موسوعه خدیجه بنت خویلد المجلد 4

اشارة

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني

كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

مشخصات کتاب : 4ج

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق.

2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود.

3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود.

ص :1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد

لسنة 2010-1661

الحسني، نبيل، 1965 - م.

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني. - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 52).

المصادر.

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق. 2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود. 3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود. 4. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - نساءه - شبهات وردود. 5. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - الأولاد - دراسة وتحقيق. 6. علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 ق. - فضائل - شبهات وردود. 7. فاطمة الزهراء (علیها السلام)، 8؟ - 11 ق. - السيرة - دراسة وتحقيق. ألف. الحلو، محمدعلي، مقدم. ب. العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. اللجنة العلمية. ج. عنون. د. عنوان: خديجة بنت خويلد أمّة جُمعت في امرأة.

4 خ 5 ح / 26/208 BP

تمت الفهرسة في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة قبل النشر

ص:2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:3

ص:4

الفصل العاشر: اخوة خديجة عليها السلام وارحامها

اشارة

ص:5

ص:6

في هذا الفصل نحاول أن نظهر للقارئ حجم هذه الأسرة التي أنجبت السيدة الطاهرة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام، وما قامت به بعض هذه الشخصيات التي ارتبطت بالسيدة خديجة برابطة الدم والرحم من أعمال في الإسلام حتى أصبحت أحد رموز التاريخ والعقيدة.

وقد أشارت بعض المصادر إلى أن الأسرة التي أنجبت خديجة عليها السلام تتكون من مجموعة من الأخوة الذكور بلغ عددهم خمسة، وأن عدد اخواتها الأناث كان ستاً.

وهم على النحو الآتي:

المبحث الأول: إخوتها الذكور

اشارة

لقد أحيطت السيدة خديجة عليها السلام بعدد من الأخوة الذكور الذين برزت بعض أسمائهم من خلال أبنائهم وما قاموا به من أدوار في الساحة الإسلامية، في حين كان البعض الآخر منهم ممن لم يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:7

المسألة الأولى: العوام بن خويلد بن أسد

تزوج العوام من صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية وتوفي عنها وقد ولدت له (الزبير، والسائب، وعبد الكعبة)(1).

وقد برز اسم العوام بن خويلد من خلال ولديه الزبير والسائب وأولادهما عبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير، وقد ملأت سيرتهما كتب التاريخ والحديث، وظهرا في أهم الأحداث الإسلامية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسعني بيانها في هذا الموضع من الكتاب.

المسألة الثانية: حزام بن خويلد

اشارة

كان ممن هلك في الجاهلية في حرب الفجار(2) ؛ ولكن برز اسمه من خلال ولديه حكيم، وخالد؛ أما حكيم، فقد ولد قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة(3) ؛ وقد تأخر إسلامه إلى عام الفتح وكان من المؤلفة قلوبهم وقد توفي في المدينة عام 54 ه - وقد بلغ مائة وعشرين عاماً(4).

وقد أخرج له البخاري في صحيحه أربعة أحاديث(5).

ص:8


1- الطبقات الكبرى، لابن سعد: ج 8، ص 41.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 483.
3- المصدر السابق.
4- الاصابة لابن حجر: ج 2، ص 98..
5- مقدمة فتح الباري لابن حجر: ص 475.

الا ان كل ذلك لم يكن بالأمر الذي يستحق الشهرة واهتمام المحدثين فكثير هُمُ الذين أخرج لهم البخاري، وإنما كانت هذه الشهرة نابعة من قولهم: انه الوحيد الذي ولد في الكعبة (أعزها الله تعالى) ومن ثم فهم لا يعتقدون بولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في الكعبة.

والسؤال المطروح في البحث هو:

ألف. حقيقة ولادة حكيم بن حزام في الكعبة (أعزها الله تعالى) أواقعة أم هي حبر على ورق ؟
اشارة

وللوقوف على صحة هذا المدعى فلابد من استعراض تلك الأقوال التي أشارت إلى ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة.

أولاً: رد هذا الإدعاء وبيان زيفه

1. قال مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح: «ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة وعاش مائة وعشرين سنة»(1).

2. قال الحاكم النيسابوري: «سمعت» أبا الفضل الحسن بن يعقوب يقول: سمعت أبا أحمد محمد بن عبد الوهاب يقول: «سمعت علي بن غنام العامري يقول: ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة دخلت أمه الكعبة فمخضت فيها فولدت في البيت»(2).

3. قال ابن حبان: «دخلت أمه الكعبة فمخضت فيها فولدت حكيم بن

ص:9


1- صحيح مسلم، باب: النهي عن بيع الثمار: ج 5، ص 11.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 482.

حزام في جوف الكعبة»(1).

4. قال ابن حجر: (وحكى الزبير بن بكار أنّ حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، قال وكان من سادات قريش في الجاهلية والإسلام)(2).

وهذه الأقوال فيها كفاية لأنها صدرت عن رجال يعتقد كثير من المسلمين بعلمهم.

وأقول:

1. أما قول مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب (الصحيح) فقد أورده بدون سند فقد أدخله على الحديث وأقحمه فيه إقحاماً وهو كما ترى تدليس في الحديث، إذ قال: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا همام عن أبي التياح قال: سمعت عبد الله بن الحارث يحدث عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثله (قال مسلم بن الحجاج ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة وعاش مائة وعشرين سنة).

وهذا الأسلوب لا يدل على صحة هذا القول وإنما يعبر عن رأي مسلم الذي أقحمه فيما بين الحديثين، ولو وجد مسلم بن الحجاج لولادة حكيم بن حزام أصلاً وسندا لأوردها دون تردد لكنه عمد إلى الالتفاف على الحديث.

2. وأما قول الحاكم النيسابوري الذي أورده في المستدرك سماعاً فانه سرعان ما يعود إليه فينفيه بل ويظهر زيف هذا المدعى وانه عبارة عن وهم

ص:10


1- مشاهير علماء الأمصار لابن حبان: ص 32.
2- تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 2، ص 385.

توهم فيه قائله. فانظر - عزيزي القارئ - إلى ما قال:

(أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا مصعب بن عبد الله فذكر نسب حكيم بن حزام وزاد فيه وأمه فاختة بنت زهير بن أسد بن عبد العزى وكانت ولدت حكيماً في الكعبة وهي حامل فضربها المخاض وهي في جوف الكعبة فولدت فيها فحملت في نطع وغسل ما كان تحتها من الثياب عند حوض زمزم ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد).

قال الحاكم: «وَهَمَ مصعب في الحرف الأخير - أي توهم - فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة»(1).

وقد قدم لنا الحاكم في رده لهذا الوهم والزيف حقيقة مهمة؛ إذ يكشف بأسلوب مهذب أصل هذا الخبر ومحل صدوره وهو مصعب بن عبد الله، الذي سنتوقف معه لنستنطقه في معرفة الأسباب التي دعته لخلق هذا الوهم ونشره بين المسلمين.

3. أما قول ابن حبان فقد أورده دون أن يوثقه بسند يدعمه ويؤكد وقوعه، ولم يذكر حتى ممن سمعه أو قال له، ولعله علم ان ذكره لمصعب بن عبد الله سيفضح مدعاه.

4. أما قول ابن حجر فقد نقله عن الزبير بن بكار حكاية ثم أتبعه بقوله: «وقال الزبير عن عمه مصعب قال: جاء الإسلام وفي يد حكيم الوفادة وكان

ص:11


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 483.

يفعل المعروف ويصل الرحم ويحض على البر(1).

وهذا يكشف أن هذه الأقوال نابعة عن مصعب بن عبد الله الذي وصف عم أبيه بأنه أحد سادات قريش في الجاهلية وفي الإسلام.

وأقول:

أما في الجاهلية فنعم؛ وأما في الإسلام فلا، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، فمنها:

1. أنه تأخر إسلامه حتى عام الفتح(2). حينما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، وهذا يعني أنه من الطلقاء حاله في ذلك حال أبي سفيان وولديه، وعتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وبديل بن ورقاء، وغيرهم كثير جداً.

ولذا فمن أين جاءت له السيادة في الإسلام ؟! أبكونه من الطلقاء أم لتخلفه عن علي بن أبي طالب عليه السلام ؟

2. أنه من المؤلفة قلوبهم(3) ، أي الذين كان يعطيهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مالاً كي تميل قلوبهم إلى الإسلام.

3. ولعل بني أمية أرادوا مكافأته لموقفه من عثمان بن عفان يوم دخل

ص:12


1- تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 2، ص 385.
2- الكاشف لمن له في رواية للذهبي: ج 1، ص 347؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 7، ص 174؛ اسد الغابة: ج 2، ص 40؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 400.
3- عمدة القاري للعيني: ج 15، ص 70.

عليه الصحابة وأبناؤهم فقتلوه في داره، وتركوه فيها ثلاثة أيام، حسبما أخبرنا به المدائني وغيره، إذ قال: (إن طلحة - صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! - منع من دفنه ثلاثة أيام، وأن علياً لم يبايع الناس إلا بعد قتل عثمان بخمسة أيام، وأن حكيم بن حزام أحد بني أسد بن عبد العزى، وجبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل، استنجدا بعلي عليه السلام على دفنه.

فأقعد طلحة لهم في الطريق ناساً بالحجارة، فخرج به نفر يسير من أهله وهم يريدون به حائطاً بالمدينة يعرف بحش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم، فلما صار هناك رجم سريره وهموا بطرحه، فأرسل علي عليه السلام إلى الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه، فكفوا فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب)(1).

وكان حكيم بن حزام أحد الرجال الثلاثة الذين صلوا على عثمان وألحدوه في لحده ودفنوه(2).

وقال ابن عبد البر: (لما قتل عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام فلما كان من الليل أتاه أثنا عشر رجلاً فيهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير...)(3).

ص:13


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 10، ص 6؛ تاريخ الطبري: ج 3، ص 439؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 96؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 1، ص 79؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 3، ص 180.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 79؛ تاريخ الطبري: ج 3، ص 439.
3- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 1047.

وعليه: كيف لا يجعل له بنو أمية هذه الخصوصية فيجعلونه أحد سادات قريش في الإسلام، وانه الوحيد الذي ولد في جوف الكعبة ؟!.

فضلاً عن ذلك فقد اعتزل حكيم بن حزام الإمام علياً عليه السلام، فيما كان ولده عبد الله واحداً من الذين خرجوا لقتال علي بن أبي طالب عليه السلام في حرب الجمل، ولقد وقف عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد أن انتهت المعركة فقال: (هذا خالف أباه في الخروج، وأبوه حيث لم ينصرنا قد أحسن في بيعته لنا، وإن قد كف وجلس حيث شك في القتال، وما ألوم من كف عنا وعن غيرنا ولكن المليم الذي يقاتلنا)(1).

وهذه المواقف لا يمكن لأعداء علي عليه السلام ان يدعوها تمُر دون ان تجازى ويرد لأهلها جميلهم وصنيعهم الحسن..

ولذلك:

كان من بين أهم المكافآت التي قدمت لحكيم بن حزام هي القول بأنه ولد في جوف الكعبة.

ثانياً: دور الزبير بن بكار وعمه مصعب في نشر هذا الادعاء والدليل على زيفه

إلا أننا نجد أن الحافظ ابن حجر العسقلاني قد كشف عن الراوي الأساس في قضية ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة، فقال: «وحكى الزبير بن بكار: أنّ حكيم بن حزام قد ولد في جوف الكعبة وكان من سادات قريش في الجاهلية والإسلام».

ص:14


1- الإرشاد للمفيد: ج 1، ص 255؛ الجمل لضامن بن شدقم المدني: ص 155.

وهو بذاك قد وضع أيدينا على الجرح؛ وذلك لما عُرف به الزبير بن بكار من معاداة للعلويين في المدينة المنورة وفي غيرها حسبما دلت عليه النصوص التاريخية: -

1. قال ابن الأثير الجزري: (قدم الزبير بن بكار العراق هارباً من العلويين؛ لأنه كان ينال منهم فتهدّوده فهرب منهم، وقدم على عمه مصعب بن عبد الله وشكا إليه حاله وخوفه من العلويين وسأله إنهاء حاله إلى المعتصم - الخليفة العباسي - فلم يجد عنده ما أراد وأنكر عليه حاله ولامه.

قال أحمد: فشكا ذلك إلي وسألني مخاطبة عمه في أمره، فقلت له في ذلك وأنكرت عليه إعراضه عنه فقال لي: إن الزبير فيه جهل وتسرع، فأشر عليه أن يستعطف العلويين، ويزيل ما في نفوسهم، والله على مثل ذلك أوافقه ولا أقدر أذكرهم عنده بقبيح، فقل له ذلك حتى يرجع عن الذي هو عليه من ذمهم)(1).

ومن كان هذا حاله من العلويين، ومعروف لدى الناس بذمهم، فضلاً عن إقرار عمه مصعب بأنه جاهل ومتسرع كيف لا يدعي بأن حكيم بن حزام قد ولد في جوف الكعبة نكاية بعلي بن أبي طالب عليه السلام.

2. ذكره أحمد بن علي السليماني - صاحب كتاب العالم والمتعلم - في عداد من يضع الحديث؛ وقال - مرة -: منكر الحديث، وهو ما نقله الحافظ الذهبي في ميزانه، وغيره(2).

ص:15


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 6، ص 526.
2- ميزان الاعتدال للذهبي: ج 2، ص 66؛ الكشف الحثيث لسبط ابن العجمي: ص 119.

وهذه الرتبة وان كان الذهبي قد حاول عدم الإقرار بها، إلا أنها تكشف حال الرجل عند غير الذهبي.

3. وقد حدث الشيخ الصدوق عن أحمد بن محمد بن إسحاق الخراساني قال: سمعت علي بن محمد النوفلي يقول: استخلف الزبير بن بكار رجل من الطالبيين على شيء بين القبر والمنبر، فحلف فبرص، فأنا رأيته وبساقيه وقدميه برص كثير، وكان أبوه بكار قد ظلم الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في شيء فدعا عليه، فسقط في وقت دعائه عليه حجر من قصر فاندقت عنقه.

وأما أبوه عبد الله بن مصعب فإنه مزق عهد يحيى بن عبد الله بن الحسن وأهانه بين يدي الرشيد وقال: أقتله يا أمير المؤمنين فإنه لا أمان له، فقال يحيى للرشيد: انه خرج مع أخي بالأمس - وأنشد أشعاراً له - فأنكرها، فحلّفه يحيى بالبراءة وتعجيل العقوبة، فحم من وقته، ومات بعد ثلاثة، وانخسف قبره مرات كثيرة)(1).

4. ولم يكن عداء الزبير بن بكار للعلويين، واتهمامه لهم، ومحاربتهم، ليمرّ دون عقاب دنيوي يكشف عن سوء العاقبة، فقد ذكر الخطيب البغدادي، والحافظ المزي، والسمعاني:

(إنّ سبب وفاته أن وقع من فوق سطحه فمكث يومين لا يتكلم ومات)(2).

ص:16


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1، ص 244.
2- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 8، ص 472؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 9، ص 296؛ الأنساب للسمعاني: ج 3، ص 137.

أما حال عمه مصعب بن عبد الله الذي نسب إليه مدعى ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة، فقد قال ابن الأثير الجزري في بيان حاله مع الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام، أنه قال:

(وهو عم الزبير بن بكار، وكان عالماً فقيها، إلا أنه كان منحرفاً عن علي عليه السلام)(1).

ومن كان منحرفاً عن علي بن أبي طالب عليه السلام الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حبه علامة لوجود الإيمان؛ وان بغضه علامة لوجود النفاق، كيف لا يتقول الأكاذيب في شأن علي عليه السلام، وما قوله في ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة إلا واحد من تلك البدع التي نال بها من العلويين.

باء. هل الولادة في جوف الكعبة، هي منقبة ؟
اشارة

إن مما يلفت الانتباه في مسألة الولادة في جوف الكعبة هي عدّها منقبة تحيط بمن خص بها، كما قال الذهبي في ترجمته لحكيم بن حزام، قائلاً: (وله منقبة، وهو أنه ولد في جوف الكعبة)(2) ، والسؤال المطروح من أين جاءت هذه المنقبة ؟

وبمعنى آخر: المنقبة حاصلة من البيت الحرام؛ لما فيه من خصوصية نابعة من كونه بيت الله الحرام، أم لأن الكعبة لها حرمة ؟

ص:17


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 7، ص 57.
2- تاريخ الإسلام للذهبي: ج 4، ص 200.

ومن ثم فمن ولد في جوف الكعبة فانه ينال تلك المنقبة، أما؛ لأنه ولد في بيت الله وهذا تكريم من الله تعالى لعبده إذ ساقه إلى بيته فتلك منقبة، وإما أنه ولد في جوف الكعبة فنال من حرمتها فتلك منقبة، أو انه نال الاثنين معا في تلك الولادة في جوف الكعبة للملازمة بينهما.

وأقول:

أما انها منقبة بلحاظ كون الكعبة (أعزها الله) لها حرمة خاصة، فهذا مرهون بمن يعتقد بوجود هذه الحرمة، اما من لا يعتقد بوجود أي حرمة للكعبة أعزها الله تعالى فكيف يعتقد بحصول المنقبة، والأمثلة على ذلك كثيرة، والشواهد أكثر مما تعد.

فمن الشواهد على اعتقاد البعض بعدم وجود أي حرمة للكعبة أعزها الله تعالى قبل الإسلام وبعده ما يأتي:

أولاً: ما يدل على عدم الاعتقاد بحرمة الكعبة قبل عام الفيل

إن مما يؤسف له ان كثيراً من المخازي والأفعال الدنيئة كانت تحدث في جوف الكعبة (أعزها الله تعالى) قبل الإسلام وهذا يكشف عن فقدان الحرمة في نفوس أولئك الجناة، بل ان أول انتهاكة لحرمة الكعبة وقعت على يد الجرهميين، وهم سكان مكة الأصليين.

الدليل الأول: ارتكابهم الزنى في جوف الكعبة!

ألف: قال الطبري (المتوفى 310 ه -): (فكان أول من ولى من جرهم البيت مضاض، ثم وليته بعده بنوه كابرا عن كابر حتى بغت جرهم بمكة

ص:18

واستحلوا حرمتها وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها وظلموا من دخل مكة ثم لم يتناهوا حتى جعل الرجل منهم إذا لم يجد مكاناً يزني فيه يدخل الكعبة فزنى، فزعموا أن أسافا بغى بنائلة في جوف الكعبة فمسخا حجرين)(1).

باء: وقال محمد بن حبيب البغدادي (المتوفى سنة 245 ه -): (كان مفتاح البيت في أيدي جرهم وإن رجلاً منهم يقال له إساف بن يعلى عشق امرأة منهم يقال لها: نائلة بنت مزيد أو زيد فأصابا من البيت خلوة ففجرا فيه فمسخا حجرين فأخرجا فنصبا عند الكعبة ليعتبر الناس)(2).

جيم: قال ابن إسحاق عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم انها قالت: (ما زلنا نسمع أن أسافا ونائلة رجل وامرأة من جرهم زنيا في الكعبة فمسخا حجرين)(3).

هاء: وقال ابن كثير: «ان اسافا ونائلة كانا بشرين فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس فلما طال عهدهما عبدا ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هناك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ولهذا يقول ابو طالب في قصيدته المشهورة:

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم لمفضى السيول من أساف ونائلِ (4)

ص:19


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 37.
2- كتاب المنمق لمحمد بن حبيب البغدادي: ص 282.
3- سيرة ابن إسحاق: ج 1، ص 3.
4- تفسير ابن كثير: ج 1، ص 205.

فهذه حال الكعبة أعزها الله عند الجرهميين فلو ولد لأحدهم مولود في جوف الكعبة فهل يعدون ذلك منقبة حظي بها الوليد في البيت. من الطبيعي انها لا تعد منقبة.

ولذلك: فالمنقبة ينظر لها على انها كذلك حينما يعتقد الناظر بحرمة الكعبة المشرفة. اما من لا يعتقد بحرمتها فلا يعتقد بوجود أي منقبة فيها، بل لعله يعتقد العكس حسبما تمليه عليه معطياته الفكرية والثقافية.

الدليل الثاني: الإشراك بالله في جوف الكعبة

إنّ الملاحظ في حادثة الجرهميين ومن جاء بعدهم فسكن مكة هو تلك العقلية التي كانت تسود تصرفات هؤلاء الناس، فهم عوض أن يتعظوا من مسخ هؤلاء الجناة حجرين فيكفوا عن غيهم، انقلب الأمر فاخذوا يعبدونهما من دون الله تعالى، وهذا يكشف عن انعدام الحرمة من الأصل.

بمعنى:

انهم لا يرون حرمة لله تعالى من الأصل مما دفعهم إلى اقتراف الزنى داخل الكعبة ثم القيام بعبادة الأصنام، ولعل الكثير منهم لا يجعلها فقط في مرتبة الشريك لله سبحانه وإنما هو يراها إلهاً واحداً والعياذ بالله.

ولذلك لا يرى ضرورة في وجودها في الكعبة أم خارجها فجعلت على الصفا والمروة؛ وهذا كله يكشف عن حدود عقلية هؤلاء. وتفاوت الحرمة ونسبتها فقد تكون الحرمة محصورة في الصنم الذي يعبدون وقد تكون الحرمة في الكعبة بوصفها بيت الشريك - والعياذ بالله - كما يؤمنون به.

ص:20

ومن هنا:

نجدهم جعلوا (هبل) وهو أكبر أصنامهم في جوف الكعبة لاشتراك الحرمة فيما بينهما حسبما يعتقدون، أي حرمة الكعبة وحرمة هبل، كما تدل النصوص التاريخية.

ألف: قال ابن إسحاق: «وكان هبل أعظم أصنام قريش بمكة وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي تجمع فيها ما يهدى للكعبة»(1). أي اجتماع الحرمتين في عقول القرشيين، حرمة الصنم وحرمة الكعبة.

باء: ولم يقتصر الأمر فقط على وجود هبل في جوف الكعبة، وانما كان هناك أصنام أخرى، وهي (اللات، ومناة، والعزى)(2).

وهذا يدل على تغلغل هذا الاعتقاد في نفوس القرشيين ومن ثمّ تحديد المنقبة في ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة مرتبط بما يعتقده القرشيون لا بما يعتقده الحافظ الذهبي لاسيما ان حكيم بن حزام ولد قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة.

بمعنى لم ترتكز بعد في نفوسهم حرمة الكعبة التي ظهر برهانها في هلاك إبرهه الحبشي وجيشه كما تبينه سورة الفيل.

ص:21


1- سيرة ابن إسحاق: ج 1، ص 11؛ جامع البيان لابن جرير الطبري: ج 6، ص 103؛ تفسير الثعلبي: ج 4، ص 15.
2- تفسير البغوي: ج 4، ص 250؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 7، ص 232؛ تفسير الواحدي: ج 2، ص 1040.

نعم، لو وقعت هذه الولادة في الكعبة بعد عام الفيل لرجح الظن إلى عدّها منقبة عند القرشيين؛ لأنهم رأوا بأم أعينهم كيف دافع الله تعالى عن بيته الحرام، وهو ما يدعو إلى رجحان هذا الأمر وتحققه في ولادة الإمام علي عليه السلام لسريان ثقافة ارتباط الكعبة بالله سبحانه بعد عام الفيل، وظهور حرمتها إلى رتبة القطع عند أهل مكة وغيرهم من الناس لانتشار هذا المعجز في أرجاء البلاد.

ثانياً: ما يدل على عدم الاعتقاد بحرمة الكعبة أعزها الله بعد الإسلام وسيران هذه الثقافة في المجتمع

ولم يقتصر هذا الامر على تلك الحقبة الزمنية التي مرت بها الأجيال العربية التي سكنت بجوار بيت الله الحرام، وانما تعداه إلى أزمنة أخرى ومتعاقبة لذلك الزمن حتى بعد مجيء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حسبما تدل عليه النصوص التاريخية والحديثية، ومن ثمّ فالاعتقاد بحصول الولادة في جوف الكعبة متلازم مع الاعتقاد بحرمة الكعبة أعزها الله وهو ما لم يتحقق حصوله عند بني أمية والزبيريين كما دلت عليه المصنفات الإسلامية التي باتت حبلى بهذه الحوادث والشواهد.

ألف. أما الأمويون فقد كشفوا عن حقيقة اعتقادهم بحرمة الكعبة من خلال إرسالهم لمسرف بن عقبة الذي بعثه يزيد بن معاوية لأخذ البيعة له من أهل المدينة ومكة وقتال عبد الله بن الزبير الذي تحصن بالحرم، فقدم الجيش وهو بقيادة الحصين بن نمير السكوني لتحقيق هذا الهدف الذي تم إنجاز بعضه

ص:22

على يد مسرف بن عقبة في المدينة المنورة حينما دخلها واستباحها ثلاثة أيام وأخذ البيعة من الصحابة على أنهم عبيد (ليزيد بن معاوية)(1) لتظهر بهذه البيعة الأموية والشريعة السفيانية ثقافة الاعتقاد بحرمة المدينة وحرمة الصحابة.

وأما مكة فظهر اعتقاد بني أمية بحرمتها من خلال قتالهم ابن الزبير، فلما استعصى عليهم نصبوا المنجنيق ورموا بيت الله بالحجارة، وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون:

خطارة مثل الفنيق المزبدِ نرمي بها أعواد هذا المسجدِ(2)

باء. ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي يتعرض فيها بيت الله لهتك الحرمة والدمار. بل حدث ما هو أعظم من ذلك! حينما أمر عبد الملك بن مروان، الحجاج بن يوسف الثقفي بالتوجه إلى مكة وقتل عبد الله بن الزبير، فكان له ما أراد، بعد أن حاصر الحجاج وجيشه البيت الحرام في الشهر الحرام، ولم يمنعه من ذلك الفعل الشنيع مانع، فلا البيت له حرمة، ولا الشهر له حرمة، ولا المسلمون الذين قدموا لتأدية المناسك كانت لهم حرمة عند بني أمية وأشياعهم.

فكان من أمرِ الحجاج أن نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس ورمى به الكعبة(3).

وأول مارمى بالمنجنيق رعدت السماء وبرقت وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة فاشتمل عليها!! فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا بأيديهم.

ص:23


1- كتاب المنمق لمحمد بن حبيب البغدادي: ص 316؛ الطرائف لابن طاووس: ص 166.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 4، ص 124.
3- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 4، ص 350. أسد الغابة لابن الأثير: ج 3، ص 244.

فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه ثم قال أرموا ورمى معهم؛ ثم أصبحوا فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلاً؛ فانكسر أهل الشام.

فقال الحجاج: يا أهل الشام لا تنكروا هذا، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضر فأبشروا(1).

فأخذوا يرمون بيت الله، وجعلت الحجارة لا تهد، لكنها تقع في المسجد الحرام كالمطر، وكان رماة المنجنيق إذا هم وهنوا، وسكتوا ساعة فلم يرموا يبعث إليهم الحجاج فيشتمهم ويتهددهم بالقتل.

فلم يزل الحجاج وأصحابه يرمون بيت الله الحرام بالحجارة حتى انصدع الحائط الذي على بئر زمزم عن آخره! وانتقضت الكعبة من جوانبها!

ثم أمرهم الحجاج فرموا بكيزان النفط والنار، حتى احترقت الستارات كلها فصارت رماداً!.

والحجاج واقف ينظر كيف تحترق الستارات، وهو يرتجز ويقول:

إما تراها ساطعاً غبارها واللهُ فيما يزعمون جارها

فقد وهت وصدعت أحجارها ونفرت منها معاً أطيارها

وحان من كعبته دمارها وحرقت منها معاً أستارها

لما علاها نفطها ونارها(2)

ص:24


1- المصدر السابق.
2- الفتوح لابن أعثم: ج 6، ص 340.

ثم جرت معركة عظيمة ودخل جيش الشام على عبد الله بن الزبير من أبواب المسجد الحرام في وقت الصلاة وهم ينادونه: (يبن العمياء)(1) ، (يبن ذات النطاقين)(2).

ودار القتال في باحة المسجد الحرام وقتل عبد الله بن الزبير وجميع من كان معه، وقطع رأسه وأرسل إلى عبد الملك بن مروان(3).

أما بدن ابن الزبير فقد صلب على جذع، وقيل على خشبة، منكساً على رأسه لعدّة أيام(4) وربط معه كلب ميت(5) ؛ ثم أنزله الحجاج وألقى به في مقابر اليهود(6). وقيل دفنته أمه بالحجون(7).

ص:25


1- تاريخ أبي مخنف: ج 2، ص 95؛ مروج الذهب: ج 3، ص 129؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 5، ص 280.
2- ذات النطاقين: هي أسماء بنت أبي بكر وقد أصيبت بالعمى في آخر عمرها؛ وسبب تسميتها ب - «ذات النطاقين» هو لكونها شقت نطاقها إلى نصفين حينما جهزت طعاماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر في خروجهما إلى المدينة، فربطت الطعام بشق من النطاق والماء بالشق الآخر. أنظر: صحيح البخاري: ج 3، ص 1087، حديث 2817؛ صحيح مسلم: ج 4، ص 1971، حديث 2545.
3- الفتوح لابن أعثم: ج 6، ص 342؛ تاريخ الطبري: ج 3، ص 1192.
4- الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 4، ص 356-357؛ الفتوح لابن أعثم: ج 6، ص 343.
5- الكامل لابن الأثير: ج 4، ص 357.
6- صحيح مسلم، باب: ذكر كذاب ثقيف ومبيرها: ج 4، ص 1971.
7- الكامل لابن الأثير: ج 4، ص 357.

وقتل معه مائتان وأربعون رجلا منهم من سال دمه في جوف الكعبة(1).

وبعد هذه الانتهاكات العظيمة لبيت الله، من الهدم، والحرق، وقتل الناس، وصلبهم على الجذوع كيف تبقى له حرمة بين الناس وعلى مختلف معتقداتهم ؟!

بل: إن السؤال الذي يفرض نفسه في البحث هو: كيف تعاد للبيت حرمته وهيبته بعد الآن ؟!

وكيف يمكن دفع الضرر عنه مستقبلاً؟! بل كيف سيعاد بناؤهُ ؟!، سؤال سيرد جوابه لاحقاً.

وعليه:

فأي منقبة نالها حكيم بن حزام في ولادته في جوف الكعبة حسبما يدعي الذهبي، والبيت بهذه الحالة وبنو أمية لا يرون له حرمة ؟! ومن ثم قد ذهبت المناقب بذهاب الحُرم.

ثالثاً: دور الزبيريين في هتك حرمة البيت الحرام وأهله

وبه تنكشف حقيقة الادعاء بولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة.

فلم يكونوا بأحسن حالاً من الأمويين في الاعتقاد بحرمة بيت الله وأهله وبعدائهم لعلي بن أبي طالب وبني هاشم عامة، ولم يكن البيت الحرام ولا أهله بمانعيهم عن المحاربة لهما.

ص:26


1- الوافي بالوفيات للصفدي: ج 17، ص 94؛ فوات الوفيات للكتبي: ج 1، ص 535.

1. تغييره لبناء الكعبة

روى الشيخ الكليني رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: (كانت الكعبة على عهد إبراهيم عليه السلام تسعة أذرع وكان لها بابان فبناها عبد الله بن الزبير فرفعها ثمانية عشر ذراعاً فهدمها الحجاج فبناها سبعة وعشرين ذراعاً)(1).

2. معاداته لأهل البيت وامتناعه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغضاً لأهل بيته عليهم السلام

ومما يدل على زيف ادعاء الزبيريين في ولادة ابن عمهم حكيم بن حزام في جوف الكعبة فضلاً عن بيان السبب الحقيقي لهذا الادعاء الكاذب والدافع من ورائه، هو ما رواه أبو الفرج الاصفهاني من حديث يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الامام الحسن بن علي عليهما السلام مع عبد الله بن مصعب - الراوي لحديث ولادة حكيم في الكعبة - حينما اتهمه بالخروج على الخليفة العباسي هارون، وقد جمع بينهما هارون (الرشيد) بعد أن سجن يحيى بن عبد الله بن الحسن فأخرجه من السجن وأحضره إلى القصر، وكان عبد الله بن مصعب حاضراً فقال لهارون متهماً يحيى بالخروج على الخليفة:

(إن هذا دعاني إلى بيعته. فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين أتصدق هذا وتستنصحه وهو ابن عبد الله بن الزبير! أدخل أباك وولده الشعب وأضرم عليهم النار حتى تخلصه ابو عبد الله الجدلي صاحب علي بن أبي طالب منه عنوة.

ص:27


1- الكافي: ج 4، ص 207.

وهو الذي بقي أربعين جمعة لا يصلي على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبته حتى التاث عليه الناس. فقال:

ان له أهل بيت سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشرأبوا لذكره وفرحوا بذلك فلا أحب أن أقر عينهم بذكره.

وهو الذي فعل بعبد الله بن العباس ما لا خفاء به عليك حتى لقد ذبحت يوما عنده بقرة فوجدت كبدها قد نقبت فقال ابنه علي بن عبد الله: يا أبة اما ترى كبد هذه البقرة ؟ فقال: يا بني، هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك، ثم نفاه إلى الطائف، فلما حضرته الوفاة قال لعلي ابنه: يا بني، الحق بقومك من بني عبد مناف بالشام، ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة. فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير. ووالله إن عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا بمنزلة سواء، ولكنه قوى علي بك وضعفت عنك، فتقرب بي إليك، ليظفر منك بما يريد، إذ لم يقدر على مثله منك، وما ينبغي لك ان تسوغه ذلك في، فان معاوية بن أبي سفيان، وهو أبعد نسبا منك إلينا، ذكر يوما الحسن بن علي فسفهه فساعده عبد الله بن الزبير على ذلك، فزجره معاوية وانتهره فقال: إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين! فقال: إن الحسن لحمي آكله. ولا أوكله.

فقال عبد الله بن مصعب: إن عبد الله بن الزبير طلب امرا فأدركه. وإن الحسن باع الخلافة من معاوية بالدراهم، أتقول هذا في عبد الله بن الزبير، وهو ابن صفية بنت عبد المطلب ؟

فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، ما أنصفنا ان يفخر علينا بامرأة من نسائنا

ص:28

وامرأة منا، فهلا فخر بهذا على قومه من النوبيات والاساميات والحمديات!

فقال عبد الله بن مصعب: ما تدعون بغيكم علينا وتوثبكم في سلطاننا؟

فرفع يحيى رأسه إليه، ولم يكن يكلمه قبل ذلك، وإنما كان يخاطب الرشيد بجوابه لكلام عبد الله، فقال له: أتوثبنا في سلطانكم ؟ ومن أنتم - أصلحك الله - عرفني فلست أعرفكم ؟ فرفع الرشيد رأسه إلى السقف يجيله فيه ليستر ما عراه من الضحك ثم غلب عليه الضحك ساعة، وخجل ابن مصعب. ثم التفت يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، ومع هذا فهو الخارج مع أخي على أبيك والقائل له:

إن الحمامة يوم الشعب من دثن هاجت فؤاد محب دائم الحزن

إنا لنأمل أن ترتد الفتنا بعد التدابر والبغضاء والإحن

حتى يثاب على الإحسان محسننا ويأمن الخائف المأخوذ بالدمن

وتنقضي دولة أحكام قادتها فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فطالما قد بروا بالجور أعظمنا برى الصناع قداح النبع بالسفن

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا إن الخلافة فيكم يا بني الحسن

لا عز ركنا نزار عند سطوتها إن أسلمتك ولا ركنا ذوي يمن

الست أكرمهم عودا إذا انتسبوا يوما وأطهرهم ثوبا من الدرن

وأعظم الناس عند الناس منزلة وأبعد الناس من عيب ومن وهن

قال: فتغير وجه الرشيد عند استماع هذا الشعر، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، وبأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس له وانه

ص:29

لسديف. فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره، وما حلفت كاذبا ولا صادقا بالله قبل هذا، وإن الله إذا مجده العبد في يمينه بقوله: الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، استحيى أن يعاقبه، فدعني أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا إلا عوجل. قال: حلفه.

قال: قل: برئت من حول الله وقوته، واعتصمت بحولي وقوتي، وتقلدت الحول والقوة من دون الله، استكبارا على الله، واستغناء عنه واستعلاء عليه إن كنت قلت هذا الشعر. فامتنع عبد الله من الحلف بذلك، فغضب الرشيد وقال للفضل بن الربيع: يا عباسي ماله لا يحلف إن كان صادقا؟ هذا طيلساني علي، وهذه ثيابي لو حلفني انها لي لحلفت.

فرفس الفضل بن الربيع عبد الله بن مصعب برجله وصاح به: إحلف ويحك - وكان له فيه هوى - فحلف باليمين ووجهه متغير وهو يرعد، فضرب يحيى بين كتفيه ثم قال: يا بن مصعب قطعت والله عمرك، والله لا تفلح بعدها. فما برح من موضعه حتى أصابه الجذام فتقطع ومات في اليوم الثالث.

فحضر الفضل بن الربيع جنازته، ومشى الناس معه، فلما جاءوا به إلى القبر ووضعوه في لحده وجعل اللبن فوقه، انخسف القبر فهوى به حتى غاب عن أعين الناس، فلم يروا قرار القبر وخرجت منه غبرة عظيمة.

فصاح الفضل: التراب التراب فجعل يطرح التراب وهو يهوى، ودعا بأحمال الشوك فطرحها فهوت، فأمر حينئذ بالقبر فسقف بخشب وأصلحه وانصرف منكسرا.

ص:30

فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل: رأيت يا عباسي، ما أسرع ما اديل ليحيى من ابن مصعب)(1).

والحادثة تدل على جملة من الحقائق:

1. المجاهرة ببغض عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

2. إعلان الحرب عليهم وإيذائهم أشد الأذى، مع ما في ذلك من أذى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

3. محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم جهاراً بالامتناع عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأربعين أسبوعاً أي لتسعة أشهر.

4. الدافع الحقيقي لإطلاق أكذوبة ولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة هو التقليل من شأن العلويين والهاشميين الذين حباهم الله سبحانه برسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبوصيه وخليفته علي بن أبي طالب عليه السلام.

5. ثبوت حرمة ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض النفوس التي خالطتها الظنون حينما رأوا بأم أعينهم ما جرى لعبد الله بن مصعب من الهلاك والخزي في الدنيا.

(وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ)2.

ص:31


1- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني: ص 315-318؛ البحار للمجلسي: ج 48، ص 183؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 19، ص 91.

إذن:

لم يكن لولادة حكيم بن حزام في جوف الكعبة أي حقيقة وإنما هو دعوى باطلة انطلقت من فم امرئ عُرف هو وآباؤه بعدائهم الشديد لعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومجاهرتهم بالنفاق من خلال بغضهم لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وهذا أولاً.

وثانياً: أن المناقب تعد مناقبَ عند أهلها أما من لا يجد لله ورسوله حرمة فلا منقبة لديه فيما يرتبط بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وكأننا في هذه الحالة نقول للمسيحيين في العالم وغيرهم ان من المناقب التي خصكم الله بها ان جعل الله تعالى مكة قبلة للمصلين. فسرعان ما يقولون: أي مصلين هؤلاء؟ وأي قبلة تلك ؟ إنما المناقب عندنا محصورة في بيت المقدس وبالسيدة العذراء وابنها عليهما السلام.

والحال نفسه عند الأمويين والزبيريين فالمناقب عندهم محصورة في سادات الجاهلية وتجارة العبيد والتحكم في سوق النساء والخمور والسطو والقتل، اما ان يولد أحدهم في جوف الكعبة فهذا آخر همهم.

ثالثاً: إنّ الولادة في جوف الكعبة هي منقبة عند أهل الكعبة؛ لأنهم يدركون حرمتها ويعظمون حقها ويجلون شأنها.

ومما يدل على ذلك:

1. قال إبراهيم الخليل عليه السلام حينما أنزل أهله عند الكعبة (أعزها الله):

ص:32

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ )1.

فإبراهيم عليه السلام هو الذي يعظم البيت ويدرك حرمته وليس بنو أمية وحجاجهم الثقفي ولا الزبيريون وقتالهم في الكعبة.

2. إن إبراهيم عليه السلام هو الذي قدم ولده فداء لإقامة البيت الحرام فتلك هي المنقبة العظمى، وليس حزام بن حكيم الذي كان من الطلقاء ومن أشد المحاربين لله ورسوله.

3. إن عبد المطلب هو من تبع أباه إبراهيم في فداء البيت الحرام فنذر ولده عبد الله فكان ولده محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابن الذبيحين.

4. خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكة خير دليل على تعظيم أهل البيت عليهم السلام لبيت الله الحرام وهو القائل:

«ولأن أقتل وبيني وبين الحرم باع أحب إلي من أن أقتل وبيني وبينه شبر، ولأن أقتل بالطف أحب إلي من أن أقتل بالحرم»(1).

جيم. أبيد الإنسان أمر الولادة في جوف الكعبة أم بيد الله تعالى ؟

بقي لنا في البحث هذا السؤال: الولادة في جوف الكعبة أبيد فاختة بنت زهير بن أسد(2) حينما كانت حاملاً بحكيم بن حزام، أم بيد فاطمة بنت أسد

ص:33


1- كامل الزيارات لابن قولويه: ص 151.
2- المستدرك للحاكم: ج 3، ص 483.

وهي حامل بعلي بن أبي طالب عليه السلام، أم هو بيد الله تعالى ؟

بالطبع: أن الأمر بيد الله تعالى، لاسيما ونحن نتحدث عن حدث وقع في زمن لم يكن للتقنية الطبية والتكنولوجية أي حضور، ومن ثم تنعدم إمكانية اختيار كلّ ٍمن فاختة بنت زهير أو فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها بتحديد المكان الذي سيلدن مولودهن فيه.

وعليه: الأمر بيد الله تعالى حتى مع التقدم العلمي والبحث في المجالات كافة فمن يضمن ان تتم الولادة ومن يضمن بقاء الأم على قيد الحياة، ومن يضمن تكوين الجنين من الأصل، فالأمر لله من قبل ومن بعد.

ومن هنا:

حينما يكون الأمر كله لله تعالى فالسؤال المطروح: ما هي الخصوصية التي كانت لحكيم بن حزام عند الله تعالى كي يقدّر لفاختة بنت زهير الذهاب إلى بيته وحرمه ويضرب في أحشائها المخاض كي تلد حكيم بن حزام.

فها هو التاريخ يظهر لنا خصوصية حكيم بن حزام.

1. أمضى ستين سنة من عمره وهو يعبد الأصنام ومشركا بالله تعالى.

2. تأخر إسلامه إلى عام الفتح حينما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة.

3. أنه من الطلقاء الذين شملهم عفو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

4. انه من المؤلفة قلوبهم كأبي سفيان وولده معاوية وغيرهما، فهؤلاء

ص:34

كان يعطيهم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أموالاً كي يستعطف قلوبهم ويكفوا شرهم عن الإسلام فلا يحيكوا له الدسائس.

5. اعتزاله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام والقعود عن نصرته، وهو ميزان الإيمان والنفاق وعليه:

أين الخصوصية لحكيم بن حزام كي يخصه الله بالولادة في بيته وحرمه ؟

ولكن إن عكسنا السؤال في الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وبحثنا عن الخصوصية التي له في الإسلام، فهل نجد أن رجلاً جمع من الخصائص والمناقب والمآثر ما جمعه علي بن أبي طالب عليه السلام، وهل إمكانية منحه هذه (المنقبة) - كما يقول الذهبي - تتناسب مع اختيار الله تعالى للكعبة المشرفة محلاً لنزول علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الدنيا أم أن ذلك لا يتناسب ؟!.

دال. ما هي الحكمة في ولادة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة ؟

من البديهي أن يكون لولادة الإمام علي عليه السلام في جوف الكعبة حكمة خاصة تنسجم مع ما للبيت الحرام وعلي بن أبي طالب عليه السلام من خصائص لاسيما ونحن نؤمن بأن الأمر كله لله تعالى، وهو العزيز الحكيم.

ولذلك:

يمكن أن نقف على بعض وجوه الحكمة في ولادة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من خلال القرآن والسنة المطهرة.

1. إنّ خير دال على التلازم بين الكعبة (أعزها الله تعالى) وعلي بن أبي

ص:35

طالب عليه السلام هو ما كشفه مقيم البيت وبانيه، أي: إبراهيم الخليل عليه السلام.

قال تعالى عن لسان عبده إبراهيم:

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ )1.

هنا:

يُظهر إبراهيم عليه السلام العلاقة بين البيت الحرام وذريته، ويدل في الوقت نفسه على العلة التي أوجبت تكوين هذه العلاقة، والغاية من الحضور، ألا وهي: الصلاة.

وإقامة الصلاة مرهونة بذرية إبراهيم؛ بمعنى بناء الصلاة وتقويمها هو من اختصاص ذرية إبراهيم عليه السلام فكان البناء من مرحلتين.

المرحلة الأولى: بناء بيت الله الحرام كي يتوجه المصلون إليه في صلاتهم. والذي بعدم تحققه أي التوجه للقبلة، تبطل الصلاة بإجماع فقهاء المسلمين. فكان إبراهيم وولده إسماعيل هما من أقاما القواعد والبناء في المرحلة الأولى.

والمرحلة الثانية: كانت الإقامة للصلاة بعد أن بني البيت الحرام وهذا مرهون بذرية إبراهيم.

(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ).

ص:36

وعليه كانت الكعبة محل التوجه للصلاة وكان علي بن أبي طالب عليه السلام إمام الإقامة.

ولكن لماذا علي دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

لأن علياً هو الفيصل الذي تتكشف به حقائق الأعمال فإما كفر ونفاق، وإما إيمان وتقوى أي به تتحدد الصلاة فإما تكون مقبولة وإما مردودة بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».

والمنافق لا تزيده صلاته إلا بعداً عن الله تعالى.

بمعنى آخر: لا تقام الصلاة بدون البيت الحرام ولا تقام أيضاً بدون ذرية إبراهيم عليهم السلام وهم علي والأئمة من ولده.

2. للتشابه بين الإمام والبيت الحرام في العلاقة مع الناس؛ فالإمام لا يأتي إلى الناس وإنما الناس هم الذين يأتون إليه، حاله في ذلك حال الكعبة، فالناس هم الذين يأتون إلى الكعبة وليس العكس، وهو ما دلّ عليه الحديث النبوي الشريف.

فعن علي عليه السلام وهو يحاجج أبا بكر في حقه المغصوب، وقد قال له أبو بكر: «...، وأنت لم تزل يا أبا الحسن مقيماً على خلافي والاجتراء على أصحابي، وقد تركناك فاتركنا، ولا تردنا فيرد عليك منا ما يوحشك ويزيدك تنويماً إلى تنويمك.

فقال عليه السلام:

ص:37

لقد أوحشني الله منك ومن جمعك، وآنس بي كل مستوحش، واما ابن الوليد الخاسر، فإني أقص عليك نبأه، انه لما رأى تكاثف جنوده وكثرة جمعه زها في نفسه، فأراد الوضع مني في موضع رفع ومحل ذي جمع، ليصول بذلك عند أهل الجمع، فوضعت عنه عندما خطر بباله، وهم بي وهو عارف بي حق معرفته، وما كان الله ليرضى بفعله.

فقال له أبو بكر: فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام، وقلة رغبتك في الجهاد، فبهذا أمرك الله ورسوله، أم عن نفسك تفعل هذا؟! فقال علي عليه السلام:

يا أبا بكر! وعلى مثلي يتفقه الجاهلون ؟ إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمركم ببيعتي، وفرض عليكم طاعتي، وجعلني فيكم كبيت الله الحرام يؤتى ولا يأتي، فقال: يا علي! ستغدر بك أمتي من بعدي كما غدرت الأمم بعد مضي الأنبياء بأوصيائها إلا قليل، وسيكون لك ولهم بعدي هناة وهناة، فاصبر، أنت كبيت الله: من دخله كان آمنا ومن رغب عنه كان كافرا، قال الله عز وجل:

(وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً).

واني وأنت سواء إلا النبوة، فإني خاتم النبيين وأنت خاتم الوصيين(1).

3. لتحقق الأمان في الالتجاء للبيت الحرام وعلي بن أبي طالب عليه السلام؛ فمثلما يتحقق الأمان في البيت الحرام حينما يلتجئ إليه الإنسان فمن

ص:38


1- البحار للمجلسي: ج 29، ص 170-171.

دخله كان آمنا) كذلك حال من يلتجئ إلى علي بن أبي طالب فإنه يحصل على الأمان من الهلاك والضلال والوقوع في الفتن والفوز في الآخرة؛ لأنه استمسك بالعروة الوثقى، وأخذ بالصراط المستقيم، وكان في زمرة الصالحين كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وغيرهما وهو ما دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:

«أنت كبيت الله، من دخله كان آمنا، ومن رغب عنه كان كافراً».

فهذا حال البيت الحرام وحال علي؛ وليس حال أبي سفيان فمن دخل داره كان آمنا كما ينعق بنو أمية ليتبعهم الهمج الرعاع.

4. للتلازم فيما بين الإمامة والإقامة؛ إن نكران البعض لإمامة علي بن أبي طالب عليه السلام لا يضر في إمامة علي عليه السلام شيئاً حاله حال من أنكر الكعبة والإقامة نحوها في الصلاة فان ذلك لا يضر الكعبة شيئاً كما لا يفقدها خصوصيتها فضلاً عن حال صلاة المنكر لها، فهل تكون هذه الصلاة مقبولة بغير التوجه للكعبة ؟ وهل تقام صلاة الجماعة بدون إمام ؟!

5. للاعتبار من حياة علي بن أبي طالب عليه السلام؛ فهذه الحياة اختار الله لها أن تبدأ في أول ثانية منها في بيت الله الحرام، وأن تنتهي آخر ثانية منها في بيت الله أيضاً وما بينهما كله لله تعالى. فمثل هذه الحياة خير واعظ لبني آدم فكيف بأهل هذه الملة ؟!

6. إن موقع الكعبة الجغرافي والفلكي والفيزيائي يجعلها في نواة محور حركة دوران الأرض مما يجعلها في مركز حركة الأرض ودوام الحياة عليها، وكذا موقع الإمامة في الحياة والشريعة.

ص:39

هاء. ما يدل من الأحاديث على ثبوت ولادة الإمام علي عليه السلام في جوف الكعبة

ربما يكون إيراد الأحاديث الدالة على ولادة الإمام علي عليه السلام في جوف الكعبة تحصيل حاصل بعد هذه الجولة من الاستدلالات النقلية والعقلية.

إلا انني أحببت ان أورد بعض هذه الأحاديث كي نقطع الطريق على من ظل يماطل في الإذعان لهذه الحقيقة كابن أبي الحديد المعتزلي حيث قال:

(واختلف في مولد علي عليه السلام أين كان ؟ فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة، والمحدثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد)(1).

وأقول:

ألف. لم يقدم بن أبي الحديد أي دليل يظهر فيه وجود هذا النوع من الاختلاف عند المحدثين كما انه لم يحلِ القارئ إلى أي مصدر يطلعه على وجود الاختلاف بين المحدثين حول ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة.

باء. قوله: إن كثيراً من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة، والمحدثون لا يعترفون بذلك ؟

وأقول: هذا تقوّل واضح على المحدثين وعلى الشيعة.

ص:40


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 1، ص 14.

فأما المحدثون، فهم لا ينكرون ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة، وإنما ينكرون على غيرهم في اعتمادهم الأوهام في ولادة حكيم ابن حزام في جوف الكعبة، وهذا قولهم.

1. الحاكم النيسابوري (صاحب المستدرك)، فقد رد على مصعب بن عبد الله حينما نسب الولادة في جوف الكعبة إلى فاختة بنت زهير بن أسد حينما كانت حاملاً بولدها حكيم، ان قال: (وهم مصعب - أي توهم - فقد تواترت الأخبار: أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة)(1).

إذن: الثابت الذي عليه حد التواتر عند المحدثين هو ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في الكعبة وليس كما يزعم ابن أبي الحديد بأن ذلك من قول الشيعة.

2. قال الزرندي الشافعي (المتوفى عام 750 ه -): (وولد كرم الله وجهه في جوف الكعبة، يوم الجمعة الثالث عشر من رجب قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة على المشهور)(2).

3. قال ابن الصباغ المالكي نقلاً عن أبي المعالي الفقيه المالكي وقد روى خبراً يرفعه إلى علي بن الحسين - عليهما السلام - أنه قال:

ص:41


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 482.
2- معارج الوصول إلى معرفة فضل آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للزرندي الشافعي: ص 57.

(كنا عند علي بن الحسين - عليه السلام - في بعض الأيام وإذا بنسوة مجتمعين فأقبلت امرأة منهن علينا فقلت لها:

من أنت يرحمك الله ؟

قالت: أنا زيدة ابنة العجلان من بني ساعدة، فقلت لها:

هل عندك من شيء تحدثينا به ؟

قالت: أي والله حدثتني أم عمارة بنت عبادة بن فضلة بن مالك بن عجلان الساعدي أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيباً حزيناً، فقلت له ما شأنك ؟

قال: إن فاطمة بنت أسد في شدة من الطلق. ثم أخذ بيدها وجاء بها إلى الكعبة فدخل بها، وقال: اجلسي على اسم الله، فطلقت طلقة واحدة فولدت غلاماً نظيفاً منظفاً لم أر أحسن وجهاً منه، فسماه أبو طالب علياً وقال شعراً:

سميته بعلي كي يدوم له عز العلو وفخر العز أدومه

وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحمله معه إلى منزل أمه.

قال علي بن الحسين:

فوالله ما سمعت بشيء حسن قط ، إلا وهذا من أحسنه»)(1).

أما ما روي عن علماء الشيعة فهو كالآتي:

ألف. روى ابن أبي الفتح الأربلي (المتوفى سنة 693 ه -) عن كتاب بشاير

ص:42


1- العقول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 175؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 60.

المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مرفوعاً إلى يزيد بن قعب قال:

(كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه السلام وكانت حاملاً به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق فقالت:

يا رب إني مؤمنة بك، وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدّقة بكلام جدي إبراهيم الخليل عليه السلام، وإنه بنى البيت العتيق فبحق الذي بنى هذا البيت والمولود الذي في بطني إلا ما يسرت علي ولادتي.

قال يزيد بن قعب:

فرأيت البيت قد انشق عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب! فلم ينفتح فعلمنا ان ذلك من أمر الله تعالى، ثم خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

ثم قالت:

إني فضلت على من تقدمني من النساء لأن آسيا بنت مزاحم عبدت الله سرا في موضع لا يحب الله ان يعبد فيه إلا اضطراراً، وان مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتى اكلت منها رطباً جنياً، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها فلما أردت ان أخرج هتف بي هاتف وقال:

ص:43

يا فاطمة سميه علياً، فهو علي، والله العلي الأعلى، يقول: اشتققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي، وأوقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه وويل لمن أبغضه وعصاه.

قالت: فولدت علياً ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون سنة، فأحبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حباً شديداً وقال لها:

اجعلي مهده بقرب فراشي.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلي أكثر تربيته، وكان يطهر علياً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره ورقبته، ويقول:

هذا أخي وولي وناصري، وصفي، وذخري، وكهفي، ومهري، ووصيي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيتي، وخليفتي.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمله دائماً ويطوف به جبال مكة وشعابها وأوديتها وفجاجها صلى الله على الحامل والمحمول)(1).

فهذه هي حقيقة ولادة الإمام علي عليه السلام في جوف الكعبة وبها يتضح معنى اختيار الله تعالى لفاطمة بنت أسد بيته الحرام محلاً لولادة خاتم الأوصياء وأبي الأئمة النجباء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

ص:44


1- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 61-62؛ الجواهر السنية للحر العاملي (باختصار): ص 230؛ شرح إحقاق الحق للمرعشي: ج 5، ص 57.

المسألة الثالثة: نوفل بن خويلد، هو الأخ الثالث لخديجة عليها السلام

اشارة

يعد نوفل بن خويلد أحد رموز الشرك في قريش، وقد نعمته ابن هشام الحميري بانه: كان من شياطين قريش(1) ، وسيمر سبب تسمية ابن هشام له بذلك، في حين سماه الواقدي ب -: أسد قريش(2).

والظاهر ان السبب في هذه التسمية قد اتفق عليه ابن هشام والواقدي كما سيمر، ويسمى أيضاً ب - (ابن العدوية)(3).

ولد لنوفل بن خويلد، ولدان، وهما: صفوان بن نوفل، والأسود بن نوفل، ولقد أسلم الأسود في مكة في السنين الأولى للبعثة، وهاجر إلى الحبشة وبقي فيها إلى حين رجوع جعفر بن أبي طالب عليه السلام بمن بقي من المسلمين في الحبشة إلى المدينة.

وكان رجوعه قد تزامن مع انتصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود في خيبر وفتحها فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما أدري أنا بقدوم جعفر أسر أم بفتح خيبر»(4).

ص:45


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 181.
2- العثمانية للجاحظ : ص 28؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 215.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 215. المستدرك للحاكم: ج 3، ص 369.
4- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 272. المعجم الصغير للطبراني: ج 1، ص 19. الاستيعاب لابن عبد البر: ج 1، ص 242. سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1، ص 214.
ألف: نزل في نوفل قوله تعالى: (و لو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس (

وعرف نوفل بن خويلد بعدائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أحد الرموز التي آلت على نفسها محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتصدي له بشتى الوسائل، وقد تجمع حوله نفر من قريش عرفوا بنفس الطباع والعداء للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كالنضر بن الحرث، وعبد الله بن أبي أمية، وهم الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: «يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى وانك رسوله، فنزل فيهم قوله تعالى:

(وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ )1.

باء: اشتراكه في قتال المسلمين في بدر الكبرى وهلاكه بسيف علي بن أبي طالب عليه السلام

وكان نوفل بن خويلد قد خرج مع قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر الكبرى، فلما علم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بحضوره في المعركة، قال:

«اللهم اكفني نوفل بن خويلد»(1).

ص:46


1- امتاع الإسماع للمقريزي: ج 12، ص 166.

(وأقبل نوفل يومئذ وهو مرعوب قد رأى قتل أصحابه، وكان في أول ما التقواهم والمسلمون يصيح بصوت له زجل رافعاً صوته: يا معشر قريش، إن هذا اليوم يوم العلا والرفعة، فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالأنصار: ما حاجتكم إلى دمائنا؟ أما ترون من تقتلون ؟ أما لكم في اللبن من حاجة.

فأسره جبار بن صخر، فهو يسوقه أمامه، فجعل نوفل يقول لجبار، وقد رأى علياً عليه السلام مقبلاً نحوه يا أخا الأنصار، من هذا؟ واللات والعزى إني لأرى رجلاً، إنه ليريدني ؟!

قال جبار - بن صخر -: هذا علي بن أبي طالب.

قال نوفل: تالله ما رأيت كاليوم رجلاً أسرع في قومه، فصمد له علي عليه السلام فيضربه فينشب سيف علي في جحفته(1) ساعة ثم ينزعه فيضرب به ساقيه، ودرعه مُشتمرة فيقطعها، ثم أجهز عليه فقتله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من له علم بنوفل بن خويلد؟

قال علي عليه السلام:

أنا قتلته، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه»)(2).

ص:47


1- الجحفة: الترس، أي الدرع.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14، ص 144؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 166؛ السيرة الحلبية: ج 2، ص 418؛ السيرة النبوية لابن هشام (مختصرا): ج 1، ص 181.
جيم: حقيقة تعذيب نوفل بن خويلد لأبي بكر وطلحة بن عبيد الله، وهل فيه تفضيل على علي بن أبي طالب عليه السلام كما يدعي الجاحظ؟
أولاً: كيف حدث تعذيبهما

روى ابن سعد عن محمد بن عمر مرفوعا إلى إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: «قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم قال طلحة فقلت: نعم أنا.

فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قال قلت: ومن أحمد؟، قال: ابن عبد الله ابن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل، وحرة، وسباخ، فإياك أن تُسبق إليه.

قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعاً حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حدث ؟

قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين تنبأ وقد تبعه بن أبي قحافة.

قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر فقلت: أتبعت هذا الرجل ؟ قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله بما قال الراهب فسُرّ رسول الله بذلك.

فلما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله أخذهما نوفل بن خويلد بن

ص:48

العدوية فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين)(1).

ثانياً: اعتقاد الجاحظ وتحامله على الإمام علي عليه السلام مستنداً إلى هذه الحادثة!

ولقد ذهب الجاحظ إلى ان هذه الحادثة هي من المناقب التي فاق بها أبو بكر وطلحة علي بن أبي طالب عليه السلام والسبب يعود - حسب اعتقاده - إلى أن أبا بكر (كان يلقى في الله ورسوله ببطن مكة، وعلي، خلي الروع، آمن السرب، رخي البال، كما لقى يوم دعا طلحة إلى الإسلام فأسلم وحضر به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخذلتهما تيم، وأخذهما نوفل بن خويلد بن أسد، فأما ابن إسحاق فزعم أنه كان من شياطين قريش، وأما الواقدي وغيره فزعموا انه كان يلقب أسد قريش وهو الذي يقال له ابن العدوية فقرنهما في حبل وفتنهما على دينهما وعذبهما، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة (القرينين))(2).

أقول:

فلنعد في بادئ الأمر إلى الحادثة التي اعتمد عليها الجاحظ ، والذي قدم لنا صورة أخرى من صور العقل الأموي ومهازله المستمرة عبر التاريخ، ولنناقش الرواية مناقشة علمية وموضوعية كي يتضح لنا: ألهؤلاء الأمويين أسس علمية يعتمدون عليها في قرائتهم للحدث التاريخي، أم أنهم مغول الفكر الإنساني

ص:49


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 215؛ المستدرك للحاكم: ج 3، ص 369.
2- العثمانية للجاحظ : ص 28.

الذي لا يرى سوى الكذب، والدجل، والنفاق، وبغض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته ؟!

ألف: إنّ الراهب أخبر طلحة بأن هذا الشهر، هو الشهر الذي سيخرج فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأوصاه أن يحرص على أن لا يسبقه أحد إلى الإيمان به، فعاد سريعاً إلى مكة، فسأل عن حدوث شيء جديد فأخبروه بأن محمد بن عبد الله قد تنبأ وقد تبعه ابن أبي قحافة.

وأقول:

1. فأين مدعاكم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في السنوات الأولى من بعثه متخفيا من قريش مستترا عن أهلها حتى نزل قوله تعالى:

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)1.

فأعلن عن دعوته ؟ فأي تناقض هذا بين أن تكون الدعوة سرية لسنوات مع علم أهل مكة سريعاً ببعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وزادوا عليه: أي على علمهم بخبر النبي وانتشاره بينهم هو علمهم بأن ابن أبي قحافة قد تبعه! فإما انها لم تكن سرية فانتشر خبرها بين قريش وعلموا باتباع ابن أبي قحافة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون قولهم: إنّها سرية كذباً وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتاريخ.

وإمّا أنّها كانت سرية وأن أبا بكر تبعه سراً، وهذا يدل على أن قول طلحة في هذه الرواية كذب وافتراء.

ص:50

2. إن ّأحمد بن حنبل، والحافظ النسائي، ومحمد بن إسحاق صاحب السير، والحاكم النيسابوري، والذهبي وغيرهم ينصون على كذب طلحة بن عبيد الله في هذه الرواية وذلك من خلال ما أخرجه الجميع عن عفيف الكندي حينما قدم إلى مكة، في أول البعثة ونزل على العباس بن عبد المطلب. ولشهرة الحديث فقد أخرجوه من طريقين:

الطريق الأول: رواه الحافظ النسائي(1) صاحب السنن قائلاً: أخبرني محمد بن محمد الكوفي قال: حدثنا سعيد بن خثيم عن أسد بن عبد الله البجلي عن يحيى بن عفيف عن عفيف قال:

جئت في الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما ارتفعت الشمس، وحلّقت في السماء، وأنا أنظر إلى الكعبة أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل القبلة فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام

ص:51


1- وهو الحافظ المحدث القاضي أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحرين دينار الخراساني النسائي - والنسائي، نسبة إلى نسا بلدة بخراسان ولد عام (215 ه -) وكان قد تتلمذ عند عدد كبير من شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، وكان قد تتلمذ عنده جمع كثير، منهم: الدولابي، والطحاوي، والطبراني. واتهم النسائي بالتشيع لروايته أحاديث في فضائل علي عليه السلام. وقد ذكر محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي، قال: سمعت قوماً ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب: الخصائص لعلي - عليه السلام -، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب الخصائص، رجوت أن يهديهم الله تعالى. «سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 14، ص 125».

فقام من يمينه فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجداً، فسجدا معه.

فقلت يا عباس: أمرٌ عظيم ؟!

فقال: أتدري من هذا الشاب ؟، فقلت: لا.

فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - صلى الله عليه وآله وسلم -، هذا ابن أخي.

وقال: أتدري من هذا الغلام ؟

فقلت: لا.

قال: هذا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، هذا ابن أخي، هل تدري من هذه المرأة التي خلفهما؟. قلت: لا.

قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي هذا، حدثني ان ربك ربّ السموات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه.

لا والله ما على ظهر الأرض كلها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة»(1).

ولهذا الحديث طريق آخر، أخرجه ابن إسحاق وإمام الحنابلة أحمد بن حنبل والحاكم وغيرهم، وهو:

ص:52


1- النسائي في خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -: ص 23 برقم 6؛ ابن سعد في طبقاته: ج 8، ص 17؛ وأبو يعلى الموصلي في المسند: ج 3، ص 117.

محمد بن إسحاق، عن يحيى بن أبي الأشعث، عن إسماعيل بن إياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف بن عمرو، قال: كنت امرأً تاجراً وكنت صديقاً للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي ثم جاءت امرأة فقامت تصلي ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي فقلت للعباس: من هذا؟.

فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة: خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام.

قال عفيف الكندي وأسلم وأحسن إسلامه: (لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام)(1).

قال الحاكم النيسابوري: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» أي: البخاري ومسلم.

أقول:

ص:53


1- السير والمغازي لابن إسحاق: ص 137-138؛ فصل: اسلام علي بن أبي طالب - عليه السلام -؛ وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير: ج 7، ص 74. ص 75 برقم 341؛ وأحمد ابن حنبل في المسند: ج 1، ص 209؛ والحاكم في المستدرك: ج 3، ص 183؛ وأقره الذهبي في تلخيصه؛ والبيهقي في الدلائل: ج 1، ص 415؛ والهيثمي في الزوائد: ج 9، ص 126، برقم (14605)؛ وابن سيد الناس في عيون الأثر: ج 1، ص 93؛ والحافظ الطبراني في المعجم الكبير: ج 18، ص 100-101، برقم (181).

وهذا يدل على أن الرواية التي رواها ابن سعد عن طلحة بن عبيدة لا أساس لها من الصحة، وأن تعذيب أبي بكر وطلحة هو من نسج خيال الساسة الذين جلسوا على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وان إسلامه في هذه الحقبة كذب صريح؛ فضلا عن ذلك فان الرواية فيها من الأباطيل الأخرى نعرضها في الفقرة (باء).

باء. ومما جاء في الرواية أيضاً أن طلحة أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما قال الراهب (فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك).

وهذا الافتراء أفضح من السابق وأخزى، إذ كيف يسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكلام الكهنة وكأنه لا يعلم انه نبي صلى الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله حتى يحتاج إلى تطمينات الرهبان بانه هو نبي هذا الزمان؛ والسؤال المطروح: لو عكسنا الحال فكان الراهب مكذباً لخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفتراه يحزن لقول الراهب ؟! أي افتراء هذا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!

نعم لو فرح طلحة بن عبيد الله بكلام الراهب لقلنا ان ذلك حقيقي؛ لأنهم كانوا يعتمدون على الرهبان في معتقداتهم ويصدقونهم فيما يقولون، والدليل أن طلحة لشدة تصديقه بكلام الراهب قام فرجع إلى مكة مسرعاً وهنا الطامة الكبرى؛ إذ لو كان هذا الراهب قد أنكرخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان طلحة لا يؤمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لو رأى جبرائيل عليه السلام بأم عينه.

ص:54

جيم. ثم ما هذا الترابط العجيب بين قول الراهب وقول أبي بكر؟ أفيكون أبو بكر، راهباً أيضاً ولا يعلم به أحد غير طلحة ؟! ولذلك كان تصديقه للراهب بنفس مستوى تصديقه لأبي بكر بحيث كان على مرحلتين، الأولى كانت من فم الراهب، والثانية من فم أبي بكر؟!.

دال. ثم ما هذا الدور العجيب للرهبان والأثر السحري لهم في إيمان الصحابة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!! فطلحة يسرع إلى مكة بفضل كلام الراهب ويسلم!! وأبو بكر يخرج إلى اليمن فيلقى راهباً فيخبره بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعود إلى مكة فيسلم!!

والأغرب من ذلك كله هو التشابه في أدوار الرهبان، فدور راهب طلحة هو نفسه دور راهب أبي بكر!! ولا نعلم لماذا يختار الرهبان طلحة وأبا بكر ليكون لهما الفضل واليد الطولى في هدايتهما وإسلامهما!!

أما كيف تم الحدث في اليمن فيرويه لنا أبو بكر كما روى لنا طلحة سابقاً، وهي صدفة أخرى عجيبة!!

فقد روى الحافظ ابن عساكر عن عبد الله بن مسعود عن أبي بكر أنّه قال: «خرج - خرجت - إلى اليمن قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم فنزلت على شيخ من الأزد عالم قد قرأ الكتب وعلم من علم الناس كثيراً فلما رآني قال: أحسبك حرمياً؟ قال أبو بكر قلت: نعم، أنا من أهل الحرم.

قال: وأحسبك تيمياً؟ قال: قلت، نعم أنا من تيم بن مرة، أنا عبد الله ابن عثمان من ولد كعب بن سعد بن تيم بن مرة؛ قال: بقيت لي فيك واحدة.

ص:55

قلت: ما هي ؟ قال: تكشف لي عن بطنك ؟

قلت: لا أفعل، إذ تخبرني لم ذاك ؟!

قال أجد في العلم الصحيح الزكي الصادق أن نبيا يبعث في الحرم تعاون على أمره فتى وكهل فأما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة وما عليك أن تريني ما سألتك فقد تكاملت لي فيك الصفة إلا ما خفي علي.

قال أبو بكر: فكشفت له عن بطني فرأى شامة سوداء فوق سرتي فقال أنت هو ورب الكعبة وإني متقدم إليك في أمر فاحذره! قال أبو بكر: قلت، وما هو؟ قال إياك والميل عن الهدى، وتمسك بالطريقة الوسطى، وخف الله فيما خولك وأعطاك.

قال أبو بكر: فقضيت باليمن أربي ثم أتيت الشيخ لأودعه فقال: أحامل أنت مني أبياتا قلتها في ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: قلت: نعم، فأنشأ يقول:

ألم تر أني قد وهنت معاشري ونفسي وقد أصبحت في الحي واهنا

حبيب وفي الأيّام للمرء عبرة ثلاث مئين ثم تسعين آمنا

وصاحبت أخيارا أبانوا بعلمهم غياهيب في سد ترى فيه طامنا

وكم عيليل راهب فوق قائم لقيت وما غادرت في البحر كاهنا

فكلهم لما تطمست قال لي بأن نبيا سوف نلقاه دانيا

بمكة والأديان فيها غزيرة فيركسها حتى يراها كواهنا

ص:56

فما زلت أدعو الله في كل حاضر حللت بها سرا وجهرا معالنا

وقد خمدت مني شرارة قوتي وألقيت شحنا لا أطيق الشواحنا

وأنت ورب البيت تلقى محمدا بعامك هذا قد أقام البراهنا

فحي رسول الله عني فإنني على دينه أحيا وإن كنت داكنا

فيا ليتني أدركته في شبيبتي فكنت له عبدا أو الا العجاهنا

عليه سلام الله ما در شارق وما حمل الركبان فيه السواجنا

وما سبحت بالحكمتين وسبحة وما صح ضحاك من النور هاقنا

قال أبو بكر: فحفظت وصيته وشعره وقدمت مكة وقد بعث النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فجاءني عقبة بن أبي معيط ، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو البختري بن هشام، وصناديد قريش فقلت لهم هل نابتكم نائبة، أو ظهر فيكم أمر؟

قالوا: يا أبا بكر أعظم الخطب وأجل النوائب، يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا أنت ما انتظرنا به!!! فإذ قد جئت فأنت الغاية والكفاية لنا!!!!

قال أبو بكر: فصرفتهم على حس مس، وسألت عن النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فقيل: إنه في منزل خديجة فقرعت عليه الباب فخرج إلي فقلت: يا محمد، فقدت من منازل أهلك، واتهموك بالفتنة، وتركت دين آبائك وأجدادك ؟

قال: يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله فقلت: وما دليلك على ذلك ؟

ص:57

قال: الشيخ الذي لقيته باليمن.

فقلت: وكم من مشايخ لقيت باليمن، وأمرت، وأخذت، وأعطيت ؟

قال: الشيخ الذي أفادك الأبيات.

قلت: ومن خبرك بهذا يا حبيبي ؟

قال: الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبل.

قلت: مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنت رسول الله.

قال أبو بكر: فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) بإسلامي)(1)!!!

وأقول:

وهذه الرواية لا تختلف من حيث الصياغة والدلالة عن رواية طلحة بن عبيد الله وكلتاهما تكشف عن تصديق طلحة بن عبيد الله وأبن أبي قحافة بكلام الرهبان وتأثيره الكبير في معتقداتهما، ولا ندري كم سيكون إيمانهما وتصديقهما برسول الله فيما لو التقيا بهذين الراهبين وقد تغير كلامهما في خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أتراهما يتبعان الرهبان بوصفهما كانا الطريق إلى الإسلام، أم انهما ينكران عليهما تراجعهما عن قوليهما؟ لا ندري، ولعل طلحة وأبا بكر هما أدرى بوثاقة الرهبان، إذ كانا (قرينين) بتصديق الرهبان.

ص:58


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 30، ص 31-33؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 3، ص 208؛ تفسير الثعالبي: ج 1، ص 320.

أو أن هاتين الروايتين لا أساس لهما من الصحة وأن أبا بكر وطلحة لم يلتقيا بالرهبان ولم يصدقا بقولهما ولم يسلما من خلالهما، وان إسلامهما تأخر بضع سنوات وانهما لم يعذبا ولم يكونا قرينين في العذاب، وان نوفل بن خويلد بريء من تعذيبهما كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ومن ثم.

فنحن أمام رواية أساسها الكذب ودلالتها الكذب.

ثالثاً: لماذا نوفل بن خويلد؟ وما علاقته بأبي بكر وطلحة كي يعذبهما؟ ولماذا لم يتدخل بنو تيم ؟!

هذا السؤال استوقفني وأنا أراجع حقيقة تعذيب نوفل بن خويلد لطلحة وأبي بكر، فما علاقته بهما فهما من بني تيم ونوفل بن خويلد من بني أسد؟ علماً ان النظام الاجتماعي في مكة قائم على ضوابط العشائر وتكفلها بأبنائها فلماذا يتولى نوفل بن خويلد تعذيبهما وهما ليسا من عشيرته ؟ ولماذا لم يتدخل بنو تيم ؟ وعليه: فنحن أمام احتمالات منها:

1. إما انهما ليسا من بني تيم، فقد يكونان من الموالي أو العبيد، ومن ثم لا علاقة لبني تيم بهما سواء أسلما أم لم يسلما، عُذِّبا أم لم يُعَذَّبا، وعليه فادعاؤهما بأنّهما تيميّان كذب.

2. وإما أنهما مملوكان عند نوفل بن خويلد ومن ثمّ هو المسؤول عن تأديبهما كما هو سائد في مكة وما يفرضه نظام الرق من قوانين.

3. أو أن أبا بكر وطلحة هما من أرذل البيوت في قريش ومن ثمّ لا قدرة لذويهما على مواجهة نوفل بن خويلد فتركوا أبا بكر وطلحة تحت سطوة نوفل

ص:59

ابن خويلد لاسيما وان هناك من النصوص ما يدل عليه.

ألف. روى الحاكم النيسابوري عن أبي الشعثاء الكندي عن مرة الطيب قال جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - فقال: «ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلة، وأذلها ذلة - يعني أبا بكر - والله لان شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً».

فقال علي - عليه السلام -: لطالما عاديت الإسلام وأهله يا أبا سفيان، فلم يضره ذلك، انا وجدنا أبا بكر لها أهلاً»(1).

أقول: ومعنى كلامه عليه السلام.

1. أن ذلة أبي بكر في قريش وقلة أهله وذويه لا يضر أبا بكر في شيء، لأنه نطق الشهادتين فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

2. (انا وجدنا أبا بكر لها أهلا) هو ليس إقراراً بصحة خلافة أبي بكر وإنما لقطع الطريق على أبي سفيان ورداً على عرضه الذي قدمه، بقرينة قوله لأبي سفيان لطالما عاديت الإسلام وأهله.

فضلاً عن أن أبا سفيان قد جاء مدعياً وقوفه مع علي عليه السلام في حقه المغصوب في خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام عليه السلام بحكمته فقطع الطريق على سيد الأحزاب وشيخ المعادين لرسول رب العالمين صلى الله عليه وآله وسلم.

باء. روى الحافظ ابن عساكر والمتقي الهندي كلاهما عن سويد بن غفلة

ص:60


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 78.

قال: (دخل ابو سفيان على علي والعباس فقال: يا علي وانت يا عباس ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها، والله لأن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالاً، ولأثورنها عليه من أقطارها)(1).

4. إنّ تحديد دور نوفل بن خويلد لهذه الحادثة قد اختير بعناية وهو أشبه ما يكون بالأدوار التي يكتبها أصحاب الروايات البوليسية، وهو أقرب إلى الأدب القصصي الذي امتازت به (أجاثا كرستي) حينما تسرد للقارئ احدى الشخصيات وقد اشتهر بالقسوة والشيطنة والسطو فيعذب الضعفاء من الناس ثم في ظروف إما غامضة وإما معلومة ينتهي دوره الشرير وبنفس الجزاء فيكون مصيره القتل، بل والقتل المميز كما حدث لنوفل بن خويلد. ومن ثم إنّك لا تستطيع ان تستفهم سبب ممارسته لهذا السلوك العدواني مع طلحة وأبي بكر؟! وتعلق القضية لعدم اكتمال التحقيق إلى حين يبعث نوفل بن خويلد؟!

5. إن وصفهم لنوفل بن خويلد بأنه (من شياطين قريش)، وأنه (أسد قريش) إنما كان لتعذيبه أبا بكر وطلحة، فلو لم يعذبهما لكان نوفل بن خويلد بريئاً من الشيطنة والأسودية، ولكان أذعر من الفأر حينما يرى السنور.

وأي: أسودية تلك التي وصفوه بها وقد شوهد في معركة بدر مرعوباً يلتفت وينادي بأهل قريش، وأي: أسد هذا وقد أخذ جبار بن صخر يسوقه أمامه أسيراً كأنه المعزى ؟

ص:61


1- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 23، ص 465؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 5، ص 657، برقم (14156).

أليس من الغريب غض الطرف عن إيذائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيبه له فلا يوصف حينها بالشيطنة وتساق له هذه الصفة حينما يتعلق الأمر بطلحة وأبي بكر؟

وعليه: فالحادثة كلها كذب وافتراء قد صنعتها يد المتزلفة لحكام بني أمية وأشياعهم ومن سار على عقيدتهم كالجاحظ الذي رأى في هذا الكذب واقعاً يريد ان يفتخر به على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فكان في أمره مخزياً وفي قوله مفضوحاً بالنفاق؛ لانه قد ران على قلبه فغفل أن حب علي ابن أبي طالب إيمان، وبغضه نفاق.

رابعاً: افتضاح الجاحظ في تحامله على علي عليه السلام ورد الاسكافي عليه

إلا انني وجدت من خير ما قيل في الرد على هذا الخزي والعار، ما خرج عن فم الاسكافي المعتزلي شيخ ابن أبي الحديد، وقد أحببت أن أورد قول الجاحظ ورد الاسكافي عليه كي تكون الدلالة أحجى وأمضى، والمعنى أبين وأوضح.

قال الجاحظ : وكان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة، فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين، حتى أدماه وشده مع طلحة بن عبيد الله في قرن، وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ولذلك كانا يدعيان القرنين، ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا، وبلوغ منزلته شديداً، ولو كان يوماً واحداً لكان عظيما، وعلي ابن أبي طالب رافه وادع، ليس بمطلوب ولا طالب، وليس انه لم يكن في طبعه

ص:62

الشهامة والنجدة، وفى غريزته البسالة في الشجاعة، لكنه لم يكن قد تمت أداته، ولا استكملت آلته، ورجال الطلب وأصحاب الثار يغمصون ذا الحداثة ويزدرون بذي الصبا والغرارة، إلى أن يلحق بالرجال، ويخرج من طبع الأطفال.

قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله: أما القول فممكن والدعوى سهلة، سيما على مثل الجاحظ ، فإنه ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب، وهو من دعوى الباطل غير بعيد، فمعناه نزر، وقوله لغو، ومطلبه سجع، وكلامه لعب ولهو، يقول الشيء وخلافه، ويحسن القول وضده، ليس له من نفسه واعظ ولا لدعواه حد قائم، وإلا فكيف تجاسر على القول بان عليا حينئذ لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وقد بينا بالأخبار الصحيحة، والحديث المرفوع المسند انه كان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه وقلبه لمشركي قريش، ثقيلا على قلوبهم، وهو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب، وصاحب الخلوات برسول الله صلى الله عليه وآله في تلك الظلمات، المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما، والمصطلي لكل مكروه والشريك لنبيه في كل أذى، قد نهض بالحمل الثقيل، وبان بالامر الجليل، ومن الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق، يخفي نفسه، ويضائل شخصه، حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش، كمطعم بن عدي وغيره، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح، وهو على أشد خوف من أعدائهم، كأبي جهل وغيره، لو ظفروا به لأراقوا دمه.

ص:63

أعلي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب، أم أبو بكر وقد ذكر هو عليه السلام حاله يومئذ، فقال في خطبة له مشهورة:

«فتعاقدوا الا يعاملونا ولا يناكحونا، وأوقدت الحرب علينا نيرانها، واضطرونا إلى جبل وعر، مؤمننا يرجو الثواب، وكافرنا يحامي عن الأصل»(1).

ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم، وقطعوا عنهم المارة والميرة، فكانوا يتوقعون الموت جوعا، صباحا ومساء، لا يرون وجها ولا فرجا، قد اضمحل عزمهم، وانقطع رجاؤهم، فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد صلى الله عليه وآله الا علي عليه السلام وحده وما عسى أن يقول الواصف والمطنب في هذه الفضيلة، من تقصى معانيها، وبلوغ غاية كنهها، وفضيلة الصابر عندها ودامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين، حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة، والقصة مشهورة.

وكيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي عليه السلام انه قبل الهجرة كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وهو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله صلى الله عليه وآله بنفسه، ووقاه بمهجته، واحتمل السيوف ورضح الحجارة دونه، وهل ينتهي الواصف وإنْ أطنب، والمادح وإن أسهب،

ص:64


1- أراد بقوله عليه السلام: (وكافرنا يحامي عن الأصل) هو أن قريش عاقبت جميع بني هاشم سواء من كان آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن لم يؤمن مع نسائهم وأطفالهم وألجأتهم إلى الجبل وضربت عليهم طوقاً وحصاراً شديداً سعياً منهم للأبادة الجماعية واستئصال الشجرة الهاشمية ذرية إسماعيل وإبراهيم من مكة.

إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة، والايضاح بمزية هذه الخصيصة.

فأما قوله: إن أبا بكر عذب بمكة، فانا لا نعلم أن العذاب كان واقعا الا بعبد أو عسيف، أو لمن لا عشيرة له تمنعه، فأنتم في أبي بكر بين أمرين تارة تجعلونه دخيلا ساقطا، وهجينا رذيلا مستضعفا ذليلا، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا، وكبيرا مطاعا، فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم. ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب، لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبي بكر، لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه.

كقوله تعالى:

(وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا).

قالوا نزلت في خباب وبلال، ونزل في عمار قوله:

(إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يمر على عمار وأبيه وأمه، وهم يعذبون، يعذبهم بنو مخزوم؛ لأنهم كانوا حلفاءهم، فيقول: (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وكان بلال يقلب على الرمضاء، وهو يقول: أحد أحد، وما سمعنا لأبي بكر في شيء من ذلك ذكرا، ولقد كان لعلي عليه السلام عنده يد غراء، إن صح ما رويتموه في تعذيبه، لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان يوم بدر، ضرب نوفلا فقطع ساقه، فقال: أذكرك الله والرحم فقال قد قطع الله كل رحم وصهر إلا من كان تابعا لمحمد، ثم ضربه أخرى ففاضت

ص:65

نفسه، وصمد لعمير بن عثمان التميمي، فوجده يروم الهرب، وقد ارتج عليه المسلك، فضربه على شراسيف صدره، فصار نصفه الأعلى بين رجليه، وليس أن أبا بكر لم يطلب بثاره منهما، ويجتهد، لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي عليه السلام، فبان علي عليه السلام بفعله دونه.

قال الجاحظ ولأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي ولا غيره، وذلك قبل الهجرة فقد علم الناس أن عليا عليه السلام إنما ظهر فضله، وانتشر صيته، وامتحن ولقى المشاق منذ يوم بدر، وانه إنما قاتل في الزمان الذي استوفى فيه أهل الإسلام، وأهل الشرك، وطمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا، وأعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين، وأبو بكر كان قبل الهجرة معذبا ومطرودا مشردا، في الزمان الذي ليس بالإسلام وأهله نهوض ولا حركة، ولذلك قال أبو بكر في خلافته: طوبى لمن مات في فأفأة الإسلام، يقول: في ضعفه.

قال أبو جعفر رحمه الله: لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان، والخطأ أقعده، والخذلان أصاره إلى الحيرة، فما علم وعرف حتى قال ما قال، فزعم أن عليا عليه السلام قبل الهجرة لم يمتحن ولم يكابد المشاق، وانه إنما قاسى مشاق التكليف ومحن الابتلاء منذ يوم بدر، ونسي الحصار في الشعب، وما مني به منه، وأبو بكر وادع رافه، يأكل ما يريد، ويجلس مع من يحب، مخلى سربه، طيبة نفسه، ساكنا قلبه، وعلي - عليه السلام - يقاسي الغمرات، ويكابد الأهوال، ويجوع ويظمأ، ويتوقع القتل صباحا ومساء، لأنه كان هو المتوصل

ص:66

المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سرا، ليقيم به رمق رسول الله صلى الله عليه وآله وبني هاشم، وهم في الحصار، ولا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله له بالقتل، كأبي جهل بن هشام وعقبة بن أبي معيط ، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها، ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله صلى الله عليه وآله زاده، ويظمئ نفسه ويسقيه ماءه وهو كان المعلل له إذا مرض، والمؤنس له إذا استوحش، وأبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة، ولا يعلم بشيء من أخبارهم وأحوالهم، الا على سبيل الاجمال دون التفصيل، ثلاث سنين، محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج والتصرف في أنفسهم، فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة، ونسي هذه الخصيصة، ولا نظير لها ولكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه، وتنسق له خطابته، ما ضيع من المعنى، ورجع عليه من الخطأ.

فأما قوله واعلموا أن العاقبة للمتقين، ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ - يعني أن لا فضيلة لعلي عليه السلام في الجهاد، لان الرسول كان أعلمه انه منصور، وان العاقبة له - وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته، وليس بحق ما قاله، لان رسول الله صلى الله عليه وآله اعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم، ولم يعلم واحدا منهم بعينه انه لا يقتل، لا عليا ولا غيره، وان صح انه كان أعلمه انه لا يقتل، فلم يعلمه انه لا يقطع عضو من

ص:67

أعضائه، ولم يعلمه انه لا يمسه ألم جراح في جسده، ولم يعلمه انه لا يناله الضرب الشديد.

وعلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد اعلم أصحابه قبل يوم بدر - وهو يومئذ بمكة - أن العاقبة لهم، كما اعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك، فإن لم يكن لعلي والمجاهدين فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك، فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال المشاق قبل الهجرة لإعلامه إياهم بذلك، فقد جاء في الخبر انه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر، وانه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح، وان الله تعالى سيغنمنا أموالهم، ويملكنا ديارهم، فالقول في الموضعين متساو ومتفق(1).

وعليه:

فهذا ما جاء عن لسان الشيخ أبي جعفر الاسكافي أجزاه الله خيراً، في رد أباطيل الجاحظ وافتراءاته على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبه يكتمل البحث في حقيقة تعذيب نوفل بن خويلد لطلحة وأبي بكر حينما أسلما.

المسألة الرابعة: عدي بن خويلد الأخ الرابع لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

لم يرد له ذكر في كتب التاريخ أو الأنساب سوى ما يتعلق بابنته أم عبد الله، فقد ترجم لها ابن حجر بقوله:

ص:68


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13، ص 252-257.

(أم عبد الله بنت عدي بن خويلد الأسدية بنت أخي خديجة، وزوج الحسين بن الحارث بن المطلب، ذكرها ابن سعد(1) في ترجمة الحصين، وهي والدة عبد الله بن الحصين المذكور)(2).

وقد ترجم ابن حجر لولدها عبد الله بن الحصين فقال:

«عبد الله بن الحصين بن الحارث بن المطلب القرشي المطلبي، ذكره البلاذري في الأنساب وقال: كان شاعراً وأمه أم عبد الله بنت عدي بن خويلد الأسدية بنت أخي خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها»(3).

المسألة الخامسة: عمرو بن خويلد، الأخ الخامس لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

اقتصر ابن إسحاق في سيرته على إيراد اسمه في زواج خديجة عليها السلام مشيراً إلى أنه هو الذي زوجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(4).

ثم لم يرد له ذكر في كتب التاريخ والسيرة وغيرها ولا يعلم من حاله أي شيء كولادته وموته وغير ذلك.

ص:69


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 52.
2- الإصابة، لابن حجر: ج 8، ص 428، برقم (12142).
3- المصدر السابق، برقم: (4648).
4- السيرة النبوية لابن هشام: ج 4، ص 1058؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 6، ص 72؛ البداية والنهاية: ج 2، ص 362.

المبحث الثاني: أخوة أم المؤمنين خديجة عليها السلام من الإناث

اشارة

أحاط بأم المؤمنين خديجة عليها السلام مجموعة من الأخوات اللائي بلغ عددهن أربعة، الا أن التاريخ لم يتناولهن بكثير من الذكر وهذا يكشف عن أن دورهن الحياتي لم يكن ذا ميزة يمكن من خلالها معرفتهن واشتهارهن، بل أن التاريخ عرفهن من خلال أم المؤمنين خديجة عليها السلام بوصفهنّ أخواتها، وهن الآتي ذكرهنّ :

المسألة الأولى: هالة بنت خويلد، الأخت الأولى لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

تعدُّ هالة بنت خويلد من حيث الشهرة أوفر حظّاً من أخواتها الأخريات، فقد ورد اسمها في الصحاح وفي كتب التاريخ والسيرة من خلال دخولها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة إلى المدينة حسبما دلت عليه النصوص.

كما أن هالة بنت خويلد هي شقيقة أم المؤمنين خديجة عليها السلام(1).

أولاً. ما رواه الشيخان في الصحيح، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال اللهم هالة.

ص:70


1- الاسيتعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1702.

قالت - عائشة - فغرت! فقلت ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها)(1).

والحديث فيه دلالات منها:

1. أن هالة بنت خويلد قد تكون أصغر سناً من خديجة عليها السلام، وقد تكون أكبر منها إلا أن الله تعالى قد أمدّ في عمرها فكانت تزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين لم نشهد مثل هذه الزيارات لبقية أخواتها، فقد يكنّ قد هلكن قبلها، وقد يكون إسلامهن قد تأخر.

2. أن هذه الزيارة كانت في المدينة المنورة بدلالة وجود عائشة وقولها (قد أبدلك الله خيراً منها).

3. أن الرواية تكشف عن غيرة عائشة المفرطة من خديجة عليها السلام، وحيث إن المرأة لا تتولد عندها الغيرة الا بظهور حب الزوج لضرتها لاسيما أنها شاهدت ارتياع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما سمع استئذان هالة، فإن الرواية تكشف أيضاً عن الحب الكبير الذي يحمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين خديجة عليها السلام.

ويبدو كذلك من النصوص أن عائشة كانت تكرر هذا القول في محضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتنال من السيدة خديجة عليها السلام كما يروي أحمد في المسند.

ص:71


1- صحيح البخاري، باب: تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليها السلام: ج 4، ص 232.

فقد قالت: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم) إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عزوجل بها خيراً منها.

قال - (صلى الله عليه وآله وسلم) -: ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء»(1).

ثانياً: واشتهرت هالة أيضاً من خلال ولدها أبي العاص بن الربيع الذي تزوج من ربيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب، ولم يثبت من خلال الفصول الأولى للكتاب تحديد بنوة زينب إلى واحدة من أخوات خديجة عليها السلام، فإما أن أمها قد توفيت سريعاً وإما أن زينب هي تجهل ذلك من الأصل ولم يخبرها أحد أو قد أخبرت بذلك ولكن الأمر لم يصل إلى تلك الشهرة التي يستحق، فالأمر مرتبط بأرحام خديجة وليس بها عليها السلام، فضلاً عن أننا وجدنا في حال مرور أبي طالب سلام الله عليه بمرحلة من الفقر فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اتفق مع عمه العباس بن عبد المطلب لتخفيف مؤونة أبي طالب فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً فتكفل به، وأخذ العباس عقيلاً فتكفل به.

والحال نفسه قد يكون جرى مع خديجة عليها السلام فبادرت إلى التخفيف عن مؤونة إحدى أخواتها أو إخوانها فتكفلت بزينب ورقية وأم كلثوم

ص:72


1- مسند أحمد بن حنبل، من حديث عائشة: ج 6، ص 118؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 103؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1825.

فنشأن في دارها وتربين تحت كنفها لاسيما أنّها من عُرَفت بتلك الأخلاق الحميدة والسجايا الفاضلة، وسعة الحال، وكثرة المال.

ثالثاً: ان لهالة بنت خويلد خصوصية أخرى فهي أم رقية وأم كلثوم - كما مر بيانه سابقاً - ولذلك لها مكانة خاصة في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكشفها حاله عندما سمع استئذانها فضلا عن أن لها خصوصية عند أُختها خديجة وأنها كانت قريبة إلى قلبها فقد قامت بتنئشئة بناتها (رقية وأم كلثوم) ولذلك حنّ لها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وما يدل عليه:

1. أن بقية أخوات خديجة عليها السلام لم يقمْنَ بتلك الزيارات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيمر بترجمتهنّ .

2. أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدِ اهتماماً ملحوظاً كما هو الحال مع أميمة بنت رقيقة بنت خويلد حينما جاءته تبايعه مع بعض النسوة - كما سيمر لاحقاً - وهذا كله يكشف عن حقيقة المكانة التي لهالة بنت خويلد عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

المسألة الثانية: خالدة بنت خويلد، الأخت الثانية لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

اقتصر المؤرخون على ذكرها تحت عنوان «أسلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم» فأُدرج اسمها مع زوجها علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة(1) ، هو أحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:73


1- كتاب المحبر لمحمد بن حبيب البغدادي: ص 100؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 635.

ولم يذكر لنا التاريخ متى ولدت ومتى ماتت، أسلمت أم لم تسلمْ ، وكم رزقت من الأولاد، وما شأن زوجها، كل ذلك لم يرد له ذكر في كتب التاريخ والسيرة.

المسألة الثالثة: رُقَيْقَةُ بنت خويلد، الأخت الثالثة لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

اشارة

وحالها أفضل من حال أختها خالدة، وان كان ابن حبيب البغدادي (المتوفى 245 ه -) قد اقتصر على ذكرها في أسلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما تزوجها عبد الله بن بجاد بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب فولدت له أمة الله بنت عبد الله بن بجاد.

إلا أن اسمها قد ورد في كتب الرجال من خلال ابنتها أميمة كأحد الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي كتب التاريخ من خلال بنات أميمة المعذبات في الله بمكة، هنّ الآتي ذكرهنّ :

أولاً. أميمة بنت رقيقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

فأما كونها من رواة الحديث النبوي الشريف فقد ترجم لها ابن حجر بقوله: «أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرة، هي بنت بجاد، وأُمها رقيقة بنت خويلد بن أسد أخت خديجة.

روت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، روى عنها محمد بن المنكدر وبنتها حُكَيْمَة بالتصغير(1).

ص:74


1- الاصابة لابن حجر: ج 8، ص 31، برقم 10855.

وحديثها عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أخرجه مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، والترمذي؛ قال مالك: حدثني محمد بن المنكدر، عن أميمة بنت رقيقة، أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نسوة بايعنه على الإسلام. فقلن: يا رسول الله! نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

فيما استطعتن وأطقتن.

قالت: فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. هلم نبايعك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة. أو مثل قوله لامراة واحدة(1).

ولها حديث آخر تتحدث فيه عن أُمها رقيقة حينما التقاها رسول الله في الطائف، خرج إليها طالباً النصرة بعد وفاة عمه أبي طالب رضوان الله تعالى عليه.

والحديث أخرجه الطبراني وابن حجر، من طريق عبد ربه بن الحكم عن أميمة، عن رقيقة، قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف يطلب النصر من ثقيف فدخل عليّ فسقيته سوقياً فشرب وقال:

ص:75


1- كتاب الموطأ: ج 2، ص 983؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 356؛ سنن الترمذي: ج 3، ص 77.

«لا تعبدي طاغيتهم ولا تصلي إليها».

فقلت: إذن يقتلوني.

قال:

«فإن جاؤوك فقولي ربي، رب هذه الطاغية، ووليها ظهرك إذا صليت».

قالت: أميمة فحدثني أخواي وهب وسفيان ابنا قيس، قالا: لما أسلمت ثقيف، قال لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

ما فعلت أمكما؟

قالا: ماتت على الحال التي فارقتها عليها. قال:

أسلمت أمكما إذن»(1).

ثانياً: ان بنات أميمة من المعذبات بالله في مكة

قال ابن سعد في الطبقات: واغتربت أميمة وتزوجها حبيب بن كعيب بن عتير الثقفي فولدت له النهدية، وأم عبيس، وزنيرة، وأسلمن بمكة قديما وكن ممن يعذب في الله فاشتراهن أبو بكر الصديق فاعتقهن، فقال له أبوه أبو قحافة: يا بني انقطعت إلى هذا الرجل وفارقت قومك وتشتري هؤلاء الضعفاء؟ فقال له: يا أبه أنا أعلم بما أصنع.

وكان مع النهدية يوم اشتراها طحين لسيدتها تطحنه أو تدق لها نوى؛ فقال لها أبو بكر: ردي إليها طحينها أو نواها؟

ص:76


1- المعجم الكبير للطبراني: ج 7، ص 81؛ الاصابة لابن حجر: ج 3، ص 108.

فقالت: لا حتى أعمله لها، وذلك بعد أن باعتها وأعتقها أبو بكر، وأصيبت زنيرة في بصرها فعميت فقيل لها:

أصابتك اللات والعزى؛ فقالت لا والله ما أصابني، وهذا من الله، فكشف الله عن بصرها ورده إليها فقالت قريش: هذا بعض سحر محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.

وهذا الحديث لا يستند إلى الصحة لما يأتي:

1. تقتضي الرواية ان يكون هؤلاء النساء في الرق وأنّهنَّ مملوكات إلى بعض نساء قريش، وهذا لا يصح مع ما عرفت به خديجة من حسن الحال ووفرة المال، فكيف بها تترك بنات أختها، وقد أسلمن وهن تحت سطوة الرق وذل العبودية حتى يأتي أبو بكر فيبذل ماله لعتقهن!

2. بل أين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهن لماذا يتركهن يذهبن للعذاب ولا يصنع لهنّ شيئاً، في حين نجده صلى الله عليه وآله وسلم يواسي عماراً وأهله ويبشرهم بالجنة.

3. إنّ أمهن أميمة كانت قد أسلمت في عام الفتح حسبما أظهرت الرواية السابقة من مجيئها لمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع مجموعة من النسوة فكيف كن بناتها من المعذبات في مكة وتحت الرق والعبودية ؟

أفيكون إسلامهن مقدماً على أُمهنّ أميمة، أم أنهن كن قد أسلمْنّ معها، فلماذا لم يأتين مع أمهنَّ لمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهنّ لم يكن متزوجات ؟!

ص:77

وعليه: يظهر من الرواية أنها أرادت أن تسجل لأبي بكر دوراً مصطنعاً يقترب به إلى السلاطين في عتقه لبعض المسلمين بأسلوب مفضوح سرعان ما تكشف زيفه وبطلانه.

المسألة الرابعة: هند بنت خويلد، الأخت الرابعة لأم المؤمنين خديجة عليها السلام

ويقال هي نفسها هالة بنت خويلد كما أشار إلى ذلك العيني(1) ، وابن عساكر حينما ترجم لابن العاص بن الربيع(2) ، وكذلك ابن كثير(3).

المسألة الخامسة: الطاهرة بنت خويلد

وهي نفسها أم المؤمنين خديجة بنت خويلد كما صرح بذلك كلٌّ من الحافظ ابن عساكر، وابن كثير، والسبب في هذا الخلط ، هو: أن السيدة خديجة عليها السلام كانت تلقب في الجاهلية ب - «الطاهرة بنت خويلد»(4).

في حين جعلها ابن حجر شخصاً آخر فترجم لها بقوله: «الطاهرة بنت خويلد أخت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرها الزبير بن بكار»(5).

ص:78


1- عمدة القارئ للعيني: ج 4، ص 302.
2- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 67، ص 8.
3- البداية والنهاية لابن كثير: ج 6، ص 390.
4- تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 5، ص 329.
5- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 224.

الفصل الحادي عشر: وفاة خديجة عليها السلام

اشارة

ص:79

ص:80

إن من السنن التي قدّرها الله تعالى في الحياة وأحكمها فيها هي سنة الموت، فما من شيء خلقه الله تعالى إلا ومصيره الموت والفناء، إلا أنّ الفارق فيما بين النهايات التي أنيطت بوجود الأشياء هو الكيفية التي تنتهي أو تموت عليها هذه الأشياء أو الكائنات.

ولو حاول الإنسان أن يجمع هذه الظواهر بين دفتي كتاب لاحتاج إلى سنوات عديدة وأفراد كثيرين حتى يتمكن من إحصاء جزء يسير منها ولكان هذا الجزء خير واعظ يتّعظ به بنو البشر وبه يعلمون كيف كانت عاقبة هذا العمل أو ذاك، ومن خلاله يتوصلون إلى حسن سلوك هذا المرء أو ذاك فضلاً عن التفاضل بين هذه الحالات والتمايز بين هذه المشاهد حتى يبدو للناظرين من خلال هذه المحطات أن بعض الناس قد كانت عواقبهم الحياتية وخواتيمهم الدنيوية هي خير دليل على شأنيتهم عند الله تعالى وحظوتهم لديه جلّ شأنه.

ص:81

ولذلك:

لم تكن خديجة عليها السلام بالمرأة التي انتهت رحلتها الحياتية بدون خصوصية خاصة، ولم تكن وفاتها مجردة من الكرامات والشأنية النبوية التي لديها عند خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا فضلاً عن أن الوفاة والانتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة هي من أصعب ما يمر به الإنسان إن لم تكن هذه المرحلة هي الأعظم على نفس ابن آدم؛ لشدة ما يرى من الأهوال والمخاوف التي دلّ عليها القرآن الكريم بقوله سبحانه:

(وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ )1.

وحذر منها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته بأحاديث عديدة تكشف عن هذه الحقائق التي لا مفر للإنسان من المرور بها والتعرض لها، وهي تكشف في نفس الوقت عن الحاجة الماسة لرحمة الله تعالى ولطفه.

وعليه:

فإن وفاة أم المؤمنين خديجة عليها السلام تميزت - كما كانت حياتها - بميزات عديدة وأحيطت بخصوصية خاصة تكشف عن منزلتها عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما تكشف عن جوهر هذه الرحلة الحياتية، وتظهر للمسلمين درجة إيمانها، وصواب مسلكها الذي سلكته في الحياة الدنيا.

ص:82

المبحث الأول: مرضها ووصيتها

اشارة

لم تكن تلك السنوات الثلاث التي عاشتها أم المؤمنين خديجة عليها السلام في شعب أبي طالب بتاركة إياها بسلام، بل قد غرزت هذه السنوات العجاف مخالبها في جسد أم المؤمنين خديجة عليها السلام حتى أنهكته، وبذاك يكون المشركون قد حققوا مبتغاهم في النيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما فرضوا عليه وعلى بني هاشم جميعاً، سواء من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم لم يؤمن، فهم بذلك الحصار الجائر كادوا يبيدونهم جميعاً؛ بل لو كان آنذاك منظمات حقوقية وإنسانية لسجلت أبشع أنواع التطرف العنصري والعرقي والعقائدي، فما ذنب بني هاشم إن كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم ؟! وما ذنب مَنْ لم يؤمن به فيؤخذ بجريرة من آمن فيحاصَرون ويجوَّعون ويعذَّبون ؟!

وهل انتهى هذا الحصار؟ وهل توقف هذا التطرف ؟ كلا، فمازال بنو هاشم يدفعون ضريبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم، وأنّ علي ابن أبي طالب منهم، وأن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم، حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما خرجت عائشة وطلحة بن عبيد الله والزبير لقتاله:

«مالي وقريش! أما والله لأقتلنهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين، وإني لصاحبهم بالأمس، وما لنا إليها من ذنب غير أن خيرنا فأدخلناهم في خيرنا.

أما والله لا أترك الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته إنشاء

ص:83

الله، فلتضج مني قريش ضجيجاً»(1).

ولذلك: شاءت قريش أن تنال من ركني النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حصار بني هاشم جميعاً فكان لها ما أرادت، فقد مضى أبو طالب رضوان الله تعالى عليه سريعاً بعد الخروج من الشعب وفك الحصار عن بني هاشم فينهد لفقده ركن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأول ليردفه رسول الله بقوله وقد اعترض جنازته.

«وصلتك رحمْ وجزيت خيرا يا عم فقد كفلت صغيرا ونصرت وأزرت كبيراً»(2).

وتكالبت عليه قريش فأذوه أشد الأذى حتى قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ما نالت مني قريش شيئاً أكره حتى مات أبو طالب»(3).

فقد ذهب الناصر وفقد المؤازر وبان عليه الوجد والحزن الشديد قائلاً:

«لاسرع ما وجدنا فقدك يا عم»(4).

ص:84


1- الكافئة للشيخ المفيد: ص 20؛ البحار للمجلسي: ج 32، ص 113.
2- راجع في اعتراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم جنازة أبي طالب وسيره معها وترحمه عليه: الطرائف لابن طاووس: ص 305؛ المصنف لعبد الرزاق: ج 6، ص 38 * تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 59، ص 250؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 235؛ كنز العمال: ج 12، ص 153؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 13، ص 196؛ تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 354-355؛ الإصابة لابن حجر، ترجمة ابن عباس: ج 7، ص 198؛ البحار للمجلسي: ج 19، ص 20؛ منتهى الآمال للقمي: ص 77.
3- إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 1، ص 45.
4- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 464؛ حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني: ج 1، ص 140؛

المسألة الأولى: مرضها عليها السلام

وبين وداعه لعمه أبي طالب رضوان الله تعالى عليه، وحزنه عليه وبين تحزب المشركين ضده وإيذائهم له كانت أنيسه وسكنه تصارع الألم وتكافح لشد الهمة ودفع المرض كي لا يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيداً.

إلا أن هذا الكفاح لم يكن بحائل عن تحقيق الفراق والانتقال إلى جوار الرحمن حيث لا خوف ولا أحزان، بل روح وريحان ورضوان من الله أكبر.

وبين هذا الجهاد والدفاع لغرض البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين أن لا يرى عليها آلامها فيحزن لذلك، إذ يدخل عليها صلى الله عليه وآله وسلم فيراها قد ذبلت وتغير لونها على الرغم من أن خديجة عليها السلام كانت - كما أسلفنا - تحاول جاهدة أن لا يظهر عليها المرض كي لا يحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لكنه - بأبي وأمي - يعلم حالها، وحقيقة حبها له، وجهادها من أجله، فيحزنه ما يرى عليه حالها وهي التي عاشت معه أربعاً وعشرين سنة قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأسعد زوج، فيدخل عليها ويبادرها القول:

«بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون.

ص:85

قالت: وقد فعل الله ذلك يا رسول الله ؟!.

قال: نعم.

قالت: بالرفاء والبنين»(1).

وهذا الحوار يدل على إيمانها الراسخ بالله عزوجل ويكشف عن صلابة يقينها؛ إذ إن قبولها بالأمر وتسليمها به؛ لأنه من الله، ودعاؤها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ب - «الرفاء والبنين» هو غاية في الرضا والتسليم بقضاء الله عز وجل مع حبها البالغ لزوجها صلى الله عليه وآله وسلم.

وفضلاً عن ذلك فالحوار يدل على أمور أخرى، منها:

أولاً. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: قد زوجني الله معك في الجنة أراد فيه أمرين:

1. تبشيره لها بأنها زوجته في الدنيا والآخرة وهذا خاص بها؛ إذ لا يعلم مصير الإنسان في الآخرة أيكون مع زوجه وأهله أم أن لكل امرئ منهم شأناً يغنيه:

ف -:(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )2.

ولذلك: بشرها صلى الله عليه وآله وسلم أنها معه في الآخرة.

ص:86


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 19، ص 21؛ مستدرك سفينة البحار للشاهرودي: ج 4، ص 322؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، ص 121؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 2، ص 74؛ السيرة الحلبية: ج 2، ص 41.

2. حسن رعايته لها وملاطفتها وهي في وضع تحتاج فيه إلى الملاطفة؛ لكي يخفف عنها هموم المرض، وهذا فيه من الآثار الكبيرة على الحالة النفسية التي يمر بها الإنسان حينما يكون مريضاً.

كما أن هذا الفعل النبوي يرشد إلى أحد الدروس في التربية الأسرية التي ترسم للرجل الكيفية التي ينبغي له أن يتعامل بها مع الزوجة حينما تمر بمرحلة من المرض، فبعضهم يهرب من المرأة حينما تمرض فيهجرها مع آلامها إن لم يقسُ عليها ويتذمر منها.

ثانياً. أما قولها عليها السلام:

(وقد فعل الله ذلك يا رسول الله ؟).

فإنه يشير إلى جملة من الحقائق، منها:

1. أدبها البالغ في الحديث مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحترامها اللامتناهي له، فعلى الرغم من أن المرأة لا تتقبل مجرد الفكرة في وجود زوجة أخرى وضرة في حياتها إلا أن خديجة عليها السلام استفسرت عن جدية الأمر، ولم يخرجها سماعها لوجود ثلاث ضرّات أُخريات في حياتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن منتهى الأدب والذوق الجميل، إذ لم تخاطبه باسمه الصريح وإنما قالت: وقد فعل الله ذلك يا رسول الله ؟

2. أنها أظهرت في هذا القول البليغ معنى في منتهى الجمال؛ إذ إنها مع سماعها لهذا الخبر لم تخرج عن ثقتها الكبيرة بحب رسول الله صلى الله عليه

ص:87

وآله وسلم لها، وأن زواجه من مريم وآسية وكلثم أخت موسى لم يكن بإقدامه واختياره وإنما الله سبحانه وتعالى هو من زوجه منهن.

ولذلك، قالت:

وقد فعل الله ذلك ؟.

فقال: نعم.

3. لما علمت بانه أمر الله تعالى سلمت لأمره ورضت بحكمه، بل وتمنت لرسول الله الخير والسعادة فقالت:

بالرفاء والبنين.

في حين أننا - وعلى سبيل المثال - نجد غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعائشة حينما نزل قوله تعالى:

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ)1.

أنّها قالت له صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما أرى ربك إلا يسارع في هواك»(1).

والعجيب من بعض المسلمين كيف يقايسون بينها وبين أم المؤمنين خديجة عليها السلام بل الأعجب من ذلك هو تفضيل البعض منهم لعائشة على بقية أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!!

ص:88


1- صحيح البخاري، تفسير سورة الأحزاب: ج 4، ص 24؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 261.

(كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ )1.

فكيف يفهمون ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يفعل ؟! وكيف لهم أن يغضوا الطرف عن كل هذا الحب النبوي لأم المؤمنين خديجة لدرجة التصريح بذلك فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:

«فقد رزقت حبها»(1) ؟!.

وهل هناك أدنى شك من أن حبه صلى الله عليه وآله وسلم هو من حسن تبعلها وشدة تمسكها بطاعته وحرصها على اتباعه، فضلاً عن جهادها بمالها ونفسها فكان هذا الحب النبوي هو عينه حب الله تعالى:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ 3.

وهل هناك زوجة من زوجاته قد اتبعته حقيقة الاتباع مثل أم المؤمنين خديجة عليها الصلاة والسلام ولذلك:

نجده يتألم لما نزل بها من المرض فيقول لها:

«بالكره ما أرى منك يا خديجة».

ثم يفوض أمره إلى ربه ويصبرها على محنتها فيقول لها:

«وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا».

ص:89


1- صحيح مسلم (كتاب البنوات، باب: فضائل خديجة بنت خويلد برقم 2430. المفهّم في تلخيص مسلم للقرطبي: ج 6، ص 315، برقم 2343.

المسألة الثانية: وصيتها عليها السلام

أما هذا الخير الكثير لخديجة فهو جوار ربها بعد أن جاهدت في سبيله هذه السنوات حتى اللحظات الأخيرة التي عاشتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا: أخذت توصي رسول الله بوصاياها فقالت:

«يا رسول الله اسمع وصاياي أولاً فإني قاصرة في حقك فاعفني يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«حاشا وكلا، ما رأيت منك تقصيراً فقد بلغت جهدك وتعبت في داري غاية التعب ولقد بذلت أموالك، وصرفت في سبيل الله جميع مالك».

قالت:

يا رسول الله، الوصية الثانية: أوصيك بهذه وأشارت إلى فاطمة، فإنها غريبة من بعدي فلا يؤذيها أحد من نساء قريش، ولا يلطمن خدها ولا يصحن في وجهها، ولا يرينها مكروهاً.

وأما الوصية الثالثة: فإني أقولها لابنتي فاطمة وهي تقول لك فإني مستحية منك يا رسول الله. فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج من الحجرة فدعت بفاطمة وقالت: يا حبيبتي وقرة عيني قولي لأبيك إن أمي تقول: أنا خائفة من القبر أريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي تكفنني فيه فخرجت

ص:90

فاطمة وقالت لأبيها ما قالت أمها خديجة.

فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسَلّمَ الرداء إلى فاطمة وجاءت به إلى أمها فسرت به سروراً عظيما)(1).

الا أن قلب خديجة عليها السلام بقي متعلقاً بأمر آخر لم تكشفه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تظهره لابنتها فاطمة صلوات الله وسلامه عليها؛ لأنه أمر خاص ومتعلق بخصوصية المرأة، والأمر حينما يكون من خصوصيات المرأة فانه محفوف بالحياء ومتّشح بالستر لأن مصدره العفة.

ولذلك لم تجد غير أسماء بنت عميس معيناً لها في حمل هذه الوصية، وذلك بعد أن دخلت عليها فوجدتها - بأبي وأمي - تبكي، فقالت:

«أتبكين وأنت سيدة نساء العالمين، وأنت زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبشرة على لسانه بالجنة ؟!. فقالت - عليها السلام -:

ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لابد لها من امرأة تقضي إليها بسرها وتستعين لها على حوائجها وفاطمة حديثة عهد بصبي وأخاف أن لا يكون لها من يتولى أمرها حينئذ.

فقلت: يا سيدتي لك عليّ عهد الله إنْ بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر»(2).

وتمر الأيام والشهور وتزف فاطمة الزهراء إلى أمير المؤمنين علي بن أبي

ص:91


1- شجرة طوبى للشيخ محمد مهدي الحائري: ج 2، ص 235.
2- البحار للمجلسي: ج 43، ص 138؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 375؛ كشف اليقين للعلامة الحلي: ص 198.

طالب صلوات الله عليهما وتحضر زفافها أسماء بنت عميس، ولابد لها أن تبرَّ قسمها لخديجة عليها السلام في هذه الليلة.

فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر النساء بالخروج من الدار فخرجن وبقيت أسماء، فلما أراد الخروج رأى سوادها فقال:

«من أنت»؟..

- قالت - فقلت: أسماء بنت عميس. فقال:

ألم آمرك أن تخرجي ؟

قالت، فقلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي، وما قصدت خلافك ولكني أعطيت خديجة عهداً وحدثته.

فبكى صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

«تالله لهذا وقفت ؟».

قالت، فقلت: نعم والله، فدعا لي»(1).

ولا يخفى على اللبيب ما في بكاء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من الدلالات عند سماعه حديث أسماء بنت عميس، وهي تقصّ عليه وصية خديجة بفاطمة عليهما السلام.

وإني لا أدري أأعجب من حنان خديجة وحبها لابنتها فاطمة عليها السلام أم أعجب من حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة وبكائه عند سماعه ذكرها.

ص:92


1- المصادر السابقة.

أما سبب بكاء خديجة عليها السلام فلأنها كانت وحيدة فقد قاطعها نساء قريش وهجرنها فلم يبقَ لديها من تبث له حزنها وتوصيه بفاطمة، ولعل دخول أسماء كان استثنائياً أو لعلها سمعت بمرضها فحنت عليها فجاءت تعاودها فوجدت خديجة متنفساً لهمها في سؤال أسماء بنت عميس لها.

المبحث الثاني: احتضارها وتغسيلها عليها الصلاة والسلام

المسألة الأولى: احتضارها

وجاءت اللحظات الأخيرة المتبقية لها في الحياة الدنيا، فقد آن لها الانتقال إلى جوار ربها بعد هذا الجهد والجهاد والمثابرة في نصرة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث إنّ الإنسان حينما يمر بهذه اللحظات فإنه يمر بأصعب ما يمكن أن يتحمله عاقل، وذلك؛ لشدة الأهوال وتعاظم المخاوف ولذا فهو محتاج إلى قشة يتمسك بها وينجو مما يراه، وليس لذاك إلا رحمة الله تعالى الواسعة والمتجسّدة في حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو القائل جل شأنه:

(وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ )1.

فكيف ستكون رحمته صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة في هذه اللحظات، أيتركها مع أهوال المطّلع ومخاوف الموت وحضور ملك الموت وأعوانه.

ص:93

أم يتركها جبرائيل عليه السلام وهو الذي خصها بالسلام والتحية والإكرام، أترى هل يدعها رسول الله مع ملك الموت وهو؛

(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ )1.

دون أن يكون واقفا بقربها وكأنه يناديه: لطفاً بخديجة، مهلاً بأم العيال، لا تعجل بربة البيت، اللهم اجعله برداً وسلاما على أم الزهراء، هكذا يتراءى لي حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع رفيقة دربه وسكنه في حياته، وناصرته في دعوته، ومصدقته في نبوته.

ولعل اللحظات الأخيرة التي لها في الحياة الدنيا، ولاسيما لحظات الاحتضار (وهي تجود بنفسها) - كما عبّر عنها المؤرخون والمفسرون - تكشف عن خصوصية أخرى من خصائص خديجة عليها السلام، بل تفردت بها فلم تخص بها امرأة غيرها حسبما يروي لنا المؤرخون والمفسرون.

فقد روى اليعقوبي، والثعلبي، والقرطبي، والطبرسي، جميعاً عن معاذ ابن جبل: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فقال:

«أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكره خيراً كثيراً، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام».

قالت:

يا رسول الله من هنّ ؟

ص:94

قال:

«مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو حليمة - أخت موسى».

قالت:

بالرفاه والبنين»(1).

والحديث لا يختلف من حيث الدلالة وإن اختلف اللفظ عن الحديث السابق الذي أوردناه، إلا اننا نضيف هنا:

1. أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث مع خديجة عليها السلام وهي في هذه اللحظات الصعبة - على جميع ولد آدم - بأسلوب يكشف عن انه يتحدث مع امرأة من أهل الجنة وليست من أهل الأرض؛ إذ إن السنن الطبيعية في هذه اللحظات تقتضي أن ينشغل الإنسان بنفسه وبما يراه من حوله من الملائكة التي قدمت لقبض روحه فضلاً عن بقية الأرواح وما تم ستره عن الإنسان في الحياة الدنيا فقد كشف للمحتضر عن بصره ورفع عنه الحجب فهو يرى الآن حقائق الأشياء، ولذلك يكون مذهولاً بما يرى فضلاً عن انشغاله بنفسه وما يؤول عليه أمره وينتهي به عمره.

إلا أن خديجة هي الآن حسبما يدل الحديث الشريف برتبة أهل الجنة فقد أخذت النتائج مبكرة في الحياة الدنيا قبل الانتقال للدار الآخرة.

ص:95


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 35؛ تفسير الثعلبي: ج 9، ص 353؛ تفسير القرطبي: ج 18، ص 204؛ تفسير مجمع البيان للطبرسي: ج 10، ص 66؛ تفسير نور الثقلين للحويزي: ج 5، ص 377؛ مجمع البحرين للطريحي: ج 2، ص 199.

ولذلك:

لم يجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مانعاً من الحديث معها بهذا الأسلوب وانها ذاهبة مباشرة إلى الجنة، وان مكانها مع أولئك النساء، مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وحليمة أو حكيمة وهن ضرائر لها، وحيث إنّه لا تنازع في الجنة ولا تخاصم بين أهلها، وإن التحاسد والنزاعات من خواص أهل الدنيا فلذا، قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بالرفاه والبنين، أي: إنها وصلت إلى مرحلة من اليقين جعلتها بمستوى أهل الجنة وهي في الحياة الدنيا فضلاً عن أنها الآن في حالة الاحتضار وهي تجود بنفسها فكان حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم برتبة التبشير وإزالة الحزن عنها لما يرافق حالة نزع الروح.

2. ان هذا الحديث يكشف عن أن احتضار خديجة عليها السلام قد امتاز بخصوصية خاصة وهي أنها مرت بحالة من السكينة والطمأنينة جعلتها تتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأنها في عزّ شبابها وفي أتم عافيتها حيث لا وجود للآلام وأثر للاضطراب والخوف وهي حالة خاصة بمن سبقت لهم من الله الحسنى.

قال تعالى:

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَ ادْخُلِي جَنَّتِي)1.

ص:96

المسألة الثانية: تغسيلها عليها السلام

اشارة

إنّ من السنن الواجبة في الإسلام هو تغسيل الميت وتحنيطه وتكفينه، وحيث إنّ هذه المسائل تناولها الفقهاء في مصنفاتهم فانا نعرض عن بيان أحكامها وتفاصيلها فمن أرادها فليراجعها في مظانها.

غير أن ما يرتبط بتغسيل أم المؤمنين خديجة عليها السلام هو قيام «أم أيمن وأم الفضل بتغسيلها»(1).

وهذا يتطلب بيان منزلة هاتين المرأتين وعلاقتهما بخديجة عليها السلام.

أولاً: ترجمة أم أيمن

(2)

اسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو ابن النعمان، وهي أم أيمن غلبت عليها كنيتها فكنيت باسم ولدها أيمن بن عبيد الحبشي(3).

وهي مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعدها البرقي ممن

ص:97


1- أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، ص 180؛ قاموس الرجال للتستري: ج 12، ص 47.
2- أنظر ترجمتها في: الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 223-227؛ الجرح والتعديل للرازي: ج 9، ص 461؛ الثقات لابن حبان: ج 3، ص 460؛ إكمال الاكمال لابن ماكولا: ج 1، ص 232؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 4، ص 302؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 408؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 35، ص 329؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 223، 224؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1793، برقم (3352)؛ معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): ج 4، ص 199.
3- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1793.

روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النساء(1).

«هاجرت إلى الحبشة وإلى المدينة تعرف ب - (أم الظباء) وقال ابن شهاب: كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما توفي أبوه حضنته أم أيمن حتى كبر، ثم أعتقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أنكحها زيد بن حارثة، توفيت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمسة أشهر، وقيل: بستة أشهر، وقد روى الأربلي وابن شهر ما يشير إلى أنها توفيت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبع سنين.

وفي الاستيعاب: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزورها ويقول:

«أم أيمن أمي بعد أمي».

وفي أنساب البلاذري قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن.

فتزوجها زيد فولدت له أسامة، - وشهد لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة - ورد أبو بكر وعمر مع ذلك شهادتها في فدك لفاطمة عليها السلام)(2).

(أما كراماتها، فقد روى الفريقان في كتبهم ما خص الله به أم أيمن من الكرامة التي تظهر منزلتها عند الله تعالى وأنها من عباده الصالحين، جاء ذلك

ص:98


1- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي قدس سره: ج 24، ص 199.
2- قاموس الرجال للتستري: ج 12، ص 193.

حينما خرجت أم أيمن من المدينة بعد استشهاد فاطمة عليها السلام واتجهت إلى مكة وقالت: لا أرى المدينة بعدها، أي: بعد فاطمة عليها السلام؛ فلما كانت في بعض الطريق عطشت عطشاً شديداً فرفعت يديها وقالت: يا رب أنا خادمة فاطمة أتقتلني عطشاً، فأنزل الله عليها دلواً من السماء فشربت فلم تحتج إلى الطعام والشراب سبع سنين وكان الناس يبعثونها في اليوم الشديد الحر فما يصيبها عطش)(1).

وقد روى هذه الكرامة التي نالتها أم أيمن كلٌّ من ابن سعد، والذهبي، وابن حجر، وغيرهم عن عثمان بن القاسم، قال: لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون الروحاء فعطشت وليس معها ماء وهي صائمة فجهدها العطش فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض فأخذته فشربت منه حتى رويت، فكانت تقول ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر فما عطشت بعد تلك الشربة وإن كنت لأصوم في اليوم الحار فما أعطش(2).

وهذه الترجمة تكشف ما لهذه المرأة من توفيق خاص وعناية إلهية فقد أمد الله بعمرها وأكرمها بأن تكون حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تشهد تلك المعاجز التي حفت به في أثناء الولادة لأنها كانت إحدى

ص:99


1- الخرائج والجرائح للأربلي: ج 2، ص 530؛ المناقب لابن شهر: ج 3، ص 332.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 224؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 225؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 359؛ تاريخ المدينة لابن شبة: ص 497؛ البداية والنهاية: ج 5، ص 347.

موالي عبد المطلب وبذلك أكرمها الله تعالى بحكم وجودها في بيت عبد المطلب بأن اختارها لأن تكون ممن يعين آمنة بنت وهب.

ثم شهدت طفولة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وروت عن سيرته وسمته وخلقه النبوي الكثير من الأحاديث، فكانت مادة خصبة ترفد المسلمين بما يتوقون لمعرفته من تلك السيرة النبوية حتى أكرمها تعالى بالإسلام فأعتقها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم زوجها من زيد بن حارثة ولم ينتهِ معها اللطف الإلهي والكرم الرباني حتى كانت ممن يخدم فاطمة سيدة نساء العالمين، وممن يتشرف بولادة ريحانتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبطيه الحسن والحسين عليهما السلام.

فكان هذا العمر المديد محفوفاً بالألطاف الإلهية والتوفيق الرباني والملازمة للعترة النبوية حتى كانت ممن يغسل خديجة بنت خويلد عليها السلام، وكذلك كانت ممن حضر تغسيل ابنتها فاطمة عليها السلام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ثانياً: ترجمة أم الفضل

(1)

ترجم لها ابن سعد بقوله: (وهي لبابة الكبرى ابنة الحارث بن حزن بن البجير، وكانت أم الفضل أول امرأة أسلمت بمكة بعد خديجة بنت خويلد،

ص:100


1- أنظر ترجمتها: الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 277؛ طبقات خليفة: ص 631، الجرح والتعديل للرازي: ج 9، ص 465؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 608؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 35، ص 298؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 214؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 449، برقم (12204).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزورها ويقيل في بيتها(1).

وقد تزوجها العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فولدت له الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، ومعبدا، وقثم، وعبد الرحمن، وأم حبيب)(2).

وقد عدها الشيخ الطوسي رحمه الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(3) ، وقد وثقها ابو داود الحلي والنجاشي(4).

وقد روت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وروى عنها: أنس بن مالك، وتمام بن العباس؛ وعبد الله بن الحارث بن نوفل وابنها عبد الله بن عباس(5).

وقد أخرج لها أصحاب الصحاح الستة في صحاحهم(6) ، وكان من شأنها انها انتقلت مع العباس بن عبد المطلب بعد عام الفتح إلى المدينة(7). وتوفيت في خلافة عثمان بن عفان(8).

ص:101


1- من القيلولة، وهي النوم في الظهيرة، لسان العرب: ج 11، ص 577، مادة «قيل».
2- الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 277.
3- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي قدس سره: ج 24، ص 206؛ رجال الطوسي: ص 52.
4- رجال أبي داود: ص 223.
5- تهذيب الكمال للمزي: ج 35، ص 298.
6- الكاشف للذهبي: ج 2، ص 526.
7- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 214.
8- المصدر السابق.

ومن خلال هذه الترجمة يتضح ما لأم الفضل من المنزلة والقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بذلك تكون ممن خصها الله تعالى بتغسيل إحدى سيدات الجنة فضلاً عما لخديجة من منزلة الأمومة على هذه الأمّة والخصوصية التي لها عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

المسألة الثالثة: تكفينها

في خصوص تكفينها سلام الله عليها لم أعثر - مع ما توفر لدى من مصادر ومع قصوري في البحث عن المسألة - على حديث معتبرٍ في كتب علمائنا الماضين - زاد الله في شرفهم - إلا أنني وجدت حديثاً واحداً في كتاب شجرة طوبى، وكتاب الأنوار الساطعة يتحدث عن هذه المسألة، والحديث كالآتي:

إنّ أم المؤمنين خديجة عليها السلام قالت لفاطمة (صلوات الله وسلامه عليها):

«يا حبيبتي وقرة عيني قولي لأبيك: إن أمي تقول: إني خائفة من القبر أريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي تكفنني فيه.

فخرجت فاطمة وقالت لأبيها ما قالت أمها خديجة فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسلّم الرداء إلى فاطمة وجاءت به إلى أمها وسرت به سروراً عظيماً.

فلما توفيت خديجة أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تجهيزها وغسّلَها وحنّطَها، فلما أراد أن يكفنها هبط الأمين جبرئيل وقال:

ص:102

يا رسول الله إن الله يقرئك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك يا محمد إن كفن خديجة من عندنا فإنها بذلت مالها في سبيلنا، فجاء جبرئيل بكفن وقال: يا رسول الله هذا كفن خديجة وهو من أكفان الجنة أهدى الله إليها.

فكفنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بردائه الشريف أولاً وبما جاء به جبرئيل ثانياً، فكان لها كفنان، كفن من الله وكفن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

والحديث يدل على الآتي:

1. لعل مراد أم المؤمنين خديجة عليها السلام في طلبها رداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يرتديه عند نزول الوحي هو الدثار الذي غطته به حينما هبط عليه الوحي عليه السلام بعد رجوعه من غار حراء حينما هبط عليه جبرائيل في يوم مبعثه المبارك.

والا حقيقة الأمر أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم متى يهبط عليه الوحي؛ إذ ليس له وقت محدد كما هو ثابت في سيرته صلى الله عليه وآله وسلم إلا اللهم انه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخذ رداء للمناجاة والعبادة، وهو وارد في سيرة المعصومين عليهم السلام الذين كانوا مماثلين لجدهم صلى الله عليه وآله وسلم.

وعليه:

ص:103


1- شجرة طوبى للحائري: ج 2، ص 235. الأنوار الساطعة للشيخ غالب الهلاوي: ص 378.

فانها عليها السلام إما أرادت الدثار الذي ذكره الله تعالى في قوله سبحانه:

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)1.

أو أرادت الرداء الذي كان يرتديه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما نزل عليه جبرائيل في يوم مبعثه، أو أنها قصدت رداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان عليه في أغلب أوقات نزول الوحي، وبالطبع من دون أن يهيئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك.

وكونها زوجته وأعلم من غيرها بخصوصياته صلى الله عليه وآله وسلم أحواله لاسيما أنها زوجته الوحيدة فقد تكون قد رصدت هذه الخصوصية في أحد أثواب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فأرادت أن تتخذها وسيلة لدفع خوفها من القبر لما يحمله من خصوصيات نزول الفيض الأقدس وتلبسه بالأنوار الإلهية، وفضلاً عن ملامسته لبدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي ملامستة لرحمة الله الواسعة.

2. قد يشكل البعض من المخالفين أو غيرهم على اختصاص أم المؤمنين خديجة عليها السلام بكفن من الجنة فضلاً عن رفض الموضوع من الأصل ونقول:

وقد لا يؤمن البعض الآخر بطلبها عليها السلام لثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحجة أن الإنسان مرهون بعمله، فإذا كان من أهل التقوى

ص:104

والعمل الصالح لم يحتج مع هذا إلى ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى غيره، وإذا كان عمله من أهل النفاق والفساد فماذا ينفعه ثوب الأنبياء عليهم السلام ؟!

ونقول:

أولاً: إن المشكلة في أولئك المعترضين على التمسك بالأولياء الصالحين أو الالتجاء إليهم هو عدم فهم أولئك المعترضين لكتاب الله تعالى، وعدم فهمهم عائدٌ إلى أمرين، أحدهما، لأنهم قد طبع على قلوبهم لابتعادهم عن العترة والآخر، لابتعادهم عن القرآن وعدم الأخذ بحججه مكابرة وعناداً.

فهاهو يوسف عليه السلام يبعث بقميصه إلى أبيه الذي أُصيب بالعمى على الرغم من كونه نبياً فيشفيه الله تعالى على الرغم من دعاء الأنبياء لا يرد وعلى الرغم من أن يوسف هو ابن يعقوب وعليه: كيف يكون قميص سيد الأنبياء والمرسلين ؟

ثانياً: إن حقيقة تكفين المؤمن مطلقاً بكفن من الجنة تهبط به الملائكة هو ليس ضرباً من الخيال وإنما من الأحاديث النبوية الشريفة والصحيحة لاسيما أنّ عدداً ليس بالقليل من حفاظ المسلمين قد أخرجوا هذه الحقيقة في مصنفاتهم ورووا هذه الأحاديث في كتبهم.

فقد روى أبو داود الطيالسي، وأحمد بن حنبل في مسنديهما، وابن أبي شيبة الكوفي في مصنفه والحاكم النيسابوري في مستدركه، وغيرهم، جميعاً عن أبي عوانة عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب

ص:105

قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد.

فجلس رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال:

«استعيذوا من عذاب القبر»؛ ثلاث مرات أو مرتين.

ثم قال:

«إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس حتى يجلسون منه مدّ البصر، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة ثم يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه فيقول: أيتها النفس المؤمنة الطيبة (المؤمنة) أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.

فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء فإذا أخذوها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملك من الملائكة الا قالوا: ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون هذا فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا...»(1).

ص:106


1- مسند أبي داود الطيالسي: ص 102؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 287؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 3، ص 256؛ مستدرك الحاكم: ج 1، ص 37؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 3، ص 49؛ الأحاديث الطوال للطبراني: ص 66؛ اثبات عذاب القبر للبيهقي: ص 37؛ كنز

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة التي تدل على حقيقة نزول الملائكة بكفن وحنوط من الجنة لتكفن به روح المؤمن وتطيب بحنوطها.

إلا أن الخصوصية التي نالتها أم المؤمنين خديجة عليها السلام في تكفينها هو اختصاصها بكفن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو رداؤه الذي طلبته.

وثانياً: بكفن من الجنة نزل به جبرائيل عليه السلام وهو يختلف عما ذكرته الرواية السابقة التي تنص على نزول الملائكة بكفن من الجنة يكفن به روح المؤمن.

فهذا الكفن هدية سيكون لبدن خديجة وروحها، وقطعاً له من الصفات التي تكشف عن عظيم رحمة الله تعالى بخديجة، وما لديها من منزلة عنده، فضلاً عن آثاره الغيبية التي يحتاجها الانسان في القبر ويوم النشور والوقوف بين يدي الله تعالى.

ثالثاً: إنّ هذا الحديث ليدل على حقيقة افتقار الإنسان لربه أشد الافتقار وأن الدنيا محطة للتزود، يتزود الإنسان منها للحياة الآخرة، وإن أول عقباتها الكاشفة عن أهوالها وشدتها هو الاحتضار ونزع الروح وما بعدها.

ص:107

المسألة الرابعة: تشييعها ودفنها عليها السلام

بعد قيام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتكفينها بالصورة التي مرّ بيانها آنفاً قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتشييعها إلى قبرها مع بعض أرحامها وخواصه صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد أشار حزام بن حكيم بن خويلد وهو أحد أبناء إخوان أم المؤمنين خديجة عليها السلام - والذي مرت ترجمته في الفصل السابق - إلى تشييعها ودفنها. فقد روى ابن سعد والطبري وابن عساكر وغيرهم عن أبي حبيبة مولى الزبير قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: توفيت خديجة وهي يومئذ ابنة خمس وستين سنة، فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حفرتها ولم تكن يومئذ سنة الجنائز الصلاة عليها(1).

ويدل الحديث على أمور عدة، منها:

1. لم يصح ما ذكره مولى الزبير وادعاؤه بأنه سمع حكيم بن حزام يقول إن عمر خديجة - عليها السلام - حين الوفاة كان (خمساً وستين) وقد اثبتنا بالأدلة في الجزء الأول من الكتاب أن حقيقة عمرها كان يوم توفيت تسعاً وأربعين سنة أو هي في الخمسين - فليراجع -.

2. من السمات التي اختص بها تشييع خديجة عليها السلام هو وجود

ص:108


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 18؛ المنتخب من ذيل المذيل للطبري: ص 86؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 194؛ تفسير القرطبي: ج 14، ص 164.

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا التشييع واتباعه جنازة أم المؤمنين خديجة عليها السلام وهي سمة لم يشهدها غيرها من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك؛ لوفاته صلى الله عليه وآله وسلم قبلهنّ .

3. كما امتاز دفنها عليها السلام بنزول سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم بقبرها، ولا يخفى على أهل المعرفة ما يترتب على هذا الفعل النبوي من آثار غيبية تتناسب مع منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى وآثار ذلك على التوسعة في القبر وحضور جموع الملائكة كما يكشف أيضاً عن منزلتها لديه صلى الله عليه وآله وسلم.

4. لم يصلِّ عليها النبي صلاة الجنائز؛ لأن ذلك لم يسن بعد على الأمّة الا أنّ ترحم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عليها واستغفاره لها ودعاءه إليها لم يكن بأقل مما للصلاة من آثار غيبية على الميت.

المسألة الخامسة: حزنُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فقد خديجة حتى خشي عليه من الهلاك

ليس من الغريب أن يكون لفقد خديجة عليها السلام أثر كبير في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد دخل عليه من الحزن الشديد والأسى البالغ، والوحشة الكبيرة ما لا نظير له (حتى خشي عليه)(1) من الحزن.

ص:109


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 60؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 116؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 102.

ولقد دخلت عليه خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية امرأة عثمان بن مظعون فقالت له: كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة قال:

«أجل كانت أم العيال وربة البيت»(1).

ويدل دخول خولة بنت حكيم عليه إلى اشتهار حاله صلى الله عليه وآله وسلم في أوساط مكة حتى تحدثوا بذلك في محافلهم وأنديتهم ومجالسهم ودورهم فقالوا: (ما رأينا رجلاً حزن على امرأة مثل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -)(2).

وقال بعضهم: (يحق له أن يحزن عليها للخصال التي ركّبت فيها من عقلها، وعفتها، وطهارتها، وأدبها، وحسن ودادها، فقال رجل منهم يقال له (ابو عزيزة) يرثي خديجة - عليها السلام - وينشده شعراً، فيقول:

ذُرِفَتْ دموعك يابن عبد مناف زين الرجال وسيد الأشراف

يا ابن الأكابر من ذؤابة هاشم وابن المعد لرحلة الإيلاف

المطعمون الطير في أوكارها والقائلون هلم للأضياف

رزي النبي بفقده لخديجة حتى تتابع دمعه بوكاف

ما في الأنام محافظ لقرينه إلا الأمين وصاحب الإنصاف

يبكي خديجة دهره زين النسا الطاهرات جميلة الأوصاف

ص:110


1- الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 58؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، ص 172؛ الإصابة لابن شهر: ج 8، ص 102؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 33.
2- «مخطوط » الجزء الثاني من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي الحسن البكري، يرقد هذا المخطوط في مكتبة الأسد بدمشق الشام، ويحمل الرقم (12442).

قال: فبلغت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعجبه ذلك وبعث إليه ببردة ودراهم كرامة له على أبياته، وتحدثوا أهل مكة بحديثه)(1).

وذكر أصحاب السير: أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد سمى هذا العام الذي توفيت فيه خديجة وعمه أبو طالب (بعام الحزن)(2).

بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ لنفسه أسلوباً خاصاً في التعامل مع هذه الأحزان «فقد لزم بيته وأقل الخروج»(3) ؛ فقد توالت عليه في هذا العام مصيبتان(4).

فهكذا كان حزنه على رحيل خديجة عليها السلام بعد أن عاشت معه ما يقارب الخمس والعشرين سنة، وقفت معه فيها على تبليغ رسالة ربه، وناصرته، وآزرته في دعوته، وبذلت في ذلك الغالي والنفيس، فضلاً عن مواساتها له صلى الله عليه وآله وسلم في تحمل أعباء الرسالة ومواجهة أعداء

ص:111


1- المصدر السابق.
2- السيرة الحلبية: ج 2، ص 42؛ المناقب لابن شهر: ج 1، ص 151؛ البحار للمجلسي: ج 19، ص 15؛ الرسالة المحمدية للثعالبي: ص 76؛ عمدة القاريء في شرح صحيح البخاري للعيني: ج 8، ص 180؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ص 45؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 16.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 211؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 165؛ سبل الهدى للشامي: ج 2، ص 435.
4- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 63؛ المنتخب من كتاب أزواج النبي للزبير بن بكار: ص 33؛ سمط النجوم العوالي للصنعاني: ج 7، ص 492، ح 14003؛ القوانين الفقهية لابن الكلبي: ص 408، ط دار الكتاب العربي؛ وسيلة الإسلام لابن قنفذ: ص 54.

الله حتى كانت تقف أمام الحجارة التي يرمونه بها فتحميه بجسدها، بل وأكلت معه ورق الأشجار، وصبرت على ظلم قريش لهما حتى وافتها المنية صابرة محتسبة على ما نزل بها في سبيل الله ونصرة دينه، وايماناً وتصديقاً برسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك:

كان لها من القدر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما جعله ينظر إليها كنفسه المقدسة لاسيما وقد نص على ذلك بقوله حينما دخل عليه الصحابي الجليل سلمان المحمدي (الفارسي) وعنده جماعة من أصحابه وأهل بيته فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«من عرف قدر خديجة فقد عرف قدري، ومن أهان قدرها، أهان قدري»(1).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من أراد هوان خديجة فقد أهان الله تعالى»(2).

ولعل في بطون المخطوطات ما هو أكثر مما عثرت عليه في هذه العجالة مع ما تفرضه قوانين حصائن المخطوطات التي فيها ما هو أبين في الدلالة وألزم في الحجة على الذين نافقوا لأهل السلطة والتمسوا منهم الفتات من موائدهم المنصوبة على ضلوع الأيامى والأيتام والجياع.

ص:112


1- «مخطوط »، كتاب فضائل العشرة لابن العباس الكنكشي، يرقد هذا المخطوط في مكتبة الأسد بدمشق ويحمل الرقم (12990).
2- نفس المصدر السابق.

ولولا ارتكاس البعض في وحل التعصب لكان ما في بطون المخزون من المخطوطات خير معلم للخلف بسيرة نبيهم وأوضح دليل على شرفهم الذي غيبته دراهم بيت المال.

المسألة السادسة: حُزن فاطمة على أمها عليهما السلام

لم يغب عن ناظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك العيون التي ينهمل منها الدمع وقد غمرها الحزن فما زال العمر مبكراً لكي يتحمل مصاب رحيل الأم، بل مازال العمر في أول مراحله ونموه، وهو أحوج ما يكون إلى وجود الأم لتغدقه بنبع حنانها وترويه من معين رأفتها ولطفها، ففاطمة عليها السلام هي الآن في الخامسة من عمرها وقد رحلت عنها أمها وبقيت في الدار لا ترى سوى أبيها الذي لم يكن دمعه بأقل من دمعها، فقد ذهب المؤنس والسكن والمعين على محن الدنيا.

غير أنّ فاطمة عليها السلام بعد أنْ وجدت الدار خالية (جعلت تلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدور حوله، وتقول:

يا أبه، أين أمي ؟)(1).

سؤال يملأ المكان ويتردد صداه بين جدران بيت خديجة، هذا البيت الذي عطّره زغب أجنحة الوحي، فكانت خير معزٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنته، وخير مسعف لأب مفجوع، وزوج أخذ الوجد منه كل مأخذ فلا يرى لسؤال فاطمة من مجيب غير حبيبه جبرائيل عليه السلام.

ص:113


1- الأمالي للطوسي: 175.

فسرعان ما حضر عنده قائلاً:

«ربك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام، وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران»(1).

فردت على ما سمعت من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن أخبرها صلى الله عليه وآله وسلم بقول جبرائيل عليه السلام قائلة:

«إنّ الله هو السلام، ومنه السلام؛ وإليه السلام»(2).

واطمأن قلبها الحزين لرحيل أمها خديجة وعلمت أنها في:

(مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)3.

وفي الحديث بيان يغني اللبيب عن العبارة في معرفة ما لهذا المصاب وأهله عند الله من المنزلة.

المسألة السابعة: تاريخ وفاتها

اتفق المؤرخون على أن وفاة خديجة وأبي طالب عليهما السلام كانت في عام واحد(3).

ص:114


1- الرواية للامام أبي عبد الله الصادق عليه السلام نقلت بتصرف، وتوجد في: الأمالي للشيخ الطوسي: ص 175؛ الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي: ج 2، ص 530؛ الجواهر السنية للحر العاملي: ص 264؛ البحار للمجلسي: ج 16، ص 1.
2- المصدر السابق.
3- البحار للمجلسي: ج 19، ص 5؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، ص 171؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 65؛ تاريخ دمشق: ج 21، ص 143.

وأنّهما توفيا في شهر رمضان، في السنة العاشرة من البعثة(1) ، أو لثلاث سنوات قبل الهجرة(2).

واختلفوا في الفارق الزمني بينهما إلى عدة أقوال:

1. أنها توفيت بعد أبي طالب عليهما السلام بثلاثة أيام(3).

2. أنها توفيت بعده بشهر واحد(4).

3. وقيل: بشهر وخمسة أيام(5).

4. وقيل: بشهرين(6).

5. وقيل: بستة أشهر(7).

6. وقيل: إنها توفيت بعد الإسراء(8) ، وهو مخالف لمذهب أهل البيت عليهم السلام وذلك أن الإسراء عندهم وقع في السنة الثالثة من البعثة النبوية.

ص:115


1- الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 18؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 176.
2- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 64، ح 31؛ المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 7، ص 492؛ القوانين الفقهية: ص 408.
3- المعارف لابن قتيبة: ص 134؛ عمدة القاري للعيني: ج 1، ص 63؛ بحار الأنوار: ج 19، ص 6.
4- الأمالي للطوسي: ص 463؛ كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 30.
5- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 125؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 66، ص 345؛ سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 112.
6- البحار للمجلسي: ج 19، ص 5.
7- البحار للمجلسي: ج 19، ص 14.
8- أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، ص 19؛ السيرة الحلبية: ج 2، ص 40.

وعليه: يبقى اليوم العاشر من شهر رمضان(1) ، يوم تتجدّد فيه الأحزان على آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى شيعتهم ومحبيهم، وفيه تقام مجالس المواساة والعزاء وإحياء هذه الذكرى الأليمة كما هو معروف لدى أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام.

ف -:(إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ).

المبحث الثالث: موضع قبر خديجة عليها السلام وخصائصه

اشارة

تشير الروايات إلى أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حينما توفيت أم المؤمنين عليها السلام حملها إلى موضع من مواضع مكة ودفنها فيه بل الظاهر أن خديجة هي أول من دفن في هذا المكان.

المسألة الأولى: شرافة موضع قبرها

ذكر ابن حجر، وابن عبد البر، والذهبي، وغيرهم: أنها دفنت بالحَجُون(2) ، بفتح الحاء وضم الجيم وهو الجبل المطل على المسجد بأعلى مكة على يمين المصعد، وهناك مقبرة أهل مكة(3).

ص:116


1- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 103؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 29؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي: ج 2، ص 434؛ سيرة ابن إسحاق: ج 5، ص 228..
2- تحفة الأحوذي: ج 10، ص 264؛ أسد الغابة: ج 5، ص 439؛ سير أعلام النبلاء: ج 1، ص 112؛ الاصابة: ج 8، ص 103؛ المنتخب من ذيل المذيل للطبري: ص 2؛ تاريخ الإسلام: ج 1، ص 237؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1825.
3- فتح الباري لابن حجر: ج 3، ص 323.

وقال الأصمعي: هو الجبل المشرف الذي بحذاء مسجد البيعة على شعب الجزارين(1).

وتدل أبيات مضاض بن عمرو الجرهمي وهو يتشوق إلى مكة لما أجلتهم عنها خزاعة إلى اشتهار هذا الموضع عند المكيين وتفضيله على غيره من الأماكن وانهم لم يتخذوه مقبرة حتى دفنت خديجة كما سيمر في الأحاديث.

قال عمرو الجرهمي:

كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر

فأخرجنا منها المليك بقدرة كذلك يا للناس تجري المقادر

فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة كذلك عضتنا السنون الغوابر

وبدَّلَنا كعب بها دار غربة بها الذئب يعوي والعدو المكاشر

فسحت دموع العين تجري لبلدة بها حرم أمن وفيها المشاعر(2)

وقد ورد في السنة المطهرة على صاحبها وآله صلاة الرحمن وسلامه ما يدل على منزلة هذا المكان وتفضيله على كثير من بقاع مكة وغيرها من الأراضي، فمنها:

1. قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينشران في الجنة وهما

ص:117


1- معجم البلدان للحموي: ج 2، ص 225.
2- معجم البلدان للحموي: ج 2، ص 225.

مقبرتا مكة والمدينة»(1).

2. وقريب من هذا اللفظ ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:

«إن الله تعالى يأمر يوم القيامة أن يأخذوا بأطراف الحجون والبقيع، وهما مقبرتان بمكة والمدينة فيطرحان في الجنة»(2).

والظاهر هنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أرشد المسلمين إلى اتخاذ الحجون والبقيع محلاً لدفن موتاهم لما لهما من خصوصية في الآخرة(3) ، وإلا فهما لم يكونا قبل ذلك محلاً لدفن المؤمنين.

ومما يدل عليه الحديث الآتي:

3. وعن عبد الله بن مسعود، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال:

يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر»(4).

ص:118


1- تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي: ج 1، ص 199؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، ص 448؛ تفسير الثعلبي: ج 3، ص 151؛ تفسير النسفي: ج 1، ص 168؛ تفسير أبي السعود: ج 2، ص 61.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج 2، ص 309.
3- تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي: ج 1، ص 199؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، ص 448؛ تفسير الثعلبي: ج 3، ص 151؛ مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج 2، ص 309؛ جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج 10، ص 89؛ تفسير الثعلبي: ج 3، ص 151.
4- الكشاف للزمخشري: ج 1، ص 448. تفسير أبي السعود: ج 2، ص 61.

4. روى أبان بن عياش عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

من مات في أحد الحرمين بعثه الله عز وجل مع الآمنين»(1).

5. وقال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة أن الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم:

إذهبوا إلى البيت الحرام فزمّوه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر فيأتونه فيزمونه بسبعمائة ألف سلسلة من ذهب ثم يمدونه وملك ينادي: يا كعبة الله سيري. فتقول: لست بسائرة حتى أعطى سؤلي.

فينادي ملك من جو السماء: سلي تعطي.

فتقول الكعبة: يا رب شفعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين.

فيقول الله: قد أعطيتك سؤلك. قال: فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمين، فيجتمعون حول الكعبة يلبون ثم يقول الملائكة: سيري يا كعبة الله، فتقول: لست بسائرة حتى أعطى سؤلي، فينادي ملك من جو السماء: سلي تعطي، فتقول الكعبة: يا رب عبادك المؤمنين الذين وفدوا إلي من كل فج عميق شعثا غبرا، تركوا الأهلين والأولاد والأحباب، وخرجوا شوقا إلي زائرين مسلمين طائعين، حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر وتشفعني فيهم وتجمعهم حولي،

ص:119


1- تفسير الثعلبي: ج 3، ص 151. تفسير النسفي: ج 1، ص 168.

فينادي الملك: إن منهم من ارتكب الذنوب بعدك وأصر على الذنوب الكبائر حتى وجبت له النار، فتقول الكعبة: إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام. فيقول الله: قد شفعتك فيهم وأعطيتك سؤلك. فينادي منادٍ من جو السماء: ألا من زار الكعبة فليعتزل من بين الناس. فيعتزلون، فيجمعهم الله حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النار يطوفون ويلبون، ثم ينادى ملك من جو السماء: ألا يا كعبة الله سيري. فتقول الكعبة: لبيك لبيك والخير بيديك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ثم (يمدونها) إلى المحشر(1).

وهذه الأحاديث تدل على خصوصية الموضع الذي دفنت فيه خديجة عليها السلام؛ وأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إنما دفن أم المؤمنين خديجة عليها السلام في هذا الموضع لمعرفته بفضيلته عند الله تعالى، مما جعل المكيين يدفنون موتاهم فيه؛ فضلاً عن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد حفظ قبر خديجة عليها السلام من أيدي الأعراب حينما يتخذه أهل مكة، أي الحجون محلاً لدفن موتاهم.

كما تكشف هذه الأحاديث أهمية أن يحمل الميت إلى الأماكن التي فضلها الله على غيرها من الأرض لاسيما أرض الحرمين، وأرض كربلاء، والنجف الأشرف، كما دلت عليه أحاديث أهل البيت عليهم السلام الكاشفة عن اختصاص هذه الأماكن باللطف الإلهي والكرامة الخاصة.

ص:120


1- المصدر السابق: ج 3، ص 151-152.

المسألة الثانية: برزخ خديجة عليها السلام

اشارة

ومن الأحاديث الشريفة الواردة عن العترة النبوية صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ما يكشف عن حال أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ، وهو القبر بصورة خاصة، وما يتعلق بحال الإنسان مؤمنا كان أم كافراً بشكل عام، وخير ماتم جمعه في هذا الصدد هو ما قام به الشهيد الأول(1) رضوان الله

ص:121


1- هو الشيخ أبو عبد الله شمس الدين محمد ابن الشيخ جمال الدين مكي ابن الشيخ شمس الدين محمد بن حامد بن أحمد المطلبي العاملي النباطي الجزيني المعروف بالشهيد الأول وبالشهيد على الإطلاق. والمطلبي نسبة إلى المطلب أخي هاشم لانه من ذريته، والى المطلب ينسب عبد المطلب بن هاشم واسمه شيبة الحمد. ولد الشهيد الأول سنة 734 واستشهد بدمشق ضحى يوم الخميس التاسع من جمادى الأولى سنة 786 قتلا بالسيف على التشيع وعمره اثنان وخمسون سنة؛ (أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 10، ص 59). من أقوال العلماء فيه: قال الشيخ المحدث صاحب الوسائل الحر العاملي (قدس سره) في أمل الآمل: كان عالماً ماهرا فقيها محدثا مدققا ثقة متبحرا كاملاً جامعاً لفنون العقليات والنقليات، زاهدا، عباداً، شاعراً، أديباً، منشئاً، فريد دهره، عديم النظير في زمانه، روى الشيخ فخر الدين محمد بن العلامة (الحلي)، وعن جماعة كثيرين من علماء الخاصة والعامة. له كتب منها: 1. كتاب ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة في فقه الإمامية مخرج منه أكثر الفقه، لم يتم. 2. كتاب غاية المراد في نكت الإرشاد. 3. اللمعة الدمشقية في الفقه كتبه في سبعة أيام.

تعالى عليه في كتابه ذكرى الشيعة الا أنني أحببت أن أتعرض أولاً لحال الإنسان مطلقاً في البرزخ كي يكون محطة للتزود والمعرفة بحال أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ.

أولاً: ما هو حال الإنسان في البرزخ، وهل يتفاوت حال الناس في القبر؟

قال الشهيد الأول رضوان الله تعالى عليه في الذكرى:

«البرزخ، وهو لغة: الحاجز، والمراد هنا ما بين الموت والبعث، قال الله تعالى:

(وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 1.

روى ابن بابويه عن الصادق عليه السلام:

«ان بين الدنيا والآخرة ألف عقبة، أهونها وأيسرها الموت».

وهنا مسائل:

ألف: سؤال القبر.

عليه الاجماع، إلا لمن لقن على ما روي من الأخبار، وروى الكليني

ص:122

بعدة أسانيد عن الصادق عليه السلام:

«إنما يسأل في قبره من محض الإيمان والكفر محضاً، وأما ما سوى ذلك فيلهى عنه»(1).

وعن الباقر عليه السلام، مثله، ويجوز أن يؤوّل بسؤال خاص لا مطلق السؤال.

وعن بشير الدهان عن الصادق عليه السلام:

يجيء الملكان: منكر ونكير، فيسألان الميت: من ربك ؟ فإذا كان مؤمنا، قال: الله ربي، وديني الإسلام.

فيقولان له: ما تقول في هذا الرجل الذي خرج بين ظهرانيكم ؟

فيقول: أشهد أنه رسول الله.

فيقولان له: نم نومة لا حلم فيها، ويفسح له في قبره تسع أذرع، ويفتح له باب إلى الجنة فيرى مقعده فيها. وإذا كان كافرا دخلا عليه، وأقيم الشيطان بين يديه، عيناه من نحاس.

فيقولان من ربك ؟ وما دينك ؟ وما تقول في هذا الرجل الذي خرج بين ظهرانيكم ؟ فيقول: لا أدري.

فيخليان بينه وبين الشيطان، ويفتح له باب إلى النار، ويرى مقعده فيها).

وعن أبي بكر الحضرمي:

(يسألون عن الحجة القائم بين أظهرهم، فيقول: ما تقول في

ص:123


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 235.

فلان بن فلان ؟

فيقول: ذاك إمامي.

فيقال له: نم أنام الله عينك، ويفتح له باب إلى الجنة.

فما يزال ينفحه من روحها إلى يوم القيامة.

ويقال للكافر: ما تقول في فلان ؟ فيقول: قد سمعت به، وما أدري ما هو!

فيقال له: لا دريت، ويفتح له باب من النار، فلا يزال ينفحه من حرها إلى يوم القيامة).

ورووا في الصحاح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله:

(إن هذه الأمّة تمتلي في قبورها، فإن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول: ما كنت تعبد؟ فان الله هداه يقول: كنت أعبد الله، فيقول: ما كنت تقول في هذا؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله. قال: فما يسأل عن شيء غيرها، فينطلق به إلى بيته الذي كان في النار، فيقال: هذا بيتك في النار، ولكن الله عصمك ورحمك وأبدلك به بيتا في الجنة فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: أسكن. وإن الكافر إذ وضع في قبره أتاه ملك فينتهزه، فيقول: ما كنت تعبد؟ فيقول لا أدري! فيقال له: لا دريت ولا تليت. فيقول: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول: كنت أقول مثل ما يقول الناس! قال: فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلائق غير الثقلين).

ومعنى تليت: قرأت، أتي بالياء لمجانسة دريت. ويروى: أتليت، من

ص:124

أتلت الإبل إذا ولدت وتلاها أولادها.

وفي رواية أخرى:

(والكافر يرى مقعده من الجنة، فيقال هذا مقعدك من الجنة، ولكنك عصيت الله وأطعت عدوه).

وعن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله تعالى:

(يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ )1.

قال:

هذا في القبر إذا سئل عن ذلك.

وروى عن الكليني عن أبي بصير، عن الصادق عليه السلام في المؤمن إذا أجاب:

(يقولان له: نم نومة لا حلم فيها. ويفسح له في قبره تسع أذرع، ويرى مقعده من الجنة، وهو قول الله تعالى:

(يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ ) الآية.

باء: تضافرت الأخبار بعذاب القبر - نعوذ بالله منه - وقد مر طرف منها.

وقوله تعالى:(النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ 2 يدل عليه.

ص:125

وقد روى ابن مسعود: أن أرواحهم في أجواف طير سود، يعرضون على النار بكرة وعشيا إلى يوم القيامة.

وروى الكليني عن جابر، (عن الباقر عليه السلام:

«قال النبي صلى الله عليه وآله: ليس من نبي إلا وقد رعى الغنم. كنت أنظر إلى الغنم والإبل وأنا أرعاها قبل النبوة، وهي متمكنة ما حولها شيء يهيجها حتى تذعر فتطير، فأقول: ما هذا؟ فأعجب، حتى حدثني جبرئيل عليه السلام أن الكافر يضرب ضربة ما خلق الله جل وعز شيئا إلا يسمعها ويذعر لها إلا الثقلين، فنعوذ بالله من عذاب القبر»).

وعن أبي بصير (عن الصادق عليه السلام:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج في جنازة سعد وقد شيعه سبعون ألف ملك، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله رأسه إلى السماء ثم قال: أو مثل سعد يضم ؟ فقالت أم سعد: هنيئا لك يا سعد. فقال لها النبي صلى الله عليه وآله: يا أم سعد لا تحتّمي على الله عز وجل»).

وعن بشير الدهان عن الصادق عليه السلام، أنه قال:

«إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار».

وعن أبي بصير عنه عليه السلام في الكافر:

«ينادي مناد من السماء: افرشوا له في قبره من النار، وألبسوه ثياب النار، وافتحوا له بابا إلى النار حتى يأتينا وما عندنا شيء له، فيضربانِهِ بمرزبة ثلاث ضربات ليس فيها ضربة إلا يتطاير

ص:126

قبره، لو ضرب بتلك المرزبة جبال تهامة لكانت رميما».

وعن الصادق عليه السلام في المصلوب يصيبه عذاب القبر:

«يوحي الله عز وجل إلى الهواء فيضغطه ضغطة أشد من ضغطة القبر».

وعن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله لما ماتت رقية ابنته -: إني لأعرف ضعفها، وسألت الله عز وجل أن يجيرها من عذاب القبر».

وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام:

«ما أقل من يفلت من ضغطة القبر!».

وفي البخاري ومسلم عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله دخل نخلا لبني النجار، فسمع صوتا ففزع، فقال:

«من أصحاب هذه القبور؟».

فقالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية. فقال:

«نعوذ بالله من عذاب القبر».

وفي رواية أخرى في المنافق والكافر:

«ليضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فتعوذوا بالله من عذابه ونقمته».

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:

«إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل

ص:127

النار. فيقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة».

جيم: دل القرآن العزيز بقوله تعالى:

(وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ).

وقوله تعالى:

(وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ).

وغير ذلك على بقاء النفس بعد الموت بناء على تجردها وعليه كثير من الأصحاب ومن المسلمين أو على تعلّقها بالأبدان، وهو مروي بأسانيد كثيرة من الجانبين، فمنها ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال:

«أرواح الشهداء في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل في ظل العرش».

ومنها ما روي من الطريقين عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:

«حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم»،

قالوا: يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال:

أما حياتي فإن الله تعالى يقول:

(وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ ).

وأما مفارقتي إياكم، فإن أعمالكم تعرض علي كل يوم، فما كان من حسن استزدت الله لكم، وما كان من قبيح، استغفرت الله لكم».

ص:128

قالوا: وقد رممت ؟ فقال:

«كلا، إن الله عز وجل حرم لحومنا على الأرض أن تطعم منها شيئا».

وروى الأصحاب في تفسير قوله تعالى:

(وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ ).

إنّ أعمال العباد تعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى الأئمة عليهم السلام كل يوم، أبرارها وفجارها.

وفي التهذيب: عن مروان بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قلت له: إن أخي ببغداد، وأخاف أن يموت بها. قال:

«ما تبالي حيثما مات، أنه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض وغربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السلام».

قال:

«وهو ظهر الكوفة، كأني بهم حلق حلق قعودا يتحدثون».

ورواه في الكافي أيضا. وفي التهذيب: عن يونس بن ظبيان، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:

«ما يقول الناس في أرواح المؤمنين»؟

قلت: يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش. فقال أبو عبد الله:

«سبحان الله المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في

ص:129

حوصلة طائر أخضر. يا يونس: المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون ويشربون، وإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي في الدنيا».

وروى في التهذيب أيضا عن علي، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أرواح المؤمنين ؟ فقال:

«في الجنة على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت فلان».

ومثله رواه في الكافي بسنده إلى أبي ولاد الحناط ، عن أبي عبد الله عليه السلام. وعن أبي بصير عنه عليه السلام:

«أن أرواح المؤمنين لفي شجرة في الجنة، يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربنا أقم لنا الساعة، وأنجز لنا ما وعدتنا، وألحق آخرنا بأولنا».

وعن أبي بصير عنه عليه السلام:

«ان الأرواح في صفة الأجساد في شجر في الجنة تتعارف وتتساءل، فإذا قدمت الروح عليهم يقولون: دعوها فإنها قد أفلتت من هول عظيم. ثم يسألونها: ما فعل فلان ؟ وما فعل فلان ؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى».

ويقرب منه رواية يونس بن يعقوب عنه عليه السلام.

وفي الكافي بإسناده إلى حبة العرني، قال: خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الظهر، فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام، فقمت لقيامه

ص:130

حتى أعييت، ثم جلست حتى مللت فعل ذلك غير مرة ثم عرض علي أمير المؤمنين الجلوس، فقال:

«يا حبة إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته، ولو كشفت لك لرأيتهم حلقا حلقا يتحادثون».

فقلت: أجسام أو أرواح ؟ فقال:

«أرواح، وما من مؤمن يموت في بقعة في بقاع الأرض إلا قيل لروحه الحقي بوادي السلام، وإنها لبقعة من جنة عدن».

وفي الكافي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، في أرواح المشركين:

«في النار يعذبون، يقولون: ربنا لا تقم لنا الساعة، ولا تنجز لنا ما وعدتنا، ولا تلحق آخرنا بأولنا «.

وعن القداح عن أبي عبد الله عليه السلام:

«قال أمير المؤمنين (عليه السلام): شر ماء على وجه الأرض ماء برهوت، وهو بحضرموت، ترده هام الكفار».

وأكثر من الأخبار في ذلك. ومما يدل على بقاء النفس مدركة بعد الموت أحاديث الزيارة، وهي كثيرة منها: رواية حفص بن البختري، عن أبي عبد الله عليه السلام:

«إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، ويستر عنه ما يكره. وإن الكافر يزور أهله فيرى ما يكره، ويستر عنه ما يحب».

قال:

ص:131

«ومنهم من يزور كل جمعة ومن يزور على قدر عمله».

وفي رواية إسحاق بن عمار، عن الكاظم عليه السلام:

«يزورون على قدر فضائلهم، منهم من يزور في كل يوم، ومنهم في كل يومين، ومنهم في كل ثلاثة، وإن زيارتهم عند الزوال».

وفي رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام:

«ما من مؤمن ولا كافر إلا وهو يأتي أهله كل يوم عند زوال الشمس، فإذا رأى أهله يعملون الصالحات حمد الله على ذلك، وإذا رأى الكافر أهله يعملون الصالحات كانت عليه حسرة».

وفي رواية إسحاق عن الكاظم عليه السلام:

«فيبعث الله ملكا فيريه ما يسره، ويستر عنه ما يكره، فيرى ما يسره ويرجع إلى قرة عين»(1).

ولقد أوردت هذه الأحاديث بتمام إيرادها في الذكرى كي يتسنى للقارئ معرفة ما ينتظره في عالم البرزخ من أمور لا يمكن له تجنبها الا من خلال التمسك بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتباع نهجه وهديه حينما أوصى الأمه بالتمسك بالثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته.

وعليه:

فلقد كانت هذه الحقائق تستدعي بالمسلم الوقوف عند حال أم المؤمنين خديجة عليها السلام في هذا العالم الغريب بعد نزولها القبر وهو البرزخ، وهو ما سنعرض له في المسألة القادمة.

ص:132


1- ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة للشهيد الأول: ج 2، ص 85-93.
ثانياً: حال أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ
اشارة

تكشف الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في بيان مقام أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ وتُظهر أيضاً علو منزلتها في هذا العالم الذي تحدثت عنه الروايات السابقة وبيَّنت أحواله العجيبة والمهولة الا لمن عصم الله واتقى في الحياة الدنيا.

ألف: ان خديجة عليها السلام في جنتها البرزخية على نهر من أنهارها

يروي الهيثمي في المجمع عن جابر أنه قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم عن عمرو بن نفيل، فقلنا: يا رسول الله إنه كان يستقبل القبلة ويقول: ديني دين إبراهيم وإلهي إله إبراهيم، وكان يصلي ويسجد قال:

ذاك أمة وحده يحشر بيني وبين يدي عيسى بن مريم.

وسئل عن ورقة بن نوفل، وقيل: يا رسول الله إنه كان يستقبل القبلة ويقول: إلهي إله زيد وديني دين زيد وكان يتوجه ويقول:

رشدت فأنعمت ابن عمرو فإنما عنيت بتنّور من النار حامياً

بدينك ديناً ليس دين كمثله وتركك حنان الجبال كما هي

قال صلى الله عليه - وآله - وسلم:

رأيته يمشي في بطنان الجنة عليه حلة من سندس.

وسئل عن خديجة - عليها السلام - فقال صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«رأيتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا تعب فيه

ص:133

ولا نصب»(1).

ويدل الحديث على بعض الحقائق، منها:

1. ان السؤال كان بعد وفاة خديجة عليها السلام بقرينة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«رأيتها على نهر من أنهار الجنة».

وقطعاً إن هذه الرؤية بعد غياب خديجة عليها السلام ورحيلها إلى عالم الآخرة، وبقرينة أخرى وهي تتابع الأسئلة عن أحوال اثنين من شخصيات مكة قد توفّاهما الله تعالى فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلعوا على حالهم في البرزخ وهما (زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل) ثم اتبعوا ذلك بسؤالهم عن خديجة عليها السلام، فضلاً عن رواية أبي يعلى الموصلي التي يصرح بها الرواي عن حال خديجة بعد موتها لقوله: وسئل عن خديجة؛ لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن(2).

2. إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حينما وصف حال أم المؤمنين خديجة عليها السلام بأنها على نهر من الجنة في بيت من قصب إنما هو

ص:134


1- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 417؛ ورواه أبو يعلى الموصلي، والنووي في المجموع، والطبراني في الأوسط ، بلفظ : «أبصرتها في الجنة في بيت من القصب...» أنظر: مسند أبي يعلى: ج 4، ص 42؛ المجموع للنووي: ج 5، ص 258؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 8، ص 131؛ الكامل لابن عدي: ج 1، ص 319؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 63، ص 23؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 14.
2- مسند أبي يعلى: ج 4، ص 42.

جنة البرزخ، وذلك أن الجنة والنار يكون فيهما مقر ابن آدم بعد الحساب، والذي يتحدد فيه مصيره وينال جزاءه، أما أن يكون بعد موته مباشرة في الجنة فهذه جنة البرزخ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران»(1).

إذن:

فان أم المؤمنين خديجة عليها السلام في روضة من رياض الجنة على نهر من أنهارها في بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

باء: تعدد منازلها عليها السلام في جنة البرزخ

ومما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وعترة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في بيان مقام أم المؤمنين خديجة عليها السلام في البرزخ هو ما أخرجه الصفار عن محمد بن عمار عن أبي بصير، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فركض الأرض برجله فإذا بحر فيه سفن من فضه فركب وركبت حتى انتهى إلى موضع فيه خيام من فضة فدخلها ثم خرج فقال:

«رأيت الخيمة التي دخلتها أولاً؟ فقلت نعم، قال: تلك خيمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأخرى خيمة أمير المؤمنين عليه السلام والثالثة خيمة فاطمة والرابعة خيمة خديجة والخامسة خيمة الحسن والسادسة خيمة الحسين والسابعة خيمة علي بن الحسين، والثامنة خيمة أبي والتاسعة

ص:135


1- مسند أبي يعلى: ج 4، ص 42، برقم (2047).

خيمتي وليس أحد منا يموت إلا وله خيمة يسكن فيها»(1).

والحديث يدل على جملة أمور:

1. أن هذا الفعل الذي قام به الإمام الصادق عليه السلام هو مِنَ الآيات التي أعطاها الله تعالى لأوليائه وأُمنائه على شريعته وحجته على خلقه، وهم مخيرون في إظهارها لمن يرون فيه الأهلية لتقبل هذه الكرامات وحملها، وحال أبي بصير في ذلك كحال من منَّ عليه نبي الله سليمان في زمانه فخصه ببعض الآيات؛ قال تعالى:

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ )2.

ولعل الظاهر في اختصاص أبي بصير بهذه الكرامة فمنّ الإمام الصادق عليه بها، هو لكونه أحد المستأمنين على حمل علوم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فكان ذاك مما يثبت به فؤاده، ويطمئن به قلبه، وهو مما جرى في كثير من حياة أصحاب الأنبياء والأئمة سلام الله عليهم أجمعين.

2. إنّ أم المؤمنين خديجة عليها السلام هي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام في البرزخ في محمل واحد وان اختلفت مواضع قبورهم عليهم السلام إلا أنهم جميعاً في تلك الجنة البرزخية التي أعدها الله تعالى لهم.

ص:136


1- بصائر الدرجات لمحمد بن حسن الصفار، باب: 13، ص 426؛ البحار للمجلسي: ج 6، ص 245.

3. إنها عليها السلام لها دار آخر غير الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكونه من قصب الجنة، وإنّ هذه الدار من الفضة وعلى هيأة الخيمة وهذا يكشف عن علو شأنها عند الله تعالى، وتعدد منازلها في البرزخ.

المسألة الثالثة: اتخاذ الإمام الحسين عليه السلام قبر جدته خديجة عليها السلام محلاً للدعاء والمناجاة

إنّ من الخصائص التي حظي بها قبر مولاتنا السيدة خديجة عليها السلام هو اتخاذ الإمام الحسين عليه السلام منه محلاً للمناجاة والتضرع إلى الله تعالى وهذا يدل على أمور:

1. مشروعية زيارة القبور - كما سيمر بيانه لاحقاً في زيارة قبرها عليها السلام - فضلاً عن اختصاص هذا الموضع - أي قبرها عليها السلام - بالحظوة والمنزلة عند الله تعالى، بل يكشف عن أهمية التوجه إلى هذه الأماكن التي ضمّت بين ترابها أرواح من صدقوا الله في إيمانهم وجاهدوا في سبيله ونالوا بذلك رضاه ورضا رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

فضلاً على ذلك ما لأم المؤمنين خديجة عليها السلام من زلفة عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

فكيف لا يكون الورود إلى محل دفنها وموضع قبرها، وهي التي نالت السلام من الله تعالى وجبرائيل في حياتها، فها هي الآن تحف بها الملائكة من كل جانب، وماذاك على الله بعزيز، بل هو ما أعده لعباده الصالحين.

ص:137

(وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ )1.

2. إنّ قصد قبرها عليها السلام وقبور أولادها الأئمة المعصومين عليهم السلام هو مما يدل على تعريف الأجيال بتلك الشموس الإيمانية والرموز الإسلامية التي تُستلهم منها الدروس والعبر في الثبات والجهاد والتضحية والتقوى وغيرها من الفضائل.

3. إن إتيان قبرها عليها السلام هو اداء لبعض حقوقها على المسلمين جميعاً رجالاً ونساء، فان لم تكن تستحق ذلك من كونها المرأة الصابرة والمثابرة والمناصرة لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهي أم المؤمنين أفلا يكون لها الحق على أبنائها بزيارة قبرها ومن ثمّ ، ألا يكون التارك لقبرها عاقاً في حق أمه ؟!.

إذن:

يعلمنا سيدنا ومولانا أبو عبد الله الإمام الحسين عليه السلام هذا المنهج التربوي في الإيفاء بحق أم المؤمنين عليها السلام والسعي في برها، فضلاً عن إرشادنا إلى أن هذا الموضع هو من الأماكن التي يرفع فيها الدعاء وتقضى عنده الحاجات وإلا لما كان يتضرع إلى ربه ويناجيه فيه والبيت الحرام بجواره، وحجر إسماعيل بقربه، ومقام إبراهيم أمام ناظريه.

ولذلك:

فقد توجه - بأبي وأمي - إلى قبرها حينما خرج من المدينة المنورة بأهل بيته

ص:138

وأخوته وأصحابه وقد عزم والي المدينة على الغدر به فكان من شأنه حينما عزم على الخروج من مكة متجها إلى العراق أن جاء زائراً لقبر جدته خديجة عليها السلام ومودعاً اياها وشاكياً إلى الله تعالى ما نزل به من الظلم.

قال أنس بن مالك - وكان قد ساير الإمام الحسين عليه السلام - فأتى قبر خديجة، فبكى عليه السلام ثم قال - لأنس -:

«اذهب عني».

قال أنس:

فاستخفيت عنه، فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلاً:

يا رب يا رب أنت مولاه فارحم عبيدا إليك ملجاه

يا ذا المعالي عليك معتمدي طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن كان خادما أرقاً يشكو إلى ذي الجلال بلواه

وما به علة ولا سقم أكثر من حبّهِ لمولاه

إذا اشتكى بثه وغصته أجابه الله ثم لباه

فنودي:

لبيك عبدي وأنت في كنفي وكلما قلت قد علمناه

صوتك تشتاقه ملائكتي فحسبك الصوت قد سمعناه

لوهبت الريح من جوانبه خر صريعا لما تغشاه

سلني بلا رغبة ولا رهب ولا حساب إني أنا الله(1)

ص:139


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 3، ص 224؛ البحار: ج 44، ص 193؛ العوالم، الإمام الحسين عليه السلام للبحراني: ص 68.

قال العلامة المجلسي (طيب الله ثراه) في بيان بعض مضامين هذه الأبيات:

(الأرق، بكسر الراء، من سهر بالليل، قوله: قد سفرناه، أي حسبك إنا قد كشفنا الستر عنك. قوله: لو هبت الريح من جوانبه، الضمير إما راجع إلى الدعاء كناية عن أنه يجول في مقام لو كان في مكانه رجل لغشي عليه مما يغشاه من أنوار الجلالة، ويحتمل ارجاعه إليه عليه السلام على سبيل الالتفات لبيان غاية خضوعه وولهه في العبادة بحيث لو تحركت الريح لأسقطته)(1).

المسألة الرابعة: رؤيا بعض الصحابة لخديجة عليها السلام في منامهم وحثها لهم على نصرة الإمام الحسين عليه السلام

لم تزل رزية أهل البيت عليهم السلام ومصابهم بالإمام الحسين عليه السلام وأبنائه وأصحابه من أعظم الرزايا التي حلت على الإسلام والمسلمين، بل: لم يشهد بيت من بيوت الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ألماً وأذى مثلما شهده بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الفاجعة.

ولذلك:

لا يمكن تحديد حجم الأذى والألم الذي نزل بكل من له نسب أو سبب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن الأقربين لسيد الشهداء عليه السلام كأمه وأبيه وجده وأخيه لاسيما جدته خديجة الكبرى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ص:140


1- البحار للمجلسي: ج 44، ص 193.

وعليه:

فليس من الغريب أن يرى بعض الصحابة كسليمان بن صرد الخزاعي خديجة عليها السلام في منامه وهي تحثه على نصرة آل البيت عليهم السلام بعد وقوع مأساة الطفوف.

أما لماذا سليمان بن صرد دون غيره ؟

فذلك لنهوض سليمان وبعض أصحابه وخواصه من التابعيين كالمسيب ابن نجبة الفزاري وجمعٍ من أهل الكوفة لقتال بني أمية وأسقاط حكمهم بعد أن أقدموا على قتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته في كربلاء.

(فخرجوا من الكوفة وكانوا أربعة آلاف فأتوا عين الوردة وهي ناحية قرقيسياء فلقيهم جمع من أهل الشام وهم عشرون ألفاً عليهم الحصين بن نمير)(1) ، لتشهد هذه البقعة صوراً يندر وجودها في التضحية والثبات حتى الممات تحت مواسي السيوف وأسنة الرماح ونصال السهام.

وتكشف بعض الروايات عن شدة القتال واستماتة التوابين في هذه المعركة (إن سليمان وأصحابه بقوا يقاتلون فيها سبعة أيام حتى قتل أصحاب سليمان، عدا سبعة وعشرين رجلاً مثخنين بالجراح المفرط ، فالتمسوا منه الفرار فأبى إلا القتال حتى يقتل ويلقى الله ورسوله وهما راضيان عنه).

ص:141


1- الطبقات لابن سعد: ج 4، ص 292.

ولأنه كان صادقا مع الله ورسوله في نفسه فقد (رأى سليمان في الليلة الثامنة وهو نائم خديجة الكبرى وفاطمة الزهراء والحسن والحسين عليهم السلام، فقالت له خديجة:

«شكر الله سعيك ولأخوانك، فإنكم معنا يوم القيامة».

وقالوا: له:

«أبشر، فأنت عندنا غدا عند الزوال»)(1).

(فلما أصبح سليمان بن صرد ترجل عن جواده يقاتلهم فرماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقتله فسقط وقال: فزت ورب الكعبة - فقطع رأسه - وحمله أدهم بن محرز الباهلي إلى مروان بن الحكم)(2).

فصلب الرأس بدمشق، مع رأس المسيب بن نجبة الفزاري، وكان له رضي الله تعالى عنه يوم قتل ثلاث وتسعون سنة(3).

ولعل بعض القراء يجهل حال سليمان بن صرد ومقامه بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتقد بما يطبل له متزلفو بني أمية في كيل التهم له ولأمثاله وأصحابه المجاهدين الذين حاربوا السلطان الجائر بالقول والفعل فنعتهم بنو أمية بالخارجين على الحاكم أو محاربة أولي الأمر ونسوا أن الباطل لا يدوم والكاذب مفضوح وإن طال به الأمر؛ وإلا كيف لم

ص:142


1- مستدركات علم الرجال للشيخ علي النمازي: ج 4، ص 137.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 4، ص 292.
3- نفس المصدر السابق.

يقنع أخلافهم بولاة الأمر في وقتنا المعاصر وهؤلاء الولاة لهم حق الطاعة كما كان أسلافهم يقولون ؟ وكيف يسمون أنفسهم بالمجاهدين وغيرهم بالخارجيين.

وأنى لاتباع السلف بنكران الطاعة والخروج على الولاة وهم اليوم يحيون تحت راية الدول الغربية أو الشرقية التي تعتقد بماركس وبوذا وغيرهما؟! إنه واقع لن يجد له الخلف من فهم بفعل ما حرفه السلف.

أما ما ورد في ترجمته عند أعلام المدارس الإسلامية فهي كالآتي:

1 - قال ابن سعد (المتوفى سنة 230 ه -)

- هو - (سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون وهو عبد العزى بن منقذ بن ربيعة بن ضبيس، ويكنى أبا مطرف، أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان اسمه يسار فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سليمان، وكانت له سن عالية وشرف في قومه، فلما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحول فنزل الكوفة حين نزلها المسلمون وشهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام الجمل وصفين وكان فيمن كتب إلى الحسين بن علي أن يقدم الكوفة فلما قدم أمسك عنه ولم يقاتل معه)(1).

أقول:

لا يخفى على الباحث الدور الذي بذله بنو أمية في النيل من الرموز الإسلامية التي تصدت لظلمها وطغيانها كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري

ص:143


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 4، ص 292.

وتهجيره إلى الربذة وقتل حجر بن عدي، ومحمد بن أبي بكر، وغيرهم كثير لا حصر لهم، ومنهم سليمان بن صرد فنعت بالتخاذل عن نصرة سيد الشهداء بعد البيعة له.

في حين يروي لنا التاريخ صورة أخرى عن عدم تمكن سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، وإبراهيم بن مالك الأشتر، وصعصعة بن صوحان، والمختار ابن عبيد الثقفي وغيرهم(1) ، عن نصرة سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليه السلام.

فهؤلاء كانوا جميعاً مع نفر كثير بلغوا أربعة آلاف وخمسمائة تمكن عبيد الله بن زياد من زجهم في سجن الكوفة(2) ، بعد وقوع قيس بن مسهر الصيداوي بيد جلاوزة عبيد الله بن زياد فتم قتله بعد عثورهم على رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى سليمان بن صرد وأصحابه فألقاهم عبيد الله في السجن فكان هذا هو السبب في عدم تمكن سليمان من القتال مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

إلاّ أن ندم كثير من أهل الكوفة على عدم الخروج لنصرة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفعهم للنهوض في وجه طاغية بني أمية وواليه على العراق فكان تحركهم واجتماعهم سراً إلى تلك الرموز التي خرجت للطلب بدم ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:144


1- مستدركات علم الرجال للشاهرودي: ج 4، ص 137.
2- نفس المصدر السابق.

ولجلالة قدر سليمان بن صرد في الكوفة ونسكه وعبادته وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وملازمته لعلي بن أبي طالب وحثه شيعة أهل البيت لمحاربة الظالمين دفع هؤلاء إلى تأميره عليهم فعرف بأمير التوابين.

2 - ترجم له الحافظ شمس الدين الذهبي (المتوفى سنة 748 ه -) بقوله:

الأمير أبو مطرف الخزاعي الكوفي الصحابي له رواية يسيرة، وكان ديّناً عابداً(1).

3 - ترجم له الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 ه -) بقوله:

سليمان بن صرد بن الجون... وكان خيّراً فاضلاً، شهد صفين مع علي ابن أبي طالب عليه السلام وقتل حوشباً مبارزة)(2).

4 - أخرج له البخاري(3) ، ومسلم(4) ، وأحمد(5) ، وابن ماجة(6) ، وأبو

ص:145


1- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 395.
2- الإصابة في تمييز الصحابة: ج 3، ص 144.
3- صحيح البخاري، كتاب الغسل: ج 1، ص 69؛ وفي كتاب الأذان، باب: ما يقول إذا سمع المنادي: ج 1، ص 152؛ وفي كتاب بدء الخلق: ج 4، ص 93؛ وفي باب: غزوة الخندق: ج 5، ص 48؛ وكتاب الآداب: ج 7، ص 84.
4- صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب: استحباب إفاضة الماء: ج 1، ص 177، وغيرها.
5- أفرد له أحمد فصلاً تحت عنوان (حديث سليمان بن صرد رضي الله تعالى عنه): ج 4، ص 262؛ ج 6، ص 124؛ ج 6، ص 134.
6- سنن ابن ماجه، باب: في الوضوء بعد الغسل: ج 1، ص 191، وغيرها.

داود السجستاني(1) ، والترمذي(2) ، والنسائي(3) ، وغيرهم، في صحاحهم وسننهم بعض الأحاديث النبوية.

وعليه: تدل رؤياه وتشرفه بحضور خديجة الكبرى، وسيدة نساء العالمين فاطمة وسيّدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين صلوات الله وسلام عليهم أجمعين على منزلته لديهم، وصدق جهاده في سبيل الله تعالى؛ وهذا أولاً.

وثانياً: تكشف هذه الحادثة عن حجم الأذى والألم الذي نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته بما جرى في كربلاء من مصائب لم يزل الإسلام يئِنُّ منها حتى يأذن الله تعالى لمهدي آل محمد بن فاطمة صلوات الله عليه وعلى آبائه بأخذ الثأر لتلك الدماء الطاهرة.

المسألة الخامسة: قيام الأعراب بهدم قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام

لمّا تزل أم المؤمنين خديجة عليها السلام تتلقى من الأعراب والمنافقين الضربات في حرمتها وحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولم تهدأ هذه الأعراب عن التعرض لام المؤمنين خديجة ولم تفتأ تتعرّض لحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ ان بعثه الله فهؤلاء المنافقون لم يغمض لهم جفن حتى ينتقموا منه ومن أزواجه وأهل بيته وأصحابه.

ص:146


1- سنن أبي داود، باب: الغسل من الجنابة: ج 1، ص 61، وغيرها.
2- سنن الترمذي، باب: ما جاء في الشهداء: ج 2، ص 264، وغيرها.
3- سنن النسائي، باب: ذكر ما يكفي الجنب: ج 1، ص 135، وغيرها.

فبالأمس كانوا يرمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في دار أم المؤمنين خديجة عليها السلام فتقف تتلقاها ببدنها وتنادي: (أترمى الحرّة في دارها) فيكفون عنها، واليوم ترمى بالرصاص ويهدم قبرها مبتهجين بذلك وهم ينشدون:

طالما عبدت الناس نفسك فالآن قومي وامنعينا(1)

إلا أن الفارق بين أولئك الأعراب وهؤلاء هو أنّ أولئك كانوا يحتفظون في أنفسهم ببعض الحياء، ولذا كفوا عن رمي خديجة بالحجارة.

وأما هؤلاء المعاصرون فقد تجردوا من كل القيم الإنسانية والطباع البشرية فكانوا مسوخاً حيوانية لا يعرف لها هيئة حتى في المخلوقات المجهرية.

(أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ )2.

المسألة السادسة: التوسل بها إلى الله تعالى

اشارة

تعد قضية التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته أو بتعبير أعمّ بالأولياء الصالحين من القضايا العقائدية التي أثيرت حولها الاعتراضات والممانعات منذ القرن السابع للهجرة أي منذ ظهور ابن تيمية بفكره الأموي

ص:147


1- شجرة طوبى للحائري: ج 1، ص 175؛ كما يمكن الاطلاع بشكل تفصيلي على إقدام الأعراب على هدم قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام من خلال الشبكة العالمية المعلوماتية (الانترنت).

ضمن مسميات وعناوين ذات صبغة إسلامية كالتوحيد والشرك الأكبر والشرك الأصغر وما إلى ذلك من الأغطية الشرعية لضرب شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

والحديث حول التوسل قديما وحديثاً كان يدور بين علماء المذاهب الإسلامية الأربعة وبين ابن تيمية ومأموميه إلا أنه انحصر في الوقت المعاصر بين الإمامية والوهابية، الذين ذهبوا إلى تكفير الإمامية في توسلهم إلى الله تعالى بالنبي وعترته عليهم السلام.

ولو أردنا أن نحيط بجوانب الموضوع لاحتجنا إلى تخصيص مجال واسع من الكتاب مما يعد خروجا على المنهج العلمي للبحث.

وعليه:

فقد اقتصرنا على بعض الشواهد لما حمله هذا الموضوع من مطارحات وردود؛ كي تكون مقدمة لبيان أن علماء المسلمين منذ أن ظهرت المذاهب الإسلامية الأربعة، أي (الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي) وإلى يومنا هذا وهم يتوسلون إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم بالأولياء، سوى الوهابية الذين جاءوا بشريعة لا يَعرفها أبو حنيفة ولا المالكي ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل.

بل:

لا يعرفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما أنزل الله بها من سلطان.

ص:148

ولذا:

فقد تصدى علماء المذاهب لابن تيمية وأفكاره التكفيرية فكان ممن عاصره الحافظ السبكي (رحمه الله) الذي ألّف كتاباً يرد فيه على ابن تيمية حينما أفتى بحرمة السفر لزيارة قبر رسول الله والتوسل به وبالأولياء الصالحين، ومن ثم جاء الوهابيون بحرمة توجه المسلم وسؤاله ربه بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بجاه النبي وغيرها من ألفاظ التوسل، بحجة أن ليس للعبد مهما بلغ حق على الله، أو أن يكون له جاهٌ عنده إلى غيرها من الترهات والسخافات التي تكشف عن أن الوهابيين وإمامهم ابن تيمية قد ران على قلوبهم فها هو القرآن الكريم يقول في بيان وجاهة عيسى عند الله تعالى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ )1.

وقال عزّ وجل في بيان وجاهة موسى عنده:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً)2.

فكيف يكون لعيسى وموسى عليهما السلام جاهٌ عند الله ولا يكون لسيدهم صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:149

أما ما جاء عن الحافظ السبكي (رحمه الله) من ردود حول هذه المسألة على فتوى ابن تيمية التكفيرية أن قال: (إنّ التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جائز في كل حال، قبل خلقه، وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا، وبعد موته، في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة، وهو على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يتوسل به، بمعنى أن طالب الحاجة يسأل الله تعالى به أو بجاهه، أو ببركته، فجواز ذلك في الأحوال الثلاثة، وقد ورد في كل منها خبر صحيح.

أما الحالة الأولى: التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل خلقه

فيدل على ذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته، وهو ما رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين.

فعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لما اقترف آدم عليه السلام الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي ؟».

فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه ؟

قال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت فيّ من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت

ص:150

أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.

فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، إذ سألتني بحقه قد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك).

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد(1).

ثم يقوم الحافظ السبكي بذكر نصوص أخرى يستدل بها على توسل نبي الله عيسى عليه السلام بل، - وكما قال رحمه الله - توسل نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد ذكر جملة من الردود يقول: فإنه لا شك أن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدرا عنده، ومن أنكر ذلك فقد كفر.

فمتى قال: (أسألك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) فلا شك في جوازه.

وكذا إذا قال: (بحق محمد).

والمراد بالحق:

الرتبة والمنزلة، والحق الذي جعله الله على الخلق، أو الحق الذي جعله الله بفضله له عليه، كما في الحديث الصحيح: قال فما حق العباد على الله ؟

وليس المراد بالحق الواجب، فإنه لا يجب على الله شيء، وعلى هذا المعنى يحمل ما ورد عن بعض الفقهاء في الامتناع من إطلاق هذه اللفظة.

ص:151


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 2، ص 615.
الحالة الثانية: التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد خلقه في مدة حياته

فمن ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه في كتاب الدعوات، عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أدع الله أن يعافيني.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

(إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك).

قال: فادعه.

قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء:

(اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي ليقضي لي، أللهم شفعه فيّ )(1).

وفي الدلائل للبيهقي جاء في آخر الحديث: (يا محمد، إني أتوجه لك إلى ربي فيجلي عن بصري، أللهم شفعه في، وشفعني في نفسي).

قال عثمان: فو الله ما تفرقنا ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط )(2).

ص:152


1- سنن الترمذي: ج 5، ص 229، ح 3649؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 6، ص 169، ح 10495؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 138.
2- تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 365؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 1، ص 527.
الحالة الثالثة: التوسل به بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

لما رواه الطبراني في المعجم الكبير، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف: (أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: إيت الميضاة فتوضأ، ثم إيت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل:

إللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه إليك إلى ربك فيقضي حاجتي.

وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك.

فانطلق الرجل: فصنع ما قال له، أتى باب عثمان بن عفان، فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة فقال: ما حاجتك ؟ فذكر حاجته، وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال: ما كانت لك حاجة فاذكرها.

ثم إنّ الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا، ماكان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته فيَّ .

فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«أو تصبر»؟

ص:153

فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد، وقد شقّ عليّ .

فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«إيت الميضاة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات».

قال ابن حنيف: فو الله، ماتفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط )(1).

أقول:

ومما يدل على أن التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم كان من عقيدة الصحابة ما يأتي:

أولاً: جواز التوسل إلى الله تعالى بقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقضاء الحوائج

ومما يدل على أن الصحابة كانوا يتوسلون بقرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم هو توسلهم إلى الله تعالى بعم النبي صلى الله عليه وآله وسلم العباس بن عبد المطلب، وهذا لا يدل فقط على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته وإنما يدل على جواز

ص:154


1- المعجم الصغير للطبراني: ج 1، ص 183؛ المعجم الكبير للطبرني: ج 9، ص 31؛ كتاب الدعاء للطبراني: ص 320؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 2، ص 279؛ تحفة الأحوذي: ج 10، ص 24؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 11، ص 327؛ دفع الشبهة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للحصني الدمشقي: سص 150؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 12، ص 407؛ شفاء السقام لتقي الدين السبكي: ص 303-304.

التوسل إلى الله تعالى بمن له قرابة برسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن بيان منزلة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى.

أما الحادثة فكانت بهذه الصورة:

قال الحافظ السبكي: (وكذلك يجوز ويحسن مثل هذا التوسل بمن له نسبة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كان عمر بن الخطاب إذا قحط استسقى بالعباس بن عبد المطلب، ويقول: أللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاسقنا.

قال فيسقون، رواه البخاري من حديث أنس)(1).

واستسقى به عام الرمادة فسقوا، وفي ذلك يقول عباس بن عتبة بن أبي لهب:

بعمي سقى الله الحجاز وأهله عشية يستسقى بشيبته عمر(2)

واستسقى حمزة بن القاسم الهاشمي ببغداد فقال: (أللهم إنا من ولد ذلك الرجل الذي استسقى بشيبته عمر بن الخطاب فسقوا)، فما زال يتوسل حتى سقوا.

وروي أنه لما استسقى عمر بالعباس، وفرغ عمر من دعائه، قال العباس: أللهم إنه لم ينزل من السماء بلاء إلا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه أيدينا إليك

ص:155


1- صحيح البخاري: ج 2، ص 453، كتاب الاستسقاء، باب 6401.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 334.

بالذنوب ونواصينا بالتوبة... وذكر دعاء، فما تم دعاؤه حتى ارتخت السماء بمثل الجبال.

وكذلك يجوز مثل هذا التوسل بسائر الصالحين، وهذا شيء لا ينكره مسلم، بل متدين بملة من الملل)(1).

أقول:

بل ذهب علماء أهل السنة والجماعة كابن قدامة الحنبلي(2) ، والألباني(3) إلى أن الصحابة كانوا يتوسلون بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأحياء، بمن يرون فيه الصلاح فكانوا يستغيثون به إلى الله تعالى فيغاثون؛ وهو ما رواه ابن سعد وغيره عن عامر الخبائري: (أن السماء قحطت فخرج معاوية ابن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون فلما قعد معاوية قال: ابن يزيد بن الأسود الجرشي ؟ قال: فناداه الناس، فأقبل يتخطى فأمره معاوية فصعد المنبر فقعد عند رجليه فقال معاوية: أللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، أللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي(4) ، يا يزيد أرفع يديك إلى الله، فرفع

ص:156


1- شفاء السقام لتقي الدين السبكي: ص 309.
2- المغني لابن قدامة: ج 2، ص 295.
3- رواء الغليل لمحمد ناصر الألباني: ج 3، ص 140.
4- هو: يزيد بن الأسود الجرشي (أبو الأسود) جاهلي، أدرك المغيرة بن شعبة وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سكن الشام وكان من العباد، وقد عده ابن حبان من الثقات، وعده ابن حجر من الصحابة. أنظر: (الثقات لابن حبان: ج 5، ص 533؛ الإصابة لابن حجر: ج 7، ص 24؛ الاستيعاب: ج 4، ص 157).

يزيد ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في المغرب وهبت لها ريح فسقينا حتى كاد الناس لا يصلون إلى منازلهم)(1).

والغريب في الأمر أن الألباني يقر بصحة سند الحادثة قائلا: (وأما توسل معاوية، فأخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخ دمشق (ق 2/13): حدثنا الحكم ابن نافع عن عصفوان بن عمرو عن سليم بن عامر: (إن الناس قحطوا بدمشق فخرج معاوية يستسقي بيزيد بن الأسود) وهذا سند صحيح كما قال الحافظ في التلخيص: (151))(2).

إلا أن السلفية: يرون أن التوسل بالأولياء الصالحين من الشرك؛ فأي تناقض عجيب هذا؟!.

ثانيا: الصحابة يتوسلون إلى الله تعالى بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكشف الضر عنهم

حينما يران على قلوب الذين نافقوا، يصبح التخبط في السير والقباحة في السلوك والفضاحة في القول والفعل أمراً بديهيا.

فهؤلاء المنافقون منذ أن صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يخافون أن تنزل عليهم آية فتفضحهم وتكشف سريرتهم، ولقد سرى هذا الخوف فيهم إلى يوم تبدل الأرض غير الأرض إلا أن الفارق بين الزمانين هو أن

ص:157


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 7، ص 445؛ مقدمة ابن الصلاح: ص 211؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 5، 538؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 8، ص 357.
2- إرواء الغليل لمحمد ناصر الألباني: ج 3، ص 140.

الوحي في عهد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان هو المخبر عنهم، وفي غيره من الأزمنة يكون الأثر النبوي وفعل الصحابة هو الذي يفضحهم، أما الخلف فعلى الرغم من كثرة تقوّلهم بأنهم يقتدون بالسلف، إلا أن الوحي وفعل النبي وسيرة السلف لتكذب هذا الادعاء، وتفضح هذا القول.

فها هو السلف يفضحهم ويظهر كذبهم، ففي الوقت الذي يدّعي هؤلاء بحرمة التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالأولياء الصالحين، بل حرمة السفر إلى زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأولياء.

فإن السلف ولاسيما أمهات المؤمنين يلذن بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكشف الضر عن الأمّة، ليكون هذا الفعل أحد مصاديق سنة الله تعالى في رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإنه المستغاث به إلى الله تعالى.

قال سبحانه:

(وَ ما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )1.

فإذا كان وجوده يدفع عن الأمّة العذاب، وإن الله تعالى لا يعذب أهل الأرض ما زال فيهم رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف لا يكشف الله الضر عن المستغيث إليه بحبيبه محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وبقبره ؟! كما فعلت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:158

قال الحافظ السبكي: (روي عن أبي الجوزاء قال: (قحط أهل المدينة قحطا شديداً فشكوا إلى عائشة، فقالت: فانظروا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاجعلوا منه كوّة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف.

ففعلوا فمطروا، حتى نبت العشب، وسمن الأبل، حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق)(1).

وإذ قد تحررت هذه الأنواع والأحوال في الطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهر المعنى فلا عليك في تسميته (توسلا) أو (تشفعا) أو (استغاثة) أو (تجوها) أو (توجها) لأن المعنى في جميع ذلك سواء:

أمّا التشفُّع: فقد جاء في حديث وفد بني فزارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قولهم: (تشفع لنا إلى ربك)، وفي حديث الأعمى ما يقتضيه أيضا.

والتوسُّل: في معناه.

وأما التوجُّه والسؤال: ففي حديث الأعمى.

والتجوّه: في معنى التوجه، قال تعالى في حق موسى عليه السلام:

(وَ كانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً2.

وقال في حق عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام:

(وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ )3.

ص:159


1- سنن الدارمي: ج 1، ص 44.

وقال المفسرون (وجيها) أي ذا جاه ومنزلة عنده.

وقال الجوهري في فعل (وجه): وجه، إذا صار وجيها ذا جاه وقدر.

وقال الجوهري أيضا في فعل (جوه): الجاه القدر والمنزلة، وفلان ذو جاه، وقد أوجهته ووجهته أنا، أي جعلته وجيها.

وقال ابن فارس: فلان وجيه، ذو جاه.

إذا عرف ذلك، فمعنى (تجوه) توجه بجاهه، وهو منزلته وقدره عند الله تعالى إليه.

وأما الاستغاثة: فهي طلب الغوث.

وتارة: يطلب الغوث من خالقه، وهو الله تعالى وحده، كقوله تعالى:

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ )1.

وتارة: يطلب ممن يصح إسناده إليه على سبيل الكسب، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذين القسمين.

وتعدي الفعل تارة: بنفسه، كقوله تعالى:

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ).

وقال سبحانه وتعالى:

(فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ )2.

ص:160

وتارة: بحرف الجر، كما في كلام النحاة في المستغاث به، وفي (كتاب سيبويه): فاستغاث بهم ليشتروا له كليبا.

فيصح أن يقال: (استغثت النبي صلى الله عليه وآله وسلم) و (أستغيث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) بمعنى واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه على النوعين السابقين في التوسل من غير فرق، وذلك في حياته وبعد موته.

ويقول: (استغثت الله) و (أستغيث بالله) بمعنى طلب خلق الغوث منه، فالله تعالى مستغاث، فالغوث منه خلقا وإيجادا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستغاث، والغوث منه تسببا وكسبا، ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستعمل الفعل متعديا بنفسه، أو لازما، أو تعدى بالباء.

وقد تكون الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه آخر، وهو أن يقول: (استغثت الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) كما يقول: (سألت الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) فيرجع إلى النوع الأول من أنواع التوسل، ويصح قبل وجوده وبعد وجوده، وقد يحذف المفعول به ويقال: (استغثت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا المعنى.

فصار لفظ (الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم) له معنيان: أحدهما: أن يكون مستغاثا.

والثاني: أن يكون مستغاثا به، والباء للاستعانة.

فقد ظهر جواز إطلاق (الاستغاثة) و (التوسل) جميعا، وهذا أمر لا يشك

ص:161

فيه، فإن (الاستغاثة) في اللغة طلب الغوث، وهذا جائز لغة وشرعا من كل من يقدر عليه بأي لفظ عبر عنه، كما قالت أم إسماعيل: أغث إن كان عندك غواث)(1).

ثالثا: القرآن ينص على أن النعم من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم

لم يزل كتاب الله تعالى هو المعني الأول في الدفاع عن شريعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو الرد الذي لا يعييه متزندق بالدين في بيان الحلال والحرام؛ فالقرآن الكريم فضلاً عن بيانه للأصول في دين الله تعالى في كثير من آياته المحكمات يؤصّل لعقيدة التوحيد.

إذ إن الوقت الذي يدعي ابن تيمية والوهابيون بحرمة التوسل إلى الله تعالى بحق النبي أو بجاهه عند الله بحجة أن لا حق لعبد على الله، وأن ذلك من الشرك والعياذ بالله، يأتي القرآن بآية محكمة تلجم تلك الأفواه الهدامة لشريعة المسلمين.

ويكشف القرآن الكريم أيضا عن أن هؤلاء لا يمكن أن يصلوا إلى معرفته وفهمه، ففي الوقت الذي عمي فيه هؤلاء عن الكتاب العزيز عموا أيضا عن قراءة التاريخ الإسلامي.

فهاهو الإمام الصادق عليه السلام في مناظرته مع أبي حنيفة النعمان، يظهر لذوي الألباب أن معرفة التوحيد يجب تحصيلها من أهل القرآن وثقله وهم عترة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن التارك لهم ضال عن طريق الإسلام

ص:162


1- شفاء السقام لتقي الدين السبكي: ص 314-316.

هاوٍ في الفتن والشبهات، مُتردٍّ في المهالك، لا محالة.

أمّا الحادثة فهي كالآتي:

روى أبو الفتح الكراكجي قائلاً: (إن أبا حنيفة أكل طعاماً مع الإمام الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام فلما رفع الصادق عليه السلام يده من أكله قال:

«الحمد لله رب العالمين، أللهم هذا منك ومن رسولك صلى الله عليه وآله وسلم».

فقال أبو حنيفة: أبا عبد الله أجعلت مع الله شريكا؟ فقال له:

«ويلك! فإن الله تعالى يقول في كتابه:

(وَ ما نَقَمُوا إِلاّ أَنْ أَغْناهُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ )1.

ويقول في موضع آخر:

(وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ )2».

فقال أبو حنيفة: ووالله لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت!؟

فقال أبو عبد الله عليه السلام:

ص:163

«بلى قد قرأتهما وسمعتهما، ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك:

(أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)1.

وقال:

(كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ 2»)3.

رابعا: توسل الشيخ عبد الله الميرغني بقبر السيدة خديجة عليها السلام

إنّ مما يدل على تمسك علماء المسلمين بالتوسل إلى الله تعالى بالأولياء الصالحين وأن ما جاء عن ابن تيمية وأشياعه الوهابيين هو أمر خارج عن الشريعة، هو توسل الشيخ الميرغني الحنفي بقبور المسلمين في الحجون كي يكونوا شفعاء له عند أم المؤمنين خديجة عليها السلام لكونهم جيرانها وليحظى في ذلك في إغاثته بما جعل الله تعالى لها من القدر والمنزلة فضلاً عن منزلتها عند حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول الشيخ أبو السيادة عفيف الدين، المحجوب الميرغني(1) ، في كتابه

ص:164


1- عبد الله بن إبراهيم بن حسن بن محمد بن أمين بن الميرغني أبو السيادة، عفيف الدين، المحجوب، فاضل، من فقهاء الحنفية، مولده بمكة، ووفاته بالطائف، لقب بالمحجوب للزومه العزلة في داره نحو ثلاثين سنة.

(المخطوط ) الموسوم: (المقاصد الفخرى في بعض مناقب السيدة خديجة الكبرى)(1) وقد كتبه في جمادى الثانية سنة 1179 ه -، في المدينة المنورة بمسكنه وقد افتتح كتابه هذا بهذه الأبيات متوسلاً بآل الكساء عليهم السلام، فيقول:

بأحمد والبتول وصنو طه وبالحسنين أصحاب الكساء

توسل مستغيثاً مستجيراً وبالأحباب ثم أولي العباء

أما قصيدته فكانت آخر الكتاب وسبقها بقوله:

وهذا آخر الكلام على المقاصد الفخرى في بعض مناقب السيدة خديجة الكبرى نفعنا الله بها في الدنيا والآخرة وقد ألحقتها أبياتاً متوسلاً بجيرانها عليها

ص:165


1- يرقد هذا المخطوط في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق الشام ويحمل الرقم: (4134) وتوجد نسخة أخرى لهذه المخطوطة التي في دمشق هي بخط المؤلف رحمه الله، في سنة 1179 ه -.

ومستغيثاً بها إليها وهي:

أيا عرب الحجون وخير وادٍ تقدس سرمداً أبد الدهور

حويتم للمكارم والمعالي وفزتم بالجنان وبالقصور

وحزتم محشد الشرف المعلى وفقتم بالأصايل والبكور

رقيتم خير مرقى بالمعلى إلى كبرى النساء وخير حور

فطوبى ثم طوبى ثم طوبى لكم يا أهل هاتيك الخدور

ولِمْ لا والخديجة زوج طه حبيبته على مرّ العصور

هي السلطانة العظمى لديكم وهيْ مجد وهيْ بحر البحور

وهِيْ السند العظيم لخير آل ومرجع آل مكة في الأمور

فيا عرب الحجون بكم إليها فإني بالتطاول في القصور

وإني في بحار من ذنوب بلا عد ولا حصر حصور

وها أنا في حماكم مستجير أراقب نجدة من ذي القبور

ومن كبرى الأنام وخير ملجا ومن هي في العلى صدر الصدور

ومن قد غارت الغرّاء منها وزادت في التغاير والغيور

ومن قد بشرت حقا وصدقا ببيت من لآلٍ في القصور

ومن هي آمنت قبل البرايا وثبّتت الرسول على الظهور

ومن هي أثمرت أقطاب كون وأنجاباً وأبدالا بنور

وأشرافا وسادات كراما غياثا للأنام مدى الدهور

عليها من إلهي خير فيض يدوم مع الشمول بلا فتور

مع الآل الكرام وخير صحب عقيب خليلهم حب الشكور

ص:166

المبحث الرابع: زيارتها وإتيان قبرها المهدوم

اشارة

إن من الأسئلة التي تفرض نفسها في البحث هو: إلى أيّة شريعة رجع أولئك الأعراب فأخذوا عنها اباحة هدم قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام وإحدى سيدات الجنة ؟ إلى شريعة الرحمن استندوا، أم إلى شريعة الشيطان التجأوا؟! فإذا كانوا من المسلمين فهؤلاء فقهاؤهم يقولون في زيارة القبور بما يأتي:

المسألة الأولى: مشروعية زيارة القبور عند فقهاء المذاهب الإسلامية

أولاً: زيارة القبور عند أئمة أهل البيت عليهم السلام

1. قال الشهيد الأول قدس سره في كتاب الذكرى: روى مسلم عن بريدة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزورها فإنها تذكرة الآخرة»(1).

2. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:

«زوروا القبور فإنها تذكر الموت»(2).

3. روى الشيخ الكليني عن محمد بن مسلم، عن الصادق عليه السلام، قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«زوروا موتاكم، فإنهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه، وعند قبر أمه، بعد ما يدعو لهما»(3).

ص:167


1- ذكرى الشيعة للشهيد الأول: ج 2، ص 62؛ صحيح مسلم: ج 2، ص 67، ح 977.
2- صحيح مسلم: ج 2، ص 671، ح 976.
3- الكافي للكليني: ج 3، ص 230.

4. وعن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام، قال:

«عاشت فاطمة عليها السلام بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً، لم تر كاشرة ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين: الأثنين، والخميس»(1).

5. وعن يونس عنه عليه السلام:

«ان فاطمة كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت، فتأتي قبر حمزة فترحم عليه وتستغفر له»(2).

قال الشهيد الأول قدس سره: وفيه دليل على جوازه للنساء، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«فاطمة بضعة مني»(3).

6. أما ما يقوله الزائر عند زيارته القبور، فقد روى أبو المقدام عن الإمام الباقر عليه السلام، انه وقف على قبر رجل من الشيعة بالبقيع فقال:

«اللهم ارحم غربته، وصل وحدته، وآنس وحشته، وأسكن إليه من رحمتك رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك، وألحقه بمن كان يتولاه»(4).

ثم قرأ القدر سبعاً.

ص:168


1- وسائل الشيعة (آل البيت) للحر العاملي: ج 3، ص 224.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 181.
3- صحيح البخاري، باب مناقب المهاجرين: ج 4، ص 210.
4- فقه الرضا عليه السلام ابن بابويه القمي: ص 172.

7. عن عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف أسلّم على أهل القبور؟ قال:

«يقول: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا فرط ونحن إن شاء الله بكم لاحقون»(1).

8. وروى الصدوق عن محمد بن مسلم، قلت للصادق عليه السلام: الموتى نزورهم ؟ قال:

نعم.

قلت: أفيعلمون بنا إذا أتيناهم ؟ قال:

قل: اللهم جاف الأرض عن جنوبهم، وصاعد إليك أرواحهم، ولقهم منك رضوانا، واسكن إليهم من رحمتك ما تصل به وحدتهم، وتؤنس به وحشتهم، إنك على كل شيء قدير(2).

9. وروى إسحاق بن عمار عن الكاظم عليه السلام:

«ان الميت يعلم بزائره، ويأنس به، ويستوحش لانصرافه»(3).

10. قال الإمام الرضا عليه السلام:

«من أتى قبر المؤمن، يقرأ عنده إنا أنزلناه سبع مرات، غفر الله له ولصاحب القبر»(4).

ص:169


1- كامل الزيارات لابن قولويه: ص 531.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 18.
3- ذكرى الشيعة للشهيد الأول: ج 2، ص 64.
4- وسائل الشيعة (آل البيت عليهم السلام) للحر العاملي: ج 3، ص 228.

11. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مرّ على القبور قال:

«السلام عليكم من ديار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»(1).

12. روى مسلم عن بريدة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر:

«السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»(2).

13. قال المحقق الحلي قدس سره (المتوفى سنة 676 ه -): (زيارة قبور الأئمة والمؤمنين مستحبة مؤكدة للرجال ويكره للنساء ولا يحرم، وهو مذهب أهل العلم)(3).

14. قال العلامة الحلي قدس سره (المتوفى 726 ه -): (يستحب زيارة مقابر المؤمنين إجماعاً...)(4).

15. قال المحقق البحراني في الحدائق: (في زيارة القبور، وهي مستحبة إجماعاً نصا وفتوى إلا أنّ المحقق - الحلي - في المعتبر وجمعاً ممن تأخر عنه خصوا ذلك بالرجال وكرهوه للنساء)(5).

ص:170


1- من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 180.
2- المغني لعبد الله بن قدامة: ج 2، ص 424.
3- المعتبر للمحقق الحلي، في اعتبار المماثلة: ج 1، ص 339.
4- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 2، ص 128.
5- الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 4، ص 169.

16. قال الشيخ الجواهري قدس سره في استحباب زيارة القبور في الخميس - بعد أن أورد حديث الإمام الرضا عليه السلام:

«من أتى قبر أخيه ثم وضع يده على القبر وقرأ إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرات أمن يوم الفزع الأكبر، أو يوم الفزع».

فانه دال على وضع اليد ولو في غير حال الدفن، كما انه دال على استحباب قراءة إنا أنزلناه، وعلى استحباب زيارة قبور الأخوان كما استفاض به الأخبار، وتداولته الطائفة الأخيار.

وقد حكى الاجماع عليه، العلامة والشهيد بالنسبة للرجال، ويتأكّد استحباب ذلك يوم الاثنين وغداة السبت تأسياً بالمحكي من فعل فاطمة عليها السلام في زيارة قبور الشهداء؛ ومنه يعلم استحباب زيارة النساء للقبور كما نص عليه بعضهم خلافا للمصنف في المعتبر، فكرهه لهن.

بل ظاهره أو صريحه نسبته ذلك فيه إلى أهل العلم، ولكن علله بمنافاته للستر والصيانة، وهو يوحي إلى كراهته لأمر خارج عنه، وإذا استلزم الجزع وعدم الصبر لقضاء الله؛ بل ربما يصل إلى حد الحرمة؛ وأما بدون ذلك فالظاهر الاستحباب للعموم وخصوص بعض الأخبار.

ومن العجيب دعواه للكراهة حتى بالنسبة إلى زيارة الأئمة عليهم السلام، مع كثرة العمومات الدالة على رجحانها المنجبرة بعمل الأصحاب وغير ذلك، فتأمل جيداً.

ويتأكد استحباب الزيارة في الخميس تأسياً بفعل فاطمة عليها السلام

ص:171

أيضاً، وفي نصوص العشية منه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه كان يخرج في ملأ من أصحابه كل عشية خميس إلى بقيع المؤمنين فيقول:

«السلام عليكم يا اهل الديار ثلاثاً».

وربما يفهم من التأمل في الأخبار الفرق بين زيارة القبر الواحد وشبهه وبين زيارة المقبرة فيستحب وضع اليد على القبر وقراءة (إنّا أنزلناه) سبعاً في الأول لما عرفت، وللمرسل عن الرضا عليه السلام:

«ما من عبد زار قبر مؤمن فقرأ عنده إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرات إلا غفر الله له ولصاحب القبر، والسلام ونحوه في الثاني»(1).

وهذا يدل على استحباب زيارة القبور للرجال والنساء وقراءة القدر ونحوه من الأدعية لله تعالى في الترحم والاستغفار لصاحب القبر لما فيه من آثار أخروية واجتماعية وتربوية على الفرد المسلم وعلى أسرته.

ثانياً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب المالكي

1. قال الحطاب الرعيني في المواهب: «قال سيدي عبد الرحمن الثعالبي في كتابه المسمى بالعلوم الفاخرة في النظر في أمور الآخرة: وزيارة القبور للرجال متفق عليها، وأما النساء فيباح للقواعد، ويحرم على الشواب اللواتي يخشى عليهن من الفتنة»(2).

ص:172


1- جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 4، ص 321.
2- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 3، ص 50.

2. وقال الدسوقي في حاشيته في زيارة القبور: (بل هي مندوبة» أي لقوله - (صلى الله عليه وآله وسلم) -:

«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».

ولأحاديث أُخر تقتضي الحث على الزيارة؛ وذكر في المدخل في زيارة النساء للقبور ثلاثة أقوال:

المنع، والجواز على ما يعلم في الشرع من الستر والتحفظ عكس ما يفعل اليوم؛ والثالث: الفرق بين المتجالة والشابة)(1).

3. قال أبو بركات: «وجاز (زيارة القبور)، بل هي مندوبة (بلا حد) بيوم أو وقت أو في مقدار ما يمكث عندها أو فيما يدعى به أو الجميع، وينبغي مزيد الاعتبار حال الزيارة والاشتغال بالدعاء والتضرع وعدم الأكل والشرب على القبور خصوصاً لأهل العلم والعبادة»(2).

ثالثاً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب الحنفي

1. قال السرخسي في المبسوط : (والأصح عندنا أن الرخصة ثابتة - في زيارة القبور - في حق الرجال والنساء جميعاً)(3).

2. قال أبو بكر الكاشاني في البدائع: «فان من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الأحياء جاز ويصل ثوابها إليهم عند أهل

ص:173


1- حاشية الدسوقي: ج 1، ص 422.
2- الشرح الكبير لأبي البركات: ج 1، ص 422.
3- المبسوط للسرسخي: ج 24، ص 10.

السنة والجماعة؛ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته ممن آمن بوحدانية الله تعالى وبرسالته صلى الله عليه وآله وسلم.

وروي أن سعد بن أبي وقاص سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إنّ أمي كانت تحب الصدقة فأتصدق عنها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«تصدق».

وعليه عمل المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا من زيارة القبور وقراءة القرآن عليها والتكفين والصدقات والصوم والصلاة وجعل ثوابها للأموات؛ ولا امتناع في العقل أيضاً؛ لأن الثواب من الله تعالى إفضال منه لا استحقاق عليه فله أن يتفضل على من عمل، لاجعله بجعل الثواب له، كما له أن يتفضل بإعطاء الثواب من غير عمل رأساً)(1).

رابعاً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب الشافعي

1. قال النووي في المجموع: أما الأحكام فاتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب للرجال زيارة القبور وهو قول العلماء كافة»(2).

2. قال الشربيني في الإقناع: «ويندب زيارة القبور التي فيها المسلمون للرجال والنساء بالإجماع»(3).

ص:174


1- بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني: ج 2، ص 212.
2- المجموع للنوري: ج 5، ص 310.
3- الامتناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني: ج 1، ص 192.
خامساً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب الحنبلي

1. قال عبد الله بن قدامة المقدسي: «قال علي بن سعيد: سألت أحمد - بن حنبل - عن زيارة القبور، تركها عنده أفضل أم زيارتها؟

قال: زيارتها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»(1).

سادساً: زيارة القبور عند فقهاء المذهب الظاهري

1. قال ابن حزم: وتستحب زيارة القبور، وهو فرض ولو مرة ولا بأس بأن يزور المسلم قبر حميه المشرك، الرجال والنساء سواء»(2).

وعليه:

فهذه جميع المذاهب الإسلامية تحكم بإباحة زيارة القبور للرجال والنساء، بل تذهب إلى استحبابها للرجال واختلف بعضهم في حكم الكراهة للنساء بين العموم والخصوص كما مرّ بيانه.

ولذلك: لم يكن لأولئك الأعراب شريعة إسلامية يستندون إليها في أحكامهم وصدور فتاواهم وذلك؛ لأنهم من الأصل.

(أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 3.

ص:175


1- المغني لابن قدامة: ج 2، ص 424.
2- المحلى لابن حزم: ج 5، ص 161.

المسألة الثانية: زيارة خديجة عليها السلام في مدرسة أهل البيت عليهم السلام والصلاة عليها

أولاً: الصلاة عليها في يوم الجمعة
اشارة

إن من البديهيات في مذهب الإمامية هو رجوعهم في تكاليفهم الشرعية إلى الثقلين (القرآن والعترة النبوية)، وحيث إن زيارة خديجة والصلاة عليها من البعد أو القرب حيث الوقوف عند حضرتها المشرفة وروضتها الفردوسية كان يرجع فيه أتباع هذه المدرسة إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام.

فأما إتيان قبرها (صلوات الله وسلامه عليها) فقد دلت الروايات على أن الإمام أبا عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام كان قد تعاهد قبرها بالزيارة والدعاء والمناجاة لله رب العالمين - كما مرّ بيانه سابقاً - وأما من البعد فقد روى شيخ الطائفة الطوسي رضوان الله تعالى عليه عن أبي المفضل الشيباني قال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد العابد بالدالية لفظاً، قال: سألت مولاي أبا محمد الحسن بن علي عليهما السلام في منزله بسر من رأى، سنة خمس وخمسين ومائتين أن يُمليء عليَّ من الصلاة على النبي وأوصيائه عليه وعليهم السلام، وأحضرت معي قرطاسا كثيراً فأملى عليّ لفظاً من غير كتاب.

فقال عليه السلام:

«اللهم صل على محمد كما حمل وحيك وبلغ رسالاتك، وصل على محمد كما أحل حلالك وحرم حرامك وعلم كتابك،

ص:176

وصل على محمد كما أقام الصلاة وأتى الزكاة ودعا إلى دينك، وصل على محمد كما صدق بوعدك وأشفق من وعيدك، وصل على محمد كما غفرت به الذنوب وسترت به العيوب، وفرجت به الكروب، وصل على محمد كما دفعت به الشقاء، وكشفت به العماء، وأجبت به الدعاء، ونجيت به من البلاء، وصل على محمد كما رحمت به العباد، وأحييت به البلاد، وقصمت به الجبابرة، وأهلكت به الفراعنة، وصل على محمد كما أضعفت به الأموال، وحذرت به من الأهوال، وكسرت به الأصنام، ورحمت به الأنام وصل على محمد كما بعثته بخير الأديان، وأعززت به الايمان، وتبرت به الأوثان، وعصمت به البيت الحرام، وصل على محمد وأهل بيته الطاهرين الأخيار وسلم تسليما».

الصلاة على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:

«اللهم صل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أخي نبيك ووليه ووصيه ووزيره، ومستودع علمه، وموضع سره، وباب حكمته، والناطق بحجته والداعي إلى شريعته، وخليفته في أمته، ومفرج الكروب عن وجهه، وقاصم الكفرة، ومرغم الفجرة، الذي جعلته من نبيك بمنزلة هارون من موسى، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من نصب له من الأولين والآخرين، وصل عليه أفضل ما صليت على أحد من أوصياء أنبيائك يا رب العالمين.

ص:177

الصلاة على السيدة فاطمة عليها السلام:

«اللهم صل على الصديقة فاطمة الزهراء الزكية، حبيبة نبيك، وأم أحبائك وأصفيائك، التي انتجبتها وفضلتها، واخترتها على نساء العالمين، اللهم كن الطالب لها ممن ظلمها، واستخف بحقها، اللهم وكن الثائر لها [اللهم] بدم أولادها، اللهم وكما جعلتها أم أئمة الهدى، وحليلة صاحب اللوا الكريمة عند الملأ الاعلى، فصل عليها وعلى أمها خديجة الكبرى، صلاة تكرم بها وجه محمد صلى الله عليه وآله وتقر بها أعين ذريتها وأبلغهم عني في هذه الساعة أفضل التحية والسلام».

الصلاة على الحسن والحسين عليهما السلام:

«اللهم صل على الحسن والحسين عبديك وولييك وابني رسولك، وسبطي الرحمة، وسيدي شباب أهل الجنة، أفضل ما صليت على أحد من أولاد النبيين والمرسلين، اللهم صل على....»(1).

وهذه الصلوات على محمد وآله الأئمة المعصومين عليهم السلام جاءت مخصصة بأسمائهم جميعاً إلى خاتمهم المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه أجمعين.

ثانياً: أقوال الفقهاء في زيارة قبر أم المؤمنين خديجة عليها السلام

1. قال الشهيد الأول(2) قدس سره (المتوفى سنة 786 ه -): (ويستحب

ص:178


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ص 401؛ جمال الأسبوع لابن طاووس: ص 297؛ البحار للمجلسي: ج 91، ص 74.
2- مرّ ذكر ترجمته رضوان الله تعالى عليه في مبحث البرزخ فليراجع.

أن يزور خديجة عليها السلام بالحجون، وقبرها معروف هناك قريب من سفح الجبل)(1).

3. قال المحقق النراقي (المتوفى عام 1244 ه -): «ومما عده بعضهم من المستحبات: إتيان بعض المواضع المتبركة بمكة، كمولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنزل خديجة، وزيارة قبر خديجة...»(2).

وقال أيضاً في تحديد موضع قبرها نقلاً عن والده رحمه الله: قبر خديجة، وهو في مقابر معلاة، قريب بانتهاء المقابر في سفح الجبل، وله قبة معروفة، أصل القبة بيضاء وحيطانها صفراء، وتستحب زيارتها»(3).

قال العلامة المجلسي، في الأيام الشريفة التي يستحب فيها زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فَعَدَّ (منها يوم عاشر شهر ربيع الأول: وكذا يستحب فيه زيارة خديجة، وكذا ساير الأيام والليالي المختصة به)(4).

2. ذكر المحقق السبزواري قدس سره (المتوفى سنة 1090 ه -) في ذخيرة المعاد: - إنّ من المستحبات في مكة أموراً، وعد منها - زيارة خديجة عليها السلام بالحجون(5).

ص:179


1- الدروس للشهيد الأول: ج 1، ص 469.
2- مستند الشيعة للمحقق النراقي: ج 13، ص 96.
3- المصدر السابق.
4- البحار للمجلسي: ج 97، ص 169.
5- ذخيرة المعاد للمحقق السبزواري: ج 1، ق 3، ص 695.

3. قال السيد محسن الحكيم قدس سره (المتوفى 1390 ه -): ويستحب زيارة خديجة بالحجون، وقبرها هناك معروف في سفح الجبل، وأن يزور قبر أبي طالب)(1).

4. وذكر الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء قدس سره في القلائد، قوله: (ويستحب زيارة خديجة بالحجون)(2).

5. وقال السيد محمد رضا الكلبايكاني قدس سره: يستحب مؤكدا للحاج مدة بقائه بمكة عدة أمور - وعد منها - زيارة قبر خديجة الكبرى، وقبرها بالحجون معروف في سفح الجبل(3).

6. وقال السيد عبد الأعلى السبزواري قدس سره: (ويستحب زيارة قبر خديجة عليها السلام المعروفة بالمعلى؛ لأنها أم المسلمين ومن بر الأولاد بأمهم زيارة قبرها بعد ارتحالها مع أنها بذلت نهاية جهدها في خدمة سيد المرسلين ومالها في نشر دعوة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير ذلك من مفاخرها التي ملأت كتب الفريقين، فمن شك بعد ذلك في رجحان زيارتها فهو عاق لأمه)(4).

وغير ذلك من أقوال فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام الذين اتبعوا

ص:180


1- دليل المناسك للسيد محسن الطباطبائي الحكيم: ص 489.
2- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السيلاوي: ص 404، نقلاً عن: قلائد الدرر في مناسك من حج واعتمر: ص 143.
3- مناسك الحج للسيد الكلبايكاني: ص 167، ص 168.
4- مهذب الأحكام للسيد السبزواري: ج 14، ص 401.

سبيل آل محمد وساروا بهديهم وتمسكوا بحجزتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، في تعظيم حق أم المؤمنين خديجة عليها السلام وبرها بعد وفاتها من خلال زيارة قبرها والتوسل إلى الله تعالى بها فإن لها شأناً عند الله تعالى وجاهاً، ومنزلة عظيمة.

ثالثاً: نص زيارتها
اشارة

أما بخصوص ما يقوله الزائر لحضرتها المشرفة فقد جاء فيها عن السيد التقي القمي زاد الله في شرفه: (لا ريب ولا إشكال في أنّ الإتيان بهذه الزيارة من القريب أو البعيد رجاء لا يكون فيه خلاف فإن باب الرجاء واسع ويمكن الاستدلال على رجحان زيارتها بأنها مقربة عند الله تعالى وعند الرسول وعند أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والأئمة عليهم السلام؛ ولكن مقتضى الاحتياط التام أن لا يقصد بزيارتها الورود بل يقصد الرجاء والله العالم بحقائق الأشياء)(1).

ألف: نص ما جاء من زيارتها في روضات الجنات

السلام عليك يا أم المؤمنين؛ السلام عليك يا زوجة سيد المرسلين؛ السلام عليك يا أم فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين؛ السلام عليك يا أول المؤمنات؛ السلام عليك يا من أنفقَتْ مالها في نصرة سيد الأنبياء؛ ونصرته ما استطاعت؛ ودافعت عنه الأعداء؛ السلام عليك يا من سلم عليها جبرئيل

ص:181


1- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السيلاوي: ص 406.

وبلَّغَها السلام من الله الجليل؛ فهنيئا لك بما أولاك الله من فضل؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته)(1).

باء: نص ما جاء في زيارتها في كتاب آداب الحرمين

(السلام عليك يا زوجة رسول الله سيد المرسلين، السلام عليك يا زوجة نبي الله خاتم النبيين، السلام عليك يا أم فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين؛ السلام عليك يا أول المؤمنات؛ السلام عليك يا من أنفقت مالها في نصرة سيد الأنبياء ونصرته ما استطاعت ودافعت عنه الأعداء؛ السلام عليك يا من سلم عليها جبرئيل وبلغها السلام من الله الجليل؛ فهنيئا لك بما أولاك الله من فضل؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته).

وذكرها في المنتخب الحسني، وذكر السيد البطحائي زيارة أخرى:

(السلام عليك يا زوجة رسول الله سيد المرسلين؛ السلام عليك يا زوجة نبي الله خاتم النبيين؛ السلام عليك يا أم فاطمة الزهراء؛ السلام عليك يا أم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة أجمعين؛ السلام عليك يا أم الأئمة الطاهرين؛ السلام عليك يا أم المؤمنين؛ السلام عليك يا أم المؤمنات؛ السلام عليك يا خالصة المخلصات؛ السلام عليك يا سيدة الحرم وملكة البطحاء؛ السلام عليك يا أول من صدقت برسول الله من النساء؛ السلام عليك يا من وفت بالعبودية حق الوفاء؛ وأسلمت نفسها وأنفقت مالها لسيد الأنبياء؛ السلام عليك يا قرينة حبيب

ص:182


1- مفتاح الجنات للسيد محسن الأمين: ص 306. مناسك الحج للسيد الكلبايكاني: ص 169.

إله السماء؛ المزوجة بخلاصة الأصفياء؛ يابنة إبراهيم الخليل؛ السلام عليك يا حافظة دين الله؛ السلام عليك يا ناصرة رسول الله؛ السلام عليك يا من تولى دفنها رسول الله؛ واستودعها إلى رحمة الله، أشهد أنك حبيبة الله، وخيرة الله؛ وأن الله جعلك في مستقر رحمته؛ في قصر من الياقوت والعقيان في أعلى منازل الجنان؛ صلى الله عليك ورحمة الله وبركاته)(1).

تم بحمد الله ومَنِّهِ وسابق لطفه وكرمه.

(وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ )2.

السيد نبيل قدوري حسن الحسني

مكتبة العتبة الحسينية المقدسة

ص:183


1- الأنوار الساطعة: ص 407

قال:

«طوبى شجرة أصلها في حجرة علي عليه السلام، وليس في الجنة حجرة إلا فيها غصن من أغصانها»(1).

3. وعن معاوية بن حمزة، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«طوبى شجرة غرسها الله بيده نفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وأن أغصانها لترى من وراء سور الجنة»(2).

4. عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:

لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛

(طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) .

قام المقداد بن الأسود الكندي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا رسول الله وما طوبى»؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يا مقداد شجرة في الجنة لو يسير الراكب الجواد لسار في ظلها مائة عام قبل أن يقطعها،

ص:184


1- تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 59، ط دار المعرفة - بيروت؛ بحار الأنوار: ج 71، ص 372؛ تفسير العياشي لمحمد بن مسعود: ج 2، ص 212، ح 48، ط المكتبة العلمية الإسلامية - طهران.
2- تفسير الثعلبي: ج 5، ص 2288؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 183، ص 219؛ تفسير فرات الكوفي: ص 208، ح 277 و 279.

وورقها وبسرها برود خضر، وزهرها رياض صفر، وأفنانها سندس واستبرق، وثمرها حلل خضر، وصمغها زنجبيل وعسل وبطعاؤها ياقوت وزمرد أخضر، وترابها مسك وعنبر وكافور أصفر وحشيشها زعفران يتأجج من غير وقود يتفجر من أصلها السلسبيل والرحيق والمعين وظلها مجلس من مجالس شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(1).

المسألة الثانية: إنها خلقت من سفرجل الجنة

عن الزهري عن سعيد بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أتاني جبرائيل عليه الصلاة والسلام بسفرجلة من الجنة فأكلتها ليلة أُسريَ بي فعلقت خديجة بفاطمة، فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة»(2).

يمكن لنا أن نفهم العلة من خلق فاطمة عليها السلام من هذه الثمرة من خلال بعض الأحاديث الشريفة، ومنها:

1 - روى الحر العاملي رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«ما بعث الله عزّ وجل نبياً إلا ومعه السفرجل»(3).

ص:185


1- تفسير سعد السعود لابن طاووس: ص 109، ط منشورات الرضي؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 496؛ البحار للمجلسي: ج 65، ص 72، ح 131.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 156؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 109، ح 34228؛ تذكرة الموضوعات للفتني: ص 99؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 153.
3- وسائل الشيعة: ج 17، ص 131.

2 - وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«وما بعث الله نبياً إلا أطعمه من سفرجل الجنة فيزيد فيه قوة أربعين رجلاً»(1).

3 - قال الإمام الرضا عليه السلام:

«ما بعث الله نبياً إلا أوجد منه ريح السفرجل»(2).

ولعل هذا هو أحد الأسباب التي أطعم فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفرجل فتحول ماءً في صلبه صلى الله عليه وآله وسلم لتلد خديجة عليها السلام الحوراء الإنسية صلوات الله عليها وليكون أولادها الأئمة يحملون من القوة ما يحملها الأنبياء عليهم السلام.

المسألة الثالثة: خلقها من رطب الجنة

عن الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله أخبرني عن الجنة والنّار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال:

نعم وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء.

قال: فقلت له: إن قوماً يقولون: إنهما مقدّرتان غير مخلوقتين، فقال عليه السلام:

ما أولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة والنار فقد

ص:186


1- بحار الأنوار: ج 63، ص 177.
2- المصدر السابق.

كذَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذَّبنا وليس من ولايتنا على شيء، وخلّد في نار جهنم، قال الله عزّوجلّ :

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ )1 .

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرائيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته فتحول ذلك نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة»(1).

المسألة الرابعة: إنها عليها السلام خلقت من تفاحة من الجنة

عن ابن عمارة عن أبيه عن جابر، عن أبي جعفر - الباقر - عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك تلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك ؟

فقال:

إن جبرائيل عليه السلام أتاني بتفاحة من الجنة فأكلتها فتحولت ماء في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة فأنا

ص:187


1- بحار الأنوار: ج 8، ص 119؛ الأمالي للصدوق: ص 546، ح 7/728؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 2، ص 191.

أشم منها رائحة الجنة»(1).

ورد في الحديث لفظ «أحد بناتك» وقلنا في الفصول السابقة إن المراد بكلمة «بناتك» الربائب لأن العرب اعتادت أن تطلق على الربيبة اسم البنت فكان هذا هو لسانهم الذي بعث عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى:

(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )2 .

المسألة الخامسة: إنها خلقت من جميع ثمار الجنة

اشارة

عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة عليها السلام فقالت له عائشة: «بأبي أنت وأمي إني أراك تكثر تقبيل فاطمة» فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن جبرائيل ليلة أسري بي أدخلني الجنة وأطعمني من جميع ثمارها فصار ذلك ماء في صلبي فحملت مني خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت إلى تلك الثمار قبلت فاطمة فأصبت من ريح تلك الثمار التي أكلتها»(2).

ص:188


1- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 183، الباب 147، ح 1؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 5، حديث 4؛ تاريخ بغداد للخطيب: ج 5؛ ص 17؛ دلائل الإمامة الطبري: ص 146، ح 54.
2- ذخائر العقبى لمحب الدين الطبرسي: ص 36؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ج 1،
بعض دلالات الحديث:
أولاً: (فأصبت من ريح تلك الثمار)

هذا الحديث جاء ليعطي صورة أخرى لعلة تقبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة عليها السلام، وهو يقرب المعنى أكثر ممّا مرَّ في الحديث السابق. إلا أن الصورة الجديدة هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرح لعائشة بأن رائحة فاطمة عليها السلام هي رائحة ثمار الجنة. فكيف يمكن أن تكون صفة هذه العطور؟ الله ورسوله أعلم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحيد الذي أكل من جميع هذه الثمار، وهو الوحيد الذي شم عطرها.

ثانياً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاشتياق إلى الجنة

إن الأمر الآخر الذي يظهر من خلال هذا الحديث أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الشوق إلى الجنة وكثرة الشوق دفعته إلى كثرة التقبيل لابنته الحوراء الإنسية الزهراء عليها السلام. وهو ما أثار اهتمام عائشة قائلة له صلى الله عليه وآله وسلم: (إني أراك تكثر تقبيل فاطمة)(1).

ص:189


1- للأحاديث الشريفة التي مر ذكرها في خلق فاطمة من ثمار الجنة دلالات كثيرة لا يسعنا ذكرها هنا، ولقد قمنا بذكرها في كتاب (هذه فاطمة) وهو قيد التنضيد والاخراج والله الموفق لكل خير.

المبحث الثاني: التهيئة النبويّة لنزول الأنوار الفاطمية

اشارة

تناولنا بحمد الله وتوفيقه في المبحث السابق الأحاديث التي تخبر عن خلق فاطمة من ثمار الجنة وفي هذا المبحث نتعرض لنفس المعنى لكن الاختلاف بين هذا المبحث وذاك هو أننا نعرض هنا الأحاديث التي تخبر عن نزول جبرائيل عليه السلام بثمار من الجنة إلى الأرض بينما كان الحديث في المبحث السابق يخص تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في السماء في رحلة الإسراء والمعراج.

ومن هنا، فإن جميع هذه الأحاديث التي في المبحثين تنص على مسألة واحدة، هي: أن النطفة النورانية الزكية التي خلقت منها البضعة النبوية، والصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت من عالم الأمر، وعالم النور، من خلال ثمار الجنة.

أما كيف يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وتلك السابقة وبخاصة أن فاطمة الزهراء سلام الله عليها قد ولدت بعد المعراج بسنتين، أي إن هذه الثمار بقيت سنتين في بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومفاد الأحاديث يخبر عن انتقال هذا النور إلى خديجة عليها السلام بعد هذه المرحلة السماوية وهو محل إشكال ؟!

والجواب على ذلك من وجهين:

الوجه الأول

هو أن هذه الثمار لا يمكن قياسها بعالم الدنيا وثمارها، وأن هذه الثمار

ص:190

تحمل من المعاني الدنيوية المسميات لغرض بيان دلالة اللفظ الذي يطلق على هذه الثمرة أو تلك، ولكي يتناسب ذلك مع العقل البشري ولا تمجه أذهانهم، فالناس ليسوا على مستوى واحد من الإدراك والاستيعاب للحقائق.

وعليه فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراد أن يبين للناس منزلة فاطمة صلوات الله عليها ومقاماتها صاغ الأمر بشكله الذي يستوعبه السامع، أمّا بواطن الكلمات وألطاف معانيها فهو لذوي القلوب النيرة والآذان الواعية.

ومن هنا فإن معنى تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة في الإسراء والمعراج كان لغاية واحدة، هذه الغاية هي انتقال النور الإلهي إلى صلب النبوة، وإن الحكمة الإلهية اقتضت أن يتم انتقال هذا النور على مرحلتين، المرحلة الأولى: تتم في الإسراء والمعراج وفي مكان خاص من السماء وهي السماء السادسة التي جعل الله فيها الجنة وأن يكون المرشد والطاعم والدليل هو روح القدس وأمين الوحي جبرائيل عليه السلام وإن يكون هذا النور ضمن هيئة خاصة وعناصر محددة من اللون والطعم والرائحة، فكل لون من الألوان له أسراره الخاصة به ومدلولاته الكونية، فلذا ترى تعدّدت الثمار من: «رطبٍ ، وتفاحٍ ، وسفرجل»، مع ثمرة شجرة طوبى التي لم تصرح الرواية عن طبيعتها ولم تذكر صفاتها.

كل ذلك لأسرار خاصة بنور فاطمة صلوات الله عليها، فهذه هي الغاية التي من أجلها تناول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في

ص:191

الجنة، وليست الغاية هي تذويق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الثمار؛ إذ ما أسهل ذلك عليه وهو الذي يبيت عند ربه كل ليلة وله مُطعم يطعمه وساقٍ يسقيه(1)! فهذه هي المرحلة الأولى من انتقال النور من عالم الأمر، أي عالم السماء إلى عالم الشهادة، إلى الأرض.

ثم تكون المرحلة الثانية من نزول النور وانتقاله إلى الأرض من خلال نزول جبرائيل عليه السلام حاملاً لهذه الثمار فيضاف إليها (العنب).

وعليه: فيمكن أن يكون هذا النور قد انتقل إلى صلب النبوة مفرقاً على هيئة شعبتين، الأولى كانت في الجنة، والثانية كانت في الدنيا لتُجْمع هاتان الشعبتان في صلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض.

الوجه الثاني

اشارة

إنّ من خواص بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو حفظ ما يرد إليه من الأنوار الإلهية والفيوضات الرحمانية لتناسب طبيعة بدنه المقدس مع هذه الأنوار بأمر الله عزّوجلّ .

نضيف إلى ذلك أن من المعاجز النبوية التي فاقت معجزة إبراهيم الخليل عليه السلام هي معجزة احتفاظ بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالسم الذي قدمته إليه اليهودية الخيبرية لشهور عديدة حتى ظهر أثره عليه وتوفي شهيداً، وهي حقيقة نص عليها الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في بيانه

ص:192


1- صحيح البخاري، كتاب الصيام، باب: الوصال، برقم 1863؛ ومسلم في صحيحه، كتاب الصوم، باب: الوصال، برقم 1105.

خاتمة العترة و اختياره - تعالى - لهم من الشهادة فقال:

«ما منا ألا مسموم أو مقتول»(1).

وعليه: فإن بقاء ماء هذه الثمار في بدنه المقدس وفي صلبه النوراني النبوي أولى من بقاء نار السم الذي قدمته إليه اليهودية.

أما العلة في بقاء السم دون ظهور أي إشارة فذلك لكونه أفضل الأنبياء والمرسلين وهذا التفضيل يقتضي الشدة في الابتلاء، وقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أشد الناس بلاءً؟ فقال:

«الأنبياء ثم الأوصياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل»(2).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(3).

وأن يأتي بجميع معاجز الأنبياء عليهم السلام وبشكل أكبر وأقوى من معاجزهم ومنها معجزة إبراهيم الخليل عليه السلام فكانت معجزة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكبر من ذلك؛ إذ بقاء النار في جوف الإنسان وفي داخل بدنه لشهور عديدة أكبر وأعظم بكثير من معجزة دخول إبراهيم عليه السلام النار للحظات والخروج منها بإذن الله تعالى.

ص:193


1- كفاية الأثر للخزاز القمي: ص 227؛ البحار للمجلسي: ج 27، ص 218.
2- الدعوات لقطب الدين الراوندي: ص 167؛ وأخرجه أحمد والترمذي بلفظ مقارب: مسند أحمد: ج 1، ص 172؛ سنن الترمذي: ج 4، ص 28.
3- تفسير الرازي: ج 4، ص 175؛ البحار للمجلسي: ج 39، ص 56؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 42.

وهي حقيقة احتج بها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على بعض اليهود الذين جاءوه يسألون عن علة تفضيل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على بقية الأنبياء عليهم السلام وهو لم يؤتَ بمعاجزهم فقال عليه السلام فيما أوتي إبراهيم من معجزة النار فكانت برداً وسلاماً:

(محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصيّر الله السم في جوفه برداً وسلاماً إلى منتهى أجله، فالسم يحرق إذا استقر في الجوف كما أن النار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره)(1).

إذن:

كان الوجه الثاني: هو احتفاظه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا النور أو بماء هذه الثمار في صلبه لمدة عامين أو أكثر بأمر الله تعالى. حتى حان الإذن الإلهي في انتقال هذه النطفة إلى الطاهرة خديجة عليها السلام.

وفيما يأتي نذكر هذه الأحاديث ونشير إلى معانيها التي وفقنا الله لبيانها والإشارة إليها بشفاعة البضعة المحمدية صلوات الله عليها.

المحور الأول: أحاديث اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس ومنهم أم المؤمنين خديجة عليها السلام

«الله يأمر النبي بالتهيؤ لنزول أمرِ مهمٍّ ».

الحديث الأول؛ روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان جالساً

ص:194


1- الاحتجاج للطبرسي، احتجاجه عليه السلام على اليهود: ج 1، ص 314؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 186؛ البحار للمجلسي: ج 10، ص 33.

بالأبطح ومعه عمّار بن ياسر، ومنذر بن الضحضاح، وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وجماعة إذ هبط عليه جبرائيل عليه السلام في صورته العظمى قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه:

يا محمد العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لها محبّاً وبها وامقاً.

قال: فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتّى إذا كان في آخر أيامه ذلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها:

يا خديجة لا تظني أنّ انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكن ربّي عزّوجلّ أمرني بذلك لتنفيذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا فإن الله عزّوجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كلّ يوم مراراً، فإذا جنك الليل فأجيفي الباب وخذي مضجعك من فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مراراً لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1).

هذه المقطوعة اقتطعناها من حديث طويل سنورد بقية ما جاء فيه في المبحثين القادمين مع ما يناسبها من أحاديث أخرى.

ص:195


1- بحار الأنوار: ج 16، ص 78-79، ح 20؛ الخصائص الفاطمية للكجوري: ج 1 ص 343-344؛ الأنوار البهية للشيخ عباس القمي: ص 53-54.

دلالات البحث في الحديث:

إن الحديث يبين لنا أنّ الله عزّوجلّ يأمر نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بالتهيئة والاستعداد لتلقي أمر معين وأن هذه الترتيبات وهذا التأهب يظهر أهمية هذا الأمر وعظم منزلته عند الله تبارك وتعالى. وهو ما نرجو أن يوفقنا الله لبيانه من خلال هذه المسائل.

المسألة الأولى: (لماذا الاعتزال لمدة أربعين يوماً؟)

أولاً: (الاعتزال)

وهو منهج من مناهج القرآن الكريم وطريقة من طرق الأنبياء والمرسلين، وأسلوب تعبدي من أساليب الأولياء والصالحين بالتقرب إلى رب العالمين، وهو من الرياضات الروحية التي اعتمدت عليها مدارس العرفان لاسيما إذا توج بالتفكر والتأمل.

والقرآن الكريم يعرض هذا المنهاج التعبدي التقربي في مواضع عدة ليبين آثاره على من انتهجه وسلكه ومن ذلك قوله عزّوجلّ في أصحاب الكهف:

(وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً)1 .

فهذه الآية الكريمة ترشد العارف إلى خاصّتين من خواص الاعتزال إحداهما إنه يمنح المنتهج له آثار رحمة الله فيكون مستحقاً لهذه الرحمة فينشرها الله عليه.

ص:196

والأخرى أن الله عزّوجلّ يهيئ للمتقرب إليه بهذه العبادة سبل النجاة وطرق الخلاص من المهلكات. كما كان واضحاً من حال هذه النخبة المؤمنة التي انتهجت هذا النهج التعبدي، لأن أهم ما في هذا النهج أنه يرشد صاحبه إلى نبع الإخلاص فيروى القلب بمائه الصافي والروح بعذبه الفراتي.

ومن هنا نجده مرافقاً لأولياء الله عزّوجلّ ، لأن الإخلاص غايتهم الموصولة إلى رياض القدس الإلهية وموجب لنزول الفيوضات الربانية، كما كان حال العذراء مريم عليها السلام ونهجها التجردي الاعتزالي التعبدي إلى الله عزّوجلّ فكانت لا ترى أحداً ولا يراها أحد إلا نبي الله زكريا عليه السلام فلم تأخذها العاطفة إلى أهلها والشوق إلى خاصتها وذويها لأن الإخلاص لله غايتها، قال تعالى:

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)1 .

فكانت بهذا النهج قد حازت على الاصطفاء والطهر من الله عزّوجلّ ، وأصبحت موضعاً لامتداد النبوة، فمن خلالها لحق عيسى بإبراهيم عليهما السلام.

ثم ينقل القرآن الكريم صورة أخرى لهذا النهج التعبدي، ورائداً آخر من رواد هذا الصرح الولائي لله عزّوجلّ لنلمس جانباً آخر من جوانب رحمة الله، وأثراً خاصاً من آثار عناية الله، ولوناً جديداً من ألوان المنّ الإلهي والفضل

ص:197

المولوي والعطاء الرباني على عبده ونبيه وخليله إبراهيم عليه السلام.

فنبي الله إبراهيم أيضاً قد سلك هذا المسلك وتقرب إلى الله عزّوجلّ بهذا النوع من العبادة متقرباً بالإخلاص من خلاله إلى الله تعالى فكان ذلك سبباً لنزول الرحمة الإلهية واختصاصه بالأفضال الربانية وموجباً للعناية الإلهية بعد طول عناء وجهد واجتهاد.

قال تعالى:

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا)1 .

فكان (اعتزال) إبراهيم الخليل عليه السلام لقومه وما يعبدون من دون الله سبباً في نزول الرحمة الإلهية فوهب له عزّ شأنه الذريّة وخص هذه الذرية بالنبوة.

ومن هنا: يظهر لنا بعض أوجه الحكمة في اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليها السلام متعبداً بهذا النهج وكان مع اعتزاله صائماً في النهار وقائماً في الليل يتقرب إلى الله بأحب العبادات إليه وأوصلها إلى قربه ليلمس آثار رحمة الله العظمى ويتلقى الهبة الربانية والتحفة الإلهية وليعطى ما لم يعطِه الله لأحدٍ من العالمين، فهذه فاطمة عليها السلام، أي إن الله أعطاه الأخيار، وحقة الأنوار، وأمّة الملك الجبار، وأم الأئمة الأطهار صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

ص:198

ثانياً: علم الأعداد والحروف وشرافة العدد أربعين

يعدُّ علم الأعداد أحد أهم علوم أرباب الأسرار وأهل العرفان، والمتصوفة، وكان له رواج كبير لدى العلماء السابقين، أما المتأخرون فما يزال هناك من يأنس بهذا العلم لاسيما المهتمين منهم بالأمور العرفانية، وقد وردت معانٍ كثيرة لخواص هذا العدد في أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام(1).

ونحن لا نريد أن ندخل في هذا العلم وأبوابه الواسعة وأسراره الخفية فلهذا العلم أهله وحملته إلا أننا نقول فيما يخص الأعداد، وبخاصة فيما نحن بصدده وهو العدد «أربعون» - الذي جاءت به الرواية من خلال ما ذكره جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما حدد له المدة في الاعتزال - نقول: إن لهذا العدد سره الدفين الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم وهم محمد وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم. فهم العارفون بخصائصه الغيبية. إلاّ أننا يمكن أن نصل إلى قناعة في أهمية هذا العدد وآثاره الغيبية من خلال: (القرآن والعترة المحمدية).

بعض الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن العترة المحمدية تعرض لنا بعض الحقائق المرتبطة بالأنبياء وعلاقتهم مع هذا العدد.

قال تعالى:

(وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ

ص:199


1- تفسير الثقلين: ج 1، ص 162.

ظالِمُونَ )1 .

فالقرآن يعرض لنا في هذه الآية المدة التي غاب فيها موسى عليه السلام عن قومه وبعد انتهاء هذه المدة، أي الأربعين يوماً فإن القوم انقلبوا على أعقابهم واتخذوا عبادة العجل.

ثم يبين القرآن الكريم في نفس المجال فيطلق على هذا العدد ب - «الميقات» فيقول عزّوجلّ :

(وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً )2 .

فالآية هنا تشير إلى سر خفي في هذا العدد الذي به يتم الميقات الإلهي.

والقرآن لا يقتصر في أسرار هذا العدد على الأنبياء عليهم السلام بل ينقل لنا صورة عن العقاب الإلهي للظالمين فيقول تعالى:

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ )3 .

وهم قوم نبي الله موسى الذي رفضوا دخول الأرض المقدسة فتاهوا أربعين سنة في البيداء.

ص:200

ثم ينتقل القرآن الكريم إلى مجال آخر فيشير إلى تكرر هذا العدد في موضع جديد هو كمال العقل والأشد، قال تعالى:

(حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )1 .

ومن هنا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد هبط عليه جبرائيل عليه السلام في الأربعين من عمره الشريف فبعثه الله رحمة للعالمين.

أما ما جاء في الأحاديث الواردة عن العترة الطاهرة فكثيرة في هذا المجال، نذكر ما تيسر منها تيمناً.

فقد ورد ذكر هذا العدد في حفظ الأحاديث النبوية، وأثر هذا الحفظ المقيد بالأربعين حديثاً على الإنسان في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في دينه يريد وجه الله عزّوجلّ والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً»(1).

وقد ورد أيضاً ذكر هذا العدد وبيان آثاره على من أخلص لله عزّوجلّ مدّة من الزمن بتمامه، فعن أبي جعفر الباقر عليه الصلاة

ص:201


1- بحار الأنوار: ج 2، ص 153 و 154، ح 3 و 5 و 6؛ الخصال للصدوق: ص 542، ح 17؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 8، ص 45، ح 595.

والسلام أنه قال:

«ما أخلص عبد الإيمان لله أربعين يوماً أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوماً إلا زهدّه الله في الدنيا وبصَّره داءها ودواءها وأثبتت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه»(1).

وجاء ذكره في مَن أراد التوجه إلى الله عزّوجلّ بالدعاء وطلب الاستجابة في قضاء الحوائج أن يقدم الاستغفار لأربعين مؤمناً ويدعو لهم حتى يضمن لنفسه الاستجابة وقضاء الحاجة.

فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«من قدّم في دعائه أربعين من المؤمنين ثم دعا لنفسه استجيب له»(2).

ومنه جاء الاستحباب في تقديم أربعين مؤمناً يعدّهم بأسمائهم ويستغفر لهم في صلاة الوتر من نافلة الليل قبل أن يستغفر لنفسه.

ومن الأسرار الخفية في قضاء الحوائج هو اجتماع أربعين رجلاً في مجلس واحد يدعون الله عزّوجلّ في أمرٍ ما فيقض] الله لهم هذا الأمر يستجيب لهم، وهو ما جاء عن الإمام جعفر بن محمد الصادق روحي فداه، قال عليه السلام:

ص:202


1- البحار: ج 70، ص 240، حديث 8؛ جامع السعادات للنراقي: ج 2، ص 313؛ مستدرك الوسائل للنوري: ص 295، ح 17/5901.
2- وسائل الشيعة: ج 4 باب 45 من أبواب الدعاء ص 1154 حديث 5؛ الأمالي للصدوق: ص 541، ح 725؛ البحار للمجلسي: ج 90، ص 384، ح 6.

«ما من رهط أربعين رجلاً اجتمعوا فدعوا الله عزّوجلّ في أمر إلا استجاب لهم»(1).

ومنها استحباب رش قبر الميت لمدة أربعين يوماً في كل يوم مرة، وقد أمر الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه:

«أن يرش قبره أربعين يوماً في كل يوم مرة»(2)).

ومنها إن مراحل تكوين الجنين من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام، أربعون يوماً لكل مرحلة، فيكون الجنين عند ذلك في شهره السادس وهو قوله تعالى:

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ )3 .

وغيرها من الأحاديث في المجالات المختلفة فإن جميعها تدل على أسرار هذا العدد وشرافته من بين الأعداد عند الله عزّوجلّ .

وعليه نلمس العناية الإلهية في اعتزال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله

ص:203


1- وسائل الشيعة: ج 4 باب 38 ص 1143 حديث 1؛ الكافي للكليني: ج 2، ص 487، باب الاجتماع في الدعاء، ح 1؛ عدة الداعي لابن فهد الحلي: ص 144.
2- وسائل الشيعة «آل البيت»: ج 2 ص 860 باب 32 من الدفق حديث 6؛ وسائل الشيعة «الإسلامية»: ج 3، ص 197، باب 33، ح (3393) 6؛ كشف اللثام للفاضل الهندي: ج 2، ص 396، الفصل الرابع.

وسلم هذه المدة من الزمن لكي يتهيأ ويستعد لاستقبال الهبة الربانية والتحفة الإلهية وهو في نفس الوقت يكشف عن عظم الأمر الذي ينزل به جبرائيل عليه السلام وكبر شأنه عند الله تعالى لأنه استلزم اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً متعبداً فيها صائماً قائما مصلياً متصدقاً متقرباً إلى الله عزّوجلّ .

المسألة الثانية: «جبرائيل عليه السلام يهبط في صورته العظمى»

اشارة

لا بد من الحديث عن الملائكة قبل الدخول في معنى نزول الملك جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى، حتى نصل إلى نتيجة البحث وندرك معنى الأمر، ونفهم عظم المسألة التي استعد لها أشرف خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أولاً: معنى تسميتهم بالملائكة

فأما معنى تسميتهم بالملائكة: فهو إما مشتقة من الألوكة بمعنى «الرسالة»، أو مشتقة من الملك بمعنى «العبودية» المحضة الخالصة.

والملائكة المدبرات والمقدرات، وملائكة الجنة والنار، والملائكة الذين هم حملة التدبير والتقدير والتسخير وغيرها، سميت ملكا لظهور مبدأ الاشتقاق فيه، لأنهم رسل الله في اتصال ما يتحملون من جهات الفيض ورؤوس المشيئة إلى محالها ومواقعها كما نصّ عليهم بأنهم رسل الله في قوله تعالى:

ص:204

(إِنّا رُسُلُ )1 .

وهم المتمحضون في العبودية والمخلصون في الطاعة:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ )2 .

بحال من الأحوال وطور من الأطوار، كما نص عليهم بقوله:

(وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)3 .

وقوله تعالى:

(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )4 .

وقوله تعالى:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ )5 .

فلما ظهر فيهم مبدأ الاشتقاق وتحققت المناسبة المطلوبة بين اللفظ والمعنى أطلق عليهم لفظ الملائكة، وإلا فهم صنف آخر ونوع آخر غير جنس الجن والإنس وغيرهم، وإنما سموا (ملائكة) لهذه العلة التي هي ظهور مبدأ

ص:205

الاشتقاق، فعلى هذا كل شيء فيه هذا المعنى يصح إطلاق لفظ الملائكة عليهم(1).

وهي - أي الملائكة - «ذوات نورانية قد اضمحلت فيهم جهة الميولات النفسانية والشهوات الإنسانية والجنسية، فغلبت عليهم جهة النور، بحيث اضمحلت فيهم الظلمة بالرمة فلا أثر لها بالكلية»(2) وهذا القول مأخوذ من أقوال العترة المحمدية صلوات الله وسلامه عليهم.

فقد وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

«صور عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد، تجلى بها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله»(3).

وفيما يخص الملائكة من أحاديث فهي كثيرة جداً في مدرسة ثقل القرآن وعترة الهادي إلى طريق الرحمن، أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم إلا إننا أوردنا هذا المقدار لكي لا يطول بنا الوقوف عند هذا المبحث وهو ليس قصدنا وغايتنا بقدر ما نريد أن نمهد لمعنى نزول جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى ونضيف إلى ذلك أنهم، أي: الملائكة عليهم السلام لهم مراتب ثابتة فلا يستطيع أحدهم الصعود إلى مرتبة أعلى من خلال طاعته وهو ما جاء في قول مولانا وسيدنا الإمام الصادق سلام الله عليه في الملائكة:

ص:206


1- أنوار الغيب للسيد كاظم الحسيني الرشتي: ص 50، تحقيق الشيخ أحمد آل بو شفيع.
2- شرح القصيدة للسيد كاظم الرشتي: السؤال 15 ص 231، أنوار الغيب: ص 46.
3- كتاب أصول العقائد: ص 184.

«إنهم ناقصون لا يحتملون الزيادة»(1).

وهي بمعنى أوضح:

إن الملك ناقص لا يحتمل الكمال لأنه صورة عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد؛ لأن الملك مطبوع على الطاعة ومقطوع عليها، مثلاً ميكائيل عليه السلام لما خلقه الله تعالى، له مقام ومرتبة ولكنه لا يزيد ولا ينمو بطاعته وخدمته لله تعالى إلى مقام أرفع وأعلى الآن.

وإنما هو كالسراج إذا أشعلته في أول الليل وأتيت إليه في آخر الليل لا تجده أنور وأشد ضوءاًً عن أول الليل، فإنه نور لا يوجد في مقابلته ظلمة.

وأما الإنسان فإنه تتساوى عنده باختياره نسبة الطاعة إلى المعصية، فإنه مركب من قوى رحمانية عقلية ومن قوى حيوانية، فهو متردد بين الكمال والنقصان، فبطاعته ينمو ويزداد ويترقى إلى مقام القرب الإلهي كسلمان المحمدي رضوان الله عليه فإنه انقطع إلى الله وإلى عبادته مع وجود النقيض في النفس(2) ، وهو أول الصحابة المنتجبين وأسبق الشيعة إلى ولاية آل الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.

لذلك تجدهم عليهم السلام في مراتب مختلفة فمنهم «العالون» وهم: (إسرافيل، وجبرائيل، وميكائيل وعزرائيل) عليهم السلام، ومنهم الكروبيون وهم:

ص:207


1- البحار للمجلسي: ج 3، ص 15 و 37.
2- أنوار الغيب للسيد كاظم الحسيني الرشتي: ص 53.

«الذين جعلهم الله خلف العرش، ولو قُسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم».

وهو قول مولانا الإمام الصادق عليه السلام في وصفهم(1).

والقرآن الكريم يذكر أنواع الملائكة في قوله تعالى:

(وَ النّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)2 .

وقوله:

(وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً)3 .

ولكونهم ذوات نورانية، وقوى روحانية وجسمانية، ذوات شعور وإدراك واختيار، لكنها لضعف تركيبها وعدم كمال انعقادها وغلبة نوريتها تتشكل بأشكال مختلفة، وتظهر بصور مختلفة، ما عدا الصور القبيحة والخبيثة(2).

وقد كان جبرائيل عليه السلام يظهر بصورة «دحية الكلبي» وهو أحد

ص:208


1- البحار للعلامة المجلسي: ج 56 ص 184، رواية 26.
2- أنوار الغيب للسيد كاظم الرشتي: ص 41.

صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ظهر بصورته مرات عديدة للمسلمين بشكل جماعي وهم ذاهبون لغزوة خيبر(1) ، وبشكل فرادى كما ظهر لأم سلمة رضي الله عنها(2).

بينما كان يظهر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورة رجل جميل الصورة عذب الصوت، كما ظهر لمريم بهيئة بشرية:

(فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)3 .

أي: جميل الصورة والصوت.

ثانياً: المواضع التي ظهر فيها جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى
اشارة

أما صورته الأصلية فلم يظهر فيها إلا في ثلاثة مواضع:

الموضع الأول

تجلى فيه جبرائيل عليه السلام بصورته الأصلية في غار حراء يوم المبعث في السابع والعشرين من شهر رجب لسنة أربعين من عمره المبارك، وفي هذا اليوم، وفي هذا الموضع، ولهذا الأمر شأن ومنزلة وخطر عظيم عند الله عزّوجلّ ، ولذا تراه تجلى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته الأصلية.

ص:209


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 246؛ والبداية والنهاية: ج 4، ص 136؛ الكافي للكليني: ج 2، ص 587، ح 25؛ أمالي الصدوق: ص 426 سنن النسائي: ج 8، ص 103.
2- صحيح مسلم، كتاب المناقب، مناقب أم سلمة رضي الله عنها: ج 7: ص 1.
الموضع الثاني

فقد تجلى فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته العظمى التي خلقه الله عليها ليلة الإسراء والمعراج، وهو مفاد قوله تعالى:

(وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى )1 .

وهذه الصورة التي عليها جبرائيل عليه السلام كانت آية من آيات الله الكبرى، ولقوله تعالى:

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى )2 .

الموضع الثالث

هو عند نزول أمر الله تعالى لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالاعتزال عن خديجة والناس لمدة أربعين يوماً، وفي هذا دليل على عظمة مهمّته وجلالة الأمر الذي جاء به، وهو انعقاد نطفة فاطمة أم الأئمة الأطهار وزوجة ولي الله حيدرة الكرار.

ثالثاً: أثر الاعتزال والرياضة النفسية في خلق الجنين

إن التعبد بالصيام والقيام أربعين يوماً وليلة، واعتزال الخلق، وهجران الزوجة، وتشديد الشوق والميل الطبيعي بين السيدة خديجة والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك يكون له الأثر الخاص في انعقاد النطفة الزكية،

ص:210

خصوصاً إذا ألحق به ارتياض سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم رياضة خاصة تتناسب مع مقامه عند الله تعالى ومنزلته لديه حتى حصل الاستعداد لقبول الهدية السماوية والعطية الربانية.

رابعاً: الأدب النبوي في بيان حبه لخديجة عليها السلام

إن بعثه صلى الله عليه وآله وسلم عمار بن ياسر رضوان الله عليه إلى خديجة؛ ليطمئنها عليه وينقل لها كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان مقامها ومنزلتها عند الله، وإنه ليباهي ملائكته بها كل ذلك دلائل على عظم منزلتها عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو دليل على حب النبي الكبير للسيدة الجليلة خديجة سلام الله عليها.

المسألة الثالثة: جبرائيل عليه السلام ينزل بالنور الفاطمي من الجنة

اشارة

تناولنا في المبحث الأول اعتزال النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً صائماً قائماً مصلياً متصدّقاً متقرّباً إلى الله عزّوجلّ .

ونورد هنا ما كان من مجريات للأحداث التي رافقت هذا الأمر الإلهي لسيد الأنبياء وأكرم من خلق الله عزّوجلّ حبيبه المصطفى وعبده المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم.

قال سيدنا ومولانا روحي له الفدى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

ص:211

«فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد! العليّ الأعلى يقرئك السلام هو يأمرك بأن تتأهب لتحيته وتحفته.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل وما تحفة ربّ العالمين ؟ وما تحيته ؟، قال: لا علم لي، قال: فبينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس، أو قال: إستبرق، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل جبرائيل عليه السلام وقال: يا محمد يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

فقال علي بن أبي طالب عليه السلام:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يريد الإفطار، فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي على باب المنزل وقال: يبن أبي طالب، إنه طعام محرم إلا عليّ .

قال علي عليه السلام:

فجلست على الباب وخلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطعام وكشف الطبق، فإذا عُثق من رطب وعنقود من عنب فأكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه شبعاً، وشرب من الماء رياً، ومد يده للغسل فأفاض الماء عليه جبرائيل وغسل يده ميكائيل وتمندل له اسرافيل، وارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي فأقبل جبرائيل وقال: الصلاة محرّمة عليك في وقتك حتى تأتي خديجة

ص:212

فتواقعها، فإن الله عزّوجلّ آل على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة، فوثب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزل خديجة»(1).

مسائل البحث في الحديث:

أولاً: (اشتراك الملائكة الثلاثة عليهم السلام في إيصال الوديعة)

نزول الملائكة المقربين الثلاثة وهم العالون، خصوصاً إسرافيل، حيث لم ينزل قط سوى هذه المرة - حسب ما توفر لديّ من مصادر، وطاقة في البحث - مصحوباً بالتشريفات الخاصة من السندس والإبريق والمنديل والماء والطبق من الجنة مع ما قاموا به عليهم السلام من تقسيم للعمل في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك «التشريف» السماوي فكان الذي أفاض الماء جبرائيل عليه السلام والذي غسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميكائيل، والحال كان يكفي بجبرائيل بصب الماء على اليدين فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسلهما لكن أن يقوم بغسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو غاية قصوى في التشرف بخدمته، وكذلك الحال بالنسبة لإسرافيل عليه السلام فإنه يمكن للنبي أن يأخذ المنديل من إسرافيل عليه السلام فيمسح يديه ويمندل يديه لكن أن يقوم إسرافيل ويمندل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمسحهما فهو تشريف لإسرافيل عليه السلام وإكرام لفاطمة صلوات الله

ص:213


1- بحار الأنوار: ج 16، ص 79، باب 5؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 453؛ العدد القوية لعلي بن يوسف الحلي: ص 221؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 20؛ الخصائص الفاطمية للكجوري رحمه الله: ج 1 ص 344-345.

عليها، حيث إنها أنزلت بتلك العطايا والهدايا يحملها كبار سكان الملأ الأعلى.

وكيف لا وهي صاحبة النور الأوحد الذي خلقه الله من نور عظمته فأشرقت به السماوات والأرضيون، وقد غشي أبصار الملائكة فخروا لله ساجدين وبحمده قائلين وبثنائه مسبحين.

ثانياً: (هل يجوز تأخير الصلاة في شتى الأحوال لعلل راجحة)؟!

قد جاء في الحديث: قول جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«الصلاة محرمة عليك في وقتك حتى تأتي منزل خديجة».

أما الجواب على هذا السؤال فهو عند الفقهاء: «الجواز» فقد جاء في الشريعة السمحاء موارد عديدة يستثنى فيها من المبادرة إلى إقامة الصلاة في أول وقتها.

الأول: الظهر والعصر إذا أراد الإتيان بنافلتهما، وكذا الفجر إذا لم يقدم نافلتها قبل دخول الوقت، ما لم يتضيق وقت فضيلة الفريضة.

الثاني: مطلق الحاضرة لمن عليه قضاء يومه أول ليلته، فإن عليه المبادرة بالفائتة ما لم تتضيق الحاضرة حتى لو كان قد نوى الحاضرة فعليه أن يعدل إلى الفائتة، هذا إذا تذكر قبل فوات محلها، وذلك للنصوص(1) ، التي لأجلها قيل بالمضايقة في قضاء يومه وليلته إلا في فريضة الفجر فلا يتقدم عليها فائتة لحديث

ص:214


1- الوسائل، باب 62 من أبواب المواقيت، الحديث: 1، 2، 4، 7، 8 وجميع أحاديث الباب 63.

أبي بصير وحديث ابن مسكان، كلاهما عن الإمام الصادق عليه السلام(1).

الثالث: المتيمم مع احتمال زوال العُذر أو رجائه، أو لمن عليه البحث عن الماء غلوة سهم أو سهمين كما هو مبين في أحكام التيمم عند الفقهاء.

الرابع: لدفع الأخبثين للحاقن بهما، لقول الصادق عليه السلام:

«لا صلاة لحاقن ولا لحاقنة الحديث»(2).

وقوله:

«لا تصلّ وأنت تجد شيئاً من الأخبثين»(3).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يصلي أحدكم وبه أحد العنصرين، يعني: البول والغائط »(4).

أي حتى يزيلهما ويتطهر من جديد ويصلّي.

الخامس: ليدرك فضيلة الجماعة، والمسجد، وحضور القلب، ولدرك كلّ فضيلة وكمال، ما لم يفض إلى الإفراط في التأخير.

السادس: المستحاضة الكبرى، لها أن تؤخر الظهر لتجمعها مع العصر

ص:215


1- الوسائل، باب 62 من أبواب المواقيت، الحديث 3-4.
2- الوسائل، باب 8 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث: 2؛ أمالي الصدوق: ص 498، ح 12/683؛ المعتبر للمحقق الحلي: ج 2، ص 262؛ المحاسن لأحمد بن محمد البرقي: ج 1، ص 83.
3- الوسائل: باب 8 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث: 3-8؛ تذكرة الفقهاء: ج 3، ص 298؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 2، ص 326، ح 1333.
4- المحاسن لأحمد بن محمد البرقي: ج 1، ص 82، ح 14.

بغسل واحد، وتؤخر المغرب لتجمعها مع العشاء كذلك.

السابع: المغرب والعشاء لمن أفاض من عرفات إلى المشعر، فله أن يؤخرهما ولو إلى ثلث الليل فيجمع بينها، وهذه من السنة المؤكدة ففي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما لا تصلِّ المغرب حتى تأتي جمعاً(1) وإن ذهب ثلث الليل(2) ونحوه موثقة سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام(3).

الثامن: صلاة المغرب لمن ينتظره قومٌ صوّم يخشى أن يجسمهم عن إفطارهم، أو هو تشتاق نفسه إلى الإفطار وتنازعه. كما في صحيح الحلبي وحديث الفضيل وزرارة(4).

التاسع: من أتى بأربع ركعات من صلاة الليل أو أكثر، فدخل الفجر، فله أن يتم وتره مخففة ثم يصلي الفجر، ما لم يسفر الصبح أو تغور النجوم(5) ، ونافلة الفجر أفضل من الوتر.

العاشر: صلاة المغرب للمسافر حتى يغيب الشفق، أو إلى ربع الليل، أو إلى ثلثه، بل مطلق الصلاة لمطلق المسافر المستعجل(6) ، بل ولمطلق الاعتذار

ص:216


1- جمعاً: الجمع هو المشعر الحرام، ويسمى، أيضاً: المزدلفة.
2- الوسائل، باب 5، من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث: 1-2؛ روض الجنان للشهيد الثاني: ص 186؛ منتهى المطلب للعلامة الحلي: ج 2، ص 723.
3- منتقى الجمعان للشيخ حسن صاحب المعالم: ج 3، ص 353.
4- الوسائل، باب 7 من أبواب آداب الصائم، الحديث 1-2.
5- الوسائل، الباب 47-48 من أبواب المواقيت.
6- الوسائل، الباب 19 من أبواب المواقيت.

والاضطرار(1).

فجميع هذه الموارد قد وردت في الشريعة المحمدية عن طريق العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.

وقد ورد في التاريخ والسيرة العطرة لسيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد أمر المسلمين بتأخير الصلاة في غزوة خيبر.

فضلاً عمّا لما ذكر فإن إدخال السرور على قلب المؤمن من السنن المستحبة المؤكدة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أفضل الأعمال بعد الفرائض إدخال السرور على قلب المؤمن»(2).

ومن المؤكد إن رؤية الوجه النوراني المشرق باللطف الرحماني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المسرات على قلب المؤمن ولاسيما زوجته الحبيبة خديجة الكبرى، وقد طال بها الانتظار لرؤياه وحدا بها الشوق لملقاه وألمها الحنين لعذوبة صوته وحلاوة منطقه.

ومما لا شك فيه إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ به الشوق والحنين إلى حبيبته وأم ولده سلام الله عليها، فما تأخير الصلاة عن أدائها في أول أوقاتها مع جميع هذه العلل الراجحة والحال التي عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ من باب العناية الإلهية بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:217


1- أنظر: اجماعيات فقه الشيعة للفقيه المحقق إسماعيل الحسيني.
2- أعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي: ص 254.

المسألة الرابعة: انتقال النور الفاطمي إلى الأرض الطاهرة

اشارة

نكمل إن شاء الله تعالى في هذا المبحث رحلة النور الفاطمي والفيض الأقدس، لكوثر الخير، وحوض اليمن، ونسمة الطهر فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، ومراحل تنقل هذا النور الإلهي من تحت ساق العرش واشراقه في قناديل معلقة وانتقاله إلى الجنة فأودعه الرحمن في ثمارها ليستلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضمن مرحلتين، كانت الأولى في الجنة، وكانت الثانية في الأرض من يد جبرائيل عليه السلام لتقر الوديعة الإلهية في قرار النبوة وصلب الرسالة وعمود الوحي وروح الشريعة، ثم ينتقل هذا النور الإلهي المودع في النطفة الزكية الفاطمية في أرض الطاهرة خديجة الكبرى سيدة النساء بعد فاطمة المحمدية.

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً)1 .

لتنمو في تلك الأرض الطاهرة المطهرة المعدة لاستقبال النور الإلهي فتنال بذلك ما لم تنلْه امرأة من العالمين، فأي رحمٍ حوى مثل فاطمة المطهرة... وأي بطن نما فيه مثل البضعة الطاهرة ؟!!

ولقد ذكرنا في المبحثين السابقين حديث خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة التي نزل بها جبرائيل بعد أن اعتزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة أربعين يوماً.

وفي هذا المبحث نكمل ما بقي من هذا الحديث لاختصاصه بما تصدره من عنوان، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

ص:218

«قالت خديجة رضوان الله تعالى عليها: وكنت قد الفت الوحدة - بسبب اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها هذه المدة - فكان إذا جنني الليل غطيت رأسي، واسجفت ستري، وغلقت بابي، وصليت وردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي، فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمشبهة، إذ جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرع الباب، فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟.

قالت خديجة عليها السلام: فنادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإني محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.

قالت عليها السلام: فقمت فرحة مستبشرة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتحت الباب ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنزل وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه، فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى حسست بثقل فاطمة في بطني»(1).

ص:219


1- الأنوار البهية للشيخ عباس القمي: ص 56؛ العدد القوية لعلي بن يوسف الحلي: ص 222، ح 14؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 21؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 453.

دلالات البحث في الحديث:

أولاً: (المنهاج التربوي الأسري عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم)

هنا في هذا الحديث تظهر لنا أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها أحدى الصور المشرقة عن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرية، فهو المعلم الأول في الحياة المدنية المتحضرة.

وهذه الصورة كانت تحكي عن جانب من الجوانب العديدة في الحياة الأسرية، والذي يمتاز بالأهمية الكبيرة والتأثير النفسي على الأسرة وهو أحد المناهج التي تنمو من خلالها الأسرة ولتنتج أبناء صلحاء نافعين لأنفسهم ولمجتمعهم.

ولذلك، كيف يكون الأسلوب الذي يقوم به الزوج عند دخوله البيت ؟

هنا في هذه اللحظات القليلة والدقائق المعدودة ينظر الجميع ببالغ الأهمية لما يقوم به الأب من أفعال وينصتون إلى ما يخرج من فمه من كلمات، فإذا كانت مظاهر التعب والضجر واضحة على الأب انعكس ذلك على الزوجة والأولاد ولاسيما لو كانت في الأسرة بنيات فهن الأسرع تأثراً بهذا المنظر والأكثر شعوراً لما يظهر على الوالد.

ومن هنا: فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدخل إلى البيت بهذا الشكل الذي نقلته هنا زوجته الحبيبة البارة المخلصة الوفية بهذه الكلمات: «وكان إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه».

ص:220

وهنا يظهر بشكل واضح هذا المنهاج التربوي الأسري الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالأب الذي يبدأ مشواره الأسري بالوضوء والصلاة فإنه يضفي على زوجته وأولاده الطمأنينة والسكينة والرحمة، فأي هو أروع من هذه الأجواء الرحمانية ؟! وأي أثر يتركه هذا الاسلوب في نفوس الأولاد والزوجة ؟! وهو في نفس الوقت يعلمهم أهمية الصلاة وأنها المفتاح الذي يجب عليهم أن يفتتحوا به خطوات حياتهم، فيتمسكوا بها ويستعينوا بها ويكونوا مصادقاً لقوله تعالى:

(وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ )1,2 .

ثانياً: المنهاج التربوي في العلاقة الزوجية

ثم تمضي سلام الله عليها لتبين لنا صورة أخرى من الصور التعليمية في جميع جوانب الحياة الدنيوية والأخروية.

وهنا تنقلنا السيدة خديجة في رحاب العلاقة الزوجية لتشير إلى أهم الأسس التي يعتمد عليها قيام البيت وهي صمام الأمان في الحياة الأسرية، فكم من أسرة تهدمت، وكم من علاقة زوجية فشلت وكم من أطفال ضيعت وكانت هي الضحية، بل هي التي دفعت فاتورة الاسلوب الفاشل الذي يفتقده الأب في كثير من العلاقات الزوجية الأسرية كحالات منفردة متعددة.

ص:221

وعندما نقول الأب لأسباب كثيرة منها القيمومية التي لدية والقدرة في التحكم في شؤون الحياة الأسرية وغيرها.

ومن هنا فإن السيدة خديجة سلام الله عليها تصف لنا هذه العلاقة الزوجية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الرقيقة والمنطق العذب والرقة والعاطفة والحب الكبير لهذا الزوج مع الحفاظ على العفة المحاطة بهذه الكلمات، والحشمة التي تفوح من هذه الألفاظ ، قالت سلام الله عليها:

«فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني، وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها».

فهذه الكلمات على قلتها قد كشفت أحد السنن النبوية في آداب المعاشرة الزوجية وتظهر بشكل كبير الأجواء العاطفية التي ينبغي لكل زوج أن يتعلمها ويستسن بها، لأن هذا التعامل يجمع الشفافية في الاسلوب، والجمال في المبادرة لاستجلاب عاطفة المرأة وتحريكها واستدرار حبها.

ومن هنا فهذا المنهاج التربوي من أهم المناهج التي تدوم بها الحياة الزوجية وتستمر من خلالها العلاقة الزوجية.

وقد اعتمد طب النفس الأسري في كثير من البحوث والدراسات على هذا المنهاج ووضعه كمنهاج يعتمد عليه قيام الرابط الأسري وهو أحد الأسس التي يقوم عليها دوام العلاقة الزوجية، وكم نحن اليوم بحاجة إلى مراجعة تلك السنن النبوية ومعرفة الآداب المحمدية في مختلف ضروب الحياة ولا سيما في الجانب الأسري كأزواج وآباء وإخوان وأبناء.

ص:222

ثالثاً: (الإحساس بثقل فاطمة عليها السلام)
اشارة

إن إحساس السيدة الطاهرة والصديقة الجليلة أم الزهراء صلوات الله عليها بثقل فاطمة عليها السلام، هو خلاف العادة البشرية، وعملية الإحساس بثقل الجنين يتحدد عند الأم بعد الشهر الرابع للحمل.

أمّا بالنسبة للسيدة خديجة عليها السلام فإن إحساسها بثقل فاطمة عليها السلام عائد إلى النطفة الزكية الحاملة للنور الفاطمي وهو كإحساس السيدة مريم عليها السلام بعد أن تمثل لها روح القدس عليه السلام بشراً سويا فإحساسها بثقل فاطمة إنما هو من نور فاطمة وكونها من عصارة دار الآخرة وخلاصة نعيمها الممزوج بعرق روح القدس وزغبه وهو حامل الوحي والفيض الإلهي.

الحديث الثاني

عن زيد بن أسلم عن أبيه عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لما أن مات ولدي من خديجة، أوحى الله إلي أن أمسك عن خديجة وكنت لها عاشقاً، فسألت الله أن يجمع بيني وبينها، فأتاني جبرائيل في شهر رمضان ليلة الجمعة لأربع وعشرين ومعه طبق من رطب الجنة فقال لي: يا محمد كل هذا وواقع خديجة الليلة، ففعلت فحملت بفاطمة، فما لثمت فاطمة إلاّ وجدت ريح ذلك الرطب وهو في عترتها إلى يوم القيامة»(1).

ص:223


1- مقتل الحسين للخطيب الخوارزمي: ج 1 ص 68 الفصل الخامس نقلاً عن كتاب فضائل

دلالات البحث في الحديث:

أولاً: تعين ليلة انعقاد النطفة النورانية التي خلقت منها أم الأئمة

في هذا الحديث نجد هناك تحديداً لليلة التي انعقدت فيها النطفة الزكية لفاطمة صلوات الله عليها وهي ليلة الجمعة من شهر رمضان الواقعة في الليلة الرابعة والعشرين منه، وهذا التوقيت الدقيق لانتقال النور الفاطمي إلى رحم خديجة عليها السلام في غاية الاهتمام الرباني والعناية الإلهية، إذ لا يخفى أن العشر الأواخر من شهر رمضان هي أفضل لياليه وإن كل ليلة من هذه الليالي يطلب العباد فيها التوفيق لليلة القدر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«اطلبوها في العشر الأواخر»(1).

إضافة إلى فضل ليلة الجمعة على الليالي، فسبحان من قدّر لها هذا التقدير وهيأ لها هذا الوقت المحفوف بالبركات ونزول الفيوضات الرحمانية!

وعليه: فإن ولادتها الميمونة السعيدة تكون في شهر جمادى الآخرة وهو ما اشتهر في ميلادها ومطابقٌ لما نصت عليه الروايات الواردة عن العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.

ص:224


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 2، ص 395، في ليلة القدر، ح 11؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 8، ص 633، ليلة القدر، ح 24486؛ تفسير الثعلبي: ج 10، ص 252؛ مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ص 467، ح (8669) 4.
ثانياً: القاسم وعبدالله عليهما السلام ولدا وماتا في الإسلام

هذا الحديث يحمل دليلاً آخر لما قدمناه في الجزء الأول من هذا الكتاب الذي بحثنا فيه حياة أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلنا: إن حقيقة أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ثلاثة فقط ، ولدان وهما القاسم وعبد الله وقد ولدا وماتا في الإسلام وفيهما قال: العاص بن وائل السهمي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعوه فإنه مات ولده فهو أبتر، فأنزل الله تعالى فيه:

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)1 .

وبنت واحدة هي فاطمة صلوات الله عليها والحديث واضح وضوح الشمس أن الله منَّ على نبيه الأعظم بفاطمة بعدهما، فكانت كوثر ذريته وأولاده وهو قوله تعالى:

(إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)2 .

إذن: دلت هذه الأحاديث على مجموعة من الحقائق وهي كالآتي:

1 - أن خلق فاطمة من ثمار الجنة هي حقيقة نصت عليها الأحاديث الشريفة الواردة عن العترة النبوية، وقد كانت على مرحلتين، الأولى في السماء في رحلة الإسراء والمعراج، والثانية في الأرض بعد نزول الأمر الإلهي للنبي بالاعتزال أربعين يوماً.

2 - أن الليلة التي خلقت فيها بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد

ص:225

رافقتها تشريفات خاصة من نزول الملائكة المقربين إلى الأرض وإطعام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطعام الجنة فضلاً عن تحديد الزمن الذي كانت فيه هذه الانتقالة وهي الليلة الرابعة والعشرون من شهر رمضان وأنها ليلة الجمعة وهذا كله يكشف جانباً من منزلة فاطمة الزهراء عليها السلام عند الله تعالى وما اختاره الله تعالى لحفظ شريعته وحججه على خلقه وهم أولاد فاطمة عليها السلام.

المبحث الثالث: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟

اشارة

عن حماد بن عيسى، عن زرعة بن محمد، عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟ فقال عليه السلام:

«نعم، إنّ خديجة عليها السلام لما تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هجرتها نسوة مكة فكن لا يدخلن عليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها فاستوحشت خديجة لذلك وكان جزعها وغمها حذراً عليه صلى الله عليه وآله وسلم فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة عليها السلام تحدثها من بطنها وتصبرها وكانت تكتم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل رسول الله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة عليها السلام فقال لها:

يا خديجة من تحدّثين ؟.

قالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني.

ص:226

قال: يا خديجة هذا جبرئيل يبشرني أنها أُنثى، وأنها النّسلة الطاهرة الميمونة وأنّ الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه»(1).

مسائل البحث في الحديث:

المسألة الأولى: إن فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها

إن من السنن التي سنها الله عز وجل في هذا الكون أن جعل آيات وعلامات ومعاجز ترافق سيرة رسله وأنبيائه وأوليائه، وكلما عظمت منزلة الرسول أو النبي أو الولي وعلا شأنه ودنا قربه وأكرم محله كلما كانت هذه الآيات والدلائل والمعاجز التي ترافقه أعظم وأكبر وأدل وآثر وأبلغ تأثيراً في العقل البشري، قال عز وجل:

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ )2 .

ولذلك نجد أن انشقاق القمر هو أعظم من فلق البحر، وأن القرآن أكبر وأدل وأبلغ من التوراة والإنجيل والزبور، وأن مما خص به خاتم النبيين هي فاطمة أم الأئمة الهداة الميامين وكان مما خص به الأئمة أنهم: (محدثون) وقد سأل زرارة بن أعين الإمام الباقر عليه السلام: «من الرسول ؟ ومن النبي ؟ ومن

ص:227


1- أمالي الصدوق: ص، البحار للمجلسي: ج 43، ص 2.

المحدث ؟ قال عليه السلام:

الرسول: يأتيه جبرائيل فيكلمه قبلاً فيراه كما يرى الرجل صاحبه الذي يكلمه، فهذا الرسول، والنبي: الذي يؤتى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السبات إذ أتاه جبرئيل هكذا النبي.

ومنهم من تجمع له الرسالة والنبوة، وكان رسول الله رسولاً نبياً يأتيه جبرائيل قبلاً فيكلمه ويراه ويأتيه في النوم، والنبي الذي يسمع كلام الملك حتى يعاينه فيحدثه، أما المحدّث فهو الذي يسمع ولا يعاين ولا يؤتى في المنام»(1).

وهذا الأمر هو من خواص عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالأئمة عليهم السلام كلهم «محدّث»، جاء ذلك عن الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، وقد سمعه سليم بن قيس، يقول:

«إني وأوصيائي من ولدي مهديون كلنا محدثون.

فقلت: يا أمير المؤمنين من هم ؟ قال:

الحسن والحسين ثم ابني علي بن الحسين عليهم الصلاة والسلام.

قال: وعلي يومئذ رضيع ثم ثمانية من بعده واحداً بعد واحد هم الذين أقسم الله بهم فقال:

(وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ)2 .

ص:228


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 393، ط منشورات الأعلمي، ايران؛ البحار: ج 26، ص 80.

أما الوالد فرسول الله وأما ما ولد يعني هؤلاء الأوصياء»(1).

أمّا بخصوص فاطمة عليها السلام فإنها كانت «محدّثة» وهو أحد أسمائها فهي تُحدّثها الملائكة وهو غير الوحي ولا يسمى بهذه التسمية وهو ما عليه أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام.

قال الشيخ المفيد في شرح عقائد الصدّوق رضي الله تعالى عنهما: هل الوحي هو الكلام الخفي ؟، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إلى إفهام المخاطب على الستر له عن غيره والتخصيص له به دون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل صلى الله عليهم خاصة دون سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى:

(وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ )2 .

فاتفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا مناماً وكلاماً سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص، وقال تعالى:

(وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ )3 .

يريد به الإلهام الخفي إذ كان خالصاً لمن أفرده دون ما سواه، فكان علمه حاصلاً للنحل بغير كلام جهر به المتكلم فأسمعه غيره.

ص:229


1- بصائر الدرجات: ص 392؛ البحار: ج 26، ص 79.

وساق رحمه الله الكلام إلى أن قال: وقد يُرى الله في منامه(1) خلقاً كثيراً ما يصح تأويله ويثبت حقه لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي ولا يقال في هذا الوقت لمن أطلعه الله على علم شيء: إنه يوحى إليه، وعندنا إن الله يُسمع الحجج بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كلاماً يلقيه إليهم في علم ما يكون، لكنّه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدمناه من إجماع المسلمين.

على أنه لا وحي لأحد بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يقال في شيء مما ذكرناه: إنه وحي إلى أحد، ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحياناً ويحظره أحياناً، ويمنع السمات بشيء حيناً ويطلقها حيناً، فأما المعاني فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدّمناه)(2).

فإذن اعتقادنا في عترة الهادي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، أن الله يُسمع الأئمة عليهم السلام كلاماً إليهم بواسطة الملائكة عليهم السلام وهو لا يسمى وحياً، لأنه لا يوحى لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام:

«إنما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأما النبوة فلا»(3).

وقال المجلسي رحمه الله في بيان الحديث: «أي إنما يجب عليكم أن تقوموا عندنا وتعكفوا على أبوابنا والكون معنا - أي الكينونة معهم - لاستعلام الحلال

ص:230


1- العبارة وردت كذا في المصدر، والصحيح: وقد يُري الله خلقاً كثيراً في منامه لكي يعود الضمير في (منامه) على (خلقاً).
2- تصحيح الاعتقاد: ص 56 و 57؛ البحار: ج 26، ص 83-84.
3- أصول الكافي للكليني: ج 1، ص 268؛ البحار للمجلسي: ج 26، ص 83.

والحرام لا أن تقولوا بنبوتنا، وإنما لكم أن تقفوا علينا في إثبات علم الحلال والحرام وإنّا نواب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ذلك لكم ولا تتجاوزوا بنا إلى إثبات النبوة»(1).

ومن هنا فإن تسمية فاطمة عليها السلام ب - «المحدّثة» هو لسماعها حديث الملائكة وهي تحدثها، وحالها كحال مريم بنت عمران عليها السلام قال الله تعالى:

(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ )2 .

وقد بيّن الإمام الصادق عليه السلام هذا المعنى فقال:

«إنما سميت فاطمة محدّثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها وإن الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين»(2).

ص:231


1- البحار للمجلسي: ج 26، ص 83.
2- علل الشرايع: ج 1، ص 182؛ البحار: ج 14، ص 206، من طريق: محمد بن الحسن

وفي حديث آخر: عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن سعد ابن جبير، عن ابن عباس في حديث طويل في: (فضائل علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام) رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في فاطمة عليها السلام وما يصيبها من الظلم بعده:

«ثمّ ترى ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى بالملائكة، فتناديها بما نادت به مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض.....»(1).

ولم يقتصر الأمر على مريم فقط فقد حدثت الملائكة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام وهو قوله تعالى:

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ )2 .

فإذن: فاطمة عليها السلام: (محدَّثة) بفتح الحاء والدال وتشديدها، وهي: «محَدِّثة» بفتح الحاء وكسر الدال، أي هي التي كانت تحدث أمها خديجة عليها السلام وهي في بطنها كما جاء في الحديث.

ص:232


1- أمالي الصدوق: ص 177؛ البحار: ج 14، ص 205، برقم 22.

وهذا الأمر هو أحد معاجزها عليها السلام، وحاله كحال عيسى عليه السلام وحديثه مع أمه بعد الولادة قبل أن يكلم أحداً من قومه وهو قوله تعالى:

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)1 .

فإن قيل: إن هذا من مصاديق نبوته عليه السلام ودعوة أمه إلى التصديق به ؟! فما بال فاطمة عليها السلام ؟!.

قلنا: إن مريم كانت تؤمن به نبياً قبل نطقه بل قبل ميلاده وهو قوله تعالى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصّالِحِينَ )2 .

أما كون ذلك من مصاديق نبوته، فإن نطقه ابتداءً كان مع أمه مريم حينما أخبرها بهز النخلة كما دل عليه قوله تعالى:

(وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا)3 .

والحكمة فيه لتسليتها وذهاب حزنها ولإطعامها، ولذا فهي لم تكن بحاجة إلى نطقه حجةً ودليلاً على تصديقها بنبوته وقد أخبرتها الملائكة بأنه يكلم

ص:233

الناس في المهد، فضلاً عن أن الله تعالى قد أنطق طفلاً في مهده ولم يكن من النبيين كما في قصة نبي الله يوسف عليه السلام في قوله تعالى:

(وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها)1 .

فالشاهد كان طفلاً في المهد بل إن الناطقين في المهد أربعة هم: (شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون، وعيسى بن مريم، وصاحب جريج الراهب)(1).

أما اعتراض الفخر الرازي على هذا القول، وذهابه إلى أن شاهد يوسف عليه السلام كان ابن عم للمرأة، وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت إنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليه فقال: قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنّا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب... الخ» وإن هذا القول أولى من القول الأول لوجوه منها:

(إنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً، لأنه من البراهين القاطعة القاهرة، والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز)(2).

ص:234


1- التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 9، ص 126، ط دار الفكر، عن ابن عباس رضي الله عنه.
2- تفسير الفخر الرازي: ج 9، ص 126، ط دار الفكر.

قلنا:

وإن كان هذا الكلام صحيحاً أعني: «لا يجوز العدول عن الحجة القاطعة عند حصولها وحضورها إلى الدلالة الظنية» إلا أن هذه الحجة لا يمكن عدّها قاطعة لمجرد نطق الصبي قائلاً: (إنها كاذبة وهو صادق) لأن الاكتفاء بهذا اللفظ لا يحقق حجية القطع، فما أهون أن يتهم يوسف عليه السلام بالسحر! فتقول عندئذ المرأة إنه سحر الطفل فأنطقه بسحره، فلا حجة أصلاً لنجاته ولا برهان لصدقه، كما اتهم فرعون موسى بالسحر وأنه كبير السحرة.

ومن هنا تظهر حكمة الله عز وجل في إعطاء الدليل العقلي والقطعي لزوج المرأة بحيث لا يقبل الشك بالتحقق من جهة قدّ القميص، وإن هذا الدليل صادر من فم الطفل في المهد فهذا أعمق في الدلالة وأبلغ في الحجة وأمضى في القطع، لأن الأمر متعلق بعفة يوسف عليه السلام وإخلاصه وهو أعظم شيء يمتلكه الإنسان وبخاصة الدعاة إلى الله عز وجل، ولأن الأنبياء عليهم السلام أقصى ما اتهموا به السحر والجنون لكن لم يتهموا بعفتهم فهم أعف الخلق ومن هنا يظهر خطر المسألة وعظمها، فكان نطق الصبي والدليل الذي تفوه به قد حقق حجية القطع عند الملك بعفة يوسف عليه السلام.

فإن قيل: إن هذا الكلام يرد فيه إشكالٌ وهو: أنَ يوسف عليه السلام في هذه الحادثة لم يبعث نبياً بعد والمعاجز تحصل بعد بعث الأنبياء عليهم السلام ؟!.

قلنا: إن الإشكال مرفوع بأمرين:

ص:235

1 - إن من لطيف حكمة الله عز وجل أن جعل دلائل كثيرة ترافق الأنبياء عليهم السلام قبل بعثهم ليسهل على الناس التصديق بهم والاهتداء إليهم واتباعهم، كتظليل الغمامة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى الشام(1) ، والاستسقاء به وغيرها من الآيات الربانية.

وكموسى عليه السلام وسقيه بنات شعيب عليه السلام، وقد شاهد الناس قوته الخارقة أو إلقائه في البحر وعودته إلى أمه لترضعه، ونطق الصبي في المهد ليوسف، أو خروجه من البئر سالماً وغيرها من الدلائل والظواهر التي ترافق سيرة الأنبياء والرسل قبل بعثهم.

2 - قد نص القرآن الكريم على أن المتكلم هو صبي في المهد وليس رجلاً حكيماً ابن عم لها، كما ذهب إليه الفخر الرازي.

وهو قوله تعالى:

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ )2 .

فلا يقال لكلام رجل حكيم بأنه آية من آيات الله عز وجل، وإنما يقال ذلك: عندما يحصل أمر خارق للعادة ومخالف لقوانين الطبيعة، أو هو مما يعجز عنه البشر، ففي هذه الأمور وعند حدوثها يقال لها: آية من آيات الله عز وجل، كما هو الحال في نطق الصبي وهو في المهد.

ومن هنا:

ص:236


1- سيرة ابن هشام: ج 1، ص 192، ط دار القلم.

فإن ما ورد في الحديث من أن: «(فاطمة كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها فتصبرها وتؤنسها).

هو: آية من آيات الله عز وجل التي يظهرها لأوليائه، ومما لا شك فيه أن أم المؤمنين خديجة عليها السلام هي من أولياء الله عز وجل، ومما لا شك فيه أن فاطمة أكرم عند الله من ابن ما شاطة بنت فرعون أو الشاهد الذي شهد ليوسف عليه السلام وهو في المهد، وهي بضعة أشرف خلق الله وسيدة نساء العالمين التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها.

ومن كانت بهذه المنزلة فما أهون على الله تعالى أن ينطقها وهي في بطن خديجة عليها السلام، أو أن تحدثها الملائكة كما كانت تحدث مريم بنت عمران عليها السلام.

المسألة الثانية: بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أنثى

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا خديجة هذا جبرائيل يبشرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه».

هذه الكلمات كانت من قبل جبرائيل عليه السلام وهي مما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاءت هذه الكلمات لتبين صفات هذه المولودة وتظهر خصائصها.

ص:237

وهو النهج الذي جاء به القرآن الكريم في تبشير الأنبياء السابقين بمن يأتي من بعدهم وبخاصة عندما يتعلق الأمر بدعوة نبيّ ، أو يكون النبي المبشر به هو من نسل نبي أيضاً، وهذه البشارات إنما بدأت من إبراهيم الخليل كما يعرضها القرآن الكريم، وهو من لطائف الحكمة الإلهية التي خصت إبراهيم عليه السلام بهذا النهج وابتدأت به وما ذاك إلا للإعلان عن البشرى الكبرى والرحمة العظمى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرآنه وعترته، وهما الثقلان اللذان أوصى بهما هذه الامة المرحومة به صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هنا فإن البشرى بدأت ببيت إبراهيم عليه السلام، قال تعالى:

(وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى )1 .

هذه البشرى كانت بامتداد النبوة من إبراهيم وجعلها في نسله وصولاً إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت البشارة تحمل معها أيضاً صفات هذا الغلام ولم تقتصر على غلام فقط وإن كان مجيئه بعد بلوغ سن الشيخوخة هو نعمة كبيرة فكيف إذا كان يحمل صفات عظيمة.

قال تعالى:

(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ )2 .

ص:238

وفي آية أخرى أضيفتْ صفة أخرى إلى هذا الغلام غير العلم وهي أنه: (حليم):

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ )1 .

فيكون هذا الغلام يحمل العلم والحلم، ثم ينتقل القرآن ليعطي صورة أخرى عن هذه البشرى ووصولها إلى أم هذا الغلام، وهي زوجة إبراهيم وسماعها للبشرى كان للأسباب التالية:

1 - رعاية لحق الأمومة، فالأم هي بحاجة أيضاً إلى سماع البشرى بحصول الحمل.

2 - سماعها حديث الملائكة مع إبراهيم عليه السلام يكشف عن منزلتها عند الله عز وجل وإن هذه المنزلة محفوظة ولأجلها كشف لها عن السمع فسمعت حوارهم وحديثهم، ثم هي تعلم أنهم رسل الله عز وجل؛ لأنها لاحظت عليهم كما لاحظ زوجها إبراهيم أن أيديهم لا تصل إلى الطعام، فلهذه المنزلة بشرت.

3 - لإخلاصها لزوجها وقيامها على خدمته والعناية به ورعايته، على الرغم من كبر سنها فهي أيضاً قد مستها الشيخوخة.

فضلا عن ذلك فإن من اللطائف الإلهية أن الملائكة اكتفت بذكر البشارة بمجيء الغلام فقط دون أن تذكر لها صفاته، واللطف الإلهي في ذلك يكشف عن حبها الكبير في أن ترى طفلاً ينمو في أحشائها ويربى في حجرها، أي إنها

ص:239

كانت في عطش كبير لسد حاجة الأمومة التي شعرت لسنين طوال أنها قد فقدتها وإلى الأبد، لكن رحمة الله تعالى أدركتها فبشرتها بإمداد هذا النسل، وأن الله سيجعل من ولدها هذا نبياً وهو يعقوب عليه السلام.

ثم تبيّن الملائكة: أن ذلك كله من رحمة الله وبركاته على أهل البيت.

قال تعالى:

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)1 .

ثم يستمر القرآن بالبشرى فبشر إبراهيم عليه السلام بمولود آخر وهو من الأنبياء أيضاً:

(وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ )2 .

ثم تنتقل البشرى من إبراهيم عليه السلام إلى زكريا:

(يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى )3 .

ص:240

وهذا النبي يحمل صفات عدة بُشِّرَ بها زكريا عليه السلام ومن بين هذه الصفات أنه مصدقٌ بالنبي الذي يعاصره وهو عيسى عليه السلام:

(أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً)1 .

فكانت أول هذه الصفات:

«التصديق بكلمة من الله» وهكذا إلى مريم عليها السلام وتبشيرها بعيسى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ )2 .

وعيسى يبشر بخاتمة البشارات وأصل ظهورها والعلة في تنقلها فيقول عز وجل في كتابه الكريم عن تبشير عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)3 .

بشرى المسيح أنت عنوان دعوته وقبله كل هادٍ صادق القدمِ (1)

حتى إذا بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن البشرى كانت في أمرين:

ص:241


1- أنوار الربيع لابن معصوم: ج 4، ص 333، والبيت للشيخ عز الدين الموصلي.

الأمر الأول: هو القرآن الكريم:

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ )1 .

وقوله تعالى:

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ )2 .

والأمر الثاني: هو عترته صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته الذين قال الله فيهم:

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)3 .

ثم أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للامة عظمها وخطرها وأنها نجاة المسلمين فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1).

ص:242


1- تناقلت صحاح المسلمين ومسانيدهم ومستدركاتهم حديث الثقلين بطرق عدة وأسانيد جمة

وعدم افتراق أهل البيت عن القرآن حجة قاطعة في عصمتهم التي هي عدل عصمة القرآن.

ومن هنا يظهر معنى بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بفاطمة عليها السلام.

ومن هنا ندرك معنى صفاتها التي أعلنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين خديجة عليها السلام، وهو نفس البشارة التي جاء بها القرآن الكريم في ذكره للبشارة بولادة الأنبياء عليهم السلام وبيان صفاتهم.

ونحن لا نقول: إن فاطمة عليها السلام من الأنبياء، إلا أنها البضعة النبوية التي جعل الله نسل النبي المصطفى منها، وجعل من نسلها أئمة هداة مهديين خلفاء لله في أرضه بعد انقضاء وحيه.

ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم بعض صفاتها وهي:

«النّسمة، الطاهرة، الميمونة».

فهذه صفات ثلاث ذكرها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكل صفة لها معنىً خاصٌّ بها.

فأما معنى: (النّسمة)، فهي الروح أو النفس(1) ، فإذا أريد بها (الروح)

ص:243


1- لسان العرب لابن منظور: ج 14، ص 130، مادة: نسم.

فإن فيه معانيَ جمّة، ودلائل عظيمة، منها: (الحياة) فإن كل شيء لا روح فيه فلا حياة له، أو فيه؛ وهو إما جماد، وإما ممات.

والحياة هنا: هي حياة ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بوصفها الأصل في نمو ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها كان ظهور الأئمة؛ لأنها أمهم جميعاً عليهم الصلاة والسلام الذين أحيا الله بهم الدين.

وأما إذا أريد به: (النفس).

ففاطمة عليها الصلاة والسلام هي: (النفس المطمئنة)(1) ، ويمكن الاستدلال على ذلك بأمور:

1 - قد ورد في الحديث في ذكر أسمائها عليها السلام أنها (الراضية، المرضية)(2).

2 - الاطمئنان أصله الإيمان ومقره القلب، حتى إنه ارتبط به ارتباطاً وثيقاً.

ص:244


1- وهو قوله تعالى في سورة الفجر، الآيتان: 27 و 28 (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ...).
2- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج 3، ص 133، ط مطعبة الحيدرية، النجف؛ الأمالي للصدوق: ص 250، مؤسسة البعثة؛ عيون أخبار الرضا للصدوق: ج 1، ص 30، مؤسسة الأعلمي بيروت؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 178؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 9، ص 282، ط مؤسسة إسماعيليان؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 410 وج 2، ص 179، ط دار الأسوة.

قال تعالى:

(الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ )1 .

فقدم الإيمان على الاطمئنان لأنه الأصل، ولولاه لم يحدث الاطمئنان.

وبالإيمان يثبت القلب أي يكون مستقراً فلا تؤثر فيه الكروب النازلة أو الحوادث المكرهة.

قال تعالى:

(إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ )2 .

ومن هنا فإن من كان الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها(1) ، كانت كل ذرة في ذاتها وكيانها تنطق إيماناً وتشع اطمئناناً.

وعليه: فإنها عليها السلام كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (النّسمة) أي: (النفس المطمئنة).

ولا تعارض في أن يكون هذا حال الأئمة عليهم السلام لكونهم حجج الله على خلقه وأمناءه على شرعه.

ص:245


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 153-154؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 401، برقم (1001)؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 56-57 ط دار الجبل؛ الثغور الباسمة للسيوطي: ص 30، برقم 42؛ وقال: إسناده حسن مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 203، وقال: إسناده حسن؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 7، ص 1224.

المبحث الرابع: (فأجاءها المخاض)

اشارة

وبعد أن حملت الصديقة الطاهرة، أم المؤمنين خديجة الكبرى سلام الله عليها بالنطفة الزكية النورانية المحمّدية ونمت فاطمة سلام الله عليها في أحشاء خديجة تسعة أشهر إلاّ أربعة أيام؛ إذ إنّ ليلة انعقاد النطفة النبوية كانت ليلة الرابع والعشرين من رمضان المبارك، وها هو اليوم العشرون من جمادى الآخرة وفيه بدت آلام المخاض على أم المؤمنين خديجة عليها السلام:

«وحانت ولادتها فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً فاغتمت خديجة عليها السلام لذلك.

فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنهن من نساء بني هاشم ففزعت منهنَّ لما رأتهنَّ فقالت إحداهنَّ : لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك»؟!

أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة عليها السلام طاهرة مطهرة.

فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النّور حتى دخل بيوت مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور.

ص:246

ودخل عشر من الحور العين كلّ واحدة منهنَّ معها طشت من الجنة، وإبريق من الجنّة، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاًَ من اللّبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر فلفتها بواحدة، وقنعتها بالثانية.

ثم استنطقتها فنطقت فاطمة عليها السلام بالشهادتين وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن أبي رسول الله وأن بعلي سيّد الأوصياء وولدي سادة الأسباط .

ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة منهن باسمها وأقبلن يضحكن إليها وتباشرت الحور العين وبشر أهل السماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة عليها السلام، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك.

وقالت النسوة: خذيها يا خديجة، طاهرة، مطهرة، زكية، ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة والقمتها ثديها فدّر عليها، فكانت فاطمة عليها السلام تنمي في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر وتنمي في الشهر كما ينمو الصبي في السنة)(1).

دلالات البحث في الحديث:

بعد أن تناولنا الأحاديث السابقة وبينا بعض دلالات البحث فيها والتي بدا بعضها موسعاً بسبب أهميتها فإني وجدت أن أشير إلى بقية الدلالات في الأحاديث القادمة على نحو الاختصار معتمداً على ذكر الإشارة في البعض منها، ومحاولاً عدم الإطالة فيها إلا ما ألزمتني الضرورة في ذلك من قبيل

ص:247


1- أمالي الصدوق: ص 69، ط مؤسسة البعثة، البحار للمجلسي: ج 43، ص 2، ح 1.

المسؤولية الشرعية في بيان حقائق الأحداث أو لتكامل حلقات البحث بحيث لا يمكن ترك بعضها لأنه يسبب حدوث فراغ ذهني أو حلقة مفقودة.

المسألة الأولى: الحكمة في ذكر الرفقة لآسيا مع خديجة في الجنة

(لماذا ذكر الإمام الصادق عليه السلام الرفقة لآسية مع خديجة في الجنة ولم يذكرها لبقية النساء وهنَّ جميعاً في الجنة)؟!

الوجه الأول في ذلك: أن آسية بنت مزاحم كانت قد سألت الله أن يبني لها بيتاً في الجنة:

(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ )1 .

إن خديجة بنت خويلد سلام الله عليها كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(1).

كما أن البيت الذي سألت الله آسية أن يبنيه لها هو بجوار بيت خديجة، وبهذا تكون رفيقة لخديجة في الجنة.

ص:248


1- البحار للمجلسي: ج 16، ص 8، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ صحيح البخاري: ج 4، ص 231، ط دار الفكر - بيروت؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 224، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 7، ص 302، ط دار الكتب العلمية بيروت؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 438، ط دار الكتب العربي - بيروت؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 101، ط دار الكتب العلمية - بيروت.

الوجه الثاني: هو أن آسيا بنت مزاحم كانت بسبب إخفائها إيمانها تتعبد بمنهج الاعتزال من قومها، بل حتى مع أقرب الناس إليها بما تفرضه الحياة الزوجية عليها من اختلاط وتقارب إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تعتزل هذه الدنيا، وكذا كان حال خديجة عليها السلام فقد اعتزلت الحياة الدنيا والتجأت إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عما فرضه المشركون رجالاً ونساءً من حصار وعزلة على خديجة كما أظهره الحديث.

المسالة الثانية: ما هي العلاقة بين صفة نساء بني هاشم وبين النساء اللاتي دخلن على خديجة عند ولادة فاطمة عليها السلام ؟

(لماذا كان دخول النساء على خديجة عليها السلام بصفة نساء بني هاشم، وهل له علاقة بفاطمة عليها السلام)؟!

إن لدخول النساء الأربع اللاتي جاء ذكرهنَّ وتعريفهنَّ في الحديث الشريف للإمام الصادق عليه السلام بصفة نساء بني هاشم له عدة أوجه، منها:

1 - لأفضلية بني هاشم وشرافتهم على سائر قبائل العرب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم»(1).

ص:249


1- أخرجه مسلم في صحيحه عن وائلة بن الأسقع: ج 7، ص 59، باب: في معجزات النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم.

2 - من الطبيعي أن امتناع نساء قريش عن المجيء إلى خديجة عليها السلام، ترك في نفسها الحزن والشعور بالوحشة، وأن دخول النساء عليها وهنّ على غير الهيئة والصفة التي لنساء قريش وبخاصة بني هاشم يزيد في فزعها عند رؤيتهنَّ مما يؤدي إلى التسبب في زيادة آلامها وهي في وضع لا يسمح أن تضطرب فيه نفسيتها.

بل بحاجة إلى السكينة والطمأنينة لتسهيل الولادة، فدخولهنَّ عليها بهيأة نساء بني هاشم كان خوفاً عليها وعلى مولودها النبوي الفاطمي صلوات الله عليها.

3 - من المفروض أن يستجيب الأقرباء إلى تلبية نداء المحتاج للمعونة من أقربائه وخديجة هي أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ إنها تتصل معه بالجد الرابع وهو قصي بن كلاب فبنو هاشم هم أولى برعاية خديجة عليها السلام وهي في حال كهكذا من المخاض.

وهذا يكشف عن الرعاية الإلهية واللطف الرحماني بخديجة كي تشعر بأن أهلها معها.

المسألة الثالثة: ما معنى دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة عند ولادتها؟

(ما المقصود من دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور)؟!

ص:250

والجواب من وجهين:

الوجه الأول: هو إشارة إلى دخول الإسلام إلى جميع بيوت مكة وهذا معنى عام، ولكونها عليها السلام شجرة الإمامة.

الوجه الآخر: وهو الأقرب إلى القصد، فإن نورها الذي ملأ الشرق والغرب وأشرق في جميع مواضع الدنيا هو ولدها الإمام المهدي عجل الله فرجه.

«الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً»(1).

وهذا الامتلاء لا يتحقق معناه إلا بوصول العدل الإسلامي المحمدي العلوي الفاطمي إلى كل ذرة في الأرض، كما وصل نور فاطمة عليها السلام وأشرق في كل موضع في شرق الأرض وغربها.

المسألة الرابعة: نطق فاطمة عليها السلام بالشهادتين

هذا الأمر من خواص المعصومين عليهم السلام، وهو أحد الدلائل التي تدل على اختصاصهم بالعصمة الإلهية، والاصطفاء الرباني.

إذ إن المعصوم عليه السلام يبيّن بعد ذكره الشهادتين المهمة المكلف بها والدور الذي اختاره الله له، والأمر الموكل إليه، وشاهده من الكتاب الحكيم عن ولادة نبيّ الله عيسى عليه السلام:

ص:251


1- وهو حديث نبوي، أخرجه الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج 15، ص 253؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 4، ص 161؛ أنظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 1، ص 370، ح 316، (يملأ الأرض عدلاً وقسطا).

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا)1 .

بعد ذلك بيَّن عليه السلام الأمر الإلهي الذي كلف به:

(وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا)2 .

ولذلك:

فإن الزهراء فاطمة عليها السلام بعد أن ذكرت الشهادتين، ذكرت الولاية لعلي بن أبي طالب وبأنه سيد الأوصياء وأن ولديها سادة الأسباط ، ومن هذا الكلام تظهر عليها السلام الجعل الإلهي لها فقد جعلها الله تعالى: (زوجة سيد الأوصياء) و (أم سادة الأسباط ).

ثم قامت عليها السلام، بالسلام على جميع مَن حضرْنَ للتشريف بولادتها وتسميتهن بأسمائهنَّ لأنها عليها الصلاة والسلام سيدتهنَّ ، فهي: (سيدة نساء العالمين)(1) والحور من نساء العالمين.

ص:252


1- أخرجه الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 156، ط دار المعرفة - بيروت؛ والديلمي في مسند الفردوس: ج 3، ص 145، حديث 4388، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 110، حديث 24232؛ الجمع بين رجال الصحيحين للعتسراني: ج 2، ص 611، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 56، ط دار الجيل - بيروت؛ الجامع من المقدمات لابن رشد: ص 66، ط دار العرفان؛ وسوف نورد المزيد من المصادر في باب: (منزلة فاطمة في السنة النبوية).

المسألة الخامسة: مكان ولادة فاطمة عليها السلام

إنّ الموضع الذي ولدت فيه فاطمة عليها السلام يعدّ من المواضع التي يتقرب بها المؤمنون إلى الله عز وجل، ومنها يتوجهون إليه بالدعاء لقضاء حوائجهم، وقد دلت النصوص التاريخية وواقع حال المسلمين في زيارتهم للأماكن المقدسة في مكة المكرمة وما عليه فقهاؤهم قبل مجيء الوهابيين إلى الحكم هو أن دار أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها وهو البيت الذي ولدت فيه فاطمة عليها السلام كان من الدور المخصوصة للعبادة ويقصدها الناس بالزيارة(1).

وكيف لا وهي بيت النبي الذي تزوج فيها وعاش أكثر من أربع وعشرين سنة حتى هاجر عنها إلى المدينة وفيها رُبّيَتْ الزهراء وفيها زغب جبرائيل وعرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها مهبط الملائكة ومحل عروجهم وبين جوانبها نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعبده وموضع تهجده.

فجميع هذا وغيره هو مما حظى به دار خديجة أم المؤمنين سلام الله عليها، حتى عرف اليوم بموضع مولد فاطمة صلوات الله عليها؛ لعظم هذا التشريف، ولخصوصية ولادة البضعة النبوية والشجنة المحمدية.

وعليه؛ فإن فاطمة الزهراء قد ولدت في بيت أمها الصديقة الطاهرة حبيبة رسول رب العالمين وأم أولاده، فكان هذا الدار أحد المواضع المكرمة والمشرفة بالعبادة والزيارة والتوسل إلى الله تعالى.

ص:253


1- شفاء الغرام للحافظ أبي الطيب الفاسي: ج 1، ص 272، ط دار الكتب العلمية.

المبحث الخامس: إرضاع خديجة إياها (عليها السلام)

إن السبب الذي دفعني لإفراد بحث مستقل في رضاع فاطمة سلام الله عليها كان لارتباطه بالسيدة خديجة عليها السلام فضلاً عن أهمية حجر الأمومة وأثره الكبير في بناء شخصية الإنسان؛ إذ إن لبن الأم له تأثيرات بايلوجية وأخرى سايكلوجية.

فالأم التي تغذي وليدها بلبنها لا تنمي فيه الجانب التكويني الخلقي فقط بل هي تنمي فيه الجانب الخُلقي أيضاً فتورثهُ من صفاتها الأخلاقية الكثير من دون أن تشعر بذلك أو تريد، وهو ما أشار إليه حديث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الخصوص فقال:

«ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه»(1).

وقال عليه السلام:

«لا ترضعوا أولادكم عند المرأة الحمقاء فإن لبنها يعدي»(2).

أي إن هذا اللبن يحمل بين جزيئاته وبحسب لغة الطب الوقائي «جرثوماً»

ص:254


1- الكافي للكليني: ج 6، ص 40؛ من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 3، ص 475؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 8، ص 108.
2- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 2، ص 627، ط منشورات مكتبة المرتضوي؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 23، ص 376، ط مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين - قم؛ البحار للمجلسي: ج 100، ص 323، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ وسائل الشيعة (الاسلامية) للحر العاملي: ج 15، ص 188، ط دار احياء التراث العربي - بيروت.

أو «فايروساً» لكن لا يصيب الخلايا الجسمية إنما يصيب الخلايا العقلية، أو فلنقل المسؤول عن الإدراك والوعي في الدماغ، فيؤدي إلى نشوء طفل لا يحسن التصرف ولا يميز الأمور ولا يدرك بجدية ما يدور من حوله وبالنتيجة يتخرج من هذا الحجر الذي نما فيه وتربى عنده إنسان فاشل لا يشعر بالمسؤولية ولا يسعى لتحقيق أي هدف.

فكيف إذا أضيف له ما يتوارث من حجر الأم خاصة فهو وفي الوقت الذي يتناول فيه اللبن فإن آذانه تسمع ما تتلفظه هذه الأم وإن جهازه السمعي الباطني يسجل هذه الألفاظ في ذاكرة الدماغ فما إن يكبر الإنسان حتى يجد هناك أموراً كثيرة تدفعه وتحرك مشاعره إما إلى الخير وإما إلى الشر، وهو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(1).

وعليه كيف يمكن أن يتحقق معنى التحصيل للعلوم فيما لو كان هذا الجهاز معطلاً أي الجهاز السمعي الباطني عند الطفل والذي أسماه القرآن الكريم: (الأذن الواعية)(2).

ص:255


1- العلم والحكمة في الكتاب والسنة لمحمد الريشهري: ص 206، 207، ط مؤسسة دار الحديث - قم؛ كشف الظنون لحاجي خليفة: ج 1، ص 51، ط دار احياء التراث العربي - بيروت، أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 4، ص 112، ط دار التعارف - بيروت.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 158، ط مجمع إحياء الثقافة الإسلامية - قم؛ معاني الأخبار للصدوق: ج 9، ص 59، ط مؤسسة النشر

وهذه الأذن الواعية تتجلى بأكبر صورها وأعلى قدرتها عند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعند الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، وقيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب سلام الله عليه خاصة(1).

وعليه:

فإن البضعة النبوية المحمّدية وكما مر علينا سابقاً كانت تسمع وترى وتجيب على ما كان يدور من حولها، وهذه إحدى خصائص من اجتباهم الله عز وجل لرسالته وجعلهم تراجمة وحيه ولسان توحيده، والدالين عليه والهادين إليه سلام الله عليهم أجمعين.

ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى الخصائص والمزايا التي يشترك بها بنو آدم معهم؛ لنبين أنها حتى من هذا الجانب فقد خصها الله بما لم يخص به أحداً من العالمين.

ص:256


1- مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 158، ط مجمع إحياء الثقافة الاسلامية؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي: ج 3، ص 137، ط المكتبة المرتضوية؛ البحار للمجلسي: ج 35، ص 329، مؤسسة الوفاء - بيروت؛ تفسير فرات الكوفي لفرات بن إبراهيم الكوفي: ص 499، مؤسسة الثقافة والارشاد - طهران.

ومن بين هذه الخصائص التي تشرك فيها الزهراء مع بني آدم من جهة المثلية لهم أنها عليها السلام دخلت إلى حجر الأمومة كما دخلوا لكن حجر الأمومة الذي ربّيَتْ فيه فاطمة الزهراء ليس له مثيل على وجه الأرض.

إنه حجر أم المؤمنين الصديقة الطاهرة الزكية الجليلة هذه المرأة التي كانت مسكن خاتم الأنبياء، وأنس سيد المرسلين، ومأوى حبيب رب العالمين، وملجأ أشرف الخلق أجمعين.

فتأمل أيها القارئ الكريم عندما تكون الأم التي تروي طفلها وتغذيه بلبنها بهذه الصفات فكيف ينمو طفلها وأي صفات سيرثها؟!

وعندما تكون هذه الأم مأوى ووقى لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الشكل، فكيف ستكون لفلذة كبدها وسويداء قلبها وبخاصةً أنها فقدت طفلين من قبل فكيف ستحنو على هذه المولودة سلام الله عليها؟!

ومن هنا: نفهم لماذا أبت أم المؤمنين خديجة عليها السلام أن يرضع أحد من النساء فاطمة، وتولت هي رضاعتها(1).

وهذا فيه من العناية الإلهية الخاصة بأن جعل فاطمة تنمو في أحشاء خديجة سلام الله عليها وترضعها وتتولى رعايتها والإشراف عليها منذ اللحظات الأولى لولادتها.

فما إن انتهت مراسيم استقبالها وتغسيلها بماء الجنة ولفها بخرقة بيضاء

ص:257


1- طبقات ابن سعد: باب ترجمتها، السيرة النبوية لابن كثير: ج 4، ص 608، ط دار المعرفة - بيروت.

من الجنة كما مر بيانه، فتناولتها أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها وهي فرحة مستبشرة وألقمتها ثديها فدر عليها فكانت فاطمة عليها السلام تنمو في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر، وتنمو في الشهر كما ينمو الصبي في السنة(1).

والحكمة في ذلك هو لكي يراها الناظر وهي على هيئة المرأة الكبيرة فيدرك وهو ينظر إليها تمشي وجلبابها يخط الأرض أن الذي يمشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا أولاً.

أما ثانياً: فلكي تُعد إعداداً خاصاً لما ينتظرها بعد وفاة خديجة سلام الله عليها من العناية والرعاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكي تكون قادرة على خوض عملية بناء الإسلام مع أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ثالثاً: إقراراً لعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يراها وهي أمامه امرأة تحاكي هيئتها من كانت في العشرين فيسعد بها وهو يراها قد بلغت مبلغ النساء فيعيد بالنظر إليها تلك اللحظات السعيدة التي عاشها مع أم المؤمنين خديجة.

رابعاً: إن في ذلك حرباً على المنافقين وشوكةً في عيون الكافرين وقد وصفوا النبي من قبل بالأبتر بعد أن مات ولداه فهاهي فاطمة تنمو بأسرع مما ينمو به الطفل فتملأ الدار النبوي بهجةً وسروراً.

ص:258


1- بحار الأنوار: ج 43، ص 3، حديث 1، نقلاً عن الأمالي للصدوق.

المبحث السادس: تسميتها

إن من السنة المؤكدة استحباب اختيار الاسم الجميل للمولود، بل قد ورد في الحديث: استحباب اختيار اسم للمولود قبل ولادته(1).

ولقد كانت العرب قبل تشرفها ببعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسمي أبناءها بأسماء تكشف عن غلظة قلوبهم وحبهم للحروب، فكانت تختار ما يرمز إلى القوة والشدّة فذهبت إلى تسمية أبنائها بأسماء الحيوانات وبخاصة المفترسة ومنها الطيور الجارحة «كنمر، وأسد، وفهد، وصقر، وغيرها» وأيضاً ما كان يدل على الصلابة والتحدي: كصخر، وحرب، ومُرة... الخ.

فلما جاء الإسلام وظهر في مجتمع الجزيرة أخذوا يسمون أبناءهم بتسميات جميلة عملاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن»(2).

لكن قبل ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يباشر بتغيير أسماء كثيرة كأبي بكر وكان اسمه قبل الإسلام عبد العزى فسماه النبي صلى الله عليه

ص:259


1- وسائل الشيعة (آل البيت عليهم السلام) للحر العاملي: ج 21، ص 387، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم؛ وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي: ج 15، ص 121، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 21، ص 331؛ الخصائص الفاطمية للشيخ محمد باقر الكجوري: ج 2، ص 569، انتشارات الشريف الرضي.
2- الآداب للبيهقي: ص 290، ج 604، ط دار الكتب العلمية.

وآله وسلم: (عبد الرحمن)(1) وكتغيير اسم زينب بنت أم سلمة وكان اسمها بترة (برة) فسماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (زينب)(2) ، وغير ذلك هم كثر.

ثم بعد ذلك أخذوا يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبنائهم فيضعونهم في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو لهم ويبارك عليهم ويسمي البعض منهم، وفي هذا الصدد فقد سجل التاريخ حادثة جرت لأحد هؤلاء الأطفال وهو «مروان بن الحكم» فما إن أدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظر إليه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«هو الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون»(3) ؟!

وتمر الأيام ويكبر هذا (الوزغ) وإذا به خليفة للمسلمين ؟!

فكيف يكون حال الإسلام والحاكم الذي تسلط على رقابهم قد لعنه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! والعجيب في الأمر أنك تجد صحاح المسلمين مليئة بأحاديث هذا الملعون على لسان النبي صلى الله عليه وآله

ص:260


1- سيرة الحلبي: ج 2، ص 414، ط دار المعرفة - بيروت؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 152، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ فتوح البلدان للبلاذري: ج 1، ص 110، ط مكتبة النهضة المصرية - القاهرة.
2- الأدب المفرد للبخاري: ص 244؛ الآداب للبيهقي: ص 292.
3- ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج 2، ص 470؛ النصائح الكافية لابن عقيل: ص 76؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 479، ط دار المعرفة؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 276؛ السيرة الحلبية: ج 1، ص 510؛ جواهر المطالب: ج 2، ص 192؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 4، ص 196.

وسلم! والأعجب منه أن يصنفه البعض ضمن قائمة الصحابة ونظرية: «كلهم عدول» فأي عدلٍ هذا والرجل إنما هو «فضض من لعنة الله» أو «قصص من لعنة الله» كما صرحت بذلك عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).

والأمر لم يتوقف عليه فقد لعنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعن أباه وولده جميعاً وهو ما رواه محمد بن سوقة الشعبي عن ابن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لعن الحكم وولده»(2).

وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه: (بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره كما تنزُّ القردة فما رُئي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستجماً ضاحكاً بعد هذه الرؤيا حتى توفي)(3).

ص:261


1- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 481؛ فتح الباري لابن حجر: ج 8، ص 443؛ عمدة القاري للعيني: ج 19، ص 169؛ تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي: ج 3، ص 282؛ تفسير ابن كثير: ج 4، ص 172؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، ص 41؛ فتح القدير للشوكاني؛ تفسير الآلوسي: ج 26، ص 4؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 277؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي: ج 2، ص 192؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 469.
2- مستدرك الحاكم: ج 4، ص 481، ط دار المعرفة. والذهبي في التخليص مطبوع مع المستدرك: ج 4، ص 481.
3- كنز العمال للهندي: ج 6، ص 29، وص 39، وقال: أخرجه أحمد بن حنبل، والطبراني؛ المستدرك للحاكم: ج 4، ص 480، عن أبي ذر الغفاري ووافقه الذهبي عليه في تلخيصه.

وقد نزل جبرائيل عليه السلام بعد هذه الرؤيا بقوله تعالى:

(وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ )1 .

وهذه الشجرة الملعونة هم: (بنو أمية)(1).

ومن ذلك نعلم كيف أن الله ابتلى الإسلام بهم وجعلهم فتنة للناس، وهنا: جاء قوله تعالى بكلمة: (الناس) ولم يقل: «المسلمين»، لأن بلاءهم وأفعالهم أهلكت النسل والحرث ولم يسلم منهم أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم، لأنهم أشر الخلق لله تعالى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دغلاً»(2).

ومن هذا كله يستفاد أن مجيئهم بأولادهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو لحكمة خاصة، فيها الحجة البالغة، ليعلم المسلمون أن هذا المولود وذاك إنما حقيقتهم هي بهذا الشكل الشنيع حتى يتجنبوهم ويحذروهم، لكن

ص:262


1- التفسير الكبير للرازي: ج 10، ص 238، تفسير سورة الإسراء، ط دار الفكر - بيروت؛ تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 5، ص 309، ط دار الفكر، وقال: أخرجه ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله يقول لجدك وأبيك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
2- المعجم الصغير للطبراني: ج 2، ص 136؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 480؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 479.

هيهات هيهات فكثير من المسلمين آزروهم وناصروهم فنالوا بذلك إثم إعانة الظالمين وتحمل أوزارهم على الرغم من كشف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للامة حال مروان خاصة وبني أمية عامة وأظهر للمسلمين حقائقهم وما سيؤول إليه أمرهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء وبعضكم يومئذ شيعته»(1).

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

والشيء الثاني المستفاد من تغييره صلى الله عليه وآله وسلم أسماءهم: هو أن هذه الأسماء تؤثر من الناحية النفسية على الشخص الحامل للاسم غير الجميل.

وحديث سعيد بن المسيب يكشف لنا هذه الحقيقة، فعن عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال: جلست إلى سعيد بن المسيب فحدثني أن جده «حزناً» قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«ما اسمك»؟

قال: اسمي حزن.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«بل أنت سهل».

ص:263


1- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5، ص 242؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 12، ص 336؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 57، ص 267؛ كنز العمال: ج 11، ص 166، برقم 31060.

قال: (ما أنا بمغير اسماً سمانيه أبي).

قال ابن المسيب: (فما زالت فينا الحزونية)(1).

بعد هذه الجولة التي بينّا فيها أحد مناهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تغيير هذه الامة ورفع مستواها الحضاري بعد أن كانت تعصف بها رياح الجهل والظلام فأنقذها الله بأبي الزهراء صلى الله عليه وآله وسلم.

نعود إلى رحاب أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسأل: من الذي سمى البضعة النبوية بفاطمة عليها السلام ؟!.

والجواب على هذا السؤال نسمعه أو نقرأه من خلال هذا الحديث الوارد عن العترة النبوية: فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«لمّا ولدت فاطمة عليها السلام أوحى الله عز وجل إلى ملك فأنطق به لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسماها: فاطمة»(2).

أما معنى هذا الاسم فقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن العترة المحمدية عليهم السلام لا يسعنا إيرادها هنا(3).

ص:264


1- الأدب المفرد للبخاري: ص 250، حديث 814، ط دار الكتب العلمية؛ الآداب للبيهقي: ص 291، حديث 610، ط دار الكتب العلمية.
2- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 179، ط المكتبة الحيدرية، النجف؛ البحار للمجلسي: ج 34، ص 13، حديث 9، باب 2.
3- لقد قمنا بحمد الله تعالى في كتاب موسوعة فاطمة عليها السلام البحث في تفرعات هذا المبحث، وقد أشبعنا هذه العناوين بمزيد من الدراسة والتحقيق ونسأل الله أن نوفق لإكمالها وطباعتها.

المبحث السابع: عقيقتها

ان من السنن المستحبة التي ترافق المولود بعد ولادته هي العقيقة.

«والعقيقة» هي: الشعر الذي يولد به الطفل لأنه يشق الجلد، فيقال لهذا الشعر «عقيقة» وجعل الزمخشري: الشعر أصلاً، والشاة المذبوحة مشتقة منه.

وعقّ الرجل عن ابنه يعقّ : أي حلق عقيقته، أو ذبح عنه شاة(1) ، وفي التهذيب: يوم أسبوعه فقيده بالسابع، واسم تلك الشاة العقيقة(2).

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

في العقيقة عن الغلام شاتان مثلاً، وعن الجارية شاة.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى»(3)).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:

«عق عنده - أي المولود - وأحلق رأسه يوم السابع»(4).

والعقيقة شاة أو جزور تجتمع فيها شرائط الأضحية، وهي: السلامة من العيوب والسمن، والسن على الأفضل، ويجزي فيها مطلق الشاة(5).

ص:265


1- لسان العرب، لابن منظور: ج 9، ص 324، مادة: «عقق».
2- تهذيب الصحاح للزنجاني: ص 590، ط دار المعارف بمصر.
3- الجامع الصغير للسيوطي: ج 2، ص 665، برقم: «5959».
4- الوسائل: كتاب النكاح باب، 44، من أبواب أحكام الأولاد الحديث: 8.
5- اللمعة الدمشقية للشهيد جمال الدين العاملي: ج 5، ص 447، كتاب النكاح، أحكام الأولاد.

قال الإمام الصادق عليه السلام:

«انما هي شاة لحم، ليست بمنزلة الأضحية، يجزي منها كل شيء، وخيرها أسمنها»(1).

اما ما يخص البضعة النبوية عليها السلام، فقد عقت عنها السيدة خديجة عليها السلام بشاة(2) وإنها أطعمتها للمؤمنين عملا بالسنة وقصداً لحصول الأجر في ورود السرور عند الإطعام.

المبحث الثامن: فاطمة في حِجْرِ النبوة

المسألة الأولى: إن الله اصطفى لها ما لم يصطفِ لأحد من أوليائه

ان المراد بالحجر لغةً هو: «الحِضْنُ »، فيقال: حَجْرُ المرأة وحِجْرُها حِضْنُها(3).

وهنا عندما نقول: حَجْرُ النبوة، أي إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي احتضنها ورباها ضمن أصول النبوة، وقواعدها، ومناهجها.

فكان خلقها عليها السلام خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي خاطبه المولى قائلاً:

ص:266


1- الوسائل للعاملي: كتاب النكاح، باب: 45، من أبواب أحكام الأولاد الحديث: 2.
2- الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي: ج 2، ص 656، ط دار الكتب الحديثة؛ المختصر الكبير لابن جماعة: ص 83.
3- لسان العرب لابن منظور: ج 3، ص 57، مادة حجر.

(وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )1 .

وخاطب صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين قائلاً:

«لقد أدبني ربي فأحسن تأديبي»(1).

فأدب فاطمة وخُلقها هو: أدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلقه. حتى قالت عائشة: (ما رأيت أحداً أفضل من فاطمة غير أبيها)(2).

بعد هذه الإشارة في بيان الركنين الأساسين في نشأة كل إنسان وأقصد والديه، فإننا نرحل في سفينة الحب النبوي إلى بيت خديجة أم المؤمنين عليها السلام لترسو بنا سفينتا على سواحل أعتاب بيتها نلتمس الإذن في الدخول إلى رحاب البيت الذي كان سكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنبع الحنان والحب والمودة التي ملأتْ كل ذرة من كيان أم المؤمنين خديجة عليها السلام. لتهبها لزوجها وتبذلها له فما ادخرت جهداً وما بخلت بعطية، وما شكت ألما، ولا تبرمت من حال أنزله بها كفار مكة نساءً ورجالاً.

ص:267


1- البحار للمجلسي: ج 16، ص 210، ط دار إحياء التراث العربي - بيروت؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 11، ص 233، ط دار إحياء الكتب العربية؛ الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي: ج 1، ص 51، برقم 310، ط دار الفكر - بيروت.
2- الغدير للشيخ الأميني: ج 3، ص 25، ط دار الكتب العربي - بيروت؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 201، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ الاصابة لابن حجر: ج 8، ص 264، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ ينابيع المودة لذوي القربى، القندوزي: ج 2، ص 58، برقم 35، ط دار الأسوة.

فعندما يحيا الإنسان وتكون أيام طفولته في مثل هذه الأجواء المليئة بالحب والحنان والرحمة فمما لا شك فيه سيكون هذا الإنسان منبعاً لهذه الفضائل التي نمت عليها عروقه وتوغلت فيها جذوره.

ونحن وان كنا نعرض مثل هذه النقاط التي مع أهميتها الكبيرة لدى الباحثين وأصحاب الاختصاص في الحياة الأسرية والعلوم النفسية، إلا أننا لا نجعلها الأساس في تكوين شخصية فاطمة الزهراء عليها السلام.

إذ إن الملاك والضابطة في حياة الأولياء هو الاصطفاء الإلهي وهو مفاد قوله تعالى:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )1 .

ومع هذا الاصطفاء يكون الاصطناع الرباني، لقوله تعالى:

(وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)2 ،(فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى )3 .

فالصناعة ربانية، والاصطفاء إلهي، ومن كان الله قد اصطفاه لنفسه فلا تؤثر فيه قوى الشر ولا يمسه رجس الكافرين، وقد أعطى القرآن دليلاً - لمن كان يؤمن بالله تعالى ولمن كان بعيداً عنه - يثبت أن الظروف والعوامل التي تحيط بحياة الأنبياء والأولياء لا يمكن حملها على بقية حياة الناس وكيفية نشأتهم.

ص:268

وها هو نبي الله موسى الكليم تلقيه أمه وهي خائفة وجلة عليه من القتل فترميه في البحر ليسوقه جبرائيل إلى بيت عدو الله فيأخذه ويربيه ويتولى تنشئته، ولم يكن قصر فرعون وطغيانه وكفره مؤثراً في إيمان موسى عليه السلام.

أما سبب تأكيدنا على البيت الذي نشأت فيه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، فذلك من أجل معرفة العناية الإلهية الكبيرة، والاهتمام البالغ والتركيز على فاطمة عليها السلام.

لان الغاية والعلة التي خلقت لها فاطمة تستوجب هذا الاعتناء الرباني، وهذا الاهتمام الإلهي. ويكفيك من هذا بياناً بأنها (أم أبيها).

فالله قد اصطفاها، وحبيبه قد علمها ورباها، وحبيبة رسوله قد غذتها وأنشأتها.

المسألة الثانية: السنين الأولى لطفولتها وتأثيرها في أم المؤمنين خديجة عليها السلام

ان السنين الأولى لطفولة فاطمة عليها السلام كانت فيها عليها السلام قد أعادت بسمة الأمومة لخديجة، تلك البسمة التي لا تمنحها الأم إلاّ لطفلها الذي يتأمل بعينين مفتوحتين تلك التقاطيع التي ترافق وجه أمه وهي مبتسمة له وكأنها تسمعه باعذب الكلمات التي تعجز عنها لغات العالم.

فأي لغة يمكن ان تعبر عما ينطقه وجه الأم وهي تنظر لولدها وقد زينت وجهها هذه الابتسامة ؟!

إنها لغة لا يعلمها الا قلب هذا الطفل ولا يصدرها الا قلب الأم.

ص:269

وبخاصة عندما تتعامل أم كخديجة مع طفلها الجديد الذي انتظرته كثيراً بعد أن فقدت طفلين هما «القاسم وعبدالله عليهما السلام»، اللذين لم يعيشا طويلاً، بل إنهما لم يكملا رضاعهما فقد اختار الله لهما دار الآخرة.

ثم تبقى خديجة عليها السلام تنتظر رحمة الله عز وجل أن يمنّ عليها بحمل ومولود جديد ويطول بها المقام ويتأخر عليها الحمل، لحكمة أرادها الله عز وجل.

ومن هنا فإن حملها بفاطمة وولادتها قد أعادتْ عليها تلك الابتسامة التي كانت تطلقها فاطمة عليها السلام.

وكانت سنتا الرضاعة أياماً عاشتها فاطمة بالحب والرحمة والرأفة والحنان النبوي اللا متناهي، ومع هذا كله كانت تعيش أجواء السلام والطمأنينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مُحَصَناً منيعاً بعمه أبي طالب الذي دأب يحنو عليه ويذب عنه كيد قريش ويدفع عنه طغاتها.

فكانت هذه السنتان من عمرها المبارك مميزة ومليئة بالدفء والحنان والرحمة والحب والسكينة.

إلا أن هذه الأجواء لم تكن دائمة فقد تغير حال البيت النبوي بعد مرور عامين على ولادة فاطمة عليها السلام؛ إذ قد اجتمع المشركون وعزموا على فرض الحصار الاقتصادي والاجتماعي على بني هاشم رجالاً ونساءً وأطفالاً فقضت أم المؤمنين خديجة عليها السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنتها فاطمة عليها السلام هذه السنوات الثلاث حتى توفيت وقد تركت فاطمة وهي في الخامسة من عمرها (فإنا لله وإنا إليه راجعون).

ص:270

المحتويات

الفصل الثامن

خصائص دار خديجة عليها السلام في مكة

توطئة: البحث عن الهوية الإسلامية بين حضارتين 7

المبحث الأول: موقع دار خديجة الجغرافي 13

1. إنه في سوق الصباغين 14

2. إنه في شعب أبي طالب عليه السلام 14

3. إنه في زقاق العطارين 15

المبحث الثاني: صفة دار خديجة عليها السلام وفضله 16

المسألة الأولى: أقوال المؤرخين في بيان صفة دار خديجة وإظهار فضله وشرافته 16

المسألة الثانية: امتهان الوهابية لدار أم المؤمنين خديجة عليها السلام وتحويلها إلى دورات مياه!!! 21

المبحث الثالث: دار خديجة عليها السلام يشهد أهم الأحداث التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال ربع قرن 24

ص:271

المسالة الأولى: زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار خديجة عليها السلام وعيشه فيها 24

المسألة الثانية: نزول الوحي بسورة المدثر في بيت خديجة عليه السلام 25

المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلن تنصيب وصيه وخليفته من بعده في دار خديجة عليها السلام 27

المسألة الرابعة: إسلام الصحابة في دار خديجة عليها السلام 35

أولا: إسلام أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه في بيت أم المؤمنين خديجة عليها السلام 36

ثانيا: إسلام أبي بكر عند بيت خديجة عليها السلام 38

المسألة الخامسة: إسراء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من دار خديجة عليها السلام 41

أولا: إن بيت خديجة هو المسجد الحرام 42

ثانيا: إنّ لخديجة من الطهر ما لمريم عليهما السلام 43

المبحث الرابع: مبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة عليها السلام ليلة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة 52

المسألة الأولى: كيف وقعت الحادثة ؟ 53

ألف: ما رواه ابن إسحاق والطبري وغيرهما 54

باء: ما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله 58

المسألة الثانية: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى 69

المسألة الثالثة: شبهة ابن تيمية والحلبي في رد فضيلة الفداء، شبهة واهية ومخالفة للقرآن الكريم 73

أولاً: إتفاق أهل العلم بالحديث والسير على صدور هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبه يتضح كذب ابن تيمية 75

ص:272

القسم الأول: رواية أهل العلم بالحديث والسير لنزول جبرائيل وميكائيل لحفظ علي عليه السلام ليلة المبيت من الشيعة على رغم أنف ابن تيمية 78

القسم الثاني: رواية أهل العلم بالحديث والسير من السنة والجماعة في نزول جبرائيل وميكائيل 82

ثانياً: اسماء الذين رووا من أهل العلم بالحديث والسير واتفاقهم على ان علياً عليه السلام هو الذي شرى بنفسه فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنام في مكانه في دار خديجة عليها السلام 87

ثالثاً: محاربة آية الشراء منذ القرن الأول للهجرة والى يومنا هذا 100

ألف. بذل معاوية آلاف الدراهم لتحريف نزول الآية 106

باء. تعمد ابن تيمية الكذب على العلماء والقراء في صرف الآية عن علي بن أبي طالب عليه السلام 108

جيم. منهج الألباني في دفع الآية عن علي عليه السلام 108

رابعاً: الشبهة الحلبية ومخالفتها للقرآن والسنة 109

1. رد شبهة، حصول الطمأنينة لعلي عليه السلام بقول الصادق له، لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم 110

2. رد شبهة قول الحلبي: (فلم يكن فيه فداء بالنفس) 111

3. رد شبهة قول الحلبي: (والآية المذكورة في سورة البقرة هي مدنية باتفاق) 116

4. رد شبهة قول الحلبي (وقد قيل انها نزلت في صهيب) 119

المبحث الخامس: من دار خديجة عليها السلام خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام مصطحباً علي بن أبي طالب عليه السلام 126

المسألة الأولى: كيف وصلت الأصنام إلى بيت الله الحرام ونصبت على سطح الكعبة ؟ 129

المسألة الثانية: من دار خديجة عليها السلام خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصطحباً علياً عليه السلام لتكسير الأصنام قبل الهجرة 132

الحلقة الأولى: ما يدل على وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة دون تحديد السنة 134

ص:273

الحلقة الثانية: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في ليلة مبيته على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم 138

ألف. التلازم في تحقق الأثر الإرشادي بين عمل نبي الله إبراهيم عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تكسير الأصنام 140

باء. التوحيد ينطلق من دار خديجة وإليه يرجع الموحدون 145

جيم. الحكمة في اجتماع تكسير الأصنام والمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدة 146

الحلقة الثالثة: ما يدل على تعدد وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة 147

المسألة الثالثة: ما يدل على مباشرة الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح 151

أولاً: تعتيم البخاري على دور الإمام علي عليه السلام في تكسير الأصنام في فتح مكة 152

ثانيا: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح وتعمد البخاري ومسلم اخفاء ذلك 154

ثالثا: العلة في عدم تمكن الإمام علي عليه السلام من حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام 157

المبحث السادس: التقاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ببعض المؤمنين في دار خديجة عليها السلام 161

المسألة الأولى: رواية الشيخ الصدوق رضي الله تعالى عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام 162

أولاً: تحقق رؤية صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن الغيبة الصغرى 164

ثانيا: تقوى الحسن بن الوجناء وشدة مثابرته على طاعة الله والتقرب إليه 164

المسألة الثانية: رواية الشيخ الطوسي رضي الله عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام 166

ص:274

الفصل التاسع

حملها بفاطمة عليها السلام و ولادتها

المبحث الأول: خلقها من ثمار الجنة 175

المحور الأول: تفاعل الكتّاب مع حدث خلق فاطمة من ثمار الجنة 176

الأمر الأول: اعتماد بعض الكتاب فيما يرونه على ما يتلاءم مع اعتقادهم 176

الأمر الثاني: الاختلاف في وقت حدوث رحلة الإسراء لا يلغي الحقيقة 176

الأمر الثالث: الإعراض عن روايات أهل البيت عليهم السلام لا يدل على صحة المعْرِض عنها 177

المحور الثاني: السُنة النبوية والعقل يؤكدان حقيقة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة 178

أولاً 181

ثانياً 181

ثالثاً 181

الأمر الأول 182

الأمر الثاني 182

المسألة الأولى: إنها خلقت من شجرة طوبى 182

المسألة الثانية: إنها خلقت من سفرجل الجنة 185

المسألة الثالثة: خلقها من رطب الجنة 186

المسألة الرابعة: إنها عليها السلام خلقت من تفاحة من الجنة 187

المسألة الخامسة: إنها خلقت من جميع ثمار الجنة 188

بعض دلالات الحديث: 189

أولاً: (فأصبت من ريح تلك الثمار) 189

ص:275

ثانياً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاشتياق إلى الجنة 189

المبحث الثاني: التهيئة النبويّة لنزول الأنوار الفاطمية 190

الوجه الأول 190

الوجه الثاني 192

المحور الأول: أحاديث اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس ومنهم أم المؤمنين خديجة عليها السلام 194

المسألة الأولى: (لماذا الاعتزال لمدة أربعين يوماً؟) 196

أولاً: (الاعتزال) 196

ثانياً: علم الأعداد والحروف وشرافة العدد أربعين 199

المسألة الثانية: «جبرائيل عليه السلام يهبط في صورته العظمى» 204

أولاً: معنى تسميتهم بالملائكة 204

ثانياً: المواضع التي ظهر فيها جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى 209

الموضع الأول 209

الموضع الثاني 210

الموضع الثالث 210

ثالثاً: أثر الاعتزال والرياضة النفسية في خلق الجنين 210

رابعاً: الأدب النبوي في بيان حبه لخديجة عليها السلام 211

المسألة الثالثة: جبرائيل عليه السلام ينزل بالنور الفاطمي من الجنة 211

أولاً: (اشتراك الملائكة الثلاثة عليهم السلام في إيصال الوديعة) 213

ثانياً: (هل يجوز تأخير الصلاة في شتى الأحوال لعلل راجحة)؟! 214

المسألة الرابعة: انتقال النور الفاطمي إلى الأرض الطاهرة 218

أولاً: (المنهاج التربوي الأسري عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم) 220

ثانياً: المنهاج التربوي في العلاقة الزوجية 221

ثالثاً: (الإحساس بثقل فاطمة عليها السلام) 223

الحديث الثاني 223

ص:276

أولاً: تعين ليلة انعقاد النطفة النورانية التي خلقت منها أم الأئمة 224

ثانياً: القاسم وعبدالله عليهما السلام ولدا وماتا في الإسلام 225

المبحث الثالث: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟ 226

المسألة الأولى: إن فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها 227

المسألة الثانية: بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أنثى 237

المبحث الرابع:(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ ) 246

المسألة الأولى: الحكمة في ذكر الرفقة لآسيا مع خديجة في الجنة 248

المسالة الثانية: ما هي العلاقة بين صفة نساء بني هاشم وبين النساء اللاتي دخلن على خديجة عند ولادة فاطمة عليها السلام ؟ 249

المسألة الثالثة: ما معنى دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة عند ولادتها؟ 250

المسألة الرابعة: نطق فاطمة عليها السلام بالشهادتين 251

المسألة الخامسة: مكان ولادة فاطمة عليها السلام 253

المبحث الخامس: إرضاع خديجة إياها (عليها السلام) 254

المبحث السادس: تسميتها 259

المبحث السابع: عقيقتها 265

المبحث الثامن: فاطمة في حِجْرِ النبوة 266

المسألة الأولى: إن الله اصطفى لها ما لم يصطفِ لأحد من أوليائه 266

المسألة الثانية: السنين الأولى لطفولتها وتأثيرها في أم المؤمنين خديجة عليها السلام 269

ص:277

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.