موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني
كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.
مشخصات کتاب : 4ج
1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق.
2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود.
3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود.
ص :1
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد
لسنة 2010-1660
الحسني، نبيل، 1965 - م.
موسوعه خدیجه بنت خویلد عليها السلام / دراسة نبيل الحسني. - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 1432 ق. 2011 م.
4 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 52).
المصادر.
1. خديجة بنت خويلد (علیها السلام) 53؟ - 3 قبل الهجرة - السيرة - دراسة وتحقيق. 2. خديجة بنت خويلد (علیها السلام)، 53؟ - 3 قبل الهجرة - شبهات وردود. 3. تدوين التاريخ الإسلامي - شبهات وردود. 4. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - نساءه - شبهات وردود. 5. محمد (صلی الله علیه و آله)، نبي الإسلام، 53 قبل الهجرة - 11 ق. - الأولاد - دراسة وتحقيق. 6. علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 ق. - فضائل - شبهات وردود. 7. فاطمة الزهراء (علیها السلام)، 8؟ - 11 ق. - السيرة - دراسة وتحقيق. ألف. الحلو، محمدعلي، مقدم. ب. العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. اللجنة العلمية. ج. عنون. د. عنوان: خديجة بنت خويلد أمّة جُمعت في امرأة.
4 خ 5 ح / 26/208 BP
الطبعة الأولى
1432 ه - 2011 م
ص :2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص :3
ص:4
سيدي يا رسول الله: سلكتُ في حب بنيك كلَّ سبيل؛ ولم أزل أدعو لنصرهم بكل دليل.
سيدي: لا ينال رضا الله إلا برضا حبيبه المصطفى الرسول، وحبيبه لا يرضى إلا برضا فاطمة البتول.
سيدي: بأم فاطمة أتوسل إليك أن تُقْبِل بوجهك الكريم على خادمك، وتمن عليّ بلطفك، كما منّ سليمان على رعيته حينما قال له ربه:
(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ .)
ولقد آتاك الله خير ما آتى المرسلين فخاطبك سبحانه:
(وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) .
فبالسبع المثاني والقرآن العظيم أقسم عليك، وبحب بني الزهراء أتوسل إليك، في قبول عملي وقضاء حاجتي، فقد أجهدني الانتظار.
خادمك وولدك نبيل
ص:5
ص:6
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1))
الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2))
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3))
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4))
إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5))
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6))
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ (7))
ص:7
ص:8
وصلى الله على خير الأنام ومجلي الظلام، ومنير الأفهام أبي القاسم محمد وعلى آله الهداة إلى السلام ومثبّتي الإسلام، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد؛ لابد من تقديم الاعتذار أولاً: إلى صاحب المقام المحمود والمنزل المشهود، المحفوف بالرضوان والمجلل بأنوار الرحمان، الذي سيعطيه ربه حتى يرضى في يوم لا يبقى فيه حتى الأشقى وهو يرجو فضله وشفاعته.
سيدي يا رسول الله، أعتذر إليك إن أنا قصرت في الكتابة عن أم عيالك، وحبيبة قلبك، فخانني البيان، وأعياني النسيان، فقصرت في التتبع والمطالعة، وأسلمتني نفسي إلى الدعة والراحة، أو قادني التململ إلى التفريط في القراءة، والاسراع في الكتابة، فبدا هذا الكتاب لا يليق بشخص مولاتي خديجة.
وأعتذر ثانياً: إلى من دلني الرحمان إليهم، وألزمني الدليل إلى الاعتقاد بهم، والتمسك بحجزتهم، والممات - بلطف ربي - على دينهم، من التقصير فيما كتبت في هذه الوريقات.
وأعتذر ثالثا: من القارئ الكريم.
إن كان الكتاب لا يرقى إلى المستوى الذي يليق بهذه الشخصية، أو قد يكون مشتملاً على بيان غير وافٍ ، أو استدلال غير تامٍ ، أو نقص في التتبع، فهذا ما مكنني عليه ربي، وهذا حدُ مقداري من التوفيق.
(وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ،) وهذا حد جهدي وسعيي.
ص:10
(وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ،) فبالله استعنت، وعليه توكلت؛ وأستغفره لتقصيري في نصرة دينه، وحججه على شريعته، إنه هو التواب الرحيم.
حينما يكون الحديث عن الأمم فهو حديث لا يمكن حصره في جهة واحدة، ولا يمكن جمعه في خزانة منفردة، لما يشكله من قراءة ناقصة، وصورة مشوهة، لا تُمَكِّنُ الناظر من التشخيص، ولا المتدبر من التبصر؛ فضلاً عن ضياع الحقائق، وتضليل المتابع، وتبرير الجاهل الطامع، في النيل من الرموز، وحجب أنوار الشموس، وتمرير ضعاف النفوس في ثغور المباحث، والاستئناس بما هو ليس بمتجانس، فيقول قائل: هذا ما جاء به الكاتب لهذه السطور، فيكون الجاهل معذورا، والعارف ملوماً.
ولذا: كان لزاماً علينا أن نضع بين يدي القارئ في هذا الحديث عن خديجة الأُمّة، مجموعة محاور، شكلت بمجموعها نوافذ للنظر إلى هذه الحضارة.
في البدء ينبغي أن نستحضر على مادة البحث أننا نخوض غمار الحديث عن المرأة بما لها من خصوصية خاصة على مرّ تاريخ الإنسانية فهي بين كونها الكائن الذي يراه الرجل دون مستواه بما تفرضه عليه الأنا الذكورية من شعور بالفوقية فساد بها المجتمعات السكانية، وبين كونها الكائن الذي لا يمكن
ص:11
الاستغناء عنه مهما أوتي الرجل من صفات ذكورية انسجمت مع ما تفرضه الحياة من قساوة وخشونة.
والمرأة بما تفرضه عليها أنوثتها من الالتجاء للسكن، والانجذاب للدعة، والانسجام مع الرقة، قد كونت لديها حالة من الضعف والاستكانة، دفعت بها لأن تكون المستهدف في أطماع كثير من الرجال، فنشأت في جو لا تجد فيه إلا العنف والاضطهاد والاستغلال على مرّ التاريخ وإن اختلفت هذه المظاهر الحياتية على الأرض بين مكان وآخر.
والمرأة في الوقت نفسه - وفي كثير من المجتمعات والثقافات - كانت ولا تزال السيّاط الذي أراض الكثير من الرجال بما تفرضه الحاجة الذكورية عليهم من سلطان، فكانت الحاكم الذي لا يرد له أمر، والمالك الذي يتودد إليه المحتاج، ويتذلل إليه المغرم، فإن أعطى قوبل بالثناء والمديح، وإن استعصى فلا ينال منه إلا برضاه، ولا يرضى حتى ينال ما يريد.
وفيما تريد المرأة هلكت أمم وضاعت ملل وهدمت أركان كما كان في أمر قطام بنت الأخضر بن شجنة من بني تيم الرباب، التي قتل أمير المؤمنين علي عليه السلام أباها وأخاها بالنهروان، وكانت من أجمل نساء زمانها، فلما رآها عبد الرحمن بن ملجم - لعنه الله - شغف بها واشتد إعجابه، فخبر خبرها فخطبها، فقالت له: ما الذي تسمي لي من الصداق ؟
فقال لها: احتكمي ما بدا لك.
فقالت: أنا محتكمة عليك ثلاثة آلاف درهم، ووصيفا وخادماً، وقتل
ص:12
علي بن أبي طالب!! فقال لها: لك جميع ما سألت(1).
والمرأة لن تكون الأمومة إلا بها، والزوجية إلا معها، والنسل إلا منها، وهي مع هذا وذاك جلست على العرش، وتقلدت التاج والصولجان، وحكمت البلاد، وساست العباد، كبلقيس السبأية وزنوبيا التدمرية وكليوباترا المصرية وغيرهن.
إلا أننا هنا: نتحدث عن امرأة بما لها من خصوصية المرأة، إلا أنها ليست كبقية نساء الدنيا منذ أن وطئتها قدم بني آدم وإلى يوم انقضائها.
إنها امرأة حازت من الفضائل في عالمها أفضلها، ومن الخيرات أخيرها، ومن السيادات أسيدها.
امرأة: لبست التاج في الدنيا والآخرة، فانفردت بذاك عن بني جنسها، فمَنْ مِنْهنَّ قد جمعت فيها الأضداد فنالت بها الأمجاد التي فشل فيها صناديد الرجال وتقهقر فيها الأبطال، حينما تعرض لهم الدنيا فيجلسون على عروشها لينالوا بسلطانها تيجان العزة في آجالها.
نعم: إنها خديجة، وأنى للزمان أن يأتي بمثل خديجة عليها السلام ؟.
قد لا يكون غريباً على القارئ المسلم - لاسيما العربي - ما للجزيرة العربية من طبيعة اجتماعية قبلية كانت سائدة في معظمها قبل بعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ص:13
في حين لا يخفى أيضاً أن هذا النظام الاجتماعي ما زال سائداً في كثيرٍ من مناطق الجزيرة والعراق واليمن والخليج وغيرها مما يعطي صورة أوضح لمن أراد أن يعي ما لهذا النظام الاجتماعي من سلطة تطبق بقوانينها وأعرافها على تحرك المرأة وتحديد دورها في المجتمع.
هذا إذا أردنا أن ننظر إلى هذه القوانين والأعراف الاجتماعية على وفق تأثرها بالتعاليم الإسلامية في وقتنا الحاضر التي منحت المرأة عزّتها وشأنيتها.
في حين يكفي القارئ والباحث من الشواهد على تردي وضع المرأة قبل البعثة النبوية وانعدام دورها في المجتمع فضلاً عن بيان طبيعة هذا المجتمع القبلي ما رواه الثعلبي والواحدي والبغوي وابن حجر في تفسير قوله تعالى:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.)
(إنّ أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات رجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه عليها أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها فلم يعطها منه شيئا، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج فطول عليها وضارها، لتفتدي نفسها بما ورثت من الميت أو تموت هي فيرثها، وإن ذهبت المرأة إلى منزل أهلها قبل أن يلقي عليها وليّ زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها.
فكانوا يفعلون ذلك حتى توفي أبو قيس بن صلت الأنصاري وترك امرأته
ص:14
كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن لها من غيرها يقال له حصن فطرح ثوبه عليها فولي نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها بذلك لتفتدي منه بمالها، وكذلك كانوا يفعلون إذا كانت جميلة موسرة دخل بها وإلا طول عليها لتفتدي منه؛ فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فقالت يا رسول الله إنّ أبا قيس توفي وولي ابنه نكاحي وقد أضر بي وطول عليّ فلا هو ينفق عليّ ولا هو يدخل بي ولا هو يخلي سبيلي ؟
فقال لها:
«أقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله».
قال: فانصرفت وسمع النساء بذلك فأتين رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقلن يا رسول الله، ما نحن إلا كهيئة كبيشة غير أنه لم ينكحنا الأبناء وإنما نكحنا بنو العم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية)(1).
فهذه الصورة عن المجتمع القبلي في الجزيرة قبل الإسلام تدفع بالباحث إلى الوقوف طويلاً عند إدراك معنى أن تسود المرأة في هذا المجتمع القبلي؛ تتحكم في الرجال ويتسارع بين يديها الغلمان وهي بين هذا الجلال والهيبة قد حازت على مجموعة من العوامل السيادية التي لم ينل كثير من أشراف مكة على بعضها مما عزز في نفوذها وسيادتها على مكة جميعاً كما سيمر بيانه مفصلاً.
أما هذه العوامل السيادية التي بها تقوم المجتمعات القبلية فكانت كالآتي:
ص:15
عرف العرب بشغفهم بالأنساب، وتفاخرهم بالأحساب حتى عُدًّتْ مفاخر الآباء خيراً مما يقدمه الأبناء، ولذلك كان الرجل منتسباً إلى قبيلة قد كبر حجمها واشتهر حسبها كلما كانت لهذا الرجل حظوة من السيادة في مكة.
وحيث إن بني عبد مناف لا منازع لهم في شرافتهم ونسبهم وسمو حسبهم فإن خديجة قد حازت على هذا العامل السيادي، فهي من بني عبد مناف بن قصي القرشي.
يُعد المال في الماضي والحاضر والمستقبل أحد العوامل الأساسية لبلوغ الإنسان المراتب السيادية في المجتمعات البشرية سواء كانت بدوية أو حضرية، قبلية أو مدنية، وإن تعددت الثقافات والمفاهيم والرؤى وكفى بالماضي والحاضر - منذ أن خلق الدرهم والدينار وإلى انقضاء الدنيا -، دليلاً على أثر المال السيادي في المجتمعات.
بل لا يخفى على القارئ ما للاقتصاد من أثر في قيام دول وسقوط أخرى، وإن تعددت اليوم الأنظمة الاقتصادية العالمية إلى ثلاثة أنظمة (النظام الرأسمالي، النظام الاشتراكي، النظام الاقتصادي المختلط ، وهو الذي يحاول التوليف بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي وتجنب عيوبهما البارزة والتوكيد على جوانبهما الايجابية)(1).
ص:16
ولا يخفى أيضا ما للدول المتقدمة اقتصادياً من سيطرة على الدول النامية حتى أصبح هذا الاحتياج لتلك المعلومات والتطور الاقتصادي ضرباً من ضروب الاستعمار شاءت هذه الدول أم لم تشأ، فللعولمة الاقتصادية دورها السيادي على العالم.
ومن هنا:
حازت السيدة خديجة عليها السلام أهم العوامل السيادية في المجتمع المكي من خلال التجارة والسوق وما يرتبط باقتصاد مكة وتعاملاتها التجارية بين الشام واليمن.
كونها امرأة فقد شكل العامل الأخلاقي من أهم السمات التي تمنح المرأة السيادة في قومها ومجتمعها لاسيما أنها قد حازت على العاملين السابقين، أي نسب الآباء وحسبهم، والمال الوفير من خلال النظام الاقتصادي لمكة - ولعل هذا الوصف - أي النظام الاقتصادي لمكة يراه البعض مبالغاً فيه أو في غير محله، بلحاظ ما يحمله هذا المصطلح من تعريفات مختلفة عند أهل الاقتصاد، إلا أن ذلك لا يعني انعدام النظام الاقتصادي في مكة، وإن كان محدوداً، بالنظر للدول المعاصرة، فلمكة نظامها الاقتصادي الدقيق الذي شمل معاهدات (دولية) كما سيمر بيانه ضمن البحث.
وعليه:
فقد امتازت خديجة عليها السلام عن بقية النساء اللاتي مضين بالسيادة في
ص:17
مجتمعاتهن بسمة العفة والطهارة حتى عرفت في المجتمع المكي (بالطاهرة).
وهي بهذا تكون قد مزجت بين هذه العوامل السيادية، بل أضفت عليها بهذه السمة لوناً خاصاً ومفهوماً جديداً لم يفهمه النظام الاقتصادي في العالم بما تفرضه السياسة الاقتصادية من شريعة خاصة قائمة على الربح والخسارة.
إلا أن خديجة عليها السلام كانت مثالاً للنظام الاقتصادي الأخلاقي وهو ما لم يمكن مشاهدته إلا عند الشرائع السماوية وأمنائها.
تختلف نظرة المرأة للرجولة عن نظرة الرجل لها، أي لسمة الرجولة؛ بل تتمايز بنات حواء بشكل خاص في مفهومهنَّ للرجولة بما تفرضه عليهنَّ المكونات الشخصية والنشوئية فضلاً عن المعطيات الثقافية.
حتى بتنا اليوم لا نجد مفهوماً خاصاً عند بنات حواء للرجولة مع ما تفرضه شاشات التلفاز ومقاطع خشبة السوق؛ بل باتت الحياة أقرب ماتكون إلى مسرحية لا يعرف الناظر إليها من هم أصحاب الأدوار الأساسية ؟ وبِمَ يختلفون عن الماكثين خلف الستار؟!.
إلا أن تلك المفاهيم حينما تعرض على شخصية السيدة خديجة أو الفكر الخديجي تصطف أمامه تلك المفاهيم، فينساب منها ما كان ثانوياً ويصمد منها ما كان معها موافقا للفطرة الإنسانية والذوق السليم.
فالرجولة في الفكر الخديجي هي الفضيلة الأخلاقية لا بجسم مفتول، أو
ص:18
شارب مبروم، أوعيون حمراء، وحنجرة تسمع الصماء حينما يعلو صاحبها رأس المرأة بالصراخ.
ولذلك:
وجدت أن مَنْ أمضِّ أنواع التعسف والتردي بالعقل البشري هو وصف خديجة عليها السلام بالزواج من رجلين من صعاليك العرب مع كل هذه الحضارة التي تلاطمت على ضفتي هذه الشخصية.
وهذا ليس بالغريب على تلك العقول التي ملأت التاريخ العربي وهي تفصح بفعلها وقولها عن أخس المخلوقات على وجه الأرض.
فما يقول العاقل حينما يقرأ في التاريخ أن رجلاً يرد على سؤال علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يقول:
«سلوني قبل أن تفقدوني، فو الله ما تسألوني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة ؟».
فيرد هذا المسخ البشري على هذا السؤال بسؤال آخر يقول فيه: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟!
ولذلك من أجمل الأوصاف وأتم البيان ما نطقت به حفيدة خديجة الكبرى وشبيهتها زينب ابنة أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما قدمت للقارئ صورة عن مستوى هذه العقول؛ إذ خاطبت المسلمين في الكوفة قائلة:
«كمرعى على دمنة أو كقصعة على ملحودة».
بمعنى: أن الإنسان المسلم قد وصل إلى مرحلة من التردي وانعدام الحس
ص:19
البشري إلى المستوى الذي أصبحوا فيه يأكلون على لحود القبور، وهذا مخالف لأبسط دلائل وجود هذا الكائن الذي يسمى بالإنسان.
وعليه:
كيف لهؤلاء المسوخ مجرد النظر إلى هذا السمو والرفعة والعزة والمجد، وكيف لهذه اللحود السائرة التجانس مع كل هذه الحياة والنمو والبناء والحيوية.
إنهما عالمان مختلفان ومتنافران كتنافر الموت والحياة، ولذلك لا يبالي هؤلاء في القول والاعتقاد بأن خديجة كانت متزوجة من رجلين من صعاليك العرب!!
في حين أن الرجولة في قاموسها الحضاري هي الفضيلة بكل ما تحمل هذه الكلمة من مصاديق خارجية، وأن الخُلق في شريك الحياة هو الذي تكتمل به دورة الحياة الإنسانية.
ولذا: فقد اختارت سيد الأخلاق في بني آدم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أعرضت عن كل أصناف الرجال التي اختلفت فيهم مظاهر الرجولة.
قليلون هم الذين يأخذون على عاتقهم إصلاح الإنسان والمضي به نحو السمو والرقي؛ كي يبلغ الغاية التي من أجلها خلقه الله تعالى، وكرمه على كثير مما خلق؛ والقلة في أولئك المصلحين راجعة إلى نفس هذا الكيان الإنساني بما ركب الله فيه من قوى مختلفة تسعى به إلى ما يرضيها ويسد حاجتها.
ص:20
بمعنى: اقتضت حكمة الله تعالى أن تجعل الاصلاح سمة ملازمة للكمال، فكيف يستطيع من به نقص إصلاح ناقص آخر.
ولذا: اقترن الإصلاح بمن اختارهم الله لهذه المهمة وفضلهم على بني جنسهم بالاصطفاء والاختيار، فجعل فيهم النبوة والرسالة والإمامة ابتداءً من آدم وختاماً بسيدهم أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم هيّأَ لهم أعواناً وأنصاراً وأوصياء وحملة لهذه المهمة حتى انقضاء الحياة الدنيا التي شاء الله تعالى أن تشهد كل هذه التجاذبات بين الكمال والنقص والصلاح والفساد.
وخديجة عليها السلام هي من أولئك الذين اصطفاهم الله تعالى لممارسة الدور الإصلاحي في زمنٍ اختاره الله لخير خلقه وخصه بسيد رسله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي مكان انتُجب كأول بيت وضع للناس لتكون فيه الأداة والسند في إتمام ما أمر الله به محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
حينما يكون الأمر منووطاً بخير الأديان وخاتمها فإن الأدوار التي قام بها أهل هذه الرسالة كانت متوازية مع حجم هذه الرسالة، ولأن خديجة ممن اختارها الله لأن تكون من أهل هذه الرسالة فقد جهدت على أداء دورها الرسالي في المجالات التي حددت لها المرحلة التأسيسية من عمر الرسالة الإسلامية.
فكانت كالآتي:
ص:21
تتلقى خديجة عليها السلام ثقل التكليف الشرعي بكل طمأنينة وثبات وعزم حتى أصبحت المعين الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي الأمر الإلهي منذ نزول جبرائيل عليه السلام بالوحي وإلى يوم فارقت الدنيا.
لم يشهد البيت النبوي حياة نموذجية يظللها الهدوء والمودة والطمأنينة مثلما شهده بيت خديجة خلال ربع قرن أعطت فيه خديجة منهاجاً خاصاً في التربية الأسرية ينبغي بكل أسرة الأخذ به والعمل بسننه، حتى ترك هذا التعامل الرسالي أثره في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي تكشَّف لنا من خلال حزنه الشديد على فقدها حتى كاد يُخشى عليه من الحزن.
قد لا يلمس الإنسان فرقاً في مشاهدة الصور الحياتية للمرأة وهي تمر بدور الأمومة باعتبار انقياد المرأة لغريزتها الأمومية وفطرتها الأنثوية؛ إلاّ أن الأمومة في بيت خديجة عليها السلام اختلفت عن غيرها، وذلك في إغداق من لم تلده خديجة بالأمومة والحنان والعاطفة؛ بمعنى أنها أعطت أمومتها بفعل سجيتها النفسية لا الغريزية الهرمونية، وهذا جانب رسالي تتفاضل فيه النساء، حينما تحنو على أبناء غيرها فضلاً عن حرمانها وابتلائها بموت الولد وصبرها على ذلك كما سيمر بيانه.
ص:22
ربما يتصور الكثير أن الصبر خصوصية خاصة لدى الرجال بما عرف عنهم من القوة في التحمل إلا أن الحياة بتجاربها أثبتت أن المرأة أقدر من الرجل في الصبر وحبس الألم ومواصلة الحياة على ما فيها من ضنك، ولولا صبر المرأة على جدب الحياة، وقلة ذات اليد عند كثير من الرجال، لحرّم الرجال على أنفسهم أن يظلهم سقف أو ينتسب لهم ولد.
في حين أن خديجة عليها السلام مع كثرة مالها ووفرة ثرائها، وصل بها الحال مع رسول الله في شعب أبي طالب عليه السلام، حينما فرض المكيّون على بني هاشم الحصار أن قامت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التصدي لهذا الظلم بالصبر والتحمل إلى الحد الذي أكلت فيه ورق الأشجار حتى كادت تهلك جوعاً.
كثيرون هم الذين يدافعون عن قيمهم ومبادئهم على اختلاف المفهوم والثقافات عند أصحاب المبادئ فقد يكون الربح مبدأ من مبادئ السوق، وقد يكون السَفور مبدأ من مبادئ العصرَنة إلا أننا هنا نتحدث عن الرسالية التي كانت دليلاً على الرسالة الإلهية الخاتمة لجميع الأديان.
ومن هنا: كان دفاع خديجة عليها السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رساليا بحيث لم تحْظَ امرأة غيرها بهذا الامتياز لدرجة أنها كانت تقف أمام الحجارة تتلقاها ببدنها ووجهها كي لا يصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأذى - كما سيمر بيانه -.
ص:23
يقدم لنا القرآن الكريم في معرض بيانه عن الرساليين حقيقة خاصة تكشف عن سر هذا التمايز فيما بينهم حتى تفاضلَ بعضهم على بعض.
على أن الاصطناع المولوي لم يكن ليستثني أحداً منهم وإن كان الخطاب المولوي موجّهاً لموسى الكليم عليه السلام؛ قال تعالى:
(وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي1.)
هذه الحقيقة الخاصة في أولئك الرساليين دلّ عليها صريح قول أمير المؤمنين عليه السلام:
«فإنا صنايع ربنا»(1).
من هنا: كانت خديجة عليها السلام هي إحدى مظاهر الاصطناع المولوي الذي ظهر جلياً في الشأنية التي لها في القرآن الكريم في جملة من الآيات المباركة - كما سيمر بيانه -.
كما أن هذه الشأنية لم تقتصر على كتاب الله تعالى بل ظهرت كذلك عند النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً في حياتها وبعد وفاتها.
وظهرت هذه الشأنية أيضا عند كثير من أئمة العترة عليهم السلام وعلماء المدارس الإسلامية، فضلاً عما حملته السُنة النبوية من بيانات واضحة حول شأنيتها عليها السلام في الآخرة في مختلف مراتبها ومحطاتها ابتداءً من البرزخ
ص:24
والنشور والمحشر والصراط والجنة ضمن عناوين اختصت بهذه المسأل وتحت لفظ (منزلة خديجة عليها السلام) كما سيمر بيانه.
ولم يتوقف هذا الاصطناع الرباني عند تلك الشواهد، بل ظهر كذلك في دارها الذي تزوجت فيه، وماتت فيه، وليكون محلاً خصه الله تعالى بما لم يخص به بيتاً آخر من بيوتات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى عد أفضل الأماكن بعد المسجد الحرام، فضلاً عن أن دار خديجة قد خصه الله تعالى بأهم الأحداث الإسلامية في سير النبوة منذ البعثة وحتى الهجرة النبوية.
شهدت حياة السيدة خديجة عليها السلام أهمّ الأحداث الإسلامية في الحقبة المكية والتي كانت هي المرحلة الأصعب والأشد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن معه.
ولأن هذه المرحلة ضمت بين دفتيها وقائع شكلت مفصلا من مفاصل العقيدة الإسلامية، فقد هوجمت على مر التاريخ بهجمات عديدة لمغول الفكر الإنساني الذين دأبوا على زرع الشبهات، وإضلال الناس عن جادة الإسلام، وزرع طريقهم بالمكائد والفخاخ التي تحول دون تقدم الناس إلى الإسلام ومعرفة نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذا كان لزاماً علينا أن نتصدى لهذه الحملة المغولية وبيان كذبها ورد سهامها إلى نحورها وقطع الطريق على أحفادها في بث هذه الشبهات، فعلى الرغم من تصدي كثير من أهل الفضل والعلم لها إلا أن ذلك لا يعني التوقف
ص:25
في الرد وأضافة بعض الحقائق الجديدة إلى طلاب العلم وعشاق الحقيقة.
ولذلك: اشتمل الكتاب على بعض المسائل العقائدية في رد الشبهات ودفع الأباطيل وإظهار الوقائع التاريخية على حقيقتها وكشف التلاعب بها.
وأخيراً: لم يكن هذا الكتاب ليتغافل عن حق هذه الوالدة على بنيها في بيان ما لزيارتها وإتيان قبرها من الحق والواجب الأمومي الذي ألقي في أعناق الأبناء، فضلاً عمّا في هذا العمل من تعظيم لهذه الشخصية وتأسٍّ بها في بناء الحياة والانضمام إلى نخبة المصلحين لبني الإنسان.
إنّ مما اتفقت عليه كلمة الباحثين هو تضمين أبحاثهم بفقرة تتحدث عن المنهج الذي اتبعه الباحث أو المحقق في إخراج هذا العمل إلى النور ووضعه بين يدي القراء.
وحيث إن عملنا في هذه الدراسة اشتمل أيضاً على تحقيق كثير من النصوص التاريخية المرتبطة بحياة السيدة خديجة وتحليلها مع ملاحظة ان لفظ (التحقيق) مناط بعمل الباحث فيما احتواه (المخطوط ) من مادة تفرض على المحقق السعي في اثبات نسبتها لمصنفها مع بذل الجهد في تقابل النسخ وبيان ما جاء في كلام المصنف فيكون حينها المحقق أسيراً لما أملاه المصنف.
كان عملنا التحقيقي في هذا الكتاب لا يشتمل على ذلك المنهج الذي تعاهده المحققون في المخطوط من الكتب، وإنما منهجنا هو التتبع الحثيث لكل حدث اقترن بشخص السيدة خديجة ودراسته حسب الضوابط الآتية:
ص:26
1 - حفظ الحدود الشرعية التي تحيط بها.
فقد يرد على القارئ حديث لا يتجانس مع تلك الشأنية والرسالية التي أحيطت، بها مما يدفع بالباحث إلى التحقيق في هذه الحادثة؛ ومثال ذلك ما روي عنها عليها السلام من إشعار قبل زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما يعد مخالفاً للمروءة، ولا يتسق مع ما اشتهر عنها من العفة والحياء حتى لقبت بالطاهرة بنت خويلد، فضلاً عن أن الرواية مرسلة كما صرح بذلك العلامة المجلسي رحمه الله.
2 - تجزئة الرواية أو الحديث إلى أجزاء عديدة والوقوف عند هذه الأجزاء ودراستها كلا على حدة.
3 - المقابلة فيما بين النصوص والتوقف عند المؤتلف والمختلف.
4 - التدبر في دلالة الألفاظ الواردة عنها أو فيها.
5 - تسليط الضوء على شخصيات الرواية أو الحدث وفهم الغرض الذي يحمله الراوي أو الدافع من وراء إيراد هذه الحادثة؛ فالراوي لا يمكن أن يكون طرفاً محايداً مع ما شهدته الأمّة الإسلامية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من متغيرات عقائدية وتحزبات ومصالح.
6 - الوقوف عند الزمان والمكان الذين شهدتهما الحادثة، فمبيت علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه زماناً ومكاناً ليس كخروج أبي بكر ونزوله في الغار؛ فقد كان في حادثة المبيت زماناً ومكاناً شواهد قرآنية وتاريخية ممثلة بالحيثية المكانية بأهل مكة جميعاً وبالحيثية الزمانية في حدث شغل أهل مكة
ص:27
والمدينة لأيام عديدة في حين اقتصرت حادثة الغار على الشاهد القرآني الذي يتجاذبه أئمة التفسير بين التدليل والتأويل، والرواية والدراية كما هو ثابت في كتب الفريقين.
7 - عدم التغافل عن وجود طبقة كبيرة من الأعداء للإسلام تعمل بكل قوة على تشويه كل ما له علاقة بالإسلام، من ثَمَّ لا ينبغي بالباحث والمحقق غض الطرف عن دراسة الحالة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الذي نشأت فيه الرواية وانطلقت منه إلى الناس.
فالرواية حينما يرويها الراوي وهو يسكن الشام، وفي حكم معاوية بن أبي سفيان غير الرواية التي يرويها الراوي في زمن عمر بن الخطاب أو في زمن هارون العباسي.
8 - أما بالنسبة إلى المنهج الرجالي فإننا لم نعتمد في تشخيص رتبة الراوي من حيث الوثاقة، والصدق، والكذب، والضعف، والميل، والتدليس، والنسيان، والحفظ ، والمشايخ، وغيرها على منهاج الرازي، أو الذهبي، أو ابن حجر، أو المزي، أوغيرهم.
وإنما اعتمدنا في تشخيص الراوي على منهاج أجمعت الأمّة الإسلامية على صحته وهو حب علي بن أبي طالب عليه السلام وبغضه، لما وضعه النبي الأكرم من ميزان في معرفة الرجال وطبقتهم، حينما قال لعلي عليه السلام:
«لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق».
فالحكم الذي يطلقه ابن تيمية الذي ملئ نصباً من قرنه إلى ظفره لعلي
ص:28
عليه السلام غير الحكم الذي يطلقه الإمام الشافعي.
وعليه: فقد استلزم هذا المنهاج من الدراسة والتحقيق إلى:
ألف: مراجعة أكثر من ثلاثة آلاف كتاب بين مخطوط ومطبوع فضلاً عن استخدام الحاسوب والتجول في الشبكة المعلوماتية.
باء: تم الاعتماد على ما يقارب الخمسمائة مصدر من هذه المجموعة.
جيم: السفر إلى دمشق الشام حيث كانت من مكتبة الأسد الوطنية باكورة العمل، ثم الانتقال إلى بيروت، ثم إلى العراق، ثم إيران، ثم العراق، ليكتمل البحث بلطف الله وسابق عنايته في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة.
دال: كان العون والسند في هذا العمل هو الله تعالى وحب نبيه وأهل بيته، والتمسك بقراءة سورة الحمد وإهدائها إلى سيدتي ومولاتي خديجة الكبرى عليها السلام ومناشدتها الدعاء لي، إذ إن دعاء الوالدة لولدها مستجاب، وإذا استعصت علي مسألة أقسمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها، فسرعان ما تنجلي.
(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
السيد نبيل قدوري حسن علوان الحسني
كربلاء المقدسة / مكتبة العتبة الحسينية المقدسة
في يوم مولد الإمام محمد الجواد عليه السلام
الموافق: 10 رجب الأصب لسنة 1431 للهجرة النبوية
المصادف: 23 حزيران 2010 للسنة الميلادية
ص:29
ص:30
ص:31
ص:32
حينما نريد أن نتحدث عن السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام فإننا نحتاج إلى الحديث عن أُمّة جمعت في امرأة.
ولأن التاريخ (الإسلامي) لم ينصف النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسرى ذلك على الإسلام وحملته الحقيقيين فإن أول من غُبِنَ من أولئك الحملة هي السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام.
ولعل مرد ذلك يعود إلى أمور، منها:
1 - نظرة الأعراب للمرأة قبل الإسلام وبعده، فهم لم يتقبلوا وضعها الجديد بسبب عدم إيمانهم أصلاً بالإسلام فأصبحوا في مجتمع فرض عليهم قوانين جديدة تختلف عما نشأوا عليها فباتوا في صراع مع هذا الواقع الجديد فانعطفوا على الكيد لرموزه وعناصره الفاعلة سواء أكانوا من الرجال أم النساء.
وهو ما بيّنه القرآن الكريم حينما أشار إلى دور هؤلاء في الخراب الاجتماعي، فقال تعالى:
ص:33
(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ1.)
فإذا كان هذا حالهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مسدد بالوحي فكيف بهم وبما يكيدون للإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - لم يكن الأعراب وغيرهم من أهل مكة قد اعتادوا على تملُّك المرأة للمال والرجال والتحكم بعصب الاقتصاد، فضلا عن السيادة والعزّة والجلالة التي شابهت بها خديجة عليها السلام ملكة سبأ مما انعكس سلبا على أرباب المال، وتجار العبيد، والمتحكمين في أندية قريش؛ فهؤلاء ممن استمكلتهم الأنفة من النساء فوجدوها مقضى حاجاتهم، وموضع شهواتهم، فكيف بهم الآن يرون بين ظهرانيهم امرأة تتملك أشباههم، وتستأجر نظراءهم، فضلا عن التكسب بمالها، فأنى يروق لهم ذلك ؟
ولذا: أصبحوا بين صورتين كلتاهما تتقاطع مع نفوسهم وأهوائهم وطباعهم، فالصورة الأولى تتحدث عن خديجة وهي سيدة قريش، والصورة الثانية تتحدث عنها وهي سيدة البيت النبوي.
حينها لم يبق أمام تلك العقول سوى تقليب الحقائق، وتزييف الوقائع، كي لا يرى القارئ - المسلم أو غير المسلم - سيرة الأمّة التي جمعت في امرأة فكانت خديجة بنت خويلد عليها الصلاة والسلام.
3 - إنّ تمكن أولئك الأعراب من التقرب إلى السلطة والتحكّم - بقدر ما - في صناعة القرار مكنهم من وضع أيديهم على رواية السيرة وتدوينها، وصياغة
ص:34
ملامحها حسب ما تشتهيه أنفسهم، فكانت صورة مشوهة لاسيما عن أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كما سيمر بيانه - بغية الوصول إلى أهداف سياسية وشخصية تمكنهم من البقاء في السلطة حينما يتم ضرب حملة الإسلام الحقيقيين وإبعاد الناس من حولهم ونسب جهادهم وجهودهم إلى أعداء الإسلام.
ولكن قبل أن نعرض للقارئ الكريم بعض ملامح هذه الشخصية العظيمة والمشرّفة لكل مسلم لابد من المرور بمباحث وهي كالآتي:
ربما تمر على مسامع بعض من الناس كلمة (سيدة قريش) مرور الكرام فلم تحرك فيه ساكناً، لأنه لا يكون محيطاً بذاك المجتمع، أو لعله يرى فيها نظيراً لما اعتاد عليه من سماع لهذه الكلمة هذه الأيام، فتلك سيدة القصر الرئاسي، وهذه سيدة أعمال، وتلك سيدة منزل، فأصبحت كلمة (السيدة) لا تحمل من الدلالة سوى التشريفات البروتوكولية، أو هي من المفاهيم المستوردة، والألفاظ المبذولة، في مجتمعات تساوت فيها المظاهر الحياتية، فلم يعد الإنسان ينجو من جدلية الأصلي والمقلد، كما لم ينج من التمييز، أو الخلط بين (السيدة) التي سادت بالفضيلة والعلم مجتمعها؛ وبين (السيدة) التي سادت بالموظة وعرض الأزياء، وسلعنة المفاتن.
ولذا: أصبحت المفردات تحتاج إلى قرائن تكشف عن مدلولاتها فترشد السامع إلى معانيها.
ص:35
ومن هنا: ينبغي بنا إن أردنا بأنفسنا الانصاف أن نعرج إلى قراءة الحالة الاجتماعية والاقتصادية لمكة قبل الإسلام كي نعي معنى أن خديجة كانت تلقب ب - (سيدة قريش)(1).
قد لا يختلف اثنان من العرب أن قريشاً هي عشيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها من أعظم قبائل العرب، لكن السؤال كيف كانت عظمتها؟ وبم حازت شرفها وعزتها؟ أسئلة ننطلق معها لنبين للقارئ المسلم ماذا يعني له حينما يقرأ في كتب التاريخ والسيرة والتراجم وغيرها (أن خديجة بنت خويلد كانت تلقب (بسيدة قريش).
ونقول:
ربما تكون الرفعة والعظمة والشرافة والعزّة عند بعض الناس - وبحسب اعتقادهم وثقافتهم - هي نتيجة العمل الذاتي للفرد دون أن تكون لمشيئة الله تعالى مدخلية فيها، وقد تكون هذه المزايا لا تنال - وبحسب اعتقاد كثير من الناس - إلاّ حينما تكون مقرونة بل وملاصقة لمشيئة الله جل وعلا -.
وحينما نأتي إلى قراءة تاريخ قريش نجدها، أي قريشاً، لم تنل ما نالت من الرفعة والعظمة والظهور إلا من خلال مشيئة الله تعالى، وعمل من
ص:36
اختارهم الله لبناء هذه الرفعة وتشييدها، وأعني: لابد من وجود الكفاءات الشخصية إلى جانب المشيئة الإلهية والتي، أي هذه الكفاءات، لم تكن لتتحقق بدون التوفيق الإلهي، فسبحان من بيده كل شيء، وله الأمر من قبل ومن بعد.
وقريش في حقيقة الأمر قد نالت العناية الإلهية كما دلّ على ذلك الحديث النبوي - كما سيمر - ونالت تلك العناية بظهور بعض الرموز المتميزة؛ بل والفريدة من بين الرجال لتكون أداة تصنع للبشرية حضارتهم وتمدنهم.
فأما المشيئة الإلهية فقد كشف عنها حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حينما بيَّن أن الله تعالى اصطفى من بين خلقه ملائكة، وأنبياء، ورسلاً، وشعوباً، وقبائل، وبيوتات، وأفراداً، وديناً، وغيرها مما يصرح به الكتاب العزيز. قال تعالى:
(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 1.)
وقال سبحانه:
(وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ 2.)
وقال سبحانه:
ص:37
(وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 1.)
وقال تعالى:
(قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى 2.)
وقال سبحانه:
(اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ3.)
وغيرها من الآيات التي تظهر هذه السنة الإلهية، التي جرت في الأشياء، وحينما نأتي إلى قريش نجدها مما شملتها سنة الاصطفاء الإلهية، كما دلَّ عليها حديث النبي الأكرم حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل عليه السلام واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»(1).
وبهذا يكون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم خلاصة الاصطفاء الرباني لخلقه وذلك من خلال تلك السلسلة الاصطفائية التي عرضها الحديث الشريف.
ص:38
إن تلك المشيئة الإلهية التي جعلت قريشاً موضعاً للاصطفاء من بين بني إسماعيل عليه السلام فقد أوجدت فيها رجالاً تبلورت فيها مظاهر هذا الاصطفاء لتثمر ثمرتها في بني عبد المطلب من بني هاشم.
وهم كالآتي:
وهو الجد الرابع للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فنسب النبي هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن خضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن نضر، بن نزار بن معد بن عدنان(1).
وكنانة، هو الذي اصطفاه الله تعالى من بين ذرية إسماعيل عليه السلام.
ويعد كلٌّ من (فهر بن مالك)(2) وجده (نضر بن كنانة)(3) هما اللذين لقبا بقريش.
كما أن قصي بن كلاب هو أيضاً لقب بقريش، لتمكنه من جمع القبائل التي تعود إلى نضر بن كنانة بعد أن تفرقوا وأسكنهم مكة(4).
ص:39
يرجع سبب تسمية قريش بهذا الاسم إلى مجموعة من الأقوال:
1 - إن سبب التسمية مأخوذ من التقرّش، وهو التجمع يقال: تقرّش القوم إذا اجتمعوا؛ ولذلك سمي قصي بن كلاب مجمعاً، قال الشاعر:
أبوكم قصي كان يدعى مجمِّعا به جمع الله القبائل من فهر
2 - إنه مأخوذ من القرش، وهو الكسب: لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد.
3 - إنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج، فسموا بذلك قريشا(1).
4 - وقيل: إن قريشاً؛ دابة تسكن البحر تغلب سائر الدواب، وقريش: هي التي تسكن البحر ربيبها فسميت قريش: قريشا(2) ؛ ومن هذا المعنى ذهب الفخر الرازي إلى أن السيادة على الأمّة منهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إنّ الأئمة من قريش»(3).
وقد ذهب ابن عبد البر إلى أن (التجمع) هو الأصح، وبهذا يكون قصي ابن كلاب هو من سمي بقريش؛ لأنه جمع القبائل وأسكنها مكة.
أما لمن يعود أصل هذه القبائل: فقد ذهب الفقهاء، وعلماء الأنساب، إلى أن أصل قريش يعود إلى النضر بن كنانة، ويستند النسابون في ذلك إلى قول
ص:40
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا»(1).
فيما ذهب الفقهاء في تعريف (المرأة القرشية) إلى أنها من انتسب إلى النضر بن كنانة(2).
قال السيد محسن الحكيم قدس سره: (ذكر ذلك جماعة من الأعاظم مرسلين له إرسال المسلمات من غير إشارة منهم للخلاف فيه، كالمحدث البحراني في الحدائق، وشيخنا في الجواهر، والنراقي في المستند، وشيخنا الأعظم في طهارته، وغيرهم، وهو المنقول عن الصحاح، وفي النفحة العنبرية لابن أبي الفتوح: (ومن ولد كنانة، النضر) وهو الملقب بقريش، وبعد ذلك أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النضر، قال: وهو قريش.
لكن في مجمع البحرين - وبعد أن ذكر ذلك - قال: وقيل، قريش هو فهر ابن مالك؛ وعن سبائك الذهب: أنه النضر على المذهب الراجح؛ وفي العقد الفريد: (جد قريش كلها فهر بن مالك، فما دونه قريش، وما فوقه عرب.. إلى أن قال: (وأما قبائل قريش فإنما تنتهي إلى فهر بن مالك لا تتجاوزه).
وفي سبل الذهب: (كل من ولده (فهر) فهو قريش ومن لم يلده فليس بقريش)؛ ونحوه ما في المختصر من أخبار البشر لأبي الفداء؛ وذكر ذلك أيضا في الشجرة المحمّدية لأبي علي الجواني النسابة، وكذا في السيرة النبوية لابن
ص:41
دحلان؛ وفي السيرة الحلبية: (فهر، اسمه قريش، قال الزبير بن بكار: أجمع النسابون من قريش وغيرهم أن قريشاً إنما تفرقت عن فهر).
ويظهر من غير واحد احتمال أنه قصي، لكنه ضعيف جدا، لأن أكثر قبائل قريش من غيره، إنما الإشكال في تعيين أحد الأولين، لكن يهون الأمر خروج الفرض عن محل الابتلاء)(1).
وقال السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره معقبا على هذه الأقوال في بيان ما يترتب على المرأة القرشية من أحكام الطهارة عند الحيض: (والذي يوهن الخطب أن القرشية لا وجود لها غير أولاد عباس - بن عبد المطلب - وعلي عليه السلام إذ لم يعلم لأولاد مالك غير فهر أولاد حتى يتكلم في أنه قرشي أو غير قرشي، فمحل الابتلاء معلوم القرشية على كل حال، وغيره خارج عن محل الابتلاء)(2).
لم تشهد مكة قبل قصي بن كلاب رجلاً قد سادت له قبائل قريش والحكم عليها مثلما سادت لقصي بن كلاب، بعد أن جمعها وقسمها على قسمين عظيمين، فأسكن بطاح مكة قسماً فسموا بقريش البطاح، وهي قبائل كعب بن لؤي، وهم: (بنو عبد مناف، بنو عبد العزى، بنو عبد الدار، بنو زهرة، بنو تيم، بنو مخزوم، بنو جمع، بنو سهم ابني عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب.
ص:42
وأما القسم الثاني، وهي القبائل التي نزلوا خارج مكة، وقد سموا بقريش الظواهر، وهي قبائل بني عامر بن لؤي بن يخلد بن النضر، وهم: الحارث ومالك وقد درجا(1) ، والحارث ومحارب ابنا فهر، وتيم الأدرم بن غالب بن فهر، وقيس بن فهر وقد درج)(2).
وقد امتاز قصي بن كلاب بخصائص فريدة لم ينلْها أحد من العرب من قبله.
قال ابن سعد: (أخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان قصي بن كلاب أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكاً أطاع له به قومه، فكان شريف أهل مكة لا ينازع فيها، فابتنى دار الندوة وجعل بابها إلى البيت ففيها كان يكون أمر قريش كله وما أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما ينوبهم حتى إن كانت الجارية تبلغ أن تدرع فما يشق درعها إلا فيها ثم ينطلق بها إلى أهلها، ولا يعقدون لواء حرب لهم ولا من قوم غيرهم إلا في دار الندوة يعقده لهم قصي، ولا يعذر لهم غلام إلا في دار الندوة، ولا تخرج عير من قريش فيرحلون إلا منها، ولا يقدمون إلا نزلوا فيها، تشريفا له وتيمنا برأيه ومعرفة بفضله، ويتبعون أمره كالدين المتبع لا يعمل بغيره في حياته وبعد موته؛ وكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرفادة، واللواء، والندوة، وحكم مكة كله، وكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها.
ص:43
قال: وإنما سميت دار الندوة: لان قريشا كانوا ينتدون فيها أي: يجتمعون للخير والشر، والندي مجمع القوم إذا اجتمعوا)(1).
قال ابن سعد:
(وقطّع قصي مكة رباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم التي أصبحوا فيها اليوم، ضاق البلد وكان كثير الشجر (العضاه والسلم)، فهابت قريش قطع ذلك في الحرم فأمرهم قصي بقطعه وقال: إنما تقطعونه لمنازلكم ولخططكم بهلة الله على من أراد فسادا، وقطع هو بيده وأعوانه، فقطعت حينئذ قريش.
وسمته مجمعا، لما جمع من أمرها وتيمنت به وبأمره؛ وشرفته قريش وملكته؛ وأدخل قصي بطون قريش كلها الأبطح فسموا قريش البطاح، وأقام بنو معيص بن عامر بن لؤي، وبنو تيم الأدرم بن غالب بن فهر، وبنو محارب ابن فهر، وبنو الحارث بن فهر، بظهر مكة، فهؤلاء الظواهر، لأنهم لم يهبطوا مع قصي إلى الأبطح، إلا أن رهط أبي عبيدة بن الجراح وهم من بني الحارث ابن فهر نزلوا الأبطح فهم مع المطيبين أهل البطاح.
وقد قال الشاعر في ذلك وهو ذكوان مولى عمر بن الخطاب للضحاك بن قيس الفهري حين ضربه:
فلو شهدتني من قريش عصابة قريش البطاح لا قريش الظواهر
ص:44
وقال حذافة بن غانم العدوي لأبي لهب بن عبد المطلب:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر
فدعي قصي مجمعا بجمعه قريشا، وبقصي سميت قريش قريشا؛ وكان يقال لهم قبل ذلك بنو النضر، قال ابن سعد: إنّ عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متى سميت قريش قريشا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش، فقال عبد الملك: ما سمعت هذا ولكن سمعت أن قصيا كان يقال له القرشي ولم تسم قريش قبله.
وقال أيضا: لما نزل قصي الحرم وغلب عليه فعل أفعالا جميلة فقيل له القرشي فهو أول من سمي وقال الأخنسي: سميّت قريش وكنانة وخزاعة ومن ولدته قريش من سائر العرب بالحمس.
والتحمس أشياء أحدثوها في دينهم تحمسوا فيها أي: شددوا على أنفسهم فيها، فكانوا لا يخرجون من الحرم إذا حجوا فقصروا عن بلوغ الحق، والذي شرع الله تبارك وتعالى لإبراهيم وهو موقف عرفة وهو من الحل؛ وكانوا لا يسلؤون السمن، ولا ينسجون مظال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الادم.
وشرعوا لمن قدم من الحاج أن يطوف بالبيت وعليه ثيابه، ما لم يذهبوا إلى عرفة، فإذا رجعوا من عرفة لم يطوفوا طواف الإفاضة بالبيت إلا عراة أو في ثوبي أحمسي، وان طاف في ثوبيه لم يحل له أن يلبسهما)(1).
ص:45
قال محمد بن عمر: (وقصي أحدث وقود النار بالمزدلفة حين وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة يعني ليلة جمع في الجاهلية.
وكانت تلك النار توقد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان؛ قال محمد بن عمر وهي توقد إلى اليوم)(1).
(وفرض قصي على قريش السقاية والرفادة فقال: يا معشر قريش إنكم جيران الله، وأهل بيته، وأهل الحرم، وان الحاج ضيفان الله، وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم؛ ففعلوا، فكانوا يخرجون ذلك كل عام من أموالهم خرجا يترافدون ذلك فيدفعونه إليه، فيصنع الطعام للناس أيام منى وبمكة، ويصنع حياضا للماء من أدم، فيسقي فيها بمكة ومنى وعرفة فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام؛ ثم جروا في الإسلام على ذلك إلى اليوم.
فلما كبر قصي ورق، وكان عبد الدار بكره وأكبر ولده، وكان ضعيفا، وكان إخوته قد شرفوا عليه، فقال له قصي: أما والله يا بني لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل أحد منهم الكعبة حتى تكون أنت الذي تفتحها له، ولا تعقد قريش لواء لحربهم إلا كنت أنت الذي تعقده بيدك، ولا
ص:46
يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما بمكة إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك، فأعطاه: دار الندوة، وحجابة البيت، واللواء، والسقاية، والرفادة، وخصه بذلك ليلحقه بسائر إخوته.
وتوفي قصي فدفن بالحجون فقالت تخمر بنت قصي ترثي أباها
طرق النعي بعيد نوم الهجد فنعى قصيا ذا الندى والسؤدد
فنعى المهذب من لؤي كلها فانهل دمعي كالجمان المفرد
فأرقت من حزن وهم داخل أرق السليم لوجده المتفقد(1)
أما الرجل الثاني الذي ظهر فيه الاصطفاء لسيادة قريش ورفع شأنها، فهو عبد مناف بن قصي، فكان من خبره: أنه قام بعد أبيه على أمر قريش، (فاختط بمكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه.
وعلى - بني - عبد مناف اقتصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أنزل الله تبارك وتعالى:
(وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 2.)
قال ابن عباس: (لما أنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )
ص:47
خرج حتى علا المروة ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل فهر.
فجاءته قريش، فقال أبو لهب بن عبد المطلب: هذه فهر عندك، فقل.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل غالب؛ فرجع بنو محارب وبنو الحارث ابنا فهر.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل لؤي بن غالب فرجع بنو تيم الأدرم ابن غالب فقال يال كعب بن لؤي فرجع بنو عامر بن لؤي.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل مرة بن كعب. فرجع بنو عدي بن كعب، وبنو سهم، وبنو جمح ابنا عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل كلاب بن مرة. فرجع بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو تيم بن مرة.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل قصي. فرجع بنو زهرة بن كلاب.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يآل عبد مناف، فرجع بنو عبد الدار بن قصي، وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو عبد بن قصي.
فقال أبو لهب هذه بنو عبد مناف عندك فقل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وأنتم الأقربون من قريش، وإني لا أملك لكم من الله حظا، ولا من الآخرة نصيبا، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله، فأشهد بها لكم عند ربكم، وتدين لكم بها العرب، وتذل لكم بها العجم.
فقال أبو لهب: تبا لك فلهذا دعوتنا.
ص:48
فأنزل الله تبت يدا أبي لهب، يقول: خسرت يدا أبي لهب.
قال أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، قال ولد عبد مناف بن قصي ستة نفر، وست نسوة؛ المطلب بن عبد مناف، وكان أكبرهم وهو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها إلى أرضه، وهاشم بن عبد مناف، واسمه عمرو، وهو الذي عقد الحلف لقريش من هرقل، لان تختلف إلى الشام آمنة؛ وعبد شمس بن عبد مناف، وتماضر بنت عبد مناف، وحنة، وقلابة، وبرة، وهالة، بنات عبد مناف، وأمهم عاتكة الكبرى بنت مرة بن هلال بن فالج بن ثعلبة بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.
ونوفل بن عبد مناف وهو الذي عقد الحلف لقريش من كسرى إلى العراق؛ وأبا عمرو بن عبد مناف، وأبا عبيد درج؛ وأمهم واقدة بنت أبي عدي، وهو عامر بن عبد نهم بن زيد بن مازن بن صعصعة؛ وريطة بنت عبد مناف، ولدت بني هلال بن معيط من بني كنانة بن خزيمة وأمها الثقفية)(1).
وهو الذي نص عليه الحديث النبوي الشريف في الاصطفاء، وبه تجلت المفاخر والمآثر، وسادت قريش القبائل، وعلى يديه بنت اقتصادها، وعلاقاتها الخارجية مع ملك الحبشة، وقيصر الروم؛ وإليه ينسب النبي وأهل بيته، فيقال له النبي الهاشمي، وفي ذريته جعلت الإمامة التي نص عليها قوله صلى الله
ص:49
عليه وآله وسلم:
«أن الأئمة من قريش».
وبهم تأمن الأمّة من الغرق، وتنجو من الضلال؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي».
ولقد تناولت أكثر كتب التاريخ والتراجم حياة هاشم بن عبد مناف، فمما جاء فيها:
(كان إسم هاشم عمراً وكان صاحب إيلاف قريش، وكان أول من سن الرحلتين لقريش، ترحل إحداهما في الشتاء إلى اليمن، وإلى الحبشة إلى النجاشي فيكرمه ويحبوه؛ ورحلة في الصيف إلى الشام إلى غزة، وربما بلغ أنقرة فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه)(1).
(أصابت قريشا سنوات ذهبن بالأموال، فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير، فخبز له فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة فهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أول الحيا بعد السنة التي أصابتهم
ص:50
فسمي بذلك: هاشما وقال عبد الله بن الزبعرى في ذلك:
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
وقال وهب بن عبد قصي في ذلك:
تحمل هاشم ما ضاق عنه وأعيا أن يقوم به بن بيض
أتاهم بالغرائر متأقات من أرض الشام بالبر النفيض
فأوسع أهل مكة من هشيم وشاب الخبز باللحم الغريض
فظل القوم بين مكللات من الشيزاء حائرها يفيض(1)
ويذكر المؤرخون أن (أول سبب للعداوة بين هاشم وأمية كانت حينما حسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه فشمت به ناس من قريش فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة فكره هاشم ذلك لسنه وقدره.
فلم تدعه قريش واحفظوه، قال فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكة والجلاء عن مكة عشر سنين؛ فرضي أمية بذلك وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، فنفر هاشما عليه فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية)(2).
ص:51
ثم أن هاشما وعبد شمس والمطلب ونوفلاً بني عبد مناف أجمعوا أن يأخذوا ما بأيدي بني عبد الدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة، ورأوا أنهم أحق به منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم؛ وكان الذي قام بأمرهم هاشم بن عبد مناف، فأبت بنو عبد الدار أن تسلم ذلك إليهم، وقام بأمرهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
فصار مع بني عبد مناف بن قصي بنو أسد بن عبد العزى بن قصي وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم بن مرة وبنو الحارث بن فهر؛ وصار مع بني عبد الدار بنو مخزوم وسهم وجمح وبنو عدي بن كعب وخرجت من ذلك بنو عامر بن لؤي ومحارب بن فهر فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.
فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا الا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة فأخرجت بنو عبد مناف ومن صار معهم جفنة مملوءة طيبا فوضعوها حول الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا ومسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا المطيبين.
وأخرجت بنو عبد الدار ومن كان معهم جفنة من دم فغمسوا أيديهم فيها وتعاقدوا وتحالفوا ألا يتخاذلوا ما بل بحر صوفة فسموا الاحلاف ولعقة الدم؛ وتهيأوا للقتال وعبئت كل قبيلة لقبيلة؛ فبينما الناس على ذلك إذ تداعوا إلى الصلح إلى أن يعطوا بني عبد مناف بن قصي السقاية والرفادة وتكون الحجابة
ص:52
واللواء ودار الندوة إلى بني عبد الدار كما كانت؛ ففعلوا وتحاجز الناس فلم تزل دار الندوة في يدي بني عبد الدار حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي من معاوية بن أبي سفيان فجعلها معاوية دار الامارة فهي في أيدي الخلفاء إلى اليوم)(1).
قال ابن سعد (أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال فحدثني يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي عن أبيه قال فاصطلحوا يومئذ أن ولي هاشم بن عبد مناف بن قصي السقاية والرفادة وكان رجلا موسرا وكان إذا حضر الحج قام في قريش فقال: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته فهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه وقد خصكم الله بذلك وأكرمكم به وحفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره فأكرموا ضيفه وزوره يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كأنهن القداح قد أزحفوا وتفلوا وقملوا وأرملوا فأقروهم واسقوهم.
فكانت قريش ترافد على ذلك، حتى أن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير على قدرهم؛ وكان هاشم بن عبد مناف بن قصي يخرج في كل عام مالا كثيرا، وكان قوم من قريش أهل يسارة يترافدون؛ وكان كل إنسان يرسل بمائة مثقال هرقلية، وكان هاشم يأمر بحياض من أدم فتجعل في موضع زمزم ثم يستقي فيها الماء من البئار التي بمكة فيشربه الحاج، وكان يطعمهم أول ما يطعم
ص:53
قبل التروية بيوم بمكة وبمنى وجمع وعرفة؛ وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن، والسويق والتمر، ويجعل لهم الماء فيسقون بمنى؛ والماء يومئذ قليل في حياض الادم إلى أن يصدروا من منى فتنقطع الضيافة ويتفرق الناس لبلادهم)(1).
قال ابن سعد: (وأخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال حدثني القاسم بن العباس اللهبني عن أبيه عن عبد الله بن نوفل بن الحارث قال: كان هاشم رجلا شريفا وهو الذي أخذ الحلف لقريش من قيصر لان تختلف آمنة من على الطريق فألفهم على أن تحمل قريش بضائعهم ولا كراء على أهل الطريق، فكتب له قيصر كتابا وكتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه وكانوا تجارا.
فخرج هاشم في عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا بسوق النبط فصادفوا سوقا تقوم بها في السنة يحشدون لها، فباعوا واشتروا؛ ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق، فرأى - هاشم - امرأة تأمر بما يشترى ويباع لها، فرأى امرأة حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها: أأيم هي، أم ذات زوج ؟
فقيل له أيم، كانت تحت أحيحة بن الجلاح، فولدت له عمرا ومعبدا، ثم فارقها؛ وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها فإذا كرهت رجلا فارقته؛ وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد ابن
ص:54
خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، فخطبها هاشم فعرفت شرفه ونسبه فزوجته نفسها.
ودخل بها وصنع طعاما ودعا من هناك من أصحاب العير الذين كانوا معه، وكانوا أربعين رجلا من قريش، فيهم رجال من بني عبد مناف ومخزوم وسهم، ودعا من الخزرج رجالا؛ وأقام بأصحابه أياما؛ وعلقت سلمى بعبد المطلب، فولدته وفي رأسه شيبة، فسمي شيبة.
وخرج هاشم في أصحابه إلى الشام، حتى بلغ غزة، فاشتكى فأقاموا عليه حتى مات، فدفنوه بغزة ورجعوا بتركته إلى ولده. ويقال ان الذي رجع بتركته إلى ولده أبو رهم بن عبد العزى العامري وعامر بن لؤي وهو يومئذ غلام ابن عشرين سنة)(1).
قال ابن سعد أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: أوصى هاشم بن عبد مناف إلى أخيه المطلب بن عبد مناف فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة إلى اليوم؛ وبنو عبد شمس وبنو نوفل ابنا عبد مناف يد إلى اليوم.
قال وأخبرنا هشام بن محمد عن أبيه قال: وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة، شيبة الحمد وهو عبد المطلب، وكان سيد قريش حتى هلك؛ ورقية بنت هاشم ماتت وهي جارية لم تبرز، وأمها سلمى بنت عمرو
ص:55
ابن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأخواهما بأمهما عمرو، ومعبد، ابنا أحيحة بن الجلاح.
وأبا صيفي بن هاشم واسمه عمرو، وهو أكبرهم؛ وصيفيا، وأمهما هند بنت عمرو بن ثعلبة بن الحارث، وأخوهما لأُمهما مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي.
وأسد بن هاشم وأمه قيلة، وكانت تلقب الجزور بنت عامر بن مالك بن جذيمة وهو المصطلق من خزاعة.
ونضلة بن هاشم، والشفاء، ورقية؛ وأمهم أميمة بنت عدي بن عبد الله ابن دينار بن مالك بن سلامان بن سعد من قضاعة؛ وأخواهما لإمهما نفيل بن عبد العزى العدوي، وعمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي.
والضعيفة بنت هاشم، وخالدة بنت هاشم، وأمها أم عبد الله، وهي واقدة بنت أبي عدي، ويقال: عدي وهو عامر بن عبد نهم بن زيد بن مازن بن صعصعة.
وحنة بنت هاشم وأمها عدي بنت حبيب بن الحارث بن مالك بن حطيط ابن جشم بن قسي وهو ثقيف.
قال وكان هاشم يكنى أبا يزيد، وقال بعضهم: بل كان يكنى بابنه أسد بن هاشم؛ ولما توفي هاشم رثاه ولده بأشعار كثيرة فكان مما قيل فيما أخبرنا محمد بن عمر عن رجاله قالت خالدة بنت هاشم ترثي أباها وهو
ص:56
شعر فيه ضعف:
بكر النعي بخير من وطئ الحصى ذي المكرمات وذي الفعال الفاضل
بالسيد الغمر السميدع ذي النهى ماضي العزيمة غير نكس واغل
زين العشيرة كلها وربيعها في المطبقات وفي الزمان الماحل
بأخي المكارم والفواضل والعلى عمرو بن عبد مناف غير الباطل
ان المهذب من لؤي كلها بالشام بين صفائح وجنادل
فأبكي عليه ما بقيت بعولة فلقد رزئت أخا ندى وفواضل
ولقد رزئت قريع فهر كلها ورئيسها في كل أمر شامل
وقالت الشفاء بنت هاشم ترثي أباها:
عين جودي بعبرة وسجوم واسفحي الدمع للجواد الكريم
عين واستعبري وسحي وجمي لأبيك المسود المعلوم
هاشم الخير ذي الجلالة والمجد وذي الباع والندى والصميم
وربيع للمجتدين وحرز ولزاز لكل أمر عظيم
شمري نماه للعز صقر شامخ البيت من سراة الأديم
شيظمي مهذب ذي فضول أريحي مثل القناة وسيم
غالبي سميدع أحوذي باسق المجد مضرحي حليم
صادق الناس في المواطن شهم ماجد الجد غير نكس ذميم(1)
ص:57
جد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وكفيله، واسمه شيبة الحمد وهو أحد الرجال الذين تجلى فيهم الاصطفاء لسيادة مكة، بل ظهر في جبينه نور النبوة، وهيبة السلاطين، وجلالة الملوك، وعزة الأولياء، فحفظ الله بدعائه البيت الحرام، وعلى يديه ظهرت الآيات والدلائل على اختصاصه بالاصطفاء، فأكرمه الله بزمزم، ورد كيد أصحاب الفيل، وغيرها من الكرامات.
روى ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي، قال: (كان المطلب بن عبد مناف بن قصي أكبر من هاشم ومن عبد شمس، وهو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها، وكان شريفا في قومه مطاعا، سيدا، وكانت قريش تسميه الفيض، لسماحته، فولي بعد هاشم السقاية والرفادة، وقال في ذلك:
أبلغ لديك بني هاشم بما قد فعلنا ولم نؤمر
أقمنا لنسقي حجيج الحرام إذ ترك المجد لم يؤثر
نسوق الحجيج لأبياتنا كأنهم بقر تحشر
قال: وقدم ثابت بن المنذر بن حرام وهو أبو حسان بن ثابت الشاعر مكة معتمرا فلقي المطلب وكان له خليلا، فقال له: لو رأيت ابن أخيك شيبة فينا لرأيت جمالا وهيبة وشرفا، لقد نظرت إليه وهو يناضل فتيانا من أخواله فيدخل مرماتيه جميعا في مثل راحتي هذه ويقول كلما خسق: أنا ابن عمرو العلى.
فقال المطلب: لا أمسي حتى أخرج إليه فأقدم به؛ فقال ثابت: ما أرى
ص:58
سلمى تدفعه إليك، ولا أخواله، هم أضن به من ذلك، وما عليك أن تدعه فيكون في أخواله حتى يكون هو الذي يقدم عليك إلى ما ههنا راغبا فيك.
فقال المطلب: يا أبا أوس، ما كنت لأدعه هناك، ويترك مآثر قومه وسطته ونسبه وشرفه في قومه ما قد علمت.
فخرج المطلب فورد المدينة، فنزل في ناحية وجعل يسأل عنه، حتى وجده يرمي في فتيان من أخواله، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه وكساه حلة يمانية وأنشأ يقول:
عرفت شيبة والنجار قد حفلت أبناؤها حوله بالنبل تنتضل
عرفت أجلاده منا وشيمته ففاض مني عليه وابل سبل
فأرسلت سلمى إلى المطلب فدعته إلى النزول عليها، فقال: شأني أخف من ذلك ما أريد أن أحل عقدة حتى أقبض ابن أخي وألحقه ببلده وقومه.
فقالت: لست بمرسلته معك، وغلظت عليه.
فقال المطلب: لا تفعلي فإني غير منصرف حتى أخرج به معي، ابن أخي قد بلغ، وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف قومنا، والمقام ببلده خير له من المقام ههنا، وهو ابنك حيث كان.
فلما رأت أنه غير مقصر حتى يخرج به، استنظرته ثلاثة أيام، وتحول إليهم فنزل عندهم فأقام ثلاثا ثم احتمله وانطلقا جميعا، فأنشأ المطلب يقول:
أبلغ بني النجار إن جئتهم أني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوما إذا جئتهم هووا لقائي وأحبوا حسيسي
ص:59
ودخل به المطلب مكة ظهرا فقالت قريش هذا عبد المطلب، فقال: ويحكم إنما هو ابن أخي شيبة بن عمرو؛ فلما رأوه قالوا: ابنه لعمري؛ فلم يزل عبد المطلب مقيما بمكة حتى أدرك)(1).
قال ابن سعد: (وخرج المطلب بن عبد مناف تاجرا إلى أرض اليمن فهلك بردمان من أرض اليمن، فولي عبد المطلب بن هاشم بعده الرفادة والسقاية، فلم يزل ذلك بيده يطعم الحاج ويسقيهم في حياض من أدم بمكة، فلما سقي زمزم ترك السقي في الحياض بمكة وسقاهم من زمزم حين حفرها، وكان يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقيهم.
وكانت زمزم سقيا من الله أتي في المنام مرات فأمر بحفرها ووصف له موضعها؛ فقيل له: أحفر طيبة، قال: وما طيبة ؟ فلما كان الغد أتاه فقال: أحفر برة، قال: وما برة ؟ فلما كان الغد، أتاه وهو نائم في مضجعه ذلك فقال: أحفر المضنونة.
قال: وما المضنونة، أبن لي ما تقول ؟! قال: فلما كان الغد أتاه فقال، أحفر زمزم، قال: وما زمزم ؟
قال: لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، قال: غراب أعصم لا يبرح عند الذبائح، مكان الفرث والدم، وهي شرب لك ولولدك من بعدك.
ص:60
قال فغدا عبد المطلب بمعوله ومسحاته معه ابنه الحارث بن عبد المطلب وليس له يومئذ ولد غيره، فجعل عبد المطلب يحفر بالمعول ويغرف بالمسحاة في المكتل فيحمله الحارث فيلقيه خارجا فحفر ثلاثة أيام، ثم بدا له الطوي، فكبر وقال: هذا طوي إسماعيل.
فعرفت قريش أنه قد أدرك الماء فأتوه فقالوا: أشركنا فيه. فقال: ما أنا بفاعل هذا أمر خصصت به دونكم فاجعلوا بيننا وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.
قالوا: كاهنة بني سعد هذيم، وكانت بمعان من أشراف الشام، فخرجوا إليها وخرج مع عبد المطلب عشرون رجلا من بني عبد مناف، وخرجت قريش بعشرين رجلا من قبائلها، فلما كانوا بالفقير من طريق الشام أو حذوة، فني ماء القوم جميعا فعطشوا، فقالوا لعبد المطلب: ما ترى ؟ فقال: هو الموت، فليحفر كل رجل منكم حفرة لنفسه، فكلما مات رجل دفنه أصحابه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فيموت ضيعة أيسر من أن تموتوا جميعا فحفروا ثم قعدوا ينتظرون الموت.
فقال عبد المطلب: والله ان القاءنا بأيدينا هكذا لعجز ألا نضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض هذه البلاد فارتحلوا؛ وقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجر تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه وشربوا جميعا.
ثم دعا القبائل من قريش فقال هلموا إلى الماء الرواء فقد سقانا الله، فشربوا واستقوا وقالوا قد قضي لك علينا الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو
ص:61
الذي سقاك زمزم، فوالله لا نخاصمك فيها أبدا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم)(1).
قال ابن سعد: (وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وعن عبد المجيد بن أبي عبس وأبي المقوم وغيرهم قالوا وكان عبد المطلب أحسن قريش وجها وأمده جسما وأحلمه حلما وأجوده كفا وأبعد الناس من كل موبقة تفسد الرجال ولم يره ملك قط إلا أكرمه وشفعه وكان سيد قريش حتى هلك فأتاه نفر من خزاعة فقالوا نحن قوم متجاورون في الدار هلم فلنحالفك فأجابهم إلى ذلك وأقبل عبد المطلب في سبعة نفر من بني عبد المطلب والأرقم بن نضلة بن هاشم والضحاك وعمرو ابني أبي صيفي بن هاشم ولم يحضره أحد من بني عبد شمس ولا نوفل فدخلوا دار الندوة فتحالفوا فيها على التناصر والمواساة وكتبوا بينهم كتابا وعلقوه في الكعبة وقال عبد المطلب في ذلك:
سأوصي زبيرا إن توافت منيتي بإمساك ما بيني وبين بني عمرو
وأن يحفظ الحلف الذي سن شيخه ولا يلحدن فيه بظلم ولا غدر
هم حفظوا الآل القديم وحالفوا أباك فكانوا دون قومك من فهر
قال: فأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بن عبد المطلب وأوصى الزبير إلى أبي طالب وأوصى أبو طالب إلى العباس بن عبد المطلب)(2).
ص:62
قال ابن سعد: (أخبرنا هشام بن محمد بن السائب قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري عن أبيه عن جده قال: كان عبد المطلب إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء حمير فنزل عليه مرة من المرات فوجد عنده رجلا من أهل اليمن قد أمهل له في العمر وقد قرأ الكتب فقال له يا عبد المطلب تأذن لي أن أفتش مكانا منك قال ليس كل مكان مني آذن لك في تفتيشه قال إنما هو منخراك قال فدونك قال فنظر إلى (يار) وهو الشعر في منخريه فقال أرى نبوة وأرى ملكا وأرى أحدهما في بني زهرة فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف ابن زهرة وزوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت محمدا صلى الله عليه وسلم فجعل الله في بني عبد المطلب النبوة والخلافة والله أعلم حيث وضع ذلك)(1).
قال ابن سعد أخبرنا هشام بن محمد قال حدثني أبي قال هشام وأخبرني رجل من أهل المدينة عن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبيه قالا: (كان أول من خضب بالوسمة من قريش بمكة عبد المطلب بن هاشم فكان إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء حمير فقال له يا عبد المطلب هل
ص:63
لك أن تغير هذا البياض فتعود شابا قال ذاك إليك قال فأمر به فخضب بحناء ثم علي بالوسمة فقال له عبد المطلب زودنا من هذا فزوده فأكثر فدخل مكة ليلا ثم خرج عليهم بالغداة كأن شعره حلك الغراب فقالت له نتيلة بنت جناب بن كليب أم العباس بن عبد المطلب يا شيبة الحمد لو دام هذا لك كان حسنا فقال عبد المطلب:
لو دام لي هذا السواد حمدته فكان بديلا من شباب قد انصرم
تمتعت منه والحياة قصيرة ولا بد من موت فتيلة أو هرم
وماذا الذي يجدي على المرء خفضه ونعمته يوما إذا عرشه انهدم
فموت جهيز عاجل لا شوى له أحب إلي من مقالهم حكم
قال فخضب أهل مكة بالسواد.
قال: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال أخبرني رجل من بني كنانة يقال له ابن أبي صالح ورجل من أهل الرقة مولى لبني أسد وكان عالما قالا تنافر عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي فأبى أن ينفر بينهما فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب فقال لحرب يا أبا عمرو أتنافر رجلا هو أطول منك قامة وأعظم منك هامة وأوسم منك وسامة وأقل منك لأمّة وأكثر منك ولدا وأجزل منك صفدا وأطول منك مذودا فنفره عليه فقال حرب: ان من انتكات الزمان أن جعلناك حكما)(1).
ص:64
قال ابن سعد:
(أخبرنا هشام بن محمد عن أبيه قال: كان عبد المطلب نديما لحرب بن أمية حتى تنافرا إلى نفيل بن عبد العزى جد عمر بن الخطاب فلما نفر نفيل عبد المطلب تفرق فصار حرب نديما لعبد الله بن جدعان.
قال: أخبرنا هشام بن محمد عن أبي مسكين، قال: كان لعبد المطلب بن هاشم ماء بالطائف يقال له ذو الهرم، وكان في يدي ثقيف دهراً ثم طلبه عبد المطلب منهم فأبوا عليه، وكان صاحب أمر ثقيف جندب بن الحارث بن حبيب ابن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم بن ثقيف فأبى عليه وخاصمه فيه فدعاهما ذلك إلى المنافرة إلى الكاهن العذري؛ وكان يقال له عزى سلمة وكان بالشام فتنافرا على إبل سموها.
فخرج عبد المطلب في نفر من قريش ومعه ابنه الحارث ولا ولد له يومئذ غيره، وخرج جندب في نفر من ثقيف فنفد ماء عبد المطلب وأصحابه فطلبوا إلى الثقفيين أن يسقوهم فأبوا ففجر الله لهم عينا من تحت جران بعير عبد المطلب فحمد الله عز وجل وعلم أن ذلك منة، فشربوا ريهم وحملوا حاجتهم؛ ونفد ماء الثقفيين فبعثوا إلى عبد المطلب يستسقونه فسقاهم وأتوا الكاهن فنفر عبد المطلب عليهم فأخذ عبد المطلب الإبل فنحرها وأخذ الهرم ورجع وقد فضله عليه وفضل قومه على قومه)(1).
ص:65
ولم يتوقف اللطف الإلهي بعبد المطلب عند هذا الحد وإنما تعدى ذلك إلى أمور أخرى اقترب فيها عبد المطلب من فعل الأنبياء عليهم السلام حينما أحاطت بهم الكرامات.
قال ابن سعد (أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أخبرنا محمد بن عبد الله عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن ابن عباس قال الواقدي وحدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن شيبة بن نصاح عن الأعرج عن محمد بن ربيعة بن الحارث وغيرهم قالوا: لما رأى عبد المطلب قلة أعوانه في حفر زمزم وانما كان يحفر وحده وابنه الحارث هو بكره نذر لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتى يراهم أن يذبح أحدهم؛ فلما تكاملوا عشرة، فهم: الحارث، والزبير وأبو طالب، وعبد الله، وحمزة، وأبو لهب، والغيداق، والمقوم، وضرار، والعباس، جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء لله به فما اختلف عليه منهم أحد، وقالوا: أوف بنذرك وافعل ما شئت.
فقال: ليكتب كل رجل منكم اسمه في قدحه، ففعلوا فدخل عبد المطلب في جوف الكعبة، وقال للسادن: أضرب بقداحهم؛ فضرب فخرج قدح عبد الله أولها؛ وكان عبد المطلب يحبه فأخذ بيده يقوده إلى المذبح ومعه المدية فبكى بنات عبد المطلب وكن قياما وقالت إحداهن لأبيها اعذر فيه بأن تضرب في إبلك السوائم التي في الحرم.
فقال للسادن: إضرب عليه بالقداح وعلى عشر من الإبل، وكانت الدية
ص:66
يومئذ عشرا من الإبل؛ فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعل يزيد عشرا عشرا، كل ذلك يخرج القدح على عبد الله حتى كملت المائة، فضرب بالقداح فخرج على الإبل؛ فكبر عبد المطلب والناس معه واحتمل بنات عبد المطلب أخاهن عبد الله، وقدّم عبد المطلب الإبل فنحرها بين الصفا والمروة.
قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني سعيد بن مسلم عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نحرها عبد المطلب خلى بينها وبين كل من وردها من انسي أو سبع أو طائر لا يذب عنها أحدا ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئا.
قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن عكرمة عن ابن عباس قال كانت الدية يومئذ عشرا من الإبل و عبد المطلب أول من سن دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل وأقرها رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم على ما كانت عليه)(1).
قال ابن سعد: (أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال حدثني الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري عن ابن لعبد الرحمن بن موهب بن رباح الأشعري حليف بني زهرة عن أبيه قال حدثني مخرمة بن نوفل الزهري قال: سمعت أمي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف تحدث وكانت والدة عبد المطلب قالت تتابعت على قريش سنون ذهبن بالأموال وأشفين على
ص:67
الأنفس، قالت فسمعت قائلا في المنام: يا معشر قريش ان هذا النبي المبعوث منكم وهذا أبان خروجه وبه يأتيكم الحيا والخصب فانظروا رجلا من أوسطكم نسبا طوالا عظاما أبيض مقرون الحاجبين أهدب الأشفار، جعدا، سهل الخدين، رقيق العرنين، فليخرج هو وجميع ولده وليخرج منكم من كل بطن رجل فتطهروا وتطيبوا ثم استلموا الركن ثم ارقوا رأس أبي قبيس ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقي وتؤمنون فإنكم ستسقون.
فأصبحت فقصت رؤياها عليهم فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب، فاجتمعوا إليه وخرج من كل بطن منهم رجل ففعلوا ما أمرتهم به ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم وهو غلام، فتقدم عبد المطلب وقال: اللهم هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنات إمائك وقد نزل بنا ما ترى وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف وأشفت على الأنفس فأذهب عنا الجدب وائتنا بالحيا والخصب.
فما برحوا حتى سالت الأودية وبرسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم سقوا فقالت رقيقة بنت أبي صيفي بن هشام بن عبد مناف:
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر
فجاد بالماء جوني له سبل دان فعاشت به الأنعام والشجر
منا من الله بالميمون طائره وخير من بشرت يوما به مضر
مبارك الأمر يستسقى الغمام به ما في الأنام له عد ولا خطر(1)
ص:68
قال ابن سعد: (كان النجاشي قد وجه أرياط أبا أصحم في أربعة آلاف إلى اليمن فأداخها وغلب عليها فأعطى الملوك واستذل الفقراء فقام رجل من الحبشة يقال له إبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه فقتل أرياط وغلب على اليمن، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم للحج إلى بيت الله الحرام، فسأل: أين يذهب الناس ؟ فقال: يحجون إلى بيت الله بمكة، قال: مم هو؟ قالوا: من حجارة، قال: وما كسوته ؟ قالوا: ما يأتي من ههنا الوصائل؛ قال: والمسيح لأبنين لكم خيرا منه.
فبنى لهم بيتا عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود وحلاه بالذهب والفضة، وحفه بالجوهر، وجعل له أبوابا عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب وفصل بينها بالجوهر، وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة، وجعل له حجابا؛ وكان يوقد فيه بالمندلي، ويلطخ جدره بالمسك فيسود حتى يغيب الجوهر، وأمر الناس فحجوه؛ فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبدون ويتألهون ونسكوا له.
وكان نفيل الخثعمي يورض له ما يكره فأمهل فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحدا يتحرك فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته وجمع جيفا فألقاها فيه فأخبر أبرهة بذلك فغضب غضبا شديدا وقال إنما فعلت هذا العرب غضبا لبيتهم لأنقضنه حجرا حجرا وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محمود وكان فيلا لم ير مثله في الأرض عظما وجسما وقوة فبعث به إليه.
ص:69
فلما قدم عليه الفيل سار أبرهة بالناس ومعه ملك حمير ونفيل بن حبيب الخثعمي فلما دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس فأصابوا إبلا لعبد المطلب وكان نفيل صديقا لعبد المطلب فكلمه في إبله، فكلم نفيل أبرهة فقال: أيها الملك قد أتاك سيد العرب وأفضلهم وأعظمهم شرفا، يحمل على الجياد ويعطي الأموال ويطعم ما هبت الريح، فأدخله على أبرهة.
فقال له: حاجتك. قال ترد علي إبلي. قال: ما رأى ما بلغني عنك الا الغرور وقد ظننت أنك تكلمني في بيتكم هذا الذي هو شرفكم.
قال: عبد المطلب أردد علي أبلي ودونك والبيت فان له ربا سيمنعه.
فأمر برد إبله عليه، فلما قبضها قلدها النعال وأشعرها وجعلها هديا وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب رب الحرم، وأوفى عبد المطلب على - جبل - حراء ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ومطعم بن عدي وأبو مسعود الثقفي فقال عبد المطلب:
لا همّ ان المرء يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك
ان كتب تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
قال: فأقبلت الطير من البحر أبابيل مع كل طائر ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره، فقذفت الحجارة عليهم لا تصيب شيئا الا هشمته، وإلاّ نفط ذلك الموضع، فكان ذلك أول ما كان الجدري والحصبة، والأشجار المرة؛ فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلا أتيا، فذهب بهم فألقاهم في البحر.
ص:70
قال وولى أبرهة ومن بقي معه هرابا، فجعل أبرهة يسقط عضوا عضوا؛ وأما محمود الفيل، فيل النجاشي، فربض ولم يشجع على الحرم فنجا؛ وأما الفيل الآخر فشجع فحصب. ويقال: كانت ثلاثة عشر فيلا، ونزل عبد المطلب من حراء فأقبل عليه رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا له: أنت كنت أعلم)(1).
ولقد كانت لعبد الله خمس من السنن أجراها الله في الإسلام: 1 - حرم نساء الآباء على الأبناء، 2 - سن الدية في القتل مائة من الإبل، 3 - وكان يطوف بالبيت سبعة أشواط ، 4 - ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس، 5 - وكان أول من بني معبداً بحراء وكان يدخل فيه إذا أهل شهر رمضان إلى آخر الشهر.
وعليه: فهذه هي الرموز التي تجسد فيها الاصطفاء الرباني وبها كان مصداق سيادة قريش لقبائل العرب وشرفها على بقية القبائل العربية.
فهذه القراءة الموجزة لتاريخ قريش تكشف عن مجموعة من السمات التي اتسمت بها هذه العشيرة وهي كالآتي:
1 - إنها فرضت سيادتها وسلطانها على مكة مع مالها من مكانة دينية تأخذ بأعناق العرب على اختلاف معتقداتهم ففيهم الموحدون على ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفيهم اليهود والنصارى والوثنيون فجميع هؤلاء ينظرون إلى مكة على أنها محل مقدس، فاكتسبت قريش خصوصيتها من هذه النظرة.
ص:71
2 - إنها أي: قريش، تتحكم بالمال والأسواق والاقتصاد لأهل مكة، بوصفها أي: أهل مكة قبائل تعتمد على موسم الحاج فضلاً عن التبادل التجاري مع الشمال والجنوب، أي الشام واليمن، ممثلا ذلك في إيلاف قريش الذي أخبر عنه القرآن الكريم، وبالتالي فزمام المال والتجارة والسوق بيد قريش.
3 - إنّ قريشاً ومن خلال عبد المطلب قد أوجدت نظاماً إقليمياً يعتمد على العلاقات الخارجية مع الإمبراطوريات العالمية الثلاث آنذاك.
إذ تمكن عبد المطلب ومن قبله هاشم بن عبد مناف من مدّ جسور التعاون التجاري والاقتصادي إلى هذه الممالك أو الإمبروطوريات وذلك من خلال عقد اتفاقيات مع قيصر الروم، والنجاشي ملك الحبشة، وكسرى الفرس، لغرض تسهيل سير هذه التجارة، مما عمل على نقل الصناعات بين هذه الممالك وقريش.
4 - انعكاس التبادل التجاري بين المجتمعات الثلاثة وهي الرومانية والفارسية والزنجية على طبيعة الحياة الثقافية والاجتماعية لدى قريش وظهور حالة الترف عند الطبقة الثرية فيها ممثلا ذلك في لبس الحرير والأكسية اليمانية والتيجان والحلي الرومية والفارسية؛ فاتخذ التجار أنماط عيش الأباطرة فكثر لديهم العبيد والإماء فضلا عن بناء الدور وما يرافقها من مظاهر الغنى والتبطر وإرضاء الشهوات، وبالتالي اتسمت قريش من الناحية الاجتماعية بأنها صورة ظهرت فيها ملامح متنوعة لمجتمعات أربعة وهي العربية والفارسية والرومية
ص:72
والحبشية مما انعكس على طبيعة العلاقات داخل مكة فضلاً عن تفاخرهم بالاحساب والأنساب.
5 - في المقابل نشأت طبقة في المجتمع المكي من المعدمين والفقراء جلهم من العبيد الذين جلبوا إلى مكة إما عن طريق النخاسين الذين يتاجرون بهم وإما عن طريق الغزو القبائلي وسلب القوافل، بمعنى لم يتوقف الرق على العرق وانحصاره في الزنج وإنما تعداه إلى العرب أنفسهم وإلى الروم والفرس فبلال الحبشي مظهر واحد من مظاهر الرق في المجتمع المكي وكذا صهيب الرومي، وسلمان الفارسي (المحمدي) رضي الله تعالى عنه فهؤلاء كانوا قبل الإسلام يمثلون الحالة الاجتماعية والطبقية لدى أهل مكة.
6 - كما وتدل بعض النصوص على وجود طبقة من المجتمع المكي كانت تعتمد أنماطاً خاصة في معيشتها مع بعضها وتسلك عادات اتسمت بسمة حياة القفار (الصحراء) يأكلون ورق الأشجار وجلود الحيوانات مما انعكس على سلوكهم الحياتي والمعاملاتي حتى أصبح هذا النمط من المعيشة عائقا في فهم هؤلاء للإسلام، بل اتخذوه مغرما يحاربون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته كما دل عليه حديث بضعة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته حينما منعت ارثها، فمما جاء في خطبتها الاحتجاجية:
«وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام تشربون الطرق، وتقتاتون القد والورق، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم،
ص:73
فانقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم»(1).
7 - كما تدل الروايات التاريخية على أن قريشاً قد كانت تمتاز بالقوة العسكرية وإيجاد فنون الحرب وقد عرفت هذه الحروب بأسماء أيام وقوعها ف - (أيام الفجار كان عددها أربعة أفجرة في الأشهر الحرم كانت بين قريش، ومن معها من كنانة، وبين قيس بن عيلان، وكانت الدبرة على قيس، فلما قاتلوا قالوا: فجرنا، فسميت فجارا.
ومن أيامهم: أيام العنب كان بينهم وبين بني عامر؛ ويوم نكيف من نواحي مكة، كان بين قريش وبين بني كنانة، فهزمت قريش بني كنانة، وكان صاحب أمر قريش عبد المطلب - رحمه الله -)(2).
8 - أما بلاغة قريش فقد أجمع العلماء بكلام العرب، والرواة لاشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم، أن قريشاً أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، فكانت قريش مع فصاحتها، وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب(3).
فهذه الشواهد تكشف عن طبيعة المجتمع القرشي في مكة وما ظهر فيه من سمات خاصة تميزوا بها من بين قبائل العرب كافة، وتظهر حقيقة الاصطفاء
ص:74
الإلهي لقريش ولبني هاشم وللحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على بني إسماعيل.
كما تكشف عن معنى أن تلقب السيدة الصديقة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام ب - (سيدة قريش) ودلالتها الاجتماعية والسلطوية والجاهوية وقريش هذه صفاتها ومنزلتها وشأنها في العرب قبل الإسلام، فضلا عن أن منزلة خديجة عليها السلام بعد الإسلام ازدادت سمواً ورفعة فهي أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والزوجة الصالحة التي نالت رتبة في الجنة تضاهي رتبة آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما يدل عليه قول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد أخرج الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت لفاطمة - عليها السلام -: (ألا أبشرك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
«سيدات نساء أهل الجنة أربع مريم بنت عمران وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة بنت خويلد وآسية»)(1).
وبذلك يتضح جلياً لدى القارئ الكريم معنى أن تكون لقريش السيادة على المجتمع المكي ومعنى أن تكون خديجة بنت خويلد (سيدة قريش) وعليه: فإن خديجة هي سيدة مكة بما لقريش من السيادة على المجتمع المكي.
ص:75
أن من السمات الخاصة التي اتسمت بها السيدة خديجة الكبرى عليها السلام هي قرابتها النسبية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهاشم وأسد أولاد عم وجدهم قصي بن كلاب.
وبذاك تكون خديجة قد جمعت النسب والسبب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، - كما سيمر بيانه -.
وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن كعب بن مرّة بن لؤي بن غالب بن فهر. وأمها: فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر.
وأم فاطمة: هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عمرو بن منقذ بن عمرو ابن معيص بن لؤي بن غالب بن فهر.
وأم هالة: قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر(1).
ومن خلال هذا النسب يظهر لنا:
ص:76
1. إنّها عليها السلام تتصل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجد الرابع وهو قصي بن كلاب.
2. إنّ أمها وجدَّتها الأولى والثانية، يتصلن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجد الثامن وهو «لؤي بن غالب»، وهذا يعدّ من النسب القريب أيضاً.
3. وبهذا عُدّت خديجة عليها السلام بأن لها رحماً ماسة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد جاء في الحديث:
«إن الرحم شجنة من الرحمن فقال الله من وصلك وصلته ومن قطعكِ قطعته»(1)).
4. إنّ لهذا النسب القريب أثره الكبير والبالغ في انتقال الجينات الوراثية إلى الأبناء، ولقد أشارت كثير من الأحاديث إلى ضرورة عملية انتقاء المرأة وخطورة أثرها في تحديد نوعية الذّرية وصلاح أمرها كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس»(2).
وقوله عليه السلام:
ص:77
«إن الخال أحد الضجيعين»(1).
وقد أكد هذه الخطورة كثير من المصادر العلمية، حتى بلغ الأمر من الأهمية ما جعل لهذا الجانب علماً خاصاً أُطلق عليه اسم: علم الهندسة الوراثية.
وكلما تقدم العلم كلما ازداد الإنسان اكتشافا لهذه الحقائق، وكان الاختصاص أعمق وأدق.
ومن خلال هذا نلمس مقدار العناية الإلهية، والحكمة الربانية، التي اختارت خديجة عليها السلام بأن تكون أماً لأولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلقد ولدت له أولاده كلهم، إلا إبراهيم فإن أمه كانت مارية القبطية ولقد مات صغيراً(2).
5. وأما ذريته صلى الله عليه وآله وسلم المباركة، فلقد جعلها الله عز
ص:78
وجل من ابنته فاطمة عليها السلام التي ولدتها أم المؤمنين خديجة عليها السلام.
وعليه:
يظهر لنا جلياً السر في أن تكون خديجة عليها السلام بهذا القرب النسبي من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لكي يحفظ الله عز وجل نسل خاتم الأنبياء والمرسلين من التهجين ويبقى سالماً محافظاً على صفاته النبوية من إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام.
وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحقيقة للناس حتى لا يلتبس الأمر على الكثير منهم لان السائد عند جميع البشر أن ذرية الرجل إنما تكون من صلبه، إلا ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد جعلها الله من صلب علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن رحم فاطمة عليها السلام.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب علي ابن أبي طالب»(1).
ص:79
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«كل بني أم فان عصبتهم لأبيهم ماخلا ولد فاطمة فاني عصبتهم وأنا أبوهم»(1).
وفي رواية:
«إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فانا وليهم، فهم عترتي خلقوا من طينتي ويلٌ للمكذبين بفضلهم، ومن أحبهم أحبه الله تعالى ومن أبغضهم أبغضهُ الله تعالى»(2).
ص:80
وغيرها من الأحاديث الشريفة التي تكشف عن أهمية اختيار الزوجة وآثار ذلك الاختيار على الذرية فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بذرية الأنبياء عليهم السلام فضلاً عمن اصطفاهم الله تعالى لحملة شرعه وجعلهم حججاً على خلقه وهداة للناس إلى دينه، قال تعالى:
(إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ 1.)
لقد بلغت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام قبل الإسلام منزلةً سامية في مكة، وبين قريش؛ ولقد ذكرها أهل السير والتاريخ بكلمات تكشف عن عظم هذه المنزلة وسمو تلك المكانة.
فكانت - كما ذكروا -: امرأة حازمة، ضابطة، جلدة، قوية، شريفة، مع ما أراد الله لها من الكرامة والخير.
وهي يومئذٍ: أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وأحسنهم جمالاً(1).
ص:81
وكانت تدعى في الجاهلية «بالطاهرة»(1).
ويقال لها: «سيدة قريش»(2).
وكل قومها كان حريصاً على الاقتران بها لو يقدر عليه(3).
ص:82
وقد خطبها رجال من قريش برزوا في ساحتها وبذلوا لها الأموال(1).
وممن خطبها: عقبة بن أبي معيط ، والصلت بن أبي يهاب، وأبو جهل، وأبو سفيان(2).
ويبدو أن السبب في رفضها هو عدم توفر الصفات الخيرة والسجايا الطيبة والنفس الكريمة في مثل هؤلاء! لأن أي امرأة تتوفر فيها مثل هذه الصفات من النسب الرفيع، والمال الكثير، مع مالها من الجمال البالغ، لا توافق على احد ممن تقدموا لخطبتها.
لأن مثل هذه الأمور غالباً ما تكون هي الدافع الكبير لكل رجل أو امرأة في الزواج في ذلك الوقت أو غيره.
فلذلك لم يكن عندها دافع آخر يدفعها من الزواج سوى البحث عن الفضيلة بأسمى درجاتها؛ وهذا ما لا يمكن توفره في مثل هذه الشخصيات التي ذكرت والتي لم تذكر، باستثناء شخصية النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي سرى ذكره بالمحاسن وعلا خبره بالفضائل في مكة حتى عُرف بالصادق الأمين قبل أن يبعث نبياً، فضلاً عما ظهر له من الكرامات التي طأطأت لها رؤوس الأشراف فكان هذا ما تبحث عنه سيدة قريش.
ص:83
ص:84
ص:85
ص:86
يُعد زواج السيدة خديجة عليها السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بداية تاريخ جديد في حياتها، إن لم يكن هذا الزواج هو بداية مولد جديد لخديجة بدأ فيها التاريخ يسجل منذ هذه اللحظة معنى أن تكون أمّة ستجمع في امرأة.
ولذلك لا يمكن جمع كل تفاصيل حياة هذه الأمّة، بل لا يمكن إيصال هذا الحجم من التحول الفكري في حياة الأمم من خلال مجموعة من الوريقات دون أن يكون هناك همٌ مشتركٌ وسعيٌ دؤوبٌ في تتبع هذه الموارد الفكرية والنهضوية التي امتازت بها حياة خديجة عليها السلام.
ولذلك: نلتمس العذر إن لم نوفق في تسلسل الفكرة أو إيصال المفردة المناسبة لغرض بيان المعنى أو إظهار الدلالة على ما شملته هذه الأمّة من رقيّ وخزين فكري يدعم الأجيال على مر العصور.
وعليه:
فإنّ من الواجب علينا أن نزيل الغبار عن بعض العناوين التي شملتها هذه الخزانة الحياتية والبنائية للإنسان وهو يطالع بشغف حياة السيدة خديجة عليها السلام وينهل من معينها الفكري، فكانت كالآتي:
ص:87
هذا السؤال ربما خطر على ذهن بعض القراء، أو ربما هو لم يخطر على ذهن البعض الآخر، لان الجواب عند البعض ممن قرأوا كتب التاريخ، والسيرة النبوية كان واضحاً.
بل ربما أن الإجابة على هذا السؤال كانت عند البعض من المسلمات! وحينئذ لا داعي لطرح مثل هذا السؤال.
لكن نحن طرحنا هذا السؤال على مائدة البحث العلمي والموضوعي فوجدنا، أن الإجابة هي: عكس ما ذكرته كتب التاريخ والسيرة من خلال المسائل الآتية:
إنّ الرجوع إلى أقوال المؤرخين وحفاظ المسلمين الذين ذكروا شأن خديجة ومكانتها في مكة، وإن: «كل قومها كان حريصاً على الاقتران بها لو قدر عليه». ورفضها لشخصيات قريش وتجارها مع بذلهم الأموال الكثيرة لها.
فهذه الأقوال لا يمكن أن تنسجم مع ما جاءت به بعض المصادر لتخبرنا: أن «سيدة قريش» «الطاهرة» قد تزوجت من رجلين من الأعراب هما: (عتيق ابن عائذ بن عبد الله المخزومي) و (أبي هالة التميمي) وأن لخديجة عليها السلام منهما أولاداً.
ص:88
ثم تنزل الستار عليهما ولم تعد تذكرهما في أي مكان، ولم تبين أي حال من أحوالهما! فلعلنا نلمس من خلال هذا الحال، المبرر والدافع لهذا الزواج ؟
لكن يبدو أن الغرض المقصود من هذه الرواية هو الإشارة إلى أن خديجة عليها السلام لم تكن باكراً عندما تزوجها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فتحظى غيرها بهذه المنقبة ؟
أو لعل الراوي كان من المقربين من أهل الساسة فأراد كسب مودتهم وإرضاءهم! وأياً كان هو الغرض فإن هذه المصادر ما أنصفت أم المؤمنين خديجة عليها السلام في كتاباتها.
إنّ الاختلاف الكبير في الروايات التي تحدثت عن هذين الرجلين يدعو إلى الاعتقاد بأن هذين الرجلين هما من نسج خيال بعض الرواة، فقد اختلف ابن حجر والزبيدي والحلبي والمامقاني، وابن سعد، والطبراني في صحة اسم أحدهما، ولم يعلم أيهما قد تزوجت به خديجة عليها السلام قبل الآخر، ولم يتأكد عندهم أن المدعو: هند، هو ابن هذا الزوج أو الزوج الآخر، وهل هو ذكر أو بنت(1) ؟
ص:89
أما ابن حزم الأندلسي فلقد ذكر أن لها من عتيق بن عائذ ولدا اسمه (عبد الله) ومن أبي هالة ثلاثة: ولدين وهما (هند والحارثاً وبنتاً وهي زينب)(1).
اعترض أبو القاسم الكوفي (المتوفى سنة 352)(2) على هذه المقولة وعدها
ص:90
من الفظائع مع استحالة وقوعها عند أهل العقل والتمييز، فقال: «إن الإجماع من الخاص والعام، من أهل الآثار ونقلة الأخبار: على أنه لم يبقَ من أشراف قريش ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم إلا من خطب خديجة ورام تزويجها، فامتنعت على جميعهم من ذلك، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضب عليها نساء قريش وهجرنها، وقلن لها: خطبك أشراف قريش
ص:91
وأمراؤهم فلم تتزوجي أحداً منهم، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب، فقيراً لا مال له ؟!
فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة، يتزوجها إعرابي من تميم، وتمتنع من سادات قريش، وأشرافها على ما وصفناه ؟! إلا يعلم ذوو التمييز والنظر: أنه من أبين المحال وافظع المقال»؟!(1)
فقال رحمه الله: وروى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج بها، وكانت عذراء(2).
إن اختصاص فاطمة الزهراء عليها السلام بآية التطهير فيه دلالة على
ص:92
عدم زواج خديجة بأحدٍ قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك بمقتضى الإرادة الربانية، المخبرة عنها الآية في قوله تعالى:
(إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ 1) .
هذه الإرادة حفظت خديجة من أن تمسها يد الشرك، أو تدنسها الأرجاس.
لأن رحمها الطاهر أُعد لكي يستقبل الطهر صلى الله عليه وآله وسلم فتولد المطهرة فاطمة صلوات الله عليها وهكذا هي سنة الله مع أنبيائه عليهم السلام، فكما ان الله قد ربط على قلب أم موسى إذ كادت لتبدي به فحفظها وحفظ نبيه الكليم - عليه السلام - ثم حفظه وهو طفل رضيع موضوع في تابوت مقفل تقذفه الأمواج كما شاءت إرادة الله تعالى.
فكان محفوظاً بالعناية الإلهية، سائراً بمقتضى الإرادة الربانية، حتى أرجعه الله إلى أمه كي تقر عينها، كذلك هو الحال مع خديجة فقد كانت محفوظة من الأرجاس، مشمولة بلطف الرحمن، سائرة بعين الله، مصونة بمقتضى إرادة الله من أن يتعرض لها أي شكل من أشكال الدنس، حتى لقبت بين قومها ب - (الطاهرة)(1) قبل أن تزف إلى الطهر الطاهر المطهر خير الورى وسيد البشر
ص:93
لتحمل بسيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام، فتكون وعاءً للإمامة وأماً لحجج الله على خلقه وحملة شرعه.
وفي قول الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وهو يخاطب جده الإمام الحسين بن علي عليهما السلام سيد شباب أهل الجنة بهذه الكلمات:
«أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها»(1)).
دلالة أخرى تسير جنباً إلى جنب مع القرآن لتبين حصانة خديجة عليها السلام من الأرجاس بدلالة قوله عليه السلام:
«والأرحام المطهرة».
والمتتبع سيرة الأولياء، ومناهج الأنبياء، يجد الشواهد الكثيرة في نجاة عباد الله المخلصين وبخاصة عندما يكون الأمر متعلقاً بعناصر تكوين الرسالة، وبقية النبوة.
ص:94
ولعل كثيراً من الناس لا يجد أهمية لهذه القضية من حيث إن خديجة عليها السلام تزوجت قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لم تتزوج فنقول:
إن الله سبحانه وتعالى عندما سن السنن، وقدر المقدورات، جعل هناك ثوابت من خلالها تجري الأمور، فشجرة الليمون لا يمكن أن تعطينا التفاح مع أن الشجرتين تزرعان في نفس التربة! والسبب: هو ان السنن والقوانين التي ركبت في الجينات الوراثية لهذه النبتة أو تلك لا تتغير، فكانت من ضمن الثوابت التي جعلها الله في خلقها؛ ولكن لو فرضنا ان تغيراً حدث في الشريط الوراثي الذي تحمله هذه الجينة فإنه لا يمكن أن نحصل على ثمرة الليمون بشكلها وهيأتها التي خلقها الله، مع حفظ النتائج الإيجابية التي قدرها الله لهذه الثمرة.
فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بالنبوة والأنبياء الذين جعلهم الله الخلفاء في الأرض. قال عز وجل:
(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً 1.)
ولكي تحفظ هذه المنزلة فإن الله جعل لها ثوابتَ وسنناً لا يمكن تجاوزها أو تغييرها، لأن التغير في هذه السنن لو حصل مجازاً بسبب عوامل دخيلة فإنه لا يمكن أن تتحقق النتائج المطلوبة المتمثلة في الخلافة الإلهية على الأرض. وذلك من خلال تجسيد الشرع الإلهي في تلك الشخوص المصطفاة.
ص:95
ولأجل الحفاظ على هذه النتائج جعل الله قانون «حفظ الأصلاب وطهارة الأرحام» للحيلولة دون دخول عوامل سلبية تؤثر على التكوين الخلقي والخُلقي لأصحاب هذه المنزلة، وكلما كانت المنزلة أكبر كلما كانت القوانين والسنن الإلهية التي تحيط بها أكثر وأدق.
وعليه: فإننا عندما نأتي إلى مسألة زواج خديجة عليها السلام نجد أن هناك سنناً وقوانين أحاطت هذه السيدة العظيمة عليها السلام، لأنها الموضع الذي اختاره الله لكي تحمل ثمرة النبوة... لكي تحمل بسيدة نساء العالمين... لكي تحمل بفاطمة صلوات الله عليها ولأجل هذا أجرى الله سنته في حفظ هذا الرحم.
وسوف نعرض - إن شاء الله - في أحد فصول هذا الكتاب كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اتبع منهاجاً خاصاً من العبادات المختلفة قبل أن يباشر أم المؤمنين خديجة عليها السلام لتحمل بفاطمة صلوات الله عليهم أجمعين.
وكما قلنا لأن الأمر متعلق بأوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثقله الأصغر الذي أوصى الأمّة بالتمسك به مع الثقل الأكبر وهو القرآن الكريم.
عند مراجعة كتب السيرة والتاريخ نجد أن هناك تفاوتاً كبيراً في الروايات التي ذكرت عمر خديجة عليها السلام حين اقترانها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان العمر الذي ابتدأت به هذه الروايات (خمساً وعشرين سنة)(1).
ص:96
بينما العمر الذي انتهت به كان (ستاً وأربعين سنة)(1) ومن خلال هذا التفاوت نلمس انه هناك حقيقة ضائعة وهي التي تحدد لنا حقيقة عمرها حينما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكي نتمكن من الوصول إلى هذه الحقيقة اعتمدنا على الأمور التالية:
ولقد اعتمد الحافظ ابن كثير أيضاً على رواية البيهقي، إذ ذهب إلى أن عمر خديجة عليها السلام حين الوفاة كان خمسين سنة(2).
أما الحاكم النيسابوري(3) فقد عدّ القول الذي ذكر أن عمر خديجة حين
ص:98
الوفاة كان خمساً وستين قولاً شاذاً وأضاف: (إنّ الذي عندي أنها لم تبلغ الستين سنة)(1).
ص:99
لكنّ الحاكم النيسابوري قد بيّن العمر الذي بلغته خديجة حين الوفاة وذلك من خلال الرواية التي أخرجها عن محمد بن إسحاق الذي ذكر أن خديجة كان لها يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمان وعشرون سنة، ولم يذكر سواها.
وهذا يعني أن عمرها حين الوفاة كان اثنين وخمسين سنة، لأن الفترة التي عاشتها خديجة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت خمساً وعشرين سنة(2).
ص:100
أي: إن محمد بن إسحاق يشير إلى أن عمر خديجة عليها السلام حين الوفاة كان: اثنين وخمسين سنة.
أما ابن عساكر فقد ذكر: أنها توفيت عن عمر ناهز الخمس والخمسين سنة(2).
إذن:
هذه الأقوال تدل على ان العمر الذي بلغته أم المؤمنين خديجة عليها السلام حين الوفاة كان في الخمسين، فلْنأتِ الآن وننظر إلى أقوال المؤرخين في تحديد السنة التي توفيت فيها كي نصل إلى معرفة السنة التي تزوجت فيها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكم كان لها من العمر حين الزواج ؟.
ص:101
ذكر أكثر المؤرخين أن خديجة توفيت في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين(1).
وهذا يعني: أن عمرها حينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أربعين سنة، وهو العمر الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
بمعنى أدق: أنها كانت بعمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما عمرها حين الزواج فقد ذكروا: «أنها تزوجت قبل البعثة بخمسة عشر عاماً»(2) مما يدل على أنها حينما اقترنت بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان عمرها خمساً وعشرين سنة ؟
لأنها عليها السلام عاشت مع النبي الأكرم (خمساً وعشرين) سنة منها خمس عشرة سنة قبل البعثة وعشر سنوات بعدها وتوفيت ولها من العمر خمسون سنة.
ص:102
وإذا أخذنا بأكثر الأقوال شهرةً في عمر النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عندما تزوج بها عليها السلام وهو «خمس وعشرون سنة»(1) فان عمر خديجة حين الزواج سيكون مساوياً لعمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما في حال الأخذ بالروايات التي ذكرت عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين الزواج كان (ثلاثين)(2) و (خمسة وثلاثين)(3) و (سبعة وثلاثين)(4) فهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أكبر من خديجة عليها السلام عندما اقترن بها ب -:
1. خمس سنوات لأن عمرها كان خمساً وعشرين سنة وعمر النبي ثلاثين وذلك وفق الرواية الأولى.
2. أو انه صلى الله عليه وآله وسلم أكبر من خديجة بعشر سنوات على
ص:103
وفق الرواية الثانية.
3. أو أنه يكبرها ب - «اثنتي عشرة» سنة على وفق الرواية الثالثة.
وهو عكس ما ذكر من أنها عليها السلام كانت أسن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه:
فإننا نستدل من خلال ما ذكر أن عمر خديجة عليها السلام وقت الزواج كان خمساً وعشرين سنة وهو نفس العمر الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الزواج والذي قال به أكثر المؤرخين والمحققين وما نسخته أيدي أهل السير.
فضلاً عن أن كثيراً من المصادر قد ذكرت أن عمر خديجة عليها السلام كان «خمساً وعشرين»(1) سنة؛ وبعضهم قد اقتصر على رواية واحدة وهي: أن عمرها كان (ثمانياً وعشرين)(2) مما يدل على أنهم يرون أن عمرها كان مقارباً لعمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يكن هو أكبر منها لما ذكر سابقاً.
أما ما ذكره البعض من ان أم المؤمنين خديجة عليها السلام كان عمرها في الأربعين حين تزوجها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وانها تزوجت
ص:104
قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رجلين لم تعرفهما شعاب مكة ولم تطأ أقدامهما بواديها.
فهو مما صاغته يد المتزلفة للحكام الأمويين وغيرهم من أصحاب الأغراض والأمراض - زادهم الله مرضا - وهو غيض من فيض مما عصفت به تلك الأكاذيب بمقدرات الإسلام والمسلمين.
بالوسائل الإعلامية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية كافة حتى سجل التاريخ الإسلامي بذلك سابقة فريدة لم يشهدها تاريخ أمّة من الأمم، فأي أمّة اجتمعت على أن تشن حرباً ضروساً ضد امرأة وهي لا تملك من الناصر سوى بعلها حتى ماتت مقتولة، ومضت إلى ربها شهيدة ومحتسبة(1).
أشارت بعض المصادر إلى أن خديجة عليها السلام قد أبدت رغبتها في الزواج من النبي صلى الله عليه وآله وسلم(2).
ص:105
وبما أنها امرأة شريفة، عفيفة، لبيبة، فقد جعلت الإفصاح عن هذا الزواج من خلال امرأة أخرى هي نفيسة بنت منية، وقد أرسلتها دسيساً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرت النبي برغبة خديجة في الزواج منه، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم عمّه أبا طالب عليه السلام، فذهب شيخ الأبطح في أهل بيته ونفر من قريش إلى ولي خديجة وهو عمها عمرو بن أسد، وليس إلى أبيها كما ذكره ابن إسحاق وصححه السهيلي في أن خويلداً قد مات في حرب الفجار قبل ذلك(1).
وخطبها أبو طالب لابن أخيه؛ إلا أن سياق بعض الروايات التي تناولت هذه الحادثة قد تجاوزت حدود اللياقة والأدب فضلاً عن التعدي على مقام السيدة خديجة عليها السلام.
إنّ ما روي من أن خديجة عليها السلام قد سقت أباها خمراً وألبسته حلة ونثرت عليه طيباً حتى لا يعارض أمر زواجها(2) ؛ فهذا لا يتناسب مع الذوق، وغير مقبول عقلاً.
وذلك:
ص:106
فلو أن مثل هذا الفعل حدث في أصغر البيوتات لاستهجن أحد الطرفين الأمر، سواء كانوا من أهل الخاطب أو المخطوب؛ فكيف إذا كان الخاطبون من أهل الشرف والرفعة، وبيدهم سقاية الحاج ورفادة البيت الحرام، أن يخطبوا إلى رجل قد غلب عليه السكر، فهو لا يعلم ما يقول.
وكيف سيلزم ولي خديجة بقول لا يدرك القصد فيه! فيقال له: لقد زوجت خديجة فيقول: لم أفعل ؟
كما أن الخطبة التي ذكرها أبو طالب عليه السلام المشتملة على الخصال الكريمة والسجايا الفضيلة، تستدعي من السامع أن يعي معاني كلماته، ولو كان ولي خديجة مخموراً فعندها يكون كلامه في محل ترجيح بلا مرّجح، وبيان ما لا يلزم بيانه، وهذا مخالف لسيرة العقلاء.
وتنقل الرواية أيضاً: أن ولي خديجة عندما أفاق من سكره وعرف بأمر زواج خديجة قال: لم أفعل؛ لكنه عندما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الآن قبلت ؟!
وهذا غير مقبول أيضاً:
1. لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عُرِفَ بين قريش بالصادق الأمين واشتهر بالأمانة والخلق الكريم، وتحدثت بأمانته الجماعات المكية في
ص:107
سمرها، وفي مجالسها(1). وهذا يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مجهولاً وبخاصة بالنسبة لولي خديجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له صلة القرابة مع خديجة كما مرّ بيانهُ سابقاً.
2. فضلاً عما ذكر فإن والد خديجة قد مات قبل ذلك في حرب الفجار فمن أين أتت به خديجة حتى تسقيه خمراً؟! وكفى بهذا دليلاً على بطلان الرواية.
إن هذه الفرية في حق أم المؤمنين خديجة عليها السلام، أي: أنها سقت أباها خمراً، يكشف بطلانها كلام أبي طالب الذي يعلن أمام الحاضرين عظيم منزلة ابن أخيه وإن له بعد حين نبأ عظيماً، وخطراً جليلاً، وهي النبوة؛ التي لمس آثارها من قبله عبد المطلب حينما استسقى بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغيرها من المعاجز والكرامات التي لازمته من قبل أن يولد، منذ أن كان جنيناً في بطن أمه.
فصلى الله عليه وآله (يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)
وعليه:
فقد خطب شيخ الأبطح رضوان الله تعالى عليه لابن أخيه الصدّيقة
ص:108
الطاهرة من عمرو بن أسد بهذه المعاني العميقة والكلمات الجليلة، التي يكشف فيها تصريحاً وتلميحاً إلى اعتقاده بنبوة ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنه أول من دعا الناس إلى الاعتقاد به؛ وإلا فما وجه الضرورة في ذكره رضوان الله عليه لبيان حقيقة ابن أخيه حتى يقسم بالله على ذلك فيقول: (وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل) وأي نبأ أعظم من النبوة، وأي خطر أجل من الرسالة، أما خطبته فقد كانت (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ(1) معد، وعنصر مضر؛ وجعلنا حضنة بيته، وَسَواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يوزن برجل إلا رجح به، وإن كان في المال قلاّ، فإن المال ظلٌ زائل، وأمرٌ حائِل، ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وقد بذل لها من الصِدَاق ما آجله وعاجله اثنتا عشرة أوقية ذهباً ونشاً(2) ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل)(3).
ص:109
لعل العلامة المجلسي رحمه الله يكاد ينفرد في نقله تفاصيل مراسيم زفاف السيدة خديجة عليها السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتمداً في ذلك على ما رواه أبو الحسن البكري في كتابه اللمع.
إلا أن هذه التفاصيل لم تكد تخلو من الموضوعات الكثيرة التي بالغت في تلك المراسيم والتي لا تنسجم مع سمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته مما يدعو إلى التوقف في نقلها وإيرادها.
أما العلامة المجلسي فقد ظهر لديه عدم الاطمئنان بهذه الرواية وقد صرح بذلك فقال: (إنما أوردت تلك الحكاية لاشتمالها على بعض المعجزات والغرائب، وإن لم نثق بجميع ما اشتملت عليه لعدم الاعتماد على سندها)(1).
وعليه:
يمكن للقارئ الكريم الرجوع إلى البحار للاطلاع على هذه الرواية التي لا تخلو من الحقائق الكاشفة عن علو منزلة خديجة عليها السلام وعظم شأنها في
ص:110
المجتمع المكي وإنها بحق كانت سيدة قريش التي أظهرت من الجلالة والحفاوة في مراسيم زفافها ما يليق بالملوك وزعماء القوم وأشرافهم، ولعل الرواية لا تخلو أيضا من الزيادات التي يمكن أن تكون من كلام الرواة الذي يرافق وصف الحادثة والمبالغة في مجرياتها.
أما ما ورد عن العترة النبوية عليهم السلام في بيان مراسيم الزواج ابتداءً من الخطبة إلى الزفاف، فقد روى الشيخ الكليني رحمه الله عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
«لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوج خديجة بنت خويلد أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال: الحمد لرب هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل وأنزلنا حرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن ابن أخي هذا - يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه ولا عدل له في الخلق وإن كان مقلا في المال فإن المال رفد جار وظل زائل وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها والمهر علي في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله ورب هذا البيت حظ عظيم ودين شائع ورأي كامل.
ثم سكت أبو طالب وتكلم عمها وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر وكان رجلا من القسيسين فقالت
ص:111
خديجة مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمد نفسي، والمهر علي في مالي فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها وادخل على أهلك قال أبو طالب: أشهدوا عليها بقبولها محمدا وضمانها المهر في مالها.
فقال بعض قريش يا عجباه المهر على النساء للرجال، فغضب أبو طالب غضبا شديدا وقام على قدميه وكان ممن يهابه الرجال ويكره غضبه، فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي.
ونحر أبو طالب ناقة ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأهله، وقال رجل من قريش يقال له: عبد الله بن غنم:
هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجته خير البرية كلها ومن ذا الذي في الناس مثل محمد
وبشر به البر أن عيسى بن مريم وموسى بن عمران فيا قرب موعد
أقرت به الكتاب قدما بأنه رسول من البطحاء هاد ومهتد(1)
وتدل الروايات الشريفة عن العترة الطاهرة عليهم السلام في زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة عليها السلام على أمور، منها:
ص:112
فقد أشارت الروايات الشريفة أيضا إلى تحديد يوم الزواج فكان مناسبة يجدد فيها أتباع أهل البيت عليهم السلام أفراحهم ويتخذون هذا اليوم، يوم بركة وعافية، وبخاصة حينما يتعلق هذا اليوم بالزواج؛ إذ يحرص كثير من المؤمنين على أن يكون بناء حياتهم الأسرية في هذا اليوم تيمناً بما دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السرور فيه.
وعليه:
فلقد كان يوم العاشر من ربيع الأول يوم بركة وسرور عند أتباع أهل البيت عليهم السلام وذلك لأنه اليوم الذي تزوج فيها رسول الله بالسيدة الطاهرة خديجة الكبرى عليها السلام.
وهو ما أخرجه الشيخ الطوسي في المصباح في أعمال شهر ربيع الأول(1).
تدل الروايات على استحباب تعجيل الزفاف بعد الخطوبة ولا تترك فاصلة طويلة من الوقت بين الخطوبة والزفاف، ولعل ذلك يؤدي إلى عدم الاستقرار النفسي بين المرأة والرجل حينما يتم التأخير، فضلاً عمّا يترتب عليه من حرج أو ريبة عند اللقاء بين الخطيبين.
ولذلك نرى أن الروايات أشارت إلى أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن خطب أبو طالب له خديجة دخل بها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله
ص:113
وسلم من الغد، كما نصّ عليه الصدوق(1) ، والشيخ الكليني(2) رحمهما الله.
إن هذا العنوان هو مما كان يرافق تلك النخبة التي منّ الله عليها بالإيمان في أول ظهور رحمة الله للعالمين في مكة، حتى إن خديجة عليها السلام باتت الملكة المتربعة على رتبة السبق إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد علي بن أبي طالب عليه السلام، فضلاً عن ذلك فإن الحديث عن وقت إسلام أولئك السابقين إلى الإيمان بالله ورسوله يكشف عن حقيقة قلوب هؤلاء وطهارة باطنهم وسلامة فطرتهم وتعقلهم للأمور وحنكتهم في اتباع الحق.
ولذلك كان الغرض من هذا العنوان هو بيان هذه الجوانب الكمالية في شخص أم المؤمنين خديجة عليها السلام، وامتيازها على غيرها من نساء المسلمين ورجالهم.
إنّ من السمات الخاصة التي ظهرت في حياة السيدة خديجة عليها السلام هي سمة إيمانها بالله وتصديقها برسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
والسبب في ذلك يعود إلى أن الله تعالى قد اختار لها أن تكون ممن يشهد هذه الرحمة الإلهية من الأمّة فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل
ص:114
البعثة بخمس عشرة سنة - كما مرّ بيانه -.
مما جعلها أول من يتلقى هذا الأمر ليؤمن به ويعين صاحبه ويناصره ويؤازره حتى لحقت بربها مؤمنة مجاهدة محتسبة بعد أن قضت مع رسول الله عشر سنوات أخرى ليكون حصيلة ما عاشته مع النبي الأعظم خمساً وعشرين سنة.
هذه السنوات العشر كانت فيها خديجة قد عايشت حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولاحقته في جهاده ومعاناته وآلامه ونشر رسالته.
ولذا: فقد اختار اللهُ لها أن تكون أول من آمن به وصدق برسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فعن ابن عباس أنه قال: (كان علي بن أبي طالب أول من آمن من الناس بعد خديجة)(1) ، أي: أنها عليها السلام كانت أول من آمن بالله وصدق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم(2).
وقد جاء في الحديث الشريف، عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (خديجة بنت خويلد سابقة نساء العالمين إلى الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم)(3).
ص:115
مثلما جعل الله تعالى لحياة هذه المرأة العظيمة من السمات الخاصة قبل الإسلام، جعل لها كذلك من السمات بعد الإسلام.
فبعد أن سبقت الناس إلى الإيمان بالله تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك سبقتهم إلى الصلاة معه؛ فقد روي أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث يوم الاثنين، وصلت خديجة معه في نفس اليوم(1).
بل وتفيد بعض الروايات أنها صلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام أول صلاة جماعة في الإسلام؛ فقد أخرج الحاكم النيسابوري عن عفيف الكندي قال: (كنت امرأً تاجراً وكنت صديقا للعباس ابن عبد المطلب في الجاهلية، فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى، فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي.
فقلت للعباس من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب.
ص:116
قال عفيف الكندي، وأسلم وحسن إسلامه، لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام)(1).
والرواية واضحة الدلالة على اختصاص السيدة خديجة الكبرى بهذه المنقبة في أسبقيتها إلى طاعة الله واتباع رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فضلا عن سمات أخرى سيمر بيانها.
أشارت العديد من المصادر التاريخية وغيرها إلى كثرة مال خديجة عليها السلام وآثاره في تحريك الاقتصاد في مكة ودوره في دعم الرسالة المحمدية، وما رافق ذلك من امتعاض لبعض الكتّاب الذين وجدوا مغرمهم في إثارة الشبهات حول هذا المال، ولذا وجدت لزاما مناقشة هذه الأقوال والرد على هذه الشبهات.
لقد تناول المؤرخون وغيرهم حجم مال خديجة عليها السلام فكان كالآتي:
1 - روى الشيخ الطوسي في أماليه في أمر مبيت علي عليه السلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمما ذكر: (وأمر أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم.
ص:117
قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله - يعني ابن أبي رافع - أو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجد ما ينفقه هكذا؟
فقال: إني سألت أبي عما سألتني، وكان يحدث بهذا الحديث، فقال: فأين يذهب بك عن مال خديجة عليها السلام)(1).
2 - قال المسعودي: وكانت خديجة بنت خويلد من مياسير قريش وتجارها تستأجر الرجال وتبعثهم في مالها(2).
3 - قال السيد ابن طاووس: (ولما كان بمكة كان له مع ماله ومال كفيله وعمه أبي طالب مال خديجة التي يضرب بكثرة مالها الأمثال)(3).
4 - قال المجلسي: (كانت أكثر قريش مالاً وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفق منه ما شاء في حياتها)(4).
ونقل في وصفها: (بأنها كانت ملكة عظيمة، وكان لها من الأموال والمواشي ما لا يحصى)(5).
5 - قال التستري: (إن أهل الأثر مجمعون على أن خديجة كانت أيسر قريش وأكثرهم مالا وتجارة)(6).
ص:118
6 - قال الشيخ أبو الحسن البكري: (كان لخديجة في كل ناحية عبيد ومواشٍ ، حتى قيل: إن لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان)(1).
هذه الصورة التاريخية عن حجم المال الذي تملكه السيدة خديجة عليها السلام قد انتقل إلى ملكية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال ما قامت به خديجة عليها السلام من تقديمها هذا المال هبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد زواجها منه ليتصرف فيه كيفما يشاء، فقد روى المجلسي قدس سره: (إن خديجة قالت لعمها ورقة: خذ هذه الأموال وسر بها إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقل له: إن هذه جميعها هدية له، وهي ملكه يتصرف فيها كيف شاء، وقل له: إن مالي وعبيدي وجميع ما أملك، وما هو تحت يدي فقد وهبته لمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - إجلالاً وإعظاماً له، فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته: يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها وعبيدها وخدمها وجميع ما ملكت يمينها والمواشي والصداق والهدايا لمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وجميع ما بذل لها مقبول منه وهو هدية منها إليه إجلالاً له وإعظاماً ورغبة فيه، فكونوا عليها من الشاهدين(2).
ص:119
والسؤال المطروح هو: ماذا عمل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المال ؟
أولاً: لم تشر الروايات الصحيحة إلى أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد استفاد من هذا المال لغرض التجارة، أي أنه لم يستخدمه في التجارة بعد أن انتقل إليه من خديجة عليها السلام.
بمعنى آخر: لم يستخدمه صلى الله عليه وآله وسلم خلال الفترة التي سبقت البعثة النبوية والبالغة خمس عشرة سنة، وهذا يدل على حكمته البالغة، فقد قطع بهذا الصنيع الطريق على أعدائه في مختلف الأزمنة من التقول والافتراء عليه في غرضه من الزواج بخديجة عليها السلام على الرغم من هذه السنين.
ثانيا: أما بعد البعثة فقد استخدم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هذا المال في الانفاق في سبيل الله تعالى ونشر كلمة التوحيد.
حتى قال:
«ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة عليها السلام»(1).
(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفك من مالها الغارم، والعاني، ويحمل الكل، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة، ويحمل من أراد منهم الهجرة)(2).
ص:120
إنّ مما أثار أضغان المنافقين وأصحاب المصالح والأغراض الشخصية والقلوب المريضة هو قيام أم المؤمنين خديجة عليها السلام ببذل هذا المال في نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقاموا ببث الشبهات حول هذا المال ومصادرة دوره في قيام هذا الدين، فكان مما قالوا:
إن مما قام به أولئك المغرضون هو نسبهم هذا الدور المتميز والحيوي والجهادي في سبيل الله تعالى الذي قامت به أم المؤمنين خديجة عليها السلام إلى أبي بكر وتقولوا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مال خديجة إلى أبي بكر كما أخرجه أحمد في المسند عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر»(1).
ولقد أجاد أبو جعفر الاسكافي المعتزلي (المتوفى سنة 220 ه -) وهو شيخ ابن أبي الحديد، ونقله عنه الجاحظ (المتوفى سنة 255 ه -) - على الرغم من موالاته لبني أمية - في الرد على هذه الرواية، وإظهار زيفها، وبيان بطلانها، فقال:
(أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق هذا المال، وفي أي وجه وضعه
ص:121
فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه، وينسى ذكره ؟ وأنتم فلم تقفوا على شيء أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم.
وكيف يدعى له الانفاق الجليل، وقد باع من رسول الله صلى الله عليه وآله بعيرين عند خروجه إلى يثرب، واخذ منه الثمن في مثل تلك الحال، وروى ذلك جميع المحدثين ؟!
وقد رويتم أيضا: انه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا، ورويتم عن عائشة أنها قالت هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم، وقلتم: إن الله تعالى انزل فيه:
(وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى 1.)
قلتم هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة، فأين الفقر الذي زعمتم انه أنفق حتى تخلل بالعباءة ؟!
ورويتم: أن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة! وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآهم ليلة الإسراء، فسأل جبرائيل عنهم فقال هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الأرض، فإنه سينفق عليك ماله، حتى يخلل عباءة في عنقه ؟!
وأنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما انزل آية النجوى.
فقال:
ص:122
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ1.)
الآية لم يعمل بها إلا على بن أبي طالب وحده، مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في الحال التي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته، فعاتب الله المؤمنين في ذلك، فقال:
(أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ 2.)
فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه، وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة، فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا وامسك عن مناجاة الرسول، وإنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين ؟!!
وأما ما ذكر من كثرة عياله ونفقته عليهم، فليس في ذلك دليل على تفضيله، لان نفقته على عياله واجبة، مع أن أرباب السيرة ذكروا انه لم يكن ينفق على أبيه شيئا، وانه كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان(1).
قال الجاحظ : وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي صلى الله عليه
ص:123
وآله وسلم ببطن مكة من المشركين، وحسن صنيع كثير منهم، كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته، وأبو جهل يومئذ سيد البطحاء ورئيس الكفر، وامنع أهل مكة، وقد عرفتم أن الزبير سل سيفه، واستقبل به المشركين، لما أرجف أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل، وأن عمر بن الخطاب قال حين أسلم لا يعبد الله سرا بعد اليوم، وان سعدا ضرب بعض المشركين بلحى جمل، فأراق دمه - وغيرها - فكل هذه الفضائل لم يكن لعلي ابن أبي طالب فيها ناقة ولا جمل، وقد قال الله تعالى:
(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا1.)
فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح، لأنه لا هجرة بعد الفتح، على من أنفق بعد الفتح، فما ظنك بمن قاتل وأنفق من قبل الهجرة، ومن لدن مبعث النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم إلى الهجرة أعظم من القيام بأمر الإسلام بعد الهجرة، وأفضل من القيام بأمر الإسلام بعد الفتح(1).
ومما يؤسف له أن هذه الحملة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما زالت مستمرة ولم تكن العلوم الشرعية والمعارف العقلية لتجد طريقها لتلك الأفهام المتقوقعة على ما يعبده الآباء.
ص:124
فمما قاله المتأخرون من الشبهات في صرف الأذهان عن دور مال خديجة عليها السلام حينما سئلوا عن القول المشهور:
«إن الإسلام قام على مال خديجة».
أن قالوا: (غير صحيح، لأن الإنفاق في سبيل الله لم يكن إلا بعد الهجرة، وخديجة رضي الله عنها توفيت قبل الهجرة)(1).
ونقول:
1 - إنّ قولهم (غير صحيح)، هو في الواقع غير صحيح ما انطوت عليه قلوبهم وطريقة تفكيرهم.
2 - لم يحددوا عدم (الصحة) أفي السند هي، أم في المتن، أم أنهم لا دراية لهم بذلك ؟!
3 - لم يأتوا ولو بدليل واحد يثبت أن الإنفاق في سبيل الله لم يكن قبل الهجرة.
4 - كما أنهم لم يأتوا بقرينة تبين معنى عدم إمكانية الإنفاق، أهي إمكانية وقوعية، أم إمكانية عينية ؟ بمعنى: أن أصل عملية الإنفاق لم تقع، وهذه الإمكانية الوقوعية أو لم يتم تعيين من أنفق قبل الهجرة وتشخيصه وهي إمكانية تشخيصية ؟ أي لم تكن هناك إمكانية من التعرف على شخص واحد من المسلمين كان قد أنفق قبل الهجرة وتشخيصه وأنه أنفق ولو بدرهم واحد؛
ص:125
والأمر في كلا الحالين يدل على أنه كذب واضح من اللجنة الدائمة للافتاء، إذ أشارت روايات أهل السنة والجماعة إلى أن أبا بكر كان ينفق من ماله، وأنه أعتق بلالاً وغيره واستنقذهم من قريش، كما أن عثمان بن عفان - على قولهم - هاجر إلى الحبشة فعلى حساب من هاجر، ومن دفع له أجرة السفر ونفقاته، أهو قام بذلك فأنفق من ماله، أم أن أحداً أنفق عليه ؟ وإذا كان كذلك، فما الدافع للإنفاق والغاية منه، أكان في سبيل الله والجهاد بالأموال، أم كان مجاملة، أم لغرض المصالح التجارية، أو المحسوبية وغيرها؟!
5 - وإذا كان الإنفاق في سبيل الله قبل الهجرة غير صحيح لأن خديجة توفيت قبل الهجرة ؟!! فقولكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر».
غير صحيح أيضا، بل هو حديث مكذوب فيه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لاسيما وأن الحافظين الذهبي(1) ، وابن حجر العسقلاني(2) ، قد صرحا بكذبه وزيفه.
فما يجري من الصحة في إنفاق مال خديجة قبل الهجرة يجري كذلك في مال أبي بكر؛ فالعلة مثلما هي قائمة هناك، قائمة هنا وهذا ما ألزمتم به أنفسكم، وبه يتضح كذبكم وتدليسكم للحقائق.
6 - إن قولكم هذا هو مخالف للقرآن الكريم فقد نص الكتاب الحكيم على
ص:126
أهمية الإنفاق وفضله في سبيل الله قبل الهجرة والفتح على الإنفاق بعده، بمعنى أن الله فضل الإنفاق قبل الهجرة على الانفاق بعدها؛ وذلك أن الانفاق الأول كان يوضع في بناء الأسس وقيام الدعائم وتشييد الجدران، أما الإنفاق بعد الهجرة فكان من المكملات التي لا يؤدي فقدانها إلى انهيار في البناء وهذه سنة كونية وعقلانية لا يختلف فيه اثنان ذَوَا عقلين.
لاسيما وأن القرآن الكريم قد أثنى على الإنفاق قبل الفتح وفضله على الانفاق بعده.
قال تعالى شأنه:
(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا1) .
فكيف يكون فضل من أنفق من أول البعثة النبوية إلى حين الهجرة، كمن جاء مستفيداً من خير الإسلام ومنعته.
أو يكون حال خديجة التي أنفقت مالها في سبيل الله حينما وهبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعان به على قيام دين الإسلام من خلال الإنفاق على المسلمين الأوائل الذين سبقوا للإسلام بعد أن عذبوا وحوربوا ومنعوا من كل وسائل المعيشة حتى أذن الله لرسوله بالهجرة فجهز أصحابه من هذا المال وزودهم بما يحتاجون إليه وكذا صنع لنفسه صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن السنوات القاسية من الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته
ص:127
قريش على رسول الله وأصحابه، كحال معاوية وأبي سفيان وأبناء الطلقاء الذين جاءوا إلى الإسلام بعد عام الفتح ؟!
فمن أين يا ترى كان ينفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السابقين الأولين من المسلمين الذين يرزحون تحت الحصار مع أطفالهم ونسائهم أمن مال المسلمين أم من مال خديجة عليها السلام ؟!
إذن:
يتضح مما تقدم أن صحة القول المشهور:
«إن الإسلام قام على سيف علي ومال خديجة عليها السلام».
لا يشك فيه (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
وإن ما عداه هو القول الزائف الذي لم يستند إلى دليل أو قرينة تحقق وجوده في الخارج؛ فما هو إلا مجرد أباطيل لم ترق حتى إلى الظن، على الرغم من (إن الظن لا يغني من الحق شيئا).
إنّ من سخيف القول الذي أثير حول مال أم المؤمنين خديجة عليها السلام هو من أين حصلت على هذا المال إن لم تكن متزوجة قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ونقول:
1 - لم نجد في المصادر التاريخية أن مكة كانت تحتوي على جمعية اقتصادية أو هيئة مالية أو جماعة عشائرية أو نفر واحد كان يتتبع أصحاب
ص:128
الأموال من قريش فيدوّن لنا مصادر حصول هذا المال، وبخاصة أن قريشاً هي صاحبة القرار فيها، فضلا عن انحصار أمر بيت الله الحرام وحجاجه بيد بني هاشم ممثلاً بهاشم بن عبد مناف بن قصي وابنه عبد المطلب وحفيده أبي طالب، مما تطلب اهتمامهم بالوضع الاقتصادي لمكة وتحسين أسواقها وتأمين تجارتها وطرق حجاجها ومع هذا لم يدون التاريخ مصادر حصول التجار على أموالهم.
فغاية ما في الأمر أنه كان يدون أسماء أصحاب الثروة والنفوذ في مكة، فذكر أن هاشماً كان ثرياً وكذا ابنه عبد المطلب في حين ذكر أن أبا طالب كان مكثر العيال والإنفاق حتى أصبح صاحب فاقة لحكمة إلهية شاءت أن يكون علي بن أبي طالب في كنف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - إذا كان زوجا خديجة عليها السلام بهذا الثراء المالي فكيف يغفل التاريخ عن ذكرهم لماذا لم يحط بهم علماً، ولم يتعرف عليهم في مكة، حالهم في ذلك حال صعاليك العرب في الصحراء.
3 - وإذا كان التاريخ يسجل لنا فقر أبي بكر وأنه كان أجيراً لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذباب(1).
فكيف يغفل عن رجلين كان لهما من الثراء ما كان لخديجة التي انتقل إليها مالهما بوصفها وريثتهما؟ ألا يعد ذلك من الجهل، وضيق الأفق، والغفلة
ص:129
فضلاً عن البلادة.
وعليه:
لم يتحدث لنا التاريخ عن مصادر أموال التجار واكتفى فقط بالإشارة إلى ذكر أصحاب الثراء في مكة وأن أهلها أهل تجارة وتبضع؛ ولذا لا يكون عدم العلم بمصدر مال خديجة سبباً في نفي الغنى عنها فحالها حال عبد المطلب وهاشم عليهما السلام اللذين ذكرهما التاريخ في سجل الأثرياء والجاه والنفوذ والشرف والرفعة.
وفضلاً عن ذلك نص التاريخ على أنها من أهل بيت عرفوا بالثراء واتخاذ التجارة مورداً للغنى فهاهو حكيم بن حزام كان قد عرف باشتغاله بالتجارة وهو الذي أمرته عمّته خديجة أن يبتاع لها غلاماً ظريفاً عربياً فلما قدم سوق عكاظ وجد زيد بن حارثة رضي الله عنه يباع فيها وهو غلام عمره ثماني سنوات فاشتراه لها بأربعمائة درهم وقدم به إليها فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم(1).
فضلاً عن أنه كان من التجار الذين يحتكرون السلع كي ترتفع أثمانها، ولم يكن قرب خديجة منه بمانعه عن الجشع واستغلال ظروف حصارها في الشعب، وعليه: فقد كان أهلها قوم تجارة(2).
ص:130
لم يكن القرآن الكريم بزاهد في بيان ما لخديجة عليها السلام من مقام وكرامة عند الله تعالى لاسيما وأنه تعالى قال في محكم كتابه الكريم:
(أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى 1) .
فكيف بمن صدق الله في نفسه وجاهد في سبيله ونصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال تعالى مخاطباً حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
(أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)2.)
فهذه الآيات الكريمة في تفسيرها الظاهري تتحدث عن مرحلة من مراحل حياة النبي الأعظم وتظهر نعمة الله عليه في هذه المراحل، فهو اليتيم الذي هيّأ الله له في بيت جده عبد المطلب وعمه أبي طالب خير مأوى، وهو الذي ضل عنه قومه فلم يهتدوا إليه وقد شب بين ظهرانيهم، وهو الفقير الذي أغناه الله تعالى (بمال خديجة بنت خويلد عليها السلام)(1).
ص:131
إلا أن البعض لم يسعهم استيعاب هذا الذكر ولم يَرُق لهم هذا الفضل الذي أحرزته أم المؤمنين خديجة عليها السلام، فقاموا بصياغة أخرى لمعنى الآية في محاولة واهية لصرف الأذهان عن دور هذا المال في نصرة الإسلام، فقالوا:
(والغنى الوارد في قوله:
(وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى 1.)
تنزيل على غنى النفس، فإن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها)(1).
ونقول:
أولاً: حينما يكون البغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام هو المحرك في قراءة القرآن والسنة النبوية فإنها ستكون قراءة ناقصة تؤدي إلى الانحراف عن الحق فضلاً عن تردي حال صاحبها وضلاله.
ص:132
إذ كيف يمكن حمل الغنى في الآية على غنى النفس والمخاطب هو سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم الذي أتم الله له الفضائل الأخلاقية والكمالات الروحية، حتى شهد له - عزّ شأنه - بذلك في محكم كتابه فقال سبحانه:
(وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )
فحمل الآية على غنى النفس - كما قال ابن حجر العسقلاني - يستلزم التحول والانتقال كما يحتمل النقص والكمال، أي: إنه لم يكن غني النفس قبل نزول الآية ثم استحصل ذلك، وهذا عيب مشين فيمن وصف بالكمال ومجمع الفضائل في كل حال.
ثانياً: لو كان تنزيل الآية على (غنى النفس) لا المال - كما زعمتم - فهذا يستلزم استمرار الفقر مع النبي حتى آخر حياته المقدسة بعلة حصول الغنى النفسي فلا حاجة له للمال في حين أن الواقع الحياتي له يثبت عكس ذلك.
ثالثاً: لو كان الغنى، غنى النفس فلماذا يبيح الله له الخمس من الغنائم وما حاجته إليها ونفسه غنية.
رابعاً: سياق الآيات الثلاث يتحدث عن ضروريات الحياة البشرية التي لا غنى للإنسان عنها فشاء الله تعالى أن تجري حكمته في حياة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالصورة التي يعرضها القرآن، فقدر الله تعالى له أن يولد يتيماً، ثم أنعم عليه بالمأوى ممثلاً في جده عبد المطلب وعمه أبي طالب.
ص:133
وأن ينشأ بين قومه فيؤيده الله بالآيات والدلائل على أنه نبي هذه الأمّة ليهتدي إليه الناس، إلا أن الله (وجدك ضالاً بين الناس لا يعرفون حقك فهداهم إليك ودلهم عليك)(1).
ووجدك عائلاً، أي فقيرا لا مال لك تستعين به على أمرك فأغناك الله بهذا المال، وهو مال خديجة.
خامساً: أما أن الآية مكية فهذا أدعى لاختصاص الآية بالمال وليس بالنفس، إذ احتياجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المال كان في مكة قبل الهجرة لينفق منه على أمر الرسالة، ويستعين به على قيام دينه، فيواجه به ظلم قريش وحصارهم الاقتصادي عليه وعلى أصحابه.
أما حاله بعد الهجرة فقد اختلف فقد نصره الله بالسيف، وخصه الله تعالى بالغنائم وعندها بدأت مرحلة جديدة من النهوض بهذه الرسالة ترتكز على الجهاد والحرب الذي نصر الله فيها دينه وفي جميع المواطن بسيف علي بن أبي طالب عليه السلام، ومن صدق الله في عهده، وما أقلهم!
إذن: كون الآية مكية فهذا دليل على اختصاصها بمال خديجة، وليس كما ذهب إليه ابن حجر العسقلاني الذي اعتقد خلو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغنى في مرحلة من مراحل حياته والعياذ بالله.
سادساً: إن النظر إلى الآيات الثلاث التي تحدثت عن نعم الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الحقبة الزمنية يقابلها ثلاثة أوامر إلهية
ص:134
تبعت هذه النعم، وكأن السياق القرآني هنا يشير إلى مقابلة هذه النعم بما يقابلها من الشكر الذي حددته الآيات ضمن آليات خاصة.
فكانت نعمة الإيواء يقابلها قوله تعالى:
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ1.)
فيكون رعايته صلى الله عليه وآله وسلم لليتيم منهاجاً للشكر على ما أنعم الله عليه حينما كان يتيما فآواه.
وكانت نعمة الهداية يقابلها قوله تعالى:
(وَ أَمَّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ2.)
والنسق الدلالي في الآية يشير إلى احتياج السائل إلى من يهديه إلى ما يعينه على مسألته، كأن يكون السائل لا يهتدي إلى الطريق، أو إلى أمر دينه، أو مال يعينه على حياته، فهو في هذه الحالات لا يهتدي الجهة التي تعينه على أمر نفسه.
ولذا: سير السياق النعمي في الموطنين يقتضي التماثل في الحاجة إلى الهداية ليتذكر حينها نِعَمَ المُنعم بالخيرات وهو الله تعالى.
أما ما يخص نعمة الغنى فقد قابلها قوله تعالى:
(وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 3.)
ص:135
وظاهر الآية والفعل النبوي يدلان على أن هذه النعمة أكبر النعم الثلاث السابقة بدلالة اختصاصها بلفظ (النعمة) ولم تطلق الآية على (المأوى والهداية) لفظ النعمة.
وبدلالة الأمر الإلهي بالتحدث بها، في حين كان الفعلان السابقان أي (قهر اليتيم)، و (نهر السائل) فعلين صامتين؛ بمعنى: لا يشتملان على استخدام جارحة اللسان في تحقيق شكر المنعم كما هو الحال بالنسبة لفعل (حدّث).
ولقد دلت السنة النبوية بنصوص صريحة وصحيحة على تحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنعمة زواجه من خديجة عليها السلام؛ بل لقد دأب على التحديث بنعمة ربه هذه حتى أثار ذلك غيرة عائشة، التي لم تجد صبراً على السكوت والاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة ذكره لخديجة عليها السلام، ولتصرّح للتاريخ عن حجم هذا التحديث؛ فقالت:
(ما غرت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها وما رأيتها قط )(1).
وفي رواية أخرى كشاهد على تحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنعمة ربه تعالى، أنها قالت:
(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم
ص:136
من ثناء عليها واستغفار لها؛ فذكرها ذات يوم فاحتملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن. قالت: فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضب غضباً شديدا وسقطت في يدي فقلت: أللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد لذكرها بسوء ما بقيت.
قالت: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لقيت قال:
«كيف قلت ؟ والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس ورزقت مني الولد حيث حرمتموه»(1).
وفي لفظ آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني في مالها إذ حرمني الناس ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء»(2).
وغير ذلك من الروايات التي تكشف عن تحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه النعمة نعمة اقترانه بأم المؤمنين خديجة عليها السلام التي كانت نِعمَ الزوجة الصالحة المناصرة له طيلة خمس وعشرين سنة لم يتزوج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها كرامة لها ودليلاً قاطعاً على حبه الكبير لها، وهو الذي صرح بذلك حينما امتعضت عائشة من كثرة ذكره لها فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
ص:137
«إني قد رزقت حبها»(1).
وعليه:
لم تكن الآية دالة على غنى النفس كما ذهب ابن حجر العسقلاني وغيره وإنما على نعمة غنى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام.
ومن الشبهات التي لازمت حركة مال خديجة عليها السلام هي: اشتغاله أجيراً لديها بمالها قبل أن يبعث نبياً، أو أنه ضاربها على بعض مالها، أو كان شريكاً مع أحد أبناء قريش يعملان معاً في مالها؟!
والسؤال المطروح: هل يصح أن يعمل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أجيراً أو مضارباً أو شريكاً لدى أحد من الناس(2) ؟
ونقول:
إنّ الإجابة على هذا السؤال تتكون من نقاط :
1 - من البديهي أن يحتاج الإنسان إلى العمل لينفق على نفسه فيسد جوعته، ويكسو بدنه، ويصل أهله وأرحامه وغير ذلك.
ص:138
وحينما لا يجد الإنسان عملاً يوفر له هذه الاحتياجات فإنه سيلتجئ إلى الاتكال على غيره لغرض تأمين احتياجاته، أو أنه يسلك طريقاً سلبياً ومستهجناً في حال فقدان العمل والمعيل، هكذا هي الطبيعة البشرية وما تفرضه ضروريات العيش.
ولكن إذا كان الإنسان قد تهيأ له كل ذلك وهو لديه أفضل الأطعمة وأزكاها، كحال مريم بنت عمران عليها السلام كما صرّح القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى:
(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ 1.)
فهل تحتاج مريم عليها السلام إلى العمل حينئذ؛ أم هل تراها تنتظر المعيل والكفيل وقد تعاهدتها الملائكة باحضار الطعام ؟!
من البديهي أنها لا تحتاج إلى الطعام على الرغم من تصريح القرآن بوجود كفيل لها وهو نبي الله زكريا.
ولكن حينما يكون الإنسان في ضيافة الرحمن سبحانه فحينها يستغني عما سواه، وإذا كان هذا حال مريم فكيف حال من هو حبيب الله سبحانه، وكيف سيكون رزقه من ربه ؟ ألا يكون الرازق الذي وصف نفسه بالكريم رازقاً حبيبه بما يليق ومقام الحبيب ؟!
ص:139
ولذا: من حيث المبدأ هو لا يحتاج إلى العمل أو المعيل، لأن العلة منتفية في وجودهما، فرزقه صلى الله عليه وآله وسلم مضمون من ربه، حاضر بين يديه، وإن كان الذين من حوله لا يرون ذلك، فهذا لا يدل على عدم نزول الطعام إليه بل يدل على اختلاف سنخية الرائي وحجب الرؤية عنه.
بمعنى: لو كان الداخل عليه له من المقام كما لدى زكريا عليه السلام لرأى ما يخطف الأبصار، في حضرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - ولعل بعض المسلمين قد ثبتت لديه حقيقة حاله صلى الله عليه وآله وسلم حينما نهاهم في شهر رمضان عن إتيان أزواجهم كي لا يصيبهم الضعف، فقالوا: إنك تواصل يا رسول الله ؟، قال:
«إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني»(1).
كما رواه الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه.
وفي صحيح البخاري عن عائشة بلفظ :
«إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقين»(2).
فمن كان يطعمه ربه ويسقيه ما حاجته إلى ما في أيدي الناس ؟!
3 - ولعل قائلاً يقول: إنّ هذا حاله بعد أن بعث نبياً، فما المانع أن يعمل قبل أن يبعث نبياً سواء لدى خديجة عليها السلام أو غيرها من أهل مكة أو عند عمه أبي طالب عليه السلام ؟
ص:140
وجواب ذلك من شقين:
أولا: ما زال المدار في الشبهة حول احتياج الإنسان للعمل أو المعيل، أي سد الحوائج الحياتية سواء أكان عمله لدى خديجة أم غيرها، فلما ثبت عدم احتياجه إلى العمل بعد البعثة لغرض استحصال لوازم الحياة فإن الحال نفسه يجري أيضاً قبل البعثة كما دلت عليه النصوص الآتي ذكرها:
ألف: لم يحتج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة إلى العمل كي يسد احتياجاته الحياتية، فأما طعامه فقد روي أنه كان يكتفي بشرب ماء زمزم ولا يأكل بعدها شيئا وهذا من الآيات والدلائل على نبوته قبل أن يهبط عليه الوحي.
فعن أم أيمن - وكانت أمة عند أبي طالب عليه السلام ثم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أنها قالت:
«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكا جوعا قط ولا عطشا، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة، فربما عرضنا عليه الغداء، فيقول:
«لا أريد، أنا شبعان»(1).
باء: روى ابن سعد قائلاً: (وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يغذّيهم، قال: كما أنتم حتى يحضر ابني فيأتي رسول الله
ص:141
صلى الله عليه وآله وسلم فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا فيقول أبو طالب إنك مبارك)(1).
جيم: وكان عيال أبي طالب إذا جاءهم باللبن شرّب أولهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يتناول العيال القعب فيشربون منه فيروون عن آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا وحده)(2).
وهذه الروايات تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو محل نزول الخير وصدوره إلى الناس لا العكس.
ثانيا: إن أصل القضية مبنيٌّ على الفساد في الرأي، فكيف يصح أن يكون سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم أجيرا لدى أحد من الناس وهو محل نزول الخير وصدوره للخلق أجمعين ؟! أفعَجَزَ الله سبحانه أن يكفي حبيبه ورسوله وخيرته من خلقه مؤونته أم تراه سبحانه جعل للناس فضلاً على رسله، والعياذ بالله.
ولذلك: فإن رسل الله تعالى وأنبياءه إذا عملوا فهم لا يعملون أجراء لدى أحدٍ من الناس وإنما يعملون - إن عملوا - بما يحتاج إليهم الناس لا العكس كما في حال نبي الله داود عليه السلام:
(وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ 3.)
ص:142
إذن: يبقى الأصل في عملهم هو أنهم محل نزول الخير من الله وصدوره إلى الخلق أجمعين وهي حقيقة دلّ عليها القرآن الكريم، قال تعالى لنبيه سليمان بعد أن آتاه الملك:
(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ 1.)
وعليه:
لا يصح أن يكون النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أجيراً لدى أحدٍ من الناس سواء عمه أبو طالب أو خديجة بنت خويلد، وهذا لا يعني امتناعه عن العمل كما كان يعمل داود عليه السلام، وإنما الكلام في كونه يعمل أجيراً وله سيد يحسن إليه أو إذا أساء يعاقبه أو يوبِّخه - والعياذ بالله، ونستجير به من غضبه وغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -.
ص:143
ص:144
ص:145
ص:146
بعدما قدمنا في الفصلين السابقين من مباحث شملت بعض الجوانب المهمة في حياة السيدة الصدّيقة أم المؤمنين خديجة عليها السلام، لاسيما ونحن ما زلنا في دائرة الأحداث التي سبقت البعثة النبوية، والتي قد بينا من خلالها الحقائق التي لم يطلع عليها كثير من الناس.
ننتقل إلى جانب آخر من حياة أم المؤمنين خديجة وهذا الجانب هو في غاية الأهمية لما يحويه من التباس كبير.
وعليه:
فقد أفردت لكل مولود من أبنائها قسماً خاصاً به، يشتمل على مباحث عدة تتناول النقاط المهمة التي من خلالها ظهرت حقيقة جديدة وهي أن خديجة عليها السلام لم تلد من البنات إلاّ فاطمة عليها السلام.
ولكي يسهل الأمر على القارئ ويتوصل من خلال البحث إلى حقيقة هذه الشخصيات فقد أوردت هذه المباحث بشكل بسيط ، مع التأكيد على صحة المعلومة ودقتها... والله ولي التوفيق.
ص:147
إن المتصفح لكتب التاريخ، والسيرة النبوية المباركة، يجد حقيقة ظاهرة أمام عينيه وهي:
أن أكبر أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القاسم عليه السلام.
وبمعنى أكثر دقة فهو: (أول مولود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم)(1).
ص:148
أما الخطوة الثانية، فلقد كانت من خلال معرفة زمن ولادة القاسم، لأن معرفة الزمن الذي ولد فيه القاسم له الأثر الكبير في كشف الالتباس الذي أحاط بعدد أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وللوصول إلى هذه الحقيقة الكاشفة عن زمن ولادة القاسم، اعتمدنا على هذه الشواهد الثلاثة:
ص:149
اختلف المؤرخون في عدد أولاد أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام الذين أنجبتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فبعضهم قال: إنها أنجبت (أحد عشر نفراً) سبعة من الذكور وأربعاً من الإناث(1).
وبعضهم قال: أربعة من الذكور وأربعاً من الإناث(2).
وقسم قال: أنجبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة ذكور وأربع إناث(3).
والقسم الآخر قال: أنجبت غلامين وأربع بنات، وهو الأكثر شهرة(4).
والمتأمل في هذه الروايات يجد ما يلي:
ص:150
1. اختلف المؤرخون في عدد الذكور(1) ولم يختلفوا في عدد الإناث، وهذا يدعو للاستغراب!
2. اختلفوا في زمن ولادة الإناث! حتى إن كثيراً منهم لم يُشر إلى زمن ولادة أي بنت من بنات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بشكل محدد.
3. اختلفوا في الكبرى والصغرى من بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أياً تكون(2).
ص:151
ولكن على الرغم من هذه الاختلافات بين المؤرخين، إلاّ أن الثابت عندهم جميعاً أنّ : القاسم هو بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي: أول مولود ولد له؛ وأما زمن ولادته فقد أشار بعض الحفاظ في مصنفاتهم إلى أنه ولد ومات في الإسلام.
وقد ورد ذلك في كتب الخاصة، وهم (أتباع أهل البيت عليهم السلام) والعامة وهم (أهل السنة والجماعة)، فأما ما ورد في كتب الخاصة فأكتفي بالإشارة إلى أن الشيخ الكليني(1) والحر العاملي(2) رحمهما الله قد أوردا في الكافي ووسائل الشيعة نصاً صريحاً عن ولادة القاسم في الإسلام والرواية في مبحث (منزلة خديجة في الجنة عند المسألة الثالثة: كيف يكون دخولها إلى الجنة ؟) - من هذا الكتاب فلْتراجع -.
وأما هنا، أي: ما أورده أهل السنة والجماعة، فلقد أخرج ابن ماجة في سننه، والسهيلي، والمزّي، وابن كثير، والفريابي، وابن حجر العسقلاني، والزمخشري، والبوبصيري، وابن الأثير، وتقي الدين الفاسي، والقندوزي، واليعقوبي؛ والقسطلاني وغيرهم: أن القاسم ولد ومات في الإسلام! واليك نص الرواية:
(حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا أبو داود، حدثنا هشام بن أبي الوليد(3) ،
ص:152
عن أمه، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين بن علي - عليهما السلام - قال:
لما توفي القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت خديجة: يا رسول الله درَّت لُبَيْنَة القاسم(1) ، فلو كان الله أبقاه حتى يستكمل رضاعهُ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن إتمام الرضاعة في الجنَّة.
قالت: لو أعلم ذلك يا رسول الله لهون علي أمره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت دعوت الله تعالى فأسمعك صوته.
قالت: يا رسول الله بل اصدّق الله ورسوله»)(2).
ص:153
وقد كشفت لنا هذه الرواية عن حقيقة الزمن الذي ولد فيه أول من ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال هذه القرائن:
1. قولها عليها السلام: «يا رسول الله»، دليل على أنه ولد في الإسلام.
2. قولها: «درت لبينةُ القاسم»، وهو نزول اللبن من ثدي الأم المرضع بعد امتلائه بدون إرادتها، وبخاصة في حالة الجوع عند الطفل، أو امتناعه من الرضاعة وفي الأغلب يرافق هذا الامتلاء آلام في صدر الأم، وهذا يعني أن القاسم توفي في أثناء فترة رضاعته، فلذلك كانت تتمنى لو أن الله أبقاه حتى يستكمل رضاعه.
3. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن إتمام الرضاعة في الجنة».
قرينة أخرى تدل على أنه ولد في الإسلام.
4. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
ص:154
«إن شئت دعوت الله فأسمعك صوته».
يبين لنا إحدى خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسماعها صوت القاسم وهو في الجنة إن شاءت ذلك، وهو مما منَّ الله به على الأنبياء من إجابة الدعاء وظهور المعاجز التي تعدّ خرقاً لقوانين الحياة.
5. قولها عليها السلام:
«بل أُصدق الله ورسوله».
يكشف لنا عن عظم منزلتها ورسوخ إيمانها وتصديقها بالله ورسوله.
وقد أشار السهيلي إلى أن هذا القول يكشف أيضاً عن فقهها، فإنها كرهت أن تؤمن بهذا الأمر معاينة، فلا يكون لها أجر التصديق والإيمان بالغيب، وإنما أثنى الله تعالى على الذين يؤمنون بالغيب(1).
6. بينما استدل الحافظ ابن حجر العسقلاني بهذه الرواية على ولادة القاسم في الإسلام، فقال بعد أن أوردها: (وهذا ظاهر جداً في أنه مات في الإسلام)(2).
وفي موضع آخر، قال: (وهذا يدل على أن القاسم مات بعد البعثة)(3).
فإذا كان القاسم قد ولد في الإسلام فمن البديهي أن الذين ولدوا بعده
ص:155
ولدوا أيضاً في الإسلام، وهذا من دون النظر إلى صحة العدد الذي أنجبته أم المؤمنين خديجة عليها السلام؛ لأن لنا رأياً آخر يختلف عن جميع ما ذكره المؤرخون ؟!، لأن الحقيقة التي بدأت تظهر أمامنا شيئاً فشيئاً تحكي لنا عن صورة تختلف عما نقلتها أقلام الذين كتبوا عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حيث كل شيء خاضع وساقط لما يسوده من الأدلة والبراهين فيما إذا عرض على طاولة البحث العلمي والموضوعي البعيد عن الميول والأهواء النفسية، حيث لا حكم إلا للعقل فيما يعرضه النقل من البينة.
فضلاً عمّا ذكر، فلقد كان الوحي هو الشاهد الثاني الموصل إلى معرفة ولادة القاسم؛ حيث أضاف قسم من الحفاظ ، والمفسرين شاهداً آخر إلى حقيقة ولادة القاسم ووفاته في الإسلام، ولكن هذه المرة من طريق آخر غير الرواية التي ذكرت سابقاً، معتمدين هنا على ما رافق هذه الحادثة من نزول للوحي.
1 - أخرج الزبير بن بكار، وابن إسحاق، وابن عساكر، والبيهقي، والدولابي، وغيرهم، عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال:
«توفي القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آت من جنازته، على العاص بن وائل وابنه عمرو، فقال حين رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني لأشنؤه، فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر فأنزل الله:
ص:156
(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ»1) .
2 - وفي رواية لما مات القاسم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال العاص بن وائل السهمي: دعوه فإن الرجل أبتر، لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره(1).
ص:157
3 - وقال آخرون: إنها نزلت عندما توفي ابن لخديجة ولم يسموه(1).
4 - بينما جمع القسم الآخر من المفسرين بين موت القاسم وموت عبد الله، في نزول الآية(2) ، لأن الفارق بينهما في الوفاة هو أيام قليلة إذ لم يبقَ عبد الله بعد وفاة القاسم أكثر من شهر(3).
ومن خلال هذا الفارق الزمني القليل، يتأكد لدينا: أن ولادة القاسم ووفاته كانت في الإسلام.
5 - وإذا أخذنا بعين الاعتبار الشهرة التي رافقت ولادة عبد الله عند الجمهور في كونه ولد في الإسلام، لذلك سمي (بالطيب والطاهر) يثبت عندنا أن ولادة القاسم ووفاته كانت في الإسلام أيضاً.
6 - إذا نظرنا إلى الترتيب السّوري للقرآن الكريم من حيث النزول، نرى أن سورة الكوثر تحمل الرقم (14)(4) وهذا يعني أن القاسم ليس فقط ولد في الإسلام، بل يبّين لنا أنه ولد بعد مضي فترة على مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الفترة تتناسب مع وقت نزول السورة.
ص:158
إن حقيقة ولادة القاسم في الإسلام كانت تبدو واضحة وثابتة عند بعض حفاظ المسلمين.
فلذلك لم يروا أن هنالك حاجة لذكر أدلة تؤكد ما قالوا، فنسخت أقلامهم ما كانوا يعتقدون به في شأن القاسم ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقيقة ولادته.
)
فلقد أخرج الدولابي، عن قتادة بن دعامة(2) ، قال: تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية خديجة بنت خويلد وهي أول من تزوجها فولدت له في الجاهلية (عبد مناف) وفي الإسلام غلامين، وأربع بنات، (القاسم) وبه كان يكنى، فعاش حتى مشى؛ و (عبد الله) فمات صغيراً، ومن النساء: فاطمة، ورقية، وأم كلثوم، وزينب(3).
ص:159
ذكر أبو عبيدة البصري المتوفى سنة 209 ه -: (أن خديجة ولدت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم القاسم في الإسلام وعاش حتى مشى)(2).
وقد صرح ابن حجر العسقلاني بهذه الحقيقة من خلال لفظين أوردهما في الإصابة فقال في اللفظ الأول: (وهذا يدل على أن القاسم مات بعد البعثة)(2) وفي اللفظ الثاني: (وهذا ظاهر جداً في أنه مات في الإسلام)(3).
بعد ما قدمنا من الشواهد والأدلة التي أثبتت لنا ولادة القاسم في الإسلام؛ بقي أن نذكر كم كان له من العمر حين توفي.
وقد اختلف في مبلغ عمره حين الوفاة على سبعة أقوال، إلا أنهم لم يختلفوا في كون القاسم أول من مات من أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في جنازته، وقد نظر إلى جبل من جبال مكة:
«يا جبل لو أن ما بي بك لهدك»(4).
ص:161
وكان للقاسم حين توفي:
1. أربع سنين(1): وهو بعيد؟ لأنه لا يقال لمن بلغ أربع سنين إنه لم يتم رضاعه.
2. بلغ أن يركب على الدابة ويسير على النجيبة(2): وهذا أبعد من القول السابق؛ لأنه يحتمل الزيادة على أربع سنوات، بل قد يتطلب هذا الفعل من الصبي أن يكون قد ناهز العشر السنوات ؟! وهذا يلزم أن يكون القاسم معروفاً لدى أهل مكة! وهذا ما لم ينص عليه أحد من المؤرخين ولا أصحاب السير.
3. عاش حتى مشى(3): وهذا قريب جداً لما ذكرناه من كونه لم يتم رضاعه، فإن الطفل يمشي بعد مضي سنة على ولادته غالباً؛ وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار القوة التي كان يتمتع بها أبناء قريش، وأبناء بني هشام خاصة.
ص:162
4. عاش سنتين(1): ومن بلغ سنتين من عمره يكون قد تم رضاعته، فهو على هذه الحال يكون بعيداً أيضاً عن الرواية.
5. عاش سبعة عشر شهراً(2): أي أنه بلغ من العمر سنة وخمسة أشهر، وهو قول يتناسب بشكل كبير مع الرواية التي ذكرت بكاء خديجة عليها السلام على القاسم وأنه لم يتم رضاعه.
6. عاش أياماً يسيرة(3) ؛ قريب، لأنه يتفق مع الرواية.
7. عاش سبعة أيام(4): قريب من الرواية السابقة أيضاً في كونه لم يكمل رضاعه.
إلا أني أجد الرواية التي تقول بأنه: «عاش حتى مشى» والأخرى التي تقول: «عاش سبعة عشر شهراً»، أصح الأقوال لما يلي:
ص:163
1. لكونها تتفق بشكل كبير مع كون القاسم لم يتم رضاعه، أي أنه كان قد مضى على رضاعته فترة من الزمن حتى اعتادت الأم على هذا الوضع وكانت تملأها الفرحة؛ لأنها رزقت بأول مولود لها، وقد ملأ حجرها، مستأنسة به، وهي تحنو عليه تغذيه من دمها وروحها.
والأم التي يموت ولدها بعد فترة من ولادته يترك ذلك ألماً كبيراً في نفسها؛ إذ إنها بعد أن عانت وتحملت كل هذه الآلام من الحمل والولادة، تجد أن حجرها أصبح فارغاً من هذا الطفل الذي لم تكتمل فرحتها به.
فلذلك كانت خديجة عليها السلام تبكي عندما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل بها من الألم والحسرة على ذلك الطفل الذي لم يتم رضاعه... بكت لأن اللبن دّر من صدرها فذكرها بتلك اللحظات التي كانت تضعه في حجرها وتطعمه... وهي تبكي لأنها أدركت معنى الأمومة بكل ما تحمل هذه الكلمة من عاطفة تملكها المرأة.
2. ذكرنا سابقاً ما أخرجه الحفاظ والمفسرون في سبب نزول سورة الكوثر، وقد جمع بعضهم بين موت القاسم وموت عبد الله الذي لم يبقَ بعد أخيه أكثر من شهر، فهذا يستلزم أن يكون القاسم قد بلغ من العمر من نحو السنة، وهو ما تحتاجه المرأة من الوقت لكي تحمل وتنجب طفلاً آخر.
وبهذا يرجح القول القائل: ببلوغ القاسم سبعة عشر شهراً ثم توفي ؟ أوانه عاش حتى مشى.
أما سبب تمسكنا برواية (دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة وهي تبكي...) فهو للأمور التالية:
ص:164
1. لكونها تدل على موت القاسم صغيراً.
2. لأنها تتناسب مع الحالة التي مرَّ بها أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كونهم توفوا في أثناء الرضاعة، وهذا ما ذكره جل المؤرخين، وهو الذي دعاهم لعدم ذكر سيرتهم؛ لأنهم توفوا وهم صغارٌ.
3. فضلاً عن أن خديجة عليها السلام بعد وفاة عبد الله الذي سرعان ما لحق بأخيه، قد أبطأ عليها الولد(1) ، مما دعا بأعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القول: بأنه أصبح أبتر، فإذا مات انقطع ذكره.
فكان هذا القول سبباً في تدوين الحادثة قرآنياً وتاريخياً؛ كي تحفظ حقيقة ولادة القاسم وموته في الإسلام.
ولعل حكمة الله اقتضت أن يموت ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذكور وهم صغارٌ، كما هو الحال بالنسبة لإبراهيم الذي ولدته مارية القبطية(2) ، وإنهم لم يتموا رضاعهم، لينالوا بقية نصيبهم من حجر الأمومة عند الحور العين في الجنة، ولتنال فاطمة كل ما تستحق من حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللامتناهي لها ولزوجها وولديها صلوات الله عليهم أجمعين.
ولعل من مظاهر حكمة الله تعالى أيضاً أن يكون هذا الحال (أي موت القاسم وعبد الله وهم صغارٌ) دليلاً على حقيقة بنات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيسجل التاريخ والوحي هذا الحدث؛ ليكون أحد الأدلة الكاشفة عن هذه الحقيقة وما تلاعبته أيدي الضلال في سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
ص:165
وبناءً على ما تقدم فإن ثمةَ سؤالاً بدا يفرض نفسه في ساحة الذهن، قائلاً:
إذا كان القاسم وهو الابن الأكبر قد ولد في الإسلام، وبقي أشهراً معدودة، قد اجتازت السنة، ثم مات ولم يتم رضاعه، محروماً من حجر الأم التي امتازت عن جميع أمهات الدنيا، برقة القلب، وغزارة العاطفة التي أخبرت عنها بلسان فصيح دموعها التي تساقطت عليه لكونه مات صغيراً ولم يفطم بعد، ثم تأخذها الأمنيات ببقائه وعدم موته، لا لأجل أن تهنأ به، بل لأجل أن يتم الرضاعة، وكأن هناك فرقاً في موته وهو قد أتم الرضاعة أو موته ولم يتمها، لكن هذا الموقف يكشف لنا عن عظم هذه الأم.
ويمضي السؤال مخاطباً العقل، قائلاً: ثم إن هذه الولادة جاءت بعد مضي زمن على بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ربما كانت سنة، أو أكثر، بحيث أن كثيراً من المؤرخين ذكروا: أن خديجة عليها السلام رزقت بمولود في سن الحادية والأربعين(1) إلا أنهم قالوا إن المولود كان أنثى، ولعل الصحيح أن هذا المولود هو القاسم، وليس أنثى كما ذكروا، لما قدمنا من الأدلة في هذا البحث.
وإذا أضفنا مقدار عمر القاسم إلى سنة (إحدى وأربعين) فإن وفاته تكون
ص:166
في السنة الثالثة من البعثة وهي نفس السنة التي توفي فيها عبد الله؛ إذ لم يبقَ طويلاً بعد القاسم، ثم يبطأ على خديجة عليها السلام الولد(1) فلا تلد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد مضي فترة من الزمن لعلها سنتان، وهو ما يبدو جلياً لنا في باب مولد الزهراء عليها السلام، إذ إنها ولدت في السنة الخامسة على الصحيح من بعد البعثة.
والسؤال الذي يصرخ في محكمة العقل: هو متى وُلدتْ بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث: (زينب، ورقية، وأم كلثوم)، اللواتي تزوجن، وأنجبن، كما ذكروا؟!
ومنهنَّ من هاجرت وألقت علقة في السفينة في السنة الخامسة من البعثة النبوية المباركة، أي بعد مضي سنتين على موت القاسم، بكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
فمتى ولدت ؟! ومتى تزوجت من زوجها الأول عتبة بن أبي لهب ؟! ومتى تزوجت من زوجها الثاني عثمان بن عفان ؟! ومتى هاجرت ؟! ومتى ألقت ما في بطنها علقة!؟ أيجري كل هذا لبنت عمرها سنة، أو لعلها لم تولد بعد؟!
إن الصورة التي نقلتها أقلام المؤرخين من جعل (زينب، وأم كلثوم، ورقية) بنات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من صلبه، وقد ولدتهن خديجة، هو مجرد خلط والتباس ؟! والذي يبدو هو أنهن ربائبه.
لأن الحجة القائمة، في ولادة الابن الأكبر في الإسلام، وبعد مضي زمن
ص:167
من البعثة يجعل عملية إنجاب أربع بنات أمراً مستحيلاً مع فترة عمر خديجة في الإسلام، ومع ما ساقته لنا كلمات المحدثين، في سرد أحوالهن من زواج وإنجاب وهجرة؛ وكل هذا يستلزم أن تكون ولادتهنّ قبل النبوة بزمن طويل، وهذا خلاف ما اعتمده أهل القبلة من كون أول مولود ولد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القاسم، وأنه ولد ومات في الإسلام.
فلا يبقى أمامنا إلا أن نقول إنهن ربائبه، كبرن وترعرعن في كنفه، وربين في حجره، فأصبحن بناته، من هذا القبيل، لسن من صلبه، ولم تلدهن خديجة، وسيأتي المزيد من التفصيل في المباحث اللاحقة بعونه تعالى.
وها هي أم المؤمنين خديجة عليها السلام تزف إلى البيت النبوي مولوداً آخر لتضفي به أريجاً من أريج النبوة، إلى هذه الأسرة المباركة، وبرعماً جديداً من البراعم الهاشمية، فيستقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو تغمره الفرحة، ويختار له اسماً جميلاً، وهو من خير الأسماء لأنه عبد الله.
نعم هذا هو الاسم الذي سمى به الحبيب مولوده الجديد، وهو ما كان لأبيه من الأسماء.
وكما أن حال كل أب فإنه يسعد كثيراً عندما يرزق بمولود آخر، كذلك كان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه سعد بهذا الابن وسعادته كانت لسببين:
السبب الأول، لكونه الولد الثاني. والسبب الآخر، لأن أمه هي خديجة
ص:168
سلام الله عليها، التي فضلها الله على غيرها من النساء، بالإيمان، والجهاد، وبالجمال، والمال، والحسب، والنسب، والولد، فهي التي حظيت بهذا كله، وهي التي طالما كان يذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام زوجاته(1).
ذهب أكثر العلماء إلى أن ولادة «عبد الله» كانت في الإسلام ولشهرة هذا الحدث بين الصحابة فلقد لقب ب - (الطيب) و (الطاهر)(2) وهو ما اعتمده حفاظ
ص:169
المسلمين ومصنّفوهم، إلا ما اشتبه على بعض الرواة، إذ جعلوا هذين اللقبين أسماء لأبناء آخرين، وبسبب هذا الخلط اختلفت الروايات في ذكر العدد الذي أنجبته السيدة خديجة عليها السلام(1).
اختلف الرواة في الإشارة بدقة إلى الحمل الثاني للسيدة خديجة عليها السلام، في كونها أنجبت ذكراً أم أنثى ؟! ولقد نص بعضهم على أنها ولدت بعد القاسم أنثى وهي: (زينب)(2) بينما قال البعض الآخر: إنها أنجبت ذكراً بعد القاسم وهو (عبد الله) معتمدين في ذلك على ذكر اللقب(3).
ص:170
إلا أن الصحيح فيما أنجبت؛ هو أنها أنجبت ذكراً بعد القاسم وهو عبد الله، لما يلي:
أولاً
إن الشهرة التي رافقت ولادة عبد الله في الإسلام تنفي ولادة أحد بنات النبي الثلاث بعد القاسم ؟! لأن السيرة التي ينقلها الرواة عنهنَّ تستلزم أن تكون الثلاث قد ولدْنَ قبل النبوة بسنين عدة.
ثانياً
إن هذه السيرة تستلزم أيضاً أن تكون البنات قد ولدن قبل القاسم، وهذه الحالة مرفوضة أصلاً؟ لأنها تتعارض مع ما اعتمده علماء المسلمين في كون القاسم هو بكر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً
قد ذكرنا فيما يتعلق بولادة القاسم، الشواهد العديدة التي تثبت ولادته في الإسلام.
وعليه:
فإذا كان هناك وجود لأحد أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يجب أن يكون ولد بعد القاسم، لا قبله.
وبهذا يكون عبد الله هو الابن الثاني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن ولادته كانت بعد أخيه القاسم وكلاهما ولد في الإسلام.
ص:171
على الرغم من شهرة ولادة عبد الله في الإسلام عند أغلب علماء المسلمين، فإن هناك من الشواهد الأخرى، ما جعلت حقيقة ولادته بعد النبوة، كالشمس في رابعة النهار.
إذ لا مجال للخلاف بعد ما نقلته المصادر في سبب نزول قوله تعالى:
(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)
قد جاءت بعد وفاة عبد الله(1) بينما ذكر البعض أنها نزلت بعد ولادته، وقد أبطأ على خديجة الولد - أي: الإنجاب بعد هذه الولادة -(2).
وبعضهم جمع بين موت القاسم، وموت عبد الله، في سبب نزول الآية، كما أشرنا إلى ذلك في المبحث السابق(3) ، وهذا مما يؤكد ولادة أبناء رسول الله
ص:172
صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام، وإن وفاة عبد الله، كانت قريبة من وفاة القاسم(1) وهو الأمر الذي جعل بعض الرواة ينسب سبب نزول الآية إلى القاسم، والبعض الآخر ينسبها إلى عبد الله.
لكن الذي يستفاد منه في هذه الروايات: أن قريشاً كانت تقول لمن مات ولده من الذكور بتر، فلما مات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم القاسم، وعبد الله بمكة، قالوا بتر فليس من يقوم مقامه(2).
وبما أن الوفاتين حصلتا في فترة متقاربة جداً، فقد دفعت بعدو الله ورسوله «العاص بن وائل السهمي» إلى أن يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويصفه بالأبتر، وأنه قد انقطع نسله بموت ولديه القاسم وعبد الله.
فإذن:
حقيقة ولادة أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذكور وهما «القاسم، وعبد الله» ووفاتهما في الإسلام، يؤكدها الوحي والإجماع، وأنها أصبحت واضحة وراسخة؛ لأنها تستند إلى الدليل النقلي والعقلي.
وهذا هو الحق والصواب وما بعد الحق إلا الضلال.
ص:173
هناك مسألة أخيرة بقيت في هذا المبحث.
وهذه المسألة أخذت الجانب المهم في حقيقة عدد أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ بعد أن أثبتنا حقيقة ولادة الابن الأكبر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو «القاسم» ووفاته في الإسلام.
وأثبتنا أيضاً: أن الابن الثاني بعد القاسم كان (عبد الله) الملقب بالطيب والطاهر، وأنه توفي بعد أخيه بثلاثين يوماً في مكة، نأتي الآن لنتعرف على مسألة مهمة، وهي: من هو المولود الثالث الذي أنجبته خديجة عليها السلام بعد وفاة عبد الله ؟ ونتعرف على حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام بعد أن فقدا ولدين في أقل من أربعين يوماً؟!
أما حالهما: فقد بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه خديجة عليها السلام، يدعوان الله عزّ وجلّ أن يهب لهما ذرية، وابناً جديداً يعوضهما عما ذهب منهما من الولد.
لكن الذي حدث أن الله قد أخّر هذه النعمة عليهما، فقد أبطأ على خديجة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الولد، وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر، حتى يمر بقوم من قريش، فينظر إليه أحدهم.
فيقول: قد بتر محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فيسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكلمة، ويشكو أمره إلى الله تعالى، وإذا جبرائيل عليه السلام يجيبه وينقل إليه كلام الحبيب عز وجل،
ص:174
ويبشره بأن الله أبدله بنعمة عظيمة هي خير له من القاسم وعبد الله.
إن الله قد أعطاه الكوثر وهو (فاطمة عليها السلام)(1).
لأن: التاريخ والسيرة والسنة، لم تنقل لنا عن ولادة ثالثة حصلت لخديجة بعد عبد الله سوى فاطمة إذ لا يمكن أن يتصور أن تكون أحد بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث (زينب، وأم كلثوم، ورقية) رضي الله عنهن، قد ولدن بعد عبد الله!؟
لأن سيرتهن تتعارض مع هذه الولادة.
وإذا سلّمنا جدلاً ومجازاً، إنهن ولدن بعد عبد الله، وبعد أن أبطأ على خديجة الإنجاب كما ذكرت الرواية، فلا ندري كم كان هذا التأخير في الحمل أكان سنتين، أم ثلاثاً أم هو سنة واحدة ؟!
وهذا كله كما قلنا من باب الافتراض، لأن الحقيقة غير هذا.
والسؤال الذي يفرض نفسه في مثل هذه الحالة، هو كم بقيت خديجة بعد الإسلام ؟!
وبمعنى آخر: كم عاشت من السنين وبقيت في الإسلام ؟!
والجواب: إنها عاشت بعد البعثة عشر سنوات، أي: أنها أدركت من الإسلام «عشر سنوات فقط »، وهو ما ذكره جل المؤرخين، وأهل السير، والحديث(2).
ص:175
هذه الفترة من عمر خديجة عليها السلام قد ذهب نصفها لإنجاب ثلاثة وهم: (القاسم، وعبد الله، وفاطمة عليها السلام).
أما ولادة الغلامين في الإسلام فقد بينا من الأدلة في الفصول السابقة بما فيه الكفاية.
وأما حقيقة ولادة فاطمة عليها السلام بعد عبد الله فهي خاضعة للأدلة التالية:
1. إن سبب نزول سورة الكوثر كان لقول (العاص بن وائل السهمي) ووصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأبتر، لأنه قد مات ولداه.
وهذه الصفة لم يشأ الله تعالى أن تكون عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلذا اقتضت هذه الحادثة تكرار الحمل، وحصوله مرة أخرى، لرفع ما نسبته قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأخذت تتناقله في مجالسها، ووجدوا منه أداة لضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإدخال الأذى عليه.
ص:176
وهو في نفس الوقت أداة إعلامية للطعن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كيف يكون نبياً وفي نفس الوقت يتصف بصفة عدم الإنجاب وأنه أبتر، فلذلك خاطبه المولى جل شأنه: بأن عدوك هو الأبتر، وليس أنت(1) فإذن كان لابد من حمل ثالث.
2. لم يذكر أحد من المؤرخين، وأصحاب السير، والأنساب أن خديجة ولدت إحدى بناتها الثلاث (زينب، ورقية، وأم كلثوم) في الإسلام، وإنما أشار بعضهم إلى ذكر ذلك إجمالاً دون تخصيص لإحدى بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما مرَّ بيانه سابقاً.
3. اختلف الرواة في ولادة فاطمة عليها السلام على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنها ولدت قبل البعثة(2).
القول الثاني: إنها ولدت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عمره إحدى وأربعون، وهذا يعني بعد البعثة بسنة(3).
ص:177
القول الثالث: إنها ولدت سنة خمس من البعثة(1).
وهنا يكون عندنا قولان ينصان على أنها ولدت بعد البعثة، مقابل قول واحد.
وعليه: فان ولادتها بعد البعثة تكون هي الأرجح.
فضلاً عن... أن هناك روايات تنص على أنها ولدت على رأس البعثة(2) ، أي: سنة أربعين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرى تقول: إنها سنة اثنتين وأربعين(3) ، وهذا يجعل ولادتها بعد البعثة أمراً لا يقبل الشك فيه.
فإذن:
يكون الحمل الثالث لخديجة عليها السلام هو (حملها بفاطمة عليها السلام) وهذا أولاً.
ص:178
ثانياً: لو أرادت خديجة عليها السلام أن تحمل مرة أخرى فإنه سوف يكون بعد السنة الخامسة من البعثة النبوية، أي: بعد ولادة فاطمة.
لأن التاريخ الصحيح في ولادتها هو السنة الخامسة بعد البعثة للأمور التالية:
1. إنّ الرواية التي تقول إنها ولدت على رأس البعثة والأخرى التي ذكرت أنها ولدت سنة إحدى وأربعين، واثنين وأربعين، لا يمكن الأخذ بها؟
لأنها: سوف تتعارض مع الحمل الأول لخديجة عليها السلام الذي حدث في (الإسلام، أو بعد البعثة) كما مرَّ بيانه في ولادة القاسم.
2. أما الرواية التي تقول: (أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنوات)(1) فباطلة أصلاً؟! لأنها:
ألف: تقضي أن تكون هي بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مخالف لإجماع المسلمين.
باء: وهي من وجه آخر تتعارض مع ولادة القاسم وعبد الله في الإسلام، وهما الحمل الأول والثاني لخديجة عليها السلام.
جيم: قد اشتهر بين علماء المسلمين والرواة والمحققين: أنها عليها السلام كانت أصغر أخواتها، أي: أنها آخر من ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يصح أن تكون ولادتها مقدمة على ولادة أخواتها.
وبهذا يثبت أمامنا أنها ولدت سنة خمس من البعثة.
ص:179
إذن:
إذا كان هناك حمل آخر لخديجة، فإنه يكون بعد السنة الخامسة من البعثة. وبمعنى أدق: إن أي حمل سوف يكون خلال السنوات الأربع المتبقية من عمر خديجة عليها السلام ؟! والسبب: إن كل ما عاشته بعد البعثة (عشر سنوات)؟
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو:
كم تحتاج المرأة من السنين كي تنجب ثلاثة ؟
فعلى أقل تقدير أنها تحتاج إلى ثلاث سنين، لكل حمل سنة، وهذا بدون النظر إلى رضاعة كل مولود.
وهذا يعني: أن (زينب) يكون عمرها عندما توفيت خديجة أربع سنوات!، ويكون عمر (رقية) سنتين!
فكيف يمكن لطفلة عمرها سنتان أن تتزوج مرتين، كما يحدثنا التاريخ عن سيرة رقية ؟! وأنها هاجرت وألقت ما في بطنها علقة في السفينة(1) ؟! وإذا احتملنا أن تكون ولادتها في السنة السادسة أو السابعة، أو الثامنة من البعثة لأنها بين ثلاث أخوات ولدن لخديجة بعد ولادة فاطمة، فإن رقية جرى عليها كل ذلك قبل ولادتها ب - (1-3) سنين!؟
أما إذا اعتمدنا على النص القرآني في تحديد مدة الحمل والرضاعة، هو قوله تعالى:
ص:180
(حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً1.)
وقوله تعالى:
(وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ 2.)
فبالاعتماد على هذا التحديد الذي جاء به القرآن، فإن الأم تحتاج لكل مولود حملاً ورضاعة إلى سنتين ونصف، وهي (الثلاثون شهراً).
أي: أنها تحتاج لكي تنجب ثلاثة أولاد وترضعهم إلى ثماني سنوات.
وعليه: فإن (أم كلثوم، ورقية) ولدتا بعد وفاة خديجة عليها السلام!!.
فإذن:
لا يمكن عدُّ (زينب، وأم كلثوم، ورقية) رضي الله تعالى عنهن، قد ولدتهن خديجة عليها السلام خلال هذه السنوات التي عاشتها بعد ولادة فاطمة، أي هذه السنوات الأربع الأخيرة من عمرها المبارك.
كما لا يمكن أنها ولدتهن قبل البعثة؛ لأن ذلك مخالف لما اشتهر من كون القاسم هو بكرها، كما أنه مخالف أيضاً من كونها قد ولدت أولادها بعد البعثة، وأنهما، أي القاسم وعبد الله ماتا ولم يتما رضاعتهما، كما مرَّ بيانه.
ولذا فإن عمرها المبارك الذي عاشته بعد البعثة، هو القول الفصل في تحديد عدد أبنائها الذين أنجبتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ص:181
3. إنها لم تنجب في هذه السنوات القليلة إلا ثلاثة أبناء، وهم غلامان (القاسم وعبد الله) وبنت واحدة هي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام.
بقي سؤال أخير... لعله يطرق أذهان بعض القراء الكرام وهو:
لماذا لم تنجب سيدتنا ومولاتنا خديجة الكبرى عليها السلام خلال الفترة التي عاشتها قبل البعثة، أي خلال الخمس عشرة سنة ؟ ثم ليكون إنجابها لأولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنين العشر الأواخر من عمرها؟!
والجواب: هو أن الذي جعل ثماني زوجات لا ينجبن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهنَّ من كان لها الولد من غيره كأم سلمة رضي الله عنها... هو ذاته جلّت قدرته وعزّ شأنه، جعل إنجاب خديجة يكون بعد البعثة لا قبلها، فسبحان من بيده الأمر من قبل ومن بعد، وإليه ترجع عاقبة الأمور.
ولذلك.. قبل أن أنتقل إلى الفصل الرابع من هذا الجزء الذي سيدور حول معرفة بقية الأدلة التي تؤكد حقيقة (أن فاطمة واحدة أبيها)، فإني أسأل الله أن يوفقني لما يرضاه، وأن أضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عملاً أنال به رجاء شفاعته، وشفاعة عترته صلوات الله عليهم أجمعين، وأن يتقبله الله مني لينقذني به يوم حشري، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
(وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ 1.)
ص:182
ص:183
ص:184
ما زلنا في الحديث عن أبناء خديجة عليها السلام، وقد تحدثنا عن اثنين من أبنائها، وهما (القاسم وعبد الله).
وبقي أن نتحدث عن بقية بناتها أو ربائبها الثلاث (زينب، وأم كلثوم، ورقية) - وإن شئت أيها القارئ سمهن بناته صلى الله عليه وآله وسلم أو ربائبه، حتى تصل إلى أرجح التسميتين بنفسك - فلكونهن رضي الله عنهن، قد نشأن في بيت أم المؤمنين خديجة عليها السلام، وكُنَّ تحت رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإني أحببت أن أتناول بعض النقاط المهمة في حياتهن موضحاً لبعض الجوانب التي لها علاقة بهذا البحث، والتي تشكل بقية الحلقات المتصلة بموضوع الكتاب.
لم يعرض لنا النقل عن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث «زينب، ورقية، وأم كلثوم» جوانب موسعة من حياتهن، وتفاصيل معيشتهن، ومعايشتهن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لا يكاد يمر عليهن إلا مرور الكرام، وإذا أراد أن يتحدث فإنه يشير إلى أزواجهنّ أكثر مما يشير إليهنّ ومدى علاقتهنّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ص:185
وهذه الحالة تثير موجة من الأسئلة في ذهن المتتبع ولقد قمت بعرضها في فصل (ماذا يقول العقل) الذي جعلته داخلاً في حياة كل واحدة منهن، وذلك من أجل الحفاظ على ترابط الموضوع، وتماسك نقاط البحث، ساعياً إلى معرفة حقيقة نسبتهن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل هي نسبة بنوة أم ربيبة ومن الله التوفيق.
فماذا يقول النقل عن زينب عليها السلام ؟
ثم يركز النقل على عملية انتقالها من مكة إلى المدينة، وهي هجرتها، هذه الهجرة التي تمت بالشكل التالي:
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة، أو ابن كنانة فخرجوا في أثرها، فأدركها هبار بن الأسود فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها وألقت ما في بطنها وأهراقت دماً، فحملت. فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية، فقال بنو أمية: نحن أحق بها، وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص، فصارت عند هند بنت عتبة بن ربيعة، وكانت تقول لها هند: هذا بسبب أبيك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزيد بن حارثة:
ألا تنطلق فتجيئني بزينب.
قال: بلى يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
فخذ خاتمي فإعطها إياه.
فانطلق زيد وترك بعيره فلم يزل يتلطف حتى لقي راعياً، فقال: لمن ترعى ؟ قال: لأبي العاص، قال: فلمن هذه الغنم ؟ قال: لزينب بنت محمد، فسار معه شيئاً ثم قال له: هل لك أن أعطيك شيئاً، تعطيها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم فأعطاه الخاتم، فانطلق الراعي فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم،
ص:187
فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال رجل، قالت: وأين تركته، قال: بمكان كذا وكذا. قال: فسكتت.
حتى إذا جاء الليل خرجت إليه فلما جاءته قال: لها اركبي، قالت: لا ولكن اركب أنت بين يدي فركب وركبت وراءه. حتى أتت.
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
«أفضل بناتي أصيبت فيَّ ».
فبلغ ذلك علي بن الحسين - عليهما السلام - فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك تحدث به تنتقص به حق فاطمة - عليها الصلاة والسلام -.
قال عروة: والله إني لا أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأن انتقص فاطمة عليها السلام حقاً هو لها، وأما بعد فإن لك أن لا أحدث به أبدا(1).
وبعد أن وفقت في الوصول إلى المدينة بقيت هناك إلى أن خرج زوجها في قافلة لقريش سنة ست من الهجرة النبوية متجهاً إلى الشام، فانتدب لها زيد في سبعين ومائة راكب، فلقوا القافلة فأخذوها وأسروا أناساً، منهم أبو العاص(2).
فأرسل إلى زينب أن خذي لي أماناً من أبيك، فخرجت فاطلعت رأسها من باب حجرتها والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصبح يصلي بالناس
ص:188
فقالت أيها الناس إني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإني قد أجرت أبا العاص.
فلما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة، قال:
«أيها الناس إنه لا علم لي بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم»(1).
وفي رواية أخرى عن الزهري، عن أنس قال: قالت زينب قد أجرت أبا العاص فأجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم جوارها(2) ثم سألت، أن يرد عليه متاعه، ففعل، وأمرها ألا يقربها ما دام مشركاً.
فرجع إلى مكة، فأدى إلى كل ذي حق حقه، ثم رجع مسلماً مهاجراً في محرم سنة سبع، فردَّ عليه زينب بذاك النكاح الأول(3).
وقيل: وردها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي العاص بنكاح جديد ومهر جديد(4).
ص:189
وكانت قد أنجبت له أي قبل إسلامه مولودين؛ ذكراً واسمه (علي) أردفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح على راحلته ومات صغيراً(1).
وأنثى واسمها (أمامة) التي حملها النبي في الصلاة، وبلغت حتى تزوجها الإمام علي عليه السلام بعد موت فاطمة الزهراء عليها السلام، ولم تلد له، ثم تزوجها بعد موت الإمام علي عليه السلام المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له يحيى وبه يكنى وماتت عند المغيرة، وقيل إنها لم تلد له(2).
أما وفاتها: فكانت سنة ثمان من الهجرة(3) ، والسبب في ذلك هو أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدركها هبار بن الأسود، ونافع بن عبد عمرو، وقيل الحويرث فدفعها أحدهم فسقطت على صخرة فأسقطت حملها، إذ كانت حاملا فاهراقت الدم فلم يزل بها وجعها حتى ماتت منها(4).
فلما أرادوا غسلها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ص:190
اغسلْنها وتراً ثلاثاً، أو خمساً، واجعلْن في الآخرة كافوراً، أو شيئا من كافور، فإذا غسلتنّها فأعلمنني.
فلما غسلناها أعطانا حقوه، فقال:
«أشعرنها إياه»(1).
فلما فرغوا من تغسيلها وتكفينها، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج معه صحابته.
قال أنس بن مالك:
فرأيناه كئيباً حزيناً، فلما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبرها، خرج ملتمح اللون، وسألناهُ عن ذلك فقال:
«إنها كانت امرأة مستقامة فذكرت شدة الموت، وضمة القبر، فدعوت الله أن يخفف عنها»(2).
فجلس بعض النساء يبكين فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده وقال:
«مهلاً يا عمر»(3) ؟!
ص:191
بعد أن عرفنا ما جاء به النقل من تفاصيل حول حياة زينب رضي الله عنها، البنت الأولى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قمت بعرضها على طاولة العقل، للبحث عن حقيقة كونها بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أنها ربيبة.
مسلماً في بادئ الأمر إلى ما جاءت به الأخبار من كونها بنتاً وليست ربيبة، فكانت النتيجة التالية:
إنّ ولادتها كانت في السنة العاشرة قبل البعثة، وهذا يعني أن عمرها حينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عشر سنوات، وعندما توفيت خديجة عليها السلام كان عمرها عشرين سنة هذه الفترة من السنين مرت بغموض دون أن يذكر لها المؤرخون شيئاً، أي: منذ ولادتها إلى سنة وفاة خديجة في السنة العاشرة من البعثة.
ولادتها بهذا التأريخ يقودنا إلى كونها بكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذ لم يذكر أحد من المؤرخين إطلاقاً أنه قد ولد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مولود قبل هذا التاريخ، وإن أولاده صلى الله عليه وآله وسلم ولدوا بعد هذا الوقت.
مما يشير إلى أنها أول من ولد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا
ص:192
خلاف المشهور عند الأمّة، لأن القاسم هو أول من ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبه كان يكنى.
وقت زواجها أُختلف فيه، فهو عند ابن سعد قبل النبوة(1) ، بينما عده الذهبي بعد النبوة(2) ، وعدّ قول ابن سعد فيه بعد عن الصحة، أي: أن الذهبي يعدُّ زواجها بعد النبوة هو الأقرب إلى الصحة ؟!
وهو في الواقع في غاية البعد والتناقض، لأن زواجها بعد النبوة لا يمكن أن يتمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كيف يزوج ابنته المسلمة من رجل مشرك، وهو خلاف القرآن الكريم والعياذ بالله.
أين كان عنها طغاة قريش وقد أسلمت، وبقي زوجها على كفره دون أن يتعرض لها أحد منهم، وهي بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟! خلال خمس عشرة سنة عاشتها في مكة منذ أن بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ان انتقلت إلى المدينة مع زيد بن حارثة كما مرّ بيانه ؟!
أما هجرتها إلى المدينة فإن الرواة قد جمعوا بين محاولتها الخروج من مكة مع أخي زوجها «كنانة بن الربيع» ولحوق قريش بها وتعرضها للإجهاض، وبين
ص:193
قدوم زيد بن حارثة لإخراجها وحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمن واحد، وهذا غير صحيح ؟!
لأن عملية خروج زينب من مكة إلى المدينة حدثت مرتين، وإن الفارق الزمني بينهما كان عدداً من السنين؛ إذ بعد أن تعرضت زينب رضي الله عنها في الخروج الأول إلى الإجهاض بسبب ما قام به هبار بن الأسود من طعنه بعيرها، وسقوطها على صخرة وقد أهراقت دماً، حُملت إلى مكة، وصارت عند هند بنت عتبة بن ربيعة.
وعندما وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلم بما جرى على زينب أهدر دم هبار بن الأسود، ونافع بن عبد عمرو فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«إن لقيتم هبار بن الأسود، ونافع بن عبد عمرو فاحرقوهما».
ثم قال:
«إن لقيتموهما فاقتلوهما، فإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله»(1).
لكن زينب بعد هذا الحادث بقيت في مكة بضع سنين، إلى أن جاءت المحاولة الثانية، والتي كانت على يد زيد بن حارثة، لكن السؤال المطروح هو كم هي المدّة التي عاشتها في مكة حتى هاجرت ؟!
ص:194
لم يذكرها أحد سوى ما يدل على أنها ظلت مدّة طويلة لعلها أربع سنوات أو خمس ومما يدل عليه:
ما أخرجه الحاكم بسند صحيح ووافقه الذهبي عليه، عن ابن إسحاق، ثنا يحيى بن عباد، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أساراهم بعثت زينب بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فداء أبي العاص بقلادة كانت خديجة أدخلتها معها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لها رقة شديدة وقال:
«إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها(1) وتردوا عليها الذي لها».
وهذه الرواية تدل على أنها ظلت فترة طويلة في مكة، وأنها خلال هذه السنين أنجبت لأبي العاص طفلين هما: «علي، وأمامة».
وذكر ابن حجر: أنها بعثت بهذه القلادة مع أخي زوجها عمرو بن الربيع، وأن النبي قد اشترط على أبي العاص أن يخلي سبيلها ففعل(2).
وهذه الرواية وإن كانت لتدل على بقاء زينب لسنين عديدة في مكة بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها مهاجراً. فهي في نفس الوقت تدل على أنها ربيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمور التالية:
ص:195
1. إن زينب كانت في مكة وهي على إسلامها وزوجها على شركه وهذا واضح من خلال قول الراوي: «وأخذ على أبي العاص أن يخلي سبيلها»، وهذا يعني أن زينب كانت بحكم الأسيرة عند أبي العاص. وإلا لو كانت غير مسلمة لما طلب منه إخلاء سبيلها.
2. كيف لم يفرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طيلة هذه السنوات ؟!.
3. كيف لم تتخذها قريش أسيرة مقابل أسراها، إذا كانت تعلم حقاً أنها ابنته صلى الله عليه وآله وسلم، فيتم الأمر على شكل تبادل للأسرى ؟!
4. ما هو حكم ولدي زينب (علي، وأمامة) اللذين ولدا من أب مشرك، ولماذا سكت عنهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهل يعقل - والعياذ بالله - أن يكون أحفاده من ذراري المشركين ؟!!
5. لماذا لم يخرجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الفواطم اللاتي أخرجهنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ؟ وهنّ (فاطمة بنت أسد، وهي أم الإمام علي عليه السلام، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وفاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب)(1) ، وتترك زينب في مكة، إلاَّ أنْ تكون ليست بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذ لا يمكن الاعتقاد شرعاً وعقلاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
ص:196
أخرج بنتاً واحدة وهي فاطمة عليها السلام، وترك الأخريات وهما (زينب وأم كلثوم)...؟!
ألا يكون ذلك دليلاً على كون زينب ليست بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذ كيف تنقل أرحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من النساء اللاتي هُنَّ أبعد درجةً من منزلة البنت، كفاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب أو فاطمة بنت حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتترك بنتان له في مكة تحت ظلم رجال قريش..؟!
والعجيب في الأمر ما نقله البخاري في صحيحه وهو يصف لنا كيف تم نقل فاطمة بنت حمزة فيقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة، وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مرَّ بها علي عليه السلام قالت: يا ابن العم إلى من تدعني ؟ فتناولها فدفعها إلى فاطمة حتى قدم بها المدينة(1).
فكيف يمكن التصور حتى في الخيال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يترك بنتين له عند المشركين ولم يؤمر بإخراجهما إلاَّ أن تكونا ليستا من صلبه صلى الله عليه وآله وسلم.
ص:197
5. قول الراوي: «ففعل» هذا تقوُّل واضح، وتصنع مفتضح، أريد به وضع منقبة لأبي العاص، بأنه التزم بعهده مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والحال أنه لم يفعل، ولم يلتزم بعهده، مما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث زيد بن حارثة لإنقاذها وإخراجها من مكة إلى المدينة، فلو التزم فعلاً بعهده، لما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببعث زيد بن حارثة، وإخلاء سبيلها.
6. إن عملية نقلها من مكة إلى المدينة التي قام بها زيد بن حارثة، كيف حدثت وهي ليست من محارمه ؟! وكيف يجوز له حملها بهذا الشكل الذي وصفه النقل، بقول زيد لها: (اركبي، قالت: لا بل اركب أنت بين يدي، فركب وركبت وراءه)(1)!؟.
وهذا الإشكال استوقف الطحاوي في إشكالاته على الآثار، ووجهه بهذا الشكل الذي يحمل إشكالاً آخر؟! فكان حله للإشكال ألزمه الحجة في كونها ليست بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فيقول: «قد وجدنا زيداً قد كان حينئذٍ في تبني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياه، حتى كان يقال له بذلك: زيد بن محمد، ولم يزل بعد ذلك،
ص:198
كذلك، إلى أن نسخ الله ذلك فأخرجه من بنوته، وفي إباحته لها وله السفر من كل واحد منهما مع صاحبه، كان على الحكم الأول.
وفي الحالة التي كان زيدٌ فيها أخاً لزينب، فكان بذلك محرماً لها جائز له السفر بها، كما يجوز لأخٍ لو كان لها في النسب من السفر بها، فهذا وجه هذا المعنى من هذا الحديث، والله أعلم(1).
ونقول: إن المعنى الذي قصده الطحاوي لبعيد جداً؛ لأنه لم يقدم لنا ولو دليلاً واحداً يثبت أنّ زيد بن حارثة عندما نقل زينب رضي الله عنها نقلها قبل أن ينسخ الله حكم التبني، بل العكس هو الصحيح، أي: أن زيد بن حارثة نقل زينب من مكة إلى المدينة بعد أن نسخ الحكم، وأخرج من بنوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يدل عليه:
ما أخرجه الحاكم وغيره من أهل العلم بالحديث في أن زينب رضي الله عنها كانت بعد معركة بدر في مكة وأنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفداء زوجها، لأنه كان أسيراً عند المسلمين، والذي أسره هو «عبد الله بن جبير الأنصاري»(2).
ص:199
إن التاريخ لم يحدثنا بعد هذه الحادثة عن زينب بأي شكل، إلى أن تأتي أحداث سنة 6 ه -، فيشير التاريخ: إلى أن زينب كانت خلال هذه السنة في المدينة، وأنه حدث خلال هذه السنة، أن خرج أبو العاص في عير لقريش، فتم انتداب زيد بن حارثة على رأس سرية لمهاجمة هذه القافلة، وبالفعل تمكن المسلمون من أسر أبي العاص فلما جاءوا به إلى المدينة، استجار بزوجته زينب، فأجارته، وأعلنت ذلك للمسلمين فأجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جوارها، وأمرها ألا يقربها ما دام مشركاً.
ثم يعود إلى مكة وهو يحمل ما أخذ منه من الودائع، فأرجعها إلى أهلها، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مسلماً ومهاجراً، في السنة السابعة، أي: بعد مرور سنة على هذه الحادثة، كما بينا في الفصل السابق.
إن حكم التبني تم نسخه في السنة الخامسة من الهجرة أي بعد أن تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش، طليقة زيد بن حارثة، مما دعا المنافقين أن يقولوا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج من بنت ولده زيد، لأنه كان يدعى: (زيد بن محمد)(1).
وبعد نزول الآية:(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) دعي زيد لأبيه حارثة.
ص:200
وعليه:
فإن زينب رضي الله عنها تم نقلها إلى المدينة بعد مضي سنة على نسخ الحكم. وهذا يعني: أنها لم تكن من محارمه، فكيف يجوز نقلها على بعير واحد؟!
كيف يأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يقربها، وكانت قد أنجبت منه طفلين في السنين السابقة التي كانت فيها على إسلامها، وهو على شركه.
إلا أن يقال إنها لم تؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنها ظلت على دين زوجها طيلة هذه السنين التي تم فيها الإنجاب، وإنها أسلمت بعد فترة من الزمن وتحديداً بعد معركة بدر الكبرى التي أُسر فيها زوجها.
ولقد حاول الحافظ الذهبي الخروج من عنق الزجاجة حينما حاول الجمع بين بقاء زينب بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجها المشرك طيلة ثماني عشرة سنة وبين التقليل من حجم هذه الفترة إلى سنوات حينما ذهب قائلاً: (أسلمت زينب وهاجرت قبل إسلام زوجها بست سنين).
ونقول:
إنّ هذا القول خلاف للنقل والعقل.
ص:201
أما كونه خلافاً للنقل فلأنه:
ألف: لم يسند قوله هذا إلى حديث حتى ولو كان ضعيفاً.
باء: هجرتها تمت بعد معركة أحد بسنتين على يد زيد بن حارثة. وحتى لو قلنا إنها هاجرت بعد معركة بدر الكبرى مباشرة فإن الفترة التي بين إسلامها وهجرتها، وبين إسلام زوجها وهجرته، تكون أربع سنوات أو خمساً لأن أبا العاص أسلم سنة 7 ه -.
جيم: من المعروف لدى جميع علماء المسلمين أن معركة بدر وقعت في السنة الثانية من الهجرة، وأن زينب كانت بعد معركة بدر في مكة، ولم تخرج منها.
بل إنها بعد هذه المعركة بعثت في فداء زوجها الذي أسر فيها.
فكيف يصح قول الذهبي: إنها أسلمت وهاجرت قبل زوجها بست سنوات وهو قد أسلم سنة سبع من الهجرة أي أنها أسلمت وهاجرت في السنة الأولى من الهجرة النبوية! بينما هي لم تغادر مكة أصلاً، إلاَّ بعد مرور سنة أو أكثر على معركة بدر.
أليس هذا القول فيه خلاف كبير؟! بل فيه استحالة التحقق.
أما كونه خلاف العقل:
1. فلأنها: كيف لم تؤمن بأبيها، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ كيف لم تؤمن به وقد رأت أن أول من آمن به أمها خديجة الكبرى عليها السلام! وهذا يعني أنها كانت في بيت كان فيه الأبوان على دين واحد.
ص:202
فكيف يمكن لهذه البنت أن تخالف والديها ولا تعتقد بدينهما وهي فتاة في سن العاشرة ؟!
وهذه السن تمكن الوالدين من صياغتها مثلما يريدان، وهو القائل صلى الله عليه وآله وسلم:
«كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه»(1).
فكيف يمكن قبول مثل هذا المنطق ؟! وأي عقل يرضى أن تكون بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مؤمنة بأبيها؟ وتبقى مدة (ثلاث عشرة) سنة في مكة وسنتين أو سنة بعد الهجرة لتسلم وتهاجر بعد ذلك، كما يروي الذهبي ؟!
أو أنها آمنت بالنبي، ثم زوّجها من مشرك وبقت تحته (ثماني عشرة) سنة ؟! وبعد هذه السنين الطويلة يبعث وراءها النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة لينقذها من براثن الشرك خلال السنة السادسة من الهجرة، ويُسلم زوجها سنة سبع من الهجرة، وهذا يعني أن هذه المسكينة، لم تعش مع
ص:203
هذا الزوج المسلم في بيت فيه روح الإسلام، إلا سنة واحدة لأنها توفيت سنة ثمان(1). فتكون قد قضت بذلك كل سنين عمرها مع زوج لم ترَ منه إلا عبادة الأوثان، وعداوة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي صابرة محتسبة منتظرة متى يأتي الفرج لتنقل إلى المدينة كما نقلت الفواطم.
وعليه فنحن الآن أمام قولين:
ألف: إما أن نسلّم، ونرضى بكل هذه الإشكالات، ونغلق على عقولنا، حفاظاً على بعض المشاعر المستأنسة بالظلام.. والمتقوقعة في بواتق الشبهات الموروثة.
باء: وإما أن نتبع نور العقل ونستدل بأدلته على أن زينب رضي الله عنها لا يتناسب مع ما ورد في سيرتها أن تكون بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تلدها خديجة عليها السلام، وإنما هي ربيبته صلى الله عليه وآله وسلم، بل حتى كونها ربيبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تدفعنا إلى الاعتقاد بأنها وهي في هذه المنزلة لا تتناسب مع روح النبوة وهدي القرآن مع كل هذه الاشكالات التي حملتها كتب الحديث والتاريخ والتراجم والأنساب وغيرها.
بقي أن نقول:
إن أرباب الضلالة، وقادة النفاق لم يدّخروا جهداً في تشويه صورة الإسلام، ونسب الأكاذيب إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ص:204
وسنته، والتعرض لحرمته لاسيما فيما يتعلق بحياة (زينب ورقية وأم كلثوم).
فعرضوا من خلال حديثهم عن شخصية زينب رضي الله عنها بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد زوجها من رجل مشرك!...، وأنه يمكن حتى للمشرك أن يصاهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم!.. وأن هذه المصاهرة ليس لها أي مكانة دينية، أو دنيوية!.. وأنها تتم بشكل عادي، لا فرق بينها وبين مصاهرة بنات المسلمين!
فيحققون بذلك هدفين:
الأول
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير معصوم، وأنه غير مسدد من قبل الوحي إلا في تبليغ القرآن، فهو في الوقت الذي يحارب الشرك، يقوم بتزويج ابنته من رجل مشرك، فيجعلون المسلم في دوامة لا يعلم متى يخرج منها.
والثاني
هو التعرض لمنزلة فاطمة عليها السلام وزواجها من علي بن أبي طالب عليها السلام، فتكون مصاهرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست بالمنقبة؛ لأن صهر النبي الأول كان مشركاً.
وأما الشواهد على هذه القضية التي فجعوا بها الإسلام فكثيرة، وسوف نتعرض لها إن شاء الله كلاً حسب موقعها.
ص:205
نتناول في هذا المبحث ما عرضه لنا رواة الحديث والتاريخ والسيرة والأنساب عن شخصية رقية رضي الله عنها، والتي صورها لنا النقل بهذا الشكل:
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ 1.)
فقال أبو لهب لولده رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته، فطلقها وكان لم يدخل بها؟!(1).
وكانت قد أسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي وأخواتها حين بايع النساء(2).
ثم بعد ذلك تقدم عثمان بن عفان لخطبتها والزواج بها وكان الدافع من هذا الزواج هو الحصول عليها، لأنها كانت ذات جمال بارع(3) ، ولكون عثمان كان مولعاً بالنساء إلى درجة كبيرة حتى اشتهر بذلك، فكانت رقية وما تحمله من جمال هي السبب في إسلامه الذي تمكن من خلاله أي من خلال
ص:207
الإسلام الزواج منها، كما حدثنا بذلك عثمان، وأخبرنا بنفسه عن سبب إسلامه.
فيقول: (كنت رجلاً مستهتراً بالنساء، وإني ذات ليلة بفناء الكعبة قاعدٌ في رهط من قريش، إذ أُتينا فقيل لنا: إن محمداً قد أنكح عتبة بن أبي لهب من ابنته، وكانت رقية ذات جمال رائع، فدخلتني الحسرة، لم لا أكون أنا سبقت إلى ذلك. فقال: فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي، فأصبت خالة لي(1) قاعدة، وكانت قد طرقت وتكهنت عند قومها. فلما رأتني قالت مرتجزة: (ابشر وحييت ثلاثاً تترى)، إلى أن قالت: «أنكحت والله حصاناً زهرا - وأنت بكر ولقيت بكرا).
قال فعجبت من قولها وقلت يا خالة ما تقولين ؟ فقالت: «هذا نبي معه البرهان - أرسله بحقه الديان».
ثم قالت: (إن محمد بن عبد الله جاء إليه جبرائيل...) الخ كلامها معه.
ثم يقول: ثم انصرفت إلى أبي بكر وكان لي معه مجلس فكلمته.
- وبعد أن حدثه بما سمع - قال: فو الله ما كان بأسرع من أن مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وبعد أن دار بينه وبين رسول الله الكلام أسلم، ثم يضيف قائلاً: «ثم لم ألبث أن تزوجت رقية»(2).
ص:208
وبعد أن تم هذا الزواج، أراد عثمان بن عفان الخروج إلى أرض الحبشة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أخرج برقية معك».
- ثم - قال:
«أخال واحداًً منكما يصبر على صاحبه».
ثم أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسماء بنت أبي بكر فقال:
آتيني بخبرهما.
فرجعت أسماء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو بكر، فقالت: يا رسول الله أَخرج حماراً موكفاً فحملها عليه وأخذ بها نحو البحر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا أبا بكر إنهما لأول من هاجر بعد لوط وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام»(1).
وإنهما هاجرا إلى الحبشة الهجرتين جميعاً(2).
وكانت رقية رضي الله عنها حاملاً، فألقت ما في بطنها علقة في السفينة(3) ، وكان هذا في الهجرة الأولى(4).
ص:209
وبعد أن استقر بها المقام في الحبشة ولدت لعثمان ولده عبد الله، الذي كان به يكنى، وقد مات وعمره أربع سنوات وقيل: ست سنوات، ولم تلد له بعده. وكان موته في السنة الرابعة من الهجرة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1) ، ثم إنها هاجرت إلى المدينة بعد عثمان(2).
ويروي لنا النقل عن أبي هريرة أنه قال: دخلت على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه آله وسلم، وبيدها مشط فقالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عندي آنفاً، فرجلت رأسه، فقال لي: كيف تجدين عثمان ؟ قالت: فقلت بخير قال: أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقاً(3).
وفي السنة الثانية من الهجرة وقبيل بدر مرضت رقية رضي الله عنها فخلَّف النبي عليها عثمان ولم يخرج إلى بدر؛ وتخلف معه أسامة بن زيد فماتت ليلاً، فغدوا بها فدفنوها والمسلمون ببدر(4).
ص:210
وقيل: لما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بدر وقف على قبرها ثم قال:
«إلحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون»(1).
فبكت النساء فجعل عمر بن الخطاب يضربهن بسوطه ؟!
فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده ؟! وقال:
«دعهن يبكين».
ثم قال:
«مهما يكن من العين ومن القلب فمن الله والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان».
فقعدت فاطمة عليها السلام على شفير القبر تبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح دموعها بطرف ثوبه(2).
هذه هي الصورة التي حملتها المصادر الإسلامية عن شخصية رقية رضي الله عنها. لكن هذه الصورة حوت كثيراً من التناقضات التي يرفضها العقل ويمجها الذوق السليم، وكما قلنا في المبحث السابق: فقد أخذنا هذه الصورة على أساس أنها بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم عرضنا الأمر على طاولة البحث العلمي والموضوعي فكانت النتيجة الآتية:
ص:211
سنة ولادتها تدل على أنها كانت في سن السابعة عندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أنها عند بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت طفلة وهي دون السن الشرعي التكليفي بسنتين.
إن هذا التاريخ الذي ينص على ولادة رقية في السنة الثالثة والثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعارض من كون القاسم هو بكر خديجة عليها السلام وأنه ولد ومات في الإسلام - كما مرّ سابقا -.
زواجها من عتبة قبل النبوة يرفضه العقل ؟ إذ كيف يزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته وهي ما زالت طفلة، لعلها في السادسة أو الخامسة من عمرها، لأن كلمة: (قبل النبوة) لم تحدد لنا عمرها دقيقاً حين تزوجها عتبة بن أبي لهب.
إلاّ اللهم كان يراد من لفظ الزواج هو الخطوبة، وهذا بعيد أيضاً؛ لأن الرواية تنص على لفظ الطلاق ولا يقال للخاطب حين تركه لمخطوبته بالمطلق لها.
أشارت المصادر إلى أن سبب طلاقها من عتبة، فهو لنزول قوله تعالى:
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )
ص:212
مما دعا أبا لهب أن يخير ولده عتبة، بين أن يتبرأ منه، وبين أن يطلق رقية.
فكانت النتيجة: أن عتبة فضّل أباه على بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فطلقها.
هذه الحالة التي ينقلها الرواة في منتهى الغرابة والتناقض العقلي والنقلي للأمور التالية:
1. أن هذه الآية نزلت في السنة الثالثة من البعثة(1).
وهذا يعني أن رقية بقيت زوجة لعتبة أكثر من أربع سنوات أو خمس؛ لأنه تزوجها قبل النبوة! كما يقول الرواة، الذين ذكروا أيضاً: انه لم يدخل بها!.
فكيف تبقى رقية خمس سنوات عند زوجها ولم يدخل بها؟!
2. وإذا قلنا إنه تزوجها بعد النبوة؛ فإنه مرفوض أيضاً بل إنه في رتبة المحال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن شرعاً ولا عقلاً أن يدعو إلى التوحيد ثم يقوم بتزويج ابنته من مشرك.
3. إن التاريخ ينقل لنا صورة عن طبيعة التعامل الذي كان يقوم به أبو لهب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تكشف عن حجم العداء الذي كان يحمله أبو لهب للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده، الحديث التالي: «قال: حدثنا أبو النظر، حدثنا شيبان، عن أشعث، قال: وحدثني شيخ من بني مالك بن كنانة،
ص:213
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بسوق ذي المجاز، يتخللها ويقول:
يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
قال: وأبو لهب يحثي عليه التراب ويقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، ولتتركوا اللاة والعزى.
قال: وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...»(1).
فهل يعقل أن يتقدم أبو لهب إلى رسول الله ليخطب ابنته وهو يحمل له هذا العداء؟! وهل ممكن شرعاً وعقلاً أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ابنته لعتبة بن أبي لهب، المشرك الذي يدين بدين أبيه، وأبوه هذا حاله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!.
أما ما ذهب إليه الحافظ شمس الدين الذهبي: في تصحيحه لقول ابن سعد، وتحديده زواج رقية رضي الله عنها، قبل الهجرة، فهو: مما لا صحة فيه، بل زاد الأمر سوءاً؟!.
لأنه: بهذا القول يلزم أن يكون زواجها من عتبة قد وقع بعد زواجها من عثمان بن عفان ؟!
ص:214
ثم إن الذهبي لم يفصح لنا عن قوله قبل الهجرة، أي: هجرة يقصد؟ الهجرة إلى الحبشة أم الهجرة إلى المدينة ؟
فإذا كان قصده هجرة الحبشة، فهذا محال لأن سورة «المسد»(1) نزلت في السنة الثالثة من البعثة(2) ، والهجرة إلى الحبشة وقعت في السنة الخامسة(3) ، فلا يمكن أن يتقدم أبو لهب، ويخطب لولده بنت رسول الله. وقد انزل الله تعالى سورة في القرآن، تكون عاراً عليه، وعلى زوجته إلى يوم القيامة. فزواجها من عتبة قبل الهجرة إلى الحبشة أبعد من الخيال.
أما إذا كان قصد الذهبي، أن زواجها كان قبل الهجرة إلى المدينة. فهذا لا يرضى به عاقل؛ لأن رقية قبل الهجرة إلى المدينة كانت متزوجة من عثمان بن عفان. وعندها ولدٌ منه وعمره سنتان تقريباً، وهي مع هذا كله كانت في أرض الحبشة، وليست في مكة!! فأين ومتى وقع هذا الزواج ؟! لا أحد يعلم... ولعل الذهبي وحده الذي يعلم ؟!
إن السبب الذي جعل شمس الدين الذهبي يخطئ ابن سعد في قوله: (إن رقية تزوجت قبل النبوة)، فيقوم بتصحيحه إلى قبل الهجرة ؟
فهو لكي يحافظ على صحة القول القائل: بأن عثمان عندما تزوج رقية
ص:215
رضي الله عنها، كانت باكراً. بدليل... أن هذا الزواج تم بعد النبوة، وقبل الهجرة، أي: قبل زواجها من عثمان بفترة قصيرة من الزمن.
لأن هذا الزواج إذا كان قد تم قبل البعثة، فإنّ عدّها باكراً يصبح أمراً بعيداً جداً، مع بقائها عنده طيلة هذه السنين.
فأوقع الصواب في خطأ كبير... يرفضه العقل، والنقل، والذوق السليم.
ونقول: إن حقيقة كونها باكراً يعارضها النقل أيضاً، فقد جاء عن الزبير ابن بكار قوله: «إن رقية رضي الله عنها كانت عند عتبة بن أبي لهب وبنى بها، فلما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )
قالت العوراء، أم جميل بنت حرب بن أمية، وهي أم عتبة بن أبي لهب، وهي حمالة الحطب، أيهجونا محمد ونمسك ابنته ؟! فطلقها أنكحك غيرها.
فانكحته بنت أبي العاص بن أمية، فولدت له جارية، فتزوجها يزيد بن أبي سفيان بن حرب.
ثم خلف على رقية بنت رسول الله عثمان بن عفان، فولدت له عبد الله، فمات...»(1).
ص:216
أما... ما جاء في إسلامها، من أنها أسلمت حين أسلمت أمها خديجة بنت خويلد عليها السلام، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإنه كفى بهذا القول كاشفاً عن بطلان هذه الروايات التي نسجت هذه الأحداث وأعطتها هذه المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذ لا يخفى عند جمهور المسلمين أن خديجة عليها السلام هي أول من أسلم من النساء، ولم ينقل لنا أي مصدر إسلامي إطلاقاً، كان قد تناول قضية أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. أن ذكر لنا: أن خديجة عليها السلام عندما أسلمت كان معها بناتها الثلاث.
بل إن جميع المصادر تجمع على أن خديجة عليها السلام، هي أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
في حين أشارت المصادر إلى: أن علي بن أبي طالب هو أول من سبق إلى هذا الدين، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذ قال:
«أولكم عليّ وروداً عند الحوض أولكم إسلاماً علي بن أبي طالب عليه السلام»(1).
لكن لم نجد أي ذكر لبنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه القضية.
ص:217
أما بخصوص بيعتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع النساء فإن بيعة النساء كانت مرتين:
البيعة الأولى
فهي بيعة العقبة، وهي خاصة لنساء الأنصار، الذين جاءوا عام (انثي عشر) من البعثة، وبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على أن يفدوه بأنفسهم وأموالهم، كي يتمكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الهجرة إلى المدينة.
فضلاً عن أن رقية كانت في هذا الوقت في الحبشة.
البيعة الثانية
وأما البيعة الثانية بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة كما تسمى أيضاً، فإنها كانت سنة خمس من الهجرة(1) ، أي: بعد وفاة رقية بثلاث سنوات. فمتى بايعت ؟!
ذكر الرواة، أنها هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان إلى الحبشة، وبعد خروجها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«إنهما لأول من هاجر بعد لوط عليه السلام»(2).
ص:218
وفي لفظ آخر:
«إن عثمان لأوّل من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط »(1).
هذا الحديث ليس يخالف العقل فقط ، إنما هو يخالف القرآن والتاريخ والسيرة!
والعجيب في الأمر أن أغلب من كتب عن الهجرة إلى الحبشة، أو تناول الحديث عن عثمان بن عفان، قد ذكر هذا الحديث المنسوب إلى رسول الله، ناهيك عن أنهم ذكروه في كتبهم رواية، لا دراية ؟!(2)
أما سبب مخالفته للقرآن فهو للأمور التالية:
1. إن تمثيل هجرة عثمان بن عفان، وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بهجرة لوط عليه السلام، تمثيل باطل؛ لأن زوجة لوط عليه السلام ممن غضب الله عليها، وأعد لها عذاباً أليما.
وهي لم تهاجر أصلاً، وقد أخبر لوط عليه السلام بذلك قبل خروجه، وقد أحيط علماً بأنه سوف يهاجر دون زوجته، وأنه مصيبها ما يصيب القوم الكافرين، جاء ذلك في قوله تعالى:
ص:219
(قالُوا يا لُوطُ إِنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ 1.)
فكيف يصح تمثيل هجرة رقية رضي الله عنها مع امرأة لوط عليه السلام التي انقلبت إلى منقلب سوء؟!
2. إن أول من خرج مهاجراً بعد لوط عليه السلام، هو نبي الله موسى عليه السلام وهو قوله تعالى:
(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ 2.)
فكانت هذه هجرته الأولى التي خرج فيها مفرداً.
أما هجرته الثانية، فكانت معه زوجته، وهو قوله تعالى:
(فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ 3.)
3. إن الهجرة إلى الحبشة لم تكن محصورة فقط بخروج عثمان بن عفان وزوجته رقية رضي الله عنها، إنما كانت بشكل جماعي، لكن بعض الرواة
ص:220
أرادوا صناعة صورة عن هذه الهجرة، وكأنها جمعت في شخص واحد، ألا وهو «عثمان بن عفان»، وإنه أول من خرج مهاجراً من المسلمين وبأنه أول من خرج بعد نبي الله لوط عليه السلام!
أما سبب مخالفته للتاريخ والعقل:
فلأن الحقيقة التي ينقلها التاريخ والسيرة غير ما نسجه بعض هؤلاء الرواة، وإن (الهجرة الأولى) إلى الحبشة، قام بها مجموعة من المسلمين مع زوجاتهم، وهؤلاء هم أول من خرج.
فلماذا ينحصر اسم الهجرة إلى الحبشة برجل واحد، وامرأة واحدة دون بقية الرجال والنساء، الذين كانوا قد خرجوا في نفس الوقت، ونفس الاتجاه، ونفس الغاية ؟!
وها هي الصورة: التي نقلها التاريخ، والسيرة، عن الهجرة الأولى إلى الحبشة.
قال ابن كثير: (إن خروجهم إليها كان في رجب سنة خمس من البعثة، وإن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا ً، وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر، ما بين ماش وراكب، فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة، وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير)(1).
ص:221
وأما ابن إسحاق صاحب السيرة الأولى فإنه قال: «فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانته من الله عز وجل، ومن عمه أبي طالب، وإنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم:
«لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم مخرجاً، مما أنتم فيه».
فخرج عند ذلك المسلمون، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم. فكانت أول هجرة، كانت في الإسلام(1).
وقول ابن إسحاق: «فخرج عند ذلك المسلمون»، دليل واضح، على أن الذين خرجوا كانوا مجموعة لا فرداً واحداً.
وذكر ابن هشام: أن هؤلاء العشرة(2) الذين خرجوا، كان عليهم عثمان ابن مظعون(3).
قلنا إن الرواة ذكروا: أن الهجرة إلى الحبشة، حدثت مرتين، وأن رقية قد أسقطت في الهجرة الأولى، ثم ذكروا أن عثمان بن عفان قد هاجر بها الهجرتين جميعاً؟!.
ص:222
وبعد المراجعة والبحث... وجدنا: أن عثمان بن عفان لم يهاجر الهجرتين، كما ذكروا! وأنه لم يهاجر إلا الهجرة الأولى!.
كما هو واضح في هذا النص: «وكان قد بلغ هؤلاء المسلمين - الذين خرجوا في الهجرة الأولى - أن المشركين قد أسلموا، فعادوا إلى مكة، فلما وصلوا لم يجدوا ما أُخبروا به، وكان فيمن رجع عثمان بن مظعون...»(1).
وكان بعض الذين عادوا إلى مكة ظلوا فيها، ولم يخرجوا منها، بينما رجع البعض الآخر إلى الحبشة، عند خروج جعفر بن أبي طالب عليه السلام.
وكان مجموع الذين خرج بهم جعفر ثلاثة وثمانين مسلماً، وقد دون المؤرخون أسماء الذين خرجوا مع جعفر بن أبي طالب في الهجرة الثانية إلى الحبشة، ولم يكن بينهم عثمان بن عفان، لا هو... ولا زوجته(2) ومع هذا فإن هذه المجموعة لم يكتب لها هجرتان، إنما هي هجرة واحدة.
أما حقيقة الهجرتين... فهي بعيدة كل البعد عن جميع الذين خرجوا من مكة، أو الذين عادوا إليها، ثمَّ خرجوا. وإن هذه المنقبة، وهذه المنزلة، حصل عليها مجموعة أخرى من المسلمين، خرجوا من اليمن! جاء ذلك في صحيح البخاري ومسلم، في باب هجرة الحبشة، وهذا نصه، واللفظ للبخاري: «عن أبي برادة، عن أبي موسى الأشعري قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا
ص:223
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فأقمنا معه، حتى قدمنا فوافينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لكم أنتم أهل السفينة هجرتان»(1).
وبهذا الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم اتضح لنا زيف الذين ادعوا أن عثمان بن عفان، هاجر الهجرتين!
قد ذكر الرواة: (أنها هاجرت إلى المدينة بعد عثمان) هذه العبارة تبعث في النفس العديد من الأسئلة التي لم أجد لها جواباً، فلعل العديد من الباحثين، يملكون في بحوثهم الإجابة، ولعل العديد من المسلمين يجدون بين خلجات وجدانهم الإجابة.
1. ترى لماذا تركها عثمان بن عفان، وحدها في الحبشة، وذهب إلى المدينة دون أن يصطحبها معه، كما فعل عندما جاء بها؟!
2. كيف رضي أن يترك زوجته الشابة، التي ضرب بها المثل لجمالها؟! أما كان يخشى عليها من أعداء الإسلام، ومن غيرهم، أن يتعرضوا لها؟!
وقد كان يرى: أن غلمان الحبشة كانوا يتعرضون لها بنظراتهم، فيتحيرون عجباً من حسنها، إلى أن قتلهم الله في المعركة لما سار النجاشي إلى عدوه(2).
ص:224
كما ينص شيخ كتاب السيرة محمد بن إسحاق والحاكم النيسابوري واللفظ لابن إسحاق فقد قال: (حدثني بعض أهل العلم أن فتية من الحبشة قد رأوا رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي هناك مع زوجها عثمان بن عفان وكانت فيما يقال: أجمل وأحسن البشر وكانوا إليها ينظرون ويدركلون لها إذا رأوها عجبا منها حتى آذاها ذلك من أمرهم، وهم يتقون أن يؤذوا أحداً منهم للغربة ولما رأوا من حسن جوارهم فلما سار النجاشي إلى عدوه ساروا معه فقتلهم الله جميعاً لم يفلت منهم أحد)(1).
3. كيف اطمأن قلبه أن يترك عرضه في أرض الغربة! مع أنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... كما يذكرون ؟!
4. ترى... ما كان جوابه لو سأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سبب تركه ابنته في الحبشة! وجاء بدونها... ألا يعلم أنه سوف يُسأل ؟ أم أنه كان مطمئناً من عدم السؤال ؟ أو أنه كان موقنا من أنها ربيبته صلى الله عليه وآله وسلم.
وحتى في هذه الحالة، ترى ماذا كان جوابه، وماذا كان عذره بتركها؟!
5. كيف ذهبت إلى المدينة ؟.. وكيف وصلت ؟! وكيف استدلت طريقها؟! ومع من خرجت ؟.. لا أحد يجيب من الرواة على هذه التساؤلات.
لأنهم لا يملكون إلا إجابة واحدة وهي: إن رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جاءت إلى المدينة وحيدة بدون زوجها، تحمل طفلها الرضيع، أو لعلها فطمته قبل الوصول إلى موطن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
ص:225
ثم لم تلبث بها إلا شهوراًًًً قليلة، أو لربما هي أيام قلائل حتى تمرض رقية قبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر في السنة الثانية من الهجرة، فلما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر لم يرَ سوى قبرها، فجلس عند القبر، ومعه بضعته فاطمة عليها السلام وهي تبكي، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمسح دموعها.
وفي دمع فاطمة وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ربما يجد المسلم! الإجابة على تلك التساؤلات.
وفضلاً عن كل ما ذكر؛ ما جاء عن أبي هريرة من القول والفعل، في حياة رقية رضي الله عنها، عند دخوله عليها، وحديثه معها، لدليل واضح، على تدخل البعض ممن كان له غرض أو مرض في نسج صور مشوهة عن الإسلام ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وسنته!
والعجيب مما في الأمر، أن الحاكم النيسابوري، عندما أورد الرواية علق عليها بقوله: «إن هذا حديث صحيح الإسناد، واهي المتن، فإن رقية ماتت سنة ثلاث من الهجرة، عند فتح بدر، وأبو هريرة إنما أسلم بعد فتح خيبر، والله أعلم، وقد كتبناه بإسناد آخر».
والإسناد الآخر هو: «حدثنا عبد المنعم بن إدريس، حدثني أبي، عن وهب بن منبه، عن أبي هريرة، قال: دخلت على رقية رضي الله عنها بنت
ص:226
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... الخ» وبعد أن ذكر هذا الحديث قال الحاكم: «ولا أشك أن أبا هريرة، رحمه الله تعالى، روى هذا الحديث عن متقدم من الصحابة، أنه دخل على رقية رضي الله عنها، ولكني قد طلبته جهدي فلم أجده في الوقت»(1).
وهنا أراد الحاكم أن يرفع عن أبي هريرة ادعاءهُ غير الصادق في دخوله على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه سألها عن عثمان وأجابته بجوابها الذي مرَّ.
فعمد إلى القيام بوضع الأصباغ على هذه الصورة التي تنطق بالزيف، ظاناً أنه قد يضفي إليها بعض القبول، فكانت النتيجة أن هذه الأصباغ جعلت الصورة تصرخ بعدم الصدق أكثر فأكثر.
لأنه يعلم... كما يعلم الذهبي، الذي أقرَّ ما أخرجه الحاكم، أن رقية رضي الله عنها، ماتت قبل أن ترى وجه أبي هريرة بخمس سنوات ؟!
لكن مع هذا عمدوا إلى إخراجها، وإخراج غيرها من الأحاديث ؟. لأنهم قد وقعوا تحت أسر السند الصحيح، حتى وإن كان المتن واهياً وباطلاً؟! وإن كانت صحة السند كاشفة عن حال راويه بل وحال ناقله أيضاً!
إذ إن الحاكم بقوله: «ولا أشك أن أبا هريرة روى هذا الحديث عن متقدم من الصحابة، إنه دخل على رقية رضي الله عنها...»، يكون قد نسب إلى أبي هريرة جنايتين بدل أن تكون جناية واحدة!
ص:227
1. أنه أثبت أن أبا هريرة لم يكن صادقاً بقوله: «دخلت» وهو لم يدخل، وإنما الذي دخل على رقية واحد ممن تقدمت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان معاصراً لرقية رضي الله عنها.
2. أنه أثبت أن أبا هريرة قد ادعى القيام بجهد غيره من الصحابة، سرق حديث غيره، ونسب لنفسه عملاً لم يقم به أصلاً، إنما قام به أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فيكون أبو هريرة هنا وبحسب قول الحاكم: «غير صادق، ومدعياً لجهد غيره»!
ثم بعد ذلك يثبت الحاكم بالدليل القاطع أن هذا الحديث مختلق وكله كذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم! وعلى رقية رضي الله عنها؟!
لأنه نسب لها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عثمان بأنه «أشبه أصحابي بي خلقاً»، وهو لم يرَها، ولم ترَه لتحدثه بهذا الحديث، فيأتي الحاكم ليعلن للمسلمين بأنه قد بذل قصارى جهده، لكي يعثر على واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يحدث بنفس هذا الحديث عن رقية رضي الله عنها فلم يجد!.
بينما كان من الأولى أن يبذل الحاكم بعض جهده ليثبت عدم صحة هذا الحديث ومن كان على شاكلته ليلقى بذلك الجهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ص:228
وبعد هذه الجولة فيما أوردته المصادر الإسلامية من ترجمة لشخصية رقية رضي الله عنها فقد بدا واضحاً بأنها لا يمكن أن تكون بنتاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وسيرتها تحمل كل هذه الإشكالات والمتناقضات العقلية والنقلية.
بل إن هذه السيرة لا تتناسب حتى مع كون رقية رضي الله عنها ربيبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن أن تلدها خديجة عليها السلام، من صلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأن قولنا بأنها ربيبة قد يخفف بعض هذه الإشكالات من قبيل أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يترك هؤلاء البنات تحت رحمة المشركين أو يدعهن عرضةً للأخطار والأهوال دون أن يتدخل في انقاذهن التزاماً بما يفرضه مقام الوالدية عليه بل إن قولنا بأنهن ربائبه قد يتناسب مع عمرهن منذ الولادة إلى الوفاة وأن هذه السنين لا تتعارض مع ولادة القاسم ووفاته في الإسلام.
وعليه: فإن هذه السيرة كما مرّ بيانه من الإشكالات والأدلة لكاشفة عن التلاعب الكبير في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل بكل جزئيات هذه السيرة، ولذا فنحن بحاجة إلى الرجوع إلى الثقلين القرآن والعترة النبوية وإلى دراسة هذه السيرة وتحقيق ما رواه الرواة لعلنا نوفق إلى الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يزل يتعرض للأذى والعدوان من أعداء الله والإنسانية.
لكنها استحقت رتبة البنت لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي تكفل بها، فعرفت بين الناس بأنها ابنته.
ص:229
كما اعتدنا في الفصلين السابقين أن نتناول ما ذكره النقل عن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عمدنا هاهنا أيضاً على نقل ما جاءت به مصادر المسلمين، في عرضها لسيرة البنت الثالثة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وهي أم كلثوم رضي الله عنها، والتي اشتهرت وعرفت بهذه الكنية.
أما اسمها فقد قيل: إنه «أمية»(1) ، وقيل: لا يعرف لها اسم(2).
وأما ولادتها:
فإن الرواة لم يذكروا لها سنة ولادة. لكن هناك من ذهب إلى أنها ولدت بعد رقية، وقبل فاطمة الزهراء عليها السلام(3).
ص:230
وعليه:
فإن ولادتها تكون في السنة الرابعة والثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن رقية رضي الله عنها، كما ذكرنا سابقاً، قد ولدت سنة ثلاث وثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا أقل الاحتمالات بلحاظ أن المرأة تحتاج إلى ما يقارب السنة بين كل مولودين؛ ولذا قد تكون أم كلثوم قد ولدت بعد رقية بسنتين أو ثلاث وهذا يعني أن عمرها يكون بين الأربع السنوات أو الخمس قبل بعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء أيضاً: بأنها تزوجت من عتيبة بن أبي لهب قبل النبوة، «ولم يبنِ بها حتى بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم»؟!
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل الله تعالى:
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )
قال له أبوه رأسي من رأسك حرام، إن لم تفارق ابنته، ففارقها ولم يكن دخل بها(1).
ص:231
فلم تزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بايعت النساء.
وهاجرت إلى المدينة، حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخرجت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة(1).
وقيل إنما كانت هجرتها بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة(2) فلم تزل بها.
فلما توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف عثمان ابن عفان على أم كلثوم رضي الله عنها وكانت باكراً وذلك في شهر ربيع سنة ثلاث من الهجرة وأدخلت عليه في جمادى الآخرة(3).
وقد بيّن الرواة سبب زواج أم كلثوم من عثمان بن عفان، من خلال الحديث التالي: (عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن
ص:232
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي عثمان بن عفان وهو مغموم، فقال:
«ما شأنك يا عثمان»؟.
قال: بأبي أنت يا رسول الله وأمي، هل دخل على أحد من الناس ما دخل عليَّ ، توفيت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رحمها الله، وانقطع الصهر في ما بيني وبينك إلى آخر الأبد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أتقول ذلك يا عثمان، وهذا جبرائيل عليه الصلاة والسلام يأمرني عن الله عز وجل، أن أزوجك أختها أم كلثوم، على مثل صداقها، وعلى مثل عدتها»).
وفي رواية:
«وعلى مثل عشرتها».
فزوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1) ، فلم تزل عنده إلى أن ماتت سنة تسع من الهجرة(2).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«زوجوا عثمان لو كانت عندي ثالثة لزوجته»(3).
ص:233
وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«لو كن عشراً لزوجتهن عثمان»(1).
وفي رواية ثالثة قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«لو كان لي أربعون بنتاً لزوجتهن عثمان واحدة بعد واحدة»(2).
وأما مراسم دفنها فقد ذكر الرواة: أن نساء الأنصار قمْنَ بتغسيلها وكانت فيهم أم عطية(3) ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جلس على قبرها وعيناه تدمعان فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
«لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة فلم يدخل عثمان القبر»(4).
وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«هل منكم رجل لم يقارف الليلة أهله ؟».
فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله، قال:
ص:234
«فانزل في قبرها»(1).
وقيل: إن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الذي نزل بقبرها، ونزل أيضاً الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد(2).
بعد أن بينا ما ذكرته المصادر الإسلامية، التي تناولت سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وما ورد فيها من حياة البنت الثالثة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قمنا بعرض هذه السيرة على طاولة البحث العلمي والموضوعي، لمعرفة صحة ما نقلته هذه المصادر من ترجمة لهذه الشخصية التي قدمتها على أساس أنها إحدى بنات النبي الأعظم روحي فداه.
فكانت النتيجة التي لم نعتمد فيها على العقل فقط ، وإنما بمقابلة النصوص التاريخية والحديثية على نصوص وأحاديث أخرى، لأجل أن نقدم للقارئ الكريم الصورة النقية والواضحة.
هي كالآتي:
ص:235
من الغريب جداً أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بنت لا يعرف لها اسم إنما عرفت بالكنية فقط .
أما ما ذكره الحاكم في المستدرك من أن اسم أم كلثوم هو «أمية»، فلم يقره الذهبي في تلخيصه، وذلك لضعفه.
فضلاً عن أن هذا الاسم لم يقل به غير مصعب بن الزبير، وذلك حسبما جاء في المستدرك.
وعليه: فإن عدم وجود اسم لأم كلثوم أمر يرفضه العقل وبخاصة كونها بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي يعنى بأمره كل مسلم وكافر، فكيف تكون ابنته هذه مجهولة الاسم دون بقية أخواتها «زينب ورقية وفاطمة»؟!
والرواة الذين عجزوا عن معرفة اسمها فهم أعجز في تسجيل حياتها.
لم يذكر أي مصدر من المصادر الإسلامية إطلاقاً السنة التي ولدت فيها أم كلثوم. بل إن المصادر الإسلامية تناولت في الأغلب الترتيب في ولادة أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دون الإشارة إلى سنة ولادة كل بنت.
وهذا الأمر بحد ذاته غريب! لأنهنّ لسنَ بنات رجل عادي، إنما هنّ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فضلاً عن ذلك، فإن بعض المصادر ذكرت: أن أم كلثوم رضي الله عنها ولدت بعد زينب ورقية، وهو ما اعتمده ابن عبد البر، وغيره.
ص:236
وبما أنهم قد ذكروا أن رقية ولدت سنة ثلاث وثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أم كلثوم على أقل تقدير تكون ولادتها سنة أربع وثلاثين أو خمس وثلاثين أو أكثر من ذلك، من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه: فإن عمرها عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكون ست سنوات، أو خمس سنوات، أو أقل.
زواجها من عتيبة بن أبي لهب أسطوري؛ إذ لم يرد وقوع زواج كهذا حتى في قصص الخيال؛ لأن عمرها عندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ست سنوات، أو خمس، أو أربع سنوات.
فكم كان عمرها عندما تزوجها عتيبة قبل النبوة ؟! أكان أربع سنوات، أم كان خمس سنوات أو لعلها في السنة الثالثة ؟!
أليست هذه دسيسة من دسائس أعداء الإسلام ؟!! فأي إنسان يرضى بزواج طفلة عمرها أربع سنوات ؟! وكيف يمكن التصديق بأن أم كلثوم تزوجت بهذا العمر وهي ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
وعليه: فأما أن تكون السيرة التي نقلها الرواة عن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أساس لها من الصحة، وأما أن تكون أم كلثوم هي ربيبة خديجة عليها السلام، وأنها ولدت قبل هذا التاريخ بسنين عديدة تمكنها من الزواج من عتيبة بن أبي لهب وتبقى عنده سنوات وهذا كله قبل بعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأما أننا نقف أمام مأساة في السيرة والتاريخ الإسلامي.
ص:237
ثم يضيف لنا النقل: أن عتيبة عندما تزوجها لم يدخل بها، حتى بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل الله:
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )
طلب منه أبوه أن يطلقها، أو يتبرأ منه، فطلقها: وكان لم يدخل بها.
هذه الفقرة من سيرة أم كلثوم تتضمن ما يلي:
1. قول الراوي: لم يدخل بها حتى بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أنها كانت متزوجة من عتيبة قبل النبوة بفترة طويلة من الزمن ؟ لأن «حتى» في اللغة تستخدم للأبعد زماناً ومكاناً.
وعليه: فلا أحد يعلم، كم حملت «حتى» معها من السنين الزوجية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأم كلثوم عمرها ست سنوات، عندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
2. قلنا في الفصل السابق إن سورة «المسد» نزلت في السنة الثالثة من البعثة في مكة المكرمة(1) ، فكم يا ترى أمضت أم كلثوم من السنين وهي متزوجة من عتيبة ولم يدخل بها؟ ربما خمس سنين، أو أربع ؟! فما الذي كان يمنع ابن أبي لهب من زوجته ؟! ثم ما هو الداعي من التأكيد على هذه النقطة بالذات، حتى أصبحت اهتمام الرواة ؟!
ص:238
3. إذا كان التاريخ دقيقاً إلى هذه الدرجة بتسجيل نقاط حياة أم كلثوم فيرقب إن كانت باكراً، أم ثيباً.
فكيف يغفل عن اسمها؟! فلا يعرف لها اسماً!؟
أفكان اسمها لا يعني للرواة شيئاً، بقدر ما يعني لهم أن يحظى بها عثمان ابن عفان باكراً؟!
أم أنهم يعلمون جيداً أنها ليست بنت نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم فلم يهتموا لمعرفة اسمها؟!
قولهم: (وأسلمت حين أسلمت أمها»، هذه الفقرة أجبنا عليها في الفصل السابق، وقلنا: إن هذا الأمر لم يقل به أحد من المسلمين، الذين سجلوا لنا أسماء الذين سبقوا إلى الإسلام وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما كان أحد منهم قد ذكر أسماء بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أسلمت خديجة عليها السلام، فضلاً عن أن عمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان خمس سنوات أو أربعاً وهي لا تدرك هذا الفعل فكيف تكون أسلمت مع أمها.
قولهم: (وبايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أخواتها حين بايعت النساء» فليتهم ذكروا لنا أي بيعة يقصدون أبيعة الرضوان أم بيعة الشجرة أم بيعة نساء الطلقاء؟!
ص:239
فإذا كان المراد هو بيعة الرضوان، فتلك البيعة لم تكن فيها إلا امرأتان من الأنصار، جاءتا مع زوجيهما لبيعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما بيعة الشجرة فإنها كانت سنة (ست للهجرة) وهذه البيعة لم تحضرها واحدة من أخواتها، لأن رقية ماتت قبل البيعة ب - (أربع سنوات) وأما زينب فقد بينا أنها كانت في مكة بعد بدر، بفترة طويلة، فليس من المؤكد أنها كانت في المدينة لتخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبايع تحت الشجرة.
وأما بيعة نساء الطلقاء فلم تكن واحدة من بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجة لأحد من الطلقاء، فأي بيعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضرتها أم كلثوم مع أخواتها وبايعت ؟!!
قولهم وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخرجت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وفي قول آخر: إنما هاجرت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيه عدة نقاط :
1. لم يذكر لنا أي مؤرخ أو كاتب في السيرة النبوية أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما حدثت، كان معه حين خرج واحدة من بناته.
2. خروج حُرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد مخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تسرد بهذه اللفظة «عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»؛ لأن اللفظ الذي تناوله المؤرخون هو «خروج الفواطم» وهن أربع
ص:240
نساء «فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وفاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
كما أن البخاري في صحيحه عندما تحدث عن خروج الفواطم لم يذكر أي وجود لأم كلثوم بينهن(1).
3. ما هو المراد من قول الراوي: «خرجت مع عيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم»؟! أليست هي من عيال النبي ؟! أم أنها غريبة عنهم ليقولوا إنها خرجت مع عيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ لأن الواصف لعملية خروجها بهذه اللفظة، التي لا تحمل إلا معنىً واحداً وهو أنها ليست من عيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أليس من الغريب جداً، أن تظل أم كلثوم وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل هذه السنين، من حين نزول:
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ )
في السنة الثالثة من البعثة، إلى السنة الثالثة من الهجرة، ولم يتزوجها أحد؟! فهل يعقل أنها ظلت ثلاث عشرة سنة ولم يتقدم صحابي للزواج منها حتى يوافي رقية الأجل فيتقدم عثمان للزواج منها؟! أترى إذا لم تمت رقية أكانت أم كلثوم تبقى بدون زواج ؟!
ص:241
أما سبب زواجها من عثمان، فقد بينه لنا أبو هريرة الذي رافقنا في حياة بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث: بين قائدٍ لسريّة هجومية أوكلت إليه مهمة قتل هبار بن الأسود وصاحبه في حياة زينب رضي الله عنها، وبين دخوله إلى بيت عثمان ومحادثته زوجته لتروي له إحدى مناقب زوجها عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في حياة رقية، وبين أن يبين لنا السر في زواج عثمان من أم كلثوم.
كل هذه الأمور تفضل بها: أبو هريرة، وهو لم يكن في زمن تلك الأحداث! إنما جاء إلى الإسلام في السنة السابعة، أي: بعد زواج أم كلثوم بأربع سنين!
فمتى لقي عثمان ليرى ما عليه من حزن ؟ ومتى سمع رقية تحدث بمناقب زوجها؟ ومتى أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقتل هبار بن الأسود؟
هذه الأمور جعلتني أتعقب هذه الشخصية في كتب الرجال وسيرهم فبدا أبو هريرة بين صفحات هذه المصادر بهذه الصورة:
لكن قبل أن أنقل هذه الصورة التي تحدثت عنها كتب الرجال والتراجم والأدب وغيرها، لابد من الإشارة إلى هذه الملاحظة:
ألف: أود أن أذكر أن الغاية هي ليست الانتقاص من شخصية معينة، إنما الهدف هو النقل بكل أمانة بما جاءت به مصادر المسلمين لأجل بلوغ الحجة وإيصالها إلى كل مسلم.
ص:242
باء: ليس من السهل أن تنقل الواقع الذي عمل أعداء الإسلام على إخفائه حيناً، وتغييره حيناً، وقلبه حيناً آخر.
وعليه:
فإنك تجد أن البعض عدّ هذه الشخصية معجزة من معاجز النبوة ؟! لكثرة ما حدّث به من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المدّة القصيرة التي أمضاها في الإسلام والبالغة ثلاث سنين.
لكن مهما يكن من تضليل للحقائق، فإنّ الله يأبى إلا أن يتم نوره.
أما الصورة الحقيقية لهذه الشخصية فهي كالآتي:
1. اختُلف في اسم أبي هريرة، واسم أبيه اختلاف كبير(1) ، وقال ابن عبد البر: ولكثرة الاضطراب في اسمه، واسم أبيه، لم يصح عندي في اسمه شيء يعتمد عليه(2).
وقال ابن الصلاح: اختُلف في اسمه واسم أبيه اختلاف كثير جداً لم يختلف مثله في اسم أحد في الجاهلية والإسلام(3).
2. أسلم أبو هريرة عام خيبر، في السنة السابعة من الهجرة النبوية المباركة(4) ، أي: أنه أدرك من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث
ص:243
سنوات فقط ، ومع هذه الفترة القصيرة، إلا أنه ملأ صحاح المسلمين بأحاديثه التي رأينا نموذجاً منها في الفصول السابقة.
3. وكان أبو هريرة يُحدث عن كعب الأحبار أيضاً(1) ، فيجلس يحدث المسلمين بأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن كعب الأحبار وما أن يتفرق المجلس حتى يحدث البعض بحديث كعب الأحبار وقد نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
4. اتهمته عائشة بالكذب فقالت له: «إنك لتحدث بشيء ما سمعته قال: يا أمه طلبتها وشغلك عنها المكحلة والمرآة فقالت: لعله)(2).
5. أما عمر بن الخطاب، فقد منعه من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حد الضرب بالدرة مرة! وقد قال له: (قد أكثرت الحديث وأحرى بك أن تكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(3).
والتهديد بالنفي مرة أخرى، قائلاً له:
(لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لألحقنك بأرض دوس)(4) ؟!
ص:244
وقال لكعب الأحبار: «لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة»(1).
ولم يكتف عمر بن الخطاب بهذا الخطاب فقط ، إنما صادر أمواله لاتهامه بسرقة أموال المسلمين، الممثلة ببيت المال، بعد أن ولاه الإمارة على البحرين.
فلما قدم عليه قال: (يا عدو الله، وعدو رسوله، سرقت مال الله ؟! فأخذ منه عشرة آلاف درهم فألقاها في بيت المال)(2).
وبعد أن عزله عن الإمارة سأله قائلاً: «كيف وجدت الإمارة ؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها.
وأتاه بأربع مائة ألف من البحرين فقال: ما جئت به لنفسك ؟ قال: عشرين ألفاً.. قال: من أين أصبتها؟!.. قال: كنت أتجر.. قال: أنظر رأس مالك ورزقك فخذه، وأجعل الأمر في بيت المال»(3).
6. أن خير ما يعرف به المرء، هو حديثه عن نفسه، وقد قيل: الاعتراف سيد الأدلة. وقد تحدث أبو هريرة عن نفسه معترفاً وقائلاً:
ألف: قال: حفظت من رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقُطع هذا البلعوم(4).
ص:245
باء: كان يقول: «رب كيس عند أبي هريرة لم يفتحه»(1).
جيم: قال: «كذبت حتى رميت بالقشع» أي: كناسة الحَمَامْ (2)!.
دال: عن عكرمة: أن أبا هريرة كان يسبِّح كل يوم أثني عشر ألف تسبيحة ويقول: «أسبح بقدر ذنبي»(3)!!.
وكان يقول: «اللهم أرزقني ضرساً طحوناً، ومعدة هضوماً، ودبراً نثوراً»(4)!!.
7. وقد عرف أبو هريرة بالكذب حتى اشتهر به، وقد قال فيه الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام:
«ألا إن أكذب الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو هريرة الدوسي»(5)!.
8. وقال أبو جعفر الإسكافي المعتزلي شيخ ابن أبي الحديد: «إنَّ أبا هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية»(6).
وقد سُئل أبو حنيفة إمام المذهب الحنفي: إذا جاء قول للصحابة يخالف قولك، فماذا تفعل ؟ قال: أترك قولي وآخذ بقول الصحابة، إلا ثلاثة منهم:
ص:246
«أبو هريرة، وأنس بن مالك، وسمرة بن جندب»(1).
9. وعن الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، أنه قال: «ما كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة إلاّ ما كان حديث جنة أو نار»(2).
وقيل أيضاً: «إنه ليدلس في الحديث»(3).
10. ولقد استخدمه معاوية بن أبي سفيان، كورقة سياسية ودينية، لتنفيذ مطامعه، وتحقيق أهدافه مستغلاً بذلك صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبذل أبو هريرة الكثير من كيسه المليء بالأحاديث في خدمة معاوية الذي بذل لأبي هريرة في المقابل الكثير من الأموال والسلطة، والجلوس عنده، وتقريبه لديه وأكل المضيرة معه، ولشدة إعجابه بالمضيرة، لقب أبو هريرة بشيخ المضيرة.
ومن الأمور التي عملها معاوية في هذا الخصوص: هي أنه وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه.
وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه. منهم: «أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير»(4).
ص:247
ومن هذه الأحاديث، قول أبي هريرة، يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الأمناء ثلاثة أنا وجبرائيل ومعاوية»!؟ قال الخطيب، والنسائي، وابن حيان: هذا الحديث باطل، موضوع. وكذبه أيضاً السيوطي، وابن حيان، وابن عدي، وأبو يعلي.
وقال الذهبي في ميزانه، ولسان الميزان: وهذا كذب(1).
بقي أن نقول: إن السبب فيما أوردناه من ملامح لهذه الصورة التي نقلناها بكل صدق من مصادرها، ما كان إلاّ لنبين أن حياة بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد تدخَّل فيها الكثير من أعداء الإسلام؛ وقاموا في صياغتها بهذا الشكل الذي نقلناه من مصادره في المباحث الثلاثة.
وما أبو هريرة إلا نموذج من النماذج التي سنتعرف على صورتها الحقيقية خلال سيرنا إن شاء الله مع حياة الصدّيقة الطاهرة خديجة الكبرى عليها الصلاة والسلام.
أما ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القول في تزويج بناته من عثمان، بعد وفاة أم كلثوم فهو مرفوض عقلاً وشرعاً لما يأتي:
1. ترى ألم يكن هناك بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يستحق أن يزوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إحدى بناته حتى يكنَّ حكراً
ص:248
على عثمان ؟! أليس هذا تعريضاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبصحابته المنتجبين رضي الله عنهم.
2. ترى ما ذنب كل هؤلاء البنات يبقين بدون زواج واضعات أيديهن على خدودهنَّ ينتظرن متى تموت أختهنَّ التي تزوجها عثمان حتى يتقدم للزواج بها؟!
3. ترى كم كان يحتاج عثمان بن عفان من السنين حتى يتمكن من الزواج بأربعين امرأة كلما ماتت واحدة تزوج بأختها؟!
4. إن الملاحظ في هذه الروايات: أن عدد بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد تدرج في الصعود حتى وصل الرقم إلى أربعين بنتاً، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتمنى إن كان عنده ولو بنتٌ واحدة على الأقل بعد رقية وأم كلثوم ليزوجها من عثمان بن عفان ؟!
في حين أن الراوي قد فاته أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد كان عنده في الواقع بنتٌ بعد رقية وأم كلثوم وهي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، فلو كان ما روي حقاً، لكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حبس فاطمة عليها السلام ومنع زواجها من الإمام علي عليه السلام ولأبقاها إلى عثمان كي يتزوج بها بعد أم كلثوم، ولكان سهّل على الراوي عدم رفع العدد إلى الأربعين.
وعليه: فهذا التمني ليس له وجود إلاَّ في نفس الراوي، ومن كان قد جعل وجوداً وهمياً لأربعين بنتاً للنبي، فمن السهل عليه أن يجعل لثلاث بنات وجوداً خارجياً ملموساً.
ص:249
بعد أن انتهينا من هذه الجولة التي بينا فيها ما احتوته المصادر الإسلامية التي تعنى بالتاريخ والسيرة والتراجم، عن حياة (زينب، ورقية، وأم كلثوم).
والتي قدمتهن المصادر على أساس أنهنَّ بنات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو المرحلة الأولى من البحث.
قمنا في المرحلة الثانية بعرض هذه السيرة على العقل، والنقل أيضاً. بمباحث ومسائل نأمل أن تكون وافية، وقد أدت الغاية المرجوة منها وهي: إيصال الحقيقة الواضحة المشفوعة بالأدلة المبينة، والتي كانت جميعها قد أثبتت أن: (زينب، ورقية، وأم كلثوم) لا يمكن عدّهن بنات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمور الآتية:
لأن سيرتهن التي جاءت بها المصادر الإسلامية، تستلزم أن يكُنَّ ولدن قبل النبوة بسنين عديدة، وقد بلغن مرحلة من العمر تمكنهنَّ من دخول بيت الزوجية كزوجات وأمهات. وهذا مخالف ومعارضٌ لجمهور علماء المسلمين في كون القاسم أول مولود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه قد ولد ومات في الإسلام وهو لم يتم رضاعه بعد.
ص:250
وإن هذه السيرة نصت على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد زوجهنَّ من مشركين قبل النبوة؛ وبعضهم من قال بعد النبوة، في حين ذهب البعض الآخر إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج إحداهن قبل الهجرة، أي بعد مرور عقد من السنين على البعثة النبوية المطهرة.
وهذا خلاف للشرع والعقل والنقل؛ إذ كيف يصح الجمع بين التوحيد والشرك ؟ - وهذا والعياذ بالله - غاية في الافتراء على سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.
فضلاً عن ذلك أنّ هذه السيرة قد حوت الكثير من التناقضات العقلية والتعارضات النقلية والتي قد أشرنا إليها في حينها ودللنا عليها في مواضعها، والتي تقودنا إلى الاعتقاد بأنهن: (ربائب خديجة عليها السلام).
والظاهر أن هذا الأمر حصل قبل زواج خديجة عليها السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن سيرتهنَّ تستلزم أنهنّ نساء كبيرات في العمر، وعندما انتقلت السيدة خديجة عليها السلام إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انتقلن معها، فنشَأنَ عندها.
وقد أشار إلى هذه الحقيقة بعض العلماء، منهم: أبو القاسم الكوفي، وابن شهر أشوب، والمجلسي، بقولهم: (إنهنَّ بنات أخت خديجة عليها السلام)(1) ،
ص:251
ماتت أمهنَّ فأخذتهنَّ خديجة؛ أو لعل خديجة اتخذتهن في دارها كي تعيل أختها كما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعانة عمه أبي طالب حينما اتفق مع عمه العباس بن عبد المطلب بالتخفيف عن أبي طالب وإعانته فاتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علياً عليه السلام ربيباً في حجره، واتخذ العباس عقيلاً، والحال نفسه قد يكون جرى مع خديجة عليها السلام مع أختها هالة أو غيرها.
فلما انتقلت إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انتقلْنَ معها إلى بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ولذا:
فان هذا الوضع جعلهنَّ في مكانة البنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرفْنَ بذلك، فظن البعض أنهنَّ حقاً من صلبه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ولدتهنَّ خديجة عليها السلام.
ص:252
ولقد تقصّد البعض الآخر على ترويج أنهنَّ بناته صلى الله عليه وآله وسلم، لأغراض عديدة سياسية، وعدائية ؟! كان المستهدفَ الأولَ فيها علي أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليهما السلام ؟!
وكيف يكونان مستهدفين وأزواج زينب، ورقية، وأم كلثوم رضي الله عنهنَّ ، كانوا من بني أمية.
فعملت يد السياسة، والنزعة الانتقامية في نفوس من وصل إليهم سيف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وفي نفوس من نزع الإسلام عزّهم وأذل كبرياءهم بنسج العديد من الأحاديث التي تخبر بثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صهريه «أبي العاص بن الربيع الأموي، وعثمان بن عفان الأموي».
فيمدح الأول بالوفاء بالعهد، وأنه لم يفرق بينه وبين زينب، وأنه أرجعها إليه بعقدها القديم، ليوحوا إلى القارئ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حريصاً على هذا الصهر وإن كان مشركاً!
وفي صهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثاني صوروا لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان شديد الحرص عليه، وأنه كان يتمنى لو أن عنده أربعين بنتاً لزوجهنَّ جميعاً عثمان بن عفان ؟!
بينما تجدهم عندما جاءت أقلامهم إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام فإنهم صوّروا هذا البيت والعياذ بالله، بأنه بيت فيه مشاكل زوجية، وأن أمير المؤمنين يرغب في الزواج من امرأة أخرى، فخطب بنت أبي جهل عدو الله
ص:253
وعدو رسوله، فيمنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخيّره بين فاطمة وهذه المرأة(1). وإنهما كانا يتشاجران والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلح بينهما؟!!
كل هذه الأكاذيب صيغت بعناية فائقة؛ لأن علي بن أبي طالب هو الصهر الوحيد للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من حظي ببنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحيدة، وأن هذه البنت هي بضعته، وأنها سيدة نساء العالمين(2) ، وأنها سيدة نساء الجنة(3) ، وأنها، وأنها،.. وهذا من جهة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما من جهة صهره، فعلي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام هو ليث الوغى إذا اشتدت الأسنة، وهو قاطع دابر الكفر وهم في الأجنة، ويكفيك منه في الإسلام أنه ميزان القرآن والسنة، فمبغضه يساق إلى النار، ومحبه يزف إلى الجنة(4).
ص:254
وعليه:
فكيف لا تعمل يد الضلالة على جعل زينب، ورقية، وأم كلثوم، رضي الله عنهن بنات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهنَّ متزوجات من رجال بني أمية؛ بل كيف لا يصنعون المستحيل لإلصاقهنّ ببنوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعثمان بن عفان قد تزوج اثنين منهن من ثمَّ فهو أقرب في صهريته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ في حين غفل أولئك الأعراب أن القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكمن في التقوى ويتجلى في الطاعة والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا اعتقد أن هناك عاقلاً يرى أن علي بن أبي طالب عليه السلام قد خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرفة عين إلا اللهم من يرى رأي النواصب وأئمتهم مردة النفاق والشقاق.
ولعل البعض من القراء لا يتصور أن يعمل أولئك الظالمون بكل ما أوتوا من قوة في التلاعب بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنته.
فنقول:
لعل الأحزاب وشيخها، وصفين وليلة هريرها، وكربلاء وعاشورها تخبرك بأوضح اللغات... إن كنت للغة العرب جاهلها، بما اقترفته يد بني أمية وشيعتهم في حربها لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ص:255
ص:256
ص:257
ص:258
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ 1.)
مما لا شك فيه أن القرآن هو المصدر الأول في الرجوع إليه في أحكام الله. وهو المهيمن فوق كل ذي حجة، إذ لا حجة بعد حجته ؟ لأنها حجة الله البالغة.
لكن القرآن بدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن الدخول إليه، بل لا يمكن معرفته، وما جاء عن طلاب العلم فهو رأي يعتمدُ على الظاهر، وهذا الظاهر قد حار فيه جهابذة المعرفة، وتخبط فيه أساطين العلوم المختلفة، فكيف بمعرفة باطنه، وأنى لهم من الوقوف على تأويله ؟ وفيه: ناسخٌ ومنسوخٌ ، عامٌ وخاصٌ ، مطلقٌ ومقيدٌ، مجملٌ ومبيّنٌ ، محكم ومتشابه، ومن هنا جاءت الحاجة للوقوف على أحكامه وفهم مراميه في الرجوع إلى مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن أراد الدخول إلى المدينة، فلا بد له من قصد الباب لقوله تعالى:
ص:259
(وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها1.)
ومن دخل البيوت من غير أبوابها عدّ سارقاً، وكان دخوله رذيلة عليه، وكان أمره مخزياً في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام:
«قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن، وأرز المؤمنون، ونطق الظالمون المكذبون، فحق الشعار والأصحاب، والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقا»(1).
فضلاً عن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يدع المسلمين حيارى، ولم يمنعهم من معرفة دينهم؛ لأن هذه الفعال ليست من صفات الأنبياء عليهم السلام، ولا هي من سجاياهم، فما بالك بسيد المرسلين وخاتم النبيين.
أيترك الامة دون أن يدلها على الباب الذي يوصلها إلى معرفة كتاب الله ؟ فلا والله فلقد أوضح وأفصح، وأعذر وأنذر، لكي لا يحتج على الله محتج. فأعلن مراراً عن السبيل الموصل إلى معرفة كتاب الله، قائلاً:
«أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب»(2).
ص:260
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
«كنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه، فلا يبقى عنده غيري، وإذا أتاني للخلو معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بنيّ ، وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني.
فما نزلت على رسول الله، آية من القرآن إلاَّ أقرانيها وأملاها عليَّ ، فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها، وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها، وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله تعالى ولا علماً أملاه عليَّ .
ص:261
وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئاً علمه الله، من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحد قبله، من طاعة أو معصية، إلاَّ علّمنيه وحفظته، فلم أنسَ حرفاً واحداً.
ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي، أن يملأ قلبي علماً، وفهماً، وحكماً، ونوراً.
فقلت: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي، منذ دعوت الله بما دعوت، لم أنس شيئاً ولم يفتني شيء لم أكتبه، أتتخوف عليّ النسيان فيما بعد؟ فقال: لا، لستُ أتخوَف عليك النسيان والجهل»(1).
فلذلك نجد أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ما كان يرجع إلى أحد من الناس في مسألةٍ ، وكان جميع الناس يرجعون إليه في المسألة.
قال ابن عباس، الذي لقب بحبر الأمّة، لغزارة علمه: «لقد أوتي عليُّ ابن أبي طالب تسعة أجزاء العلم، وأعطي أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء واحد، ولقد والله شاركهم هذا الجزء»(2).
وحيث إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان معه في حجة الوداع ما يقارب (124) ألف صحابي(3) فكم يكون نسبة كل واحد منهم من هذا الجزء من العلم ؟!
ص:262
وقالت عائشة زوج النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، حينما سئلت عن علي بن أبي طالب عليه السلام: «أما إنه أعلم الناس بالسنة»(1). وهذه الأحاديث وغيرها تكشف لنا عن حقائق عديدة منها:
أولا: إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج من الدنيا حتى بيّن لأمته منزلة القرآن وهيمنته عليهم وأن الله أعد لكتابه حملة ووعاة فكانوا له أهلاً وكان لهم وَزَراً وسنداً فدل الأمّة عليهم وعرفهم بهم وأمرهم بالتمسك بهما.
ثانيا: لا تنجو الأمّة من الفتن ولا تأمن من الظلال دون الرجوع إلى الثقلين.
ثالثا: لا يمكن الوقوف على ما في القرآن بدون القرآن والعترة النبوية عليهم السلام.
ومن هنا فإن هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم فيه من الأسرار العجيبة والحكم اللطيفة التي احتارت فيها العقول ؟!
ومن بين هذه اللطائف هي قوله تعالى:
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ )
فإن الظاهر في هذه الآية، وتحديداً قوله تعالى (وَ بَناتِكَ ) هن بناته من صلبه، حتى أن البعض احتج بلغة التقييد وعدم الخروج عنها، فكان احتجاجه مقبولاً، لأن ظاهر الآية يدل على كونهنَّ بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ص:263
وبما أن سيرتهنَّ التي جاءت بها المصادر وبما حوته من التناقضات، وبما قدمناه من الأدلة التي تجمع على أنهن - رضي الله - عنهن لسن بنات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قمنا بعرض هذه الآية على نفس القرآن؛ لأنه هو الملاذ الوحيد لنا في كل أمر أشكل علينا، ولكونه يفسر بعضه بعضاً، فيدفع المتشابه بالمحكم؛ فقد عرضنا هذه الآية عليه فكانت النتيجة التالية:
إن من الأمور التي لا تخفى على ذوي الألباب وأصحاب الذوق العلمي، أن القرآن الكريم وردت فيه آيات عديدة تحمل صيغة الجمع. بينما المعني بالأمر في الحقيقة هو شخص واحد.
ففي آية المباهلة:
(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ 1.)
كان الظاهر من وجود لفظ (وَ نِساءَنا) هم نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخواته وبناته كما تدل عليه هذه اللفظة. لكن حقيقة الحال والذي عليه جمهور علماء الأمّة أن المراد والمعنى ب -(وَ نِساءَنا) في هذه الآية هي: فاطمة الزهراء عليها السلام، إذ لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيرها إلى المباهلة - فراجعه في مواضعه في كتب التفسير والتاريخ والسيرة، والحديث، والأدب، واللغة -.
ص:264
فستجده مدوناً في مصنفاتهم وستجد أيضاً أن المراد بقوله تعالى (وَ أَنْفُسَنا) هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فهو بنص القرآن نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا ما تواترت عليه الأخبار عند جمهور المسلمين في ذكرهم لحادثة المباهلة وخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مباهلة نصارى نجران، حاملاً الحسين عليه السلام وماسكاً بيد الحسن عليه السلام وفاطمة تمشي خلفه وعلي بن أبي طالب يمشي خلفها(1) فإن هذه الآية كان ظاهرها يدل على الجمع بينما المقصود هو شخص واحد.
إن القرآن يشير إلى حقيقة جليّة وواضحة فيما يتعلق بالأنبياء وروابطهم بالأمم التي بعثوا إليها. فالقرآن يشير إلى أن كل نبي من أنبياء الله عليهم السلام، هو بالنسبة للأمّة التي أرسل إليها وآمنت به، كالوالد لهم، وهم بمنزلة الأبناء له، وبنات الأمّة هن بناته بالمعنى التربوي، فلهن من الحقوق عليه ما على الآباء وله عليهن ما للآباء من البر.
وهذه الحقيقة يشير إليها عز ذكره في قوله:
(هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ 2.)
ص:265
فإن المشار إليه في هذه الآية هو نبيُّ الله لوط عليه السلام، فكيف يمكن أن يقدم نبي الله لوط بناته لأهل المدينة ؟! لو أخذنا بظاهر الآية بأنه عليه السلام يقصد بناته اللاتي ولدهن حقاً وكيف يمكن أن تتحقق الطهارة لو أخذت المرأة رجلين في آن واحد؟!، فهذا دليل على أن (هؤُلاءِ بَناتِي) هنَّ بنات الأمّة، التي كان لوط عليه السلام نبيها.
وفي سورة الحجر جاءت الآيات لتعطي صورة واضحة لهذه الحقيقة، وهي قوله تعالى:
(وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ 1) .
فهل يمكن شرعاً وعقلاً أن يقدم نبي الله لوط عليه السلام بناته لأهل المدينة ؟! لولا أن تكون بناته هنَّ بنات الأمّة.
هذه هي الحقيقة التي أخبر عنها القرآن الكريم. وبيَّن أن المراد من بنات الأنبياء عليهم السلام هنّ بنات الأمم. وعليه: فإن المراد من قوله تعالى:
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ .)
هو بنات المسلمين.
ص:266
ليس القرآن الكريم وحده الذي أشار إلى حقيقة أبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمّة.. بل إن السنة النبوية الشريفة أكدت هذه الحقيقة، فضلاً عما اعتقده كثير من علماء السنة والجماعة في هذه الأبوة.
1 - قال صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمّة»(1).
2 - وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«حق علي على المساكين كحق الوالد على ولده»(2).
فهذه الأحاديث الشريفة تؤكد الحقيقة التي جاء بها القرآن، في أبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمّة المرحومة.
ص:267
كما تنص أيضا على أبوة علي بن أبي طالب لهذه الأمّة أيضاً وحقه على المسلمين، وهو يسير جنباً إلى جنب، مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(1).
فما كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من حقوق على هذه الأمّة كان لعلي عليه السلام من بعده صلى الله عليه وآله وسلم ما خلا النبوة.
وهذه الحقيقة قد أكدها بعض علماء المسلمين أيضاً، وذهبوا إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هو الوالد لهذه الأمّة، وأنّ المؤمنين من زمانه إلى يوم القيامة هم أولاده. وهذه أقوالهم:
قال الراغب الاصفهاني وتبعه على ذلك الآلوسي: (الأب: الوالد، ويسمى كل من كان سبباً في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا، ولذلك سمّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا المؤمنين.
قال الله تعالى:
ص:268
(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ 1,2) .
«إن كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك».
وهذا القول ذهب إليه: الزمخشري، والنسفي، والشيخ الخطيب الشربيني(1).
«والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعه، فهو كالوالد لهم، وهو أولى بهم من أنفسهم».
وهو قول: الشيخ محمد درّة، والأستاذ محمد علي الصابوني(2).
«وجعله أباً للمؤمنين فهم أعقابه وأولاده إلى يوم القيامة».
قاله: الشيخ حقي إسماعيل البروسوي(3).
ص:269
«فجميع المؤمنين أولاده».
وهو قول أبي حيان الأندلسي الغرناطي(1).
فهذه بعض أقوال علماء أهل السنة والجماعة، والتي تبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هو بمنزلة الأب لجميع المؤمنين من زمانه إلى يوم القيامة.
وعليه:
1. فإن قوله تعالى:(وَ بَناتِكَ ) ، المراد به بنات المؤمنين مكاناً لا نسباً إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وألاَّ لو كان المراد به أبوة النسب لما تمكن صلى الله عليه وآله وسلم من الزواج من أي مسلمة.
2. هذا المعنى القرآني قد جاء به الوحي في موضع آخر من الذكر الحكيم، وهو قوله تعالى:
(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ 2) .
فإننا نجد: أن القرآن من خلال هذه الآية قد جعل للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الولاية المطلقة على المؤمنين، وولايته تدفع وتمنع ولاية المؤمنين على أنفسهم.
ولذا.. نجده مثلاً في العقود قد زوج عمته من مولى له دون أخذ إذنها.
ص:270
وفضلاً عمّا ذكر فإن الآية الكريمة جعلت المرأة على ثلاث طبقات (أزواجك، وبناتك، ونساء المؤمنين) فإننا نجد هنا أن «أزواج النبي وبناته» يقابلها «نساء المؤمنين» فأين بناتهم ؟.
فإذا قلنا: إن كلمة «نساء الرجل» تعني: زوجاته وبناته وأخواته، فما هي الغاية من فصل نساء النبي عن بناته ؟!، دون فصل نساء المؤمنين عن بناتهم ؟! ألا تكون الغاية هي: أن بناته صلى الله عليه وآله وسلم هن بنات الأمّة.
ولذلك:
فقد فصل القرآن بين كلمة أزواجك وبناتك بينما جمع بنات المؤمنين وأزواجهم في كلمة (وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ .)
بسم الله الرحمن الرحيم
(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً1.)
بقي أن نتناول في الفصل مسألة التبني من خلال ما جاء به القرآن الكريم.
ص:271
فقد ذكر المفسرون: أن قوله تعالى:(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) . نزلت في منع المسلمين من ادعائهم لبعض الرجال ونسبهم إليهم كأبناء، ومن خلال هذا المنع دُعي كل رجل باسم أبيه الحقيقي.
وبهذه الآية يكون القرآن قد شرّع قانوناً جديداً في الحياة الاجتماعية، وله دور أساس في تنظيم الأحوال الشخصية، والفردية صعوداً إلى الأسرة.
ومن هذا المنطلق فلعل هناك من يقول متسائلاً:
«كيف يعقل أن يخالف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمراً إلهياً ويتكتم على بنات يدعيهن ؟ وأي منطق يعقل هذا»(1).
والجواب على هذا التساؤل يكون من خلال النقاط الآتية:
إن سبب نزول الآية كان لزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة.
فقال المنافقون من المسلمين: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج من زوجة ابنه ؟!
وعليه:
فإن الآية جاءت للرد على هؤلاء المنافقين لتأمرهم وغيرهم من المسلمين بأن يدعوا زيداً باسم أبيه، فدُعي زيد بن حارثة.
ص:272
إن مجيء زيد بن حارثة إلى بيت خديجة عليها السلام، كان قبل زواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت قد اشترته من سوق عكاظ وهو غلام يباع، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآه عندها فأحبه، فاستوهبه منها فوهبته له، فشب عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدعي بزيد بن محمد(1).
وهذه الرواية تدل: على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استوهبه من خديجة عليها السلام ولم يدّعِه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابناً له، كما هو واضح في الرواية. إنما الناس نسبته ودعته زيد بن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدّعِه.
وهو الأهم الذي يجب على السائل معرفته: أو كل من تبادر إلى ذهنه هذا التساؤل، بطرح سؤال عليهم.
وهو: من الذي تكتم على زينب، ورقية، وأم كلثوم، أهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم المنافقون ؟!
فإذا قيل: إن الذي تكتم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعندها يكون المجيب قد نسب المعصية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!! واتهمه بمخالفة أمر ربه والعياذ بالله.
ص:273
وإذا قيل: إن الذي تكتم هم المنافقون - وهو الصحيح - فلا يصح شرعاً، وعقلاً تحميل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أثم ما ارتكبه المنافقون. فما هو - بأبي وأمي - إلا مبلِّغ.
(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ1.)
ومن هنا: فإن المنافقين عملوا على إبقائهن بنات له صلى الله عليه وآله وسلم، لأن هذا الأمر فيه تحقيق لأهدافهم بالنيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخلق صورة مشوهة عنه تمثلت في النقاط الآتية:
1. التضارب بين الدعوة إلى التوحيد ومصاهرة المشركين - العياذ بالله -.
2. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمدح أصهاره ويثني عليهم وان كانوا مشركين - والعياذ بالله - كما حدث في سيرة زينب رضي الله عنها.
3. التفريق بين الأخوات! والعياذ بالله، متمثلاً في ترك زينب في مكة، وإخراج فاطمة عليها السلام.
4. التضارب الكبير الذي رأيناه في سيرة (رقية، وأم كلثوم).
5. تحقيق مكاسب سياسية تمكن حكام بني أمية من الجلوس على كرسي الخلافة بما لديهم من صهرية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ينقاد لها أهل الشام خاصة بلحاظ كونهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يعني أن النبي لا يعطي بناته لأناس غير أكفاء فضلاً عن إصباغهم بصبغة الخيرية ومن ثَمَّ تكون بيعتهم تستند على أسس مناقبية تدفع بالمسلم إلى
ص:274
الاطمئنان في صلاح هؤلاء المنافقين. ومن هذا المنطلق.. فإنا نقول: بأنهن رضي الله عنهن لسن بناته.. ولم يدّعِهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. إنما العرب كانت تنسب الربيبة إلى مربيها. وقد مرّ علينا أن خديجة عليها السلام تولت رعايتهنَّ وتربيتهن بعد وفاة أختها. فلما تزوجت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتقلن معها إلى بيته ونشَأْنَ في هذا البيت.
ولذلك عمل المنافقون على تثبيت بنوتهنَّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين خالفوا الأمر الإلهي وتكتموا عليهن. وليس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. كما توهم السائل ؟!!
أما وقت نزول الآية فهو في السنة الخامسة من الهجرة النبوية، وهي السنة التي تزوج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش(1).
وهذا يعني: أنها نزلت بعد وفاة رقية رضي الله عنها بثلاث سنوات ؟!.
أما زينب فلقد كانت حينما نزلت الآية في مكة عند هند بن عتبة بن ربيعة وأنها خرجت من مكة في السنة السادسة للهجرة حينما قدم إليها زيد بن حارثة - كما مرّ بيانه -. ولذا: فلا مورد لما احتج به السائل فهو من قبيل الوهم، ولا يرقى حتى إلى الظن.
ص:275
إن كتب التاريخ، والسيرة، والحديث. قد حوت بين متونها الشواهد العديدة التي تخبر: بأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الصهر الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه الشواهد تمثلت من خلال قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال بعض الصحابة.
أما الشواهد فهي كالتالي:
روى أبو سعيد في شرف المصطفى، والطبري في الرياض النضرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام:
أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد ولا أنا، أوتيت صهراً مثلي ولم أوت أنا مثلي.. وأوتيت صدّيقة مثل ابنتي، ولم أوت مثلها زوجة.. وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما.. ولكنكم مني وأنا منكم»(1).
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«أوتيت ثلاثاً، لم يؤتهن أحد ولا أنا».
ص:276
دليل قاطع على حصر هذه الأمور الثلاثة في علي بن أبي طالب عليه السلام فقط .
فلو كان هناك صهر آخر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«لم يؤتهن أحد ولا أنا».
وروى أحمد بسند صحيح عن ابن عمر نحوه أنه قال: (ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم.
ثم يذكر أولى الخصال وهي: (زوجه رسول الله ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر)(1).
وهذا الحديث وإن كان يدل على فضل فاطمة عليها السلام إلا أنه يدل أيضا على أنه الصهر الوحيد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كان عنده صهرٌ غيره لما ذكر ابن عمر بن الخطاب هذه المصاهرة لتكون عنده أحب من حمر النعم.
ولما قال: زوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته، في حين زوج رسول الله غير علي بناته، فلماذا يتمنى ابن عمر مصاهرة النبي ويراها محصورة في علي عليه السلام ؟!.
ص:277
عن سعيد بن عبيدة، قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن عثمان فذكر له محاسن عمله.
ثم سأله عن علي - عليه السلام - فذكر محاسن عمله، قال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم قال، أي: عبد الله بن عمر للسائل: لعل ذاك يسوؤك، قال: أجل، قال: فأرغم الله بأنفك، انطلق فأجهد على جهدك(1).
هذا الحديث يدل على عدة نقاط :
1. أن السائل جاء إلى عبد الله بن عمر، ليسأله عن عثمان بن عفان، وعن علي بن أبي طالب عليه السلام.
ويبدو أن عبد الله بن عمر قد عرف قصد هذا الرجل والغاية من وراء سؤاله فلذا قال له: بعد أن ذكر له مكانة بيت علي بن أبي طالب من بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لعل ذاك يسوؤك»؟!.
فاعترف الرجل فقال: أجل، فرد ابن عمر: فأرغم الله أنفك.
2. هذا الحوار يكشف عن وجود بعض المسلمين الذين كان قصدهم إشعال الفتنة في المجتمع الإسلامي، والإيقاع بشخصيات من الصحابة بعد أخذ الصفة الشرعية في أفعالهم من أفواه بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ص:278
فلذلك جاء هذا الرجل يسأل عبد الله بن عمر دون غيره.
4. كما يدل أيضاً على وجود المنافقين، الذين دلَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من خلال قاعدة وضعها للمسلمين يتم الاستدلال بها عليهم.
وقد اعتمد عبد الله بن عمر على هذه القاعدة فاستدل على أن هذا السائل هو من المنافقين.
والقاعدة هي: قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلاَّ منافق»(1).
ومن هنا نجد أن هذا الرجل قد ساءه سماع منقبة من مناقب الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام.
5. نلاحظ هنا.. أن عبد الله بن عمر قد ترك الإشارة إلى العديد من مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، واكتفى بذكر منقبة واحدة دون غيرها، وهي «بيته».
وذكره لبيت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ومكانته من بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. دليل على أن الإمام علياً عليه السلام هو الصهر الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سيما أن السائل كان يسأل عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب عليه السلام.
ص:279
فلماذا يذكر ابن عمر عمل عثمان ولا يذكر مصاهرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكتفي بذكر بيت الإمام علي عليه السلام دون غيرها من المناقب ؟!
ألا يدل هذا على أن عبد الله بن عمر يعلم جيداً أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو الصهر الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأن له بهذه المصاهرة ما لبيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن عثمان ممنوع عليه ذلك فضلاً عن اختصاص علي عليه السلام بالمكوث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذا هو وسط هذه البيوت.
عن مالك، عن الزهري: إن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه، قال: اجتمع ربيعة بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب، قالا والله لو بعثنا هذين الغلامين «قالا لي وللفضل بن عباس» إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلماه على هذه الصدقات؛ فوقف علي بن أبي طالب - عليه السلام - عليهما فذكروا له ذلك.
فقال علي بن أبي طالب - عليه السلام -:
لا تفعلا فو الله ما هو بفاعل.
فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلاَّ نفاسة منك علينا فو الله لقد نلت صهر رسول الله فما نفسناه عليك.
قال علي أرسلوهما، فانطلقا واضطجع علي فما هي إلى لحظات فرجعا
ص:280
وقد ردهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعل(1).
ومن خلال هذا الحديث نرى أن القوم قد صرحوا بشكل لا يقبل الشك أن الإمام علياً عليه السلام هو الشخص الوحيد الذي نال الصهريّة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان غيره قد نال هذه الصفة، لصرّح بها القوم، ولو من باب النفاسة.
هذه بعض الشواهد التي تشير إلى اعتقاد الصحابة باختصاص الإمام علي عليه السلام بصهرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرده بها.
أما بقية الشواهد فقد تركنا البحث عنها لبلوغ ما يرمي إليه الكثير من الباحثين، وعشاق الحقائق من التعرف إليها، واستخراجها من بحور الكتب نزولاً إلى أعماقها.
وبهذا الفصل نكون قد أنهينا هذا الجزء: (من الكتاب) وما رافقه من فصول وجدنا من الضروري التطرق لها والبحث فيها من أجل تكامل نقاط البحث، وسعياً لبلوغ حقيقة كون فاطمة الزهراء عليها السلام هي (واحدة أبيها).
أما «زينب، ورقية، وأم كلثوم»، فقد دل البحث على كونهنّ ربائب أم المؤمنين خديجة عليها السلام، نشأن في بيت النبوة، وترعرعْنَ في كنفها، بعد أن فقدنَ الأب والأم: فكان بيت خالتهن السيدة الطاهرة أم المؤمنين خديجة ملاذاً
ص:281
آمناً، ومنهلاً عذباً، فسهرت على رعايتهن وتربيتهنّ .
ولهذا السبب عرفنَ بين المجتمع المكي بأنهنَّ بنات المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
أو فقل: وكما دلَّ عليه البحث إن البعض.. ممن كان له غرض، أو ممن ابتلي في قلبه بمرض فلم يكن سليماً، قد صوّر، وأصرّ على كونهن بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأسباب عديدة مرّ ذكرها.
وعليه:
فإن كنَّ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا من قبيل نشأتهنَّ في بيت النبوة، وهذا بحد ذاته لفضلٌ من الله كبير، ومنَّة عظيمة أن يكبرنَ في هذا البيت فتكون خديجة أماً ويكون المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أباً، وتكون فاطمة أختاً.
ولهذا..
نجد أن فاطمة عليها السلام جلست تبكي على شفير قبر رقية، وأم كلثوم رضي الله عنهما.
وإنها أوصت علياً عليه السلام بالزواج من أمامة بنت زينب بعد وفاتها ولهذا أيضاً.. خاطب الإمام علي عليه السلام عثمان بن عفان بقوله «ولقد نلت من صهره ما لم ينالا»(1).
ص:282
كل ذلك كان منشؤه من كونهن نشأن في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وربين على يد خالتهنَّ خديجة عليها السلام.
أما كونهن بناتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فإن البحث وما جاءت به سيرتهنَّ لينفيان ذلك نفياً تاماً وبخاصة فيما يتعلق بزواجهن من مشركين. فضلاً عن كونهنَّ أكبر من القاسم وعبد الله بسنين عديدة وهذا مخالف لما عليه جمهور المسلمين من كون القاسم بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والله العالم بحقائق الأمور.
وقبل أن أنهي هذا المبحث أقدم للقارئ الكريم شاهدين آخرين يدلان على هذه الحقيقة:
الشاهد الأول
ورد في مصنفات العامة وجمهور المسلمين، لاسيما صحاحهم ومسانيدهم ومستدركاتهم، وهو:
قول المصطفى: صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام:
«فاطمة بضعة مني».
فهذا الحديث حديث «البَضعة» قد روي بطرق عدة، بلغ التواتر عند جمهور المسلمين من العامة والخاصة بألفاظ عدة منها:
ص:283
1. يرضيني ما يرضيها.
2. يؤلمني ما يؤلمها.
3. يبسطني ما يبسطها.
4. يغضبني ما يغضبها.
5. يفرحني ما يفرحها.
6. يحزنني ما يحزنها.
7. يؤذيني ما يؤذيها.
وهذا الحديث انحصر بفاطمة عليها السلام فقط .. ولم يرد في أي مصدر من مصادر المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لغير فاطمة بأنها بضعة مني، أي: لم يرد عنه أنه قال لزينب أو رقية أو أم كلثوم بأن إحداهنَّ بضعة منه فلماذا يا ترى ؟! وهنَّ كما ورد بناته صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الشاهد الثاني
فقد ورد عن أحد كبار مصنفي الخاصة، وهو الشيخ الصدوق رضي الله عنه المتوفى سنة 381 ه - في أحد أهم المصنفات الحديثية ما يشير بوضوح إلى حقيقة كون فاطمة واحدة أبيها صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.
قال رضوان الله تعالى عليه، في بيان قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«من آذى ذمتي فقد آذاني».
فإذا كان في إيذائهم إيذاءٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف في قتلهم.
ص:284
وإنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فاطمة عليها السلام وقال:
«إذا كان من آذى ذمَّتي فقد آذاني لمنعي من ظلمه وايذائه».
فكيف من آذى ابنتي (وَوَاحِدَتي) التي هي بضعةٌ مني وسيدة نساء الأولين والآخرين واتبع عليه الصلاة والسلام ذلك بأن قال:
من آذاها فقد آذاني ومن غاظها فقد غاظني ومن سرّها فقد سرّني(1).
انتهى قوله (طيب الله تعالى ثراه).
(وَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 2.)
ص:285
ص:286
الإهداء 5
مقدمة الكتاب 9
المسألة الأولى: اعتذار لابد منه 9
المسألة الثانية: إنّ خديجة كانت أُمّة قد جمعت في امرأة 11
المحور الأول: خصوصيتها كامرأة 11
المحور الثاني: الدور السيادي في مجتمع قبلي 13
أولا: النسب 16
ثانياً: المال 16
ثالثا: العفة والطهارة 17
المحور الثالث: الرجولة في شريك الحياة هي الفضيلة 18
المحور الرابع: الدور الإصلاحي لبني الإنسان 20
المحور الخامس: تشخيص دورها الرسالي 21
ص:287
أولا: الرسالية في حمل التكاليف الشرعية 22
ثانيا: الرسالية في الحياة الزوجية 22
ثالثا: الرسالية في الأمومة 22
رابعاً: الرسالية في الصبر والجهاد 23
خامسا: الرسالية في الدفاع عن القيم 23
المحور السادس: الاصطناع المولوي 24
المحور السابع: التصدي لمغول الفكر الإنساني 25
المسألة الثالثة: منهجنا في الدراسة التحليلية والتحقيق 26
المبحث الأول: الحالة الاجتماعية في مكة قبل الإسلام 35
المسألة الأولى: الاصطفاء الرباني لقريش 36
المسألة الثانية: رموز تجسّد فيها الاصطفاء 39
أولا: قصي بن كلاب 39
ألف: سبب تسميتهم بقريش 40
باء: دور قصي بن كلاب في جمع القبائل وحيازة الفضائل 42
جيم: أنه أول من أصاب ملكاً فأطاع له به قومه 43
دال: تقسيمه مكة أرباعا وجمعه لقريش 44
هاء: إنه أول من أوقد ناراً بالمزدلفة 46
واو: إنه أول من فرض السقاية والرفادة على قريش خدمة لحجاج بيت الله 46
ص:288
ثانيا: عبد مناف بن قصي 47
ثالثا: هاشم بن عبد مناف 49
ألف: إنه أول من سنّ الرحلتين لقريش 50
باء: سبب تسميته بهاشم 50
جيم: سبب عداوة أمية لهاشم 51
دال: سبب تسمية بني هاشم بالمطيبين وبني أمية بلعقة الدم 52
هاء: أول من سنّ ضيافة حجّاج بيت الله من ماله الخاص حتى يرحلوا من مكة 53
واو: أول من أخذ الحلف لقريش من قيصر الروم، وملك الحبشة 54
زاي: وصيته وما خلف من الأولاد 55
رابعا: عبد المطلب بن هاشم 58
ألف: لماذا سمي شيبة الحمد بعبد المطلب 58
باء: اصطفاؤه لحفر بئر زمزم 60
جيم: تحالفه مع خزاعة ورعايته لحفظ الجوار 62
دال: زواجه وابنه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني زهرة 63
هاء: إن عبد المطلب أول من خضب لحيته وشعره بالوسمة ولم تعرف قريش بذلك 63
واو: إنّ الله تعالى يكرمه بتفجير عين ماء عند أقدام بعيره 65
زاي: نذر عبد المطلب في نحر ولده عبد الله 66
حاء: عبد المطلب يستسقي الغمام بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم 67
طاء: كرامة عبد المطلب في حفظ بيت الله من أبرهة الحبشي 69
المسألة الثالثة: السمات التي أهلت قريشاً لسيادة المجتمع المكي 71
المبحث الثاني: قرابتها النسبية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 76
المسألة الأولى: نسبها 76
المسألة الثانية: منزلتها في مكة تمنعها من الزواج وتلزمها حسن الاختيار 81
ص:289
المبحث الأول: هل تزوجت قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟! 88
المسألة الأولى: التعارض بين أقوال المؤرخين في زواجها وإعراضها عن الزواج 88
المسألة الثانية: الاختلاف في تحديد هوية الرجلين 89
المسألة الثالثة: اعتراض أبي القاسم الكوفي 90
المسألة الرابعة: وعند (ابن شهر) الخبر اليقين 92
المسألة الخامسة: دلالة آية التطهير على عدم زواجها قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم 92
المسألة السادسة: إنها من الأرحام المطهرة 94
المسألة السابعة: السنن الكونية تنفي زواجها قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم 95
المبحث الثاني: عمرها حينما تزوجها النبي صلى الله عليه و آله و سلم 96
المسألة الأولى: رواية البيهقي (المتوفى سنة 458 ه -) 97
المسألة الثانية: رواية الحافظ ابن كثير (المتوفى سنة 774 ه -) 98
المسألة الثالثة: رواية الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405 ه -) 98
المسألة الرابعة: رواية محمد بن إسحاق المطلبي صاحب السير (المتوفى سنة 151 ه -) 100
المسألة الخامسة: رواية الحافظ ابن عساكر الدمشقي (المتوفى سنة 571 ه -) 101
أولاً: وفاتها في السنة العاشرة من البعثة 102
ثانيا: زواجها قبل البعثة بخمس عشرة سنة 102
ثالثا: عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان خمساً وعشرين سنة 103
رابعا: إن عمره صلى الله عليه وآله وسلم حينما تزوج خديجة عليها السلام كان خمساً وثلاثين سنة 103
المبحث الثالث: مراسم خطبتها وزواجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 105
ص:290
المسألة الأولى: التطاول على أم المؤمنين خديجة عليها السلام في تزويج نفسها بالحيلة ؟ والرد على ذلك 106
أولا: مخالفة ذلك لسيرة العقلاء 107
ثانياً: سقوط إلزام الولي بما قال 107
ثالثاً: خطبة أبي طالب في الزواج ترد هذه الفِرية 107
المسألة الثانية: كلام أبي طالب في خطبته لتزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكشف عن اعتقاده بنبوته قبل أن يبعث 108
المسألة الثالثة: مراسيم زفافها إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم 110
أولاً: اتخاذ يوم زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام يوماً للبركة والسرور 113
ثانيا: استحباب تعجيل الزفاف بعد الخطوبة 113
المبحث الرابع: إسلامها 114
المسألة الأولى: وقت إسلامها 114
المسألة الثانية: إنها أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم 116
المبحث الخامس: مال خديجة عليها السلام 117
المسألة الأولى: حجم مالها 117
المسألة الثانية: خديجة تهب جميع ما تملك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 119
المسألة الثالثة: أبمال خديجة انتفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم بمال أبي بكر؟ شبهات وردود 121
أولاً: (رد شبهة) انتفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مال أبي بكر 121
ثانياً: (رد شبهة) أن الإنفاق في سبيل الله لم يكن إلا بعد الهجرة 124
ثالثاً: (رد الشبهة) القائلة بأن مصدر مالها كان من زوجيها السابقين!! 128
المسألة الرابعة: القرآن الكريم يمتدح مال خديجة عليها السلام 131
أولا: إنّ الله تعالى أغنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام 131
ثانيا: رد شبهة (إن الغنى في الآية تنزيل على غنى النفس) 132
المسألة الخامسة: (رد شبهة) أن يكون رسول الله أجيراً لدى أحد من الناس ؟ 138
ص:291
المبحث الأول: القاسم بكر خديجة عليهما السلام 148
المسألة الأولى: الابن الأكبر 148
المسألة الثانية: القاسم عليه السلام ولد ومات في الإسلام 149
أولا: الاختلاف في عدد أولاد خديجة عليها السلام 150
ثانيا: ومن الوحي شاهد ينص على ولادته في الإسلام 156
ثالثا: اعتقاد كثير من الحفاظ بولادة القاسم في الإسلام 159
ألف: رواية الدولابي (المتوفى سنة 320 ه -) 159
باء: رواية أبي عبيدة البصري (المتوفى سنة 209 ه -) 160
جيم: رواية ابن رسول (المتوفى سنة 696 ه -) 160
دال: رواية ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 852 ه -) 161
المسألة الثالثة: عمر القاسم عليه السلام 161
المسألة الرابعة: الحجة القائمة 166
المبحث الثاني: عبد الله الابن الثاني لخديجة عليهما السلام 168
المسألة الأولى: لا خلاف على ولادته في الإسلام 169
المسألة الثانية: الحجة في كونه المولود الثاني 170
المسألة الثالثة: الوحي والإجماع يؤكدان الحقيقة 172
المسألة الرابعة: عمر خديجة عليها السلام هو القول الفصل 174
ص:292
المبحث الأول: زينب بين النقل والعقل 185
المسألة الأولى: ماذا يقول النقل عن زينب ؟ 185
أولاً: إنها أكبر أخواتها 186
ثانياً: متى تزوجت ؟ 186
ثالثاً: هجرتها من مكة مع زيد بن حارثة 187
رابعاً: وفاتها أم اغتيالها؟ 190
المسألة الثانية: ماذا يقول العقل عن زينب رضي الله عنها؟ 192
أولاً: سكوت المؤرخين حولها 192
ثانياً: ولادتها تتعارض مع كون القاسم بكر خديجة عليها السلام 192
ثالثاً: التناقض في تاريخ زواجها وتعارضه مع التوحيد 193
رابعاً: سكوت المشركين عنها طيلة خمس عشرة سنة قضتها في مكة 193
خامساً: تخبط الرواة في خروجها من مكة بين زيد بن حارثة وبين كنانة بن الربيع ؟ 193
سادسا: عملية خروجها من مكة تنفي أن تكون زينب بنتا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدل على أنها ربيبة 195
سابعا: محاولة الحافظ الطحاوي في دفع الإشكال في ركوب زينب مع زيد على جمل واحد زادت الأمر سوءاً؟ 198
ص:293
ألف: الحاكم النيسابوري ينص على وجود زينب بعد معركة بدر في مكة 199
باء: وقوع أبي العاص في الأسر سنة (6) للهجرة 200
جيم: كيف يقوم زيد بن حارثة بنقل زينب إلى المدينة بعد نسخ حكم التبني ؟! 200
ثامنا: كيف تنجب زينب من زوجها طفلين وهو على شركه ؟! 201
تاسعاً: تخبط الحافظ الذهبي في جمعه بين بقائها مع زوجها المشرك وبين سنة إسلامها فكان خلافاً للعقل والنقل ؟! 201
المبحث الثاني: رقية بين النقل والعقل 206
المسألة الأولى: ماذا يقول النقل عن رقية ؟ 206
أولاً: إن رقية أصغر من زينب بثلاث سنين 206
ثانياً: الاختلاف في سنة زواجها 206
ثالثاً: أسلمت مع أمها خديجة عليها السلام 207
رابعاً: إنّ الدافع في زواج عثمان بن عفان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لجمالها؟ 207
خامساً: هجرتها مع زوجها إلى الحبشة 209
سادساً: إن رقية هاجرت من الحبشة إلى المدينة بعد هجرة زوجها عثمان!! 210
سابعاً: دخول أبي هريرة على رقية بعد زواجها من عثمان!! 210
ثامناً: توفيت في المدينة بسبب مرضها ولم يحضرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 210
المسألة الثانية: ماذا يقول العقل عن رقية رضي الله عنها؟ 211
أولاً: إن رقية كانت دون السن الشرعي حينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم 212
ثانياً: ولادتها تتعارض مع كون القاسم بكر خديجة عليها السلام 212
ثالثا: كيف يزوّج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنتاً وهي في الخامسة من عمرها - والعياذ بالله - 212
رابعا: طلاقها من عتبة بن أبي لهب بسبب نزول سورة المسد مخالف للعقل والنقل ؟ 212
ص:294
خامسا: تخبط الحافظ الذهبي في تصحيح قول ابن سعد في سنة زواجها ومخالفته للنصوص ؟! 214
سادسا: ما هو السبب الذي جعل الذهبي يخطئ ابن سعد؟ 215
سابعا: وهل حقاً أن عتبة بن أبي لهب لم يبنِ برقية طيلة أربع سنوات كي يتزوجها عثمان فيحظى بها وهي غير ثيب ؟! 216
ثامنا: استحالة أن تكون رقية قد أسلمت مع خديجة عليها السلام في آن واحد! 217
تاسعا: إن القول بأنها وعثمان (لأول من هاجر بعد لوط ) مخالف للقرآن والعقل 218
عاشرا: عدم صحة قول الرواة بأن عثمان هاجر الهجرتين! وكما ينص البخاري ومسلم ؟! 222
حادي عشر: لماذا يقوم عثمان بن عفان بترك ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحيدة في الحبشة مع طفلها وقد تعرض لها غلمان الحبشة ؟ 224
ثاني عشر: اعتراف الحاكم النيسابوري بوهن حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحاولة الاعتذار عنه ؟ 226
المبحث الثالث: أم كلثوم بين النقل والعقل 230
المسألة الأولى: ماذا يقول النقل عن أم كلثوم رضي الله عنها؟ 230
أولاً: لا يعرف المسلمون لأم كلثوم اسماً؟ 230
ثانياً: عدم معرفة سنة ولادتها؟ 230
ثالثاً: زواجها من عتيبة بن أبي لهب 231
رابعاً: إسلامها كان مع إسلام أمها خديجة عليها السلام 232
خامساً: هاجرت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة 232
سادساً: زواجها من عثمان بن عفان بعد موت أختها رقية 232
المسألة الثانية: ماذا يقول العقل عن أم كلثوم رضي الله عنها؟ 235
أولاً: كيف يمكن أن تكون بنت النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مجهولة الهوية فلا يعرفها المسلمون إلا بالكنية ؟! 236
ثانياً: جهل الرواة بسنة ولادة أم كلثوم رضي الله تعالى عنها 236
ص:295
ثالثاً: زواجها من عتيبة بن أبي لهب أسطوري وهو أغرب من الخيال!! 237
رابعا: لماذا يؤكد الرواة على أن عثمان تزوج بها وهي باكر؟! وهم قد جهلوا حتى اسمها؟! 238
رابعاً: استحالة أن تكون قد أسلمت مع أمها خديجة عليها السلام 239
خامساً: تخبط الرواة في قولهم أنها بايعت مع أمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 239
سادساً: لماذا يفرق الرواة بينها وبين الفواطم في الخروج من مكة فيقال: خرجت مع عيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أليست هي من عياله ؟! 240
سابعاً: إن بقاء أم كلثوم ثلاث عشرة سنة بعد طلاقها من عتيبة بدون زواج وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر في غاية الغرابة ؟! 241
ثامناً: ما هي العلة التي جعلت أبا هريرة يتدخل في حياة بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لم يدرك من الإسلام إلا ثلاث سنوات وأشهراً؟! 242
تاسعاً: لماذا يقوم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتزويج أربعين بنتاً لعثمان ؟ وهل يصح ذلك ؟! 248
المسألة الثالثة: الحلقة المفقودة تكمن في أن أزواج بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثلاث هم من بني أمية!! 250
أولاً: تعارض سيرتهن مع إجماع المسلمين في كون القاسم أول من ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 250
ثانياً: تعارض هذه السيرة مع النبوة ؟ 251
ثالثاً: ما نسبة قرابتهن من خديجة عليها السلام 251
رابعا: كيف لا يجعلهنَّ حكام بني أمية بنات رسول الله وقد تزوجن من بني عمومتهم ؟ 253
ص:296
المبحث الأول: بنات النبي من خلال القرآن الكريم 259
أولاً: دلالة صيغ المخاطبة في القرآن الكريم 264
ثانياً: بنات الأنبياء هنّ بنات الأمّة في القرآن الكريم 265
المبحث الثاني: بنوة النبي للأمّة تؤكدها السنة النبوية 267
المسألة الأولى: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أبوته للأمّة 267
المسألة الثانية: اعتقاد كثير من علماء أهل السنة والجماعة ببنوة هذه الأمّة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 268
أولا: ما ذهب إليه الراغب الاصفهاني، والآلوسي، والمناوي، في أبوته صلى الله عليه وآله وسلم للأمّة 268
ثانيا: ما ذهب إليه الزمخشري، والنسفي، والخطيب الشربيني 269
ثالثا: ما ذهب إليه الغرناطي الكلبي، والشيخ محمد درّة، ومحمد علي الصابوني 269
رابعا: ما ذهب إليه البروسوي 269
خامسا: ما ذهب إليه، أبو حيان الأندلسي الغرناطي 270
المسألة الثالثة: أين بنات المؤمنين في الآية ؟ 271
المبحث الثالث: بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقيقة التبني والادعاء 271
أولاً: سبب نزول الآية كان للرد على المنافقين 272
ثانياً: النبي الأكرم لم يدّعِ زيد بن حارثة ابناً كما ينص التاريخ وإنما الناس دعته بذاك 273
ص:297
ثالثاً: من الذي تكتم على زيد، النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم المنافقون ؟! 273
رابعاً: آية التبنّي نزلت بعد وفاة رقية بثلاث سنوات ؟ 275
خامسا: آية التبني نزلت وزينب في مكة عند بني أمية فكيف يمتثلون للقرآن وهم مشركون ؟! 275
المبحث الرابع: شواهد تدل على أن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هو الصهر الوحيد 276
أولاً: أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد 276
ثانياً: قول ابن عمر: زوجه ابنته!! 277
ثالثاً: بيت علي في وسط بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون عثمان 278
رابعا: نفاسة صهرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 280
المبحث الخامس: ختامه مسك 283
المحتويات 287
ص:298