موسوعه خدیجه بنت خویلد المجلد 2

اشارة

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني

كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

مشخصات کتاب : 4ج

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق.

2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود.

3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود.

ص :1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد

لسنة 2010-1660

الحسني، نبيل، 1965 - م.

موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني. - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.

4 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 52).

المصادر.

1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق. 2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود. 3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود. 4. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - نساءه - شبهات وردود. 5. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - الأولاد - دراسة وتحقيق. 6. علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 ق. - فضائل - شبهات وردود. 7. فاطمة الزهراء (علیها السلام)، 8؟ - 11 ق. - السيرة - دراسة وتحقيق. ألف. الحلو، محمدعلي، مقدم. ب. العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. اللجنة العلمية. ج. عنون. د. عنوان: خديجة بنت خويلد أمّة جُمعت في امرأة.

4 خ 5 ح / 26/208 BP

الطبعة الأولى

1432 ه - 2011 م

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

ص:4

الفصل السادس: انها من عباد الله المخلصين و خير زوجة لرسول رب العالمين

اشارة

ص:5

ص:6

إنّ المتأمل في سيرة خديجة عليها السلام يرى بوضوح أنها من عباد الله المخلصين لاسيما وهو يستعرض في هذا التأمل سير أولياء الله ومن اصطفاهم الله لرعاية شريعته، فإذا وصل في هذه الرحلة التأملية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضع نصب عينه أنه أمام خير خلق الله تعالى ومن اصطفاه الله لخير الأديان وختامها أيقن أنه سيقف أيضا أمام شخصيات اختارها الله تعالى لتأدية مهام تتناسب مع حجم هذه المسؤولية.

بل لا نبالغ - وكما سيرى القارئ - إذ قلنا: إن هذه الشخصيات أدت دورها كما أراد الله لها من الخير والموفقية وهيأ لها من الأسباب ما يمكنها من الوصول إلى مرضاته ونصر شريعته وخدمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فخديجة عليها السلام كما دلت الروايات ليست مجرد امرأة تزوجها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بل هي: ركن من الأركان التي اتكأ عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالته ونشر دعوته كما اتكأ على عمه أبي طالب وولده علي عليهم السلام:

ولعل القارئ الكريم لو نظر بعين الانصاف إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن قدّر الله تعالى له أن يقترن بخديجة عليها السلام وإلى يوم وفاته ورحيله إلى الملأ الأعلى لأيقن أن هذه المرأة لها حق واجب على كل مسلم ولأيقن أنها أمّة جمعت في امرأة.

ص:7

المبحث الأول: كيف كانت حياتها الزوجية ؟

اشارة

حينما ننظر إلى القرآن الكريم نجده يتحدث عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسلوب يرسم للقارئ صورتين، الصورة الأولى: صورة المدح المقيد بشروط ، والثانية صورة الذم لمن خالفت منهنّ تلك الشروط .

وبين تلك الصورتين جاءت السنة النبوية لتضع بدقة كبيرة المعالم الواضحة لكلا الصورتين.

الصورة الأولى: القرآن يمدح نساء النبي مدحاً مقيداً

ففي الصورة الأولى جاء بيان القرآن كالآتي:

1 -(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)1 .

2 -(وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)2 .

3 -(وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً)3 .

ص:8

4 -(وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)1 .

الصورة الثانية: القرآن يذم من خالفت منهنّ هذه الشروط

وفي الصورة الثانية جاء بيان القرآن كالآتي:

1 -(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً)2 .

2 -(وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)3 .

3 -(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)4 .

4 -(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً)5 .

ص:9

ولقد جاءت السنة النبوية وسيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ببيان واف لكل واحدة منهن نورد بعضها لكي تتضح الصورة بشكل أدق، وكي يوقن القارئ الكريم أن خديجة عليها السلام لم يكن لها نظير فيما بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ليس لها نظير في الامة ما خلا ابنتها فاطمة فهي سيدة نساء العالمين.

1 - أخرج البخاري في الصحيح عن عائشة: (إن نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كن حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

2 - حدوث مشاحنات بين الحزبين لدرجة السباب كما تصرح عائشة بذلك، فقد تسابت هي وزينب بنت جحش في محضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2).

3 - اعتزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهن جميعا شهراً ثم راجعهن كوسيلة تأديبية، بل لشدة غضبه عليهن كما نص البخاري بلفظ : (من شدة موجدته عليهن)(3).

4 - ذم القرآن لاثنين من أزواجه وهما (حفصة وعائشة) حينما أقدمت حفصة على إفشاء حديث خصها به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحدثت به عائشة فأطلعه الله عليه، وقد تظاهرتا عليه صلى الله عليه وآله وسلم!!

ص:10


1- صحيح البخاري، هبة وفضلها: ج 3، ص 132.
2- المصدر السابق.
3- صحيح البخاري، كتاب المظالم: ج 3، ص 105.

فحذرهما الله من أذيتهما لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صرح عمر بن الخطاب عن ذلك حينما سأله عبد الله بن عباس قائلا: (يا أمير المؤمنين من المرأتان المتظاهرتان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فما إن قضيت كلامي حتى قال: (عائشة وحفصة)(1).

وقد أخرجها البخاري بلفظ : (اللتان قال لهما إن تتوبا إلى الله)(2).

فهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وغيرها تكشف عن حقيقة منزلة أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى وإن بعضهن أغضبن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآذينه، في حين كانت خديجة بحق الزوجة الصالحة، كما سيمر بيانه في المباحث والمسائل الآتية:

المسألة الأولى: حياتها الزوجية قبل البعثة

اشارة

تنقسم الحياة الزوجية لأم المؤمنين السيدة خديجة عليها السلام على قسمين، القسم الأول كان قبل بعثة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والذي لم يتناوله التاريخ بالتقييد والكتابة، وذلك لكون حياتها في هذه الحقبة لم يتخللها حدث يدفع بالمؤرخ إلى الالتفات إليه وتدوينه، فكيف إذا أضيف إليه ما يحيط بيت السيدة خديجة من الحياء والحشمة التي تكون ساتراً عن أقلام الرواة وألسنة المحدثين.

ص:11


1- تفسير جامع البيان لابن جرير الطبري: ج 28، ص 207؛ مسند أبي يعلى: ج 1، ص 162؛ جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: ج 1، ص 112.
2- صحيح البخاري، كتاب المظالم: ج 3، ص 104.

أما هذه الفترة من الزواج فقد كانت خمس عشرة سنة، كانت فيها خديجة قد وهبت كل حياتها وما ارتبط بها لزوجها الذي تفرغ لعبادة ربه متخذا من الغار محلا للتفكر والتأمل.

إلا أننا يمكن أن نسجل هنا بعض النقاط التي تبين لنا طبيعة دورها في الحياة الجديدة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقبل مبعثه، والتي ترسم لنا حياتها الزوجية خلال هذه الفترة على الرغم من قلة الرواية التي بين يدي ولعل هناك من الباحثين من يفتح الله عليه فيوفق للمزيد من الحقائق حول حياة أم المؤمنين خديجة عليها السلام.

أولا: الزوج أهم من المال والأهل عند خديجة

ذكرنا فيما سبق أن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لم يُبدِ اهتماما لهذا المال الذي وهبته له خديجة عليها السلام، فهو لم يستخدمه لتجارة أو كسب، وإنما اكتفى بما يعينه من هذا المال خلال هذه السنوات على قوت يومه، مما زاد في حب خديجة له صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ ترسخ إيمانها بأنه المخصوص بالنبوة حقاً وذلك من خلال تلك القرائن السابقة - واللاحقة - والتي تكشفت لأهل مكة كما تكشفت لها.

إلا أن الفارق بينها وبينهم أنها ممن اصطفاهم الله من عباده لنصرة شريعته ونشر دينه الذي ارتضاه لأوليائه وعباده المخلصين، فكانت القرائن التي تحف بشخص المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تأخذ من فكرها كل مأخذ وتدفعها لليقين بنبوته مما جعلها مؤهلة لتلقي الكرامات من الله تعالى كي تصل

ص:12

إلى صدق ما انعقد عليه قلبها، وهو ما دل عليه القرآن الكريم في بيانه لثمار التفكر وجهاد النفس في الثبات على الحق.

قال تعالى:

(وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)1 .

فكيف إذا كان جهاد خديجة من أجل الوصول إلى من به قوام سبل الله ودوامها وهو رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك:

يدل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة(1).

على أنها قد وهبت هذا المال منذ أن اقترنت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان دليلاً على شخصية خديجة ومستوى تفكيرها الذي أهلها أن تكون من سيدات الجنة وإحدى أفضل نساء أهل الدنيا.

كما يدل الحديث على أنها لم تعر للمال من اهتمام وأن إيمانها الفطري وطيب معدنها وطهارة نفسها ليدفعها إلى التمسك بما هو أهم من المال والأهل وهو زوجها الذي سيبعث نبياً، فكان كل ذلك سببا في إكرامها واختصاصها بكشف الحجاب عنها كي تزداد يقيناً بما اعتقده قلبها.

ص:13


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 468.
ثانيا: إكرامها لمن يَفِد على زوجها والإحسان إليهم

من الأحداث التي تعطي صورة أخرى عن طبيعة حياة خديجة عليها السلام الزوجية هو إكرامها لكل من يقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محتاجا، لاسيما أولئك الذين كان لهم موقف مشرف مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ألف: فقد روى ابن سعد في الطبقات قائلا: قدمت حليمة بنت عبد الله على رسول الله مكة وقد تزوج خديجة فتكشفت جدب البلاد وهلاك الماشية فكلم رسول الله خديجة فيها فأعطتها أربعين شاة وبعيرا موقعاً(1) للظعينة(2) وانصرفت إلى أهلها(3) ؛ وقدمت مع زوجها بعد النبوة فأسلما(4).

وتدل الرواية على أمور، منها:

1 - إنّ إكرامها لمرضعة النبي دليل على حبها لزوجها.

2 - كما تدل أيضاً على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يتصرف في مال خديجة قبل البعثة على الرغم من أن خديجة عليها السلام قد وهبت مالها إليه.

ص:14


1- البعير الموقع: الذي بظهره آثار الدير، لكثرة ما حمل عليه وركب، فهو ذلول مجرب؛ انظر: غريب الحديث لابن الأثير: ج 5، ص 215؛ لسان العرب، ج 8، ص 406.
2- الظعينة: الهودج، وسميت المرأة ظعينة لأنها تكون فيها؛ انظر غريب الحديث لابن قتيبة: ج 1، ص 285.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 114.
4- الأعلام للزركلي: ج 2، ص 271.

3 - إن المتصرف في هذا المال هو خديجة عليها السلام، وهذا يقطع الطريق على المنافقين والذين في قلوبهم مرض في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له غاية في مال خديجة عليها السلام - والعياذ بالله -.

4 - إنّ هذا المال كان مذخوراً للرسالة وإن الله شرفه في أن يكون المال الذي يستعان به على نشر رسالة الإسلام.

باء: روى الزركلي في ترجمة (ثويبة) أول مرضعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت جارية أبي لهب وأرضعت النبي بلبن ابنها مسروح وكانت تدخل على النبي بعد أن تزوج خديجة فكانت خديجة تكرمها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إليها من المدينة بكسوة وحلة حتى ماتت بعد فتح خيبر، ومات ابنها مسروح قبلها(1).

وتدل هذه الرواية مع سابقتها على اتصاف خديجة عليها السلام بالكرم وإنها إحدى الصفات التي اشتهرت بها وهو ما أشار إليه أبو طالب عليه السلام في خطبتها فقال: (خاطب كريمتكم الموصوفة بالسخاء والعفة)(2).

ثالثا: تخفيفها لهموم زوجها ومواساته

لا يخفى على أهل المعرفة أن الدور الذي يمكن للزوجة أن تقوم به لإسعاد زوجها يرتكز على ركائز عديدة من أهمها تفريج هموم الزوج ومواساته

ص:15


1- الأعلام للزركلي: ج 2، ص 102.
2- مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ج 14، ص 204؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 16، ص 69؛ جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج 20، ص 112.

وتصبيره على ما ألم به من حوادث الدنيا وتحصيل الآخرة؛ وهو ما أشارت إليه الأحاديث الشريفة فمنها:

1 - عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسره إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله(1)).

2 - وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

قال الله عز وجل: إذا أردت أن أجمع للمسلم خير الدنيا والآخرة جعلت له قلبا خاشعا ولسانا ذاكرا وجسدا على البلاء صابرا وزوجة مؤمنة تسره إذا نظر إليها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله(2).

3 - وعن الصادق عليه السلام قال:

ثلاثة للمؤمن فيها راحة: دار واسعة تواري عورته وسوء حاله من الناس، وامرأة تعينه على أمر الدنيا والآخرة، وابنة يخرجها إما بموت أو بتزويج(3).

ص:16


1- الكافي للشيخ الكليني: باب من وفق له الزوجة الصالحة: ج 5، ص 326-327.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

وهذه الصورة الحياتية تجدها تتجسد في بيت خديجة عليها السلام، فهي مع ما آتاها الله من المال والحسب آتاها الجمال وحسن الخلق ورجاحة العقل - كما حدثتنا المصادر الإسلامية -.

ولذلك كان كل قومها حريصاً على الاقتران بها لو يقدر عليه.

إذْ إن الله تعالى كان قد جعلها لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والذي استغنى بها عن جميع نساء الدنيا فلم يتزوج عليها حتى توفيت بعد أن عاشت معه خمساً وعشرين سنة.

أما ما تحدِّثُنا به المصادر الإسلامية عن طبيعة تعاملها كزوجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما في تفريج همومه ومواساته فهي كما يلي:

(عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال يسمع الصوت قبل أن يوحى إليه فيذعر منه فيشكو ذلك إلى خديجة، فتقول له خديجة:

أبشر فإنه لا يصنع بك إلا خيرا)(1).

وفي رواية: إنه صلى الله عليه وآله وسلم قص على خديجة ما رأى في المنام فقالت له:

ص:17


1- تفسير سعد السعود لابن طاووس: ص 215.

أبشر فإن الله لن يصنع بك إلا خيرا(1).

وفي رواية الدولابي: (فعصمها الله من التكذيب فقالت:

أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا(2).

وقولها عليها السلام: فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا دليل قاطع وحجة دامغة على أنها كانت تؤمن بالله تعالى وتؤمن بصدق زوجها وأنه المخصوص بالرحمة الإلهية وأن عاقبة أمره على خير.

ويكشف قولها عن أنها:

ألف: كانت تحسن أسلوب التعامل مع مواقف كهذه حينما يكون الزوج مهموما ومجهدا.

باء: اختيارها للألفاظ كان له الأثر السريع في تفريج هذه الهموم وتصبيره؛ لأنها رجعت فيما تقول إلى دائرة الاطمئنان القلبي الذي يرتكز على نواة التوحيد، بمعنى: أنك مهموم للآخرة وقلبك مشغول بمن خلقك وهذه المقدمات تتبعها نتائج خيرة، هكذا فهمت كلماته صلى الله عليه وآله وسلم.

جيم: اعتمادها في دفع هذه الهموم كان على حسن الظن بالله تعالى ولذلك بدا التفاؤل في كلماتها طاغيا وكأنها تنطق عن عين اليقين بأنه النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا: اختارت من الألفاظ (البشارة والخير) فابتدأت قولها بلفظ (أبشر) وختمت قولها بلفظ : (إلا خيرا).

وعليه: فأي هموم بعدئذ تبقى على قلبه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسمع منها هذه الكلمات التي كأنها نطق بها روح القدس على لسانها.

ص:18


1- فتح الباري لابن حجر: ج 12، ص 315.
2- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 55.

المسألة الثانية: حياتها الزوجية بعد البعثة النبوية

اشارة

إن هذه الحقبة من الحياة الزوجية لخديجة عليها السلام لتختلف اختلافا جذريا عن الحقبة السابقة التي تناولنا الحديث فيها عن دورها قبل مبعث النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

فمثلما مرت تلك السنوات الخمس عشرة بدون حوادث تدفع بالراوي والمؤرخ أن يدون أو يحفظ منها شيئاً، فقد مرت هذه السنوات الجديدة وهي محملة بالحوادث التي غيرت العالم وأعادت الإنسان إلى مستواه الذي أرادته الشريعة الإلهية له.

ولذلك:

كي نحيط بحياة السيدة خديجة عليها السلام الزوجية ونستلهم منها الدروس في كيفية حسن التبعل ونطلع على دورها كزوجة لابُدَّ من المرور بمجموعة من النقاط ، وهي كالآتي:

الحلقة الأولى: دور خديجة في بدء البعثة كما يرويه البخاري

تعددت الأحاديث الواردة في صحاح المسلمين وهي تروي كيفية تلقي النبي المصطفى للوحي واختلفت الصورة لدى الباحث والقارئ للسيرة النبوية حينما يقرأ هذه الحادثة لدرجة أنه يبقى محتارا في الذي قرأه أهو من كتب المسلمين أم قصص من الخيال الأسطوري الذي يروي بطولات خاضها بعض الفرسان مع العوالم الأخرى فضلا عما يعتري هذا الفارس أو ذاك من الأهاويل والصعاب الجسيمة التي ترعب القارئ بأكثر مما أرعبت صاحب

ص:19

الأسطورة، كعصر جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ منه الجهد(1).

فضلاً عن جملة من الصور البشعة والتي توحي للقارئ بأن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان يظن بأنه مجنون لدرجة أنه يحاول الانتحار - والعياذ بالله - كما ينص الطبري: (لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن، قال فخرجت أريد ذلك حتى إذا كنت وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -)(2).

أو أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يهتدي - والعياذ بالله - لتشخيص هوية المتكلم معه فلم يفرق بين ما يسمعه أرحمانيّ هو أم شيطانيّ وهذا ما عبر عنه ابن سعد بلفظ :

«يا خديجة إني أرى ضوءاً وأسمع صوتاً لقد خشيت أن أكون كاهناً»(3).

ولذلك أخذته خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل فحدّد له هوية المتكلم قائلاً:

(إنه الناموس الأكبر) فضلا عن بيانه لبعض أحداث الرسالة المحمدية

ص:20


1- صحيح البخاري: باب كيف كان بدء الوحي، ج 1، ص 3.
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 49؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 132؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 11، ص 197.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 195.

بقوله (ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك)(1) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أو مخرجي هم.

وغيرها من الصور الموحشة التي ترسم للقارئ سيرة رجل لا يدري ماذا أنزل عليه وماذا أريد منه، وماذا يراد منه أن يقوم به.

إلا أن ثمة سؤالاً في كل هذا الركام يقول: ماذا لو كان ورقة بن نوفل قد قال لخديجة التي جاءت تستعلم عن حال زوجها وما أصابه، أن قال لها: هذا الذي سمعه زوجك إنما هو مس من الشيطان - والعياذ بالله - أو أنه يتراءى له أن قد سمع صوتا، ماذا سيكون حال خديجة ؟ بل الأهم ماذا سيكون موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أتراه يتبع قول ورقة - والعياذ بالله - أم أنه ينكر عليه قوله ؟ أم أنه يبقى حائرا بين ما يسمع وما قاله ورقة ؟!

إننا هنا:

لا نؤمن بذهاب أم المؤمنين خديجة عليها السلام إلى ورقة كما يروي البخاري ومسلم وغيرهما ولا نؤمن بما دار بينهما من كلام؛ بل نبرأ إلى الله سبحانه من كل ما من شأنه المساس بحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ونؤمن أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أعرف الخلق بنفسه وأنه المخصوص بالنبوة والمصطفى بالرسالة قبل أن يخلق الله الخلائق، وأنه غير محتاج إلى تطمينات ورقة وتشخيصه وتفسير الراهب عداس وغيره بل نؤمن بما قالته

ص:21


1- صحيح البخاري: باب كيف كان بدء الوحي، ج 1، ص 3.

بضعة المصطفى فاطمة الزهراء عليها السلام وهي تتحدث للمهاجرين والأنصار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت:

واشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة علما من الله تعالى بما يلي الأمور، وأحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور، ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وانفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها فأنار الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فانقذهم من الغواية وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم، ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة إيثار، فمحمد من تعب هذه الدار في راحة، قد حفّ بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله علي أبي نبيه، وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته(1).

فهذا الوصف هو الذي يتسق مع القرآن الكريم ويسلّم له العقل وتنقاد له القلوب؛ أما ما يرويه عروة بن الزبير أو ما يقوله ورقة أو عداس أو بحيرا فهو مما يمجه الذوق السليم وتنكره القلوب الطاهرة فضلاً عن تعارضه مع القرآن

ص:22


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 133.

الكريم في جملة من الآيات التي تتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمنها، قوله تعالى:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ داعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً)1 .

وقوله عز وجل في تنزيه رسله عن رذيلة الخوف والذعر فقال:

(لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ )2 .

وقوله سبحانه وتعالى في بيان مقام الشهودية على الأمم جميعا وعلى الرسل الذين أرسلهم الله إليهم وأنبيائهم الذين بعثوا إليهم.

فقال عزّ شأنه:

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً)3 .

وعليه:

كيف لا يطأطئ العقل مسلِّما بأن كثيرا مما رواه أصحاب الصحاح لا يتفق مع القرآن الكريم ولا ينسجم مع السنة المحمدية.

ص:23

الحلقة الثانية: حقيقة دور خديجة في بدء البعثة تختلف عما يرويه البخاري ومسلم من شبهات
اشارة

إلا أننا هنا نؤمن بما قامت به السيدة خديجة عليها السلام من الوقوف بجانب زوجها وسيدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لاسيما وإن عائشة التي صرحت مراراً بغيرتها من خديجة هي التي تتحدث عن تلك المواقف المشرفة التي حفت بسيرة خديجة عليها السلام.

فقالت - كما يروي عروة عنها - حديث بدء الوحي، أن قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خديجة عليها السلام يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني، زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:

«لقد خشيت على نفسي».

ص:24

فقالت خديجة:

كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق في الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق(1).

ولقد اخطأ البخاري ومسلم خطأً فادحاً في إيراد بعض الألفاظ في هذا الحديث لاسيما هذا اللفظ : (فخشيت على نفسي) والتي تدل على شكه - والعياذ بالله - ولقد حاول الحافظ النووي حينما أورد توجيه هذا اللفظ عن القاضي عياض من دفع هذا الخطأ العقائدي الشنيع فقال - واللفظ للقاضي عياض -: (ليس هو بمعنى الشك فيما أتاه من الله تعالى، لكنه ربما خشي أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي فتزهق نفسه.

أو يكون هذا لأول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك وتحققه رسالة ربه فيكون خاف أن يكون من الشيطان الرجيم؛ فأما منذ جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى فلا يجوز عليه الشك ولا يخشى من تسلط الشيطان عليه)(2).

ص:25


1- أخرجه البخاري في باب: كيف كان بدء الوحي، ج 1، ص 4؛ وفي ج 6، ص 88، في سورة اقرأ باسم ربك؛ وفي ج 8، ص 67، في باب: التعبير؛ وأخرجه مسلم في باب: بدء الوحي، ج 1، ص 97؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 233 حديث عائشة: ج 6، ص 233. مستدرك الحاكم: ج 3، ص 184. تفسير الثعلبي: ج 10، ص 243. تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 118.
2- شرح مسلم للنووي: ج 2، ص 201.

وهنا:

لا نجد الحافظ النووي والقاضي عياض قد نفيا الشك عنه صلى الله عليه وآله وسلم، بل يؤكدان أنه كان شاكاً وأن الشيطان الرجيم كان يأتيه - والعياذ بالله - قبل مبعثه ونزول جبرائيل عليه برسالة ربه سبحانه.

في حين أنهما بهذا القول زادا الأمر سوءاً إذ جعلا الرهبان والكهنة والمنجّمين أوثق منه بأمره فهم لم يكن لديهم شك بأنه نبي آخر الزمان فضلا عن كل هذه البشارات التي كانت تأتيه من تضليل الغمام، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة.

وكيف يصنعان بقوله تعالى عن نبيه عيسى حينما نطق وهو في المهد صبيا، قال تعالى:

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا)1 .

وكذا حال يحيى من قبل إذ قال تعالى:

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)2 .

وفي إسحاق وإسماعيل قال تعالى:

(وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا)3 .

ص:26

وفي يوسف إذ قال لأبيه:

(يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ )1 .

أفيكون هؤلاء الأنبياء أفضل من سيدهم وأشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكونون في شك من أنهم أنبياء لربهم ويكون المصطفى خلال أربعين سنة - والعياذ بالله - شاكاً في أمر ربه ويأتيه الشيطان الرجيم.

فلماذا لا يتبع النووي والقاضي عياض ومن قبلهما البخاري ومسلم دين عيسى بن مريم الذي لم يكن شاكاً ولم يأته إبليس منذ أن كان في المهد صبيا.

نعوذ بالله من الخزي في الدنيا والآخرة، وله الحمد على نعمة الإسلام.

أما لماذا اعتقد هؤلاء بشك النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في نزول الوحي عليه ؟

فجوابه:

لابتعادهم عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتجائهم إلى سنة غيره لعله يعصمهم من أمر الله، فهؤلاء لو كانوا تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمرهم قائلا:

إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وأنهما لن

ص:27

يفترقا حتى يردا عليّ الحوض(1).

لعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أصدق خلق الله يقينا بربه وأكملهم إيمانا.

ولأيقنوا أنهم لن يضلوا من بعده أبداً.

وعليه:

فإني لم أجد فيما نقله أهل السنة والجماعة في مصنفاتهم من أحاديث حول بدء الوحي خيراً مما ذكره أحمد بن حنبل والحاكم النيسابوري والصنعاني فقد أخرجوا حديث عائشة بلفظ : (قد خَشِيَتْ عليّ )(2).

فقالت له: كلا أبشر... وهو ما التفت إليه ابن حجر في فتح الباري مستدركا لما وقع فيه البخاري ومسلم مع نصهما (على نفسي)؛ ولعل ابن حجر لم يشأْ أن يصرح بقبح هذه الرواية وفسادها العقائدي كما أشار إلى ذلك النووي(3) ، حينما التفت إلى أنها تصرّح بشك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه.

إلا أن ابن حجر يعود فيلتفت إلى أن البخاري يصرح بشك النبي في نفسه

ص:28


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 3، ص 14؛ مسند أبي يعلى الموصلي: ج 2، ص 2770.
2- فتح الباري لابن حجر: ج 12، ص 315.
3- مسند أحمد: ج 6، ص 223؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 184؛ المصنف لعبد الرزاق: ج 5، ص 322؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 5، ص 387؛ تفسير الثعلبي: ج 10، ص 243؛ أسباب النزول للواحدي: ص 6؛ الثقات لابن حبان: ج 1، ص 49؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، ص 118.

حينما أخرج هذه الرواية فأراد أن يغطي على الأمر فجعل لشرح (قد خشيت على نفسي) اثني عشر قولاً ثم صوب القول الثالث الذي يقول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خشي على نفسه (الموت من شدّة الرعب)(1).

وغفل ابن حجر عن قوله تعالى:

(إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ )2 .

أفيخاف المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الدرجة والعياذ بالله من جبرائيل فكيف بملك الموت - نعوذ بالله من سوء المعتقد -.

فهذا اللفظ ، أي: (فخَشِيَتْ عليّ ) من حيث الدلالة يظهر أن خديجة عليها السلام هي التي خشيت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما أخبرها بنزول الوحي عليه، وذلك لمشاهدتها التجليات النورانية التي تظهر عليه ولطلبه منها أن تدثره وتغطيه وهو دليل شعوره بضعف في بدنه لاسيما وأنه كان يتعبد في غار حراء ويستعين بالقليل من الطعام كما حدث له في قضية الكساء اليماني حينما دخل على فاطمة عليها السلام فقال لها:

إني أجد في بدني ضعفا فاتيني بالكساء اليماني فغطيني به.

ولذا: كانت الخشية من خديجة عليها السلام وليس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما توهم البخاري ومسلم ومن سار على قولهم فذهبوا إلى أنه كان شاكاً لا يدري أهو كاهن أم مجنون - والعياذ بالله -.

ص:29


1- فتح الباري لابن حجر: ج 1، ص 23.

ولذلك:

نجد أن خديجة عليها السلام حينما خشيت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي ترى عليه تلك التجليات النورانية وطلبه منها أن تدثره وتغطيه أرادت أن تسليه وتواسيه وتؤازره على أمر ربه وهو شعور وجداني يكشف عن طبيعة المرأة وحنوها على زوجها فقالت له:

كلا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق في الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

وهذا القول يدل على جملة من الأمور، منها:

الأمر الأول: توهم شراح البخاري في دلالة قول خديجة عليها السلام (كلا)

قولها عليها السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن خشيت عليه: (كلا) وهو أول قولها جاء بمعنى: (حقاً) وليس بمعنى النفي كما توهم شراح البخاري ومن تبعهم في ذلك حينما توهموا أن الخشية كانت من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فأرادت خديجة أن تطمئنه على نفسه قائلةً له: كلا.

مما جعلها حسب هذا التأويل - والعياذ بالله - أثبت قلبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما وهي تجد أن تلك الأفعال التي يقوم بها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هي من السنن الإلهية التي تؤدي إلى مرضاة الله تعالى ومن ثَمَّ لا يمكن أن يخزيه الله تعالى - فكيف يصح أن تكون خديجة أعلم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنن الله في الحياة وأثبت قلبا.

ص:30

إذن:

الصحيح: هو أنها ابتدأت قولها بلفظ : (كلا) بمعنى (حقا)(1) ؛ وتريد منه هنا اثبات حقيقة ما ترى عليه من النور وإنه النبي الذي بشرت به الأنبياء من قبل، أي: إنها تثبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة اعتقادها به صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها حقاً مؤمنة به.

الأمر الثاني: دلالة قولها (أبشر) يراد به التصديق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم

مثلما بشرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهو الأولى دائماً بالبشارة - بما أنعم الله عليه سبحانه من نعمة النبوة، والرسالة قامت فأكدت إيمانها به، وأنها كانت ترى فيه صفات الأنبياء فبشرته بأنها على هذا الأمر؛ لأنها كانت تراه من قبل: (يصل الرحم، ويصدق الحديث، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق).

فهذه الأفعال لا يقوم بها إلا الأنبياء والأولياء وأنها كانت تراها فيه من قبل أن تتزوجه فكيف بها وقد عايشته.

فإذن: تبشره بموافقتها وتصديقها له وإيمانها به، وهو أمر في غاية الأهمية لما سيترتب على هذا الموقف من نصر الرسالة، فضلاً عن آثار ذلك في تفريج أحد هموم الرسالة التي تنطوي تحت التصديق به وبما كلف به لاسيما وهو قد التجأ إلى مسكنه وشريك حياته.

ص:31


1- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 2، ص 200.
الأمر الثالث: أقالت (لا يحزنك) أم (لا يخزيك) التي هي في مقام الذم كما يروي البخاري ؟!!

لم تقل سيدتنا ومولاتنا خديجة عليها السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا يخزيك) كما يروي البخاري، لأن الخزي هو الذل، وهي من توابع الفجار ولوازم الظالمين، وهذا ظلم بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - والعياذ بالله -، فضلاً عن ثبوته، أي هذا المعنى في القرآن واللغة.

قال ابن منظور عن أبي إسحاق، في قوله تعالى:

(وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ )1 .

المخزي في اللغة، المذل المحقور بأمر قد لزمه لحجة، وكذلك أخزيته ألزمته حجة إذا أذللته بها، والخزي الهوان، وكذلك أخزيته أكرمته حجة إذا أذللته بها، والخزي: الهوان، وقد أخزاه الله أي أهانه الله، وأخزاه الله وأقامه على خزية ومخزاة(1).

وعليه:

فالصحيح أنها قالت: (لا يحزنك الله)(2) وهو من الألفاظ التي جاء بها القرآن الكريم للدلالة على البشارة مع كونها من لوازم أولياء الله

ص:32


1- لسان العرب لابن منظور: ج 14، ص 226.
2- صحيح مسلم: باب بدء الوحي، ج 1، ص 98.

تعالى.

قال سبحانه:

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ )1 .

كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صفاته أنه يحزن على الذين كفروا أو الذين يسارعون في الكفر أو الذين يراوغون، ومن ثمّ أرادت السيدة خديجة عليها السلام أن تدفع عنه هذا الحزن وتواسيه وتصبره فجاء القرآن مطابقاً لفعلها وتعبيرها وتسليتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

حيث قال تعالى:

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ )2 .

ص:33

وقال سبحانه وتعالى:

(وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)1 .

وعليه: يكون حزنه لله عز وجل وحرصا منه على الناس كافة؛ لأنهم سيفتنون ويبلوهم الله ويمحّصهم، فمنهم من يؤمن، ومنهم من يضل ويتردى، وهي حالة خاصة بالأنبياء عليهم السلام فهذا سليمان عليه السلام يقول حينما رأى عرش بلقيس عنده:

(هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)2 .

فكيف بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لا يحزن لأمر الخلق وهو من قال تعالى بحقّه:

(وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ )3 .

وعليه:

فالسيدة خديجة عليها السلام لم تقل له (لا يخزيك) والعياذ بالله كما يروي البخاري وإنما قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يحزنك الله».

ص:34

الأمر الرابع: مؤازرتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر التصديق كان من فعل الأنبياء كما نص عليه القرآن الكريم

إن هذا القول من خديجة ليتناسق مع ما تحدثت به المصادر الإسلامية في بيانها لصفات خديجة عليها السلام من كونها: (امرأة حازمة، لبيبة، شريفة، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً)(1).

فضلاً عن أنها تميزت بصواب الرأي، وصدق السريرة، وأن الحال الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستلزم منها هذا الموقف الذي تتهاوى فيه الرجال. ولا يصبر عليه إلا الأنبياء عليهم السلام، فهذا موسى الكليم يطلب من الله سبحانه وتعالى موازرة أخيه هارون حينما بلَّغ بالرسالة فقال كما نطق به الوحي:

(وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ )2 .

وقال:

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)3 .

ص:35


1- الذرية الطاهرة للدولابي: ص 49؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 35؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 435؛ كشف الغمة للأربلي: ص 132؛ أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 6، ص 310.
الأمر الخامس: مخالفة البخاري للقرآن في خوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صوت جبرائيل لدرجة الموت رعباً؟!

إن القرآن الكريم ينص بوضوح على مرور النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بحالة من التجليات القلبية حينما استقبل تلك الفيوضات الإلهية لاسيما وأن جبرائيل عليه السلام هبط عليه بصورته العظمى كدليل على عظم أمر الرسالة، ومن ثمّ لابد من أنه كان في حالة من الانقطاع عن هذا العالم والتوجه الكلي إلى الله تعالى بما يتناسب مع حجم هذا الأمر الإلهي؛ أمر رسالة خير الأديان التي أخرجت للناس.

ولذا خاطبه عزّ شأنه:

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ )1 .

وقوله تعالى:

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ)2 .

وهذا يكشف عن حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نزول تلك الفيوضات الإلهية.

غير أنه لم يكن خائفا وهو بحضرة صاحب الملك والملكوت والعزة والجبروت لقوله تعالى:

ص:36

(إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ )1 .

فكيف بسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

بل: إنّ أمر الإسراء والمعراج والوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى هو أعظم من نزول جبرائيل عليه بصورته العظمى؛ وكيف لا وقد توقف جبرائيل عليه السلام عن التقدم معه خطوة واحدة وأنّى له ذلك فلو تقدم لهلك ؟!

وأنّى للبخاري وغيره التغافل عن ثناء الله تعالى على قوة قلب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاعه الكلي إلى الله تعالى، وثباته وانصرافه إلى ربه ؟! فقال عز وجل في مدحه لحبيبه وبيان قوة يقينه وتصديقه القلبي بربه فقال سبحانه:

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى )2 .

أفتراه يذعر من صوت جبرائيل ولا يخاف من الرب الجليل ؟!! وهو من مراتب الشرك الخفي المعارض لعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالنبي لا يشرك أحداً في خوفه من ربه وقد مدح القرآن الكريم المؤمنين في توحيدهم الله وعدم إشراكهم معه في خشيتهم أحداً من الخلق، قال تعالى:

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً)3 .

ص:37

المسألة الثالثة: مصاديق الزوجة الصالحة

اشارة

ترتكز الحياة على جملة من المفاهيم والرؤى والدلالات في دورتها اليومية إلا أن هذه المفاهيم تحتاج إلى مصاديق خارجية تثبت صحة هذا المفهوم أو ذاك كما أنها تؤكد صلاح هذه الرؤية أو تلك فضلا عن دلالات الأفعال التي يستقبلها العقل فيبوبها ضمن ضوابط الصحة والخطأ.

من هنا: كي يرضخ العقل وينقاد الفكر إلى معنى الزوجة الصالحة ومفهومها ودلالة صلاحها فلابد من تحقق الصلاح في الممارسات الحياتية، وهو ما أظهرته النقاط الآتية:

أولا: مبايعتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

يروي العلامة المجلسي والسيد البروجردي عن السيد ابن طاووس كيفية مبايعة خديجة عليها السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال - واللفظ لابن طاووس -: عن عيسى بن المستفاد، قال حدثني موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألت أبي جعفر بن محمد عليه السلام عن بدء الإسلام كيف أسلم علي عليه السلام وكيف أسلمت خديجة رضي الله عنها؟ فقال لي موسى بن جعفر عليهما السلام:

تأبى إلا أن تطلب أصول العلم ومبتدأه أما والله إنك لتسأله تفقها، قال موسى عليه السلام فقال لي أبي: إنهما لما أسلما دعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلّمتما له.

وقال إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام فأسلما تسلما،

ص:38

وأطيعا تهديا.

فقالا: فعلنا وأطعنا يا رسول الله.

فقال: إن جبرئيل عندي يقول لكما إن للإسلام شروطاً وعهوداً ومواثيق فابتدئاه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه لم يتخذ ولداً ولم يتخذ صاحبة إلها واحداً مخلصا، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة، ونشهد أن الله يحيي ويميت ويرفع ويضع ويغني ويفقر ويفعل ما يشاء ويبعث من في القبور.

قالا: شهدنا.

قال: وإسباغ الوضوء على المكاره، وغسل الوجه واليدين والذراعين ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين وغسل الجنابة في الحر والبرد، وإقام الصلاة، وأخذ الزكاة من حلها ووضعها في أهلها، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، والجهاد في سبيل الله، وبر الوالدين، وصلة الرحم والعدل في الرعية والقسم بالسوية والوقوف عند الشبهة ورفعها إلى الإمام، فإنه لا شبهة عنده، وطاعة ولي الأمر بعدي، ومعرفته في حياتي وبعد موتي والأئمة من بعده واحداً بعد واحد، وموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، والبراءة من الشيطان الرجيم وحزبه وأشياعه، والبراءة من الأحزاب: تيم وعدي وأمية وأشياعهم وأتباعهم والحياة على سنتي، ودين وصيي وسنته، إلى يوم القيامة والموت على مثل ذلك، وترك شرب الخمر وملاحاة الناس، يا خديجة فهمت ما

ص:39

شرط ربك عليه ؟

قالت: نعم وآمنت وصدقت ورضيت وسلمت.

قال علي: وأنا على ذلك.

فقال: يا علي تبايعني على ما شرطت عليك ؟

قال: نعم.

قال: فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفه ووضع كف علي عليه السلام في كفه وقال: بايعني يا علي على ما شرطت عليك، وأن تمنعني مما تمنع منه نفسك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اهتديت ورب الكعبة ورشدت ووفقت(1).

وهذه الرواية الشريفة اشتملت على جملة من الدلالات وهي كالآتي:

1 - ظاهر الرواية أن قول الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام:

تأبى إلا أن تطلب أصول العلم ومبتدأه أما والله إنك لتسأله تفقها.

هو موجه لعيسى بن المستفاد وليس من أبيه الصادق إليه عليهما السلام، ولعل تقديم الرواية قول الإمام عليه السلام على سؤاله كان السبب في هذا الظهور لمقدمة الرواية.

ص:40


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 18، ص 232 و 233؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 1، ص 482؛ مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي الشاهرودي: ج 5، ص 113.

فتكون مقدمة الرواية - والله العالم - كالآتي:

حدثني موسى بن جعفر عليهما السلام وسألته عن بدء الإسلام، كيف أسلم علي وكيف أسلمت خديجة ؟ فقال لي موسى بن جعفر عليهما السلام:

أما والله إنك لتسأله تفقها... سألت أبي جعفر بن محمد عليهما السلام عن بدء الإسلام كيف أسلم علي وكيف أسلمت خديجة عليهما السلام.

فقال لي أبي: إنهما لما أسلما....

2 - عرض هذه الشروط عليهما، ومبايعتهما الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الشروط مع بيان شبه تفصيلي لفرائض الإسلام قبل فرضها على الامة دليل على علو مرتبتهما الإيمانية، واختصاصهما بمقامات يقينية عالية؛ إذ قد لا يطيق كثير من الناس المبايعة حينما يرى أن هذه البيعة مقرونة بمجموعة كثيرة من الشروط التي مع كثرتها هي متفاوتة في الكيفية والأداء ثم يسلم تسليما مطلقا واعتقادا صادقا.

وهذا يكشف عن اختيار الله واصطفائه إياهما في مؤازرة رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا: كان البدء بهما مع بيان كل هذا الكم من الشروط ، وقبولهما بها صدقا وإيمانا وتطبيقا.

3 - التأسيس لمنصب الوصي والولي للأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم منذ اللحظة الأولى لانطلاق الرسالة المحمدية؛ بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرن طاعته بطاعة وصيه والحياة والممات على ذلك، وهذا يكشف

ص:41

عن أهمية هذا الأمر؛ لما له من دور أساس في حفظ الامة من الضلال والوقوع في الفتن.

4 - إن منصب (ولي الأمر) بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم يرتكز على قاعدة تبني الأحكام الشرعية؛ وإن ولي الأمر مهمته بيان ما أنزل الله على رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من أحكام، وهذا لا يتحقق إلا بوجود العصمة في ولي الأمر، لتعلقه في الحكم الإلهي.

بمعنى: اتحاد سنخية الحكم الشرعي، وولي الأمر الشرعي؛ وذلك: أن الحكم الإلهي معصوم من الخطأ والزلل فكذا يكون حال المبين لهذا الحكم، وإلاّ بعكس ذلك يحدث الافتراق بينهما؛ لاختلاف سنخيتهما؛ وفي هذه الحالة لا يتحقق الإصلاح ولا يمكن منع وقوع الفساد، وهما - الإصلاح ومنع الفساد - غاية الشريعة الإلهية.

بل: إن ذلك كان مقصد جميع المصلحين في الأرض باختلاف مذاهبهم؛ إذ ينطلق المصلحون في وضع أحكامهم وتشريعاتهم على قاعدة تحقيق الإصلاح ومنع الفساد، لذا اتبعهم بعض الناس.

فإذا تبين لأولئك المتّبعين زيف هذه التشريعات، أو أنها لا تحقق الإصلاح، بل كانت مدعاة للفساد والخراب تحولوا عن أولئك المتشّرعين.

إلا أن الفارق بين ولي الأمر في دستور الشريعة وبين المصلحين في دستور الأرض، أن حكم الأول لا يقبل الخطأ ولو بنسبة واحد بالمئة، وأن الثاني يقبل الخطأ ولو بنسبة واحد بالمئة فيكون الخطأ في الأول محال الوقوع لمطابقته حكم

ص:42

الخالق عز وجل؛ ويكون الخطأ في الثاني ممكن الوقوع مما يؤدي إلى انتفاء تحقق الإصلاح ومنع الفساد.

ومن هنا: كانت الملازمة بين النبوة والإمامة لتعلقهما ببيان الحكم الإلهي للناس.

5 - إنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي وخديجة عليهما السلام:

والوقوف عند الشبهة إلى الإمام فإنه لا شبهة عنده.

هو أن مقام الإمامة كان محصوراً في زمن النبوة بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدلالة قوله تعالى في إمامة إبراهيم الخليل عليه السلام:

(إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً)1 .

فكانت له النبوة والإمامة في حياته وانحصارها، أي: الإمامة في الوصي بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا:

كان التلازم بين النبوة والإمامة - كما أسلفنا - لتعلقهما ببيان الحكم الشرعي، فكما أن النبي لا شبهة عنده كذا يكون حال الإمام من بعده (فإنه لا شبهة عنده).

6 - ظاهر الرواية يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المقدار من قوله في أمر (الوقوف عند الشبهة ورفعها إلى الإمام) خصّ به علياً وخديجة عليهما السلام.

ص:43

وأن قوله:

وطاعة ولي الأمر بعدي ومعرفته في حياتي وبعد موتي والأئمة من بعده واحدا فواحداً.

يحتمل وجهين في الخطاب.

الوجه الأول

أن يكون الخطاب موجهاً إلى خديجة عليها السلام، وهو الأظهر بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

والحيوة على ديني وسنتي ودين وصيي وسنته إلى يوم القيامة والموت على مثل ذلك غير شاقة [شاكّة] لأمانته ولا متعدية، ولا متأخرة عنه.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

يا خديجة فهمت ما شرط عليك ربك.

والوجه الثاني

أن يكون الخطاب موجهاً لعلي وخديجة عليهما السلام، بمعنى: أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الحد من قوله لم يكن قد أعلن عليا عليه السلام بأنه المخصوص بالخلافة والوصاية من بعده صلى الله عليه وآله وسلم وهذا أمر في غاية الأهمية؛ لأنه يكشف عن أن أمر الخلافة والوصاية هو بجعل من الله تعالى وليس بجعل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بدليل:

ص:44

حديث الإنذار

حينما نزل قوله تعالى:

(وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )1 .

فقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال:

«لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنذر عشيرتك الأقربين دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي:

يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الامر أرى منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك. فاصنع لنا صاعا من طعام واجعل عليه رحل شاة واملأ لنا عسّاً من لبن ثم أجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به.

ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حذية من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال خذوا بسم الله فأكل القوم حتى مالهم

ص:45

بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم وأيم الله الذي نفس علي بيده وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم.

ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعا وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال لَشدّ ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الغد يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلي.

قال ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ثم قال أسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه [آله] وسلم فقال يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم.

قال فأحجم القوم عنها جميعا وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.

ص:46

قال فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع»(1).

فهذه الحادثة تدل بوضوح على وقت إعلان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لمنصب الخلافة والوصاية من بعده وتعيين الخليفة والوصي وهو علي بن أبي طالب عليه السلام، بعد نزول قوله تعالى:

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ)2 .

إلا أنه يمكن أن يعترض على هذا التوقيت معترض بحيث يكون إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخليفته ووصيه قبل هذا اليوم الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشيرته الأقربين، وهو اعتراض وجيه بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة بعد أن سمعت منه هذه الشروط أن قال لها:

«فبايعي له فبايعت له على مثل ما بايع عليه علي عليه السلام - للنبي - على أنه لا جهاد عليها»(2).

ص:47


1- تفسير فرات الكوفي: ص 302؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 63؛ الأمالي للطوسي: ص 583؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13، ص 211؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ص 132؛ تفسير البغوي: ج 3، ص 400؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2، ص 62.
2- بحار الأنوار للمجلسي: ج 18، ص 233؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 1، ص 482.

ونقول:

إن وقت إظهار الخلافة والوصاية للناس كان ضمن مراحل منها ما كان في بداية البعثة أي منذ الأيام الأولى حينما كان عدد الذين أسلموا اثنين فقط ؛ رجلاً وامرأة فأرشدهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وجود وصي له وخليفة من بعده ليسير الإسلام منذ اليوم الأول على هذا المنهج الإلهي.

ومن المراحل الأخرى للإعلان عن الوصي والخليفة ما كان في نزول الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار عشيرته الأقربين، فكان الإعلان عن ذلك في حديث الدار، ومنها ما كان في آخر عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما رجع من مكة بعد أن فتحها الله له فكان الإعلان عن الوصي والخليفة في غدير خم، ومنها ما كان في اللحظات الأخيرة من عمره الشريف حينما ابتدأ به المرض فقال اتوني بدواة وقرطاس لأكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعدي.

والملاحظ في تسلسل هذه المراحل أن دائرة الإعلان عن الوصي والتبليغ عن الخليفة كانت تتزامن مع كل مرحلة جديدة من التبليغ، بحيث يبتدئ النبي بالإعلان عن هذا الأمر الإلهي حينما كان عدد الذين لبوا ندائه واستجابوا لدعوته اثنين فقط رجلاً وامرأة، ثم يتزامن ذلك مع اتساع رقعة التبليغ بعشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأقربين، ثم بالمسلمين جميعاً، وهذا يكشف عن أن أمر الإمامة والخلافة من بعده لا تقل شأنا عن النبوة فبكلتيهما يُعبد الله حق عبادته، ويهتدي الناس إلى معرفته.

ص:48

وعليه: تكون خديجة عليها السلام قد أحرزت تلك الدرجات العالية من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم منذ بدء الرسالة المحمّدية، وأنها ترجمت هذا الإيمان إلى واقع عملي وممارسة حياتية حتى وافتها المنية والتحقت بجوار ربها، وهو ما سنعرض له في بقية النقاط التي تكشف طبيعة حياتها الزوجية مع خير خلق الله تعالى.

ثانيا: حملها الطعام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الغار

من الظواهر الحياتية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تناولتها الصحاح بالرواية والذكر هي ذهاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغار للخلوة والعبادة؛ وأن هذا الذهاب كان متكرراً خلال السنة تختلف فيه الفترة الزمنية التي يقضيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد تكون أياما متواصلة أو منفردة إلا أن الرواية تدل على أن بقاءه في الغار كان لأيام.

ومن هنا: نفهم العلة التي من أجلها كانت تخرج خديجة عليها السلام من بيتها وهي تحمل المؤونة لزوجها؛ إذ لو كان المكوث في الغار قصيراً لما احتاجت خديجة إلى الخروج من دارها وحمل الطعام والماء لزوجها، وهو ما تصرح به الرواية الآتية:

روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، أنه قال: (أتى جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه أدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها

ص:49

ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب(1).

دلالة الرواية

والرواية فضلاً عما سبق فإنها تدل على أمور منها:

1 - أن طول مكوث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستوجب على خديجة بذل جهودٍ كبيرة في الوصول إلى زوجها لاسيما وهو على سفح الجبل، أي قيامها عليها السلام بالصعود إليه مع ما تحمل من مؤونة، فكيف إذا أضيف إليه الشعور بالخوف عليه من المشركين، وأنها ستقوم بهذا العمل بصورة مستمرة وهذا يدل على صبرها وجهادها وتعريض نفسها للمخاطر من أجل إمداد زوجها بلوازم الحياة.

2 - اعتماد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها بذلك، يكشف عن حيطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه.

3 - أن عدم ذكر الرواية لمرافقة الإمام علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار يرجع إلى أسباب:

ألف: احتراز البخاري أو من روى عنهم عن ذكر مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام كما هو عادة المخالفين لعلي في ذلك، وكما حدث مع عائشة حينما ذكرت خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى دارها وهو

ص:50


1- صحيح البخاري: باب تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة، ج 4، ص 231؛ صحيح مسلم: باب فضائل خديجة، ج 7، ص 133؛ مسند أحمد، من مسند أبي هريرة: ج 2، ص 231.

يتهادى بين رجلين فذكرت اسم العباس بن عبد المطلب ولم تسم الرجل الآخر إلا أن عبد الله بن عباس كشف ذلك(1).

باء: مكوث الإمام علي عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار وملازمته له كما صرّح هو بذلك في خطبته، وهذا يكشف عن تعمد المخالفين لأهل البيت عليهم السلام بمحاربة فضائلهم ومنع الرواة من رواياتها، فكان مما حاربه أولئك المخالفون هو ملازمة علي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار، حيث قال:

ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة ؟

فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى

ص:51


1- صحيح البخاري: باب مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ج 5، ص 140، وجاء فيه: (عن عتبة بن مسعود أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر قال عبيد الله بن عباس هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة قال، قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب).

ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك على خير(1).

جيم: فرض الحصار على خديجة عليها السلام؛ إذ ورد في الخبر إن نساء قريش هجرن خديجة بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف وهو الآن يدعو إلى عبادة الله ونبذ الشرك(2).

دال: إنّ قيامها بذلك يكشف عن حبها لزوجها والسهر على خدمته لاسيما أن ذهابها إليه سيحقق لها الاطمئنان عليه فضلاً عن شوقها لرؤياه.

هاء: إن صبرها على هذه المشقة وتحملها لهذه الصعاب وتعرضها للمخاطر كان دافعه حب الله عزّ وجل وحب رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا نالت من ربها السلام، والأمين على وحيه جبرائيل عليه السلام، كذلك خصها بالسلام.

وهذا السلام يدل على أنها من عباد الله المصطفين لقوله تعالى.

(وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى )3 .

ثالثا: خوفها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام حين خروجهما من المنزل

من المشاهد الحياتية لبيت خديجة (الزوجة الصالحة) والتي وردت إلينا عن طريق رواة مدرسة أهل البيت عليهم السلام هو خوف خديجة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان يخرج من الدار وهو قاصد شعاب مكة

ص:52


1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة: ج 2، ص 157.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 690.

يتعبد لله تعالى مصطحبا الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كما تشير الرواية وهي كالآتي:

روى الخصيبي عن جابر بن يزيد الجعفي عن الباقر عليه السلام، قال:

لما ظهر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعا الناس إلى دين الله أبت ذلك قريش وكذبته وجميع العرب فبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستجيرا في البلاد لا يدري ما يصنع وكان يخرج وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما في كل ليلة إلى الشعاب فيصليان فيها سرّاً من قريش، ومن الناس، وكانت خديجة عليها السلام تخاف عليهما أن تقتلهما قريش فجاءت إلى أبي طالب فقالت له: إني لست آمن على رسول الله وعلى علي من قريش أن يقتلوهما، فإني أراهما يذهبان في بعض تلك الشعاب يصليان فأتاهما أبو طالب، وقال لهما إني أعلم أن هذا الأمر سيكون له آخر وإن هذا الذي أنتما عليه لدين الله، وإني أعلم أنكم على بينة من ربكما، فاتقيا قريشاً، فو الله ما أخاف عليكم إلا من قريش خاصة، وما أنتما بكاذبين، ولكن القوم يحسدونكما، والذي دعوتما إليه عظيم عندهم، وإنما تريدان أن تقلباهم عن دينهم ودين آبائهم إلى دين لا يعرفونه ويستعظمون ما تدعوانهم إليه.

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأملكنّ رقابهم، ولأطأنّ بلادهم بالخيل، ولتسلمنّ قريش والعرب طوعاً أو كرها ولأقطعنّ أكابرهم جهرا ولآخذنّهم بالسيف عنوة، وهكذا أخبرني جبريل عليه السلام عن الله عزّ وجل فرجع أبو طالب من تلك الشعاب

ص:53

من عندهما وهو من أسر الناس بما أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتى أبو طالب خديجة عليها السلام وأخبرها بذلك ففرحت فرحا شديداً وسرت بما قال لها أبو طالب، وعلمت أنهما في حفظ الله عزّ وجل فكان هذا من دلائله صلى الله عليه وآله وسلم(1).

وهذا المشهد الحياتي الذي يصور لنا جانبا من أسلوب خديجة في حياتها الزوجية لهو في الوقت نفسه يظهر لنا دورها الأمومي في تنشئتها لعلي عليه السلام.

إذ لا يخفى على أهل المعرفة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد اتفق مع عمه العباس بن عبد المطلب على إعانة أبي طالب عليه السلام فأخذ العباس بن عبد المطلب عقيلاً فضمه إليه وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً فضمه إليه.

والعلة في ذلك تعود إلى:

1 - أن أبا طالب كغيره من آبائه كانوا مكثرين للإنفاق على المحتاجين مما جعله يؤثر الغير على نفسه وعياله فأراد الله سبحانه أن يجازيه على هذا الصنيع فجعل ولده في حجر خير خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وحيث إن هذه الصفة، صفة الإيثار والانفاق هما مما لا يمكن تغيرهما في نفس أهل الفضائل والمحاسن؛ لأنها أصبحت من سجاياهم وطباعهم، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتضن أحد أبناء عمه فاختار الله له علياً واختار للعباس

ص:54


1- الهداية الكبرى للخصيبي: ص 65.

عقيلاً لحكمة كشفتها الأيام التي تلت بعث النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - ولأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كان ممن اصطفاهم الله لدينه فقد هيأ له أباً هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يصفه علي بقوله:

وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويلفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل(1).

وهيأ له أماً هي خديجة بنت خويلد التي كانت تحنو عليه بأكثر مما تحنو الأم على وليدها، بل ينقل لنا التاريخ صورة عن تعاملها الأمومي مع علي عليه السلام وكأنها أم رزقت بمولود بعد طول انتظار وترقب وصبر وجهاد مع النفس في عدم يأسها من روح الله تعالى.

نعم:

هكذا يروي المسعودي كيفية تعاملها مع علي عليه السلام فيقول: (لما تزوّج صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بنت خويلد علمت بوجده بعلي عليه السلام فكانت تستزيره وتزينه بفاخر الثياب والجوهر وترسل معه ولايدها فيقلن هذا أخو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحب الخلق إليه وقرة عين

ص:55


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام: الخطبة القاصعة، ج 2، ص 157.

خديجة ومن ينزل السكينة عليه)(1).

والرواية تدل على دور خديجة الأمومي في تربيتها لعلي عليه السلام وركائز حبها له، وهي تندرج ضمن النقاط الآتية:

ألف: إن المتأمل في الرواية يجد أن في كل زاوية من زوايا بيت خديجة هناك صورة معبرة عن عمق حبها لزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويجد أيضاً أن حبها لعلي يرتكز على حبها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تدل عبارة المسعودي - أنها - (علمت بوجده صلى الله عليه وآله وسلم بعلي عليه السلام فكانت تعتني به أشد العناية وتزينه بفاخر الثياب والجوهر وترسل معه إماءها خوفا عليه من قريش واليهود).

بمعنى آخر:

أنها تطلب في هذا الصنيع إدخال السرور على قلب زوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما يرى حبيبه وقد ظهر بهذا المظهر الجميل مما يزيد في حبه لولده ويشعره بالاطمئنان عليه لما يلقاه من جميل العناية والاهتمام.

ولعل الآباء يدركون كم يكون منظر أولادهم وهم بهذا الوصف الذي ذكره المسعودي مؤثرا فيهم كما أن العكس لو حصل، أي: ظهور الإهمال من الأم لأبنائها وترجمته إلى واقع عملي في مظهرهم، لما سيؤثر على نفسية الأب،

ص:56


1- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السيلاوي، نقلاً عن: إثبات الوصية للمسعودي: ص 144، ط أنصاريان.

فضلاً عن الإحساس بالألم، وفشل الحياة الزوجية، لتولد الشعور بعدم صلاحية هذه الزوجة لأداء وظيفتها الأمومية في الأسرة.

باء: أن حبها لعلي يرتكز أيضا على أنها في الواقع وجدت فيه الابن الذي فقدته؛ إذ مرَّ في الفصول السابقة أن خديجة عليها السلام فقدت ابنين لها وهما القاسم الذي لم يتم رضاعه وعبد الله الذي مات كذلك في فترة رضاعته.

وعليه فخديجة هي أم فجعت بوفاة ابنين لها ولذا جرت حكمة الله تعالى في أن يكون علي عليه السلام هو الابن الذي يملي عليها الإحساس بالولد فضلاً عن تفريغ كل ما لديها من عاطفة الأمومة لعلي عليه السلام، وتلك من سابق عناية الله تعالى بالإمام علي عليه السلام؛ إذ شاءت إرادة الله تعالى أن يحيا عليٌّ عليه السلام في بيت تكون الأم فيه خديجة والأب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن يترعرع في جو أسري خاص لم يتهيأ لأحد من بني البشر إلا لولديه الحسن والحسين عليهما السلام.

والعجيب في حكمة الله تعالى وسابق لطفه وعنايته بأهل البيت عليهم السلام أن هيأ لهم منشأ وحجوراً ملأها الحب والحنان والعطف والرقة.

ولذا فهم يحبون كل شيء له ارتباط بالله تعالى وينفرون من كل شيء ليس له ارتباط بالله تعالى.

جيم: أما الركيزة الثالثة في حبها لعلي عليه السلام فهو الحب الإيماني، أي: حب الولاية وهو أمر فطري تنقاد له الفطرة الصالحة للإنسان فكما أن

ص:57

الإنسان السوي ينجذب إلى الله تعالى، لأنه مخلوق من الطهر والنقاء فتراه ينساق إلى الإيمان ويعتقد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقر بالشهادتين كذلك حاله مع علي بن أبي طالب عليه السلام؛ لأن حب علي من الإيمان كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال:

لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق(1).

فكيف بخديجة التي حظيت بسلام ربها وأمين وحيه وبشَّرها ببيت في الجنة، فضلاً عن مقامها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا:

فحب خديجة لعلي عليهما السلام كان يرتكز على ثلاث ركائز:

1 - حبها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - حبها الغريزي الأمومي.

3 - حبها الإيماني بالله تعالى ممثلاً بحبها الولائي لعلي عليه السلام والذي سنعرض له إنشاء الله بمزيد من البيان لاحقاً.

أما بقية مضامين الرواية التي رواها الخصيبي فإنها تشتمل على مجموعة من المسائل لا يسع المقام بيانها، لاحتياجها إلى البسط في البحث مما يدفع بالقارئ إلى الابتعاد عن محور البحث وهو بيان الجوانب الحياتية والأسرية لأم المؤمنين خديجة بنت خويلد وطريقة أسلوبها ومناهجها كزوجة لسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:58


1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج 28، ص 51.
رابعا: كيف يتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أم عياله خديجة عليها السلام حينما يدخل المنزل ؟

إنّ من المناهج التربوية التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأسرة المسلمة هو كيفية تعامل الزوج مع زوجته عند دخوله المنزل ؟ وحينما يبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه النقطة مع الرجل كزوج أولاً وأب ثانيا إنما يريد أن يؤسس لنظام تعايشي داخل الأسرة يرتكز على مجموعة من الأسس التي يقوم عليها البناء الأسري، وهي كالآتي:

1 - مما لا شك فيه أن رجوع الزوج أو الأب إلى المنزل يشكل أول نقطة تلاق بين راعي الأسرة وبين أبنائها، فبعد غياب يستمر لساعات يكون فيها الزوج خارج المنزل يعود إلى سكنه وأنسه وعياله؛ بمعنى انتقاله من عالم يحفّه بالتعب والجهد إلى عالم المودة والرحمة.

وهنا: تكمن أهمية التلاقي بين العالمين، فأما أن يحول الرجل عالمه الأسري إلى عالم السوق والمال والمحاسبة، وأما أنْ يتخلص من ذلك العالم، ويحيا مع عالمه الذي صفته المودة والرحمة.

ولأن أغلب الرجال يكونون محمّلين بتلك الشحنات التي تنبعث من ضجيج الأسواق والمحاسبات والمعاملات المختلفة بين الناس، يصبح من الصعب عليه التخلص من آثارها.

ولذا:

لابد من معين يستعين به الرجل على التخلص من أجواء محل عمله، فماذا يصنع ؟

ص:59

جواب: يلقاه القارئ عند بيت خديجة عليها السلام، وهي تصف لنا نقطة التلاقي الأول بينها وبين زوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتقول:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيها ثم يأوي إلى فراشه(1).

هنا: يبدأ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مع الأسرة في منهاجه التربوي للزوجين عند نقطة التلاقي فيما بين العالمين، فيبدأ بالوضوء والصلاة، أي يبدأ أولاً مع الرجل فيدخله إلى عالم جديد يستلهم ما يعينه على التحرر من تلك الضغوطات التي مر بها في أثناء تواجده في محل عمله، وذلك من خلال الاستعانة بالوضوء والصلاة.

أي البدء بعناصر الطهر والرحمة والسكينة؛ ليستقبل بها أهل المودة والرحمة.

2 - الإيجاز في الصلاة هو لغرض التفرغ لأهله وليس الغرض من الصلاة هو قضاء ما فات من الفرائض اليومية التي غفل عنها الرجل في أثناء زحمة العمل أو التوجه للنوافل وما شابه؛ وإنما هو تثمين لهذا المحل وإشعاراً بقدسيته ولذا: يعلِّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآباء والأزواج قدسية البيت، وأنه محل الرحمة فيبدأ دخوله إليه بالصلاة كما يصنع بالمسجد.

ص:60


1- العدد القوية، علي بن يوسف الحلي: ص 222؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 16، ص 80؛ مستدرك الوسائل: ج 3، ص 471.

فليس هناك فارق بين الصلاتين من حيث الأثر التربوي والوظيفة الحياتية، فما وجود المسجد والبيت إلا لغرض صلاح الإنسان.

3 - إيواء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لفراشه لا يدل على عدم الجلوس والحديث وتناول الطعام وإنما إشارة إلى استحقاق الزوجة من حياة الرجل؛ بمعنى: أيها الرجل دع هموم عملك خارج منزلك وتفرغ لزوجك واهتم بعيالك واستفد من نعمة الله تعالى؛ إذ هيأ لك سكناً وإنساً واغنم لنفسك ما يلزمها من عناصر البقاء والقدرة على مواصلة الجهد والكد في العمل.

إذن:

لخديجة الزوجة عليها السلام كان نصيب من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسكنا يتعامل معه بالتعظيم والرحمة كما يتعامل مع المسجد من حيث كونه محلاً لأداء شكر المنعم، وموضعاً يقترن بالرحمة والقدسية والطمأنينة.

المسألة الرابعة: جهادها ومؤازرتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالته

اشارة

من أهم السمات التي اتسمت بها حياة السيدة الطاهرة خديجة عليها السلام، هي سمة الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومؤازرته في تبليغ رسالة ربه.

بل لا نبالغ - كما سيرى القارئ - إن قلنا أن هذه السمة انفردت بها خديجة عليها السلام من بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:61

إذ لم تمرّ إحداهن بمثل ما مرت به السيدة خديجة منذ انطلاق الدعوة إلى التوحيد وإلى آخر يوم من حياتها؛ حيث مضت وهي متأثرة بما وقع عليها وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ظلم وحصار اقتصادي بالغ فيه المشركون أشد المبالغة، فضلاً عن تلقيها آلام الضرب والتعذيب وهو ما لم يحدث لحرة من حرائر قريش، فضلاً عن حفظ مكانة أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة إلى المدينة حيث قضين حياتهن بالأمن والاستقرار، ولم يكن لبعضهن سوى الاهتمام بالنفقة والغيرة من الضرة ومحاسبته صلى الله عليه وآله وسلم على المبيت والتظاهر عليه وإثارة المشاكل وتنغيص حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى عاتبه الله عزّ وجل في ذلك فقال:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ )1 .

وتهديد الله سبحانه لبعضهنّ إن لم يتوبا إلى الله تعالى عما يصنعن من الأذى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال سبحانه وتعالى:

(وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ

ص:62

ذلِكَ ظَهِيرٌ)1 .

في حين قضت السيدة الطاهرة خديجة الكبرى عليها السلام حياتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشكل من الطاعة والحب والتفاني في خدمة النبي ورعايته بشكل لم يحظَ به نبي من الأنبياء عليهم السلام على اختلاف منازلهم عند الله تعالى فضلاً عن المقارنة بين مقامات نساء الأنبياء ومقام خديجة ومنزلتها في مكة وحالة الغنى والترف الذي كانت تعيش فيه قبل زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحسبها ونسبها ومنعتها وحرص أشراف قومها على الاقتران بها، وإذا بها تتلقى مختلف أنواع الأذى من المشركين، وهي لا تبتغي في جميع ما نزل بها سوى مرضاة ربها ورسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا:

فشتان بين امرأة تجاهد على حصول رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبين امرأة تحرص على أذى الله وأذى رسوله حتى يهددها الله في محكم كتابه ويحذرها من الاستمرار بفعلها.

ومن هنا:

كان لخديجة من السمة الجهادية لقيام الإسلام ومؤازرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته ما لم يكن لامرأة، وهو ما ستظهره النقاط الآتية:

ص:63

أولا: فداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسها وحفظه من الأذى

يروي العلامة المجلسي - طيّب الله ثراه - عن كتاب المنتقى في مولد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، قائلا:

(ولما أنزل الله تعالى:

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )1 .

قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا ونادى في أيام الموسم:

يا أيها الناس إني رسول رب العالمين.

فرمقه الناس بأبصارهم، ورماه أبو جهل قبحه الله بحجر فشج بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتى أتى الجبل فاستند إلى موضع يقال له: المتكأ وجاء المشركون في طلبه، وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: يا علي قد قتل محمد، فانطلق إلى منزل خديجة - رضي الله عنها - فدق الباب فقالت خديجة:

من هذا؟

قال عليه السلام:

أنا علي.

قالت:

يا علي ما فعل محمد؟

ص:64

قال عليه السلام:

لا أدري إلا أن المشركين قد رموه بالحجارة، وما أدري أحي هو أم ميت، فأعطيني شيئا فيه ماء وخذي معك شيئا من هيس وانطلقي بنا نلتمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنا نجده جائعا عطشانا.

فمضى حتى جاز الجبل وخديجة معه فقال علي:

يا خديجة استبطني الوادي حتى أستظهره.

فجعل ينادي:

يا محمداه، يا رسول الله، نفسي لك الفداء في أي واد أنت ملقى ؟

وجعلت خديجة تنادي:

من أحس لي النبي المصطفى ؟ من أحس لي الربيع المرتضى ؟ من أحس لي المطرود في الله ؟ من أحس لي أبا القاسم ؟

وهبط عليه جبرئيل عليه السلام فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بكى وقال:

ما ترى ما صنع بي قومي ؟ كذبوني وطردوني وخرجوا عليّ .

فقال جبرئيل عليه السلام:

يا محمد ناولني يدك.

فأخذ يده فأقعده على الجبل، ثم أخرج من تحت جناحه درنوكا من درانيك الجنة منسوجا بالدر والياقوت وبسطه حتى جلل به جبال تهامّة، ثم

ص:65

أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أقعده عليه، ثم قال له جبرئيل:

يا محمد أتريد أن تعلم كرامتك على الله ؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

نعم.

قال جبرئيل عليه السلام:

فادع إليك تلك الشجرة تجبك.

فدعاها فأقبلت حتى خرت بين يديه ساجدة، فقال:

يا محمد مرها ترجع

فأمرها فرجعت إلى مكانها.

وهبط عليه إسماعيل حارس السماء الدنيا فقال:

السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربي أن أطيعك، أفتأمرني أن أنثر عليهم النجوم فأحرقهم.

وأقبل ملك الشمس فقال:

السلام عليك يا رسول الله، أتأمرني أن آخذ عليهم الشمس فأجمعها على رؤوسهم فتحرقهم.

وأقبل ملك الأرض فقال:

السلام عليك يا رسول الله: إن الله عز وجل قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الأرض فتجعلهم في بطنها كما هم على

ص:66

ظهرها؟

وأقبل ملك الجبال فقال:

السلام عليك يا رسول الله إن الله قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الجبال فتنقلب عليهم فتحطمهم ؟

وأقبل ملك البحار فقال:

السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربى أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر البحار فتغرقهم ؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

قد أمرتم بطاعتي ؟

قالوا:

نعم.

فرفع رأسه إلى السماء ونادى:

إني لم أبعث عذابا، إنما بعثت رحمة للعالمين، دعوني وقومي فإنهم لا يعلمون.

ونظر جبرئيل عليه السلام إلى خديجة تجول في الوادي فقال:

يا رسول الله ألا ترى إلى خديجة قد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ ادعها إليك فأقرئها مني السلام، وقل لها: إن الله يقرئك السلام، وبشرها أن لها في الجنة بيتا من قصب لا نصب فيه ولا صخب، لؤلؤا مكللا بالذهب.

فدعاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدماء تسيل من وجهه على

ص:67

الأرض، وهو يمسحها ويردها قالت:

فداك أبي وأمي دع الدم يقع على الأرض.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

أخشى أن يغضب رب الأرض على من عليها.

فلما جنَّ عليهم الليل انصرفت خديجة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام ودخلت به منزلها، فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة، وأظلته بصخرة من فوق رأسه، وقامت في وجهه تستره ببردها، وأقبل المشركون يرمونه بالحجارة، فإذا جاء من فوق رأسه حجر وقته الصخرة، وإذا رموه من تحته وقته الجدران الحيط ، وإذا رمي من بين يديه وقته خديجة - رضي الله عنها - بنفسها، وجعلت تنادي:

يا معشر قريش ترمى الحرة في منزلها؟

فلما سمعوا ذلك انصرفوا عنه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغدا إلى المسجد يصلي)(1).

والحديث غني عن البيان في تعريف القارئ المسلم وغير المسلم في تحقق جهاد خديجة في قيام الإسلام وتقديم نفسها فداءً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان الجهاد ساقطاً عنها إلا أنها لم تكن لتترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرضةً لحجارة المشركين وتجلس هي مكتوفة اليدين.

ص:68


1- بحار الأنوار: ج 18، ص 244.

ولعل كثيراً من هذه الحجارة أدمتها إلا أنها لم تصرح بذلك، كي لا تدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الألم حينما يعلم ما نزل بها.

وإلا ما معنى قولها للمشركين: أترمى الحرة في دارها؟! فضلاً عن وصف الرواية للحدث الذي يظهر بوضوح أن الحجارة كانت تأتيها من كل جهة، ولذا قامت بحماية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجهات الست من فوقه ومن تحته وعن يمينه وشماله وعن خلفه وأمامه.

إنها صورة انفردت بها خديجة في حياتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما انفردت هي من بين النساء.

ثانيا: مؤازرتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحصار حتى أكلت ورق الأشجار

كم هو ظالم التاريخ حينما يكون المؤرخ يكتب مادته التاريخية على ورق مدفوع الثمن من خزينة السلطة.

هكذا ترى التاريخ الإسلامي حينما كتب سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إنه ظالم للتاريخ الإنساني برمته، وظلوم للقراء المسلمين حينما ينظرون إلى تاريخهم وهو يصف خير الناس وأشرفهم بوصف لم يشأ الحكام أن يكون تام المعالم، واضح الصورة؛ فضلاً عن نقل معالم غريبة على القرآن، مستوحشة في قاموس الإنسانية.

وإلا كيف يفسر الإنسان - المسلم - إقدام سليمان بن عبد الملك على إتلاف السيرة النبوية حينما عرضها عليه أبان بن عثمان، لسبب يعود إلى كونها

ص:69

تتضمن مناقب الأنصار في العقبتين وغيرها مما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام، الذين هم أولى من الأنصار في بيان فضلهم، فكيف يترك بنو أمية تدوين هذه الفضائل وبنو هاشم والأنصار أعداؤهم.

ولذا أمر بتخريق ما كتبه أبان بن عثمان كما تنص الرواية التي رواها الزبير بن بكار، وهي كالآتي:

(قدم سليمان بن عبد الملك إلى مكة حاجا سنة (82 ه ) فأمر أبان بن عثمان بن عفان(1) أن يكتب له سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومغازيه.

فقال له أبان: هي عندي، قد أخذتها مصححة ممن أثق به، فأمر سليمان عشرة من الكُتّاب بنسخها، فكتبوها في رق، فلما صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر.

فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإما أن يكون أهل بيتي غمطوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا!!

فقال أبان: أيها الأمير، لا يمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحق، هم ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

ص:70


1- أبو سعيد أبان بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، كان واليا على المدينة لعبد الملك بن مروان سبع سنين ثم عزله عنها؛ عده الرازي في المدنيين، وقد روى عنه أبو الزناد ونبيه بن وهب وعبد الله بن أبي بكر والزهري، مات بالفالج في خلافة يزيد بن عبد الملك عام 105 ه ؛ أنظر الطبقات لابن سعد: ج 5، ص 151-152؛ الجرح والتعديل للرازي: ج 2، ص 295؛ مشاهير علماء الأمصار لابن حبان: ص 111؛ تقريب التهذيب لابن حجر: ج 1، ص 51؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 1، ص 84.

فقال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين لعله يخالفه، ثم أمر بالكتاب فخرق، ورجع فأخبر أباه عبد الملك بن مروان بذلك الكتاب.

فقال عبد الملك: (وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تُعرّف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها؟!

قال سليمان: فلذلك أمرت بتخريق ما نسخته)(1).

والحادثة التي مرّ ذكرها لا تحتاج إلى تعليق، فهي واضحة الدلالة في تدخل حكام بني أمية في تدوين السيرة النبوية؛ ويا ليت شعري أن الأمر اقتصر على التدخل في كتابتها، بل حرق هذه السيرة وإتلافها لكونها لم تتضمن بين ثناياها أي ذكر لبني أمية في مواضع الخير التي حفت بها سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وما أدري ما هو ذنب السيرة إذا كان بنو أمية قد تعاقدوا مع الشر، فكانوا حضورا معه أينما حضر؛ هذا من جانب.

والجانب الآخر:

إذا كانت السيرة النبوية في زمن عبد الملك بن مروان ينتهي بها الحال إلى الخرق لخلوها من ذكر طيب لآل عبد الملك بن مروان، فكيف يكون

ص:71


1- الموفقيات للزبير بن بكار: ص 322-323؛ وللمزيد من التفاصيل فيما تعرضت له السيرة النبوية من الاضطهاد أنظر: الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد لشيخ كتاب السيرة محمد بن إسحاق أنموذجا، تأليف السيد نبيل الحسني.

حالها وهي تضم مناقب بني هاشم وعلى رأسهم علي بن أبي طالب عليه السلام ؟!

ولذلك: كانوا إذا مرّ بهم حديث فيه ذكر لعلي بن أبي طالب عليه السلام يتعاملون معه معاملة خاصة يدل عليها الشاهد الآتي:

روى أبو الفرج الأصفهاني: (إنّ خالدا القسري(1) - وهو أحد ولاة بني أمية - طلب من الزهري أن يكتب له السيرة فقال الزهري: فإنه يمر بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب، أفأذكره ؟

ص:72


1- خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرزة، أبو الهيثم البجلي القسري، أمير مكة للوليد بن عبد الملك، وأمير العراقين لهشام بن عبد الملك، وهو من أهل دمشق. (تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 16، ص 135). قال الذهبي عنه في الكاشف: (ناصبيا عَذّب وقتل). (الكاشف في معرفة من له رواية في كتب السنة: ج 1، ص 366). وقال في السير نقلا عن ابن خلكان: (كان يتهم في دينه، بنى لأمه كنيسة تتعبد فيها، وفيه يقول الفرزدق: إلا قبح الرحمن ظهر مطية أتتنا تهادى من دمشق بخالد وكيف يؤم الناس من كان أمه تدين بأن الله ليس بواحد بنى بيعة فيها الصليب لأمه ويهدم من بغض منار المساجد (سير أعلام النبلاء: ج 5، ص 427). وقال الذهبي في ميزانه، وفي تاريخ الإسلام: (ناصبي بغيض ظلوم، قال ابن معين: رجل سوء يقع في علي). (ميزان الاعتدال: ج 1، ص 633؛ تاريخ الإسلام: ج 8، ص 83؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 13، ص 156).

فقال خالد: لا إلا أن تراه في قعر جهنم، فقال الزهري: فلعن الله خالدا ومن ولاه وصلوات الله على أمير المؤمنين)(1).

وكان خالد القسري يسمي بئر زمزم بأم الخنافس(2) ، وحينما ولاه عبد الملك بن مروان على الكوفة تتبع شيعة أهل البيت عليهم السلام فأخذ سعيد ابن جبير، وطلق بن حبيب، فأنكر الناس عليه ذلك فقام خطيبا فقال: (كأنكم أنكرتم ما صنعت، والله أن لو كتب إليّ أمير المؤمنين - هشام بن عبد الملك - لنقضتها حجرا حجرا، يعني الكعبة)(3).

بل إنّ بني أمية لم يتحملوا حتى ذكر اسم المدينة المنورة.

فقد اسماها يحيى بن الحكم(4) بالخبيثة!

فقد روى القيرواني عن بذيح أنه قال: (وفد عبد الله بن جعفر الطيار ابن أبي طالب - عليهما السلام - على عبد الملك بن مروان، فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب، ثم أخذه فأجلسه معه على سريره، ثم سأله فألطف المسألة، حتى سأله عن مطعمه ومشربه، فلما انقضت مسائله قال يحيى

ص:73


1- الأغاني للأصفهاني: ج 22، ص 21؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 53، وقد مر ذكر الحديث سابقا.
2- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 16، ص 161؛ سير أعلام النبلاء، للذهبي: ج 5، ص 429.
3- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 16، ص 161.
4- يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أمية أخو مروان بن الحكم سكن دمشق وولاه ابن أخيه عبد الملك بن مروان المدينة ثم ولاه حمص. (تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 64، ص 119).

ابن الحكم: (أمن خبيثة كان وجهك أبا جعفر)؟

قال: (وما خبيثة)؟!

قال: أرضك التي جئت منها!

قال عبد الله بن جعفر: سبحان الله!! رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يسميها طيبة وتسميها خبيثة، قد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين)(1).

إذن:

هذا حال تدوين السيرة النبوية في عصر ملوك بني أمية، وهذه حال المواضع المقدسة، وهي - أي، هذه السيرة ترتبط بمن يقولون إنهم من أتباع دينه صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف تكون عندهم سيرة من لا يعتقدون به ؟ وكيف تكون سيرة من يبغضونه كل هذا البغض الذي دلت عليه الرواية)؟!!

وعليه:

فمن الطبيعي بمكان أن تكون فترة الحصار التي مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته - خديجة وابنتها فاطمة الزهراء عليهما السلام - وعمه أبي طالب وولديه علي وجعفر ومن آمن به من بني هاشم ومن آمن به من قريش والبالغة ثلاث سنوات أو أكثر، فترة يلفها الغموض والإقصاء وأنت ترى أن ما نقشه المؤرخون عنها في مصنفاتهم ومروياتهم سوى صفحة واحدة إن أرادوا الانصاف ضمن مقاييسهم الضمائرية.

ص:74


1- الدرجات الرفيعة لعلي خان المدني: ص 177.

بل: إنك لن تجد سوى إشارات هنا أو هناك في كتب التاريخ أوالحديث توحي لذوي البصائر حجم هذه المأساة التي أطبقت على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن به.

في حين أنك تجد صفحات عديدة تتحدث لك عن تفاهات حول مظاهر العيش في مكة قبل الإسلام، وأخرى تقص عليك أخبار ملوك اليمن وقصور الشام و... و....

لكنهم يصابون بالصم والبكم حينما يأتون إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلال هذه السنوات العجاف.

ولعل دراهم بيت المال تفك عقدة الألسن في مكان، وتعيبها بالبكم في مكان آخر!

من هنا:

لم نوفق إلى معرفة طبيعة العيش والجهد والجهاد الذي قضاه خير خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه السنوات من الحصار الظالم من أهل مكة عليه وعلى زوجه وابنته وعمه أبي طالب وولديه علي وجعفر عليهم السلام أجمعين.

إلا أن اللبيب بالإشارة لغني، ويكفيه من الكلام قليله، فبه الدلالة على حجم ما قامت به السيدة خديجة في نصرتها ومؤازرتها لزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحملها الأذى في نصرة شريعة ربها إلى الحد الذي كانت فيه تأكل ورق الأشجار من الجوع في أثناء الحصار في شعب أبي طالب.

ص:75

كما تدل الرواية الآتية:

روى الشقنيطي عن النيسابوري ما نصه:

(يروى أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت:

مالك ؟

فقال:

الزمان زمان قحط ، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك، فأستحي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله.

فدعت - خديجة - قريشا وفيهم الصدّيق، قال الصدّيق: فأخرجت دنانير حتى وضعتها، بلغت مبانا لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي، ثم قالت:

اشهدوا أن هذا المال ماله، إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه.

هذه القصة وإن لم يذكر سندها، فليس بغريب على خديجة رضي الله تعالى عنها أن تفعل ذلك له صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك حين دخلت معه الشعب فتركت مالها، واختارت مشاركته صلى الله عليه وآله وسلم لما هو فيه من ضيق العيش، حتى أكلوا ورق الأشجار، وأموالها طائلة في بيتها)(1).

ص:76


1- أضواء البيان: ج 8، ص 562؛ تفسير الرازي: ج 31، ص 219، ولم يذكر ما ذهب إليه الشنقيطي من أكلهم ورق الأشجار.

المبحث الثاني: آثار حياتها الزوجية على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأسرة المسلمة

اشارة

إنّ المتدبر في الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تتحدث عن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسرية يرى بوضوح حقيقة منزلة أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى وعند رسوله، كما يرى بوضوح آثار حياة خديجة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بقية أزواج النبي ودورها التربوي والإصلاحي لكل أسرة مسلمة تبتغي أن تكون المرأة فيها بحث زوجة صالحة كما كانت خديجة بحق الزوجة الصالحة.

المسألة الأولى: كانت خديجة قدوة لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم

لم يفتأ(1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذكر لخديجة أمام أزواجه - على الرغم من اعتراض بعضهن عليه - لحاجة في نفسه صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن يتخذْنَها قدوة؛ وإلاّ لا يصح الاعتقاد بأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان على الرغم من سماعه اعتراض عائشة وتسببها في غضبه لم يكن ليترك ذكر خديجة عليها السلام دون أن يكون لذلك حكمة إلهية،

ص:77


1- فتأ: أي أنه مستمر في الذكر لم يمنعه مانع لأنه يعد عدم الذكر جحوداً، قال تعالى:(قالُوا تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ ) سورة يوسف، الآية: 85.

لاسيما ونحن نتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أقرن الله تعالى طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته، فقال سبحانه:

(وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )1 .

وقال تعالى:

(وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ )2 .

وخير دليل يستدل به المسلم على أنها خير قدوة لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها دون منازع كانت الزوجة الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها وهو يذكر صفاتها التي امتازت بها على غيرها من أزواجه.

فقد روى ابن عبد البر عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت هل كانت إلا عجوزاً فقد أبدلك الله خيرا منها!!!

ص:78

فغضب - رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال:

لا والله، ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء.

قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً)(1).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

لا والله ما أبدلني الله خيرا منها.

دليل يقطع الطريق على المسلم في احتمال أن تكون إحدى أزواجه خيراً من خديجة لاسيما إذا نظرنا إلى استخدام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أداة النفي القسم بالله تعالى، فضلاً عن شدة غضبه وألمه لما قالته عائشة.

والذي يبدو أنه سمع منها غير هذه الكلمة، أي (عجوزاً) وإلا لا يمكن تصور حدوث غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشديد الذي وصفته عائشة بقولها (حتى اهتز مقدم شعره من الغضب)، مع ما أوتي من الحلم والصبر كان لمجرد هذه الكلمة.

ومما يدل عليه: أن الحافظ الذهبي لم يشأ أن يفصح عن بقية الكلمات التي نطقتها عائشة أو لعله حفظ الرواية بالشكل الذي وصلت إليه بهذا اللفظ :

ص:79


1- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1824؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 5، ص 439؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 103؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 52؛ السيرة الحلبية: ج 3، ص 401.

(فقلت: عجوزا! كذا وكذا)(1) ولا ندري ماذا احتوت (كذا وكذا) من ألفاظ أغضبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الغضب الشديد.

ولذا: لم تكن امرأة من بين أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم نالت كل هذه الصفات التي نالتها خديجة عليها السلام فكانت بحق: (الزوجة الصالحة) التي أراد النبي الأكرم من أزواجه أن يتخذنها قدوة في حياتهن معه.

وهو يفسر لنا لماذا أعرض النبي الأكرم عن الزواج بعد وفاة خديجة عليها السلام حتى عوتب في ذلك، كما جاء في الأثر عن خولة بنت حكيم، قالت: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة، قال:

أجل كانت أم العيال وربة البيت(2).

المسألة الثانية: ولأن خديجة ربة البيت وأم العيال، كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد حزن عليها حتى خُشِيَ عليه

اشارة

ولأن خديجة عليها السلام كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربة بيته وأم عياله فقد حزن على فقدها (حتى خُشِيَ عليه)(3) من الحزن.

ولأنها كانت كذلك فقد عاش مع ذكراها، وكأن ليس هناك امرأة

ص:80


1- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 117.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 57؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 102.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 60؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 452؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 102؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 117.

استحقت أن تكون سكنه وموضع أنسه وهو القائل:

إني قد رزقت حبها(1).

ولذا:

كان يتبع منهاجاً في إحيائه لذكر خديجة عليها السلام لحكمة بالغة يمكن معرفتها من خلال الملاحظات الآتية:

1 - كونه صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الخلق العظيم فإن الوفاء لها لا يخرج عن كونه من سماته الكمالية وسجاياه الأخلاقية - كما سيمر بيانه -.

2 - تأسيس حياة أسرية في المجتمع تقوم على دور الزوج في حفظ عشرة زوجته مما يتلاءم مع خلق حالة وجدانية تقوم على زرع المحبة في نفوس الأبناء.

3 - تثبيت مكانة المرأة في الأسرة والمجتمع من خلال الالتفات إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعلة كونه المشرع والمعلم للبشرية.

4 - امتياز الدين الإسلامي عن بقية الديانات والمدارس التربوية في تسجيل صورة عن حفظ مكانة المرأة بعد وفاتها فكيف بها حينما كانت موضع سكن الرجل وأنسه.

5 - تعليم المرأة المسلمة على حسن التبعل وأن ذلك سينعكس على كل حياة الرجل فضلا عن آثاره الإيجابية على أولادها حينما يتعايشون مع هذا الحب والوفاء في بيتهم لأمهم.

ص:81


1- صحيح مسلم: باب، في فضل عائشة: ج 7، ص 134؛ العمدة لابن البطريق، في ذكر مناقب خديجة عليها السلام: ص 393.

إما كيف ترجم هذا الفعل النبوي على أرض الواقع الحياتي له صلى الله عليه وآله وسلم فكان كالآتي:

أولا: إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأرحام خديجة عليها السلام

تُظهر الرواية التاريخية أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يغدق أرحام خديجة بكرمه ولطفه ويتعاهدهم بالهدية، وقد ورد في الحديث عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليذبح الشاة ثم يهدي في خلتها منها، أي يهدي أحباب خديجة عليها السلام من الذبيحة(1).

وهذا يدل على حسن العهد، أن (وهو إهداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللحم لإخوان خديجة ومعارفها ورعياً منه لذمامها وحفظا لعهدها)(2) كل ذلك باعثه حسن العهد الذي دل عليه خلق القرآن.

وقد أخرج الحاكم النيسابوري من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عندي، فقال لها:

من أنت ؟

قالت: أنا جثامة المزنية فقال:

بل أنت حسانة المزنية كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟

قالت: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول

ص:82


1- صحيح البخاري: كتاب الأدب، ج 7، ص 76.
2- عمدة القاري للعيني: ج 22، ص 103.

الله! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال:

إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان(1).

فضلاً عن ذلك: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم بني عبد العزى على بني عبد الدار(2) ويكرمهم لمكانة خديجة عليها السلام فإنهم أصهاره(3) وقرابته؛ فخديجة هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن عبد مناف بن قصي، وهو جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرابع.

ثانيا: إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحباب خديجة عليها السلام

من الأفعال النبوية التي كانت موجّهة لكل أسرة مسلمة هو قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإكرام أحباب خديجة ومعارفها وأصحابها وهو دليل على ما يكتنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حب وحرمة لخديجة في نفسه وهو ما لم تنلْه امرأة غيرها.

بل إنه لمشهد قل نظيره حتى عند الأنبياء عليهم السلام؛ إذ لم تحدثنا الروايات عن امرأة حظيت بكل هذا الحب والتكريم من زوجها مثلما حظيت به خديجة لاسيما بعد وفاتها؛ وذلك أن طابع الرجل الميل السريع إلى المرأة وعدم القدرة على البقاء خلياً دون زوجة، حتى إذا اقترن بأخرى فسرعان ما تنسيه الحياة الجديدة زوجته السابقة.

ص:83


1- المستدرك على الصحيحين للنيسابوري: ج 1، ص 16؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 85، ح 11049.
2- المغني لابن قدامة: ج 7، ص 310.
3- مغني المحتاج للشربيني: ج 3، ص 96.

لكننا حينما نأتي إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإننا لنجد صورة فريدة لاحترام الزوج زوجته والحنين إليها وإكرام ذويها وأحبابها تعبيرا عن تلك المكانة التي لها في قلبه كما تحدثنا به الروايات، ومنها:

1 - روى القاضي النعمان المغربي وابن البطريق، قولهما: (كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جارة قد أوصته خديجة أن يتعاهدها(1) ، فهدي إليه لحم جمل أو لحم جزور، فأخذ بيده لحما، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

إذهب إلى فلانة.

فقالت عائشة: يا رسول الله لم غمرت يدك قد كان فينا من يكفيك، قال:

ويحك إن خديجة أوصتني بها.

فأدركت عائشة الغيرة لذكر خديجة.

فقالت: كأن ليس في الأرض امرأة إلا خديجة.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

قومي عني(2)!

- ثم - خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو غضبان فلبث ما شاء الله أن يلبث، ثم دخل عليها وعندها أمّها - أم رومان - فقالت: يا رسول الله ما لعائشة ؟ إنها حدثة، وهي غبراء.

ص:84


1- العمدة لابن البطريق: ص 394.
2- العمدة لابن البطريق: ص 394.

فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشدق(1) عائشة، ثم قال:

ألست القائلة: كأن ليس في الأرض امرأة إلا خديجة ؟ لقد آمنت بي إذ كفر بي قومك، وقبلتني إذ رفضني قومك، ورزقت مني الولد إذ حرمت مني.

قالت عائشة: فما ترك شدقي حتى ذهب من نفسي كل شيء كنت أجده على خديجة)(2).

2 - إحسانه صلى الله عليه وآله وسلم لأم زفر وهي ماشطة خديجة، والظاهر من ترجمتها أنها كانت تقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة، فكان يعرّفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويقول:

إنها كانت تغشانا في زمن خديجة(3).

3 - أخرج الحاكم النيسابوري عن أنس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى بشيء يقول:

إذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة خديجة، إذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت تحب خديجة(4).

4 - أخرج مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها، قالت: وكان

ص:85


1- الشدق: جانب الفم؛ لسان العرب لابن منظور: ج 10، ص 172.
2- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 18.
3- الإصابة لابن حجر، ج 8، ص 396.
4- المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري: ج 4، ص 175؛ الأدب المفرد للبخاري: باب، قول المعروف: ص 85.

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذبح الشاة فيقول:

أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة(1).

وفي رواية أنه قال:

إني لأحب حبيبها(2).

فهذه الأحاديث لتعطي صورة واضحة الملامح عن مقام خديجة عليها السلام ومنزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تدل على وضع منهاج عملي للحياة الأسرية يقوم على حفظ مقام الزوجة وتعميق حبها في نفوس ذويها ولاسيما أبناؤها كي يتأسسوا بتلك السنة النبوية فضلاً عن بيان ما لحسن التبعُّل من أثر كبير في نفس الزوج سواء أكانت المرأة حية أم ميتة.

فضلاً عن إظهار صاحب الرسالة المحمدية للمرأة الصالحة في المجتمع وتخليد ذكراها، وهو ما لم يلاحظ في الأمم التي سبقت الإسلام أو التي تدعي التمدن أو التحضر في الوقت المعاصر.

بقي أن نقول: إن المرأة الصالحة لا تحظى فقط باحترام زوجها وحبه لها، وأنما تحظى برضا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولأن أم المؤمنين خديجة عليها السلام لها مقام خاص فيما بين النساء، ومنزلة محمودة عند الله تعالى، فقد حظيت بمنازل لم تحظَ بها امرأة من العالمين سوى ابنتها فاطمة ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم عليهن السلام وهو ما سنتناوله في المباحث اللاحقة.

ص:86


1- صحيح مسلم: باب في فضل عائشة: ج 7، ص 134.
2- الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 103.

الفصل السابع: منزلة خديجة فى القرآن و السنة

اشارة

ص:87

ص:88

حينما يكون الإنسان بهذا المستوى من الرقي النفسي والصفاء الذاتي فإن ذلك سيترجم إلى أفعال ملموسة ومحسوسة لدى الناس كما يحس أحدهم بلون الورد وشذى عطره كما أنه في نفس الوقت يكون مصداقاً لما يحتويه الإنسان من صلاح؛ بل يرى بأنه كيان صالح لا يصدر عنه إلا الخير، حاله كالشجرة المثمرة لا تخرج إلا ما ينفع الناس، وفي المقابل لا تأخذ شيئاً سوى أكواب من الماء.

وهكذا عباد الله المخلصين:

(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)1 .

وحينما يستقر بنا المقام عند أعتاب هذا الصرح العظيم، أي السيدة خديجة عليها السلام فإننا سنجد لهذا الصلاح الذي غمرها فخلصت كما يخلص الذهب المصفى، منازل ودرجات كأنها أوسمة افتخار وشهادة اعتزاز لهذا الجهاد في الله تعالى.

فكانت رحلتنا في أروقة هذا الصرح العظيم قد تضمنت التوقف عند بعض المناهل الروية لغرض التزود لهذا السير في معرفة هذا السِفر الخالد.

ص:89

المبحث الأول: منزلتها عند الله تعالى

اشارة

يمكن لنا أن نقف على منزلتها عند الله تعالى بما يتناسب مع هذا المبحث من خلال مسألتين، إحداها: في مباهاة الله بها ملائكته، والأخرى: إطعامها من ثمار الجنة وهما مسألتان تدلان على حقيقة يقينها بالله ودرجة عبوديتها لربها، أي: منزلتها في سلم التوحيد ومراتبه.

المسألة الأولى: إن الله تعالى يباهي بها ملائكته عليهم السلام

لم يكد يخفى على القارئ الكريم المنزلة التي لخديجة عند الله تعالى وقد أخلصت لربها وجاهدت في سبيله وناصرت رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وواسته بنفسها ومالها فنالت عند ربها منزلة خاصة حتى نقل جبرائيل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلاماً من الله عليها، وسلامه هو أيضا إليها؛ كما ينص البخاري(1).

إلا أنّ من الأحاديث ما يكشف عن بيان آخر عن سمو هذه المنزلة، وهو ما رواه علي بن يوسف الحلي في العدد القوية فقال:

(بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جالس بالأبطح ومعه عمار بن ياسر، والمنذر بن الضحضاح وأبو بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، إذ هبط عليه جبرئيل عليه السلام في صورته العظمى، قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه:

ص:90


1- صحيح البخاري:

يا محمد العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحا.

فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لها محبا وبها وامقا.

قال:

فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوما، يصوم النهار ويقوم الليل، حتى إذا كان في آخر أيامه تلك، بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر، وقال قل لها:

يا خديجة لا تظني أن انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكن ربي عز وجل أمرني بذلك لينفذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا، فإن الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا، فإذا جنك الليل فأجيفي الباب، وخذي مضجعك من فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مرارا لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

فهذه الرواية تظهر جانباً من المنزلة والمقام الذي بلغته خديجة عليها السلام عند الله تعالى إذ كانت ممن يباهي بها الملائكة.

ص:91


1- العدد القوية: 221؛ الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 452؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 16، ص 78.

والمباهاة: هي المفاخرة، وتباهوا أي: تفاخروا(1).

أما لماذا يباهي بها الملائكة عليهم السلام ؟

فلأنها قدّمت من الطاعة لله حينما ابتليت بما لم تستطع عليه الملائكة عليهم السلام، وذلك لأن الملائكة مجبولون على الطاعة ومرفوع عنهم الابتلاء؛ ولذا هم لا يعصون الله مطلقا.

قال تعالى في معرض بيانه لسجود الملائكة لآدم عليه السلام حينما استفهموا من ربهم سبب تفضيل هذا الخلق الجديد عليهم أن قالوا:

(تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ )2 .

وفي بيانه عزّ شأنه لطاعتهم التي فطروا عليها ان قال سبحانه:

(عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )3 .

ولذا:

فإن خديجة حينما تعطى كل أسباب الدنيا من المال، والثراء، والجمال، والحسب، وشرافة النسب، وتوقد الفهم، وحسن المنطق، فتسخره في طاعة

ص:92


1- الصحاح للجوهري: ج 6، ص 2288.

ربها، وتهاجر إليه وإلى رسوله، هذه الهجرة التي وصفها القرآن بقوله:

(وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)1 .

فخديجة لم يخيرها ربها بين الدنيا والآخرة كما حصل لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كعائشة وحفصة وأم سلمة وغيرهن وإنما أعطاها أسباب الدنيا لكنها هجرتها وأرادت الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا لأجل جنته وإنما حبّاً به وبرسوله:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ )2 .

وخديجة قادها حبها لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدرجة التي يباهي الله بها ملائكته.

وذلك من خلال بلوغها رتبة عالية من مراتب التوحيد حينما كان حسن ظنها بالله قد قادها إلى التسليم المطلق بما اختار لرسوله الأكرم من تكاليف، بمعنى: لم تساورها الشكوك في هجران رسول الله لها وانقطاعه عنها خلال هذه المدّة الزمنية البالغة أربعين يوماً، كما لم تساورها الشكوك في صدق اعتقادها بنبوته وإيمانها بقوله وانقيادها لأمره، ولا يخفى على أهل المعرفة كم تحتاج هذه المنازل من جهاد مع النفس واجتهاد على الصبر والأنس بما قدر الله سبحانه، فكيف لا يباهي الله بها ملائكته جلت قدرته.

ص:93

المسألة الثانية: إطعامها من ثمار الجنة

ومن الأحاديث أيضا ما يظهر جانباً آخر من البيان لهذه المنزلة، وهو إطعامها عليها السلام من ثمار الجنة، كما يروي الحافظ الطبراني والهيثمي عن عائشة أنها قالت: (أطعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خديجة من عنب الجنة)(1).

وهذه المكافأة والجائزة التي نالتها السيدة خديجة في الحياة الدنيا إنما هي لغرض منحها رتبة الجواز في الدخول إلى الجنة، وهي في الحياة الدنيا، وهذا يتطلب مقدمات خاصة حتى يصل الإنسان مستوى من النقاء الصحائفي والصدق اليقيني حتى ينال هذه الجائزة وهي تحقق الفوز في الآخرة قبل الانتقال إليها.

بمعنى: لم يبق في تكوين خديجة وشخصها الإنساني عارض يحول دون التقاء العنصر الأخروي المخلوق من عالم الأمر وحلوله فيها وهي في عالم الملكوت والشهادة عالم المادة.

بمعنى آخر أنها تخلصت من كل الكدورات التي تعلق بالإنسان حينما يمر بتلك العوالم التكوينية من عالم الأصلاب إلى عالم الأرحام إلى عالم الدنيا لتتحول بفعل جهادها وطاعتها وصدق يقينها بالله إلى عنصر ملكوتي يتمازج مع ثمار الجنة.

من هنا: يظهر معنى:(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ )2 .

أي الذين خلصوا من الذنوب فكانوا كأهل الجنة وهم في الدنيا.

ص:94


1- المعجم الأوسط للطبراني: ج 6، ص 168؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 225؛ السيرة الحلبية: ج 2، ص 422؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 2، ص 8.

ولقد ضرب الله تعالى مثلاً لعباده في مريم بنت عمران حينما جاهدت وأخلصت وخلصت لربها حتى أصبحت مؤهّلة لرتبة الاندماج مع جنس الجنة أي أصبح هناك تماثل في التكوين. ولذا:

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ )1 .

والعجيب في التكاليف الابتلائية في حياة الأنبياء عليهم السلام أن يأخذ زكريا إشارته وضالّته من خلوص مريم وانقطاعها إلى الله تعالى:

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ )2 .

(رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ )3 .

ولأن مريم عليها السلام لم يكن لها من العوالق الدنيوية، ما يشغل القلب ويحزنه كالولد والزوج أصبحت أسبق في العناية الإلهية في تحقق المحال وهو إطعامها من ثمار الشتاء في فصل الصيف ومن ثمار الصيف في فصل الشتاء، وهذا فضلاً عن أن هذه الثمار من الجنة فلا قيمة للوقت حينها إلا بمقدار إقرار عين المؤمن وإكرامه.

وعليه: لا يكون انقطاع مريم عليها السلام مختلفاً عن انقطاع خديجة إلى ربها وجهادها في سبيله، وما أوتيت فاطمة (صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) لأعظم لو كانوا يعقلون.

ص:95

المبحث الثاني: منزلتها في القرآن

اشارة

يعرض القرآن الكريم بعض الآيات التي تشير إلى مكانة خديجة عليها السلام من خلال بيان شؤون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما السنين الأولى لسير الرسالة المحمدية.

والقرآن الكريم حينما يعرض بيان منزلة عباد الله المخلصين يعرضهم للمسلم بأسلوبين، إما بالذكر الصريح لهؤلاء كالأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وإما بالكناية من خلال الإشارة إلى أعمالهم فيكون حينها العمل هو الدال والمعرّف لهؤلاء العباد.

كما أن القرآن في عرضه كناية للأشخاص لم يقتصر على عباد الله المخلصين وإنما عباد الله الظالمين كما هو حال الأقوام التي بعثت فيها الأنبياء عليهم السلام؛ إذ إننا نرى اختصاص العمل بجميع أفراد الامة فيعاقب أصحاب هذا العمل، ويكرم أصحاب عمل آخرين.

قال تعالى:

(وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ )1 .

فكان عرض القرآن لقوم موسى من خلال اقترافهم عبادة الشرك عرض

ص:96

كناية ولم يصرح بأسمائهم في حين في موضع آخر يصرح بصاحب الجرم فيقول سبحانه وتعالى:

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)1 .

وكذا عرضه لأفعال الأنبياء عليهم السلام، فعلى سبيل الاستشهاد قال سبحانه:

(وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ )2 .

وهو كناية عن نبي الله يونس عليه السلام، أو قوله تعالى في بيان علم نبيه الخضر عليه السلام:

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً)3 .

أو قوله تعالى في الإشارة إلى وزير سليمان عليهما السلام في بيانه سبحانه

ص:97

لعلم يوشع بن نون فقال عز وجل:

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ )1 .

فكان البيان كناية، ووزير سليمان عليه السلام هو المخصوص بالإشارة دون التصريح بالاسم؛ والشواهد على ذلك كثيرة جداً.

أما في خصوص عرض القرآن الكريم لبعض النساء فإنه عرض ذكرهن بنفس الأسلوبين، صراحة وكناية.

وفي ذلك يقول ابن شهر آشوب رحمه الله: (واعلم أن الله تعالى ذكر أثنتي عشرة امرأة في القرآن على وجه الكناية:

1 -(اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ )2 .

في: حواء.

2 -(ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)3 .

في: امرأة نوح وامرأة لوط .

3 -(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ )4 .

في: امرأة فرعون.

ص:98

4 -(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ )1 .

في: امرأة إبراهيم.

5 -(وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ )2 .

في: زوجة زكريا.

6 -(الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ )3 .

في: زليخا إمرأة عزيز مصر.

7 -(, وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ )4 .

في: امرأة أيوب.

8 -(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ )5 .

في: بلقيس.

9 -(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ )6 .

في: أبنة نبي الله شعيب.

ص:99

10 -(وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً)1 .

في: حفصة وعائشة.

11 -(وَ وَجَدَكَ عائِلاً)2 .

في: خديجة عليها السلام.

12 -(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ )3 .

في: فاطمة عليها السلام.

ثم ذكرهن بخصال:

1 - التوبة من حواء.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)4 .

2 - والشوق من آسية.

(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ )5 .

3 - والضيافة من سارة.

(وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ )6 .

ص:100

4 - والعقل من بلقيس.

(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً )1 .

5 - والحياء من امرأة موسى.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي)2 .

6 - والإحسان من خديجة.

(وَ وَجَدَكَ عائِلاً)3 .

7 - والنصيحة لعائشة وحفصة.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ )4 .

8 - والعصمة من فاطمة.

(وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ )5 .

ص:101

وان الله تعالى أعطى عشرة أشياء لعشر من النساء:

التوبة لحوا زوجة آدم، والجمال لسارة زوجة إبراهيم، والحفاظ لرحيمة زوجة أيوب، والحرمة لآسية زوجة فرعون، والحكمة لزليخا زوجة يوسف، والعقل لبلقيس زوجة سليمان، والصبر لبرحانة أم موسى، والصفوة لمريم أم عيسى، والرضى لخديجة زوجة المصطفى، والعلم لفاطمة زوجة المرتضى.

وخوفت أربعة من الصالحات.

1 - آسية: عذبت بأنواع العذاب، فكانت تقول:

(إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ )1 .

2 - ومريم: خافت من الناس وهربت.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي)2 .

وخديجة عليها السلام: عذلها النساء في النبي فهجرنها.

4 - وفاطمة عذبت بعد أبيها، فقالت فاطمة عليها السلام:

أما كان أبي رسول الله ؟ ألا يحفظ في ولده ؟ ما أسرع ما أخذتم واعجل ما نكصتم)(1).

فاللاتي خوّفن من الصالحات في هذه الامة خديجة بنت خويلد، وابنتها

ص:102


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر المازندراني: ج 3، ص 102، (بتصرف بسيط )؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 35.

فاطمة عليهما السلام التي خوفت وروعت بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

وعليه:

حينما نأتي إلى ذكر الآيات الكريمة التي أشارت إلى خديجة الكبرى عليها السلام فإنها ذكرتها بأسلوب الكناية لا التصريح، وهي كالآتي:

المسألة الأولى: آية الإغناء

قال تعالى:

(أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى )1 .

تناولنا فيما سبق في معرض حديثنا عن مال خديجة عليها السلام اختصاص هذه الآية المباركة:

(وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى )2 .

بمال خديجة عليها السلام وكيف إن الله تعالى أغناه بمال خديجة عليها السلام)(1).

ص:103


1- أنظر في اختصاص هذه الآية بمال خديجة عليها السلام وأن الله تعالى أغناه بمالها؛ الإفصاح للشيخ المفيد: ص 212؛ الخرائج والجرائح للراوندي: ج 3، ص 1045؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 3، ص 295؛ تفسير السمعاني: ج 3، ص 526؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 16، ص 492؛ تفسير السمرقندي: ج 3، ص 568؛ تفسير السمعاني: ج 3، ص 526؛ تفسير البغوي: ج 4، ص 499؛ تفسير القرطبي: ج 20، ص 99؛ تفسير الآلوسي: ج 30، ص 162؛ المبسوط للسرخسي: ج 3، ص 11.

إلاّ أنني أضيف في هذا المقام ما رواه المجلسي رحمه الله في بيان كيفية انتقال أموال خديجة عليها السلام إلى ملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فهذه الرواية وإن صرّح المحدث المجلسي رحمه الله في أنها من المرسلات إلاّ أنها لتقرب الصورة في كيفية انتقال هذه الأموال ولعلها إلى تحديد وقت انتقالها أقرب.

قال رحمه الله: (ثم إن خديجة قالت لعمها ورقة: خذ هذه الأموال وسر بها إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقل له: إنّ هذه جميعها هدية له وهي ملكه يتصرف فيها كيف شاء، وقل له: إن مالي وعبيدي وجميع ما أملك وما هو تحت يدي فقد وهبته لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إجلالاً وإعظاما له، فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته:

يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها وعبيدها وخدمها وجميع ما ملكت يمينها والمواشي والصداق والهدايا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وجميع ما بذل لها مقبول منه وهو هدية منها إليه إجلالا له وإعظاما ورغبة فيه، فكونوا عليها من الشاهدين)(1).

ص:104


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16، ص 71.

المسألة الثانية: آية الاصطفاء على النساء

قال تعالى:

(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ )1 .

من الآيات الكريمة التي تحدثت كناية وصراحة في آن واحد هي آية الاصطفاء والتطهير، التي وردت في بيان الله تعالى لسيرة زكريا ومريم عليهما السلام؛ فهذه الآية تتحدث صراحة عن مريم عليها السلام وتظهر مقامها عند الله تعالى ومنزلتها لديه، وهي في نفس الوقت تظهر منزلة خديجة عليها السلام ولكن كناية.

والدليل على ذلك:

قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نسائها مريم ابنة عمران، وخير نسائها خديجة(1).

قال النووي وابن حجر: (إن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه)(2).

وبمعنى آخر: فالآية تتحدث عن بلوغ كلٍّ منهما رتبة الاصطفاء والتطهير

ص:105


1- صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق، ج 4، ص 138؛ صحيح مسلم: باب فضائل خديجة، ج 7، ص 132.
2- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 15، ص 198؛ فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 101.

وإن كان التصريح باسم مريم عليها السلام بلحاظ أن البيان القرآني كان يسير بنسق تقديم ما مرت به مريم من مراحل التكامل اليقيني حتى بلغت تلك الدرجة التي نص عليها القرآن.

ومن ثَمّ : يقدم القرآن لنا هذا النهج لكي يستدل به على تشخيص المصْطَفَيات من النساء في الحياة الدنيا فكيف إذا أقرن هذا البيان القرآني ببيانٍ من المعصوم في تشخيص أولئك النسوة كخديجة وفاطمة عليهما السلام.

المسألة الثالثة: آية الأزواج والذرية

قال تعالى:

(وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)1 .

وهذه الآية هي مما تحدثت كناية عن خديجة وفاطمة صلوات الله عليهما، فأما في اختصاصها بخديجة، فقد أخرج الحاكم الحسكاني عن أبي سعيد في قوله تعالى: (هب لنا) الآية قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قلت:

يا جبرئيل من أزواجنا؟

قال:

خديجة.

قلت:

ومن ذريتنا؟

ص:106

قال:

الحسن والحسين عليهما السلام.

قلت:

واجعلنا للمتقين إماما؟

قال:

علي عليه السلام(1).

وأما اختصاصها بفاطمة وعلي عليهما السلام فمما يدل عليه: ما رواه ابن شهر آشوب عن سعيد بن جبير، أنه قال: (نزلت هذه الآية والله خاصة في أمير المؤمنين عليه السلام).

قال: كان أكثر دعائه يقول: ربنا هب لنا من أزواجنا، يعني فاطمة وذرياتنا، يعني الحسن والحسين قرّة أعين.

قال أمير المؤمنين عليه السلام:

والله ما سألت ربي ولدا نضير الوجه ولا سألت ولدا حسن القامة ولكن سألت ربي ولدا مطيعين لله خائفين وجلين منه حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرت به عيني.

قال:

(وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) .

ص:107


1- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 539؛ شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي: ج 14، ص 637.

قال:

نقتدي بمن قبلنا من المتقين(1) فيقتدي المتقون بنا من بعدنا.

وقال الله تعالى:

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا)2 .

يعني علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75)

خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً)3

4 .

ومما يدل عليه أيضا: ما رواه البرقي في بيان دلالة هذه الآية واختصاصها بأهل البيت عليهم السلام (عن علي بن عقبة، عن أبيه، عن سليمان بن خالد قال: كنت في محمل أقرأ إذ ناداني أبو عبد الله عليه السلام:

اقرأ يا سليمان وأنا في هذه الآيات التي في آخر (تبارك).

ص:108


1- والمتقون الذين يقتدي بهم أمير المؤمنين عليه السلام هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون هو إمام المتقين وعلي من بعده صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنهما، أي النبي وعلي إمام للمتقين لكونهما من نفس واحدة لقوله تعالى في آية المباهلة: (وأنفسنا) أي علي بن أبي طالب عليه السلام.

(وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ )1 .

فقال عليه السلام:

هذه فينا أما والله لقد وعظنا وهو يعلم أنا لا نزني، إقرأ يا سليمان.

فقرأت حتى انتهيت إلى قوله:

(إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ )2 .

قال عليه السلام:

قف، هذه فيكم، إنه يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز وجل فيكون هو الذي يلي حسابه فيوقفه على سيئاته شيئا فشيئا، فيقول: عملت كذا وكذا، في يوم كذا، في ساعة كذا، فيقول: أعرف يا رب قال: حتى يوقفه على سيئاته كلها كل ذلك يقول، أعرف، فيقول: سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، أبدلوها لعبدي حسنات، قال: فترفع صحيفته للناس، فيقولون: سبحانه الله، أما كانت لهذا العبد ولا سيئة واحدة فهو قول الله عز وجل.

ص:109

(فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) .

قال:

ثم قرأت حتى انتهيت إلى قوله:

(وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً)1 .

فقال عليه السلام:

هذه فينا.

ثم قرأت:

(وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً)2 .

فقال عليه السلام:

هذه فيكم إذا ذكرتم فضلنا لم تشكوا.

ثم قرأت:

(وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ

ص:110

فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)1 .

فقال عليه السلام:

هذه فينا)(1).

المسألة الرابعة: آية الاستواء

قال تعالى:

(وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لاَ الْأَمْواتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)3 .

روى ابن شهر آشوب عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: (وما يستوي الأعمى: أبو جهل، والبصير: أمير المؤمنين، ولا الظلمات: أبو جهل، ولا النور: أمير المؤمنين ولا الظل يعني ظل أمير المؤمنين عليه السلام في الجنة، ولا الحرور: يعني جهنم، ثم جمعهم جميعاً فقال: (وما يستوي الأحياء): علي وحمزة، وجعفر، والحسن والحسين، وفاطمة، وخديجة. (ولا الأموات) كفار مكة)(2).

ص:111


1- المحاسن للبرقي: ج 1، ص 170؛ شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج 3، ص 45؛ تفسير جوامع الجامع للطبرسي: ج 2، ص 164.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 278؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 24، ص 372؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 567؛ تأويل الآيات لشرف الدين الحسيني: ج 2، ص 480.

المسألة الخامسة: آية التسنيم

قال الله تعالى:

(وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ )1 .

هذه الآية المباركة من الآيات الخاصة بأهل البيت عليهم السلام، وقد روى الحاكم الحسكاني بسنده في تفسيره عن حصين بن مخارق، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر، عن أبيه علي بن الحسين عليهم السلام عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى:

(وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) .

قال: هو أشرف شراب الجنة يشربه آل محمد، وهم المقربون السابقون: رسول الله وعلي بن أبي طالب وخديجة وذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان(1).

وسمي بالتسنيم: لأنه يجري فوق الغرف والقصور؛ لأن التسنيم ضد التسطيح(2).

وقال مقاتل: (يسمى تسنيماً لأنه يتسنم، فينصب عليهم انصبابا من فوقهم في غرفهم ومنازلهم يجري من جنة عدن إلى أهل الجنان)(3).

ص:112


1- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2، ص 426؛ فضائل أمير المؤمنين لابن عقدة الكوفي: ص 218؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 8، ص 150؛
2- القاموس الفقهي للدكتور سعدي أبو حبيب: ص 183.
3- عمدة القاري للعيني: ج 19، ص 283.

أقول: لا يصح أن يجري هذا الماء إلى جميع أهل الجنان؛ وذلك لاختصاص الآية بلفظ (المقربون)؛ وليس جميع أهل الجنة من المقربين؛ إذ يتساوون عندها مع محمد وآل محمد، ومع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وهذا خلاف القرآن.

إذن: هي عين خاصة للمقربين وهم رسول الله وعترته بدلالة سورة الدهر التي نزلت فيهم والتي اشتملت على أفضل صفات الجنة ومراتبها.

فضلاً عن أن الآية الكريمة تصرح بالتنافس في السعي والوصول إلى هذه المراتب، فلو كان جميع أهل الجنة برتبة واحدة وفي مقام واحد لسقطت هذه الدعوة؛ إذ تصبح تحصيل بلا محصل؛ في حين أن الله تعالى وعده صدق، وقوله حق.

ويدل عليه أيضا: قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث يقول:

أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحوض ومعنا عترتنا، فمن أرادنا فليأخذ بقولنا وليعمل بأعمالنا فإنا أهل بيت لنا شفاعة فتنافسوا في لقائنا على الحوض فإنا نذود عنه أعداءنا ونسقي منه أولياءنا، ومن شرب منه لم يظمأ أبداً وحوضنا مترع فيه مثعبان(1)) أبيضان ينصبان من الجنة أحدهما من تسنيم والآخر من معين، على حافتيه الزعفران حصاه الدر والياقوت وهو الكوثر(2).

ص:113


1- المثعب: مسيل الماء.
2- تفسير فرات الكوفي: ص 367؛ الخصال للصدوق رحمه الله: ص 624؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 10، ص 103.

المسألة السادسة: آية السابقون

قال تعالى:

(وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ )1 .

ومن الآيات الكريمة التي اختصت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب وخديجة عليهما السلام هي هذه الآيات التي تشير إلى إحدى الصفات التي امتاز بها علي وخديجة عليهما السلام، وهي صفة السبق إلى الله تعالى ورسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

قال علي بن إبراهيم القمي (المتوفى 329 ه ) في تفسيره:

(وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) .

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وعلي بن أبي طالب وذرياتهم عليهم السلام تلحق بهم(1).

وقد لا يخفى على القارئ المتتبع أن أسبقية الإمام علي عليه السلام وخديجة إلى الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم كان مما امتازا به على سائر المسلمين؛ وفيه يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام:

ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه

ص:114


1- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 411؛ تفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج 5، ص 302؛ تفسير نور الثقلين للحوزي: ج 5، ص 535.

وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة(1).

وقال عليه السلام:

أجبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحدي إلى ما دعا إليه مسرعا مطيعا موقنا لم يتخالجني في ذلك شك، فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الأرض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما آتاه غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله وقد فعل(2).

فهذه الروايات تدل على سبق علي وخديجة عليهما السلام إلى الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لم يصلِّ معهما أحد خلال ثلاث سنوات، ولم يؤمن به غيرهما حتى مرت هذه السنين ثم جاء بعدهما من قدر الله له الهداية ووفق للالتحاق بهم كأبي ذر الغفاري وغيره رضي الله عنه.

كما تدل الرواية على تحديد الزمن الذي آمن به أبو طالب رضوان الله تعالى عليه حينما التحق بهم إنما كان بعد مرور هذه الفترة من الزمن أي بعد ثلاث سنوات من أسبقية ولده علي وخديجة عليهما السلام، ليكون بذلك ثالث من أسلم كما أثبتناه فيما سبق ضمن بحث مستقل(3).

ص:115


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام: ج 2، ص 157؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 14، ص 476.
2- الخصال للشيخ الصدوق: ص 366؛ الاختصاص للشيخ المفيد (رحمه الله): ص 165.
3- انظر كتاب: أبو طالب ثالث من أسلم للسيد نبيل الحسني تجد هذه الحقيقة ناصعة كالشمس.

المسألة السابعة: آية الاستغفار

قال تعالى:

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ )1 .

يروي المحدث المجلسي عن كتاب تأويل الآيات الظاهرات، عن محمد الحلبي قال: (قرأ أبو عبد الله عليه السلام:

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ )

وهم علي عليه السلام وأصحابه.

(وَ الْمُؤْمِناتِ ) .

وهن خديجة وصويحباتها)(1).

المسألة الثامنة: آية الاصطفاء على العالمين

قال تعالى:

(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ )3 .

ص:116


1- تأويل الآيات الظاهرات لشرف الدين الحسيني: ج 2، ص 586.

الاصطفاء في اللغة: هو الاختيار، افتعال من الصفوة، ومنه النبي المصطفى، والأنبياء المصطفون، إذا اختاروا هذا بضم الفاء(1).

وبهذا يكون مراد الآية إن الله تعالى اختار من عباده على العالمين آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران، وهؤلاء ذرية بعضهم من بعض.

ومما لا شك فيه أن اختيارهم على العالمين كان لحكمة خاصة.

منها:

1 - أن آدم عليه السلام هو أبو البشر وبه بدأ الإنسان كإنسان رحلة التكريم والتفضيل على الخلائق ورحلة الابتلاء.

قال تعالى:

(وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)2 .

2 - إن الله أسجد له ملائكته لأنه خليفة الله في أرضه.

3 - أما نوح عليه السلام فبه بدأت المرحلة الجديدة من الحياة على الأرض بعد الطوفان، وهذا فضلاً عن الفترة التبليغية التي قضاها وهو يدعو الناس إلى التوحيد.

4 - أما آل عمران فمنهم كانت أنبياء بني إسرائيل الذين شغلوا السهم الأوفى في عدد الأنبياء فضلاً عما لاقوه من قومهم من الجهد والبلاء.

ص:117


1- كتاب العين للفراهيدي: ج 7، ص 163.

5 - أما آل إبراهيم عليهم السلام فبهم تختم النبوة، ومنهم خير خلق الله وسيد أنبيائه ورسله، هذا فضلا عن أن آل إبراهيم، هم الأئمة وفي ذريته جعلها الله تعالى، ولذا خصهم دون غيرهم من آل الأنبياء بالسلام.

فقال:

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ )1 .

ثم يجمعهم الله جميعاً تحت رتبة الاختيار والتفضيل والإنعام عليهم فيقول سبحانه:

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا)2 .

والعجيب في هذه الآية الكريمة هو أن الله تعالى يظهر فضله على من كان مع نوح في السفينة فكيف بمن جاهد في سبيله ونصر سيد أنبيائه ورسله صلى الله عليه وآله وسلم ؟

ولذا:

ليس غريبا أن نجد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يصرح باصطفاء خديجة عليها السلام وهي التي قد حازت كل هذه الفضائل، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:

ص:118

إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة: آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم(1).

وهذا فضلاً عن كون خديجة عليها السلام هي (وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ ) إذ تتصل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجده قصي.

وقد روى فرات بن إبراهيم في تفسيره عن أبي مسلم الخولاني، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

يا عائشة، أوما علمت أن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران وعليا والحسن والحسين وحمزة وجعفر وخديجة على العالمين(2).

المسألة التاسعة: آية الأعراف

قال تعالى:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ )3 .

هذه الآية تندرج ضمن الآيات الخاصة بأهل البيت عليهم السلام، وقد

ص:119


1- مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه: ص 193؛ الدر المنثور للسيوطي، عن أنس بن مالك: ج 2، ص 23؛ تفسير الميزان للطباطبائي: ج 2، ص 23.
2- تفسير فرات الكوفي: ص 80؛ مستدرك سفينة البحار للشاهرودي: ج 3، ص 36.

أشارت جملة من الروايات إلى اختصاصها بهم، منها:

1 - ما أخرجه ثقة الإسلام الشيخ الكليني رحمه الله عن الهيثم بن واقد، عن مقرن، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ ) .

فقال عليه السلام: نحن على الأعراف، نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذي لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف يعرفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط ، فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه.

إن الله تبارك وتعالى لو شاء لعرف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه، وصراطه، وسبيله، والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا، أو فضل علينا غيرنا.

فإنهم (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ )1 .

فلا سواء من اعتصم الناس به، ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربها، لا نفاد لها ولا انقطاع(1).

2 - روى القاضي المغربي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إنه

ص:120


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 1، ص 184، ح 9.

قال لعلي عليه السلام:

يا علي، أنت والأوصياء من ولدك أعراف الله بين الجنة والنار، لا يدخلها إلا من عرفكم وعرفتموه، ولا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه.

ثم قال القاضي المغربي تعقيباً على هذا الحديث الشريف بقوله:

فهذا هو التأويل البين الصحيح الذي لا يجوز غيره، لا كما تأولت العامة أن أصحاب الأعراف رجال قصرت بهم أعمالهم عن الجنة أن يدخلوها، ولم يستوجبوا دخول النار فهم بين الجنة والنار، وما جعل الله عز وجل في الآخرة من دارين: دار الثواب، ودار العقاب)(1).

3 - وأخرج الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس في قوله عز وجل:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ )2 .

قال:

الأعراف موضع عال من الصراط عليه العباس، وحمزة، وعلي ابن أبي طالب، وجعفر ذو الجناحين، يعرفون محبيهم بياض الوجوه ومبغضيهم سواد الوجوه(2).

ص:121


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج 1، ص 25؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 31.
2- تفسير الثعلبي: ج 4، ص 237؛ تفسير القرطبي: ج 7، ص 212؛ تنبيه الغافلين لابن كرامة: ص 72؛ مطالب السؤول لابن طلحة: ص 105؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 303.

أما اختصاصها بخديجة عليها السلام فقد سُئِل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى:

(وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ) .

قال عليه السلام:

سور بين الجنة والنار قائم عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والحسن والحسين وفاطمة وخديجة عليهم السلام فينادون أين محبونا؟ أين شيعتنا؟

فيقبلون إليهم فيعرفونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وذلك قوله تعالى:

(يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ ) .

فيأخذون بأيديهم فيجوزون بهم الصراط ويدخلونهم الجنة(1).

بقي أن نقول:

أما لماذا نصت الآية على لفظ الرجال دون النساء فذلك لغلبة عدد الرجال الواقفين على الأعراف على النساء، فغلبت الكثرة هنا على القلة كما أن مخاطبته تعالى في كتابه العزيز ب :(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يشتمل على الرجال والنساء وإن كان اللفظ بصيغة المذكر.

ص:122


1- مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي: ص 53؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 24، ص 255.

المسألة العاشرة: آية التصوير

قال تعالى:

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ )1 .

روى ابن شهر آشوب عن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام في قوله تعالى:

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ) .

قال:

صور الله عز وجل علي بن أبي طالب في ظهر أبي طالب على صورة محمد، فكان علي بن أبي طالب أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الحسين بن علي أشبه الناس بفاطمة، وكنت أنا أشبه الناس بخديجة الكبرى عليهم السلام(1).

هذه الرواية الشريفة تكشف عن حقيقة عقائدية وهي أن أهل البيت عليهم السلام يحملون صفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء كانت هذه الصفات مادية أي جسمية، أو صفات كمالية.

وحيث إن الرواية تتحدث عن الصورة فالمراد بها هاهنا شباهة الصورة الجسمية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الصورة التي

ص:123


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 170؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 24، ص 316؛ مستدرك سفينة البحار للشاهرودي: ج 6، ص 389.

تحدث عنها الإمام الحسن عليه السلام هي لا تتعارض مع الروايات القائلة بشباهة الحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بل على العكس أنها تكشف عن حقيقة مهمة، وهي:

1 - أن الله تعالى جعل أهل البيت عليهم السلام جميعا أدلاء على رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بحيث لا يتوه عنهم تائه في أنهم دمه ولحمه صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - ابقاءً منه سبحانه لتمتع المسلمين بصورة الحبيب كي ينهل المشتاق من صورة من أحب وما ذاك إلا رحمة منه سبحانه بهذه الامة، فضلاً عن أن الله تعالى أحب أن لا يفقد الناس النظر إلى صورة حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - إن هذا التشابه منهم جميعاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان علي أشبه الناس برسول الله وكانت فاطمة أشبه الناس بأبيها وكان الحسن أشبه الناس بجده وكذا الحسين عليهم السلام.

إنّ هذا التشابه كان يحكي عن حقيقة خلقهم جميعاً من نور واحد فتشابهت صورهم لدى الناظر، ومثال ذلك كمن أضاء مجموعة من الشموع من نور شمعة واحدة فإن جميع صور أنوار هذه الشموع تظهر للرائي بصورة واحدة وكذا كان حال أهل البيت عليهم السلام في تشابه بعضهم ببعض.

ص:124

المبحث الثالث: منزلتها في السنة

اشارة

السُنة بضم الأول وفتح الثاني مع تشديد في إصطلاح المتشرعة على معنيين:

المعنى الأول

(قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره، بل المطلق من طريقته وهديه صلى الله عليه وآله وسلم، وعند الشيعة الامامية - التابعين لأئمة العترة - يضاف إلى الرسول قول أئمة العترة الطاهرة عليهم السلام وفعلهم وتقريرهم وهديهم، لأنهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون، وإنهم معصومون، لا يقولون ولا يعملون إلا على التنزيل والتأويل، وهم معدن علم الله وعلم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأما عند الجمهور وعامة المسلمين المعروفين بأهل السنة، يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سنة الصحابة وسيرتهم ولاسيما الخلفاء منهم، وأن لهم حق التشريع حسب المصالح المرسلة كما في مسألة المتعتين والطلاق البدعي، وتبديل حي على خير العمل ب (الصلاة خير من النوم)، وعشرات من نحو هذه التشريعات.

المعنى الثاني

العمل المستمر الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يواظب على العمل به، ويحضّ المؤمنين عليه، وهو دون الواجب وفوق الندب، كالختان والصلاة بالجماعة، وكتحية المسجد، وفعل النوافل المرتبة ولو يأتي

ص:125

بركعتين منها، والمراد من السنّة قبال الكتاب هو المعنى الأول)(1).

ومن هنا:

فإننا حينما نريد أن نتحدث عن منزلة خديجة عليها السلام في السُنة فنحن ملزمون بما روي عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته قولاً وفعلاً وهدياً التزاماً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض(2).

وإن الاحاطة بما لخديجة من منزلة في السُنة تحتاج إيضاً إلى معرفة أقوال علماء مدرسة أتباع أهل البيت عليهم السلام وأقوال علماء مدرسة أهل السنة والجماعة.

المسألة الأولى: منزلة خديجة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

ربما مرّ علينا ونحن نتناول جوانب حياة خديجة عليها السلام بعض الأحاديث الشريفة التي دلت على منزلتها وأظهرت مقامها عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا: قد تتكرر بعض الأحاديث النبوية في هذا الموضع، وقد مر ذكرها

ص:126


1- إجماعيات فقه الشيعة للمرجع الديني السيد إسماعيل المرعشي: ج 1، ص 15.
2- مسند أحمد، عن مسند أبي سعيد: ج 3، ص 14؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 148.

فيما سبق إلا أن ذلك لا يمنع من ذكرها مرة أخرى، وهي تحمل بعض الدلالات التي ربما لم نشر إليها سابقاً، فكانت هذه الأحاديث كالآتي:

الحديث الأول: حديث الخيرية
اشارة

روى البخاري عن الإمام علي عليه السلام أنه قال:

سمعت النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم يقول: خير نسائها مريم ابنة عمران وخير نسائها خديجة(1).

إن هذا الحديث الشريف يشير إلى نساء الدنيا تحديداً دون نساء الآخرة باعتبار أن الدنيا هي محل الابتلاء والاختبار ولذا: يجعل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم خير نساء أهل الدنيا مريم ابنة عمران وخديجة ابنة خويلد عليهما السلام.

ويدل على أمور أخرى، منها:

أولا: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل خديجة ومريم في منزلة واحدة من الخيرية

إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جعل مريم وخديجة في منزلة واحدة من الخيرية عند الله تعالى؛ ولذا كرّر صلى الله عليه وآله وسلم لفظ (الخير) مرتين، فقال خير نسائها مريم ثم كرر ذلك فقال:

خير نسائها خديجة.

ص:127


1- صحيح البخاري، باب: بدء الخلق: ج 4، ص 138؛ العمدة لابن البطريق: ص 391؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16. ص 7.
ثانيا: إن خديجة حازت على الكمالات التي عرضها القرآن الكريم لمريم عليها السلام

إنّ لمريم مجموعة من الكمالات التي عرضها القرآن هي نفسها كانت لخديجة عليها السلام وهي كالآتي:

ألف: انقطاع مريم عن قومها

وكذا كانت خديجة؛ فلقد انقطعت عن قومها وهجرتها نساء قريش.

باء: تفرغ مريم للعبادة

وكذا كانت خديجة؛ إذ لم تكن امرأة في مكة تعبد الله غيرها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

جيم: اختصاص مريم بسلام جبرائيل عليه السلام

وكذا خديجة فلقد خصها جبرائيل بالسلام.

دال: اختصاصها بالجهاد

فكان جهاد مريم بعد أن جاءت تحمل عيسى عليه السلام، وكان جهاد خديجة بعد أن آمنت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى رميت بالحجارة وهي في دارها.

هاء: إكرام مريم بثمار الجنة

وكذا أكرم الله خديجة بعنب الجنة.

ياء: إن مريم تحدث معها عيسى لحظة ولادته ليدفع عنها الخوف والحزن

وكذا كانت خديجة تحدثها فاطمة وهي في أحشائها فتسليها.

ص:128

ثالثا: إنّ خديجة فاقت في بعض المواطن مريم ابنة عمران عليهما السلام

بل لقد فاقت خديجة عليها السلام مريم بنت عمران في بعض المواطن ومنها:

ألف: إنّ مريم عليها السلام لما رجعت تحمل وليدها نبي الله عيسى عليه السلام التجأت إليه في دفع الأذى عنها.

ولذا:

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)1 .

وإن هذه الأزمة قد انتهت بكلام نبي الله عيسى عليه السلام:

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا)2 .

في حين كانت خديجة تدافع عن النبوة بنفسها ومالها، وهذا أفضل.

باء: إنّ مريم عليها السلام كان كلما يمر عليها الوقت كانت تجد الأمن والأمان وهذا يخفف جهد البلاء عليها، في حين كانت خديجة كلما يمر بها الوقت كان يشتد عليها الجهد والابتلاء حتى توفيت خديجة بعد أن أنهكها الجوع والمعاناة في شعب أبي طالب عليه السلام نتيجة للحصار الذي فرضه طواغيت قريش.

ولقد قال تعالى:

ص:129

(وَ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)1 .

جيم: كانت مريم عليها السلام تلقى من حيث كونها في مقام الوالدية كل بر من نبي الله عيسى عليه السلام، قال تعالى:

(وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا)2 .

بمعنى أن المبتلى هنا نبي الله عيسى عليه السلام.

في حين كانت خديجة عليها السلام هي المبتلاة في موقع حسن التبعل وما يفرضه من جهاد، فضلاً عما يفرضه الارتباط بسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم على الزوجة من تكاليف شرعية كما دل قوله تعالى:

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ)3 .

وكما هو ثابت في النصوص الأخرى، وهذا أفضل عند الله تعالى.

دال: إن مريم عليها السلام لم يظلمها المسيحيون في حين أن خديجة عليها السلام ظلمها المسلمون الذين قتلوا ابنتها فاطمة عليها السلام وأحفادها الحسن والحسين عليهما السلام وذريتهما وساقوا بنات فاطمة زينب وأم كلثوم وبنات الإمام الحسين سكينة ورقية من كربلاء إلى الشام، وهم يقادون كما تقاد نساء الترك والديلم، وغير ذلك مما فضلت به خديجة ابنة خويلد عليها السلام؛ وما أوتيت ابنتها فاطمة عليها السلام لأعظم.

ص:130

الحديث الثاني: حديث التفضيل

روى ابن حجر العسقلاني عن البزار والطبراني بإسناد حسن من حديث عمار بن ياسر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين(1).

والحديث يكشف بل ينص على أفضلية خديجة عليها السلام على جميع المسلمات بما فيهن أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم ما خلا بضعته فاطمة عليها السلام ولا تعارض بين النصوص الدالة على أفضلية فاطمة على جميع نساء العالمين. إذ إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أشار إلى أفضلية خديجة كان ناظراً إلى أفضلية مريم حسبما نطقت به الآيات المباركة وهذا يكشف عن مناسبة الحديث النبوي، أي إنه أشار إلى أفضلية خديجة بعد نزول الوحي بتلك الآيات، فأراد أن يحفظ لخديجة مقامها في الامة فلا يتبادر إلى ذهن المسلم حينما نزلت تلك الآيات بأنها تقول بتفضيل مريم على خديجة عليها السلام، ولذا قال:

«لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين».

فكان الحديث قد أزال اللبس عن أذهان المسلمين في تفضيل مريم على نساء المسلمين أو قد يتصور البعض أن ليس في الامة امرأة لها من الفضل عند الله تعالى ما لمريم فكان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قطع الطريق

ص:131


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر: ج 7، ص 101؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 10، ص 265؛ تفسير التبيان للشيخ الطوسي: ج 2، ص 456.

على هذا الوهم وبدوه بقوله في تفضيل خديجة إلا أن هذه الأفضلية مقيدة هنا بنساء الامة، أما أفضلية فاطمة فمطلقة، ومما يدل عليه:

إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حينما تحدث عن منزلة الحسن والحسين فقال:

إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة(1).

أردفه: ببيان أزال اللبس عن أذهان المسلمين بأن منزلة علي عليه السلام محفوظة وإن لم يرد ذكرها في هذا القول.

ولذا: عاد صلى الله عليه وآله وسلم فقال وهو يبدد هذا اللبس عن بعض الأذهان:

وأبوهما خير منهما(2).

وهنا: وإن كان الحديث السابق قد أشار إلى أفضلية خديجة على نساء الامة إلا أن ذلك لم يكن ليتعارض مع كون ابنتها فاطمة أفضل منها عند الله تعالى لصدور جملة من الأحاديث الشريفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهي تظهر هذه المنزلة وتخص هذه الأفضلية للبضعة النبوية صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

ويدل عليه الحديث الآتي:

ص:132


1- ذخائر العقبى للطبري: ص 129؛ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 2، ص 181، ح 598؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 13، ص 208؛ مسند زيد بن علي: ص 461.
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج 1، ص 37؛ عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: ج 1، ص 36، ح 56.
الحديث الثالث: حديث أفضلية خديجة في الجنة

روى أحمد بن حنبل في المسند عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض أربعة خطوط ، قال:

تدرون ما هذا؟.

قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران(1).

هذا الحديث الشريف له دلالات كثيرة منها:

1 - استخدام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوسائل التعليمية في تثبيت الحقائق في أذهان المسلمين؛ كيما لا تذهب بهم الأهواء أو الآراء عن الثوابت الإسلامية.

ولذا:

نجده هنا مثلاً استخدم الخطوط على الأرض كوسيلة لإرشادهم إلى حفظ عقيدتهم فيما يتعلق بالعنصر النسائي الذي سيفرض عليهم الاختبار والتمحيص الإلهي مع هذه الرموز النسائية كأزواجه وابنته صلوات الله عليها، جملة من المسائل الابتلائية والتكاليف الشرعية.

2 - اعتماده الأسلوب التعليمي في وضع الخطوط على الأرض يراد منه تثبيت حقيقة مفادها أن هذه النسوة قد انحصرت فيهن الأفضلية.

ص:133


1- مسند أحمد بن حنبل، من مسند عبد الله بن عباس: ج 1، ص 293؛ فضائل الصحابة، النسائي: ص 74.

3 - إنّ نصف عدد هؤلاء النسوة كان من أمته صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يدل على أفضلية نساء هذه الامة، على بقية الأمم.

4 - إنّ المثل الذي ضربه الله تعالى للمؤمنين في آسية والاصطفاء في مريم قد جمعته كل من خديجة وفاطمة عليهما السلام بمقتضى قوله تعالى:

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ )1 .

فكان إحراز خديجة وفاطمة لما أحرزته مريم وآسية من مصاديق هذه الآية بل تقتضي الزيادة.

5 - حصره صلى الله عليه وآله وسلم التفضيل في نساء الجنة وليس في نساء الدنيا يكشف عن خلاصة هذه النخبة من بين نساء جميع الأمم منذ أن قدر الله تعالى التكاليف الشرعية على الإنسان؛ لأن الجنة خلقت للخُلّص من بني آدم.

ويدل عليه الحديث الآتي:

الحديث الرابع: خيرية خديجة على نساء العالمين
اشارة

أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه على صحيح الشيخين - البخاري ومسلم - قائلا: تفرد مسلم بإخراج حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين أربع(1).

والحديث له دلالات منها:

ص:134


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 154.
أولا: حذف فضائل خديجة من صحيح مسلم

قول الحاكم: (تفرد مسلم بإخراج حديث أبي موسى) وساق الحديث دليل على اتباع أهل الضلال المعادين لأهل البيت عليهم السلام حذف الأحاديث الشريفة التي تتحدث عن مناقب أهل البيت عليهم السلام من صحيح مسلم؛ إذ تخلو الطبعات المعاصرة لصحيح مسلم من هذا الحديث، وهذا دليل على اعتماد من يتولى طباعة هذه الصحاح منهج التحريف والتزيف.

ويدل على عدم المصداقية فيما يتم نشره منها ولاسيما أنها لم تعرض على التحقيق والمقابلة مع النسخ القديمة التي اطلع عليها المعاصرون للبخاري ومسلم أو الذين أدركوا هذه النسخ الخطية الأم، أو التي عليها ختم المصنف.

ومما يدل على صحة هذا الحديث إخراج الحفاظ الذين أدركوا مسلماً أو الذين خلفوه لهذا الحديث فكان منهم:

ألف: الحافظ الضحاك (المتوفى 287 ه )

فقد أخرج الحديث عن أبي جعفر الرازي عن ثابت بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم(1).

ص:135


1- الآحاد والمثاني: ج 5، ص 364.

باء: الحافظ ابن حبان (المتوفى 345 ه )

وقد أخرج الحديث عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآسية امرأة فرعون(1).

جيم: الحافظ الطبراني (المتوفى 360 ه )

وقد أخرج الحديث عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم(2).

ثانيا: دلالة الخيرية والأفضلية في الأحاديث النبوية الشريفة

إنّ الفرق بين الخيرية والأفضلية التي اشتملت عليها الأحاديث النبوية الشريفة هو أنّ الخيرية تدل على اجتماع صفات الخير في هؤلاء النسوة، كما يدل أيضاً على وجود نساء خيرات في العالمين إلا أن فاطمة وخديجة ومريم وآسية كنَّ خيرهن.

ص:136


1- صحيح ابن حبان: ج 15، ص 402.
2- المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 402.

أما الأفضلية فدلالة على أنهن تفردن في الفضل عند الله تعالى، والتفضيل يقتضي إحرازهن لمراتب لم يكن لغيرهن أن يأتين بها ولذا تفردن عن نساء العالمين بما قدمن لله تعالى.

الحديث الخامس: خديجة سيدة نساء عالمها

من الأحاديث النبوية الشريفة في بيان منزلة خديجة عليها السلام ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد السيادة لهؤلاء النسوة كلاً حسب عالمها.

فقد روى الطبري والزرندي الحنفي، والمتقي الهندي وغيرهم عن عبد الله بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

أربع نسوة سادات عالمهن مريم بنت عمران، وآسية - امرأة فرعون - وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضلهن عالما فاطمة(1).

دلالة الحديث:

1 - الحديث واضح الدلالة على انحصار السيادة في الأزمنة لهؤلاء النسوة إلا أن أفضل هذه العوالم هو العالم الذي كانت فيه فاطمة عليها السلام.

2 - وإن كان الحديث يجعل السيادة غير منحصرة في مريم عليها السلام على العالمين وإنما في عالمها فقد أخل من جهة أخرى في بيان مقام فاطمة عليها السلام.

ص:137


1- ذخائر العقبى لأحمد بن عبد الله الطبري: ص 44؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 178؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 145؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 2، ص 23؛ تفسير الآلوسي: ج 3، ص 155.

وهذا يدل على أن الحديث يحتمل وجهين، الأول عن السيادة وليس عن العوالم كما أخرجه المصنفون، بدليل:

أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحدث عن السيادة لهؤلاء النسوة وإنها منحصرة فيهن ولذا لم يتحدث عن غيرهن، ولو كان حديثه منحصراً في العوالم لأصبح لكل زمن امرأة تسوده في الفضل على باقي النسوة وهذا يستلزم الدور في كل زمان إلى قيام الساعة.

في حين كل الأحاديث تجمع على انحصار السيادة والخيرية والأفضلية بهؤلاء النسوة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نسائها مريم ابنة عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد(1).

كما أخرجه البخاري وغيره.

ولذلك:

يقتضي الحديث السابق أن يكون لأم سلمة عالمها، وزينب بنت جحش عالمها، ولحفصة عالمها، ولعائشة عالمها.

وهذا الاحتمال مردود لما نصت عليه الأحاديث الشريفة السابقة بانحصار الفضل والخير والسيادة بمريم وآسية وخديجة وفاطمة.

وعليه:

يكون الحديث بالنظر إلى الأحاديث الصحيحة السابقة أن أفضلهن فاطمة

ص:138


1- صحيح البخاري: ج 4، ص 138؛ صحيح مسلم: ج 7، ص 132.

صلوات الله عليها وليس أن عالمها هو أفضل العوالم لانحصار السيدية والخيرية والأفضلية بهؤلاء النسوة.

والوجه الآخر: هو حمل الحديث على العوالم فيكون الانحصار بهذه العوالم فقط أي لا يكون هناك عالم آخر تظهر فيه امرأة فتصل إلى ما وصلت إليه مريم وآسية وخديجة وفاطمة.

أما اختصاص عالم فاطمة عليها السلام: فلأنها أدركت نصف مرحلة البعثة وجميع مرحلة الهجرة مع ما ابتليت به من فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي إنها عاشت أفضل العوالم التي خلقها الله تعالى وهو عالم النبوة.

وبحمل الوجه الأول على الثاني يكون الحديث محمولاً على الدلالة الآتية:

أربع نسوة سادات عالمهن، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأفضلهن سيادة وعالماً فاطمة عليها السلام.

بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخرجه الحاكم في مستدركه على الصحيحين وأبو داود في سننه والنسائي في سننه وغيرهم عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة: (إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو في مرضه الذي توفي فيه:

يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء

ص:139

هذه الامة، وسيدة نساء

المؤمنين(1).

واتبعه الحاكم بقوله: وهذا إسناد صحيح ولم يخرجاه.

بقي لنا في هذا المورد بعض الأحاديث النبوية التي تظهر منزلة خديجة عليها السلام في الجنة سنوردها في محلها بعون الله تعالى.

المسألة الثانية: منزلة خديجة من خلال دلالة فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

يمكن لنا إجمال منزلة خديجة عليها السلام من خلال دلالة فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالوقوف عند أفعال أربعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي مما دلت عليها الروايات.

الفعل الأول

تعاهده صلى الله عليه وآله وسلم أرحام خديجة وصويحباتها بالهدية فكان كلما أهدي إليه ذبيحة من الشاة أو الجزور بعث منه إلى أرحام خديجة وصويحباتها.

ص:140


1- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 156؛ مسند أبي داود الطيالسي: ص 197؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 4، ص 25 و ج 5، ص 147؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 142؛ فضائل سيدة النساء لابن شاهين: ص 25؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1895.
الفعل الثاني

إعراضه عن الزواج بعدها حتى عوتب في ذلك فكان يقول:

أجل فكانت أم العيال وربة البيت(1).

الفعل الثالث

أنه لم يتزوج عليها حتى توفيت وقد عاشت معه ما يقارب الخمس والعشرين سنة، في حين نراه صلى الله عليه وآله وسلم تزوج من تسع نساء خلال عشر سنوات وهي المدّة التي قضاها في المدينة.

ولعل البعض يقول: إن السبب في تعدد زواجه خلال هذه المدّة هو لتميزها بالاستقرار والأمان.

ونقول:

1 - أما من حيث الاستقرار فلا وجود له بدليل بدء مرحلة الجهاد والحروب والغزوات بعد الهجرة.

2 - وأما الأمان فليس هناك من أمان، بل كان الحذر على أشده لوجود المنافقين الذين وصفهم القرآن بقوله تعالى:

(وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )2 .

هذا فضلاً عن خطر اليهود الذين كانوا يحيطون بالمدينة ويسكنون بجواره.

3 - ثم أين تذهب تلك السنين الخمس عشرة التي قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع خديجة قبل البعثة لم يتزوج فيها وهو في مأمن بين قومه وأهله فضلاً عن تعلق الناس به؛ لصدقه وأمانته وشرافته؛ فمثلما رأته سيدة قريش الزوج الصالح كذا رأته غيرها من بيوتات مكة.

ص:141


1- الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد: ج 8، ص 57.
الفعل الرابع

لم يترك النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة أو غيرها إلا وقد تحدث عن خديجة وأثنى عليها مما أثار حفيظة عائشة إلى المستوى الذي أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤذيه في ذلك - كما مرّ بيانه سابقاً - وعلى الرغم من ذلك لم يترك النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ذكر خديجة وحسن فعالها.

وهذه الأفعال كاشفة عن منزلة خديجة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما تفردت به خاصة دون بقية أمهات المؤمنين.

المسألة الثالثة: منزلة خديجة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام

اشارة

مثلما حظيت السيدة الطاهرة خديجة بنت خويلد عليها السلام بمنزلة خاصة في القرآن وعند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فإنها نالت كذلك منزلة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام يمكن لنا معرفتها من خلال النقاط الآتية:

أولا: منزلتها عند أمير المؤمنين علي عليه السلام
اشارة

حينما نقرأ حياة السيدة خديجة عليها السلام أو حياة الإمام علي عليه السلام فإننا لابد أن نتوقف في هذه السيرة مع محطة اشترك في تكوينها كلٌّ منهما.

بل: يلمس القارئ - وإن مرّ على هذه السيرة مرورا سريعاً - أن خديجة

ص:142

عليها السلام كانت الأم الثانية لعلي بن أبي طالب عليهما السلام فقد اتخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ كان صغيراً في حجره وهو في السادسة من عمره يغدو عليه بخلقه وكماله فنشأ في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام، مما ترك لخديجة رصيداً ضخماً في قلب أمير المؤمنين عليه السلام، هذا فضلاً عن مقامها الإيماني الذي مرّ بيانه سابقا.

وعليه:

يمكن لنا بيان منزلتها عند أمير المؤمنين عليه السلام من خلال الأحاديث الآتية:

ألف: منزلة الأمومة

1 - روى ابن شهر آشوب رحمه الله: (كان أبو طالب وفاطمة بنت أسد ربيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وخديجة لعلي صلوات الله عليه)(1).

2 - روى ابن هاشم الحميري وابن جرير الطبري، والحاكم النيسابوري، والثعلبي، وابن عبد البر، والحافظ بن شهر آشوب، وغيرهم عن مجاهد أنه قال:

(كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، ومما صنع الله له وأراد به من الخير، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس عمه، وكان من أيسر بني هاشم؛

ص:143


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 27.

يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله، فآخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلا فنكفلهما عنه.

فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب.

فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه.

فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما عقيلا فاصنعا ما شئتما.

فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيا، فاتبعه علي عليه السلام وآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه)(1).

3 - روى ابن الدمشقي عن ابن المظفر في كتابه نجباء الأبناء(2): (إن أبا طالب قال لزوجته فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهم:

ص:144


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 162؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 58؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 576؛ تفسير الثعلبي: ج 5، ص 84؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 1، ص 38؛ المناقب لابن شهر: ج 2، ص 27؛ علل الشرايع للشيخ الصدوق رحمه الله: ج 1، ص 169؛ الطرائف لابن طاووس: ص 17؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 38، ص 238.
2- همش الشيخ محمد باقر المحمودي في تحقيقه لكتاب ابن الدمشقي فقال: هو محمد بن عبد الله ابن محمد بن ظفر الصقلي المكي من أعلام القرن السادس المتوفى سنة 567 / أو 598؛ المترجم في كتاب الأعلام: ص 231؛ وفيات الأعيان: ج 1، ص 523؛ لسان الميزان: ج 5، ص 371؛ (جواهر المطالب لابن الدمشقي: ج 1، ص 29، الهامش).

يا فاطمة ما لي لا أرى عليا يحضر طعامنا؟

فقالت: إن خديجة بنت خويلد قد تألفته.

فقال أبو طالب: والله لا أحضر طعاماً لا يحضره علي.

فأرسلت أمه جعفراً أخاه وقالت: جئني به وحدثته بما قال أبوه.

قال، قال: فانطلق جعفر إلى خديجة فأعلمها وأخذ عليا فانطلق به إلى أهله وأبو طالب على غدائه فلما رآه هش إليه وبش وأجلسه على فخذه ووضع كفه على رأسه وجعل لقمة في فمه فلاكها وبكى فقال أبو طالب: يا فاطمة خذيه إليك فانظري ما به ؟ فأخذته أمه ولاطفته وسكنته وسألته عن حاله فقال:

يا أمة تكتمين علي ؟.

قالت: نعم. قال:

يا أماه إني لأجد لكف محمد بردا ولطعامه مذاقا، وإني وجدت لكف أبي حرا ولطعامه وخامة!!!

فقالت له أمه: مه لا تفه بهذا أبدا وإن سألك أبوك فقل: إني مغصت!

قال: فلما فرغ أبو طالب من غذائه قال: يا فاطمة ما شانه ؟ قالت: إنه مغص ثم شفي، قال: كلا ولكنه يأبى إلا محمدا وإيثاره علينا فألحقيه به ولا تتعرضين له أبدا فيوشك أن يكسر به محمد أصلاب قريش)(1).

وظاهر الرواية يدل على جملة من الأمور:

ص:145


1- جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لابن الدمشقي: ج 1، ص 39 و 40.

ألف: إنّ انصراف الإمام علي عليه السلام إلى بيت خديجة عليها السلام كان قبل أن يبلغ السادسة من عمره؛ لأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد اتخذه في حجره وهو في السادسة من عمره، وإلا لما كان أبو طالب يستفقده ويسأل عنه وتبعث أمه فاطمة بنت أسد خلفه جعفرا كي يأتي به.

باء: كما تدل الرواية على تعلق خديجة به عليهما السلام بدليل قول فاطمة بنت أسد لأبي طالب (قد تألفته خديجة بنت خويلد) وتعلقه بها.

فمن الحقائق التي أكدها علماء نفس الطفل: أن الطفل في هذه السنوات الأُوَل كي يستطيع أن يحول مشاعره وغريزته الاحتياجية لوجود الأم في حياته، إلى امرأة أخرى فعليها أن تهيّئ له من الأجواء ما قد تفوق حنان الأم التي أولدته.

وبهذا تكون مشاعر علي عليه السلام اتجاه خديجة التي تألفته، مشاعر ارتكزت على عواطف أمومية متسامية، ومشاعر من الحنان قل نظيرها لدرجة أنه يبكي ولا يأنس إلا بوجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة من حوله فكان نعم الأبوان لعلي عليه السلام، هذا فضلاً عن دور الاصطفاء الإلهي في مسألة العصمة والإمامة.

جيم: تنبّأ أبو طالب رضوان الله تعالى عليه بمستقبل الرسالة المحمدية ودور ولده علي فيها وإن هذه العلاقة التي نشأت منذ اللحظة الأولى لولادة علي عليه السلام هي إنما نشأت بتدبير إلهي لحكمة بالغة أظهرها القرآن والسنة المحمدية، ولذا قال عليه السلام: (فيوشك أن يكسر به محمد أصلاب قريش).

ص:146

4 - قال ابن حجر العسقلاني: (وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها)(1).

5 - قال المؤرخ المسعودي: (لما تزوج صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بنت خويلد علمت بوجده بعلي عليه السلام فكانت تستزيره وتزينه بفاخر الثياب والجوهر وترسل معه ولايدها فيقلن هذا أخو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحب الخلق إليه وقرة عين خديجة ومن ينزل السكينة عليه)(2).

فهذه الشواهد كلها تؤكد على حقيقة منزلة الأمومة التي نالتها خديجة عليها السلام بكل ما تحمل الكلمة من معان سامية أحسها الإمام علي عليه السلام وتعايش معها ونشأ عليها فكانت لها عليه حق الأم.

باء: منزلة الحماة

من الألطاف الإلهية التي حفت بحياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أن الله تعالى زوّجه من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل له أم أهل (حماة) خير نسائها الطاهرة خديجة الكبرى (عليها السلام)، لتكون له أماً وحماة وجدة لأولاده؛ وهي حقيقة نص عليها الحديث النبوي الشريف الذي رواه الحافظ ابن شهر آشوب، قائلا: (روى الثقات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

ص:147


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 104.
2- الأنوار الساطعة للشيخ السيلاوي نقلا عن إثبات الوصية للمسعودي: ص 144، طبعة أنصاريان، قم.

يا علي لك أشياء ليست لي منها: أن لك زوجة مثل فاطمة وليس لي مثلها، ولك ولدين من صلبك وليس لي مثلهما من صلبي، ولك مثل خديجة أم أهلك وليس لي مثلها حماة، ولك صهر مثلي وليس لي صهر مثلي، ولك أخ في النسب مثل جعفر وليس لي مثله في النسب، ولك أم مثل فاطمة بنت أسد الهاشمية المهاجرة وليس لي مثلها(1).

فسبحان من أكرم محمداً وآله بما لم يكرم به أحداً من العالمين.

ثانيا: منزلة خديجة عند فاطمة عليهما السلام

من البديهي أن تكون لخديجة منزلة خاصة عند فاطمة عليها السلام وهي أمها التي حملتها في بطنها وأغدقت عليها بالرعاية والاهتمام.

ومن كرامة الله لخديجة أن جعل فاطمة وهي جنين في بطن أمها تحدثها وتسليها أثناء فترة حملها وذلك كي تسلي حزنها الذي تسبّبن فيه نسوة مكة حينما اعتزلنها وقاطعنها فلم يدخلن عليها حتى استوحشت لوحدتها ومن طبيعة المرأة أن تأنس إلى بني جنسها تحادثها وتذهب بوحشتها.

وخديجة وإن كانت لم تفتقد فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي عليه السلام ولم تفتقد جواريها إلا أن فرض الحصار الاجتماعي عليها ترك نوعاً من الوحشة عليها.

ولذا:

ص:148


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 19؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 4، ص 68.

أكرمها الله عزّ وجل بمن يذهب وحشتها ويسليها، وهذا يكشف عن منزلتها عند فاطمة كما كشف حديث عيسى مع أمه مريم عليهما السلام عن مقامها لديه ومنزلتها حيث قال سبحانه على لسان نبيه:

(وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا)1 .

فكيف بمن نطقت وهي بين أحشاء ودم ومن خلف جدارين، جدار البطن وجدار الرحم فيخرج صوتها ويسمع خديجة عليها السلام. إن هذا يكشف عن عظم المنزلة والكرامة التي أكرم الله بها خديجة وابنتها.

(أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ)2 .

ثالثا: منزلة خديجة عند الإمام الحسن عليهما السلام

تفتقر المصادر الإسلامية إلى رصيد من الروايات التي تخص هذا العنوان الذي ذكرناه، أي منزلة خديجة عند الإمام الحسن عليهما السلام، والظاهر أن مرد ذلك يعود لبعض الأسباب:

1 - تغيير الحكومة الإسلامية الحاكمة في عصر الإمام الحسن عليه السلام من توجهات القرآن والعترة عليهم السلام ممثلة في حكومة علي أمير المؤمنين عليه السلام بوصفه الحاكم الإسلامي للمسلمين، إلى توجهات جاهلية قبلية تستمد هيكليتها من النظم الإدارية والتخطيطية للدول المجاورة للحكومة

ص:149

الإسلامية كالامبراطورية الفارسية والرومية، وهو ما تنبه إليه عبد الرحمن بن أبي بكر حينما عرض عليه مروان بن الحكم البيعة ليزيد بن معاوية بعد وصول كتاب معاوية إليه يأمره بأخذ البيعة من أبناء الصحابة لولده يزيد.

فقال عبد الرحمن بن أبي بكر لمروان بن الحكم: (أجئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم)(1).

وفي لفظ : (سنة هرقل وقيصر)(2).

مما أثر على جميع القيم والأسس القرآنية للإسلام، فكيف بمنزلة خديجة عليها السلام آنذاك والقرآن والسنّة المحمدية هي المستهدفة في الغزو الفكري والعقائدي.

2 - ظهور دور مميز في قيادة الحركة السياسية للحكومة الإسلامية في عصر معاوية، بل وما قبل هذا العصر لزوج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عائشة مما عمل على انشغال الناس بهذا الدور وتغافلهم حتى عن دور النبي الأعظم وعترته وأصحابه المنتجبين في نشر دين الإسلام.

3 - تعرض فضائل أهل البيت عليهم السلام إلى حملة شرسة من الامحاء والحرق والتخريق، وهو الأمر الذي أثر سلباً على معتقدات الناس الإسلامية، ويمكن للقارئ أن يدرك هذه الحقيقة المرّة من خلال الحدث الآتي:

ص:150


1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر: ج 8، ص 443؛ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج 4، ص 122.
2- المستدرك على الصحيحين للنيسابوري: ج 4، ص 481؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 6، ص 459؛ الإصابة لابن حجر: ج 4، ص 276.

روى أبو الفرج الأصفهاني: (إن خالداً القسري - وهو أحد ولاة بني أمية - طلب من الزهري أن يكتب له السيرة فقال الزهري: فإنه يمر بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب، أفأذكره ؟

فقال خالد: لا إلاّ أن تراه في قعر جهنم، فقال الزهري: فلعن الله خالدا ومن ولاه وصلوات الله على أمير المؤمنين)(1) ، فكيف يتسنى للرواة نقل النصوص التي تنطق بفضائل أهل البيت عليهم السلام وروايتها ولاسيما العصر الذي عاش فيه الإمام الحسن عليه السلام.

وعليه:

لم ينصف التاريخ الإسلامي (الأموي) خديجة عليها السلام وذريتها فضيع حقوقهم وحبس فضائلهم، ولذا لم أعثر على رواية تتحدث عن بيان منزلة خديجة عليها السلام عند حفيدها الإمام الحسن عليه السلام سوى رواية واحدة رواها أبو الفرج الأصفهاني عن أبي عبيدة، قال: حدثنا فضل، قال: حدثني يحيى بن معين أنه قال: (لما بويع معاوية خطب فذكر عليا فنال منه ونال من الحسن، فقام الحسين ليرد عليه فأخذ الحسن بيده فأجلسه، ثم قام فقال:

أيها الذاكر عليا، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر وأمي فاطمة وأمك هند وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجدك حرب وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا، وألأمنا حسبا وشرنا قدما، وأقدمنا كفرا ونفاقا.

ص:151


1- الأغاني للأصفهاني: ج 22، ص 21؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 53؛ الشيعة والسيرة النبوية للمؤلف: ص 323.

فقال طوائف من أهل المسجد: آمين.

قال فضل: فقال يحيى بن معين ونحن نقول: آمين؛ وقال أبو عبيد: ونحن أيضا نقول: آمين، قال أبو الفرج الأصفهاني: وأنا أقول، آمين)(1).

قال المؤلف لهذه السطور: وأنا أقول آمين إلى قيام يوم الدين، وهذا الحدث يكشف عن أنّ تفاخر الإمام الحسن عليه السلام بجدته خديجة عليها السلام دليل على عظم منزلتها عنده وأنها بحق نعم مَن يفتخر به، فذكرها ظاهرٌ للناس، وطيب حسبها متسامٍ بين الأحساب، وقدم شرفها متجذر بين الأشراف، وأن هذه المقامات والمفاخر متلاصقة مع سيد الخلق وأشرفهم صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما يميزها عليها السلام على بقية أزواجه، فضلاً عن منزلتها في الإسلام.

رابعا: منزلة خديجة عند الإمام الحسين عليه السلام
اشارة

من البديهيات التي ترافقت مع سيرة العترة النبوية عليهم السلام أن لا تجد اختلافاً فيما يصدر عنهم من أقوال وأفعال وتقريرات، ولذا، فمنزلة خديجة لاتختلف عند أحد منهم ولا تخرج عن حدها الذي جاء به القرآن وبيّنه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

إلاّ أن الفارق الوحيد فيما يصدر عنهم في هذا الخصوص هو إما التأكيد على مسألة محددة وذلك لأهميتها العقائدية وإما لبيان جانب لم يتم بيانه من قبل.

ص:152


1- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: ص 46؛ الإرشاد للشيخ المفيد (رحمه الله): ج 2، ص 15.

ومن هنا: حينما نقف عند أعتاب مدرسة الإمام الحسين عليه السلام فإنّا نأخذ بياناً جديداً لمنزلة خديجة لم نجده في مدارس العترة عليهم السلام وإن كانت كلها على منهج واحد؛ هذا البيان هو:

ألف: اتخاذ قبر خديجة محلاً للمناجاة والدعاء

روى ابن شهر عن عيون المجالس، قائلا: ساير - الحسين عليه السلام - أنس بن مالك فأتى قبر خديجة فبكى ثم قال:

أذهب عني.

قال أنس: فاستخفيت عنه فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلا:

يا رب يا رب أنت مولاه فارحم عبيدا إليك ملجاه

يا ذا المعاني عليك معتمدي طوبى لمن كنت أنت مولاه

طوبى لمن كان خائفا أرقا يشكو إلى ذي الجلال بلواه

وما به علة ولا سقم أكثر من حبه لمولاه

إذا اشتكى بثه وغصته أجابه الله ثم لباه

لبيك لبيك أنت في كنفي وكلما قلت قد علمناه

صوتك تشتاقه ملائكتي فحسبك الصوت قد سمعناه

دعاك عندي يجول في حجب فحسبك الستر قد سفرناه

لو هبت الريح في جوانبه خر صريعا لما تغشاه

سلني بلا رغبة ولا رهب ولا حساب إني أنا الله(1)

ص:153


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 224؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 44، ص 193.

والحديث فيه دلالات عدة، منها:

1 - أن الإمام الحسين عليه السلام حينما أراد الخروج من مكة متجهاً إلى العراق قصد زيارة قبر جدته خديجة الكبرى عليها السلام لغرض وداعه وهو ما جعله يساير الصحابي أنس بن مالك فأتى قبرها وبكى عنده ليرشدنا في هذا الفعل إلى منزلة خديجة الكبرى، عليها السلام وأنها أحق الناس بعد جده وأبويه بالزيارة والوداع؛ لكنه عليه السلام لما أراد المناجاة مع الله تعالى طلب من أنس بن مالك أن يتركه وحيداً فقال:

«أذهب عني».

2 - إن ذهابه عليه السلام إلى زيارة قبر جدته، والصلاة عندها، دليل على مشروعية زيارة القبور، بل واتخاذ قبور الأولياء محلاً للدعاء والمناجاة والصلاة.

باء: المنهاج التعبدي لقضاء الحوائج

إن الإمام الحسين عليه السلام قدم منهاجاً تعبديا لمن أراد أن يتقرب إلى الله تعالى ويسأله قضاء حاجته ويتكون هذا المنهاج من أمور:

1 - بأن يبدأ صاحب الحاجة بقصد قبور أهل البيت عليهم السلام مثلما فعل حجة الله تعالى حينما قصد قبر خديجة الكبرى.

2 - أن يُقبِل على الله بقلب منكسر وهو موقن بأنه قد قصد أكرم الأكرمين وأنه العبد الذي لا يملك لنفسه حولاً ولا قوة، وهذا الاقبال القلبي يلازمه البكاء؛ كما فعل الإمام الحسين عليه السلام، فلقد بدأ بالبكاء وهو حالة وجدانية معبرة عن القلب.

ص:154

3 - أن يقدم الصلاة بين يدي حاجته لكونها أفضل العبادة وخير ما يقدمه العبد بين يدي ربه عزّ شأنه، ولما تحمل ا لصلاة من آثار نفسية خاصة، إذ ترجع النفس إلى حالة الاتزان والاستقرار، وهو ما دلت عليه الآية الكريمة:

(وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ )1 .

4 - إن قصد قبور أهل البيت عليهم السلام كما أرشدنا حجة الله على خلقه الإمام الحسين عليه السلام يراد منه اتكاء المسلم على التولي والتبري وهما مما يناط بهما قبول الأعمال عند الله تعالى ورفضها فضلاً عن أنه وسيلة تكشف عن الإيمان بالله ورسوله حينما يظهر المسلم أنه يتولى الله ورسوله وأهل بيته.

قال تعالى:

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )2 .

وهذه المودة التي لأهل البيت لا تتحقق إلا بعدم التولي لقوم غضب الله عليهم، أي: البراءة من أعداء الله تعالى.

قال سبحانه:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ)3 .

ص:155

وقال سبحانه وتعالى:

(أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ )1 .

5 - بعد المضي في هذه المراتب العبادية من البكاء والاقبال القلبي والصلاة والتولي لأولياء الله والتبرئ من أعداء الله سبحانه قولاً وعملاً، يدخل الداعي في مرحلة المناجاة كما صنع الإمام الحسين عليه السلام حينما قصد قبر جدته خديجة الكبرى سلام الله عليها.

6 - إن تحقق هذه المراتب يعطي النتيجة السريعة في استجابة الدعاء وقضاء الحاجة ونزول السكينة والاحساس ببرد المناجاة وحلاوتها كما نصت الرواية حينما سمع الإمام الحسين عليه السلام جواب مناجاته لربه ومسألته.

خامسا: منزلة خديجة عليها السلام عند الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام

يُظهر الإمام زين العابدين عليه السلام منزلة جدته خديجة الكبرى عليها السلام وافتخاره بها من خلال أمرين، الأمر الأول: خطبته الاحتجاجية في الشام.

وقد ألقاها عليه السلام في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية (لعنه الله تعالى) بعد أن أُدخل عليه مع بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد جيء بهم وهم مربطون بالحبال، يقادون كما يقاد أسارى العجم والترك فاستقبلهم ابن

ص:156

هند وهم على هذه الحالة فضلاً عما نزل بهم من المصائب العظيمة والرزايا الجليلة التي تخجل جبين كل موحد لله تعالى.

ولذا:

وجد الإمام زين العابدين أن يُعرّف هؤلاء - إن كانوا لم يعرفوا من هو - وأن يُظهر لهم منزلته عند الله تعالى ومنزلة آبائه، وإنه ابن هؤلاء السادات الأشراف الذين شرفهم الله، كي لا يظن هؤلاء الجالسون أنه مجهول الهوية أو أنه ممن يستهان بحرمته، على الرغم من كونهم - أي يزيد ومن والاه - قد انتهكوا حرمات الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قاموا بقتل أبيه وأخوته، وإن الكثير من هؤلاء الجالسين لا يدركون أنه ابن من يدينون له بالنبوة، وذلك بسبب التضليل الإعلامي الذي فرضته سياسة معاوية وأشياعه.

قال ابن شهر: (لما أتي بعلي بن الحسين ورأس أبيه (عليهما السلام) إلى يزيد بالشام قال لخطيب بليغ: خذ بيد هذا الغلام فائت به إلى المنبر وأخبر الناس بسوء رأي أبيه وجده وفراقهم الحق وبغيهم علينا، قال: فلم يدع شيئاً من المساوئ إلا ذكره فيهم، فلما نزل قام علي بن الحسين: فحمد الله بمحامد شريفة وصلى على النبي صلاة بليغة موجزة ثم قال:

يا معشر الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي، أنا ابن كعبة ومنى، أنا ابن مروة والصفا، أنا بن محمد المصطفى، أنا ابن من لا يخفى، أن ابن من علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى وكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء مثنى مثنى، أنا ابن من أسري به من

ص:157

المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلما، أنا ابن المحزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلا...)(1).

إلى آخر الخطبة التي وردت في مظانها؛ والتي تكشف عن افتخار الإمام زين العابدين بجدته خديجة الكبرى على أعدائه وإنه محاججهم يوم القيامة بهؤلاء إن كانوا يقرون لهم بالحرمة والقداسة، ويعتقدون بذلك.

الأمر الثاني: الصلاة عليها.

إنّ من المواطن التي يعلن فيها الإمام زين العابدين عليه السلام منزلة خديجة هو ذكره لها في صلواته، فيقول:

أللهم صلّ على محمد المصطفى وعلى علي المرتضى، وفاطمة الزهراء، وخديجة الكبرى(2).

فهذه الصلاة وإن كانت لا تروق لمن لا يوالي العترة النبوية إلا أنها رسالة لمن يتولاهم تنص على بيان رتبتها ومنزلتها عند الله تعالى وعند حجته على خلقه فقد أقرن ذكرها في الصلاة مع أهل بيت العصمة والنبوة عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ص:158


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 305؛ الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 419.
2- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السيلاوي: ص 372، نقلا عن مهج الدعوات: ص 29، ط بيروت؛ مشاهد ومزارات آل البيت في الشام، هاشم عثمان: ص 75؛ وجاء فيه: وعلى الواجهة الشمالية من الصحن - مرقد المحسن ابن الإمام الحسين - كتابة: أللهم صلّ على محمد المصطفى وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة الزهراء، وخديجة الكبرى....
سادسا: منزلة خديجة عند الإمام الحسن العسكري عليه السلام

إنّ من الأسئلة التي ترد على الباحث هي: لماذا لم يرد في المصادر الإسلامية نصوص تحمل بين ثناياها دلالة على منزلة خديجة عليها السلام عند بقية الأئمة المعصومين عليهم السلام.

والجواب:

إنّ ذلك يعود إلى طبيعة الأزمنة التي عاشها أئمة الهدى من الإمام الباقر وإلى الإمام الهادي سلام الله عليهم أجمعين وما يلازم هذه الأزمنة من ضروريات يحددها الأئمة سلام الله عليهم، وإلا فهم جميعاً عدل القرآن وأهله، فما يصدر عن أحدهم يصدر عنهم جميعاً حالهم في ذلك حال قول النبي وتلازمه مع القرآن.

وهنا:

في زمن الإمام الحسن العسكري اقتضت الضرورة حسبما يراها الإمام أن يُخرج للناس مجموعة من الصلوات على محمد وآله، فكان من بينها الصلاة الآتية التي رواها الشيخ الطوسي رحمه الله والسيد ابن طاووس وغيرهم.

قال عليه السلام:

أللهم صل على الصديقة فاطمة الزكية حبيبة حبيبك ونبيك وأم أحبائك وأصفيائك التي انتجبتها وفضلتها واخترتها على نساء العالمين.

أللهم كن الطالب لها ممن ظلمها واستخف بحقها وكن الثائر

ص:159

أللهم بدم أولادها، أللهم وكما جعلتها أم أئمة الهدى وحليلة صاحب اللواء والكريمة عند الملأ الأعلى، فصل عليها وعلى أمها خديجة الكبرى صلاة تكرم بها وجه أبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقرّ بها أعين ذريتها، وأبلغهم عني في هذه الساعة أفضل التحية والسلام(1).

وهذه الصلاة الشريفة تتضمن معاني جمة، ودلالات عديدة لا يسعنا في هذا الموضع بيانها إلا أننا نشير إلى عصمة ما يرد عن الأئمة الاثني عشر فلا نجد قولين متخالفين لهم، فهذه الصلاة الشريفة على خديجة الكبرى وتلازمها مع الصلاة على فاطمة وأبيها صلى الله عليه وآله وسلم هي نفسها قد وردت فيما سبق عن الإمام علي بن الحسين بن أبي طالب عليهم السلام.

وهذا فضلاً عن التصريح بمنزلتها على لسان حجة الله على خلقه، أي الإمام الحسن العسكري عليه السلام.

المسألة الرابعة: منزلة خديجة عند أعلام بني هاشم وأبناء الأئمة عليهم السلام

اشارة

مثلما كشفت الروايات عن منزلة خديجة عند العترة النبوية عليهم السلام فقد كشفت أيضا عن منزلتها عند أعلام بني هاشم وعند أحفادها، وهي كالآتي:

ص:160


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ص 401؛ فلاح السائل للسيد ابن طاووس: ص 297؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 19، ص 74.
أولا: منزلتها عند أبي طالب عليهما السلام

قال رضوان الله عليه حينما خطبها للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

(إنّ ابن أخينا محمد بن عبد الله خاطب كريمتكم الموصوفة بالسخاء والعفة، وهي فتاتكم المعروفة المذكور فضلها الشامخ)(1).

وهو خير شاهد على ما اتصفت به السيدة الطاهرة خديجة الكبرى قبل اقترانها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا نظرنا إلى تلك السمات التي اتسمت بها بعد زواجها المبارك بسيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم.

ثانيا: منزلتها عند أم سلمة رضي الله عنها

من يتصفح صفحات التاريخ، لاسيما كتب السيرة النبوية يجد بوضوح العلاقة المميزة بين عترة النبي عليهم السلام وزوج النبي أم سلمة حتى وافتها المنية سنة 62 ه .

هذه العلاقة الخاصة ظهرت من قبل دخول أم سلمة إلى سكن النبي الأعظم في السنة الرابعة للهجرة وأنها امتازت بالمودة لفاطمة وزوجها وأبنائها؛ بل وحبها لخديجة عليها السلام وإن لم تجتمع معها في بيت واحد وذلك لوفاة خديجة عليها السلام في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات.

ص:161


1- مستدرك الوسائل للنوري: ج 14، ص 204؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16، ص 69.

ولذلك:

نجد الرواية الآتية تتحدث عن منزلة خديجة عليها السلام عند أم سلمة من قبل أن تنتقل إلى سكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي منذ كانت عند زوجها أبي سلمة الذي توفي عنها في السنة الرابعة ثم تزوجت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1).

فقد روى الخوارزمي في المناقب في حديث زواج فاطمة عليها السلام: أن أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلت على أم سلمة وحدثتها في أمر انتقال فاطمة عليها السلام إلى بيت علي عليه السلام وأن يحدثن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك؛ فذهبن إليه، فقالت أم سلمة ومن كان معها له صلى الله عليه وآله وسلم:

(فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، قد اجتمعنا لأمر لو أن خديجة في الأحياء، لقرت بذلك عينها.

قالت أم سلمة: فلما ذكرنا خديجة بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال:

خديجة، وأين مثل خديجة، صدقتني حين كذبني الناس وآزرتني على دين الله وأعانتني عليه بمالها، أن الله عز وجل أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد، لا صخب فيه ولا نصب.

قالت أم سلمة: فقلنا فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله صلى الله عليه

ص:162


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 93.

وآله وسلم، إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك، غير أنها قد مضت إلى ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا في درجات جنته ورضوانه يا رسول الله هذا أخوك في الدين وابن عمك في النسب علي بن أبي طالب عليه السلام يحب أن تدخل زوجته فاطمة وتجمع بها شمله.

وتدل الرواية على اهتمام أم سلمة بفاطمة وحرصها على زواجها من علي عليه السلام وما يكون ذلك إلا بدافع الحب لهما.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

يا أم سلمة فما بال علي لا يسألني ذلك ؟

قلت: يمنعه من ذلك الحياء منك يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... الخ)(1).

كما تدل الرواية على اعتقادها بما لخديجة من المنزلة عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأنها كانت مجمعاً للفضائل ولذا قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

(إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك).

وقولها رضي الله عنها: (غير أنها مضت إلى ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا في درجات جنته ورضوانه).

ص:163


1- المناقب للخوارزمي: ص 350؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 370؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 43، ص 131؛ الخصائص الفاطمية للكجوري: ج 2، ص 320؛ أعيان الشيعة: ج 10، ص 272؛ الأنوار الساطعة للسيلاوي: ص 374.
ثالثاً: منزلتها عند محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام

(1)

ص:164


1- ترجم له السيد محسن الأمين في أعيانه بقوله: أبو القاسم، أو أبو عبد الله ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المعروف بان الحنفية هو من الطبقة الأولى من التابعين ولد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوفي سنة 81 ه في أيام عبد الملك بن مروان وعمره خمس وستون سنة واختلفوا في أي مكان توفي على ثلاثة أقوال: أحدهما بأيلة، والثاني بالمدينة، وصلى عليه أبان بن عثمان بإذن ابنه أبي هاشم ودفن بالبقيع، والثالث بالطائف. غلبت عليه النسبة إلى أمه خولة الحنفية من بني حنيفة وهي خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل. قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ما حاصله: اختلف في امرها فقيل إنها سبية من سبايا حنيفة على يد خالد بن الوليد أيام أبي بكر أقول وبذلك قد يحتج بعضهم على اعتراف أمير المؤمنين علي عليه السلام بصحة سبيها وفيه أن الحال في ذلك لا يمكن الجزم بها ولا دعوى العلم بأنه كيف تزوجها لجواز أن يكون عقد عليها مع أن المؤرخين مختلفون في أمرها كما سمعت وستسمع فكيف يمكن الاحتجاج بأمر مختلف فيه إذ متى وجد الاحتمال سقط الاستدلال على أن عمر نفسه لم يعترف بصحة سبي بني حنيفة وكان يطلب إلى الخليفة أن يقيم الحد على خالد قال: وقال قوم منهم أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدايني هي سبية في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا بعث عليا إلى اليمن فأصاب خولة في بني زبيد وقد ارتدوا مع عمر بن معديكرب وكانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم فصارت في سهم علي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن ولدت منك غلاما فسمه باسمي وكنه بكنيتي، فولدت له بعد موت فاطمة عليها السلام محمدا فكناه أبا القاسم قال وقال قوم وهم المحققون وقولهم الأظهر إن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر فسبوا خولة فباعوها من علي فقدم قومها عليه فأخبروه بموضعها منهم فأعتقها ومهرها وتزوجها، قال هذا القول اختيار أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه المعروف بتاريخ الاشراف آه.

ص:165

إنّ من المناهج التي وردت في القرآن الكريم هو منهاج السُنة التاريخية وآثارها الاجتماعية والتربوية؛ والسنة التاريخية تعد كقانون حياتي كفيل بتطبيق مادته على من يدخل في فلكه، إذ مثلما مرت الأمم السابقة وكثير من النماذج البشرية بنظم حياتية، كذلك مرت هذه الامة الإسلامية بسنن حياتية مختلفة؛ منها سُنة الصراع على السلطة؛ أو سنة التخلي عن الأنبياء والرسل عليهم السلام(1).

هذا المعنى نراه يتجسد في الفترة التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وامتدت إلى يومنا هذا ولن تتوقف هذه الحركة التاريخية إلا عند ظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي يملأُها قسطا وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

وحينما نقرأ التاريخ الإسلامي نجد أن أعظم الظلم هو ما نزل بعترة النبي

ص:166


1- لمعرفة المزيد انظر كتاب: حركة التاريخ وسننه عند علي وفاطمة عليهما السلام للسيد نبيل الحسني.

الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لدرجة يظل فيها القارئ حائراً لا يدري أهو يقرأ في تاريخ المسلمين أم في تاريخ أمّة أخرى ؟!

ومن هذا المعنى:

نجد أن بيان محمد بن الحنفية لمنزلة خديجة عليها السلام لم يكن وليد صدفة، بل كان نتيجة لسلسلة من الحوادث الإسلامية امتدت إلى الزمن الذي عاش فيه، ودفعته إلى استخدام لغة التهديد في قتال عبد الله بن الزبير وأبناء عمومته وإن الذي يمنعه منهم هو منزلة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى وما يربطها بهم من قرابة نسبية، فوالد ابن الزبير هو ابن عم خديجة عليها السلام، فالعوام وخويلد أخوان ولدهما أسد بن عبد العزى.

وعليه:

فقد وجدنا أن ننقل للقارئ الكريم سبب صدور هذا القول من محمد بن الحنفية الذي يتوعد فيه بني أسد بن عبد العزى بالقتل لولا منزلة خديجة فيهم، إذ يعطي صورة واضحة لما مرّ به بنو هاشم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويظهر مدى تحرك السنن التاريخية التي جرت في الأمم السابقة في هذه الامة لاسيما الصراع على السلطة التي انتهك الساعون إليها بغير حق كل الحرمات.

فقد روى المؤرخ اليعقوبي وابن أبي الحديد المعتزلي - واللفظ لليعقوبي -: (وتحامل عبد الله بن الزبير على بني هاشم تحاملاً شديداً، وأظهر لهم العداوة والبغضاء، حتى بلغ ذلك منه أن ترك الصلاة على محمد - صلى الله

ص:167

عليه وآله وسلم - في خطبته، فقيل له: لم تركت الصلاة على النبي ؟ فقال: إن له أهل سوء يشرئبون لذكره، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به.

وأخذ ابن الزبير محمد بن الحنفية، وعبد الله بن عباس، وأربعة وعشرين رجلا من بني هاشم ليبايعوا له، فامتنعوا، فحبسهم في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ليبايعن أو ليحرقنهم بالنار، فكتب محمد بن الحنفية إلى المختار بن أبي عبيد:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن علي ومن قبله من آل رسول الله إلى المختار بن أبي عبيد ومن قبله من المسلمين، أما بعد فإن عبد الله بن الزبير أخذنا، فحبسنا في حجرة زمزم، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو لنبايعنه، أو ليضرمنها علينا بالنار، فيا غوثا)!

فوجه إليهم المختار بن أبي عبيد بأبي عبد الله الجدلي في أربعة آلاف راكب، فقدم مكة، فكسر الحجرة، وقال لمحمد بن علي: دعني وابن الزبير!

قال: لا أستحل من قطع رحمه ما استحل مني.

وبلغ محمد بن علي بن أبي طالب أن ابن الزبير قام خطيبا فنال من علي ابن أبي طالب، فدخل المسجد الحرام، فوضع رحلا، ثم قام عليه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد، ثم قال: شاهت الوجوه، يا معشر قريش، أيقال هذا بين أظهركم وأنتم تسمعون، ويذكر علي فلا تغضبون ؟ ألا إن عليا كان سهما صائبا من مرامي الله أعداءه، يضرب وجوههم، ويهوعهم مآكلهم، ويأخذ بحناجرهم، ألا وإنا على سنن ونهج من حاله، وليس علينا في مقادير

ص:168

الأمور حيلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فبلغ قوله عبد الله بن الزبير، فقال: هذا عذرة بني الفواطم، فما بال ابن أمة بني حنيفة ؟ وبلغ محمدا قوله، فقال: يا معاشر قريش وما ميزني من بني الفواطم ؟ أليست فاطمة ابنة رسول الله حليلة أبي وأم إخوتي ؟ أو ليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي وأم أبي ؟ أليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدة أبي وأم جدتي ؟ أما والله لولا خديجة بنت خويلد لما تركت في أسد عظما إلا هشمته، فإني بتلك التي فيها المعاب صبير.

ولما لم يكن بابن الزبير قوة على بني هاشم، وعجز عما دبره فيهم، أخرجهم عن مكة، وأخرج محمد بن الحنفية إلى ناحية رضوى، وأخرج عبد الله ابن عباس إلى الطائف إخراجا قبيحا، وكتب محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن عباس:

(أما بعد، فقد بلغني أن عبد الله بن الزبير سيرك إلى الطائف، فرفع الله بك أجرا، واحتط عنك وزرا، يا ابن عم، إنما يبتلى الصالحون، وتعد الكرامة للأخيار، ولو لم تؤجر إلا فيما نحب وتحب قل الاجر، فاصبر فإن الله قد وعد الصابرين خيرا، والسلام)(1).

فهذه الحوادث تكشف عما أنجبته السقيفة التي بايع فيها عمر بن الخطاب أبا بكر فتبعه على ذلك الأوس والخزرج ثم القرشيون لتتمخض عن نماذج

ص:169


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 262؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 4، ص 63؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 42. ص 102.

جلست على رقاب المسلمين، تمتنع من ذكر الصلاة على نبي الإسلام لأنه هاشمي، فأي عصبية هذه، وأي جاهلية هوجاء تغلغلت في الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

رابعا: افتخار الشهيد زيد بن علي بن الحسين بجدته خديجة عليهم السلام

ولم ينتهِ التاريخ بعد من سرده للشواهد التاريخية التي تدور في فلك ظلامة أهل البيت عليهم السلام فترسّخ حقيقة اضطهادهم مع ما لهم من الحقوق على الامة، فها هو شاهد تاريخي آخر أخرجه فرات الكوفي في تفسيره عن زيد بن علي(1) بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يضاف إلى

ص:170


1- ولد زيد بن علي عليه السلام في المدينة المنورة. أبوه الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وأمه من بلاد السند. والكثير من المراجع والمصادر لم تثبت سنة ولادته، كمااختلف في سنة شهادته. فقد أورد ابن الأثير في الكامل شهادته في أحداث عام (122 ه )، وكذلك الدينوري وابن الجوزي والطبري. وفئة من المؤرخين ذكروا أنه استشهد في عام (121 ه )، ومنهم ابن الأثير في تاريخه، فبعد أن أثبت وفاته سنة (122 ه )، كتب: (وقيل سنة وفاته عام (121 ه )). وأورده الشيخ الطوسي في جملة أصحاب الإمام زين العابدين وأصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وكتب: (زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أبو الحسين، تابعي قتل سنه إحدى وعشرين ومائة وله اثنتان وأربعون سنة). أما الشيخ المفيد فإنه كتب في إرشاده: (وكان مقتله يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومائة وكان سنة يومئذ اثنتين وأربعين سنة). أما ابن عساكر في تاريخ دمشق فقد قال: (إن سنة ولادته (78 ه )). وإذا كان الأمر كذلك فإن سنة شهادته مرددة بين عام (121 ه ) كما ذهب إليه الشيخ الطوسي وبعض المؤرخين، وبين عام (122 ه ) كما ذهب ابن الأثير وغيره. وعلى هذا الأساس يمكن تحديد سنة ولادته بين عام (79 ه ) وبين عام (80 ه )، وذلك بقرينة أن عمره يوم شهادته

ص:171

ص:172

ص:173

تلك الشواهد.

كما إنه ينقل لنا صورة أخرى من صور تلك المرحلة الزمنية من تاريخ الامة الإسلامية التي شهدت تولي الأمويين فيها دفة الحكم؛ فضلاً عن بيان طبيعة التوجهات الفكرية والميولات والولاءات عند أبناء التابعيين في مكة والمدينة.

قال زيد بن علي عليهما السلام، في قوله تعالى:

(وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً)1 .

ص:174

قال - زيد -: فحفظ الغلامان بصلاح أبيهما فمن أحق أن يرجو الحفظ من الله بصلاح من مضى من آبائه منا، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جدنا، وابن عمه المؤمن به المهاجر معه أبونا، وابنته أمنا وزوجته أفضل أزواجه جدتنا، فأي الناس أعظم عليكم حقا في كتابه، ثم نحن من أمته وعلى ملته ندعوكم إلى سنته والكتاب الذي جاء به من ربه أن تحلوا حلاله وتحرموا حرامه وتعملوا بحكمه عند تفرق الناس واختلافهم)(1).

ويستدل زيد الشهيد عليه السلام على المسلمين بالكتاب المجيد فيورد لهم آية من آياته تلزمهم بحفظ أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان خير من خلق الله وأشرفهم فمن غيره أولى بحفظ أبنائه وذريته، وهذا فضلاً عن اختصاص خديجة عليها السلام بالصلاح فكيف كان جزاؤهم لها في أبنائها وأحفادها.

المسألة الخامسة: منزلة خديجة عليها السلام عند أعلام الشيعة

اشارة

إن ما يميز أقوال أعلام الشيعة في بيانهم لمنزلة خديجة هو أن هذه الأقوال مستمدة من القرآن الكريم والعترة النبوية عليهم السلام واشتهارها بين أتباع أهل البيت عليهم السلام.

بمعنى:

أن الشيعة يرجعون في إيمانهم بمنزلة خديجة عليها السلام إلى أقوال أئمة

ص:175


1- تفسير فرات الكوفي: ص 246؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 27، ص 207.

الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واستغنائهم بهذه الأقوال عن ما يرد عن سواهم.

ولذا:

نجد أن بيان أعلام الشيعة لمنزلة خديجة يكاد يكون قليلاً فيما لو قيس مع أقوال أعلام أهل السنة والجماعة وذلك لتمسك الشيعة بما يرد عن الأئمة المطهرين من الرجس واكتفائهم بهذه الأقوال.

أما أعلام أهل السنة والجماعة فقد احتاجوا إلى بيانات كثيرة ترشد أتباعهم إلى بيان منزلة خديجة عليها السلام؛ وذلك بسبب ما ذهب إليه أكثر أئمة أهل السنة في تفضيل عائشة على خديجة عليها السلام على الرغم من تضافر النصوص النبوية الصحيحة المتواترة المخبرة عن تفضيل خديجة عليها السلام على نساء الامة ما خلا ابنتها فاطمة عليها السلام كما مرّ بيانه مفصلاً.

ولقد بسط البعض من أعلام أهل السنة والجماعة من الماضين كالعلامة السبكي رحمه الله تعالى والسهيلي والزرقاني وغيرهم الكلام في بيان منزلة خديجة عليها السلام وتفضيلها على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنها وابنتها فاطمة عليهما السلام سيدتا نساء هذه الامة.

وعليه:

نبدأ هنا بأقوال أعلام الشيعة الذين اتبعوا العترة النبوية عليهم السلام في بيانهم لمنزلة خديجة عليها السلام.

ص:176

أولاً: منزلتها عند الشيخ الحميري القمي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 267 ه )

قال الحميري القمي(1): (هي سيدة قريش، وقد خطبها كل صنديد

ص:177


1- ترجم له السيد أبو القاسم الخوئي (طيب الله ثراه) فقال: قال النجاشي: عبد الله بن جعفر بن الحسن بن مالك بن جامع الحميري أبو العباس القمي شيخ القميين ووجههم، قدم الكوفة سنة نيف وستين ومائتين، وسمع أهلها منه فأكثروا، وصنف كتبا كثيرة يعرف منها: كتاب الإمامة، كتاب الدلائل، كتاب العظمة والتوحيد، كتاب الغيبة والحيرة، كتاب فضل العرب، كتاب التوحيد والبداء والإرادة والاستطاعة والمعرفة، كتاب قرب الإسناد إلى الرضا عليه السلام، كتاب قرب الإسناد إلى أبي جعفر بن الرضا عليه السلام، كتاب ما بين هشام بن الحكم وهشام بن سالم، والقياس (العباس)، والأرواح، والجنة والنار، والحديثين المختلفين، مسائل الرجال ومكاتباتهم أبا الحسن الثالث عليه السلام، مسائل لأبي محمد الحسن بن علي عليه السلام، على يد محمد بن عثمان العمري، كتاب قرب الإسناد إلى صاحب الامر عليه السلام، مسائل أبي محمد وتوقيعات، كتاب الطب، أخبرنا عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عنه بجميع كتبه. وذكر في ترجمة العمركي بن علي البوفكي: أنه روى عنه شيوخ أصحابنا منهم: عبد الله بن جعفر الحميري. وقال الشيخ: (عبد الله بن جعفر الحميري القمي يكنى أبا العباس، ثقة، له كتب، منها: كتاب الدلائل، كتاب الطب، وكتاب الإمامة، وكتاب التوحيد والاستطاعة والأفاعيل والبداء، وكتاب قرب الإسناد، وكتاب المسائل والتوقيعات، وكتاب الغيبة، ومسائله عن محمد بن عثمان العمري، وغير ذلك من رواياته ومصنفاته وفهرست كتبه، وزاد ابن بطة، كتاب الفترة والحيرة، وكتاب فضل العرب، أخبرنا بجميع كتبه ورواياته الشيخ المفيد رحمه الله، عن أبي جعفر بن بابويه، عن أبيه ومحمد بن الحسن، عنه، وأخبرنا بها ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عنه).

ورئيس، قد أبتهم، فزوجته نفسها للذي بلغها من خبر بحيراء)(1).

ص:178


1- قرب الإسناد للحميري: ص 325.
ثانياً: منزلتها عند الشيخ المفيد رضي الله تعالى عنه (المتوفى سنة 413 ه )

قال الشيخ المفيد(1) رحمه الله في بيان دلالة قول رسول الله صلى الله عليه

ص:179


1- أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم والمشهور بالشيخ المفيد ولد يوم الحادي عشر من ذي القعدة، سنة 336 ه وتوفي ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وصلى عليه الشريف المرتضى، وقد ترجم له السيد أبو القاسم الخوئي في معجم رجاله وقد جمع أقوال العلماء فيه، فمن جملة ما قالوا، قال النجاشي: شيخنا وأستاذنا رضي الله عنه فضله أشهر من أن يوصف في الفقه، والكلام، والرواية، والثقة والعلم. له كتب: الرسالة المقنعة الأركان في دعائم الدين، كتاب الإيضاح في الإمامة، كتاب الافصاح في الإمامة، كتاب الإرشاد، كتاب العوين والمحاسن، - ثم عدّ النجاشي بقية أسماء كتبه رضوان الله عليه. وقال الشيخ الطوسي: محمد بن محمد بن النعمان المفيد، يكنى أبا عبد الله المعروف بابن المعلم، من جملة متكلمي الإمامية، انتهت إليه رياسة الإمامية في وقته، وكان مقدما في العلم وصناعة الكلام، وكان فقيها متقدما فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، وله قريب من مائتي مصنف كبار وصغار، وفهرس كتبه معروف وتوفي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وكان يوم وفاته يوما لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق (المؤالف)، ثم ذكر السيد أبو القاسم قدس سره، ما خرج من الناحية المقدسة من رسائل إلى الشيخ المفيد رضوان الله عليه. (معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 18، ص 213-222). وترجم له الزركلي فقال: محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام العكبري يرفع نسبه إلى قحطان، أبو عبد الله، المفيد، ويعرف بابن المعلم: محقق إمامي انتهت إليه رئاسة الشيعة في وقته، كثير التصانيف في الأصول والكلام والفقه. ولد في عكبرا (على عشرة فراسخ من بغداد) ونشأ وتوفي ببغداد. له نحو مئتي مصنف منها (الإعلام فيما اتفقت الإمأميّة عليه في الأحكام - مطبوع - (الإرشاد في تاريخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والزهراء والأئمة - مطبوع -)، (الرسالة المقنعة - مطبوع - في الفقه)،

وآله وسلم لعائشة:

ما أبدلني الله خيرا منها.

- إن هذا -: (يوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة من سبق أبي بكر جماعة الامة إلى الإسلام إذ فيه شهادة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقدم إيمان خديجة على سائر الناس)(1).

ثالثا: منزلتها عند العلامة الحلي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 726 ه )

قال العلامة الحلي(2): (وأجمع المسلمون على أن خديجة من أهل الجنة،

ص:180


1- الإفصاح في الإمامة: ص 217، ط مصنفات الشيخ المفيد.
2- ترجم له الحر العاملي (طيب الله ثراه) قائلا: (الشيخ العلامة جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف ين علي بن المطهر الحلي فاضل عالم علامة العلماء، محقق مدقق ثقة ثقة فقيه محدث متكلم ماهر جليل القدر عظيم الشأن رفيع المنزلة، لا نظير له في الفنون والعلوم العقليات والنقليات، وفضائله ومحاسنه أكثر من أن تحصى. قرأ على المحقق الحلي والمحقق الطوسي في الكلام وغيره من العقليات، وقرأ عليه في الفقه المحقق الطوسي، وقرأ العلامة أيضا على جماعة كثيرين جدا من العامة والخاصة. وقد ذكره الحسن بن علي بن داود في كتابه فقال عند ذكره: شيخ الطائفة، وعلامة وقته، وصاحب التحقيق والتدقيق، كثير التصانيف انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول والمنقول، مولده سنة 648 ه ، وكان والده قدس الله روحه فقيها محققا مدرسا عظيم الشأن. وذكره السيد مصطفى في كتاب الرجال، ثم ذكر كلام ابن داود وقال: ويخطر ببالي أن لا أصفه، إذ لا يسع كتابي هذا علومه وتصانيفه وفضائله ومحامده له أكثر من سبعين كتابا انتهى. وذكره

ص:181

ص:182

وعائشة قاتلت أمير المؤمنين عليه السلام بعد الإجماع على إمامته، وقتلت بسببها نحواً من ستة عشر ألف صحابي وغيره من المسلمين)(1).

ص:183


1- نهج الحق وكشف الصدق: ص 370، ط دار الهجرة، قم.
رابعا: منزلتها عند الفقيه الكراجكي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 449 ه )

(1)

قال الفقيه الكراجكي قدس سره:

(ومن عجيب أمرهم تفضيلهم عائشة بنت أبي بكر على جميع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبهجتهم بتسميتها أم المؤمنين، بدعواهم أنها حبيبة رسول الله، وكثرة ترحمهم عليها، وإظهارهم الخشوع والبكاء عند ذكرها، ثم لا يذكرون خديجة بنت خويلد - عليها السلام - وفضلها متفق عليه، وعلو قدرها لا شك فيه، وهي أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله

ص:184


1- هو الشيخ أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي، عالم فاضل، متكلم، فقيه، محدث ثقة، جليل القدر. له كتب منها: كنز الفوائد، وكتاب معدن الجواهر ورياضة الخواطر، والاستنصار في النص على الأئمة الأطهار، ورسالة في تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام، والكر والفر في الإمامة، والإبانة عن المماثلة في الاستدلال بين طريق النبوة والإمامة، ورسالة في حق الوالدين، ومعونة الفارض في استخراج سهام الفرائض. وقال منتجب الدين عند ذكره: فقيه الأصحاب، قرأ على السيد المرتضى والشيخ أبي جعفر، وله تصانيف منها: كتاب التعجب، كتاب النوادر، أخبرنا الوالد عن والده عنه. وقال ابن شهرآشوب عند ذكره: له أخبار الآحاد، التعجب في الإمامة حسن، ومسألة في المسح، ومسألة في كتابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمنهاج في معرفة مناسك الحاج، المزار، مختصر زيارة إبراهيم الخليل عليه السلام، شرح جمل العلم للمرتضى، الوزيري، وشرح الاستبصار في النص على الأئمة الأطهار، المشجر، معارضة الأضداد باتفاق الاعداد، الاستطراف في ذكر ما ورد من الفقه في الانصاف. كتاب التلقين لأولاد المؤمنين. جواب رسالة الأخوين. (وله أيضا كتاب الفهرست كما نسبه إليه ابن طاوس في أواخر كتاب الدروع الواقية)، وهو يروي عن الشيخ المفيد ومن عاصره. (أمل الآمل للحر العاملي: ج 2، ص 287-288، برقم 857).

وسلم، وأنفقت عليه مالها، وكان يكثر ذكرها، ويحسن الثناء عليها، ويقول:

ما نفعني مال كمالها.

ورزقه الله الولد منها، ولم يتزوج في حياتها إكراما منه لها، ولكثرة ما كان يذكرها)(1).

خامسا: منزلتها عند الأربلي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 693 ه )

(2)

قال الأربلي رحمه الله بعد أن أفرد في كتابه كشف الغمة فصلا لمناقب خديجة بنت خويلد أم فاطمة عليهما السلام فيقول:

ص:185


1- التعجب، أبو الفتح الكراجكي: ص 102.
2- ترجم له العلامة الأميني صاحب الغدير بقوله: (بهاء الدين أبو الحسن علي بن فخر الدين عيسى بن أبي الفتح الأربلي نزيل بغداد ودفينها، فذ من أفذاذ الأمّة، وأوحدي من نياقد علمائها، بعلمه النابع وأدبه الناصع يبلج القرن السابع وهو في أعاظم العلماء قبله في أئمة الأدب، وإن كان به ينضد جمان الكتابة، وتنظم عقود القريض، وبعد ذلك كله هو أحد ساسة عصره الزاهي، ترنحت به أعطاف الوزارة وأضاء دستها، كما ابتسم به ثغر الفقه والحديث، وحميت به ثغور المذهب، وسفره القيم - كشف الغمة - خير كتاب أخرج للناس في تاريخ أئمة الدين، وسرد فضايلهم، والدفاع عنهم، والدعوة إليهم. وهو حجة قاطعة على علمه الغزير، وتضلعه في الحديث، وثباته في المذهب، ونبوغه في الأدب، وتبريزه في الشعر، حشره الله مع العترة الطاهرة صلوات الله عليهم، قال الشيخ جمال الدين أحمد بن منبع الحلي مقرظا الكتاب: ألا قل لجامع هذا الكتاب يمينا لقد نلت أقصى المراد وأظهرت من فضل آل الرسول بتأليفه ما يسوء الأعادي (الغدير للعلامة الأميني: ج 5، ص 446).

(حيث ذكرت ما أمكن من مناقب فاطمة عليها السلام غير مدع الاستقصاء فإن مناقبها تجل عن العد والاحصاء شرعت في ذكر شيء من فضائل أمها عليها السلام ليعلم أن الشرف قد اكتنفها من جميع أقطارها وأن المجد أوصلها إلى غاية يعجز المجارون عن خوض غمارها ومهما ذكره ذاكر فهو على الحقيقة دون مقدارها)(1).

سادسا: منزلتها عند المامقاني رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 1351 ه )

(2)

قال المامقاني قدس سره:

(خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الباقية على الزوجية إلى الآن أم المؤمنين حقا)(3).

ص:186


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج 2، ص 129.
2- ترجم له الزركلي بقوله: عبد الله بن حسن بن عبد الله بن محمد بن باقر المامقاني النجفي مؤرخ متأدب متفقه إمامي، من أهل النجف مولده ووفاته بها من كتبه المطبوعة تنقيح المقال في أحوال الرجال (ثلاثة مجلدات، ومناهج المتقين ثلاثة أجزاء، ومجمع الرسائل. (الإعلام: ج 4، ص 79). وقال في حقه المرجع الديني السيد شهاب الدين المرعشي: مولانا وأستاذنا الآية الباهرة في جل العلوم، الحاج الشيخ عبد الله المامقاني النجفي (قده) ووفقني الله تعالى لأداء يسير من كثير حقه علي علما وتربية وإحساناً. (شرح إحقاق الحق للمرعشي: ج 1، ص 45).
3- تنقيح المقال في معرفة الرجال: ج 3، ص 77.
سابعا: منزلتها عند المحقق البحراني رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 1121 ه )

(1)

قال المحقق البحراني قدس سره:

(والتسع اللواتي قبض عنهن: عائشة، وحفص وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وصفية، وجويرية، وسودة.

وأفضلهن خديجة بنت خويلد ثم أم سلمة، ثم ميمونة)(2).

ص:187


1- هو الشيخ أبو الحسن شمس الدين سليمان ابن العالم الشيخ عبد الله بن علي بن حسن بن أحمد بن يوسف بن عمار البحراني الستراوي الماحوزي الدونجي. والستري كما في أنوار البدرين، أو التسراوي كما في اللؤلؤة نسبة إلى سترة ناحية البحرين. كان المحقق البحراني من أعظم علماء الشيعة، ومشهورا بينهم بالتتبع والتحقيق والتأليف، وأثنى عليه أرباب التراجم والمعاجم بالاطراء والثناء الفاخر ومجدوه بكل التمجيد بما يستحقه. (كتاب الأربعين للماحوزي: المقدمة، ص 4). قال المحقق الوحيد البهبهاني في تعليقه على منهج المقال: هو الفاضل الكامل المحقق المدقق الفقيه النبيه قادر العصر والزمان. (التعليقة على منهج المقال: ص 13). وقال المحدث الفقيه الشيخ يوسف البحراني في لؤلؤ البحرين: علامة الزمان، وتازرة الأوان، وهذا الشيخ قد انتهت إليه رئاسة بلاد البحرين في وقته. (لؤلؤة البحرين: ص 7).
2- الحدائق الناضرة، المحقق البحراني: ج 23، ص 95. وكذا ذهب إليه الحر العاملي: ج 20، ص 245. تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي: ج 16، ص 316.
ثامنا: منزلتها عند السيد أبي القاسم الخوئي طيب الله ثراه (المتوفى سنة 1411 ه )

(1)

قال السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره: (ووضوح جلالتها وعظم شأنها وبذل أموالها في سبيل الإسلام وخدمتها للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أغنانا عن الإطالة في المقال)(2).

فهذه الأقوال تكشف عن ثوابت الفكر الإمامي في الرجوع إلى القرآن والعترة وأن التولي والتبري عندهم يرتكز على أسس إيمانية وعقائدية يترجى من خلالها رضا الله تعالى ورضا رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ص:188


1- هو السيد أبو القاسم بن علي الأكبر بن هاشم الموسوي الخوئي من أكابر علماء الشيعة الإمامية وأحد مراجع الدين وإليه تعود رئاسة الطائفة في زمانه وشأنه لا يخفى على أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام أو على غيرهم، فكيف بطلاب العلوم الدينية. يقول السيد أبو القاسم الخوئي (قده) عن سيرة حياته: (ولدت في بلدة خوي سنة 1317 ه - هاجرت إلى النجف سنة 1330 ه - ابتدأت بقراءة العلوم الأدبية والمنطق ثم قرأت الكتب الدراسية والأصولية والفقهية لدى الكثير من أعلامها منهم سيدي المرحوم العلامة الحجة الوالد، ثم حضرت الدروس العليا على أكابر المدرسين سنة 1338 ه أخص منهم بالذكر: الشيخ فتح الله المعروف بشيخ الشريعة الاصفهاني، والشيخ محمد حسين النائيني، وأن الآخرين أكثر من تتلمذت عليه فقها وأصولاً وكنت أقرر بحث كل منهما على جمع من الحاضرين في البحث ولي في الرواية مشايخ أجازوني، وقد أكثرت من التدريس في الفقه والأصول والتفسير وربيت جمعاً غفيراً من الأفاضل في حوزة النجف الأشرف، وإني أحمد الله تعالى على ما أنعم به علي من مواصلة التدريس طيلة هذه السنين الطوال وما توقفت إلا في الضرورات كالمرض والسفر. (المقيد من معجم رجال الحديث للشيخ محمد الجواهري: ص 719).
2- معجم رجال الحديث: ج 24، ص 216.

بقي أن نقول: إن كان من لوازم البحث أن يطلع القارئ على رأي كاتب هذه السطور فيما قدمه بين يدي القارئ الكريم، فإني وإن لم أكن من أعلام الشيعة، فإن قراءتي لسيرة أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قادتني إلى الاعتقاد بأنها: أمّة جمعت في امرأة فكانت كأبيها إبراهيم الخليل حينما عرفه القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى:

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ )1 .

المسألة السادسة: منزلة خديجة عليها السلام عند أعلام أهل السنة والجماعة

أولاً: منزلتها عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 ه )

(1)

وتتضح منزلتها عليها السلام عند الحافظ ابن حجر من خلال أقوال

ص:189


1- أورد ترجمته العلامة الأميني رحمه الله في الغدير ضمن رواة حديث الغدير في القرن التاسع الهجري، فقال: (الحافظ أحمد بن علي بن محمد أبو الفضل العسقلاني المصري الشافعي المعروف بابن حجر المولود سنة 773 ه - في عسقلان بفلسطين - والمتوفى سنة 852 ه ، صاحب الإصابة، وتهذيب التهذيب، بسط القول في ترجمته السخاوي في ضوئه اللامع: ج 2، ص 36-40، وذكر مشايخه وتآليفه وأطراه، وقال: إمام الأئمة، قد شهد له القدماء بالحفظ والثقة والأمانة والمعرفة التامة والذهن الوقاد والذكاء المفرط وسعة العلم في فنون شتى، وشهد له شيخه العراقي بأنه أعلم أصحابه بالحديث، وقال كل من التقي الفاسي والبرهان الحلبي: ما رأينا مثله. (الغدير للعلامة الأميني رحمه الله: ج 1، ص 130، تحت الرقم 283).

ثلاثة، وهي كالآتي:

1 - قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:

(في شرح قولها: (هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول الله السلام).

قال العلماء:

في هذه القصة دليل على وفور فقهها؛ لأنها لم تقل وعليه السلام كما وقع لبعض الصحابة فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين)(1).

2 - وقال أيضا:

(لا جرم كانت أفضل نسائه على الراجح)(2).

3 - قال ابن حجر:

(لم يتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة حتى ماتت، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها، لأنها أغنته عن غيرها، واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها)(3).

ص:190


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 105.
2- المصدر السابق، ط دار إحياء التراث.
3- فتح الباري: ج 7، ص 103.
ثانياً: منزلتها عند الحافظ المباركفوري (المتوفى سنة 1353 ه )

(1)

قال الحافظ المباركفوري في شرحه لجامع الترمذي عند قول عائشة: (ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة). ما، الأولى نافية، والثانية مصدرية، أي ما حسدت مثل حسدي خديجة - عليها السلام - والمراد من الحسد هنا الغيرة (وما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعدما ماتت) أشارت عائشة بذلك إلى أن خديجة لو كانت حية في زمانها لكانت غيرتها منها أشد وأكثر، وذلك؛ أن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم بشرها ببيت في الجنة.

- ثم - كان لغيرة عائشة على خديجة أمران الأول كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم لها كما في الحديث السابق؛ والثاني هذه البشارة - أي بشارتها ببيت في الجنة - لأن اختصاص خديجة بهذه البشارة مشعر بمزيد محبة من النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم فيها (ببيت من قصب))(2).

ص:191


1- الشيخ أبو العلي محمد بن عبد الرحمن المباركفوري الحنبلي الظاهري من أئمة السنة في القارة الهندية ولد في 1283 ه وتوفي سنة 1353 ه من مؤلفاته تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي، وأبكار المنن في الرد على آثار أهل السنن. وقد قال عنه العلامة السيد محمد نذير حسين المحدث الدهلوي في إجازته له بالحديث: (إنّ المولوي الذكي، أبا العلي، محمد عبد الرحمن ابن الحافظ الحاج عبد الرحيم الأعظم كدهي، المباركفوري، قد قرأ علي صحيح البخاري، وصحيح ابن ماجة، ومشكاة المصابيح، وبلوغ المرام، وتفسير الجلالين، وتفسير البيضاوي، وأوائل الهداية، وأكثر شرح نخبة الفكر، وسمع ترجمة القرآن المجيد إلا ستة أجزاء، والموطأ، وسنن الدارمي، والمنتقى، وغيرها من كتب الحديث، والتفسير، والفقه، وتدريسها لأنه أهلها بالشروح المعتبرة عند أهل الحديث؛ مقدمة تحفة الأحوذي: ج 1، ص 2-3.
2- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري: ج 10، ص 264.
ثالثاً: منزلتها عند الشبلنجي (المتوفى سنة 1308 ه )

قال الشبلنجي(1): (قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في بهجة الحادي وأفضلهن خديجة وعائشة وفي أفضليتهما خلاف صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت أنه قال لعائشة حين قالت له رزقك الله خيرا منها لا والله ما رزقني الله خيرا منها)(2).

رابعاً: منزلتها عند العلامة السبكي (المتوفى سنة 756 ه )

1 - قال العلامة السبكي(3): (والذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة

ص:192


1- الشيخ سيد مؤمن بن حنس مؤمن الشبلنجي، فاضل من أهل شبلنجة (من قرى مصر، قرب بنها العسل) تعلم في الأزهر وأقام في جواره، وكان يميل إلى العزلة من كتبه (نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار) (فتح المنان في تفسير غريب القرآن) ومختصر الجبرتي في جزأين صغيرين. (الأعلام للزركلي: ج 7، ص 334).
2- نور الأبصار للشبلنجي: ص 90، ط انتشارات الشريف الرضي.
3- ترجم له السيوطي بقوله: (الإمام، الفقيه، المحدث، الحافظ ، المفسر، المتكلم، النحوي، اللغوي، الأديب، المجتهد، تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن مسوار بن سوار بن سليم، شيخ الاسلام، امام العصر، ولد في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وأخذ الفقه عن ابن الرفعة، والحديث عن الشرف الدمياطي، والقراءات عن التقي الصائغ والأصلين والمعقول عن العلاء الباجي والخلاف والمنطق عن السيف البغدادي والنحو عن أبي حيان والتصوف عن التاج بن عطاء وسمع من ابن الصواف وعدة، وأقبل على التصنيف والفتيا وصنف أكثر من مائة وخمسين مصنفا وتصانيفه تدل على تبحره في الحديث وغيره وسعة باعه في العلوم وتخرج به فضلاء العصر وولي قضاء الشام بوفاة الجلال القزويني وخرج له الحافظ شهاب الدين أبو العباس

أفضل ثم خديجة ثم عائشة)(1).

2 - وقال أيضا: (وهذا صريح في أنها وأمها أفضل نساء أهل الجنة)(2).

أي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

خير نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم.

خامسا: منزلتها عند الزرقاني (المتوفى سنة 1122 ه )

1 - قال الزرقاني(3) في شرح متن القسطلاني: (فلم يتزوج عليها مدة

ص:193


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 84.
2- سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 11، ص 161.
3- ترجم له الزركلي فقال: محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن علوان الزرقاني المصري الأزهري المالكي، أبو عبد الله خاتمة المحدثين بالديار المصرية، مولده ووفاته بالقاهرة ونسبته إلى زرقان من قرى منوف بمصر من كتبه (تلخيص المقاصد الحسنة) و (شرح المواهب اللدنية) و (شرح البيقونية). (أنظر الأعلام، ج 6، ص 184).

حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته)(1).

2 - قال الزرقاني أيضا: (قال ابن إسحاق وآزرته على أمره فخفف الله بذلك عنه فكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد وتكذيب إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، ولهذا السبق وحسن المعروف جزاها الله سبحانه فبعث جبرائيل إلى النبي وهو بغار حراء كما في رواية الطبراني وقال اقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، كما في الصحيح.

وفي الطبراني فقالت: هو السلام ومنه السلام وعلى جبرائيل السلام.

وفي النسائي: وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، وهذا من وفور فقهها حيث جعلت مكان رد السلام الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره)(2).

كما أن - اقرأ السلام من ربها خصوصية لم يكن لسواها)(3).

سادسا: منزلتها عند الذهبي (المتوفى سنة 748 ه )

قال الذهبي(4): (وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يثني عليها

ص:194


1- شرح الزرقاني على المواهب اللدنية: ج 1، ص 238.
2- شرح الزرقاني على المواهب اللدنية: ج 1، ص 238.
3- المصدر السابق.
4- ترجم له السيوطي بقوله: الإمام الحافظ محدث العصر وخاتمة الحفاظ ومؤرخ الإسلام وفرد الدهر والقائم بأعباء هذه الصناعة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني ثم الدمشقي المقرئ ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة وطلب الحديث وله ثماني

ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين ويبالغ في تعظيمها)(1).

سابعا: منزلتها عند الحافظ السهيلي (المتوفى سنة 581 ه )

قال السهيلي(2): (النكتة في قوله (من قصب) ولم يقل (من لؤلؤ) إن في

ص:195


1- سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 110.
2- ترجم له الذهبي بقوله: الحافظ العلامة البارع أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد بن أصبغ بن حسين بن سعدون، ويكنى أيضا أبا الحسن، ولد الخطيب أبي محمد ابن الإمام الخطيب أبي عمر الخثعمي الأندلسي المالقي الضرير صاحب التصانيف المؤنقة، مولده سنة بضع وخمس مائة. أخذ القراءات عن أبي داود الصغير سليمان بن يحيى وأخذ بعضها عن أبي منصور ابن الخير، وسمع من (أبي) عبد الله بن معمر والقاضي أبي بكر بن العربي وشريح بن محمد وأبي عبد الله بن مكي وأبي عبد الله (بن) نجاح الذهبي وطائفة، وأجاز له أبو عبد الله ابن أخت غانم وناظر في كتاب سيبويه على أبي الحسين ابن الطراوة وسمع منه كثيرا من كتب الأدب، عمي وهو ابن سبع عشرة سنة حمل الناس عنه، وصنف كتاب (الروض الأنف) كالشرح للسيرة النبوية فأجاد وأفاد وذكر أنه استخرجه من مائة وعشرين مصنفا، وله كتاب (الاعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء الاعلام)، وله (كتاب الفرائض) وغير ذلك وكان إماما في لسان العرب يتوقد ذكاءً وقد استدعى من مالقة إلى مراكش ليأخذوا عنه، سمع منه أبو الخطاب ابن دحية وجماعة، قال ابن دحية: كان يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف حتى نما خبره إلى صاحب مراكش فطلبه وأحسن إليه وأقبل عليه وأقام بها نحوا من ثلاثة أعوام.

لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع ألفاظ هذا الحديث.

وفي القصب مناسبة أخرى من جهته استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم يصدر منها ما يبغضه قط ، كما وقع لغيرها.

وأما قوله (بيت)، فقال أبو بكر الاسكاف في فوائد الأخبار: بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولذا قال: (لا نصب فيه) أي: لم تتعب بسببه.

قال السهيلي لذكر (البيت) معنى لطيف: لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث، ثم صارت ربة بيت في الإسلام، متفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها؛ وفي ذكر (البيت) معنى آخر: لأن

ص:196

مرجع أهل بيت النبي إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت.

قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي فاطمة وعليا والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال:

«هؤلاء أهل بيتي».

الحديث أخرجه الترمذي وغيره ومرجع أهل البيت إلى خديجة لأن الحسنين من فاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها).

(قوله لا صخب فيه ولا نصب) الصخب بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة، الصياح والمنازعة برفع الصوت؛ والنصب بفتح النون والمهملة بعدها موحدة: التعب؛ وأغرب الداودي فقال: الصخب: العيب، والنصب العوج، وهو تفسير لا تساعد عليه اللغة.

وقال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين أعني المنازعة والتعب أنه صلى الله عليه - وآله - وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعا فلم تحوجه إلى رفع الصوت ولا تنازعه ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلتها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها(1).

ص:197


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 104؛ فيض الغدير للمناوي: ج 2، ص 241؛ والظاهر في سياق الحديث أن كلام الحافظ السهيلي قد تداخل معه كلام الحافظ ابن حجر فأضاف معاني أخرى للأحاديث الشريفة غير ا لتي ذكرها السهيلي ولذلك أوردناه كاملاً.
ثامنا: منزلتها عند القاضي النعمان المغربي (المتوفى سنة 363 ه )

قال القاضي النعمان المغربي(1): (فخديجة رضوان الله عليها ولدت الأئمة

ص:198


1- ترجم له الزركلي في الاعلام، فقال: النعمان بن محمد بن منصور، أبو حنيفة بن حيون التميمي، ويقال له القاضي النعمان: من أركان الدعوة للفاطميين ومذهبهم بمصر. كان واسع العلم بالفقه والقرآن والأدب والتاريخ. من أهل القيروان، مولدا ومنشأ. تفقه بمذهب المالكية، وتحول إلى مذهب الباطنية. عاصر المهدي والقائم والمنصور والمعز (منشئ القاهرة) وخدمهم. وقدم مع المعز إلى مصر، وهو كبير قضاته. وتوفي بها. وصفه الذهبي بالعلامة المارق. وقال ابن حجر: في كتبه ما يدل على انحلال عقيدته. له (اختلاف أصول المذاهب) يرد فيه على أدلة الاجتهاد وينصر الإسماعيلية، و (دعائم الاسلام، وذكر الحلال والحرام) مجلدان، رأيت ثانيهما في الفاتيكان وكان (الظاهر) الفاطمي قد أمر الدعاة بحض الناس على حفظه، وجعل لمن يحفظه مكافأة، وله (مختصر) و (تأويل دعائم الاسلام) الأول منه، ويسمى (تربية المؤمنين) و (المجالس والمسايرات) أخبار وأحاديث، و (افتتاح الدعوة) لعله الذي سماه (ابتداء الدعوة للعبيديين) و (الهمة في آداب اتباع الأئمة) و (الاقتصاد) في فقه الشيعة، و (مختصر الآثار فيما روي عن الأئمة الأطهار) متداول الآن بين طائفة البهرة، و (أساس التأويل الباطن) و (المناقب والمثالب) و (ردود) على بعض الأئمة كالشافعي ومالك وأبي حنيفة، و (شرح الاخبار في فضائل النبي المختار وآله المصطفين الأخيار) و (المنتخبة) قصيدة في الفقه. قال الذهبي: كتبه كبار مطولة. وكان وافر الحشمة عظيم الحرمة، في أولاده قضاة وكبراء. (الأعلام لخير الدين الزركلي: ج 8، ص 41). وقد اختلف في حاله عند علماء الإمامية كابن شهر آشوب فقد ذهب إلى أن الرجل ليس بإمامي، وعده السيد بحر العلوم في رجاله من المالكية ثم إمامياً؛ وقال صاحب الجواهر: مطعون فيه؛ وذهب المحدث النوري إلى كونه إمامياً، وتوقف فيه السيد الخوئي. (معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج 20، ص 184).

وبشرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة وأتاها جبرائيل عليه السلام عن الله عزّ وجل بالسلام.

وأنفقت مالها في سبيل الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت أول من عرفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النساء وبنى بها منهن، لم يعرف من النساء امرأة قبلها.

وكانت أحب أزواجه إليه وأكرمهن عليه وأفضلهن عنده وأم بنيه وبناته ومسليته كما ذكر صلى الله عليه وآله وسلم ومفرجة غمومه، ولم يكن بينه وبينها اختلاف أيام حياتها حتى قبضت وهو عنها راض ولها شاكر رحمة الله ورضوانه عليها)(1).

المسألة السابعة: خديجة عليها السلام من رواة الحديث الشريف

اشارة

أشارت كتب الرجال والرواة للحديث النبوي الشريف إلى أن السيدة الطاهرة أم المؤمنين خديجة عليها السلام هي ممن روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرغم من الحقبة الحرجة التي شغلتها من عمر الرسالة مع ما رافقها من جهد وجهاد وحصار أصبح معروفاً لدى القارئ.

فلو نظرنا إلى سير الرسالة منذ انطلاقها في مكة وإلى حين وفاة خديجة عليها السلام لوجدناها من أصعب المراحل، إن لم تكن فريدة في تحديداتها وخطورتها ومشاقها؛ فالسنين الأولى كانت في جو من التكتم المبتني على

ص:199


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج 3، ص 22، ط جماعة المدرسين.

الاختيار للأفراد الذين يجد فيهم النبي الأكرم سمة الصدق والطهر فدعاهم إلى الإسلام كزوجه خديجة بنت خويلد وعلي بن أبي طالب وعمه أبي طالب(1) والصحابي الجليل أبي ذر الغفاري؛ ثم تلتها بثلاث سنوات أو ما يزيد عنها أو يقل مرحلة الإنذار والتصريح والدعوة العامة، ثم تلتها سنوات الحصار والمقاطعة والحجر في شعب أبي طالب عليه السلام، فأي امرأة نالها ما نالت من التعب والجهد وأي امرأة أحرزت ما أحرزته خديجة من الجهاد والمثابرة والمواساة والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إلا أنها مع هذا كله كان لها باع في رواية الحديث حسبما نص عليه أهل الاختصاص في علم الرجال.

وهم كالآتي:

أولاً: ورود اسمها في الكتب الرجالية عند الشيعة

1 - ذكرها السيد الميرزا محمد الأسترابادي رحمه الله في باب: نساء لهن رواية، فعدها منهنّ قائلاً: (خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

2 - ذكرها الأردبيلي في فصل: نساء لهن رواية، فقال: (خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

ص:200


1- لمزيد من البيان أنظر: أبو طالب ثالث من أسلم للمؤلف.
2- الأنوار الساطعة للشيخ غالب السهلاوي: ص 329، نقلا عن: منهج المقال: ص 400، طبع حجري.
3- المصدر السابق، نقلا عن: جامع الرواة: ج 2، ص 457، ط دار الأضواء.

3 - وذكرها الشيخ محمد الحائري في منتهى المقال في باب: نساء لهن رواية أو صحبة، فقال: (خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

4 - وأورد اسمها سماحة السيد أبو القاسم الخوئي في معجم رجال الحديث، قائلا: (خديجة بنت خويلد، زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأول امرأة أسلمت، وهي إحدى الأربع اللائي خير نساء الجنة، وأفضلهن، على ما رواه الصدوق بسنده، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الخصال: باب الأربعة، أفضل نساء أهل الجنة أربع، الحديث.

وهي أفضل نساء النبي، على ما رواه الصدوق، الخصال: باب التسعة، قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تسعة نسوة، الحديث.

ووضوح جلالتها وعظم شأنها وبذل أموالها في سبيل الإسلام، وخدمتها للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أغنانا عن الإطالة في المقال)(2).

ثانياً: ورود اسمها في الكتب الرجالية عند أهل السنة والجماعة

1 - ذكرها ابن حبان في الثقات، قائلاً: (وممن روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النساء ابتدأ اسمها على حرف الخاء، خديجة بنت خويلد ابن أسد بن عبد العزى زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

ص:201


1- المصدر السابق، نقلا عن: منتهى المقال: ج 7، ص 464، ط آل البيت، قم.
2- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي قدس سره: ج 24، ص 217، برقم 15667.
3- الثقات لابن حبان: ج 3، ص 114.

2. وأورد اسمها العجلي في كتابه: معرفة الثقات، ضمن التسلسل (2331)(1).

3 - وذكرها ابن قايماز الذهبي في كتابه: المعين في طبقات المحدثين قائلا: (خديجة بنت خويلد سيدة النساء)(2).

ثالثاً: حذف حديثها من صحيح البخاري دليل على تحريف صحيح البخاري

كما ذكرها الكلاباذي في رجال صحيح البخاري تحت الرقم 1417(3) ، إلا أنني لم أعثر لها على رواية أخرجها البخاري في الطبعات المتوفرة حاليا وهذا يدفع إلى الاعتقاد بأن كتاب صحيح البخاري قد تعرض إلى الحذف والتحريف، وإلا من المستبعد أن يتوهم الكلاباذي عن صحيح البخاري فيذكر ما ليس فيه.

رابعاً: ما روي عنها من الأحاديث

روى السيوطي عن ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن عبد الأعلى التيمي قال: (قالت خديجة عليها السلام:

يا رسول الله ما أقول وأنا أطوف بالبيت ؟

قال: قولي:

أللهم أغفر ذنوبي وخطئي وعمدي وإسرافي في أمري إنك إن لا تغفر لي تهلكني(4).

ص:202


1- معرفة الثقات للعجلي: ج 2، ص 2.
2- المعين في طبقات المحدثين لابن قايماز الذهبي: ج 1، ص 6، برقم 160.
3- رجال صحيح البخاري للكلاباذي: ج 2، ص 835.
4- جمع الجوامع للسيوطي: ج 1، ح 15540؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 15، ص 204، برقم 15320؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، ص 358؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 5،

المبحث الرابع: اعتقاد خديجة عليها السلام بالإمامة

اشارة

يعدّ موضوع الإمامة من بين أهم المواضيع الإسلامية التي شغلت من الفكر الإسلامي حيزاً كبيراً لاسيما أنها، أي الإمامة، قد دارت من حولها رؤى وتوجهات اختلفت فيها المفاهيم بحسب الناظر إليها وبما توفر لديه من معطيات فكرية.

فقد كانت الإمامة عند مذهب العترة النبوية أصلاً من أصول الدين ووافقهم على ذلك بعض علماء أهل السنة والجماعة (كالقاضي البيضاوي في مبحث الأخبار وجمع من شارحي كلامه)(1).

في حين ذهب أغلب علماء أهل العامة إلى أنها من توابع المصالح العامة وأنها تنعقد، أي الإمامة، بتعيين الامة كما أوضحه ابن خلدون في مقدمة تاريخه، قائلاً:

ومذهب الشيعة في حكم الإمامة أنها - (ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الامة ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الامة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوما من الكبائر والصغائر، وإن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه - صلى الله عليه وآله وسلم -)(2).

ص:203


1- دلائل الصدق للمظفر: ج 2، ص 11.
2- مقدمة ابن خلدون: ص 196.

أقول: بل ذهب علماء الشيعة الإمامية الاثنى عشرية إلى أنها من موجبات حكمة الله تعالى التي لا يقوم الشرع إلا بها وأن التخلي عنها يردي المسلم في المهالك الأخروية فضلاً عن ضنك الحياة الدنيوية.

وهذه جملة من أقوال علماء الطائفة (رضوان الله عليهم):

1 - قال المرجع الديني السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (قدس سره): (إنّ الإمامة خلافة عن النبوة وقائمة مقامها، وإذا كان كذلك كان ما استدللنا به على وجوب النبوة في حكمة الله أيضاً لأنها سادة مسدها قائمة مقامها لا فرق بين النبوة وبينها إلا في تلقي الوحي الإلهي بلا واسطة بشر)(1).

2 - وقال الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدس): (إنها - أي الإمامة - الأصل الذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين، وهو فرق جوهري أصلي وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرهما، وإن مراد - الإمامية - بالإمامة كونها منصباً إلهياً يختاره الله بسابق علمه كما يختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

3 - قال العلامة الفقيه الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله: (نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة.

ص:204


1- ذيل إحقاق الحق: ج 2، ص 294.
2- أصل الشيعة وأصولها.

وعلى الأقل أن الاعتقاد بفراغ ذمة المكلف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه يتوقف على الاعتقاد بها إيجابا أو سلبا، فإذا لم تكن أصلا من الأصول لا يجوز فيها التقليد لكونها أصلا فإنه يجب الاعتقاد بها من هذه الجهة أي من جهة أن فراغ ذمة المكلف من التكاليف المفروضة عليه قطعا من الله تعالى واجب عقلا، وليست كلها معلومة من طريقة قطعية، فلا بد من الرجوع فيها إلى من نقطع بفراغ الذمة باتباعه، أما الإمام على طريقة الإمامية أو على طريقة غيرهم.

كما نعتقد أنها كالنبوة لطف من الله تعالى، فلا بد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم.

وعلى هذا، فالإمامة استمرار للنبوة، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب أيضا نصب الإمام بعد الرسول.

فلذلك نقول: إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله، وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس، فليس لهم إذا شاءوا أن ينصبوا أحدا نصبوه، وإذا شاءوا أن يعينوا إماما لهم عينوه، ومتى شاءوا أن يتركوا تعيينه تركوه)(1).

وعليه: فقد آمنت السيدة خديجة الكبرى بإمامة علي بن أبي طالب

ص:205


1- عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر: ص 93.

عليهما السلام قبل أن يفرض الله تعالى على المسلم هذه الفريضة في غدير خم عند رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع(1) ، لما في الإمامة

ص:206


1- أنظر في تنصيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام إماماً للمسلمين من بعده يوم الثامن عشر من ذي الحجة في غدير خم وهو يخاطب المسلمين: ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه: مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 84، من مسند علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ وفي لفظ : أللهم والِ من والاه وعاد من عاداه: مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 118؛ وقد اشتهر اللفظ الأول كنار على علم في كتب الحديث والتاريخ والرجال وهي: مسند ابن ماجه القزويني: ج 1، ص 45؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 297؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص 14؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 109، وص 110، وص 116، وص 134، وص 371، وص 533؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 7، ص 17، وج 9، ص 103، وص 104، وص 405، وص 106، وص 107، وص 108، وص 120، وص 164؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 7، ص 61؛ عمدة القاري للعيني: ج 18، ص 206؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 3، ص 137، وج 10، ص 147، وص 148، وص 154، وص 158؛ ا لمصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 11، ص 225؛ المعيار والموازنة للاسكافي: ص 72؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7، ص 495، وص 496، وص 499، وص 503، وص 506؛ جزء ابن عاصم الأصبهاني: ص 126؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 4، ص 325؛ كتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم: ص 552؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 45، وص 108، وص 130، وص 131، وص 132، وص 134، وص 136؛ خصائص أمير المؤمنين للنسائي: ص 50، وص 64؛ مسند أبي يعلى: ج 1، ص 429؛ صحيح ابن حبان: ج 15، ص 376؛ جزء علي بن محمد الحميري: ص 35؛ أمالي المحاملي: ص 87؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 1، ص 24 وص 324، وص 369؛ وج 6، ص 218؛ وج 7، ص 70؛ وج 8، ص 213؛ المعجم الصغير

من رتبة إيمانية وتكاملية ينال بها العبد رضا الله تعالى ويحرز الدرجات العالية التي أعدها الله لعباده المخلصين.

ولذا:

كان من سابق لطف الله تعالى وشمول رحمته بالطاهرة خديجة عليها السلام أن عرض عليها الإمامة قبل فرضها على الامة في عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع إلى المدينة في غدير خم.

أما كيف عرض عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الولاية لعلي عليهما السلام فهي كالآتي:

روى السيد ابن طاووس رضي الله عنه عن عيسى بن المستفاد، قال: حدثني موسى بن جعفر سألت أبي جعفر بن محمد عليهم السلام عن بدء الإسلام كيف أسلم علي عليه السلام وكيف أسلمت خديجة رضي الله عنهما فقال لي موسى بن جعفر:

تأبى إلا أن تطلب أصول العلم ومبتدأه أم والله إنك لتسأل تفقها.

ص:207

قال موسى عليه السلام:

قال لي أبي أنهما - حينما - أسلما دعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

يا علي ويا خديجة أسلمتما لله وسلمتما له، وقال: إن جبرائيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام فأسلما تسلما وأطيعا تهديا.

فقالا: فعلنا وأطعنا يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن جبرائيل عندي يقول لكما إن للإسلام شروطا وعهودا ومواثيق فابتدياه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه، ولم يلده والد ولم يتخذ صاحبة، إلها واحدا مخلصا، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله إلى الناس كافة بين يدي الساعة، ونشهد أن الله يحيي ويميت، ويرفع ويضع، ويغني ويفقر، ويفعل ما يشاء، ويبعث من في القبور.

قالا: شهدنا.

قال وإسباغ الوضوء على المكاره: غسل الوجه واليدين والذراعين ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، وغسل الجنابة في الحر والبرد، وإقام الصلاة وأخذ الزكاة من حلها، ووضعها في أهلها، وحج البيت، وصوم شهر رمضان والجهاد في سبيل الله، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والعدل في الرعية، والقسم بالسوية، والوقوف عند الشبهة إلى الوصول إلى الامام. فإنه لا شبهة عنده، وطاعة ولي الأمر بعدي، ومعرفته في حياتي وبعد موتي، والأئمة من بعده واحدا واحدا وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء

ص:208

الله، والبراءة من الشيطان الرجيم، وحزبه وأشياعه، والبراءة من الأحزاب تيم وعدي وأمية، وأشياعهم وأتباعهم والحياة على ديني وسنتي، ودين وصيي وسنته إلى يوم القيامة، والموت على مثل ذلك وترك شرب الخمر، وملاحاة الناس.

يا خديجة فهمت ما شرط ربك عليك ؟ قالت: نعم، وآمنت وصدقت، ورضيت وسلمت.

قال علي عليه السلام: وأنا على ذلك.

فقال: يا علي تبايعني على ما شرطت عليك ؟ قال: نعم.

قال: فبسط رسول الله كفه فوضع كف علي عليه السلام في كفه فقال: بايعني يا علي على ما شرطت عليك، وأن تمنعني مما تمنع منه نفسك، فبكى علي عليه السلام فقال: بأبي وأمي لاحول ولا قوة إلا بالله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اهتديت ورب الكعبة، ورشدت ووفقت، وأرشدك الله يا خديجة، ضعي يدك فوق يد علي فبايعي له؛ فبايعت على مثل ما بايع عليه علي بن أبي طالب عليه السلام على أنه لا جهاد عليها.

ثم قال: يا خديجة هذا علي مولاك ومولى المؤمنين، وإمامهم بعدي. قالت: صدقت يا رسول الله قد بايعته على ما قلت، اشهد الله وأشهدك وكفى بالله شهيدا عليما(1).

والحديث الشريف فيه مجموعة مسائل منها:

ص:209


1- الطرف لابن طاووس: ص 4، ط الحيدرية، النجف؛ بحار الأنوار: ج 65، ص 392-393؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 1، ص 283.

المسألة الأولى: إنّ الله تعالى يختار لأوليائه تمام النعمة

يعرض القرآن الكريم من خلال سيرة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام حقيقة اتمام النعمة عليهم، بمعنى: أن الله تعالى كان من سابق رحمته لأوليائه أن يتم نعمته عليهم فيتحفهم بفضله ويخصهم بلطفه وكرمه وهو سبحانه ذو الفضل العظيم وله المنة والحمد.

ولو تتبعنا هذه الحقيقة لوجدناها تمتد منذ أن اتخذ الله آدم عليه السلام خليفة له على هذه الأرض وإلى يوم ظهور أمر الله، وهذا فضلاً عن نشر لطفه سبحانه عليهم في عالم الأنوار وعالم الذر.

ففي آدم عليه السلام كان عرض الأسماء عليه سبباً لإتمام النعمة عليه في التفضيل على الملائكة واسجادهم له وإقرارهم لله بأنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله تعالى.

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )1 .

وحينما ابتلي في الجنة وأنزل إلى الأرض كان إتمام النعمة عليه بتلقيه الكلمات التي تاب الله عليه بها فتوسل إلى الله بها، وهي نفسها الأسماء التي سجدت لها الملائكة، وهم محمد وآل محمد فبهذه المعرفة تمت النعمة عليهم.

ص:210

إلا أنّ الملاحظ في هذا العرض القرآني أن هذه النعمة أي معرفة محمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم مقرونة بالابتلاء مما يدل على أن الشيء الثمين لا ينال إلا بالجهد والاختبار والابتلاء كمن يسعى للحصول على كنز عظيم فهو لا يحصل عليه دون جهد وعناء وحصول الكفاءة.

وفي إبراهيم عليه السلام يتجلى الأمر بوضوح أكبر، بل: يعرض القرآن نعمة الإمامة بأنها سنام نعم الله تعالى على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وأن إبراهيم امتاز عن سابقيه من المرسلين بأنه وفق لنيلها فلما عرف ما لها من المقام والفضل عند الله تعالى سأله أن يمن بها على ذريته فأقرنها الله تعالى بالعدل، قال تعالى:

(وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ )1 .

وغيرها من الآيات التي تظهر لنا حقيقة إتمام النعمة للأنبياء والمرسلين عليهم السلام حتى إذا وصلنا إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم نجد أن سابغ نعم الله قد أحيطت به فكان وجوده هو النعمة الكبرى التي أوصلت إلى تمام النعمة وهي الإمامة والولاية لعلي وأولاده المعصومين عليهم السلام.

ولقد صرح القرآن الكريم بهذه الحقيقة أي أن الولاية لعلي والأئمة من ولده هي تمام النعمة كما جاء ذلك واضحاً جلياً لمن كان له قلب في قوله تعالى:

ص:211

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)1 .

فهذه التي نزلت بعد إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ولاية علي بن أبي طالب وأنه إمام كل المسلمين من بعده صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الحقيقة القرآنية، وهذه الفريضة الإسلامية قد أيقنتها قلوب بعض المسلمين وأنكرتها قلوب أخرى لدرجة أن البعض من المسلمين جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم معترضاً عليه تنصيب علي بن أبي طالب إماماً وولياً للمسلمين من بعده.

بل تكشف الرواية أن هذا المعترض وهو الحرث بن النعمان الفهري قد أوصلته حالة البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام إلى أن ينكر على النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذا الفعل مشككا بما قام به، بل وسائلا الله تعالى أن ينزل عليه عذاباً من عنده إن كان هذا الفعل من عنده جل شأنه.

روى الثعلبي في تفسير قوله تعالى:

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ )2 .

أن سفيان بن عيينة سأل الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام عن هذه الآية فيمن نزلت ؟

ص:212

(فقال عليه السلام:

لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك، حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه، فقال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خم، نادى بالناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي فقال:

من كنت مولاه فعلي مولاه.

فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ناقة له حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ملأ من أصحابه فقال:

أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهرا فقبلنا، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله تعالى ؟

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

والذي لا إله إلا هو، هذا من الله.

فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقوله حقا فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله سبحانه:

ص:213

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ))1 .

فهذه الحادثة واضحة الدلالة في إتمام النعمة التي اختارها الله تعالى أن تكون في أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت بها خير أمّة أخرجت للناس.

وكذلك خديجة عليها السلام فقد اختار الله تعالى لها كما اختار لأوليائه من قبل في إتمام نعمته عليهم ولذلك هبط جبرائيل عليه السلام على النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ليعرض عليها ولاية علي بن أبي طالب والبيعة له بالإمامة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كي تحظى بما خص الله تعالى عباده المخلصين، ومما يدل عليه ما سنورده في المسألة الآتية.

ص:214

المسألة الثانية: اعتقاد الرسل والأنبياء بنبوة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع ما بعثوا به من رسالات إلى الأمم

لم يدع القرآن الحقائق دون أن يكشفها لذوي الألباب لاسيما فيما يخص بالسنن الإلهية وحركة التاريخ وما انتهت إليه عاقبة الأمم السالفة؛ لأنه بذاك يعطي منهاجاً للأقوام اللاحقة فيهيئها لمعرفة ما تنتهي إليه عواقب الأفعال في الحياة الدنيا.

والقرآن الكريم يظهر من خلال حياة الأنبياء والمرسلين عن جملة من السنن التي حفت بهم، ومنها اعتقادهم بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم كانوا مسلمين لله رب العالمين على الرغم من أنهم بعثوا في أزمان مختلفة وبقاع متعددة وبشرائع محددة، بمعنى لم يكونوا قد بعثوا إلى تلك الأمم بالدين الإسلامي إلا أنهم كانوا يعلنون في أدعيتهم ومناجاتهم ووصاياها بأنهم مسلمين وأن سيدهم وإمامهم أبو القاسم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بل يعطي القرآن صورة أوضح من هذه من خلال عرضه لسيرة فرعون فيدلل على حقيقة انتشار هذه العقيدة التي آمنت بها الأنبياء والمرسلون بشكل لا يخفى على أحدٍ من أقوامهم وأتباعهم وحتى أعدائهم كما ظهر في قول فرعون كما سيمر لاحقاً في عرض الآيات المباركة الآتية:

1 - يعرض القرآن لنا بأن أول المسلمين قبل خلق آدم عليه السلام هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:

ص:215

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )1 .

فكان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو أول المسلمين.

2 - وفي نوح تظهر الآية المباركة اعلانه لاعتقاده بإمامة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:

(وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ )2 .

3 - ولمعرفة بني إسرائيل بهذه الحقيقة وانتشارها فيما بينهم كان حال فرعون يدفعه إلى أن يلتجئ إليها لينجو بها من الغرق وهي حقيقة عجيبة؛ إذ حتى فرعون كان يسأل ربه في آخر أمره بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أمر بديهي في منهاج الحروب إذ يعتمد الخصم على معرفة حقيقة خصمه وتتبع خطواته والوقوف عند نقاط ضعفه وقوته وطريقة تفكيره.

ص:216

ولأن فرعون يعلم أن خصمه مرتبط بالسماء فلذا لم يدع هذا الخصم دون أن يدرس حياته وطريقة معايشته للناس وحقيقة دعوته ونقاط قوته ولذا: حينما أدركه الغرق التجأ إلى القوة التي كان يلتجئ إليها موسى ويستمد منها العون والمدد، قال تعالى:

(وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ )1 .

4 - وفي لوط عليه السلام الذي يصفه القرآن وأهل بيته بأنهم من المسلمين، قال عزّ وجل:

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ )2 .

5 - وفي وصايا الأنبياء لأبنائهم يعرض القرآن حقيقة ما يعتقد به الأنبياء عن نبوة المصطفى وإمامته صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:

(وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )3 .

ص:217

وقال تعالى:

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )1 .

وغيرها من الآيات المباركة التي تظهر حقيقة اعتقاد الأنبياء والمرسلين بنبوة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته عليهم على الرغم من أنهم بعثوا قبله بقرون عديدة.

والحال يجري مجراه بالنسبة لخديجة الكبرى عليها السلام في عرض إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عليها قبل أن ينزل الأمر الإلهي في الرجوع من حجة الوداع في غدير خم؛ والحكمة في ذاك هو أنّ الله تعالى اختار لعباده المخلصين أن يكونوا ممن يحرزون المراتب العالية وينالون المنازل العظيمة في الآخرة وأن تكون مراتبهم الأخروية ترتكز على ما اختاره الله لهم من سابق العناية واللطف مع وجود الاختيار في القبول والرفض.

(وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ)2 .

إلا أنهم كانوا أهلاً لما خصهم الله به من لطف وعناية.

فهذه خديجة عليها السلام يعرض عليها النبي الأكرم إمامة علي بن أبي طالب وولايته فتقبلها وتبايعه على ذلك لتنال بذلك ما أعد الله لأوليائه.

ص:218

ولذلك نراها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال لها:

يا خديجة هذا علي مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي.

قالت:

صدّقتَ يا رسول الله، قد بايعته على ما قلت، أُشهد الله وأشهدك بذلك، وكفى بالله شهيداً وعليما.

المسألة الثالثة: سنة الابتلاء بحب علي عليه السلام سنة قرآنية

لا يكاد يخفى على جميع المسلمين مع اختلاف مشاربهم الفقهية واعتقاداتهم القلبية أن الابتلاء من السنن التي صرح بها القرآن الكريم في جملة من الآيات المحكمات.

1 - قال تعالى:

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى )1 .

فكان ابتلاء آدم عليه السلام بالشجرة، وابتلي نوح بقومه حتى لبث فيهم:

ص:219

(أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً)1 .

وابتلي إبراهيم بالكلمات فأتمهن الله إليه:

(وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ )2 .

وابتلي قوم داود بالنهر، قال تعالى:

(إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ )3 .

وتختلف الحكمة في الابتلاءات، فالتي ذكرنا شواهدها من القرآن الكريم المتمثلة في ابتلاء آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم السلام إنما كانت لتمايزهم عن غيرهم من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والذين عرفوا بهذه الابتلاءات بأنهم (أولو العزم)؛ ولقد ابتلي المصطفى بأشد مما ابتلوا به ولذا نجد أن الله سبحانه يهون عليه ما نزل به ويوصيه بالصبر.

قال تعالى:

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ )4 .

ص:220

في حين نرى أن الحكمة في الابتلاءات لدى غير الأنبياء مختلفة فبعض الأمم ابتليت بالتكاليف الشرعية وبعضها ابتليت بغضب الله تعالى حينما انتهكت حدود شرعه كقوم صالح عليه السلام فقد ابتلاهم الله بحفظ الناقة وفصيلها فكانت النتيجة أنهم عقروها، قال تعالى:

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوّاها)1 .

وقوم داود ابتلاهم الله بالنهر كما أسلفنا وابتلى قوم موسى بباب حطة، قال تعالى:

(وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ )2 .

وابتلى هذه الامة بحب علي بن أبي طالب عليه السلام وأولاده المعصومين؛ قال تعالى:

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )3 .

ص:221

والحكمة في ذلك هو أن المنافق لا يتجرأ أمام الناس بعدم حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو بذاك يكون قد جاهر بكفره وافتضح بنفاقه، ولذا: كان ديدن المنافق هو إظهار حب رسول الله والإيمان بدينه، بينما يعمل سراً وعلناً على إيذاء أهل بيته وخاصته، قال تعالى:

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ )1 .

ومن هنا:

لم يكن من سبيل - كما جرت به حكمة الله في الأمم السابقة - لافتتان هذه الامة واختبارها وابتلائها إلاّ من خلال حب علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو ما دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام:

لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق(1).

أما لماذا بحب علي بن أبي طالب فهذا أمر مرده إلى جاعله وهو الله تعالى:

(لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ )3 .

ص:222


1- كنز العمال للمتقي الهندي: ج 11، ص 622، ح 33028؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 4، ص 83؛ كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي: ص 465؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 29، ص 645، ح 67.

فالثابت في حركة الأمم السالفة أنها جميعاً ابتليت وافتتنت بأمور عدة كباب حطة بني إسرائيل، ونهر داود، وناقة صالح وغيرها.

وفي ذلك يقول الإمام علي عليه السلام:

(«أيها الناس إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعذكم من أن يبتليكم وقد قال جل من قائل:

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنّا لَمُبْتَلِينَ )1,2 .

فكان من ابتلائه سبحانه لهذه الامة أن ابتلاها بحب علي بن أبي طالب عليه السلام ليهلك من يهلك عن بينّة ويحيا من حيّ عن بيّنة وكان مما ابتلي به شيعة علي وأتباعه أن ابتلاهم بالنواصب وأشياعهم وأتباعهم سنة الله التي قد خلت في الصالحين.

ولذلك: كان الأئمة المعصومون يوصون أشياعهم بالصبر والاحتساب والإحسان حتى يأتي الله بالفرج.

روى الكليني رحمه الله عن الصادق عليه السلام (أنه بعث برسالة لأصحابه مما جاء فيها:

فاتّقوا الله أيتها العصابة الناجية إن أتم الله لكم ما أعطاكم به فإنه لا يتم الأمر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخل على الصالحين قبلكم وحتى تبتلوا في أنفسكم وأموالكم وحتى

ص:223

تسمعوا من أعداء الله أذى كثيرا فتصبروا وتعركوا بجنوبكم وحتى

يستذلوكم ويبغضوكم وحتى يحملوا (عليكم) الضيم فتحملوا منهم تلتمسون بذلك وجه الله والدار الآخرة وحتى تكظموا الغيظ الشديد في الأذى في الله عز وجل يجترمونه إليكم وحتى يكذبوكم بالحق ويعادوكم فيه ويبغضوكم عليه فتصبروا على ذلك منهم ومصداق ذلك كله في كتاب الله الذي أنزله جبرئيل عليه السلام على نبيكم صلى الله عليه وآله - وسلم - سمعتم قول الله عز وجل لنبيكم صلى الله عليه وآله - وسلم -:

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ )1 .

ثم قال:

(وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ )2 .

(فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا)3 .

فقد كذب نبي الله والرسل من قبله وأوذوا مع التكذيب بالحق فإن سركم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل - أصل الخلق - من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الأصل ومن الذين سماهم الله في كتابه في قوله:

(وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ)4 .

ص:224

فتدبروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه فإنه من يجهل هذا وأشباهه مما افترض الله عليه في كتابه مما أمر الله به ونهى عنه ترك دين الله وركب معاصيه فاستوجب سخط الله فأكبه الله على وجهه في النار)(1).

ولذا: كان لابد من أن تمتحن وتبتلى خديجة الكبرى بوصفها من هذه الامة بما قدر الله تعالى عليها من الابتلاء بحب علي بن أبي طالب فتدور في فلك المودة والموالاة أو - والعياذ بالله - بالبغض والمعاداة فكانت بحق جديرة بما عرض عليها من الموالاة والاتباع والبيعة لعلي والأئمة من بعده غير شاكة بما قدر الله تعالى على هذه الامة وفرض عليها من فريضة المودة للعترة عليهم السلام، فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حيا، وكيف لا تكون كذلك وقد خصها الله بسلامه.

المبحث الخامس: منزلة خديجة في المحشر

اشارة

يعد يوم المحشر من الحقائق الغيبية التي أخبر عنها القرآن الكريم في عدد من الآيات الكريمة كما أشارت إليها الأحاديث الشريفة ولخصوصية هذا اليوم وما يجري فيه من أحداث عظيمة ومواقف مهولة فقد خصه الباري جل شأنه بسورة سميت بسورة الحشر.

أما بعض أحداث هذا اليوم فيعرضها القرآن كالآتي:

1 - قال تعالى:

ص:225


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 8، ص 5.

(وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النّارُ مَثْواكُمْ )1 .

2 - وقال تعالى:

(وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ )2 .

3 - وقال سبحانه وتعالى:

(وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )3 .

4 - وقال عزّ وجل:

(وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ )4 .

5 - وقال تعالى:

(وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ )5 .

ص:226

6 - وقال سبحانه وتعالى:

(وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيّانا تَعْبُدُونَ )1 .

7 - وقال عزّ وجل:

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ )2 .

8 - وقال تعالى:

(وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )3 .

9 - قال الله تبارك وتعالى:

(وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)4 .

10 - وقال سبحانه وتعالى:

ص:227

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ )1 .

وغيرها من الآيات الكريمة التي تظهر صورا عديدة مما يجري في يوم الحشر، ولقد تناول المفسرون هذه الآيات وغيرها مما يتعلق بهذا اليوم ببيانات تكشف للقارئ دلالة هذه الآيات وتكون لديه معرفة عن هذا اليوم العظيم.

المسألة الأولى: ما هو الحشر؟

قال تعالى مخاطبا النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيان أمر الخلائق حينما يأتي أمره سبحانه لها بالخروج من القبور والوقوف بين يديه للحساب.

(وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ)2 .

قال الشيخ الطوسي في التبيان: (قرأ ابن كثير (يوم تشقق) مشددة الشين على معنى تتشقق وحذف إحدى التاءين: والتشقق التفطير.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله - وسلم - والمراد به جميع المكلفين:

(وَ اسْتَمِعْ ) .

ص:228

أي أصغ إلى النداء وتوقعه.

(يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) .

فالنداء الدعاء بطريقة يا فلان، وكأن الناس يدعون فيقال لهم: يا معشر الناس قوموا إلى الموقف للجزاء والحساب، وقيل: ينادي المنادي من الصخرة التي في بيت المقدس، فلذلك قال:

(مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) .

فيقول: يا أيها العظام البالية قومي لفصل القضاء وما أعد من الجزاء - في قول قتادة - (من مكان قريب) أي يسمع الخلق كلهم على حد واحد، فلا يخفى على أحد لا قريب ولا بعيد وقوله:

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ) .

فالصيحة المرة الواحدة من الصوت الشديد ونقيضها الخدة تقول صاح يصيح صياحا وصيحة، فهو صائح، وتصايح وتصايحوا في الامر تصايحا، وصيح تصييحا وصايحه مصايحة، وهذه الصيحة هي النفخة الثانية للحشر إلى أرض الموقف

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) .

وقوله:

(إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ) .

إخبار منه تعالى عن نفسه بأنه هو الذي يحيي الخلق بعد ان كانوا جمادا

ص:229

أمواتا، ثم يميتهم بعد أن كانوا أحياء ثم يحييهم يوم القيامة وإلى الله يصيرون ويرجعون يوم القيامة:

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) .

أي الينا المصير في اليوم الذي تشقق الأرض عن الأموات (سراعا) أي بسرعة لا تأخير فيها ثم قال:

(ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) .

أي سهل علينا غير شاق، والحشر الجمع بالسوق من كل جهة)(1).

ويظهر مما سبق أن معنى الحشر هو خروج الأرواح من القبور وجمعها إلى ساحة الحساب لعرض الأعمال عليها والمحاسبة وغير ذلك.

وقد ذهب اللغويون إلى أن الحشر غير الجمع وأن بينهما فرقاً؛ وذلك: (إن الحشر هو الجمع مع السوق، والشاهد قوله تعالى:

(قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ )2 .

أي: أبعث من يجمع السحرة ويسوقهم إليك ومنه يوم الحشر لان الخلق يجمعون فيه ويساقون إلى الموقف، وقال صاحب المفصل: لا يكون الحشر إلا في المكروه، وليس كما قال لان الله تعالى يقول:

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً)3 .

ص:230


1- التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي: ج 9، ص 375-376.

وتقول القياس جمع بين مشتبهين يدل الأول على صحة الثاني ولا يقال في ذلك حشر وإنما يقال الحشر فيما يصح فيه السوق على ما ذكرنا وأقل الجمع عند شيوخنا ثلاثة، وكذلك هو عند الفقهاء، وقال بعضهم اثنان واحتج بأنه مشتق من اجتماع شيء إلى شيء وهذا وإن كان صحيحا فإنه قد خص به شيء بعينه، كما أن قولنا دابة وإن كان يوجب اشتقاقه إن جرى على كل ما دب فإنه قد خص به شيء بعينه فأما قوله عليه الصلاة والسلام

الاثنان فما فوقهما جماعة.

فان ذلك ورد في الحكم لا في تعليم الاسم لان كلامه صلى الله عليه - وآله - وسلم يجب أن يحمل على ما يستفاد من جهته دون ما يصح أن يعلم من جهته، وأما قوله تعالى:

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا)1 .

وقوله تعالى:

(وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ )2 .

يعني داود وسليمان عليهما السلام فإن ذلك مجاز كقوله تعالى:

(إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ )3 .

ولو كان لفظ الجمع حقيقة في الاثنين لعقل منه الاثنان كما يعقل منه

ص:231

الثلاثون، وإذا كان قول الرجل رأيت الرجال لا يفهم منه إلا ثلاثة علمنا أن قول الخصم باطل.

الفرق بين الحشر والنشر: الحشر لغة، إخراج الجماعة عن مقرهم، وإزعاجهم، وسوقهم إلى الحرب، ونحوها، ثم خص في عرف الشرع عند الاطلاق بإخراج الموتى عن قبورهم، وسوقهم إلى الموقف للحساب والجزاء.

قال الراغب: لا يقال الحشر إلا للجماعة، قلت: هذا في أصل اللغة وإلا فقد يستعمل في الواحد والاثنين.

ومنه دعاء الصحيفة الشريفة: (وارحمني في حشري ونشري).

والنشر إحياء الميت بعد موته، ومنه قوله تعالى

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ )1 .

أي أحياه)(1).

المسألة الثانية: في أول من يحشر

اشارة

حينما يعرض القرآن صورة حشر الخلائق إلى يوم الحساب وكيفية خروجهم إليه جل شأنه والذي وصفه بقوله:

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ )3 .

ص:232


1- الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص 188-190.

فإن هذا الخروج - وحسبما صرح به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم - يشتمل على تفاضل فيما بين هذه الخلائق، وهذه جملة من الأحاديث النبوية الشريفة:

أولاً: روى الصدوق بسنده عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

يا علي إني سألت ربي فيك خمس خصال فأعطاني، أما أولها فسألت ربي أن أكون أول من تنشق عنه الأرض وانفض التراب عن رأسي وأنت معي فأعطاني، والثانية فسألت ربي أن يقضى عند كفة الميزان وأنت معي فأعطاني، وأما الثالثة فسألت ربي أن تكون حامل لوائي وهو لواء الله الأكبر مكتوب عليه المفلحون هم الفائزون بالجنة فأعطاني، وأما الرابعة فسألت ربي أن تسقي أمتي من حوضي بيدك فأعطاني، وأما الخامسة فسألت ربي أن يجعلك قائد أمتي إلى الجنة فأعطاني فالحمد لله الذي منّ عليّ بذلك(1).

ثانيا: روى السيد ابن طاووس رحمه الله عن أبي مسلم محمد بن محمد الطالقاني عن الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام:

يا أبا الحسن، كلم الشمس فإنها تكلّمك.

ص:233


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام للشيخ الصدوق: ج 2، ص 33، ح 35؛ الخصال للشيخ المفيد: ص 314؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 4؛ المناقب للخوارزمي: ص 293.

قال علي عليه السلام:

السلام عليك أيها العبد المطيع لله.

فقال الشمس: وعليك السلام يا أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين يا علي، أنت وشيعتك في الجنة، يا علي، أول من تشقق عنه الأرض محمد ثم أنت وأول من يحيى محمد ثم أنت، وأول من يكسى محمد ثم أنت.

ثم انكب علي عليه السلام ساجداً وعيناه تذرفان بالدموع، فانكب عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فقال:

يا أخي وحبيبي، رفع رأسك فقد باهى الله بك أهل سبع سموات(1).

ثالثا: روى أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر(2).

رابعا: روى الترمذي عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص:234


1- اليقين للسيد ابن طاووس: ص 164؛ العقد النضيد والدر الفريد لمحمد بن الحسن القمي: ص 80؛ كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي: ص 58؛ مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني: ج 1، ص 224؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 41، ص 169.
2- مسند أحمد بن حنبل، من مسند أبي سعيد الخدري: ج 3، ص 2.

أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى الحلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري(1).

خامساً: روى الطبرسي في الاحتجاج: (أن عمرو بن العاص قال لمعاوية: ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يصعد المنبر ويخطب الناس، فلعله أن يحصر فيكون ذلك مما نعيره به في كل محفل، فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر، وقد جمع له الناس، ورؤساء أهل الشام فحمد الله الحسن صلوات الله عليه وأثنى عليه، ثم قال:

أيها الناس من عرفني فأنا الذي يعرف، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، ابن عم نبي الله، أول المسلمين إسلاما، وأمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله - وسلم -، وجدي محمد بن عبد الله نبي الرحمة، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين، أنا ابن من بعث إلى الجن والإنس أجمعين.

فقطع عليه معاوية فقال: يا أبا محمد خلنا من هذا وحدثنا في نعت الرطب أراد بذلك تخجيله، فقال الحسن عليه السلام:

نعم التمر، الريح تنفخه، والحر ينضجه، والليل يبرده ويطيبه.

ثم أقبل الحسن عليه السلام، فرجع في كلامه الأول فقال:

«أنا ابن مستجاب الدعوة أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من

ص:235


1- سنن الترمذي: ج 5، ص 246.

ينفض عن رأسه التراب، أنا ابن من يقرع باب الجنة فيفتح له فيدخلها، أنا ابن من قاتل معه الملائكة، وأحل له المغنم ونصر بالرعب من مسيرة شهر».

فأكثر في هذا النوع من الكلام، ولم يزل به حتى أظلمت الدنيا على معاوية، وعرف الحسن من لم يكن عرفه من أهل الشام وغيرهم ثم نزل، فقال له معاوية: أما إنك يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة، ولست هناك، فقال الحسن عليه السلام:

أما الخليفة فمن سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله - وسلم -، وعمل بطاعة الله عز وجل، وليس الخليفة من سار بالجور، وعطل السنن، واتخذ الدنيا أما وأبا، وعباد الله خولا، وماله دولا، ولكن ذلك أمر ملك أصاب ملكا فتمتع منه قليلا، وكان قد انقطع عنه، فأتخم لذته وبقيت عليه تبعته، وكان كما قال الله تبارك وتعالى:

(وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ )1 .

(ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ )2 .

(ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ )3 .

وأومى بيده إلى معاوية، ثم قام فانصرف.

ص:236

فقال معاوية لعمرو: والله ما أردت إلا شيني حين أمرتني بما أمرتني، والله ما كان يرى أهل الشام أن أحدا مثلي في حسب ولا غيره، حتى قال الحسن ما قال، قال عمرو: وهذا شيء لا يستطاع دفنه، ولا تغييره، لشهرته في الناس، واتضاحه، فسكت معاوية)(1).

فهذه الأحاديث الشريفة تدل على وجود حالة التفاضل في خروج الأبدان من القبور وحشرها في ساحة المحشر، وأن هذا التفاضل فيما بينها يعود إلى حكمة خاصة يمكن الوقوف عندها من خلال الأمور الآتية:

أولا: معرفة الله تعالى

إنّ سرعة التلبية لأمر الله تعالى دافعها الطاعة والشوق لله سبحانه وتعالى؛ إذ كلما تعاظم المولى في نظر العبد وتيقن من جلالة شأنه كلما زاد خوفه من مولاه واستجابته له وتلبيته لأمره؛ وفضلاً عن هذه الحالة كان قلب العارف تلازمه أيضاً حالة الحب للمولى جل شأنه، بل امتلاك حب المولى لقلب العبد؛ وهذه الحالات المتضادة، أي الخوف والجلالة والهيبة والشوق والرفعة والرغبة لا تجتمع في قلب واحد إلا حينما يكون هذا القلب قد عرف ربه حق معرفته وهذا ما لا يمكن تحققه إلا في قلب الحبيب المختار والمجتبى على سائر ما خلق الله تعالى أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يليه في ذلك من حظي بأقل من هذه الرتبة بدرجة وهو وصيه وخليفته في أمته الإمام علي بن أبي طالب كما دلت عليه النصوص

ص:237


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 419-420.

النبوية الشريفة الكاشفة عن سمو هذه المقامات والدالة على التلازم القرآني والنبوي فيما بينها.

ففي الوقت الذي يصرح القرآن الكريم ويكشف عن مقام النبوة والإمامة ويظهر حالة التلازم السنخي بينهما لأنهما من مصدر واحد وهو الله تعالى في قوله سبحانه:

(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ )1 .

ففي هذا الوقت يدلل القرآن أيضا على أن التفاوت والتفاضل في هذا الخروج للحشر قائم على تفاوت الخلق في الاعتقاد بالله تعالى، وأنه قائم على أساس شرعي لأن مصدره واحد وهو الله تعالى.

بمعنى لا يكون هذا التفاوت في التلبية للخروج للحشر قائماً على فراغ وإنما على أطوع الناس لله رب العالمين وما جاء في المستدرك للحاكم حيث روى عنه صلى الله عليه وآله وسلم:

أول من تنشق عنه الأرض أنا ثم أبو بكر ثم عمر(1).

لا أساس له من الصحة، ولو عدَّ للبخاري ومسلم من فضائل فإن منها عدم إخراجهما لهذا الحديث الذي لو عرض على القرآن الكريم لما وجد له شاهد يدل عليه أو يعاضده، ولا نعلم ما هي الأسس التي من أجلها يكون أبو

ص:238


1- المستدرك على الصحيحين للنيسابوري: ج 3، ص 68.

بكر وعمر قد استحقا هذا الإسراع في الخروج، بل يلزم هذا الإسراع استحصال رتبة دون رتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما ليس له شاهد في القرآن كما كان لعلي بن أبي طالب عليه السلام من الشواهد القرآنية الكثيرة.

وعليه:

يلزم أن يكون المراد من هذا الإسراع في الخروج إلى الحشر يرتكز إلى ما أسلفنا وهو معرفة الله حق معرفته.

ثانيا: الإسراع يكون للسيّدية
اشارة

بمعنى لو أراد رب العمل أو السلطان أن يعطي أجراً لمن أحسن عملاً من رعيته أو يعاقب من أساء منهم فلابد قبل ذلك أن يستدعي أسياد هؤلاء الرعية كالوزراء والمدراء وغيرهم؛ ومن هنا سمّي الوزير: وزيراً لأنه يحمل وزر غيره فهو مسؤول عنهم.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هؤلاء الأسياد أو الأئمة للعباد بقوله:

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ )1 .

وأن هؤلاء الأئمة سيقفون للسؤال لقوله:

(وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )2 .

في حين عبّر عن مقام السيّدية الذي يقتضي التلبية قبل العباد في قوله تعالى

ص:239

وهو يخاطب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ)1 .

فهذا الأمر الإلهي يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من يسمع هذا النداء الإلهي، كما أن وصول هذا الصوت إليه قبل الخلائق على الرغم من أن النفخة في الصور تكون في آن واحد يعود إلى جملة من الأمور منها:

ألف: النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مقدم من حيث الخلق الأول

إما أنه مقدم من حيث الخلق الأول، بمعنى أنه أول من خلقه الله فيكون وصول الصوت إليه قبل الخلق بسبب هذا القدم في النشأة والتكوين بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر(1).

باء: مقام السّيدية يقتضي السبق في وصول النداء الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم

وإما أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي عند ربه تعالى فهو سيد الشهداء الذين وصفهم القرآن بأنهم:

(أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )3 .

ص:240


1- البحار للمجلسي: ج 15، ص 24، ح 43.

ولذا فهو مقدم على غيره من الخلق بلحاظ أنهم أموات والشهداء أحياء.

وهذا يلزم التساوي في سماع الصيحة وهو مردود، لأن الخطاب له وحده صلى الله عليه وآله وسلم، بمعنى أن مقام السيّدية يقتضي السبق في وصول النداء الإلهي.

جيم: مناقشة قول العلامة الطباطبائي (قدس)، في معنى: فاستمع، أي فانتظر

وإما أن هذا السبق في الاستماع محمول على السبق في الانتظار كما ذهب إليه العلامة الطباطبائي (قدس سره) حيث يرى أن دلالة (فاستمع) أي: (فانتظر، و (يوم يناد المناد) مفعوله، والمعنى: وانتظر يوم ينادي فيه المنادي ملقيا مسمعك لاستماع ندائه، والمراد بنداء المنادي نفخ صاحب الصور في الصور على ما تفيده الآية التالية.

وكون النداء من مكان قريب لإحاطته بهم فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب والبعد فإنما هو نداء البعث وكلمة الحياة)(1).

وهذا يلزم وجود خلق غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم منتظرين (فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب والبعد فإنما هو نداء البعث وكلمة الحياة) وهنا لا شأنية له صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مردود، فضلاً عن أن الميت لا يقال له انتظر الصيحة فالسمع والاستماع من لوازم الأحياء.

ص:241


1- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج 18، ص 359.

فإذا قيل المراد من ذلك الروح، قلنا: ظاهر الحديث الشريف يدل على أن الأرض تشقق عن الأبدان لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا أول من تشقق عنه الأرض.

ولذا يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حياً ينتظر الصيحة، مع مقام السيدية التي خُصّ بها على الخلق، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر(1).

ثالثا: الإسراع في الخروج من القبر يكون لمقام الشاهدية

من الصفات التي خص الله بها حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مقام الشاهدية على الأمم السابقة، قال تعالى:

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)2 .

والشاهدية التي خص الله بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلزم أن يكون النبي الأعظم حاضراً في هذه الأمم يرى أعمال شهدائها أي أنبيائها وهذه الحالة إما أن تكون تستند إلى التقدم في الخلق كما أسلفنا؛ وإما أن الله سبحانه عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعمال هؤلاء الشهداء الذين

ص:242


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 3، ص 2.

كانوا في جميع الأمم التي خلقها ليرى سيرهم وكيف أدوا عن الله تعالى أوامره ونهيه، لغرض إبلاغ الحجة عليهم يوم الحساب.

ومن الطبيعي أن يكون اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الشاهدية يستند إلى أنه سيدهم وأفضلهم بل وأعرفهم بأحكام الله وشرعه وإلا كيف يتحقق الإشهاد وهو لم يكن محيطاً بجميع ما كلفوا به، كما يقتضي هذا المقام أن يكون هؤلاء الشهود الذين كانوا على الأمم التي خلقها الله عارفين بمقامه صلى الله عليه وآله وسلم وأنه الشاهد عليهم، ومثاله كمن دخل إلى قاعة الامتحان والاختبار فيما درس وتعلم لأخذ درجة في مادة من المواد أن يكون عارفاً بمدرس المادة فضلاً عن كونه مراقباً وشاهداً عليه.

وإلا يسقط الاحتجاج يوم القيامة فضلاً عن النكران من البعض عند إحضار الشهود، أو الأئمة أو المراقبين أو الأساتذة والجميع يؤدون نفس الغرض الاحتجاجي.

وعليه:

فإنّ هذا التفاضل في الخروج من القبر يرجع إلى هذه الأمور وغيرها والله العالم وهو العزيز الحكيم، إلاّ أنّ الذي نصبو إليه فيما قدّمنا أن الله تعالى حينما جعل تفاضلاً في خروج الأبدان من القبور فإنه سيجعل هذا التفاضل في يوم المحشر بأكبر مراتبه إذ الخلائق بين يديه مجموعة ولرحمته ملتمسة ولعدله وقصاصه من الظالمين سائلة.

وأن منزلة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها في هذا اليوم العظيم

ص:243

الذي تبيض فيه وجوه وتسود أخرى، فتتساقط فيه الأقنعة وتتطاير فيه الصحف ويفتضح فيه الظالمون ويخزى المنافقون حينما بدا لهم أمر الله الملك الجبار، وفي نفس الوقت ينظرون إلى أولياء الله تعالى كيف يجللهم الله بلطفه ويكسوهم بنوره، وهو القائل جل شأنه مخاطباً حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عن حال أوليائه وأعدائه في المحشر:

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اللّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ)1 .

المسألة الثالثة: شرافة منزلة خديجة عليها السلام يوم المحشر

اشارة

يمكن لنا التعرف على شرافة منزلة خديجة عليها السلام في يوم المحشر من خلال الرواية التي أخرجها فرات الكوفي في تفسيره عن ابن عباس قال: (سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول:

ص:244

دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم على فاطمة عليها السلام وهي حزينة.

فقال لها: ما حزنك يا بنية ؟، قالت: يا أبه ذكرت المحشر ووقوف الناس عراة يوم القيامة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:

يا بنية إنه ليوم عظيم، ولكن قد أخبرني جبرئيل عليه السلام عن الله عز وجل أنه قال: أول من تنشق (ينشق) عنه الأرض يوم القيامة أنا، ثم أبي إبراهيم، ثم بعلك علي بن أبي طالب عليه السلام.

ثم يبعث الله إليك جبرئيل في سبعين ألف ملك فيضرب على قبرك سبع قباب من نور، ثم يأتيك إسرافيل بثلاث حلل من نور فيقف عند رأسك فيناديك: يا فاطمة ابنة محمد قومي إلى محشرك فتقومين آمنة روعتك، مستورة عورتك، فيناولك إسرافيل الحلل فتلبسينها، ويأتيك روفائيل بنجيبة من نور، زمامها من لؤلؤ رطب، عليها محفة من ذهب فتركبينها، ويقود روفائيل بزمامها وبين يديك سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التسبيح، فإذا جدّ بك السير استقبلتك (استقبلك) سبعون ألف حوراء يستبشرون بالنظر إليك بيد كل واحدة منهن مجمرة من نور يسطع (تسطع) منها ريح العود من غير نار، وعليهن أكاليل الجوهر مرصع بالزبرجد الأخضر فيسرن عن يمينك، فإذا مثل الذي سرت من قبرك إلى أن لقيتك استقبلتك مريم بنت عمران في مثل من معك من الحور فتسلم عليك وتسير هي ومن معها عن يسارك، ثم استقبلتك أمك خديجة بنت خويلد أول

ص:245

المؤمنات بالله ورسوله (برسوله) ومعها سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التكبير فإذا قربت من الجمع استقبلتك حواء في سبعين ألف حوراء ومعها آسية بنت مزاحم فتسير هي ومن معها معك فإذا توسطت الجمع وذلك أن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد فيستوي بهم الاقدام.

ثم ينادي مناد من تحت العرش يسمع الخلائق: غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة الصديقة ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن معها، فلا ينظر إليك يومئذ إلا إبراهيم خليل الرحمان صلوات الله وسلامه عليه وعلي بن أبي طالب عليه السلام، ويطلب آدم حواء فيراها مع أمك خديجة أمامك ثم ينصب لك منبر من نور (النور) فيه سبع مراق (مرقاة) بين المرقاة إلى المرقاة صفوف الملائكة بأيديهم ألوية النور، وتصطف الحور العين عن يمين المنبر وعن يساره، وأقرب النساء منك (معك) عن يسارك حواء وآسية بنت مزاحم، فإذا صرت في أعلى المنبر أتاك جبرئيل عليه السلام فيقول (فقال) لك: يا فاطمة سلي حاجتك، فتقولين: يا رب أرني الحسن والحسين فيأتيانك وأوداج الحسين تشخب دما وهو يقول: يا رب خذلي اليوم حقي ممن ظلمني، فيغضب عند ذلك الجليل ويغضب (تغضب) لغضبه جهنم والملائكة أجمعون فتزفر جهنم عند ذلك زفرة ثم يخرج فوج من النار فيلتقط (ويلتقط ) قتلة الحسين وأبناءهم وأبناء أبنائهم.

يقولون: يا رب إنا لم نحضر الحسين عليه السلام فيقول الله

ص:246

لزبانية جهنم: خذوهم بسيماهم بزرقة الأعين وسواد الوجوه، خذوا بنواصيهم فألقوهم في الدرك الأسفل من النار فإنهم كانوا أشد على أولياء الحسين من آبائهم الذين حاربوا الحسين فقتلوه، فيسمع شهيقهم في جهنم.

والحديث يشتمل على مجموعة من المسائل منها:

أولا: الحكمة في خروج فاطمة عليها السلام من قبرها ضمن تشريفات ملكوتية

تكشف الرواية الشريفة عن اختصاص فاطمة عليها السلام بتشريفات خاصة بأمر الله تعالى عند خروجها من قبرها وذهابها إلى ساحة المحشر؛ هذه التشريفات هي في الحقيقة ليست فقط عنواناً للتفضيل على غيرها من الخلق، بل عنواناً لإظهار قدرها أمام الخلائق؛ هذا القدر الذي تم تجاهله من الناس بشكل كبير أدى إلى استنان ظلمها بل والتجاهر بذلك، إن لم يكن عند المنافقين من الواجبات التي أوجبوها على أنفسهم ضمن شريعتهم الخاصة بهم.

ويكفي من ذلك بياناً يدل على حقيقة استنان ظلمها منذ أن فارق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا خروج نعشها في الليل ودفنها سرا فلم يشهدها أحد من الصحابة سواء أكانوا من المهاجرين أم الأنصار؛ إذ لم يكن معها سوى زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وولديها الحسن والحسين سلام الله عليهم أجمعين، ولا يعلم موضع قبرها أحدً من المسلمين.

ولذلك:

شاء الله أن يجزيها على ما صبرت واحتسبت فيجعل هذا النعش الذي دفن في الليل سراً ولم يشهده أحد وكأنها من الأعاجم الذين لا شأن لهم ولا

ص:247

قدر لديهم عند العرب، أن يكون حالها عند الخروج بهذا التشريف والتعظيم وليشهده جميع الخلائق والأمم؛ إذ مثلما يكون حال الزعماء والملوك والعظماء والوجهاء مشهوداً لهم في خروجهم من الدنيا بتشييع يليق بمنزلتهم ويتناسب مع شأنهم كذلك سيكون حال فاطمة عليها السلام عند خروجها من قبرها وشتان بين تشريفات الدنيا وتشريفات الآخرة.

ولذا: كان حالها عند خروجها من القبر قد اختلف بشكل يدلل على حقيقة قدرها ومنزلتها وشأنها عند الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فكيف بمن تأتي الله وهي قلب حبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

إذن: تدلل هذه الرواية الشريفة على هذه التشريفات الملكوتية الخاصة بخروج فاطمة من قبرها لهذه العلة، وإلا لم نجد رواية واحدة تكشف لنا عن مثل هذه التشريفات حتى عند خروج سيد الخلق أجمعين من قبره.

ثانيا: إظهار منزلة خديجة في المحشر من خلال استقبالها لفاطمة عليها السلام

هذه المسألة تحتاج إلى تأمل خاص ونسأل الله أن يمن علينا بلطفه؛ إذ إن استقبال خديجة الكبرى عليها السلام لفاطمة صلوات الله عليها كان يقتضي أن تكون خديجة عليها السلام أسبق في الخروج من قبرها وحضورها في ساحة المحشر كي تتمكن من استقبال فاطمة عليها السلام؛ بل قد أفادت الرواية أن مريم وحواء وآسية كن في استقبال فاطمة في حين نرى أن الرواية كانت قد أشارت إلى تسلسل الخروج من القبور كما هو واضح في صدر الرواية؛ قال

ص:248

صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام:

يا بنية إنه ليوم عظيم ولكن قد أخبرني جبرائيل عن الله عز وجل أنه قال: أول من ينشق عنه الأرض يوم القيامة أنا، ثم أبي إبراهيم، ثم بعلك علي بن أبي طالب، ثم يبعث الله إليك جبرائيل في سبعين الف ملك فيضرب على قبرك سبع قباب....... الخ الحديث.

فالظاهر في عرض الرواية أن هذه المدّة الزمنية التي يقوم فيها الملائكة باستقبال فاطمة من قبرها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

فتقومين آمنة روعتك مستورة عورتك فيناولك إسرافيل الحلل فتلبسينها ويأتيك روفائيل بنجيبة من نور زمامها من لؤلؤ رطب عليها مخصة من ذهب فتركبينها ويوقد روفائيل بزمامها وبين يديك سبعون ألف ملك بأيديهم ألوية التسبيح فإذا جد بك السير.

هذه المراسيم والتشريفات سيكون لها مدّة زمنية لا يعلمها إلا الله تعالى إلا أنها تكون مرحلة فاصلة بين خروج فاطمة عليها السلام من قبرها بعد ابن عمها علي بن أبي طالب عليه السلام وبين وصولها بهذا الموكب المهيب إلى ساحة المحشر، وإنه في هذه المدّة الزمنية سيكون خروج مريم وآسية وحواء وخديجة عليهن السلام، ليكنَّ في استقبال فاطمة صلوات الله وسلامه عليها.

وإلا يمكن أن يتم الأمر بقوله (كن فيكن) بدون أن يكون هناك مدّة زمنية تستغرق اكتمال هذه المراسيم والتشريفات الملكوتية التي تتخللها خروج سيدات نساء الجنة ليكنَّ في استقبال سيدتهن فاطمة بصفتها صاحبة المنزلة الخاصة في سيّديتها على نساء العالمين كما هو ثابت في النصوص، وهذا أولاً.

ص:249

ثانيا: اختصاص فاطمة بألوية التسبيح له علاقة بنوع تعبدها لله رب العالمين لاسيما تسبيحها الذي علمها به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي تضافرت الروايات في فضله وشأنه عند الله تعالى.

فضلاً عن أن القرآن الكريم يعطي عنواناً لعبادة الخلق في القرآن الكريم ب (التسبيح) قال تعالى:

1 -(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)1 .

اختصاص أهل البيت عليهم السلام بالتسبيح في قوله تعالى:

2 -(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ )2 .

3 -(أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ )3 .

بل نجد أن القرآن الكريم يأمر النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالتسبيح، فقال عز وجل:

4 -(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)4 .

ص:250

5 -(وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ )1 .

6 -(وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ )2 .

أما ما ورد في تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام من الروايات الشريفة عن العترة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فهي أكثر من أن تذكر في هذا المجال، ولكن نكتفي بذكر رواية واحدة فإنها دالة على عظم هذا التسبيح عند الله تعالى واندراج التسبيح في فلكه الدلالي؛ فقد روى الكليني رحمه الله عن زرارة بن أعين رضي الله تعالى عنه عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام من الذكر الكثير الذي قال الله عزّ وجل:

(اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً)3 (1).

وعليه: فحمل الملائكة لألوية التسبيح عند قدومها إلى ساحة المحشر مع فاطمة عليها السلام في تلك القافلة إنما هو لارتباطها بنواة التسبيح الذي عرض له القرآن الكريم في جملة من الآيات الكريمة.

ص:251


1- الكافي للكليني: ج 2، ص 500، باب أن الصاعقة لا تصيب الذاكر.
ثالثا: اختصاص خديجة عليها السلام بألوية التكبير في ساحة المحشر كاشف عن شرافة منزلتها

تظهر الرواية الشريفة منزلة خديجة عليها السلام في ساحة المحشر من خلال إحاطتها بسبعين ألف ملك يحملون ألوية التكبير وهي تقبل لتستقبل ابنتها فاطمة عليها السلام بكينونة أنها سيدة نساء العالمين.

علماً: أن منزلة الأمومة في هذا التشريف لا تتعارض مع منزلة الشأنية التقوائية التي اختصت بها فاطمة عليها السلام بلحاظ قوله تعالى:

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ )1 .

فحالها هنا حال علي بن أبي طالب عليه السلام مع أمه فاطمة بنت أسد فضلاً عن أن القرآن الكريم يقدم صورة خاصة تتحدث عن الشأنية والخصوصية التي لا ترتكز على التقوى كما مر سابقاً بل على حكمة خاصة وخصوصية بلائية كما في سجود نبي الله يعقوب عليه السلام لولده يوسف حينما دخل عليه في القصر.

قال سبحانه وتعالى:

(وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا)2 .

أما اختصاصها بالتكبير فيمكن معرفة دلالته من خلال ما حظي به التكبير

ص:252

من معان خاصة دخلت في بعض العناوين الشرعية.

وهي كالآتي:

1 - يدخل التكبير في أهم الفروع الدينية التكليفية على المسلم إلا وهي الصلاة، فتكبيرة الإحرام في الصلاة هي باب يلج من خلالها المسلم إلى فيض لطف الله سبحانه فيلزم عليه الإحرام.

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

افتتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير(1).

2 - ويدخل التكبير في الحج لمن أقام في منى(2) ، وهو يدلل على تعظيم هذه الشعيرة.

3 - كما يدخل التكبير في صلاة العيد كدليل على خصوصية هذه المناسبة وما يرتبط بها من آثار اجتماعية ونفسية لدى المسلم.

4 - التكبير في أجزاء الأذان والإقامة قبل كل صلاة، وغير ذلك.

وهذه العناوين حينما نتأمّلها نجدها تدور في فلك التعظيم والإجلال والقوة والعزّة فضلاً عن آثارها الروحية والملكوتية، وهو ما يتلاءم بحق مع الدور الذي قامت به خديجة الكبرى عليها السلام في قيام الإسلام والذب عنه، ومؤازرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته حتى عظم الإسلام وبلغ تلك المرتبة السامية فيما بين الأمم.

ص:253


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 69.
2- المقنع للشيخ الصدوق: ص 285.

المسألة الرابعة: اقتصاص خديجة ممن ظلم ابنتها فاطمة عليها السلام في يوم المحشر

من الحقائق التي طرحها القرآن الكريم فيما يخص يوم الحشر، حقيقة القصاص من الظالمين، بل يكاد يكون من بين أهم الحقائق التي طرحها القرآن الكريم عن يوم المحشر هي هذه الحقيقة، وهذا فضلاً عن الروايات الشريفة التي أوضحت بشكل دقيق عما يناله الظالمون في المحشر.

والقصاص في المحشر له علاقة تناسبية مع الشأنية التي لدى عباد الله الصالحين، فكلما عظمت شأنية العبد عند ربه تعالى كلما كان القصاص من الذين انتهكوا حرمة هذا العبد عظيماً.

ولنلقِ نظرة على بعض الآيات الكريمة الكاشفة عن حال الظالمين في يوم المحشر.

1 - قال تعالى:

(وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ )1 .

2 - وقال الله عزّ وجل:

(إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ

ص:254

اَلْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ)1 .

3 - وقال تعالى:

(عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)2 .

4 - قال الله تبارك وتعالى:

(تَرَى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنّاتِ )3 .

5 - وقال الله عز وجل:

(وَ تَرَى الظّالِمِينَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ )4 .

فيوم المحشر هو اليوم الذي يأخذ الله تعالى فيه لأوليائه حقوقهم ممن

ص:255

ظلمهم وانتهك حرمتهم كما صرحت بتفاصيل ذلك الروايات.

قال أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه يوماً وهو يعظهم:

ترصدوا مواعيد الآجال إن الدنيا خداعة صراعة، مكارة غزارة سحارة، أنهارها لامعة، وثمراتها يانعة، ظاهرها سرور، وباطنها غرور، تأكلكم بأضراس المنايا، وتبيركم بإتلاف الرزايا، لهم بها أولاد الموت، وآثروا زينتها، فطلبوا رتبتها، جهل الرجل، ومن ذلك الرجل المولع بلذاتها، والساكن إلى فرحتها، والآمن لغدرتها!

دارت عليكم بصروفها، ورمتكم بسهام حتوفها، فهي تنزع أرواحكم نزعا، وأنتم تجمعون لها جمعا، للموت تولدون، وإلى القبور تنقلون، وعلى التراب تنامون، وإلى الدود تسلمون، وإلى الحساب تبعثون.

يا ذا الحيل والآراء، والفقه والانباء، اذكروا مصارع الآباء، فكأنكم بالنفوس قد سلبت، وبالأبدان قد عريت، وبالمواريث قد قسمت، فتصير - يا ذا الدلال والهيئة والجمال - إلى منزلة شعثاء، ومحلة غبراء، فتنوم على خدك في لحدك، في منزل قل زواره، ومل عماله، حتى تشق عن القبور وتبعث إلى النشور، فان ختم لك بالسعادة صرت إلى الحبور، وأنت ملك مطاع، وآمن لا يراع، يطوف عليكم ولدان كأنهم الجمان بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين، أهل الجنة فيها يتنعمون، وأهل النار فيها يعذبون، هؤلاء في السندس والحرير يتبخترون، وهؤلاء في الجحيم والسعير يتقلبون، هؤلاء تحشى جماجمهم بمسك الجنان، وهؤلاء يضربون بمقامع النيران، هؤلاء يعانقون الحور في

ص:256

الحجال، وهؤلاء يطوقون أطواقا في النار بالاغلال، في قلبه فزع قد أعيى الأطباء وبه داء لا يقبل الدواء.

يامن يسلم إلى الدود ويهدى إليه، اعتبر بما تسمع وترى، وقل لعينيك تجفو لذة الكرى، وتفيض من الدموع بعد الدموع تترى، بيتك القبر بيت الأهوال والبلى، وغايتك الموت.

يا قليل الحياء، اسمع يا ذا الغفلة والتصريف، من ذي الوعظ والتعريف، جعل يوم الحشر يوم العرض والسؤال، والحباء والنكال، يوم تقلب إليه أعمال الأنام، وتحصى فيه جميع الآثام، يوم تذوب من النفوس أحداق عيونها، وتضع الحوامل ما في بطونها، ويفرق بين كل نفس وحبيبها، ويحار في تلك الأهوال عقل لبيبها، إذ تنكرت الأرض بعد حسن عمارتها، وتبدلت بالخلق بعد أنيق زهرتها، أخرجت من معادن الغيب أثقالها، ونفضت إلى الله أحمالها، يوم لا ينفع الجد إذ عاينوا الهول الشديد فاستكانوا، وعرف المجرمون بسيماهم فاستبانوا، فانشقت القبور بعد طول انطباقها، واستسلمت النفوس إلى الله بأسبابها، كشف عن الآخرة غطاؤها، وظهر للخلق أنباؤها، فدكت الأرض دكا دكا، ومدت لأمر يراد بها مدا مدا، واشتد المثارون إلى الله شدا شدا، وتزاحفت الخلائق إلى المحشر زحفا زحفا، ورد المجرمون على الأعقاب ردا ردا، وجد الامر - ويحك يا إنسان - جدا جدا، وقربوا للحساب فردا فردا، وجاء ربك والملك صفاً صفا، يسألهم عما عملوا حرفا حرفا، فجيء بهم عراة الأبدان، خشعا أبصارهم، أمامهم الحساب، ومن ورائهم جهنم، يسمعون زفيرها.

ص:257

ويرون سعيرها، فلم يجدوا ناصرا ولا وليا يجيرهم من الذل، فهم يعدون سراعا إلى مواقف الحشر، يساقون سوقا، فالسماوات مطويات بيمينه كطي السجل للكتب، والعباد على الصراط وجلت قلوبهم، يظنون أنهم لا يسلمون، ولا يؤذن لهم فيتكلمون، ولا يقبل منهم فيعتذرون، قد ختم على أفواههم، واستنطقت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

يا لها من ساعة ما أشجى مواقعها من القلوب حين ميز بين الفريقين! فريق في الجنة وفريق في السعير، من مثل هذا فليهرب الهاربون، إذا كانت الدار الآخرة لها يعمل العاملون(1).

إذن:

هذه الصورة الرهيبة لما يجري في يوم المحشر تأتي خديجة بجلالة قدرها وعظيم منزلتها عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تحمل حفيدها المحسن ابن فاطمة الزهراء عليها السلام وهو مضرج بدمه وهي تطالب بالقصاص من قاتليه.

في هذا اليوم أمام الخلائق أجمعين كي يخزي الله الفاسقين المجرمين، أمام هذا الجمع مثلما قتل المحسن أمام المهاجرين والأنصار ولا من نصير لرسول الله ؟! ولا من غيور على حرمة بنت نبي الله ؟! وكأن الناس نيام أو هم في سكرة يعمهون كما تصرح به الروايات التاريخية.

فقد روى الخصيبي (المتوفى سنة 334 ه ) والمجلسي (المتوفى سنة

ص:258


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 653-654، ح 3/1353.

1111 ه ) وغيرهم في حديث طويل عن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام وهو يصف كيفية قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته يوم المحشر وهم في حال أخذ القصاص من ظالميهم، فيقول عليه السلام:

«ثم يقوم الحسين عليه السلام مخضباً بدمه هو وجميع من قتل معه، فإذا رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكى، وبكى أهل السماوات والأرض لبكائه، وتصرخ فاطمة عليها السلام فتزلزل الأرض ومن عليها، ويقف أمير المؤمنين والحسن عليهما السلام عن يمينه، وفاطمة عن شماله، ويقبل الحسين عليه السلام فيضمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صدره، ويقول:

يا حسين! فديتك قرت عيناك وعيناي فيك وعن يمين الحسين حمزة أسد الله في أرضه، وعن شماله جعفر بن أبي طالب.

ويأتي محسن تحمله خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه السلام وهن صارخات وأمه فاطمة تقول: هذا يومكم الذي كنتم توعدون

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)1 .

قال: فبكى الصادق عليه السلام حتى أفضلّت لحيته بالدموع، ثم قال:

لا قرت عين لا تبكي عند هذا الذكر»(1).

ص:259


1- الهداية الكبرى للخصيبي: ص 417؛ البحار للمجلسي: ج 53، ص 23.

والحديث يكشف عن عظيم رزية الباب، وقتل المحسن ابن فاطمة عليهما السلام حينما ذهب سقطاً بفعل هجوم القوم على بيت فاطمة عليها السلام حينما قدموا لإخراج علي بن أبي طالب من داره لغرض مبايعة أبي بكر عنوة.

كما يكشف الحديث عن الآثار الكبيرة التي خلفها هذا المصاب في قلب أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وأنها هي صاحبة الدعوة.

ولذلك:

جاءت به تحمله يوم المحشر لغرض المطالبة بالقصاص ممن ظلم ابنتها فاطمة وقتل ولدها وحفيدها المحسن عليه السلام؛ فويل عندئذ لمن ظلمها في ذريتها وابنائها وهي التي نالت من الشأن عند الله ما نالت، بل يراد من قدومها وهي تحمل المحسن أن المحارب هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمثلما وقفت في حياتها حتى الممات في نصرة الرسالة وفداء صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم فهي تقف اليوم في المحشر في نصرته أيضاً بما كتب الله على نفسه من العدل والقصاص ونصر رسله، وهو القائل وقوله الحق:

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ (48) وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ )1 .

ص:260

المبحث السادس: منزلة خديجة عليها السلام عند الصراط

اشارة

لا يخفى على المسلم أنّ الصراط هو من الحقائق التي نص عليها القرآن الكريم والسنة المحمدية الشريفة بروايات متواترة، بل لا يخفى أيضاً أن الصراط هو واحد من تلك المنازل الأخروية التي لابد للإنسان أنّ يتعرض لها ويمرّ بها، بل هي من أصعب المنازل الأخروية، كما سيمر بيانه من خلال الروايات.

ولخصوصية الصراط المستقيم وما ارتبط به من مفاهيم ودور غيبي وإيماني لأنه من أسس الاعتقاد بالغيب، ولما تعلق به من ارتباط وثيق بأعمال الإنسان الدنيوية، كل ذلك وغيره اضطرنا إلى التوسع في هذا المبحث ضمن مسائل عدة لكي يعي القارئ الكريم أهمية هذا المنزل الأخروي فلا يستهين به فضلاً عن خصوصيته مع أولياء الله وعباده الصالحين، لاسيما أم المؤمنين خديجة عليها السلام.

المسألة الأولى: الصراط في اللغة

قال ابن منظور: الصراط ، والسراط ، وهي بالصاد لغة قريش الأولين التي جاء بها الكتاب، وعامة العرب تجعلها سيناً.

وقيل: إنما قيل للطريق الواضح سراط لأنه كأنه يسترط المارة لكثرة سلوكهم(1).

وقال الفيروزآبادي: الصراط ، بالكسر: الطريق، وجسر ممدود على متن جهنم(2).

ص:261


1- لسان العرب لابن منظور: ج 7، ص 313.
2- القاموس المحيط للفيروزآبادي: ج 2، ص 370.

المسألة الثانية: معنى الصراط عند أئمة أهل البيت عليهم السلام، وعلماء أبناء العامة

مما جاء في معنى الصراط ما رواه الصدوق عليه الرحمة والرضوان عن المفضل بن عمر، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصراط ، فقال:

«هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل وهما صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة. وأما الصراط الذي هو في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم»(1).

وقال الشيخ المفيد رحمه الله: «وجاء في الخبر بأن الصراط أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف على الكافر، والمراد بذلك أنه لا تثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدة ما يلحقهم من أهوال يوم القيامة ومخاوفها، فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف. وهذا مثل مضروب لما يحلق الكافر من الشدة في عبوره على الصراط ، وهو طريق إلى الجنة وطريق إلى النار يشرف العبد منه إلى الجنة ويرى منه أهوال النار(2).

وأما ما جاء في معنى الصراط عند أبناء العامة فهي كالآتي:

1 - فقد أخرج الثعلبي في (الكشف والبيان) في قوله تعالى:

ص:262


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص 32.
2- تصحيح اعتقادات الإمامية الشيخ المفيد: ص 111.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .

قال مسلم بن حيان: سمعت أبا بريدة يقول: صراط محمد وآله(1).

2 - وفي تفسير وكيع بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن السدي، عن أسباط ومجاهد، عن عبد الله بن عباس في قوله تعالى:

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .

قال: قولوا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد وأهل بيته(2).

3 - وأخرج الحموي في «فرائد السمطين» باسناده عن أصبغ بن نباتة، عن علي عليه السلام في قوله تعالى:

(وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ )3 .

قال:

«الصراط ولايتنا أهل البيت»(3).

4 - وأخرج الخوارزمي في «المناقب»: الصراط صراطان: صراط في الدنيا. وصراط في الآخرة. فأما صراط الدنيا فهو علي بن أبي طالب. وأما صراط الآخرة فهو جسر جهنم. من عرف صراط الدنيا جاز على صراط الآخرة(4).

ص:263


1- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 75؛ نهج الإيمان لابن جبر: ص 540؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 271؛ العمدة لابن البطريق: ص 43.
2- المناقب لابن شهر: ج 2، ص 271؛ الغدير للعلامة الأميني: ج 2، ص 311.
3- ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 339؛ الغدير للأميني: ج 2، ص 311.
4- الغدير للعلامة الأميني: ج 2، ص 311-312.

5 - وأخرج شيخ الاسلام الحموي بإسناده في فرايد السمطين في حديث عن الإمام جعفر الصادق قوله:

«نحن خيرة الله، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى الله».

فهم الصراط إلى الله فمن تمسك بهم فقد اتخذ إلى ربه سبيلا كما ورد فيما أخرجه أبو سعيد في شرف النبوة بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا، فمن تمسك بنا اتخذ إلى ربه سبيلا(1).

المسألة الثالثة: كيف يمر الناس على الصراط؟

تعرض الروايات الشريفة عن النبي الأكرم وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم في وصفها لحالات الناس عند مرورها على الصراط صورة متكاملة عن أهوال هذا المنزل الأخروي وشدة خطورته.

وتعرض هذه الأحاديث أيضاً حقيقة تجسيد هذه الأعمال التي يقوم بها الإنسان في الحياة الدنيا وآثارها في الآخرة لاسيما عند مروره على الصراط ، وهذه الأحاديث كالآتي:

1. روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام، انه قال:

«الناس يمرون على الصراط طبقات، والصراط أدق من الشعر، ومن حد السيف؛ فمنهم من يمر مثل

ص:264


1- الغدير للأميني: ج 2، ص 311؛ وأورده الصدوق رحمه الله في إكمال الدين عن الباقر عليه السلام بلفظ أطول: ص 206؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 78.

البرق، ومنهم من يمر مثل عدو الفرس، ومنهم من يمر حبواً، ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر متعلقاً تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً»(1).

2. وروى الشيخ الصدوق عليه رحمة الله والرضوان عن عبد الرحمن ابن سمرة في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - رأيت إيراده بتمامه لما فيه من المنفعة والموعظة -؛ قال عبدالرحمن بن سمرة: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، فقال:

«إني رأيت البارحة عجائب».

قال: فقلنا يا رسول الله، وما رأيت ؟ حدثنا به فداك أنفسنا وأهلونا وأولادنا؟!

فقال:

رأيت رجلا من أمتي، وقد أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه فمنعه منه، ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوؤه فمنعه منها، ورأيت رجلا من أمي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله عز وجل فنجاه من بينهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فمنعته منهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا، كلما ورد حوضا منع منه، فجاءه صيام شهر رمضان فسقاه وأرواه. ورأيت رجلا من أمتي والنبيون حلقا حلقا، كلما أتى حلقة طرد، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأجلسه إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة ومن خلفة ظلمة وعن يمينه ظلمة

ص:265


1-

وعن شماله ظلمة ومن تحته ظلمة مستنقعا في الظلمة، فجاءه حجه وعمرته فأخرجاه من الظلمة، وأدخلاه النور، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه، فجاءه صلته للرحم، فقال: يا معشر المؤمنين، كلموه فإنه كان واصلا لرحمه، فكلمه المؤمنون وصافحوه وكان معهم، ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النيران وشررها بيده ووجهه، فجاءته صدقته فكانت ظلا على رأسه وسترا على وجهه، ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فخلصاه من بينهم وجعلاه مع ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه بينه وبين رحمة الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذه بيده وأدخله في رحمة الله، ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته قبل شماله، فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي قد خفت موازينه، فجاءه أفراطه فثقلوا موازينه. ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من الله عز وجل فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله فاستخرجته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى على الصراط ، ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا ويتعلق أحيانا، فجاءته صلاته علي فأقامته على قدميه ومضى على الصراط ، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة كلها، كلما انتهى إلى باب أغلق دونه، فجاءته شهادة

ص:266

أن لا إله إلا الله صادقا بها، ففتحت له الأبواب ودخل الجنة(1)).

المسألة الرابعة: المنجيات من الأعمال عند الصراط

اشارة

من المسائل التي ارتبطت بالمرور على الصراط في الآخرة مسألة النجاة من الوقوع منه في جهنم - والعياذ الله - حسبما كشفت عنه الروايات الشريفة. وقد بينت هذه الروايات ان هناك مجموعة من الأعمال الدنيوية لها آثار مرتبطة بشكل أساسي مع هذا المنزل الأخروي. وهذه الأعمال هي كالآتي:

1. ثبوت حب علي عليه السلام في قلب الإنسان

روى الصدوق رحمه الله عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام الباقر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:

«يا علي، ما ثبت حبك في قلب امرئ مؤمن فزلت به قدمه على الصراط إلا ثبتت له قدم حتى يدخله الله عز وجل بحبك الجنة»(2).

2. مشايعة علي بن أبي طالب ومناصرته

روى الصدوق رحمه الله عن أبان بن عثمان عن محمد بن الفضل الرزقي، عن أبي عبد الله - الصادق عليه السلام - عن أبيه، عن جده، عن علي

ص:267


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 301-303.
2- المصدر السابق: ص 679؛ فضائل الشيعة للصدوق: ص 6؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 69.

عليهم السلام قال:

إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا.

فلا أزال واقفاً على الصراط أدعو وأقول: رب سلم شيعتي ومحبي أنصاري ومن تولاني في دار الدنيا، فإن النداء من بطنان العرش: قد أجيبت دعوتك وشفعت في شيعتك، ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألف من جيرانه وأقربائه، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن شهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت»(1).

3. الصلاة المفروضة اليومية

روى الميرزا النوري رحمه الله عن ضمرة بن حبيب، قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة، فقال:

«الصلاة من شرائع الدين، وفيها مرضاة الرب عز وجل، وهي منهاج الأنبياء، وللمصلي حب الملائكة، وهدى وايمان، ونور المعرفة، وبركة في الرزق، وراحة للبدن، وكراهة الشيطان، وسلاح على الكافر، وإجابة للدعاء، وقبول للأعمال، وزاد المؤمن من الدنيا للآخرة. وشفيع بينه وبين ملك الموت، وانس في قبره، وفراش تحت جنبه، وجواب لمنكر ونكير، وتكون صلاة العبد عند

ص:268


1- الخصال للصدوق: ص 408.

المحشر تاجا على رأسه، ونورا على وجهه، ولباسا على بدنه، وسترا بينه وبين النار، وحجة بينه وبين الرب جل جلاله، ونجاة لبدنه من النار، وجوازا على الصراط ، ومفتاحا للجنة، ومهورا للحور العين، وثمنا للجنة، بالصلاة يبلغ العبد إلى الدرجة العليا، لان الصلاة تسبيح، وتهليل، وتحميد، وتكبير، وتمجيد، وتقديس، وقول، ودعوة»(1).

4. عيادة المريض

روى الحر العاملي رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انه قال في آخر خطبة خطبها:

«ومن قاد ضريرا إلى مسجده أو إلى منزله أو لحاجة من حوائجه كتب الله له بكل قدم رفعها ووضعها عتق رقبة، وصلت عليه الملائكة حتى يفارقه.

ومن كفى ضريرا حاجة من حوائجه فمشى فيها حتى يقضيها أعطاه الله براءتين: براءة من النار، وبراءة من النفاق، وقضى له سبعين ألف حاجة في عاجل الدنيا، ولم يزل يخوض في رحمة الله حتى يرجع.

ومن قام على مريض يوما وليلة بعثه الله مع إبراهيم الخليل (عليه السلام) فجاز على الصراط كالبرق الخاطف اللامع، ومن سعى لمريض في حاجة قضاها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله فإن كان المريض من أهله ؟

ص:269


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري: ج 3، ص 77.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

من أعظم الناس أجرا ممن سعى في حاجة أهله، ومن ضيع أهله وقطع رحمه حرمه الله حسن الجزاء يوم يجزي المحسنين وضيعه، ومن يضيعه الله في الآخرة فهو يتردد مع الهالكين حتى يأتي بالمخرج، ولن يأتي به، ومن أقرض ملهوفا فأحسن طلبته استأنف العمل وأعطاه الله بكل درهم ألف قنطار من الجنة، ومن فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا نظر الله إليه برحمته فنال بها الجنة، وفرج الله عنه كربه في الدنيا والآخرة، ومن مشى في اصلاح بين امرأة وزوجها أعطاه الله أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله حقا، وكان له بكل خطوة يخطوها وكلمة في ذلك عبادة سنة، قيام ليلها وصيام نهارها»(1).

5. إقراض المسلم مالاً

روى الصدوق رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:

«ومن أقرض أخاه المسلم كان له بكل درهم أقرضه وزن جبل أحد وجبال رضوى وطور سيناء حسنات فان رفق به في طلبه يعبر به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب، ومن شكا إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرم الله عليه أجر المحسنين»(2).

ص:270


1- وسائل الشيعة «آل البيت» للحر العاملي: ج 16، ص 344.
2- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال للصدوق: ص 290.
6. المحافظة على صلاة الجماعة

روى الصدوق رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في خطبة طويلة انه قال:

«ومن حافظ على الجماعة حيث ما كان مرّ على الصراط كالبرق اللامع في أول زمرة مع السابقين، ووجهه أضوأ من القمر ليلة البدر وكان له بكل يوم وليلة يحافظ عليها ثواب شهيد»(1).

7. الاستغفار في شهر شعبان

روى الحر العاملي عن الريان بن الصلت قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يقول:

«من قال في كل يوم من شعبان سبعين مرة: استغفر الله وأسأله التوبة، كتب الله له براءة من النار، وجوازاً على الصراط ، وأحله دار القرار»(2)).

8. من أعان مؤمناً في شهر رمضان

روى الصدوق رحمه الله عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال:

«الحسنات في شهر رمضان مقبولة، والسيئات فيه مغفورة، من قرأ في شهر رمضان آية من كتاب الله عز وجل كان كمن ختم القرآن في غيره من الشهور ومن ضحك فيه في وجه أخيه

ص:271


1- المصدر السابق: ص 291.
2- وسائل الشيعة «آل البيت» للحر العاملي: ج 10، ص 510.

المؤمن لم يلقه يوم القيامة إلا ضحك في وجهه، وبشره بالجنة ومن أعان فيه مؤمناً أعانه الله تعالى على الجواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام...»(1).

9. قيام الليل بالقراءة والصلاة

روى الصدوق رحمه الله عن جابر بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: ان رجلاً سأل علي بن أبي طالب عليه السلام عن قيام الليل بالقراءة ؟ فقال له:

أبشر من صلى من الليل عشر ليلة لله مخلصا ابتغاء ثواب الله تبارك وتعالى لملائكته: اكتبوا لعبدي هذا من الحسنات عدد ما أنبت في الليل من حبة وورقة وشجرة وعدد كل قصبة وخوص ومر ومن صلى تسع ليلة أعطاه الله عشر دعوات مستجابات وأعطاه الله كتابه بيمينه ومن صلى ثمن ليلة أعطاه الله أجر شهيد صابر صادق النية وشفع في أهل بيته، ومن صلى سبع ليلة خرج من قبره يوم يبعث ووجهه كالقمر ليلة البدر حتى يمر على الصراط مع الآمنين، ومن صلى سدس ليلة كتب في الأوابين وغفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صلى خمس ليلة زاحم إبراهيم خليل الرحمن في قبته، ومن صلى ربع ليلة كان في أول الفائزين حتى يمر على الصراط كالريح العاصف، ويدخل الجنة بغير حساب»(2).

ص:272


1- فضائل الأشهر الثلاثة للصدوق: ص 97.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 475.

المسألة الخامسة: عقبات الصراط يوم القيامة

اشارة

مثلما دلت الروايات الشريفة على الأعمال المنجية يوم القيامة لاسيما عند الصراط ، فان هذه الروايات قد دلت أيضاً على وجود عقبات كثيرة تحول دون عبور الإنسان على الصراط بمعنى: ان بعض الأعمال الدنيوية تكون في الآخرة وبالاً على صاحبها فتمنعه من اللحظة الأولى دون المرور على الصراط والعبور منه إلى الجنة.

بمعنى آخر: ان هذه الأعمال تسقط الإنسان في جهنم قبل ان يمر على الصراط الذي يختلف الناس في عبورهم عليه كلاً حسب عمله.

بل: ان الروايات الشريفة تظهر أن هناك شفاعة وإدراكاً للعبد برحمة الله تعالى لمن يسير على الصراط فيما إذا كان هذا السير متعثراً بسبب بعض الأعمال الدنيوية فيأتيه الغيث الإلهي من خلال شفاعة الحبيب المصطفى وأهل بيته عليهم السلام فيشفع له فيمر على الصراط ، أما ذلك الذي يمنع من العبور فهذا - والعياذ بالله - محروم بسبب أعماله من إدراك رحمة الله تعالى؛ بمعنى: انه لا يستحق بسبب هذه الأعمال من المرور على الصراط ونيل ما يناله المؤمنون من اللطف والعناية فهو محروم من ذلك كله.

ولذا فهو متهاو إلى النار والعياذ بالله. وهذه العقبات هي كالآتي:

أولاً: لا يسمح للمسلم أن يمرّ على الصراط إلا بجواز من علي بن أبي طالب عليه السلام

أ. أخرج شاذان بن جبريل القمي المتوفى 660 ه عن جابر بن عبدالله

ص:273

وكان قد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مسائل فشرحها له، فمما جاء في ذلك انه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

لك ما سألتني ووجب عليك له الحفظ ، فإن لعلي عند الله من المنزلة الجليلة والعطايا الجزيلة ما لم يُعْطَ أحد من الملائكة والأنبياء المرسلين، وحبه واجب على كل مسلم فإنه قسيم الجنة والنار، ولا يجوز أحد على الصراط إلا ببراءة من أعداء علي عليه السلام»(1).

ب. أخرج الخطيب الخوارزمي المتوفى 568 ه ، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إذا كان يوم القيامة، أقام الله - عز وجل - جبرئيل ومحمداً على الصراط فلا يجوزه أحد إلا من كان معه براءة من علي بن أبي طالب عليه السلام»(2).

ج. قال المحدث المجلسي رحمه الله: روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في «مصباح الأنوار» حديثاً يرفعه باسناده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ونصب الصراط على شفير جهنم فلم يجز عليه إلا من كان معه

ص:274


1- الفضائل لابن شاذان القمي: ص 60؛ كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي: ص 59؛ البحار للمجلسي: ج 35، ص 106.
2- المناقب للموفق الخوارزمي: ص 320؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 179؛ البحار للمجلسي: ج 39، ص 39؛ روضة الواعظين للفتال النيسابوري: ص 129.

براءة من علي بن أبي طالب عليه السلام»(1).

د. روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام:

«يا علي إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصراط ، فلا يجوز على الصراط إلا من كانت معه براءة بولايتك»(2)).

ثانياً: لا يجوز المسلم الصراط إلا إذا عرف محمداً وأهل بيته عليهم السلام وعرفوه

قد تبين فيما سبق ان هناك كثيراً من الحقائق المتعلقة بيوم القيامة قد غفل عنها كثير من المسلمين فيما تغافل البعض الآخر منهم لاسيما أولئك الذين لا يرون فرقاً بين العترة الذين هم عدل القرآن الكريم وثقله الأصغر وبين بقية الصحابة.

في حين يقدم القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة نصوصاً صريحة وواضحة عن حقيقة معرفة محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في يوم المحشر وعند الصراط ، وفي عرصات يوم القيامة.

فمما جاء في آثار هذه المعرفة عند الصراط ما جاء في سورة الأعراف في قوله عزّ شأنه:

ص:275


1- بحار الأنوار: ج 7، ص 322؛ تأويل الآيات لشرف الدين الحسيني: ج 2، ص 495.
2- الاعتقادات في دين الإمامية للصدوق: ص 70؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق - بلفظ قريب -: ج 2، ص 272؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 70.

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ )1 .

وقد تخبط بعض المفسرين في بيان رجال الأعراف تخبطا عجيباً على الرغم من صراحة الآية بأنهم رجال لهم من الشأن عند الله تعالى ما يؤهلهم لمعرفة أهل الجنة وأهل النار كلاً بسيماهم، ولكن ليس بالغريب على من سلب البصيرة أن يُسلبها في القرآن وهو القائل عز شأنه:

(أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)2 .

بينما حاول البعض الآخر تقريب الصورة لدى القارئ كالفخر الرازي وابن عربي دون أن يثير غضب من لا يرى لعلي وآله خصوصية عند الصراط وانهم أهل الأعراف، فقال الرازي وهو ينقل قول الحسن والزجاج: «وعلى الأعراف، أي: وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يعرفون كل أحد من أهل الجنة والنار بسيماهم، فقيل للحسن: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ؟ فضرب على فخذيه ثم قال: هم قوم جعلهم الله تعالى على تعرف أهل الجنة وأهل النار يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا»(1).

بينما ذهب ابن عربي إلى القول بأن أهل الأعراف: «هم العرفاء، أهل الله وخاصته»(2).

ص:276


1- تفسير فخر الرازي: ج 14، ص 87.
2- تفسير ابن عربي: ج 1، ص 258.

وعليه: فقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أحاديث كثيرة تنص صراحة على تخصيص هؤلاء الرجال الذين وضعهم الله سبحانه على الأعراف وبيان أسمائهم وتعريفهم؛ وكيف يعقل ان يبقى أمرهم مبهماً وهم المخصوصون بالأعراف.

أ. روى الثعلبي، وابن شهر آشوب؛ والقرطبي، والحسكاني، والقندوزي وغيرهم عن جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ ) .

قال: الأعراف، موضع عال من الصراط عليه العباس وحمزة، وعلي ابن أبي طالب، وجعفر ذو الجناحين يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه»(1).

ب. روى الحاكم الحسكاني عن الأصبغ بن نباتة، قال: «كنت جالساً عند علي فأتاه عبد الله بن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن قول الله تعالى:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ) .

فقال:

ص:277


1- تفسير الثعلبي: ج 4، ص 237؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 3، ص 31؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 264؛ تفسير القرطبي: ج 7، ص 312؛ مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي: ص 105؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 303؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 14، ص 396؛ تفسير الميزان للطباطبائي: ج 8، ص 146.

ويحك، يا ابن الكواء نحن نقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار»(1).

ج. وقد أخرج محمد بن الحسن الصفار في البصائر مجيء ابن الكواء إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وسؤاله عن الأعراف بلفظ آخر.

قال أمير المؤمنين عليه السلام:

«نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله عز وجل يوم القيامة على الصراط غيرنا، ولا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار الا من أنكرنا وأنكرناه ان الله لو شاء لعرف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنهم عن الصراط لناكبون، ولا سواء من اعتصم من الناس به ولا سواء من ذهب حيث ذهب الناس، ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربها لا نفاد لها ولا انقطاع»(2).

د. روى العياشي في تفسيره عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وقد سئل عن قوله تعالى:

(وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ) .

ص:278


1- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني -: ج 1، ص 263؛ تفسير فرات الكوفي: ص 144؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 304.
2- بصائر الدرجات للصفار: ص 517؛ مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص 55.

فقال أبو جعفر عليه السلام:

«نحن الأعراف الذين لا يعرف الله الا بسبب معرفتنا، ونحن الأعراف الذي لا يدخل الجنة الا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه؛ وذلك أن الله لو شاء أن يعرف الناس نفسه لعرفهم، ولكنه جعلنا سببه وسبيله وبابه الذي يؤتى منه»(1).

ثالثاً: لا يجوز المسلم الصراط إلا بحفظ الأمانة وصون الرحم
اشارة

من العقبات التي تعترض المسلم على الصراط هي «الأمانة والرحم» حسبما نص عليها الحديث النبوي الشريف. إلا ان الملاحظ في هذا الحديث هو أن المراد من الأمانة والرحم هما: موالاة عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحفظهم، كما سيمر بيانه.

فقد أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، وأبو مالك، عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة الا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله قال فيقول إبراهيم لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء وراء اعمدوا إلى موسى

ص:279


1- تفسير العياشي: ج 2، ص 19؛ تفسير فرات الكوفي: ص 143؛ ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج 1، ص 305.

صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليما فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم لست بصاحب ذلك فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق قال قلت بأبى أنت وأمي أي شيء كمر البرق قال ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم اعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول رب سلم سلم حتى تعجز اعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير الا زحفا قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوس في النار والذي نفس أبي هريرة بيده ان قعر جهنم لسبعون خريفا»(1).

والحديث فيه دلالات كثيرة نشير إلى اثنين منها:

الدلالة الأولى

إنّ (الأمانة والرحم) اللذان يرسلان إلى الصراط فيقومان على جانبيه يميناً وشمالاً؟ هما عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

مما لا شك فيه ان الصراط وضع لغرض بيان حقيقة الأعمال الدنيوية وآثار التكاليف الشرعية التي وضعها الله سبحانه على عباده.

ص:280


1- صحيح مسلم النيسابوري، باب: اختباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ج 1، ص 130.

وان هذه التكاليف إمّا أن تأخذ بالإنسان سريعاً إلى الجنة وإمّا ان تقذفه سريعاً إلى النار كما عبرت الأحاديث بألفاظ كثيرة عن هذا العبور، كالبرق، أو الركض، أو عدو الفرس، أو المشي، أو الحبو، أو السقوط - والعياذ بالله -.

ومن هنا: لا يتصور أن تفرد تلك الخصوصية الخاصة للأمانات - مع مالها من حرمة ومكانة في حفظ الحقوق الشخصية وتنامي العلاقات الاجتماعية فضلاً عن دورها في خلق حالة الأمن والطمأنينة في المجتمع - فمع كل هذا لا يتصور ان يخصص الله تعالى للأمانة التي جل دورها هو حفظ مال المسلم خصوصية على كثيرٍ من التكاليف الشرعية لاسيما الأصول كالتوحيد والنبوة والإمامة فكيف إذا ألحقنا بها الفروع كالصلاة والزكاة والصيام وغيرها من الفروع.

إذن:

يلزم ان يكون للفظ «الأمانة» التي نص عليها الحديث النبوي دلالة أخرى غير دلالتها المألوفة في حفظ مال المسلم بقرينة الموضع الذي توضع فيه وهو عند يمين الصراط الذي هو كاشف عن صحيفة المسلم ونتيجة أعماله الدنيوية، بمعنى: انها مرتبطة بتلك الكاشفية والخصوصية التي للصراط المستقيم.

ومما يدل عليه: قوله تعالى:

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)1 .

ص:281

ولا يتصور عاقل ان الله تعالى قد عرض الأمانة بما لها من معنى اصطلاحي أو عرفي على السموات والأرض وأن تأبى السموات والأرض من حملها ويشفقن منها ثم يحملها الإنسان، فضلاً عن أنه كان ظلوماً بهذه الأمانة جهولاً بقدرها وحقها.

ولذلك:

جاء المحدثون والمفسرون بروايات تكشف عن دلالة تلك الأمانة التي عرضها الله سبحانه على السموات والأرض، وهي كالآتي:

روى الصنعاني وابن جرير الطبري في بيان دلالة الأمانة التي عرضها الله على السموات هي: «الفرائض التي افترضها الله على العباد»(1).

وهذا اللفظ وان كان قريباً من المعنى الحقيقي الذي قصدته الآية المباركة وأن هذه الأمانة هي الفرائض التي لم يصرح بها الحافظان «الصنعاني والطبري» الا انهما أعطيا معنى بعيداً عن معنى الأمانة المألوف لدى الناس وهي حفظ الذمم، أي: ان الأمانة والرحم اللذان ينصبان على جانبي الصراط هما حقيقة أخرى غير التي يألفها الناس، ولذا فهي حقيقة احتاجت إلى بيان العترة النبوية لأنهم أهل الذكر الذي عنه يسألون وعلى حقائقه يدلون، حسبما دلت عليها الروايات الآتية:

ألف. روى الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام، في قوله:

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ...) .

ص:282


1- تفسير الصنعاني: ج 3، ص 125؛ جامع البيان للطبري: ج 22، ص 66.

قال: هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام»(1).

باء. روى الصدوق رحمه الله عن علي بن معبد، عن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهم السلام عن قول الله عز وجل:

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) .

فقال:

الولاية، من ادعاها بغير حق كفر»(2).

جيم. قال علي بن ابراهيم الكوفي (المتوفى سنة 329 ه ): في قوله:

(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) .

قال: الأمانة، هي الإمامة والأمر والنهي، والدليل على أن الأمانة هي الإمامة، قوله عز وجل:

(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) .

يعني الإمامة، فالأمانة هي الإمامة عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، قال: أبين أن يدعوها أو يغصبوها أهلها.

ص:283


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 413.
2- معاني الأخبار للصدوق: ص 110.

(وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ ) ، أي فلان (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً)1 .

هاء. روى فرات الكوفي (المتوفى سنة 352) عن فاطمة الزهراء عليها السلام قالت:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى:

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى )2 .

فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني، فسمعت أذانا مثنى مثنى وإقامة وترا وترا فسمعت مناديا ينادي: يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي اشهدوا أني لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، قالوا: شهدنا وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي بأن محمدا عبدي ورسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي بأن عليا وليي، وولي رسولي، وولي المؤمنين بعد رسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا. قال: عباد بن صهيب قال: جعفر ابن محمد قال أبو جعفر - عليهما السلام -: وكان ابن عباس رضي الله عنه: إذا ذكر - هذا الحديث - فقال!: إني لأجده في

ص:284

كتاب الله تعالى:

(إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)1 .

قال: فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: والله ما استودعهم دينارا ولا درهما ولا كنزا من كنوز الأرض ولكنه أوحى إلى السماوات والأرض والجبال من قبل أن يخلق آدم عليه السلام: إني مخلف فيك الذرية، ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أنت فاعلة بهم ؟! إذا دعوك فأجيبيهم وإذا آووك فآويهم، وأوحى إلى الجبال إذا دعوك فأجيبيهم وأطيعي - وأطبقي - على عدوهم فأشفقن منها السماوات والأرض والجبال عما سأله الله من الطاعة فحملها بني آدم فحملوها. قال عباد قال جعفر: والله ما وفوا بما حملوا من طاعتهم»(1).

وعليه:

حينما نستعرض تلك الأحاديث الشريفة وننظر إلى التاريخ وما اختزنته كتب المؤرخين والمحدثين والمفكرين من حوادث ومباحث وأفكار حول موضوع الإمامة عند المسلمين نلمس بصدق انها هي الأمانة التي تقف على جانب الصراط في يوم القيامة يحاكم من ظلمها وجهل أهلها.

أما الرحم فيكفي بالمسلم أن يرجع إلى حديث واحد أورده مسلم في

ص:285


1- تفسير فرات الكوفي: ص 345.

صحيحه وأحمد في مسنده ليوقن ان الرحم التي تقف على الجنب الآخر من الصراط هم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هم فاطمة وبعلها وبنوها.

فقد أخرج مسلم عن زيد بن أرقم أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيبا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أما بعد الا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.

فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته ؟

قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده؛ قال: ومن هم ؟

قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر، وآل عباس...»(1).

ولم يثبت ان النبي حصر أهل بيته بهؤلاء جميعاً وإنما خص أهل بيته بفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام وحصرهم بالكساء اليماني حينما نزل قوله تعالى:

ص:286


1- صحيح مسلم، باب: من فضائل علي عليه السلام: ج 7، ص 123؛ مسند احمد، حديث طارق بن سويد: ج 4، ص 367.

(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)1

2 .

ولذلك: فإن الإمامة ورحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقفان عند جانبي الصراط يوم القيامة وسيسألان المسلمين عن حفظهم للإمامة وصونهم وصلتهم لرحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي أهل بيته وذريته، لاسيما وقد روت عائشة عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله».

وقد ورد عن أهل البيت عليهم السلام ما يظهر حقيقة هذه الرحم المعلقة بالعرش لمن تعود، فقد روى الشيخ الكليني رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال:

«إن الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني وأقطع من قطعني، وهي رحم آل محمد، وهو قول الله عز وجل:

(وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ )3 .

ورحم كل ذي رحم»(1).

وهذه هي الدلالة الأولى التي دل عليها الحديث الشريف.

ص:287


1- الكافي للكليني رحمه الله، باب: صلة الرحم: ج 2، ص 151.
الدلالة الثانية: أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو أول من يعبر الصراط من هذه الامة كالبرق الخاطف

إنّ من الحقائق التي دلّ عليها الحديث النبوي الشريف هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت، بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق ؟.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين»(1).

فالحديث الشريف وان لم يصرح بشخصية أول هذه الامة عبوراً على الصراط هاهنا، أو لعله صلى الله عليه وآله وسلم قد صرح بذلك ولكن تعمد البعض اخفاء هذا التصريح، الا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد صرح وخص في أحاديث أخرى، وأعلن مراراً عن أول هذه الامة إيماناً وأقدمهم سلماً ومن كان أولهم إيماناً كان أولهم عبوراً على الصراط .

1. قال صلى الله عليه وآله وسلم لابنته فاطمة في زواجها:

«أما علمت يا فاطمة أنك بكرامة الله إياك زوجتك أعظمهم حلماً، وأكثرهم علما، وأقدمهم سلماً»(2).

ص:288


1- صحيح مسلم، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها: ج 1، ص 130.
2- الإرشاد للشيخ المفيد رحمه الله: ج 1، ص 36؛ الأمالي للطوسي: ص 607؛ شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج 2، ص 509؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 2، ص 190؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 128؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 13، ص 114؛

2. وفي حديث الحوض قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«أولكم وارداً علي الحوض أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب»(1).

أما ما ذهب إليه بعض المحدثين في أنّ أبا بكر هو أول من أسلم فهذا مما صنعته يد الساسة وافتعله أصحاب المصالح الدنيوية لغرض ارضاء حكام بني أمية وأشياعهم فضلاً عن ان التاريخ لخير شاهد على زيف هذا الإدعاء، فقد روى الطبري وابن كثير وغيرهما، عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن سعد قال:

قلت لابي أكان أبو بكر أولكم أسلاماً؟

فقال: لا ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين»(2).

فمن كان قد أسلم قبله أكثر من خمسين نفراً كيف له أن يكون أول من أسلم كما يدعيه البعض من المحدثين، ولذلك هناك تلازم بين الصراط والإيمان

ص:289


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 136؛ بغية الباحث للحارث بن أبي أسامة: ص 295؛ التمهيد لابن عبد البر: ج 2، ص 305؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 4، ص 117؛ كنز العمال للهندي: ج 11، ص 616؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 1091؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 42، ص 40.
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 60؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، ص 39؛ السير النبوية لابن كثير: ج 1، ص 436؛ الإفصاح للشيخ المفيد رحمه الله: ص 232؛ كنز الفوائد للكراجكي: ص 124؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر: ج 1، ص 289؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 38، ص 228؛ الغدير للأميني: ج 3، ص 240.

فمن كان خالص الإيمان سباقاً إليه وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حاله في الآخرة كحاله في الدنيا.

ومما يدل عليه أيضاً ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحاديث شريفة تنص على أن علياً عليه السلام هو أول الناس إيماناً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما وان حبيب الرحمن صلى الله عليه وآله وسلم هو الأعرف بمن آمن به وصدّقه من أمته.

ولذا فهو يقول:

أ. روى محمد بن سليمان الكوفي رحمه الله - المتوفى سنة 300 ه - عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«من آذى علياً فقد آذاني إن علياً أولكم إيماناً، وأوفاكم بعهد الله. يا أيها الناس من آذى علياً بعث يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً وإن عبد الله»(1).

أقول: كيف تنفع العبادة، أي: الصلاة والصوم من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بمعنى أنه يبعث يوم القيامة على غير ملة الإسلام، أما لماذا يكون يهودياً أو نصرانياً فلعله:

1 - هم أقرب الأديان لعهد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - أو لأنهم قد حرفوا دينهم ولم يتبعوا وصايا أنبيائهم وأحكامهم وشرائعهم، فيحشرون ضمن تلك الزمرة، أي زمرة المحرفين الكلم عن مواضعه.

ص:290


1- مناقب أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 548.

3 - أو لعلهم - أي اليهود والنصارى - هم أكثر الأمم التي آذت أنبياءها - فيحشر من آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ضمن تلك الزمرة. والله العالم بحقائق الأمور.

ب. روى الشيخ الطوسي رحمه الله - المتوفى سنة 460 ه - والحاكم الحسكاني، وابن عساكر، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل علي بن أبي طالب عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«قد أتاكم أخي، ثم ألتفت إلى الكعبة فضربها بيده.

ثم قال:

والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة.

ثم قال:

إنه أولكم إيماناً معي، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية.

قال: فنزلت:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ )1

2 .

ص:291

ج. روى فرات الكوفي - المتوفى سنة 352 ه - عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لفاطمة بنت الحسين عليه السلام: أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث واحتج به على الناس ؟

قالت:

«نعم، أخبرني أبي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان نازلاً بالمدينة وأن من أتاه من المهاجرين مرسوا أن يفرضوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فريضة يستعين بها على من أتاه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: قد رأينا ما ينوبك من النوائب وإنا أتيناك لتفرض من أموالنا فريضة تستعين بها على من أتاك.

قال: فأطرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم طويلا ثم رفع رأسه فقال: إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئا، إنطلقوا إني لم أؤمر بشيء وإن أمرت به أعلمتكم.

قال: فنزل جبرئيل عليه السلام فقال:

يا محمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك وقد أنزل الله عليهم فريضة:

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى )1 .

ص:292

فخرجوا وهم يقولون ما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن تذل له الأشياء وتضع له الرقاب ما دامت السماوات والأرض لبني عبد المطلب.

قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل: أيها الناس من انتقص أجيرا أجره فليتبوأ مقعده من النار، ومن ادعى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار. ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار!

قال: فقام رجل وقال: يا أبا الحسن ما لهن من تأويل ؟

فقال: الله ورسوله أعلم. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره.

فقال النبي: ويل لقريش من تأويلهن - ثلاث مرات - ثم قال: يا علي انطلق فأخبرهم، إني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين، وأنا وأنت أبوا المؤمنين.

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا معشر قريش والمهاجرين والأنصار. فلما اجتمعوا قال: يا أيها الناس إن عليا أولكم إيمانا بالله، وأقومكم بأمر الله، وأوفاكم بعهد الله، وأعلمكم بالقضية، وأقسمكم بالسوية، وأرحمكم بالرعية، وأفضلكم عند الله مزية. ثم قال: إن الله مثل لي أمتي في الطين وعلمني أسماءهم كما:

ص:293

(وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)1 .

ثم عرضهم فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته وسألت ربي أن تستقيم أمتي على علي من بعدي فأبى إلا أن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ثم ابتدأني ربي في علي بسبع خصال: أما أولاهن: فإنه أول من ينشق الأرض ولا فخر. وأما الثانية: فإنه يذود الرعاة غريبة الإبل. وأما الثالثة: فان من فقراء شيعة علي ليشفع في مثل ربيعة ومضر. وأما الرابعة: فإنه أول من يقرع باب الجنة معي ولا فخر. وأما الخامسة: فإنه أول من يزوج من الحور العين معي ولا فخر. وأما السادسة: فإنه أول من يسكن معي في عليين ولا فخر. وأما السابعة: فإنه أول من يسقى من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»(1).

اذن:

أول هذه الامة عبوراً على الصراط أولهم إيماناً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقدمهم إسلاماً وهو علي عليه الصلاة والسلام، وهو أول أمّة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم خروجاً من القبر وأولهم وروداً على الحوض وأولهم (من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة)(2) ، وأولهم دخولاً للجنة.

ص:294


1- تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي: ص 394.
2- صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: قصة غزو بدر: ج 5، ص 7.
المسألة السادسة: شرافة منزلة خديجة عند الصراط

بقي أن نقول: إنّ مما كشف عنه الحديث النبوي الشريف فيما مضى في المسألة السابقة انه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوس في النار»(1).

ان من أصعب ما يلاقيه المسلم في يوم القيامة هو المرور على الصراط فمن الناس من تأخذه هذه الكلاليب فتلقيه في نار جهنم ومنهم من تخدشه لكنه ينجو بفعل شفاعة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

وبين هذا الرعب وذاك الفزع والهول والخوف الذي يفتت قلب الإنسان كما تفتت الحجارة تحت المطرقة تظهر كرامة الله تعالى لأوليائه وتتجلى شرافة عباده المخلصين كخديجة بنت خويلد صلوات الله وسلامه عليها، كما يخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وان المرء لا يدري وهو يقرأ هذه الرواية - التي ستمر - أيعجب من فزع يوم القيامة وأهوالها وشدة عقباها أم يعجب من كرامة الله تعالى لأوليائه وعباده المخلصين، في ذلك اليوم.

فقد روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة والرضوان في أماليه خبر احتضار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفراقه الدنيا، وهو حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة فمما جاء فيه، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأم سلمة رضي الله تعالى عنها:

ص:295


1- صحيح مسلم، باب: اختباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ج 1، ص 130.

«أدعي لي حبيبة قلبي وقرة عيني فاطمة تجيء.

فجاءت فاطمة عليها السلام وهي تقول:

نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، يا أبتاه إلا تكلمني كلمة ؟ فأني أنظر إليك وأراك مفارق الدنيا، وأرى عساكر الموت تغشاك شديداً.

فقال لها:

يا بنية، إني مفارقك، فسلام عليك مني.

قالت:

يا أبتاه، فأين الملتقى يوم القيامة ؟

قال:

عند الحساب.

قالت:

فإن لم ألقك عند الحساب ؟

قال:

عند الصراط ، جبرئيل عن يميني، وميكائيل عن يساري، والملائكة من خلفي وقدامي، ينادون رب سلم أمّة محمد من النار، ويسر عليهم الحساب.

فقالت فاطمة عليها السلام:

فأين والدتي خديجة ؟

ص:296

قال:

في قصر له أربعة أبواب إلى الجنة».

ثم أغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...»(1).

والحديث فيه معانٍ ودلالات كثيرة منها:

1. إنّ الله تعالى ليظهر كرامته لأوليائه وبيان شرفهم في جميع منازل الآخرة قبل دخولهم الجنة، حتى إذا أدخلهم الجنة أظهر لأهل الجنة كرامات أخرى لأولئك المخلصين من عباده.

2. أن الناس الذين تتفتت قلوبهم من الخوف ويتفاوتون في تلقي الفزع وشدته عليهم فبين مخدوش بكلاليب الصراط وبين منكوس في النار. ففي هذا الجو الرهيب والمهول تكون خديجة عليها السلام في قصر له أربعة أبواب إلى الجنة.

3. ان وجود أربعة أبواب لبيت خديجة يدل على توسطه بحيث يستطيع الناس النظر إليه من الجهات الأربع وهذا إظهار لشرافة المقيم في هذا المنزل.

4. ان هذا العدد من الأبواب فيه دلالة على التعظيم كما جعل الله للبيت الحرام - أعزه الله - أربعة أبواب في السماء كما نصت عليه الرواية الآتية:

فقد روى الصدوق رحمه الله عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام انه قال:

ص:297


1- الأمالي للصدوق: ص 735؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 22، ص 509.

«إنّ الله عز وجل أنزل البيت من السماء وله أربعة أبواب على كل باب قنديل من ذهب معلق»(1).

وهذا كله يظهر شرافة هذه المرأة الطاهرة عند الصراط وفي جميع منازل الآخرة، حتى إذا أدخلها الله الجنة أظهر لأهلها شرافة أمته خديجة، وبيّن سبحانه لعباده منزلتها في الجنان فكانت عظيمة كعظم هذه المرأة وجلالة قدرها عند الله تعالى وعند رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

وهو ما سنتعرض له في المبحث الآتي.

المبحث السابع: منزلة خديجة عليها السلام في الجنة

اشارة

قد يتصور البعض أن الجنة لا تتمايز فيها المنازل أو انها تفتقد إلى التشريفات أو تخلو من التفاضل والتكريم؛ في حين نجد القرآن الكريم قد دلّ في آيات كثيرة على اختلاف المنازل في الجنة بل انها جنان متعددة أعد بعضها لخاصة الله من عباده كما تظهر الأحاديث الشريف والآيات المباركة، الآتي ذكرها:

1. جنة الخلد، قال تعالى:

(قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً)2 .

ص:298


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 2، ص 241.

2. جنة المأوى، قال تعالى:

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ )1 .

وقال سبحانه:

(وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى )2 .

3. جنة النعيم، قال تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ )3 .

وقال تعالى:

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتِ النَّعِيمِ )4 .

4. جنة الفردوس، قال سبحانه:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)5 .

ص:299

5. جنة عدن، قال عز وجل:

(وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )1 .

وغيرها من الآيات الكريمة التي تتحدث عن تعدد الجنان وتنوعها، فيما أشارت الأحاديث الشريفة إلى تخصيص هذه الجنان لبعض عباد الله تعالى.

فأما جنة الخلد فقد دلت الروايات على اختصاصها بمن يتولى علي بن أبي طالب وذريته عليهم السلام فضلاً عن جنة عدن التي أعدها الله سبحانه لحبيبه المصطفى وعترته وشيعتهم. وهذا يدل على أن شيعة أهل البيت عليهم السلام يتفاضلون في استحقاق هذه المراتب فمنهم من يكون في جنة الخلد ومنهم من يكون مع محمد وآله في جنة عدن كما أشارت النصوص، وهي كالآتي:

1. روى ابن بابويه القمي رحمه الله عن أبي اسحاق، عن زياد بن مطرف، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من أراد أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهو قضيب من قضبانه، غرسه بيده وهي جنة الخلد، فلْيتولَّ عليا عليه السلام وذريته من بعده فانهم لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلال»(1).

ص:300


1- الإمامة والتبصرة لابن بابوية القمي: ص 45.

2. روى ابن عياش الجوهري؛ والشيخ الطوسي، وابن شهر آشوب، وابن عساكر الدمشقي الأموي والمتقي الهندي، والقندوزي وغيرهم، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي، فليتول علياً بعدي وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعده، فإنهم عترتي خلقهم الله من لحمي ودمي، وحباهم فهمي وعلمي، ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي لا أنالهم الله شفاعتي»(1).

وغير ذلك من الأحاديث الشريفة التي ترشد المسلم إلى منازل المتقين وعباد الله الصالحين وتفاضلهم في الجنان التي أعدها الله لعباده المتقين.

وحينما نأتي إلى منزلة الصديقة الطاهرة السيدة خديجة الكبرى (صلوات الله وسلامه عليها) في الجنة فلابد لنا من المرور ببعض المسائل وهي كالآتي:

ص:301


1- مقتضب الأثر لاحمد بن عياش الجوهري: ص 16؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 578؛ المناقب لابن شهر آشوب المازندراني: ج 1، ص 251؛ كتاب الأربعين لمحمد طاهر القمي الشيرازي؛ البحار للمجلسي: ج 23، ص 139؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 9، ص 170؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 12، ص 103؛ خصائص الوحي المبين للحافظ ابن البطريق: ص 30؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 42، ص 240 وص 242؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 489؛ الإمامة وأهل البيت لمحمد بيومي مهران: ج 1، ص 61.

المسألة الأولى: اشتياق الجنة لخديجة عليها السلام

يتحدث القرآن الكريم عن الجنة والنار فيكشف للمسلم عن جملة من الحقائق والخصائص التي تخصهما، والتي في الواقع يحتار العقل فيها، وكيف لا يحتار؟! وهما من الغيب الذي خص الله به نفسه وخيرته من خلقه.

الا ان الذي يدفع الإنسان إلى كثير من التفكر والتأمل هو تلك الحالات الخاصة التي جعلها الله سبحانه للجنة والنار، والتي ترافق في العادة الروح لا الجماد وكأن القرآن في عرضه لصفات الجنة والنار يتحدث عن خلق من خلق الله امتاز بالحياة وليس بالموات، أي: إن الجنة والنار من ذوات الأرواح العاقلة وهذا من أعجب ما يعرضه القرآن عن الجنة والنار؛ فالنار تتكلم، وتسمع، وتطيع، وتنظر، وهي لأمر ربها خاضعة، ومن غضبه خائفة، ومن خشيته وجلة.

وهذا يدل على أنهما مخلوقتان لا كما ذهب البعض من المسلمين إلى أنهما ليستا مخلوقتين - كما سيمر بيانه في ولادة فاطمة عليها السلام -.

أما الآيات الدالة على حقيقة خلقهما أن لهما من الصفات ما لذوات الأرواح العاقلة كالملائكة والجن والإنس فهي كالآتي:

1 - يقول سبحانه في بيان رؤية النار للكافرين:

(إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً)1 .

والحال يجري مجراه بالنسبة للجنة فمثلما تسمع النار وتتكلم وتنظر فان

ص:302

الجنة لتشتاق إلى نفر من المؤمنين والمؤمنات نصت عليهم الأحاديث النبوية الشريفة وهذا كاشف عن بلوغ هؤلاء النفر المراتب العلى من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

فالجنة لكثرة ما يرد عليها من الحسنات من أولئك النفر فانها اشتاقت إليهم كما يشتاق الزرع إلى الزراع وكما تشتاق الأرض إلى الماء.

والأحاديث في ذلك الخصوص كثيرة، وكلها تكشف عن بلوغ هؤلاء النفر المراتب السامية في الجنان لكثرة ما قدموا من أعمالٍ صالحة وخالصة لوجه الله تعالى، ولذا فالجنة تشتاق إليهم.

ولأن الشوق لا يكون الا من المحبة، ولأن الجنة هي موضع الطهر والقداسة ومحل عباد الله المخلصين من الأنبياء والمرسلين وسيدهم أجمعين محمد وآله الطاهرين صلى الله عليه وآله وسلم ومن والاهم وثبت على دينهم فان ذلك يكشف عن أمور منها:

أ. ان اشتياق الجنة يدل على تحول هؤلاء وان كانوا في الدنيا من أهل الجنة فالجنة لا تشتاق إلاّ لأهلها وأحبابها وإلاّ لا معنى لتحقق الشوق.

ب. ان هؤلاء النفر قد بلغوا رتبة عالية من طهارة الروح والبدن حتى أصبحوا من سنخية الجنة فحالهم من حال الجنة وجنسها.

ج. انهم من أهل العلم والعمل إذ لا فائدة من العلم ما لم يكن مصحوباً بالعمل ولولا هذا العلم والعمل لما وصلوا إلى رتبة اشتياق الجنة لهم.

أما مَنْ هؤلاء الذين تشتاق الجنة إليهم ؟ فأما من النساء فهنَّ المذكورات في

ص:303

حديث رواه ابن أبي الفتح الأربلي، عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:

«اشتاقت الجنة إلى أربع من النساء مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد»(1).

وأما من الرجال فهم:

1. روى القاضي النعمان المغربي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال:

«إنّ الجنة لتشتاق ويشتد ضوؤها لمجيء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشيعتهم، ولو ان عبداً عبد الله بين الركن والمقام حتى تتقطع أوصاله وهو لا يدين الله بحبنا وولايتنا أهل البيت ما قبل الله منه»(2).

2. روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن الإمام الباقر، عن آبائه عليهم السلام أجمعين، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«إنّ الجنة لتشتاق لأحباء علي ويشتد ضوؤها لأحباء علي عليه السلام وهم في الدنيا قبل أن يدخلوها وإن النار تتغيظ ويشتد زفيرها على أعداء علي عليه السلام وهم في الدنيا قبل أن يدخلوها»(3).

ص:304


1- كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 94؛ بحار الأنوار: ج 43، ص 53؛ شجرة طوبى للحائري: ج 2، ص 222؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 10، ص 99.
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: سسج 1، ص 74.
3- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ص 207.

3. روى الصدوق رحمه الله عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن علي عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي أمير المؤمنين عليه السلام:

«الجنة تشتاق إليك والى عمار وإلى سلمان وأبي ذر والمقداد»(1).

4. روى الترمذي، عن الحسن عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنّ الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار، وسلمان»(2).

5. وأخرج أبو يعلى الموصلي في مسنده، عن سعد الاسكاف، عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال:

«أتى جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد ان الله يحب من أصحابك ثلاثة فأحبهم، علي بن أبي طالب، وأبو ذر، والمقداد بن الأسود، قال فأتاه جبريل فقال له: يا محمد إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة من أصحابك، وعنده أنس بن مالك فرجا أن يكون لبعض الأنصار، قال فأراد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فهابه فخرج فلقي أبا بكر فقال: يا أبا بكر أني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا فأتاه جبريل فقال إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة من أصحابك فرجوت أن يكون لبعض الأنصار فهبته أن أسأله فهل لك أن تدخل على نبي الله

ص:305


1- الخصال للصدوق: ص 303؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 1، ص 72.
2- سنن الترمذي: ج 5، ص 332.

صلى الله عليه وسلم فتسأله؛ فقال إني أخاف أن أسأله فلا أكون منهم ويشمت بي قومي، ثم لقيني عمر بن الخطاب فقال له مثل قول أبي بكر.

قال فلقي عليا فقال له علي: نعم، إن كنت منهم فأحمد الله، وإن لم أكن منهم فحمدت الله؛ فدخل على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أن أنسا حدثني أنه كان عندك آنفا وإن جبريل أتاك فقال يا محمد إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة من أصحابك قال فمن هم يا نبي الله ؟

قال أنت منهم يا علي، وعمار بن ياسر، وسيشهد معك مشاهد، بين فضلها، عظيم خيرها، وسلمان منا أهل البيت وهو ناصح فاتخذه لنفسك»(1).

المسألة الثانية: شرافة منزلتها في الجنة قد جمعت في مقام (الأفضلية، والسيّدية، والخيريّة)

تناولنا في مبحث «منزلة خديجة في السنة» وورد بعض الأحاديث الشريفة التي تنص على بيان منزلة بعض النساء في الجنة والتي كانت بألفاظ ثلاثة، وهي كالآتي:

1. روى أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض أربعة خطوط ، قال:

ص:306


1- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 12، ص 143، حديث 6772؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 117؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 13، ص 258؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 21، ص 412.

تدرون ما هذا؟

فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران»(1).

فكان هذا الحديث قد نص على «الأفضلية».

2. روى الحاكم النيسابوري عن عائشة انها قالت لفاطمة عليها السلام: الا أبشرك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سيدات نساء أهل الجنة أربع مريم بنت عمران، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخديجة بنت خويلد، وآسية»(2).

ونلاحظ هنا أن الحديث قد نص على «السيّدية».

3. أخرج ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآسية امرأة فرعون»(3).

4. وروى الشيخ الصدوق رحمه الله عن ابن عباس قال: خط رسول الله

ص:307


1- مسند احمد بن حنبل: ج 1، ص 293.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 185.
3- صحيح ابن حبان: ج 15، ص 402؛ المستدرك للحاكم: ج 3، ص 154؛ فتح الباري لابن حجر: ج 6، ص 329؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 5، ص 364؛ الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1821؛ موارد الظمآن للهيثمي: ج 7، ص 168؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 1، ص 629؛ كنز العمال للهندي: ج 12، ص 143.

أربع خطط ثم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».

وهنا ورد الحديث وهو ينص على «الخيرية».

وهذه الألفاظ الثلاثة «الأفضلية، والسيّدية، والخيرية»، لم تكن تصدر من الحضرة النبوية لغرض التساوي والترادف في المعاني وإنما لكل لفظة دلالتها الخاصة بها.

أما (الأفضلية) التي خصصن به هؤلاء النسوة إنما هو لحصولهن على امتيازات خاصة جعلتهنّ يبلغنَ تلك المنزلة، بمعنى أنهن فضّلنَ على بقية نساء الجنة بميزات لم تتوصل إليها النساء في زمان كل واحدة منهنّ ، فمريم عليها السلام لم تكن في زمانها امرأة قد بلغت هذا المستوى من الإيمان والصلاح حتى خاطبتها الملائكة وهي تصلي في المحراب.

وآسية بنت مزاحم لم يُهيّأ لامرأة ما هيئ لها من السلطة والمال والخدم الا ان كل ذلك رمته وراء ظهرها واتجهت إلى ربها فخلصت له الدين ولم يكن أحد غيرها يعبد الله من أمّة موسى وهارون.

ولذلك: ضرب الله بها مثلاً للذين كفروا كي تكون عليهم حجة بالغة، حتى رأت بحق اليقين جنة ربها سبحانه وتعالى ولذا قالت:

(رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ )1 .

ص:308

وهي المكاشفة.

وأما سيدتي ومولاتي خديجة الكبرى صلوات الله عليها فأي امرأة قد حظيت بمثل ما حظيت به من النعيم في الحياة الدنيا من المال والجمال والحسب الرفيع والنسب الشامخ حتى أصبح كل أشراف مكة وأسيادها حريصاً على الزواج بها.

لكنها لما رأت في يتيم أبي طالب فضائل الأخلاق تتخلله، ونور النبوة يعلوه، اتجهت لخدمته ونصرته ومواساته وهي ترجو في ذلك رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد مرّ في بيان شأنها ما علمه القارئ الكريم.

حتى نالت السلام من ربها قبل موتها فكيف بها وهي في حضرته وفي جنته التي اعدها للمتقين.

وأما فاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها فلقد بلغت من اليقين ما لم تبلغه امرأة من العالمين فان كانت مريم وآسية وخديجة قد تفاضلن في مراتب اليقين بين مرتبة «علم اليقين، وعين اليقين» فان فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغت مرتبة «حق اليقين» ولذا كانت قلب النبي المصطفى وروحه التي بين جنبيه.

ولذا: نالت السيّدية على نساء العالمين.

بمعنى:

ان مرتبة الأفضلية التي أشار إليها الحديث النبوي الشريف كان تدل على

ص:309

حصول التفاضل فيما بين هؤلاء النسوة على بقية النساء بعلة وجود خصائص ومميزات لم تتوافر في غيرهن من النساء فضلاً عن أنهن يتفاضلن فيما بينهن حسب درجات اليقين التي نص عليها القرآن الكريم أي: «علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين».

ومثاله في التفضيل قوله تعالى:

(وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)1 .

وتفضيل بني آدم كان من خلال مميزات امتازوا بها على كثير مما خلق الله تعالى:

1. ميزهم بالعقل فكان تفضيلاً.

2. جعل فيهم الخلافة على الأرض.

قال تعالى:

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )2 .

3. اكرام الصالحين بالجنة.

4. سخر لهم كثيراً من المخلوقات.

5. أكرمهم بالعلم.

ص:310

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ )1 .

وغيرها من الخصائص.

ومثال آخر جاء به القرآن على حقيقة التفضيل.

قال تعالى:

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللّهُ )2 ،(وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)3 .

فهنا كان التفضيل بين الأنبياء بمميزات كالتكليم واتيان داود الزبور وهكذا وتلك النسوة كان تفضيلهن على نساء أهل الجنة بميزات مر ذكرهن لاسيما ما مرّ من بيانه خلال هذه الأسطر عن مولاتنا خديجة عليها السلام.

أما السيّدية:

فترتكز على بلوغ هذه النساء مراتب اليقين كما أسلفنا.

والسيد: بفتح أوله وكسر ثانية، هو: (من اجتمع عليه قومه وجعلوا أمرهم إليه للخير الذي فيه)(1).

وشخوص الخير وتجسيده إلى مظاهر خارجية يدركها الناس يحتاج إلى ثبوته في النفس وتجذره فيها، ولأن الخير أصله اليقين بالله تعالى فكان سنامه

ص:311


1- معجم لغة الفقهاء لمحمد قلعجي: ص 253.

ونواته حق اليقين وهو ما ساد به حبيب الرحمن على جميع الأنبياء والمرسلين فبلغ من ربه محلاً لم يرق إليه مخلوق قط حيث قال عزّ من قائل:

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى )1 .

وهذا فضلاً عن شهادة الحق سبحانه لقلب حبيبه ويقينه بمولاه فقال سبحانه:

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى )2 .

ولذلك: سادت هذه النسوة على بقية نساء الجنة بخيريتهنّ على هذه النساء بمعنى: تجلي مظاهر الخير وأصوله فيهنّ عليهن السلام فكنّ كما وصفهنّ المصطفى «بخير نساء الجنة».

وبه بلغن رتبة الخيرية.

فكنّ :

1. أفضل نساء الجنة: لاختصاصهنّ بميزايا لم تحصل عليها امرأة في زمانهنّ .

2. وخير نساء الجنة: لاجتماع الخير فيهنّ وتجليه إلى مظاهر حياتية ملموسة فيما بين النساء.

3. وسيدات نساء الجنة: لبلوغهن مراتب اليقين التي لم يبلغها غيرهن من النساء.

ص:312

المسألة الثالثة: كيف يكون دخولها إلى الجنة ؟

اشارة

إنّ من الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم والسنة المحمدية حول مجريات يوم القيامة، هو تمايز المؤمنين في دخولهم الجنة وتفاضلهم في ذلك.

بل: قد أشارت أيضاً إلى أنْ يكون الدخول مصحوباً بآثار بعض الأعمال الحياتية التي عاشها الإنسان قبل انتقاله إلى عالم الآخرة.

قال تعالى:

(وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ )1 .

وفي بيان القرآن الكريم لدخول من حقت عليه كلمة العذاب إلى جهنم يقول سبحانه:

(وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ )2 .

وتظهر الآية بوضوح ان اختلاف أبواب جهنم لم يكن دون حكمة، بل ان تعدد هذه الأبواب كما تنص الآية كان لغرض اختلاف الأعمال التي عملها أهل النار فكانت الباب بحسب نوع الجرم والظلم الذي قام به اولئك،

ص:313

فالمشركون يدخلون من باب خاص بهم، والمنافقون لهم باب خاص في جهنم، والقتلة لهم باب؛ والظالمون لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم باب وهكذا - نعوذ بالله من حلول سخطه ونسأله العفو والرحمة والموالاة لمحمد وأهل بيته -.

وعليه:

فالحال يجري مجراه بالنسبة لابواب الجنة فقد خصصت بحسب الأعمال فالمتقون لهم باب، والصالحون لهم باب، والمؤمنون لهم باب، والمسلمون لهم باب، وبعض الأبواب خصصت ببعض الأعمال، كالعلماء، والشهداء، وغير ذلك؛ بل قد ورد في بعض الروايات ان صنفاً من الناس يخير في الدخول إلى الجنة من أي باب شاء.

وقد نصت الأحاديث على وقوف بعض عباد الله تعالى عند أبواب الجنة لا يدخلونها حتى يدخل معهم من أحبوا، فيشفعون لهم ويصحبونهم إلى الجنة.

قال تعالى:

(جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ)1 .

ص:314

فالآية المباركة: تشير إلى اصطحاب أهل جنة عدن معهم آباءهم وأزواجهم وذرياتهم.

ومن هنا:

ورد في الأحاديث الشريفة: اختصاص السقط الذي يذهب دون أن يكمل مدّة حمله أو المولود الذي يتوفاه الله قبل ان يجري عليه القلم، أي قبل أن يصل إلى السن الشرعية في أداء الفروض الواجبة يكون حاله في الآخرة ممن يشفع لوالديه فيدخلهم الجنة.

وفي هذا الخصوص وبما يتعلق بمولاتنا خديجة عليها السلام فقد أخرج الشيخ الكليني رضوان الله تعالى عليه والحر العاملي (قدس) رواية تدل على ان خديجة عليها السلام يصحبها ولدها القاسم قبل دخولها الجنة، بل هو من يأخذ بيدها إلى الجنة. وهذا نص الرواية:

روى الكليني رحمه الله عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر - الباقر عليه السلام -، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة حين مات القاسم ابنها وهي تبكي فقال لها:

ما يبكيك ؟

فقالت:

درت دريرة فبكيت.

فقال:

«يا خديجة أما ترضين إذا كان يوم القيامة أن تجيئي إلى باب

ص:315

الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنة وينزلك أفضلها، وذلك لكل مؤمن.

إن الله عز وجل أحكم وأكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثم يعذبه بعدها أبداً»(1).

والحديث فيه أمور وهي كالآتي:

أولاً: حكمة الابتلاء بالسقط وموت الأبناء الذين لم يبلغوا الحنث

تدل الرواية الشريفة على احدى الحقائق المتعلقة بالابتلاءات المتعددة التي يبتلى بها المسلم ألا وهي ابتلاؤه بموت جنينه وهو في بطن أمه، أو يذهب سقطاً، وهو ما يعرف بالاجهاض أو يتوفاه الله تعالى وهو لم يبلغ الحلم، أي لم يصل إلى السن الذي تتعلق فيه الأحكام الشرعية بذمته فهذا الابتلاء له حكمة خاصة دلت عليها الرواية الشريفة، فكانت ضمن متعلقات كثيرة:

أ. أن يكون شفيعاً لوالديه يوم القيامة فيكون سبباً لغفران ذنوبهما في الآخرة.

ب. أن تكون شدة مصاب الأبوين هو كفارة لذنوبهما في الدنيا؛ فيعوضان الجنة في الآخرة.

ج. أن يكون دليلاً لهما في الجنة فينزلهما في منازلهما الخاصة وهذا خاص بالمتقين كما نصت الرواية على بيان دور القاسم ابن النبي صلى الله عليه وآله

ص:316


1- الكافي للكليني، باب: المصيبة بالولد، ج 3، ص 18؛ وسائل الشيعة للحر العاملي، باب: احتساب موت الأولاد، ج 3، ص 244؛ الحدائق الناضرة للمحقق البحراني: ج 4، ص 175؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 16، ص 15.

وسلم إذ لم يكن دوره في غفران الذنوب، فمثل خديجة وهي التي سلم عليها الله سبحانه وتعالى وهي في دار الاختبار والامتحان لا يكون لها ذنب؛ لأن الله تعالى لا يسلم على مذنب عاص له.

ولذلك كان دور القاسم هو الدليل الذي يأخذ بيد أمه إلى أفضل منازل الجنة، وهو بطبيعة الحال موضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه؛ وقد ورد في بيان جزاء الله تعالى لمن ابتُلي بمثل هذا الابتلاء أحاديث كثيرة نذكر منها على سبيل الاستشهاد يأتي:

1. روى الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده عن أبيه رحمه الله عن عمرو ابن شمر عن جابر - عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«من قدم أولادا يحتسبهم عند الله حجبوه من النار باذن الله عز وجل»(1).

2. وبسنده أيضاً عن شمر بن حوش عن عمرو بن عنبسة السلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

«أيما رجل قدم ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث أو امرأة قدمت ثلاثة أولاد فهم حجاب يسترونه من النار».

3. وقريب من هذا اللفظ أخرج أحمد بن حنبل عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا كانوا له حصناً حصيناً من النار».

ص:317


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ص 196.

فقيل: يا رسول الله، فإن كان اثنين ؟ قال:

«وإن كان اثنين».

فقال أبوذر: يا رسول الله لم أقدم إلا اثنين ؟ قال:

وإن كانا إثنين.

قال: فقال أبي بن كعب أبو المنذر سيد القراء: لم أقدم إلا واحدا؟ قال:

فقيل له، وإن كان واحداً».

فقال:

إنما ذلك عند الصدمة الأولى»(1).

ثانياً: إن القاسم ولد ومات في الإسلام

لقد تناولنا في الجزء الأول من هذا الكتاب في مبحث القاسم بكر خديجة عليها السلام ما يثبت انه كان قد ولد ومات في الإسلام؛ وهذا النص الشريف ليدل مرة أخرى على ثبوت هذه الحقيقة، وعليه:

فإننا نطرح السؤال السابق الذي سألناه، وهو: إذا كان القاسم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أجمعت الامة على انه بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وقد ولد ومات في الإسلام، فكيف يمكن أن تكون بقية بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي: (زينب، وأم كلثوم، ورقية) قد ولدن وتزوجن قبل البعثة النبوية وإن رقية وأم كلثوم طلقهن ولدا أبي لهب بعد البعثة ؟!! من عتبة بن أبي لهب وأخيه عتيبة ألا يكون ذلك ضرباً من الخيال ؟

ص:318


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 375.

ولذا:

فكونهما من صلبه صلى الله عليه وآله وسلم مع هذه الحقائق لا يستند إلى منطق أو دليل علمي سوى منطق التعصب الأعمى، ونزعة الجاهلية، ولم يبقَ سوى الاعتقاد بأنهما رضي الله عنهما ربيبتيه صلى الله عليه وآله وسلم فأخذن صفة البنت.

المسألة الرابعة: صفة بيت خديجة عليها السلام في الجنة

اشارة

تضافرت النصوص النبوية الشريفة في كتب المدارس الإسلامية كافة في وصفها بيت خديجة عليها السلام في الجنة وقد اجمعت هذه النصوص على ان بيتها هو من قصب لا صخب فيه ولا نصب، إلا انها اختلفت في صدور الحديث النبوي الشريف زماناً ومكاناً.

أولا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حياة خديجة عليها السلام

فمنها ما نص على صدور الحديث في حياة خديجة عليها السلام في مكة حينما كانت تحمل لرسول الله الطعام والماء وهو في غار حراء يتعبد الله عز وجل، وقد بشرها الله عز وجل على لسان جبرئيل ببيت في الجنة وأبلغها سلام الرحمن وسلامه إليها؛ كما نص عليه البخاري في صحيحه:

فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة عن أبي هريرة، قال: «أتى جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

ص:319

يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها اناء فيه أدام أو طعام أو شراب فإذا هي قد أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومنّي، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»(1).

ثانيا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة

ومنها ما نص على صدور الحديث النبوي عن حضرته المقدسة صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة وعند دخوله مكة معتمراً، والحديث يخرجه البخاري أيضاً.

فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعتمرنا معه، فلما دخل مكة طاف وطفنا معه، وأتى الصفا والمروة وأتيناها معه، وكنا نستره من أهل مكة أن يرميه أحد.

فقال له صاحب لي: أكان دخل الكعبة ؟

قال: لا.

قال: فحدثنا ما قال لخديجة ؟

قال:

«بشروا خديجة ببيت من الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»(2).

ص:320


1- صحيح البخاري، باب: تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة عليها السلام: ج 4، ص 231.
2- صحيح البخاري، باب: طواف الوداع، ج 2، ص 203.
ثالثا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة عليها السلام

ومنها ما نص على سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن خديجة بعد وفاتها فقال:

«أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت قصب لا صخب فيه ولا نصب»(1).

وفي رواية أخرى، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«رأيتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب»(2).

رابعا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في بيان صفة القصب
اشارة

أما ما ورد من نصوص نبوية في وصف نوع القصب فقد أشارت الأحاديث إلى:

1. أن هذا القصب من «لؤلؤة جوفاء»(3).

2. أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام:

«إنّ أمك في بيت من قصب كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر»(4).

ص:321


1- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 4، ص 41؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 8، ص 120.
2- المعجم الكبير للطبراني: ج 23، ص 8؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 5، ص 283، حديث 2988؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 416.
3- شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 17.
4- الأمالي للشيخ الطوسي رحمه الله: ص 175.

3. أنه من «قصب اللؤلؤ»(1).

4. أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«من القصب المنظوم بالدر والياقوت واللؤلؤ»(2).

وهذه الأحاديث النبوية الشريفة تكشف عن التكريم الخاص لمولاتنا خديجة عليها السلام أما لماذا من قصب ؟ ففيه وجوه:

الوجه الأول: كي يميز الله عزّ وجل بيت خديجة في الجنة على بقية البيوت

كون بيت خديجة من قصب هو للتمييز بينه وبين البيوت الأخرى التي أعدها الله تعالى كبيت آسية بنت مزاحم حيث طلبت من الله تعالى ان يبني لها بيتاً في الجنة، كما هو واضح في كتابه العزيز في قوله تعالى:

(وَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ )3 .

لاسيما وقد ورد في النصوص أن بيت خديجة عليها السلام بين مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، فجاء بيت خديجة بهذا الوصف لغرض التمييز بين هذه البيوت الثلاثة.

ص:322


1- السنن الكبرى للبيهقي: ج 7، ص 71.
2- مسند الشاميين للطبراني: ج 2، ص 118؛ تاج العروس للزبيدي: ج 2، ص 323.
الوجه الثاني: للدلالة على ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام

اختيار القصب لهذا البيت دلالة على كثرة الذرية النبوية التي كانت جدتهم خديجة؛ إذ إن جميع ذرية المصطفى من ابنته فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام وقد قال النبي الأعظم في ذريته:

«كل بني آدم عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا أبوهم وأنا عصبتهم».

فكان القصب بالمقابلة مع النسل يدلل على كثرة نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

الوجه الثالث: للدلالة على أن دور خديجة كان كالعمود الفقري لجسم الإنسان

من الصفات الجمالية للقصب احتواؤه على تلك الفقرات التي تعطي صورة مماثلة للعمود الفقري الذي يكون محل الحبل الشوكي ومركز اعتماد الجسم البشري والحيواني عليه، وهذا فيه دلالة على ان الدور الذي قامت به خديجة عليها السلام في قيام هذا الدين هو بمنزلة العمود الفقري لهذا الجسم.

الوجه الرابع: للدلالة على الاستقامة

إن من صفات القصب هو الاستقامة وكذا كان سيرها وإيمانها وتمسكها بالصراط المستقيم.

أما دلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا صخب فيه ولا نصب».

ص:323

فهو الآتي:

1 - إنّ مما يتبادر إلى ذهن السامع حينما عرف أن هذا البيت من القصب هو الضجيج وارتفاع الصوت، وذلك عند تحرك هذه الأعواد حينما يمر بها الريح فيدفعها للاصطدام ببعضها فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصرف ذهن السامع إلى أن هذا القصب ليس مما شهده الإنسان في الحياة الدنيا.

2 - لعدم اجتماع النقيضين في محل واحد؛ بمعنى لا يجتمع التعب مع حالة الاستقامة في محل واحد، فالصخب والنصب يأتي من الانحراف والاعوجاج أما في حالة الاستقامة فلا وجود للصخب والنصب ولذا: كان القصب دليلاً على الاستقامة التي يلازمها الهدوء والسكينة.

3 - قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين، أعني: المنازعة والتعب أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابته خديجة طوعا فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك بل أزالت عنه كل نصب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها(1).

ولذا نفى عنه النبي الأكرم صفتي الصخب الذي يرافق تحرك هذه الأعواد القصبية، ونفى عنه التعب؛ لأنه لا يأتي مع وجود الاستقامة.

والله سبحانه وتعالى العالم بحقائق الأمور.

ص:324


1- فتح الباري لابن حجر: ج 7، ص 104.

المسألة الخامسة: موقع بيت خديجة في الجنة

أشارت الروايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد موقع هذا البيت فكانت هذه الأحاديث كالآتي:

أ. روى القاضي النعمان المغربي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، أنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام:

«إن جبرائيل عليه السلام عهد إلي ان بيت أمك خديجة في الجنة بين بيت مريم ابنة عمران وبين بيت آسية امرأة فرعون».

ب. ان فاطمة عليها السلام سألت أباها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة أمها خديجة عليها السلام، فقالت:

أين أمنا خديجة ؟

قال:

«في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب بين مريم وآسية امرأة فرعون».

فقالت:

من هذا القصب ؟

فقال:

لا بل من القصب المنظوم بالدر والياقوت واللؤلؤ»(1).

ج. روي الشيخ الطوسي رحمه الله عن بريد العجلي، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام يقول:

ص:325


1- مسند الشاميين للطبراني: ج 2، ص 118.

«لما توفيت خديجة عليها السلام جعلت فاطمة صلوات الله عليها تلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدور حوله، وتقول: يا أبه أين أمي ؟ قال: فنزل جبرائيل عليه السلام فقال له: ربك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام، وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران. فقالت: فاطمة عليها السلام: إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام(1).

والحديث فيه جملة من الدلالات منها:

1. إنّ لرضا فاطمة عليها صلوات الله وسلامه وغضبها ارتباطاً برضا الله عز وجل، وان لسرورها وحزنها ارتباطاً بحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسروره كما نصت على ذلك الأحاديث النبوية.

ففي رضاها وغضبها، روى الحاكم النيسابوري وغيره عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام:

«إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(2).

ص:326


1- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 175؛ الخرائج والجرائح للراوندي: ج 2، ص 529؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 28.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 154؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 213؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 5، ص 363؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 168؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 401؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 177؛ كنز العمال للهندي: ج 12، ص 111.

وفي حزنها وسرورها، روى احمد بن حنبل عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال:

«فاطمة شجنة مني يبسطني ما بسطها ويقبضني ما قبضها»(1).

وفي اجتماع هاتين الخاصيتين ظهر لفاطمة صلوات الله عليها منزلة خاصة ومقام لم تحظَ بهما امرأة من العالمين. ولذلك: تدل الرواية الشريفة على اختصاصها بنزول جبرئيل عليه السلام عند حزنها وانقباضها لفقد أمها خديجة عليها السلام.

والسؤال المطروح: كيف إذا اجتمع غضبها وحزنها وتألمها في وقت واحد على أشخاص محددين من الآثار التكوينية والشرعية ؟

2. ان نزول جبرائيل عليه السلام ليجيب عن سؤالها مباشرة - وهو، أي جبرائيل، لا يسبق الله في أمرٍ ولا يجتهد في قول أو فعل - يكشف عن ان فاطمة عليها السلام الصورة الخارجية لقلب سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وان الله سبحانه أراد دفع هذا الحزن عن قلب المصطفى الذي هيئ لخزانة الوحي.

ولذا كي يبقى مطمئنّاً لزم ان تكون فاطمة مطمئنة أيضاً.

وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبي»(2).

ص:327


1- مسند احمد بن حنبل: ج 4، ص 332؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 154؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 203.
2- كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 94؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 664؛ البحار: ج 43، ص 54.

3. إن تلقيها الإجابة من جبرائيل عليه السلام فيه دلالة على كمالها ودرجة يقينها بالله تعالى وبملائكته ورسله وبنبوة أبيها وتصديقها بذلك كله حق الصدق فهي الصدّيقة الكبرى على العالمين.

والا كيف يفسر قبولها الجواب وهي في الخامسة من عمرها سوى انها ممن اصطفاهم الله واختارهم على العالمين.

4. يدل جوابها صلوات الله عليها على عصمتها ورتبة علمها وان عدد السنين لا مدخلية له في علم المعصومين فقد علمها ربها من لدنه علما وذلك هو مراد قولها:

«إن الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام».

5. ان اختصاصها بالسلام عن الله تعالى وجوابها هذا يدل على تلازمها مع أمها خديجة في الأفضلية والخيرية والسيّدية على نساء العالمين، وذلك؛ لاختصاصهما بالسلام من الله تعالى وبردهما نفس الجواب - كما مر بيانه سابقاً -.

6. يكشف الحديث بشكل صريح عن جعل بيت خديجة في مركز هذه البيوت والدليل عليها في الجنة لما في الوسطية من منزلة عند الله تعالى.

وعليه: يكون لموقع بيت خديجة عليها السلام في الجنة بين بيت مريم ابنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم دلالة عن شرافتها في الجنة وإظهاراً لمقامها وشأنها وبتمييزها من خلال هذا الموقع والوصف عن بيوتات النساء الصديقات اللاتي بلغن مراتب الفضل والشرف كما يتمايز أهل الجاه والشرف والحظ في مجالسهم في الحياة الدنيا.

ص:328

المحتويات

الفصل السادس: انها من عباد الله المخلصين و خير زوجة لرسول رب العالمين

المبحث الأول: كيف كانت حياتها الزوجية ؟ 8

الصورة الأولى: القرآن يمدح نساء النبي مدحاً مقيداً 8

الصورة الثانية: القرآن يذم من خالفت منهنّ هذه الشروط 9

المسألة الأولى: حياتها الزوجية قبل البعثة 11

أولا: الزوج أهم من المال والأهل عند خديجة 12

ثانيا: إكرامها لمن يَفِد على زوجها والإحسان إليهم 14

ثالثا: تخفيفها لهموم زوجها ومواساته 15

المسألة الثانية: حياتها الزوجية بعد البعثة النبوية 19

الحلقة الأولى: دور خديجة في بدء البعثة كما يرويه البخاري 19

الحلقة الثانية: حقيقة دور خديجة في بدء البعثة تختلف عما يرويه البخاري ومسلم من شبهات 24

الأمر الأول: توهم شراح البخاري في دلالة قول خديجة عليها السلام (كلا) 30

الأمر الثاني: دلالة قولها (أبشر) يراد به التصديق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم 31

ص:329

الأمر الثالث: أقالت (لا يحزنك) أم (لا يخزيك) التي هي في مقام الذم كما يروي البخاري ؟!! 32

الأمر الرابع: مؤازرتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر التصديق كان من فعل الأنبياء كما نص عليه القرآن الكريم 35

الأمر الخامس: مخالفة البخاري للقرآن في خوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صوت جبرائيل لدرجة الموت رعباً؟! 36

المسألة الثالثة: مصاديق الزوجة الصالحة 38

أولا: مبايعتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 38

الوجه الأول 44

والوجه الثاني 44

ثانيا: حملها الطعام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الغار 49

ثالثا: خوفها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام حين خروجهما من المنزل 52

رابعا: كيف يتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أم عياله خديجة عليها السلام حينما يدخل المنزل ؟ 59

المسألة الرابعة: جهادها ومؤازرتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالته 61

أولا: فداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسها وحفظه من الأذى 64

ثانيا: مؤازرتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحصار حتى أكلت ورق الأشجار 69

المبحث الثاني: آثار حياتها الزوجية على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأسرة المسلمة 77

المسألة الأولى: كانت خديجة قدوة لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم 77

المسألة الثانية: ولأن خديجة ربة البيت وأم العيال، كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد حزن عليها حتى خُشِيَ عليه 80

أولا: إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأرحام خديجة عليها السلام 82

ثانيا: إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحباب خديجة عليها السلام 83

ص:330

الفصل السابع: منزلة خديجة فى القرآن و السنة

المبحث الأول: منزلتها عند الله تعالى 90

المسألة الأولى: إن الله تعالى يباهي بها ملائكته عليهم السلام 90

المسألة الثانية: إطعامها من ثمار الجنة 94

المبحث الثاني: منزلتها في القرآن 96

المسألة الأولى: آية الإغناء 103

المسألة الثانية: آية الاصطفاء على النساء 105

المسألة الثالثة: آية الأزواج والذرية 106

المسألة الرابعة: آية الاستواء 111

المسألة الخامسة: آية التسنيم 112

المسألة السادسة: آية السابقون 114

المسألة السابعة: آية الاستغفار 116

المسألة الثامنة: آية الاصطفاء على العالمين 116

المسألة التاسعة: آية الأعراف 119

المسألة العاشرة: آية التصوير 123

المبحث الثالث: منزلتها في السنة 125

المعنى الأول 125

المعنى الثاني 125

المسألة الأولى: منزلة خديجة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 126

الحديث الأول: حديث الخيرية 127

ص:331

أولا: النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل خديجة ومريم في منزلة واحدة من الخيرية 127

ثانيا: إن خديجة حازت على الكمالات التي عرضها القرآن الكريم لمريم عليها السلام 128

ثالثا: إنّ خديجة فاقت في بعض المواطن مريم ابنة عمران عليهما السلام 129

الحديث الثاني: حديث التفضيل 131

الحديث الثالث: حديث أفضلية خديجة في الجنة 133

الحديث الرابع: خيرية خديجة على نساء العالمين 134

أولا: حذف فضائل خديجة من صحيح مسلم 135

ثانيا: دلالة الخيرية والأفضلية في الأحاديث النبوية الشريفة 136

الحديث الخامس: خديجة سيدة نساء عالمها 137

المسألة الثانية: منزلة خديجة من خلال دلالة فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 140

الفعل الأول 140

الفعل الثاني 140

الفعل الثالث 141

الفعل الرابع 142

المسألة الثالثة: منزلة خديجة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام 142

أولا: منزلتها عند أمير المؤمنين علي عليه السلام 142

ألف: منزلة الأمومة 143

باء: منزلة الحماة 147

ثانيا: منزلة خديجة عند فاطمة عليهما السلام 148

ثالثا: منزلة خديجة عند الإمام الحسن عليهما السلام 149

رابعا: منزلة خديجة عند الإمام الحسين عليه السلام 152

ألف: اتخاذ قبر خديجة محلاً للمناجاة والدعاء 153

باء: المنهاج التعبدي لقضاء الحوائج 154

خامسا: منزلة خديجة عليها السلام عند الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام 156

سادسا: منزلة خديجة عند الإمام الحسن العسكري عليه السلام 159

ص:332

المسألة الرابعة: منزلة خديجة عند أعلام بني هاشم وأبناء الأئمة عليهم السلام 160

أولا: منزلتها عند أبي طالب عليهما السلام 161

ثانيا: منزلتها عند أم سلمة رضي الله عنها 161

ثالثاً: منزلتها عند محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام 164

رابعا: افتخار الشهيد زيد بن علي بن الحسين بجدته خديجة عليهم السلام 170

المسألة الخامسة: منزلة خديجة عليها السلام عند أعلام الشيعة 175

أولاً: منزلتها عند الشيخ الحميري القمي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 267 ه ) 177

ثانياً: منزلتها عند الشيخ المفيد رضي الله تعالى عنه (المتوفى سنة 413 ه ) 179

ثالثا: منزلتها عند العلامة الحلي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 726 ه ) 180

رابعا: منزلتها عند الفقيه الكراجكي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 449 ه ) 184

خامسا: منزلتها عند الأربلي رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 693 ه ) 185

سادسا: منزلتها عند المامقاني رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 1351 ه ) 186

سابعا: منزلتها عند المحقق البحراني رحمه الله تعالى (المتوفى سنة 1121 ه ) 187

ثامنا: منزلتها عند السيد أبي القاسم الخوئي طيب الله ثراه (المتوفى سنة 1411 ه ) 188

المسألة السادسة: منزلة خديجة عليها السلام عند أعلام أهل السنة والجماعة 189

أولاً: منزلتها عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 ه ) 190

ثانياً: منزلتها عند الحافظ المباركفوري (المتوفى سنة 1353 ه ) 191

ثالثاً: منزلتها عند الشبلنجي (المتوفى سنة 1308 ه ) 192

رابعاً: منزلتها عند العلامة السبكي (المتوفى سنة 756 ه ) 193

خامسا: منزلتها عند الزرقاني (المتوفى سنة 1122 ه ) 194

سادسا: منزلتها عند الذهبي (المتوفى سنة 748 ه ) 195

سابعا: منزلتها عند الحافظ السهيلي (المتوفى سنة 581 ه ) 195

ثامنا: منزلتها عند القاضي النعمان المغربي (المتوفى سنة 363 ه ) 198

ص:333

المسألة السابعة: خديجة عليها السلام من رواة الحديث الشريف 200

أولاً: ورود اسمها في الكتب الرجالية عند الشيعة 201

ثانياً: ورود اسمها في الكتب الرجالية عند أهل السنة والجماعة 202

ثالثاً: حذف حديثها من صحيح البخاري دليل على تحريف صحيح البخاري 203

رابعاً: ما روي عنها من الأحاديث 203

المبحث الرابع: اعتقاد خديجة عليها السلام بالإمامة 203

المسألة الأولى: إنّ الله تعالى يختار لأوليائه تمام النعمة 211

المسألة الثانية: اعتقاد الرسل والأنبياء بنبوة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع ما بعثوا به من رسالات إلى الأمم 216

المسألة الثالثة: سنة الابتلاء بحب علي عليه السلام سنة قرآنية 220

المبحث الخامس: منزلة خديجة في المحشر 226

المسألة الأولى: ما هو الحشر؟ 229

المسألة الثانية: في أول من يحشر 233

أولا: معرفة الله تعالى 238

ثانيا: الإسراع يكون للسيّدية 240

ألف: النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مقدم من حيث الخلق الأول 241

باء: مقام السّيدية يقتضي السبق في وصول النداء الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم 241

جيم: مناقشة قول العلامة الطباطبائي (قدس)، في معنى: فاستمع، أي فانتظر 242

ثالثا: الإسراع في الخروج من القبر يكون لمقام الشاهدية 243

المسألة الثالثة: شرافة منزلة خديجة عليها السلام يوم المحشر 245

أولا: الحكمة في خروج فاطمة عليها السلام من قبرها ضمن تشريفات ملكوتية 248

ثانيا: إظهار منزلة خديجة في المحشر من خلال استقبالها لفاطمة عليها السلام 249

ثالثا: اختصاص خديجة عليها السلام بألوية التكبير في ساحة المحشر كاشف عن شرافة منزلتها 253

ص:334

المسألة الرابعة: اقتصاص خديجة ممن ظلم ابنتها فاطمة عليها السلام في يوم المحشر 255

المبحث السادس: منزلة خديجة عليها السلام عند الصراط 262

المسألة الأولى: الصراط في اللغة 262

المسألة الثانية: معنى الصراط عند أئمة أهل البيت عليهم السلام، وعلماء أبناء العامة 263

المسألة الثالثة: كيف يمر الناس على الصراط؟ 265

المسألة الرابعة: المنجيات من الأعمال عند الصراط 268

1. ثبوت حب علي عليه السلام في قلب الإنسان 268

2. مشايعة علي بن أبي طالب ومناصرته 268

3. الصلاة المفروضة اليومية 269

4. عيادة المريض 270

5. إقراض المسلم مالاً 271

6. المحافظة على صلاة الجماعة 272

7. الاستغفار في شهر شعبان 272

8. من أعان مؤمناً في شهر رمضان 272

9. قيام الليل بالقراءة والصلاة 273

المسألة الخامسة: عقبات الصراط يوم القيامة 274

أولاً: لا يسمح للمسلم أن يمرّ على الصراط إلا بجواز من علي بن أبي طالب عليه السلام 274

ثانياً: لا يجوز المسلم الصراط إلا إذا عرف محمداً وأهل بيته عليهم السلام وعرفوه 276

ثالثاً: لا يجوز المسلم الصراط إلا بحفظ الأمانة وصون الرحم 280

الدلالة الأولى 281

الدلالة الثانية: أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو أول من يعبر الصراط من هذه الامة كالبرق الخاطف 289

المسألة السادسة: شرافة منزلة خديجة عند الصراط 296

ص:335

المبحث السابع: منزلة خديجة عليها السلام في الجنة 299

المسألة الأولى: اشتياق الجنة لخديجة عليها السلام 303

المسألة الثانية: شرافة منزلتها في الجنة قد جمعت في مقام (الأفضلية، والسيّدية، والخيريّة) 307

المسألة الثالثة: كيف يكون دخولها إلى الجنة ؟ 314

أولاً: حكمة الابتلاء بالسقط وموت الأبناء الذين لم يبلغوا الحنث 317

ثانياً: إن القاسم ولد ومات في الإسلام 319

المسألة الرابعة: صفة بيت خديجة عليها السلام في الجنة 320

أولا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حياة خديجة عليها السلام 320

ثانيا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة 321

ثالثا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة عليها السلام 322

رابعا: ما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في بيان صفة القصب 322

الوجه الأول: كي يميز الله عزّ وجل بيت خديجة في الجنة على بقية البيوت 323

الوجه الثاني: للدلالة على ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام 324

الوجه الثالث: للدلالة على أن دور خديجة كان كالعمود الفقري لجسم الإنسان 324

الوجه الرابع: للدلالة على الاستقامة 324

المسألة الخامسة: موقع بيت خديجة في الجنة 326

ص:336

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.