إليكِ من العزّ والشرف.

إلى أن قال في البحار: وأقبلت بين يديها صفيّة بنت عبد المطّلب(علیها السلام) وهي تقول شعراً:

أخذَ

الشوقُ موثقاتِ الفؤادِ

وألفت

السماء بعدَ الرّقادِ

فليالي

اللقا بنور التداني

مشرقاتٌ

خلافَ طول البعادِ

فُزتِ بالفخر يا خديجةُ إذ نِل-

تِ من المصطفى عظيمَ الودادِ

فغدا شكرُهُ على الناس فرضاً

شاملاً

كلّ حاضرٍ ثمّ بادِ

كبّرَ

الناسُ والملائكُ جمعاً

جبرئيلٌ

لدى السماء يُنادي

فُزتَ

يا أحمدٌ بكلّ الأماني

فنحى

اللّه عنك أهل العنادِ

فعليكَ الصلاةُ ما سرت العِی-

سُ

وحَطّت بثقلها في البلادِ

قال: ثمّ بعد ذلك أجلسوها مع النبيّ، وخرج جميعُ الناس عنها، وبقي عندها في أحسن حالٍ وأرخى بالٍ.

ولم يأخذ عليها أحدٌ من النساء حتّى ماتت، بعدما بُعثَ صلوات اللّه عليه وآله وآمنت به وصدّقته، وانتقلت إلى جنّات عدنٍ في أعلا علّيّين، من قصور الجنّة.

وجاء في مسارّ الشيعة للمفيد: وكان التزويجُ منها في العاشر من ربيع الأوّل، وعمره الشريف خمس وعشرون، ولخديجة أربعون سنة(1).

اعتزال النبي(صلی الله علیه و آله) عنها

ص: 176


1- . مسارّ الشيعة للمفيد: ص65 ط حجرية مع (المجموعة النفيسة). (الشطري).

قال العلّامة الإمام المحدّث الكبير المجلسي(1) : وقيل: بينما النبي(صلی الله علیه و آله) جالسٌ بالأبطح ومعه عمّار بن ياسر والمنذر بن الضحضاح وأبو بكر وعمر وعليّ بن أبي طالب والعبّاس بن عبد المطّلب وحمزة بن عبد المطّلب، إذ هبط جبرئيل في صورته العُظمى، وقد نشر أجنحته حتّى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه: يا محمّد، العليُّ

الأعلى يُقرءُ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحاً! فشقّ ذلك على النبي(صلی الله علیه و آله)، وكان مُحبّاً لها وبها وامقاً.

قال: فأقام النبي(صلی الله علیه و آله) أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتّى إذا كان في آخر(2) أيّامه تلك، بعث إلى خديجة بعمّار بن ياسر، وقال: قل لها: يا خديجة، لا تظنّي أنّ انقطاعي عنك هجرةٌ ولا قلىً(3)، ولكنّ ربّي أمرني بذلك لينفّذ أمره، فلا تظنّي إلّا خيراً، فإنّ اللّه ليُباهي بكِ كرامَ ملائكته كلّ يومٍ، فإذا جنّك الليل فأجيفي الباب(4) وخُذي مضجعك من فِراشك، فإنّي في منزل فاطمة بنت أسد(5).

فجعلت خديجة تحزن في كلّ يوم مراراً لفقد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

فلمّا كان في كمال الأربعين هبط جبرئيل فقال: يا محمّد، العليّ الأعلى يُقرئك السلامَ وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيّته وتحفته. قال النبي(صلی الله علیه و آله): يا جبرئيل، وما تحفة ربّ العالمين وما تحيّته؟ قال: لا علم لي.

ص: 177


1- . بحار الأنوار: ج6 ص116. (المؤلّف).
2- . في نسخة: «في أواخر». (المؤلّف)
3- . القلى: بالكسر والقصر والفتح: البغض. (المؤلّف).
4- . قال الجوهري: أجَفتُ الباب: رددته. (المؤلّف).
5- . جاء في ص22 من كتاب بطلة كربلاء للدكتورة بنت الشاطئ: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، زوجة أبي طالب عمّ الرسول، وأوّل هاشميّة تزوّجت هاشميّاً، وولدت له، أدركت النبيّ فأسلمت وحسن إسلامها، وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة، فقبل وصيّتها وصلّى عليها، ونزل في لحدها واضطجع معها فيه، وأحسن الثناء عليها، ذكر ابن سعد في طبقاته وابن هشام في السيرة وأبو الفرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيّين عن ابن عبّاس أنّه قال: لمّا ماتت فاطمة أُمّ عليّ بن أبي طالب ، ألبسها رسول اللّه قميصه واضطجع معها في قبرها، فقال له أصحابه: يارسول اللّه، ما رأيناك صنعتَ بأحدٍ ما صنعت بهذه المرأة، فقال: لأنّه لم يكن أحدٌ بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّي إنّما ألبستها قميصي لتُكسى من حُلل الجنّة، واضطجعت معها في قبرها ليهوّن عليها. (المؤلّف).

فبينا النبي(صلی الله علیه و آله) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبقٌ مغطىً بمنديلٍ سندسٍ (أو قال: استبرق. الترديد من الراوي) فوضعه بين يدي النبي(صلی الله علیه و آله)، وأقبل جبرئيل على النبي(صلی الله علیه و آله) وقال: يا محمّد، يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

فقال عليّ بن أبي طالب : كان النبي(صلی الله علیه و آله) إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يريد الإفطار، فلمّا كان في تلك الليلة أقعدني النبي(صلی الله علیه و آله) على باب المنزل وقال: يابن أبي طالب، إنّه طعامٌ محرّم إلّا عَلَيَّ.

فقال عليّ : جلستُ على الباب، وخلا النبي(صلی الله علیه و آله) بالطعام، وكشف الطبق، فإذا عِذق من رطب، وعنقود من عنب، فأكل النبي(صلی الله علیه و آله) منه شبعاً، وشرب من الماء ريّاً، ومدّ يده للغسل، فأفاض الماء عليه جبرئيل ، وغسل يده ميكائيل ، وتمندله إسرافيل ، فارتفع فاضلُ الطعام مع الإناء إلى السماء.

ثمّ قام النبي(صلی الله علیه و آله) ليصلّي، فأقبل عليه جبرئيل فقال: الصلاة محرّمة عليك في وقتك حتّى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإنّ اللّه ألى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرّيةً طيّبةً. فوثب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى منزل خديجة.

قالت خديجة رضوان اللّه عليها: وكنتُ قد ألفتُ الوحدة، فكان إذا جنّني الليل غطّيت رأسي وأسجفت(1) ستري، وغلّقت بابي، وصلّيت وردي، وأطفأت مصباحي، وأويت إلى فراشي، فلمّا كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة، إذ جاء النبي(صلی الله علیه و آله) فقرع الباب، فناديتُ: مَن هذا الّذي قرع حَلقة لا يقرعها إلّا محمّد(صلی الله علیه و آله)؟ قالت خديجة: فناديت النبي(صلی الله علیه و آله)، فنادى النبي(صلی الله علیه و آله) بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة، فإنّي محمّد(صلی الله علیه و آله).

قالت خديجة: فقمتُ فرحةً مستبشرة بالنبي(صلی الله علیه و آله)، وفتحتُ الباب ودخل النبي(صلی الله علیه و آله)، وكان إذا دخل المنزلَ دعا بالإناء فتطهّر للصلاة، ثمّ يصلّي ركعتين يُوجز فيهما، ثمّ يأوي إلى فراشه، فلمّا كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهّب للصلاة، غير أنّه أخذ

ص: 178


1- . قال الجوهري: أسجَفتُ الستر: أي أرسلته. (المؤلّف).

بعضدي وأقعدني على فراشه، وداعبني ومازحني، وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فوالذي سَمَكَ السماء وأنبع الماء، ما تباعد عنّي النبي(صلی الله علیه و آله) حتّى حسست بثقل فاطمة: في بطني.

أقول: قال العلّامة الثبت المحدّث القمّي(1): اعتزال النبي(صلی الله علیه و آله) عن خديجة(علیها السلام) أربعين يوماً كان للتأهّب لتحيّة ربّ العالمين وتُحفته، والمراد فاطمة:.

كما أُشير إلى ذلك في زيارتها: «وصلِّ على البتولة الطاهرة - إلى قوله - فاطمة بنت رسولك، وبضعة لحمه وصميم قلبه، وفلذّة كبده، والتحيّة منك له والتحفة».

وفي هذا الاعتزال دليل على جلالة فاطمة سيّدة النسوان بما لا يُطيق التحرير بيانه، ولعلّ التخصيص بالرطب والعنب لكثرة بركتهما وما يتولّد منهما من المنافع، فإنّه ليس في الأشجار ما يبلغ نفعُهُ نفعهما، مع أنّهما خُلقتا من فضلة طينة آدم .

ولا يبعد أن يكون في ذلك إشارة إلى كثرة نفع هذه النسلة الطاهرة المباركة، وكثرة ذرّيتها وبركاتها، كما قد نومئ إليه إن شاء اللّه تعالى في محلّه.

وأمّا قول جبرئيل للنبي(صلی الله علیه و آله): «الصلاة محرّمةٌ عليك في وقتك»، فالظاهر أنّها الصلاة النافلة دون الفريضة، فإنّه كان يقدّمها على الإفطار، واللّه أعلم بحقيقة الأحوال. انتهى كلامه(2).

أولادها من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

ذكر أيضاً العلّامة المجلسي(3)، عن جعفر، عن أبيه ، قال: وُلد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خديجة: القاسم، والطاهر، وأُمّ كلثوم، ورقيّة، وفاطمة، وزينب(4).

ص: 179


1- . بيت الأحزان: ص21. (المؤلّف).
2- . بحار الأنوار: ج16 ص78. وقال السيّد القزويني في فاطمة من المهد إلى اللحد: ذكر هذا الحديث من علماء العامّة - بتغيير يسير - كلّ من: 1. الخوارزمي في مقتل الحسين. 2. الذهبي في ميزان الاعتدال: ج2 ص26. 3. تلخيص المستدرك: ج3 ص156. 4. لسان الميزان للعسقلاني: ج4 ص36. (الشطري).
3- . بحار الأنوار: ج6 ص911 نقلاً عن قرب الإسناد للحميري. (المؤلّف).
4- . عدّة رسائل للشيخ المفيد: ص229، والمسائل السروية، المسألة العاشرة. قال السيّد كاظم القزويني في فاطمة من المهد إلى اللحد (ص31): أنجبت خديجة أولاداً ماتوا كلّهم صغاراً، وأنجبت أربع بنات: زينب، وأُمّ كلثوم، ورقيّة، وفاطمة، وكانت فاطمة أصغرهنّ سنّاً وأجلّهنّ شأناً وأعظمهنّ قدراً. ثمّ قال: وفي الأُوليين اختلاف، فقيل: إنّهما ليستا من بنات رسول اللّه ، والصحيح أنّهما من بناته وصلبه. وقد ردّ على هذا القول السيّد العاملي في كتابه بنات النبيّ أم ربائبه؟. (الشطري).

فتزوّج عليّ فاطمة، وتزّوج أبو العاص بن الربيع - وهو من بني أُميّة - زينب، وتزوّج عثمان بن عفّان أُمّ كلثوم، ولم يدخل عليها حتّى هلكت، وزوّجه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مكانها رقيّة.

ثمّ وُلد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من أُمّ إبراهيم: إبراهيم، وهي مارية القبطيّة، أهداها إليه صاحب الإسكندرية مع البغلة الشهباء وأشياء معها.

وقال المسعودي(1): وُلد له من خديجة: القاسم، وبه يُكنّى(2)، وكان أكبر بنيه سنّاً، ورقيّة، وزينب، وأُمّ كلثوم.

ووُلد له بعدما بُعث: عبداللّه، وهو الطيّب، والطاهر، سُمّي بثلاثة أسماء؛ لأنّه وُلد في الإسلام، وفاطمة، وإبراهيم بعد مبعثه.

أقول: وكلّهم وُلدوا بمكّة من خديجة، إلّا إبراهيم فوُلد بالمدينة، وأُمّه مارية، فيكون مجموع أولاده سبعة: ثلاثة ذُكور، وأربع إِناث. سنذكر تراجمهم إن شاء اللّه، فنقول:

وأمّا القاسم

فمات بمكّة وعمره سنتان، وقيل: أقلّ، وقيل: أكثر، وهو أوّل ميّتٍ مات من وُلده.

عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها، قال: لمّا توفّي القاسمُ ابن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، قالت خديجة: يا رسول اللّه، دَرّ لَبَنِيَه للقاسم، فلو كان اللّهُ أبقاه حتّى يستكمل رضاعه! فقال: إنّ تمام رضاعه في الجنّة، قالت: لو أعلم ذلك يا رسول اللّه لهوّنَ عليَّ أمره. فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): إذا شئتِ فأسمعك صوتَه، قالت: يا رسول اللّه، حسبي، صدق اللّهُ ورسولُه(3).

وأمّا عبدُ اللّه

ص: 180


1- . مروج الذهب: ص408 ط مصر. (المؤلّف).
2- . جاء في السيرة الحلبية: ج3 ص418: وكنّى به ، فقد جاء أنّ جبرئيل قال له: السلام عليك يا أبا إبراهيم، إنّ اللّه قد وهب إليك غلاماً من أُمّ ولدك مارية، وأمرك أن تسمّيه إبراهيم، فبارك اللّه فيه وجعله قرّة عين لك في الدُّنيا والآخرة. (المؤلّف).
3- . ينابيع المودّة للقندوزي نقلاً عن سنن ابن ماجة (المؤلّف).

فمات أيضاً بمكّة صغيراً، وكان يُسمّى: «الطيّب والطاهر». وقيل: الطيّب والطاهر غير عبداللّه.

عن جابر عن أبي جعفر ، قال: توفّي الطاهر ابن رسول اللّه(صلی الله علیه و آل

ه)، فنهى رسول اللّه خديجة عن البكاء، فقالت: بلى يا رسول اللّه، ولكن دَرّت عليه الدريرةُ فبكيتُ، فقال لها: أما ترضين أن تجديه قائماً على باب الجنّة، فإذا رآكِ أخذ بيدكِ فأدخلكِ الجنّة، أطهرنا مكاناً وأطيبنا؟ قالت: وإنّ ذلك كذلك، قال: فإنّ اللّه أكرمُ من أن يسلب عبداً ثمرة فؤاده، فيصبر ويحتسب ويحمد اللّه ، ثمّ يعذّبه(1).

وأمّا إبراهيم

فأُمّه مارية القبطيّة، ولد في ذي الحجّة سنة ثمانٍ من الهجرة، ومات سنة عشرٍ، وعمره إذ ذاك سنة وعشرة أشهر، وقيل: سنة وستّة أشهر، ودُفن بالبقيع.

عن ابن عبّاس قال: كنتُ عند النبي(صلی الله علیه و آله) وعلى فخذه الأيسر ابنه

إبراهيم، وعلى فخذه الأيمن الحسين بن عليّ وهو تارةً يقبّل هذا، وتارةً يقبّل هذا، إذ هبط جبرئيل بوحيٍ من ربّ العالمين، فلمّا سُرِّيَ عنه قال: أتاني جبرئيل من ربّي فقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرءُ عليك السلام ويقول: لستُ أجمعهما، فافدِ أحدهما لصاحبه.

فنظر النبي(صلی الله علیه و آله) إلى إبراهيم فبكى، ونظر إلى الحسين فبكى، وقال: إنّ إبراهيم أُمّه أمةٌ ومتى مات لم يحزن عليه غيري، وأُمّ الحسين فاطمةٌ، وأبوه عليّ ابن عمّي لحمي ودمي، ومتى مات حزنتْ ابنتي وحزن ابن عمّي وحزنتُ أنا عليه، وأنا أوثر حزني على حزنهما، يا جبرئيل، يُقبض إبراهيم، فديتهُ للحسين.

قال: فقُبض بعد ثلاث.

فكان النبي(صلی الله علیه و آله) إذا رأى الحسين مُقبلاً، قبّله وضمّه إلى صدره ورشف ثناياه، وقال: فديتُ من فَديتُه(2).

ص: 181


1- . بحار الأنوار: ج2 نقلاً عن الكافي. (المؤلّف).
2- . بحار الأنوار: ج6 ص918 نقلاً عن المناقب لابن شهرآشوب. (المؤلّف).

وعن الحسين بن خالد قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: لمّا قُبض إبراهيم ابن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، جرت في موته ثلاث سنن، أمّا واحدة: فإنّه لمّا قُبض انكسفت الشمس، فقال الناس: إنّما انكسفت الشمس لموت ابن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فصعد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بأمره مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولحياته، فإذا انكسفا أو أحدهما صلّوا.

ثمّ نزل من المنبر فصلّى بالناس الكسوف، فلمّا سلّم قال: يا عليّ، قم فجهّز ابني.

قال: فقام عليّ فغسّل إبراهيم وكفّنه وحنّطه. ومضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حتّى أتى إلى قبره، فقال الناس: إنّ رسول اللّه نسي أن يُصلّي على ابنه لِما دخله من الجزع، فانتصب قائماً ثمّ قال: إنّ جبرئيل أتاني وأخبرني بما قُلتم، زعمتم أنّي نسيت أن أصلّي على ابني لما دخلني من الجزع، ألا وإنّه ليس كما ظننتم، ولكنّ اللطيف الخبير فرضَ عليكم

خمس صلوات، وجعل لموتاكم من كلّ صلاةٍ تكبيرةً، وأمرني أن لا أصلّي إلّا على مَن صلّى.

ثمّ قال: يا عليّ، انزل وألحِد ابني. فنزل عليّ فألحد إبراهيم في لحده. فقال الناس: إنّه لا ينبغي لأحد أن ينزل في قبر ولده؛ إذ لم يفعل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بابنه، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): إنّه ليس عليكم بحرام أن تنزلوا في قبور أولادكم، ولكن لست آمن إذا حلّ أحدكم الكفن عن ولده أن يلعب به الشيطان، فيدخله من ذلك من الجزع ما يحبط أجره. ثمّ انصرف(1).

وأمّا زينب

فكانت ولادتها سنة ثلاثين من مولده. فتزوّجها أبو العاص(2) ابن الربيع، واسمه مقسم بن

ص: 182


1- . بحار الأنوار: ج6 ص705 عن المحاسن للبرقي. (المؤلّف).
2- . جاء في الكنى والألقاب للقمّي (ج1 ص110): أبو العاص هو ابن الربيع القرشي، اسمه لقيط أو مهشم أو هشيم، زوج زينب بنت النبيّ ، أُمّه هالة بنت خويلد أُخت خديجة(علیها السلام) ، وكان من أكثر رجال مكّة مالاً وأمانة وتجارة، والخبر في حسن مصاهرته في أيّام الشِّعب مشهور، وقصّة أسره ببدر وفدائه في الكتب مسطورة، توفّي سنة 12ه . (المؤلّف).

عبد العزّى بن عبد شمس، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أُخت خديجة، ولدت منه ولداً سمّاه عليّاً، فتوفّي وهو صغير.

وقال ابن هشام: تزوّج أبو العاص زينبَ وهو مشركٌ، وأُسر يوم بدر، فمنّ عليه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) على أن يجهّز إليه زينب، فجهّزها إليه.

فلمّا خرجت من مكّة لحقها هبّار بن الأسود فطعنَ بعيرها، فخرعها فأسقطت، وردّها وبقيت عند هند بنت زمعة.

وبعث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) زيد بن حارثة، فتلطّف لها حتّى ورد بها المدينة، ففرح بها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

قال الواقدي: وذلك بعد غزاة حنين، وليس بصحيح، وإنّما هو عقيب غزاة بدر. ثمّ قدم زوجها أبو العاص على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فاستجار بزينب فأجارته. فأمضى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ذاك، وردّ زينب عليه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالنكاح الأوّل، وقيل: إنّها ردّها بنكاح جديد، وقيل: إنّما أسلم قبل انقضاء عدّتها، وقيل: كان هذا ثمّ فسخ؛ يعني النكاح الأوّل.

وكان لأبي العاص من زينب ابنةٌ يقال لها أُمامة، تزوّجها المغيرة بن نوفل، وفارقها، فتزوّجها عليّ بعد موت فاطمة، وقيل: إنّما تزوّجها بوصيّة فاطمة:. وهذه أُمامة هي التي كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يحملها على كتفه وهي طفلة حتّى في الصلاة، فإذا سجد وضعها على الأرض، وإذا قام علا فحملها. وتوفّيت زينبٌ سنة ثمان من الهجرة(1).

وأمّا رقيّة

فولدت ولرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ثلاث وثلاثون سنة، فكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) زوّجها عُتبة بن أبي لهب، وزوّج أُمّ كلثوم عُتيبة بن أبي لهب، فلمّا نصَب أبو لهب العداوة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أمر ابنيه عُتبة وعُتيبة بطلاقهما، فطلّقاهما قبل الدخول، فتزّوجها عثمان، تزوّج في الجاهلية رقية أوّلاً، فولدت له عبداللّه وهاجرت معه إلى الحبشة، ثمّ عادت معه إلى المدينة، وتوفّيت

ص: 183


1- . تذكرة الخواصّ لابن الجوزي: ص210. (المؤلّف).

سنة اثنتين من الهجرة والنبي(صلی الله علیه و آله) ببدر، وكان لها من عثمان بن عفّان: عبداللّه، نقره ديك في عينه، فمات سنة أربع من الهجرة وله ستّ سنين(1).

عن أبي بصير قال: قلتُ لأبي عبداللّه : أيفلتُ من ضغطة القبر أحد؟ قال: فقال:

نعوذ باللّه منها، ما أقلّ من يُفلت من ضغطة القبر، إنّ رقيّة لمّا قتلها عثمان، وقف رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) على قبرها، فرفع رأسه إلى السماء فدمعت عيناه، وقال للناس: إنّي ذكرتُ هذه وما لقيت، فوقفتُ لها واستوهبتُها من ضمّة القبر.

قال: فقال: اللّهمّ هَب لي رقيّة من ضمّة القبر، فوهبها اللّه له.

قال: وإنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خرج في جنازة سعد، وقد شيّعه سبعون ألف مَلَك، فرفع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) رأسه إلى السماء ثمّ قال: مثل سعد يُضمّ؟

قال: جُعلت فداك، إنّا نحدّث أنّه كان يستخفّ بالبول! فقال: معاذ اللّه، إنّما كان من زعارة في خُلُقه على أهله.

قال: فقالت أُمّ سعد: هنيئاً لك يا سعدُ، قال: فقال لها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): يا أُمّ سعدٍ، لا تحتّمي على اللّه(2).

عن يزيد بن خليفة قال: سأل عيسى بن عبداللّه أبا عبداللّه وأنا حاضر، فقال: تخرج النساء إلى الجنازة؟ وكان متّكئاً فاستوى جالساً، ثمّ قال: إنّ الفاسقَ عليه لعنة اللّه آوى عمّه المغيرة بن أبي العاص، وكان ممّن هدر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دمه، فقال لابنة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): لا تُخبِري أباك بمكانه، كأنّه لا يوقنُ أنّ الوحي يأتي محمّداً، فقالت: ما كنتُ لأكتمُ رسولَ اللّه(صلی الله علیه و آله) عدوّه.

فجعله بين مشجبٍ له ولحفه بقطيفة، فأتى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الوحيُ، فأخبره بمكانه، فبعث إليه عليّاً وقال: اشتمل على سيفك، وائت بيت ابنة ابن عمّك، فإن ظفرتَ بالمغيرة فاقتله.

ص: 184


1- . تذكرة الخواصّ. (المؤلّف).
2- . بحار الأنوار: ج6 ص707 نقلاً عن الكافي. (المؤلّف).

فأتى البيتَ، فجالَ فيه فلم يظفر به، فرجع إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فأخبره فقال: يا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، لم أره، فقال: إنّ الوحيَ أتاني فأخبرني

أنّه في المشجب. ودخل عثمان بعد خروج عليّ ، فلمّا رآه أكبَّ ولم يلتفت إليه، وكان النبي(صلی الله علیه و آله) حنيناً كريماً فقال: يا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هذا عمّي، هذا المغيرة بن أبي العاص، وقد - والذي بعثك بالحقّ - أمّنته. وكذب، فأعادها ثلاثاً، يأتيه عن يمينه، وعن يساره، فلمّا كان في الرابعة رفع رأسه إليه، فقال: قد جعلتُ لك ثلاثاً، فإن قدرتُ عليه بعد ثالثة قتلتُه.

فلمّا أدبرَ قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): اللّهمّ العن المغيرةَ بن أبي العاص، والعن من يأويه، والعن من يحمله، والعن من يطعمه، والعن من يسقيه، والعن من يجهّزه، والعن من يعطيه سقاء أو خداعاً أو رشاء أو وعاء. وهو يعدّهنّ بيمينه.

وانطلق به عثمانُ، فآواه وأطعمه وسقاه وحمله وجهّزه، حتّى فعل جميع ما لعن عليه النبي(صلی الله علیه و آله) من يفعله به، ثمّ أخرجه في اليوم الرابع يسوقه، فلم يخرج من أبيات المدينة حتّى أعطب اللّه راحلته ونقب خداعه وورمت قدماه، فاستعان بيده وركبتيه، وأثقله جهازه، حتّى وجس(1)، فأتى سمرة(2) فاستظلّ بها، لو أتاها بعضكم ما أبهره ذلك، فأتى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الوحي فأخبره بذلك.

فدعا عليّاً فقال: خُذ سيفك فانطلق أنت وعمّار وثالث لهما، فأت المغيرة ابن أبي العاص تحت شجرة كذا وكذا. فأتاه عليّ فقتَله.

فضربَ عثمان بنتَ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: أنتِ أخبرتِ أباك بمكانِهِ؛ فبعثت إلى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تشكو ما لقيت، فأرسل إليها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أقني(3) حياك، ما أقبح بالمرأة ذات حَسَبٍ ودين في كلّ يوم تشكو زوجها(4).

ص: 185


1- . أي فزع. (المؤلّف).
2- . شجر معروف. (المؤلّف).
3- . أو احفظي. (المؤلّف).
4- . قارن هذا بما رواه الكليني في الكافي: ج1 ص70، وانظر منتخب الأنوار لابن همّام، المطبوع مع تاريخ أهل البيت:، تحقيق السيّد الجلالي،الطبعة الثانية قم 1423ه .

فأرسلت إليه مرّاتٍ، كلّ ذلك يقول لها ذلك، فلمّا كان في الرابعة دعا عليّاً وقال: خُذ سيفك واشتمل عليه ثمّ أئتِ بنت ابن عمّك، فخذ بيدها، فإن حال بينك وبينها أحد فاحطمه بالسيف.

وأقبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كالوالِهِ من منزله إلى دار عثمان، فأخرج عليّ ابنة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فلمّا نظرت إليه رفعت صوتها بالبكاء، واستعبرَ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وبكى، ثمّ أدخلها منزلَه، وكشفت عن ظهرها، فلمّا أن رأى ما بظهرها قال - ثلاث مرّات - : ما لهُ؟ قتلكِ، قتلهُ اللّهُ! وكان ذلك يوم الأحد، وبات عثمان ملتحفاً بجاريتها. فمكثت الاثنين والثلاثاء، وماتت في اليوم الرابع.

فلمّا حضر أن يخرج بها، أمر رسولُ اللّه(صلی الله علیه و آله) فاطمة: فخرجت ونساء المؤمنين معها، وخرج عثمان يشيّع جنازتها، فلمّا نظر إليه النبي(صلی الله علیه و آله) قال: من أطاف البارحة بأهله أو بفتاته فلا يتّبعن جنازتها. قال ذلك ثلاثاً، فلم ينصرف، فلمّا كان في الرابعة، قال: لينصرفنّ أو لأسمّينّ باسمه.

فأقبل عثمان متوكّئاً على مولىً له ممسكاً ببطنه، فقال: يا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، إنّي أشتكي بطني، فإن رأيت أن تأذنَ لي أن أنصرف! قال: انصرف.

وخرجت فاطمة ونساء المؤمنين والمهاجرين فصلّينَ على الجنازة(1).

وأمّا أُمّ كلثوم:

فتزوّجها أيضاً عثمان بعد أُختها رقيّة، وتوفّيت عنده سنة سبع من الهجرة، وكان تزويجها من عثمان سنة ثلاث من الهجرة.

وأمّا فاطمة::

قال ابن شهرآشوب(2): وُلدت فاطمة بمكّة بعد النبوّة، بخمس سنين، وبعد الإسراء

ص: 186


1- . الصدف المشحون: ج2 ص165 عن الكافي. (المؤلّف). وانظر الكافي: ج1 ص70، والاحتجاج للطبرسي: ج1 ص94، وبحار الأنوار: ج22 ص162.
2- . المناقب: ج4 ص22. (المؤلّف).

بثلاث سنين، في العشرين من جمادى الآخِرة، وأقامت مع أبيها ثماني سنين، ثمّ هاجرت معه إلى المدينة، وتزوّجها عليّ بعد مقدمها المدينة بسنتين، أوّل يوم من ذي الحجّة(1).

وعن حبيب السجستاني، قال: سمعتُ أبا جعفر يقول: وُلدت فاطمة بنت محمّد(صلی الله علیه و آله) بعد مبعث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بخمس سنين، وتوفّيت ولها ثمانية عشر سنة وخمسة وسبعون يوماً(2).

أقول: ذكر العلّامة الأمين(3)،(4): إنّ أكثر العامّة تروي أنّ مولدها قبل المبعث بخمس سنين، ولعلّ وقع اشتباه من الرواة بين كلمتي قبل وبعد، فتبدّلت إحداهما بالأُخرى(5).

وعن المفضّل بن عمر، قال: قلت لأبي عبداللّه الصادق : كيف كان ولادة فاطمة:؟ فقال: نعم، إنّ خديجة: لمّا تزوّج بها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هجرتها نسوان مكّة، فلم يدخلن عليها ولا يسلّمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمّها حذراً عليه، فلمّا حملت بفاطمة:، كانت فاطمة تُحدّثها من بطنها، وتصبّرها، وكانت تكتم ذلك من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

فدخل رسول اللّه يوماً فسمع خديجة تحدّث فاطمة، فقال: يا خديجة! مَن تحدِّثين؟

قالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني(6).

ص: 187


1- . مسارّ الشيعة: ص53 ضمن مجموعة نفيسة ط حجرية. (الشطري).
2- . الكافي : ج1 ص380. (المؤلّف). وراجع: تاريخ أهل البيت:: ص90، تحقيق السيّد الجلالي، الطبعة الثانية قم 1423ه .
3- . هو العلّامة الكبير آية اللّه الحاج السيّد محسن الأمين العاملي، ولد بقرية شقراء إحدى قرى جبل عامل، في حدود سنة 1282ه ، وتوفّي سنة 1371 في شهر رجب. (المؤلّف).
4- . المجالس السنية: ج5 ص41. (المؤلّف).
5- . لاحظ حول هذا الاختلاف: تاريخ أهل البيت:: هامش ص90، تحقيق السيّد الجلالي، الطبعة الثانية قم 1423ه .
6- . من جملة مزايا فاطمة أنّها كانت تعلّم أُمّها وهي في بطنها، ولم يتفرّد بذلك الشيعة بذكر هذه الفضيلة، بل شاركهم عدد كثير من علماء العامّة ومحدِّثيهم، منهم: الصفوري الشافعي في نزهة المجالس: ج2 ص227، الدهلوي في تجهيز الجيوش عن كتاب مدح الخلفاء الراشدين، شعيب المصري في الروض الفائق: ص214 (فاطمة من المهد إلى اللحد: ص40). (الشطري).

قال: يا خديجة، إنّ جبرئيل يخبرني أنّها أُنثى، وأنّها النسلة الطاهرة الميمونة، وأنّ اللّه تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها الأئمّة، ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه.

فلم تزل خديجة على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجّهت إلى نساء قريش وبني هاشم أن تعالين لتلينَ مِنّي ما تلي النساءُ من النساء.

فأرسلنَ إليها: أنتِ عصيتِنا ولم تقبلي قولنا، وتزوّجتِ محمّداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له، فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً.

فاغتمّت خديجة لذلك، إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال، كأنّهنّ من بني هاشم، ففزعت لذلك لمّا رأتهنّ، فقالت إحداهنّ: لا تحزني يا خديجة، فإنّا رُسل ربّك إليك، ونحن أخواتك؛ أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنّة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أُخت موسى بن عمران، بعثنا اللّه إليك لنلي منك ما تلي النساء. فجلست واحدة عن يمينها وأُخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة: طاهرةً مطهّرةً.

فلمّا سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتّى دخل بيوتات مكّة، ولم يبق في شرق الأرض وغربها موضع إلّا أشرق فيه ذلك النور.

ودخل عشر من الحور العين كلّ واحدةٍ منهنّ معها طَستٌ من الجنّة وإبريق من الجنّة، وفي الإبريق ماءٌ من الكوثر.

فناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين

بيضاوَينِ أشدّ بياضاً من اللبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر، فلفّتها بواحدةٍ وقنّعتها بالثانية، ثمّ استنطقتها فنطقت فاطمةٌ بالشهادتين وقالت: «أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ أبي رسول اللّه سيّد الأنبياء، وأنّ بعلي سيّد الأوصياء، وولدي سادات الأسباط». ثمّ سلّمت عليهنّ، وسمّت كلّ واحدة باسمها، وأقبلن يضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشّر أهل السماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة:، وحدث في السماء نورٌ ظاهرٌ لم تره الملائكة قبل ذلك، وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرةٌ مطهّرةً زكيّةً ميمونةً، بُورك فيها وفي

ص: 188

نسلها. فتناولتها فرحةً مستبشرةً، وألقمتها ثديها، فَدَرَّ عليها، فكانت تنمو في اليوم كما ينمو الصبيّ في الشهر، وكانت تنمو في الشهر كما ينمو الصبيّ في السنة(1).(2)

وأمّا فضائلها:

جاء في بيت الأحزان(3): كانت فاطمة: من أهل العباء والمباهلة والمهاجرة في أصعب وقت، وكانت فيمن نزلت فيهم آية التطهير، وافتخر جبرئيل بكونه منهم، وشهد اللّه لهم بالصدق، ولها أُمومة الأئمّة:، وعقب الرسول إلى يوم القيامة، وهي سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين.

وكانت أشبه الناس كلاماً وحديثاً برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، تحكي شيمتها شيمته، وما تخرم مشيتها مشيته. وكانت إذا دخل عليها رحّب بها، وقبّل يديها وأجلسها في مجلسه(4).

وكان النبي(صلی الله علیه و آله) يُكثر تقبيلها، وكلّما اشتاق إلى رائحة الجنّة يشمّ رائحتها، وكان يقول: «فاطمة بضعة منّي، مَن سرّها فقد سرّني، ومن ساءها فقد ساءني»، «فاطمة أعزّ الناس إلَيَّ»، إلى غير ذلك، ممّا يكشف به عن كثرة محبّته لها، كندائه إيّاها بيا حبيبة أبيها، كما روى الطبري الإمامي(5) عن جعفر بن محمّد عن آبائهم: عن فاطمة:، قالت: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «يا حبيبة أبيها، كلّ مسكرٍ حرامٌ، وكلّ مسكرٍ خمرٌ».

وليعلم أنّه قد حُقّق في محلّه أنّ محبّة المقرّبين لأولادهم وأقربائهم وأحبّائهم ليست من جهة الدواعي النفسانية والشهوات البشرية، بل تجرّدوا عن جميع ذلك

ص: 189


1- . الأمالي للصدوق: ص353، مجلس 87 ط طهران. (المؤلّف).
2- . بحار الأنوار: ج43 ص2. وقد ذكر السيّد كاظم القزويني أنّه روى ذلك الطبري في ذخائر العقبى والصفوري الشافعي في نزهة المجالس والقندوزي في ينابيع المودّة (فاطمة من المهد إلى اللحد: ص43). (الشطري).
3- . بيت الأحزان: ص8. (المؤلّف).
4- . فاطمة من المهد إلى اللحد: ص187 نقلاً عن مقتل الحسين للخوارزمي: ص66، مستدرك الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج3 ص165، ذخائر العقبى: ص36، وسيلة المآل للحضرمي: ص79. (الشطري، الشيخ أبو عمّار العبودي).
5- . في دلائل الإمامة. (المؤلّف).

وأخلصوا حبّهم وإرادتهم للّه، فهم ما يحبّون سوى اللّه تعالى، وحبّهم لغيره تعالى إنّما يرجع إلى حبّهم له، ولذا لم يحبّ يعقوب من سائر أولاده مثل ما أحبّ يوسف ، وهم لجهلهم بسبب حبّه له نسبوه إلى الضلال، وقالوا: نحن عصبة، ونحن أحقّ بأن نكون محبوبين له؛ لأنّا أقوياء على تمشية ما يريده من أُمور الدُّنيا، ففرط حبّه ليوسف إنّما كان لحبّ اللّه تعالى له واصطفائه إيّاه، ومحبوب المحبوب محبوب. انتهى كلامه.

عن أبي عبداللّه جعفر بن محمّد ، قال: قال جابر لأبي جعفر : جُعلت فداك يابن رسول اللّه، حدّثني بحديثٍ في فضل جدّتك فاطمة: إذا أنا حدّثت به الشيعة فرحوا بذلك.

قال أبو جعفر: حدّثني أبي عن جدّي عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، قال: إذا كان يوم القيامة نُصب للأنبياء والرسل منابر من نور، فيكون منبري أعلى منابرهم يوم القيامة، ثمّ يقول: يا محمّد، اخطب، فأخطب خُطبة لم يسمع أحد من الأنبياء والرسل بمثلها، ثمّ يُنصب للأوصياء منابر من نور ويُنصب لوصيّي عليّ بن أبي طالب في

أوساطهم منبر من نور، فيكون منبر عليّ أعلى منابرهم يوم القيامة، ثمّ يقول له: اخطب، فيخطب خطبة لم يسمع أحد من الأوصياء بمثلها.

ثمّ، ينصب لأولاد الأنبياء والمرسلين منابر من نور، فيكون لابنيَّ وسبطيَّ وريحانتيَّ أيّام حياتي منبرين، ثمّ يقال لهما: اخطبا، فيخطبان بخطبتين لم يسمع أحد من أولاد الأنبياء والمرسلين بمثلها. ثمّ ينادي منادٍ وهو جبرئيل : أين فاطمة بنت محمّد(صلی الله علیه و آله)؟ أين خديجة بنت خويلد؟ أين آسية بنت مزاحم؟ أين كلثوم أُمّ يحيى بن زكريا؟ فيقمن، فيقول اللّه تبارك وتعالى إلى أهل الجمع: لمن الكرم اليوم؟ فيقول محمّد وعليّ والحسن والحسين وفاطمة: للّه الواحد القهّار.

فيقول اللّه جلّ جلاله: يا أهل الجمع، إنّي قد جعلت الكرم لمحمّد(صلی الله علیه و آله) وعليّ والحسن والحسين وفاطمة:. يا أهل الجمع طأطِئُوا الرؤوس وغُضّوا الأبصار؛ إنّ هذه فاطمة تسير إلى الجنّة.

ص: 190

فيأتيها جبرئيل بناقةٍ من نوق الجنّة، مدبّجة الجنبين، خُطامها من اللؤلؤ المحقّق الرطب، عليها رحلٌ من المرجان، فتُناخ بين يديها فتركبها، فيبعث إليها مائة ألف مَلَك فيصيرون على يمينها، ويبعث إليها مائة ألف مَلَك فيصيرون على يسارها، ويبعث إليها مائة ألف مَلَك يحملونها بأجنحتهم حتّى يُسيّروها عند باب الجنّة، فإذا صارت عند باب الجنّة تلتفت، فيقول اللّه: يابنت حبيبي، ما التفاتك وقد أمرت بك إلى جنّتي؟ فتقول: ياربّ أحببت أن يُعرَف قَدري في مثل هذا اليوم.

فيقول اللّه تبارك وتعالى: يابنت حبيبي، ارجعي وانظري مَن كان في قلبه حُبٌّ لك أو لأحدٍ من ذرّيتك، خذي بيده فأدخليه الجنّة.

قال أبو جعفر : واللّه يا جابر إنّها ذلك اليوم لتلتقطُ شيعتها ومحبّيها كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الرديء.

فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنّة، يلقي اللّه في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا

فيقول اللّه، يا أحبّائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟ فيقولون: ياربّ أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم.

فيقول اللّه: يا أحبّائي، ارجعوا وانظروا من أحبّكم لحبّ فاطمة، انظروا من أطعمكم لحبّ فاطمة، وانظروا من سقاكم شربة في حبّ فاطمة، انظروا من ردّ عنكم غيبةً في حبّ فاطمة، وانظروا من كساكم لحبّ فاطمة، خذوا بيده وأدخلوه الجنّة.

قال أبو جعفر : واللّه لا يبقى في الناس إلّا شاكٌّ أو كافر أو منافق. فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال اللّه: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)(1)، فيقولون: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)(2).

قال أبو جعفر : هيهات، هيهات، مُنعوا ما طلبوا، ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه،

ص: 191


1- . الشعراء: 100 - 101.
2- . الشعراء: 102.

وإنّهم لكاذبون.(1)

وعن ابن عبّاس، قال: سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: دخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ذات يوم على فاطمة وهي حزينة، فقال لها: ما حزنك يا بنيّة؟ قالت: يا أبة، ذكرت الحشر ووقوف الناس عُراة يوم القيامة، قال: يا بُنَيّة، إنّه ليوم عظيم، ولكن قد أخبرني جبرئيل عن اللّه أنّه قال: أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة أنا وأبي إبراهيم، ثمّ بعلك عليّ بن أبي طالب .

ثمّ يبعث اللّه إليك جبرئيل في سبعين ألف، فيضرب على قبرك سبع قباب من نور، ثمّ يأتيك إسرافيل بثلاث حُلل من نور، فيقف عند رأسك فيناديك: يا فاطمة ابنة محمّد(صلی الله علیه و آله)، قومي إلى محشرك آمنة روعتك، مستورةً عورتك.

فيناولك إسرافيل الحلل فتلبسينها، ويأتيك روفائيل بنجيبة من نور، زمامها من لؤلؤ رطب، عليها محفّة من ذهب، فتركبينها، ويقود روفائيل بزمامها، وبين يديك سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التسبيح. فإذا جدّ بك السير استقبلك سبعون ألف حوراء يستبشرون بالنظر إليك، بيد كلّ واحدة منهنّ مجمرة من نور، تسطع منها ريح العود من غير نار، وعليهنّ أكاليل الجوهر مرصّع بالزبرجد الأخضر، فيسرن عن يمينك، فإذا مثل الذي سرت من قبرك إلى أن لقينك، إلى أن اسستقبلتك مريم بنت عمران في مثلَي مَن معك من الحور العين، فتسلّم عليك، وتسير هي ومن معها عن يسارك.

ثمّ استقبلتك أُمّك خديجة بنت خويلد أوّل المؤمنات باللّه وبرسوله، معها سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التكبير، فإذا قربتِ من الجمع استقبلتك حوّاء في سبعين ألف ملك حوراء معها آسية بنت مزاحم، فتسير هي ومن معها معك.

فإذا توسّطتِ الجمع، وذلك أنّ اللّه يجمع الخلائق في صعيد واحد، فيستوى بهم

ص: 192


1- . بحار الأنوار: ج8 ص51 عن تفسير فرات: ص113، فاطمة من المهد إلى اللحد: ص544 – 546. (الشطري). فرات بن إبراهیم الکوفي: أحد علماء الحدیث في القرن الثالث. قال آیة اللّه العلّامة السیّد حسن الصدر في کتاب الشیعة وفنون الإسلام: إنّه کان في عصر الإمام الجواد ابن الرضا . (المؤلّف).

الأقدام، ثمّ ينادي منادٍ من تحت العرش يسمع الخلائق: غُضّوا أبصارَكم حتّى تجوز فاطمة الصدّيقة ابنة محمّد(صلی الله علیه و آله) ومن معها. فلا ينظر إليك يومئذٍ إلّا إبراهيم خليل الرحمن وعليّ بن أبي طالب .

ويطلب آدمُ حوّاءَ، فيراها مع أُمّك خديجة أمامك.

ثمّ ينصب لك منبر من نور فيه سبع مراقٍ، بين المرقاة إلى المرقاة صفوف الملائكة، بأيديهم ألوية النور، وتصطفّ الحور العين عن يمين المنبر وعن يساره، وأقرب النساء منكِ عن يساركِ حوّاء وآسية بنت مزاحم، فإذا صرتِ في أعلى المنبر أتاكِ جبرئيل فقال لكِ: يا فاطمة سلي حاجتك، فتقولين: ياربّ، أرني الحسن والحسين ، فيأتيانك وأوداج الحسين تشخَبُ دماً، وهو يقول: ياربّ خذ لي اليوم حقّي ممّن ظلمني. فيغضب عند ذلك الجليل، وتغضب لغضبه جهنّم، والملائكة أجمعون، فتزفر جهنّم عند ذلك زفرة.

ثمّ يخرج فوج من النار فيلتقط قتلة الحسين وأبناءهم وأبناء أبنائهم، ويقولون: ياربّ إنّا لم نحضر الحسين ! فيقول اللّه لزبانية جهنّم: خذوهم بسيماهم بزُرقة الأعين وسواد الوجوه، خذوا بنواصيهم فألقوهم في الدرك الأسفل من النار، فإنّهم كانوا أشدّ على أولياء الحسين من آبائهم الذين حاربوا الحسين فقتلوه. فيُسمع شهيقهم في جهنّم.

ثمّ يقول جبرئيل: يا فاطمة سلي حاجتك، فتقولين: ياربّ شيعتي، فيقول اللّه: قد غفرت لهم، فتقولين: ياربّ شيعة شيعتي، فيقول اللّه: انطلقي، فمن اعتصم بك فهو معك في الجنّة.

فعند ذلك يودّ الخلائق أنّهم كانوا فاطميّين، فتسيرين ومعك شيعتك وشيعة ولدك وشيعة أمير المؤمنين ، آمنة روعاتهم، مستورة عوراتهم، قد ذهبت عنهم الشدائد، وسهلت لهم الموارد، يخاف الناس وهم لا يخافون، ويظمأ الناس وهم لا يظمأون، فإذا بلغتِ باب الجنّة تلقّتك اثنتا عشرة ألف حوراء، لم يتلقينّ أحداً قبلك ولا يتلقين أحداً بعدك، بأيديهم حراب من نور، على نجائب من نور، حمائلها من الذهب الأصفر

ص: 193

والياقوت، أزمّتها من لؤلؤ رطب، على كلّ نجيبة نمرقة من سندس منضود.

فإذا دخلتِ الجنّة تباشر بك أهلها، ووضع لشيعتك موائد من جوهر على أعمدة من نور، فيأكلون فيها والناس في الحساب، (وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ)(1).

فإذا استقرّ أولياء اللّه في الجنّة زارك آدم ومن دونه من النبيّين، وإنّ في بُطنان

الفردوس لؤلؤتين من عِرْقٍ واحد؛ لؤلؤة بيضاء ولؤلؤة صفراء، فيها قصور ودور، في كلّ واحدة سبعون ألف دار بيضاء، منازل لنا ولشيعتنا، والصفراء لإبراهيم وآل إبراهيم.

قالت: يا أبة فما كنت أُحبّ أن أرى يومك ولا أبقى بعدك، قال: يا بنيّة، لقد أخبرني جبرئيل عن اللّه أنّك أوّل من يلحقني من أهل بيتي، فالويل كلّه لمن ظلمك، والفوز

العظيم لمن نصرك(2).

قال عطاء: وكان ابن عبّاس إذا ذكر هذا الحديث تلا هذه الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)(3).

أقول: وفضائلها لا تعدّ ولا تحصى، ولو أردنا أن نكتب بعضها لخرجنا من وضع الكتاب.

وأحببتُ أن أذكر هذه القصيدة للمرحوم الشيخ غلام رضا الغروي الأصبهاني

في مدحها:

سقى

اللّه أنفاسي من السلسل العذبِ

لأنظم أبكاراً من

اللؤلؤ الرطبِ

بمدحة

بنت المصطفى ينجلي كربي

ص: 194


1- . الأنبياء: 102
2- . ومن أسمائها «المُحَدَّثَة»؛ لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتحدّثها، كما روى الطبري في دلائل الإمامة عن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ:، قال: سمعت أبا عبداللّه يقول: سُمّيت فاطمة محدّثة؛ لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما كانت تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إنّ اللّه اصطفاكِ وطهّركِ على نساء العالمين، يا فاطمة، اقنتي لربّك. وتحدّثهم ويحدّثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضّلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إنّ مريم كانت سيّدة نساء عالمها، وإنّ اللّه تعالى جعلك سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين. (المؤلّف).
3- . الطور: 21.

وإنّ معاليها لأسنى من

الشهب

وفي مدحها القرآن بل

سائر الكتبِ

فإن لم تصدّق ما أقول

وما أدري

فسل آية الوسطى وسل

ليلة القدرِ

وسل آية الكبرى وسل

سورة الدهرِ

وسل آية القربى وسل

آية الأجرِ

وكانت

لطه المصطفى الروح بالجنبِ

حباها أبوها بالكرامة

والبشرِ

ربيبة حجر الوحي

والنهي والأمرِ

محدّثة كانت تحدّث

بالسرِّ

وتخبرها جهراً ملائكة

الغرِّ(1)

ومن نورها ضوء المشارق

والغربِ

هي الدرّة البيضاء في

صدف النُّهى

هي

الغرّة النورا في ظُلم الدّجى

ومشكاة

أنوار الهداية للورى

بأبنائها

الغرّ الكرام أولي الحِجا

تشرّفت

الآباء في سالب الحقبِ

هي

الزهرة الزهرا تجلّت تكرّماً

هي

اللمعة النورا فعزّت وإنّما

هي الكوكب الدرّيّ في أُشفق السما

تضيء

لسكّان السماوات كلّها

تقوم

بمحرابٍ تناجي إلى الربِّ

هي

الآية الكبرى فكلّت أُولو النهى

عقولٌ

لهم ما يبلغون المنتهى

مكارمها

العليا وأنّى لهم بها

وكيوان

علياها لأعلى من السُّها

ففي

فاطم حارت عقول ذوي اللبِّ

هي

الشمس قدراً والأشعّة ساترُ

بخدمتها

حور الجنان تفاخرُ

لها

جاريات مريم ثمّ هاجرُ

هي

القطب خِدراً والنساء دوائرُ

فشتّان

ما بين الدوائر والقطبِ

هي البضعة الهادي الرسول الممجّدِ

وريحانة

المختار طه محمّدِ

حليلة

كرّارٍ حبيبة أحمدِ

هي

العروة الوثقى لقبري وفي غدي

شفيعة

من والى من العجم والعربِ

فتبّاً

لمن بالدمع أسجم جفنها

وتعساً

لمن بالنار أحرق بابها

وسحقاً

لمن بالعصر أسقط ابنها

وبُعداً

لمن بالسوط سوّد متنها

وفي وجهها الدامي من اللطم والضربِ

ص: 195


1- . بحار الأنوار: ص43، فاطمة من المهد إلى اللحد: ص544 - 548. (الشطري).

فلهفي

عليها حين أبدت عويلها

بعولتها

تنسى الحمام هديلها

وكادت

لأطفال الفلات تزيلها

فما

حال من تلقى مقوداً كفيلها

ويا

عجباً من قسور قيد للكلبِ

فأوقفت

الأفلاك من فرط دهشةِ

وأذهلت

الأملاك من طول زفرةِ

تناديهم

خلّوا ابن عمّي ومهجتي

وإن

لم تخلّوا عنه أشكو بعولتي

إلى

اللّه يا أهل الضلالةِ والرَّيبِ

فأهوت

إلى القبر الشريف ودمعها

تسيل

تخال السحب يوم ربيعها

ونادت

أباها خير رسل جميعها

أتدري

الرزايا قد دهانا فظيعها

فللّه

من رُزءٍ عظيمٍ ومن خطبِ

وأمّا شهادتها

ذكر العلّامة المقرّم(1) إنّها بقيت بعد أبيها المصطفى خمسة وسبعين يوماً، وهو المختار؛ لأنّه المشهور بين المؤرّخين، وبه جاءت الرواية عن الصادق كما في الكافي للكليني(2) والاختصاص للشيخ المفيد(3) ومعالم الزلفى للسيّد هاشم البحراني(4).

وجاء في روضة الواعظين(5): روي أنّ فاطمة ما زالت بعد النبيّ معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدّة الركن من المصيبة بموت النبي(صلی الله علیه و آله)، وهي مهمومة مغمومة محزونة مكروبة، كئيبة حزينة باكية العين محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة، في كلّ ساعة وحين تذكره وتذكر الساعة التي كان يدخل فيها عليها، فيعظم حزنها. وتنظر مرّة إلى الحسن ومرّة إلى الحسين، وهما بين يديها:، فتقول: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرّة بعد مرّة؟ أين أبوكما الذي كان أشدّ الناس شفقةً عليكما؟ فلا يدعكما تمشيان على الأرض؟ فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، فُقِدَ واللّه جدّكما وحبيب قلبي، ولا أراه

ص: 196


1- . الصدّيقة الزهراء: ص114 ط النجف. (المؤلّف).
2- . الكافي: ج1 ص458 باب مولد الزهراء:.
3- . الاختصاص: ص185.
4- . معالم الزلفى: ص133.
5- . روضة الواعظين للفتّال: ص130.

يفتح هذا الباب أبداً، ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما.

ثمّ مرضت مرضاً شديداً، ومكثت أربعين ليلة في مرضها، إلى أن توفّيت صلوات اللّه عليها، فلمّا نُعيت إليها نفسها، دعت أُمّ أيمن وأسماء بنت عميس، ووجّهت خلف عليّ وأحضرته، فقالت: يابن عمّ، إنّه قد نُعيت إليَّ نفسي، وإنّني لأرى ما بي لاشكّ، إلّا أنّني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي. قال عليّ : أوصيني بما أحببتِ يابنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت، ثمّ قالت: يابن عمّ، ما عهدتني كاذبةً ولا خائنةً ولا خالفتك منذ عاشرتني.

فقال : معاذ اللّه! أنت أعلم باللّه وأبرّ وأتقى وأكرم، وأشدّ خوفاً من اللّه أن أُوبّخك بمخالفتي، فقد عزّ عَليَّ مفارقتك وفقدك، إلّا أنّه أمرٌ لابدّ منه، واللّه جدّد عَليّ مصيبتي برسول اللّه، وقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضّها وأحزنها، هذه واللّه مصيبة لا أعزّى عنها، ورزيّة لا خلف لها.

ثمّ بكيا جميعاً ساعة، وأخذ عليّ رأسها وضمّها إلى صدره. ثمّ قال: أوصيني بما شئتِ، فإنّك تجديني وفيّاً، أمضي كلّ ما أمرتني به، وأختار أمرك على أمري.

ثمّ قالت: جزاك اللّه عنّي خير الجزاء يابن عمّ، أوصيك أوّلاً أن تتزوّج بعدي بابنة أُمامة، فإنّها تكون لولدي مثلي، فإنّ الرجال لابدّ لهم من النساء.

قال: فمن أجل ذلك قال أمير المؤمنين : أربعة ليس إلى فراقهنّ سبيل، بنت أمامة، أوصت بها فاطمة.

ثمّ قالت: أوصيك يابن عمّ أن تتّخذ لي نعشاً، فقد رأيت الملائكة صوّروا صورته، فقال لها: صِفِيْهِ لي. فوصفته، فاتّخذه لها، فأوّل نعشٍ عُمل في وجه الأرض ذلك، وما رأى أحد قبله ولا عمل أحدٌ.

ثمّ قالت: أوصيك أن لا يشهد جنازتي أحدٌ من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقّي، فإنّهم أعدائي وأعداء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ولا تترك أن يصلّي عَليَّ أحدٌ منهم ولا من

ص: 197

أتباعهم، وادفنّي في الليل، إذا هدأت العيون ونامت الأبصار(1).

ثمّ توفّيت صلوات اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

فصاحت أهل المدينة صيحةً واحدةً، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها فصرخن صرخةً واحدة، كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهنّ، وهنّ يقلن: ياسيّدتاه يابنت رسول اللّه. وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى عليّ وهو جالس والحسن والحسين: بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما.

وخرجت أُمّ كلثوم وعليها برقعة وتجرّ ذيلها، متجلّلة برداء عليها تسحبها، وهي تقول: يا أبتاه يا رسول اللّه، الآن حقّاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده أبداً.

واجتمع الناس، فجلسوا وهم يرجون وينتظرون أن تخرج الجنازة فيصلّون عليها، وخرج أبو ذرّ فقال: انصرفوا، فإنّ ابنة رسول اللّه قد أُخّر إخراجها في هذه العشيّة. فقام الناس وانصرفوا، فلمّا أن هدأت العيون ومضى من الليل، أخرجها عليّ والحسن والحسين: وعمّار والمقداد وعقيل والزبير وأبو ذرّ وسلمان وبريدة، ونفر من بني هاشم وخواصّه، صلّوا عليها ودفنوها في جوف الليل، وسوّى عليّ حواليها قبوراً مزوّرة مقدار سبعة؛ حتّى لا يُعرف قبرها.

ولنعم ما قيل:

ولأيّ الأُمور تُدفنُ

ليلاً

بضعةُ المصطفى ويُعفى

ثراها

فمضت

وهي أعظم الناس شجواً

في فم الدهر غُصّةً من

جواها

وثوت لا يرى لها الناس

مثوىً

أيّ قدسٍ يضمّه مثواها

وفاة خديجة الطاهرة:

جاء في تذكرة الخواصّ(2) : قال الواقدي: توفّيت خديجة بعد أن مضى من النبوّة عشر سنين،

ص: 198


1- . بحار الأنوار: ج43 ص191 نقلاً عن روضة الواعظین: ج1 ص101، المناقب لابن شهرآشوب: ج3 ص362، دلائل الإمامة: ص42. (المؤلّف).
2- . تذكرة الخواصّ: ص314. (المؤلّف).

وهي بنت خمس وستّين سنة، قبل وفاة أبي طالب بثلاثة أيّام، وقيل: بعد وفاته بشهر(1).

قال حكيم بن حزام: دفنّاها بالحَجُون(2)، ونزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في قبرها ولم تكن يومئذٍ سُنّة الجنازة الصلاة عليها(3).

وقال هشام: توفّيت ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ابن سبع وأربعين سنة وثمانية أشهر.

وقال مجاهد: كانت وفاتها قبل أن تُفرض الصلوات الخمس، وهذا صحيح؛ لأنّ الصلوات فُرضت سنة اثنتي عشرة من النبوّة ليلة المعراج.

وقال هشام: كانت وفاتها لعشر خلون من رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين(4).

وفي تاريخ اليعقوبي(5)و(6): وتوفّيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس وستّون سنة.

ودخل عليها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهي تجودُ بنفسها، وقال: بالكره منّي ما أرى، ولعلّ اللّه أن يجعل في الكره خيراً كثيراً، إذا لقيت في الجنّة يا خديجة ضَرّاتك فاقرئيهنّ السلام، قالت: ومَن يا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)؟

قال: إن ضرّتَيْكِ في الجنّة زوجاتي مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثوم أُخت موسى، فقالت: بالرِفاء والبنين.

ص: 199


1- . المناقب لابن شهرآشوب: ص174. (المؤلّف).
2- . بتقديم الحاء، قال الطريحي في المجمع: والحَجُون - بفتح الحاء - : جبل بمكّة صار إليه النبيّ بعد موت أبي طالب. وفي الصحاح: وهو مقبرة. (المؤلّف).
3- . كشف الغمّة: ج2 ص139 يرفعه إلى ابن سعد. (المؤلّف).
4- . السيرة: ج2 ص57، تاريخ الطبري: ج2 ص229، عيون الأثر: ج1 ص130، مقتل الحسين للخوارزمي: ج28 - 30. (المؤلّف).
5- . هو أحمد بن يعقوب بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح، الكاتب الأخباري، الشهير باليعقوبي وبابن واضح، وكان يقال له: مولى بني عبّاس ومولى بني هاشم؛ لأنّ جدّه كان من موالي المنصور الدوانيقي الخليفة العبّاسي، وكان أديباً شاعراً، توفّي سنة 278ه (راجع: تاريخ آداب اللغة العربية: ج2 ص197). (المؤلّف).
6- . تاريخ اليعقوبي: ج2 ص20 ط النجف. (المؤلّف).

وعن الصادق : لمّا توفّيت خديجة(علیها السلام) ، جعلت فاطمة تلوذُ برسول

اللّه(صلی الله علیه و آله) وتدورُ حوله، وتقول: أبه، أين أُمّي؟

قال: فنزل جبرئيل فقال له: ربّك يأمرك أن تقرأ فاطمة السلام وتقول لها: إنّ أُمّك في بيت من قصب كِعابهُ حمراء من ذهب، وعُمَده ياقوت أحمر، بين آسية وبين مريم بنت عمران(1).

وجاء في مقتل الحسين (2) عن أبان عن شعافة الخزاعي، أنّ أبا أُمامة الباهلي قال: دخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) على خديجة بنت خويلد امرأته وهي بالموت، فشكت إليه شدّة كرب الموت، فبكى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ودعا لها، ثمّ قال لها: اقدمي خير مقدم، ياخديجة أنتِ خير أُمّهات المؤمنين وأفضلهنّ، وسيّدة نساء العالمين إلّا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، أسلمتك يا خديجة على كرهٍ منّي، قد جعل للمؤمنين بالكره خيراً كثيراً، الحقي ياخديجة بأُمّك حوّاء في الجنّة، وبأُختك سارة أُمّ إسحاق، آمنت باللّه جلّ جلاله، بُعث إبراهيم إلى مهاجرة الأرض المقدّسة، وهي أرض الأنبياء وإليها يُحشر العباد، فتزوّجها إبراهيم فولدت له إسحاق، فما ولدت النساء ولا تلد مولوداً يسمّى إسحاق مثله إلى يوم القيامة، وهو أبو الموالي، فما يمنع الموالي أن يفاخروا بأبيهم إسحاق وجدّهم إبراهيم وأُمّهم سارة:، ألا ولا فخر إلّا بالإسلام.

وكانت أُمّ إسماعيل عجميّة قبطيّة، اتّخذها إبراهيم سُرّية، فولدت له إسماعيل قبل تولد إسحاق بسبع نوا من الرجال والنساء، يقتدي بهما كلّ مؤمن ومؤمنة، لم يحلفا باللّه يميناً قطّ، وَجَلاً من اللّه وتعظيماً له، كانتا لا تحيضان، طهّرهما اللّه وفضّلهما به على نساء العالمين. وإنّ ربّي زوّجنيهما ليلة أُسرى بي عند سدرة المنتهى، فهما ضرّتاك يا خديجة في الجنّة(3)، وأخواتهنّ من أُمّهات المؤمنين.

ص: 200


1- . بحار الأنوار: ج6 ص121 نقلاً عن أمالي المفيد. (المؤلّف).
2- . مقتل الحسين للخوارزمي: ج1 ص28 ط النجف. (المؤلّف).
3- . أدرج في المتن هنا: «مع عائشة»، وأضاف: «ولم يكن رسول اللّه تزوّج عائشة ولا غيرها، ولا تحته يومئذٍ غير خديجة وحدها». قال صاحب التعليق عليه: هذا الخبر لا تذكره الشيعة؛ لأنّهم لم يعرفوا شعافة، خصوصاً وقد صرّح بتثنية ضمير آسية ومريم ولم يجمع للثلاث. (المؤلّف).

فضحكت خديجة - وهي ثقيلة بالموت - ثمّ قالت له: هنيئاً يا رسول اللّه، بارك اللّه لهما فيك، وبارك لك فيهما، الحمد للّه الذي أقرّ عينك بهما، ما هما ضرّتاي، يا رسول اللّه؛ لأنّه لا غيرة بيننا، لكنّهما أُختاي.

فقال النبي(صلی الله علیه و آله): هذا واللّه الحقّ المبين وتمام اليقين والفضل في الدين.

فقيل: يا رسول اللّه، أفمن أُمّهات المؤمنين هما؟ قال: أمّا في الدُّنيا فلا؛ لأنّهما مضتا لسبيلهما قبل أن أبعث في أُمّتي وسبقني موتهما(1).

رثاء أمير المؤمنين لها

في معجم القُبُور(2) للسيّد مهدي الإصفهاني: قال أمير المؤمنين في مرثيّة خديجة وأبي طالب؟رضهما؟:

أعينيّ جودا بارك اللّه

فيكما

على هالكينِ لا ترى

لهما مثلا

على سيّد البطحاء وابن

رئيسها

وسيّدة النسوان أوّل

من صلّى

مهذّبة قد طيّب اللّه

خِيْمَها

مباركةً واللّه ساق

لها الفضلا

مصابهما أدجى لِيَ

الجوّ والهوا

فبِتُّ أُقاسي منهما

الهمّ والثكلا

لقد نصرا في اللّه

دينَ محمّدٍ

على

من بغى في الدّين قد رعيا إِلّا

وصاياها لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

جاء في الزهراء(3) للكفائي:

قال: ولمّا اشتدّ مرض خديجة قالت: يا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، اسمع

وصاياي:

أوّلاً: فإنّي قاصرة في حقّك فاعفني يا رسول اللّه.

قال: حاشا وكلّا، ما رأيت منك تقصيراً، فقد بلغتِ بجهدك، وتعبت في داري غاية

ص: 201


1- . مقتل الحسين للمقرم: ص28.
2- . معجم القبور: ج1 ص209. (المؤلّف).
3- . الزهراء: ج1 ص100 ط النجف. (المؤلّف).

التعب، ولقد بذلتِ أموالك وصرفتِ في سبيل اللّه مالَكِ.

قالت: يا رسول اللّه، الوصيّة الثانية: أُوصيك بهذه - وأشارت إلى فاطمة - فإنّها يتيمة غريبة من بعدي، فلا يؤذينها أحدٌ من نساء قريش، ولا يلطمنّ خدّها ولا يصيحنّ في وجهها، ولا يرينّها مكروهاً(1).

وأمّا الوصيّة الثالثة: فإنّي أقولها لابنتي فاطمة وهي تقول لك، فإنّي مستحية.

فقام النبي(صلی الله علیه و آله) وخرج من الحجرة، فدعت بفاطمة وقالت: يا حبيبتي وقرّة عيني، قولي لأبيك: إنّ أُمّي تقول: إنّي خائفة من القبر، أُريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي تكفّنني فيه. فخرجت فاطمة، وقالت لأبيها ما قالت أُمّها خديجة. فقام النبيّ، وسلّم الرداء إلى فاطمة، وجاءت به إلى أُمّها، فسرّت به سروراً عظيماً.

فلمّا توفّيت خديجة أخذ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في تجهيزها، وغسّلها وحنّطها، فلمّا أراد أن يكفّنها هبطَ الأمين جبرئيل وقال: يا رسول اللّه، إنّ اللّه يقرئك السلام ويخصّك بالتحيّة والإكرام ويقول لك: يا محمّد، إنّ كفن خديجة من عندنا، فإنّها بذلت مالها في سبيلنا. فجاء جبرئيل بكفن، وقال: يا رسول اللّه، هذا كفن خديجة، وهو من أكفان الجنّة، أهداه اللّه إليها.

فكفّنها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بردائه الشريف، أوّلاً، وبما جاء به جبرئيل ثانياً، فكان لها كفنان: كفنٌ من اللّه، وكفنٌ من رسوله.

ثمّ صلّى عليها ونزل في قبرها، ولم يكن يومئذ سُنّة الجنازة.

وحزن النبي(صلی الله علیه و آله) عليها حزناً شديداً، وحزنت فاطمة لفراقها، فجعلت تلوذ بأبيها وتقول: أين أُمّي؟ وألحّت عليه بالقول: أين أُمّي، أين أُمّي؟

فنزل جبرئيل وقال: إنّ ربّك يأمرك أن تقرأ فاطمة السلام، وتقول لها: أُمّك في بيتٍ من قَصَبٍ كعابه من ذَهَبٍ، وعُمَدُهُ من ياقوت أحمر، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران.

هذا ما أردتُ تحريره في هذه الرسالة الوجيزة في «حياة مولاتنا وسيّدتنا أُمّ المؤمنين خديجة الكبرى صلوات اللّه عليها وعلى ابنتها».

ص: 202


1- . أقول: ليتكِ حاضرةٌ تَرَي ما حلّ بابنتك الصدّيقة: من حرق بابها ولطم خدّها وإسقاط جنينها! (المؤلّف).

والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً

كربلاء المقدّسة -- جعفر عبّاس الحائري

ص: 203

فهرس المصادر

1. الإبانة عن أُصول الديانة: أبو الحسن الأشعري (ت324ه )، تحقيق: بشير محمّد عيون، بيروت: مكتبة دار البيان، الطبعة الخامسة، 1424ه .

2.ابن عبّاس وأموال البصرة، جعفر مرتضي العاملي، بيروت، 1396ه .

3.أبو هريرة، عبدالحسين شرف الدين الموسوي، بيروت: دار الزهراء، 1406ه .

4.إتقان المقال، محمّد طه نجف، النجف الأشرف: المطبعة العلوية، 1340ه .

5. إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات،

محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (ت1104ه )، تحقيق: أبو طالب تجليل التبريزي، هاشم رسولي المحلّاتي، قم: المطبعة العلمية، الطبعة الثانية.

6. الاحتجاج على أهل اللجاج، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (ت620ه )، تحقيق: إبراهيم البهادري ومحمّد هادي به، طهران: دار الأُسوة، الطبعة الأُولى، 1413ه .

7. إحقاق الحقّ و إزهاق الباطل، القاضي نور اللّه ابن السيّد شريف الشوشتري (ت1019ه )، مع تعليقات السيّد شهاب الدين المرعشي، قم: مكتبة آية اللّه المرعشي، الطبعة الأُولى، 1411ه .

8.الاختصاص، المنسوب إلى أبي عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي، المعروف بالشيخ المفيد (ت413ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1414ه .

9.الاستغاثة، أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (ت352ه )، طهران: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1373ش.

الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي

1. محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

ص: 204

2. أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّ الدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

12 الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن الحجر العسقلاني (ت852ه )، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمّد معوّض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

13 أعيان الشيعة، السيّد محسن الأمين، تحقيق: السيّد حسن الأمين، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1406ه .

14 الأمالي للمفيد، أبو عبد اللّه محمّد بن النعمان العكبري البغدادي، المعروف بالشيخ المفيد (ت413ه )، تحقيق: حسين أُستاد ولي وعلي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1415ه .

15 . الأمالي، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، المعروف بالشيخ الصدوق (ت381ه )، تحقيق و نشر: مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الأُولى، 1417ه .

16 . الإمام زين العابدين علي بن الحسين ، عبدالرزّاق الموسوي المقرم، قم: دار الشبستري.

17 .إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون (السيرة الحلبية)، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، تحقيق: أحمد زيني دحلان، مصر: مكتبة الأزهرية، 1329ه .

18 .الأوائل، الحسن بن عبد اللّه بن سهل العسكري (أبو هلال) (ت395ه )، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولی، 1407ه .

.بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار:، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت1110ه )، تحقيق: دار إحياء التراث، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى،

15 1412ه .

16 .البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت774ه )، تحقيق: مكتبة المعارف، بيروت: مكتبة المعارف، الطبعة الثالثة، 1408ه .

17 .بلاغة الإمام علي بن الحسين ، جمع وتحقيق: جعفر عبّاس الحائري، قم: دار

ص: 205

الحديث، 1435ه .

18 .بيت الأحزان، الشيخ عبّاس القمّي، ترجمة: محمّد محمّدي اشتهاردي، نشر: ناصر، قم، الطبعة الثانیة، 1369ش

19 تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان (ت1332ه )، القاهرة: دار الهلال.

20 تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، الحسين بن محمّد الديار بكري (معاصر)، بيروت: مؤسّسة شعبان.

21 تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملو ذلك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968م.

22 تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، المعروف باليعقوبي (ت284ه )، بيروت: دار صادر.

23 تاريخ أهل البيت:، رواية كبار المحدّثين والمؤرّخين، تحقيق: محمّد رضا الحسيني، قم: مؤسّسة آل البيت:، الطبعة الأُولى، 1410ه .

24 تأسيس الشيعة لفنون الإسلام، حسن الصدر، 1354ه، الكاظمين: دار الكتب، 1370ه .

25 تذكرة الخواصّ (تذكرة خواصّ الأُمّة في خصائص الأئمّة:)، يوسف بن فُرغلي بن عبداللّه، المعروف بسبط ابن الجوزي (ت654ه )، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، طهران: مكتبة نينوى الحديثة.

26 تراجم سيّدات البيت النبوي، عائشه عبدالرحمن (بنت الشاطي)، القاهرة: دار الحديث، 1423ه .

15 التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهدي[، قم: مؤسّسة الإمام المهدي[، الطبعة الأُولى، 1409ه .

16 تفسير فرات الكوفي، أبو القاسم فرات بن إبراهيم الكوفي (ق4ه )، إعداد: محمّد كاظم المحمودي، طهران: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1410ه .

17 التمهيد في علوم القرآن: محمّد هادي معرفت، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة

ص: 206

الثانیة، 1416ه .

18 تنقيح المقال في علم الرجال، عبد اللّه بن محمّد حسن المامقاني (ت1351ه )، قم: آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1423ه .

19 التهذيب (تهذيب الأحكام في شرح المقنعة)، أبو جعفر محمّد بن الحسن، المعروف بالشيخ الطوسي (ت460ه )، بيروت: دار التعارف، الطبعة الأُولى، 1401ه .

20 تهذيب التهذيب، أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (ابن حجر) (ت852ه )، تحقيق: خليل مامون شيحا، عمر السلامي، علي بن مسعود، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1404ه، الطبعة الأُولى، 1417ه .

21 جامع الأُصول في أحاديث الرسول، مبارك بن محمّد بن محمّد (ابن الأثير الجزري) (ت606ه )، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، بيروت: مكتبة دار البيان، الطبعة الأُولى، 1389ه .

22 جمهرة أنساب العرب، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت، 1403ه .

23 جهاد الإمام السجّاد ، السيّد محمّدرضا الحسيني الجلالي، قم: دار الحديث، 1418ه .

24 الخصال، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، بيروت: مكتبة الصدوق، الطبعة الأُولى، 1389ه .

15 خلاصة الأقوال: العلّامة الحلّي (ت726ه )، تحقیق: جواد القيّومي، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولی، 1417ه .

16 دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام، النعمان بن محمّد التميمي المغربي (ت363ه )، تحقيق: آصف بن علي أصغر فيضي، مصر: دار المعارف، الطبعة الثالثة، 1389ه .

17 دلائل الإمامة، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري الإمامي (القرن الخامس الهجري)،

ص: 207

تحقيق: مؤسّسة البعثة، قم: مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1413ه .

18 ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، أبو العبّاس أحمد بن محمّد الطبري (ت694ه )، تحقيق: أكرم البوشي، جدّة: مكتبة الصحابة، الطبعة الأُولى، 1415ه .

19 ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت538ه )، تحقيق: سليم النعيمي، قم: منشورات الرضي، الطبعة الأُولى، 1415ه .

20 رجال الكشّي (اختيار معرفة الرجال) ، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت460ه )، تصحيح: ميرداماد الإسترآبادي، قم: مؤسّسة آل البيت:، 1404ه .

21 الروض الفائق في المواعظ والرقائق، شعيب بن سعد المصري، تحقيق: خليل المنصور، بيروت: دار الكتب العلمية، 1417ه .

22 روضة الواعظين. محمّد بن الحسن بن علي الفتّال النيسابوري (ت508ه )، تحقيق: حسين الأعلمي، بيروت: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1406ه .

23 السمط الثمين في مناقب أُمهات المؤمنين، محبّ الدين أحمد بن عبداللّه الطبري (ت694ه )، تحقيق: محمّد علي قطب، القاهرة: دار الحديث، 1408ه .

24 سنن ابن ماجة، أبو عبداللّه محمّد بن يزيد القزويني (ابن ماجة) (ت275ه )، تحقيق: محمّد فؤاد عبدالباقي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1395ه .

سنن الترمذي (الجامع الصحيح)، أبو عيسى محمّد بن عيسى الترمذي (ت279ه )،

15 تحقيق: عبدالوهّاب عبداللطيف، أحمد محمّد شاكر، بيروت: دار الفكر، دار إحياء التراث، 1357ه .

16 سير أعلام النبلاء، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1414ه .

17 سيرة ابن إسحاق، أبو عبداللّه محمّد بن إسحاق بن يسار المطلبي (ت151ه )، تحقيق: محمّد حميد اللّه، المغرب: معهد الدراسات و الأبحاث للتعريب، الطبعة الأُولی، 1369ه .

18 السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بيروت: دار

ص: 208

الإحياء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

19 السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

20 الشافي في الإمامة، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، المعروف السيّد المرتضى (ت436ه )، تحقيق: عبدالزهراء الحسيني الخطيب، طهران: مؤسّسة الإمام الصادق ، الطبعة الثانية، 1410ه .

21 شرح نهج البلاغة، عبد الحميد بن محمّد المعتزلي (ابن أبي الحديد) (ت656ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الثانية، 1387ه .

22 شفاء السقام في زيارة خير الأنام، تقي الدين علي بن عبدالكافي السبكي (ت756ه )، بيروت: دار الجيل، 1411ه .

23 الصحاح تاج اللغه وصحاح العربیة، إسماعيل بن حمّاد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطّار، بيروت: دار العلم للملايين، 1376ه .

24 صحيح البخاري، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الرابعة، 1410ه .

15 صحيح مسلم (الجامع الصحيح) ، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج النيسابوري (ت261ه )، تحقيق و نشر: دار الفكر، بيروت.

16 صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (ت261ه )، تحقيق: محمّد فؤاد عبدالباقي، القاهرة: دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

17 الصحيح من سيرة النبي الأعظم، جعفر مرتضى العاملي (معاصر)، بيروت: دار الهادي، الطبعة الرابعة، 1415ه .

18 صفة الصفوة، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي) (ت597ه )، تحقيق: محمود فاخوري و محمّد قلعة جي، حلب: دار الوعي، الطبعة الأُولى، 1389ه .

19 الطرف، أبو القاسم علي بن موسی بن طاووس الحلّي الحسني (ت664ه )، تحقيق:

ص: 209

قيس العطّار، مشهد: تاسوعا، 1378.

20 بنات النبي أم ربائبه، جعفر مرتضی العاملي، قم، 1413ه .

21 العقد الفريد، أبو عمر أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي (ت328ه )، تحقيق: أحمد أمين أحمد الزين وإبراهيم الأبياري، بيروت: دار الأندلس، الطبعة الأُولى، 1408ه .

22 عمدة القاري، أبو محمّد محمود بن أحمد العيني (ت855ه )، تحقيق و نشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

23 عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير (السيرة النبوية لابن سيّد الناس)، محمّد عبد اللّه بن يحيى بن سيّد الناس (ت734ه )، بيروت: مؤسّسة عزّ الدين، 1406ه .

24 الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، عبد الحسين بن أحمد الأميني (ت1390ه )، بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، 1387ه .

فاطمة الزهراء من المهد إلى اللّحد، السيّد محمّد كاظم القزويني، بيروت: مؤسّسة

15 النور المطبوعات، 1411ه .

16 الفوائد البهية في تراجم الحنفية، محمّد عبدالحي اللكنوي الهندي (ت1304ه )، تحقيق: نعيم أشرف نور أحمد، پاكستان: إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، 1419ه .

17 الفهرست، أبو جعفر محمّد بن حسن الطوسي (ت460ه )، تحقيق: الشيخ جواد القيّومي، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1417ه .

18 قاموس الرجال، الشيخ محمّد تقي بن كاظم التستري (ت1320ه )، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1419ه .

19 قرب الإسناد، أبو العبّاس عبد اللّه بن جعفر الحِمْيري القمّي (ت بعد 304ه )، تحقيق: مؤسّسة آل البيت:، قم: مؤسّسة آل البيت:، الطبعة الأُولى، 1413ه .

20 الكافي، أبو جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت329ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، طهران: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية، 1389ه .

21 كتاب من لا يحضره الفقيه، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي

ص: 210

(الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1404ه .

22 كشف الغُمّة، علي بن عيسى الإربلي (ت687ه )، تصحيح: سيّد هاشم رسولي، بيروت: دار الكتاب، 1401ه .

23 كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب ، أبو عبد اللّه محمّدبن يوسف بن محمّد الگنجي الشافعي (ت658ه )، تحقيق: محمّد هادي الأميني، طهران: دار إحياء تراث أهل البيت:، الطبعة الثالثة، 1404ه .

24 كنز العُمّال، علي بن حسام الدين المتّقي الهندي (ت975ه )، تصحيح: صفوة السقّا، بيروت: مكتبة التراث الإسلامي، 1397ه .

25 الكنى والألقاب، الشيخ عبّاس القمّي (ت1359ه )، طهران: مكتبة الصدر، الطبعة الرابعة، 1397ه .

15 الكشّاف، محمود بن عمر الزمخشري (ت538ه )، بيروت: دار المعرفة.

16 لسان الميزان، أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (ابن حجر) (ت852ه )، بيروت: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الثالثة، 1406ه .

17 المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية، محسن الأمين، بيروت: دار التعارف، 1406ه .

18 مجمع البحرين: الطريحي (ت1085ه )، تحقيق: أحمد حسيني، مكتب النشر الثقافة الإسلامية، الثانية، 1408ه .

19 المحاسن، أبو جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي القمّي (ت280ه )، تحقيق: السيّد جلال الدين حسيني طهران: دار الكتب الإسلامية، السيّد مهدي الرجائي، قم: المجمع العالمي لأهل البيت:، الطبعة الأُولى، 1413ه .

20 المُحبَّر، أبو جعفر محمّد بن حبيب الهاشمي البغدادي (ت245ه )، تحقيق: ايلزه ليختن شتيتر، بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر، مطبعة الدائرة، 1361ه .

21 المراجعات، عبد الحسين شرف الدين العاملي (ت1377ه )، تحقيق: حسين الراضي

ص: 211

، قم: دار الكتاب الإسلامي.

22 مروج الذهب ومعادن الجوهر، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت346ه )، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الرابعة، 1384ه .

23 المسائل السروية (مصنّفات الشيخ المفيد)، محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري (الشيخ المفيد) (ت413ه )، تحقيق: صائب عبد الحميد، قم: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، 1413ه .

24 مسارُّ الشيعة في مختصر تواريخ الشريعة، محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري (الشيخ المفيد) (ت413ه )، تحقيق: مهدي نجف، قم: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأُولی: 1413ه .

15 مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، الميرزا حسين النوري الطبرسي (ت1320ه )، تحقيق: مؤسّسة آل البيت:، قم: مؤسّسة آل البيت:، الطبعة الأُولى، 1407ه .

16 المستدرك على الصحيحين، أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الحاكم النيسابوري (ت405ه )، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1411ه .

17 مسند أحمد. أحمد بن محمّد بن حنبل الشيباني (ت241ه )، تحقيق: عبداللّه محمّد الدرويش، بيروت: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1414ه .

18 مسند فاطمة الزهراء، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه )، تحقيق: فوّاز أحمد زَمَرلي، بيروت: دار ابن حزم، الطبعة الأُولی: 1414ه .

19 مطالب السؤول في مناقب آل الرسول:، أبو سالم محمّد بن طلحة النصيبي الشافعي (ت652ه )، تحقيق: ماجد أحمد العطية، بيروت: مؤسّسة أُمّ القرى، الطبعة الأُولى، 1420ه .

20 معجم الأُدباء، ياقوت بن عبداللّه الحموي (ت626ه )، تحقيق: إحسان عبّاس، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1993م.

21 معجم البلدان، أبو عبد اللّه ياقوت بن عبد اللّه الحموي (ت626ه )، بيروت: دار إحياء

ص: 212

التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1399ه .

22 مقاتل الطالبيين، أبو الفرج علي بن الحسين بن محمّد الأُمَوي الإصبهاني (ت356ه )، تحقيق: السيّد أحمد صقر، قم: منشورات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1414ه .

23 مقتل الحسين ، أبو المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزمي (ت568)، تحقيق: الشيخ محمّد سماوي، منشورات مكتبة المفيد، قم.

24 مناقب آل أبي طالب (المناقب لابن شهرآشوب)، أبو جعفر محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ابن شهرآشوب) (ت588ه ) تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي، قم: منشورات علام.

15 منتخب الأنوار في تاريخ الأئمّة الأطهار:، أبو علي محمّد بن همام الإسكافي (ت336ه ) تحقيق: عليرضا هزار، قم: دليل ما، 1422ه .

16 منتهى المقال في أحوال الرجال، محمّد بن إسماعيل المازندراني حائري، قم: مؤسّسة آل البيت:، 1416ه .

17 ميزان الاعتدال في نقد الرجال، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار المعرفة، الطبعة الأُولى، 1382ه .

18 الميزان في تفسير القرآن (تفسير الميزان)، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي (1402ه )، قم: منشورات جماعة المدرّسين، طبع: مؤسّسة إسماعيليان، الطبعة الثانية، 1394ه .

19 نزهة المجالس ومنتخب النفائس (المجالس للصفوري)، عبد الرحمن الصفوري الشافعي، بيروت: دار الإيمان.

20 نسب قريش، مصعب بن عبد اللّه الزبيري (ت236ه )، تحقيق: بروفنسل، القاهرة: دار المعارف.

21 نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار، مؤمن بن حسن الشبلنجي (ت بعد 1298ه )، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1398ه .

22 النهاية في غريب الحديث والأثر، مبارك بن مبارك الجَزَري (ابن الأثير) (ت606ه )،

ص: 213

تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، قم: مؤسّسة إسماعيليان، الطبعة الرابعة، 1367ش.

23 وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العبّاس أحمد بن محمّد البرمكي (ابن خلّكان) (ت681ه )، تحقيق: إحسان عبّاس، بيروت: دار صادر، الطبعة الأُولى، 1397ه .

24 ينابيع المودّة لذوي القربى، سليمان بن إبراهيم القُندوزي الحنفي (ت1294ه )، تحقيق: سيّد علي جمال أشرف الحسيني، طهران: دار الأُسوة، الطبعة الأُولى، 1416ه .

ص: 214

14. خدیجة الکبری مثل أعلی للمرأة المسلمة

اشارة

* خدیجة الکبری مثل أعلی للمرأة المسلمة (1)

عزّ الدین سلیم

ملخّص البحث:

هذا البحث يتّبع المنهج التحليلي في قراءته للتاريخ، ويقدّم صورة عن نظرة الإسلام إلى شؤون الحياة والمجتمع، ومنها نظرته إلى المرأة. وهو يعرض هنا ما كان سائداً في زمان الجاهلية من نظرة دونية إلى المرأة؛ تستخفّ بها وتستهين بوجودها وتهبط بدورها في الحياة إلى مجرّد مخلوق ثانوي بجانب الرجل. وينقد في بحثه هذا المنهج الذي سار عليه العالم الغربي الحديث في نظرته إلى المرأة واتّخاذها أداةً ووسيلة مع تهميش دورها الإنساني. ويرسم الكاتب بين ثنايا البحث هذه الصورة الناصعة التي يتطلّع الإسلام إلى تحقيقها في مختلف مناحي الحياة، والدور الريادي الذي أراده للمرأة أن تضطلع به. ثمّ يعرّج على ذكر السيّدة خديجة بنت خويلد، ويقدّم سرداً عن نسبها وحسبها وصفاتها، والظروف التي عاشت فيها، وما كان لها من المال والعمل في التجارة، وشرفها وعلوّ مكانتها بين قومها. ويجعل من حياتها ومواقفها وتضحياتها مثالاً باهراً يدعو النساء المسلمات إلى اتّباعه والسير على خُطاه. وعندما يأتي هذا البحث على نقل النصوص والمرويات التاريخية، لا يأخذ بها على علّاتها، بل ينظر إليها نظرة ناقدة، ومن ذلك - مثلاً - إنكاره لزواج خديجة برجلين قبل النبي(صلی الله علیه و آله)، حيث يثبت

ص: 215


1- رسالة الثقلین، العدد 33 (فروردین 1379): ص41 - 67، والعدد 34 (تیر 1379): ص66 - 89.

بالأدلّة أنّ زواجها بالنبي كان زواجها الأوّل. كما يُبرز دور خديجة في توفير مستلزمات الصمود للنبي(صلی الله علیه و آله) معنوياً ومادّياً، للمضي قدُماً في إبلاغ رسالته. وجاء على ذكر أقوال الأعلام من الماضين والمعاصرين في الثناء عليها.

مدخل للدراسة

کانت جزیرة العرب وما حولها ظمأی ترهقها الجاهلیة بعذاباتها وسیاط طیشها، حین تفجّر ینبوع الإسلام الهادي کنبع من الماء الصافي الرقراق في تلك الصحاری المجدبة من کلّ خیر، من أجل أن یروّی عطش الدنیا إلی الحقّ والهدی والسلام.

لقد جاء الإسلام الحنیف بدعوته إلی الخیر والمعروف والعدل والصلاح، بلسماً لجراح المعذّبین والمظلومین في الأرض، وکانت المرأة أکثر عباد اللّه نصیباً من هذا الخیر المنقذ.

فالمرأة قبل الإسلام کانت نهباً للظلم أکثر من سواها، فقد کانت بعض الحضارات تنظر إلی المرأة کشیطان متلبّس في جسم بشر، کما کانت بعض المجتمعات تنظر إلیها کمخلوق نجس لا یستحقّ الرحمة، وتری فیها بعض الأُمم حیواناً في جسم إنسان، أو هي شيء حقیر یملکه الرجال من أجل أن یحقّقوا لذّاتهم الجنسیة، کما هي مصنع لانتاج ذرّیة الرجل.

وقد زادت الحضارة الأُوربّیة الحدیثة الطین بلّة حین حُوّلت المرأة إلی أداة للجنس والمتعة والکسب المادّي، حیث شاعت بناءً علی ذلك الفوضی الجنسیة، وضاعت الأنساب في أُوربا ومن سار علی نهجها من الأُمم، وصارت المرأة سلعة یتناولها الرجال متی شاؤوا باسم حرّیة المرأة وحقوقها، علی أنّ المرأة لم تحظَ في تاریخ حیاتها برعایة مناسبة لطبیعتها المادّیة والروحیة، کما حظیت به في رحاب الرسالة الإلهیّة الخاتمة، حیث حفظ لها الإسلام حقوقها وکرامتها ومکانتها في جوٍّ من العفّة

والطهر والعزّة، وفي إطار من الموازنة العادلة بین حقوقها وواجباتها في ضوء القدرات التکوینیة التي حباها اللّه لها، وفي ضوء المهمّة العظمی التي أُنیطت بها کشریکة

ص: 216

للرجل في إثارة الحیاة، وفي صناعة المجد وبناء الحضارة الإنسانیة الصالحة.

ولقد أرسی الإسلام الحنیف قواعد تلك الحقوق الفریدة التي خصّ بها المرأة من خلال نصوصه الأصیلة:

1. فالإسلام یؤکّد أنّ المرأة والرجل صنوان یجمعهما أصل واحد وجوهر واحد، وکلاهما ینتسبان لآدم وآدم من تراب: (يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً...)(1)، (وَ ٱللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَ حَفَدَةً)(2)، (هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)(3).

2. ومع تقنین الإسلام ودعواته الصریحة المحدّدة لمکانة المرأة في الحیاة والواقع الإنساني الذي یبنیه تحت رعایته، یشنّ الإسلام حملته علی المظالم والممارسات والأوضاع التي عانت منها المرأة عبر التاریخ، لیدفع عنها الأذی ویعید حقوقها المسلوبة، فیهاجم عادة وأد النساء عند بعض قبائل العرب، ویلغي تکرارها قانونیاً وأخلاقیاً: (وَ إِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ ٭ وَ إِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ)(4)، (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ...).(5)

ویلغي الإسلام الحنیف عملیات الامتهان والأذی في عشرة النساء، ویقنّن

معاملتهنّ بالمعروف والحسنی: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَئْا وَيَجْعَلَ ٱللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)(6).

3. والإسلام لا یعتبر الرجولة والذکورة أساساً للتکریم والمواقع في الحضارة التي

ص: 217


1- . النساء: 1.
2- . النحل: 72.
3- . الاعراف: 189.
4- . التکویر: 4 5.
5- . الأنعام: 151.
6- . النساء: 19.

یبنیها، ولا في الواقع التي یحقّقها البشر في الآخرة، أو ینالها في الحساب الإلهي، وإنّما المقیاس في رسالة اللّه الخاتمة إنّما هو الإیمان والعمل الصالح: (... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(1).

فمن عمل وفق أوامر اللّه ونواهیه، حقّق نتائج عمله، لا فرق في ذلك بین رجل وامرأة في هذه القضیة المصیریة: (إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَ ٱلْمُسْلِمَاتِ وَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَ ٱلْقَانِتِينَ وَ ٱلْقَانِتَاتِ وَ ٱلصَّادِقِينَ وَ ٱلصَّادِقَاتِ وَ ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّابِرَاتِ وَ ٱلْخَشِعِينَ وَ ٱلْخَشِعَاتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَ ٱلْمُتَصَدِّقَاتِ وَ ٱلصَّائِمِينَ وَٱلصَّائِمَاتِ وَ ٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ ٱلْحَافِظَاتِ وَ ٱلذَّاكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرًا وَ ٱلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ ٱللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَ أَجْرًا عَظِيمًا)(2).

4. ویقنّن الإسلام الحنیف مضمون العلاقة الزوجیة بین الرجل والمرأة في إطار من المودّة والرحمة: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)(3)، (وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَ رَحْمَةً...)(4).

وبناءً علی هذه المفاهیم الإسلامیة الأصیلة، شهدت الحیاة التي لوّنها الإسلام بلونه الممیّز مکانة خاصّة للمرأة، واحتلّت موقعاً إلی جانب الرجل لم تجد له البشریة مثیلاً من قبل، سواء في إطار الأُسرة والمجتمع، أو في إطار الدعوة والدولة.

ومن أجل ذلك، شهد تاریخ الرسالة الإسلامیة نساءً مؤمنات وقفن إلی جانب

الدعوة الإلهیّة في بدایاتها، یبذلن الغالی والرخیص من أجل کلمة اللّه في الأرض، حتّی ارتفعت بعضهنّ إلی مواقع لم ینلها ملایین الرجال، من أمثال: خدیجة بنت خویلد، وسیّدة نساء العالمین فاطمة الزهراء، وأُمّ سلمة، وزینب بنت علي، وغیرهنّ من بنات الرسالة.

وفي هذا البحث المتواضع نقدّم للقارئ الکریم دراسة لحیاة السیّدة الخالدة

ص: 218


1- . الحجرات: 12.
2- . الأحزاب: 35.
3- . البقرة: 187.
4- . الروم: 21.

خدیجة بنت خویلد أُمّ المؤمنین الأُولی(علیها السلام)، لتکون نموذجاً یُحتذی من قبل المسلمات في کلّ عصر وجیل، وقدوة للمؤمنات الحاملات للحقّ، الباذلات للمعروف والحافظات لحدود اللّه.

الهویة الشخصیة، من هي السیّدة خدیجة أُمّ المؤمنین؟

احتلّت خدیجة زوج النبي(صلی الله علیه و آله) الذروة من قریش في نسبها وشرفها، فهي من القوادم في کیان قریش لا من أذنابها.

وکانت من عقائل قریش وسیّدة نساء مکّة، وهي تلتقي برسول اللّه محمّد بن عبداللّه(صلی الله علیه و آله) من جهة أبیها بالجدّ الأعلی الشریف «قصي»، ومن جهة أُمّها بلؤي بن غالب، فهي قرشیة أباً وأُمّاً، ومن الشجرة الطیّبة في قریش.

فمن جهة أبیها هي: خدیجة بنت خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصي بن کلاب بن مرّة بن لؤي بن غالب بن مهر بن مالم بن النضر بن کنانة.

وأُمّها: فاطمة بنت زائدة بنت الأصمّ (واسمه جندب) بن رواحة الهرم ابن حجر بن عبد بن معیص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر(1).

ویحفظ التاریخ من مفاخر أبیها «خویلد بن أسد» أنّه تصدّی لتبع ملك الیمن وحال بینه وبین السطو علی الحجر الأسود وحمله إلی مملکته في الیمن.

ومنذ مطلع حیاة السیّدة خدیجة، کانت قریش تتوسّم فیها النبل والطهر وسموّ الأخلاق، حتّی لُقّبت بالطاهرة(2)، کما لُقّبت بسیّدة قریش؛ بالنظر لعلوّ شأنها وشرف منبتها وکرم أصلها وحمید أفعالها.

الأمر الذي یفسّر السرّ المکنون بامتناع خدیجة من الاقتران بأيّ أحد من قریش،

ص: 219


1- . یراجع ابن المغازلي الشافعي أبا الحسن بن علي بن محمّد بن محمّد الواسطي الجلالي (ت 483ه ) في مناقب علي بن أبي طالب ط 2 عام 1402ه طهران: ص329 - 330. کما یُراجع نسبها في السیرة النبویة لابن هشام: ص187 - 189 والسیر والمغازي لابن إسحاق: ص82 وغیرها.
2- . ترجمة خدیجة في الاستیعاب لابن عبدالبرّ، وأبو نعیم في حلیة الأولیاء.

حتّی توفّرت ظروف اقترانها برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، رغم ما بذل علیه قومها من محاولات لزواجها، إلّا أنّها کانت ترفضهم جمیعاً منتظرة أمراً ما سیحدث في حیاتها، فیکمل شوط مسیرتها نحو الکمال الذي اختاره اللّه ، والذي عبّر عنه النبي الصادق الأمین بقوله: «حسبك من نساء العالمین أربع: مریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون، وخدیجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمّد»(1).

وممّا تجدر الإشارة إلیه أنّ هذه المرأة الجلیلة قد وُلدت قبل عام الفیل ببضع سنوات، وتزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وعمرها ثمان وعشرون سنة، کما روی ابن عبّاس (2)، وإن کان زواجها في غیر هذا السنّ هو الذي اشتهر خطأً.

وهي أوّل امرأة أسلمت للّه ربّ العالمین، وصدّقت برسالة محمّد(صلی الله علیه و آله). هذا، ومن الجدیر ذکره أنّ السیّدة خدیجة قد توفّیت قبل فرض الصلاة وقبل(3) الهجرة إلی المدینة بثلاث سنین.

وسنتعرّض لتفصیل هذه الأُمور في الأبحاث القادمة إن شاء اللّه تعالی.

لسان الحقّ یتحدّث عن خدیجة

کانت السیّدة خدیجة رغم نبلها وشرفها ومکانتها في الناس وسیادتها في بني أسد ونساء قریش، وهي صفات کفیلة لوحدها لأن تؤهّلها للرعایة والمحبّة والرضا من لدن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، إلّا أنّها فوق ذلك قد وهبت کلّ وجودها للّه ورسوله ودعوة الحقّ التي صدع بها.

فقد وهبت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) کلّ أموالها لیغطّي بها نفقات الدعوة والدعاة المستضعفین. ولقد عاصرت أشدّ الظروف قسوةً فما نالت من قناتها أبداً، وتحدّت أصعب الأزمات وأکثر المواقف عسراً، وصبرت علی الأذی في جنب اللّه ، وسمت بذلك علی نعیمها الدنیوی السابق، ورکلت اخضرار العیش الذي اعتادته برجلیها، لتعیش مع النبي(صلی الله علیه و آله)

ص: 220


1- . ابن المغازلي الشافعي، المصدر نفسه: ص363 نقلاً عن الترمذي في جامعه الصغیر: ج5 ص367 وابن عبدالبرّ في الاستیعاب والحاکم في المستدرك: ج3 ص157 بطریق ابن حنبل وغیرهم.
2- . کشف الغمّة للإربلي: ج2 ص135 وبحار الأنوار: للمجلسي: ج16: ص12 وغیرهما.
3- . کشف الغمّة في معرفة الأئمّة: ص134 و11 نقلاً عن عروة بن الزبیر بن العوّام.

محنته وآلامه التي صبّتها علیه قریش وحلفاؤها، وظلّت طوال عشر سنین من المحنة تبثّ الأمل في قلب الرسول، وتشدّ من أُزره، وتقوّي من عزیمته علی مواصلة المسیر، وأنت خبیر بما تؤدّیه مواقف المرأة المشجّعة لزوجها من أثر إیجابي علی الاستمرار في الصمود والمواجهة وشدّ العزیمة.

وقد کانت أعظم مواقفها الجهادیة في تحدّیها لمحنة حصار شِعب أبي طالب الذي فُرض علی بني هاشم من قبل قریش وحلفائها.

فقد کان لمواقف السیّدة خدیجة المعروفة لإضعاف قبضة الحصار أثرها الواضح المخلّد في التخفیف من أضرار حصار المشرکین علی الدعوة وأنصارها.

إنّ هذه الظواهر العظیمة التي تفیض إیماناً وصدقاً، وصبراً واحتساباً وإخلاصاً للنبي(صلی الله علیه و آله) ودعوته، هي التي أهّلت أُمّ المؤمنین الأُولی خدیجة بنت خویلد علیها الصلاة والسلام لاحتلال مواقع ودرجات لم توفّق لها أیّة سیّدة من أزواج النبي(صلی الله علیه و آله) علی الإطلاق.

من أجل ذلك راح رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یکشف عن تلك المکانة السامقة التي بلغتها السیّدة خدیجة في موقعها عند النبي(صلی الله علیه و آله)، وفي مکانتها عند الرسالة الإلهیّة، وفي درجتها عند اللّه .

اللّه یُقرئها السلام ویُبشّرها

فقد روی أصحاب الصحاح عن أبي هریرة ما یلي: قال: أتی جبرئیل إلی النبي(صلی الله علیه و آله)، فقال: «یا رسول اللّه، هذه خدیجة قد أتت ومعها إناء فیه أدم أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك، فأقرأ(علیها السلام) من ربّها ومنّی وبشّرها ببیت في الجنّة من قصب، لا صخب فیه ولا نصب. فأخبر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خدیجة بما قال جبرئیل، فقالت: اللّه هو السلام، ومنه السلام، وعلی جبرئیل السلام»(1).

وهکذا ندرك البعد الحقیقي لوعیها وفهمها واستیعابها لمضامین الرسالة الإلهیّة المبارکة.

ص: 221


1- . صحیح البخاري (باب تزویج النبي خدیجة وفضلها رقم 3821)، وصحیح مسلم (باب فضائل خدیجة أُمّ المؤمنین: ج4 ص1887) والترمذي، وغیرها. والقصب هنا: الجوهر المجوّف.

رُزِقتُ حبّها

ولعمیق حبّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للسیّدة خدیجة، فإنّه کان یصرّح بهذه المودّة جهاراً طوال حیاته، بل کان یصرّح بحبّ من یحبّها ویکرمه.

وهذا الإعلان النبوي عن حبّه لأُمّ المؤمنین الأُولی(علیها السلام) لم تحکمه العاطفة العادیة، فعواطف الرسول محکومة هي الأُخری بقیم السماء وضوابط الحقّ، ومن أجل ذلك، فقد أمر اللّه الناس أن یتّبعوا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فیما یشرع ویرشد وفیما ینهي ویمنع، ما یقرّره في رضاه حقّ کما یقرّره في غضبه: (مَا ءَاتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)(1)، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللهُ ...)(2).

ومن هنا، فإنّ ما یصدر من ثناء نبويّ علی حدث أو أحد من عباد اللّه ، فهو حقّ وعدل، وما یصدر من ذمّ وعدم رضا عن أمر أو عن أحد من الناس، فهو حقّ لاشكّ فیه.

فقد أخرج البخاري ومسلم وغیرهما من أصحاب الصحاح والسنن عن عائشة بنت الخلیفة أبي بکر ما یلي: «ما غرتُ علی أحدٍ من نساء النبي(صلی الله علیه و آله) ما غرتُ علی خدیجة، وما رأیتها قطّ، ولکن کان یکثر من ذکرها، وربّما ذبح الشاة ثمّ یقطّعها أعضاءً ثمّ یبعثها في صدائق خدیجة، وربّما قلت له: کأنّه لم یکن في الدنیا امرأة إلّا خدیجة؟! فیقول: إنّها کانت وکانت، وکان لي منها ولد».

وفي روایة مسلم: «وکان إذا ذبح الشاة یقول: ارسلوا بها إلی أصدقاء خدیجة. قالت: فأغضبته یوماً فقلت: خدیجة؟ فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): إنّي قد رُزقت حبّها»(3).

النبي(صلی الله علیه و آله) یعدّد بعض خصائص خدیجة

ولم یکتف النبي الأعظم بذلك، وإنّما یدخل في بعض التفاصیل التي تدعوه أن یکرم السیّدة خديجة(علیها السلام) ویتشبّث بودها وإکبارها رغم فراقها.

ص: 222


1- . الحشر: 7.
2- . آل عمران: 31.
3- . البخاري رقم (3818) في مناقب الأنصار (باب تزویج النبي خدیجة وفضلها) فتح الباري: ج7 ص133، مسلم رقم (2435) في فضائل الصحابة (باب فضائل خدیجة أُمّ المؤمنین): ج4 ص 1888، الترمذي رقم (3875) في المناقب (باب فضل خدیجة): ج5 ص659.

فعن عائشة قالت: «استأذنت هالة بنت خویلد أُخت خدیجة علی رسول اللّه، فعرف استئذان خدیجة، فارتاح لذلك، فقال: اللّهمّ هالة بنت خویلد!

عائشة: فغرتُ، فقلت: وما تذکر من عجوز من عجائز قریش حمراء الشدقین، هلکت في الدهر فأبدلك اللّه خیراً منها ؟!

فغضب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: لا واللّه، ما أبدلني اللّه خیراً منها، لقد آمنت بي حین کفر بي الناس، وصدّقتني حین کذّبني الناس، وواستني حین حرمني

الناس، ورزقني اللّه ولدها إذ حرمني أولاد النساء»(1).

ولقد عاشت السیّدة خديجة(علیها السلام) تحت کنف النبي(صلی الله علیه و آله) خمسة وعشرین عاماً، لم یجد منها غیر الإکرام والمحبّة والصفاء والطاعة وعرفان الجمیل، فبادلها ودّاً بودّ ووفاءً بوفاء، فلم یتزوّج علیها حتّی توفّیت.

ولقد دعا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عام وفاتها عام حزن للأُمّة الخاتمة کلّها.

ورغم أنّه تزوّج بضعة من النساء بعد وفاتها ومن مختلف الطبقات والأعمار والقبائل، وفیهنّ الجمیلة والرشیدة الودود، إلّا أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بقي قلبه متعلّقاً بها وفیاً لها، یحفظ لها عواطفها ومشاعرها، ویثمّن ودّها ودورها العظیم في نصرته طوال أیّام محنته مع أعداء الدعوة.

لقد کان یذکرها جهاراً، حتّی أنّه لا یملّ من کثرة ذکرها والثناء علیها، ویترحّم علیها، ویبکي لفراقها، حتّی غارت منها بعض نسائه وامتلأت منها حسداً وهي في قبرها.

تقول عائشة بنت أبي بکر: «ما رأیت خدیجة قطّ، ولا غرت علی امرأة من نسائه أشدّ من غیرتي علی خدیجة؛ وذلك من کثرة ما کان یذکرها».

وتقول(2) عائشة أیضاً: «ما غِرتُ علی أحدٍ من أزواج النبي، ما غِرتُ علی خدیجة، وما بي أن أکون أدرکها، وما ذاك إلّا لکثرة ذکر رسول اللّه لها، وإن کان ممّا یذبح الشاة

ص: 223


1- . صحیح البخاري رقم 3821 (باب تزویج النبي خدیجة )، وصحیح مسلم (باب فضائل خدیجة)، وابن حنبل في المسند الطبراني. وتوجد اختلافات لفظیة بسیطة بین الرواة هؤلاء: فعرف استئذان خدیجة صوت هالة کصوت خدیجة، فذکر الرسول بصوت هالة صوت خدیجة. حمراء الشدقین: سقطت أسنانها لکبرها فاحمرّت لثّتها.
2- . مستدرك الصحیحین: ج3 ص186.

یتبع بها صدائق خدیجة، فیهدیها لهنّ»(1).

وکان یقول: «إنّی لأُحبّ حبیبها»(2).

وعن علی قال: «ذکر النبي(صلی الله علیه و آله) خدیجة یوماً وهو عند نسائه

فبکی، فقالت عائشة: ما یُبکیك علی عجوز حمراء من عجائز بني أسد؟! فقال: صدّقتني إذ کذّبتم، وآمنت بي إذ کفرتم، وولدت لي إذ عقمتم...»(3)، «وروي أنّ عجوزاً دخلت علی النبي(صلی الله علیه و آله) فلاطفها، فلمّا خرجت سألته عنها عائشة، فقال: إنّها کانت تأتینا زمن خدیجة، وإنّ حسن العهد من الإیمان».

عن عائشة: «قالت: لم یتزوّج النبي علی خدیجة حتّی ماتت. قالت: ما رأیت خدیجة قطّ ولا غِرتُ علی امرأةٍ من نسائه أشدّ من غیرتي علی خدیجة؛ وذلك من کثرة ما کان یذکرها»(4).

عن أبي نجیح عبداللّه بن أبي نجیح، قال: «أُهدي لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جزور ولحم، فأخذ عظماً منها فناوله الرسول بیده، فقال له: اذهب بهذا إلی فلانة، فقالت عائشة: لِمَ غمرتَ یدیك؟ فقال : إنّ خدیجة أوصتني بها، فغارت عائشة من کلامه وقالت: کأنّما لیس في الأرض امرأة إلّا خدیجة! فقام رسول اللّه مغضباً، فلبث ما شاء اللّه، ثمّ رجع فإذا أُمّ رومان(5)، فقالت: یا رسول اللّه، مالك ولعائشة؟ إنّها لحدثة، فقال: ألیست القائلة: کأنّما لیس في الأرض امرأة إلّا خدیجة؟ واللّه لقد آمنت بي إذ کفر قومك، ورُزِقت منّي الولد وحرمتیه».

وهکذا تتجلّی مکانة أُمّ المؤمنین الکبری خدیجة بنت خویلد(علیها السلام) کما نطق بها لسان الحقّ المقدّس.

ص: 224


1- . أُسد الغابة: ج5 ص438.
2- . الإصابة: ج4 ص275.
3- . کشف الغمّة للإربلي: ج2 ص131.
4- . مقتل الحسین للخوارزمي: ج1 ص27.
5- . مقتل الحسین للخوارزمي: ج1 ص27. و أُمّ رومان: والدة عائشة.

خدیجة والحیاة الجدیدة

مقدّمة تاریخیة ضروریة

قبل الحدیث عن زواج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالسیّدة خدیجة بنت خویلد(علیها السلام)، لابدّ من التذکیر أنّ هذا الموضوع قد تعرّض إلی التشویه إلی حدٍّ کبیر، إمّا لعوامل سیاسیة تاریخیة أو لعوامل الغیرة والحسد التي اتّصفت بها بعض أزواج النبي(صلی الله علیه و آله) بصورة غیر اعتیادیة.

وأهمّ المواضیع التي نالها التزییف والتشویه هو: الادّعاء بأنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) کان هو الزوج الثالث لخدیجة، بعد أن کانت قد تزوّجت باثنین من سائر الناس واحد بعد الآخر، تُسمّي الروایات الموضوعة أحدهما بعتیق بن عابد المخزومي، ویُدعی الآخر بأبي هالة هند بن زرارة بن نبّاش التمیمي، ثمّ عاشت بعد وفاة الثاني أیِّماً، حتّی خطبها رسوله اللّه(صلی الله علیه و آله). هکذا تصوّر الأخبار المنسوبة قصّة الحیاة الاجتماعیة الزوجیة لخدیجة.

ونفس المصادر التي تروي قصّة زواجها الأوّل والثاني تذکّر بإصرار، أنّ خدیجة عقیلة قریش کانت قد خطب ودّها سادة القبائل وعظماء قریش، ولکنّها تعرض عنهم في کلّ مرّة بإباء سمح، وترغب عنهم مترفّعة مع تواضع لا یحطّ من قدر الخاطبین.

ولقد ذکر المؤرّخون أنّ من جملة من خطبها کان أبا جهل وأبا سفیان وعقبة بن أبي معیط والصلت بن أبي یهاب، وغیرهم من سادة القوم وعلّیتهم.

کما تقع المصادر نفسها في تشوّش وتناقض شدیدین بالنسبة للزوجین المزعومین، فبعض المصادر تسمّي أحدهما أبا شهاب عمرو الکندي، وتُسمّیه أُخری مالك ابن النبّاش بن زرارة التمیمي، وأُخری تُسمّیه هند ابن النبّاش، وأُخری تُسمّیه النبّاش بن زرارة.

وأمّا من دُعي بعتیق بن عائذ المخزومي وهو الزوج الثاني المفترض، فقد سمّته

بعض المصادر عتیق بن عابد التمیمي(1)، إلی غیر ذلك. وهکذا تشرّق الادّعاءات وتغرّب دون ضابطة صحیحة ولا إشارة من علم!

ص: 225


1- . لمعرفة التناقض راجع بحار الأنوار: ج16 ص22، والصحیح من سیرة النبي الأعظم للعلّامة جعفر العاملي: ج1 ص121 وما بعدها، و فقه السیرة للبوطي: ص61، و الاستغاثة لأبي القاسم الکوفي.

ومن حقّنا أن نتساءل: کیف یمکن للمصادر التاریخیة أن توفّق بین إصرار السیّدة خديجة(علیها السلام) علی رفض جمیع من خطبها بما فیهم وجوه الناس وأشرافهم، وبین زواجها من شخصین من دهماء الناس علی التوالي لم تضبط الأخبار حتّی أسماءهم؟ إنّ هذا لشيء عجاب !

إنّك لا تکاد تقرأ مصدراً حدیثاً ولا قدیماً إلّا وتجد الرفض القاطع الذي تبدیه السیّدة خدیجة بنت خویلد لکلّ خاطب لها مهما أُعطي من مال أو جاه ومکانة، فکیف ترضی الاقتران بذین علی ما هما علیه من مغموریة وقلّة جاه ومکانة؟

ولکي نتخطّی سطح المشکلة ونواجه الواقع، لابدّ من الإشارة إلی أنّ السیّدة خديجة(علیها السلام) کانت لها أُخت تُسمّی هالة(1)، تزوّجت رجلاً من بنی تمیم أولدها ذکراً أسماه هنداً، وکان للتمیمي زوجة أُخری أولدها بنتین إحداهما زینب والأُخری رقیّة، ثمّ هلك الرجل، فالتحق هند بعشیرته وأهله في البادیة، والتحقت هالة وزوجة التمیمي الأُخری والبنتان بالسیّدة خدیجة التي امتازت بمال وفیر وطیب نفس، فشملتهم جمیعاً برعایتها. وفي هذه الأیّام تزوّج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خدیجة، فصارت زینب ورقیّة تحت رعایة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والسیّدة خديجة(علیها السلام) حتّی نُسبتا إلیهما، وهو أمر مألوف عند عرب ذلك الزمان(2) وفق قاعدة التبنّي التي أبطلها القرآن الکریم بعد ذلك سنین، في آیة 4 من سورة الأحزاب.

وهکذا تکون قضیّة هالة بنت خویلد وقصّة زواجها قد انسحبت علی سیرة السیّدة خدیجة وحیاتها بسبب ذلك التبنّي، حتّی بلغت الحال أن تشعّبت بقصد وبغیرة لتکون زینب ورقیّة ابنتین لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، کما یکون الرجل المخزومي الذي کان أوّل زوج لهالة بنت خویلد ثمّ زوجها الثاني التمیمي قد نُسبا إلی السیّدة خدیجة کزوجین لها قبل زواج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) منها. وهکذا، تقحم حیاة هالة الزوجیة ونتائجها علی خديجة(علیها السلام)

ص: 226


1- . انظر: مختصر صحیح مسلم للحافظ المنذري: ج2 ص204 ح 1674.
2- . تُراجع هذه القضیة في کتاب الاستغاثة لأبي القاسم الکوفي: ص82 و ما بعدها.

وحیاتها الشخصیة.

وممّا یعزّز صحّة هذه الواقعة التاریخیة الهامّة التي سردناها، ما ذکره ابن شهرآشوب المازندراني، حیث قال: «روی أحمد البلاذري وأبو القاسم الکوفي في کتابیهما، والمرتضی في الشافي، وأبو جعفر في التلخیص: إنّ النبي(صلی الله علیه و آله) تزوّج بها وکانت عذراء»(1).

هذا، ومن الجدیر ذکره أنّ المصادر التي اعتبرت زینباً ورقیّة بنتین للنبي(صلی الله علیه و آله) من السیّدة خدیجة، قالت بولادتهما بعد البعثة، ثمّ تقول ذات المصادر أنّ رقیّة التي کانت أصغر بنات النبي(صلی الله علیه و آله)(2) قد تزوّجت عثمان بن عفّان قبل الهجرة إلی الحبشة، علماً بأنّ الهجرة المذکورة قد وقعت بعد البعثة بخمس سنین.

فهل تنسجم العقول مع هذه التقوّلات الساذجة(3) التي تناقضت مع نفسها ومع الوقائع التاریخیة؟

وتحقّق أمل خدیجة

کانت حیاة السیّدة خديجة(علیها السلام) مزیجة بین الرفض الصارم لکلّ من یطلب یدها من أجل الزواج، وبین الانتظار والأمل لمن یلبّي طموحها المعنوي من الرجال کزوجٍ ووليّ أمر.

وبینما کاد الرجال یقطعون الأمل من قناعتها بأيٍّ منهم، کانت سیّدة قریش قد تحوّلت إلی أُذن صاغیة تتسمّع أخبار خیر شباب قریش الذي ملأ ذکره الحسن، والحدیث عن شمائله الطیّبة في أرکان مکّة ونوادیها، حتّی أسماه قومه بالصادق الأمین وهو لمّا یزل في ریعان شبابه، ذلك هو محمّد بن عبداللّه بن عبد المطّلب. فقد کانت تتوسّم أن یکون هو القرین المنتظر لها، وبدأ حدسها یقترب من الیقین رویداً رویداً

ص: 227


1- . راجع: مناقب آل أبي طالب: ج1 ص159.
2- . الإصابة: ج4 ص304.
3- . للتفاصیل یُراجع النبوّة لمحمّدحسن آل یاسین: هامش ص65، کما یُراجع الاستغاثة: ص80 و ما بعدها، والصحیح من سیرة النبي : ج1 ص121 وما بعدها.

کلّما تقدّمت الأیّام.

وماذا یمنعها أن تنتظر وهي لا تزال في عزّ شبابها وغضارة جمالها؟ فقد تأمّلت کثیراً في حدیثٍ لأحد أحبار الیهود حضر المسجد الحرام وراح یتحدّث عن اقتراب موعد بعثة الرسول الموعود من هذه الدیار، وهو ینوّه بالتهنئة للمرأة التي تکون له زوجة وسکناً(1).

وجاءت الخطوة الأُخری لتقرّب الأمل المتّقِد في وجدانها، فحیث امتلأ سمعها بجمیل ذکر محمّد بن عبداللّه(صلی الله علیه و آله) فتی أبي طالب شیخ الأبطح، بالنظر لعظیم أمانته وکریم صفاته ونبل خصائصه وصدق حدیثه ومواقفه، فما بالها یا تری لا تعقد صفقة تجاریة معه، تضاربه ببعض أموالها لیخرج بها متاجراً إلی الشام، ومن کمحمّد(صلی الله علیه و آله) في صدقه وسلامة سلوکه واستقامته؟

لقد انتفضت من غفلتها عنه، وکأنّها لامت نفسها عن طول هذه الغفلة عنه، فبعثت من یعرض علیه هذا المشروع التجاري المربح الذي طالما اشرأبّت إلیه أعناق

الرجال، وعرضت علیه من خلال وسیطها أن یکون له من الربح أفضل ما اعتادت أن تعطیه لمن تضاربه من التجّار.

ووجد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حاجةً في نفسه، فتداول مع عمّه أبي طالب في ذلك، فلم یجد منه اعتراضاً. وکان هذا الغرس الطیّب مدرکاً أنّ عمّه قد کبر سنّه وأثقلته السنون، فلابدّ من استثمار هذه الفرصة لدعم عمّه الکریم الذي امتاز بجوده وکرمه ورعایته للناس رغم کونه أقلّ سادة قریش مالاً.

وخرج المصطفی في تجارته إلی الشام یصحبه میسرة غلام خدیجة الذي أنابته عنها في هذا المشروع. وقد کان میسرة یقوم بمهمّتین معاً، إحداهما: اقتصادیة روتینیة تتعلّق بالتجارة والمال وما إلی ذلك من شؤون. وثانیتهما: معنویة، ولعلّها کانت هي المهمّة المرکزیة التي کُلِّف بها من قبل سیّدته خدیجة!

فقد کان موکولاً إلیه أن یرصد محمّداً عن کثب في هذه السفرة الطویلة نسبیاً؛ کي

ص: 228


1- . بحار الأنوار: ج16 ص4 نقلاً من مناقب آل أبي طالب.

یقدّم تقریراً إلی السیّدة خدیجة حول أبعاد شخصیته، لیکمل الصورة عن محمّد(صلی الله علیه و آله) لدیها.

ویبدو أنّ میسرة کان جدیراً بإعطاء الصورة المطلوبة، ولذا اختارته سیّدته لذلك. وما أن صحب الغلام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلّا ورأی الأعاجیب ممّا لم یکن في حسابه ولا في تصوّراته، فرغم طیب المعاشرة وحسن الأخلاق وصدق المعاملة وعظیم الأمانة، فإنّ أُموراً خارجة عن المألوف تمکّن میسرة من مشاهدتها عیاناً.

عن محمّد بن إسحاق، قال: «کانت خدیجة بنت خویلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إیّاه بشيء تجعله لهم منه، وکانت قریش قوماً تجّاراً، فلمّا بلغها عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من صدق حدیثه وعظیم أمانته وکرم أخلاقه، بعثت إلیه وعرضت علیه أن یخرج في مالها تاجراً إلی الشام، وتعطیه أفضل ما کانت تعطي غیره من التجّار، مع غلامٍ لها یقال له: میسرة، فقبله منها

رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وخرج في مالها ذلك ومعه غلامها میسرة، حتّی قدم الشام، فنزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في ظلّ شجرة قریباً من صومعة راهب، فاطّلع الراهب إلی میسرة فقال: مَن هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال میسرة: هذا رجل من قریش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلّا نبي

ثمّ باع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سلعته التي خرج بها واشتری ما أراد أن یشتري، ثمّ أقبل قافلاً إلی مکّة ومعه میسرة، وکان میسرة قال (فیما) قال: إذا کانت الهاجرة واشتدّ الحرّ، نزل ملکان یظلّلانه من الشمس وهو یسیر علی بعیره، فلمّا قدم مکّة علی خدیجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قریباً، وحدّثها میسرة عن قول الراهب وعمّا کان یری من تظلیل الملکین له»(1).

إنّ هذه الواقعة وما أحاطت بها من ظروف مادّیة ومعنویة، دفعت السیّدة خديجة(علیها السلام) إلی نهایة الشوط، فأرسلت أُختها هالة أو صدیقتها نفیسة بنت منیة - علی قولٍ - إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأسرّته فور عودته من الشام لتعرض نفسها علیه.

ص: 229


1- . بحار الأنوار: ج16 ص9، السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص203 بإسناده عن ابن إسحاق.

وذهبت نفیسة مندسّةً إلی النبي(صلی الله علیه و آله)، وجری هذا الحوار التاریخي القصیر الحاسم بینهما(1):

«نفیسة: ما یمنعك من الزواج؟ قال: ما بیدی ما أتزوّج به، قالت: فإن کُفیت ذلك ودُعیت إلی الجمال والمال، والشرف والکفاءة، ألا تجیب؟

قال: فمن هي؟

نفیسة: خدیجة !

قال النبي(صلی الله علیه و آله): کیف لي بذلك؟

قالت: عليّ ذلك.

وأعلن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قبوله بالعرض».

ویبدو أنّ نفیسة عادت مرّة ثانیة طالبة من النبي(صلی الله علیه و آله) أن یحضر مع أعمامه لخطبة سیّدة قریش من عمّها عمرو بن أسد؛ لأنّ أباها خویلد کان قد قضی نحبّه قبل حرب الفِجَار، وحدّدت نفیسة بإذن خدیجة موعد اللقاء في دارها التي کانت من أوسع دور قریش وأرحبها.

واجتمع عدد من أعمام النبي(صلی الله علیه و آله) ورجال قریش في طلیعتهم أبو طالب في دار السیّدة خديجة(علیها السلام)، وحضر من قرباها عمّها عمرو بن أسد وآخرون. وتکلّم أبو طالب خاطباً خدیجة من عمّها(2)، وجاء في حدیثه ما یلي: «الحمد للّه الذي جعلنا من ذرّية إبراهیم وزرع إسماعیل وضئضئ(3) معد وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بیته وسواس حرمه، وجعل لنا بیتاً محجوباً وحرماً آمناً، وجعلنا الحکّام علی الناس. ثمّ أنّ ابن أخي هذا محمّد بن عبداللّه لا یوزن به رجل إلّا رجحه، وإن کان في المال قلاً فإنّ المال ظلّ زائل وحال حائل، ومحمّد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خدیجة بنت خویلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي، وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظیم وخطر جلیل»(4).

ص: 230


1- . حیاة محمّد لمحمّد حسنین هیکل (ط 1354ه القاهرة): ص84.
2- . وردت في کلام أبي طالب اختلافات بین المصادر في بعض الألفاظ.
3- . ضئضئ: الأصل.
4- . بحار الأنوار: ج16 ص16 و 17 عن من لا یحضره الفقیه: ص413. وأخرج نحوه الیعقوبي في تاریخه: ج2 ص15، والوفا بأحوال المصطفی لأبي الفرج عبدالرحمن الجوزي: ج1 ص145 مع اختلاف في الألفاظ.

ثمّ إنّ عمّها عمرو بن أسد ردّ علی خطبة أبي طالب ردّاً إیجابیاً یتجلّی في کلماته تأثّره بالحنیفیة الأُولی أو بالکتب السماویة التي ذکر المؤرّخون أنّه کان یهتمّ بقراءتها، وهذه کلمات عمّها کما ذکرها المؤرّخون: «الحمد للّه الذي جعلنا کما ذکرت وفضّلنا علی ما عدّدت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك کلّه، لا تنکر العشیرة

فضلکم، ولا یردّ أحد من الناس فخرکم وشرفکم، وقد رغبنا بالاتّصال بحبلکم وشرفکم، فاشهدوا عليَّ معاشر قریش بأنّي قد زوّجت خدیجة بنت خویلد من محمّد بن عبداللّه علی أربعمائة دینار»(1).

هذا، ومن الجدیر ذکره أنّ إشارة بعض المصادر إلی وجود أبیها خویلد لیس صحیحاً، فقد توفّي الرجل المذکور في حرب الفِجَار أو قبلها، کما أنّ الراجح أن یکون عمرو بن أسد هو الذي تولّی تزویجها ولیس ورقة بن نوفل کما زعمت بعض المصادر، اللّهمّ إلّا أن یکون ورقة أحد الحاضرین في الزواج لیس غیر، فالعمّ أولی من ابن العمّ في ذلك.

وبعد إجراء مراسم العقد، أعلنت خدیجة أنّ بیتها وما تملك هو تحت تصرّف النبي(صلی الله علیه و آله). ثمّ إنّ أبا طالب أقام علی شرف الزوجین والحضور ولیمة بعد أن نحر ناقة وأطعم من کان حاضراً. وهکذا تمّت مراسیم الزواج المبارك، ودخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) داره لیقیل مع زوجته السیّدة خدیجة أُمّ المؤمنین الأُولی لتبدأ المرحلة الجدیدة من حیاتهما علیهما الصلاة والسلام.

هذا، ومن الجدیر ذکره أنّ مراسیم عقد زواج النبي(صلی الله علیه و آله) من السیّدة خديجة(علیها السلام) کان في الیوم التاسع(2) من ربیع الأوّل بعد عام الفیل بخمس وعشرین سنة، علماً بأنّ المصطفی لم یتزوّج سواها حتّی توفّیت؛(3) رعایةً لمشاعرها وإکراماً لمقامها، علیها آلاف التحیة والسلام.

ص: 231


1- . بحار الأنوار: ج16 ص19 وقد ذکرته مختلف المصادر التاریخیة.
2- . جنّة المأوی للإمام محمّد حسین آل کاشف الغطاء: ص95.
3- . العقد الفرید لابن عبد ربّة الأندلسي: ج5 ص6، و سواه من المصادر.

أوّل النساء تصدیقاً برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

دخلت السیّدة خدیجة حیاتها الجدیدة باقترانها برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، حیث

الحبور والرحمة والتلاحم الروحي والعاطفي. وقد عبّر عن هذه الحالة التي توقّعها أبو طالب للزوجین بعد وقوع العقد بقوله: «الحمد للّه الذي أذهب عنّا الکرب ودفع عنّا الغموم»(1).

وحیث إنّ الانسجام الروحي والعاطفي بین الرسول وسیّدة قریش کان ثمرة طبیعیة؛ لأنّ أحدهما کان توّاقاً لصاحبه، تتجاذب روحاهما وتتناغم، إذ لو لم تقترن خدیجة بشخص الرسول لما مالت نفسها إلی سواه طوال حیاتها، ولما وجدت کفئاً لها من الرجال أبداً.

وهکذا اتّسمت حیاة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالحبور والدعة مع هذه المرأة العظیمة ممّا لم یتسنّ لغیرها من أزواجه فیما بعد، حتّی غارت منها وحسدتها بعض نسائه رغم وفاتها(علیها السلام)؛ لکثرة ما یثني علیها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ویذکرها بخیر ویجدّد العهد بذکرها الطیّب آناً بعد آن.

إلّا أنّ الأهمّ من ذلك کلّه الانسجام الروحي والفکري بین النبي(صلی الله علیه و آله) وقرینته المکرّمة، الذي بدأ یتعمّق منذ دخلت تحت کنفه ورعایته. ففي الفترة التي تمّ زواج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من السیّدة خديجة(علیها السلام) کان النبي(صلی الله علیه و آله) قد قطع شوطاً بعیداً في إعداده الإلهيّ وتلقّیه مبادئ الحکمة وبوادر الخیر والرحمة من عند اللّه تعالی التي کان یعکسها بدوره بشکل أو بآخر علی قلب السیّدة خدیجة وروحها وسلوکها، حتّی انصهرت في بوتقة الهدی الربّاني.

فنحن علی علم أنّ الرسول کان خاضعاً لعملیة إعداد ربّاني مخطّط وبرنامج ملکوتی رفیع، یصنعه علی عین اللّه ؛ لکي ینهض بأعظم رسالة عرفها هذا الکوکب، بل هذا الوجود.

ولقد تدرّج في عملیة الإعداد باتّجاه موقع الرسول الخاتم، ومرّ بمستویات

ص: 232


1- . السیرة النبویة لابن دحلان بهامش السیرة الحلبیة: ج1 ص106.

ودرجات کان أبرزها: درجة النبوّة، ثمّ درجة الرسالة التي بدأت بما یُصطلح

علیه بالبعثة، وما تطلّبته من نزول القرآن الکریم مفرّقاً حسب مقتضیات إعداد الأُمّة، والنهوض بها إلی مستوی خیر أُمّة أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهی عن المنکر.

ولقد کانت فترة النبوّة طویلة نسبیاً استغرقت حیّزاً کبیراً من عمر النبي الخاتم محمّد بن عبداللّه(صلی الله علیه و آله)، کان غیر مسموح له فیها بدعوة الناس إلی الحقّ الذي لدیه، إلّا أنّه من المقطوع به أنّه کان مقتصراً دعوته علی أهل بیته وخاصّته.

وهذه أرقام وشواهد علی ذلك:

أ -- کان نبیّاً قبل أن یکون رسولاً

قضی المصطفی محمّد بن عبداللّه(صلی الله علیه و آله) ثلثي عمره الشریف نبیّاً لم یؤذن له من قبل اللّه

بدعوة الناس إلی رسالته، ولم یعلن عن نبوّته المبارکة طوال تلك السنین: «اعلم أنّ الطائفة قد اجتمعت علی أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) کان رسولاً نبیّاً مستخفیاً، یصوم ویصلّي علی خلاف ما کانت قریش تفعله مذ کلّفه اللّه تعالی، فإذا أتت أربعون سنة، أمر اللّه جبرئیل أن یهبط بإظهار الرسالة، وذلك في یوم السابع والعشرین من شهر اللّه الأصمّ»(1).

ولهذه الحقیقة أشار أمیرالمؤمنین علي بن أبي طالب في حدیثٍ له جاء فیه: «ولقد قرن اللّه به من لدن أن کان فطیماً، أعظم ملك من ملائکته، یسلك به طریق المکارم ومحاسن أخلاق العالم، لیله ونهاره»(2).

حتّی إذا نزل علیه جبرئیل بمطالع سورة المدّثر المبارکة في الیوم السابع والعشرین

من رجب المرجّب: (يَا أَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ)، باشر عملیة دعوة الناس إلی عبودیة اللّه حیث بُعث إلی الناس کافّة وأُذن له بالتبلیغ.

ویُلاحظ من حقائق السیرة النبویة المطهّرة أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) ولأهداف استراتیجیة کان

ص: 233


1- . روضة الواعظین للشهید الفتّال النیسابوري: ص62، منشورات مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات.
2- . نهج البلاغة: خطبة 192.

مأُموراً أن یُطلع ابن عمّه وربیبه علي بن أبي طالب علی التطوّرات التي کانت تجري له قبل نزول القرآن الکریم وبعده أوّلاً بأوّل، وشارکته في ذلك السیّدة خدیجة، حیث أشار الإمام علي لذلك بقوله: «... وقد علمتم موضعي من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالقرابة القریبة والمنزلة الخصّیصة، وضعني في حجره وأنا ولد، یضمّني إلی صدره، ویکنفني في فراشه، ویمسّني جسده، ویشمّني عرفه، وکان یمضغ الشيء ثمّ یُلقمنیه، وما وجد لي کذبة في قولٍ ولا خطلة في فعل. ولقد قرن اللّه به من لدن أن کان فطیماً أعظم ملك من ملائکته، یسلك به طریق المکارم، ومحاسن أخلاق العالم لیله ونهاره.

ولقد کنت أتبعه اتّباع الفصیل أثر أُمّه، یرفع لي في کلّ یوم من أخلاقه علماً، ویأمرني بالاقتداء به. ولقد کان یجاور في کلّ سنة بحراء، فأراه ولا یراه غیري، ولم یجمع بیت واحد یومئذٍ في الإسلام غیر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وخدیجة وأنا ثالثهما، أری نور الوحي وأشمّ ریح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشیطان حین نزل الوحي علیه، فقلت: یا رسول اللّه، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشیطان قد أیس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وتری ما أری، إلّا أنّك لست بنبيٍّ، ولکنّك لوزیر وإنّك لعلی خیر...» (1).

هذا، وقد بذل المرحوم المبرور الشیخ محمّد باقر المجلسي وسعاً من أجل دراسة

هذه المسألة العقائدیة التاریخیة الحسّاسة، وساق الکثیر من الأدلّة والشواهد المتینة من الکتاب والسنّة علی أنّ رسول اللّه محمّد بن عبداللّه(صلی الله علیه و آله) کان نبیّاً منذ صغره، مؤیّداً بروح القدس، یکلّمه الملك ویسمع صوته، ویتعبّد بشریعته هو لا بشریعة رسول آخر.

حتّی إذا بلغ الأربعین من عمره الشریف جری له التحوّل النوعي الآخر في المهامّ والأهداف، فبعثه اللّه رسولاً، ونزل علیه القرآن الکریم، وأمره ربّه بدعوة الناس إلی رسالته(2).

ص: 234


1- . نهج البلاغة: خطبة 192.
2- . راجع هذا البحث القیّم الموثّق في بحار الأنوار: ج18 ص271 - 281.

ب -علي وخدیجة أوّل المصدّقین بالنبوّة

ومنذ فترة متقدّمة علی نزول مطلع سورة المدّثر الآمرة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالدعوة العامّة، کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یستخفي بدعوته عن الناس دون القرابة القریبة من أهل بیته: «فجعل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یذکر ما أنعم اللّه علیه وعلی العباد به من النبوّة، سرّاً إلی من یطمئنّ إلیه من أهله...»(1).

ومن أجل ذلك، فإنّ الروایات الکثیرة التي تذکر أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) صلّی یوم الاثنین، وصلّت السیّدة خدیجة وعلي یوم الثلاثاء(2)، تشیر إلی السیاق الزمني الذي مرّت به الدعوة الإلهیّة الخاتمة. واستمرّت الدائرة تتّسع قلیلاً، فضمّت جعفراً وزید بن حارثة بعد ذلك. أمّا دعوة الناس خارج هذا الإطار، فقد بقیت تنتظر وقتها المناسب الذي یحدّده ربّ العالمین.

وهذه بعض الأرقام والوثائق المؤکّدة التي تعطي انطباعاً أوّلیّاً عن موقع علي

وخدیجة في سلّم الدعوة والرسالة.

«عن یحیی بن عفیف عن عفیف، قال: جئت في الجاهلیة إلی مکّة فنزلت علی العبّاس بن عبد المطّلب. قال: فلمّا طلعت الشمس وحلّقت في السماء وأنا أنظر إلی الکعبة، أقبل شابّ فرمی ببصره إلی السماء، ثمّ استقبل الکعبة فقام مستقبلها، فلم یلبث حتّی جاء غلام فقام عن یمینه. قال: فلم یلبث حتّی جاءت امرأة فقامت خلفهما، فرکع الشابّ فرکع الغلام والمرأة، فرفع الشابّ فرفع الغلام والمرأة، فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه، فقلت: یا عبّاس، أمر عظیم! فقال: أمر عظیم، أتدري من هذا؟ فقلت: لا، قال: هذا محمّد بن عبداللّه بن عبد المطّلب ابن أخي، أتدری من هذا معه؟ قلت: لا، قال: هذا علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب ابن أخي، أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟ قلت: لا، قال: هذه خدیجة بنت خویلد زوجة ابن أخي، وهذا

ص: 235


1- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص259، وتاریخ الطبري: ج2 ص53.
2- . بحار الأنوار: ج18 ص179 نقلاً عن تفسیر القمّي، تاریخ الطبري: ج2 ص55 بروایة جابر بن عبداللّه الأنصاري و ص59 عن زید بن أرقم.

حدّثني أنّ ربّه ربّ السماء أمرهم بهذا الذي تراهم علیه، وأیم اللّه ما أعلم علی ظهر الأرض کلّها أحداً علی هذا الدین غیر هؤلاء الثلاثة»(1).

في هذه الوثیقة التي تکرّرت في تاریخ الطبري مراراً وبأسانید مختلفة، یُلاحظ أنّ الوثیقة تصف النبي(صلی الله علیه و آله) بالشابّ، کما تعطي صفة الغلام لعلي بن أبي طالب ، الأمر الذي یشیر إلی أنّ تعبّدهم للّه تعالی کان قبل الناس بسنین عدیدة، لا سیّما ونحن نعلم أنّ البعثة بالرسالة قد حدثت ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قد بلغ الأربعین عاماً أو تخطّاها حسب بعض الروایات... فأین هو من مرحلة الشباب في هذه الفترة؟

عن محمّد بن مسلم عن الإمام محمّد بن علي الباقر : «ما أجاب رسولَ اللّه(صلی الله علیه و آله) أحدٌ قبل علي بن أبي طالب وخدیجة صلوات اللّه علیهما، ولقد مکث

رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بمکّة ثلاث سنین مختفیاً خائفاً یترقّب ویخاف قومه والناس»(2).

عن أبي عبداللّه قال: «اکتتم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بمکّة مستخفیاً خائفاً خمس سنین لیس یظهر، وعلي معه وخدیجة، ثمّ أمره اللّه أن یصدع بما یؤمر، فظهر وظهر أمره».

وعن أمیر المؤمنین علي قال: «ولقد کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یجاور في کلّ سنة بحراء، فأراه ولا یراه غیري، ولم یجمع بیت واحد یومئذٍ في الإسلام غیر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وخدیجة وأنا ثالثهما، أری نور الوحي وأشمّ ریح النبوّة»(3).

وعن أمیر المؤمنین : «ما أعرف أحداً من هذه الأُمّة عبد اللّه بعد نبیّنا غیري، عبدت اللّه قبل أن یعبده أحد من هذه الأُمّة تسع سنین»(4).

عن عبّاد بن عبد اللّه قال: سمعت علیّاً یقول: «أنا عبداللّه وأخو رسوله، وأنا الصدّیق الأکبر، لا یقولها بعدي إلّا کاذب مفترٍ، صلّیت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنین»(5).

ص: 236


1- . تاریخ الطبري: ج2 ص56.
2- . بحار الأنوار: ج18 ص188.
3- . نهج البلاغة: خطبة 192.
4- . خصائص أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب للإمام الحافظ أحمد بن شعیب النسائي: ص3.
5- . تاریخ الطبري: ج2 ص56، الکامل لابن الأثیر الجزري: ج2 ص57.

إنّ هذه الوثائق التاریخیة رغم اختلافها في البعد الزمني الذي تذکره حول سبق علي والسیّدة خدیجة لعموم الناس في الالتحاق برکب الدعوة الإلهیّة الخاتمة، حیث تتراوح سنوات السبق المذکور بین ثلاث سنوات وتسع، إلّا أنّها تؤکّد الحقیقة القائلة إنّ علیّاً والسیّدة خديجة(علیها السلام)کانا ضمن أجواء التغیّرات الروحیة والفکریة للنبي(صلی الله علیه و آله)، حتّی أنّهما لم یُفاجئا بالنبوّة، ولم یُفاجئا بالتکالیف

الإلهیّة، وإنّما مرّا بحالة تحوّل نوعي في أداء التکالیف لیس غیر، ولذا فإنّ علیّاً یذکر أنّه حین نزل الوحي - حیث ابتدأت البعثة بالرسالة لعموم الناس - سمع الرنّة التي أحدثتها هزیمة الشیطان(1) في العالم غیر المحسوس، حیث کان هو معه في غار حراء، وعلی مقربة من الغار کانت خدیجة(2).

کما أنّ بعض الروایات تشیر أنّ علي بن أبي طالب هو ذاته التحق بالنبي(صلی الله علیه و آله)

في أداء التکالیف، ولم یعرض علیه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دعوته، حیث یذکر هذا النوع

من الروایات أنّ علیّاً رأی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یصلّي أوّل صلاة وکانت هذه العملیة نقلة

فکریة وروحیة في سلّم الرسالة بطبعها، فسأله عمّا یفعل، فقال: أُصلّي، فصلّی علي معه(3)، ولا نستبعد أن تکون خدیجة ذات القلب الربّاني الشفّاف والروح الإلهیّة المتعلّقة بعالم القدس سلکت غیر هذا السلوك؛ لأنّها وعلیّاً کانا یصنعان علی عین رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، تماماً کما کان هو یصنع علی عین اللّه ، وإن کان مستوی علي من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) کمستوی هارون من موسی (4)، کما عبّرت النصوص عن ذلك،

وهو مستویً لم تبلغه السیّدة خدیجة قطعاً، إلّا أنّها تمثّل قمّة في النساء قطعاً،

لم تسبقها غیر فاطمة ابنتها في هذه الأُمّة المرحومة، تلك المرأة التي حملت

ص: 237


1- . نهج البلاغة: خطبة القاصعة: ص301.
2- . یُستفاد ذلك من المصدر نفسه ومن تاریخ الطبري: ج2 ص48، وفي ظلال القرآن لسیّد قطب: ج 6 تفسیر سورة المزمّل.
3- . بحار الأنوار: ج18 ص184 نقلاً عن المحدّث الثقة علي بن إبراهیم القمّي، وهناك مصادر ذکرت ذلك بشکل أو بآخر.
4- . کما هو حدیث «أنت منّي بمنزلة هارون من موسی» المشهور.

بحقّ وجدارة لقب سیّدة نساء العالمین وسیّدة نساء أهل الجنّة(1)، کما أخبر الصادق الأمین بذلك.

الإیمان الممتحن

تزامنت عملیة اقتران السیّدة خدیجة بنت خویلد برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مع إرهاصات عهد النبوّة، وواکبت کافّة التطوّرات الروحیة والفکریة التي تعرّض لها المصطفی، لیصنع علی عین اللّه ، واکبته في دارهما، وواکبته حتّی في غار حراء، حتّی إذا فرض اللّه الصلاة علی النبي(صلی الله علیه و آله) بعد فرض عقیدة التوحید، صلّی معه علي وخدیجة قبل الناس بسنین عدیدة کما قدّمنا.

وحیث اقتصرت الدعوة بادي ذي بدء بأمر اللّه تعالی علی القرابة القریبة من أهل النبي(صلی الله علیه و آله)، فلم تحدث أیّة معاناة من أعداء الهدی، إذ کان المشرکون ینظرون إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في بدایة دعوته کما لو کان راهباً أو رجلاً من الأحناف الذین یمارسون الصلاة والقربات للّه تعالی أحیاناً، ولذا لم تستفزّهم صلاته وطوافه في الکعبة جهاراً.

حتّی إذا أُمر بالدعوة العامّة التي ابتدأت بدعوة عشیرته الأقربین: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(2) علی تفصیل معلوم من مصادر التاریخ والتفسیر، وما تلاها من تخریب لمهمّة النبي(صلی الله علیه و آله) بواسطة عمّه الخبیث أبي لهب(3)، وما تبع ذلك من سبّ النبي(صلی الله علیه و آله) للأوثان التي یعکف علیها المشرکون والتندید بها والدعوة الصریحة للّه الواحد الأحد عزّ شأنه، انفجر الموقف بین قریش ورسول

اللّه(صلی الله علیه و آله) علی أشدّ ما یکون الصراع.

فبدأت الحرب النفسیة والإعلام المضادّ والضغط العائلي والقبلي، وبدأت عملیات التعذیب النفسي والجسدي للمستضعفین من أتباع النبي(صلی الله علیه و آله) ودعوته.

کما أصاب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) منهم الکثیر الکثیر من الأذی المادّي والمعنوي: اتّهموه

ص: 238


1- . کما في أحادیث مشهورة عند عموم المسلمین.
2- . الشعراء: 214.
3- . تاریخ الطبري: ج2 ص61 و ما بعدها.

بالسحر والشعوذة، والجنون والکذب والضلال، کما ألقوا القذارات والنجاسات علی بدنه الشریف، ووضعوا الأشواك في طریقه من أجل إیذائه.

ومن الطبیعي أنّ کلّ ذلك وغیره کانت السیّدة خدیجة تشهده وتعیشه، وکانت تشدّ من أزر النبي(صلی الله علیه و آله) وتعینه وتقف إلی جانبه لیتخطّی عقبات الطریق رافع الرأس شامخاً.

وما أعظم أن یجد الإنسان الداعیة إلی رسالة حقّ، أن یجد زوجةً تقف إلی جنبه وتشحذ همّته، وتساهم في توفیر مستلزمات الصمود له.

وهکذا کانت السیّدة خدیجة بنت خویلد(علیها السلام)، فقد کانت صدّقته في دعوته منذ بدایة الشوط ونهضت معه بالتکالیف الإلهیّة، وکلّما ضاق صدره من جاهلیة قومه وامتلأت نفسه حسرةً من ضلال المشرکین، کانت السیّدة خدیجة تنبری لتقول کلماتها الوادعة الحریصة الواثقة: «أبشر، فواللّه لا یُخزیك اللّه أبداً، وواللّه إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحدیث، وتؤدّي الأمانة، وتحمل الکَلّ، وتُقري الضیف، وتعین علی نوائب الحقّ»(1).

إنّ هذه الکلمات تشکّل هیکلاً لنبوءة السیّدة خديجة(علیها السلام) بنصر الدعوة،

وعمق وعیها بصدق محمّد(صلی الله علیه و آله) في دعوته، والإمداد الغیبي الذي سیأتیه لینصره اللّه علی أعدائه ویعزّ نصره، «أبشر فواللّه لا یُخزیك اللّه أبداً».

ومنذ بدایة المسیرة وضعت السیّدة خدیجة کلّ أموالها الطائلة المعروفة تحت تصرّف رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)(2)، بالنظر لوعیها أنّ الدعوة لابدّ لها من مال تستعین به في مسیرتها کوسیلة لتحقیق الأهداف الإلهیّة العظیمة، تُطعم به المساکین من المؤمنین، وتواري عوراتهم، وتسدّ نفقاتهم الیومیة، خصوصاً وأنّ مکّة بلد صحراوي یکثر فقراؤه المحتاجون؛ بالنظر لعدم وجود سلطة سیاسیة في البلاد تتولّی توزیع الثروات بشکل عادل، لا سیّما وأنّ السیاسة الارستقراطیة هي التي تحکم المدینة المذکورة، وتحکم عقول الملأ من قریش.

ص: 239


1- . تاریخ الطبري: ج2 ص47.
2- . انظر: تراجم أعلام النساء للشیخ محمّد حسین الأعلمي: ج2 ص51.

وکان المال في مکّة هو سیّد الموقف، وحتّی الأصنام التي یعبدونها لتقربهم زلفی إلی اللّه تعالی بزعمهم، کان الملأ منهم یتصوّرها وسیلة لکسب المال لیس إلّا؛ لأنّ تردّد الناس علی أصنامهم المنصوبة في مکّة کان وسیلة للتبادل التجاري، وطریقة لنموّ الثروة في أسواق مکّة التي یسیطر علیها أصحاب السلطان في تلك المدینة.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ غالبیة الذین أسلموا في مکّة کانوا من المحتاجین، إمّا لمقاطعة ذویهم لهم، وإمّا لکونهم في عسر مادّي أساساً کالعبید والفقراء وأشباههم، ممّن فتح اللّه تعالی قلوبهم للدعوة الإلهیّة الخاتمة، فلابدّ من مصدر مالي مناسب یتوفّر للنبي(صلی الله علیه و آله) من خلاله علی سدّ نفقات المحتاجین من أتباعه.

وهکذا کانت أموال السیّدة خدیجة مصدراً مادّیاً أساسیاً لدعم الرسول ودعوته، بتغطیة نفقات المستضعفین من هذا المال المبارك.

وقد نوّهت أسماء بنت عمیس إلی ذلك في حوارٍ لها مع عمر بن الخطّاب بقولها:

«کنتم مع النبي(صلی الله علیه و آله) یطعم جائعکم، ویعظ جاهلکم».

وقد اشتدّت الحاجة إلی ثروة خديجة(علیها السلام) عندما حوصر بنو هاشم في شعب أبي طالب ، حیث اتّخذت قریش من جملة ما اتّخذت من قرارات الحصار البغیض: أن لا یبایع أحد بني هاشم والمسلمین المحصورین في الشعب بأيّ حال من الأحوال ولا یبتاع منهم.

وأقلّ ما کانت قریش تفعله مع القادمین في موسم الحجّ أن تفرض علیهم عدم مبایعة أُولئك المحصورین إلّا بأسعارٍ باهضة جدّاً أو تنهب قریش أموالهم عنوة. کما أنّ الشِّعب کان مراقباً؛ منعاً من وصول الموادّ الغذائیة للمحاصرین، حتّی اضطرّ المحاصرون أن یأکلوا ورق الشجر والأدغال، وکان صراخ أطفالهم یُسمع من بعید بسبب الجوع.

وهذا مصداق واحد من مصادیق محنة الحصار کما ذکرها المؤرّخون: «... فأقاموا علی ذلك من أمرهم سنتین أو ثلاثاً حتّی جهدوا ألّا یصل إلی أحدٍ منهم شيء إلّا سرّاً

ص: 240

مستخفیاً به ممّن أراد صلتهم من قریش. وذُکر أنّ أبا جهل لقي حکیم بن حزام بن خویلد بن أسد معه غلام یحمل قمحاً یرید به عمّته خدیجة بنت خویلد وهي عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ومعه في الشِّعب، فتعلّق به وقال: أتذهب بالطعام إلی بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت وطعامك حتّی أفضحك بمکّة. فجاء أبو البختري ابن هشام بن الحارث بن أسد، فقال: ما لك وله؟ قال: یحمل الطعام إلی بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعام لعمّته عنده بعثت إلیه، أفتمنعه أن یأتیها بطعامها؟ خلّ سبیل الرجل. فأبي أبو جهل، حتّی نال أحدهما من صاحبه، فأخذ البختري لحی بعیر فضربه فشجّه ووطئه وطئاً شدیداً، وحمزة بن عبد المطّلب قریب یری ذلك، وهم یکرهون أن

یبلغ ذلك رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأصحابه فیشمتوا بهم...»(1).

وبوسع المرء أن یقدّر خطورة الموقف وصعوبته إذا علمنا أنّ الحصار المذکور قد استمرّ ثلاث سنین أو یزید، وکانت أموال النبي(صلی الله علیه و آله) والسیّدة خديجة(علیها السلام) قد استُثمرت في معرکة الحیاة أو الموت هذه، لتجهیز الممکن من الأطعمة ولو بأغلی الأثمان.

وکان علي بن أبي طالب یغامر لإیصال ذلك الطعام سرّاً بین حین وآخر، معرّضاً حیاته الشریفة للخطر من أجل الإسلام(2). حتّی لقد نفذت أموال النبي(صلی الله علیه و آله) والسیّدة خديجة(علیها السلام) علی طریق إنقاذ حیاة المحاصرین والمستضعفین من المسلمین الذین لا یجدون حیلة، ولا یهتدون إلی سدّ نفقاتهم سبیلاً.

وهکذا نزلت السیّدة خديجة(علیها السلام) من مستوی المرأة التاجرة إلی مستوی المرأة المحاصرة مع النبي(صلی الله علیه و آله)، حتّی ذکر البعض من المؤرّخین أنّ من أسباب وفاتها کان ما عانته بسبب الجوع والضعف، حتّی قضت شهیدة مظلومة بعد حصار الشِّعب بمدّة وجیزة.

وماذا نقول عن مواقفها من النبي(صلی الله علیه و آله) ومحنته التي طالت عقداً من الزمان؟

ص: 241


1- . تاریخ الطبري: ج2 ص74.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحدید المعتزلي: ج3 ص256.

لقد کانت السیّدة خديجة(علیها السلام) تراقب حالة النبي(صلی الله علیه و آله) عن کثب، وتعمل بما في وسعها للتخفیف من حجم معاناته الکبیرة من أجل اللّه تعالی والدعوة الإلهیّة، حتّی أنّها ولفرط إشفاقها علیه کانت تدعوه لضرورة النوم والراحة؛ حتّی یستریح من عناء ما یلقاه في النهار کي یواصل المسیر بفاعلیة کما تتصوّر،

فأجابها علیه وعلی آله الصلاة والسلام: «مضی عهد النوم یا خدیجة»(1).

ولقد کانت تشهد معاناته الیومیة وما یلقاه من أُولئك السفهاء والأجلاف، من أمثال أبي جهل وأبي سفیان وعقبة بن أبي معیط والعاص بن وائل وعمرو بن العاص وابن الزبعري، وأمثالهم مِن سبٍّ واتّهام واعتداء مادّي صریح، لا حیاء فیه ولا شعوراً إنسانیاً.

ولقد کان أشدّهم علیه عمّه أبو لهب الذي کان لا یکلّ ولا یملّ عن الکید برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ودعوته، ولقد کان یتسلّل وراءه، فلا یدعو النبي(صلی الله علیه و آله) جماعة إلی اللّه تعالی، إلّا ویکذّبه؛ لیحول بین الناس ودعوة الحقّ(2).

ولقد کان المصطفی یلقی من قومه أشدّ أنواع البلاء، فکانوا یلقون الشوك في طریقه، ویلقون علیه التراب، ویقذفونه بالحجارة، ویرمون القاذورات علی رأسه وظهره. ولقد شوهد أبو لهب یدمي رجلیه وعرقوبیه بالحجر الذي یرمیه به أمام الناس.

«وکان أبو لهب شدیداً علیه وعلی المسلمین، عظیم التکذیب له، دائم الأذی، فکان یطرح العذرة والنتن علی باب النبي(صلی الله علیه و آله)، وکان جاره، فکان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یقول: أيّ جوارٍ هذا یا بني عبد المطّلب؟! فرآه یوماً حمزة فأخذ العذرة وطرحها علی رأس أبي لهب...» (3).

ولقد ألقت قریش علیه سلی بعیر أو جزور نتناً وهو ساجد، فأرسلت السیّدة خديجة(علیها السلام) ابنتها الحبیبة فاطمة(علیها السلام) وهي لا تزال طفلة غضّة، فأماطته عن ظهر أبیها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وهي تدعو علیهم: «بینما رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ساجد وحوله ناس من قریش وثمّ سلی بعیر، فقالوا: من یأخذ سلی هذا الجزور أو البعیر فیفرّقه علی ظهره؟ فجاء عقبة بن أبي معیط فقذفه علی ظهر النبي(صلی الله علیه و آله)، وجاءت فاطمة(علیها السلام) فأخذته من ظهره، ودعت علی من صنع ذلك، قال عبداللّه: فما رأیت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دعا

علیهم إلّا یومئذٍ، فقال: اللّهمّ علیك الملأ من قریش، اللّهمّ علیك أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربیعة، وشیبة بن ربیعة، وعقبة بن أبي

ص: 242


1- . في ظلال القرآن لسیّد قطب: ج6 ص3744 (تفسیر سورة المزمّل).
2- . في ظلال القرآن لسیّد قطب، ج 6 تفسیر سورة المسد نقلاً عن ابن إسحاق و أحمد بن حنبل والطبراني.
3- . الکامل في التاریخ لابن الأثیر: ج2 ص70.

معیط، وأُمیّة بن خلف أو أُبي بن خلف»(1).

قال عبد اللّه: «ولقد رأیتهم قُتلوا یوم بدر، وأُلقوا في القلیب. أو قال: في بئر، غیر أنّ أُمیّة بن خلف أو أُبي بن خلف کان رجلاً بادناً، فقُطع قبل أن یبلغ البئر»(2).

ومن متابعة واعیة لسیرة الصدّیقة الطاهرة السیّدة خدیجة یتّضح أنّ محنتها من المشرکین کانت مضاعفة، فمنذ بدأت قافلة الهدی تشقّ طریقها في المجتمع، وصار المستضعفون وأصحاب القلوب الحیّة یسمعون صوت الحادي یدعو: أن هلمّوا إلی اللّه ... منذ تلك الأیّام المبکّرة بدأت محنة السیّدة خديجة(علیها السلام)، حیث قاطعتها نساء قریش، فلم یزرنها ولم تتفقّدها إحداهنّ، وصرن یهمزنها ویغمزنها، ویفرضن علیها حرباً نفسیة ماکرة من أجل إیذائها، حتّی أنّها لم تحظَ بزیارة إحداهنّ أیّام ولادتها ونفاسها، وأنت خبیر بحاجة المرأة إلی مثیلاتها أیّام الولادة؛ کلّ ذلك من أجل اللّه تعالی ومحمّد والدعوة الإلهیّة المبارکة. وهکذا ربطت هذه المرأة العظیمة کلّ وجودها وما تملك بمصلحة هذا الدین والمنادي بالحقّ والإیمان محمّد بن عبداللّه(صلی الله علیه و آله).

وما أعظم ما وُصِفت به السیّدة خديجة(علیها السلام) علی لسان الحقّ؛ لسان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «کمل من الرجال کثیر، ولم یکمل من النساء إلّا مریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون، وخدیجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمّد»(3).

وعاء الکوثر

کان من خصائص السیّدة خديجة(علیها السلام) إنجاب ذرّية النبي(صلی الله علیه و آله)، کما نوّه النبي(صلی الله علیه و آله) مفتخراً بذلك: «ورزقني اللّه ولدها إذ حرمني أولاد النساء»؛ إذ لم یلد من نساء النبي التسع بعد

ص: 243


1- . بحار الأنوار: ج18 ص209.
2- . بحار الأنوار: ج18 ص210، وأخرجه النسائي في صحیحه والبیهقي في دلائل النبوّة.
3- . صحیح البخاري: رقم 3411 في کتاب الأنبیاء، و مسلم رقم 2431 في فضائل الصحابة.

خدیجة غیر ماریة القبطیة.

فقد تحوّلت السیّدة خدیجة إلی وعاء للخیر والبرکة، وشجرة مبارکة أصلها ثابت وفرعها بفضل ولادتها لفاطمة الزهراء التي بارك اللّه تعالی فیها وفي نسلها الطیّب، فکانت الذرّیة المحمّدیة المبارکة کلّها منها: قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنّ اللّه جعل ذرّية کلّ نبي من صلبه، وأنّ اللّه عزّ وعلا جعل ذرّیة محمّد من صلب علي بن أبي طالب»(1).

فعلی الیقین أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قد أولد خديجة(علیها السلام): القاسم، وبه یُکنّی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وعبداللّه، ویُسمّی الطیّب والطاهر؛ لولادته بعد البعثة المبارکة، وفاطمة الزهراء.

وقد توفّي القاسم وعبداللّه في طفولتهما، ولم یبقَ لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) علی قید الحیاة غیر فاطمة التي زوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ابن عمّه علي بن أبي طالب فیما بعد، فأنجبت ذرّیة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، کما أفاد

الحدیث النبوي الشریف الذي ذکرناه آنفاً. وأمّا إبراهیم ابن النبي(صلی الله علیه و آله) من ماریة القبطیة، فقد توفّي هو الآخر صغیراً.

ویبدو من خلال الآثار الواردة عن النبي(صلی الله علیه و آله) أنّه کان یعدّ إنجاب «ذرّیته» من أهمّ خصائص السیّدة خديجة(علیها السلام) التي امتازت بها دون سواها، والرسول إنّما یقصد بذلك «فاطمة» دون سواها، وإلّا فإنّ کافّة ولده الآخرین قد قَضَوا صغاراً.

وقد کانت السیّدة خديجة(علیها السلام) قد شعرت بالأسی لفقد ولدیها تباعاً: القاسم ثمّ عبداللّه، فسلّاها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأخبرها أنّها ستجدهما علی باب الجنّة ینتظرانها، فیأخذان بیدها فیدخلانها الجنّة.

ص: 244


1- . أخرجه بهذا السند العلّامة القندوزي في ینابیع المودة: ص266، و الحافظ الهیثمي في مجمع الزوائد: ص9 ح 272، و ابن حجر الهیثمي في الصواعق المحرقة: ص74، والسیوطي في الجامع الصغیر: ج1 ص230. و صدر الحدیث: «کنت أنا والعبّاس جالسین عند النبي إذ دخل علي فسلّم فردّ علیه النبي السلام و قام إلیه و عانقه وقبّل ما بین عینیه وأجلسه عن یمینه، فقال العبّاس: یا رسول اللّه، أتحبّه؟ فقال: یا عمّ و اللّه أشدّ حبّاً له منّي، إنّ اللّه جعل ذرّیة کلّ نبي في صلبه، وجعل ذرّیتي في صلب هذا...»، و أخرج الخطیب في تاریخه: ج1 ص316 بالإسناد عن ابن عبّاس، قال: «کنت أنا وأبي العبّاس جالسین عند رسول اللّه، و ساق مثله. هکذا أخرجه المحبّ الطبري في ذخائر العقبی: ص67، والریاض النضرة: ج2 ص168، و الذهبي في میزان الاعتدال: ج2 ص119، وابن حجر في لسان المیزان: ج2 ص429، والعلّامة الزرقاني في شرح المواهب: ج2 ص6، وابن المغازلي الشافعي في مناقبه: ص49.

فعن الإمام محمّد بن علي الباقر ، قال: «دخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) علی خدیجة حیث مات القاسم ابنها وهي تبکي، فقال لها: ما یبکیك؟ فقالت: درّت دُرَیرة فبکیت، فقال: یا خدیجة، أما ترضین إذا کان یوم القیامة أن تجیئي إلی باب الجنّة وهو قائم فیأخذ بیدك فیدخلك الجنّة وینزلك أفضلها؟ وذلك لکلّ مؤمن، أنّ اللّه أحکم وأکرم أن یسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثمّ یعذّبه بعدها أبداً»(1).

هذا، وقد ورد هذا الأثر بصیغتین: مرّة عند وفاة القاسم ، ومرّة بعد وفاة عبداللّه ، ویمکن أن تصحّ الروایتان، إذ یمکن أن یتکرّر حدیث النبي(صلی الله علیه و آله) للسیّدة خديجة(علیها السلام) بتکرّر الحادث.

إلّا أنّ اللّه قد عوّض رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والسیّدة خديجة(علیها السلام) بفاطمة الزهراء سیّدة نساء العالمین، فکانت ذرّية النبي(صلی الله علیه و آله) کلّها منها ومن علي ابن عمّه .

بید أنّ الراجح أنّ أکثر ما تسبّب في إیذاء السیّدة خديجة(علیها السلام) بعد افتقاد

القاسم وعبداللّه علیهما الرحمة والرضوان؛ أنّ المشرکین قد اتّخذوا منها ذریعة لوخز رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وإیذائه، حیث تذکر الروایات الصحیحة أنّ سفهاء القوم رأوا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقد أقبل توّاً من دفن أحد ولدیه المذکورین، فقالوا عنه: إنّه أبتر.

«أخرج ابن سعد وابن عساکر من طریق الکلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس، قال: کان أکبر ولد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) القاسم... ثمّ عبداللّه... ثمّ فاطمة، فمات القاسم، وهو أوّل میّت من ولده بمکّة، ثمّ مات عبداللّه، فقال العاص ابن وائل السهمي: قد انقطع نسله فهو أبتر، فأنزل اللّه: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

ص: 245


1- . بحار الأنوار: ج16 ص15 - 16 عن الفروع: ج 1 ص59.

وفیه أخرج الزبیر بن بکّار وابن عساکر عن جعفر بن محمّد عن أبیه، قال: «توفّي القاسم ابن رسول اللّه بمکّة، فمرّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو آتٍ من جنازته علی العاص بن وائل وابنه عمرو، فقال حین رأی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): إنّي لأشنؤه، فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر، فأنزل اللّه: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)».

وفیه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي، قال: «کانت قریش تقول إذا مات ذکور الرجل: بتر فلان، فلمّا مات ولد النبي(صلی الله علیه و آله) قال العاص بن وائل: بتر»(1).

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي، قال: «کانت قریش تقول إذا مات ذکور الرجل: بتر فلان، فلمّا مات ولد النبي(صلی الله علیه و آله) قال العاص بن وائل: بتر محمّد، فنزلت. وأخرج البیهقي في الدلائل مثله عن محمّد بن علي، وسمّی الولد القاسم، وأخرج عن مجاهد، قال: نزلت في العاص بن وائل؛ وذلك أنّه قال: أنا شانئ محمّد»(2).

وحیث إنّ الأبتر في لغة العرب تُطلق أساساً علی من لا عقب له، فقد أدرك النبي(صلی الله علیه و آله) المقصود الدنيء الذي یرمی إلیه سفهاء قریش.

فتلك إشاعة لها صداها ووقعها الشدید في المجتمع العربي البدوي الذي یتکاثر بالذرّية، والذکور منها علی وجه الخصوص.

کما یتّضح من قوامیس اللغة العربیة، وکما أورد الراغب الأصبهاني في المفردات، قال: «البتر یُستعمل في قطع الذنب، ثمّ أجري قطع العقب مجراه، فقیل: فلان أبتر إذا لم یکن له عقب یخلفه... وقوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)؛ أيّ المقطوع الذکر، وذلك أنّهم زعموا أنّ محمّداً ینقطع ذکره إذا انقطع عمره؛ لفقدان نسله» (3).

ومن أجل ذلك، فإنّ اللّه سلّی نبیّه وخديجة(علیها السلام) وکشف السرّ المکنون الذي أعدّه اللّه لهما، حیث نزلت سورة الکوثر المبارکة، لتمسح علی قلب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالروح والندی، وتقرّر حقیقة الخیر الباقي الممتدّ الذي اختاره اللّه للنبي وخدیجة ، وحقیقة الانقطاع والبتر المقدّر لأعدائه من مشرکي قریش وأمثالهم: (بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَنِ ٱلرَّحِيمِ ٭ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ ٭ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ ٱنْحَرْ ٭ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلْأَبْتَرُ)، وبدلالة الأبتر وبدلالة سبب النزول الذي أورده المفسّرون والمؤرّخون وأصحاب السنن، فإنّ «الکوثر» هو الذرّية التي وهبها اللّه لمحمّد(صلی الله علیه و آله) وخديجة(علیها السلام) من خلال ما حباهما بعلي وفاطمة ،

ص: 246


1- . تفسیر المیزان للعلّامة الطباطبائي: ج20 ص372.
2- . تفسیر الجلالین للعلّامة جلال الدین السیوطي (تفسیر سورة الکوثر).
3- . المفردات في غریب القرآن (کتاب الباء): ص36.

حیث کانا سبباً في امتداد ذرّية رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وانتشارها واتّساع برکاتها في الأرض.

وکلّ معنیً آخر للکوثر - سواء أکان قد ورد في أثر أو حدیث صحیح أو احتمله المفسّرون - فإنّه من مصادیق الکوثر الذي أُعطي لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الدنیا والآخرة.

وقد أحسن عبداللّه بن عبّاس في تعلیقه علی من یکتفي باعتبار الکوثر نهراً في الجنّة، بقوله: «هو کوثر من الکوثر»(1)؛ إذ یکون الکوثر کنهر في الجنّة إحدی مفردات الخیر الکثیر الذي حباه اللّه سبحانه وتعالی رسوله العظیم، وإلّا فإنّ أعظم خیر وأوسعه وأنفعه للإنسانیة بامتدادها التاریخي، هي الذرّية المبارکة التي وهبها اللّه لمحمّد(صلی الله علیه و آله) بواسطة الزهراء بنت رسول اللّه وخدیجة .

خصوصیات میلاد الزهراء

کانت فاطمة بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) آخر من ولدتها خدیجة ، حیث ولدت علی الأرجح في السنة الخامسة من البعثة(2)، وتوفّیت عنها والدتها وعمرها حوالی خمس سنوات.

ولقد کانت ولادة الزهراء قد شهدت حالات وأوضاعاً غیر عادیة، بعضها یتعلّق بالظروف الغیبیة التي ألمّت بتکوین نطفة فاطمة(علیها السلام)، والإمداد الغیبي الذي شمل السیّدة خدیجة عند ولادتها لفاطمة(علیها السلام) کما یتّضح، إضافة إلی الظروف الموضوعیة التي ألمّت ببیت النبي(صلی الله علیه و آله) في تلك المرحلة، حیث الهجوم المرکّز علی الرسول ودعوته من سفهاء قریش وحلفائها.

فبصدد تکوین نطفة فاطمة(علیها السلام) وخصوصیاتها وردت مجموعة قیّمة من الأحادیث والآثار تؤکّد أنّ لنطفة فاطمة(علیها السلام) علاقة بالجنّة وثمارها.

وقد رویت تلك الأحادیث عن النبي(صلی الله علیه و آله) بواسطة جابر بن عبداللّه الأنصاري والإمام أبي عبداللّه جعفر بن محمّد الصادق عن آبائه:، والإمام محمّد بن علي الباقر والإمام علي بن

ص: 247


1- . الدرّ المنثور للسیوطي (تفسیر سورة الکوثر).
2- . أُصول الکافي: ج1.

موسی الرضا عن آبائه، وعن ابن عبّاس، وعائشة بنت أبي بکر وغیرهم(1).

وکنموذج لهذه الروایات نذکر ما ذکره الإمام أبو عبداللّه الصادق بهذا الصدد: «کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یُکثر تقبیل فاطمة(علیها السلام)، فأنکرت عائشة، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): یاعائشة، إنّي لمّا أُسري بي إلی السماء، دخلتُ الجنّة، فأدناني جبرئیل من شجرة طوبی وناولني من ثمارها، فأکلته فحوّل اللّه ذلك ماءً في ظهري، فلمّا هبطتُ إلی الأرض واقعتُ خدیجة فحملت فاطمة، فما قبّلتها قطّ إلّا وجدتُ رائحة شجرة طوبی فیها»(2).

وبعد أن حملت السیّدة خديجة(علیها السلام) بالزهراء وحان وقت ولادتها، کانت یومها تعاني من مقاطعة نساء قریش بشکل مطلق، حیث اتّخذت نساء المشرکین قراراً بمقاطعة السیّدة خديجة(علیها السلام) حتّی بمجرّد السلام علیها ودخول دارها.

وحیث لابدّ للمرأة أثناء ولادتها من امرأة تلي منها ما تلي النساء من النساء أثناء الولادة، فإنّ خديجة(علیها السلام) قد استبدّ بها الأسی لهذه الحالة المقیتة، واغتمّت کثیراً، وتوجّهت إلی اللّه بقلب مؤمّل لرحمة اللّه تعالی وعونه. وهکذا جاء المدّد الربّاني، حیث انتدب لها نساء من خارج عالم الشهادة.

وقد تحدّث الإمام أبو عبداللّه الصادق حول ذلك الموضوع حدیثاً مفصّلاً، نقتطف منه الفقرات التالیة: «عن المفضّل بن عمر(3)، قال: قلتُ لأبي عبداللّه الصادق : کیف

ص: 248


1- . انظر: بحار الأنوار: ج43 ص4 - 6، حیث نقل الأحادیث عن أمالي الصدوق و علل الشرائع له أیضاً، و تفسیر علي بن إبراهیم و معاني الأخبار، هذا و قد ثبت بعض الأحادیث المرحوم عبد الرزّاق المقرم الموسوي في کتابه وفاة فاطمة: ص60.
2- . بحار الأنوار: ج34 ص6. وهناك مجموعة کبیرة من مصادر المسلمین تؤکّد أنّ فاطمة: انعقدت نطفتها من ثمر من الجنّة جاء به جبرئیل للنبي ، راجع المصادر التالیة: ذخائر العقبی للمحبّ الطبري الشافعي مثله بألفاظ مختلفة: ص36، و تاریخ الخمیس: ج1 ص277، و المواهب اللدنیة: ج1 ص198، و الحاکم في المستدرك، و أمالي الصدوق، و عیون أخبار الرضا، و علل الشرائع، و الاحتجاج، و لسان المیزان، واللآلي المصنوعة، و المناقب لابن المغازلي، وغیرهم.
3- . المفضّل بن عمر الجعفي. ترجمة المفضّل بن عمر الجعفي الکوفي رضوان اللّه علیه کما ذکرها العلماء الأبرار: قال الشیخ المفید في إرشاده: «هو من شیوخ أصحاب أبي عبداللّه و خاصّته و بطانته، وثقاة الفقهاء الصالحین4». Ñ Ø و قال الشیخ إبراهیم الکفعمي: «باب الإمام في العلوم و الأسرار». و قال السیّد المحقّق صدر الدین العاملي حول المفضّل2: «... رجلاً عظیماً کثیر العلم ذکيّ الحسّ، أهلاً لتحمّل الأسرار الرفیعة، و الرجل عندي من عظم الشأن و جلالة القدر بمکان». وقال المامقاني2 في تنقیح المقال ما یشبه ذلك في حدیث عن الإمام الصادق . وقال الشیخ الطوسي في الغیبة: «إن المفضّل من قوّام الأئمّة، وکان محموداً عندهم محبوباً لدیهم، ثمّ إنّه کان من وکلائهم الذین مضوا علی مناهجهم». هذه بعض الأقوال التي تؤکّد علی جلالة المفضّل بن عمر الجعفي، و هو غیر المفضّل العجلي المغالي الخطّابي المعروف.

کانت ولادة فاطمة(علیها السلام)؟ فقال: نعم، إنّ خديجة(علیها السلام) لمّا تزوّج بها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هجرتها نسوة مکّة، فکنّ لا یدخلن علیها ولا یسلّمن علیها ولا یترکن امرأةً تدخل علیها، فاستوحشت خدیجة لذلك، وکان جزعها وغمّها حذراً علیه صلّی اللّه علیه وآله، فلمّا حملت فاطمة... فلم تزل خديجة(علیها السلام) علی ذلك إلی أن حضرت ولادتها، فوجّهت إلی نساء قریش وبني هاشم أن تعالین لتلین منّي ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إلیها: أنت عصیتنا فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شیئاً، فاغتمّت خديجة(علیها السلام) لذلك، فبینا هي کذلك إذ دخل علیها أربع نسوة سمر طوال کأنّهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهنّ لمّا رأتهنّ، فقالت إحداهنّ: لا تحزني یا خدیجة، فإنّا رسل ربّك، ونحن أخواتك؛ أنا سارة، وهذه آسیة بنت مزاحم وهي رفیقتك في الجنّة، وهذه مریم بنت عمران، وهذه کلثم أُخت موسی بن عمران، بعثنا اللّه إلیك لنلي منكِ ما تلي النساء من النساء. فجلست واحدة عن یمینها، وأُخری عن یسارها، والثالثة بین یدیها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة(علیها السلام) طاهرة مطهّرة»(1).

وهکذا ولدت سیّدة نساء العالمین فاطمة بنت محمّد(صلی الله علیه و آله) في

تلك الظروف القاهرة التي تذیب القلوب القاسیة، إلّا أنّ رحمة اللّه وعنایته الخاصّة بأهل هذا البیت المبارك، حطّم حاجز الألم والعزلة الذي فرضته قریش علی آل محمّد(صلی الله علیه و آله).

وهکذا ولدت فاطمة البتول(علیها السلام) لتکون محوراً للکوثر الذي اختُصّ به محمّد(صلی الله علیه و آله) من دون سائر العباد، وامتداداً لسیّد الخلق في هذا الوجود.

ص: 249


1- . أمالي الصدوق: ص87 ح 475، ورواه الشیخ المجلسي في بحار الأنوار: ص43 ح 2.

عام الحزن والنهایة الألیمة

کان أهمّ شيء یشغل السیّدة خديجة(علیها السلام) ویؤرّقها هو: إشفاقها علی نبي اللّه أن یناله سوء من قریش التي أکبّت علی منابذته، وصعّدت من وتیرة عدائها للرسول ودعوته، لا سیّما وهي تشهد ألوان التآمر والکید القرشي للنیل من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله). ولقد کان أبو طالب یشارکها هذه المخاوف، فیعمل وسعه لحمایة النبي(صلی الله علیه و آله) من مکائد الأعداء.

ولقد اشتدّت تلك المخاوف أیّام الحصار یوم استکلبت قریش وحلفاؤها، وتعاقدوا علی تدمیر قوّة المسلمین وحلفائهم من خلال الحرب الاقتصادیة والاجتماعیة. ففي تلك الأیّام أیّام الحصار في شعب أبي طالب، کان أبو طالب مؤمن قریش الذي کان یکتم إیمانه لظروف خاصّة بالدعوة والرسالة، یخشی علی النبي(صلی الله علیه و آله) الغیلة، فإذا جنّ اللیل وأخذ الناس مضاجعهم ونام رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) علی فراشه حتّی یری أهل الشِّعب ذلك وناموا، جاء أبو طالب وأقام النبي(صلی الله علیه و آله) من فراشه ونقله إلی فراشٍ آخر، ثمّ أضجع علیّاً ولده مکانه(1)، الأمر الذي یکشف عن عمق المخاوف التي کانت تعتري أهل البیت: من تعرّض النبي(صلی الله علیه و آله) إلی مکروه من أعدائه.

ولقد کانت السیّدة خديجة(علیها السلام) من أکثر الناس حرصاً علی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) کزوجة وکمؤمنة امتحن اللّه قلبها للإیمان، فاستوعبت مهمّة النبي(صلی الله علیه و آله)، وأدرکت دوره العظیم في هذا الوجود.

صحیح أنّ قلب السیّدة خديجة(علیها السلام) کان مطمئنّاً بالتسلیم للّه ومشیئته المطلقة في الکون، إلّا أنّ مخاوفها کانت واقعیة، حیث کانت تخشی أن یُنال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بأذیً من عدوّه.

فکم من مرّة کانت السیّدة خدیجة تشهد ما یتعرّض له النبي(صلی الله علیه و آله) من عدوان وإساءة، فقد أدمی أبو لهب قدمیه وعرقوبیه بالحجارة الحادة، وکم من مرّة تعرّض رسول اللّه

ص: 250


1- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحدید المعتزلي: ج13 ص256، الغدیر للشیخ الأمیني: ج7 ص357 - 358، سیرة المصطفی لهاشم معروف الحسني: ص202.

لإلقاء القذر والنتن علی جسمه الشریف من قبل أعدائه.

وکم من مرّة هدّدوه بالقتل، حتّی أنّهم عرضوا علی أبي طالب أن یعطوه أجمل شباب قریش علی أن یسلّمهم محمّداً بدیلاً، فسخر منهم أبو طالب وطردهم شرّ طردة.

إنّ هذه الأُمور وسواها تُقلق السیّدة خدیجة حقّاً وعموم أهل البیت:، ومع هذا القلق الذي کانت السیّدة خديجة(علیها السلام) تعیشه، کان هناك الجوع والفاقة ونقص التغذیة التي بدأت تفعل فعلها في کیان السیّدة خديجة(علیها السلام) المتعب المکدود. وهکذا استبدّ الوهن بأُمّ المؤمنین وسیّدة النساء، وأخذت تتهاوی أمام المرض وسوء التغذیة.

وها هي شریکة حیاة محمّد(صلی الله علیه و آله) طوال خمس وعشرین سنة ینتهبها السقم، وهي تستسلم للموت، بعد أن عاشت مع النبي(صلی الله علیه و آله) محنته بکلّ تفاصیلها، وقدّمت کلّ ما تملك من مال وصحّة في سبیل اللّه تعالی.

فبأيّ قلب یواجه المصطفی هذه المأساة المؤلمة التي تزامنت مع الشدّة وقلّة الناصر وتکالب الأعداء؟

لقد کان النبي - وهو صاحب القلب العطوف - إلی جانبها وهي تجود بنفسها وتودع حبیبها الرسول وتوصیه ببقیّة الصفوة فاطمة(علیها السلام). لقد کان یؤذیها فراق محمّد وزهرائه وهما في هذه المحنة العصیبة.

لقد ودّعها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بکلّ قلبه، ودّع فیها الأُمّ الحنون والزوجة البارّة والشریك الصادق الحبیب. لقد ودّع بوداعها الدنیا بکلّ ما فیها من هناء وصفاء.

وفي هذه اللحظات الحزینة أومأت السیّدة خديجة(علیها السلام) لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وشکت إلیه شدّة کرب الموت، فبکی ودعا لها بالروح والفرج، ثمّ قال لها: «أقدمي خیر مقدم یا خدیجة، أسلمتك یا خدیجة علی کره منّي، قد جعل اللّه للمؤمنین بالکره خیراً کثیراً»(1).

ثمّ عدّد لها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من ستجد من أخواتها، أمثال: حوّاء، سارة، کلثم (أُخت

ص: 251


1- . مقتل الحسین للخوارزمي (فضائل خدیجة).

موسی بن عمران )، آسیة بنت مزاحم، ومریم بنت عمران.

وبعد هذه الکلمات النبویّة أسلمت السیّدة خديجة(علیها السلام) روحها إلی باریها ، فبکاها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) کثیراً؛ لقد ودّع فیها العون والسند والزوجة الصالحة والأُمّ الرؤوم.

لقد فارق من صدّقته یوم کذّبه الناس، وفارق من أیّدته یوم حاربه الناس، وفارق من أعطته یوم حرمه الناس، وفارق من کانت وعاءً للکوثر الذي وهبه اللّه إیّاه.

لقد توفّیت السیّدة خديجة(علیها السلام) في شهر رمضان من السنة العاشرة من البعثة، وذلك بعد خروج بني هاشم من الشِّعب بیسیر. ودفنها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الحجون، ونزل في قبرها صلوات اللّه علیه وسلامه؛ إکراماً لها ووفاء، ولکي یمتلئ قبرها نوراً إلی نور ببرکته ومکانته العظیمة عند اللّه .

لقد تزامنت وفاة السیّدة خدیجة مع وفاة حامي الرسالة وسندها الأکبر أبي طالب، حیث توفّي قبلها بثلاثة أیّام أو یزید، علی اختلافٍ في الروایات .

ولقد حلّت بوفاتها(علیها السلام) مصیبة کبری علی قلب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والجماعة المؤمنة، وتستطیع أن تقدّر حجم المأساة التي حلّت علی قلب النبي العظیم من خلال وصفه لهذه الحادثة الألیمة، حیث وصفها بقوله: «اجتمعت علی هذه الأُمّة مصیبتان لا أدري بأیّهما أنا أشدّ جزعاً»(1).

ولقد دعا العام الذي حدثت فیه المصیبتان وهو العام العاشر من البعثة ب- «عام الحزن»، فقد صار هذا العام عام حداد ومصیبة لعموم المؤمنین فضلاً عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله). ولعمق الفراغ الذي خلّفته السیّدة خدیجة أُمّ المؤمنین الکبری في حیاة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الخاصّة والعامّة، ظلّ طوال حیاته الشریفة یذکرها ویثني علیها، ویکرم کلّ من له علاقة بها من النساء.

وبقي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یعدّد فضائلها في مناسبة وأُخری، حتّی امتلأت بعض نسائه منها غیرةً وحسداً، رغم أنّها لم تدرکها کما أشرنا. لقد کانت السیّدة خديجة(علیها السلام) لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

ص: 252


1- . تاریخ الیعقوبي: ج2 ص35.

سنداً «بما تولیه من حبّها وبرّها، ومن رقّة نفسها وطهارة قلبها وقوّة إیمانها... خدیجة التي کانت تهوّن علیه کلّ شدّة، والتي کانت مَلَكَ رحمة یری في عینیها، وعلی ثغرها

من معاني الإیمان به ما یزیده إیماناً بنفسه»(1).

ومع الفراغ الذي ترکته السیّدة خديجة(علیها السلام) في حیاة النبي(صلی الله علیه و آله)، کانت هناك مشکلة أُخری ألمّت بالنبي(صلی الله علیه و آله)، وهي مشکلة الفراغ الذي تعاني منه فاطمة(علیها السلام) بسبب فقدانها أُمّها الرؤوم، فما أن رُزئت فاطمة(علیها السلام) بفراق أُمّها إلّا وشعرت وطأة المأساة والألم لفقدها ینبوع الحبّ والحنان الدافئ، ففاض حزنها دمعاً غزیراً، وحسرةً لا تنطفئ.

وکان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یری دموع الزهراء تسیل علی خدّیها لفراق أُمّها العزیزة، وهي تتعلّق به وتقول: «أبي أبي، أین أُمّي أین أُمي»؟»ممّا یزیده أسیً وألماً.

وقد بذل المصطفی وسعه من أجل أن یسدّ الفراغ الذي ترکته السیّدة خديجة(علیها السلام) في حیاة فاطمة(علیها السلام)، فغمرها بحبّه وحنانه فوق ما کان یفعل أیّام أُمّها، فما کان من فاطمة(علیها السلام) وهي ینبوع الحکمة والوعي والإدراك، إلّا وتبادل أباها نفس المشاعر والمودّة والحنان، فتملأ حیاته حبّاً ورعایةً، حتّی أطلق علیها: «أُمّ أبیها»(2).

وهکذا رحلت السیّدة خدیجة الکبری إلی ربّها الأعلی شهیدة صابرة محتسبة.

ثناء أهل العلم علی السیّدة خديجة(علیها السلام)

حظیت السیّدة خدیجة أُمّ المؤمنین(علیها السلام) بالمزید من الثناء والتکریم منذ بدایة حیاتها المبارکة حتّی الیوم. ولقد لاحظنا جملة من صور الثناء الذی اختُصّت به من قبل اللّه والرسول الأکرم في الصفحات السابقة.

أمّا رجال العلم والمؤرّخون والمفکّرون، فقد أحلّوا السیّدة خديجة(علیها

السلام)محلاً رفیعاً في کتاباتهم ودراساتهم عنها، وما ذکرها أحد إلّا وأشاد بذکرها الطیّب ومواقفها الکریمة.

وهذه مقتطفات من أقوال بعض رجال العلم والمعرفة نضعها بین أیدي القرّاء

ص: 253


1- . حیاة محمّد لمحمّد حسین هیکل: ص150.
2- . مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج3 ص320.

الکرام؛ لیزدادوا بصیرةً بمکانة هذه المرأة الجلیلة:

1. یقول الشیخ العلّامة عزّ الدین أبو الحسن علي بن أبي الکرم محمّد الشیباني المعروف بابن الأثیر: «وکانت خدیجة امرأة حازمة عاقلة شریفة، مع ما أراده اللّه من کرامتها، فأرسلت إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فعرضت علیه نفسها، وکانت أوسط نساء قریش نسباً وأکثرهنّ مالاً وشرفاً، وکلّ قومها کان حریصاً علی ذلك منها لو یقدر علیه»(1).

2. ویقول أبو نعیم الأصبهاني في حلیة الأولیاء عن السیّدة خدیجة ما یلي: «وکانت خدیجة تُدعی في الجاهلیة: الطاهرة»(2).

3. ویقول مؤرّخ السیرة النبویة الشهیر محمّد بن إسحاق عنها ما یلي: «کانت خدیجة أوّل من آمن باللّه ورسوله وصدّقت بما جاء من اللّه، وآزرته علی أمره، فخفّف اللّه بذلك عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وکان لا یسمع شیئاً یکرهه من ردٍّ علیه وتکذیبٍ له فیُحزنه ذلك، إلّا فرّج اللّه ذلك عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بها، إذا رجع إلیها تثبّته وتخفّف عنه وتهوّن علیه أمر الناس، حتّی ماتت رحمها اللّه»(3).

4. ویقول العلّامة ابن الجوزي شمس الدین أبو المظفّر یوسف البغدادي الحنفي نقلاً عن هشام بن محمّد ما یلي: «کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یودّها ویحترمها ویشاورها في أُموره کلّها، وکانت وزیر صدقٍ، وهي أوّل امرأة آمنت به، ولم

یتزوّج في حیاتها أحداً، وجمیع أولاده منها، إلّا إبراهیم من ماریة»(4).

5. ویقول الأُستاذ الباحث محمّد حسین هیکل حول أُمّ المؤمنین السیّدة خديجة(علیها السلام) ما یلي: «خدیجة التي کانت سند محمّد بما تولیه من حبّها وبرّها ومن رقّة نفسها وطهارة قلبها وقوّة إیمانها، خدیجة التي کانت تهوّن علیه کلّ شدّة، وتزیل من نفسه کلّ خشیة، والتي کانت مَلَكَ رحمة یری في عینیها وعلی ثغرها من معاني الإیمان به ما

ص: 254


1- . الکامل في التاریخ لابن الأثیر: ج2 ص39 40.
2- . مقتل الحسین للخوارزمي: ص31.
3- . کشف الغمّة في معرفة الأئمّة: ج2 ص132.
4- . تذکرة الخواصّ: ص272.

یزیده إیماناً بنفسه»(1).

6. ویقول المفکّر الأُستاذ سعید حوّی ما یلي: «کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یحفظ لخدیجة ذکراها بشکل منقطع النظیر، فهو آیة الوفاء في دنیا المروءة، وکان من وفائه لها أنّه یبرّ کلّ امرأة کانت لها صلة بخدیجة، وأنّه کان یذکرها بکلّ خیر، حتّی أنّ عائشة لم تُغِر من امرأة کما غارت من خدیجة وهي متوفّاة»(2).

7. ویقول الحافظ عبد العزیز الجنابذي الحنبلي في کتابه معالم العترة النبویة: «کانت خدیجة(علیها السلام) امرأة حازمة لبیبة شریفة، وهي یومئذٍ أوسط قریش نسباً وأعظمهم شرفاً وأکثرهم مالاً، وکلّ قومها قد کان حریصاً علی تزویجها، فأبت وعرضت نفسها علی النبي(صلی الله علیه و آله)، وقالت: یا ابن عمِّ إنّي رغبت فیك؛ لقرابتك منّي، وشرفك في قومك، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حدیثك»(3).

8. یقول العلّامة السیّد عبد الحسین شرف الدین: «صدّیقة هذه الأُمّة، وأوّلها إیماناً باللّه وتصدیقاً بکتابه ومواساةً لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)... انفردت برسول

اللّه(صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرین سنة لم تشارکها فیه امرأة ثانیة، ولو بقیت ما شارکتها فیه أُخری، وکانت شریکته في محنته طیلة أیّامها معه، تقوّیه بمالها، وتدافع عنه بکلّ ما لدیها من قول وفعل، وتعزّیه بما یفاجئه به الکفّار في سبیل الرسالة وأدائها، وکانت هي وعلي معه في غار حراء إذ نزل علیه الوحي أوّل مرّة»(4).

9. یقول عبد اللّه العلایلي: «کانت تستقبل آلام الکفاح الذي خاضه قرینها النبي، وخاضته معه عاملة ماضیة، وصابرة محتسبة، لا ینبض عندها عرق بلین أو تخوّف، بل تقطع قناطر الدموع والخطوب المثغولة في بسمة کبریاء، لم یعهد مثلها إلّا بعض نفر من صانعي التاریخ، بصدرها الرحب کانت تستقبل العاصفة وشظایاها المشتعلة، لا

ص: 255


1- . حیاة محمّد لمحمّد حسین هیکل: ص150.
2- . الرسول: ص167.
3- . الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصبّاغ المالکي: ص133.
4- . عقیلة الوحي: ص30.

لیکون في حسّها ذلك الرجع المدمّر أو ذاك الواقع الصاعق»(1).

وفي الختام

هذه هي خدیجة بنت خویلد زوج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، في عفّتها وطهرها وسابقیتها لتلبیة نداء الدعوة الإلهیّة، ووفائها بالعهد رغم ضروب المعاناة المادّیة والنفسیة التي صُبّت علیها منذ صدع المصطفی المختار بدعوته.

لقد قوطعت هذه المرأة من نساء قریش، فلم تستوحش في طریق الحقّ، ولم تُنل قناتها ولم تضعف أمام الحصار والمقاطعة.

ولقد وجدت الدعوة الإلهیّة في مسیس الحاجة یوم تحج-ّرت مکّة في وجهها، ومنع عنها المشرکون أيّ رفد وعون لها، فوضعت خدیجة کلّ أموالها وهي کثیرة جدّاً في حسابات ذلك العصر تحت تصرّف رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ودعوة الحقّ، ورکلت اخضرار العیش برجلها، وتناست کلّ ما کانت علیه من ثراء وترف وإمکانات، وضحّت

بکلّ ذلك في سبیل اللّه ؛ التماساً لنصرة الحقّ، وطلباً للرضوان وتوسّلاً لتحقیق أهداف النبي(صلی الله علیه و آله).

إنّ هذه الدروس النابضة بالحیاة تدعو الرجال والنساء من هذه الأُمّة أن یتدبّروا في هذه السیرة الخصبة المعطاء، ویتعلّموا منها وینهلوا من نمیرها الذي لا ینضب.

إنّها مدرسة في الکفاح الصادق الدؤوب، ومدرسة للصمود والمقاومة والتحدّي، ومدرسة للوفاء والإیمان والطاعة.

فسلامٌ علی خدیجة بنت خویلد في الخالدین، وسلامٌ علیها في المجاهدین، وسلامٌ علیها قدوةً لنساء الأُمّة عبر القرون والأجیال.

ص: 256


1- . مثلهن الأعلی خدیجة بنت خویلد: ص98.

فهرس المصادر

1. الكامل في التاريخ، علي بن محمّد الشيباني الموصلي (ت630ه )، تحقيق: علي شيري، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1408ه .

2.الاحتجاج على أهل اللجاج، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (ت620ه ) تحقيق: إبراهيم البهادري ومحمّد هادي به، طهران: دار الأُسوة، الطبعة الأُولى، 1413ه .

3.الاستغاثة، أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (ت352ه )، طهران: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1373ش.

4.أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّالدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

5.الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن الحجر العسقلاني (ت852ه )، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمّد معوّض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

6.أُصول الكافي، أبو جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت328ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري محمّد الآخوندي، بيروت و طهران: دار صعب ودار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة والخامسة.

الأمالي، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، المعروف بالشيخ

1. الصدوق (ت381ه )، تحقيق و نشر: مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الأُولى، 1417ه .

ص: 257

2.بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار:، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت1110ه )، تحقيق: دار إحياء التراث، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

3.تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، الحسين بن محمّد الديار بكري (معاصر)، بيروت: مؤسّسة شعبان.

4. تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968 م.

5. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، المعروف باليعقوبي (ت284ه )، بيروت: دار صادر.

6. تذكرة الخواصّ (تذكرة خواصّ الأُمّة في خصائص الأئمّة:)، يوسف بن فُرغلي بن عبداللّه، المعروف بسبط ابن الجوزي (ت654ه )، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، طهران: مكتبة نينوى الحديثة.

7. تفسير الجلالين، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه )، جلال الدين محمّد بن أحمد المحلّي (ت791ه )، مصر: دار الآفاق العربية، 2004م.

8. جنّة المأوي، محمّد بن الحسين آل كاشف الغطاء (ت1954م)، بيروت: دار الأضواء، 1408ه .

9. حياة محمّد، محمّد حسين هيكل (ت1956)، تعليق: عبدالرحيم الموسوي، قم: المجمع العالمي لأهل البيت:، 1386.

10. خصائص الإمام أميرالمؤمنين ، أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303ه )، تحقيق: محمّد هادي الأميني، طهران: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1403ه .

الدرّ المنثور في التفسير المأثور، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه )،

1. تحقيق: دار الفكر، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1403ه .

2. ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، أبو العبّاس أحمد بن محمّد الطبري (ت694ه )، تحقيق: أكرم البوشي، جدّة: مكتبة الصحابة، الطبعة الأُولى، 1415ه .

ص: 258

3. روضة الواعظين، محمّد بن الحسن بن علي الفتّال النيسابوري (ت508ه )، تحقيق: حسين الأعلمي، بيروت: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1406ه .

4. السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بيروت: دار إحياء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

5. السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

6. شرح صحيح مسلم للنووي، أبو زكريا يحيى بن شرف النوَوي (ت676ه )، تحقيق: خليل الميس، بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الأُولى، 1407ه .

7. شرح نهج البلاغة، عبد الحميد بن محمّد المعتزلي (ابن أبي الحديد) (ت656ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الثانية، 1387ه .

8. صحيح البخاري، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الرابعة، 1410ه .

9. العقد الفريد، أبو عمر أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي (ت328ه )، تحقيق: أحمد أمين أحمد الزين وإبراهيم الأبياري، بيروت: دار الأندلس، الطبعة الأُولى، 1408ه .

10. علل الشرائع. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )،النجف الأشرف: مكتبة الحيدرية، 1385ه، النجف الأشرف: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1385ه .

11. الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، عبد الحسين بن أحمد الأميني (ت1390ه )، بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، 1387ه .

الفصول المهمّة في أُصول الأئمّة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي

1. (ت1104ه )، تحقيق: محمّد بن محمّد الحسين القائيني، مؤسّسة معارف إسلامي إمام رضا ، الطبعة الأُولى، 1418ه .

2. في ظلال القرآن، السيّد القطب، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1391ه .

3. كتاب من لا يحضره الفقيه، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي

ص: 259

(الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1404ه .

4. كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، أبي الحسن علي بن عيسى الإربلي (ت693ه )، بيروت: دار الأضواء، الطبعة الثانية، 1405ه .

5. اللآلي المصنوعة في الأحادیث الموضوعة: عبدالرحمن السيوطي (ت911ه )، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولی، 1417ه .

6. لسان الميزان، أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (ابن حجر) (ت852ه )، بيروت: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الثالثة، 1406ه .

7. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807ه )، تحقيق: عبد اللّه محمّد درويش، بيروت: دار الكتب العلمية، 1408ه .

8. المستدرك على الصحيحين، أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الحاكم النيسابوري (ت405ه )، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1411ه .

9. معاني الأخبار، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1361ش.

10. المفردات في غريب القرآن، الراغب الإصفهاني (ت425ه )، بيروت: دار العلم للشامية، 1412ه .

مقتل الحسين ، أبو المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزمي (ت568)، تحقيق: الشيخ

1. محمّد السماوي، قم: منشورات مكتبة المفيد.

2. مناقب آل أبي طالب (المناقب لابن شهرآشوب)، أبو جعفر محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ابن شهرآشوب) (ت588ه ) تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي، قم: منشورات علّامة.

3. المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية، أحمد بن محمّد القسطلاني (ت923)، تحقيق: صالح أحمد الشامي، بيروت: المكتب الإسلامي، 1412ه .

ص: 260

4. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار المعرفة، الطبعة الأُولى، 1382ه .

5. الميزان في تفسير القرآن (تفسير الميزان) ، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي (1402ه )، قم: منشورات جماعة المدرّسين، طبع: مؤسّسة إسماعيليان، الطبعة الثانية، 1394ه .

6. نهج البلاغة، ما اختاره أبو الحسن محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي (الشريف الرضي) (ت406ه )، تحقيق: صبحي صالح، قم: منشورات هجرت، الطبعة الأُولى، 1395ه .

7. ينابيع المودّة لذوي القربى، سليمان بن إبراهيم القُندوزي الحنفي (ت1294ه )، تحقيق: سيّد علي جمال أشرف الحسيني، طهران: دار الأُسوة، الطبعة الأُولى، 1416ه .

ص: 261

ص: 262

خدیجة من تکون؟

15- خدیجة من تکون؟

اشارة

* خدیجة من تکون؟ (1)

د. سلوي بالحاج صالح العایب

ملخّص البحث:

تستقرئ كاتبة هذا البحث شخصية خديجة ودورها من خلال ثلاثة أبواب: نسبها القبلي، تجارتها، وتکوينها العقلي والعقائدي. وتبيّن ما كان لها من شرف ومنزلة بين أبناء قومها، وما كانت عليه من ثراء ووجاهة. وتتحدّث في بداية البحث بالتفصيل عن نسب خديجة ومكانة قومها؛ فهي من بني أسد الذين كانوا من وجهاء مكّة، وكان أبوها خويلد من من أصحاب الرئاسة والشرف فيها، کما کان خويلد من أکثر أبناء أسد ولداً، وکان الولد في الحياة القبلية مصدراً للجاه والشرف، وإلی ذلك کلّه کان سيّد بني أسد بن العزّی. وأمّا نسب خديجة من جهة الأُمّ، فهي قرشية من قريش الظواهر. ويتناول هذا البحث کذلك ما كان يُروى حول زواجها من رجلين قبل النبي(صلی الله علیه و آله)، مبيّناً أنّ هذه الظاهرة كانت شائعة في ذلك المجتمع. ويشرح العوامل التي ساعدت خديجة لامتهان التجارة دون أن يثير ذلك أيّ إشکال في قومها وفي المجتمع المکّي عامّة. وخديجة وإن لم تکن تتنقّل في البلدان والأسواق بنفسها، إلّا أنّها هي التي کانت تشرف علی مصالحها، فهي کانت صاحبة شخصية قوية وعلی دراية بأُمورها، تعرف من تختار

ص: 263


1- . دثّریني... یا خدیجة: دراسة تحلیلیة لشخصیة خدیجة بنت خویلد، بیروت: دار الطلیعة للطباعة والنشر، 1999م: ص21 - 22.

ليتسوّق بتجارتها، ولم تکن ضحيّة لتلاعب بعض التجّار أو الوکلاء. وفي هذا الصدد قالت المصادر أنّها کانت حازمة ولبيبة وجلدة. ويخصّص البحث مساحة واسعة لشرح الظروف الفكرية والاعتقادية التي كانت سائدة في ذلك المجتمع يومذاك، والأديان التي كانت تنتشر فيه. ومن خلال كلّ ما ذُكر فإن، هذه العناصر تتيح لنا الاستنتاج بأنّ خديجة لم تکن کأيّ امرأة عادية في قريش؛ فهي کانت علی الأقلّ امرأة ذات شخصية مستقلّة وقويّة ومتفرّسة، وهو ما سيکون له انعکاساته علی علاقتها بمحمّد وسلوکها معه.

هنالك ثلاثة عوامل لا یُمکن من دونها فهم شخصیة خدیجة ولا تحدید دورها في علاقتها بمحمّد، وهذه العوامل هي:

- نسبها القبلي.

- تجارتها.

- تکوینها العقلي والعقائدي.

1. خدیجة شریفة بني أسد

یمثّل النسب لدی القبائل العربیة التي کانت تعیش في مکّة أو في غیر مکّة، مقوّمة من مقوّمات شخصیّة الفرد(1). والنسب هنا یعني انتساب الدم إلی هذه القبیلة أو تلك، ثمّ إلی هذا الفرع أو ذاك من هذه العشیرة، وأخیراً إلی هذه العائلة أو تلك من هذا الفرع بکلّ ما في ذلك من حالات رمزیّة تخصّ أمجاد القبیلة فالفرع فالعائلة. لذلك یحرص الفرد علی معرفة نسبه وعلی التباهي به؛ لأنّه یفصح عن مکانة معیّنة داخل ذلك المجتمع.

ولقد ظلّ تقلید النسب قویّاً في المجتمع المکّي، ممّا یعني قوّة التقلید القبلي أیضاً بالرغم من التطوّرات التي عرفها هذا المجتمع قبل ظهور الإسلام، إذ بدأت تشقّه انقسامات من طبیعة أُخری، طبقیّة تقابل بین أغنیاء وفقراء، أسیاد وعبید، لکنّ هذه

الانقسامات لم تکن علی درجة من التطوّر تجعلها تطمس التقلید القبلي(2)، أو تطغی

ص: 264


1- . انظر: دراسة بِشر فارس: Fares (bichr); L'honneur chez lesarabes avant l'islam; pp. 81-87.
2- . یذهب مونتغمري وات M.watt إلی فکرة مغایرة، وهي أنّ النزعة الفردیّة هي التي بدأت تبرز علی حساب النزعة القبلیّة في المجتمع المکّي قبیل الإسلام (محمّد في مکّة: ص42 - 47).

علیه، فتوحّد المجتمع ضن ترکیبة واحدة یتحدّد موقع الفرد فیها حسب ثروته.

إنّ عملیّة الاستعباد مثلاً لا تتمّ من صلب القبیلة نفسها، أي أنّ أفراد القبیلة الواحدة لا یستعبدون بعضهم البعض، بل «یستوردون» عبیدهم من قبائل ومناطق أُخری، شراءً أو أسراً(1). فقد کان البشر جزءاً من الغنیمة التي توزّع عقب الغزوات والحروب.

وممّا لاشكّ فیه أیضاً أنّ الثراء في صلب المجتمع المکّي، أفرز أرستقراطیّة قرشیة من طبیعة تجاریة بحکم کون التجارة أهمّ الأنشطة الاقتصادیة في مکّة(2). ومکّن هذا الثراء من بروز قبائل علی حساب أُخری، وعائلات في صلب القبیلة نفسها علی حساب أُخری، وهو ما أهّلها للسیطرة والنفوذ، سواء علی مستوی القبیلة أو علی مستوی مجموع القبائل، کما أفسح هذا التطوّر المجال لنموّ موقع الفرد ضمن العلاقات الاجتماعیة القائمة.

لکنّ ذلك الثراء لم یکن من نتائجه تخلّي صاحبه عن قبیلته وتعویض «العصبیة القبلیة» إن شئنا ب- «عصبیة طبقیة»، «أُخوّة الثروة» بدل «أُخوّة الدم» بشکل واضح وحاسم، بل إنّ الثريّ عادة ما یبقی الناطق باسم القبیلة یستمدّ منها قوّته وتستمدّ منه عزّتها ومجدها، لذلك کان الثراء یتقاطع أو یتّحد إن شئنا مع النسب، ولا یتعارض أو یتنافر معه، دون أن یعني ذلك نفیاً لظهور تمایزات اجتماعیة في داخل القبائل، نجد إشارة واضحة إلیها في القرآن عند حدیثه عن الثراء الفاحش وحبّ المال والترف من جهة، وعن الفقراء والمساکین والیتامی المقهورین من جهة ثانیة.

وقد کانت خدیجة بنت خویلد «ذات نسب مرموق»، فهي حسب النسّابین والمؤرّخین «خدیجة بنت خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصي بن کلاب بن مرّة بن کعب بن لؤي بن غالب بن فهر»(3).

ص: 265


1- . محمّد في مکّة: ص242 - 248.
2- . راجع هنری لامنس: Lammens (henri), L'Arabie occidentale avant L'hegire؛ وباتریسیا کرونة Crone (Patricia), Meccan Trade and theRise of islam..
3- . انظر: شجرة نسب «أسد بن عبد العزّی»: ص26، المصعب الزبیري، المصدر نفسه: ص206، ابن هشام، المصدر نفسه: ج1 ص198، ابن سعد، المصدر نفسه: ج8 ص14، ابن الکلبي، المصدر نفسه: ج1 ص75.

أمّا أُمّها فهي فاطمة بنت زائدة بن جندب، وهوالأصمّ بن هدم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معیص.وأُمّ فاطمة هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عمرو بن منقذ بن عمرو بن معیص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر. وأُمّ هالة العرقة، وهي قلابة بنت سعید بن سهم بن عمرو بن هصیص بن کعب بن لؤي(1).

فخدیجة إذاً أسدیة بنسب أبیها. وعشیرة أسد هي إحدی عشائر «قریش البطاح»، جدّهم عبد العزّی بن قصي، وهم الذین کانوا یسکنون بباطن مکّة بالوادي(2)، وقد أقاموا في بیوت مستقرّة، ویبدو من وصف أهل الأخبار لبیوت مکّة أنّ بیوت أثریائها وسادتها مبنیة بالحجر.

ولبعض الدور حجر عند باب البیت یجلس تحته لیستظلّ من أشعة الشمس، وکان لمنزل خدیجة حجر من هذا الطراز(3)، وهو یوجد برباع بني أسد حیث دار أبي البختري بن هاشم بن الحارث بن أس، أحد أشراف بني أسد، ودار الزبیر بن العوّام بن خویلد، ودار حکیم بن حزام ابن أخي خدیجة.

وکان بنو أسد من وجهاء مکّة، وکان خویلد والد خدیجة من أصحاب الرئاسة والشرف فیها، عُرف بالصدق والأمانة والأنفة؛ وهي من الصفات المحبّبة والمفضّلة لدی العرب قبل الإسلام، وتشکّل عنصراً من عناصر التفاضل بین القبائل في باب النسب والشرف.

کما کان خویلد من أکثر أبناء أسد ولداً، وکان الولد في الحیاة القبلیة مصدراً للجاه

ص: 266


1- . المصعب الزبیري، المصدر نفسه: ص22، ابن هشام، المصدر نفسه: ج1 ص201، أمّا ابن سعد في الطبقات فیذکر نسب أُمّ خدیجة بشيءٍ من الاختلاف: ج8 ص14.
2- . «قریش البطاح» هي قبائل بني عبد مناف وبني عبد الدار وبني عبد العزّی وبني عبد قصي وبني زهرة وبني مخزوم وتیم بن مرّة وجمح وسهم وعدي وبني عتیك بن عامر بن لؤي. وقصي هو الذي أدخل البطون المذکورة الأبطح، فسُمّوا البطاح. أمّا بقیّة بطون قریش فنزلوا بظواهر مکّة وجبالها، فسُمّوا بقریش الظواهر، وکانوا أعراباً وأصحاب قتال (راجع: أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص39 - 40، ومروج الذهب للمسعودي: ص64، ابن حبیب، المصدر نفسه: ص167 وما بعدها).
3- . الطبري، المصدر نفسه: ج2 ص282، أخبار مکّة للأزرقي: ص199.

والشرف، وإلی ذلك کلّه کان سیّد بني أسد بن العزّی(1).

وتذکر المصادر أنّ حکیم بن حزام کان من وجوه قریش وأشرافها، وتذهب إلی أنّه کان عضواً في دار الندوة بمکّة «الملأ»؛ وهو مجلس یضمّ الرؤساء والأعیان للتشاور في الأُمور والبتّ فیها.

وحسب المصادر فإنّ حکیم دخل دار الندوة وهو ابن خمس عشرة سنة رغم أنّ السنّ الأدنی لدخولها کانت محدّدة بأربعین سنة فأکثر(2). ولسنا ندري إن کانت هذه الروایة تحمل شیئاً من الصحّة أم أنّها مختلقة، ومهما یکن من أمر ففیها مبالغة، إذ إنّه مهما کانت خصال حکیم الاستثنائیة، فإنّ سنّ دخوله إلی دار الندوة - کما تذکره الروایات - مبکّرة جدّاً لا تسمح له بکسب المؤهّلات المطلوبة، لکنّنا لا نجد من جهة أُخری سبباً مقنعاً یدفع بالرواة إلی تهویل قدراته، والحال أنّه دخل الإسلام متأخّراً یوم فتح مکّة(3).

فالأرجح إذن أنّه دخل دار الندوة قبل بلوغ الأربعین لا غیر؛ لبعض مآثره الخاصّة. وممّا یُذکر عن حکیم أنّه کان في الجاهلیة «حمّال أثقال الدیات»؛ وهي صفة وصفه

بها حسّان بن ثابت في دیوانه(4)؛ تنویهاً بشهامته، وقد کانت الشهامة من شیم السادة عند العرب.

وتذکر بعض الکتب أنّ قبیلة بني أسد کانت من بین القبائل التي عقدت «حلف الفضول»؛ وهو عهد جمع بین قبائل من قریش (بنو هاشم وبنو المطّلب وبنو أسد بن عبد العزّی وبنو زهرة بن کلاب وتیم بن مرّة) حول نصرة المظلوم بمکّة(5). إلّا أنّها لمّا خرجت من ذلك الحلف قویت اقتصادیاً وانتقلت إلی دائرة «الأعمال الضخمة»؛ ممّا

ص: 267


1- . ابن حبیب، المصدر نفسه: ص164 وما بعدها وص207، ابن الکلبي، المصدر نفسه: ج1 ص75 - 88.
2- . ثمار القلوب للثعالبي: ص518 وما بعدها، ابن حبیب، المصدر نفسه: ص231.
3- . المصعب الزبیري، المصدر نفسه: ص231.
4- . دیوان حسّان بن ثابت: ص70.
5- . الأغاني: ج17 ص215.

یعني أنّ موقعها تحسّن اقتصادیاً علی الأقلّ(1).

أمّا نسب خدیجة من جهة الأُمّ فهو قرشي، کانت أُمّها قرشیة قحّة، وإن هي من قریش الظواهر(2)، وقد کان قرشیو البطاح یتزوّجون من نساء الظواهر، ولا تذکر لنا کتب التاریخ أکثر من ذلك عن أُمّ خدیجة.

وهکذا فإنّ خدیجة بحکم معاییر العصر کانت عمیقة النسب أصیلته من جهة والدها علی الأقلّ. ینقل ابن هشام في السیرة النبویة عن ابن إسحاق أنّ خدیجة کانت «أوسط نساء قریش نسباً وأعظمهنّ شرفاً»(3) . ومن البدیهي أنّ نسب خدیجة یوفّر لها کامرأة شریفة الاحترام والتقدیر ویبوّؤها مکانة هامّة في مجتمعها، کما یوفّر لها من الناحیة النفسیة الشعور بنوع من العزّة والقوّة والحصانة.

ولا نعثر في کتب التاریخ علی تحدید واضح لتاریخ میلاد خدیجة، وهو أمر طبیعي بما أنّ العرب لم یکن لدیهم في ذلك الوقت طریقة دقیقة في التاریخ قائمة

علی ضبط السنة والشهر والیوم وفقاً لتقویم زمني معیّن. هنالك إشارة إلی أنّ محمّداً وُلد عام الفیل، وبما أنّ الروایات تذکر أنّ خدیجة تکبره بخمس عشرة سنة، فمعنی ذلك أنّها وُلدت قبل عام الفیل بتلك المدّة، ومادام الشكّ قائماً حول تاریخ میلاد محمّد نفسه، فإنّ تاریخ میلاد خدیجة یبقی بدوره غیر ثابت، شأنه شأن سنّها عند زواجها بمحمّد مثلما سنبیّن ذلك لاحقاً.

وقد تزوّجت خدیجة مرّتین، لکنّ الروایات لا تذکر متی تمّت هاتان الزیجتان بالضبط، کما أنّها تختلف في تحدید أیّتهما الزیجة الأُولی وأیّتهما الثانیة، وإذا کانت أغلب الروایات تشیر إلی أنّ زوجي خدیجة الأوّلین توفّیا، فإنّ بعضها یذهب إلی أنّ أحدهما مات بالفعل، أمّا الثاني فقد انفصلت عنه بالطلاق.

ص: 268


1- . راجع: وات، المرجع نفسه: ص153، وانظر کذلك: ابن هشام، المصدر نفسه: ج1 ص140 - 142.
2- . ورد في أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص39: «أنّ بني معیص بن عامر بن لؤي (قوم أُمّ خدیجة) من قریش الظواهر».
3- . ابن هشام، المصدر نفسه: ج1 ص201. ویقال: «فلان أوسط القبیلة»؛ أي أعرفها وأولاها بالصمیم.

ومهما یکن من أمر وبقطع النظر عن تلك الاختلافات، فالمؤکّد أنّ خدیجة تزوّجت أبا هالة، واسمه هند ابن النبّاش، من بني أسیّد بن عمرو بن تمیم، وقد کان بنو أسیّد حلفاء بني عبد الدار بن قصيّ الذین کانوا یحالفون خویلد بن أسد، وکانت قریش تزوّج حلیفهم.

وقد أنجبت له خدیجة ولدین: هند وهالة، وهما اسمان مؤنّثان عادةً، إلّا أنّهما کانا یُطلقان علی الذکور أیضاً؛ للتدلیل، وقد تلقّب ابن النبّاش بأحدهما.

کما تزوّجت خدیجة عتیق بن عابد المخزومي. ومخزوم عشیرة قرشیة کانت لها السیطرة السیاسیة في ذلك الوقت، کما کانت ذات باع في عالم التجارة، وقد کانت له من خدیجة بنت تُدعی هند. وتشیر بعض الروایات إلی أنّه توفّي تارکاً لخدیجة ثروة طائلة، وتنسب بعض الروایات هذه الثروة إلی زوجها التمیمي الذي أنجبت له هالة وهند(1).

وعلی فرض أنّ هذه الروایات صحیحة، فإنّها لا تقدّم لنا معلومات عن کیفیّة انتقال تلك الثروة من هذا الزوج أو ذاك إلی خدیجة. وهذا الأمر لا یثیر لدی أصحاب تلك الروایات أيّ تساؤل، والحال أنّهم ینقلون لنا في الوقت نفسه أخباراً تفید أنّ عرب الجاهلیة کانوا یخصّون الذکور الکبار فحسب بالإرث ویحرمون منه الإناث والأطفال؛ لأنّهم «لا یلاقون العدوّ ولا یقاتلون في الحروب»(2)، بل إنّ المرأة إذا لم تکن أُمّ ولد وُرِثت هي أیضاً ضمن ترکة الزوج المتوفّی، فإذا کانت هذه القاعدة عامّة ومطبّقة بشکل صارم، فأنّی لخدیجة أن ترث الثروة الطائلة لتمیمیّهاأو مخزومیّها؟ إنّنا نرجّح أنّ الأُمور لم تکن بالصرامة التي تنتفي معها الاستثناءات ولا بالشمولیة التي تغیب معها الخصوصیات، فنحن أمام عادات وتقالید تفعل فعل القانون، ولسنا بمحضر قانون منظّم للعلاقات تشرف علیه سلطة مرکزیة وترعی تنفیذه، کما أنّنا لسنا إزاء مجتمع

ص: 269


1- . عن هاتین الزیجتین انظر: طبقات ابن سعد: ج8 ص14 - 15، ابن حبیب، المصدر نفسه: ص99، 164، 452، ابن الکلبي، المصدر نفسه: ص279، أُسد الغابة لابن الأثیر: ج7 ص79 - 80، الطبري، المصدر نفسه: ج3 ص161، الحیوان للجاحظ: ج6 ص72، صفة الصفوة لابن الجوزي: ج1 ص25.
2- . تفسیر الطبري: ج3 ص616 (سورة النساء).

متجانس، بل إزاء حیاة قبلیّة تکمن فیها الخصوصیات، ولیس أدلّ علی ذلك من أنّ هنالك روایات تجعلنا نفهم أنّ حرمان النساء من الإرث لم یکن بالضرورة «سنّة عامّة عند جمیع القبائل»، حسب عبارة جواد علي(1).

وإلی ذلك فإنّ إمکانیة خرق الأعراف القبلیة من الأُمور الواردة، فالروایات تذکر لنا أیضاً أنّ أحد العرب وهو ذو المجاسد عامر بن جشم بن غنم بن حبیب بن کعب بن یشکر، کان أوّل من خصّ بناته بالإرث في الجاهلیة، خارقاً بذلك الأعراف السائدة، فورّث ولده ترکته وفقاً لمبدأ «وللذکر مثل حظّ الأٌنثیین»، الذي سیتحوّل لاحقاً إلی مبدأ إسلامي(2).

وعلی هذا الأساس، فإن صحّ ما یُروی من أنّ خدیجة ورثت من أحد زوجیها ثروة

طائلة، فیُرجّح أنّ ذلك تمّ بحکم وصیّة أو بحکم کونها کانت شریکة لذلك الزوج في تجارته، أو أنّه وهبها وهو علی قید الحیاة جزءاً من ثروته.

وهنالك احتمال آخر، وهو أنّ خدیجة إذا کانت ورثت من زوجها التمیمي، فقد یکون ذلك بسبب الولدین اللذین أنجبتهما منه، ولکن هذا یفترض أنّهما کانا بالغین عند وفاته، قادرین علی حمل السلاح، مثلما تقتضي الأعراف.

ومهما یکن من أمر، فإنّ زیجتي خدیجة یمکن أن نستنتج منهما أهمّیة مرکزها، فقد کان الزواج في قریش علی صلة بأهمّیة النسب، فلئن کنّا لا نعرف شیئاً کثیراً عن أبي هالة؛ لنقص في المعطیات، فإنّ عتیق المخزومي جمعت قبیلته بین السیادة والثراء.

وتذکر المصادر أنّ خدیجة بعد فقدانها لزوجها الثاني رغب الکثیرون من قومها ومن سادة قریش وزعمائها في الزواج منها، لکنّها رفضت، ولا ندري إن کان هذا الخبر صحیحاً أم خاطئاً، فقد یعکس حقیقة؛ لأنّ کثرة الزیجات بالنسبة للمرأة في المجتمع المکّي کانت أمراً شائعاً، فطلاق من زوج أووفاة زوج لم یکن لیضع حدّاً للحیاة

ص: 270


1- . المفصّل في تاریخ العرب قبل الإسلام لجواد علي: ج5 ص562 وما بعدها.
2- . المحبّر لابن حبیب: ص236 - 237.

العاطفیة والجنسیة للمرأة حتّی لو کان لها أطفال عدیدون، ممّا یعني أیضاً أنّه لم یکن لیرغب الرجال عن هذه المرأة «الثیّب».

أضف إلی ذلك عامل النسب والثروة في حالة خدیجة، فقد کان الزواج منها یزید طالبه حظوة بین قومه، وقد تکون هي رفضت الزواج ممّن طلبوا یدها لشعورها بأنّه لن یحقّق لها ما تریده من استقرار عائلي وعاطفي في زواج أحادي مثلاً. کما قد یکون ذلك الخبر منتحلاً بهدف إضفاء مزید من الأهمّیة علی زواج خدیجة بمحمّد وإعطائه بُعداً أُسطوریاً.

2. خدیجة التاجرة

من نافل القول إنّ أهل قریش کانوا «قوماً تجّاراً»، وکان أهل خدیجة من بینهم، مثل أبي

زمعة الأسود بن المطّلب الذي کان من أغنیاء مکّة(1)، وابنه زمعة الذي کان متجره إلی الشام(2)، وحکیم بن حزام ابن أخي خدیجة(3).

وکان حجم النشاط التجاري للفرد یُحدّد بشکلٍ ما موقعه في القبیلة، کما یُحدّد حجم النشاط التجاري للقبیلة موقعها بین القبائل، وقد کان ذلك بارزاً خصوصاً في المجتمع المکّي ما قبل الإسلامي، حیث بدأت تبرز أهمّیة العنصر الاقتصادي في العلاقات الاجتماعیة(4).

ولا یتعلّق الأمر بقوم خدیجة فقط، فهي نفسها کانت تسهم بمالها في التجارة: «کانت خدیجة ذات شرف ومال کثیر وتجارة تبعث إلی الشام، فیکون عیرها کعامّة عیر قریش، وکانت تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربةً»(5).

ص: 271


1- .ابن حبیب، المصدر نفسه: ص159، البلاذري، المصدر نفسه: ج1 ص149.
2- . ابن حبیب، المصدر نفسه: ص158.
3- . نسب قریش للزبیر بن بکّار: ج1 ص367 الرقم 644.
4- . انظر في هذا الشأن: وات، المرجع نفسه، ورودنسون، Rodinson (Maxime) Lammens (Henri), L,Aravie occidentale l,he,gire، و لامنس، Mahomet
5- . ابن سعد، المصدر نفسه: ج8 ص16، ابن هشام، المصدر نفسه: ج1 ص199، الطبري، المصدر نفسه: ج2 ص280.

هکذا تقول کلّ المصادر، والملفت للنظر أنّها لا تتساءل عن ذلك أو تستهجنه باعتبار خدیجة امرأة، بل تقدّمه أمراً عادیاً رغم ما نعرفه عن المجتمع القرشي الذي کان في الحقیقة مجتمعاً ذکوریاً خضعت فیه المرأة بصورة عامّة لسلطة الرجل، وکان الرجال قوّامین فیه أساساً علی النشاط التجاري، والدارس لا یجد فیه أثراً لتاجرات في حجم خدیجة، عدا أسماء بنت مخربة أُمّ أبي جهل حسب المعلومات التي تمکّنا من العثور علیها في معظم المصادر، فقد کانت أسماء تبیع العطور التي یرسلها إلیها ابنها عبد اللّه بن أبي ربیعة من الیمن(1).

ویختلف المجتمع القرشي من ناحیة التقالید الاجتماعیة المتعلّقة بالمرأة مع

عادات وتقالید جنوب الجزیرة (الیمن)، وحتّی مع المدینة التي هاجر إلیها عدد من العائلات الیمنیة وأثّروا في عاداتها وتقالیدها، فالیمن عرفت حسب الباحثین عادات وتقالید «أُمومیة»(2)، ظلّت مؤثّرة لزمن طویل، وهو ما بوّأ المرأة مکانة في العلاقات الاجتماعیة أهمّ ممّا کانت علیه في مکّة، ووفّر لها حرّیة أکثر علی المستوی الشخصي، وهو ما سیصطدم به مثلاً المهاجرون القرشیون إلی المدینة بعد البعث، وسیعبّر عن ذلك عمر بن الخطّاب خیر تعبیر بقوله: «وکنّا معشر قریش نغلب النساء، فلمّا قدمنا علی الأنصار إذ هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفقت نساؤنا یأخذن من أدب نساء الأنصار»(3).

یکون من المنطقي أن یتساءل المرء: کیف تحوّلت خدیجة إلی تاجرة کبیرة في مثل المجتمع المکّي الذکوري الذي لا یساعد عامّة علی نماء شخصیة المرأة وبروزها؟ وفي رأيي أنّ کون العنصر الذکوري هو المسیطر في المجتمع المکّي لا یعني في المطلق عدم إمکانیة بروز عناصر من الجنس المقابل في میدان من المیادین بما في

ص: 272


1- . ابن سعد، المصدر نفسه: ج8 ص220، مغازي الواقدي: ص65.
2- . من أهمّ الدراسات دراسة یوسف شلحد: Chehod (Joseph), «Du nouveau á Porpes du "Matriarcat" Arave», Arabica, 28 (1981), pp. 71 – 106
3- . صحیح البخاري، کتاب النکاح: ج6 ص148.

ذلك المیدان التجاري، محور النشاط الاقتصادي في مکّة، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بامرأة شریفة، فالأرجح أن یکون للشریفات في مکّة وضع خاصّ متمیّز عن وضع سائر النساء یجعلهنّ أکثر تحرّراً.

ولیس هذا خاصّاً بالمجتمع المکّي فحسب، فسیادة ظاهرة معیّنة في أيّ مجتمع من المجتمعات لا یمکن أن تکون بأيّ حال من الأحوال مطلقة؛ لأنّ المجتمع کظاهرة حیّة یصعب أن یخضع لنمطیة محدّدة، فهنالك دائماً القاعدة، ولکن توجد إلی جانبها الاستثناءات التي لها ما یفسّرها في العلاقات الاجتماعیة المعقّدة والمتشعّبة.

وما من شكّ في أنّ بعض الظروف الاجتماعیة ساعدت خدیجة علی احتلال الموقع الذي احتلته، فقد تکون عندما امتهنت التجارة أضحت بعدُ امرأة ناضجة، تزوّجت زواجاً أوّلاً ثمّ ثانیاً وأصبحت أُمّ عیال تُلقی علی عاتقها مسؤولیة کفالة أبنائها، ثمّ إنّها حسب ما نفهم أخبار المؤرّخین والنسّابین لم تکن في کفالة أيّ رجل من عائلتها، فوالدها متوفّی(1).

وتشیر بعض المصادر إلی عمٍّ لها؛ عمرو بن أسد، کان في سنٍّ متقدّمة جدّاً(2)، لا یمکنه الوقوف علی مصالح بنت أخیه والتکفّل بشؤونها، کما تشیر مصادر أُخری إلی أنّ لها إخوة، وهم: العوّام وحزام ونوفل(3)، ولکن لا نعرف کثیراً عن هؤلاء الإخوة باستثناء بعض الإشارات حول أعمال بعضهم، فقد کان العوّام خیّاطاً(4). والواضح أنّهم لو کانوا في موقع یؤهّلهم لإدارة شؤون أُختهم لأشارت الکتب إلی ذلك.

ثمّ إنّ خدیجة کانت «ذات مال وفیر»، وهو عامل له وزنه داخل العلاقات القبلیة یدعّم

ص: 273


1- . ابن هشام، المصدر نفسه: ج1 ص201 (هامش 3). وذکر ابن سعد أنّ خویلد مات یوم الفِجَار، وکان في هذه الحرب (بین قیس عیلان وبني کنانة) علی رأس بني أسد، المصدر نفسه: ج8 ص16، المسعودي، المصدر نفسه: ج2 ص278.
2- . ابن الکلبي، المصدر نفسه: ج1 ص87، ابن حبیب، المصدر نفسه: ص78.
3- . ابن الکلبي، المصدر نفسه: ج1 ص18.
4- . الأعلاق النفیسة لابن رستة: ص215.

مرکز صاحبته، حتّی لو کانت من الجنس الأُنثوي، ویوفّر لها من حرّیة التصرّف ما لا یتوافر لغیرها من بني جنسها ممّن هنّ في مرتبة اجتماعیة أقلّ، خاصّة في مجتمع تجاري، فالتجارة علی عکس الأنشطة الفلّاحیّة الرعویّة المنغلقة إلی حدٍّ ما، تؤثّر في العقلیات، فتجعلها أکثر قبولاً لبعض الأوضاع التي لا تتطابق بالضبط مع التقلید أو العادة.

کلّ هذه العوامل کانت کفیلة في رأيي بأن تؤهّل خدیجة لامتهان التجارة دون أن یثیر ذلك أيّ إشکال في قومها وفي المجتمع المکّي عامّة، بل الواضح أنّها کانت

تحظی بالاحترام والتقدیر، وإن کنّا نظلّ نتساءل عن مصدر «المال الوفیر» الذي کانت خدیجة تُسهم به في التجارة.

لقد أثرنا أعلاه موضوع الثروة الطائلة التي تقول الروایات أنّها ورثتها عن أحد زوجیها، ومع ذلك فإنّنا نتساءل: هل إنّ کلّ ثروة خدیجة متأتّیة من ذلك المیراث، أم کانت هي نفسها تتمتّع أصلاً بشيء من الثروة المتأتّیة من أهلها؟ أم أنّها - وهذا احتمال ثالث - استثمرت رأس مال خاصّ بها في التجارة والمضاربة وکوّنت منه ثروتها التي تتحدّث عنها الروایات؟

إنّ غیاب المعلومات الدقیقة في هذا المجال یترك الباب مفتوحاً بالطبع أمام التقدیرات المبالغ فیها، فلا نخال المصادر مثلاً تقول صحیحاً عندما تذکر أنّ تجارة خدیجة کانت تشکّل نصف القافلة التي تتجّه إلی الشام(1)؛ لأنّ خدیجة لا نجد لها ذکراً ضمن قائمة کبار تجّار قریش الذین کانوا لِعظم تجارتهم یملکون قوافلهم الخاصّة(2). فالأرجح إذاً أنّ تجارتها کانت متوسّطة، وأنّ الرواة بالغوا فیها تعظیماً لعلاقتها بمحمّد.

ومهما یکن من أمر هذه المبالغة، فإنّ کون خدیجة ثریّة لا یمکن أن یتسرّ إلیه الشكّ، إذ نجد له صدیً في القرآن باعتباره أثبت نصٍّ محفوظ ینقل لنا أخباراً عن تلك الفترة التي عاشتها خدیجة، خاطب القرآن محمّداً: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)(3)، وتؤکّد

ص: 274


1- . ابن سعد، المصدر نفسه: ج8 ص16.
2- . أمثال: الولید بن المغیرة، هشام بن المغیرة والد أبي جهل، أبو أُحیحة سعید بن العاص، أبو سفیان... وغیرهم.
3- .الضحی: 9.

کتب التفاسیر أنّ المقصود بهذه الآیة أنّ اللّه أغنی محمّداً بمال خدیجة الثریّة(1)، وهو المعنی الموجود في الحدیث عندما ذکر محمّد لعائشة أنّ خدیجة «واسته بمالها»(2)، أو عندما قدم محمّد مهموماً إلی خدیجة بعد البعث لیشکوها حالة القحط، فقال لها

حینما سألته عن حزنه: «الزمان زمان قحط، فإن أنا بذلت المال ینفذ مالك، فأستحي منك، وإن لم أبذل أخاف اللّه...» (3)؛ أي أنّ الغنی کان غنی خدیجة، وأنّ اللّه متّعه به إذ زوّجه منها، وبالتالي فإنّ محمّداً لم تکن له ثروة خاصّة به ولم یستغلّ علاقته بخدیجة لتکوین مثل تلك الثروة.

وعلی صعید آخر، فقد حاولنا البحث عن الموادّ التي کانت تقوم علیها تارةً خدیجة، فلم نعثر علی أيّ إشارة، لذلك نرجّح أنّها کانت علی العموم تتاجر بالموادّ نفسها التي یتاجر بها أهل قریش(4). وقد کانت خدیجة تتولّی بنفسها اختیار الأشخاص من قریش الذین یرعون تجارتها ضمن القافلة.

کما تشیر المصادر إلی أنّها کانت تضارب التجّار، ومن المعلوم أنّ المکّیین لم یعتنوا بالنشاط التجاري فحسب، وإنّما کانت لهم أنشطة مالیة أیضاً، فقد کانوا یحصلون علی فوائد من المضاربة، والمضاربة عند أهل الحجاز هي القراض؛ ویُراد به تقدیم مال إلی شخص یتّجر به علی ربح معیّن(5).

ما من شكّ في أنّ قیام خدیجة بنشاط تجاري من شأنه أن ینعکس علی شخصیتها، فهذا النشاط الاجتماعي ینمّي تلك الشخصیة، فهو یوفّر لخدیجة الثروة ویمنحها الاستقلالیة المادّیة، وبالتالي یخلّصها من کلّ تبعیة في عیشها وعیش أطفالها ویعوّدها علی التعویل علی ذاتها، کما یمکّنها من الاتّصال بالمجتمع المکّي ومعرفته من خلال

ص: 275


1- . التفسیر الکبیر للرازي: ج31 ص219، الجامع لأحکام القرآن للقرطبي: ج20 ص99.
2- .أحکام النساء لابن الجوزي: ص227.
3- .الرازي، المصدر نفسه: ج31: ص219.
4- . راجع بخصوص هذا الموضوع دراسة کرونة:Corne (Patricia), Meccan Trade and the Rise of Islam, po. Cit.
5- . لسان العرب لابن منظور: ج7 ص217، مادّة «قرض».

أرقی وأهمّ نشاط اقتصادي یُمارس فیه.

فشؤون مکّة إذن لا نخال خدیجة غیر مطلعة علیها، کما لا نخالها منعزلة عن أخبار الأسواق التي تتّجه إلیها القوافل، لقد کان التجّار في ذلك العهد حملة ونقلة للأخبار التي

تُردّد علی مسامعهم من کلّ حدب وصوب، ولا نشكّ في أنّ الأشخاص الذین کانت تکلّفهم خدیجة بتجارتها، کانوا یروون لها ما یجدّ في الأماکن التي کانوا یؤمّونها.

وأخیراً، فإنّ إدارة خدیجة لتجارتها بنفسها لهي من العوامل التي تؤهّلها لکي تکون صاحبة قرار؛ لکي تتّخذ بنفسها القرارات التي تخصّ حیاتها وحیاة أولادها، والتجارة بشکل عامّ کنشاط اقتصادي واجتماعي، هي علی خلاف النشاط الفلاحي الرعوي مثلاً، توسّع آفاق صاحبها وتدرّبه علی الحیاة العامّة وتنمّي لدیه الروح العملیة (البراغماتیة)، وتجعله أکثر واقعیة واتّزاناً من الناحیة العقلیة.

وخدیجة وإن لم تکن تتنقّل في البلدان والأسواق بنفسها، إلّا أنّها هي التي کانت تشرف علی مصالحها. ولا تشیر المصادر التاریخیة إلی أنّها کانت فاشلة في ذلك، بل الواضح أنّها کانت صاحبة شخصیة قویة وعلی درایة بأُمورها، تعرف من تختار لیتسوّق بتجارتها، ولم تکن ضحیّة لتلاعب بعض التجّار أو الوکلاء.

وفي هذا الصدد قالت عنها المصادر أنّها کانت «حازمة ولبیبة وجلدة»(1)، فلا غرو إذاً أن تکون کسبت «الروح التجاریة» لأهل مکّة من الرجال، ولا شكّ في أنّ هذا العامل سیکون له دوره في حیاة خدیجة عند لقائها بمحمّد وما تبعه من زواج وأحداث عظیمة الشأن.

3. خدیجة في مکّة الوثنیة

کانت خدیجة صاحبة «النسب والشرف» والمال والتجارة، تنتمي أیضاً إلی وسط یتمیّز - أو أقلّ - یتمیّز أفراده علی الأقلّ، ممّن هم علی صلة وثیقة بها، باهتماماتهم العقائدیة والفکریة، وهذا الجانب من شخصیة خدیجة لم یحظ بالعنایة الکافیة، إن لم نقل ظلّ

ص: 276


1- .تاریخ الطبري: ج2 ص281، ابن هشام، المصدر نفسه: ج1 ص200

مطموساً مغموراً لا بحکم قلّة المعطیات وندرتها فحسب، وإنّما أیضاً بحکم النظرة اللّاتاریخیة إلی رسالة محمّد التي لا تری لهذه الرسالة من ممهّدات إلّا من خارج

الأرض، ومن مؤشّرات إلّا في الإبداعات والإکرامات.

وحتّی إذا اهتمّت تلك النظرة اللّاتاریخیة بالأرض، فباعتبارها عاملاً سلبیاً (مفهوم الجاهلیة بکلّ أبعاده)(1) استوجب مجيء تلك الرسالة من السماء، ولیس باعتبارها المجال الذي اعتملت فیه عناصرها الاجتماعیة والمعرفیة إلی حدّ النضج فطفت إلی السطح وأخذت طریقها شیئاً فشیئاً إلی أن انتشرت وسادت عبر صراع مریر حُدّدت ملامحه ونتائجه أرضاً، فالمخاضات تجري في الأرض، وتلك النظرة اللّاتاریخیة تقفز بها إلی ما وراء العرش.

وحتّی نفهم الوسط العائلي الذي عاشت فیه خدیجة، نری من الضروري في البدایة التطرّق إلی الوضع العقائدي العامّ بمکّة في تلك الفترة، وهو وضع لا نخال خدیجة غیر مدرکة له، لقد کان المجتمع المکّي یشهد في الحقیقة مؤشّرات تحوّل دیني حتّمته مجمل أوضاع قریش وأوضاع العرب عامّة: الاجتماعیة والعقائدیة والإقلیمیة(2). فمن نافل القول إنّ الوثنیة کانت هي المعتقد السائد بین العرب بمن فیهم عرب قریش، وکانت اللّات والعزّی ومناة الرموز الأساسیة لهذه الدیانة(3).

ولئن کانت الآلهة تتعدّد أحیاناً بتعدّد القبائل، فقد کان یحدث أنّ الصنم الواحد توقّره أکثر من قبیلة(4)، أو أنّ بعض القبائل تتعبّد آلهة بعضها البعض(5). وتشیر بعض الدراسات إلی

ص: 277


1- . حول هذا الموضوع انظر: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للآلوسي: ج1 ص15.
2- . انظر في هذا الصدد: الفتنة لجعیّط: ص11 وما بعدها، وات، محمّد في مکّة Andrae (Tor), Mahomet. Sa vie et sa doctrine.
3- . ورد ذکر هذه الآلهة في سورة النجم: 19 - 20: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى...)، انظر کذلك: الأصنام لابن الکلبي.
4- . یذکر الأزرقي أنّ العزّی «کانت توقّرها قریش وکنانة وخزاعة، وکلّ قبائل مضر» (أخبار مکّة: ج1 ص126 وما بعدها).
5- . مثال ذلك أنّ قریشاً کانت تعبد إله کنانة، وبني کنانة یعبدون إله قریش. ورد في المحبّر لابن حبیب: ص318.

أنّ قریش تمکّنت من جمع أصنام العرب ونصبتها عند الکعبة، فأصبحت القبائل تعظّم

هذا المجمع وتحجّ إلیه سنویّاً علاوة علی زیارته خلال أیّام السنة(1).

وفي الحقیقة، فکون العرب کانوا یحجّون إلی المکان نفسه ویلتقون فیه ویتعاطون نشاطاً تجاریاً ویحرّمون علی أنفسهم في تلك الفترة الحروب والاقتتال، إنّما یعني أنّ «روحاً دینیة عربیة» کانت تتبلور حتّی من خلال ذلك التعدّد الوثني.

وإلی ذلك، فمع الوثنیة مع اللّات والعزّی ومناة الأصنام، کان القرشیون یعترفون بوجود إله یدعونه «اللّه» الذي یتبدّی لنا في صور «إله السماء»، أو حسب عبارة فلهاوزن: «تجریداً لکلّ الآلهة»(2)، فهم یقرّون حسب القرآن نفسه بأنّ اللّه هذا خلق السماوات والأرض وسخّر الشمس والقمر وأنزل من السماء ماء فأحیا الأرض من بعد موتها(3)، لکنّهم یجعلون له بنات وبنین وأنداداً(4).

ثمّ إنّهم یتضرّعون إلی هذا الإله ویستغیثون به في ملمّاتهم، ویبسملون ویقسمون به ویفتتحون به عهودهم(5)، کما کان «اللّه» حاضراً في دعواتهم وفي تلبیتهم(6).

ومن المحتمل أنّهم کانوا یتسمّون به، والشكّ متأتٍّ من التغییر الذي حصل بعد الإسلام في العدید من الأسماء التي کانت تحمل أسماء أصنام، فتحوّلت إلی تسمیة «عبد اللّه»، ولکنّ «اللّه» لم یکن مع ذلك واضح الملامح تعریفاً وصفات وإمکانیات وقدرات مثلما سیکون لاحقاً في القرآن، کما لم یکن محلّ عبادة، أو قل إنّنا لا نعثر علی ما یفید أنّه کان محلّ عبادة لو أنّ قریشاً (جَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا)(7).

ص: 278


1- . المفضّل لجواد علي: ج6 ص81 - 82، تاریخ الکعبة للخربوطلي: ص36.
2- . Wellhausen, Reste Arabischen Héidentumus.
3- . سور: العنکبوت ولقمان والزخرف.
4- . سور: الأنعام: 100، النحل: 57، الزخرف: 16، الصافّات: 149.
5- . صحیفة قریش ضدّ بني هاشم وبني المطّلب: «باسمك اللّهمّ فاغفر»: البلاذري، المصدر نفسه: ج1 ص234، صحیفة الحدیبیة: «باسم اللّهمّ»: ابن هشام، المصدر نفسه: ج3 ص366.
6- . «لبّیك اللّهمّ لبّیك لا شریك لك إلّا شریك هو لك تملکه وما ملك»: الأصنام لابن الکلبي: ص7، انظر أشکالاً أُخری من التلبیة في المفضّل لجواد علي: ج6 ص375 وما بعدها.
7- . الأنعام: 136.

لقد کانت الأصنام محور عبادتهم، یعظّمونها ویزورونها ویذبحون لها ویهدونها ویصلّون لها، وهم یعتبرون أنّ ذلك یجعلها واسطة بینهم وبین اللّه، تقرّبهم منه وتکون شفیعاً لهم عنده(1).

وهنا یکمن شرکهم في نظر القرآن، إذ هم یجعلون شرکاء لخالق السموات والأرض من لا قدرة لهم علی شيء ومن هم لیسوا جدیرین بالعبادة. وإنّ لفي حوار محمّد في بدایة الدعوة مع الحصین بن عبید بن خلف الخزامي، الذي أتاه باسم وجهاء قریش ینهاه عن شتم آلهتهم، خیر ترجمة لهذه الحالة:

- حصین (لمحمّد): «ما هذا الذي بلغنا عنك أنت تشتم آلهتنا»؟

- محمّد: «یا حصین، کم تعبد الیوم إلهاً»؟

- حصین: «سبعة: ستّة في الأرض وواحد في السماء»(2).

- محمّد: «فأیّهم تعبد لرغبتك ورهبتك»؟

- حصین: «الذي في السماء».

- محمّد: «فإذا أصابك الضرّ فمن تدعو»؟

- حصین: «الذي في السماء».

- محمّد: «فإذا هلك المال، فمن تدعو»؟

- حصین: «الذي في السماء».

- محمّد: «یا حصین، یستجیب لك وحده وتشرك معه غیره؟»(3)

إنّ هذا الحوار الذي یبرز فیه «اللّه» کائناً سماویاً مجرّداً یتوجّه إلیه حصین في عبادته وفي دعواته، یؤکّد لنا أنّ الشرك علی هذا الوجه کان عبارة عن مرحلة وسطیة انتقالیة کان فیها «اللّه» السماوي المجرّد یغزو أکثر فأکثر الفضاء المعتقدي والروحي

ص: 279


1- . اعتمدنا هنا درس الدکتور هشام جعیّط حول «مفهوم اللّه» الذي ألقاه أمام طلبة تبریز، قسم التاریخ، للسنة الجامعیة 1993 - 1994 في کلّیة العلوم الإنسانیة بتونس العاصمة.
2- . أي ستّة أصنام في الأرض وإله في السماء.
3- . ابن الأثیر، المصدر نفسه: ج2 ص26 - 27.

للناس، ومن البدیهي أنّه بقدر ما یزداد «اللّه» أهمّیةً في وعي الناس، یفسح المجال أمام طرح الأسئلة حول أحقّیة الأصنام بالعبادة، بل إنّ عبادة الأصنام هذه تصبح غیر ذات معنیً بالنسبة إلی من هم أقدر من غیرهم فکریاً علی الانتقال من الحسّي في وعیهم الدیني إلی ما هو تجریدي.

علی صعید آخر، کان هنالك من تشیّع من العرب للمسیحیة، ولو أنّ الأمر في مکّة کان محدوداً جدّاً(1)، لکنّة یعبّر عن نزعة إلی اعتناق دیانة أرقی من الوثنیة السائدة وأکثر استجابةً للمتطلّبات الروحیة للفرد.

وکان المکّیون أیضاً علی اطّلاع علی الدیانة الیهودیة التي کان لها وجود هامّ في الحجاز والیمن، وهي دیانة توحیدیة لها کتاب وأنبیاء، وکان أصحابهایعتبرون أنفسهم من الناحیة العقائدیة في طورٍ أرقی من غیرهم ممّن لا یزالون یعبدون الأصنام، علاوة علی شعورهم بالامتیاز باعتبار أنّ الربّ حباهم دون غیرهم بأنبیاءٍ وکتاب.

ولا نشكّ في أنّ اتّصال العرب من أهل مکّة وقتها سواء بالمسیحیین أو الیهود، قد یکون خلّف عند بعضهم السؤال التالي: لماذا لم یرسل إلیهم هم أیضاً نبيّاً ولم یُنزل علیهم کتاباً لما في ذلك من ارتقاء بالعقیدة ونخوة «قومیة» وتوحید للناس، الذین بدأت القبیلة تضیق بهم کإطار لتنظیم علاقاتهم الاقتصادیة والاجتماعیة الجدیدة فضلاً عن علاقاتهم بالعالم الخارجي، إذ لا یمکن لأحد أن ینکر أنّ شخصیة عربیة کانت وقتها آخذة في التبلور باحثة عن مکانها ضمن أُمم المنطقة وشعوبها التي تستقطبها قوّتان امبراطوریتان هامّتان: الفرس والبیزنطیّون.

وقد تکون هذه الأُمور من بین ما کان یجول بخاطر جانب من شباب قریش وخاصّة المثقّفین منهم في نوادیهم ومسامراتهم، قریش القویة بتجارتها التي اتّخذت

طابعاً عربیاً ودولیاً، «قریش التي تعتبر بذاتها بمثابة قبیلة العرب الدینیة الممتازة»(2)،

ص: 280


1- . انظر کتابنا: المسیحیة العربیة وتطوّراتها: ص85 - 88.
2- . الفتنة لجعیّط: ص20.

قریش التي کانت کلّ العوامل تهیّئها لدور جدید في صلب العرب والمنطقة بل والعالم أیضاً.

ولعلّ أهمّ ما یؤکّد بالفعل ظهور الحاجة إلی تجدید دیني أصیل، ما برز في تلك الفترة من نزعة إلی التوحید لدی بعض المکّیین الذین سُمّوا بالحنفاء کما سُمّیت دیانتهم بالحنیفیة.

وکان ظهورهم في مکّة صدیً في الحقیقة لتیار الحنیفیة والحنفاء بشکل عامّ في بعض مناطق الجزیرة العربیة الأُخری، وکان تبنّي أُولئك المکّیّین القرشیّین للحنیفیة، محاولة جادّة منهم للبحث عن طریق خاصّ للتوحید یربطهم برمزه الأوّل: «جدّهم» إبراهیم، ویصدّهم عن عبادة الأوثان مع تمییزهم عن المسیحیة والیهودیة اللتین لم تستهویا الحنفاء؛ لعدّة أسباب یضیق المجال هنا عن ذکرها(1).

وسوف ینوّه القرآن بالحنیفیة والحنفاء، بل إنّ الحنیفیة سترد مرادفةً للإسلام، والحنیف مرادفاً للمسلم في أکثر من موضع من مواضع القرآن(2). وفي صلب حنفاء قریش سنجد رمزاً علی صلة وثیقة بخدیجة بنت خویلد التي نصل الآن إلی الحدیث عن وسطها المعتقدي الضیّق. هذا الرمز هو ابن عمّها الذي تفید المصادر أنّها سُمّیت له في صغرها(3) وظلّت علی صلة وثیقة به وإن لم تتزوّجه، واسمه ورقة بن نوفل.

کان ورقة أحد أربعة من قریش عُرفوا بالحکمة والتأمّل وبنزعتهم التوحیدیة، علماً بأنّ بعض المصادر تشیر إلی أنّ بني أسد - قوم خدیجة وورقة - عُرفوا باهتماماتم

بالحکمة، ونحن نجد بالفعل من بین الأربعة أسدیاً آخر هو عثمان بن حویرث، إضافة إلی عبید اللّه بن جحش(حلیف لعشیرة عبد شمس)، وزید بن عمرو من عشیرة عدي. وتذکر المصادر أنّ هؤلاء الأربعة اعتزلوا عبادة الأوثان وامتنعوا عن أکل ذبائحها

ص: 281


1- . جواد علي، المرجع نفسه: ج6 ص449 وما بعدها.
2- . وردت لفظة الحنیف في سور: البقرة، آل عمران، النساء، الأنعام، یونس، النحل، الروم. کما وردت لفظة الحنیفیة في سورتي: الحجّ والبیّنة.
3- . کان العرب یسمّون البنت من الصغر باسم شخص معیّن، وهو قریبها في الغالب فتکون زوجته لاحقاً.

وتعبّدوا اللّه ربّ إبراهیم(1)، قبل أن یتنصّر بعضهم في فترة لاحقة وفقاً لبعض الروایات. وهي تذکر أیضاً أنّ ورقة حرّم في «الجاهلیة» الخمر والسکر والأزلام(2)، وهو ما فعله قرشیّون آخرون مثل عبد المطّلب بن هاشم وعثمان بن عفّان وغیرهما(3).

وإن کان لیس لدینا معلومات أکیدة بأنّ الأربعة کانوا یشکّلون حلقة فکریة مع بعضهم، وهو أمر لا نستبعده(4)، کما لا نستبعد أن تکون الحنیفیة قد شملت أشخاصاً آخرین غیرهم، فهنالك ما یؤکّد علی الأقلّ قیام علاقة بین ورقة وزید، إذ یذکر ابن حبیب في المحبّر، أنّ زیداً کان «ندیم» (جلیس) ورقة(5). ومن الأشعار التي یوردها صاحب الأغاني منسوبة إلی ورقة وتعطینا - إذا صحّت نسبتها إلیه - فکرة عن اتّجاهه التوحیدي ما ذکره:

لقد نَصَحتُ لأقوامٍ وقُلتُ

لهم

أنا النذیرُ فلا یَغرُرکم

أحَدُ

لا تَعبُدنّ إلهاً غیرَ

خالِقکُم

فإن دَعَوکُم فَقولوا بیننا

حَدَدُ

سبحان

ذي العرش سُبحاناً نَعوذ به

وقَبلُ قد سَبّحَ الجوديُّ

والجُمُدُ

مُسَخّرٌ کلُّ ما تحت

السماء له

لا یَنبغي أن یُناوي مُلکَه

أحَدُ

لا شيء ممّا تری تَبقی

بَشاشتُهُ

یَبقی الإلهُ ویُودي المالُ

والوَلدُ

لم تُغنِ عن هُرّمُزٍ یوماً

خَزائنُهُ

ص: 282


1- . الأغاني للإصفهاني: ج3 ص113 - 125.
2- . الزلم: هو السهم الذي کان أهل الجاهلیة یتحرّون بواسطته بین الإقدام علی الشيء أوالإحجام عنه (لسان العرب لابن منظور: ج6 ص75). وسیحرّم القرآن بدوره ذلك: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: 90).
3- . ابن حبیب، المصدر نفسه: ص237.
4- . یذکر ابن هشام أنّهم تعاهدوا علی نبذ عبادة قومهم وتصادقوا: «ثمّ قال بعضهم لبعض: تصادقوا ولیکتم بعضکم علی بعض (...) تعلم واللّه ما قولکم علی شيء! لقد أخطأوا دین أبیهم إبراهیم» (انظر: السیرة: ج1 ص222 - 223).
5- . المحبّر لابن حبیب: ص175.

والخُلدَ

قد حاوَلَت عادُ فما خَلَدوا

ولا سُلیمانَ إذ دانَ

الشعوبُ له

والجِنُّ

والإنسُ تَجري بینها البُرُدُ(1)

ومن خلال هذه الأبیات یبدو «إله» ورقة الذي یدعو إلی عبادته أنّه صاحب الخلق والملك الأزلي السرمدي. ولو قیل هذا الکلام بعد مجيء الإسلام لاعتبر متطابقاً مع التوحید الإسلامي في وصفه ل- «اللّه».

ولئن یشیر صاحب الأغاني إلی أنّ إحدی الروایات تذکر أنّ ورقة قال هذا الشعر بمناسبة تعذیب المشرکین ل- «بلال» (المسلم)، فإنّه یفنّدها؛ لأنّ ورقة لم یدرك عصر النبوّة ومات في إرهاصاتها الأُولی، وهو ما یجعلنا نرجّح أنّ ورقة قال ذلك الشعر - إذا کان حقّاً من نظمه ولم یُنتحل بعد الإسلام، وهو أمر جائز - تعبیراً عن معتقده التوحیدي، سواء قبل تنصّره المفترض أو بعده، فنحن لا نعثر في هذه الأبیات علی أيّ إشارة ذات طابع نصرانيّ.

وإنّنا لنجد في شعر زید بن عمرو - وهو ممّن جهروا بتوحیدهم شعراً ولم یتنصّر - معاني قریبة من المعاني التي جاءت في أبیات ورقة:

عزلتُ الجِنَّ والجِنّانَ

عنّي

کذلك یَفعلُ الجَلدُ الصبورُ

فلا العُزّی أدینُ ولا

أبنَتَیها

ولا صَنَمَي بني غَنمٍ

أزورُ

ولا هُبَلاً أدینُ وکان

رَبّاً

لنا

في الدهرِ إذ حِلمي صَغیرُ

أربّاً واحِداً أم ألفُ

ربٍّ

أدینُ إذا تَقسّمَت

الأُمورُ

ألم تعلم بإنّ اللهَ أفنی

رجالاً کان شأنَهُم

الفُجورُ(2)

وهو یضیف في قصیدة أُخری:

أدینُ لربٍّ یستجیبُ ولا

أُریَ

أدینُ

لمن لا یَسمَعُ الدهرُ داعیاً(3)

ص: 283


1- . الأغاني للإصفهاني: ج3 ص115.
2- . الإصفهاني، المصدر نفسه: ج3 ص118 - 119
3- . الإصفهاني، المصدر نفسه: ج3 ص119.

إنّ هذه الأشعار سواء کانت لورقة أو لزید، تُثبت أنّ فکرة «اللّه» المجرّد السماوي الحقیق وحده بالعبادة، بدأت تدّ في صفوف قریش عن طریق الحنفاء. ویؤکّد المسعودي أنّ ورقة، کان ممّن یقرّ بالبعث(1)، ونسب إلیه شعراً ذکر فیه النار والثواب والعقاب بعد الموت إضافةً إلی فکرة التوحید(2). والبعث کما نعلم هو رکن أساسي من أرکان الدیانات التوحیدیة، إذ إنّ الهدف منه إعطاء مغزیً لعمل الإنسان في الحیاة، ناهیك عن أنّه سیکون من المحاور الأساسیة الأُولی لدعوة محمّد، إلی جانب «مکارم الأخلاق» التي ستسبق حتّی الحسم في معتقدات قریش (سورة الکافرون).

وتشیر بعض المصادر إلی أنّ ورقة تنصّر بل «استحکم في نصرانیته»(3)، دون أن تخبرنا متی تمّ ذلك وعلی ید من؟ وهل تمّ في مکّة أم خارجها؟ علماً بأنّ المصادر ذاتها تشیر إلی أنّه هاجر من مکّة في وقتث من الأوقات؛ إذ «کره عبادة الأوثان وطلب الدین في الآفاق»(4).

وتضیف أنّ ورقة کان عارفاً بالقراءة والکتابة(5)، وکان «یکتب من الإنجیل ما شاء أن یکتب»(6). وفي الحقیقة فرغم تأکید المصادر علی تنصّر ورقة، فثمّة ما یجعلنا نشكّ في ذلك، إذ لیس من المستبعد أن یکون الإخباریون خلطوا بین الأحناف والنصاری (الرهبان خاصّة)؛ لتقارب في بعض السلوکات (لبس المسوح، التنسّك، الانعزال...).

ص: 284


1- . المسعودي، المصدر نفسه: ج1 ص67، 74 - 75.
2- . ابن حبیب، المصدر نفسه: ص171، ابن هشام، المصدر نفسه: ج1 ص243، 256، الإصفهاني، المصدر نفسه: ج3 ص115 - 119.
3- . ابن هشام، المصدر نفسه: ج1 ص223 - 238.
4- . ابن حجر، المصدر نفسه: ج3 ص634
5- . کان الحنفاء عامّة عارفین بالقراءة والکتابة، أي من «النخبة المثقّفة» (انظر: جواد علي، المرجع السابق: ج6 ص456).
6- . تذکر المصادر أنّ ورقة یکتب الإنجیل بالعبرانیة. والمرجّح حسب المؤرّخین المحقّقین أنّ خطأً تسرّب إلی هذه الروایة، إذ الإنجیل لا یمکن أن یکون بالعبرانیة ولا بالعربیة، بل الأصحّ أنّه مکتوب بالأرامیة أو السریانیة (انظر: تفسیر سورة العلق في تاریخ الطبري، وتاریخ الیعقوبي: ج1 ص298، والإغاني: ج3 ص113، والبلاذري، المصدر نفسه: ج1 ص106.

ثمّ إنّنا لا نجد في سلوك ورقة ما یفید تنصّره، فالطاغي علیه هو فکرة التوحید، وإلی ذلك کیف لم یحاول - إن کان تنصّر فعلاً - نشر النصرانیة في محیطه، وبالأحری إقناع خدیجة وأقربائه بها؟ ثمّ کیف له أن یتقبّل لاحقاً العلامات الأُولی لنبوّة محمّد باستبشارٍ کبیر ویری فیها تحقیقاً لنبوّة عربیة؟

أخیراً، فإنّ محمّداً النبيّ عندما سیُسأل عن مصیر ورقة بعد موته سیجیب بأنّه یتصوّره في الجنّة، ومثل هذا الموقف لا یمکن علی الأرجح أن یصدر عن محمّد إلّا إذا تعلّق الأمر بحنیف.

إنّ اهتمامنا بورقة بن نوفل وباتّجاهه التوحیدي کلّ هذا الاهتمام، یهدف إلی إبراز المناخ العقائدي الذي عاشت فیه خدیجة داخل محیطها العائلي المقرّ منها. فکلّ المصادر تؤکّد علی صلة خدیجة بورقة، لذلك لا نستبعد أنّها کانت علی اطّلاع علی اهتماماته، فضلاً عن اطّلاعها علی العقائد التوحیدیة السابقة، خصوصاً وأنّنا لا نعثر في کتب الإخباریین علی ما یشیر إلی ارتباط خدیجة بالعقائد العامّة لقریش وحماسها لها بشکل خاصّ. ولا نعتبر ذلك بالأمر المستحیل بالنسبة إلیها، فشخصیتها تؤهّلها

لذلك ومساعدة ورقة لها أیضاً، علماً بأنّ البلاذري یذکر أنّ أُختاً لورقة - أي ابنة عمٍّ لخدیجة تُدعی قتیلة بنت نوفل - کانت «تنظر في الکتب»(1).

فالاهتمامات العقائدیة - إذاً - لم تکن غریبة عن الوسط الذي تعیش فیه خدیجة، وهي تندرج ضمن مناخ عامّ تعیشه مکّة. کان فقدان الثقة في معتقداتها الوثنیة بدأ یطفو إلی السطح؛ لأنّها لم تعدّ تلبي الحاجة الروحیة والفکریة والاجتماعیة لأکثر عناصر قریش تطلّعاً إلی المستقبل، وطموحاً إلی الجدید الأرقی. ومن هنا کان البحث عن معتقد توحیدي أکثر تجریداً وأکثر إقناعاً بسلطته ونفوذه علی الکون علی مصائر البشر، ولِمَ لا تکون خدیجة علی علم بهذا التیّار الجدید؟(2) بل لیس ثمّة ما یجعلنا

ص: 285


1- . البلاذري، المصدر نفسه: ج1 ص81.
2- . راجع دراسة جورجي: Jurgi (Edward).X «Khadija, Mohamed,s First Wife», The Moslem World, 26 (1936), pp. 197 – 199.

نستبعد إمکانیة تعاطفها معه دون أن یعني ذلك تخلّیها علی صعید الممارسة عن بعض عبادات قومها.

إنّ ما تناولناه أعلاه من عناصر یبرز لنا معالم شخصیة خدیجة، فهي من حیث النسب تنتمي إلی وسط شریف لیس بالمال والعدد والشهامة فحسب، وإنّما بالسلطة أیضاً، وهو ما یجعلها قریبة من الحیاة السیاسیة لمکّة. وعلی مستویً آخر فقد کانت تتمتّع باستقلالیتها المادّیة، فهي صاحبة مال وتجارة، وهو ما لم یتوفّر لمعظم النساء في ذلك الوقت، کما أنّها کانت علی الأرجح منفتحة ذهنیاً علی القضایا العقائدیة لعصرها من خلال الوسط الذي عاشت فیه.

کلّ هذه العناصر تتیح لنا الاستنتاج بأنّ خدیجة لم تکن کأيّ امرأة عادیة في قریش، فهي ولئن لم تبرز في الحیاة العامّة (زعامة سیاسیة وغیرها)، کانت علی الأقلّ امرأة ذات شخصیة مستقلّة وقویة ومتفرّسة، وهو ما سیکون له انعکاساته علی علاقتها

بمحمّد وسلوکها معه.

ص: 286

فهرس المصادر

1. أحكام النساء، أبو الفرج عبدالرحمن ابن الجوزي (ت597ه )، تحقيق: زياد حمدان، بيروت: دار الفكر، 1409ه .

2.أخبار مكّة، أبو الوليد محمّد بن عبداللّه الأزرقي (ت250ه )، قم: الشريف الرضي، 1411ه .

3.أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّ الدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

4.الأصنام، هشام بن محمّد بن السائب الكلبي، تصحيح: أحمد زكي باشا، القاهرة: المطبعة الأميرية.

5.الأغاني، علي بن الحسين الإصفهاني (أبو الفرج) (ت356ه )، تحقيق: علي مهنّا و سمير جابر، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الثانیة، 1407ه .

6.أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت279ه )، إعداد: محمّد باقر المحمودي، بيروت: دار المعارف، الطبعة الثالثة.

7.بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، محمود شكري الآلوسي (ت1342ه )، تصحيح: محمّد بهجة الأثري، بيروت: منشورات أمين دمج.

8.تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968 م.

تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، المعروف باليعقوبي

1.

ص: 287

(ت284ه )، بيروت: دار صادر.

2. تفسير الطبري (جامع البيان في تفسير القرآن)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، بيروت: دار الفكر.

3. تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير ومفاتيح الغيب)، محمّد بن عمر (فخر الرازي) (ت604ه )، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1410ه .

4. تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت671ه )، تحقيق: محمّد عبدالرحمن المرعشلي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1405ه .

5. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، أبو منصور عبدالملك بن محمّد الثعالبي (ت429ه )، قهارة: دار المعارف.

6. الحيوان، عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه )، بيروت: دار إحياء العلوم، 1374ه .

7. السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

8. صحيح البخاري، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الرابعة، 1410ه .

9. صفة الصفوة، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي) (ت597ه )، تحقيق: محمود فاخوري و محمّد قلعة جي، حلب: دار الوعي، الطبعة الأُولى، 1389ه .

10. الطبقات الكبرى (الطبقه الخامسة من الصحابة)، ابن سعد، محمّد بن سعد الزهري (كاتب الواقدي) (1414ه )، تحقيق: محمّد بن صامل سلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

11. لسان العرب، أبو الفضل محمّد بن مكرم المصري (ابن منظور) (ت711ه )، قم: أدب الحوزة، 1405ه ، بيروت: دار صادر، الطبعة الأُولى، 1410ه .

1. المُحبَّر، أبو جعفر محمّد بن حبيب الهاشمي البغدادي (ت245ه )، تحقيق: ايلزه

ص: 288

ليختن شتيتر، بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر، مطبعة الدائرة، 1361ه .

2. مروج الذهب ومعادن الجوهر، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت346ه )، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الرابعة، 1384ه .

3. المغازي، محمّد بن عمر بن واقد (الواقدي) (ت207ه )، تحقيق: مارسدن جونس، بيروت: عالم الكتب، الطبعة الثالثة، 1404.

4. المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي (معاصر)، بغداد: جامعة بغداد، الطبعة الثانية، 1413ه .

5. نسب قريش، مصعب بن عبد اللّه الزبيري (ت236ه )، تحقيق: بروفنسل، القاهرة: دار المعارف.

ص: 289

ص: 290

خدیجة بنت خویلد

16- خدیجة بنت خویلد

اشارة

* خدیجة بنت خویلد (1)

یوسف عبد اللّه

ملخّص البحث:

يختار هذا البحث مقتطفات من كتب التاريخ لغرض الاستدلال بها على ما يقدّمه من عرض تاريخي لحياة أُمّ المؤمنين الأُولى، حيث تناول حياتها في حقبتین زمانیتین: في الجاهلية، وفي الإسلام. کانت خديجة أوّل امرأة تزوّجها رسول اللّه، ولم يتزوّج عليها غيرها حتّی ماتت؟رضهما؟. وقد ولدت له أولاده کلّهم إلّا إبراهيم، ولدت له من الذکور: القاسم وهو أکبر بنيه وبه کان يکنّی بعد البعثة، وعبد اللّه ويُلقّب بالطيّب والطاهر. ومن الأُناث: رقيّة، ثمّ زينب، ثمّ أُم کلثوم، ثمّ فاطمة أصغر بناته. کانت خديجة ملاك الرحمة، والمرفأ الأمين، والملاذ المکين لمحمّد، کانت أُنسه إذا استوحش، وکنزه إذا احتاج، وأمله إذا استيأس، وطمأنينته إذا اضطربت من حوله الحياة. قال ابن إسحاق: «کانت خديجة أوّل من آمن باللّه ورسوله، وصدّق بما جاء به، فخفّف اللّه بذلك عن نبيّه...». وحتّى بعدما ماتت خديجة لم تمت ذکراها في نفس رسول اللّه، لقد ظلّ وفياً لها طوال حياته، حتّی إنّ عائشة كانت تغار منها في قبرها، حيث قالت: «کان رسول اللّه لا يکاد يخرج من البيت حتّی يذکر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذکرها يوماً من الأيّام فأخذتني الغيرة، فقلت: هل کانت إلّا عجوزاً قد أبدلك اللّه خيراً منها؟

ص: 291


1- منبر الإسلام، السنة الخامسة عشرة، العدد 9 (رمضان 1377ق): ص53 - 79.

فغضب حتّی اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثمّ قال: لا واللّه ما أبدلني اللّه خيراً منها؛ آمنت بي إذ کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه منها الولد دون غيرها من النساء. قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذکرها بعدها بسيّئة أبداً». رحمها اللّه ورضي عنها، وجزاها عن نبيّه ودعوته خير ما يجزي الصدّيقات.

خدیجة في الجاهلیة

هي خدیجة بنت خویلد بن عبد العزّی بن أسد القرشیة الأسدیة الصدّیقة الکبری، والأُمّ الأُولی للمؤمنین، والزوجة الأُولی للرسول الکریم، وأُمّ أولاده جمیعاً إلّا إبراهیم.

کانت في الجاهلیة تحت أبي هالة بن زرارة التمیمي، وقد مات عنها بعد أن ولدت له هنداً الذي آمن بالرسول وصحبه وشهد معه بدراً، کما ولدت له هالة بن أبي هالة، وکان له صحبة أیضاً.

وبعد موت أبي هالة تزوّجها عتیق بن عامد المخزومي، فولدت له بنتاً اسمها هند لها إسلام وصحبة، ثمّ خلف علیها بعد أبي هالة سیّد الأزواج محمّد بن عبد اللّه.

وکانت خدیجة تُدعی في الجاهلیة: «الطاهرة»؛ لشدّة عفافها وصیانتها، ویصفونها بسیّدة نساء قریش.

خدیجة التاجرة

کانت خدیجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إیّاه بشيء تجعله لهم، وکانت قریش قوماً تجّاراً.

وفي جلسة بین أبي طالب ومحمّد ابن أخیه، قال له: «یابن أخي، أنا رجل لا مال لي وقد اشتدّ الزمان علینا، وألحّت علینا سنون منکرة، ولیس لنا مادّة ولا تجارة، وهذه عیر قومك، قد حضر خروجها إلی الشام، وخدیجة تبعث رجالاً من قومك یتّجرون في مالها ویصیبون منافع، فلو جئتها لفضّلتك علی غیرك؛ لما یبلغها عنك من

طهارتك. فقال محمّد : لعلّها ترسل إليَّ في ذلك، فقال أبو طالب: إنّي أخاف أن تولّي

ص: 292

غیرك».

وبلغ هذا الحوار بین محمّد وعمّه إلی خدیجة، فما کان منها إلّا أن أرسلت إلیه؛ لما عرفت عنه من الصدق والأمانة وحسن السمعة، وعرضت علیه أن یخرج في مال لها إلی الشام تاجراً، وتعطیه أفضل ما کانت تعطي غیره من التجّار، مع غلام لها یقال له میسرة، فقبل رسول اللّه منها، وخرج في مالها ذلك ومعه غلامها میسرة إلی الشام.

شریکة التجارة تصبح شریکة الحیاة

عاد محمّد من الشام بربح وفیر لم تحصل علیه خدیجة من قبل، وعاد إلیها غلامها بحدیث أوفر من الربح عن هذا الرفیق الکریم، وما رأی ولمس فیه من سموّ الأخلاق وعجیب الآیات.

وهفا قلب خدیجة إلی محمّد أن یشرکها في الحیاة کما شرکها في التجارة؛ فإنّه رجل نادر المثال حقّاً، شابّ ولیس فیه عبث الشباب، تاجر ولیس فیه جشع التجّار، فقیر ولیس فیه ضعة الفقراء، قرشي ولیس فیه زهو قریش.

إنّ الرجال اعتادوا أن یخطبوا النساء، فکیف تخطب المرأة الرجل؟ هذه هي المشکلة، ولکن خدیجة تحلّها عن طریق صدیقتها نفیسة أُخت یعلی بن منیة.

أرسلتها خدیجة دسیساً إلی محمّد، فقالت له: ما یمنعك أن تتزوّج؟

قال: ما في یدي شيء.

قالت: فإن کُفیت ودُعیت إلی المال والجمال والکفاءة؟

قال: ومن؟

قالت: خدیجة.

قال: وکیف لي بذلك؟

قالت: عليَّ ذلك.

فسارع الرسول إلی إعلان قبوله، وذهبت نفیسة إلی خدیجة فبشّرتها بنتیجة هذا الحدیث، ولم تلبث خدیجة أن حدّدت الموعد الذي یلتقي فیه محمّد وأعمامه بأهل

ص: 293

خدیجة، فذهب الرسول ومعه عمّاه أبو طالب وحمزة، وخطبوا خدیجة من عمّها عمرو بن أسد، وکان صداقها عشرین بکرة، وکانت سنّها أربعین سنة، وکان هو في الخامسة والعشرین علی أشهر الأقوال.

زواج مثالي

لقد کان من المیسور لمحمّد بن عبد اللّه أن یتزوّج فتاة من أبکار قریش، بدل هذه الثیّب التي تزوّجت مرّتین، وبلغت الأربعین أو جاورتها، وأوشك وجهها أن یتجعّد وشعرها أن یشیب.

لو کان من عشّاق الجسد وطلّاب الشهوة لکان له في الأبکار الصغار متّسع، وهو الفحل لا یقدع أنفه، والقرشي الهاشمي لا تُردّ خطبته، وله من قوّة شخصیته وحُسن سمعته ووسامة طلعته وشهرة أُسرته، ما یزیل العقبات ویمهّد السبیل.

ولکنّه کان ینشد العقل الرشید والقلب الکبیر، فوجدهما في خدیجة. وکان أمام خدیجة - وهي یومئذٍ أوسط نساء قریش نسباً، وأعظمهنّ شرفاً، وأکثرهنّ مالاً - من عظماء قریش وأثریائها من یتمنّی زواجها، ومن أرسل إلیها یخطبها، ولکنّها رغبت عنهم جمیعاً، شعرت بأنّهم یخطبون مالها لا شخصها، یخطبون خدیجة الغنیة لا خدیجة الإنسان.

ردّت خدیجة ید أشراف قریش، ولم تجد حرجاً أن تعرض نفسها - بواسطة أو بغیر واسطة - علی الشابّ الفقیر الذي یعمل في تجارتها: إنّها وجدت في محمّد ضالّتها، فاختارته بقلبها الملهم، وإنّما اختارت لنفسها - في الحقیقة - الخلود ودخلت التاریخ

من أوسع الأبواب.

ومن أولی بمحمّد من خدیجة؟ وأولی بخدیجة من محمّد؟ إنّ المرأة التي یلقّبونها بالطاهرة أولی بالرجل الذي یلقّبونه بالأمین: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ).

وکان زواجاً سعیداً موفّقاً لم تغم سماؤه یوماً من الأیّام، ولم یعکّر صفوه افتتان المرأة الغنیة بمالها، ولا اعتداد الشابّ الفتی بشبابه، بل کان شبابه کلّه لها وکان مالها

ص: 294

کلّه له، یبذل منه ما یری في صلة الرحم ووجوه البرّ وصنائع المعروف.

أصابت الناس سنة جدب، فجاءت حلیمة السعدیة مرضعة الرسول إلیه فأکرم وفادتها، وعادت من عنده ومعها من مال خدیجة بعیر یحمل الماء وأربعون رأساً من الغنم.

وکانت خدیجة أوّل امرأة تزوّجها رسول اللّه ولم یتزوّج علیها غیرها حتّی ماتت(علیها السلام) . وقد ولدت له أولاده کلّهم إلّا إبراهیم، ولدت له من الذکور: القاسم وهو أکبر بنیه، وبه کان یُکنّی بعد البعثة، وعبد اللّه، ویُلقّب بالطیّب والطاهر. ومن الأُناث: رقیّة، ثمّ زینب، ثمّ أُم کلثوم، ثمّ فاطمة أصغر بناته.

فأمّا القاسم وعبد اللّه فماتا في الجاهلیة، وأمّا البنات فقد أدرکن الإسلام وهاجرن معه . وقد کان یتوقّع من خدیجة أن یهلع فؤادها لموت أبنائها من رجل تحبّه في عصر کانت توأد فیه البنات، ولکنّها کانت دائماً مثال العزم الراسخ والإیمان الصبور.

خدیجة المؤمنة

ثلاث نسوة بارزات في حیاة الرسل الثلاثة أصحاب الدیانات الأخیرة الکبری: آسیة امرأة فرعون في حیاة موسی، ومریم ابنة عمران في حیاة عیسی، وخدیجة في حیاة محمّد ، کلّ واحدة منهنّ کفلت نبیّاً مرسلاً قبل بعثته، وأحسنت الصحبة في کفائته، وصدّقت به بعد رسالته، لهذا جمع الرسول بین هؤلاء الکوامل في عقد واحد، فقال: «کمل من الرجال کثیر، ولم یکمل من النساء إلّا مریم ابنة عمران، وآسیة امرأة فرعون،

وخدیجة بنت خویلد».

وإذا کان بعض الحکماء یقول: «إنّ وراء الرجل العظیم امرأة تشدّ أزره، أُمّاً کانت أو زوجاً»، فقد کانت خدیجة المرأة التي وراء محمّد علیه الصلاة والسلام.

أعانته في الجاهلیة علی حیاته الطاهرة النقیّة البعیدة عن الأوثان والخمر والمیسر واللغو والشهوات، وکانت له ظهیراً في حیاة التجرّد والتأمّل والبعد عن صخب الناس وضوضاء الحیاة.

کانت تهیّئ له الزاد کلّ عام لیقضي شهر رمضان في غار حراء، ولو کان الأمر

ص: 295

لعاطفتها المجرّدة ما رضیت - کامرأة - أن یغیب عنها لیلة واحدة، فکیف باللیالي ذوات العدد؟!

ولکنّها تحسّ أنّ زوجها رجل غیر الرجال، وأنّ له شأناً أيّ شأن، فلتکن عونه علی مثله الرفیعة وقیمه العلیا، وقد کانت تصحبه أو تزوره أحیاناً في هذا الغار وتبقی معه أیّاماً ولیالي؛ تؤانسه وترعاه ومن طواعیتها له قبل البعثة ومسارعتها في هواه، أنّها رأت میله إلی زید بن حارثة - بعد أن صار في ملکها - فوهبته له، فکانت هي السبب فیما امتاز به زید من السبق إلی الإسلام.

هذه خدیجة في الجاهلیة، وأمّا بعد الرسالة، فاستمع إلی عائشة تروي موقفها من الرسول حینما تلقّی أوّل شحنة من وحي السماء في غار حراء، وغطّه جبرئیل حتّی بلغ منه الجهد، فعاد إلی خدیجة ترجف بوادره یقول: «زمّلوني، زمّلوني، لقد خشیت علی نفسي...».

ولم تکن خدیجة ممّن یطیر لبّها فزعاً، ولم یکن هذا الطارئ العجیب الغریب لیذهلها عن سداد الرأي ومنطق الحکمة، لقد عرفت بنور بصیرتها وسلامة نظرتها سنّة اللّه في معاملة عباده، فقالت لزوجها في ثقة ویقین: «کلّا واللّه لا یخزیك اللّه أبداً، إنّك لتصل الرحم وتحمل الکَلّ، وتُکسِب المعدم، وتصدق الحدیث، وتقري الضیف،

وتعین علی نوائب الدهر».

وفي روایة قالت له: «أبشر واثبت یا ابن عمِّ، فوالذي نفس خدیجة بیده إنّي لأرجو أن تکون نبيّ هذه الأُمّة».

ولم تکتف بالقول، بل صحبته إلی ابن عمّها ورقة بن نوفل - وقد کان امرأً تنصّر في الجاهلیة، وعرف العبرانیة، وکتب بها من الإنجیل ما شاء اللّه أن یکتب - فقالت له خدیجة: «أي ابن عمِّ، اسمع من ابن أخیك، فقال له ورقة: یا ابن أخي، ما تری؟ فأخبره رسول اللّه خبر ما رأی، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزله اللّه علی موسی».

وهکذا کانت خدیجة ملاك الرحمة، والمرفأ الأمین، والملاذ المکین لمحمّد .

ص: 296

کانت أُنسه إذا استوحش، وکنزه إذا احتاج، وأمله إذا استیأس، وطمأنینته إذا اضطربت من حوله الحیاة. قال ابن إسحاق: «کانت خدیجة أوّل من آمن باللّه ورسوله، وصدّق بما جاء به، فخفّف اللّه بذلك عن نبیّه، فکان لا یسمع شیئاً یکرهه؛ من الردّ علیه والتکذیب له فیحزنه ذلك، إلّا فرج اللّه عنه بها إذا رجع إلیها، تثبّته وتخفّف عنه وتهوّن علیه أمر الناس».

شاطرته متاعب الدعوة وآلام الرسالة راضیة مغتبطة، دخل الشِّعب فدخلت معه، وذاقت مرارة الحرمان وعضّة الجوع، وهي ذات المال الوفیر وربیبة الرفاهیة والنعیم، فلا عجب أن یحمل إلیها أمین الوحي السلام من فوق سبع سماوات.

روی البخاري عن أبي هریرة قال: «أتی جبرئیل إلی رسول اللّه صلّ اللّه علیه وسلّم فقال: یا رسول اللّه، هذه خدیجة قد أتت معها إناء فیه طعام، فإذا هي أتتك فاقرأ علیها السلام من ربّها ومنّي، وبشّرها ببیت في الجنّة من قصب(1)، لا صخب فیه ولا نصب».

قال السهیلي: «إنّما کان البیت بهذا الوصف؛ لأنّها لم ترفع صوتها علی النبي صلّی

اللّه علیه وسلّم، ولم تتعبه یوماً من الدهر، ولم تصخب علیه مرّة ولا آذته أبداً».

وفاء... ووفاء

في السنة العاشرة من البعثة وقبل الهجرة بثلاث سنین، شاء القدر الذي یبتلي الناس قدر دینهم أن یختطف من الرسول زوجه الحبیبة خدیجة التي کانت له - کما قال ابن هشام - وزیر صدق علی الإسلام.

وقبلها بقلیل مات ساعده الأیمن عمّه أبو طالب، تلك کانت ملاذه في الداخل، وهذا کان عضده وناصره في الخارج، فکان هذا المصاب بعد ذاك جدیراً أن یترك في نفس النبي أثراً عمیقاً جعله یسمّي هذا العام عام الحزن.

ماتت خدیجة ولکن ذکراها لم تمت في نفس رسول اللّه، لقد ظلّ وفیّاً لها طوال حیاته؛ یحنّ لذکراها ویهشّ لأهلها، ویکرم صدیقاتها، حتّی إنّ عائشة أحبّ أزواجه

ص: 297


1- . قال ابن هشام: «القصب هنا: اللؤلؤ المجوّف».

إلیه بعدها لتغار منها في قبرها، قالت: «کان رسول اللّه لا یکاد یخرج من البیت حتّی یذکر خدیجة فیحسن الثناء علیها، فذکرها یوماً من الأیّام فأخذتني الغیرة فقلت: هل کانت إلّا عجوزاً قد أبدلك اللّه خیراً منها؟

فغضب حتّی اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثمّ قال: لا واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها، آمنت بي إذ کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه منها الولد دون غیرها من النساء. قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذکرها بعدها بسیّئة أبداً».

رحمها اللّه ورضي عنها، وجزاها عن نبیّه ودعوته خیر ما یجزي الصدّیقات.

ص: 298

17- خدیجة بنت خویلد

اشارة

*خدیجة بنت خویلد (1)

محمّد حسّون

أُمّ علي مشكور

ملخّص البحث:

يبتدئ هذا البحث بذكر نسب خديجة، وبيان نتفٍ من جميل خصالها وعميق إدراكها وسعة نظرها إلى الأُمور. كانت حازمة شريفة لبيبة جليلة ديّنة مصونة كريمة، صدّيقة هذه الأُمّة. وكان لها شرف النسب وكرم المحتدّ وسؤدد القبيل وعزّ العشيرة والغنى الأوفر. كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يودّها ويحترمها ويثني عليها، ويفضّلها على سائر نساء المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، ويشاورها في أُموره. وهي أوّل امرأة آمنت به وصدّقته وثبتت جأشه. وبعد نقل عدد من الأخبار التاريخية المتعلّقة بخديجة وعرضها للنقد والاستدلال، یذکر إجماع المؤرّخین على أنّ أوّل من أسلم من النساء هي خديجة بنت خويلد، فبعد أن نزل الوحي على الرسول الأعظم ، جاء وقصّ ما شاهده على زوجته، فأسلمت لدینه وناصرته، حتّى عُدّ نصرها له أحد الدعائم التي قام عليها الإسلام، إضافة إلى سيف علي ودعم أبي طالب شيخ الأباطح. كان من العوامل الأساسية التي تقوّى بها الإسلام - كما قلنا - هي أموال خديجة بنت خويلد؛ فمنذ اليوم الأوّل لنزول الوحي على نبيّنا محمّد(صلی الله علیه و آله) نرى خديجة تسارع لاعتناق الدين الحنيف، وتقف إلى جنب زوجها موقف المدافع والمحامي، وتضع كلّ أموالها في تصرّفه نصرةً للرسالة الجديدة. وقد

ص: 299


1- أعلام النساء، ص قم: أُسوة، 1411ه : ص316 - 324.

استعرض هذا البحث قسماً مما ثبّته المؤرّخون من مواقفها البطولية في كتبهم، وجاء بعد ذلك على نقل أحاديث النبي فيها، وما أثنى به عليها.

أُمّ المؤمنين خديجة(1) بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزّى بن قصيّ بن كلاب.

أُمّها فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ.

كانت حازمة شريفة لبيبة جليلة ديّنة مصونة كريمة، صدّيقة هذه الأُمّة. وهي شرف النسب وكرم المحتد وسؤدد القبيل وعزّ العشيرة، والغنى الأوفر. كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يودّها ويحترمها ويثني عليها، ويفضّلها على سائر نساء المؤمنين،

ويبالغ في تعظيمها، ويشاورها في أُموره، وهي أوّل امرأة آمنت به وصدّقته وثبتت جأشه، ومضت به إلى ابن

ص: 300


1- . انظر ترجمتها في: الاختصاص للشيخ المفيد، ص165، 182، أُسد الغابة: ج5 ص434، الاستيعاب المطبوع بهامش الإصابة: ج4 ص279، الإصابة في تمييز الصحابة: ج4 ص281، أعلام النساء: ج1 ص326، إعلام الورى بأعلام الهدى: ص146، أعيان الشيعة: ج1 ص220 وج6: ص308، بطلة كربلاء للدكتورة بنت الشاطئ: ص14، تاريخ الإسلام للذهبي: ص63 و117 و133 وغيرها، تاريخ الأُمم والملوك للطبري: ج2 ص280، تاريخ الخميس: ج1 ص301، تاريخ اليعقوبي: ج2 ص20 و23 و31 و262، تذكرة الخواصّ: ص271 و314، تكملة الرجال: ج2 ص727، تنقيح المقال: ج3 ص77، جامع الرواة: ج2 ص457، خديجة بنت خويلد لعلي دخيل، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ص45، الدرّ المنثور في طبقات ربّات الخدود: ص180، ذخائر العقبى: ص44، رجال صحيح البخاري المسمّى ب- الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد الذي أخرج لهم البخاري في جامعه: ج2 ص835، رقم 1417، رياحين الشريعة: ج2 ص202، السمط الثمين: ص17، سنن الترمذي: ج5 ص702، سيرة ابن هشام: ج1 ص200، سير أعلام النبلاء: ج2 ص85، السيرة الحلبية: ج1 ص137، سيرة المصطفى لهاشم معروف الحسني: ص57، السيرة النبوية لابن كثير: ج1 ص262 وج2: ص132، شذرات الذهب في أخبار من ذهب: ج1 ص14، شهيرات النساء في العالم الإسلامي للأميرة قدرية حسين: ج2 ص5: صحيح البخاري: ج5 ص47: صحيح مسلم، ج 5 ص886، صفوة الصفوة: ج2 ص2، الطبقات الكبرى: ج8 ص14، العقد الفريد: ج5 ص7، فاطمة الزهراء وتر في غمد لسليمان كتاني: ص112، الفصول المهمّة: ص129، الكامل في التاريخ: ج2 ص39 و90، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة: ج1 ص507، كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب للحافظ الگنجي الشافعي: ص357، الكنى والألقاب: ج1 ص106 و200، وج2 ص354، المحبّر: ص11 و77 و452، المرأة في ظلّ الإسلام: ص123، مثلهنّ الأعلى خديجة بنت خويلد لعبد اللّه العلايلي: ص98، معجم رجال الحديث: ص188، رقم 15617، المستدرك على الصحيحين: ج3 ص182، مناقب الإمام علي بن أبي طالب لابن المغازلي: ص329، موسوعة آل النبيّ للدكتورة بنت الشاطئ: ص230، نساء لهنّ في التاريخ الإسلامي نصيب للدكتور علي إبراهيم حسن: ص21، نساء محمّد لسنية قراعة: ص16، وفاة الزهراء للمقرّم: ص7.

عمّها ورقة.

كانت تستقبل آلام الجهاد الذي خاضه النبي(صلی الله علیه و آله) وخاضته معه عاملة ماضية وصابرة محتسبة، لا ينبض عندها عرق بلين أو تخوّف، بل تقطع قناطر الدموع والخطوب المتغوّلة في بسمة كبرياء، لم يعهد مثلها إلّا بعض نفر من صانعي التاريخ، بصدرها الرحب كانت تستقبل العاصفة وشظاياها المشتعلة.

ونحن عبر هذه الأسطر القليلة والصفحات المتعدّدة لا نستطيع أن نستوعب كلّ جوانب حياة هذه المرأة العظيمة، بل نلقي الضوء على بعض جوانب حياتها:

أزواجها

تزوّجت خديجة بنت خويلد أوّلاً عتيق بن عائذ بن عبداللّه بن عمرو بن مخزوم، وولدت له بنتاً يقال لها هند، ثمّ توفّي عنها عتيق فتزوّجت أبا هالة ابن النبّاش بن زرارة بن وقدان بن حبيب، وولدت له ابناً يقال له هند. هذا هو المشهور والمسطور في كتب التراجم والتاريخ، إلّا أنّ هناك بعض القدماء مَن يقول بأنّها لم تتزوّج قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وإنّما التي تزوّجت عتيق ثمّ أبا هالة هي أُختها، وبما أنّ اسم خديجة كان معروفاً واسم أُختها غير معروف، فنسب الزوجان وأولادهم إلى خديجة دون أُختها، ومن القائلين بهذا القول هو علي بن أحمد الكوفي العلوي المتوفّى سنة 352ه ، قال في كتاب الاستغاثة:

قد صحّت الرواية عندنا بأنّه كان لها أُخت من أُمّها تسمّى هالة، قد تزوّجها رجل من بني تميم يقال له أبو هند، فأولدها ابناً اسمه هند بن أبي هند و بنتين زينب ورقيّة، ومات أبو هند وقد بلغ ابنه مبلغ الرجال والابنتان طفلتان، وكانتا موجودتين حين تزوّج

رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خديجة بنت خويلد، وماتت هالة بعد ذلك بمدّة يسيرة، وخلّفت الطفلتين زينب ورقيّة في حجر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وحجر خديجة. وكان من سنّة العرب في الجاهلية أنّ من يربّي يتيماً ينسب ذلك اليتيم إليه، ولا يستحلّ التزوّج بمن يربّيها؛ لأنّها كانت عندهم بزعمهم بنتاً لمربّيها، فلمّا ربّى رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وخديجة هاتين البنتين، نسبتها

ص: 301

إليهما، وهما بنتا أبي هند زوج هالة أُخت خديجة.

ولم تزل العرب على هذه الحالة إلى أن ربّى بعض الصحابة يتيمة بعد الهجرة، فقالوا: لو سألت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): هل يجوز في الإسلام تزويج اليتيمة بمن ربّاها، فأنزل اللّه جلّ ذكره آية في تجويز ذلك، فكانت الجاهلية تنسب هاتين البنتين إلى النبي(صلی الله علیه و آله)، ثمّ نُسب أخوهما هند إلى خديجة، وكان اسم خديجة نابهاً معروفاً، وكان اسم أُختها خاملاً مجهولاً، فظنّوا لمّا غلب اسم خديجة على اسم هالة أُختها ثمّ نُسب هند إليها، وأنّ أبا هند كان متزوّجاً بخديجة قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)».(1)

زواجها من النبي(صلی الله علیه و آله)

خرج النبيّ محمّد(صلی الله علیه و آله) في تجارة لخديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة مع غلامها ميسرة، وكانت خديجة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في تجارتها، ولمّا علم أبوطالب بأنّها تهیّئ تجارتها لإرسالها إلى الشام مع القافلة قال له: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا، وقد بلغني أنّ خديجة استأجرت فلاناً ببكرين ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته، فهل لك أن أُكلّمها؟ قال: ما أحببت.

فقال لها أبوطالب: هل لكِ أن تستأجري محمّداً؟ فقد بلغنا أنّك استأجرت فلاناً

ببكرين ولسنا نرضى دون أربعة بكار، فقالت: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألته لحبيب قريب، فقال له أبو طالب: هذا رزق ساقه اللّه إليك.

فخرج مع ميسرة بعد أن أوصاه أعمامه به، وباعوا تجارتهم وربحوا أضعاف ما كانوا يربحون وعادوا، فسرّت خديجة بذلك ووقعت في نفسها محبّة النبي(صلی الله علیه و آله)، وحدّثت نفسها بالتزوّج به، وكانت قد تزوّجت برجلين من بني مخزوم توفّيا عنها، وكان قد خطبها أشراف قريش فردّتهم. فتحدّثت بذلك إلى أُختها أو صديقة لها اسمها نفيسة بنت منية.

فذهبت إليه وقالت: ما يمنعك أن تتزوّج؟ قال: ما بيدي ما أتزوّج به، قالت: فإن

ص: 302


1- . الاستغاثة: ص75.

كُفيت ذلك ودُعيتَ إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قالت: خديجة، قال: كيف لي بذلك؟ قالت: عليّ ذلك. فأجابها بالقبول وخطبها إلى عمّها، وحضر مع أعمامه فزوّجها به عمّها؛ لأنّ أباها كان قد مات. وقيل: زوّجها أبوها، وأصدقها عشرين بكرة، وانتقل إلى دارها، وكان ذلك بعد قدومه من الشام بشهرين وأيّام، وعمرها أربعون سنة.

إسلامها

أجمع المؤرّخون على أنّ أوّل من أسلم من النساء هي خديجة بنت خويلد، فبعد أن نزل الوحي على الرسول الأعظم ، جاء وقصّ ما شاهده على زوجته، فأسلمت خديجة وناصرت الرسول ، حتّى عُدّ نصرها له أحد الدعائم التي قام عليها الإسلام، إضافة إلى سيف علي ودعم أبي طالب شيخ الأباطح.

روت عائشة: «إنّ أوّل ما بُدئ به رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤياً إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتعبّد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله

ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد منها، حتّى جاء الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فقال: فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني، فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ).

فرجع بها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتّى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها بالخبر: لقد خشيتُ على نفسي، فقالت له: كلّا واللّه ما يُخزيك اللّه أبداً، إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتُكسِب المُعدِم، وتُقري الضيف، وتعين على النوائب.

فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد، وهو ابن عمّ خديجة، وكان

ص: 303

قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فكتب من الأنجيل بالعبرانية ما شاء اللّه أن يكتب، وكان قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمِّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عوديّ، وإن أدرك يومك أنصرك نصراً مؤزّراً. ثمّ توفّي ورقة».

وروى أبو يحيى بن عفيف عن أبيه عن جدّه عفيف، قال: «جئتُ في الجاهلية إلى مكّة وأنا أُريد أن أبتاع لأهلي من ثيابها وعطرها، فأتيت العبّاس بن عبد المطّلب وكان رجلاً تاجراً، فأنا عنده جالس حيث أنظر إلى الكعبة وقد حلّقت الشمس في السماء فارتفعت وذهبت، إذ جاء شابّ فرمى ببصره إلى السماء ثمّ قام مستقبل القبلة، ثمّ لم ألبث إلّا يسيراً حتّى جاء غلام فقام عن يمينه، ثمّ لم ألبث إلّا يسيراً حتّى جاءت امرأة فقامت خلفهما،

فركع الشابّ فركع الغلام والمرأة، فسجد الشابّ فسجد الغلام والمرأة.

فقلت: يا عبّاس، أمر عظيم! قال العبّاس: أمر عظيم، أتدري من هذا الشاب؟ قلت: لا، قال: هذا محمّد بن عبداللّه أبن أخي، أتدري مَن هذا الغلام؟ هذا علي ابن أخي، أتدري مَن هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته، إنّ ابن أخي هذا أخبرني أنّ ربّه ربّ السماء والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا واللّه ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة»(1).

وقوفها إلى جنب النبي(صلی الله علیه و آله)

من العوامل الأساسية التي تقوّى بها الإسلام - كما قلنا - هي أموال خديجة بنت خويلد، فمنذ اليوم الأوّل لنزول الوحي على نبيّنا محمّد(صلی الله علیه و آله) نرى خديجة تسارع لاعتناق الدين الحنيف، وتقف إلى جنب زوجها موقف المدافع والمحامي، وتضع كلّ أموالها في تصرّفه نصرةً للرسالة الجديدة، إضافة إلى ذلك كلّه كانت خديجة بنت خويلد

ص: 304


1- . خصائص أمير المؤمنين: ص45.

المأوى والملجأ، والقلب الحنون الذي يلجأ إليه النبي(صلی الله علیه و آله) حينما تضايقه قريش، ويتعرّض للأذى من قبل أعداء اللّه تعالى، فكان يشكو لها همّه وما يلاقي من قومه، وكانت هي في مقابل ذلك تحيطه بحنان قلبها الكبير، وتخفّف عن آلامه وأتعابه، وتقف موقف المشجّع والمثبّت له.

وقد ثبّت المؤرّخون مواقفها البطولية في كتبهم، نذكر بعضها تعميماً للفائدة:

1. قال ابن حجر العسقلاني: «ومن مزايا خديجة أنّها ما زالت تعظّم النبي(صلی الله علیه و آله)، وتصدّق حديثه، قبل البعثة وبعدها... ومن طواعيتها له قبل البعثة: أنّها رأت ميله إلى زيد بن حارثة بعد أن صار في ملكها، فوهبته له ، فكانت هي السبب

فيما امتاز به زيد من السبق إلى الإسلام»(1).

2. قال ابن إسحاق: «وكانت خديجة أوّل من آمن باللّه ورسوله، وصدّقت بما جاء به، فخفّف اللّه بذلك عن رسوله ، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيب له فيُحزنه، إلّا فرّج اللّه عنه بها، إذا رجع إليها تثبّته وتخفّف عنه وتصدّقه، وتهوّن عليه أمر الناس(علیها السلام)»(2).

3. قالت خديجة لابن عمّها ورقة بن نوفل: «أعلن بأنّ جميع ما تحت يدي من مال وعبيد فقد وهبته لمحمّد يتصرّف فيه كيف شاء. فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته: يا معاشر العرب، إنّ خديجة تُشهدكم على أنّها وهبت لمحمّد نفسها ومالها وعبيدها وجميع ما تملكه يمينها؛ إجلالاً له وإعظاماً لمقامه ورغبةً فيه. وأنفذت إلى أبي طالب غنماً كثيراً ودنانير ودراهم وثياباً وطيباً ليعمل الوليمة، وأقام أبوطالب لأهل مكّة وليمة عظيمة ثلاثة أيّام، حضرها الحاضر والبادي»(3).

4.قال الزهري: «بلغنا أنّ خديجة أنفقت على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أربعين ألفاً وأربعين ألفاً»(4).

ص: 305


1- . الإصابة: ج4 ص275.
2- . أُسد الغابة: ج5 ص437.
3- . وفاة الزهراء للمقرّم: ص7.
4- . تذكرة الخواصّ: ص314.

مكانتها عند الرسول

ومن الطبيعي جدّاً أن تحتلّ خديجة بنت خويلد المكانة المرموقة والعالية عند النبي(صلی الله علیه و آله)؛ لِما بذلته من دعم مادّي وغير مادّي في نصرة الدين الحنيف. لقد عاش النبي(صلی الله علیه و آله) معها خمساً وعشرين سنة لم يتزوّج خلالها بزوجة أُخرى، كلّ ذلك إعظاماً لها، وتبجيلاً لمكانها السامي، ووفاءً لعطائها

للإسلام. وكان النبي(صلی الله علیه و آله) يحترمها ويثني عليها كثيراً في حياتها وبعد وفاتها.

ففي أُسد الغابة عن عائشة: «كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيّام فأدركتني الغيرة، فقلتُ: هل كانت إلّا عجوزاً فقد أبدلك اللّه خيراً منها. فغضب حتّى اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثمّ قال: لا واللّه ما أبدلني اللّه خيراً منها؛ آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء. قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيّئة أبداً»(1).

وقالت: «ما غرتُ على أحدٍ من أزواج النبي(صلی الله علیه و آله) ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، وما ذاك إلّا لكثرة ذكر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لها، وكان لمّا يذبح الشاة يتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهنّ»(2).

وقالت أيضاً: «ما رأيت خديجة قطّ، ولا غرت على امرأةٍ من نسائه أشدّ من غيرتي على خديجة، وذلك من كثرة ما كان يذكرها»(3).

وحينما كلّمنه أزواجه في زواج فاطمة(علیها السلام) وذكرن خديجة، تقول أُم سلمة: «فلمّا ذكرنا خديجة بكى وقال: خديجة، وأين مثل خديجة؟ وأخذ في الثناء عليها».

في أحاديث الرسول

نورد هنا جانباً من أحاديث النبيّ محمّد(صلی الله علیه و آله) يذكر فيها خديجة بنت خويلد:

ص: 306


1- . أُسد الغابة: ج5 ص539.
2- . أُسد الغابة: ج5 ص538.
3- . المستدرك على الصحيحين: ج3 ص186.

1. قال : «أتاني جبرئيل فقال: يا رسول اللّه هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه أدام

أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ(علیها السلام) من ربّها ومنّي وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب»(1).

2. روي من وجوه: «إنّ النبي(صلی الله علیه و آله) قال: يا خديجة، جبريل يُقرئك السلام»، وفي بعضها: «يا محمّد، اقرأ على خديجة من ربّها السلام»(2).

3. إنّ جبريل قال: «يا محمّد، اقرأ على خديجة من ربّها السلام، فقال النبي(صلی الله علیه و آله): يا خديجة هذا جبريل يُقرئك السلام من ربّك، فقالت خديجة: اللّه هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام»(3).

4. قال : «خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة»(4).

5. قالت عائشة: «ما غرتُ على أحدٍ من نساء النبي(صلی الله علیه و آله) ما غرتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي(صلی الله علیه و آله) يُكثر ذكرها، وربّما ذبح الشاة ثمّ يقطّعها أعضاء ثمّ يبعثها في صدائق خديجة، فربّما قلت له: كأنّه لم يكن في الدنيا إلّا خديجة؟! فيقول: إنّها كانت وكانت، وكان لي منها الولد»(5).

6. قالت عائشة: «كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة فيُحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيّام فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلّا عجوزاً قد أبدلك اللّه خيراً منها؟

فغضب ثمّ قال: لا واللّه ما أبدلني اللّه خيراً منها؛ آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بما لها إذ حرمني الناس، ورزقني منها اللّه الولد دون غيرها من النساء».

ص: 307


1- . أُسد الغابة: ج5 ص438.
2- . سير أعلام النبلاء: ج2 ص85.
3- . الاستيعاب المطبوع مع الإصابة: ج4 ص279.
4- . صحيح البخاري: ج4 ص164.
5- . صحيح البخاري: ج5 ص39.

قالت عائشة: «فقلت في نفسي: لا أذكرها بعدها بسيّئة أبداً»(1).

7. قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد».

8. قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»(2).

9. عن عائشة: «إنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بشّر خديجة ببيت في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب»(3).

10. قال : «خديجة سابقة نساء العالمين إلى الإيمان باللّه وبمحمّد»(4).

11. قال ابن عبّاس: «خطّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الأرض أربعة خطوط، ثمّ قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أفضل نساء أهل الجنّة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»(5).

12. قال : «خير نسائها خديجة بنت خويلد، خير نسائها مريم بنت عمران»(6).

13. قال : «أربع نسوة سيّدات عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، وأفضلهنّ عالماً فاطمة»(7).

14. قالت عائشة: «كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناءٍ عليها واستغفارٍ لها، فذكرها يوماً فحملتني الغيرة، فقلتُ: لقد عوّضك اللّه من كبيرة السنّ.

قالت: فرأيته غضب غضباً شديداً، فأُسقط في يدي وقلت في نفسي: اللّهمّ إذا

ص: 308


1- . الإصابة: ج4 ص275.
2- . الاستيعاب المطبوع مع الإصابة: ج4 ص279.
3- . الإصابة: ج4 ص273.
4- . المستدرك على الصحيحين: ج3 ص184.
5- . الاستيعاب المطبوع مع الإصابة: ج4 ص279.
6- . أُسد الغابة: ج5 ص538.
7- . ذخائر العقبى: ص44.

أذهبت غضب رسولك عنّي لم أعد لذكرها بسوء، فلمّا رأى النبيّ ما لقيت قال: كيف قلتِ؟ واللّه لقد آمنت بي إذ كذّبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورُزقت منها الولد وحرمتيه منّي. قالت: فغدا وراح عليّ بها شهراً»(1).

15. قال : «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد»(2).

16. قالت عائشة: «كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إذا ذبح الشاة يقول: أرسلوا إلى أصدقاء خديجة. فذكرت له يوماً، فقال: إنّي لأُحبّ حبيبها»(3).

ص: 309


1- . سير أعلام النبلاء: ج2 ص82.
2- . الفصول المهمّة: ص129.
3- . الإصابة: ج4 ص281.

فهرس المصادر

1. الاختصاص، المنسوب إلى أبي عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي، المعروف بالشيخ المفيد (ت413ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1414ه .

2.الاستغاثة، أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (ت352ه )، طهران: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1373ش.

3.الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

4.أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّالدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

5.الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن الحجر العسقلاني (ت852ه )، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمّد معوّض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

6.اعلام النساء، علي محمّد علي دخيل، لبنان: الدار الإسلامية، 1412ه .

7.إعلام الورى بأعلام الهدى، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق: مؤسّسة آل البيت:، قم: مؤسّسة آل البيت:، الطبعة الأُولى، 1417ه .

أعيان الشيعة، السيّد محسن الأمين، تحقيق: السيّد حسن الأمين، بيروت: دار التعارف

1. للمطبوعات، 1406ه .

ص: 310

2.تاريخ الإسلام ، شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748ه )، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1409ه .

3. تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، الحسين بن محمّد الديار بكري (معاصر)، بيروت: مؤسّسة شعبان.

4. تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968 م.

5. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب العبّاسي، المعروف باليعقوبي (ت284ه )، تحقيق و نشر: دار صادر، بیروت.

6. تذكرة الخواصّ (تذكرة خواصّ الأُمّة في خصائص الأئمّة:)، يوسف بن فُرغلي بن عبداللّه، المعروف بسبط ابن الجوزي (ت654ه )، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، طهران: مكتبة نينوى الحديثة.

7. تكملة الرجال، عبد النبي الكاظمي، تحقيق و تقديم: محمّد صادق بحر العلوم، قم: أنوار الهدى، 1425.

8. تنقيح المقال في علم الرجال، عبد اللّه بن محمّد حسن المامقاني (ت1351ه )، قم: آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1423ه .

9. جامع الرواة، محمّد بن علي الغروي الأردبيلي (ت1101ه )، بيروت: دار الأضواء، 1403ه .

10. خديجة بنت خويلد، السيّد نبيل الحسني، كربلاء: العتبة الحسينية المقدّسة، 1432ه .

11. خصائص الإمام أميرالمؤمنين ، أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303ه )، تحقيق: محمّد هادي الأميني، طهران: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1403ه .

الدُرّ المنثور في التفسير المأثور، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي

1. (ت911ه )، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1414ه .

ص: 311

2. ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، أبو العبّاس أحمد بن محمّد الطبري (ت694ه )، تحقيق: أكرم البوشي، جدّة: مكتبة الصحابة، الطبعة الأُولى، 1415ه .

3. رجال صحيح البخاري، أبو نصر أحمد بن محمّد الكلاباذي (ت398ه )، تحقيق: عبداللّه الليثي، بيروت: دار المعرفة، 1365ه .

4. رياحين الشريعة، ذبيح اللّه محلّاتي، طهران: دار الكتب الإسلامية.

5. السمط الثمين في مناقب أُمّهات المؤمنين، محبّ الدين أحمد بن عبداللّه الطبري (ت694ه )، تحقيق: محمّد علي قطب، القاهرة: دار الحديث، 1408ه .

6. سنن الترمذي (الجامع الصحيح)، أبو عيسى محمّد بن عيسى الترمذي (ت279ه )، تحقيق: عبدالوهّاب عبداللطيف، أحمد محمّد شاكر، بيروت: دار الفكر، دار إحياء التراث، 1357ه .

7. سير أعلام النبلاء، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1414ه .

8. السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بيروت: دار إحياء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

9. السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

10. شذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي بن أحمد بن عماد الحنبلي الدمشقي (ابن عماد) (ت1083ه ) تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، دمشق: دار ابن كثير، 1406ه .

11. صحيح البخاري، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الرابعة، 1410ه .

12. صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (ت261ه )، تحقيق: محمّد فؤاد عبدالباقي، القاهرة: دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

صفة الصفوة، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي) (ت597ه )،

1. تحقيق: محمود فاخوري و محمّد قلعة جي، حلب: دار الوعي، الطبعة الأُولى، 1389ه .

ص: 312

2. الطبقات الكبرى (الطبقه الخامسة من الصحابة)، محمّد بن سعد الزهري (كاتب الواقدي) (ت230ه )، تحقيق: محمّد بن صامل السلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

3. العقد الفريد، أبو عمر أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي (ت328ه )، تحقيق: أحمد أمين أحمد الزين وإبراهيم الأبياري، بيروت: دار الأندلس، الطبعة الأُولى، 1408ه .

4. فاطمة الزهراء وتر في غمد، سليمان كتّاني، بيروت: دار الكتاب العربي، 1399ه .

5. الفصول المهمّة في أُصول الأئمّة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (ت1104ه )، تحقيق: محمّد بن محمّد الحسين القائيني، مؤسّسة معارف إسلامي إمام رضا ، الطبعة الأُولى، 1418ه .

6. الكامل في التاريخ، أبو الحسن علي بن محمّد الشيباني الموصلي (ابن الأثير) (ت630ه )، تحقيق: علي شيري، بيروت: دار صادر، 1385ه، الطبعة الأُولى، 1408 و 1409ه .

7. كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، أبو الحسن علي بن عيسى الإربلي (ت693ه )، بيروت: دار الأضواء، الطبعة الثانية، 1405ه .

8. كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب ، أبو عبداللّه محمّدبن يوسف بن محمّد الگنجي الشافعي (ت658ه )، تحقيق: محمّد هادي الأميني، طهران: دار إحياء تراث أهل البيت:، الطبعة الثانية، 1404ه .

9. الكنى والألقاب، الشيخ عبّاس القمّي (ت1359ه )، طهران: مكتبة الصدر، الطبعة الرابعة، 1397ه .

10. مثلهنّ الأعلي خديجة، عبداللّه العلايلي، بيروت: دار الجديد، 1371ه .

1. المُحبَّر، أبو جعفر محمّد بن حبيب الهاشمي البغدادي (ت245ه )، تحقيق: ايلزه ليختن شتيتر، بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر، مطبعة الدائرة، 1361ه .

ص: 313

2. المستدرك على الصحيحين، أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الحاكم النيسابوري (ت405ه )، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1411ه .

3. معجم رجال الحديث، السيّد أبو القاسم بن علي أكبر الموسوي الخوئي (ت1413ه )، قم: منشورات مدينة العلم، الطبعة الثالثة، 1403ه .

4. مناقب آل أبي طالب (المناقب لابن شهرآشوب)، أبو جعفر محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ابن شهرآشوب) (ت588ه ) تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي، قم: منشورات علّامة.

5. موسوعة آل النبي:، عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، بيروت: دار الكتاب العربي، 1387ه .

ص: 314

18- خدیجة سیّدة نساء قریش

اشارة

* خدیجة سیّدة نساء قریش(1)

محمّدرضا الأنصاري

ملخّص البحث:

يهتمّ هذا البحث بالإجابة عن أسئلة كثيرة، مثل: معنى وتعليل اسم خديجة؟ وأموالها من أين جاءت؟ فهل هي وراثة ورثتها من أبويها أو من زوجيها - إن کانت قد تزوّجت قبل زواجها من الرسول - أم هي عن تجارة اکتسبتها؟ وهل ذُکر عمل أبيها؟ وکم هم أخواتها وإخوانها؟ وهل هم من أُمّهات شتّی؟ وهل تحدّث التاريخ علی أيّة شريعة کان زواج خديجة؟ فهل کان علی الإبراهيمية الحنيفية؟ أم المسيحية أم الوثنية؟ ولِمَ هي زوجة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الدنيا والآخرة؟ واتّضح من خلال التقصّي عن حیاة أبيها وجدّها ونسبها، بأنّها عائلة طهارة شريفة لم تنجّسها الوثنية الجاهلية، فبقيت علی أصالتها ومکانتها ومجدها وشرفها في قريش، حيث عُرفت بالفروسية والشجاعة والتضحية والإقدام وحماية الکعبة. ويواصل البحث سرد الوقائع التاريخية التي شهدتها علاقة خديجة بالنبي(صلی الله علیه و آله)، من التجارة إلى الخطبة والزواج، والحياة المشتركة، مع نقد ما هو جدير بالنقد منها، وإلقاء نظرة تحليلية عليها. كان من خصائصها التي نالت بها أعلی مراتب الشرف والکمال - إضافة إلی ما ذکرناه من طهارتها وسخاوتها وترقّبها للنبوّة وتربيتها الإيمانية لأبنائها - أنّها أوّل من آمن به من النساء والرجال، فصدّقته وآزرته وأعانته وثبّتته.

ص: 315


1- مَن هنّ زوجات الرسول المصطفی في الآخرة، طهران: ژرف، الطبعة الأُولی، 1381ش: ص21، 114.

التمهید

من منکم لا یعرف السیّدة خدیجة بنت خویلد؟ ستقولون إنّها الطاهرة الحازمة اللبیبة الشریفة، أوسط نساء قریش نسباً، وأعظمهنّ شرفاً، وأکثرهنّ مالاً، زوجة الرسول الأکرم، وأوّل من آمنت باللّه ورسوله، وصدّقت بما جاء به، باذلة المال في سبیل دعوته طائعة له، وهي أفضل نساء أهل الجنّة، بشّرها اللّه ببیت في الجنّة. وکلّ أولاد الرسول منها ما خلا إبراهیم، وأفضل أولادها فاطمة(علیها السلام) أُمّ الأئمّة. وأخیراً توفّیت خدیجة قبل الهجرة بعد أبي طالب بثلاثة أیّام، وکان عمرها خمساً وستّین سنة، هذا کلّ ما کان في أُمّهات کتبنا.

ولکن هل وجدنا بین طیّات أُمّهات کتبنا تعلیلاً أو توضیحاً شافیاً لاسم خدیجة؟ أم هل تحدّثوا عن أموالها من أین جاءت؟ فهل هي وراثة ورثتها من أبویها أو من زوجیها - إن کانت قد تزوّجت قبل زواجها من الرسول - أم هي عن تجارة اکتسبتها؟ وهل ذُکر عن عمل أبیها؟ وکم هم أخواتها وإخوانها؟ وهل هم من أُمّهات شتّی؟ وهل تحدّث التاریخ علی أیّة شریعة کان زواج خدیجة؟ فهل کان علی الإبراهیمیة الحنیفیة؟ أم المسیحیة أم الوثنیة؟ ولِمَ هي زوجة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الدنیا والآخرة؟

وسیکون لنا في کلّ وقفةٍ تجاهل أو تغافل عنها الباحثون بعض التساؤلات والأبحاث والتحلیلات، سنذکرها إن شاء اللّه في موقعها إن وفّقنا اللّه لذلك.

نسأل اللّه العليّ القدیر السداد والتوفیق والإلهام في کلّ خطوة نخطوها، إنّه سمیع الدعاء.

اسمها خدیجة

لم یبیّنوا وجه التسمیة وتعلیلها في المعاجم اللغویة وکتب التاریخ والسیرة، ولم نجد في المصادر من سبقتها في هذه التسمیة إلّا امرأة واحدة وهي خدیجة بنت سعید بن سهم زوجة عبد المطّلب(1).

فعلی هذا نری أنّ التسمیة بخدیجة عند العرب للإناث نادر، وأمّا ما یخصّ الذکور فکثیر

ص: 316


1- . انظر: تاریخ الطبري: ج2 ص9، والطبقات الکبری: ج1 ص51، والکامل في التاریخ: ج2 ص6، وتاریخ الیعقوبي: ج1 ص245، وأنساب الأشراف: ج1 ص72.

من سُمّي بمخدج وخدیج وخداج؛ لأنّ أصل التسمیة من خدجت الناقة؛ أي إذا ألقت ولدها قبل أوانه؛ أي إذا ولدت ولداً ناقص الخلق أو لغیر تمام، وقد یکون الخداج لغیر الناقة، کما في الخبر: «کلّ صلاة لا یُقرأ فیها فاتحة الکتاب فهي خداج؛ أي نقصان»(1).

فإنّ هذا المعنی اللغوي لا ینطبق مع اسم خدیجة بنت خویلد الطاهرة الکاملة الراجحة الوسیمة.

أمّا تعلیلنا لهذه التسمیة فاستخلصناها من البیئة التي عاشتها، فوجدناها علی ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ خدیجة ولدت قبل أوان ولادتها لغیر تمام أیّامها، وإن کانت تامّة الخلق(2)، فهي بالمنظور العرفي للمجتمع وفصاحة العرب خداج.

الوجه الثاني: لربّما تزامنت ولادتها مع وجود حدث ولادة الناقة التي أُخدجت في بیت أبیها؛ لأنّ العرب تسمّي أبناءها علی ما وُجد من حدث لما یحیط بهم.

الوجه الثالث: خیف علیها من الحسد؛ لکونها جمیلة وتامّة الخلقة، فقالوا: إنّها خدیجة؛ أي ناقصة.

ولادتها: وُلدت خدیجة قبل عام الفیل بخمس عشرة سنة(3) من بیت مجد وسؤدد وفروسیة وشرف ویسار، فنشأت علی التخلّق بالأخلاق الحمیدة، واتّصفت بالحزم والعقل والعفّة، حتّی دعاها قومها في الجاهلیة: «الطاهرة»(4).

نسبها من أبیها: خدیجة بنت خویلد بن أسد بن عبد العُزّی بن قصيّ(5) بن کلاب بن مُرّة بن کعب بن لُؤي بن غالب بن فِهر بن مالك بن النضر بن کنانة(6).

هکذا ورد نسبها في جمیع المصادر مختصراً وکاملاً، وقد شذّ عنها عمدة الطالب للنسّابة أحمد بن علي الداودي الحسیني، حیث أضاف لنسبها عبد مناف(7)؛ وهو أحد

ص: 317


1- . انظر: معجم مقاییس اللغة: ج2 ص164، ولسان العرب: ج2 ص248.
2- . انظر: الإفصاح في فقه اللغة: ج1 ص2.
3- . الطبقات الکبری: ج1 ص13. ولنا نظر حول ذلك سنبیّنه في زواجها.
4- . انظر: أُسد الغابة: ج7 ص78.
5- . في الاستیعاب: ج4 ص379، وأُسد الغابة، 7: ص78، والإصابة: ج8 ص99 جاء بعدها: «القرشیّة الأسدیّة».
6- . الطبقات الکبری: ج8 ص11، الذرّیة الطاهرة: ص44.
7- . جاء في عمدة الطالب: ص36: «خدیجة بنت خویلد بن أسد بن عبد العُزّی بن عبد مناف».

أجداد النبي(صلی الله علیه و آله)، وهذا الاشتباه علی ما یبدو ناتج من وضع النسّاخ؛ لأنّ عبد العزّی أخو عبد مناف أبوهما قصيّ، فجُعلا معاً.

ویلتقي نسبها مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الجدّ الرابع وهو قصيّ بن کلاب؛ لأنّ نسب الرسول هکذا: محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن کلاب(1)؛ لذا جاء في بعض الروایات بأنّ خدیجة کانت تخاطبه بابن العمّ(2).

نسبها من أُمّها: خدیجة بنت فاطمة بنت زائدة(3) بن الأصم - والأصمّ اسمه جندب - بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد معیص بن عامر بن لؤي بن غالب(4).

وأُمّ أُمّها: هالة بنت عبد مناف بن الحارث [بن عبد](5) بن منقذ بن عمرو بن معیص(6) بن عامر بن لؤي.

وأُمّها العرقة(7)، وهي قلابة بنت سُعَید [بن سعد](8) بن سهم بن عمرو بن هُصیص بن کعب بن لؤي.

وأُمّها عاتکة بنت عبد العزّی بن قصيّ بن کلاب بن مرّة بن کعب بن لؤي بن غالب.

وأُمّها الخُطیّا(9)، وهي رَیطة(10) بنت کعب بن سعد بن تیم بن مرّة بن کعب بن لؤي بن غالب.

وأُمّها نائلة بنت حُذافة(11) بن جُمَح بن عمرو بن هُصیص بن عب بن لؤي بن غالب

ص: 318


1- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص1.
2- . انظر: الاستیعاب: ج4 ص381، وأُسد الغابة: ج7 ص82، وصفة الصفوة: ج1 ص79، والذرّیة الطاهرة: ص59.
3- . في الذرّیة الطاهرة: «زید »، وفي الفائق: ج2 ص215: «الأصمّ».
4- . الاستیعاب: ج4 ص379.
5- . من الذرّیة الطاهرة.
6- . في تاج العروس: ج3 ص190: «خنثر».
7- . وإنّما سُمّیت العرقة لطیب عرقها وعطرها، وکانت بدینة، وکانت إذا عرقت فاحت رائحة الطیب منها، فسُمّیت العرقة (مقاتل الطالبیین: ص58).
8- . من الذرّیة الطاهرة.
9- . في مقاتل الطالبیین: ص85: «الحظیّا».
10- . في الذرّیة الطاهرة: «رویة».
11- . في الذرّیة الطاهرة: «قیلة بنت رواقة»، وفي مقاتل الطالبیین: «ماریة»، ویقال: «قیلة بنت حذافة».

بن فهر بن مالك (1).

وأُمّها أُمیمة بنت عامر بن الحرث بن فهر(2).

وأُمّها سلمی بنت سعد بن کعب بن عمرو من خزاعة.

وأُمّها لیلی بنت عابس بن الظرب بن الحرث بن فهر بن مالك بن النضر بن کنانة.

وأُمّها سلمی بنت لؤي بن غالب.

وأُمّها لیلی بنت محارب بن فهر.

وأُمّها عاتکة بنت مخلّد بن النضر بن کنانة.

وأُمّها الوارثة بنت الحرث بن مالك بن کنانة.

وأُمّها ماریة بنت سعد بن زید... بن بکر بن حبیب بن عمرو بن غنم بن ثعلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصی بن دغمی بن جدیلة بن أسد بن ربیعة بن نزار(3).

کنیتها: کانت تکنّی بأُمّ هند(4).

لقبها: کانت تُلقّب بالسیّدة الطاهرة(5)؛ وذلك لشدّة عفافها، واشتُهر تلقیبها بالکبری(6)؛ لعظم شأنها في المحافل، ومن ألقابها: الغرّاء(7)، وسیّدة نساء قریش(8)، وسیّدة نساء العالمین(9).

ص: 319


1- . الطبقات الکبری: ج8 ص11.
2- . الذرّیة الطاهرة: ص44، وفي مقاتل الطالبیین: ص58: «لیلی بنت عامر الخیار بن غیسان، واسمه الحرث بن عبد عمرو بن عمرو بن قوي بن ملکان بن أفصی من خزامة».
3- . مقاتل الطالبیّین: ص57 - 58.
4- . انظر: الطبقات الکبری: ج8 ص12، والمستدرك علی الصحیحین: ج3 ص182، ومقاتل الطالبیین: ص57، والأغاني: ج16 ص137، وبحار الأنوار: ج16 ص12 ضمن ح12 عن کشف الغمّة: ج2 ص135.
5- . انظر: أُسد الغابة: ج7 ص78، ومجمع الزوائد: ج9 ص218، ومختصر تاریخ دمشق: ج2 ص264، والبدایة والنهایة: ج5 ص329، والمواهب اللدنیة: ج1 ص101 و402، وشرح المواهب اللدنیة: ج1 ص199.
6- . انظر: مناقب خدیجة الکبری للمالکي: ص5، وبحار الأنوار: ج42 ص283 وج91 ص74 وص266 وج97 ص174 و189.
7- . انظر: بحار الأنوار: ج99: ص107.
8- . شرح المواهب اللدنیة: ج1 ص199، سعد السعود: ص418، السیرة الحلبیة: ج1 ص224، وانظر: هامش السیرة لابن هشام: ج1 ص212.
9- . انظر: بحار الأنوار: ج99 ص272.

أبوها

خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ، أبو عَدِيّ(1)، کان من الفرسان ویُلقّب بآبي الخسف(2)؛ وذلك لإبائه الخسف، ولإبائه علی بني بکر حینما أقبل یوماً في سفره حتّی ورد کُلَیّة - وهو وادٍ قرب الجحفة - فوجد علیها حاضراً عظیماً من بني بکر، فأراد خویلد وأصحابه أن یسقوا من حوض کُلَیّة، فأتاهم نفر من بني بکر فمنعوهم الماء إلّا بثمن.

فقال خویلد لأصحابه: یا قوم، متی تسومکم(3) بنو بکر سوم العزیز الذلیل؟ قالوا: فمرنا بأمرك، قال: آمرکم أن تحملوا علیهم.

فحمل علیهم بمن معه، فقتل خویلد رجلاً من بني بکر، وطعن رجلاً فأشواه(4)، وفرّ منه آخر وانهزمت بنو بکر، وشرب خویلد وأصحابه من الماء، فقال خویلد(5):

أنا الفارس المشهور یوم

کُلَیّة

وفي طرف الرنقاء(6) یومك مظلمُ

قَتَلتُ أبا جزءٍ وأشویت

مِحصَناً

وأفلتني رکضاً مع اللیل

جَهضَمُ(7)

فلمّا قدّم خویلد لامته امرأته أُمّ عمرو في ذلك فقال:

ذریني أُمّ عمرو ولا

تلومیني

ومهلاً عاذلي لا تعذلیني

إلی أن قال:

ونحن أُباة الخسف یوم کُلَیّة ونحن أُباة الخسف کلّ مکان(8)

ص: 320


1- . إمتاع الأسماع: ج6 ص175.
2- . انظر: إکمال الکمال لابن ماکولا: ج1 ص4. ومعنی «آبي الخسف»: الرافض للذلّ والهوان.
3- . أي تذلّکم وتکلّفکم المشقّة علی ما تکرهون.
4- . أي ضربه علی جلدة رأسه أو أطراف بدنه کالرأس والید والرجل ما لم یقتل (انظر: النهایة: ج2 ص511).
5- . إمتاع الأسماع: ج6 ص176.
6- . موضع في بلاد بني عامر بن صعصعة، وقیل: الرتقاء: قاع لا ینبت شیئاً بین دار خزاعة ودار مسلم... وقیل: ماء لبني تیم الأدرم بن غالب بن فهر بن مالك من قریش (معجم البلدان: ج3 ص74).
7- . معجم ما استعجم: ج4 ص1134.
8- . إمتاع الأسماع: ج6 ص176 و177.

وأبوها هو الذي نازع تُبّعاً(1) حین أراد أخذ الحجر الأسود إلی الیمن، فقام في ذلك خویلد، وقام معه جماعة من قریش، ثمّ رأی تُبّع في منامه ما روّعه، فنزع عن ذلك وترك الحجر الأسود مکانه(2). ولمّا حفر عبد المطّلب زمزم قال له خویلد: یا ابن سلمی، لقد سقیت ماءً رغداً(3) ونثلت(4) بادیة(5) حیداً(6).

فقال عبد المطّلب: أما إنّك [تُشرك] في فضلها، واللّه لا یساعفني أحد علیها ببِرٍّ(7)، ولا یقوم معي [بارزاً] إلّا بذلت له خیراً لصهر، فقال خویلد:

[أقول وما قولي علیهم

بسُبّةٍ(8)

إلیك ابن سلمی أنت حافر

زمزم

حفیرة(9) إبراهیم یوم ابن

هاجر

ورکضة جبریل علی عهد آدم(10)]

فقال عبد المطّلب: ما وجدت أحداً ورث العلم إلّا قُدِّم(11) غیر خویلد بن أسد. وکان یُقال لبني أسد في الجاهلیة: ألسنة قریش(12).

ص: 321


1- . في إمتاع الأسماع: ج6 ص175: «تُبّع الأخیر»، وفي الکامل في التاریخ (ج1 ص423): «هو الذي سار إلی المشرق من التبابعة»، ویعني بقوله: تُبّع الأخیر، أنّه آخر من سار إلی المشرق وملك البلاد، فإنّ ابن إسحاق وغیره یقولون: «إنّ الذي ملك البلاد المشرقیة لمّا توفّي، ملك بعده عدّة تبابعة، ثمّ اختلّ أمرهم زماناً طویلاً، حتّی طمعت الحبشة فیهم وخرجت إلی الیمن».
2- . البدایة والنهایة: ج6 ص296، السیرة النبویة لابن کثیر: ج1 ص267.
3- . رغداً: أي طیّباً.
4- . نثلت: أي استخرجت.
5- . البادیة: أي الصحراء.
6- . الحید: ما شخص من نواحي الشيء، وفي شرح نهج البلاغة: «ونثلت عادیة حسداً».
7- . أي بإحسان.
8- . أي بعارٍ.
9- . في سبل الهدی والرشاد: ج1 ص221: «رکیة».
10- . إنّ جبریل أنبط ماء زمزم مرّتین، مرّة لآدم حتّی انقطعت زمن الطوفان، ومرّة لإسماعیل، ویعضد ما قاله خویلد هذین البیتین» (ربیع الأبرار: ج1 ص245). ومن خلال البیت الثاني دلیل واضح علی إیمان خویلد، حیث یعتقد بإبراهیم وجبریل الأمین وآدم.
11- . أي ورث العلم ولم یقدّم
12- . إمتاع الأسماع: ج6 ص177. وما بین المعقوفتین من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحدید: ج15 ص217.

ولخویلد من الولد خمسة: عدي والعوامّ ونوفل وعمرو وحزام. ومن البنات خمس أیضاً: خدیجة وهالة ورُقیقة وهند وخالدة(1)، وهم من أُمّهاتٍ شتّی.

ومن أزواج خویلد ریطة عبد العزّی، ومنیة بنت الحارث(2)، وفاطمة بنت زائدة(3)، وهي أُمّ السیّدة خدیجة.

توفّي خویلد یوم حرب الفِجَار(4)، وقیل: بعد الفِجَار بخمس سنین [وقیل: قبل الفِجار]، وبعضهم قال: إنّه قُتل في الفِجَار(5)، وفي المعارف أنّه قُتل في الجاهلیة(6).

جدّها

وکان أسد بن عبد العزّی جدّ خدیجة أحد الأشخاص في حلف الفضول الذي تداعت له قبائل من قریش، فتعاقدوا وتعاهدوا علی أن لا یجدوا بمکّة مظلوماً من أهلها أو غیرهم ممّن دخلها من سائر الناس، إلّا قاموا معه وکانوا علی من ظلمه حتّی تردّ مظلمته(7)، حیث قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عن ذلك الحلف: «لقد شهدتُ في دار جُدعان حِلفاً لو دُعیتُ به في الإسلام لأجبت»(8).

وکان سبب حلف الفضول أنّ قریشاً تحالفت أحلافاً کثیرة علی الحمیّة والمنعة... فكانت قريش تظلم في الحرم الغريب ومن لا عشيرة له، حتّى أتى رجل من بني أسد بن خزيمة بتجارة فاشتراها رجل من بني سهم فأخذها السهمي وأبى أن يعطيه الثمن، فكلّم قريشا واستجار بها، وسألها إعانته على أخذ حقّه، فلم يأخذ له أحد بحقّه فصعد الأسدي أبا قبيس فنادى بأعلى صوته:

ص: 322


1- . سیأتي ذکرهم مفصّلاً في «إخوة وأخوات خدیجة».
2- . انظر: إمتاع الأسماع: ج6 ص194.
3- . انظر: الاستیعاب: ج4 ص379.
4- . انظر: الطبقات الکبری: ج1 ص13.
5- . تاریخ الیعقوبي: ج1 ص341، وما بین المعقوفتین من البدایة والنهایة: ج2 ص362.
6- . المعارف: ص219.
7- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص154.
8- . الروض الأنف: ج1 ص242.

يا أهل فِهرٍ لمظلوم بضاعَتُهُ

ببطن مكّة نائي الأهل والنَّفَرِ

إنّ الحرامَ لمن تمّت حرامَتُهُ

ولا حرامَ لثَوبي لابس

الغدرِ

وقد قيل: لم يكن رجل من بني أسد، ولكنّه قيس بن شيبة السلمي باع متاعاً من أبي خلف الجمحي وذهب بحقّه، فقال هذا الشعر. وقيل: بل قال:

يا لَقُصيّ كيف هذا في الحرم وحُرمة البيت وأخلاق الكرم

أُظلَمُ لا يُمنَعُ منّي من ظَلَم

فتذمّمت قريش، فقاموا فتحالفوا ألّا يُظلم غريب ولا غيره، وأن يُؤخذ للمظلوم من الظالم، واجتمعوا في دار عبد اللّه بن جدعان التيمي . وكانت الأحلاف هاشم وأسد وزهرة

وتيم والحارث بن فهر، فقالت قريش: هذا فضول(1) من الحلف، فسُمّي «حلف الفضول».

وقال بعضهم: حضره ثلاثة نفر يقال لهم الفضل بن قضاعة، والفضل بن جشاعة، والفضل بن بضاعة، فسُمّي بهذا «حلف الفضول». وقد قيل: إنّ هؤلاء النفر حضروا حلفاً لجرهم فسُمّي حلف الفضول بهم، وشُبّه بالحلف في تلك السنة(2).

وکان حلف الفضول بعد الفِجَار؛ وذلك أنّ حرب الفِجَار کانت في شعبان، وکان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرین سنة(3).

وأمّا جدّها لأُمّها عمرو، فإنّه من أبطال الجاهلیة، وقد ذکره الزبیدي في تاج العروس(4).

لقد اتّضح لنا من خلال ما ذکرناه عن أبیها وجدّها ونسبها، بأنّها عائلة طهارة شریفة لم تنجّسها الوثنیة الجاهلیة، فبقیت علی أصالتها ومکانتها ومجدها وشرفها في قریش، حیث عُرفت بالفروسیة والشجاعة والتضحیة والإقدام وحمایة الکعبة، إلی أن أراد اللّه لهذه السیّدة الجلیلة الطاهرة خدیجة بنت خویلد أن تجمع بین شرف الدنیا وعزّ

ص: 323


1- . الفضول - لغةً - : الزیادة، أي کلّ ما أُضیف إلی ما تحالفوا علیه سابقاً وارتضوا به هو فضول.
2- . تاریخ الیعقوبي: ج1 ص338.
3- . هامش إمتاع الأسماع: ج1 ص18.
4- . تاج العروس: ج3 ص190.

الآخرة بزواجها سیّد المرسلین، وسخاوتها بالمال وتضحیتها بالنفس من أجل إعلاء کلمة التوحید في شِعاب مکّة.

إخوة وأخوات خدیجة

من خلال تفحّصي المقدور علیه لکتب التاریخ والسیرة، وجدتُ أنّ إخوة خدیجة:

1. عدي بن خویلد، ویُکنّی به(1)، وأُمّه مُنیة بنت الحارث(2).

2. العوّام بن خویلد، أبو الزبیر، وزوج صفیة بنت عبد المطّلب، عمّه النبي(صلی الله علیه و آله) (3)، قُتل یوم الفِجَار الآخر(4).

3. نوفل بن خویلد، أُمّه ریطة بنت عبد العزّی، ویقال له: ابن العدویة، من عدي بن خزاعة، وهو الذي عناه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بقوله یوم بدر: «اللّهمّ اکفنا ابن العدویة»، فقُتل کافراً یومئذٍ، قتله الزبیر بن العوّام، وهو ابن أخیه، وقد صاح نوفل: اقتُلني قبل أن یقتلني أهل یثرب(5).

وفي السیرة لابن هشام: «وکان من شیاطین قریش، وهو الذي قرن بین أبي بکر وطلحة في حبل حین أسلما، فبذلك کانا یُسمّیان بالقرینین. قتله علي یوم بدر»(6).

وکان یُقال له: أسد قریش، ولا عقب(7).

4. عمرو بن خویلد، ولا بقیّة له(8)، وهو الذي زوّج خدیجة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله)(9).

ص: 324


1- . انظر: إمتاع الأسماع: ج6 ص175.
2- . إمتاع الأسماع: ج6 ص194.
3- . انظر: الاستیعاب: ج4 ص428.
4- . إمتاع الأسماع: ج6 ص194. وسُمّیت بالفجار؛ لأنّ القتال حدث في الأشهر الحرم بین قبائل من العرب، وللعرب عدّة فجارات آخرها حضره النبي وکان ابن عشرین سنة (تاریخ مدینة دمشق: ج51 ص96).
5- . انظر: إمتاع الأسماع: ج6 ص194.
6- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص312.
7- . المعارف: ص219.
8- . إمتاع الأسماع: ج6 ص195.
9- . انظر: البدایة والنهایة: ج2 ص296.

5. حزام بن خویلد(1)، وکان یُکنّی أبا خالد(2)، قُتل یوم الفِجَار الآخر(3)، وهو والد حکیم بن حزام، المولود في الکعبة(4)، شهد بدراً مع الکفّار ونجا منهزماً، وأسلم یوم

الفتح وحسن إسلامه، ولم یصنع شیئاً من المعروف في الجاهلیة إلّا وصنع في الإسلام مثله(5)، وکان یقول إذا اجتهد في یمینه: «لا والذي نجّاني یوم بدر»(6).

ومن أحفاده عبد اللّه بن عثمان بن حکیم، زوج سکینة بنت الحسین ، وولدت له ولداً یُسمّی قُریناً، وله عقب(7).

قال حکیم: «ولدت قبل الفیل بثلاث عشرة سنة، وأنا أعقل حین أراد عبد المطّلب أن یذبح ابنه عبد اللّه حین وقع نذره علیه، وذلك قبل مولد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بخمس سنین.

وأسلم حکیم یوم الفتح - أي فتح مکّة - وأسلم أولاده یومئذٍ، وهم: هشام وخالد وعبد اللّه، وکلّهم قد صحب النبي(صلی الله علیه و آله) وروی عنه.

وروي أنّه باع داراً له من معاویة بستّین ألف دینار، فقیل له: غبنك معاویة، فقال: واللّه ما أخذتها في الجاهلیة إلّا بزقّ خمر، أُشهدکم أنّها في سبیل اللّه، فانظروا أیّنا المغبون؟»(8).

وصرف حکیم کلّ تفکیره ونشاطه إلی التجارة، فکانت قوافله تجوب أنحاء الجزیرة وتصل إلی الشام والیمن وغیرهما، وکان محبّاً لعمّته خدیجة، لذا کان هو سبباً في حیاة

ص: 325


1- . تاریخ الإسلام: ج3 ص223.
2- . المعارف: ص219.
3- . إمتاع الأسماع: ج6 ص195.
4- . روي أنّ بعض الأشخاص وُلدوا في الکعبة ولم یثبت ذلك عندنا، ولو ثبت فإنّ قضیّة أمیر المؤمنین تختلف؛ وذلك أنّ لمولانا علي معجزة الربّ، وتختلف عن هؤلاء، قال یزید بن قعنب: «فرأینا البیت وقد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فیه وغابت عن أبصارنا، والتزق الحائط، فرمنا أن ینفتح لنا قفل الباب فلم ینفتح، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر اللّه ، ثمّ خرجت بعد الرابع وبیدها أمیر المؤمنین علي » (علل الشرائع: ص135، ضمن ح3، معاني الأخبار: ص62، ضمن ح 10).
5- . انظر: أُسد الغابة: ج2 ص45.
6- . الکامل في التاریخ: ج2 ص123. قوله: «إذا اجتهد في یمینه»؛ یعني إذا کان جادّاً في قسمه.
7- . المعارف: ص219.
8- . المعارف: ص311.

خدیجة التجاریة، وفي أُمورالبیع والشراء، روي أنّه هو الذي اشتری زید بن حارثة بسوق عکاظ بأربعمائة درهم لخدیجة(1).

ومن أخواتها

1.

رُقیقة بنت خویلد، لم تکن لها صحبة، ممّا یدلّ علی أنّها تُوفّیت قبل البعثة، وهي أُخت خدیجة لأُمّها، تزوّجها بِجَاد بن عمیر فولدت له أُمیمة، لها صحبة، وهي من المبایعات(2)، شهدت مؤتة(3)، وروت عن النبي(صلی الله علیه و آله) وروي عنها(4)، وابنتها حکیمة بنت أُمیمة(5).

قالت أُمیمة بنت رقیقة: «أتیت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في نسوة نبایعه، فقلنا: نبایعك یا رسول اللّه علی أن لا نشرك باللّه شیئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان بین أیدینا وأرجلنا ولا نعصیك في معروف، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): فیما استطعتن وأطقتن.

فقالت: فقلت: اللّه ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلمّ نبایعك یا رسول اللّه، فقال : إنّي لا أُصافح النساء، إنّما قولي لمائة امرأة کقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة»(6).

2. هالة بنت خویلد، وهي أُمّ أبي العاص بن الربیع(7)، زوج زینب بنت النبي(صلی الله علیه و آله)، وهي أُخت خدیجة من أُمّها وأبیها(8)، وهي التي استأذنت علی رسول اللّه، فعرف استئذان خدیجة، فارتاع(9) لذلك، وقال: «اللّهمّ هالة! فغارت عائشة وقالت: ما تذکر من عجوز من عجائز قریش حمراء الشدقین(10)، هلکت في الدهر، وأبدلك اللّه

خیراً منها(11)...

ص: 326


1- . انظر: المعارف: ص144.
2- . انظر: أُسد الغابة، ض7: ص27.
3- . انظر: تاریخ مدینة دمشق: ج96 ص47.
4- . إکمال الکمال: ج1 ص205.
5- . الاستیعاب: ج4 ص353.
6- . تاریخ مدینة دمشق: ج96: ص48، وانظر: هامش إمتاع الأسماع: ج6 ص195.
7- . في موسوعة حیاة الصحابیات: ص321: «أزواج هالة بنت خویلد: الربیع بن عبد العزّی، ثمّ ربیعة بن عبد العزّی، ثمّ وهب بن عبد الثقفي، ثمّ قطن بن وهب بن عمرو الخزاعي».
8- . انظر: إمتاع الأسماع: ج6 ص196.
9- . أي تغیّر لونه لوجود الشبه من صوت خدیجة في صوت هالة.
10- . أي سقطت أسنانها وبقیت حمرة اللثاث.
11- . انظر: البدایة والنهایة: ج3 ص158، وأُسد الغابة: ج7 ص284.

فغضب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: واللّه لقد آمنت بي إذ کفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، ورُزقت منّي الولد إذ حرمتموه...»(1).

3. هند بنت خویلد(2).

4. خالدة بنت خویلد، زوجها علاج بن أبي سلمة بن عبد العزّی الثقفي(3).

ویُستفاد ممّا ذکرناه من حیاة أبیها وأُمّها وجدّها وإخوتها وأخواتها ما یلي:

أوّلاً: بأنّ إخوتها وأخواتها من أُمّهات شتّی، وأنّ خدیجة وهالة ورُقیقة وحزام والعوامّ من أُمّ واحدة، وأنّ رقیقة وحزام والعوامّ تُوفّوا في الجاهلیة.

ثانیاً: یُستشمّ ممّا ذُکر بأنّ أُمّ خدیجة وقومها أهل تجارة ومال، لذا کان المال والتجارة منحصراً بأیدي خدیجة وحکیم ابن أخیها وأبي العاص؛ إمّا وراثة، أو عن طریق التجارة ومزاولتها منذ ریعان شبابهم.

ثالثاً: إنّ المجد والشرف والسؤدد والفروسیة والشجاعة والفداء وقداسة النسب جاء عن طریق أبویهما خویلد وفاطمة بنت زائدة.

رابعاً: ونستخلص من دفاع أبیها وحمایته للکعبة من الآثام والاعتداء، دلالة واضحة علی انتمائه الدیني والتزامه لشریعة إبراهیم .

خامساً: وکما أنّهم أهل الفصاحة وألسنة قریش، وأهل العلم والمعرفة، هذا ما وصفهم عبد المطّلب لبني أسد، وخاصّة خویلد حینما حفر عبد المطّلب زمزم.

هل تزوّجت خدیجة قبل النبي(صلی الله علیه و آله)؟

إنّ أغلب المؤرّخین ذکروا أنّها تزوّجت أوّلاً وثانیاً ووُلد لها، ثمّ تزوّجت بالنبي(صلی الله علیه و آله)، وأنکر ذلك أحمد البلاذري وأبو القاسم الکوفي في کتابیهما، والمرتضی في الشافي، وأبو جعفر في التلخیص، وذکروا أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) تزوّج بها وکانت عذراء، یؤکّد ذلك ما ذُکر في

ص: 327


1- . تاریخ مدینة دمشق: ج3 ص195.
2- . انظر: إمتاع الأسماع: ج6 ص196.
3- . موسوعة حیاة الصحابیات: ص322

کتابي الأنوار والبدع، أنّ رقیّة وزینب کانتا ابنتي هالة أُخت خدیجة(1)، واتّبعهم علی هذا القول أبو القاسم الکوفي صاحب کتاب الاستغاثة(2)، ثمّ أثارها السیّد جعفر مرتضی العاملي في کتابه بنات النبي أم ربائبه؟

القائلون بتزوّجها قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

ومن جملة الذین قالوا بتزوّجها قبله:

أوّلاً: أبو الفرج الإصفهاني في کتابه مقاتل الطالبیّین، حیث ذکر: «وتزوّجت قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) رجلین، یُقال لأحدهما عتیق بن عائذ بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، وولدت له بنتاً یُقال لها هند، ثمّ توفّي عنها، فخلف علیها أبو هالة ابن النبّاش ابن زرارة بن وقدان بن حبیب بن سلامة بن عدي بن حرزة بن أسید بن عمرو بن تمیم، فولدت له ابناً یُقال له هند(3).

وروی عن النبي(صلی الله علیه و آله)، وروی عنه الحسن بن علي بني أبي طالب حدیث صفة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المشهور، وقال فیه : «سألتُ خالي هند

بن أبي هالة عن صفة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وکان له وصّافاً»(4).

ثانیاً: ابن عبد البرّ القرطبي في الاستیعاب: «کانت خدیجة تحت أبي هالة بن زرارة بن نبّاش... ثمّ خلف علیها بعد أبي هالة عتیق بن عائذ... بن مخزوم، ثمّ خلف علیها بعد عتیق المخزومي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)»(5).

ثالثاً: ابن الأثیر الجزري في أُسد الغابة: «وکانت خدیجة قبل أن ینکحها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تحت عتیق بن عابد... فولدت له هند، ثمّ خلف علیها بعد عتیق أبو هالة... حلیف بني

ص: 328


1- . بحار الأنوار: ج22: ص191 ح5، المناقب: ج1 ص159.
2- . الاستغاثة: ج1 ص68.
3- . وکان یقول: «أنا أکرم الناس أباً وأُمّاً وأخاً وأُختاً، أبي رسول اللّه ، وأُمّي خدیجة، وأخي القاسم، وأُختي فاطمة» (المعارف: ص133).
4- . مقاتل الطالبیّین: ص58 و59.
5- . الاستیعاب: ج4 ص379.

الدار بن قصيّ، فولدت له هند وهالة، فهند بنت عتیق، وهند وهالة ابنا أبي هالة، کلّهم إخوة أولاد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خدیجة»(1).

رابعاً: ابن سعد في الطبقات الکبری: «وکانت قریش تزوّج حلیفهم، فولدت خدیجة لأبي هالة رجلاً یقال له هند وهالة رجل أیضاً، ثمّ خلف علیها بعد أبي هالة عتیق بن عابد أُمّ عائذ کما في المصدرین السابقین... فولدت له جاریة یقال لها هند، فتزوّجها صیفي بن أُمیة. وروي أیضاً: وکانت خدیجة قبل أن یتزوّجها أحد قد ذکرت لورقة بن نوفل بن أسد فلم یقضِ بینهما نکاح، فتزوّجها أبو هالة واسمه هند ابن النبّاش»(2).

خامساً: الدولابي في الذرّیة الطاهرة: «کانت خدیجة قبل النبي(صلی الله علیه و آله) تحت أبي هالة أخي بني تمیم، وکانت بعد أبي هالة عند عتیق بن عابد المخزومي»(3).

سادساً: یُنظر مثل ما تقدّم في مجمع الزوائد(4)، والإصابة(5)، وإکمال الکمال(6)، وکتاب المحبّر(7)، وتاریخ مدینة دمشق(8)، وتاریخ الطبري(9).

فمن خلال تتبّعنا للمصادر وجدنا أغلبهم اتّفقوا علی تزویجها قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مرّتین، إلّا أنّهم اختلفوا أیّهما کان الأوّل في التزویج، واختلفوا أیضاً في الاسم.

القول بأنّها لم تتزوّج قبله

أنکر أبو القاسم الکوفي المتوفّی سنة (352ه ) في کتابه الاستغاثة بأنّ خدیجة تزوّجت قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وقال: «قد صحّت الروایة عندنا أنّه کانت لخدیجة بنت خویلد من

ص: 329


1- . أُسد الغابة: ج7 ص79.
2- . الطبقات الکبری: ج8 ص11
3- . الذرّیة الطاهرة: ص47.
4- . مجمع الزوائد: ج9 ص219.
5- . الإصابة: ج8 ص99.
6- . إکمال الکمال: ج1 ص523.
7- . کتاب المحبّر: ص452.
8- . تاریخ مدینة دمشق: ج3 ص179 و190.
9- . تاریخ الطبري: ج2 ص411.

أُمّها أُخت یُقال لها: هالة، قد تزوّجها رجل من بني مخزوم، فولدت بنتاً اسمها هالة، ثمّ خلف علیها بعد أبي هالة رجل من تمیم یُقال له أبو هند، فأولدها ابناً کان یُسمّی هند بن أبي هند وابنتین، فکانتا هاتان البنتان منسوبتین إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): زینب ورقیّة، من امرأة أُخری قد ماتت.

ومات أبو هند، وقد بلغ ابنه مبالغ الرجال والابنتان طفلتان، وکان في حدثان تزویج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بخدیجة، وکانت هالة أُخت خدیجة فقیرة، وکانت خدیجة من الأغنیاء الموصوفین بکثرة المال، فأمّا هند بن أبي هند، فإنّه لحق بقومه

وعشیرته في البادیة، وبقیت الطفلتان عند أُمّهما هالة أُخت خدیجة، فضمّت خدیجة أُختها هالة مع الطفلتین إلیها وکفلت جمیعهم.

وکانت هالة أُخت خدیجة هي الرسول(1) بین خدیجة وبین رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في حال التزویج، فلمّا تزوّج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بخدیجة ماتت(2) هالة بعد ذلك بمدّة یسیرة وخلفت الطفلتین: زینب ورقیّة في حجر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وحجر خدیجة، فربّیاهما، وکان من سنّة العرب في الجاهلیة مَن یربّي یتیماً یُنسب ذلك الیتیم إلیه... ثمّ نَسب أخوهما هند أیضاً إلی خدیجة؛ إذ کان اسم خدیجة ثابتاً معروفاً، وکان اسم أُختها هالة خاملاً مجهولاً، فظنّوا لمّا غلب اسم خدیجة علی اسم هالة أُختها في نسب ابنها أنّ أبا هند کان متزوّجاً بخدیجة قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)...»(3).

وذکر ابن شهرآشوب في کتابه المناقب نقلاً عن البلاذري وأبي القاسم الکوفي والمرتضی في الشافي وأبي جعفر في التلخیص بأنّ النبي(صلی الله علیه و آله) تزوّج خدیجة وکانت عذراء(4).

ص: 330


1- . أي الواسطة.
2- . وروي أنّها کانت علی قید الحیاة بعد وفاة خدیجة، فعن عائشة قالت: «استأذنت هالة بنت خویلد علی رسول اللّه فعرف استئذان خدیجة، فارتاع لذلك وقال: اللّهمّ هالة! قالت: فغرتُ فقلت: ما تذکر من عجوز من عجائز قریش حمراء الشدقین هلکت في الدهر قد أبدلك اللّه خیراً منها!» (أُسد الغابة: ج7 ص285، عمدة القارئ: ج16 ص282: صحیح البخاري: ج5 ص48).
3- . الاستغاثة: ج1 ص68 - 69.
4- . انظر: المناقب: ج1 ص159.

واتّبع هذا الرأي أیضاً السیّد جعفر مرتضی العاملي في کتابه بنات النبي أم ربائبه؟ معلّلاً ذلك بأنّها دعوة قد صنعتها ید السیاسة، أو أنّها قد جاءت لتکریس فضیلة لعائشة أُمّ المؤمنین، مفادها: أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لم یتزوّج بکراً غیرها(1).

یُضاف إلی ما ذُکر بأنّ الأفضلیة بالبکریة لم تتکامل إلّا إذا کان هناك حمل، فإذا کانت عاقراً فالحصیرة في ناحیة البیت خیر من المرأة التي لا تلد(2)، وإنّ المرأة السوداء الولود أفضل من الحسناء الجمیلة العاقر(3). وروي عن أبي عبد اللّه قال: «جاء رجل إلی رسول اللّه فقال: یا نبي اللّه، إنّ لي ابنة عمّ قد رضیت جمالها وحسنها ودینها، ولکنّها عاقر؟ قال: لا تتزوّجها، إنّ یوسف بن یعقوب لقي أخاه فقال: یا أخي، کیف استطعت أن تزوّج النساء بعدي؟ فقال: إنّ أبي أمرني فقال: إن استطعت أن تکون لك ذرّیة تثقل الأرض بالتسبیح فافعل. ثمّ قال : وجاء رجل من الغد إلی النبي(صلی الله علیه و آله) فقال له مثل ذلك، فقال له : تزوّج سوءاء(4) ولوداً، فإنّي مکاثر بکم الأُمم یوم القیامة»(5).

فخدیجة إذن أفضل منها؛ لأنّها ولود. روي عن عائشة أنّها قالت: «کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لا یکاد یخرج من البیت حتّی یذکر خدیجة فیحسن الثناء علیها، فذکرها یوماً من الأیّام فأدرکتني الغیرة، فقلت: هل کانت إلّا عجوزاً، فقد أبدلك اللّه خیراً منها.

فغضب حتّی اهتزّ مقدّم شعره من الغضب، ثمّ قال: لا واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها، آمنت بي إذ کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء»(6).

وفي روایة: قال الصادق : «... فغضب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ثمّ قال: مَه یا حمیراء، فإنّ اللّه

ص: 331


1- . بنات النبي أم ربائبه: ص88.
2- . انظر: أمالي الصدوق: ص455 ضمن ح1، وعلل الشرائع: ص515 ضمن ح5.
3- . انظر: نوادر الراوندي: ص13.
4- . أي قبیحة.
5- . الکافي: ج5 ص333 ح1.
6- . أُسد الغابة: ج7 ص84، صفة الصفوة: ج2 ص8، الاستیعاب: ج4 ص384، وفي تاریخ مدینة دمشق: ج3 ص195: «ورُزقت منّي الولد إذ حرمتموه منّي».

تبارك وتعالی بارك في الودود الولود، وإنّ خدیجة رحمها اللّه ولدَت منّي طاهراً وهو عبد اللّه وهو المطهّر، وولدت منّي القاسم وفاطمة ورقیّة وأُمّ کلثوم وزینب، وأنت مِمّن أعقم اللّه رحمَه فلم تلدي شیئاً»(1).

وإنّي مع الذین قالوا إنّها باکر ولم تتزوّج قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)؛ لأنّ الرحم الذي أنجب الزهراء البتول(علیها السلام) أُمّ سیّدي شباب أهل الجنّة، ومن ذرّیتها المهديّ[، حريّ أن یکون لذلك الرحم قداسة وشرف ولم یقربه غیر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)؛ لما یتجلّی فیه نور العصمة.

وکما أنّي استبعدت أن یکون زواجها من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وعمرها أربعون عاماً، بل الصحیح وعمرها ثمانٍ وعشرون عاماً(2)؛ لکي ینسجم مع ما ولدته خدیجة ویقرّب احتمال أنّها باکر.

ابن عمّها ورقة بن نوفل

من الشخصیات البارزة في حیاة السیّدة خدیجة ابن عمّها ورقة بن نوفل بن أسد، وأُمّه هند بنت أبي کثیر بن عبد بن قصيّ، وهو أحد من اعتزل عبادة الأوثان في الجاهلیة، وطلب الدین، وقرأ الکتب، وامتنع من أکل ذبائح الأوثان(3)، وبما أنّ المسیحیة آخر الشرائع السماویة في الجزیرة العربیة قبل ظهور شریعة الإسلام، لذا تنصّر وأصبح رجلاً من القسّیسین(4) المنتظرین ذلك الدین الأزلي، وکان یکتب الخطّ العربي، فکتب

بالعربیة(5) من الإنجیل ما شاء أن یکتب(6).

ص: 332


1- . بحار الأنوار: ج16 ص3 ذیل ح6 عن الخصال: ص405 ذیل ح16.
2- . کما في بحار الأنوار: ج16 ص12، کشف الغمّة: ج1 ص510، الذرّیة الطاهرة: ص52، المستدر ك علی الصحیحین: ج3 ص82، سیر أعلام النبلاء: ج2 ص111، تهذیب تاریخ دمشق: ج1 ص303، تاریخ الخمیس: ج1 ص264.
3- . انظر: الأغاني: ج3 ص119.
4- . انظر: الکافي: ج5 ص375 ضمن ح9.
5- . في بحار الأنوار: ج18: ص228: «وکان یکتب العبراني بالعربیة»، وفي تاریخ مدینة دمشق: ج36 ص5: «وکان یکتب الکتاب العربي، فکتب بالعربیة».
6- . تاریخ الإسلام: ج1 ص118.

وکان همّه خروج النبي بتلك الأوصاف التي کانت مشخّصة في التوراة والإنجیل؛ لکي یقتدي به ویؤازره.

«روي أنّ زید بن عمرو بن نفیل وورقة بن نوفل خرجا یلتمسان الدین حتّی انتهیا إلی راهب بالموصل، فقال لزید: من أین أقبلت یا صاحب البعیر؟

قال: من بیت إبراهیم.

قال: وما تلتمس؟

قال: الدین.

قال: ارجع؛ فإنّه یوشك أن یظهر الذي تطلب في أرضك.

فرجع یرید مکّة، حتّی إذا کان بأرض لخم(1) عدو علیه فقتلوه، وکان یقول: أنا علی دین إبراهیم ، وکان یقول: إنّا ننتظر نبیّاً من ولد إسماعیل من ولد عبد المطّلب»(2).

وقال النبي(صلی الله علیه و آله): «زید بن عمرو یُبعث أُمّة وحده»، ورثاه ورقة بن نوفل:

رشدت وأنعمتَ ابن عمرو

وإنّما

تجنّبت تنّوراً من اللّه(3) حامیا

بدینك ربّاً لیس ربّ کمثله

وترکك أوثان الطواغي(4) کما هیا

وقد ترك الإنسان رحمةُ ربّه

ولو کان تحت الأرض ستّین

وادیاً(5)

وفي تاریخ الإسلام: «وقد كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث بن أسد وهو ابن عمّ ورقة وعبيد اللّه بن جحش بن رئاب وأُمّه أُميمة بنت عبد المطّلب بن هاشم، حضروا قريشاً عند وثنٍ لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلمّا اجتمعوا خلا بعض أُولئك النفر إلى بعض وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمون واللّه ما قومكم على شيء، لقد

ص: 333


1- . لخم: حي من الیمن، ومنهم ملوك العرب في الجاهلیة (لسان العرب: ج13 ص539).
2- . الخرائج والجرائح: ج1 ص135 و221.
3- . في المعارف: ص59: «النار».
4- . في المعارف: ص59: «وترکك جنان الجبال».
5- . المناقب: ج1 ص14.

أخطأوا دين إبراهيم وخالفوه، وما وثن يُعبد لا يضرّ ولا ينفع، فابتغوا لأنفسكم. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلّها يتبعون الحنيفية دين إبراهيم، فأمّا ورقة فتنصّر ولم يكن منهم أعدل شأناً من زيد بن عمرو، اعتزل الأوثان وفارق الأديان إلّا دين إبراهيم»(1).

لقد أدرك ورقة بن نوفل الإیمان بعقله وبشّر خدیجة بالنبي(صلی الله علیه و آله)، فکان له أکبر الأثر في التربیة الروحیة التي کانت علیها السیّدة خدیجة في الجاهلیة.

وله الأثر أیضاً علی أُخته. روي أنّ امرأة من بني أسد - وهي أُخت ورقة بن نوفل - وهي عند الکعبة فقالت له حین نظرت إلی وجه عبد اللّه بن عبد المطّلب: «أین تذهب یا عبد اللّه؟ قال: مع أبي، قالت: لك مثل الإبل التي نُحرت عنك [إن تزوّجتني]... فلمّا تزوّج عبد اللّه رأی تلك المرأة التي هي أُخت ورقة، فقال لها: ما لكِ لا تعرضین عليَّ الیوم ما کنتِ عرضتِ عليَّ بالأمس؟ قالت: فارقك النور الذي کان معك بالأمس، فلیس لي بك الیوم حاجة. وقد کانت تسمع من أخیها ورقة بن نوفل أنّه سیکون في هذه الأُمّة نبي»(2).

وقد اختلف في إسلامه، فمنهم من یری أنّه هلك قبیل مبعث النبي(صلی الله علیه

و آله)؛ لأنّه قال للنبي(صلی الله علیه و آله): «إن یدرکني یومك لأنصرنّك نصراً مؤزّراً»(3).

وفي روایة قال ورقة للنبي(صلی الله علیه و آله): «یا لیتني فیها جذعاً(4)، أکون حیّاً حین یخرجك قومك... وإن یدرکني یومك أنصرك نصراً مؤزّراً، ثمّ لم ینشب(5) ورقة أن توفّي، وفتر الوحي فترة، ثمّ أتاه الوحي الناموس جبریل »(6).

وعن عائشة قالت: «سُئِل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عن ورقة، فقالت له خدیجة: إنّه کان صدّقك،

ص: 334


1- . تاریخ الإسلام: ج1 ص90، و انظر: السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص237.
2- . السیرة النبویة: ج1 ص164 و165.
3- . انظر: الکامل في التاریخ: ج2 ص49.
4- . أي شابّاً قویاً؛ أي یا لیتني أکون شابّاً حین تظهر نبوّتك حتّی أُبالغ في نصرك.
5- . أي لم یمکث ولم یحدث شیئاً ولم یشتغل به.
6- . بحار الأنوار: ج18: ص228، و انظر: الأغاني: ج3 ص120.

وإنّه مات قبل أن تظهر - أي أنّه لم یدرك زمان دعوتك لیصدّقك ویأتي بالأعمال علی موجب شریعتك، لکن صدّقك قبل مبعثك - فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أُریته في المنام وعلیه ثیاب بیاض، ولو کان من أهل النار لکان علیه لباس غیر ذلك»(1).

لذلك نهی النبي(صلی الله علیه و آله) عن سبّ ورقة... قیل: «سابّ أخٌ لورقة رجلاً فتناول الرجل ورقة فسبّه، فبلغ النبي(صلی الله علیه و آله) فقال: هل علمت أنّي رأیت لورقة جنّة أو جنّتین؟ فنهی عن سبّه»(2).

وعن جابر عن النبي(صلی الله علیه و آله)، قال: «رأیت ورقة في بطنان الجنّة علیه السندس»(3).

ومنهم من یری أنّه أدرك الدعوة وأسلم تبعاً لما روي من «أنّ بلالاً کان یُعذّب في

رمضاء(4) مکّة وقت الظهیرة، ثمّ یؤمر بالصخرة العظیمة فتُلقی علی صدره، ویقول له أُمیّة: لا تزال هکذا حتّی تموت أو تکفر بمحمّد وتعبد اللّات والعزّی. فکان ورقة بن نوفل یمرّ به وهو یُعَذّب وهو یقول: أحد أحد، فیقول: أحد أحد واللّه یا بلال، ثمّ یقول لأُمیة: أحلفُ باللّه لئن قتلتموه علی هذا لاتّخذنّه حناناً»(5).

فمن خلال هذه الروایة یدلّل علی أنّ بلالاً ما عُذب إلّا بعد أن أسلم وشاعت دعوة محمّد(صلی الله علیه و آله)، لذا فإنّ ورقة بن نوفل أدرك دعوة النبي(صلی الله علیه و آله).

ولورقة شعر سلك فیه مسلك الحکماء، ومن شعره:

لقد نصحتُ لأقوامٍ وقلتُ

لهم

أنا النذیرُ فلا یغرُرکم

أحدُ

لا تعبُدُنّ إلهاً غیر

خالقکم

ص: 335


1- . أُسد الغابة: ج5 ص447.
2- . الإصابة: ج4 ص633، و انظر: الأغاني: ج3 ص122.
3- . الإصابة: ج4 ص635.
4- . أي الأرض الحامیة من شدّة الشمس.
5- . الکامل في التاریخ: ج2 ص66، و انظر: حلیة الأولیاء: ج1 ص148. ومعنی «حناناً»: رحمة وبرکة، أراد لأجعلنّ قبره موضع حنان؛ أي مظنّة من رحمة اللّه تعالی، فأتمسّح به متبرّکاً کما یُتمسّح بقبور الصالحین الذین قُتلوا في سبیل اللّه من الأُمم الماضیة، فیرجع ذلك عاراً علیکم وسبّة عند الناس (لسان العرب: ج13 ص128).

فإن دعوکم فقولوا بیننا

حَدَدُ(1)

سبحانَ

ذي العرش سبحاناً نعوذُ به

وقبل قد سبّح الجوديّ(2) والجُمُدُ(3)

مسخّرٌ کلّ ما تحت السماء

له

لا ینبغي أن یُناوي مُلکَه

أحدُ

لا شيء ممّا تری تبقي

بشاشته

یبقی الإله ویُودي المال

والولدُ

لم تُغنِ عن هُرمُزٍ یوماً

خزانته

والخُلد

قد حاولت عادٌ فما خلدوا

ولا سلیمان إذ دان الشعوب

له

والجنّ

والأُنسُ تجري بینها البُرُدُ(4)

ومن قصیدة له:

فإن یك حقّاً یا خدیجة

فاعلمي

حدیثك إیّانا فأحمد مرسلُ

یفوز به من فاز عزّاً لدینه

ویشفی

به الغويّ الشقيّ المضلّلُ

فریقان منهم: فرقة في جنانه

وأُخر بأغلال الجحیم تضلّلُ(5)

ومن قصیدة له أیضاً:

فخبّرنا عن كلّ خير بعلمه

وللحقّ أبوابٌ لهنّ مفاتحُ

وإنّ ابن عبد اللّه أحمد

مرسلٌ

إلى كلّ من ضمّت عليه

الأباطحُ

وظنّي به أن سوف يُبعث

صادقاً

كما أُرسل العبدان نوح

وصالحُ

وموسى وإبراهيم حتّى يُرى

له

بهاء ومنشور من الذكر واضح(6)

وله أیضاً:

يا للرجال لصرف الدهر

والقدر

وما لشيءٍ قضاه اللّهُ من

غير

حتّى خديجة تدعوني لأُخبرها

ص: 336


1- . أي منع.
2- . الجودي: جبل بالجزیرة استوت علیه سفینة نوح .
3- . الجُمُد: جبل بنجد.
4- . الأغاني: ج3 ص121. والبُرُد: جمع برید، وهو الرسول.
5- . بحار الأنوار: ج18 ص195 ضمن ح30 عن المناقب: ج1 ص45.
6- . المناقب: ج1 ص45.

وما لنا بخفيّ العلم من خبر

فخبّرتني بأمرٍ قد سمعت به

فيما

مضى من قديم الناس والعصر

بأنّ أحمد يأتيه فيُخبره

جبريلُ أنّك مبعوثٌ إلى البشر(1)

ومن وصایاه لخدیجة إذا دخل عليها يقول لها: «يا بنت أخي(2)، لا تمارِ جاهلاً ولا عالماً؛ فإنّكِ متى ماريتِ جاهلاً أذلّك، ومتی ماريتِ عالماً منعك علمه، وإنّما يسعد

بالعلماء من أطاعهم. أي بنية، إيّاكِ وصحبة الأحمق الكذّاب، فإنّه يريد نفعكِ فيضرّكِ، ويقرب منكِ البعيد، ويبعد عنكِ القريب، إن ائتمنتِه خانكِ، وإن ائتمنكِ أهانكِ، وإن حدّثكِ كذّبكِ، وإن حدّثته كذّبكِ، وأنت منه بمنزلة السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً. واعلمي أنّ الشابّ الحسن الخلق مفتاح للخير مغلاق للشرّ، وأنّ الشابّ الشحيح الخلق مغلاق للخير مفتاح للشرّ، واعلمي أنّ الآجر إذا انكسر لم يشعب ولم يعد طيناً»(3).

وذُکر أنّ ورقة بن نوفل کان شیخاً کبیراً وقد عُمي(4)، وسُئل النبي(صلی الله علیه و آله) عنه فقال: «یُبعث یوم القیامة أُمّة وحده»(5). وسیأتي إن شاء اللّه خبره في ذکر ابتداء الوحي إلی النبي(صلی الله علیه و آله) أیضاً.

وممّا یُستفاد من هذه الشخصیة

أوّلاً: الزهد الحقیقي في حیاة ورقة بن نوفل، وانصبابه في العبادة للّه، وحرصه علی معرفة أوصاف النبي(صلی الله علیه و آله)، وانتظار ظهوره لإنقاذ هذه الأُمّة من الانحراف العقائدي الذي ساد في مکّة، وهذا دلیل علی حرصه للتوحید، ممّا ولّد في نفسیة قومه ذلك الأثر، وخاصّة في حیاة خدیجة الروحیة.

ص: 337


1- . بحار الأنوار: ج18 ص195 ضمن ح30، المناقب: ج1 ص45.
2- . في البدایة والنهایة: ج3 ص20: «وما قوله: یا بنیة أخي، إلّا دلیلاً علی مدی احترامها وتقدیرها له، والمکانة التي له في نفسها».
3- . بحار الأنوار: ج75 ص446 ح5 عن أمالي الطوسي: ج1 ص308 ح44.
4- . انظر: تاریخ مدینة دمشق: ج36 ص5.
5- . مجمع الزوائد: ج9 ص416.

ثانیاً: صراحته في مقولة الحقّ ودفاعه عن المظلومین، وخاصّة حینما رأی بلالاً یُعذّب في صحراء مکّة، وقال قولته المشهورة: «أحلف باللّه لئن قتلتموه لاتّخذنّه حناناً»، وهو دلیل علی إسلامه.

ثالثاً: مدح النبي(صلی الله علیه و آله) له یعزّز من مکانة ورقة بن نوفل، ویدلّ علی

تدیّنه السلیم من الشوائب والانحراف؛ لأنّه علی شریعة إبراهیم وسلامة الإنجیل.

رابعاً: کانت خدیجة نفسها مشغولة عن الناس، وکانت تسأل عن الرسول الذي سیرسله اللّه لهدایة الأُمّة، فکانت دائمة الحدیث مع ابن عمّها ورقة حول ظهور النبي لهدایة البشر، فکان الإیمان بالنبي(صلی الله علیه و آله) من قبلها دون تردّد أو شكّ.

أموال خدیجة من أین؟

قد یحصل الإنسان علی المال ونمائه، إمّا عن طریق التجارة أو الوراثة، أو بالعثور علی کنز، أو عن طریق الغارات والنهب والسلب.

ویُستبعد أن تکون أموال خدیجة مقترفة عن طریق النهب والغارات؛ لأنّ قومها وأبویها - کما سبق - من العوائل التي یُشار لهم بالفضل وحُسن السیرة والخُلق النبیل. وکما لم یحدّثنا التاریخ بأنّهم وجدوا کنزاً وعاشوا منه حتّی یصل إلیها وراثةً.

بل حدّثنا التاریخ بأنّ عرب مکّة وأشرافها کانوا تجّاراً(1)؛ لأنّ طبیعة مکّة الصحراویة، ومکانة الکعبة التي هي قبلة الناس، وتوسّطها بین البحار والأُمم، ممّا شجعهم علی التغرّب في البلاد من أجل حیاة أفضل لهم.

وبعد أن کانت تجارة مکّة مقتصرة علی التجارة الداخلیة مرتبطة بالحرم، فتح لها هاشم بن عبد مناف(2) وإخوته مجال التجارة الخارجیة، فکان الإیلاف.

ص: 338


1- . انظر: محاضرات الأُدباء: ج2 ص465.
2- . ذکر في التفسیر الکبیر: ج32 ص107: «لمّا شکوا المجاعة خطب هاشم بن عبد مناف - وکان سیّد قومه - : إنّکم أجدبتم جدباً تقلّون فیه وتذلّون، وأنتم أهل حرم اللّه وأشراف ولد آدم، والناس لکم تبع. قالوا: نحن تبع لك فلیس علیك منّا خلاف، فجمع کلّ بني أب علی الرحلتین في الشتاء إلی الیمن وفي الصیف إلی الشام للتجارات، فما ربح الغني قسّمه بینه وبین الفقیر، حتّی کان فقیرهم کغنیّهم، فجاء الإسلام وهم علی ذلك».

والإیلاف: عبارة عن عهود لضمان مرور قوافل التجّار مروراً آمناً، ویُعطی لهم مقابل ذلك الأمان ثمناً، أو تکون لهم مشارکة مع الرؤساء في التجارة.

فکانت لقریش رحلتان في السنة، رحلة في الشتاء إلی الیمن؛ لأنّها بلاد حامیة، ورحلة في الصیف إلی الشام؛ لأنّها بلاد باردة(1).

وکانوا في رحلتیهم آمنین؛ لأنّهم أهل حرم اللّه وولاة بیته العزیز، یُضاف إلی ذلك قوّة شخصیة هاشم وکرمه ومحبوبیته لدی الملوك ورؤساء القبائل، فلا یتعرّض لقوافل تجارة قریش أحد، ولا یغیر علیهم أحد لا في سفرهم ولا في حضرهم، وکان غیرهم لا یأمنون من الغارة في السفر والحضر.

ممّا شجع أهل مکّة علی توظیف رؤوس أموالهم في التجارة، ومشارکتهم في الرحلتین، لذا فإنّ نواة أموال خدیجة جاءت - علی ما یُستشفّ من الروایات - وراثةً؛ نتیجة لکون قومها وبعض أزواجها - إن کانت تزوّجت قبل الرسول - وأبیها من أهل مکّة وأشرافها تجّاراً، حیث ذکر في کنز العمّال: «فبعثت إلیه(2) خدیجة فقالت: ائت أبي... فقال: أبوك رجلٌ کثیر المال وهو لا یقبل»(3).

وذکر البستاني في دائرة المعارف: «فمات عنها أبو هالة، والظاهر أنّه خلّف لها ثروة عظیمة»(4). فیما لو سلّمنا أنّها قد تزوّجت.

وفي دائرة المعارف الإسلامیة، قال: «أرملة تاجر میسور الحال تقوم بنفسها علی شؤون تجارتها»(5).

ویُحتمل أیضاً أن تکون قسماً من أموالها وراثةً من قبل أُمّها.

وقد یُتبادر إلی الذهن أنّ المرأة والأطفال في الجاهلیة لم یورّثوا، وإنّما یرث الزوج

ص: 339


1- . مجمع البیان: ج5 ص545.
2- . أي لرسول اللّه .
3- . کنز العمّال: ج13 ص690 ضمن ح37763.
4- . دائرة المعارف: ج7 ص343.
5- . دائرة المعارف الإسلامیة: ج8 ص234.

والذکور والبالغون علی ما قرأنا.

إنّ العرب کانوا قبل ظهور عمرو بن لحي الخزاعي - الذي دعا الناس إلی عبادة الأصنام - علی بصیرة من أمرهم، یتعبّدون بشریعة خلیل الرحمن إبراهیم ، فکانوا یعتقدون أنّ اللّه واحد لا شریك له، وظلّ بعضهم علی التوحید ملتزماً بما کانوا علیه من تعظیم البیت والطواف به والحجّ ونصرة المظلوم، وترك ما حرّم اللّه ، وخاصّة طائفة من بني هاشم وبني أسد الذین منهم خدیجة.

فالذي علی شریعة إبراهیم یورّث ولا یُظلم أحداً، وبما أنّ خدیجة أکبرهم سنّاً ولم یبقَ من إخوانها سوی عمرو ولم یعقب، والذي حضر تزویج خدیجة من نبیّنا محمّد(صلی الله علیه و آله) - وقد ذکرنا ذلك عندما تحدّثنا عن إخوتها - وکما یشهد لنا التاریخ بأنّ خدیجة امرأة حازمة شریفة لبیبة(1)، لذا جعلت تلك الأموال الوراثیة في المضاربة والتجارة، فنمت حتّی قیل: «إنّ لها أزید من ثمانین ألف جمل متفرّقة في کلّ مکان، وکان لها في کلّ ناحیة تجارة، وفي کلّ بلد مال، مثل مصر والحبشة وغیرها»(2).

ویعود الفضل کلّه إلی عبد المطّلب في تجدید عهود الإیلاف بین الملوك والقبائل، وهلاك أصحاب الفیل وردّ کیدهم في نحورهم، حیث ازداد وقع أهل مکّة في القلوب، وازداد تعظیم ملوك الأطراف لهم، فازدادت تلك المنافع والمتاجر، وحُفظت أموال التجّار وخاصّة قریش بما فیهم النساء.

وعندما مات عبد المطّلب، تمرکزت الوثنیة في الجزیرة، أخذت خدیجة تبحث عن رجل کریم أمین یحافظ علی سیر تجارتها وتوظیف أموالها، فاختارت الأمین الصادق محمّد بن عبد اللّه(صلی الله علیه و آله)، ونِعمَ من اختارت، حیث فازت بشرف الدنیا ونعیم الآخرة، حیث وظّفت أموالها لخدمة الإسلام وإعلاء کلمة اللّه ؛ لأنّ الإسلام قد قام بسیف أمیر المؤمنین علي ، ولا أشكّ في أنّ هذا الإنفاق والإیثار

في سبیل اللّه هو

ص: 340


1- . الثقات: ج1 ص46.
2- . بحار الأنوار: ج16 ص22.

السبب الأساسي في اختیارها من قبل اللّه لتکون إحدی زوجات الرسول في الآخرة کما کانت أُولی زوجاته في الدنیا.

خدیجة تبحث عن الصادق الأمین لتجارتها

من النقاط الأساسیة في التعامل التجاري آنذاك للأشخاص الموفودین لهذا العلم لِمَن لم یملك المال، هو عدم الغشّ وصدق الحدیث وأداء الأمانة والقروض المستلفة من الناس، ممّا یشجّع أصحاب رؤوس الأموال علی الاعتماد علیهم وإعطاء المال لهم.

وهذه الصفات قلّما تجدها في الجاهلیة بعد موت الأخیار والمعاهدین علی الإیلاف، وتفشّي الفقر والمجاعة آنذاك، لذا کان الاختیار وإعطاء الربح الکثیر لسیّد البشر محمّد(صلی الله علیه و آله)؛ لکونه الصادق الأمین.

فهل هذا یکفي بالنظر إلی الطاهرة اللبیبة خدیجة لتجارتها؟ أم أنّها تبتغي وتبحث عن أشیاء أسمی من ذلك؟

فمن خلال الروایات وجدنا أنّ الدافع الأساسي لسیّدتنا خدیجة (رضوان اللّه تعالی علیها) أنّها کانت تبحث عن النبي الذي سوف ینقذ الأُمّة من ظلمات الجهل العقائدي، والذي سوف یظهر في زمانها، وکلّ المؤشّرات والمواصفات للنبوّة کانت متمثّلة في محمّد بن عبد اللّه(صلی الله علیه و آله)، لذا کان التقرّب منها له، وإعطاؤه المزید من المال عن طریق التجارة، وکانت رغبتها للنبي محمّد(صلی الله علیه و آله) علی أساس التقرّب لا علی أساس الاستئجار، أو أن یکون أمیناً علی أموالها.

وکان لخدیجة ابن عمّ یُقال له ورقة - کما ذکرنا سابقاً - وکان یعرف صفات النبي... وکان عند ورقة أنّه یتزوّج بامرأة سیّدتنا من قریش تسود قومها وتنفق علیه مالها وتساعده علی کلّ الأُمور، فعلم ورقة أنّه لیس بمکّة أکثر مالاً من خدیجة، فرجا ورقة

أن تکون ابنة عمّه خدیجة، وکان یقول لها: «یا خدیجة، سوف تتّصلین برجل یکون أشرف أهل الأرض»(1).

ص: 341


1- . بحار الأنوار: ج16 ص21.

وروي أنّ نساء قریش اجتمعن في المسجد في عید، فإذا هنّ برجل یقول: «لیوشك أن یُبعث فیکُنّ نبي، فأیّکن استطاعت أن تکونهن أرضاً یطأها فلتفعل... فقرّ ذلك القول في قلب خدیجة»(1).

وحُکي أنّ أحد الأحبار أخبر خدیجة بصفات النبي وأنّها موجودة عند محمّد بن عبد اللّه... فقالت خدیجة: «أیّها الحبر، بِمَ عرفت محمّداً أنّه نبي؟ قال: وجدتُ صفاته في التوراة... وسوف یتزوّج بامرأة من قریش سیّدة قومها، وأمیرة عشیرتها، ثمّ أشار بیده إلیها...»(2). لذا اشتغل قلب خدیجة بمحمّد(صلی الله علیه و آله) حتّی تعینه علی إتمام نشر دعوته.

هل کان النبي محمّد(صلی الله علیه و آله) أجیراً عند خدیجة؟

کانت خدیجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إیّاه بشيء تجعله لهم منه... فلمّا بلغها عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما بلغها من صدق حدیثه وعظیم أمانته وکریم أخلاقه، بعثت إلیه وعرضت علیه أن یخرج في مالٍ إلی الشام تاجراً، وتعطیه أفضل ما کانت تعطي غیره من التجّار مع غلامٍ لها یُقال له میسرة، فقبله منها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وخرج في مالها معه غلامها میسرة(3).

وروي أنّ أبا طالب هو الذي اقترح علیه ورغّبه بالخروج في تجارة خدیجة إلی

الشام(4)، وعندما أخبر أبو طالب خدیجة بقبول النبي(صلی الله علیه و آله) بذلك فرحت وقالت لغلامها

ص: 342


1- . العدد القویة: ص124 ح56، و انظر: المناقب: ج1 ص67، والطبقات الکبری: ج8 ص12.
2- . انظر: بحار الأنوار: ج16 ص20.
3- . بحار الأنوار: ج16 ص8، الثقات: ج1 ص45.
4- . في بحار الأنوار: ج16 ص9 عن کشف الغمّة: ج2 ص135: «إنّ سفره کان إلی سوق حُباشة بتهامة، واستأجرت معه رجلاً آخر من قریش»، وفي إمتاع الأسماع: ج1 ص15: «فذلك حین أرسلت خدیجة إلی رسول اللّه تدعوه أن یخرج في تجارة إلی سوق حُباشة، وبعثت معه غلامها میسرة، فخرجا فابتاعا بزّاً من بزّ الجند وغیره ممّا فیها من التجارة، ورجعا إلی مکّة فربحا ربحاً حسناً»، وفي السیرة الحلبیة: ج1 ص221: «وفیه أنّ سفره مع میسرة إلی الشام سفرة ثالثة... سفرتین إلی جُرَش - موضع بالیمن - کلّ سفرة بقلوص - وهي الشابّة من الإبل - وهو یفید أنّه سافر لها ثلاث سفرات... ولعلّ سوق حُباشة هو جُرَش، وإلّا لزم أن یکون سافر لها خمس سفرات: أربعة إلی الیمن، وواحدة إلی الشام».

میسرة: «أنت وهذا المال کلّه بحکم محمّد»(1).

وهذا لا یمنع من أن یکون ذلك العرض عن أمر خدیجة لأبي طالب لإقناع محمّد(صلی الله علیه و آله) في الذهاب إلی الشام بتجارتها؛ بقرینة أنّه لمّا أخبر أبو طالب خدیجة بقبول محمّد(صلی الله علیه و آله)، فرحت فرحاً شدیداً وقالت: «إنّ هذا المال کلّه بحکم محمّد».

فسافر إلی الشام وربح في تجارته أضعاف ما کان یربحه غیره، حتّی أنّ خدیجة قالت: «فما ربحت ربحاً أعظم من هذه السفرة»(2).

أضف إلی ما ظهرت له في سفره بعض الکرامات الباهرة، وهذا ما یهمّ خدیجة لکي یطمئنّ قلبها بأنّه هو النبي المرسل.

ومن هذه الکرامات أنّ ملکین یظلّانه من الشمس وهو یسیر علی بعیره وقت الهاجرة حینما یشتدّ الحرّ، وهذا ما رآه میسرة(3). وروي أنّ الغمامة علی رأسه تسیر حینما سار تظلّه بالنهار في سفره(4).

وکرامة أُخری حینما نزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تحت شجرة ونزل الناس متفرّقین، وکانت الشجرة التي نزل تحتها یابسة قحلة، قد تساقط ورقها ونخر عودها، فلمّا نزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) واطمأنّ تحتها، أنورت وأشرقت واعشوشب ما حولها وأینع ثمرها وتدلّت أغصانها... وکان ذلك بعین الراهب، فلم یتمالك أن انحدر من صومعته(5)، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبي(6)، فسرّها میسرة في قلبه.

وکرامة لیست بالحسبان عندما کان میسرة یأکل مع النبي(صلی الله علیه و آله) في جفنة حتّی یشبعا ویبقی الطعام کما هو(7).

ص: 343


1- . انظر: الخرائج والجرائح: ج1 ص139 ح226.
2- . بحار الأنوار: ج16 ص52.
3- . انظر: البدایة والنهایة: ج2 ص358.
4- . انظر: الخرائج والجرائح: ج1 ص140.
5- . بحار الأنوار: ج16 ص17 ضمن ح18.
6- . أُسد الغابة: ج7 ص80.
7- . انظر: العدد القویة: ص143.

وإنّ أغلب المصادر ذکرت بأنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) نزل في ظلّ شجرة قریبة من صومعة راهب من الرهبان، فاطّلع الراهب إلی میسرة فقال: «من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له میسرة: هذا رجل من قریش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبي»(1).

وهذه الروایة مبتورة لیس فیها مورد الإعجاز والإثارة؛ لأنّ کلّ من یأتي إلی هذه المنطقة فإنّه یتفیّأ في ظلّ هذه الشجرة؛ لکونها قریبة من الصومعة، أمّا ما رآه الراهب من التغییر في کینونیة الشجرة من کونها یابسة إلی خضراء یانعة، ممّا یدلّل علی وجود المعجزة، وهي من دلائل النبوّة في هذا الرجل الجالس تحتها، لذا قال الراهب: «ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبي»، فما ذکره المجلسي في البحار - أي النقل الأوّل - هو أقرب إلی منطق العقل.

وعندما أخبر میسرة خدیجة بما شاهده من شأن وکرامة محمّد(صلی الله علیه و آله)

وکلام الراهب ومعجزة الشجرة، وعمّا رأی من إظلال الملائکة إیّاه، فقال ورقة: «لَئِن کان هذا حقّاً یا خدیجة، إنّ محمّداً لنبي هذه الأُمّة، قد عرفت أنّه کائن لهذه الأُمّة نبي ینتظر هذا زمانه»(2).

فکانت الرغبة القصوی من خدیجة لمحمّد(صلی الله علیه و آله)، والتقرّب إلیه والزواج منه لمّا رجت في ذلك من الخیر، والفوز بذلك النعیم الأزلي مقابل بذل أموالها في خدمته ونشر دینه، لا کما یرجوه ویتقوّله بعض الناس، أنّها استأجرته بشيء، ولا کان أجیراً لأحد قطّ کما قال المؤرّخ الأقدم الیعقوبي في تاریخه(3).

وبما أنّه الأمین الصادق، فله موقع في قلوب الناس وثقتها به، فإن أراد مالاً أعطوه وشارکهم في الربح مضاربةً، کما یفعله معظم تجّار قریش في المضاربة، ولا داعي أن یکون أجیراً لامرأة أو لأحد، وهذا ما یستشمّ من خلال ما قاله أبو طالب لمحمّد(صلی الله علیه و آله): «اعلم یا ابن أخي، أنّ هذه خدیجة قد انتفع بمالها أکثر الناس، وهي تُعطي مالها سائر

ص: 344


1- . دلائل النبوّة: ج1 ص337، الذرّیة الطاهرة: ص47، تاریخ الطبري: ج2 ص34، الطبقات الکبری: ج1 ص156.
2- . السیرة النبویة لابن کثیر: ج1 ص268.
3- . تاریخ الیعقوبي: ج1 ص341.

من یسألها التجارة ویسافرون بها، فهل لك یا ابن أخي أن تمضي معي إلیها وتسألها أن تعطیك مالاً تتّجر فیه؟ قال: نعم»(1).

فهذا دلیل واضح بأنّ أموال خدیجة قسمان: قسم للمضاربة، وقسم للاستئجار، ولذلك قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أن یضاربها وتکون له حرّیة التصرّف.

وذکر العسقلاني في فتح الباري: «قد سافر في مالها مقارضاً إلی الشام»(2).

وروي أنّ خدیجة هي التي اشترطت علیه في التجارة ومضاربتها؛ لکي تتقرّب إلیه ، وهذا ما اتّضح لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خلال ما وضعت له المال تحت

تصرّفه، وإعطائه خادماً له یخدمه في الطریق، کما یفعله السادة التجّار الذین یملکون المال، فلو کان أجیراً حقّاً لما طلبته خدیجة أن یکون زوجاً لها بعد رجوعه مباشرةً من سفره.

زواجها المبارك، رغبتها في الزواج من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

من خلال التعامل التجاري ومضاربتها أصبح لخدیجة میزان لمعرفة نفسیة الرجال ومیولهم، وکلّ قومها حریص علی زواجها لو قدروا علی ذلك، لقد طلبوها وبذلوا لها الأموال، إلّا أنّها رفضتهم؛ لأنّها تبحث بعقلها الراجح وبُعدها الثاقب عن ذلك الذي یحمل بین جوانحه دلائل الصدق والأمانة، والعفّة والشرف وحُسن الخُلق وأصالة النسب، والتي کلّها کانت متمثّلة في رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لذا رغبت في الزواج منه، وذلك عن تجربة منها وفق التعامل التجاري معه.

ولمّا حدّثها میسرة عمّا رآه من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حین سفره والمعجزات الباهرة التي ظهرت من حوله کتظلیل الغمامة(3) علی رأسه أینما ذهب، واخضرار الشجرة الیابسة، وقول الراهب له... ناهیك عمّا باع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سلعته التي خرج بها واشتری ما أراد، کلّ ذلك بربح لم یربحه أحد غیره.

ص: 345


1- . بحار الأنوار: ج16 ص24.
2- . فتح الباري: ج7 ص167.
3- . انظر: التفسیر المنسوب للإمام العسکري : ص155، إثبات الهداة: ج2 ص151، السیرة الحلبیة: ج1 ص217، مروج الذهب: ج2 ص271.

ولمّا أقبل قافلاً إلی مکّة وقدم علی خدیجة بمالها، باعت ما جاء به فأضعف أو قریباً من ذلك، کلّ ذلك عجّل رغبة خدیجة بالزواج منه، فانطلقت تلك الکلمات من سویداء قلبها صریحة ناصعة معلنة الرغبة والمحبّة والشوق، فقالت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فیما یزعمون: «یا ابن عمِّ، قد رغبت فیك؛ لقرابتك منّي وشرفك في قومکم، ووسطتك(1) فیهم وأمانتك عندهم، وحُسن خلقك وصدق حدیثك. ثمّ عرضت

علیه نفسها... فلمّا قالت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما قالت، ذکر ذلك لأعمامه»(2).

وروي أیضاً: لمّا أخبرها میسرة ممّا رأی في سفره من المعجزات وتعجّبه من حُسن أخلاق النبي(صلی الله علیه و آله) وشجاعته وکرمه، أرسلت خدیجة إلی نفیسة(3) تستطلع ما في نفس محمّد(صلی الله علیه و آله) ورغبته تجاه الزواج منها، قالت نفیسة: «فأرسلتني دسيساً(4) إلى محمّد بعد أن رجع في عِيرها من الشام، فقلت: يا محمّد، ما يمنعك أن تزوّج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوّج، به قلت: فإن كُفيت ذلك ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: قلت: عليَّ، قال: فأنا أفعل. فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائتِ لساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمّها عمرو بن أسد ليزوّجها، فحضر ودخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في عمومته»(5).

وممّا یُستفاد من رغبتها في الزواج ما یلي:

أوّلاً: بعض النساء في الجاهلیة لها کرامتها وحرّیتها في الانتخاب لحیاتها الزوجیة، لا کما وصفه الباحثون بأنّ المرأة علی الإطلاق کالمتاع تُباع وتُشتری، ولیس لها أدنی

ص: 346


1- . في دلائل النبوّة: ج1 ص338: «ووسطتك [وسیطك]، ومعنی ووسطتك: أي توسّطتك في قومك وکونك من أعرفهم».
2- . بحار الأنوار: ج16 ص9، السیرة الحلبیة لابن کثیر: ج1 ص263.
3- . أسلمت نفیسة یوم الفتح، وبرّها رسول اللّه وأکرمها؛ لأنّها کانت الرسول والواسطة بین خدیجة وبین النبي (انظر: الکامل في التاریخ: ج2 ص40).
4- . دسیساً: أي بعثتها سرّاً لتأتیها بالأخبار.
5- . الطبقات الکبری: ج1 ص105، صفة الصفوة: ج1 ص73، إمتاع الأسماع: ج6 ص29.

حرّیة في الاختیار... وهذا عکس ما لاحظناه من انتخاب خدیجة ورغبتها في الزواج من محمّد(صلی الله علیه و آله)، رغم أنّها خُطبت من قبل صنادید وتجّار قریش، وقد

بذلوا الأموال لها إلّا أنّها اختارت ما یحبّب لنفسها ویأنس لها قلبها وتسعد به في دنیاها وآخرتها.

ثانیاً: لا زال المنهج التوحیدي الإبراهیمي معمولاً في الجاهلیة، وذلك من خلال مراحل التزویج، وهذا ما رأیناه من إرسال خدیجة إلی عمّها عمرو بن أسد لحضور الخطبة، وکذا من إبلاغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عمومته في ذلك.

ثالثاً: وإنّ رغبة خدیجة (رضوان اللّه تعالی علیها) من الزواج برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یُبطل المزاعم التي تقوّلت علی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بأنّ زواجه منها کان طمعاً في مالها؛ لأنّ خدیجة - کما تری من خلال ذلك - هي التي عرضت نفسها علی النبي(صلی الله علیه و آله)، ولم یتقدّم هو بطلب یدها لیقال إنّه إنّما فعل ذلك طمعاً في مالها، وکما أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خلال تجارته أضاف مالاً مضاعفاً أو قریباً من ذلك، حتّی أنّ خدیجة نفسها تعجّبت واندهشت وقالت: «فما ربحت ربحاً أغنم من هذه السفرة»(1)، وکذا میسرة قال: «ما ربحنا ربحاً قطّ أکثر من هذا الربح علی وجهك»(2)؛ لذا کانت الدوافع معنویة صرفة لا مادّیة حقّة؛ لأنّ حیاة النبي(صلی الله علیه و آله) من بدایتها إلی نهایتها لخیر شاهد علی أنّه ما کان یقیم للمال أيّ وزن، وقد أنفقت خدیجة أموالها برغبتها في سبیل اللّه والدعوة إلی دینه، ولیس علی النبي(صلی الله علیه و آله) وملذّاته.

رابعاً: لقد کان هدف خدیجة الوصول إلی الخلق والمثل العلیا والمحاسن الکریمة؛ لکي یوصلها إلی ذلك النعیم الأزلي الذي جاء به الأنبیاء، فلم یکن همّها الدنیا وزُخرفها، لذا اختارت النبي(صلی الله علیه و آله)؛ لأنّها أدرکت من حقیقة الدین ما یدرکه عامّة قریش؛ لأنّ الدین لا یعدو أن یکون کهانة وبدعاً عند قریش، فعلمت أنّ لهذا الرجل فضیلة تناسب فضائل الأنبیاء لدعوتهم التوحید.

ص: 347


1- . بحار الأنوار: ج16 ص52.
2- . السیرة الحلبیة: ج1 ص219.

خامساً: وإنّ لخدیجة بُعد نظر للمستقبل، فهي بعین قریش نابغة لبیبة حازمة وشخصیة شامخة قویة، وهذا البعد لیس فقط من خلال إدارتها التجاریة وخبرتها في الشؤون الاقتصادیة، بل أدرکت بعقلها عظمة شخصیة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وسموّ أخلاقه ومستقبله الزاهر قبل تکلیفه رسالة السماء، فاختارته زوجاً لها من دون الرجال والشخصیات المرموقة الذین تقدّموا لخطبتها بنفس ما یحملونه من الغنی والجاه، ولکن نجد أنّها اختارت ما هو معنوي أُخروي ینهض بها إلی علوّ درجات الجنّة وقدسیة النبوّة الخالدة.

خطوبتها

لمّا رأت خدیجة تلك المؤهّلات الأخلاقیة المتمیّزة، وذلك الزهو النفسي المتعالي فوق کلّ ما هو مادّي مغري، یُضاف إلی تلك المعنویات والکرامات الباهرة الإلهیّة لها فکانت له بعون اللّه تعالی رغبتها في الزواج منه، لقد بقي في خاطرها هل یلبّي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما في مخیلتها؟ وهل له رغبة وهوی فیها أم لا؟

کلّ ذلك انکشف حینما أرسلت له نفیسة(1) دسیساً لهذا الأمر، وحینما استطلعتها برغبة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) للزواج منها، أباحت خدیجة بسرورها ورغبتها، فکانت الخطوبة؛ وهي خطوة موفّقة مبارکة تتجلّی فیها معاني الحیاة التربوي الدیني

للتقارب ما بین الزوجین علی سنّة التوحید الإبراهیمي من خلال أهلیهما.

عندما اطمأنّت خدیجة بعلائم الرضا فیها، أخبرت عمّها عمرو بن أسد بإقدام

ص: 348


1- . روي في تاریخ الیعقوبي: ج2 ص20، بأنّ هالة أُخت خدیجة قالت لعمّار بن یاسر: «ما لصاحبك حاجة في خدیجة؟ قلتُ: واللّه ما أدري. فرجعت فذکرت ذلك له، فقال: ارجع فواضعها وعدها یوماً نأتیها فیه، ففعلت»، وفي الطبقات الکبری: ج1 ص132: «إنّ خدیجة قالت لأُختها: انطلقي إلی محمّد فاذکریني له... وإنّ أُختها جاءت، فأجابها بما شاء اللّه»، وفي تاریخ الطبري: ج2 ص205: «قال الواقدي: ویقولون أیضاً أنّ خدیجة أرسلت إلی النبي تدعوه إلی نفسها - تعني التزویج - »، وفي تاریخ الطبري: ج2 ص36: «وکان الذي مشت في ذلك مولاة مولّدة من مولّدات مکّة... قال الواقدي: فکلّ هذا غلط... إنّ خدیجة أرسلت إلی النبي تدعوه إلی نفسها - تعني التزویج - »، وفي السیرة الحلبیة: ج1 ص226: «وکان السفیر بینهما غلامها، وقیل: مولاة مولّدة. وقد یقال: لا منافاة الجواز أن یکون کلّ ممّن ذُکر کان سفیراً».

عمومة محمّد(صلی الله علیه و آله) لطلب یدها منه لمحمّد، کما أخبر محمّد أعمامه وخاصّة عمّه أبا طالب رغبة خدیجة بنت خویلد فیه، فأیّدوه علی ذلك وفرحوا.

ذهب أبو طالب في أهل بیته ونفر من قریش إلی وليّ خدیجة وهو عمّها عمرو بن أسد(1)، وهو یومئذٍ شیخ کبیر لم یبقَ لأسد لصلبه یومئذٍ غیره، ولم یلد عمرو بن أسد شیئاً(2)؛ لأنّ أباها خویلد توفّي یوم حرب الفِجَار(3)، وقیل بعد الفِجَار بخمس سنین [وقیل: قبل الفِجَار]، وبعضهم قال: إنّه قُتل في الفِجَار(4)، وفي المعارف أنّه قُتل في الجاهلیة(5)؛ کلّ ذلك ذکرناه آنفاً.

أمّا ما ذُکر في تاریخ ابن خلدون(6)، والسیرة النبویة لابن کثیر(7)، والسیرة النبویة لابن هشام(8)، وخلاصة سیر سیّد البشر(9)، وأُسد الغابة(10)، والبدایة والنهایة(11)، وتاریخ الإسلام(12)، والمستدرك علی الصحیحین(13)، والذرّیة الطاهرة(14)، والثقات(15)؛ کلّهم

ذکروا بأنّ أبا طالب أو بالأحری حمزة خطبها من أبیها خویلد، فإنّه غیر صحیح وما ذکرناه أقرب لواقع الحال کما صرّح به الواقدي: «إنّ الذي زوّجها عمّها عمرو بن أسد،

ص: 349


1- . انظر: بحار الأنوار: ج16 ص12 عن کشف الغمّة: ج2 ص139، ومجمع الزوائد: ج9 ص219.
2- . الطبقات الکبری: ج1 ص105.
3- . انظر: الطبقات الکبری: ج1 ص13.
4- . تاریخ الیعقوبي: ج1 ص341، وما بین المعقوفتین من البدایة والنهایة: ج2 ص362.
5- . المعارف: ص219.
6- . تاریخ ابن خلدون: ج2 ص5.
7- . السیرة النبویة لابن کثیر: ج1 ص263.
8- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص190
9- . خلاصة سیر سیّد البشر: ص37.
10- . أُسد الغابة: ج7 ص80.
11- . البدایة والنهایة: ج2 ص294.
12- . تاریخ الإسلام: ج1 ص65.
13- . المستدرك علی الصحیحین: ج3 ص182
14- . الذرّیة الطاهرة: ص48.
15- . الثقات لابن حیّان: ج1 ص46.

وهو الصحیح؛ لأنّ أباها توفّي قبل الفِجَار»(1).

وفي بعض الروایات بأنّ أبا طالب خطبها من عمّها ورقة بن نوفل(2)، والمشهور أنّ ورقة بن نوفل بن أسد ابن عمّ خدیجة(3)؛ لأنّ أبا خدیجة خویلد بن أسد ما هو المشهور، وإنّ سبب الاشتباه ناشئ من تناقل الخبر أجیالاً علی الألسنة بغیر تدوین أو ضبط أو تحقیق، وعندما دوّن ما یعتمد علیه في التألیف کان السقط من قبل النسّاخ فصل الاشتباه.

وفي بعض الروایات ذکروا أنّ أبا طالب خطبها من عمّها دون ذکر اسمه، کما في من لا یحضره الفقیه(4) ومکارم الأخلاق(5).

وذکر ابن إسحاق بأنّ أخاها عمرو بن خویلد هو الذي زوّج خدیجة من محمّد(صلی الله علیه و آله)(6).

روي: «لمّا أراد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أن يتزوّج خديجة بنت خويلد، أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتّى دخل على ورقة بن نوفل [ابن] عمّ خديجة، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال: الحمد للّه(7) الذي جعلنا من زرع إبراهيم،

وذرّية إسماعيل، [وضئضئ(8) معدّ، وعنصر مضر] (9)، وأنزلنا حرماً آمناً، [وجعلنا حضنة بیته وسوَاس(10) حرمه، وجعل لنا بیتاً محجوجاً(11)](12)، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، (ثمّ إنّ ابن أخي هذا - يعني رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) - ممّن لا يوزن برجل من قريش

ص: 350


1- . انظر: الکامل في التاریخ: ج2 ص40، وبحار الأنوار: ج16 ص19.
2- . انظر: الکافي: ج5 ص379 ح9، والمهذّب البارع: ج3 ص176.
3- . انظر: المعارف: ص59، وجمهرة النسب للکلبي: ص74، والقاموس المحیط: ج3 ص298.
4- . من لا یحضره الفقیه: ج3 ص260 ضمن ح4398.
5- . مکارم الأخلاق: ص215.
6- . انظر: فتح الباري: ج7 ص167.
7- . من شرح نهج البلاغة: ج14 ص70، وفي الکافي والمهذّب والعدد والفقیه وربیع الأبرار وصفة الصفوة: «الحمد لربّ هذا البیت».
8- . أي الأصل.
9- . ما بین المعقوفتین من صفة الصفوة: ج1 ص74، والعدد القویة: ص143 ح57، وتاریخ ابن خلدون: ج2 ص5.
10- . سواس جمع السائس: المدیر والمتولّي لأمر القوم.
11- . أي یحجّ الناس إلیه ویقصدونه.
12- . ما بین المعقوفتین من صفة الصفوة: ج1 ص74، وربیع الأبرار: ج4 ص299.

إلّا رجح به، ولا يقاس به رجل إلّا عظم عنه، ولا عدل له في الخلق) (1)، وإن كان مقلاً في المال، [فإنّ المال رزق حائل(2) وظلّ زائل] (3)، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله وربّ هذا البيت حظّ عظيم(4) ودين شائع ورأي كامل.

ثمّ سكت أبو طالب، وتكلّم [ابن] عمّها وتلجلج وقصر عن جواب(5) أبي طالب، وأدركه القطع والبهر(6)، وكان رجلاً من القسّيسين.

[لمّا أتم أبو طالب خطبته تكلّم ورقة بن نوفل، فقال: الحمد للّه الذي جعلنا كما ذكرت، وفضّلنا على ما عدّدت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كلّه، لا

تنكر العشيرة فضلكم، ولا يردّ أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا بالاتّصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليَّ معاشر قريش بأنّي قد زوّجت خديجة بنت خويلد من محمّد بن عبد اللّه] (7).

فقالت خديجة مبتدئة: يا [ابن] عمّاه إنّك وإن كنت أولى بنفسي منّي في الشهود، فلستَ أولى بي من نفسي، قد زوّجتك يا محمّد نفسي، والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمّك فلينحر ناقة فليولم بها، وادخل على أهلك. قال أبو طالب: أشهدوا عليها بقبولها محمّداً وضمانها المهر في مالها.

فقال بعض قريش: يا عجباه! المهر على النساء للرجال؟ فغضب أبو طالب غضباً

ص: 351


1- . ما بین القوسین في ربیع الأبرار: ج4 ص299، وشرح نهج البلاغة: ج14 ص70: «ثمّ إنّ محمّد بن عبد اللّه ابن أخي من لا یوزن به فتی من قریش إلّا رجح به برّاً وفضلاً وکرماً - في شرح نهج البلاغة: وحزماً - وعقلاً ورأیاً ونبلاً».
2- . أي متغیّر.
3- . ما بین المعقوفتین في الکافي: «فإنّ المال رفد جارٍ وظلّ زائل، ومعناه: أي یجریه اللّه علی عباده بقدر الضرورة والمصلحة». وما أثبتناه من الفقیه: ج3 ص260، ومکارم الأخلاق: ص215، وربیع الأبرار: ج4 ص299.
4- . في العدد القویة: ص143: «نبأ عظیم وخطب جلیل»، وفي شرح نهج البلاغة: ج14 ص70: «نبأ شائع»، وفي تاریخ ابن خلدون: ج2 ص5: «وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظیم وخطر جلیل».
5- . کانت قریش تستحبّ للخاطب أن یطیل وللمخطوب إلیه أن یوجز (ربیع الأبرار: ج4 ص303).
6- . أي انقطاع النفس من الإعیاء.
7- . ما بین المعقوفتین من بحار الأنوار: ج16 ص19.

شديداً وقام على قدميه، وكان ممّن يهابه الرجال ويكره غضبه، فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طُلبت الرجال بأغلا الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يُزوّجوا إلّا بالمهر الغالي. ونحر أبو طالب ناقة»(1).

وقال رجل من قریش یقال له عبد اللّه بن غنم:

هنيئاً مريئاً يا خديجة قد

جرت

لكِ الطير فيما كان منك

بأسعد

تزوّجتِه خير البريّة كلّها

ومن

ذا الذي في الناس مثل محمّد

وبشّر به المرءان(2) عيسى بن مريم

وموسى بن عمران فيا قرب(3) موعد

أقرّت به الكتّاب قدماً

بأنّه

رسول من البطحاء هادٍ ومهتد(4)

وفي البحار عن النهایة في حدیث خطبة النبي(صلی الله علیه و آله) خدیجة: «قال

ورقة بن نوفل: هو الفحل لا یُقرع أنفه؛ أي أنّه کفء کریم لا یُردّ»(5). ویُروی بالدال: «لا یُقدَع أنفه»(6).

وفي أُسد الغابة قال عمّها عمرو بن أسد: «محمّد بن عبد اللّه یخطب خدیجة بنت خویلد هذا الفحل لا یُقدَع أنفه»(7).

ولمّا تمّ العقد بینهما قالت خدیجة: «إنّ مالي وعبیدي وجمیع ما أملك وما هو تحت یدي، فقد وهبته لمحمّد؛ إجلالاً وإعظاماً له»(8).

وفي روایة: «واللّه یا محمّد، إن کان مالك قلیلاً فمالي کثیر... وأنا ومالي وجواري

ص: 352


1- . الکافي: ج3 ص379 ح9، المهذّب البارع: ج3 ص176.
2- . في الکافي: ج5 ص380: «البرّان».
3- . في الکافي: ج5 ص380: «أقرب».
4- . العدد القویة: ص144 ح58. أقول: إذا صحّ هذا الشعر فهو یدلّ علی أنّ نبوّة الرسول کانت شائعة بین الناس.
5- . النهایة: ج4 ص43، وفي الطبقات الکبری: ج1 ص132: «فقال عمرو بن أسد: هذا البضع لا یُقرع أنفه».
6- . ذکر في النهایة: ج4 ص24: «ومنه حدیث زواجه بخدیجة، قال ورقة بن نوفل: محمّد یخطب خدیجة؟ هو الفحل لا یُقدع أنفه. یقال: قدعت الفحل وهو أن یکون غیر کریم، فإذا أراد رکوب الناقة الکریمة ضرب أنفه بالرمح أو غیره حتّی یرتدع وینکف».
7- . أُسد الغابة: ج7 ص80.
8- . بحار الأنوار: ج16 ص71.

وجمیع ما أملك بین یدیك وفي حکمك، لا أمنعك منه شیئاً»(1).

وفي فتح الباري قالت خدیجة: «بأبي وأُمّي، واللّه ما أفعل هذا لشيءٍ، ولکنّي أرجو أن تکون أنت النبي الذي ستُبعث، فإن تکن هو فاعرف حقّي ومنزلتي... فقال لها النبي(صلی الله علیه و آله): واللّه لئن کنتُ أنا هو، قد اصطنعتِ عندي ما لا أُضیّعه أبداً، وإن یکن غیري فإنّ الإله الذي تصنعین هذا لأجله لا یضیّعك أبداً»(2).

وإنّ من أملاکها کانت لها دار واسعة تسع أهل مکّة جمیعاً، وکان لها من الأموال والمواشي لا یُحصی، وإنّ لها أزید من ثمانین ألف جمل متفرّقة في کلّ مکان، وکان لها في کلّ ناحیة تجارة، وفي کلّ بلد مال، مثل مصر والحبشة وغیرها(3). ناهیك عن

العبید والجواري وما هو من ذهب ویاقوت وأحجار کریمة.

وممّا یُستفاد من خطبة أبي طالب ما یلي:

أوّلاً: أنّه من المؤمنین والأوصیاء الموحّدین، وعلی شریعة ملّة إبراهیم وزرع إسماعیل؛ وذلك من خلال قوله: «الحمد للّه الذي جعلنا من ذرّیة إبراهیم وزرع إسماعیل».

وقال : «إنّ اللّه اصطفی من وُلد إبراهیم إسماعیل، واصطفی من وُلد إسماعیل مضر، واصطفی من مضر کنانة، واصطفی من کنانة قریشاً، واصطفی من قریش هاشماً، واصطفاني من بني هاشم... فما مسّني عرق سفاح قطّ، وما زلت أُنقل من الأصلاب السلیمة من الوصوم(4) والأرحام البریئة من العیوب»(5). وفي روایة: «نُقلنا من الأصلاب الطاهرة إلی الأرحام الزکیة»(6).

فإنّ أبا طالبٍ من رفقاء النبیّین والصدّیقین والشهداء والصالحین وحسن أُولئك

ص: 353


1- . بحار الأنوار: ج16 ص55.
2- . فتح الباري: ج7 ص167.
3- . بحار الأنوار: ج16 ص22.
4- . أي العیوب.
5- . شرح نهج البلاغة: ج11 ص67 و70.
6- . شرح نهج البلاغة: ج14 ص67.

رفیقاً، کما قال الإمام الصادق (1).

وکان أمیر المؤمنین یعجبه أن یروي شعر أبي طالب، وأن یُدوّن، وقال : «تعلّموه وعلّموه أولادکم؛ فإنّه کان علی دین اللّه وفیه علم کثیر»(2).

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: «سمعتُ أمیر المؤمنین یقول: واللّه ما عبد أبي ولا جدّي عبد المطّلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قطّ. قیل: وما کانوا یعبدون؟ قال : کانوا یصلّون إلی البیت علی دین إبراهیم متمسّکین به»(3). وهذا ما یتّضح من خطبة

أبي طالب : «الحمد للّه الذي جعلنا من ذرّیة إبراهیم، وزرع إسماعیل».

ثانیاً: ومن خلال خطبته أیضاً یظهر قدسیة ومکنة محمّد(صلی الله علیه و آله)، وتبیان بعض العلامات الدالّة علی نبوّته، حیث یتوقّعون أن یکون هو الذي بشّر به عیسی وموسی ؛ لقوله: «فإنّه ممّن لا یوزن برجل من قریش إلّا رجح به، ولا یُقاس به رجل إلّا عظم عنه، ولا عدل له في الخلق»، وهذه من صفات النبوّة المتمثّلة بشخصیة محمّد(صلی الله علیه و آله) إذا تمعّنّا بها.

ثالثاً: ممّا یُلاحظ من خطبته بأنّه عالم بمستقبل ابن أخیه محمّد(صلی الله علیه و آله)، وذلك من خلال قوله: «حظّ عظیم، ودین شائع، وخطب جلیل...» (4).

وهذا یدلّ علی أنّ أبا طالب من الأوصیاء، وله باع بالأدیان ومطالعة الکتب السماویة، وله أخبار عمّا یکون، قال أبو طالب لفاطمة بنت أسد: «إنّكِ ستلدین غلاماً یکون وصيّ هذا المولود [محمّد]» (5).

وقد روي أنّ عبد المطّلب کان حجّة وأبو طالب کان وصیّه(6). فکیف یا تری یعانده ویکذّبه ولا یؤمن به حینما دعاه للإسلام؟!

ص: 354


1- . کنز الفوائد: ص80.
2- . بحار الأنوار: ج35 ص115 ح54.
3- . کمال الدین: ج1 ص174 ح32.
4- . کما أنّه قال حینما وُلد علي : «سیکون له شأن ونبأ» (أمالي الطوسي: ج2 ص319).
5- . بحار الأنوار: ج15 ص295 ح30 عن الکافي: ج8 ص302 ح460.
6- . بحار الأنوار: ج15 ص117 ح63.

وقد روي في العدد القویة: «وأسلم من أعمام النبي(صلی الله علیه و آله) أبو طالب وحمزة والعبّاس، ومن عمّاته صفیة وأروی وعاتکة»(1).

لقد حقّ الدلیل بأنّه استترّ الإیمان وأظهر منه ما کان یمکنه علی وجه الاستصلاح؛ لیصل بذلك إلی بناء الإسلام وقوام الدعوة واستقامة أمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فکان مثله کمثل أصحاب الکهف حین أسرّوا الإیمان وأظهروا عکس ذلك،

فأتاهم اللّه أجرهم مرّتین، وإنّ أبا طالب أسرّ الإیمان وأظهر عکس ذلك، فأتاه اللّه أجره مرّتین(2).

ومن یشکّك في إیمان أبي طالب فإنّ مصیره النار؛ قال أبان بن محمّد: «کتبت إلی الإمام علي بن موسی : جُعِلت فداك، إنّي شککت في إیمان أبي طالب! قال: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ)(3)، أما أنّك إن لم تقرّ بإیمان أبي طالب کان مصیرك إلی النار»(4).

فکیف یزعمون بأنّه کافر وهو القائل:

ألم تعلموا أنّا وجدنا

محمّداً

نبیّاً کموسی خُطّ في أوّل

الکتب

وقوله أیضاً:

لقد علموا أنّ ابننا لا

مُکذّبٌ

لدینا ولا یَعبَأُ بقول الأباطِلِ

وأبیضَ یُستسقی الغَمامُ

بوَجهه

ثِمالُ الیتامی عِصمةٌ

للأرامل(5)

وقوله أیضاً:

واللّهِ لا أخذُلُ النبيَّ ولا یَخذُلُه من بَنيّ ذو حسبٍ(6)

فاعترف بنبوّة النبي(صلی الله علیه و آله) اعترافاً صریحاً ولا فصل بین أن یصف رسول اللّه بالنبوّة في

ص: 355


1- . العدد القویة: ص137.
2- . انظر: شرح نهج البلاغة: ج14 ص70.
3- . النساء: 115.
4- . بحار الأنوار: ج35 ص110 ح40 عن کنز الفوائد: ص80.
5- . الکافي: ج1 ص448 ح29.
6- . الفصول المختارة: ج2 ص283.

نظمه، وبین أن یقرّ بذلك في نثر کلامه، فکلّ أبیاته تدلّ علی أنّه کان مسلماً مؤمناً برسالة محمّد(صلی الله علیه و آله).

أفلا یکفي قول جبرئیل للنبي(صلی الله علیه و آله) لمّا مات أبو طالب: «اخرج منها فقد مات ناصرك»(1)، وقول الإمام علي : «والذي بعث محمّداً بالحقّ نبیّاً لو شفع أبي في کلّ مذنب علی وجه الأرض لشفّعه اللّه فیهم»(2).

فلو أمعن المعاندون فقط في حلف أبي طالب لاستشمّوا منه رائحة التوحید، وذلك حینما دخلوا شِعب أبي طالب مناصرةً لمحمّد(صلی الله علیه و آله)، «حلف أبو طالب بالکعبة والحرم والرکن والمقام، لئن شاکت محمّداً شوکة لأثبن علیکم یا بني هاشم»(3)، لم یحلف باللّات والعزّی وهبل کما هو دیدن کفّار قریش ومن هو علی خطّ الوثنیة.

فلم یزل أبو طالب ثابتاً صابراً مستمرّاً علی نصر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حتّی مات، فلولا أبو طالب وابنه علي لم یکن للإسلام شيء یُذکر.

رابعاً: وأمّا ما یخصّ المهر الذي قالت به خدیجة: «والمهر عليَّ في مالي»، سوف نتطرّق إن شاء اللّه تعالی حینما یکون الکلام علی مهرها.

خامساً: یذهب البعض إلی أنّ زواج نبیّنا من خدیجة کان علی الدیانة المسیحیة؛ بدلیل أنّ العاقد لها ابن عمّها کان نصرانیاً، وأنّ خدیجة تنتمي إلی بني أسد جلّ قومها من المسیح، وبما أنّ المسیحیة آخر الشرائع السماویة، فکان محمّد(صلی الله علیه و آله) نصرانیاً.

الذي یطالع خطبة أبي طالب بإمعان وتفحّص، لا یجد للوثنیة أیّة إشارة، ولا هویً في المسیحیة أيّ حرف، وأنّ آباء النبي(صلی الله علیه و آله) کلّهم مسلمون موحّدون إلی آدم ، فهم علی الإیمان باللّه والطهارة من الرجس والدنس، ویشهد علی ذلك قوله : (وَ تَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّ-جِدِينَ)(4)؛ یرید به تنقّله في أصلاب الموحّدین، قال النبي(صلی الله علیه و آله): «ما زلتُ أتنقّل من أصلاب الطاهرین إلی

ص: 356


1- . شرح نهج البلاغة: ج14 ص70، الکافي: ج1 ص449 ح31.
2- . بحار الأنوار: ج35 ص110 ح3 عن کنز الفوائد: ص15.
3- . إعلام الوری: ص59.
4- . الشعراء: 219.

أرحام المطهّرات، حتّی أخرجني اللّه في عالمکم هذا»(1).

وإنّ سلسلة نسب نبيّ الإسلام تنفي الوثنیة عن جدوده، بدءاً من اسم أبیه عبد اللّه الذي لا یُعقل أن یتسمّی به وثني، وانتهاءً إلی إسماعیل بن إبراهیم صاحب الشریعة الحنیفیة السمحاء.

ویؤیّد ذلك أنّه لو کان محمّد(صلی الله علیه و آله) وآباؤه علی الدیانة المسیحیة السائدة آنذاك - أعني المحرّفة - لماذا أهلك اللّه أبرهة في حین أنّه جاء لهدم الکعبة لنصر دین النصاری وتحویل العرب إلی ذلك الدین؟

فلاشكّ أنّ إهلاك أبرهة کان فاتحة خیر علی العرب عامّة وقریش خاصّة، فقد مهّدت السبیل لقبول الدعوة الإسلامیة والقیام بنصرتها؛ لأنّها تدعو إلی دین إبراهیم دین التوحید دین الحنیفیة أو المسیحیة الصحیحة، ومن خلال عمل أبرهة تذمّرت مکّة من المسیحیة المحرّفة الظالمة التي أرادت هدم الکعبة. لذا عندما أخبر اللّه نبیّه : (وَ لَن تَرْضَى عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَ لَا ٱلنَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(2)، هذا تأکید علی أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) کان من ملّةٍ وملّته إبراهیم هو الذي سمّانا مسلمین قبل الدعوة المحمّدیة، وفریضة الحجّ المعروفة منذ عهد إبراهیم، ولا علاقة للمسیحیة بها، خاصّة إذا علمنا أنّ المسیحیة التي ینسبون النبي(صلی الله علیه و آله) إلیها، هي مسیحیة محرّفة تقول بالتثلیث - کما ذکر القرآن - ویستحیل علی المصطفی للنبوّة أن یعتقد بالشرك.

والذي یقرأ ما قاله ورقة بن نوفل في خطبته: «الحمد للّه الذي جعلنا کما ذکرت

- أي من زرع إبراهیم وذرّیة إسماعیل - ... وقد رغبنا بالاتّصال بحبلکم وشرفکم...»(3)؛

وهذا یعني لا خلاف بین بني هاشم وبني أسد في المعتقد الدیني الذي ینتمون إلیه، وهو ملّة إبراهیم .

ص: 357


1- . شرح عقائد الصدوق: ص117.
2- . البقرة: 120.
3- . انظر: بحار الأنوار: ج16 ص19.

وإنّ ورقة بن نوفل أصبح نصرانیاً؛ لأنّ الإنجیل والکتب التي قرأها ورقة یوافق عقیدة المسلمین في عیسی الذي بشّر بالنبي الموعود الذي اسمه أحمد.

مهرها

علی ما یبدو من خلال الروایات أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) عیّن لها مقدار المهر، إلّا أنّ أبا طالب قد ضمن المهر في ماله کما هو في صریح خطبته، ولمّا رأت خدیجة بأنّ أبا طالب قد ضمن لمحمّد(صلی الله علیه و آله) المهر، سخت نفسها بضمانها المهر کلّه من مالها کهبة له. وروي أنّ علیّاً هو الذي ضمن المهر، وهذا غیر صحیح؛ لأن علیّاً لم یکن وُلد(1).

وفي بعض الروایات تفید أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) نفسه قد أمهرها عشرین بکرة(2)، کما في السیرة النبویة لابن هشام(3)، وابن کثیر(4)، وتاریخ الخمیس(5)، والسیرة الحلبیة(6)، والبدایة والنهایة(7)، وإمتاع الأسماع(8)، والمختصر في أخبار البشر(9)،

وتاریخ الإسلام(10).

وفي السیرة الحلبیة ذکر من خطبة أبي طالب زیادة وتوضیحاً للمهر المعلوم الذي عیّنه النبي(صلی الله علیه و آله)، قال: «وقد خطب إلیکم رغبة في کریمتکم خدیجة، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنتي عشرة أُوقیة ونشّاً».

ثمّ ذکر مؤلّف السیرة الحلبیة بأنّ النشّ یساوي عشرون درهماً، والأُوقیة: أربعون

ص: 358


1- . انظر: السیرة الحلبیة: ج1 ص226. وروي أیضاً أنّ أبا هلال العسکري ذکر أنّه لمّا قیل: «من یضمن المهر؟ قال علي وهو صغیر: أبي، فلمّا بلغ الخبر أبا طالب جعل یقول: بأبي أنت وأُمّي» (الأوائل لأبي هلال العسکري: ج1 ص161).
2- . البکر: الفتيّ من الإبل، والأُنثی بکرة (النهایة: ج1 ص149).
3- . السیرة لابن هشام: ج1 ص201.
4- . السیرة لابن کثیر: ج1 ص263.
5- . تاریخ الخمیس: ج1 ص265.
6- . السیرة الحلبیة: ج1 ص225.
7- . البدایة والنهایة: ج2 ص359.
8- . إمتاع الأسماع: ج6 ص28.
9- . المختصر في أخبار البشر: ج1 ص114.
10- . تاریخ الإسلام: ج2 ص65.

درهماً، وکانت الأواقي والنشّ من ذهب کما قیل، فیکون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي(1).

وفي إمتاع الأسماع وتاریخ مدینة دمشق والذرّیة الطاهرة، ذکروا بأنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أمهرها باثنتي عشر أُوقیة ذهباً(2).

وممّا یُستفاد من مهرها ما یلي:

أوّلاً: لزوم تعیّن المهر عند العرب في مکّة وهو نظام ثابت مستوحیً من الشریعة الإبراهیمیة السمحة، وکما رأینا بأنّه لا یتمّ الزواج إلّا بوليّ، وهذه أیضاً سُنّة من سُنن التشریع الإلهي المسنون في شریعة إبراهیم .

ثانیاً: ومن خُلق خدیجة رضوان اللّه تعالی علیها ومثلها الدیني السلیم حینما وهبت له من المهر لم تشترط علیه شرطاً کما فعلته سلمی بنت عمرو، کانت لا تنکح الرجال؛ لشرفها في قومها حتّی یشترطوا لها أنّ مهرها بیدها إذا کرهت رجلاً فارقته(3).

ثالثاً: نجد أنّ المهر الذي قدّمه النبي(صلی الله علیه و آله) إلی خدیجة هو مهر السُّنّة، وقال الصادق : «کان صِداق النبي(صلی الله علیه و آله) اثنتي عشرة أُوقیة ونشّاً،

والنشّ نصف الأُوقیة، والأُوقیة أربعون درهماً، فذلك خمسمائة درهم»(4).

رابعاً: وأمّا ما قالته خدیجة لأبي طالب حینما أتمّ خطبته وقال: «المهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله... فقالت خدیجة رضوان اللّه تعالی علیها: قد زوّجتك یا محمّد نفسي والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمّك فلینحر ناقة فلیولم بها، وادخل علی أهلك»(5).

فلیس بغریب علی المرأة الفاضلة کخدیجة أن تطلب لنفسها محمّد بن عبد اللّه(صلی الله علیه و آله)

ص: 359


1- . السیرة الحلبیة: ج1 ص226.
2- . إمتاع الأسماع: ج6 ص28، تاریخ مدینة دمشق: ج3 ص193، الذرّیة الطاهرة: ص52.
3- . الروض الأنف: ج1 ص251، نهایة الأرب: ج16 ص36، السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص158.
4- . الکافي: ج5 ص384 ح1.
5- . المهذّب البارع: ج3 ص176.

والمهر علیها؛ لما یمتلك من الصفات الجمالیة والخُلقیة المتکاملة. قال الباقر : «کان نبي اللّه أبیض الوجه مشرباً بحمرة، أدعج العینین...(1)».

ویُضاف إلی خُلقه المتمیّز لدی قومه من الأمانة وصدق الحدیث وحُسن الخُلق والشرف وطهارة النسب، حتّی أنّ أبا طالب برّر هبة المهر من خدیجة علی أنّه رجل متمیّز من بین الرجال: «فإذا کانوا مثل محمّد هذا طُلبت الرجال بأغلی الأثمان وأعظم المهر، وإذا کانوا أمثالکم لم یُزوّجوا إلّا بالمهر الغالي»(2).

وسُئِل الصادق عن المرأة التي تهب نفسها للرجل ینکحها بغیر مهر؟ قال الصادق : «إنّما کان هذا للنبي، فأمّا لغیره فلا یصلح هذا حتّی یعوّضها شیئاً یقدّم إلیها قبل أن یدخل بها، قلّ أو کثر، ولو ثوب أو درهم»(3).

خامساً: من خلال مراسم الخطوبة نستدلّ علی قدسیتها وطهارتها وتواضعها وخضوعها لمراسم السُّنّة الإلهیّة، وهذا یدلّ علی صدق نیّتها وسلامة قلبها والتزامها

الدیني، وإنّها حقّاً علی خطّ المذهب التوحیدي.

وکما أنّ تعاطفها وتقرّبها وبذل المساعي لمحمّد(صلی الله علیه و آله) علی أساس المتبنّیات الأخلاقیة المتواجدة فیه، کصدق الحدیث وأداء الأمانة ونزاهة النسب، کلّ ذلك من مستلزمات طلب الآخرة لا الدنیا وزخرفها.

لقد وضعت کلّ ما تملك بین یدي محمّد(صلی الله علیه و آله) وفي حکمه وتصرّفه؛ لذا قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ما نفعني مال قطّ مثل ما نفعني مال خدیجة»(4)، وقوله تعالی: (وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى)(5)؛ أي بمال خدیجة(6).

ص: 360


1- . انظر: الکافي: ج1 ص443.
2- . بحار الأنوار: ج16 ص6 عن العدد القویة، ص144.
3- . المرأة ریحانة أم قهرمانة، ص37 عن الکافي: ج5 ص384 ح1.
4- . حلیة الأبرار لهاشم البحراني: ج1 ص148، وانظر: بحار الأنوار: ج19 ص63.
5- . الضحی: 8.
6- . المناقب: ج3 ص120

روي أنّ أبا عُبیدة قال: «فقلت لعبید اللّه - یعني ابن أبي رافع - وکان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یجد ما ینفعه هکذا؟ فقال: إنّي سألت أبي عمّا سألتني وکان یحدّث بهذا الحدیث. فقال: فأین یذهب بك عن مال خدیجة... وکان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یفكّ من مالها الغارم(1) والعاني(2)، ویحمل الکَلّ(3)، ویعطي في النائبة(4)، ویرفد(5) فقراء أصحابه إذ کان بمکّة، ویحمل من أراد منهم الهجرة، وکانت قریش إذا رحلت عیرها في الرحلتین - یعني رحلة الشتاء والصیف - کانت طائفة من العِیر لخدیجة، وکانت أکثر قریش مالاً، وکان ینفق منه ما شاء في حیاتها، ثمّ ورثها هو وولدها بعد مماتها»(6).

عمرها یوم زواجها

روي أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خرج إلی الشام في تجارة لخدیجة وله خمس وعشرون سنة، وتزوّجها بعد ذلك بشهرین وعشرة أیّام(7)، وقیل: خمسة عشر یوماً(8)، وقیل: أربعة وعشرون یوماً(9)، وهي یومئذٍ بنت أربعین سنة(10)، وهو الذي علیه أغلب الباحثین والمؤرّخین.

وحینما تزوّجها أعتق رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حاضنته أُمّ أیمن، وعندما أُعتقت تزوّجها عبید بن زید(11).

ص: 361


1- . الغارم: الذي یلتزم ما ضمنه وتکفّل به ویؤدّیه (النهایة: ج3 ص363).
2- . العاني: الأسیر، توکّل من ذلّ واستکان وخضع (النهایة: ج3 ص363).
3- . الکَلّ: العیال والثقل (النهایة: ج4 ص198).
4- . النائبة: المصیبة والنازلة وما یقع علی القوم من الدیات وغیرها.
5- . أي یعطي ویعین (انظر: المصباح المنیر: ج1 ص232).
6- . أمالي الطوسي: ج2 ص82.
7- . العدد القویة، ص143، المعارف: ص150، خلاصة سیر سیّد البشر: ص38.
8- . السیرة الحلبیة: ج1 ص227.
9- . مروج الذهب: ج2 ص271.
10- . أنساب الأشراف: ج1 ص108، الطبقات الکبری: ج1 ص105، صفة الصفوة: ج2 ص74،الکامل في التاریخ: ج2 ص39، أُسد الغابة: ج7 ص80، المواهب اللدنیة: ج1 ص403، المختصر في أخبار البشر: ج1 ص114.
11- . انظر: وفاء الوفا: ص22 عن الطبقات الکبری: ج8 ص223، والإصابة: ج4 ص433.

وقد رجّح کثیر من الباحثین بأنّ عمرها کان یوم زواجها ثماني وعشرون سنة(1)، وهذا یقرّب احتمال أنّها کانت باکراً(2). وهذا ممّا ینسجم مع حجم ما ولدته خدیجة من الأولاد وتلائمها مع أجواء المرأة في حیاة مکّة آنذاك.

ومنهم من یقول: کان عمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حین زواجه بخدیجة إحدی وعشرین سنة(3)، وقیل: ثلاثین سنة(4).

وقد روي أیضاً بأنّ عمرها یوم تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خمس

وعشرین سنة(5)، وقیل: ثلاثین(6)، وقیل: خمس وثلاثین(7)، وقال بعضهم: أربع وأربعین(8)، أو خمس وأربعین(9)، أو ستّ وأربعین سنة(10).

وذُکر في البحار عن إقبال الأعمال عند ذکر ربیع الأوّل الیوم العاشر منه تزوّج النبي(صلی الله علیه و آله) خدیجة بنت خویلد أُمّ المؤمنین (رضي اللّه عنها) ولها أربعون سنة، وله خمس وعشرون سنة، ویستحبّ صیامه شکراً للّه تعالی علی توفیقه بین رسوله والصالحة الرضیة التقیة(11).

أولادها

عن أبي عبد اللّه قال: «وُلد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خدیجة القاسم والطاهر - وهو عبد اللّه - وأُمّ

ص: 362


1- . بحار الأنوار: ج12، ص16، کشف الغمّة: ج1 ص510، الذرّیة الطاهرة: ص52، المستدرك علی الصحیحین: ج3 ص82، سیر أعلام النبلاء: ج2 ص111، تهذیب تاریخ دمشق: ج1 ص303، خلاصة سیر سیّد البشر: ص38، تهذیب الأسماء: ج2 ص342، تاریخ الخمیس: ج1 ص264، تاریخ مدینة دمشق: ج3 ص193.
2- . انظر: بحار الأنوار: ج22، ص191، ضمن ح5 عن المناقب: ج1 ص159، والاستغاثة: ج1 ص68.
3- . أُسد الغابة: ج7 ص80، المواهب اللدنیة: ج1 ص403.
4- . تاریخ الیعقوبي: ج2 ص20.
5- . البدایة والنهایة: ج2 ص295، السیرة النبویة: ج1 ص265، السیرة الحلبیة: ج1 ص229.
6- . السیرة الحلبیة: ج1 ص229، تاریخ مدینة دمشق: ج3 ص191، تهذیب تاریخ دمشق: ج1 ص303.
7- . البدایة والنهایة: ج2 ص295، السیرة الحلبیة: ج1 ص229.
8- . تهذیب تاریخ دمشق: ج1 ص303، تاریخ مدینة دمشق: ج3 ص190.
9- . السیرة الحلبیة: ج1 ص229.
10- . الصحیح من سیرة النبي: ج2 ص116 عن أنساب الأشراف قسم حیاة النبي ، ص98.
11- . بحار الأنوار: ج98، ص357 ح1 عن إقبال الأعمال، ص599.

کلثوم ورقیّة وزینب وفاطمة(علیها السلام)»(1).

ثمّ وُلد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من ماریة القبطیة(2) إبراهیم(3). والناس

یغلطون(4) فیقولون: وُلد له منها أربع بنین: القاسم وعبد اللّه والطیّب والطاهر(5)، وسبب هذا الاشتباه أنّهم یعدّون اللقب الذي هو علیه عبد اللّه بالطیّب والطاهر ثلاثة أسماء. ولُقّب عبد اللّه بالطاهر والطیّب؛ لأنّه وُلد في الإسلام، وکذا ولدت فاطمة وإبراهیم(6).

روي أنّ أکبر أولاده : القاسم، ثمّ زینب، ثمّ رقیّة، ثمّ عبد اللّه، ثمّ أُمّ کلثوم، ثمّ فاطمة، ثمّ إبراهیم، وهذا هو الأصحّ؛ لما علیه من تقارب الروایات(7). وُلد القاسم في مکّة وبه کان یُکنّی ، وعاش حتّی مشی(8)، وقیل: بلغ القاسم أن یرکب الدابّة ویسیر علی النجیب(9)، وقیل: مات وهو رضیع.

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إنّ له مرضعاً في الجنّة یستکمل رضاعه»، والمعروف أنّ هذا في

ص: 363


1- . الخصال، ص404 ح115.
2- . لمّا رجع رسول اللّه من الحديبية بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية، وكتب كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، فلمّا قرأ الکتاب قال خیراً... وكتب إلى النبي جواب كتابه ولم يسلم، وأهدى إلى النبي مارية القبطية وأُختها سيرين وحماره يعفور وبغلته دُلدُل، وكانت بيضاء ولم يك في العرب يومئذٍ غيرها، وكان رسول اللّه يعجب بمارية القبطية، وكانت بيضاء جعدة جميلة... فعرض علیهما الإسلام فأسلمتا، فوطأ ماریة... وکانت حسنة الدین، ووهب أُختها سیرین لحسّان بن ثابت الشاعر، فولدت عبد الرحمن، وولدت ماریة لرسول اللّه غلاماً، فسمّاه إبراهیم، وعقّ عنه رسول اللّه بشاة یوم سابعه، وحلق رأسه، فتصدّق بزنة شعره فضّة علی المساکین، وأمر بشعره فدُفن في الأرض... وغار نساء رسول اللّه واشتدّ علیهم حین رُزق منها الولد... وعن أبي جعفر: أنّ رسول اللّه حجب ماریة - وکانت قد ثقلت - علی نساء النبي ، وغرن علیها، ولا مثل عائشة» (الطبقات الکبری: ج1 ص107).
3- . انظر: قرب الإسناد، ص6.
4- . ذکر الطبري في تاریخه: ج2 ص411: «فولدت لرسول اللّه ثمانیة: القاسم والطیّب والطاهر وعبد اللّه وزینب ورقیّة وأُمّ کلثوم وفاطمة».
5- . انظر: أعلام الوری: ص146.
6- . انظر: مروج الذهب: ج2 ص291.
7- . انظر: تتمّة جامع الأٌصول: ج1 ص107 (طبعة دار الفکر)، وتاریخ الیعقوبي: ج1 ص340 (طبعة الأعلمي).
8- . انظر: أُسد الغابة: ج7 ص81.
9- . النجیب: عتاق الإبل التي یُسابق علیها.

حقّ إبراهیم(1)، وإنّ القاسم أوّل میّت مات من ولده بمکّة(2).

ولمّا توفّي القاسم قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو في جنازته ونظر إلی جبل من جبال مکّة: «یا جبل، لو أنّ ما بي بك لهدّك»، وکان للقاسم یوم مات أربع

سنین(3)، وهوأکبر وُلده(4).

ومن أولاده الذکور أیضاً عبد اللّه، وُلد في الإسلام(5) وفي مکّة، وکان یُلقّب بالطیّب والطاهر، وتوفّي في مکّة صغیراً(6) بعد القاسم بشهر، ولم یُفطم، فقالت خدیجة: «یا رسول اللّه، لو بقي حتّی أُفطمه! قال : فإنّ فطامه في الجنّة»(7).

وعن الباقر قال: «لمّا توفّي الطاهر نهی رسول اللّه خدیجة عن البکاء، فقالت: بلی یا رسول اللّه، ولکن درّت علیه الدریرة فبکیت. فقال: أما ترضین أن تجدیه قائماً لكِ علی باب الجنّة، فإذا رآكِ أخذ بیدكِ فأدخلكِ الجنّة أطهرها مکاناً وأطیبها؟ قالت: فإنّ ذلك کذلك! قال : اللّه أعزّ وأکرم من أن یسلب عبداً ثمرة فؤاده فیصبر ویحتسب ویحمد اللّه ثمّ یعذّبه»(8).

ولمّا توفّي عبد اللّه، قال العاص بن وائل السهمي: «قد انقطع نسله فهو أبتر، فأنزل اللّه : (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(9)، وفي التفسیر الکبیر قال: «إنّ العاص بن وائل کان یقول: إنّ محمّداً أبتر لا ابن له یقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذکره واسترحم منه، وکان قد مات ابنه عبد اللّه من خدیجة. وهذا قول ابن عبّاس وعامّة أهل التفسیر»(10). وکان یُکنّی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بأبي الطاهر والطیّب والقاسم(11).

ص: 364


1- . البدایة والنهایة: ج1 ص394.
2- . الاستیعاب: ج4 ص380.
3- . تاریخ الیعقوبي: ج1 ص351، وفي الطبقات الکبری: ج1 ص133: «مات القاسم وهو ابن سنتین».
4- . السیرة النبویة لابن کثیر: ج1 ص264.
5- . أُسد الغابة: ج7 ص81.
6- . انظر: الاستیعاب: ج4 ص380.
7- . تاریخ الیعقوبي: ج1 ص351.
8- . مشکاة الأنوار، ص23.
9- . تفسیر المیزان: ج20 ص374، وانظر: الطبقات الکبری: ج1 ص133، والآیة في سورة الکوثر: 3.
10- . التفسیر الکبیر للفخر الرازي: ج32 ص132.
11- . انظر: المناقب: ج1 ص154.

وقیل: لأيّ علّة لم یبقَ لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ولد؟ قال الصادق : «لأنّ اللّه خلق محمّداً نبیّاً وعلیّاً وصیّاً، فلو کان لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ولد من

بعده لکان أولی برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من أمیر المؤمنین ، فکانت لا تثبت وصیّة أمیر المؤمنین»(1).

ولم یولد له ولد من غیرها إلّا إبراهیم أُمّه ماریة(2)، وُلد في المدینة في ذي الحجّة سنة ثمان من الهجرة، وتوفّي ابن ستّة عشر شهراً، وقیل: ثمانیة عشر شهراً، ودُفن بالبقیع(3).

وفي روایات نادرة: ولدت له في الجاهلیة عبد مناف وولدت له في الإسلام غلامین: القاسم وعبد اللّه، وفي روایة: القاسم والطاهر ومطهّر(4).

وکانت سلمی مولاة صفیة تقبّل خدیجة ولادتها، وکانت تعقّ عن کلّ غلام بشاتین، وعن کلّ جاریة بشاة، وکانت بین کلّ ولدین لها سنة، وکانت تسترضع لولدها وتعدّ ذلك قبل أن تلد، وعندما وضعت فاطمة لم یرضعها أحد غیرها(5).

وله من البنات أربع، أکبرهنّ زینب، وقیل رقیّة ثمّ أُمّ کلثوم، وأصغرهنّ وأکرمهنّ وخیر ولده فاطمة(علیها السلام) المولودة في الإسلام(6).

وکلّ بناته من خدیجة - وقیل: بعضهنّ(7) - أدرکن الإسلام وهاجرن مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأتبعنه وآمن به وتزوّجن، وبعضهنّ أعقبن(8).

وولدت خدیجة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الأُولی زینب، وکانت أکبر بناته، تزوّجها أبو العاص بن الربیع، وهو ابن خالتها، أُمّه هالة بنت خویلد أُخت خدیجة، وکانت خدیجة أشارت

ص: 365


1- . علل الشرائع، ص131 ح1.
2- . الکامل في التاریخ: ج2 ص307.
3- . بحار الأنوار: ج22 ص152، صفة الصفوة: ج1 ص148.
4- . انظر: الذرّیة الطاهرة، ص66 و69.
5- . التتمّة في حیاة أُمّ الأئمّة، ص128 عن الطبقات الکبری: ج1 ص133، والإصابة: ج4 ص282، و أمالي الصدوق، ص475 ح1.
6- . انظر: بحار الأنوار: ج22 ص166، ومروج الذهب: ج2 ص291، والسیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص190
7- . في المناقب: ج1 ص162: «أنّ زینب ورقیّة کانتا ربیبتیه من جحش»، عنه بحار الأنوار: ج22 ص152، ضمن ح4.
8- . انظر: دلائل النبوّة: ج1 ص339، وأُسد الغابة: ج7 ص81، والاستیعاب: ج4 ص380، والکامل في التاریخ: ج2 ص307.

علی النبي(صلی الله علیه و آله) بزواجها منه، وکان لا یخالفها، وذلك قبل أن ینزل علیه الوحي، وکان من رجال مکّة المعدودین في المال والتجارة والأمانة.

فلمّا أکرم اللّه نبیّه بالرسالة آمنت به خدیجة وبناته وصدّقنه، وثبت أبو العاص علی دین قریش، فمشت إلیه وجوه قریش فقالوا: أردد علی محمّد ابنته، ونحن نزوّجك أیّة امرأة أحببت من قریش، فقال: لا أُفارق صاحبتي، فإنّها خیر صاحبة.

ولمّا سارت قریش إلی بدر کان معهم، فأُسر في المعرکة، فلمّا بعث أهل مکّة في فداء أُسرائهم بعثت زینب في فداء أبي العاص بمالٍ وبعثت معه بقلادة لها کانت خدیجة وهبتها لها حین أدخلتها علی أبي العاص. فلمّا رآها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عرفها، فرقّ لها وقال للمسلمین: «إن رأیتم أن تردّوا قلادة زینب ومالها علیها وتطلقوا أسیرها فافعلوا»، فقالوا: نعم. فأطلقه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بعد أن اشترط علیه أن یبعث بزینب إلیه(1)، فوفی بذلك وبعث زینب إلیه.

وروي أن هباراً أهوی إلیها بالرمح فأفزعها وکانت حاملاً، فألقت ما في بطنها(2) بعد أیّام... فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «إن لقیتم هباراً فاقطعوا یده ورجله...».

وروي أنّ لأبي العاص في زینب شعر عنها:

ذكرتُ زينب لما جاوزت إرما

فقلت

سقياً لشخص يسكن الحرما

بنت الأمين جزاها اللّه

صالحة

وكلُ بعل سيثني بالذي علما

وأسلم أبو العاص فردّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلیه زینب بنکاح جدید، ویقال: بل ردّها بالنکاح الأوّل... وکان لأبي العاص من زینب علي وأُمامة، فأمّا علي

فمات وهو غلام، وأمّا أُمامة فتزوّجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة(علیها السلام).

ص: 366


1- . وکان الإسلام قد فرّق بین زینب وبین أبي العاص حین أسلمت زینب، إلّا أنّ رسول اللّه کان لا یقدر أن یفرّق بینهما، وکان رسول اللّه مغلوباً بمکّة لا یُحلّ ولا یُحرّم» (الذرّیة الطاهرة: ص75 ح55).
2- . قال ابن أبي الحدید في شرح نهج البلاغة: ج17 ص168، وج14 ص193: «إذا کان رسول اللّه أباح دم هبار، لأنّه روّع زینب فألقت ذا بطنها، وظاهر الحال أنّه لو کان حیّاً لأباح دم من روّع فاطمة(علیها السلام) حتّی ألقت ذا بطنها»، وانظر أیضاً: التتمّة في حیاة الأئمّة: ص80.

وتوفّیت زینب(1) في سنة ثمان من الهجرة بالمدینة، فغسلتها أُمّ أیمن وسودة بنت زمعة وأُمّ سلمة، وصلّی علیها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ونزل في قبرها(2)، ودعا اللّه أن یخفّف عنها ضمّة القبر(3).

والثانیة من بناته: رقیّة، وُلدت سنة ثلاث وثلاثین من مولد النبي(صلی الله علیه و آله)، تزوّجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوّة، فلمّا نزلت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)(4)، قالت أُمّه أُمّ جمیل بنت حرب حمّالة الحطب: قد هجانا محمّد، وعزمت علی ابنها عتبة أن یطلّق رقیّة، وقال له أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلّق ابنته، ففارقها ولم یدخل بها، وأسلمت حین أسلمت أُمّها خدیجة، وبایعت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هي وأخواتها حین بایعته النساء، وتزوّجها عثمان وهاجرت معه إلی أرض الحبشة الهجرتین معاً.

وکانت في الهجرة الأُولی قد أسقطت من عثمان سقطاً، ثمّ ولدت له بعد ذلك ابناً فسمّاه عبد اللّه... وبلغ سنتین، فنقره دیك في وجهه فطمر وجهه فمات(5)، ولم تلد له شیئاً بعد ذلك.

وهاجرت إلی المدینة بعد زوجها عثمان حین هاجر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ومرضت(6) ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یتجهّز إلی بدر، فخلف علیها رسول

اللّه(صلی الله علیه و آله) عثمان وأُسامة بن زید، فتوفّیت ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ببدر في شهر رمضان علی رأس سبعة عشر شهراً من مهاجر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)(7)، ودُفنت بالبقیع(8).

ص: 367


1- . وکان سبب موتها بأنّها سقطت علی صخرة - وذلك حینما أدرکها هبار ابن الأسود ورجل آخر فدفعها - فأسقطت حملها إذ کانت حاملة، فأهراقت الدم، فلم یزل بها وجعها حتّی ماتت» (انظر: المستدرك علی الصحیحین: ج4 ص48، والاستیعاب: ج4 ص410).
2- . انظر: أنساب الأشراف: ج2 ص23، وخلاصة سیر سیّد البشر، ص138.
3- . انظر: المستدرك علی الصحیحین: ج4 ص50.
4- . المسد: 1.
5- . وفي المعارف: ص142: «وهلك صبیّاً لم یجاوز ستّ سنین، وکان نقره دیك علی عینه فمرض ومات».
6- . وفي المستدرك علی الصحیحین: ج4 ص53: «وأصابتها حصبة».
7- . وفي المعارف، ص142: «وماتت بها بعد مقدمه المدینة بسنة وعشرة أشهر وعشرین یوماً».
8- . انظر: الطبقات الکبری: ج8 ص29، وأنساب الأشراف: ج2 ص28.

وقفات تأمّل

الأُولی: روي عن أسماء بنت أبي بکر، قالت: «کنت أحمل الطعام إلی أبي وهو مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالغار، فاستأذنه عثمان في الهجرة فأذن له في الهجرة إلی الحبشة، فحملت الطعام، فقال لي: ما فعل عثمان ورقیّة؟ قلت: قد سارا. فالتفت إلی أبي بکر فقال: والذي نفسي بیده إنّه أوّل من هاجر بعد إبراهیم ولوط».

قال ابن حجر العسقلاني: «وفي هذا السياق من النكارة أنّ هجرة عثمان إلى الحبشة كانت حين هجرة النبي(صلی الله علیه و آله)، وهذا باطل»(1).

ولمّا کان بدایة الحدیث منکر، فما قاله النبي(صلی الله علیه و آله) في حقّ هجرته فیه وضع؛ لأنّه لا ینسجم موقف هجرته مع هجرة إبراهیم ولوط، وکما أنّ التاریخ یحدّثنا بأنّهم رکبوا سفینة بأجمعهم مع عبد اللّه بن جعفر وأزواجهم إلی الحبشة، فلم ینفرد فیها عثمان وحده.

الثانیة: عن أنس قال: «لمّا ماتت رقیّة قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): لا یدخل القبر رجل قارف، فلم یدخل عثمان. قال أبو عمر: هذا خطأ من حمّاد، إنّما کان ذلك في أُمّ کلثوم»(2).

للتنبیه: علی أنّه لم یحضر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) دفن رقیّة؛ کان مشغولاً

في معرکة بدر کما ذکرنا آنفاً، وقد خلف النبي(صلی الله علیه و آله) عثمان وأُسامة بن زید علی رقیّة في مرضها، وخرج إلی بدر وهي وجعة، فجاء زید بن حارثة علی العضباء بالبشارة وقد ماتت رقیّة(3).

الثالثة: عن ابن عبّاس قال: «لمّا ماتت رقيّة قال النبي(صلی الله علیه و آله): الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون، فبكت النساء على رقية، فجاء عمر بن الخطاب فجعل يضربهنّ بسوطه، فأخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بيده ثمّ قال: دعهنّ يا عمر يبكين. ثمّ قال ابكين وإيّاكن ونعيق الشيطان، فإنّه مهما يكن من القلب والعين فمن اللّه والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان. فقعدت فاطمة على شفير القبر إلى جنب النبي(صلی الله علیه و آله)، فجعلت

ص: 368


1- . الإصابة: ج8 ص138.
2- . الإصابة: ج8 ص139.
3- . انظر: المستدرك علی الصحیحین: ج4 ص50.

تبكي ورسول اللّه يمسح الدمع عن عينيها بطرف ثوبه.

الثبت عندنا من جميع الرواية أنّ رقية توفّيت ورسول اللّه ببدر ولم يشهد دفنها، ولعلّ هذا الحديث في غيرها من بنات النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اللّاتي شهد دفنهنّ، فإن كان في رقيّة وكان ثبتاً فلعلّه أتى قبرها بعد قدومه المدينة وبكاء النساء عليها بعد ذلك(1).

الثالثة من بناتها: أُمّ کلثوم، روي أنّها أکبر من رقیّة، والصحیح أنّها أصغر من رقیّة؛ لأنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) زوّج رقیّة قبل أُمّ کلثوم، وما کان لیزوّج الصغری ویترك الکبری(2).

تزوّجها معتب بن أبي لهب، ویقال عتیبة(3)، وقالت أُمّه حمّالة الحطب: إن أُمّ کلثوم صبأت فطلّقها. فطلّقها قبل الدخول(4).

ولمّا أنزل اللّه : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)، قال له أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلّق ابنته(5)... «فطلّق عتیبة أُمّ کلثوم، وجاء إلی النبي(صلی الله علیه و آله) حین فارق أُمّ کلثوم فقال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبّني ولا أُحبّك. ثمّ سطا عليه فشقّ قميص النبي(صلی الله علیه و آله) وهو خارج نحو الشام تاجراً، فقال النبي: أما إنّي أسأل اللّه أن يسلّط عليك كلبه.

فخرج في تجارة من قريش حتّى نزلوا مكاناً من الشام يقال له: الزرقاء - ليلاً - فأطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أُمّي هو [و] اللّه آكلي كما دعا محمّد عليَّ، أقاتلي ابن أبي كبشة وهو بمكّة وأنا بالشام؟! فعدا عليه الأسد من بين القوم وأخذه برأسه فضغمه(6) ضغمة فدغه»(7).

لقد أسلمت أُمّ کلثوم حین أسلمت أُمّها، وبایعت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مع إخوتها حین بایعته النساء،وهاجرت إلی المدینة حین هاجر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وخرجت مع عیال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلی

ص: 369


1- . انظر: الطبقات الکبری: ج8 ص30.
2- . أُسد الغابة: ج7 ص384.
3- . أنساب الأشراف: ج2 ص29.
4- . انظر: الإصابة: ج8 ص461.
5- . الطبقات الکبری: ج8 ص30.
6- . الضغم: العضّ الشدید، وبه سُمّي الأسد ضیغماً.
7- . الذرّیة الطاهرة: ص84. ومعنی «فدغه»: أي شقّه.

المدینة فلم تزل بها.

فلمّا توفّیت رقیّة خلف عثمان علی أُمّ کلثوم في شهر ربیع الأوّل سنة ثلاث من الهجرة، وأُدخلت علیه في هذه السنة في جمادی الآخرة، فلم تزل عنده إلی أن ماتت ولم تلد له شیئاً، وماتت في شعبان سنة تسع من ا لهجرة.

وعن أسماء بنت عمیس، قالت: «أنا غسلت أُمّ کلثوم وصفیة بنت عبد المطّلب... وقیل: غسّلتها نساء من الأنصار، فیهنّ أُمّ عطیة، ونزل في حفرتها علي والفضل وأُسامة وصلّی علیها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)»(1).

وممّا یُستفاد من ذکر بنات خدیجة الثالث الآنفة الذکر ما یلي:

أوّلاً: إسلامهنّ وإیمانهنّ وثبوتهنّ علی النهج القویم، وهجرتهنّ للّه ورسوله وترك أزواجهنّ وما یعتنقون في سبیل إعلاء کلمة التوحید ورفض الوثنیة والشرك واعتبارها نجس ورجس، یدلّ دلالة واضحة علی حسن سلوك وسیرة أُمّهنّ خدیجة في النهج التوحیدي السلیم منذ نعومة أظفارهنّ، فلمّا کانت الدعوة استقبلنها بقلوبهنّ، لذا کانت کلماتهنّ واحدة تبعاً لذلك التوجیه التربوي والتوحید الإبراهیمي من قبل أُمّهنّ وأبیهنّ.

ثانیاً: حبّها وشفقتها ورقّتها علی أولادها وبناتها نابع من سلامة أُمومتها الفیّاضة بمعالي الدین، فانعکس ذلك علیهنّ، فکان الحبّ والوئام للإسلام مصداقاً لتلك التربیة.

للاطّلاع: ذکر في الاستغاثة أنّ زینب ورقیّة منسوبتان إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأنّ أُمّهما هالة أُخت خدیجة وکذا أُمّ کلثوم(2). واتّبع هذا الرأي أیضاً السیّد جعفر مرتضی العاملي في کتابه بنات النبي(صلی الله علیه و آله) أم ربائبه؟ فراجع.

الرابعة من بناتها: ریحانة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، الطاهرة والمنصورة، الزهراء البتول، المحدّثة الشهیدة، الصدّیقة الکبری، صفوة اللّه(3)، الحوریة الإنسیة، سیّدة نساء العالمین، فاطمة أُمّ أبیها(علیها السلام).

ص: 370


1- . الطبقات الکبری: ج8 ص31.
2- . انظر: الاستغاثة: ج1 ص68.
3- . في الفضائل لابن شاذان: ص83: «قال رسول اللّه : لمّا عُرج بي رأیت علی باب الجنّة مکتوباً: فاطمة صفوة اللّه».

وُلدت فاطمة(علیها السلام) بعد مبعث النبي(صلی الله علیه و آله) بخمس سنین(1)، یوم الجمعة(2) في العشرین من جمادی الآخرة بمکّة(3) في ملك یزدجر(4)، وروي غیر ذلك(5)، ولم یولد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خدیجة علی فطرة الإسلام إلّا

فاطمة(علیها السلام) وعبد اللّه(6)، ومن ماریة القبطیة إبراهیم(7).

وکانت خدیجة إذا ولدت ولداً دفعته إلی من یرضعه، فلمّا ولدت فاطمة(علیها السلام) لم یرضعها أحد غیرها(8)، ویقال إنّ فاطمة توأم لعبد اللّه المولود في الإسلام(9).

وروي أنّ أسماء قالت: «یا رسول اللّه، إنّ فاطمة ولدت فلم نرَ لها دماً! قال: إنّ فاطمة خُلقت حوریة إنسیة»(10).

وروي أنّ مریم(علیها السلام) وآسیة وسارة وکلثم أُخت موسی اللواتي أولدن خدیجة... فوضعت فاطمة طاهرة مطهّرة... ثمّ استنطقتها فنطقت فاطمة بالشهادتین... وقالت النسوة: خذیها یا خدیجة طاهرة زکیة میمونة، بورك فیها وفي نسلها(11).

أمّا ما رواه ابن سعد في الطبقات والدولابي في الذرّیة الطاهرة بخصوص ولادتها قبل النبوّة بخمس سنین(12) مرفوض؛ لسببین:

أوّلاً: لأنّ سورة الکوثر التي نزلت في العاص بن وائل حینما رمی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالأبتر، وذلك بعدما مات ابنه عبد اللّه المولود في الإسلام(13)، وأنّ المراد بالکوثر

ص: 371


1- . الکافي: ج1 ص457 ح10.
2- . مصباح الکفعمي: ص522.
3- . دلائل الإمامة: ص10، المناقب: ج3 ص357.
4- . إقبال الأعمال: ص623، مصباح الکفعمي: ص10.
5- . وروي: «سنة إحدی وأربعین» (المستدرك علی الصحیحین: ج3 ص161، الإصابة: ج4 ص377)، و«سنة اثنتین من المبعث» (الإقبال: ص623)، وقیل: «بعد الإسراء بثلاث سنین» (روضة الواعظین: ص173، تاج الموالید: ص21).
6- . انظر: الکافي: ج8 ص340 ضمن ح536، والاستیعاب: ج4 ص281.
7- . انظر: الطبقات الکبری: ج1 ص107، وقرب الإسناد: ص6.
8- . البدایة والنهایة: ج5 ص307، مختصر تاریخ دمشق: ج2 ص264.
9- . انظر: البدایة والنهایة: ج6 ص336.
10- . دلائل الإمامة: ص53، وإنّ جمیع المطالب المذکورة آنفاً تجدها في کتاب التتمّة في حیاة أُمّ الأئمّة: ص17.
11- . عوالم فاطمة: ص17 ح1.
12- . الطبقات الکبری: ج8 ص19، الذرّیة الطاهرة: ص152 ح201.
13- . البدایة والنهایة: ج5 ص267، مختصر تاریخ دمشق: ج2 ص264.

المبشّر به هو فاطمة(علیها السلام)؛ لانقطاع نسل رسول اللّه من غیرها وانتشاره منها(1).

وأغلب الروایات تذکر بأنّ فاطمة(علیها السلام) أصغر بنات النبي(صلی الله علیه و

آله) (2). یقول ابن عبد البرّ: «والذي تسکن إلیه النفس - علی ما تواترت به الأخبار- ترتیب بنات رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أنّ زینب الأُولی ثمّ الثانیة رقیّة ثمّ الثالثة أُمّ کلثوم ثمّ الرابعة فاطمة»(3).

وفي مروج الذهب: «ووُلد بعدما بُعث: عبد اللّه وهو الطیّب والطاهر(4) الثلاثة أسماء له؛ لأنّه وُلد في الإسلام، وفاطمة وإبراهیم»(5).

ثانیاً: أنّ أبا بکر وعمر خطبا إلی النبي(صلی الله علیه و آله) فاطمة(علیها السلام)، فقال: إنّها صغیرة(6)، فعلی حسابهما کما روي في تهذیب التهذیب: «وکان سنّها یوم تزویجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر»(7).

وقد بالغ أبو الفرج الإصفهاني: «کان تزویجها ثماني عشرة سنة»(8)، فهل تکون الفتاة وهي ابنة خمس عشرة وثماني عشر سنة صغیرة؟!

وقد ذکر في أُسد الغابة: «وابتنی(9) بها بعد تزویجه إیّاها بسبعة أشهر ونصف»(10)، فعلامَ هذا التأخیر؟ إلّا لکي یتمّ لها تسع سنین علی ما ترویه الشیعة عن أهل بیتها(11).

ومن العجیب أنّهم یرفضون أنّها تزوّجت وعمرها تسع سنین، ولا ینکرون من تزویج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بعائشة وعمرها تسع سنین(12)!

ص: 372


1- . انظر: مجمع البیان: ج5 ص549.
2- . انظر: الإصابة: ج4 ص377، البدء والتاریخ: ج5 ص20، الفصول المهمّة: ص173.
3- . الاستیعاب: ج4 ص373.
4- . وفي الفصول المهمّة: ص171: «القاسم وعبد اللّه وهما الملقّبین بالطیّب والطاهر».
5- . مروج الذهب: ج2 ص291.
6- . انظر: المناقب: ج3 ص345، والطرائف: ص76، ضمن ح98.
7- . تهذیب التهذیب: ج12 ص441.
8- . مقاتل الطالبیّین: ص30.
9- . أي دخل علیها.
10- . أُسد الغابة: ج7 ص220.
11- . انظر: الکافي: ج8 ص340، وإعلام الوری: ص81، والعدد القویة: ص260، وتاریخ الأئمّة: ص98 (مجموعة نفیسة).
12- . انظر: مروج الذهب: ج2 ص287، والاستیعاب: ج4 ص356، والإصابة: ج4 ص359، وانظر: جمیع المطالب الآنفة الذکر في کتاب التتمّة في حیاة الأئمّة: ص19.

لِمَ هذا الاختلاف في ولادتها؟

لقد تصفّحتُ کتب التاریخ والسیرة والروایات الخاصّة بولادتها علی جهدنا المقدور علیه، وجدتُ أنّ منبع الاختلاف ناجم عن مطامع دنیویة أو أحقاد قبلیة أو افتراءات یهودیة تبتغي من وراء ذلك هدم معنویة الإسلام عند محبّي آل البیت وتقویة النزاع عند النواصب؛ لذا لم یقرّوا بأنّها ولدت في الإسلام وأنّها من ثمار الجنّة.

واستدلّوا بأنّ المؤرّخین اختلفوا في وقت الإسراء والمعراج، فقیل کان قبل الهجرة بثلاث سنین، وقیل: بسنة واحدة(1)، وفي مروج الذهب: «کان الإسراء به إلی بیت المقدس سنة إحدی وخمسین»(2)، وفي البحار عن العدد: «في لیلة إحدی وعشرین من رمضان قبل الهجرة بستّة أشهر، وقیل: في السابع عشر من شهر رمضان لیلة السبت»(3). وفي التذکرة: «لیلة السابع والعشرین من رجب السنة الثانیة من الهجرة»(4).

علی ضوء هذه الروایات نجد أعداء فاطمة(علیها السلام) استدلّوا بأنّها ولدت قبل المبعث حتّی یشکّکوا بروایة أنّها حوراء إنسیة، وأنّها لا تنسجم مع ما روي عن الإسراء والمعراج.

غیر أنّنا وجدنا في کتاب الخصائص الکبری للسیوطي قد ذکر: «ذهب کثیرون إلی أنّ الإسراء وقع مرّتین... وذهب أبو شامة إلی وقوع المعراج مراراً، واستند إلی حدیث أنس الذي أخرجه البزّار»(5).

قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «بینا أنا نائم إذ جاء جبریل فوکز بین کتفي، فقمت إلی شجرة فیها کوکري الطائر، فقعد في أحدهما وقعدتُ في الآخر، فسمتُ وارتفعتُ حتّی سدتُ الخافقین، وأنا أُقلّب طرفي، ولو شئت أن أمسّ السماء لمسست»(6).

بینما المشهور في الروایات: «أُسري به بالبُراق وهو - أي البراق - أصغر من البغل أو

ص: 373


1- . الکامل في التاریخ: ج2 ص51.
2- . مروج الذهب: ج2 ص278.
3- . بحار الأنوار: ج18 ص319 ح33 عن العدد القویة: ص234 ح6.
4- . عنه في العدد القویة: ص344.
5- . الخصائص الکبری: ج1 ص298.
6- . کنز العمّال: ج12 ص16 ح35406، الخصائص الکبری: ص26.

أکبر من الحمار، مضطرب الأُذنین، خطوه مدّ بصره، له جناحان یحفّزانه من خلفه، علیه سرج یاقوت...» (1).

وعن ابن عبّاس قال: «هي لیلة الاثنین من شهر ربیع الأوّل بعد النبوّة بسنتین؛ فالأوّل: معراج العجائب، والثاني: معراج الکرامة»(2).

وفي إثبات الوصیّة: «بعد مبعثه بخمس سنین»(3)، وفي البحار: «بعد ثلاث سنین من مبعثه»(4).

وسأل

أبو بصیر الصادق فقال: «جُعِلتُ فداك، کم عرج برسول اللّه؟ فقال: مرّتین»(5). وفي الخصال: «قال الصادق : عُرج بالنبي(صلی الله علیه و آله) إلی السماء مائة وعشرین مرّة»(6).

والثابت یقیناً رغم ما ذکره السیوطي وابن عبّاس والمسعودي في إثبات الوصیة أنّ روایة «فاطمة حوراء إنسیّة» صحیحة؛ فعن ابن عبّاس قال: «دخلت عائشة على رسول اللّه وهو يقبّل فاطمة، فقالت له: أتحبّها يا رسول اللّه؟ قال: أما واللّه لو علمتِ حبّي لها لازددتِ لها حبّاً، إنّه لمّا عُرِج بي... أخذ جبرئيل بيدي فأدخلني الجنّة... فإذا أنا برطب ألين من الزبد وأطيب رائحة من المسك وأحلى من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها، فتحوّلت الرطبة نطفة في صلبي، فلمّا أن هبطتُ إلى الأرض واقعتُ خديجة بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فإذا اشتقتُ إلى الجنّة شممتُ رائحة فاطمة»(7).

وفي روایة: «إنّ جبریل أتاني بتفّاحة(8) من تفّاح الجنّة، فأکلتها فتحوّلت ماءً في صُلبي»(9).

ص: 374


1- . تاریخ الیعقوبي: ج2 ص26.
2- . المناقب: ج1 ص177.
3- . إثبات الوصیّة: ص130.
4- . بحار الأنوار: ج18 ص379 ضمن ح85.
5- . الکافي: ج1 ص442 ح13.
6- . الخصال: ص601 ح3.
7- . علل الشرائع: ص183 ح2، وانظر: تفسیر فرات: ص10، والتوحید: ص118، وعیون أخبار الرضا: ج1 ص115.
8- . وروي: «بسفرجلة» (انظر: فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: ج3 ص152).
9- . المناقب: ج3 ص325، وانظر: المستدرك علی الصحیحین: ج3 ص169، وذخائر العقبی: ص36، ومجمع الزوائد: ج9 ص102، وینابیع المودّة: ج1 ص233.

وروي أیضاً: «فأدناني جبریل من شجرة طوبی، وناولني من ثمارها، فأکلتُ، فحوّل اللّه ذلك ماءً في ظهري»(1).

وروي: «أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) اعتزل خدیجة أربعین صباحاً... فلمّا کان في کمال الأربعین هبط جبریل... ومیکائیل ومعه طبق مغطّی... فکشف الطبق فإذا عذق من رطب وعنقود من عنب، فأکل النبي(صلی الله علیه و آله) منه شیئاً... ثمّ ذهب إلی خدیجة... حتّی أحسّت بثقل فاطمة في بطنها»(2).

وعن عائشة قالت: «أطعم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خدیجة من عنب الجنّة»(3).

زواجها: عن أنس قال: «جاء أبو بکر إلی النبي(صلی الله علیه و آله) فقعد بین یدیه فقال: یا رسول اللّه، قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام، وإنّي... قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): وما ذاك؟ قال: تزوّجني فاطمة. فسکت عنه... وأعرض عنه، أو قال: إنّي أنتظر أمر اللّه فیها... وخطبها بعد أبي بکر عمر، فقال له کمقالته لأبي بکر... وخطبها عبد الرحمن بن عوف، فلم یجبه»(4).

فنزل جبرئیل علی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وقال: «إنّ اللّه یأمرك أن تزوّج فاطمة من علي، وإنّ اللّه قد رضیها له ورضیه لها»(5).

لقد عوتب النبي(صلی الله علیه و آله) في أمر تزویج فاطمة، فقال: «لو لم یخلق

اللّه علیّاً ما کان لفاطمة کفو(6)، وما زوّجت فاطمة إلّا لمّا أمرني اللّه بتزویجها»(7).

وقد روي عن الرضا : «إنّ اللّه سبحانه لم یتولّ من التزویج بنفسه إلّا ثلاثة: تزویج آدم من حوّاء، وتزویج محمّد من زینب - وهي زوجة زید - ، وتزویج علي من فاطمة»(8).

ص: 375


1- . تفسیر القمّي: ج1 ص365.
2- . العدد القویة: ص220 و221.
3- . مجمع الزوائد: ج9 ص225.
4- . انظر: کنز العمّال: ج13 ص684، والعمدة لابن بطریق: ص389، والمناقب للخوارزمي: ص343.
5- . انظر: المناقب: ج3 ص350، وأمالي الطوسي: ج1 ص38.
6- . المناقب: ج2 ص290، وانظر: أمالي الصدوق: ص474 ح18.
7- . عیون أخبار الرضا: ج2ص59 ح226.
8- . التتمّة في تواریخ الأئمّة: ص42 عن عیون أخبار الرضا: ج1 ص195.

وکان تزویجها في أوّل یوم من ذي الحجّة السنة الثانیة من الهجرة(1). وروي غیر ذلك(2).

وقد حرّم اللّه علی علي النساء ما دامت فاطمة حیّة؛ لأنّها طاهرة لا تحیض(3).

وقال عمر بن الخطّاب: «کان لعلي ثلاث، لو کان لي واحدة منهنّ کانت أحبّ إليّ من حُمر النعم(4): تزویجه فاطمة، وإعطاؤه الرایة یوم خیبر، وآیة النجوی»(5).

ویستحبّ في یوم زواجها صومه شکراً للّه لما وفّق من جمع حجّته وصفوته(6).

عبادتها: ما کان في هذه الأُمّة أعبد من فاطمة(علیها السلام)، کانت تقوم حتّی تورّمت

قدماها(7).

وفي أمالي الصدوق: «یقول اللّه : یا ملائکتي، انظروا إلی أمَتي فاطمة سیّدة إمائي قائمة بین یديّ ترتعد فرائصها من خیفتي، وقد أقبلت بقلبها علی عبادتي»(8).

«وکانت فاطمة(علیها السلام) لا تدع أحداً من أهلها ینام في لیلة القدر، وتتأهّب لها من النهار وتقول: محروم من حُرم خیرها»(9).

وعن الحسن قال: «رأیت أُمّي فاطمة قامت في محرابها لیلة جمعتها، فلم تزل راکعة ساجدة حتّی اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنین والمؤمنات،

ص: 376


1- . مسار الشیعة: ص53 (مجموعة نفیسة).
2- . في أمالي الطوسي: ج1 ص42: «یوم الثلاثاء لستّ خلون من ذي الحجّة»، وروي بعد وفاة أُختها رقیّة بستّة عشر یوماً بعد رجوعه من بدر لأیّام خلت من شوّال، وفي الطرائف: ص44: «خمسة وعشرین من ذي الحجّة»، وفي صفة الصفوة: ج2 ص9: «في رجب»، وفي سیر أعلام النبلاء: ج2 ص119: «في ذي القعدة»، وفي الإصابة: ج4 ص377: «في أوائل المحرّم بعد عائشة بأربعة أشهر»، وفي الإقبال: ص584: «لیلة إحدی وعشرین من المحرّم سنة ثلاث من الهجرة لیلة الخمیس»، وفي الکافي: ج8 ص340: «بعد ا لهجرة بسنة»، وفي مقاتل الطالبیّین: ص30: «في صفر للیال بقین منه».
3- . انظر: أمالي الطوسي: ج1 ص42.
4- . حمر النعم: الإبل، وهي أنفس أموال النعم وأقواها، فجُعلت کنایة عن خیر الدنیا کلّه (مجمع البحرین: ج3 ص276).
5- . المناقب: ج2 ص73.
6- . الإقبال: ص584.
7- . المناقب: ج3 ص341.
8- . أمالي الصدوق: ص100.
9- . دعائم الإسلام: ج1 ص281.

وتسمّیهم وتُکثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء»(1).

وخیر قول قالته فاطمة(علیها السلام) في العبادة: «من أصعد إلی اللّه خالص عبادته، أهبط اللّه إلیه(2) أفضل مصلحته»(3).

عصمتها: والذي یدلّ علی عصمتها قوله : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(4)، فإنّ هذه الآیة تناولت جماعة منهم فاطمة(علیها السلام)، وذلك بما تواترت الأخبار في ذلك، وإنّها تدلّ علی عصمة من تناولته وطهارته، وإنّ الإرادة هاهنا دلالة علی وقوع الفعل المراد.

ویدلّ أیضاً علی عصمتها قوله : «فاطمة بضعةٌ منّي، فمن آذی فاطمة فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذی اللّه »، وهذا یدلّ علی عصمتها؛ لأنّها لو کانت ممّن تقارف

الذنوب لم یکن من یؤذیها مؤذیاً له ، بل کان فعل المستحقّ من ذمّها وإقامة الحدّ علیها - إن کان الفعل یقتضیه - سارّاً له ومطیعاً(5).

لِمَ فاطمة(علیها السلام) أفضل بنات رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)؟

سأل بزل الهروي الحسين بن روح - رضي اللّه عنه - فقال: «كم بنات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟ فقال: أربع، فقال: أيتهنّ أفضل؟ فقال: فاطمة، قال: ولِمَ صارت أفضل وكانت أصغرهنّ سنّاً وأقلّهن صحبة لرسول اللّه؟ قال: لخصلتين خصّها اللّه بهما: إنّها ورثت رسول اللّه ونسل رسول اللّه منها، ولم يخصّها بذلك إلّا بفضل إخلاص عرفه من نيّتها»(6).

وقال المرتضى رضي اللّه عنه: «التفضيل هو كثرة الثواب بأن يقع إخلاص ويقين ونيّة صافية، ولا يمتنع من أن تكون قد فُضِّلت على أخواتها بذلك، ويعتمد على أنّها

ص: 377


1- . علل الشرائع: ص181 ح1.
2- . في تنبیه الخواطر: ج2 ص108: «له».
3- . تفسیر العسکري: ص327 ح177، عدّة الداعي: ص218.
4- . الأحزاب: 33.
5- . الشافي: ج4 ص95، وانظر: شرح نهج البلاغة: ج16 ص273.
6- . المناقب: ج3 ص323، وانظر: الغیبة للطوسي: ص388.

أفضل نساء العالمين بإجماع الإمامية، على أنّه قد ظهر من تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لشأن فاطمة(علیها السلام) وتخصيصها من بين سائرهنّ ما ربّما لا يحتاج إلى الاستدلال عليه»(1).

وعندي أنّه شيء مربوط بذاتها المقدّسة أکثر ممّا هو الظاهر من أفعالها؛ لما روي عن جابر الأنصاري، عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عن اللّه ، أنّه قال: «یا أحمد، لولاك لما خلقتُ الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتُك، ولولا فاطمة لما خلقتکما»(2).

وأمّا ما یرویه النواصب بأنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قال عن زینب: «هي أفضل بناتي، أُصیبت فيّ...»، قیل في آخر هذه اللفظة: «أفضل بناتي»؛ معناه: أي من

أفضل بناتي؛ لأنّ الأخبار ثابتة صحیحة عن النبي(صلی الله علیه و آله) أنّ فاطمة(علیها السلام) سیّدة نساء هذه الأُمّة.

[وحینما قالت فاطمة(علیها السلام): یا أبة، فأین مریم ابنة عمران؟ قال: تلك سیّدة نساء عالمها، وإنّكِ سیّدة نساء العالمین من الأوّلین والآخرین، فابشري فإنّ اللّه اصطفاكِ علی نساء الإسلام وهو خیر دین].

وإذا صحّت الروایة - زینب هي أفضل بناتي - یمکن أن یقال: إنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أراد بقوله: «أفضل»؛ أي أکبر وأقدم أولادي(3)، وإلّا یتعارض مع أنّ فاطمة(علیها السلام) سیّدة نساءالعالمین من الأوّلین والآخرین.

ما بعد السقیفة: ترکوا نبي الرحمة مسجّیً تبکیه القلّة الطاهرة، وظلّت الجموع الغفیرة في سقیفة بني ساعدة تبکي الرئاسة، فاستقرّت عنوة بجهود عمر لأبي بكر، فلم یعطِ للأنصار والمهاجرین فرصة للتفکّر في وصیّة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یوم غدیر خم(4).

ص: 378


1- . عوالم فاطمة: ص51، ذیل ح16، بحار الأنوار: ج43 ص37، ضمن ح4 عن المناقب: ج3 ص324.
2- . مستدرك سفینة البحار: ج8 ص243، وانظر: الجنّة العاصمة: ص148.
3- . انظر: المستدرك علی الصحیحین: ج4 ص45، وما بین المعقوفتین من حلیة الأولیاء: ج2 ص42، ومعاني الأخبار: ص107 ح1، والمناقب: ج3 ص323.
4- . قالت فاطمة (علیها السلام): «أنسیتم قول رسول اللّه یوم غدیر خم: من کنتُ مولاه فعليّ مولاه؟ وهل ترك أبي یوم غدیر خُم لأحد عذراً؟» (انظر: أسنی المطالب: ص50، والخصال: ص173).

کما أنّه استغلّ اشتغال علي وبني هاشم بتغسیل ودفن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، لذا روي عن عروة: «أنّ أبا بکر وعمر لم یشهدا دفن النبي وکانا في الأنصار، فدُفن قبل أن یرجعا»(1).

ولم یکتفوا بغصب الخلافة، بل استحوذ علی قلوبهم الشیطان فأنساهم من في الدار، حینما وضعوا الحطب لإحراقه، وفي دارها کتاب اللّه وآثار النبي(صلی الله علیه

و آله) وبقیّة أصحاب الکساء، وخیرة أصحاب الرسول.

روي أنّ عمر قال: «والذي نفس عمر بیده، لتخرجنّ أو لأحرقنّها علی من فیها، فقیل له: یا عمر، إنّ فیها فاطمة! فقال: وإن... فقالت فاطمة: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منکم، ترکتم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) جنازة بین أیدینا، وقطعتم أمرکم بینکم لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّاً... .

فنادی عمر خالد بن الولید وقنفذاً فأمرهما أن یحملا حطباً وناراً، ثمّ أقبل حتّی انتهی إلی باب علي وفاطمة ، ثمّ نادی: یا ابن أبي طالب افتح الباب، فقالت فاطمة(علیها السلام): ویحك یا عمر! ما هذه الجرأة علی اللّه ورسوله؟ ترید أن تقطع نسله من الدنیا وتفنیه وتطفئ نور اللّه؟ فقال عمر: افتحي الباب وإلّا أحرقناه علیکم، فقالت: یا عمر، أما تتّقي اللّه؟

فأدخل قنفذ یده یروم(2) فتح الباب، ودخلوا علی فاطمة بغیر إذن وما علیها خمار، فنادت: یا أبتاه، یا رسول اللّه، فلبئس ما خلّفك أبو بکر وعمر(3).

فضربها عمر بالسوط(4)، وضغطوا سیّدة النساء بالباب حتّی أسقطت محسناً وکُسِرَ ضلعها من جنبیها»(5).

وفي الوافي بالوفیات، قال النظّام المعتزلي: «إنّ عمر ضرب بطن فاطمة حتّی ألقت

ص: 379


1- . کنز العمّال: ج5 ص652 ح14139 عن المصنّف: ج8 ص572.
2- . أي یطلب ویحاول.
3- . انظر: الإمامة والسیاسة: ص12، وکتاب سُلیم: ص208، وبحار الأنوار: ج53 ص18 و19.
4- . انظر: شرح نهج البلاغة: ج16 ص271.
5- . انظر: إثبات الوصیّة: ص155، وکتاب سُلیم: ص40.

المحسن من بطنها»(1).

وذکر ابن دأب: «أنّها ماتت عاتبة علی أبي بکر وعمر»(2). وکان عمرها لمّا ماتت ثمان

عشرة سنة وخمسة وسبعون یوماً(3)... عندها قال أبو بکر: «وددت أنّي لم أکشف عن بیت فاطمة ولو کان أُغلق علی حرب»، فقال ابن أبي الحدید: «والندم لا یکون إلّا عن ذنب»(4).

ومن مثلها ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یقبّل یدها ویقول لها: «فداكِ أبي وأُمّي»(5)؟ وکانت إذا دخلت علیه رحّب بها وقبّل یدیها(6) وأجلسها في مجلسه(7).

ومن مثلها والمهدي[ من وُلدها؟ روي: «أنّ المهدي حقّ وهو من وُلد فاطمة»(8)، وفي روایة: «المهدي من عترتي من وُلد فاطمة»(9).

ومن مثل فاطمة(علیها السلام) في الصدق، فعن عائشة قالت: «ما رأیت أحداً أصدق لهجةً من فاطمة»(10).

ومن مثلها زوجة؟ قال علي : «کانت ابنة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أکرم أهله علیه... فجرّت بالرحی حتّی أثّرت الرحی بیدها، واستقت بالقربة حتّی أثّرت بنحرها، وقمّت(11) البیت حتّی اغبرّت ثیابها، وأوقدت تحت القدر حتّی دنست ثیابها وأصابها من ذلك ضرّ... وإنّها لتعجن وإنّ قصّتها(12) تکاد تضرب الجفنة، وإنّها کانت حاملاً فإذا خبزت أصاب

ص: 380


1- . الوافي بالوفیات: ج6 ص17، وانظر: الملل والنحل: ج1 ص77.
2- . البدء والتاریخ: ج5 ص20.
3- . الکافي: ج1 ص457 ح10، ذخائر العقبی: ص52، تاریخ الأئمّة: ص6 (مجموعة نفیسة).
4- . شرح نهج البلاغة: ج2 ص240، وانظر: تاریخ الطبري: ج4 ص249.
5- . المستدرك علی الصحیحین: ج3 ص156
6- . في المناقب: ج2 ص113: «رأسها».
7- . أمالي الطوسي: ج2 ص14.
8- . التاریخ الکبیر: ج2 ص346 (القسم الأوّل).
9- . میزان الاعتدال: ج2 ص87.
10- . مجمع الزوائد: ج9 ص201.
11- . أي: کنست.
12- . القصّة شعر الناصیة أو کلّ خصلة من الشعر.

حرق التنوّر بطنها، وهي سیّدة نساء العالمین من الأوّلین والآخرین»(1).

لقد ماتت مظلومة مغصوب حقّها(2) شهیدة، لم یعرف قبرها ودُفنت لیلاً؛ لأنّها کانت ساخطة علی قوم کرهت حضورهم جنازتها(3). وقال الصادق : «لأنّها أوصت أن لا یصلّي علیها الرجلان»(4).

وممّا یُستفاد من ذکر فاطمة(علیها السلام) ما یلي:

أوّلاً: لکي تجد المرأة المسلمة القدوة الحسنة، والمثل الرائع في المبدأ والعقیدة في الخلق والسلوك لم تنجّسها الجاهلیة، بل أضافت إلی نور الإسلام نوراً تهدي المرأة إلی ضالّتها، وذلك من خلال سیرة مولاتنا فاطمة(علیها السلام).

ثانیاً: إنّ مطالبة فاطمة(علیها السلام) بفدك هو استرجاع حقّها المغصوب، وهذا أمر إسلامي

لکلّ من غُصِب حقّه أن یطالب به (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)(5)، فلیست المطالبة بفدك من أجل

ص: 381


1- . انظر: صفة الصفوة: ج1 ص13 و14، وحلیة الأولیاء: ج2 ص41، ومعاني الأخبار: ص107، وبشارة المصطفی: ص198.
2- . أخذوا منها فدکاً... لمّا أنزل اللّه علی النبي : {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} قال : «هذه فدك، هي ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهي لي خاصّة دون المسلمين، وقد جعلتها لك لمّا أمرني اللّه به، فخذيها لك» (انظر: أمالي الصدوق: ص424 ح1، وعیون أخبار الرضا: ج1 ص233 ح1). «ولمّا قُبض رسول اللّه وجلس أبو بکر مجلسه، بعث إلی وکیل فاطمة(علیها السلام) فأخرجه من فدك، فأتته فاطمة(علیها السلام) فسألته أن یردّها علیها» (انظر: الاختصاص: ص183). فقال: «سمعت رسول اللّه قال: إنّا معاشر الأنبیاء لا نورث...» (انظر: شرح نهج البلاغة: ج16 ص214). فقالت فاطمة(علیها السلام): «قد ورث سلیمان داود، وقال زکریا: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا*يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}، فنحن أقرب إلی النبي من زکریا إلی یعقوب» (کشف الغمّة: ج2 ص37). «فلمّا سمع أبو بکر مقالتها دعا بدواة لیکتب به لها، دخل عمر فقال: لا تکتب لها حتّی تقیم البیّنة بما تدّعي!» (انظر: کتاب سُلیم بن قیس: ص211). فقد کان یجب علی من علم أنّ فاطمة(علیها السلام) لا تقول إلّا حقّاً ألّا یستظهر علیها بطلب شهادة أو بیّنة، وأنّها کانت معصومة من الغلط، مأموناً منها فعل القبیح، ومن هذه صفته لا یحتاج فیما یدّعیه إلی شهادة وبیّنة (انظر: الشافي: ج4 ص94). فلمّا منع میراثها وبخس حقّها، ووجدت مسّ الضعف وقلّة الناصر، قالت: «واللّه لأدعونّ اللّه علیك، واللّه لا أُکلّمك أبداً» (انظر: الشافي: ج4 ص85).
3- . أمالي الصدوق: ص523 ح9.
4- . علل الشرائع: ص185 ح1.
5- . الأحزاب: 53.

عیشهم الهنيء في الدنیا، بل لأجل قیادة الأُمّة علی نهج ما أمر اللّه به، وهذا ما صرّح به مولی المتّقین علي : «وما أصنع بفدك وغیر فدك، والنفس مظانّها(1) في غدٍ جدث(2)»(3).

ثالثاً: من الأُمومة الطاهرة أُمّ المؤمنین الکبری خدیجة، والأب ذو الخلق العظیم الذي سمّته قریش أیّام جاهلیتها بالصادق الأمین، وبنور النبوّة ولدت فاطمة(علیها السلام) طاهرة مطهّرة میمونة مبارکة، أتمّت لطهارة أُمّها ونبوّة أبیها سرّ الإمامة وعدالة الأُمّة بابنها المهدي[، أفلا تستحقّ أن تکون أُمّها کبنتها سیّدة أهل الجنّة وبجوار نبیّنا محمّد(صلی الله علیه و آله)؛ لطهارتها من الرجس والوثنیة ونطق بفضلها الرسول الأمین ؟

رابعاً: وما أعظمها رزیة ومظلومیة حینما تُضرب بالسوط ویُکسر ضلعها ویسقط جنینها ویُغتصب حقّها وهي سیّدة نساء العالمین في ظلّ نهج الإسلام بغیاب أبیها، حقّاً ما قاله رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): «ضغائن في صدور قوم لا یبدونها لکم حتّی یفقدوني»(4).

إیمان خدیجة وإسلامها

لمّا کان الإیمان هو التصدیق المطلق بوجود الخالق وبرسله فیما أخبروا به عن اللّه ، وبالبعث من القبور، وبالجنّة والنار، والامتثال لأوامره، والانتهاء عمّا نهی عنه، کلّ ذلك کان مهیّئاً بل وراسخاً في سویداء قلب خدیجة، وذلك من خلال بحثها بالحثیث،

وترقّبها النبي الموعود الذي سوف یظهر في مکّة.

ونتیجة ذلك الهدی والإیمان الثابت في قلبها کان سلوك خدیجة في التعامل الاجتماعي والأخلاقي منسجماً مع تلك الشرائع السماویة الحقّة في الأرض؛ لأنّ الإیمان فیها معرفة کُنه هذه الأُمور حلالها وحرامها؛ لذا فهي الطاهرة التي تمیّزت عن نساء قومها في التعامل مع الرجال في تجارتها؛ لأنّ الدین لازال قیّماً علیها رغم تردّي الأوضاع الاجتماعیة بسبب اتّخاذها الوثنیة باباً في التعبّد تارکة وراءها التوحید الإبراهیمي المهذّب للنفوس.

ص: 382


1- . أي: مکانها.
2- . الجدث: القبر.
3- . نهج البلاغة: ص417 کتاب45.
4- . انظر: الطرائف: ص428.

ولمّا تقارب أمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وحضر زمان مبعثه الشریف، وتجلّل روح الأمین أمام شخصه یتلو علیه من هدی القرآن علی قلبه فاطمأنّت جوانحه، فراح یبثّ بشراه لمن کانت تنتظر صدی نبوّته، فاستقبلته بتصدیق القلب قائلة: «أبشر، فإنّ اللّه لا یصنع بك إلّا خیراً»(1).

وعند مؤازرتها له تلألأ قلب النبي(صلی الله علیه و آله) أملاً، وتسارع التاریخ یخطّ علی جبینه أحرفاً من ذهب أوّل امرأةٍ أسلمت.

ومن خصائصها التي نالت بها أعلی مراتب الشرف والکمال - إضافة إلی ما ذکرناه من طهارتها وسخاوتها وترقّبها للنبوّة وتربیتها الإیمانیة لأبنائها - فإنّها أوّل من آمن به من النساء والرجال، فصدّقته وآزرته وأعانته وثبّتته.

فکان لا یسمع شیئاً من زمرة الإلحاد من تکذیب وجحود وعناد ویرجع إلی خدیجة، إلّا ویجد عندها کلّ هدی وسداد، فتهوّن علیه الرزایا وتواسیه وتبعث الطمأنینة إلی نفسه وتمنحه العطف وتبشّره بما سوف تراه فیه.

لقد خفّف اللّه بسبب إسلامها عن نبیّه کلّ همّ، وفرّج عنه ما أصابه في الدعوة من تعب وغمّ، أفلا تستحقّ هذه المرأة الطاهرة المتفانیة في نفسها ومالها وإیمانها وإسلامها أن تکون قرینة وزوجة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الجنّة؟

وقد ثبت أنّها صلّت معه وتشرّفت بمنقبة الوضوء(2)، فعن أبي رافع: «صلّی النبي(صلی الله علیه و آله) أوّل یوم الاثنین، وصلّت خدیجة آخر یوم الاثنین، وصلّی علي یوم الثلاثاء من الغد»(3).

ولم یجمع بیت واحد یومئذٍ في الإسلام غیر رسول اللّه وخدیجة وعلي ، وذلك من خبر عفیف الکندي(4)، قال: «کنت امرءاً تاجراً، فقدمت الحجّ فأتیت العبّاس لأبتاع

ص: 383


1- . الذرّیة الطاهرة: ص55.
2- . عندما توضّأ جبرئیل وتطهّر الرسول ثمّ صلّی الظهر وهي أوّل صلاة فرضها اللّه... ورجع رسول اللّه من یومه إلی خدیجة فأخبرها، فتوضّأت وصلّت العصر من ذلك الیوم» (انظر: بحار الأنوار: ج18 ص196). وفي تاریخ الیعقوبي: ج1 ص343: «أتاه جبرئیل فأراه الوضوء، فتوضّأ رسول اللّه کما توضّأ جبرئیل، ثمّ صلّی لیریه کیف یصلّي، فصلّی رسول اللّه ... ثمّ أتی خدیجة فأخبرها فتوضّأت وصلّت، ثمّ رآه علي بن أبي طالب ففعل کما رآه یفعل».
3- . کشف الغمّة: ج1 ص81، المناقب: ج2 ص15.
4- . وروي مثل هذه القصّة عن عبد اللّه بن مسعود (انظر: بحار الأنوار: ج38 ص280 و243).

منه بعض التجارة - وکان امرءاً تاجراً - فواللّه إنّي لعنده بمنیً إذ خرج رجل من خباءة قریب منه، فنظر إلی الشمس، فلمّا رآها قد مالت قام یصلّي، ثمّ خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلّي، ثمّ خرج غلام من ذلك الخباء فقام معه یصلّي، فقلت للعبّاس: ما هذا؟ قال: هذا محمّد بن عبد اللّه ابن أخي، قلت: من هذه المرأة؟ قال: امرأته خدیجة بنت خویلد، قلت: من هذا الفتی؟ قال: علي بن أبي طالب ابن عمّه.

فکان عفیف الکندي یقول - وقد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه: لو کان اللّه رزقني الإسلام یومئذٍ کنت أکون ثانیاً مع علي »(1).

ثمّ توسّعت تلك الرقعة الإیمانیة فشملت مولاه زید وزوجته أُمّ أیمن(2)، ثمّ جعفر؛ دخل أبو طالب إلی النبي وهو یصلّي وعلي بجنبه، وکان مع أبي طالب جعفر، فقال له

أبو طالب: صِل جناح ابن عمّك، فوقف جعفر علی یسار رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فبدر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من بینها فکان یصلّي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وعلي وجعفر وزید بن حارثة وخدیجة(3).

وبات أبو طالب یکتم إیمانه کمؤمن آل فرعون؛ لکي یحافظ علی مصالح وبناء الإسلام وقوام الدعوة واستقامة أمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وکان في ذلك کمؤمني أهل الکهف الذین أبطنوا الإیمان وأظهروا ضدّه؛ للتقیة والاستصلاح، فآتاهم اللّه أجره وأجرهم مرّتین.

ومن خلال عمله حافظ أیضاً علی حیاة النبي(صلی الله علیه و آله) وعلی منزلته وهیبته في قریش؛ لأنّ قریشاً لم تکن تتحمّل وجود مسلم بینها.

فلم یزل أبو طالب ثابتاً صابراً مستمرّاً علی نصرة ابن أخیه وحمایته والقیام دونه، حتّی مات مسلماً مؤمناً برسالة محمّد(صلی الله علیه و آله) ودعوته.

ص: 384


1- . بحار الأنوار: ج18 ص208، شرح نهج البلاغة: ج4 ص119.
2- . في الصواعق المحرقة: ص76، وتاریخ الخلفاء: ص34: «الظاهر أنّ أهل بیته آمنوا قبل کلّ أحد: زوجته خدیجة وعلي ومولاه زید وزوجته أُمّ أیمن وورقة».
3- . بحار الأنوار: ج18 ص179 ح10 عن تفسیر القمّي: ج1 ص378.

فهرس المصادر

1. إثبات الوصيّة للإمام علي بن أبي طالب ، المنسوب إلى أبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (ت346ه )، بيروت: دار الأضواء، الطبعة الثانية، 1409ه .

2. إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات،

محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (ت1104ه )، تحقيق: أبو طالب تجليل التبريزي، هاشم رسولي المحلّاتي، قم: المطبعة العلمية، الطبعة الثانية.

3.الاختصاص، المنسوب إلى أبي عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي، المعروف بالشيخ المفيد (ت413ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1414ه .

4.الاستغاثة، أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (ت352ه )، طهران: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1373ش.

5.الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

6.أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّالدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

7.الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن الحجر العسقلاني (ت852ه )، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمّد معوّض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

إعلام الورى بأعلام الهدى، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق: مؤسّسة آل البيت:، قم: مؤسّسة آل البيت:، الطبعة الأُولى، 1417ه .

1.

ص: 385

2.الأغاني، أبو الفرج الإصفهاني (ت356ه )، تحقيق: عبد علي مهنّا، وسمير جابر، بيروت: دار الكتب العلمية.

3. إقبال الأعمال، السيّد علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحلّي (ت664ه )، تحقيق: جواد القيومي الإصفهاني، مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1414ه .

4. إكمال الكمال، الأمير الحافظ ابن ماكولا (ت475ه )، تحقيق و نشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

5. الأمالي، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، المعروف بالشيخ الصدوق (ت381ه )، تحقيق و نشر: مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الأُولى، 1417ه .

6. الأمالي، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت460ه )، تحقيق و نشر: مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1414ه .

7. الإمامة والسياسة، أبو محمّد عبداللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت276ه )، تحقيق: طه محمّد الزيني، القاهرة: مؤسّسة الحلبي وشركاء.

8. أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت279ه )، إعداد: محمّد باقر المحمودي، بيروت: دار المعارف، الطبعة الثالثة.

9. الأوائل، أبو هلال الحسن بن عبد اللّه بن سهل العسكري (ت395ه )، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1407ه .

10. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار:، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت1110ه )، تحقيق: دار إحياء التراث، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

11. البدء والتاريخ، أحمد بن سهل البلخي (ت507ه )، مكّة: مكتبة الثقافة الدينية.

12. البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت774ه )، تحقيق: مكتبة المعارف بيروت: مكتبة المعارف الطبعة الثالثة، 1408ه .

13. بشارة المصطفي لشيعة المرتضى، أبو جعفر محمّد بن أبي القاسم الطبري (ت525ه )، تحقيق: جواد القيومي الإصفهاني، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي ، الطبعة الأُولى، 1420ه .

1. بنات النبي أم ربائبه، جعفر مرتضي العاملي، قم، 1413ه .

ص: 386

2. تاج العروس من جواهر القاموس، السيّد محمّد المرتضى بن محمّد الحسيني الزَّبيدي (ت1205ه )، تحقيق: علي شيري، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1414ه .

3. تاج المواليد (طبع ضمن «مجموعة نفيسة»)، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، قم: مكتبة بصيرتي، الطبعة الأُولی، 1406ه .

4. تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمّد بن خلدون الحضرمي (ت808ه )، بيروت: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1408ه .

5. تاريخ الأئمّة (طبع ضمن «مجموعة نفيسة»)، محمّد بن أحمد البغدادي (أبو الثلج) (ت325ه )، قم: مكتبة بصيرتي، الطبعة الأُولی، 1406ه .

6. تاريخ الإسلام و وفيات المشاهير و الأعلام، محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: عمر عبد السلام تَدمُري، بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الأُولی، 1409ه .

7. تاريخ الخلفاء، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه )، تحقيق: محمّد محيي الدين عبدالحميد، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1408ه .

8. تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، الحسين بن محمّد الديار بكري (معاصر)، بيروت: مؤسّسة شعبان.

9. تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968 م.

10. التاريخ الكبير، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: المعلمي اليماني، بيروت: دار الفكر، 1407ه .

11. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، المعروف باليعقوبي (ت284ه )، بيروت: دار صادر.

تاريخ مدينة دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة اللّه، المعروف بابن عساكر الدمشقي (ت571ه )، تحقيق: علي شيري، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى،

1. 1415ه .

ص: 387

2. تتمّة جامع الأُصول في أحاديث الرسول، مبارك بن محمّد، ابن الأثير الجزري (ت606)، تحقيق: بشير محمّد عيون، بيروت: دار الفكر.

3. تفسير القمّي، أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي (ت307ه )، إعداد: السيّد الطيّب الموسوي الجزائري، قم: دار الكتاب للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة: 1404ه ، مطبعة النجف الأشرف، 1386ه .

4. التفسير الكبير و مفاتيح الغيب (تفسير الفخر الرازي)، أبو عبد اللّه محمّد بن عمر، المعروف بفخر الدين الرازي (ت604ه )، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1410ه .

5. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهدي[، قم: مؤسّسة الإمام المهدي[، الطبعة الأُولى، 1409ه .

6. تفسير فرات الكوفي، أبو القاسم فرات بن إبراهيم الكوفي (ق4ه )، إعداد: محمّد كاظم المحمودي، طهران: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1410ه .

7. تنبيه الخواطر و نزهة النواظر (مجموعة ورّام)، ورّام بن أبي فراس الحمدان (ت605ه )، بيروت: دار التعارف ودار صعب.

8. التوحيد، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (ت381ه )، تحقيق: هاشم الحسيني الطهراني، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1398ه .

9. تهذيب الأسماء واللغات، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت671ه )، بيروت: دار الفكر، 1416ه .

10. تهذيب التهذيب، أبو الفضل أحمد بن علي العسقلاني (ابن حجر) (ت852ه )، تحقيق: خليل مأمون شيحا، عمر السلامي، علي بن مسعود، بيروت: دار المعرفة، ودار الفكر، الطبعة الأُولى، 1404ه ، الطبعة الأُولى، 1417ه .

تهذيب تاريخ دمشق الكبير، عبدالقادر بدران (ت1346ه )، بيروت: دار إحياء التراث

1. العربي، الطبعة الثالثة، 1407ه .

ص: 388

2. الثقات، أبو حاتم محمّد بن حبّان البستي (ابن حبّان) (ت354ه )، تحقيق: عبد المعيد، حيدر آباد: مجلس دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الأُولى، 1393ه .

3. جمهرة النسب، هشام بن محمّد الكلبي (ت204ه )، تحقيق: ناجي حسن، بيروت: عالم الكتب، 1413ه .

4. الجنّة العاصمة، محمّد حسين ميرجهاني طباطبائي (ت1371)، طهران: مکتبة صدر، 1398ه .

5. حلية الأبرار في أحوال محمّد وآله الأطهار:، السيّد هاشم بن سليمان البحراني (ت1107ه )، تحقيق: غلام رضا مولانا البروجردي، قم: مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1411ه .

6. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد اللّه الأصبهاني (ت430ه )، بيروت القاهرة: دار الكتاب العربي ودار الريان للتراث، الطبعة الخامسة، 1407ه .

7. الخرائج والجرائح، أبو الحسين سعيد بن هبة اللّه الراوندي (قطب الدين الراوندي) (ت573ه )، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهدي[، قم: مؤسّسة الإمام المهدي[، الطبعة الأُولى، 1409ه .

8. الخصائص الكبرى، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه )، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1405ه .

9. دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، السيّد حسن الأمين، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الخامسة، 1415ه .

10. دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام، النعمان بن محمّد التميمي المغربي (ت363ه )، تحقيق: آصف بن علي أصغر فيضي، مصر: دار المعارف، الطبعة الثالثة، 1389ه .

11. دلائل الإمامة، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري الإمامي (القرن الخامس الهجري)، تحقيق: مؤسّسة البعثة، قم: مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1413ه .

1. دلائل النبوّة، الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبداللّه بن أحمد الأصبهاني (ت430ه )، تحقيق: محمّد روّاس قلعجي، وعبدالبرّ عبّاس، بيروت: دار النفائس، الطبعة الثانية، 1406ه .

ص: 389

2. ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، أبو العبّاس أحمد بن محمّد الطبري (ت694ه )، تحقيق: أكرم البوشي، جدّة: مكتبة الصحابة، الطبعة الأُولى، 1415ه .

3. الذرّية الطاهرة النبوية، أبو بشر محمّد بن أحمد بن حمّاد الدولابي (ت310ه )، تحقيق: سعد المبارك الحسن، الكويت: الدار السلفية، الطبعة الأُولى، 1407ه .

4. ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت538ه )، تحقيق: سليم النعيمي، قم: منشورات الرضي، الطبعة الأُولى، 1415ه .

5. الروض الأنف شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبدالرحمن بن عبداللّه السهيلي (ت581ه )، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1412ه .

6. روضة الواعظين، محمّد بن الحسن بن علي الفتّال النيسابوري (ت508ه )، تحقيق: حسين الأعلمي، بيروت: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1406ه .

7. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمّد بن يوسف الصالحي الشامي (ت942ه )، تحقيق: أحمد عبد الموجود ومحمّد معوض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1414ه .

8. سعد السعود، أبو القاسم علي بن موسى الحلّي (ابن طاووس) (ت664ه )، قم: منشورات الرضي، الطبعة الأُولى، 1363ش.

9. سير أعلام النبلاء، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1414ه .

10. السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بيروت: دار الإحياء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

الشافي في الإمامة، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، المعروف السيّد المرتضى (ت436ه )، تحقيق: عبدالزهراء الحسيني الخطيب، طهران: مؤسّسة الإمام الصادق ،

1. الطبعة الثانية، 1410ه .

2. شرح نهج البلاغة، عبد الحميد بن محمّد المعتزلي (ابن أبي الحديد) (ت656ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الثانية، 1387ه .

ص: 390

3. صحيح البخاري، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الرابعة، 1410ه .

4. الصحيح من سيرة النبي الأعظم، جعفر مرتضى العاملي (معاصر)، بيروت: دار الهادي، الطبعة الرابعة، 1415ه .

5. صفة الصفوة، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي) (ت597ه )، تحقيق: محمود فاخوري و محمّد قلعة جي، حلب: دار الوعي، الطبعة الأُولى، 1389ه .

6. الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة، أحمد بن حجر الهيثمي الكوفي (ابن حجر) (ت974ه )، إعداد: عبدالوهّاب بن عبداللطيف، مصر: مكتبة القاهرة، الطبعة الثانية، 1385ه .

7. الطبقات الكبرى (الطبقه الخامسة من الصحابة)، محمّد بن سعد الزهري (كاتب الواقدي) (ت230ه )، تحقيق: محمّد بن صامل السلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

8. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، السيّد علي بن موسى بن طاووس الحلّي (ت664ه )، تحقيق و نشر: مطبعة الخيام، قم، الطبعة الأُولى، 1399ه .

9. عدّة الداعي و نجاة الساعي، أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي الأسدي (ت841ه )، تحقيق: أحمد موحّدي، طهران: مكتبة وجداني.

العدد القوية لدفع المخاوف اليومية، أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي المطهّر الحلّي (العلّامة الحلّي) (ت726ه )، تحقيق: السيّد مهدي الرجائي، قم: مكتبة آية اللّه

1. المرعشي، الطبعة الأُولى، 1408ه .

2. علل الشرائع، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، النجف: مكتبة الحيدرية، 1385ه ، النجف: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1385ه .

ص: 391

3. العمدة (عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار) ، يحيى بن الحسن الأسدي الحلّي (ابن البطريق) (ت600ه )، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1407ه .

4. عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، أحمد بن علي الحسيني، المعروف بابن عنبة (ت828ه )، تحقيق: محمّد بن آل الطالقاني، النجف الأشرف: منشورات المطبعة الحيدرية، الطبعة الثانية، 1380ه .

5. عمدة القاري، أبو محمّد محمود بن أحمد العيني (ت855ه )، تحقيق ونشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

6. عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال، عبداللّه بن نور اللّه البحراني الإصفهاني (من أعلام ق 12ه )، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهدي[، قم: مؤسّسة الإمام المهدي[، الطبعة الأُولى، 1408ه .

7. عيون أخبار الرضا ، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: حسين الأعلمي، بيروت: مؤسّسة الأعلمي، 1404ه . السيّد مهدي الحسيني اللّاجوردي، طهران: منشورات جهان.

8. الغيبة، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (الشيخ الطوسي) (ت460ه )، تحقيق: عباد اللّه الطهراني وعلي أحمد ناصح، قم: مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1411ه .

9. الفائق في غريب الحديث، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت583ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي ومحمّد أبو الفضل إبراهيم، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الطبعة الأُولی، 1399، والثالثة، 1417ه .

فتح الباري (شرح صحيح البخاري)، أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

1. (ت852ه )، تحقيق: فؤاد عبد الباقي عبد العزيز بن عبد اللّه بن باز، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1379ه .

2. الفصول المختارة، أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان، المعروف بالشيخ المفيد (ت413ه )، بيروت: دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414ه .

3. الفصول المهمّة في أُصول الأئمّة، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي

ص: 392

(ت1104ه )، تحقيق: محمّد بن محمّد الحسين القائيني، مؤسّسة معارف إسلامي إمام رضا ، الطبعة الأُولى، 1418ه .

4. فضائل الخمسة من الصحاح الستّة، السيّد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي (معاصر)، طهران: دار الكتب الإسلامية.

5. الفضائل، أبو الفضل سديد الدين شاذان بن جبرئيل القمّي (ت660ه )، النجف: المطبعة الحيدرية، الطبعة الأُولى، 1338ه .

6. القاموس المحيط، أبو طاهر محمّد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت814ه )، تحقيق: نصر الهوريني، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1403ه .

7. قرب الإسناد، أبو العبّاس عبد اللّه بن جعفر الحِمْيري القمّي (ت بعد 304ه )، تحقيق: مؤسّسة آل البيت:، قم: مؤسّسة آل البيت:، الطبعة الأُولى، 1413ه .

8. الكامل في التاريخ، أبو الحسن علي بن محمّد الشيباني الموصلي (ابن الأثير) (ت630ه )، تحقيق: علي شيري، بيروت: دار صادر، 1385ه ، الطبعة الأُولى، 1408 و1409ه .

9. كتاب سليم بن قيس، سليم بن قيس الهلالي العامري (ت حوالي 90ه )، تحقيق: محمّد باقر الأنصاري، قم: نشر الهادي، الطبعة الأُولى، 1415ه .

كتاب من لا يحضره الفقيه، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر

1. الإسلامي، الطبعة الثانية، 1404ه .

2. كشف الغُمّة، علي بن عيسى الإربلي (ت687ه )، تصحيح: السيّد هاشم الرسولي، بيروت: دار الكتاب، 1401ه .

3. كمال الدين وتمام النعمة، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1405ه .

ص: 393

4. كنز العُمّال، علي بن حسام الدين المتّقي الهندي (ت975ه )، تصحيح: صفوة السقّا، بيروت: مكتبة التراث الإسلامي، 1397ه .

5. كنز الفوائد، أبو الفتح محمّد بن علي بن عثمان الكراجِكي الطرابلسي (ت449ه )، تحقيق: عبد اللّه نعمة، قم: مكتب المصطفوي، الطبعة الثانية، 1369ش، دار الذخائر، الطبعة الأُولى، 1410ه .

6. لسان العرب، أبو الفضل محمّد بن مكرم المصري (ابن منظور) (ت711ه )، قم: أدب الحوزة، 1405ه ، بيروت: دار صادر، الطبعة الأُولى، 1410ه .

7. مجمع البحرين: الطريحي (ت1085ه )، تحقيق: أحمد حسيني، مكتب النشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1408ه .

8. مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق: السيّد هاشم الرسولي المحلّاتي والسيّد فضل اللّه اليزدي الطباطبائي، بيروت: الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأُولى، 1415ه ، ودار المعرفة، الطبعة الثانية، 1408ه .

9. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807ه )، تحقيق: عبد اللّه محمّد درويش، بيروت: دار الكتب العلمية 1408ه .

10. محاضرات الأُدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، حسين بن محمّد الراغب الإصفهاني (ت502ه )، مصر: المكتبة العامرة، الطبعة الأُولى، 1326ه .

11. المُحبَّر، أبو جعفر محمّد بن حبيب الهاشمي البغدادي (ت245ه )، تحقيق: ايلزه ليختن شتيتر، بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر، مطبعة الدائرة، 1361ه .

1. مختصر تاريخ دمشق، محمّد بن مُكرَّم المصري الأنصاري (ابن منظور) (ت711ه )، دمشق: دار الفكر الطبعة الأُولى، 1404 و1408.

2. المختصر في أخبار البشر (تاريخ أبي الفداء)، عماد الدين إسماعيل بن أبي الفداء (ت732ه )، القاهرة: مكتبة المتنبّي.

3. مروج الذهب ومعادن الجوهر، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت346ه )، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الرابعة، 1384ه .

ص: 394

4. مسارُّ الشيعة في مختصر تواريخ الشريعة، محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري (الشيخ المفيد) (ت413ه )، تحقيق: مهدي نجف، قم: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأُولی، 1413ه .

5. مستدرك سفينة البحار، الشيخ علي النمازي الشاهرودي (ت1405ه )، تحقيق: نجل المؤلّف، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1418ه .

6. المستدرك علي الصحيحين، أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الحاكم النيسابوري (ت405ه )، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1411ه .

7. مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، أبو الفضل علي الطبرسي (القرن السابع الهجري)، تحقيق: مهدي هوشمند، قم: دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1418ه .

8. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن علي الفيومي (ت770ه )، قم: مؤسّسة دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1414ه .

9. المصباح للكفعمي (جنّة الأمان الواقية وجنّة الايمان الباقية)، إبراهيم بن علي العاملي الكفعمي (ت900ه )، تصحيح: الشيخ حسين الأعلمي، بيروت: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الثالثة، 1403ه .

10. المصنّف، ابن أبي شيبة الكوفي (ت235ه )، تحقيق: سعيد اللّحام، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1409ه .

1. معاني الأخبار، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1361ش.

2. معجم البلدان، أبو عبد اللّه ياقوت بن عبد اللّه الحموي (ت626ه )، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1399ه .

3. معجم ما استعجم، أبو عبيد عبد اللّه بن عبد العزيز البكري (ت487ه )، تحقيق: مصطفى السقّا، بيروت: عالم الكتب، الطبعة الثالثة، 1403ه .

ص: 395

4. معجم مقاييس اللغة، أبو حسين أحمد بن فارس الرازي (ت395ه )، تحقيق: عبد السلام محمّد هارون. مصر: شركة مكتبة مصطفى البابي وأولاده، الطبعة الثانية، 1389 و1392.

5. مقاتل الطالبيين، أبو الفرج علي بن الحسين بن محمّد الأُمَوي الإصبهاني (ت356ه )، تحقيق: السيّد أحمد صقر، قم: منشورات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1414ه .

6. مكارم الأخلاق، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق: علاء آل جعفر، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1414ه .

7. الملل و النحل، محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق: محمّد سيّد كيلاني، بيروت: دار المعرفة.

8. المناقب (المناقب للخوارزمي) ، الحافظ الموفّق ابن أحمد البكري المكّي الحنفي الخوارزمي (ت568ه )، تحقيق: مالك المحمودي، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1414ه .

9. مناقب آل أبي طالب (المناقب لابن شهرآشوب)، أبو جعفر محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ابن شهرآشوب) (ت588ه ) تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي، قم: منشورات علّامة.

المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية، أحمد بن محمّد القسطلاني (ت923)، تحقيق:

1. صالح أحمد الشامي، بيروت: المكتب الإسلامي، 1412ه .

2. موسوعة حياة الصحابيات، محمّد سعيد مبيض، سورية: مكتبة الغزالي، 1410ه .

3. المهذّب البارع، أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، 1413ه .

4. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار المعرفة، الطبعة الأُولى، 1382ه .

5. الميزان في تفسير القرآن (تفسير الميزان) ، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي

ص: 396

(1402ه )، قم: منشورات جماعة المدرّسين، طبع: مؤسّسة إسماعيليان، الطبعة الثانية، 1394ه .

6. النوادر (النوادر للراوندي)، أبو الرضا السيّد فضل اللّه بن علي الحسني الراوندي (ت بعد 571ه )، تحقيق: سعيدرضا عسكري، قم: مؤسّسة دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1377ش.

7. نهاية الأرب في فنون الأدب، أحمد بن عبد الوهّاب النويري (ت733ه )، القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القيومي، الطبعة الأُولى، 1395 و 1396.

8. نهج البلاغة، ما اختاره أبو الحسن محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي (الشريف الرضي) (ت406ه )، تحقيق: صبحي صالح، قم: منشورات هجرت، الطبعة الأُولى، 1395ه .

9. الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصَّفَدي (ت764)، اشتوتغارت: دار النشر، الطبعة الأُولى، 1411ه .

10. وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، نور الدين علي بن أحمد السمهودي (ت911ه )، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1401ه .

1. ينابيع المودّة لذوي القربى، سليمان بن إبراهيم القُندوزي الحنفي (ت1294ه )، تحقيق: سيّد علي جمال أشرف الحسيني، طهران: دار الأُسوة، الطبعة الأُولى، 1416ه .

ص: 397

ص: 398

أُم المؤمنین خدیجة الکبری

19- أُم المؤمنین خدیجة الکبری

اشارة

* أُم المؤمنین خدیجة الکبری (1)

محمّد سلمان

ملخّص البحث:

ينتهج هذا البحث المنهج المكتبي التوثيقي، وينقل بطريقة السرد التاريخي مقتطفات ممّا جاء في كتب التاريخ والسيرة حول حياة أُم المؤمنين الأُولى، وأوّل امرأة آمنت بالإسلام. فذكر نسبها من جهة الأب والأُمّ، وعمرها، مبيّناً بإسهابٍ الأقوال المختلفة في مسألة عمرها؛ حيث ذهب جلال مظهر في کتابه: محمّد رسول اللّه، سيرته وأثره في الحضارة، إلی «أنّها کانت ابنة 25 سنة»، دون أن يذکر سبباً مرجّحاً لذلك. في حين اعتمدت بنت الشاطئ في کتابها نساء النبي رواية الأربعين، التي اعتمدها الطبري والواقدي، ورواها حکيم بن مزاحم. وهيکل هو الآخر اعتمد في کتابه حياة محمّد ما اعتمده الطبري والواقدي، وغير ذلك من الأقوال الأُخرى. وقد اتّبع طريقة الاستدلال لتفنيد الكثير من تلك الأقوال، ونقل ما جاء من الأخبار في زواجها، وأنّها قد أنجبت له کلّ أولاده إلّا إبراهيم، فهو من مارية القبطية؛ وهم: القاسم وبه کان يُکنّی، والطيّب والطاهر - علی قول - وقد ماتوا صغاراً رضّعاً قبل بعثته المبارکة، ورقيّة وزينب - علی قول - وأُمّ کلثوم وفاطمة الزهراء التي تزوّجها الإمام علي. يقول ابن هشام في سيرته: «وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدّقت بما جاءه من اللّه، ووازرته علی أمره...». كانت كثيراً ما

ص: 399


1- . میقات الحجّ، السنة الخامسة، العدد 9 (1419ق): ص123 - 141.

تخفّف عنه الآلام التي يواجهها من المجتمع. ومن أقوالها المشهورة له: «أبشر، فواللّه لا يُخزيك اللّه أبداً، واللّه إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة، وتحمل الکَلّ، وتُقري الضيف، وتعين علی نوائب الدهر». رحلت هذه السيّدة الجليلة وغابت عن دنياه، ولکنّها لم ترحل عن قلبه.

في بیت من البیوت العریقة وذات السمعة الطیّبة والمکانة العالیة في الحجاز، وُلدت سیّدتنا خدیجة لأبوین قرشیین؛ فأبوها خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ بن کلاب بن مرّة بن کعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر من کنانة... من قریش، فهو من بني أسد، وقد مات في حرب الفِجَار التي قامت في الجاهلیة في الأشهر الحرم بین قریش وقیس عیلان، ویومذاك کان عمر خدیجة - إذا ما أخذنا بروایة أنّ عمرها حین زواجها من الرسول أربعون سنة - ثلاثین سنة.

وأمّا أُمّها فهي فاطمة بنت زائدة ابن الأصمّ بن فهر بن لؤي بن غالب، فهي تجتمع مع زوجها خویلد في لؤي بن غالب... من کنانة من قریش.

خدیجة القرشیة الأسدیة تلتقي نسباً مع النسب الکریم لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في جدّه الرابع «قصيّ»، فهو محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ... وهي بالتالي أقرب نسائه إلیه .

کانت تُدعی في الجاهلیة بالطاهرة، وسیّدة نساء قریش، وسیّدة قریش.

وهي یومئذٍ أوسط نساء قریش نسباً، وأعظمهنّ شرفاً، وأکثرهنّ مالاً وأحسنهنّ جمالاً... وفي لفظ کان یقال لها سیّدة قریش؛ لأنّ الوسط في ذکر النسب من أوصاف المدح والتفضیل، یقال: فلان أوسط القبیلة أعرقها في نفسها...(1).

عمر خدیجة

الاهتمام بعمرها أمر طبیعي جدّاً؛ لأنّه جزء من دراسة حیاتها المبارکة بعد أن اقترنت برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وصارت حیاتها جزءاً من حیاته الشخصیة والدینیة

بکلّ أبعادها.

ص: 400


1- . انظر: السیرة الحلبیة: ج1 ص137، «باب تزوّجه خدیجة بنت خویلد(علیها السلام)».

ولکنّ هذا الاهتمام بدلاً من أن یولد لدینا القطع بعمرها، عمّق الاختلاف فیه تبعاً لاختلاف الروایات والأخبار، وبالتالي الآراء عن ولادتها وعن عمرها وحیاتها حین اقترانها بالرسول الکریم ، وراحت - اعتماداً علی تلك الروایات - أقوال قدماء المؤرّخین بالذات، وأقوال من جاراهم من الکتّاب المحدّثین توسّع ذلك الاختلاف وتثبّته ولم تستطع حسمه بما تقدّمه من أدلّة. وابتداءً نشیر إلی بعض روایات سنّها ومصادرها.

فعن ابن عبّاس: «کانت خدیجة یوم تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ابنة ثمان وعشرین سنة»(1).

وعن حکیم بن مزاحم (ابن أخیها): «تزوّج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خدیجة وهي ابنة أربعین سنة، ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ابن خمس وعشرین سنة».

ویقول ابن مزاحم: «وکانت أسنّ منّي بسنتین، ولدت قبل الفیل بخمس عشرة سنة، وولدت أنا قبل الفیل بثلاث عشرة سنة(2) (فقد وُلد بعد وقعة الفیل بخمسین یوماً...)»(3).

وذکر الواقدي: «إنّها کانت لمّا تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بنت خمس وأربعین سنة».

وعن البیهقي والحاکم: «... وأنّ عمره کان خمساً وعشرین، وعمرها خمساً وثلاثین».

کما أنّ هناك من یقول: إنّها ابنة 25 سنة، أو 30 سنة... .

یقول صاحب کتاب إتحاف الوری بأخبار أُمّ القری: «...خطب النبي(صلی الله علیه و آله) إلی خدیجة نفسها، وکانت ابنة أربعین سنة. ویقال: ابنة خمس وأربعین.

ویقال: ...ثمان وأربعین سنة. ویقال: ... ستّ وأربعین. وقیل: ... ثلاثین. ویقال: ...ثمان وعشرین...».

فالأقوال إذن في مسألة عمرها مختلفة، وقد ذهب جلال مظهر في کتابه: محمّد رسول اللّه سیرته وأثره في الحضارة، إلی «أنّها کانت ابنة 25 سنة» دون أن یذکر سبباً مرجّحاً لذلك.

في حین اعتمدت بنت الشاطئ في کتابها نساء النبي روایة الأربعین، التي اعتمدها

ص: 401


1- . مختصر تاریخ دمشق: ج2 ص275.
2- . مختصر تاریخ دمشق: ج2 ص275.
3- . انظر: الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص100، وأنساب الأشراف للبلاذري: ص92.

الطبري والواقدي ورواها حکیم بن مزاحم. وهیکل هوالآخر اعتمد في کتابه حیاة محمّد ما اعتمده الطبري والواقدي.

وقد ذکر کلّ من الدکتور عبد الصبور شاهین وإصلاح عبد السلام في أُمّهات المؤمنین: «وقد أجمعت کتب التاریخ والسیرة إلّا روایة واحدة في الطبقات علی أنّ السیّدة خدیجة کانت في الأربعین من عمرها عند زواجها...».

إنّ ما ذکراه بعید عن الدقّة، فأین هو الإجماع؟ وهذه المصادر وکتب التاریخ بین أیدینا قد ذکرت روایات متعدّدة، وکلّها تشیر إلی الاختلاف في سنّها.

وذهب إسحاق - کما في مستدرك الحاکم - إلی أنّ خدیجة کانت في الثامنة والعشرین من العمر(1).

في حین ذهب العقّاد في کتابه فاطمة الزهراء والفاطمیون إلی اعتماد روایة 25، 28 سنة، حیث یری أنّ المرأة في بلاد کجزیرة العرب یبکر فیها النموّ ویبکر فیها الهرم، فلا تتصدّی للزواج بعد الأربعین.

وهذا ردّ صریح علی من أخذ بروایة الأربعین الذین أخذوا في اعتبارهم أنّ السیّدة خدیجة قد تزوّجت قبل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من عتیق بن عائذ ومن بعده من أبي هالة زُرارة، وأنجبت لهما أولاداً، ثمّ مکثت بعد وفاة زوجها الثاني مدّة لیست قصیرة،

راغبةً في تنمیة ثروتها وأموالها التي ورثتها من أبیها الذي کان ثریاً ومن قبیلة ذات مال وفیر ومن زوجیها، عازفةً عن الزواج الثالث؛ لأن کلّ من تقدّم لزواجها - کما زعم - إنّما کان تدفعه الرغبة في ثروتها، ولأنّها لم تجد فیهم من الشرف والأمانة والصدق، هذه الصفات التي کانت تنشدها حتّی تستطیع أن تأمنه علی أموالها وتجارتها... حتّی قدر لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أن یضارب بتجارتها، وقد قبلت به؛ لمعرفتها بأنّه الصادق الأمین، وهو الذي عُرف بهذا بینهم، وفعلاً سافر إلی الشام ببضاعتها وعاد ببضاعة أُخری وفیرة وأرباح عالیة لم تعهدها من قبل، مع ما حدّثها عنه غلامها میسرة الذي کان برفقة محمّد وخدمته، فزادت معرفتها به، وعظم تعلّقها

ص: 402


1- . مستدر ك الحاکم: ج3 ص182، وقد کان کلام ابن إسحاق بلا إسناد.

به، ورأت فیه ما کانت تتمنّی، فتزوّجته.

وقد استعان أصحاب روایة الأربعین بذیل الروایة نفسها عن حکیم بن مزاحم علی تأیید ما ذهبوا إلیه، وذیلها یقول: «إنّها توفّیت في شهر رمضان سنة عشر من النبوّة وهي یومئذٍ ابنة خمس وستّین سنة...»(1).

وأُخذ علی هذا الرأي: أنّها کیف أنجبت في هذه السنّ المتأخّرة؟

وأُجیب عن ذلك بأنّه من المشاهد وجود نساء وقد أنجبن بعد الأربعین، بل بعد الخمسین أیضاً، وهذا الأمر یتوقّف علی توفّر عوامله، التي منها صحّة المرأة واستعدادها وقابلیتها وبیئتها، وما تعیشه المرأة من رفاهیة في حیاتها واستقرار وراحة... وهو ما توفّر للسیّدة خدیجة. علماً بأنّ هناك من یقول: إنّ آخر ما أنجبته خدیجة فاطمة الزهراء، وهي في الخمسین إن لم تکن أقلّ من ذلك من عمرها المبارك، ومعنی هذا أنّها لم تنجب بعد الخمسین سنة وکانت هذه الفترة 15 سنة.

فالمدائني قال: «وُلدت فاطمة قبل النبوّة بخمس سنین». وفي روایة جعفر بن سلیمان: «وُلدت فاطمة سنة إحدی وأربعین من مولد النبي(صلی الله علیه و آله) ».

وعن أبي جعفر: «...أما أنتِ یا فاطمة فولدتِ وقریش تبني الکعبة والنبي(صلی الله علیه و آله) ابن خمس وثلاثین سنة».

فهذه الروایات تبیّن أنّ فاطمة - وهي آخر مولود لخدیجة - وُلدت وخدیجة بعد لم تتجاوز الخمسین من عمرها، وعلی روایة الأربعین کانت البعثة وخدیجة في الخامسة والخمسین من عمرها.

وقد ترد بعض الملاحظات علی مسألة التمسّك بروایة الأربعین، وأنّها قد تزوّجت مرّتین.

1. لماذا هذا الإصرار علی التمسّك بروایة الأربعین وعدّها هي المشهورة، وهي روایة من عدّة روایات (45 سنة، 28 سنة، 25 سنة، 30 سنة...)؟ ألیس هذا ترجیحاً بلا مرجّح؟

ص: 403


1- . مختصر تاریخ دمشق: ج2 ص271.

2. امرأة بهذا العمر (40، 45 سنة) وفي أجواء کأجواء الحجاز الحارّة جدّاً التي یسرع الکبر فیها إلی الإنسان، وقد تقدّم لخطبتها - کما تقول الأخبار - أعظم قریش نسباً ومالاً ورفضتهم، بل وتمنّاها وتهالك علیها کلّ شریف وعظیم، فقد کان ممّن خطبها عقبة بن أبي معیط، والصلت بن أبي یهاب، وکان لکلّ واحد منهما أربعمائة عبد وأمة، وخطبها أبو جهل بن هشام، وأبو سفیان(1)، فهل کلّ هذا یکون من أجل امرأة بهذه السنّ المتأخّرة، ومن أجل امرأة عاشت ببیتین (بیت عتیق، وبیت أبي هالة)، وأنجبت واحداً علی روایة، واثنین علی روایة أُخری، وثلاثة علی روایة ثالثة، وهم «هند والحارث وبنت اسمها زینب(2)، وترمّلت بعدهما وعاشت سنین أُخری؟! أو یصحّ هذا وهم قادرون بما عندهم من شرف ومال وجاه أن یتزوّجوا بما یحلو لهم من النساء من بیوتات عربیة أُخری ذات شرف وعفّة ومال وجمال؟!

ثمّ إنّ زوجیها السابقین لم یکونا بدرجة عالیة من المکانة، ومع هذا قبلت بهما

وهي في شبابها، فکیف وقد تقدّم بها العمر ترفض زعماء قریش وأشرافها؟! وإن قیل إنّها قرّرت تنمیة ثروتها، فإنّ هذا ادّعاء سطّرته أقلام الکتّاب، ولا یصلح أن یکون مبرّراً یفرض علیها مادامت لم تصرّح به، علماً بأنّ في قبال هذا الادّعاء ادّعاءٌ یقول: إنّها إنّما رفضتهم جمیعاً؛ لعدم توفّر الصفات التي تریدها فیمن تقدّم لخطبتها،وهو ادّعاء أقوی من ادّعاء الکتّاب؛ لأنّه من أقرب الناس لها.

قال أبو القاسم الکوفي: «إنّ الإجماع من الخاصّ والعامّ من أهل الأنام ونقلة الأخبار، علی أنّه لم یبق من أشراف قریش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم، إلّا من خطب خدیجة ورام تزویجها، فامتنعت علی جمیعهم من ذلك، فلمّا تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) غضب علیها نساء قریش وهجرنها وقلن لها: خطبك أشراف قریش وأُمراؤهم فلم تتزوّجي أحداً منهم، وتزوّجتي محمّداً یتیم أبي طالب فقیراً لا مال له؟! فکیف یجوز في نظر أهل الفهم أن

ص: 404


1- . انظر: بحار الأنوار: ج16 ص22.
2- . جوامع السیرة النبویة لابن حزم الأندلسي (ت 456ه)، بیروت: دار الکتب العلمیة.

تکون خدیجة یتزوّجها أعرابي من تمیم وتمتنع من سادات قریش وأشرافها علی ما وصفناه؟ ألا یعلم ذوو التمییز والنظر أنّه من أبین المحال وأفظع المقال؟!(1)

3. وفي الاستغاثة ذکر بعضٌ أنّه کانت لخدیجة أُخت اسمها هالة(2) تزوّجها رجل مخزومي، فولدت له بنتاً اسمها هالة، ثمّ خلف علیها رجل تمیمي یقال له أبو هند، فأولدها ولداً اسمه هند، وکان لهذا التمیمي امرأة أُخری قد ولدت له زینب ورقیّة، فماتت ومات التمیمي، فلحق ولده هند بقومه وبقیت هالة أُخت خدیجة والطفلتان اللتان من التمیمي وزوجته الأُخری، فضمّتهم خدیجة إلیها، وبعد أن تزوّجت بالرسول ماتت هالة، فبقیت الطفلتان في حجر خدیجة والرسول ، وکان العرب یزعمون أنّ الربیبة بنت، ونُسبتا إلیه ، مع أنّهما ابنتا أبي هالة زوج أُختها، وکذلك کان الحال

بالنسبة لهند نفسه(3).

أُرید من هذا کلّه أن أقول: إنّ ما یناسب صفات هذه السیّدة وما یلائم کلّ ما قیل بحقّها ورغبة الآخرین فیها وما یبعدنا عن مسألة کلّ ما یرد من إشکالات حول عمرها وقدرتها علی الإنجاب، ومادامت الروایات کلّها قد تکون بمستوی واحد ولیس لواحدة علی الأُخری ترجیح، أری أن ّ الأخذ بروایة 25، أو 28 کما ذهب إلیه العقّاد أولی؛ لأنّ هاتین الروایتین تناسبان واقع حیاة هذه المرأة لا غیر.

أمّا زواجها السابق لمرّتین فهو أیضاً محلّ تأمّل وتوقّف، وقد وردت أدلّة وأقوال علی أنّها باکرٌ کما ذهب إلی ذلك کلّ من أحمد البلاذري وأبو القاسم الکوفي في کتابیهما، والمرتضی في الشافي، وأبو جعفر في التلخیص: «أنّ النبي تزوّج بها وکانت عذراء، هذا ما نقله ابن شهرآشوب في المناقب في ترتیب أزواجه ، حیث یقول: «تزوّج بمکّة أوّلاً خدیجة بنت خویلد، قالوا: وکانت عند عتیق بن عایذ المخزومي ومن ثمّ عند أبي

ص: 405


1- . لها ذکر في کتب الأنساب، فراجع علی سبیل المثال: نسب قریش لمصعب الزبیري: ص157 - 158.
2- . الاستغاثة: ج1 ص70.
3- . انظر: الصحیح في سیرة النبي ، والاستغاثة: ج1 ص68 - 69، ورسالة مطبوعة طبعة حجریة في آخر مکارم الأخلاق: ص6.

هالة زرارة بن نبّاش الأسدي».

وروی أحمد البلاذري وأبو القاسم الکوفي في کتابیهما والمرتضی في الشافي وأبو جعفر في التلخیص: «أنّ النبي تزوّج بها وکانت عذراء، یؤکّد ذلك ما ذُکر في کتابي الأنوار والبدع: أنّ رقیّة وزینب کانتا ابنتي هالة أُخت خدیجة»(1).

الزواج المبارك

استجمعت أحاسیسها وراحت تستمع فرحةً مسرورةً لحدیث غلامها میسرة، الذي صحب النبي(صلی الله علیه و آله) وهو یضارب في تجارة لخدیجة في الشام، وراح یحدّثها عن سیرة محمّد معه وعن أخلاقه وطباعه وصفاته الجمیلة، وعمّا کان یراه من کراماته التي لم یرَ میسرة مثیلاً لها من قبل علی کثرة سفراته مع آخرین، فأعجبت به،

وقد أسر کلَّ مشاعرها، وامتلك کلَّ عواطفها، وتحرّکت في قلبها أسراره، وکأنّها ترید لهذا الحدیث ألّا یتوقّف أو ینتهي، ثمّ راحت تحدّق في مستقبل فتی بني هاشم الصادق الأمین، الذي غدا صدقه یملأ الآفاق، وأمانته یلهج بها کلّ لسان، ماذا یخبّئ المستقبل لهذا الیتیم الهاشمي، وما هو ذاك الشأن العظیم الذي ینتظره؟

لقد تمثّلت أمام عینیها شخصیته بکلّ ما فیها من نبل صفاته ورقّة شمائله، وعظیم وکرم أخلاقه، وجمال روحه وشرفه وفضله علی الجمیع.

لاحت من میسرة نظرة إلی سیّدته، فردّت طرفها وعلتها العفّة وهي أنبل نساء عصرها حیاءً وأعظمهنّ خُلقاً. فانقلبت غبطتها تلك وفرحتها إلی حبٍّ لم تحسّ به من قبل، وإلی ودٍّ ما لامس مثله أحاسیسها أبداً، وإلی إکبار وتکریم ولجا قلبها، ملأ کلّ منهما علیها حیاتها، وهي التي تمرّدت علی واقع نساء قومها، وامتنعت أمام أعظم قریش شرفاً ونسباً وثراءً ومکانةً.

فالتفتت بعد حین إلی أُختها - علی قول، وإلی صدیقتها نفیسة بنت منبّه علی قولٍ

ص: 406


1- . المناقب لابن شهرآشوب: ج1 ص159.

آخر - لتسرّها بأنّ ما قاله میسرة عن محمّد قد نفذ إلی روحها، وأنّها وجدت فیه ما کانت تتمنّاه ولم تجده فیمن تقدّم لخطبتها، فما کان من نفیسة - وقد سرّت بما سمعته - إلّا أن بادرت إلیه - علی روایة - فقالت له: ما یمنعك أن تتزوّج؟

قال: ما بیدي ما أتزوّج به.

قالت: فإن کُفیت ذلك ودُعیت إلی الجمال والمال والشرف والکفاءة، ألا تجیب؟

قال: فمن هي؟

قالت: خدیجة.

قال: کیف لي بذلك؟

فقالت نفیسة وقد علت ملامح وجهها الفرحة: عليَّ ذلك. وسارعت لتبلغ خدیجة بما سمعته من محمّد.

وفي روایة: «... وکانت لبیبةً حازماً، فبعثن إلیه تقول: یا ابن عمِّ، إنّي قد رغبتُ فیك؛ لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حدیثك»(1).

لقد خصّها اللّه بکرامة ادّخرها لها، وکانت له من الشاکرین، واختارها لمکانتها وصفاتها لتکون امرأة خاتم رسله وسیّد الأوّلین والآخرین محمّد بن عبد اللّه.

لم یتأخّر محمّد في إبلاغ عمّه «أبو طالب» وعشیرته بذلك، کما لم تتأخّر خدیجة، فقد أبلغت عمّها عمرو بن أسد الذي حضر ودخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) علیه في عمومته ومعه بنو هاشم وسائر رؤساء مُضَر، فخطب أبو طالب فقال: «الحمد للّه الذي جعلنا من ذرّیة إبراهیم وزرع إسماعیل وضئضئ مَعد وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بیته وسُوّاس حرمه، وجعل لنا بیتاً محجوباً وحرماً آمناً، وجعلنا الحکّام علی الناس، ثمّ إنّ ابن أخي هذا محمّد بن عبد اللّه لا یُوزن به رجل من قریش إلّا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، فإن کان في المال فلا، فإنّ المال ظلّ زائل وأمر حائل وعاریة مسترجعة، ومحمّد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خدیجة وبذل لها من الصداق ما آجله

ص: 407


1- . السیرة الحلبیة: ج1 ص137.

وعاجله من مالي هذا، وهو مع هذا واللّه له نبأ عظیم وخطر جلیل، أو له واللّه خطب عظیم، و خطر جلیل أو «له واللّه خطب عظیم و نبأ شائع».

فتزوّجها وأصدقها عشرین بکرة، وقیل اثنتي عشرة (اثنتین وعشرین) أُوقیّة ذهباً ونشّاً (نصف أُوقیّة)؛ والأُوقیة أربعون درهماً، والنشّ عشرون درهماً، فذلك خمسمائة درهم.

وفي روایة: «فقال لأعمامه... فجاء معه حمزة عمّه حتّی دخل علی خویلد [خویلد بن أسد، وقیل: بل عمرو بن خویلد بن أسد، وقیل: بل عمرو بن أُمیّة عمّها، وکان شیخاً کبیراً، وهو الصحیح علی ما في نهایة الأرب (ج16 ص98)، وعن ابن سعد في الطبقات (ج1 ص132)، عن جمهرة النسب للکلبي (ص74) وهو عمرو بن أسد بن

عبد العزّی، وهو یومئذٍ شیخ کبیر لم یبق لأسد لصُلبه یومئذٍ غیره، ولم یلد عمرو بن أسد شیئاً]»(1).

إذاً، فقد اشتهر أنّ عمّها عمرو بن أسد هو الذي زوّجها، وإن قیل: إنّ الذي زوّجها أخوها عمرو بن خویلد؛ لأنّ أباها مات قبل حرب الفِجَار، وهذا کلّه یکذب المزاعم التي رویت من أنّ أباها زوّجها بعد أن سقته خمراً... لتحصل بذلك علی موافقته؛ لأنّه لا یوافق من تزویجها من فقیر یتیم.

ففي روایة أحمد في مسنده: «حدّثنا أبو کامل، ثنا حمّاد عن عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عبّاس - فیما یحسب حمّاد - أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ذکر خدیجة وکان أبوها یرغب عن أن یزوّجه، صنعت هي طعاماً وشراباً، فدعت أباها وزُمراً من قریش فطعموا وشربوا ثمّ ثملوا، فقالت لأبیها: إنّ محمّداً یخطبني فزوّجني إیّاه، فزوّجها إیّاه، فخلّقته (طیّبته، وفي المسند: فجمّلته)، وألبسته حُلّةً کعادتهم، فلمّا صحا نظر فإذا هو مخلّق فقال: ما شأني؟ فقالت: زوّجتني محمّداً، فقال: وأنا أُزوّج یتیم أبي طالب! لا لعمري، فقالت: أما تستحي؟ ترید أن تسفّه نفسك معي عند قریش بأنّك کنت سکران؟ فلم تزل به حتّی رضي».

ص: 408


1- . السیرة الحلبیة: ج1 ص138.

وقد روی طرفاً من الأعمش عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سُمرة أو غیره.

کما ذکر مختصر تاریخ دمشق روایة نُسبت إلی عمّار بن یاسر تشبه هذه الروایة. وهذا ما نفاه الواقدي بعد نقله بقوله: «وهذا غلط، والثبت عندنا المحفوظ من حدیث محمّد بن عبد اللّه بن مسلم عن أبیه، عن محمّد بن جبیر بن مطعم، ومن حدیث ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة، عن أبیه، عن عائشة. ومن حدیث ابن أبي حبیبة عن داود بن الحُصین، عن عکرمة،عن ابن عبّاس، أنّ عمّها عمرو بن أسد زوّجها رسولَ

اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأنّ أباها مات قبل الفِجَار»(1).

وقد بلغت تلك الروایة من الضعف والسخف درجة کبیرة، فهي إضافة إلی منافاتها لأخلاق هذه السیّدة المبارکة حتّی قبل زواجها برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فقد شهد - في الجاهلیة - بسموّ الخلق والنجابة والشرف وبرجاحة عقلها وقوّة شخصیتها، مع ما لها من المکانة الکبیرة عند أهلها وعشیرتها، ممّا جعلها موضع فخر واعتزاز وممّا یؤهّلها لإقناع أبیها - علی فرض حیاته - بهذا الزواج. یقول صاحب السیرة الحلبیة عنها: «امرأة حازمة؛ أي ضابطة جلدة؛ أي قویة شریفة؛ أي مع ما أراد اللّه تعالی لها من الکرامة ومن الخیر... فامرأة تحمل هذه الصفات لا أظنّها بحاجة إلی أن تستعین بأُسلوب یتنافی مع کلّ ما منّ اللّه تعالی علیها من صفات کریمة، وقد وصفت خدیجة نفسها هذا الأُسلوب - حسب الروایة - بقولها إلی أبیها: ترید أن تسفّه نفسك معي عند قریش بأنّك کنت سکران»؟

فهو إذن أمر معیب عندهم، فکیف ترتکبه؟ وإضافة إلی هذا فإنّ الروایة تتنافی مع الروایة الأُخری التي نالت إجماع أکثر المؤرّخین من أنّ أباها توفّي من قبل وأنّ عمّها هو الذي زوّجها، وعلی روایة ضعیفة أنّ أخاها زوّجها.

وتمّ هذا الزواج المبارك، بعد رجوع النبي(صلی الله علیه و آله) من سفره إلی الشام بشهرین وخمسة وعشرین یوماً، وقبل بعثته نبیّاً بخمس عشرة سنة، وبعد أن أکمل خمساً وعشرین سنة

ص: 409


1- . انظر: تاریخ الطبري: ج1 ص522.

وشهراً وعشرة أیّام من عمره المبارك(1)

وأخذت هذه السیّدة مکانها الذي اختارته السماء لها لتکون بجانبه وهو یستعدّ لتحمّل مهامّ أعظم رسالة سماویة إلی الناس کافّة، فکانت للرسول نعم الزوجة ونعم

السکن ونعم النصیر، وکان لها أحسن حظّ طالما انتظرته وتمنّته، ولم ینجُ هذا الاقتران من حسد وبغض وغضب، فقد أحدث هزّة بین الرجال الذین سبق لهم أن توافدوا علی عتبة بابها وهم یحملون معهم کلّ المغریات لیخطبوا یدها، إلّا أنّهم عادوا من حیث أتوا خائبین بعد أن رفضتهم، ولم تعبأ بما حملوه معهم من مال، ولم یجد شرفهم وزعاماتهم أيّ أثر في نفسها، فلاذ بعضهم بالسکوت والبغض والحسد یأکلان قلبه، في حین لم یتمالك بعض آخر أحاسیسه ولسانه، فقال: ما هذا إلّا سحر، مسکینة خدیجة، فقد سحرها الیتیم فشغفت به.

کما غضب علیها نساء قریش ونهرنها وقلن لها: «خطبك أشراف قریش وأُمراؤهم فلم تتزوّجي أحداً منهم، وتزوّجتي محمّداً یتیم أبي طالب، فقیراً لا مال له؟!

فما کان من خدیجة - بعدما سمعت بذلك کلّه - إلّا أن صنعت طعاماً ودعت نساء قریش وکان بینهنّ نساء المبغضین، فلمّا اجتمعن وأکلن قالت لهنّ: معاشر النساء، بلغني أن بعولتکنّ عابوا عليَّ فیما فعلته من أنّي تزوّجت محمّداً، وأنا أسألکم هل فیکم مثله؟ أو في بطن مکّة شکله من جماله وکماله وفضله وأخلاقه الرضیّة؟وأنا قد أخذته لأجل ما قد رأیتُ منه وسمعت منه أشیاء ما أحد رآها، فلا یتکلّم أحد فیما لا یعنیه. فکفّ کلّ منهنّ ومنهم عن الکلام»(2).

وقد تابع الزوجان حیاتهما المبارکة هذه، وجهادهما الدؤوب، وقدّر لخدیجة أن تکون في قلب الأحداث الجسام المملوءة بالآلام والشدائد المضنیة، ووهبت کلّ ما تملکه من ثروة وهو کثیر ووضعته بین یدي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لیضمّه إلی سیف علي .

ص: 410


1- . إتحاف الوری بأخبار أُمّ القری: السنة 26.
2- . بحار الأنوار: ج19 ص71.

أنجبت له کلّ أولاده إلّا إبراهیم، فهو من ماریة القبطیة؛ وهم: القاسم، وبه کان

یُکنّی، والطیّب والطاهر - علی قول - وقد ماتوا صغاراً رضّعاً قبل بعثته المبارکة، ورقیّة وزینب - علی قول - وأُمّ کلثوم وفاطمة الزهراء التي تزوّجها الإمام علي .

ولم یتزوّج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) غیرها طیلة حیاتها المبارکة معه، التي دامت قرابة خمس وعشرین سنةً.

إسلامها

من برکات اللّه تعالی الخاصّة بهذه المرأة أن منّ علیها بأن اختارها لتکون أوّل نساء العالمین إسلاماً وأسبقهنّ تصدیقاً برسول اللّه ودعوته، وأخلص نسائه جهاداً، وأعظمهنّ وفاءً وطاعةً له، وأصبرهنّ تحمّلاً لما لاقاه رسول اللّه من ضروب الأذی والتضییق، وأکثرهنّ بذلاً وعطاءً في سبیل اللّه ورسوله، فعن عبد اللّه بن مسعود: «إنّ أوّل شيء علمت من أمر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قدمتُ مکّة مع عمومة لي أو ناسٍ من قومي نبتاع منها متاعاً، فکان في بغیتنا شراء عطر، فأرشدنا إلی العبّاس بن عبد المطّلب، فانتهینا إلیه وهو جالس إلی زمزم، فجلسنا إلیه، فبینا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبیض... کأنّه القمر لیلة البدر، یمشي علی یمینه غلام حسن الوجه... تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتّی قصد نحو الحجر، فاستلمه ثمّ استلمه الغلام واستلمته المرأة، ثمّ طاف بالبیت سبعاً والغلام والمرأة یطوفان معه، ثمّ استقبل الرکن، فرفع یدیه وکبّر، وقامت المرأة خلفهما، فرفعت یدیها وکبّرت، ثمّ رکع فأطال الرکوع، ثمّ رفع رأسه من الرکوع، فقنت ملیّاً، ثمّ سجد وسجد الغلام معه والمرأة، یتبعونه یصنعون مثلما یصنع، فرأینا شیئاً أنکرناه، لم نکن نعرفه بمکّة، فأقبلنا علی العبّاس فقلنا: یا أبا الفضل، إنّ هذا الدین حدث فیکم أو أمر لم نکن نعرفه فیکم؟ قال: أجل واللّه، ما تعرفون هذا؟ قال: قلنا: لا واللّه ما نعرفه. قال: هذا ابن أخي محمّد بن عبد اللّه والغلام علي بن أبي طالب والمرأة خدیجة بنت خویلد امرأته، أما واللّه ما علی وجه الأرض أحد نعلمه یعبد اللّه بهذا الدین إلّا هؤلاء الثلاثة».

ص: 411

لقد آمنت برسول اللّه ولم یسبقها إلی ذلك إلّا الإمام علي ، کیف لا یکون کذلك وقد قرأت - بما ألهمها اللّه تعالی وبما منحها من قدرة وحکمة وبصیرة ونظرة ثاقبة لمستقبل الصادق الأمین - مستقبله وأنّه ذو شأن کبیر ومقام کریم ومنزلة محمودة؟

لقد واکبت مسیرته المبارکة وهو في غار حراء بخدمتها الصادقة وکلماتها الطیّبة التي تدلّ علی مدی إخلاصها ونباهتها وصفائها: «وهیّأت خدیجة لزوجها ما یناسبه من حیاة، فلمّا لجأ للتحنّث في غار حراء کانت تعدّ له ما یحتاجه من طعام وشراب خلال الفترة التي اعتکف فیها بالغار، فلمّا جاءه الوحي کانت أوّل من صدّقه وعانت معه صراع قریش ضدّه، وکانت البلسم الشافي لجراحه من هؤلاء المعتدین، ودخلت معه الشِّعب عندما قرّر سادة قریش أن یقاطعوا المسلمین...»(1).

کانت تسمعه کلمات رقیقة هادئة کلّما دخل بیتها عائداً من غار حراء، کلمات ملؤها الحنان والحبّ، تدعوه أن یطمئنّ وتدعوه أحیاناً أن یهدأ وینام، فکان یقول لها: مضی عهد النوم یا خدیجة، لقد کانت کلماتها تلاحقه وهو في بیته، وهو خارج منه، وهو في الغار، وهو یدعو عشیرته للإیمان، وهو في دار الأرقم یدعو الناس سرّاً، وهو في کلّ مکان في مکّة یقارع قریشاً وشرکها جهراً، وهو یری أعداءه والمتربّصین به، والمبغضین له، فکانت تخفّف عنه کلّ معاناته وکلّ ما یلقاه من أذی وتکذیب وعنت من قومه.

وکان یصرّح ویفضي لها بکلّ شيء. یقول ابن هشام في سیرته: «وآمنت به خدیجة بنت خویلد، وصدّقت بما جاءه من اللّه، ووازرته علی أمره... فخفّف اللّه بذلك عن نبیّه ، لا یسمع شیئاً ممّا یکرهه من ردّ علیه وتکذیب له فیحزنه ذلك، إلّا فرّج اللّه عنه بها إذا رجع إلیها، تثبّته وتخفّف علیه، وتصدّقه وتهوّن علیه أمر اللّه، رحمها اللّه تعالی»(2).

ومن کلماتها له أیضاً: «أبشر، فواللّه لا یُخزیك اللّه أبداً، واللّه إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحدیث، وتؤدّي الأمانة، وتحمل الکَلّ، وتُقري الضیف، وتعین علی نوائب الدهر».

ص: 412


1- . سیر أعلام النبلاء: ج1 ص81.
2- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص240.

في شِعب أبي طالب

ما انفکّت قریش تصعّد عداءها لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ودعوته الجدیدة، ولم یتوقّف عملها في تجذیر ذلك العداء في نفوس أبنائها قولاً وعملاً، وکلّما ازداد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وصحبه التزاماً بموقفهم وثباتاً علی مبادئهم ازداد عداء قریش لهم وأذاها، وقد رأت أنّ أهله وعشیرته قد وفّروا له الرعایة والحمایة، فعزمت علی شنّ حملتها علی هذه الأُسرة، وارتأت أن تتّخذ وسیلة غیر الحرب في أوّل أمرها، فلعلّها تصل إلی أهدافها دون قتال وما یجرّه هذا القتال من ویلات وانقسامات بین قبائلها، فاجتمع زعماؤها وکتبوا الصحیفة التي قرّروا فیها: مقاطعة بني هاشم علی المستویات الاجتماعیة والاقتصادیة، فلا یتزوّجون منهم ولایزوّجونهم، ولا یبیعون لهم ولا یشترون منهم، ولا یکلّمونهم، ولا یزورون مرضاهم، ولا یشیّعون موتاهم، وأکرهوهم أن یلزموا الشِّعب؛ وهوطریق بین جبلین.

أمّا نتائج هذه المقاطعة - التي استمرّت حوالی ثلاث سنوات - فقد کانت قاسیة جدّاً علی بني هاشم، ومسّهم بسببها الضرّ، بل الجوع والحرمان... ولم تنقض إلّا بعد أن أشفق بعض القرشیین علی بني هاشم؛ بسبب ما نالهم من أذیً وعذاب، فخرقوا هذه الوثیقة وعادوا إلی الاتّصال بهم(1).

وهناك روایة: أنّ الأرضة أتت علی کلّ شيء في الصحیفة، ولم تدع إلّا اسم اللّه جلّ وعلا، وقد أوصی اللّه لمحمّد بذلك، فنقل ذلك إلی عمّه أبي طالب، فتحدّی أبو طالب جماعة المشرکین، وأحضروا الصحیفة فظهر صدق محمّد.

هذه خلاصة المقاطعة التي کانت خدیجة ضحیة من ضحایاها، فقد أصابها الضرّ أیّما إصابة، وعانت معاناة عظیمة من آثار هذه المحاصرة الظالمة، ولکنّها لاذت بالصبر ووقفت

إلی جانب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) موقفاً یندر أن تقف مثله امرأة، وکان لشخصیتها ومکانتها وهیبتها في النفوس الأثر الکبیر إلی درجة أنّها صارت من أسباب قیام خلاف ونزاع أدّی إلی انهیار موقف قریش وترك العمل بالصحیفة وفشل المقاطعة.

ص: 413


1- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص110، 231، ابن القیّم: ج2 ص46.

ففي السیرة النبویة(1): إنّ أبا جهل لقي حکیم بن حزام بن خویلد ومعه غلام یحمل قمحاً إلی خدیجة بنت خویلد زوجة الرسول وعمّه حکیم، فتعلّق به أبو جهل وقال: أتذهب بالطعام إلی بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت وطعامك حتّی أفضحك بمکّة، فجاءه أبو البختري وقال له: ما لك وله؟ إنّه طعام کان لعمّته رغبت إلیه فیه، فکیف تمنعه؟ فأبی أبو جهل وقام نزاع کان من أسباب إغفال الصحیفة ونهایة المقاطعة.

وکما کان لهشام بن عمرو بن الحارث العاملي الذي کان من أقرباء خدیجة دور آخر في بذر الخلاف بین زعماء المقاطعة، فقد کان أکثر الناس إقداماً علی مساعدة المحصورین المقاطعین، فکان یدخل أحمال الطعام إلی بني هاشم في الشِّعب... وأرادت قریش معاقبته، فانبری أبو سفیان وقال: دعوه، رجل وصل رحمه، أما واللّه إنّي أحلف باللّه لو فعلنا مثل ما فعل کان أحسن(2).

مکانتها في قلب الرسول

لم تتحمّل أُمّ المؤمنین عائشة وهي تری رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یذکر خدیجة، فقالت: ما زلت تذکر بحسرة وألم عجوزاً من عجائز قریش حمراء الشدقین هلکت من عدّة سنین، وقد أبدلك اللّه خیراً منها.

فما کان من رسول اللّه بعد أن تغیّر وجهه الکریم إلّا وزجرها غاضباً، وقال: «واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها»، ولم یکتف بهذا، بل راح یذکر مناقبها التي ما فتئ یعیشها في

حیاته المبارکة: «آمنت بي حین کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها اللّه الولد دون غیرها من النساء... فقالت عائشة في نفسها: واللّه لا أذکرها بعدها أبداً»(3).

وقبل ذلك لم تتوقّف غیرة أُمّ المؤمنین عائشة من أُمّ المؤمنین خدیجة، التي احتلّت

ص: 414


1- . السیرة النبویة لابن هشام: ج2 ص5.
2- . تاریخ قریش للدکتور حسن مؤنس: ص313.
3- . الاستیعاب: ج4 ص1824.

تلك المکانة العظیمة من قلب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وظهر ذلك کلّه في مواقف عملیة للرسول الکریم، حتّی بعد وفاتها سلام اللّه علیها.

رأته عائشة یوماً وقد ذبح شاةً یقول: أرسلوا إلی أصدقاء خدیجة منها، وهنا لم تتوقّف عائشة عن أن تسمعه شیئاً، فقال: «إنّي لأُحبّ حبیبها»(1).

وظلّت الغیرة لا تنفكّ عن قلبها من سیّدتنا خدیجة، لا لشيء - فالأمر کلّه بعد موتها - إلّا لأنّها سبقتها إلی نفس رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وإلی قلبه فاحتلّته بما امتلکته من خلق عال وشرف رفیع وإیمان صادق وجهاد خالص وذکر طیّب، وبما قدّمته من حیاتها التي استرخصتها وثروتها وأموالها، کلّ ذلك وضعته بین یدیه المبارکتین؛ لنیل مرضاة اللّه ولتُعینه وهو یحمل أعظم رسالة وأخطر مسؤولیة تبلیغیة تغییریة عرضتها السماء وعرفتها الإنسانیة.

وحینما نصره اللّه تعالی وفتحت أبواب مکّة له - وکان وقتها قد مرّ علی وفاتها أکثر من عشر سنوات، وکانت کلّ تلك السنین ملیئة بالأحداث والشؤون المریرة، ولکنّها مع کلّ ذلك لم تشغله عن ذکره لخدیجة، أقام في قبّة ضُربت له هناك إلی جوار قبرها، حیث روحها التي تخفق حوله فتریحه وتؤنسه وترافقه وهو یشرف علی فتح مکّة، ویطوف بالکعبة ویحطّم رموز الکفر والشرك، وهو بین لحظة وأُخری یرمق دارها حیث نبع الحبّ وحیب السکینة والمودّة والحنان والتضحیة.

وفیما قالته أُمّ المؤمنین عائشة: «کان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إذا ذکر خدیجة لم یکد یسأم من ثناء علیها واستغفار، فذکرها ذات یوم فاحتملتني الغیرة، فقلتُ: لقد عوّضك اللّه من کبیرة السنّ. قالت: فرأیت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) غضب غضباً أُسقطتُ في جلدي، وقلتّ في نفسي: اللّهمّ إنّك إن أذهبت غضب رسول اللّه عنّي، لم أعد أُذکرها بسوء ما بقیت. فلمّا رأی النبي ما لقیت قال: کیف قلتِ؟ واللّه لقد آمنت بي إذ کفر بي الناس، وآوتني إذ

ص: 415


1- . الاستیعاب: ج4 ص1824.

رفضني الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، ورُزقت منّي الولد إذ حرمتموه منّي.

قالت: فعدا وراح عليَّ بها شهراً».

أمّا ما ورد فیها عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله):

- فعن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب رضوان اللّه تعالی علیهما: «إنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قال: أُمرتُ أن أُبشّر خدیجة ببیت من قصب، لا صخب فیه ولا نصب».

قال ابن هشام: «القصب هاهنا: اللؤلؤ المجوَّف»(1).

- وعن عائشة قالت: «ما غرتُ من أحد ما غرتُ علی خدیجة، ولقد هلکت قبل أن یتزوّجني رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بثلاث سنین، ولقد أمر أن یبشّرها ببیت من قصب في الجنّة»(2).

- وقال ابن هشام: «وحدّثني من أثق به، أنّ جبرئیل أتی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فقال: اقرئ خدیجة السلام من ربّها، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): یا خدیجة، هذا جبرئیل یُقرئك السلام من ربّك، فقالت خدیجة: اللّه السلام، ومنه

السلام، وعلی جبرئیل السلام».

عام الحزن

شاءت السماء أن تمتحن هذا القلب الکبیر، وقد امتحنته مرّات ومرّات، ولکن هذه المرّة في زوجته التي أبت إلّا أن تعیش کبیرة وتموت کبیرة، والتي کانت له وزیر صدق علی الإسلام(3)، وکانت شریکته في حیاته کلّها، في دعوته، وفي تبلیغه لها، وفي جهاده وتضحیاته.

لقد رحلت عنه في السنة العاشرة من البعثة النبویة، ودُفنت في مقبرة الحجون بمکّة بعد أن رحل قبلها - بشهور علی قول، وبأیّامٍ علی قول آخر - عمّه أبو طالب الذي کان له عضداً وحرزاً في أمره، ومنعةً وناصراً علی قومه(4).

ص: 416


1- . الروض الأنف، وانظر: السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص241.
2- . الروض الأنف، وانظر: السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص241.
3- . السیرة النبویة لابن هشام: ج2 ص416.
4- . السیرة النبویة لابن هشام: ج2 ص416.

لقد رحلت هذه المرأة العظیمة لتنتهي برحیلها ورحیل أبي طالب العمّ المدافع والمحامي القوي أُولی مراحل رسالة السماء التي شکّلت الفترة المکّیة الأُولی بکلّ آلامها وأحداثها، کما کانت الفترة التأسیسیة لهذه الرسالة المبارکة، ولکان لوجودیهما المبارکین الأثر العظیم في تشکیل تلك المرحلة التي دامت قرابة عشر سنوات، وفي بقائها واستمرارها وثباتها.

لقد رحلت هذه السیّدة المبارکة بعد أن وصل نداء الإسلام الحبشة، وتجاوز صداه بقاع الحجاز، وبعد أن تحمّلته قلوب صادقة ونفوس مضحّیة وأیادٍ قویة.

رحلت هذه السیّدة الجلیلة وغابت عن دنیاه، ولکنّها لم ترحل عن قلبه.

ص: 417

فهرس المصادر

1. إتحاف الوري بأخبار أُمّ القری، عمر بن فهد (ت885ه )، تحقيق: فهيم محمّد شلتوت، القاهرة: مكتبة الخانجي.

2.الاستغاثة، أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (ت352ه )، طهران: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1373ش.

3.الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

4.أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت279ه )، إعداد: محمّد باقر المحمودي، بيروت: دار المعارف، الطبعة الثالثة.

5.بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار:، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت1110ه )، تحقيق: دار إحياء التراث، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

6.تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968م.

7.جوامع السيرة النبوية، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (ت456ه )، تحقيق: نايف العبّاس، دمشق: دار ابن كثير، 1406ه .

8.الروض الأنف شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبدالرحمن بن عبداللّه السهيلي (ت581ه )، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1412ه .

1. سير أعلام النبلاء، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: شُعيب

ص: 418

الأرنؤوط، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1414ه .

2. السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بيروت: دار إحياء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

3. السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

4. الصحيح من سيرة النبي الأعظم، جعفر مرتضى العاملي (معاصر)، بيروت: دار الهادي، الطبعة الرابعة، 1415ه .

5. الطبقات الكبرى (الطبقه الخامسة من الصحابة)، محمّد بن سعد الزهري (كاتب الواقدي) (ت230ه )، تحقيق: محمّد بن صامل السلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

6. مختصر تاريخ دمشق، محمّد بن مُكرَّم المصري الأنصاري (ابن منظور) (ت711ه )، دمشق: دار الفكر الطبعة الأُولى، 1404 و1408.

7. المستدرك على الصحيحين، أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الحاكم النيسابوري (ت405ه )، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1411ه .

8. مكارم الأخلاق، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق: علاء آل جعفر، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1414ه .

9. مناقب آل أبي طالب (المناقب لابن شهرآشوب)، أبو جعفر محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ابن شهرآشوب) (ت588ه ) تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي، قم: منشورات علّامة.

1. نسب قريش، مصعب بن عبد اللّه الزبيري (ت236ه )، تحقيق: بروفنسل، القاهرة: دار المعارف.

ص: 419

ص: 420

20- السیّدة خديجة(علیها السلام)

اشارة

* السیّدة خديجة(علیها السلام)(1)

حمزة النشرتي

الخفیظ فرغلي

عبد الحمید مصطفی

ملخّص البحث:

بحث تاريخي يسرد بين سطوره سيرة خديجة زوج النبي(صلی الله علیه و آله)، ونسبها وعملها بالتجارة، وسبب العلاقة التي نشأت بينها وبين النبي من خلال عمل التجارة، وكيفية خطبتها وزواجها. وکانت خديجة أوّل من آمن بالنبي(صلی الله علیه و آله) حين جاءته الرسالة، ولا عجب، فقد آمنت به قبلها حين أحسّت بصادق شعورها وإلهامها الصادق أنّه هو نبي آخر الزمان. ووقفت خلف النبي تؤازره وتشدّ من عضده. وقفت خديجة خلف النبي(صلی الله علیه و آله) تؤيّده في سنوات المقاطعة بکلّ ما أُوتيت من قوّة وجهد، وقد ترکت دارها الفسيحة لتقيم مع زوجها في رکن من أرکان هذا الشِّعب، تقاسي مع من فيه ضروب الأذی وألوان العناء وصنوف الاضطهاد وضراوة الجوع، في الوقت الذي کانت فيه قد کبرت وضعفت؛ بسبب فقد أولادها الذکور من حبيبها المصطفی. مات أبو طالب، ومن بعده بقليل ودّعت خديجة الحياة، ولفظت أنفاسها الأخيرة بين يدي زوجها الذي أحبّته ملء فؤادها، وآمنت به وصدّقته وآزرته، فواراها النبي في قبرها بالحجون قبل الهجرة بثلاث سنين. وحزن النبي

ص: 421


1- سنن آل بیت النبي:، مکّة: ج1 ص80 - 98.

لفراقها حزناً شديداً، حتّی سمّی هذا العام بعام الحزن. لقد فقد النبي(صلی الله علیه و آله) بفراقهما ساعدين قويّين كانا ينصرانه. لقد وردت الأخبار الشريفة تشير إلی فضل هذه الزوجة الکريمة الصادقة، حيث روی أنس أنّ النبي قال: «خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد». لقد استحقّت خديجة ذلك عن جدارة، فقد کانت أوّل من صلّی مع رسول اللّه سرّاً وجهراً. فقد ذکر ابن سعد في طبقاته عن الزهري، قال: «مکث رسول اللّه وخديجة يصلّيان سراً ما شاء اللّه».

نسبها

هي أُمّ المؤمنین خدیجة بنت خویلد بن أسد بن عبدالعزَّی بن قصيّ القرشیة الأسدیة.

وأُمّها: فاطمة بنت زائدة ابن الأصمّ ابن الهرم ابن رواحة. یجتمع أبوها وأُمّها في لؤي بن غالب، کما یجتمع نسبها مع النبي(صلی الله علیه و آله) في قصيّ. وکانت تُدعی في الجاهلیة: الطاهرة.

زواجها من النبي(صلی الله علیه و آله)

روی سعید بن جبیر عن ابن عبّاس2 قال: «إنّ نساء أهل مکّة احتفلن في عیدٍ کان لهنّ في رجب، فلم یترکن شیئاً من إکبار هذا العید إلّا أتَینَه، فبینما هنّ عکوف عند آلهتهنّ، سمعن رجلاً قریباً منهنّ ینادي بأعلی صوته: یا نساء تیماء، إنّه سیکون في بلدکن نبيّ یُقال له أحمد، یُبعث برسالة اللّه، فأیّما امرأة استطاعت أن تکون له زوجاً فلتفعل. فحصبته النساء وقبّحنّه وأغلظن له القول، وأغضت خدیجة علی قوله، ولم تعرض له فیما عرض فیه النساء».

ویبدو أنّ هذا الکلام قد وقع في قلبها موقعاً، وأدرکت منه جلال النبوّة المرتقبة وسعادة من یحالفها القدر لتکون زوجة هذا النبي المنتظر.

وظلّ هذا الکلام مرقوماً في قلبها لا یبارحه... حتّی جاء الوقت المعلوم لتکون هي صاحبة الحظّ الأوفر بین نساء العالمین فتتزوّج من خاتم الأنبياء والمرسلین.

أمّا کیف تمّ هذا الزواج فله أسبابه التي یحکیها لنا الرواة فیما یأتي:

ص: 422

کانت خدیجة ذات شرف وسیادة في قومها، وکان لها مال وفیر تتاجر فیه، وکانت تستأجر الرجال الأکفّاء ذوي الخبرة لیتاجروا لها في مالها، تضاربهم إیّاه بشيء تجعله لهم.

والمضاربة نوع من أنواع المعاملة التجاریة، یعطي فیه صاحب المال غیره قسطاً من المال یتّجر له فیه علی أن یکون له من الربح سهم معلوم... .

وبلغها عن النبي(صلی الله علیه و آله) صفاته الکریمة التي اشتهر بها قبل البعثة؛ مِن صدق وأمانة وطالع میمون، فأحبّت أن تستأجره وتعطیه أفضل ماکانت تعطي غیره من التجّار. وکان النبي(صلی الله علیه و آله) في شبابه یعمل بالتجارة، فأرسلت إلیه لیقوم بهذه المهمّة التي أرادتها، مع غلامٍ لها اسمه میسرة، وعرضت علیه العمل في تجارتها، فقبل.

وخرج النبي(صلی الله علیه و آله) ومعه میسرة. ورأی میسرة في مصاحبته ما لم یره من أحدٍ غیره أبداً، لقد رأی دماثة الخلق، وحسن الأدب، وکرم العشرة، وصدق الحدیث، وجمال الصحبة، ولین الجانب، وجلال التواضع، فامتلأ قلب میسرة إعجاباً بالنبي(صلی الله علیه و آله) وتعلّقاً به، وأضمر في نفسه أن یخبر سیّدته عند رجوعه بکلّ ما رآه من عظمة هذا الرجل وکماله.

وممّا زاد جلاله في نظره ما رآه من راهب شاميّ حین نزل النبي(صلی الله علیه و آله) ومعه میسرة تحت شجرة قریبة من صومعة هذا الراهب، فاطّلع الراهب إلی میسرة وقال له: مَن هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟

قال میسره: هذا رجل من قریش من أهل الحرم.

فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبيّ...(1).

لقد ملأت هذه الکلمة قلب میسرة روعة، وأیقن في نفسه أنّ هذه الأخلاق التي

لمسها في رفیق رحلته لا یمکن أن تکون لإنسان عادي، لقد طالما صاحب رفاقاً قبل محمّد في مثل هذه الرحلة، فلم یرَ ما رآه من محمّد، لقد تعوّد أن یری الأثرة والخداع، وحبّ السیطرة والتعالي والغشّ، وغیر ذلك ممّا تنطوي علیه غالباً أخلاق کثیر من التجّار، فلابدّ أن یکون کلام هذا الراهب صادقاً.

ص: 423


1- . انظر: أُسدالغابة: ج7 ص80، والسیرة الحلبیة: ج1 ص217.

وباع النبي(صلی الله علیه و آله) سلعته التي خرج بها، واشتری ما أراد، وقفل عائداً.

وذکر بعض الرواة أنّ میسرة رأی ظلاً یظلّل النبي(صلی الله علیه و آله) من الشمس وقت الهاجرة... وعند مَرّ الظهران قریباً من مکّة، قال میسرة للنبي(صلی الله علیه و آله): هل لك أن تسبقني إلی خدیجة فتخبرها بالذي جری في سفرتك هذه وما صنعه اللّه لها علی وجهك المیمون؟

فرکب النبي(صلی الله علیه و آله) وتقدم حتّی دخل مکّة في ساعة الظهیرة، و خدیجة في بیت مرتفع لها ومعها نساء من قومها، فرأت النبي(صلی الله علیه و آله) قادماً علی بعیره وفوقه ظلّ یظلّله، فعجبت من ذلك کما عجبت النساء معها.

ودخل النبي(صلی الله علیه و آله) فأخبرها بما ربح، وهو ضعف ما کانت تربح، فسرّت بذلك، وسألته عن میسرة، فقال: خلّفته بالبادیة.

وجاء میسرة فصدّق ما قاله النبي(صلی الله علیه و آله)، وأخبرها بما رآه منه في حال سفره، وبما أخبره الراهب حین نزلا تحت الشجرة. فاستیقنت أنّه هو النبي الذي أخبرت به الکتب السابقة، فعزمت علی أن تفوز به زوجاً.

وأسرّت خدیجة إلی نفیسة بنت منیة برغبتها... قالت نفیسة: کانت خدیجة امرأة حازمة لبیبة شریفة، وهي یومئذٍ أوسط نساء قریش نسباً وأعظمهنّ شرفاً وأکثرهنّ مالاً وأحسنهنّ جمالاً، وکانت تُدعی في الجاهلیة بالطاهرة، وکان یقال لها: سیّدة قریش، وکلّ رجال قومها کان حریصاً علی أن یتزوّجها لو قدر علی ذلك، وقد طلبوها وذکروا

لها الأموال فلم تقبل.

وتضیف صدیقتها قائلة - کما ذکر الرواة - : فأرسلتني خدیجة إلی محمّد(صلی الله علیه و آله) بعد أن رجع عِیرها من الشام، فقلت: یا محمّد، مایمنعك أن تتزوّج؟ قال: ما بیدي ما أتزوّج به. قلت: فإن کُفیت ذلك ودُعیت إلی المال والجمال والشرف والکفایة، ألا تُجیب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خدیجة. قال: وکیف لي بذلك؟ قلت: بلی، وأنا أفعل.

قالت: فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إلیه أن ائت... فأرسلت إلی عمّها عمرو بن أسد لیزوّجها... .

ص: 424

وفي روایة أن خديجة(علیها السلام) هي التي عرضت بنفسها علی النبي(صلی الله علیه و آله) أن تتزوّجه، فقد بعثت إلیه - فیما یرویه ابن الأثیر في أُسد الغابة - فقالت له: إنّي اخترتك لقرابتك منّي وشرفك في

قومك وأمانتك عندهم وحسن خُلقك وصدق حدیثك.

فلمّا قالت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما قالت، ذکر ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة بن عبدالمطّلب، حتّی دخل علی خویلد بن أسد، فخطبها إلیه، فتزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)(1).

ولکنّ المشهور أنّ الذي خطبها للنبي(صلی الله علیه و آله) هو عمّه أبو طالب، وأنّه خطبها إلی عمّها عمرو بن أسد. وخطب أبوطالب خطبة قال فیها: الحمد للّه الذي جعلنا من ذرّیة إبراهیم وزرع إسماعیل ونسل معد وعنصر مضر، وجعلنا حَضَنَة بیته وسُوّاس حرمه، وجعل لنا بیتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا حکّام الناس؛ ثمّ إنّ ابن أخي محمّد بن عبداللّه لا یوزن به رجل إلّا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإن کان

في المال قُلٌّ، فإنّ المال ظلّ زائل وأمر حائل وعاریة مسترجعة، وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظیم وخطر جلیل، وقد خطب إلیکم رغبةً في کریمتکم خدیجة، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله اثنتي عشرة أوقیة ونَشَّاً(2).

وخطب ورقة بن نوفل وهو ابن عمّ خدیجة فقال: الحمدللّه الذي جعلنا کما ذکرت وفضّلنا علی ما عدّدت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك کلّه، لا ینکر العرب فضلکم، ولا یردّ أحد من الناس فخرکم وشرفکم، ورغبتنا في الاتّصال بحبلکم وشرفکم، فاشهدوا عليَّ معاشر قریش أنّي قد زوّجت خدیجة بنت خویلد من محمّد بن عبداللّه.

وذکر المهر. قال أبوطالب: قد أحببت أن یشرکك عمّها. فقال عمّها: اشهدوا عليَّ معاشر قریش أنّي قد أنکحت محمّد بن عبداللّه خدیجة بنت خویلد.

وأولم فنحر جزوراً - وقیل: جزورین - وأطعم الناس. وأمرت خدیجة جواریها أن

ص: 425


1- . انظر: أُسد الغابة: ج7 ص80.
2- . الأُوقیة قیمتها أربعون درهماً، والنشّ قیمته عشرون درهماً. قالوا: وقیمة الصداق: خمسمائة درهم.

یرقصن ویضربن بالدفوف. وفرح أبو طالب فرحاً شدیداً، وقال: الحمد للّه الذي أکرمنا، ووفّقنا إلی الخیر.

وکانت هذه أوّل ولیمة أولمها النبي(صلی الله علیه و آله).

وکان خبر هذا الزواج قد شاع قبل تمامه، فوصل إلی بادیة بني سعد، فأسرعت حلیمة بنت أبي ذؤیب، وهي أُمّ النبي(صلی الله علیه و آله) من الرضاعة؛ لتشهد زفاف ابنها، وکأنّ اللّه قد أراد أن یعوّض النبي(صلی الله علیه و آله) شیئاً من فرح الأُمّ بابنها لیلة زفافه، فأرسل أُمّه من الرضاعة لتنوب عن آمنة بنت وهب التي فقدها ابنها وهو طفل.

وفرحت خدیجة بحلیمة، وأهدتها أربعین شاةً عادت بها إلی بادیتها، وکانت هذه لمسة رقیقة من خدیجة تشیر إلی ما سوف یجده النبي(صلی الله علیه و آله) في

جوارها من سکن ومودّة وحنان. ولم تنقطع زیارة حلیمة لابنها وزوجه بعد ذلك.

ووجد النبي(صلی الله علیه و آله) في ظلّ هذه الزوجة البرّة کلّ ما ینشده الرجل من أمن واستقرار، و تفرّغ لما یستقبله في حیاته من عظائم الأُمور وجلائل الأعمال.

وأنجبت خدیجة من النبي(صلی الله علیه و آله) أولاده کلّهم ما عدا إبراهیم الذي ولدته ماریة القبطیة.

وأولاده منها هم: زینب، وأُم کلثوم، ورقیّة، وفاطمة، والقاسم، وبه کان یُکنّی ، والطاهر والطیّب... وقد توفّي هؤلاء الأولاد الذکور قبل البعثة، أمّا البنات فقد أدرکن الإسلام وأسلمن وهاجرن.

ویقال: إنّها ولدت ذکرین فقط، هما القاسم وعبداللّه، وأمّا الطاهر والطیّب فهما لقبان لعبداللّه.

وترتیب أولاده کما جاء في أُسد الغابة: القاسم وهو أکبر ولده، ثمّ زینب.

وقال الکلبي: زینب، والقاسم - ثمّ أُمّ کلثوم، ثمّ فاطمة، ثمّ رقیّة، ثمّ عبداللّه، وکان یقال له الطیّب والطاهر، وولد عبداللّه في الإسلام، ومات بمکّة، وکان قد سبقه أخوه القاسم.

إسلام خدیجة

لقد وقفت خدیجة خلف النبي(صلی الله علیه و آله) تسانده في حیاته، وکانت تتوسّم فیه - کما قلنا - أنّه

ص: 426

سوف یکون نبيّ هذه الأُمّة المنتظر، فلماذا لا تعینه علی الاستعداد لهذا الیوم؟ فکانت تترکه لعبادة ربّه حیث کان یذهب إلی غار حراء بعیداً عنها یتسلّق قمّته، ویخلو إلی اللّه في تفکیر عمیق بعیداً عنها، لیالٍ قد تطول.

وکانت تحمل له زاده أحیاناً متجشّمة في سبیل ذلك مشقّة صعود الجبل والهبوط منه. وربّما أرسلت خلفه من یحرسه ویرد عنه الغوائل من وحش أو غیره.

وکانت تراود النبي(صلی الله علیه و آله) إرهاصات النبوّة في صورة أحلام صادقة فلا یری رؤیا إلّا جاءت کفلق الصبح أو في صورة إلهام صائب، أو حدیث یوجّه، أو تحیّة تُزف إلیه، أو بشری تخبره أنّه رسول ربّ العالمین.

حتّی جاء الیوم المنتظر، حیث کان في غار حراء، وهناك جاءه جبرئیل یقول له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، ثمّ یقول له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}(1)، ویرتاع النبي(صلی الله علیه و آله) لما رأی وسمع... ویرجع إلی خدیجة مسرعاً یرجف فؤاده وترتعد أوصاله، قائلاً لها: زمّلوني و زمّلوني، وتزمِّله خدیجة وتضمّه إلی صدرها حتّی یذهب عنه الروع، ثمّ تستمع إلی ما یخبرها به، قائلاً لها: لقد خشیت علی نفسي... ولکنّ خدیجة تقول له: کلّا، واللّه لایخزیك اللّه أبداً، إنّك لتصل الرحم، وتحمل الکَلّ(2)، وتکسب المعدوم(3)، وتقری الضیف، وتعین علی نوائب الحقّ(4).

وتطمئنه وتبشّره قائلة: أبشر یابن عمِّ واثبت، فوالذي نفس خدیجة بیده إنّي لأرجو أن تکون نبيّ هذه الأُمّة المنتظر.

وترکته خدیجة یستریح في فراشه، حتّی إذا رأت النوم قد تسلّل إلی جفونه، انطلقت إلی ابن عمّها ورقة بن نوفل لتخبره بما حدث لزوجها، وینتفض ورقة في حماسةً ویقول: قدّوسٌ قدّوسٌ، والذي نفس ورقة بیده، لئن کنت صدّقتني یا خدیجة، لقد جاء الناموس

ص: 427


1- . العلق: 1-3.
2- . الکَلّ: الثقل.
3- . المعدوم: أي تعطي الناس الشيء المعدوم عندهم.
4- . أُسد الغابة: ج7 ص83.

الأکبر الذي کان یأتي موسی و عیسی، وإنّه لنبيّ هذه الأُمّة، فقولي له فلیثبت.(1)

وعادت خدیجة مسرورة بما سمعت، لقد ظفرت بما کانت تتوق إلیه، وهي أن

تکون زوجة خیر البریّة.

وروت السیدة عائشة أنّ خدیجة انطلقت بالنبي(صلی الله علیه و آله) حتّی بیت ورقة، فقالت له خدیجة: یابن عمّ، اسمع من ابن أخیك، فأخبره النبي(صلی الله علیه و آله) بخبر ما رأی وسمع، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل علی موسی ، یا لیتني فیها جذَعاً، لیتني أکون حیّاً إذ یخرجك قومك. فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) : أو مُخرجي هم؟ قال: نعم، لم یأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن یدرکني یومك أنصرك نصراً مؤزّراً.(2)

وطابت نفسه بما سمع، وعاد إلی بیته مطمئنّاً مع زوجه أُمّ المؤمنین الأُولی، لیبدأ جهاده من أجل رسالته، ولیلقی في سبیلها أشقّ ما وعی التاریخ من أذیً واضطهاد.

وکانت خدیجة أوّل من آمن بالنبي(صلی الله علیه و آله) حین جاءته الرسالة، ولا عجب، فقد آمنت به قبلها حین أحسّت بصادق شعورها وإلهامها الصادق أنّه هو نبي آخر الزمان. ووقفت خلف النبي(صلی الله علیه و آله) تؤازره وتشدّ من عضده، وکان لا یسمع من قومه شیئاً یکرهه من ردٍّ علیه وتکذیب له فیحزنه، إلّا فرج اللّه بها عنه ما یکرهه ویحزنه، کانت تثبّته وتخفّف عنه وتصدّقه وتهوّن علیه أمر الناس.

ولقد قالت له یوماً حین بدأه الوحي ترید أن تثبّته وتتثبّت من أمر الوحي: یا ابن عمِّ، هل تستطیع أن تخبرني بصاحبك الذي یأتیك إذا جاءك؟ قال: نعم.

فبینا رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عندها إذ جاءه جبرئیل، فأخبرها أنّه جاء، فقالت: أتراه الآن؟ قال: نعم. فتحسّرت وألقت خمارها، ثمّ قالت: هل تراه الآن؟ قال: لا، قالت: ما هذا شیطان، إن هذا الملك یا ابن عمّ، أثبت وأبشر(3) وزادها هذه بصیرة في أمرها.

ص: 428


1- . تاریخ الطبري: ج2 ص206.
2- . تاریخ الطبري: ج2 ص206.
3- . أُسد الغابة: ج7 ص83، سیرة ابن هشام: ج1 ص238.

وظلّت خدیجة خلف النبي(صلی الله علیه و آله) وقد وضعت کلّ ما تملك من جهد ومال في خدمة النبي(صلی الله علیه و آله) وتبلیغ الرسالة، فکانت بالنسبة له وزیر صدق، ورفیق جهاد، وواحة أمان وملاذ أمن.

مع النبي(صلی الله علیه و آله) في شعب أبي طالب

واجتمعت کلمة الکفر علی محاصرة بني هاشم الذين یعضدون النبي(صلی الله علیه و آله) في شِعب أبي طالب، وأعلنت قریش علیهم حرباً ضاریة قوامها التجویع والمقاطعة، وقد سجّلت هذا الإعلان في صحیفة قاطعة ظالمة أُودعت جوف الکعبة.

ووقفت خدیجة خلف النبي(صلی الله علیه و آله) تؤیّده في سنوات المقاطعة بکلّ ما أُوتیت من قوّة وجهد، وقد ترکت دارها الفسیحة الأنیقة لتقیم مع زوجها في رکن من أرکان هذا الشِّعب تقاسي مع من فیه ضروب الأذی وألوان العناء وصنوف الاضطهاد وضراوة الجوع، في الوقت الذي کانت فیه قد کبرت وضعفت بسبب فقد أولادها الذکور من حبیبها المصطفی .

ثلاث سنوات قضتها مع بني هاشم وبني عبدالمطّلب في هذا الشِّعب القاسي، لا تبوح بشکوی، ولا تصرّح بألم، حتّی قیّض اللّه مَن قیّض لنبذ هذه المقاطعة وفكّ هذا الحصار العنیف. وانجابت المحنة، وخرج النبي(صلی الله علیه و آله) من الشِّعب، وعاد إلی بیته مع زوجه البرّة المؤمنة الصادقة.

ولم یمض وقت طویل بعد انتهاء هذه الأزمة حتّی مات أبو طالب، ومن بعده بقلیل ودّعت خدیجة الحیاة، ولفظت أنفاسها الأخیرة بین یدی زوجها الذي أحبّته ملء فؤادها وآمنت به وصدّقته وآزرته، فواراها النبي(صلی الله علیه و آله) في قبرها بالحجون قبل الهجرة بثلاث سنین. وحزن النبي(صلی الله علیه و آله) لفراقها حزناً شدیداً.

بل سمّی هذا العام الذي ذهب فیه أبو طالب ومن بعده خدیجة بقلیل: عام الحزن.

لقد فقد النبي(صلی الله علیه و آله) بفراقهما ساعدین قویّین کانا یذبّان عنه ما ینوشه من سهام قریش وأذاها. ویکفیان عنه ذئاب الوثنیة والشرك.

ص: 429

لقد تلفّت النبي(صلی الله علیه و آله) حوله، فإذا الدار بعد خدیجة موحشة، وإذا مکّة تنبو به بعد رحیلها، فلیس له علی أرضها مکان.

قال ابن إسحاق: «فتتابعت علی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الشدائد بموت خدیجة، وکانت له وزیر صدق علی الإسلام.

قال عبداللّه بن ثعلبة: لمّا توفّي أبو طالب وخدیجة بنت خویلد - وکان بینهما شهر وخمسة أیّام - اجتمعت علی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) شدّتان، فلزم بیته وأقلّ الخروج، ونالت منه قریش ما لم تکن تنال ولا تطمع به».(1)

الله یرعاه

وظنّت قریش أنّ الدعوة قد خُذلت، ولم یصبح في طوق محمّد أن یمضي بها إلی الأمام، ولکنّ ظنّها کان واهماً، وأملها کان خائباً، فعین اللّه ساهرة، وأشدّ الساعات حلکة أقربها إلی طلوع الفجر، فلئن کان أبوطالب مات فاللّه حيّ لا یموت، ولئن کانت خدیجة قد مضت فقد(علیها السلام) وأرضاها، وذهبت إلی بیت في الجنّة لا صخب فیه ولا نصب، ولقد ترکت بعدها السابقین الأوّلین من المسلمین یحیطون بالرسول ویبذلون أرواحهم فداءً له.

وأذن اللّه لدعوته أن تمضی في طریقها، فقیّض لها من عنده من یؤمن بها ویتفانی في سبیلها، لقد تلقّف الدعوة رجال من الأنصار بعیداً عن مکّة، أقبلوا في الموسم یحجّون، فبایعوا النبي(صلی الله علیه و آله) علی الإیمان والنصر، ومازالوا یتوافدون

في الموسم حتّی هاجر النبي(صلی الله علیه و آله) إلی المدینة، وقد سبقه أصحابه إلیها، فوجدوا هناك النصر والتأیید والحبّ والإیثار والبطولة والاستشهاد.

فضل خدیجة

لقد وردت الأخبار الشریفة تشیر إلی فضل هذه الزوجة الکریمة الصادقة. روی أنس أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) قال: «خیر نساء العالمین مریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم، وخدیجة

ص: 430


1- . نساء النبي، لبنت الشاطئ: ص51.

بنت خویلد، وفاطمة بنت محمّد»(1).

وروی ابن عبّاس2، قال: «خطّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في الأرض أربعة خطوط، ثمّ قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) : أفضل نساء أهل الجنّة خدیجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمّد، ومریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون»(2).

لقد استحقّت خدیجة ذلك عن جدارة، فقد کانت أوّل من صلّی مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) سرّاً وجهراً. ذکر ابن سعد في طبقاته عن الزهري، قال: «مکث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وخدیجة یصلّیان سراً ما شاء اللّه».

وذکر ما أخبر به عفیف الکندي قال: «جئت في الجاهلیة إلی مکّة وأنا أبتاع لأهلي من ثیابها وعطرها، فنزلت علی العبّاس بن عبدالمطّلب. قال: فأنا عنده وأنا أنظر إلی الکعبة وقد حلّقت الشمس فارتفعت، إذ أقبل شابّ حتّی دنا من الکعبة فرفع رأسه إلی السماء فنظر، ثمّ استقبل الکعبة، ثمّ جاء غلام حتّی قام عن یمینه، ثمّ لم یلبث إلّا یسیراً حتّی جاءت امرأة فقامت خلفهما، ثمّ رکع الشاب فرکع الغلام ورکعت المرأة، ثمّ

رفع الشابّ رأسه ورفع الغلام رأسه ورفعت المرأة رأسها، ثمّ خرّ الشابّ ساجداً وخرّ الغلام ساجداً وخرّت المرأة ساجدة.

قال: فقلت: یا عبّاس، إنّي أری أمراً عظیماً، فقال العبّاس: أمر عظیم، هل تدري من هذا الشاب؟ قلت: لا، ما أدري، قال: هذا محمّد بن عبداللّه بن عبدالمطّلب ابن أخي... هل تدري من هذا الغلام؟ قلت: لا، ما أدري، قال: علي بن أبي طالب ابن أخی. هل تدري من هذه المرأة؟ قلت: لا ما أدري. قال: هذه خدیجة بنت خویلد، زوجة ابن أخي هذا.

إنّ ابن أخي هذا الذي تری قد حدّثنا أنّ ربّه ربّ السموات والأرض أمره بهذا الدین الذي هو علیه، ولا واللّه ما علمت علی ظهر الأرض کلّها علی هذا الدین غیر هؤلاء الثلاثة.

ص: 431


1- . أخرجه ابن مردویة عن طریق أبي جعفر الرازي، وذکره ابن کثیر في التفسیر: سورة آل عمران: 42.
2- . مسند أحمد: ج1 ص316.

قال عفیف: فتمنّیت أنّي کنت رابعهم»(1).

قال : «أتانی جبریل فقال: یا رسول اللّه، هذه خدیجة قد أتتك ومعها إناء فیه إدام، فإذا أتتك فاقرأ(علیها السلام) من ربّها ومنّي، وبشّرها ببیت في الجنّة من قصب، لا صخب فیه ولا نصب»(2).

وکان النبي(صلی الله علیه و آله) یعرف لها حقّها وفضلها، وکان لا یکفّ عن الثناء علیها. وقد ورد أنّ الرسول أکثر مرّة من الثناء علی خدیجة بمسعٍ من عائشة، فأحسّت بالغیرة، فقالت: قد أبدلك اللّه خیراً منها. فتغیّر وجهه وزجر عائشة غاضباً... وقال: «واللّه ما أبدلني اللّه خیراً منها؛ آمنت بي حین کفر الناس، وصدّقتني إذ کذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس».

وزاد الطبري في هذه الروایة: «قالت: قلت: یا رسول اللّه، اعف عنّي، ولا تسمعني

أذکر خدیجة بعد هذا الیوم بشيء تکرهه»(3).

إنّ هذا الخبر یشیر إلی معرفة النبي(صلی الله علیه و آله) فضل خدیجة، وثنائه علیها بما هي أهل له. وممّا یدلّ علی أنّه کان وفیاً لذکراها، ما ذکرته عائشة بقولها: «ما غِرتُ علی أحدٍ من نساء النبي(صلی الله علیه و آله)، ما غرت علی خدیجة، وما رأیتها، ولکن کان النبي(صلی الله علیه و آله) یُکثر ذکرها، وربّما ذبح الشاة ثمّ قطّعها أعضاءً ثمّ یبعثها إلی صدیقات خدیجة، فربّما قلتُ له: کأن لم یکن في الدنیا امرأة إلّا خدیجة؟ فیقول: إنّها کانت وکانت، ویثني علیها».

وربّما کان من وفائه لها حرصه علی تتبّع أثرها، فقد اختار مکاناً إلی جوار قبرها الذي دُفنت فیه لیشرف منه علی فتح مکّة حین فتحها، وضرب فیه قبّة، وکان یلتفت بین آونة وأُخری إلی بیتها الحبیب، حیث أخذ من نبع الحبّ والحنان ما تزوّد به لذلك الکفاح المضني الطویل(4).

ویذکر المؤرّخون أنّ دار خدیجة في مکّة اشتراها معاویة بن أبي سفیان في خلافته،

ص: 432


1- . الطبقات الکبری، ج 8 ص10.
2- . مسند أحمد: ج6 ص58، صحیح البخاري: ج7 ص47، صحیح مسلم «فضائل خدیجة»: ج7 ص133.
3- . نساء النبي: ص54.
4- . نساء النبي: ص 55.

وجعلها مسجداً(1).

لقد ترکت خدیجة من بعدها للنبي(صلی الله علیه و آله) إلی جانب ما ترکته من معاني خالدة آثاراً مشهودة وذکریات محسوسة ممثّلة في بناتها الأربع: زینب ورقیّة أُمّ کلثوم وفاطمة، ولکنّهن صورة من أُمّهن العظیمة المبارکة، وبخاصّة فاطمة(علیها السلام) التي بقیت بعد النبي(صلی الله علیه و آله) وحفظت نسله الشریف الطاهر، مصداقاً لقول النبي(صلی الله علیه و آله): «کلّ بني أُنثی فإنّ عصبتهم لأبیهم، ما خلا وُلد

فاطمة فأنا عصبتهم أبوهم»(2).

وفي روایة: «کلّ بني آدم ینتمون إلی عصبته، إلّا وُلد فاطمة فأنا ولیّهم وأنا عصبتهم».

ص: 433


1- . الدرّ المنثور في طبقات ربّات الخدور لزینب بنت علي: ص 181.
2- . المعجم الکبیر للطبراني: ج 3 الرقم 2631، جمع الجوامع: ج3 ص172.

فهرس المصادر

1. أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّ الدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

2. تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968م.

3. جمع الجوامع او الجامع الكبير، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه )، مصر: الهيئة المصرية العامّة للكتاب.

4. الدرّ المنثور في التفسير المأثور، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه )، تحقيق: دار الفكر، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1403ه .

5. السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بيروت: دار الإحياء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

6. السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

7. صحيح البخاري، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الرابعة، 1410ه .

8. صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري النيسابوري (ت261ه )، تحقيق: محمّد فؤاد عبدالباقي، القاهرة: دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

1. الطبقات الكبرى (الطبقه الخامسة من الصحابة)، محمّد بن سعد الزهري (كاتب

ص: 434

الواقدي) (ت230ه )، تحقيق: محمّد بن صامل السلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

2. مسند أحمد، أحمد بن محمّد بن حنبل الشيباني (ت241ه )، تحقيق: عبداللّه محمّد الدرويش، بيروت: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1414ه .

3. المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت360ه )، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، بيروت: دار إحياء التراث العربي.

4. نساء النبي، عائشه عبدالرحمن (بنت الشاطي)، بيروت: دار الكتب العلمية، 1406ه .

ص: 435

ص: 436

21- السیّدة خدیجة: جهاد وتضحیّات

اشارة

* السیّدة خدیجة: جهاد وتضحیّات(1)

إبراهیم السباعي

ملخّص البحث:

بعد مقدّمة، يسجّل هذا البحث نبذة عن السيّدة خديجة، ويذكر ولادتها وظروف نشأتها، حيث إنّها نشأت في بيت من بيوتات قريش الشريفة، ونمت علی الأخلاق الحميدة، واتّصفت بالحزم والعقل، حتّی عُرفت في قومها بالطاهرة؛ وذلك لشدّة حرصها علی التخلّق بالخُلق الکريم والأدب العظيم. وذكر اسمها وکنيتها وألقابها وخصائصها، وأسماء أولادها، وهم: القاسم، وعبداللّه «الطيّب، والطاهر»، وفاطمة. وقيل: زينب، ورقيّة، وأُمّ کلثوم. وأنّها أوّل امرأة آمنت وصدّقت برسول اللّه، وأوّل من حملت لقب أُمّ المؤمنين، وأوّل من آزرت النبي(صلی الله علیه و آله) في صدر الإسلام ودعوته، وأوّل من أعانت علی تثبيت رکائز الدين ونشر الدعوة. ومحّص ما جاء في الأخبار عن تاريخ ولادتها وعمرها في وقت زواجها بالنبي(صلی الله علیه و آله)، وكيفية انتدابه لعملها التجاري. لقد دعمت الإسلام وأعطت کلّ ما لديها بتفانٍ وإيثار، وضحّت بکلّ ما عندها، حتّی استطاع الإسلام أن ينهض بمال خديجة وبحماية علي، حيث لا ينکر ذلك إلّا متعصّب معاند أعمی قلبه الحقد والضغينة. فقد کان لمواقف السيّدة خديجة في صدر الإسلام إلی يوم وفاتها، کلّ الدعم والتأييد للنبي والإسلام، ولنشر الدعوة بإخلاص تامّ.

ص: 437


1- بقیّة اللّه، العدد 129 (حزیران 2002): ص44 - 47.

بدایة توطئة

قد أعطی الإسلام الحنیف للأُسرة غایة في الأهمّیة، لذا فقد جاءت أحادیث النبي(صلی الله علیه و آله) وآله الأطهار: بتفصیلات تجتمع جمیعها لتولد لنا بتطبیقها سعادة أبدیة لأُسرة هنیة.

من الواضح أنّ لکلّ أُسری مبادئ وقیماً؛ تقوم علی أساس العدل وفهم کلّ واحد منهما الآخر، والرحمة والمودّة والاحترام وطلب المزید في التعمّق في شخصیة کلّ واحد للآخر.

ولا تتکامل الأُسرة إلّا بهذه المبادئ والأُمور التي تمثّل روح الأُسرة، ویعتبر الهدوء والتفاهم وحبّ کلّ واحد منهما الآخر: هو أساس بناء هذا المجتمع المصغّر الذي قامت أواصره علی أساس الرضا وکتمان السرّ في هذه المملکة الصغیرة والإخلاص والوفاء المتقابل.

هذه لیست محض نظریات ومثالیات، بل هي أمثلة حیّة لعدد من الناس، وأصدق مثالٍ علی ذلك نبیّنا الکریم محمّد(صلی الله علیه و آله) والسیّدة خدیجة بنت خویلد(علیها السلام)؛ حیث کانت المرأة الصالحة والصدیقة المخلصة النصوحة والداعمة لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ولرسالته في حیاتها، حتّی أنّها ضحّت بکلّ ما عندها من أجل الدعوة الإسلامیة. لذا حزن النبي(صلی الله علیه و آله) علی وفاتها جدّاً، وسمّی ذلك العام «عام الحزن»، أعلنها مناسبة عامّة؛ لأنّها أعطت ما عندها للإسلام ولیس من أجل مصلحة خاصّة، فسلام علیها یوم وُلدت ویوم ماتت ویوم تُبعث حیّة.

السیّدة خديجة(علیها السلام) في سطور

اسمها: خدیجة. اسم أبیها: خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ. اسم أُمّها: فاطمة بنت زائدة ابن الأصمّ، وهو جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معیص بن

عامر بن لؤي بن غالب بن فهر.

کنیتها وألقابها: الطاهرة، سیّدة قریش، القریشیة الأسدیة، أُمّ المؤمنین، أُمّ القاسم، ولقّبها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): بسیّدة نساء أهل زمانها. وقیل: کان لقبها في الجاهلیة أُمّ هند.

ص: 438

خصائصها: أوّل امرأة آمنت وصدّقت برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأوّل من حملت لقب أُمّ المؤمنین، وأوّل من آزرت النبي(صلی الله علیه و آله) في صدر الإسلام ودعوته، وأوّل من أعانت علی تثبیت رکائز الدین ونشر الدعوة.

أولادها: القاسم، وعبداللّه «الطیّب، والطاهر»، وفاطمة(علیها السلام). وقیل: زینب، ورقیّة، وأُمّ کلثوم.

ولادتها وظروف نشأتها

عند الحدیث عن ولادتها یعجز الباحث عن وضع الید علی معلومة یقینیة تثبت ذلك، حیث لم تترك ید السیاسة والتزویر حادثة تاریخیة سلیمة إلّا وتلاعبت بأطرافها، حتّی باتت ولادة نبي الإسلام محمّد(صلی الله علیه و آله) نحتفل بمناسبتها مرّتین؛ لعدم علمنا وقطعنا بالیوم المعیّن تحدیداً، فکیف بمن لیس بمنزلته .

وعلیه لم نستطع الوصول إلی وقت محدّد یعین ولادة السیّدة خديجة(علیها السلام)، إنّما ولدت في بیت مجد وسؤدد ورئاسة في قریش، حیث إنّ أباها کان زعیماً من زعماء قریش.

وأمّا أُمّها، فلا تقل أهمّیة بالمنزلة والرفعة، لذا فلا یسع السیّدة خدیجة إلّا أن تکتسب من ذي وذا عناصر الوراثة، حتّی أصبحت السیّدة الفاضلة التي یُشار إلیها بالبنان؛ لفضلها وعلوّ شأنها من بین نساء قریش، حیث لم یکن لها قرین.

وقد نشأت في بیت من بیوتات قریش الشریفة، ونمت علی الأخلاق الحمیدة، واتّصفت بالحزم والعقل، حتّی عُرفت في قومها بالطاهرة؛ وذلك لشدّة حرصها علی التخلّق بالخُلق الکریم والأدب العظیم.

مات أبوها في حرب الفِجَار، فانتقلت ولایتها إلی عمّها عمرو بن أسد، فأشرف علی إدارة شؤونها وأُمورها الأُخری.

وأمّا بالنسبة إلی عمرها المبارك، فإنّ العام الذي وُلدت فیه غیر معلوم کما ذکرت، لکن یمکننا تناول أطراف الحدیث عن عمرها وتحدید عمرها عند زواجها من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

ص: 439

فقد وردت طوائف من الروایات تتحدّث عن عمرها، وهي: 25 سنة (وصحّحه البیهقي)(1) - 28 سنة (ورجّحه کثیرون)(2) - 20 سنة(3) - 40 سنة(4) - 45 سنة(5).

وذکر غیر ذلك من الأرقام کثیر، إلّا أنّي لم أذکرها؛ لعدم جدواها، ولم أجد لها أدنی فائدة والمعوّل علی هذه الروایات.

عزیزي القارئ، طوائف الروایات بین یدیك، لا ترجیحٍ لأحدها علی غیرها، إلّا اللّهمّ استحساناً أو استنساباً، وعلیه فلا نسلّم بما یقال إنّها بلغت الأربعین عند زواجها من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، أو الخامسة والأربعین، بل ولا نعطي أدنی اهتمام لما هو مشهور ومعروف إن کانت هذه أدلّته، بل ویستحیل حملها علی الأربعین أو الخامسة والأربعین، بالأخصّ إن رجّحنا ولادة السیّدة فاطمة الزهراء بعد البعثة بخمس سنین. هذا أوّلاً.

وثانیاً: من غیر المعلوم أنّها کانت تکبر النبي(صلی الله علیه و آله)، بل کما هو

الثابت أنّ النبي کان کبرها بخمس سنین علی حدّ أقلّ، وکان عمر النبي(صلی الله علیه و آله) کما جاءت به الأخبار: أنّه تزوّج خدیجة وهو ابن ثلاثین سنة؛ أي قبل البعثة بعشر سنوات. وهناك قول آخر ورد: أنّه تزوّج خدیجة وهو ابن سبع وثلاثین سنة(6)؛ أي قبل البعثة بسنین.

ربّ صدقة خیر من میعاد

یروی أنّ السیّدة خدیجة کانت صاحبة مال وجاه، وکانت تتمتّع بحدّة الذکاء والسماحة والسخاء، وقد أحسنت إشرافها علی أموالها فزادت بمرور الأیّام، واتّسعت تجارتها إلی الشام. وفي مکّة کان قد شاع خبر الرجل الصادق الأمین صاحب الأخلاق والحسب والنسب، فبدأت الناس تتحدّث عنه وعن توفّقه الدائم في التجارة،

ص: 440


1- . دلائل النبوّة: ج2 ص71، السیرة لابن کثیر: ج1 ص265.
2- . شذرات الذهب: ج1 ص14، سیر أعلام النبلاء: ج2 ص111.
3- . السیرة النبویة: ج1 ص140، تاریخ الخمیس: ج1 ص264.
4- . المواهب اللدنیة: ج1 ص38، شذرات الذهب: ج1 ص14.
5- . مختصر تاریخ دمشق: ج2 ص275.
6- . مجمع الزوائد: ج9 ص219، تاریخ الیعقوبي: ج2 ص20.

التي کانت آنذاك مهنة معظم شباب مکّة المکرّمة. فکانوا یتاجرون بأموالهم أو یضاربون بأموال الغیر ولهم نسبة محدّدة من الأرباح.

کانت السیّدة خدیجة ممّن سمع عن صدقه وأمانته، وهي بالتالي کانت وما تزال تفتّش عن رجل أمین یُحسن إدارة أموالها وتجارتها أو تتمیة أموالها بالمضاربة بها.

رغبت بتوکیله لهذه المهمّة، فأخبرته أنّ الدافع من وراء اختیاره وتفضیله علی غیره من شباب مکّة؛ ما بلغها من صدق حدیثه وأمانته وکرم أخلاقه. لم تکتف بما سمعت عنه، فأرسلت معه في تجارته إلی الشام غلامها میسرة؛ لتراقب حرکاته وسکناته، وجمیع تصرّفاته عن کثب من خلال ما یراه میسرة.

ولا یخفی هنا رجاحة عقلها في إرسال غلامها معه لیلاحظ تصرّفاته ومعاملاته، حیث إنّ معاشرة المسافر تکشف عن خلقه الأصیل، و تکشف عمّا یخفیه الإنسان، بل وتظهر شخصیته علی حقیقتها، فهو یراه عند نومه وقیامه وبیعه وشرائه ومشیه ومعاملته

وجمیع تصرّفاته مع الناس.

سافر النبي(صلی الله علیه و آله) في تجارته إلی الشام، فکان موفّقاً جدّاً. وفي أحد الأیّام دخل میسرة مسرعاً علی سیّدته لیزفّ البشری بصدق ظنّها، وقصّ علیها کلّ ما رآه من ممیّزات لشخصیته، بدءاً من صدقه وأمانته، مروراً بأخلاقه مع الناس وما قالت الناس عنه، انتهاءً بالغمامة التي کانت تظلّله من الشمس ساعة الهاجرة.

الأنوار تتّحد وتتلاحم

بلغت خدیجة مبلغ النساء، وبدأت تعرف بفطنتها ورجاحة عقلها وفضلها في المجتمع، وقد تقدّم لخطبتها عظماء قریش؛ لشرفها وحسبها ونسبها وعظیم أدبها، حیث کانت من خیرة نساء قریش شرفاً وأکثرهن مالاً وأحسنهن جمالاً، وقد بذلوا لها الأموال. وممّن خطبها عقبة بن أبي معیط، والصلت بن أبي یهاب، وأبو جهلٍ، وأبو سفیان(1)، بل وکلّ قومها کان حریصاً علی الاقتران بها لو یقدر علیه(2).

ص: 441


1- . بحار الأنوار: ج16 ص22.
2- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص201.

وتقدّم النبي(صلی الله علیه و آله) فیمن تقدّم لخطبتها یرافقه عمّه أبو طالب ورجال من أهل بیته ونفر من قریش إلی ولیّها؛ وهو عمّها عمرو بن أسد، حیث کان قد قُتل أبوها في حرب الفِجَار(1).

وکما یُروی أنّ أبا طالب قال في خطبتها: «الحمد لربّ هذا البیت، الذي جعلنا من زرع إبراهیم، وذرّیة إسماعیل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحکّام علی الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فیه»، ثمّ أضاف: «إنّ ابن أخي هذا ممّن لا یُوزن برجل من قریش إلّا رجح به، ولا یُقاس به رجل إلّا عظم عنه، وله في خدیجة رغبة، وقد جئناك لخطبتها

إلیه برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله»(2).

وروي أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) نفسه قد أمهرها عشرین بکرة(3).

السیّدة خدیجة الزوجة المخلصة والمجاهدة

انصرفت السیّدة خدیجة لإدارة بیتها والقیام بأعباء المنزل، وهي سعیدة فرحة أنّها في خدمة محمّد(صلی الله علیه و آله)، مکلّلة بالحبّ والإخلاص، ابتداءً من الإشراف علی تربیة الأولاد، انتهاءً إلی توفیر کافّة أُمور الراحة للزوج المخلص، وجعل مستقرّه مکاناً آمناً هادئاً مناسباً للتفکّر والتأمّل الذي کان یقوم به قبل البعثة.

وعندما بُعث النبي(صلی الله علیه و آله) بالرسالة والدعوة، کانت أوّل من آمنت به وصدقته، فباتت أوّل مسلمة دخلت في الإسلام. لذا في یوم من أیّام زیارة السیّدة خدیجة لرسول اللّه في فترات اعتکافه في غار حراء، نزل الأمین جبریل علی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فقال النبي(صلی الله علیه و آله): «یا خدیجة، إنّ جبریل یقرأ علیكِ السلام من اللّه ربّ العالمین، فقالت خدیجة: اللّه السلام ومنه السلام وإلیه یعود السلام، وعلی جبریل السلام».

منذ ذلك الیوم الذي بُعث به والسیّدة خدیجة تقف إلی جواره تسانده وتؤازره وتعاونه، وتخفّف عنه ما یلاقیه من أذی قریش.

ص: 442


1- . کتاب الأوائل: ج1 ص160.
2- . فروع الکافي: ج5 ص374.
3- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص201.

مشارکتها في الدعوة

أخذت(علیها السلام) تدعو إلی اللّه بقولها وعملها، وتدفع الناس إلی الدخول في الإسلام، وکانت تلقی قبولاً مهمّاً لدی النساء. وتحمّلت مع النبي(صلی الله علیه و

آله) في أوقات الشدّة والمحنة، وفي الحصار الذي فرض علی المسلمین في شِعب أبي طالب، کانت المرأة الصابرة المحتسبة قویة العزیمة والشکیمة، کنت تری ذلك من خلال مواقفها کلّها الملیئة بالحنان والرفق، والعزم والقوّة.

لقد استحقّت بجدارة لقبها من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، أنّها سیّدة نساء أهل زمانها. وکذلك إخبارها النبي(صلی الله علیه و آله) في حیاتها: «إنّ اللّه یُبشّرك ببیت في الجنّة من قصب، لا صخب فیه ولا نصب».

لم تترك النبي(صلی الله علیه و آله) لحظة طیلة فترة حیاتها، فکانت تقدّر الأُمور حقّ قدرها، وتبذل جهدها بما أُوتیت من العطاء، وکانت تقف إلی جنب زوجها داعمة ومؤیّدة بالمال والکلمة والنفس.

سنوات الجهاد والتضحیات

عایشت(علیها السلام) الفترات العصیبة التي عاناها النبي(صلی الله علیه و آله) والمسلمون في صدر الإسلام، حیث کانت فترات مملوءة بالإیثار والتضحیات والکفاح حتّی آخر رمق، فقد رأت أوّل شهیدة في الإسلام الشهیدة سمیّة زوجة الشهید الأوّل یاسر (أُمّ عمّار)، وشاهدت المسلمین المجاهدین والمسلمات المجاهدات وهم یهاجرون الهجرة الأُولی إلی الحبشة.

تجدها في هذه المنعطفات وتلك المواقف متضرّعة إلی اللّه أن یفرّج الکرب عن المسلمین، ویثبّت أقدامهم، وأن یؤیّد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ویقوّیه علی مواصلة دعوته؛ دعوة الحقّ والصمود في مواجهة ومقاومة الکفّار والطغاة.

کانت تستمدّ أعظم سلوی وأروع آیات التثبّت الإیمانیة من زوجها الحبیب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ومن آیات القرآن البیّنات التي کانت تتابع في النزول، فیزداد المؤمنون إیماناً وهدیً وتصدیقاً.

ص: 443

لقد دعمت الإسلام وأعطت کلّ ما لدیها بتفانٍ وإیثار، وضحّت بکلّ ما عندها،

حتّی استطاع الإسلام أن ینهض بمال خدیجة وبحمایة علي ، حیث لا ینکر ذلك إلّا متعصّب معاند أعمی قلبه الحقد والضغینة.

فقد کان لمواقف السیّدة خديجة(علیها السلام) في صدر الإسلام إلی یوم وفاتها، کلّ الدعم والتأیید للنبي(صلی الله علیه و آله) والإسلام ولنشر الدعوة بإخلاص تامّ.

لذا عندما توفّیت أعلن النبي(صلی الله علیه و آله) الحداد العامّ، وسمّی ذلك العام وفاءً منه لها وتعظیماً وتخلیداً لذکراها: «بعام الحزن». أراد النبي(صلی الله علیه و آله) أن یقول: إنّ السیّدة خدیجة لم تعد تمثّل زوج النبي(صلی الله علیه و آله)، بل أصبحت رمزاً إسلامیاً عالمیاً مهمّاً.

أحسّت السیّدة خدیجة بمقدّمات المرض تتجمّع، فلازمت الفراش، اجتمع النبي(صلی الله علیه و آله) وابنته السیّدة فاطمة(علیها السلام) حولها، نظرت إلی زوجها وابنتها النظرة الأخیرة، ملیئة بالأسی علی الفراق، لکنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بشّرها باللقاء معها في الجنّة، لحظات جدّ مؤثّرة، هطلت خلالها دموع الرحمة من النبي(صلی الله علیه و آله)، وفاض قلبه بالحزن، وبکت السیّدة فاطمة(علیها السلام) وبکاها المسلمون، حیث فقدت مکّة سیّدة نساء أهل زمانها، ورجعت النفس مطمئنّة إلی ربّها راضیة مرضیة.

وقد توفّیت قبل الهجرة إلی المدینة بثلاث سنوات. فسلامٌ علیها یوم وُلدت ویوم ماتت ویوم تُبعث حیّة.

ص: 444

فهرس المصادر

1. الأوائل، أبو هلال الحسن بن عبد اللّه بن سهل العسكري (ت395ه )، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1407ه .

2.بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار:، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت1110ه )، تحقيق: دار إحياء التراث، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

3.تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، الحسين بن محمّد الديار بكري (معاصر)، بيروت: مؤسّسة شعبان.

4.تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، المعروف باليعقوبي (ت284ه )، بيروت: دار صادر.

5.دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت458ه ) تحقيق: عبدالمعطي أمين قلعجي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1405ه .

6.سير أعلام النبلاء، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1414ه .

7.السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

شذرات الذهب في أبار من ذهب، عبد الحي بن أحمد بن عماد الحنبلي الدمشقي (ابن

1. عماد) (ت1083ه ) تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، دمشق: دار ابن كثير، 1406ه .

ص: 445

2.فروع الكافي، أبو جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت328ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري محمّد الآخوندي، بيروت وطهران: دار صعب ودار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة والخامسة.

3. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807ه )، تحقيق: عبد اللّه محمّد درويش، بيروت: دار الكتب العلمية 1408ه .

4. مختصر تاريخ دمشق، محمّد بن مُكرَّم المصري الأنصاري (ابن منظور) (ت711ه )، دمشق: دار الفكر الطبعة الأُولى، 1404 و1408.

5. المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية، أحمد بن محمّد القسطلاني (ت923)، تحقيق: صالح أحمد الشامي، بيروت: المكتب الإسلامي، 1412ه .

ص: 446

22- السفر الثاني إلی الشام

اشارة

* السفر الثاني إلی الشام (1)

السید جعفر مرتضی العاملي

ملخّص البحث:

أكثر ما يركّز هذا البحث على جزئية السفر الثاني للنبي(صلی الله علیه و آله) إلى الشام في تجارة خديجة، وما ظهر لها من أمانته، وإبداء رغبتها في الزواج منه، وهي السيّدة الثرية ذات الحسب والنسب، والتي كان أشراف قومها يودّون الزواج منها. كما يتناول فيه أيضاً قضية خطبة خديجة وكيفيتها، وعمرها في ذلك الوقت. وهو يشكّك في صحّة الأخبار القائلة بإنّ خديجة كانت قد تزوّجت قبله برجلين. غير أنّ الطابع الذي يميّز هذا البحث عن سواه من البحوث الأُخرى هو الطابع النقدي الذي يتبنّاه في تعاطيه مع الأخبار والنصوص التاريخية التي تناولت هذا الموضوع؛ فهو كثيراً ما يتردّد في قبولها ويمحّصها ويستجلي ما يعتورها من ثغرات في السند أو في النصّ، مع إجراء مقارنة بين النصوص المتباينة . هذا إضافة إلى تحليل محتوى ومضامين تلك النصوص التاريخية وبيان ما تنطوي عليه من أُمور تعكس واقع الحياة والمجتمع في ذلك العصر. فكان أُسلوب البحث هو الأُسلوب المكتبي التوثيقي المقرون بنظرة تحليلية وناقدة. ومن الخصائص الأُخرى لهذا البحث تركيزه على النظر في الدلالة اللغوية للألفاظ وبيان مديات معانيها.

ص: 447


1- الصحیح من سیرة النبي الأعظم، قم: دار الحدیث للطباعة والنشر، 1426ق / 1385ش: ج2 ص189 - 221.

ویقولون: إنّه قد سافر سفره الثاني إلى الشام، وهو في الخامسة والعشرين من عمره(1).

ويقولون: إنّ سفره هذا كان في تجارة لخديجة، وإنّ أبا طالب هو الذي اقترح عليه ذلك، حينما اشتدّ الزمان، وألحت عليهم سنون منكرة، فلم يقبل أن يعرض نفسه على خديجة، فبلغ خديجة ما جرى بينه وبين أبي طالب، فبادرت هي، وبذلت للرسول ضعف ما كانت تبذله لغيره؛ لما تعرفه من صدق حديثه، وعظيم أمانته، وكرم أخلاقه.

ويروي بعضهم: أنّ أبا طالب نفسه قد كلّم خديجة في ذلك، فأظهرت سرورها ورغبتها، وبذلت له ما شاء من الأجر.

فسافر إلى الشام، وربح في تجارته أضعاف ما كان يربحه غيره، وظهرت له في سفره بعض الكرامات الباهرة، فلمّا عادت القافلة إلى مكّة أخبر ميسرة غلام خديجة سيّدته بذلك، فذكرت ذلك. بالإضافة إلى ما ظهر لها هي منه لورقة بن نوفل ابن عمّها كما يقولون وإن كنّا نحن نشكّ في ذلك(2) فقال لها: «إن كان ذلك حقّاً، فهو نبيّ هذه الأُمّة»(3). ثمّ اهتمّت خديجة بالعمل على الاقتران به كما سنرى.

هكذا يقولون، ولكنّنا نشكّ في بعض ما تقدّم، لا سيّما وأنّ ورقة لم يسلم حتّى بعد أن بعث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله). كما أنّ قولهم: إنّ خديجة قد استأجرته في تجارتها، لا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لأنّنا نجد المؤرّخ الأقدم الثبت ابن واضح المعروف باليعقوبي، يقول: «وإنّه ما كان ممّا يقول الناس: إنّها استأجرته بشيء، ولا كان أجيراً لأحدٍ قطّ»(4).

ولعلّ في عزّة نفس النبي(صلی الله علیه و آله) وإبائها، وأيضاً في تسديد اللّه تعالى

له، وأيضاً في شرف

ص: 448


1- . وفي بحار الأنوار: ج16 ص9 عن بعضهم: «أنّ سفره كان إلى سوق حُباشة بتهامة»، وكذا في كشف الغمّة: ج2 ص135 عن الجنابذي في معالم العترة.
2- . سيأتي إن شاء اللّه بعض الكلام حول بعض ما يقال عن ورقة بن نوفل ودوره في بدء الوحي.
3- . راجع: البداية والنهاية: ج2 ص296، والسيرة الحلبية: ج1 ص136.
4- . تاريخ اليعقوبي: ج2 ص21، ونقل عن سفر السعادة: «أنّه بعد البعثة، وقبل الهجرة كان يشتري أكثر ممّا يبيع، وبعد الهجرة لم يبع إلّا ثلاث مرّات، أمّا شراؤه فكثير... وأمّا شراكته مع غيره ففيها كثير من الاضطراب، وليس لنا مجال لتحقيق ذلك».

أبي طالب وسؤدده، ما يبعد كثيراً أن يكون قد صدر شيء ممّا نُسب إلى أبي طالب منه.

وعلى هذا، فقد يكون سفره إلى الشام، لا لكونه كان أجيراً لخديجة، وإنّما لأنّه كان يضارب بأموالها أو شريكاً لها، ويدلّ على ذلك تصريح رواية الجنابذي بالمضاربة(1)، فراجع.

ويؤيّده ما رواه المجلسي من أنّ أبا طالب قد ذكر له اتّجار الناس بأموال خديجة، وحثّه على أن يبادر إلى ذلك، ففعل وسافر إلى الشام(2).

زواجه بخديجة

ولقد كانت خديجة(علیها السلام) من خيرة نساء قريش شرفاً، وأكثرهنّ مالاً، وأحسنهنّ جمالاً، وكانت تُدعى في الجاهلية ب- «الطاهرة»،(3) ويُقال لها: «سيّدة قريش»، وكلّ قومها كان حريصاً على الاقتران بها لو يقدر عليه(4).

وقد خطبها عظماء قريش، وبذلوا لها الأموال، وممّن خطبها عقبة بن أبي معيط،

والصلت بن أبي يهاب، وأبو جهل، وأبو سفيان(5)، فرفضتهم جميعاً واختارت النبي(صلی الله علیه و آله)؛ لما عرفته فيه من كرم الأخلاق، وشرف النفس، والسجايا الكريمة العالية. ونكاد نقطع بسبب تضافر النصوص بأنّها هي التي قد أبدت أوّلاً رغبتها في الاقتران به .

ص: 449


1- . بحار الأنوار: ج16، ص9، كشف الغمّة: ج2 ص134 عن معالم العترة للجنابذي.
2- . بحار الأنوار: ج16 ص22 عن البكري وص3 عن الخرائج والجرائح: ص186 و187.
3- . راجع: الإصابة: ج4 ص281 - 282، والبداية والنهاية: ج2 ص294، وتاريخ الإسلام للذهبي: ج2 «الترجمة النبوية» ص152، و«قسم السيرة النبوية» ص237، وتهذيب الأسماء: ج2 ص342، والاستيعاب (بهامش الإصابة): ج4 ص279، والإصابة: ج4 ص281، وسيرة مغلطاي: ص12، وسير أعلام النبلاء: ج2 ص111، والمواهب اللدنية: ج1 ص38 و200، والروض الأنف: ج1 ص215، وتاريخ الخميس: ج1 ص264، وأُسد الغابة: ج7 ص78 ط دار الشعب، والسيرة الحلبية: ج1 ص137، والسيرة النبوية لدحلان: ج1 ص55، والثقات: ج1 ص46.
4- . انظر: البداية والنهاية: ج2 ص294، وبهجة المحافل: ج1 ص7، والسيرة النبوية لابن هشام: ج1 ص201، وتاريخ الخميس: ج1 ص263، وطبقات ابن سعد: ج1 ص131 ط دار صادر، والسيرة الحلبية: ج1 ص137، والسيرة النبوية لدحلان: ج1 ص55.
5- . بحار الأنوار: ج16 ص22.

فذهب أبو طالب في أهل بيته ونفر من قريش إلى وليّها، وهو عمّها عمرو بن أسد؛ لأنّ أباها كان قد قُتل قبل ذلك في حرب الفِجَار أو قبلها(1).

وأمّا أنّه خطبها إلى ورقة بن نوفل وعمّها معاً، أو إلى ورقة وحده(2)، فمردود بأنّه قد ادّعي الإجماع على الأوّل(3).

وأمّا أنا فلا أدري ما أقول في ورقة هذا، وفي كلّ وادٍ أثر من ثعلبة، فهو يُحشر في كلّ كبيرة وصغيرة، فيما يتعلّق بالرسول الأعظم ، وإنّ ذلك ليدعوني إلى الشكّ في كونه شخصية حقيقية أو أُسطورية.

ويُلاحظ: أنّ نفس الدور الذي يُعطى لأبيها تارةً ولعمّها أُخرى، يُعطى لورقة بن نوفل ثالثةً حتّى الجُمل والكلمات، فضلاً عن المواقف والحركات، فلتُراجع الروايات التي تحكي هذه القضية وليُقارن بينها(4)، وسيأتي إن شاء اللّه مزيد من الكلام حول ورقة هذا.

نعود إلى القول: إنّ أبا طالب قد ذهب لخطبة خديجة، وليس حمزة الذي اقتصر عليه ابن هشام في سيرته(5)؛ لأنّ ذلك لا ينسجم مع ما كان لأبي طالب من المكانة والسؤدد في قريش من جهة، ولأنّ حمزة كان يكبر النبي(صلی الله علیه و آله) بسنتين أو بأربع(6) كما قيل من جهة أُخرى، هذا بالإضافة إلى مخالفة ذلك لما يذكره عامّة المؤرّخين في المقام.

وقد اعتذر البعض عن ذلك: بأنّ من الممكن أن يكون حمزة قد حضر مع أبي طالب فنُسب ذلك إليه(7)، وهو اعتذار واه؛ إذ لماذا لم ينسب ذلك إلى غير حمزة ممّن حضر مع أبي

ص: 450


1- . كشف الغمّة: ج2 ص139، بحار الأنوار: ج16 ص12 عنه وص19 عن الواقدي، وانظر: الأوائل لأبي هلال: ج1 ص160، وفي السيرة الحلبية: ج1 ص138: «إنّ المحفوظ عن أهل العلم أنّه مات قبل الفِجَار»، وتاريخ الخميس: ج1 ص264، وتهذيب تاريخ دمشق: ج1 ص303 عن الواقدي، والإصابة: ج4 ص282، والبداية والنهاية: ج2 ص296.
2- . بحار الأنوار: ج16 ص19 عن الواقدي، السيرة الحلبية: ج1 ص129، الكافي: ج5 ص374 - 375، وفيه أنّ ورقة كان عمّ خديجة، وكذا في بحار الأنوار: ج16 ص14 و21 عنه وعن البكري، وهو غير صحيح؛ لأنّ ورقة هو ابن نوفل بن أسد، وخديجة هي بنت خويلد بن أسد.
3- . السيرة الحلبية: ج1 ص137.
4- . انظر: المصادر المتقدّمة والآتية.
5- . انظر: سيرة ابن هشام: ج1 ص201، والسيرة الحلبية: ج1 ص138، ونقل أيضاً عن المحبّ الطبري.
6- . تقدّمت مصادر ذلك حين الحديث حول إرضاع ثويبة لرسول اللّه .
7- . السيرة الحلبية: ج1 ص139.

طالب من بني هاشم وغيرهم من القرشيين؟!.

ويظهر: أنّ ثمّة من يهتمّ بسلب هذه المكرمة عن أبي طالب ، وإعطائها لأيٍّ كان من الناس سواه، سواء لحمزة أو لغيره، ولا ضير في ذلك عنده ما دام أنّه قد استشهد في وقت مبكّر.

خطبة أبي طالب

وعلى كلّ حال، فقد خطبها أبو طالب له قبل بعثته بخمس عشرة سنة على المشهور.

وقال في خطبته - كما يروي المؤرّخون - : «الحمد لربّ هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرّية إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه. ثمّ إنّ ابن أخي هذا - يعني رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) - ممّن لا يُوزن برجل من قريش إلّا رجح به، ولا يُقاس به رجل إلّا عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلاً في المال؛ فإنّ المال رفد جار وظلّ زائل، وله في خديجة رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه،

عاجله وآجله. وله وربّ هذا البيت حظّ عظيم، ودين شائع، ورأي كامل»(1).

نظرة في كلمات أبي طالب

وخطبة أبي طالب المتقدّمة تظهر مكانة الرسول الفضلى في قلوب الناس، وهي صريحة في أنّ الناس كانوا يجدون في الرسول علامات النبوّة ونور الهداية، ويتوقّعون أن يكون هو الذي بشّر به عيسى وموسى ، وأنّه كان لا يُوزن به أحد إلّا رجح به، ولا يُقاس به رجل إلّا عظم عنه.

ص: 451


1- . الكافي: ج5 ص374 - 375، بحار الأنوار: ج16 ص14 عنه وص16 عن من لا يحضره الفقيه: ص413، وفي ص5 عن شرف المصطفى والكشّاف وربيع الأبرار والإبانة لابن بطة والسيرة للجويني عن الحسن والواقدي وأبي صالح والعتبي، والمناقب: ج1 ص42، والسيرة الحلبية: ج1 ص139، وتاريخ اليعقوبي: ج2 ص20، والأوائل لأبي هلال: ج1 ص162، وتاريخ الخميس: ج1 ص264، والمواهب اللدنية: ج1 ص39، وبهجة المحافل: ج1 ص48، والسيرة النبويّة لدحلان: ج1 ص55.

ثمّ إنّ كلمات أبي طالب تدلّ دلالة واضحة على ما كان يتمتّع به بنو هاشم، من شرف وسؤدد، حتّى ليقول : «وجعلنا الحكّام على الناس».

وتدلّ أيضاً على أنّ العرب كانت تعتبر الحرم موضع أمن للقاصي والداني، وقد تقدّم ما يدلّ على ذلك أيضاً. ثمّ إنّ حديثه عن فقر النبي(صلی الله علیه و آله)، وإعطاء الضابطة للتفضيل بين الرجال، يدلّ على واقعية أبي طالب، وأنّه ينظر إلى الإنسان بمنظار سام ونبيل، كما أنّه يتعامل مع الواقع بحنكة ووعي وأناة.

وبعد، فإنّ كلماته تلك تدلّ أيضاً على أنّ قريشاً كانت تعتبر انتسابها إلى إبراهيم وإسماعيل وسدانتها للبيت، كلّ شيء بالنسبة لها، وقد أشرنا إلى هذا الأمر في الفصل الأوّل.

ولتُراجع خطبة أبي طالب حين موته، والتي يخاطب بها قريشاً؛ فإنّها خطبة جليلة لا تبتعد عن هذه الخطبة في مراميها وأهدافها.

ودين شائع

ويتساءل بعض المحقّقين هنا: أنّه كيف يمكن الجمع بين قوله: «ودين شائع»، وبين قوله تعالى: (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ)(1)، وقوله: (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ) (2).

وجوابه:

أوّلاً: قد يُقال: إنّ الآيات ربّما تكون ناظرة إلى المراحل الأُولى من حياة النبي الأعظم ، فهو لم يكن يعلم ثمّ علم، وأمّا متى علم، فالآيات لا تحدّد لنا ذلك؛ فلربّما يكون قد علم حينما كان في سنّ العشرين مثلاً، أو قبل ذلك أو بعده.

بل لعلّه علمه منذ صغره، فقد دلّت الروايات على أنّه كان نبيّاً منذ ذلك الحين، بل في الروايات: «كنت نبيّاً وآدم بين الروح والجسد»، أو نحو ذلك.

وثانياً: إنّ السيّد الطباطبائي يقول: إنّ الآيات ناظرة إلى نفي العلم التفصيلي، أمّا العلم الإجمالي فقد كان موجوداً؛ لأنّ عبد المطّلب وأبا طالب وغيرهما كانوا مؤمنين

ص: 452


1- . الشورى: 52.
2- . القصص:86.

باللّه وكتبه إجمالاً، والنبي أيضاً كذلك(1)، لا سيّما إذا قوّينا أنّه كان نبيّاً منذ صغره كما ذهب إليه البعض ولسوف يأتي ذلك إن شاء اللّه تعالى في فصل بحوث تسبق السيرة.

وثالثاً: إنّ من معاني الدين: «السيرة، والتدبير، والورع، والعادة، والشأن»، فلعلّ القصد في هذه العبارة كان إلى أحد هذه المعاني.

ورابعاً: إنّ هذه الآيات بمثابة قضية شرطية مفادها: أنّه لولا لطف اللّه به لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان؛ لأنّك أنت بنفسك وبما لديك من قدرات ذاتية لست قادراً على شيء، وكذلك هو لم يكن يرجو ذلك لولا اللّه سبحانه.

وخامساً: لماذا لا يكون المقصود بالدين الشائع هو دين إبراهيم ؟

وسادساً: قد يكون المقصود هو التنبّؤ بما سيكون له في المستقبل من حيث إنّ أبا طالب أدرك ممّا يراه له من معجزات أنّه نبي، وأنّه سيكون خاتم الرسل والأنبياء.

مهر خديجة(علیها السلام)

وعلى كلّ حال، فإنّ أبا طالب قد ضمن المهر في ماله، كما هو صريح خطبته، ولكنّ خديجة رضوان اللّه تعالى عليها عادت فضمنت المهر في مالها، فقال البعض: يا عجبا! المهر على النساء للرجال؟! فغضب أبو طالب وقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طُلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإن كانوا أمثالكم لم يُزوّجوا إلّا بالمهر الغالي.

ولكن يبقى أنّ بعض الروايات تفيد: أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) نفسه قد أمهرها عشرين بكرة(2)، وذلك ينافي أن يكون أبو طالب قد ضمن المهر، أو هي ضمنته دونه، أو هي لأبي طالب، إلّا أن يكون المراد أنّه قد أمهرها بواسطة أبي طالب.

وقيل: إنّ عليّاً هو الذي ضمن المهر، قالوا: «وهو غلط؛ لأنّ عليّاً لم يكن وُلد على جميع الأقوال في مقدار عمره»(3).

ص: 453


1- . انظر: تفسير الميزان: ج18 ص77.
2- . السيرة الحلبية: ج1 ص138، وانظر: تاريخ الخميس: ج1 ص265، والسيرة النبويّة لابن هشام: ج1 ص201، والسيرة النبويّة لابن كثير: ج1 ص263، والسيرة النبويّة لدحلان: ج1 ص107.
3- . السيرة الحلبية: ج1 ص139 عن الفسوي في كتاب: «ما روى أهل الكوفة مخالفاً لأهل المدينة»، سيرة مغلطاي: ص12، الأوائل: ج1 ص161.

ويُردّ عليه: أن ثمّة أقوالاً وإن كنّا نقطع بعدم صحّتها تفيد أنّه قد وُلد قبل البعثة بعشرين، أو بثلاث وعشرين سنة، ولذا قال مغلطاي: «وهو غلط، كان عليّ إذ ذاك صغيراً لم يبلغ سبع سنين»(1).

ونحن نغلّط هذه الأقوال ونستغربها؛ إذ إنّ ذلك معناه أنّه قد استشهد وعمره ستّ وسبعون سنة، وهو ما لم يقل به أحد. فنحن لا نقبل قول مغلطاي، ولا نقبل قول أُولئك الذين يزعمون أنّه قد ضمن المهر؛ وذلك لما سيأتي في تاريخ ميلاده عليه الصلاة

والسلام.

ثمّ نقول: إنّ أبا هلال العسكري ذكر أنّه لمّا قيل: من يضمن المهر؟ قال عليٌّ وهو صغير: «أبي. فلمّا بلغ الخبر أبا طالب جعل يقول: بأبي أنت وأُمّي»(2).

ولربّما يمكن تقريب هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يُقال: من أنّ عليّاً قد ولد قبل البعثة بعشر أو بخمس عشرة سنة أو ستّ عشرة سنة، بل بثلاث وعشرين سنة، حسب بعض الأقوال النادرة. ثمّ قارنّا بينها وبين الأقوال التي تقرّر: أنّه قد تزوّج خديجة وهو ابن ثلاثين سنة؛ أي قبل البعثة بعشر سنوات، سنة ولادة علي ، أو وهو ابن سبع وثلاثين سنة، كما عن ابن جريج(3)؛ أي قبل البعثة بثلاث سنوات. وقيل: تزوّجها قبل البعثة بخمس سنين(4)، فلعلّه قد قال ذلك وهو طفل صغير، فاستحسن ذلك منه أبوه أبو طالب.

وعن مقدار المهر، قيل: إنّه عشرون بكرة، وقيل: اثنا عشر أُوقية ونشّ؛ أي ما يعادل

ص: 454


1- . سيرة مغلطاي: ص12.
2- . الأوائل لأبي هلال العسكري: ج1 ص161.
3- . انظر: تاريخ الخميس: ج 1 ص264، وانظر: مجمع الزوائد: ج9 ص219. وذكرت بعض الأقوال في التبيين في أنساب القرشيين: ص62، وتاريخ اليعقوبي: ج2 ص20، ومختصر تاريخ دمشق: ج2 ص275: قيل: تزوّجها وهو ابن ثلاثين سنة، وكذا في الاستيعاب (بهامش الإصابة): ج4 ص288، وسيرة مغلطاي: ص12، ومثله في المواهب اللدنية: ج1 ص38 و202، والروض الأنف: ج1 ص216.
4- . الأوائل: ج1 ص161.

خمس مئة درهم، وقيل غير ذلك(1).

عمر خديجة حين الزواج

ويُلاحظ هنا مدى الاختلاف والتفاوت في عمر خديجة حين اقترانها بالرسول الأكرم ، وهي تتراوح ما بين ال 25 سنة إلى ال 46 سنة، وهي على النحو الآتي:

ألف . 25 سنة، وصحّحه البيهقي(2).

ب . 28 سنة هو ما رجّحه كثيرون(3).

ج . 30 سنة(4).

د . 35 سنة(5).

ه . 40 سنة(6).

و . 44 سنة(7).

ص: 455


1- . انظر: السيرة الحلبية: ج1 ص138 و139.
2- . دلائل النبوّة للبيهقي ط دار الكتب العلمية: ج2 ص71، البداية والنهاية: ج2 ص294 - 295، محمّد رسول اللّه «سيرته وأثره في الحضارة»: ص45، وانظر: السيرة النبويّة لابن كثير: ج1 ص265، والسيرة الحلبية: ج1 ص140.
3- . شذرات الذهب: ج1 ص14، واقتصر عليه في بهجة المحافل: ج1 ص8، ورواه عن ابن عبّاس كلّ من: أنساب الأشراف «قسم حياة النبيّ »: ص98، وتهذيب تاريخ دمشق: ج1 ص303، وسير أعلام النبلاء: ج2 ص111، ومختصر تاريخ دمشق: ج2 ص275، وبحار الأنوار: ج16 ص12 عن الجنابذي، كلّهم عن ابن عبّاس. ورواه في مستدرك الحاكم: ج3 ص182 عن ابن إسحاق دون أن يذكر له قولاً آخر، وانظر: سيرة مغلطاي: ص12، والمحبّر: ص79، وتهذيب الأسماء: ج2 ص342، وتاريخ الخميس: ج1 ص264، والسيرة الحلبية: ج1 ص140.
4- . انظر: السيرة الحلبية: ج1 ص140، وتاريخ الخميس: ج1 ص264، وسيرة مغلطاي: ص12، وتهذيب تاريخ دمشق: ج1 ص303.
5- . البداية والنهاية: ج2 ص295، السيرة النبويّة لابن كثير: ج1 ص265، وانظر: السيرة الحلبية: ج1 ص140.
6- . أنساب الأشراف «قسم حياة النبي »: ص98، سيرة مغلطاي: ص12، المحبّر: ص49، المواهب اللدنية: ج1 ص38 و202، شذرات الذهب: ج1 ص14، تاريخ الخميس: ج1 ص264، أُسد الغابة «دار الشعب»: ج7 ص80، السيرة الحلبية: ج1 ص140، السيرة النبوية لدحلان: ج1 ص55 ط دار المعرفة، وانظر: تاريخ الإسلام للذهبي: ج2 ص152، مختصر تاريخ دمشق: ج2 ص275، وتهذيب الأسماء: ج2 ص342، والطبقات الكبرى لابن سعد ط صادر: ج1 ص132، وبحار الأنوار: ج16 ص12 - 19، وتهذيب تاريخ دمشق: ج1 ص303 عن حكيم بن حزام.
7- . تهذيب تاريخ دمشق: ج1 ص303 عن الواقدي.

ز . 45 سنة(1).

ح . 46 سنة(2).

وقد تقدّم أنّ الكثيرين قد رجّحوا القول الثاني، كما ذكره ابن العماد، أمّا البيهقي فقد صحّح القول الأوّل، حيث قال: «بلغت خديجة خمساً وستّين سنة، ويُقال:

خمسين سنة، وهو أصحّ»(3).

فإذا كانت «رحمها اللّه» قد تزوّجت برسول اللّه قبل البعثة بخمس عشرة سنة كما جزم به البيهقي نفسه(4)، فإنّ ذلك معناه: أنّ عمرها حين زواجها كان خمساً وعشرين سنة، ورجّح هذا القول غير البيهقي أيضاً(5).

أمّا الحاكم، الذي روى لنا القول الثاني المتقدّم عن ابن إسحاق، فإنّه لم يوضّح لنا حقيقة ما يذهب إليه، غير أنّه حين روى عن هشام بن عروة قوله: «إنّ خديجة قد توفّيت وعمرها خمس وستّون سنة»، قال: «هذا قول شاذّ، فإنّ الذي عندي: أنّها لم تبلغ ستّين سنة»(6).

فكلامه هذا يدلّ على أنّه يعتبر القول بأنّها قد تزوّجت بالنبي وعمرها أربعون سنة، شاذّ، ويرى أنّ عمرها كان أقلّ من خمس وثلاثين حينئذٍ، ولكنّه لم يبين القول الذي يذهب إليه، هل هو ثلاثون؟ أو ثمان وعشرون؟ أو خمس وعشرون؟

يتيم قريش، أُكذوبة مفضوحة

وعن ابن إسحاق: «أنّ خديجة قالت له : يا محمّد، ألا تتزوّج؟ قال: ومن؟ قالت: أنا، قال: ومن لي بك؟ أنت أيّم قريش وأنا يتيم قريش. قالت: اخطب...» إلخ(7).

ص: 456


1- . تهذيب الأسماء: ج2 ص342، مختصر تاريخ دمشق: ج2 ص275 عن الواقدي، السيرة الحلبية: ج1 ص140، وانظر: سيرة مغلطاي: ص12، وتاريخ الخميس: ج1 ص301.
2- . انظر: أنساب الأشراف «قسم حياة النبي »: ص98.
3- . دلائل النبوّة: ج2 ص71.
4- . دلائل النبوّة: ج2 ص72 ط دار الكتب العلمية، البداية والنهاية: ج2 ص295، وغير ذلك كثير.
5- . محمّد رسول اللّه، سيرته وأثره في الحضارة: ص45.
6- . مستدرك الحاكم: ج3 ص182.
7- . السيرة الحلبية: ج1 ص138.

بل يذكر البعض: أنّ أبا طالب قال للنبي(صلی الله علیه و آله): «أخاف ألّا يفعلوا، أيّم قريش وأنت يتيم قريش،

ثمّ إنّ أبا طالب أرسل بدلاً عنه حمزة؛ لأنّه خاف إن ذهب بنفسه أن يردّوه فتكون الفضيحة»(1).

وفي نصٍّ آخر: «أنّ خديجة حين طلبت من أبي طالب أن يخطبها لمحمّد من عمّها، قال أبو طالب لها: يا خديجة، لا تستهزئي»(2).

ونحن لا نشكّ في كذب كلّ ذلك؛ إذ كيف يمكن أن يصدر ذلك من رجل يزيد عمره على الخمس وعشرين عاماً أن يصف نفسه بأنّه يتيم، هذا مع العلم بأنّه قد نشأ وتربّى في أعرق بيت في العرب، فكيف لم يكن يعرف أنّ اليتيم لا يُطلق في لغة العرب إلّا على غير البالغ؟

وأيضاً، فإنّ صدور ذلك من رجل هو في عقل وإدراك، وشخصية النبي(صلی الله علیه و آله)، والذي هو من أعرق عائلة عربية وأشرفها، والذي كان في إبائه وسموّ نفسه يفوق كلّ وصف ويتجاوز كلّ حدّ إنّ صدور ذلك منه يكاد يلحق بالمستحيلات والممتنعات.

ثمّ إنّه لماذا اتّصف محمّد(صلی الله علیه و آله) فقط باليتم؟ مع أنّ عبد المطّلب قد مات وابناه العبّاس وحمزة صغيران لم يبلغا الحلم؟!(3)

والظاهر هو أنّ هذا من مجعولات أعداء الدين، أو من أهل الكتاب، أو من أذناب بني أُميّة الذين كانوا يحاولون الحطّ من شأن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كما قدّمناه في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

وهكذا يُقال تماماً بالنسبة لما يُنسب لأبي طالب ، لا سيّما وأنّه هو نفسه يُقرِّض النبي بذلك التقريض العظيم المتقدّم. ولعلّ الأصحّ هو أنّ القائل لذلك هو نساء قريش، كما سيأتي حين الحديث عن عدم صحّة ما يُقال من زواجها من رجلين قبله .

ص: 457


1- . الأوائل لأبي هلال العسكري: ج1 ص160 - 161.
2- . السيرة الحلبية: ج1 ص138.
3- . هذا ما ذكره المحقّق البحّاثة السيّد مهدي الروحاني حفظه اللّه.

وهكذا يُقال تماماً بالنسبة لما يُقال: من أنّ عمّها كان يأنف من أن يزوّجها من

محمّد يتيم أبي طالب(1)، فاحتالت هي عليه حتّى سقته الخمر، فزوّجها في حال سكره؛ فلمّا أفاق ووجد نفسه أمام الأمر الواقع، لم يجد بدّاً من القبول، وكذا قولهم: إنّه قد دخل على خديجة قبل التزويج، فأخذت بيده فضمّتها إلى صدرها(2). إلى غير ذلك من كلام عجيب وغريب، يتناقض تماماً مع كلّ أخلاق وسجايا النبي(صلی الله علیه و آله) وسيرته، فإنّ كلّ ذلك كذب، ليس الهدف منه إلّا الحطّ من كرامة النبي(صلی الله علیه و آله) وتنقّصه من قبل أعداء الإسلام ومصائد الشيطان، نعوذ باللّه من الخذلان.

هل تزوّج خديجة طمعاً في مالها؟

هذا وقد جاء في كلمات بعض المتّهمين على الإسلام كلام باطل، تكذّبه كلّ الشواهد التاريخية، وهو أنّه إنّما تزوّج خديجة طمعاً في مالها(3)، ولسنا نريد الإسهاب في الإجابة على هذا الهذيان؛ فإنّ حياة النبي(صلی الله علیه و آله) من بدايتها إلى نهايتها لخير شاهدٍ على أنّه ما كان يقيم للمال وزناً.

وقد أنفقت خديجة سلام اللّه عليها كلّ أموالها طائعة راغبة، ليس على النبي(صلی الله علیه و آله) وملذّاته، وإنّما على الدعوة إلى الإسلام، وفي سبيل هذا الدين. وأيضاً فإنّ خديجة هي التي عرضت نفسها على النبي(صلی الله علیه و آله)(4) ولم يتقدّم هو بطلب يدها، ليُقال: إنّه إنّما فعل ذلك طمعاً في مالها.

ويرى الشيخ محمّد حسن آل ياسين أنّ حبّه وتقديره لها في أيّام حياتها بل وبعد مماتها، حتّى لقد كان ذلك منه يثير بعض زوجاته اللواتي ما رأين ولا عشن مع

ص: 458


1- . السيرة الحلبية: ج1 ص138، تاريخ الإسلام (السيرة النبويّة): ص65 ط دار الكتاب العربي، مسند أحمد: ج1 ص312، مجمع الزوائد: ج9 ص220.
2- . السيرة الحلبية: ج1 ص140.
3- . النبوّة للشيخ محمّد حسن آل ياسين: ص63.
4- . البداية والنهاية: ج2 ص294، السيرة الحلبية: ج1 ص137، السيرة النبويّة لابن هشام: ج1 ص200 - 201، تاريخ الخميس: ج1 ص264.

خديجة، دليل واضح على بطلان هذا الزعم(1).

خديجة مثل أعلى

وبالنسبة لعرض خديجة نفسها عليه نقول: هكذا تفعل الحرّة العاقلة اللبيبة، فلا تغرّها زبارج الدنيا وبهارجها، ولا تبحث عن اللذّة لأجل اللذّة، ولا عن المال والشهرة، وإنّما تبحث عمّا يخدم هدفها الأسمى في الحياة، فتفعل كما فعلت خديجة تردّ زعماء قريش أصحاب المال والجاه والقدرة والسلطان، وتبحث عن رجل فقير لا مال له، تبادر هي لعرض نفسها عليه؛ لأنّ كلّ ذلك لا يملأ عينها؛ لأنّه كلّه ربّما يكون سبباً في تدمير الحياة والإنسان، وحتّى الإنسانية جمعاء، وإنّما هي تنظر فقط إلى الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة، وإلى الواقعية في التعامل والسموّ في الهدف؛ لأنّ كلّ ذلك هو الذي يسخّر المال والجاه والقوّة، وكلّ شيء لخدمة الإنسان والإنسانية وتكاملها في الدرجات العلى.

خديجة بين نساء قريش

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ عامّة المؤرّخين على اختلاف أذواقهم ومشاربهم ونحلهم يقولون: إنّ خديجة كانت أجمل نساء قريش، كما أنّه لا ريب في أنّها أفضل نسائه صلوات اللّه وسلامه عليها، ولعلّ ذلك يفسّر لنا السبب في غيرة بعض نساء النبي(صلی الله علیه و آله) منها حتّى بعد وفاتها، بحيث كنّ يحاولن تنقّصها والإزراء عليها باستمرار، مع أنّهنّ لم يدركنها في بيت الزوجية أصلاً.

هذا، ولعلّ أُمّ سلمة تأتي في المرتبة الثانية بين أزواجه بعد خديجة، فضلاً وإخلاصاً وولاءً، وحتّى جمالاً، كما يظهر من كلام للإمام الباقر .

وعلى كلّ حال، فقد كانت ذوات الجمال والإخلاص من أزواجه يواجهن الغيرة القاتلة، والتآمر المستمرّ من قبل البعض الآخر من نسائه ممّن لم يكن لهنّ نصيب من جمال ولا من

ص: 459


1- . كتاب النبوّة: ص63.

التزام تامّ بالأدب النبويّ الكريم، بل كنّ يؤذينه بمواقفهنّ وتصرّفاتهنّ(1).

هل تزوّجت خديجة بأحد قبل النبي(صلی الله علیه و آله)؟

ثمّ إنّه قد قيل: إنّه لم يتزوّج بكراً غير عائشة، وأمّا خديجة فيقولون: إنّها قد تزوّجت قبله برجلين، ولها منهما بعض الأولاد، وهما: عتيق بن عائذ بن عبد اللّه المخزومي، وأبو هالة التميمي.

أمّا نحن فنقول: إنّنا نشكّ في دعواهم تلك، ونحتمل جدّاً أن يكون كثير ممّا يُقال في هذا الموضوع قد صنعته يد السياسة، ولا نريد أن نسهب في الكلام عن اختلافهم في اسم أبي هالة، هل هو النبّاش بن زرارة أو عكسه، أو هند أو مالك؟ وهل هو صحابي أو لا؟ وهل تزوّجته قبل عتيق، أو تزوّجت عتيقاً قبله؟(2)

ولا في كون هند الذي ولدته خديجة هو ابن هذا الزوج أو ذاك، فإن كان ابن عتيق فهو أُنثى(3)، وإلّا فهو ذكر، وأنّه هل قُتل مع علي في حرب الجمل، أو مات بالطاعون بالبصرة(4).

لا، لا نريد أن نطيل بذلك، وإنّما نكتفي بتسجيل الملاحظات التالية:

أوّلاً: قال ابن شهر آشوب: «وروى أحمد البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص: «أنّ النبي(صلی الله علیه و

آله) تزوّج بها، وكانت عذراء».

يؤكّد ذلك ما ذُكر في كتابي الأنوار والبدع: «أنّ رقيّة وزينب كانتا ابنتي هالة أُخت خديجة»(5).

ثانياً: قال أبو القاسم الكوفي: «إنّ الإجماع من الخاصّ والعامّ، من أهل الأنال

ص: 460


1- . سيأتي لذلك مزيد توضيح في فصل: «حتّى بيعة العقبة» من هذا الكتاب.
2- . انظر: الأوائل: ج1 هامش ص159.
3- . انظر: المصدر نفسه. وقال: «إنّ هنداً هذه قد تزوّجت من صيفي بن عائذ، فولدت محمّد بن صيفي».
4- . للاطّلاع على هذه الاختلافات وغيرها راجع المصادر التالية وقارن بينها: الإصابة: ج3 ص611 - 612، ونسب قريش لمصعب الزبيري: ص22، والسيرة الحلبية: ج1 ص140، وقاموس الرجال: ج10 ص431، ونقل عن البلاذري وأُسد الغابة: ج5 ص12 و 13 و71، وغير ذلك.
5- . مناقب آل أبي طالب: ج1 ص159، وبحار الأنوار، ورجال المامقاني، وقاموس الرجال، كلّهم عن المناقب.

[الآثار ظ] ونقلة الأخبار، على أنّه لم يبق من أشراف قريش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم، إلّا من خطب خديجة ورام تزويجها، فامتنعت على جميعهم من ذلك، فلمّا تزوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) غضب عليها نساء قريش وهجرنها، وقلن لها: خطبك أشراف قريش وأُمراؤهم فلم تتزوّجي أحداً منهم، وتزوّجتي محمّداً يتيم أبي طالب، فقيراً لا مال له؟!

فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة يتزوّجها أعرابي من تميم، وتمتنع من سادات قريش وأشرافها على ما وصفناه؟! ألا يعلم ذوو التمييز والنظر أنّه من أبين المحال وأفظع المقال؟!»(1).

وأمّا الردّ على ذلك بأنّه لا يمكن أن تبقى امرأة شريفة وجميلة هذه المدّة الطويلة بلا زواج، فليس على ما يرام؛ لأنّ ذلك لا يبرّر رفضها لعظماء قريش وقبولها بأعرابي من بني تميم.

وأمّا كيف يتركها أبوها أو وليّها بلا تزويج؟ فقد قلنا: إنّ أباها قد قُتل في حرب الفِجَار، وأمّا وليّها فلم يكن له سلطة الأب ليجبرها على الزواج ممّن أراد. وبقاء المرأة الشريفة والجميلة مدّة بلا زواج ليس بعزيز، إذا كانت تصبر إلى أن تجد الرجل الفاضل الكامل، الذي كان يعزّ وجوده في تلك الفترة.

نعم، قد يكون من المستغرب أن لا يتقدّم لخطبتها أحد، خصوصاً من هي مثل خديجة في موقعها وفي ميزاتها، ولكنّ الأمر بالنسبة لخديجة ليس كذلك، فقد خطبها

عظماء قريش كما هو معلوم.

ثالثاً: كيف لم يعيِّرها زعماء قريش الذين خطبوها فردّتهم بزواجها من أعرابي بوّال على عقبيه؟!

رابعاً: قد ذكروا أنّ أوّل شهيد في الإسلام ابن لخديجة «رحمها اللّه»، اسمه الحارث

ص: 461


1- . الاستغاثة: ج1 ص70.

بن أبي هالة، استشهد حينما جهر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالدعوة(1).

ونقول: إنّ ذلك لا يمكن قبوله، حيث قد روي بسند صحيح عندهم عن قتادة: أنّ أوّل شهيد في الإسلام هو سميّة والدة عمّار(2)، وكذا روي عن مجاهد(3).

وعن ابن عبّاس: «قُتل أبو عمّار وأُمّ عمّار، وهما أوّل قتيلين قُتلا من المسلمين»(4).

إلّا أن يُدّعى: أنّ سميّة كانت أوّل من استشهد من النساء، والحارث كان أوّل من استشهد من الرجال. ولكنّه احتمال بعيد ومخالف لظاهر كلماتهم، لا سيّما وأنّ كلمة شهيد تُطلق على الذكر والأُنثى بلفظٍ واحد، مثل قتيل وجريح.

فإنّ معنى كلمة «شهيد» شخص أو ذات ثبتت لها صفة الشهادة؛ لأنّ المشتقّات تدلّ على ذات ثبت لها وصف ما، فكلمة تقي معناها: شخص له التقوى، وقائم أيضاً كذلك.

وكلمة شخص أو ذات أو نحوها، تصدق على الرجل على حدة، وعلى المرأة كذلك، وعلى كليهما معاً. وعلى هذا الأساس نفسّر كلمة: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم»، بحيث يشمل الرجل والمرأة معاً.

أمّا إذا كان المشتقّ فيه «أل» الموصولية، مثل القائم والمتّقي، فإنّ الأمر يصبح أوضح وأجلى؛ وذلك لأنّ «أل» بمنزلة «الذي»، فالقائم معناه الشخص الذي له القيام، فيصحّ أن يُراد بها الرجل والمرأة، وهما معاً أيضاً.

وعلى هذا الأساس جرت التعابير القرآنية، مثل: المتّقين، المؤمنين، الشاكرين... إلخ، فإنّها تشمل الرجل والمرأة على حدّ سواء.

ولكن قد يُحتاج إلى التنصيص على كلا الجنسين، فيصرّح بما يدلّ على مراده، فيقول: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (5)، و (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ

ص: 462


1- . الأوائل لأبي هلال العسكري: ج1 ص311 - 312، الإصابة: ج1 ص293 عنه وعن ابن الكلبي وابن حزم، محاضرة الأوائل: ص46.
2- . الإصابة: ج4 ص335، طبقات ابن سعد: ج8 ص193 ط ليدن.
3- . الاستيعاب (هامش الإصابة): ج4 ص331.
4- . صفّين للمنقري: ص325.
5- . النور: 30.

أَبْصَارِهِنَّ) (1)، ونحو ذلك، وذلك واضح لا يخفى.

فتلخّص ممّا تقدّم: أنّ هذا النصّ لا يدلّ على وجود ابن لخديجة، ما دام أنّه قد ثبت حصول الكذب في جزء منه، ولعلّ هذا الكذب قد جاء لأجل الإيحاء بطريق غير مباشر بأنّ لخديجة ولداً من النبي(صلی الله علیه و آله)، وأنّ ذلك غير قابل للنقاش، ولكن قد قيل: لا حافظة لكذوب.

خامساً: لقد روي أنّه كانت لخديجة أُخت اسمها هالة(2)، تزوّجها رجل مخزومي، فولدت له بنتاً اسمها هالة، ثمّ خلف عليها - أي على هالة الأُولى - رجل تميمي يُقال له: أبو هند، فأولدها ولداً اسمه هند.

وكان لهذا التميمي امرأة أُخرى قد ولدت له زينب ورقيّة، فماتت ومات التميمي، فلحق ولده هند بقومه، وبقيت هالة أُخت خديجة والطفلتان اللتان من التميمي وزوجته الأُخرى، فضمّتهم خديجة إليها، وبعد أن تزوّجت بالرسول ماتت هالة، فبقيت الطفلتان في حجر خديجة والرسول .

وكان العرب يزعمون أنّ الربيبة بنت، ولأجل ذلك نُسبتا إليه ، مع أنّهما ابنتا أبي هند زوج أُختها، وكذلك كان الحال بالنسبة لهند نفسه(3).

ولربّما يمكن تأييد هذه الروايات بما ورد من الاختلاف في اسم والد هند، فلتُراجع

المصادر التي ذكرناها ثمّة.

زوجتا عثمان، هل هما بنات النبي(صلی الله علیه و آله)؟!

إنّنا بالإضافة إلى ما قدّمناه آنفاً عن الاستغاثة نذكر:

أوّلاً: إن ممّا يدلّ على عدم كون زوجتي عثمان بناتٌ له عدا عن كون بعض الأقوال تنافي ذلك، ما ذكره المقدسي عن سعيد بن أبي عروة عن قتادة، قال: «ولدت خديجة

ص: 463


1- . النور: 31.
2- . لها ذكر في كتب الأنساب، فراجع على سبيل المثال: نسب قريش لمصعب الزبيري.
3- . انظر: الاستغاثة: ج1 ص68 - 69، ورسالة حول بنات النبي مطبوعة ط حجرية في آخر مكارم الأخلاق: ص6.

لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله): عبد مناف في الجاهلية، وولدت له في الإسلام غلامين وأربع بنات؛ القاسم، وبه كان يُكنّى: أبا القاسم، فعاش حتّى مشى ثمّ مات، و عبد اللّه، مات صغيراً، وأُمّ كلثوم، وزينب، ورقيّة، وفاطمة»(1).

وقال القسطلاني بعد كلام له: «وقيل: وُلد له ولد قبل المبعث، يُقال له: عبد مناف، فيكونون على هذا اثني عشر، وكلّهم سوى هذا وُلد في الإسلام بعد المبعث»(2).

كما أنّ بعضهم ينصّ على أنّه قد صحّ عنده أنّ رقيّة كانت أصغر من الكلّ حتّى من فاطمة(علیها السلام)(3). وبعد هذا، فكيف نصدّق قول من يقول: إنّهما تزوّجتا في الجاهلية من ابني أبي لهب، ثمّ جاء الإسلام ففارقاهما؟

يقول المقدسي: «فزوّج رسول اللّه رقيّة عثمان بن عفّان، وهاجرت معه في الهجرتين إلى الحبشة، وأسقطت في الهجرة الأُولى علقة في السفينة»(4).

نعم، كيف نصدّق هذا ونحن نعلم أنّ الهجرة الأُولى إلى الحبشة كانت بعد البعثة

بخمس سنين؟ فكيف تكون رقيّة قد تزوّجت قبل البعثة بابن أبي لهب ثمّ فارقها ليتزوّجها عثمان ثمّ تحمل منه قبل الهجرة إلى الحبشة، وهي إنّما وُلدت بعد البعثة؟!

إنّ ذلك لعجيب! وعجيب حقاً!

ثانياً: لقد ذكرت بعض الروايات أنّ أبا لهب قد أمر ولديه بطلاق رقيّة وأُم كلثوم بعد نزول سورة: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)(5).(6) مع أنّهم يقولون: إنّ هذه السورة قد نزلت حينما كان

ص: 464


1- . البدء والتاريخ: ج5 ص16 وج4 ص139.
2- . المواهب اللدنية: ج1 ص196.
3- . انظر: الإصابة: ج4 ص304 عن الجرجاني، والاستيعاب (بهامش الإصابة): ج4 ص282 - 299، وفي ص281 عن الزبير بن بكّار: «إنّ عبد اللّه، ثمّ أُمّ كلثوم، ثمّ فاطمة، ثمّ رقيّة، كلّهم وُلدوا بعد الإسلام»، وكذا في البداية والنهاية: ج2 ص294، ونسب قريش: ص21.
4- . البدء والتاريخ: ج5 ص17، تهذيب تاريخ دمشق: ج1 ص298.
5- . المسد: 1.
6- . نسب قريش لمصعب الزبيري: ص22، تهذيب تاريخ دمشق: ج1 ص293 و298، أُسد الغابة: ج5 ص456، الاستيعاب (بهامش الإصابة): ج4 ص299، الدرّ المنثور: ج6 ص409 عن الطبراني.

النبي والمسلمون محصورين في الشِّعب(1)، وقد كان ذلك بعد الهجرة الأُولى إلى الحبشة.

ثالثاً: لقد روي أنّ خديجة ولدت للنبي عبد اللّه، ثمّ أبطأ عليها الولد، فبينما رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يكلّم رجلاً والعاص بن وائل ينظر إليه، إذ مرّ رجل فسأل العاص عن النبي(صلی الله علیه و آله)، وقال: من هذا؟ قال: هذا الأبتر! فأنزل اللّه: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)(2).(3)

فظاهر الرواية: أنّها حين ولدت عبد اللّه لم تكن قد ولدت غيره، أو أنّ مَن ولدتهم ماتوا جميعاً حتّى لم يعد للنبي أولاد أصلاً، مع أنّ رقيّة كانت عند عثمان قبل ولادة فاطمة، فلا يصحّ وصف العاص للنبي(صلی الله علیه و آله) بالأبتر فتنزل الآية، إلّا أن يُقال: إنّ العرب لم تكن تهتمّ بالبنات، بل الميزان عندهم هو خصوص الذكور، ولأجل ذلك وصفه العاص بالأبتر.

رابعاً: قد تقدّم أنّ هناك من يقول: إنّ خديجة إنّما تزوّجت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) قبل البعثة بعشر أو بثلاث، أو بخمس سنوات، فكيف تكون رقيّة وزينب قد ولدتا

من خديجة وتزوّجتا قبل البعثة؟!

وخامساً: إنّ الدولابي يقول: «إنّ عثمان كان قد تزوّج رقيّة في الجاهلية»(4).

وذلك كلّه يؤكّد ويؤيّد أنّ رقيّة التي تزوّجها عثمان هي غير رقيّة التي يُدّعى أنّها بنت الرسول ، والتي يُقال: إنّها ولدت بعد البعثة، وأنّ التي تزوّجها عثمان هي ربيبة النبي(صلی الله علیه و آله) لا ابنته.

وقد كانت العرب تطلق على ربيبة الرجل أنّها ابنته كما قلنا. وكذلك يُقال بالنسبة لأُمّ كلثوم؛ لأنّ الفرض أنّها قد ولدت بعد البعثة أيضاً.

هل زينب بنت الرسول أم ربيبته؟

ص: 465


1- .الدرّ المنثور: ج6 ص408 عن أبي نعيم في الدلائل.
2- .الكوثر: 3.
3- . انظر: تهذيب تاريخ دمشق: ج1 ص294، والدرّ المنثور: ج6 ص404.
4- . انظر: المواهب اللدنية: ج1 ص197.

وأمّا عن زينب، فلا نستطيع أن نطمئنّ إلى أنّها كانت بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أيضاً؛ لأنّنا بالإضافة إلى أنّ ما قدّمناه آنفاً حول زوجتي عثمان، كلّه بعينه جارٍ هنا إذا كان أبو العاص بن الربيع قد تزوّجها قبل البعثة. نشير إلى ما يلي:

1. قال مغلطاي عن خديجة: «ثمّ خلف عليها أبو هالة النبّاش بن زرارة، فولدت له هنداً، والحرث، وزينب، وكانت تُكنّى أُمّ هند، وتُدعى الطاهرة»(1).

2. وعن عمرو بن دينار: «إنّ حسن بن محمّد بن علي أخبره: أنّ أبا العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان زوجاً لبنت خديجة، فجيء به للنبي(صلی الله علیه و آله) في قدّ، فحلّته زينب بنت النبي(صلی الله علیه و آله)... إلخ»(2).

فالتعبير أوّلاً ببنت خديجة يشير أنّها لم تكن ابنته ، وإن كان عاد فذكر أنّها بنت

النبي، فلا يبعد أنّه يريد بنوّتها له بالتربية، وإلّا فلماذا خصّها أوّلاً بأنّها بنت خديجة؟ فنسبتها إلى خديجة أوّلاً يكون قرينة على إرادة بنوّتها للنبي(صلی الله علیه و آله) بالتربية.

3. ويذكر الشيخ محمّد حسن آل ياسين عن زينب: «إنّ بعض المصادر تقول: إنّها ولدت وعمره ثلاثون سنة(3)، وتزوّجها أبو العاص بن الربيع قبل البعثة، وولدت له عليّاً، مات صغيراً، وأُمامة، أسلمت حين أسلمت أُمّها أوّل البعثة النبويّة»(4).

وذلك غير معقول، فإنّه لا يمكن لبنت في العاشرة أن تتزوّج ويولد لها بنت وتكبر تلك البنت حتّى تسلم مع أُمّها في أوّل البعثة؛ وهذا حيث لا تزال أُمّها في العاشرة من عمرها(5).

ولكن كلام هذا الباحث غير متين؛ لأنّ المقصود بالتي أسلمت هي وأُمّها، هو: زينب وخديجة، وليس المقصود هو أُمامة وزينب، وذلك ظاهر لا يخفى.

وبالنسبة لأُمّ كلثوم، فإنّ الروايات تذكر أنّ عليّاً حين هاجر اصطحب معه خصوص الفواطم

ص: 466


1- . سيرة مغلطاي: ص12.
2- . المصنّف للحافظ عبد الرزّاق: ج5 ص224.
3- . أُسد الغابة: ج5 ص467، نهاية الإرب: ج18 ص211، الاستيعاب (هامش الإصابة): ج4 ص311.
4- . انظر: كتاب النبوّة، هامش ص65.
5- . انظر: هامش كتاب النبوّة للشيخ محمّد حسن آل ياسين: ص65.

وأُمّ أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين(1)، وليست أُمّ كلثوم بينهم، فهل هاجرت قبل ذلك أو بعده وحدها؟ وكيف لم يصطحبها علي معه ليحميها من كيد قريش؟ ولماذا؟ ولماذا؟!

وبعدما تقدّم نستطيع أن نقول: إنّنا لا يمكن أن نطمئنّ بشكل نهائي إلى ما يُقال من أنّ عثمان قد تزوّج ابنتي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)؛ للاحتمال القويّ بأن تكونا ربيبتيه، وكذا بالنسبة لزينب زوجة أبي العاص.

وعلى هذا، فيصحّ أن يُقال لمن تزوّج ربيبة لشخصٍ: أنّ ذلك الشخص قد صاهره ونال درجة من القرب منه، وعلى هذا فلا منافاة بين ما ذكرنا، وبين قول أمير المؤمنين

لعثمان: «وقد نلت من صهره ما لم ينالا»(2).

لكن يبقى أنّ ذلك الصهر هل قام بواجباته تجاه ذلك الذي أكرمه بتزويج ربيبتيه له؟ فهذا بحث آخر، وله مجال آخر، وستأتي بعض الإشارات لما كان من عثمان في حقّ زوجتيه ربيبتي النبي الأكرم .

ومهما يكن من أمر، فقد صدر لنا كتاب باسم «بنات النبي(صلی الله علیه و آله) أم ربائبه»، وكتاب «القول الصائب في إثبات الربائب»، فليرجع إليهما من أراد التفصيل.

منافسون لعلي

ولعلّ إصرار الآخرين على بنوتهنّ له وإرسالهم له إرسال المسلّمات، يهدف إلى إيجاد منافسين لعلي في فضائله الخارجية، ولذلك أطلقوا على عثمان لقب «ذي النورين»! هذا مع العلم بأنّ سيرته لم تكن مع هاتين البنتين على ما يرام، كما سوف نشير إليه حين الحديث عن وفاتهما في هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.

ويُلاحظ أيضاً: روايتهم الموضوعة حول زواج علي ببنت أبي جهل، والتي مدح

ص: 467


1- . سيرة المصطفى: ص259، السيرة الحلبية: ج2 ص53.
2- .نهج البلاغة: ج2 ص85، أنساب الأشراف: ج5 ص60، العقد الفريد: ج3 ص376، الجمل: ص100 عن المدائني، الغدير: ج9 ص74 عن بعض من تقدّم وعن تاريخ الأُمم والملوك: ج5 ص96 وعن الكامل في التاريخ: ج3 ص63 وعن البداية والنهاية: ج7 ص168.

فيها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مصاهرة أبي العاص له ؛ تعريضاً بعلي حيث كان في مقام تحذيره والإزراء عليه.

وسيأتي أيضاً في الكتاب بعض الكلام عن هذا الموضوع إن شاء اللّه تعالى.

خؤولة هند بن أبي هالة للإمام الحسن

وقبل أن نترك الحديث حول هذا الموضوع إلى غيره، نسجّل هنا تحفّظاً على ما يُقال

من أنّ الإمام الحسن قال: «سألت خالي هنداً بن أبي هالة عن حلية رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وكان وصّافاً وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئاً أتعلّق به، قال: كان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فخماً مفخّماً...» إلخ.

قال الحسن: فكتمها الحسين بن علي زماناً، ثمّ حدّثته فوجدته قد سبقني إليه، فسأل أباه عن مدخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ومخرجه ومجلسه وشكله، فلم يدع منه شيئاً. قال الحسين: سألت أبي... إلخ(1).

أقول:

أوّلاً: سند هذا الحديث هو جميع العجلي، عن رجل من بني تميم من ولد أبي هالة، زوج خديجة أُمّ المؤمنين(علیها السلام) ، يُكنّى أبا عبد اللّه، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي... إلخ(2).

ونحن في غنىً عن التكلّم حول هذا السند؛ فإنّ الأمر فيه بيّن.

ثانياً: قد تقدّم الاختلاف في كون هند المتولّد من خديجة، هل هو ذكر أم أُنثى، وأشرنا إلى اختلافهم في أبيه من هو فيما تقدّم؟

ثالثاً: إنّ الإمام الحسن نفسه قد رأى النبي(صلی الله علیه و آله) بنفسه وعاش معه عدّة سنوات، وقد بايعه وشهد له على بعض عهوده، وخرج معه إلى مباهلة النجرانيين و...إلخ، فلماذا

ص: 468


1- .انظر: التراتيب الإدارية: ج2 ص448 - 449 فما بعدها، ودلائل النبوّة: ج2 ص286 ط دار الكتب العلمية.
2- .التراتیب الإداریة: ص447.

يشتهي أن يصف هند من رسول اللّه شيئاً يتعلّق به؟ فهل هو قد نسي جدّه يا ترى؟ وإذا كان قد نسي حقّاً، فلماذا لا يسأل أباه وهو أفصح العرب وأعلم الأُمّة، الذي ربّاه النبي(صلی الله علیه و آله) في حجره، وكان يعرف عنه كلّ شيء ممّا دقّ وجلّ؟ أم يعقل أن يكون هند مطلعاً على أحوال النبي(صلی الله علیه و آله) أكثر من علي أمير

المؤمنين ؟

على أنّنا لم نجد فيما بين أيدينا من نصوص حتّى المكذوب منها ما يشير إلى أن هنداً كان يعيش مع رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، أو بالقرب منه، أو أنّه كان يحضر مجالسه أو نحو ذلك، رغم أنّنا نسمع الكثير عن غيره ممّن كانوا يأتون إلى مجلس النبي(صلی الله علیه و آله) بين حين وآخر.

رابعاً: لا ندري لماذا كتم الحسن أخاه هذا الأمر؟ مع أنّنا لا نعرف عنه أنّه كان يستأثر لنفسه على أخيه في أُمور كهذه.

خامساً: إنّ ما تقدّم كلّه يدفع هذا الحديث ويلقي عليه ظلالاً من الريبة والشكّ.

وسادساً: لا ندري، من هو ابن أبي هالة الراوي عن الإمام الحسن ، فهل هو من أبناء خديجة أيضاً؟ فإن كان الجواب بالإيجاب، فلماذا لم يحدّثنا عنه التاريخ؟

وإن كان هو ابن لأبي هالة من امرأة أُخرى غير خديجة، فهذا ما لم يذكره التاريخ لنا أيضاً، ولا أشارت إليه كتب الأنساب، ولا ذكر في عداد الرواة، ولا في كتب الرجال.

ص: 469

فهرس المصادر

1. الإبانة عن أُصول الديانة: أبو الحسن الأشعري (ت324ه )، تحقيق: بشير محمّد عيون، بیروت: مكتبة دار البيان، الطبعة الخامسة، 1424ه .

2.الاستغاثة، أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (ت352ه )، طهران: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1373ش.

3.الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

4.أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّ الدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

5.الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن الحجر العسقلاني (ت852ه )، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمّد معوّض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

6.أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت279ه )، إعداد: محمّد باقر المحمودي، بيروت: دار المعارف، الطبعة الثالثة.

7.الأوائل، أبو هلال الحسن بن عبد اللّه بن سهل العسكري (ت395ه )، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1407ه .

8.بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار:، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت1110ه )، تحقيق: دار إحياء التراث، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

ص: 470

1. البدء والتاريخ، أحمد بن سهل البلخي (ت507ه )، مكة: مكتبة الثقافة الدينية.

2. البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت774ه )، تحقيق: مكتبة المعارف، بيروت: مكتبة المعارف الطبعة الثالثة، 1408ه .

3. بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل،

أبو زكريا يحيي بن أبي بكر الحضرمي (ت893ه )، تحقيق: زكريا عمرات، بيروت: دار الكتب العلمية، 1417ه .

4. تاريخ الإسلام للذهبي، شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748ه )، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1409ه .

5. تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، الحسين بن محمّد الديار بكري (معاصر)، بيروت: مؤسّسة شعبان.

6. تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968 م.

7. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب العبّاسي، المعروف باليعقوبي (ت284ه )، تحقيق و نشر: دار صادر، بيروت.

8. التبين في أنساب القرشيين، أبو محمّد عبداللّه بن أحمد بن قدامة (ت620ه )، تحقيق: محمّد نايف الدليمي، بيروت: عالم الكتب، 1408ه .

9. التراتيب الإدارية، محمّد عبد الحي الكناني الإدريسي الحسيني الفاسي، بيروت: شركة دار الأرقم.

10. تنقيح المقال في علم الرجال (رجال المامقاني)، عبد اللّه بن محمّد حسن المامقاني (ت1351ه )، قم: آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1423ه .

11. تهذيب الأسماء واللغات، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت671ه )، بيروت: دار الفكر، 1416ه .

12. تهذيب تاريخ دمشق الكبير، عبدالقادر بدران (ت1346ه )، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1407ه .

ص: 471

1. الثقات. أبو حاتم محمّد بن حبّان البستي (ابن حبان) (ت354ه )، تحقيق: عبد المعيد، حيدر آباد، مجلس دائرة المعارف العثمانيه، الطبعة الأُولى، 1393ه .

2. الجمل والنصرة لسيّد العترة في حرب البصرة، أبو عبداللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي (الشيخ المفيد) (ت413ه )، تحقيق: علي مير شريفي، قم: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأُولى، 1413ه .

3. الخرائج والجرائح، أبو الحسين سعيد بن هبة اللّه الراوندي (قطب الدين الراوندي) (ت573ه )، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهدي[، قم: مؤسّسة الإمام المهدي[، الطبعة الأُولى، 1409ه .

4. الدرّ المنثور في التفسير المأثور، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه )، تحقيق: دار الفكر، بيروت: دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1403ه .

5. دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت458ه ) تحقيق: عبدالمعطي أمين قلعجي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1405ه .

6. ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت538ه )، تحقيق: سليم النعيمي، قم: منشورات الرضي، الطبعة الأُولى، 1415ه .

7. رجال المامقاني = تنقيح المقال في علم الرجال.

8. الروض الأنف شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبدالرحمن بن عبداللّه السهيلي (ت581ه )، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1412ه .

9. سير أعلام النبلاء، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1414ه .

10. السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بيروت: دار الإحياء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

1.

ص: 472

2. شذرات الذهب في أبار من ذهب، عبد الحي بن أحمد بن عماد الحنبلي الدمشقي (ابن عماد) (ت1083ه ) تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، دمشق: دار ابن كثير، 1406ه .

3. الصحيح من سيرة النبي الأعظم، جعفر مرتضى العاملي (معاصر)، بيروت: دار الهادي، الطبعة الرابعة، 1415ه .

4. الطبقات الكبرى (الطبقه الخامسة من الصحابة)، محمّد بن سعد الزهري (كاتب الواقدي) (ت230ه )، تحقيق: محمّد بن صامل السلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

5. العقد الفريد، أبو عمر أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي (ت328ه )، تحقيق: أحمد أمين أحمد الزين وإبراهيم الأبياري، بيروت: دار الأندلس، الطبعة الأُولى، 1408ه .

6. قاموس الرجال، الشيخ محمّد تقي بن كاظم التستري (ت1320ه )، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1419ه .

7. الكافي، أبو جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت328ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري محمّد الآخوندي، بيروت و طهران: دار صعب ودار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة والخامسة.

8. كتاب من لا يحضره الفقيه، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1404ه .

9. الكشّاف عن حقائق التنزيل: الزمخشيري (ت538ه )، مصر، مطبعة البابي، 1385ه .

10. كشف الغُمّة، علي بن عيسى الإربلي (ت687ه )، تصحيح: السيّد هاشم الرسولي، بيروت: دار الكتاب، 1401ه .

11. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807ه )، تحقيق: عبد اللّه محمّد درويش، بيروت: دار الكتب العلمية 1408ه .

المُحبَّر، أبو جعفر محمّد بن حبيب الهاشمي البغدادي (ت245ه )، تحقيق: ايلزه

1. ليختن شتيتر، بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر، مطبعة الدائرة، 1361ه .

ص: 473

2. مختصر تاريخ دمشق، محمّد بن مُكرَّم المصري الأنصاري (ابن منظور) (ت711ه )، دمشق: دار الفكر الطبعة الأُولى، 1404 و1408.

3. المستدرك على الصحيحين، أبو عبد اللّه محمّد بن عبد اللّه الحاكم النيسابوري (ت405ه )، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1411ه .

4. مسند أحمد، أحمد بن محمّد بن حنبل الشيباني (ت241ه )، تحقيق: عبداللّه محمّد الدرويش، بيروت: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1414ه .

5. مكارم الأخلاق، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق: علاء آل جعفر، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1414ه .

6. مناقب آل أبي طالب (المناقب لابن شهرآشوب)، أبو جعفر محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ابن شهرآشوب) (ت588ه ) تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي، قم: منشورات علّامة.

7. المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية، أحمد بن محمّد القسطلاني (ت923)، تحقيق: صالح أحمد الشامي، بيروت: المكتب الإسلامي، 1412ه .

8. الميزان في تفسير القرآن (تفسير الميزان) ، العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي (1402ه )، قم: منشورات جماعة المدرّسين، طبع: مؤسّسة إسماعيليان، الطبعة الثانية، 1394ه .

9. نسب قريش، مصعب بن عبد اللّه الزبيري (ت236ه )، تحقيق: بروفنسل، القاهرة: دار المعارف.

10. نهاية الأرب في فنون الأدب، أحمد بن عبد الوهّاب النويري (ت733ه )، القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القيومي، الطبعة الأُولى، 1395 و 1396.

11. نهج البلاغة، ما اختاره أبو الحسن محمّد بن الحسين بن موسى الموسوي (الشريف الرضي) (ت406ه )، تحقيق: صبحي صالح، قم: منشورات هجرت، الطبعة الأُولى، 1395ه .

1. وقعة صفّين، نصر بن مزاحم المنقري (ت212ه )، تحقيق: عبدالسلام محمّد هارون، قم: مكتبة آية اللّه المرعشي، الطبعة الثانية، 1382ه .

ص: 474

23- السفر الثاني للنبي(صلی الله علیه و آله) إلی الشام وزواجه بخدیجة

اشارة

* السفر الثاني للنبي إلی الشام وزواجه بخدیجة (1)

محمد هادي الیوسفي الغروي

ملخّص البحث:

يركّز البحث الذي بين أيدينا على موضوع السفر الثاني لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلى الشام لأجل التجارة بأموال خديجة، ويهتمّ ببيان طبيعة اتّفاقه التجاري مع هذه السيّدة، وهل كان أجيراً لها؟ أم شريكاً؟ أم مُضارباً؟ ويستخلص من وراء ذلك كلّه من خلال التحليل التاريخي واللغوي أنّ النبي خرج إلى الشام في سفره الثاني لا بعنوان الأجير لها، بل كان مضارباً بأموالها، فالنبي لم يكن أجيراً لأحدٍ قطّ، وأمّا رعي الغنم فهو إن كان قد رعى الغنم لأحد من المكّيين كما ادُّعي عن أبي هريرة؛ فهذا العمل لا يتنافى مع العبقريات والنبوّات، ولا يضع من شأن الإنسان مهما كان، بل هو من أفضل الطاعات إذا كان في سبيل العيال والأولاد. ولا يتردّد كاتب هذا البحث عن تكذيب مجموعة من النصوص التاريخية التي لا تخلو من إساءة إلى النبي(صلی الله علیه و آله) أو انتقاصٍ من شخصية أُمّ المؤمنين السيّدة خديجة. كما يطعن أيضاً في صحّة الكثير من الأخبار التي ذكرت عمر خديجة يوم زواج النبي بها، مؤكّداً صحّة الأخبار التي نصّت على أنّ عمرها كان ثمانية وثلاثين سنة. منهج هذا البحث مكتبي توثيقي، يسرد فيه الأخبار التاريخية ويضهعا على بساط النقد والتحليل.

ص: 475


1- موسوعة التاریخ الإسلامي، قم: مجمع الفکر الإسلامي، 1333ق: ج1 ص290 - 312.

روى القطب الراوندي في كتابه الخرائج والجرائح، عن جابر(1) أنّه قال: «كان سبب تزويج خديجة محمّداً أنّ أبا طالب قال: يا محمّد: إنّي أُريد أن أُزوّجك، ولا مال لي أُساعدك به، وإنّ خديجة قرابتنا، وتخرج كلّ سنة قريشاً في مالها مع غلمانها، يتّجر الرجل لها ويأخذ وَقر بعير ممّا أتى به، فهل لك أن تخرج؟ قال: نعم. فخرج أبو طالب إليها وقال لها ذلك، ففرحت وقالت لغلامها ميسرة: أنت وهذا المال كلّه بحكم محمّد(صلی الله علیه و آله).

وربحا في ذلك السفر ربحاً كثيراً. فلمّا انصرفا قال ميسرة: لو تقدّمت يا محمّد إلى مكّة وبشّرت خديجة بما قد ربحنا لكان أنفع لك. فتقدّم محمّد على راحلته، وكانت خديجة في ذلك اليوم جالسة في غرفة لها مع نسوة، فظهر لها محمّد راكباً، ونظرت خديجة إلى غمامة عالية على رأسه تسير بسيره! فقالت: إنّ لهذا الراكب لشأناً عظيماً، ليته جاء إلى داري! فإذا هو محمّد قاصد إلى دارها، فنزلت حافية إلى باب الدار، فلمّا رجع ميسرة حدّث: أنّه ما مرّ بشجرة ولا مدرة إلّا قالت: السلام عليك يا رسول اللّه، ولمّا رأى بُحيرا الراهب الغمامة تسير على رأسه حيثما سار تظلّله النهار، خدمنا(2).

فقالت: يا محمّد، اخرج واحضرني عمّك أبا طالب الساعة. ثمّ بعثت إلى (ابن)(3) عمّها ورقة بن نوفل بن أسد: أن زوّجني من محمّد إذا دخل عليك. فلمّا حضر أبو طالب قالت: اخرجا إلى (ابن) عمّي ليزوّجني من محمّد، فقد قلت له في ذلك. فقاما ودخلا على (ابن) عمّها، وخطبها أبو طالب منه»(4).

الخاطب أبو طالب

وروى الكليني في فروع الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه الصادق أنّه قال: «لمّا أراد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أن يتزوّج خديجة بنت خويلد، أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من

ص: 476


1- . جابر الخزرجي من أنصار المدینة، فلم یکن حاضراً یومئذٍ، ولم یُسند خبره إلی أحدٍ قبله، فهو مرسل.
2- . کذا، فهل کان بحیرا في السفرتین وبینهما 15 عاماً؟ وکذلك الغمام.
3- . فیه، وفي الکافي: ج5 ص375، والسیرة الحلبیة: ج1 ص129أنّ ورقة کان عمّ خدیجة، وهو غیر صحیح، لأنّ ورقة هو ابن نوفل بن أسد، وخدیجة هي بنت خویلد بن أسد، فهما ابنا عمّ.
4- . الخرائج والجرائح: ج1 ص140 الحدیث 227 بتصرّف، وعنه في بحار الأنوار: ج16 ص3 و 4.

قريش، حتّى دخل على ورقة بن نوفل (ابن) عمّ خديجة، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال: الحمد لربّ هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرّية إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه. ثمّ إنّ ابن أخي هذا يعني رسول اللّه لا يُوزن برجل من قريش إلّا رجح، ولا يُقاس بأحد منهم إلّا عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلاً في المال، فإنّ المال رفد جار وظلّ زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي الذي سألتموه، عاجله وآجله، وله وربّ هذا البيت حظّ عظيم ودين شائع ورأي كامل.

ثمّ سكت أبو طالب، فتكلّم ابن عمّها وتلجلج، وقصر عن جواب أبي طالب، وأدركه القطع والبهر، وكان رجلاً من القسّيسين(1)، فقالت خديجة مبتدئة: يا (ابن)

عمّاه، إنّك وإن كنت أولى بنفسي منّي في (الغياب)، فلستَ أولى بي من نفسي في الشهود. قد زوّجتك يا محمّد نفسي، والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمّك فلينحر ناقة فليولم بها، وادخل على أهلك.

فقال أبو طالب: اشهدوا عليها بقبولها محمّداً وضمانها المهر في مالها. فقال بعض قريش: وا عجباه! المهر على النساء للرجال؟! فغضب أبو طالب غضباً شديداً، وقام على قدميه وقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طُلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم

ص: 477


1- . وعلیه، فلا یصحّ ما رواه في بحار الأنوار: ج16: ص19 عن الکازروني في کتابه المنتقی عن الواقدي، قال: «فلمّا أتمّ أبو طالب خطبته، تكلّم ورقة بن نوفل فقال: الحمد للّه الذي جعلنا كما ذكرت وفضّلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كلّه، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يردّ أحدٌ من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا بالاتّصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليَّ معاشر قريش بأنّي قد زوّجت خديجة بنت خويلد من محمّد بن عبد اللّه على أربعمائة دينار. ثمّ سكت ورقة، وتكلّم أبو طالب وقال: قد أحببتُ أن يُشركك عمّها، فقال عمّها: اشهدوا عليَّ يا معشر قريش أنّي قد أنكحتُ محمّد بن عبد اللّه خديجة بنت خويلد، وشهد عليَّ بذلك صناديد قريش. فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن بالدفوف، وقالت: يا محمّد، مر عمّك أبا طالب ينحر بكرة مِن بكراتك، وأطعم الناس على الباب، وهلمّ فنم القيلولة مع أهلك».

المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يُزوّجوا إلّا بالمهر الغالي!

ونحر أبو طالب ناقة، ودخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بأهله»(1).

مَن تولّى تزويج خديجة؟

وروى الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه مرسلاً: «أنّه لمّا تزوّج النبي خديجة بنت خويلد، خطبها أبو طالب إلى أبيها ومن الناس من يقول إلى عمّها ثمّ روى الخطبة، ثمّ قال: فتزوّجها ودخل بها من الغد، فكان أوّل ما حملت ولدت عبد اللّه بن محمّد(صلی الله علیه و آله)»(2).

وروى ابن إسحاق في سيرته: «إنّ خديجة بنت خويلد عرضت على رسول اللّه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً مع غلامها ميسرة، فقبل رسول اللّه، وخرج حتّى قدم الشام، فباع سلعته واشترى ما أراد، ثمّ أقبل قافلاً إلى مكّة ومعه ميسرة، فلمّا قدم مكّة

على خديجة، حدّثها ميسرة عن قول الراهب وعمّا كان يرى من إظلال الملكين إيّاه.

فلمّا أخبرها ميسرة بما أخبرها به، بعثت إلى رسول اللّه فقالت له: يا بن عمِّ، إنّي قد رغبت فيك؛ لقرابتك وسِطَتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثمّ عرضت عليه نفسها. فلمّا قالت ذلك لرسول اللّه، ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمّه حمزة بن عبد المطّلب حتّى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه، فتزوّجها»(3).

بل مرّ أنّ الذي نهض معه هو أبو طالب، وهو الذي خطب خطبة النكاح، وكان

ص: 478


1- . بحار الأنوار: ج16: ص13 و 14، عن فروع الکافي: ج5 ص374.
2- . بحار الأنوار عن کتاب من لا یحضره الفقیه: ج3 ص397 ح4389، وروی الخطبة الطبرسي في إعلام الوری: ص140، وابن شهر آشوب في المناقب: ج1 ص41 و 42 عن الجویني في السیرة عن الحسن والواقدي وأبي صالح والعتبي، وعن ابن بطة في الإبانة، وعن الزمخشري في ربیع الأبرار وفي تفسیره، وعن الخرگوشي في شرف المصطفی، وروی الخطبة الیعقوبي في تاریخه عن عمّار بن یاسر: ج2 ص20، والأوائل: ج1 ص162، والسیرة الحلبیة: ج1 ص139.
3- . سیرة ابن إسحاق: ج1 ص199 و 201، ولیس في سیرة ابن هشام ما رواه الحلبي في سیرته: ج1 ص138 عن ابن إسحاق: «إنّ خدیجة قالت له: یا محمّد، ألا تتزوّج؟ قال: من؟ قالت: أنا! قال: ومن لي بك؟ أنت أیم قریش وأنا یتیم قریش»، وتردّه الأخبار المعتبرة في الباب، سیّما ما في خطبة أبي طالب من نعت النبي وبني هاشم.

أسنّ من حمزة، وهو الذي كفل محمّداً، فلم يكن حمزة ليتزعّم الأمر دون أبي طالب، وأبو طالب هو أخو عبد اللّه لأُمّه دون سائر إخوانه أبناء عبد المطّلب، وحمزة لا يكبر النبي إلّا بسنتين أو أربع.

وانفرد ابن إسحاق بأن خويلداً أبرم هذا الزواج، أما غير ابن إسحاق، فقد ذكروا أنّ خويلداً كان قد قُتل في حرب الفِجَار، أو مات في عامه(1)، وأنّ الذي زوّج خديجة ابنُ عمّها ورقة بن نوفل بن أسد كما مرّ، أو عمّها عمرو بن أسد(2)، أو أخوها عمرو بن خويلد بن أسد، كما في الروض الأنف و شرح المواهب.

خديجة تعرض نفسها على النبي(صلی الله علیه و آله)

وجاء في رواية اليعقوبي عن عمّار بن ياسر ما يفيد أنّ خبر سفر النبي بأموال خديجة إلى الشام، وأنّ خديجة أحبّته، حيث حدّثها غلامها ميسرة بأخباره، وأنّها بعثت إلى النبي(صلی الله علیه و آله) فعرضت نفسها عليه... كان هذا قد شاع في الناس يومذاك، فكانوا يقولون: إنّها استأجرته بشيء من أموالها، وكان عمّار بن ياسر يقول: «أنا أعلم الناس بتزويج رسول اللّه خديجة بنت خويلد... أنّه ما كان ممّا يقول الناس أنّها استأجرته بشيء، ولا كان أجيراً لأحد قطّ... بل كنّا نمشي يوماً بين الصفا والمروة، إذ بخديجة بنت خويلد وأُختها هالة، فلمّا رأت رسول اللّه جاءتني هالة أُختها فقالت: يا عمّار، ما لصاحبك حاجة في خديجة؟ قلت: واللّه ما أدري. فرجعتُ فذكرتُ ذلك له، فقال: ارجع فواضعها وعدها يوماً نأتيها فيه، ففعلت.

ص: 479


1- . الخبر في طبقات ابن سعد: ج1 ص132 و 133عن الواقدي، قال: «الثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم من حديث عروة بن الزبير عن عائشة، وعن عكرمة عن ابن عبّاس: أنّ عمّها عمرو بن أسد زوّجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، وأنّ أباها مات قبل الفِجَار». وذكره تاریخ الطبري: ج2 ص282، والكامل: ج1 ص25، ونقل أصل خبر وفاته في عام الفِجَار المجلسي في بحار الأنوار: ج16 ص19 عن الكازروني في المنتقى عن الواقدي أيضاً، وذكر الخبر اليعقوبي: ج2 ص20، وتاريخ الخميس: ج1 ص264، والسيرة الحلبية: ج1 ص38، وكشف الغمّة: ج2 ص139 عن كتاب معالم العترة النبوية للجنابذي الحنبلي عن ابن عبّاس أيضاً، وذكر الطبرسي مثل ابن إسحاق في إعلام الورى: ج1 ص274، ثمّ قال: «وقيل: زوّجها عمّها عمرو بن أسد...».
2- . المصادر السابقة.

فلمّا كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمرو بن أسد (عمّها)، وطرحت عليه حبراً ودهنت لحيته بدهن أصفر... ثمّ جاء رسول اللّه في نفر مِن أعمامه، يتقدّمهم أبو طالب، فخطب أبو طالب فقال... ثمّ روى الخطبة المذكورة ثمّ قال: فتزوّجها وانصرف»(1).

هذا، ولم يرد لفظ الاستيجار فيما نعلم من الأخبار إلّا في أخبارٍ ثلاثة:

الأوّل: ما رواه الصدوق في إكمال الدين بسنده إلى بكر بن عبد اللّه الأشجعي عن آبائه: «أنّ رفاق رسول اللّه في سفره إلى الشام قالوا لأبي المويهب الراهب عنه: أنّه يتيم أبي طالب أجير خديجة»(2).

ورواه ابن شهرآشوب في المناقب(3).

الثاني: ما ساقه ابن شهرآشوب في المناقب أيضاً، قال: «كانت خديجة قد استأجرت النبي(صلی الله علیه و آله) على أن تعطيه بكرين ويسير مع غلامها ميسرة إلى الشام»(4).

الثالث: ما رواه الدولابي الحنفي في الذرّية الطاهرة بسنده عن الزهري، قال: «لمّا استوى رسول اللّه وبلغ أشدّه وليس له كثير مال استأجرته خديجة بنت خويلد إلى سوق حباشة؛ وهو سوق بتهامة، واستأجرت معه رجلاً آخر من قريش. فقال رسول اللّه: ما رأيت من صاحبةٍ لأجيرٍ خيراً من خديجة»(5). ورواه الطبري في تاريخه عن ابن سعد صاحب الطبقات بسنده عن الزهري أيضاً، لكنّه عقبه يقول: «قال محمّد بن سعد: قال الواقدي: فكلّ هذا مخلط»(6).

ص: 480


1- . تاریخ اليعقوبي: ج2 ص20، البداية والنهاية: ص29. ونقل الخبر محقّق البحار المرحوم الربّاني الشيرازي بهامش البحار: ج16 ص19، وعلّق عليه يقول: «قلت: فيها غرابة وشذوذ، ولم يرد ذلك من طرق الإمامية، بل ورد من طريق لا يُعتمد عليه»؛ وذلك لأنّه يشتمل على أنّ خديجة سقته ذلك اليوم، أي الخمر، فلمّا أصبح أنكر ثمّ أمضاه!
2- . کمال الدین: ص186.
3- . مناقب آل أبي طالب: ج1 ص40.
4- . مناقب آل أبي طالب: ج1 ص41.
5- . الذرّیة الطاهرة: ص49، ورواه الأربلي في کشف الغمّة: ج2 ص135 و 136 عن کتاب معالم العترة النبویة للجنابذي الحنبلي بسنده عن الزهري أیضاً، وذکر مثله الطبرسي في إعلام الوری: ج1 ص274.
6- . تاریخ الطبري: ج3 ص281 و 282.

هل كان النبي(صلی الله علیه و آله) أجيراً لخديجة أو مضارباً؟

ولئن كان ما افتتحنا به الفصل من خبر الخرائج عن جابر لا يعيّن نوع المعاملة وإنّما يقول: «يتّجر الرجل لها ويأخذ وقر بعير ممّا أتى به»، ممّا هو أعمّ من الإجارة والوكالة والمضاربة، فإنّ ما جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عن أبيه الهادي يصرّح بذلك، فيقول: «إنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كان يسافر إلى الشام مضارباً لخديجة بنت خويلد»(1)، وكذلك ابن إسحاق، يقول: «كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات مال وشرف، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إيّاه بشيءٍ تجعله لهم منه»(2).

وعلى هذا، فقد يكون سفره إلى الشام لا لكونه أجيراً لخديجة، بل مضارباً بأموالها.

ومجمل القول: إنّ رواية اليعقوبي عن عمّار بن ياسر تنفي أن يكون النبي أجيراً لأحد حتّى خديجة، كما تنفي أن يكون قد رعى الغنم لأحد من المكّيين كما ادُّعي عن أبي هريرة. والعمل لا يتنافى مع العبقريات والنبوّات، ولا يضع من شأن الإنسان مهما كان، بل هو من أفضل الطاعات إذا كان في سبيل العيال والأولاد وخير الناس، ولكن تاريخ محمّد منذ ولادته إلى أن بلغ سنّ الرجولة وأصبح زوجاً لخير امرأة عرفها تاريخ المرأة، ومواقف جدّه ثمّ عمّه

والمراحل التي عاش فيها معهما عزيزاً موفور الكرامة، لا يفارقهما في ليل أو نهار، يبذلان في سبيل راحته واطمئنانه الغالي والنفس، من تتبّع ذلك وأدرك أنّهما منذ طفولته كانا يترقّبان له مستقبلاً يهزّ العالم من أقصاه إلى أقصاه ويحدث تحوّلاً في تاريخ البشرية، وأنّهما كانا يخافان عليه دعاة الأديان وطواغيت العرب، لابدّ وأن يقف على أقلّ التقادير موقف المشكّك من تلك المرويات التي تنصّ على أنّه كان يرعى

ص: 481


1- . التفسیر المنسوب إلی الإمام العسکري : ص16 کما في بحار الأنوار: ج17 ص308.
2- . سیرة ابن إسحاق: ج1 ص199، ورواه عنه الطبري: ج2 ص280، وعنه الجنابذي الحنبلي في معالم العترة النبوية كما في كشف الغمّة: ج2 ص134، وعلّق المحقّق في سيرة ابن هشام يقول: «المضاربة المقارضة»، وقال الإمام الخميني في تحرير الوسيلة: ج1 ص608: «وتُسمّى المضاربة قراضاً، وهي عقد واقع بين شخصين على أن يكون رأس المال في التجارة لأحدهما والعمل من الآخر، ولو حصل ربح يكون بينهما»، ولعلّ الأمر قد التبس على المحقّق.

الغنم للمكّيين بالقراريط، ويذهب بعد ذلك أجيراً إلى الشام في تجارة خديجة بقسمٍ من الأرباح، سيّما بعد رواية اليعقوبي عن عمّار بن ياسر أنّه لم يكن أجيراً لأحد من الناس، وأنّ زواجه من خديجة لم يكن مسبوقاً بمعاملة بينهما، بل كان بناءً على رغبتها بعد أن وجدت فيه الرجل الذي يمكن أن ترتاح إليه، وقد بلغت الأربعين وأشراف قريش يطمعون في زواجها بالطمع في ثرائها، أمّا محمّد بن عبد اللّه(صلی الله علیه و آله) فقد وجدت فيه حسب المعلومات التي توفّرت لديها عنه ضرباً آخر من الرجال لا تستغويه متعة الدنيا، فطلبته إلى نفسها وأرسلت إليه من يشجّعه على خطبتها من عمّها

أو ابن عمّها.

وليس بغريب على المرأة الفاضلة كخديجة أن تطلب لنفسها محمّد بن عبد اللّه(صلی الله علیه و آله) وتفضّله على سادة مكّة وأشرافها، فلقد كان في القمّة في صفاته التي لم يعرف العرب لها مثيلاً ماضيهم وحاضرهم. واجتهد خصومه أن يجدوا في حياته ولو نزوة تخدش تاريخه المجيد، أو مغمزة منه لنيل جاه أو اصطياد ثروة أو انحراف، مع غرائز الشباب التي تثور وتتمرّد أحياناً على العقل والخلق والحكمة، فلم يجدوا شيئاً من ذلك. وكان قد جمع إلى ذلك من صباحة الوجه وجمال التركيب ما لم يتوفّر في أحد سواه كما وصفوه، فقد جاء في رواية عمرو بن شمر عن جابر أنّه قال: «قلت لأبي جعفر محمّد بن علي الباقر: صف لي رسول اللّه، قال: كان نبي اللّه أبيض الوجه مشرباً بحمرة، أدعج العينين، مقرون الحاجبين، شثن الأطراف كأنّ الذهب فرغ على براثنه، عظيم مشاشة المنكبين. إذا التفت التفت جميعاً من شدّة استرساله. سربته سائلة من لبّته إلى سرّته كأنّها وسط الفضّة المصفاة، وكأنّ عنقه إلى كاهله إبريق فضّة، يكاد أنفه إذا شرب الماء أن يردّ الماء، وإذا مشى تكفّأ كأنّه ينزل من صبب، لم يُرَ مثل نبيّ اللّه قبله ولا بعده»(1).

إذن، فليس بغريب إذا خطبته خديجة لنفسها، وظلّت تشاطره آلامه وتناصره بقلبها وعقلها ومالها، حتّى لحقت بربّها قبل هجرته إلى المدينة بسنة أو سنتين، عن خمسة وستّين عاماً(2).

ص: 482


1- . الکافي: ج1 ص443.
2- . انظر: سیرة المصطفی: ص62 و 63.

أوهام واهية

ولكن ليس معنى هذا أن نصدّق ما نقله الحلبي في سيرته: «أنّه دخل على خديجة قبل

التزويج، فأخذت يده فضمّته إلى صدرها»(1)! كما لا نشكّ في كذب ما نقله: «أن عمّها كان يأنف من أن يزوّجها من محمّد يتيم أبي طالب فاحتالت عليه هي حتّى سقته الخمر، فزوّجها في حال سكره، فلمّا أفاق ووجد نفسه أمام الأمر الواقع لم يجد بدّاً من القبول»(2)، ممّا يتناقض وأخلاق الرسول الكريم وخديجة أُمّ المؤمنين، ولا نراه إلّا كذباً موضوعاً لم يقصد به سوى الحطّ والوضع من كرامة النبي الكريم، وتنقيصه من قبل أعداء الإسلام أو الحمقى والمغفّلين، ونعوذ باللّه من هذا الهراء(3).

وإنّ كون خديجة هي التي عرضت نفسها على النبي، وإنّه لم يكن هو الذي تقدّم بطلب يدها، لخير جواب لما جاء في كلمات بعض المستشرقين من اتّهام باطل بأنّه إنّما تزوّج خديجة طمعاً في مالها.

ولم يبق هذا التقدير والحبّ من خديجة للنبي من طرف واحد، بل قابله النبي بالحبّ والتقدير لها في أيّام حياتها وبعد مماتها، حتّى لقد كان ذلك يثير بعض أزواجه. ويرى الشيخ آل ياسين هذا دليلاً آخر على بطلان هذه الدعوى الواهية(4).

بل إنّ حياة النبي من بدايتها إلى نهايتها لخير شاهد على أنّه ما كان يقيم للمال أيّ وزن، وقد أنفقت خديجة أموالها برغبتها في سبيل اللّه والدعوة إلى دينه، وليس على النبي وملذّاته، وهكذا تفعل الحرّة العاقلة اللبيبة كما فعلت خديجة، فلا تغرّها بهرجة الدنيا وزخرفها وزبرجها، ولا تبحث عن المال والشهرة، ولا عن اللذّة والشهوة، وإنّما يكون نظرها إلى الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة؛ لأنّها هي التي تسخّر المال والجاه والقوّة في سبيل الإنسانية(5).

ص: 483


1- . السیرة الحلبیة: ج1 ص140.
2- . السیرة الحلبیة: ص138 - 140.
3- . انظر: الصحیح من سیرة النبي للسیّد المرتضی: ج1 ص117 - 119.
4- .کتاب النبوّة: ص63.
5- .انظر: الصحیح من سیرة النبي للسیّد المرتضی: ج1 ص119 و 120.

دوافع زواج النبي(صلی الله علیه و آله)

والمادّيون الذين ينظرون إلى كلّ شيء من ناحية المال والمادّة، يزعمون أنّ خديجة بما أنّها كانت ذات مال تتاجر به، كانت أحوج ما تكون إلى رجل أمين لإدارة أُمور تجارتها، لذلك اندفعت للزواج بمحمّد الصادق الأمين، وكان النبي(صلی الله علیه و آله) يعلم بوضعها المالي وحياتها الكريمة، لذلك قبل خطوبتها مع ما بينهما من تفاوت العمر! إلّا أنّ الذي نراه في التاريخ هو أنّ دوافع خديجة للزواج بالصادق الأمين كانت دوافع معنوية لا مادّية، والشاهد لذلك:

1. ما رواه ابن إسحاق، قال: «وكانت خديجة قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد ابن عمّها ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلّانه، وكان ورقة نصرانياً قد تتبّع الكتب وعلم من علم الناس، فقال لها: لئن كان هذا حقّاً يا خديجة، فإنّ محمّداً لنبيّ هذه الأُمّة، وقد عرفت أنّه كائن لهذه الأُمة نبيّ يُنتظر، هذا زمانه»(1).

2. إنّ سبقها إلى الإيمان بالإسلام ورسالة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بحيث كانت أوّل امرأة آمنت به، لما يشهد في صفحات التاريخ بأنّ زواجها كان منبعثاً من إيمانها وبطهارة الصادق الأمين، وأنّ حياة خديجة وما ورد بشأنها من الروايات والأحاديث، لما يوضّح هذا الموضوع بما لا يدع فيه أيّ شبهة، على من أراد التفصيل في ذلك أن يراجع الروايات الواردة في فضلها وفضيلتها.

عمر خديجة ومهرها

روى الدولابي في كتابه: الذرّية الطاهرة بسنده عن عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عبّاس: «... ثمّ قال: وبلغني أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تزوّج خديجة على اثنتي عشرة أُوقية ذهباً، وهي يومئذٍ ابنة ثمان وعشرين سنة»(2).

ص: 484


1- . سیرة ابن إسحاق: ج1 ص203.
2- . الذرّية الطاهرة: ص52 وعنه في كشف الغمّة: ج2 ص139. وروى الصفّار عن حمّاد بن عيسى، قال: «سمعت أبا عبد اللّه يقول: «قال أبي: ما زوّج رسول اللّه شيئاً من بناته، ولا تزوّج شيئاً من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة Ñ Ø أُوقية ونشّ؛ يعني نصف أُوقية» (بحار الأنوار: ج22: ص197 و 198 عن قرب الإسناد: ص10). وروى الخبر الكليني بسنده عنه، قال: «سمعته يقول: قال أبي: ما زوّج رسول اللّه سائر بناته ولا تزوّج شيئاً من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة أُوقية ونشّ، والأُوقية: أربعون درهماً، والنشّ: عشرون درهماً، وهو نصف الأُوقیّة». وروی بسنده عن معاویة بن وهب، قال: «سمعت أبا عبد اللّه یقول: ساق رسول اللّه إلى أزواجه اثنتي عشرة أُوقية ونشّاً، والأُوقية: أربعون درهماً، والنشّ: نصف الأُوقية: عشرون درهماً، فكان ذلك خمسمائة درهم. قلت: بوزننا؟ قال: نعم». وروى بسنده عن أبي العبّاس، قال: «سألت أبا عبد اللّه عن الصداق: هل له وقت (يعني الحدّ للمهر)؟ قال: لا. ثمّ قال: كان صداق النبي اثنتي عشرة أُوقية ونشّاً، والنشّ: نصف الأُوقية، والأُوقية: أربعون درهماً، فذلك خمسمائة درهم» (بحار الأنوار: ج22: ص205 و 206 عن فروع الكافي: ج2 ص20). وروى الصدوق بسنده عن الصادق ، قال: «ما تزوّج رسول اللّه شيئاً من نسائه ولا زوّج شيئاً من بناته، على أكثر من اثنتي عشرة أُوقية ونشّ، والأُوقية: أربعون درهماً، والنشّ: عشرون درهماً» (بحار الأنوار: ج22 ص198 عن معاني الأخبار: ص64 و 65). وكذلك ذكر المهر الطبرسي في إعلام الورى: ص140 مرسلاً، وابن شهرآشوب في المناقب: ج1 ص161 عن تاج التراجم. ويبدو من لحن هذه الأخبار أنّها ناظرة إلى ردّ ما كان يُروى بغير هذا المعنى في مبلغ صداق أزواج النبي ، ولا سيّما خديجة(علیها السلام).

ونقل ذلك عنه الإربلي في كشف الغمّة بواسطة كتاب الجنابذي(1)، ثمّ نقل عن الجنابذي قوله: «عن ابن عبّاس: أنّه تزوّجها وهي ابنة ثمان وعشرين سنة»(2)، ولم يسنده إلى أيّ سند، وما في كتاب الدولابي ليس كذلك، بل روى خبراً عن عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عبّاس فيما يحسب ابن حمّاد (كما في الكتاب) في تزويج خديجة بمباشرة أبيها ووليمتها لذلك. ثمّ قال: «وبلغني...» وذكر مهرها وعمرها كما مرّ. والظاهر أنّ القائل: «وبلغني» هو ابن حمّاد الدولابي كما فهم كذلك الأربلي ولا ابن عبّاس، ولكن خلط ابن الخشّاب الجنابذي، فنابذ الفهم والنقل الصحيح، فنسب ذلك إلى ابن عبّاس على غير أساس، واللّه هو العاصم من الخطأ في القياس والمقياس، ومن وساوس الخنّاس في صدور الناس.

وعلى هذا، فينحصر الخبر بكون عمر خديجة عند زواجها بالرسول في الثامنة والعشرين، في مرفوعة الدولابي فحسب، ومن دون أن تصحّ نسبة ذلك إلى ابن عبّاس.

ص: 485


1- . کشف الغمّة: ج2 ص 137.
2- . کشف الغمّة: ج2 ص139.

أمّا الخبر المشتهر عن كونها في الأربعين من عمرها، فاليعقوبي لم يصرّح بذلك، ولكنّه ذكر في وفاتها أنّها توفّيت «ولها خمس وستّون سنة»(1)، وهذا يقتضي أن يكون عمرها حين زواجها حسب المشهور أربعين سنة. أمّا الطبري فقد نقل عن الكلبي قوله: «وخديجة يومئذٍ ابنة أربعين سنة»(2)، والمسعودي في مروج الذهب قال: «وهي يومئذٍ بنت أربعين»، وفي التنبيه والإشراف: «أنّها توفّيت ولها خمس وستّون سنة»(3). ونقل سبط ابن الجوزي عن الواقدي قوله: «توفّيت وهي بنت خمس وستّين سنة»(4) والأربلي في كشف الغمّة نقل عن معالم العترة النبوية للجنابذي عن ابن سعد صاحب الطبقات، يرفعه إلى حكيم بن حزام، قال: «توفّيت خديجة في شهر رمضان سنة عشر من النبوّة، وهي ابنة خمس وستّين»(5)، فيكون عمرها في زواجها أربعين سنة. والكازروني قال: «فتزوّجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذٍ بنت أربعين سنة»(6).

ومعنى كلّ هذا أنّ المؤرّخين القدامى كالكلبي والواقدي وكاتبه ابن سعد واليعقوبي متّفقون على المشهور في سنّ خديجة في زواجها؛ أي الأربعين، وإن كان الإسناد الوحيد ينحصر في حكيم بن حزام، إذ يذكر تاريخ وفاتها(علیها السلام)، وهي عمّته، إذ هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، فهو أعلم بها، ولا يعارضه شيء اللّهمّ إلّا ما انفرد به ابن حمّاد الدولابي بقوله: «وبلغني...» من غير إسناد، فلا يصحّ

اعتماده.

هل كانت خديجة متزوّجة؟

قال ابن هشام: «وكانت قبله عند أبي هالة بن مالك... فولدت له هند بن أبي هالة، وزينب بنت أبي هالة. وكانت قبل أبي هالة عند عتيق ابن عابد المخزومي، فولدت له

ص: 486


1- . تاریخ الیعقوبي: ج2 ص35.
2- . تاریخ الطبري: ج3 ص280.
3- . مروج الذهب: ج2 ص287، التنبیه والإشراف: ص199 - 200.
4- . تذکرة الخواصّ: ص304.
5- . کشف الغمّة: ج2 ص139.
6- . بحار الأنوار: ج16 ص19.

عبد اللّه، وجارية تزوّجها صيفي بن أبي رفاعة»(1).

أمّا الطبري فقد روى عن الكلبي عن أبيه قال: «وكانت قبله عند عتيق بن عابد المخزومي... فولدت لعتيق جارية، ثمّ توفّي عنها، وخلف عليها أبو هالة بن زرارة بن نبّاش... ثمّ توفّي عنها فخلف عليها رسول اللّه وعندها هند بن أبي هالة»(2).

وروى الدولابي في الذرّية الطاهرة بذلك أخباراً ثلاثة عن الزهري ومحمّد بن إسحاق وقتادة بن دعامة، وروى رابعاً عن الليث بن سعد، فعكس فذكر أبا هالة ثمّ عتيق(3) فهو مردود، وخبر قتادة نقله الأربلي في كتابه(4).

وقال ابن شهرآشوب في كتابه المناقب في ترتيب أزواجه: «تزوّج بمكّة أوّلاً خديجة بنت خويلد. قالوا: وكانت عند عتيق بن عائذ المخزومي، ثمّ عند أبي هالة زرارة بن نبّاش الأسدي»(5).

وروى أحمد البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي وأبو جعفر في تلخيص الشافي: «أنّ النبي تزوّج بها وكانت عذراء. يؤكّد ذلك ما ذُكر في كتابي الأنوار و البدع: أنّ رقيّة وزينب كانتا ابنتي هالة أُخت خديجة»(6)!

ص: 487


1- . السیرة النبویة لابن هشام: ج4 ص293.
2- . تاریخ الطبري: ج3 ص161، أعلام الوری: ج1 ص274.
3- . الذریّة الطاهرة: ص45 - 47.
4- . کشف الغمّة: ج2 ص138 - 139.
5- . مناقب آل أبي طالب: ج1 ص159.
6- .المناقب: ج1 ص159. والظاهر أنّه يقصد بكتاب الأنوار: كتاب الأنوار ومفتاح السرور والأفكار لأبي الحسن البكري المتقدّم الذكر سابقاً، وهو مخطوط سرد عنه المجلسي قصّة زواجه من صفحة 20 إلى 77 ج 16، ثمّ قال: «إنّما أوردت تلك الحكاية لاشتمالها على بعض المعجزات والغرائب، وإن لم نثق بجميع ما اشتملت عليه؛ لعدم الاعتماد على سندها كما أومأنا إليه، وإن كان مؤلّفه من الأفاضل والأماثل». يقول ذلك لأنّه التبس عليه ببكري آخر هو من مشايخ الشيخ الشهيد، كما قال قبل هذا، وعلّق عليه المحقّق الربّاني الشيرازي بأنّ هذا البكري ليس هو البكري من مشايخ الشيخ الشهيد، بل هو متقدّم عليه وعلى ابن تيمية المتوفّى 728ه ، ومعروف بالكذب. وقد حكى هو أيضاً: أنّها كانت قد تزوّجت قبله برجلين، أحدهما عمرو الكندي، والثاني عتيق بن عائذ (بحار الأنوار: ج16 ص22). وكتاب البدع هو كتاب أبي القاسم الكوفي المذكور قبل ذلك، وهو الاستغاثة في بدع الثلاثة، وقال فيه: Ñ Ø «إنّ الإجماع من الخاصّ والعامّ من أهل الآثار ونقلة الأخبار، على أنّه لم يبق من أشراف قريش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم إلّا مَن خطب خديجة ورام تزويجها، فامتنعت على جميعهم من ذلك، فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة يتزوّجها أعرابي من تميم، وتمتنع من سادات قريش وأشرافها؟! ألا يعلم ذوو التمييز والنظر أنّه من أبين المحال وأفظع المقال»؟ (ص70). ولإجماعٍ فيما نعلم من أهل الآثار ونقلة الأخبار من الخاصّ والعامّ على خطبة خديجة من قبل جميع أشراف قريش، اللّهمّ إلّا ما انفرد بحكايته البكري المذكور آنفاً فيما حكاه ممّا هو أشبه بقصص العامّة من التاريخ المسند والخبر المعتبر، قال: «فلمّا ماتا خطبها عقبة بن أبي معيط والصلت بن أبي مهاب، ولكلّ منهما أربعمائة عبد وأمة، وخطبها أبو جهل بن هشام وأبو سفيان، وخديجة لا ترغب في واحد منهم» (بحار الأنوار: ج1 ص22). وأمّا تلخيص الشافي، فلا يبقى إلّا هو، والظاهر أنّه أخذه من كتاب أبي القاسم الكوفي، وقد عرفت حاله ومستنده.

أما الطبرسي فقد ذكر الخبر بلا خلاف فيه(1)، ونقله عنه المجلسي في البحار كذلك أيضاً(2).

أولاد خديجة من النبي(صلی الله علیه و آله)

روى الصفّار بسنده عن الإمام الباقر ، قال: «وُلد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خديجة: القاسم، والطاهر، وأُمّ كلثوم، ورقيّة، وزينب، وفاطمة»(3).

وروى الصدوق بسنده عن الصادق ، قال: «وُلد لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خديجة: القاسم،

ص: 488


1- . إعلام الوری: ج1 ص274.
2- . بحار الأنوار: ج22 ص220، وعكس في الاستيعاب وفي شرح المواهب، فقالا: كانت تحت أبي هالة بن زرارة التميمي (لا التيمي)، ومات أبو هالة في الجاهلية، وقد ولدت له هنداً، فهو أخو فاطمة بنت خديجة، وكان هند فصيحاً بليغاً وصّافاً، فروى عنه الحسن حديث صفة النبي، قال: حدّثني خالي هند بن أبي هالة(*). وقد شهد بدراً، وقيل: أُحداً، وقُتل مع علي يوم الجمل. وولدت خديجة لأبي هالة أيضاً هالة بن أبي هالة، وبعد تزوّجها عتيق بن عابد (كذا) المخزومي، فولدت له هنداً بنت عتيق، وقد أسلمت وصحبت (راجع ترجمة خديجة في الاستيعاب). -------------------------- *. روی الحدیث الشیخ الصدوق في معاني الأخبار: ص79 الحیدري، والشیخ الطبرسي في مکارم الأخلاق: ص7، وابن الأثیر في أُسد الغابة: ج5 ص72 ط إسماعیلیان، وراجع: نسب قریش لمصعب الزبیري: ص22، وأُسد الغابة: ج5 ص12 و13 و71، والإصابة: ج3 ص611 - 612، والسیرة الحلبیة: ج1 ص140. فمن الصعب جدّاً دعوی ابن شهر آشوب بکارتها وإنکار زوجیها السابقین وأولادها منهم بما یتضمّن ذلك من خبر الحسن المجتبی عن خاله هند في صفة النبي ، ثمّ ما الداعي إلی ذلك؟
3- . قرب الإسناد: ص27. والصواب تقدیم زینب علی فاطمة طبقاً للخبر التالي (انظر وقارن: خاتمة قاموس الرجال: ج12 ص76 - 77).

والطاهر وهو عبد اللّه وأُمّ كلثوم، ورقيّة، وزينب، وفاطمة»(1).

وقال الكليني: «وُلد له منها قبل مبعثه: القاسم، ورقيّة، وزينب وأُمّ كلثوم، ووُلد له بعد المبعث: الطيّب، والطاهر، وفاطمة». وروى أيضاً: «أنّه لم يولد بعد المبعث إلّا فاطمة(علیها السلام)، وأنّ الطيّب والطاهر وُلدا قبل مبعثه»(2).

وقال الشيخ الطبرسي: «فأوّل ما حملت ولدت عبد اللّه بن محمّد وهو الطيّب (الطاهر)، والناس يغلطون فيقولون: ولد له منها أربعة بنين: القاسم، وعبد اللّه، والطيّب، والطاهر، وإنّما وُلد له منها ابنان، الثاني: القاسم، وقيل: إنّ القاسم أكبر، وهو بكره، وبه كان يُكنى. وأربع بنات: زينب، ورقيّةّ وأُمّ كلثوم، وفاطمة»(3).

وقال ابن شهرآشوب: «أولاده: وله من خديجة: القاسم وعبد اللّه، وهما الطاهر والطيّب، وأربع بنات: زينب، ورقيّة وأُمّ كلثوم، وفاطمة... وفي الأنوار و الكشف و

اللمع وكتاب البلاذري: أنّ زينب ورقيّة كانتا ربيبتيه من جحش، فأمّا القاسم والطيّب فماتا بمكّة صغيرين، مكث القاسم سبع ليال»(4).

وروى المجلسي عن الكازروني عن ابن عبّاس، قال: «أوّل من وُلد لرسول اللّه بمكّة قبل النبوّة القاسم، وبه كان يُكنّى، ثمّ وُلد له زينب، ثمّ رقيّة، ثمّ فاطمة، ثمّ أُمّ كلثوم، ثمّ وُلد له في الإسلام عبد اللّه، فسُمّي الطيّب والطاهر. وأُمّهم جميعاً خديجة بنت خويلد. وكان أوّل من مات من وُلده القاسم ثمّ مات عبد اللّه بمكّة، فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع ولده، فهو أبتر، فأنزل اللّه تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)»(5).

وقيل: «إنّ الذكور من أولاده ثلاثة، والبنات أربع، أوّلهنّ زينب، ثمّ القاسم، ثمّ أُمّ

ص: 489


1- . المصدر عن الخصال: ص404 الحدیث 115، وروی فیه الحدیث 116 بسنده عن الصادق عن رسول اللّه ، في خبر قال: «وإنّ خدیجة رحمها اللّه ولدت منّي طاهراً وهو عبد اللّه وهو المطهّر، وولدت منّي القاسم وفاطمة ورقیّة وأُمّ کلثوم وزینب».
2- . أُصول الکافي: ج1 ص439 - 440.
3- . إعلام الوری: ج1 ص275.
4- . مناقب آل أبي طالب: ج1 ص161 - 162.
5- . الکوثر: 4. والخبر في بحار الأنوار: ج22 ص166 عن المنتقی للکازروني.

كلثوم، ثمّ فاطمة، ثمّ رقيّة، ثمّ عبد اللّه وهو الطيّب والطاهر»(1). وقال ابن إسحاق: «ولدت لرسول اللّه وُلده: القاسم وبه كان يُكنّى والطاهر، والطيّب، وزينب، ورقيّة، وأُمّ كلثوم، وفاطمة:؛ فأمّا القاسم والطيّب والطاهر فهلكوا في الجاهلیة، وأمّا بناته فكلّهنّ أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن».

وقال ابن هشام: «أكبر بنيه القاسم، ثمّ الطيّب، ثمّ الطاهر، وأكبر بناته رقيّة، ثمّ زينب، ثمّ أُمّ كلثوم، ثمّ فاطمة»(2). وقال اليعقوبي: «ولدت له قبل أن يُبعث: القاسم، ورقيّة، وزينب، وأُمّ كلثوم، وبعدما بُعث: عبد اللّه وهو الطيّب والطاهر؛ لأنّه وُلد في الإسلام، وفاطمة»(3).

روى الطبري عن هشام الكلبي عن أبيه، قال: «فولدت لرسول اللّه ثمانية: القاسم

والطيّب، والطاهر، وعبد اللّه، وزينب، ورقيّة، وأُمّ كلثوم، وفاطمة»(4).

وقال المسعودي: «وُلد له من خديجة القاسم، وبه كان يُكنّى وكان أكبر بنيه سنّاً، ورقيّة، وأُمّ كلثوم، ووُلد له بعدما بُعث: عبد اللّه، وهو الطيّب والطاهر؛ لأنّه وُلد في الإسلام، وفاطمة»(5).

وعلّق المحقّق على قول ابن إسحاق بموت القاسم قبل الإسلام، يقول: «في موت القاسم في الجاهلية خلاف، فقد ذكر السهيلي في الروض الأنف عن الزبير: إنّ القاسم مات رضيعاً، وإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم دخل على خديجة بعد موت القاسم وهي تبكي، فقالت: يا رسول اللّه، لقد درّت لُبَينة القاسم، فلو كان عاش حتّى يستكمل رضاعه لهوّن عليَّ! فقال: إن شئتِ أسمعتكِ صوته في الجنّة؟ فقالت: بل أُصدّق

ص: 490


1- . بحار الأنوار: ج22 ص166 (عن المنتقی في مولد المصطفی)، الباب الثامن، فیما کان سنة خمس وعشرین من مولده.
2- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص202.
3- . تاریخ الیعقوبي: ج2 ص20.
4- . تاریخ الطبري: ج3 ص161.
5- . مروج الذهب: ج2 ص291.

اللّه ورسوله. ثمّ قال: وفي هذا دليل على أنّ القاسم لم يهلك في الجاهلية»(1).

وروى الكليني في فروع الكافي بسنده عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام الباقر ، قال: «دخل رسول اللّه على خديجة حين مات القاسم ابنها وهي تبكي، فقال لها: ما يُبكيكِ؟ فقالت: درّت دُرَيرةٌ فبكيت، فقال: يا خديجة، أما ترضين إذا كان يوم القيامة أن تجيئي إلى باب الجنّة وهو قائم فيأخذ بيدكِ فيدخلكِ الجنّة ويُنزلك أفضلها؟ وذلك لكلّ مؤمن، إنّ اللّه أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثمّ يُعذّبه بعدها أبداً»(2).

وقد روى الكليني في فروع الكافي بسندٍ آخر عن عمرو بن شمر عن جابر عن الإمام الباقر أيضاً، قال: «توفّي طاهر ابن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فنهى رسول اللّه خديجة عن البكاء، فدخل عليها وهي تبكي، فقال لها: ما يُبكيكِ؟ ألم أنّهكِ؟!

فقالت: بلى يا رسول اللّه، ولكن درّت عليه الدريرة فبكيت، فقال لها: أما ترضين أن تجديه قائماً على باب الجنّة، فإذا رآكِ أخذ بيدكِ فأدخلكِ أطهرها مكاناً وأطيبها؟ قالت: وإنّ ذلك كذلك؟ قال: فإنّ اللّه أعزّ وأكرم من أن يسلب عبداً ثمرة فؤاده فيصبر ويحتسب ويحمد اللّه ثمّ يُعذّبه»(3).

فهذا هو الصحيح الراجح وأحتمل أنّه وقع سهو من أحد الرواة للخبر في الطريق السابق، فأخطأ اسم الطاهر والتبس عليه بالقاسم. وأمّا خبر «الروض...» عن الزبير، فهي مرسلة لا أظنّها إلّا مسروقة عن خبر عمرو بن شمر عن جابر بالطريق الذي وقع فيه الخطأ والالتباس.

وعلیه، فالذي کانت تبکیه خدیجة ویدرّ علیه درّها هو عبد اللّه الطیّب الطاهر، ولیس القاسم، ذلك لما یأتي في نزول سورة الکوثر عن الحسن والباقر والصادق: أنّ القاسم کان قد درج یمشي بل کان یرکب الإبل، فلعلّه کان موتهما کلیهما بعد البعثة،

ص: 491


1- . هامش السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص202 عن الروض الأنف.
2- . بحار الأنوار: ج16 ص16 - 19 عن فروع الکافي: ج1 ص59.
3- . بحار الأنوار: ج16 ص16، عن فروع الکافي: ج1 ص60.

ویبدو أنّ عبد اللّه وُلد بعد القاسم بعد البعثة، مات قبله ثمّ مات القاسم(1).

ص: 492


1- . خلافاً لهيكل في كتابه، إذ قال: «أمّا القاسم وعبد اللّه، فلم يُعرف عنهما إلّا أنّهما ماتا طفلين في الجاهلية لم يتركا أثراً يبقى أو يُذكر، لكنّهما من غير شكّ قد ترك موتهما في نفس أبويهما ما يتركه موت الابن من أثر عميق، وترك موتهما من غير شكّ في نفس خديجة ما جرح أُمومتها جرحين داميين، وهي لا ريب وقد اتّجهت عند موت كلّ واحد منهما في الجاهلية إلى آلهتها الأصنام تسألها: ما بالها لم تشملها برحمتها وبرّها» (حياة محمّد: ص128). ولا ريب في بطلان ظنونه، فلا مستند لزعمه هذا، وليس إلّا حدساً ناشئاً من قياس خديجة بسائر نساء قريش. ونحن إذ تبينّا أنّ دوافع زواجها برسول اللّه إنّما كانت دوافع معنوية؛ وذلك لأنّها كانت قد سمعت من ابن عمّها ورقة بن نوفل النصراني وغلامها ميسرة عن الراهب النصراني أنّ محمّداً نبيّ آخر الزمان، فتزوّجت به لذلك، وأضفنا إلى ذلك كراهته للأصنام، حتّى أنّه حينما أقسم عليه بُحيرا الراهب بالأوثان، قال: إنّها أبغض خلق اللّه إليه... فلا يمكنّا مع ذلك أن نقول: إنّها كانت تلجأ في موت أولادها إلى الأصنام وهنّ أبغض خلق اللّه إلى حبيبها محمّد . ولا يفوتنا هنا أن ننوّه إلى أنّ القسطلاني قال: «قيل: وُلد له وَلد قبل المبعث يقال له عبد مناف، ومع هذا يكون أولاده اثني عشر كلّهم وُلدوا في الإسلام سوى هذا» (المواهب اللدنية: ج1 196). والظاهر أنّ مستنده ما نقله المقدسي عن قتادة، قال: «ولدت خديجة لرسول اللّه عبد مناف في الجاهلية، وولدت له في الإسلام غلامين وأربع بنات: القاسم، وبه كان يُكنّى: أبا القاسم، فعاش حتّى مشى ثمّ مات، وعبد اللّه مات صغيراً، وأُمّ كلثوم، وزينب، ورقيّة، وفاطمة» (البدء والتاريخ: ج4 ص139 وج5 ص16). وقول قتادة هذا شاذّ يتنافى مع كلّ ما تقدّم عن غيره، وهو كثير مستفيض مشهور، كما مرّ، ويشبه هذا في الشذوذ ما ذهب إليه أبو القاسم الكوفي، إذ قال: «كانت لخديجة أُخت اسمها هالة، تزوّجها رجل مخزومي فولدت له بنتاً اسمها هالة، ثمّ خلف عليها رجل تميمي يقال له أبو هند، فأولدها ولداً اسمه هند، وكان لهذا التميمي امرأة أُخرى قد ولدت له زينب ورقيّة، فماتت ومات التميمي، فلحق ولده هند بقومه، وبقيت هالة أُخت خديجة والطفلتان من التميمي وزوجته الأُخرى، فضمّتهم خديجة إليها. وبعد أن تزوّجت بالرسول ماتت هالة فبقيت الطفلتان في حجر خديجة والرسول ، وكان العرب يزعمون أنّ الربيبة بنت فنسبتها إليه، مع أنّهما ابنتا أبي هند زوج أُختها» (الاستغاثة: ص68). وروى الحافظ عبد الرزّاق في مصنّفه عن عمر بن دينار عن الحسن بن محمّد بن علي، قال: «إنّ أبا العاص بن الربيع كان زوجاً لبنت خديجة» (المصنّف: ج5 ص224). وقال مغلطاي في سيرته: «وخلف عليها (خديجة) أبو هالة النبّاش بن زرارة، فولدت له هنداً والحرث وزينب» (سيرة مغلطاي: ص12). فعلى الأوّل تكون زينب ورقيّة من ضرّة هالة أُخت خديجة، وعلى الثاني والثالث تكون زينب بنت خديجة من زوجها السابق أو الأسبق. ولكن لا مجال لهذه الأقوال بعد تصريح نصّ الخبرين المعتبرين للصفّار والصدوق المسندين إلى الإمامين الباقر والصادق : «وُلد لرسول اللّه من خديجة»، وفيهم رقيّة وزينب، وليست العبارة نسبة الأُبوّة أو البنوّة لتُحمل على عادة العرب في نسبة الربائب، فنحتمل صدق مقال صاحب الاستغاثة: «كان العرب يزعمون أنّ الربيبة بنت، فنُسبتا إليه».

فهرس المصادر

1. الإبانة عن أُصول الديانة: أبو الحسن الأشعري (ت324ه )، تحقيق: بشير محمّد عيون، بيروت: مكتبة دار البيان، الطبعة الخامسة، 1424ه .

2. الاستغاثة، أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي (ت352ه )، طهران: مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1373ش.

3.الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

4.أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّالدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

5.الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن الحجر العسقلاني (ت852ه)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمّد معوّض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

6.أُصول الكافي، أبو جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت328ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري محمّد الآخوندي، بيروت و طهران: دار صعب ودار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة والخامسة.

7.إعلام الورى بأعلام الهدى، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق: مؤسّسة آل البيت:، قم: مؤسّسة آل البيت:، الطبعة الأُولى، 1417ه .

8.الأوائل، أبو هلال الحسن بن عبد اللّه بن سهل العسكري (ت395ه )، بيروت: دار الكتب

ص: 493

العلمية، الطبعة الأُولى، 1407ه .

1. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار:، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت1110ه )، تحقيق: دار إحياء التراث، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

2. البدء والتاريخ، أحمد بن سهل البلخي (ت507ه )، مكة: مكتبة الثقافة الدينية.

3. البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت774ه )، تحقيق: مكتبة المعارف بيروت: مكتبة المعارف الطبعة الثالثة، 1408ه .

4. البدع، أبو عبداللّه محمّد بن وضّاح القرطبي (ت287ه )، تحقيق: عمرو بن عبدالمنعم سليم، الرياض: مكتبة ابن تيمية، 1423ه .

5. تاج التراجم، أبو الفداء قاسم بن قطلوبغا (ت879ه )، تحقيق: محمّد خير رمضان يوسف، دمشق: دار القلم، 1413ه .

6. تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، الحسين بن محمّد الديار بكري (معاصر)، بيروت: مؤسّسة شعبان.

7. تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968 م.

8. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، المعروف باليعقوبي (ت284ه )، بيروت: دار صادر.

9. تحرير الوسيلة، السيّد روح اللّه الموسوي الخميني (ت1406ه )، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، 1405ه .

10. تذكرة الخواصّ (تذكرة خواصّ الأُمّة في خصائص الأئمّة:)، يوسف بن فُرغلي بن عبداللّه، المعروف بسبط ابن الجوزي (ت654ه )، تقديم: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، طهران: مكتبة نينوى الحديثة.

11. التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهدي[، قم: مؤسّسة الإمام المهدي[، الطبعة الأُولى، 1409ه .

ص: 494

تلخيص الشافي، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (الشيخ الطوسي) (ت460ه )،

1. تحقيق: السيّد حسين بحر العلوم، قم: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1394ه .

2. التنبيه والإشراف، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت345ه )، تحقيق: عبد اللّه إسماعيل الصاوي، بيروت: دار الصعب، القاهرة: دار الصاوي، 1357ه .

3. حياة محمّد، محمّد حسين هيكل (معاصر)، القاهرة: مطبعة مصر، الطبعة الأُولی، 1354ه .

4. خاتمة قاموس الرجال، الشيخ محمّد تقي بن كاظم التستري (ت1320ه )، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1419ه .

5. الخرائج والجرائح، أبو الحسين سعيد بن هبة اللّه الراوندي (قطب الدين الراوندي) (ت573ه )، تحقيق: مؤسّسة الإمام المهدي[، قم: مؤسّسة الإمام المهدي[، الطبعة الأُولى، 1409ه .

6. الخصال، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، بيروت: مكتبة الصدوق، الطبعة الأُولى، 1389ه .

7. الذرّية الطاهرة النبوية، أبو بشر محمّد بن أحمد بن حماد الدولابي (ت310ه )، تحقيق: سعد المبارك الحسن، الكويت: الدار السلفية، الطبعة الأُولى، 1407ه .

8. ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت538ه )، تحقيق: سليم النعيمي، قم: منشورات الرضي، الطبعة الأُولى، 1415ه .

9. الروض الأنف شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبدالرحمن بن عبداللّه السهيلي (ت581ه )، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1412ه .

10. سيرة ابن إسحاق، أبو عبداللّه محمّد بن إسحاق بن يسار المطلبي (ت151ه )، تحقيق: محمّد حميد اللّه، المغرب: معهد الدراسات و الأبحاث للتعريب، الطبعة الأُولی، 1369ه .

ص: 495

1. السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بيروت: دار الإحياء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

2. السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

3. الصحيح من سيرة النبي الأعظم، جعفر مرتضى العاملي (معاصر)، بيروت: دار الهادي، الطبعة الرابعة، 1415ه .

4. الطبقات الكبرى، ابن سعد، محمّد بن سعد الزهري (كاتب الواقدي) (ت230ه )، تحقيق: محمّد بن صامل السلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

5. فروع الكافي، أبو جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت328ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري محمّد الآخوندي، بيروت و طهران: دار صعب ودار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة والخامسة.

6. قرب الإسناد، أبو العبّاس عبد اللّه بن جعفر الحِمْيري القمّي (ت بعد 304ه )، تحقيق: مؤسّسة آل البيت:، قم: مؤسّسة آل البيت:، الطبعة الأُولى، 1413ه .

7. الكافي، أبو جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت329ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، طهران: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية، 1389ه .

8. الكامل، أبو العبّاس محمّد بن يزيد الأزدي (المبرّد) (ت285ه )، تحقيق: محمّد أحمد الدالي، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1413ه .

9. كتاب من لا يحضره الفقيه، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1404ه .

10. كشف الغُمّة، علي بن عيسى الإربلي (ت687ه )، تصحيح: السيّد هاشم الرسولي، بيروت: دار الكتاب، 1401ه .

ص: 496

1. كمال الدين وتمام النعمة، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1405ه .

2. مروج الذهب ومعادن الجوهر، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت346ه )، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الرابعة، 1384ه .

3. المصنَّف، عبد الرزّاق بن همّام الصنعاني (ت211ه )، تحقيق: حبيب الرحمان الأعظمي، بيروت: منشورات المجلس العلمي.

4. معالم العترة الطاهرة النبوية، عبد العزيز بن أبي نصر مبارك الأخضر الجُنابَذي (ت611ه )، تصحيح: سامي الغُرَيري، بيروت، الطبعة الأُولی، 1407ه .

5. معاني الأخبار، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق) (ت381ه )، تحقيق: علي أكبر الغفّاري، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1361ش.

6. مكارم الأخلاق، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق: علاء آل جعفر، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1414ه .

7. مناقب آل أبي طالب (المناقب لابن شهرآشوب)، أبو جعفر محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ابن شهرآشوب) (ت588ه ) تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي، قم: منشورات علّامة.

8. المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية، أحمد بن محمّد القسطلاني (ت923)، تحقيق: صالح أحمد الشامي، بيروت: المكتب الإسلامي، 1412ه .

9. نسب قريش، مصعب بن عبد اللّه الزبيري (ت236ه )، تحقيق: بروفنسل، القاهرة: دار المعارف.

ص: 497

ص: 498

24- الوضع المالي للسیّدة خدیجة

اشارة

* الوضع المالي للسیّدة خدیجة(1)

حسین علي الشرهاني

ملخّص البحث:

أكثر ما يركّز هذا البحث - الذي جاء على منهج الاستدلال بالنصوص التاريخية وإخضاعها للتحليل والنقاش - على أنّ الطابع المميّز لسيرة السيّدة خديجة قبل تعرّفها برسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، هو عملها بالتجارة، حتّی کانت هذه الميزة الموضوع الرئيس الذي نقلته لنا الروايات في حياتها السابقة للرسول، لذلك فإنّ دراسة حياة السيّدة خديجة تتطلّب منّا أن نبحث هذا الجانب من حياتها؛ لأنّه يرتبط بتاريخ حياة الرسول والمسلمين؛ لما وفّره مالها من خدمات کبيرة للإسلام. الخطوة المهمّة في الحياة الاقتصادية لمکّة هو ما قام به هاشم بن عبد مناف وإخوانه من عقد المعاهدات التجارية التي تُسمّی الإيلاف، فاستطاعوا أن يؤمّنوا تجارة قريش من أخطار الطريق من خلال هذه المعاهدات، فتطوّرت تجارتها من تجارة داخلية إلی تجارة خارجية. فأصبح لقريش صلات مع العراق والشام واليمن والحبشة علی السواء، وأخذت رحلات الإيلاف تتوالی في کلّ سنة، فکوّنت جماعات من التجّار تتقاسم ما يعود عليها من الربح. ويستعرض البحث معظم الأخبار والآراء التي قيلت حول مصدر ثراء خديجة، ويفنّد بالأدلّة الكثير منها، مؤكّداً أنّه لا يمکن أن نتصوّر أنّ السيّدة خديجة ورثت أموالها من هؤلاء الأزواج الذين لا نعرف عنهم شيئاً سوی أسماءهم، وحتّی لو افترضنا جدلاً ورثت هذا المال من الأزواج، فإنّ

ص: 499


1- حیاة خدیجة بنت خویلد من المهد إلی اللحد، بیروت: دار و مکتبة الهلال و دار البحار، 2005: ص115 - 158.

أولادها لهم حصّة في هذه الأموال، ولا يحقّ لها أن تستأثر بالأموال دونهم، فضلاً عن أن تعمل بها ما تشاء أو تعطيها للرسول وتنفقها علی الدعوة الإسلامية وهي ليست أموالها ولأبناءها فيها حصّة. الافتراض الذي يؤكّده البحث هو أنّها ورثت هذا المال من عائلتها. يعزّز هذا الافتراض أنّ السيّدة خديجة قامت بنفسها علی إدارة هذه الأموال، فلو کان عندها من يديرها لما باشرت هذا العمل بنفسها، ممّا يدلّ علی عدم وجود أشخاص في العائلة يساعدونها في تجارتها، ولكن لم تبيّن حجم هذه التجارة وکمّية الأموال التي تمتلکها، بل اکتفت بالقول إنّها من التجّار الذين يمتلکون الأموال.

إنّ الطابع الممیّز لسیرة السیّدة خديجة(علیها السلام) قبل تعرّفها بالرسول هو عملها بالتجارة، حتّی کانت هذه المیزة الموضوع الرئیس الذي نقلته لنا الروایات في حیاتها السابقة للرسول ، لذلك فإنّ دراسة حیاة السیّدة خدیجة تتطلّب منّا أن نبحث هذا الجانب من حیاتها؛ لأنّه یرتبط بتاریخ حیاة الرسول والمسلمین؛ لما وفّره مالها من خدمات کبیرة للإسلام.

لم یکن نشاط السیّدة خدیجة التجاري بعیداً عن الطابع العامّ للحیاة الاقتصادیة في مکّة، حیث تمثّل التجارة العمود الفقري لها، التي ابتدأت منذ فترة طویلة متزامنة مع جمع قصي قریشاً وإسکانها في مکّة قرب الکعبة واضعاً لهم کیاناً سیاسیاً، فحافظ أولاده من بعده علی هذا الکیان فزادوا في خدمة الکعبة الوافدین علیها، وأولوهم عنایة کبیرة، ممّا رفع من نجم قریش عند بقیّة قبائل الجزیرة العربیة.

والخطوة المهمّة في الحیاة الاقتصادیة لمکّة هو ما قام به هاشم بن عبد مناف وإخوانه من عقد المعاهدات التجاریة التي تُسمّی الإیلاف، فاستطاعوا أن یؤمّنوا تجارة قریش من أخطار الطریق من خلال هذه المعاهدات، فتطوّرت تجارتها من تجارة داخلیة إلی تجارة خارجیة.

فأصبح لقریش صلات مع العراق الشام والیمن والحبشة علی السواء، وأخذت رحلات الإیلاف تتوالی في کلّ سنة، فکوّنت جماعات من التجّار تتقاسم ما یعود

علیها من الربح(1)، فکان الإیلاف خیراً ونماءً لکلّ القریشیین، حتّی من یملك مالاً قلیلاً

ص: 500


1- . الإسلام ألفرید جیوم، ترجمة مصطفی هذارة: ص60.

بإمکانه أن یرسل به مع القوافل الذاهبة للتجارة، حتّی بلغت تجارة قریش الذروة، فعمل القریشیون کتجّار أو وسطاء أو کناقلین للتجارة، فازداد ثراؤها، وتبع هذا النشاط استقرار في مجتمع مکّة، وحُمل إلیه أنواعاً متعدّدة من الثقافات التي کانت تفد مع التجّار الأجانب، فنشأ تبعاً لذلك مجتمع متحضّر یختلف اختلافاً کلّیاً عن مجتمعات الجزیرة العربیة، وتبعاً لذلك تطوّرت مکانة المرأة في هذا المجتمع، فاشترکت النساء في کثیر من نشاطاته، وأهمّ هذه النشاطات هي التجارة التي لم تبق حکراً علی الرجال؛ لأنّ القوافل مشترکة یقودها وکلاء وبإمکان أيّ شخص أن یشترك بها.

وقد ذکرت الروایات أسماء بعض النساء اللواتي عملن بالتجارة، فکانت أسماء بنت مخربة «أُمّ أبي جهل»(1) تعمل ببیع العطور التي یجلبها لها ابنها عبد اللّه بن أبي ربیعة من الیمن(2)، وکانت قیلة أُمّ أنمار تعمل بالتجارة(3)، وهالة بنت خویلد أُخت السیّدة خدیجة کانت تبیع الأدم في أسواق مکّة(4).

وهذه الحالات التي ذکرناها وإن کانت قلیلة، لکنّها تعني أنّ النساء عملن بالتجارة، ولا أدلّ علی ذلك من عمل السیّدة خدیجة فیها، حیث ذکرت الرایات أنّها کانت تمتلك کمّیة من الأموال وترسل الرجال لیتاجروا لها في مالها، فتجعل لهم حصصاً من الأرباح، وهذه الأموال والتجارة تثیر تساؤلات کثیرة نلخّصها بما یلي:

من أین جاءت هذه الأموال؟ کیف تمکّنت من إدارتها؟ ومن ساعدهاه في ذلك؟ کیف عمل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في تجارتها، هل اختارته هي، أم هو طلب ذلك؟ هل کان له عمل تجاري قبل أن یعمل معها جعلها تختاره لیعمل في تجارتها؟

ص: 501


1- . وهي أُمّ جهل (عمرو بن هشام)، وکانت عند هشام بن المغیرة، ثمّ طلّقها فتزوّجها أخوه أبو ربیعة، فأنجبت له عبد اللّه وعیّاشاً أخوان أبي جهل لأُمّه، وقد أسلموا في عام فتح مکّة سنة ثمان هجریة.
2- . المغازي للواقدي: ج1 ص79، الطبقات الکبری لابن سعد: ج8 ص300 - 301، نسب قریش لمصعب الزبیري: ص317 - 308.
3- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص317.
4- . المنتخب لابن بکار: ص39، مجمع الزوائد للهیثمي: ج9 ص212.

مصادر أموال السیّدة خديجة(علیها السلام)

لم نحصل علی روایة تبیّن لنا مصادر هذه الأموال؛ لأنّ الروایات اهتمّت بحیاتها عند ارتباطها بالرسول ، دون أن تتعرّض لحیاتها قبله بتفاصیل تجعلنا نعرف المصدر الذي حصلت منه علی هذه الأموال.

لقد حاول بعض الباحثین تحدید هذا المصدر، فافترضوا أنّها حصلت علیها من أزواجها قبل الرسول ، یقول «دور منغم» مثلاً: «وکانت خدیجة الأسدیة القرشیة الأیّم ذات الثراء بعد أن تزوّجت مرّتین في بني مخزوم الأغنیاء»(1)، ویقول «بودلي»: «وقد مات عن خدیجة زوجان ترك کلّ منهما ثروة»(2).

ولا یخفی أنّ قول «دور منغم» فیه خطأ، وهو ظنّه أنّها تزوّجت مرّتین في بني مخزوم، بینما لم تتزوّج إلّا مرّة واحدة فقط، وهذا الافتراض لا تؤیّده الروایات؛ لأنّنا لم نحصل علی روایة واحدة تذکر أنّ أزواجها کانوا یمتلکون أموالاً، أو کانوا تجّاراً، أو أنّ السیّدة خدیجة ورثت منهم، وإذا کان أحدهم من بني مخزوم، هذا لا یعني أنّه کان غنیّاً لأنّ بني مخزوم کانوا أثریاء، ففي روایة الواقدي عن أسری بدر أنّ «صیفي بن أبي رفاعة (أُمیّة) بن عابد بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، لم یکن له مال، فمکث عند الذي أسره ثمّ أطلقه»(3)، وصیفي هذا زوج هند بنت عتیق، وهذا یدلّل علی مدی فقر هذه العائلة.

أمّا کون أبي جهل والولید بن المغیرة أغنیاء، لا یعني أن یکون کلّ بني مخزوم

یمتلکون أموالاً فیکون عتیق بن عابد غنیّاً.

ولو عدنا لقوانین الوراثة في تلك الفترة، لوجدنا أنّ الزوجة کانت لا ترث، حیث یأخذ أهل الزوج المال الذي ترکه زوجها، وقد روي أنّ امرأة عبد الرحمن بن ثابت أخو حسّان بن ثابت الشاعر عندما توفّي زوجها أخذ أبناء عمّه میراثه ولم یترکا لامرأته شیئاً، وکانوا لا یورّثون النساء ولا الصغیر، فجاءت زوجته «أُم کحة» إلی النبي(صلی الله علیه و آله)

ص: 502


1- . حیاة محمّد لأمیل دورمنغم، ترجمة محمّد عادل زعیتر: ص41.
2- . الرسول لبودلي: ص41.
3- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص302.

واشتکت الأمر، فطلب من الورثة أن ینتظروا، فانصرفوا، وفي ذلك نزلت آیات المواریث بقوله تعالی: (لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا)(1)، ونزلت بعدها آیات أُخر تفصّل في الإرث، ثمّ نزلت: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)(2).

ونزول آیات المواریث دلالة علی أنّهم کان لا یعطون المرأة شيء من میراث زوجها، بل کانت الحالة أسوأ من ذلك، فإذا کان الرجل له أبناء من غیرها ملکا زوجة أبیهم، فکان للابن الأکبر الحقّ في أن یتزوّج امرأة أبیه(3)، أو تفتدي نفسها منه بأن تعطیه کمّیة من الأموال، فقد ورد عن ابن عبّاس روایة نصّها: «کانوا إذا مات الرجل کان أولیاؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوّجها، وإن شاؤوا زوّجوها، وإن شاؤوا لم یزوّجوها، فهم أحقّ بها من أهلها، فنزلت الآیة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ)(4).

إذن لا یمکن أن نتصوّر أنّ السیّدة خدیجة ورثت أموالها من هؤلاء الأزواج الذین لا نعرف عنهم شیئاً سوی أسماءهم، وحتّی لو افترضنا جدلاً ورثت هذا المال من

الأزواج، فإنّ أولادها لهم حصّة في هذه الأموال، ولا یحقّ لها أن تستأثر بالأموال دونهم، فضلاً عن أن تعمل بها ما تشاء أو تعطیها للرسول وتنفقها علی الدعوة الإسلامیة وهي لیست أموالها ولأبناءها فیها حصّة، وکیف نتصوّر أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) قبل هذه الأموال منها وهي لیست لها، وإن کانت قد أعطت لهؤلاء الأبناء حصصهم لکان بإمکان هند بنت عتیق إرسال فداء زوجها عندما أسر في معرکة بدر بدلاً من بقائه في الأسر؛ لأنّه لا یمتلك ما یفدي به نفسه.

نحن بدورنا نفترض أنّ السیّدة خدیجة ورثت هذا المال من عائلتها، حیث إنّ أباها

ص: 503


1- . النساء: 7.
2- . النساء: 11
3- . المحبّر لابن حبیب: ص226 - 327، روح المعاني في تفسیر القرآن والسبع المثاني للآلوسي: ج4 ص242.
4- . النساء: 19.

واثنین من إخوانها قُتلوا في حرب الفِجَار، فنالت جزءاً من هذه الأموال مع بقیّة الورثة، وهذا الأمر یؤیّده أنّ الروایات لم تذکر لنا أنّ أحد إخوانها أو أخواتها کان موجوداً عند زواج الرسول بها سوی هالة؛ أي أنّ خویلد عندما توفّي لم یبق له أحد یرثه سوی السیّدة خدیجة ونوفل بن خویلد، والحالة الاقتصادیة لحکیم بن خزام تفسّر لنا هذا الأمر، فقد کان من التجّار المعروفین في المجتمع المکّي(1)، وهذا الافتراض الذي قدّمناه أقرب للمنطق والواقع من أيّ افتراض آخر؛ لأنّه لا یوجد لدینا دلائل أُخری تؤیّد أنّ مصدر الأموال جاء من أيّ طریق آخر.

یعزّز هذا الافتراض أنّ السیّدة خدیجة قامت بنفسها علی إدارة هذه الأموال، فلو کان عندها من یدیرها لما باشرت هذا العمل بنفسها، ممّا یدلّ علی عدم وجود أشخاص في العائلة یساعدونها في هذه التجارة.

أدارة السیّدة خديجة(علیها السلام) للتجارة

ذکرت الروایات أنّ السیّدة خدیجة کانت ترسل الأُمناء في تجارتها(2)، لکنّها لم تبیّن لنا

أسماء من عمل معها في هذه التجارة سوی حکیم من حزام ابن أخیها، حیث ذکرت الروایات أنّه اشتری زید بن حارثة لعمّته خدیجة بأربعمائة درهم من سوق عکاظ(3)، وربّما کان یعمل معها في تجارة منظّمة ومستمرّة، لاسیّما أنّه کان یذهب إلی سوق تهامة القریب من مکّة لیشتري لها بعض السلع(4).

ویبدو أنّ السیّدة خدیجة کانت تعتمد علی عدّة رجال في إدارة هذه الأموال، ومن هؤلاء الذین ذکرتهم الروایات میسرة غلامها(5)، الذي کان یذهب مع القوافل التجاریة، لکنّه لم یکن وکیلاً علی تجارة السیّدة، بل کان یذهب لخدمة أموالها، ودلیل ذلك أنّه

ص: 504


1- . جمهرة نسب قریش لابن بکار: ج1 ص371.
2- . السیر والمغازي لابن إسحاق: ص81، السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص170، الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص16.
3- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص465.
4- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج3 ص41، الأخبار الموفّقیات لابن بکار: ص318.
5- . لم تذکر الروایات عنه أيّ شيء، فقط جاء ذکره في الرحلة التجاریة التي خرج بها مع الرسول إلی سوقَي حُباشة وبُصری.

ذهب مع الرسول في الرحلة التجاریة إلی الشام(1)، وهناك شخص آخر ذکرته الروایات هو خزیمة بن حکیم البهزي(2)، وهو قریب لها، لکنّ الروایات لم تذکر هذه القرابة واکتفت بذکر اسمه فقط، الأمر الذي یقودنا إلی القول إنّه صهر السیّدة خدیجة من إحدی أخواتها أو من أقارب أُمّها، وعلی کلّ حال فإنّ ذکر اسمه في تجارتها دلیل علی أنّها کانت تستخدم کثیر من الرجال في هذه الأموال.

ومهما کانت الحال فإنّ السیّدة خدیجة وجدت بین یدیها ثروة ومال بحاجة إلی عمل وتنمیة، فکان بنضوجها العقلي وقوّة شخصیتها مکانتها الاجتماعیة وانفتاحها علی الناس، إن حفّزها ودفعها لتحریك هذا المال في المجال الاقتصادي الذي عُرف عن قریش، وهو التجارة، ولکنّها بحکم أُنوثتها لا تستطیع أن تباشر ذلك بنفسها(3)، فاستعانت ببعض الأشخاص للعمل في هذه التجارة، فساعدها في ذلك خروج قوافل

مشترکة من مکّة إلی الأسواق التجاریة تسیر مجتمعة وکلّ شخص یستطیع أن یضع أمواله فیها ویتاجر مع الآخرین، وقد یدیر هذه القافلة، کما هو حال قافلة أبي سفیان التي اعترضها المسلمون وکانت سبباً في معرکة بدر في السنة الثانیة للهجرة، حیث تذکر الروایات أنّها قافلة کبیرة کان لجمیع القریشیین أموال فیها(4).

عمل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في تجارة السیّدة خدیجة

وردت عدّة روایات تتحدّث عن عمل الرسول في هذه التجارة، وأوّلها روایة عن الزهري: «أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لمّا استوی وبلغ أشدّه ولیس له کثیر مال، استأجرته خدیجة بنت خویلد إلی سوق حُباشة(5) واستأجرت معه رجلاً من قریش، فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): ما رأیت صاحبة خیر من

ص: 505


1- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص172.
2- . أُسد الغابة لابن الأثیر: ج2 ص134.
3- . خدیجة بنت خویلد لمحمّد علي قطب: ص18.
4- . المغازي للواقدي: ج1 ص27، السیرة النبویة لابن هشام: ج2 ص182، تاریخ الیعقوبي: ج2 ص36.
5- . حُباشة - بضمّ أوّله وبالشین المعجمة علی وزن فُعالة، ویقال حباشة دون ألف ولام - : سوق للعرب معروف بناحیة مکّة، وهي أکبر أسواق تهامة، کانت تقوم ثمانیة أیّام في السنة (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع للبکري: ج2 ص418).

خدیجة، ما کنّا لنرجع أنا وصاحبي إلّا وعندها تحفة من طعام تخبّئه لنا.

واستأجرته بسقب(1) یدفعه إلیه غلامها میسرة، فرأی میسرة إذا رجع من سفره من یمینه وخلفه البرکة في سفره والزیادة في الربح وما رآه من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، قالت: فأرنیه، فلمّا أقبلت العیر أشار إلیه، وإذا سحابة تظلّه وتسیر معه، فأمرت له بسقب آخر»(2).

وردت روایة ثانیة عن الزهري نصّها: «کان خزیمة بن حکیم یأتي خدیجة في کلّ عام، وکان بینهما قرابة، فأتاها فبعثته مع النبي(صلی الله علیه و آله) إلی الشام»(3).

الروایة الأُخری جاءت عن محمّد بن إسحاق: «کانت خدیجة بنت خویلد امرأة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إیّاه بشيء تجعله لهم، وکانت قریش قوم تجّار، فلمّا بلغها عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ما بلغها من صدق حدیثه وعظم أمانته وکرم أخلاقه، بعثت إلیه فعرضت علیه أن یخرج في مالٍ لها إلی الشام تاجراً وتعطیه أفضل ما کانت تعطي غیره من التجّار مع غلام لها یقال له میسرة، فقبله رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) منها، وخرج في مالها ذلك وخرج معه غلامها میسرة حتّی قدم الشام»(4).

أورد الزبیر بن بکار روایة عن الواقدي عن بعض ولد حکیم بن حزام تشبه روایة الزهري في ذهابه إلی سوق حُباشة: «کان حکیم بن حزام رجلاً تاجراً لا یدع سوقاً بمکّة ولا تهامة إلّا حضره، وکان یقول: کان بتهامة أسواق أعظمها سوق حُباشة، وکنت أحضره، وقال: رأیت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حضر، فاشتریت منه بَزّاً من بز تهامة (ثیاب)، وقدمت به مکّة، فذلك حین

ص: 506


1- . السقب: ولد الناقة ساعة یولد (لسان العرب لابن منظور: ج2 ص162، مادّة: «سقب»).
2- . تاریخ الطبري: ج2 ص421.
3- . المصنّف للصنعاني: ج5 ص320، المنتخب لابن بکار: ص36، تاریخ الطبري: ج2 ص282، دلائل النبوّة للبیهقي: ج1 ص90، أعلام الوری بأعلام الهدی للطبرسي: ص39، معجم البلدان لیاقوت الحموي: ج2 ص210، عیون الأثر لابن سیّد الناس: ج1 ص50، کشف الغمّة للأربلي: ج2 ص132، السمط الثمین لمحبّ الدین الطبري: ص4 - 15، السیرة لمغلطاي: ص12، أمتاع الأسماع للمقریزي، المواهب اللدنیة للقسطلاني: ج1 ص38، بحار الأنوار للمجلسي: ج16 ص9 - 10.
4- . أُسد الغابة لابن الأثیر: ج4 ص134، الإصابة لابن حجر: ج1 ص427، تاریخ الخمیس للبکري: ج1 ص362، بحار الأنوار للمجلسي: ج16 ص17.

أرسلت خدیجة إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تدعوه إلی أن یخرج لها في تجارة إلی سوق حُباشة، وبعثت معه غلامها میسرة، فخرجا فابتاع بَزّاً من بزّ الجند وغیره ممّا فیه من التجارة، ورجع إلی مکّة فربحا ربحاً حسناً، وکانت تقوم ثمانیة أیّام»(1).

أورد ابن سعد روایة عن الواقدي بسنده عن نفیسة بنت منیة(2): «لمّا بلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرین سنة ولیس له بمکّة اسم إلّا الأمین؛ لما تکامل فیه من خصال الخیر، فقال له أبو طالب: یابن أخي، أنا رجل لا مال لي وقد اشتدّ الزمان علینا وألحّت علینا سنون منکرة ولیست لنا مادّة ولا تجارة، وهذه عِیر قومك قد حضر خروجها إلی الشام، وخدیجة بنت خویلد تبعث رجالاً من قومك في عِیرها، فلو تعرّضت لها. وبلغ خدیجة ذلك، فأرسلت إلیه وأضعفت له ما کانت تعطي غیره، فخرج مع غلامها میسرة حتّی قدم بُصری من الشام»(3).

وفي روایة ثانیة عن الواقدي بسنده عن نفیسة بنت منیة: «کانت خدیجة ذات شرف ومال کثیر وتجارة تبعث بها إلی الشام، فیکون عِیرها کعامّة عِیر قریش، وکانت تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربةً، فلمّا بلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خمساً وعشرین سنة ولیس له اسم بمکّة إلّا الأمین، أرسلت إلیه خدیجة بنت خویلد تسأله الخرج إلی الشام في تجارتها

ص: 507


1- . السیر والمغازي لابن إسحاق: ص81، السیرة النبوية لابن هشام: ج1 ص178، تاریخ الطبري: ج2 ص280، الکامل لابن الأثیر: ج2 ص39، السمط الثمین لمحبّ الدین الطبري: ص12 - 13، کشف الغمّة للأربلي: ج2 ص132، الاکتفاء للکلاعي: ج1 ص196، تاریخ الإسلام للذهبي: ج1 ص41، البدایة والنهایة لابن کثیر: ج2 ص293 - 294، الخصائص الکبری للسیّوطي: ج1 ص26.
2- . هي نفیسة بنت أُمیة بن أبي عبیدة بن همام بن الحرث التمیمي، أُخت یعلّی بن أُمیّة حلیف قریش، ومنیة هو اسم أُمّها منیة بنت الحارث المازنیة، التي تزوّجت بعد ذلك خویلد بن أسد والد السیّدة خدیجة، وأنجبت له العوامّ وعدي وحزام ورقیقة (انظر: أُسد الغابة: ج7 ص283، الإصابة لابن حجر: ج3 ص668). لکنّ ابن حزم ذکر أنّ أُمّها هي منیة بنت جابر، عمّة عتبة بن غزوان بن جابر من بني مازن بن منصور، وهم حلفاء بني نوفل بن عبد مناف، ولم یشر إلی أنّها هي التي تزوّجها خویلد أو هي أُمّ العوام وإخوانه (جمهرة أنساب العرب: ص329). لکنّ الروایة التي أوردها ابن الأثیر ربمّا تکون هي الصحیحة، وذلك تبعاً للصلة الوثیقة بین نفیسة والسیّدة خدیجة، ذکرت المصادر أنّ نفیسة أسلمت وروت أحادیث عن الرسول (انظر: أُسد الغابة لابن الأثیر: ج7 ص283).
3- . نسب قریش لابن بکار: ج1 ص371.

مع غلامها میسرة، وقالت: أنا أُعطیك ضعف ما أعطي قومك، ففعل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وخرج إلی سوق بُصری، فباع سلعته التي خرج بها واشتری غیرها وقدم بها، فربحت ضعف ما کانت تربح، أضعفت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ضعف

ما سمّت»(1).

وفي روایة أوردها ابن سعد عن عبد اللّه بن محمّد بن عقیل، قال: «وقال أبو طالب: یابن أخي، قد بلغني أنّ خدیجة استأجرت فلاناً ببکرین،(2) ولسنا نرضی لك بمثل ما أعطت، فهل لك أن تکلّمها؟ قال: ما أحببتَ. فخرج إلیها فقال: هل لكِ أن تستأجري محمّداً ؟ فقد بلغنا أنّك استأجرتِ فلاناً ببکرین، ولسنا نرضی لمحمّد دون أربع أبکار. قال: فقالت خدیجة: لو سألت ذلك لبعید بغیض فعلنا، فکیف وقد سألت لحبیب قریب؟»(3).

وأوردت بعض المصادر المتأخّرة أنّ السیّدة خدیجة بعثت الرسول في تجارة لها إلی سوق جُرَش(4).

إنّ هذه الروایات بمجملها تتحدّث عن ذهاب الرسول بتجارة السیّدة خدیجة، إلی سوق بُصری في الشام، عدا روایة الزهري وروایة الزبیر بن بکار عن الواقدي، التي ذکرت ذهابه إلی سوق حُباشة، والروایة التي أوردتها المصادر المتأخّرة عن ذهابة إلی سوق جُرَش، وروایة الزهري لم تحدّد لنا عمر النبي(صلی الله علیه و آله) عندما ذهب بتجارة السیّدة، علی عکس الروایات التي ذکرت أنّ عمره کان خمساً وعشرین سنة عندما ذهب إلی

ص: 508


1- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص129، أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص97، البدء والتاریخ للمقدسي: ج4 ص137 - 138، دلائل النبوّة للأصبهاني: ج1 ص221، تاریخ ابن عساکر: ج3 ص14 - 15، الوفاء لابن الجوزي: ج1 ص143: صفة الصفوة: ج1 ص71 - 72، الاکتفاء للکلاعي: ج1 ص195 - 196، حیاة الحیوان للدمیري: ج2 ص257، تاریخ الخمیس للدیار بکري: ج1 ص363، السیرة الحلبیة: ج1 ص147، سمط النجوم لمکّي: ج1 ص365.
2- . البکر: ولد الناقة، وهو في الإبل بمنزلة الفتی في الناس، والبکرة بمنزلة الفتاة (لسان العرب لابن منظور: ج1 ص250، مادّة «بکر»).
3- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج8 ص16.
4- . جُرَش - بضمّ أوّله وفتح ثانیه وبالشین المعجمة - : موضع بالیمن (معجم ما استعجم للبکري: ج2 ص376، معجم البلدان لیاقوت الحموي: ج2 ص126، انظر حول الروایة: حیاة الحیوان للدمیري: ج2 ص257، البدایة والنهایة لابن کثیر: ج2 ص295، إمتاع الأسماع للمقریزي: ج1 ص9، السیرة الحلبیة للحلبي: ج1 ص151.

الشام.

ربّما کان عمر الرسول إحدی وعشرین سنة عندما ذهب إلی سوق حُباشة؛ وذلك لأنّ الزهري ذکر أنّه تزوّجها وهو بهذا العمر بعدما عاد من تجارتها(1)، وذکرت روایات أُخری أنّ عمر الرسول کان ثلاث وعشرین سنة عندما تزوّج من السیّدة(علیها السلام)(2)، وذکر غیرها أنّ عمره کان خمساً وعشرین(3)، وجاء الاختلاف في عمر الرسول عند الزواج؛ نتیجة لأنّه تزوّج منها بعد عودته من إحدی سفراته التجاریة بمالها، لذلك حسب الزهري أنّ عمره کان إحدی وعشرون سنة، والسفرتان اللتان ذکرتهما المصادر إلی سوق جُرَش، إمّا قبل هذه السفرة أو بعدها، وعلی کلّ حال فهي قبل سفرة الشام.

إنّ ذهاب رسول اللّه بتجارة السیّدة خدیجة تدعونا إلی التساؤل عن السبب الذي دفعها إلی أن تعرض علی الرسول الخروج بتجارتها؟ وهل عمل بالتجارة قبل عمله معها؟ أي هل کانت لدیه خبرة تجاریة؟

من الأُمور المعروفة أنّ الرسول بعد وفاة جدّه عبد المطّلب اختار عمّه أبو طالب لیعیش معه؛ لما رأی عطفه علیه ورحمته(4)، وتولّی أبو طالب المهمّة وقام بها خیر قیام، فأحبّه حبّاً شدیداً لم یحبّه لأولاده(5)، وکان أبو طالب تاجراً کما هو شأن قومه، فکان یبیع البُرّ والعطور(6)، علاوة علی قیامه بمهامّ السقایة والرفادة التي ورثها عن أبیه بعد وفاته(7).

ص: 509


1- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص130، حیاة الحیوان للدمیري: ج2 ص257، تاریخ الخمیس للدیار بکري: ج1 ص361، سمط النجوم: ج1 ص365.
2- . الاستیعاب لابن عبد البرّ: ج4 ص208، الروض الأنف للسهیلي: ج1 ص216، عیون الأثر لابن سیّد الناس، ج1 ص47، السیرة لمغلطاي: ص12، البدایة والنهایة لابن کثیر: ج1 ص293.
3- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص98.
4- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج8 ص17.
5- . السیر والمغازي لابن إسحاق: ص69، المصنّف للصنعاني: ج5 ص318، الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص119.
6- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص120، دلائل النبوّة لأبي نعیم الأصبهاني: ج1 ص290، الوفاء لابن الجوزي: ج1 ص130.
7- . المعارف لابن قتیبة: ص575، الإعلاق النفیسة لابن رستة: ج7 ص215.

وذکرت بعض الروایات التاریخیة أنّ أبا طالب کان فقیراً لا یمتلك أموالاً کثیرة(1)، لکن یجب أن لا نتصوّر أنّه کان مملقاً لا یمتلك أيّ شيء، ففي روایة عن الواقدي: «أنّ أبا طالب کان مقلاً بالمال، وکان له قطعة من الإبل یستطیع أن یعیش منها»، وبقاء وظیفة الرفادة مع کثرة مؤونتها بیده حتّی مجيء الإسلام دلیل کافٍ علی هذا الأمر(2).

وعندما بلغ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) الثانیة عشرة من عمره، هیّأت له الظروف أن یخرج في إحدی السفرات التجاریة إلی الشام برفقة عمّه(3)، ومن الطبیعي أن تؤثّر هذه الرحلة في نفس الرسول ، حیث شاهد مناطق مختلفة في رحلته، وتعرّف علی الحیاة التجاریة في مکّة وخارجها منذ فترة مبکّرة، ومع ما ذکرناه من قلّة مال أبي طالب، کان لا بدّ أن یجد عملاً یعیش منه، والعمل الرئیسي في مکّة کانت التجارة، فلابدّ من أن یعمل بها.

وبالرغم من أنّنا لا نعرف عن الوضع المالي للرسول الشيء الکثیر، سوی الروایة التي تقول إنّه ورث عن أبیه جاریة تُدعی أُمّ أیمن «برکة الحبشیة» وخمسة جمال وقطعة من الغنم(4)، وهذا المال رغم قلّته لکن من الممکن أن یزداد بمرور الأیّام، حیث إنّ الجمال والغنم تتوالد وتکثر، وربّما کانت الغنم التي کان یرعاها لأهله کان جزء منها له، فقد روي عن الرسول أنّه قال: «بُعث موسی وهو راعي غنم، وبُعث داود وهو راعي غنم، وأنا أرعی غنم أهلي بأجیاد»(5).

وهذا المال القلیل ابتدأ به رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) تجارةً بسیطة تتناسب مع ما یملکه، ویؤیّد ذلك أنّه کان یُلقّب بالأمین قبل عمله بتجارة السیّدة خدیجة،

وهذا اللقب یناسب مع العمل التجاري، کذلك الروایة التي تذکر لقاءه بقس بن ساعدة الأیادي في سوق عکاظ وسماعه لکلامه «وهو ممّن کانوا یدینون بالحنفیة دیانة إبراهیم الخلیل»، وسؤال

ص: 510


1- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج2 ص23.
2- . تاریخ الیعقوبي: ج2 ص11.
3- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج2 ص23، الغرام للفاسي: ج2 ص90.
4- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص121.
5- . المعارف لابن قتیبة: ص144، دلائل النبوّة: ج1 ص206.

وفد قبیلة أیاد عنه عندما قدموا إلی المدینة علی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)؛ لکي یسلموا(1)، یدلّ علی مداومته الذهاب إلی الأسواق التجاریة.

وبقي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) مع عائلة عمّه کأحد أفرادها، لکنّه کان لابدّ أن یستقلّ بعمله عن هذه العائلة في یوم من الأیّام، وربّما ابتدأ بعمله عندما بلغ الخامسة عشر من عمره کما یتّضح من الروایة التي أوردها ابن عبد البرّ في الاستیعاب: «فصار في حجر عمّه حتّی بلغ خمس عشرة سنة، وکان أبو طالب یحبّه، ثمّ انفرد بنفسه»(2).

ویبدو أنّه کان یذهب إلی الأسواق القریبة من مکّة لیشتري بعض السلع، کما یؤیّد ذلك روایة الواقدي عن بعض ولد حکیم بن حزام في أنّه التقی بالرسول في سوق حُباشة واشتری منه نوع من أنواع الأقمشة(3)، وفي روایة أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) أجر هالة بنت خویلد إبلاً تحمل علیها بضائعها «فکان في الإبل هو والشریك له، أکریا أُخت خدیجة، فلمّا قضی السفر بقي لهم علیها شيء، فجعل شریکه یأتیها فیتقاضی ویقول لمحمّد: انطلق، فیقول: اذهب أنت، فإنّي أستحي»(4)، وهذا النصّ یدلّ علی أنّ الرسول یعمل بالتجارة قبل لقائه بالسیّدة، وعلی امتلاکه للإبل، أمّا شریکه فقد ذکرت الروایات أنّه من بني مخزوم ولم تتّفق علی اسمه، حیث دخل علیه عند فتح

مکّة فقال له الرسول : «کنت شریکي لنعم الشریك، کنت لا تداري ولا تماري»(5).

وذکرت بعض الروایات أنّ اسمه عبد اللّه بن السائب المخزومي(6)، وربّما کان هو

ص: 511


1- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص126.
2- . الأغاني لأبي فرج الأصبهاني: ج15 ص5570، مروج الذهب للمسعودي: ج1 ص82.
3- . انظر: مروج الذهب: ج1 ص34.
4- . جمهرة نسب قریش لابن بکار: ج1 ص371، معجم ما استعجم للبکري: ج2 ص418، إمتاع الأسماع للمقریزي: ج1 ص8، السیرة الحلبیة: ج1 ص152.
5- . مجمع الزوائد للهیثمي: ج9 ص222.
6- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج5 ص445، التاریخ الکبیر للبخاري، ج 5 ص8 - 9، سنن الترمذي: ج2 ص343، جمهرة أنساب العرب لابن حزم: ص143، دلائل النبوّة لأبي نعم الأصبهاني: ج1 ص124، أُسد الغابة لابن الأثیر: ج3 ص254، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحدید: ج18 ص308، الإصابة لابن حجر: ج2 ص314، الخصائص الکبری للسیوطي: ج1 ص225. Ñ Ø وذکرت مصادر أُخری أنّ اسمه السائب بن أبي السائب وعبد اللّه ابنه، وروی عنه: سنن أبي داود: ج4 ص260، الدرر في اختصار المغازي والسیر لابن عبد البرّ: ص118، أُسد الغابة لابن الأثیر: ج2 ص315. وذهبت مصادر أُخری إلی أنّ اسمه السائب بن صیفي بن عائد بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم: الوفاء لابن الجوزي: ج1 ص142، إمتاع الأسماع للمقریزي: ج1 ص8 - 9، السیرة الحلبیة: ج1 ص151. وذکر الذهبي أنّه صیفي بن عائذ، ویُکنّی بأبي عبد اللّه: معرفة القرّاء الکبار علی الطبقات والأعصار: ج1 ص40 - 41. وذکرت مصادر أُخری أنّه السائب بن عبد اللّه: مسند ابن حنبل: ج3 ص425، أُسد الغابة لابن الأثیر: ج2 ص316.

نفسه الذي أرسلته السیّدة معه إلی سوق حُباشة.

وهذا العمل التجاري البسیط کان الخطوة الأُولی في حیاة النبي الاقتصادیة، حیث أخذ یعمل في النشاط الذي کان یمارسه مجتمعه آنذاك وهو التجارة، فأصبح عنده رأس مال یستطیع أن یواصل به العمل التجاري، ویؤیّد هذا ما جاء في روایة الزهري التي قدّمناها وروایة الواقدي عن ولد حکیم بن حزام أنّه التقی به في سوق حُباشة واشتری منه بعض السلع، فأخبر عمّته بذلك فرغبت بالعمل معه، فعرضت علیه أن یخرج في مالها تاجراً إلی سوق حُباشة ومعه شریکه الذي کان یعمل معه.

وإرسال النبي(صلی الله علیه و آله) إلی ذلك السوق یعني أنّها أرادت أن تتعامل معه في تجارة بسیطة، خصوصاً أنّ هذه السوق کانت قریبة من مکّة، وهي من الأسواق الموسمیة، حیث لا تستمرّ إلّا ثمانیة أیّام(1)، وهذا معقول جدّاً؛ لأنّ تعاملها معه أوّل أمره

یحتاج إلی أن تجرّبه في تجارة بسیطة وقریبة؛ حتّی تختبر مواهبه التجاریة، ومن ثمّ تتعامل معه في تجارة أکبر.

ویدلّ علی ذلك مسألة الحصّة من الأرباح وهي «سقب»، ولمّا رأت النجاح في عمله معها وکثرة الربح، ضاعفت له الحصّة وأعطته «سقباً آخر»، وهذا الربح کان عاملاً مهمّاً في أن یستمرّ التعامل بینهما، وساعدت ممیّزات الرسول الذاتیة من أمانة وسموّ أخلاق أن تزداد ثقة السیّدة خدیجة به وترسله مرّة أُخری إلی الأسواق القریبة، فذهب بتجارتها إلی سوق جُرَش مرّة أو مرّتین(2)، وفي کلّ سفر کانت تعطیه قلوص(3)،

ص: 512


1- . ذکر الفاسي أنّها لم تکن من الأسواق الکبیرة، حیث لا تُقام في مواسم الحجّ، بل کانت تقوم في شهر رجب (شفاء الغرام: ج2 ص283).
2- . حیاة الحیوان للدمیري: ج2 ص257.
3- . القلوص: هي الشابّة من الإبل بمنزلة الجاریة الفتاة من النساء (لسان العرب: ج2 ص160، مادّة «قلص»).

وهذا یدلّ علی أنّ عمله التجاري معها کان منذ فترة مبکّرة قبل ذهابة إلی الشام، ویعزّز هذا الرأي ما ورد في روایة الزهري: «ما رأیت من صاحبة خیر من خدیجة، ما کنّا نرجع أنا وصاحبي إلّا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبّئه لنا»(1).

فربّما یکون قد سافر بتجارتها مرّات متعدّدة لکنّ الروایات لم تشر إلی ذلك، علی أنّ هذه السفرات کانت إلی الأسواق القریبة ولیست إلی الشام، وقد حاول الباحثون أن یستدلّوا بروایة الزهري علی عمل الرسول معها قبل فترة طویلة من ذهابة إلی الشام، لکنّهم ذکرو أنّ روایة الزهري لم ترد إلّا في مصادر متأخّرة(2)، مع ورود هذه الروایة في المصادر المتقدّمة، کالمصنّف للصنعاني وغیره(3).

أمّا رحلة الرسول التجاریة إلی الشام، فقد وردت عنها خمس روایات، روایة الزهري التي ذکرت خروج خزیمة بن حکیم البهزي مع الرسول إلی الشام «ربّما أنّ هذا الشخص خرج بمالها أیضاً ورافق الرسول في القافلة الذاهبة إلی الشام، خصوصاً أنّ هذه الرحلة

کانت من الرحلات التجاریة الکبیرة لأهل مکّة». وروایة ابن إسحاق، وروایتي الواقدي عن نفیسة بنت منیة، وروایة ابن سعد عن عبد اللّه بن محمّد بن عقیل.

إنّ موضوع الروایات واحد، لکنّ الاختلاف بینهما ناتج عن أُمور کثیرة یمکن أن نستدلّ علیها من خلال استقراء هذه الروایات:

روایة ابن إسحاق هي استنتاج لما حدث ولیست روایة مسندة إلی أحد الصحابة أو السیّدة خدیجة أو الذین کانوا في الرحلة، کما هو شأن روایتي الواقدي وابن سعد، فقد تحدّث في روایته عن ممیّزات السیّدة خدیجة التجاریة: «کانت خدیجة بن خویلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال...»، ثمّ عن الطریقة التي تعطي بها حصص الذین یعملون معها: «تستأجر رجال في مالها وتضاربهم إیّاه بشيء تجعله لهم»، وهذا یعني

ص: 513


1- . المنتخب لابن بکار: ص36.
2- . الوسیط في السیرة النبویة للملّاح: ص92.
3- . المنتخب لابن بکار: ص36، تاریخ الطبري: ج2 ص382.

أنّها کانت تعطي مالها مضاربةً، وقد ورد في الروایات أنّها استأجرته وأرسلته، أنّه کان أجیراً في عمله معها، وقد أشار ابن قیّم الجوزیة إلی هذا المعنی حیث قال: «إنّما یحفظ عنه أنّه أجر نفسه قبل النبوّة في رعایة الغنم، وأجر نفسه من خدیجة في سفره بمالها إلی الشام، وإن کان العقد مضاربةً، فالمضارب أمین أجیر ووکیل وشریك، فأمین إذا قبض المال، ووکیل إذا تصرّف به، وأجیر فیما یباشره من العمل، وشریك إذا ظهر الربح»(1).

إنّ هذا الرأي غیر دقیق؛ لأنّ قضیّة رعایة الغنم لم تکن أُجرة، بل کان یرعی غنم أهله، أمّا استئجاره للعمل في تجارة السیّدة خدیجة، فإنّ عمله لم یکن إجارة، بل شراکة، والدلیل علی ذلك أنّها کانت تعطي المال مضاربةً، کما جاء في روایة إسحاق المتقدّمة، والمضاربة هي أن تعطي المال لغیرك یتّجر به، فیکون له سهم معلوم من الربح(2)، وقد یکون الربح مشترکاً(3)، أمّا قوله إنّ العمل إجارة لأنّه یباشره بنفسه، فهو رأي

ضعیف؛ إذ لو کان الأمر کذلك لما بعثت غلامها میسرة معه لیقوم بأعمال خدمة القافلة، وربّما أرسلت غیره، إضافة إلی أنّ روایة ابن إسحاق التي استند علیها ابن القیّم والتي وردت فیها کلمة تستأجر، أوردها الطبري بصیغة أُخری، وهي: «کانت خدیجة بنت خویلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستتجر الرجال في مالها...» (4)، والفرق بین تستأجر وتستتجر کبیر؛ لأنّ الثانیة تأتي من التجارة؛ أي البیع والشراء، ولیس من الاستئجار(5).

ویؤیّد ذلك الروایة التي وردت عن عمّار بن یاسر، فقد أوردت المصادر عنه

ص: 514


1- . المعاد في هدی خیر العباد لابن قیم الجوزیة: ج1 ص57.
2- . لسان العرب: ج2 ص520، مادّة «ضرب».
3- . نزهة المجالس ومنتخب النفائس للصفوري الشافعي: ج2 ص167.
4- . تاریخ الطبري: ج2 ص280.
5- . تجر یتّجر تجراً وتجارةً : باع واشتری، و کذلك اتّجر، وهو افتعل، وقد غلب علی الخمار (لسان العرب: ج1 ص312، مادّة «تجر»).

روایة في زواج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من السیّدة، وهي: «ویغضب إذا قیل له استأجرته وأرسلته»(1)، وفي روایة عنه أیضاً: «وأنّه ما کان ممّا یقول الناس أنّها استأجرته بشيء ولا کان أجیراً لأحد قطّ»(2)، وقد یبدو من هذه الروایة أنّها تعارض ذهاب الرسول في تجارة السیّدة، لکنّنا نری أنّها تزید الصورة وضوحاً، حیث إنّها تبیّن طبیعة عمل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) معها، حیث إنّ هذا العمل لم یکن استئجاراً، بل کان شراکة.

ثمّ تذکر روایة ابن إسحاق عرض السیّدة علی الرسول : «فلمّا بلغها عن رسول اللّه ما بلغها من صدق حدیثه وعظم أمانته وکرم أخلاقه، بعثت إلیه فعرضت علیه أن یخرج في مال لها إلی الشام تاجراً...»، وهذا العرض یعني أنّها لم تتعامل قبل ذلك، علی عکس ما قدّمناه في روایة الزهري والروایة التي تذکر ذهابه إلی سوق جُرَش، لکن إذا عرفنا أنّ روایة ابن إسحاق هي استنتاج خاصّ به ولیس تعبیراً عن الواقع الذي یمثّله

ذهابه بتجارتها إلی الشام، فأجمل عمله معها بهذه الروایة وجمعه فیها وربطه بذهابه إلی سوق بُصری في الشام.

أمّا روایة الواقدي الأُولی عن نفیسة بنت منیة التي کانت وثیقة الصلة بالسیّدة خدیجة؛ لأنّها أُخت العوامّ بن خویلد لأُمّه، وربّما کانت تعیش عندها، فهي قریبة من الحدث وشاهدة علیه، فتکون روایتها أخبار عن الواقع ولیس استنتاج لما حدث، فهي تنقل حدیث أبي طالب مع الرسول وحثّه علی الذهاب بتجارة السیّدة خدیجة وقوله له: «فلو جئتها فعرضت نفسك علیها لأسرعت إلیك»، وهذا یعني أنّها کانت قد تعاملت معه قبل ذلك وعرفت مواهبه التجاریة وعلاوة علی معرفتها بصفاته الذاتیة کالصدق والأمانة، وربّما کان حدیث أبي طالب معه قبل مدّة من خروج القوافل حتّی یتهیّأ النبي للعمل معها، أمّا الذي أبلغها بقول أبي طالب، فهو أبو طالب نفسه، وهذا الأمر ذکره البلاذري عنندما نقل روایة الواقدي عن نفیسة: «فکلّمها أبو طالب في

ص: 515


1- . المنتخب لابن بکار: ص41.
2- . تاریخ الیعقوبي: ج2 ص16.

رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فوجّهته إلی الشام»(1)، کذلك روایة ابن سعد عن عبد اللّه بن محمّد بن عقیل والتي تعتبر مکمّلة لروایة الواقدي الأُولی، حیث إنّ أبا طالب عندما کلّم الرسول في الخروج بتجارتها وافق علی الأمر، فذهب أبو طالب إلی السیّدة خدیجة وطلب منها أن تعطي محمّداً مالاً یتّجر به واشترط علیها أن تعطیه أربعة أبکار، الأمر الذي یتناسب وکفاءته التي تعرفها السیّدة(علیها السلام)؛ لأنّها تعاملت معه سابقاً.

أمّا ردّها علی أبي طالب: «لو سألت لبغیض بعید فعلنا، فکیف وقد سألت لقریب حبیب»؟ یعني أنّها علی معرفة وثیقة بالرسول ، والتي قد تکوّنت من خلال صلة القربة التي تربطها بالرسول وعمله معها لفترة طویلة، علاوة علی أنّ بني هاشم الذین ینتسب لهم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وبني أسد بن عبد العزّی الذین تنتسب إلیهم

السیّدة خدیجة، کانوا معاً في حلف الفضول الذي کان من مبادئه: «التأسّي في المعاش»(2).

وبعد أن کلّمها أبو طالب بالأمر واشترط علیها أن تعطیه ضعف ما تعطي رجل من قومه، قبلت بالأمر وبعثت الرسول في تجارتها، وهذا ما تبیّنه روایة الواقدي الأُولی(3). أمّا روایته الثانیة التي نقلها عن نفیسة بنت منیة، فهي تشبه روایة ابن إسحاق في کونها استنتاج لما حدث، حیث أعطی صورة عامّة من عمل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) معها، فیبیّن صفات السیّدة خدیجة أوّلاً، ثمّ انتقل إلی نوع العمل التجاري وهو المضاربة ثمّ عرضها علی الرسول أن یعمل معها وتعطیه حصّة الأرباح، وهذا إجمال لما حدث. وسؤالها له أن یخرج بمالها هو بناءً علی طلب أبي طالب منها الذي ذکرناه في روایة الواقدي الأُولی، ویبیّن هذا قولها له: «أنا أُعطیك ضعف ما أُعطي رجلاً من قومك»(4).

والشيء الذي نستخلصه من هذه الروایات هو أنّ الطرفین انتفع من هذا العمل، فقد انتفعت السیّدة(علیها السلام) من أمانته للحفاظ علی أموالها ومن خبرته في تنمیة هذه الأموال،

ص: 516


1- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص98.
2- . البدایة والنهایة لابن کثیر: ج2 ص292.
3- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص129 - 156.
4- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج8 ص16.

وانتفع الرسول من الرزق الذي ساقه اللّه له والذي یفوق أرباح تجارته البسیطة قبل أن یعمل معها.

لذلك فإنّها کانت بحاجة إلی شخص مثله یتمتّع بالأمانة والصدق والأخلاق الرفیعة، علاوة علی الخبرة التجاریة، فأقبلت علیه لکي یعمل معها من أجل المحافظة علی مالها، لاسیّما أنّها کانت لا تباشر هذا العمل بنفسها خارج مکّة، وإنّما تسنده لوکلاء یعملون معها، فکان عمله حفاظاً علی مالها من الضیاع، فأرسلته إلی أسواق

قریبة أوّل الأمر، فرأت الربح وزیادة البرکة في مالها.

وهذا ردّ علی کلّ من یحاول أن یلمّح إلی أنّ زواج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) منها کان بدافع مادّي، هذه الآراء التي تجد لها مبرّراً عندما تلتقي بالروایة التي تذکر أنّ عمرها کان أربعین سنة عندما تزوّج منها الرسول ، فافترضوا أنّ الذي جعله یقدم علی هذه الخطوة هو إغراء المال؛ لأنّهم لم یدر بخلدهم أنّ شابّاً في الخامسة والعشرین من عمره یقدم علی الزواج من امرأة أسنّ منه بخمسة عشر عاماً وقد تکون بعمر أُمّه، إلّا إذا کان هناك سبب قويّ یدفعه لذلك.

ونأخذ مثالاً علی هذا الأمر المستشرق بودلي الذي لمّح لذلك بقوله: «دخل محمّد في خدمة خدیجة، فوضع قدمه علی الدرج الأوّل الذي سیوصله یوماً إلی بلاد العرب جمیعاً»(1)، فجعل مال السیّدة خدیجة الشيء الأساس في انتصار الإسلام، ونحن وإن کنّا مع هذا الرأي من حیث إنّه کان من الأرکان الرئیسة التي ساعدت في انتصار الإسلام ووفّرت للرسول حیاة هانئة هادئة مستقرّة مکّنته من التفرّغ إلی التفکّر والعبادة، لکنّنا في نفس الوقت نقف ضدّ الرأي الذي ألمح إلیه ولم یفصح عنه بصراحة، فیما أفصح عنه غیره في أنّ الرسول لو لم یحصل علی هذا المال لم یکتب له ولدعوته هذا الانتصار الذي حقّقته؛ لأن أمر اللّه تعالی کان سیتمّ بمال السیّدة خدیجة أو بدونه، ومکانتها تأتي من حیث إنّها أعطت هذا المال طائعة مختارة راضیة غیر آبهة به.

ص: 517


1- . الرسول لبودلي: ص40.

موارد إنفاق أموال السیّدة خديجة(علیها السلام)

إنّ الروایات التي ذکرناها عن تجارة السیّدة خدیجة وما یتعلّق بها، لم تبیّن لنا حجم هذه التجارة وکمّیة الأموال التي تمتلکها، بل اکتفت بالقول إنّها من التجّار الذین یمتلکون الأموال.

وبالرغم من ذلك فإنّنا نستطیع أن نعطي تصوّراً عامّاً عن حجم هذه الأموال من خلال الروایات، ففي روایة الواقدي الثانیة عن نفیسة بنت منیة: «کانت خدیجة ذات شرف ومال کثیر، وتارة تبعث إلی الشام، فیکون عِیرها کعامّة عِیر قریش...»، یمکن أن نستخلص من هذا النصّ أنّها کانت تمتلك أموال کثیرة، والإشارة الثانیة: «أن عِیرها کان کعامّة عِیر قریش»؛ تعني عِیرها کان مثل عِیر تجّار قریش لا یختلف عنه؛ أي أنّ شأنها شأن بقیّة تجّار مکّة.

وفي روایة أوردها الذهبي عن ابن إسحاق أنّها کانت «متموّلة، فعرضت علی الرسول أن یخرج في مالها إلی الشام...» (1)، والمتموّلة تعني کثیرة المال؛ لأن العرب تقول: «رجل ملل؛ إذا کان کثیر المال»(2).

ومسألة الحصّة التي أخذها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من أرباح تجارة الشام والتي اشترطها أبو طالب علیها هي أربعة أبکار، وضاعفت للرسول عندما رأت کثرة الأرباح حتّی صارت ثمان أبکار، فإنّها تبیّن لنا حجم هذه التجارة التي ذهب بها الرسول ، والثمان أبکار هي نسبة من الربح فقط، ومن الطبیعي أن یکون الربح أکثر من ذلك، وعلیه یکون رأس المال ضعف ذلك بمرّات متعدّدة، کذلك فإنّ هذه التجارة لم تکن کلّ أموال السیّدة خدیجة. إذن، یکون حجم المال کبیراً علی اعتبار هذه النسب.

ویمکن أن نعرف نوع المال الذي کانت تمتلکه وهو نقد وحیوانات وعبید وغیر

ص: 518


1- . سیر أعلام النبلاء للذهبي: ج2 ص84.
2- . مال الرجل: إذا صار ذا مال، وتموّل: کثر ماله، ویقال: رجال مال، أي کثیر المال، وکأنّه جعل نفسه مالاً، وما أموله: أي ما أکثر ماله (لسان العرب: ج2 ص550، مادّة «مول»).

ذلك، فأمّا النقد فکان ضروریاً للتعامل التجاري، والحیوانات ضروریة لنقل البضائع، کما أنّ الحصص کانت تُعطی بها ولیس بالنقد کما رأینا من الروایات السابقة، وقد یکون ذلك ناتجاً عن قلّة النقد في تلك الفترة.

وتذکر الروایات أنّها کانت تمتلك بیوتاً في مکّة، أوّلها البیت الذي تسکنه وکانت

مستقلّة فیه عن عائلتها، والذي انتقل إلیه الرسول بعد زواجه منها(1)، والبیت الذي أعطته إلی أبي العاص ابن الربیع ابن أُختها هالة بعد زواجه من ابنتها زینب(2). أمّا العبید فقد کانت تمتلك میسرة وربّما امتلکت غیره، لکن لم تصلنا أسماؤهم.

وعلی

الرغم من عدم وجود تعیین لحجم هذا المال، لکن بقاءه لفترة طویلة یتصرّف به الرسول ، یدلّ علی أنّه کان کبیراً. والسؤال الملحّ هنا: أین ذهبت هذه الأموال؟

لقد تساءل المستشرق لامنس وهو یتحدّث عن زواج فاطمة الزهراء: «کیف لم یکن باستطاعته أن یخصّ فاطمة بهدیّة سنیّة تحملها إلی بیت عریسها»؟ ثمّ تساءل: أین ذهبت أموال خدیجة وهي شيء کبیر؟(3)

ردّ أحد الباحثین عن هذا التساؤل: بأنّ هذه الأموال لیست شیئاً کبیراً، وصُرفت في الدعوة الإسلامیة، ثمّ انتقل بعد ذلك إلی القول إنّ بقاء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وزوجته خمساً وعشرین سنة بدون عمل أدّی إلی نفاد هذا المال(4).

إنّ هذا التساؤل یحتاج إلی تتبّع موارد إنفاق هذا المال طیلة الدعوة الإسلامیة، أمّا رأي الباحث الذي قدّمناه فبالرغم من أنّنا نتّفق معه في أنّه أنف في الدعوة الإسلامیة، لکن لا نتّفق معه في کونه قلیلاً، وفي بقاء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وزوجته بدون عمل ممّا أدّی إلی نفاده.

بعد أن تزوّج النبي(صلی الله علیه و آله) من السیّدة خدیجة أصبح لدیه رأس مال کافٍ لیبتدئ به تجارة

ص: 519


1- . أخبار مکّة للأزرقي: ج2 ص199، تاریخ الطبري: ج2 ص282.
2- . أخبار مکّة للأزرقي: ج2 ص234.
3- . فاطمة بنت رسول اللّه لعمر، نقلاً عن أبي نصر: ص71 - 72.
4- . فاطمة بنت رسول اللّه لعمر، نقلاً عن أبي نصر: ص72.

تشبه تجارة أهل مکّة وقتذاك، وبالرغم من عدم معرفتنا الشيء الکثیر عن تجارة

الرسول بعد الزواج، لکن هذا لا یمنع أنّه بقي یعمل في التجارة(1)، حیث لا نستطیع أن نتصوّر بقاءه دون عمل؛ لأنّ هذا الأمر لا یتلاءم وسیرته، فنراه یؤکّد بصورة مستمرّة علی العمل یحث علیه، وقد حصلنا علی بعض الروایات التي تؤیّد ذلك وتشیر إلی نشاطه التجاري، ففي روایة أنّه بایع أحد التجّار سلعة ووعده في مکان معیّن، لکنّ التاجر نسي الأمر، وبعد أن تذکّره أتاه بعد ثلاثة أیّام، فوجد الرسول ینتظره، فقال له: «یا فتی، لقد شققت عليَّ أنا هاهنا مذ ثلاثة أیّام أنتظرك»(2).

وبعد البعثة وردت روایة عن أبي سفیان أنّه کان خارجاً إلی الیمن في تجارة، ثمّ عاد إلی مکّة، فجاءه أهل مکّة یسألون عن بضائعهم، ثمّ جاء النبي(صلی الله علیه و آله) فسلّم علیه ولم یسأله عن بضاعته، ثمّ قام، فقال أبو سفیان لزوجته: «إنّ هذا لیعجبني، ما من أحد من قریش له معي بضاعة إلّا وقد سألني عنها، وما سألني هذا عن بضاعته، فقالت لي هند: أو ما علمت شأنه؟ فقلت وأنا فزع: ما شأنه؟ قالت: یزعم أنّه رسول اللّه»(3).

ویبدو أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) کان مختصّاً في بیع الأقمشة، فعندما التقاه حکیم بن حزام في سوق حُباشة اشتری منه نوع من أنواع الأقمشة، وبعد البعثة حصلنا علی روایتین تشیران إلی شراء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) هذا القماش من تجّار قدموا إلی مکّة(4).

وفي روایة أنّ أحد تجّار قبیلة زبید الیمنیة قدم مکّة بتجارة فأراد بیعها إلی أبي جهل بن هشام، لکنّه ظلمه بثمنها، فأخذ الرجل یقول: «یا معشر قریش، کیف تدخل علیکم مادّة أو جلب وأنتم تظلمون من دخل إلیکم. وجعل يقف على الحلق، حتّى انتهى إلى

رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهو في أصحابه، فقال له رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): من ظلمك؟ قال: أبو الحكم، طلب

ص: 520


1- . محمّد في مکّة لواط: ص76.
2- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج7 ص59، عیون الأثر لابن سیّد الناس: ج2 ص332 - 333، تاریخ الإسلام للذهبي: ج1 ص51.
3- . البدایة والنهایة، لابن کثیر: ج3 ص223.
4- . سنن الترمذي: ج3 ص568، أخلاق النبي لأبي الشیخ: ص120، أُسد الغابة لابن الأثیر: ج2 ص493.

منّي ثلاثة أجمال، هي خيار إبلي، فلم أبعه إيّاها بالوكس، فليس يبتاعها أحد منّي اتّباعاً لمرضاته، فقد أكسد سلعتي وظلمني. فقال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): وأين أجمالك؟ قال: هي هذه بالحزّورة. فابتاعها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) منه، فباع جملين منها بالثمن الذي التمسه، وباع البعير الثالث وأعطى ثمنه أرامل بني عبد المطّلب»(1).

قد یتصوّر البعض أنّ انشغال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بالتفکّر والتعبّد أبعده عن دائرة الأعمال؛ لأنّه الجزء الغالب علی مرویات السیرة، وبالرغم من أنّ هذا الرأي قریب من الواقع، لکن في نفس الوقت نقول: إنّ التفکّر والتعبّد لم یأخذ کلّ وقت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)؛ لأنّه کما تذکر الروایات کان في أوقات معیّنة من السنة، وهذه الروایات التي قدّمناها تشیر بوضوح إلی أنّه استمرّ في العمل التجاري، لکن لیس فیها ما یدلّ علی أنّه خرج إلی خارج مکّة للتجارة.

ولا یستبعد أن تبقی السیّدة خدیجة تباشر إدارة أموالها وتجارتها، وإذا رجّحنا هذا الاحتمال فهذا یعني أنّ زوجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لم یمنعها من ممارسة العمل التجاري والتصرّف الحرّ بمالها باسم القوامة الزوجیة أو السلطة الدینیة وهو صاحب التشریع؛ أي أنّ الإسلام لم یحرم المرأة من حقّها في العمل(2)، کما أنّنا ذکرنا أنّ القوافل المشترکة التي کانت تبعث بها قریش هیّأت لها إرسال أموالها معها دون أن تخرج هي والرسول إلی التجارة بأنفسهما، وهذا ما تشیر إلیه روایة أبي سفیان.

لکن بالرغم من هذا العمل التجاري، فإنّ هذه الأموال أخذت تتناقص؛ لأن نسبة

الصرف کانت أعلی من نسبة التجارة. منذ أن تزوّج الرسول بالسیّدة خدیجة وضعت أموالها تحت تصرّفه، وأورد أحد المصادر المتأخّرة روایة تؤیّد هذا المعنی: «أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) عندما تزوّج خدیجة کثر کلام الحسّاد فیها، فقالوا: إنّ محمّداً فقیر وقد تزوّج بأغنی النساء، فکیف رضیت خدیجة بفقره؟ فلمّا بلغها ذلك أخذتها الغیرة علی محمّد(صلی الله علیه و آله) أن

ص: 521


1- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص130.
2- . التحرّر یبدأ في عقول الرجال والنساء لأمینة طیارة، مجلّة العربیة، العدد 59، إبریل 2001م: ص69 - 70.

یُعیّر بالفقر، فدعت رؤساء الحرم وأشهدتهم أنّ جمیع ما تملکه لمحمّد، فإن رضي بفقري فذلك من کرم أصله، فتعجّب الناس منها، وانقلب القول، فقالوا: إنّ محمّداً أمسی من أغنی أهل مکّة وخدیجة أمست من أفقر أهل مکّة، فأعجبها ذلك»(1).

وهذه الروایة وإن لم یرد لها ذکر في المصادر المتقدّمة وقد تکون تصوّراً أو استنتاجاً لما حدث، لکنّها تعبّر عن الواقع تماماً، فأموال السیّدة خدیجة أصبحت ملکاً لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) یتصرّف بها کیفما یشاء، وقد أشار القرآن الکریم إلی هذا المعنی بقوله تعالی: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)(2)؛ أي وجدك فقیراً فأغناك بمال السیّدة خدیجة(3).

وعلاوة علی وضعها الأموال تحت تصرّفه، فإنّها کانت تتبع الناس الذین لهم علاقة بالرسول وتخصّهم بالصلاة، وهذه الصلاة کانت کبیرة، فمثلاً زید بن حارثة ذکرنا أنّ حکیم بن حزام اشتراه لعمّته خدیجة من سوق عکاظ، وذکرت روایات أُخری أنّ الرسول رآه في أحد الأسواق، فأخبر السیّدة خدیجة فطلبت منه أن یشتریه، فاشتراه وأعتقه وتبنّاه(4).

وأکرمت السیّدة خدیجة ثویبة مولاة أبي لهب التي أرضعت الرسول عند ولادته بلبن ابنها مسروح، فکانت تأتي الرسول عند زواجه من السیّدة فیکرمها وتکرمها هي، وبقیت هذه الصلات طیلة حیاة السیّدة خدیجة، وطلبت من أبي لهب أن تشتریها منه، لکنّه رفض ذلك(5).

وفي روایة عن الواقدي أنّ حلیمة بنت عبد اللّه بن الحارث السعدیة مرضعة

ص: 522


1- . نزهة المجالس للصفوي الشافعي: ج2 ص168.
2- . الضحی: 9.
3- . مجمع البیان في تفسیر القرآن للطبرسي: ج10 ص506.
4- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص467، البدء والتاریخ للمقدسي: ج5 ص21، أُسد الغابة لابن الأثیر: ج2 ص281، سیر أعلام النبلاء للذهبي: ج1 ص162، السیرة الحلبیة: ج1 ص297.
5- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص108 - 109، أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص96، الاستیعاب لابن عبد البرّ: ج1 ص28، الوفا لابن الجوزي: ج1 ص107، نهایة الأرب للنویري: ج16 ص80 - 81.

الرسول قدمت علیه بعد زواجه من السیّدة؛ تشکو إلیه الفقر، فکلّم رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خدیجة فأعطتها أربعین شاةً وبعیراً(1).

والتفتت السیّدة خدیجة إلی عائلة أبي طالب، فأخذت ترسل لهم الصلات والعطایا(2)، ثمّ أخذ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ابن عمّه علي بن أبي طالب وربّاه في حجره وفي بیت السیّدة خدیجة(3)، وعندما رأت تعلّق الرسول به اهتمّت به وکأنّه ابنها، فأخذت تلبسه فاخر الثیاب، وبالغت في إکرامه(4). وکلّ هذه العطایا والصلات قبل أن یبعث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وهي شيء کبیر استمرّ خمس عشرة سنة من الزواج حتّی البعثة مع قلّة النشاط التجاري، وهذا یؤدّي إلی تناقص هذه الأموال، لکن بالرغم من هذا الاتّفاق بقیت هذه الأموال إلی البعثة ولعبت دوراً کبیراً کما سنری، ممّا یقودنا إلی القول إنّ حجم هذه الأموال کان کبیراً.

وعندما بُعث رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) رکّز کلّ جهوده علی الدعوة، فکانت أموال السیّدة خدیجة خیر عون للإسلام والمسلمین، ومن المؤکّد أنّ المسلمین الذین فقدوا أموالهم وامتیازاتهم التجاریة نتیجة اعتناقهم الإسلام، حصلوا علی مساعدات من هذا المال.

ولقد اتّبع المشرکون أسالیب متعدّدة في حربهم مع الرسول في مکّة، وکان یقف علی رأس هذه الأسالیب العمل الاقتصادي، وقد رأینا أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لم یخرج في تجارة خارج مکّة، وهذا یعني أنّه اعتمد علی ما یرد إلی مکّة من سلع، سواء من تجّار مکّة أو التجّار القادمین إلیها، فکان المشرکون في هذه المرحلة یجبرون من یفد إلی مکّة أن لا یبع المسلمین ومحمّد(صلی الله علیه و آله) خاصّة، ویخوفوهم بأنّ کلامه فیه سحر وغیر ذلك؛

ص: 523


1- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص114، أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص95، الروض الأنف للسهیلي: ج1 ص192: صفة الصفوة لابن الجوزي: ج1 ص61 - 62 و114، أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص95، المختصر لأبي الفداء: ج1 ص113.
2- . إثبات الوصیة للمسعودي: ص159.
3- . السیرة النبویة لابن هشام: ج1 ص228.
4- . إثبات الوصیة للمسعودي: ص159.

حتّی لا یشتري منه ولا یبیعه أحد(1).

وکان أبو جهل «عمرو بن هشام» یشن حرباً اقتصادیة علی من أسلم، فکان یأتي الرجل المسلم فیقول له إذا أسلم: «أتترك دین أبیك وهو خیر منك وتفیل شرفه؟ وإن کان تاجراً قال: ستکسد تجارتك ویهلك مالك، وإن کان ضعیفاً أغری به حتّی یُعذّب»(2).

وهذا یعني أنّ التجّار لا یستطیعون أن یبیعوا محمّداً وأتباعه؛ خوفاً من وجهاء قریش، کما أنّ المسلمین عندما یأتون بتجارة إلی مکّة لن یجدوا من یشتریها منهم، خصوصاً وأنّ أکثر التجّار کانوا مشرکین.

هذا فضلاً عن أنّ الهجرة إلی الحبشة التي أمر بها الرسول أصحابه بعد أن أصابهم العذاب الشدید من المشرکین، کانت تحتاج إلی أموال، ولیس من المعقول أن یترك رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المحتاجین من أصحابه دون مساعدة، ولیس کلّ

المهاجرین کانوا یمتلکون الأموال، فلو اطّلعنا علی قائمة المهاجرین إلی الحبشة لوجدنا من بینهم فقراء، مثل عمّار بن یاسر وعبد اللّه بن مسعود؟رضهما؟ وغیرهما(3)، لاسیّما وأنّ المسلمین خرجوا من مکّة هاربین وقد ترکوا أموالهم وما یملکون، وکانوا بحاجة إلی نفقات الطعام والسفر.

ویؤیّد هذا الرأي الروایة التي أوردتها المصادر عن أبي موسی الأشعري: «دخل عمر بن الخطّاب علی حفصة وأسماء بنت عمیس عندها، فقال حین رأی أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عمیس، قال عمر: الحبشیة هذه البحریة هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناکم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول اللّه منکم، فغضبت أسماء وقالت: کلّا واللّه، کنتم مع رسول اللّه یطعم جائعکم ویعظ جاهلکم، وکنّا في دار البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في اللّه وفي رسول اللّه، وایم اللّه لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتّی

ص: 524


1- . البدایة والنهایة لابن کثیر: ج3 ص61.
2- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص198، البدایة والنهایة لابن کثیر: ج3 ص59.
3- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص204، وانظر أیضاً قائمة المهاجرین عنده: ج1 ص198 - 229.

أذکر ما قلت للنبي وأسأله، وواللّه لا أکذب ولا أزیغ ولا أزید علیه. فلمّا جاء النبي قالت: یا نبي اللّه، إنّ عمر قال کذا وکذا. قالت: قال : فما قلتِ له؟ قالت: کذا وکذا، قال: لیس بأحقّ بي منکم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولکم أنتم هجرتان»(1).

والمکان الرئیس الذي أنفقت فیه أموال السیّدة خدیجة کان شِعب أبي طالب، حیث إنّ المشرکین بعد أن یأسوا من ردّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) والمسلمین عن الدعوة الإسلامیة، أخذوا یذهبون إلی أبي طالب في محاولة للتأثیر فیه کي یتخلّی عن ابن أخیه، لکنّه رفض هذا الأمر وخرج به إلی الشِّعب، وخرجت معه بنو هاشم وبنو المطّلب، وقالوا: «نموت عن آخرنا قبل أن یوصل إلی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فدخلوا إلی الشِّعب مسلمهم ومشرکهم، المسلم لدینه والمشرك حمیّةً»(2).

فلمّا رأت قریش ذلك کتبوا بینهم صحیفة تعاهدوا فیها علی أن «لا یبایعوا بني هاشم ولا یناکحوهم ولا یعاملوهم حتّی یدفعوا إلیهم محمّد فیقتلوه»(3).

ویتّضح من بنود الصحیفة أنّها فرضت مقاطعة اقتصادیة واجتماعیة علی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) ومن معه، وکان وقع هذه المقاطعة شدیداً، حیث إنّ التجارة هي المورد الرئیس للحیاة في مکّة، فعمل المشرکون علی قطع هذا المورد علی المسلمین، فلم یکتفوا بأن لا یبایعوهم، بل ذهبوا أبعد من ذلك، حیث أجبروهم علی ألّا یخرجوا إلی الأسواق إلّا في مواسم الحجّ لیشتروا ما یحتاجون إلیه(4)، لکن هذه الخطوة کانت محفوفة بالصعوبات؛ لأنّ المشرکین من کبار قریش کانوا یعملون علی زیادة أسعار السلع التي تفد إلی مکّة، فالتاجر الذي یأتي مکّة یدفعون إلیه أعلی سعر مقابل سلعته؛ حتّی لا یبیعها إلی بني هاشم، وکان الولید بن المغیرة المخزومي ینادي: «فمن رأیتموه عنده طعام یشتریه فزیدوا علیه وحولوا بینهم وبینه، ومن لم یکن عنده

ص: 525


1- . الجامع الصحیح للنیسابوري: ج7 ص172، الطبقات الکبری لابن سعد: ج8 ص281، مسند ابن حنبل: ج4 ص395، البدایة والنهایة لابن کثیر: ج4 ص205 - 206.
2- . أنساب الأشراف للبلاذري: ج1 ص230.
3- . حذف من نسب قریش، مؤرّخ: ص25، الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص208 - 209، تاریخ الیعقوبي: ج2 ص25.
4- . الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص208، إمتاع الأسماع للمقریزي: ج1 ص25.

نقد فلیشتر وعليَّ النقد»(1).

وکذلك کان حال أبي جهل وعقبة بن أبي معیط والنضر بن الحارث، فقد مارسوا شتّی أنواع العروض والضغوط علی التجّار؛ لئلّا یبیعوا لبني هاشم شیئاً ثمّ یعودوا إلیهم لیربحوهم علی سلعهم، حتّی أنّ بني هاشم وصلوا إلی درجة کبیرة من الجهد والبلاء «حتّی کان یُسمع أصوات صبیانهم یتضاغون من وراء الشِّعب من الجوع»(2).

وکان عدد المحصورین في الشِّعب کبیراً، وهذا العدد کان یحتاج إلی طعام ومؤونة، فکان مال السیّدة خدیجة خیر عون لهم في هذه الأزمة التي استمرّت ثلاث

سنوات، لکنّ صعوبة هذا الحصار أدّت إلی نفاد هذا المال، حیث ذکرت الروایات أنّ السیّدة خدیجة کان لها مال کثیر أنفقته في الشِّعب، وکذلك فعل أبو طالب والرسول حتّی وصلوا إلی حدّ الفقر والفاقّة(3).

وبعد أن خرج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وبنو هاشم من الشِّعب الذي حوصروا فیه، کانت هذه الأموال قد شارفت علی الفناء، لکن بقي منها ما مکّن الرسول من إدامة حیاته حتّی الهجرة إلی المدینة، ففي روایة أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عندما أراد الهجرة اشتری أبو بکر2 بعیرین، فقدّم أحدهما إلی الرسول ، فقال له الرسول : «لا، ولکن بالثمن الذي ابتعتها به. قال: أخذتها بکذا وکذا، قال: قد أُخذتا بذلك، قال: هي لك. والحکمة في أنّه أحبّ أن لا تکون هجرته إلّا من مال نفسه»(4).

ص: 526


1- . السیر والمغازي لابن إسحاق: ص159.
2- . السیر والمغازي لابن إسحاق: ص150، الطبقات الکبری لابن سعد: ج1 ص209، النزاع والتخاصم للمقریزي: ص24.
3- . تاریخ الیعقوبي: ج2 ص25، أعلام الوری للطبرسي: ص60، مناقب ابن شهرآشوب: ج1 ص58.
4- . تاریخ الطبري: ج2 ص375، مروج الذهب للمسعودي: ج2 ص279.

فهرس المصادر

1. إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب ، المنسوب إلى أبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (ت346ه )، بيروت: دار الأضواء، الطبعة الثانية، 1409ه .

2.الأخبار الموفّقيات، أبو عبد اللّه الزبير بن بكار القرشي (ت256ه )، تحقيق: سامي مكّي العاني، قم: منشورات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1416ه .

3.أخبار مكّة، أبو الوليد محمّد بن عبد اللّه بن أحمد الأزرقي (ت بعد 223ه )، تحقيق: رشدي الصالح ملحس، قم: منشورات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1411ه .

4.الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبداللّه بن عبدالبرّ النمري (ت463ه )، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأُولى، 1412ه .

5.أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أبو الحسن عزّالدين علي بن أبي الكرم محمّد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجَزَري (ت630ه )، تحقيق: علي محمّد معوّض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

6.الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن الحجر العسقلاني (ت852ه )، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمّد معوّض، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415ه .

7.الأعلاق النفيسة، أحمد بن عمر بن رسته (ابن رسته ) (ق4ه )، ترجمة وتعليق: حسينقرچانلو، طهران: أمير كبير، 1365ش.

إعلام الورى بأعلام الهدى، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق:

1. مؤسّسة آل البيت:، قم: مؤسّسة آل البيت:، الطبعة الأُولى، 1417ه .

ص: 527

2.الأغاني، أبو الفرج الإصفهاني (ت356ه )، تحقيق: عبد علي مهنّا، وسمير جابر، بيروت: دار الكتب العلمية، 1407ه .

3. أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت279ه )، إعداد: محمّد باقر المحمودي، بيروت: دار المعارف، الطبعة الثالثة.

4. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار:، محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (ت1110ه )، تحقيق: دار إحياء التراث، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1412ه .

5. البدء والتاريخ، أحمد بن سهل البلخي (ت507ه )، مكة: مكتبة الثقافة الدينية.

6. البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت774ه )، تحقيق: مكتبة المعارف بيروت: مكتبة المعارف الطبعة الثالثة، 1408ه .

7. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الأُولى، 1409ه .

8. تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، الحسين بن محمّد الديار بكري (معاصر)، بيروت: مؤسّسة شعبان.

9. تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك)، أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (ت310ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الأُولى، 1968 م.

10. التاريخ الكبير، أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري (ت256ه )، تحقيق: المعلمي اليماني، بيروت: دار الفكر، 1407ه .

11. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، المعروف باليعقوبي (ت284ه )، بيروت: دار صادر.

1. تاريخ دمشق، علي بن الحسن بن هبة اللّه (ابن عساكر الدمشقي) (ت571ه )، تحقيق: علي شيري، بيروت: دار الفكر، 1415ه ، الطبعة الأُولی.

ص: 528

2. تفسير الآلوسي (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع من المثاني)، أبو الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي (ت1270ه ) تحقيق: محمود الشكري، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الرابعة، 1405ه .

3. جمهرة أنساب العرب، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، نشر: دار الكتب العلمية، بيروت 1403ه .

4. حياة الحيوان الكبرى، محمّد بن موسى الدميري (ت808ه )، بيروت: دار إحياء التراث العربي.

5. حياة محمّد، محمّد حسين هيكل (ت1956م)، تعليق: عبدالرحيم الموسوي، قم: المجمع العالمي لأهل البيت:، 1386.

6. خديجة بنت خويلد، السيّد نبيل الحسني، كربلاء: العتبة الحسينية المقدّسة، 1432ه .

7. الخصائص الكبرى، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911ه )، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1405ه .

8. دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أبو بكر بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت458ه ) تحقيق: عبدالمعطي أمين قلعجي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1405ه .

9. الروض الأنف شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبدالرحمن بن عبداللّه السهيلي (ت581ه )، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1412ه .

10. السمط الثمين في مناقب أُمّهات المؤمنين، محبّ الدين أحمد بن عبداللّه الطبري (ت694ه )، تحقيق: محمّد علي قطب، القاهرة: دار الحديث، 1408ه .

سنن أبي داود، سليمان بن أشعث السجستاني الأزدي (ت275ه )، تحقيق: سعید

1. محمّد اللحّام، بيروت: دار الفكر للطباعة و النشر، الأُولی، 1410ه .

2. سنن الترمذي (الجامع الصحيح)، أبو عيسى محمّد بن عيسى الترمذي (ت279ه )، تحقيق: عبدالوهّاب عبداللطيف، أحمد محمّد شاكر، بيروت: دار الفكر، دار إحياء التراث، 1357ه .

ص: 529

3. سير أعلام النبلاء، أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسّسة الرسالة، الطبعة العاشرة، 1414ه .

4. السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (ت1044ه )، بيروت: دار الإحياء التراث العربي، دار المعرفة، 1400ه .

5. السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام الحميري (ابن هشام) (ت218ه )، تحقيق: مصطفى السقّا و إبراهيم الأبياري، قم: مكتبة المصطفى، الطبعة الأُولى، 1355ه .

6. شرح نهج البلاغة، عبد الحميد بن محمّد المعتزلي (ابن أبي الحديد) (ت656ه )، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، بيروت: دار إحياء التراث، الطبعة الثانية، 1387ه .

7. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، أبو الطيّب محمّد بن أحمد الفاسي المكّي (ت832ه )، تحقيق: لجنة من كبار العلماء و الأُدباء، بيروت: دار الكتب العلمية.

8. صحيح مسلم (الجامع الصحيح) ، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج النيسابوري (ت261ه )، تحقيق و نشر: دار الفكر، بيروت.

9. صفة الصفوة، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي) (ت597ه )، تحقيق: محمود فاخوري و محمّد قلعة جي، حلب: دار الوعي، الطبعة الأُولى، 1389ه .

10. الطبقات الكبرى (الطبقه الخامسة من الصحابة)، ابن سعد، محمّد بن سعد الزهري (كاتب واقدي) (1414ه )، تحقيق: محمّد بن صامل سلمي، بيروت: دار صادر، والطائف: مكتبة الصدّيق، الطبعة الأُولى، 1414ه .

11. عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير (السيرة النبوية لابن سيّد الناس)، محمّد عبد اللّه بن يحيى بن سيّد الناس (ت734ه )، بيروت: مؤسّسة عزّ الدين، 1406ه .

الكامل في التاريخ، علي بن محمّد الشيباني الموصلي (ت630ه )، تحقيق: علي

1. شيري، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1408ه .

2. كشف الغُمّة، علي بن عيسى الإربلي (ت687ه )، تصحيح: السيّد هاشم الرسولي، بيروت: دار الكتاب، 1401ه .

3. لسان العرب، أبو الفضل محمّد بن مكرم المصري (ابن منظور) (ت711ه )، قم: أدب الحوزة، 1405ه ، بيروت: دار صادر، الطبعة الأُولى، 1410ه .

ص: 530

4. مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548ه )، تحقيق: السيّد هاشم الرسولي المحلّاتي والسيّد فضل اللّه اليزدي الطباطبائي، بيروت: الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأُولى، 1415ه ، ودار المعرفة، الطبعة الثانية، 1408ه .

5. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807ه )، تحقيق: عبد اللّه محمّد درويش، بيروت: دار الكتب العلمية، 1408ه .

6. المُحبَّر، أبو جعفر محمّد بن حبيب الهاشمي البغدادي (ت245ه )، تحقيق: ايلزه ليختن شتيتر، بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر، مطبعة الدائرة، 1361ه .

7. المختصر في أخبار البشر (تاريخ أبي الفداء)، عماد الدين إسماعيل بن أبي الفداء (ت732ه )، القاهرة: مكتبة المتنبّي.

8. مروج الذهب ومعادن الجوهر، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت346ه )، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الرابعة، 1384ه .

9. مسند ابن حنبل، أحمد بن محمّد الشيباني (ابن حنبل) (ت241ه )، تحقيق: عبد اللّه محمّد الدرويش، بيروت: دار الفكر، الطبعة الثانية، 1414ه .

10. المصنّف، أبو بكر عبد الرزّاق بن همّام الصنعاني (ت211ه )، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: المجلس العلمي، 1390ه .

11. المعارف، ابن قتيبة، أبو محمّد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة دينَوَري (ت276ه )، تحقيق: ثروت عكاشة، القاهرة: دار المعارف.

1. معجم البلدان، أبو عبد اللّه ياقوت بن عبد اللّه الحموي (ت626ه )، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1399ه .

2. معجم ما استعجم، أبو عبيد عبداللّه بن عبد العزيز البكري (ت487ه )، تحقيق: مصطفى السقّا، بيروت: عالم الكتب، الطبعة الثالثة، 1403ه .

3. معرفة القرّاء الكبار علی الطبقات والأعصار، شمس الدين محمّد بن أحمد الذهبي (ت748ه )، تحقيق: بشّار عواد معروف، شعيب الأرناووط، بيروت: مؤسّسة الرسالة.

ص: 531

4. المغازي، محمّد بن عمر بن واقد (الواقدي) (ت207ه )، تحقيق: مارسدن جونس، بيروت: عالم الكتب، 1404ه ، الطبعة الثالثة.

5. مناقب آل أبي طالب (المناقب لابن شهرآشوب)، أبو جعفر محمّد بن علي بن شهرآشوب المازندراني (ابن شهرآشوب) (ت588ه )، تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي، قم: منشورات علّامة.

6. المنتخب في المراثي والخطب، فخر الدين الطريحي (ت1085ه )، بیروت: دار الأعلمي للمطبوعات، 1412ه .

7. المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية، أحمد بن محمّد القسطلاني (ت923ه )، تحقيق: صالح أحمد الشامي، بيروت: المكتب الإسلامي، 1412ه .

8. النزاع والتخاصم فيما بين بني أُميّة وبني هاشم، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (ت845ه )، تحقيق: حسين مونس، قم: الشريف الرضي، 1412ه .

9. نزهة المجالس ومنتخب النفائس، عبدالرحمن الصفوري الشافعي، دمشق: دار الإيمان.

10. نسب قريش، مصعب بن عبداللّه الزبيري (ت236ه )، تحقيق: بروفنسل، القاهرة: دار المعارف.

11. نهاية الأرب في فنون الأدب، أحمد بن عبد الوهّاب النويري (ت733ه )، القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القيومي، الطبعة الأُولى، 1395 و 1396.

1. الوسيط في السيرة النبوية، هاشم يحيي ملّاح، بغداد: مطبعة جامعة الموصل، 1370ه .

2. وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، نور الدين علي بن أحمد السمهودي (ت911ه )، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1401ه .

ص: 532

25- عناوين هامّة في ترجمة السيّدة خديجة: ومصادرها

اشارة

* عناوين هامّة في ترجمة السيّدة خديجة(علیها السلام) ومصادرها(1)

التحرير مجلّة علوم الحدیث

ملخّص البحث:

يستعرض هذا البحث كنية السيّدة خديجة بنت خويلد، وألقابها وصفاتها، وعمرها، وقصّة زواجها من النبي(صلی الله علیه و آله)، ومقدار مهرها، وعمرها يوم زواجها بالنبي. ويبيّن جوانب من فضائلها، مؤكّداً أن لها بيتاً في الجنّة. المنهج الذي اعتمده هذا البحث منهج مكتبي توثيقي؛ حيث يتقصّى فيه الكتب والمصادر التي أرّخت حياة وسيرة أُم المؤمنين السيّدة خديجة، كما يشير فيه أيضاً إلى أنّها كانت قبل زواجها بالنبي، قد تزوّجت شخصاً آخر وأنجبت منه ذكراً او إناثاً (حسب اختلاف الأقوال)، ويقدّم نبذة عن كلّ منهم، ويذكر أسباطها، ولكن هناك من المؤرّخين مَن ينكر زواجها بأحدٍ قبل النبي(صلی الله علیه و آله)، وأنّ رسول اللّه لم يتزوّج عليها إلى أن توفّيت، ويتحدّث عن تاريخ وفاتها، وما ورثه النبي منها. ويتطرّق إلى ذكر نسبها واسم ونسب أبيها وأُمّها وجدّتها، وأُختها هالة بنت خويلد، وابن أُختها أبي العاص، صهر رسول اللّه، وأخيها، وغيرهم من أقاربها. ويختم هذا البحث بذكر وفاتها مع بيان اختلاف الأقوال في ذلك. ويسرد ما كُتب حولها من الكتب والمؤلّفات.

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى آله الأئمّة المعصومين. وبعد؛ فإنّ الحديث عن أُمّ المؤمنين الطاهرة خديجة بنت خويلد عقيلة رسول

ص: 533


1- علوم الحدیث، السنة السادسة، العدد الحاوي عشر (محرّم 1423ه ): ص 118 - 140.

اللّه(صلی الله علیه و آله) ذو شجون، فيكفي أنّها كانت في بدء الإسلام من أقوى المؤازرين له والمناصرين إلى جانب سيّد البطحاء أبي طالب لتملأ الصحف عن دورها هذا وأهمّيته وأثره.

ومن واضح القول إنّ موقفها تكفّل لنصف الإسلام بالحياة، حتّى قيل: «ما قام الإسلام إلّا بسيف عليّ وأموال خديجة». ولكنّ الأهمّ من ذلك الدعم النفسي والمعنوي الذي أدّته هذه المرأة المؤمنة في ذلك الظرف الحرج الحسّاس، والذي يمثّل وجود العنصر النسوي نصف المجتمع البشريّ، والذي يؤكّد في نفس الوقت على أهمّية هذا العنصر ومساواته للرجل في أداء الدور الصحيح في النظام الإسلامي، وفي أخطر مراحله وأهمّها حسّاسيّة. وقد تقدّم في المقال السابق بعض ما جمعه كاتبه عن هذه السيّدة العظيمة من حديث، وكان لنا جهد مجموع سابقاً، بشكل «قصاصات» تحتوى على «عناوين» حول السيّدة الطاهرة، مع ذكر مصادرها، أحببنا أن نقدّمها هنا كما هي؛ لتعمّ فائدتها، وليتمّ بها ما ربّما فات ذلك المقال من عنوان أو مصدر. وباللّه التوفيق فهو خير معينٍ.

كنيتها: تُكنّى أُمّ هند. المنتخب من ذيل المذيّل على الطبري: ص2، وبحار الأنوار للمجلسي: ج16 ص12.

لقبها: كانت تُدعى في الجاهليّة الطاهرة بنت أسد. المعجم الكبير للطبراني: ج22 ص448.

المتفرّسة: عن أنس: سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: المتفرّسون في الناس أربعة؛ امرأتان ورجلان. وعدّ: صفرا بنت شعيب، وخديجة بنت خويلد. الخطيب في تاريخه: ج10 ص357، والغدير للأميني: ج5 ص318.

المباركة: التعبير عن خديجة بالمباركة في الوحي إلى المسيح في وصف النبي(صلی الله علیه و آله): نسله من مباركة، وهي ضرّة أُمّكَ في الجنّة... الخبر. بحار

الأنوار: ج21 ص352.

صفتها: كانت مشرقة الرباعيّة، كما في دلائل الإمامة لابن جرير الطبري الشيعي: ص151. قال: كان جعفر بن محمّد مشرق الرباعيّة، كانت خديجة بنت خويلد مشرقة

ص: 534

الرباعيّة، وكانت فاطمة مشرقة الرباعيّة.

عمرها: في شرح أُصول الكافي للمولى المازندراني: ج7 ص143: تزوّجها النبي(صلی الله علیه و آله) وهي بنت أربعين سنة، وأقامت معه أربعاً وعشرين سنة، وتوفّيت وهي بنت أربع وستّين سنة وستّة أشهر، وسنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) حين تزوّجها إحدى وعشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة، وقيل ثلاثة وثلاثون سنة.

تزويجها: عن عمّار بن ياسر أنّه قال: أنا أعلم الناس بتزويج رسول اللّه خديجة بنت خويلد؛ كنتُ صديقاً له. تاريخ اليعقوبي: ج2 ص20.

مهرها: في مقداره روايات:

1. أصدقها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) عشرين بكرة. سيرة ابن هشام الحميري: ج4 ص1058.

2. وعن ابن عبّاس أنّه تزوّجها وهي ابنة ثماني وعشرين سنة، ومهرها اثنتي عشرة أوقية، وكذلك كانت مهور نسائه. بحار الأنوار: ج16، 12.

3. وعن الشيخ أبي الحسن البكري في الأنوار، في خبر طويل في تزويج خديجة، قال: مهرها المعجّل دون المؤجّل أربعة آلاف دينار ذهباً، ومائة ناقة سود الحدق حمر الوبر، وعشر حلل، وثمانية وعشرون عبداً وأمةً. رواه النوري في المستدرك الرقم 16511.

عام النكاح: وقت نكاحه بعد السنة التي نكحها فيها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، هدمت قريش الكعبة بعشر سنين، ثمّ بنتها، وذلك في قول ابن إسحاق في سنة

خمس وثلاثين من مولد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله). تاريخ الطبري: ج2 ص36 - 37.

يوم زواجها: في شهر ربيع الأوّل يوم العاشر منه، تزوّج النبي(صلی الله علیه و آله) بخديجة بنت خويلد، وله يومئذٍ خمس وعشرون سنة. مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي: ص791. وقال السيّد ابن طاووس الحلّي في إقبال الأعمال: ج3 ص115: ويستحبّ صيامه شكراً للّه تعالى على توفيقه بين رسوله والصالحة الرضيّة المرضيّة. عنه بحار الأنوار: ج98 ص357.

ص: 535

خطبة أبي طالب : وردت في مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج1 ص39، والطرائف للسيّد ابن طاووس: ص307 - 397، وذكره الفقيه ابن المغازلي في المناقب، وإعجاز القرآن للباقلّاني: ص153، وصبح الأعشى: ج1 ص213، والغدير للشيخ الأميني: ج7 ص274، وراجع طبقات ابن سعد: ج1 ص113، وتاريخ الطبري: ج1 ص227، وأعلام الماوردي: ص114، وصفوة الصفوة لابن الجوزي: ج1 ص25، والكامل لابن الأثير: ج2 ص15، وتاريخ ابن كثير: ج2 ص294، وتاريخ الخميس: ج1 ص299، وعيون الأثر: ج1 ص49، وأُسد الغابة: ج5 ص435، والروض الأنف: ج1 ص122، وتاريخ ابن خلدون: ج2 ص172، والمواهب اللدنيّة: ج1 ص50، والسيرة الحلبيّة: ج1 ص149 - 501، وشرح المواهب للزرقاني، وسيرة زيني دحلان هامش الحلبيّة: ج1 ص114، وفي الدرجات الرفيعة لابن معصوم: ص51: قالت الإماميّة: وممّا يدلّ على إيمان أبي طالب خطبة النكاح التي خطبها عند نكاح رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) خديجة بنت خويلد . ورواها الكلينيّ في الكافي: ج5 ص374، الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه: ج3 ص25 ح1198 وج3 ص397 ح4398، ورواه الشيخ المفيد في المسح على الرجلين: ص29، وابن فهد الحلّي في المهذّب البارع: ج3 ص177، ومرآة العقول: ج20 ص98 – 99، وعوالي الّلالئ لابن أبي جمهور الأحسائي:

ج3 ص298 ح78، عن الكافي في الفروع كتاب النكاح، باب خطبة النكاح، والمجلسي في بحار الأنوار: ج16 ص13 - 14 وج16 ص19، والنوري في مستدرك الوسائل: ج14 ص202، وقال: وروى هذه الخطبة ابن شهر آشوب في مناقبه عن جماعة كثيرة.

ورواها العامّة: في المجموع للنووي: ج16 ص129 – 130، وفي جواهر العقود للمنهاجي الأسيوطي: ج2 ص3، وتاريخ ابن خلدون: ق 2 ج2 ص50.

نحر أبي طالب ناقة: في المهذّب البارع لابن فهد الحلّي: ج1 ص177.

تهمة تزويجها من أبيها وهو سكران، من الزهري

نقل ابن سعد في الطبقات الكبرى: ج 1 ص132 - 133: إنّ خديجة سقت أباها الخمر

ص: 536

حتّى ثمل، ونحرت بقرةً، وخلّقته بخلوق وألبسته حلّة حبرة، فلمّا صحا قال: ما هذا العقير؟ وما هذا العبير؟ وما هذا الحبير؟ قالت: زوّجتني محمّداً. قال: ما فعلت، أنا أفعلُ هذا وقد خطبكِ أكابرُ قريشٍ؟ فلم أفعل!

وهذا ما ذكره الزهري في سيرته.

لكنّ العلماء أجمعوا على بطلانه، قال محمّد بن عمر: فهذا كلّه عندنا غلطٌ ووهل، والثبتُ عندنا المحفوظ عن أهل العلم: أنّ أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجّار، وأن عمّها عمرو بن أسد زوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله). قال في الطبقات الكبرى : ج1 ص132: عن محمّد بن جبير بن مطعم، وعن عائشة، وعن ابن عبّاس، قالوا: إنّ عمّها عمرو بن أسد زوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وإنّ أباها مات قبل الفجّار. ونقله المجلسي في بحار الأنوار: ج16 ص12 و19.

وقال في الطبقات الكبرى: ج8 ص14: وهذا المجمع عليه عند أصحابنا ليس بينهم فيه اختلاف. وقال في ج1 ص132 عن ابن عبّاس: زوّج عمرو بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، خديجة بنت خويلدٍ النبي(صلی الله علیه و آله)، وهو يومئذ شيخٌ

كبيرٌ لم يبق لأسد لصلبه يومئذٍ غيره، ولم يلد عمرو بن أسد شيئاً.

وتاريخ اليعقوبي: ج2 ص20، وتاريخ الطبري: ج2 ص35، والبداية والنهایة لابن كثير: ج2 ص361، ونقله في عيون الأثر لابن سيّد الناس: ج1 ص72 عن الواقدي، ثمّ قال: ورأيت ذلك عن غير الواقدي. وقد قيل: إنّ أخاها عمرو بن خويلد هو الذي أنكحها منه، واللّه أعلم.

وقال الصالحي في سُبل الهدى: ج2 ص 165 - 166: إنّ عمّها هو الذي زوّجها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، ذكره أكثر علماء أهل السير. قال السهيلي: وهو الصحيح، لما رواه الطبري عن جبير بن مطعم وابن عبّاس وعائشة كلّهم. ورجّحه الواقدي وغلّط من قال بخلافه.

وقال عمر المؤملي: المجمع عليه أنّ عمّها عمرو بن أسد هو الذي زوّجها منه.

وهذا هو الذي رجّحه السهيلي، وحكاه عن ابن عبّاس وعائشة، وكان خويلد مات قبل الفِجَار.

ص: 537

ومن هذا الباب ذكرهم تعدّد أزواجها

كتاب المحبّر لابن حبيب البغدادي: ص452: وتزوّجت خديجة بنت خويلد(علیها السلام) أبا هالة، هند بن النبّاش الأسيدي، فولدت له ابناً يقال له: هند. ثمّ خَلَف عليها عتيق بن عابد، فولدت له جاريةً يقال لها هند. ثمّ خَلَف عليها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

وكذا في أُسد الغابة: ج6 ص78 الرقم 6867، وشرح أُصول الكافي للمازندراني: ج7 ص143، وشرح الأخبار للمغربي: ج3 ص15. ونقله في البداية والنهایة لابن كثير: ج5 ص314 عن الزُّهري.

لكن في تاريخ الطبري: ج2 ص410 - 411: كانت قبله عند عتيق بن عابد، فولدت

لعتيق جاريةً، ثمّ توفّي عنها، وخَلَف عليها أبو هالة بن زرارة بن نبّاش، وهو في بني عبد الدار بن قصيّ، فولدت لأبي هالة هند بنت أبي هالة، ثمّ توفّي عنها، فَخَلف عليها رسول اللّه وعندها ابن أبي هالة. ولم يتزوّج رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) على خديجة حتّى مضت لسبيلها. وجاء ذكر الأزواج في شرح الأخبار للمغربي: ج1 ص183، ومروج الذهب: ج2 ص275، والأنوار للبكري: ص278، ومحمّد وعليّ وبنوه الأوصياء للشيخ العسكريّ: ج1 ص134، ومناقب ابن شهرآشوب: ج1 ص41.

ومنهم من ينكر زواجها قبل النبي، ويقول: إنّ البنات ربائب النبي(صلی الله علیه و آله)، كالخصيبي في الهداية الكبرى: ص39. ولم يصحّح خبر زواجها من أحد غير رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وبه قال أبو القاسم الكوفي في الاستغاثة: ص68، ولاحظ: التعجّب للكراجكي: ص.35.

ويدلّ على ذلك القول بأنّها كانت عذراء، في مناقب ابن شهر آشوب: ج1 ص137.

إسلامها: مسند أحمد بن حنبل: ج1 ص209، وخصائص أمير المؤمنين للنسائي: ص45، وتاريخ الطبري: ج2 ص 21، والرياض النضرة: ج2 ص158، والاستيعاب: ج2 ص459، وعيون الأثر: ج2 ص93، والكامل لابن الأثير: ج2 ص22، والسيرة الحلبيّة: ج1 ص288، والإصابة: ج2 ص487، والغدير: ج3 ص226، والمناقب للخوارزمي: ص20، ومسند أبي يعلى الموصلي: ج3 ص118، والغدير للأميني: ج3 ص227، وتاريخ الطبري: ج2 ص21، والسيرة الحلبية: ج1 ص288، والمناقب

ص: 538

للخوارزمي: ص56، وشواهد التنزيل للحسكاني: ج2 ص222 ح937، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج13 ص225، وخصائص النسائي: ص36 عن عفيف الكندي، وتاريخ الطبري: ج2 ص 56، والمعجم الكبير للطبراني: ج10 ص183/10397 وج18 ص101 و102، وشرح نهج البلاغة: ج4 ص120، وضعفاء العقيلي: ج1 ص27، والكامل لابن عدي: ج1 ص399 - 400، والمحبّر لابن حبيب: ص9 وص408، وتاريخ اليعقوبي: ج2 ص23.

وهي أوّل من أسلم: الفصول المختارة للشيخ المفيد: ص258، والإرشاد له: ج1 ص29، وبحار الأنوار للمجلسي: ج18 ص208، وذخائر العقبى للطبري: ص59، وتاريخ الطبري: ج1 ص53 و61.

موقف الرسول منها وموقفها من الرسول

وكانت خديجة وزيرة صدقٍ على الإسلام، وكان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يسكنُ إليها. في أُسد الغابة: ج6 ص78 الرقم 6867، بحار الأنوار للمجلسي: ج16 ص10.

إرث النبي(صلی الله علیه و آله) منها: الإفصاح للشيخ المفيد: ص212.

مالُها: الإفصاح للشيخ المفيد: ص217، ومسند أحمد بن حنبل: ج6 ص117، وسير أعلام النبلاء: ج2 ص117، وكنز العمّال: ج1 ص2، قال الشوكاني في فتح القدير (ج5 ص458) في تفسير قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلاً): قيل: بمال خديجة بنت خويلد.

شِعرها: في الغدير للأميني: ج2 ص17: في تمريغ البعير وجهه على قدمي النبيّ ونطقه بفضله ، قولها:

نطقَ البعيرُ بفضل أحمدَ مخبرا

هذا الذي شرفت به أُمّ القُرى

هذا محمّد خير مبعوثٍ أتى

فهو الشفيع وخير من وطئ الثرى

يا حاسديه تمزّقوا من غيضكم

فهو الحبيب ولا سواه في الورى

حديثُها: مسند أبي يعلى الموصلي: ج12 ص504.

تألّفها لعليّ : جواهر المطالب في مناقب الإمام علي

لابن الدمشقي: ج1 ص39 - 40.

ص: 539

كان المجلس عندها يوم الدار: قرب الإسناد للحميري القمّي: ص325. راجع عن يوم الدار: تاريخ الطبري: ج2 ص311، كنز الفوائد: ج1 ص262، مصباح الأنوار: ص75، كفاية الطالب: ص128، مناقب الخوارزمي: ص21، وباختلاف يسير في مسند أحمد بن حنبل: ج1 ص209، الضعفاء الكبير للعقيلي: ج1 ص27 وهامشه،

المستدرك للحاكم: ج3 ص183، الإصابة: ج2 ص487، الاستيعاب: ج3 ص32، مناقب ابن شهر آشوب: ج2 ص18، الكامل لابن الأثير: ج2 ص57، إعلام الورى: ص49، ونقله المجلسي في البحار: ج38 ص244 ح40.

وهي مع بني هاشم في الشِّعب: تاريخ اليعقوبي : ج2 ص31، تاريخ الطبري: ج2 ص74.

فضائلها

لها بيت في الجنّة: المصنَّف لعبد الرزّاق الصنعاني: ج1 ص430، وشرح الأخبار للمغربي: ج3 ص18، والعمدة لابن البطريق: ص393، وصحيح مسلم: ج7 ص133، ورواه البخاري في63 كتاب مناقب الأنصار، باب 20، ومسلم في 44 كتاب فضائل الصحابة، باب 12 ح71 ص1887. قال السهيلي: وإنّما يعني قصب اللؤلؤ؛ لأنّها حازت قَصَبَ السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولانصب؛لأنّها لم ترفع صوتها على النبي(صلی الله علیه و آله)، ولم تُتعبه يوماً من الدهر، فلم تصخب عليه يوماً ولا آذته أبداً. فتح الباري: ج7 ص133، ومسند أحمد : ج6 ص58.

أفضل نساء أهل الجنّة: مسند أحمد بن حنبل: : ج1 293 وص322، الاستيعاب لابن عبد البرّ بهامش الإصابة: ج4 ص284، والمستدرك للحاكم: ج3 ص160 وج2 ص497، تلخيص المستدرك للذهبي بذيل المستدرك: ج3 ص160 وصحّحه، ذخائر العقبى للطبري: ص42، أُسد الغابة لابن الأثير: ج ص 437/5، الإصابة لابن حجر: ج4 ص378، ينابيع المودّة للقندوزي: ص172 و173 و246 و198 ط إسلامبول وص202 و204 و234 ط الحيدرية، ونقله في إحقاق الحقّ: ج10 ص52 عن مشكل الآثار للطحاوي: ج8 ص14، الاعتقاد للبيهقي: ص165، تاريخ الإسلام

ص: 540

للذهبي: ج2 ص92، تذهيب التهذيب للذهبي: ص134، البداية والنهایة لابن كثير:

ج2 ص59، تهذيب التهذيب لابن حجر: ج12 ص441، كنز العمّال: ج13 ص26 ط2 حيدر آباد، منتخب الكنز بهامش مسند أحمد: ج5 ص284، الخصائص للسيوطي: ج2 ص295 ط عبد اللطيف بمصر، الجامع الصغير للسيوطي: ج1 ص168، طرح التثريب: ص169، إرشاد الساري: ج6 ص168، البيان والتعريف للحمزاوي: ج1 ص123، وسيلة المآل للحضرمي: ص80، حسن الأُسوة : ص31، الفتح الكبير للنبهاني: ج1 ص214، أرجح المطالب: ص24 و240، ذخائر العقبى للطبري: ص42، وأخرجه الحاكم في مستدركه: ج3 ص185، ورواه أيضاً أبو يعلى الموصلي في مسنده والطبراني وأحمد.

وانظر: تفسير الدرّ المنثور: ج6 ص246. وقد رواه ابن حجر في ترجمة فاطمة بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من كتاب تهذيب التهذيب: ج12 ص441، ورواه عبد بن حميد الكسي في مسنده، ورواه ابن حبّان تحت الرقم 2222 من كتاب موارد الظمآن، ورواه كلّ من الترمذي والسنن الكبرى للنسائي، مع ذيل طويل، وانظر: مناقب أمير المؤمنين لمحمّد بن سليمان الكوفي: ج2 ص187.

سيّدات نساء أهل الجنّة أربع: المستدرك للحاكم: ج3 ص185 وج3 ص235.

اشتاقت الجنّة إلى أربع من النساء: بحار الأنوار للمجلسي: ج43 ص53، ومن كتاب مولد فاطمة لابن بابويه: بحار الأنوار: ج49 ص208 وج75 ص446.

خير نسائه: مسند أبي يعلى الموصلي: ج1 ص522/399).

سيّدة نساء العالمين: ابن أبي شيبة في فضائل فاطمة من كتاب الفضائل تحت الرقم13323من كتاب المصنّف: ج12 ص127، وقريباً منه الحاكم، وصحّحه هو والذهبي في المستدرك: ج3 ص156، مناقب محمّد بن سليمان الكوفي: ج2 ص197.

أفضل نساء العالمين: المستدرك للحاكم: ج2 ص594.

ص: 541

خير نساء العالمين أربع: يوجد في المصنّف لعبد الرزّاق الصنعاني: ج7 ص493:9492، والآحاد والمثاني للضحّاك: ج5 ص2961/364، والسنن الكبرى للبيهقي: ج6 ص367، ومجمع الزوائد للهيثمي: ج9 ص218، والاستيعاب لابن عبد البرّ بهامش الإصابة: ج4 ص377 وص284 وص285، والإصابة لابن حجر العسقلاني: ج4 ص378، وأُسد الغابة لابن الأثير: ج5 ص437، وذخائر العقبى للطبري: ص44، وينابيع المودّة للقندوزي: ص204 وص218 ط الحيدرية وص173 ط إسلامبول، وشرح الأخبار للمغربي: ج3 ص525، والعمدة لابن البطريق: ص58، وبحار الأنوار للمجلسي: ج43 ص51، وكشف الغمّة للأربلي عن كتاب معالم العترة لعبد العزيز ابن الأخضر الجنابذي، وصحيح مسلم: ج7 ص132، وسنن الترمذي: ج5 ص366 الرقم 3980، وصحيح ابن حبّان: ج15 ص402، والمعجم الكبير للطبراني: ج22 ص402 وج23 ص11 - 16، ورياض الصالحين للنووي: ص209 الرقم 44، وتفسير القرطبي: ج4 ص83، والدرّ المنثور للسيوطي: ج2 ص23 عن ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن مردويه، وفتح القدير للشوكاني: ج1 ص339، تاريخ بغداد للخطيب: ج7 ص194 وج9 ص411، وتاريخ مدينة دمشق: ج70 ص106 وص111 وص112.

اختار اللّه أربعة: كتاب النوادر للراوندي: ص260، ومناقب ابن شهر آشوب: ج3 ص104، عن كتاب أبي بكر الشيرازي، وبحار الأنوار للمجلسي: ج29 ص345 وج43 ص936 عن الشيرازي وعن مقاتل، وأبو نعيم في الحلية وابن البيع في المسند والخطيب في التاريخ وابن بطة في الإبانة والسمعاني في الفضائل بأسانيدهم عن أنس، وروى الثعلبي في تفسيره والسلامي في تاريخ خراسان وأبو صالح المؤذّن في الأربعين بأسانيدهم عن أبي هريرة.

في رواية مقاتل والضحّاك وعكرمة عن ابن عبّاس: وأفضلهنَّ فاطمة.

حسبك من نساء العالمين: يوجد في المصنّف للصنعاني: ج11 ص430،

ص: 542

والمصنّف لابن أبي شيبة: ج7 ص530، ومسند أبي يعلى الموصلي: ج5 ص380 الرقم 3039، وصحيح الترمذي: ج5 ص367 ح3981، والمستدرك للحاكم: ج3 ص157 وص158، وتلخيص المستدرك للذهبي: ج3 ص158، والاستيعاب لابن عبد البرّ مطبوع بهامش الإصابة: ج4 ص285 وص377، والإصابة لابن حجر: ج4 ص378، وذخائر العقبى للطبري: ص43، وينابيع المودّة للقندوزي: ص172 وص183 وص198 ط إسلامبول وص199 وصحّحه وص202 وص234 ط الحيدرية، ومناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي: ص363 ح409، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ص129، ومصابيح السنّة للبغوي: ج2 ص283، وإحقاق الحقّ: ج10 ص59، ومشكل الآثار للطحاوي: ج1 ص48، ومعالم التنزيل للبغوي: ج1 ص291، وتفسير الخازن: ج1 ص291، ومشكاة المصابيح: ج3 ص268، وكنز العمّال: ج13 ص127 ط2 حيدر آباد، وتذهيب التهذيب للذهبي: ص134، والبداية والنهایة لابن كثير: ج2 ص61، وتهذيب التهذيب لابن حجر: ج4 ص41، وطرح التثريب: ج1 ص149، والكشف والبيان للثعلبي مخطوط، والخصائص للسيوطي: ج2 ص265، والجامع الصغير للسيوطي: ج1 ص505، والثغور الباسمة في مناقب سيّدتنا فاطمة للسيوطي: ص13، وجمع الوسائل للهروي: ج1 ص270، وأرجح المطالب: ص243، وشرح ثلاثيات مسند أحمد بن حنبل: ج2 ص511، ووسيلة المآل: ص80، وجمع الفوائد من جامع الأُصول للفاسي: ج2 ص233، والفتح الكبير للنبهاني: ج2 ص72، ومفتاح النجا للبدخشي مخطوط، والسيف اليماني المسلول: ص20، وفرائد السمطين: ج2 ص44.

والعمدة لابن البطريق: ص387 عن صحيح الترمذي، والعمدة: ص392 عن صحيح مسلم، وبحار الأنوار للمجلسي: ج14 ص195 عن الثعلبي، وبحار الأنوار: ج14 ص200 - 201 عن الخصال: ج1 ص96 وص164 من الطبعة الجديدة، وبحار الأنوار: ج16 ص2 وص7 وج29 ص344 وج68 ص37، وجامع الأُصول: ج9

ص125 ح6670 وفي طبعة: ج9 ص81 ح6658، وفي مسند أحمد بن حنبل: ج3

ص: 543

ص135 وج4 ص222 وج5 ص362، والمستدرك للحاكم: ج3 ص157 وج4 ص158، وصحيح الترمذي: ج5 ص703 ح93878، ومنتخب مسند عبد بن حميد الكسي: ص205/597، والمعجم الأوسط للطبراني: ج7 ص254، والمعجم الكبير للطبراني: ج22 ص402.

خطّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أربع خطط في الأرض: مسند أبي يعلى: ج5 ص110 ح2722، والخصال للشيخ الصدوق: ص22، بحار الأنوار: ج13 ص161 - 162، وتفسير العسكري: ص143 -144، والاحتجاج: ص206، والخصال: ج1 ص82، وبحار الأنوار: ج14 ص168، وتفسير فرات: ص113، ومسند أحمد بن حنبل: ج1 ص293 وص316 وص322، والمستدرك للحاكم: ج3 ص160، والمعجم الكبير للطبراني: ج11 ص266 وج23 ص7، وتهذيب الكمال للمزّي: ج35 ص249.

تفضيلها: قال الحافظ في الفتح: قال السُبكي الكبير: الذي ندين اللّه به أنّ فاطمة أفضل ثمّ خديجة ثمّ عائشة، والخلاف شهير، ولكنّ الحقّ أحقّ أن يُتّبع. وقال ابن القيّم: إن أُريد بالتفضيل كثرة الثواب عند اللّه، فذاك أمر لايُطّلع عليه؛ فإنّ عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أُريد كثرة العلم فعائشة لا محالة! وإن أُريد شرف الأصل ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير إخوتها، وإن أُريد شرع السيادة فقد ثبت النصّ لفاطمة وحدها. قال الحافظ: امتازت فاطمة عن أخواتها بأنّهنّ متن في حياة النبي(صلی الله علیه و آله)، وأمّا ما امتازت به عائشة من فضل العلم فإنّ لخديجة ما يقابله، وهي أنّها أوّل من أجاب إلى الإسلام ودعا إليه، وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجّه التامّ؛ فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلّا اللّه. وقيل: انعقد الإجماع على أفضليّة فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة. انتهى.

وفي فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: ج3 ص574 ح3882: خديجة

بنت خويلد القرشية الأزدية، ذات الشرف الظاهر والحسب الفاخر، أفضل أُمّهات المؤمنين. قال الحافظ العراقي: على الصحيح المختار. وذكر نحوه ابن العماد، وسبقهما السبكي.

ص: 544

فتح الباري لابن حجر: ج6 ص321 وج7 ص105 - 106، وراجع: التعجّب للكراجكي: ص36، ولاحظ: المراجعات للسيّد شرف الدين: ص315، والنصّ والاجتهاد له: ص420، ولاحظ: البداية والنهاية لابن كثير: ج8 ص100.

حسد عائشة لأُمّ المؤمنين:: الذرّية الطاهرة النبويّة للدولابي: ص31 ذكرها النبي(صلی الله علیه و آله)، فقالت عائشة: «عجوز»، فانتهرها الرسول . في شرح الأخبار للمغربي: ج3 ص21، تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج10 ص263 - 264.

وقول عائشة: «ما حسدت امرأةً ما حسدت خديجة»: «ما» الأُولى نافية والثانية مصدريّة؛ أي: ما حسدت مثل حسدي خديجة، والمراد من الحسد هنا الغيرة.«وما تزوّجني رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) إلاّ بعدما ماتت»، أشارت عائشة بذلك إلى أنّ خديجة لو كانت حيّة في زمانها لكانت غيرتها منها أشدّ وأكثر، وذلك أنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بشّرها.

فكان لغيرة عائشة على خديجة أمران: الأوّل: كثرة ذكر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) لها، كما في الحديث السابق. والثاني: هذه البشارة؛ لأنّ اختصاص خديجة بهذه البشارة مشعرٌ بمزيد محبّة من النبي(صلی الله علیه و آله) فيها. وأمر ثالث: أنّ النبي(صلی الله علیه و آله) لم يتزوّج على خديجة بالرغم ممّا يزعمونه من كونها أكثر عمراً منه ، وهو قد تزوّج على عائشة بالرغم من كونها صغيرة!

مقت عائشة لها: كتاب الجمل للشيخ المفيد: ص219، وكانت عائشة تمقت خديجة بنت خويلد: وتشنئها شنآن الضرائر، وكانت تعرف مكانها من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فيثقل ذلك عليها، وتعدّى مقتها إلى ابنتها فاطمة، فتمقت فاطمة

وخديجة، وهذا معروف في الضرائر.

أقرباؤها

حفيدها الحسين : في يوم عاشوراء وثب الحسين متوكّئاً على سيفه، فنادى بأعلى صوته، قال: أنشدكم اللّه، هل تعرفوني؟ قالوا: نعم أنت ابن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وأحد سبطيه.

قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ جدّي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ أُمّي فاطمة بنت محمّد(صلی الله علیه و آله)؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ أبي عليّ بن أبي طالب ؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

ص: 545

قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجة بنت خويلد، أوّل نساء هذه الأُمّة إسلاماً؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

الأمالي للصدوق: ص222، واللهوف للسيّد ابن طاوس الحسني: ص53.

حفيدتها أُمامة: الطبقات الكبرى لابن سعد: ج8 ص39.

خير جدّة: الأمالي للصدوق ص522: فنادى منادي رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في المدينة، فاجتمع الناس عند رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في المسجد، فقام على قدميه، فقال: يا معشر الناس، ألا أدلّكم على خير الناس جدّاً وجدّةً؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: الحسن والحسين، فإنّ جدّهما محمّدٌ، وجدّتهما خديجةٌ بنت خويلد.

أولادها: لاحظ ذخائر العقبى للطبري: ص151، وشرح الأخبار للمغربي: ج3 ص15، وكتاب المنمّق لابن حبيب: ص247.

ولادة فاطمة: في الثاقب في المناقب لابن حمزة: ص285، والأمالي للصدوق: ص475، والمناقب لابن شهرآشوب: ج4 ص340، وروضة الواعظين: ص143، والخرائج والجرائح: ج2 ص524، ودلائل الإمامة: ص8، وينابيع المودّة: 198، وملحقات إحقاق الحقّ: ج4 ص19، ومعالم الزلفى: ص390.

القاسم: بحار الأنوار للمجلسي: ج15 ص16.

الطاهر: بحار الأنوار: ج16 ص16، وفي أُسد الغابة لابن الأثير: ج3 ص50: طاهر ابن هالة أخو هند بن أبي هالة الأسدي التميمي، واسم أبي هالة النبّاش.

زينب وأُمّ كلثوم: نصب الراية للزيلعي: ج2 ص307، كتاب الصحابة لابن الأثير، قال: زينب بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) أكبر بناته، وأُمّها خديجة بنت خويلد، توفّيت في السنة الثامنة، ونزل في قبرها، وأُختها أُمّ كلثوم شقيقتها، توفّيت سنة تسع، وصلّى عليها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

رقيّة بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): أُمّها خديجة بنت خويلد رضي اللّه عنهما، روى مصعب بن

ص: 546

عبد اللّه أنّ خديجة ولدت لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله) فاطمة وزينب ورقيّة وأُمّ كلثوم. تهذيب الكمال للمزّي: ج23 ص34.

ابنها هند: البداية والنهایة لابن كثير: ج6 ص35. وهند هذا هو ربيب رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، أُمّه خديجة، وكان يقول: أنا أكرم الناس أباً وأُمّاً وأخاً وأُختاً: أبي رسول اللّه - لأنّه زوج أُمّه - وأُمّي خديجة، وأخي القاسم، وأُختي فاطمة. قُتل هند مع عليّ يوم الجمل. المنتخب من ذيل المذيّل على الطبري: ص40.

سبطها محمّد بن صيفي: وهو سبط خديجة، أُمّه هند بنت عتيق بن عامر بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، وأُمّها خديجة. الإصابة لابن حجر: ج6 ص7794:14.

سبطها محمّد الأوسط: ابن أمير المؤمنين أُمّه أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأُمّها

زينب بنت رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وأُمّها خديجة. الطبقات الکبری لابن سعد: ج3 ص20.

جدّها لأُمّها: عمرو بن خنثر من أبطال الجاهليّة، هو جدّ أُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد لأُمّها(علیها السلام) . تاج العروس للزبيدي: ج3 ص190.

أبوها خويلد آبي الخسف: وهو الذي نازع تُبَّعاً حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد، وقام معه جماعة من قريش، ثمّ رأى تُبَّعٌ في منامه ما روّعه، فنزع عن ذلك وترك الحجر الأسود مكانه. في سبل الهدى للصالحي: ج1 ص11، وفي تاج العروس: ج6 ص10 وص86: وآبي الخسف لقب خويلد والد خديجة زوج النبي(صلی الله علیه و آله)، وفيه يقول يحيى بن عروة بن الزبير:

أبٌ لي آبي الخسف قد تعلمونه

وفارس معروف رئيس الكتائب

جدّتها: نُهيّة - كسُميّة - ابنة سعيد بن سهم، أُمّ ولد أسد بن عبد العُزّى بن قصي، وهي أُمّ خويلد، جدّة السيّدة خديجة:. تاج العروس: ج10 ص382.

والدة الأئمّة:: وعن صفوان الجمّال، قال: قلتُ يوماً لأبي عبد اللّه جعفر بن محمّد وأنا عنده: يابن رسول اللّه، أمنكم السفّاح؟ فأطرق إلى الأرض مليّاً، ثمّ قال: يا ثابت، منّا السفّاح... ورسول اللّه أبونا الأكبر، وعليّ أبونا الأصغر، وفاطمة أُمّنا، وخديجة بنت

ص: 547

خويلد والدتنا. شرح الأخبار للمغربي: ج3 ص64.

ابن عمّها: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى، وهو ابن عمّ أُمّ المؤمنين وجدّة أهل البيت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى(علیها السلام).

قال ابن مندة: اختُلف في إسلامه، والأظهر أنّه مات قبل الرسالة. تاج العروس للزبيدي: ج7 ص86، وقال في شرح الأخبار للمغربي: ج3 ص15: كان على دين النصرانيّة، قد قرأ الكتب، وكان يذكر أنّ نبيّاً إن بُعث يُبعث من قريش، فيقول: هو واللّه

النبيّ المنتظر، وله في ذلك أشعار كثير قالها، ومات قبل أن يبعث اللّه نبيّه محمّداً . وفي شرح الأخبار للمغربي: ج1 ص183: من شعره يقول:

لججت وكنتُ في الذكرى لجوجا

ل-ه-مّ ط-ال ما ب-ع-ث ال-نش-ي-ج-ا

وهذه

الأبيات في الإصابة لابن حجر: ج3 ص634:

هذي خديجة تأتيني لأخبرها

وما لنا بخفيّ الغيب من خبر

بأنّ محمّداً سيسود قوماً

ويخصم من يكون له حجيجا

في البداية والنهاية لابن كثير (ج2 ص362): وقال ورقة:

أتبكر أم أنت العشية رائح

وفي الصدر من

إضمارك الحزن قادح

لقد نصحتُ لأقوامٍ وقلتُ لهم

أنا النذيرُ فلا يغرركم أحد

وله وصيّة لخديجة بنت خويلد: في الأمالي للمفيد: ج1 ص185، الأمالي للطوسي: ص302/598 ط حديثة، البداية والنهایة لابن كثير: ج3 ص35 وج2 ص362.

أُختها هالة بنت خويلد بن أسد: أُخت خديجة أُمّ المؤمنين، صحابية، وهي أُمّ أبي العاص بن الربيع. تاج العروس: ج8 ص176، الشفا للقاضي عياض: ج1 ص127، المنتخب من ذيل المذيّل للطبري: ص41.

ابن أُختها أبو العاص صهر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله): لقيط بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس العبشمي، صهر رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، أُسر يوم بدر، وهو ابن أُخت خديجة بنت خويلد، وكنيته

ص: 548

أبو العاص مشهور بها، وقيل: بل اسمه مهشم، وقيل: هشيم، وقيل: قاسم، ولقيط أصحّ. تاج العروس للزبيدي: ج5 ص217.

أخوها وابن أخيها: حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد القرشي، الصحابي، كان من المؤلّفة قلوبهم، ثمّ حسن إسلامه، هو صحابي بالاتّفاق، وأُمّا أبوه حزام بن خويلد فهو

أخو خديجة بنت خويلد، وغلط من عدّه صحابياً. سيرة ابن هشام الحميري: ج1 ص236، تاج العروس: ج8 ص246.

أُختها رقيقة وبنتها أُميمة: رقيقة بنت خويلد بن أسد، أُخت خديجة بنت خويلد، فأُميمة ابنة خالة أولاد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من خديجة. أُسد الغابة لابن الأثير: ج5 ص403، وفي شرح سنن النسائي للسيوطي: ج1 ص31: قال الحافظ جمال الدين المزيّ في التهذيب: رقيقة بنت خويلد أُخت خديجة أُمّ المؤمنين:.

حفيدة أُختها: حكيمة بنت أُميمة بنت رقيقة، ورقيقة أُخت خديجة بنت خويلد، وأبو أُميمة عبد اللّه بن بجاد التميمي، تابعية. تاج العروس: ج8 ص254.

ابن أخيها الزبير: الفائق في غريب الحديث للزمخشري: ج1 ص291، قال: خديجة عمّة الزبير؛ لأنّ خويلد بن أسد أبو العوّام وخديجة، فجعلها عمّة لعبد اللّه كما يجعل الجدّ أباً. وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج4 ص62.

مصاهرتها لرسول اللّه(صلی الله علیه و آله): المنتخب من ذيل المذيّل للطبري: ص6، وفي المجموع للنووي: ج19 ص381: ويقدّمُ عبد العُزّى على عبد الدار؛ لأنّ فيهم أصهار رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فإنّ خديجة بنت خويلد منهم. وفي روضة الطالبين للنووي: ج5 ص321: فيقدّم بني هاشم، وبني المطّلب على سائر قريش، ثمّ بني عبد شمس وبني نوفل أخوي هاشم، ويقدّم منهما بني عبد شمس؛ لأنّه أخو هاشم لأبويه، ونوفل أخوه لأبيه، ثمّ بني عبد العُزّى وبني عبد الدار ابني قصي، يُقدّم منهما بني عبد العُزّى؛ لأنّهم أصهار رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، فإنّ خديجة(علیها السلام) بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى.

قابلتها سلمى مولاة صفيّة: الإصابة لابن حجر: ج8 ص99 الرقم 11092.

ص: 549

صديقة خديجة: المستدرك للحاكم: ج4 ص175.

نفيسة: هي التي سعت في ما بين رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وخديجة بنت

خويلد حتّى تزوّجها. الطبقات الكبرى لابن سعد: ج8 ص244.

أُمّ زفر ماشطتها: إنّ أُمّ زفر هذه كانت ماشطة لخديجة بنت خويلد، وأنّها عمّرت حتّى رآها عطاء بن أبي رباح. البداية والنهایة لابن كثير: ج6 ص177وج6 ص325، وابن الأثير في أُسد الغابة، والشفا للقاضي عياض: ج1 ص131.

من آل خديجة: الاستغاثة لأبي القاسم الكوفي: ج1 ص70: قال: وقع بيني وبين من نسب إلى هند من ولده مجادلات ومناظرات في ما ينتسبون إليه من خديجة وما يجهلون من جدّتهم هالة أُخت خديجة، ولمّا عرّفتهم الصحيح من ذلك اشتدّ عليهم وجادلوني أشدّ مجادلة في أنّهم من ولد خديجة، فأعلمتهم أنّ ذلك جهل منهم بنسبهم، وأنّ خديجة لم تتزوّج بغير رسول اللّه(صلی الله علیه و آله).

يزيد بن عمر أبو عبداللّه التميمي: وفي أُسد الغابة لابن الأثير: ج5 ص456/7470: من ولد أبي هالة النبّاش بن زرارة، زوج خديجة بنت خويلد، روى عن ابن لأبي هاله عن الحسن بن علي ، قال: سألتُ خالي هند بن أبي هالة - وكان وصّافاً - عن حلية رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)... الحديث بطوله. وفيه حديث عن أخيه الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب .

الخديجيّ: رجال النجاشي: ص266 الرقم 692: عليّ بن عبد اللّه بن محمّد بن عاصم بن زيد بن عمرو بن عوف بن الحارث بن هالة بن أبي هالة النبّاش بن زرارة بن وقدان بن أسيد بن عمرو بن تميم، أبو الحسن المعروف بالخديجي، وهو الأصغر. ولنا الخديجي الأكبر علي بن عبد المنعم بن هارون، وإنّما قيل له الخديجي؛ لأنّ أُمّ هالة بن أبي هالة خديجة بنت خويلد(علیها السلام). له كتاب خديجة وعقبها وأزواجها. الفهرست للطوسي: ص87.

دارها: في فتوح البلدان للبلاذري: ج1 ص57: واحتفر عبد شمس بئرين وسمّاهما «خُمّ ورُمّ» على ما سمّی كلاب بن مرّة بئريه. فأمّا «خُمّ» فهي عند الردم، وأمّا «رُمّ» فعند دار

ص: 550

خديجة بنت خويلد. في معجم ما استعجم للبكري: ج2 ص510 عن أبي عبيدة: «خمّ» بئر احتفرها عبد شمس بالبطحاء بعد بئره العجول. قال: ومن حفائره أيضا «زُمّ»، وبعضهم يقول: «رُمّ» بالراء المهملة، والأوّل أثبت، وهي التي عند دار خديجة بنت خويلد.

وفي تاريخ الطبري: ج3 ص36: كان منزل خديجة يومئذٍ المنزل الذي يُعرف بها اليوم فيقال: منزل خديجة، فاشتراه معاوية - في ما ذُكر - فجعله مسجداً يصلّي فيه الناس، وبناه على الذي هو عليه اليوم لم يُغيّر. وأمّا الحجر الذي على باب البيت عن يسار من يدخل البيت، فإنّ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) كان يجلس تحته ويستتر به من الرمي إذا جاءه من دار أبي لهب ودار عدي بن حمراء الثقفي خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراع وشبر في ذراع.

وفي مناقب خديجة الكبرى لمحمّد بن علوي المالكي: ص2: دار خديجة بنت خويلد زوجة النبي(صلی الله علیه و آله) التي نصرت الإسلام بأموالها حتّى قيل: «ما قام الإسلام إلّا بسيف عليّ وأموال خديجة»، تقع في سوق الصاغة المتفرّع من سوق الطويل خلف المسعى، وكانت هذه الدار مهبط الوحي والتنزيل ومولد فاطمة الزهراء:.

وفي كلمة التقوى للشيخ زين الدين: ج3 ص499: ينبغي أن يزور منزل الرسول ، وهو منزل زوجته خديجة بنت خويلد أُمّ المؤمنين:، وقد سكنه الرسول معها في أيّام حياتها، وسكنه بعد وفاتها إلى أن هاجر إلى المدينة، وفيه ولدت أولادها، وهو الآن مسجد يقع في زقاق يُسمّى زقاق الحجر، ويقال لهذه الدار: مولد فاطمة الزهراء:.

وفاتها: بحار الأنوار: ج5 ص19 عن مسارّ الشيعة للمفيد: ص6: في يوم العاشر من شهر رمضان سنة عشر من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين، توفّيت أُمّ المؤمنين خديجة.الحدائق الناضرة للبحراني: ج17 ص423: عام الحزن.

بحار الأنوار

للمجلسي: ج16 ص13: توفّيت وهي ابنة خمس وستّين سنة، فخرجنا بها من منزلها حتّى دفنّاها بالحجون، فنزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في حفرتها، ولم يكن

يومئذٍ صلاة على الجنازة، قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها، وبعد خروج بني هاشم من الشِّعب بيسير.

وفي التنبيه والإشراف للمسعودي: ص199: وتوفّي عمّه أبو طالب وله بضع

ص: 551

وثمانون سنة، وزوجه خديجة بنت خويلد ولها خمس وستّون سنة، في السنة العاشرة من مبعثه، بينهما ثلاثة أيّام، وقيل: أكثر من ذلك، وذلك بعد إبطال الصحيفة وخروج بني هاشم بن عبد المطّلب من الحصار في الشِّعب بسنة وستّة أشهر.

وقال البلاذري في الأنساب: ص186 ح1: وقال بعضهم: ماتت قبل الهجرة بخمس سنين. قال البلاذري: وهو غلط.

وفي مستدرك الحاكم: ج3 ص182: دُفنت خديجة بالحجون، ونزل في قبرها رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)، وكان لها يوم تزوّجها ثمان وعشرون سنة. وأُمّ خديجة فاطمة بنت زائدة بن الأصمّ، وأُمّها هالة بنت عبد مناف.

عن هشام بن عروة، قال: توفّيت خديجة بنت خويلد(علیها السلام) وهي ابنة خمس وستّين سنة، هذا قول شاذّ، فإنّ الذي عندي أنّها لم تبلغ ستّين سنة.

المنتخب من ذيل المذيّل على الطبري: ص86: ودُفنت بالحجون، ونزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في حفرتها.

وفاتها وموقف الرسول وفاطمة

قال اليعقوبي: دخل عليها رسول اللّه وهي تجود بنفسها - في مرضها الذي توفّيت فيه - فقال: «بالكره منّي ما أرى، ولعلّ اللّه أن يجعل في الكره خيراً كثيراً». ولمّا توفّيت خديجة جعلت فاطمة تتعلّق برسول اللّه(صلی الله علیه و آله) وهي تبكي وتقول: أين أُمّي؟ أين أُمّي؟ فنزل جبرئيل فقال: قل لفاطمة: إنّ اللّه تعالى بنى لأُمّك بيتاً في الجنّة من قصب، لا نصب فيه ولا صخب.

وتوفّي أبو طالب بعد خديجة بثلاثة أيّام، وله ستٌّ وثمانون سنة، وقيل: تسعون سنة. ولمّا قيل لرسول اللّه: إنّ أبا طالب قد مات، عَظُمَ ذلك في قلبه واشتدّ له جزعه، ثمّ دخل عليه فمسحَ جبينه الأيمن أربع مرّاتٍ، وجبينه الأيسر ثلاث مرّاتٍ، ثمّ قال: «يا عمّ، ربّيتَ صغيراً وكفلتَ يتيماً ونصرتَ كبيراً، فجزاك اللّه عنّي خيراً». ومشى بين يدي سريره، وجعل يعرض له ويقول: «وصلتك رحمٌ وجزيتَ خيراً». وقال: «اجتمعتْ على هذه الأُمّة في

ص: 552

هذه الأيّام مصيبتان لا أدري بأيّهما أنا أشدّ جزعاً»؛ يعني مصيبة خديجة وأبي طالب.

وروي عنه أنّه قال: «إنّ اللّه وعدني في أربعة: في أبي وأُمّي وعمّي وأخٍ كان لي في الجاهليّة». البداية والنهایة لابن كثير: ص74 ح2، رواه الهيثمي في مجمع الزوائد: ص218 ح9، والإصابة لابن حجر: ج8 ص101، وكنز العمّال الرقم 34345، والطبقات الكبرى لابن سعد: ج1 ص210، وتاريخ الطبري: ج2 ص413، والبداية والنهایة لابن كثير: ص321 ح5، وإعلام الورى للطبرسي: ص53 ح1.

وفي سيرة ابن هشام الحميري: ص273 - 282 ح2: قال ابن إسحاق: إنّ خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزيرة صدق على الإسلام، يسكن إليها، وبهلك عمّه أبي طالب، وكان له عضداً وحرزاً في أمره، ومنعة وناصراً على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، فلمّا هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتّى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه التراب، ودخل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول اللّه(صلی الله علیه و آله) يقول لها: «لا تبكي يابنيّة، فإنّ اللّه مانعٌ أباك». قال: ويقول بين ذلك: «ما نالت منّي قريشٌ شيئاً أكرهه حتّى مات أبو طالب».

قبرها: في المنتخب من ذيل المذيّل على الطبري: ص86: دُفنت بالحَجون، ونزل رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) في حفرتها.

وفي أُسد الغابة: ص78 ح6 الرقم 6867: دُفنت بالحَجون.

وفي كلمة التقوى للشيخ زين الدين: ج3 ص499: يستحبّ أن يُزار قبر السيّدة خديجة بنت خويلد أُمّ المؤمنين، وقبرها معروف في مقبرة الحَجون، ويقع في سفح الجبل، وأن يُزار قبر أبي طالب مع الإمكان، وقبور الهاشميين وغيرهم.

المؤلّفات حولها

1. كتاب خديجة وعقبها وأزواجها، لأبي الحسن علي بن عبد اللّه بن محمّد التميمي الخديجي

الأصغر؛ سُمّي بالخديجي لأنّ أُمّ جدّه الثامن الذي اسمه هالة بن أبي هالة

ص: 553

كانت

بنت خديجة من زوجها الأوّل، فهو من أسباط خديجة بنت خويلد، وألّف كتابه هذا ليكون ذكرى لأسلافه، ورواه النجاشي عنه بثلاث وسائط. الذريعة لآقا بزرك الطهراني: ج7 ص143/789 وج15 ص346/53.

2. مناقب السيّدة خديجة بنت خويلد، لأحمد بن محمّد بن علوي الحسيني العلوي آل المحضار: ص1304- 1217. الأعلام للزركلي: ج2 ص2.

3. رسالة في قصّة زواج النبي(صلی الله علیه و آله) بالسيّدة خديجة، لأحمد المحضار المذكور.

4. خديجة أُمّ المؤمنين، لعبد الحميد الزهراوي. الأعلام للزركلي: ج2 ص302.

5. خديجة أُمّ المؤمنين، لبُثينة توفيق. معجم المؤلّفين لعمر كحالة: ص128 ح3.

6. البشرى في مناقب السيّدة خديجة الكبرى(علیها السلام)، بقلم السيّد محمّد ابن علوي المالكي الحسني، من علماء المسجد الحرام، طُبع بمكّة المكرّمة.

7. هذا الكتاب.

8.هذا المستدرك عليه.

9. الأنوار الساطعة من الغراء الطاهرة، للشيخ غالب السيلاوي، صدر حديثاً في قم.

من مصادر ترجمتها

الطبقات الكبرى لابن سعد: ج8 ص14، والاستيعاب: ج4 ص279، والإصابة: ج4 ص281، وقسم النساء، الترجمة: ص333، وأُسد الغابة: ص95 ح434، وبحار الأنوار: ج1 ص16 وص385، وقاموس الرجال: ج10 ص430، والدرّ المنثور للسيوطي: ص229 ح8، وفضائل الصحابة لابن حنبل: ص73، وطبقات ابن سعد: ج11 ص8 ح7، والمحبّر: ص11 وص77 وص452، وصفة الصفوة: ج2 ص2، وسير النبلاء المجلّد الثاني، وتاريخ الخميس: ج1 ص301، وذيل المذيّل: ص65، والسمط الثمين: ص17.

ص: 554

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.