موسوعه خدیجه بنت خویلد المجلد 3

اشارة

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني

كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

مشخصات کتاب : 4ج

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق.

2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود.

3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود.

ص :1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد

لسنة 2010-1660

الحسني، نبيل، 1965 - م.

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني. - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 52).

المصادر.

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق. 2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود. 3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود. 4. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - نساءه - شبهات وردود. 5. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - الأولاد - دراسة وتحقيق. 6. علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 ق. - فضائل - شبهات وردود. 7. فاطمة الزهراء (علیها السلام)، 8؟ - 11 ق. - السيرة - دراسة وتحقيق. ألف. الحلو، محمدعلي، مقدم. ب. العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. اللجنة العلمية. ج. عنون. د. عنوان: خديجة بنت خويلد أمّة جُمعت في امرأة.

4 خ 5 ح / 26/208 BP

الطبعة الأولى

1432 ه - 2011 م

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

ص:4

الفصل الثامن

اشارة

ص:5

ص:6

توطئة: البحث عن الهوية الإسلامية بين حضارتين

إن المتتبع لحلقات التاريخ وما دار فيها من أحداث خلال حركة تطور الحضارة البشرية لاسيما حركة الحضارة الإسلامية ليجد ان هذه الحلقات قد ملئت هنا وهناك بظلامة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام على الرغم من أن مفهوم الحضارة مختلَف فيه عند المفكرين بحسب معطياتهم الثقافية ونظرتهم وفهمهم للأحداث والأشخاص.

إذ قد يعد على سبيل المثال ان فرعون كان من الناحية السياسية والإدارية للحكم بمستوى يحمده أهل السياسة وهو متحضر في هذا المدار فيكون الساسة وأصحاب السلاطين بهذه النظرة متحضِّرين أيضاً ضمن هذا المفهوم.

لكنهم في مدار كتاب الله وحضارة القرآن هم من آل فرعون وحقيقتهم أنهم ظالمون. قال تعالى:

(وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ )1 .

ص:7

في حين كان المتحضرون حسب الرؤية القرآنية هم مجموعة قليلة من قوم موسى عليه السلام آمنوا به على خوف من فرعون وملئه.

قال تعالى:

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ )1 .

وهذا المفهوم والنظرة للحضارة ليس ببعيد عن الفكر الإسلامي، فكم من مبحث كتبه السابقون حول تحضر الحجاج بن يوسف الثقفي ودوره في ثبات ملك بني أمية؛ وكم من رسالة، أو دراسة قدمها المعاصرون في تحضر الحجاج الذي رمى بيت الله الحرام بالحجارة والنار حتى أحرقه وأسقط جدرانه(1) ، لأجل عيون عبد الملك بن مروان.

أو أنه يرى ان الطواف حول بيت الخليفة الأموي أفضل من زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانه يسخر من المسلمين لعملهم ذلك فيقول: «تباً لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية، هلا طافوا قصر أمير المؤمنين عبد الملك، الا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله»(2).

ص:8


1- تاريخ أبي مخنف: ج 2، ص 195؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 3، ص 129؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 5، ص 280؛ تاريخ الطبري: ج 3، ص 119.
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 15، ص 242؛ الكامل في الأدب للمبرد: ج 1، ص 222؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 9، ص 188؛ وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 2، ص 7.

أو أنَّكَ تجد متحضراً يشغل رئاسة قسم التاريخ في إحدى الجامعات: قد التمس العذر للحجاج في قتله أحد عشر ألف مسلماً في يوم واحد معظمهم كانوا من القراء لكتاب الله تعالى، فضلاً عمن قتل معهم في يوم الزاوية في جنوب العراق(1).

أو انك تجد تحريفه للقرآن الكريم كما نص عليه السجستاني صاحب السنن في كتابه المصاحف حيث أفرد لذلك عنواناً أسماه: (ما غيّره الحجاج في مصحف عثمان) وبيانه للآيات التي حرفها الحجاج بن يوسف الثقفي(2).

وفي المقابل تجد متحضراً آخر يصف هذا التحريف بأنه (من أجلِّ الأعمال التي تنسب للحجاج اهتمامه بنقط حروف المصحف وإعجامه بوضع علامات

ص:9


1- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية: د. محمد ضياء الدين الرميس: ص 219؛ ولمزيد من البيان أنظر: الأنثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة عند الإمام الحسين عليه السلام للسيد نبيل الحسني: ص 169-172.
2- كتاب المصاحف لابن أبي داود السجستاني، باب: ما غير الحجاج في مصحف عثمان، ص 117-118، ط مؤسسة قرطبة للنشر والتوزيع شارع الخليفة / الأندلس / الهرم. وانظره أيضا في: ص 49 من الكتاب بتحقيق الدكتور آثري جفري، نشر دار التكوين بدمشق لسنة 2004 م؛ وفي الصفحة 497 بتحقيق أبو أسامة سليم بن عبد الهلالي نشر مؤسسة غراس للنشر (الطبعة الأولى 1427 ه - / 2006 م). ولقد قام الدكتور محب الدين عبد السبحان في تحقيقه للكتاب بحذف اسم الباب وأورد الآيات المحرفة ضمناً أنظر: كتاب المصاحف بتحقيق الدكتور محب الدين عبد السبحان الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى بمكة المكرمة - كلية الدعوة وأصول الدين، ط دار البشائر الإسلامية.

الإعراب على كلماته، وذلك بعد ان انتشر التصحيف، فقام نصر بن عاصم بهذه المهمة العظيمة ونسب إليه تجزئة القرآن ورغب في ان يعتمدالناس على قراءة واحدة وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان وترك غيرها)(1).

فكانت حضارة الحجاج عند من تجمعهم معه تلك المعطيات الحضارية كتهديم بيت الله الحرام وحرقه بالنار، وقتل أحد عشر ألف مسلماً في يوم واحد، وتحريف القرآن الكريم واعتماد هؤلاء المتحضرين على هذه النسخة التي تلاعب بها الحجاج، كل هذه المعطيات (الحضارية) قد بلغت من الرقي أن توصف بالجلالة فكان تحريف القرآن الكريم من أجلّها؟!!

ولذلك:

تختلف الرؤية للحضارة كما يختلف مفهومها عند الناظر للحضارة الإسلامية؛ إذ قد تكون عند البعض هي مجموعة الفتوحات الإسلامية في الشرق والغرب، وقد تكون في العمارة الإسلامية وقصور الخلفاء والقيان والجواري؛ أو كما ينظر لمثل هؤلاء اليوم بأنهم نرجسيون، وفنانون، ومثقفون، بل: وبناءون في المجتمع، على الأقل من جهة المنتجين لأعمالهم والمستثمرين لطاقاتهم.

فالحضارة، مفردة بنيت على أسس مختلفة باختلاف المعطيات الفكرية والرؤى العقلية فما كان حضارة عند البعض لا يكون بالضرورة حضارة عند البعض الآخر، وما كان جهلاً وتردياً هنا لا يكون بالضرورة علماً وتقدماً هنالك..

ص:10


1- أنظر www.yabeyrouth.com.

وبين هذه الرؤية وتلك، وبين هذا المفهوم وذاك يبقى البعض الآخر يبحث عن الضابطة أو القانون الذي يحتكم إليه أصحاب الرؤى والمفكرون في الوقوف على مصداق خارجي للحضارة، وحيث إنا نؤمن بالتوحيد، وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وان الله جل شأنه حكيم، عادل، عزيز، غني، مقتدر، فهو المرجع الذي يرجع العقل إليه، والمنهل الذي يرتوي منه، وقد دلّ خلقه على ما يصلح لهم حياتهم وبصّرهم بما يكون وبالاً عليهم وفيه هلاكهم وانقراضهم، فقال عز شأنه:

(وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها)1 .

وقال جلت قدرته:

(إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً)2 .

ولأن الإنسان قد جُبِلَ على معرفة الخير والشر، ويمتلك القدرة في التمييز، وخوّل في السير والمسلك، كانت الحضارة: هي كل ما جاء عن الله تعالى من وحي على قلب خير خلقه وسيد أنبيائه ورسله صلى الله عليه وآله وسلم. وان كل ما من شأنه ان يكون مخالفاً لما أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو التردي والخراب والجهل المطبق.

إلا ان يعتقد البعض بأن هناك - والعياذ بالله - حكيماً غير الله تعالى فيذهب إليه ويسير بهديه ويسلك شريعته، كما يرى الملحدون، أو المنافقون، أو

ص:11

المشركون، وإن اختلفوا في طبقات الشرك، أو اختلفوا في المسميات التي أسموا بها أنفسهم لتتناسب مع تلك المفاهيم التي تكونت من نسيج من العوامل النشوئية والمتلقيات الفكرية التي تداخلت فيها عناصر الزمان والمكان والأشخاص والكلمات والعادات.

ومن هنا:

عمد كثير من أقطاب الفرق الإسلامية على إبراز حضارتهم على حضارة القرآن، وأظهروا شريعتهم على شريعة الله تعالى، فصاغوا الأحداث بتلك الرؤى، ودونوا الشواهد بذلك المفهوم، حتى أصبح القارئ - المسلم - يرى حضارتين قد كونتا هويته الإسلامية لكنه لا يعلم بأي الحضارتين يأخذ وبأيهما يتسمى، ولأيهما ينتمي.

وهنا: على سبيل المثال:

أصبح المسلم لا يدري أيأخذ بحضارة دار خديجة عليها السلام أم بحضارة دار الأرقم بن أبي الأرقم ؟ وبأي الحضارتين يعلن هويته وانتماءه ؟

ربما قد يحتار البعض من القراء في تصديق وجود مثل هاتين الحضارتين، وهو غير ملوم بذلك فمنذ ان نشأ وتعلم الحروف وقراءة التاريخ وهو لم يرَ غير حضارة دار الأرقم بن أبي الأرقم فكيف له ان يصدق بوجود حضارة بيت خديجة عليها السلام ؟! في حين رأى البعض الآخر تلك الحضارتين لكنه اختار احداهما وتَسمّى بتلك الحضارة فكانت هويته الإسلامية وشخصيته الحياتية.

ص:12

أما دورنا نحن: فأن نسلط الضوء على حضارة دار خديجة عليها السلام؛ إذ إن المدارس الإسلامية لا يوجد في مناهجها الدراسية غير حضارة دار الأرقم بن أبي الأرقم، أما حضارة دار خديجة فإن المسلم في هذه المدارس لا يسمع بها ولذا: سعينا في هذا الكتاب أن يكون المسلم في تحصيله للمعرفة أمام حضارتين وتركنا له انتخاب إحدى الحضارتين لتكون معرفاً لهويته الحضارية، وليوقن: أي الحضارتين بنت الإسلام الذي ينتمي إليه ؟

المبحث الأول: موقع دار خديجة الجغرافي

اشارة

تذكر المصادر الإسلامية في بيانها للأماكن المشرفة في مكة - أعزها الله - دار خديجة بانه أحد هذه الأماكن، ولذلك نجدها تذكر موقعه الجغرافي للمسلمين كي يتسنى لهم الوصول إلى هذه الدار المباركة بسهولة، والتشرف بالحضور فيها لحكمة مهمة تشتمل على نقاط عديدة منها:

1. ان الدخول لهذه الدار يعرّف المسلم بما احتضنته هذه الدار من حوادث عظيمة في سير الدعوة إلى الله تعالى، ومن ثمَّ يتعرف المسلم على الدور الذي قام به أهل هذه الدار.

2. ان الحضور في دار خديجة يخلق لدى المسلم حالة إيمانية ترتكز على رفع المستوى الروحي لديه حينما يستحضر بأنه ابن هذه الدار وله تاريخ وامجاد وأرض ووطن.

3. له آثار اجتماعية في جعل بيوت المسلمين كهذا البيت الذي سُخر للدعوة إلى التوحيد وإعلاء كلمة الله في الأرض، ومحاربة الفساد.

ص:13

4. له آثار تربوية في الثقافة الأسرية حينما يستحضر الداخل العلاقة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذه الزوجة التي بقيت معه خمساً وعشرين سنة.

5. لكي يتوجه من هذا المكان الطاهر للدعاء إلى الله تعالى في قضاء حوائجه وغفران ذنوبه؛ فهو من الأماكن التي امتزجت ذراته بأنفاس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واختلطت ذراته بعرق خير خلق الله تعالى وجهده، وكان مهبط الوحي والتنزيل.

ولذلك: حدد موقعه الفقهاء والمؤرخون بهذه الكلمات:

1. إنه في سوق الصباغين

قال المحقق النراقي رحمه الله (المتوفى سنة 1244 ه ): (وفي مكة أماكن شريفة أخرى - غير عرفات والحطيم وغيرها - في اتيانها فضل كامل، منها دار خديجة، التي هي دار الوحي، ومولد سيدة نساء العالمين، وهي في سوق الصباغين الذي هو قرب سوق الصفا والمروة، واقعة يمين من يمشي من الصفا إلى المروة، ولها قبة معروفة ويتصلها مسجد يستحب إتيانها، وصلاة التحية فيها، وطلب الحوائج والمسألة)(1).

2. إنه في شعب أبي طالب عليه السلام

قال الحلبي (المتوفى سنة 1044 ه ) في سيرته: (لم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند فتح مكة لتلك الدار التي أبقاها في يد عقيل، أي

ص:14


1- مستند الشيعة للمحقق النراقي: ج 13، ص 96.

الدار التي هي دار خديجة فانه لم يزل بها حتى هاجر، ولما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ضرب مخيمه بالحجون، فقيل له: ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ فقال:

«وهل ترك لنا عقيل منزلا».

وكان عقيل بن أبي يطالب قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنازل إخوته حين هاجروا من مكة ومنزل كل من هاجر من بني هاشم)(1).

والسبب في بيع عقيل دار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودور إخوته ومن أسلم من بني هاشم هو أن قريش كانت تصادر أموال من أسلم، ولذلك كان تصرف عقيل بهذه الدور ينم عن حسن تدبيره للأمر، فهذا أفضل من ضياعها بيد المشركين وطغاة قريش، فضلاً عن أن عقيلاً كان يكتم إسلامه ويدل عليه قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتهاء معركة بدر بحفظ عمه العباس وعقيل وقد وقعوا بيد المسلمين.

3. إنه في زقاق العطارين

قال الأزرقي (المتوفى 250 ه ): (ويسمى الزقاق الذي فيه هذه الدار «زقاق العطارين» أما اليوم فيسمى «زقاق الحجر» ويقال لهذه الدار «مولد فاطمة الزهراء - عليها السلام -)(2).

ص:15


1- السيرة الحلبية: ج 1، ص 102؛ الدراية لابن حجر: ج 2، ص 237؛ نصب الراية للزيلعي: ص 171؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 17، ص 277.
2- أخبار مكة للأزرقي: ج 2، ص 199 - الهامش -.

المبحث الثاني: صفة دار خديجة عليها السلام وفضله

اشارة

يصف المؤرخون دار خديجة عليها السلام بصفتين:

الأولى: ما يحتويه الدار على علامات ودلالات تظهر طبيعة الحياة فيه كما تظهر صفاته المادية التي يستدل من خلالها على هذه الدار.

والصفة الثانية: ما احتضنته هذه الدار من كرامات وتشريفات جعلتها من أفضل الأماكن المقدسة بعد الكعبة - أعزها الله -.

المسألة الأولى: أقوال المؤرخين في بيان صفة دار خديجة وإظهار فضله وشرافته

1. قال الطبري (المتوفى سنة 310 ه ):

(وكان منزل خديجة - يوم زواجها - المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال: منزل خديجة، فاشتراه معاوية فيما ذكر فجعله مسجداً يصلي فيه الناس وبناه على الذي هو عليه اليوم لم يغير، وأما الحجر الذي بباب البيت عن يسار من يدخل البيت فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس تحته ويستتر به من الرمي إذا جاءه من دار أبي لهب، ودار عدي بن حمراء الثقفي، خلف دار ابن علقمة، والحجر ذراع في ذراع)(1).

2. قال ابن جبير في رحلته إلى مكة إنه شاهد فيها: (قبة الوحي، وهي في

ص:16


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 36؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 1، ص 61؛ البحار: ج 1، ص 61؛ مستدرك سفينة البحار: ج 1، ص 103.

دار خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، وبها كان ابتناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبة صغيرة أيضاً في الدار فيها كان مولد فاطمة الزهراء - عليها الصلاة والسلام -)(1).

3. قال مؤرخ مكة تقي الدين الفاسي الحسني (المتوفى 832 ه ): (وأما الدور المباركة بمكة، فدار أم المؤمنين خديجة، ويقال لها الآن: مولد فاطمة، وفيها ثلاثة مواضع تقصد بالزيارة متلاصقة.

أحدها: الموضع الذي يقال له: مولد فاطمة.

والموضع الذي يقال له: المختبأ.

وبها موضع آخر على هيئة المسجد، وهذه الدار أفضل الأماكن بمكة بعد المسجد الحرام، على ما ذكر المحب الطبري.

ولعل ذلك:

1 - لسكنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها سنين كثيرة، من حين تزوج خديجة والى حين هاجر.

2 - لكثرة نزول الوحي فيها عليه.

3 - وفيها بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة.

4 - وفيها ولدت أولادها منه.

5 - وفيها ماتت رضي الله تعالى عنها)(2).

ص:17


1- في ظلال التوحيد للشيخ جعفر سبحاني: ص 362.
2- الزهور المقتطفة من تاريخ مكة لتقي الدين الفاسي: ص 122، ط دار صادر.

4. قال الفاكهي (المتوفى سنة 272 ه ) في أخبار مكة: (وفي بيت خديجة - عليها السلام - حجر خارج من البيت، كان سليم بن مسلم أو غيره من المكيين يقول:

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس تحته يستتر من الرمي إذا جاءه من دار عدي بن الحمراء ودار أبي لهب.

وذرع ذلك الحجر - أي قياسه - ذراع وشبر، فأما أهل مكة فكان يقول: إن هذه رفاف كان أهل مكة يتخذونها في بيوتهم صفائح من حجارة يكون شبه الرفاف يضعون عليها امتعتهم التي تكون في بيوتهم، ولكل بيت قديم من بناء المكيين الا وفيه رفاف نحو من ذلك الحجر، والقول الأول أثبت)(1).

ومما يدل عليه:

أن أبا لهب كان يسكن في بيت له قبالة بيت خديجة، وكان يسكن مع زوجته أم جميل بنت حرب بن أمية وكان ذلك الزقاق طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد(2).

5. قال ابن الضياء المكي الحنفي (المتوفى سنة 854 ه )

وأما الدور المباركة بمكة: فاعلم أن بمكة دوراً مباركة معروفة عند الناس غالبها مساجد، ولكنها اشتهرت بالدور عند أهل مكة فلذلك أفردناها بالذكر عن المساجد.

ص:18


1- أخبار مكة للفاكهي: ج 6، ص 61.
2- أخبار مكة للفاكهي: ج 5، ص 316.

منها: دار أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - بالزقاق المعروف بزقاق الحجر، ويقال له قديماً: زقاق العطارين كما ذكره الأزرقي(1).

ويقال لهذه الدار: مولد فاطمة - رضي الله عنها -؛ لأن فيها ولدت(2).

قال الأزرقي: كان يسكنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة، وفيها ابنتا خديجة، وولدت فيها أولادها جميعاً، وفيها توفيت، فلم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها ساكناً حتى خرج إلى المدينة مهاجراً، فأخذها عقيل بن أبي طالب، واشتراها منه معاوية وهو خليفة فجعلها مسجداً يصلى فيه وبناها بناءها هذا، وفتح معاوية فيها باباً من دار أبي سفيان بن حرب وهو قائم إلى اليوم(3).

قال الأزرقي: وفي بيت خديجة - رضي الله عنها - هذا صفيحة من حجر مبني عليها في الجدر جدر البيت يسكنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اتخذ قدام الصفيحة مسجداً، وهذه الصفيحة مستقلة في الجدر من الأرض قدر ما يجلس تحتها الرجل، وذرعها ذراع في ذراع وشبر(4).

وغالب هذه الدار الآن على صفة المسجد وفيها قبة يقال لها: قبة الوحي.

ص:19


1- أخبار مكة للأزرقي: ج 2، ص 199، وذكره محققه في الهامش. فالله أعلم؛ وراجع الجامع اللطيف: ص 327.
2- راجع الجامع اللطيف: ص 327، 329، 330.
3- أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة: ح 1780 عن أبي هريرة مرفوعاً؛ وراجع أخبار مكة: ج 2، ص 199؛ الجامع اللطيف: ص 327.
4- أخبار مكة: ج 2، ص 199.

قال سعد الدين الإسفرائيني: وفي هذه القبة حفرة عند الباب يقول: كان يجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها وقت نزول الوحي وجبريل - عليه السلام - يجلس في محراب القبة. انتهى.

وإلى جنبها موضع يزوره الناس معها يسمونه المختبئ(1) ، ويتصل بهذه القبة أيضاً الموضع الذي ولدت فيه فاطمة - رضي الله عنها -.

قال سعد الدين الإسفرائيني: وفي بيت من بيوت هذه الدار حفرة مثل التنور يقولون: إنها مسقط رأس فاطمة - رضي الله عنها -.

قال المحب الطبري: هذه الدار أفضل الأماكن بعد المسجد الحرام(2).

وممن عمرها الناصر العباسي، وعُمّر منها شيء في دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر، وفي أول دولة الملك الناصر فرج صاحب مصر، ومما عُمّر في دولته قبة الوحي بعد سقوطها، ويُذكر أن القبة التي كانت قبل هذه القبة من عمارة الملك المظفر صاحب اليمن، وفي الرواق المقدم من هذه الدار مكتوب: إن المقتدر العباسي أمر بعمله، وإلى جانب هذه الدار حوش كبير عمره الناصر العباسي، ووقفه على مصالح دار خديجة - رضي الله عنها - على ما هو موجود في حجر مكتوب فيه ذلك على باب الحوش، وفيه أيضاً إن هذا الموضع مربد فاطمة - رضي الله عنها -(3).

ص:20


1- راجع الجامع اللطيف: ص 327.
2- راجع الجامع اللطيف: ص 328.
3- تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء المكي الحنفي: ص 186-187.

المسألة الثانية: امتهان الوهابية لدار أم المؤمنين خديجة عليها السلام وتحويلها إلى دورات مياه!!!

من الأمور المخزية التي تلف تاريخ الظالمين على مر العصور هو امتهانهم لمقدسات السماء منذ أن اقترن اسم الأرض بما ينزل إليها من السماء، فمنذ أن اتخذ إبليس - عليه لعنة الله - توهين آدم عليه السلام الذي اختاره الله تعالى خليفة لأرضه والى يومنا هذا ونحن نشهد من حملة المبدأ الإبليسي امتهان كل ما من شأنه ان يرتبط بالسماء، ونرى مآسي كثيرة ورزايا عظيمة تحت مسميات ابليسية ترتكز على رؤية استكبارية ترى في نفسها انها من (الْعالِينَ ) وهي تُنَظّرُ حتى لخالق الخلق فيما يصلح ان يكون أهلاً للتوحيد ومحاربة الشرك، وفيما لا يصلح؛ كما ذهب إلى هذا المذهب شيخ الظالمين إبليس في تنظيره للمصالح والمفاسد على رب العالمين قائلاً:

(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )1 .

ولأنه يرى أنه خير منه فهو الأولى بمنصب الخلافة على الأرض ودعوة الخلق إلى التوحيد ومحاربة الشرك؛ واليوم نشهد حَمَلة هذه النظرية وأصحاب الفكر التوحيدي الإبليسي الذين يرون عدم صلاحية غيرهم لهذه المهمة، فبالأمس حارب شيخهم إبليس نبي الله آدم عليه السلام، واليوم ينهج تلامذة إبليس هذا المنهج ويسيرون على هذه الأديولوجية فيرون أن لا موحد لله على الأرض غيرهم بل: لا يصلح لإقامة التوحيد عليها غيرهم كما كان يرى شيخهم إبليس ذلك.

ص:21

ولذا: فكل ما من شأنه أن يعود بالمسلم إلى التوحيد المحمدي، فهو في نظرهم اشراك وفي عقيدتهم كفر وإلحاد، بل انهم فاقوا شيخهم في سعة الأفق وبعد النظر وادراج المحرمات لتشمل محاربة رسول الله جهاراً ومعاداة جبرائيل علانية، وتدنيس دار أم المؤمنين خديجة عليها السلام اعلاناً وتحويلها إلى دورات مياة ومراحيض على مسمع ومرأى من الامة التي لم تحمل على ما يبدو من الإسلام سوى الاسم إن لم يتملص أبناؤها حتى من الاسم، فبماذا سيجيبون الله تعالى ان كانوا بوجوده يعتقدون وإليه سيعودون. فها هو أفضل الأماكن في مكة بعد المسجد الحرام كما دلت عليه النصوص يحوله الأعراب إلى دورات مياه(1)!!

والغريب في الأمر ان الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء في المملكة السعودية الذي أعد دراسة أكاديمية حول الأماكن المقدسة في مكة وعناية الملك عبد العزيز بها لم يرشد القراء من المسلمين أو غيرهم إلى عناوين هذه الأماكن كي يتمكن القارئ المسلم من الوصول إليها والتعرف عليها وليلمس على الأقل خدمة القائمين على رعايتها كما عنون الدكتور لدراسته التي نشرتها صحيفة عكاظ ، ضمن مجموعة من الحلقات(2).

ص:22


1- فهذه الحقيقة المؤلمة لجميع المسلمين يعلنها وعلى الملأ من العالم على مختلف أديانهم وثقافاتهم؛ الدكتور المهندس الشريف سامي عنقاوي مع قناة الحرة في برنامج المجلس وذلك على موقع يوتيوب على الرابط : ( www.youtube.com/watch?v fvelxvfuo4).
2- صحيفة عكاظ ، العدد 2774، الصادرة في يوم الثلاثاء، 1430/1/23 ه - الموافق 20 /يناير/ 2009 م.

إلا اننا نورد عنوان هذه الدار التي هي من أفضل الأماكن في مكة بعد المسجد الحرام والتي حولها الأعراب بفعل (رعايتهم لها) إلى دورات مياه ؟!! وموقعها هو: (ساحة الغزة، مدخل المسعى، من جهة المروة)(1).

إلاّ أن ذكْرنا لهذا العنوان ليس لكي يذهب المسلم بقصد الزيارة لأفضل الأماكن بعد المسجد الحرام ومهبط الوحي، واستذكار حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتأسي به، واستعظام حقه وحق أم المؤمنين خديجة عليها السلام، وإنما لتجنب الوقوع في الإثم، والتجري على الله، وتعدي حدوده في تنجيس هذا المكان الطاهر حينما يستخدمه المسلم للتبول!!!! عوضاً عن الصلاة فيه لله ركعات عملاً بشريعة القرآن التي أمرت المسلمين بأن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فكيف بمقام سيد الأنبياء والمرسلين وأشرف الخلق أجمعين، ألا يستحق من المسلمين أن يصلوا لله فيه ركعتين ؟! قال جلّ وعزّ شأنه:

(وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ)2 .

ولكن أنى بحَمَلة التوحيد الإبليسي، وأئمة الأعراب الذين يرون أنهم من العالين في خلافتهم لأرض رب العالمين، معرفة حدود ما أنزل الله تعالى، والعمل بشريعة القرآن وهم:

ص:23


1- منتدى الحوار الإسلامي: http://al7eway.net/forum/

(أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )1 .

(فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ )2 .

المبحث الثالث: دار خديجة عليها السلام يشهد أهم الأحداث التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال ربع قرن

المسالة الأولى: زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار خديجة عليها السلام وعيشه فيها

من الخصائص التي حازها دار أم المؤمنين خديجة عليه السلام هو زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيشه في هذه الدار طيلة حياة السيدة أم المؤمنين خديجة عليها السلام الزوجية والبالغة خمساً وعشرين سنة، منها خمس عشرة سنة قبل البعثة النبوية، وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج من خديجة عليها السلام وله من العمر 25 سنة، وكان بعثه في الأربعين؛ ثم بقيت عليها السلام بعد البعثة النبوية عشر سنوات؛ إذ توفيت سنة عشر للبعثة.

وبذلك يكون مجموع السنين التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أم المؤمنين خديجة خمساً وعشرين سنة، كلها قضاها النبي الأكرم

ص:24

صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الدار، ولقد أنجبت أم المؤمنين خديجة عليها السلام أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الدار وتوفي القاسم وعبد الله فيه؛ وولدت فيها أيضاً مولاتنا فاطمة عليها السلام - كما سيمر مفصلاً - فضلاً عن ان هذه الدار نشأ فيها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حينما احتضنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو طفل صغير يغدو عليه هو وزوجه خديجة بحنانهما ورعايتهما له حتى أصبح أعز عليهما من أنفسهما، كما مر بيانه مفصلاً.

ولقد شهدت هذه الدار أهم الأحداث الإسلامية التي رافقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ البعثة في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وإلى يوم هجرته وخروجه منها متجهاً إلى المدينة المنورة.

المسألة الثانية: نزول الوحي بسورة المدثر في بيت خديجة عليه السلام

(1)

من الحقائق التي تناقلها الرواة ودوّنها المصنفون هي حقيقة نزول الوحي في دار أم المؤمنين خديجة عليها السلام، لاسيما وقد مر سلفاً تخصيص المكان الذي كان يهبط فيه جبرائيل عليه السلام والذي سمي بقبة الوحي.

أما من قرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ولو على عجالة - فانه يجد فيها من المسلمات التي لازمت حياة السيدة خديجة عليها السلام هي

ص:25


1- قال الآلوسي: (إن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة والسلام في بيت خديجة - عليه السلام -)؛ أنظر: تفسير الآلوسي: ج 21، ص 369.

قيامها بمؤازة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طيلة حياتها حتى فارقته صلى الله عليه وآله وسلم، إلى جوار ربها.

ولو توقفنا عند تلك السنين لوجدنا وقوف خديجة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه للدار في يوم المبعث وقد أحاطه الجهد والتعب وهي تقدم أجمل صورة للمواساة فقد أسرعت لتغطيته بالدثار كي يزول عنه الجهد وتخفف عنه التعب، وليكون هذا العمل الصالح مخصوصاً بالذكر الحكيم، يرتل اناء الليل وأطراف النهار، وحافظاً لها هذا الأخلاص والرعاية لسيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم.

فها هو جبرائيل يقرع صوته الدار فتمتزج ذراته بتلك الأحرف النورانية وهي تنزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ)1 .

والمدثر: قريب من المزمل(1) ، والزمل: الحمل، وازدمله: احتمله(2).

وقيل: انه كان تلفّف في مربط سداء شعر، ولحمته وبر، وهو ثناء عليه وتحسين لحاله الذي كان عليه من القناعة بالقليل من حطام الدنيا.

والمدثر: قريب منه وهو لابس الدثار، والدثار: هو ما فوق الشعار، والشعار ثوب على الجسد، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص:26


1- لسان العرب: ج 10، ص 24.
2- لسان العرب: ج 11، ص 311.

«الأنصار شعار والناس دثار».

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«نوديت فرفعت رأسي فإذا جبرئيل في الهواء فأتعبني أعباء الوحي، فقلت: دثروني دثروني»(1).

وفي مسند أحمد، عنه صلى الله عليه وآله وسلم:

«أتيت أهلي مسرعاً فقلت دثروني، دثروني فأتاني جبريل عليه السلام فقال:

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ)2,3 .

ولقد أسلفنا فيما مضى من الكتاب كيف كان تعامل أم المؤمنين خديجة عليها السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الحادثة - فلتراجع -.

المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلن تنصيب وصيه وخليفته من بعده في دار خديجة عليها السلام

إنّ من المسائل الاعتقادية التي اقترنت بدار خديجة عليها السلام في بداية الرسالة المحمدية هي قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتنصيب الخليفة لهذه الامة من بعده وكذا تعيين الوصي له صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:27


1- ألقاب الرسول وعترته لمجموعة من قدماء المحدثين: ص 9.

وهذا يكشف عن الأهمية البالغة لهذا المقام، وماله من دور قيادي في سير الامة من بعده صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن الدور التشريعي الذي يقوم به الخليفة في إرشاد المسلمين إلى حلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرامه.

وعليه:

تكمن أهمية هذين المنصبين من خلال ارتباطهما بالحلال والحرام وهو ما لا يمكن تحققه الا من خلال الاختيار الإلهي، فالله سبحانه هو الأعلم بخلقه وما يصلحهم، فسبحان من هو اللطيف الخبير بعباده.

ولذلك: اصطفى لشريعته أناساً توافرت فيهم الشروط الخاصة بحفظ الشريعة فقال عزّ شأنه في ذلك:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )1 .

وقال:

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )2 .

وقال سبحانه:

ص:28

(وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً)1 .

وغيرها من الآيات التي تدلل على اختصاص تعين منصب الخلافة النبوية بصاحب الشريعة وهو الله تعالى، وليس للناس خيار أو رأي في تعيين الخليفة لجهلهم بما شرع الله سبحانه، ولو كانوا يعلمون بشرائع الله تعالى لما كان هناك حاجة لبعث الأنبياء والرسل ولترك القرار للناس وللعقلاء في انتخاب ما يرون فيه القدرة على صلاحهم، فالأمر محصور بالشريعة وصاحب الشريعة وهو الأعلم بمن يصلح لحفظها وإقامتها وإصلاح الناس وحفظهم من الانحراف عنها، كي لا يقعوا في انتهاك الحقوق وتعدي الحدود، وكي لا تكون دويلات في المجتمع، فينعم الظالم بمال المظلوم، وينام الجائر على فراش المحروم، وتنتهك الفروج، فيهلك النسل، ويضيع النوع البشري، فترى صوراً بشرية مركباً فيها ذوات حيوانية لا تعرف للأسرة طعماً ولا للوالدية معنىً :

(إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)2 .

ومن هنا:

تكمن أهمية تعيين الخليفة ووضعه في منصب الخلافة النبوية «التشريعية» في حفظ الشريعة التي بها حفظ العباد والبلاد، وفي ذلك تظهر الحكمة في بعث الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، أي: حفظ العباد والبلاد، وأما ما نشهده اليوم وما نقله التاريخ من تردي البلاد والعباد ونشر الفساد والظلم

ص:29

فمرده إلى سوء استخدام الشريعة وتولي منصب الخلافة من قبل أناس تم اختيارهم من الناس وليس من الله تعالى.

ولذلك فقد ذاق الناس نتائج ما اختاروا لمنصب الخلافة النبوية وتذوقوا ثمار تركهم لمن اختاره الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والذي حدده لهم وعين فيهم منذ الانطلاقة الأولى لدعوة الناس إلى التوحيد وإعلاء كلمة «لا إله إلا الله».

فكان حديث الإنذار في دار خديجة عليها السلام كما يروي البغوي (المتوفى سنة 510 ه ) قائلاً: (روى محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب؛ ورواه أيضاً الطبري، وابن أبي الحديد المعتزلي، وابن عساكر، والمتقي الهندي، وابن الأثير، والقاضي النعمان المغربي، وغيرهم عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:

«لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنذر عشيرتك الأقربين دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: «يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الامر أرى منهم ما أكره فصمتُ عليه حتى جاءني جبريل فقال يا محمد إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعا من طعام واجعل عليه رحل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم أجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم

ص:30

دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال خذوا بسم الله فأكل القوم حتى مالهم بشيء حاجة وما أرى الا موضع أيديهم وأيم الله الذي نفس علي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعا وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال لعلما سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلي. قال ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ثم قال إسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم قال فأحجم القوم عنها جميعا وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم

ص:31

ساقا أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فاخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا قال فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع)(1).

ولقد حاول البعض ممن أغمضوا أعينهم عن الحق واتبعوا أهواءهم في محاربة علي بن أبي طالب عليه السلام بمحاولات عدة في إثارة الشبهات حول هذا الحديث الشريف ابتداءً من الطبري الذي حذف قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تنصيب علي عليه السلام وصياً له وخليفة من بعده في هذه الامة وتبعه على ذلك ابن كثير، اما ابن تيمية فقد تصدى للحديث كعادته في محاربة فضائل علي عليه السلام بأكاذيب وألفاظ تكشف عن المستوى المتدني للنظر في الأحاديث الشريفة. والكاشف عن التعصب الأعمى الذي أفقده التحلي بالموضوعية والإنصاف فعمد إلى استخدام الكذب؛ وكفى بالمرء دناءةً أن يكون كاذباً.

إذ يقول في منهاج السنة الأموية حول حديث الإنذار:

ص:32


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 93؛ تهذيب الآثار للطبري: ج 4، ص 59؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 13، ص 211؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 42، ص 49؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 13، ص 114؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2، ص 63؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 1، ص 374؛ هميان الزاد للأباظي: ج 10، ص 52؛ تفسير السراج المنير لمحمد الشربيني الخطيب: ج 1، ص 2946؛ لباب التأويل، المشهور بتفسير الخازن لأبي الحسن علي بن محمد الشيعي: ج 5، ص 59؛ تفسير البغوي: ج 6، ص 131.

«هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم ان هذا كذب»(1).

ونقول:

ولأن الشيخ أعماه بغضه لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأفقده النصب له بالعداء القدرة على الرؤية قام فاعترف بأنه لا يملك تلك الرتبة من العلم التي حددها بقوله: (لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنه كذب» فلو كان له أدنى معرفة بالحديث لما قال عن حديث الإنذار بأنه كذب، فالحكم على الأحاديث يحتاج إلى العلم بها ولأن ابن تيمية لا يملك أدنى معرفة بها فحكم عليها بالكذب.

أما من له معرفة بها فقد حكم على هذا الحديث بأنه حديث صحيح، بل ونقله العلماء في المنقولات وليس كما كذب الشيخ حينما قال: «لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات).

أما هذه الكتب من المنقولات والتي صنفها علماء أهل العامة فقد تتبعها السيد علي الميلاني (جزاه الله خيرا) فكانت كالآتي:

1. ابن إسحاق، صاحب السيرة.

2. احمد بن حنبل، ويقول الحافظ الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد بعد أن

ص:33


1- منهاج السنة لابن تيمية: ج 7، ص 302.

يرويه عن أحمد بن حنبل يقول: رواه أحمد ورجاله ثقات. ويقول بعد أن يرويه بسند آخر عن بعض كبار علمائهم من أحمد وغير أحمد يقول: رجال أحمد وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة. إذن، حصلنا على أسانيد عديدة ينصون على صحتها. مضافا: إلى سند الحافظ المقدسي في كتابه المختارة الملتزم في هذا الكتاب بالصحة. كما ذكر المتقي الهندي صاحب كنز العمال: أن الطبري محمد بن جرير قد صحح هذا الحديث. وأيضا، صححه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس في حديث طويل، ووافقه على التصحيح الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك. وأيضا نص على صحة هذا الحديث الشهاب الخفاجي في شرحه على الشفاء للقاضي عياض، حيث يذكر هناك معاجز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن جملة معاجزه هذه القضية، حيث أن الطعام كان صاعا واحدا وعليه رجل شاة فقط ، فأكلوا وكلهم شبعوا، وهذا من جملة معاجز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقول الشهاب الخفاجي: إن سند هذا الخبر صحيح. وعندما نراجع نصوص الحديث في الكتب المختلفة، نجد في بعضها هذا اللفظ : فأيكم يوازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال علي: أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي. وهذا لفظ ، وقد قرأناه عن عدة من المصادر. لفظ آخر: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي ؟ فقيل له: أنت كنت بحرا، من يقوم بهذا، فعرض ذلك على أهل بيته واحدا

ص:34

واحدا، فقال علي: أنا، فبايعه رسول الله على هذا. ومن ألفاظ هذا الحديث ما يأتي: قال رسول الله: من يبايعني على أن يكون أخي ووصيي ووليكم من بعدي ؟ قال علي: فمددت يدي فقلت: أنا أبايعك. فبايعني رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فهذه ألفاظ الحديث، وتلك أسانيد الحديث، وتلك كلمات كبار علمائهم في صحة هذا الحديث وتنصيصهم على صحته(1).

أما بقية قوله فقد أعرضنا عنه فانه لا يرقى إلى الرد ويكفي في بيان سخيف قوله الذي يكشف عن العجز في التعامل مع الحديث أن قال: «إذ ليس في بني هاشم من يعرف بأنه يأكل جذعاً ويشرب فرقاً»(2).

وكأن الرجل يحترف مع الكذب طهي الطعام مما جعله يحسن قياس بطون العرب وكم تستطيع ان تأكل من الطعام، أو لعله أكتسب فن إعداد الموائد فازداد خبرة في فهم الأحاديث.

المسألة الرابعة: إسلام الصحابة في دار خديجة عليها السلام

اشارة

إن النظر في مسألة السبق إلى الإسلام في مكة يقودنا إلى جملة من الحقائق المهمة، ومنها:

1. أن الإسلام ظهر في دار خديجة عليها السلام ومنه خرج إلى العالم.

2. ان الله تعالى اختار لأهل هذا الدار أن يكونوا أول الدور تعبداً لله تعالى

ص:35


1- حديث الدار للسيد علي الميلاني: ص 11.
2- الصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسيد جعفر مرتضى العاملي: ج 3، ص 64؛ نقلاً عن منهاج السنة لابن تيمية: ج 4، ص 81-83.

على دين الإسلام منحصراً بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وعلي بن أبي طالب الذي سبقته التدابير الإلهية في أن يكون ابناً لخديجة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مازال طفلاً قد نشأ في هذا الدار.

3. ان الدعوة إلى هذا الدين كانت تقدم إلى بعض الناس في هذه الدار، وفيها كانت القلوب تهفو إلى نور الإسلام، وفيها تسمع آذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشهادتين، ممن جاءوا إليه ليعلنوا إسلامهم في محضره المقدس.

كما يحدثنا التاريخ والصحاح عن إسلام بعض الصحابة وهم:

أولا: إسلام أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه في بيت أم المؤمنين خديجة عليها السلام

فقد اختار الله تعالى لأبي ذر أن يكون إسلامه في دار خديجة عليها السلام وان لم يصرح الراوي باسم الدار التي دخل فيه أبو ذر والتقى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما دلت عليه رواية البخاري.

في صحيحه عن أبي حمزة قال: قال لنا عبد الله بن عباس: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا، بلى. قال، قال أبوذر: كنت رجلاً في غفار فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي انطلق إلى هذا الرجل كلمه وائتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع فقلت: ما عندك ؟ فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر فقلت له: لم تشفني من الخبر فأخذت جربا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا اعرفه واكره ان اسأل عنه واشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد قال: فمر بي علي فقال: كأن الرجل غريب قال:

ص:36

قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء قال: فمر بي علي فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلت: لا قال: انطلق معي. قال: فقال: ما امرك وما أقدمك هذه البلدة ؟ قال: قلت له: ان كتمت عليّ أخبرتك قال: فإني افعل قال: قلت له: بلغنا انه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه فقال له: أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني ادخل حيث ادخل فإني ان رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني اصلح نعلي وامض أنت فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له أعرض عليّ الاسلام فعرضه فأسلمت مكاني فقال لي يا أبا ذر اكتم هذا الامر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت والذي بعثك بالحق لا صرخن بها بين أظهرهم فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال يا معشر قريش إني اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا فضربت لا موت فأدركني العباس فأكب علي ثم اقبل عليهم فقال ويلكم تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار فاقلعوا عني فلما ان أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فصنع مثل ما صنع بالأمس وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله(1).

ص:37


1- صحيح البخاري: ج 4، ص 158-159.
ثانيا: إسلام أبي بكر عند بيت خديجة عليها السلام

روى ابن عساكر وابن الأثير في إسلام أبي بكر عند باب دار خديجة عليها السلام، هذه الرواية: فعن خالد الجهني عن عبد الله بن مسعود عن أبي بكر انه قال: «... وسألت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل في منزل خديجة فقرعت عليه الباب فخرج إليّ فقلت: يا محمد فقدت من منازل أهلك وتركت دين آبائك وأجدادك ؟. قال:

«يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم فآمن بالله».

- إلى أن يقول -:

«مد يدك فانا أشهد ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»(1).

وحينما ننظر إلى وقت إسلام أبي بكر الذي أشارت إليه الروايات وحددته بأكثر من خمسين نفراً كما نص عليه الطبري وابن عساكر وابن كثير، وغيرهم، واللفظ للطبري قائلاً: (حدثنا ابن حميد قال حدثنا كنانة بن جبلة عن إبراهيم بن طهمان عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن سعد قال: قلت لأبي أكان أبوبكر أولكم إسلاماً؟

فقال: لا ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين)(2).

ص:38


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 30، ص 33؛ اسد الغابة: ج 3، ص 208.
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 60؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 30، ص 46؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 39؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، ص 436؛ الإكمال في اسماء الرجال للخطيب التبريزي: ص 20؛ كنز الفوائد للكراكجي: ص 124؛ المناقب لابن شهر: ج 1، ص 289؛ الإفصاح للشيخ المفيد: ص 232؛ البحار للمجلسي: ج 38، ص 228.

فهذا يعني أن هؤلاء الخمسين كان إسلام أكثرهم في دار خديجة لاسيما وقد نقل لنا البخاري في إسلام أبي ذر الكيفية التي كان يتبعها أبوذر في البحث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل يرشدنا الوجدان والعرف إلى أن الإنسان حينما يريد أن يأخذ حاجته أو يحقق مقصده من رجل ما فانه يقصده في داره لاسيما ونحن نتحدث عن مسألة ترتبط بإيمان الإنسان وسعيه للوصول إلى حقيقة هذا الدين والطريقة التي تمكنه من الدخول إليه وهذا كله يدلل على أن المسلمين الأوائل كانوا يتجهون إلى دار خديجة عليها السلام لملاقاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن ضمن آلية خاصة ترتبط بوضع القادم إلى هذه الدار.

وهذا يعني ان لا وجود لدار الأرقم بن أبي الأرقم، وأعني الوجود الشأني الذي اختلقه المتزلفون للحكام لغرض دفع شأنية دار أم المؤمنين خديجة عليها السلام بحجة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستخدمها لغرض التستر والاختفاء وكأنه في حركة سياسية مناهضة للحكم.

في حين لو فرضنا مثل هذا الاحتمال، أي وجود جواسيس وعيون لقريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما المانع من وجودهم حول دار الأرقم وهم يرقبون حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل ان فرضية وجود هذه الدار تزيد في الأمر سوءاً، لأن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه المتكرر إلى هذه الدار يبعث الشكوك في نفوسهم بل يجعلهم يتتبعون الداخل والخارج لهذه الدار ومعرفة ما كان لديه من غرض،

ص:39

لأن دخول رسول الله المتكرر لها وهي ليست ملكا له ولا تربطه بأهلها مصاهرة أو قرابة يجعله في موضع الريبة بل وكأنه يدعوهم إلى الشك به.

أما قدوم الناس إلى دار خديجة عليها السلام ولقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يبعد الشكوك عنه وعن الداخل إليه، لأن الداخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون بالضرورة لغرض الدخول في الإسلام فلقد كان المكيون يقصدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوضع أماناتهم عنده، وائتمانه على ودائعهم وذخائرهم وإن كانوا لا يؤمنون بدعوته ودينه وهي حقيقة لايمكن نكرانها أو تجاهلها حتى لدى غير المسلمين فقد عرف صلى الله عليه وآله وسلم ب - (الصادق الأمين).

فضلاً عن أنه أوصى الإمام علياً عليه السلام أن يرد هذه الودائع إلى أصحابها بعد خروجه صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة، فبقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ثلاثة أيام في مكة ينادي بين أهلها.

قال ابن إسحاق: (ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر، أما علي - عليه السلام - فإن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم

ص:40

من صدقه وأمانته صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

إذن:

ليس بالضرورة أن يكون الداخل إلى دار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغرض الدخول في دينه وإنما لائتمانه على ماله وإيداع الودائع عنده مما يدفع الريب عن الداخلين إلى بيت خديجة عليها السلام، وبذلك يكون وجود دار الأرقم ضاراً به صلى الله عليه وآله وسلم ومضراً بالمسلمين. لأنهم أي المشركون سيأخذون على الظنة ويقتلون على الشبهة.

وعليه: فلا وجود شأنياً وتشريفياً لدار الأرقم وأن هذه الشأنية التي ينقلها الرواة هي صنيعة من صنع بني أمية لتضييع فضل دار خديجة وأهلها.

المسألة الخامسة: إسراء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من دار خديجة عليها السلام

اشارة

إنّ من الخصائص التي خص الله تعالى بها دار خديجة عليها السلام فزاد في شرافته على دور الأنبياء والمرسلين عليهم السلام هو اختصاصه برحلة الإسراء والمعراج النبوي وذلك بصفته المحطة الأولى التي أسري منها بالنبي

ص:41


1- السيرة النبوية لابن هشام الحميري: ج 2، 335. تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 39. تاريخ الطبري: ج 2، ص 106. الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2، ص 104. امتاع الأسماع للمقريزي: ج 1، ص 68. السنن الكبرى للبيهقي: ج 6، ص 289. معرفة السنن والآثار: ج 5، ص 110. أرواء الخليل للألباني: ج 5، ص 384. تفسير البغوي: ج 2، ص 244.

الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الأمر ترتبت عليه آثار شرعية، وهي كالآتي:

أولا: إن بيت خديجة هو المسجد الحرام

لقد أعطى القرآن دار خديجة شرافة خاصة لم ينلها موقع آخر في مكة بعد البيت الحرام، وذلك من خلال جعله المسجد الحرام وان كان المكيون ينظرون إليه دار سكنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)1 .

فهذه الآية أعطت لدار خديجة صفة الحرمة التي أعطتها للكعبة، فقال تعالى:

(جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ )2 .

وفي دار خديجة قال سبحانه:

(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وهذا يلزم أن يتعامل مع بيت خديجة عليها السلام كما يتعامل مع البيت

ص:42

الحرام من حيث الحرمة والطهارة والتقرب إلى الله تعالى لا أن يجعله الأعراب محلاً للتبول - والعياذ بالله -!!!

ثانيا: إنّ لخديجة من الطهر ما لمريم عليهما السلام

إن جعل القرآن دار خديجة مسجدا يلزم أن تكون خديجة عليها السلام ممن طهرها الله تعالى كمريم بنت عمران، اذ العلة التي طُهرت بها مريم كانت لغرض مكوثها في بيت المقدس.

(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ )1 .

وخديجة عليها السلام في المسجد الحرام الذي نص عليه القرآن وبذاك لزم ان تكون طاهرة بتولاً لا ترى ما تراه النساء؛ وإلاّ للزم ان تسكن داراً أخرى غير هذه الدار التي هي:

(الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

فضلاً عن ان مكوثها في المسجد دون طهر يترتب عليه أحكام خاصة لا تجيز لها البقاء فيه.

وعليه: تدل الآية على أنها طاهرة من الدنس والرجس وانها كمريم بنت عمران عليهما السلام في الطهارة، وهذا يتسق مع كونها الرحم الذي يحتضن بين جدرانه سيدة نساء العالمين، ومشكاة نور الله، رب العالمين، وأم الأئمة

ص:43

المعصومين الذين خصهم الله بسابق عنايته وقديم لطفه فقال عنهم في محكم كتابه:

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)1 .

وفي ذلك يقول ابن حجر العسقلاني: «ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها)(1).

ولأن مرجع أهل البيت النبوي إلى خديجة عليها السلام دون غيرها، فقد جعلها الله كذلك طاهرة مطهرة كي تكون الأرض الصالحة التي تنبت فيها شجرة النبوة.

ومن هنا:

نجد أن القرآن الكريم قد دلل على هذه الحقيقة في قوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) .

وعلى الرغم من ان كثيراً من المحدثين والفقهاء والمفسرين قالوا بأن

ص:44


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني: ج 7، ص 104.

الإسراء تم من بيت خديجة(1).

إلا أن البعض الآخر حاول دفع هذه الخصوصية بإطلاق الآية فجعل كل مكة هي المسجد الحرام(2).

في حين ذهب آخرون إلى أنّه أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيت أم هانئ وقيل من شعب أبي طالب عليه السلام(3).

وقد أفاد العلامة الطباطبائي في بيان هذه الأقوال واختلاف العلماء فيها.

وأعني: اختلافهم في بيت أم هانئ، وشعب أبي طالب عليه السلام، والبيت الحرام، كما أنهم اختلفوا في الزمان ولم يتفقوا على أن الإسراء كان قبل الهجرة في مكة مما يدل على عدم ثبوت هذه الأقوال ورجحان انه صلى الله عليه وآله وسلم أسري به من دار خديجة كما سيمر بعد إيراد قول العلامة؛ إذ قال رحمه الله: «وقد اتفقت أقوال من يُعتنى بقوله من علماء الإسلام على أن الإسراء كان بمكة قبل الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى

ص:45


1- الخلاف للشيخ الطوسي: ج 3، ص 189؛ مختلف الشيعة للعلامة الحلي: ج 5، ص 60؛ إيضاح الفوائد لا بن العلامة الحلي: ج 1، ص 427؛ جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 22، ص 352؛ المجموع للنووي: ج 9، ص 248؛ المناقب لا بن شهر آشوب: ج 1، ص 153؛ البحار للمجلسي: ج 18، ص 380؛ تفسير الرازي: ج 4، ص 19؛ الأمثل لناصر مكارم الشيرازي: ج 10، ص 318.
2- المجموع لمحي الدين النووي: ج 19، ص 433.
3- الطبقات الكبرى لا بن سعد: ج 1، ص 214؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 149.

اَلْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) .

ويدل عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من إخباره صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً بذلك صبيحة ليلته وإنكارهم ذلك عليه، واخباره إياهم بأساطين المسجد الأقصى، وما لقيه في الطريق من العير، وغير ذلك. ثم اختلفوا في السنة التي أُسرِيَ به صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج عن علي عليه السلام. وقيل في السنة الخامسة أو السادسة، وقيل بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وقيل في السنة الثانية عشرة منها، وقيل: قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، وقيل: قبلها بسنة وثلاثة أشهر، وقيل: قبلها بستة أشهر.

ولا يهمنا الغور في البحث عن ذلك ولا عن الشهر واليوم الذي وقع فيه الاسراء ولا مستند يصح التعويل عليه، لكن ينبغي ان يتنبه ان من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ما يصرح بوقوع الاسراء مرتين وهو المستفاد من آيات سورة النجم حيث يقول سبحانه: (ولقد رآه نزلة أخرى) الآيات على ما سيوافيك إن شاء الله من تفسيره. وعلى هذا فمن الجائز ان يكون ما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات من عجيب ما شاهده راجعا إلى ما شاهده في الاسراء الأول وبعض ما وصفه في بعض آخر راجعا إلى الاسراء الثاني، وبعضه مما شاهده في الاسراءين معا.

ثم اختلفوا في المكان الذي أُسري به صلى الله عليه وآله وسلم منه فقيل: أسري به من شعب أبي طالب.

ص:46

وقيل: أسري به من بيت أم هانئ.

وفي بعض الروايات دلالة على ذلك وقد اولوا قوله تعالى: (لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) إلى أن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله مجازا فيشمل مكة.

وقيل: أسري به من نفس المسجد الحرام لظهور الآية الكريمة فيه، ولا دليل على التأويل.

ومن الجائز بالنظر إلى ما نبهنا به من كون الاسراء مرتين ان يكون أحد الاسراءين من المسجد الحرام والآخر من بيت أم هانئ، واما كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر فيه من الروايات ان ابا طالب كان يطلبه طول ليلته وانه اجتمع هو وبنو هاشم في المسجد الحرام ثم سل سيفه وهدد قريشا ان لم يحصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نزوله من السماء ومجيئه إليهم واخباره قريشا بما رأى.

كل ذلك لا يلائم ما كان هو صلى الله عليه وآله وسلم وبنو هاشم جميعا عليه من الشدة والبلية أيام كانوا في الشعب. وعلى أي حال فالإسراء الذي تعطيه الآية:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)

وهو الاسراء الذي كان إلى بيت المقدس كان مبدؤه المسجد الحرام لكمال ظهور الآية ولا موجب للتأويل(1).

ص:47


1- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج 13، ص 30.

أقول: من الغريب ان لا يتناول السيد العلامة - أعلى الله مقامه - دار خديجة عليها السلام في هذه المسألة مع ما عرف عنه من التتبع الحثيث للأقوال، وكيف انه لم يذكر في هذا البحث ما رواه الراوندي رحمه الله عن الإمام أبي جعفر عليه السلام في التصريح بإسراء النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم من دار خديجة عليها السلام فقال رحمه الله: (إن أبا جعفر عليه السلام قال:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسري به نزل جبرئيل عليه السلام بالبراق، وهو أصغر من البغل، وأكبر من الحمار، مضطرب الاذنين، عيناه في حوافره خطاه مد بصره، له جناحان يحفزانه من خلفه، عليه سرج ياقوت، فيه من كل لون، أهدب العرف الأيمن، فوقفه على باب خديجة، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وآله فمرح البراق، فخرج إليه جبرئيل عليه السلام فقال: أسكن فإنما يركبك أحب خلق الله إليه. فسكن. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله فركب ليلا، وتوجه نحو بيت المقدس، فاستقبل شيخا، فقال جبرئيل عليه السلام: هذا أبوك إبراهيم. فثنى رجله وهم بالنزول، فقال جبرئيل عليه السلام: كما أنت. فجمع من شاء الله من أنبيائه ببيت المقدس، فأذن جبرئيل، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله فصلى بهم. ثم قال أبو جعفر عليه السلام في قوله: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك هؤلاء الأنبياء الذين جمعوا فلا تكونن من الممترين قال: فلم يشك رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يسأل»)(1).

ص:48


1- الخرائج والجرائح للراوندي: ج 1، ص 84؛ البحار للمجلسي: ج 18، ص 378؛ تفسير نور الثقلين للحويزي: ج 2، ص 320.

فضلاً عن ذلك فان كثيراً من الفقهاء والمفسرين سواء من مدرسة أهل البيت أو المدارس الأخرى قد أشاروا إلى ان الإسراء كان من بيت خديجة عليها السلام، وهم كالآتي نورد أسماءهم حسب التسلسل الزمني لحياتهم.

أولاً: شيخ الطائفة الطوسي رضوان الله تعالى عليه (المتوفى 410 ه ) فانه قال في كتابه الخلاف:

(وإنما أسري به من بيت خديجة)(1).

ثانيا: الحافظ ابن شهر آشوب المازندراني (المتوفى 588 ه ) فقد روى عن: (السدي والواقدي - قولهما في أن - الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر بمكة في السابع عشر من شهر رمضان ليلة السبت بعد العتمة من دار أم هانئ بنت أبي طالب وقيل من بيت خديجة...)(2).

ثالثاً: المفسر الكبير العلامة الفخر الرازي (المتوفى 606 ه ) وقد نقل قول الشافعي في حكم دخول الكافر المسجد قائلاً:

(قد يكون المراد من المسجد الحرام لقوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وإنما أسري به من بيت خديجة)(3).

ص:49


1- الخلاف للشيخ الطوسي: ج 3، ص 189.
2- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 153.
3- تفسير الرازي: ج 4، ص 19.

رابعاً: الحافظ محي الدين النووي (المتوفى 676 ه ) قال في المجموع: (في مذهب العلماء في بيع دور مكة وغيرها من أرض الحرم وإجارتها ورهنها، مذهبنا - أي الشافعي - جوازه وبه قال عمر بن الخطاب وجماعات من الصحابة ومن بعدهم؛ وهو مذهب أبي يوسف، وقال الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة لا يجوز شيء من ذلك، والخلاف في المسألة مبني على أن مكة فتحت صلحاً أم عنوة ؟ فمذهبنا انها فتحت صلحا فتبقى على ملك أصحابها فتورث وتباع وتكرى وترهن. ومذهبهم انها فتحت عنوة فلا يجوز شرع من ذلك واحتج هؤلاء بقوله تعالى:

(وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ)1 .

قالوا والمراد بالمسجد جمع الحرم لقوله سبحانه وتعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

أي من بيت خديجة)(1).

خامساً: العلامة الحلي رضوان الله تعالى عليه (المتوفى 710 ه ) قائلا: (مسألة: قال الشيخ - الطوسي - في الخلاف: لا يجوز بيع رباع مكة وبيوتها ولا إجارتها، وفيه نظر.

ص:50


1- المجموع للنووي: ج 9، ص 248.

احتج الشيخ بقوله تعالى:

(سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ) .

والمسجد اسم لجميع الحرم، لقوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وإنما أسري به من بيت خديجة، وروي من شعب أبي طالب فسماه مسجداً، ولما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«بيع مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها، وللاجماع من الفرقة والأخبار»)(1).

سادساً: المحدث العلامة المجلسي رحمه الله (المتوفى 1111 ه ) وقد نقل قول ابن شهر آشوب في (ان الإسراء كان من بيت خديجة)(2).

سابعا: الشيخ الجواهري أعلى الله مقامه (المتوفى 1266 ه ) نص على ذلك في كتابه الجواهر في: بيع بيوت مكة، فقال: (وكيف كان في التذكرة، وظاهر الدروس، ومحكي الحواشي، والإيضاح، (في بيع بيوت مكة تردد) من انها مسجد لقوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) .

ص:51


1- مختلف الشيعة: ج 5، ص 60.
2- البحار للمجلسي: ج 18، ص 380.

إلى آخره والمفروض انه صلى الله عليه وآله وسلم أسري به من بيت خديجة...)(1).

أقول: وهذا كله يدل على أن الإسراء كان من بيت خديجة عليها السلام وانه هو المعني بقوله تعالى:

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

وهما خصوصيتان في آن واحد تكشفان عن شرافة الدار وأهلها وحرمتها.

الا ان هذه الحرمة والشرافة التي جعلها الله تعالى لهذا البيت وأهله لم تكن بمانعة الوهابيين الذين دنسوا المسجد الحرام فحولوه إلى حمامات ودورات مياه.

ف (إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) من مصيبة ما أعظمها على الإسلام!!

المبحث الرابع: مبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة عليها السلام ليلة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة

اشارة

إن من الأحداث التي لازمت سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فتناولتها كتب السيرة والتاريخ والحديث والتفسير هي خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة ومبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة عليها السلام.

ص:52


1- جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 22، ص 352.

وعلى الرغم من اشتهار الحادثة، ان لم تكن من مفاصل حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أن المحدثين والمفسرين وغيرهم لم يتناولوا اختصاص هذه الفضيلة بهذه الدار، دار خديجة عليها السلام، بل نجدهم قد صرفوا الانظار إلى دار أخرى في عملية الخروج والهجرة، وهي دار أبي بكر مشيرين إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما خرج من دار أبي بكر في تفاصيل غريبة وعجيبة لا تتسق مع جوهر النبوة والاعتقاد بالغيب؛ وحيث إن البحث مخصص لمبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة فقد أرجأنا البحث، في هذه التفاصيل، أي هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعلة في اصطحابه لأبي بكر وملابسات الغار وغيرها إلى مبحث آخر أفردنا له كتاباً خاصاً كي يستوفي البحث حقه من التحليل والدراسة.

ولذلك:

فإن هذه الفضيلة المخصوصة بعلي بن أبي طالب عليهما السلام كانت قد وقعت في دار سيدتنا ومولاتنا خديجة الكبرى عليها السلام، ولأهمية هذه الحادثة وما رافقها من مسائل عقائدية وتاريخية فقد خصصت لها مبحثاً كي تستوفي الحادثة حقها من البحث والدراسة والتحليل.

المسألة الأولى: كيف وقعت الحادثة ؟

اشارة

لقد تناول ابن إسحاق رحمه الله ومن نهل عنه في تدوين السيرة النبوية وغيرهم من المؤرخين والمحدثين حادثة مبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة بألفاظ متفاوتة في عرض الحدث وبيان تسلسل وقوعه.

ص:53

ولذلك وجدت ان أضع بين يدي القارئ الكريم هذا الحدث من خلال الخزين الذي احتوته المكتبة الإسلامية بمختلف مذاهب علمائها. وذلك للأهمية الكبيرة التي ارتبطت بهذا الحدث المفصلي من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ألف: ما رواه ابن إسحاق والطبري وغيرهما

بعد أن تمت بيعة الأنصار في العقبة الثانية، وكانوا قد بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القتال وعادوا إلى المدينة، عزم بعض المسلمين في مكة بالهجرة إلى المدينة، وذلك قبل خروج النبي إليها بأمر منه صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً لهم:

«إن الله قد جعل لكم إخواناً ودارا تأمنون فيها»(1).

فخرجوا إرسالاً وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر أن يأذن له الله بالخروج.

أما من بقي من المسلمين في مكة فقد لاقى من قريش أشد أنواع العذاب، وأبقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، كما بقي أيضاً في مكة أبو بكر وهو ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وعندما أدركت قريش أن المسلمين خرجوا إلى المدينة أيقنت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوف يلحق بهم ولذا كانوا في حيرة من أمرهم لا

ص:54


1- السيرة النبوية لابن جرير الطبري: ص 88.

يعلمون أي السبل تمكنهم من الحؤول دون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه لو تمكن من ذلك وسكن المدينة لتجمع من حوله المسلمون ولعظم أمره ولم يتمكنوا بعد ذلك من القضاء عليه.

ولذا اجتمع أشرافهم في دار الندوة - وهي المكان الذي يجتمعون فيه للأمور المهمة - واتفقوا على أن يأخذوا من كل قبيلة رجلا قويا، ويعطى سيفا، ثم يجهزون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه ويتفرق دمُه بين القبائل، وبذلك لا يتمكن بنو عبد مناف من الأخذ بثأره؛ لأنهم لا قدرة لهم على قتال كل هؤلاء القبائل ويرضون بالفدية.

فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.

فأنزل الله تعالى في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له:

(وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ )1 .

فأتى جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«لاتبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه»(1)

فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام، فيثبون

ص:55


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 333؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 100، تفسير الآلوسي: ج 9، ص 198.

عليه(1) ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب:

نم على فراشي وتسبح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم(2).

وفي مسند أحمد: (وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.

قال: لما اجتمعوا، وفيهم أبوجهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.

قال - ابن إسحاق -: وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال:

إنا أقول ذلك، أنت أحدهم.

ص:56


1- السيرة النبوية للنووي: ص 85، ط دار البصائر، وجاء قوله: (انهم كانوا مائة نفر» وهذا خلاف المشهور).
2- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 333؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 99؛ تفسير الثعلبي: ج 2، ص 126؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 282؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 216؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، ص 235.
3- مسند احمد بن حنبل: ج 1، ص 348، من حديث ابن عباس.

وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، فلا يرونه، فجعل يفشي ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات من يس:

(يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) إلى قوله (... فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )1 .

حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم أنصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنظرون ههنا؟.

قالوا: محمداً. قال: خيبكم الله! لقد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم ؟.

قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائماً عليه بردة، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عليه السلام عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا(1).

ص:57


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 126-127، ط دار القلم - بيروت؛ السيرة النبوية لابن جرير الطبري: ص 88؛ السيرة النبوية لابن سيد الناس: ج 1، ص 235؛ السيرة النبوية

ولهذا الحديث وقفة سنعود إليها بعد ايفاء الحادثة حقها من البيان، وسنتناول فيها بعض ما جاء في الحديث من أحداث ونسلط عليها الضوء لنرى ما حوته من مصداقية أو إخفاء لحقائق واقعية رافقت عملية الهجرة النبوية.

باء: ما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله

يروي الشيخ الطوسي رحمه الله تفاصيل الحادثة عن أبي عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر عن أبيه، وعن عبيد الله بن أبي رافع جميعاً عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد تداخل حديث هؤلاء بعضه ببعض فقالوا:

«كان الله عز وجل يمنع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعمه أبي طالب، فما كان يخلص إليه من قومه أمر يسوؤه مدة حياته، فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغيتها وأصابته بعظيم الأذى حتى تركته لقى.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«لأسرع ما وجدنا فقدك يا عم! وصلتك رحم فجزيت خيراً يا عم».

ص:58

ثم توفيت خديجة بعد أبي طالب بشهر فاجتمع بذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حزنان حتى عرف ذلك فيه، قال هند: ثم انطلق ذوو الطول والشرف من قريش إلى دار الندوة، ليأتمروا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأسروا ذلك بينهم، فقال بعضهم: نبني له علما، وينزل برجا نستودعه فيه، فلا يخلص من الضباة إليه أحد، ولا يزال في رنق من العيش حتى يتضيفه ريب المنون، وصاحب هذه المشورة العاص بن وائل، وأمية، وأُبي ابنا خلف.

وقال قائل: بئس الرأي ما رأيتم، ولئن صنعتم ذلك ليتنمرن له الحدب الحميم والمولى الحليف، ثم ليأتين المواسم والأشهر الحرم بالأمن فلينتزعن من أنشوطتكم قولوا قولكم. قال عتبة وشيبة وشركهما أبو سفيان، قالوا: فإنا نرى أن نرحل بعيرا صعبا، ونوثق محمدا عليه كتافا وشدا، ثم نقصع البعير بأطراف الرماح، فيوشك أن يقطعه بين الدكادك إربا إربا. فقال صاحب رأيهم: إنكم لم تصنعوا بقولكم هذا شيئا، أرأيتم إن خلص به البعير سالما إلى بعض الأفاريق، فأخذ بقلوبهم بسحره وبيانه وطلاوة لسانه، فصبا القوم إليه، واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلة، فليسيرن حينئذ إليكم بالكتائب والمقانب، فلتهلكن كما هلكت إياد ومن كان قبلكم ؟! قولوا قولكم. فقال له أبو جهل: لكن أرى لكم أن تعمدوا إلى قبائلكم العشرة، فتنتدبوا من كل قبيلة رجلا نجدا، ثم تسلحوه حساما عضبا، وتمهل الفتية حتى إذا غسق الليل وغور بيتوا بابن أبي كبيشة بياتا، فيذهب دمه في قبائل قريش جميعا فلا يستطع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش في صاحبهم، فيرضون حينئذ بالعقل منهم، فقال صاحب

ص:59

رأيهم: أصبت يا أبا الحكم.

ثم أقبل عليهم فقال: هذا الرأي فلا تعدلوا به رأيا، وأوكئوا في ذلك أفواهكم حتى يستتب أمركم، فخرج القوم عزين، وسبقهم بالوحي بما كان من كيدهم جبرئيل (عليه السلام)، فتلا هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ )1 .

فلما أخبره جبرئيل (عليه السلام) بأمر الله في ذلك ووحيه، وما عزم له من الهجرة، دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام)، وقال له:

يا علي إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفا، يخبرني أن قريشا اجتمعوا على المكر بي وقتلي، وأنه أوحى إلي ربي (عز وجل) أن أهجر دار قومي، وأن انطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وأنه أمرني أن آمرك بالمبيت على ضجاعي - أو قال: مضجعي - ليخفى بمبيتك عليه أثري، فما أنت قائل، وما صانع ؟.

فقال علي (عليه السلام):

أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله ؟

قال:

نعم.

ص:60

تبسم علي (عليه السلام) ضاحكا، وأهوى إلى الأرض ساجدا، شكرا بما أنبأه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سلامته، وكان علي (صلوات الله عليه) أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الامة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما رفع رأسه قال له:

امض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه كمسرتك، واقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله.

قال:

وإن ألقي عليك شبه مني، أو قال: شبهي.

قال:

إن - بمعنى نعم -.

قال:

فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله (تعالى) يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا بن عم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل، فصبرا صبرا، فإن رحمة الله قريب من المحسنين.

ثم ضمه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى صدره وبكى إليه وجدا به، وبكى علي (عليه السلام) جشعا لفراق رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ص:61

واستتبع رسول (صلى الله عليه وآله) أبا بكر بن أبي قحافة وهند بن أبي هالة، فأمرهما أن يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه إلى الغار، ولبث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكانه مع علي (عليه السلام) يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين. ثم خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فحمة العشاء الآخرة، والرصد من قريش قد أطافوا بداره، ينتظرون أن ينتصف الليل وتنام الأعين، فخرج وهو يقرأ هذه الآية:

(وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )1 .

وأخذ بيده قبضة من تراب، فرمى بها على رؤوسهم، فما شعر القوم به حتى تجاوزهم، ومضى حتى أتى إلى هند وأبي بكر فنهضا معه، حتى وصلوا إلى الغار. ثم رجع هند إلى مكة بما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبو بكر إلى الغار، فلما غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر، أقبل القوم على علي (عليه السلام) يقذفونه بالحجارة والحلم، ولا يشكون أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح، هجموا على علي (صلوات الله عليه)، وكانت دور مكة يومئذ سوائب لا أبواب لها، فلما بصر بهم علي (عليه السلام) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة، وثب له علي (عليه السلام) فختله وهمز يده، فجعل خالد

ص:62

يقمص قماص البكر، ويرغو رغاء الجمل، ويذعر ويصيح، وهم في عرج الدار من خلفه، وشد عليهم علي (عليه السلام) بسيفه - يعني سيف خالد - فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى ظاهر الدار، فتبصروه فإذا هو علي (عليه السلام)، فقالوا: إنك لعلي ؟ قال:

أنا علي.

قالوا: فإنا لم نردك، فما فعل صاحبك ؟ قال:

لا علم لي به.

وقد كان علم - يعني عليا (عليه السلام) - أن الله (تعالى) قد أنجى نبيه (صلى الله عليه وآله) بما كان أخبره من مضيه إلى الغار واختبائه فيه، فأذكت قريش عليه العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول، وأمهل علي (صلوات الله عليه) حتى إذا أعتم من الليلة القابلة انطلق هو وهند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغار، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) هندا أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبو بكر: قد كنت أعددت لي ولك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب. فقال:

إني لا آخذهما ولا أحدهما إلا بالثمن.

قال: فهي لك بذلك، فأمر (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) فأقبضه الثمن، ثم أوصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته. وكانت قريش تدعو محمدا (صلى الله عليه وآله) في الجاهلية الأمين، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءته النبوة والرسالة

ص:63

والأمر كذلك، فأمر عليا (عليه السلام) أن يقيم صارخا يهتف بالأبطح غدوة وعشيا:

ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة فليأت فلتؤد إليه أمانته.

قال:

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم علي، فأد أمانتي على أعين الناس ظاهرا، ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما ومستحفظه فيكما.

وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم. قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله - يعني ابن أبي رافع - أو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إني سألت أبي عما سألتني، وكان يحدث بهذا الحديث، فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة (عليها السلام)؟ وقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة (عليها السلام)، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفك من مالها الغارم والعاني ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين - يعني رحلة الشتاء والصيف - كانت طائفة من العير لخديجة، وكانت أكثر قريش مالا، وكان (صلى الله عليه وآله) ينفق منه ما شاء في حياتها ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها. قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي وهو يوصيه:

ص:64

وإذا أبرمت ما أمرتك فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر إلي لقدوم كتابي إليك، ولا تلبث بعده.

وانطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) لوجهه يؤم المدينة، وكان مقامه في الغار ثلاثا، ومبيت علي (صلوات الله عليه) على الفراش أول ليلة. قال عبيد الله بن أبي رافع: وقد قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) شعرا يذكر فيه مبيته على الفراش ومقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغار ثلاثا.

وقيت بنفسي خير من وطئ الحصا ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

محمد لما خاف أن يمكروا به فوقاه ربي ذو الجلال من المكر

وبت أراعيهم متى ينشرونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمنا هناك وفي حفظ الإله وفي ستر

أقام ثلاثا ثم زمت قلائص قلائص يفرين الحصا أينما تفري(1)

وفي الحديث أمور ينبغي التوقف عندها كما كان حال الحديث السابق نوردها معاً:

الأمر الأول: تدل الرواية على ان قريشاً عزمت على قتل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة عليها السلام بزمن قريب جداً يوم أو يومين، لأنها خشيت تفويت الفرصة بعد ذهاب ركني النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم اللذين كان يتكئ عليهما في تبليغ الرسالة الإلهية. فضلاً

ص:65


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 462-469؛ جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج 5، ص 476.

عن ان قريشاً تريد ان تغتنم هذه الأجواء من الحزن التي يمرّ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانه مشغول بفقد عزيزيه.

ولذا: فقد بادرت إلى الاجتماع في دار الندوة سريعاً بعد وفاة أم المؤمنين خديجة عليها السلام.

الأمر الثاني: أين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأحداث ؟

هذا السؤال استوقفني كثيرا وأنا أبحث بين أقوال الرواة وتناقل الحفاظ وهم يعرضون لنا أحداث هجرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فنجدهم يشيرون إلى ذكر بنتي أبي بكر «أسماء وعائشة» وتعطى لهما أدوار مهمة في الجهاد والمشاركة وكتمان الأمر وإطعام الطعام، وغيرها من الأمور في حين لا نجد ولو مجرد ذكر لفاطمة! أو حتى مجرد التذكير بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بنت وهي الآن في السنة الثامنة من عمرها فما هو دورها في خضم هذه الأحداث ؟ وأين تركها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج ولماذا لم تقم بأي دور كما قامت أسماء بنت أبي بكر؟.

فهل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخفى عليها، أم هل أن الرواة جفوها لأن ذكرها لا يدر عليهم المال ؟ أو لعله يغضب السلطة الحاكمة.

وكيف يمكن أن يعقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم بخروجه غير الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي أراد منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينام في فراشه والشخص الثاني هو أبو بكر وآله أي: «عبد الله،

ص:66

وأسماء وعائشة)(1) ؟ فهؤلاء فقط الذين علموا بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأين أبنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

أما بخصوص سيدة النساء فاطمة الزهراء عليه السلام فهي وإن لم يكن التاريخ قد انصفها من خلال ما صاغته ألسنة الرواة ودونته ذاكرة الحفاظ ، إلا أن العقل والوجدان الحي لا ينسجم مع فكرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلع ابنته الحبيبة التي لها من المكان في كيان النبي المقدس ما عرفه الجميع ويتركها دون أن يودعها أو على الأقل يوصيها بالاهتمام بنفسها.

إن الدين وجميع الشرائع السماوية لتقول وتأمر بالغيرة على العرض فما بالكم بسيد الخلق فلا والله ما خرجَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن ودّع ابنته فاطمة عليه السلام في بيت آل أبي طالب وعند فاطمة بنت أسد تلك المرأة الجليلة التي أفنت عمرها في رعاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخيه علي بن أبي طالب ومن ثم سيدة النساء وبقية النبوة فاطمة عليها السلام.

لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أمن عليها وأوصى بها ومن ثم طمأنها كما طمأن علياً عليه السلام بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«فإنه لن يخلص إليك ما تكرهه منهم».

وطمأنها بأن الله حامي أبيها وواقيه شر الأعداء، وأن الله جامعها معه وأن الفراق لن يطول كثيرا، فلا النبي قادر على فراق فاطمة عليها السلام ولا

ص:67


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 126-127؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 2، ص 234، ط دار المعرفة؛ وفي غيرها من المصادر - فراجع.

فاطمة تحتمل فراق أبيها فسرعان ما اجتمعا في الدنيا والآخرة.

الأمر الثالث: بقي أمر ثالث في هذه العجالة، وهو دور أبي بكر في هذه الحادثة وما صاغته أيدي الكتاب نقلاً عن ألسنة الرواة في كتب المسلمين، ولأن الحديث يحتاج إلى دراسة وتحليل فقد دوناه في كتاب هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كتاب مستقل.

الا أننا نسجل هنا بعض الأسئلة:

أ. كيف التقى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأبي بكر حينما خرج من مكة ؟

ب. ولماذا يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دار أبي بكر ولم يصحبه معه إلى دار خديجة فيخرجا منه معاً؟

ج. لماذا يرفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبض الراحلتين من أبي بكر إلا بالثمن فلما قبض أبو بكر الثمن أخذهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟

د. لماذا تكون أسماء بنت أبي بكر هي التي تجلب الطعام للغار؟ وكيف لم يراقبها المشركون وهي تحمل الطعام وقد خرج أبوها؟.

ه . لماذا يبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام في الغار؟

وغيرها من الأسئلة تجد الإجابة عليها في كتاب حول الهجرة النبوية سيطبع قريبا إن شاء الله.

ص:68

المسألة الثانية: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى

إن من الأسئلة التي تطرح حول رواية ابن إسحاق أو من جاء بعده فنهل من روايته: هو: لماذا لم يكمل لنا بقية الرواية، ولم يُطلع القارئ المسلم أو المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بموقف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عندما سمع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يطلب منه أن ينام في فراشه، ويتشح ببرده الحضرمي الأخضر، كي يتمكن هو صلى الله عليه وآله وسلم من النجاة ؟

وهذا يعني أن يكون الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو البديل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي ضربات السيوف المسلولة خلف الباب.

ففي هذه الحالة وهذا الموقف! لابد أن يكون هناك رد من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وإن يكون له موقف، مهما كانت طبيعته ايجابا أم رفضا فالأمانة في النقل تقتضي أن يروي الراوي أو الحافظ ما جاءت به الأحداث من مواقف تكشف عن حقائق الناس، لا أن يعمل بمنهاج (القضم) فيقضم من الرواية ما لا ينسجم مع موالاته وحبه لبعض الرموز، أو كسب رضا الساسة وما تحمله منحهم وأكياسهم.

ولكي لا نعمل بهذا المنهاج الذي عمل به الكثيرون، ومن أجل أن يطلع المسلم على طبيعة الرد ويتعرف نوعية الموقف الذي أبداه الإمام علي بن أبي

ص:69

طالب عليه السلام، نورد ما جاءت به بقية المصادر الإسلامية التي تناولت بأمانة مجريات هذه الحادثة.

1 - ذكر مفتي مكة السيد زيني دحلان: «كان علي رضي الله عنه أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، ووقى بنفسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه امتثل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يقول له:

«لن يخلص إليك شيء».

فصدق عليه أنه بالامتثال باع نفسه»(1).

وفي هذه الفقرة إشارات منها:

أ. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه أراد أن يسجل التاريخ حقيقة هذه الشخصية للوجدان الإنساني؛ إذ يبدو بشكل واضح أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عرض عليه هذا العرض بدون ضمانات في السلامة أو النجاة، بل إنه عرض طابعه وحقيقته الموت، وغايته الحصول على رضا الله عز وجل. وهنا تعرف حقائق الإيمان وتصرخ صفحات القلوب ملبية نداء التضحية بالنفس أو التمسك والتثبت بالحياة، وقد سجل التاريخ: أن علي بن أبي طالب عليه السلام قد قدّم رضا الله على النفس، هذه النفس إن كانت هي الوسيلة في الحصول على رضا الله عز وجل، فكيف بها إذا كانت قد جمعت أيضا نجاة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والتي فيها رضا الله سبحانه ؟!

ب. ثم يبدو من هذه الحادثة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن

ص:70


1- السيرة النبوية لدحلان: ج 1، ص 304، ط الأهلية للنشر والتوزيع - بيروت.

بان له موقف الإمام علي عليه السلام - وهو العارف بحقائق علي عليه السلام - ذكر لعلي الضمانات في السلامة قائلا:

«فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه».

وفي هذه النقطة تحديدا نقول: لو شكلت لجنة حية الضمائر وأرادتْ أن تمنح أوسمة فهل تجد في تاريخ النبوة شخصية آمنت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدّقتْ حديثه وسلّمت نفسها للموت الحقيقي وهي لا تملك سوى صدقها بهذه الكلمات:

«فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».

ثم نامت هذه النفس مطمئنة لأنها مصدّقة بما سمعت!

فهل هذه اللجنة تجد من تمنحه وسام (الصدق) غير هذا النائم في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أم هل أن هذه الأوسمة كانت وما تزال تمنح للبعض من أجل الوجاهة فتضاف في سجلات العوائل أو تعلق على الجدران ؟ ويبقى الاختيار عند ذوي العقول السلمية.

2 - روى الشيخ الطوسي والثعلبي والرازي والحسكاني والغزالي في الإحياء ونقل عنه الدياربكري وغيرهم: (إن ليلة بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل: أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بحياته فاختار كلاهما الحياة وأحبها فأوحى الله إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه

ص:71

بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب تباهى بك الملائكة)(1).

فأنزل الله تعالى:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)2 .

أقول: حق للمسلم أن يتباهى هو أيضا على الأمم الأخرى بعلي بن أبي طالب عليه السلام.

3 - أورد كثير من حفاظ المسلمين أن قول الله تعالى:(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ) . نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام بعد أن نام بفراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عازم على إفدائه بنفسه(2).

ص:72


1- الأمالي للطوسي: ص 469؛ تفسير الثعلبي: ج 2، ص 126؛ تفسير الرازي: ج 5، ص 224؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 123؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 340؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 274؛ تاريخ الخمس للدياربكري: ج 1، ص 325-326؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي رحمه الله: ج 19، ص 87.
2- شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي: ج 1، ص 96، ح 133 و 134 إلى ح 142؛ كفاية الطالب للشبلنجي: ص 239، ط الحيدرية؛ وص 164، ط الغري؛ الفصول المهمة لابن الصباغ: ص 31، ط الحيدرية؛ تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص 30 و 200، ط الحيدرية؛ نور الابصار للشبلجني: ص 78، ط السعيدية؛ وص 78، ط العثمانية؛ ينابيع

وفيه نقل الحاكم النيسابوري عن علي بن الحسين: (أن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علي بن أبي طالب)، وأقره الذهبي في التلخيص(1).

4 - وفي هذا التكريم كان يفتخر الإمام علي بن أبي طالب فأنشد قائلا:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصا ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

وبات رسول الله في الغار آمنا فنجاه ذو الطول الإله من المكر

وبت أراعيهم وما يتهمونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر(2)

المسألة الثالثة: شبهة ابن تيمية والحلبي في رد فضيلة الفداء، شبهة واهية ومخالفة للقرآن الكريم

اشارة

إن مما يستوقف الباحث في السيرة النبوية هو مروره بآراء كثيرة لمن كتبوا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لا تنسجم مع جوهر القرآن الكريم فضلاً عن أنها مخالفة للمنهج العلمي والموضوعي.

بل: ليجد الباحث أن كثيراً من هذه الآراء ليس فقط انها تخالف المنهج ا

ص:73


1- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 4، وبهامشه تلخيص الذهبي.
2- الأمالي للطوسي: ص 469؛ الفصول المختارة للشريف المرتضى: ص 59؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 4؛ تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 3، ص 180؛ تفسير الآلوسي: ج 9، ص 198؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 131.

لعلمي والموضوعي وإنما فيها تعمد الكذب فيكون صاحب هذا الرأي قد جمع الجهل في المنهج الأخلاقي والعلمي والموضوعي.

ومن هذه الأمثلة التي حوت بين جنباتها هذا النموذج من الآراء، هو قول الحلبي - صاحب السيرة النبوية - في رده لفضيلة الفداء التي اختص بها علي بن أبي طالب عليه السلام ليلة المبيت في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار خديجة فيقول بعد استشهاده بقول إمامه ابن تيمية:

(وأما ما روي أن الله تعالى أوحى إلى جبرئيل وميكائيل أني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه فقال: جبرئيل بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب باهى الله بك الملائكة وأنزل الله عز وجل:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ )1 .

قال فيه الإمام ابن تيمية: إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير).

وأيضاً - والقول للحلبي -: (قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة، والآية المذكورة في سورة البقرة هي مدنية باتفاق، وقد قيل إنها نزلت في صهيب

ص:74

لما هاجر، أي كما تقدم؛ لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: ما ذكر، وعليه: فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه واضحاً ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى نفسه بماله هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لأن الحكم يكون للغالب)(1).

وهذه الشبهة التي أطلقها الحلبي والتي تضمنت رأي إمامه ابن تيمية وتبنيه لهذا الرأي مع تغيير سبب نزول الآية وجعلها في صهيب، وغيرها، مخالفة للمنهج الأخلاقي والقرآني والعلمي كما سيمر بيانه من خلال الملاحظات الآتية:

أولاً: إتفاق أهل العلم بالحديث والسير على صدور هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبه يتضح كذب ابن تيمية
اشارة

إن ما أطلقه ابن تيمية وتبناه الحلبي ائتماماً بإمامه فهو كذب صراح ومخالف للأخلاق؛ لأن الكذب من أسوأ صفات الإنسان على أي دين كان وذلك للآتي:

ألف. فابن تيمية لم يوضح للقارئ كيف حصل له العلم بأن (أهل العلم بالحديث والسير قد اتفقوا على ان هذا الحديث كذب).

فهل سافر إلى جميع أقطار المسلمين وسأل أهلها عن العلماء فالتقى بهم وسألهم عن هذا الحديث فقالوا له انه كذب ؟ فإن قيل: نعم، فهذا هو الكذب

ص:75


1- السيرة الحلبية: ج 2، ص 192.

لأن ابن تيمية سيقضي عمره كله بالسفر إلى أقطار المسلمين يبحث عن أهل العلم بالحديث وعندها لن يستطيع ان يجمع لنا أقوالهم ولن يحصل على اتفاقهم وإنْ قيل: لا فهذا إقرار بأنه كاذب في قوله: بأن أهل العلم قد اتفقوا.

باء. ما هو الميزان الذي اعتمده ابن تيمية في تحديد أهل العلم كي نتعرف عليهم ونصدّق قول ابن تيمية في انهم من أهل العلم؛ فإبليس من أهل العلم، ولذا قال لله رب العالمين:

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ )1 .

فعلم إبليس بالصراط المستقيم يمكنه من تضليل الناس عنه، بل إن إبليس أعلم من ابن تيمية بالصراط المستقيم ولذا فهو سبب ضلال البشرية منذ ان أ * رج آدم وحواء من الجنة.

كما ان كعب الأحبار من أهل العلم بالحديث، بل ان كل فرقة من المسلمين تعتقد بأن أئمتها وزعماءها هم من أهل العلم بالحديث ولذا فهم يعتقدون بأنهم الفرقة الناجية من هذه الامة فعلى سبيل المثال: «يعتقد الخوارج أنهم من الناحية الدينية يمثلون الفئة القليلة التي لا تقبل في الحق مساومة، وأن زعماءهم من جماعة القراء والفقهاء هم الحريصون على الالتزام بالكتاب والسنة دون مواربة أو تأويل»(1) ولا أدري أي كتاب أو سنة تجيز قتل علي بن

ص:76


1- الموسوعة العربية العالمية، الخوارج: ص 1.

أبي طالب عليه السلام ؟

ولذلك: لم يصرح ابن تيمية بالقاعدة أو الضوابط التي لديه في معرفة أهل العلم كي نعتقد بأنه ينطبق عليهم هذا الوصف، وكي نأخذ بكلامه.

جيم - ثم لماذا لم يرشدنا إلى مواضع اتفاق أهل العلم ويدلنا على أقوالهم أكان مدوناً في مصنفاتهم أم تحديثا في حلقاتهم فسمعه ابن تيمية من تلامذتهم ؟ فعلم أنه كذب ؟

دال - أما أهل العلم بالحديث الذين أقرت لهم الامة الإسلامية فهم قسمان:

القسم الأول: فهم علماء الشيعة الذين لا يرى فيهم ابن تيمية ومن اتخذه إماماً له بأنهم من أهل العلم إلا أننا نؤمن بأنهم من أهل العلم على رغم أنف ابن تيمية ومن تولاه؛ إذ يكفي ثبوت صدقهم عندنا كثبوت كذب ابن تيمية.

وأما القسم الثاني: فهم علماء السنة والجماعة وهؤلاء اتفقوا على كذب ابن تيمية الذي نسب إليهم ما لم ينطقوا به وتقوّل عليهم ما لم يقولوا، وكي نثبت للقارئ كذب ابن تيمية في قوله حول حديث نزول جبرئيل وميكائيل عليهما السلام لحفظ علي بن أبي طالب عليه السلام حينما فدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه.

الذي قال عنه ابن تيمية: (إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير) فهؤلاء أهل العلم بالحديث والسير ندرجهم بأسمائهم كي يتضح كذب ابن تيمية.

ص:77

وقبل ان أُورد أسماء أهل العلم أذكّر القارئ الكريم بأنني في صدد الحديث القائل بنزول الملائكة في ليلة مبيت الإمام علي عليه السلام، وليس في اختصاص الآية في علي عليه السلام وحصرها فيه فهذا سيرد بيانه.

القسم الأول: رواية أهل العلم بالحديث والسير لنزول جبرائيل وميكائيل لحفظ علي عليه السلام ليلة المبيت من الشيعة على رغم أنف ابن تيمية

1. الحافظ ابن عقدة الكوفي رحمه الله (المتوفى سنة 333 ه ) وقد رواه بإسناده، عن ابن عباس، وأبي رافع - مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهند بن أبي هالة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل أني آخيت بينكما...»(1).

2. أخرجه الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه (المتوفى سنة 460 ه ) في الأمالي بإسناده فقال: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال حدثنا أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة، قال: حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي سنة خمسين ومائتين، قال حدثني الحسن بن حمزة أبو العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، عن الزبير بن سعيد الهاشمي، قال: حدثنيه أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنه بين القبر والروضة، عن أبيه وعبيد الله بن أبي رافع جميعاً عن عمار بن ياسر (رضي الله عنه) وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:78


1- فضائل أمير المؤمنين عليه السلام لابن عقدة الكوفي: ص 181.

قال أبو عبيدة: وحدثنيه سنان بن أبي سنان: أن هند بن هند بن أبي هالة الأسدي حدثه عن أبيه هند بن أبي هالة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمه خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخته لأمه فاطمة صلوات الله عليها.

قال أبو عبيدة: وكان هؤلاء الثلاثة هند بن هالة وأبو رافع وعمار بن ياسر جميعاً يحدثون عن هجرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة ومبيته قبل ذلك على فراشه(1).

أقول: أما حديث نزول الملائكة لحراسة علي بن أبي طالب عليه السلام ليلة المبيت فقد حدّث به الصحابي المنتجب أبو اليقظان عمار بن ياسر كما صرح به الشيخ الطوسي(2).

وأما ما قاله أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر: «وحدثنيه سنان بن أبي سنان: أن هند بن هند بن أبي هالة الأسدي حدثه عن أبيه هند بن أبي هالة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمه خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخته لأمه فاطمة صلوات الله عليها.

فقد اثبتنا في الفصل الأول من الكتاب عدم صحة زواج أم المؤمنين خديجة عليها السلام قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن هند هذا هو ابن

ص:79


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 463.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 469.

اختها احتضنته أم المؤمنين خديجة وتكفلت برعايته فنشأ في دارها حاله كحال زينب وأم كلثوم ورقية، فعرف بابنها كما عرفن هؤلاء النسوة ببناتها - وقد مرّ بيانه مفصلاً فليراجع -.

3. الحافظ ابن شهر آشوب المازندراني (المتوفى سنة 588 ه )

قال الثعلبي في تفسيره: وابن عقب في ملحمته، وأبو السعادات في فضايل العترة، والغزالي في الإحياء وفي كيمياء السعادة أيضاً برواياتهم عن أبي اليقظان، وجماعة من أصحابنا ومن ينتمي إلينا نحو: ابن بابويه، وابن شاذان، والكليني، والطوسي، وابن عقدة، والبرقي، وابن فياض، والعبدلي، والصفواني، والثقفي بأسانيدهم عن ابن عباس وأبي رافع وهند بن أبي هالة... وساق الحديث»(1).

أقول:

الظاهر في كلام ابن شهر رحمه الله أمور منها:

أ. أنه قد جمع في قوله هذا اختصاص آية الفداء والشراء في علي بن أبي طالب عليه السلام بشكل عام وبين إيرادها مع ذكر نزول الملائكة عليهم السلام، إذ إن اختصاص الآية بعلي عليه السلام رواه العلماء عن ابن عباس كما سيمر، واختصاص نزول الملائكة رواه العلماء عن أبي اليقظان عمار بن ياسر (رضي الله تعالى عنه).

ب. قد يكون الحافظ ابن شهر آشوب قد وجد هذا الحديث في

ص:80


1- مناقب آل أبي طالب للمازندراني: ج 1، ص 340.

مصنفات أولئك العلماء في زمانه وان هذه المصنفات لم تنشر بعد فهي مازالت في أروقة حصون المخطوطات المنتشرة في البلاد الإسلامية، وفي الواقع لم أعثر على الحديث فيما توفر من نشر لبعض مصنفات ابن بابويه رحمه الله وغيره.

ج. وقد يكون الحافظ قد وجد هذا الحديث ضمن مصنفات علماء العامة الذين ذكرهم الا ان هذه المصنفات قد تعرضت للحذف والتزوير بعد مرور أكثر من ثمانمائة عام كما حدث لصحيح مسلم من التزوير كما أشرنا في مبحث منزلة خديجة في السنة وانها من رواة الحديث الشريف.

وعليه: فغرضنا إيراد أسماء أهل العلم بالحديث والسير من علماء الشيعة رحمهم الله تعالى.

4. السيد ابن طاووس رحمه (المتوفى سنة 664 ه ).

قال رحمه الله: «قال الثعلبي بعد كلام ذكره: ففعل ذلك علي عليه السلام فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام...»(1).

5. الشيخ الطبرسي رحمه الله (المتوفى 548 ه ) وقد أورد الرواية في المجمع(2).

6. الحافظ ابن كرامة رحمه الله (المتوفى 494 ه ) وقد رواه في التنبيه(3).

ص:81


1- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس: ص 37؛ وذكره أيضاً في تفسير سعد السعود: ص 216.
2- مجمع البيان في تفسير الميزان للشيخ الطبرسي: ج 2، ص 57.
3- تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين للمحسن بن كرامة: ص 24.

7. الحافظ ابن البطريق رحمه الله (المتوفى سنة 600 ه )(1).

8. الحافظ ابن أبي حاتم رحمه الله (المتوفى سنة 664 ه )(2).

9. الحافظ ابن جبر رحمه الله (من أعلام القرن السابع الهجري)(3).

10. الشيخ الحر العاملي رحمه الله تعالى صاحب الوسائل المتوفى سنة 1104 رواه في جواهره(4).

11. السيد هاشم البحراني رحمه الله (المتوفى سنة 1107 ه )(5).

12. العلامة المجلسي رحمه الله (المتوفى 1111 ه )(6).

وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى.

القسم الثاني: رواية أهل العلم بالحديث والسير من السنة والجماعة في نزول جبرائيل وميكائيل

1. الثعلبي (المتوفى سنة 427 ه ) قائلاً: «ورأيت في الكتب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده... إلى أن يقول: فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام وساق الحديث»(7).

ص:82


1- خصائص الوحي المبين للحافظ ابن البطريق: ص 120.
2- الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 321.
3- نهج الإيمان لابن جبر: ص 305.
4- الجواهر السنية للحر العاملي: ص 308.
5- حلية الأبرار: ج 1، ص 129.
6- بحار الأنوار: ج 19، ص 87.
7- تفسير الثعلبي: ج 2، ص 126.

أقول:

وقول الثعلبي: (ورأيت في الكتب).

دليل قوي على انتشار هذا الحديث في مصنفات علماء المسلمين إلا ان يد السياسة الجائرة والمتزلفة لحكام بني أمية ومن سار على نهجهم منعت وصول هذا الحديث إلى أسماع كثير من الناس فضلاً عن هذا الحديث وغيره مما يتعلق بفضائل أهل البيت عليهم السلام ما زال محجوباً عن الناس ومخزوناً في المخطوطات التي يتعمد أرباب المكاتب العامة والمشرفون عليها بعدم إخراجها للنور ناظرين في ذلك إلى الجانب المادي وما غلا سعره دون النظر إلى ما ينفع الناس والذي فيه رضا الله تعالى.

2. الحاكم الحسكاني (من أعلام القرن الخامس للهجرة) أخرجه في الشواهد مسندا، فقال: أخبرنا أبو سعد السعدي بقراءتي عليه من أصل سماعه بخط السلمي قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن زكريا الطحان ببغداد قال: حدثنا إبراهيم بن احمد البذوري قال: حدثنا أبو أيوب سليمان بن أحمد الملطي قال: حدثنا سعيد بن عبد الله الرفاء قال: حدثنا علي بن حكام الرازي عن شعبة عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد الغار، بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل:

إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة.

ص:83

فكلاهما اختارها وأحبا الحياة، فأوحى الله إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبات على فراشه يقيه بنفسه، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل ينادي: بخ بخ، من مثلك يابن أبي طالب، الله عز وجل يباهي بك الملائكة فأنزل الله تعالى:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)1,2 .

أقول:

لقد أوردت الحديث بتمامه كي يطلع القارئ على تطابق المتن مع ما أورده أهل العلم بالحديث والسير في مصنفاتهم، وان هذا الحديث له اسناد آخر أورده الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد الخدري في حين كان للحديث اسناد آخر إلى أبي اليقظان عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

3. أبو حامد الغزالي (المتوفى سنة 505 ه ) أورد الحديث بدون ذكر السند وهو طابعه في إيراد الأحاديث في الإحياء غالباً(1).

4. الفخر الرازي، إمام المفسرين عند أهل السنة والجماعة (المتوفى سنة

ص:84


1- احياء علوم الدين حامد الغزالي: ج 3، ص 258.

606 ه ) وقد أورد الحديث بحذف السند مع اختصار في المتن(1).

5. الحافظ ابن الأثير (المتوفى سنة 630 ه ) وقد أسند الحديث إلى الثعلبي المفسر(2).

6. الحافظ محمد بن أحمد بن الشهاب الدمشقي (المتوفى سنة 871 ه ) وقد أورده في جواهره نقلاً عن الغزالي(3).

7. المؤرخ اليعقوبي (المتوفى سنة 292 ه )(4) ، رواه في تاريخه.

8. ابن حجة الحموي (المتوفى سنة 767 ه )(5) ، وقد أورده في الثمرات.

9. العاصمي(6) المكي الشافعي (المتوفى سنة 1111 ه ) وقد أورده في تاريخه سمط النجوم.

10. الدياربكري (المتوفى 966 ه )(7) ، وقد أورده في تاريخه.

11. الزبيدي الحنفي(8) ، وأورده في الاتحاف.

ص:85


1- تفسير الرازي: ج 5، ص 224.
2- اسد الغابة: ج 4، ص 25.
3- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لابن الدمشقي: ج 1، ص 219.
4- تاريخ اليعقوبي: ص 119.
5- ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي: ج 1، ص 219.
6- سمط النجوم العوالي للعاصمي: ص 146.
7- تاريخ الخميس: ج 1، ص 325، ط المطبعة ا لوهبية بمصر سنة 1283.
8- اتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 8، ص 202، ط الميمنية بمصر.

12. القاضي التنوخي (المتوفى سنة 327 ه )(1) ، وقد أورده في المستجاد.

13. الحافظ أبو الفضل زين الدين العراقي (المتوفى سنة 806 ه ) شيخ ابن حجر والهيثمي، قال في تخريجه لأحاديث الاحياء حينما تناول الحديث المذكور أعلاه: (رواه احمد مختصراً عن ابن عباس).

ولم يقم الحافظ العراقي بتكذيب الحديث كما كذب ابن تيمية على المسلمين فقال: كذب باتفاق اهل العلم بالحديث والسير(2).

15. ابن الصباغ المالكي (المتوفى سنة 1422)(3) ، وقد رواه في الفصول.

16. القندوزي (المتوفى سنة 1294 ه )(4) ، وقد رواه في الينابيع.

فهؤلاء جميعاً قد رووا الحديث في كتبهم فإما انهم ليسوا من أهل العلم وإما ان ابن تيمية كذب عليهم؛ وإما ان أهل العلم لم يتفقوا أصلاً في هذا الحديث ومن ثم يكون ابن تيمية كاذباً أيضاً.

فضلاً عن ذلك فقد اعتمد ابن تيمية طريقة شيطانية ماكرة، فقد مكر في الجمع بين سبب نزول الآية المباركة في علي بن أبي طالب عليه السلام، مع هذا الحديث الذي ينص على نزول الملائكة لنصرته ليرد الآية عن علي عليه السلام

ص:86


1- المستجاد للقاضي التنوخي: ص 1.
2- تخريج أحاديث الاحياء للعراقي: ج 7، ص 399؛ الابتلاء سنة الهية لعلي سباط : ج 6، ص 10؛ سبيل المستبصرين: ج 16، ص 9.
3- الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 294.
4- ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 275، الباب الحادي والعشرون.

حينما جعل سبب النزول محصوراً في نزول جبرائيل وميكائيل ليلة المبيت على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس في قيام علي عليه السلام في فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه كي ينصرف ذهن القارئ أو السامع إلى أن هذه الآية ليست من الآيات التي تتحدث عن فداء علي للنبي بنفسه، فضلاً عن نفي الحادثة من الأصل، لكن فات على ابن تيمية أن هذا المكر لا يصمد أمام مكر الله تعالى بالذين كذبوا بآيات الله والذين يصدون عن سبيله فسرعان ما يفضحهم ويخزيهم في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

ثانياً: اسماء الذين رووا من أهل العلم بالحديث والسير واتفاقهم على ان علياً عليه السلام هو الذي شرى بنفسه فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنام في مكانه في دار خديجة عليها السلام

إلاّ أنني سأورد هنا بعض أسماء أهل العلم بالحديث وهم يصرحون في اختصاص هذه المنزلة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وانه هو الذي شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله.

وسأورد هذه الأسماء مشتركة دون فصل بينها لكثرتها وأكتفي منها باثني عشر اسماً.

ألف. روى الشيخ الطوسي رحمه الله عن أنس بن مالك قال: لما توجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغار ومعه أبو بكر، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام، أن ينام على فراشه ويتوشح ببردته، فبات علي (عليه السلام) موطنا نفسه على القتل، وجاءت رجال قريش من بطونها يريدون قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما أرادوا أن يضعوا عليه

ص:87

أسيافهم لا يشكون أنه محمد (صلى الله عليه وآله) فقالوا: أيقظوه ليجد ألم القتل ويرى السيوف تأخذه، فلما أيقظوه ورأوه عليا (عليه السلام) تركوه وتفرقوا في طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأنزل الله (عز وجل):

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ اللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ))1 .

باء. روى امام الحنابلة احمد بن حنبل في مسنده قائلاً: «حدثنا أبو بلج حدثنا عمرون بن ميمون قال: إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو - بنا بين - هؤلاء.

قال، فقال ابن عباس: بل - أنا - أقوم معكم. قال: وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى قال: فابتدأوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا. قال فجاء ينفض ثوبه ويقول أف وتف وقعوا في رجل له عشر وقعوا في رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم:

لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا يحب الله ورسوله قال فاستشرف لها من استشرف.

قال:

أين علي ؟.

قالوا: هو في الرحل يطحن. قال:

وما كان أحدكم ليطحن.

ص:88

قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر قال فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثا فأعطاها إياه فجاء بصفية بنت حيي.

قال ثم بعث فلانا - أي أبا بكر - بسورة التوبة فبعث عليا خلفه فأخذها منه قال:

لا يذهب بها الا رجل مني وأنا منه.

قال: وقال لبني عمه:

أيكم يواليني في الدنيا والآخرة.

قال: وعلي معه جالس فأبوا فقال علي:

أنا أواليك في الدنيا والآخرة.

قال:

أنت وليي في الدنيا والآخرة.

قال فتركه ثم أقبل على رجل منهم فقال:

أيكم يواليني في الدنيا والآخرة.

فأبوا قال: فقال علي:

أنا أواليك في الدنيا والآخرة.

فقال:

أنت وليي في الدنيا والآخرة.

قال: وكان أول من أسلم من الناس بعد خديجة.

قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه فوضعه على علي

ص:89

وفاطمة وحسن وحسين فقال:

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .

قال: وشرى علي نفسه، لبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه، قال وكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر وعلي نائم قال وأبو بكر يحسب أنه نبي الله قال فقال يا نبي الله قال فقال له علي إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه قال فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار، قال وجعل علي يرمى بالحجارة كما كان يرمى نبي الله وهو يتضور قد لف رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه، فقالوا انك للئيم كان صاحبك نراميه فلا يتضور وأنت تتضور وقد استنكرنا ذلك.

قال وخرج بالناس في غزوة تبوك، قال، فقال له علي: أخرج معك ؟ قال فقال له نبي الله: لا، فبكى علي، فقال له:

أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنك لست بنبي انه لا ينبغي أن أذهب الا وأنت خليفتي.

قال وقال له رسول الله:

أنت وليي في كل مؤمن بعدي.

وقال:

سدوا أبواب المسجد غير باب علي.

ص:90

فقال:

فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره.

قال وقال:

من كنت مولاه فان مولاه علي(1).

أقول: والحديث يدل على جملة من الحقائق، منها:

1. انقسام الصحابة والتابعين في حب علي بن أبي طالب عليه السلام وبغضه فمنهم من كان يحبه ومنهم من كان يبغضه ولذا نجد: ان الرواية تصرح بمجيء مجموعة من هؤلاء مع عدم تصريح عوانة بن ميمون عن أسمائهم إلى ابن عباس ومناشدته بالذهاب معهم للرد على نفر من التابعين والصحابة الذين أبغضوا علياً فأخذوا ينالون منه بدرجة كبيرة يكشفها استياء ابن عباس الشديد لما سمعه منهم.

حينها لم يجد حبر الامة جواباً يليق بهؤلاء غير (التفل) فقال: أُف، وتُف!!!

2. عدم تصريح ميمون بن عوانة بأسماء الذين وقعوا في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يدل على أمور:

ألف. إمّا أنّهم من الشخصيات المعروفة في المجتمع ولهم باع في الدعوة إلى الإسلام (الأموي) ومن ثم يعد التصريح بهم كشفا عن حقائق إيمانهم فهم ببغضهم لعلي عليه السلام ووقوعهم فيه يكونون قد صرحوا بنفاقهم للملأ من

ص:91


1- مسند احمد بن حنبل: ج 1، ص 330-331.

الناس وهذا يخجل كثيراً من أشياعهم وأتباعهم ويفضحهم إذ يظهر كذبهم وتدجيلهم على الناس فضلاً عن تتبع أقلام المؤرخين لهذه المشاهد.

باء. وإمّا أنْ يكون هؤلاء الذين وقعوا في الإمام علي عليه السلام هم من اقطاب السلطة الحاكمة ومن ثم لا يستطيع التصريح بأسمائهم لما يترتب على ذلك من أخطار تلحق بميمون بن عوانة.

جيم. وإمّا أنهم مجهولو الهوية وهذا يكشف عن حقيقة خطيرة، إذ تدل هذه المشاهد على وجود عناصر تريد الفتك بالإسلام والنيل منه وبث الفرقة فيه، وهؤلاء إمّا مرتبطون باليهود - وإمّا بأعداء أهل البيت عليهم السلام لغرض تثقيف الناس على بغض علي بن أبي طالب عليه السلام، أو أقله كسر حاجز القداسة المستند إلى الحكم الشرعي في حب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، بل وأهل البيت عموماً، إلاّ أن حب علي بن أبي طالب عليه السلام كان هو الميزان والمحك الذي يكشف عن معدن إيمان المسلمين.

ولذلك: نجد أنّ عبد الله بن عباس أورد هذه الخصال العشر لغرض إعادة القلوب والعقول إلى جادة الإسلام المحمدي.

دال. وإمّا أنّ هؤلاء مجموعة من عامة الناس ليس لهم ارتباط بجهة ولم يكونوا من ضمن ما يعرف ب - «الطابور الخامس».

وعندها تكون المصيبة أعظم؛ لأن ذلك يدل على انتشار هذه الثقافة في المجتمع الإسلامي وتداولها فيما بين العامة مما يدفع بالامة إلى حافة الهاوية والسقوط ، ولذا وجد ابن عباس ان الواجب الشرعي يحتّم عليه ان يذكّر بهذه الحدود الشرعية التي أسسها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:92

3. من الملاحظ في الرواية: ان عبد الله بن عباس يؤسس لمنهج علمي في الاحتجاج مع هذا الفكر الجديد الذي بدأ ينتشر في المدينة المنورة، وهو عدم الدخول مع أولئك المنافقين في حوار أو جدال، والعلة في ذلك أنهم أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كان عدوّاً لله ورسوله فهؤلاء لا ينفع معهم أن يقال لهم: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» لأنهم من الأصل لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبماذا ينفع معهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!

ولذلك: مثل هؤلاء كثير في المجتمعات وهم يتجددون بأشكال ووجوه جديدة إلا أن أفكارهم واحدة ومبادئهم واحدة وهي محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربة علي بن أبي طالب وشيعته.

وعليه: لم ينفع معهم القول بل لا يستحقون الرد.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً)1 .

مما جعل ابن عباس يعرض عنهم ولم يحدثهم بهذه الخصال العشر، بل نراه ذكرها لما رجع منهم، ولذلك لم يلقوا منه غير (التفل).

4. تدل الرواية على معرفة الصحابة باختصاص آية الشراء بعلي بن أبي طالب عليه السلام ودرايتهم بذلك، ولذا: فقد ابتدأ ابن عباس حديثه بقوله: (وشرى علي نفسه).

فهذه بعض ما يتعلق برواية أحمد بن حنبل عن ابن عباس، ونعود إلى

ص:93

أقوال أهل العلم بالحديث في روايتهم لفضيلة الغداء وآية الشراء.

جيم. روى الشيخ الصدوق رحمه الله تعالى عن الإمام الباقر عليه السلام انه قال:

«أتى رأس اليهود، علي بن أبي طالب عليه السلام عند منصرفه عن وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة».

فقال: يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي. فقال عليه السلام:

يا أخا اليهود سل ما بدا لك.

- فكان مما سأله ان قال -: فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة، والى ما يصير آخر أمرك ؟

- ونأخذ موضع الشاهد - فقال عليه السلام:

وأما الثانية يا أخا اليهود، فإن قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار - دار الندوة - وإبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف فلم تزل تضرب أمرها ظهر البطن حتى اجتمعت آراؤها على أن يندب من كل فخذ من قريش رجل، ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها فيمضي دمه دهرا، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون

ص:94

فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار فأخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخبر، وأمرني ان اضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه، فمضى عليه السلام لوجهه واضطجعت في مضجعه...»(1).

دال. أخرج الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405 ه ) في مستدركه عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس انه قال: «شرى علي نفسه، ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وآله وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله ألبسه بردة وكانت قريش تريد أن تقتل النبي صلى الله عليه وآله فجعلوا يرمون عليا ويرونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد لبس بردة وجعل علي رضي الله عنه يتضور فإذا هو علي فقالوا انك للئيم انك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور ولقد استنكرناه منك. هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقد رواه أبو داود الطيالسي وغيره عن أبي عوانة بزيادة ألفاظ (2).

هاء. محمد بن مسعود العياشي (المتوفى سنة 320 ه ) روى عن ابن عباس انه قال: «شرى علي نفسه، ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نام مكانه...(3).

ص:95


1- الخصال للشيخ الصدوق: ص 367.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 4؛ وج 3، ص 133.
3- تفسير العياشي: ج 1، ص 101؛ تفسير فرات الكوفي: ص 342؛ خصائص الوحي المبين للحافظ ابن البطريق: ص 119.

واو. الحافظ النسائي صاحب السنن (المتوفى سنة 303 ه ) أخرج الحديث عن ابن عباس انه قال: «... وشرى علي نفسه فلبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نام في مكانه...»(1).

زاي. روى الشيخ الطوسي رحمه الله عن عبد الله بن جندب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن مجاهد، قال: فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار.

فقال عبد الله بن شداد بن الهاد: وأين أنت من علي بن أبي طالب حيث نام في مكانه وهو يرى أنه يقتل ؟.

فسكتت - عائشة - ولم تحر جواباً(2).

وأضاف ابن شهر آشوب: (وشتان بين قوله:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ )3 .

وبين قوله:

(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنا)4 .

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه يقوي قلبه ولم يكن مع علي.

وهو لم يصبه وجع، وعلي يرمى بالحجارة.

ص:96


1- خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام للنسائي: ص 64.
2- الأمالي للشيخ الطوسي رحمه الله: ص 447.

وهو مختف بالغار، وعلي ظاهر للكفار.

واستخلفه الرسول لرد الودايع؛ لأنه كان أمينا فلما أداها قام على الكعبة فنادى بصوت رفيع: يا أيها الناس هل من صاحب أمانة ؟ هل من صاحب وصية ؟ هل من عدة له قِبَلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وكان في ذلك دلالة على خلافته وأمانته وشجاعته، وحمل نساء الرسول خلفه بعد ثلاثة أيام وفيهن عائشة فله المنة على أبي بكر بحفظ ولده، ولعلي المنة - على أبي بكر - في هجرته، وعلي ذو الهجرتين والشجاع البايت بين أربعمائة سيف، وإنما اباته على فراشه ثقة بنجدته فكانوا محدقين به إلى طلوع الفجر ليقتلوه ظاهراً فيذهب دمه بمشاهدة بني هاشم قاتليه من جمع القبايل)(1).

حاء. وروى الحافظ الهيثمي (المتوفى سنة 807 ه ) في مجمعه عن عمرو ابن ميمون انه قال: «وشرى علي نفسه لبس ثوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال: رواه احمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج الفزاري وهو ثقة وفيه لين(2).

وفضلاً عن أولئك فقد رواه أيضاً:

1. الحافظ الحسكاني (المتوفى في القرن الخامس الهجري)(3).

ص:97


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 334؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 19، ص 56؛ حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني: ج 1، ص 138.
2- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 120.
3- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 127.

2. خاتمة الحفاظ جلال الدين السيوطي (المتوفى سنة 911)(1).

3. الحافظ ابن كثير الدمشقي الأموي (المتوفى سنة 774 ه )(2).

4. الحافظ الموفق بن أحمد البكري المكي الحنفي الخوارزمي (المتوفى سنة 568 ه )(3).

5. ابو العباس محب الدين الطبري المكي الشافعي (المتوفى سنة 694 ه )(4).

وغيرهم كثير مما يدل على أمور منها:

ألف. أن آية الشراء هي من الآيات النازلة في علي بن أبي طالب عليه السلام حينما شرى بنفسه فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت في دار خديجة عليها السلام وان هذه الفضيلة من خصائص دار خديجة عليها السلام فضلاً عن نزول جبرائيل وميكائيل هذه الليلة لحراسة علي بن أبي طالب عليه السلام من القتل حينما مكر المشركون هذه الليلة لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

(وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ )5 .

ص:98


1- الدر المنثور: ج 3، ص 180.
2- البداية والنهاية لابن كثير: ج 7، ص 374.
3- المناقب للموفق الخوارزمي: ص 126.
4- ذخائر العقبى: ص 87.

باء. ان هذه الحادثة ثابتة لعلي عليه السلام باتفاق أهل العلم بالحديث والسير وهي من المسلمات التي لا نقاش فيها عندهم الا من أعماه الله.

(وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً)1 .

جيم. ان دعوى ابن تيمية دعوى كاذبة وان هؤلاء العلماء قد اتفقوا حينما رووا هذا الحديث على كذب ابن تيمية وانه كسالفيه الذين اجتمعوا للوقوع في علي بن أبي طالب عليه السلام الا ان الفارق بين الحادثتين هو افتقادنا لعبد الله بن عباس الذي يجيبه بمثل ما أجاب أسلاف ابن تيمية حينما قال لهم: «أُف، وتُف».

دال. إنّ هذه المحاولات اليائسة في تضليل الناس عن الدين المحمدي والسنة النبوية وحرفهم إلى السنة الأموية لم تنتهِ بابن تيمية كما لم تبدأ منه كما مرّ بيانه، ولذلك نجد أنّ هذه المنقبة، أي: منقبة الفداء لم تكن هي الوحيدة التي تعرضت للنفي والتحريف والتضليل، بل جميع مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

إلا ان الفارق بين هذه المنقبة وغيرها هي ارتباطها بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما تبعها من اصطحابه - بأبي وأمي - أبا بكر ونزوله معه في الغار، ومحاولة الكثيرين ممن تشيعوا لبني أمية أو للخليفتين تعظيم هذا الخروج والدخول للغار كمحاولة واهية لشد انتباه الناس إليها وصرفهم عن عظم التضحية والفداء فضلاً عن صدق النية وخلوصها لنيل مرضاة الله تعالى

ص:99

فيما قامت به هذه النفس ليلة المبيت في دار خديجة عليها السلام وفي فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هنا: نجد أنّ هذه الآية المباركة قد تعرضت لمحاربة شديدة وقاسية مستمرة منذ القرن الأول للهجرة النبوية والى يومنا هذا كما سيمر بيانه:

ثالثاً: محاربة آية الشراء منذ القرن الأول للهجرة والى يومنا هذا
اشارة

لم تزل تشهد هذه الآية المباركة الضربات التي يوجهها الحكام وأصحاب الأمراض القلبية منذ ان توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وظهور الفتن كأنها قطع من الليل المظلم مما دعا الإمام علياً عليه السلام وثلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدفاع عن القرآن والسنة النبوية وارشاد الناس إلى جادة القرآن فكان عليه السلام بين الحين والآخر يذكّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسنته ويحثهم على التمسك بها كيلا يتبعوا السبل فتفرق بهم عن سبيله، فكان مما يذكّر به عليه السلام هو هذه الآية المباركة، التي جاءت ضمن مناشداته لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الحين والآخر، فكانت من بينها هذه المناشدة التي رواها كلٌّ من:

1 - أبي بكر احمد بن موسى بن مردويه المتوفى سنة 410 ه .

2 - الحافظ ابن عساكر الدمشقي (المتوفى سنة 571 ه ).

3 - الحافظ الموفق الخوارزمي (المتوفى سنة 568 ه ).

4 - ابن أبي حاتم العاملي (المتوفى سنة 664 ه ).

ص:100

5 - ابن جبر (المتوفى ق 7).

6 - المتقي الهندي (المتوفى سنة 975 ه ) وغيرهم.

فضلاً عن أن هذه (المناشدة) رواها الحافظ ابن مردويه بسندين:

الأول: حدثنا أبو بكر احمد بن محمد بن أبي دارم، قال حدثنا المنذر بن محمد، قال حدثني أبي، قال حدثني عمي، قال حدثني أبي، عن أبان بن تغلب، عن عامر بن واثلة.

والثاني: عن زافر بن سليمان بن الحارث بن محمد، عن أبي الطفيل عامر ابن واثلة قال: كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت علياً عليه السلام يقول:

بايع الناس أبا بكر وإنا والله، أولى بالأمر وأحق به، فسمعت وأطعت، مخافة أن يرجع الناس كفاراً، يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم بايع أبو بكر لعمر وأنا والله، أولى بالأمر منه، فسمعت وأطعت؛ مخافة أن يرجع الناس كفارا، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذن لا أسمع ولا أطيع، إن عمر جعلني في خمس نفر أنا سادسهم. لأيم الله، لا يعرف لي فضل في الصلاح ولا يعرفونه لي كما نحن فيه شرع سواء. وأيم الله، لو أشاء أن أتكلم ثم لا يستطيع عربهم ولا عجمهم ولا المعاهد منهم ولا المشرك أن يرد خصلة منها.

ثم قال:

أنشدكم الله أيها الخمسة، أمنكم أخو رسول الله (صلى الله عليه

ص:101

وآله) غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له أخ مثل أخي المزين بالجناحين، يطير مع الملائكة في الجنة ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له عم مثل عمي حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له ابن عم مثل ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سيدة نساء هذه الامة ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد له سبطان مثل الحسن والحسين سبطي هذه الامة، ابني رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد قتل مشركي قريش غيري ؟ قالوا: لا. قال: أمنكم أحد وحد الله قبلي ؟

قالوا: لا. قال:

ص:102

أمنكم أحد صلى القبلتين غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد أمر الله بمودته غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد سكن المسجد يمر فيه جنبا غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد ردت عليه الشمس بعد غروبها حتى صلى العصر غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قرب إليه الطير فأعجبه، فقال: صلى الله عليه وآله وسلم اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير صلى الله عليه وآله وسلم، فجئت وأنا لا أعلم ما كان من قوله، فدخلت فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: «والي يا رب، والي يا رب» غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أفيكم أحد كان أقتل للمشركين عند كل شديدة تنزل برسول الله مني ؟

قالوا: لا.

ص:103

قال:

أفيكم أحد كان أعظم عناء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مني حتى اضطجعت على فراشه، ووقيته بنفسي وبذلت مهجتي، غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أفيكم أحد كان يأخذ الخمس غيري وغير زوجتي فاطمة ؟

قالوا: لا. قال:

أمنكم أحد كان له سهم في الخاص وسهم في العام غيري ؟

قالوا: لا. قال:

أفيكم أحد يطهره كتاب الله غيري حتى سد النبي أبواب المهاجرين وفتح بابي إليه حتى قام إليه عماه: حمزة والعباس فقالا: يا رسول الله، سددت أبوابنا وفتحت باب علي ؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «ما أنا فتحت بابه ولا سددت أبوابكم، بل الله فتح بابه وسد أبوابكم».

قالوا: لا. قال:

أفيكم أحد تمم الله نوره من السماء حين قال:

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) غيري ؟

قالوا: اللهم لا. قال:

أفيكم أحد ناجى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ست عشرة مرة غيري حين قال:

ص:104

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً )1 .

قالوا: اللهم لا. قال:

هل فيكم أحد ولي غمض رسول الله غيري ؟

قالوا: اللهم لا. قال:

أفيكم أحد آخر عهده برسوله (صلى الله عليه وآله) حين وضعته في حفرته غيري ؟

قالوا: لا(1).

والحديث الشريف فيه دلالات كثيرة لا يسع المقام بيانها الا أنني أقول:

من الملاحظ أن الإمام علياً عليه السلام قد تحمل من هذه الامة من الجهد والعناء ما يعجز البيان عن وصفه فضلاً عن سلوك هذه الامة العناد في قبول نهج القرآن والسنة المحمدية منذ ان قبض صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك: ليس من المستغرب ان يُحارب القرآن والسنة والحال كما بينه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام؛ وليس من المستغرب أيضاً أن نقرأ في المصادر الإسلامية استمرار هذه المحاربة إلى وقتنا الحاضر.

ص:105


1- مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام لأبي بكر بن مردويه الأصفهاني: ص 128، الأحاديث 161-162؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 42، ص 435؛ مناقب أمير المؤمنين لموفق الخوارزمي: ص 315؛ الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 331؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 529؛ كنز العمال للهندي: ج 5، ص 726.

ولكن فلنعد إلى القرن الأول للهجرة ولننظر كيف حوربت هذه الآية:

ألف. بذل معاوية آلاف الدراهم لتحريف نزول الآية

يروي ابن أبي الحديد المعتزلي عن أبي جعفر الإسكافي انه قال: «وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)1 .

وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى:

(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ) .

فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، وروى ذلك.

قال - أي أبو جعفر الاسكافي -: وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي عليه السلام، وعاقبوا على ذلك الراوي له، حتى إن الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: عن أبي زينب.

وروى عطاء، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: وددت أن أترك

ص:106

فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب عليه السلام يوماً في الليل، وأن عنقي هذه ضربت بالسيف.

قال - أبو جعفر -: كالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة، لانقطع نقلها للخوف والتقية من بني مروان مع طول المدة، وشدة العداوة، ولولا أن لله تعالى في هذا الرجل سراً يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث، ولا عرفت له منقبة ألا ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها، ومنع الناس أن يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره، ونسي اسمه، وصار وهو موجود معدوماً، وهو حي ميتا!»(1).

والحديث لا يحتاج إلى تعليق فهو واضح الدلالة فيما صنعه أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في محاربتهم للقرآن والسنة النبوية.

فضلاً عن ان الخوارج يسمون أنفسهم بالشراة لاعتقادهم ان الآية فيهم(2) ، والفضل في ذلك يعود لمعاوية بن أبي سفيان.

ص:107


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 73. الغارات للثقفي: ج 2، ص 841. شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 132. البحار للمجلسي: ج 33، ص 215.
2- الشراة: بالضم، الواحد شار، سمعوا بذلك لقولهم إنا شرينا في طاعة الله، أي: بعناها بالجنة؛ خزانة الأدب للبغدادي: ج 5، ص 351. وقال ابن منظور: الشُراة: الخوارج، لأنهم غضبوا ولجوا، وأما هم فقالوا نحن الشراة لقوله عزّ وجل:(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ )؛ أي: يبيعها ويبذلها في الجهاد وثمنها الجنة؛ لسان العرب: ج 14، ص 429؛ الموسوعة العربية العالمية، مادة الخوارج: ص 11.
باء. تعمد ابن تيمية الكذب على العلماء والقراء في صرف الآية عن علي بن أبي طالب عليه السلام

لقد تعمد ابن تيمية الكذب على العلماء في صرف الآية عن علي بن أبي طالب عليه السلام معتمداً أسلوب المكر في جمع حادثة مبيت الإمام علي في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه مهاجراً مع حديث المؤخاة بين جبرائيل وميكائيل ونزولهما في ليلة المبيت في دار خديجة عليها السلام - كما مر بيانه - كي يوهم القارئ ان الآية لا تخص علي بن أبي طالب ولا شأن لها بتلك الحادثة. فضلاً عن تثقيف القراء على ثقافة التسقيط والتشهير بطائفة كبيرة من المسلمين لا ذنب لهم إلا موالاتهم لعلي بن أبي طالب عليه السلام وحبهم له وهذا ما لا يؤمن به ابن تيمية الذي تتبع فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام فحاربها في منهاج السنة الأموية بأشد مما قام به حكام بني أمية.

جيم. منهج الألباني في دفع الآية عن علي عليه السلام

يبتكر الألباني منهجاً جديداً في التعامل مع فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام يختلف عما اعتمده اسلافه الماضون في التعامل مع هذه الفضائل.

والمنهاج الجديد يعتمد على قذف الرواية بالوضع دون أن يعطي سبباً علمياً لذلك مما يجعل المتطفلين على العلم والذين أذهب الله ببصيرتهم يتسارعون لحمل كلام الألباني وحكمه في الرواية دون الوقوف على الدراية.

ومثاله: ما نحن بصدده، فقد أورد الألباني حديث المؤاخاة بين جبرائيل وميكائيل ونزولهما في دار خديجة ليلة شرى بنفسه أمير المؤمنين علي بن أبي

ص:108

طالب عليه السلام فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

في السلسلة الضعيفة فيصدر حكمه على الحديث مباشرة فيقول: (موضوع) دون أن يبين العلة في الوضع.

ثم يختم الحديث بحكم آخر فيقول: «لم تتم دراسة الحديث»(1)!!

والسؤال المطروح: كيف يكون الحديث (موضوعاً) وهو (لم تتم دراسته)؟!!

فلا ندري أي منهج هذا الذي يسير عليه الألباني في استنباط الأحكام في الأحاديث أهو الهوى أم العمى، أم السير على منهاج السنة الأموية ؟!.

رابعاً: الشبهة الحلبية ومخالفتها للقرآن والسنة
اشارة

وعوداً على بدء فيما أورده الحلبي (المتوفى 1044 ه ) في سيرته من شبهة عقائدية وتاريخية حول مبيت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه من مكة فقال - بعد أنْ قدّم قول إمامه ابن تيمية الذي مرّ ذكره وزيفه فاعقبه بزيف آخر - قائلاً: «وأيضاً قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة والآية المذكورة في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق، وقد قيل إنها نزلت في صهيب (رضي الله عنه) لما هاجر النبي كما تقدم لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه - وآله - وسلم قال لعلي ما ذكر وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه - وآله - وسلم واضحاً ولا مانع من

ص:109


1- السلسلة الضعيفة للألباني: ج 10، ص 4946.

تكرار نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه - وآله - وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى نفسه بماله ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لان الحكم يكون للغالب»(1).

أقول:

وهذه الأسطر القليلة التي تضمنت كلام الحلبي احتوت على مجموعة شبهات وأباطيل في آن واحد وإن كان محور الكلام يدور حول مبيت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولكي نُذهب بهذا الزّبد جُفاءً فقد قمت بإفراد هذه الشبهات كي تأخذ ما يناسبها من ردود فكانت كالآتي:

1. رد شبهة، حصول الطمأنينة لعلي عليه السلام بقول الصادق له، لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم

ولعمري لقد أراد الحلبي أن يذم فمدح، إذ إن حصول الطمأنينة لعلي عليه السلام لا يتحقق ذلك إلا بإيمانه الراسخ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان في قلبه مقدار ذرة من الشك - والعياذ بالله - لما حصلت له الطمأنينة، وهو الصدّيق حقاً.

إلا إننا نفرق بين الطمأنينة التي قصدها الحلبي في عدم حصول الضرر عليه، وبين الطمأنينة التي نؤمن بها وهي سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المبيت في فراشه، والتغطي ببرده الأخضر كي يعتقد القوم أنه

ص:110


1- السيرة الحلبية: ج 2، ص 192.

صلى الله عليه وآله وسلم ما زال في فراشه نائماً.

نعم: لقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام مطمئناً، ولكن ليس من عدم حصول المكروه، وإنما كان اطمئنانه بسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا قدم نفسه لأجل تحقيق هذه السلامة.

ولذا نراه يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن ذكر له أن القوم يمكرون به وهم عازمون على قتله كما أخبره جبرائيل وهو محتاج إلى أن ينام علي في مكانه فكان أول ما سأل عنه علي عليه السلام بعد أن سمع هذا الكلام ان قال:

«أو تسلم في مبيتي هناك»؟.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«نعم».

فتبسم علي ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً(1).

فهذا هو الاطمئنان الذي خالج قلب أمير المؤمنين عليه السلام ولذا فداه بنفسه.

2. رد شبهة قول الحلبي: (فلم يكن فيه فداء بالنفس)

بمعنى: أن تصديق الإمام علي عليه السلام بقول رسول الله (لم يصلك مكروه) جعله ينام في مكانه ومن ثم لم يكن فيه فداء بالنفس.

ص:111


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 158؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 115.

أقول: فضلاً عما مرّ في الفقرة السابقة الا انني أضيف هنا ما يأتي:

ألف. لم يقدم الحلبي دليلاً واحداً على أن تصديق الإمام علي عليه السلام بكلام رسول الله كان خاصا بهذه الجملة تحديداً، ولا نعلم كيف توصل إلى معرفة ما يدور في نفس أمير المؤمنين عليه السلام في تلك اللحظات التي لم يكن فيها عليهما مطّلع غير الله سبحانه وتعالى.

باء. لم يذكر الحلبي حينما أطلق هذه الشبهة الوقت الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأنه «لن يخلص إليك شيء تكرهه» أفي أول كلامه مع علي عليه السلام كان أم في آخره ؟!

فان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر علياً عليه السلام في ليلة المبيت في أول كلامه كأن قال له: (لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فنم في مكاني وقد أخبرني جبرئيل بأنهم يريدون قتلي) فهذا يحتاج إلى بينة يلزم من الحلبي تقديمها كي نصدقه بأن علياً أول ما سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لن يصله مكروه، ولذا كان مطمئناً لأنه عرف ان نفسه لن يصيبها مكروه، وبما ان الحلبي لم يقدم بينة على ذلك فقوله ساقط ، وفيه افتراء على علي بن أبي طالب عليه السلام؛ لأنه نسب إليه ما لم يكن واقعاً.

وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر علياً بأنه يكون سالماً بعد أن أخبره بحديث جبرائيل من اجتماع القوم في دار الندوة وعزمهم على قتله وتفريق دمه بين القبائل وان جبرائيل طلب منه ان لا ينام هذه الليلة بفراشه وان يخرج من الدار، وإن القوم قد أحاطوا بدار خديجة فيلزم أن يكون

ص:112

عليٌّ في فراشه كي يتمكن من خداعهم فيخرج من دار خديجة مهاجراً؛ فهذا عين الفداء والتضحية؛ لأنه قبل بفداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسمع منه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لن يصله مكروه، فضلاً عن ذلك فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عرض على علي عليه السلام ذلك احتاج أن يسمع رأيه، ويرى قبوله أو رفضه، فعلي عليه السلام هنا مخير وليس مجبراً على المبيت، فإن قبل علي ان ينام لزم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكافئه، أو على الأقل يبين له ما سيحدث له؛ وان كان جواب الإمام علي الرفض فهل ينفع عندئذ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

«لن يخلص إليك شيء تكرهه».

وهل سيكون للاطمئنان بسلامة النفس وجود، أو أي أثر.

وعليه:

إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ابتدأ القول بالاطمئنان قبل أن يخبر علياً بما يجري عليه فهذا مخالف للخلق النبوي، لأن النبي لا يزج بأحد في الهلاك والقتل وتحمل ضربات السيوف قبل ان يسمع منه رأيا، فمن يدري لعله يرفض، وعندها لا ينفع تطمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء.

وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر علياً (بأنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم) كان بعد قبوله عليه السلام العرض في أن ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه فيه سلامة رسول الله صلى الله

ص:113

عليه وآله وسلم، فحينها يكون الإمام قد قدم نفسه فداء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآثر حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حياته. وبذلك يندفع زيف قول الحلبي (لم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة).

فضلاً عن أن هناك من الروايات ما يدل على أن النبي الأكرم قد أخبر علياً (بأنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم) كان بعد أن أخبره بسلامته من المشركين وسيتمكن من الهجرة إلى المدينة، عندها سجد الإمام علي عليه السلام لله شكراً وبعد أن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه هذا الصنيع والشكر لله قام فأخبره (بأنه لن يصله منهم شيء يكرهه).

فأما ابن إسحاق ومن جاء بعده فقد روى الحادثة بلفظ :

1 - فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانهم قال لعلي ابن أبي طالب:

«نم على فراشي وتسبح ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه».

وهنا: كان تطمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب منه النوم في مكانه وبعد اخباره بما ينتظره خلف الباب(1).

2 - وأما الشيخ الطوسي رحمه الله فقد روى عن عمار بن ياسر وأبي رافع قائلا: (فلما أخبره جبرائيل بأمر الله في ذلك ووحيه، وما عزم له من

ص:114


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج، ص 99؛ تفسير الثعلبي: ج 2، ص 126.

الهجرة، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام وقال له:

«يا علي إن الروح هبط عليّ بهذه الآية آنفا، يخبرني أن قريشاً اجتمعوا على المكر بي وقتلي، وأنه أوحى إليّ ربي عزّ وجل أن أهجر دار قومي، وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وإنه أمرني أن أمرك بالمبيت على ضجاعي، أو قال: مضجعي، ليخفى بمبيتك عليه أثري فما أنت قائل، وما صانع ؟».

فقال علي عليه السلام:

«أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله ؟».

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«نعم».

تبسم علي عليه السلام ضاحكا، وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً بما أنبأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سلامته، وكان علي صلوات الله عليه أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رفع رأسه قال له:

«امض لما أمرت فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه كمسرتك، واقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله».

قال: وإن أُلقِيَ عليك شبه مني، أو قال: شبهي، قال: إن - بمعنى نعم - قال:

ص:115

«فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا بن عم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل، فصبرا صبرا، فإن رحمة قريب من المحسنين»)(1).

3. رد شبهة قول الحلبي: (والآية المذكورة في سورة البقرة هي مدنية باتفاق)

أقول: لم يفتأ هؤلاء الذين لديهم مشكلة قلبية مع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن يعمدوا إلى التدليس في الروايات والحيلة في تقديم الأقوال لغرض تضليل المسلمين ودفعهم عن معرفة فضائل الإمام علي عليه السلام وكأنهم أرادوا حجب نور الشمس بالمنخل.

فهنا يعمد الحلبي إلى تقديم إشكاله بالاحتيال على الآية المباركة فيقول: (الآية في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق) فيوهم القارئ بأن الضمير في «هي» يعود للآية لأنه ابتدأ بها وليس للسورة فيجعلها في نفس الحكم من حيث تحديد مكان نزولها، ثم يؤكد الاحتيال على القارئ فيقول باتفاق، أي: باتفاق أهل الاختصاص بعلوم القرآن، مما يجعل القارئ مطمئناً بأن الآية لا علاقة لها بعلي ابن أبي طالب عليه السلام لأنها مدنية وليلة المبيت وقعت في مكة وفي دار خديجة عليها السلام.

ص:116


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 466؛ البحار للمجلسي: ج 19، ص 61.

وهذه الحيلة واهية لأنها مخالفة للمنهج العلمي فضلاً عن الأخلاقي وذلك لما يأتي:

ألف. أما كون سورة البقرة مدنية فهذا لا خلاف فيه، ولكن نحن بصدد الحديث عن آية الشراء التي نزلت في ليلة المبيت والفداء والتضحية ولسنا في صدد الحديث عن سورة البقرة وحكمها من المدني والمكي، ولذا كان من الأمانة العلمية - إن وجدت - الحديث عن حكم الآية وليس السورة.

باء. أما ما اتفق عليه أهل الاختصاص في علوم القرآن كالزركشي والسيوطي فقد نقلا عن أبي القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتابه التنبيه على فضل علوم القرآن، أنه قال: (من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلاً، وما نزل نهاراً، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السورة المكية، والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه، فقال بعضهم: مدني، هذه خمسة وعشرون وجها، من لم يعرفها ولم يميز بينها لم يحل له أن يتكلم في

ص:117

كتاب الله تعالى)(1).

ولا أدري كيف استحل الحلبي الكلام فجعل الآية في حكم المدني وقد نزلت قبل وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، بل كيف استحل التدليس والتضليل.

جيم. قال السيوطي: «إعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة أشهرها: أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها سواء بمكة أم بالمدينة عام الفتح أو عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار.

أخرج عثمان بن أبي سعيد الرازي بسنده إلى يحيى بن سلم قال ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل ان يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فهو من المكي، وما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني.

الثاني: ان المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة.

الثالث: أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة(2).

والسؤال المطروح: أعَلِمَ الحلبي هذه الأوجه أم أنه كان يجهلها؟ فان علمها فلماذا يخالف المنهج العلمي ويتبع هواه، ولم يخشَ الله ؟ وان لم يعلمها فلماذا ينطق بما لا يعلم ويتدخل بما ليس له أهلاً، فضلاً عن تضليل القراء.

ص:118


1- البرهان للزركشي: ج 1، ص 192؛ الاتقان في علوم القرآن للسيوطي: ج 1، ص 34.
2- الاتقان في علوم القرآن للسيوطي: ج 1، ص 34.

إذن: فآية الشراء مكية حسبما جاء به أهل الاختصاص من تلك الأوجه في النزول، وإن كانت ضمن سورة مدنية، وهذا خلاف ما يدعيه الحلبي ظلماً وزوراً.

4. رد شبهة قول الحلبي (وقد قيل انها نزلت في صهيب)

أما هذه الشبهة التي نطق بها الحلبي، أي: إن آية الشراء نزلت في صهيب فلقد تتبعها العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي (زاد الله في توفيقه) - نوردها تيمناً - ولنا إضافة بعدها، فقال: (لقد رووا: انه لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى الغار أرسل أبا بكر مرتين أو ثلاثا إلى صهيب فوجده يصلي، فكره أن يقطع صلاته، وبعد أن جرى ما جرى عاد صهيب إلى بيت أبي بكر، فسأل عن أخويه: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، فأخبروه بما جرى. فأراد الهجرة وحده. ولكن المشركين لم يمكنوه من ذلك حتى بذل لهم ماله، فلما اجتمع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قباء قال صلى الله عليه وآله وسلم: ربح صهيب ربح صهيب، أو ربح البيع، فأنزل الله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله الخ. وألفاظ الرواية مختلفة كما يعلم بمراجعة الدر المنثور للسيوطي وغيره ويكفي أن نذكر أن بعضها يذكر: أن الآية نزلت لما أخذ المشركون صهيبا ليعذبوه، فقال لهم: اني شيخ كبير لا يضر أمِنْكُم كنت، أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتدعوني وديني ؟ ففعلوا. ورواية أخرى تذكر القضية بنحو يشبه ما جرى لأمير المؤمنين حين هجرته، وتهديده إياهم ورجوعهم عنه ؟ فراجع. ولكنها قصة لا تصح.

ص:119

أولا: لأن ارسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر إلى صهيب ثلاث مرات في ظرف كهذا غير معقول، لاسيما وهم يدعون: أن قريشا كانت تطلب أبا بكر كما تطلب النبي، وجعلت مئة ناقة لمن يأتي به، وان كنا نعتقد بعدم صحة ذلك كما سنرى.

ولكن قريشا ولا شك إنما كانت تهتم في أن تستدل على النبي من خلال أبي بكر. أضف إلى ما تقدم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبر أحدا بهجرته تلك الليلة، بل يروون: أنه صلى الله عليه وآله وسلم انما صادف أبا بكر، وهو في طريقه إلى الغار.

ثانيا: إن كلامه معه وهو في الصلاة، واخباره بالامر، لا يوجب قطع صلاة صهيب، إذ باستطاعته أن يلقي إليه الكلام ويرجع دون أن يقطع عليه صلاته، كما أنه يمكن أن ينتظره دقيقة أو دقيقتين حتى يفرغ من صلاته، فيخبره بما يريد.

ويمكن أيضا أن يوصي أهل بيته أن يبلغوه الرسالة التي يريد ابلاغها إلا إذا كان لا يثق بهم، أمّا أن يدّعي: أن أبا بكر كان بحيث لا يدري كيف يتصرف، أو أنه كان يرى حرمة إلقاء الكلام ليسمعه المصلي، فكلاهما غير محتمل في حقه، أو لا يرضى محبوه بنسبته إليه على الأقل، وباقي الفروض الآنفة تبقى على حالها. هذا فضلاً عن هذه الصدفة النادرة فإنه يأتيه مرتين أو ثلاثا، وهو لا يزال يصلي!!

ثالثا: لماذا يهتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصهيب خاصة، ويترك

ص:120

من سواه من ضعفاء المؤمنين، الذين كانت قريش تمارس ضدهم أقسى أنواع التعذيب والأذى، فلا يرسل إليهم، ولو مرة واحدة، ولا نقول ثلاث مرات ؟

وهل هذا ينسجم مع ما نعرفه من عدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعطفه الشديد على أمته ؟

إلا أن يقال: لعل غير صهيب كان المشركون يراقبونه، أو أن صهيبا كان أشد بلاء من غيره، إلى غير ذلك من الاحتمالات التي لا دليل عليها، ولا شاهد لها.

رابعا: اننا نجد بعض الروايات تقول: إن أبا بكر - وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي قال لصهيب: ربح البيع يا صهيب وذلك في قضية أخرى لا ربط لها بحديث الغار والبعض يذكر القضية، ولكنه لا يذكر نزول الآية فيه.

خامسا: إن الآية إنما تمدح من يبذل نفسه في مرضاة الله، لا أنه يبذل المال في مرضاته، ورواية صهيب ناظرة إلى الثاني لا الأول.

سادسا: قد قلنا آنفا: إن صهيبا لم يكن الوحيد الذي بذل ماله في سبيل دينه، فلماذا اختص هذا الوسام به دونهم ؟!

سابعا: انهم يذكرون: أنه لم يتخلف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد من المهاجرين باستثناء من حبس أو فتن، إلا عليا وأبا بكر.

ثامنا: إن الرواية القائلة بأنَّ صهيبا كان شيخا كبيرا لا يضر المشركين، أكان معهم أم مع غيرهم. لا تصح، لأن صهيبا قد توفي سنة ثمان أو تسع

ص:121

وثلاثين وعمره سبعون سنة، فعمره يكون حين الهجرة واحدا أو اثنين وثلاثين سنة، فهو قد كان في عنفوان شبابه، لا كما تريد أن تدعيه هذه الرواية المفتعلة. هذا كله، عدا تناقضات روايات صهيب. وأن عددا منها لا يذكر نزول الآية في حقه. كما أنها عموما إما مروية عن صهيب نفسه، أو عن تابعي لم يدرك عهد النبي، كعكرمة، وابن المسيب، وابن جريح، وليس هناك سوى رواية واحدة وردت عن ابن عباس الذي ولد قبل الهجرة بثلاث سنين فقط . ويجب أن يعلم: أن صهيبا كان من أعوان الهيئة الحاكمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وممن تخلّف عن بيعة أمير المؤمنين، وكان يعادي أهل البيت عليهم السلام. فلعل المقصود هو مكافأته على مواقفه تلك، بمنحه هذه الفضيلة الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام، فيكون هؤلاء قد أصابوا عصفورين بحجر واحد حينما يزين لهم شيطانهم أن عليا يخسر وخصومه يربحون)(1). انتهى كلامه (زاد الله في توفيقه) -.

وأقول - فضلاً عما أورده السيد العلامة -:

1. إنّ الآية ان كانت قد نزلت في صهيب وأنّها مدنية فهذا يدل على انها لم تكن نازلة في صهيب لان الحادثة وقعت في مكة فكيف تكون في صهيب ؟!

وعليه: أما أنّها مدنية كما أدّعى الحلبي وهي بهذا تكون غير مخصوصة بصهيب وان قوله انها نزلت في صهيب كذب وافتراء.

ص:122


1- الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للسيد جعفر مرتضى العاملي: ج 4، ص 40-44.

واما انها مكية وقد ادّعى الحلبي بأنها مدنية وهذا كذب أيضاً.

2. إن الحلبي قد تراجع عن نفي الآية عن أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام كما تراجع عن نزولها في صهيب وهذا تعثر في المنهج فضلاً عن فقدانه عند الحلبي، بل أريد من ذلك بث الشبهات في الأذهان وحينها تحتاج إلى ازالة، ان لم يتناقلها الناس فيما بينهم ويثقفون أبناءهم عليها.

ولذلك: تراجع عن ادعائه.

فقال: «لكنه في الإمتاع لم يذكر انه صلى الله عليه - وآله - وسلم قال لعلي ما ذكر، وعليه: فيكون فداؤه بنفسه واضحاً».

3. وفي تراجعه عن كونها نزلت في صهيب انه قال: «ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وفي حق صهيب»

ونسي ان يأتي بدليل يثبت تكرار نزولها في الثلاثة، فضلاً عن أن الآية تتحدث عن عقد يتكون من أربعة أركان:

ألف. البائع.

باء. الثمن.

جيم. المثمن.

دال. المشتري.

فإن كان العقد الذي نصت عليه الآية يخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأن يكون البائع رسول الله فما هو المثمن ؟، أي: الشيء الذي باعه

ص:123

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما هو الثمن الذي كان مقابل هذا الشيء الذي باعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟، ومن هو المشتري ؟ فهل كان خروجه من مكة تنطبق عليه هذه الأركان ؟ فهذا ما لم يقل به أحد.

وان كان العقد يخص صهيباً على أنه هو البائع فان المثمن المال الذي قدمه للمشركين، وان الثمن سلامته من الصلب، وان المشتري هم المشركون، وهذا خلاف نص الآية المباركة.

وان كان العقد مع الامام علي عليه السلام بكونه البائع وإن المشتري هو الله سبحانه، فإن المثمن هو النفس حينما قدمها للقتل وهو نائم في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبه يتحقق الطرف الأول من العقد أي البائع والشيء الذي يعرضه للبيع وهو قوله تعالى:

(مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ )1 .

أي: بائع يبيع نفسه فان الثمن الذي يقدمه المشتري للبائع هو مرضاته، ولأن المشتري هو الله تعالى وهو المتكفل بالشريعة فحق على الله ان يكرم من يتقرب إليه بسلامة حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وان تحقق سلامة الحبيب أرجى عند المحب من سلامة البعيد عن المحب كصهيب؛ وهكذا كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، كما دلت عليه سيرته العطرة فضلاً عما نطقت به النصوص المتضافرة.

1. قال عليه السلام:

ص:124

«إني والله لم أخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قط ، ولم أعصه في أمر قط ، أقيه بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وترعد منها الفرائص، بقوة أكرمني الله بها، فله الحمد»(1).

2. وقال أمير المؤمنين عليه السلام:

«ما رددت على الله كلمة قط ، ولا خالفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شيء أفديه في المواطن كلها بنفسي، ولقد جليت الكرب العظيم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجدة أعطانيها ربي»(2).

3. وقال - بأبي وأمي -:

«لقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم إني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام، نجدة مني أكرمني الله بها»(3).

فكان نومه عليه الصلاة والسلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحداً من تلك المواطن العديدة التي وقى فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بنفسه فخلدها رب العزة في محكم كتابه تتلى آناء الليل وأطراف النهار ولو كره الكافرون.

ص:125


1- الأمالي للشيخ المفيد: ص 235.
2- مناقب الامام علي لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 2، ص 556.
3- نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام: ج 2، ص 171. الأمالي للصدوق: ص 703.

المبحث الخامس: من دار خديجة عليها السلام خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام مصطحباً علي بن أبي طالب عليه السلام

اشارة

لم يزل دار خديجة عليها الصلاة والسلام يحظى بأهم الأحداث النبوية التي شكلت مفاصل حركة الهداية ومحاربة الباطل ونشر التوحيد وقمع الشرك وأهله.

ولم تزل الكعبة - أعزها الله - موضع العناية الإلهية منذ خلق الله تعالى الأرض وخصها بالخليقة واختارها للخليفة فكان:

(أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً)1 .

ولأنه أول بيت وضع للناس، ولأنه مبارك، ولأن:

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ )2 .

اقتضت الضرورة الشرعية ان يكون هذا البيت على مرّ الدهور طاهراً من الرجز الذي يتبلور في الشرك ورموزه.

وعليه: كانت حركة إبراهيم واسماعيل عليهما السلام تتجه إلى تثبيت قواعد البيت وتطهيره وتهيئته للعاكفين والراكعين، والمناداة بالناس لحج البيت من استطاع إليه سبيلاً.

ص:126

ولأن المشرّع واحد سبحانه لا شريك له، فقد جاء النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأداء تلك الوظيفة التي كلف بها إبراهيم واسماعيل عليهما السلام في تطهير البيت الحرام من رموز الشرك الوثني والطاغوتي.

فأما الوثني فكان تطهير الكعبة المشرفة من الأصنام والأوثان التي وضعت فوقها وفي داخلها، وأما الطاغوتي فهو تطهير العقول من عبادة الجبت والطاغوت وهو أهم من الأول لقوله سبحانه:

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )1 .

والملاحظ في عملية التطهير التي قام بها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بشقيها الوثني والطاغوتي هو استعانته بعلي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام متبعاً في ذلك حركة أبيه إبراهيم عليه السلام حينما انتدب ولده اسماعيل لهذه العملية فقد اختارهما الله تعالى في عملية البناء والتطهير ودعوة الناس إلى البيت الحرام.

وكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد انتدب لهذه الحركة النبوية في مجالاتها الثلاثة «البناء والتطهير، والدعوة» أخاه علي بن أبي طالب عليه السلام.

والملاحظ أيضاً: أن إبراهيم عليه السلام قدّم، لإتمام البناء ومن ثم التطهير، ولده إسماعيل فداءً للتوحيد الذي جعل البيت الحرام رمزاً من رموز

ص:127

إقامته في الأرض ودليلاً يستدل به الناس على وجود دين التوحيد، دين إبراهيم الخليل عليه السلام.

وكذا كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فقد قدم لإقامة الدين الذي هو خير الأديان ليس أخاه علياً فقط بل جميع أهل بيته عليهم السلام، لكن الفارق بين الفداءين لعظيم وعظيم.

كما دلت الآية المباركة:

(وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )1 .

فالفارق بيّنٌ وواضح بين أن يكون المقدم شخصاً واحداً، وبين أن يكون المقدم جميع الولد كما نص عليه ولده الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قائلاً:

«ما منا إلا مسموم أو مقتول»(1).

وتلك صفحات التاريخ تصرخ بوجه من عميت عيناه عن الحقائق ان عترة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد مضوا إلى ربهم قتلاً وقرابين لبناء التوحيد، وتطهير العقول من الجبت والطاغوت وتنزيه البيت الحرام من الأصنام.

فكان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قد أعدّ لهذه العملية عدتها وزمانها فكان دار خديجة عليها السلام منطلقه وعودته كدليل واضح للامة

ص:128


1- كفاية الأثر للخزاز القمي: ص 228؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي: ج 2، ص 129؛ البحار: ج 27، ص 217.

ينادي في أبنائها: ان عملية التطهير وإقامة التوحيد تخرج من هذه الدار وإليه تعود على كرور الليالي والدهور، حتى يخرج من ولد فاطمة عليها السلام من يطهر الأرض ويملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجورا.

ولذا كانت هذه العملية التطهيرية من الشرك وتنقية بيت الله الحرام في مكة قد بدأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع علي عليه السلام وستنتهي حينما يمن الله سبحانه على الذين استضعفوا في الأرض بظهور مهدي آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولأهمية هذه الحادثة فقد تضمنت جملة من المسائل منها:

المسألة الأولى: كيف وصلت الأصنام إلى بيت الله الحرام ونصبت على سطح الكعبة ؟

تعد عبادة الأصنام، التي هي نواة الشرك - والعياذ بالله - من الانحرافات العقائدية التي رافقت مجموعة من المجاميع البشرية على بقاع مختلفة من الأرض، فضلاً عن قدمها وتجذّرها في المجتمعات الشرقية، بوصفها محط بعث الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.

ولذا: يتناولها القرآن الكريم في معرض حديثه عن حال المجتمع البابلي الذي حكمه النمرود، ففي تلك الحقبة التي شهدت مختلف الانحرافات العقائدية المحاربة للتوحيد كعبادة النجوم والشمس والقمر والليل والنهار والنمرود وعبادة الأصنام التي بيّنها القرآن في عرضه لمعالجة إبراهيم عليه السلام هذه العقول المريضة وجهاده في محاربة أئمة الكفر فقام

ص:129

بتكسيرها إلا كبيرهم، أي كبير هذه الأصنام - والقضية مفصلة في كتب التفسير -.

إلاّ أن قدومها - أي الأصنام - إلى مكة بعد أن قام إبراهيم عليه السلام بانشاء مجتمع جديد قائم على الطهر والتوحيد وبناء رمز التوحيد وهو بيت الله الحرام، يعد أمراً ملفتا للانتباه، ويحتاج إلى توضيح وبيان كي يدرك القارئ ان البيت الحرام لم يزل يشهد المحاولات الكثيرة من المحاربة والانتهاك، وان عملية تطهيره منوطة بإبراهيم وآل إبراهيم عليهم السلام.

وعليه:

كان أول من أدخل هذا الانحراف العقائدي إلى مكة ودنس البيت الحرام هو عمرو بن يحيى فهو الذي جاء ب - (هبل) من أرض الشام حينما دخلها فوجد فيها قوماً يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأوثان التي أراكم تعبدون ؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها نستنصرها، فننصر، ونستسقي بها فنسقى، فقال: ألا تعطوني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب، عند بيت الله الذي تفد إليه العرب ؟

فأعطوه صنماً يقال له هُبَل، فقدم به مكة، فوضعه عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة، ثم وضعوا به أساف، ونائلة، كل واحد منهما على ركن من أركان البيت، فكان الطائف(1) ، إذا طاف، بدأ بإساف، فقبله، وختم به.

ونصبوا على الصفا صنماً يقال له (مجاور الريح)، وعلى المروة صنماً

ص:130


1- الطائف: اسم فاعل، وهو مأخوذ من الطواف، أي الدوران حول بيت الله الحرام.

يقال له (مطعم الطير)، فكانت العرب إذا حجّت البيت، فرأت تلك الأصنام، سألت قريشاً وخزاعة، فيقولون: نعبدها لتقربنا إلى الله زلفى.

فلما رأت العرب ذلك اتخذتها أصناماً، فجعلت كل قبيلة لها صنماً يصلون له تقرباً إلى الله(1).

كما يزعمون وقد بين القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى:

(ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى )2 .

وقد بلغ عدد الأصنام الموضوعة في ذلك المكان المقدس (360) صنماً، في مختلف الأشكال، والهيئات، والصور، بل كان النصارى أيضاً قد نقشوا على جدران البيت وأعمدته صوراً لمريم والمسيح والملائكة وقصة إبراهيم عليهم السلام(2).

أما الطواف حول البيت الحرام: فإن العرب ما عدا قريشاً وما ولدت كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون؛ وهؤلاء يسمون ب - «الحلة»(3). وإن نساءهم لتطوف وهي بادية العورة(4).

ص:131


1- تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 307؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 2، ص 254.
2- الأصنام للكلبي: ص 23.
3- تاريخ اليعقوبي: ج 1، ص 310؛ تفسير النيسابوري بحاشية الطبري: ج 9، ص 157.
4- أخبار مكة للأزرقي: ج 1، ص 115-117؛ لسان العرب: ج 11، ص 129، مادة (طوف)؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، ص 133.

فهذا حال البيت الحرام قبل مبعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا كان من مفاصل حركة النبوة هو قيام النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بتطهير البيت الحرام من مظاهر الرجز الممثلة بوجود هذه الأصنام على سطح الكعبة وفي داخلها.

لكن كيف تمّ ذلك، وفي أي زمان ؟

المسألة الثانية: من دار خديجة عليها السلام خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصطحباً علياً عليه السلام لتكسير الأصنام قبل الهجرة

اشارة

تُعدّ حادثة تكسير الأصنام من الحوادث التي بلغت من الشهرة حد التواتر عند المحدثين والمؤرخين والمفسرين، وقد تناولها البخاري، ومسلم، واحمد، وأصحاب السنن، والمستدركات، في مصنفاتهم، فمنهم من رواها مجملاً، ومنهم من رواها مفصلاً، فضلاً عما احتوته مصنفات الامامية من أحاديث متضافرة في هذه الحادثة التي اقترن فيها اسم الإمام علي بن أبي طالب مع اسم رسول صلى الله عليه وآله وسلم.

الا ان الفارق بين هذه الروايات العديدة أي بين ما ترويه مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومدرسة السنّة والجماعة يكمن فيما يأتي:

1. ان هذه الروايات التي أخرجها أصحاب الصحاح لم تتناول فيما

ص:132

عرضته أي ذكر للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في جميع مراحل التطهير لبيت الله الحرام، في حين تلازم ذكر النبي والإمام علي عليهما السلام في كتب الإمامية.

2. ان هذه الأحاديث جميعها لم تلتفت إلى أن الحادثة قد وقعت لأكثر من مرة، ويمكن تقسيمها من حيث الوقوع الزمني إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: ما قبل الهجرة، والمرحلة الثانية: في عام الفتح.

3. إن أصحاب الصحاح قد أغفلوا حادثة تكسير الأصنام في مرحلتها الأولى، أي قبل الهجرة، والظاهر - إن لم يكن من المؤكد - أنّ السبب يكمن في وجود علي بن أبي طالب عليه السلام كطرف ثانٍ في هذه العملية التطهيرية لبيت الله الحرام ومحاربة الشرك.

4. التعتيم على دور علي بن أبي طالب عليه السلام بشكل تام في المرحلة الثانية أي في فتح مكة، كما في صحيح البخاري ومسلم، وذلك يعود إلى:

ألف: أما لغرض حبس فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام ومنعها من الظهور.

باء: واما لقيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عملية التكسير ابتداءً ثم أمر علياً أن يقوم بتكسيرها من بعده فأغفل الرواة دور علي عليه السلام.

جيم: وإما لتفرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعملية التكسير في عام الفتح بمفرده ولم يشرك فيها أحداً.

ص:133

دال: وإما أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام هو الذي قام بتكسير الأصنام وحده وعلى يديه تم تطهير بيت الله الحرام، ومن ثمَّ لم يحتمل المبغضون لعلي عليه السلام هذه المنقبة الفريدة والخصيصة الخاصة فعمدوا إلى تهميش الحادثة في عام الفتح، أي القيام بأقل ما يمكن القيام به في مواجهة هذه الحادثة.

وعليه:

احتاج البحث إلى التفريق بين الوقوع الزمني للحادثة، كي نستدل على تكررها ومن قام بذلك، أرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمفرده، أم بانتادبه علياً لذلك واشراكه في الأمر، أم ان علياً انفرد به ؟

الحلقة الأولى: ما يدل على وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة دون تحديد السنة

1. يروي إمام الحنابلة في مسنده، والنسائي في سننه الكبرى، والحاكم في مستدركه، وغيرهم عملية تكسير الأصنام بألفاظ متفاوتة، إلاّ أنّها تجمع على وقوعها قبل الهجرة النبوية، وفي أوج المواجهة مع قريش كما سيأتي!

ففي مسند أحمد، ومصنف ابن أبي شيبة، وزوائد الهيثمي، عن علي عليه السلام انه قال:

«انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى اتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إجلس».

وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به فرأى مني ضعفاً فنزل وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: «اصعد على منكبي».

ص:134

قال: فصعدت على منكبيه. قال: فنهض بي، قال: فإنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر، أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أقذف به.

فقذفت به فتكّسر كما تتكّسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس»(1).

2. ورواه النسائي في سننه الكبرى، والموصلي في مسنده، والطبراني في معجمه، والزيلعي في تخريجه عن المدائني، عن أبي مريم بلفظ آخر قال: قال علي - عليه السلام -:

انطلقت مع رسول الله حتى أتينا الكعبة، فصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكبي فنهض به علي، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ضعفي قال لي: اجلس فجلست، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجلس لي، وقال لي: اصعد على منكبي.

فصعدت على منكبيه فنهض بي، فقال علي - عليه السلام -: انه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء، فصعدت على الكعبة

ص:135


1- مسند احمد بن حنبل، من مسند علي بن أبي طالب عليه السلام: ج 1، ص 84؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 6، ص 23؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 534.

وعليها تمثال من صفر أو نحاس، فجعلت أعالجه لأزيله يمينا، وشمالاً، وقداما، ومن بين يديه، ومن خلفه، حتى استمكنت منه.

فقال نبي الله: أقذفه.

فقذفت به فكسرته، كما تكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت، خشية أن يلقانا أحد(1).

3. ورواه ابن أبي قتيبة الكوفي (المتوفى سنة 235 ه ) في مصنفه، والحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405 ه ) في مستدركه، والخطيب البغدادي (المتوفى سنة 463 ه ) في تاريخه، والموفق الخوارزمي المتوفى سنة 568 ه ) في مناقبه وغيرهم بلفظ آخر:

قال علي - عليه السلام -:

«أنطلق بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى بي الكعبة، فقال: (إجلس) فجلست إلى جنب الكعبة، وصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكبي، ثم قال لي: (انهض بي» فنهضت به، فلما رأى ضعفي تحته قال: (اجلس).

فجلست فنزل عني وجلس لي فقال: يا علي اصعد على منكبي.

فصعدت على منكبه، ثم نهض بي رسول الله صلى الله عليه وآله

ص:136


1- السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 142؛ خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: ص 113، برقم 8507؛ مسند أبي يعلى الموصلي: ج 1، ص 251، برقم 292؛ تخريج الأحاديث للزيلعي: ج 2، ص 287، برقم 724؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 403.

وسلم، فلما نهض بي خيل إلي أني لو شئت نلت أفق السماء، فصعدت على الكعبة، وتنحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: (ألق صنمهم الأكبر صنم قريش).

وكان من نحاس، وكان موتودا بأوتاد من حديد في الأرض فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عالجه)، فجعلت أعالجه حتى استمكنت منه، فقال: (أقذفه).

فقذفته، ونزلت»(1).

والأحاديث الثلاثة تدل على أمور عديدة، منها:

1. أن عملية تكسير الأصنام كانت قبل الهجرة بدليل قول أمير المؤمنين عليه السلام - كما في مسند احمد -:

«فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية ان يلقانا أحد من الناس».

وفي سنن النسائي ومسند الموصلي بلفظ :

«فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية ان يلقانا أحد».

2. ان هذه الروايات لم تحدد السنة التي وقعت فيها الحادثة قبل الهجرة.

ص:137


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 534؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 2، ص 366؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 13، ص 304؛ مناقب الإمام علي عليه السلام للموفق الخوارزمي: ص 123؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 608؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 125؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 29؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 303.

3. عدم تمكن الإمام علي عليه السلام من حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما دعاه ان يجلس ويحمله على كتفه صلى الله عليه وآله وسلم لعلة خاصة سيمر بيانها في آخر البحث.

الحلقة الثانية: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في ليلة مبيته على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

إلا أنني وجدت ما يدل على تحديد السنة التي وقعت فيها عملية تكسير الأصنام قبل الهجرة، بل ويحدد الليلة التي وقعت فيها الحادثة وهو ما أخرجه الحاكم النيسابوري عن علي عليه السلام أنه قال:

«لما كان الليلة التي أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان أبيت على فراشه وخرج من مكة مهاجراً، انطلق بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأصنام فقال: «اجلس»، فجلست إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكبي ثم قال: «انهض». فنهضت به، فلما رأى ضعفي تحته قال: «اجلس».

فجلست، فأنزلته عني، وجلس لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال لي: «يا علي، اصعد على منكبي»، فصعدت على منكبيه ثم نهض بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخيل لي أني لو شئت نلت السماء وصعدت إلى الكعبة وتنحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فألقيت صنمهم الأكبر وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض.

فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «عالجه».

ص:138

فعالجت، فما زلت أعالجه، ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ايه، ايه».

فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه.

فقال: «دقه».

فدققته فكسرته ونزلت»(1).

والحديث فيه جملة من الدلالات، منها:

1. ان الحديث يحدد بوضوح السنة التي وقعت فيها حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة النبوية المباركة بل يحدد الحديث الليلة أيضاً، وهي ليلة مبيت الإمام علي عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما عزم على الخروج من مكة مهاجراً إلى المدينة.

2. ان الحديث لا يكشف عن حالة التخفي التي دلت عليها الأحاديث السابقة وهذا يكشف عن ما يلي:

أولا: أن تلك الأحاديث السابقة تشير إلى تكرار وقوع حادثة تكسير الأصنام وانها كانت في السنوات الأولى للبعثة أو انها في ذروة المواجهة مع قريش حينما بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتسفيه أحلامهم وتعييب عقولهم - كما سيمر ما يدل على تكرار الحادثة قبل الهجرة وتعددها -.

ثانيا: ان اختيار هذه الليلة تحديداً أي ليلة المبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه من مكة هو بحد ذاته له دلالات كثيرة، بل

ص:139


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 5.

يطرح العديد من الأسئلة منها:

ألف: ترى لماذا هذه الليلة تحديداً والقوم يتهيئون لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟.

باء: كيف سيترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وحده يواجه طواغيت قريش حينما يكتشفون ما جرى لصنمهم الأكبر؟.

جيم: ما هو أثر هذه العملية على المجتمع المكي عامة من الناحية العقائدية ؟ وغيرها من الأسئلة...

أقول:

تحتاج هذه الأسئلة إلى مجموعة من العناوين وهي كالآتي:

ألف. التلازم في تحقق الأثر الإرشادي بين عمل نبي الله إبراهيم عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تكسير الأصنام

حينما نرجع إلى كتاب الله العزيز نجد أن هذه العملية التوحيدية لمحاربة الشرك يقدمها القرآن بصورة جلية في حياة إبراهيم الخليل عليه السلام بتفاصيل تجعل القارئ يستحضرها أمامه وهو يقرأ عملية تكسير الأصنام التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

1. فإبراهيم عليه السلام دخل ليلاً إلى معبد بابل لتكسير الأصنام في غفلة من أهلها وهذا لا يدل على الخوف، والحال نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو شاء إبراهيم أن يقوم بتكسيرها نهاراً لفعل وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام.

ص:140

لكن حينما يفقد الأثر التوجيهي والإرشادي دوره في إرجاع العقول إلى التفكير في عبادة هذه الحجارة التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً فكيف تنفع غيرها.

فضلاً عن أن ذلك سيثير غضب الكهان وسدنة الأصنام والمستميتين من أجل عقيدتهم فيقومون بمنع إبراهيم عليه السلام أو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إتمام عمله، إن لم يمنع أصلاً من القيام بذلك. ومن ثم لا يتحقق الغرض الإرشادي.

ويسلب الإنسان تلك اللحظات من الوقوف مع حاكمية العقل، فلو تم العمل نهاراً أمام مرأى الناس لانشغلوا بالفاعل دون آثار هذا الفعل فيصبح العقل أسيراً لهذه الظاهرة.

2. إنّ الزمان الذي حدده إبراهيم عليه السلام لم يكن من اختياره وانما هو بوحي من الله تعالى لحكمة خاصة ترتبط بما وصل إليه هؤلاء المشركون من حالة دوران الشك واليقين بزيف عبادة الأصنام وهي حالة يمكن لإبراهيم عليه السلام من خلال علم النبوة ان يحدد مستوى التأثير على قومه ونسبة استجابتهم لدعوته وان كثيراً منهم يحتاج إلى حالة القطع بفساد هذه العبادة.

3. إنّ تكسير الأصنام في هذا الوقت يدل على وصول الأمر العلاجي إلى حالة الكي وكما قيل في الأمثال (ان آخر العلاج الكي) فهذه الأصنام يجب أن تكسر كي تنكسر معها تلك العقول المتحجرة.

ص:141

4. إنّ عملية التكسير كاشفة عن زيف من جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وادعى انه آمن به، بمعنى كشف المنافقين فهؤلاء مهما تستروا ولبسوا مختلف الأقنعة الا ان تكسير الأصنام سيجعلهم لا محالة يتأثرون ويحزنون ان لم يكشروا عن أنيابهم، وهذه الحالة الاختبارية نراها تجدد في كل زمان حينما يتعرض الجبت والطاغوت إلى التكسير، فسرعان ما نرى من آمن بهما كيف ينتفض ويرتعش كارتعاش الصراصير حينما يشق النور ظلام جحورها.

5. إنّ تكسير الأصنام في سيرة إبراهيم عليه السلام يدل على بدء مرحلة جديدة من الدعوة إلى التوحيد وأنْ هذه المرحلة الجديدة هي مرحلة المواجهة والقتال، فأما إبراهيم فبعد ان كسر الاصنام عزم قومه على قتله ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عزم قومه على قتله وان المواجهه وصلت إلى مرحلة من الاقتتال. والفارق بين المقامين أن إبراهيم عمد إلى تكسير الاصنام لمرة واحدة في حين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كرر العملية لأكثر من مرة كما سيمر لاحقاً.

6. إنّ هجرة إبراهيم من العراق إلى بيت المقدس أعقبت ليلة تكسير الأصنام وان هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمت في نفس الليلة.

7. أن الله سبحانه وتعالى يقدم لبني آدم من الآيات ما هو خلاف حسباتاهم وتدابيرهم وتفكيرهم وذلك من خلال ما يقوم به الأنبياء والمرسلون

ص:142

من حالة من التعامل التي يتوقف معها العقل عن إيجاد حل، ان لم يكن من الأصل ينفيها ومثال ذلك اجتماع السلامة من الموت والحفظ من الهلاك، والنجاة من القتل، لطفل رضيع حينما يوضع في تابوت فيرمى في البحر، كما حدث لموسى عليه السلام؛ إذ كيف يتحقق جميع ذلك من الناحية العقلية لطفل رضيع وهو يرمى في البحر. كما هو بيِّن في قوله تعالى لأم موسى:

(فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ )1 .

إنه شيء يعجز العقل في التعامل معه واستيعابه.

وهكذا إبراهيم عليه السلام يكون إرشاده لقومه من خلال تكسير آلهتهم وإثارة حفيظتهم وعزمهم على قتله بشكل لا يتكرر على مر البشرية من حين الجمع لمواد النار وحجمها ومساحتها مقابل شخص واحد.

وكذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانه يكسر الأصنام ثم يخرج من مكة تاركاً ابنته فاطمة عليها السلام وأخاه علي بن أبي طالب عليه السلام الذي تولى تكسير صنمهم الأكبر وهو يواجه صناديد قريش وأجلافها فما أشبه؛

(فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) .

ص:143

بقذف علي في فوهة المواجهة وغضب قريش ورجوعه سالماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مع الفواطم.

بل:

إنّ هذه العملية وحدها كافية لفهم دور الإمام علي عليه السلام من الرسالة، وانه كدور هارون من موسى واشتراكهما في الدعوة إلى التوحيد واقامة شرع الله غير ان هارون نبي وعلياً وصيّ .

فكما ان موسى وهارون كانا شريكين في الدعوة والمواجهة والجهاد كذلك حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

قال تعالى مخاطباً موسى عليه السلام وجاعلاً هارون شريكاً.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى )1 .

لكن أنى لبعض العقول أن تتدبر في كتاب الله تعالى وقد طبع على قلوبهم فهم لا يعقلون.

ص:144

باء. التوحيد ينطلق من دار خديجة وإليه يرجع الموحدون

من دار خديجة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام وإليه عاد مع الإمام علي عليه السلام ومما دلت عليه رواية الحاكم النيسابوري، اختصاص دار خديجة بهذه المزيّة الجديدة في نشر التوحيد ومحاربة الشرك وازهاق الباطل.

فالرواية وان كانت لم تذكر دار خديجة الا أن تحديدها للزمن الذي وقعت فيه وهو:

(الليلة التي أمر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً أن يبيت على فراشه وخرج فيها مهاجراً).

يدل بشكل قطعي على خروجهما من دار خديجة لهذه المهمة وإليه عادا بعد إتمامهما لهذه العملية التطهيرية، ثم قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج من الدار حينما اجتمع القوم حوله.

وهذا كاشف عن ان التوحيد ينطلق من دار خديجة وان عملية الإصلاح ومحاربة الباطل تخرج من دار خديجة أيضاً.

وإن نشر التوحيد أوكل إلى أهل هذه الدار منذ أن دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والى اليوم الذي يخرج منه ولده المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف لتكسير الأصنام ونسف الجبت والطاغوت ودك عروشهما في جميع بقاع الأرض.

ص:145

جيم. الحكمة في اجتماع تكسير الأصنام والمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدة

إن اجتماع عملية تكسير الأصنام والمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدة له من الدلالات ما لا حصر لها، ومنها:

1. الملازمة بين التوحيد والنبوة فلا انفكاك بينهما، بمعنى: لا يتحقق التوحيد الا من خلال الاعتقاد بالنبوة كما لا تتحقق النبوة الا من خلال الاعتقاد بالتوحيد.

2. ان علياً عليه السلام اختاره الله تعالى لمسؤولية الدفاع عن التوحيد من خلال تكسير الاصنام والدفاع عن النبوة حينما بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا ما لا يجتمع لبشر قط .

3. لا يمكن للمسلم أن يدرك مراتب التوحيد والتصديق بالنبوة الا من خلال علي بن أبي طالب عليه السلام فهو الذي لم يشرك بالله طرفة عين فأباد جميع أنواع الشرك وصنوفه، وهو المصدّق الأول برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبالغ حق اليقين فيهما، ولذا جمعهما الله تعالى له في ليلة واحدة.

4. تكبيد المشركين والكفار أعظم الخسائر في هذه الليلة من خلال تكسير آلهتهم ونجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أيديهم بفضل الله تعالى وجهود أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

5. في هذه الليلة يبلغ عداء قريش لعلي بن أبي طالب عليه السلام في أعلى درجاته فهو الذي أذل آلهتهم وكسرها وأفشل كيدهم برسول الله صلى

ص:146

الله عليه وآله وسلم وفضحهم أمام العرب.

6. في هذه الليلة يقف الإمام علي عليه السلام كالجبل الشامخ أمام التحديات التي تنوء منها الجبال ليواجه كل ما أجمع له المشركون من حنق وانتقام لآلهتهم، ومَنْ غير علي عليه السلام لهذه المهمات فيكون حجة على تاركيه.

7. ليباهي الله تعالى بعلي الملائكة فقد كسر الأصنام وفدى بنفسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في ليلة واحدة.

8. لتتحقق معجزة إبراهيم عليه السلام في هذه الليلة وتكون نيران أحقاد المشركين وسيوفهم المشهورة على علي عليه السلام بردا وسلاما.

ولذلك: كيف لا يأمر الله تعالى جبرائيل وميكائيل بالنزول إليه ليحميانه من كيد أعدائه فيكون جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه.

فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.

الحلقة الثالثة: ما يدل على تعدد وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة

لم تكن حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة النبوية محصورة في مرة واحدة بل تدل كتب مدرسة أتباع أهل البيت عليهم السلام على تكرار الحادثة وتعدد وقوعها الزمني والمكاني وان كان الموضع واحداً وهو الكعبة المشرفة أعزها الله تعالى.

هذا ما دلت عليه رواية شاذان بن جبرئيل القمي (المتوفى سنة 660 ه ) فقد أورد الرواية عن علي عليه السلام أنه قال:

ص:147

«دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمنزل خديجة عليها السلام ذات ليلة فلما صرت إليه، قال: «اتبعني يا علي».

فما زال يمشي وأنا خلفه، ونحن نخترق دروب مكة، حتى اتينا الكعبة، وقد أنام الله تعالى كل عين فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا علي».

فقلت: لبيك يا رسول الله.

قال: «اصعد يا علي، فوق كتفي وكسر الأصنام».

قلت: بل أنت يا رسول الله أصعد فوق كتفي وكسر الأصنام.

قال: بل أنت أصعد يا علي.

وانحنى صلى الله عليه وآله وسلم، فصعدت فوق كتفه وأقلبت الأصنام على وجوهها، ونزلت فخرجنا من الكعبة شرفها الله تعالى حتى اتينا منزل خديجة عليها السلام.

فقال: «يا علي أول من كسر الأصنام جدك إبراهيم عليه السلام ثم أنت يا علي، آخر من كسرها».

قال - علي عليه السلام -:

فلما أصبح أهل مكة وجدوا الأصنام منكسة، مقلوبة على رؤوسها، فقالوا: ما فعل هذا بآلهتنا إلا محمد وابن عمه، ثم لم يقم بعدها في الكعبة صنم»(1).

ص:148


1- الروضة في فضائل أمير المؤمنين - لشاذان بن جبرئيل القمي: ص 34؛ الفضائل لشاذان بن جبرئيل القمي: ص 97؛ البحار للمجلسي: ج 38، ص 85؛ شرح احقاق الحق للسيد المرعشي: ج 8، ص 689.

والحديث يدل على أمور منها:

1. ان الحادثة وقعت قبل ليلة المبيت التي مرّ ذكرها لقوله عليه السلام:

«دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمنزل خديجة ذات ليلة».

وهنا لم يحدد هذه الليلة والتي يبدو أنها لم تكن ذات علامة أو خصوصية يمكن الاشارة إليها فيستدل بذلك على تحديدها. وهذا يعني انها غير ليلة المبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أشار عليه السلام سابقاً إلى تحديد الليلة حينما قال:

«لما كان الليلة التي أمرني رسول الله أن أبيت على فراشه وخرج من مكة مهاجراً».

2. قوله عليه السلام:

«ونحن نخترق مكة».

يدل على اختيار النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لعدة طرق لغرض الاحتياط من المراقبة والمتابعة لوجود بعض العيون للمشركين أو لعل سلوكهما الطرق المؤدية مباشرة إلى الكعبة في منتصف الليل يثير انتباه من يراهما وهذا كاشف عن وقوع الحادثة في الحقبة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ظروف المواجهة.

3. قوله عليه السلام (وقد أنام الله كل عين) يشير إلى تحديد وقت الخروج بعد منتصف الليل وهذا يكشف عن نية استخدام هذا الوقت المخصوص

ص:149

بالعبادة والتقرب إلى الله تعالى فيكون الجهاد في تكسير الأصنام يؤدَّى في وقت التنفل والصلاة فضلاً عن الحيطة والحذر، ويدل قوله عليه السلام أيضاً: على انها غير ليلة المبيت حيث كان المشركون ساهرين وقد تجمعوا لكي يأتوا إلى منزل خديجة عليها السلام ليغتالوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

4. هذا الحديث يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في موضعين من الكعبة - أعزها الله -.

الموضع الأول: هو سطع الكعبة وقد قام الإمام علي عليه السلام بقلب الأصنام على وجوهها.

الموضع الثاني: هو تكسير الأصنام في داخل الكعبة بدليل.

ألف: قوله عليه السلام:

«فخرجنا من الكعبة».

وهذا يدل على انهما كان في داخلها.

باء: قوله عليه السلام:

«ثم لم يقم في الكعبة صنم».

أي في داخل الكعبة.

جيم. ذكرت الصحاح ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما دخل مكة في عام الفتح كان في مكة (وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً)(1). وانها موزعة في البيت الحرام، فمنها ما هو على سطح الكعبة ومنها ما هو بداخلها.

ص:150


1- صحيح البخاري: ج 3، ص 108، كتاب المظالم.

ولذلك:

فان عملية تكسير الأصنام وهي بهذا العدد الكبير لاسيما التي على سطح الكعبة (أعزها الله) أو التي في داخلها يحتاج إلى عمليات متكررة وهو ما دلت عليها الروايات الآنفة الذكر.

المسألة الثالثة: ما يدل على مباشرة الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح

اشارة

لم تنتهِ محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للشرك ورموزه، وازهاق الباطل وأهله، واذلال الكفر وأشياعه، منتدباً لذلك أخاه علي بن أبي طالب الذي شد صلى الله عليه وآله وسلم به أزره.

إلا أن أئمة الكفر، وصناديد النفاق، لم يرُقْ لهم ذلك فعمدوا إلى محاربة العترة المحمدية مادياً ومعنوياً فأجهزوا عليهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين قتلهم، وحبسهم، وتهجيرهم، ومصادرة أموالهم، وحقوقهم، وطمس فضائلهم، وتضليل الناس عنهم، وهم في ذلك يخيل إليهم يستطيعون:

(أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ )1 .

ولذلك: يمكن للقارئ الكريم أن يتعرف على دور أئمة النفاق في محاربة الله ورسوله ممثلاً ذلك في صد الناس عن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله

ص:151

وسلم وإخفاء دورهم الاصلاحي وتضييع جهادهم في محاربة الشرك ورموزه وأشياعه، وذلك من خلال النقاط الآتية:

أولاً: تعتيم البخاري على دور الإمام علي عليه السلام في تكسير الأصنام في فتح مكة

والدليل على ذلك:

حينما نأتي إلى البخاري نجده يقدم لنا الروايات المشتملة على فضائل العترة بصيغة مبتورة أو أن هذه الأحاديث قدمت بنصف وجه؛ اما الوجه الآخر فهو مستور عن القارئ، ان لم يجد القارئ حينها صورة موحشة تتحدث عن حادثة لم تكتمل ملامحها فقد أولدها البخاري وهي خداج.

ولعله، أي البخاري، معذور فيما أولد للمسلمين من روايات ؟! لأن الراوي غير شرعي، إذ كيف يكون شرعياً وهو يبغض علي بن أبي طالب عليه السلام؛ وما أكثرهم في البخاري!!

وعليه: أصبح المسلم لا يجد أثراً لعلي بن أبي طالب عليه السلام في عام الفتح وعند دخول النبي إلى مكة، بل إنه يجد ذكر أبي سفيان بن حرب وداره التي (من دخلها كان آمناً)!! ولا نعلم من أي شيء هو آمن، أيكون آمناً من سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟

أم يكون آمناً بعزة أبي سفيان فرعون المشركين ؟ أم يكون آمناً بالله ؟ فضلاً عن اننا لم نشهد القرآن الكريم يذكر ان نبياً من الأنبياء ولا رسولاً من المرسلين عليهم السلام أجمعين قد أعطى الأمان للمشركين والكفار حينما يلتجئون إلى بيوت طواغيتهم أو فراعنتهم، وكيف سيرد هؤلاء الأنبياء عليهم السلام فيما لو

ص:152

سألهم أحد ممن آمن بهم أو ممن لم يؤمن: علامَ تقاتلون الناس وقد أصبح الفراعنة ملجأ لمن كفر بالله تعالى ؟ انها مهزلة العقل الأموي!!!

ثم متى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف ربه عز وجل - والعياذ بالله - فيداهن ويماطل حينما يأمره بجهاد الكفار المنافقين فيقول له سبحانه:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ )1 .

ثم يقوم بالتودد إلى أبي سفيان فيعطيه من العزّة والمنعة والمكانة الاجتماعية فيجعل داره من حيث الحرمة كحرمة بيت الله الحرام فمن دخل دار أبي سفيان كمن دخل بيت الله ؟!!

إنها الصناعة الأموية لتوليد الأفكار السامة لقتل العقل الإسلامي.

أما تكسير الأصنام في عام الفتح فقد جهد البخاري وغيره على إخفاء دور علي بن أبي طالب عليه السلام في هذه الحادثة، فضلاً عن التعتيم الكلي لعملية تكسير الأصنام قبل الهجرة على الرغم من اخراج احمد، والنسائي، وابن أبي شيبة، والحاكم، والموصلي، وغيرهم لها.

بل ان كل ما أخرجه البخاري ومسلم من تفاصيل حول هذه الحادثة هو عبارة عن سطرين، وبسند واحد، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: «دخل النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده، وجعل يقول:

(جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ ...) الآية.

ص:153

في حين لم يكن الله تعالى بمضيع أجر أوليائه، وأنه صادق الوعد في نصرة رسله، ولو كره المشركون وجهد الكافرون، وتحايل المنافقون، وهو ما سنورده في الآتي:

ثانيا: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح وتعمد البخاري ومسلم اخفاء ذلك

في الوقت الذي تحايل فيه البخاري ورواته على حادثة تكسير الأصنام فقد شاء الله أن يظهرها على لسان غير البخاري، فقد روى أبو القاسم النيسابوري المفسر (المتوفى سنة 762)؛ والمفتي أبو السعود العمادي (المتوفى سنة 898 ه )؛ والخطيب الشربيني (المتوفى سنة 977 ه )؛ وابن عجيبة الانجري المغربي المتوفى سنة 1160 وغيرهم: قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في فتح مكة.

أما رواية عبد الله بن مسعود التي أخرجها البخاري ومسلم، فقد أخرجها أبو القاسم النيسابوري المفسر، والبيضاوي، والمفتي ابو السعود العمادي، بلفظ آخر، وهو:

(عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً لقبائل العرب. صنم كل - قوم بحيالهم - فجعل يطعنها بعود في يده ويقول:

(جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ ...) الآية.

فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً، وبقي صنم لخزاعة فوق الكعبة - وكان من قوارير صفر - فقال:

ص:154

«يا علي ارم به».

فحمله رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم حتى صعد، فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلاً أسحر من محمد)(1).

ورواه الزمخشري، والزيلعي، والشربيني، والطبرسي، والعاصمي، وغيرهم بلفظ آخر وهو:

(لما نزلت هذه الآية يوم الفتح قال جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم: خذ مخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتي صنماً صنماً وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول:

(جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ ...) الآية.

فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -:

«يا علي ارم به».

فحمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد، فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلاً أسحر من محمد صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

ص:155


1- تفسير النيسابوري: ج 5، ص 134؛ تفسير البيضاوي: ج 3، ص 464؛ تفسير أبي السعود: ج 5، ص 191؛ تفسير حقي: ج 7، ص 273؛ تفسير ابن عجيبة الانجري: ج 3، ص 357.
2- تفسير الكشاف للزمخشري: ج 2، ص 463؛ تخريج الأحاديث للزيلعي: ج 2، ص 288؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ص 2143؛ جوامع الجامع للطبرسي: ج 2، ص 390؛ سمط النجوم العوالي: ج 2، ص 390.

اذن:

تدل الروايات على أنّ الإمام علياً عليه السلام هو الذي باشر عملية تكسير الأصنام في مراحلها الزمانية والمكانية، أي: قبل الهجرة وبعدها، وفي داخل الكعبة، وعلى سطحها.

وان الله تعالى قد خصه بكرامة لم يخص بها أحداً من بني آدم، وهي الارتقاء على كتفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فضلاً عن تكسير الأصنام وتحطيمها، حتى عرف الإمام علي عليه السلام بمكسر الأصنام، واشتهر به، مما يؤكد ثبوت هذه الفضيلة فيه واختصاصها به.

فكان يفتخر على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول في خطبة الافتخار:

«... أنا كسرت الأصنام، أنا رفعت الأعلام، أنا بنيت الإسلام»(1).

وكان يناشد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حقه المغصوب فيقول لأبي بكر:

«فأنشدك بالله أنت الذي حملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كتفيه في طرح صنم الكعبة وكسره حتى لو شاء أن ينال أفق السماء لنالها أم أنا؟».

قال: بل أنت(2).

ص:156


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 399؛ البحار للمجلسي: ج 38، ص 78.
2- الخصال للصدوق: ص 552.
ثالثا: العلة في عدم تمكن الإمام علي عليه السلام من حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام

بقي أن نبين للقارئ الكريم العلة التي من أجلها لم يستطع الإمام علي عليه السلام في حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل، وجلس لعلي فحمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كتفه ؟ هذه العلة وجوابها يظهرها الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام.

حينما سأله محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة المنورة قائلاً:

(سألت جعفر بن محمد عليهما السلام فقلت له يابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفسي مسألة أريد أن أسألك عنها. فقال:

إن شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسألني وإن شئت فسل ؟

قال: قلت له يبن رسول الله وبأي شيء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي ؟ قال:

بالتوسم والتفرس، أما سمعت قول الله عز وجل:

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) .

وقول رسول الله صلى الله عليه وآله اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله.

قال: فقلت له يا بن رسول الله فأخبرني بمسألتي قال:

أردت ان تسألني عن رسول الله صلى الله عليه وآله لِمَ لَمْ يطق حمله علي عليه السلام عند حط الأصنام من سطح الكعبة مع قوته وشدته وما ظهر منه في قلع باب القموص بخيبر والرمي به

ص:157

إلى ورائه أربعين ذراعا وكان لا يطيق حمله أربعون رجلا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يركب الناقة والفرس والحمار، وركب البراق ليلة المعراج وكل ذلك دون علي في القوة والشدة.

قال: فقلت له عن هذا والله أردت ان أسألك يا بن رسول الله فأخبرني فقال:

ان عليا عليه السلام برسول الله تشرف وبه ارتفع وبه وصل إلى أن اطفأ نار الشرك وأبطل كل معبود من دون الله عز وجل، ولو علاه النبي صلى الله عليه وآله لحط الأصنام لكان عليه السلام بعلي مرتفعا وتشريفا وواصلا إلى حط الأصنام ولو كان ذلك كذلك لكان أفضل منه، ألا ترى ان عليا عليه السلام قال: لما علوت ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله شرفت وارتفعت حتى لو شئت ان أنال السماء لنلتها، أما علمت أن المصباح هو الذي يهتدى به في الظلمة وانبعاث فرعه من أصله، وقد قال علي عليه السلام:

أنا من احمد كالضوء من الضوء، أما علمت أن محمدا وعليا صلوات الله عليهما كانا نورا بين يدي الله عز وجل قبل خلق الخلق بألفي عام، وان الملائكة لما رأت ذلك النور رأت له أصلا قد تشعب منه شعاع لامع فقالت: إلهنا وسيدنا ما هذا النور؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليهم هذا نور من نوري أصله نبوة وفرعه إمامة، أما النبوة فلمحمد عبدي ورسولي، واما الإمامة فلعلي حجتي ووليي ولولاهما ما خلقت خلقي، اما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله رفع يد علي عليه السلام بغدير خم حتى نظر الناس إلى بياض إبطيهما فجعله مولى المسلمين،

ص:158

وإمامهم وقد احتمل الحسن والحسين عليهما السلام يوم حظيرة بني النجار فلما قال له بعض أصحابه ناولني أحدهما يا رسول الله قال: نعم الراكبان وأبوهما خير منهما، وانه صلى الله عليه وآله كان يصلي بأصحابه فأطال سجدة من سجداته فلما سلم قيل له يا رسول الله لقد أطلت هذه السجدة فقال صلى الله عليه وآله:

ان ابني ارتحلني فكرهت ان أعاجله حتى ينزل، وإنما أراد بذلك صلى الله عليه وآله رفعهم وتشريفهم، فالنبي صلى الله عليه وآله إمام ونبي، وعلي عليه السلام إمام ليس بنبي ولا رسول، فهو غير مطيق لحمل أثقال النبوة.

قال محمد بن حرب الهلالي: فقلت له زدني يا بن رسول الله فقال:

إنك لأهل للزيادة، ان رسول الله صلى الله عليه وآله حمل عليا عليه السلام على ظهره يريد بذلك أنه أبو ولده وإمام الأئمة من صلبه، كما حول رداءه في صلاة الاستسقاء وأراد ان يعلم أصحابه بذلك انه قد تحول الجدب خصبا.

قال: قلت له زدني يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:

احتمل رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام يريد بذلك ان يعلم قومه انه هو الذي يخفف عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله ما عليه من الدين والعدات والأداء عنه من بعده.

قال: فقلت له يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله زدني فقال:

ص:159

احتمله ليعلم بذلك انه قد احتمله وما حمل إلا لأنه معصوم لا يحمل وزرا، فتكون أفعاله عند الناس حكمة وصوابا، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله لعلي:

يا علي ان الله تبارك وتعالى حملني ذنوب شيعتك ثم غفرها لي، وذلك قوله تعالى:

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ) .

ولما أنزل الله عز وجل، إذا اهتديتم، وعلي نفسي وأخي، أطيعوا عليا فإنه مطهر، معصوم، لا يضل، ولا يشقى ثم تلا هذه الآية:

(قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

قال محمد بن حرب الهلالي، ثم قال جعفر بن محمد عليه السلام:

أيها الأمير لو أخبرتك بما في حمل النبي صلى الله عليه وآله عليا عند حط الأصنام من سطح الكعبة من المعاني التي أرادها به، لقلت ان جعفر بن محمد لمجنون، فحسبك من ذلك ما قد سمعت.

فقمت إليه وقبلت رأسه وقلت الله أعلم حيث يجعل رسالته(1).

ص:160


1- علل الشرائع: ج 1، ص 173-175؛ معاني الأخبار للصدوق: ص 350؛ الأربعون حديثاً للشهيد الأول: ص 69؛ البحار للمجلسي: ج 38، ص 79؛ تفسير نور الثقلين للحويزي: ج 3، ص 25.

المبحث السادس: التقاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ببعض المؤمنين في دار خديجة عليها السلام

اشارة

من الحقائق التي ارتبطت بهذا الموضع الذي كشفت الروايات الشريفة عن سر تفضيله فكان كما مرّ «أفضل الأماكن بعد بيت الله الحرام» هو اتخاذ الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من دار خديجة عليها السلام محلا لرؤية بعض المؤمنين فيه في موسم الحج.

والسر في ذلك:

1. إما لأنه - أي دار خديجة - كان دار جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمرء يعود إلى دار أهله.

2. وإما لأنه آخر أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثم فهذه الدار تحت ولايته ووصايته.

3. وإما لأنها محل نزول القرآن، وهبوط الوحي والملائكة، والموضع الذي ولدت فيه سيدة نساء العالمين عليها السلام وغيرها من الخصائص التي دلت عليها الروايات؛ ولذا كانت محلاً لرؤية الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه.

وعليه: لا يمكنني الوصول إلى أكثر من ذلك في معرفة الحكمة التي من أجلها اختار الإمام المهدي هذه الدار محلاً لرؤية بعض المؤمنين الا أن ذلك يزيد في شرف هذه الدار التي خصها الله بما لم يخص به غيرها من بيوت الأنبياء عليهم السلام.

ص:161

ولقد روى كل من الشيخ الصدوق، والشيخ الطوسي رضي الله تعالى عنهما، روايتين تدلان على هذه الحقيقة التي تشرف بها أصحابها.

المسألة الأولى: رواية الشيخ الصدوق رضي الله تعالى عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام

اشارة

قال رضي الله عنه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن أحمد الكوفي المعروف بأبي القاسم الخديجي قال: حدثنا سليمان بن إبراهيم الرفي قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن وجناء النصيبي قال: (كنت جالساً تحت الميزاب في رابع أربع وخمسين حجة بعد العتمة، وأنا أتضرع في الدعاء إذ حركني محرك فقال:

«قم يا حسن بن وجناء».

قال: فقمت، فإذا جارية صفراء نحيفة البدن، أقول: إنها من أبناء أربعين فما فوقها، فمشت بين يدي أنا لا أسألها عن شيء حتى أتت دار خديجة عليها السلام، وفيها بيت بابه في وسط الحائط وله درج ساج يرتقى، فصعدت الجارية وجاءني النداء:

أصعد يا حسن.

فصعدت فوقفت بالباب، فقال لي صاحب الزمان عليه السلام:

اصعد يا حسن.

فصعدت فوقفت بالباب، فقال لي صاحب الزمان عليه السلام:

ص:162

يا حسن أتراك خفيت علي والله ما من وقت في حجك إلا وأنا معك فيه.

ثم جعل يعد علي أوقاتي، فوقعت مغشياً على وجهي، فحسست بيد قد وقعت علي فقمت، فقال لي:

يا حسن الزم دار جعفر بن محمد عليهما السلام، ولا يهمنك طعامك ولا شرابك، ولا ما يستر عورتك.

ثم دفع إلي دفترا فيه دعاء الفرج وصلاة عليه، فقال:

بهذا فأدع، وهكذا صل علي، ولا تعطه إلا محض أوليائي فإن الله جل جلاله موفقك.

فقلت: يا مولاي ألا أراك بعدها؟ فقال:

يا حسن إذا شاء الله.

قال: فانصرفت من حجتي ولزمت دار جعفر بن محمد عليهما السلام فأنا أخرج منها فلا أعود إليها إلا لثلاث خصال، لتجديد وضوء، أو لنوم، أو لوقت الإفطار، وأدخل بيتي وقت الإفطار فأصيب رباعياً مملوءا ماء ورغيفاً على رأسه وعليه ما تشتهي نفسي بالنهار، فآكل ذلك فهو كفاية لي، وكسوة الشتاء في وقت الشتاء، وكسوة الصيف في وقت الصيف، وإني لأدخل الماء بالنهار فأرش البيت وأدع الكوز فارغاً فأوتي بالطعام ولا حاجة لي إليه فأصدق به ليلا كيلا يعلم بي من معي)(1).

ص:163


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق رضي الله عنه: ص 444؛ الثاقب لابن حمزة الطوسي: ص 612؛ الخرائج والجرائح للراوندي: ج 2، ص 961.

والحديث يدل على مسائل كثيرة لا مجال لذكرها هنا لما تحتاجه إلى سعة في البيان، وحيث ان الأصل في الموضوع هو بيان ما لدار خديجة عليها السلام من الخصائص الإلهية والكرامات النبوية التي يعجز القلم عن بيانها، فإن هذا الموضوع هو بعض ما جاء في شرافة هذا الدار الذي لم يبقِ له الوهابيون من حرمة بعد أن حولوه إلى دورات مياه يدنسه الداخلون في الليل والنهار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أما ما يقال هنا: بخصوص الحديث:

أولاً: تحقق رؤية صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن الغيبة الصغرى

إن هذا الحديث يدل على تحقق رؤية صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن الغبية الصغرى في واحدة من الأدلة الواقعية لهذه الحقيقة(1).

أما بخصوص حضوره عليه الصلاة والسلام في دار خديجة عليها السلام وتشرف بعض المؤمنين بلقياه هناك لأكثر من مرة هو ما أخرجه الشيخ الطوسي رضي الله تعالى عنه في كتابه الغيبة.

ثانيا: تقوى الحسن بن الوجناء وشدة مثابرته على طاعة الله والتقرب إليه

تحدثت الرواية بشكل صريح عن منزلة الحسن بن الوجناء عند الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف حينما تشرف بلقياه فضلاً عمّا قدمته الرواية من بيان لعبادة هذا الرجل وسعيه في التقرب لله تعالى من خلال قصد

ص:164


1- أنظر هذه الوقائع في كتاب إلزام الناصب للشيخ علي اليزدي الحائري: ج 1، ص 321-341.

بيته الحرام خلال هذه السنين، فمن هو؟

هو الحسن بن محمد بن الوجناء النصيبي، أبو محمد، روى عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، وروى عنه الصفواني، ذكره النجاشي في ترجمة محمد بن أحمد بن عبد الله بن مهران(1).

وعده السيد الأبطحي من وكلاء الإمام الحسن العسكري عليه السلام(2) ، وإنه من وجوه الشيعة وأكابرهم الذين اجتمعوا حول العمري السفير(3).

وقال السيد الخوئي قدس سره تعقيبا على الرواية التي مرّ ذكرها (وفي الرواية دلالة على قوة إيمانية)(4).

مما لا شك فيه أن استطاعة الإنسان الثبات على طاعة الله تعالى والمثابرة في حصول رضاه، ممثلاً في السعي من أجل الاتيان بالنوافل لاسيما حج بيت الله تعالى وبهذا العدد الذي أصابه الحسن بن الوجناء، مع الأخذ بعين الاعتبار المشقة البالغة الذي كان يبذلها الحجاج لبيت الله الحرام آنذاك بلحاظ بعد المسافة بين نصيبين ومكة وقلة توفر الوسيلة؛ إذ لا غنى للمسافر عن الجمال، نضيف إلى ذلك: إن هذا العدد من السنين يدل على تحول الفصول، أي انتقال الأشهر العربية في حركة الأرض، فقد يقع شهر ذي الحجة في فصل الشتاء وبعد مرور

ص:165


1- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 6، ص 141؛ مستدركات علم الرجال للشاهرودي: ج 3، ص 52.
2- تهذيب المقال 256.
3- المصدر السابق.
4- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 6، ص 142.

ثلاثين سنة أو أكثر يقع في فصل الصيف، فضلاً عن أن المواظبة على الحج خلال نصف قرن ودون انقطاع لا ينالها إلا ذو حظ عظيم، ويدل على قوة إيمان صاحبه، وشدة مثابرته على نيل رضا الله تعالى فكان مؤهلاً للتشرف برؤية صاحب الأمر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

المسألة الثانية: رواية الشيخ الطوسي رضي الله عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام

قال رضي الله عنه: عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي قال: حدثني الحسين بن محمد بن عامر الأشعري القمي، قال: حدثني يعقوب بن يوسف الضراب الغساني - في منصرفه من أصفهان - قال: حججت في سنة احدى وثمانين ومائتين وكنت مع قوم مخالفين من أهل بلدنا، فلما قدمنا مكة تقدم بعضهم فاكترى لنا دارا في زقاق بين سوق الليل، وهي دار خديجة عليها السلام تسمى دار الرضا عليه السلام، وفيها عجوز سمراء فسألتها - لما وقفت على أنها دار الرضا عليه السلام - ما تكونين من أصحاب هذه الدار؟ ولم سميت دار الرضا؟ فقالت: أنا من مواليهم وهذه دار الرضا علي بن موسى عليهما السلام، أسكنّيها الحسن بن علي عليهما السلام، فإني كنت من خدمه. فلما سمعت ذلك منها آنست بها وأسررت الامر عن رفقائي المخالفين، فكنت إذا انصرفت من الطواف بالليل أنام معهم في رواق في الدار، ونغلق الباب ونلقي خلف الباب حجرا كبيرا كنا ندير خلف الباب. فرأيت غير ليلة ضوء

ص:166

السراج في الرواق الذي كنا فيه شبيها بضوء المشعل، ورأيت الباب قد انفتح ولا أرى أحدا فتحه من أهل الدار، ورأيت رجلا ربعة أسمر إلى الصفرة ما هو قليل اللحم، في وجهه سجادة عليه قميصان وإزار رقيق قد تقنع به وفي رجله نعل طاق فصعد إلى الغرفة في الدار حيث كانت العجوز تسكن، وكانت تقول لنا: إن في الغرفة ابنة لا تدع أحدا يصعد إليها، فكنت أرى الضوء الذي رأيته يضيء في الرواق على الدرجة عند صعود الرجل إلى الغرفة التي يصعدها، ثم أراه في الغرفة من غير أن أرى السراج بعينه، وكان الذين معي يرون مثل ما أرى فتوهموا أن يكون هذا الرجل يختلف إلى ابنة العجوز، وأن يكون قد تمتع بها فقالوا: هؤلاء العلوية يرون المتعة، وهذا حرام لا يحل فيما زعموا، وكنا نراه يدخل ويخرج ونجيء إلى الباب وإذا الحجر على حاله الذي تركناه، وكنا نغلق هذا الباب خوفا على متاعنا، وكنا لا نرى أحدا يفتحه ولا يغلقه، والرجل يدخل ويخرج والحجر خلف الباب إلى وقت ننحيه إذا خرجنا.

فلما رأيت هذه الأسباب ضرب على قلبي ووقعت في قلبي فتنة فتلطفت العجوز وأحببت أن أقف على خبر الرجل، فقلت لها: يا فلانة إني أحب أن أسألك وأفاوضك من غير حضور من معي فلا أقدر عليه، فأنا أحب إذا رأيتني في الدار وحدي أن تنزلي إلي لأسألك عن أمر، فقالت لي مسرعة: وأنا أريد أن أسر إليك شيئا فلم يتهيأ لي ذلك من أجل من معك، فقلت ما أردت أن تقولي ؟ فقالت: يقول لك - ولم تذكر أحدا - لا تخاشِنْ أصحابك وشركاءك ولا تلاحِهِمْ ، فإنهم أعداؤك ودارِهِمْ ، فقلت لها: من يقول ؟ فقالت: أنا أقول، فلم أجسر لما دخل قلبي من الهيبة أن أراجعها، فقلت أي أصحابي

ص:167

تعنين ؟ فظننت أنها تعني رفقائي الذين كانوا حجاجا معي قالت: شركاؤك الذين في بلدك وفي الدار معك، وكان جرى بيني وبين الذين معي في الدار عنت في الدين، فسعوا بي حتى هربت واستترت بذلك السبب فوقفت على أنها عنت أولئك، فقلت لها ما تكونين أنت من الرضا؟

فقالت كنت خادمة للحسن بن علي عليهما السلام، فلما استيقنت ذلك قلت: لأسألنها عن الغائب عليه السلام، فقلت: بالله عليكِ رأيته بعينكِ ، فقالت: يا أخي لم أره بعيني فإني خرجت وأختي حبلى وبشرني الحسن بن علي عليهما السلام بأني سوف أراه في آخر عمري، وقال لي: تكونين له كما كنت لي، وأنا اليوم منذ كذا بمصر، وإنما قدمت الآن بكتابة ونفقة وجه بها إلي على يدي رجل من أهل خراسان لا يفصح بالعربية، وهي ثلاثون دينارا وأمرني أن أحج سنتي هذه فخرجت رغبة مني في أن أراه فوقع في قلبي أن الرجل الذي كنت أراه يدخل ويخرج هو هو، فأخذت عشرة دراهم صحاحا، فيها ستة رضوية من ضرب الرضا عليه السلام قد كنت خبأتها لألقيها في مقام إبراهيم عليه السلام، وكنت نذرت ونويت ذلك، فدفعتها إليها وقلت في نفسي أدفعها إلى قوم من ولد فاطمة عليها السلام أفضل مما ألقيها في المقام وأعظم ثوابا، فقلت لها: إدفعي هذه الدراهم إلى من يستحقها من ولد فاطمة عليها السلام، وكان في نيتي أن الذي رأيته هو الرجل، وإنما تدفعها إليه، فأخذت الدراهم وصعدت وبقيت ساعة ثم نزلت، فقالت: يقول لك: ليس لنا فيها حق إجعلها في الموضع الذي نويت، ولكن هذه الرضوية خذ منا بدلها وألقها في الموضع الذي نويت، ففعلت وقلت في نفسي: الذي أمرت به عن الرجل.

ص:168

ثم كان معي نسخة توقيع خرج إلى القاسم بن العلاء بآذربيجان فقلت لها: تعرضين هذه النسخة على إنسان قد رأى توقيعات الغائب، فقالت ناولني فإني أعرفها، فأريتها النسخة وظننت أن المرأة تحسن أن تقرأ فقالت: لا يمكنني أن أقرأ في هذا المكان فصعدت الغرفة ثم أنزلته فقالت: صحيح وفي التوقيع أبشركم ببشرى ما بشرت به (إياه) وغيره.

ثم قالت: يقول لك إذا صليت على نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، كيف تصلي (عليه)؟ فقلت أقول: اللهم صل على محمد وآل محمد وبارك على محمد وآل محمد كأفضل ما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.

فقال لا إذا صليت عليهم فصل عليهم كلهم وسمهم، فقلت: نعم، فلما كانت من الغد نزلت ومعها دفتر صغير، فقالت: يقول لك: إذا صليت على النبي فصل عليه وعلى أوصيائه على هذه النسخة، فأخذتها وكنت أعمل بها، ورأيت عدة ليال قد نزل من الغرفة وضوء السراج قائم.

وكنت أفتح الباب وأخرج على أثر الضوء وأنا أراه - أعني الضوء - ولا أرى أحداً حتى يدخل المسجد، وأرى جماعة من الرجال من بلدان شتى يأتون باب هذه الدار، فبعضهم يدفعون إلى العجوز رقاعا معهم، ورأيت العجوز قد دفعت إليهم كذلك الرقاع فيكلمونها وتكلمهم ولا أفهم عنهم، ورأيت منهم في منصرفنا جماعة في طريقي إلى أن قدمت بغداد.

نسخة الدفتر الذي خرج:

ص:169

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وحجة رب العالمين، المنتجب في الميثاق، المصطفى في الظلال، المطهر من كل آفة، البريء من كل عيب، المؤمل للنجاة، المرتجى للشفاعة، المفوض إليه دين الله.

اللهم شرف بنيانه، وعظم برهانه، وأفلج حجته وارفع درجته، وأضئ نوره، وبيض وجهه، وأعطه الفضل والفضيلة، والدرجة والوسيلة الرفيعة، وابعثه مقاما محمودا، يغبطه به الأولون والآخرون.

وصل على أمير المؤمنين ووارث المرسلين، وقائد الغر المحجلين، وسيد الوصيين وحجة رب العالمين.

وصل على الحسن بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على الحسين بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على علي بن الحسين إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على محمد بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على جعفر بن محمد إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على موسى بن جعفر إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على علي بن موسى إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على محمد بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على علي بن محمد إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، وصل على

ص:170

الحسن بن علي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين وحجة رب العالمين، وصل على الخلف الصالح الهادي المهدي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجة رب العالمين، اللهم صل على محمد وأهل بيته الأئمة الهادين المهديين العلماء الصادقين، الأبرار المتقين، دعائم دينك، وأركان توحيدك، وتراجمة وحيك، وحججك على خلقك، وخلفائك في أرضك، الذين اخترتهم لنفسك واصطفيتهم على عبادك، وارتضيتهم لدينك، وخصصتهم بمعرفتك، وجللتهم بكرامتك وغشيتهم برحمتك، وربيتهم بنعمتك، وغذيتهم بحكمتك، وألبستهم نورك، ورفعتهم في ملكوتك، وحففتهم بملائكتك، وشرفتهم بنبيك.

اللهم صل على محمد وعليهم صلاة كثيرة دائمة طيبة، لا يحيط بها إلا أنت، ولا يسعها إلا علمك، ولا يحصيها أحد غيرك.

اللهم صل على وليك المحيي سنتك، القائم بأمرك، الداعي إليك الدليل عليك، وحجتك على خلقك، وخليفتك في أرضك، وشاهدك على عبادك.

اللهم أعز نصره، ومد في عمره، وزين الأرض بطول بقائه.

اللهم اكفه بغي الحاسدين وأعذه من شر الكائدين، وادحر عنه إرادة الظالمين، وتخلصه من أيدي الجبارين.

اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا ما تقر به عينه، وتسر به نفسه، وبلغه أفضل أمله في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.

اللهم جدد به ما محي من دينك، وأحي به ما بدل من كتابك

ص:171

وأظهر به ما غير من حكمك، حتى يعود دينك به وعلى يديه غضا جديدا، خالصا مخلصا لا شك فيه ولا شبهة معه، ولا باطل عنده، ولا بدعة لديه.

اللهم نور بنوره كل ظلمة، وهد بركنه كل بدعة، وأهدم بعزته كل ضلالة، واقصم به كل جبار، واخمد بسيفه كل نار، وأهلك بعدله كل جبار، وأجر حكمه على كل حكم وأذل لسلطانه كل سلطان.

اللهم أذل كل من ناواه، وأهلك كل من عاداه وامكر بمن كاده، واستأصل من جحد حقه، واستهان بأمره، وسعى في إطفاء نوره وأراد إخماد ذكره.

اللهم صل على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، (و) الحسن الرضا، والحسين المصطفى، وجميع الأوصياء، مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، ومنار التقى، والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصراط المستقيم، وصل على وليك وولاة عهده، والأئمة من ولده، ومد في أعمارهم، وأزد في آجالهم، وبلغهم أقصى آمالهم [دينا]، دنيا وآخرة إنك على كل شيء قدير»(1).

ص:172


1- الغيبة للشيخ الطوسي: ص 273-280، برقم 238.

الفصل التاسع

اشارة

ص:173

ص:174

بعد أن مضيت بلطف الله وعنايته في بيان حال أولاد السيدة خديجة عليها السلام في بداية الكتاب متناولاً بالدراسة والتحقيق ما حفت به سيرتهم، بقي لنا من هؤلاء الأولاد السيدة البتول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها، ولأنها تختلف عن بقية أولاد خديجة عليها السلام في جميع شؤونها وأحوالها فقد كان لزاماً علينا أن نتناول ما يتعلق بهذه الشخصية ضمن هذه الحقبة الزمنية من حياتها مع أمها خديجة عليها السلام بالمزيد من التحقيق والدراسة لوجود عناوين مشتركة فيما بين الشخصيتين، وعليه قد يجد القارئ في مورد من الموارد إسهاباً في الدراسة والتحليل وقد يجد اختصاراً حسب ما تلزمه العناوين من ذلك.

المبحث الأول: خلقها من ثمار الجنة

اشارة

سنتناول في هذا المبحث الأحاديث الواردة في خلق فاطمة من ثمار الجنة ولكون هذا العنوان قد انفردت به الزهراء عليها السلام دون غيرها من الخلق، فقد تضمن هذا المبحث مسائل كثيرة.

ولذا فقد اقتضى المبحث ان تسبقه توطئة تشتمل على محورين.

ص:175

المحور الأول: تفاعل الكتّاب مع حدث خلق فاطمة من ثمار الجنة

اشارة

كيف استقبل بعض الكتاب الإسلاميين هذا الحدث ؟ وكيف تفاعلوا معه ؟ وماذا أفرز هذا التفاعل من أقوال قد أكثر فيها بعضهم النقد والتجريح والتهجم!؟(1) فكان أهون ما قيل: «إنه غريب الإسناد والمتن»(2).

والسبب للأمور التالية:

الأمر الأول: اعتماد بعض الكتاب فيما يرونه على ما يتلاءم مع اعتقادهم

لقد اعتمد البعض ممن كتب في سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على الرواية التي تقول:

«إن فاطمة عليها السلام قد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات»(3).

سبب هذا أن هذه الرواية جاءت موافقة لما عليه هذا الكاتب أو ذاك من عقيدة.

الأمر الثاني: الاختلاف في وقت حدوث رحلة الإسراء لا يلغي الحقيقة

إنّ الاختلاف في وقت حدوث رحلة الإسراء والمعراج النبوي صلى الله عليه وآله وسلم، بين وقوعها في السنة الثالثة من البعثة، وهو ما عليه أئمة أهل

ص:176


1- الموضوعات لابن الجوزي: ج 1 ص 412-413، ط المكتبة السلفية، المدينة المنورة - السعودية.
2- المستدرك للحاكم: ج 3 ص 156 ط المعرفة بيروت.
3- تاريخ الخميس للديار بكري: ج 1 ص 277. ميزان الاعتدال للذهبي: ج 3، ص 439، ح 7070، ط دار المعرفة - بيروت. أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 1، ص 307، ط دار التعارف - بيروت.

البيت النبوي عليهم السلام، وبين وقوعها في السنة الثالثة عشرة من البعثة وهو ما عليه بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

كان سببا في إعراض البعض عن حقيقة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة.

الأمر الثالث: الإعراض عن روايات أهل البيت عليهم السلام لا يدل على صحة المعْرِض عنها

إعراض بعض هؤلاء الكتاب عن الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام فلم يأخذوا بما ورد عنهم في هذا المجال أو في غيره، دون تقديم سبب منطقي لهذا الإعراض في حين أن الشرع المقدس والعقل يوجبان الأخذ بأقوالهم.

وهذه الأمور مجتمعة أو منفردة جعلت البعض كابن الجوزي وغيره، يتحامل على الرواية وراويها وكأنه جاء بما لا يغتفر!

والحال أنه كان يكفي أن توصف هذه الرواية - على فرض عدم صحتها - بما يناسبها من مصطلحات علم الحديث، من حيث السند، وكان يكفي من المعترضين الإشارة إلى وجود تعارض بينها وبين ما يعتقده ابن الجوزي السلفي في وقت الإسراء والمعراج! وبهذا يتحقق القصد في بيان واقع الرواية عند من يعتقد بأن الإسراء وقع سنة ثلاث عشرة من البعثة.

فهذه هي وظيفة الباحث حينما يريد أن يظهر عدم صحة هذه الرواية أو ذاك الحدث.

ص:177

أما أن يكون التعليق يحمل كلمات التوهين والتنقيص بالرواية، ووصف الراوي بالغباء والخزي ؟! لأنه خالف عقيدة ابن الجوزي أو غيره ؟!، فهذا يكشف عن الافتقار إلى النزاهة العلمية، ويكشف أيضاً عن سريرة القائل، وميوله النفسية.

المحور الثاني: السُنة النبوية والعقل يؤكدان حقيقة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة

اشارة

إن مسألة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة هي حقيقة نصت عليها السنة المحمدّية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ولو كان هؤلاء الذين اعترضوا على هذه الحقيقة قد تدبروا سنة النبي المصطفى بقلبٍ حر من قيود الأهواء، لوجدوا الكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بينت هذه الحقيقة، في مواضع كثيرة.

وقبل أن نشير إلى بعض هذه المواضع، فلا بد من الالتفات إلى ما أخرجه الكثير من الحفاظ لرواياتٍ عديدة في مولد فاطمة الزهراء عليها السلام، وهي كالآتي:

1 - فمنهم من روى أنها ولدت على رأس البعثة(1).

ص:178


1- تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 2 ص 441 ط دار صادر بيروت؛ منح المدح لابن سيد الناس: ص 355، وقد جاء فيهما: «وكان لها يوم تزوجها علي بن أبي طالب خمس عشرة سنة وخمسة أشهر» أي: إنها ولدت سنة أربعين؛ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 75 ط مطبعة السعادة.

2 - ومنهم من قال: سنة إحدى وأربعين(1).

3 - ومنهم من ذهب إلى السنة الثامنة من البعثة(2).

4 - كثير منهم من قال: إنها ولدت في السنة الخامسة من البعثة(3).

وهذه الأقوال وإن كانت لا تنسجم مع ما اعتقده البعض من أن الإسراء والمعراج كان في السنة الثالثة عشرة من البعثة، إلا أنّ هذا لا ينافي كونها عليها السلام قد خلقت من ثمار الجنة، كما أن الاعتقاد بهذا القول لا يصلح أن يكون دليلاً على دحض حقيقة خلق فاطمة من ثمار الجنة، بعد أن نصت عليها السنة النبوية المطهرة بنصوص صحيحة، نذكر منها نصين فقط على سبيل الاستدلال لا الحصر.

ما أخرجه البخاري ومسلم، وابن حبان، وابن خزيمة وغيرهم، عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال:

«إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقين»(4).

ص:179


1- مستدرك الحاكم: ج 3 ص 163؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 2 ص 71 ط الكتب العلمية؛ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ج 2 ص 269؛ نهاية الأرب للنويري: ج 8 ص 213؛ المواهب اللدنية للقسطلاني: ج 1 ص 198.
2- نهاية الأرب للنويري: ج 18 ص 213 ط الحبشة المصرية؛ بحار الأنوار: ج 43 ص 9.
3- دلائل الإمامة للطبري: ص 10؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 289؛ ذخائر العقبى: ص 52 ط دار المعرفة؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ج 2 ص 278؛ مواليد أهل البيت للدراع: ص 278؛ البحار للمجلسي: ج 43 ص 1-10.
4- صحيح البخاري، كتاب الصوم: ج 2، ص 243؛ المجموع للنووي: ج 6، ص 356، ط دار

وفي صحيح مسلم بلفظ :

«أنكم لستم في ذلك مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني»(1).

وفي لفظ آخر أخرجه البخاري:

«إني لست كهيئتكم أني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني»(2).

وعليه: أكان الله تبارك وتعالى يطعم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة أم من غير ثمارها!؟ أم كان يسقيه من غير مائها وأنهارها؟!

فإن قيل: إن الله تعالى كان يطعمه من غير ثمار الجنة، فهذا يؤدي إلى جعل مريم بنت عمران أفضل من سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وبه يأثم قائله.

وإن قيل: كان يطعمه عزّوجلّ من ثمار الجنة، ويسقيه من مائها، فما وجه اعتراض المعترضين وامتعاض قلوب المنافقين من أن أصل النطفة الزكية، الطيبة، التي خلقت منها البضعة النبوية فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، كانت من ثمار الجنة التي أطعمها الله لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

أما جميع المسألة فهي من أيسر ما يمكن أن يعطيه الله لحبيبه المصطفى

ص:180


1- صحيح مسلم، باب بيان أن القبلة في الصوم: ج 3، ص 134.
2- صحيح البخاري، كتاب الصوم: ج 2، ص 242.

صلى الله عليه وآله وسلم فما قدر الجنة مقابل علو مقام سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

وقبل الدخول إلى هذا المبحث، فلا بد من الإشارة إلى الآتي:

أولاً

إن الأحاديث في هذا المبحث تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: نتحدث فيه عن تناول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ثمار الجنة في رحلة الإسراء والمعراج ودخوله صلى الله عليه وآله وسلم الجنة وأكله من ثمارها.

أما القسم الثاني: فإنه يشير إلى أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد أكل من ثمار الجنة وهو في الأرض، حينما كان ينزلها إليه جبرائيل عليه السلام بأمر من الله تبارك وتعالى.

ثانياً

إن جميع هذه الثمار سواء أكان تناولها في السماء أم في الأرض كان الحامل والمقدم لها هو جبرائيل عليه السلام، وهذا له من الأسرار العجيبة، والألطاف الإلهية المحكمة، التي خص الله بها فاطمة عليها السلام وسنشير إليه في حينه إن شاء الله تعالى.

ثالثاً
اشارة

قد أشارت الأحاديث في هذا الموضوع: إلى تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأكثر من نوع من أنواع الثمار وهي: «التفاح - السفرجل - الرطب -

ص:181

العنب - شجرة طوبى» ولم يختر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم غيرها، وهذا يدل على أمرين:

الأمر الأول

هو أنّ الله عزّوجلّ قد اختار هذه الثمار لنبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها من أحب الثمار إليه صلى الله عليه وآله وسلم، وأقربها إلى نفسه المقدسة وهو من خواص الجنة لقوله:

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ )1 .

الأمر الثاني

هو لوجود خصائص ومميزات لكل نوع من هذه الأنواع التي ذكرت وتأثيرها على تكوين الجنين، وقد أشارت الأحاديث الشريفة إلى وجود علاقة بين الجنين وهذه الثمار وتحديداً: (السفرجل والرطب)، وتأثيرها في ذكاء الطفل وجمال خلقته وخلقه(1).

المسألة الأولى: إنها خلقت من شجرة طوبى

عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:

«كان رسول الله يكثر تقبيل فاطمة عليها وعلى أبيها وبعلها

ص:182


1- سنشير إلى فوائد هذه الثمار حسب إيرادها في مسائل هذا المبحث بعونه تعالى.

وبنيها آلاف التحية والسلام، فانكرت ذلك عائشة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا عائشة إني لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرائيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته فحول الله ذلك ماءً في ظهري، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها».

هذا الحديث يدل على المحبة التي يكنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام ممثّلة في كثرة تقبيله لها.

ويدل أيضاً على أنها خلقت من ثمار شجرة طوبى دون أن يذكر لنا الحديث نوع هذه الثمرة ولا شكلها أو أي صفة عنها سوى أنها من ثمار شجرة طوبى.

أما شجرة طوبى فقد وردت روايات عن أئمة العترة عليهم السلام تبين صفة هذه الشجرة، منها:

1. عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«طوبى هي شجرة تخرج من جنة عدن، غرسها ربنا بيده»(1).

2. وعن ثابت، عن ابن سيرين، في قوله:

(طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ )2 .

ص:183


1- تفسير أبي حمزة الثمالي رحمه الله: ص 217، ط مطبعة الهادي - قم؛ تفسير العياشي لابن مسعود العياشي: ج 2، ص 212، ح 47، ط المكتبة العلمية الإسلامية - طهران؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 8، ص 143، ح 64، ط مؤسسة الوفاء - بيروت.

قال:

«طوبى شجرة أصلها في حجرة علي عليه السلام، وليس في الجنة حجرة إلا فيها غصن من أغصانها»(1).

3. وعن معاوية بن حمزة، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«طوبى شجرة غرسها الله بيده نفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وأن أغصانها لترى من وراء سور الجنة»(2).

4. عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال:

لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛

(طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) .

قام المقداد بن الأسود الكندي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا رسول الله وما طوبى»؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يا مقداد شجرة في الجنة لو يسير الراكب الجواد لسار في ظلها مائة عام قبل أن يقطعها،

ص:184


1- تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 59، ط دار المعرفة - بيروت؛ بحار الأنوار: ج 71، ص 372؛ تفسير العياشي لمحمد بن مسعود: ج 2، ص 212، ح 48، ط المكتبة العلمية الإسلامية - طهران.
2- تفسير الثعلبي: ج 5، ص 2288؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 183، ص 219؛ تفسير فرات الكوفي: ص 208، ح 277 و 279.

وورقها وبسرها برود خضر، وزهرها رياض صفر، وأفنانها سندس واستبرق، وثمرها حلل خضر، وصمغها زنجبيل وعسل وبطعاؤها ياقوت وزمرد أخضر، وترابها مسك وعنبر وكافور أصفر وحشيشها زعفران يتأجج من غير وقود يتفجر من أصلها السلسبيل والرحيق والمعين وظلها مجلس من مجالس شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(1).

المسألة الثانية: إنها خلقت من سفرجل الجنة

عن الزهري عن سعيد بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أتاني جبرائيل عليه الصلاة والسلام بسفرجلة من الجنة فأكلتها ليلة أُسريَ بي فعلقت خديجة بفاطمة، فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة»(2).

يمكن لنا أن نفهم العلة من خلق فاطمة عليها السلام من هذه الثمرة من خلال بعض الأحاديث الشريفة، ومنها:

1 - روى الحر العاملي رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«ما بعث الله عزّ وجل نبياً إلا ومعه السفرجل»(3).

ص:185


1- تفسير سعد السعود لابن طاووس: ص 109، ط منشورات الرضي؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 496؛ البحار للمجلسي: ج 65، ص 72، ح 131.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 156؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 109، ح 34228؛ تذكرة الموضوعات للفتني: ص 99؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 153.
3- وسائل الشيعة: ج 17، ص 131.

2 - وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«وما بعث الله نبياً إلا أطعمه من سفرجل الجنة فيزيد فيه قوة أربعين رجلاً»(1).

3 - قال الإمام الرضا عليه السلام:

«ما بعث الله نبياً إلا أوجد منه ريح السفرجل»(2).

ولعل هذا هو أحد الأسباب التي أطعم فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفرجل فتحول ماءً في صلبه صلى الله عليه وآله وسلم لتلد خديجة عليها السلام الحوراء الإنسية صلوات الله عليها وليكون أولادها الأئمة يحملون من القوة ما يحملها الأنبياء عليهم السلام.

المسألة الثالثة: خلقها من رطب الجنة

عن الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله أخبرني عن الجنة والنّار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال:

نعم وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء.

قال: فقلت له: إن قوماً يقولون: إنهما مقدّرتان غير مخلوقتين، فقال عليه السلام:

ما أولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكر خلق الجنة والنار فقد

ص:186


1- بحار الأنوار: ج 63، ص 177.
2- المصدر السابق.

كذَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذَّبنا وليس من ولايتنا على شيء، وخلّد في نار جهنم، قال الله عزّوجلّ :

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ )1 .

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرائيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته فتحول ذلك نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فكلما اشتقت إلى الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة»(1).

المسألة الرابعة: إنها عليها السلام خلقت من تفاحة من الجنة

عن ابن عمارة عن أبيه عن جابر، عن أبي جعفر - الباقر - عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك تلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك ؟

فقال:

إن جبرائيل عليه السلام أتاني بتفاحة من الجنة فأكلتها فتحولت ماء في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة فأنا

ص:187


1- بحار الأنوار: ج 8، ص 119؛ الأمالي للصدوق: ص 546، ح 7/728؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 2، ص 191.

أشم منها رائحة الجنة»(1).

ورد في الحديث لفظ «أحد بناتك» وقلنا في الفصول السابقة إن المراد بكلمة «بناتك» الربائب لأن العرب اعتادت أن تطلق على الربيبة اسم البنت فكان هذا هو لسانهم الذي بعث عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى:

(وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )2 .

المسألة الخامسة: إنها خلقت من جميع ثمار الجنة

اشارة

عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة عليها السلام فقالت له عائشة: «بأبي أنت وأمي إني أراك تكثر تقبيل فاطمة» فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن جبرائيل ليلة أسري بي أدخلني الجنة وأطعمني من جميع ثمارها فصار ذلك ماء في صلبي فحملت مني خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت إلى تلك الثمار قبلت فاطمة فأصبت من ريح تلك الثمار التي أكلتها»(2).

ص:188


1- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 183، الباب 147، ح 1؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 5، حديث 4؛ تاريخ بغداد للخطيب: ج 5؛ ص 17؛ دلائل الإمامة الطبري: ص 146، ح 54.
2- ذخائر العقبى لمحب الدين الطبرسي: ص 36؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ج 1،
بعض دلالات الحديث:
أولاً: (فأصبت من ريح تلك الثمار)

هذا الحديث جاء ليعطي صورة أخرى لعلة تقبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة عليها السلام، وهو يقرب المعنى أكثر ممّا مرَّ في الحديث السابق. إلا أن الصورة الجديدة هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرح لعائشة بأن رائحة فاطمة عليها السلام هي رائحة ثمار الجنة. فكيف يمكن أن تكون صفة هذه العطور؟ الله ورسوله أعلم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحيد الذي أكل من جميع هذه الثمار، وهو الوحيد الذي شم عطرها.

ثانياً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاشتياق إلى الجنة

إن الأمر الآخر الذي يظهر من خلال هذا الحديث أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الشوق إلى الجنة وكثرة الشوق دفعته إلى كثرة التقبيل لابنته الحوراء الإنسية الزهراء عليها السلام. وهو ما أثار اهتمام عائشة قائلة له صلى الله عليه وآله وسلم: (إني أراك تكثر تقبيل فاطمة)(1).

ص:189


1- للأحاديث الشريفة التي مر ذكرها في خلق فاطمة من ثمار الجنة دلالات كثيرة لا يسعنا ذكرها هنا، ولقد قمنا بذكرها في كتاب (هذه فاطمة) وهو قيد التنضيد والاخراج والله الموفق لكل خير.

المبحث الثاني: التهيئة النبويّة لنزول الأنوار الفاطمية

اشارة

تناولنا بحمد الله وتوفيقه في المبحث السابق الأحاديث التي تخبر عن خلق فاطمة من ثمار الجنة وفي هذا المبحث نتعرض لنفس المعنى لكن الاختلاف بين هذا المبحث وذاك هو أننا نعرض هنا الأحاديث التي تخبر عن نزول جبرائيل عليه السلام بثمار من الجنة إلى الأرض بينما كان الحديث في المبحث السابق يخص تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في السماء في رحلة الإسراء والمعراج.

ومن هنا، فإن جميع هذه الأحاديث التي في المبحثين تنص على مسألة واحدة، هي: أن النطفة النورانية الزكية التي خلقت منها البضعة النبوية، والصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت من عالم الأمر، وعالم النور، من خلال ثمار الجنة.

أما كيف يمكن الجمع بين هذه الأحاديث وتلك السابقة وبخاصة أن فاطمة الزهراء سلام الله عليها قد ولدت بعد المعراج بسنتين، أي إن هذه الثمار بقيت سنتين في بدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومفاد الأحاديث يخبر عن انتقال هذا النور إلى خديجة عليها السلام بعد هذه المرحلة السماوية وهو محل إشكال ؟!

والجواب على ذلك من وجهين:

الوجه الأول

هو أن هذه الثمار لا يمكن قياسها بعالم الدنيا وثمارها، وأن هذه الثمار

ص:190

تحمل من المعاني الدنيوية المسميات لغرض بيان دلالة اللفظ الذي يطلق على هذه الثمرة أو تلك، ولكي يتناسب ذلك مع العقل البشري ولا تمجه أذهانهم، فالناس ليسوا على مستوى واحد من الإدراك والاستيعاب للحقائق.

وعليه فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أراد أن يبين للناس منزلة فاطمة صلوات الله عليها ومقاماتها صاغ الأمر بشكله الذي يستوعبه السامع، أمّا بواطن الكلمات وألطاف معانيها فهو لذوي القلوب النيرة والآذان الواعية.

ومن هنا فإن معنى تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثمار الجنة في الإسراء والمعراج كان لغاية واحدة، هذه الغاية هي انتقال النور الإلهي إلى صلب النبوة، وإن الحكمة الإلهية اقتضت أن يتم انتقال هذا النور على مرحلتين، المرحلة الأولى: تتم في الإسراء والمعراج وفي مكان خاص من السماء وهي السماء السادسة التي جعل الله فيها الجنة وأن يكون المرشد والطاعم والدليل هو روح القدس وأمين الوحي جبرائيل عليه السلام وإن يكون هذا النور ضمن هيئة خاصة وعناصر محددة من اللون والطعم والرائحة، فكل لون من الألوان له أسراره الخاصة به ومدلولاته الكونية، فلذا ترى تعدّدت الثمار من: «رطبٍ ، وتفاحٍ ، وسفرجل»، مع ثمرة شجرة طوبى التي لم تصرح الرواية عن طبيعتها ولم تذكر صفاتها.

كل ذلك لأسرار خاصة بنور فاطمة صلوات الله عليها، فهذه هي الغاية التي من أجلها تناول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثمار في

ص:191

الجنة، وليست الغاية هي تذويق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الثمار؛ إذ ما أسهل ذلك عليه وهو الذي يبيت عند ربه كل ليلة وله مُطعم يطعمه وساقٍ يسقيه(1)! فهذه هي المرحلة الأولى من انتقال النور من عالم الأمر، أي عالم السماء إلى عالم الشهادة، إلى الأرض.

ثم تكون المرحلة الثانية من نزول النور وانتقاله إلى الأرض من خلال نزول جبرائيل عليه السلام حاملاً لهذه الثمار فيضاف إليها (العنب).

وعليه: فيمكن أن يكون هذا النور قد انتقل إلى صلب النبوة مفرقاً على هيئة شعبتين، الأولى كانت في الجنة، والثانية كانت في الدنيا لتُجْمع هاتان الشعبتان في صلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض.

الوجه الثاني

اشارة

إنّ من خواص بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو حفظ ما يرد إليه من الأنوار الإلهية والفيوضات الرحمانية لتناسب طبيعة بدنه المقدس مع هذه الأنوار بأمر الله عزّوجلّ .

نضيف إلى ذلك أن من المعاجز النبوية التي فاقت معجزة إبراهيم الخليل عليه السلام هي معجزة احتفاظ بدن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالسم الذي قدمته إليه اليهودية الخيبرية لشهور عديدة حتى ظهر أثره عليه وتوفي شهيداً، وهي حقيقة نص عليها الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في بيانه

ص:192


1- صحيح البخاري، كتاب الصيام، باب: الوصال، برقم 1863؛ ومسلم في صحيحه، كتاب الصوم، باب: الوصال، برقم 1105.

خاتمة العترة و اختياره - تعالى - لهم من الشهادة فقال:

«ما منا ألا مسموم أو مقتول»(1).

وعليه: فإن بقاء ماء هذه الثمار في بدنه المقدس وفي صلبه النوراني النبوي أولى من بقاء نار السم الذي قدمته إليه اليهودية.

أما العلة في بقاء السم دون ظهور أي إشارة فذلك لكونه أفضل الأنبياء والمرسلين وهذا التفضيل يقتضي الشدة في الابتلاء، وقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أشد الناس بلاءً؟ فقال:

«الأنبياء ثم الأوصياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل»(2).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت»(3).

وأن يأتي بجميع معاجز الأنبياء عليهم السلام وبشكل أكبر وأقوى من معاجزهم ومنها معجزة إبراهيم الخليل عليه السلام فكانت معجزة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكبر من ذلك؛ إذ بقاء النار في جوف الإنسان وفي داخل بدنه لشهور عديدة أكبر وأعظم بكثير من معجزة دخول إبراهيم عليه السلام النار للحظات والخروج منها بإذن الله تعالى.

ص:193


1- كفاية الأثر للخزاز القمي: ص 227؛ البحار للمجلسي: ج 27، ص 218.
2- الدعوات لقطب الدين الراوندي: ص 167؛ وأخرجه أحمد والترمذي بلفظ مقارب: مسند أحمد: ج 1، ص 172؛ سنن الترمذي: ج 4، ص 28.
3- تفسير الرازي: ج 4، ص 175؛ البحار للمجلسي: ج 39، ص 56؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 42.

وهي حقيقة احتج بها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على بعض اليهود الذين جاءوه يسألون عن علة تفضيل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على بقية الأنبياء عليهم السلام وهو لم يؤتَ بمعاجزهم فقال عليه السلام فيما أوتي إبراهيم من معجزة النار فكانت برداً وسلاماً:

(محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصيّر الله السم في جوفه برداً وسلاماً إلى منتهى أجله، فالسم يحرق إذا استقر في الجوف كما أن النار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره)(1).

إذن:

كان الوجه الثاني: هو احتفاظه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا النور أو بماء هذه الثمار في صلبه لمدة عامين أو أكثر بأمر الله تعالى. حتى حان الإذن الإلهي في انتقال هذه النطفة إلى الطاهرة خديجة عليها السلام.

وفيما يأتي نذكر هذه الأحاديث ونشير إلى معانيها التي وفقنا الله لبيانها والإشارة إليها بشفاعة البضعة المحمدية صلوات الله عليها.

المحور الأول: أحاديث اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس ومنهم أم المؤمنين خديجة عليها السلام

«الله يأمر النبي بالتهيؤ لنزول أمرِ مهمٍّ ».

الحديث الأول؛ روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان جالساً

ص:194


1- الاحتجاج للطبرسي، احتجاجه عليه السلام على اليهود: ج 1، ص 314؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 186؛ البحار للمجلسي: ج 10، ص 33.

بالأبطح ومعه عمّار بن ياسر، ومنذر بن الضحضاح، وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وجماعة إذ هبط عليه جبرائيل عليه السلام في صورته العظمى قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه:

يا محمد العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لها محبّاً وبها وامقاً.

قال: فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتّى إذا كان في آخر أيامه ذلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها:

يا خديجة لا تظني أنّ انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكن ربّي عزّوجلّ أمرني بذلك لتنفيذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا فإن الله عزّوجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كلّ يوم مراراً، فإذا جنك الليل فأجيفي الباب وخذي مضجعك من فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مراراً لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1).

هذه المقطوعة اقتطعناها من حديث طويل سنورد بقية ما جاء فيه في المبحثين القادمين مع ما يناسبها من أحاديث أخرى.

ص:195


1- بحار الأنوار: ج 16، ص 78-79، ح 20؛ الخصائص الفاطمية للكجوري: ج 1 ص 343-344؛ الأنوار البهية للشيخ عباس القمي: ص 53-54.

دلالات البحث في الحديث:

إن الحديث يبين لنا أنّ الله عزّوجلّ يأمر نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بالتهيئة والاستعداد لتلقي أمر معين وأن هذه الترتيبات وهذا التأهب يظهر أهمية هذا الأمر وعظم منزلته عند الله تبارك وتعالى. وهو ما نرجو أن يوفقنا الله لبيانه من خلال هذه المسائل.

المسألة الأولى: (لماذا الاعتزال لمدة أربعين يوماً؟)

أولاً: (الاعتزال)

وهو منهج من مناهج القرآن الكريم وطريقة من طرق الأنبياء والمرسلين، وأسلوب تعبدي من أساليب الأولياء والصالحين بالتقرب إلى رب العالمين، وهو من الرياضات الروحية التي اعتمدت عليها مدارس العرفان لاسيما إذا توج بالتفكر والتأمل.

والقرآن الكريم يعرض هذا المنهاج التعبدي التقربي في مواضع عدة ليبين آثاره على من انتهجه وسلكه ومن ذلك قوله عزّوجلّ في أصحاب الكهف:

(وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً)1 .

فهذه الآية الكريمة ترشد العارف إلى خاصّتين من خواص الاعتزال إحداهما إنه يمنح المنتهج له آثار رحمة الله فيكون مستحقاً لهذه الرحمة فينشرها الله عليه.

ص:196

والأخرى أن الله عزّوجلّ يهيئ للمتقرب إليه بهذه العبادة سبل النجاة وطرق الخلاص من المهلكات. كما كان واضحاً من حال هذه النخبة المؤمنة التي انتهجت هذا النهج التعبدي، لأن أهم ما في هذا النهج أنه يرشد صاحبه إلى نبع الإخلاص فيروى القلب بمائه الصافي والروح بعذبه الفراتي.

ومن هنا نجده مرافقاً لأولياء الله عزّوجلّ ، لأن الإخلاص غايتهم الموصولة إلى رياض القدس الإلهية وموجب لنزول الفيوضات الربانية، كما كان حال العذراء مريم عليها السلام ونهجها التجردي الاعتزالي التعبدي إلى الله عزّوجلّ فكانت لا ترى أحداً ولا يراها أحد إلا نبي الله زكريا عليه السلام فلم تأخذها العاطفة إلى أهلها والشوق إلى خاصتها وذويها لأن الإخلاص لله غايتها، قال تعالى:

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)1 .

فكانت بهذا النهج قد حازت على الاصطفاء والطهر من الله عزّوجلّ ، وأصبحت موضعاً لامتداد النبوة، فمن خلالها لحق عيسى بإبراهيم عليهما السلام.

ثم ينقل القرآن الكريم صورة أخرى لهذا النهج التعبدي، ورائداً آخر من رواد هذا الصرح الولائي لله عزّوجلّ لنلمس جانباً آخر من جوانب رحمة الله، وأثراً خاصاً من آثار عناية الله، ولوناً جديداً من ألوان المنّ الإلهي والفضل

ص:197

المولوي والعطاء الرباني على عبده ونبيه وخليله إبراهيم عليه السلام.

فنبي الله إبراهيم أيضاً قد سلك هذا المسلك وتقرب إلى الله عزّوجلّ بهذا النوع من العبادة متقرباً بالإخلاص من خلاله إلى الله تعالى فكان ذلك سبباً لنزول الرحمة الإلهية واختصاصه بالأفضال الربانية وموجباً للعناية الإلهية بعد طول عناء وجهد واجتهاد.

قال تعالى:

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا)1 .

فكان (اعتزال) إبراهيم الخليل عليه السلام لقومه وما يعبدون من دون الله سبباً في نزول الرحمة الإلهية فوهب له عزّ شأنه الذريّة وخص هذه الذرية بالنبوة.

ومن هنا: يظهر لنا بعض أوجه الحكمة في اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليها السلام متعبداً بهذا النهج وكان مع اعتزاله صائماً في النهار وقائماً في الليل يتقرب إلى الله بأحب العبادات إليه وأوصلها إلى قربه ليلمس آثار رحمة الله العظمى ويتلقى الهبة الربانية والتحفة الإلهية وليعطى ما لم يعطِه الله لأحدٍ من العالمين، فهذه فاطمة عليها السلام، أي إن الله أعطاه الأخيار، وحقة الأنوار، وأمّة الملك الجبار، وأم الأئمة الأطهار صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

ص:198

ثانياً: علم الأعداد والحروف وشرافة العدد أربعين

يعدُّ علم الأعداد أحد أهم علوم أرباب الأسرار وأهل العرفان، والمتصوفة، وكان له رواج كبير لدى العلماء السابقين، أما المتأخرون فما يزال هناك من يأنس بهذا العلم لاسيما المهتمين منهم بالأمور العرفانية، وقد وردت معانٍ كثيرة لخواص هذا العدد في أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام(1).

ونحن لا نريد أن ندخل في هذا العلم وأبوابه الواسعة وأسراره الخفية فلهذا العلم أهله وحملته إلا أننا نقول فيما يخص الأعداد، وبخاصة فيما نحن بصدده وهو العدد «أربعون» - الذي جاءت به الرواية من خلال ما ذكره جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما حدد له المدة في الاعتزال - نقول: إن لهذا العدد سره الدفين الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم وهم محمد وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم. فهم العارفون بخصائصه الغيبية. إلاّ أننا يمكن أن نصل إلى قناعة في أهمية هذا العدد وآثاره الغيبية من خلال: (القرآن والعترة المحمدية).

بعض الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن العترة المحمدية تعرض لنا بعض الحقائق المرتبطة بالأنبياء وعلاقتهم مع هذا العدد.

قال تعالى:

(وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ

ص:199


1- تفسير الثقلين: ج 1، ص 162.

ظالِمُونَ )1 .

فالقرآن يعرض لنا في هذه الآية المدة التي غاب فيها موسى عليه السلام عن قومه وبعد انتهاء هذه المدة، أي الأربعين يوماً فإن القوم انقلبوا على أعقابهم واتخذوا عبادة العجل.

ثم يبين القرآن الكريم في نفس المجال فيطلق على هذا العدد ب - «الميقات» فيقول عزّوجلّ :

(وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً )2 .

فالآية هنا تشير إلى سر خفي في هذا العدد الذي به يتم الميقات الإلهي.

والقرآن لا يقتصر في أسرار هذا العدد على الأنبياء عليهم السلام بل ينقل لنا صورة عن العقاب الإلهي للظالمين فيقول تعالى:

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ )3 .

وهم قوم نبي الله موسى الذي رفضوا دخول الأرض المقدسة فتاهوا أربعين سنة في البيداء.

ص:200

ثم ينتقل القرآن الكريم إلى مجال آخر فيشير إلى تكرر هذا العدد في موضع جديد هو كمال العقل والأشد، قال تعالى:

(حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )1 .

ومن هنا نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد هبط عليه جبرائيل عليه السلام في الأربعين من عمره الشريف فبعثه الله رحمة للعالمين.

أما ما جاء في الأحاديث الواردة عن العترة الطاهرة فكثيرة في هذا المجال، نذكر ما تيسر منها تيمناً.

فقد ورد ذكر هذا العدد في حفظ الأحاديث النبوية، وأثر هذا الحفظ المقيد بالأربعين حديثاً على الإنسان في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«من حفظ عني من أمتي أربعين حديثاً في دينه يريد وجه الله عزّوجلّ والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً»(1).

وقد ورد أيضاً ذكر هذا العدد وبيان آثاره على من أخلص لله عزّوجلّ مدّة من الزمن بتمامه، فعن أبي جعفر الباقر عليه الصلاة

ص:201


1- بحار الأنوار: ج 2، ص 153 و 154، ح 3 و 5 و 6؛ الخصال للصدوق: ص 542، ح 17؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 8، ص 45، ح 595.

والسلام أنه قال:

«ما أخلص عبد الإيمان لله أربعين يوماً أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوماً إلا زهدّه الله في الدنيا وبصَّره داءها ودواءها وأثبتت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه»(1).

وجاء ذكره في مَن أراد التوجه إلى الله عزّوجلّ بالدعاء وطلب الاستجابة في قضاء الحوائج أن يقدم الاستغفار لأربعين مؤمناً ويدعو لهم حتى يضمن لنفسه الاستجابة وقضاء الحاجة.

فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«من قدّم في دعائه أربعين من المؤمنين ثم دعا لنفسه استجيب له»(2).

ومنه جاء الاستحباب في تقديم أربعين مؤمناً يعدّهم بأسمائهم ويستغفر لهم في صلاة الوتر من نافلة الليل قبل أن يستغفر لنفسه.

ومن الأسرار الخفية في قضاء الحوائج هو اجتماع أربعين رجلاً في مجلس واحد يدعون الله عزّوجلّ في أمرٍ ما فيقض] الله لهم هذا الأمر يستجيب لهم، وهو ما جاء عن الإمام جعفر بن محمد الصادق روحي فداه، قال عليه السلام:

ص:202


1- البحار: ج 70، ص 240، حديث 8؛ جامع السعادات للنراقي: ج 2، ص 313؛ مستدرك الوسائل للنوري: ص 295، ح 17/5901.
2- وسائل الشيعة: ج 4 باب 45 من أبواب الدعاء ص 1154 حديث 5؛ الأمالي للصدوق: ص 541، ح 725؛ البحار للمجلسي: ج 90، ص 384، ح 6.

«ما من رهط أربعين رجلاً اجتمعوا فدعوا الله عزّوجلّ في أمر إلا استجاب لهم»(1).

ومنها استحباب رش قبر الميت لمدة أربعين يوماً في كل يوم مرة، وقد أمر الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه:

«أن يرش قبره أربعين يوماً في كل يوم مرة»(2)).

ومنها إن مراحل تكوين الجنين من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام، أربعون يوماً لكل مرحلة، فيكون الجنين عند ذلك في شهره السادس وهو قوله تعالى:

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ )3 .

وغيرها من الأحاديث في المجالات المختلفة فإن جميعها تدل على أسرار هذا العدد وشرافته من بين الأعداد عند الله عزّوجلّ .

وعليه نلمس العناية الإلهية في اعتزال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله

ص:203


1- وسائل الشيعة: ج 4 باب 38 ص 1143 حديث 1؛ الكافي للكليني: ج 2، ص 487، باب الاجتماع في الدعاء، ح 1؛ عدة الداعي لابن فهد الحلي: ص 144.
2- وسائل الشيعة «آل البيت»: ج 2 ص 860 باب 32 من الدفق حديث 6؛ وسائل الشيعة «الإسلامية»: ج 3، ص 197، باب 33، ح (3393) 6؛ كشف اللثام للفاضل الهندي: ج 2، ص 396، الفصل الرابع.

وسلم هذه المدة من الزمن لكي يتهيأ ويستعد لاستقبال الهبة الربانية والتحفة الإلهية وهو في نفس الوقت يكشف عن عظم الأمر الذي ينزل به جبرائيل عليه السلام وكبر شأنه عند الله تعالى لأنه استلزم اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً متعبداً فيها صائماً قائما مصلياً متصدقاً متقرباً إلى الله عزّوجلّ .

المسألة الثانية: «جبرائيل عليه السلام يهبط في صورته العظمى»

اشارة

لا بد من الحديث عن الملائكة قبل الدخول في معنى نزول الملك جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى، حتى نصل إلى نتيجة البحث وندرك معنى الأمر، ونفهم عظم المسألة التي استعد لها أشرف خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم.

أولاً: معنى تسميتهم بالملائكة

فأما معنى تسميتهم بالملائكة: فهو إما مشتقة من الألوكة بمعنى «الرسالة»، أو مشتقة من الملك بمعنى «العبودية» المحضة الخالصة.

والملائكة المدبرات والمقدرات، وملائكة الجنة والنار، والملائكة الذين هم حملة التدبير والتقدير والتسخير وغيرها، سميت ملكا لظهور مبدأ الاشتقاق فيه، لأنهم رسل الله في اتصال ما يتحملون من جهات الفيض ورؤوس المشيئة إلى محالها ومواقعها كما نصّ عليهم بأنهم رسل الله في قوله تعالى:

ص:204

(إِنّا رُسُلُ )1 .

وهم المتمحضون في العبودية والمخلصون في الطاعة:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ )2 .

بحال من الأحوال وطور من الأطوار، كما نص عليهم بقوله:

(وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)3 .

وقوله تعالى:

(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )4 .

وقوله تعالى:

(لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ )5 .

فلما ظهر فيهم مبدأ الاشتقاق وتحققت المناسبة المطلوبة بين اللفظ والمعنى أطلق عليهم لفظ الملائكة، وإلا فهم صنف آخر ونوع آخر غير جنس الجن والإنس وغيرهم، وإنما سموا (ملائكة) لهذه العلة التي هي ظهور مبدأ

ص:205

الاشتقاق، فعلى هذا كل شيء فيه هذا المعنى يصح إطلاق لفظ الملائكة عليهم(1).

وهي - أي الملائكة - «ذوات نورانية قد اضمحلت فيهم جهة الميولات النفسانية والشهوات الإنسانية والجنسية، فغلبت عليهم جهة النور، بحيث اضمحلت فيهم الظلمة بالرمة فلا أثر لها بالكلية»(2) وهذا القول مأخوذ من أقوال العترة المحمدية صلوات الله وسلامه عليهم.

فقد وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

«صور عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد، تجلى بها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله»(3).

وفيما يخص الملائكة من أحاديث فهي كثيرة جداً في مدرسة ثقل القرآن وعترة الهادي إلى طريق الرحمن، أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم إلا إننا أوردنا هذا المقدار لكي لا يطول بنا الوقوف عند هذا المبحث وهو ليس قصدنا وغايتنا بقدر ما نريد أن نمهد لمعنى نزول جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى ونضيف إلى ذلك أنهم، أي: الملائكة عليهم السلام لهم مراتب ثابتة فلا يستطيع أحدهم الصعود إلى مرتبة أعلى من خلال طاعته وهو ما جاء في قول مولانا وسيدنا الإمام الصادق سلام الله عليه في الملائكة:

ص:206


1- أنوار الغيب للسيد كاظم الحسيني الرشتي: ص 50، تحقيق الشيخ أحمد آل بو شفيع.
2- شرح القصيدة للسيد كاظم الرشتي: السؤال 15 ص 231، أنوار الغيب: ص 46.
3- كتاب أصول العقائد: ص 184.

«إنهم ناقصون لا يحتملون الزيادة»(1).

وهي بمعنى أوضح:

إن الملك ناقص لا يحتمل الكمال لأنه صورة عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد؛ لأن الملك مطبوع على الطاعة ومقطوع عليها، مثلاً ميكائيل عليه السلام لما خلقه الله تعالى، له مقام ومرتبة ولكنه لا يزيد ولا ينمو بطاعته وخدمته لله تعالى إلى مقام أرفع وأعلى الآن.

وإنما هو كالسراج إذا أشعلته في أول الليل وأتيت إليه في آخر الليل لا تجده أنور وأشد ضوءاًً عن أول الليل، فإنه نور لا يوجد في مقابلته ظلمة.

وأما الإنسان فإنه تتساوى عنده باختياره نسبة الطاعة إلى المعصية، فإنه مركب من قوى رحمانية عقلية ومن قوى حيوانية، فهو متردد بين الكمال والنقصان، فبطاعته ينمو ويزداد ويترقى إلى مقام القرب الإلهي كسلمان المحمدي رضوان الله عليه فإنه انقطع إلى الله وإلى عبادته مع وجود النقيض في النفس(2) ، وهو أول الصحابة المنتجبين وأسبق الشيعة إلى ولاية آل الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.

لذلك تجدهم عليهم السلام في مراتب مختلفة فمنهم «العالون» وهم: (إسرافيل، وجبرائيل، وميكائيل وعزرائيل) عليهم السلام، ومنهم الكروبيون وهم:

ص:207


1- البحار للمجلسي: ج 3، ص 15 و 37.
2- أنوار الغيب للسيد كاظم الحسيني الرشتي: ص 53.

«الذين جعلهم الله خلف العرش، ولو قُسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم».

وهو قول مولانا الإمام الصادق عليه السلام في وصفهم(1).

والقرآن الكريم يذكر أنواع الملائكة في قوله تعالى:

(وَ النّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)2 .

وقوله:

(وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً)3 .

ولكونهم ذوات نورانية، وقوى روحانية وجسمانية، ذوات شعور وإدراك واختيار، لكنها لضعف تركيبها وعدم كمال انعقادها وغلبة نوريتها تتشكل بأشكال مختلفة، وتظهر بصور مختلفة، ما عدا الصور القبيحة والخبيثة(2).

وقد كان جبرائيل عليه السلام يظهر بصورة «دحية الكلبي» وهو أحد

ص:208


1- البحار للعلامة المجلسي: ج 56 ص 184، رواية 26.
2- أنوار الغيب للسيد كاظم الرشتي: ص 41.

صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ظهر بصورته مرات عديدة للمسلمين بشكل جماعي وهم ذاهبون لغزوة خيبر(1) ، وبشكل فرادى كما ظهر لأم سلمة رضي الله عنها(2).

بينما كان يظهر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورة رجل جميل الصورة عذب الصوت، كما ظهر لمريم بهيئة بشرية:

(فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)3 .

أي: جميل الصورة والصوت.

ثانياً: المواضع التي ظهر فيها جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى
اشارة

أما صورته الأصلية فلم يظهر فيها إلا في ثلاثة مواضع:

الموضع الأول

تجلى فيه جبرائيل عليه السلام بصورته الأصلية في غار حراء يوم المبعث في السابع والعشرين من شهر رجب لسنة أربعين من عمره المبارك، وفي هذا اليوم، وفي هذا الموضع، ولهذا الأمر شأن ومنزلة وخطر عظيم عند الله عزّوجلّ ، ولذا تراه تجلى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته الأصلية.

ص:209


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 246؛ والبداية والنهاية: ج 4، ص 136؛ الكافي للكليني: ج 2، ص 587، ح 25؛ أمالي الصدوق: ص 426 سنن النسائي: ج 8، ص 103.
2- صحيح مسلم، كتاب المناقب، مناقب أم سلمة رضي الله عنها: ج 7: ص 1.
الموضع الثاني

فقد تجلى فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورته العظمى التي خلقه الله عليها ليلة الإسراء والمعراج، وهو مفاد قوله تعالى:

(وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى )1 .

وهذه الصورة التي عليها جبرائيل عليه السلام كانت آية من آيات الله الكبرى، ولقوله تعالى:

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى )2 .

الموضع الثالث

هو عند نزول أمر الله تعالى لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالاعتزال عن خديجة والناس لمدة أربعين يوماً، وفي هذا دليل على عظمة مهمّته وجلالة الأمر الذي جاء به، وهو انعقاد نطفة فاطمة أم الأئمة الأطهار وزوجة ولي الله حيدرة الكرار.

ثالثاً: أثر الاعتزال والرياضة النفسية في خلق الجنين

إن التعبد بالصيام والقيام أربعين يوماً وليلة، واعتزال الخلق، وهجران الزوجة، وتشديد الشوق والميل الطبيعي بين السيدة خديجة والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك يكون له الأثر الخاص في انعقاد النطفة الزكية،

ص:210

خصوصاً إذا ألحق به ارتياض سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم رياضة خاصة تتناسب مع مقامه عند الله تعالى ومنزلته لديه حتى حصل الاستعداد لقبول الهدية السماوية والعطية الربانية.

رابعاً: الأدب النبوي في بيان حبه لخديجة عليها السلام

إن بعثه صلى الله عليه وآله وسلم عمار بن ياسر رضوان الله عليه إلى خديجة؛ ليطمئنها عليه وينقل لها كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان مقامها ومنزلتها عند الله، وإنه ليباهي ملائكته بها كل ذلك دلائل على عظم منزلتها عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو دليل على حب النبي الكبير للسيدة الجليلة خديجة سلام الله عليها.

المسألة الثالثة: جبرائيل عليه السلام ينزل بالنور الفاطمي من الجنة

اشارة

تناولنا في المبحث الأول اعتزال النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوماً صائماً قائماً مصلياً متصدّقاً متقرّباً إلى الله عزّوجلّ .

ونورد هنا ما كان من مجريات للأحداث التي رافقت هذا الأمر الإلهي لسيد الأنبياء وأكرم من خلق الله عزّوجلّ حبيبه المصطفى وعبده المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم.

قال سيدنا ومولانا روحي له الفدى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

ص:211

«فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد! العليّ الأعلى يقرئك السلام هو يأمرك بأن تتأهب لتحيته وتحفته.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل وما تحفة ربّ العالمين ؟ وما تحيته ؟، قال: لا علم لي، قال: فبينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس، أو قال: إستبرق، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل جبرائيل عليه السلام وقال: يا محمد يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

فقال علي بن أبي طالب عليه السلام:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يريد الإفطار، فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي على باب المنزل وقال: يبن أبي طالب، إنه طعام محرم إلا عليّ .

قال علي عليه السلام:

فجلست على الباب وخلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالطعام وكشف الطبق، فإذا عُثق من رطب وعنقود من عنب فأكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه شبعاً، وشرب من الماء رياً، ومد يده للغسل فأفاض الماء عليه جبرائيل وغسل يده ميكائيل وتمندل له اسرافيل، وارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي فأقبل جبرائيل وقال: الصلاة محرّمة عليك في وقتك حتى تأتي خديجة

ص:212

فتواقعها، فإن الله عزّوجلّ آل على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة، فوثب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزل خديجة»(1).

مسائل البحث في الحديث:

أولاً: (اشتراك الملائكة الثلاثة عليهم السلام في إيصال الوديعة)

نزول الملائكة المقربين الثلاثة وهم العالون، خصوصاً إسرافيل، حيث لم ينزل قط سوى هذه المرة - حسب ما توفر لديّ من مصادر، وطاقة في البحث - مصحوباً بالتشريفات الخاصة من السندس والإبريق والمنديل والماء والطبق من الجنة مع ما قاموا به عليهم السلام من تقسيم للعمل في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك «التشريف» السماوي فكان الذي أفاض الماء جبرائيل عليه السلام والذي غسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميكائيل، والحال كان يكفي بجبرائيل بصب الماء على اليدين فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسلهما لكن أن يقوم بغسل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو غاية قصوى في التشرف بخدمته، وكذلك الحال بالنسبة لإسرافيل عليه السلام فإنه يمكن للنبي أن يأخذ المنديل من إسرافيل عليه السلام فيمسح يديه ويمندل يديه لكن أن يقوم إسرافيل ويمندل يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمسحهما فهو تشريف لإسرافيل عليه السلام وإكرام لفاطمة صلوات الله

ص:213


1- بحار الأنوار: ج 16، ص 79، باب 5؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 453؛ العدد القوية لعلي بن يوسف الحلي: ص 221؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 20؛ الخصائص الفاطمية للكجوري رحمه الله: ج 1 ص 344-345.

عليها، حيث إنها أنزلت بتلك العطايا والهدايا يحملها كبار سكان الملأ الأعلى.

وكيف لا وهي صاحبة النور الأوحد الذي خلقه الله من نور عظمته فأشرقت به السماوات والأرضيون، وقد غشي أبصار الملائكة فخروا لله ساجدين وبحمده قائلين وبثنائه مسبحين.

ثانياً: (هل يجوز تأخير الصلاة في شتى الأحوال لعلل راجحة)؟!

قد جاء في الحديث: قول جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«الصلاة محرمة عليك في وقتك حتى تأتي منزل خديجة».

أما الجواب على هذا السؤال فهو عند الفقهاء: «الجواز» فقد جاء في الشريعة السمحاء موارد عديدة يستثنى فيها من المبادرة إلى إقامة الصلاة في أول وقتها.

الأول: الظهر والعصر إذا أراد الإتيان بنافلتهما، وكذا الفجر إذا لم يقدم نافلتها قبل دخول الوقت، ما لم يتضيق وقت فضيلة الفريضة.

الثاني: مطلق الحاضرة لمن عليه قضاء يومه أول ليلته، فإن عليه المبادرة بالفائتة ما لم تتضيق الحاضرة حتى لو كان قد نوى الحاضرة فعليه أن يعدل إلى الفائتة، هذا إذا تذكر قبل فوات محلها، وذلك للنصوص(1) ، التي لأجلها قيل بالمضايقة في قضاء يومه وليلته إلا في فريضة الفجر فلا يتقدم عليها فائتة لحديث

ص:214


1- الوسائل، باب 62 من أبواب المواقيت، الحديث: 1، 2، 4، 7، 8 وجميع أحاديث الباب 63.

أبي بصير وحديث ابن مسكان، كلاهما عن الإمام الصادق عليه السلام(1).

الثالث: المتيمم مع احتمال زوال العُذر أو رجائه، أو لمن عليه البحث عن الماء غلوة سهم أو سهمين كما هو مبين في أحكام التيمم عند الفقهاء.

الرابع: لدفع الأخبثين للحاقن بهما، لقول الصادق عليه السلام:

«لا صلاة لحاقن ولا لحاقنة الحديث»(2).

وقوله:

«لا تصلّ وأنت تجد شيئاً من الأخبثين»(3).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يصلي أحدكم وبه أحد العنصرين، يعني: البول والغائط »(4).

أي حتى يزيلهما ويتطهر من جديد ويصلّي.

الخامس: ليدرك فضيلة الجماعة، والمسجد، وحضور القلب، ولدرك كلّ فضيلة وكمال، ما لم يفض إلى الإفراط في التأخير.

السادس: المستحاضة الكبرى، لها أن تؤخر الظهر لتجمعها مع العصر

ص:215


1- الوسائل، باب 62 من أبواب المواقيت، الحديث 3-4.
2- الوسائل، باب 8 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث: 2؛ أمالي الصدوق: ص 498، ح 12/683؛ المعتبر للمحقق الحلي: ج 2، ص 262؛ المحاسن لأحمد بن محمد البرقي: ج 1، ص 83.
3- الوسائل: باب 8 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث: 3-8؛ تذكرة الفقهاء: ج 3، ص 298؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 2، ص 326، ح 1333.
4- المحاسن لأحمد بن محمد البرقي: ج 1، ص 82، ح 14.

بغسل واحد، وتؤخر المغرب لتجمعها مع العشاء كذلك.

السابع: المغرب والعشاء لمن أفاض من عرفات إلى المشعر، فله أن يؤخرهما ولو إلى ثلث الليل فيجمع بينها، وهذه من السنة المؤكدة ففي صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما لا تصلِّ المغرب حتى تأتي جمعاً(1) وإن ذهب ثلث الليل(2) ونحوه موثقة سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام(3).

الثامن: صلاة المغرب لمن ينتظره قومٌ صوّم يخشى أن يجسمهم عن إفطارهم، أو هو تشتاق نفسه إلى الإفطار وتنازعه. كما في صحيح الحلبي وحديث الفضيل وزرارة(4).

التاسع: من أتى بأربع ركعات من صلاة الليل أو أكثر، فدخل الفجر، فله أن يتم وتره مخففة ثم يصلي الفجر، ما لم يسفر الصبح أو تغور النجوم(5) ، ونافلة الفجر أفضل من الوتر.

العاشر: صلاة المغرب للمسافر حتى يغيب الشفق، أو إلى ربع الليل، أو إلى ثلثه، بل مطلق الصلاة لمطلق المسافر المستعجل(6) ، بل ولمطلق الاعتذار

ص:216


1- جمعاً: الجمع هو المشعر الحرام، ويسمى، أيضاً: المزدلفة.
2- الوسائل، باب 5، من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث: 1-2؛ روض الجنان للشهيد الثاني: ص 186؛ منتهى المطلب للعلامة الحلي: ج 2، ص 723.
3- منتقى الجمعان للشيخ حسن صاحب المعالم: ج 3، ص 353.
4- الوسائل، باب 7 من أبواب آداب الصائم، الحديث 1-2.
5- الوسائل، الباب 47-48 من أبواب المواقيت.
6- الوسائل، الباب 19 من أبواب المواقيت.

والاضطرار(1).

فجميع هذه الموارد قد وردت في الشريعة المحمدية عن طريق العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.

وقد ورد في التاريخ والسيرة العطرة لسيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد أمر المسلمين بتأخير الصلاة في غزوة خيبر.

فضلاً عمّا لما ذكر فإن إدخال السرور على قلب المؤمن من السنن المستحبة المؤكدة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أفضل الأعمال بعد الفرائض إدخال السرور على قلب المؤمن»(2).

ومن المؤكد إن رؤية الوجه النوراني المشرق باللطف الرحماني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المسرات على قلب المؤمن ولاسيما زوجته الحبيبة خديجة الكبرى، وقد طال بها الانتظار لرؤياه وحدا بها الشوق لملقاه وألمها الحنين لعذوبة صوته وحلاوة منطقه.

ومما لا شك فيه إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ به الشوق والحنين إلى حبيبته وأم ولده سلام الله عليها، فما تأخير الصلاة عن أدائها في أول أوقاتها مع جميع هذه العلل الراجحة والحال التي عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ من باب العناية الإلهية بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:217


1- أنظر: اجماعيات فقه الشيعة للفقيه المحقق إسماعيل الحسيني.
2- أعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي: ص 254.

المسألة الرابعة: انتقال النور الفاطمي إلى الأرض الطاهرة

اشارة

نكمل إن شاء الله تعالى في هذا المبحث رحلة النور الفاطمي والفيض الأقدس، لكوثر الخير، وحوض اليمن، ونسمة الطهر فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، ومراحل تنقل هذا النور الإلهي من تحت ساق العرش واشراقه في قناديل معلقة وانتقاله إلى الجنة فأودعه الرحمن في ثمارها ليستلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضمن مرحلتين، كانت الأولى في الجنة، وكانت الثانية في الأرض من يد جبرائيل عليه السلام لتقر الوديعة الإلهية في قرار النبوة وصلب الرسالة وعمود الوحي وروح الشريعة، ثم ينتقل هذا النور الإلهي المودع في النطفة الزكية الفاطمية في أرض الطاهرة خديجة الكبرى سيدة النساء بعد فاطمة المحمدية.

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً)1 .

لتنمو في تلك الأرض الطاهرة المطهرة المعدة لاستقبال النور الإلهي فتنال بذلك ما لم تنلْه امرأة من العالمين، فأي رحمٍ حوى مثل فاطمة المطهرة... وأي بطن نما فيه مثل البضعة الطاهرة ؟!!

ولقد ذكرنا في المبحثين السابقين حديث خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة التي نزل بها جبرائيل بعد أن اعتزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة أربعين يوماً.

وفي هذا المبحث نكمل ما بقي من هذا الحديث لاختصاصه بما تصدره من عنوان، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

ص:218

«قالت خديجة رضوان الله تعالى عليها: وكنت قد الفت الوحدة - بسبب اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها هذه المدة - فكان إذا جنني الليل غطيت رأسي، واسجفت ستري، وغلقت بابي، وصليت وردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي، فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمشبهة، إذ جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرع الباب، فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟.

قالت خديجة عليها السلام: فنادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإني محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.

قالت عليها السلام: فقمت فرحة مستبشرة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتحت الباب ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنزل وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه، فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى حسست بثقل فاطمة في بطني»(1).

ص:219


1- الأنوار البهية للشيخ عباس القمي: ص 56؛ العدد القوية لعلي بن يوسف الحلي: ص 222، ح 14؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 21؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 453.

دلالات البحث في الحديث:

أولاً: (المنهاج التربوي الأسري عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم)

هنا في هذا الحديث تظهر لنا أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها أحدى الصور المشرقة عن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرية، فهو المعلم الأول في الحياة المدنية المتحضرة.

وهذه الصورة كانت تحكي عن جانب من الجوانب العديدة في الحياة الأسرية، والذي يمتاز بالأهمية الكبيرة والتأثير النفسي على الأسرة وهو أحد المناهج التي تنمو من خلالها الأسرة ولتنتج أبناء صلحاء نافعين لأنفسهم ولمجتمعهم.

ولذلك، كيف يكون الأسلوب الذي يقوم به الزوج عند دخوله البيت ؟

هنا في هذه اللحظات القليلة والدقائق المعدودة ينظر الجميع ببالغ الأهمية لما يقوم به الأب من أفعال وينصتون إلى ما يخرج من فمه من كلمات، فإذا كانت مظاهر التعب والضجر واضحة على الأب انعكس ذلك على الزوجة والأولاد ولاسيما لو كانت في الأسرة بنيات فهن الأسرع تأثراً بهذا المنظر والأكثر شعوراً لما يظهر على الوالد.

ومن هنا: فإن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدخل إلى البيت بهذا الشكل الذي نقلته هنا زوجته الحبيبة البارة المخلصة الوفية بهذه الكلمات: «وكان إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه».

ص:220

وهنا يظهر بشكل واضح هذا المنهاج التربوي الأسري الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالأب الذي يبدأ مشواره الأسري بالوضوء والصلاة فإنه يضفي على زوجته وأولاده الطمأنينة والسكينة والرحمة، فأي هو أروع من هذه الأجواء الرحمانية ؟! وأي أثر يتركه هذا الاسلوب في نفوس الأولاد والزوجة ؟! وهو في نفس الوقت يعلمهم أهمية الصلاة وأنها المفتاح الذي يجب عليهم أن يفتتحوا به خطوات حياتهم، فيتمسكوا بها ويستعينوا بها ويكونوا مصادقاً لقوله تعالى:

(وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ )1,2 .

ثانياً: المنهاج التربوي في العلاقة الزوجية

ثم تمضي سلام الله عليها لتبين لنا صورة أخرى من الصور التعليمية في جميع جوانب الحياة الدنيوية والأخروية.

وهنا تنقلنا السيدة خديجة في رحاب العلاقة الزوجية لتشير إلى أهم الأسس التي يعتمد عليها قيام البيت وهي صمام الأمان في الحياة الأسرية، فكم من أسرة تهدمت، وكم من علاقة زوجية فشلت وكم من أطفال ضيعت وكانت هي الضحية، بل هي التي دفعت فاتورة الاسلوب الفاشل الذي يفتقده الأب في كثير من العلاقات الزوجية الأسرية كحالات منفردة متعددة.

ص:221

وعندما نقول الأب لأسباب كثيرة منها القيمومية التي لدية والقدرة في التحكم في شؤون الحياة الأسرية وغيرها.

ومن هنا فإن السيدة خديجة سلام الله عليها تصف لنا هذه العلاقة الزوجية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الرقيقة والمنطق العذب والرقة والعاطفة والحب الكبير لهذا الزوج مع الحفاظ على العفة المحاطة بهذه الكلمات، والحشمة التي تفوح من هذه الألفاظ ، قالت سلام الله عليها:

«فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني، وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها».

فهذه الكلمات على قلتها قد كشفت أحد السنن النبوية في آداب المعاشرة الزوجية وتظهر بشكل كبير الأجواء العاطفية التي ينبغي لكل زوج أن يتعلمها ويستسن بها، لأن هذا التعامل يجمع الشفافية في الاسلوب، والجمال في المبادرة لاستجلاب عاطفة المرأة وتحريكها واستدرار حبها.

ومن هنا فهذا المنهاج التربوي من أهم المناهج التي تدوم بها الحياة الزوجية وتستمر من خلالها العلاقة الزوجية.

وقد اعتمد طب النفس الأسري في كثير من البحوث والدراسات على هذا المنهاج ووضعه كمنهاج يعتمد عليه قيام الرابط الأسري وهو أحد الأسس التي يقوم عليها دوام العلاقة الزوجية، وكم نحن اليوم بحاجة إلى مراجعة تلك السنن النبوية ومعرفة الآداب المحمدية في مختلف ضروب الحياة ولا سيما في الجانب الأسري كأزواج وآباء وإخوان وأبناء.

ص:222

ثالثاً: (الإحساس بثقل فاطمة عليها السلام)
اشارة

إن إحساس السيدة الطاهرة والصديقة الجليلة أم الزهراء صلوات الله عليها بثقل فاطمة عليها السلام، هو خلاف العادة البشرية، وعملية الإحساس بثقل الجنين يتحدد عند الأم بعد الشهر الرابع للحمل.

أمّا بالنسبة للسيدة خديجة عليها السلام فإن إحساسها بثقل فاطمة عليها السلام عائد إلى النطفة الزكية الحاملة للنور الفاطمي وهو كإحساس السيدة مريم عليها السلام بعد أن تمثل لها روح القدس عليه السلام بشراً سويا فإحساسها بثقل فاطمة إنما هو من نور فاطمة وكونها من عصارة دار الآخرة وخلاصة نعيمها الممزوج بعرق روح القدس وزغبه وهو حامل الوحي والفيض الإلهي.

الحديث الثاني

عن زيد بن أسلم عن أبيه عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لما أن مات ولدي من خديجة، أوحى الله إلي أن أمسك عن خديجة وكنت لها عاشقاً، فسألت الله أن يجمع بيني وبينها، فأتاني جبرائيل في شهر رمضان ليلة الجمعة لأربع وعشرين ومعه طبق من رطب الجنة فقال لي: يا محمد كل هذا وواقع خديجة الليلة، ففعلت فحملت بفاطمة، فما لثمت فاطمة إلاّ وجدت ريح ذلك الرطب وهو في عترتها إلى يوم القيامة»(1).

ص:223


1- مقتل الحسين للخطيب الخوارزمي: ج 1 ص 68 الفصل الخامس نقلاً عن كتاب فضائل

دلالات البحث في الحديث:

أولاً: تعين ليلة انعقاد النطفة النورانية التي خلقت منها أم الأئمة

في هذا الحديث نجد هناك تحديداً لليلة التي انعقدت فيها النطفة الزكية لفاطمة صلوات الله عليها وهي ليلة الجمعة من شهر رمضان الواقعة في الليلة الرابعة والعشرين منه، وهذا التوقيت الدقيق لانتقال النور الفاطمي إلى رحم خديجة عليها السلام في غاية الاهتمام الرباني والعناية الإلهية، إذ لا يخفى أن العشر الأواخر من شهر رمضان هي أفضل لياليه وإن كل ليلة من هذه الليالي يطلب العباد فيها التوفيق لليلة القدر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«اطلبوها في العشر الأواخر»(1).

إضافة إلى فضل ليلة الجمعة على الليالي، فسبحان من قدّر لها هذا التقدير وهيأ لها هذا الوقت المحفوف بالبركات ونزول الفيوضات الرحمانية!

وعليه: فإن ولادتها الميمونة السعيدة تكون في شهر جمادى الآخرة وهو ما اشتهر في ميلادها ومطابقٌ لما نصت عليه الروايات الواردة عن العترة النبوية صلوات الله عليهم أجمعين.

ص:224


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 2، ص 395، في ليلة القدر، ح 11؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 8، ص 633، ليلة القدر، ح 24486؛ تفسير الثعلبي: ج 10، ص 252؛ مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ص 467، ح (8669) 4.
ثانياً: القاسم وعبدالله عليهما السلام ولدا وماتا في الإسلام

هذا الحديث يحمل دليلاً آخر لما قدمناه في الجزء الأول من هذا الكتاب الذي بحثنا فيه حياة أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلنا: إن حقيقة أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ثلاثة فقط ، ولدان وهما القاسم وعبد الله وقد ولدا وماتا في الإسلام وفيهما قال: العاص بن وائل السهمي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعوه فإنه مات ولده فهو أبتر، فأنزل الله تعالى فيه:

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)1 .

وبنت واحدة هي فاطمة صلوات الله عليها والحديث واضح وضوح الشمس أن الله منَّ على نبيه الأعظم بفاطمة بعدهما، فكانت كوثر ذريته وأولاده وهو قوله تعالى:

(إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ)2 .

إذن: دلت هذه الأحاديث على مجموعة من الحقائق وهي كالآتي:

1 - أن خلق فاطمة من ثمار الجنة هي حقيقة نصت عليها الأحاديث الشريفة الواردة عن العترة النبوية، وقد كانت على مرحلتين، الأولى في السماء في رحلة الإسراء والمعراج، والثانية في الأرض بعد نزول الأمر الإلهي للنبي بالاعتزال أربعين يوماً.

2 - أن الليلة التي خلقت فيها بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد

ص:225

رافقتها تشريفات خاصة من نزول الملائكة المقربين إلى الأرض وإطعام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطعام الجنة فضلاً عن تحديد الزمن الذي كانت فيه هذه الانتقالة وهي الليلة الرابعة والعشرون من شهر رمضان وأنها ليلة الجمعة وهذا كله يكشف جانباً من منزلة فاطمة الزهراء عليها السلام عند الله تعالى وما اختاره الله تعالى لحفظ شريعته وحججه على خلقه وهم أولاد فاطمة عليها السلام.

المبحث الثالث: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟

اشارة

عن حماد بن عيسى، عن زرعة بن محمد، عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟ فقال عليه السلام:

«نعم، إنّ خديجة عليها السلام لما تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هجرتها نسوة مكة فكن لا يدخلن عليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها فاستوحشت خديجة لذلك وكان جزعها وغمها حذراً عليه صلى الله عليه وآله وسلم فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة عليها السلام تحدثها من بطنها وتصبرها وكانت تكتم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل رسول الله يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة عليها السلام فقال لها:

يا خديجة من تحدّثين ؟.

قالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني.

ص:226

قال: يا خديجة هذا جبرئيل يبشرني أنها أُنثى، وأنها النّسلة الطاهرة الميمونة وأنّ الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه»(1).

مسائل البحث في الحديث:

المسألة الأولى: إن فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها

إن من السنن التي سنها الله عز وجل في هذا الكون أن جعل آيات وعلامات ومعاجز ترافق سيرة رسله وأنبيائه وأوليائه، وكلما عظمت منزلة الرسول أو النبي أو الولي وعلا شأنه ودنا قربه وأكرم محله كلما كانت هذه الآيات والدلائل والمعاجز التي ترافقه أعظم وأكبر وأدل وآثر وأبلغ تأثيراً في العقل البشري، قال عز وجل:

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ )2 .

ولذلك نجد أن انشقاق القمر هو أعظم من فلق البحر، وأن القرآن أكبر وأدل وأبلغ من التوراة والإنجيل والزبور، وأن مما خص به خاتم النبيين هي فاطمة أم الأئمة الهداة الميامين وكان مما خص به الأئمة أنهم: (محدثون) وقد سأل زرارة بن أعين الإمام الباقر عليه السلام: «من الرسول ؟ ومن النبي ؟ ومن

ص:227


1- أمالي الصدوق: ص، البحار للمجلسي: ج 43، ص 2.

المحدث ؟ قال عليه السلام:

الرسول: يأتيه جبرائيل فيكلمه قبلاً فيراه كما يرى الرجل صاحبه الذي يكلمه، فهذا الرسول، والنبي: الذي يؤتى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السبات إذ أتاه جبرئيل هكذا النبي.

ومنهم من تجمع له الرسالة والنبوة، وكان رسول الله رسولاً نبياً يأتيه جبرائيل قبلاً فيكلمه ويراه ويأتيه في النوم، والنبي الذي يسمع كلام الملك حتى يعاينه فيحدثه، أما المحدّث فهو الذي يسمع ولا يعاين ولا يؤتى في المنام»(1).

وهذا الأمر هو من خواص عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالأئمة عليهم السلام كلهم «محدّث»، جاء ذلك عن الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام، وقد سمعه سليم بن قيس، يقول:

«إني وأوصيائي من ولدي مهديون كلنا محدثون.

فقلت: يا أمير المؤمنين من هم ؟ قال:

الحسن والحسين ثم ابني علي بن الحسين عليهم الصلاة والسلام.

قال: وعلي يومئذ رضيع ثم ثمانية من بعده واحداً بعد واحد هم الذين أقسم الله بهم فقال:

(وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ)2 .

ص:228


1- بصائر الدرجات للصفار: ص 393، ط منشورات الأعلمي، ايران؛ البحار: ج 26، ص 80.

أما الوالد فرسول الله وأما ما ولد يعني هؤلاء الأوصياء»(1).

أمّا بخصوص فاطمة عليها السلام فإنها كانت «محدّثة» وهو أحد أسمائها فهي تُحدّثها الملائكة وهو غير الوحي ولا يسمى بهذه التسمية وهو ما عليه أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام.

قال الشيخ المفيد في شرح عقائد الصدّوق رضي الله تعالى عنهما: هل الوحي هو الكلام الخفي ؟، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إلى إفهام المخاطب على الستر له عن غيره والتخصيص له به دون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل صلى الله عليهم خاصة دون سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى:

(وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ )2 .

فاتفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا مناماً وكلاماً سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص، وقال تعالى:

(وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ )3 .

يريد به الإلهام الخفي إذ كان خالصاً لمن أفرده دون ما سواه، فكان علمه حاصلاً للنحل بغير كلام جهر به المتكلم فأسمعه غيره.

ص:229


1- بصائر الدرجات: ص 392؛ البحار: ج 26، ص 79.

وساق رحمه الله الكلام إلى أن قال: وقد يُرى الله في منامه(1) خلقاً كثيراً ما يصح تأويله ويثبت حقه لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي ولا يقال في هذا الوقت لمن أطلعه الله على علم شيء: إنه يوحى إليه، وعندنا إن الله يُسمع الحجج بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كلاماً يلقيه إليهم في علم ما يكون، لكنّه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدمناه من إجماع المسلمين.

على أنه لا وحي لأحد بعد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يقال في شيء مما ذكرناه: إنه وحي إلى أحد، ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحياناً ويحظره أحياناً، ويمنع السمات بشيء حيناً ويطلقها حيناً، فأما المعاني فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدّمناه)(2).

فإذن اعتقادنا في عترة الهادي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، أن الله يُسمع الأئمة عليهم السلام كلاماً إليهم بواسطة الملائكة عليهم السلام وهو لا يسمى وحياً، لأنه لا يوحى لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام:

«إنما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأما النبوة فلا»(3).

وقال المجلسي رحمه الله في بيان الحديث: «أي إنما يجب عليكم أن تقوموا عندنا وتعكفوا على أبوابنا والكون معنا - أي الكينونة معهم - لاستعلام الحلال

ص:230


1- العبارة وردت كذا في المصدر، والصحيح: وقد يُري الله خلقاً كثيراً في منامه لكي يعود الضمير في (منامه) على (خلقاً).
2- تصحيح الاعتقاد: ص 56 و 57؛ البحار: ج 26، ص 83-84.
3- أصول الكافي للكليني: ج 1، ص 268؛ البحار للمجلسي: ج 26، ص 83.

والحرام لا أن تقولوا بنبوتنا، وإنما لكم أن تقفوا علينا في إثبات علم الحلال والحرام وإنّا نواب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ذلك لكم ولا تتجاوزوا بنا إلى إثبات النبوة»(1).

ومن هنا فإن تسمية فاطمة عليها السلام ب - «المحدّثة» هو لسماعها حديث الملائكة وهي تحدثها، وحالها كحال مريم بنت عمران عليها السلام قال الله تعالى:

(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ )2 .

وقد بيّن الإمام الصادق عليه السلام هذا المعنى فقال:

«إنما سميت فاطمة محدّثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها وإن الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين»(2).

ص:231


1- البحار للمجلسي: ج 26، ص 83.
2- علل الشرايع: ج 1، ص 182؛ البحار: ج 14، ص 206، من طريق: محمد بن الحسن

وفي حديث آخر: عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه، عن سعد ابن جبير، عن ابن عباس في حديث طويل في: (فضائل علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام) رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في فاطمة عليها السلام وما يصيبها من الظلم بعده:

«ثمّ ترى ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى بالملائكة، فتناديها بما نادت به مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض.....»(1).

ولم يقتصر الأمر على مريم فقط فقد حدثت الملائكة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام وهو قوله تعالى:

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ )2 .

فإذن: فاطمة عليها السلام: (محدَّثة) بفتح الحاء والدال وتشديدها، وهي: «محَدِّثة» بفتح الحاء وكسر الدال، أي هي التي كانت تحدث أمها خديجة عليها السلام وهي في بطنها كما جاء في الحديث.

ص:232


1- أمالي الصدوق: ص 177؛ البحار: ج 14، ص 205، برقم 22.

وهذا الأمر هو أحد معاجزها عليها السلام، وحاله كحال عيسى عليه السلام وحديثه مع أمه بعد الولادة قبل أن يكلم أحداً من قومه وهو قوله تعالى:

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)1 .

فإن قيل: إن هذا من مصاديق نبوته عليه السلام ودعوة أمه إلى التصديق به ؟! فما بال فاطمة عليها السلام ؟!.

قلنا: إن مريم كانت تؤمن به نبياً قبل نطقه بل قبل ميلاده وهو قوله تعالى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصّالِحِينَ )2 .

أما كون ذلك من مصاديق نبوته، فإن نطقه ابتداءً كان مع أمه مريم حينما أخبرها بهز النخلة كما دل عليه قوله تعالى:

(وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا)3 .

والحكمة فيه لتسليتها وذهاب حزنها ولإطعامها، ولذا فهي لم تكن بحاجة إلى نطقه حجةً ودليلاً على تصديقها بنبوته وقد أخبرتها الملائكة بأنه يكلم

ص:233

الناس في المهد، فضلاً عن أن الله تعالى قد أنطق طفلاً في مهده ولم يكن من النبيين كما في قصة نبي الله يوسف عليه السلام في قوله تعالى:

(وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها)1 .

فالشاهد كان طفلاً في المهد بل إن الناطقين في المهد أربعة هم: (شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون، وعيسى بن مريم، وصاحب جريج الراهب)(1).

أما اعتراض الفخر الرازي على هذا القول، وذهابه إلى أن شاهد يوسف عليه السلام كان ابن عم للمرأة، وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت إنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليه فقال: قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنّا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب... الخ» وإن هذا القول أولى من القول الأول لوجوه منها:

(إنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً، لأنه من البراهين القاطعة القاهرة، والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز)(2).

ص:234


1- التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 9، ص 126، ط دار الفكر، عن ابن عباس رضي الله عنه.
2- تفسير الفخر الرازي: ج 9، ص 126، ط دار الفكر.

قلنا:

وإن كان هذا الكلام صحيحاً أعني: «لا يجوز العدول عن الحجة القاطعة عند حصولها وحضورها إلى الدلالة الظنية» إلا أن هذه الحجة لا يمكن عدّها قاطعة لمجرد نطق الصبي قائلاً: (إنها كاذبة وهو صادق) لأن الاكتفاء بهذا اللفظ لا يحقق حجية القطع، فما أهون أن يتهم يوسف عليه السلام بالسحر! فتقول عندئذ المرأة إنه سحر الطفل فأنطقه بسحره، فلا حجة أصلاً لنجاته ولا برهان لصدقه، كما اتهم فرعون موسى بالسحر وأنه كبير السحرة.

ومن هنا تظهر حكمة الله عز وجل في إعطاء الدليل العقلي والقطعي لزوج المرأة بحيث لا يقبل الشك بالتحقق من جهة قدّ القميص، وإن هذا الدليل صادر من فم الطفل في المهد فهذا أعمق في الدلالة وأبلغ في الحجة وأمضى في القطع، لأن الأمر متعلق بعفة يوسف عليه السلام وإخلاصه وهو أعظم شيء يمتلكه الإنسان وبخاصة الدعاة إلى الله عز وجل، ولأن الأنبياء عليهم السلام أقصى ما اتهموا به السحر والجنون لكن لم يتهموا بعفتهم فهم أعف الخلق ومن هنا يظهر خطر المسألة وعظمها، فكان نطق الصبي والدليل الذي تفوه به قد حقق حجية القطع عند الملك بعفة يوسف عليه السلام.

فإن قيل: إن هذا الكلام يرد فيه إشكالٌ وهو: أنَ يوسف عليه السلام في هذه الحادثة لم يبعث نبياً بعد والمعاجز تحصل بعد بعث الأنبياء عليهم السلام ؟!.

قلنا: إن الإشكال مرفوع بأمرين:

ص:235

1 - إن من لطيف حكمة الله عز وجل أن جعل دلائل كثيرة ترافق الأنبياء عليهم السلام قبل بعثهم ليسهل على الناس التصديق بهم والاهتداء إليهم واتباعهم، كتظليل الغمامة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى الشام(1) ، والاستسقاء به وغيرها من الآيات الربانية.

وكموسى عليه السلام وسقيه بنات شعيب عليه السلام، وقد شاهد الناس قوته الخارقة أو إلقائه في البحر وعودته إلى أمه لترضعه، ونطق الصبي في المهد ليوسف، أو خروجه من البئر سالماً وغيرها من الدلائل والظواهر التي ترافق سيرة الأنبياء والرسل قبل بعثهم.

2 - قد نص القرآن الكريم على أن المتكلم هو صبي في المهد وليس رجلاً حكيماً ابن عم لها، كما ذهب إليه الفخر الرازي.

وهو قوله تعالى:

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّى حِينٍ )2 .

فلا يقال لكلام رجل حكيم بأنه آية من آيات الله عز وجل، وإنما يقال ذلك: عندما يحصل أمر خارق للعادة ومخالف لقوانين الطبيعة، أو هو مما يعجز عنه البشر، ففي هذه الأمور وعند حدوثها يقال لها: آية من آيات الله عز وجل، كما هو الحال في نطق الصبي وهو في المهد.

ومن هنا:

ص:236


1- سيرة ابن هشام: ج 1، ص 192، ط دار القلم.

فإن ما ورد في الحديث من أن: «(فاطمة كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها فتصبرها وتؤنسها).

هو: آية من آيات الله عز وجل التي يظهرها لأوليائه، ومما لا شك فيه أن أم المؤمنين خديجة عليها السلام هي من أولياء الله عز وجل، ومما لا شك فيه أن فاطمة أكرم عند الله من ابن ما شاطة بنت فرعون أو الشاهد الذي شهد ليوسف عليه السلام وهو في المهد، وهي بضعة أشرف خلق الله وسيدة نساء العالمين التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها.

ومن كانت بهذه المنزلة فما أهون على الله تعالى أن ينطقها وهي في بطن خديجة عليها السلام، أو أن تحدثها الملائكة كما كانت تحدث مريم بنت عمران عليها السلام.

المسألة الثانية: بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أنثى

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا خديجة هذا جبرائيل يبشرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه».

هذه الكلمات كانت من قبل جبرائيل عليه السلام وهي مما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاءت هذه الكلمات لتبين صفات هذه المولودة وتظهر خصائصها.

ص:237

وهو النهج الذي جاء به القرآن الكريم في تبشير الأنبياء السابقين بمن يأتي من بعدهم وبخاصة عندما يتعلق الأمر بدعوة نبيّ ، أو يكون النبي المبشر به هو من نسل نبي أيضاً، وهذه البشارات إنما بدأت من إبراهيم الخليل كما يعرضها القرآن الكريم، وهو من لطائف الحكمة الإلهية التي خصت إبراهيم عليه السلام بهذا النهج وابتدأت به وما ذاك إلا للإعلان عن البشرى الكبرى والرحمة العظمى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرآنه وعترته، وهما الثقلان اللذان أوصى بهما هذه الامة المرحومة به صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هنا فإن البشرى بدأت ببيت إبراهيم عليه السلام، قال تعالى:

(وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى )1 .

هذه البشرى كانت بامتداد النبوة من إبراهيم وجعلها في نسله وصولاً إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت البشارة تحمل معها أيضاً صفات هذا الغلام ولم تقتصر على غلام فقط وإن كان مجيئه بعد بلوغ سن الشيخوخة هو نعمة كبيرة فكيف إذا كان يحمل صفات عظيمة.

قال تعالى:

(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ )2 .

ص:238

وفي آية أخرى أضيفتْ صفة أخرى إلى هذا الغلام غير العلم وهي أنه: (حليم):

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ )1 .

فيكون هذا الغلام يحمل العلم والحلم، ثم ينتقل القرآن ليعطي صورة أخرى عن هذه البشرى ووصولها إلى أم هذا الغلام، وهي زوجة إبراهيم وسماعها للبشرى كان للأسباب التالية:

1 - رعاية لحق الأمومة، فالأم هي بحاجة أيضاً إلى سماع البشرى بحصول الحمل.

2 - سماعها حديث الملائكة مع إبراهيم عليه السلام يكشف عن منزلتها عند الله عز وجل وإن هذه المنزلة محفوظة ولأجلها كشف لها عن السمع فسمعت حوارهم وحديثهم، ثم هي تعلم أنهم رسل الله عز وجل؛ لأنها لاحظت عليهم كما لاحظ زوجها إبراهيم أن أيديهم لا تصل إلى الطعام، فلهذه المنزلة بشرت.

3 - لإخلاصها لزوجها وقيامها على خدمته والعناية به ورعايته، على الرغم من كبر سنها فهي أيضاً قد مستها الشيخوخة.

فضلا عن ذلك فإن من اللطائف الإلهية أن الملائكة اكتفت بذكر البشارة بمجيء الغلام فقط دون أن تذكر لها صفاته، واللطف الإلهي في ذلك يكشف عن حبها الكبير في أن ترى طفلاً ينمو في أحشائها ويربى في حجرها، أي إنها

ص:239

كانت في عطش كبير لسد حاجة الأمومة التي شعرت لسنين طوال أنها قد فقدتها وإلى الأبد، لكن رحمة الله تعالى أدركتها فبشرتها بإمداد هذا النسل، وأن الله سيجعل من ولدها هذا نبياً وهو يعقوب عليه السلام.

ثم تبيّن الملائكة: أن ذلك كله من رحمة الله وبركاته على أهل البيت.

قال تعالى:

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)1 .

ثم يستمر القرآن بالبشرى فبشر إبراهيم عليه السلام بمولود آخر وهو من الأنبياء أيضاً:

(وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ )2 .

ثم تنتقل البشرى من إبراهيم عليه السلام إلى زكريا:

(يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى )3 .

ص:240

وهذا النبي يحمل صفات عدة بُشِّرَ بها زكريا عليه السلام ومن بين هذه الصفات أنه مصدقٌ بالنبي الذي يعاصره وهو عيسى عليه السلام:

(أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً)1 .

فكانت أول هذه الصفات:

«التصديق بكلمة من الله» وهكذا إلى مريم عليها السلام وتبشيرها بعيسى:

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ )2 .

وعيسى يبشر بخاتمة البشارات وأصل ظهورها والعلة في تنقلها فيقول عز وجل في كتابه الكريم عن تبشير عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)3 .

بشرى المسيح أنت عنوان دعوته وقبله كل هادٍ صادق القدمِ (1)

حتى إذا بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن البشرى كانت في أمرين:

ص:241


1- أنوار الربيع لابن معصوم: ج 4، ص 333، والبيت للشيخ عز الدين الموصلي.

الأمر الأول: هو القرآن الكريم:

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ )1 .

وقوله تعالى:

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ )2 .

والأمر الثاني: هو عترته صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته الذين قال الله فيهم:

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)3 .

ثم أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للامة عظمها وخطرها وأنها نجاة المسلمين فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(1).

ص:242


1- تناقلت صحاح المسلمين ومسانيدهم ومستدركاتهم حديث الثقلين بطرق عدة وأسانيد جمة

وعدم افتراق أهل البيت عن القرآن حجة قاطعة في عصمتهم التي هي عدل عصمة القرآن.

ومن هنا يظهر معنى بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بفاطمة عليها السلام.

ومن هنا ندرك معنى صفاتها التي أعلنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين خديجة عليها السلام، وهو نفس البشارة التي جاء بها القرآن الكريم في ذكره للبشارة بولادة الأنبياء عليهم السلام وبيان صفاتهم.

ونحن لا نقول: إن فاطمة عليها السلام من الأنبياء، إلا أنها البضعة النبوية التي جعل الله نسل النبي المصطفى منها، وجعل من نسلها أئمة هداة مهديين خلفاء لله في أرضه بعد انقضاء وحيه.

ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم بعض صفاتها وهي:

«النّسمة، الطاهرة، الميمونة».

فهذه صفات ثلاث ذكرها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكل صفة لها معنىً خاصٌّ بها.

فأما معنى: (النّسمة)، فهي الروح أو النفس(1) ، فإذا أريد بها (الروح)

ص:243


1- لسان العرب لابن منظور: ج 14، ص 130، مادة: نسم.

فإن فيه معانيَ جمّة، ودلائل عظيمة، منها: (الحياة) فإن كل شيء لا روح فيه فلا حياة له، أو فيه؛ وهو إما جماد، وإما ممات.

والحياة هنا: هي حياة ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بوصفها الأصل في نمو ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها كان ظهور الأئمة؛ لأنها أمهم جميعاً عليهم الصلاة والسلام الذين أحيا الله بهم الدين.

وأما إذا أريد به: (النفس).

ففاطمة عليها الصلاة والسلام هي: (النفس المطمئنة)(1) ، ويمكن الاستدلال على ذلك بأمور:

1 - قد ورد في الحديث في ذكر أسمائها عليها السلام أنها (الراضية، المرضية)(2).

2 - الاطمئنان أصله الإيمان ومقره القلب، حتى إنه ارتبط به ارتباطاً وثيقاً.

ص:244


1- وهو قوله تعالى في سورة الفجر، الآيتان: 27 و 28 (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ...).
2- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج 3، ص 133، ط مطعبة الحيدرية، النجف؛ الأمالي للصدوق: ص 250، مؤسسة البعثة؛ عيون أخبار الرضا للصدوق: ج 1، ص 30، مؤسسة الأعلمي بيروت؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 178؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 9، ص 282، ط مؤسسة إسماعيليان؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 410 وج 2، ص 179، ط دار الأسوة.

قال تعالى:

(الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ )1 .

فقدم الإيمان على الاطمئنان لأنه الأصل، ولولاه لم يحدث الاطمئنان.

وبالإيمان يثبت القلب أي يكون مستقراً فلا تؤثر فيه الكروب النازلة أو الحوادث المكرهة.

قال تعالى:

(إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ )2 .

ومن هنا فإن من كان الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها(1) ، كانت كل ذرة في ذاتها وكيانها تنطق إيماناً وتشع اطمئناناً.

وعليه: فإنها عليها السلام كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (النّسمة) أي: (النفس المطمئنة).

ولا تعارض في أن يكون هذا حال الأئمة عليهم السلام لكونهم حجج الله على خلقه وأمناءه على شرعه.

ص:245


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 153-154؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 401، برقم (1001)؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 56-57 ط دار الجبل؛ الثغور الباسمة للسيوطي: ص 30، برقم 42؛ وقال: إسناده حسن مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 203، وقال: إسناده حسن؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 7، ص 1224.

المبحث الرابع: (فأجاءها المخاض)

اشارة

وبعد أن حملت الصديقة الطاهرة، أم المؤمنين خديجة الكبرى سلام الله عليها بالنطفة الزكية النورانية المحمّدية ونمت فاطمة سلام الله عليها في أحشاء خديجة تسعة أشهر إلاّ أربعة أيام؛ إذ إنّ ليلة انعقاد النطفة النبوية كانت ليلة الرابع والعشرين من رمضان المبارك، وها هو اليوم العشرون من جمادى الآخرة وفيه بدت آلام المخاض على أم المؤمنين خديجة عليها السلام:

«وحانت ولادتها فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً فاغتمت خديجة عليها السلام لذلك.

فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنهن من نساء بني هاشم ففزعت منهنَّ لما رأتهنَّ فقالت إحداهنَّ : لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك»؟!

أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة عليها السلام طاهرة مطهرة.

فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النّور حتى دخل بيوت مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور.

ص:246

ودخل عشر من الحور العين كلّ واحدة منهنَّ معها طشت من الجنة، وإبريق من الجنّة، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاًَ من اللّبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر فلفتها بواحدة، وقنعتها بالثانية.

ثم استنطقتها فنطقت فاطمة عليها السلام بالشهادتين وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن أبي رسول الله وأن بعلي سيّد الأوصياء وولدي سادة الأسباط .

ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة منهن باسمها وأقبلن يضحكن إليها وتباشرت الحور العين وبشر أهل السماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة عليها السلام، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك.

وقالت النسوة: خذيها يا خديجة، طاهرة، مطهرة، زكية، ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة والقمتها ثديها فدّر عليها، فكانت فاطمة عليها السلام تنمي في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر وتنمي في الشهر كما ينمو الصبي في السنة)(1).

دلالات البحث في الحديث:

بعد أن تناولنا الأحاديث السابقة وبينا بعض دلالات البحث فيها والتي بدا بعضها موسعاً بسبب أهميتها فإني وجدت أن أشير إلى بقية الدلالات في الأحاديث القادمة على نحو الاختصار معتمداً على ذكر الإشارة في البعض منها، ومحاولاً عدم الإطالة فيها إلا ما ألزمتني الضرورة في ذلك من قبيل

ص:247


1- أمالي الصدوق: ص 69، ط مؤسسة البعثة، البحار للمجلسي: ج 43، ص 2، ح 1.

المسؤولية الشرعية في بيان حقائق الأحداث أو لتكامل حلقات البحث بحيث لا يمكن ترك بعضها لأنه يسبب حدوث فراغ ذهني أو حلقة مفقودة.

المسألة الأولى: الحكمة في ذكر الرفقة لآسيا مع خديجة في الجنة

(لماذا ذكر الإمام الصادق عليه السلام الرفقة لآسية مع خديجة في الجنة ولم يذكرها لبقية النساء وهنَّ جميعاً في الجنة)؟!

الوجه الأول في ذلك: أن آسية بنت مزاحم كانت قد سألت الله أن يبني لها بيتاً في الجنة:

(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ )1 .

إن خديجة بنت خويلد سلام الله عليها كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(1).

كما أن البيت الذي سألت الله آسية أن يبنيه لها هو بجوار بيت خديجة، وبهذا تكون رفيقة لخديجة في الجنة.

ص:248


1- البحار للمجلسي: ج 16، ص 8، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ صحيح البخاري: ج 4، ص 231، ط دار الفكر - بيروت؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 224، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 7، ص 302، ط دار الكتب العلمية بيروت؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 438، ط دار الكتب العربي - بيروت؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 101، ط دار الكتب العلمية - بيروت.

الوجه الثاني: هو أن آسيا بنت مزاحم كانت بسبب إخفائها إيمانها تتعبد بمنهج الاعتزال من قومها، بل حتى مع أقرب الناس إليها بما تفرضه الحياة الزوجية عليها من اختلاط وتقارب إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تعتزل هذه الدنيا، وكذا كان حال خديجة عليها السلام فقد اعتزلت الحياة الدنيا والتجأت إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عما فرضه المشركون رجالاً ونساءً من حصار وعزلة على خديجة كما أظهره الحديث.

المسالة الثانية: ما هي العلاقة بين صفة نساء بني هاشم وبين النساء اللاتي دخلن على خديجة عند ولادة فاطمة عليها السلام ؟

(لماذا كان دخول النساء على خديجة عليها السلام بصفة نساء بني هاشم، وهل له علاقة بفاطمة عليها السلام)؟!

إن لدخول النساء الأربع اللاتي جاء ذكرهنَّ وتعريفهنَّ في الحديث الشريف للإمام الصادق عليه السلام بصفة نساء بني هاشم له عدة أوجه، منها:

1 - لأفضلية بني هاشم وشرافتهم على سائر قبائل العرب، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم»(1).

ص:249


1- أخرجه مسلم في صحيحه عن وائلة بن الأسقع: ج 7، ص 59، باب: في معجزات النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم.

2 - من الطبيعي أن امتناع نساء قريش عن المجيء إلى خديجة عليها السلام، ترك في نفسها الحزن والشعور بالوحشة، وأن دخول النساء عليها وهنّ على غير الهيئة والصفة التي لنساء قريش وبخاصة بني هاشم يزيد في فزعها عند رؤيتهنَّ مما يؤدي إلى التسبب في زيادة آلامها وهي في وضع لا يسمح أن تضطرب فيه نفسيتها.

بل بحاجة إلى السكينة والطمأنينة لتسهيل الولادة، فدخولهنَّ عليها بهيأة نساء بني هاشم كان خوفاً عليها وعلى مولودها النبوي الفاطمي صلوات الله عليها.

3 - من المفروض أن يستجيب الأقرباء إلى تلبية نداء المحتاج للمعونة من أقربائه وخديجة هي أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ إنها تتصل معه بالجد الرابع وهو قصي بن كلاب فبنو هاشم هم أولى برعاية خديجة عليها السلام وهي في حال كهكذا من المخاض.

وهذا يكشف عن الرعاية الإلهية واللطف الرحماني بخديجة كي تشعر بأن أهلها معها.

المسألة الثالثة: ما معنى دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة عند ولادتها؟

(ما المقصود من دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور)؟!

ص:250

والجواب من وجهين:

الوجه الأول: هو إشارة إلى دخول الإسلام إلى جميع بيوت مكة وهذا معنى عام، ولكونها عليها السلام شجرة الإمامة.

الوجه الآخر: وهو الأقرب إلى القصد، فإن نورها الذي ملأ الشرق والغرب وأشرق في جميع مواضع الدنيا هو ولدها الإمام المهدي عجل الله فرجه.

«الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً»(1).

وهذا الامتلاء لا يتحقق معناه إلا بوصول العدل الإسلامي المحمدي العلوي الفاطمي إلى كل ذرة في الأرض، كما وصل نور فاطمة عليها السلام وأشرق في كل موضع في شرق الأرض وغربها.

المسألة الرابعة: نطق فاطمة عليها السلام بالشهادتين

هذا الأمر من خواص المعصومين عليهم السلام، وهو أحد الدلائل التي تدل على اختصاصهم بالعصمة الإلهية، والاصطفاء الرباني.

إذ إن المعصوم عليه السلام يبيّن بعد ذكره الشهادتين المهمة المكلف بها والدور الذي اختاره الله له، والأمر الموكل إليه، وشاهده من الكتاب الحكيم عن ولادة نبيّ الله عيسى عليه السلام:

ص:251


1- وهو حديث نبوي، أخرجه الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج 15، ص 253؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 4، ص 161؛ أنظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 1، ص 370، ح 316، (يملأ الأرض عدلاً وقسطا).

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا)1 .

بعد ذلك بيَّن عليه السلام الأمر الإلهي الذي كلف به:

(وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا)2 .

ولذلك:

فإن الزهراء فاطمة عليها السلام بعد أن ذكرت الشهادتين، ذكرت الولاية لعلي بن أبي طالب وبأنه سيد الأوصياء وأن ولديها سادة الأسباط ، ومن هذا الكلام تظهر عليها السلام الجعل الإلهي لها فقد جعلها الله تعالى: (زوجة سيد الأوصياء) و (أم سادة الأسباط ).

ثم قامت عليها السلام، بالسلام على جميع مَن حضرْنَ للتشريف بولادتها وتسميتهن بأسمائهنَّ لأنها عليها الصلاة والسلام سيدتهنَّ ، فهي: (سيدة نساء العالمين)(1) والحور من نساء العالمين.

ص:252


1- أخرجه الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 156، ط دار المعرفة - بيروت؛ والديلمي في مسند الفردوس: ج 3، ص 145، حديث 4388، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 110، حديث 24232؛ الجمع بين رجال الصحيحين للعتسراني: ج 2، ص 611، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 56، ط دار الجيل - بيروت؛ الجامع من المقدمات لابن رشد: ص 66، ط دار العرفان؛ وسوف نورد المزيد من المصادر في باب: (منزلة فاطمة في السنة النبوية).

المسألة الخامسة: مكان ولادة فاطمة عليها السلام

إنّ الموضع الذي ولدت فيه فاطمة عليها السلام يعدّ من المواضع التي يتقرب بها المؤمنون إلى الله عز وجل، ومنها يتوجهون إليه بالدعاء لقضاء حوائجهم، وقد دلت النصوص التاريخية وواقع حال المسلمين في زيارتهم للأماكن المقدسة في مكة المكرمة وما عليه فقهاؤهم قبل مجيء الوهابيين إلى الحكم هو أن دار أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها وهو البيت الذي ولدت فيه فاطمة عليها السلام كان من الدور المخصوصة للعبادة ويقصدها الناس بالزيارة(1).

وكيف لا وهي بيت النبي الذي تزوج فيها وعاش أكثر من أربع وعشرين سنة حتى هاجر عنها إلى المدينة وفيها رُبّيَتْ الزهراء وفيها زغب جبرائيل وعرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها مهبط الملائكة ومحل عروجهم وبين جوانبها نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعبده وموضع تهجده.

فجميع هذا وغيره هو مما حظى به دار خديجة أم المؤمنين سلام الله عليها، حتى عرف اليوم بموضع مولد فاطمة صلوات الله عليها؛ لعظم هذا التشريف، ولخصوصية ولادة البضعة النبوية والشجنة المحمدية.

وعليه؛ فإن فاطمة الزهراء قد ولدت في بيت أمها الصديقة الطاهرة حبيبة رسول رب العالمين وأم أولاده، فكان هذا الدار أحد المواضع المكرمة والمشرفة بالعبادة والزيارة والتوسل إلى الله تعالى.

ص:253


1- شفاء الغرام للحافظ أبي الطيب الفاسي: ج 1، ص 272، ط دار الكتب العلمية.

المبحث الخامس: إرضاع خديجة إياها (عليها السلام)

إن السبب الذي دفعني لإفراد بحث مستقل في رضاع فاطمة سلام الله عليها كان لارتباطه بالسيدة خديجة عليها السلام فضلاً عن أهمية حجر الأمومة وأثره الكبير في بناء شخصية الإنسان؛ إذ إن لبن الأم له تأثيرات بايلوجية وأخرى سايكلوجية.

فالأم التي تغذي وليدها بلبنها لا تنمي فيه الجانب التكويني الخلقي فقط بل هي تنمي فيه الجانب الخُلقي أيضاً فتورثهُ من صفاتها الأخلاقية الكثير من دون أن تشعر بذلك أو تريد، وهو ما أشار إليه حديث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الخصوص فقال:

«ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه»(1).

وقال عليه السلام:

«لا ترضعوا أولادكم عند المرأة الحمقاء فإن لبنها يعدي»(2).

أي إن هذا اللبن يحمل بين جزيئاته وبحسب لغة الطب الوقائي «جرثوماً»

ص:254


1- الكافي للكليني: ج 6، ص 40؛ من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 3، ص 475؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 8، ص 108.
2- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 2، ص 627، ط منشورات مكتبة المرتضوي؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 23، ص 376، ط مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين - قم؛ البحار للمجلسي: ج 100، ص 323، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ وسائل الشيعة (الاسلامية) للحر العاملي: ج 15، ص 188، ط دار احياء التراث العربي - بيروت.

أو «فايروساً» لكن لا يصيب الخلايا الجسمية إنما يصيب الخلايا العقلية، أو فلنقل المسؤول عن الإدراك والوعي في الدماغ، فيؤدي إلى نشوء طفل لا يحسن التصرف ولا يميز الأمور ولا يدرك بجدية ما يدور من حوله وبالنتيجة يتخرج من هذا الحجر الذي نما فيه وتربى عنده إنسان فاشل لا يشعر بالمسؤولية ولا يسعى لتحقيق أي هدف.

فكيف إذا أضيف له ما يتوارث من حجر الأم خاصة فهو وفي الوقت الذي يتناول فيه اللبن فإن آذانه تسمع ما تتلفظه هذه الأم وإن جهازه السمعي الباطني يسجل هذه الألفاظ في ذاكرة الدماغ فما إن يكبر الإنسان حتى يجد هناك أموراً كثيرة تدفعه وتحرك مشاعره إما إلى الخير وإما إلى الشر، وهو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»(1).

وعليه كيف يمكن أن يتحقق معنى التحصيل للعلوم فيما لو كان هذا الجهاز معطلاً أي الجهاز السمعي الباطني عند الطفل والذي أسماه القرآن الكريم: (الأذن الواعية)(2).

ص:255


1- العلم والحكمة في الكتاب والسنة لمحمد الريشهري: ص 206، 207، ط مؤسسة دار الحديث - قم؛ كشف الظنون لحاجي خليفة: ج 1، ص 51، ط دار احياء التراث العربي - بيروت، أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 4، ص 112، ط دار التعارف - بيروت.
2- مناقب الإمام أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 158، ط مجمع إحياء الثقافة الإسلامية - قم؛ معاني الأخبار للصدوق: ج 9، ص 59، ط مؤسسة النشر

وهذه الأذن الواعية تتجلى بأكبر صورها وأعلى قدرتها عند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعند الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، وقيل إنها نزلت في علي بن أبي طالب سلام الله عليه خاصة(1).

وعليه:

فإن البضعة النبوية المحمّدية وكما مر علينا سابقاً كانت تسمع وترى وتجيب على ما كان يدور من حولها، وهذه إحدى خصائص من اجتباهم الله عز وجل لرسالته وجعلهم تراجمة وحيه ولسان توحيده، والدالين عليه والهادين إليه سلام الله عليهم أجمعين.

ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى الخصائص والمزايا التي يشترك بها بنو آدم معهم؛ لنبين أنها حتى من هذا الجانب فقد خصها الله بما لم يخص به أحداً من العالمين.

ص:256


1- مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 158، ط مجمع إحياء الثقافة الاسلامية؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي: ج 3، ص 137، ط المكتبة المرتضوية؛ البحار للمجلسي: ج 35، ص 329، مؤسسة الوفاء - بيروت؛ تفسير فرات الكوفي لفرات بن إبراهيم الكوفي: ص 499، مؤسسة الثقافة والارشاد - طهران.

ومن بين هذه الخصائص التي تشرك فيها الزهراء مع بني آدم من جهة المثلية لهم أنها عليها السلام دخلت إلى حجر الأمومة كما دخلوا لكن حجر الأمومة الذي ربّيَتْ فيه فاطمة الزهراء ليس له مثيل على وجه الأرض.

إنه حجر أم المؤمنين الصديقة الطاهرة الزكية الجليلة هذه المرأة التي كانت مسكن خاتم الأنبياء، وأنس سيد المرسلين، ومأوى حبيب رب العالمين، وملجأ أشرف الخلق أجمعين.

فتأمل أيها القارئ الكريم عندما تكون الأم التي تروي طفلها وتغذيه بلبنها بهذه الصفات فكيف ينمو طفلها وأي صفات سيرثها؟!

وعندما تكون هذه الأم مأوى ووقى لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الشكل، فكيف ستكون لفلذة كبدها وسويداء قلبها وبخاصةً أنها فقدت طفلين من قبل فكيف ستحنو على هذه المولودة سلام الله عليها؟!

ومن هنا: نفهم لماذا أبت أم المؤمنين خديجة عليها السلام أن يرضع أحد من النساء فاطمة، وتولت هي رضاعتها(1).

وهذا فيه من العناية الإلهية الخاصة بأن جعل فاطمة تنمو في أحشاء خديجة سلام الله عليها وترضعها وتتولى رعايتها والإشراف عليها منذ اللحظات الأولى لولادتها.

فما إن انتهت مراسيم استقبالها وتغسيلها بماء الجنة ولفها بخرقة بيضاء

ص:257


1- طبقات ابن سعد: باب ترجمتها، السيرة النبوية لابن كثير: ج 4، ص 608، ط دار المعرفة - بيروت.

من الجنة كما مر بيانه، فتناولتها أم المؤمنين خديجة سلام الله عليها وهي فرحة مستبشرة وألقمتها ثديها فدر عليها فكانت فاطمة عليها السلام تنمو في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر، وتنمو في الشهر كما ينمو الصبي في السنة(1).

والحكمة في ذلك هو لكي يراها الناظر وهي على هيئة المرأة الكبيرة فيدرك وهو ينظر إليها تمشي وجلبابها يخط الأرض أن الذي يمشي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا أولاً.

أما ثانياً: فلكي تُعد إعداداً خاصاً لما ينتظرها بعد وفاة خديجة سلام الله عليها من العناية والرعاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكي تكون قادرة على خوض عملية بناء الإسلام مع أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ثالثاً: إقراراً لعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يراها وهي أمامه امرأة تحاكي هيئتها من كانت في العشرين فيسعد بها وهو يراها قد بلغت مبلغ النساء فيعيد بالنظر إليها تلك اللحظات السعيدة التي عاشها مع أم المؤمنين خديجة.

رابعاً: إن في ذلك حرباً على المنافقين وشوكةً في عيون الكافرين وقد وصفوا النبي من قبل بالأبتر بعد أن مات ولداه فهاهي فاطمة تنمو بأسرع مما ينمو به الطفل فتملأ الدار النبوي بهجةً وسروراً.

ص:258


1- بحار الأنوار: ج 43، ص 3، حديث 1، نقلاً عن الأمالي للصدوق.

المبحث السادس: تسميتها

إن من السنة المؤكدة استحباب اختيار الاسم الجميل للمولود، بل قد ورد في الحديث: استحباب اختيار اسم للمولود قبل ولادته(1).

ولقد كانت العرب قبل تشرفها ببعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسمي أبناءها بأسماء تكشف عن غلظة قلوبهم وحبهم للحروب، فكانت تختار ما يرمز إلى القوة والشدّة فذهبت إلى تسمية أبنائها بأسماء الحيوانات وبخاصة المفترسة ومنها الطيور الجارحة «كنمر، وأسد، وفهد، وصقر، وغيرها» وأيضاً ما كان يدل على الصلابة والتحدي: كصخر، وحرب، ومُرة... الخ.

فلما جاء الإسلام وظهر في مجتمع الجزيرة أخذوا يسمون أبناءهم بتسميات جميلة عملاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن»(2).

لكن قبل ذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يباشر بتغيير أسماء كثيرة كأبي بكر وكان اسمه قبل الإسلام عبد العزى فسماه النبي صلى الله عليه

ص:259


1- وسائل الشيعة (آل البيت عليهم السلام) للحر العاملي: ج 21، ص 387، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم؛ وسائل الشيعة (الإسلامية) للحر العاملي: ج 15، ص 121، ط دار احياء التراث العربي - بيروت؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 21، ص 331؛ الخصائص الفاطمية للشيخ محمد باقر الكجوري: ج 2، ص 569، انتشارات الشريف الرضي.
2- الآداب للبيهقي: ص 290، ج 604، ط دار الكتب العلمية.

وآله وسلم: (عبد الرحمن)(1) وكتغيير اسم زينب بنت أم سلمة وكان اسمها بترة (برة) فسماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (زينب)(2) ، وغير ذلك هم كثر.

ثم بعد ذلك أخذوا يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبنائهم فيضعونهم في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو لهم ويبارك عليهم ويسمي البعض منهم، وفي هذا الصدد فقد سجل التاريخ حادثة جرت لأحد هؤلاء الأطفال وهو «مروان بن الحكم» فما إن أدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظر إليه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«هو الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون»(3) ؟!

وتمر الأيام ويكبر هذا (الوزغ) وإذا به خليفة للمسلمين ؟!

فكيف يكون حال الإسلام والحاكم الذي تسلط على رقابهم قد لعنه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! والعجيب في الأمر أنك تجد صحاح المسلمين مليئة بأحاديث هذا الملعون على لسان النبي صلى الله عليه وآله

ص:260


1- سيرة الحلبي: ج 2، ص 414، ط دار المعرفة - بيروت؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 6، ص 152، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ فتوح البلدان للبلاذري: ج 1، ص 110، ط مكتبة النهضة المصرية - القاهرة.
2- الأدب المفرد للبخاري: ص 244؛ الآداب للبيهقي: ص 292.
3- ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج 2، ص 470؛ النصائح الكافية لابن عقيل: ص 76؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 479، ط دار المعرفة؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 276؛ السيرة الحلبية: ج 1، ص 510؛ جواهر المطالب: ج 2، ص 192؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 4، ص 196.

وسلم! والأعجب منه أن يصنفه البعض ضمن قائمة الصحابة ونظرية: «كلهم عدول» فأي عدلٍ هذا والرجل إنما هو «فضض من لعنة الله» أو «قصص من لعنة الله» كما صرحت بذلك عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).

والأمر لم يتوقف عليه فقد لعنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولعن أباه وولده جميعاً وهو ما رواه محمد بن سوقة الشعبي عن ابن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لعن الحكم وولده»(2).

وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه: (بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره كما تنزُّ القردة فما رُئي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستجماً ضاحكاً بعد هذه الرؤيا حتى توفي)(3).

ص:261


1- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 4، ص 481؛ فتح الباري لابن حجر: ج 8، ص 443؛ عمدة القاري للعيني: ج 19، ص 169؛ تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي: ج 3، ص 282؛ تفسير ابن كثير: ج 4، ص 172؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، ص 41؛ فتح القدير للشوكاني؛ تفسير الآلوسي: ج 26، ص 4؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 12، ص 277؛ جواهر المطالب لابن الدمشقي: ج 2، ص 192؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 469.
2- مستدرك الحاكم: ج 4، ص 481، ط دار المعرفة. والذهبي في التخليص مطبوع مع المستدرك: ج 4، ص 481.
3- كنز العمال للهندي: ج 6، ص 29، وص 39، وقال: أخرجه أحمد بن حنبل، والطبراني؛ المستدرك للحاكم: ج 4، ص 480، عن أبي ذر الغفاري ووافقه الذهبي عليه في تلخيصه.

وقد نزل جبرائيل عليه السلام بعد هذه الرؤيا بقوله تعالى:

(وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ )1 .

وهذه الشجرة الملعونة هم: (بنو أمية)(1).

ومن ذلك نعلم كيف أن الله ابتلى الإسلام بهم وجعلهم فتنة للناس، وهنا: جاء قوله تعالى بكلمة: (الناس) ولم يقل: «المسلمين»، لأن بلاءهم وأفعالهم أهلكت النسل والحرث ولم يسلم منهم أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم، لأنهم أشر الخلق لله تعالى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دغلاً»(2).

ومن هذا كله يستفاد أن مجيئهم بأولادهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو لحكمة خاصة، فيها الحجة البالغة، ليعلم المسلمون أن هذا المولود وذاك إنما حقيقتهم هي بهذا الشكل الشنيع حتى يتجنبوهم ويحذروهم، لكن

ص:262


1- التفسير الكبير للرازي: ج 10، ص 238، تفسير سورة الإسراء، ط دار الفكر - بيروت؛ تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 5، ص 309، ط دار الفكر، وقال: أخرجه ابن مردويه عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله يقول لجدك وأبيك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
2- المعجم الصغير للطبراني: ج 2، ص 136؛ مستدرك الحاكم: ج 4، ص 480؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 479.

هيهات هيهات فكثير من المسلمين آزروهم وناصروهم فنالوا بذلك إثم إعانة الظالمين وتحمل أوزارهم على الرغم من كشف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للامة حال مروان خاصة وبني أمية عامة وأظهر للمسلمين حقائقهم وما سيؤول إليه أمرهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن هذا سيخالف كتاب الله وسنة نبيه وسيخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء وبعضكم يومئذ شيعته»(1).

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

والشيء الثاني المستفاد من تغييره صلى الله عليه وآله وسلم أسماءهم: هو أن هذه الأسماء تؤثر من الناحية النفسية على الشخص الحامل للاسم غير الجميل.

وحديث سعيد بن المسيب يكشف لنا هذه الحقيقة، فعن عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال: جلست إلى سعيد بن المسيب فحدثني أن جده «حزناً» قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«ما اسمك»؟

قال: اسمي حزن.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«بل أنت سهل».

ص:263


1- مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5، ص 242؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 12، ص 336؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 57، ص 267؛ كنز العمال: ج 11، ص 166، برقم 31060.

قال: (ما أنا بمغير اسماً سمانيه أبي).

قال ابن المسيب: (فما زالت فينا الحزونية)(1).

بعد هذه الجولة التي بينّا فيها أحد مناهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تغيير هذه الامة ورفع مستواها الحضاري بعد أن كانت تعصف بها رياح الجهل والظلام فأنقذها الله بأبي الزهراء صلى الله عليه وآله وسلم.

نعود إلى رحاب أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسأل: من الذي سمى البضعة النبوية بفاطمة عليها السلام ؟!.

والجواب على هذا السؤال نسمعه أو نقرأه من خلال هذا الحديث الوارد عن العترة النبوية: فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«لمّا ولدت فاطمة عليها السلام أوحى الله عز وجل إلى ملك فأنطق به لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسماها: فاطمة»(2).

أما معنى هذا الاسم فقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن العترة المحمدية عليهم السلام لا يسعنا إيرادها هنا(3).

ص:264


1- الأدب المفرد للبخاري: ص 250، حديث 814، ط دار الكتب العلمية؛ الآداب للبيهقي: ص 291، حديث 610، ط دار الكتب العلمية.
2- علل الشرايع للصدوق: ج 1، ص 179، ط المكتبة الحيدرية، النجف؛ البحار للمجلسي: ج 34، ص 13، حديث 9، باب 2.
3- لقد قمنا بحمد الله تعالى في كتاب موسوعة فاطمة عليها السلام البحث في تفرعات هذا المبحث، وقد أشبعنا هذه العناوين بمزيد من الدراسة والتحقيق ونسأل الله أن نوفق لإكمالها وطباعتها.

المبحث السابع: عقيقتها

ان من السنن المستحبة التي ترافق المولود بعد ولادته هي العقيقة.

«والعقيقة» هي: الشعر الذي يولد به الطفل لأنه يشق الجلد، فيقال لهذا الشعر «عقيقة» وجعل الزمخشري: الشعر أصلاً، والشاة المذبوحة مشتقة منه.

وعقّ الرجل عن ابنه يعقّ : أي حلق عقيقته، أو ذبح عنه شاة(1) ، وفي التهذيب: يوم أسبوعه فقيده بالسابع، واسم تلك الشاة العقيقة(2).

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

في العقيقة عن الغلام شاتان مثلاً، وعن الجارية شاة.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى»(3)).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:

«عق عنده - أي المولود - وأحلق رأسه يوم السابع»(4).

والعقيقة شاة أو جزور تجتمع فيها شرائط الأضحية، وهي: السلامة من العيوب والسمن، والسن على الأفضل، ويجزي فيها مطلق الشاة(5).

ص:265


1- لسان العرب، لابن منظور: ج 9، ص 324، مادة: «عقق».
2- تهذيب الصحاح للزنجاني: ص 590، ط دار المعارف بمصر.
3- الجامع الصغير للسيوطي: ج 2، ص 665، برقم: «5959».
4- الوسائل: كتاب النكاح باب، 44، من أبواب أحكام الأولاد الحديث: 8.
5- اللمعة الدمشقية للشهيد جمال الدين العاملي: ج 5، ص 447، كتاب النكاح، أحكام الأولاد.

قال الإمام الصادق عليه السلام:

«انما هي شاة لحم، ليست بمنزلة الأضحية، يجزي منها كل شيء، وخيرها أسمنها»(1).

اما ما يخص البضعة النبوية عليها السلام، فقد عقت عنها السيدة خديجة عليها السلام بشاة(2) وإنها أطعمتها للمؤمنين عملا بالسنة وقصداً لحصول الأجر في ورود السرور عند الإطعام.

المبحث الثامن: فاطمة في حِجْرِ النبوة

المسألة الأولى: إن الله اصطفى لها ما لم يصطفِ لأحد من أوليائه

ان المراد بالحجر لغةً هو: «الحِضْنُ »، فيقال: حَجْرُ المرأة وحِجْرُها حِضْنُها(3).

وهنا عندما نقول: حَجْرُ النبوة، أي إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي احتضنها ورباها ضمن أصول النبوة، وقواعدها، ومناهجها.

فكان خلقها عليها السلام خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي خاطبه المولى قائلاً:

ص:266


1- الوسائل للعاملي: كتاب النكاح، باب: 45، من أبواب أحكام الأولاد الحديث: 2.
2- الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي: ج 2، ص 656، ط دار الكتب الحديثة؛ المختصر الكبير لابن جماعة: ص 83.
3- لسان العرب لابن منظور: ج 3، ص 57، مادة حجر.

(وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )1 .

وخاطب صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين قائلاً:

«لقد أدبني ربي فأحسن تأديبي»(1).

فأدب فاطمة وخُلقها هو: أدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلقه. حتى قالت عائشة: (ما رأيت أحداً أفضل من فاطمة غير أبيها)(2).

بعد هذه الإشارة في بيان الركنين الأساسين في نشأة كل إنسان وأقصد والديه، فإننا نرحل في سفينة الحب النبوي إلى بيت خديجة أم المؤمنين عليها السلام لترسو بنا سفينتا على سواحل أعتاب بيتها نلتمس الإذن في الدخول إلى رحاب البيت الذي كان سكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنبع الحنان والحب والمودة التي ملأتْ كل ذرة من كيان أم المؤمنين خديجة عليها السلام. لتهبها لزوجها وتبذلها له فما ادخرت جهداً وما بخلت بعطية، وما شكت ألما، ولا تبرمت من حال أنزله بها كفار مكة نساءً ورجالاً.

ص:267


1- البحار للمجلسي: ج 16، ص 210، ط دار إحياء التراث العربي - بيروت؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 11، ص 233، ط دار إحياء الكتب العربية؛ الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي: ج 1، ص 51، برقم 310، ط دار الفكر - بيروت.
2- الغدير للشيخ الأميني: ج 3، ص 25، ط دار الكتب العربي - بيروت؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 201، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ الاصابة لابن حجر: ج 8، ص 264، ط دار الكتب العلمية - بيروت؛ ينابيع المودة لذوي القربى، القندوزي: ج 2، ص 58، برقم 35، ط دار الأسوة.

فعندما يحيا الإنسان وتكون أيام طفولته في مثل هذه الأجواء المليئة بالحب والحنان والرحمة فمما لا شك فيه سيكون هذا الإنسان منبعاً لهذه الفضائل التي نمت عليها عروقه وتوغلت فيها جذوره.

ونحن وان كنا نعرض مثل هذه النقاط التي مع أهميتها الكبيرة لدى الباحثين وأصحاب الاختصاص في الحياة الأسرية والعلوم النفسية، إلا أننا لا نجعلها الأساس في تكوين شخصية فاطمة الزهراء عليها السلام.

إذ إن الملاك والضابطة في حياة الأولياء هو الاصطفاء الإلهي وهو مفاد قوله تعالى:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )1 .

ومع هذا الاصطفاء يكون الاصطناع الرباني، لقوله تعالى:

(وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)2 ،(فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى )3 .

فالصناعة ربانية، والاصطفاء إلهي، ومن كان الله قد اصطفاه لنفسه فلا تؤثر فيه قوى الشر ولا يمسه رجس الكافرين، وقد أعطى القرآن دليلاً - لمن كان يؤمن بالله تعالى ولمن كان بعيداً عنه - يثبت أن الظروف والعوامل التي تحيط بحياة الأنبياء والأولياء لا يمكن حملها على بقية حياة الناس وكيفية نشأتهم.

ص:268

وها هو نبي الله موسى الكليم تلقيه أمه وهي خائفة وجلة عليه من القتل فترميه في البحر ليسوقه جبرائيل إلى بيت عدو الله فيأخذه ويربيه ويتولى تنشئته، ولم يكن قصر فرعون وطغيانه وكفره مؤثراً في إيمان موسى عليه السلام.

أما سبب تأكيدنا على البيت الذي نشأت فيه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، فذلك من أجل معرفة العناية الإلهية الكبيرة، والاهتمام البالغ والتركيز على فاطمة عليها السلام.

لان الغاية والعلة التي خلقت لها فاطمة تستوجب هذا الاعتناء الرباني، وهذا الاهتمام الإلهي. ويكفيك من هذا بياناً بأنها (أم أبيها).

فالله قد اصطفاها، وحبيبه قد علمها ورباها، وحبيبة رسوله قد غذتها وأنشأتها.

المسألة الثانية: السنين الأولى لطفولتها وتأثيرها في أم المؤمنين خديجة عليها السلام

ان السنين الأولى لطفولة فاطمة عليها السلام كانت فيها عليها السلام قد أعادت بسمة الأمومة لخديجة، تلك البسمة التي لا تمنحها الأم إلاّ لطفلها الذي يتأمل بعينين مفتوحتين تلك التقاطيع التي ترافق وجه أمه وهي مبتسمة له وكأنها تسمعه باعذب الكلمات التي تعجز عنها لغات العالم.

فأي لغة يمكن ان تعبر عما ينطقه وجه الأم وهي تنظر لولدها وقد زينت وجهها هذه الابتسامة ؟!

إنها لغة لا يعلمها الا قلب هذا الطفل ولا يصدرها الا قلب الأم.

ص:269

وبخاصة عندما تتعامل أم كخديجة مع طفلها الجديد الذي انتظرته كثيراً بعد أن فقدت طفلين هما «القاسم وعبدالله عليهما السلام»، اللذين لم يعيشا طويلاً، بل إنهما لم يكملا رضاعهما فقد اختار الله لهما دار الآخرة.

ثم تبقى خديجة عليها السلام تنتظر رحمة الله عز وجل أن يمنّ عليها بحمل ومولود جديد ويطول بها المقام ويتأخر عليها الحمل، لحكمة أرادها الله عز وجل.

ومن هنا فإن حملها بفاطمة وولادتها قد أعادتْ عليها تلك الابتسامة التي كانت تطلقها فاطمة عليها السلام.

وكانت سنتا الرضاعة أياماً عاشتها فاطمة بالحب والرحمة والرأفة والحنان النبوي اللا متناهي، ومع هذا كله كانت تعيش أجواء السلام والطمأنينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مُحَصَناً منيعاً بعمه أبي طالب الذي دأب يحنو عليه ويذب عنه كيد قريش ويدفع عنه طغاتها.

فكانت هذه السنتان من عمرها المبارك مميزة ومليئة بالدفء والحنان والرحمة والحب والسكينة.

إلا أن هذه الأجواء لم تكن دائمة فقد تغير حال البيت النبوي بعد مرور عامين على ولادة فاطمة عليها السلام؛ إذ قد اجتمع المشركون وعزموا على فرض الحصار الاقتصادي والاجتماعي على بني هاشم رجالاً ونساءً وأطفالاً فقضت أم المؤمنين خديجة عليها السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنتها فاطمة عليها السلام هذه السنوات الثلاث حتى توفيت وقد تركت فاطمة وهي في الخامسة من عمرها (فإنا لله وإنا إليه راجعون).

ص:270

المحتويات

الفصل الثامن

خصائص دار خديجة عليها السلام في مكة

توطئة: البحث عن الهوية الإسلامية بين حضارتين 7

المبحث الأول: موقع دار خديجة الجغرافي 13

1. إنه في سوق الصباغين 14

2. إنه في شعب أبي طالب عليه السلام 14

3. إنه في زقاق العطارين 15

المبحث الثاني: صفة دار خديجة عليها السلام وفضله 16

المسألة الأولى: أقوال المؤرخين في بيان صفة دار خديجة وإظهار فضله وشرافته 16

المسألة الثانية: امتهان الوهابية لدار أم المؤمنين خديجة عليها السلام وتحويلها إلى دورات مياه!!! 21

المبحث الثالث: دار خديجة عليها السلام يشهد أهم الأحداث التي عاشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال ربع قرن 24

ص:271

المسالة الأولى: زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار خديجة عليها السلام وعيشه فيها 24

المسألة الثانية: نزول الوحي بسورة المدثر في بيت خديجة عليه السلام 25

المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلن تنصيب وصيه وخليفته من بعده في دار خديجة عليها السلام 27

المسألة الرابعة: إسلام الصحابة في دار خديجة عليها السلام 35

أولا: إسلام أبي ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه في بيت أم المؤمنين خديجة عليها السلام 36

ثانيا: إسلام أبي بكر عند بيت خديجة عليها السلام 38

المسألة الخامسة: إسراء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من دار خديجة عليها السلام 41

أولا: إن بيت خديجة هو المسجد الحرام 42

ثانيا: إنّ لخديجة من الطهر ما لمريم عليهما السلام 43

المبحث الرابع: مبيت الإمام علي عليه السلام في دار خديجة عليها السلام ليلة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة 52

المسألة الأولى: كيف وقعت الحادثة ؟ 53

ألف: ما رواه ابن إسحاق والطبري وغيرهما 54

باء: ما رواه الشيخ الطوسي رحمه الله 58

المسألة الثانية: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى 69

المسألة الثالثة: شبهة ابن تيمية والحلبي في رد فضيلة الفداء، شبهة واهية ومخالفة للقرآن الكريم 73

أولاً: إتفاق أهل العلم بالحديث والسير على صدور هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبه يتضح كذب ابن تيمية 75

ص:272

القسم الأول: رواية أهل العلم بالحديث والسير لنزول جبرائيل وميكائيل لحفظ علي عليه السلام ليلة المبيت من الشيعة على رغم أنف ابن تيمية 78

القسم الثاني: رواية أهل العلم بالحديث والسير من السنة والجماعة في نزول جبرائيل وميكائيل 82

ثانياً: اسماء الذين رووا من أهل العلم بالحديث والسير واتفاقهم على ان علياً عليه السلام هو الذي شرى بنفسه فداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنام في مكانه في دار خديجة عليها السلام 87

ثالثاً: محاربة آية الشراء منذ القرن الأول للهجرة والى يومنا هذا 100

ألف. بذل معاوية آلاف الدراهم لتحريف نزول الآية 106

باء. تعمد ابن تيمية الكذب على العلماء والقراء في صرف الآية عن علي بن أبي طالب عليه السلام 108

جيم. منهج الألباني في دفع الآية عن علي عليه السلام 108

رابعاً: الشبهة الحلبية ومخالفتها للقرآن والسنة 109

1. رد شبهة، حصول الطمأنينة لعلي عليه السلام بقول الصادق له، لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم 110

2. رد شبهة قول الحلبي: (فلم يكن فيه فداء بالنفس) 111

3. رد شبهة قول الحلبي: (والآية المذكورة في سورة البقرة هي مدنية باتفاق) 116

4. رد شبهة قول الحلبي (وقد قيل انها نزلت في صهيب) 119

المبحث الخامس: من دار خديجة عليها السلام خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام مصطحباً علي بن أبي طالب عليه السلام 126

المسألة الأولى: كيف وصلت الأصنام إلى بيت الله الحرام ونصبت على سطح الكعبة ؟ 129

المسألة الثانية: من دار خديجة عليها السلام خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصطحباً علياً عليه السلام لتكسير الأصنام قبل الهجرة 132

الحلقة الأولى: ما يدل على وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة دون تحديد السنة 134

ص:273

الحلقة الثانية: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في ليلة مبيته على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم 138

ألف. التلازم في تحقق الأثر الإرشادي بين عمل نبي الله إبراهيم عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تكسير الأصنام 140

باء. التوحيد ينطلق من دار خديجة وإليه يرجع الموحدون 145

جيم. الحكمة في اجتماع تكسير الأصنام والمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة واحدة 146

الحلقة الثالثة: ما يدل على تعدد وقوع حادثة تكسير الأصنام قبل الهجرة 147

المسألة الثالثة: ما يدل على مباشرة الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح 151

أولاً: تعتيم البخاري على دور الإمام علي عليه السلام في تكسير الأصنام في فتح مكة 152

ثانيا: ما يدل على قيام الإمام علي عليه السلام بتكسير الأصنام في عام الفتح وتعمد البخاري ومسلم اخفاء ذلك 154

ثالثا: العلة في عدم تمكن الإمام علي عليه السلام من حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكسير الأصنام 157

المبحث السادس: التقاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ببعض المؤمنين في دار خديجة عليها السلام 161

المسألة الأولى: رواية الشيخ الصدوق رضي الله تعالى عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام 162

أولاً: تحقق رؤية صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف في زمن الغيبة الصغرى 164

ثانيا: تقوى الحسن بن الوجناء وشدة مثابرته على طاعة الله والتقرب إليه 164

المسألة الثانية: رواية الشيخ الطوسي رضي الله عنه في حضور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في دار خديجة عليها السلام 166

ص:274

الفصل التاسع

حملها بفاطمة عليها السلام و ولادتها

المبحث الأول: خلقها من ثمار الجنة 175

المحور الأول: تفاعل الكتّاب مع حدث خلق فاطمة من ثمار الجنة 176

الأمر الأول: اعتماد بعض الكتاب فيما يرونه على ما يتلاءم مع اعتقادهم 176

الأمر الثاني: الاختلاف في وقت حدوث رحلة الإسراء لا يلغي الحقيقة 176

الأمر الثالث: الإعراض عن روايات أهل البيت عليهم السلام لا يدل على صحة المعْرِض عنها 177

المحور الثاني: السُنة النبوية والعقل يؤكدان حقيقة خلق فاطمة عليها السلام من ثمار الجنة 178

أولاً 181

ثانياً 181

ثالثاً 181

الأمر الأول 182

الأمر الثاني 182

المسألة الأولى: إنها خلقت من شجرة طوبى 182

المسألة الثانية: إنها خلقت من سفرجل الجنة 185

المسألة الثالثة: خلقها من رطب الجنة 186

المسألة الرابعة: إنها عليها السلام خلقت من تفاحة من الجنة 187

المسألة الخامسة: إنها خلقت من جميع ثمار الجنة 188

بعض دلالات الحديث: 189

أولاً: (فأصبت من ريح تلك الثمار) 189

ص:275

ثانياً: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كثير الاشتياق إلى الجنة 189

المبحث الثاني: التهيئة النبويّة لنزول الأنوار الفاطمية 190

الوجه الأول 190

الوجه الثاني 192

المحور الأول: أحاديث اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس ومنهم أم المؤمنين خديجة عليها السلام 194

المسألة الأولى: (لماذا الاعتزال لمدة أربعين يوماً؟) 196

أولاً: (الاعتزال) 196

ثانياً: علم الأعداد والحروف وشرافة العدد أربعين 199

المسألة الثانية: «جبرائيل عليه السلام يهبط في صورته العظمى» 204

أولاً: معنى تسميتهم بالملائكة 204

ثانياً: المواضع التي ظهر فيها جبرائيل عليه السلام بصورته العظمى 209

الموضع الأول 209

الموضع الثاني 210

الموضع الثالث 210

ثالثاً: أثر الاعتزال والرياضة النفسية في خلق الجنين 210

رابعاً: الأدب النبوي في بيان حبه لخديجة عليها السلام 211

المسألة الثالثة: جبرائيل عليه السلام ينزل بالنور الفاطمي من الجنة 211

أولاً: (اشتراك الملائكة الثلاثة عليهم السلام في إيصال الوديعة) 213

ثانياً: (هل يجوز تأخير الصلاة في شتى الأحوال لعلل راجحة)؟! 214

المسألة الرابعة: انتقال النور الفاطمي إلى الأرض الطاهرة 218

أولاً: (المنهاج التربوي الأسري عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم) 220

ثانياً: المنهاج التربوي في العلاقة الزوجية 221

ثالثاً: (الإحساس بثقل فاطمة عليها السلام) 223

الحديث الثاني 223

ص:276

أولاً: تعين ليلة انعقاد النطفة النورانية التي خلقت منها أم الأئمة 224

ثانياً: القاسم وعبدالله عليهما السلام ولدا وماتا في الإسلام 225

المبحث الثالث: كيف كانت ولادة فاطمة عليها السلام ؟ 226

المسألة الأولى: إن فاطمة عليها السلام كانت تحدث أمها خديجة وهي في بطنها 227

المسألة الثانية: بشارة جبرائيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أنثى 237

المبحث الرابع:(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ ) 246

المسألة الأولى: الحكمة في ذكر الرفقة لآسيا مع خديجة في الجنة 248

المسالة الثانية: ما هي العلاقة بين صفة نساء بني هاشم وبين النساء اللاتي دخلن على خديجة عند ولادة فاطمة عليها السلام ؟ 249

المسألة الثالثة: ما معنى دخول نور فاطمة عليها السلام إلى بيوت مكة عند ولادتها؟ 250

المسألة الرابعة: نطق فاطمة عليها السلام بالشهادتين 251

المسألة الخامسة: مكان ولادة فاطمة عليها السلام 253

المبحث الخامس: إرضاع خديجة إياها (عليها السلام) 254

المبحث السادس: تسميتها 259

المبحث السابع: عقيقتها 265

المبحث الثامن: فاطمة في حِجْرِ النبوة 266

المسألة الأولى: إن الله اصطفى لها ما لم يصطفِ لأحد من أوليائه 266

المسألة الثانية: السنين الأولى لطفولتها وتأثيرها في أم المؤمنين خديجة عليها السلام 269

ص:277

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.